المجلد الأول
الشريف الرضي 406359هـ / 1061970م
حياته: هو أبو الحسن محمّد بن الحسين بن موسى بن ابراهيم المرتضي بن موسى الكاظم بن جعفر الصادق بن علي زين العابدين بن الحسين بن علي بن أبي طالب، ولد سنة 359هـ / 970م. كان والده أبو أحمد الحسين الموسوي سفير الخلفاء والملوك، أسندت إليه نقابة الطالبيين وإمارة الحج والنظر في المظالم. وقد كلّفه الخليفة العباسي الطائع تسكين الفتن المتتالية في بغداد أيام ملوك الدّيلم البويهيين، وبين العسكرين البغدادي والفارسي، وبين الشيعة والسنّة. وإلى بعض الفتن يشير ولده الرضي بقوله:
وخطب على الزّوراء ألقى جرانه ... مديد النّواحي مدلهمّ الجوانب
سللت عليه الحزم حتى جلوته ... كما انجاب غيم العارض المتراكب
وعند ما كبر وقصّر عن تصريف الأمور بدأ ولداه الرّضي والمرتضي ينوبان عنه في بعض المهمات. وفي عام 369هـ / 980م قبض عضد الدولة البويهي على أبي أحمد الحسين الموسوي وعلى أخيه أبي عبد الله أحمد وعلى قاضي القضاة أبي محمّد، وسيّرهم الى فارس.
وظل أبو أحمد معتقلا سبع سنوات لأسباب بقيت مجهولة.
في هذه الأثناء كبر الرضي وتمرّس في النظم والنثر، وترك قصائد
تتسم بالحزن والشكوى. ولما توفي عضد الدولة (372هـ / 982م) نشب الصراع بين ولديه شرف الدولة وصمصام الدولة، وآلت النتيجة الى انتصار شرف الدولة، فدخل بغداد ظافرا، وكان قد أطلق سراح الشريف الوالد ورفاقه وصحبهم الى مدينة السلام. فنظم الرضي قصيدة تعكس فرحه بحرّية أبيه، وممّا جاء فيها:(1/5)
في هذه الأثناء كبر الرضي وتمرّس في النظم والنثر، وترك قصائد
تتسم بالحزن والشكوى. ولما توفي عضد الدولة (372هـ / 982م) نشب الصراع بين ولديه شرف الدولة وصمصام الدولة، وآلت النتيجة الى انتصار شرف الدولة، فدخل بغداد ظافرا، وكان قد أطلق سراح الشريف الوالد ورفاقه وصحبهم الى مدينة السلام. فنظم الرضي قصيدة تعكس فرحه بحرّية أبيه، وممّا جاء فيها:
طلوع هداه إلينا المغيب ... ويوم تمزّق عنه الخطوب
لقيتك في صدره شاحبا ... ومن حلية العربيّ الشّحوب
قدمت قدوم رقاق السّحاب ... تخطّ والرّبع ربع جديب
فما ضحك الدهر إلّا إليك ... مذ بان في حاجبيه القطوب
ومدح شرف الدولة وشكره على ما عمله بقصيدة طويلة مطلعها:
أحظى الملوك من الأيّام والدّول ... من لا ينادم غير البيض والأسل
ولما توفي والد الرضي أبو أحمد الموسوي رثاه شاعرنا بقصيدة طويلة مطلعها:
وسمتك حالية الربيع المرهم ... وسقتك ساقية الغمام المرزم
أمّا أم الرضي فهي فاطمة بنت الحسين الناصر الذي عظم شأنه في أيام معز الدولة البويهي. وولي جدّه لأمه نقابة العلويين في بغداد بعد أن اعتزلها والد الرضي. وقد ذكره شاعرنا في إحدى قصائده عند ما أظهر طرفي المجد في نسبه قائلا:
أردّ النّوائب بالموسويّ ... وأعطي الرّغائب بالناصر
وكان للنسب الشريف أثره في تكوين شخصية الرضي. ففي القرن الرابع الهجري كانت علّية المجتمع البغدادي تنقسم إلى فئات: فئة تعتز بشرفها ونسبها ودمها كالعلويين والعباسيين والبويهيين والمهلبيين، وفئة تعتز بمناصبها كالوزراء والقادة ورؤساء الدواوين، وفئة تفاخر بعلمها ودينها وأدبها كالفقهاء والمتكلمين والأدباء. وكان الرضي في صميم الأسرة العلوية، وتأتيه القرشيّة الصريحة من رسول الله عن طريق ابنته
فاطمة، وهذا ما ترك فيه نفسا فاخرة طبعت أدبه بميسم خاص.(1/6)
أردّ النّوائب بالموسويّ ... وأعطي الرّغائب بالناصر
وكان للنسب الشريف أثره في تكوين شخصية الرضي. ففي القرن الرابع الهجري كانت علّية المجتمع البغدادي تنقسم إلى فئات: فئة تعتز بشرفها ونسبها ودمها كالعلويين والعباسيين والبويهيين والمهلبيين، وفئة تعتز بمناصبها كالوزراء والقادة ورؤساء الدواوين، وفئة تفاخر بعلمها ودينها وأدبها كالفقهاء والمتكلمين والأدباء. وكان الرضي في صميم الأسرة العلوية، وتأتيه القرشيّة الصريحة من رسول الله عن طريق ابنته
فاطمة، وهذا ما ترك فيه نفسا فاخرة طبعت أدبه بميسم خاص.
في سنة 406هـ / 1016م توفي الشريف الرضي وهو في أوج الشباب، بعد أن أصيب بمرض مفاجئ.
مؤلفاته:
كان عمر الشريف الرضي القصير حافلا بالنشاط، فقد كان يؤلّف ويدرّس وينظر في أمور الناس. ترك في النثر كتبا متنوعة الموضوعات لم يصلنا منها إلّا القليل، وأهمّها: أخبار قضاة بغداد، الحسن في شعر الحسين، خصائص الأئمة، فضائل أمير المؤمنين، الى جانب جمعه آثار الإمام علي في كتاب نهج البلاغة.
ديوانه:
نال شعر الشريف الرضي إعجاب الأدباء والنقاد. ويذكر أنه كان يجمع قصائده بنفسه، ثم اهتم ولده عدنان بجمع شعره. وقد أشار كارل بروكلمان الى أماكن مخطوطات الديوان في مكتبات العالم، في مصر وسوريا والعراق والمغرب وايران والهند. وقد طبع للمرة الأولى في بيروت ثم في القاهرة.
شعره:
عالج الشريف الرضي في شعره موضوعات المدح والرثاء والفخر والنسيب والوصف والهجاء والحكمة والزهد وسوى ذلك.
وللمديح نصيب كبير في الديوان، فقد كانت للشاعر صلاته بالخلفاء والملوك والوزراء. ومن الشخصيات التي مدحها نذكر شرف الدولة البويهي، والصاحب اسماعيل بن عباد وأخاه فخر الدولة، وأبا الحسين الناصر الصغير خال الشاعر، وأبا الفتح عثمان ابن جنّي النحوي، والخليفة العباسي الطائع لله، وبهاء الدولة وسواهم. أمّا أبرز المعاني المدحية فهي الشجاعة والكرم والعدل وسداد الرأي، وكان بصورة عامة اتباعيا، ويجنح الى المبالغة في بعض معانيه. وعلى العموم فانه ارتفع عن التكسب ولم يتزلّف.(1/7)
وعلى صعيد الرثاء يلاحظ المتتبّع لشعر الشريف الرضي أنه أمام شاعر كثير البكاء على الراحلين من أقاربه وأصدقائه، دائم الحزن والألم بسبب ما فعلته الأيام بأهل بيته الطالبيين. وقد وجد في مأساة الحسين، صريع كربلاء، متنفّسا لهمومه ومجالا للتعبير عن آلام الشيعة، فنهج في مراثيه للحسين منهجا جديدا إذ افتخر بأهل البيت وذكر قبورهم وتشوّق إليها. والذين رحلوا في أيامه ورثاهم كثير والعدد، ومنهم:
الخليفة الأموي عمر بن عبد العزيز، شرف الدولة البويهي، أبو القاسم الصاحب بن عباد، الطائع لله الخليفة، تقيّة بنت سيف الدولة الحمداني، بهاء الدولة البويهي وسواهم. ولم يكن رثاء الشريف الرضي بكاء وعويلا بقدر ما جاء تسجيلا للمناقب وتعدادا للفضائل. كما يركز على مصير الانسان وعدم جدوى البكاء، ويشدّد على هول الفاجعة وأثرها، ويترك مجالا للتعزية والمؤاساة.
والفخر من الميادين التي جلّى فيها الشريف الرضي، فافتخر بنفسه وآبائه. وجاءت اندفاعاته الحماسية وثوراته الملتهبة في الافتخار بالبطولة والأنفة ظاهرة عامة في ديوانه. وتعبّر قصائده الفخرية عمّا يجيش به صدره من أمان وطموحات، وما انطوت عليه نفسه من أخلاق وملكات.
وشعر الشريف الرضي في النسيب غاية في الرقّة وإفصاح عن الأخلاق العالية وعن النفس التي صقلها الوجد وهذّبها الألم. وهو لم يتغزل بفحش وتهتك، ولم يتغن بمفاتن الجسد أو الجوانب الحسّية من الجمال.
وله مجموعة قصائد غزلية سميت بالحجازيات نظمها في الحاجات اللواتي كن يقصدن الحجاز في مواسم الحج.
وتمتاز قصائد الشريف الرضي، على العموم، بطول النفس، وفيها توخّى المطالع اللافتة، وجعل الأجزاء متماسكة، وعمد الى اختيار الألفاظ الموحية، كما تتوفر فيها الأفكار التي تساعد على إعطاء صورة عن العصر. ويغتني شعره كذلك بالصور المتنوعة التي كانت سمة طبعت العصر العباسي.(1/8)
قافية الهمزة
نعم ما تنقضي
(الطويل)
نظم الشريف الرضي هذه القصيدة في مدح الخليفة الطائع لله، ويهنئه بعيد الأضحى سنة سبع وسبعين وثلاثمئة.
جزاء أمير المؤمنين ثنائي، ... على نعم ما تنقضي وعطاء
أقام اللّيالي عن بقايا فريستي، ... ولم يبق منها اليوم غير ذماء (1)
وأدنى أقاصي جاهه لوسائلي، ... وشدّ أواخي جوده برجائي (2)
وعلّمني كيف الطّلوع إلى العلى ... وكيف نعيم المرء بعد شقاء
وكيف أردّ الدّهر عن حدثانه ... وألقى صدور الخيل أيّ لقاء
فما لي أغضي عن مطالب جمّة ... وأعلم أنّي عرضة لفناء
وأترك سمر الخطّ ظمأى خليّة ... وشرّ قنا ما كنّ غير رواء (3)
__________
(1) الذّماء: بقية الروح. اي أن الليالي، بتقلباتها، قضت على ما عندي من بقية أمل، فجاء الممدوح وشدّد عزائمي.
(2) الأواخي، جمع أخيّة: عروة، والأخيّة أيضا حبل يدفن في الأرض مثبتا فيبرز منه حلقة تشد بها الدابة. وقد استعار الأواخي للجود الذي يربط رجاء الشاعر وأمله، كما أن في القول اشارة الى العرى التي تشدّه بالخليفة.
(3) خليّة: خالية، غير مرتوية بالدماء. أي أنه سيواجه المصاعب بارادة صلبة.(1/9)
إذا ما جررت الرّمح لم يثنني أب ... يليح، ولا أمّ تصيح ورائي (1)
وشيّعني قلب إذا ما أمرته ... أطاع بعزم لا يروغ ورائي
أرى الناس يهوون الخلاص من الرّدى، ... وتكملة المخلوق طول عناء
ويستقبحون القتل، والقتل راحة، ... وأتعب ميت من يموت بداء
فلست ابن أمّ الخيل إن لم أعد بها ... عوابس تأبى الضّيم مثل إبائي
وأرجعها مفجوعة بحجولها ... إذا انتعلت من مأزق بدماء (2)
إلى حيّ من كان الإمام عدوّه ... وصبّحه من أمره بقضاء
هو اللّيث لا مستنهض عن فريسة ... ولا راجع عن فرصة لحياء
ولا عزمه في فعله بمذلّل، ... ولا مشيه في فتكه بضراء (3)
هو النّابه النّيران في كلّ ظلمة ... ومجري دماء الكوم كلّ مساء (4)
ومعلي حنين القوس في كلّ غارة ... بسهم نضال أو بسهم غلاء (5)
فخار لو انّ النّجم أعطي مثله ... ترفّع أن يأوي أديم سماء
ووجه لو انّ البدر يحمل شبهه ... أضاء اللّيالي من سنّى وسناء (6)
__________
(1) يليح: يشير بثوبه، من ألاح.
(2) الحجول، جمع حجل: البياض في قائمة الفرس المأزق: المضيق الذي يقتتلون به.
في هذا البيت، والأبيات السابقة، يظهر الشاعر ما كابده من مشقات وما اجتاز من عقبات، غير آبه بشيء، من أجل تحقيق هدفه وهو البلوغ الى الممدوح.
(3) الضّراء: التخفّي وراء الأشجار في أثناء السير.
(4) النابه النيران: الذي يضرم النار فيهتدي إليها الناس الكوم، جمع كوماء:
الناقة الضخمة، والبيت كناية عن الكرم.
(5) الغلاء: البعيد المرمى.
(6) السنى: النور السناء: الرفعة. يلاحظ جنوح الشاعر الى المبالغة، إذ يحرص على رفع الممدوح الى مرتبة المثال، والمبالغة غير غريبة عن الشعر العباسي بعامة.(1/10)
مغارس طالت في ربى المجد والتقت ... على أنبياء الله والخلفاء
وكم صارخ ناداك لمّا تلبّبت ... به السّمر في يوم بغير ذكاء (1)
رددت عليه النفس والشمس فانثنى ... بأنعم روح في أعمّ ضياء
وكم صدر موتور تطلّع غيظه ... وقلّب قولا عن لسان مراء (2)
يغطّي على أضغانه بنفاقه، ... كذي العقر غطّى ظهره بكفاء (3)
كررت عليه الحلم حتى قتلته ... بغير طعان في الوغى ورماء
إذا حمل النّاس اللّواء علامة ... كفاك مثار النّقع كلّ لواء (4)
وجيش مضرّ بالفلاة كأنّه ... رقاب سيول أو متون نهاء (5)
كأنّ الرّبى زرّت عليه جيوبها ... وردّته من بوغائها برداء (6)
وخيل تغالى في السروج كأنّها ... صدور عوال أو قداح سراء (7)
لها السبق في الضّمّات والسبق وخدها ... إذا غطّيت من نقعها بغطاء (8)
__________
(1) تلبّبت: وقعت بلبته، واللبّة موضع القلادة من الصدر ذكاء: شمس.
أي أنه ملجأ الضعفاء ومنجدهم في أوقات الضيق.
(2) الموتور: الذي قتل له قتيل ولم يؤخذ بثأره تطلع: تدفق المراء:
المنازعة.
(3) الأضغان: الأحقاد العقر: الجرح الكفاء: الستر. نشير هنا الى أن الشريف الرضي يتمسّك، في شعره، بطريقة الأقدمين فيحافظ على أساليبهم ومعانيهم، والتشبيه الذي استعان به هنا قديم موروث.
(4) النقع: غبار الحرب.
(5) سيول: جمع سيل، ورقاب سيول إشارة الى توزّع الجيش فرقا متدفقة النهاء: الغدران، جمع نهي.
(6) البوغاء: التربة الرخوة.
(7) تغالى، تتغالى: ترتفع، تسرع السراء: شجر تتخذ منه القسي.
(8) الضمّات، جمع ضمة: حلبة الرهان الوخد: نوع من السير النقع:
غبار الحرب.(1/11)
وليس فتى من يدّعي البأس وحده ... إذا لم يعوّذ بأسه بسخاء (1)
وما أنت بالمبخوس حظّا من العلى ... ولا قانعا من عيشه بكفاء
نصيبك من ذا العيد مثلك وافر ... وسعدك فيه مؤذن ببقاء
ولو كان كلّ آخذا قدر نفسه، ... لكانت لك الدّنيا بغير مراء
وما هذه الأعياد إلّا كواكب ... تغور وتولينا قليل ثواء (2)
فخذ من سرور ما استطعت وفز به ... فللنّاس قسما شدّة ورخاء
وبادر إلى اللّذّات، فالدهر مولع ... بتنغيص عيش واصطلام علاء (3)
أبثّك من ودّي بغير تكلّف ... وأرضيك من نصحي بغير رياء
وأذكر ما أوليتني من صنيعة، ... فأصفيك رهني طاعة ووفاء
أعنّي على دهر رماني بصرفه، ... وردّ عناني، وهو في الغلوّاء (4)
وحلّأني عمّن أعدّ بعاده ... سقامي ومن قربي إليه شفائي (5)
فقدت، وفي فقد الأحبّة غربة ... وهجران من أحببت أعظم داء
فلا تطمعن، يا دهر، فيّ، فإنّه ... ملاذي ممّا راعني، ووقائي
أردّ به أيدي الأعادي، وأتّقي ... نوافذ شتّى من أذى وبلاء
ألذّ بقلبي من مناي تقنّعي، ... وأحسن عندي من غناي غنائي (6)
ومن كان ذا نفس تطيع قنوعة ... رضي بقليل من كثير ثراء
__________
(1) يعوّذ: يدعم. يلاحظ أن الشريف يتحدث عن الشجاعة المادية والمعنوية، فالسخاء نوع من الإقدام وضرب من الشجاعة.
(2) الثواء: الاقامة.
(3) الاصطلام: الاستئصال. يدعوه هنا الى التمتع بملذات غير دائمة في الحياة.
فالعيد يأتي مرة في السنة ومعه يفسح المجال أمام لذّات قد تعقبها مرارة.
(4) الغلواء: أول الشباب.
(5) حلأني: منعني. يشير هنا الى عذابه بعيدا عن الممدوح، وهذه عادة تبعها عدد من الشعراء.
(6) الغناء: الاكتفاء، الاستغناء.(1/12)
حدوا بالمطايا يوم جالت غروضها ... ويوم اتّقت ركبانها برغاء (1)
تؤمّك لا تلوي على كلّ روضة ... يصيح بها حوذانها، وأضاء (2)
ولا تشرب الأمواه إلّا تعلّة، ... إذا عثرت أخفافهنّ بماء
لها سائق يطغى عليها بسوطه ... ويشدو على آثارها بحداء
غلام كأشلاء اللّجام تجيزه ... صدور القنا والبيض كلّ فضاء (3)
إذا بلغت ناديك نال رفاقها ... عريض عطاء من طويل ثناء
ومثلك من يعشى إلى ضوء ناره ... ويلفى قراه عند كلّ خباء (4)
وما كلّ فعّال النّدى بشبائه، ... ولا كلّ طلّاب العلى بسواء (5)
بهاء الملك
(الوافر)
نظم هذه القصيدة في شهر رمضان من سنة 381وبها يمدح الملك بهاء الدولة ويهنئه بشهر الصيام.
بهاء الملك من هذا البهاء، ... وضوء المجد من هذا الضّياء
وما يعلو على قلل المعالي، ... أحقّ من المعرّق في العلاء
__________
(1) الغروض: الأحزمة الرغاء: صوت الجمل.
(2) تؤمك: تقصدك يصيح: يطول الحوذان: نبات طيب الطعم زهره أحمر الأضاء، جمع أضاة: الغدير.
(3) أشلاء اللجام: سيوره تجيزه: تجعله يقطع البيض: السيوف.
(4) يعشى: يؤتي في العشية قراه: ضيافته.
(5) بشبائه: بمشابهين له.(1/13)
ولا تعنو الرّعاة لذي حسام، ... إذا ما لم يكن راعي رعاء (1)
وما انتظم الممالك مثل ماض ... يتمّ له القضاء على القضاء
إذا ابتدر الرّهان مبادروه، ... تمطّر دونهم، يوم الجزاء (2)
وإن طلب النّدى خرجت يداه ... خروج الودق من خلل الغماء (3)
حذار، إذا تلفّع ثوب نقع، ... حذار، إذا تعمّم باللّواء (4)
حذار من ابن غيطلة مدلّ، ... يسدّ مطالع البيد القواء (5)
إذا ألقى على لهوات ثغر ... يدي غضبان مرهوب الرّواء (6)
تمرّ قعاقع الرّزّين منه ... كمعمعة اللهيب من الأباء (7)
ومطراق على اللّحظات صلّ ... مريض النّاظرين من الحياء
تنكّس كالأميم، فإن تسامى ... مضى كالسّهم شذّ عن الرّماء (8)
__________
(1) الرعاء، جمع راع: من يرعى القوم ويسودهم. يبدو تأثر الشريف الرضي واضحا بثقافة العصر، إذ تكثر في هذه القصيدة الصور البيانية المتنوعة، وهو منذ البدء يلجأ الى الجناس التام والناقص.
(2) تمطّر: جاء مسرعا.
(3) الندى: الجود، الفضل والخير الودق: المطر الغماء: الغمام.
(4) النقع: غبار الحرب، وثوب النقع هو درع الحرب.
(5) الغيطلة: الظلمة المتراكمة المدلّ: المتفوّق على أقرانه بشجاعته القواء: الخالية.
(6) اللهوات، جمع لهاة: اللحمة المشرفة على الحلق في أقصى الفم الرواء: المنظر.
(7) القعاقع: صوت السلاح الرزّان: حدّا السيف المعمعة: صوت الحريق الأباء: القصب. يعمد الشاعر في هذا البيت الى الألفاظ الشديدة الوقع، انسجاما مع المعنى، والى الأحرف الشديدة والمضعّفة والتي من شأنها نقل القارئ الى جو المعركة الصاخب. وهذا ما سبقه إليه كل من أبي تمام والمتنبي، في وصفهما للمعارك.
(8) تنكس: أحنى رأسه الأميم: الذي شج رأسه.(1/14)
وما ينجي اللّديغ به تداو، ... وقد أمسى بداء أيّ داء (1)
ولا قضب الرّجال الصّيد فضلا ... عن الأصوات في حلي النّساء (2)
ويوم وغى على الأعداء هول ... تماز به السّراع من البطاء (3)
رميت فروجه حتى تفرّى ... بأيدي الجرد والأسل الظّماء (4)
فمن غلب كأنّهم أسود ... على قبّ ضوامر كالظّباء (5)
ومن بيض كأنّ مجرّديها ... يمرّون الأكفّ على الأضاء (6)
نواحل لم يدع ضرب الهوادي ... بها أبدا مكانا للجلاء (7)
ومن هاو ترنّح في العوالي، ... وعار قد أقام على العراء (8)
وآخر مال كالنّشوان مالت ... بهامته شآبيب الطّلاء (9)
وعدت وقد خبأت الحرب عنه ... إلى سلم الرّغائب والعطاء
__________
(1) اللديغ: الملدوغ.
(2) القضب: السيوف القاطعة الصّيد، جمع أصيد: الذي يرفع رأسه تعاليا، والصّيد هم الاشراف والملوك.
(3) الوغى: المعركة، القتال تماز: تميّز.
(4) تفرّ: تشقّق الجرد: الجياد الأصيلة الأسل: الرماح
(5) الغلب، جمع أغلب: الصعب، الممتنع القب، جمع أقب: الضامر من الخيل. استعار للفرسان صفة الأسود، وجعل الجياد ظباء لخفتها ورشاقتها.
(6) بيض: سيوف يمرّون الأكف: يجعلون الايدي تمر الأضاء:
الغدران.
(7) الهوادي، الأعناق، جمع هادية الجلاء: الإثمد، الكحل.
(8) الهاوي: الرمح يهوى به العاري: السيف. يبدو لجوء الشاعر الى التورية، والاستعارة والجناس، وقد وفق بذلك في اعطائنا صورة شبه ملحميه لوصف المعركة.
(9) شآبيب، جمع شؤبوب: الدفعة من المطر، وأراد الدماء المتدفقة الطلاء:
الخمر، وفي البيت مراعاة للنظير.(1/15)
فيوم للمكارم والعطايا ... ويوم للحميّة والإباء (1)
تقود الخيل أرشق من قناها ... شوازب كالقداح من السّراء (2)
بغارات كولغ الذّئب تترى، ... على الأعداء بيّنة العداء (3)
عزائم كالرّياح مررن رهوا، ... على الأقطار من دان وناء (4)
وقلب كالشّجاع يسور عزما ... ويجذب بالعلى جذب الرّشاء (5)
وكفّ كالغمام يفيض حتى ... يعمّ الأرض من كلأ وماء (6)
ووجه ماج ماء الحسن فيه ... ولاح عليه عنوان الوضاء (7)
يشارك في السّنى قمر الدّياجي ... ويفضله بزائدة السّناء (8)
ومعتلج الجلال نزعت عنه، ... على عجل، رداء الكبرياء (9)
فأصبح خارجا من كلّ عزّ ... خروج العود بزّ من اللّحاء (10)
وحزت جمام نعمته وكانت ... غمارا لا تكدّر بالدّلاء (11)
__________
(1) الحميّة: الأنفة. هذا البيت يختصر فيه الشاعر صفات الممدوح: مكارم الأخلاق، الكرم، الاباء والشجاعة.
(2) الشوازب: الخيول الضامرة القداح: السهام السراء: شجر تتخذ منه القسي.
(3) الولغ، من ولغ الذئب أو الكلب: شرب بطرف لسانه تترى: تتراخى، تتراكم.
(4) رهوا: سريعة، متتابعة دان وناء: بعيد وقريب.
(5) الشجاع: من أسماء الأسد يسور: يثب الرشاء: الحبل.
(6) الكلأ العشب، وفي البيت كناية عن الكرم، وتشبيه يجنح الى المبالغة.
(7) الوضاء: الحسن، والاشراق.
(8) السنى: الضوء، والسناء: الرفعة
(9) المعتلج: المجتمع الجلال: العظمة. أي أنه، على الرغم من العظمة التي يرفل بها، يبقى بعيدا عن الكبرياء قريبا من التواضع.
(10) بزّ من اللحاء: جرّد من قشره.
(11) جمام نعمته: فيض نعمته الغمار: المياه الكثيرة الدلاء: جمع دلو.(1/16)
برأي ثقّف الإقبال منه، ... فأقدم كالسّنان إلى اللّقاء (1)
إذا أشر القريب عليك فاقطع ... بحدّ السّيف قربى الأقرباء (2)
وكن إن عقّك القرباء ممّن ... يميل على الأخوّة للإخاء
فربّ أخ خليق بالتّقالي، ... ومغترب جدير بالصّفاء (3)
ولا تدن الحسود، فذاك عرّ ... مضيض لا يعالج بالهناء (4)
كفاك نوائب الأيّام كاف ... طرير العزم مشحوذ المضاء (5)
أمين الغيب لا يوكى حشاه ... لآمنه على الدّاء العياء (6)
أقام ينازل الأبطال، حتى ... تفلّل كلّ مشهور المضاء
إزاء الحرب يعتنق العوالي، ... ويغتبق النّجيع من الدّماء
إذا ما قيل: ملّ، رأيت منه ... نوازع تشرئبّ إلى اللّقاء (7)
فجرّبني تجدني سيف عزم ... يصمّم غربه، وزناد راء (8)
وأسمر شارعا في كلّ نحر ... شروع الصّلّ في ينبوع ماء (9)
إذا علقت يداك به حفاظا، ... ملأت يديك من كنز الغناء (10)
__________
(1) ثقف: أدرك السنان: رأس الرمح.
(2) أشر: كفر بالنعمة، أظهر بغضه.
(3) التقالي، من القلى: البغض الصفاء: الثقة، الصداقة الصافية.
(4) العر: الجرب مضيض: مزعج وموجع الهناء: القطران، والصورة تقليدية موروثة.
(5) طرير العزم: شديده مشحوذ: مسنون الحد.
(6) يوكى: يربط الداء العياء: الذي استعصي شفاؤه.
(7) النوازع: الجواذب تشرئب: تمد الأعناق.
(8) يصمم: يمضي ويقطع غربه: حدّه زناد راء: زناد رأي. وقد شبّه اقتداح الرأي وتوقّده بقدح الزناد أي اخراج النار منه.
(9) الأسمر: الرمح شارعا: خائضا الصل: الحيّة الخبيثة.
(10) حفاظا: دفاعا عن المكارم والمحارم.(1/17)
يعاطيك الصّواب بلا نفاق، ... ويمحضك السّداد بلا رياء
جريّ يوم تبعثه لحرب، ... وقور يوم تبحثه لراء (1)
إذا كان الكفاة لذا عبيدا، ... فذا كافي الكفاة، بلا مراء
بهاء الدّولة المنصور إنّي ... دعوتك بعد لأي من دعائي (2)
وكنت أظنّ أنّ غناك يسري ... إليّ بما تبيّن من غناء
فلم أنا كالغريب وراء قوم ... لو اختبروا لقد كانوا ورائي
بعيد عن حماك ولي حقوق ... قواض أن يطول به ثوائي (3)
أأبلى ثمّ يبدو باصطناعي، ... كفاني ما تقدّم من بلائي (4)
وذبّي عن حمى بغداد قدما ... بفضل العزم والنّفس العصاء (5)
غداة أظلّت الأقطار منها ... مضرّجة تبزّل بالدّماء
دخان تلهب الهبوات منه، ... مدى بين البسيطة والسّماء (6)
صبرت النّفس ثمّ على المنايا ... إلى أقصى الثّميلة والذّماء (7)
رجاء أن تفوز قداح ظنّي، ... وتلوي بالنّجاح قوى رجائي
ولي حقّ عليك، فذاك جدّي ... قديم في رضاك وذا ثنائي
ومن شيم الملوك على اللّيالي ... مجازاة الوليّ على الولاء
سيبلو منك هذا الصّوم خرقا ... رحيب الباع فضفاض الرّداء (8)
__________
(1) جريّ: جريء راء: رأي.
(2) بهاء الدولة: اسم الممدوح لأي: إبطاء، تأخير.
(3) حقوق قواض: حقوق مقضية ومكتسبة ثوائي: إقامتي.
(4) يبدو باصطناعي: يظهر له رأي آخر فيّ.
(5) ذبّي: دفاعي: العصاء: العاصية، وهو نعت المصدر.
(6) الهبوات: الغبار الكثيف البسيطة: الأرض.
(7) الثميلة: البقية الذماء: الحشاشة، بقية الروح.
(8) الصوم: صوم رمضان المبارك الخرق: الكثير الكرم الفضفاض:
الواسع.(1/18)
تصوم فلا تصوم عن العطايا ... وعن بذل الرّغائب والحباء
ألا فاسعد به، وبكلّ يوم ... يفوّقه الصّباح إلى المساء
ودم أبد الزّمان، فأنت أولى ... بني الدّنيا بعارية البقاء
عليّ الجدّ، مقترب الأماني، ... عزيز الجار، مطروق الفناء (1)
السابقون
(الوافر)
أيا لله! أيّ هوى أضاء ... بريق بالطّويلع إذ تراءى
ألمّ بنا كنبض العرق وهنا، ... فلمّا جازنا ملأ السّماء (2)
كأنّ وميضه أيدي قيون ... تعيد على قواضبها جلاء (3)
طربت إليه، حتى قال صحبي ... لأمر هاج منك البرق داء
ولم يك قبلها يقتاد طرفي، ... ولا يمضي بلبّي حيث شاء
خليليّ اطلقا رسني، فإنّي ... أشدّكما على عزم مضاء
أبت لي صبوتي إلّا التفاتا ... إلى الدّمن البوائد وانثناء (4)
فإن تريا، إذا ما سرت، شخصي ... أمامكما، فلي قلب وراء
وربّت ساعة حبّست فيها ... مطايا القوم أمنعها النّجاء
__________
(1) عليّ الجد: عالي الحظ مطروق الفناء: مقصد الناس، مطروق الباب.
(2) وهنا: ضعفا.
(3) القيون، جمع قين: الحدّاد القواضب: السيوف. أي كأن وميض ذلك البرق لمعان سيوف يقلّبها الحدّاد ويجلوها.
(4) صبوتي: اشتياقي البوائد: البائدة انثناء: انحناء.
وهو يستهلها بالوقوف على الاطلال على طريقة القدماء.(1/19)
على طلل كتوشيع اليماني ... أمحّ، فخالط البيد القواء (1)
قفار لا تهاج الطّير فيها، ... ولا غاد يروع بها الظّباء
فيا لي منه يصبيني أنيقا ... بساكنه، ويبكيني خلاء
أنادي الرّكب: دونكم ثراه ... لعلّ به لذي داء دواء
تساقين التذكّر، فانثنينا ... كأنّا قد تساقين الطّلاء (2)
وعجنا العيس توسعنا حنينا، ... تغنّينا، ونوسعها بكاء (3)
إلى كم ذا التّردّد في التّصابي، ... وفجر الشّيب عندي قد أضاء
فيا مبدي العيوب سقى سوادا ... يكون على مقابحها غطاء
شبابي إن تكن أحسنت يوما، ... فقد ظلم المشيب، وقد أساء
ويا معطي النّعيم بلا حساب، ... أتاني من يقتّر لي العطاء
متاع أسلفتناه اللّيالي، ... وأعجلنا، فأسرعنا الأداء
تسخّطنا القضاء، ولو عقلنا ... فما يغني تسخّطنا القضاء
سأمضي للّتي لا عيب فيها، ... وإن لم أستفد إلّا عناء
وأطلب غاية إن طوّحت بي، ... أصابت بي الحمام أو العلاء
أنا ابن السّابقين إلى المعالي، ... إذا الأمد البعيد ثنى البطاء
إذا ركبوا تضايقت الفيافي، ... وعطّل بعض جمعهم الفضاء
نماني من أباة الضّيم نام، ... أفاض عليّ تلك الكبرياء
شأونا النّاس أخلاقا لدانا، ... وأيمانا رطابا، واعتلاء (4)
__________
(1) التوشيح: التوشية والزخرفة اليماني: الثوب المنسوب الى بلاد اليمن أمحّ: بلي القواء: الخالية. أي أن معالم الطلل تبدو كزخرفة ثوب يمني بال.
(2) الطلاء: الخمر.
(3) العيس: النياق. يلاحظ في قوله «نوسعها بكاء» جنوحه الى المبالغة في البكاء على فراق الأحبة، وهو بالطبع بكاء تقليدي.
(4) شأونا: سبقنا وابتعدنا لدان: ليّنة أيمانا، جميع يمين: ضد اليسار، وقوله: أيمانا رطابا، فيه كناية عن الكرم.(1/20)
ونحن النّازلون بكلّ ثغر، ... نريق على جوانبه الدّماء
ونحن الخائضون بكلّ هول ... إذا دبّ الجبان به الضّراء (1)
ونحن اللّابسون لكل مجد ... إذا شئنا ادّراعا وارتداء
أقمنا بالتّجارب كلّ أمر ... أبى إلّا اعوجاجا والتواء
نجرّ إلى العداة سلاف جيش ... كعرض اللّيل يتّبع اللّواء (2)
نطيل به صدى الجرد المذاكي ... إلى أن نورد الأسل الظّماء (3)
إذا عجم العدا أدمى وأصمى ... وطيّر عن قضيبهم اللّحاء (4)
عجاج ترجع الأرواح عنه ... فلا هوجا يجيز ولا رخاء (5)
شواهق من جبال النّقع ترمي ... بها أبدا غدوّا أو مساء (6)
وغرّ آكل بالغيب لحمي، ... وإنّ لأكله داء عياء (7)
يسيء القول إمّا غبت عنه، ... ويحسن لي التّجمّل واللّقاء
عبأت له وسوف يعبّ فيها ... من الضّرّاء آنية ملاء (8)
__________
(1) الضراء: السير المتخفّي بين الشجر.
(2) سلاف الجيش: مقدمته العرض هو الجيش العظيم، وعرض الليل:
مرحلة من الليل، وفي القول تشبيه الجيش بالعتمة التي تلف كل شيء.
(3) الجرد، جمع أجرد: السبّاق من الخيل المذاكي، جمع المذكي:
ما تمّ سنّه من الخيل وكملت قوته الأسل: الرماح، وقوله: الى أن نورد الأسل الظماء، يعني: إلى أن نروي الرماح بالدماء.
(4) العجم: الاختبار اللحاء: القشر.
(5) العجاج: الغبار الهوج: الرياح العاصفة الرخاء: الريح الهادئة الأرواح: جمع ريح.
(6) النقع: الغبار، وقوله «جبال النقع» نوع من المبالغة يرمي بها الى التهويل.
(7) الغر: الجاهل. ينتقل مع هذا البيت الى تقلب الأصحاب ونكران الجميل.
(8) عبأت له: هيأت له يعب: يشرب.(1/21)
ومنّا كلّ أغلب مستحين ... إن انت لددته بالذّلّ قاء (1)
إذا ما ضيم نمّر صفحتيه، ... وقام على براثنه إباء (2)
وإن نودي به، والحلم يهفو، ... صغا كرما إلى الدّاعي، وفاء (3)
ونأبى أن ينال النّصف منّا، ... وأن نعطي مقارعنا السّواء (4)
ولو كان العداء يسوغ فينا، ... لما سمنا الورى إلّا العداء (5)
العيون تجانب الأقذاء
(الكامل)
نظم الشريف الرضي هذه القصيدة في رثاء أبي الفتح، ابن الخليفة الطائع لله، ويعزي فيها الخليفة ويمدحه، وذلك في سنة ست وتسعين وثلثماية.
أيّ العيون تجانب الأقذاء، ... أم أيّ قلب يقطع البرحاء (6)
والموت يقنص جمع كلّ قبيلة، ... قنص المريع جآذرا وظباء (7)
__________
(1) الأغلب: الأسد مستحين: مترقّب، متحيّن الفرصة لددته: سقيته قاء: أخرج ما في بطنه.
(2) ضيم: ظلم نمرّ صفحتيه: غيّر وجهه براثنه: مخالبه، وفي البيت مراعاة للنظير وكناية عن شدّة الغضب.
(3) يهفو: يميل فاء: رجع.
(4) النصف: هو من كان من أواسط الناس، أي لا صغير ولا كبير المقارع: المقاتل.
(5) العداء (الأولى): الظلم العداء (الثانية): العداوة، وقد جانس الشاعر بين اللفظتين.
(6) البرحاء: شدّة الأذى، الألم.
(7) المريع: المخيف، المفزع جآذر، جمع جؤذر: ولد الظبي، وفي البيت إشارة الى أن الموت يأخذ الكبير والصغير.(1/22)
يتناول الضّبّ الخبيث من الكدى ... ويحطّ من عليائها الشّغواء (1)
تبكي على الدّنيا رجال لم تجد ... للعمر من داء المنون شفاء
والدّهر مخترم تشنّ صروفه، ... في كلّ يوم، غارة شعواء
إنّا بنو الدّنيا تسير ركابنا، ... وتغالط الإدلاج والإسراء (2)
وكأنّنا في العيش نطلب غاية، ... وجميعنا يدع السّنين وراء
أين المقاول، والغطارفة الأولى ... هجروا الدّيار، وعطّلوا الأفناء (3)
فاخلط بصوتك كلّ صوت واستمع ... هل في المنازل من يجيب دعاء
واشمم تراب الأرض تعلم أنّها ... جرباء تحدث كلّ يوم داء
كم راحل ولّيت عنه، وميّت ... رجعت يدي من تربه غبراء
وكذا مضى قبلي القرون يكبّهم ... صرف الزّمان تسرّعا ونجاء (4)
هذا أمير المؤمنين، وظلّه ... يسع الورى، ويجلّل الأحياء
نظرت إليه من الزّمان ملمّة، ... كاللّيث لا يغضي الجفون حياء (5)
__________
(1) الضب: حيوان من الزحافات شبيه بالحرذون وذنبه كثير العقد، ومن أمثالهم: «أعقد من ذنب الضب»، وتقول العرب «لا أفعله حتى يرد الضب» لظنهم أن الضب لا يرد الماء الكدى: الأرض الصلبة الشغواء: العقاب. أي أن الموت لا ينجو منه أحد، فهو يتناول الضب السائح في الأرض الصلبة، وينزل العقاب من عليائه. ونشير هنا الى أن في قوله نوعا من الكدّ الشعري لا يتلاءم والمناسبة.
(2) الإدلاج: السير أول الليل الإسراء: سير الليل كله.
(3) المقاول: الملوك، ألقاب ملوك حمير الغطارفة: السادة.
(4) يكبّهم: يصرعهم النجاء: السرعة. وقوله: تسرّعا ونجاء فيه إضافة المعنى إلى نفسه وتكرار للفكرة الواحدة بلفظين مختلفين، وذلك من أجل إكمال البيت وحفاظا على القافية.
(5) ملمّة: مصيبة. وتشبيه الخليفة بالأسد الثابت، في العجز، إشارة إلى أن المصيبة لم تنل من عزمه.(1/23)
وأصابه صرف الرّدى برزيّة، ... كالرّمح أنهر طعنة نجلاء (1)
ماذا نؤمّل في اليراع، إذا نشت ... ريح تدقّ الصّعدة الصّمّاء (2)
عصف الرّدى بمحمّد ومذمّم، ... فكأنّما وجد الرّجال سواء
ومصاب أبلج من ذؤابة هاشم ... ولج القبور وأزعج الخلفاء
وتر الرّدى من لو تناول سيفه، ... يوما، لنال من الرّدى ما شاء (3)
غصن طموح عطّفته منيّة ... للخابطين، وطاوع النّكباء (4)
يا راحلا ورد الثّرى في ليلة ... كاد الظّلام بها يكون ضياء
لمّا نعاك النّاعيان مشى الجوى ... بين القلوب وضعضع الأحشاء
واسود شطر اليوم ترجف شمسه ... قلقا، وجرّ ضياؤه الظّلّماء
وارتج بعدك كلّ حيّ باكيا، ... فكأنّما قلب الصّهيل رغاء
قبر تشبّث بالنّسيم ترابه ... دون القبور، وعقّل الأنواء
تلقاه أبكار السّحاب وعونها، ... تلقى الحيا، وتبدّد الأنداء (5)
متهلّل الجنبات تضحك أرضه، ... فكأنّ بين فروجه الجوزاء
__________
(1) أنهر: وسّع نجلاء: واسعة.
(2) اليراع: القلم، القصب نشت: عاودت مرة بعد أخرى الصعدة:
القناة.
(3) وتره: أصابه بمكروه. أي أن الموت نال ممن لو تناول سيفه لتحدّى الموت.
(4) غصن: كناية عن أن الفقيد كان ما يزال في ريعان العمر عطفته:
أمالته الخابطون: الذين يخبطون الشجر بعصيهم. تبرز في البيت صورة قائمة على مراعاة النظير، كما ينتقل، في البيت التالي، الى مخاطبة الميت عن طريق الالتفات.
(5) أبكار السحاب: السحب الغزيرة في أول هبوطها العون: التي في نصف عمرها. يستمطر، في هذا البيت وفي البيت الذي يلي، الغيث على الطريقة التقليدية.(1/24)
أولى الرّجال بريّ قبر ماجد ... غمر الرّجال تبرّعا وعطاء
ولو انّ دفّاع الغمام يطيعني ... لجرى على قبر اللّئيم غثاء (1)
لا زال تنطف فوقه قطع الحيا، ... بمجلجل يدع الصّخور رواء (2)
وتظنّ كلّ غمامة وقفت به، ... تبكي عليه تودّدا وولاء
وإذا الرّياح تعرّضت بترابه، ... قلنا السّماء تنفّس الصّعداء (3)
إيها تمطّر نحوك الدّاء الّذي ... قرض الرّجال وفرّق القرباء (4)
إنّ الرّماح رزئن منك مشيّعا، ... غمر الرّداء مهذّبا معطاء
وطويل عظم السّاعدين كأنّما ... رفعت بعمّته الجياد لواء (5)
ولقين بعدك كلّ صبح ضاحك ... يوما أغمّ وليلة ليلاء (6)
أنعاك للخيل المغيرة شزّبا ... واليوم يضرب بالعجاج خباء (7)
ولخوض سيفك والفوارس تدّعي ... حربا يجرّ نداؤها الأسماء
وغيابة فرّجتها، ومقامة ... سدّدت فيها حجّة غرّاء (8)
وخلطت أقوال الرّجال بمقول ... ذرب كما خلط الضّراب دماء
ومطيّة أنضيتها، وكلاكما ... تتنازعان السّير والإنضاء (9)
__________
(1) الدفاع: السيل العظيم الغثاء: ورق الشجر يجرفه السيل.
(2) تنطف: تسيل المجلجل: الغيم الراعد.
(3) يعطي الشاعر هنا صورة تكاد تكون جديدة، إذ يجعل الرياح التي تذري التراب فوق قبر الميت نوعا من التنفس الذي معه تعبر السماء عن رضاها.
(4) تمطّر: أسرع.
(5) كان سادات العرب يجعلون من عمائمهم ألوية، أو يتعممون باللواء في القتال.
(6) الليلة الليلاء: الشديدة الظلمة.
(7) شزّبا: ضامرة العجاج: الغبار.
(8) الغيابة: الغامضة الخفية غرّاء: واضحة جلية، مشرقة.
(9) المطية: كل ما يمتطى ويركب أنضيتها: جعلتها هزيلة الانضاء:
اللجام.(1/25)
إنّ البكاء عليك فرض واجب، ... والعيش لا يبكى عليه رياء
بأبيك، يطمح نحو كلّ عظيمة ... طرف تعلّم بعدك الإغضاء
فاسلم أمير المؤمنين، ولا تزل ... تجري الجياد وتحرز الغلواء (1)
فإذا سلمت من النّوائب أصبحت ... ترضى، ونرضى أن يكون فداء
ولئن تسلّطت المنون لقد أتت ... ما ردّ لوم اللّائمين ثناء
وهبت لنا هذا الحسام المنتضى ... فينا، وهذي العزّة القعساء (2)
نهنهت بادرة الدّموع تجمّلا، ... والعين تؤنس عبرة وبكاء (3)
فاستبق دمعك في المصائب واعلمن ... أنّ الرّدى لا يشمت الأعداء
وتسلّ عن سيف طبعت غراره ... وأعرت شفرته سنا ومضاء (4)
والصّبر عن ولد يجيء بمثله ... أولى، ولكن نندب الآباء
فلقد رجعت عن المطيع بسلوة ... من بعد ما جرت الدّموع دماء
والإبن للأب إن تعرّض حادث، ... أولى الأنام بأن يكون وقاء
وإذا ارتقى الآباء أمنع نجوة، ... فدع الرّدى يستنزل الأبناء (5)
ورد الزّمان به وأورده الرّدى ... بغيا، فأحسن مرّة، وأساء
ورمى سنيه إلى الحمام، كأنّما ... ألقى بها عن منكبيه رداء (6)
فلتعلم الأيّام أنّك لم تزل ... تفري الخطوب، وتكشف الغمّاء
خضعت لك الأعداء يوم لقيتها ... جلدا تجرّد للمصاب عزاء
وتمطّت الزّفرات، حتى قوّمت ... ضلعا على أضغانها عوجاء (7)
__________
(1) الغلواء: الشباب، الفوز.
(2) العزة القعساء: العزّة الثابتة.
(3) نهنهت: كففت تؤنس: تحس، تذرف.
(4) غراره: حدّه سنا: لمعانا.
(5) النجوة: المرتفع من الأرض.
(6) سنيه: جمع سنة الحمام: الموت.
(7) تمطّت: امتدّت.(1/26)
ومضاغن ملآن يكتم غيظه ... جزعا، كما كتم المزاد الماء (1)
متحرّق، فإذا رأتك لحاظه ... نسيت مجامع قلبه الشّحناء
وأما وجودك، إنّه قسم لقد ... غمر القلوب وأنطق الشّعراء (2)
وأنا الّذي واليت فيك مدائحا، ... وعبأت للباغي عليك هجاء (3)
ونفضت إلّا من هواك خواطري ... نفض المشمّر بالعراء وعاء (4)
فاسلم، ولا زال الزّمان يعيرني ... طمعا يمدّ إلى نداك رجاء
أبكيك
(الكامل)
نظم هذه القصيدة في رثاء والدته فاطمة بنت الناصر، وقد توفيت في ذي الحجة سنة 385.
أبكيك لو نقع الغليل بكائي، ... وأقول لو ذهب المقال بدائي (5)
وأعوذ بالصّبر الجميل تعزّيا، ... لو كان بالصّبر الجميل عزائي
طورا تكاثرني الدّموع، وتارة ... آوي إلى أكرومتي وحيائي (6)
__________
(1) مضاغن: حاقد المزاد: الراوية.
(2) أما: أمّا مخفّفة للضرورة.
(3) عبأت: هيّأت.
(4) العراء: المكان المتسع لا ستر فيه.
(5) نقع: أروى الغليل: شدة الحزن وحرارته أي لو أن البكاء يروي غليلي ويخفف حرارة حزني لما كنت أتوقف عن البكاء، ولو أن الكلام يذهب بداء الحزن ويريحني منه لما كنت أكف عن الحديث.
(6) الأكرومة: فعل الكرم.(1/27)
كم عبرة موّهتها بأناملي، ... وسترتها متجمّلا بردائي
أبدي التّجلّد، للعدوّ، ولو درى ... بتململي لقد اشتفى أعدائي
ما كنت أذخر في فداك رغيبة، ... لو كان يرجع ميّت بفداء
لو كان يدفع ذا الحمام بقوّة ... لتكدّست عصب وراء لوائي
بمدرّبين على القراع تفيّأوا ... ظلّ الرّماح لكلّ يوم لقاء
قوم إذا مرهوا بأغباب السّرى، ... كحلوا العيون بإثمد الظّلماء (1)
يمشون في حلق الدّروع كأنّهم ... صمّ الجلامد في غدير الماء
ببروق أدراع ورعد صوارم، ... وغمام قسطلة ووبل دماء (2)
فارقت فيك تماسكي وتجمّلي، ... ونسيت فيك تعزّزي وإبائي
وصنعت ما ثلم الوقار صنيعه ... ممّا عراني من جوى البرحاء (3)
كم زفرة ضعفت فصارت أنّة، ... تمّمتها بتنفّس الصّعداء
لهفان أنزو في حبائل كربة، ... ملكت عليّ جلادتي وغنائي (4)
وجرى الزّمان على عوائد كيده ... في قلب آمالي، وعكس رجائي
قد كنت آمل أن أكون لك الفدا ... ممّا ألمّ، فكنت أنت فدائي
وتفرّق البعداء بعد مودّة ... صعب، فكيف تفرّق القرباء
وخلائق الدّنيا خلائق مومس ... للمنع آونة، وللإعطاء
طورا تبادلك الصّفاء، وتارة ... تلقاك تنكرها من البغضاء
وتداول الأيّام يبلينا كما ... يبلي الرّشاء تطاوح الأرجاء (5)
__________
(1) مرهوا: ابيضت أعينهم الأغباب، جمع غبب: الغامض من الأرض.
(2) القسطلة: غبار الحرب الوبل: المطر الغزير. في الأبيات الخمسة الأخيرة يعمد الشاعر الى الاستطراد، ناسيا أو متناسيا المناسبة، ليعود من ثم الى الرثاء.
(3) البرحاء: شدّة الألم والأذى.
(4) أنزو: أتخبّط جلادتي وغنائي: تصبّري واكتفائي.
(5) الرشاء: الحبل تطاوح: ترامي الأرجاء، جمع رجا: حافة البئر.(1/28)
وكأنّ طول العمر روحة راكب ... قضّى اللّغوب وجدّ في الإسراء (1)
أنضيت عيشك عفّة وزهادة، ... وطرحت مثقلة من الأعباء (2)
بصيام يوم القيظ تلهب شمسه، ... وقيام طول اللّيلة اللّيلاء (3)
ما كان يوما بالغبين من اشترى ... رغد الجنان بعيشة خشناء
لو كان مثلك كلّ أمّ برّة ... غني البنون بها عن الآباء
كيف السّلوّ، وكلّ موقع لحظة ... أثر لفضلك خالد بإزائي (4)
فعلات معروف تقرّ نواظري، ... فتكون أجلب جالب لبكائي
ما مات من نزع البقاء، وذكره ... بالصّالحات يعدّ في الأحياء
فبأيّ كفّ أستجنّ وأتّقي ... صرف النّوائب أم بأيّ دعاء (5)
ومن المموّل لي، إذا ضاقت يدي، ... ومن المعلّل لي من الأدواء
ومن الذي إن ساورتني نكبة، ... كان الموقّي لي من الأسواء (6)
أم من يلطّ عليّ ستر دعائه، ... حرما من البأساء والضّرّاء (7)
رزآن يزدادان طول تجدّد ... أبد الزّمان: فناؤها وبقائي
شهد الخلائق أنّها لنجيبة ... بدليل من ولدت من النّجباء (8)
في كلّ مظلم أزمة أو ضيقة ... يبدو لها أثر اليد البيضاء
ذخرت لنا الذّكر الجميل إذا انقضى ... ما يذخر الآباء للأبناء
__________
(1) اللغوب، جمع لغب: التعب.
(2) أنضيت: أبليت.
(3) قيام الليل: قضاء الليل في الصلاة والتأمل.
(4) السّلو: النسيان.
(5) استجن: أستتر النوائب: المصائب.
(6) ساورتني: واثبتني.
(7) يلط: يستر، يرخي الستر.
(8) يجعل الشريف الرضي أمّه في مرتبة عليا، فهي نجيبة لأنها ولدت نجباء، ومنهم الشاعر نفسه. وهذا المعنى نفسه نقع عليه عند المتنبي.(1/29)
قد كنت آمل أن يكون أمامها ... يومي وتشفق أن تكون ورائي
كم آمر لي بالتّصبّر هاج لي ... داء، وقدّر أنّ ذاك دوائي
آوي إلى برد الظّلال، كأنّني ... لتحرّقي آوي إلى الرّمضاء (1)
وأهبّ من طيب المنام تفزّعا ... فزع اللّديغ نبا عن الإغفاء (2)
آباؤك الغرّ الّذين تفجّرت ... بهم ينابيع من النّعماء
من ناصر للحقّ أو داع إلى ... سبل الهدى، أو كاشف الغمّاء
نزلوا بعرعرة السّنام من العلى ... وعلوا على الأثباج والأمطاء (3)
من كلّ مستبق اليدين إلى النّدى ... ومسدّد الأقوال والآراء
يرجى على النّظر الحديد تكرّما، ... ويخاف في الإطراق والإغضاء
درجوا على أثر القرون وخلّفوا ... طرقا معبّدة من العلياء
يا قبر! أمنحه الهوى وأودّ لو ... نزفت عليه دموع كلّ سماء
لا زال مرتجز الرّعود مجلجل ... هزج البوارق مجلب الضّوضاء (4)
يرغو رغاء العود جعجعه السّرى، ... وينوء نوء المقرب العشراء (5)
__________
(1) الرمضاء: النار، الرمال المحرقة، وعبارة «لتحرقي آوي الى الرمضاء» تذكرنا بقول أبي نواس «داوني بالتي كانت هي الداء».
(2) اللديغ: الذي لدغته الحيّة. وفي البيت إشارة الى عادة قديمة وهي أنهم كانوا يساهرون اللديغ فلا يتركونه لئلا يسري السم في جسمه إذا نام.
(3) عرعرة السنام: رأس السنام الأثباج، جمع ثبج: ما بين الكاهل والظّهر الأمطاء، جمع مطا: الظهر.
(4) المرتجز من الرعد: المتدارك الصوت المجلجل: الرعد المصحوب بالمطر الهزج: المصوّت الضوضاء: الضجّة، أصوات الناس في الحرب.
(5) الرغاء: صوت الأبل العود: المسنّ منها الجعجعة: أصوات الابل إذا اجتمعت ينوء: يثقل المقرب: التي قرب أولادها العشراء:
التي مضى على حملها عشرة أشهر.(1/30)
يقتاد مثقلة الغمام، كأنّما ... ينهضن بالعقدات والأنقاء (1)
يهفو بها جنح الدّجى، ويسوقها ... سوق البطاء بعاصف هوجاء (2)
يرميك بارقها بأفلاذ الحيا، ... ويفضّ فيك لطائم الأنداء (3)
متحلّيا عذراء كلّ سحابة ... تغذو الجميم بروضة عذراء (4)
للؤمت إن لم أسقها بمدامعي، ... ووكلت سقياها إلى الأنواء
لهفي على القوم الأولى غادرتهم، ... وعليهم طبق من الصّهباء (5)
صور ضننت على العيون بلحظها، ... أمسيت أوقرها من البوغاء (6)
ونواظر كحل التّراب جفونها، ... قد كنت أحرسها من الأقذاء
قربت ضرائحهم على زوّارها، ... ونأوا عن الطّلّاب أيّ تنائي
ولبئس ما تلقى بعقر ديارهم ... أذن المصيخ بها وعين الرّائي (7)
معروفك السّامي أنيسك، كلّما ... ورد الظّلام بوحشة الغبراء
وضياء ما قدّمته من صالح ... لك في الدّجى بدل من الأضواء
إنّ الذي أرضاه فعلك لا يزل ... ترضيك رحمته صباح مساء
صلّى عليك، وما فقدت صلاته ... قبل الرّدى، وجزاك أيّ جزاء
لو كان يبلغك الصّفيح رسائلي، ... أو كان يسمعك التّراب ندائي (8)
__________
(1) العقدات: ما تعقد من الرمل وتراكم الأنقاء، جمع نقا: القطعة من الرمل محدوبة الشكل.
(2) يهفو بها: يحرّكها الهوجاء: الريح القوية.
(3) أفلاذ الحيا: قطع المطر اللطائم، جمع لطيمة: وعاء المسك الأنداء، جمع ندى: مطر خفيف ينزل ليلا، ونوع من البخور يتطيب به.
(4) الجميم: ما غطى وجه الأرض من النبات.
(5) الصهباء: الخمر.
(6) أوقرها: أحملها البوغاء: التربة الرخوة.
(7) العقر: الوسط المصيخ: المستمع.
(8) الصفيح: وجه كل شيء عريض، الحجارة، ويعني هنا حجارة القبر.(1/31)
لسمعت طول تأوّهي وتفجّعي، ... وعلمت حسن رعايتي ووفائي
كان ارتكاضي في حشاك مسبّبا ... ركض الغليل عليك في أحشائي
وفيت له
(الكامل)
نظم هذه القصيدة في رثاء الطائع لله.
أترى السّحاب، إذا سرت عشراؤه، ... يمرى على قبر ببابل ماؤه (1)
يا حادييه قفا ببزل مطيّه، ... فإلى ثرى ذا القبر كان حداؤه (2)
يسقي هوى للقلب فيه ومعهدا، ... رقّت منابته ورقّ هواؤه (3)
قد كان عاقدني الصّفاء فمل أزل ... عنه، وما بقّى عليّ صفاؤه
ولقد حفظت له، فأين حفاظه ... ولقد وفيت له، فأين وفاؤه
أوعى الدّعاء، فلم يجبه قطيعة، ... أم ضلّ عنه من البعاد دعاؤه
هيهات أصبح سمعه وعيانه ... في التّرب قد حجبتهما أقذاؤه
يمسي، ولين مهاده حصباؤه ... فيه، ومؤنس ليله ظلماؤه
قد قلّبت أعيانه، وتنكّرت ... أعلامه، وتكسّفت أضواؤه
مغف، وليس للذّة إغفاؤه ... مغض، وليس لفكرة إغضاؤه
__________
(1) العشراء: التي تتخالط وتتصاحب يمرى: يستدر ماؤه.
(2) البزل، جمع بازل: الابل التي دخلت في السنة التاسعة. في مطلع القصيدة يستدر الشريف الرضي الغمام على طريقة القدماء. وتجدر الاشارة الى أنه لا يأتي على ذكر اسم الطائع لله، ممّا جعل بعضهم يشك في كون القصيدة قيلت في رثائه. ويرى فريق ان الشريف نظمها في رثاء الطائع وأخفاها مدّة تجنبا لغضب من قضوا عليه.
(3) المعهد: المكان رقّت منابته: لانت تربته واتسعت.(1/32)
وجه كلمح البرق غاض وميضه ... قلب كصدر العضب فلّ مضاؤه (1)
حكم البلى فيه، فلو يلقى به ... أعداءه لرثى له أعداؤه
إنّ الّذي كان النّعيم ظلاله ... أمسى يطنّب بالعراء خباؤه
قد خفّ عن ذاك الرّواق حضوره ... أبدا، وعن ذاك الحمى ضوضاؤه
كانت سوابقه طراز فنائه ... يجلو جمال روائهنّ رواؤه (2)
ورماحه سفراؤه، وسيوفه ... خفراؤه، وجياده ندماؤه (3)
ما زال يغدو، والرّكاب حداؤه، ... بين الصّوارم والعجاج رداؤه
انظر إلى هذا الأنام بعبرة ... لا يعجبنّك خلقه وبهاؤه (4)
بيناه كالورق النّضير تقصّفت ... أغصانه وتسلّبت شجراؤه (5)
أنّى تحاماه المنون، وإنّما ... خلقت مراعي للرّدى خضراؤه
أم كيف تأمل فلتة أجساده ... من ذا الزّمان، وحشوها أدواؤه (6)
لا تعجبنّ، فما العجيب فناؤه ... بيد المنون، بل العجيب بقاؤه
إنّا لنعجب كيف حمّ حمامه، ... عن صحّة، ويغيب عنّا داؤه (7)
من طاح في سبل الرّدى آباؤه، ... فليسلكنّ طريقه أبناؤه
__________
(1) غاض وميضه: زال لمعانه وبريقه العضب: السيف القاطع فل مضاؤه: لم يعد يقطع، تثلّم حدّه القاطع.
(2) الفناء: سعة أمام البيت الرواء: المنظر.
(3) يعد هذا البيت من الشعر المشهور للشريف الرضي، لما يمتاز به من المعاني المتلاحقة ولما يحمله من الصور الدالة على البطولة ومن حسن اختيار اللفظ المناسب للمعنى.
(4) العبرة: العجب.
(5) تسلبت: سقطت شجراؤه: أشجاره.
(6) الأدواء: جمع داء.
(7) حم حمامه: دنا أجله.(1/33)
ومؤمّر نزلوا به في سوقة، ... لا شكله فيهم ولا قرناؤه (1)
قد كان يفرق ظلّه أقرانه، ... ويغضّ دون جلاله أكفاؤه (2)
ومحجّب ضربت عليه مهابة، ... يغشي العيون بهاؤه وضياؤه
نادته من خلف الحجاب منيّة ... أمم، فكان جوابها حوباؤه (3)
شقّت إليه سيوفه ورماحه، ... وأميط عنه عبيده وإماؤه
لم يغنه من كان ودّ لو انّه ... قبل المنون من المنون فداؤه
حرم عليه الذّلّ، إلّا أنّه ... أبدا ليشهد بالجلال بناؤه
متخشّع بعد الأنيس جنابه ... متضائل بعد القطين فناؤه (4)
عريان تطرد كلّ ريح تربه، ... وتطيع أوّل أمرها حصباؤه
ولقد مررت ببرزخ، فسألته: ... أين الأولى ضمّتهم أرجاؤه (5)
مثل المطيّ بواركا أجداثه، ... تسفى على جنباتها بوغاؤه (6)
ناديته، فخفي عليّ جوابه ... بالقول إلّا ما زقت أصداؤه (7)
من ناظر مطروفة ألحاظه، ... أو خاطر مطلولة سوداؤه (8)
__________
(1) المؤمّر: المملّك نزلوا به: حملوه في سوقة: في جماعة. أي:
ورب مملّك حمل بين جماعة يختلف عنهم شكلا ولا يقارن بهم.
(2) يفرق: يفزع، يخاف ظلا: نصب على نزع الخافض. يلاحظ من تعداد مناقب الفقيد أن القصيدة قيلت في رثاء من كان سيد القوم وملكهم.
(3) أمم: قريب حوباؤه: نفسه.
(4) الجناب: الفناء القطين: أهل الدار، القاطنون.
(5) البرزخ: الحاجز بين الشيئين، والمراد به هنا المقبرة لأنها حجزت بين الدنيا والآخرة الأرجاء: الأنحاء.
(6) تسفى: تذروها الريح البوغاء: التربة الرخوة.
(7) زقت: صاحت أصداؤه، جمع صدى: ذكر البوم. وفي القول اشارة الى اعتقاد الجاهليين بأن روح القتيل تخرج من رأسه وتحوم حول قبره وتصيح بصوت هو صوت الصدى.
(8) مطروفة: مكسورة مطلولة: مهدورة سوداؤه: حبّة قلبه.(1/34)
أو واجد مكظومة زفراته، ... أو حاقد منسيّة شحناؤه
ومسنّدين على الجنوب، كأنّهم ... شرب تخاذل بالطّلا أعضاؤه (1)
تحت الصّعيد لغير إشفاق إلى ... يوم المعاد تضمّهم أحشاؤه
أكلتهم الأرض التي ولدتهم ... أكل الضّروس حلت له أكلاؤه (2)
حيّاك معتلج النّسيم، ولا يزل ... سحرا تفاوح نوره أصباؤه (3)
يمري عليك من النّعامى خلفه ... من عارض متبزّل أنداؤه (4)
فسقاك ما حمل الزّلال سجاله، ... ونحاك ما جرّ الزّحوف لواؤه (5)
لولا اتّقاء الجاهليّة سقته ... ذودا تمور على ثراك دماؤه (6)
وأطرت تحت السّيف كلّ عشيّة ... عرقوب مغتبط يطول رغاؤه
لكن سيخلف عقرها ودماءها، ... أبد اللّيالي، مدمعي وبكاؤه
أقني الحياء تجمّلا لو أنّه ... يبقى مع الدّمع اللّجوج حياؤه
وإذا أعاد الحول يومك عادني، ... مثل السّليم يعوده آناؤه (7)
__________
(1) الشرب: جماعة الشاربين الطّلا: الخمر.
(2) الضروس: الناقة الشرسة أكلاء: جمع كلأ وهو العشب.
(3) المعتلج: المتموّج والمتلاطم نوره: زهره أصباؤه، جمع صبا:
الريح الشرقية الناعمة.
(4) يمري: من مرى السحاب: نزل مطره النعامى: ريح الجنوب خلف الناقة: ضرعها العارض المتبزل: الغيم الماطر أنداؤه: مطره الخفيف.
(5) الزلال: الماء الصافي والمنعش السجال، جمع سجل: الدلو الكبيرة والمملوءة ماء، وقد استعار اللفظة للسحاب نحاك: قصدك الزحوف:
الجيش الزاحف.
(6) الذود: هو من الابل من الثلاثة الى العشرة تمور: تنصب، تجري.
(7) السليم: اللديغ، الذي لدغته الحيّة آناؤه: جمع أنى: كل النهار أو جزء منه.(1/35)
داء بقلبي لا يعود طبيبه ... يأسا إليّ، ولا يصاب دواؤه
فاذهب، فلا بقي الزّمان، وقد هوى ... بك صرفه وقضى عليك قضاؤه
ما لي أودع
(الكامل)
نظم هذه المقطوعة في رثاء أحد أصدقائه.
ما لي أودّع كلّ يوم ظاعنا، ... لو كنت آمل للوداع لقاء (1)
وأروح أذكر ما أكون لعهده، ... فكأنّني استودعته الأحشاء
فرغت يدي منه، وقد رجعت به ... أيدي النّوائب والخطوب ملاء
تشكو القذى عيني، فيكثر شكوها ... حتى يعود قذى بها أقذاء (2)
شرق من الحدثان لو يرمى به ... ذا الماء من ألم أغصّ الماء (3)
أحبابي الأدنين كم ألقى بكم ... داء يمضّ، فلا أداوي الدّاء (4)
أحيا إخاءكم الممات، وغيركم ... جرّبتهم، فثكلتهم أحياء
إلّا يكن جسدي أصيب، فإنّني ... فرّقته، فدفنته أعضاء
__________
(1) ظاعنا: راحلا، والقول كناية عن الفقيد.
(2) يعتمد في هذا البيت وفي البيت السابق المقابلة، ويعطي اللفظة معاني مختلفة.
(3) الشرق: الغص بالماء.
(4) الأدنين: الأقربين يمض: يؤلم.(1/36)
تذكّر عنّي
(الخفيف)
حيّ، بين النّقا وبين المصلّى، ... وقفات الرّكائب الأنضاء (1)
ورواح الحجيج ليلة جمع، ... وبجمع مجامع الأهواء (2)
وتذكّر عنّي مناخ مطيّي ... بأعالي منّى ومرسى خبائي (3)
وتعمّد ذكري، إذا كنت بالخي ... ف، لظبي من بعض تلك الظّباء (4)
قل له: هل تراك تذكر ما كا ... ن بباب القبيبة الحمراء
قال لي صاحبي، غداة التقينا ... نتشاكى حرّ القلوب الظّماء:
كنت خبّرتني بأنّك في الوج ... د عقيدي، وأنّ داءك دائي (5)
ما ترى النّفر والتّحمّل للبي ... ن، فماذا انتظارنا للبكاء (6)
لم يقلها حتى انثنيت لما بي ... أتلقّى دمعي بفضل ردائي (7)
__________
(1) النقا: القطعة المرملة والمحدودبة من الأرض المصلّى: مكان الصلاة، والنقا والمصلّى يعني بهما موضعين الركائب الأنضاء: الابل الهزيلة.
(2) ليلة جمع: ليلة عرفة جمع (الثانية): مكان بين عرفة ومنى.
(3) منى: موضع في مكة المكرّمة.
(4) الخيف: اسم موضع قرب منى ظبي: كناية عن الحبيب. وتجدر الاشارة الى أن الأبيات تدخل في باب الغزل العفيف.
(5) عقيدي: معاهدي.
(6) النّفر: النفور البين: البعاد.
(7) بفضل ردائي: بطرف ثوبي.(1/37)
خطوب
(الوافر)
وجّه هذه القصيدة إلى صديق يسأله فيها عن حال نكبة لحقته.
خطوب لا يقاومها البقاء، ... وأحوال يدبّ لها الضّراء (1)
ودهر لا يصحّ به سقيم، ... وكيف يصحّ، والأيّام داء
وأملاك يرون القتل غنما، ... وفي الأموال لو قنعوا فداء (2)
هم استولوا على النّجباء منّا، ... كما استولى على العود اللّحاء (3)
مقام لا يجاذبه رحيل، ... وليل لا يجاوره ضياء
سيقطعك المثقّف ما تمنّى، ... ويعطيك المهنّد ما تشاء (4)
بلونا ما تجيء به اللّيالي، ... فلا صبح يدوم ولا مساء
وأنضينا المدى طربا وهمّا، ... فما بقي النّعيم ولا الشّقاء (5)
إذا كان الأسى داء مقيما، ... ففي حسن العزاء لنا شفاء
وما ينجي من الأيّام فوت، ... ولا كدّ يطول، ولا عناء
تنال جميع ما تسعى إليه، ... فسيّان السّوابق والبطاء
وما ينجي من الغمرات إلّا ... ضراب، أو طعان، أو رماء (6)
__________
(1) الضّراء: النقص في النفوس والأموال، الموت.
(2) الغنم: الربح.
(3) النجباء: الاشراف، الأذكياء، المميّزون اللحاء: القشر.
(4) المثقّف: الرمح المهنّد: السيف.
(5) أنضينا: هزلنا، يلاحظ لجوء الشاعر الى المطابقات ليقابل بين الأحوال المتقلّبة.
(6) الغمرات: الشدائد، في البيت دعوة الى التشبث بالارادة والى الاستعداد للمواجهة.(1/38)
ورمح تستطيل به المنايا، ... وصمصام تشافهه الدّماء (1)
وإنّي لا أميل إلى خليل ... سفيه الرأي شيمته الرّياء
يسوّمني الخصام، وليس طبعي، ... وما من عادة الخيل الرّغاء
أقول لفتية زجروا المطايا، ... وخفّ بهم على الإبل النّجاء (2)
على غوراء تشتجر الأداوي ... بعرصتها، وتزدحم الدّلاء (3)
ردوا واستفضلوا نطفا، فحسبي ... من الغدران ما وسع الإناء (4)
وبعدكم أناخ إلى محلّ ... يطلّق عنده الدّلو الرّشاء (5)
تقلّص عن سوائمه المراعي، ... وتخرز درّة الضّرع الرّعاء (6)
إذا ما الحرّ أجدب في زمان، ... فعفّته له زاد وماء
أرى خلقا سواسية، ولكن ... لغير العقل ما تلد النّساء (7)
يشبّه بالفصيل الطّفل منهم، ... فسيّان العقيقة والعفاء (8)
تصونهم الوهاد، وأيّ بيت ... حمى اليربوع لولا النّافقاء (9)
__________
(1) تستطيل: تمتد. في استعارته الامتداد والمشافهة وفي الدعوة الى مذهب القوة تذكير بشعر المتنبي الذي جعل القوّة مذهبه في الحياة.
(2) النجاء: السرعة المطايا: النياق، وما يمتطى من الماشية.
(3) الغوراء: المكان الغائر وهو هنا البئر تشتجر: تتنازع: الأداوي:
جمع إداوة: إناء صغير من جلد بعرصتها: بساحتها.
(4) ردوا: فعل أمر من ورد الماء: طلبه النطف: الماء القليل الصافي.
(5) الرشاء: الحبل.
(6) تقلّص، أي تتقلص: ترتفع السوائم: الماشية المتروكة في المرعى تخرز: تخيط الدّرّة: اللبن الضرع: ثدي الناقة الرعاء:
الرعيان.
(7) سواسية: متساوون.
(8) الفصيل: ولد الناقة العقيقة: شعر الطفل العفاء: وبر البعير.
(9) الوهاد: الأرض المنخفضة اليربوع: نوع من الفأر يعيش في الحقول(1/39)
هم يوم النّدى غيم جهام، ... وفي اللأواء ريح جربياء (1)
قرى لا يستجير به خميص، ... ونار لا يحسّ بها الصّلاء (2)
وضيف لا يخاطبه أديب، ... وجار لا يلذّ له الثّواء (3)
هوى بدر التّمام، وكلّ بدر ... ستقذفه إلى الأرض السّماء
وعلمي أنّه يزداد نورا، ... ويجذبه عن الظّلم الضّياء
أمرّ بداره فأطيل شوقا، ... ويمنعني من النّظر البكاء
تعرّض لي فتنكرها لحاظي، ... معطّلة كما نقض الخباء
كأنّي قائف طلب المطايا ... على جدد تبعثره الظّباء (4)
ديار ينبت الإحسان فيها، ... ونبت الأرض تنّوم وآء (5)
وقد كان الزّمان يروق فيها، ... ويشرب حسنها الحدق الظّماء
ودار لا يلذّ بها مقيم ... ولا يغشى لساكنها فناء
تخيّب في جوانبها المساعي، ... وينقص في مواطنها الإباء
وما حبستك منقصة، ولكن ... كريم الزّاد يحرزه الوعاء
فلا تحزن على الأيّام فينا، ... إذا غدرت، وشيمتنا الوفاء
فإنّ السّيف يحبسه نجاد، ... ويطلقه على القمم المضاء
لئن قطع اللّقاء غرام دهر، ... لما انقطع التّودّد والإخاء
وما بعث الزّمان عليك إلّا ... وفور العرض والنّفس العصاء
__________
ويكون قصير اليدين طويل الرجلين النافقاء: جحر اليربوع يخفيه ويظهر غيره وهو القاصعاء.
(1) الندى: العطاء، الكرم الجهام: السحاب لا ماء فيه اللأواء: الشدّة الجربياء: الريح الشمالية الباردة.
(2) قرى: ضيافة الخميص: الضامر البطن من الجوع الصلاء: الدفء، طالب الدفء.
(3) الثواء: الإقامة.
(4) القائف: الذي يتقفى الآثار ويعرفها الجدد: الأرض الصلبة والمغبرة.
(5) التنّوم والآء: نوعان من الشجر.(1/40)
ولو جاهرته بالبأس يوما، ... لأبرأ ذلك الجرب الهناء
وكنت، إذا وعدت على اللّيالي، ... تمطّر في مواعدك الرّجاء
وأعجلك الصّريخ إلى المعالي، ... كما يستعجل الإبل الحداء
وأيّ فتى أصاب الدّهر منّا، ... تصاب به المروءة والوفاء
صقيل الطّبع رقراق الحواشي، ... كما اصطفقت على الرّوض الأضاء (1)
ينال المجد وضّاح المحيّا، ... طويل الباع، عمّته لواء
كلام تستجيب له المعالي، ... ووجه يستبدّ به الحياء
فلا زالت همومك آمرات ... على الأيّام يخدمها القضاء
تجول على ذوابلك المنايا، ... ويخطر في منازلك العلاء
تعيرني فتاة
(الوافر)
تعيّرني فتاة الحيّ أنّي ... حظيت من المروءة والفتاء (2)
وأنّي لا أميل إلى جواد ... يعبّد حرّ وجهي للعطاء (3)
لعمرك ما لغدرك فيّ ذنب، ... وليس الذّنب إلّا من وفائي
وما جود الزّفير عليك جودا، ... ولكن ذاك من لؤم العزاء (4)
معاداة الرّجال على اللّيالي، ... أطيق، ولا مداراة النّساء
__________
(1) الأضاء: الأجمة.
(2) الفتاء: الفتوّة والسخاء.
(3) أي لا أرتاح الى كريم يسخو مقابل خضوع الناس له.
(4) الزفير: الداهية.(1/41)
أشكو إلى الله
(البسيط)
أشكو إلى الله قلبا لا قرار له، ... قامت قيامته، والنّاس أحياء
إن نال منكم وصالا زاده سقما ... كأنّ كلّ دواء عنده داء
كأنّ قلبي يوم البين طار به ... من الرّفاع نجيب السّاق عدّاء (1)
يومان للكريم
(الطويل)
كريم له يومان قد كفلا له ... بنيل العلى من بأسه وسخائه
فيوم نزال مشمس من سيوفه، ... ويوم نوال ماطر من عطائه (2)
أوجه سيوف
(الكامل)
لو كان قرنك من تعزّ بمنعه، ... أو من يهاب تخمّطا وإباء (3)
سالت محارمها عليك بأوجه ... مثل السّيوف مهابة وضياء
__________
(1) البين: البعد الرّفاع: السير السريع.
(2) يلاحظ اعتماده المقابلة بين صدر البيت وعجزه.
(3) القرن: الشجاع، الثابت في المعركة التخمّط: التكبّر.(1/42)
قافية الألف
دوامي الصّفاح
(المتقارب)
رجعت بهنّ دوامي الصّفا ... ح، ينزع منهنّ شوك القنا (1)
وضمّخت أعناقها بالدّما، ... وأوقرت أكفالها بالدّمى (2)
رضينا الظّبى
(المتقارب)
نظم الشريف الرضي هذه القصيدة جوابا عن قصيدة كتبها إليه ذو السعادتين أبو سعيد علي بن محمد بن خلف.
رضينا الظّبى من عناق الظّبا، ... وضرب الطّلى من وصال الطّلا (3)
__________
(1) الصفاح: الخد أو الجبهة.
(2) الدمى، جمع دمية: الصورة المنقوشة، وأراد هنا السبايا.
(3) الظّبى، جمع ظبة: حد السيف الظّبا، جمع ظبية: غزالة الطّلى:
الأعناق، جمع طلية الطّلا: ولد الظبية ساعة يولد. في هذا المطلع الفخري يعمد الشاعر الى الجناس، مع شيء من التكلّف لا يضير بفخامة البيت.(1/43)
ولم نرض بالبأس دون السّماح ... ولا بالمحامد دون الجدا (1)
وقمنا نجرّ ذيول الرّجا، ... وترعى العيون بروق المنى
إلى أن ظفرنا بكأس النّجي ... ع، فالرّمح يشرب حتى انتشى (2)
وملنا على القور من نقعنا، ... بأوسع منها وأعلى بنا (3)
وللخيل في أرضنا جولة، ... تحلّل عنها نطاق الثّرى (4)
أثرنا عليها صدور الرّما ... ح يمرح في ظلّهنّ الرّدى
فجاءت تدفّق في جريها، ... كما أفرغت في الحياض الدّلا (5)
وليل مررنا بظلمائه، ... نضاوي كواكبه بالظّبى (6)
إذا مدّت النّار باع الشّعاع ... مددنا إليها ذراع القرى
ويوم تعطّف فيه الجيا ... د، تشرق ألوانها بالدّما (7)
فما برحت حلبة السّابقا ... ت توردنا عفوات المدى (8)
بركض يصدّع صدر الوها ... د، حتّى تئنّ قلوب الصّفا (9)
يلوذ بأبياتنا الخائفو ... ن، حتّى طرائد وحش الفلا
__________
(1) الجدا: العطاء.
(2) النجيع: الدم الضارب الى السواد انتشى: سكر. يراعي الشاعر بين الكأس والشرب والنشوة في معنى مجازي.
(3) القور، جمع قارة: جبل صغير منفرد النقع: الغبار.
(4) تحلل: ثار الثرى: التراب.
(5) الدلا: جمع دلو.
(6) نضاوي: نقابل الضوء بالضوء. أي أن السيوف تقابل ببريقها لمعان الكواكب.
(7) تشرق: تغص، تختلط.
(8) العفوات، جمع عفو: الأرض المتروكة والتي لم توطأ.
(9) الوهاد: الأرض المنخفضة، جمع وهدة الصفا، جمع صفاة: الصخر، الحجر القاسي.(1/44)
وتصغي لنا فاريات الخطو ... ب، قواضب ما آجنت بالصّدا (1)
يبشّرها بعد همّاتنا، ... بأنّ الحمام قريب الخطا
وجوّ تقلّب فيه الرّيا ... ح، بين الجنوب وبين الصّبا
سللنا النّواظر في عرضه، ... فطوّل من شأوها المنتضى (2)
تصافح منه لحاظ العيون ... مريض النّسيم أريض الرّبى (3)
وإنّي على شغفي بالوقار ... أحنّ إلى خطرات الصّبا
وممّا يزهّدني في الزّمان، ... ويجذبني عن جميع الورى
أخ ثقّف المجد أخلاقه، ... وأشعر أيّامه بالعلى (4)
وأنكحه بهديّ السّنا، ... وطلّقه من قبيح النّشا (5)
وقور، إذا زعزعته الخصو ... م، وانفرجت حلقات الحبى (6)
إذا هزهز الرّمح روّى السّنا ... ن، واستمطر السّيف هام العدى
وما هو إلّا شهاب الظّلا ... م صافح لحظي بحسن الرّوا (7)
يقصّ، ومن غير سهم أصاب ... ويرمي، ومن غير قوس رمى (8)
فغيث يعانقني في السّحاب، ... وبدر ينادمني في السّما
سقاني على القرب كاس الإخا ... ء، مطلولة بنسيم الصّفا
__________
(1) تصغي: تميل فاريات، من فرى: شق وقطع الخطوب: الأحداث القواضب: السيوف آجنت: تغيّرت.
(2) الشأو: البعد، الغاية.
(3) مريض النسيم: النسيم العليل الأريض: العشب.
(4) ثّقف: هذّب.
(5) هديّ السنا: عروس الرفعة النشا: الرائحة الطيبة أو الكريهة.
(6) الحبى، جمع حبوة: هي أن يجمع الرجل جسمه بثوب واحد.
(7) الرّوا: الرؤى.
(8) يقص: يقطع.(1/45)
فلله كاس صرعت الهمو ... م بسورتها، وعقرت الأسى (1)
وسرب تنفّره بالرّماح، ... ووعد تعفّره بالعطا (2)
وماء تصارعه بالرّكاب، ... وجيش تقارعه بالقنا
ويوم تسوّده بالعجاج، ... وناد تبيّضه بالنّدى
سناء تبلّد عنه السّماء، ... ومجد سها عن مداه السّها (3)
بني خلف أنتم في الزّمان ... غيوث العطاء ليوث الوغى
بدور، إذا ازدحمت في الظّلا ... م، شمّر برديه عنها الدّجى
حريّون إن نسبوا بالسّما ... ح، جريّون في كلّ أمر عرا
لهم كلّ يوم إلى الغادري ... ن جمع تقلقل عنه الفضا
حلفت بسابحة في الفجاج ... تمزج أخفافها بالذّرى (4)
وتنهض في صهوات الهجي ... ر بين النّعام وبين المها (5)
بخطو يمزّق برد الصّعيد، ... وركض يلطّم وجه الملا (6)
هببن، ولم تغرهنّ الحداة، ... فقام الهباب مقام الحدا (7)
تحطّ رحائلها بالمقام، ... وتلقي أزمّتها بالصّفا
__________
(1) بسورتها: بحدّتها، بقوتها عقرت: أزلت.
(2) تعفّره: تحققه.
(3) تبلد، تتبلّد: تتقاصر سها: تاه، قصّر السها: كوكب خفي من بنات نعش الصغرى، يضرب به المثل في البعد.
(4) السابحة: الفرس السهلة الركوب والسريعة الفجاج: الطريق الواسع بين جبلين، الوادي.
(5) المها: البقر الوحشية.
(6) الملا: الصحراء.
(7) هببن: أسرعن الهباب: الاسراع الحدا: التغنّي للإبل كي تحث سيرها.(1/46)
لقد حلّ ودّك من مهجتي، ... بحيث يقيل الأسى والإسا (1)
وحاشاك أن تستسرّ الوداد، ... وترمد بالهجر طرف الهوى (2)
لبذل النّدى، إن ثويت، الثّوى، ... وفلّ العدى، إن سريت، السّرى (3)
رأيت عليّا يردّ الرّسيل ... حسير القوائم دامي القرا (4)
إذا الرّكب حطّ بأبوابه، ... تنفّض عنه غبار النّوى
وإن سلك البرّ هزّ الرّعا ... ن، حتى ينفّر ذود القطا (5)
بكلّ معوّذة بالحدي ... د، إن روّعتها نبال العدى
سأشدو بذكرك ما استعبرت ... مطيّ يثلّم فيها الوجى (6)
وأصفيك ودّي، وبعض الرّجا ... ل يمزج بالودّ ماء القلى (7)
يخيط الضّلوع على إحنة، ... ويرعى الإخاء بعين العمى (8)
ولمّا ذكرتك حنّ الفؤا ... د واعتلّ في مقلتيّ الكرى
فلا زلت في رقدات النّعي ... م تهفو بلا موقظ من أذى
رياض تشقّ عليك النّسيم، ... وليل يمجّ عليك الضّحى
__________
(1) مهجتي: نفسي الأسى: الحزن الإسا: الدواء.
(2) تستسر: تستر ترمد: تصيب بالرمد الطرف: النظر.
(3) الندى: الكرم، العطاء الثوى: الاقامة فل: تشتيت، بعثرة، إهلاك.
(4) الرسيل: المناضل الحسير: الكليل القرا: الظهر.
(5) الرّعان: الأقسام المتقدمة من التلال والجبال الذود: من الثلاثة الى العشرة القطا، جمع قطاة: طائر يشبه الحمام.
(6) الوجى: الحفا.
(7) القلى: البغض، الحقد.
(8) الاحنة: الحقد.(1/47)
كربلا
(الرمل)
كربلا، لا زلت كربا وبلا، ... ما لقي عندك آل المصطفى (1)
كم على تربك لمّا صرّعوا، ... من دم سال ومن دمع جرى
كم حصان الذّيل يروي دمعها ... خدّها عند قتيل بالظّما (2)
تمسح التّرب على إعجالها، ... عن طلى نحر رميل بالدّما (3)
وضيوف لفلاة قفرة، ... نزلوا فيها على غير قرى
لم يذوقوا الماء حتى اجتمعوا، ... بحدى السّيف على ورد الرّدى
تكسف الشّمس شموسا منهم ... لا تدانيها ضياء وعلى (4)
وتنوش الوحش من أجسادهم ... أرجل السّبق وأيمان النّدى (5)
ووجوها كالمصابيح، فمن ... قمر غاب، ونجم قد هوى
غيّرتهنّ اللّيالي، وغدا ... جاير الحكم عليهنّ البلى
يا رسول الله لو عاينتهم، ... وهم ما بين قتلى وسبا
من رميض يمنع الظّلّ، ومن ... عاطش يسقى أنابيب القنا (6)
ومسوق عاثر يسعى به ... خلف محمول على غير وطا
__________
(1) كرب وبلا: يفصّل ما تعنيه له كلمة كربلاء فاذا هي الجمع بين الكرب والبلاء.
(2) حصان الذيل: يقال امرأة حصان أي بينة الحصانة قتيل الظمإ: هو الحسين بن علي بن أبي طالب جد الشاعر.
(3) الأعجال: مصدر أعجل الطلى: العنق الرميل بالدم: الملطخ.
(4) شموس: كناية عن الشهداء الذين سقطوا في كربلاء، وهم ذوو وجوه مشرقة.
(5) الأيمان، جمع يمين: البركة والقوة.
(6) الرميض: المتحرق القدمين من الحر.(1/48)
متعب يشكو أذى السّير على ... نقب المنسم، مجزول المطا (1)
لرأت عيناك منهم منظرا ... للحشى شجوا، وللعين قذى
ليس هذا لرسول الله، يا ... أمّة الطّغيان والبغي، جزا
غارس لم يأل في الغرس لهم، ... فأذاقوا أهله مرّ الجنى (2)
جزروا جزر الأضاحي نسله، ... ثمّ ساقوا أهله سوق الإما
معجلات لا يوارين ضحى، ... سنن الأوجه أو بيض الطّلى (3)
هاتفات برسول الله في ... بهر السّعي، وعثرات الخطى (4)
يوم لا كسر حجاب مانع ... بذلة العين ولا ظلّ خبا (5)
أدرك الكفر بهم ثاراته، ... وأزيل الغيّ منهم فاشتفى
يا قتيلا قوّض الدّهر به ... عمد الدّين وأعلام الهدى
قتلوه بعد علم منهم ... أنّه خامس أصحاب الكسا (6)
وصريعا عالج الموت بلا ... شدّ لحيين ولا مدّ ردا (7)
غسلوه بدم الطّعن، وما ... كفّنوه غير بوغاء الثّرى (8)
مرهقا يدعو، ولا غوث له، ... بأب برّ وجدّ مصطفى (9)
__________
(1) نقب المنسم: رقته، والمنسم خفّ البعير استعاره للمتعب المجزول:
المقطوع المطا: الظهر.
(2) لم يأل: لم يقصر. يعمد هنا الى مراعاة النظير بين الغرس والجنى.
(3) سنن الوجه: نواحي الوجه، جمع سنة.
(4) البهر: انقطاع النفس عن العياء.
(5) بذلة العين: كناية عن وجه المرأة.
(6) أصحاب الكساء هم: النبي (صلعم) وعلي وفاطمة والحسن، والحسين خامسهم. سمّوا بذلك لالتفافهم بالكساء اليماني في بيت فاطمة. وقال النبي: هؤلاء عترتي وأهل بيتي.
(7) أراد بشد اللحيين ومد الرداء: الغسل والتكفين، أي أنه لم يغسل ولم يكفن.
(8) البوغاء: التربة الرخوة.
(9) المرهق: المتعب، وهو الذي أدرك فطلب الغوث.(1/49)
وبأمّ رفع الله لها ... علما ما بين نسوان الورى
أيّ جدّ وأب يدعوهما، ... جدّ، يا جدّ، أغثني يا أبا
يا رسول الله يا فاطمة، ... يا أمير المؤمنين المرتضى
كيف لم يستعجل الله لهم ... بانقلاب الأرض أو رجم السّما (1)
لو بسبطي قيصر، أو هرقل ... فعلوا فعل يزيد، ما عدا (2)
كم رقاب من بني فاطمة ... عرقت ما بينهم، عرق المدى (3)
واختلاها السّيف حتّى خلتها ... سلم الأبرق، أو طلح العرى (4)
حملوا رأسا يصلّون على ... جدّه الأكرم طوعا وإبا (5)
يتهادى بينهم لم ينقضوا ... عمم الهام، ولا حلّوا الحبى (6)
ميّت تبكي له فاطمة، ... وأبوها، وعليّ ذو العلى
لو رسول الله يحيا بعده، ... قعد اليوم عليه للعزا
معشر منهم رسول الله وال ... كاشف الكرب، إذا الكرب عرا
صهره الباذل عنه نفسه، ... وحسام الله في يوم الوغى
أوّل النّاس إلى الدّاعي الّذي ... لم يقدّم غيره لمّا دعا
ثمّ سبطاه الشّهيدان، فذا ... بحسا السّمّ، وهذا بالظّبى (7)
__________
(1) رجم السما: أي أن ترجمهم السماء برجومها، والرجوم النجوم أو ما يتساقط منها من حجارة.
(2) عدا: جرى، ظلم، ترك حقه.
(3) عرقت: أزيل لحمها المدى، جمع مدية: الشفرة.
(4) اختلاها: جزها ونزعها السلم: شجر يدبغ به الأبرق: أرض غليظة، وأراد به مكانا معيّنا الطلح: نوع من الشجر ترعاه الابل، والعرى أيضا. وقوله: طلح العرى هو من باب إضافة المعنى إلى نفسه.
(5) طوعا وإبا: طائعين ومكرهين.
(6) يتهادى: يتمايل لم ينقضوا: لم يحلوا العمم، من الاعتمام أي لبس العمامة الحبى: الاشتمال بالثوب. أي أنهم لم يكبروا المصاب ولم ينهضوا إجلالا.
(7) أراد بالذي قتل بحسا السم، أي بشربه: الحسن، وبالذي قتل بالظبي، أي بحدّ السيف: الحسين.(1/50)
وعليّ، وابنه الباقر، والصّ ... ادق القول، وموسى، والرّضا
وعليّ، وأبوه وابنه، ... والذي ينتظر القوم غدا (1)
يا جبال المجد عزّا وعلى، ... وبدور الأرض نورا وسنا
جعل الله الّذي نابكم ... سبب الوجد طويلا والبكا
لا أرى حزنكم ينسى، ولا ... رزءكم يسلى، وإن طال المدى
قد مضى الدّهر، وعفّى بعدكم، ... لا الجوى باخ، ولا الدّمع رقا (2)
أنتم الشّافون من داء العمى، ... وغدا ساقون من حوض الرّوا (3)
نزل الدّين عليكم بيتكم، ... وتخطّى النّاس طرّا، وطوى
أين عنكم للّذي يبغي بكم ... ظلّ عدن دونها حرّ لظى
أين عنكم لمضلّ طالب ... وضح السّبل وأقمار الدّجى
أين عنكم للّذي يرجو بكم ... مع رسول الله فوزا ونجا
يوم يغدو وجهه عن معشر ... معرضا ممتنعا عند اللّقا
شاكيا منهم إلى الله، وهل ... يفلح الجيل الّذي منه شكا
ربّ! ما حاموا، ولا آووا، ولا ... نصروا أهلي، ولا أغنوا غنا
بدّلوا ديني، ونالوا أسرتي ... بالعظيمات، ولم يرعو ألى (4)
لو ولي ما قد ولوا من عترتي ... قائم الشّرك لأبقى ورعى (5)
نقضوا عهدي، وقد أبرمته، ... وعرى الدّين، فما أبقوا عرى
حرمي مستردفات، وبنو ... بنتي الأدنون ذبح للعدى
أترى لست لديهم كامرئ ... خلّفوه بجميل إذ مضى
ربّ! إنّي اليوم خصم لهم، ... جئت مظلوما وذا يوم القضا
__________
(1) الذي ينتظر القوم: المهدي المنتظر.
(2) باخ: سكن رقا أو رقأ الدمع: انقطع جريانه.
(3) الرّوا والرواء: الماء العذب.
(4) الألى: النعمة.
(5) عثرتي: أصلي.(1/51)
هل أنجدن
(المتقارب)
وهل أنجدنّ بعبديّة ... تمدّ علابيبها للحدا (1)
وأسمع ليلة أورادها ... تداعي الرّغاء وزجر الرّعا
غدا يهدم المجد
(الطويل)
غدا يهدم المجد المؤثّل ما بنى، ... وتكسد أسواق الصّوارم والقنا (2)
مضى المصدر الآراء والمورد النّهى، ... فمن يعدل الميلاء أو يرأب الثّنا (3)
__________
(1) عبدية: ناقة العلابيب: أعصاب العنق.
(2) المؤثّل: الأصيل.
(3) يرأب: يصلح الثنا: الأمر.(1/52)
قافية الباء
همّة كالسماء
(الخفيف)
في هذه القصيدة يمدح الطائع لله ويهنئه بالمهرجان ويقتضيه وعدا منه له.
لو على قدر ما يحاول قلبي، ... طلبي لم يقرّ في الغمد عضبي (1)
همّة كالسّماء بعدا، وكالرّي ... ح هبوبا في كلّ شرق وغرب
ونزاع إلى العلى يفطم العي ... س عن الورد بين ماء وعشب (2)
ربّ بؤس غدا عليّ بنعما ... ء، وبعد أفضى إليّ بقرب
أتقرّى هذا الأنام، فيغدو ... عجبي منهم طريقا لعجبي (3)
وإذا قلّب الزّمان لبيب، ... أبصر الجدّ حرب عقل ولبّ
أمقاما ألذّ في غير عليا ... ء، وزادي من عيشتي زاد ضبّ
دون أن أترك السّيوف كقتلا ... ها رزايا من حرّ قرع وضرب
ومن العجز إن دعا بك عزم، ... فرآك الحسام غير ملبّي
__________
(1) العضب: السيف القاطع. أي لو أراد أن يلبّي طموح قلبه لما استقرّ السيف في غمده. والمطلع من نوع الفخر الذي يذكرنا بشعر المتنبي.
(2) العيس: النياق الورد: طلب الماء.
(3) أتقرّى: أتتّبع العجب: التعجّب، الاستعظام العجب: الزهو، الكبر.(1/53)
وإذا ما الإمام هذّب دنيا ... ي كفاني وصالح الغمد غربي (1)
يا جميلا جماله ملء عيني، ... وعظيما إعظامه ملء قلبي
بك أبصرت كيف يصفو غديري ... من صروف القذى ويأمن سربي
أنت أفسدتني على كلّ مأمو ... ل، وأعديتني على كلّ خطب
فإذا ما أراد قربي مليك، ... قلت: قربي من الخليفة حسبي
عزّ شعري إلّا عليك، وما زا ... ل عزيزا يأبى على كلّ خطب
أيّ ندب ما بين برديك، والدّه ... ر أجدّ اليدين من كلّ ندب (2)
بين كفّ تقي المطامع والآما ... ل، أو ذابل يغير ويسبي
ما تبالي بأيّ يوميك تغدو، ... يوم جود بالمال، أو يوم حرب
كم غداة صباحها في حداد، ... نسجته أيدي نزائع قبّ (3)
تتراءى السّيوف فيها، وتخفى، ... وينير الطّعان فيها، ويخبي
فرّجتها يداك، والنّقع قد س ... دّ على العاصفات كلّ مهبّ (4)
ومربّي العلى، إذا بلغ الغا ... ية، ربّاه في العلى ما يربّي
يا أمين الإله، والنّبأ الأع ... ظم، والعقب من مقاول غلب (5)
عادة المهرجان عندي أن أر ... وي بذكراك فيه قلبي ولبّي
هو عيد، ولا يمرّ على وج ... هك يوم إلّا يروق ويصبي
راحل عنك، وهو يرقب لقيا ... ك إلى الحول عن علاقة صبّ
كيف أنسى وقد محضتك أهوا ... ي وحصّيت عن عدوّك حبّي (6)
__________
(1) الغرب: حد السيف. بعد المقدمة الفخرية ينتقل الشاعر الى المدح.
(2) النّدب: السريع الى الفضائل، الخفيف في الحاجة لأنه إذا ندب إليها خفّ لقضائها، وعبارة أي ندب تعني كل فضيلة وكل عطاء أجد:
مقطوع.
(3) النزائع: الابل أو غيرها التي انتزعت من غير بلادها القب: الضامرة.
(4) النقع: الغبار الكثيف.
(5) المقاول: الملوك.
(6) حصّيت: وقيت، باعدت.(1/54)
أنت ألبستني العلى، فأطلها، ... أحسن اللّبس ما يجلّل عقبي
إنّني عائذ بنعماك أن أك ... ثر قولي، وأن أطوّل عتبي (1)
بي داء شفاؤه أنت، لو تد ... نو، وأين الطّبيب للمستطبّ
كيف أرضى ظما بقلبي وطرفي ... يتجلّى برق الرّباب المربّ (2)
نظرة منك ترسل الماء في عو ... دي، وتمطي ظلّي وتنبت تربي (3)
ما ترجّيت غير جودك جودا، ... أيرجّى القطار من غير سحب (4)
لا تدعني بين المطامع واليأ ... س ووردي ما بين مرّ وعذب
وارم بي عن يديك إحدى الطريقي ... ن، فما الشّعر جلّ مالي وكسبي
وإذا حاجة نأت عن سؤالي ... منك لم تنأ عن غلابي وعضبي
شم السيف
(الهزج)
نظم الشريف هذه القصيدة في مدح بهاء الدولة، وفيها يشكره على تلقيبه إياه بالرضي ذي الحسين (من جهة الأب والأم). وقد وجهها اليه من البصرة سنة 398هـ.
يد في قائم العضب، ... فما الإنظار بالضّرب
وقد أمكنت الهام ... ظبى المطرورة القضب (5)
__________
(1) العتب: الرضى والارتياح.
(2) الرباب: السحاب الأبيض المربّ: المقيم، الدائم.
(3) ترسل الماء في عودي: تحييني تمطي ظلي: تجعلني كبيرا.
(4) القطار: المطر. واستعارة السحب للاشارة الى جود الممدوح صورة تقليدية معروفة.
(5) الظبى: السيوف المطرورة: المحددة القضب: الحد القاطع.(1/55)
وللأرماح بالقوم ... حكاك الإبل الجرب
ينازعن نزاع الذّو ... د، يرمين عن الشّرب (1)
قوام الدّين والدّنيا، ... غياث الأزل واللّزب (2)
لزدت الملك أوضاحا ... إلى أوضاحه الشّهب
وقرّرت مبانيه ... على الذّابل والعضب
وأوضحت إلى المجد ... منار اللّقم اللّجب (3)
رأينا الملك من بأس ... ك قد دار على القطب
فقل للخائن المغرو ... ر: من أغراك بالشّغب (4)
ومن طوّحك اليوم ... بدار الأسد الغلب
فأقبلت بمحفار ... ك كي تصدع بالهضب
وهيهات لقد طالع ... ك الحين من النّقب (5)
ضلالا لك من غاو، ... سليب الرّأي واللّبّ
أبى العزّ لبيت الصّ ... لّ أن يطرق بالضّبّ
وماذا آنس الكرد ... بمن زلزل بالعرب
شم السّيف، فقد قوت ... ل أعداؤك بالرّعب (6)
ومذ أسخطك المغرو ... ر ما قرّ على الجنب
وقدما طاله الخوف ... مطال المخض للوطب (7)
بغى السّلم، وقد أشفى ... على مزلقة الخطب
__________
(1) الذود: هو من الابل ما بين الثلاثة الى العشرة.
(2) الأزل: الضيق اللزب: الشدّة.
(3) المنار: الاعلام اللّقم: الطريق اللّجب: الكثير الأصوات.
(4) الشغب: هيجان الشر.
(5) الحين: الهلاك النّقب: الثقب.
(6) شم السيف: أغمده.
(7) الوطب: سقاء اللبن.(1/56)
وكم سلم، وإن غرّ ال ... عدى، أدمى من الحرب
نقلت الطّعن في الجلد ... إلى طعنك في القلب
تقوا من ربضة اللّيث، ... فقد يربض للوثب (1)
وخافوا نومة الأسيا ... ف في الأغماد والقرب (2)
سترمون بها يقظى، ... إذا قال لها: هبّي
قضى الله لرايا ... تك بالإظهار والغلب
وأصفاك بملك الأر ... ض من شرق إلى غرب
وأغنى بك من عدم، ... وأسقى بك من جدب
وولّى بأعاديك ... مع الزّعازع النّكب (3)
على آثارهم حدو ال ... قنا بالضّمّر القبّ (4)
رفعت اليوم من قدري، ... وأوطأت العدى عقبي
ووطّأت لي الرّحل ... على عرعرة الصّعب (5)
وحلّيت لي العاط ... ل بالطّوق وبالقلب (6)
ووسّعت لي الضّيق ... إضلى المضطرب الرّحب
وزاوجت لي الطّول ... زواج الماء للعشب (7)
__________
(1) تقوا: اتقوا، احذروا.
(2) القرب، جمع قراب: غمد السيف.
(3) الزعازع: الشدائد النكب، جمع نكباء: الريح التي تنحرف عن مهب الارياح، وتقع بين ريحين، وهي شديدة مدمّرة.
(4) القنا: الرماح الضّمر: المضمرة والقليلة اللحم القب: الدقيقة الخصور.
(5) العرعرة: رأس كل شيء الصعب: الأسد. والمعنى أنك ذللت أمامي كل الصعاب.
(6) العاطل: المكان الخالي من كل زينة القلب: سوار المرأة.
(7) الطّول: الفضل.(1/57)
فكم من نعمة منك ... كعرف المندل الرّطب (1)
أتتني سمحة القود، ... ذلولا سهلة الرّكب
مهنّاة، كما ساغ ... زلال البارد العذب
ولم أظفر بها منك، ... جذاب العلق بالعضب (2)
وما إنعامك الغمر ... بزوّار على الغبّ (3)
سقاني كرع الجمّ ... بلا واسطة القعب (4)
وأرضاني على الأيّا ... م بعد اللّوم والعتب
وأعلى المدح ما يثني ... به العبد على الرّبّ
مهيب البشر
(مجزوء الرمل)
نظم هذه القصيدة في مدح بهاء الدولة، وفيها يهنّئه بمهرجان سنة أربعمئة.
حيّيا، دون الكثيب، ... مرتع الظّبي الرّبيب (5)
واسألاني عن قريب ... في الهوى غير قريب
وارد ماء عيون، ... مصطل نار قلوب
وقفة بالرّبع أقوى ... بين أعقاد الكثيب (6)
__________
(1) العرف: الرائحة الطيبة المندل: عود طيب الرائحة.
(2) العلق: النفيس العضب: السيف القاطع.
(3) الغمر: الواسع الغب في الزيارة: الزيارات المتقطعة.
(4) الجم: الكثير القعب: القدح.
(5) الظبي الربيب: كناية عن الحبيب.
(6) أعقاد: جمع عقد وهو ما تعقد من الرمل وتراكم الكثيب: التل من الرمل.(1/58)
وعفا اليوم على كرّ ... ي قطار وجنوب (1)
بسوافي التّرب البا ... رح، والتّرب الغريب (2)
والّذي بالرّبع من بع ... دهم بعض الّذي بي
واحبسا الرّكب على حا ... جة ذي القلب الطّروب (3)
مستهام دلّه الشّو ... ق على دار الحبيب
موقف ميّز للرّكب ... بريّا من مريب
يا غزال الرّمل! قلبي ... لك منقاد الجنيب
هل سبيل لي إلى را ... حة قلب من وجيب (4)
نظرة يملكها الطّر ... ف على عين الرّقيب
ما لقائي من عدوّي ... كلقائي من مشيب
موقد نارا أضاءت ... فوق فوديّ عيوبي (5)
وبياض هو عند ال ... بيض من شرّ ذنوبي
يا قوام الدّين والقا ... ئم من دون الخطوب
والّذي يدعو النّدى من ... هـ بداع مستجيب
ومغطّي الذّنب بالعف ... وو كشّاف الكروب
بيديه ركدة السّل ... م، وزلزال الحروب (6)
قرعت من عوده الأع ... داء بالنّبع الصّليب (7)
بمهيب البشر في المح ... فل مرجوّ القطوب
__________
(1) القطار: جمع قطر وهو المطر.
(2) السوافي: الرياح التي تسفو التراب، تذروه البارح: الزائل.
(3) القلب الطروب: القلب الحزين من شدّة الشوق.
(4) الوجيب: الخفقان.
(5) أضاءت عيوبي: اشارة الى انتشار الشيب في فوديه.
(6) ركدة: سكون.
(7) النبع: شجر تتخذ منه القسي والسهام الصليب: الشديد والصلب.(1/59)
قائد الخيل تساقى ... بدم الطّعن الصّبيب
كلّ أحوى عاقص بالدّ ... م أطراف السّبيب (1)
من رجال أسفروا بال ... طّول أيّام الشّحوب (2)
كثروا مجدا وطابوا ... من نجيب، فنجيب
وترى الحيّ سواهم ... مكثرا غير مطيب
ربّ غاو طرق المج ... د طروق المستريب (3)
ساور الأمر، ولم ... يعلم بأسرار الغيوب (4)
ظلّة يسلك منها ... لقما غير ركوب (5)
أبدا يدحو به الغيّ ... إلى الأمر المريب (6)
سار والأمّات يعدد ... ن له شق الجيوب
يسلف الدّمع، يقينا ... بردى اليوم العصيب
شامها وانصاع محلو ... ل عرى القلب النّخيب (7)
مرهق الوقفة لا ... يغمز ساقا من لغوب (8)
__________
(1) أحوى: أسود الشعر العاقص: المضفور، صاحب الضفيرة السبيب:
خصلة الشعر.
(2) أسفروا: أضاءوا، برزوا الطّول: السعة والفضل الشحوب: الهزال والجوع.
(3) غاو: ضال.
(4) ساور: واثب.
(5) الظّلة: ما يستظل به اللقم: المنهج.
(6) يدحو: يدفع.
(7) شامها: تبصّرها، نظر في أمرها انصاع: انفتل، رجع مسرعا النخيب: الجبان.
(8) الغمز: العرج اللغوب: المتعب.(1/60)
طارحا منخرق السّج ... ل إلى جول القليب (1)
مزق الجلد يرى القل ... ب من الجرح الرّغيب (2)
ناجيا، منقلب الأب ... غث من باز طلوب (3)
يوم لا يثبت وجه ... من كلوم وندوب (4)
نغرت قدر المنايا ... من أوار ولهيب (5)
تقذف الموت، إذا ... حشّ لظاها بالكعوب (6)
اخسئي يا نوب الأيّا ... م ما عشت وخيبي
وارجعي ناصلة الأظفا ... ر بيضاء النّيوب (7)
عجبا كيف تطاول ... ت إلى اللّيث المهيب
وإلى طود من العزّ ... ة مزلاق الجنوب (8)
ظهر صعب يقص الرّا ... كب من قبل الرّكوب (9)
كم لبست الطّول منكم ... بدل البرد القشيب
نعم كالمزن نقّط ... ن ثرى الرّوض الغريب
نافحات بنسيم، ... سافيات بذنوب (10)
__________
(1) السجل: الدلو العظيمة الجول: الجدار القليب: البئر، وجول القليب هو جانب البئر.
(2) الرغيب: الواسع الجوف.
(3) الأبغث: طائر.
(4) الكلوم: الجروح الندوب، جمع ندبة: أثر الجرح الباقي.
(5) نغرت: غلت الأوار: حر النار.
(6) حشّ: أوقد الكعوب، جمع كعب: الأنبوبة بين عقدتين.
(7) ناصلة الأظفار: خارجة الأظفار من مواضعها.
(8) الطود: الجبل.
(9) يقص: يدق، يكسر.
(10) سافيات: ذاريات الذّنوب: الدلو.(1/61)
كلّ يوم أنا منها ... بين داع ومجيب
انج من روعات أيّا ... م وغارات خطوب
باقيا ما اختلف النّو ... ر على الغصن الرّطيب (1)
هزّة الرّيح سليما ... من وصوم وعيوب (2)
لا لقاك الخطب إلّا ... راميا غير مصيب
كلّما أفنيت عقبا ... جاء دهر بعقيب
مهرجان عاد إلما ... م محبّ بحبيب
وافدا جاء من الإق ... بال في زور غريب (3)
إنّ ريب الدّهر أمسى ... لك مأمون المغيب
هل لداء بين جسم ... وفؤاد من طبيب
هو في الأجسام منكم، ... وهو منّا في القلوب
يا طلوع البدر! لا ... نالك محذور الغروب
أنت المعين
(البسيط)
في هذه القصيدة يمدح الوزير أبا نصر سابور بن أزدشر وقد قدم مع شرف الدولة إلى بغداد سنة ست وسبعين وثلاثمئة.
ما يصنع السّير بالجرد السّراحيب ... إن كان وعد الأماني غير مكذوب (4)
لله أمر من الأيّام أطلبه، ... هيهات أطلب أمرا غير مطلوب
__________
(1) النّور: الزهر.
(2) هزّة الريح: نشيطا الوصوم، جمع وصم: العيب والعار.
(3) الزور: الزائر.
(4) الجرد: الخيل القصيرة الشعر السراحيب: الطويلة، جمع سرحوب.(1/62)
لا تصحب الدّهر إلّا غير منتظر، ... فالهمّ يطرده قرع الظّنابيب (1)
واقذف بنفسك في شعواء خابطة، ... كالسّيل يعصف بالصّوّان واللّوب (2)
إن حنّت النّيب شوقا، وهي واقفة، ... فإنّ عزمي مشتاق إلى النّيب (3)
أو صارت البيض في الأغماد آجنة، ... فإنّما الضّرب ماء غير مشروب (4)
متى أراني ودرعي غير محقبة، ... أجرّ رمحي، وسيفي غير مقروب (5)
أيد تجاذب دنيا لا بقاء لها، ... خباؤها بين تقويض وتطنيب
قد كنت غرّا وكان الدّهر يسمح لي، ... إنّ الرّقيب على دنياي تجريبي
وعدت يا دهر شيئا بتّ أرقبه، ... وما أرى منك إلّا وعد عرقوب
وحاجة أتقاضاها وتمطلني، ... كأنّها حاجة في نفس يعقوب
لأتعبنّ على البيداء راحلة، ... واللّيل بالرّيح خفّاق الجلابيب
ما كنت أرغب عن هوجاء تقذف بي ... هام المرورى وأعناق الشّناخيب (6)
في فتية هجروا الأوطان واصطنعوا ... أيدي المطايا بإدلاج وتأويب (7)
من كلّ أشعث ملتاث اللّثام، له ... لحظ تكرّره أجفان مدؤوب (8)
يوسّد الرّحل خدّا ما توسّده ... قبل المطالب غير الحسن والطّيب
__________
(1) الظنابيب، جمع ظنبوب: حرف عظم الساق، ومعنى قرع الظنابيب: الجد وعدم الفتور.
(2) الشعواء: الغارة المتفرقة اللوب: العطش.
(3) النيب: النياق.
(4) البيض: السيوف آجنة: متغيّرة.
(5) محقبة: موضوعة في الحقيبة المقروب: الموضوع في قرابه.
(6) الهوجاء: الناقة السريعة المرورى، جمع مروراة: الأرض لا شيء فيها الشناخيب: أعالي الجبال، جمع شنخوب وشنخاب.
(7) الإدلاج: السير من أول الليل التأويب: سير النهار كله والنزول في الليل.
(8) الأشعث: الملبّد الشعر ملتاث اللثام: عاصبه المدؤوب: المعتاد.(1/63)
إليك طارت بنا نجب مدفّعة، ... تحت السّياط، رميضات العراقيب (1)
وردن منك سحابا غير منتقل ... عن البلاد، وبدرا غير محجوب
ما زلت ترغب في مجد تشيّده ... عفوا وغيرك في كدّ وتعذيب
حتى بلغت من العلياء منزلة، ... تفدى الأعاجم فيها بالأعاريب
إنّي رأيتك ممّن لا يخادعه ... حثّ الزّجاجة بالغيد الرّعابيب (2)
ولا تحلّ يد الأقداح حبوته، ... إذا احتبى بين مطعون ومضروب (3)
يهاب سيفك مصقولا ومختضبا، ... وأهيب الشّعر شيب غير مخضوب
يأوي حسامك إن صاح الضّراب به ... إلى لواء من العلياء منصوب
ويرتمي بك، والأرماح والغة ... طماح كلّ أسيل الخدّ يعبوب (4)
لم يسل همّك من مال تفرّقه ... إلّا تعشّق أطراف الأنابيب
إذا منحت العوالي كفّ مستلب ... أقطعت بذل العطايا كفّ مسلوب
لا يركب النّدب إلّا كلّ معضلة، ... كأنّ ظهر الهوينا غير مركوب (5)
ولا يرى الغدر أهلا أن يلمّ به، ... وإنّما الغدر مأخوذ عن الذّيب
ما نال مدحي أبو نصر بنائلة، ... ولا بسلطان ترغيب وترهيب (6)
إلّا بشيمة بسّام وتكرمة ... غرّاء تعدل عندي كلّ موهوب
أنت المعين على أمر تصاوله، ... وحاجة شافهتنا بالأعاجيب (7)
__________
(1) النجب: النياق، ونجب مدفّعة: نياق كريمة رميضات: محترقات العراقيب، جمع عرقوب: هو من الدابة في رجلها بمنزلة الركبة في يدها.
(2) الرعابيب، جمع رعبوب: البيضاء الحسنة.
(3) الحبوة: ما يشتمل به.
(4) والغة: شاربة، ملطخة الطماح: الجماح اليعبوب: الجواد السهل في عدوه.
(5) الندب: الخفيف، النجيب الهوينا: التؤدة والرفق.
(6) النائلة: العطية.
(7) تصاوله: تواثبه.(1/64)
ومثل سمعك يدعوه إلى كرم، ... قول تشيّعه أنفاس مكروب
سبى فناؤك آمالا لطينتها، ... سبي الأزمّة أعناق المصاعيب (1)
يا خير من قال بلّغ خير مستمع ... عنّي وحسبك من وصف وتلقيب
لولاك يا ملك الأملاك سال بنا ... من النّوائب عرّاص الشّآبيب (2)
زجرت عنّا اللّيالي، وهي رابضة ... تقرو بأنيابها عقر المخاليب (3)
أرعيتنا الكلأ الممطور ننشطه ... نشط الخمائل بعد المربع الموبي (4)
فكنت كالغيث مسّ المحل ريّقه ... فهذّب الأرض منه أيّ تهذيب (5)
هذا أتى قائلا، والصّدق ينصره، ... أقال عنقي وكان السّيف يغري بي
صدقت ظنّ العلى فيه، وحاسده ... يعطي الحقائق أطراف الأكاذيب
تركته زاهدا في العيش منقطعا ... عن القراين منّا والأصاحيب (6)
وكان بالحرب يلقى من ينافره، ... فصار يلقى الأعادي بالمحاريب (7)
ما قلت ما كان صرف الدّهر أدّبه، ... بلى قديما، وهذا فضل تأديب
الحمد لله لا أشكو إلى أحد، ... قلّ الوفاء من الشبّان والشّيب
هيّأت مجدك يستوفي الزّمان به ... عزما حساما، ورأيا غير مغلوب
ولا صبرت على ذلّ ومنقصة، ... ولا حذرت على عذل وتأنيب
__________
(1) المصاعيب، جمع مصعب: الفحل لم يمسّه حبل ولم يركب.
(2) العرّاص: السحاب ذو البرق والرعد الشآبيب، جمع شؤبوب: الدفعة من المطر.
(3) تقرو: تقصد العقر: الجرح المخاليب: الأظفار.
(4) ننشطه: نأخذه بسرعة الخمائل، جمع خميلة: الموضع الكثير الشجر الموبي: القليل الماء.
(5) المحل: الشدّة والجدب ريقه: ماؤه هذب: أصلح، أخصب.
(6) القراين، جمع قرينة: الزوجة الأصاحيب: الأصحاب، جمع صاحب.
(7) ينافره: يحاكمه، يخاصمه المحاريب، جمع محراب: مقام الامام من المسجد.(1/65)
خطبت شعري إلى قلب يضنّ به، ... إلّا عليك، فباشر خير مخطوب
شببت بالعزّ، إذ كان المديح له، ... فما أصول بمدحي دون تشبيب
لا علّق الموت نفسا أنت صاحبها ... إنّ الحمام محبّ غير محبوب
دوني فناء للأمير
(الطويل)
وضع الشريف الرضي هذه القصيدة مادحا الوزير أبا منصور بن صالح وذاكرا هزيمة باد الكردي الخارجي بالجزيرة والموصل.
أشوقا، وما زالت لهنّ قباب ... وذكر تصاب والمشيب نقاب
وغير التّصابي للكبير تعلّة ... وغير الغواني للبياض صحاب (1)
وما كلّ أيّام المشيب مريرة، ... ولا كلّ أيّام الشّباب عذاب
أومّل ما لا يبلغ العمر بعضه، ... كأنّ الذي بعد المشيب شباب
وطعم لبازي الشّيب لا بدّ مهجتي، ... أسفّ على راسي، وطار غراب (2)
لداتك إمّا شبت واتّبعوا الرّدى ... جميعا، وإمّا إن رديت وشابوا (3)
بكاء على الدّنيا وليس غضارة، ... وماض من الدّنيا وليس مآب (4)
إذا شئت قلّبت الزّمان وصافحت ... لحاظي أمورا، كلّهنّ عجاب
ضلالا لقلبي ما يجنّ من الهوى، ... ومن عجب الأيّام كيف يصاب (5)
__________
(1) التعلّة: ما يتعلل به.
(2) لا بد: لا محالة، يلاحظ استعارته الباز للاشارة الى المشيب، والغراب للاشارة الى سواد الشعر، مراعيا بين الطيرين.
(3) لداتك، جمع لدة: الترب.
(4) الغضارة: النعمة والسّعة.
(5) يجن: يستر.(1/66)
يعذّل أحيانا ويعذر مثلها، ... ويستحسن البادي به، ويعاب
وإنّ أفظّ المالكين خريدة، ... وإنّ أضنّ الباذلين كعاب (1)
ولمّا أبى الأظعان إلّا فراقنا، ... وللبين وعد ليس فيه كذاب
رجعت، ودمعي جازع من تجلّدي، ... يروم نزولا للجوى فيهاب (2)
وأثقل محمول على العين دمعها، ... إذا بان أحباب وعزّ إياب (3)
فمن كان هذا الوجد يعمر قلبه ... فقلبي من داء الغرام خراب
ومن لعبت بيض الثّغور بعقله، ... فعندي أحرّ الباردين رضاب
يعفّ عن الفحشاء ذيلي، كأنّما ... عليه نطاق دونها وحجاب
إذا لم أنل من بلدة ما أريده، ... فما سرّني أنّ البلاد رحاب
وهل نافعي أن يكثر الماء في الدّنا، ... ولما يجرني، إن ظمئت، شراب (4)
ولي ساعة في كلّ أرض، كأنّما ... على الجوّ منها والعيون ضباب
بعيدة أولى النّقع من أخرياته، ... وللطّعن فيها جيئة وذهاب
وما بين خيلي والمطالب حاجز، ... ولا دون عزمي للظّلام حجاب
جياد إلى غزو القبائل تمتطى، ... وأرض إلى نيل العلاء تجاب
وأبلج وطّاء على خدّ ليله، ... كما فارق النّصل المضيّ قراب (5)
يعاف طعاما ما جناه حسامه، ... وخير من الطّعم الذّليل تراب (6)
وكيف يخاف الذّلّ من كان داره ... ظلام اللّيالي، والرّماح جناب (7)
__________
(1) الخريدة: البكر لم تمس الكعاب: الناهدة.
(2) الجوى: الضيق والألم بسبب الحب.
(3) بان: بعد عزّ: صعب.
(4) يجرني: ينقذني.
(5) الأبلج: صفة للجواد الذي في جبهته بياض.
(6) الطعم: الطعام.
(7) الجناب: الفناء.(1/67)
وما يبلغ الأعداء منّي بفتكة، ... ودوني فناء للأمير وباب
تساقط أطراف الأسنّة دونه، ... وتنبو، ولو أنّ النّجوم حراب (1)
لبست به ثوبا من العزّ، يتّقى ... طعان من البلوى به، وضراب
دعوت، فلبّاني، ولو كنت داعيا ... سواه مضى قول وعيّ جواب
وإنّ العطايا من يمين محمّد ... لأمطر من قطر مراه سحاب (2)
لحاظ كما شقّ العجاج مهنّد، ... ووجه كما جلّى الظّلام شهاب (3)
بلا شافع يعطي الذي أنت طالب، ... وبعض مواعيد الرّجال سراب
فتى تقلق الأعداء منه، كأنّه ... لظى ناجر، والخالعون ضباب (4)
إذا شاء ناب القول عن فعلاته، ... وقام مقام العضب منه كتاب
يعظّم أحيانا، وليس تجبّر، ... وينظر غضبانا، وليس سباب
بغيض إلى قلبي سواه، وإن غدت ... له نعم تترى إليّ رغاب (5)
وعبء على عينيّ رؤية غيره، ... ولو كان لي فيه منى وطلاب
فلا جود إلّا أن تملّ مطامع، ... ولا عفو إلّا أن يطول عقاب
فداؤك قوم أنت عال عليهم، ... شداد على بذل النّوال صعاب
إذا بادروا مجدا برزت، وبلّدوا، ... وإن طالعوا عزّا شهدت وغابوا (6)
وقاؤك من ذمّ العدى خلف نائل ... يدرّ، ولم تربط عليه عصاب (7)
وما كلّ من يعلو كقدرك قدره ... ولا كلّ سام في السّماء عقاب
__________
(1) تنبو: تكلّ.
(2) مراه: استدره.
(3) العجاج: الغبار.
(4) ناجر: كل شهر من شهور الصيف الخالعون: المنقادون الى هواهم والذين يميلون الى الشر.
(5) تترى: تتوالى.
(6) بلّدوا: ضربوا بأنفسهم الأرض.
(7) الخلف: ضرع الناقة النائل: العطاء.(1/68)
وما الملك المنصور إلّا ضبارم، ... له منك ظفر في الزّمان وناب (1)
بعزمك يمضي عزمه في عدوّه، ... مضاء طرير أيّدته كعاب (2)
تلافيت أسراب الرّعيّة، بعد ما ... توقّد أضغان لها وضباب (3)
ولمّا طغى باد وأضرم ناره ... على الغدر، إنّ الغادرين ذئاب
بعثت له حتفا بغير طليعة، ... تخبّ به قبّ البطون عراب (4)
نزائع يعجمن الشّكيم، وقد جرى ... على كلّ فيفاء دم ولعاب (5)
خواطر بالأيدي لواعب بالخطى، ... وللطّعن في لبّاتهنّ لعاب (6)
ولا أرض إلّا وهي تحثو ترابها ... عليه، وترميه ربا وعقاب
فولّى وولّيت الجياد طلابه، ... وسالت مروج بالقنا وشعاب
تغامس في بحر الحديد، وخلفه ... لماء المنايا زخرة وعباب (7)
وقد كان أبدى توبة، لو قبلتها، ... ولو نفع الجاني عليك متاب
كأني بركب حابس هو منهم، ... أقاموا بأرض، والجذوع ركاب (8)
عواري إلّا من دم فتأت به ... معاصم من أسر الرّدى ورقاب (9)
__________
(1) الضبارم: الأسد.
(2) الطرير: المسنون الكعاب: الرماح.
(3) الأسراب: الجماعات الأضغان: الأحقاد ضباب، جمع ضب:
الحقد والغيظ.
(4) الحتف: الموت القب، جمع أقب: الدقيق الخصر العراب: الأصيلة.
(5) يعجمن: يلكن النزائع: النجائب التي تجلب الى غير بلادها الشكيم، جمع شكيمة: الحديدة المعترضة في فم الجواد الفيفاء: المفازة.
(6) خواطر، جمع خاطر: المتبختر اللبّات، جمع لبّة: أعلى الصدر.
(7) تغامس: انغمس العباب: السيل الجارف، الماء الكثير.
(8) الجذوع، جمع جذع: ساق النخلة الركاب: الابل. والمعنى أنهم مصلوبون في جذوع النخل، فكأنها إبل لهم ركبوها.
(9) فتأت: زالت الأسر: الشدّة.(1/69)
يعرّب عنهم كلّ حيّ، كأنّهم ... جمال مطلّاة الجلود جراب (1)
ولله عار في بنانك متنه ... يشبّ، ومن لون المداد خضاب (2)
أمين على سرّ، وليس حفيظة ... وماض على قرن، وليس ذباب (3)
وما مسّه مجد، بلى إنّ راحة ... لها نسب في الماجدين قراب
وإنّي لأرجو منك حالا عظيمة، ... وأمرا أرجّي عنده وأهاب
لعلّ زماني ينثني لي بعطفة، ... وترضى ملمّات عليّ غضاب
وما أنا ممّن يجعل الشّعر سلّما ... إلى الأمر إن أغنى غناه خطاب
وليس مديح ما قدرت، فإن يكن ... مديح على رغمي، فليس ثواب
أبى لي عليّ والنّبيّ وفاطم ... جدودي أن يلوي بعرضي عاب (4)
فلا تغض عن يوم العدوّ وليله، ... وثمّ طلوع بالأذى وغياب
فقد يحمل الباغي على الموت نفسه ... إذا صفرت ممّا أراد وطاب (5)
وخذ ما صفا من كلّ دهر، فإنّما ... غضارته غنم لنا ونهاب
وعش طالعا في العزّ كلّ ثنيّة، ... عليك خيام للعلى وقباب
عهد الشباب
(الطويل)
نظم هذه القصيدة في مدح أبي علي وزير بهاء الدولة، وفيها يعاتبه على ما كان بينهما من عقد المصاهرة على بنت الوزير ثم انفسخ. وقد وجّه إليه القصيدة من فارس.
__________
(1) يعرّب: ينحرف مطلاة: ملطخة، مطلية جراب: مصابة بالجرب.
(2) عار: المراد به السيف يشبّ: يتّقد.
(3) الحفيظة: البغض القرن: السيّد الشجاع ليس ذباب: ليس يتردد.
(4) عاب: عار.
(5) اذا صفرت: اذا هلك، وصفر وطابه: هلك.(1/70)
أمانيّ نفس ما تناخ ركابها، ... وغيبة حظّ لا يرجّى إيابها
ووفد هموم ما أقمت ببلدة، ... وهنّ معي، إلّا وضاقت رحابها
وآمال دهر إن حسبت نجاحها، ... تراجع منقوضا عليّ حسابها
أهمّ، وتثني بالمقادير همّتي، ... ولا ينتهي دأب اللّيالي ودابها
فيا مهجة يفنى غليلا ذماؤها، ... ويا لمّة يمضي ضياعا شبابها (1)
وعندي إلى العلياء طرق كثيرة، ... لو انجاب من هذي الخطوب ضبابها
عناد من الأيّام عكس مطالبي ... إذا كان يوطيني النّجاح اقترابها (2)
وحظّي منها صابها دون شهدها، ... فلو كان عندي شهدها ثمّ صابها (3)
تميل بأطماع الرّجال بروقها، ... وتوكى على غشّ الأنام عيابها (4)
ولكنّها الدّنيا التي لا مجيئها ... على المرء مأمون فيخشى ذهابها
تفوه إلينا بالخطوب فجاجها، ... وتجري إلينا بالرّزايا شعابها (5)
ألا أبلغا عنّي الموفّق قولة، ... وظنّي أنّ الطّول منه جوابها (6)
أترضى بأن أرمي إليك بهمّتي ... فأحجب عن لقيا على أنت بابها
وأظما إلى درّ الأماني، فتنثني ... بأخلافها عنّي، ومنك مصابها؟
وليس من الإنصاف أن حلّقت بكم ... قوادم عزّ طاح في الجوّ قابها (7)
وأصبحت محصوص الجناح مهضّما، ... عليّ غواشي ذلّة وثيابها (8)
__________
(1) الغليل: حرارة الجوف الذماء: الحشاشة اللمّة: الشّعر.
(2) يوطيني: يوطئني، يجعلني أطأ.
(3) الصاب: الشجر المر الشهد: العسل.
(4) توكي: تربط العياب، جمع عيبة: هي من الرجل موضع سرّه.
(5) تفوه: تنطق الفجاج: الأودية، الشقوق الشعاب: الدروب.
(6) الطّول: الفضل والسّعة.
(7) حلقت: ارتفعت القوادم: الريش الكبير في جانحي الطير، وعكسها الخوافي طاح: ارتفع قابها واحدها قابة: الفرخ.
(8) محصوص: مزال الريش المهضم: الذي نقص حقه غاشية: غشاوة.(1/71)
تعدّ الأعادي لي مرامي قذافها ... وتنبحني أنّى مررت كلابها (1)
مقامي في أسر الخطوب تهزّ لي ... قواضبها مطرورة وحرابها (2)
لقد كنت أرجو أن تكونوا ذرائعي ... إلى غيركم حيث العلى واكتسابها (3)
فهذي المعالي الآن طوعى لأمركم، ... وفي يدكم أرسانها ورقابها
إذا لم أرد في عزّكم طلب العلى ... ففي عزّ من يجدي عليّ طلابها
ولولاكم ما كنت إلّا بباحة ... من العزّ مضروبا عليّ قبابها
أجوب بلاد الله، أو أبلغ الّتي ... يسوء الأعادي أن يعبّ عبابها (4)
وكان مقامي أن أقمت ببلدة ... مقام الضّواري الغلب يحذر غابها
وإنّي لترّاك المطالب إن نأى ... بها قدر أو لطّ دوني حجابها (5)
وأعزل من دون التي لا أنالها ... نوازع نفسي، أو تذلّ صعابها
وأقرب ما بيني وبينك حرمة ... تداني نفوس ودّها وحبابها (6)
شواجر أرحام، إذا ما وصلتها، ... فعند أمير المؤمنين ثوابها (7)
وما بعد ذا من آصرات إذا انتهت ... يكون إلى آل النّبيّ انتسابها (8)
وهل تطلب العلياء إلّا لأن يرى ... وليّ يرجّيها وضدّ يهابها
فجرّد لأمري عزمة منك صدقة ... كمطرورة الغربين يمضي ذبابها (9)
__________
(1) القذاف: ما تقذفه.
(2) القواضب: السيوف مطرورة: محدّدة.
(3) الذرائع: الوسائل.
(4) أن يعب عبابها: كنّى بها عن الكثرة.
(5) لط: أرخى.
(6) الحباب: الود.
(7) شواجر الأرحام: الأرحام المتنازعة.
(8) آصرات، جمع آصرة: الرّحم.
(9) صدقة: شديدة المطرورة: المحددة الغربين: الحدّين الذباب:
حدّ السيف.(1/72)
ولا تتركنّي قاعدا أرقب المنى، ... وأرعى بروقا لا يجود سحابها
وغيرك يقري النّازلين ببابه، ... عدات كأرض القاع يجري سرابها (1)
بكفّيك عقد المكرمات وحلّها، ... وعندك إشراق العلى وغيابها
وعندي لك الغرّ التي لا نظامها ... يهي أبدا، أو لا يبوخ شهابها (2)
وعندي للأعداء فيك أوابد، ... لعاب الأفاعي القاتلات لعابها (3)
ليل التمام نجوبها
(الطويل)
نظم هذه القصيدة وهو في طريق نجد، في شهر صفر سنة 394، وكان الدليل يسمى كعبا من بني كلاب. وهو يذكر المودّة بينه وبين الوزير أبي علي الحسن بن حمد بن أبي الزمان في طريق مكة. كما يصف ما لقياه في ذهابهما وإيابهما وعدولهما إلى البحر.
ترى نوب الأيّام ترجي صعابها، ... وتسأل عن ذي لمّة ما أشابها (4)
وهل سبب للشّيب من بعد هذه، ... فدأبك يا لون الشّباب ودابها
شربنا من الأيّام كأسا مريرة، ... تدار بأيد لا نردّ شرابها
نعاتبها، والذّنب منها سجيّة، ... ومن عاتب الخرقاء ملّ عتابها (5)
__________
(1) القاع: الأرض السهلة التي انفرجت عنها الجبال والتلال.
(2) يهي: يضعف يبوخ: يتغير، يسكن، يفتر.
(3) الأوابد: القوافي.
(4) ترجي: ترجئ، تؤجّل وتؤخّر اللمّة: الشعر المجاوز شحمة الأذن.
(5) الخرقاء: الحمقاء، وعجز البيت من الأمثال المعروفة.(1/73)
وقالوا: سهام الدّهر خاط وصائب، ... فكيف لقينا، يا لقوم، صيابها
أبت لقحة الدّنيا درورا لعاصب، ... ويحلبها من لا يعاني عصابها (1)
وقد يلقح النّعماء قوم أعزّة، ... ويخسر قوم عاجزون سقابها (2)
وكنت إذا ضاقت مناديح خطّة، ... دعوت ابن حمد دعوة فأجابها (3)
أخ لي إن أعيت عليّ مطالبي، ... رمى لي أغراض المنى، فأصابها (4)
إذا استبهمت علياء لا يهتدى لها ... قرعت به دون الأخلّاء بابها
به خفّ عنّي ثقل فادحة النّوى، ... وحبّب عندي نأيها واغترابها
ثمانون من ليل التّمام نجوبها ... رفيقين تكسونا الدّياجي ثيابها
نؤمّ بكعب العامريّ نجومها، ... إذا ما نظرناها انتظرنا غيابها
نقوّم أيدي اليعملات وراءه، ... ونعدل منها أين أومى رقابها (5)
كأنّا أنابيب القناة يؤمّها ... سنان مضى قدما، فأمضى كعابها
كذئب الغضا أبصرته عند مطمع، ... إذا هبط البيداء شمّ ترابها
بعين ابن ليلى لا تداوى من القذى، ... يريب أقاصي ركبه ما أرابها
تراه قبوعا بين شرخي رحاله، ... كمذروبة ضمّوا عليها نصابها (6)
فمن حلّة نجتابها وقبيلة ... نمرّ بها مستنبحين كلابها (7)
__________
(1) اللقحة: الناقة ذات لبن الدرور: مصدر درّ العاصب: الذي يشدّ فخذي الناقة لتدر.
(2) السقاب: ولد الناقة ساعة يولد.
(3) المناديح، جمع مندوحة: الكثرة والسعة الخطّة: الأمر.
(4) الأغراض، جمع غرض: الهدف الذي يرمي إليه.
(5) اليعملات، جمع يعملة: الناقة المطبوعة على العمل، الناقة النجيبة.
(6) القبوع: الذي أدخل رأسه في قميصه وتخلّف عن أصحابه شرخا الرحال: حرفاها المذروبة: السيف المسموم. وفي كلامه كناية عن كثرة السفر.
(7) الحلّة: جماعة بيوت الناس، أو مئة بيت نجتابها: نجتازها.(1/74)
ومن بارق نهفو إليه، ونفحة ... تذكّرنا أيّامها وشبابها
ولهفي على عهد الشّباب ولمّة ... أطرّت غداة الخيف عنّي غرابها
ومن دار أحباب نبلّ طلولها ... بماء الأماقي أو نحيّي جنابها (1)
ومن رفقة نجديّة بدويّة، ... تفاوضنا أشجانها واكتئابها
ونذكرها الأشواق حتى تحنّها، ... وتعدي بأطراف الحنين ركابها
إذا ما تحدّى الشّوق يوما قلوبنا ... عرضنا له أنفاسنا والتهابها
وملنا على الأكوار طربى، كأنّما ... رأينا العراق، أو نزلنا قبابها (2)
نشاق إلى أوطاننا، وتعوقنا ... زيادات سير ما حسبنا حسابها
وكم ليلة بتنا نكابد هولها، ... ونمزق حصباها، إذا الغمر هابها
وقد نصلت أنضاؤنا من ظلامها، ... نصول بنان الخود تنضو خضابها (3)
وهاجرة تلقي شرار وقودها ... على الرّكب أنعلنا المطيّ ظرابها (4)
إذا ما طلتنا بعد ظمء بمائها، ... وعجّ الظّوامي أوردتنا سرابها
تمنّى الرّفاق الورد والرّيق ناضب، ... فلا ريق إلّا الشّمس تلقي لعابها (5)
إلى أن وقفنا الموقفين وشافهت ... بنا مكّة أعلامها وهضابها
وبتنا بجمع، والمطيّ موقّف، ... نؤمّل أن نلقى منى وحصابها (6)
وطفنا بعاديّ البناء محجّب ... نرى عنده أعمالنا وثوابها
وزرنا رسول الله ثمّ بعيده ... قبور رجال ما سلونا مصابها
__________
(1) الجناب: الفناء.
(2) الأكوار، جمع كور: الرحل، حمل الناقة.
(3) نصل: خرج الأنضاء، جمع نضو: المهزول من الإبل الخود:
الشابة الحسناء وتنضو خضابها: يذهب لونها.
(4) الهاجرة: شدّة الحر الظراب: الحجارة الناتئة.
(5) لعاب الشمس: شيء كأنه ينحدر من السماء عند الهاجرة.
(6) منى: من مناسك الحج.(1/75)
وجزنا بسيف البحر والبحر زاخر ... بلجّته حتّى وطئنا عبابها (1)
خطوب يعنّ الشّيب في كلّ لمّة، ... وينسين أيّام الصّبا ولعابها
عسى الله أن يأوي لشعث تناهبوا ... هباب المطايا نصّها وانجذابها (2)
وجاسوا بأيديها على علل السّرى ... حرار أماعيز الطّريق ولابها (3)
فيرمي بها بغداد كلّ مكبّر، ... إذا ما رأى جدرانها وقبابها
فكم دعوة أرسلتها عند كربة ... إليه فكان الطّول منه جوابها (4)
ضحك الدهر
(المتقارب)
طلوع هداه إلينا المغيب، ... ويوم تمزّق عنه الخطوب
لقيتك في صدره شاحبا، ... ومن حلية العربيّ الشّحوب
إليه تمجّ النّفوس الصّدور، ... وفيه تهنّي العيون القلوب
تعزّيت مستأنسا بالبعاد، ... واللّيث في كلّ أرض غريب
وأحرزت صبرك للنّائبات، ... وللدّاء يوما يراد الطّبيب
لحا الله دهرا أرانا الدّيا ... ر يندب فيها البعيد القريب
وما كان موتا، ولكنّه ... فراق تشقّ عليه الجيوب
لئن كنت لم تسترب بالزّمان، ... فقد كان من فعله ما يريب
رمى بك، والأمر ذاوي النّبات، ... فآل، وغصن المعالي رطيب
__________
(1) السيف (بالكسر): ساحل البحر العباب: الأمواج.
(2) هباب المطايا: نشاط النياق.
(3) جاسوا: طافوا علل السرى: انواع السّير الحرار واللابة: الاراضي ذات الحجارة السوداء والنخرة الأماعيز، جمع معزاء: الارض الغليظة والكثيرة الحجارة.
(4) الطّول: الفضل والسعة.(1/76)
ولمّا جذبت زمام الزّمان، ... أطاع، ولكن عصاك الحبيب
ولمّا استطال عليك البعاد، ... وذلّل فيك المطيّ اللّغوب (1)
رجوت البعاد على أنّه ... كفيل طلوع البدور الغروب
رحلت، وفي كلّ جفن دم ... عليك، وفي كلّ قلب وجيب (2)
ولا نطق إلّا ومن دونه ... عزاء يغور ودمع ربيب
وأنت تعلّلنا بالإيا ... ب، والصّبر مرتحل لا يؤوب
وسرّ العدى فيك نقص العقول، ... وأعلم أن لا يسرّ اللّبيب
أما علم الحاسد المستغرّ ... أنّ الزّمان عليه رقيب (3)
قدمت قدوم رقاق السّحا ... ب تخطّ والرّبع ربع جديب
فما ضحك الدّهر إلّا إلي ... ك مذ بان في حاجبيه القطوب
حلفت بما ضمّنته الحجون ... وما ضمّ ذاك المقام الرّحيب (4)
لقد سرّك الدّهر في الغادرين، ... بعذر تضاءل فيه الذّنوب
وأجلى رجوعك عن حاسدي ... ك هذا قتيل وهذا سليب
تحرّق منك قلوب العدا ... ة غيظا، وأنت ضحوك قطوب (5)
وأجهل ذا النّاس مستنهض ... دعاء إلى سمع من لا يجيب
زعانف يستصرخون العلى، ... وما استلب العزّ إلّا نجيب (6)
وطال مقامك في منزل، ... تطلّع من جانبيه الحروب
بضرب كما اشترطته السّيوف، ... وطعن كما اقترحته الكعوب (7)
__________
(1) اللغوب: الاعياء الشديد.
(2) الوجيب: خفقان القلب.
(3) المستغر: المغرور.
(4) الحجون: النياق.
(5) القطوب: الأسد العابس.
(6) الزعانف: الأدعياء، الجماعة ليس لهم أصل واحد.
(7) الكعوب: الرماح.(1/77)
ونجل تغلغل فيها الطّعا ... ن، وانشقّ عنها النّجيع الصّبيب (1)
وصحبة كلّ غلام علي ... هـ من سمة العزّ حسن وطيب
إذا خضب الرّمح أدمى به، ... كأنّ السّنان بنان خضيب (2)
وقطعك كلّ بعيد النّياط، ... كأنّ الجواد به مستريب (3)
وأرضا، إذا ما اجتلاها الهجي ... ر طلّقها من يديه الضّريب (4)
وما زال منك على النّائبات ... مقام عظيم ويوم عصيب
فيوم حسامك فيه الخطيب ... ويوم لسانك فيه الخطيب
طلبت لنفسك، فاطلب لنا ... من العزّ، إنّ المحامي طلوب
وإن كنت تأنف من حبّه، ... فإنّ العلاء إلينا حبيب
وما نحن أنت، وكلّ إلى ... دعاء العلى طرب مستجيب
ونحن قسام إلينا الشّباب ... وأنت قسام إليك المشيب (5)
على أنّه أنت عين الزّمان، ... وعيش بلا ناظر لا يطيب
ولولاك ما لذّ طعم الفخار، ... ولا راق برد العلاء القشيب
أترضى لمجدك أن لا يكون ... لنا من عطايا المعالي نصيب
فلا يقعدنّك كيد الحسو ... د، وانهض فكلّ مرام قريب
وحثّ الطّلاب، فإنّا نجدّ، ... وأمض الأمور، فإنّا نتوب (6)
ولم لا يضيف العلى من له ... غدير معين ومرعى خصيب
لحيّاك منّي، عند اللّقا ... ء، خلق عجيب وخلق أديب
وخلّفتني غرس مستثمر، ... فطال وأورق ذاك القضيب
__________
(1) النجل: الطعن الواسع الجرح النجيع: دم الجوف.
(2) بنان خضيب: إصبع مصبوغ السنان: رأس الرمح.
(3) بعيد النياط: المفازة البعيدة الغاية.
(4) الهجير: منتصف النهار وعند اشتداد الحر الضريب: الجليد والصقيع.
(5) القسام: الحسن.
(6) الطلاب: الطّلب.(1/78)
ذخرت لك الغرر السّائرات، ... يعبّر عنها الفؤاد الكئيب (1)
تصون مناقبك الشّاردا ... ت أن تتخطّى إليها العيوب
إذا نثرتها شفاه الرّوا ... ة راقك منها النّظام العجيب
وإنّي لأرجوك في النّائبات، ... إذا جاءني الأمل المستثيب (2)
أنا السيف
(الطويل)
وضع هذه القصيدة في مدح أبيه، وفيها يهنئه بعيد الفطر سنة 377.
لغام المطايا من رضابك أعذب، ... ونبت الفيافي منك أشهى وأطيب (3)
وما لي عند البيض يا قلب حاجة ... وعند القنا والخيل واللّيل مطلب
أحبّ خليليّ الصّفيّين صارم، ... وأطيب داريّ الخباء المطنّب
ذليل لريب الدّهر من كان حاضرا، ... وحرب لدى الأيّام من يتغرّب
ولي من ظهور الشّدقميّات مقعد، ... وفوق متون اللّاحقيّات مركب (4)
لثامي غبار الخيل في كلّ غارة، ... وثوبي العوالي والحديد المذرّب (5)
أساكت بعض النّاس والقول نافع، ... وأغمد عن أشياء والضّرب أنجب
__________
(1) الغرر السائرات: كناية عن شعره السائر والمشهور.
(2) المستثيب: طالب الثواب.
(3) اللغام: الزبد في أفواه الإبل الفيافي: الصحاري.
(4) الشّدقميات: النياق المنسوبة الى شدقم وهو فحل للنعمان بن المنذر اللاحقيات: أفراس منسوبة الى لاحق وهو فرس أصيل ينسب الى معاوية بن أبي سفيان.
(5) المذرب: المسموم.(1/79)
وأطمعني في العزّ أنّي مغامر، ... جريّ على الأعداء والقلب قلب (1)
وعندي ممّا خوّل الله سابح، ... وأسمر عسّال وأبيض مقضب (2)
وليس الغنى في الخلق إلّا غنيمة ... تحامي عليها، والمعالي تغلّب
إذا قلّ مالي قلّ صحبي، وإن نما ... فلي من جميع النّاس أهل ومرحب
غنى المرء عزّ، والفقير كأنّه ... لدى النّاس مهنوء الملاطين أجرب (3)
تطالبني نفسي بكلّ عظيمة، ... أرى دونها جاري دم يتصبّب
ويأمرني الذّلّان أن لا أطيعها، ... وأعلم من طرق العلى أين أذهب (4)
إذا كان حبّ المرء للشيء ضيعة، ... فأضيع شيء ما يقول المؤنّب
أنا السّيف إلّا أنّني في معاشر ... أرى كلّ سيف فيهم لا يجرّب
ولا علم لي بالغيب إلّا ظليعة ... من الحزم لا يخفى عليها المغيّب
أجرّب من أهواه قبل فراقه، ... فيصدق منه الغدر والودّ يكذب
تغيّر لي أخلاق من كنت أصطفي، ... وتغدرني أيّام من كنت أصحب
فلو لوّحت لي بالبروق سحابة، ... لأغضيت علما أنّ ما بان خلّب (5)
إذا شئت فارقت الحبيب، وبيننا ... من الشّوق ما يملي عليّ وأكتب
وليس نسيبي أنّ في القلب لوعة، ... ولكنّني أبكي زماني وأندب
وما نافعي عند البعيد تقرّبي، ... ولا ضائري عند القريب التّجنّب
قريب الفتى دون الأنام صديقه، ... وليس قريبا منه من لا يقرّب
وما في نجاد السّيف زين لحامل، ... ولا الزّين إلّا للفتى يوم يضرب
__________
(1) القلّب: البصير بتقلب الأمور.
(2) السابح: الفرس السهل الانقياد أسمر عسّال: رمح مهتز أبيض مقضب: سيف قاطع.
(3) المهنوء: المطلي بالقطران الملاطين: جانبي السنام.
(4) الذلّان: الذليل.
(5) الخلّب: الكاذب.(1/80)
أخو الحرب من للسّيف فيه علامة، ... وللطّعن في جنبيه طرق وملعب
وحسب غلام شاهدا بشجاعة ... تغيظ العدى، أنّ القنا منه تخضب
إلى غاية تجري الأنام لنحوها، ... فماش بطيء مشيه ومقرّب (1)
يغرّ الفتى ما طال من حبل عمره، ... وترخي المنايا برهة، ثمّ تجذب
يقولون عنقا مغرب مستحيلة، ... ألا كلّ حيّ مات عنقاء مغرب (2)
يطول عناء العيس ما دمت فوقها، ... وما دام لي عزم ورأي ومذهب (3)
وهوّن عندي ما بقلبي من الصّدى، ... ظماء تجافي مورد الماء لغّب (4)
فما أنا بالواني، إذا كنت صاديا، ... ولا الماء يعطيني قوى يوم أشرب (5)
وما الورد بعد الورد بلّا لغلّتي، ... وإن بلّ ظمأ الداعريّات مشرب (6)
وما لي إلى غير الحسين وسيلة، ... وفي جوده دون الرّغائب أرغب
جريء على الأمر الّذي لا يرومه ... من القوم إلّا حازم الرّأي أغلب
ألا إنّ فحلا ساعدته نجيبة، ... فجاء بنجل كالحسين، لمنجب
وإنّ محلّا حلّ فيه لواسع ... وإنّ زمانا عاش فيه لطيّب
لك الله من مغض على جرم جارم، ... ولو شاء ما استولى على الذّنب مذنب
وفي كلّ يوم أنت طالب غارة ... تجرّر أذيال العوالي وتسحب
تنام على أمر، وهمّك ساهر، ... وتنزل عن أمر، وعزمك يركب
تحقّقت الأحياء أنّك فخرها، ... وأغضت على علم نزار ويعرب
إذا شئت أحيانا شفاك من العدى ... سنان بصير بالطّعان ومضرب
وخيل لها في كلّ شرق ومغرب ... عقير مدمّى أو طعين مخضّب (7)
__________
(1) المقرّب: السريع في العدو.
(2) عنقاء مغرب: طائر وهمي.
(3) العيس: النياق.
(4) ظماء: ظمأ اللغّب، جمع لاغبة: شديدة الإعياء.
(5) الواني: الضعيف، الفاتر.
(6) الغلّة: العطش الشديد الداعريات: إبل منسوبة إلى داعر بن الحماس.
(7) العقير: المنحور، المذبوح.(1/81)
إذا طلعت نجدا أضاءت وجوهها ... وقدّامها من سائق النّقع غيهب (1)
يصيح القنا في كلّ حيّ ترومه، ... ويردي بك الأعداء يوم عصبصب (2)
ألا ربّ حال ساعدتك وفتكة ... رددت بها قرن الرّدى وهو أعضب (3)
رميت بها قلب العدوّ بخيفة ... وأعرضت، والمغرور يلهو ويلعب
كما خرق الرّامي بسهم رميّه، ... وأعرض علما أنّه سوف يعطب
عدوّان، أمّا واحد فمكاشف ... جريّ، وأمّا آخر فمؤلّب (4)
يمسّح خلف الشّرّ ذاك بخيفة، ... وهذا طويل الباع يمري فيحلب
يرومون غيّا، والعوائق دونهم، ... ويرمون بغيا، والمقادير تحجب
سما بك طلّاعا إلى العمر مشرق، ... وأدبر بالباغي إلى الموت مغرب
فذاك كما شاء الفسوق مبغّض، ... وأنت كما شاء العفاف محبّب
أهنّيك بالعيد الجديد تعلّة، ... وغيرك بالأعياد واللهو يعجب
فلا زال ممدودا عليك ظلاله، ... ولا زلت في نعمائه تتقلّب
ولا ظفر الباغي عليك بفرصة، ... ولا طلب الأعداء ما كنت تطلب
غمامك فيّاض، وريحك غضّة، ... وحوضك ملآن، وروضك معشب
إذا قلت فيك الشّعر جوّد مادح، ... وأكثر وصّاف، وأعرق مطنب (5)
وغيرك لا أطريه إلّا تكلّفا، ... وغير حنيني عند غيرك مصحب (6)
بغيض إلى الأيّام أنّك لي حمى، ... وغيظ بني الأيّام أنّك لي أب
أبعد النّبيّ والوصيّ تروقني ... مناسب من يعزى لمجد وينسب
يقرّ بفضلي كلّ باد وحاضر، ... ويحسدني هذا العظيم المحجّب
__________
(1) النقع: الغبار الغيهب: الظلمة.
(2) يردي: يهلك عصبصب: شديد.
(3) أعضب: مكسور.
(4) مؤلّب: محرّض، مفسد.
(5) أعرق: صار عريقا مطنب: مبالغ من الإطناب.
(6) مصحب: ذليل، منقاد.(1/82)
ومن لي بأن يشتاق ما أنا قائل، ... ويسمع مني ما يروق ويعجب
ولولا جزاء الشّعر ممّن يريده، ... وجدت كثيرا من أغنّي ويطرب
ألا إنّ راعي الذّود يعنى بذوده ... حفاظا وراعي الناس حيران مغرب (1)
أحبّكم ما دمت أعزى إليكم، ... وما دام لي فيكم مراد ومطلب
وإنّي عن الرّبع الذي لا يضمّكم ... على كلّ حال نازح الودّ أجنب
فلا تتركنّي عاطلا من مروّة، ... ولا قانعا بالدّون أرضى وأغضب
فما أنا بالواني، إذا ما دعوتني، ... ولا موقفي عمّا شهدت مغيّب (2)
أما لي قرار في نعيم ولذّة، ... فإنّي في الضّرّاء أطفو وأرسب
أريد من الله القضاء بحالة ... تقرّ بها عين وقلب معذّب
وأسأل أن يعطيك في العمر فسحة، ... لعلمي أنّ العمر يعطى ويوهب
أخوّف بالردى
(الكامل)
نظمها في مدح أبيه وفيها يهنئه بعيد الفطر سنة 378.
مثواي إمّا صهوة أو غارب، ... ومناي إمّا زاغف أو قاضب (3)
في كلّ يوم تنتضيني عزمة، ... وتمدّ أعناق الرّجاء مآرب
قلب يصادقني الطّلاب جراءة، ... ومن القلوب مصادق وموارب (4)
__________
(1) المغرب: الذي يأتي بالشيء الغريب أو بالكلام الغريب البعيد عن الفهم.
(2) الواني: الضعيف الفاتر.
(3) المثوى: المنزل، مكان الاقامة الصهوة: ظهر الفرس الغارب:
كاهل الناقة الزاغف: الرمح الطاعن القاضب: السيف القاطع.
(4) الموارب: المخاتل، المخادع.(1/83)
ما مذهبي إلّا التّقحّم بالقنا ... بين الضّلوع وللرّجال مذاهب
وعليّ في هذا المقال غضاضة، ... إن لم يساعدني القضاء الغالب
ما لي أخوّف بالرّدى، فأخافه، ... هيهات لي في الخلق بعد عجائب
والعزم يطرحني بكلّ مفازة، ... متشابه فيها زبى وغوارب (1)
أعطي الهجير مراده من صفحتي، ... وتكدّ سمعي بالصّرير جنادب (2)
إمّا أقيم صدور مجدي بالقنا، ... ويقرّ عضبي، أو تقوم منادب
متأنّقا، وذرى الرّمال كأنّها، ... دون النّواظر، عارض متراكب (3)
أصبابة من بعد ما ذهب الهوى ... طلقا، وأعوز ما يرام الذّاهب
وعليّ تضمير الجياد لغارة، ... فيها خضيب بالدّماء وخاضب
أرضا، وذؤبان الخطوب تنوشني، ... والعزم ماض والرّماح سوالب (4)
أنا أكلة المغتاب، إن لم أجنها ... شعواء يحضرها العقاب الغائب (5)
وكأنّما فيها الرّماح أراقم، ... وكأنّما فيها القسيّ عقارب
قد عزّ من ضنّت يداه بوجهه، ... إنّ الذّليل من الرّجال الطّالب
إن كان فقر فالقريب مباعد، ... أو كان مال فالبعيد مقارب
وأرى الغنيّ مطاعنا بثرائه ... أعداءه والمال قرن غالب (6)
يشكو تبذّلي الصّحاب، وعاذر ... أن ينبذ الماء المرنّق شارب (7)
من أجل هذا النّاس أبعدت الهوى، ... ورضيت أن أبقى، وما لي صاحب
__________
(1) الزبى، جمع زبية: رابية الغوارب: أعالي كل شيء.
(2) الهجير: نصف النهار وعند اشتداد الحر صفحتي: جانب وجهي تكد: تتعب الصرير: صوت الجنادب.
(3) متأنقا: متتبعا العارض: الجبل المعترض.
(4) أرضا: مقيما في الأرض تنوشني: تنهشني سوالب: طوال.
(5) الأكلة: الاغتياب، العيب المغتاب: ذاكر العيوب الشعواء: الغارة المتفرقة.
(6) القرن: الشجاع.
(7) المرنّق: المكدّر.(1/84)
وأي اللّيالي إن غدرن، فإنّه ... ما سنّ أحباب لنا وحبائب (1)
الذّنب لي أنّي جزعت وعنونت ... عنّي دموع العين، وهي سواكب
دنيا تضرّ، ولا تسرّ، وذا الورى ... كلّ يجاذبها، وكلّ عاتب
تلقي لنا طرفا، فإن هي أعرضت ... نزعت، ولو أنّ الجبال جواذب (2)
هيهات، يا دنيا، وبرقك صادق، ... أرجو، فكيف إذا وبرقك كاذب
والنّاس إمّا قانع أو طالب ... لا ينتهي، أو راغب أو راهب
وإذا نعمت فكلّ شيء ممكن، ... وإذا شقيت فكلّ شيء عازب (3)
قد قلت للباغي عليّ، ودونه ... من فضل أحلامي ذرى وذوائب (4)
احذر مباغضة الرّجال، فإنّها ... تدمي، وتقدر أن يقول العائب (5)
البيد يا أيدي المطيّ، فإنّني ... للضّيم، إن أسرى إليّ، مجانب (6)
ومجاهل الفلوات أطيب منزل ... عندي، وأوفى الواعدين نجائب
وإذا بلغن بي الحسين، فإنّه ... حقّ لهنّ على المطايا، واجب
في بلدة فيها العيون حوافل، ... والرّوض غضّ، والرّياح لواعب (7)
عجب من الأيّام رؤية مثله ... نجم العلى، إذ كلّ نجم غارب
أوردنه أطراف كلّ فضيلة، ... شيم تساندها على ومناقب
وله، إذا خبثت أصول عداته، ... في تربة العلياء عرق ضارب
متفيّئ الآراء في ظلل القنا، ... تجري إليه من العلاء مذانب (8)
__________
(1) الوأي: الوعد.
(2) نزع عنه: كفّ عنه، أقلع.
(3) عازب: بعيد.
(4) الاحلام، جمع حلم: الأناة، التعقّل الذوائب: أعالي كل شيء.
(5) تقدر: تجعله مقدورا، تهيّئ.
(6) البيد، جمع بيداء: الصحراء، وهو منصوب على الاغراء، أو مفعول به لفعل محذوف.
(7) العيون: عيون الماء حوافل: غزيرة.
(8) المذانب، جمع مذنب: مسيل الماء.(1/85)
أنت المنوّه في المحافل باسمه، ... وإذا حضرت فكلّ لؤم غائب
لك من حياض المجد زرق جمامها، ... فلم ينازعك الورود غرائب (1)
ويروم شأوك من غبارك، دونه ... يوم الجزاء، غياطل وغياهب (2)
نفحات كفّك للوليّ غمائم ... تهمي، وهنّ على العدوّ نوائب
فشمائل فيها النّدى، وضرائب، ... وكتائب فيها الرّدى ومقانب (3)
ولقد وقفت على الأعادي وقفة ... فيها لمن أبقى المنون تجارب
تحت العجاج، وللدّروع قعاقع ... ضربا، وغربان الرّماح نواعب (4)
ومطاعن ولّى بها، وكأنّه، ... ممّا يجرّ من العوامل، حاطب
من كلّ نافذة المغار كأنّها ... في قلب حاملها فم متثاوب (5)
ومزمجر قطع العجاج أمامه، ... للهام منه عمائم وذوائب
يرمي الوحوش على الوحوش زهاؤه، ... والأكم فيه مع الجياد لواعب (6)
تهدي أوائله الأواخر كلّما ... طلع الجنيب طغى عليه الجانب (7)
شدّ كمعمعة الحريق، وكبّة ... كاللّيل، أنجمها قنا وقواضب (8)
__________
(1) الزرق، جمع أزرق وهو الماء الصافي الجمام: مجتمع الماء. وفي قوله زرق جمامها إضافة الصفة الى الموصوف.
(2) شأوك: بعدك، مقامك الغياطل والغياهب: الظلمات الشديدة.
(3) الندى: الكرم الضرائب: السيوف المقانب، جمع مقنب: جماعة الخيل تجتمع للغارة.
(4) القعاقع: أصوات السلاح.
(5) المغار: المدخل متثاوب: متثائب، والتثاؤب فتح الفم واسعا من غير قصد.
(6) زهاؤه: عدده الكثير.
(7) الجنيب: المنقاد الجانب: الذي لا ينقاد.
(8) المعمعة: صوت الحريق في القصب ونحوه الكبّة: الدفعة في القتال.(1/86)
والنّقع قد كتم الرّبى، فكأنّه ... سيل تحدّر، والجياد قوارب (1)
ولربّ ليل قد طويت رداءه، ... وعلى الإكام من الظّلام جلابب
ليل ترامى بالعبير نسيمه، ... والتّرب تحفزه صبا وجنائب
وركبت أعجاز النّجوم وفتية ... مثل النّجوم طوالع وغوارب
خضنا الظّلام، وكلّنا بجنانه ... ماض على عجل، وليس كواكب
غلب كأنّهم الصّقور جوانحا، ... وكأنّ أكناف الجياد مراقب (2)
وإذا قلوب لم تكن كعيوننا ... لم يغننا أنّ النّجوم ثواقب (3)
وأذلّ من قبر الخمول نشرته، ... فغدا يناهبك العلى ويجاذب
أوسعته كرما، فأوغر صدره ... أنّ الأقارب بعدها لعقارب
جود ضعيف إن تلمّ ملمّة ... لمؤمّل، وأذى ألدّ مشاغب
ولقد ملأت على عدوّك جلده، ... حتى طمى جزع، وضاق مذاهب (4)
بالعقل يبلغ ما تعذّر بالقنا، ... وظبى القواضب، والعقول مواهب
أمنيل طالب نائل من جوده ... كمنال صدر العضب يوم يضارب
اليوم من فتيات دهرك، فارعه، ... وجميع أيّام الزّمان أشائب
والعيد داعية السّرور، وليته ... أبدا على بعض الرّجال مصائب
فتهنّ طمّاح العلاء، ولا تزل ... في غمر جودك للرّجال رغائب
خير من المال الذي يعطيكه، ... وأحدّ من غرب الحسام الضّارب
__________
(1) النقع: الغبار القوارب، جمع قارب: طالب الماء.
(2) الأكناف: الجوانب المراقب، جمع مرقب: الموضع العالي والمشرف.
(3) ثواقب: مرتفعة.
(4) طمى: علا جزع: قسم من الوادي.(1/87)
أنت بالعزم راكب
(الطويل)
قال هذه القصيدة في مدح والده، وهو يهنئه بعيد الفطر سنة ثلاثمئة وثمانين ويذكر حسن تلافيه للفتنة بين السنّة والشيعة.
ألا حيّها، ربّ العلى، من غوارب ... تعرّقني بين العلى والمطالب (1)
وما لي وللآمال من دونها القنا ... تهزّ، وسورات النّوى والنّوائب (2)
سئمت زمانا، تنتحيني صروفه، ... وثوب الأفاعي أو دبيب العقارب (3)
مقام الفتى عجز على ما يضيمه، ... وذلّ الجريء القلب إحدى العجائب
سأركبها بزلاء إمّا لمادح ... يعدّد أفعالي، وإمّا لنادب (4)
إذا قلّ عزم المرء قل انتصاره، ... وأقلع عنه الضّيم دامي المخالب
وضاقت إلى ما يشتهي طرق نفسه، ... ونال قليلا مع كثير المعائب
وما بلغ المرمى البعيد سوى امرئ ... يروح ويغدو عرضة للجواذب
وما جرّ ذلّا مثل نفس جزوعة، ... ولا عاق عزما مثل خوف العواقب
ألا ليت شعري هل تسالمني النّوى ... وتخبو همومي من قراع المصائب
إلى كم أذود العين أن يستفزّها ... وميض الأماني والظّنون الكواذب (5)
حسدت على أنّي قنعت فكيف بي ... إذا ما رمى عزمي مجال الكواكب
وما زال للإنسان حاسد نعمة ... على ظاهر منها قليل وغائب
__________
(1) الغوارب، جمع غارب: الكامل، أو ما بين السنام والعنق.
(2) سورات النوى: سطوتها واعتداؤها.
(3) تنتحيني: تقصدني صروف الزمان: حوادثه.
(4) البزلاء: الأمور العظيمة.
(5) أذود: أمنع، أدافع يستفزها: يستخف بها، يغريها.(1/88)
وأبقت لي الأيّام حزما وفطنة، ... ووقّرن جأشي بالأمور الغرائب (1)
توزّع لحمي في عواجم جمّة، ... وبان على جنبيّ وسم التّجارب (2)
وأرض بها بعت الصّبابة والصّبا، ... وناهض قلبي الهمّ من كلّ جانب
وزور من الأضغان نحوي، كأنّما ... يلاقيهم شخصي لقاء المحارب (3)
أناسيهم بغضاءهم غير غافل، ... وأسألهم معروفهم غير راغب
وإنّي لأطويهم على عظم دائهم، ... وأقعد منهم بين دام وجالب (4)
ألا ربّ مجد قد ضرحت قذاته، ... وكان على الأيّام جمّ الشّوائب (5)
وسرّ كتمت النّاس حتى كتمته ... ضلوعي، ولم أطلع عليه مآربي
وأغيد محسود على نور وجهه ... هجرت سوى لحظ البعيد المجانب (6)
وغيداء قيدت للعناق ملكتها، ... فنزّهت عنها بعد وجد ترائبي
وما عفّة الإنسان إلّا غباوة، ... إذا لم يكافح داء وجد مغالب
وعزم كأطراف الأسنّة في الحشا ... طعنت به كيد العدوّ الموارب
وضيم كما مضّ الجراح نجوته ... إلى المنظر الأعلى نجاء الرّكائب (7)
وخطّة خسف فتّها غير لا حق ... بي العار إلّا ما نفضت ذوائبي (8)
على همّة، أيدي المنون سياطها، ... تسوق بها الآمال سوق النّجائب
إلى قائم بالمجد يحمي فروجه، ... ويطعن عنه بالقنا والرّغائب (9)
__________
(1) وقّرن: ثبّتن.
(2) العواجم: الأسنان الوسم: الأثر.
(3) زور: جمع زائر الأضغان: الأحقاد.
(4) أطويهم: آتي إليهم الجالب: الذي يبس عليه الدم.
(5) ضرحت: نحّيت ودفعت.
(6) الأغيد: صاحب العنق الطويل، مؤنثه غيداء، وفي القول كناية عن الجمال.
(7) نجوته: علوته، سبقته النجاء: السرعة.
(8) الخطة: الحال، الأمر الخسف: النقيصة.
(9) يحمي فروجه: يسدّ به الثغر الرغائب: العطايا، جمع رغيبة.(1/89)
مقيم بطيب الذّكر في كلّ بلدة، ... وقد عوّد الأكوار جبّ الغوارب (1)
فتى صحب البأس النّدى في بنانه، ... بفيض العطايا والدّماء السّوارب (2)
لأمجد فرع في عرانين هاشم، ... وانجب عود من لؤيّ بن غالب (3)
لهم سرّة المجد التّليد وسرّه، ... ومحض المعالي فيهم والمناقب (4)
يبيتون، أغماد السّيوف نحورهم، ... ويغدون جرّار الرّماح السّوالب (5)
ترقّوا عليها كلّ مجد ونكّسوا ... بأطرافها عن عاقدات السّباسب (6)
وخطب على الزّوراء ألقى جرانه، ... مديد النّواحي مدلهمّ الجوانب (7)
وأضرمها حمراء ينزو شرارها ... إلى جنبات الجوّ نزو الجنادب (8)
سللت عليه الحزم حتى جلوته ... كما انجاب غيم العارض المتراكب
وقد علم الأعداء أنّك تحته ... غلبت، وما كان القضاء بغالب
وأقشعت عن بغداد يوما، دويّه ... إلى الآن باق في الصّبا والجنائب (9)
ولولاك عليّ بالجماجم سورها، ... وخندق فيها بالدّماء الذّوائب
__________
(1) الأكوار: الرحال، جمع كور جب: قطع الغوارب، جمع غارب:
ما بين السنام والعنق.
(2) الندى: الكرم السوارب: السوائل.
(3) العرانين: الأنوف.
(4) سرّة المجد: أفضل مواضعه سرّه: فضل نسبه المحض: الخالص المناقب: المفاخر.
(5) النحور، جمع نحر: أعلى الصدر.
(6) بأطرافها: الباء هنا زائدة السباسب: القفار، وعاقدات السباسب هي الرمال المتعقّدة فيها.
(7) الخطب: الأمر الشديد الزوراء: من أسماء بغداد ألقى جرانه:
ثبت واستقر.
(8) ينزو: يثب الجنادب: الجراد.
(9) الجنائب: الرياح الجنوبية.(1/90)
وكم لك من يوم تركت به الظّبى ... مضاربها مشغولة بالضّرائب (1)
سوابقه ما بين كاب وناهض، ... وأقرانه ما بين هاو وواثب (2)
وقدت إليه الحيل يسبين بالقنا، ... ويسبين بوغاء الملا والسّباسب (3)
ثقالا بأعباء العوالي كأنّما ... يطأن الرّبى وطء الإماء الحواطب
معاودة عضّ الشّكيم يمصّها ... رشاش الجواني بالنّبال الصّوائب (4)
وقد شمّر التّحجيل عن جنباتها ... وحجّلها خوضا نجيع المقانب (5)
فقصّرت فيه كلّ سمراء لدنة، ... وأنحلت فيه كلّ أبيض قاضب
وأصدرت عنه الجيش من بعد هبوة ... توصّل أعناق القنا والقواضب (6)
وأرعن دمّاغ الرّبى في مجرّه، ... يطبّق عرض البيد ذات المناكب (7)
سريت به حتى تقلّص نقعه ... عن الفجر طلّاعا جبال الغياهب (8)
وفي كلّ يوم أنت بالعزم راكب ... قراديد أمر لا تذلّ لراكب (9)
__________
(1) الظبى، جمع الظبة: حدّ السيف المضارب: أماكن الضرب الضرائب: الكثيرة الضرب.
(2) الكابي: المنكب على وجهه.
(3) يسبين بالقنا: يطعن بالقنا يسبين (الثانية): يقطعن البوغاء: الأرض الرخوة الملا: الصحراء، وكذلك السباسب الحيل: الماء في بطن الوادي.
(4) الشكيم: الحديدة المعترضة في فم الفرس المص: الشرب الجواني:
الجوانب.
(5) التحجيل: بياض في قوائم الفرس النجيع: الدم المقانب: جماعة الخيل.
(6) الهبوة: التراب الدقيق.
(7) الأرعن: الجيش المناكب: النواحي.
(8) تقلص نقعه: ارتفع غباره.
(9) القراديد، جمع قردد: ما ارتفع من الأرض وغلظ.(1/91)
وليس عجيبا إن تخمّط بازل ... سرت فيه أعراق القروم المصاعب (1)
تداركت أطناب الخلافة بعد ما ... دنا الضّيم حتى مسّها بالرّواجب (2)
وما زلت ترمي كلّ قلب مجاذب ... تجاذبها حتى قلوب الأقارب
هنيئا لك العيد الجديد، فإنّه ... يسلّ لك الإقبال عضب المضارب
وعزّك باق لا يزلزل طوده، ... وكلّ المعالي بين ماض وآيب
وما راقت الأعياد إلّا بغرّة ... تبلّج عن نور من المجد ثاقب
وكيف يسرّ الفطر من عاش دهره ... بعنوان معروف الجناجن شاحب (3)
إذا ما امرؤ لم يكسه الشّيب عفّة ... فما الشّيب إلّا سبّة للأشائب
أنا القائل المرموق من كلّ ناظر ... إذا صلصلت للسّامعين غرائبي (4)
وما صنت شعري عنك زهدا، وإنّما ... هو الدّرّ لا يمري بغير الحوالب
ولي من قريضي منبه لضميره، ... ولكنّني آبى دنيّ المكاسب
وما كلّ شغلي بالمقال أروضه ... ولا أنا بالقوّال ضربة لازب (5)
تخوّضنا البحار
(الوافر)
وضع الشريف هذه القصيدة في مدح أبيه، وفيها يهنئه بعيد الأضحى.
أرابك من مشيبي ما أرابا، ... وما هذا البياض عليّ عابا
__________
(1) تخمّط: هدر البازل من الابل: الذي دخل في التاسعة القروم، جمع قرم: هو الذي لم يمسه حبل.
(2) الرواجب: مفاصل أصول الأصابع، وأراد الأصابع كلها.
(3) الجناجن: عظام الصدر.
(4) صلصلت: صوتّت.
(5) ضربة لازب: أي لازم ثابت.(1/92)
لئن أبغضت منّي شيب رأسي، ... فإنّي مبغض منك الشّبابا
يذمّ البيض من جزع مشيبي، ... ودلّ البيض أوّل ما أشابا (1)
وكانت سكرة، فصحوت منها، ... وأنجب من أبى ذاك الشّرابا
يميل بي الهوى طربا، وأنأى ... ويجذبني الصّبا غزلا فآبى
ويمنعني العفاف كأنّ بيني ... وبين مآربي منه هضابا
نصلت عن الصّبا ومصاحبيه، ... وأبدلني الزّمان بهم صحابا
ولمّا جدّ جدّ البين فينا، ... وهبت له الظّعائن والقبابا (2)
وما روّعت من جزع جنانا ... ولا روّيت من دمع جنابا (3)
دعيني أطلب الدّنيا، فإنّي ... أرى المسعود من رزق الطّلابا
ومن أبقى لآجله حديثا، ... ومن عانى لعاجله اكتسابا
وما المغبون إلّا من دهته، ... ولا مجدا ولا جدة أصابا (4)
فلا والله أتركها خليّا ... ولمّا أجنب الأسد الغضابا (5)
وأركبها محصّنة شبوبا ... تمانع غير فارسها الرّكابا (6)
إذا نهنهتها أرنت جماحا ... إلى أملي، تجاذبني جذابا (7)
فإمّا أملأ الدّنيا علاء ... وإمّا أملأ الدّنيا مصابا
سجيّة من رعى الأيّام، حتى ... أشاب جماجما منها، وشابا
وهل تشوي حقائق ألمعيّ، ... إذا ما ظنّ أغرض أو أصابا (8)
__________
(1) الجزع: العجز، الضعف الدل: الدلال.
(2) الظعائن، جمع ظعينة: الهودج.
(3) الجنان: القلب.
(4) الجدة: الغنى.
(5) أجنب: أقود.
(6) المحصّنة: الممنّعة الشبوب: الفرس تجوز رجلاه يديه.
(7) نهنهتها: كففتها أرنت: نشطت جماحا: استعصاء.
(8) تشوي، من أشوى: أشوى الرجل أي أصاب شواه لا مقتله، أي أصاب اليد أو الرجل، وأشوى السهم: أخطأ هدفه الحقائق: الأمور اليقينة والثابتة الألمعي: الذكي أغرض: أصاب الغرض.(1/93)
ولم أر كالمآرب راميات ... بنا الدّنيا بعادا واقترابا
تخوّضنا البحار مزمجرات، ... وتسلكنا المضايق والعقابا (1)
وأعظم من عباب البحر حرص ... على الأرزاق أركبنا العبابا
وغلب كالقواضب من قريش ... يروون القواضب والكعابا (2)
فما ولد الأجابر من تميم ... نظيرهم، ولا الشّعر الرّقابا (3)
وإنّ المجد قد علمت معدّ، ... ودار العزّ والنّسب القرابا (4)
لأطولهم، إذا ركبوا، رماحا، ... وأعلاهم، إذا نزلوا، قبابا
وأغزرهم، إذا سئلوا، عطاء، ... وأوحاهم، إذا غضبوا، ضرابا (5)
بنو عمّ النّبيّ وأقربوه، ... وألصقهم به عرقا لبابا (6)
على بيد الحسين ذؤابتاها، ... وفرعاها اللّذا كثرا وطابا
وكانت لا تجار من الأعادي، ... فساند غربه ذاك النّصابا
وحصّنها، فليس ينال منها ... ذنوبا، من يهمّ، ولا ذنابا (7)
همام ما يزال بكلّ أرض ... يبرقع تربها الخيل العرابا
نزائع كالسّهام كسين نحضا ... خفيفا، لا اللّؤام ولا اللّغابا (8)
__________
(1) العقاب، جمع عقبة: المرتقى الصعب.
(2) الغلب: الأسود، كناية عن الشجعان القواضب والكعاب: السيوف والرماح.
(3) الأجارب: حي من بني سعد الشعر الرقاب: الرجال الأقوياء على التشبيه بالأسود.
(4) القراب: القريب.
(5) أوحاهم: أسرعهم.
(6) اللباب: الخالص.
(7) الذنوب: الدلو الذناب: خيط يشد به ذنب البعير. وفي القول كناية عن سمو المقام.
(8) النزائع: النجائب التي تجلب الى غير بلادها النحض: اللحم(1/94)
محبّسة على الأهوال تلقى ... بها العقبان رافعة الذنابى
يوقّرها، فتحسبها أسودا، ... ويطلقها، فتحسبها ذئابا (1)
وأعطته الرّؤوس مسوّمات ... تدقّ بها الجنادل والظّرابا (2)
إذا قطعت به شأوا بلاها ... بأبعد غاية وأمدّ قابا (3)
تجاوزه المقاول، وهو باق ... يبذّ رقاب غلبهم غلابا (4)
كنصل السّيف تسلم شفرتاه ... ويخلق كلّ أيّام قرابا
إذا اشتجر القنا فصل الهوادي ... وإن قرّ الوغى فصل الخطابا (5)
بلى وبلت يداه من الأعادي ... أراقم نزّعا وقنا صلابا (6)
فقوّم بالأذى منها صعادا، ... وذلّل بالرّقى منها صعابا
وغادر كلّ أرقم ذي طلوع ... على الأعداء يدرّع التّرابا
حذار بني الضّغائن من جريّ ... إذا ما الرّيب بادهه أرابا (7)
يعضّ على لواحظ أفعوان، ... فإن سيم الأذى طلب الوثابا
وإنّ وراء ذاك الحلم صولا ... وإنّ لتلكم البقيا عقابا
ولو أنّ الضّراغم نابذته، ... تولّج خلفها أجما وغابا
__________
اللؤام، من لأم السهم: جعل له ريشا اللغاب: السهم الذي لم يحسن بريه.
(1) يوقّرها: يسكنها، يجعلها هادئة.
(2) المسوّمات: الخيول المرسلة والمضمّرة الجنادل: الحجارة الظراب:
الحجارة الناتئة.
(3) الشأو: الغاية، المسافة القاب: المقدار.
(4) المقاول: الملوك البذ: الغلبة الغلب: الأسود.
(5) إشتجر: تعانق وتداخل الهوادي: الأعناق.
(6) أراقم: حيّات خبيثة النزع: الجاريات.
(7) بادهه: استقبله، وفي مرجع آخر وردت: بادره.(1/95)
رماكم بالضّوامر مقربات ... يزاولن المحاني والشّعابا (1)
ويعجلن الصّريخ، وهنّ زور ... إلى الأعداء يرسلن اللّعابا (2)
فأرعى من جماجمكم جميما، ... وأمطر من دمائكم سحابا
لك الهمم التي عرف الأعادي ... تشبّ بكلّ مظلمة شهابا
إذا خفقت رياح العزم فيها ... تبلّج عارض منها، فصابا
ومشرعة الأسنّة ذات جرس ... يقود عقاب رايتها العقابا (3)
تخوض اللّيل يلمع جانباها، ... كأنّ الصّبح قد حدر النّقابا (4)
لها في فرجة الفجر اختلاط، ... يردّ الصّبح من رهج غيابا (5)
وتغدو كالكواكب لا معات ... تمزّق من عجاجتها الحجابا
يصافحها شعاع الشّمس حتى ... كأنّ على الظّبى ذهبا مذابا (6)
صدمت بها العدوّ، وأنت تدعو ... نزال، فأيّ داعية أجابا (7)
وقوّضت الخيام تذبّ عنها ... أسود وغى، وأصفرت الوطابا (8)
__________
(1) الضوامر: الخيول المضمّرة المقربات: الجياد الكريمة يزاولن:
يعالجن المحاني: معاطف الأودية وجوانبها الشعاب: الطرق الجبلية.
(2) الزور: الزائرون اللعاب: السم.
(3) مشرعة الأسنة: الكتيبة المقاتلة الجرس: الصوت يقود عقاب رايتها العقابا: اي أن العقبان، حين ترى راياتها، تسير الى الحرب تتبعها، يقينا منها أنها ستأكل من جثث أعدائها.
(4) الحدر: الحط من علو إلى أسفل.
(5) الرهج: الغبار.
(6) الظبى، جمع الظبة: حد السيف.
(7) نزال: صراخ الحرب والدعوة الى المنازلة.
(8) قوّضت الخيام: التقويض هو نزاع الأوتاد والأطناب أصفرت الوطاب:
أحضرت الهلاك.(1/96)
رأينا الطّايع الميمون بدءا ... يسلّك في النّوائب، واعتقابا
ولمّا جرّب البيض المواضي، ... رآك من الظّبى أمضى ذبابا (1)
فألحمك العدى، حتى تهاووا ... ولا دمنا تحسّ ولا ضبابا (2)
هناك قدوم أعياد طراق، ... تصوب العزّ ما وجدت مصابا (3)
وأيّام تجوز عليك بيض، ... وقد قرعت من الإقبال بابا
فكم يوم كيومك قدت فيه، ... على الغرر، المقانب والرّكابا (4)
إلى البلد الأمين مقوّمات ... يماطلها التّعجّل والإيابا
بحيث تفرّغ الكوم المطايا ... حقائبها، وتحتقب الثّوابا (5)
معالم إن أجال الطّرف فيها ... مصرّ القوم أقلع، أو أنابا
ففزت بها ثماني معلمات، ... نصرت بها النّبوّة والكتابا (6)
بعثت لك الثّناء على صنيع، ... إذا ما هبت دعوته أهابا (7)
رغائب قد قطعن حنين عيس، ... فلا نأيا أريغ، ولا اغترابا (8)
وقبل اليوم ما أغمدن عنّي، ... من الأيّام، نائبة ونابا
__________
(1) ذباب السيف: حدّه.
(2) ألحمك: أمكنك الدمن والضباب: الأحقاد.
(3) أعياد طراق: أعياد متلاحقة تصوب: تمطر.
(4) على الغرر: على شدّة الحر، والغرر جمع أغر وهو من الأيام الشديدة الحر المقانب، جمع مقناب: هو في الخيل من الثلاثين الى الاربعين الركاب: الإبل.
(5) الكوم: القطعة من الإبل.
(6) ثماني معلمات: أراد أنه حج ثماني مرّات حين كان أمير الحج.
(7) هبت: خفّت أهاب: دعا.
(8) العيس: النياق أريغ: أريد.(1/97)
قادوا السوابق
(البسيط)
نظم هذه القصيدة في مدح خاله وهو أبو الحسين أحمد بن الحسين الناصر، ويهنئه بمولودة جاءته.
لكلّ مجتهد حظّ من الطّلب، ... فاسبق بعزمك سير الأنجم الشّهب
وارق المعالي التي أوفى أبوك بها، ... فكم تناولها قوم بغير أب
ولا تجز بصروف الدّهر في عصب ... من القرائن غير السّمر والقضب (1)
ندعوك في سنة شابت ذوائبها ... حتّى تفرّجها مسودّة القصب (2)
ولم تزل خدعات الدّهر تطرقها ... حتّى تعانق عود النّبع والغرب (3)
أتيت تحتلب الأيّام أشطرها، ... فكلّ حادثة منزوحة الحلب (4)
لولا وقارك في نصل سطوت به، ... فاضت مضاربه من خفّة الطّرب
وحسن رأيك في الأرماح ينهضها ... إلى الطّعان، ولولا ذاك لم تثب
كن كيف شئت فإنّ المجد محتمل ... عنك المغافر في بدء وفي عقب
ما زال بشرك في الأزمان يؤنسها، ... حتّى أضاءت سرورا أوجه الحقب (5)
يفديك كلّ بخيل مات خاطره، ... فإن خطرت عددناه من الغيب
إذا المطامع حامت حول موعده ... أنّت إليه أنين المدنف الوصب (6)
__________
(1) العصب، جمع عصبة: جماعة الرجال من العشرة الى الأربعين.
(2) مسودّة القصب: مباركة، من قولهم: سهم أسود أي مبارك.
(3) خدعات الدهر: قلة الريع النبع: شجر تتخذ منه القسي والسهام لصلابته الغرب: شجر لين.
(4) تحتلب الأيام أشطرها: تختبر خيرها وشرها منزوحة، من نزحت البئر:
قلّ ماؤها أو نفذ.
(5) الحقب، جمع حقبة: السنة أو مدّة من الدهر لا وقت لها.
(6) المدنف: المعذب من الحب، الذي ثقل عليه مرضه الوصب: المريض.(1/98)
وعصبة جاذبوك العزّ، فانقبضت ... أكفّهم عن دراك المجد بالطّلب
شابهتهم منظرا، أو فتّهم خبرا ... إنّ الرّدينيّ معدود من القصب
هابوا ابتسامك في دهياء مظلمة، ... وليس يوصف ثغر اللّيث بالشّنب
سجيّة لك، فاتت كلّ منزلة، ... وضعضعت جنبات الحادث الأشب (1)
نسيمها من طباع الرّوض مسترق، ... وطيب لذّتها من شيمة الضّرب (2)
تلقى الخميس إذا اسودّت جوانبه ... بالمستنيرين من رأي وذي شطب (3)
ونثرة فوقها صبر تظاهره، ... أردّ منها لأذراب القنا السّلب (4)
لو لم يعوّضك هجر العيش صالحة ... ما كنت تخرج من أثوابه القشب
يا ابن الذين، إذا عدّوا فضائلهم، ... عدّ النّدى ضربهم في هامة النّشب (5)
بألسن راضة للقول لو نضيت ... نابت عن السّمر في الأبدان والحجب (6)
لا يستشيرون إلّا كلّ منصلت ... حامي الحقيقة طلّاع على النّقب (7)
ذي عزمة إن دعاها الرّوع منتصرا ... تلفّتت عن غرار الصّارم الخشب (8)
يقرون حتّى لو انّ الضّيف فاتهم ... حثّوا إليه صدور الأينق النّجب
أو أعوز الخطب في ليل بيوتهم ... مدّوا يد النّار في الأعماد والطّنب
__________
(1) الأشب: المشتبك، من أشب الشر أي اشتبك.
(2) الضّرب: العسل.
(3) الخميس: الجيش الكثير العدد، أو المؤلّف من خمس فرق ذي شطب:
السيف.
(4) النثرة: الدرع الأذراب، جمع ذرب: الجرح الذي يبرأ السلب:
الطوال.
(5) النشب: المال.
(6) راضة: مذللة الحجب، جمع حجاب: غلاف القلب.
(7) المنصلت: السيف الصقيل الحقيقة: ما يحق لك أن تحميه النقب:
الطريق في الجبل.
(8) غرار السيف: حدّه الخشب: المشحوذ.(1/99)
لو أنّ بأسهم جارى الزّمان إذا، ... لارتدّ عن شأوه مسترخي اللّبب (1)
إن أوردوا الماء لم تنهل جيادهم ... حتّى تعلّ برقراق الدّم السّرب (2)
قادوا السّوابق محفاة مقوّدة، ... كأنّها بحثت عن مضمر التّرب (3)
أعطافها بالقنا الخطّيّ مثقلة، ... تكاد تعصف بالسّاحات والرّحب (4)
ما انفكّ يطعن في أعقاب حافلة ... بذابل من دم الأقران مختضب (5)
إذا امترى علق الأوداج عامله، ... أعشى العوالي فلم تنظرّ إلى سلب (6)
ولا يزال يجلّي نقع قسطله، ... بمحرج الغرب ملآن من الغضب (7)
إذا انتضاه ليوم الرّوع تحسبه ... يسلّ من غمده خيطا من الذّهب
أو إن أشاح به سال الحمام له ... في مضربيه فلم يرقأ ولم يصب (8)
جذلان يركع إن مال الضّراب به ... مطرّبا في قباب البيض واليلب (9)
يا أيّها النّدب إنّ السّعد متّضح ... بطلقة الوجه جلّت سدفة الرّيب (10)
مولودة سقطت عن حجر والدة ... جاءت بها ملء حجر المجد والحسب
__________
(1) الشأو: الغاية اللّبب: ما يشد في صدر الدابة ليمنع تأرجح الرحل.
(2) النهل: أول الشرب العلل: الشربة الثانية: يلاحظ اعتماده مراعاة النظير للدلالة على كثرة الدماء، وفي البيت مبالغة تقرب من الصورة الملحمية.
(3) السوابق: الجياد السريعة محفاة: مجهودة.
(4) الأعطاف: الجوانب تعصف: تسرع.
(5) الحافلة: الناقة الكثيرة اللبن، وأراد بها الكتيبة الكثيرة العدد.
(6) امترى: استخرج العلق: الدم الأوداج: عروق العنق.
(7) محرج الغرب: حدّ السيف المضيّق عليه في غمده.
(8) أشاح: جدّ يرقأ: يجف يصوب: ينصب.
(9) البيض: السيوف اليلب: الدروع من الجلد.
(10) الندب: النجيب السدفة: اختلاط الضوء والظلمة.(1/100)
لمّا ظمئت إليها قبل رؤيتها ... أعطيت لذّة ماء الورد بالقرب (1)
باشر بطلعتها العلياء مقتبلا، ... فإنّها درّة في حلية النّسب
واسعد بها واشكر الأقدار أن حملت ... إليك قرّة عين العجم والعرب
وحثّ خيل كؤوس العزّ جامحة ... إلى السّرور بخيل اللهو واللّعب (2)
وانثر على الشّرب سمطا من فواقعها، ... وابن الغمام مسمّى بابنة العنب (3)
واصدم بكأسك صدر الدّهر معتقلا ... بصارم اللهو يجلو قسطل الكرب
كأس، إذا خضبت بالماء لمّتها ... شابت، وإن زلّ عنها الماء لم تشب
نفسي تقيك فكم وقّيتني بيد، ... وقد ألظّ بي الرّامون عن كثب (4)
إذا اتّقيت بك الأعداء رامية، ... فواجب أن أوقّيك النّوائب بي
أبا الحسين أعر شعري إصاخة من ... يروي مسامعه عن مسمع عجب
إذا مدحتك لم أمنن عليك به، ... فالمدح باسمك والمعنى به نسبي
الدهر يجمعنا
(الوافر)
قال هذه القصيدة في أبي سعيد بن خلف، وفيها يهنئه بالمهرجان.
ألان جوانبي غمز الخطوب، ... وأعجلني الزّمان إلى المشيب (5)
وكم يبقى على عجم اللّيالي، ... وقرع الدّهر جائرة الكعوب
__________
(1) القرب: البئر القريبة الماء، والقرب أيضا أن تسير الى الماء وبينك بينه مسيرة ليلة.
(2) يدعو الشاعر هنا الى اللهو بصورة تكاد تجعلنا نفهم أنها دعوة الى القتال.
(3) فواقعها: الضمير عائد الى الخمر.
(4) ألظ بي: لازمني.
(5) الغمز: الوخز.(1/101)
نبا ظهر الزّمان وكنت منه ... على جنبي موقّعة ركوب (1)
وقالوا: الشّيب زار، فقلت: أهلا ... بنور ذوائب الغصن الرّطيب (2)
ولم آك قبل وسمك لي محبّا، ... فيبعد بي بياضك من حبيب
ولا ستر الشّباب عليّ عيبا، ... فأجزع أن ينمّ على عيوبي
ولم أذمم طلوعك بي لشيء، ... سوى قرب الطّلوع إلى شعوب (3)
وأعظم ما ألاقي أنّ دهري ... يعدّ محاسني لي من ذنوبي
أقول إذا امتلأت أسى لنفسي: ... أيا نفس اصبري أبدا وطيبي
دعي خوض الظّلام بكلّ أرض ... وإعمال النّجيبة والنّجيب
وجرّ ضوامر الأحشاء تجري ... كما تهوي الدّلاء إلى القليب (4)
مترّفة إلى الغايات، حتّى ... ترنّح في الشّكيم من اللّغوب (5)
فليس الحظّ للبطل المحامي، ... ولا الإقبال للرّجل المهيب
ونيل الرّزق يؤخذ من بعيد، ... كنيل الرّزق يؤخذ من قريب
وغاية راكبي خطط المعالي ... كغاية من أقام عن الرّكوب
أليس الدّهر يجمعنا جميعا ... على مرعى من الحدثان موبي
كلانا تضرب الأيّام فيه ... بجرح من نوائبها رغيب (6)
أرى برد العفاف أغضّ حسنا ... على رجل من البرد القشيب
عليّ سداد نبلي يوم أرمي، ... وربّ النّبل أعلم بالمصيب (7)
__________
(1) نبا: لم يطمئن الموقّعة: الخفيفة الوطء والسهلة الركوب.
(2) النّور: الزهر.
(3) الشعوب: المنيّة.
(4) الدلاء: جمع دلو القليب: البئر.
(5) مترّفة: من ترفته النعمة: أطغته الشكيم: الحديدة المعترضة في فم الفرس اللغوب: الإعياء الشديد.
(6) الرغيب: الواسع.
(7) السداد: القوام.(1/102)
ولي حثّ الرّكاب وشدّ رحلي، ... وما لي علم غامضة الغيوب
وما يغني مضيّك في صعود، ... إذا ما كان جدّك في صبوب (1)
تطأطأت الذّوائب للذنابى، ... وأسجدت الموارن للعجوب (2)
وخرق كالسّماء خرجت منه ... بجري أقبّ يركع في السّهوب (3)
يجرّ عنانه، في كلّ يوم، ... إلى الأعداء معقود السّبيب (4)
وخوص قد سريت بهنّ، حتّى ... تقوّضت النّجوم إلى الغيوب (5)
وجرد قد دفعت بهنّ، حتّى ... وطئن على الجماجم والتّريب (6)
ويوم ترعد الرّبلات منه، ... كما قطع الرّبى عسلان ذيب (7)
هتكت فروجه بالرّمح لمّا ... دعوا باسمي، ويا لك من مجيب
وعند تعانق الأقران يبلى ... قراع النّبع بالنّبع الصّليب (8)
إخاؤك، يا عليّ، أساغ ريقي، ... وودّك، يا عليّ، جلا كروبي
فيا عوني، إذا عدت اللّيالي ... عليّ، ويا مجنّي في الحروب (9)
عجبت من الأنام، وأنت منهم، ... ومثلك في الأنام من العجيب
علوت عليهم في كلّ أمر، ... بطول الباع والصّدر الرّحيب
وفتّهم مراحا في سفور ... بلا نزق وجدّا في قطوب (10)
__________
(1) جدّك: حظك صبوب: انحدار.
(2) الذوائب، جمع ذؤابة: الناحية الذنابى: الأتباع الموارن، جمع مارن: الأنف العجوب، جمع عجب: أصل الذنب.
(3) الخرق: القفر والأرض الواسعة الأقب: الضامر السهوب: الفلوات.
(4) السبيب: شعر الذنب والناصية.
(5) الخوص: الإبل الغائرة العيون وهي من الصفات المستحبّة.
(6) الجرد، جمع أجرد: الفرس القصير الشعر التريب: التراب.
(7) الرّبلات، جمع ربلة: باطن الفخذ عسلان ذيب: الذئب المضطرب.
(8) النبع: شجر تتخذ من عيدانه القسي والسهام صليب: شديد.
(9) عدت: اعتدت المجن: الترس.
(10) المراح: النشاط السفور: الاضاءة والاشراق النزق: الخفة والطيش.(1/103)
خطاب مثل ماء المزن تبري ... مواقعه العليل من القلوب
وعزم، إن مضيت به جريّا، ... هوى مطر القنا بدم صبيب
وحلم إن عطفت به معيدا، ... أطار قوادم اليوم العصيب (1)
وألفاظ كما لعبت شمال ... ملاعبها على الرّوض الخصيب
بطرف لا يخفّض من خضوع، ... وقلب لا يتعتع من وجيب (2)
تهنّ بمهرجانك، واعل فيه ... إلى العلياء أعناق الخطوب
وعش صافي الغدير من الرّزايا ... به خالي الأديم من النّدوب
لعلّي أنّ أهزّك في مرام، ... فأبلو منك مندلق الغروب (3)
وحاج في الضّمير معضّلات ... سأسلمها إلى عزم طلوب (4)
لأقضيهنّ، أو أقضي بهمّي ... غريب الوجه في البلد الغريب
منازعة إلى العلياء، حتّى ... أزرّ على ذوائبها جيوبي
فإمّا نيل جانبها، وإمّا ... لقاء مسنّدين على الجنوب (5)
بذكرك نشفي الغليل
(المتقارب)
في هذه القصيدة يهنئ أحد أصدقائه بقدومه من السفر.
وفى ذا السّرور بتلك الكرب، ... وهذا المقام بذاك التّعب
قدمت، فأطرق صرف الزّمان ... عناء وأغضت عيون النّوب
__________
(1) القوادم، جمع قادم: الرأس.
(2) يتعتع: ينقاد بعنف، يضطرب الوجيب: الخفقان.
(3) أبلو: أختبر المندلق: المندفع الغروب، جمع غرب: الدلو.
(4) حاج، جمع حوج: الاحتياج معضلات: ضيّقة، من عضل المكان إذا ضاق.
(5) المسندون على الجنوب: المدفونون في القبور.(1/104)
ومثلك من قذفته الخطو ... ب في صدر كلّ خميس لجب
قريب المراد، بعيد المرام، ... عظيم العلاء، جليل الحسب
ومن قلقل البين أطنابه، ... ونال أقاصي المنى بالطّلب
غدت تشتكيك كؤوس المدام، ... ويثني عليك القنا والقضب
وكنّا نصانع فيك الهموم، ... فصرنا نصانع فيك الطّرب
إذا ما الفتى وصل الزّائري ... ن أثنوا عليه نأى أو قرب
وكيف يهنّيك لفظ امرئ ... يهنّي بقربك أعلى الرّتب
وكنّا بذكرك نشفي الغليل، ... وما بيننا أمد منشعب (1)
إلى أن تهلّل وجه الزّمان، ... ومن بان مثلك عنه شحب (2)
رأينا بوجهك نور اليقي ... ن، حتّى خلعنا ظلام الرّيب
وما زلت تمسح خدّ الصّباح، ... وترحم قلب الظّلام الأشب (3)
بمطرورة الصّدر خفّاقة ... تطير مجاذيفها كالعذب (4)
تعانقك الرّيح في صدرها، ... ويشتاقك الماء حتّى يثب
تمرّ بشخصك مرّ الجياد، ... وتسري برحلك سير النّجب
إذا اطّردت بك خلت القصو ... ر ترعد بالبعد أو تحتجب
يسرّ بها عاشق لا يلذّ ... ذ بالنّأي، أو نازح يقّترب
وقد بلّغتك الّذي رمته، ... وحقّ المبلّغ أن يصطحب
أبا قاسم كان هذا البعاد ... إلى طرق القرب أقوى سبب
__________
(1) الأمد: الغاية منشعب: بعيد.
(2) شحب: تغير.
(3) الأشب: المجتمع.
(4) المطرورة: المحددة العذب، جمع عذبة: ما سدل بين الكتفين من العمامة، والعذبة طرف كل ثوب. يصف هنا السفينة التي أقلّت الممدوح فيقول إن صدرها محدد وهي تخفق في الماء ومجاذيفها تتطاير كأطراف العمامة أو الثوب.(1/105)
فما كنت أوّل بدر أتى ... ولا كنت أوّل نجم غرب
ألا إنّني حسرة الحاسدين ... وما حسرة العجم إلّا العرب
فلا لبسوا غير هذا الشّعار ... ولا رزقوا غير هذا اللّقب
منحتك من منطقي تحفة، ... رأيت بها فرصة تستلب (1)
تصفّقها بالنّشيد الرّواة، ... كما صفّق الماء بنت العنب (2)
وأنت تساهمني في العلا ... ء فخرا، وتشركني في النّسب
لأشكرنك
(البسيط)
يشكر في هذه الأبيات حمزة بن ابراهيم على قضاء حاجة له.
لأشكرنّك ما ناحت مطوّقة، ... وإن عجزت عن الحقّ الذي وجبا
فما التفتّ إلى نعماء سابغة ... إلّا رأيتك فيها الأصل والسّببا (3)
أخدمتني نوب الأيّام طائعة، ... وكان كلّ الرّضى أن آمن النّوبا
ولا لقيت يدا للدّهر جارحة، ... إذا بقيت، ولا ألقى لها السّببا (4)
وقد أقمت عماد البيت راسخة ... على القواعد، فامدد بعدها الطّنبا
__________
(1) تستلب: تختلس.
(2) تصفّقها: التصفيق هو تحويل الشراب من إناء إلى آخر ومزجه بغيره بنت العنب: الخمر.
(3) سابغة: متسعة.
(4) السبب: السبيل.(1/106)
لغير العلى
(الطويل)
وضع الشريف هذه القصيدة في أهل البيت، وهي من قصائد الفخر المشهورة.
لغير العلى منّي القلى والتّجنّب، ... ولولا العلى ما كنت في الحبّ أرغب
إذا الله لم يعذرك فيما ترومه، ... فما النّاس إلّا عاذل أو مؤنّب (1)
ملكت بحلمي فرصة ما استرقّها ... من الدّهر مفتول الذّراعين أغلب (2)
فإن تك سنّي ما تطاول باعها، ... فلي من وراء المجد قلب مدرّب
فحسبي أنّي في الأعادي مبغّض، ... وأنّي إلى غرّ المعالي محبّب
وللحلم. أوقات، وللجهل مثلها، ... ولكنّ أوقاتي إلى الحلم أقرب
يصول عليّ الجاهلون، وأعتلي، ... ويعجم فيّ القائلون وأعرب (3)
يرون احتمالي غصّة، ويزيدهم ... لواعج ضغن أنّني لست أغضب (4)
وأعرض عن كأس النّديم، كأنّها ... وميض غمام غائر المزن خلّب (5)
وقور، فلا الألحان تأسر عزمتي، ... ولا تمكر الصّهباء بي، حين أشرب
ولا أعرف الفحشاء إلّا بوصفها، ... ولا أنطق العوراء والقلب مغضب (6)
تحلّم عن كرّ القوارض شيمتي، ... كأنّ معيد المدح بالذّمّ مطنب (7)
__________
(1) لم يعذرك: لم ينصرك، والعذير هو النصير.
(2) استرقها: ملكها الأغلب: الأسد.
(3) يعجم: يبهم القول أعرب: أفصح.
(4) الضغن: الحقد.
(5) المزن الخلب: الغيم الكاذب الذي لا مطر فيه.
(6) العوراء: الكلمة القبيحة.
(7) تحلّم: تتكلف الحلم والتعقل الشيمة: الطبيعة، الاخلاق القوارض:
المادحون بالقريض أي الشعر.(1/107)
لساني حصاة يقرع الجهل بالحجى ... إذا نال منّي العاضه المتوثّب (1)
ولست براض أن تمسّ عزائمي ... فضالات ما يعطي الزّمان ويسلب
غرائب آداب حباني بحفظها ... زماني، وصرف الدهر نعم المؤدّب
تريّشنا الأيّام ثمّ تهيضنا، ... ألا نعم ذا البادي وبئس المعقّب (2)
نهيتك عن طبع اللّئام، فإنّني ... أرى البخل يأتي والمكارم تطلب
تعلّم، فإنّ الجود في النّاس فطنة ... تناقلها الأحرار، والطّبع أغلب
تضافرني فيك الصّوارم والقنا، ... ويصحبني منك العذيق المرجّب (3)
نصحت وبعض النّصح في الناس هجنة ... وبعض التّناجي بالعتاب تعتّب (4)
فإن أنت لم تعط النّصيحة حقّها ... فربّ جموح كلّ عنه المؤنّب
سقى الله أرضا جاور القطر روضها ... إذ المزن تسقي والأباطح تشرب
ذكرت بها عصر الشّباب، فحسرة ... أفدت وقد فات الذي كنت أطلب
سكنتك، والأيّام بيض كأنّها ... من الطّيب في أثوابنا تتقلّب (5)
ويعجبني منك النّسيم إذا هفا، ... ألا كلّ ما سرّى عن القلب معجب (6)
وفي الوطن المألوف للنّفس لذّة، ... وإن لم ينلنا العزّ إلّا التّقلّب
وبرق رقيق الطّرّتين لحظته ... إذ الجوّ خوّار المصابيح أكهب (7)
__________
(1) الحصاة: العقل والرزانة الحجى: العقل العاضه: الكاذب المتوثب: المعتدي.
(2) تريّشنا: من الرياش أي اللباس الفاخر تهيضنا: تكسرنا.
(3) تضافرني: تواثبني العذيق، تصغير عذق: النخلة بحملها المرجب:
من الترجيب أي إرفاد النخلة من جانبها كي لا تسقط. ومعنى البيت أن عشيرة قوية تصحبه وتسانده.
(4) التعتب: المخاطبة بالإدلال.
(5) سكنتك: سكنت إليك واستأنست بك.
(6) سرّى: ألقى، أزال.
(7) الطرتين، مثنّى الطرّة: السحابة خوّار: ضعيف أكهب: غبرة مشربة سوادا.(1/108)
فمرّ كما مرّت ذوائب عشوة، ... تقاد بأطراف الرّماح وتجنب (1)
نظرت وألحاظ النّجوم كليلة، ... وهيهات دون البرق شأو مغرّب (2)
فما اللّيل إلّا فحمة مستشفّة، ... وما البرق إلّا جمرة تتلهّب (3)
أمن بعد أن أجللتها ورق الدّجى ... سراعا، وأغصان الأزمّة تجذب
وعدنا بها ممغوطة بنسوعها، ... كما صافح الأرض السّراء المعبّب (4)
كأنّ تراجيع الحداة وراءها ... صفير تعاطاه اليراع المثقّب (5)
وردن بها ماء الظّلام سواغبا، ... وللّيل جوّ بالدّراريّ معشب (6)
تنفّر ذود الطّير عن وكراتها، ... فكلل، إذا لاقيته، متغرّب
وتلتذّ رشف الماء رنقا، كأنّه ... مع العزّ ثغر بارد الظّلم أشنب (7)
أذعنا له سرّ الكرى من عيوننا، ... وسرّ العلى بين الجوانح يحجب
حرام على المجد ابتسامي لقربه، ... وما هزّني فيه العناء المقطّب
تهرّ ظنوني في المآرب إربة، ... ويجنب عزمي في المطالب مطلب (8)
ودهماء من ليل التّمام قطعتها ... أغنّي حداء، والمراسيل تطرب (9)
__________
(1) ذوائب: الذوابة هي من كل شيء أعلاه العشوة: الشعلة من النار ترى ليلا من بعيد وتقصد.
(2) شأو مغرّب: غاية بعيدة.
(3) مستشفة: منشورة وجافة.
(4) ممغوطة: ممدودة النسوع، جمع نسع: سير تشد به الرحال السراء: شجر تتخذ منه القسي المعبب: الطويل والكثيف.
(5) اليراع: القصب، واليراع المثقّب: مزمار القصب.
(6) سواغبا، من السغب: الجوع المقرون بالتعب والعطش.
(7) رنقا: كدرا الظّلم: ماء الأسنان، الريق.
(8) تهرّ: تكره الإربة: الدهاء يجنب: يقود.
(9) الدهماء: الليل، والدهماء من ليل التمام: ليلة تسع وعشرين من الشهر القمري المراسيل: النياق السهلة السير، جمع مرسال.(1/109)
ولو شئت غنّتني الحمام عشيّة، ... ولكنّني من ماء عينيّ أشرب
أقول إذا خاض السّميران في الدّجى ... أحاديث تبدو طالعات وتغرب
ألا غنّياني بالحديث، فإنّني ... رأيت ألذّ القول ما كان يطرب
غناء، إذا خاض المسامع لم يكن ... أمينا على جلبابه المتجلبب
ونشوان من خمر النعاس ذعرته، ... وطيف الكرى في العين يطفو ويرسب (1)
له مقلة يستنزل النّوم جفنها ... إليه كما استرخى على النّجم هيدب (2)
سلكت فجاج الأرض غفلا ومعلما ... تجدّ بها ايدي المطايا وتلعب (3)
وما شهوتي لوم الرّفيق، وإنّما ... كما يلتقي في السّير ظلف ومخلب
عجبت لغيري كيف ساير نجمها، ... وسيري فيها، يا ابنة القوم أعجب
أسير وسرجي بالنّجاد مقلّد، ... وأثوي وبيتي بالعوالي مطنّب (4)
ومصقولة الأعطاف في جنباتها ... مراح لأطراف العوالي وملعب
تجرّ على متن الطّريق عجاجة، ... يطارحها قرن من الشّمس أعضب (5)
نهار بلألاء السّيوف مفضّض ... وجوّ بحمراء الأنابيب مذهب
ترى اليوم محمرّ الخوافي، كأنّما ... على الجوّ غرب من دم يتصبّب (6)
صدمنا بها الأعداء، واللّيل ضارب ... بأرواقه جون الملاطين أخطب (7)
__________
(1) ذعرته: أخفته يطفو ويرسب: يعلو ويهبط، يقوى ويضعف.
(2) الهيدب: السحاب المتدلي.
(3) الفجاج: شقوق الأرض، الأودية الغفل: ما لا علامة فيه من الطرق المعلم: ما يستدل به على الطريق، ذو علامات.
(4) النجاد: حمائل السيف أثوي: أقيم.
(5) العجاجة: الابل الكثيرة والعظيمة قرن الشمس: شعاعها، أوّل ما يبدو منها أعضب: مكسور.
(6) الخوافي: الريش الصغير في جسم الطائر، سميت بذلك لأنها تختفي اذا ضمّ الطائر جناحيه الغرب: الدلو العظيمة.
(7) ضارب بأرواقه: سادل ظلمته الجون: الأسود الملاطين: الجانبين الأخطب: ما كان فيه غبرة تشوبها خضرة.(1/110)
أخذنا عليهم بالصّوارم والقنا، ... وراعي نجوم اللّيل حيران مغرب (1)
فلو كان أمرا ثابتا عقلوا له، ... ولكنّه الأمر الذي لا يجرّب
يراعون إسفار الصّباح، وإنّما ... وراء لثام اللّيل يوم عصبصب (2)
وكلّ ثقيل الصّدر من جلب القنا ... خفيف الشّوى والموت عجلان مقرب (3)
يجمّ، إذا ما استرعف الكرّ جهده، ... كما جمّت الغدران والماء ينضب (4)
وما الخيل إلّا كالقداح نجيلها ... لغنم، فإمّا فائز أو مخيّب (5)
دعوا شرف الأحساب يا آل ظالم، ... فلا الماء مورود، ولا التّرب طيّب
لئن كنتم في آل فهر كواكبا ... إذا غاض منها كوكب فاض كوكب
فنعتي كنعت البدر ينسب بينكم ... جهارا، وما كلّ الكواكب تنسب
صحبتم خضاب الزّاعبيّات ناصلا، ... ومن علق الأقران ما لا يخضّب (6)
أهذّب في مدح اللّئام خواطري ... فأصدق في حسن المعاني وأكذب
وما المدح إلّا في النّبيّ وآله ... يرام، وبعض القول ما يتجنّب
وأولى بمدحي من أعزّ بفخره، ... ولا يشكر النّعماء إلّا المهذّب
أرى الشّعر فيهم باقيا، وكأنّما ... تحلّق بالأشعار عنقاء مغرب
وقالوا: عجيب عجب مثلي بنفسه، ... وأين على الأيّام مثل أبي أب
لعمرك ما أعجبت إلّا بمدحهم، ... ويحسب أنّي بالقصائد معجب
أعدّ لفخري في المقام محمّدا، ... وأدعو عليّا للعلى حين أركب
__________
(1) مغرب: آت من الغرب.
(2) عصبصب: شديد.
(3) الجلب: اختلاط الأصوات الشّوى: اليدان والرجلان.
(4) يجم: يكثر استرعف: استخرج، والرعاف هو الدم الذي يخرج من الأنف ينضب: يغور، يجف.
(5) القداح: السهام.
(6) الزاعبيات: الرماح العلق: الدم.(1/111)
المجد من أربي
(البسيط)
نظم الشريف الرضي هذه الأبيات وله عشر سنين، ثم هذّبها.
المجد يعلم أنّ المجد من أربي، ... ولو تماديت في غيّ وفي لعب
إنّي لمن معشر إن جمّعوا لعلى ... تفرّقوا عن نبيّ أو وصيّ نبي
إذا هممت ففتّش عن شبا هممي ... تجده في مهجات الأنجم الشّهب (1)
وإن عزمت فعزمي يستحيل قذى ... تدمى مسالكه في أعين النّوب
ومعرك صافحت أيدي الحمام به ... طلى الرّجال على الخرصان من كثب (2)
حلّت حباها المنايا في كتائبه ... بالضّرب فاجتثّت الأجساد بالقضب (3)
تلاقت البيض في الأحشاء فاعتنقت ... والسّمهريّ من الماذيّ واليلب (4)
بكت على الأرض دمعا من دمائهم، ... فاستعربت من ثغور النّور والعشب (5)
سأدّرع الصوارم
(الوافر)
نظم هذه القصيدة مفتخرا بأهل البيت، وفيها يذكر قبورهم وبنشوقها.
ألا لله بادرة الطّلاب، ... وعزم لا يروّع بالعتاب (6)
__________
(1) شبا: على.
(2) الطلى: الأعناق الخرصان: قنا الرماح.
(3) اجتثت: استأصلت القضب: السيوف.
(4) الماذي: الدرع اللينة اليلب: الدروع الجلدية.
(5) استعربت: تكلمت النّور: الزهر.
(6) بادرة: عاجلة.(1/112)
وكلّ مشمّر البردين يهوي ... هويّ المصلتات إلى الرّقاب (1)
أعاتبه على بعد التّنائي، ... ويعذلني على قرب الإياب
رأيت العجز يخضع للّيالي، ... ويرضى عن نوائبها الغضاب
ولولا صولة الأيّام دوني، ... هجمت على العلى من كلّ باب
ومن شيم الفتى العربيّ فينا، ... وصال البيض والخيل العراب
له كذب الوعيد من الأعادي، ... ومن عاداته صدق الضّراب
سأدّرع الصّوارم والعوالي، ... وما عرّيت من خلع الشّباب
وأشتمل الدّجى والرّكب يمضي ... مضاء السّيف شذّ عن القراب (2)
وكم ليل عبأت له المطايا، ... ونار الحيّ حائرة الشّهاب
لقيت الأرض شاحبة المحيّا ... تلاعب بالضّراغم والذّئاب
فزعت إلى الشّحوب وكنت طلقا، ... كما فزع المشيب إلى الخضاب
ولم نر مثل مبيضّ النّواحي ... تعذّبه بمسودّ الإهاب (3)
أبيت مضاجعا أملي، وإنّي ... أرى الآمال أشقى للرّكاب
إذا ما اليأس خيّبنا رجونا، ... فشجّعنا الرّجاء على الطّلاب
أقول إذا استطار من السّواري ... زفون القطر رقّاص الحباب (4)
كأنّ الجوّ غصّ به، فأومى ... ليقذفه على قمم الشّعاب
جدير أن تصافحه الفيافي، ... ويسحب فوقها عذب الرّباب (5)
إذا هتم التّلاع رأيت منه ... رضابا في ثنيّات الهضاب (6)
__________
(1) المصلتات: السيوف.
(2) أشتمل الدجى: أمشي ليلا شذّ: انفرد.
(3) مبيض النواحي: الشائب مسود الإهاب: الخضاب لصبغ الشّعر.
(4) استطار: تفرق السواري: السحاب، جمع سارية وهي الغيمة التي تمر ليلا زفون: تراقص الحباب: فقاقيع الماء.
(5) الرباب: السحاب الأبيض.
(6) هتم: كسر الثنيّة، والأهتم من كسرت ثناياه.(1/113)
سقى الله المدينة من محلّ، ... لباب الماء والنّطف العذاب (1)
وجاد على البقيع وساكنيه ... رخيّ الذّيل ملآن الوطاب (2)
وأعلام الغريّ، وما استباحت ... معالمها من الحسب اللّباب (3)
وقبرا بالطّفوف يضمّ شلوا، ... قضى ظما إلى برد الشّراب (4)
وسامرّا، وبغدادا، وطوسا، ... هطول الودق منخرق العباب (5)
قبور تنطف العبرات فيها، ... كما نطف الصّبير على الرّوابي (6)
فلو بخل السّحاب على ثراها ... لذابت فوقها قطع السّراب
سقاك فكم ظمئت إليك شوقا ... على عدواء داري واقترابي (7)
تجافي يا جنوب الرّيح عنّي، ... وصوني فضل بردك عن جنابي
ولا تسري إليّ مع اللّيالي، ... وما استحقبت من ذاك التّراب
قليل أن تقاد له الغوادي، ... وتنحر فيه أعناق السّحاب (8)
أما شرق التّراب بساكنيه ... فيلفظهم إلى النّعم الرّغاب
فكم غدت الضّغائن وهي سكرى ... تدير عليهم كأس المصاب
صلاة الله تخفق كلّ يوم ... على تلك المعالم والقباب
وإنّي لا أزال أكرّ عزمي، ... وإن قلّت مساعدة الصّحاب
__________
(1) النطف، جمع نطفة: الماء القليل الصافي.
(2) البقيع: موضع في المدينة الوطاب: سقاء اللبن من وعاء جلدي.
(3) الغري، مفرد الغريين: بناءين مشهورين بالكوفة استباحت: استأصلت اللباب: الخالص.
(4) الطفوف: طف الفرات هو شاطئه، ضفته وما ارتفع من جانبه الشلو:
الجسد، وأراد به جسد الامام الحسين.
(5) الودق: المطر.
(6) تنطف: تسيل الصّبير: السحاب المتراكم.
(7) العدواء: البعد.
(8) الغوادي: الغيوم الصباحية، جمع غادية.(1/114)
وأخترق الرّياح إلى نسيم، ... تطلّع من تراب أبي تراب (1)
بودّي أن تطاوعني اللّيالي، ... وينشب في المنى ظفري ونابي
فأرمي العيس نحوكم سهاما، ... تغلغل بين أحشاء الرّوابي
ترامى باللّغام على طلاها، ... كما انحدر الغثاء عن العقاب (2)
وأجنب بينها خرق المذاكي، ... فأملي باللّغام على اللّغاب (3)
لعلّي أن أبلّ بكم غليلا ... تغلغل بين قلبي والحجاب
فما لقياكم إلّا دليل ... على كنز الغنيمة والثّواب
ولي قبران بالزّوراء أشفي ... بقربهما نزاعي واكتئابي
أقود إليهما نفسي وأهدي ... سلاما لا يحيد عن الجواب
لقاؤهما يطهّر من جناني، ... ويدرأ عن ردائي كلّ عاب
قسيم النّار جدّي يوم يلقى ... به باب النّجاة من العذاب (4)
وساقي الخلق والمهجات حرّى، ... وفاتحة الصّراط إلى الحساب
ومن سمحت بخاتمه يمين ... تضنّ بكلّ عالية الكعاب (5)
أما في باب خيبر معجزات ... تصدّق، أو مناجاة الحباب
أرادت كيده، والله يأبى، ... فجاء النّصر من قبل الغراب
__________
(1) تطلع: تظهر أبو تراب: كنية الامام علي كناه بها النبي (ص).
(2) اللغام: زبد أفواه الإبل طلاها: أعناقها الغثاء: البالي من أوراق الشجر يخالطه زبد السيل العقاب، جمع عقبة: المرتقى الصعب من الجبال.
(3) أجنب: أقود الخرق، جمع أخرق: الأحمق المذاكي، جمع مذكي:
هو من الخيل ما تمّ سنه وكملت قوته أملي، من أملى البعير: أرخى له ووسع في قيده اللغاب: السهم لم يحسن بريه.
(4) قسيم النار: الامام علي، مأخوذ من قوله: أنا قسيم النار، أي من أحبّني دخل الجنة ومن أبغضني دخل النار.
(5) عالية الكعاب: المقام العالي.(1/115)
أهذا البدر يكسف بالدياجي، ... وهذي الشمس تطمس بالضّباب
وكان إذا استطال عليه جان، ... يرى ترك العقاب من العقاب
أرى شعبان يذكرني اشتياقي، ... فمن لي أن يذكّركم ثوابي
بكم في الشّعر فخري لا بشعري، ... وعنكم طال باعي في الخطاب
أجلّ عن القبائح غير أنّي ... لكم أرمي وأرمى بالسّباب
فأجهر بالولاء، ولا أورّي، ... وأنطق بالبراء، ولا أحابي
ومن أولى بكم منّي وليّا، ... وفي أيديكم طرف انتسابي
محبّكم ولو بغضت حياتي، ... وزائركم ولو عقرت ركابي
تباعد بيننا غير اللّيالي، ... ومرجعنا إلى النّسب القراب (1)
إنّا نعيب
(مجزوء الكامل)
إنّا نعيب، ولا نعاب، ... ونصيب منك، ولا نصاب
آل النّبيّ، ومن تقلّ ... ب في حجورهم الكتاب
خلقت لهم سمر القنا، ... والبيض والخيل العراب
فاقني حياءك، إنّ ... ما الأيّام غنم، أو نهاب (2)
من لذّ ورد الموت لا ... يصفو له أبدا شراب
وتطرّفي حيث السّما ... ح الغمر والحسب اللّباب (3)
في حيث للرّاجي الثّوا ... ب ندى، وللجاني العقاب
قوم، إذا غمز الزّما ... ن قنيّهم كرموا وطابوا (4)
__________
(1) النسب القراب: النسب القريب.
(2) أقنى حياءك: إلزمه.
(3) تطرفي: مجاوزتي حدّ الاعتدال اللباب: الخالص.
(4) إذا غمز الزمان: اذا رام الزمان قنيهم: تليينهم.(1/116)
وإذا دعوا، والخيل في الإج ... فال، ثابوا، أو أجابوا
أبني عديّ! إنّما ... سالت بخيلكم الشّعاب
وشرفتم بالطّعن، والدّن ... يا ضرام، أو ضراب
ما كنتم إلّا البحو ... ر توالغت فيها الذّئاب
وقرعتم بالبيض، ح ... تّى ضاع في اللّمم الشّباب (1)
واليوم تستل السّيو ... ف به وتنسلّ الرّقاب
كتمت دماءكم الظّبى، ... كالشّيب يكتمه الخضاب (2)
فتنازعوا شمط الظّلا ... م، فخلفه الأسد الغضاب (3)
وتعلّموا أنّ الصّبا ... ح ضبارم، واللّيل غاب (4)
لا صلح حتّى تطمئ ... نّ إلى مناسمها الرّكاب (5)
ويعود وجه الشّمس لا ... نقع عليه، ولا ضباب
حتّى تشبّث بالظّبى الأغ ... ماد، والجرد الرّحاب
وتمدّ أطناب البيو ... ت، وتضمر القوم القباب
وتردّف الأدراع مش ... رجة، عليهنّ العياب (6)
وترى الرّبى والرّوض ين ... شر من مطارفها السّحاب
__________
(1) اللمم، جمع لمّة: جانب الوجه، وعبارة «ضاع في المم الشباب» كناية عن المشيب.
(2) الظّبى، جمع ظبّة: حد السيف.
(3) شمط الظلام: اختلاطه بالضياء.
(4) ضبارم: أسد، يشبه الصبح، بخروجه من الظلام، بأسد خارج من غابة مظلمة.
(5) مناسم، جمع منسم: خف البعير.
(6) تردّف، أصلها تتردف: تركب في الخلف مشرجة: مخيّطة العياب: جمع عيبة وهي ما تجعل فيه الثياب.(1/117)
ما كان فضّضه فضي ... ض الطّلّ أذهبه الذّهاب (1)
كانت نجوم اللّيل يك ... تمها من النّقع الغياب (2)
فالآن أصحر في السّما ... ء البدر، وانكشف النّقاب (3)
وعلت إلى أو كارها العق ... بان وانحطّ العقاب (4)
عودوا إلى ذاك الغدي ... ر، وقلّ ما غدر الرّباب (5)
وتغنّموا تلك المنا ... زل، وهي آمنة رغاب
وتداركوا ذود المسا ... رح، وهي بينكم سقاب (6)
وكأنّ أيّام الهوى ... فيكم نشاوى أو طراب
متمنطقات بالحليّ، ... وفي قلائدها الملاب
إنّي على لين النّقي ... بة لا أعاب ولا أحاب (7)
ما شدّ لي يوما على ... ذلّ ولا طمع حقاب
من لي بغرّة صاحب ... لا يستطيل عليه عاب (8)
ما حارب الأيّام إ ... لّا كان لي وله الغلاب
ولكلّ قول سامع، ... ولكلّ داعية جواب
هيهات أطلب ما يطو ... ل به بعاد واقتراب
__________
(1) فضضه: نشره الفضيض: الماء العذب الذهاب، جمع ذهبة: مطرة خفيفة.
(2) النقع: الغبار الغياب: مصدر غاب.
(3) أصحر: ظهر.
(4) العقبان: جمع عقاب العقاب: العقبة.
(5) الرّباب: أحياء بني ضبّة. يلاحظ اعتماده الجناس في هذا البيت والبيت السابق.
(6) الذود: السّوق المسارح: الإبل السقاب، جمع سقب: ولد الناقة.
(7) النقيبة: النفس أحاب من الحوبة: الإثم، الخطيئة.
(8) العاب: العار.(1/118)
قلّ الصّحاب، فإن ظفر ... ت بنعمة كثر الصّحاب
من لي به سمحا، إذا ... صفرت من القوم الوطاب (1)
غيران دون الجار، لا ... يطوي عزايمه الحجاب
يستعذب الموماة منزلة ... وإن بعد الإياب (2)
رقّت حواشي بيته، ... ممّا يلاطمها السّراب
لا يستقلّ برحله، ... إلّا الذّوائب والهضاب (3)
تهفو بكفّيه الصّوا ... رم، أو تسيل بها الكعاب
جذلان يلتقط النّسي ... م، إذا تساقطت الثّياب
ينمى إليه الشّيح، وال ... حوذان والإبل الجراب (4)
وكأن غرّته، وراء ل ... ثام ليلته، شهاب
من لي به، يا دهر، والأ ... يّام كالحة غضاب
إنّ الصّديق مشيّع، ... إن جلّ خطب أو خطاب (5)
ويجود عنك بنفسه، ... والحرب تقرعها الحراب
وأخ حرمت الودّ من ... هـ، وبيننا نسب قراب
نازعته ثدي الرّضاع، ... وما يلذّ لنا الشّراب
يا سعد! أعظم محنة ... من لا يروّعه العتاب
يجني على جيرانه، ... حتّى يعاقبه السّباب
حسبي من الأيّام أن ... أبقى، ويسعدني الطّلاب
__________
(1) صفرت: خلت الوطاب: وعاء اللبن. وعبارة «صفرت وطابه» تعني أنه مات.
(2) الموماة: المفازة.
(3) الذوائب: الأعالي، وذؤابة كل شيء: أعلاه.
(4) الحوذان: نوع من النبات تستسيغه الابل.
(5) مشيّع: عجول.(1/119)
دوام الهوى
(المتقارب)
دوام الهوى في ضمان الشّباب، ... وما الحبّ إلّا زمان التّصابي
أحين فشا الشّيب في شعره، ... وكتّم أوضاحه بالخضاب (1)
تروعين أوقاته بالصّدود، ... وترمين أيّامه بالسّباب
تخطّى المشيب إلى رأسه، ... وقد كان أعلى قباب الشّباب
كذاك الرّياح إذا استلأمت ... تقصّف أعلى الغصون الرّطاب (2)
مشيب كما استلّ صدر الحسا ... م، لم يرو من لبثه في القراب (3)
نضي، فاستباح حمى الملهيات، ... وراع الغواني بظفر وناب
وألوى بجدّة أيّامه، ... فأصبح مقذى لعين الكعاب (4)
تستّر منه مجال السّوار ... إذا ما بدا ومناط النّقاب
وكان، إذا شردت نيّة، ... يردّ رقاب الخطوب الغضاب (5)
وكنت أرقرق ماء الوصال، ... وبحر الشّبيبة طاغي العباب
وكأسي معوّدة بالسّماع ... تركض بين القلوب الطّراب
إذا نصفت فهي في مئزر، ... وتبرز إن أترعت في نقاب (6)
سمائي مذهّبة بالبروق ... وأرضي مفضّضة بالحباب
وروضي مطارفه غضّة، ... تطرّز أطرافها بالذّهاب (7)
__________
(1) كتم أوضاحه بالخضاب: كناية عن صباغ المشيب.
(2) استلأمت: اشتدّت وعصفت.
(3) يشبّه بياض المشيب بلمعان نصل السيف.
(4) المقذى: ما تتقذى منه العين الكعاب: الجارية.
(5) النيّة: الوجهة التي يذهب فيها.
(6) نصفت: بلغت الخمر النصف أترعت: امتلأت.
(7) المطارف، جمع مطرف: رداء من الخز الذهاب: الذهب.(1/120)
وليل ترى الفجر في عطفه، ... كما شاب بعض جناح الغراب
يغار الظّلام على شمسه، ... إلى أن يواريها بالحجاب
وتصقل أنجمه العاصفات، ... إذا صديت من غمود السّحاب (1)
وبرق ينفّض أطرافه، ... كما رمحت بلق خيل عراب
وماء يضارع خيط السّقاء، ... ويرمى به في وجوه الشّعاب
تزعزع ريح الصّبا متنه، ... كما لطم المزج خدّ الشّراب
وذود يغادر وجه الصّعيد م ... ن حلّة العشب عاري الإهاب (2)
فما تطلب البيد من ساهم ... يثير عليها رقاب الرّكاب (3)
يساعدها في احتمال الصّدى، ... ويشركها في ورود السّراب (4)
يذكّره أخذ أوتاره، ... صهيل السّوابق حول القباب (5)
دفعن بخضخضة للمزاد، ... نجاء، وخشخشة للعياب (6)
لبلّ أنابيبه بالطّعان، ... وأنحل أسيافه بالضّراب (7)
يبيت وثوب الدّجى شاحب، ... طموح المعالم سامي الشّهاب
وما كنت أجري إلى غاية ... فأسألها: أين وجه الإياب؟
إذا استنهضت هممي عزمة ... عصفت بأيدي المطيّ العراب
تحرّيت أعجازها بالسّياط، ... فخاضت صدور الأمور الصّعاب
فكم قائف قد هدت لحظه ... بدور مناسمها في التّراب (8)
__________
(1) العاصفات: الرياح الشديدة الغمود، جمع غمد: قراب السيف.
(2) الإهاب: الجلد.
(3) الساهم: المهزول.
(4) الصدى: العطش.
(5) أوتاره، جمع وتر: هو أن يقتل القتيل ولم يدرك بدمه.
(6) دفعن: رحلن، مشين نجاء: سراعا العياب، جمع عيبة: وعاء تجعل فيه الثياب.
(7) الأنابيب: الرماح.
(8) القائف: من يقفو الآثار، من يتتبع الآثار ويتعرف الى أصحابها.(1/121)
إذا مات في وخدهنّ المدى ... لطمن خدود الرّبى والرّحاب
فداؤك نفسي يا من له ... من القلب ربع منيع الجناب
فلولاك ما عاق قلبي الهوى، ... وعزّ على كلّ شوق طلابي
إذا ما صددت دعاني الهوى، ... فملت إلى خدعات صحابي
دفعت بكفّي زمامي إليك، ... وقد كنت أبطي على من حدا بي
فلا تحسبنّي ذليل القياد، ... فإنّي أبيّ على كلّ آبي
وساع إلى الودّ شبّهته، ... ويرتع مع أهله في جناب (1)
يؤمّن سطوة ليث العرين، ... ومضجعه بين غيل وغاب
حمته مذلّته سطوتي، ... وكيف ينال ذبابا ذبابي (2)
وملتثم قال لي لثمه ... عذاب الهوى في الثّنايا العذاب
نعاقر بالضّمّ كأس العناق، ... ونسفك باللّثم خمر الرّضاب (3)
عناق كما ارتجّ ماء الغدير، ... ولثم كما استنّ ولغ الذّئاب
غدونا على صهوات الخطوب ... جوادي رهان وسيفيّ قراب
صقيلين تستلّنا النّائبات، ... فتثلم فيهنّ، والدّهر ناب
وغصنين يلعب فينا النّسيم، ... وتنطف عنّا نطاف الرّباب (4)
ونجمين يقصر عن نيلنا ... من الطّالعات الذّرى والرّوابي
وكنّا، إذا مسّنا حادث ... نقلّم بالصّبر ظفر المصاب
إليك تخطّت فروج القلوب ... بكر من الآنسات العراب
أشبّب فيها بذكر المشيب، ... وما استيأست لمّتي من شبابي
__________
(1) شبّهته: لبست عليه الأمر جناب: ناحية.
(2) الذباب: الشر، حدّ السيف الذباب (الثانية): انسان العين.
(3) يعمد الشاعر الى مراعاة النظير والاستعارات من أجل التعبير عن القبل والخمر.
(4) تنطف: تسيل الرّباب: السحاب الأبيض.(1/122)
أغدرا يا زمان!
(الوافر)
أغدرا يا زمان ويا شباب، ... أصاب بذا، لقد عظم المصاب
وما جزعي لأن غرب التّصابي، ... وحلّق عن مفارقي الغراب (1)
فقبل الشّيب أسلفت الغواني ... قلى، وأمالني عنها اجتناب
عففت عن الحسان، فلم يرعني ... المشيب، ولم ينزّقني الشّباب (2)
تجاذبني يد الأيّام نفسي، ... ويوشك أن يكون لها الغلاب
وتغدر بي الأقارب والأداني، ... فلا عجب، إذا غدر الصّحاب
نهضت، وقد قعدن بي اللّيالي، ... فلا خيل أعنّ، ولا ركاب (3)
وما ذنبي إذا اتّفقت خطوب ... مغالبة، وأيّام غضاب
وآمل أن تقي الأيّام نفسي، ... وفي جنبي لها ظفر وناب
فما لي والمقام على رجال ... دعت بهم المطامع، فاستجابوا
ولم أر كالرّجاء اليوم شيئا، ... تذلّ له الجماجم والرّقاب
وكان الغبن لو ذلّوا ونالوا، ... فكيف إذا وقد ذلّوا وخابوا
يريدون الغنى، والفقر خير، ... إذا ما الذّلّ أعقبه الطّلاب
وبعض العدم مأثرة وفخر ... وبعض المال منقصة وعاب (4)
بناني والعنان، إذا نبت بي ... ربى أرض ورحلي والرّكاب
وسابغة كأنّ الصّرد فيها ... زلال الماء لمّعه الحباب (5)
__________
(1) غرب: بعد حلّق عن مفارقي الغراب: كناية عن اختفاء سواد الشعر وحلول المشيب.
(2) ينزّقني: من نزق اذا خف وطاش.
(3) أعنّ: من الإعانة.
(4) عاب: عيب، عار.
(5) السابغة: الدرع الطويلة الصّرد: التراب.(1/123)
من اللّائي يماط العيب عنها ... إذا نثلت لدى الرّوع العياب (1)
إذا ادّرعت تجنّبت المواضي ... معاجمها، وقهقهت الكعاب (2)
ومشرفة القذال تمرّ رهوا، ... كما عسلت على القاع الذّئاب (3)
مجليّة تشقّ بها يداها، ... كما جلّى لغايته العقاب (4)
ومرقبة ربأت على ذراها، ... وللّيل انجفال وانجياب (5)
بقرب النّجم عالية الهوادي، ... يبيت على مناكبها السّحاب (6)
إلى أن لوّح الصّبح انفتاقا، ... كما جلّي عن العضب القراب (7)
وقد عرفت توقّلي المعالي، ... كما عرفت توقّلي العقاب (8)
ونقب ثنيّة سدّدت فيها ... أصمّ كأنّ لهذمه شهاب (9)
لأمنع جانبا وأفيد عزّا، ... وعزّ المرء ما عزّ الجناب
إذا هول دعاك، فلا تهبه ... فلم يبق الّذين أبوا وهابوا
كليب عاقصته يد، وأودى ... عتيبة يوم أقعصه ذؤاب (10)
سواء من أقلّ التّرب منّا، ... ومن وارى معالمه التّراب
__________
(1) نثلت: استخرجت العياب: القلوب والصدور.
(2) المواضي: السيوف معاجمها: أبوابها الكعاب: الرماح.
(3) المشرفة: المرتفعة القذال: مؤخر الرأس الرهو: السير السهل عسلت: اضطربت في مشيها.
(4) المجلّية: السابقة في الحلبة.
(5) المرقبة: مكان المراقبة والاشراف ربأت: علوت.
(6) الهوادي: الأعناق.
(7) انفتاقا: انشقاقا، انبلاجا العضب: السيف.
(8) التوقّل: الصعود العقاب: جمع عقبة.
(9) اللهذم: السنان الحاد القاطع.
(10) كليب: هو كليب بن ربيعة الذي اغتاله جسّاس بن مرّة عتيبة بن الحارث: أحد أبطال العرب أقعصه: قتله.(1/124)
وإنّ مزايل العيش اختصارا، ... مساو للّذين بقوا، فشابوا
فأوّلنا العناء، إذا طلعنا ... إلى الدّنيا، وآخرنا الذّهاب
إلى كم ذا التّردّد في الأماني، ... وكم يلوي بناظري السّراب
ولا نقع يثار، ولا قتام، ... ولا طعن يشبّ، ولا ضراب (1)
ولا خيل معقّدة النّواصي، ... يموج على شكائمها اللّعاب
عليها كلّ ملتهب الحواشي، ... يصيب من العدوّ ولا يصاب (2)
أمام مجلجل كاللّيل تهوي، ... أواخره، الجمايل والقباب (3)
وأين يحيد عن مضر عدوّ، ... إذا زخرت وعبّ لها العباب
وقد زأدت ضراغمها الضّواري، ... وقد هدرت مصاعبها الصّعاب (4)
هنالك لا قريب يردّ عنّا، ... ولا نسب ينطّ بنا قراب (5)
سأخطبها بحدّ السّيف فعلا ... إذا لم يغن قول، أو خطاب
وآخذها، وإن رغمت أنوف ... مغالبة، وإن ذلّت رقاب
وإنّ مقام مثلي في الأعادي، ... مقام البدر تنبحه الكلاب
رموني بالعيوب ملفّقات، ... وقد علموا بأنّي لا أعاب
وإنّي لا تدنّسني المخازي، ... وإنّي لا يروّعني السّباب
ولمّا لم يلاقوا فيّ عيبا ... كسوني من عيوبهم وعابوا
__________
(1) النقع: الطين، الأرض الموحلة قتام: غبار.
(2) ملتهب الحواشي: ملتهب الطعان.
(3) المجلجل: السحاب المصوت الجمايل: جمع جمل.
(4) زأدت: أفزعت مصاعب: الجياد الصعبة الصعاب: الأسود.
(5) ينط بنا: يشدّ بنا، يحد بنا قراب: قريب.(1/125)
بني عمنا
(المتقارب)
أثرها على ما بها من لغب، ... يقلقل أغراضها والحقب (1)
ولا ترقب اليوم ميط الأذى ... عن اخفافها واندماء الجلب (2)
إلى أن تعجعجها كالحنيّ، ... تجترّ بالدّم لا بالعشب (3)
عليها أخامص مثل الصّقور، ... طوال الرّجاء جسام الأرب (4)
وكلّ فتى حظّ أجفانه ... من الضّيم مضمضة تستلب (5)
فبينا يقال كرى جفنه ... بقطع من اللّيل إذ قيل: هب
إذا وقعوا بعد طول الكلال، ... لم يغمزوا قدما من تعب (6)
ولمّا يعافوا، على عزّهم، ... توسّد أعضادها والرّكب
وعرّج على الغرّ من هاشم، ... فأهد السّلام لهم من كثب
وقل لبني عمّنا الواجدين: ... بني عمّنا، بعض هذا الغضب (7)
أما آن للرّاقد المستمرّ ... في ظلم الغيّ أن يستهبّ
سرحتم سفاهتكم في العقوق ... ولم تحفلوا الحلم لمّا غرب (8)
__________
(1) اللغب: التعب يقلقل: يحرّك الاغراض، جمع غرض: هو للرحل كالحزام للسرج الحقب: حبل يشد به الرحل في البطن.
(2) الميط: الإبعاد اندماء: سيلان الدم الجلب، جمع جلبة: القشرة تعلو الجرح بعدما يبرأ.
(3) تعجعجها: تجعلها تصوت الحني، جمع حنية: القوس.
(4) الأخامص: الضوامر البطون، جمع خميص.
(5) المضمضة: دبيب النعاس في العينين.
(6) الكلال: التعب، الاعياء الغمز: العرج.
(7) الواجدين: الغاضبين بعض هذا الغضب: قللوا من غضبكم.
(8) تحفلوا: تجمعوا غرب: بعد.(1/126)
ولمّا أرنتم إران الجموح، ... وماج بكم حبلكم واضطرب (1)
أقمنا أنابيبكم بالثّقاف، ... وداوى الهناء مطال الجرب (2)
ويا ربّما عاد سوء العقاب ... على المذنبين بحسن الأدب
وليس يلام امرؤ شفّه ... مضيض من الدّاء أن يستطبّ (3)
أطال وأعرض ما بيننا، ... مبير الحياء مثير الرّيب (4)
أفي كلّ يوم لرقّ الهوان ... صبيبة أنفسكم تنسكب
إذا قادكم مثل قود الذّلول ... نفرنا نفور البعير الأزبّ (5)
وفي كلّ يوم إلى داركم ... مزاحف من فيلق ذي لجب
بوهوهة الخيل تحت الرّماح ... مكرهة، ورغاء النّجب (6)
سياط الجياد به إن ونين، ... وزجر الرّحال بهال وهب (7)
وتلقونها كقداح السّرا ... ء، قودا تجرّ العوالي وقب (8)
كأنّ حوافرها والصّخور ... إذا ما ذرعن الدّجى في صخب
تسدّ على البيد خرق الشّمال ... بما نسجت من سحيل التّرب (9)
__________
(1) أرنتم: نشطتم الحبل: العهد.
(2) أنابيبكم: رماحكم الثقاف: ما تسوى به الرماح الهناء: القطران المطال: المماطلة.
(3) شفّه: أضعفه المضيض: الألم يستطب: يطلب البرء.
(4) مبير: مهلك.
(5) الأزب: الكثير الشعر.
(6) الوهوهة: صوت الجواد في آخر صهيله.
(7) الونى: التعب هال وهب: أصوات تزجر بها الجياد.
(8) القداح: السهام قبل أن تراش: السّراء: شجر تتخذ منه السهام القود:
الخيول التي تقاد قب: ضوامر، جمع أقب.
(9) السحيل: ثوب لا يبرم غزله.(1/127)
وطئن النّجيع بأرساغهنّ، ... ممّا انتعلن الرّبى والذّأب (1)
وكم قرع الدّوّ من حافر ... يخال على الأرض قعبا يكبّ (2)
تهزّ السّيوف لأعناقكم ... فتأبى مضارب تلك القضب
وتسفر أحسابنا بيننا، ... فنلقي طوائلنا أو نهبّ (3)
يناشدنا الله في حربكم ... عريق لكم في أبينا ضرب
وما أحدث الدّهر من نبوة، ... وقطّع ما بيننا من سبب (4)
فإنّ النّفوس إليكم تشاق ... وإنّ القلوب عليكم تجب
وإنّا نرى لجوار الدّيار ... حقوقا، فكيف جوار النّسب
تماسس أرحامنا، والذّما ... م من دون ذاك علينا يجب
فإن نرع شركة أحسابنا ... جميعا، فذلك دين العرب
إذا لبست بقواها قوى، ... وإن طنب مسّ منها طنب (5)
أراح بني عامر ذلّهم، ... وعرّضنا عزّنا للتّعب
وفرنا عليهم طريق البقاء، ... وخلّوا لنا عن طريق العطب
فقد أصبحوا في ذمام الخمول، ... لا تدّريهم مرامي النّوب (6)
أبى النّاس إلّا ذميم النّفاق، ... إذا جرّبوا، أو قبيح الكذب
كلاب تبصبص خوف الهوان، ... وتنبح بين يدي من غلب (7)
أذمّ لوجهي على ما به، ... ولا يعدل الذّلّ عندي النّشب (8)
__________
(1) النجيع: الدم الضارب الى السواد الأرساغ، جمع رسغ: مفصل ما بين الساق والقدم الذأب: الخوف، سوق الدابة أو الناقة.
(2) الدّو: الفلاة القعب: القدح الضخم.
(3) نلقي: نبذل طوائلنا، جمع طائله: الفضل والسعة.
(4) النبوة: البعد، الجفاء سبب: صلة، علاقة.
(5) لبست: خلطت القوى، جمع قوة: طاقة الحبل الطنب: الحبل.
(6) تدّريهم: تختلهم.
(7) تبصبص: تحرك أذنابها.
(8) النشب: المال والأملاك.(1/128)
ومن وجد الرّزق عند السيوف ... فلم يتحمّل لذلّ الطّلب
وإنّ منازل هذا الزّمان ... لأبنائه نوب أو عقب (1)
لذلك يركب من قد سعى ... طويلا ويرحل من قد ركب
أنا ابن الأناجب من هاشم، ... إذا لم يكن نجب من نجب
تلاث برودهم بالرّماح، ... وتلوى عمائمهم بالشّهب (2)
عتاق الوجوه، وعتق الجيا ... د في الضّمر تعرفه والقبب (3)
يشفّ الوضاء خلال الشّحو ... ب منها، وخلف الدّخان اللهب (4)
وقار يهاب، وناد يناب، ... وحلم يراح، ورأي يغبّ (5)
إذا استبق القوم طرق النّجاء، ... وذمّ الجبان قعود الهرب
رأيتهم في ظلال القنا، ... وقد ضاق للكرب عقد اللّبب (6)
قد امتنعوا بحصون الدّرو ... ع، واستعصموا بقباب اليلب (7)
أولئك قومي لم يغمزوا ... بهجنة أمّ ولا لؤم أب
ومن قال: إنّ جميع الفخار ... لغير ذوائب قومي كذب (8)
__________
(1) النوب: مسيرة يوم وليلة العقب، جمع عقبة: قدر فرسختين.
(2) تلاث: تلاك.
(3) عتاق الوجوه: يقال فلان عتيق الوجه أي جميله عتق الجواد: تقدمه في السير القبب: دقة الخصر ونحول البطن.
(4) يشف: يرقّ الوضاء: الحسن.
(5) يناب: يتردد إليه يغب، من غب الرأي: تأنى فيه.
(6) عقد اللبب: كناية عن الشدّة والضيق.
(7) اليلب: الحديد والفولاذ.
(8) ذوائب قومي: اشرافهم، أصحاب المقامات فيهم.(1/129)
قنعت
(الطويل)
هل الطّرف يعطي نظرة من حبيبه، ... أم القلب يلقى راحة من وجيبه (1)
وهل للّيالي عطفة بعد نفرة، ... تعود فتلهي ناظرا عن غروبه
ولله أيّام عفون كما عفا ... ذوائب ميّاس العرار رطيبه (2)
أحنّ إلى نور الرّبى في بطاحه، ... وأظما إلى ريّا اللّوى في هبوبه (3)
وذاك الحمى يغدو عليلا نسيمه ... ويمسي صحيحا ماؤه في قليبه (4)
حببت لقلبي ظلّه في هجيره ... إذا ما دجا أو شمسه في ضريبه (5)
وعهدي بذاك الظّبي إبّان زرته، ... رعاني، ولم يحفل بعيني رقيبه
وحكّم ثغري في إناء رضابه، ... وأدنى جوادي من إناء حليبه
هو الشّوق مدلولا على مقتل الفتى ... إذا لم يعد قلبا بلقيا حبيبه
تهيّرني تلويح وجهي، وإنّما ... غضارته مدفونة في شحوبه
فربّ شقاء قد نعمنا بمرّه، ... وربّ نعيم قد شقينا بطيبه
ولولا بواقي نائبات من الرّدى ... غفرت لهذا الدّهر ماضي ذنوبه
وإنّي لعرفان الزّمان وغدره ... أبيت وما لي فكرة في خطوبه (6)
وأصبح لا مستعظما لعظيمه ... بقلبي، ولا مستعجبا لعجيبه
يغمّ الفتى ذكر المشيب، وربّما ... ليلقى انقضاء العمر قبل مشيبه
__________
(1) الوجيب: الخفقان.
(2) العرار: نبت طيب الرائحة.
(3) النّور: الزهر ريّا: رائحة اللوى: ما التوى من الرمل.
(4) القليب: البئر.
(5) الهجير: شدّة الحر الضريب: الثلج والصقيع والجليد.
(6) العرفان: المعرفة خطوبه: تقلباته، مصائبه.(1/130)
وينسيه بدء العيش ما في عقيبه، ... وجيئته تبدي لنا عن ذهوبه
إلى كم أشقّ اللّيل عن كلّ مهمه، ... وأرعى طلوع النّجم حتى مغيبه (1)
أخطّ بأطراف القنا كلّ بلدة، ... وأملي جلابيب الملا من ندوبه (2)
وكنت إذا خوّى نجيب تركته ... أسير عقال مؤلم من لغوبه (3)
رجاء لعزّ أقتنيه وحالة ... تزيد عدوّي من غواشي كروبه
وبزلاء من جند اللّيالي لقيتها ... بقلب بعيد العزم فيها قريبه (4)
نصبت لها وجهي، وليس كعاجز ... يوقّيه حرّ الطّعن من يتّقي به
وخيل كأمثال القنا تحمل القنا ... على كلّ عنق عاقد من سبيبه (5)
حملت عليها كلّ طعّان سربة ... كما نهز السّاقي بجنبي قليبه (6)
قضى وطر العلياء من ركب القنا، ... وأولغ بيضا من دم في صبيبه
ولمّا ركبت الهول لم أرض دونه، ... ومن ركب اللّيث اعتلى عن نجيبه
تريح علينا ثلّة المجد شزّب ... تغالي، وأيد من قنا في صليبه (7)
وأبيض من عليا معدّ، بنانه ... مقاوم ريّان الغرار خصيبه
أخفّ إلى يوم الوغى من سنانه، ... وأمضى على هام العدى من قضيبه (8)
هل السّيف إلّا منتضى من لحاظه، ... أو البدر إلّا طالع من جيوبه
إذا سئل انهال النّدى من بنانه، ... كما انهال أذيال النّقا من كثيبه
__________
(1) المهمه: المفازة البعيدة.
(2) أملي: أطيل وأوسع الملا: الصحراء.
(3) خوّى: ضعف وارتفع اللغوب: الاعياء الشديد.
(4) البزلاء: الشدّة، المصيبة.
(5) السبيب: شعر الذنب والعرف والناصية.
(6) السّربه: الجماعة من العسكر نهز: يقال نهز الدلو اذا حرّكه في البئر القليب: البئر.
(7) ثلّة المجد: كساء المجد الشزّب: الخيول الضامرة تغالي: تغالي في سيرها.
(8) القضيب: السيف.(1/131)
جواد، إذا ما مزّق الذّود عضبه ... أذاع النّدى من جرده بعد نيبه (1)
يسير أمام النّجم عند طلوعه، ... ويهوي أمام النّجم عند غروبه
رضيت به في صدر يوم عجاجه ... على شمسه عاريّة من سهوبه (2)
مضى يحرس الأقران بالطّعن في الطّلى، ... وقد لجّ نعّاب القنا في نعيبه
أنا ابن نبيّ الله، وابن وصيّه ... فخار علا عن ندّه وضريبه (3)
تأدّب منّي رائع الخطب بعدما ... تجلّى سفيه الجدّ لي عن أديبه
فو الله لا ألقى الزّمان بذلّة، ... ولو حطّ في فوديّ أمضى غروبه (4)
قنعت، فعندي كلّ ملك نزوله ... عن العزّ والعلياء مثل ركوبه
وما أسفي إلّا على ما جلوته ... على سمع منزور النّوال نضوبه (5)
إذا ما رآني قطّع اللّحظ طرفه، ... وعنون لي إطراقه عن قطوبه
ومن لم يكن حمدي نصيبا لبشره ... جعلت ضروب الذّمّ أدنى نصيبه
ولو أنّ عضبي ممكن ما ذممته، ... وكان مكان الذّمّ ردع جيوبه (6)
وإنّ عناء النّاظرين كليهما، ... إذا طمعا من بارق في خلوبه (7)
أعاب بشعري، والّذي أنا قائل ... يقلقل جنبي عائب من معيبه
وكلّ فتى يرنو إلى عيب غيره ... سريعا وتعمى عينه عن عيوبه
__________
(1) الذّود: هو من الابل ما بين الثلاثة الى العشرة العضب: السيف الجرد: الجياد القصيرة الشعر النيب: النياق المسنّة، جمع ناب.
(2) العجاج: الغبار: سهوبه: من أسهب الفرس أي اتسع في الجري، أو اجتاز السهب أي البراري.
(3) الندّ: الشريك، المنافس الضريب: الشبيه، المثيل.
(4) أمضى غروبه: اكثر السيوف حدّة ومضاء، وفي القول كناية عن بروز المشيب.
(5) المنزور: القليل النضوب، من نضب الماء: جفّ، غار.
(6) عضبي: سيفي الردع: أثر الطيب في الثياب.
(7) العناء: التعب الخلوب: الخادع.(1/132)
وما قولي الأشعار إلّا ذريعة ... إلى أمل قد آن قود جنيبه (1)
وإنّي، إذا ما بلّغ الله منيتي، ... ضمنت له هجر القريض وحوبه (2)
فهل عائبي قول عقدت بفضله ... فخاري، وحصّنت العلى بضروبه
سأترك هذا الدّهر يرغو رغاؤه، ... وتصرف من غيظي بوادي نيوبه (3)
وأجعل عضبي دون وجهي وقاية، ... ليأمن عندي ماؤه من نضوبه
ذبول القضيب
(المنسرح)
وجّه الشريف الرضي هذه القصيدة الى بهاء الدولة، وفيها يعزّيه عن ولده أبي منصور بويه الذي توفي في شعبان سنة 398.
كان قضاء الإله مكتوبا ... لولاك كان العزاء مغلوبا
ما بقيت كفّك الصّناع لنا، ... فكلّ كسر يكون مرؤوبا (4)
ما احتسب المرء قد يهون، وما ... أوجع ما لا يكون محسوبا (5)
نهضا بها صابرا، فأنت لها ... والثّقّل لا يعجز المصاعيبا (6)
فقد أرتك الأسى، وإن قدمت، ... عن يوسف كيف صبر يعقوبا
طمعت، يا دهر، أن تروّعه، ... ظنّا على الرّغم منك مكذوبا
__________
(1) الذريعة: الوسيلة قود جنيبه: قيادة السهل من الجياد.
(2) الحوب: الاثم.
(3) بوادي نيوبه: ما يظهر الغضب.
(4) الصناع: الصنيع والاحسان مرؤوب: مجبور.
(5) احتسب ولده: فقده كبيرا.
(6) المصاعيب، جمع مصعب: الفحل، القوي والشديد.(1/133)
ما يؤمن المرء بعد مسمعه ... قرع اللّيالي له الظّنابيبا (1)
تنذر أحداثها ويأمنها ... ما اضن أن يستريب من ريبا
شلّ بنان الزّمان كيف رمى ... مسوّما للسّباق مجنوبا (2)
طرف رهان رماه ذو غرر ... نال طلوبا، وفات مطلوبا (3)
كان هلال الكمال منتظرا، ... وكان نوء العلاء مرقوبا (4)
وأعجميّ الأصول تنصره ... بداهة تفضح الأعاريبا
مدّت إليه الظّبا قوائمها ... تعجله ضاربا ومضروبا
مرشّحا للجياد يطلعها ... على العدى ضمّرا سراحيبا (5)
وللمباتير في وغى وقرى ... يولغها الهام والعراقيبا (6)
ذوى كما يذبل القضيب، وكم ... مأمول قوم يصير مندوبا
صبرا فراعي البهام إن كثرت ... لا بدّ من أن يحاذر الذّيبا
وإنّ دنيا الفتى، وإن نظرت، ... خميلة تنبت الأعاجيبا
نسيغ أحداثها على مضض، ... ما جدح الدّهر كان مشروبا (7)
إذا السّنان الطّرير دام لنا ... فدعه يستبدل الأنابيبا (8)
وهل يخون الطّعان يوم وغى ... أن نقص السّمهريّ أنبوبا
__________
(1) قرع ظنابيب الأمر: كناية عن تسهيلة، والظنبوب: حرف عظم الساق.
(2) المسوّم: المعد للسباق من الجياد مجنوبا: منقادا، سهلا.
(3) الطرف: الكريم الأبوين.
(4) النوء: النجم المائل الى الغروب.
(5) السراحيب، جمع سرحوب: العتيق الخفيف.
(6) المباتير: السيوف يولغها، من أولغ: أسقى العراقيب، جمع عرقوب:
عصب غليظ فوق العقب أي مؤخر القدم.
(7) نسيغ: نجعلها سائغة أي سهلة الشرب الأحداث: نوب الدهر جدح: خلط.
(8) الطرير: المحدد.(1/134)
ما هيبة السّيف بالغمود، ولا ... أهيب من أن تراه مسلوبا
والبدر ما ضرّه تفرّده، ... ولا خبا نوره ولا عيبا
وما افتراق الشّبول عن أسد ... بمانع من منجب مناجيبا
والعنبر الورد إن عبثت به، ... مثلما زاد عرفه طيبا
يطيح مستصغر الشّرار عن الزّن ... د، ويبقى الضّرام مشبوبا
محّصت النّار كلّ شائبة، ... وزاد لون النّضار تهذيبا
إن زال ظفر، فأنت تخلفه، ... واللّيث لا يخلف المخاليبا
بقدر عزّ الفتى رزيّته، ... من وتر الدّهر بات مرعوبا (1)
واللّؤلؤ الرّطب في قلائده، ... ما كان لولا الجلال مثقوبا
إن كنت مستسقيا لمنجعة، ... مجلجلا بالقطار أسكوبا (2)
فاستسق مستغنيا به أبدا، ... من قطر جدوى أبيه شؤبوبا (3)
وما انتفاع النّبات صوّحه ... هيف الرّدى أن يكون مهضوبا (4)
فاسلم مليك الملوك ما بقي ال ... دّهر مبقّى لنا وموهوبا
لا خاف أبناؤك الّذين بقوا ... حدّا من النّائبات مذروبا (5)
ولا ترى السّوء فيهم أبدا، ... حتّى يكونوا الدّوالف الشّيبا (6)
لا روّعت سرحك المنون ولا ... أصبح سرب حميت منهوبا
لا يجد الدّهر مسلكا أبدا، ... ولا طريقا إليك ملحوبا (7)
ولا رأينا الخطوب داخلة ... رواق مجد عليك مضروبا
__________
(1) وتره: أخافه.
(2) المنجعة: مكان طلب الكلأ القطار: المطر الأسكوب: المنكسب.
(3) الجدوى: المطر الشؤبوب: الدفعة من المطر.
(4) صوحه: أيبس أعلاه الهيف: العطش مهضوبا: ممطورا.
(5) مذروبا: مسموما، محدودا.
(6) الدوالف، من دلف الشيخ: مشى مشي المقيّد الشيب: جمع أشيب.
(7) الملحوب: الطريق الواضح.(1/135)
نحن مرامي السهام
(المتقارب)
في هذه القصيدة، يرثي الصاحب عميد الجيوش أبا علي، وقد توفي ليلة الجمعة في التاسع عشر من جمادى الأولى سنة 401، وتولى هو الصلاة عليه.
كذا يهجم القدر الغالب، ... ولا يمنع الباب والحاجب
تغلغل يصدع شمل العلى، ... كما ذعذع الإبل الخارب (1)
وقد كان سدّ ثنايا العدوّ، ... فمن أين أوضع ذا الرّاكب
وهابت جوانبه النّائبات، ... زمانا، وقد يقدم الهائب
طواك إلى غيرك المعتفي، ... وجاوز أبوابك الرّاغب (2)
وهل نحن إلّا مرامي السّهام، ... يحفزها نابل دائب (3)
نسرّ إذا جازنا طائش، ... ونجزع إن مسّنا صائب
ففي يومنا قدر لابد، ... وعند غد قدر واثب (4)
طرائد تطلبها النّائبات، ... ولا بدّ أن يدرك الطّالب
أرى المرء يفعل فعل الحدي ... د، وهو غدا حما لازب (5)
عواريّ من سلب الهالكين، ... يمدّ يدا نحوها السّالب (6)
لنا بالرّدى موعد صادق، ... ونيل المنى واعد كاذب
__________
(1) الخارب: سارق الابل.
(2) المعتفي: طالب الحاجة.
(3) يحفزها: يسوقها دائب: مثابر، مجد.
(4) لابد: مترقب، مقيم ومنتظر.
(5) الحمأ: الطين الأسود المنتن لازب: ثابت، دائم.
(6) عواري: جمع عارية.(1/136)
نصبّح بالكأس مجدوحة، ... ولا علم لي أيّنا الشّارب (1)
حبائل للدّهر مبثوثة، ... يردّ إلى جذبها الهارب
وكيف يجاوز غاياتنا، ... وقد بلغ المورد القارب (2)
لقد كان رأيك حلّ العقال، ... إذا طلع المعضل الكارب
وقد كان عندك فرج المضيق، ... إذا عضّ بالقتب الغارب (3)
يفيء إليك من القاصيات ... مراح المناقب والعازب (4)
فيوم النّهى مشرق شامس ... ويوم النّدى ماطر ساكب
فأين الفيالق مجرورة، ... وقد عضّل اللّقم اللّاحب (5)
وأين القنا كبنان الهلوك، ... بماء الطّلى أبدا خاضب (6)
كأنّ السّوابق من تحتها، ... دبى طائر، أو قطا سارب (7)
لها قسطل كنسيج السّدوس، ... بهام الرّبى أبدا عاصب (8)
وملبونة في بيوت الغزيّ ... يقدّم إغباقها الحالب (9)
__________
(1) مجدوحة: مخلوطة.
(2) المورد: مكان الورود القارب: طالب الماء ليلا.
(3) الغارب: أعلى السنام، وقوله: عضّ بالقتب الغارب، مقلوب والأصل:
اذا عضّ القتب بالغارب، والقتب هو الرحل. وفي البيت إشارة الى كرمه ورحابة صدره.
(4) يفيء: يرجع مراح: مأوى المناقب: الطرق العازب: الكلأ البعيد المطلب.
(5) عضّل: ضاق اللقم: الطريق اللاحب: الواضح.
(6) الهلوك: المرأة الفاجرة الطلى: الدم اليابس.
(7) السوابق: الخيل أو الابل الدبى: الجراد الصغير القطا، جمع قطاة:
طائر يشبه الحمامة.
(8) القسطل: الغبار السدوس: الطيلسان الأخضر.
(9) الملبونة: الفرس المغذاة باللبن الغزي: جمع غاز الاغباق: شرب اللبن مساء.(1/137)
نزائع لا شوطها في المغار ... قريب، ولا غزوها خائب (1)
فسرج وغى ما له واضع ... وجيش على ما له غالب
وكنت العميد لها والعماد، ... فضاع الحمى، ووهى الجانب
فماذا يشيد هتاف النّعيّ ... فيك، وما يندب النّادب
أمدّت عليك القلوب العيون ... فليس يرى مدمع ناضب
أرى النّاس بعدك في حيرة، ... فذو لبّهم حاضر غائب
كما اختبط الرّكب جنح الظّلام ... وقد غوّر القمر الغارب
ولمّا سبقت عيوب الرّجال، ... تعلّل من بعدك العائب
ولم أر يوما كيوم به ... خبا مثقب، وهوى ثاقب (2)
تلوم الضّواحك فيك البكاة، ... ويعجب للباسم القاطب
سقاك، وإن كنت في شاغل ... عن الرّيّ، داني النّدى صائب
مربّ إذا مخضته الجنوب، ... أبست به شمأل لاغب (3)
يجرّ ثقائل أردافه ... كما بادر القرّة الحاطب (4)
كسوق البطيء بسوط السّريع، ... ينوء، ويعجله الضّارب
يصيبك بالقطر شفّانه، ... كما قرع الجمرة الحاصب (5)
ولولا قوام الورى أصبحت ... يرنّ على صدعها الشّاعب
وباتت، وقد ضلّ عنها الرّعاء، ... محفّلة ما لها حالب
__________
(1) النزائع: التي تجلب الى غير بلادها الشوط: الجري المغار:
مكان الغارة.
(2) مثقب، مصدر ميمي من ثقبت النار: اتقدت، والمثقب (بكسر الميم):
النافذة الرأي الثاقب: النجم المرتفع على النجوم.
(3) مربّ، من أربت السحابة: دام مطرها مخضته: حركته أبست به: ساقته لاغب: ضعيف.
(4) القرّة: البرد.
(5) الشفّان: المطر والبرد الجمرة: الحصاة الحاصب: رامي الجمار.(1/138)
وساق العدوّ أضاميمها، ... وما آب من طردها آيب (1)
وما بقي الجبل المشمخرّ، ... فما ضرّنا الجبل الواجب (2)
وما ينقص الثّلم في المضربين ... إذا اهتزّ في القائم القاضب (3)
بمثل بقائك غيث الأنا ... م يرضى عن الزّمن العاتب
لهان علينا ذهاب الرّديف ... ما بقي الظّهر والرّاكب (4)
طالعتنا النوائب
(الطويل)
يرثي الشريف في هذه القصيدة أبا القاسم الشريف علي بن الحسين أبا تمام الزينبي نقيب العباسيين، وقد توفي في ذي القعدة سنة 384، وكان بينهما صداقة متينة.
من ايّ الثّنايا طالعتنا النّوائب، ... وأيّ حمى منّا رعته المصائب (5)
خطون إلينا الخيل والبيض والقنا، ... فما منعت عنّا القنا والقواضب
وضلّ بنا قصد الطّريق، كأنّما ... تؤمّ المنايا لا النّجاء الرّكائب
نروغ كما راغ الطّرائد دونها، ... وتجلبنا عودا إليها الجوالب
طوال رماح لا تقي، وعقائل ... من الجرد لا ينجو عليهنّ هارب (6)
__________
(1) أضاميم، جمع إضامة: الجماعة.
(2) المشمخر: العالي الواجب: الساقط.
(3) الثلم في السيف: كسر حرفه المضرب: السيف القاضب: القاطع.
(4) الرديف: الراكب خلف الراكب.
(5) الثنا، جمع ثنية: العقبة.
(6) العقائل، جمع عقيلة: هي من كل شيء أكرمه الجرد: الجياد القصيرة الشعر والأصيلة.(1/139)
فأين النّفوس الآبيات مليحة ... من الضّيم والأيدي الطّوال الغوالب (1)
وأين الطّعان الشّزر يثنى بمثله ... رقاب الأعادي دوننا والكتائب (2)
إذا لم يعنك الله يوما بنصرة، ... فأكبر أعوان عليك الأقارب
وإن هو لم يعصمك منه بجنّة، ... فقد أكثبت للضّاربين المضارب (3)
تناهى بنا الآجال عن كلّ مدّة، ... وما تنتهي بالطّالبين المطالب
نغرّ بإيعاد الرّدى، وهو صادق، ... ونطمع في وعد المنى، وهو كاذب
أفي كلّ يوم لي صديق مصادق ... يجيب المنايا، أو قريب مقارب
لعمري، لقد أبقى عليّ بيومه ... لواعج تمليها عليّ العواقب
رماه الرّدى عن قوسه، فأصابه، ... ولم يغننا أن درّعتنا التّجارب
هو الوالج العادي الّذي لا يروعه ... من الباب بوّاب عليه وحاجب
ولا ناصر، سيّان من هو حاضر، ... إذا ما دعا منّا، ومن هو غائب
نسير وللآجال فوق رؤوسنا ... تهزّم نوء بالمقادير صائب (4)
وما يعلم الإنسان في أيّ جانب ... من الأرض يأوي منه في التّرب جانب
مصاب رمى من هاشم في صميمها ... فأمست ذراها خشّعا والغوارب (5)
وأطلق من وجد حباها، ولم تكن ... لهاشم، لولاه، العقول العوازب (6)
__________
(1) مليحة: محاذرة.
(2) الطعان الشزر: ما كان عن يمين وشمال.
(3) يعصم: يحمي الجنة: الترس أكثبت: أدنيت.
(4) تهزّم، من تهزّمت السحب: تشققت بالماء النوء: النجم المائل الى الغروب، وكانت العرب تحسب بواسطة النجوم المائلة الى الغروب ايام الشتاء والبرد والحر وما إليه.
(5) الصميم: الذي فيه قوام العضو وأصل الشيء وخالصه الغوارب، جمع غارب: الكاهل.
(6) العوازب، جمع عازب: بعيد.(1/140)
وزالت له الأقدام عن مستقرّها، ... كما مال للبرك المطيّ اللّواغب (1)
أطال به الشّبّان لطم خدودهم ... وصكّ له غرّ الوجوه الأشايب
يعضّون منه بالأكفّ، وإنّما ... تعضّ بأطراف البنان العجائب
مضى أملس الأثواب لم يخز مادح ... بإطنابه فيه، ولم يزر عائب (2)
وخلّى فجاجا لا تسدّ بمثله ... وتلك صدوع أعوزتها الشّواعب (3)
لقد هزّ أحشاء البعيد مصابه، ... فكيف المداني والقريب المصاقب (4)
ولم أنسه غاد، وقد أحدقت به ... أدان تروّي نعشه وأقارب
يحسّون من أعواده ثقل وطئه، ... وما أثقل الأعناق إلّا المناقب
كأنّا عرضنا زاعبيّا مثقّفا ... على نعشه قد جرّبته المقانب (5)
تعلّقت من وجدي بفضل ردائه، ... وهل ذاك مغن، والمنايا الجواذب
وقارعني دهري عليه، فحازه، ... ألا إنّ أقران اللّيالي غوالب
وكنت به ألقى الحروب، وأتّقي، ... فجاء من الأقدار ما لا أحارب
تعاقد حاثو تربه أيّ نجدة ... تلاقت عليها بالتّراب الرّواجب (6)
كأنّهم أدلوا إلى القبر ضيغما، ... ينوء، وتثنيه الأكفّ الحواصب (7)
وأيّ حسام أغمدوا في ضريحه، ... كهمّك، لا يعصى به اليوم ضارب (8)
__________
(1) المطي: الجمل أو الناقة اللواغب، جمع لاغب: شديد الإعياء.
(2) أملس الأثواب: كناية عن نزاهته عمّا يشين، كما يقال طاهر الثوب.
(3) الفجاج، جمع فج: الطريق أو الوادي بين جبلين الشواعب، جمع شاعبة: ما يصلح به الصدع.
(4) المصاقب: المواجه.
(5) الزاعبي: الرمح المقانب: جماعات الخيل دون المئة، جمع مقنب.
(6) حاثو تربه: الذين هالوا الترب على جثمانه الرواجب: مفاصل أصول الأصابع، جمع راجبة.
(7) الحواصب، جمع حاصب: الرامي بالحصى.
(8) كهمّك: كحسبك يعصى به: يضرب به. يشبه الفقيد بالسيف يغمد في القبر.(1/141)
فآثاره محمرّة في عدوّه، ... ومنه وراء التّرب أبيض قاضب
وما كان إلّا برهة ثمّ أسفرت ... نزوعا عن الوجد الوجوه الشّواحب
وجفّت عيون الباكيات وأنسيت ... من الغد ما كانت تقول النّوادب
تسلّوا، ولولا اليأس ما كنت ساليا ... وقد يصبر العطشان والورد ناضب
ألسنا بني الأعمام دنيا، تمازجت ... بأخلاقهم أخلاقنا والضّرائب (1)
جميعا نمانا في ربى المجد هاشم، ... وأنجب عرقينا لؤيّ وغالب
إذا عمّموا بالمجد لاثت بهامنا ... عمائمهم، أعراقنا والمناسب (2)
نرى الشّمّ من آنافنا في وجوههم، ... وأعناقنا طالت بهنّ المناصب
وكم داخل ما بيننا بنميمة ... تقطّر لمّا زاحمته المصاعب (3)
سوى هبوات شابت الودّ بيننا، ... وأيّ وداد لم تشبه الشّوائب (4)
لنا الدّوحة العليا التي نزعت لها ... إلى المجد أغصان الجدود الأطايب
إذا كان في جوّ السّماء عروقها، ... فأين أعاليها، وأين الذّوائب
علونا إلى أثباجها ولغيرنا، ... عن المنكب العالي، إذا رام ناكب (5)
فما حمل الآباء منّا، وساقطت ... إلى الأرض منّا المنجبات النّجائب
سيوف على الأعداء تمضي نفوسها، ... ولم تتبدّلهنّ أيد ضوارب
فإن تر فينا صولة عجرفيّة، ... فقد عرفت فينا الجدود الأعارب (6)
فصبرا جميلا، إنّما هي نومة، ... وتلحقنا بالأوّلين النّوائب
__________
(1) الضرائب: الطبائع. يجد الشاعر صلة قرابة بينه وبين الفقيد، فكلاهما من أصل واحد.
(2) لاثت، من لاث العمامة على رأسه: عصبها.
(3) تقطر: رمى بنفسه من علو.
(4) الهبوات، جمع هباء: القليلو العقل من الناس، كما تعني الأجواء المتعكرة.
وقد وردت الهفوات بدل الهبوات في بعض النسخ.
(5) أثباجها، جمع الثبج: هو ما بين الكاهل والظهر الناكب: المائل.
(6) عجرفية، من العجرفة: قلة المبالاة.(1/142)
وليس لمن لم يمنع الله مانع، ... ولا لقضاء الله في الأرض غالب
ولو ردّ ميتا وجد ذي الوجد بعده، ... لردّك وجدي، والدّموع السّوارب
سيعطي رجال ما منعت ويشتفي ... من الأقرباء الأبعدون الأجانب
لنا فيك عند الدّهر ثأر نزيعة، ... وإنّي لثارات المقادير طالب
أدرّت عليك السّاريات ورقرقت ... على ذلك القبر الرّياح الغرائب (1)
ولا زال عن ذاك الضّريح منوّر ... من الرّوض تفليه الصّبا والجنائب (2)
ولا، بل سقيناك الدّموع، وإنّنا ... لنأنف إن قلنا سقتك السّحائب
كل يوم رنة
(الطويل)
في هذه القصيدة يرثي خاله أبا الحسين أحمد بن الحسين الناصر، وقد توفي في رجب سنة 391.
لنا كلّ يوم رنّة خلف ذاهب، ... ومستهلك بين النّوى والنّوادب (3)
وقلعة إخوان كأنّا وراهم ... نرامق أعجاز النّجوم الغوارب
نوادع أحداث اللّيالي على شفا ... من الحرب لو سالمن من لم يحارب (4)
ونأمل من وعد المنى غير صادق، ... ونأمن من وعد الرّدى غير كاذب
وما النّاس إلّا دارع مثل حاسر ... يصاب، وإلّا داجن مثل سارب (5)
إلى كم نمنّى بالغرور، وننثني ... بأعناقنا للمطمعات الكواذب
__________
(1) الساريات: غيوم الليل الغرائب: الغربيّة.
(2) الجنائب: الرياح الجنوبية.
(3) الرنّة: الصوت النوى: البعد.
(4) الشفا: حرف كل شيء.
(5) الدارع: الذي عليه درع الداجن: المقيم السارب: الذاهب.(1/143)
وهل ينفع المغرور قرّب للنّوى ... تلوّم مغرور بأرجاء جاذب
لززنا من الدّهر الخؤون بمصدم ... يحطّم أشلاء القرين المجاذب (1)
هو القدر المجلوب من حيث لا يرى، ... وأعيا علينا ردّ تلك الجوالب
نراع إذا ما شيك أخمص بعضنا، ... وأقدامنا ما بين شوك العقارب
ونمسي بآمال طوال كأنّنا ... أمنّا بيات الخطب دون المطالب
نعم إنّها الدّنيا سمام لطاعم، ... وخوف لمطلوب، وهمّ لطالب
تصدّى لنا قرب الموامق ذي الهوى، ... ويختلنا كيد العدوّ المجانب، (2)
وإنّا لنهواها على الغدر والقلى، ... ونمدحها مع علمنا بالمعائب (3)
وحسبي من ضرّاء دهري أنّني ... أقيم الأعادي لي مقام الحبائب
ألم يأن، يا للنّاس، هبّة نائم ... رأى سيرة الأيّام أوجد لاعب؟
حدت بعصاها آل ساسان والتوت ... يداها بآل المنذرين الأشاهب (4)
وحلّت على أطلال عاد وحمير ... سنابكها حلّ الجياد اللّواغب (5)
نزلن قباب المنذر بن محرّق، ... وأندية الشّمّ الطّوال بمارب (6)
نبا ببني العنقاء ناب، وقعقعت ... عماد بني الرّيّان إحدى الشّواعب (7)
فقادتهم قود الأيانق في البرى، ... وزمّتهم زمّ القروم المصاعب (8)
__________
(1) لززنا: طعنا.
(2) الموامق: المحب يختلنا: يخدعنا.
(3) القلى: لبغض.
(4) حدت: زجرت وساقت.
(5) سنابكها: أطراف حوافرها اللواغب: المتعبة.
(6) مارب: مأرب: مدينة باليمن اشتهرت بسدّها، وكانت قاعدة التبابعة.
(7) بنو العنقاء: الأوس والخزرج قعقعت عمدهم: ارتحلوا بنو الريّان:
من ملوك العمالقة الشواعب: المنايا، ونقول شعبتهم المنية اذا فرقتهم.
(8) الأيانق: النياق البرى، جمع برة: حلقة توضع في أنف الناقة زمتهم: شدّتهم القروم، جمع قرم: الفحل المصاعب، جمع مصعب:(1/144)
أهبّت عليهم قاصفا من رياحها، ... فطاروا كما ولّى جفاء المذانب (1)
مسير مع الأقدار ما فيه ونية، ... ولا وقعة بعد اللّغوب لراكب
ومن كانت الأيّام ظهرا لرحله ... فيا قرب ما بين المدى والرّكائب
ومن أصبح المقدار حادي مطيّه، ... أجدّ بلا رزء، ولا سوط ضارب (2)
على مثلها يدمي الحليم بنانه، ... عضاضا على أيدي المنايا السّوالب
على أيّ خلق آمن الدّهر بعدما ... تباعد ما بيني وبين الأقارب
سنان على، عزّي، قناتي، ومضرب ... من المجد مستثنى به من مضاربي
ولمّا طوي طيّ البرود، وأقبلوا ... يهادونه بين الطّلى والمناكب (3)
صبرت عليه أطلب النّصر برهة ... من الدّهر ثمّ انقدت طوع الجواذب
تقطّعت الأسباب بيني وبينه، ... فلم تبق إلّا علقة للمناسب (4)
لئن لم نطل لدم التّرائب لوعة، ... فإنّ لنا لدما وراء التّرائب (5)
يتمّ تمام الرّمح زادت كعوبه، ... ويهتزّ للحمد اهتزاز القواضب
فلا الحلم في عرك الخطوب بعازب، ... ولا الرّيق في كرّ الرّزايا بناضب (6)
يداهي ضباب القاع، وهو كأنّه ... من اللّين غمر غير جمّ المذاهب (7)
إذا طبع الآراء ماطل غربها، ... فلم يمضها إلّا بإذن العواقب (8)
__________
الفحل. وتكرار المعنى في لفظتين متتاليتين هو من باب إضافة المعنى إلى نفسه.
(1) الجفاء: الزبد المذانب، جمع مذنب: المسيل.
(2) المقدار: القدر الرزء: المصيبة.
(3) البرود: الثياب الطلى، جمع طلية: العنق.
(4) العلقة: البقية.
(5) اللدم: اللطم الترائب: عظام الصدر.
(6) العازب: البعيد الناضب: الغائر.
(7) يداهي: يصيب بداهية القاع: الارض السهلة بين جبلين الغمر:
الذي لم يجرب الأمور الجم: الكثير.
(8) طبع: عمل الغرب: الحد.(1/145)
من القوم حلّوا في المكارم والعلى ... بملتف أعياص الفروع الأطايب (1)
أقاموا بمستنّ البطاح، ومجدهم ... مكان النّواصي من لؤيّ بن غالب (2)
بهاليل، أزوال، تعاج إليهم ... صدور القوافي أو صدور النّجائب (3)
عظام المقاري يمطرون نوالهم ... بأيدي مساميح سباط الرّواجب (4)
إذا طلبوا الأعداء كانوا نغيضة ... ليوم الوغى من قبل جرّ الكتائب (5)
وباتوا مبيت الأسد تلتمس القرى ... بمطرورة الأنياب عوج المخالب (6)
وأضحوا على الأعواد تسمو لحاظهم ... كلمح القطاميّات فوق المراقب (7)
فما شئت من داع إلى الله مسمع، ... ومن ناصر للحقّ ماضي الضّرائب
هم استخدموا الأملاك عزّا وأرهفوا ... بصائرهم بعد الرّدى والمعاطب
وهم أنزلوهم بعد ما امتدّ غيّهم ... جماما على حكم من الدّين واجب (8)
تساموا إلى العزّ الممنّع، وارتقوا ... من المجد أنشاز الذّرى والغوارب (9)
على إرث مجد الأوّلين تعلّقوا ... ذوائب أعناق العلى والمناصب
بحيث ابتنت أمّ النّجوم منارها، ... وأوفت ربايا الطّالعات الثّواقب (10)
__________
(1) الأعياص، جمع عيص: الشجر الكثير الملتف.
(2) المستن: مكان انصباب الماء ومسيله.
(3) البهاليل، جمع بهلول: السيد الجامع لكل خير الأزوال: الشجعان.
(4) المقاري، جمع مقراة: كل ما اجتمع فيه الماء الرواجب: مفاصل الاصابع.
(5) النغيضة: جماعة يبعثون في الأرض لينظروا أفيها أعداء أم لا، كما تبحث النغيضة عن الأرض التي يتوفر فيها الماء.
(6) مطرورة الأنياب: حادة الأنياب.
(7) القطاميات، جمع قطامي: الصقر الحديد البصر.
(8) جماما: طافحا.
(9) أنشاز، جمع نشز: المكان المرتفع.
(10) الربايا، جمع ربيئة: الطليعة.(1/146)
لهم ورق من عهد عاد وتبّع ... حديد الظّبى إلّا انثلام المضارب (1)
فضالات ما أبقى الكلاب وطخفة، ... وما أسأر الأبطال يوم الذّنائب (2)
بهنّ فلول من وريدي عتيبة، ... ونضخ نجيع من ذؤاب بن قارب (3)
تقلقل في الأغماد هزلا، وخطبها ... جسيم إذا جرّبن بعض التجارب
غدوّا إلى هدم الكواهل والطّلى، ... وعود إلى حذف الذّرى والعراقب
لتبك قبور أفرغ الموت تحتها ... سجال العطايا بعدهم والرّغائب (4)
وطاب ثراها، والثّرى غير طيّب، ... وذاب نداها، والنّدى غير ذائب
كأنّ اليماني ذا العياب بأرضها، ... يقلّب من دارين ما في الحقائب
إذا اجتاز ركب كان أجود عندها ... بعقر المطايا من سحيم وغالب (5)
أفي كلّ يوم يعرق الدّهر أعظمي، ... وينهس لحمي جانبا بعد جانب (6)
فيوما رزايا في صديق مصادق ... ويوما رزايا في قريب مقارب
فكم فلّ منّي ساعدا بعد ساعد، ... وكم جبّ منّي غاربا بعد غارب (7)
وفادحة يستهزم الصّبر باسمها، ... وتظمى إلى ماء الدموع السّواكب (8)
صبرنا لها صبر المناكب حسبة، ... إذا اضطرب الناس اضطراب الذوائب (9)
__________
(1) الورق: النسل الظبى، جمع ظبة: حد السيف.
(2) الفضالات، جمع فضالة: بقية الكلاب: اسم قبيلة طخفة: هو يوم طخفة، من أيام العرب، كان لبني يربوع على قابوس بن المنذر بن ماء السماء يوم الذنائب: من أيام العرب.
(3) عتيبة وذؤاب: من أسماء الملوك القدماء.
(4) السجال، جمع سجل: الدلو.
(5) سحيم وغالب: من أجواد العرب.
(6) عرق العظم: أكل ما عليه من اللحم ينهس: يأخذ بالاسنان.
(7) فلّ: كسر جب: قطع.
(8) الفادحة: النازلة، المصيبة يستهزم: يكسر، يهزم.
(9) الحسبة: الأجر والثواب الذوائب: شعر الناصية.(1/147)
تعاصي أنابيب الحلوم جلادة، ... وتهفو يراعات العقول العوازب (1)
كظوما على مثل الجوائف أتعبت ... نطاسيّها من قارف بعد جالب (2)
تحلّ الرّزايا بالرّجال وتنجلي، ... وربّ مصاب ينجلي عن مصائب
من اليوم يستدعي منازلك البكا، ... إذا ما طوى الأبواب مرّ المواكب
وتضحك عنك الأرض أنسا وغبطة، ... وتبكيك أخدان العلى والمناقب
سقاك الحيا إن كان يرضى لك الحيا ... بغرّ الأعالي مظلمات الجوانب
تمدّ بأرداف ثقال وترتمي ... على عجرفيّات الصّبا والجنايب (3)
كأنّ لواء يزدحمن وراءه، ... إذا اختلج البرق ازدحام المقانب (4)
بودق كأخلاف العشار استفاضها ... تداعي رغاء من مبسّ وحالب (5)
يقرّ بعيني أن تطيل مواقفا ... عليك مجرّ المدجنات الهواضب (6)
وأن ترقم الأنواء تربك بعدها ... بكلّ جديد النّور رقم الكواكب
ذكرتكم، والعين غير محيلة، ... فأنبطت غدران الدّموع السّواكب (7)
وما جالت الألحاظ إلّا بقاطر ... ولا امتدّت الأنفاس إلّا بحاصب
وهل نافعي ذكر الأخلّاء بعده، ... جرى بيننا مور النّقا والسّباسب (8)
__________
(1) العوازب: البعيدة.
(2) كظوما: ساكنا الجوائف، جمع جائفة: الطعنة تبلغ الجوف النطاسي: الطبيب القارف: المنقشر من جلد الجرح الجالب:
الجرح الذي تعلوه قشرة.
(3) العجرفيات: المسرعات الصّبا والجنايب: الرياح الشرقية والجنوبية.
(4) المقانب: جماعة الخيل.
(5) الودق: المطر المبس: السائق.
(6) المدجنات، من الدجن: المطر الكثير الهواضب: الغيوم الماطرة.
(7) أنبطت: سكبت.
(8) المور: التراب تثيره الريح النقا: القطعة من الرمل المحدودبة السباسب، جمع سبسب: مفازة، أرض بعيدة مستوية.(1/148)
خبّت إليك الخطوب
(المنسرح)
يرثي الشريف، في هذه القصيدة، أبا منصور المرزبان الشيرازي الكاتب. وكان بينهما صداقة ومراسلات شعرية ونثرية. وقد توفي أبو منصور يوم الخميس لاحدى عشرة ليلة بقيت من محرم سنة ثلاث وثمانين وثلاثمئة.
أيّ دموع عليك لم تصب ... وأيّ قلب عليك لم يجب (1)
خبّت إليك الخطوب معجلة، ... ضروب شدّ الجياد والخبب (2)
وا عجبي للزّمان كيف نبا، ... وا عجب أن أقول وا عجبي (3)
ما لي وما للخطوب تسلبني ... في كلّ يوم غرائب السّلب
إمّا فتى ناضر الصّبا كأخي ... عندي، أو زائد المدى كأبي
وإنّني للشّقاء أحسبني ... ألعب بالدّهر، وهو يلعب بي
ما نمت عنه، إلّا وأيقظني، ... من الرّزايا، بفيلق لجب
ولم أزعه، إلّا وأعقبني ... سطوا كوقع الظّبى على اليلب (4)
في كلّ دار تعدو المنون ومن ... كلّ الثّنايا مطالع النّوب
يفوز بالرّاحة الفقيد، ولل ... فاقد طول العناء والتّعب
يطيب نفسا عنّا، وواحدنا ... إن طيّب القلب عنه لم يطب
أحمد كم لي عليك من كمد ... باق ومن جود أدمع سرب
__________
(1) تصب، من وصب: دام جريانه يجب: يخفق.
(2) خبّت: أسرعت الخبب: نوع من العدو.
(3) نبا: تجافى وبعد.
(4) أزعه، من وزع: كفّ، ردع، منع، وزع الجيش: حبسه اليلب: الترس.(1/149)
ولوعة تحطم الضّلوع، إذا ... ذكرت قرب اللّقاء عن كثب
إن قطع الموت بيننا، فلقد ... عشنا وما حبلنا بمنقضب
كم مجلس صبّحته ألسننا ... تفضّ فيه لطائم الأدب
من أثر يونق الفتى حسن ... أو خبر يبسط المنى عجب (1)
أو غرض أصبحت خواطرنا ... تساقط الدّرّ منه في الكتب
كالبارد العذب روّقته صبا ال ... فجر، أو الظّلم زين بالشّنب (2)
غاض غدير الكلام ما بقي ال ... دّهر وقرّت شقاشق الخطب (3)
يا علم المجد لم هويت وقد ... كنت أمين العماد والطّنب
يا مقول الدّهر لم صمتّ وقد ... كنت زمانا أمضى من القضب
يا ناظر الفضل لم غضضت وما ... كنت قديما تغضي على الرّيب
كنت قريني ولست من لدتي ... كنت نسيبي ولست من نسبي (4)
ممّا يقوّي العزاء عنك، وإن ... شرّد قلبي العزاء بالكرب
أنّك أحرزتها، وإن رغم ال ... دّهر، ثمانين طلقة الحقب
فإن دموعي جرين نهنهها ... علمي بأن قد ظفرت بالأرب
فليت عشرين بتّ أحسبها ... باعدن بين الورود والقرب (5)
وإن يزر طالع البياض أقل ... يا ليت ليل الشّباب لم يغب
مرّ على ذلك التّراب من ال ... مزن خفوق الأعلام والعذب (6)
كالعير ذات الأوساق صاح بها ... معتسف بالأيانق النّجب (7)
__________
(1) يونق: يعجب ويحسن.
(2) الظلم: ماء الاسنان الشنب: البرودة والعذوبة.
(3) الشقاشق، جمع شقشقة: شيء كالرئة يخرجه البعير من فيه اذا هاج.
(4) لدتي: تربي.
(5) القرب: سير الليل للورد في الغد.
(6) العذب: أطراف الألوية.
(7) الأوساق: الجمال المعتسف: الذي يخبط في الطريق على غير هداية الأيانق: النياق.(1/150)
إذا خبا برقه استعان على ... إيقاده بالمجلجل اللّجب
لترتوي ثمّ أعظم نزلت ... داجي الدّماميم موحش الحدب (1)
بحيث تزوى عن النّسيم، وتس ... تدرج عنّا مطالع الشّهب
فثمّ بشر أصفى من الغدق ال ... عذب وجود أندى من السّحب
وأجبل كان يستذمّ به ... من اللّيالي فساخ في التّرب (2)
لا تحسبنّ الخلود بعدك لي ... إنّ المنايا أعدى من الجرب
إن انج منها وقد شربت بها، ... فإنّ خيل المنون في طلبي
صبرا على الضرّاء
(الرجز)
لا لوم للدّهر، ولا عتابا، ... تغاب! إنّ الجلد من تغابى
صبرا على الضّرّاء واحتسابا، ... أصبرنا أعظمنا ثوابا
ما الدّمع ممّا يزع المصابا، ... ولا يردّ القدر الغلّابا (3)
أمضى الزّمان حكمه غلّابا، ... أصابنا وطال ما أصابا
يولغ ظفرا للرّدى، ونابا، ... لا يبكين حاضرنا من غابا
ما غاب منّا غائب فآبا، ... وربّ حيّ دعموا القبابا
واستفسحوا الأعطان والرّحابا، ... وطبّقوا السّهول والعقابا (4)
لا يرهبون للعدى ذبابا، ... أمسوا لقاحا، وغدوا نهابا
__________
(1) الدماميم، جمع ديمومة: الفلاة الواسعة الحدب: الارض المرتفعة والغليظة.
(2) يستذمّ به: يستجاريه ساخت: زالت، غارت.
(3) يزع، من وزع: منع، أبعد.
(4) الأعطان، جمع عطن: مكان إقامة الناقة ومبركها.(1/151)
جرّ على دارهم ذنابا، ... وأتبع القوادم الذّنابى (1)
بمعجل ينتزع الأطنابا، ... يوطي الحمى ويهتك الحجابا
كالباترات تبذر الرّقابا، ... نسعى ويطوينا الرّدى وثابا (2)
كم قطع الأقران والأسبابا، ... وفرّق الجيران والأحبابا
واستدرج العبيد والأربابا، ... سيل ردى قد ملأ الشّعابا
وجنّ موجا، وطغى عبابا، ... قارعنا وانتزع اللّبابا
أعجب وأخلق أن ترى عجابا ... يبلّد الأفهام والألبابا
إنّ الرّدى وإن رمى فصابا ... وجاذبتنا يده جذابا
يعجم من عيداننا صلابا، ... صعبا يلاقي أنفسا صعابا (3)
لا تنكر الموت لها شرابا، ... ولا تعاف الصّبر المذابا (4)
سوالبا ومرّة أسلابا، ... إذا أنا انقدت ولمّا آبى
منجفلا مع الرّدى منجابا، ... فلم سننت الصّارم القرضابا (5)
ولم ربطت الشّزّب العرابا، ... يمرين بالشّكائم اللّعابا (6)
خمايصا تحاضر الذّيابا، ... يحملن أسدا في الوغى غضابا (7)
قد سلبوا السّوابغ العيابا، ... ركبا، وطورا للقنا ركابا (8)
__________
(1) الذناب: الدلاء الذنابى: ذنب الطائر، والقوادم هي الريش الطويل.
(2) الباترات: السيوف تبذر: تفرق، تقطع.
(3) يعجم، من العجم: اختبار الصلابة بالاسنان، ويقال: فلان صلب المعجم اذا عجمته الأمور فوجدته متينا.
(4) الصبر: عصارة شجر المر.
(5) منجلفا: مسرعا بالهزيمة الصارم القرضاب: السيف القطّاع.
(6) الشزّب: الضوامر العراب: العربية الاصيلة يمرين: يمسحن الشكيمة: هي من اللجام الحديدة المعترضة في فم الفرس.
(7) خمايص: ضوامر تحاضر: تواجه.
(8) السوابغ، جمع سابغة: الدرع الطويلة العيابا: الموضوعة في العيبة وهي الصناديق.(1/152)
يحمي الحمى ويمنع الجنابا، ... حتّى إذا داعي الرّدى أهابا
أسقط من أيماننا الكعابا، ... وبزّنا أرواحنا أغصابا (1)
لا طعن نسطيع، ولا ضرابا، ... مقتحم على الأسود الغابا
وربّ إخوان مضوا شبابا، ... تلاحقوا إلى الرّدى صحابا
لا نترجّى منهم إيابا ... ولا نعدّ لهم الأحقابا
لا يحفل الحجّاب والأبوابا، ... إذا دعوا لم يرجعوا جوابا
ولبسوا الجندل والظّرابا، ... لقدر ما عمروا الخرابا (2)
يا غصنا طال وفرعا طابا، ... لمّا ذوى أودعته التّرابا
أراب من يومك ما أرابا، ... لا زلت أستسقي لك السّحابا
كلّ أغرّ يدق الذّهابا ... مجرّرا على الرّبى أهدابا (3)
يبقي بأجواز الثّرى أندابا، ... وينثني مجوّلا جوّابا (4)
وإن لبست للبلى جلبابا، ... أرى البكاء سفها وعابا
لا تجعلنه ديدنا ودابا، ... وافق، منّا أجل كتابا
غصّصنا الزمان
(الطويل)
لأظما معلّينا وأروى المصائبا، ... وأسخط آمالا وأرضى نوائبا (5)
مصاب نجوم المجد فيه نواجم، ... تركن نجوم الصّبر عنه غواربا (6)
__________
(1) الأيمان، جمع يمين: ضد اليسار بزّنا، من البز: أخذ الشيء بالقهر والغلبة.
(2) الجندل: الصخر الظراب، جمع الظرب: ما نتأ من حجر وحدّ طرفه.
(3) يدق: يمطر، والودق هو المطر الذهاب: المطر الغزير.
(4) أجواز، جمع جوز: الوسط الأنداب، جمع ندب: أثر الجرح الباقي.
(5) معلينا، من أعلّه: سقاه على دفعات.
(6) نواجم: ظاهرة.(1/153)
أصابت سهام الحادثات قلوبها، ... فكم أعقبت روعا يروع العواقبا
لقد وعدتنا، إذ رغبنا رغايبا، ... فلمّا أصبن الظّنّ أعطت مصايبا
وأرضعن أفواه المطامع فجعة، ... فطمن بها عند النّجاح المطالبا
بمفقودة ينهلّ ماء مصابها ... دموعا على خدّ الزّمان سواكبا
إذا قعدت أحزانها في قلوبنا، ... أقمنا على الصّبر الشّفاه نوادبا
صبرنا فغصصّنا الزّمان بريقه، ... على أنّ للأيّام فينا مضاربا
ولم نطرح الأسلاب يوما لنكبة، ... وإن جذب المقدار منّا المجاذبا (1)
ألا إنّ هذا الثّاكل الحسب الّذي ... به ثكل المجد التّليد المناقبا
رمى في يمين الدّهر درّة سؤدد، ... فأحج بها يحنو عليها الرّواجبا (2)
وقد شنّ فيها حادث الموت غارة، ... ثنتنا ولم تطلع إلينا كتائبا
فلا تحسبن رزء الصّغائر هيّنا، ... فإنّ وجى الأخفاف ينضي الغواربا (3)
سقى الله حصباء الثّرى كلّ ليلة ... سحائب ينزعن الرّياح الحواصبا
جنادل من قبر كأنّ صدورها، ... حباه الحيا دون القبور، محاربا (4)
أقامت به حتّى لودّت عيوننا، ... ولم تبق دمعا أن يكون سحائبا
تراب يرى أنّ النّجوم ترابه، ... ويحسب أحجار الصّفيح الكواكبا
وسيف نضي من جفنه، غير أنّه ... رضي لحده من غمده الدّهر صاحبا
يغطّي الثّرى عنّا وجوها مضيئة، ... كما كفر الغيم النّجوم الثّواقبا (5)
ورزء رمى صدر الأماني بيأسها، ... وكنّ إلى ورد المعالي قواربا (6)
__________
(1) المقدار: المقدر.
(2) أحج: فعل تعجب، أي أخلق يحنو: يلوي الرواجب: مفاصل أصول الأصابع.
(3) الوجى: الحفا الغوارب، جمع غارب: ما بين العنق والسنام.
(4) جنادل: حجارة، صخور الحيا: المطر.
(5) كفر: غطّى النجوم الثواقب: النجوم المشعّة.
(6) رزء: مصاب قوارب، جمع قارب: طالب الماء.(1/154)
ألا ربّ ليل قلقلته عزائمي ... إلى أن نضا عن منكبيه الغياهبا (1)
جذبت بضبع العزم من بين أضلعي، ... وزاحمت بالهمّ الدّجى والسّباسبا (2)
وجردا ضربن الدّهر في أمّ رأسه، ... وجزن بنا أعجازه والمناكبا
ومرّت حواميها على لمّة الدّجى، ... تجاذب بالإدلاج منها الذّوائبا (3)
وإنمّي لمن قوم إذا ركبوا النّدى ... إلى الحمد باتوا يعسفون الرّكائبا (4)
إذا فاض رقراق المحامد صيّروا ... له جودهم دون اللّئام نصائبا (5)
وإن ضاق صدر الخطب وسّع بأسهم ... لسمر القنا بين الضّلوع مذاهبا
بطعن كدفّاع الغمام تحثّه ... ذوابل يمطرن الدّماء صوائبا (6)
له شرر يرمي الرّماح بلفحه، ... يكاد يرى ماء الأسنّة ذائبا
إذا أنكروا في النّقع ألوان خيلهم ... أضاء لهم حتّى يشيموا السّبائبا (7)
أبا قاسم جاءت إليك قلائد ... تقلّد أعناق الكرام مناقبا
قلائد من نظمي يودّ لحسنها ... قلوب الأعادي أن تكون ترائبا (8)
__________
(1) نضا: خلع. يشخّص الشاعر الليل ويجعل ظلمته ثوبا أسود يخلع مع قدوم الصباح.
(2) الضبع: العضد السباسب: الفلوات.
(3) حواميها: جمع حامية اللمّة: الشعر المجاوز شحمة الأذن، استعارها للظلمة الادلاج: السير من أوّل الليل.
(4) ركبوا الندى: بدأوا بالعطاء، والندى هو الكرم الى الحمد: من أجل الحمد يعسفون، من عسف عن الطريق: مال وعدل.
(5) النصائب: حجارة تنصب حول الحوض.
(6) الدفّاع: قوة الموج أو السيل.
(7) النقع: الغبار يشيموا، من شام: ظهر السبائب، جمع سبيبة:
الخصلة من الشعر، شعر الذنب والناصية.
(8) قلائد من نظمي: كناية عن الابيات المنظومة في قصيدة ترائب، جمع تريبة: أعلى الصدر. وفي البيت مراعاة للنظير بين قلائد ونظم وترائب.(1/155)
إذا هدّها راوي القريض حسبته ... يقوم بها في ندوة الحيّ خاطبا (1)
فلو كنّ غدرانا لكنّ مشاربا، ... ولو كنّ أحداثا لكنّ تجاربا
القبر المضيء
(المجتث)
يا دين قلبك من با ... رق ينير ويخبو (2)
على شريقيّ نجد ... مرعى لعينك جدب
كما تليح ذراع، ... فيها من النّضر قلب (3)
كأنّه نار عليا ... ء للضّيوف تشبّ
أو ساطعات أراها، ... واللّيل داج أزبّ (4)
مراوح بيديه ... على الزّناد مكبّ
أو أمّ مثوى يلنجو ... جها على النّار رطب (5)
الغور منه معان، ... وعاقل والهضب (6)
له حفيف رعاد ... يراع منه السّرب (7)
__________
(1) هدّها: صوت بها، أنشدها الندوة: الجماعة.
(2) الدين: الداء، المرض.
(3) النضر: الذهب والفضة القلب: السوار.
(4) داج: مظلم الأزب: الكثيف الشّعر، استعاره للدلالة على شدّة سواد الليل.
(5) أم المثوى: صاحبة المنزل اليلنجوج: عود بخور، واللفظة أعجمية.
(6) الغور: المنخفض والمطمئن من الأرض معان: منزل عاقل: اسم موضع الهضب: ما ارتفع وانبسط من الأرض.
(7) حفيف: صوت رعاد: يشبه الرعد بقوته السّرب: القلب.(1/156)
وبارقات كما شقّ ... ت العجاج القضب (1)
أما ترى البرق يبدو، ... إلّا لعينك غرب
وللزّفير هباب ... بين الضّلوع وهبّ
يضيء بالطّفّ قبرا ... فيه الأعزّ الأحبّ
فيه من العين ماء، ... لا بل من القلب خلب (2)
ما كنت أحسب يوما، ... والدّهر ضرب وضرب
أنّي أبيت وبيني ... وبين لقياك سهب (3)
وأن تطارد ما بي ... ننا زعازع نكب (4)
بحيث يرتع أدم ... من الجوازي، وحقب (5)
وكيف يكرع مستو ... رد القطا ويعبّ
يا دار قومي أين ال ... أولى بربعك لبّوا
مصاعب حطمتم ... أيدي المنون، فخبّوا
يسوقهم للمقادي ... ر سائق متلئبّ (6)
مقحّم للجراثيم إن ... ونوا، أو أغبّوا (7)
__________
(1) العجاج: الغبار الكثيف القضب: السيوف. يشبه البرق بين الغيوم المتلبدة بلمعان السيوف بين غبار الحرب الكثيف.
(2) الخلب: لحيمة رقيقة تصل بين الأضلاع والكبد.
(3) السهب: الفلاة.
(4) الزعازع: الشدائد، والرياح التي تزعزع كل شيء النكب، جمع نكباء:
الريح المنحرفة والواقعة بين ريحين، وهي عاتية.
(5) الأدم، جمع أدماء: بيضاء الجوازي، جمع جازئة: اسم لبقرة وحشية حقب، جمع أحقب وحقباء: حمار الوحش.
(6) المتلئب: العطشان والبعيد عن الماء.
(7) الجراثيم، جمع جرثومة: أصل الشيء المقحم: المدخل ونوا:
ضعفوا، كلّوا أغبّوا: جاءوا يوما بعد يوم.(1/157)
كانوا السّيوف إذا عا ... ينوا المقاتل هبّوا
والزّاغبيّات إن أش ... رعوا عن الدّار ذبّوا (1)
منازل كان فيها ... للقوم أمن ورعب
تكدّ فيها الأنابي ... ب والرّباط القب (2)
يهمي السّنان، ويس ... تضمر الجواد الأقب (3)
رأي يغبّ لحزم، ... ونائل لا يغبّ
ينقاد في كلّ يوم ... منّا الأبيّ الصّعب
يجذّ أصل وريق ال ... ذّرى، ويدرح عقب (4)
لا مبغض القوم يبقى، ... ولا المجلّ المحب
سواء الملس في غا ... رة الرّدى والجرب
يجري القضاء، ويمضي ... الطّبيب والمستطب
كم ذا الأمان وللنّا ... ئبات سلب وجذب
وبالزّيال لغربا ... نها شحيح ونعب (5)
يغرّ سلم اللّيالي، ... والسّلم منهنّ حرب
لنا من الدّهر ربض ... على وعيد ووثب
يوما غرور، ويوما ... عدو علينا وشغب
ينحو المضيق، وقد أع ... رض الطّريق اللّحب (6)
أآخر اللّعب جدّ، ... أم آخر الجدّ لعب
شقيقتي! إنّ خطبا ... عدا عليك لخطب
__________
(1) الزاغبيات: الرماح ذبّوا: دافعوا.
(2) الأنابيب: الرماح الرباط: الخيول القب: الضامرة.
(3) يهمي السنان: يسيل منه الدم الجواد الأقب: الضامر.
(4) يدرح: يدفع العقب: الذي يأتي بعد غيره، يعقبه.
(5) الزيال: المفارق.
(6) ينحو: يميل، يتجه اللحب: الطريق الواضح.(1/158)
وإنّ رزءا رماني ... بالبعد عنك لصعب
سهم أصابك منه ... للقدر فوق وغرب (1)
لا النّصل منه بناب ... يوما، ولا الرّيش لغب (2)
يبيت بعدك في مض ... جعي الجوى والكرب
كما يبيت رميض ... بعد السّنام الأجبّ (3)
أنّى على قضض اله ... مّ يطمئنّ الجنب (4)
لو ردّ عنك المنايا ال ... عجال طعن وضرب
لخاض فيها سنان ... ماض وطبّق عضب (5)
وقام دون الرّدى غل ... ظ السّواعد غلب
وناقلت بالعوالي ... ذؤبان ليل تخبّ
قضيت نحبا قضى بع ... ده من المجد نحب
ولم يكن لك إلّا ... من المقادير خطب
ودون كلّ حجاب ... من العفافة حجب
وقبرك الصّون من قب ... ل أن يضمّك ترب
كأنّني كلّ يوم ... قلبي إليك أصب (6)
وكلّما اندمل ال ... قرح عاد قلبي ندب
يكلّ واقع طرفي ... عمّن سواك وينبو
أجلّ قبرك عن أن ... أقول حيّاه ركب
__________
(1) الفوق: هو موضع السهم من الوتر، وفوّق السهم: هيأه للانطلاق الغرب: الحد.
(2) الريش اللغب: الذي لا يلتئم لرداءته.
(3) الرميض: النصل الحاد الأجب: المقطوع.
(4) القضض: التراب الذي يعلو الفراش.
(5) السنان: حديدة الرمح العضب: السيف القاطع.
(6) أصب: منحدر، مائل.(1/159)
أو أن أقول سقاه ... صوب الغمام المرب (1)
إلّا لحاجة نفس ... تهفو إليك وتصبو
أو أن يبلّ غليل ... إن بلّ قبرك شرب
وكيف يظمأ قبر ... فيه الزّلال العذب
أم كيف تظلم أرض ... أجنّ فيها الشّهب (2)
نوّارها المجد، لا حن ... وة الرّبى والعرب (3)
جاورت جارا تلقّا ... ك منه برور حبّ
شعب غدا، وهو للّ ... هـ والملائك شعب (4)
يا نومة ثمّ منها ... إلى الجنان المهب
إن كان للشّخص بعد ... فللعلائق قرب
أغبّه، وبرغمي، ... إنّ الزّيارة غب (5)
لئن خلا منك طرف، ... لقد ملي منك قلب
وإن غربت فلطّا ... لعات شرق وغرب
خلاك ذمّ، وذمّ ... للدّهر فيك وقصب (6)
ولم يزل بعد يومي ... منّي على الدّهر عتب
فكم أبيت وعندي ... لذي المقادير ذنب
__________
(1) المرب: الهاطل.
(2) أجّن، من أجن الشيء في صدره: كنّه، خبأه.
(3) نوارها: زهرها الأبيض، وكل زهر الحنوة: نوع من النبات العرب:
يباس البقل.
(4) الشّعب: الذي يصلح الأمور.
(5) أغبه: أزوره من حين الى آخر.
(6) القصب: العيب، الشتم.(1/160)
أودع كل يوم حبيبا
(المتقارب)
نظم هذه القصيدة في رثاء من فقدهم من أصدقائه وأهل بيته، وذلك في رمضان سنة 387.
أودع في كلّ يوم حبيبا، ... وأهدي إلى الأرض شخصا غريبا
وأرجع عنه جميل العزاء، ... أمسح عن ناظريّ الغروبا (1)
كأنّي لم أدر أنّ السّبي ... ل سبيلي، وأنّي ملاق شعوبا (2)
وأنّ ورائي سوقا عنيفا، ... وأنّ أمامي يوما عصيبا
ولا أنّني بعد طول البقاء، ... أصاب كما أنّ غيري أصيبا
أمانيّ أوضع في غيّها ... لريح الغرور بها مستطيبا (3)
تذكّر عواقب موبي النّبات، ... ولا تتبع العين مرعى خصيبا
قعدت بمدرجة النائبات، ... يمرّ الزّمان عليّ الخطوبا (4)
على الهمّ أنفق شرخ الشّباب، ... وأعطي المنايا حبيبا حبيبا
تصاممت عن هتفات المنون ... بغيري ولا بدّ من أن أجيبا
وأعلم أنّي ملاقي الّتي ... شعبن قبائلنا والشّعوبا
ألا إنّ قومي لورد الحمام ... مضوا أمما، وأجابوا المهيبا
بمن أتسلّى وأيدي المنون ... تخالس فرعي قضيبا قضيبا (5)
نزعن قوادم ريش الجناح، ... وأثبتن في كلّ عضو ندوبا
نجوم، إذا شهدوا الأنديات، ... رجوم، إذا ما أقاموا الحروبا
__________
(1) الغروب: الدموع.
(2) الشّعوب: المنية.
(3) أوضع: أسرع.
(4) المدرجة: المسلك، السبيل النائبات: المصائب يمر: يلفّ.
(5) أتسلّى: أتعزى.(1/161)
إذا عقدوا للعطاء الحبى، ... وإن زعزعوا للطّعان الكعوبا (1)
عراعر لا ينطقون الخنا، ... ولا يحفظون الكلام المعيبا (2)
يرمّ الفتى منهم جهده، ... فإن قال قال بليغا خطيبا (3)
جلابيب لا تضمر الفاحشات، ... وأردية لا تضمّ العيوبا
وبشر يهاب على حسنه، ... فتحسبه غضبا أو قطوبا
لقد أرزمت إبلي بعدكم، ... وأبدى لها كلّ مرعى جدوبا (4)
نزعت أزمّتها للمقام، ... وأعفيت منها الذّرى والجنوبا
لمن أطلب المال من بعدكم، ... وأحفي الحصان وأنضي الجنيبا (5)
حوامي جبال رعاها الحمام، ... فسوّى بهنّ الثّرى والجنوبا
وكم واضح منكم كالهلا ... ل هالت يداي عليه الكثيبا
ونازعني الموت من شخصه ... سنانا طريرا وعضبا مهيبا (6)
وحلما رزينا وأنفا حميّا، ... وعزما جريّا ورأيا مصيبا
صوارم أغمدتها في الصّعيد، ... وفلّلت منها الظّبى والغروبا (7)
أقول لركب خفاف المزاد، ... وقد بدّلوا بالوضاء الشّحوبا
ألمّوا بأجواز تلك القبور، ... فعرّوا الجياد وجزّوا السّبيبا (8)
قفوا فامطروا كلّ عين دما ... بها، واملأوا كلّ قلب وجيبا
__________
(1) الحبى، جمع حبوة: ما يشتمل به من ثوب أو عمامة الكعوب: الرماح.
(2) عراعر: أسياد شرفاء الخنا: الذل، ما هو معيب.
(3) يرم: يسكت.
(4) أرزمت: حنّت.
(5) أحفي: أجعله حافيا أنضي: أعرّي الجنيب: المنقاد، المطيع.
(6) الطرير: المحدّد العضب: السيف القاطع.
(7) صوارم: سيوف، كنى بها عن الذين فقدهم الظّبى، جمع ظبة: حدّ السيف الغروب: السيوف.
(8) السبيب من الفرس: شعر الذنب والناصية.(1/162)
ولا تعقروا غير حبّ القلو ... ب، إذا عقر النّاس بزلا ونيبا (1)
وإنّي على أن رماني الزّمان، ... وأعقب بالقلب جرحا رغيبا (2)
لتعجم منّي ضروس الخطو ... ب قلبا جليدا وعودا صليبا
وأبقى العواجم من صعدتي ... عشوزنة تستقل النّيوبا (3)
أخلّاء! لا زال جمّ البروق، ... أجشّ الرّعود يطيع الجنوبا (4)
إذا ما مطاياه جبن الفلا ... أمنّا عليها الوجى واللّغوبا (5)
يشقّ المزاد على تربكم، ... ويمري على كلّ قبر ذنوبا
وأسأل أين مصاب الغمام ... شروقا، إذا ما غدا، أو غروبا
أضنّ على القطر أن يستهلّ ... على غير أجداثكم أو يصوبا
غلبت عليكم فيا صفقة ... غبنت بها العيش غصنا رطيبا
فلولا الحياء لعطّ القلوب ... عليكم عصائب عطّوا الجيوبا (6)
ولم يك قدر الرّزايا بكم، ... جنانا مروعا، ودمعا سكوبا (7)
وإنّ ضرايحكم في الصّعيد، ... لتكسو الخبيث من الأرض طيبا
وهبنا لفيض الدّموع الخدود ... عليكم، وحرّ الغرام القلوبا
لقد شغلتني المراثي لكم، ... بوجدي عن أن أقول النّسيبا
وكنت أعدّ ذنوب الزّمان، ... فبعدكم لا أعدّ الذّنوبا
أراب الرّدى فيكم جاهدا، ... وزاد، فجاز مدى أن يريبا
أأنشد من قد أضلّ الحمام ... عناء لعمرك أعيا الطّبيبا
__________
(1) البزل، جمع بازل: الناقة البالغة والتي برزت اسنانها كلها النيب:
النياق المسنّة.
(2) رغيب: واسع.
(3) الصعدة: القناة العشوزنة: الصلبة.
(4) أجش الرعود: قويّها الجنوب: الرياح الماطرة.
(5) الوجى: الحفاء اللغوب: التعب.
(6) عطّ: شقّ.
(7) جنانا مروعا: قلبا مروعا.(1/163)
كنت الطبيب
(مجزوء الكامل)
نظم هذه المقطوعة معزيا صديقا له.
لو كان يعتبني الحما ... م لطال بعد اليوم عتبي (1)
إنّي وما عاتبته ... إلّا وأعتبني بذنبي
صبرا أخيّ، فإنّها ... تمضي، ولو وقعت بهضب
هوّن عليك، فقد يكو ... ن الصّعب عندك غير صعب
وانهض فما حملت على ... قصف الفقار ولا أجب (2)
كنت الطّبيب لمثلها، ... لو يتّقى قدر بطبّ
ولئن رمى رامي الرّدى ... غرضا، فزعزع غير سربي
فلقد أصاب بسهمه ... الغرضين من عيني وقلبي
رد يدي
(المنسرح)
وضع الشريف هذه المقطوعة في رثاء بعض الرؤساء.
اذهب ولا تبعدنّ من رجل! ... إنّ كرام الرّجال قد ذهبوا
أدركت فوق الذي طلبت ندى ... غمرا، وفات اللّئام ما طلبوا
لا يخلف الدّهر ما تجود به، ... ولا يعير الرّجال ما تهب
عرض نقيّ من الوصوم، إذا ... أحكّ عرض المذمّم الجرب (3)
__________
(1) يعتبني، من أعتب: أزال العتب وترك ما كان يغضب عليه.
(2) أجبّ: أقطع.
(3) الوصوم: العار.(1/164)
مضى التّليد الأعلى لطيّبه، ... واستأخر المنسمان والذّنب
ترعية طاعت الصّعاب له، ... واستوسقت في زمامه العرب (1)
يا دهر رشقا بكلّ نائبة، ... قد انتهى العتب وانقضى العجب
ردّ يدي ما استطعت عن أربي، ... لم يبق لي بعد موتهم أرب
على عيني حثوت الترب
(الطويل)
نظم هذه الأبيات في رثاء أحد أصدقائه.
على أيّ غرس آمن الدّهر بعدما ... رمى فادح الأيّام في الغصن الرّطب
ذوى قبل أن تذوي الغصون، وعهده ... قريب بأيّام الرّبيلة والخصب (2)
كفى أسفا للقلب ما عشت أنّني ... بكفّي على عيني حثوت من التّرب
جرت خطرة منها وفي القلب عطشة ... رفعت لها رأسي عن البارد العذب
وقلت لجفني ردّ دمعا على دم، ... وللقلب عالج قرح ندب على ندب (3)
وممّا يطيب النّفس بعدك أنّني ... على قرب من ماء وردك أو قرب (4)
ألا لا جوى مسّ الفؤاد كذا الجوى، ... ولا ذنب عندي للزّمان كذا الذّنب (5)
خلا منك طرفي وامتلا منك خاطري، ... كأنّك من عيني نقلت إلى قلبي
__________
(1) الترعية: الذي يقتحم الأمور بحماسة.
(2) الربيلة: النعمة.
(3) الندب: أثر الجرح.
(4) القرب: هو ان لا يكون بينك وبين الماء إلا ليلة واحدة.
(5) الجوى: ألم النفس.(1/165)
فارقتهم
(مجزوء الكامل)
ارتجل الشريف الرضي هذه الأبيات في رثاء أبي الحسن أحمد بن علي البتي، وكان من أصدقائه.
وقد مات قبل وفاة الشاعر بأشهر معدودة.
ما للهموم كأنّها ... نار على قلبي تشبّ
والدّمع لا يرقا له ... غرب كأنّ العين غرب (1)
لوداع إخوان الشّبا ... ب مضت مطاياهم تخب
فارقتهم، والعين عي ... ن بعدهم، والقلب قلب
ما كنت أحسب أنّني ... جلد على الأزراء صعب
أو أنّني أبقى وظه ... ري بعد أقراني أجبّ (2)
لا الوجد منقطع الوقو ... د ولا مزار الدمع غب (3)
ما أخطأتك النّائبا ... ت إذا أصابت من تحب
خلا منك قلبي
(الطويل)
أقول، وقد أرسلت أوّل نظرة، ... ولم أر من أهوى قريبا إلى جنبي
لئن كنت أخليت المكان الذي أرى، ... فهيهات أن يخلو مكانك من قلبي
__________
(1) لا يرقا: لا يهدأ الغرب: مجرى الدمع.
(2) ظهري أجب: مقطوع.
(3) المزار غب: المزار من حين الى آخر.(1/166)
وكنت أظنّ الشّوق للبعد وحده، ... ولم أدر أنّ الشّوق للبعد والقرب
خلا منك قلبي وامتلا منك خاطري، ... كأنّك من عيني نقلت إلى قلبي (1)
أيا شاكيا
(الطويل)
أيا شاكيا منّي لذنب جنيته، ... فديتك من شاك إليّ حبيب
لئن راب منّي ما يريب فإنّني ... على عدواء الدّهر غير مريب
وإنّي لأرعى منك والغيب بيننا ... هوى قلّما يرعى بظهر مغيب
فهب لي ذنبا واحدا، كان قلته، ... فما زلل من حازم بعجيب
فيا حسن حال الودّ ما دمت مذنبا ... أتوب وما دامت تعدّ ذنوبي
لك لذة في الحشا
(الكامل)
لا والذي قصد الحجيج لبيته، ... ما بين ناء نازح وقريب
والحجر والحجر المقبّل تلتقي ... فيه الشّفاه، وركنه المحجوب
لا كان موضعك الذي ملّكته ... بين الأضالع بعد ذا لحبيب
إنّي وجدت لذاذة لك في الحشا ... ليست لمأكول ولا مشروب
لي أنّة الشّاكي إذا بعد المدى ... ما بيننا وتنفّس المكروب
__________
(1) هذا البيت الأخير في المقطوعة يرد في آخر المقطوعة التي تقع تحت عنوان «غرور القلب».(1/167)
طيف الحبيب
(الخفيف)
إنّ طيف الحبيب زار طروقا، ... والمطايا بين القنان وشعب (1)
فوق أكوارهنّ أنضاء شوق ... طرقوا بالغرام دون الرّكب
كلّما أنّت المطيّ من الإع ... ياء أنّوا من الجوى والكرب
زارني واصلا على غير وعد، ... وانثنى هاجرا على غير ذنب
كان قلبي إليه رائد عيني، ... فعلى العين منّة للقلب
بتّ ألهو بناعم الجيد غضّ، ... وفم بارد المجاجة عذب
بلّ وجدي، ومن رأى اليوم قبلي ... ناقعا للغليل من غير شرب
سامحا لي على البعاد بنيل ... كان يلويه في زمان القرب
كان عندي أنّ الغرور لطرفي، ... فإذا ذلك الغرور لقلبي
حلفت
(الطويل)
كتب هذه القصيدة الى صديق له جوابا عن أبيات أتته منه.
حلفت بأعلام المحصّب من منى، ... وما ضمّ ذاك القاع والمنزل الرّحب (2)
وكلّ بجاويّ يجرّ زمامه، ... إذا ما تراخت في أزمّتها النّجب (3)
وترجيع أصوات الحجيج وقد بدا ... وقور النّواحي تستبدّ به الحجب
__________
(1) المحصّب في منى: مكان الحصب في منى، وهي من مناسك الحج.
(2) طروقا: ليلا القنان وشعب: موضعان.
(3) البجاوي: نوع من الابل ينسب الى بجاوة وهي أرض النوبة النجب:
النياق الكريمة.(1/168)
وروعة يوم النّحر، والهدي حائر، ... وكلّ دم أودى بجمّته الرّكب (1)
لقد جلّ ما بيني وبينك عن قلى، ... سواء تدانى البعد أو بعد القرب (2)
ولي دمع عين لا يرنّق ساعة، ... ونار غرام بين جنبيّ لا تخبو (3)
وقلب يمور الطّرف إن قرّ في الحشا، ... وطرف، إذا سكّنته نفر القلب (4)
وجسم، إذا جرّدته من قميصه ... على الناس قالوا: هكذا يفعل الحبّ
فما لي على ما بي أعنّف في الهوى، ... ويرمضني العذل المؤرّق والعتب (5)
على حين أعطيك الوفاء مصرّحا، ... وأصفيك محض الودّ ما عظم الخطب
وكنت، إذا فارقت دارك ساعة، ... صمتّ، فلا جدّ لديّ ولا لعب
ألا ليت شعري هل أبيتنّ ليلة ... بميثاء يلطى في أباطحها التّرب (6)
تطرّقها ماء الغمام ودرّجت ... بها الرّيح مخضرّا كما نشر العصب (7)
وهل أذعرن قلب الظّلام بفتية ... تهاوى بهم قود السّوالف أو قبّ (8)
وهل أردن ماء وردنا بمثله ... جميعا وفي غصن الهوى ورق رطب
وهل لي بدار أنت فيها إقامة، ... فأنشر ما تطوي الرّسائل والكتب
سلوت المعالي إن سلوتك ساعة، ... وما أنا إلّا مغرم بالعلى صبّ
__________
(1) يوم النحر: هو اليوم العاشر من ذي الحجّة.
(2) جلّ: عظم القلى: البغض.
(3) يرنّق: يضعف، يتوقف.
(4) يمور: يجري الطرف: العين.
(5) يرمقني: يحرقني العذل والعتب: اللوم.
(6) الميثاء: الأرض السهلة يلطى: يلزق.
(7) العصب: اللبلاب الطيب الرائحة.
(8) أذعر: أخيف القود، جمع أقود: الذليل المنقاد السوالف: أي الخيل ذات السوالف، وسالفة الفرس ما تقدم من عنقه القب: الضوامر.(1/169)
نائي الدار قريب
(الطويل)
يقرّ بعيني أن أرى لك منزلا ... بنعمان يزكو تربه ويطيب
وأرضا بنوّار الأقاحي صقيلة، ... تردّد فيها شمأل وجنوب
وأيّ حبيب غيّب النأي شخصه، ... وحال زمان دونه وخطوب
تطاولت الأعلام بيني وبينه، ... وأصبح نائي الدار، وهو قريب
لك الله من مطلولة القلب بالهوى، ... قتيلة شوق، والحبيب غريب (1)
أقلّ سلامي إن رأيتك خيفة، ... وأعرض كيما لا يقال مريب
وأطرق والعينان يومض لحظها ... إليك، وما بين الضّلوع وجيب (2)
يقولون: مشغوف الفؤاد مروّع، ... ومشغوفة تدعو به فيجيب
وما علموا أنّا إلى غير ريبة، ... بقاء اللّيالي نعتدي ونؤوب
عفافي من دون التّقيّة زاجر، ... وصونك من دون الرّقيب رقيب
عشقت وما لي، يعلم الله، حاجة ... سوى نظري، والعاشقون ضروب
وما لي يا لمياء بالشّعر طائل، ... سوى أنّ أشعاري عليك نسيب
أحبّك حبّا لو جزيت ببعضه، ... أطاعك منّي قائد وجنيب (3)
وفي القلب داء في يديك دواؤه، ... ألا ربّ داء لا يراه طبيب
سرى لك من أوطانه كلّ عارض ... تضاحك فيه البرق وهو قطوب (4)
ولا زال خفّاق النّسيم مرقرقا ... عليك، وأنواء الغمام تصوب
__________
(1) المطلولة: المصابة بالطّل، ومطلولة القلب: ذات القلب الخفّاق كأنه مبلل بالندى.
(2) الوجيب: الخفقان.
(3) الجنيب: الطائع المنقاد.
(4) العارض: السحاب. ويلاحظ تشخيصه الغيم إذ جعله مقطبا إشارة الى تلبده، ومن خلال عبوسه يبتسم البرق.(1/170)
عندي اشتياق
(الطويل)
أغيب فأنسى كلّ شيء سوى الهوى، ... وإن فجعتني بالحبيب النّوائب
ولا زاد يوم البين إلّا صبابة، ... فلا الشّوق منسيّ ولا الدّمع ناضب
أحنّ، إذا حنّت ركابي، وفي الحشا ... بلابل لا تعيا بهنّ النّجائب (1)
فعندي اشتياق ما يحنّ أخو الهوى، ... وعندي لغوب ما تحنّ الرّكائب (2)
وإنّي لأرعى من وداد أحبّتي ... على بعد، ما لا تراعي الأقارب
أقرب وينأى
(السريع)
هل ناشد لي بعقيق الحمى ... غزيّلا مرّ على الرّكب (3)
أفلت من قانصه غرّة، ... وعاد بالقلب إلى السّرب
وأظمأ القلب إلى مالك ... لا يحسن العدل على القلب
يعجب من عجبي به في الهوى، ... واعجبي منه ومن عجبي (4)
أقرب بالودّ، وينأى به، ... ويلي على بعدك من قرب
منعّم يعطف منه الصّبا، ... لعب الصّبا بالغصن الرّطب
بلادة النّعمة في طبعه، ... وربّما ناقش في الحبّ
أما اتّقى الله على ضعفه، ... معذّب القلب بلا ذنب
يا ماطلا لي بديون الهوى ... من دلّ عينيك على قلبي
__________
(1) النجائب: النياق الكريمة.
(2) لغوب، من اللغب: الضعف والاعياء.
(3) عقيق الحمى: اسم موضع غزيّل: كناية عن الحبيب.
(4) العجب: الاعجاب العجب: التعجب.(1/171)
بعثت دمعي
(الكامل)
وشممت في طفل العشيّة نفحة ... حبست برامة صحبتي وركابي (1)
متململين على الرّحال كأنّما ... مرّوا ببعض منازل الأحباب
ذكرت لي الأرب القديم من الهوى ... عهد الصّبا وليالي الأطراب (2)
فبعثت دمعي ثمّ قلت لصاحبي: ... إيه دموعك يا أبا الغلّاب
في ساعة لمّا التفتّ إلى الصّبا ... بعدت مسافته على الطّلّاب
وتأرّجت منها زلازل ريطتي، ... حتّى تعارف طيبها أصحابي (3)
فكأنّما استعبقت فارة تاجر، ... وبعثت فضلتها إلى أثوابي (4)
أشكو إليك ومن هواك شكايتي، ... ويهون عندك أن أبيت كما بي
يا ماطلي بالدّين، وهو محبّب! ... من لي بدائم وعدك الكذّاب
رماني
(الوافر)
رماني كالعدوّ يريد قتلي، ... فغالطني، وقال: أنا الحبيب
وأنكرني، فعرّفني إليه ... لظى الأنفاس والنّظر المريب
وقالوا: لم أطعت؟ وكيف أعصي ... أميرا من رعيّته القلوب
__________
(1) طفل العشية: قبل غروب الشمس رامة: اسم موضع.
(2) ليالي الأطراب: ليالي اللهو.
(3) الزلازل: العذب الصافي والطيب الرائحة ريطتي: ثوبي، والريطة ملاءة تلبس فوق الثياب.
(4) الفارة: فوح رائحة طيبة لجلود الإبل اذا نديت بعد الورد.(1/172)
جنى ناظري
(الخفيف)
أيّ عيد من الهوى عاد قلبي، ... بعدما جعجع الدّجى بالرّكب (1)
لو دعاني من غير أرضك داع ... لغرام لكنت غير ملبّي
أين ظبي بذي النّقا يوقد النّا ... ر عشاء بالمندليّ الرّطب (2)
كلّما أخمدت زهاها بضوء ال ... حسن من جيده وضوء القلب (3)
سكن الهضب من قبا فوجدنا ... أثرا للهوى بذاك الهضب (4)
ليت أحبابنا، وقد أشرقونا، ... سوّغونا برد الزّلال العذب (5)
يا لها نظرة على الشّعب دلّت ... ني غرورا على غزال الشّعب (6)
قسموا السّوء بين عيني وقلبي، ... لم جنى ناظري فعذّب قلبي
دليلان
(الطويل)
ألا أيّها الرّكب اليمانون عهدكم، ... على ما أرى، بالأبرقين قريب (7)
وإنّ غزالا جزتم بكناسه، ... على النّأي عندي، والمطال حبيب (8)
__________
(1) جعجع: صوّت، ضج.
(2) النقا: الرمل الملتوي، وهو هنا اسم موضع المندلي: عود طيب الرائحة حينما يوقد.
(3) زهاها: جعلها زاهية.
(4) قبا: اسم موضع.
(5) أشرقونا: جعلونا نغصّ.
(6) الشّعب: الطريق في الجبل، وهو أيضا مسيل الماء في بطن الوادي.
(7) الأبرقين: اسم موضع.
(8) الكناس: مبيت الغزال.(1/173)
ولمّا التقينا دلّ قلبي على الجوى ... دليلان: حسن في العيون وطيب (1)
ولي نظرة لا تملك العين أختها، ... مخافة يثنوها عليّ رقيب
وهل ينفعنّي اليوم دعوى براءة ... لقلبي، ولحظي، يا أميم، مريب (2)
وأنهلني في القعب فضل غبوقه ... خليطان: ريق بارد وضريب (3)
ولو نفضت تلك الثّنيّات بردها ... على الصّبر الممرود كاد يطيب (4)
فيا برد ماء ذاب ما ذيق برده، ... بلى، إنّ لي قلبا عليه يذوب
يا ريم
(السريع)
يا ريم ذا الأجرع يرعى به ... ثمار قلبي بدل الرّطب (5)
هناك شرب الدّمع من ناظري، ... يا مشرقي بالبارد العذب (6)
أنت على البعد همومي، إذا ... غبت، وأشجاني على القرب
لا أتبع القلب إلى غيركم، ... عيني لكم عين على قلبي (7)
__________
(1) الجوى: عذاب الحب، شدّة الوجد.
(2) أميم، ترخيم أميمة: اسم الحبيبة.
(3) القعب: القدح الضريب: العسل.
(4) الصّبر: عصارة شجر مر.
(5) الأجرع: أرض مرملة، اسم موضع.
(6) مشرقي: من يسبب لي الغصّة.
(7) عين: رقيب، جاسوس.(1/174)
بعد الثلاثين
(الكامل)
نظم الشريف هذه الأبيات في منى، بعدما حلق صدغيه، وسنّه يومئذ فوق الثلاثين بقليل، وقد رأى في شعره بياضا.
لا يبعدنّ الله برد شبيبة ... ألقيته بمنى، ورحت سليبا (1)
شعر صحبت به الشّباب غرانقا، ... والعيش مخضرّ الجناب رطيبا (2)
بعد الثّلاثين انقراض شبيبة، ... عجبا أميم لقد رأيت عجيبا (3)
قد كان لي قططا يزيّن لمّتي ... شروى السّنان يزيّن الأنبوبا (4)
فاليوم أطّلب الهوى متكلّفا، ... حصرا، وألقى الغانيات مريبا
إمّا بكيت على الشّباب، فإنّه ... قد كان عهدي بالشّباب قريبا
لو كان يرجع ميّت بتفجّع ... وجوى شققت على الشّباب جيوبا
ولئن حننت إلى منى من بعدها، ... فلقد دفنت بها الغداة حبيبا
__________
(1) البرد: الثوب، وبرد الشبيبة كناية عن سواد الشعر منى: من مناسك الحج.
(2) غرانقا: شابا أبيض.
(3) أميم: ترخيم أميمة: وهو اسم امرأة.
(4) القطط: الشعر القصير الجعد اللمة: الصدغ شروى: مثل السنان: حديدة الرمح المسننة الانبوب: قصبة الرمح التي تحمل السنان.(1/175)
تلفتت عيني
(الكامل)
ولقد مررت على ديارهم، ... وطلولها بيد البلى نهب
فوقفت حتّى ضجّ من لغب ... نضوي، ولجّ بعذلي الرّكب (1)
وتلفّتت عيني، فمذ خفيت ... عنها الطّلول تلفّت القلب
مات الشباب
(الكامل)
ولقد أكون من الغواني مرّة، ... بأعزّ منزلة الحبيب الأقرب
أقتادهنّ بفاحم متخايل، ... فيريبني ويرين لي ويزين بي (2)
وإذا دعوت أجبن غير شوامس، ... زفف النّياق إلى رغاء المصعب (3)
فاليوم يلوين الوجوه صوادفا، ... صدّ الصّحاح عن الطليّ الأجرب (4)
وإذا لطفت لهنّ قال عواذلي: ... ذئب الغضاة يريغ ودّ الرّبرب (5)
فلئن فجعت بلمّة فينانة، ... مات الشّباب بها ولمّا يعقب
فلقد فجعت بكلّ فرع باذخ ... من عيص مدركة الأعزّ الأطيب (6)
قومي تقارعت السّنون عليهم، ... فثلمن كلّ فتى كحدّ المقضب
__________
(1) اللغب: التعب النضو: البعير المهزول.
(2) الفاحم: كناية عن الشعر الأسود يرين لي: يشتد ويتعاظم في نظري.
(3) غير شوامس: من دون عصيان الزفف: الاسراع المصعب: الفحل.
(4) معنى البيت أنهن اليوم يبتعدن بوجوهن ويصرفن النظر عنه، كما تصد النياق الصحيحة وتبعد عن البعير الأجرب المطلي بالقطران.
(5) الغضاة: المكان الكثيف والغض يريغ: يخاتل الربرب: الغزال الصغير.
(6) العيص: الأصل مدركة: من أجداد العرب.(1/176)
شعبا مفرّقة يطير فضاضها، ... كالقعب منصدعا، ولمّا يرأب (1)
هتف الرّدى بجميعهم فتتابعوا ... طلق العطاس بني أب وبني أب
وردوا، وإنّي بعدهم كظميّة ... تسل القوارب عن بلوغ المشرب (2)
طرق الزّمان بكلّ خطب بعدهم، ... فإذا رأيت عجيبة لم أعجب
فارقت الشباب
(الوافر)
غدا في الجيرة الغادين لبّي ... جميعا، ثمّ راجعني وثابا
لئن فارقتهم وبقيت حيّا، ... لقد فارقت بعدهم الشّبابا
سواد وبياض
(الوافر)
تملّ من التّصابي حين تمسي ... ولا أمم صباك، ولا قريب (3)
سواد الرّأس سلم للتّصابي، ... وبين البيض والبيض الحروب (4)
وولّاك الشّباب على الغواني، ... فبادر قبل يعزلك المشيب
__________
(1) القعب: القدح الغليظ لمّا يرأب: لما يصلح.
(2) ظمية: عطشانة القوارب، جمع قارب: طالب الماء ليلا.
(3) الأمم: القصد.
(4) البيض (الأولى): الحسان البيض (الثانية): الشيب.(1/177)
الدمع قريب
(الكامل)
الدّمع مذ بعد الخليط قريب، ... والشّوق يدعو، والزّفير يجيب
ما كنت أعلم أنّ يوم فراقكم ... تبقي عليّ نواظر وقلوب
إن لم تكن كبدي غداة وداعكم ... ذابت، فأعلم أنّها ستذوب
داء طلبت له الأساة، فلم يكن ... إلّا التّعلّل بالدّموع طبيب (1)
إمّا أقمت، فإنّ دمعي غالب ... لعواذلي، وتجلّدي مغلوب
أبقوا عليلا بعدهم لا برؤه ... يرجى، ولا الآمال فيه تخيب
كطريد يوم الورد طال هيامه، ... فغدا يحوم على الرّدى ويلوب (2)
بفؤاده وبصفحتيه من الصّدى ... ومن الرّماء عن الحياض ندوب
أسوان يفتق صبره إفتاقة ... أمما، ويغمز بالجوى، فيغيب (3)
سأصبر
(الطويل)
سأصبر إنّ الصّبر مرّ صدوره، ... ألا ربّما لذّت لقلبي عواقبه
ولا بدّ أن يعطي على البعد دولة، ... فنأمن بينا، أو رقيبا نراقبه
فلا قلب لي إلّا وأنت حجابه ... ولا سرّ لي إلّا وذكرك حاجبه
__________
(1) الأساة، جمع الآسي: الطبيب.
(2) يلوب، من لاب: عطش، ولاب البعير حام حول الماء وهو لا يصل اليه.
(3) أسوان: حزين.(1/178)
فتى المجد
(المتقارب)
وجه الشاعر هذه الأبيات الى أحد أصدقائه وقد دعاه إلى زيارته.
وأبيض كالنّصل من همّه ... قراع المطالب للطّالب
أنيس اليدين ببذل النّوال ... إذا احتشمت راحة الواهب (1)
فتى كمّل المجد أخلاقه، ... فسدّ الفجاج على العائب (2)
دعا، فأطعت، وكان الدّعاء ... إلى الفخر والشّرف الرّاتب (3)
وكنت إلى مثلها في النّهو ... ض أثقل من كاهل الحاطب
أطلب ثاراتي
(البسيط)
أبرا إلى المجد من حرصي على الطّلب ... ومن قراعي على الأرزاق والرّتب
لو أنصف الدّهر دلّتني غياهبه ... على العلى بضياء العقل والحسب
ما ينفع المرء أحساب بلا جدة، ... أليس ذا منتهى حظّي وذاك أبي (4)
الآن أطلب ثاراتي بمقربة ... خدعتها عن غمير النّور والعشب (5)
يجول صدر الضّحى في أفق قسطلها ... واليوم بين العوالي ضيّق اللّبب (6)
أنضيت ستّا وعشرا ما قضيت بها، ... سوى المنى، وطرا إلّا من الأدب
__________
(1) النوال: العطاء احتشمت: هنا بمعنى بخلت وامتنعت.
(2) الفجاج: الشقوق.
(3) في هذا البيت اشارة الى الدعوة التي تلقاها الشاعر من صديقه.
(4) الجدة: النفع والعطاء.
(5) النّور: الزهر.
(6) القسطل: الغبار اللبب: موضع القلادة من الصدر.(1/179)
عذرتك
(الوافر)
لعلّ الدّهر أمضى منك غربا، ... وأقوى في الأمور يدا وقلبا (1)
ومقلته، إذا لحظت حسامي، ... تغضّ مهابة وتفيض رعبا
فكيف، وأنت أعمى عن مقالي، ... ولو عاينته لرأيت شهبا
عذرتك أنت أردى النّاس أصلا، ... وأخبث منصبا وأذّل جنبا (2)
وأنت أقلّ في عينيّ من أن ... أروعك أو أشنّ عليك حربا
أأعجب من خصامك لي وجدّي ... رسول الله يوسع منك سبّا
ومن رجم السّماء، فلا عجيب ... يقال: حثا بوجه البدر تربا (3)
فإنّك إن هجوت هجوت ليثا، ... وإنّي إن هجوت هجوت كلبا
خليلي
(الطويل)
خليليّ ما بيني وبين محرّق ... سوى وقع أطراف القنا والقواضب
أتاني بها بزلاء تلقي جرانها ... على خير بيت في لؤيّ بن غالب (4)
وفاز بكوم ذي رقاب منيفة، ... وأسنمة ملويّة بالغوارب (5)
__________
(1) أمضى غربا: أكثر قطعا وأحد نصلا.
(2) أذل جنبا: أقل مكانة ومنزلة.
(3) يقارن بين مكانته ومكانة خصمه، فيجعل نفسه في مقام البدر وخصمه لا يمكنه الوصول اليه.
(4) البزلاء: الداهية تلقي جرانها: تبرك.
(5) الكوم: القطعة من الابل الغوارب، جمع غارب: الكاهل، ما بين السنام والعنق.(1/180)
أرى إبلي مطروحة عن مراحها، ... يصيح بها الأعداء من كلّ جانب
إذا هنّ طالعن المياه عشيّة ... نشجن وراء الذّود نشج الغرائب (1)
وكنّا، إذا ما أبعد المجد غاية، ... دفعنا إليها من صدور النّجائب
تسير أمام العاصفات كأنّها ... طلائع أعناق الصّبا والجنائب (2)
خوارج من ليل كأنّ نجومه ... بياض الحصى بالأمعز المتراكب (3)
أشكوك
(مجزوء الكامل)
إيّاك أن تسخو بوع ... د ليس عزمك أن تفي به
فالصّدق يحسن بالفتى، ... والكذب يحسب من عيوبه
وإذا قدرت على الوفا ... ء، فعدّ عن غدر وذيبه
أشكوك أم أشكو الزّما ... ن، لأنّ مطلك من ذنوبه
بل أشتكيه، فكم دفع ... ت إلى الغرائب من خطوبه
فؤادي بنجد
(الطويل)
سما كبطون الأتن ريعان عارض ... تزجّيه لوثاء النّسيم جنوب (4)
__________
(1) نشجن: غصصن بالبكاء الذود: هو من الابل ما بين الثلاثة والعشرة.
(2) الصّبا والجنائب: الرياح الشرقية والرياح الجنوبية.
(3) الأمعز: المكان الصلب.
(4) الأتن، جمع أتان: أنثى الحمار الريعان: الأوّل العارض: الغيم تزجيه: تسوقه اللوثاء: السحابة البطيئة.(1/181)
رغا بين دوح الواديين برعده، ... رغاء مطايا مسّهنّ لغوب (1)
بصير برمي القطر حتّى كأنّه ... على الرّمل قاريّ السّهام نجيب (2)
تدافع، أمّا برقه فصوارم، ... وأمّا عرضه فكثيب
إذا ما أراق الماء أسفر وجهه، ... ويغدو بعبء الماء، وهو قطوب (3)
سهرت له ن ابي الوسادة، برقه ... يحوم على أعناقه ويلوب (4)
فؤادي بنجد، والفتى حيث قلبه ... أسير، وما نجد إليّ حبيب
وما لي فيه صبوة غير أنّني ... خلعت شبابي فيه، وهو رطيب
بلى! إنّ قلبا ربّما التاح لوحة، ... فهل ماؤه للواردين قريب (5)
ألا هل تردّ الرّيح، يا جوّ ضارج، ... نسيمك يحلولي لنا ويطيب (6)
وهل تنظر العين الطّليحة نظرة ... إليك، وما في الماقيين غروب (7)
وما وجد أدماء الإهاب مروعة ... لأحشائها تحت الظّلام وجيب
ترود طلا أودت به غفلاتها، ... وفي كلّ حيّ للمنون نصيب
بغوم على آثاره، وقد اكتسى ... ظلام الدّياجي غائط وسهوب (8)
__________
(1) رغا: الرغاء صوت البعير استعاره للرعد لغوب: تعب، إعياء.
(2) القاري: حد السيف ورأس السهم، وقاريّ السهام تعني أيضا: مصوّبها.
(3) معنى البيت أنّ السّحاب يسفر عن وجهه فيبدو صافيا شفافا اذا ما هطل ماؤه، واذا امتلأ ماء عاد معبّسا مقطبا.
(4) نابي الوسادة: أي أنه لم يستطع النوم فبات مؤرقا كما لو أن الوسادة نبت عنه يلوب: يحوم.
(5) التاح: عطش الوارد: طالب الماء.
(6) ضارج: مصبوغ بالحمرة.
(7) الطليحة: المكدّرة، غير الصافية ما في الماقيين غروب: ما في المجريين دموع.
(8) بغوم، من بغمت الظبية: صوّتت بصوت رخيم الغائط: المطمئن من الأرض السهوب، جمع سهب: المستوي من الأرض.(1/182)
فلما أضاء الصّبح لاح لعينها ... دم بين أيدي الضّاريات صبيب
كوجدي وقد عرّى الشّباب جواده، ... وغيّر لون العارضين مشيب
ولكنّها الأيّام، أمّا قليبها ... فمكد، وأمّا برقها فخلوب (1)
إذا ما بدأن الأمر أفسدن عقبه، ... وعفّى على إحسانهنّ ذنوب
فلله درّي يوم أنعت قولة ... لها في رؤوس السّامعين دبيب
ولله درّي يوم أركب همّة ... إلى كلّ أرض أغتدي وأؤوب
وكم ممه جاذبت بالسّير عرضه، ... وغالبته بالعزم، وهو غلوب
وليل رأيت الصّبح في أخرياته، ... كما انسلّ من سرّ النّجاد قضيب (2)
سريت به أوفي على كلّ ربوة، ... وليس سوى نجم عليّ رقيب
وأزرق ماء قد سلبت جمامه، ... يعوم الشّوى في غمره ويغيب (3)
وهاجرة فلّلت بالسّير حدّها، ... ولا ظلّ إلّا ذابل ونجيب (4)
ويوم بلا ضوء يترجم نقعه ... عن الرّوع والإصباح فيه مريب
حبست به قلبا جريّا على الرّدى، ... وقد رجفت تحت الصّدور قلوب
وطعنة رمح قد خرطت نجيعها، ... كما ماج فرغ في الإناء ذنوب (5)
وضربة سيف قد تركت مبينة، ... وحاملها عمر الزّمان معيب
وألأم مصحوب قذفت إخاءه، ... كما قذف الماء المريض شروب
ومن كان ما فوق النّجوم طلابه ... أملّ عناء قلبه ودؤوب
نظرت إلى الدّنيا بعين مريضة، ... وما لي من داء الرّجاء طبيب
__________
(1) القليب: البئر المكدي: القليل الماء خلوب: كاذب، مخادع.
(2) يشبّه الصبح، في شكله ونوره، بالسيف المنسل من غمده.
(3) الشّوى: اليدان والرجلان.
(4) يشبّه حر الهاجرة بحدّ السيف، وقوله: فلّلت حدّه، يعني أنه اجتاز الصحراء في يوم حر.
(5) الفرغ: مخرج الماء من الدلو الذنوب: الدلو.(1/183)
ومن كان في شغل المنى ففراغه ... منال الأماني، أو ردى وشعوب (1)
فما لي طول الدّهر أمشي كأنّني ... لفضلي في هذا الزّمان غريب
إذا قلت قد علّقت كفّي بصاحب ... تعود عواد بيننا وخطوب
وما فيه شيء خالد لمكادح، ... وكلّ لغايات الأمور طلوب
تحكّم الظّلم
(البسيط)
يا سعد كلّ فؤاد في بيوتكم ... مثلي تحكّم فيه الظّلم والشّنب (2)
إنّي لأكرم نفسي أن يقال جنى ... على الفتى العربيّ الخرّد العرب (3)
إنّي على شغفي بالحبّ معتذر ... من أن يقال شجاع فلّه الوصب (4)
إنّا معاشر لا تبلى مطارفنا، ... إلّا وهنّ لطلّاب النّدى سلب
موقّرون وأيدي الحلم طائشة، ... والجدّ ينقص من أطرافه اللّعب
فالآن تغصبنا الدّنيا غضارتها، ... ظلما، وتأخذ من أيّامنا النّوب
أصمّ عن الجواب
(الوافر)
إلى كم لا تلين على العتاب، ... وأنت أصمّ عن ردّ الجواب
حذارك أن تغالبني غلابا، ... فإنّي لا أدرّ على الغضاب (5)
__________
(1) شعوب: موت، وشعبته المنيّة: اغتالته.
(2) الظّلم: بريق الأسنان الشّنب: بياض الأسنان وحسنها.
(3) الخرّد، جمع خريدة: الفتاة الحيية.
(4) الوصب: عذاب الحب.
(5) لا أدرّ على الغضاب: لا تكثر خيراتي على من يغاضبني.(1/184)
وإنّك إن أقمت على أذاتي، ... فتحت إلى انتصاري كلّ باب
وأحلم ثمّ يدركني إبائي، ... وكم يبقى القرين على الجذاب
إذا ولّيتني ظفرا ونابا، ... فدونك فاخش من ظفري ونابي
فإنّ حميّة القرناء تطغى، ... فتثلم جانب النّسب القراب
نفرّ إلى الشّراب، إذا غصصنا، ... فكيف إذا غصصنا بالشّراب
فلا تنظر إليّ بعين عجز، ... فربّ مهنّد لك في ثيابي (1)
ومن لك بي يردّ عليك شخصي ... إذا أثبتّ رجلي في الرّكاب
وما صبري، وقد جاشت همومي ... إلى أمر وعبّ له عبابي
سيرمي عنك بي مرمى بعيد، ... وتغدو غير منتظر إيابي
إذا الإشفاق هزّك عدت منه ... بعضّ أنامل أو قرع ناب (2)
وتسمع بي وقد أعلنت أمري، ... فتعلم أنّ دأبك غير دابي (3)
وربّ ركائب من نحو أرضي، ... تخبّ إليك بالعجب العجاب
وتظهر أسرة من سرّ قومي، ... تمدّ إلى انتظاري بالرّقاب (4)
وتصبح لا تني عجبا وقولا: ... أهذا الحدّ أطلق من ذبابي
فكيف إذا رأيت الخيل شعثا ... طلعن من المخارم والعقاب (5)
تعاظل كالجراد زفته ريح ... فمرّ يطيعها يوم الضّباب (6)
أمضّتها الشّكائم فهي خرس ... تسيل لها دما بدل اللّعاب (7)
__________
(1) رب مهند لك في ثيابي: اي رب نظرة لك جاءت كالسيف تطعن قلبي.
(2) عض أنامل أو قرع ناب: كناية عن الندم.
(3) دابي: دأبي.
(4) سر قومي: محض نسبهم.
(5) المخارم، جمع مخرم: أنف الجبل العقاب، جمع عقبة: مرقى صعب في الجبل.
(6) تعاظل: ركب بعضه بعضا زفته: دفعته وحملته.
(7) الشكائم، جمع شكيمة: الحديدة المعترضة في فم الفرس.(1/185)
تذكّركم بذي قار طعانا، ... وما جرّ القنا يوم الكلاب (1)
عليها كلّ أبلج من قريش، ... لبيق بالطّعان وبالضّراب
يسير، وأرضه جرد المذاكي، ... وجوّ سمائه ظلّ العقاب (2)
وعندي للعدى، لا بدّ، يوم ... يذيقهم المسمّم من عقابي
فأنصب فوق هامهم قدوري، ... وأمزج من دمائهم شرابي
وأركز في قلوبهم رماحي، ... وأضرب في ديارهم قبابي
فإن أهلك فعن قدر جريّ، ... وإن أملك فقد أغنى طلابي
مضى الرجال
(المنسرح)
لم يبق عندي من الإباء سوى ال ... نّظرة محمّرة من الغضب
وعضّ كفّي على الزّمان من الغي ... ظ، وشكوى وقائع النّوب
أو زفرة، تحسب الضّلوع لها ... أطر قسيّ يرمين باللهب (3)
مضى الرّجال الأولى مذ افترقوا ... عنّي صار الزّمان يلعب بي
أقول لمّا عدمت نصرهم: ... وألهف أمّي عليكم وأبي
__________
(1) ذي قار ويوم كلاب: من أيام العرب.
(2) جرد المذاكي: الجياد القصيرة الشّعر والذكيّة.
(3) الأطر: منحنى القوس.(1/186)
أبا حسن
(الوافر)
وجّه الشاعر هذه القصيدة إلى أبي الحسن البتي.
أبا حسن! أتحسب أنّ شوقي ... يقلّ على معارضة الخطوب
وأنّك في اللّقاء تهيج وجدي، ... وأمنحك السّلوّ على المغيب (1)
وكيف، وأنت مجتمع الأماني، ... ومجنى العيش ذي الورق الرّطيب
يهشّ لكم على العرفان قلبي ... هشاشته إلى الزّور الغريب (2)
وألفظ غيركم، ويسوغ عندي ... ودادكم مع الماء الشّروب
ويسلس في أكفّكم زمامي، ... ويعسو عند غيركم قضيبي (3)
وبي شوق إليك أعلّ قلبي، ... وما لي غير قربك من طبيب
أغار عليك من خلوات غيري، ... كما غار المحبّ على الحبيب
وما أحظى، إذا ما غبت عنّي، ... بحسن للزّمان، ولا بطيب
أشاق، إذا ذكرتك من بعيد، ... وأطرب، إن رأيتك من قريب
كأنّك قدمة الأمل المرجّى ... عليّ، وطلعة الفرج القريب (4)
إذا بشّرت عنك بقرب دار، ... نزا قلبي إليك من الوجيب (5)
مراح الرّكب بشّر بعد خمس ... ببارقة تصوب على قليب (6)
أسالم حين أبصرك اللّيالي، ... وأصفح للزّمان عن الذّنوب
وأنسى كلّ ما جنت الرّزايا ... عليّ من الفوادح والنّدوب
__________
(1) السلو: النسيان، العزاء.
(2) الزّور: الزائر.
(3) يعسو: ييبس.
(4) القدمة: السابقة في الأمر.
(5) نزا: وهج الوجيب: الخفقان.
(6) تصوب: تنزل قليب: بئر.(1/187)
تميل بي الشّكوك إليك حتّى ... أميل إلى المقارب والنّسيب
وتقرب في قبيل الفضل منّي ... على بعد القبائل والشّعوب
أكاد أريب فيك، إذا التقينا، ... من الأنفاس والنّظر المريب
وأين وجدت من قبلي شبابا ... يحنّ من الغرام على مشيب
إذا قرب المزار، فأنت منّي ... مكان الرّوح من عقد الكروب (1)
وإن بعد اللّقاء على اشتياقي، ... ترامقنا بألحاظ القلوب
جاءت به مهذّبا
(الرجز)
جاءت به من مضر مهذّبا ... مثل السّنان ذلقا مذرّبا
يضمّ برداه الجراز المقضبا، ... تخيّر الأحساب أمّا وأبا (2)
أبلج لا يشتم إلّا كذبا
حسن صبري
(المجتث)
لا تنكري حسن صبري، ... إن أوجع الدّهر ضربا
فالعبد أصبر جسما، ... والحرّ أصبر قلبا
__________
(1) الكروب، جمع كرب: الحبل.
(2) الجراز المقضب: السيف القاطع.(1/188)
نزوت
(الطويل)
نزوت نزاء الجندب الجون ضلّة ... إلى باسل عبل الذّراعين أغلب (1)
وما كنت في الأحياء إلّا ضميمة ... تناط بهم نوط الإباء المذبذب
تجاور زلّا، أو تعاقد قلّة ... من الهون لا تدلي بأمّ ولا أب
فحول معدّ منجبون، وأنتم ... نزالة فحل منهم غير منجب
تقنّصه صرف المقادير غرّة، ... وكم فات من ناب علوق ومخلب
ولو هيج للهيجاء طار بسرجه ... جواد كذئب الرّدهة المتأوّب (2)
وكلّ سنان طالع فوق ضامر، ... كما حام زنبور على ظهر عقرب
وفتيان غارات كأنّ رماحهم ... بجانب ذي القلّام عيدان أثأب (3)
بأيمانهم بيض يضيء وجوههم ... قواضب قد جرّبن كلّ مجرّب
غرانق أزوال رعوا عازب الحمى ... بصمّ العوالي، والصّفيح المقلّب (4)
فلا تحسبوها قطرة من دمائنا ... تضيع ولو في طافح النّجم مطلب (5)
إذا أعشب الشّق اليمانيّ فابشروا ... بيوم عقام ينضح الشرّ أجرب (6)
فإن ترحمونا اليوم نرحمكم غدا ... بعود من الجزم النّزاريّ مصعب (7)
__________
(1) نزوت: وثبت الجندب: الجراد الجون: الملونة عبل الذراعين:
مفتولهما.
(2) الردهة: الحفرة في الجبل.
(3) ذو القلّام: اسم موضع الأثأب: شجر.
(4) الغرانق: الشباب البيض الآزوال، جمع زول: الظريف الشجاع عازب الحمى: الحمى الذي لم يرع قط الصفيح، جمع صفيحة:
السيف.
(5) مطلب: بعيد.
(6) الشق: الناحية، الجانب يوم عقام: يوم شديد.
(7) العود: المسن من الابل الجزم، جمع جازم: الريان المصعب:
الفحل.(1/189)
لكم لقحة الأرض
(المتقارب)
لكم لقحة الأرض تحمونها، ... وفي يدكم صرّها والحلب (1)
فمن أين نبلغ ما نشتهي، ... ومن أين نطمع فيما نحبّ
إذا المال أصبح في الباخلين، ... فإنّ مرجّي الغنى في تعب
تصغي لها الأسماع
(الرجز)
انظر أبا قرّان ما تعيب، ... ملس الذّرى قوّمها لبيب
تصغي لها الأسماع والقلوب، ... مثل السّهام كلّها مصيب
لطيمة نمّ عليها الطّيب، ... تودعها الأردان والجيوب
ويغنم الهلباجة المعيب، ... يتعب ذو البراعة الأديب (2)
يخرج عنّي العاسل المذروب، ... قد قوّم الأنبوب والأنبوب (3)
فلا يزال العضّ والتّنييب، ... حتّى يعود الذّابل الصّليب
وهو بأيدي معشر كعوب، ... إنّ رزايات الفتى ضروب (4)
في كلّ يوم هجمة تلوب، ... هاج عليها الكلأ الرّطيب (5)
يطلبن أرضي، والهوى طلوب، ... لا أمم منّي، ولا قريب (6)
__________
(1) لقحة الأرض: الفيء والخراج.
(2) الهلباجة: الأحمق العنيد والجامع لكل شر.
(3) العاسل: الرمح المذروب: المحدد.
(4) كعوب: قساة ضروب: أنواع.
(5) تلوب: تفشل.
(6) أمم: بعيد.(1/190)
عند الأعادي وسمها غريب، ... يرصدهنّ الحارب المريب
له على مطلعها رقيب، ... إذا طلعن اعترض القليب (1)
تهوي به الأظفار والنّيوب، ... كما هوت خائبة طلوب
يألم قلبي، وبها النّدوب ... يشكو المطى ما ألم العرقوب (2)
أطبعها، وهو بها الكسوب، ... لي اللآلي، وله الثّقوب
داء على إعضاله عجيب، ... يضحك من أوصافه الطّبيب
هل تأمن اليوم، وأنت ذيب، ... بهم بأكناف الحمى غريب
إن لم يدمّ الله والخطوب (3)
الشمس ظئر
(الرمل)
كيف صبّحت أبا الغمر بها ... صعبة تنزو نزاء الجندب (4)
مرح الشّقراء في مضمارها، ... تتّقي الصّوت بمرّ عجب
يركب الرّاكب إن جشّمها ... دلج اللّيل، وتسبي المستبي
بنت كرم ظئرها الشّمس، وما ... درجت في حجر أمّ وأب (5)
غصبت ما أثّرت في جسمها ... قدم العلج برأس العربي (6)
__________
(1) القليب: البئر.
(2) المطى: الظهر.
(3) يدمّ: يهلك.
(4) تنزو نزاء الجندب: تثب وثب الجراد.
(5) بنت كرم: كناية عن الخمر الظئر: المرضعة، وظئرها الشمس كناية عن قدمها.
(6) العلج: الكافر.(1/191)
هو المذنب
(المتقارب)
يعاقبني، وهو المذنب، ... لقد ذلّ جارك يا جندب (1)
ويعجب من غضبي جهلة، ... ومن ذا يضام فلا يغضب
نزاد من اللّوم عن وردكم، ... فعمّ نزاد ولا مشرب
نعم أعوز الطّول راجيكم، ... فلم أعوز الأهل والمرحب (2)
إذا إبلي مطلت رعيها، ... فهل ينفع البلد المعشب
وهل نافعي ظاهر باسم، ... ومن خلفه باطن يقطب
لقد وقف الرّكب من بابكم ... على مطلب ماؤه مطلب
وما كنت في النّفر الشّائمي ... ن، بأوّل من غرّه الخلّب
ذنابى مصعن بأبعارهنّ، ... وقد يمصع الذّنب الأهلب (3)
لقد ساءني أن يموع السّماح ... بموت الكرام، ولا يعقب
ألا تعجبون لذي سوءة ... تحكّك في عرضه الاجرب
وجعجع لي ظهر عاري الصّفا ... ح عقير، وقال: ألا تركب (4)
وسوف أغنّي بأعراضكم ... غناء من الشّرّ لا يطرب
قواف مطلن لحزّ الجنو ... ب مطل المدى جرعها موعب (5)
وحسبك من سفه أنّني ... أجدّ، وتحسبني ألعب (6)
وقالوا: احتلب درّهمّ بالسؤا ... ل، إنّ الغوارز لا تحلب (7)
وكيف، ولم يرغبوا في الثّناء ... إلى المادحين ولم يرغبوا
لقد وسّع الله ما ضيّقوا، ... وقد عوّض الله ما خيّبوا
__________
(1) الجندب: الجراد.
(2) الطول: الفضل، العطاء، الغنى.
(3) مصعت الدابة ذنبها: حركته الأهلب: الكثير الشعر.
(4) جعجع: صوّت عاري الصفاح: عاري الجوانب.
(5) مطلن: صنعن موعب، من وعب الشيء: أخذ برمّته.
(6) سفه: جهل.
(7) الغوارز: النياق التي قلّ لبنها، جمع غارز.(1/192)
تنحّ
(الكامل)
نزل المسيل، وبات يشكو سيله، ... ألّا علوت فبتّ غير مراقب
جمع المثالب، ثمّ جاء تعرّضا ... بالمخزيات يدقّ باب الثّالب (1)
وإذا اجتمعت على معايب جمّة ... فتنحّ جهدك عن طريق العايب (2)
غادروها شهبا
(الطويل)
وركب تفرّى بينهم قطع الدّجى، ... يسير على البيداء ينتهب التّربا
يصدّون عن ورد الكرى وعيونهم ... خوامس حتّى تشرب المنظر العذبا (3)
إذا ذعرتهم نبأة غادرتهم ... وقد أيقظوا من بين أجفانها القضبا
سروا وخيول اللّيل دهم وعرّسوا ... وقد غادروها في طراد الضّحى شهبا (4)
يضوع هجير السّير بين رحالهم، ... إذا ما نسيم اللّيل في ثوبه هبّا
أسنّة المجد
(الطويل)
أسنّة هذا المجد آل المهلّب، ... وفرّاطه في كلّ شرق ومغرب (5)
سلوني عن مجد المفعّل، وأسألوا ... أبي عن أبيه ذي الجلال المهذّب
__________
(1) المثالب: المخازي، السيئات.
(2) هذا البيت جاء بمثابة حكمة.
(3) الخوامس: الابل ترعى ثلاثة أيام وترد الرابع.
(4) دهم: سود. يشبه موجات العتمة بجياد سود عرّسوا: أقاموا.
(5) الفرّاط: السابقون، المتقدمون.(1/193)
يقل: إنّ ذاك اللّيث في كلّ معرك، ... وهذا الحسام العضب في كلّ مضرب
وهذا الرّبيع الطّلق رقّت فروعه، ... نتيجة ذاك العارض المتصبّب (1)
أخلّاي من بين الملوك وإخوتي، ... وأحلى بقلبي من بعيدي وأقربي
هم قومي الأدنون من بين أسرتي، ... وإن كان شعب القوم من غير مشعبي
فهذا ثنائي لا أريد به الغنى، ... أبى المجد لي أن أجعل المدح مكسبي
ولكن رجاء أن تكون لهمّتي ... طريقا تؤدّيني إلى كلّ مطلبي
فأزحم منك الحادثات بمنكب، ... وأقطع منك النّائبات بمقضب (2)
وأرمي إلى أمر أظنّك بابه، ... ألا إنّ بعض الظّنّ غير مكذّب
دار المعالي
(الكامل)
قل للخطوب: ضعي سلاحك قد حمى ... سربي وآمنني أبو الخطّاب (3)
ولقد حططت بك الرّجاء، ولم يكن ... إلّا إليك تسبّبي وطلابي
يا ملبسي النّعم القديم لباسها، ... جدّد عليّ نضارة الأثواب
دار المعالي أنت باب دخولها، ... فأذن، فإنّي واقف بالباب
أطباء العراق
(الطويل)
دعوا لي أطبّاء العراق لينظروا ... سقامي وما يغني الأطبّاء في الحبّ
__________
(1) العارض المتصبب: الغيم الماطر.
(2) المقضب: السيف.
(3) أبو الخطاب: هو أبو الخطاب المنجم الذي وجّه إليه هذه الأبيات.(1/194)
أشاروا بريح المندل اللّدن والشّذا، ... وردّ ذماء النّفس بالبارد العذب (1)
يطيلون جسّ النّابضين ضلالة، ... ولو علموا جسّوا النوابض من قلبي
صاحب كالغرّ
(الرمل)
صاحب كالغرّ ليس أرى ... جدّه منّي، ولا لعبه (2)
يتّقيني بالخلاب، وإن ... جدحوا عرضي له شربه (3)
داعيا لي بالخلود، ولو ... طلبوا منه دمي وهبه
قسما بالبيت طفت به، ... وبرمي جمرة العقبه
المأمول والمطلوب
(الخفيف)
بين عزمي وبينهنّ حروب، ... إنّ أقواهما هو المغلوب
عرضت رحلة فعرّض بالدّم ... ع، فهان المأمول والمطلوب
__________
(1) المندل: عود طيب الذماء: البقية.
(2) الغر: الشاب لا خبرة له.
(3) الخلاب: الخداع بالكلام جدحوا: أخذوا دمي في إناء.(1/195)
إساءته
(المتقارب)
إساءته شهوة ثرّة، ... وإحسانه درّة الأرنب (1)
فقد زيد شرّا إلى شرّه، ... كما استنفر الضّبّ بالعقرب (2)
أخافك
(الطويل)
أخافك: إنّ الخوف منك محبّة، ... وما كلّ مخشيّ العقاب محبّبا
لئن كان خوفي من سطاك مبعّدا، ... فيا ربّما كان الرّجاء مقرّبا
مضى حامي السروح
(الكامل)
ضمّوا قواصي كلّ سرح سارب، ... وقفوا السّوائم بالنّدى المتقارب (3)
فلقد مضى حامي السّروح من العدى ... ومبيح أسوقها غرار القاضب (4)
__________
(1) درّة الأرنب: حليب الأرنب، وفي القول كناية عن القلة.
(2) الضب: حيوان من الزحافات شبيه بالحرذون وذنبه كثير العقد.
(3) السرح السارب: الماشية المتجهة الى المرعى السوائم: الماشية.
(4) الغرار: حد السيف القاضب: القاطع.(1/196)
آه من دائين
(الرمل)
آه من دائين عدم ومشيب ... ربّ سقم لا يداوى بطبيب
كأن نزارا
(الطويل)
كأنّ نزارا والخمول رداؤه، ... غداة بغى جهلا عليّ وأجلبا
مشبّجة من خذّل العين واقعت ... على الماء مفتول الذّراعين أغلبا (1)
ترفق أيها الرامي
(الوافر)
ترفّق أيّها الرّامي المصيب، ... فمن أغراض أسهمك القلوب
تسوء قطيعة وتشوق حبّا، ... فما أدري عدوّ أم حبيب
__________
(1) المشبجة: المردودة الخذل، جمع خاذل: المتخلّفة عن صواحبها، المنفردة عن القطيع العين، جمع عيناء: البقرة الوحشية الأغلب:
الأسد.(1/197)
قافية التاء
عذيري
(الطويل)
عذيري من العشرين يغمزن صعدتي، ... ومن نوب الأيّام يقرعن مروتي (1)
ومن همم أوجدنني في عشيرتي، ... وأكثرن ما بين الأقارب غربتي
ومن عزمات كلّ يوم يقفن بي ... على كلّ باب للمقادير مصمت
ومن مهجة لا ترأم الضّيم مرّة ... يعجّل عن دار المذلّة نهضتي (2)
ومن لوعة للحبّ مشحوذة الظّبى، ... إذا ضربت في جانب القوم ثنّت (3)
ومن زفرة تحت الشّغاف مقيمة، ... إذا قلت قد ولّى بها الدّهر كرّت
تذكّر أيّاما مضين، ولو فدت ... بنان يدي تلك اللّيالي لفلّت (4)
يخالسنا الأحباب حتّى تقطّعت ... قرائيننا، ريب الزّمان المشتّت (5)
ولم يبق لي إلّا عليق مضنّة ... أداري اللّيالي عنه إمّا ألمّت (6)
فيا ليتها قد أنسأته، وليتها ... عليه، وإن لم ينج يوما، أذمّت (7)
__________
(1) الصعدة: القناة المروة: الصفاة.
(2) مهجة: نفس ترأم: تألف.
(3) الظبى، جمع ظبة: حد السيف، استعارها للدلالة على رهافة الاحساس.
(4) فلّت: ثلمت.
(5) قرائين، جمع قرآن، من قرأ الشيء: ضمّه وجمعه.
(6) العليق، تصغير علق: الشيء النفيس المضنّة: ما يضن به، يبخل به.
(7) أنسأته: أجلته أذمّته: أجارته، أخذته تحت حمايتها، جعلته في ذمّتها.(1/198)
سقى الله من أمسى على النأي علّتي، ... وقد كان مع قرب المزار تعلّتي
أقلني، أقلني نظرة ما احتسبتها، ... فقد أنهلت قلبي غليلا وعلّت (1)
فشوقا إلى وجه الحبيب تلهّفي، ... وميلا إلى دار الحبيب تلفّتي
جرت خطرة منه على القلب كلّما ... زجرت لها العين الدّموع أرشّت
ومرّت على لبّي، فقلت لعلّها ... تجاوزني مكظومة، فاستمرّت (2)
أداري شجاها كي يخلّى مكانه، ... وهيهات، ألقت رحلها واطمأنّت
وأعلم ما خاضت يد الدّهر للفتى ... أمرّ مذاقا من فراق الأحبّة (3)
فكم زعزعتني النّائبات فلم أزل ... لها قدمي عن وطأة المتثبّت
وكم صاحت الأيّام خلفي بروعة ... فصرت بعين الجازع المتلفّت
تسلّ عليّ الحادثات سيوفها، ... فمن مغمد قد نال منّي ومصلت (4)
زمامي بكفّ الدّهر أتبع خطوه، ... وما الدّهر إلّا مالك للأزمّة
وقد كنت آبى أن أقاد، وإنّما ... ألان قيادي من ألان عريكتي
فلا تشمتوا إن يثلم الدهر جانبي، ... فأكثر ممّا مرّ منّي بقيّتي
تحيّف شوسا من عيون فأغمضت ... وذلّل غلبا من رقاب فذلّت (5)
فآه على الدّنيا إذ الجدّ صاعد ... وأوه من الدّنيا إذا النّعل زلّت
ألا هل أخيض الطّرف يوما بغمرة ... إذا الخيل بالغرّ الوجوه تمطّت
ولم تلق فيها غير طعن مضجّج، ... وضرب سريع بالمنايا مسكّت
ترنّ له هام الرّجال، وإن رمت ... بأعينها فيه النّساء أرنّت
فسوف تراني طائرا في غبارها ... على سابح تهفو غدائر لمّتي
__________
(1) أقلني: إمنحني، ساعدني.
(2) مكظومة: عابسة، غضبى.
(3) خاضت: خلطت.
(4) مصلت: منصلت، منسل. يلاحظ اعتماد مراعاة النظير في المعنى المجازي المعتمد.
(5) تحيف: تنقص الشوس: النظر بمؤخرة العين تكبرا أو تغيظا.(1/199)
بيوم كثير بالغبار عطاسه، ... إذا ثوّب الدّاعي قليل المشمّت (1)
معارك يخدجن المهار، وبعدها ... مناعي رجال ملقيات الأجنّة (2)
ورمحي إلى الأعداء كيدي، وصارمي ... جناني يوم الرّوع، والصّبر جنّتي (3)
وكلّ غلام ذي جلاد ونجدة ... وكلّ جواد ذي هبات وميعة (4)
إذا ما الجياد الجرد أجرى لبانها ... وشمّصها وقع الظّبى والأسنّة (5)
فإنّ عناني في يمين معوّد ... على عقب الأيّام قود الأعنّة (6)
إذا اعترض المأمول من دونه الرّدى ... شققت إليه الدّارعين بمهجتي
وغامست فيه لا أبالي لو انّني ... تلقّيت منه منيتي، أو منيّتي (7)
إذا سمحت بالموت نفسي، فإنّه ... يقلّ احتفالي بالّذي جرّ ميتتي (8)
وما إن أبالي ما جنى الدّهر بعدما ... يبلّ يميني قائم من صفيحتي
فما حدثان الدّهر عندي بفاتك، ... ولا جنّة البقّار عندي بجنّة (9)
ألا لا أعدّ العيش عيشا مع الأذى، ... لأنّ قعيد الذّلّ حيّ كميّت
يخيفونني بالموت، والموت راحة ... لمن بين غربي قلبه مثل همّتي
__________
(1) المشمت، من شمت العاطس: دعا بقوله مثلا: يرحمك الله.
(2) يخدجن، من الخداج: إلقاء الدابة ولدها قبل تمام أيامه المهار، جمع مهر: ولد الفرس الأجنة: جمع جنين.
(3) جنتي: ترسي.
(4) ذي جلاد: ذي ثبات وشجاعة الهبات، من الهبوة: الغبار الميعة:
جري الفرس.
(5) الجرد: القصيرة الشعر لبانها: نحرها شمّصها: نخسها فصارت تفعل مثل الشموص، أي الشموس.
(6) عقب الأيام: تعاقبها.
(7) اعتمد الشاعر الجناس بين منية ومنية ليشير إلى أنه يسعى وراء هدفه السامي فإمّا أن يحققه وإما أن يموت.
(8) احتفالي: اهتمامي.
(9) البقار: موضع برمل عالج يزعمون أنه كثير الجن.(1/200)
فلا تبرزوا لي بالأنوف، فإنّني ... معوّدة جدع الموارن شفرتي (1)
بنينا رواق المجد تعلو سموكه، ... لقد عظمت تلك المباني وجلّت
أقلّوا علينا لا أبا لأبيكم، ... ولا ترشقونا باللّتيّا وبالّتي
تريدون أن نوطى، وأنتم أعزّة، ... بأيّ كتاب أم بأيّة سنّة
فإن كنتم منّا، فقد طال ميلكم ... قديما على عيدان تلك الأرومة
فلا صلح حتّى تسمعوا من أزيزها ... صواعق إمّا صكّت الأذن صكّت (2)
ولا صلح حتّى ينظروا من زهائها ... شواهق لا يبلغن صوت المصوّت (3)
وحتّى تروها كالسّعالى إليكم ... تفلّت من أرسانها والأجلّة
فإنّي زعيم للأعادي بمثلها، ... وذلك رهن في ذمامي وذمّتي
فيا منبتي هل أنت بالعزّ مورقي، ... حنانيك كم أبقى، وقد طال منبتي
أما كملت عند الخطوب تجارتي، ... أما خلصت عند الأمور رويّتي
أما أنا موزون بكلّ خليفة ... أرى أنفا من أن يكون خليفتي
ألست من القوم الأولى قد تسلّفوا ... ديون العلى قبل الورى في الأظلّة
وما خلقت أقدامهم وأكفّهم ... لغير العوالي والظّبى والأسرّة
ذوو الجبهات البيض تلمع بينها ... وسوم المعالي والوجوه المضيئة
أبوا أن يلمّ الذّلّ منهم بجانب، ... وما العزّ إلّا للنّفوس الأبيّة
وكم بين ذي أنف حميّ وحاملي ... موارن قد عوّدن جذب الأخشّة (4)
بلى! إنّني من تعلمان، وإنّما ... أرى الدّهر يعمى عن بيان فضيلتي
فخرت بنفسي لا بأهلي موفّرا ... على ناقصي قومي مناقب أسرتي
__________
(1) الموارن، جمع مارن: طرف الأنف.
(2) الأزيز: الصوت صكت الأذن: ضربتها ضربا شديدا صكّت (الثانية): أغلقت.
(3) الزهاء: المقدار.
(4) موارن، جمع مارن: طرف الأنف الأخشة، جمع خشاش: عود يدخل في عظم أنف البعير.(1/201)
ولا بدّ يوما أن يجيء فجاءة، ... فلا تنظراني عند وقت مؤقّت
وو الله لا كدّيت دون منالها، ... وظنّي بربّي أن يبرّ أليّتي (1)
أحلم خلق الله
(الطويل)
أبيّنتها أم ناكرتك شياتها، ... نزائع ينقلن الرّدى صهواتها (2)
طلعن سواء، والرّماح عوابس ... تعاسلها أعناقها وطلاتها (3)
رأوا نقعها يدنو فظنّوا غمامة، ... فما شعروا حتّى بدت جبهاتها
وفوق قطاها غلمة غالبيّة، ... تميس على أكتافها وفراتها (4)
مغاوير لا ميل تثنّي رقابها، ... ولا بكسالى أوهنتها سناتها (5)
تلثّم فوق اللّثم بالنّقع والدّجى، ... فلولا ظباها لم تبن صفحاتها (6)
متى ترها في حيّها تر فتية ... ليوم الوغى مأخوذة أهباتها
مفرّغة ممّا تنيل عبابها ... من المال أو مملوءة جفناتها (7)
تخطّى بها أعناق كلّ قبيلة ... صوارمها تهتزّ أو قنواتها
__________
(1) يبر، من أبر اليمين: أمضاها على الصدق الأليّة: اليمين.
(2) أبيّنتها: أأوضحتها شياتها، جمع شية: علامة النزائع: النياق التي تجلب الى غير بلادها.
(3) تعاسلها، من عسل الفرس في عدوه: اضطراب وهز رأسه الطلاة: العنق.
(4) قطاها: ظهرها غلمة: فتيان وفراتها، جمع وفرة: ما سال من الشعر على الأذنين.
(5) السنات، جمع سنة: النعاس.
(6) النقع: الغبار ظباها، جمع ظبة: حد السيف.
(7) الجفنات، جمع جفنة: القصعة الكبيرة.(1/202)
ترى عندها الشّهر الحرام محلّلا ... إذا خفرتها للوغى عزماتها
وأحلم خلق الله، حتّى إذا دنا ... إليها الأذى طارت بها جهلاتها
إذا وسمت بالنّار خيل، فعندها ... كرائم آثار الطّعان سمعاتها
متى سمعت صوت الصّريخ تنصّتت ... قياما إلى داعي الوغى سمعاتها
رحلنا بأكباد غلاظ على الهوى ... قليل إلى ما خلفها لفتاتها
إذا أزمعت إزماعة الجدّ لم تبل: ... أفتيانها الباكون أم فتياتها
سوابقها أولى بها لا نساؤها، ... وأدراعها والبيض لا أمّهاتها
وحيّ من الأعداء باتوا بليلة ... منعّمة لو لم تذمّ غداتها
وخيل خششنا جوّهم برماحنا، ... كما خشّ آناف القروم براتها (1)
فما استيقظوا حتّى تداعى صهيلها ... وقد سبقت ألحاظهم عبراتها
ولم ينج إلّا من تخاطت سيوفنا، ... وذاق الرّدى من عمّمت شفراتها
قواضب لا يودى بشيء قتيلها، ... إذا أمست القتلى تساق دياتها
أنسنا بأطراف الرّماح، وإنّنا ... لنحن محلّوها ونحن سقاتها
نبتن لأيدينا خصوصا، وإنّما ... لنا يتواصى بالطّعان نباتها (2)
بأبوابنا مركوزة، وإلى الوغى ... تزعزع في أيماننا قصباتها
أبيت، وكان العزّ منّي خليقة، ... وهل سبّة إلّا وقومي أباتها
فلا تفزعوني بالوعيد سفاهة، ... فلي هامة لا تقشعرّ شواتها (3)
تغاوت على عرضي عصائب جمّة، ... ولو شئت ما التفّت عليّ غواتها
أولّيهم صمّاء أذن سميعة، ... إذا ما وعت ألوت بها غفلاتها
يطول إذا همّي، إذا كان كلّما ... سمعت نبيحا من كلاب خساتها (4)
__________
(1) القروم، جمع قرم: سمة في انف البعير براة، من برا البعير: جعل في أنفه البرة وهي الحلقة.
(2) الخصوص: النبات القوي، ويعني بها الرماح.
(3) الشواة: جلدة الرأس.
(4) خساتها، أي خسأتها: من خسأ الكلب: طرده.(1/203)
لذلّتها هانت عليّ ذنوبها، ... فلم أدر من نبذي لها من جناتها
قوارص لم تعلق بجلدي نصالها، ... ولو كان غيري أنفذته شذاتها (1)
هم استلدغوا رقش الأفاعي ونبّهوا ... عقارب ليل نائمات حماتها
وهم نقلوا عنّي الذي لم أفه به ... جناني، على عزّي لها، لفقاتها
أريد لئن أحنو على الضّغن بيننا، ... وتأبى قلوب أنغلتها هناتها (2)
دعوها ندوبا بيننا باندمالها، ... ولا تبلغوا منّي، وإلّا نكاتها
فإنّي مطول للأعادي مماحك، ... إذا نصّفوا أوساق ضغن ملاتها (3)
لقد غرّبتني حظوة الفضل عنكم، ... وإن جمعت أعراقنا نبعاتها (4)
وما النّفس في الأهلين إلّا غريبة، ... إذا فقدت أشكالها ولداتها (5)
بني مضر خلّوا نفوسا عزيزة ... تنام فأولى أن يطول سناتها
دعوها فخير للأعادي هجودها، ... وشرّ لمن يغرى بها يقظاتها (6)
ثقوا عن قليل أن يهبّ شرارها، ... وإن قلتم قد أخمدت جمراتها
ولا تأنسوا أنّ الجياد بشكلها، ... فيا ربّما أردتكم نزواتها (7)
ولا تأمنوا صول النّفوس وإن غدت ... مضاربها مفلولة وظباتها
بنو هاشم عين، ونحن سوادها ... على رغم أقوام، وأنتم قذاتها
وما زلتم داء يفرّي إهابها، ... وإن كنتم منها، ونحن أساتها (8)
__________
(1) الشذاة: بقية القوّة.
(2) أحنو: أعطف الضغن: الحقد أنغلتها: أفسدتها الهناة: الداهية.
(3) نصّفوا: بلغوا النصف الأوساق، جمع وسق: مكيال.
(4) الأعراق: الأصول نبعاتها: النبعة نوع من الشجر الضخم والقاسي، به يكنى عن الأصل.
(5) لداتها: أترابها.
(6) هجودها: نيامها.
(7) الشكلة: حمرة في بياض، من ألوان الجياد، وقد تكون الشكلة من الشكال وهو حبل تشد به قوائم الفرس، والمعنى الثاني أقرب الى ما يقصده الشاعر.
(8) يفرّي: يشقّق أساتها، جمع الآسي: الطبيب.(1/204)
وأعجب ما يأتي به الدّهر أنّكم ... طلبتم على ما فيكم أدواتها
وأمّلتم أن تدركوها طوالعا، ... دعوها ستسعى للمعالي سعاتها
وإمّا حرنتم عن مداها، فإنّنا ... سراع، إذا مدّت لنا حلباتها (1)
أبي دونكم ذاك الذي ما تعلّقت ... بأثوابه الدّنيا، ولا تبعاتها
تجنّبها هوجاء لا مستقيمة ... خطاها، ولا مأمونة عثراتها
غدا راضيا بالنّزر منها قناعة، ... ولو شاء قد كانت له جفناتها
تلافظها من بعد ما ذاق طعمها، ... فكانت زعاقا عنده طيّباتها (2)
تلافى قريشا حين رقّ أديمها، ... وخفّت على أيدي الرّجال حصاتها
ورجّبها من بعد ما مال فرعها، ... وحين أبت إلّا اعوجاجا قناتها (3)
وكم عاد في إحدى عواليه هامة ... لجبّار قوم قطّرته شباتها (4)
فمن غيره لليعملات يقيمها، ... إذا وقعت مثنيّة ركباتها (5)
ومن لعجاج الحرب يجلو ظلامه، ... إذا خفقت في نقعها عذباتها (6)
ومن للمعالي القود يقرع هامها، ... إذا نفت الإقدام عنها صفاتها (7)
ومن لأضاميم الجياد، غدوّها ... لطعن حماليق العدى وبياتها (8)
لنا وعلينا إن لبثنا هنيهة، ... قطاف رؤوس أينعت ثمراتها
فيا لهفي كم من نفوس كريمة ... تموت، وفي أثنائها حسراتها
يعزّ علينا أن تفوت، وأنّها ... قضت نحبها أو ما انقضت زفراتها
__________
(1) حرنتم، من حرن: يقال حرن البغل اذا وقف ولم ينقد فهو حرون.
(2) الزعاق: الماء المر.
(3) رجّبها: قواها، والرجبة دعامة من جذع شجرة تقوى بها النخلة اذا مالت الى السقوط.
(4) الشباة: الحد.
(5) اليعملات: النياق النجيبة.
(6) من يجلو غبار الحرب عندما يشتدّ أوارها.
(7) القود: الطويلة.
(8) الأضاميم: جماعات الخيل البيات: الاغارة ليلا.(1/205)
وكان بدار الهون ملقى جنوبها ... سواء عليها موتها وحياتها
أسارى تعنّيها الكبول، مذودة ... بواطشها، مقصورة خطواتها
وما برحت تبكي قتيلا عيونها، ... فلا دمعها يرقا، ولا عبراتها
عسى الله أن يرتاح يوما بفرحة، ... فتنطق أنضاء أطيل صماتها (1)
ويؤخذ ثار مات همّا ولاته، ... ولمّا تمت أضغانها وتراتها (2)
فكم فرّجت من بعد ما أغلقت لنا ... مغالقها، واستبهمت حلقاتها
غرست غروسا كنت أرجو لحاقها، ... وآمل يوما أن تطيب جناتها
فإن أثمرت لي غير ما كنت آملا، ... فلا ذنب لي إن حنظلت نخلاتها
خير ميت
(الخفيف)
يا ابن عبد العزيز! لو بكت العي ... ن فتى من أميّة لبكيتك
غير أنّي أقول إنّك قد طب ... ت، وإن لم يطب ولم يزك بيتك (3)
أنت نزّهتنا عن السّبّ والقذ ... ف، فلو أمكن الجزاء جزيتك
ولو انّي رأيت قبرك لاستح ... ييت من أن أرى وما حيّيتك
وقليل أن لو بذلت دماء ال ... بدن حزنا على الذّرى وسقيتك (4)
دير سمعان لا أغبّك غاد، ... خير ميت من آل مروان ميتك (5)
__________
(1) أنضا، جمع نضو: هزيل صماتها: صمتها.
(2) التراة، جمع ترة: ثأر.
(3) من خلال البيت الأول، والبيت الثاني نلاحظ حقد الشاعر على بني مروان.
(4) البدن، بضم الدال وسكنت هنا مراعاة للوزن، جمع بدنة: الابل والبقر كالأضحية من الغنم تهدى الى مكة فتنحر. وقد سميت بذلك لأنهم كانوا يسمنونها.
(5) دير سمعان: دير بنواحي دمشق، عنده قبر عمر بن عبد العزيز لا(1/206)
أنت بالذّكر، بين عيني وقلبي، ... إن تدانيت منك أو قد نأيتك
وإذا حرّك الحشا خاطر من ... ك توهّمت أنّني قد رأيتك
وعجيب أنّي قليت بني مر ... وان طرّا، وأنّني ما قليتك (1)
قرب العدل منك لمّا نأى الجو ... ر بهم، فاجتويتهم واجتبيتك (2)
فلو انّي ملكت دفعا لما نا ... بك من طارق الرّدى لفديتك
من يكن زائري
(الخفيف)
من يكن زائري يجدني مقيما ... أتبع الغانيات بالزّفرات
في ندامى على الهموم قعود ... يدعمون الأذقان بالرّاحات
كلّما أنزفوا من الدّمع مدّت ... هم دواعي الهموم بالعبرات
عاجل الفرصة
(الخفيف)
إذا مضى يوم على هدنة، ... وأنت في سلم من النّائبات
فعاجل الفرصة قبل الرّدى، ... وبادر اللّذّات قبل البيات
واسبق، وفي حبلك أنشوطة، ... ضغط اللّيالي بيد الحادثات (3)
__________
أغبك غاد: لا أمطرك يوما بعد يوم بل كل يوم، والغادي هو السحاب الماطر غدوة.
(1) قليت: كرهت.
(2) اجتويتهم: كرهتهم اجتبيتك: اخترتك واصطفيتك.
(3) الانشوطة: ربطة غير معقدة اذا شد بأحد طرفيها انفتحت.(1/207)
يا باني البيت
(السريع)
قد آن أن يسمعك الصّوت ... أنائم قلبك أم ميت
يا باني البيت على غرّة! ... أمامك المنزل والبيت
أيجزع المرء لما فاته، ... وكلّ ما يدركه فوت
وإنّما الدّنيا، على طولها، ... ثنيّة مطلعها الموت
ليال مقمرات
(مجزوء الرمل)
من معيد لي أيّا ... مي بجزع السّمرات (1)
ولياليّ بجمع ... ومنى والجمرات (2)
وظباء حاليات، ... كظباء عاطلات (3)
رائحات في جلابي ... ب الدّجى مختمرات
راميات بالعيون ال ... نّجل قبل الحصيات (4)
ألعقر القلب راحوا، ... أم لعقر البدنات
كيف أودعت فؤادي ... أعينا غير ثقات
أيّها القانص ما أح ... سنت صيد الظّبيات
فاتك السّرب، وما زوّ ... دت غير الحسرات
__________
(1) جزع السمرات: اسم موضع، والسمرات نوع من الشجر، جمع سمرة.
(2) منى والجمرات: موضعان، وهما من مناسك الحج.
(3) حاليات: عليهن الحلي عاطلات: من دون حلي.
(4) العيون النجل: العيون الواسعة قبل الحصيات: قبل الحجارة.(1/208)
يا وقوفا ما وقفن ... في ظلال السّلمات (1)
موقفا يجمع فتيا ... ن الهوى والفتيات
نتشاكى ما عنانا ... بكلام العبرات
نظر يشغل منّا ... كلّ عين بقذاة
كم نأى، بالنّفر عنّا، ... من غزال ومهاة
آه من جيد إلى الدّا ... ر كثير اللّفتات
وغرام غير ماض ... بلقاء غير آت
فسقى بطن منى وال ... خيف صوب الغاديات (2)
وزمانا نائم العذّ ... ال مأمون الوشاة
في ليال كاللآلي، ... بالغواني مقمرات
غرست عندي غرس ال ... شّوق ممرور الجناة
أين راق لغرامي، ... وطبيب لشكاتي
أذكر ما مضى
(الوافر)
أحنّ إلى لقائك كلّ يوم، ... وأسأل عن إيابك كلّ وقت
وأذكر ما مضى فيغيض صبري، ... وتنفر عبرتي ويبوح صمتي
ولي قلب، إذا ذكر التّلاقي، ... تظلّم من يد البين المشتّ (3)
__________
(1) السلمات، جمع سلمة: نوع من الشجر.
(2) منى والخيف: موضعان صوب الغاديات: مطر الغيوم الصباحية.
(3) البين المشت: البعد المفرّق.(1/209)
عند ملتقى الركب
(الخفيف)
قال لي عند ملتقى الرّكب عمرو: ... قوّم العود بعدنا، فانصاتا (1)
أين ذاك الصّبا، وأين التّصابي، ... سبقا الطّالب المجدّ، وفاتا
من قضى عقبة الثّلاثين يغدو ... راجعا يطلب الصّبا، هيهاتا
لم تزل، والمشيب غير قريب، ... ناعيا للشّباب حتّى ماتا
كنت تبكي الأحياء فاستكثر اليو ... م من الدّمع، واندب الأمواتا
قلت للنفس
(الكامل)
نظم هذه القصيدة لدى خروجه الى واسط للقاء والده العائد من فارس سنة 395.
قد قلت للنّفس الشّعاع أضمّها: ... كم ذا القراع لكلّ باب مصمت (2)
قد آن أن أعصي المطامع طائعا ... لليأس، جامع شملي المتشتّت
يقضي الحريص وليس يقضي أربة ... متعلّلا أبدا بغير تعلّة
قل للّذين بلوتهم، فوجدتهم ... آلا، وغير الآل ينقع غلّتي (3)
أعددتكم لدفاع كلّ ملمّة ... عنّي، فكنتم عون كلّ ملمّة
وتخذتكم لي جنّة فكأنّما ... نظر العدوّ مقاتلي من جنّتي (4)
سمع يبلّ بها الحسود غليله، ... ومتى نبثن على عدوّ يشمت (5)
__________
(1) انصات: استوى واستقام.
(2) الشّعاع: التي تفرقت آراؤها وضعفت همتها.
(3) الآل: السراب.
(4) تخذتكم جنّة: جعلتكم ترسا.
(5) سمع، جمع سمعة: الذكر والصيت نبثن: أظهرن.(1/210)
تأبى ثمار أن تكون كريمة، ... وفروع دوحتها لئام المنبت
لمّا رميت إليكم بمطامعي، ... كثر الخلاج مقلّبا لرويّتي (1)
ووقفت دونكم وقوف مقسّم، ... حذر المنيّة راجي الأمنيّة (2)
قدم تؤمّكم، وأخرى تنثني ... عنكم، وحزم الرّأي للمتثبّت
لولا الحوادث ما أفدت تجاربا، ... يعسو الرّطيب ويقرح الجذع الفتي (3)
يأس ثنى سنن المطالب عنكم، ... ولوى إلى الأوطان عنق مطيّتي
لا عذر لي إلّا ذهابي عنكم، ... فإذا ذهبت فيأسكم من رجعتي
فلأرحلنّ رحيل لا متلهّف ... لفراقكم، أبدا، ولا متلفّت
ولأنفضنّ يديّ يأسا منكم، ... نفض الأنامل من تراب الميّت
ولألمعنّ بكلّ بيت شارد ... لمع المهنّد في يمين المصلت
من كلّ قافية تخبّ إليكم ... بشواظها خبب الجواد المفلت (4)
وأقول للقلب المنازع نحوكم: ... أقصر هواك لك اللّتيّا والّتي (5)
أأهزّ من لا ينثني وأدير من ... لا يرعوي، وألوم من لا يختتي (6)
يا ضيعة الأمل الّذي وجّهته ... طمعا إلى الأقوام بل يا ضيعتي (7)
وسرى السّفائن ينثني بصدورها ... موج كأسنمة الجمال الجلّة (8)
قوم، إذا حضروا النّديّ مهانة ... عطست موارنهم بغير مشمّت (9)
__________
(1) الخلاج: ما يخالج القلب وينازعه من أفكار وأحاسيس.
(2) المقسم: المهموم. نقع في شعر الرضي، في غير مكان، على الجناس الناقص بين المنيّة والأمنية والمنية.
(3) يعسو الرطيب: ييبس.
(4) الشواظ: اللهب، الصياح الخبب: نوع من العدو.
(5) اللتيّا والتي: اسمان لداهيتين.
(6) يختتي: ينكسر من حزن أو مرض.
(7) يا ضيعة الأمل: أيها الأمل الضائع.
(8) الجلّة: المسنّة.
(9) موارنهم: أنوفهم.(1/211)
يا دهر! حسبك قد أصبت مقاتلي، ... ما زلت تطلب بالمقادر غرّتي
ما لي أحيل على سواك بما جنى ... قدر على قدر، وأنت بليّتي
تمر الليالي
(المتقارب)
وقفنا لهم من وراء الخطو ... ب، نطالعهم من خصاصاتها (1)
ونرقب يوما كأيّامها، ... وليلة نحس كليلاتها
فإنّ عصا الدّهر لمّا تدع ... سياق الأمور لغاياتها
وإنّ الحبائل منصوبة، ... فلا تستغرّوا بإفلاتها
تسنّمتموها طوال الذّرى، ... فصبرا على بعد مهواتها (2)
ومن أمطرته سماء الغنى ... هوى في سيول قراراتها
فيا لك دنيا تريش الرّجا ... ل، وتنحي عليهم بمبراتها (3)
وإنّ منائحها للفتى، ... لرهن له بنكاياتها
فبينا تقول له: هاكها! ... إلى أن تقول له: هاتها
ألم تعلموا أنّ أيّامكم ... تعدّ إلى حين ميقاتها (4)
فكيف وثقتم بأعوامها، ... ونحن نضنّ بساعاتها
فلا تطلبنّ لهم عثرة، ... ستأتيهم هي من ذاتها
تمرّ اللّيالي على نهجها، ... وتجري الخطوب لعادتها
__________
(1) الخصاصات، جمع خصاصة: شق الباب.
(2) تسنّم: ركب السنام.
(3) تريش: تغني تنحي عليهم: تقبل عليهم المبراة: ما يبرى به القوس.
(4) ميقاتها: أوقاتها.(1/212)
نضوب الدفع
(الكامل)
هل يبلغنّهم نضوب مدامعي، ... وفناء قلبي بعدهم حسرات
ريح من الزّفرات تعصف في الحشا، ... ووراءها مطر من العبرات
يعاب الحي بالميت
(السريع)
يعبن موتاهم بأحيائهم، ... كما يعاب الحيّ بالميّت
قولكم زور، وقولي لكم ... يبقى بقاء الجبل المصمت(1/213)
قافية الثاء
رجونا أبا الهيجاء
(الطويل)
نظم الشريف الرضي هذه القصيدة في رثاء حرب ابن سعيد بن حمدان الذي توفي في شعبان سنة 382. وكان أخوه أبو فراس الحارث بن سعيد الشاعر قد مات قبله بقليل.
رجونا أبا الهيجاء إذ مات حارث، ... فمذ مضيا لم يبق للمجد وارث
ألا إنّ قرمي وائل، ليلة السّرى، ... أقاما، وقد سار المطيّ الدّلائث (1)
هما البازلان المقرمان تناوبا ... عرى المجد لمّا عجّ بالعبء لاهث (2)
رفيقان ما باغاهما العزّ صاحب ... نديمان ما ساقاهما المجد ثالث
حسامان إن فتّشت كلّ ضريبة، ... فأثرهما فيها قديم وحادث (3)
بقيّة أسياف طبعن مع الرّدى، ... فجاء وجاءت عاثيات وعائث (4)
أحقّا بأنّ المجد هيضت جبوره ... وزال عن الحيّ الطّوال الملاوث (5)
__________
(1) قرمي وائل: سيدي وائل الدلائث، جمع دلاث: سريعة.
(2) المقرمان: المسودان.
(3) الأثر: جوهر السيف.
(4) العاثيات: المفسدات العائث: الأسد.
(5) هيضت: كسرت الملاوث: الأشراف.(1/214)
وأيد على بسط السّماح رقائق، ... وهنّ على قبض الرّماح شرائث (1)
وسرب بنو حمدان كانوا حماته ... رعت فيه ذؤبان اللّيالي العوائث (2)
فأين كفاة القطر في كلّ أزمة، ... وأين الملاجي منهم، والمغاوث
وأين الجياد المعجلات إلى الوغى، ... إذا غام بالنّقع الملا المتواعث (3)
وأين الثّنايا المطلعات عن الأذى، ... إذا ناب ضغّاط من الأمر كارث
إذا ما دعا الدّاعون للبأس والنّدى ... فلا الجود منزور ولا الغوث رائث (4)
يرفّ على ناديهم الحلم والحجا ... إذا ما لغا لاغ من القوم رافث (5)
من المطعمين المجد بالبيض والقنا ... ملاء المقاري، والعريب غوارث (6)
إذا طرحوا عمّاتهم وضحت لهم ... مفارق لم يعصب بها العار لائث (7)
بكتهم صدور المرهفات وبشّرت ... هجان المتالي، والمطيّ الرّواغث (8)
قروم على ما روّحوا من وسوقها ... ولا منهم الواني، ولا المتماكث
يخلّى لهم من كلّ ورد جمامه ... إذا وردوا، والمعشبات الأثائث (9)
مشوا في سهول المجد حينا ووقّفوا ... بحيث ابتدت أوعاره والأواعث (10)
إذا ركبوا سال اللّديدان بالقنا، ... وحنّت مطاياها المنايا الرّوائث (11)
__________
(1) شرائث: غلاظ ظهور الكف.
(2) العوائث: المفسدة.
(3) الملا: الصحراء المتواعث: الطريق الصعب.
(4) رائث: بطيء.
(5) رافث: مفحش.
(6) المقاري: الجفنات الغوارث: الجياع.
(7) اللائث، من لاث العمامة: عصبها.
(8) الهجان: الخيار المتالي من النوق: التي يتبعها أولادها الرواغث:
المرضعات.
(9) الأثائث: الكثيرة الملتفّة.
(10) الأواعث، جمع وعث: الطريق الصعب.
(11) اللديدان: صفحتا العنق الروائث، من الريث: الابطاء.(1/215)
كأنّ الصّقور اللّامحات تلمّظت ... إلى الطّعم وانصاعت لهنّ الأباغث (1)
مضوا لا الأيادي مخدجات نواقص ... ولا مرر العلياء منهم رثائث (2)
ولا طول النّعماء فيهم مقلّص، ... إذا علقته المعصمات الشّوابث (3)
خلجتم لجسّاس بن مرّة طعنة ... رأى الجدّ فيها هجرس وهو عابث (4)
وغادرتم أشلاء بكر مقيمة ... على العار لا تحثى عليها النّبائث (5)
وقد كان دين في كليب وفى به ... غريم مطول بالدّيون مماغث (6)
وقائع أيّام كأنّ إكامها، ... بجاري دم الطّعن، الإماء الطّوامث (7)
تعودون عنها في قناكم مباشم، ... وعند قنا بكر إليكم مغارث (8)
عقدتم بها حبلي إسار ومنّة، ... وخانهم نقض القوى والنّكائث (9)
تحلّلتم من نذر طعن، وغيركم ... كثير الألايا، غبّ ما قال حانث (10)
حروب من الأقدار طاح عراكها، ... بحرب، ولم يسلم عليهنّ حارث
وكان سنانا أوجر الخطب حدّه ... وكان يدا أردي بها من ألاوث (11)
__________
(1) الطعم: الطعام انصاعت: مرت سراعا الأباغث، جمع أبغث:
نوع من الطيور لا يصيد.
(2) المرر: الحبال المفتولة، والمراد هنا القوة رثائث: رثّة، بالية.
(3) الطول: الحبل المعصمات: المتعلقات الشوابث، من تشبث بالشيء: تعلق به.
(4) خلجتم: طعنتم الهجرس: اللئيم.
(5) الأشلاء، جمع شلو: العضو، الجسد النبائث: النبائش.
(6) المماغث: المخاصم.
(7) الطوامث، من الطمث: الحيض.
(8) المباشم، من البشم: التخمة من كثرة الأكل المغارث: الجياع.
(9) الاسار: ما يشد به.
(10) الألايا، جمع الية: اليمين الغب: العاقبة.
(11) أوجر: طعن ألاوث: أحقد.(1/216)
بأخلاق أبّاء يعود بها الأذى ... وعورا على الأعداء وهي دمائث
أقول لناعيه إلى المجد والعلى: ... رمى فاك مسموم الغرارين فارث (1)
كأنّ سواد القلب طار بلبّه، ... إلى الطّود أقنى ينفض الطّلّ ضابث (2)
ورزء رمى بين القلوب شواظه، ... أجيج المصالي أسعرتها المحارث (3)
برغمي تمسي نازلا دار هجرة، ... وأنت المصافي والقريب المنافث
وأن لا أجافي التّرب عنك براحة، ... ولو نازعتنيها الرّقاق الفوارث (4)
وإن تشتمل أرض عليك، فإنّما ... على ماء عينيّ النّقا والكثاكث (5)
سقى النّضد النّجديّ ملقى ضرائح ... بها منكم المستصرخون الغوايث (6)
فسيّان فيها، من وقار ومن على، ... عظامكم والرّاسيات اللّوابث
ولا برحت تندي عقود صعيدها، ... نفاثة ما جاد الغمام النّوافث
لها خدشات بالموامي، كأنّها ... على لقم البيداء أيد عوابث (7)
صبابة عزّ عبّ في مائها الرّدى، ... وعاد إليها، وهو ظمآن غارث (8)
وأفنان دوحات من المجد أشرعت ... مشاظي الرّدى ما بينها والمشاعث (9)
وما كنت أخشى الدّهر إلّا عليهم، ... فهان الرّزايا بعدهم والحوادث
__________
(1) الفارث: المفرق.
(2) الأقنى: البازي الضابث: القابض بمخالبه.
(3) الشواظ: اللهب المصالي، من صلي النار: قاسى حرّها المحارث، جمع محراث: ما تحرّك به النار.
(4) الرقااق الفوارث: السيوف الرقيقة.
(5) النقا: القطعة من الرمل الكثاكث: التراب.
(6) النضد: الجبل الغوايث: الذين يغيثون من يلجأ إليهم.
(7) الموامي، جمع موماة: الفلاة عوابث: لواعب.
(8) غارث: جائع.
(9) المشاظي، من التشظية: التفريق المشاعث، من التشعث: التفرق.(1/217)
يا آمن الأقدار
(الكامل)
يا آمن الأقدار بادر صرفها، ... واعلم بأنّ الطّالبين حثاث
خذ من تراثك ما استطعت فإنّما ... شركاؤك الأيّام والورّاث
لم يقض حقّ المال إلّا معشر ... وجدوا الزّمان يعيث فيه، فعاثوا
تحثو على عيب الغنّي يد الغنى، ... والفقر عن عيب الفتى بحّاث (1)
المال مال المرء ما بلغت به ال ... شّهوات، أو دفعت به الأحداث
ما كان منه فاضلا عن قوته، ... فليعلمنّ بأنّه ميراث
ما لي، إلى الدّنيا الغرورة، حاجة، ... فليخز ساحر كيدها النّفّاث
طلقتها ألفا لأحسم داءها، ... وطلاق من عزم الطلاق ثلاث
سكناتها محذورة، وعهودها ... منقوضة، وحبالها أنكاث
أمّ المصائب لا يزال يروعنا ... منها ذكور نوائب وإناث
إنّي لأعجب من رجال أمسكوا ... بحبائل الدّنيا، وهنّ رثاث (2)
كنزوا الكنوز، وأغفلوا شهواتهم، ... فالأرض تشبع والبطون غراث (3)
أتراهم لم يعلموا أنّ التّقى ... أزوادنا، وديارنا الأجداث (4)
__________
(1) يعد هذا البيت من الحكم المشهورة والمتداولة.
(2) رثاث: من رث: أصبح خلقا باليا.
(3) البطون غراث: البطون جائعة.
(4) أزوادنا: جمع زاد.(1/218)
الرزق المقسوم
(الطويل)
خذوا نفثات من جوى القلب نافث ... دفاين ضغن قد رمين بنابث (1)
لقد كنّ من قبل البواحث نزّعا ... فكيف بهنّ اليوم بعد البواحث
عذيري من سيف رجوت قراعه ... أعاديّ طرّا من قديم وحادث
فخان يدي ثمّ انثنى بغراره، ... فكان لعنقي اليوم أوّل فارث (2)
ومن جبل أعددت شمّ هضابه، ... مردّا لأيدي النّائبات الكوارث
فطوّح لي من حالق، وأزلّني ... زليل المطايا عن متون الأواعث (3)
ومن مشرب أنبطت ينبوع مائه ... بأعلى الرّوابي والرّياض الأثائث (4)
يضنّ عليّ اليوم منه بنهلة، ... وتبذل دوني للنّقا والكثاكث (5)
هو الرّزق مقسوما، وليس تناله ... ببرد التّباطي أو بحرّ الحثاحث
أعنتم على حربي المقادير عنوة، ... ورشتم إلى قلبي سهام الحوادث (6)
ولم تدعوني والزّمان، فإنّه ... لأكرم فعلا منكم في الهنابث (7)
كذاك من استدرى إلى غير هضبة ... وشدّ يدا بالمطمعات الرّثائث
دعائي ذئاب القاع خير مغبّة ... إذا، من دعائي بعضكم للمغاوث
فلو أنّني أدعو لؤيّ بن غالب، ... لقد أنجدوني بالطّوال الملاوث (8)
__________
(1) الضغن: الحقد نابث، من نبث: نبش.
(2) فارث: مفرق.
(3) الأواعث: الطرق الصعبة.
(4) أنبطت، من نبط: نبع الأثائث: الملتفّة.
(5) الكثاكث: التراب.
(6) راش السهم: علّق فيه الريش وجهّزه للانطلاق.
(7) الهنابث، جمع هنبثة: الشدّة.
(8) الملاوث: الشريفة، جمع ملوث، والطوال الملاوث: الجياد الشريفة.(1/219)
يجيش بهم وادي الظّلام كأنّهم ... صدور العوالي بالملا المتواعث (1)
هم أطلعوني بالنّجاد وأرزموا ... لنصري إرزام المطيّ الرّواعث (2)
وأرخوا خناقي، بعد ما كان فتله ... يغار على عنقي بأيد عوابث (3)
ترى حلمهم تحت الظّبى غير طائش ... وخطوهم بين القنا غير رائث (4)
فلا الحلم بالنّائي، إذا ما دعوته ... ولا العزم بالواني، ولا المتماكث
وكلّ فتى إن آد ثقل ملمّة، ... تورّك حنوي عبئها غير لاهث (5)
ضنين بودّي، لا يزال بوجهه ... كلام العدى عنّي ونفث النّوافث
شعاري من دون الشّعار، وتارة ... قريبي من دون القريب المنافث
تعمّمتموها سوأة جاهليّة، ... لقد فاز من أمسى بها غير لائث (6)
فجرّوا ذيول العار، ثمّ تضاءلوا ... تضاؤل أطهار الإماء الطّوامث (7)
تقطّعت الأطماع فكيم، ولم يدع ... لكم أملا لؤم الطّباع الخوابث
وأصبحتم أطلال دار بقفرة، ... ترى الرّكب مجتازا بها غير لابث
وكيف أرجّيكم لدفع مغارم، ... وقد خاب راجيكم لدفع مغارث (8)
قعوا وقعة السّاري، فقد طال حثّكم ... إلى العار، أعناق المطيّ الدّلائث (9)
فحتّى متى أخفي التّرات، وأنتم ... تثيرون عن مدفونها بالمباحث (10)
__________
(1) يجيش: يزخر الملا: الصحراء المتواعث، من الوعث: المكان السهل الدهس تغيب فيه الأقدام.
(2) أرزموا: صوتوا تصويتا شديدا الرواعث: اللابسة الأقراط.
(3) يغار: يشد.
(4) حلمهم: تعقلهم الظبى، جمع ظبة: حد السيف رائث: بطيء.
(5) آد: ثقل وشق تورك: ركب الحنو: عود الركب المعوج.
(6) لائث: عاصب العمامة.
(7) تضاءلوا: تصاغروا الطوامث: الحيض.
(8) مغارث، من الغرث: الجوع.
(9) الدلائث، من دلاث: السريع من النوق.
(10) الترات، جمع ترة: الثأر.(1/220)
وكم أدمل الأضغان بيني وبينكم ... وأغضي على نقض القوى والنكائث
إذا رمت من سوآتكم سدّ هوّة ... تشاغلتم عن غيرها بالنّبائث
رأيت الصّقور الغلب خمصى من الطوى ... وما مطعم الدّنيا لغير الأباغث
فلا حظّ في استنزال رزق محلّق ... ولا نفع في حثّ الحظوظ الرّوائث (1)
تركت صدوعا بيننا لانشعابها ... ولم أتجشّم لمّ تلك المشاعث
فزيدوا، فإنّي بعدها غير ناقص ... وجدّوا فإنّي بعدها غير عابث
ديون من الأضغان إن أبق أجزكم ... بهنّ وإن أعطب يرثهنّ وارثي
وإن أنس يوما ذمّكم يمس فعلكم ... على الذّمّ عندي من أشدّ البواعث
وإن أبط يسرع بي إلى ما يسوءكم ... لواعج أضغان إليكم حثائث
نحلت إذا ما فيكم من معائب، ... ونازعتكم طعمات تلك الخبائث
لئن إنا لم أعلق بأعراض قومكم ... براثن أظفار القريض الضّوابث (2)
فو الله لا أقلعن إلّا دواميا، ... أليّة برّ لا أليّة حانث (3)
لكي تعلموا غبّ العداوة بيننا، ... ويعرككم كيد المطول المماغث (4)
سلام على الآمال فيكم، ولا سقى ... معاهدها جود القطار الدّثائث (5)
لعلّمتموني اليأس من كلّ مطمع ... وعوّدتموني الصّبر في كلّ حادث
وعرّفتموني كيف ألتمس الجدا ... إلى غير أيدي الألأمين الشّرابث (6)
تذلّلكم لقياي باليأس منكم ... ولم أتذلّل للمطال الملابث
فشكرا لمن لم يجعل الرّزق عندكم ... فلا ريّ ظمآن ولا شبع غارث (7)
__________
(1) الروائث، من الريث: البطيء.
(2) الضوابث، من ضبث: قبض عليه بكفه.
(3) الأليّة: اليمين.
(4) المماغث: المخاصم.
(5) المعاهد: الأماكن، المعالم القطار: المطر الدثائث: الخفيف.
(6) الجدا: النفع، العطاء الشرابث: الغليظ الكف.
(7) الغارث: الجائع.(1/221)
لئن ساءكم منّي حزون خلائقي ... فقد طال ما لم أنتفع بالدّمائث (1)
خذوها كأطواق الحمام، فإنّها ... ستبقى بقاء الرّاسيات اللّوابث
قوافي يقطرن النّجيع، كأنّما ... طبعن على طبع الرّقاق الفوارث (2)
إذا ما مطلناهنّ بقيا عليكم، ... خرجن خروج الخالعين النّواكث
فآليت لا أعطي اللّئام مقادة، ... ولو تحت ضغّاط من الأمر كارث
ذنوبي أن استمطرت من غير ماطر ... وأنّي طلبت الغيث من غير غائث
النار القديمة
(الطويل)
وإن لنا النّار القديمة للقرى، ... تؤرّث من أولى الزّمان وتورث (3)
لنا القدم الأولى إلى كلّ غاية، ... وسعيان شيء فارط وملبّث (4)
وفي النّاس أخياف جهام وماطر ... وناب، ومضّاء، وباز، وأبغث (5)
__________
(1) حزون: سمو، علو الدمائث: الطباع الليّنة.
(2) الفوارث: القاطعة.
(3) القرى: الضيافة تؤرّث: تؤجّج، تضرم. هنا يعمد الشاعر الى المجانسة بين تؤرث وتورث، مبينا أن الكرم ميزة لديهم متوارثة.
(4) الفارط: السابق الملبّث، من لبّثه في المكان: جعله يقيم فيه.
(5) الأخياف: الاختلاف والتنوع في الأشياء والأخلاق الجهام: السحاب غير الماطر أبغث: نوع من الطيور.(1/222)
قافية الجيم
لي الحرب
(الطويل)
لي الحرب معطوفا عليّ هياجها ... وظلّ جوادي قيظها وعجاجها (1)
ويأنف عزمي أن يردّ رماحها ... إذا اشتبهت خرصانها وزجاجها (2)
فما بال بغداد، إذا اشتقت رحلة ... تشبّث بي غيطانها وفجاجها
كأنّ لها دينا عليّ، وإنّني ... سيطلبها سيفي وديني خراجها
أبغداد ما لي فيك نهلة شارب، ... من العيش، إلّا والخطوب مزاجها
ولو أنّني أرضى بأدنى معيشة، ... لأرضت منائي عند أهليك حاجها
ولكنّني جار على حكم همّة، ... كثير عن الطّبع الذّليل انعراجها
يخيّل لي أنّ الأماني غياهب، ... ولا تنجلي، إلّا وعزمي سراجها
__________
(1) العجاج: الغبار الكثيف.
(2) الخرصان: الأسنة، جمع خرص الزجاج، جمع زج: الحديدة في أسفل الرمح.(1/223)
أداري المقلتين
(الوافر)
نظمها في رثاء صديق له من العرب، قتله بنو تميم، وقيل إن هذا الرجل كان داعيته، وله فيه مراث كثيرة.
أداري المقلتين عن ابن ليلى، ... ويأبى دمعها إلّا لجاجا
لها ثبط على الأيّام باق ... تجيش بها معينا أو أجاجا (1)
كأنّ بها ركيّة مستميت، ... يخضخضها بكورا وادّلاجا
أذود النّفس عنه، وذاك منها ... عنان ما ملكت له معاجا (2)
كأنّ العين، بعد اليوم، جرح ... إذا طبّوا له غلب العلاجا
تجمّ على القذى، وتفيض دمعا، ... مطال الدّاء وادع ثمّ هاجا (3)
وأين كفارس الفرسان عمرو، ... إذا رزء من الحدثان فاجا (4)
بحقّ كان أوّلهم ولوجا ... على هول وآخرهم خراجا
إذا رسبت حصاة القلب منه، ... طفا قلب الجبان به انزعاجا
بكيتك للسّوابق موضعات ... قماص السّرب أعجز أن يعاجا (5)
يقرّطها الأعنّة مبدلات، ... مكان جلالها، العلق المجاجا (6)
__________
(1) الثبط: الضعف الأجاج: الهيجان.
(2) المعاج: عطف رأس البعير بالزمام.
(3) تجم، من الجم: تجمع الماء بكثرة.
(4) فاجا: فاجأ.
(5) السوابق، الجياد السريعة موضعات: مسرعات القماص، من قمص الجواد: رفع يديه وطرحهما معا وعجن الأرض برجليه.
(6) العلق: الدم المجاج: السائل.(1/224)
يدعن على الأجالد موضحات، ... كأنّ على مفارقها شجاجا (1)
وإرقاص المطيّ على وجاها، ... يجبن إلى العلى طرقا نهاجا (2)
مرنّقة العيون كأنّ فيها ... دهان مواقد يصف الزّجاجا (3)
ورثت عن الأبين قنا وبأسا، ... فأنفقت اللهاذم والزّجاجا (4)
ومنخرق أخوت السّيف فيه، ... وحبل اللّيل يندمج اندماجا (5)
أرابك، فاكتلأت بغير رمح ... كأنّ على عوامله سراجا
توقّر جاشك الأهوال فيه، ... إذا اعتلج الجبان به اعتلاجا
وقد جاب الذّميل عليك وهنا، ... من الظّلماء مدرعة وساجا (6)
ومزلقة ترشّ بها المنايا، ... وتسمع للقلوب بها رجاجا
وفقت بشوك أخمصك العوالي ... ويلقى المرء للغمّ انفراجا
ومظلمة من الغمرات عطشى ... جعلت لها من القضب انبلاجا
ومائلة أقمت لها كعوبا، ... وقد شغرت على القوم اعوجاجا
وداهية تشوّل بالذّنابى، ... غدوت لباب مطلعها رتاجا (7)
ومعضلة كفيت، وذات وهي ... شددت لها العراقي والعناجا (8)
__________
(1) الأجالد: الجماعة موضحات، من أوضحت الشجة في الرأس: كشفت العظم.
(2) الإرقاص: حمل البعير على الخبب الوجى: الحفا.
(3) الزجاج، جمع أزج: النعام الذي فوق عينيه ريش أبيض.
(4) اللهاذم، جمع لهذم: السنان القاطع الزجاج، جمع زج: الحديدة في أسفل الرمح.
(5) أخوت السيف: جعلته أخا.
(6) الذميل: السير اللين المدرعة: نوع من الثياب الساج: الكساء المربع.
(7) الداهية: النائبة، المصيبة الذنابى: ذنب الطائر، إبرة الحشرة الرتاج:
الباب المغلق وفيه باب صغير.
(8) العراقي، جمع عرقوة: خشبة الدلو: العناج: الحبل.(1/225)
وفاصلة كسيل الطّود عجلى ... قطعت بها التّشادق والضّجاجا (1)
وآنية اللّحوم من القضايا، ... أعدت لهنّ كيّا، أو نضاجا
وشاردة ربطت لها الحوايا، ... وقد مرح البطان بها وماجا (2)
ورأي يفرق الجلّى، ويهدي ... وراء مضيقها سبلا فجاجا
قطعت بمطربيه على تمار ... خلاج الشكّ، إنّ له خلاجا (3)
كأنّك صبت منه بذات فرع ... على البوغاء لبّدت العجاجا (4)
كمزلقة الذّباب، إذا أمرّت ... على ذي الدّاء بالغت الوداجا (5)
لئن نبحته آونة كلاب، ... لقد لبست به الأسد المهاجا (6)
فمن يزع العريب، إذا تناغت، ... ويضرب بين غاربها سياجا (7)
ويذكرها الحلوم على تناس ... وقد بلغت حفائظها الهياجا
يحاججها عن الأرحام، حتّى ... يقرّ القوم أنّ له الحجاجا
ومن ردّ النّقائذ بعد يأس، ... وقد جاوزن ضورا والولاجا (8)
تغلغل في النّفاق قنيّ سعد، ... رواغ الذّئب قد ولج الحراجا (9)
تمادحت الرّباب به، وكانت ... تنابز بالمعائب أو تهاجى
برغمي أن يكنّ قنا تميم ... قضين على الذّنائب منك حاجا
__________
(1) الطود: الجبل.
(2) الحوايا، جمع حوية: ما تحوي الامعاء.
(3) مطربيه: طريقيه التماري: الجدال.
(4) صبت: أمطرت ذات فرع: السحابة المتهدلة البوغاء: التراب العجاج: الغبار.
(5) الوداج: عرق في العنق ينتفخ عند الغضب.
(6) لبست: تمتعت به زمنا طويلا.
(7) يزع: يكف العريب: مصغر عرب تناغت: تدانت.
(8) النقائذ: النساء الضور: اسم موضع الولاج: الغامض من الأرض.
(9) الحراج: مجتمع الشجر، وهي الحبال تنصب لاصطياد الحيوانات.(1/226)
حميت منابت الرّمرام منهم، ... وأخليت الأناعم والنّباجا (1)
منعتهم اللّقاح وملقحات، ... يكاد الخوف يمنعها النّتاجا
فما لقحت لهم إلّا اختلاسا، ... ولا ولدت لهم إلّا خداجا (2)
أبى الباغون مثل مداك إلّا ... ضلالا عن طريقك وانعراجا
سأبعثها عليك مسقّفات ... طباق الأرض، أطلعها الفجاجا
مسالات الأغرّة ملجمات، ... وحادا أو مقرّنة زواجا
وأجعلها سلوّا بعد يأس، ... ومن ألم الصّدى ورد الأجاجا (3)
أقاض حقّ قبرك ذو غرام، ... أعاج الرّكب عن طرب وعاجا
يريق عليك ماء القلب صرفا ... وماء العين يجعله مزاجا
ولو بلغ المنى إنسان عيني، ... خلا منها وأسكنك الحجاجا (4)
لا تيأسنّ
(مجزوء الكامل)
لا تيأسنّ، فربّما ... عظم البلاء وفرّجا
قد ينسخ الخوف الأما ... ن، ويغلب اليأس الرّجا
__________
(1) الرمرام: نوع من النبات يميل لونه الى الغبرة النباج: قرية بالبادية.
(2) الخداج: إلقاء الناقة ولدها قبل تمامه.
(3) الأجاج: الحار الملتهب، المياه الساخنة.
(4) الحجاج: العظم الذي ينبت عليه الحاجب.(1/227)
خطبتني الدنيا
(الكامل)
إنّي إذا حلب البخيل لبانها، ... أمسيت أحلبها دم الأوداج (1)
خطبتني الدّنيا فقلت لها ارجعي ... إنّي أراك كثيرة الأزواج
السّرى والطوى
(السريع)
والعيس قد نشّف منها السّرى ... صفو العريكات، ونقي الأجاج (2)
لم يبق إلّا مضغ لاكها ... طول الطّوى، واسترطتها الفجاج (3)
__________
(1) الأوداج، جمع وداج: عرق في العنق ينتفخ عند الغضب.
(2) الأجاج: الحرارة.
(3) الطوى: الجوع استرطتها: ابتلعتها.(1/228)
قافية الحاء
أغار على ثراك
(الوافر)
أغار على ثراك من الرّياح، ... وأسأل عن غديرك والمراح
وأجهر بالسّلام ودون صوتي ... منيع لا يجاوز بالصّياح
وأهوى أن يخالطك الخزامى ... ويلمع في أباطحك الأقاحي
وكم لي نحو أرضك من مسير، ... دفعت به الغدوّ إلى الرّواح
وهذا الدّهر خفّض من عرامي، ... ورنّق من غبوقي واصطباحي (1)
وقد كان الملام يطيف منّي ... بمنجذب العنان إلى الجماح
تؤول النّائبات إلى مرادي، ... ويعطيني الزّمان على اقتراحي
وعالية السّوالف والهوادي، ... تدافع في الأسنّة والصّفاح (2)
إذا استقصين غامضة الدّياجي، ... فقأت بهنّ عاشية الصّباح (3)
ومدّرع سموت له مغذا، ... وقد غرض المقارع بالرّماح
__________
(1) العرام: الحدّة، الشراسة رنّق: كدّر.
(2) السوالف، جمع سالفة: مقدم العنق الهوادي، جمع هادي: العنق، وقد أراد الجياد الأصيلة الصّفاح: الجبهة.
(3) في هذا البيت إشارة الى اجتيازه ظلمات الليل وصولا الى الصباح.(1/229)
بنافذة تمطّق عن نجيع، ... تمطّق شارب المقر الصّراح (1)
وأخرى في الضّلوع لها هدير، ... هدير الفحل قربّ للّقاح
فما لي تطلب الأعداء حربي، ... ويصبح جانبي غرض اللّواح
أبا هرم، وأنت تريد ضيمي، ... بأيّ يد تطامن من طماحي (2)
لحقت أبي نزاعا في المعالي، ... وعرقا في الشّجاعة والسّماح
وأنت فما لحقت أباك إلّا ... كما لحق الذّنابى بالجناح (3)
نميت من العقوق إلى المخازي، ... كما ينمى الهرير إلى النّباح
فنحن نرى مكانك من نزار ... مكان الدّاء في الأدم الصّحاح
بني مطر دعوا العلياء يطلع ... إليها كلّ منذلق وقاح
وولّوا عن مقارعة المنايا، ... ولقيان الململمة الرّداح (4)
أيخفى لؤم أصلكم، وهذي ... قروفكم تنمّ على الجراح (5)
تعيّرنا القبائل أن قطعنا ... قرائن عامر وبني رياح (6)
وعلّقنا مطامعنا بحبل، ... تعلّقه القلوب بغير راح (7)
وكلّهم يجرّون العوالي، ... محافظة على عشب البطاح
فبلّغ سادة الأحياء أنّا ... سلونا بالغنا ضرب القداح (8)
__________
(1) تمطّق، تتمطق: يقال تمطّق الرجل الطعام اذا صوّت بلسانه لدى تذوقه.
وكلمة تمطق هنا تعني تقطر من السنان النافذ النجيع: الدم المقر:
نبات مر الصراح: الخالص، الصافي.
(2) تطامن: تخفض طماحي: كبري، طموحي.
(3) الذنابى: ريش الذنب، وفي قوله اشارة الى أن خصمه يأتي في المؤخرة.
(4) الرّداح الململمة: الكتيبة الكبيرة والكثيفة.
(5) القروف، جمع قرفة: الجلد المنقشرة من القرحة.
(6) قرائن، جمع قرينة: علاقة.
(7) الراح: الارتياح والنشاط.
(8) سلونا: نسينا ضرب القداح: كناية عن لعب الميسر. أي أننا نسينا الميسر واستغنينا عنه.(1/230)
وعفنا القاع نسكنه وملنا ... عن السّمرات والنّعم المراح (1)
وطبّقت العراق لنا قباب ... نظلّلها بأطراف الرّماح
نعلّل بالزّلال من الغوادي، ... ونتحف بالنّسيم من الرّياح
وجاورنا الخليفة حيث تسمو ... عرانين الرّجال إلى الطّماح (2)
نوجّه بالثّناء له مصونا، ... ونرتع منه في مال مباح
وسيّال اليدين من العطايا، ... مهيب الجدّ مأمون المزاح
إذا ابتدر الملام ندى يديه، ... مضى طلقا على سنن المراح
أمير المؤمنين أذال سيري، ... ذرى هذي المعبّدة الرّزاح (3)
فكم خاض المطيّ إليك بحرا ... يموج على الأماعز والضّواحي (4)
سراب كالغدير تعوم فيه ... ربى كغوارب الإبل القماح (5)
وكم لك من غرام بالمعالي، ... وهمّ في الأماني وارتياح
وأيّام تشنّ بها المنايا ... عوابس يطّلعن من النّواحي
إذا ريع الشّجاع بهنّ، قلنا: ... لأمر غصّ بالماء القراح
فلا نقل المهيمن عنك ظلّا ... من النّعماء ليس بمستباح
وواجهك الثّناء بكلّ أرض ... معاونة لشكري وامتداحي
__________
(1) القاع: الأرض الواطئة والمنبسطة السّمرات، جمع سمرة: شجر ذو أشواك النّعم المراح: الماشية السارحة والعائدة في العشية.
(2) عرانين، جمع عرنين: الأنف الشامخ، وفي القول كناية عن الرفعة والشرف.
(3) أذاله: لم يحسن القيام به المعبرة: المطلية بالقطران الرزاح:
التي سقطت إعياء أو هزالا.
(4) الأماعز: الأرض الصلبة.
(5) غوارب، جمع غارب: كاهل القماح: الممتنعة عن الشرب.(1/231)
مثال عينيك
(البسيط)
في هذه القصيدة يمدح أباه ويظهر ألمه لبعده عنه. وكان والده قد قصد فارس للاصلاح بين الملكين بهاء الدولة وصمصام الدولة ابني عضد الدولة، وبين العسكرين البغدادي والفارسي. ثم أقام يماطل بالعودة مدة طويلة، وكان ذلك في سنة 387.
مثال عينيك في الظّبي الذي سنحا، ... ولّى، وما دمل القلب الذي جرحا
فرحت أقبض أثناء الحشا كمدا، ... وراح يبسط أثناء الخطا مرحا (1)
صفحت عن دم قلب طلّه هدرا ... بقيا عليه، فما أبقى ولا صفحا
حمى له كلّ مرعى سهم مقلته ... ومورد الماء مغبوقا ومصطبحا
أماتح أنت غرب الدّمع من كمد ... على الظّعائن، إذ جاوزن مطّلحا (2)
أتبعتهم نظرا تدمى أواخره، ... وقد رملن على رمل العقيق ضحى (3)
فيهنّ أحوى غضيض الطّرف رعيته ... حبّ القلوب إذا ما راد أو سرحا (4)
عندي من الدّمع ما لو كان وارده ... مطيّ قومك يوم الجزع ما نزحا
غادرن أسوان ممطورا بعبرته ... ينحو مع البارق العلويّ أين نحا (5)
__________
(1) يعمد الشاعر في هذا البيت الى المقابلة بين حالتين، فالحالة الأولى في الصدر تناقضها الحالة الثانية في العجز.
(2) أماتح: أنازع غرب الدمع: مجراه الظعائن: الراحلين المطّلح:
المكان يكثر فيه الشجر.
(3) رملن: هرولن في مشيهن.
(4) أحوى: جميل العينين. أي أن بين الظاعنين صاحب عينين جميلتين، همّه أن يوقع الناس بحبه إذا ما أدار النظر.
(5) أسوان: حزين.(1/232)
يروعه الرّكب مجتازا ويزعجه ... زجر الحداة تشلّ الأينق الطّلحا (1)
هل يبلغنّهم النّفس التي ذهبت ... فيهم شعاعا، أو القلب الذي قرحا (2)
إن هان سفح دمي بالبين عندهم، ... فواجب أن يهون الدّمع إن سفحا
قل للعواذل: مهلا فالمشيب غدا ... يغدو عقالا لذي القلب الذي طمحا
هيهات أحوج مع شيبي إلى عذل، ... فالشّيب أعذل ممّن لامني ولحا
قف طالعا أيّها السّاعي ليدركني، ... فبعدك الجزع المغرور قد قرحا
لا عزّ أخبثنا عرقا، وأهجننا ... أمّا، وأصلدنا زندا إذا قدحا
أظنّ رأسك قد أعياك محمله، ... وربّ ثقل تمنّاه الذي طرحا
كم المقام على جيل سواسية، ... نرجو النّدى من إناء قلّ ما رشحا
تشاغل النّاس باستدفاع شرّهم ... عن أن يسومهم الإعطاء والمنحا
في كلّ يوم يناديني لبيعته ... مشمّر في عنان الغيّ قد جمحا
إن تمنينّ لمنديل، إذا لكم ... متى يشا ماسح منكم بها مسحا
إلام أصفيكم ودّي على مضض، ... وكم أنير وأسدي فيكم المدحا (3)
يروم نصحي أقوام وروا كبدي، ... والعجز أن يجعل الموتور منتصحا
أرى جناني قد جاشت حلائبه، ... ما يمنع القلب من فيض وقد طفحا
شمّر ذويلك، واركبها مذكّرة، ... واطلب عن الوطن المذموم منتدحا
وحمّل الهمّ، إن عنّاك نازله ... غوارب اللّيل والعيرانة السّرحا (4)
وانفض رجالا سقوك الغيظ أذنبة ... وأورثوك مضيض الدّاء والكشحا (5)
__________
(1) زجر الحداة: صياحهم بالابل كي تحث الخطى الأينق: النياق الطلح، جمع طليح: متعب.
(2) الشّعاع: الاضطراب، الخوف، القلق.
(3) أنير، من أنار الثوب: جعل له وشيا.
(4) عنّاك: أتعبك نازله: ما يأتي به الهم وينزله: العيرانة: السّرحا:
الحمر الوحشية السارحة.
(5) الكشح: داء في الكشح، أي الخاصرة.(1/233)
إن عاينوا نعمة ماتوا بها كمدا ... وإن رأوا غمّة طاروا بها فرحا
أوهت أكفّهم بيني وبينهم ... فتقا بغير العوالي قلّ ما نصحا (1)
نالوا المعالي، ولم تعرق جباههم ... فيها لغوبا، وما نال الذي كدحا (2)
سائل عن الطّود لم خفّت قواعده ... وكان إن مال مقدار به رجحا
قد جرّبوه، فما لانت شكيمته، ... وحمّلوه فما أعيا ولا رزحا
رموا به الغرض الأقصى، فشافهه، ... مرّ القطاميّ جلّى بعدما لمحا (3)
من العراق إلى أجبال خرّمة ... يا بعده منبذأ عنّا ومطرّحا (4)
ليس الملوم الذي شدّ اليدين به، ... بل الملوم المرزّا من به سمحا
هو الحسام، فمن تعلق يداه به ... يضمم على الصّفقة العظمى وقد ربحا
إن أغمدوه فلم تغمد فضائله ... ولا نأى ذكره الدّاني، وقد نزحا
أهدى السّلام إليك الله ما حملت ... غوارب الإبل الغادين والرّوحا
ولا أغبّ بلادا أنت ساكنها ... مسرى نسيم يميط الداء إن نفحا
أغدو على سبل الأنواء مشترطا ... سقياك في البلد النّائي ومقترحا
أفردت للهمّ صدرا منك متّسعا ... على الهموم، وقلبا منك منشرحا
كساهم البهمة الدّهماء عجزهم، ... والعزم ألبسك التّحجيل والفرحا (5)
علّ اللّيالي أن تثنى بعاطفة، ... فيستقيل زمان بعدما اجترحا
كما رمى الدّاء عضوا بعد صحّته ... كذا إذا التاث عضو ربّما اصطلحا (6)
فكم تلاحك باب الخطب ثمّ رمي ... بقارع من يمين الله، فانفتحا (7)
__________
(1) العوالي: الرماح نصح: خيط.
(2) لغوب، من اللغب: التعب.
(3) القطامي: الصقر جلّى: علا، ارتفع.
(4) خرّمة: قرية بفارس منبذ، من نبذه: طرحه ورمى به.
(5) البهمة: الخطّة الشديدة التحجيل: الاشراق، السرور.
(6) التاث: التف.
(7) تلاحك: تداخل.(1/234)
وكم تلاحم كرب عند معضلة ... فانجاب عن قدر لله، وانفسحا
أرى رجالا كبهم القاع عندهم ... سيّان من مزّق الآراء أو صرحا (1)
يعلو على قلل الأعناق بينهم ... من غشّ رئيا ويوطا عنق من نصحا (2)
تظاهروا بنفاق الغيّ عندهم ... حتّى ادّعاه على مكروهه الفصحا
تخطّينا الصفوف
(الوافر)
قال هذه الأبيات في القادر بالله وقد جلس للناس، ودخل اليه في سنة 383.
تخطّينا الصّفوف إلى رواق، ... تحجّب بالصّوارم والرّماح
وحيّينا عظيما من قريش، ... كأنّ جبينه فلق الصّباح (3)
عليه سيمياء الملك يبدو ... وعنوان الشّجاعة والسّماح (4)
عقدنا لواء العلى
(المتقارب)
برؤم السّيوف وغرب الرّماح ... عقدنا لواء العلى والسّماح (5)
وكلّ غلام حييّ اللّحاظ، ... يلقى الطّعان برمح وقاح
__________
(1) الصرح: الخالص من كل شيء.
(2) قلل: رؤوس، قمم الرئي: حسن المنظر.
(3) الضمير يعود الى الممدوح.
(4) سيمياء: علامات.
(5) رؤم السيوف: حدّها غرب الرماح: أسنتها.(1/235)
إذا مطل الثّار جرّ القنا ... نشاوى تقاضى صدور الصّفاح (1)
فأغمدها في احمرار الشّقي ... ق، وجرّدها في بياض الأقاح
بكلّ فلاة تؤود الجياد ... تعثر فيها ببيض الأداحي (2)
فيلجم أعناقها بالجبال، ... وينعل أرساغها بالبطاح
وأشقر يسرق صبغ المدا ... م، أنهبت جلدته للسّلاح
إذا يابس الماء بلّ الحزام، ... طارت به غلواء المراح (3)
تجول القرون بأعطافه، ... مجال الفواقع في كاس راح (4)
يشقّ الظّلام بسيف الضّحى، ... ويرمي الغدوّ بسهم الرّواح (5)
فيا راكب العجز مرخي العنان ... للذّلّ يخبط، والعزّ ضاح (6)
تقاض المطالب واستنبط ال ... رّجاء ونبّه عيون النّجاح
فلولا المطامع تحدو الطّلاب، ... لما خفقت قادمات الجناح
وما العيش عندي إلّا الإباء، ... وبعدي عن المنزل المستباح
أحبّ الخيام وسكّانها ... وأحسد كلّ بعيد المراح
وأغبط كلّ فتى لا يزال ... عبئا على الزّاعبات القماح (7)
يخاطر فيها بعقر السّوام، ... ويشرب منها لبان اللّقاح (8)
__________
(1) الصّفاح: الجباه.
(2) تؤود: تتعب الأداحي، جمع أدحية: مبيض النعام في الرمل.
(3) غلواء المراح: سرعته.
(4) القرون، جمع قرن: السيّد الشريف.
(5) يلاحظ استعارة الشاعر السيف والسهم للدلالة على بزوغ الفجر وحلول الليل، معتمدا في ذلك مراعاة النظير.
(6) العز ضاح: العز غير عال، والضاحي مأخوذ من القول: شجرة ضاحية أي لا ظل لها.
(7) أغبط: أعظّم، أقدّر الزاعبات، من زعب البعير: مرّ سريعا أو مثقلا القماح، من قمح البعير: رفع رأسه وامتنع عن الشرب.
(8) عقر السوام: ذبح الماشية اللّقاح: الناقة اللبون.(1/236)
طروب المسامع أين استقلّ ... صهيل الجياد وجرس النّباح
ومن لي بأن أتلافى الخطوب، ... إن نافرتني صدور الرّماح
ومن لي بتقبيل كفّ الزّما ... ن من قبل توقيعها باطّراحي
كبا الدّهر بيني وبين المنى، ... وطال بزند الرّجاء اقتداحي
أرى الحلم يطوي سباب الرّجال، ... والجهل ينشره في التّلاحي
فيحسب عيّا سكوت الحليم، ... ويعطى السّفيه حظوظ الفصاح
أكاشر أبناء هذا الزّمان، ... وأهزأ من نبلهم بامتداحي
فبين البواطن حلّ الطّلاق، ... وبين الظّواهر عقد النّكاح
وإنّي لأحفظ غيب الخليل ... إن ضاع واستلبته اللّواحي
وإنّي لأقصف بطش الفتى، ... ولو ردّ باع القضاء المتاح
تكدّر دوني نطاف الكلام، ... وأصقلها بالبيان الصّراح
أدافع بالجدّ عن غاية، ... ولو شئت بلّغتها بالمزاح
أراني سيخلق عمري الزّمان، ... وكلّ ظلام جديد الصّباح
زجرت السّرور، فما يجتنى ... بغير العلى طلبي وارتياحي
فبالله يا نشوات الشّمول ... عودي إلى نفحات الرّياح
وصوني عن السّكر من لا يزال ... يندّي المدام بماء القراح
أعاف ابنة الكرم لا ابن الغما ... م، بين غبوقي، وبين اصطباحي
يمرّ الغناء فيعتاقني، ... وعشق الحروب ثنى من جماحي
ولو لم أغنّ بذكر السّيوف، ... لقلّ على النّغمات ارتياحي
وسمراء ترشف ظلم القلو ... ب، قذّافة بالنّجيع المباح
تطارد في كلّ ملمومة ... منطّقة بالعوالي رداح (1)
تريق عليها كؤوس الدّما ... ء بالطّعن والموت نشوان صاح
فنخضب فيها جباه الظّبى، ... ونرمد فيها عيون الجراح
كأنّا نرى الضّرب نحر السّوام، ... ونحتسب الطّعن ضرب الصّفاح
__________
(1) الملمومة: الكتيبة المجتمعة الرداح: الكتيبة الثقيلة الجرارة.(1/237)
فمن ذا أسامي، وجدّي النبيّ، ... أم من أطاول أم من ألاحي
أنا ابن الأئمّة والنّازلين ... كلّ منيع الرّبى والبراح (1)
وأيد تصافح أيدي الكرام، ... وإن نفرت من أكفّ الشّحاح
إذا استصرخوا عصفوا بالصّبا ... ح بين الظّبى والوجوه الصّباح
وسالو إلى الطعن سيل القنا ... ومالوا على الضّرب ميل الصّفاح
نشرنا على عذبات الرّيا ... ح كلّ لواء صقيل النّواحي
وأحسابنا ساميات الأنوف ... بين المقام وبين الضّراح (2)
ورثوا المعالي
(الكامل)
بعض الملام فقد غضضت طماحي، ... وكفيت من نفسي العذول اللّاحي (3)
من بعد ما خطر الصّبا بمقادتي، ... وجرى إلى الأمد البعيد جماحي (4)
عشرون أوجف في البطالة خلفها ... عامان غلّا من يديّ مراحي (5)
زمن يخفّ به الجناح إلى الصّبا، ... لمّا ظفرت به خفضت جناحي
أغضي عن المرأى الأنيق زهادة ... فيه، وأدفع لذّتي بالرّاح
أمعاهد الأحباب! هل عود إلى ... مغدى نبلّ به الجوى ومراح (6)
يكفيك من أنفاسنا ودموعنا ... أن تمطري من بعدنا وتراحي
__________
(1) البراح: المتسع من الأرض لا زرع فيها ولا شجر.
(2) الضراح: البيت المعمور في السماء الرابعة.
(3) الطماح: الجماح اللاحي: اللائم.
(4) المقادة: القياد.
(5) أوجف: ذهب بها.
(6) المغدى والمراح: المكان يقصد في الصباح والمساء.(1/238)
فلربّ عيش فيك رقّ نسيمه، ... كالماء رقّ على جنوب بطاح
وتغزّل كصبا الأصائل أيقظت ... ريّا خزامى باللّوى وأقاح (1)
كم فيك من صاحي الشّمائل منتش ... بالذّلّ، أو مرضى العيون صحاح
فسقى اللّوى صوب الغمام ودرّه، ... وسقى النّوازل فيه صوب الرّاح (2)
وغدا فروّح ذاك عن تلك الرّبى، ... وسرى فروّح ذا عن الأرواح
فلطالما أقصدنني ظبياته، ... وأرقت فيه لبارق لمّاح (3)
والتحت من كمد إليه، وورده ... ناء يعذّب غلّة الملتاح
أيّام في صبغ الشّباب ذوائبي، ... وإلى التّصابي غدوتي ورواحي
قومي أنوف بني معدّ والذّرى ... من واضح فيهم ومن وضّاح
السّابقون إلى على ومفاخر، ... والغالبون على ندى وسماح (4)
ذهبوا بشأو المجد ثمّ تلفّتوا ... هزءا إلى الطّلّاع والطّلّاح (5)
شوس الحواجب مغضبين وفي الرّضى ... ما شئت من بيض الوجوه صباح (6)
ورثوا المعالي بالجدود، وبعدها ... بضراب مرهفة وطعن رماح
وقياد مخطفة الخصور كأنّها ... العقبان تحت مجلجل دلّاح (7)
يغبقن ليلا بالغبوق وتارة، ... يصبحن بالغارات كلّ صباح (8)
ضربت بعرقي دوحة نبويّة، ... في منصب واري الزّناد صراح
__________
(1) اللوى: الرمل الملتوي، وقد يكون اسم مكان.
(2) صوب الغمام: مطره النوازل: النازلون، القاطنون.
(3) أقصدنني: أصبنني.
(4) الندى: الكرم.
(5) الشأو: الغاية الطلّاح: الملحون.
(6) الشوس: الذين ينظرون بمؤخر العين تكبرا وتغيّظا.
(7) مخطفة الخصور: الخيول الضامرة المجلجل: المصوت الدلاح:
كثير الماء.
(8) يغبقن: يمسين الغبوق: ما يشرب أو ما يحلب في العشي.(1/239)
ينمى إلى أعياص خير أرومة، ... ليست بعشّات الفروع ضواح (1)
وأبي الذي حصد الرّقاب بسيفه، ... في كلّ يوم تصادم ونطاح
ردّت إليه الشّمس يحدث ضوءها ... صبحا على بعد من الإصباح
سائل به يوم الزّبير مشمّرا، ... يختال بين ذوابل وصفاح
واسأل به صفّين إنّ زئيره ... أودى بكبش أميّة النّطّاح (2)
واسأل شراة النّهروان، فإنّهم ... ضربوا بمنذلق اليدين وقاح (3)
كم من طعين يوم ذاك مرمّل، ... وحريم عزّ بالطّعان مباح (4)
ومناقب بيض الوجوه مضيئة، ... أبدا، تكاثر ألسن المدّاح
من قاس ذا شرف به، فكأنّما ... وزن الجبال القود بالأشباح (5)
قد قلت للعادي عليّ ببغيه: ... مهلا، فما يلحو القتادة لاحي (6)
فحذار إن مطرت عليك صواعقي ... وحذار إن هبّت عليك رياحي
أوفى الصّباح فشقّ كلّ دجنّة، ... وعلا الزّئير فغضّ كلّ نباح
أنا من علمت، على المكاشح مرهف ... نابي، وشاك في الخصام سلاحي
وأبيت أن أعطي الأعادي مقودي، ... أو أن تدرّ على الهوان لقاحي
من بعد ما أوضعت في طرق العلى، ... وأضرّ بالأعداء طول كفاحي (7)
وسحبت من خلع الخلائف طارفا ... لحظات كلّ معاند طمّاح
__________
(1) الأعياص: الأصول العشات: اللئيمات المنبت والدقيق الأغصان الضواحي: الأشجار لا ظل لها.
(2) الكبش: سيّد القوم وقائدهم، واستعمل النطّاح مراعاة للنظير.
(3) الشراة: الذين خرجوا على الامام علي النهروان: المكان الذي دحر فيه الخوارج.
(4) المرمّل: الملطّخ بالدماء.
(5) القود: المستطيلة.
(6) يلحو: يقشّر القتادة: شجرة صلبة لها شوك كالإبر.
(7) أوضعت: خفضت.(1/240)
ووليت في السّنّ القريبة أسرتي، ... فوكلت فاسدهم إلى إصلاحي
بمهابة عمّت بغير تكبّر، ... وصرامة أدمت بغير جراح
حلم كحاشية الرّداء، ودونه ... بأس يدقّ عوامل الأرماح
فلئن علوتهم، فليس بمنكر ... إمّا علت غرر على أوضاح (1)
فالآن أمدح غير مولى نعمة، ... لو كنت أنصف كان من مدّاحي (2)
بعدا لدهر خاض بي أهواله، ... وأجازني غمرا إلى ضحضاح (3)
لا درّ درّي إن رضيت بذلّة ... تلوي يدي وتردّ غرب طماحي
من دون قود الجرد تمري جريها ... ربلات كلّ مغامر جحجاح (4)
عنقا على عنق الطّلاب تحثّها ... همم ضمنّ عوائد الإنجاح (5)
فظع البلاد وراء قاضية العلى ... متغرّبا عن موطني ومراحي
أشهى إليّ من النّعيم يدوم لي، ... وألذّ من نعم عليّ مراح
إنّي إلى العذب النّمير أصابني ... بيد الهوان شربت بالأملاح
دعني أخاطر بالحياة، وإنّما ... طلب الرّجال العزّ ضرب قداح
إمّا لقاء الملك قسرا، أو كما ... لقي ابن حجر من يد الطّمّاح
__________
(1) غرر، جمع غرة: بياض الدرهم.
(2) في هذا البيت تلميح الى حقّه في الخلافة.
(3) الغمر: الماء الكثير الضحضاح: الماء القليل.
(4) قود: قيادة الجرد: الجياد الأصيلة القصيرة الشعر تمري جريها:
تستدرّه الربلات، جمع ربلة: باطن الفخذ الجحجاح: السيّد المسارع الى المكارم.
(5) العنق: السير السريع.(1/241)
ذل الراح والراحة
(السريع)
نبّهتهم مثل عوالي الرّماح ... إلى الوغى قبل نموم الصّباح (1)
فوارس نالوا المنى بالقنا، ... وصافحوا أعراضهم بالصّفاح (2)
لغارة سامع أنبائها ... يغصّ منها بالزّلال القراح
ليس على مضرمها سبّة، ... ولا على المجلب منها جناح
دونكم، فابتدروا غنمها، ... دمى مباحات، ومال مباح
فإنّنا في أرض أعدائنا ... لا نطأ العذراء إلّا سفاح (3)
يا نفس من همّ إلى همّة، ... فليس من عبء الأذى مستراح
قد آن للقلب الّذي كدّه ... طول مناجاة المنى أن يراح
لا بدّ أن أركبها صعبة ... وقاحة تحت غلام وقاح
يجهدها، أو ينثني بالرّدى ... دون الذي قدّر، أو بالنّجاح
الرّاح والرّاحة ذلّ الفتى، ... والعزّ في شرب ضريب اللّقاح (4)
في حيث لا حكم لغير القنا، ... ولا مطاع غير داعي الكفاح
ما أطيب الأمر، ولو أنّه ... على رزايا نعم في مراح (5)
وأشعث المفرق ذي همّة، ... طوّحه الهمّ بعيدا، فطاح
لمّا رأى الصّبر مضرّا به، ... راح، ومن لم يطق الذّلّ راح
دفعا بصدر السّيف لمّا رأى ... ألّا يردّ الضّيم دفعا براح
__________
(1) نموم الصباح: طلوعه.
(2) الصفاح: الجباه.
(3) السفاح: القوة، المغالبة والإكراه.
(4) الضريب: ما حلب بعضه فوق بعض من عدة لقاح، أي من عدة نياق حلوب.
(5) الرزايا: الضعاف.(1/242)
متى أرى الزّوراء مرتجّة، ... تمطر بالبيض الظّبى أو تراح (1)
يصيح فيها الموت عن ألسن ... من العوالي والمواضي فصاح
بكلّ روعاء عظينيّة ... يحتثّها أروع شاكي السّلاح (2)
كأنّما ينظر من ظلّها ... نعامة زيّافة بالجناح (3)
متى أرى الأرض وقد زلزلت ... بعارض أغبر دامي النّواح
متى أرى النّاس وقد صبّحوا ... أوائل اليوم بطعن صراح
يلتفت الهارب في عطفه ... مروّعا يرقب وقع الجراح
متى أرى البيض وقد أمطرت ... سيل دم يغلب سيل البطاح
متى أرى البيضة مصدوعة ... عن كلّ نشوان طويل المراح
مضمّخ الجيد، نؤوم الضّحى، ... كأنّه العذراء ذات الوشاح
إذا رداح الرّوع عنّت له، ... فرّ إلى ضمّ الكعاب الرّداح (4)
قوم رضوا بالعجز، واستبدلوا ... بالسيف يدمى غربه كاس راح (5)
توارثوا الملك، ولو أنجبوا ... لورّثوه عن طعان الرّماح
غطّى رداء العزّ عوراتهم، ... فافتضحوا بالذّلّ أيّ افتضاح
إنّي والشّاتم عرضي كمن ... روّع آساد الشّرى بالنّباح
يطلب شأوي، وهو مستيقن ... أنّ عناني في يمين الجماح (6)
__________
(1) الزوراء: كناية عن مدينة بغداد، وفي القول دعوة الى الانتفاضة والثورة.
(2) الروعاء: الناقة المضطربة الهائجة العظينية: المنتفخة البطن من أكل شجر العظين.
(3) زيّافة: مختالة.
(4) الرداح: الكتيبة الجرارة أو الفتن العظيمة الكعاب: الفتيات الناهدة الرداح (الثانية): الثقيلة الأوراك.
(5) غربه: حدّه. أي قوم قنعوا بالذل والعجز فتركوا المجالدة والقتال واستبدلوا بالسيف الدامي كأس الخمر.
(6) شأوي: غايتي الجماح: الجياد الجامحة، جمع جموح.(1/243)
فارم بعينيك مليّا تر ... وقع غباري في عيون الطّلاح (1)
وراق على ظلعك، هيهات أن ... يزعزع الطّود بمرّ الرّياح (2)
لا همّ قلبي بركوب العلى ... يوما، ولا بلّ يديّ السّماح
إن لم أنلها باشتراط، كما ... شئت على بيض الظّبى واقتراح
أفوز منها باللّباب الّذي ... يغني الأماني نيله والصّراح
فما الذي يقعدني عن مدى ... لا هو بالنّسل، ولا باللّقاح
طليحة مدّ بأضباعه، ... وغرّ قبلي النّاس حتّى سجاح (3)
يطمح من لا مجد يسمو به، ... إنّي إذا أعذر عند الطّماح
وخطّة يضحك منها الرّدى، ... عسراء تبري القوم بري القداح (4)
صبرت نفسي عند أهوالها، ... وقلت: من هبوتها لا براح (5)
إمّا فتى نال العلى فاشتفى، ... أو بطل ذاق الرّدى فاستراح
للأحبّة مطرح
(الكامل)
في كلّ يوم للأحبّة مطرح، ... وعلى المنازل للمدامع مسفح (6)
شوق على نأي الدّيار مغالب، ... وجوى على طول المطال مبرّح
نفرت بنات الصّبر منك، وطالما ... قصرت نوازع عن ضميرك تطمح
__________
(1) الطلاح: نوع من الشجر العظيم.
(2) ارق على ظلعك: أصلح نفسك، لا تجاوز حدك في وعيدك.
(3) طليحة: هو ابن خويلد تنبأ ثم أسلم الأضباع: الأعضاد سجاح:
امرأة ادعت النبوءة.
(4) بري القداح: نحت السهام وتقليمها كي تصبح صالحة للرماية.
(5) الهبوات: الغبار المتعالي.
(6) مسفح، من سفح الدمع: ذرفه.(1/244)
يا هل يمانع بعد طول قياده ... قلب يطاوع في القياد ويسمح
وعلى المطيّ ظباء وجرة كلّما ... غفل المراقب تشرئبّ وتسنح (1)
خالسننا النّظر المريب، كما رنت ... بقر الجواء إلى وميض يلمح (2)
يبسمن عن برد الغمام وبرده ... ريّان يغبق بالمدام ويصبح (3)
كلّفت عينك نظرة مزؤودة ... منعتك لذّتها مدامع تسفح (4)
أمسوا كأنّ لطائما داريّة ... باتت تضوع من القباب وتنفح (5)
ملكوا ولمّا يحسنوا وولوا ول ... مّا يعدلوا وغنوا ولمّا يسمحوا (6)
قل للّيالي قد ملكت فأسجحي، ... ولغيرك الخلق الكريم الأسجح (7)
من أيّ خطب من خطوبك أشتكي، ... وعن أيّ ذنب من ذنوبك أصفح
إن أشك فعلك من فراق أحبّتي، ... فلسوء فعلك في عذاري أقبح
ضوء تشعشع في سواد ذوائبي، ... لا أستضيء به ولا أستصبح (8)
بعت الشّباب به، على مقة له، ... بيع العليم بأنّه لا يربح (9)
لا تنكرنّ من الزّمان غريبة، ... إنّ الخطوب قليبها لا ينزح
__________
(1) وجرة: اسم مكان تكثر فيه الظباء تشرئب: تمد أعناقها تسنح:
تعرض.
(2) الجواء، جمع جو: ما انخفض من الأرض.
(3) البرد: الأسنان، يشبه بريقها بالبرق البرد (الثانية): الريق والمعنى أن ريق الأسنان البراقة يمزج بالخمر ويشرب في المساء وفي الصباح.
(4) مزؤودة: مفزعة تسفح: تذرف.
(5) اللطائم، جمع لطيمة: وعاء المسك داربة: نسبة الى دارين وهي بلدة مشهورة بمسكها.
(6) لمّا يسمحوا: لمّا يظهروا الكرم.
(7) أسجحي: أحسني.
(8) ضوء: كناية عن المشيب.
(9) مقة: حب.(1/245)
للذّلّ بين الأقربين مضاضة، ... والذّلّ ما بين الأباعد أروح
وإذا رمتك من الرّجال قوارص، ... فسهام ذي القربى القريبة أجرح
البس نسيج الذّلّ إن ألبسته ... متململا، وإناء قلبك يطفح
ما دمت تنتظر العواقب لا بدا ... لا تغتدي لعلى ولا تتروّح (1)
وضجيعك العضب الذي لا ينتضى، ... وخليطك الزّور الذي لا يبرح (2)
واعلم بأنّ البيت، إن أوطنته، ... سجن، وطول الهمّ غلّ يجرح
أأخيّ لا تك مضغة مزرودة، ... تنساغ ليّنة القياد وتسرح (3)
ألّا أبيت، وأنت من جمراتها ... ومن العجائب جمرة لا تلفح
كن شوكة يعيي انتقاش شباتها، ... أو حمضة يشجى بها المتملّح (4)
وانفض يديك من الثّراء فكم مضى ... من دون ثروته البخيل المصلح
يبقى لوارثه كرائم ماله، ... ولقد يرقّع عيشه ويرقّح (5)
قد ينتج المرء العشار بجدّه، ... وسواه يعتام الفحول ويلقح (6)
لا عذر إلّا أن أرى سرباتها ... سوم الجراد يثور منها الأبطح (7)
والهام تعتصب العجاج كأنّه ... في الجوّ شؤبوب الغمام الأملح (8)
قومي الأولى ضمنت لهم أحسابهم ... أنّ الزّمان بمثلهم لا يسمح
__________
(1) لابدا: منتظرا، من دون حركة ولا نشاط.
(2) العضب: السيف الزّور: الزائر.
(3) مزرودة: مبتلعة.
(4) الانتقاش: الاستخراج الشباة: الحد، رأس الشوكة حمضة: ما كان طعمه حامضا أو مرا يشجى، من الشجا: اعتراض عظم أو نحوه في الحلق المتملّح: الآكل.
(5) يرقّح، من الرقاحة: الكسب في التجارة.
(6) العشار: النياق يعتام: يختار.
(7) سرباتها، جمع سربة: جماعة الخيل سوم الجراد: هبوب الجراد.
(8) العجاج: الغبار الكثيف الشؤبوب: الدفعة من المطر.(1/246)
عركوا أديم الأرض قبل نباتها، ... واستفسحوا أعطانها وتفيّحوا (1)
فتقوا بشزر الطّعن أكمام العلى، ... وهم جذاع قبائل لم يقرحوا
إن أحرجوا لم يجهلوا، وإذا قضوا ... لم يقسطوا، وإذا علوا لم يبجحوا
ذنبي إلى البهم الكواذب أنّني ال ... طّرف المطهّم، والأغرّ الأقرح (2)
يولونني خزر العيون لأنّني ... غلّست في طلب العلى وتصبّحوا (3)
وجذبت بالطّول الذي لم يجذبوا، ... ومتحت بالغرب الذي لم يمتحوا (4)
من كلّ حامل إحنة لا تنجلي ... غطشى دجنّتها ولا تتوضّح (5)
ضبّ يداهنني، ويشكل غيبه ... ممّا يرغّي قوله ويصرّح (6)
يغدو ومرجل ضغنه متهزّم ... أبدا عليّ، وجرحه متقرّح (7)
مسحت جباه الوانيات ولطّمت ... من دون غايتها العتاق القرّح
لو لم يكن لي في القلوب مهابة ... لم يطعن الأعداء فيّ ويقدحوا
من خيف خوف اللّيث خطّ له الرّبى، ... وعوت لتشهره الكلاب النّبّح
نظروا بعين عداوة لو أنّها ... عين الرّضى لاستحسنوا ما استقبحوا
ما كان من شعث، فإنّي منهم ... لهم أودّ على البعاد وأسمح
__________
(1) الأعطان: مبارك الابل حول الماء تفيحوا: توسّعوا.
(2) الطرف: المهر الكريم الأقرح: الذي في وجهه بياض.
(3) الخزر: هو النظر بمؤخرة العين كبرياء أو غضبا أو حسدا.
(4) الطول: الحبل متحت، من متح الماء: استخرجه الغرب: الدلو العظيمة.
(5) الإحنة: الحقد غطشى: مظلمة.
(6) الضب: زحاف شبيه بالحرذون، يضرب به المثل في الأمور المعقدة فيقال: أعقد من ذنب الضب.
(7) التهزّم: شدّة الغليان.(1/247)
بسطت يدي
(الطويل)
سليمان لو وفّيت مدحي حقّه، ... أريتك أسباب المنى كيف تنجح
بسطت يدي حتّى ظننتك قابضا ... يد الدّهر عنّي، وهو أزور أكلح
فأقصدتني باليأس حتّى تركتني ... وظنّي عن نيل الغنى يتزحزح
وأصعبت لي من بعد ما كنت مسهلا ... مغالق برّ شارفت تتفتّح
فمن ماله في ذمّة كيف يجتدي ... ومن أصله في ظلمة كيف يمدح
منحتك جلّ أشعاري
(الوافر)
أعيذك من هجاء بعد مدح، ... فعذني من قتال بعد صلح
منحتك جلّ أشعاري، فلمّا ... ظفرت بهنّ لم أظفر بمنح
كبا زندي بحيث رجوت منه ... مساعدة الضّياء، فخاب قدحي
وكنت مضافري فثلمت سيفي، ... وكنت معاضدي فقصفت رمحي (1)
وكنت ممنّعا فأذلّ داري ... دخولك ذلّ ثغر بعد فتح
فيا ليثا دعوت به ليحمي ... حماي من العدى فاجتاح سرحي (2)
ويا طبّا رجوت صلاح جسمي ... بكفّيه، فزاد بلاء جرحي
ويا قمرا رجوت السّير فيه، ... فلثّمه الدّجى عنّي بجنح
سأرمي العزم في ثغر الدّياجي، ... وأحدو العيس في سلم وطلح (3)
__________
(1) مضافري: ظهيري، مساعدي.
(2) سرحي، ماشيتي، واجتاح السرح: أهلك الماشية.
(3) السلم والطلح: من الشجر.(1/248)
لبشر مصفّق الأخلاق عذب، ... وجود مهذّب النّشوات سمح
وقور ما استخفّته اللّيالي، ... ولا خدعته عن جدّ بمزح
إذا ليل النّوائب مدّ باعا ... ثناه عن عزيمته بصبح
وإن ركض السّؤال إلى نداه ... تتبّع إثر وطأته بنجح
وأصرف همّتي عن كلّ نكس ... أملّ على الضّمائر كلّ برح (1)
يهدّدني بقبح بعد حسن، ... ولم أر غير قبح بعد قبح
يضنّون وأسمح
(الطويل)
أبثّك أنّي راغب عن معاشر ... يضنّون بالودّ القليل، وأسمح
إذا ما جنوا ذنبا عليّ احتقرته، ... فأعفو عن الذّنب العظيم وأصفح
ويظهر لي قوم بعادا وجفوة، ... وما علموا أنّي بذلك أفرح
صبرا على نوب الزمان
(مجزوء الكامل)
صبرا على نوب الزّما ... ن وإن أبى القلب القريح
فلربّ مبتسم، وقد ... أخذت مآخذها الجروح
يسعى الفتى متماديا، ... ويد المنون له تليح
كم آمل يغدو على ال ... أمل البعيد، فلا يروح
بينا يشاد له البنا ... حتّى يخطّ له الضّريح
__________
(1) أملّ: أطال، أوقع في الملل البرح: الشدّة والأذى.(1/249)
لا تيأسن من أن تعو ... د عوائد وتهبّ ريح
قد يسقط العود الجلي ... د، وينهض النّضو الطّليح (1)
ويفرّج الغمّاء يح ... رج عندها العطن الفسيح (2)
ولكلّ شيء آخر، ... إمّا جميل أو قبيح
جعلت صحيحا
(الطويل)
ولو كنت فيها يوم ذا الأثل لم تؤب ... وزادك إلّا ذات ودقين تنضح (3)
غداة ذبال السّمهريّة يلتظي ... بأيماننا، والبيض بالبيض تقدح (4)
مواقف تنسي المرء ما كان قبلها ... ترى الجذع العاميّ فيهنّ يقرح (5)
كأنّ سقاط البيض ثمّ ارتفاعها ... مصاريع أبواب تجاف وتفتح (6)
فإن تك قد سقّيت مثلي بكاسها ... فما لك يا ذا الضّبّ لا تترنّح (7)
جعلت صحيحا مثل ضامن نقبة، ... له كلّ يوم جالب يتقرّح (8)
__________
(1) النضو الطليح: الضعيف المتعب، وهو البعير المهزول.
(2) العطن: مبرك الابل.
(3) ذات ودقين: الداهية.
(4) ذبال السمهرية: الرماح الدقيقة.
(5) الجذع: الصغير من البهائم العامي: الذي بلغ العام يقرح: يصير قارحا أي قويا معاندا.
(6) تجاف: ترد.
(7) الضب: الحقد الخفي.
(8) الضامن، من الضمنة: المرض الملازم النقبة: أول الجرب الجالب:
الجرح الذي تعلوه قشرة عند البرء.(1/250)
تواعدوا لحربي
(الطويل)
نظم هذه القصيدة مهاجما الذي يسرقون شعره ثم يفتضح أمرهم.
ألا من عذيري في رجال تواعدوا ... لحربي من رامي عقوق ورامح (1)
وغرّهم منّي اصطبار على الأذى، ... وقد يكظم المرء الأذى غير صافح
فما الجارم الجاني عقوقي بسالم، ... ولا الماطل اللّاوي ديوني برابح
أغاروا على ذود من الشّعر آمن، ... تقادم عندي من نتاج القرايح (2)
فيا ليتهم أدّوه في الحيّ خالصا، ... ولم يخلطوه بالرّزايا الطّلايح (3)
وإنّك لو موّهت كلّ هجينة ... على ناظر ما عدّدت في الصّرايح (4)
أرى كلّ يوم، والأعاجيب جمّة، ... على وبر الجربى وسوم الصّحايح
إذا طردوها خالفت برقابها ... رجوعا إلى أوطانها والمسارح
وإن أوردوها غير مائي حايدت ... حياد عيوف ينكر الماء قامح (5)
إذا انجفلت في غارة بتّ ناظرا ... أراقب منها روحة في الرّوائح
كأنّ بني غبراء، إذ ينهبونها ... أحالوا على مال بذي الدّوح سارح (6)
يرجّون منها، والأمانيّ ضلّة، ... رجاء نتاج الحمل من غير لاقح
أباغث أضرتها السّفاهة، فاغتدت ... تخطّف هذا القول خطف الجوارح (7)
__________
(1) من عذيري: من نصيري.
(2) الذود: من الثلاثة الى العشرة.
(3) الرزايا: الضعاف الطلايح: المتعبة.
(4) الهجين من الخيل: غير الأصيل الصرايح: الخالصة الأصيلة.
(5) القامح: الذي يرد الماء ولا يشرب.
(6) المال: الماشية.
(7) أباغث: طيور لا تصطاد، يكنّى بها عن الكسول والضعيف والمرذول.(1/251)
هبوها إليكم من يديّ منيحة، ... فقد آن، يا للقوم، ردّ المنايح (1)
دعوا ورد ماء لستم من حلاله ... وحلّوا الرّوابي قبل سيل الأباطح
ولا تستهيبوا العاصفات، وأصلكم ... نجيل رمت فيه اللّيالي بقادح (2)
فما أنتم من مالئي ذلك الحبا، ... ولا فيكم أكفاء تلك المناكح (3)
ولم تحسنوا رعي السّوامخ قبلها، ... فكيف تعاطيتم ركوب الجوامح (4)
ولا تطلبوها سمعة في معرّة ... تحدّث عنكم كلّ غاد ورايح
خمول الفتى خير من الذّكر بالخنا ... وجرّ ذيول المنديات الفواضح (5)
وعندي قواف إن تلقّين بالأذى ... نزعن بمرّ القول نزع المواتح (6)
تعدّد نبرات الأسود نباهة، ... وتنسى أنابيح الكلاب النّوابح
غابق أو صابح
(الكامل)
قيّدت أزمة كلّ مزن رائح ... متحمّل عبء المواطر دالح
حتّى يشقّ على العقيق مزاده، ... من غابق لرياضه أو صابح
__________
(1) المنايح، جمع منيحة: الناقة يجعل لك وبرها ولبنها وولدها، الموهوبة.
(2) النجيل: نوع من الحمض.
(3) الحبا أو الحبوة: الثوب أو العمامة.
(4) السوامخ: الزروع أول طلوعها.
(5) المنديات: الكلام الذي يندى له الجبين خجلا.
(6) المواتح، جمع ماتح: مستخرج الماء.(1/252)
ذكرت
(المتقارب)
ذكرت على فترة من مراح ... منازل بين قنا، فالصّفاح (1)
وأرضا تبدّل قطّانها، ... مجرّ القنا بمجرّ المساحي (2)
لو كنت شاهدها
(المتقارب)
فلو كنت شاهدها في الدّجى، ... وقدّ ضمّها البلد الأفيح
إذا ذكرتك على ونية ... رأيت ذفاريّها تنضح (3)
وحوش وعقبان
(مجزوء الرمل)
في قتال كان للطّي ... ر على قتلاه صلح
يتراغين وبين ال ... وحش والعقبان ذبح
__________
(1) قنا والصفاح: موضعان.
(2) المساحي، جمع مسحاة: مجرفة من حديد.
(3) الذفاري، من الذفر: كل رائحة زكية.(1/253)
قافية الخاء
الشهاب المنطفئ
(الرمل)
مات عضد الدولة سنة 372، فأرسل إلى أبيه هذه الأبيات، وكان الشريف دون العشرين من عمره.
أبلغا عنّي الحسين ألوكا ... إنّ ذا الطّود بعد عهدك ساخا (1)
والشّهاب الّذي اصطليت لظاه ... عكست ضوءه الخطوب فباخا (2)
والفنيق الذي تدرّع طول ال ... أرض خوّى به الرّدى، فأناخا (3)
إن ترد مورد القذى وهو راض ... فبما يكرع الزّلال النّقاخا (4)
والعقاب الشّغواء أهبطها النّي ... ق، وقد أرعت النّجوم سماخا (5)
أعجلتها المنون عنّا، ولكن ... خلّفت في ديارنا أفراخا
وعلى ذلك الزّمان بهم عا ... د غلاما من بعد ما كان شاخا
__________
(1) ألوكا: حاجة ساخ: انخسف.
(2) باخ: سكن.
(3) الفنيق: الفحل المكرم خوى: سقط.
(4) النقاخ: الماء البارد.
(5) السماخ: ثقب الأذن الشغواء: الكاسرة النيق: رأس الجبل.(1/254)
مسقط النقى
(الطويل)
نظم هذه الأبيات عند عودته من الحجاز وقد قطع الرمل المعروف باسم مربخ، وذلك سنة 394.
أقول لها حيث انتهى مسقط النّقا: ... نصلت وأيم الله من رمل مربخ (1)
نجوت على ما فيك من ونية السّرى ... وطيّ الموامي سربخا بعد سربخ (2)
بحيث الفتى لمّا يجب دعوة الفتى ... ولا يعطف الأخّ الكريم على الأخ
ولم يبق إلّا برزخ، فاقذفي به ... وراءك، إنّ الدّار من بعد برزخ
__________
(1) نصلت: خرجت، نجوت.
(2) ونية السرى: تعب السير ليلا الموامي: الفلوات السربخ: الأرض الواسعة.(1/255)
قافية الدال
مطهّر القلب
(البسيط)
في هذه القصيدة يمدح الشاعر الطائع ويهنئه بعيد الفطر سنة 377، ويعاتبه على تأخير الإذن في لقائه، كما يذم أعداءه.
إلى كم الطّرف بالبيداء معقود، ... وكم تشكّى سراي الضّمّر القود (1)
تعلّة لي، بعد القرب، تولية ... عن المقام، وبعد النّوم تسهيد
يا دار ذلّ لمن فارقت قعدته، ... والعزّ أولى بمن علّقت يا بيد
أرمي بأيدي المطايا كلّ مشتبه ... تنبو بأخفافها عنه الجلاميد
وكلّ ليل تضلّ النّجم ظلمته، ... قلب الدّليل به حيران مزؤود (2)
وغلمة في ظهور العيس أرّقهم ... همّ شعاع، وآمال عباديد (3)
ملثّمين بما راخت عمائمهم ... وكلّهم طرب للبين غرّيد (4)
لا آخذ الطّعن إلّا عن رماحهم ... إذا تطاعنت الشّمّ المناجيد
__________
(1) سراي: سيري ليلا الضمّر القود: الخيول الضامرة.
(2) مزؤود: مذعور.
(3) الشعاع: المتفرق عباديد: ذاهبة في كل اتجاه.
(4) راخت عمائمهم: اطمأنوا وارتاحوا.(1/256)
وربّ أمر بعيد الغاي قرّبني ... منه السّوابق والبزل المقاحيد (1)
وخطّة بين أرماح العدى ضمنت ... نجاي من ضيقها سمراء قيدود (2)
مالي بغير العلى في الأرض مضطرب، ... ولا لجنبي بغير العزّ تمهيد
ولا خطوت إلى بأس ولا كرم، ... إلّا وموضع رجلي منه موجود
ضاع الشّباب، فقل لي أين أطلبه، ... وازورّ عن نظري البيض الرّعاديد (3)
وجرّد الشّيب في فوديّ أبيضه ... يا ليته في سواد الشّعر مغمود
بيض وسود برأسي لا يسلّطها ... على الذّوائب إلّا البيض والسّود
يؤمّل النّاس أن يبقوا وما علموا ... أنّ الفتى ليد الأقدار مولود
شغلت بالهمّ حتّى ما يفرّحني، ... لولا الخليفة، نوروز ولا عيد
أهوى له كلّ أيّام يسرّ بها، ... وإن طغى بيننا نأي وتبعيد
محسّد المجد مغبوط مناقبه، ... متيّم القلب بالعلياء معمود (4)
كريم ما ضمّ برداه وعمّته، ... عفيف ما ضمّنت منه المراقيد
مطهّر القلب لا انهلّت مدامعه، ... وجدا، وما حقّر الأنفاس تصعيد
ما راق عينيه إلّا ما أقرّهما ... من المكارم، لا عين ولا جيد
المورد الرّمح ما نالت عوامله ... والمطعم العضب ما عزّاه تجريد
والقائد الخيل يمطو في أعنّتها ... مطو النّعام أضلّتها القراديد (5)
في كلّ يوم له نعمى يجدّدها ... تملا يدي، ولقولي فيه تجديد
وما أسرّ بمال لا أعزّ به، ... ولا ألذّ برأي فيه تفنيد
ليس الثّراء بغير المجد فائدة، ... وما البقاء بغير العزّ محمود
__________
(1) البزل، جمع بازل: الناقة التي شق نابها، التي بلغت المقاحيد، جمع مقحاد: الناقة الكبيرة السنام.
(2) القيدود: الناقة الطويلة الظهر.
(3) الرعاديد، جمع رعديدة: المرأة الرخصة.
(4) المعمود: العاشق المعذب.
(5) يمطو: يجد القراديد، جمع قردد: المرتفع من الأرض.(1/257)
جرح الحمام ولا جرح الأذى أبدا، ... والموت عند طروق الضّيم مورود (1)
صارت إليك، أمير المؤمنين، على ... غرّاء أحرزها آباؤك الصّيد (2)
من هاشم أنت في صمّاء شاهقة، ... لها رواق بباع المجد معمود
نهاية العزّ أن تبقى له أبدا، ... وغاية الجود أن يبقى لك الجود
لأيّ حال يداري القلب غلّته، ... رجاء ورد ووردي منك تصريد (3)
قد كنت عن عدد الأيّام في شغل ... فاليوم عامي لوعد منك معدود
ألام فيك، وأذني غير سامعة ... فاللّوم مطّرح، والعذل مردود
يروم ملكك من لا رأي ينجده، ... ولا فخار، ولا بأس، ولا جود
وكيف يطلب شأوا منك ذو ظلع ... باقي غبارك في عينيه موجود (4)
ما كلّ بارقة تحدو السّحاب، ولا ... كلّ السّحاب مباريق مراعيد
يستفره الخيل، والأقدار تحصره، ... ويستطيل العوالي، وهو رعديد (5)
لا تحفلن بوعيد زلّ عن فمه، ... فما يضرّ من المغرور توعيد
ولا يؤمّل أن يلقاك في عدد، ... إن أصحر اللّيث أخفى شخصه السّيد (6)
ولو بسطت يمينا بالعراق، إذا ... نالته، وهو بعيد الدّار مطرود
أعيذ مجدك أن أبقى على طمع ... وأن تكون عطاياي المواعيد
وأن أعيش بعيدا من لقائكم، ... ظمآن قلب، وذاك الورد مورود
ما لي أحبّ حبيبا لا أشاهده، ... ولا رجاي إلى لقياه ممدود
وأتعب القلب فيمن لا وصال له ... يا للرّجال! أقلّ الخرّد الغيد
أكثرت شعري ولم أظفرّ بحاجته، ... فسقّني قبل أن تفنى الأغاريد
__________
(1) الضيم: الحيف، الظلم.
(2) صارت: يعني بها الخلافة غراء: مشرقة الصّيد: الملوك، الأسياد.
(3) غلته: ظمأه التصريد: السقي من دون ري.
(4) شأوا: غاية الظلع: الضغن، الحقد.
(5) يستفره: يستكرم تحصره: تحبسه رعديد: جبان.
(6) أصحر: خرج الى الصحراء السّيد: الذئب.(1/258)
قد جاء عيد، وعيد المرء لذّته، ... وأنت فيهم عظيم القدر محمود
عيش الفتى كلّه وقت يسرّ به، ... من الدّنا، وجميع العيش مفقود
فاسعد به، وبأيّام طرفن به ... إنّ العزيز على العلّات مسعود
قليل مدحك في شعري يزيّنه، ... حتّى كأنّ مقالي فيك تغريد
كم خوّض النّاس في قولي وقائله ... وكم غلا بي إغراق وتجويد
أذمّ من أجل أشعاري فوا عجبا! ... تذمّ إن جنت الخمر العناقيد (1)
وما شكوت لأنّ العزّ يقعدني، ... وأنت سيفي ويوم الرّوع مشهود
من رأى البرق
(الرمل)
أمر الملك بهاء الدولة بأن يضاف إلى أعمال الشريف الرضي النظر في أمور الطالبيين بجميع البلاد، ولم يبلغ ذلك أحد من أهل البيت. واجتمع الناس في دار فخر الملك وقرئت الكتب الواردة بذلك، وكان يوما مشهودا، وذلك يوم الجمعة في السادس عشر من محرم سنة 403. في هذه المناسبة نظم الشاعر القصيدة مادحا بهاء الدولة.
من رأى البرق بغوريّ السّند، ... في أديم اللّيل يفري ويقد (2)
حيرة المصباح تزهوه الصّبا ... خلل الظّلماء يخبو ويقد
كلّما أنجد علويّ السّنا، ... قام بالقلب اشتياق وقعد
__________
(1) عجز البيت له طابع الحكمة.
(2) السند: ما علا من السفح وظهر من الجبل يفري: يشق يقد: يقطع.(1/259)
كم أضاء البرق لي من معهد ... ذاب دمع العين فيه وجمد (1)
ومغان أنبت الحسن بها ... هيفا ترعاه عيني، وغيد
كلّما عاود قلبي ذكرها، ... لعب الدّمع بجفنيّ، وجدّ
إن ريم السّرب أدنى لي الجوى، ... ونأى بالصّبر عنّي والجلد (2)
بندى غصنين غصن ونقا، ... وجنى عذبين شهد وبرد (3)
قل لزور الشّيب: أهلا! إنّه ... أخذ الغيّ وأعطاني الرّشد
طارق قوّم عودي بالنّهى، ... بعدما استغمز من طول الأود (4)
وقر اليوم جموحا رأسه، ... جار ما جار طويلا وقصد (5)
ظلّ لمّاع جلاه بارح، ... بعدما أبرق حينا، ورعد
لا تعدّ العيش شيئا، إنّه ... نفس يقضي، وأيّام تعدّ
إنّما الأيّام يوم واحد، ... وغرور اسمه اليوم وغد
يا قوام الدّين ملّيت بها ... دولة تجري إلى غير أمد
كسقاط النّار أورى قدحه، ... كلّما فرّ عن النّار وقد (6)
أصلها يطلب أعماق الثّرى، ... وذراها يطلب النّجم صعد
كلّما زاد علوّا فرعها، ... زاد مسراها قرارا ووطد
كيف نوهي طنبا من بيتها، ... نوب الأيّام والجدّ وتد
أنت آسيها، إذا لجّ بها ... من أعاديها رداع وضمد (7)
__________
(1) معهد: مكان.
(2) أدنى: قرّب الجوى: ألم العشق نأى: بعد.
(3) النقا: الرمل الملتوي الشهد والبرد: الريق والأسنان.
(4) النهى: العقل الأود: الاعوجاج.
(5) وقر: من الوقار القصد: العدل.
(6) أورى: أشعل.
(7) الآسي: الطبيب رداع: وجع ضمد: ظلم.(1/260)
قائد الخيل تساقى بالرّدى، ... تحت آساد لها النّقع لبد (1)
تحسب الشّوس على أكتادها ... فلق الجندل في ماء الزّرد (2)
وعلى أربق قد أرسلها ... كالقطا الجون يبادرن الثّمد (3)
وبيمّ ودجوها بالقنا ... ربّما داويت من غير عمد (4)
يوم أمسى من قناها ماطرا، ... سال واديه من الطّعن ومدّ
فضّ جمع الغيّ عن شدّتها، ... زأر الضّيغم فانصاع النّقد (5)
ونجا المغرور من جامحها ... مفلت الشّحمة حلق المزدرد
غاويا يحلم بالملك، وهل ... يغلب العير على بيت الأسد
أذكرونا يوم ذي قار، وقد ... أقبلوه عارض الطّعن برد
رحض الأغلف في تيّاره، ... ورد العلج، وما كاد يرد (6)
يصطلي نار طعان مضّة، ... أوقدت فيها نزار بن معدّ (7)
سل صفيح الهند عن موقفه، ... وبعين الشّمس للنّقع رمد
جرّ في دار الأعادي فيلقا، ... كرغاء البحر يرمي بالزّبد
فعلى الجوّ سقوف من قنا، ... وعلى الأرض قطوع من جسد
أصعق الأعداء حتّى خلته ... زفيان الرّيح يرمي بالعضد (8)
ركدة عن جولة تحسبها ... مرجل القين غلا ثمّ برد (9)
__________
(1) النقع: الدم الكثيف المائل الى السواد لبد، جمع لبدة: عفرة الأسد.
شبّه الأبطال بالأسود والدم المتجمد عليهم بلبد الأسود.
(2) الشوس، جمع أشوس: جريء الأكتاد، جمع كتد: ما بين الكتفين.
(3) أربق: الفرس الجون: السود الثمد: الماء القليل.
(4) اليم: القصد ودجوها: قطعوا أوداجها، والأوداج عروق العنق.
(5) النّقد: جنس من الغنم قبيح الشكل.
(6) رحض: غسل وطهر العلج: العير، الحمار.
(7) مضّة: موجعة.
(8) زفيان الريح: سوقها السحاب العضد: الشجر.
(9) الركود: السكون والهدوء المرجل: القدر الكبيرة القين: الحدّاد.(1/261)
ما أضلّ الرّمح فيها منهم، ... عثر السّيف به فيما وجد
من بني ساسان أقنى ضربت ... حجر الملك عليه والسّدد (1)
طلعت في كلّ أفق شمسه ... هل ترى يختصّ بالشّمس بلد
ما رأينا كأبيه ناجلا، ... ولد النّاس جميعا بولد (2)
إن يكن تاجا وعضدا فابنه، ... درّة التّاج ودملوج العضد
لا ضحا ظلّكم يوما، ولا ... مطل الإقبال فيكم ما وعد
وتفارطتم على رفه السّرى، ... مورد النّعماء والعيش الرّغد (3)
وغدا الجدّ جموحا بكم، ... ما له عن غاية الأيّام ردّ
تقصر الآجال من أعدائكم ... ويطال العيش فيكم ويمدّ
تنفد الغدران أحيانا، وما ... لعباب اليمّ ذي اللّجّ نفد
جعجع المجد بكم مبركه، ... راضيا بالدّار فيكم والبلد (4)
وقباب الملك في أعطانها ... رفعت منكم بعاديّ العمد (5)
معشر فات المساعي سعيهم، ... ضلّ من كاثر رملا بعدد
أفسدوا الدّهر على أولاده، ... لا يرى مثلهم فيمن ولد
يا معيد الماء في عودي، ويا ... مثبتي بعد اضطراب وأود
ثمري اليوم لمن أورقني، ... وإذا ما أورق الفرع عقد
كلّ يوم لك نعمى غضّة ... تعقد الفخر بأطواق جدد
ربّ منّ بعد منّ منكم، ... جاء عفوا، ويدا من بعد يد (6)
فاعتقدها ناظمات للعلى، ... جامعات المجد، والمجد بدد
__________
(1) أقنى: عالي الأنف.
(2) ناجلا: والدا.
(3) تفارطتم: تسابقتم رفه السرى: لينه.
(4) الجعجعة: تحريك الابل للإناخة.
(5) الأعطان: مبارك الإبل العادي: القديم.
(6) يدا بعد يد: منّة بعد منّة، واليد: الكرم.(1/262)
من مطايا الذّكر لا يحسرها ... أبدا وعث بلاد وجدد (1)
عقد للمجد باق عينها، ... أبد الدّهر، وللمجد عقد
خارجيّات يبادون المدى، ... ولها فيك بواق وقعد (2)
بحر ساكن ومزبد
(الطويل)
يمدح الشريف الرضي بهاء الدولة وقد اشتدت به العلة ثم أبل منها، وذلك في سنة 403.
أبى الله إلّا أن يسوء بك العدى، ... ويصبح مستثنى البقاء على الرّدى
وما كان هذا الدّهر يوما بنازع ... نجاد حسام مثله ما تقلّدا
لعا ولعا لا عثر من بعد هذه ... تلقّى العلى واستأنف العزّ أغيدا (3)
خفيت خفاء البدر يرجى ظهوره، ... وما غاب بدر اللّيل إلّا ليشهدا
غروب الدّراري ضامن لطلوعها، ... فيا فرقدا باق على اللّيل فرقدا
معاذا لهذا البحر ممّا يغيضه، ... معاذا لشمل المجد أن يتبدّدا
سلمت لنا، والله أرأف بالعلى ... من ان ينطوي عنّا وأرحم للنّدى
فقل للعدى شمّوا الهوان بأجدع، ... وعضّوا على الأيدي القصار بأدردا (4)
أفيقوا لها من سكرة الغيّ وابتغوا ... زماما إلى ما تكرهون ومقودا
__________
(1) يحسرها: يعييها الوعث: الطريق الصعب الجدد: الأرض الغليظة.
(2) الخارجيات: السوابق القعد، جمع قعود: هو من الابل ما يقتعده الراعي ويبقيه جانبا.
(3) لعا: دعاء بالانتعاش، وعكسه لحا.
(4) الأدرد: الذي ليس له أسنان.(1/263)
حسبتم بأنّ الملك هيضت جبوره، ... وأنّ سوام المجد أصبحن شرّدا (1)
لها اليوم راع لا يراع سوامه، ... أذلّ لها نهج الطّريق وعبّدا (2)
إذا طمع الأعداء فيها أجارها، ... وأرتعها بين العوالي، وأوردا
وإنّ قوام الدّين قد عبّ بحره ... وعيدا أقام الخالعين وأقعدا
تقوه، فبينا تنظر البحر ساكنا ... إلى أن تراه شائل اللّجّ مزبدا (3)
أأطمعكم أنّ الحسام قضى المنى ... ولم يبق عند الدّهر ثأرا، فأغمدا
وإنّي ضمين إن تجرّد مازق ... لغاو من الأيّام أن يتجرّدا
أما يرهب القطّاع إلّا مجرّدا، ... أما يتّقى العسّال إلّا مسدّدا (4)
ليهن اللّيالي والمعالي أنّها ... إثابة برء عدّها المجد مولدا
على حين طارت بالقلوب مخافة، ... أطير فريص الملك منها وأرعدا (5)
وأصبحت الآمال غرثى ظميّة، ... يواعدن من نعماك مرعى وموردا (6)
فلو يستطيع الدّهر من بعد هذه، ... لألبسك اليوم التّميم المعقّدا (7)
بأيّ منال أم بأيّة أذرع ... تعاطيتم اليوم البناء العطوّدا (8)
بناء أقام المجد فيه عماده، ... وقرّره تحت العوالي، ووطّدا
كدأبكم منه غداة حداكم، ... تشاغله الآذان عن طرب الحدا
وكبّكم كبّ الحجيج هديّه ... يحثحثها نخس النّصال إلى المدى (9)
__________
(1) هيضت: كسرت السوام: القطيع.
(2) عبّد: ذلل.
(3) تقوه: اتقوه، حاذروه شائل اللج: عالي الأمواج.
(4) العسّال: الرمح.
(5) فريص الملك: جانبه.
(6) غرثى: جائعة.
(7) التميم: الشديد، الطويل الكامل.
(8) العطود: الشديد، المتين.
(9) كبكم: قلبكم.(1/264)
كأيّام حنوي دارزين وأربق، ... مواقف أخبى الطّعن فيها وأوقدا (1)
أطيل اختراط البيض فيها فلو خفا ... بها لمعان البرق ظنّ المهنّدا (2)
وتخفى بها الأمطار من طول ما جرى ... عليها نجيع الطّعن والضّرب سرمدا
شللتم بها شلّ الطّرائد بالقنا، ... تبرّأ من ولّى وضلّ الذي هدى (3)
وما زادكم منهنّ غير جوائف ... هوادر يرددن المسابر واليدا (4)
دعوا لقم العلياء للمهتدي به، ... وخلّوا طريقا غار فيه وأنجدا (5)
لأطولكم طولا، إذا المزن أصبحت ... غوارز لا يعدمن خلفا مجدّدا (6)
نهيتكم عن ذي هماهم مشبل، ... حمى بجنوب السّيء ضالا وغرقدا (7)
فضافض غيل في الدّماء عييّة، ... كأنّ على ليتيه سبّا مورّدا (8)
يفرّق بين الجحفلين زئيره، ... كما أطّ نجديّ الغمام وأرعدا (9)
يجرّ سآبيّ الدّماء وراءه، ... مجرّ الخليع الشّرعبيّ المعضّدا (10)
__________
(1) دارزين وأربق: موضعان.
(2) خفا البرق: لمع.
(3) شللتم: طردتم.
(4) الجوائف، جمع جائفة: الطعنة تبلغ الجوف هوادر: تهدر، تغلي بالدم المسابر: ما يسبر به الجرح ليعرف غوره.
(5) لقم: طرق غار وأنجد: نزل الغور وارتقى المرتفعات.
(6) الغوارز: المطر القليل.
(7) مشبل: صاحب أشبال، كناية عن الأولاد السّيء: اسم موضع الضال والغرقد: نوعان من الشجر.
(8) الفضافض: الواسعة الغيل: الماء الجاري على وجه الأرض عييّة:
كالّة ليتي، مثنى ليت: صفحة العنق السّب: الخمار.
(9) الأط: الصوت نجدي الغمام: الغمام الآتي من نجد.
(10) السآبي: المرتوي من الدم، كناية عن الرمح الخليع: الذي أعيا أهله خبثا ومكرا الشرعبي: نوع من الثياب المعضّد: ثوب له زخارف في موضع العضد.(1/265)
وحذّرتكم مغلولبا ذا غطامط ... إذا كبّ بوصيّ السّفين وأزبدا (1)
له زجل كالفحل يقرع شوله، ... ألظّ بقرقار الهدير وردّدا (2)
ألا أخرس الغاوي، ولا فاه قائل ... بأمثالها، ما بلّل القطر جلمدا
ولا وجد الرّاجون أفقك مظلما، ... وزند النّدى يوما بكفّك مصلدا
ولا سمع الأعداء إلّا بأصلم، ... ولا نظر الحسّاد إلّا بأرمدا (3)
فليس المنى ما عشت قالصة الجنى ... علينا ولا النّعمى بناقصة الجدا (4)
بقيت بقاء القول فيك، فإنّه ... إذا بلغ الباقي المدى جاوز المدى
ولا بعد المأمول من أن تناله، ... فإن فات في ذا اليوم أدركته غدا
وملّيت حتّى تسأم العيش ملّة، ... فلو خلّد الأقوام كنت المخلّدا
إباء أقام الدهر
(الطويل)
يمدح الشريف الرضي في هذه القصيدة اسماعيل بن عباد صاحب مدينة إشبيلية ومؤسس الدولة العبادية في الأندلس، وذلك سنة 375. وهو لم يرسل إليه القصيدة.
إباء أقام الدّهر عنّي وأقعدا، ... وصبر على الأيّام أنأى وأبعدا
وقلب تقاضاه الجوانح أنّة، ... إذا راح ملآنا من الهمّ، أو غدا
__________
(1) المغلولب: القبيلة القوية الممتنعة الغطامط: البحر العظيم البوصي:
ضرب من السفن.
(2) الزجل: الصوت الشّول: ذنب البعير ألظّ: دوام قرقار الهدير:
البعير الصافي الصوت.
(3) الأصلم: المقطوع الأذن الأرمد: الذي في عينيه رمد.
(4) قالصة: مرتفعة الجدا: العطاء.(1/266)
أخوذ على أيدي المطامع بالنّوى ... نزاعا، وما يزداد إلّا تبعّدا (1)
إذا ركبت آماله ظهر نيّة، ... رأيت غلاما غائر الشّوق منجدا (2)
غذيّ زماع لا يملّ كأنّما ... يرى اللّيل كورا والمجرّة مقودا (3)
يلثّم عرنين الحسام بهمّة ... تكلّفه خوض اللّيالي مجرّدا (4)
أيّا خاطبا ودّي على النّأي، إنّني ... صديقك إن كنت الحسام المهندا
فإنّي رأيت السّيف أنصر للفتى، ... إذا قال قولا ماضيا أو توعّدا
أرى بين نيل العزّ والذّلّ ساعة ... من الطّعن تقتاد الوشيج المقصّدا (5)
فمن أخّرته نفسه مات عاجزا، ... ومن قدّمته نفسه مات سيّدا
إذا كان إقدام الفتى ضائرا له، ... فما المجد مطلوبا، ولا العزّ مفتدى
فدى لابن عبّاد ضنين بنفسه، ... إذا نقض الرّوع الطّراف الممدّدا (6)
ودبّر أطراف الرّماح، وإنّما ... يدبّر قبل الطّعن رأيا مسدّدا
به طال من خطوي، وكنت كأنّني ... مشيت إلى نيل المعالي مقيّدا
ومن مات في حبس المذلّة قلبه ... رأى العزّ في دار المذلّة مولدا
يسرّ الفتى حمل النّجاد، وربّما ... رأى حتفه في صفحتي ما تقلّدا
لنال المعالي من يدلّ بنفسه، ... ولا يذخر الآباء مجدا موطّدا (7)
وما يستفاد العزّ من شيمة الفتى ... إذا كان في دين المعالي مقلّدا
أبا قاسم هذا الذي كنت راجيا، ... لأرغم أعداء، وأكبت حسّدا
إذا جزعت أيّامنا كنت معقلا ... وإن ظمئت آمالنا كنت موردا
__________
(1) النزاع: الشوق.
(2) النية: الوجهة، المقصد.
(3) الزماع: المضي في الأمر الكور: قطيع الابل مقود: زمام، حبل.
(4) عرنين الحسام: رأسه.
(5) الوشيج: قصب الرماح المقصد: المكسر.
(6) الطراف: بيت من جلد.
(7) يدل: يفاخر.(1/267)
ولمّا رأيت الثّوب يعفي قرينه، ... لبست إليك الشّرعبيّ المعضّدا (1)
ولو كان لا يجني على المرء بأسه ... لدرّعني العزم الدّلاص المسرّدا (2)
وليل دفعناه إليك، كأنّما ... دفعنا به لجّا من اليمّ مزبدا
وشمس خلعناها عليك مريضة، ... وكنّا لبسناها رداء مورّدا
وملك أنفنا أن نقيم ببابه، ... فزوّدنا زاد امرئ ما تزوّدا
وأمرد حيّ ملتح بلثامه، ... يطول جوادا قادح السّنّ أجردا (3)
رأى أرجل الخوص الخماص كأنّما ... تسالب أيديها النّجاء العمرّدا (4)
تركنا لأيدي العيس ما خلف ظهرها ... ومن ذلّ في دار رأى البعد أحمدا
وسرنا على رغم الظّلام كأنّنا ... بدور تلاقي من جنابك أسعدا
تركت إليك النّاس طرّا كأنّني ... أرى كلّ محجوب بعيرا معبّدا (5)
فيا ليت رعيان القضيمة خبّروا ... بأنّي رعيت العزّ غضّا مجدّدا (6)
فلله نور في محيّاك، إنّه ... يمزّق جلبابا من اللّيل أربدا (7)
ولله ما ضمّت ثناياك، إنّها ... ثنايا جبال تطلع البأس والنّدى
أغر ضوءها، يا قبلة المجد إنّني ... أرى غرر الآمال نحوك سجّدا (8)
وأنت الذي ما احتلّ في الأرض مقعدا ... من الحدّ إلّا اشتقّ في الجوّ مصعدا
إذا ظمئت عيس إليك، فإنّما ... حقائبها تروي لجينا وعسجدا
__________
(1) الشرعبي: نوع من الثياب المزركشة.
(2) الدلاص المسرد: الدرع من زرد.
(3) الأمرد: الذي لم ينبت شعر ذقنه، الفتيّ قادح السن: متأكلها.
(4) الخوص: النياق الغائرة العيون الخماص: الجياع تسالب: تختلس النجاء: المرتفع العمرد: الطويل.
(5) البعير المعبد: المطلي بالقطران لشفائه من الجرب.
(6) القضيمة: الابل.
(7) أربد: أسود.
(8) أغر ضوءها: أبن ضوءها.(1/268)
تكتّمك الأسرار حزما وفطنة، ... وتفضحك الآراء عزّا وسؤددا
وما كنت إلّا السّيف يعرف منتضى، ... وينكر في بعض المواطن مغمدا
وحيّ جلال قد صبحت بغارة ... من الخيل يستاق النّعام المشرّدا (1)
ويوم من الأيّام شوّهت وجهه ... بأغبر كدّ الطّير حتّى تبلّدا (2)
رمت بك أقصى المجد نفس شريفة، ... وقلب جريء لا يخاف من الرّدى
وهمّة مقدام على كلّ فتكة، ... يفارق فيها طبعه ما تعوّدا
مقيم بصحراء الضّغائن مصحرا، ... إذا أخمدت من نارها الحرب أوقدا
لك القلم الماضي الذي لو قرنته ... بجري العوالي كان أجرى وأجودا
إذا انسلّ من عقد البنان حسبته ... يحوك على القرطاس بردا معمّدا (3)
يغازل منه الخطّ عينا كحيلة ... إذا عاد يوما ناظر الرّمح أرمدا
وإن مجّ نصل من دم الصّرب أحمرا ... أراق دما من مقتل الخطب أسودا (4)
إذا استرعفته همّة منك غادرت ... قوادمه تجري وعيدا وموعدا (5)
سأثني بأشعاري عليك، فإنّني ... رأيت مسود القوم يطري المسوّدا (6)
فما عرّفتني الأرض غيرك مطلبا، ... ولا بلّغتني العيس إلّاك مقصدا
ألا إنّ ترك الحمد تبخيل محسن، ... وما بذل المعطاء إلّا ليحمدا
لئن كنت في مدح العلى فاغرا فما، ... فإنّي إلى غير النّدى باسط يدا
خطبت إليك الودّ لا شيء غيره، ... وودّ الفتى كالبرّ يعطى ويجتدى
__________
(1) الجلال: التناهي في العظم النعام: الماشية.
(2) أغبر: صفة للجواد المائل الى الغبرة الكد: الإلحاح بالطلب التبلّد:
الخضوع والاستكانة.
(3) القرطاس: الورق معمّدا: موشّى.
(4) الصرب: الصبغ الأحمر.
(5) استرعف: سبق.
(6) مسود القوم: سيدهم. وهنا يجعل نفسه بمستوى الممدوح مقاما.(1/269)
دعاني إليك العزّ حتّى أجبته، ... ومن طلبته جمّة الماء أوردا (1)
وإنّي لأرجو من جوارك فعلة، ... أغيظ بها الحسّاد مثنى وموحدا
ومدحك هذا بكر مدح مدحته ... وكنت أروض القول حتّى تسدّدا
ولو علقت منّي بغيرك مدحة، ... لكنت كمن يعتاض بالماء جلمدا
ولست براض هذه لك تحفة، ... أضمّنها فيك الثّناء المخلّدا
فإن كان شعري فاتك اليوم آبيا ... عليّ، فإنّي سوف أعطيكه غدا
ولولاك ما أومى إلى المدح شاعر ... يعدّ عليّا للعلى ومحمّدا (2)
أبوه أبوه المستطيل بنفسه، ... على العزّ مصروفا به ومقلّدا
فتى سنّه عن خمس عشرة حجّة ... تربّى له فضلا ومجدا ومحتدا (3)
فتيّ الصّبا كهل الفضائل ما مشى ... إلى العمر إلّا احتلّ في الفضل مقعدا
تفرّد لا يفشي إلى غير نفسه ... حديثا ولا يدعو من النّاس منجدا
ولا طالبا من دهره فوق قوته، ... كفاني من الغدران ما نقع الصّدى
سأحمد عيشا صان وجهي بمائه، ... وإن كان ما أعطى قليلا مصرّدا (4)
وقالوا: لقاء النّاس أنس وراحة، ... ولو كنت أرضى النّاس ما كنت مفردا
طربت إلى الفضل الذي فيك وانتشى ... لذكرك شعري راقدا ومسهّدا
وما كنت إلّا عاشقا ضاع شجوه، ... فأصبح يستملي الحمام المغرّدا
وليس عجيبا إن طغى فيك مقول، ... رآك حقيقا في المعالي، فجوّدا
بعدت عن الإنشاد من غير رغبة، ... ولكنّني استخلفت نعماك منشدا
فمرني بأمر قبل موتي، فإنّني ... أرى المرء لا يبقى وإن بعد المدى
وما الميت إلّا راحل كره النّوى، ... وأعجله المقدار أن يتزوّدا
__________
(1) جمّة الماء: معظمه، وفي القول كناية عن الممدوح وما يمتاز به من كرم وخير.
(2) أومى: أشار.
(3) المحتد: الأصل تربى من ربا يربو: زاد، نما.
(4) المصرّد: القليل.(1/270)
أثر الهوادج
(الكامل)
في هذه القصيدة يمدح أيضا اسماعيل بن عباد وقد بلغه أن بعض شعره وصله فأعجب به وأنفذ إلى بغداد من يستنسخ تمام شعره.
أثر الهوادج في عراص البيد، ... مثل الجبال على الجمال القود
يطلعن من رمل الشّقيق لواغبا ... زحف الجنوب بعارض ممدود (1)
كم بان في المتحمّلين عشيّة، ... من ذي لمى خصر الرّضاب برود (2)
وقضيب إسحلة لو انعطف الصّبا ... يوما لنا بقوامه الأملود (3)
مرّوا على رملي زرود، فهل ترى ... إلصاقة لحشى برمل زرود (4)
متلفّتين من القباب، كأنّما ... انتقبوا بأعين ربرب وخدود
غرسوا الغصون على النّقا وترنّحوا ... من كلّ مائلة الغدائر رود (5)
إنّ اللآلي بين أصداف اللّمى، ... غلبت مراشفها على مجلودي (6)
ولووا بوعدي يوم خفّ قطينهم، ... ومن الصّدود اللّيّ بالموعود (7)
لم ترضني تلك اللّيالي عنهم ... بنوالهم، فأقول يوما: عودي
سيّان قربهم عليّ، وبعدهم، ... لولا الجوى وعلاقة المعمود (8)
__________
(1) لواغب: معيية، متعبة الجنوب: الرياح الجنوبية العارض: الجبل.
(2) ذو لمى: اللّمى سواد مستحسن في الشفة، وذو لحى: كناية عن الحبيب خصر: بارد، وكذلك برود.
(3) الإسحلة: شجرة تؤخذ منها المساويك: الاملود: الليّن.
(4) زرود: اسم موضع.
(5) النقا: الرمل الملتوي الرود: الشابة الحسنة.
(6) اللآلي: كناية عن الأسنان، جعل الفم صدفة والأسنان لآلئ.
(7) خف قطينهم: رحل سكانهم اللي: التعقيد، التسويف.
(8) المعمود: الذي عذبه الحب.(1/271)
ربعت على آثاركم نجديّة، ... غرّاء ذات بوارق ورعود
تسقي معالم منكم، لولا النّوى ... لم أرمها بقلى، ولا بصدود (1)
ولعجت فيها طارحا عن ناظري، ... ثقل الدّموع، وثانيا من جيدي
هل تبردون حرارة من حائم ... حرّان عن ذاك الغدير مذود (2)
فلقد تمعّك في مواطئ عيسكم ... يوم الوداع، تمعّك الموؤود (3)
وأما وذيّاك الغزيّل إنّه ... عرض الزّلال وحال دون ورودي
أغدو إلى طرد الظّباء، وأنثني، ... وأنا الطّريدة للظّباء الغيد
حتام تعتلق البطالة مقودي، ... ويعودني لهوى الظّعائن عيدي
عشرون أردفها الزّمان بأربع، ... أرهفنني، ومنعن من تجريدي (4)
أعلقت في سرب الخطوب حبائلي، ... وقدحت في ظلم الأمور زنودي
وكرعت في حلو الزّمان ومرّه ... ما شئت واعتقب العواجم عودي (5)
وفرعت رابية العلى، متمهّلا، ... أجري أمام الطّالب المجهود (6)
وخبطت في المتعرّضين بقولة ... جدّاء من بدع الزّمان شرود (7)
فضربت أوجههم بغير مناصل، ... وهزمت جمعهم بغير جنود
ما ضرّني، لمّا فللت غروبهم، ... أنّي كثرت لهم وقلّ عديدي
وأبي الذي حسد الرّجال قديمه، ... إنّ المناقب آية المحسود
ذو السّنّ والشّرف الذي جمعت به ... كفّاه أخمطة العلى، والجود (8)
__________
(1) القلى: البغض.
(2) الحائم: العطشان، وكذلك حرّان المذود: الممنوع.
(3) تمعّك: تمرّغ عيسكم: نياقكم الموؤود: من يدفن حيا.
(4) أرهفنني: رققنني.
(5) اعتقب: تفحص العواجم: الذين يعجمون أي يتفحّصون الصلابة بالأسنان.
(6) فرعت: صعدت.
(7) خبطت: ضربت جدّاء: جديدة شرود: شارد، يصعب الوصول إليها.
(8) الأخمطة، جمع خمط: اللبن الطيب الرائحة.(1/272)
إحدى أخامصه رقاب عداته، ... من سيّد بلغ العلى ومسود
فالآن إذ نبذ المشيب شبيبتي، ... نبذ القذى، وأقام من تأويدي
وفررت من سنّ القروح تجاربا، ... وعسا على قعس السّنين عمودي (1)
ولبست في الصّغر العلى مستبدلا ... أطواقها بتمائم المولود
وصفقت في أيدي الخلائف راهنا ... لهم يدي، بوثائق وعقود (2)
وحللت عندهم محلّ المجتبى، ... ونزلت منهم منزل المودود
فغر العدوّ يريد ذمّ فضائلي، ... هيهات ألجم فوك بالجلمود
همسا، فكم أسكتّ قبلك كاشحا ... بمناقبي، وعليّ فضل مزيد
ما لي أريغ النّصف من متحامل، ... أو أطلب الإجمال عند حسود
أم كيف يرأمني وليس بمنجبي، ... أترى الرّؤوم تكون غير ولود (3)
فلأنهضنّ إلى المعالي نهضة ... ملء الزّمان تفي بطول قعودي
إجمح أمامك إن هممت بفعلة، ... وتغاب عن عذل وعن تفنيد (4)
وإذا التفتّ إلى العواقب بدّلت ... قلب الجريّ بمهجة الرّعديد (5)
قد قلت للإبل الطّلاح حدوتها ... غلس الظّلام بسائق غرّيد
من كلّ مضطرب الزّمام، كأنّه ... في اللّيل زمّ بأرقم مطرود (6)
قتل الطّوى أجوافها بظهورها، ... وأحلّ أكل لحومها للبيد (7)
__________
(1) سن القروح: الكهولة عسا: يبس القعس: خروج الصدر ودخول الظهر.
(2) صفقت: بايعت الخلافة، من قولهم: صفق يده بالبيعة اذا ضرب يده على يده.
(3) يرأمني: يعطف علي.
(4) إجمع أمامك: أسرع لا يردك شيء تغاب: غض النظر.
(5) الجريّ: الجريء المهجة: النفس الرعديد: الجبان.
(6) الأرقم: الحيّة.
(7) الطوى: الجوع.(1/273)
إن لم تري كافي الكفاة، فلم يزل ... منكنّ مسقط ظالع أو مود (1)
بهداه يستضوي الورى وبهديه ... قرب الطّريق لهم إلى المعبود
أسد إذا جرّ القبائل خلفه، ... حلّ الطّلى بلوائه المعقود (2)
ومقصّر في الطّول غير مقصّر ... في الضّرّب يقطع كلّ حبل وريد
ومزعزع مثل الجرير، إذا انحنى ... للطّعن شيّع بالطّوال الميد (3)
ما مرّ يسحب منه إلّا ردّه ... ريّان يقطر من دماء الصّيد (4)
والجيش يرفع عمّة من قسطل ... فوق القنا ويجرّ ذيل حديد
سلف لكلّ كتيبة يطأ العدى، ... فيها مفاجأة بغير وعيد
في غلمة حملوا القنا، وتحمّلوا ... أعباء يوم المأزق المشهود
قوم، إذا ركبوا الجياد تجلببوا ... بقساطل وتعمّموا ببنود
وإذا سروا كمنوا كمون أراقم، ... وإذا لقوا برزوا بروز أسود
وإذا هتفت بهم ليوم كريهة، ... تدمى غوارب نحرها المورود
كثروا الحصى بجموعهم وتلاحقوا ... بك من قيام في السّروج قعود
كم من عدوّ قد أبات كأنّما ... يطوي الضّلوع على قنا مقصود
لوعيد محتضر العدى بحسامه، ... قبل احتمال ضغائن وحقود
ومؤلّلات كالرّماح تلمّظت ... فيها المنون تلمّظ المزؤود (5)
سود المخاطم ينتظمن محاسنا ... بيضا، يضئن على اللّيالي السّود
كتفتّح النّوّار فتّقه الحيا، ... أو كالصّباح فرى الدّجى بعمود
__________
(1) الظالع: الغامز في مشيه من الضعف أو التعب المودي: الهالك.
(2) الطلى: الأعناق.
(3) الجرير: الحبل، الرسن الطوال: الرماح.
(4) الصّيد: الملوك، الأسياد.
(5) المؤللات: المحددات الأطراف التلمظ: التذوق المزؤود:
المذعور.(1/274)
ما زال قدر من عقيرة سيفه ... علما أمام رواقه الممدود (1)
وجفان جود كالرّكايا تستقى ... أبدا بأيدي نزّل ووفود
كم حجّة لك في النّوافل نوّهت ... بدعاء دين العدل والتّوحيد
ومجادل أدمى جدالك قلبه، ... وأعضّه بجوانب الصّيخود (2)
وشفيت ممترض الهدى من معشر ... سدّوا من الآراء غير سديد
قارعتهم بالقول حتّى أذعنوا، ... وأطلت نوم الصّارم المغمود
جمر بمسهكة الرّياح نسفته، ... كان الضّلال يمدّه بوقود (3)
في كلّ معضلة أضبّ رتاجها، ... يلقي إليك الدّين بالإقليد (4)
فالله يشكر والنّبيّ محمّد ... وقفات مبد في النّضال معيد
رأي يغبّ، إذا الرّجال تلهوجوا ... الآراء، أو عجلوا عن التّسديد (5)
لو كان يمكنني التّقلّب لم يكن ... إلّا إليك تهائمي ونجودي
وطويت، ما بعدت، مسافة بيننا، ... إنّ البعيد إليك غير بعيد
وأنخت عيسي في جنابك طارحا ... بفناء دارك أنسعي وقتودي (6)
وتركت أسوقها نكوس عقيرة ... متبدّلات صوارم بقيود
بيني وبينك حرمتان تلاقتا، ... نثري الذي بك يقتدي وقصيدي
ووصايل الأدب الذي تصل الفتى ... لا باتّصال قبائل وجدود
قد كنت أعقل عن سواك عقائلي، ... وأصون درّ قلائدي وعقودي
وأحوك أفواف القريض، فلا أرى ... أنّي أدنّس باللّئام برودي
__________
(1) عقيرة السيف: ما تبقى منه بعد كسره، وفي القول إشارة الى كثرة القتال.
(2) الصيخود: الصخر القاسي.
(3) المسهكة: الريح الشديدة، العاصفة.
(4) أضب: صوت رتاجها: بابها الإقليد: المفتاح.
(5) يغب: تحمد عاقبته تلهوجوا: ترددوا، لم يحزموا أمرهم.
(6) الأنسع، جمع نسع: السير تشد به الرحال القتود، جمع قتد: خشب الرحل.(1/275)
ولقد ذممت النّاس قبلك كلّهم، ... فالآن طرّق لي إلى المحمود
إن أهد أشعاري إليك، فإنّه ... كالسّرد أعرضه على داود
لكنّني أعطيت صفو خواطري، ... وسقيت ما صبّت عليّ رعودي
وسمحت بالموجود عند بلاغتي ... إنّي كذاك أجود بالموجود
أعاتب أيامي
(الطويل)
في هذه القصيدة يمدح الوزير أبا نصر سابور بن أزدشير، أرسلها اليه عقب زوال جفوة كانت بين الوزير ووالده.
أعاتب أيّامي، وما الذّنب واحد، ... وهنّ اللّيالي الباديات العوائد
وأهون شيء في الزّمان خطوبه، ... إذا لم يعاونها العدوّ المعاند
وكيف تلذّ العيش عين ثقيلة ... على الخلق أو قلب على الدّهر واجد
وناضب مال، وهو في الجود فائض، ... وناقص حظّ، وهو في المجد زائد
نضوت شبابا لم أنل فيه سبّة، ... على أنّ شيطان البطالة مارد (1)
وكنت قصير الباع عن كلّ مجرم، ... ومن عددي قلب جريّ وساعد
وعندي إباء لا يلين لغامز، ... ولو نازعتنيه الرّقاق البوارد (2)
وكلّ فتى لم يرض عن عزمة القنا، ... ذليلا، ولو ناجى علاه الفراقد
ولولا الوزير الأزدشيريّ وحده، ... لغاض المعالي والنّدى والمحامد
وسدّ طريق المجد عن كلّ سالك، ... وضاقت على الآمال هذي الموارد
__________
(1) نضوت: خلعت.
(2) الرقاق البوارد: السيوف القواتل.(1/276)
فتى نفحتني منه ريح بليلة، ... تغادر عودي وهو ريّان مائد
ومدّ بضبعي يوم لا العزم ناصر، ... ولا الرّمح منّاع، ولا العضب ذائد (1)
وساعد جدّي في بلوغي إلى العلى، ... وما بلّغ الآمال إلّا المساعد (2)
على حين ولّاني المقارب صدّه، ... وزاد على الصّدّ العدوّ المباعد
تودّ العلى طلّابها، وهو وادع، ... ويبلغ ما لم يبلغوا، وهو قاعد (3)
يخلّى له عن كلّ عزّ وسؤدد، ... ويلقى إليه في الأمور المقالد (4)
أنيس سروج الخيل في كلّ ظلمة، ... وبين الغواني مضجع منه بارد
هموم تناجى بالعلاء وهمّة ... لها فارط في كلّ مجد ورائد (5)
يعلّمه بهرام كلّ شجاعة، ... ويقطعه أقصى المعالي عطارد (6)
وكيف يغصّ الأقربون بورده ... وقد نهلت منه الرّجال الأباعد
لك الله ما الآمال إلّا ركائب، ... وأنت لها هاد وحاد وقايد
أبي لك إلّا الفضل نفس كريمة، ... ورأي إلى فعل الجميل معاود
وطود من العلياء مدّت سموكه ... فطالت ذراه واطمأنّ القواعد
وإنّي لأرجو من علائك دولة ... تذلّل لي فيها الرّقاب العواند
ويوما يظلّ الخافقين بمزنة ... رذاذ، غواديها الرّؤوس الشّوارد
لأعقد مجدا يعجز النّاس حلّه، ... وتنحلّ من هام الأعادي معاقد
فمن ذا يراميني ولي منك جنّة، ... ومن ذا يدانيني ولي منك عاضد (7)
عليّ رداء من جمالك واسع، ... وعندي عزّ من جلالك خالد
__________
(1) بضبعي: بسندي العضب: السيف ذائد: مانع، مدافع.
(2) جدي: حظي.
(3) وادع: ساكن، من غير تعب.
(4) المقالد: المفاتيح.
(5) الفارط: السابق الى الماء الرائد: الذي ترسله في طلب الكلأ.
(6) بهرام: هو المريخ عند الفرس عطارد: نجم معروف.
(7) جنة: حمى، ترس.(1/277)
ولو كنت ممّن يملك المال رقّه ... لقلت بعنقي من نداك قلائد
فلا تتركنّي عرضة لمضاغن ... يطارد في أضغانه وأطارد (1)
ولولا صدود منك هانت عظائم ... تشقّ على غيري وذلّت شدائد
ولكنّك المرء الذي تحت سخطه ... أسود ترامى بالرّدى وأساود (2)
كأنّك للأرض العريضة مالك ... وحيدا، وللدّنيا العظيمة والد
فعودا إلى الحلم الذي أنت أهله، ... فمثلك بالإحسان باد وعائد
وحام على ما بيننا من قرابة، ... فإنّ الذي بيني وبينك شاهد (3)
وأرع مقالي منك أذنا سميعة، ... لها بلقاء السّائلين عوائد
ومر بجواب يشبه البدء عوده، ... ليردي عدوّا، أو ليكبت حاسد (4)
أكافينا النصيح
(مجزوء الوافر)
ارتجل الشريف الرضي هذه الأبيات أمام كافي الكفاة وزير بهاء الدولة، وقد عاتبه على تأخره عنه.
أكافينا النّصيح بقي ... ت فينا دائما أبدا
تحثّ إلى العلى قدما، ... وتبسط بالنّوال يدا (5)
لئن حرّقتني عذلا، ... لقد نوّهت بي صعدا (6)
__________
(1) المضاغن: الحاقد.
(2) أساود: حيّات.
(3) يشير في هذا البيت الى وجود قرابة بينهما عن طريق المصاهرة.
(4) ليكبت: ليخزى.
(5) النوال: العطاء.
(6) العذل: اللوم.(1/278)
فطلت الأطولين على، ... وفت الأبعدين مدى
عليّ طروق وردكم، ... وليس عليّ أن أردا
لا أرد الماء
(السريع)
نظم هذه القصيدة في مدح والده سنة 374.
إذا احتبى بالعشب الوادي، ... وانحلّ فيه الواكف الغادي (1)
وفوّفت ريح الصّبا متنه ... تفويف أعلام وأبراد (2)
فلا سقاك الله من صفوه، ... أو تنجزي في السّير ميعادي
ربّ طلاب أتلع رمته، ... وحاجة عالية الهادي (3)
معتجرا باللّيل أحدو به ... بزلاء تستولي على الحادي (4)
لا أرد الماء، ولو أنّني ... ضجيع أسدام وأعداد (5)
كأنّني روعاء مطرودة ... يزورّ عنها جانب الوادي (6)
هذا، وكم فيض ترشّفته، ... والماء لا يلوي على الصّادي
تؤمّ بي الخرقاء مخطومة ... أمام ورّاد وروّاد (7)
__________
(1) احتبى: ارتدى، اكتسى الواكف الغادي: الغيم الصباحي الماطر.
(2) فوفت: خططت.
(3) أتلع: طويل الهادي: العنق، وفي القول كناية عن طلب المجد.
(4) المعتجر: الذي يلف عمامته البزلاء: الناقة التي شق نابها.
(5) الأسدام، جمع سدم: الهم والندم، الغيظ والحزن الأعداد: الماء الجاري.
(6) روعاء: مخيفة، وهي هنا بمعنى السيل المفاجئ يزوّر: يميل.
(7) الخرقاء: الأرض الواسعة المخطومة: الناقة التي لها زمام.(1/279)
أشرف بيت من بني هاشم، ... وخير أطناب وأعماد
ألقت إليه ناقتي، في السّرى، ... فضول إتهامي وإنجادي (1)
تركت من ليست له همّة ... ملتفتا في الماء والزّاد
تلوت موسى بابنه في العلى ... بفضل أجداد وأجداد
نعم حمى الدّرع ليوم الوغى ... أنت وراعي الحلم للنّادي
إذا القنا مدّ مدى باعه ... عانقته في ثوب فرصاد (2)
أدعوك، والدّهر له وقفة ... ما بين إصداري وإيرادي
لمثلها أدعو بنات السّرى، ... تخلط أعناقا بأعضاد
نفسي، كما تعرف، صبّارة ... لو لم يفضّ الخطب من آدي (3)
ولو أمنت الدّهر أحداثه، ... صافحت كفّ الضّيغم العادي (4)
ما لي لا أرغب عن بلدة ... ترغب في كثرة حسّادي (5)
ما الرّزق بالكرخ مقيم، ولا ... طوق العلى في جيد بغداد
بكلّ أرض، إن تورّدتها، ... ديار أشكال وأضداد
أنحلني فيها طلاب العلى، ... وذاك فخري عند أندادي
لو كان دائي من غرام الهوى ... جزعت من أبصار عوّادي
أين الغواني من طلابي، وما ... أطلب إلّا الرّائح الغادي
أكثر ما يلقينني ساهرا ... ما بين أعراف وأكتاد (6)
وقلّ ما يلقينني راقدا ... ما بين أحشاء وأجياد
إن مسّني ناب الرّدى لم أقل ... يا ليت موتي كان ميلادي
__________
(1) السرى: السير ليلا الإتهام والإنجاد: نزول تهامة وارتقاء نجد.
(2) الفرصاد: التوت الأحمر.
(3) يفض: يضعف من آدي: من قوتي.
(4) الضيغم: الأسد.
(5) أرغب: أرحل ترغب: تريد، تميل.
(6) الأعراف: شعر عنق الفرس الأكتاد، جمع كتد: ما بين الكاهل والظهر.(1/280)
سيّان ما سيري على سابح ... أو شرجع تخفق أبرادي (1)
وما مقام الحرّ في عيشة ... لها المقادير بمرصاد
تفدي الفتى في عيشه ألسن، ... وما له من حتفه فاد
قالوا، وما أنكرها قولة ... من مائق في الغيّ منقاد (2)
الظّلم والإنصاف من فعل من ... يحكم في الحاضر والبادي
فقلت: إنّي وجميع الورى ... منه على وعد وإيعاد
إن كان إسلامي على هذه، ... فكلّ غيّ عند إرشادي
هيهات لا أحسد ذا قدرة، ... ولو حوى عاقر أغمادي
ولو حسدت الفضل في أهله، ... حسدت آبائي وأجدادي
استقاد الزمان
(الخفيف)
يمدح أباه ويهنئه بعيد الأضحى، ويذم ابن عبد الله وزير عضد الدولة لعداوة كانت بينهما، وذلك سنة 376.
شقيت منك بالعلاء الأعادي، ... والمعالي ضرائر الحسّاد
واستقاد الزّمان بعد التّداني ... من رجال تفاءلوا بالبعاد
ورعيت الإياب غضّا جديدا، ... وتبدّلت مطمحا بالقياد (3)
وإذا ما الشّجاع شمّر بردي ... هـ، فلله أيّ يوم جلاد (4)
__________
(1) السابح: الجواد السريع والمريح الشرجع: الجنازة.
(2) المائق: الأحمق.
(3) المطمح، من الطموح: الجماح.
(4) الجلاد: الحرب، القتال.(1/281)
أمرعت أرضنا بكلّ مكان، ... واستجابت لنا بروق الغوادي (1)
وحبانا بوبله كلّ أفق، ... وأتانا بسيله كلّ واد (2)
أترى آن للمنى أن تقاضي ... حاجة طال مطلها في الفؤاد
بين همّ تحت المناسم مطرو ... ح، وعزم على ظهور الجياد (3)
ومهار يكدّها كلّ يوم ... طرد، أو قوارح في الطّرّاد (4)
من قلوب لها التّقلّب في العز ... م، وأيد طليقة بالأيادي (5)
ما يبالي الهمام أين ترقّى، ... وخباء العلى أمين العماد
يا حياة يشجى بها كلّ حيّ، ... والتّوالي شجيّة بالهوادي (6)
إن سما بالنّفاق غيرك، فالأو ... عال ملويّة على الأطواد (7)
أو تعاطى مداك، فالمرء مسبو ... ق إذا كفّ من عنان الجواد
حرّكت عزمة المعالي، ولكن ... يحدث السّيل خفّة في الجماد
كيف يستعمل السّماح وبذل ال ... مال غير المعلّم المستفاد
نحن في عصبة ترى الجور عدلا، ... وتسمّي الضّلال دار رشاد
في رجال تهزا بوفد المعالي، ... وديار تسطو على الورّاد
إنّما أنت نعمة الله في الأر ... ض، إذا كان نقمة للعباد
لك طبع تعرّفته اللّيالي، ... وامترى فيه كلّ قار وبادي (8)
جاعل قسوة الوعيد على الأيّا ... م عبدا لرقّة الميعاد
__________
(1) أمرعت: أخصبت الغوادي: الغيوم الصباحية.
(2) الوبل: المطر.
(3) الهم: الهمّة.
(4) المهار: جمع مهر، الجياد الفتية الطرد: الصيد.
(5) الأيادي: النعم، جمع يد.
(6) الهوادي: المتقدمات، ضد التوالي.
(7) الأوعال، جمع وعل: تيس الجبل.
(8) امترى: شك قار: ماش على أطراف قدميه.(1/282)
أيكون البخيل غير بخيل، ... أم يكون الجواد غير جواد
لأجار الزّمان من كلّ بؤس ... ظاهر الجدّ طاهر الأجداد
فرحات به العيون كما تف ... رح بالعشب أعين الرّوّاد
واضح العزم متلئبّ المطايا، ... مستطيب الإتهام والإنجاد (1)
أخذت كفّه بصخرة عزم ... دوّخت بالطّلاب هام البلاد
وجبان لويت عنه، فأمسى ... وجل العين من قراع الرّقاد
مستطيرا كأنّ هدّاب جفني ... هـ على النّاظرين شوك القتاد
لا أقال الإله من خانك العه ... د، وجازاك بغضة بالوداد
ظنّ بالعجز أنّ حبسك ذلّ، ... والمواضي تصان بالأغماد (2)
قصّر الدّهر من ذراه، وقد كا ... ن بتلك الظّبى طويل النّجاد
وأذلّ الزّمان بعدك عطفي ... هـ، وقد كان من أعزّ العباد
كنت ليثا، وكان ذئبا، ولكن ... لا تلذّ الأشكال بالأضداد
وتمادى بما جناه على الأ ... يّام حتّى جنى عليه التّمادي
سمحت كفّه به للمنايا، ... بعد أن لم يكن من الأجواد
ظنّ أنّ المدى يطول وفي الآ ... مال ما لا يعان بالأجداد
كلّ حيّ يغالط العيش بالدّه ... ر وكلّ تعدو عليه العوادي
لو رجعنا إلى العقول يقينا، ... لرأينا الممات في الميلاد
كيف لا يطلب الحمام عليل ... حكّم الدّهر فيه رأي المعاد
لو أجيزت له العيادة يوما ... لقضى من فظاظة العوّاد
أو تصدّى لمجمع جرحته ... ألسن القوم بالعيون الحداد
هكذا تدرك النّفوس من الأع ... داء برد القلوب والأكباد
كلّ حبس يهون عند اللّيالي ... بعد حبس الأرواح في الأجساد
وتداركت ما تمنّيت، والأح ... شاء مزرورة على الأحقاد
__________
(1) متلئب: مستقيم، منتصب.
(2) في هذا البيت إشارة الى سجن والده ثم إطلاق سراحه.(1/283)
نلت بعضا وسوف تدرك كلّا، ... إنّما السّيل بعد قطر العهاد (1)
مثل ما مرّ لا تعيد اللّيالي، ... والحديث السّفيه غير معاد
ربّ يوم شهدته، والمنايا ... تطرح الطّعن من رؤوس الصّعاد (2)
والظّبى تقذف الغمود وماء ال ... نّقع جار على الرّبى والوهاد (3)
خلّق الخيل بالنّجيع، وكانت ... غرر الخيل معقلا للجساد (4)
يا قريع الزّمان، دعة صبّ ... بالأماني، متيّم بالمراد
لك إن ذمّت المحاضر يوما ... عنفوان الثّناء في كلّ ناد
نظر العيد منك بدرا تخفّى ... برهة عن نواظر الأعياد
فتهنّ السّرور، فاليوم مصقو ... ل الحواشي مجرّر الأبراد
من مرام بعاده لتدان، ... ومراد نقصانه لازدياد
لو قدرنا على المنى لفدينا ... ذي الأضاحي من الظّبى بالأعادي
إنّما نحن مشبهوك وما الأش ... بال إلّا طبائع الآساد (5)
نحن ذاك الغرار من هذه البي ... ض وذاك الشّرار من ذا الزّناد (6)
هذه تحفتي إليك، وخير ال ... شّعر ما كان تحفة الإنشاد
وضميري إذا طرحتك فيه، ... جاش لي بحره بخير العتاد (7)
أنا من صفوة النّبيّ، وغيري ... ولد لا يعدّ في الأولاد
__________
(1) قطر العهاد: المطر أول نزوله.
(2) الصعاد، جمع صعدة: الرمح.
(3) الظبى: السيوف ماء النقع: الماء المستنقع.
(4) خلق: طيّب النجيع: الدم الجساد: الزعفران.
(5) نحن مشبهوك: اي نحن منك ونشبهك.
(6) الغرار: الحد.
(7) العتاد: ما أعد لأمر ما.(1/284)
خير الهوى
(المنسرح)
خير الهوى ما نجا من الكمد، ... وعاشق العزّ ماجد الكبد
ما حمل الذّلّ ظهر مارنة، ... ولا انزوى عن طبيعة الصّيد (1)
كيف يربّي الحياة مقتبل ... يرى المنى عاقرا بلا ولد
يعذلني في الزّماع كلّ فتى، ... والسّيف إن قرّ في الغمود صدي (2)
أنا النّضار الذي يضنّ به، ... لو قلّبتني يمين منتقد
إنّي أظنّ الظّنون صادقة، ... كأنّ يومي طليعة لغدي
ما وتر الدّهر لمّتي، ويدي ... تأخذ، قبل المشيب، بالقود (3)
تغدر بي وفرتي، وكنت إذا ... طلبت غير الوفاء لم أجد (4)
بعدكم حنّت الرّكاب، وسا ... ل الرّكب بالصّحصحان والجدد (5)
واللّيل بين النّجوم تحسبه ... يخطر في نثرة من الزّرد (6)
ليلي ببغداد لا أقرّ به، ... كأنّني فيه ناظر الرّمد
ينفر نومي كأنّ مقلته ... تشرج أجفانها على ضمد (7)
أفكر في حالة أطاولها، ... وفعلة تخضب القنا بيدي
للنّفس أن تبعث العزائم والرّأ ... ي، وكلّ الفعال للجسد
__________
(1) مارنة: الناقة العالية الصّيد: رافع الرأس كبرا.
(2) الزّماع: الاشراق اللمعان.
(3) وتر الدهر لمتي: كناية عن إتيانه بالمشيب القود: القصاص، الثأر.
(4) الوفرة: شعر الرأس.
(5) الصحصحان: الأرض المستوية الجدد: الأرض الغليظة، الرمل المستدق.
(6) النثرة: الدرع.
(7) تشرج: تخاط الضمد: العصابة يشد بها الجرح.(1/285)
ها إنّها نومة بسورتها، ... أقالت العين عثرة السّهد (1)
لا اطّردت بي إليك سابحة، ... حتّى أرى النّقع عالي الكتد (2)
ما لي لا أركب البعاد، ولا ... أدعى على القرب بيضة البلد (3)
أصحب من لا ألوم صحبته، ... غير نزور النّدى ولا جحد (4)
فتى رأى الدّهر غير مؤتمن، ... فما فشا سرّه إلى أحد
واتّهم الخيل، فهو يمتحن ال ... مهرة قبل الطّراد بالطّرد
في كلّ فجّ يقود راحلة، ... تجذبها الأرض جذبة المسد (5)
لا يبعد الله غلمة ركبوا ... أغراضهم واستفوا من البعد (6)
رموا بعهد النّعيم، واصطنعوا ... كلّ بخيل الذّباب مطّرد (7)
قلّوا على كثرة العدوّ لهم، ... كم عدد لا يعدّ في العدد
لي فيهم أشرف الحظوظ، إذا ال ... رّوع أعان الحسام بالعضد
وأين مثل الحسين إن حسنت ... صنائع البيض والقنا القصد (8)
أبلج إن صاحت المطيّ به، ... فدى التّنائي بعيشة الرّغد
ما خلع الدّهر عنه سابغة، ... واللّيث لا ينتضى من اللّبد (9)
__________
(1) سورتها: حدتها السهد: الأرق.
(2) السابحة: الناقة أو الفرس السهلة الركوب والسريعة النقع: الغبار الكتد: بين الكاهل والظهر.
(3) بيضة البلد: أكبر قومه.
(4) النزور الندى: القليل العطاء الجحد: القليل المطر.
(5) المسد: حبل من ليف.
(6) استفوا: صاروا بالمفاوي وهي أرض تنبت فيها عشبة ذات عروق طويلة دقيقة حمراء تستعمل للصباغ وتعرف باسم الفوة.
(7) الذباب: حد السيف المطرد: الطويل.
(8) القصد: المتكسر.
(9) السابغة: الدرع الطويلة.(1/286)
لو أمطرته السّماء أنجمها ... عزّا لما قال للسّماء قدي (1)
لا يسأل الضّيف عن منازله، ... ومنزل البدر غير مفتقد (2)
رأى الظّبى في الغمود آجنة، ... والخيل ملطومة عن الأمد (3)
فاستلّ أسيافه، وأوردها ... غمر المنايا بمائها الثّمد (4)
تخلق أجفانها ويعرضها ... دم الطّلى في غلائل جدد (5)
يا قائد الخيل في سنابكها، ... ما يشمت السّهل منه بالجلد (6)
يفديك يوم الخصام ممتهن ... كأنّه مضغة لمزدرد (7)
وصارخ رافع عقيرته، ... فككت عنه جوامع الزّرد (8)
إذا المنى قابلتك أوجهها ... صفّدت باع المطال بالصّفد (9)
ربّ مخوف كأنّ طلعته ... تلقى المطايا بطلعة الأسد
حططت فيه الرّحال محتزما، ... وأنت ثاني المهنّد الفرد
تسحب برديك في ملاعبه، ... وما اقتفته براثن الأسد
زادك في كلّ ما خصصت به، ... في كلّ أمن ويوم محتشد
كلّ أصمّ الكعوب معتدل، ... خلت أنابيبه من الأود (10)
__________
(1) قدي: يكفي.
(2) منزل البدر غير مفتقد: كناية عن الشهرة وعلو المنزلة.
(3) الظبى: السيوف آجنة: متغيرة الأمد: الغاية.
(4) الثمد: الماء القليل.
(5) الطلى: الأعناق.
(6) السنابك، جمع سنبك: طرف الحافر.
(7) مضغة لمزدرد: لقمة لبالع
(8) العقيرة: الصوت العالي.
(9) صفدت: قيدت، شددت الصفد: العطاء.
(10) أنابيبه: رماحه الأود: الاعوجاج.(1/287)
وكلّ طاغي الغرار تلحظه، ... من غمده في طرائق قدد (1)
ولأمة سال فوقها زرد، ... كالماء في قطعة من الزّبد (2)
حكمك بالسّيف غير منهجم، ... وأنت بالضّرب غير متّئد (3)
لله بيت رفعت عمّته، ... أغناه سلطانه عن العمد
خلائق طلقة معبّسة، ... كالصّاب يجري بصورة الشّهد (4)
فأنت يوم النّوال في حلل ... منها، ويوم النّوال في زرد (5)
علامة العزّ إن حسدت به، ... أنّ المعالي قرائن الحسد
كم لك من وقفة صقلت بها ... رسائلا دبّجت على البرد
تنوب عن كنهها معارفها، ... وفضل بدر ينوب عن أحد
ناجاك شعري، وكنت أخرسه ... عن الورى قانعا بمقتصدي
كان نزاعي إليك يسمح بي، ... فالآن مذ عدت ضنّ بي بلدي
نصافي المعالي
(الطويل)
في هذه القصيدة يمدح الشريف الرضي والده ويذكر مجلسه مع المطهر بن عبد الله وزير عضد الدولة حين قبض عليه وحمل الى فارس فحبس في القلعة هو وابن معروف قاضي القضاة. وكان عمر الشريف دون العشرين بكثير.
__________
(1) الطرائق القدد: الأهواء المختلفة.
(2) لأمة: قميص من زرد.
(3) منهجم: منهزم.
(4) الصاب: شجر مر.
(5) النوال (الأول): العطاء النوال (الثاني): النصيب، الصواب.(1/288)
نصافي المعالي، والزّمان معاند، ... وننهض بالآمال، والجدّ قاعد (1)
تمرّ بنا الأيّام غير رواجع، ... كما صافحت مرّ السّيول الجلامد
وتمكننا من مائها كلّ مزنة، ... وتمنعنا فضل السّحاب المزاود (2)
وما مرضت لي في المطالب همّة، ... وأحداثه في كلّ يوم عوائد
عوائد همّ لا يحيّين غبطة ... بهنّ، ولا تلقى لهنّ الوسائد
ولله ليل يملأ القلب هوله، ... وقد قلقت بالنّائمين المراقد
يقرّ بعيني أن أرى أرض بابل ... تخوض مغانيها الجياد المذاود (3)
وأسحب فيها برد جذلان شامت، ... إذا شاء غنّته الرّقاق البوارد (4)
سللنا رقاب العيس من خلل الدّجى ... تلاعبها أشطانها والمقاود (5)
وقد حفّ بالبدر النّجوم كأنّه ... هديّ تهاداه الإماء الولائد (6)
وفي أعين القوم انضمام من الكرى، ... وطرف السّرى بين الأزمّة شاهد
فمضطرب في غرزه مترنّح، ... وآخر مكبوب على الرّحل ساجد
وغائرة قد وقّر النّوم لحظها ... تسفّه جفنيها الهموم العوائد
تقود جيادا ما اتّهمن على مدى، ... بلى، ربّما ارتابت بهنّ الأوابد (7)
إذا جال في أشداقها الظّمء قلّصت ... لها الأرض وانقادت إليها الموارد (8)
__________
(1) الجد قاعد: الحظ لا يساعد.
(2) المزاود، جمع مزادة: ما يوضع فيه الماء والزاد.
(3) الجياد: الفرسان المذاود: المدافعون.
(4) الرقاق البوارد: السيوف القاتلة.
(5) العيس: النياق الأشطان: الحبال.
(6) الهدي: العروس تهاداه: تسوقه.
(7) الأوابد: الوحوش.
(8) الظمء: العطش الشديد.(1/289)
أبحنا لها تجتاز من عذر الرّبى، ... فكرّت عليها بالعجاج الفدافد (1)
طرائق بيد يعسل الآل بينها، ... كما اضطرب السّرحان واللّيل بارد (2)
هجمنا على غول الطّريق وبعده ... وما ركضت فيه الرّياح الصّوارد (3)
أأرسل خيل اللّحظ في طلب الهوى، ... ومن ظنّها أنّ الخدود طرائد (4)
ولي شغل في طالب ضلّ قصده، ... أسائل عنه ما يقول المقاصد
أقول لدهر تاه إذ صيد ليثه: ... كذاك يصاد اللّيث واللّيث راقد
أثلّم هذا النّصل بالضّرب ضارب، ... وزعزع هذا الطّود بالوطء صاعد
تعزّ، فما كلّ المصائب قادم ... عليك، ولا كلّ النّوائب عائد
ينال الفتى من دهره قدر نفسه، ... وتأتي على قدر الرّجال المكايد
فدى لك يا مجد المعالي وبأسها، ... فعال جبان شجّعته الحقائد
فما تركت منك الصّوارم والقنا، ... ولا أخذت منك الحسان الخرائد (5)
عزلت ولكن ما عزلت عن النّدى، ... وجودك في جيد العلى لك شاهد
بوجهك ماء العزّ في العزل ذائب، ... ووجه الذي ولّي من الماء جامد
فأنت ترجّي الملك، وهو زواله، ... بغير جلاد فيه، وهو مجالد
فلا يفرح الأعداء فالغزل معرض ... إذا راح عنه صادر جاء وارد
وما كنت إلّا السّيف يمضي ذبابه، ... ولا ينصر العلياء من لا يجالد
نضي فقضى حقّ الضّرائب في الوغى، ... وأثنت عليه حين ردّ المغامد
فأعطوا عنان الضّرّ غيرك إذ رأوا ... يمينك تستولي عليها الفوائد
وما كنت يوما في الزّمان بممسك ... عرى المال إن ضجّت إليك المواعد
__________
(1) العذر، جمع عذرة: البكارة الفدافد، جمع فدفد: الفلاة. ومعنى صدر البيت أنهم أباحوا لها أن تجتاز الربى فلم تفعل.
(2) البيد: الصحارى يعسل: يضطرب الآل: السراب.
(3) الغول: بعد المسافة والمشقة الصوارد: الباردة.
(4) يلاحظ هنا اعتماد الشاعر الاستعارات مع مراعاة النظير.
(5) الخرائد، جمع خريدة: الفتاة الحيية.(1/290)
ولا كنت ترضى أن تصحّ ببلدة، ... إذا قيل: عضو من زمانك فاسد
أيا غدوة ساء الحسين صباحها، ... وسرّ العدى فيها الزّمان المعاند
لحققت عندي أنّ كلّ صبيحة ... مجاجة سمّ، واللّيالي أساود (1)
يعرّفك الإخوان كلّ بنفسه، ... وخير أخ من عرّفتك الشّدائد
وطاغ يعير البغي غرب لسانه، ... وليس له عن جانب الدّين ذائد (2)
شننت عليه الحقّ حتّى رددته ... صموتا، وفي أنيابه القول راقد (3)
يدلّ بغير الله عضدا وناصرا، ... وناصرك الرّحمن، والمجد عاضد (4)
تعيّر ربّ الخير بالي عظامه، ... ألا نزّهت تلك العظام البوائد
ولكن رأى سبّ النّبيّ غنيمة، ... وما حوله إلّا مريب وجاحد
ولو كان بين الفاطميّين رفرفت ... عليه العوالي والظّبى والسّواعد
ألا إنّ جدب الحلم عندك مخصب، ... وإنّ لئيم المجد عندك رافد (5)
ضجرت من العلياء فاخترت عزلها، ... كأنّك قد أفنت نداك المحامد
تركت قلوصا بالفلاة ووحشها، ... تجاذبه عن نفسه وتراود
ستذكرك الأرماح وهي قوارب، ... وليس لها إلّا القلوب موارد (6)
حوى المجد يا قيس بن عيلان ماجد، ... وجلّ، فما يلقى له فيه حاسد
فتى يحتوي أرماحكم، وهو صارم، ... ويسري جيوشا نحوكم، وهو واحد
ويوم عويث، والسّيوف بوارق، ... تظلّ المنايا، والقسيّ رواعد
رددتهم، والسّمر بين ظهورهم ... تعقّل فيه الموت، والموت شارد (7)
__________
(1) الأساود: الحيّات.
(2) غرب لسانه: حد لسانه ذائد: دافع.
(3) شننت: صببت.
(4) يدل: يفاخر.
(5) الرافد: المعطي.
(6) القوارب، جمع قارب: طالب الماء ليلا.
(7) السمر: الرماح تعقل: تشد وتربط.(1/291)
وقد خلقت فيها عيونا قريحة، ... ينامون عمر اللّيل، وهي سواهد
أسنّة فهر في صدور جيادهم، ... كأنّ قناها للجياد مقاود
هم ذخروا أعمارهم لسيوفه، ... فأولى لها والحرب عذراء ناهد (1)
رأيت فيافي تقتضي هبواته، ... وترغب أرساغ الجياد القوادد (2)
مدى يمخض الأشواط حتّى يعيدها، ... ولا زبدة إلّا الجواد المجاود (3)
لنعم حريم العزم أنت وثغره، ... إذا رجّح الرّأي الألدّ المجالد (4)
ألست من القوم الذين إذا سطوا ... تبرّى من التّاج العظيم المعاقد
سياطهم بيض الظّبى وسجونهم ... إذا غضبوا دون العلاء الملاحد
رقاب العدى والعيس فيهم ذليلة، ... وللبيض ما نيطت عليه القلائد (5)
يعشّش طير الخضب في حجراتهم، ... وتعقل منهنّ البيوت الشّوارد (6)
وما والد مثل ابن موسى لمولد ... قريب تجافاه الرّجال الأباعد
حمى الحجّ واحتلّ المظالم رتبة، ... على أنّ ريعان النّقابة زائد
فأقبل، والدّنيا مشوق وشايق، ... وأعرض، والدّنيا طريد وطارد
وساعده، يوم استقلّ ركابه، ... أخوه، وقال البين: نعم المساعد
هما صبرا، والحقّ يركب رأسه ... عشيّة زالت بالفروع القواعد
تفرّد بالعلياء عن أهل بيته، ... وكلّ يهاديه إلى المجد والد
__________
(1) أولى لها: كلمة تهديد ووعيد بمعنى قرب ما يهلكه الحرب عذراء ناهد: اي ما تزال في بدايتها.
(2) الفيافي، جمع فيفاء: مفازة تقتضي: تطلب هبواته: غباره الأرساغ، جمع رسغ: مفصل ما بين الساعد والكتف القوادد: قاطعات الفلاة وفي البيت إقواء.
(3) المجاود: المفاخر بالجود.
(4) الحريم: الذي حرم مسّه فلا يدنى منه.
(5) نيطت: علّقت.
(6) الخضب: خضرة الشجر.(1/292)
وتختلف الآمال في ثمراتها، ... إذا شرقت بالرّيّ، والماء واحد
ومدّ على الجوزاء أطناب منزل ... يلوذ بحقويه السّها والفراقد (1)
فقرّ لنيران البوارق مصطل ... وظمء لأحواض الغمائم وارد
أحقّ بلاد الله بالمزن أرضه، ... إذا شام أقصى خطرة البرق رائد
كأنّي به، والعزّ ينضو همومه، ... وقد خضعت تلك الخطوب النّواكد (2)
أعاد إليه الله ماضي سروره، ... وردّ اللّيالي وهي بيض أماجد
منيت بشوق ينحر الدّمع سيفه، ... إذا حادثته بالصّقال المعاهد
أآل هذيم هل تقرّ قلوبكم ... وقلب ابن عدنان على الدّهر واجد
إذا جحدوا نعماك لوّت رقابهم ... لمنّك أطواق بها وقلائد
ولا زالت الأسياف تسبي حريمهم، ... وتسبي حريم المال منك القصائد
أورق العود
(الكامل)
في هذه القصيدة يمدح والده ويهنئه برد أعماله القديمة اليه وهي النقابة وإمارة الحج والنظر في المظالم، وذلك في جمادى الأولى سنة 380.
أنظر إلى الأيّام كيف تعود، ... وإلى المعالي الغرّ كيف تزيد
وإلى الزّمان نبا، وعاود عطفه، ... فارتاح ظمآن، وأورق عود
نعم طلعن على العدوّ بغيظه، ... فتركنه حمر الجنان يميد (3)
__________
(1) الحقو: الكشح السها والفراقد: من النجوم العالية.
(2) ينضو: يجرّد، يخلع.
(3) حمر الجنان: أي يتحرق غضبا.(1/293)
قد عاود الأيّام ماء شبابها، ... فالعيش غضّ، واللّيالي غيد
إقبال عزّ كالأسنّة مقبل، ... يمضي، وجدّ في العلاء جديد (1)
وعلى لأبلج من ذؤابة هاشم، ... يثنى عليه السّؤدد المعقود (2)
قد فات مطلوبا وأدرك طالبا، ... ومقارعوه على الأمور قعود
خسأت عيونهم، وقد طمحت له ... عدد عراض في العلى وعديد (3)
ما صال إلّا انجاب غيّ مظلم، ... واندقّ من عمد الضّلال عمود
يأسو ويجرح، فالجراحة عزمة ... تصمى، وآسيها النّدى والجود (4)
سطو وصفح يطرقان عدوّه ... أبدا، ووعد صادق ووعيد
عن أيّ باع في العلاء رميتم ... ليثا تقيه مقادر وجدود
طاشت سهامكم وفارق نزعه ... سهم إلى قلب العدوّ سديد (5)
حسدوك لمّا فات سعيك سعيهم ... صعدا فما نقع الغليل حسود
ورأوا بوايجها تلوح، وريحها ... تسري، وعارضها الغزير يجود (6)
عجل الزّمان بها إليك، وحطّمت ... بين الضّلوع ضغائن وحقود
قد كنت أخشى أن يقول مخبّر: ... كادوا وما أعطوا المراد فكيدوا
أو أن يقال: أقارب نزعت بهم ... ظنن، فكلّ بالعقوق بعيد (7)
سئلوا العواد، فجانبوه، فعاودوا، ... والآن إذ ملك الزّمان، وقيدوا
لولا الأليّة منك ألّا تنتضي ... عضبا يقوم مقامه التّفنيد
لسننت في الأقوام، غير ملوّم، ... ما سنّ يوم ابن الزّبير يزيد
__________
(1) الجد: الحظ.
(2) الأبلج من ذؤابة هاشم: كناية عن والده، اي مشرق الوجه من فرع هاشم.
(3) خسأت: كلت عراض: كثيرة.
(4) يأسو: يداوي، والأسي هو الطبيب تصمى، من وصم: صدع، عاب.
(5) النزع: جذب القوس.
(6) بوايجها: بروقها، متسع رملها، دواهيها عارضها: غيمها.
(7) ظنن، من ظنة: تهمة.(1/294)
اليوم أصحرت الضّغائن، وانجلت ... تلك الموارن، والجباه السّود (1)
وتراجعوا عصبا إليك، وخلفهم ... عنف السّباق، وللقلوب وئيد (2)
فاصفح فسوف ينال صفحك منهم ... ما لا ينال العضب، وهو حديد
وحذار من وبل العقاب، وقد بدت ... ملء العيون بوارق ورعود
وتغنّموا عفوا يفيض، وفيئة ... تدنو، وحلما لا يزال يعود (3)
فلسطوة الضّرغام أجمل بالفتى ... من أن يرى عال عليه السّيد (4)
ما السّؤدد المطلوب إلّا دون ما ... يرمي إليه السّؤدد المولود
فإذا هما اتّفقا تكسّرت القنا ... إن غالبا، وتضعضع الجلمود
وأجلّ ما ضرب الرّجال بحدّه ال ... أعداء مجد طارف وتليد (5)
الآن أطلقت النّصول ورشّحت ... لسبيلها قبّ الأياطل قود (6)
وتبلّج البيت الحرام طلاقة، ... مذ قيل: إنّ جماله مردود
وعلى المظالم والنّقابة همّة ... يقظى، وظلّ أمانة ممدود
حمدا لأنعمك الجسام، فلم يزل ... أبدا يزيد لها عليّ مزيد
علّيتني حتّى تحقّقت العدى ... أنّي حميم للعلى وعقيد (7)
وتركت حسّادي، على زفراتهم، ... عوج الضّلوع، فواجد وعميد
فلأشكرنّك ما تجاذب مقولي ... نثر يشقّ على العدى وقصيد
والشّكر أنفس ما وجدت، وإنّما ... أمل الفتى أن يقبل الموجود
__________
(1) أصحرت: برزت الى الصحراء الموارن: الأنوف.
(2) للقلوب وئيد: للقلوب خفق شديد.
(3) الفيئة: الغنيمة.
(4) السّيد: الذئب.
(5) طارف وتليد: جديد وقديم.
(6) قب الأياطل: ضامرات الخصور قود: منقاده.
(7) حميم: قريب عقيد: معاهد.(1/295)
جرّي النسيم
(البسيط)
في هذه القصيدة يمدح أخاه ويهنئه بمولودة جديدة.
جرّي النّسيم على ماء العناقيد، ... وعلّلي بالأماني كلّ معمود (1)
يا نفحة هزّت الأحشاء شائقة، ... وذكّرت نفحات الخرّد الغيد (2)
يضمّها اللّيل في أثناء غيهبه، ... والقطر يلمس أطراف الجلاميد
كأنّها عن طريق المزن طائشة، ... لحظ تردّده أجفان مزؤود (3)
ليت الأحبّة أغرين الرّياح بنا، ... وإن نأين على شحط وتبعيد (4)
وليتهنّ على يأس اللّقاء لنا ... علّلن بالوعد سير الضّمّر القود
أبيت، واللّيل مبثوث حبائله، ... والوجد يقنص منّي كلّ مجلود
شوقا إليك، وإشفاقا عليك، ولي ... دمعان ما بين محلول ومعقود
ليس الغريب الذي تنأى الدّيار به، ... إنّ الغريب قريب غير مودود
يا طائر البان ما غرّبت عن سكن ... يوما، ولا كنت عن مأوى بمطرود
وأنت في ظلّ أفنان مهدّلة، ... تحنو عليك بقنوان العناقيد (5)
ملأت عشّيك طعما غير مختلس، ... بلا رقيب، وورد غير تصريد (6)
تبكي وما لك من إلف فجعت به، ... ولا لويت، على بعد، بموعود
__________
(1) المعمود: العاشق المعذّب.
(2) الخرّد الغيد: الجميلات الخفرات.
(3) مزؤود: مذعور.
(4) شحط: بعد.
(5) القنوان، جمع قنو: عزق التمر.
(6) تصريد: تقطّع.(1/296)
ظلمت، ما أنت من همّي ولا كمدي، ... إنّ العليل لقلب عاده عيدي
أنا الذي إن بكى وجدا فحقّ له، ... كم بين باك من البلوى وغرّيد
وخلّة جذبت تثني مودّتها ... عنّي، وأمسكت عنها بالمواعيد
منّي إلى الدّهر شكوى غير غافلة ... عن موثق بحبال العجز مصفود
يحارب الهمّ إن مال الرّقاد به، ... حتّى تجلّى غيابات المراقيد
بيني وبين المنى أنّي أقول لها: ... بيني وبينك قطع البيد والبيد
وساهمين على الأكوار دأبهم ... قرع السّياط بأعناق المقاحيد (1)
عاطيتهم من علالات الكرى نطفا، ... والسّير يرجم جلمودا بجلمود
وللحداة على آثارنا زجل، ... يغزي المطايا بأجواز القراديد (2)
يقطّعون حبى الأيّام عن طبع ... وتحتبي بالمعالي والمحاميد (3)
ويهجرون، إذا جدّت عزائمهم، ... دنيا تلاعب بالغرّ المجاويد
ما الفقر عار وإن كشّفت عورته ... وإنّما العار مال غير محمود
تلقى أكفّهم في كلّ نائبة، ... ملويّة بحبال البأس والجود
إن صاح صائحهم يوم الوغى هجموا ... على السّوابق بالبيض المذاويد
وكم عدوّ مشت فيه رماحهم، ... فاستنصر الرّكض من جرداء قيدود (4)
من كلّ أبلج إن خبّت عزائمه ... ألقت إليه الأماني بالمقاليد
إذا تحرّق، أحشاء الفلا ملئت ... من رعيه خاطر الرّئبال والسّيد (5)
__________
(1) الساهمون، جمع ساهم: المتغيّر لون وجهه المقاحيد: النياق العظيمة الأسنمة.
(2) القراديد، جمع قردود: الأرض المرتفعة.
(3) الحبى، جمع حبوة: ما يشتمل به عن طبع: الأصل أن تكون الباء مسكنة وقد فتحها للوزن، أي عن سجيّة جبلوا عليها.
(4) القيدود: الناقة الطويلة الظهر.
(5) التحرق: العطش الرئبال: الأسد السيّد: الذئب.(1/297)
وإن جرى شرقت بالخصل راحته ... أخذا وبدّد أنفاس المجاهيد (1)
يا بن الحسين وما دعواي كاذبة، ... إذا نسبتك في الشّمّ المناجيد
الطّاعنين من الأعداء ما لحقوا، ... والخيل تلطم هامات الصّياخيد (2)
معوّدون من الأيّام مرتبة، ... لا يستطيل إليها كلّ صنديد
يأبون أن يلبس الإظلام ربعهم ... ليلا، وما عذّبوا طرفا بتسهيد
ويغضبون إذا عاطيتهم همما ... مرفّهات، وهمّا غير مكدود
هم الضّيوف لأرض، غير آهلة ... من الأنيس، وورد غير مورود
فأنت أبسطهم باعا، إذا بسطوا ... أيديهم لوعيد، أو لموعود
الآن جاءت خيول السّعد راكضة ... تجري بيوم مضيء الوجه مجدود (3)
بمولد صقل الآباء حليته، ... فطوّق المجد أعناق المواليد
مولودة نهب الرّاؤون بهجتها ... لثما، وعانقتها في ثوب محسود
كانت شهابا كسا ظلماءه وضحا، ... واللّيل يدخل في أثوابه السّود
جاءت بها ليلة تثني سوالفها ... في صدر يوم رشيق القدّ أملود
لله شمس على جاءت بجوهرة ... غرّاء، عن قمر بالمجد مسعود
ما عدّدت منك إلّا نطفة سلكت ... إلى الأماني طريق الماء في العود
نشرت منها خمارا في الفخار طوى ... مع النّوائب تيجان الصّناديد
شريفة رشّحت منها مناسبها، ... لحلية العزّ، مجرى اللّيت والجيد
ما كنت تقبل بذل الدّهر تكرمة ... حتّى حباك ببذل غير مردود
أعطاك كنز فخار كان يصرفه ... من نسل غيرك في شتّى عباديد (4)
__________
(1) الخصل: إصابة الغرض، ومعنى الصدر أن راحته تمسك بالغرض أو الهدف ولا تفلته، كما لو أنها شرقت به.
(2) الصياخيد، جمع صيخود: الصخرة القاسية.
(3) المجدود: صاحب الحظ، من الجد.
(4) العباديد: الفرق من الناس.(1/298)
شجا لنفس شجاع الحرب معترضا، ... وفرحة لفؤاد العاتق الرّود (1)
فرّقت عنك العدى تدمى ضمائرها ... بباع عزّ على الأيّام ممدود
لا زلت تملك، والأحداث راغمة، ... عناق غصن الأماني غير مخضود (2)
وتستنير لك الأيّام ملهية، ... ينمى بها كلّ إصباح إلى عيد
يا مطلق السّمع والأسماع ما برحت ... أسيرة في يدي عذل وتفنيد
وربّ رزء من الأيّام منهجم، ... عزّاك منه النّهى عن خير مفقود (3)
ما زلت ترقب إحسان الزّمان له ... حتّى تبدّلت مولودا بمولود
أقيك الردى
(الطويل)
كتب إلى أخيه هذه القصيدة بعد زوال جفوة بينهما.
عجبت من الأيّام إنجازها وعدي، ... وتقريبها ما كان منّي على بعد (4)
وإنّ اللّيالي، مذ لبست رداءها، ... تحاذر من حدّي فتزري على جدّي (5)
ولي إن يطل عمري مع الدّهر وقفة ... تذلّل أحداث الزّمان لمن بعدي
__________
(1) العاتق: الجارية أول إدراكها الرود، جمع رادة: المرأة الشابة.
(2) الأحداث: المصائب راغمة: أنفها في الرغام أي التراب المخضود:
المكسور.
(3) منهجم: منهزم النهى: العقل الراجح.
(4) أنجازها وتقريبها: نصبهما بنزع الخافض، والتقدير لانجازها.
(5) تزري: تعيب.(1/299)
وإنّي لمرّ البأس، مسترعف الظّبى ... وإنّي لحلو الجود مستمطر الرّفد (1)
إذا بزّني مالي عطاء تركته ... حميدا، وطالبت القواضب بالرّدّ
وقد عجمت منّي اللّيالي مذرّبا ... تخلّل أنياب الأساود والأسد (2)
إذا خبّ فيه، ملء حيزومه، الجوى ... توقّر يخفي منه غير الذي يبدي (3)
وكنت، إذا الأيّام جلن بساحتي، ... رجعن ولم يبلغن آخر ما عندي
ولكنّها نفس، كما شئت، حرّة، ... تصول ولو في ماضغ الأسد الورد (4)
وأعظم ما ألفيت، شجوا ولوعة، ... عتاب أخ فلّ الزّمان به حدّي
أقيك الرّدى ما كان ما كان عن قلى، ... ولكن هنات كدن يلعبن بالجلد (5)
ولا تحسبنّ القلب جازت كلومه ... إلى القلب، إلّا بعدما حزّ في الجلد
منحتك ما عندي من الصّدّ معلنا، ... وعقد ضميري أن أدوم على الودّ
ولم أغد محلول اللّحاظ طلاقة، ... وقلبي معقود الجنان على الحقد
سجايا رعين المجد في تلعاته، ... وناقلن في العلياء غورا إلى نجد
وقد كنت أبغي رتبة بعد رتبة، ... فآنف لي من أن أفوز بها وحدي
حفاظا على القربى الرّؤوم، وغيرة ... على الحسب الدّاني، وبقيا على المجد
ولم لا؟ ونحن الرّاجعان من العلى ... إلى المغرس الرّيّان والسّؤدد الرّغد
من القوم أشباه المكارم فيهم، ... وعرق المعالي الغرّ والحسب العدّ (6)
حسدت عليك الأجنبين محبّة، ... ونافست فيك الأبعدين على الودّ
__________
(1) مسترعف الظبى: المسترعف هو الذي يقطر الدم، والظبى، جمع ظبّة:
السيف.
(2) المذرّب: السيف المصقول الأساود: الحيّات.
(3) خبّ: أسرع الحيزوم: الصدر الجوى: عذاب الحب.
(4) ماضغ: فم الورد: الأسد.
(5) ما كان عن قلى: الذي حصل لم يكن عن بغض، وفي القول إشارة إلى الجفوة بينهما.
(6) العد: الكثير العدد.(1/300)
وقد كان لذع، فاتّقيت شباته ... بقلب على الضرّاء كالحجر الصّلد
تجلّدت حتّى لم يجد فيّ مغمزا، ... وعدت كما عاد الجراز إلى الغمد (1)
وها أنا عريان الجنان من التي ... تسوء ومنفوض الضّلوع من الوجد
وكم سخط أمسى دليلا إلى رضى، ... وكم خطإ أضحى طريقا إلى عمد
أقلّب عينا في الإخاء صحيحة، ... إذا ارتمت الأعداء بالأعين الرّمد
وإنّي مذ عاد التّودّد بيننا ... تجلّى الدّجى عن ناظري وورى زندي
وعاد زماني بعدما غاض حسنه، ... أنيقا كبرد العصب أو زمن الورد (2)
وكنت سليب الكفّ من كلّ ثروة، ... فأصبحت من نيل الأماني على وعد
وفارقت ضيق الصّدر عنك إلى الرّضى، ... كما نشط المأسور من حلق القدّ (3)
وقد ضمّني محض الصّفاء وصدقه ... إليك كما ضمّت ذراع إلى عضد
وكنت، على ما بيننا من عيابة، ... أعدّك جدّي حين أسطو على ضدّي
تجنّبني
(الطويل)
هذه القصيدة أرسلها الشريف المرتضى الى أخيه الشريف الرضي.
تكشّف ظلّ العتب عن غرّة العهد، ... وأعدى اقتراب الوصل منّا على البعد (4)
تجنّبني من لست عن بعض هجره ... صفوحا، ولا في قسوة عنه بالجلد (5)
__________
(1) الجراز: السيف القاطع.
(2) العصب: البرود اليمانية.
(3) القد: سير من جلد يربط به الأسير.
(4) أعداه: نصره وأعانه.
(5) الجلد: الصبور.(1/301)
نضته يد الإعتاب عمّا سخطته ... كما ينتضى العضب الجراز من الغمد (1)
وكنت على ما جرّه الهجر ممسكا ... بحبل وفاء غير منفصم العقد
أمين نواحي السّرّ لم تسر غدرة ... ببالي، ولم أحفل بادعية الصّدّ
تلين على مسّ الإخاء مضاربي، ... وإن كنت في الأقوام مستحسن الجدّ
ولمّا استمرّ البين في عدوائه، ... تغوّل عفوي أو ترقّى إلى جهدي (2)
أصاحب حسن الظنّ والشّكّ مقبل ... بوجهي إلى حيث استترت عرى الودّ (3)
إذا اتسعت في خطّة الصّدّ فكرتي، ... تجلّلني همّ يضيق به جلدي
وإن ناكرتني خلّة من خلاله، ... تعرّض قلبي يفتديها من الحقد (4)
يخال رجال ما رأوا لضلالة، ... ولن تستشفّ الشمس بالأعين الرّمد
وكم مظهر سيما الوداد يرونه ... حميدا، وما يخفي بعيدا من الحمد
وحوشيت أن ألقاك سبطا تظاهري، ... وإن كنت مطويّا على باطن جعد (5)
إذا تركت يمنى يديك تعلقّي، ... فيا ليت شعري من تمسّك من بعدي
إيابا، فلم تشرف غلى غاية النّوى، ... ولم تنأ كلّ النأيّ عن سنن القصد
فلا الدّرّ نثرا ليس يدفع حسنه، ... وليس كما ضمّته ناحية العقد
ولو لم يلاق القدح زندا بمثله ... لما انبعثت شهب الشّرار من الزّند
فقد غاض سخطانا، فهل من صبابة ... برأيك؟ إنّي قد تصرّم ما عندي
هلمّ نعد صفو الوداد كما بدا، ... إعادة من لم يلف عن ذاك من بدّ
ونغتنم الأيّام، فهي طوائش، ... تواتي بلا قصد، وتأبى بلا عمد
ومثلك أهدى أن يقاد إلى الهدى، ... وأرشد أن ينحاز عن جهة الرّشد
__________
(1) العضب الجراز: السيف القاطع.
(2) العدواء: البعد، الموانع تغوّل: زال.
(3) استترت: أخفيت، قطعت.
(4) خلّة: الخصلة، الصفة.
(5) السّبط: المالس، نقيض الجعد، وفي القول إشارة الى أن ما يظهره غير ما يخفيه.(1/302)
قمر من السعد
(الكامل)
وجّه هذه القصيدة إلى أبي سعيد بن خلف وقد تخلص من نكبة لحقته.
يا دار من قتل الهوى بعدي، ... وجدوا ولا مثل الذي عندي
لا تعجبي، يا دار، أنّهم ... أبدوا، ومن يك واجدا يبدي
ربع قريب العهد أحسبه ... بالظّاعنين، وقد مضى عهدي
لو حرّكت ذاك الرّماد يد ... لرأت بقايا الجمر والوقد
إنّي ليعجبني حماك، إذا ... نشر النّسيم ذوائب الرّند
والماء تصقله الرّياح كما ... أبدى العياب مضاعف السّرد (1)
حيّا مريض ثراك غادية، ... تعطيه ريح العنبر الورد
أو ذات نهد بين سارية، ... تتلوّيان تلوّي القدّ (2)
يتشقّق البرق اللّموع بها ... وتروعه بتهزّم الرّعد
لي مقلة ما تستفيق جوى، ... تدمى، ويقرع ماؤها خدّي
والعيس ما وجدت تحنّ، ولا ... تخفي، وأكتم دائما وجدي
وملام أيّام، وليس لها ... عطف وبعض اللّوم لا يجدي
لا خير في دنيا نوائبها ... تدوي، وداء منونها يعدي (3)
لا تحسبنّ الرّزق مطّرحا، ... فالرّزق بين مواضع الأسد
ولربّ مصحوب غرضت به ... غرض الخوامس من قذى الورد (4)
__________
(1) العياب، جمع عيبة: ما توضع فيه الثياب السّرد: الدرع.
(2) معنى البيت أن سحابة فوق سارية ليلا تتداخلان تداخل السوط المجدول، والقد هو السوط.
(3) تدوي: تمرض.
(4) غرضت به: مللته.(1/303)
دانى يدي فنفضتها حذرا ... من أن يدنّس هزله جدّي
ومبخّل إن جاد بعد مدى، ... فالماء يطلع من صفا صلد (1)
كيف السّبيل إلى بلهنية ... في ذا الزّمان وعيشة رغد (2)
في كلّ ليل لي وقود منى، ... ومطامع وسّدتها عضدي
والمرء ما أرضى أمانيه ... ينقاد من لعب إلى جدّ
وجهي مجال للطعّان، فما ... خوفي لقاء الحرّ والبرد
فلأشربنّ مناقبا بدمي، ... ولأنقبنّ على العلى جهدي
ولأرحلنّ العيس مرحلة ... عوجاء، بين القور والوهد (3)
علّي ألاقي من أسرّ به، ... ويفلّ عند لقائه كدّي
وأتوب من ذمّ الزّمان، إذا ... علقت يداي يدي أبي سعدي
خلّي، وإن بعد الزّمان به، ... يوما، وما طلني به وعدي
ومطالعي في الأنس إن لويت ... عنّي الرّقاب، ولجّ في صدّي
لا تحسبوا ذا البعد غيّرني، ... فالبعد غير مغيّر ودي
وإذا الفتى حسنت رعايته ... في القرب ضاعفها على البعد
لو تسألون دمي سمحت به ... من غير معصية، ولا ردّ
أو كان جلد يستعار إذا، ... يوم الطّعان، لعرتكم جلدي
أو أنّ خطوا يستراب به ... منكم سحبت وراءكم بردي
كانت غيابة حادث فجلا ... ديجورها قمر من السّعد
ونهضت منها غير مكترث، ... مثل الحسام نزا من الغمد
الله جارك ما رمتك نوى ... تذري الرّكائب أو قطا الجرد
وأنا الذي إن تدج نائبة ... يصبح أمامك موريا زندي
__________
(1) الصفا، جمع صفاة: الحجر الصلب الصلد: الأملس.
(2) البلهنية: رخاء العيش.
(3) القور والوهد: التلال والمنخفضات.(1/304)
أطلب العلى
(الطويل)
يهنئ بعض أصدقائه بمولود، وقيل إنه أعدها ليهنئ بها أخاه السيد المرتضى فجاءته بنت فصرفها إلى غيره.
أسائل سيفي: أيّ بارقة تجدي، ... ولي رغبة عمّن يعلّل بالوعد
وأطلب في الدّنيا العلى، وركائبي ... مقلقلة ما بين غور إلى نجد
يشتّت ترب القاع وسم أكفّها، ... وأخفافها في حيّز النّصّ والوخد (1)
وخطّة ضيم خادعتني، ففتّها ... إلى مطلع بين المذمّة والحمد
ويوم من الشّعرى خرقت وشمسه ... تساقط من هام الإكام إلى الوهد (2)
وليل دجوجيّ كأنّ ظلامه ... سماوة ملويّ الذّراعين بالقدّ (3)
خطوت، وفي كفّي خطام نجيبة ... مدفّعة من كلّ قرب إلى بعد (4)
إذا لحظت ماء جذبت زمامها، ... وقلت: ارغبي بالعزّ عن مورد ثمد (5)
تؤمّين خير الأرض أهلا وتربة ... يحطّ بها رحل المكارم والمجد
وفي الأرض قوم يلطمون جباهها ... إذا هجمت أعلى المنازل بالوفد
وتنبو أكفّ العيس عن عرصاتهم ... من البخل حتّى تستغيث إلى الطّرد
فما خدعتها روضة عن مسيرها، ... ولا لمع معسول تطلّع من ورد
أكفّ بني عدنان تستمطر الظّبى ... وتأنف من جود الغمائم بالعهد (6)
__________
(1) النص والوخد: نوعان من السّير السريع.
(2) الشعرى: اسم لجبل.
(3) سماوة: علامة، طيف.
(4) خطام نجيبة: زمام ناقة أصيلة.
(5) ارغبي عن مورد ثمد: أشيحي عن مورد قليل الماء.
(6) الظبى: السيوف العهد: المطر الربيعي.(1/305)
وتلقى الوغى، واليوم ينصر بيضه ... على البيض في مجرى من الجدّ والجدّ
منازلهم عقر المطايا، وإنّما ... تعقّلها بالبشر والنّائل الجعد (1)
جذبتم بضبع المجد، يا آل غالب، ... وغادرتم الإعدام منعفر الخدّ (2)
على حين سدّت ثلمة العار عنكم ... صدور العوالي والمطهّمة الجرد
وكم غارة أقبلتموها مواقرا ... من الأسل الذّيّال والبيض والسّرد
كما قاد علّويّ السّحاب غمامة ... وجلجلها ملء من البرق والرّعد (3)
كفى أملي في ذا الزّمان وأهله ... عليّ مجيرا من يد الدّهر أو معدي
فتى ما مشى في سمعه شدو قينة ... ولا جذبت أحشاءه سورة الوجد (4)
ولا هجر السّمر العوالي للذّة، ... ولا عاتب البيض الغواني على الصّدّ
إذا أظلمت آمال قوم بردّها ... أضاء سنا معروفه ظلمة الرّدّ
وإن شام يوما ناره خلت أنّها ... تطلّع نحو الواردين من الزّند
وكم بين كفّيه إذا احتدم الرّدى ... وبين العوالي من زمام ومن عقد
ليهنك يا ابن الأكرمين ابن حرّة، ... تمزّق عنه النّحس عن غرّة السّعد
فربّ له خيل الوغى، فلمثله ... تربّي اللّيالي كاهل الفرس النّهد (5)
وبشّر به البيض الصّوارم والقنا، ... وبشّره عن قول النّوائب بالجلد
ستذكره والحرب ينكحها الرّدى ... وقد طلّقت أغمادها قضب الهند
كأنّي به جار على حكم سيفه ... يعاهده أن لا يبيت على حقد
إذا أنهضته للنّزال حفيظة، ... وأنهض مستنّ الحسام من الغمد
وأرخى بعطفيه حواشي نجاده ... وجرّ على أعقابه فاضل البرد
وعطّف خرصان الرّماح، كأنّها ... من الدّم في أطرافها شجر الورد
__________
(1) النائل الجعد: العطاء الكريم والكثير.
(2) ضبع المجد: صدره وعضده منعفر الخد: ذليل.
(3) جلجلها: حرّكها.
(4) سورة الوجد: شدّة الشوق.
(5) الفرس النهد: الحسن المنظر.(1/306)
وزعزع نظم الرّمح حتّى يردّه ... نثارا على الأعداء بالحطم والقصد (1)
وشايح عن أحسابه بحسامه ... وذبّ عن العرض الممنّع بالرّفد (2)
رأيت فتى في كفّه سمة النّدى، ... وفي وجهه شبه من الأب والجدّ
إذا ما احتبى في الحيّ وامتدّ باعه، ... رأيت أباه حين يحكم أو يجدي
إلى جدّه تنمى شمائل مجده، ... وهل ترجع الأشبال إلّا إلى الأسد
وليد همى ماء العلى في جبينه، ... وقد شمت منه بارق الحسب العدّ (3)
فلو قيل يوما: أين صفوة يعرب؟ ... رأيت العلى تومي إلى ذلك المهد
إلى ربعك المألوف منّي تطلّعت ... رقاب القوافي تحت أدعج مزبدّ
ولمّا بعثت الشّعر نحوك قال لي: ... الان فعق، إلّا إلى بابه، قصدي (4)
سقيت النّدى شعري فأنبت حمده ... ولو صاب في جسمي لأنبته جلدي
وإنّي لأستحيي العلى فيك أن أرى ... ضنينا من الشّعر المصون بما عندي
كبتّ الحسود النّدب حتّى كببته، ... فمن عاذري يوما من الحاسد الوغد
إذا الشّمس غاضت كلّ عين صحيحة ... فكيف بها في هذه المقل الرّمد
بريق نجد
(الرجز)
أبارق طالعنا من نجد، ... يضيء في عارضه المربدّ
مستعبرا عن زفرات الرّعد ... ماء كما ارتجّت شعاب العدّ (5)
__________
(1) النثار: المنثور القصد: الكسر.
(2) شايح: قاتل، دافع ذب: منع، دافع.
(3) الحسب العد: الشرف والأصل، والعد هو القديم.
(4) الان: الآن مخففة.
(5) العد: الماء الجاري والدائم.(1/307)
يقرن أعناق الرّبى بالوهد، ... ومنهل مبرقع بالثّمد (1)
هتكته باليعملات الجرد، ... ملثّمات باللّغام الجعد (2)
يفقأن بالمصدر عين الورد، ... وليلة صديّة الفرند (3)
بيض النّجوم واحمرار الوقد ... مثل سماطيّ نرجس وورد (4)
أو مقل صحائح ورمد، ... تنازع اللّحظ وليس تعدي
يقول لي الدّهر: ألا تستجدي ... أين ضياء المطلب المسودّ؟
أرى اللّيالي يشتهين بعدي، ... ولا يقرّبن يدا من زندي
يلجن بين صارمي وغمدي، ... كأنّ صمصامي بغير حدّ
وحاجتي تصلى بنار الرّدّ ... ألاحظ الغيّ بعين الرّشد
ولا أبالي من تمادي بعدي ... أعوذ من رزق بغير كدّ
في ذا الورى قلب بغير حقد ... من ذا الذي على الزّمان يعدي
كلّ جواد كاذب في الوعد ... وكلّ خلّ خائن في الودّ
يحلّ بالعذر نطاق العهد، ... لا عانقت هوج الرّياح بردي
إلّا على ظهر أقبّ نهد، ... يخطو على ململمات ملد (5)
كأنّه في سرعان الوخد، ... يلعب في أرساغه بالنّرد (6)
يا أيّها المخوّفي بسعد، ... طرحتني بين النّيوب الدّرد (7)
__________
(1) الوهد: الأرض المنخفضة الثمد: الماء القليل.
(2) اليعملات: النياق اللغام: زبد أفواه الابل الجعد: الكثير والكثيف.
(3) الفرند: جوهر السيف وبريقه صدية: صدئة، علاها الصدأ. استعار صدأ السيف لما في الليلة من بياض واحمرار بيّنه في البيت الذي يلي.
(4) السماط: الصف والنظم.
(5) أقب: ضامر نهد: حسن المنظر ململمات: مجتمعات ملد:
ليّنة.
(6) سرعان الوخد: أوائل السير السريع الارساغ، جمع رسغ: الحافر، وهو المفصل ما بين الساق والقدم النرد: لعبة الطاولة أو الزهر.
(7) النيوب: الأنياب الدرد: ذهاب الأسنان.(1/308)
ولو أتاك النّصر من معدّ، ... جلجلت من لحمي زئير الأسد
آها لنفس حبست في جلدي ... إنّ الأسير غرض بالقدّ (1)
أشرف ذخري صارم في الغمد ... إنّ العلى نشو سيوف الهند (2)
لا بدّ أن أطرق باب الجدّ، ... وأجعل الخلّة عرس الرّفد
ويطرد اللّيل لسان زندي، ... حتّى أقاس بأبي وجدّي
هنّئت يا مالك رقّ المجد، ... ومتعبي دون الورى بالحمد
منك العطايا والمنى من عندي
عهودنا قلوب
(الوافر)
لحيّا عهدهنّ حيا العهاد، ... ندى يغتصّ منه كلّ ناد (3)
وأطلالا يطلّ الدّمع فيها، ... إذا بدت الحواضر والبوادي
رواء لا تريح الرّيح فيها ... من الإدلاج إنتاج الغوادي (4)
إذا مات الحيا بين السّواري، ... أتاها بالغوادي في معاد (5)
مجاهل منزل كانت زمانا ... معالم كلّ مكرمة وآد (6)
تكفّ ربوعها أيدي الأماني، ... وقد عانقن أعناق الأيادي (7)
__________
(1) غرض بالقد: مقيّد بالأسيار.
(2) نشو: سكر.
(3) حيا العهاد: مطر الربيع.
(4) رواء، جمع ريان: ممتلئ تريح، من أراحه: أدخله في الراحة الادلاج: سير الليل انتاج الغوادي: مطر الغيوم الصباحية.
(5) الحيا: المطر السواري، جمع سارية: السحابة تسري ليلا الغوادي:
الغيوم الصباحية.
(6) الآد: القوة.
(7) الأيادي: النعم، الاحسان.(1/309)
إذا حلّ الحبى أمل طريف، ... حبته مهجة المال التّلاد (1)
فما لي واللّقاء، وكلّ يوم ... تهدّدني الرّكائب بالبعاد
دعي عذلي فليس العذل يجنى ... به ما أثمرت شيمي وعادي (2)
ولي عزم تعوذ به العوالي، ... إذا فزعت إلى مهج الاعادي
يضمّ شعاعه قلب، ولكن ... تضيق به حيازيم البلاد (3)
وكم قلب أسرّ عليّ حقدا ... فأفشى سرّه سرّ النّجاد
ويوم تعثر الخرصان عمدا ... به في كلّ نحر أو فؤاد (4)
يشقّ الرّوع عن ضاحي بدور، ... برزن من العجاجة في دآد (5)
تريهم فيه مرآة المنايا، ... بصدق يقينهم، وجه المعاد (6)
وحشو أكفّهم سمر رواء ... بورد الموت من مهج صواد (7)
تهدّيها إلى الطّعن المنايا، ... بحيث تضلّ في طرق الهوادي (8)
وقد نشأت سحاب من عجاج ... تعطّ صدورها أيدي الجياد (9)
بأرماح خلقن من المنايا، ... وأسياف طبعن على الجلاد (10)
زرعت أسنّتي في كلّ قلب ... بها، والهام تزرع بالحصاد
__________
(1) الحبى، جمع حبوة: ما يشتمل به من ثوب أو عمامة، وهو يكني بها عن النفس الطريف: المستحدث التلاد: القديم، الموروث.
(2) شيمي: خصالي عادي: عادتي.
(3) شعاعه: ما تفرّق منه الحيازيم: الصدور، جمع حيزوم.
(4) الخرصان: الرماح، جمع خرص.
(5) الضاحي: البارز العجاجة: الغبار الكثيف الدآد: اللهو واللعب.
(6) المعاد: المرجع، المصير، الآخرة.
(7) مهج صواد: نفوس متعطشة.
(8) الهوادي: الأعناق.
(9) عجاج: غبار تعط: تشق.
(10) طبعن على الجلاد: تعودن القتال.(1/310)
وبحر دم تعوم الطّير فيه، ... وترقى بين أمواج الطّراد
تراها في فروج النّقع حمرا، ... كما طار الشّرار عن الزّناد
وليل بات يصلت لي هموما، ... يطلّ بغربهنّ دم الرّقاد
وكيف يحبّ أغمار اللّيالي، ... أسير الطّرف في أيدي السّهاد
فلو حلّ المؤمّل عقد همّي ... شددت بمقلتيّ عرى الرّقاد
وإنّي وهو في خيشوم مجد، ... تنفس عن نسيم من وداد (1)
كأنّ عهودنا كانت قلوبا، ... تربّى بين أحشاء العهاد
أينسبني له ظنّ غويّ، ... وكان الغيّ يمكر بالرّشاد
إذا، فثكلت سابحتي وسيفي ... غداة وغى، وراحلتي وزادي
أتخلع حليك الأشعار عنها ... إذا كسيت من المعنى المعاد
ومن هذا يقوم مقام فضل، ... قعدن له ذرى الصّمّ الصّلاد
أأترك ضيغما في ظهر طود، ... وآخذ تتفلا في بطن واد (2)
وألفظ صفو أحشاء الغوادي، ... وأجرع رنق أحشاء الثّماد
وقد علمت ربيعة أنّ بيتي، ... لغير الغدر، مرفوع العماد
أتتك قلادة لم يخل منها ... صليف الجود أو جيد الجوادي (3)
فمن لم يجر دمعته عليها ... فخاطره أفظّ من الجماد
وما أجني بها عذرا ولكن ... محافظة على ثمر الوداد
__________
(1) الخيشوم: الأنف.
(2) الضيغم: الأسد التتفل: الثعلب.
(3) الصليف: عرض العنق، وهما صليفان.(1/311)
خير الرماح
(الخفيف)
مرضت بعدكم صدور الصّعاد، ... لا دواء إلّا قلوب الأعادي (1)
إنّ خير الرّماح ما شرقت بال ... طّعن منها معاقد الأكباد (2)
أيّ خطب أرخى ذؤابة ليل، ... لم أجبه من عزمتي بزناد (3)
حكم الدّهر أنّ صاحب ذا العي ... ش قتيل المنى بغير مراد
وقصير الغنى طويل يد الجو ... د ثقيل الحجى خفيف العتاد
كلّما قلت روّحتني اللّيالي، ... ضربت بي آفاق هذي البلاد
وتلقّت بي الظّلام، رديف ال ... نّجم، بين الإتهام والإنجاد (4)
وعتاب الزّمان مثل عتاب ال ... عين تنهى، ودمعها بازدياد
ضجّت الخيل من سراياي حتّى ... لحسدن البطاء قبّ الجياد (5)
كلّ يوم أقودها شائمات ... بارق الموت من سماء الجلاد
بليوث تقري الهجير وجوها ... تقطر المجد بين قار وباد
شرقت غرّة القريض بندب ... أشرقت عنده وجوه الأيادي
__________
(1) الصّعاد، جمع صعدة: القناة المستوية.
(2) شرقت بالطعن: ارتوت دما.
(3) أجبه، من جابه: قطعه.
(4) الإتهام والإنجاد: نزول المنخفضات وارتقاء المرتفعات.
(5) السرايا: جمع سرية قب، جمع أقب: الضامر.(1/312)
هان الزمان
(الطويل)
لأيّ حبيب يحسن الرّأي والودّ، ... وأكثر هذا النّاس ليس له عهد
أرى ذمّي الأيّام ما لا يضرّها، ... فهل دافع عنّي نوائبها الحمد
وما هذه الدّنيا لنا بمطيعة، ... وليس لخلق من مداراتها بدّ
تحوز المعالي والعبيد لعاجز، ... ويخدم فيها نفسه البطل الفرد
أكلّ قريب لي بعيد بودّه ... وكلّ صديق بين أضلعه حقد
ولله قلب لا يبلّ غليله ... وصال، ولا يلهيه عن خلّه وعد
يكلّفني أن أطلب العزّ بالمنى ... وأين العلى إن لم يساعدني الجدّ (1)
أحنّ، وما أهواه رمح وصارم، ... وسابغة زغف، وذو ميعة نهد (2)
فيا لي من قلب معنّى به الحشا ... ويا لي من دمع قريح به الخدّ
أريد من الأيّام كلّ عظيمة، ... وما بين أضلاعي لها أسد ورد
وليس فتى من عاق عن حمل سيفه ... إسار، وحلّاه عن الطلب القدّ (3)
إذا كان لا يمضي الحسام بنفسه، ... فللضّارب الماضي بقائمه الحدّ
وحولي من هذا الأنام عصابة ... تودّدها يخفى وأضغانها تبدو
يسرّ الفتى دهر، وقد كان ساءه، ... وتخدمه الأيّام، وهو لها عبد
ولا مال إلّا ما كسبت بنيله، ... ثناء، ولا مال لمن لا له مجد
وما العيش إلّا أن تصاحب فتية ... طواعن لا يعنيهم النّحس والسّعد
إذا طربوا يوما إلى العزّ شمّروا ... وإن ندبوا يوما إلى غارة جدّوا
__________
(1) الجد: الحظ، السعد.
(2) السابغة: الدرع الطويلة الزغف: اللينة، الواسعة المحكمة الميعة، من ماع الفرس: جرى بسهولة وارتياح النهد: الفرس الجميل المنظر.
(3) الإسار: الأسر القد: السير من جلد، سير يقيّد به الأسير.(1/313)
وكم لي في يوم الثّويّة رقدة ... يضاجعني فيها المهنّد والغمد (1)
إذا طلب الأعداء إثري ببلدة، ... نجوت وقد غطّى على أثري البرد
ولو شاء رمحي سدّ كلّ ثنيّة ... تطالعني فيها المغاوير والجرد
نصلنا على الأكوار من عجز ليلة ... ترامى بنا في صدرها القور والوهد (2)
طردنا إليها خفّ كلّ نجيبة، ... عليها غلام لا يمارسه الوجد
ودسنا بأيدي العيس ليلا كأنّما ... تشابه في ظلمائه الشّيب والمرد
ألا ليت شعري! هل تبلّغني المنى ... وتلقى بي الأعداء أحصنة جرد؟
جياد، وقد سدّ الغبار فروجها، ... تروح إلى طعن القبائل أو تغدو (3)
خفاف على إثر الطّريدة في الفلا، ... إذا ماجت الرّمضاء واختلط الطّرد
كأنّ نجوم اللّيل، تحت سروجها، ... تهاوى على الظّلماء واللّيل مسودّ
يعيد عليها الطّعن كلّ ابن همّة ... كأنّ دم الأعداء في فمه شهد
يضارب حتّى ما لصارمه قوى، ... ويطعن حتّى ما لذابله جهد (4)
تغرّب لا مستحقبا غير قوته ... ولا قائلا إلّا لما يهب المجد (5)
ولا خائفا إلّا جريرة رمحه ... ولا طالبا إلّا الذي تطلب الأسد (6)
إذا عربيّ لم يكن مثل سيفه ... مضاء على الأعداء أنكره الجدّ
وما ضاق عنه كلّ شرق ومغرب ... من الأرض إلّا ضاق عن نفسه الجلد
إذا قلّ مال المرء قلّ صديقه، ... وفارقه ذاك التّحنّن والودّ
__________
(1) الثوية: حجارة ترفع فتكون علامة للراعي اذا رجع الى الغنم ليلا، والثوية أيضا مأوى الماشية.
(2) نصلنا: خرجنا القور: الجبال الصغيرة الوهد: المطمئن من الأرض.
(3) جياد: مسرعة.
(4) الذابل: الرمح جهد: تعب.
(5) مستحقبا، من استحقبه: شدّه في مؤخر الرحل أو احتمله خلفه القائل:
الساكن.
(6) الجريرة: الذنب، الجناية.(1/314)
وأصبح يغضي الطّرف عن كلّ منظر ... أنيق ويلهيه التّغرّب والبعد
فما لي وللأيّام أرضى بجورها، ... وتعلم أنّي لا جبان ولا وغد
تغاضى عيون النّاس عنّي مهابة ... كما تتّقي شمس الضّحى الأعين الرّمد
تخطّت بي الكثبان جرداء شطبة ... فلا الرّعي دان من خطاها ولا الورد (1)
تدافع رجلاها يديها عن الفلا ... إلى حيث ينمى العزّ والجدّ والجدّ
فجاءتك ورهاء العنان بفارس ... تلفّت حتّى غاب عن عينه نجد (2)
ومثلك من لا توحش الرّكب داره ... ولا نازل عنها إذا نزل الوفد
فيا آخذا من مجده ما استحقّه ... نصيبك هذا العزّ والحسب العدّ (3)
أب أنت أعلى منه في الفضل والعلى، ... وأمضى يدا، والنّار والدها زند
وما عارض عنوانه البيض والقنا ... أخو عارض عنوانه البرق والرّعد
وكم لك في صدر العدوّ مرشّة ... يخضّب منه الرّمح منبعق ورد (4)
وفوق شواة الذّمر ضربة ثائر ... يكاد له السّيف اليمانيّ ينقدّ (5)
يودّ رجال أنّني كنت مفحما، ... ولولا خصامي لم يودّوا الذي ودّوا
مدحتهم فاستقبح القول فيهم، ... ألا ربّ عنق لا يليق به عقد
زهدت وزهدي في الحياة لعلّة، ... وحجّة من لا يبلغ الأمل الزّهد
وهان على قلبي الزّمان وأهله، ... ووجداننا، والموت يطلبنا، فقد
وأرضى من الأيّام أن لا تميتني، ... وبي دون أقراني نوائبها النّكد
__________
(1) جرداء شطبة: فرس قصيرة الشعر مضمرة.
(2) الورهاء: الحمقاء، وورهاء العناء: هائجة.
(3) الحسب العد: الشرف القديم.
(4) المرشة: الطعنة الواسعة المنبعق: الدم المتفجر، من انبعق السحاب:
تفجر بالمطر الورد: الأحمر.
(5) الشواة: الأطراف الذّمر: الشجاع.(1/315)
ليت الخيال
(الكامل)
ليت الخيال فريسة لرقادي، ... يدنو بطيفك عن نوى وبعاد
ولقد أطلت إلى سلوّك شقّتي ... وجعلت هجرك والتجنّب زادي (1)
أهون بما حمّلتنيه من الضّنى ... لو أنّ طيفك كان من عوّادي (2)
ولقلّما نزل الخيال بمقلة ... روعاء نافرة بغير رقاد
ما تلتقي الأجفان منها ساعة، ... وإذا التقت فلغضّ دمع باد
لا يبعدن قلبي الذي خلفته ... وقفا على الإتهام والإنجاد
إنّ الذي عمر الرّقاد وسادة، ... لم يدر كيف نبا عليّ وسادي
لا زال جيب الليل منفصم العرى ... عن كلّ أوطف مبرق مرعاد (3)
يسقي منازل عاث فيهنّ البلى، ... بين الغوير فجانب الأجماد
وإذا الرّياح تبوّعت، فصدورها ... لعناق حاضر أرضكم والبادي (4)
ولقد بعثت من الدّموع إليكم ... بركائب، ومن الزّفير بحاد
إنّي متى استنجدت سرب مدامع ... خذلته أسراب الفراق العادي
لولا هواك لما ذللت، وإنّما ... عزّي يعيّرني بذلّ فؤادي
ما للزّمان يذودني عن مطلبي، ... ويريغني عن طارفي وتلادي (5)
يحنو عليّ، إذا أقمت كأنّي ال ... أسرار في أحشاء كلّ بلاد
عادات هذا النّاس ذمّ مفضّل، ... وملام مقدام، وعذل جواد
__________
(1) سلوّك: نسيانك.
(2) العوّاد: الذين يعودون المريض، يزورونه.
(3) الأوطف: السحاب المسترخي لكثرة مائه.
(4) تبوعت: هبت وامتدت، مدت باعها.
(5) يذودني: يدفعني، يبعدني يريغني: يخادعني طارفي وتلادي:
جديدي وقديمي.(1/316)
ولقد عجبت، ولا عجيب أنّه ... كلّ الورى للفاضلين أعادي
وأرى زماني يستلين عريكتي، ... وأرى عدوّي يستحرّ عنادي (1)
أتظنّني ألقى إليك يدا، وما ... بيني وبينك غير ضرب الهادي (2)
أسعى لكلّ عظيمة، فأنالها ... عزما يفوت هواجس الحسّاد
عزما قويّا لا يشاور رقبة ... للخطب في الإصدار والإيراد
ما زال يشهد لي إذا استنطقته ... بالجود في ليلي، لسان زنادي
إنّي لتحقن ماء وجهي همّتي ... من أن يراق على يدي بأياد
ممّا يقلّل رغبتي أنّي أرى ... صفدي ببذل المال مثل صفادي (3)
والمال أهون مطلبا من أن أرى ... ضرعا أرامي دونه وأرادي (4)
ومناضل عثرت به أحسابه ... في مسلك وعر من الأجداد
خلّقت عرف جواده بنجيعه ... والسّبق في طلق الرّدى لجوادي (5)
ولربّ يوم غضّة أطرافه ... صقلت بخطو روائح وغوادي
يوم أراق دم الغمام على السّرى ... بظبى من الإيماض غير حداد
ولغرّة الجوّ الرّقيق أسرّة ... يلمعن من قطع السّحاب الغادي (6)
جاذبته صافي أديم هجيره، ... واليعملات شواحب الأعضاد
في فتية سلبوا النّهار ضياءه ... ورموا بياض جبينه بسواد
وحشوا حشا الظّلماء ملء جنانها ... حتّى تصدّع بالصّديع البادي (7)
وكأنّما بيض النّجوم فواقع ... في زاخر متتابع الإزباد
__________
(1) يستحر، من استحرّ الشيء: وجده حارا.
(2) الهادي: العنق.
(3) صفدي: عطائي صفادي: وثاقي.
(4) الضرع: الذليل أرادي: أداري.
(5) خلقت: طيّبت النجيع: الدم.
(6) أسرّة: خطوط السحاب الغادي: الغيم الصباحي.
(7) الصديع: الصبح.(1/317)
نالوا على قدر الرّجاء، وإنّما ... يروى على قدر الأوام الصّادي (1)
قوم إذا قرعوا زنودا للقرى، ... ستروا فروج النّار بالورّاد
ما ضلّ في قلب امرئ أمل سرى ... إلّا وجودهم الهدى والهادي
طنب يعثّرن الخطوب، وباحة ... ممنوعة إلّا من الرّوّاد (2)
سحبوا أنابيب القنا، فكأنّما ... سحبوا بهنّ حواشي الأبراد
يزجرن جردا لا تقرّ على الثّرى ... مرحا كأنّ التّرب شوك قتاد
من كلّ تلعاء المناكب، جيدها ... يغني عن القربوس يوم طراد (3)
ضربوا قباب البيض فوق مفارق ... أطنابها شرع القنا الميّاد (4)
ذبل يهذّبها الطّعان، وإنّها ... تزداد جهلا كلّ يوم جلاد (5)
يحملن عبء الموت وهي خفايف ... في الطّعن بين جناجن وهواد (6)
هم أنشبوا قصد القنا من وائل ... من حيث نار الحقد في إيقاد (7)
ولغوا بوقع حوافر في مأزق، ... ملأوا بهنّ مسامع الأصلاد
نجب نفضن له الفرائص خيفة ... تحت العرين، براثن الآساد (8)
لبست له الحرب المشوبة قبلة ... وتعوّدت منه صدور صعاد (9)
__________
(1) الأوام: العطش.
(2) طنب يعثّرن: أعاد ضمير المؤنث في يعثرن الى طنب المفرد على نية الجمع.
(3) التلعاء: الطويلة العنق القربوس: حنو السرج أي قسمه المقوس المرتفع قدام المقعد ومن مؤخر.
(4) أطنابها: حبالها شرع القنا: الرماح المسددة.
(5) ذبل: رماح يهذبها: يشحذها تزداد جهلا: تزداد قوة وعنفا.
(6) الجناجن: عظام الصدر الهوادي: الأعناق.
(7) القصد، جمع قصدة: القطعة ممّا يكسر.
(8) النجب: السخي الكريم الفرائص، جمع فريصة: لحمة بين الجنب والكتف ترعد عند الفزع.
(9) المشوبة: الهائجة، غير الواضحة.(1/318)
ولدت وجوههم العجاجة طلعة ... وظبى السّيوف ثواكل الأغماد (1)
من كلّ نصل أضمرت أحشاؤه ال ... أرواح وهو حشى بغير فؤاد
الخيل ترتشف الصّعيد نسورها ... طردا، وتلفظه على الأكتاد (2)
أقبلن مثل السّيل صوّب عنقه ... نشز العقاب إلى قرار الوادي
وتكاد تمسح من دماء جراحها ... آثار ما نقشت على الأطواد
ترجيع قعقعة الشّكيم إذا سرت ... لعداتها، بدل من الإيعاد
يوم كأنّ الأرض فيه عانقت ... صدر السّماء بعارض منقاد
ويكاد جامحه يثقّف في الطّلى ... بالطّعن، أطراف القنا المنآد (3)
وكأنّهنّ، إذا انحنين، رواكع ... صلّت إلى قبل من الأكباد (4)
وشققن أردية الضّغائن بالرّدى ... من بعد ما شملت قلوب إياد
إن يسلبوا ضافي الدّروع، فإنّهم ... كاسون من علق دروع جساد
رجع الضّراب رجالهم بعمائم ... محمرّة ونساهم بحداد
لا ينقضون بنى الحقود كأنّما ... شيدت ضلوعهم على الأحقاد
مهج كأنبوب اليراع، إذا عدا ... روع وعند المطمعات عوادي
كادت تطير مخافة لو لم تكن ... من شرّع الأرماح في أسداد (5)
بلغت لنا الأرماح كلّ طماعة ... وحوت لنا الأسياف كلّ مراد
أنا خلّ كلّ فتى إذا أيقظته ... أيقظت كالنضّاض أو كالعادي (6)
__________
(1) العجاجة: الغبار ظبى السيوف: حدّها. وقوله ثواكل الأغماد كناية عن إخراجها من الأغماد كما لو أنها فقدتها.
(2) نسورها: ما ارتفع من بواطن حوافر الجياد، جمع نسر الأكتاد، جمع كتد: مجتمع الكتفين من الانسان.
(3) الطلى: الأعناق المنآد: المنعطف.
(4) قبل: جمع قبلة.
(5) أسداد: جمع سد.
(6) النضّاض: الحية العادي: الأسد.(1/319)
ألف الحسام، فلو دعاه لغارة ... عجلان، صاحبه بغير نجاد
كفّاه تصديها الدّماء من القنا، ... طورا، ويصقلها النّدى في النّادي
إن جاد أقنى المعسرين، وإن سطا ... أفنى القنا بمواير الفرصاد (1)
من مبلغ الشّعراء عنّي أنّ لي ... قول الفحول ونجدة الأنجاد
قد كان هذا الشّعر ينزع في الدّنا ... عنهم، فكان عقاله ميلادي
سيف دولتنا
(الكامل)
هو سيف دولتنا الذي يوم الوغى ... يفري قلوب عداته بفرنده (2)
يعدو بطرف إن جرى سبق الرّدى ... وبصارم يسم الطّلى في غمده (3)
جار، ولكن رأيه في جريه، ... ماض، ولكن عزمه في حدّه
أرقّ القبائل
(المتقارب)
نظم الشريف الرضي هذه القصيدة مفتخرا بقريش ونزار على قحطان واليمن. وقد وضعها في رمضان سنة 385.
أراك ستحدث للقلب وجدا، ... إذا ما الظّعائن، ودّعن نجدا
__________
(1) أقنى: أغنى مواير الفرصاد: الدم السائل.
(2) يفري: يقطع الفرند: جوهر السيف، جودة صقله ورهافته، والضمير يعود الى الممدوح وهو الخليفة.
(3) الطرف: الجواد السريع الطلى: الأعناق.(1/320)
بواكر يطلعن نقب الغوير، ... شأون النّواظر نأيا وبعدا (1)
تتبّعهم نظرات الصّقور ... آنسن هفهفة الطّير جدّا (2)
على قنوين، ألا من رأى ... ظعائن بالطّعن والضّرب نجدا (3)
نخالسها من خلال القنا ... سلاما، ونعلم أن لا تردّا
كأنّ هوادجها والقباب ... يثنين منهنّ بانا ورندا (4)
فما شئت تنسم بالقلب نشرا، ... وما شئت تقطف بالعين وردا
كأنّ قواني أنماطها ... قطوع رياض من الطّلّ تندى (5)
يصدّون عنّا بلمع الخدود، ... ويمنعنا وجدنا أن نصدّا
كأنّا بنجد غداة الوداع ... نصادي عيونا من الدّمع رمدا (6)
وأيسر ما نال منّا الغليل ... أن لا نحسّ من الماء بردا
أثاروا زفيرا يلفّ الضّلوع ... لفّ الرّياح أنابيب ملدا (7)
فكلّ حرارة أنفاسه ... تدلّ على أنّ في القلب وقدا
وإنّي للشّوق من بعدهم ... أراعي الجنوب رواحا ومغدى (8)
وأفرح من نحو أوطانهم ... بغيث يجلجل برقا ورعدا
إذا طلع الرّكب يمّمته ... أحيّي الوجوه كهولا ومردا
وأسألهم عن جنوب الحمى ... وعن أرض نجد ومن حلّ نجدا
__________
(1) النقب: الطريق الغوير: اسم ماء لبني كلب شأون: سبقن.
(2) هفهفة الطير: صوت طيرانه.
(3) القنوان: جبلان النجد: الغلبة.
(4) البان والرند: نوعان من الشجر الليّن.
(5) القواني: الحمر الأنماط، جمع نمط: نوع من البسط القطوع، جمع قطع: البساط أو الطنفسة تكون تحت الراكب الطل: الندى.
(6) نصادي: نداري.
(7) الأنابيب الملد: الرماح اللينة.
(8) رواحا ومغدى: مساء وصباحا.(1/321)
نشدتكم الله، فليخبرنّ ... من كان أقرب بالرّمل عهدا
هل الدّار بالجزع مأهولة، ... أنار الرّبيع عليها وأسدى (1)
وهل حلب الغيث أخلافه ... على محضر من زرود ومبدا؟
وهل أهله عن تنائي الدّيار، ... يراعون عهدا ويرعون ودّا؟
لئن أقرض الله ذاك النّعيم ... فيهم، لقد كان فرضا مؤدّى
أعار الزّمان، ولكنّه ... تعقّب إعطاءه، فاستردّا
أنا ابن العرانين من هاشم، ... أرقّ القبائل راحا وأندى (2)
أكنّهم للمراميل ظلّا، ... وأثقبهم للمطاريق زندا (3)
سراع إلى نزوات الخطوب، ... يهزّون سمرا، ويمرون جردا (4)
كأنّ الصّريخ يهاهي بهم، ... أسودا تهبّ من الغيل ربدا (5)
إذا أغرقوا بيضهم في الطّلى ... وساموا القنا من دم الطعن وردا
على القبّ تشغلهنّ السّياط ... أمام الرّعيل عنفا وشدّا
رمين السّخال، وقين النّفوس ... حتّى بلغن لغوبا وجهدا (6)
فما أومأوا بصدور الرّماح ... يوما إلى القرن إلّا تردّى (7)
سيوف تطيل قراعا وقرعا، ... وخيل تعيد طرادا وطردا
وتغلق فيهم رهون الملوك ... قتلا بيوم طعان وصفدا
وكم صاف من دارهم سيّد، ... وقاظ يعالج في الجيد قدّا
كأنّ الفتى منهم في النّزال ... يرى أكبر الغنم إن قيل أودى
__________
(1) الجزع: اسم موضع أسدى: امتد.
(2) ابن العرانين: ابن أصحاب الأنوف العالية.
(3) المراميل: الفقراء المطاريق: الضيوف يطرقون ليلا.
(4) يمرون، من مرى الفرس: استخرج ما عنده من جري بسوط.
(5) هاهى به، قال له: هيه، وهي كلمة طرد واستزادة.
(6) السخال: الضعاف قين النفوس: ذلّها اللغوب: المتعب.
(7) القرن: الشجاع الثابت، سيد القوم.(1/322)
ولا يحمد العيش في يومه، ... إذا لم يلاق من السّيف هدّا (1)
يبيت على ظبتي همّة ... يجاثي خصوما من النّوم لدّا (2)
إذا غلّ أيدي الرّجال النّعاس، ... شدّ على العضب باعا أشدّا
وأصبح تزفيه ريح العجاج ... غضبان أعجل أن يستعدّا (3)
وسيّان من جرّ عزماته ... وحيدا إلى الرّوع أو جرّ جندا
يرى مهربا، فيلاقي الرّدى ... لقاء امرئ لا يرى منه بدّا
مضيء المحيّا كأنّ الجمال، ... إذا هبّ منه، جبينا وخدّا (4)
ترى وجهه في حضور النّدى ... كالعضب رقرقت فيه الفرندا
ينير ويلحم في خفية، ... إلى أن يحوك من الرّأي بردا
بني عمّنا أين قحطانكم، ... إذا عبّ بحر نزار ومدّا
مضغناكم إذ عددنا قريشا، ... ونلهمكم إذ بلغنا معدّا
هم ألدغوكم حماة الرّماح ... ولدّوكم بظبى البيض لدّا (5)
حموكم منابت عشب البلاد، ... تحلّوا من النّور سبطا وجعدا (6)
وساموا بنجد مطاياكم، ... لما نشطت منه بالغور ردّا
لنا من تعجّ الورى باسمه، ... إلى الله ندعوه في المجد جدّا
وبيت تهاوى إليه المطيّ، ... تهزّ الدّلاء ذميلا ووخدا (7)
بنا أنقذ الله هذا العريب، ... حتّى استقام إلى الدّين قصدا
__________
(1) الهد: الكسر بشدّة.
(2) الظبّة: حد السيف يجاثي: يجالس.
(3) تزفيه: تطرده، تحمله.
(4) هب منه: بدا منه.
(5) الحماة، جمع حمة: إبرة العقرب لدّوكم: خاصموكم.
(6) حموكم: منعوا عنكم النّور: الزهر السبط والجعد: الأملس والمجعّد.
(7) الدلاء: سمة للابل الذميل والوخد: من أنواع السير.(1/323)
وذلّ غواشيه من بعد ما ... سعى في الضّلالة سعيا مجدّا
وأخفت زمجرة المشركين، ... يفري الجماجم قطّا وقدّا
فأكثر بما طلّ تلك الدّماء، ... وأعظم بما جرّ بدرا وأحدا
وإنّ لنا بضّ تلك العروق، ... إذا عدن ينبضن كيّا معدّا
فلا تشمخن يا ابن أمّ الضّلال، ... بجدّي وجدت من النّار بردا
أجار على عجل أخمصيك ... من زلق الغيّ إذ كدت تردى
وأعتق عنقك من سيفه، ... فأصبح رأسك حرّا وعبدا
يزيد على مشتهى الجود جودا، ... ويبني على غاية المجد مجدا
نلين عطائفنا للقريب، ... ونولي المجانب قربا أجدّا (1)
وليس لنا شبخ الرّاحتين، ... إذا جاد أعطى قليلا وأكدى (2)
لقد زجر المجد حتّى أصاب ... بنا مطلع النّجم لا بل تعدّى
كذاك مناقبنا، فانظروا: ... أأحصيتم رمل يبرين عدّا
سبقنا إلى المجد من كان قبلا ... فكيف نقاس بمن جاء بعدا
أبذل من طارفي وتالدي
(السريع)
لو علمت أيّ فتى ماجد ... ذات اللّمى والشّنب البارد
لمّا وفي لي موعدي بالنّوى، ... من غير ذنب ووفى واعدي
كالغصن مهزوزا، ولكنّه ... يفعل فعل الخطل المائد (3)
__________
(1) العطائف، جمع عطيفة: القوس.
(2) الشبخ: انقباض في الجلد أكدى: منع.
(3) الخطل المائد: الرمح المضطرب.(1/324)
أضللت قلبي فيك عمدا وقد ... تعيّن الثّأر على العامد
فهل لما أضللت من ناشد ... وهل لما ضيّعت من واجد
قلوبنا عندك معقودة ... بطرف ذاك الشّادن العاقد (1)
أفلتنا، ثمّ ثنى طرفه، ... تلفّت الظّبي إلى الصّائد
ما أنصف الفاسق في لحظه، ... لمّا أرانا عفّة العابد
تعزّز الحبّ له ذلّة، ... وناقص الحبّ إلى زائد
والمرء محسود بلذّاته، ... والحبّ ملذوذ بلا حاسد
يا عذبة المبسم بلّي الجوى ... بنهلة من ريقك الصّارد (2)
أرى غديرا شبما ماؤه، ... فهل لذاك الماء من وارد (3)
من لي به من عسل ذائب ... يجري خلال البرد الجامد
أنا ابن من ليس بجدّ له ... من لم يكن بالماجد الجائد
ولم يكن في سلك آبائه ... غير طويل الباع والسّاعد
قد حلب الدّهر أفاويقه، ... وأتبع الشّارد بالطّارد (4)
لنا الجبال القود مرفوعة ... تزلّ عنها قدم الصّاعد (5)
لنا الجياد القبّ أخّاذة ... على العدى بالأمد الزّائد (6)
لنا القنا والبيض مطواعة ... في الضّرب يعصين يد الغامد
لنا الأسود الغلب في غيلها ... من ثائر بأسا ومن لا بد
من أسد طال به عمره ... ومن قريب العمر مستاسد
__________
(1) الشادن: ولد الظبي الذي قوي وبلغ العاقد: الذي ثنى عنقه. وقد كنى بالشادن عن الحبيب.
(2) الجوى: حرقة الحب الصارد: البارد.
(3) شبما: باردا، وأراد بالغدير ثغر الحبيب.
(4) الأفاويق: اللبن يجتمع في الضرع بين الحلبتين.
(5) القود: الطويلة.
(6) القب: الضامرة الأمد: الغضب.(1/325)
يا أيّها العائب لي جهلة ... حذار من أرقمي الرّاصد (1)
أقدّم النّذر، ولي سطوة ... تنفّر النّوم عن الرّاقد
كلمعة البارق مجتازة، ... تقضي على زمجرة الرّاعد
إن كنت ما جرّبتني ضاربا، ... فاصبر لما جاءك من ساعدي
وهاك من كفّي مفروجة ... فرج القبا موسية العائد (2)
ربّ نعيم زال ريعانه ... بلسعة من عقرب الحاسد
أنا الّذي أبذل من طارفي ... مثل الّذي أبذل من تالدي
ما مروتي للنّاحت المنتحي ... يوما، ولا غصني للعاضد (3)
أسعى لقوم قعدوا في العلى ... ما أكثر السّاعي إلى القاعد
أنا الّذي يوسعها جولة ... تجفّل الذّود عن الذّائد (4)
أنا الّذي يوطئ أكتافها ... ما رنّ رمح بيدي مارد
أنا الّذي يضرم آفاقها، ... كأنّها معمعة الواقد
أنا الّذي يوجر أبطالها ... ضربا كخبط الجمل الوارد (5)
ما أنا للعلياء إن لم يكن ... من ولدي ما كان من والدي
ولا مشت بي الخيل إن لم أطأ ... سرير هذا الأغلب الماجد
فإن أنلها، فكما رمته، ... أو لا، فقد يكذبني رائدي
والغاية الموت، فما فكرتي ... أسائقي أصبح أم قائدي
__________
(1) الأرقم: الحيّة.
(2) موسية: معاونة.
(3) المروة: الحجارة الصلبة العاضد: القاطع بالمعضد وهي المنجل.
(4) الذود: قطعة الابل الذائد: المدافع.
(5) يوجر: يطعن.(1/326)
بالأهلّة نهتدي
(الكامل)
هل ريع قلبك للخليط المنجد، ... بلوى البراق تزايلوا عن موعدي (1)
قالوا: غدا يوم النّوى، فتسلّفوا ... عضّا لأطراف البنان على غد
رفعوا القباب، وبينهنّ لبانة ... لم تقضها عدة الغزال الأغيد (2)
وغدوا غدوّ الرّوض ألبسه الحيا ... نسجين بين مسرّد ومعضّد
ووراهم قلب يشاق ومهجة ... بردت ردى، وغليلها لم يبرد
لاثوا خدودهم على عين النّقا، ... ودمى النّمارق والغصون الميّد (3)
وأهلّة بتنا نضلّ بضوئها، ... ولقد ترانا بالأهلّة نهتدي
فسقى ثرى تلك الغصون نباته ... ما شاء من سبل الغمام المزبد
ولقد مررت على الدّيار، فعزّني ... جلدي وكان أعزّ منه تجلّدي
لولا مكاثرة الدّموع عشيّة، ... لعرفت رسم المنزل المتأبّد (4)
لهفي لأيّام الشّباب على ندى ... أطرافهنّ وظلّهنّ الأبرد (5)
أيّام أنفض للمراح ذوائبي، ... وأروح بين معذّل ومفنّد
ومرجّلين من الحمام غرانق، ... مثل الغصون ثيابها الورق النّدي (6)
متملّيين من الشّباب كأنّهم ... أقمار غاشية الظّلام الأربد (7)
__________
(1) الخليط: القوم تزايلوا: تنادوا للرحيل.
(2) لبانة: حاجة. والغزال الأغيد كناية عن المرأة الجميلة والطويلة العنق.
(3) لاثوا: أداروا النمارق، جمع نمرقة: الوسادة الصغيرة.
(4) المتأبد: المقفر.
(5) الأبرد: المريح، الذي يبعث الارتياح.
(6) مرجّلين، من رجل الشعر: سرحه الحمام، جمع حمة: السواد، وأراد به الشعر الأسود الغرانق: الشبان البيض.
(7) الأربد: الأسود، الشديد الظلمة.(1/327)
صقلت نصول خدودهم بيد الصّبا، ... مرد العوارض في زمان أمرد
تستنبط الألحاظ ماء وجوههم، ... فيكاد ينقع من غضارتها الصّدي (1)
لا تنفر الحسناء من مسّي، ولا ... تثنى إذا مدّت إلى أرب يدي
وبياض ما بيني وبين أحبّتي، ... يوم اللّقاء، من الغراب الأسود
فالآن إذ قرع النّوائب مروتي، ... وألنّ معجم عودي المتشدّد (2)
وقصرن خطوي عن مراهنة الصّبا، ... فخطوت للّذّات خطو مقيّد (3)
ألبسنني برد الوقار ضرورة، ... وأرينني جدد الطّريق الأقصد (4)
فاليوم أسلس في القياد، وطالما ... منعت فضول عزامتي من مقودي (5)
ما لي أذلّ، وصارمي لم ينثلم ... بطلى العدى وقناي لم يتقصّد (6)
قد طال في ثوب الهموم تزمّلي، ... فلآخذنّ لنهضتي من مقعدي
ولأظعننّ دجى الظّلام بجسرة ... هوجاء تسأل موردا عن مورد (7)
في غلمة هدموا ذرى عبدية ... أنضاء خمس للنّجاء عمرّد (8)
تصل الدّؤوب كأنّ طالي أنيق ... نضح الذّفارى بالكحيل المعقد (9)
مشق الهجير لحومها، وتناضلت ... أخفافها بالأمعز المتوقّد (10)
__________
(1) ينقع: يروى الغضارة: النعمة وطيب العيش الصدي: العطشان.
(2) قرع النوائب مروتي: أي انزل به الدهر البلاء معجم، من عجم العود:
تفحّص صلابته.
(3) المراهنة: المسابقة.
(4) الجدد: الأرض الغليظة الأقصد: الأشد استقامة.
(5) من مقودي: من انقيادي.
(6) الطلى: الأعناق لم يتقصّد: لم يتكسّر.
(7) الجسرة: الناقة القوية الهوجاء: المسرعة.
(8) عبدية: صفة للنياق العمرّد: الطويل.
(9) الدؤوب: الجاد المجتهد الذفارى، جمع ذفرى: الموضع الذي يعرق من البعير الكحيل: القطران.
(10) الهجير: شدّة الحر الأمعز: الأرض الصلبة.(1/328)
وإذا الموامي غلن آخر جهدها ... صاحت بها الأعراق: دونك، فازدد (1)
حتّى إذا ركبوا الرّؤوس من الكرى ... وتصوّب العيّوق بعد تصعّد (2)
جعلوا الخدود على أزّمة ضمّر، ... فتل الكلال قيودهنّ بلا يد
مثل الصّوارم والدّجى أغمادها، ... حتّى تسلّ إلى المغار الأبعد
أنا في الضّحى سرج الحصان وفي الدّجى ... كور على ظهر الأمون الجلعد (3)
بيدي من الهنديّ فضل عمامة، ... لا بدّ أعصبها برأس مسوّد
إنّي لأغلط آنفا بمواسي، ... وأقيم من عنق الأبيّ الأصيد (4)
قل للعدى، إن بتّ أوقد نارها ... ما بيننا أبدا، إذا لم تخمد
فدعوا مصاولة الضّراغم وانبحوا ... نبح الكلاب على نجوم الأسعد
لا يغررنّكم تناوم ضيغم، ... وتناذروا وثبات أغلب ملبد (5)
الصّارم المشهور ينذر نفسه، ... فخذوا الحذار من الحسام المغمد
وأقارب جعلوا العقوق سجيّة، ... يتوارثون سفاهة عن قعدد (6)
لبسوا لنا زرد النّفاق، فأصبحوا ... في ذمّة الخلق اللّئيم الأوغد
وكأنّما تلك الضّلوع قساوة ... تثنى على قطع الصّفاء الجلمد
قالوا: الصّفاح! فقلت: إنّ أليّة ... أن لا أمدّ يدي بغير مهنّد (7)
من كلّ منخوب الجنان كأنّه، ... في الرّوع مطرود وإن لم يطرد (8)
__________
(1) الموامي، جمع موماة: المفازة.
(2) العيّوق: نجم يظهر قرب الثريا.
(3) كور: حمل الأمون: الناقة الصلبة الجلعد: الشديدة.
(4) الأصيد: السيّد، الشريف.
(5) الملبد: الأسد اللاصق بالأرض، والملبد أيضا هو الأسد ذو اللبدة الكبيرة.
(6) القعدد: الجد الأعلى.
(7) الأليّة: اليمين، وإن ألية أي أقسم يمينا.
(8) منخوب الجنان: ضعيف القلب في الروع: في الأوقات المخيفة.(1/329)
إن عاين النّقعين أنكر قلبه، ... ونجا بناصية الطّمرّ الأجرد (1)
لو عيد من داء الفهاهة واحد ... عادوه من عيّ إذا حضر النّدي (2)
متقدّم في لؤمه ميلاده، ... ومن الخمول كأنّه لم يولد
قل للّذي بالغيّ سوّى بيننا: ... أين الغبار من الجبال الرّكّد
لا تدنينّ مواربين دعوتهم ... يوم الطّعان فسوّفوك إلى الغد
تركوا القنا تهفو إليك صدوره، ... والقوم بين مهلّل ومغرّد
حتّى اتّقوا بك ثمّ فاغرة الرّدى، ... فنجوا، وأنت على طريق المزرد (3)
قذفوك في غمّائها، وتباعدوا ... عنها، وقالوا: قم لنفسك واقعد
قطع الزّمان قبال نعلك، فانتعل ... أخرى تقيك من العثار وجدّد (4)
يصل الذّليل إلى العزيز بكيده، ... والشّمس تظلم من دخان الموقد
واشدد يديك إلى الوغى بمغامر ... ندب، لعادات الطّعان معوّد
لم ينتقش شوك القنا من جلده ... في الرّوع إلّا بالقنا المتقصّد (5)
من كلّ مربدّ النّجيع إذا علت ... نغراتها قطعت حضور العوّد (6)
إن سوّموه إلى الرّهان، فإنّما ... مسحوا جبين مقلّد لمقلّد
ما عذر من ضربت به أعراقه، ... حتّى بلغن إلى النّبيّ محمّد
أن لا يمدّ إلى المكارم باعه، ... وينال منقطع العلى والسّؤدد
__________
(1) الطمر: الجواد الطويل القوائم. أي إن رأى الغبار الكثيف خاف وفر على ظهر جواد سريع.
(2) الفهاهة: العي والوهن في النطق.
(3) المزرد: مصدر ميمي من زرده أي خنقه.
(4) قبال الحذاء: الزمام الذي يشدّه، سيره.
(5) القنا المتقصد: الرمح النافذ.
(6) مربد النجيع: الدم المائل الى الغبرة النغرات: الصوت الذي يحدثه جيشان الدم وسيلانه من جوف الطعنة العوّد: الذين يعودون المريض، يزورونه.(1/330)
متحلّقا حتّى تكون ذيوله ... أبد الزّمان عمائما للفرقد
أعن المقادر لا تكن هبّابة، ... وتأزّر اليوم العصبصب وارتد (1)
لا تغبطنّ على البقاء معمّرا، ... فلقرب يوم منيّة من مولد
موعد البين غدا
(مجزوء السريع)
يا قلب جدّد كمدا، ... فموعد البين غدا
لم أر فرقا بعدهم ... بين الفراق والرّدى
يا زفرة هيّجها ... حاد من الغور حدا
أغنى زفير العاشقي ... ن عيسه عن الحدا
أرعى الحمول ناظرا، ... وألزم القلب يدا
وأطرد الطّرف على ... آثارهم ما انطردا
مذ أوقدوا بأضلعي ... جمر الغضا ما خمدا (2)
ومذ أذابوا ماء عي ... ني بالأسى ما جمدا
يا هل أرى من حاجة ... حقف النّقا والجمدا (3)
وحيث سال الرّمل عن ... جرعائه، وانعقدا (4)
وهل أعيد ناظرا ... يتبع سربا منجدا
يمشين هزّات القنا، ... مال وما تحصّدا (5)
__________
(1) الهبابة، من هب: صاح وانهزم العصبصب: الشديد.
(2) الغضا: شجر من الأثل جمره يبقى زمنا طويلا، وجمر الغضا كناية عن دوام الحب المعذّب.
(3) حقف النقا: التواء الرمل الجمد: اسم جبل في نجد.
(4) الجرعاء: أرض مرملة لا تنبت شيئا.
(5) هزّات القنا: كناية عن التمايل والخيلاء تحصّدا: انقصف.(1/331)
هل ناشد ينشد لي ... ذاك الغزال الأغيدا
ما ضلّ عنّي إنّما ... ضلّ بقلبي كمدا
رهنته قلبي، ومن ... يرهن قلبا أبدا
يا منجزا وعيده، ... وماطلا ما وعدا
أراك منّي أقربا، ... وإن غدوت أبعدا
عذّبت قلبي عنتا، ... والطّرف لا القلب بدا
ربّ ثنايا بردت ... لذي جوى ما بردا
يا حرّ قلبي! من سقي ... رضابهنّ الأبردا
لم يدر هل ذاق بها ... جمر غضا أو بردا
يا كبدي تجلّدا، ... فما أطيق الجلدا
عسى فؤاد يرعوي، ... ربّ مضلّ وجدا
وحمّل الحاج الرّما ... ح لا الأمون الجلعدا (1)
إنّي، إذا ما لم أجد ... إلّا الهوان موردا
كنت أداوي كبدي، ... لو غادروا لي كبدا
دع للمشيب ذمّة، ... إنّ له عندي يدا
أعتق من رقّ الهوى ... مذلّلا معبّدا
لكن هوى لي أن أرى ... لون عذاري أسودا
مرّ البياضان علي ... هـ: شائبا وأمردا
ما أخلق البرد، فلم ... بدّل لي وجدّدا (2)
لولا تكاليفك لم ... أعط الزّمان صيدا
سجيّة من بطل ... لازم ما تعوّدا
بايع أطراف القنا، ... وعاقد المهنّدا
__________
(1) الحاج: نوع من النبات الأمون: الناقة القوية والمأمونة العثار الجلعد: الصلبة.
(2) أخلق البرد: أبلى الثوب.(1/332)
شاورت قلبا آبيا، ... فقال لي: لا تردا
إنّي لقوم بعدوا ... في المجد والجود مدى
شوس، إذا الباغي بغى، ... سمح، إذا الجادي جدا (1)
تفرّعوا طود العلى، ... والجبل العطوّدا (2)
مجدهم أقدم من ... هضب القنان مولدا (3)
أصادق في الخطب لل ... سّيف، وللمال عدا
إذا اهتدى بنارهم ... طارق ليل ما اهتدى
تقارعوا على القرى ... واقترعوا على الجدا
وغارة في سدفة ... توقظ حيّا رقدا (4)
بضمّر أسقطها ... عليهم مع النّدى
تلهب نضّا زعزعا، ... أو قربا عمرّدا (5)
كأنّني أبعثها ... فيهم ثنى وموحدا
مزاحم يقذف في ... يوم الحصاب جلمدا
من كلّ محبوك كما ... أمرّ لاو مسدا (6)
يغني الفتى عنانه ... عن سوطه، إذا عدا
كأنّما فارسه ... يقدع ذئبا أصردا (7)
أنزع عن صفحته ... شوك القنا مقصّدا
__________
(1) شوس: عنيدون.
(2) تفرعوا: امتدت فروعهم العطوّد: الطويل.
(3) القنان: رؤوس الجبال الصغيرة.
(4) السدفة: الظلمة.
(5) النض: الريح زعزعا: عاصفة القرب: البئر القريبة الماء العمرّد:
الطويل.
(6) أمرّ: فتل مسدا: عكس فتل.
(7) يقدع: يكف، يردع الأصرد: الغاضب.(1/333)
لو شمته ببارق ... ماء الكلاب أوردا
وكلّ صلّ لامظ ... يطلب ريّا للصّدى (1)
أقدم من سنانه، ... إذا الجبان عرّدا (2)
ماض، فإن شمّ طرو ... ق الضّيم زاغ حيدا
يلقى الطّراد جذلا، ... كما يلاقي الطّردا
أنا الغلام القرشيّ ... منجبا ما ولدا
أنزعت دلوي قبلكم ... إلى العراق سؤددا
ما زال عزمي لي عن ... دار الهوان مبعدا
مرحّلي عن بلد، ... وراجما بي بلدا
إن لم يكن نيل منى ... فابغ إذا ورد ردى
بذل النّوال
(الطويل)
اختار الشريف هذين البيتين من قصيدة نظمها في صباه وأسقط الباقي.
أبرّ على الأنواء فضلي ونائلي، ... وطال على الجوزاء قدري ومحتدي (3)
يدي ألفت بذل النّوال فلو نبت ... عن الجود يوما قلت: ما هذه يدي (4)
__________
(1) الصل: الحيّة الخبيثة لامظ، من لمظ: أخرج لسانه وحرّكه الصّدى:
العطش.
(2) عرّد: هرب.
(3) الأنواء: النجوم العالية.
(4) النوال: العطاء. ومعنى البيتين أن الفضل والعطاء لديه فاقا النجوم العالية،(1/334)
قل للعدى
(مجزوء الكامل)
بلغ الشريف الرضي عن رجل من الطالبين انتقد حصر النقابة بالرضي، فكانت هذه الأبيات.
قل للعدى موتوا بغي ... ظكم، فإنّ الغيظ مردي
ودعوا على أحرزتها، ... يا وادعين بطول جهد
كم بين أيديكم، وبي ... ن النّجم من قرب وبعد
ولي النّقابة خال أ ... مّي قبل، ثمّ أبي وجدّي
ولّيتها طفلا، فهل ... مجد يعدّد مثل مجدي
وأظنّ نفسي سوف تح ... ملني على الأمر الأشدّ
حتّى أرى متملّكا ... شرق العلى والغرب وحدي (1)
جدّ نبي
(الطويل)
بلغه عن بعض قريش افتخار على أبناء أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، رضي الله عنه، بمن لا نسب بينه وبين الصحابة، فكانت هذه المقطوعة.
يفاخرنا قوم بمن لم يلدهم ... بتيم إذا عدّ السّوابق أو عدي
__________
كما طال حسبه وقدره السماء. وقد ألفت يده العطاء السخي، وهو يتنكر لها إن ترددت يوما أو أحجمت عن العطاء.
(1) أي أنه لا يكتفي بما هو عليه وما بلغه من المجد، فنفسه تطمح الى السيادة في الشرق والغرب.(1/335)
وينسون من لو قدّموه لقدّموا ... عذار جواد في الجياد مقلّد
فتى هاشم بعد النّبيّ وباعها ... لمرمى على أو نيل مجد وسؤدد
ولولا عليّ ما علوا سرواتها، ... ولا جعجعوا منها بمرعى ومورد (1)
أخذنا عليهم بالنّبيّ وفاطم ... طلاع المساعي من مقام ومقعد (2)
وطلنا بسبطي أحمد ووصيّه ... رقاب الورى من متهمين ومنجد (3)
وحزنا عتيقا، وهو غاية فخركم ... بمولد بنت القاسم بن محمّد
فجدّ نبيّ ثمّ جدّ خليفة، ... فما بعد جدّينا عليّ وأحمد
وما افتخرت بعد النّبيّ بغيره ... يد صفّقت يوم البياع على يد
لم نبق فضلا
(الطويل)
نزلنا بمستنّ المكارم والعلى، ... فلم نبق فضلا للرّجال ولا مجدا (4)
وليس نرى للفضل والمجد دوننا ... على حالة قصدا ولا خلفنا مغدى
نماني قروم من ذوائب غالب، ... يمدّون بي في كلّ طود على مدّا (5)
لئن جحدوا أنّي ابن خير الورى أبا ... فلن يجحدوا أنّي ابن خير الورى جدّا
__________
(1) سروات، جمع سراة: الظهر.
(2) طلاع المساعي: ملؤها.
(3) متهم ومنجد: من تهامة ونجد، من العامة والخاصة.
(4) المستن: المضمار، الطريق.
(5) القروم، جمع قرم: سيّد، شجاع.(1/336)
يا غيرة الله
(الكامل)
في يوم عاشوراء سنة 391وضع الشريف الرضي هذه القصيدة في رثاء الحسين بن علي عليهما السلام.
هذي المنازل بالغميم، فنادها، ... واسكب سخيّ العين بعد جمادها
إن كان دين للمعالم، فاقضه، ... أو مهجة عند الطّلول ففادها
يا هل تبلّ من الغليل إليهم، ... إشرافة للرّكب فوق نجادها
نؤي كمنعطف الحنيّة دونه ... سحم الخدود لهنّ إرث رمادها (1)
ومناط أطناب ومقعد فتية، ... تخبو زناد الحيّ غير زنادها
ومجرّ أرسان الجياد لغلمة ... سجفوا البيوت بشقرها وورادها (2)
ولقد حبست على الدّيار عصابة ... مضمومة الأيدي إلى أكبادها
حسرى تجاوب بالبكاء عيونها ... وتعطّ بالزّفرات في أبرادها
وقفوا بها حتّى كأنّ مطيّهم ... كانت قوائمهنّ من أوتادها
ثمّ انثنت، والدّمع ماء مزادها، ... ولواعج الأشجان من أزوادها (3)
من كلّ مشتمل حمايل رنّة ... قطر المدامع من حليّ نجادها (4)
حيّتك بل حيّت طلولك ديمة ... يشفي سقيم الرّبع نفث عهادها
__________
(1) النؤي: الحفير حول الخيمة يمنع تسرب الماء سحم الخدود: قاتمة الخدود.
(2) أرسان: جمع رسن سجفوا البيوت: أرخوا عليها السجوف، والسجف هو الستر الشقر: الجياد الوراد: النياق أو الجياد السريعة.
(3) المزاد والأزواد: من الزاد.
(4) الحمايل، جمع حمالة: علاقة السيف الرنة: الصوت، رنة السيف.(1/337)
وغدت عليك من الخمايل يمنة ... تستام نافقة على روّادها (1)
هل تطلبون من النّواظر بعدكم ... شيئا، سوى عبراتها وسهادها
لم يبق ذخر للمدامع عنكم، ... كلّا، ولا عين جرى لرقادها
شغل الدّموع عن الدّيار بكاؤنا ... لبكاء فاطمة على أولادها
لم يخلفوها في الشّهيد وقد رأى ... دفع الفرات يذاد عن أورادها (2)
أترى درت أنّ الحسين طريدة ... لقنا بني الطّرداء عند ولادها (3)
كانت مآتم بالعراق تعدّها ... أمويّة بالشّام من أعيادها
ما راقبت غضب النّبيّ، وقد غدا ... زرع النّبيّ مظنّة لحصادها
باعت بصائر دينها بضلالها، ... وشرت معاطب غيّها برشادها
جعلت رسول الله من خصمائها، ... فلبئس ما ذخرت ليوم معادها
نسل النّبيّ على صعاب مطيّها، ... ودم النّبيّ على رؤوس صعادها
نسل النّبيّ على صعاب مطيّها، ... ودم النّبيّ على رؤوس صعادها
وا لهفتاه لعصبة علويّة، ... تبعت أميّة بعد عزّ قيادها
جعلت عران الذّلّ في آنافها، ... وعلاط وسم الضّيم في أجيادها (4)
زعمت بأنّ الدّين سوّغ قتلها، ... أو ليس هذا الدّين عن أجدادها
طلبت تراث الجاهليّة عندها، ... وشفت قديم الغلّ من أحقادها (5)
واستأثرت بالأمر عن غيّابها، ... وقضت بما شاءت على شهّادها
الله سابقكم إلى أرواحها، ... وكسبتم الآثام في أجسادها (6)
__________
(1) الخمايل، جمع خميلة: الثوب المخملي اليمنة: نسبة الى اليمن تستام: تسأل عن الثمن روادها: طلابها.
(2) الدفع، جمع دفعة: دفعة المطر، استعارها للفرات يذاد: يمنع أورادها: شربها.
(3) الطرداء: المطرودون، وبنو الطرداء: لقب الخارجين عن طاعة الامام علي.
(4) العران: عود يجعل في أنف البعير العلاط: حبل يجعل في عنقه:
الضيم: الذل.
(5) التراث: الميراث الغل: الحقد.
(6) أجسادها: دماؤها، جمع جسد.(1/338)
إن قوّضت تلك القباب، فإنّما ... خرّت عماد الدّين قبل عمادها
إنّ الخلافة أصبحت مزويّة ... عن شعبها ببياضها وسوادها
طمست منابرها علوج أميّة، ... تنزو ذئابهم على أعوادها
هي صفوة الله الّتي أوحى لها، ... وقضى أوامره إلى أمجادها
أخذت بأطراف الفخار، فعاذر ... أن يصبح الثّقلان من حسّادها
الزّهد والأحلام في فتّاكها، ... والفتك، لولا الله، في زهّادها
عصب يقمّط بالنّجاد وليدها، ... ومهود صبيتها ظهور جيادها
تروي مناقب فضلها أعداؤها ... أبدا، وتسنده إلى أضدادها
يا غيرة الله اغضبي لنبيّه، ... وتزحزحي بالبيض عن أغمادها
من عصبة ضاعت دماء محمّد ... وبنيه بين يزيدها وزيادها
صفدات مال الله ملء أكفّها، ... وأكفّ آل الله في أصفادها (1)
ضربوا بسيف محمّد أبناءه ... ضرب الغرائب عدن بعد ذيادها
قد قلت للرّكب الطّلاح كأنّهم ... ربد النّسور على ذرّى أطوادها (2)
يحدو بعوج كالحنيّ أطاعه ... معتاصها، فطغى على منقادها (3)
حتّى تخيّل، من هباب رقابها، ... أعناقها في السّير من أعدادها (4)
قف بي، ولو لوث الإزار، فإنّما ... هي مهجة علق الجوى بفؤادها
بالطّف حيث غدا مراق دمائها، ... ومناخ أينقها ليوم جلادها
__________
(1) الصفدات، جمع صفد: العطاء الأصفاد: الأغلال. يلاحظ أن الجناس هنا بعيد عن التكلف، وتمكّن الشريف الرضي من اللغة يجعل اعتماده الصور المتنوعة عملية تتسم بالطبعية.
(2) الطلاح، من الطلح: التعب، الاعياء الربد، من الربدة: لون يميل الى الغبرة.
(3) العوج، جمع عوجاء: الناقة السيئة الخلق.
(4) الهباب: النشاط والسرعة الأعداد، جمع عد: الماء الجاري. شبّه مواصلتها لسيرها السريع بالماء الجاري الذي لا ينقطع.(1/339)
القفر من أرواقها، والطّير من ... طرّاقها، والوحش من عوّادها
تجري لها حبب الدّموع، وإنّما ... حبّ القلوب يكنّ من أمدادها
يا يوم عاشوراء كم لك لوعة ... تترقّص الأحشاء من إيقادها
ما عدت إلّا عاد قلبي غلّة ... حرّى، ولو بالغت في إبرادها
مثل السّليم مضيضة آناؤه، ... خزر العيون تعوده بعدادها (1)
يا جدّ لا زالت كتائب حسرة ... تغشى الضّمير بكرّها وطرادها
أبدا عليك، وأدمع مسفوحة، ... إن لم يراوحها البكاء يغادها
هذا الثّناء، وما بلغت، وإنّما ... هي حلبة خلعوا عذار جوادها
أأقول: جادكم الرّبيع، وأنتم ... في كلّ منزلة ربيع بلادها
أم أستزيد لكم علا بمدائحي، ... أين الجبال من الرّبى ووهادها
كيف الثّناء على النّجوم، إذا سمت ... فوق العيون إلى مدى أبعادها
أغنى طلوع الشّمس عن أوصافها ... بجلالها وضيائها وبعادها
رب ساع لقاعد
(الطويل)
نظمها في رثاء الحسين، عليه السلام، في يوم عاشوراء سنة 395.
وراءك عن شاك قليل العوائد، ... تقلّبه بالرّمل أيدي الأباعد
يراعي نجوم اللّيل والهمّ، كلّما ... مضى صادر عنّي بآخر وارد
توزّع بين النّجم والدّمع طرفه ... بمطروفة إنسانها غير راقد
__________
(1) السليم: الملدوغ آناؤه: أوقاته ليلا.(1/340)
وما يطّبيها الغمض إلّا لأنّه ... طريق إلى طيف الخيال المعاود (1)
ذكرتكم ذكر الصّبا بعد عهده، ... قضى وطرا منّي وليس بعائد
إذا جانبوني جانبا من وصالهم ... علقت بأطراف المنى والمواعد
فيا نظرة لا تنظر العين أختها ... إلى الدّار من رمل اللّوى المتقاود (2)
هي الدّار لا شوقي القديم بناقص ... إليها، ولا دمعي عليها بجامد
ولي كبد مقروحة لو أضاعها ... من السّقم غيري ما بغاها بناشد
أما فارق الأحباب قبلي مفارق، ... ولا شيّع الأظعان مثلي بواجد (3)
تأوّبني داء من الهمّ لم يزل ... بقلبي حتّى عادني منه عائدي (4)
تذكّرت يوم السّبط من آل هاشم ... وما يومنا من آل حرب بواحد
وظام يريغ الماء قد حيل دونه ... سقوه ذبابات الرّقاق البوارد (5)
أتاحوا له مرّ الموارد بالقنا، ... على ما أباحوا من عذاب الموارد
بنى لهم الماضون آساس هذه، ... فعلّوا على آساس تلك القواعد (6)
رمون كما يرمى الظّماء عن الرّوا ... يذودوننا عن إرث جدّ ووالد (7)
ويا ربّ ساع في اللّيالي لقاعد، ... على ما رأى، بل كلّ ساع لقاعد
أضاعوا نفوسا بالرّماح ضياعها ... يعزّ على الباغين منّا النّواشد
أألله! ما تنفكّ في صفحاتها ... خموش لكلب من أميّة عاقد
لئن رقد النّصّار عمّا أصابنا، ... فما الله عمّا نيل منّا براقد
لقد علّقوها بالنّبيّ خصومة ... إلى الله تغني عن يمين وشاهد
__________
(1) يطّبيها (بتشديد الطاء): يدعوها.
(2) اللوى: الرمال الملتوية المتقاود: المتطاول.
(3) الأظعان: الراحلون الواجد: المتألم من الحب.
(4) تأوبني: راجعني عادني: زارني.
(5) يريغ الماء: يطلبه متحايلا ذبابات الرقاق: السيوف القاطعة.
(6) علوا: رفعوا البناء.
(7) الرواء: الماء العذب يذودوننا: يمنعوننا، يدفعوننا.(1/341)
ويا ربّ أدنى من أميّة لحمة، ... رمونا على الشّنآن رمي الجلامد (1)
طبعنا لهم سيفا، فكنّا لحدّه ... ضرائب عن أيمانهم والسّواعد
ألا ليس فعل الأوّلين، وإن علا ... على قبح فعل الآخرين، بزائد
يريدون أن نرضى وقد منعوا الرّضى ... لسير بني أعمامنا غير قاصد (2)
كذبتك، إن نازعتني الحقّ ظالما، ... إذا قلت يوما إنّني غير واجد
تفوز المنون
(الوافر)
نظم هذه القصيدة راثيا أبا طاهر بن ناصر الدولة وكان صديقه.
تفوز بنا المنون وتستبدّ، ... ويأخذنا الزّمان، ولا يردّ
وأنظر ماضيا في عقب ماض، ... لقد أيقنت أنّ الأمر جدّ
رويدا بالفرار من المنايا، ... فليس يفوتها السّاري المجدّ
فأين ملوكنا الماضون قدما، ... أعدّوا للنّوائب، واستعدّوا
وأين معاقدو الدّنيا قديما، ... نبت بهم، فلا إلّ وعقد (3)
وكلّ فتى تحفّ بجانبيه ... خواطر بالقناقبّ وجرد
فما دفع المنايا عنه وفر، ... ولا هزم النّوائب عنه جند
ولا أسل لها قرع ووخز، ... ولا قضب لها قطّ وقدّ (4)
أعارهم الزّمان نعيم عيش، ... فيا سرعان ما نزعوا وردّوا
__________
(1) الشنآن: البغض الجلامد: الصخور، الحجارة.
(2) غير قاصد: غير مستقيم.
(3) الإل: العهد الحلف.
(4) الأسل: الرماح قضب: سيوف قط وقدّ: قطع.(1/342)
هم فرط لنا في كلّ يوم ... نمدّهم، وإن لم يستمدّوا (1)
فلا الغادي يروح فنرتجيه، ... ولا المتروّح العجلان يغدو
وللإنسان من هذي اللّيالي ... وهوب لا يدوم ومستردّ
تجدّ لنا ملابسها، فيبقى ... جديداها، ويبلى المستجدّ (2)
أإبراهيم! أمّا دمع عيني، ... عليك، فما يعدّ، ولا يحدّ
يغصّص بالأوائل منه طرف، ... ويدمى بالأواخر منه خدّ
بكيتك للوداد، وربّ باك ... عليك من الأقارب لا يودّ
وإنّ بكاء من تبكيه قربى ... لدون بكاء من يبكيه ودّ (3)
إذا غضنا الدّموع أبت علينا ... مناقب منك ليس لهنّ ندّ
فمنهنّ اشتطاطك في المساعي، ... وفضل العزم، والباع الأشدّ
فأين مسابق الآجال طعنا، ... يعود ورمحه ريّان ورد
وأين الآسر الفكّاك يسري ... إليه من العدى ذمّ وحمد
فاعناق أحاط بهنّ منّ ... وأعناق أحاط بهنّ قدّ
أيا سهما رمى غرضا، فأخطا، ... وذي الأقدار أسهمها أسدّ
ولو غير الرّدى جاثاك أقعى ... به من بأسك الخصم الألدّ (4)
قتيل فلّه ناب كهام ... وكان العضب ضوّأه الفرند (5)
وذلّ بذلّ قاتله، فأضحى ... لقاتله به عزّ ومجد
فيا أسدا يصول عليه ذئب، ... ويا مولى يطول عليه عبد
__________
(1) الفرط: المتقدم القوم الى الماء، وفي القول اشارة الى أن الأموات سبقونا ونحن اللاحقون.
(2) جديداها: الليل والنهار.
(3) أي لا يكون بكاء القريب على الفقيد في مستوى بكاء الصديق.
(4) جاثاك: حاول أن يجعلك تجثو أقعى: عجز، قعد عن المحاولة.
(5) كهام: كليل، لا يقطع جيدا العضب: السيف، أراد به المرثي ضوأه: أناره الفرند: جوهر السيف.(1/343)
وكيف رجوت أن يبقى سليما، ... وما شرب القرون له معدّ (1)
وهل بقيت قبائله، فيبقى، ... ربيعة أو نزار أو معدّ
من القوم الألى طلبوا ونالوا، ... وجدّ بهم إلى العلياء جدّ
إذا ندبوا إلى البأساء عاجوا ... وإن أدنوا إلى العوراء صدّوا
تصدّع مجد أوّلهم، فشدّوا ... جوانبه بأنفسهم وسدّوا
إذا عدّ الأماجد جاء منهم ... عديد كالرّمال، فلم يعدّوا
سقاه أحمّ نجديّ التّوالي، ... يعمّ بودقه غور ونجد (2)
إذا مخضت حوافله جنوب، ... مرى لقحاته برق ورعد (3)
تدافع منه ملآن الحوايا، ... سياق النّيب أصدرهنّ ورد (4)
ولا عرّى ثراه من الغوادي ... ومن نوّارها سبط وجعد (5)
إذا ما الرّكب مرّ عليه قالوا: ... أيا حالي الصّعيد سقاك عهد
لقد كرمت يمينك قبل حيّا ... وقد كرم الغمام عليك بعد
أين الجياد
(الطويل)
يرثي الشريف في هذه القصيدة أبا حسان المقلد بن المسيب، وقد قتله غلمانه غيلة في داره بالأنبار، وذلك في صفر سنة 391.
__________
(1) القرون، جمع قرن: الدفعة من المطر، وأراد هنا الماء مطلقا.
(2) الأحم: السحاب الأسود والأبيض الودق: المطر.
(3) مخضت: حركت حوافله: ضروعه مرى الضرع: مسحه ليدر اللقحات: النياق.
(4) الحوايا، جمع حوية: ما تحوي سياق النيب: النياق المسوقة.
(5) نوّارها: أزهارها السبط والجعد: الأملس والمجعد.(1/344)
أعامر! لا لليوم أنت، ولا الغد، ... تقلّدت ذلّ الدّهر بعد المقلّد
وأصبحت كالمخطوم من بعد عزّة ... متى قيد مشّاء على الضّيم ينقد
فإن سار للأعداء غيرك فاربعي ... وإن قام للعلياء غيرك فاقعد (1)
وقل للحمى لا حامي اليوم بعده ... ولا قائم من دون مجد وسؤدد
وللبيض لا كفّ لماض مهنّد، ... وللسّمر لا باع لعال مسدّد (2)
وقل للعدى أمنا على كلّ جانب ... من الأرض أو نوما على كلّ مرقد
فقد زال من كانت طلائع خوفه ... تعارضكم في كلّ مرعى ومورد
فأين الجياد الملجمات على الوحى ... سراعا إلى نقع الصّريخ المندّد (3)
وأين الطّوال الزّاعبيّات لو يشا ... لنال بها ما بين نسر وفرقد (4)
وأين الظّبى ما زال منها بكفّه ... رداء عظيم، أو عمامة سيّد
وأين المطايا تذرع البيد والدّجى ... إلى أقرب من نيل عزّ وأبعد
وأين الجفان الغرّ من قمع الذّرى ... هجان الأعالي بالسّديف المسرهر (5)
وأين القدور الرّاسيات كأنّها ... سماوات ربلات النّعام المطرّد (6)
وأين الوفود الماتحون ببابه ... بسجلين من بحري وعيد وموعد (7)
__________
(1) فاربعي: الأصل أن تكون اربع أي توقف، والياء وضعت لاشباع الكسرة.
(2) العالي: أعلى القناة، السنان.
(3) الوحى: العجلة والاسراع، وقد وردت في نسخة أخرى الوجى أي الحفا المندّد: الرافع صوته بالاستغاثة.
(4) الزاعبيات: صفة للرماح المنسوبة الى زاعب، وهو رجل اشتهر بتقويم الرماح النسر والفرقد: من النجوم.
(5) الجفان: الأغماد، والجفان هي الجباه أيضا القمع، جمع قمعة: رأس سنام الجمل الذرى: الأسنمة الهجان: البيض السديف: شحم السنام المسرهد: المقطع.
(6) القدور: كناية عن الكرم وكثرة الضيوف سماوات، جمع سماوة:
رأس ربلات: أفخاذ.
(7) الماتحون: طالبو الماء السجل: الدلو.(1/345)
مرمّون من قبل اللّقاء مهابة، ... إذا رمقوا باب الطّراف الممدّد (1)
يشيرون بالتّسليم من خلل القنا ... إلى واضح من عامر غير قعدد (2)
يحيّون مرهوبا كأنّ رواقه ... وليجة مفتول الذّراعين ملبد
إذا همّ أمضى الرّأي غير ملوّم، ... وإن قال أجرى القول غير مفنّد (3)
حسام نكا فيه كهام بغرّة ... وأولى له لو هزّه غير مغمد
لئن فلّل الذّلّان منه، فربّما ... تحيّف من ماضي الظّبى شقّ مبرد (4)
فلا نعم الباغون يوما بعيشة ... ولا حضروا إلّا بألأم مشهد
ولا صادفوا في الدّهر منجى لخائف ... ولا وجدوا في الأرض مأوى لمطرد
ولا شربوا إلّا دما بعده ولا ... تحابوا بغير الزّاعبيّ المقصّد (5)
ولا نظروا إلّا بعمياء بعده ... ولا ارتضعوا إلّا بخلف مجدّد (6)
أبعد الطّوال الشّمّ من آل عامر ... إلى البيض والأدراع والخيل والنّدي
وأهل القباب الحمر يرخى سدولها ... على سؤدد عود ومجد موطّد (7)
إذا فزعوا للأمر ألجوا ظهورهم ... إلى كلّ طود من نزار عطوّد (8)
لهم جامل داجي المراح كأنّما ... تراغين عن قطع من اللّيل أسود (9)
تروح لهم حمر الهوادي كأنّها ... قواني عروق العندم المتورّد (10)
__________
(1) مرمّون: ساكتون الطراف: الأسياد.
(2) غير قعدد: غير بعيد عن الآباء، اي انه صاحب نسب معروف.
(3) غير مفنّد: غير مكذّب.
(4) الذلّان: الذليل تحيّف: تنقص الشيء وأخذ من جوانبه.
(5) الزاعبي: الرمح المقصّد: النافذ.
(6) الخلف: حلمة ضرع الناقة مجدّد: مقطوع.
(7) سؤدد عود: مجد قديم موطد: ثابت.
(8) ألجوا: ألجأوا مسهّلة عطوّد: طويل.
(9) جامل: جمل، وقد أراد الماشية بعامة.
(10) الهوادي: النياق القواني، جمع القاني: الأحمر العندم: خشب يصبغ به.(1/346)
كأنّ الرّياض الغرّ حول بيوتهم ... ذئاب الغضا يمرحن في كلّ مرود (1)
إذا ما انتشوا هزّوا رؤوسا كريمة، ... لها طرب بالجود قبل التّغرّد
تراموا بها حمراء تحسب شربها ... ذوي قرّة حفّوا جوانب موقد (2)
لهم سامر تحت الظّلام وراكد ... على النّار يذكيها بضال وغرقد (3)
يقول الفتى منهم لراعي عشاره: ... ألا لا تقيّدها بغير المهنّد
مضى النّجباء الأطولون كأنّهم ... صدور القنا في الشّرعبيّ المعضّد (4)
رمت فيهم بعد التئام وألفة ... يد الأربى، صدع البلاط الممرّد (5)
تشظّوا تشظّي العود تجري فروعه ... على ثغرها خرقاء مجنونة اليد (6)
تكبّهم الأيّام عن جمحاتها ... كما كبّ أعجاز الهديّ المقلّد
خلت بهم الأجداث عنّا وأطبقت ... على المجد منهم كلّ بيداء قردد (7)
فمن يعدل الميلاء أو يرأب الثّأى ... ويأخذ من ريب الزّمان على يد (8)
تفانوا على كسب العلى، وتجرّعوا ... بأيديهم كأس الرّدى جرع الصّدي (9)
كما رضّ في مرّ السّيول عشيّة ... ذرى جلمد صعب الذّرى قرع جلمد
__________
(1) الغضا: الأماكن الغضّة المرود: مكان الرود وهو الذهاب والمجيء وتفقد ما في الأرض من مراع ومياه وطعام.
(2) الشّرب: الشاربون القرّة: البرد.
(3) الضال والغرقد: نوعان من الشجر.
(4) الشرعبي: نوع من البرود الموشّاة، والشرعبي أيضا هو الطويل الحسن الجسم المعضّد: الموشى في العضد.
(5) الأربى: الداهية صدع البلاط: أي صدعهم صدع البلاط الأملس الممرد: الأملس.
(6) تشظوا: تفرقوا، وتشظي العود هو تطايره الخرقاء: الحمقاء.
(7) القردد: ما ارتفع من الأرض.
(8) الميلاء: المائلة يرأب: يصلح الثأى: الفساد.
(9) الردى: الموت الصدي: العطشان.(1/347)
الا في سبيل المجد ثاوون لم تكن ... قبورهم غير الدّلاص المسرّد (1)
وكانوا أحاديث الرّفاق، فأصبحوا ... أغاني للغوريّ والمتنجّد (2)
لعا لكم من عاثرين تتابعوا ... على زلل الأقدام عثر المقيّد (3)
أفي كلّ يوم قطرة من دمائكم ... تمسّحها من ظفر شنعاء موئد (4)
ملوك وإخوان كأنّي بعدهم ... على قرب من خمس يوم عمرّد (5)
عراعر ينزو القلب عند ادّكارهم ... نزاء الدّبى بالأمعز المتوقّد (6)
سقاكم، ولولا عادة عربيّة، ... لقلّ لكم قطر الحبيّ المنضّد
من المزن رجراج العباب، كأنّه ... من البطء ترجاف الكسير المقوّد (7)
تخال على هام الرّبى من ربابه ... عناصي هامات الحجيج الملبّد (8)
ترادف يزجي كلكلا بعد كلكل، ... تطلّع ركب من أبانين منجد (9)
خفى برقه ثمّ استطار كأنّه ... يشقّق هدّاب الملاء المعمّد (10)
لجأنا من الدّنيا إلى مستقرّة ... تنوّلنا عذب الجنى وكأن قد (11)
__________
(1) الدلاص: الدرع المسرّد: المنسوج زردا.
(2) الغوري والمتنجد: الذي يكون في الغور، والذي يكون في المرتفعات.
(3) لعا: دعاء للعاثر، ولعا لك أي أنعشك الله وأقامك من عثرتك وعكسها لحا.
(4) موئد: داهية.
(5) القرب والخمس: من أظماء الابل، وهي أن ترعى ثلاثة أيام وترد في الرابع العمرّد: الطويل.
(6) عراعر (بالفتح)، جمع عراعر (بالضم): شريف الدّبى: صغار الجراد الأمعز: المكان الصلب، الارض الغليظة.
(7) الكسير: الذي كسرت رجله.
(8) الرباب: السحاب الأبيض العناصي: النبات المتفرق الحجيج، جمع الحاج: نبات لا شوك فيه.
(9) يزجي: يسوق الكلكل: الصدر أبانان: جبلان منجد: عال.
(10) الملاء، جمع ملاءة: لباس رقيق المعمّد: الموشّى.
(11) تنوّلنا: تعطينا قد: كفى.(1/348)
علقنا جماد النّبل ناقصة الجدا، ... تروح علينا بالغرور وتغتدي (1)
أمن بعدهم أرجو الخلود وهذه ... سبيلي ومن تلك الشّرائع موردي
فإن أنج من ذا اليوم قاطع ربقة، ... فقصري من ريب المنون على غد (2)
سواء مخلّى للمنايا أكيلة، ... ومن راح منّا في التّميم المعقّد (3)
فقل للّيالي بعدهم: هاك مقودي ... تقضّى إيابي، فاصدري بي أو ردي
ودونك من ظهري وقد غال أسرتي ... طريق الرّدى، ظهر الذّلول المعبّد (4)
بأيّ يد أرمي الزّمان وساعد، ... وكانوا يدي أعطيتها الخطب عن يدي
وما كان صبري عنهم من جلادة، ... أبى الوجد لي بل عادة من تجلّدي
هوى قمر
(الوافر)
في هذه القصيدة يرثي أبا شجاع بكر أبي الفوارس ويعزّي عنه الوزير أبا علي الحسن بن أحمد الذي جمعت بينه وبين الشريف الرضي صداقة.
ألا من يمطر السّنة الجمادا ... ومن للجمع يطلعه النّجادا (5)
ومن للخيل يقبلهنّ شعثا، ... ويركبهن شقرا، أو ورادا
غداة الرّوع ينعلها الهوادي ... من الأعداء واللّمم الجعادا (6)
__________
(1) جماد النبل: كناية عن مصائب الدهر وحوادثه الجدا: العطاء.
(2) الربقة: العقدة في الحبل. أي إن انج اليوم من الموت فلن أنجو غدا.
(3) التميم، جمع تميمة: عوذة تعلق في العنق دفعا للعين الشريرة.
(4) الذلول المعبد: المنقاد بسهولة ولين.
(5) السنة الجماد: التي لم يصبها مطر.
(6) الهوادي: الابل اللمم، جمع لمّة: الشعر المجاوز شحمة الأذن.(1/349)
مجلجلة كأنّ بها أواما ... إلى وقع الصّوارم أو جوادا (1)
يسامحها القياد إلى المعالي، ... وعند الضّيم يمطلها القيادا
ومن للحرب ينضح ذفرييها، ... ويعركها جلادا أو طرادا (2)
يبدّل من دم الأعداء فيها ... لصارمه الحمائل والعمادا
هوى قمر الأنام، وكان أوفى ... على قمر التّمام على وزادا
فقل للقلب: لبّك والتّعزّي، ... وقل للعين: جفنك والرّقادا
مصائب لا أنادي الصّبر فيها، ... ولا أدعى إليه، ولا أنادى
أللعينين قد قذيا بكاء، ... أم الجنبين قد قلقا وسادا
كأنّ الوسم شعشع فيه قين ... بجذوته علطت به الفؤادا (3)
من القوم الأولى ملأوا اللّيالي ... إلى أصبارها كرما وآدا (4)
ورسّوا في فواغر كلّ خطب ... صدور البيض والزّرق الحدادا (5)
إذا صاب الحيا ببلاد ضيم ... جلوا عنهنّ، وانتجعوا بلادا
هم الجبل المطلّ على الأعادي ... إذا رجم الزّمان به، ورادا
لهم حسب، إذا نقّيت عنه، ... تضرّم جمرة، وورى زنادا
لهم أنف يذبّ الضّيم عنهم، ... ورأي يفرج الكرب الشّدادا
وأيمان، إذا مطرت عطاء، ... حسبت النّاس كلّهم جوادا
ترى رأي الفتى فيهم مطاعا، ... وقول المرء منهم مستعادا
وقد بلغوا من العلياء أقصى ... ذوائبها، وما بلغوا المرادا
أشتّ جميعهم صرف اللّيالي، ... ولا يبقي الجميع، ولا الفرادا
مصابك لم يدع قلبا ضنينا ... بغلّته، ولا عينا جمادا
__________
(1) الأوام والجواد: العطش.
(2) الذفريان، مثنى الذفرى: العظم الذي خلف الأذن.
(3) القين: الحداد علطت: وسمت.
(4) أصبارها: رأسها الآد: القوة.
(5) رسّوا: دسّوا فواغر: أفواه البيض والزرق: السيوف والرماح.(1/350)
كأنّ النّاس بعدك في ظلام، ... أو الأيّام ألبست الحدادا
وكنت أفدت خلّته، ولكن ... أفادني الزّمان، وما أفادا
فإن لم أبكه قربى تلاقت ... مغارسها بكيت له ودادا
يعزّ عليّ أن أطويه صفحا، ... وأذهب عنه نأيا أو بعادا
تعزّ، أبا عليّ، إنّ خطبا ... على العلّات يبلغ ما أرادا
هو القدر الذي خبطت يداه ... ثمودا، من معاقلها، وعادا (1)
وضعضع كلّ من حمل العوالي ... وأرجل كلّ من ركب الجيادا
يعرّي ظهر أكثرنا عديدا، ... ويهجم بيت أطولنا عمادا
كذاك الدّهر إن أبقى قليلا ... أحال على بقيّته، وعادا
وبينا المرء يجنيه ثمارا، ... إلى أن عاد يخرطه قتادا
وأقرب ما ترى فيه انتقاصا، ... إذا ما قيل قد كمل ازديادا
ونعلم أن سيوجرنا مرارا، ... بآية أن يلمّظنا شهادا (2)
وما تجدي الدّموع على فقيد ... ولو غسلت من العين السّوادا
وكنت مقلّدا منها حساما ... على الأعداء داهية نآدى (3)
فنافسك الرّدى في مضربيه، ... فبزّ النّصل، واختلع النّجادا
فناد اليوم غير أبي شجاع، ... وصمّ أبا شجاع أن ينادى
حدا غير الغمام إليه كوما ... تعزّ على المقاود أن تقادا (4)
نزائع من رياح الغور شبّت، ... على القلل، البوارق والرّعادا
مخضن بهنّ مخض الوطب حتّى ... إذا جلجلن أطلقن المزادا (5)
__________
(1) ثمود وعاد: من القبائل البائدة.
(2) سيوجرنا، من الوجور: الدواء يوجر في الفم، يدخل فيه تلمظ:
تذوّق باللسان والشّفة.
(3) النآدى: الداهية، وقوله داهية نآدى من باب إضافة الشيء إلى نفسه للتعظيم.
(4) حدا الكوم: حث النياق على السير تعز: تصعب.
(5) الوطب: الضرع العظيم.(1/351)
تلامحت البروق بجانبيها، ... كأنّ لها انحلالا وانعقادا
كأنّ بهنّ راعي مرزمات ... أبسّ فحرّك الخور الجلادا (1)
فيا للنّاس أوقره ترابا، ... وأستسقي لأعظمه العهادا
وما السّقيا لتبلغه، ولكن ... وجدت لها على قلبي برادا
ذهب العيش الرقيق
(الطويل)
وضع الشريف الرضي هذه القصيدة في رثاء عمه أبي عبد الله أحمد بن موسى ويعزّي أباه.
سلا ظاهر الأنفاس عن باطن الوجد، ... فإنّ الذي أخفي نظير الذي أبدي
زفيرا، تهاداه الجوانح كلّما ... تمطّى بقلبي ضاق عن مرّه جلدي
وكيف يردّ الدّمع، يا عين، بعد ما ... تعسّف أجفاني، وجار على خدّي
وإنّي إن أنضح جواي بعبرة ... يكن كخبيّ النّار يقدح بالزّند
فهذي جفوني من دموعي في حيا ... وهذا جناني من غليلي في وقد
حلفت بما وارى السّتار، وما هوت ... إليه رقاب العيس ترقل أو تخدي (2)
لقد ذهب العيش الرّقيق بذاهب ... هو الغارب المجزول من ذروة المجد
وإنّي، إذا قالوا مضى لسبيله، ... وهيل عليه التّرب من جانب اللّحد
كساقطة إحدى يديه إزاءه، ... وقد جبّها صرف الزّمان من الزّند (3)
__________
(1) أبسّ الراعي: دعا الماشية الى الماء الخور: النياق الجلاد: الكبار من الإبل.
(2) وارى الستار: كناية عن الكعبة المكرمة العيس: النياق ترقل أو تخدي: تسرع أو تتمهل.
(3) جبّها: قطعها.(1/352)
وقد رمت الأيّام من حيث لا أرى ... صميمي بالدّاء العنيف على عمد
فلا تعجبا أنّي نحلت من الجوى، ... فأيسر ما لاقيت ما حزّ في الجلد
ولو أنّ رزءا غاض ماء لكانه، ... وجفّت له خضر الغصون من الرّند (1)
سقى قبره مستمطر ذو غفارة، ... يجرّ عليه عرف ملآن مربدّ (2)
إذا قلت: قد خفّت متاليه أرزمت ... وأجلب بالبرق المشقّق والرّعد (3)
حسام جلا عنه الزّمان، فصمّمت ... مضاربه حينا، وعاد إلى الغمد
سنان تحدّته الدّروع بزغفها، ... فبدّد أعيان المضاعف والسّرد (4)
جواد جرى حتّى استبدّ بغاية ... تقطّع أنفاس الجياد من الجهد
سحاب علا حتّى تصوّب مزنه، ... وأقلع لمّا عمّ بالعيشة الرّغد
ربيع تجلّى، وانجلى، ووراءه ... ثناء، كما يثنى على زمن الورد
نعضّ على الموت الأنامل حسرة، ... وإن كان لا يغني غناء ولا يجدي
وهل ينفع المكلوم عضّ بنانه ... ولو مات من غيظ على الأسد الورد
عوار من الدّنيا يهوّن فقدها ... تيقّننا أنّ العواريّ للرّدّ
ينال الرّدى من يعرض الهضب دونه ... ولو كان في غور من الأرض أو نجد
ويسلم من تسقى الأسنّة حوله ... بأيدي الكماة المعلمين على الجرد (5)
فما ذاك إن لم يلق حتفا بخالد، ... ولا ذا من الحتف المطلّ على بعد
لئن ثلمت منّي اللّيالي عشائري ... فما ثلموا إلّا من الحسب العدّ (6)
__________
(1) الرند: نبات طيب الرائحة يشبه الآس.
(2) غفارة: سحابة العرف: الشعر النابت في رقبة الفرس، استعارة للسحاب مربد: قاتم.
(3) متاليه: أمطاره أرزم الرعد: اشتدّ صوته.
(4) بزغفها: بلينها السرد: الدرع.
(5) الكماة المعلمون: الابطال عليهم علامات القتال الجرد: الجياد القصيرة الشعر.
(6) الحسب العد: النسب القديم.(1/353)
شجوني، ولم يبقوا لعيني بلّة ... من الدّمع إلّا استفرغوها من الوجد
عزاءك، فالأيّام أسد مذلّة، ... تعطّ الفتى عطّ المقاريض للبرد (1)
إذا أوردته نهلة من نعيمها، ... أعادته حرّان الضّلوع من الورد
أغلّ إلى القلب المنيع من القنا، ... وأجرى إلى الآجال من قضب الهند
أراد بك الحسّاد أمرا، فردّه ... عليهم سفاه الرّأي والرّأي قد يردي
فلا يغمدنّ السّطو والحلم ضائر، ... وقد نزع الأعداء آصرة الودّ
هم قعقعوا بغيا عليك وأجلبوا، ... فآبوا، وما قاموا بحلّ، ولا عقد
وقد ركبوه مرّة بعد مرّة، ... فيا لذلول البغي من مركب مردي
فحتّى متى تغضي مرارا على القذى ... وتلحظك الأضغان من مقل رمد
فإن لا تصل تصبح عداك كثيرة ... عليك، وداء الطّعن إن هبته يعدي
وهل كان ذاك البعد إلّا تنزّها ... على المضمر البغضاء والحاسد الوغد
وجئت مجيء البدر أخلق ضوءه، ... فعاد جديد النّور بالطّالع السّعد
وكم من عدوّ قد سرى فيك كيده ... سرى السّمّ من رقطاء ذات قرا جعد (2)
فأغفلته ثمّ انتضيت عزيمة، ... نزعت بها من قلبه حمة الحقد
وذي خطل أوجرته منك غصّة، ... فأطرق منها لا يعيد ولا يبدي
أتاني نعي
(الطويل)
لدى عودته من مكة في ربيع الآخر سنة 394 نعي إليه أحد فقهاء الشيعة. فرثاه على البديهة بهذه القصيدة، وهو بالعذيب.
__________
(1) عط: شق المقاريض، جمع مقراض: مقص.
(2) القرا: السم المستقر.(1/354)
أتاني، ورحلي بالعذيب، عشيّة، ... وأيدي المطايا قد قطعن بنا نجدا
نعيّ أطار القلب عن مستقرّه، ... وكنت على قصد فأغلطني القصدا
فليت نعى الرّكب العراقيّ غيره، ... فما كلّ مفقود وجعت له فقدا
ويا ناعييه اليوم غضّا على قذى، ... فقد زدتما قلبي على وجده وجدا (1)
فبئس، على بعد اللّقاء، تحيّة ... أحيّا بها تذكي على كبدي وقدا (2)
برغمي أن أوردت قبلي بمورد، ... تبرّضت منه لا زلالا ولا بردا (3)
جزتك الجوازي عن عماد أقمتها، ... وعن عقد للدّين أحكمتها شدّا
وذي جدل ألجمت فاه بغصّة، ... تلجلج فيه، لا مساغا، ولا ردّا
قعست له حتّى التقيت سهامه، ... وأثبتّ في تاموره الحجج اللّدّا (4)
ومزلقة للقول ما شئت دحضها، ... وقد زلّ عنها من أعاد ومن أبدى
وإنّي لأستسقي لك الله عفوه، ... ويا لك غيثا ما أعمّ، وما أندى
وأخلق بمن كان النّبيّ ورهطه ... محامين عنه أن يفوز ولا يردى
بكيتك حتّى استنفد الدّمع ناظري، ... ولو مدّني دمعي عليك لما أجدى
جبل هوى
(الكامل)
توفي أبو إسحاق إبراهيم بن هلال الصابي الكاتب في شوال سنة 384، وكان بينه وبين الشريف مودة ومراسلة، فرثاه بهذه القصيدة.
أعلمت من حملوا على الأعواد ... أرأيت كيف خبا ضياء النّادي
__________
(1) الوجد: الحزن.
(2) اي أن التحية الأولى لدى عودته أضرمت النار في قلبه.
(3) تبرّضت منه: أخذت قليلا من مائه.
(4) قعست له: قعدت له التامور: القلب أو النفس.(1/355)
جبل هوى لو خرّ في البحر اغتدى ... من وقعه متتابع الإزباد
ما كنت أعلم قبل حطّك في الثّرى ... أنّ الثرّى يعلو على الأطواد
بعدا ليومك في الزّمان، فإنّه ... أقذى العيون وفتّ في الأعضاد
لا ينفد الدّمع الذي يبكى به ... إنّ القلوب له من الأمداد
كيف انمحى ذاك الجناب وعطّلت ... تلك الفجاج وضلّ ذاك الهادي
طاحت بتلك المكرمات طوائح، ... وعدت على ذاك الجواد عوادي
قالوا: أطاع وقيد في شطن الرّدى ... أيدي المنون ملكت أيّ قياد (1)
من مصعب لو لم يقده إلهه ... بقضائه ما كان بالمنقاد (2)
هذا أبو إسحق يغلق رهنه ... هل ذا يد، أو مانع، أو فاد (3)
لو كنت تفدى لافتدتك فوارس ... مطروا بعارض كلّ يوم طراد
وإذا تألّق بارق لوقيعة، ... والخيل تفحص بالرّجال بداد (4)
سلّوا الدّروع من العباب، وأقبلوا ... يتحدّبون على القنا الميّاد
لكن رماك مجبّن الشّجعان عن ... إقدامهم، ومضعضع الأنجاد
كاللّيث يوهن بالتّراب، ويمتلي ... نوما على الأضغان والأحقاد
والدّهر تدخل نافذات سهامه ... مأوى الصّلال ومربض الآساد
ألقى الجران على عنطنط حمير، ... فمضى، ومدّ يدا لأحمر عاد (5)
أعزز عليّ بأن أراك، وقد خلت ... من جانبيك مقاود العوّاد
أعزز عليّ بأن يفارق ناظري ... لمعان ذاك الكوكب الوقّاد
أعزز عليّ بأن نزلت بمنزل ... متشابه الأمجاد والأوغاد
في عصبة جنبوا إلى آجالهم، ... والدّهر يعجلهم عن الإرواد (6)
__________
(1) الشطن: الحبل.
(2) المصعب: القوي، السيد القوي.
(3) غلق الرهن: استحقه المرتهن.
(4) تفحص: تبحث بأرجلها بداد: متفرقة.
(5) الجران: عنق البعير العنطنط: الطويل.
(6) جنبوا: نقلوا الإرواد: الرفق، التمهل.(1/356)
ضربوا بمدرجة الفناء قبابهم ... من غير أطناب، ولا أوتاد
ركب أناخوا لا يرجّى منهم ... قصد لإتهام، ولا إنجاد
كرهوا النّزول، فأنزلتهم وقعة ... للدّهر باركة بكلّ مقاد
فتهافتوا عن رحل كلّ مذلّل، ... وتطاوحوا عن سرج كلّ جواد
بادون في صور الجميع، وإنّهم ... متفرّدون تفرّد الآحاد
ممّا يطيل الهمّ أنّ أمامنا ... طول الطّريق وقلّة الأزواد
عمري! لقد أغمدت منك مهنّدا ... في التّرب كان ممزّق الأغماد
قد كنت أهوى أن أشاطرك الرّدى، ... لكن أراد الله غير مرادي
ولقد كبا طرف الرّقاد بناظري، ... أسفا عليك، فلا لعا لرقاد (1)
ثكلتك أرض لم تلد لك ثانيا، ... أنّى، ومثلك معوذ الميلاد (2)
من للبلاغة والفصاحة إن همى ... ذاك الغمام، وعبّ ذاك الوادي
من للملوك يجزّ في أعدائها ... بظبى من القول البليغ حداد
من للممالك لا يزال يلمّها ... بسداد أمر ضائع وسداد
من للجحافل يستزلّ رماحها، ... ويردّ رعلتها بغير جلاد (3)
من للموارق يستردّ قلوبها ... بزلازل الإبراق والإرعاد (4)
وصحايف فيها الأراقم كمّن، ... مرهوبة الإصدار والإيراد
تدمى طوائعها، إذا استعرضتها، ... من شدّة التّحذير والإيعاد
حمر على نظر العدوّ، كأنّما ... بدم يخطّ بهنّ لا بمداد
يقدمن إقدام الجيوش، وباطل ... أن ينهزمن هزائم الأجناد
فقر بها تمسي الملوك فقيرة، ... أبدا إلى مبدى لها ومعاد
وتكون صوتا للحرون، إذا ونى، ... وعنان عنق الجامح المتمادي
__________
(1) لا لعا: لعا دعاء للعاثر، ولا لعا: لا أعان الله ولا ساعد.
(2) معوذ الميلاد، من أعوذه: دعا له بالحفظ.
(3) رعلتها: كثرتها الجلاد: القتال.
(4) الموارق: الخوارج.(1/357)
ترقي، وتلذع في القلوب، وإن يشا ... حطّ النّجوم بها من الأبعاد
إنّ الدّموع عليك غير بخيلة، ... والقلب بالسّلوان غير جواد
سودّت ما بين الفضاء وناظري، ... وغسلت من عينيّ كلّ سواد
ريّ الخدود من المدامع شاهد ... أنّ القلوب من الغليل صواد
ما كنت أخشى أن تضنّ بلفظة، ... لتقوم بعدك لي مقام الزّاد
ماذا الذي منع الفنيق هديره ... من بعد صولته على الأذواد (1)
ماذا الذي حبس الجواد عن المدى ... من بعد سبقته إلى الآماد
ماذا الذي فجع الهمام بوثبة، ... وعدا على دمه، وكان العادي
قل للنّوائب: عدّدي أيّامه ... يغنى عن التّعديد بالتّعداد
حمّال ألوية العلاء بنجدة، ... كالسّيف يغنى عن مناط نجاد
قلصت أظلّة كلّ فضل بعده، ... وأمرّ مشربها على الورّاد
لقضى لسانك، مذ ذوت ثمراته، ... أن لا دوام لنضرة الأعواد
وقضى جنانك، مذ قضت وقداته، ... أن لا بقاء لقدح كلّ زناد
بقيت أعيجاز يضلّ تبيعها، ... ومضت هواد للرّجال هواد
يا ليت أنّي ما اقتنيتك صاحبا، ... كم قنية جلبت أسى لفؤادي
إن لم تسفّ إلى التّناسل نفسه، ... كفي الأسى بتفاقد الأوداد (2)
برد القلوب لمن تحبّ بقاءه ... ممّا يجرّ حرارة الأكباد
ليس الفجائع بالذّخائر مثلها ... بأماجد الأعيان والأفراد
ويقول من لم يدر كنهك: إنّهم ... نقصوا به عددا من الأعداد
هيهات! أدرج بين برديك الرّدى ... رجل الرّجال وأوحد الآحاد
لا تطلبي، يا نفس، خلّا بعده ... فلمثله أعيا على المرتاد
فقدت ملائمة الشّكوك بفقده ... وبقيت بين تباين الأضداد
__________
(1) الفنيق: الفحل المكرم الأذواد، جمع ذود: قطعة الابل.
(2) الأوداد: المحبون.(1/358)
ما مطعم الدّنيا بحلو بعده ... أبدا، ولا ماء الحيا ببراد
الفضل ناسب بيننا، إن لم يكن ... شرفي مناسبه ولا ميلادي
إن لم تكن من أسرتي وعشيرتي، ... فلأنت أعلقهم يدا بودادي
لو لم يكن عالي الأصول فقد وفى ... شرق الجدود بسؤدد الأجداد
لا درّ درّي إن مطلتك ذمّة ... في باطن متغيّب، أو باد
إنّ الوفاء، كما اقترحت، فلو يكن ... حيّا، إذا ما كنت بالمزداد
ليس التّنافث بيننا بمعاود ... أبدا، وليس زماننا بمعاد (1)
ضاقت عليّ الأرض بعدك كلّها، ... وتركت أضيقها عليّ بلادي
لك في الحشى قبر، وإن لم تأوه ... ومن الدّموع روائح وغوادي
سلّوا من الأبراد جسمك وانثنى ... جسمي يسلّ عليك في الأبراد
كم من طويل العمر بعد وفاته ... بالذّكر يصحب حاضرا، أو بادي
ما مات من جعل الزّمان لسانه ... يتلو مناقب عوّدا وبوادي
فاذهب كما ذهب الرّبيع وإثره ... باق بكلّ خمايل ونجاد
لا تبعدنّ وأين قربك بعدها ... إنّ المنايا غاية الأبعاد
صفح الثّرى عن حرّ وجهك أنّه ... مغرى بطيّ محاسن الأمجاد
وتماسكت تلك البنان، فطالما ... عبث البلى بأنامل الأجواد
وسقاك فضلك إنّه أروى حيا ... من رائح متعرّس، أو غاد
جدث على أن لا نبات بأرضه، ... وقفت عليه مطالب الرّوّاد
ترك الدنيا
(الرمل)
ترك الدّنيا لطالبها، ... ورضي بالدّون مقتصدا
نافرا منها، فليس يرى ... بالأماني آنسا أبدا
__________
(1) التنافث: التخاطب.(1/359)
بعد أن نال العلاء، وما ... زال ينمي جدّه صعدا (1)
نفض الأطماع عن يده ... واستخار الواحد الأحدا (2)
ورأى أن لا نجاة له، ... فمضى يبغي النّجاة غدا
دع العدى
(مجزوء الكامل)
يا غائبا نقض الودادا، ... أشمتّ بالقرب البعادا
وتركتني، والشّوق يأ ... بى أن يروّح لي فؤادا
تأبى سوابق عبرتي ... أن تخدع المقل الرّقادا
لو أنّ طرفي سار نح ... وك لاتّخدت النّوم زادا
فارجع إلى رسم الصّفا ... ء، فإنّه إن عدت عادا
ودع العدى، فوحرمة ال ... علياء، لا بلغوا المرادا
بسطوا لنا أيدي النّوا ... ل، وما نرى منهم جوادا
قلبي أسير في حبا ... لك لا أؤمّل أن يقادا
أعجلت قلبي أن يمسّ ال ... هجر، فاستلب الودادا
يا بائعي بالنّزر مخ ... تارا ليبلغ ما أرادا
إن جدت بي فليندمن ... من كان بي يوما جوادا
من ضاع مثلي من يدي ... هـ، فليت شعري ما استفادا
لا يلبس الودّ الطّري ... ف مجامل خلع التّلادا (3)
__________
(1) جدّه: حظه.
(2) استخار: استعطف.
(3) الود الطريف: الحب الجديد خلع التلاد: ترك القديم.(1/360)
طيف حلم
(مجزوء الرمل)
مثل ودّي لا يغيّره ... لك هجران ولا بعد
وجفوني لا يزال بها ... طيف حلم منك يطّرد
وضميري أنت تعلمه، ... لك لا يلوي به أحد (1)
يا مقيد الشّوق من كبدي! ... آه لا صبر، ولا جلد (2)
جرحتني منك جارحة ... كلّ أعضائي لها عدد (3)
قلبي كما عهدوا
(مجزوء الرمل)
أترى الأحباب مذ ظعنوا ... وجدوا للبين ما أجد (4)
لا يبت ذاك الحبيب كما ... بات هذا القلب والكبد
كان زورا بعد بينهم، ... وغرورا ذلك الجلد
ومتى تدن الدّيار بهم، ... يجدوا قلبي كما عهدوا
__________
(1) يلوي به: يجحده.
(2) المقيد، من أقاد القاتل بالقتيل: قتله به قودا أي بدلا منه.
(3) عدد: أي أن اعضاءه محصاة ومعدّة لها.
(4) وجدوا: حزنوا.(1/361)
خذي نفسي
(الطويل)
خذي نفسي يا ريح من جانب الحمى ... فلاقي بها ليلا نسيم ربى نجد
فإنّ بذاك الحيّ إلفا عهدته، ... وبالرّغم منّي أن يطول به عهدي
ولولا تداوي القلب من ألم الجوى ... بذكر تلاقينا قضيت من الوجد
ويا صاحبيّ اليوم عوجا لتسألا ... ركيبا من الغورين أنضاؤهم تخدي (1)
عن الحيّ بالجرعاء جرعاء مالك، ... هل ارتبعوا واخضرّ واديهم بعدي (2)
كأنّ بعيني بعدهم غائر القذى ... إذا أنا لم أنظر إلى العلم الفرد
شممت بنجد شيحة حاجريّة، ... فأمطرتها دمعي، وأفرشتها خدّي (3)
ذكرت بها ريّا الحبيب على النّوى، ... وهيهات ذا يا بعد بينهما عندي
وإنّي لمجلوب لي الشّوق كلّما ... تنفّس شاك، أو تألّم ذو وجد
تعرّض رسل الشّوق والرّكب هاجد، ... فتوقظني من بين نوّامهم وحدي (4)
فقلت لأصحابي: ألا تتزافروا؟ ... رويدكم! إنّ الهوى داؤه يعدي (5)
وما شرب العشّاق إلّا بقيّتي، ... ولا وردوا في الحبّ إلّا على وردي
__________
(1) أنضاء، جمع نضو: الهزيل من النوق تخدي: تسرع.
(2) الجرعاء: رملة مستوية لا ينبت فيها شيء، وهي هنا اسم موضع.
(3) شيحة: نبتة طيبة الرائحة.
(4) هاجد: نائم.
(5) تتزافروا: تتنهّدوا.(1/362)
بعد الحبيب
(الطويل)
أقول وقد جاز الرّفاق بذي النّقا، ... ودون المطايا مربخ وزرود (1)
أتطلب يا قلبي العراق من الحمى، ... ليهنك من مرمى عليك بعيد
وإنّ حديث النّفس بالشّيء دونه ... رمال النّقا من عالج، لشديد (2)
ترى اليوم في بغداد أندية الهوى ... لها مبدئ من بعدنا ومعيد
فمن واصف شوقا ومن مشتك حشا، ... رمته المرامي أعين وخدود
تلفّت حتّى لم يبن من بلادكم ... دخان ولا من نارهنّ وقود
وإنّ التفات القلب من بعد طرفه ... طوال اللّيالي نحوكم ليزيد
ولمّا تدانى البين قال لي الهوى: ... رويدا! وقال القلب: أين تريد
أتطمع أن تسلو على البعد والنّوى ... وأنت على قرب المزار عميد (3)
ولو قال لي الغادون: ما أنت مشته ... غداة جزعنا الرّمل، قلت: أعود
أأصبر، والوعساء بيني وبينكم، ... وأعلام خبت؟ إنّني لجليد (4)
يا طيب نجد
(المنسرح)
يا طيب نجد وحسن ساكنه ... لو أنّهم أنجزوا الذي وعدوا
قالوا، وقد قرّبت ركائبنا، ... والقلب يظما بهم، ولا يرد:
أتارك أرضنا، فقلت لهم: ... أنجد قلبي وأعرق الجسد
__________
(1) ذي النقا: اسم مكان، والنقا هو الرمل الملتوي المربخ: رملة في البادية زرود: اسم موضع.
(2) عالج: اسم موضع.
(3) تسلو: تنسى عميد: معذّب.
(4) الوعساء: الصحراء الخبت: الارض الواسعة.(1/363)
صدود
(الرجز)
صدّت، وما كان لها الصّدود، ... وازورّ عنّي طرفها والجيد (1)
يقول لمّا أخلق الجديد، ... إذا البجال ذلك الوليد (2)
يا أين ذاك الخضل الأملود، ... ريّان من ماء الصّبا يميد (3)
تصحبه اللّحظ العذارى الغيد، ... غدا الغزال اليوم، وهو سيد
قلت: نعم! ذاك الذي أريد، ... مضى حبيب قلّما يعود
لشدّ ما أوجعني الفقيد، ... أيّامنا بعد البياض سود
يا أميم
(الكامل)
أأميم! إنّ أخاك غضّ جماحه ... بيض طردن عن الذّوائب سودا
عقب الجديد إذا مررن على الفتى ... مرّ الفوادح لم يدعن جديدا (4)
قد كان قبلك للحسان طريدة، ... فاليوم راح عن الحسان طريدا
حوّلن عنه نواظرا مزورّة، ... نظر القلى، ولوين عنه خدودا (5)
نشد التّصابي، بعد ما ضاع الصّبا، ... غرضا، لعمرك يا أميم، بعيدا
__________
(1) ازورّ: مال.
(2) اخلق: بلي البجال: الشيخ الكبير المبجل.
(3) الخضل: الناعم الأملود: الليّن ريّان: منتعش، نشيط.
(4) العقب: الآثار، جمع عقبة الفوادح: الخطوب، جمع فادحة.
(5) مزورة: مائلة بغضب القلى: البغض.(1/364)
النقا موعد
(المتقارب)
تحمّل جيراننا عن منى، ... وقالوا: النّقا بيننا موعد (1)
وهل ناقع قول ذي غلّة، ... وقد بعد الرّكب: لا يبعدوا (2)
تنادوا بأنّ التّنائي غدا ... لك السّوء من طالع يا غد
فلله ما جمع المأزما ... ن وجمع لقلبي والمسجد
يضاع فينشد قعب الغبوق، ... وقلبي يضاع، ولا ينشد (3)
وغيداء من ماطلات الدّيون، ... لها بالحمى زمن أغيد
تريع كما التفتت ظبية ... بذي البان عنّ لها المورد (4)
نظرت وهيهات من ناظريك ... ظباء تهامة يا منجد (5)
ويا ربّما، والهوى ضلّة، ... ترى العين ما لا تنال اليد
سقى الله
(الطويل)
سقى الله يوما ساعدتنا كؤوسه، ... على حين ما جاد الزّمان بمسعد
جلونا عليه الخمر حتّى تكشّفت ... فواقعها عن لونها المتورّد
__________
(1) تحمّل: رحل منى: اسم موضع من مناسك الحج.
(2) ناقع: مسكّن، فيه الارتواء ذو الغلة: العطشان.
(3) القعب: القدح الكبير الغبوق: ذو الرائحة الطيبة.
(4) تريع: تخاف.
(5) ظباء تهامة يا منجد: أي أنت تبحث عن الظباء في نجد وهي في تهامة.(1/365)
نفضّ لنا عنها حبابا كأنّه ... قذى يتمشّى بين أجفان أرمد (1)
وندمان صدق تسلب الرّاح عقله، ... وتسلبها خدّاه حسن التّورّد
فلا زالت الأيّام تجري صروفها ... علينا بمغبوط من العيش سرمد
سألقاك
(المتقارب)
حططت المكارم عن عاتقي، ... وجرّدني الذّلّ عن محتدي
وإلّا، فلا أمّني النّازلون، ... ولا جاءني الطّارق المجتدي (2)
ولا قلت، إنّي عند الفخا ... ر، إلّا لغير أبي أحمد (3)
متى حلت عن ودّك المصطفى ... وأخلف ما رمته مولدي
سألقاك بالعهد عند المشيب ... وها أنا في حلية الأمرد (4)
وإنّي، إذا لم أجد ناصرا، ... وجدتك أنصر لي من يدي
خذ الوقت، واعلم بأنّ اللّبيب ... يأخذ من يومه للغد
فما ينفع المرء، بعد المنون، ... قول النّوادب: لا تبعد
على أنّني تحفة للصّديق ... يروح بنجواي، أو يغتدي
وإنّي ليأنس بي الزّائرون ... أنيس النّواظر بالأثمد (5)
تغمّض لي أعين الحاسدين، ... كالشّمس في ناظر الأرمد
فلا دخل البعد ما بيننا، ... ولا فكّ منّا يدا عن يد
وطوّل أيّامنا بالمقام ... في ظلّ عيش رقيق ندي
__________
(1) القذى: ما يقع في العين من تبنة او نحوها الأرمد: المصاب بالرمد.
(2) المجتدي: طالب الحاجة.
(3) أبي أحمد: اسم صديق له يوجّه اليه الأبيات.
(4) الأمرد: الذي لم ينبت شعر لحيته.
(5) الاثمد: حجر يكتحل به.(1/366)
هب للديار
(الكامل)
هب للدّيار بقيّة الجلد، ... ودع الدّموع وباعث الكمد
واذهب بنفسك أن يقال سلا ... وصفا لداعي العذل والفند
أتصدّ عن طلل رعيت به ... ما شئت من هيف ومن غيد
طوت اللّيالي من معارفه ... ما كان من علم ومن نضد
أمسى الهوى فيه بلا أثر، ... وجرى البلى فيه بلا أمد
ولقد عهدت رباه جامعة ... بين الظّباء الغيد والأسد
أيّام من فتك الغرام به ... يمشي بلا عقل ولا قود (1)
إنّ الأولى بعثوا ببينهم ... ما زوّدوا في القرب للبعد
ما ضرّهم، والبين يحفزهم، ... لو علّلونا بانتظار غد
وجدوا وما جادوا، ومحتقب ... للّوم من أثري، ولم يجد (2)
ليت الّذي علق الرّجاء به، ... إذ لم يجد للصّبّ لم يجد
ولقد رأيتهم، وحيّهم ... متقعقع الأطناب والعمد (3)
فكأنّما أقنى براثنه ... ينشبن بين القلب والكبد (4)
وغريرة خلف السّجوف لها ... نسب إلى أومانة العقد (5)
خرجت خروج الرّيم عاطلة، ... ولجيدها حلي من الجيد (6)
تجري الأراك على مفلّجة ... يجرين من شهد على برد
__________
(1) قود: قيادة.
(2) وجدوا: غضبوا، حزنوا المحتقب: الجامع.
(3) متقعقع: مضطرب.
(4) أقنى: هيّأ.
(5) الغريرة: الشابة السجوف، جمع سجف: ستر العقد: اسم قبيلة.
(6) عاطلة: من دون حلي الجيد: الحسن.(1/367)
عنّي إليك، فلست من أربي، ... ما أنت من غيّي ومن رشدي
قضت اللّيالي منك مأربتي، ... ونفضت من علق الغرام يدي
وحدا النّهى والشّيب راحلتي، ... على استقاماتي على الجدد (1)
فاليوم أتّبع الزّمام، وهل ... يغني إباي اليوم أو صيدي
لا تقر، يا ضيف الهموم، قرى، ... إلّا قرى العيرانة الأجد (2)
وانهض، فإن لم تحظ في بلد ... بالرّزق، فاقطعه إلى بلد
وابغ العلى أبدا، فكم طلب ... قد بات من نيل على صدد (3)
إمّا يقال: سعى، فأحرزها، ... أو أن يقال: مضى، ولم يعد
قولا لهذا الدّهر معتبة: ... أسرفت بي، يا دهر، فاقتصد
كم لوعة تهدى إلى كبدي، ... وعظيمة تلقى على كتدي (4)
وعجائب ما كنّ في فكري، ... وغرائب ما درن في خلدي
أيصاح بي عن كلّ صافية ... طردا إلى الأقذاء والثّمد (5)
وأسام في أكلاء موبئة ... محتشّها دون السّوام ردي (6)
هل نافعي، والجدّ في صبب، ... مرّي مع الآمال في صعد
أمسى عليّ مع الزّمان أخ ... قد كنت آمل يومه لغد
من كان أحنى، عند نائبة، ... من والدي وأبرّ من ولدي
لم يثمر الظّنّ الجميل به، ... فقدي من الظّنّ الجميل قدي (7)
لو كان ما بيني وبينكم ... بيني وبين الذّئب والأسد
__________
(1) النهى: رجاحة العقل الجدد: الأرض الصلبة.
(2) القرى: لضيافة العيرانة: الناقة تشبه العير بصلابتها الأجد: القوية.
(3) على صدد: على قرب.
(4) كتدي: كتفي.
(5) الثمد: الماء القليل.
(6) محتشّها: جامعها السوام: الماشية.
(7) قدي: حسبي.(1/368)
لأويت من هذا إلى حرم، ... ولجأت من هذا على عضد
ولأصبحا في الرّوع من عددي ... كرما وفي اللأواء من عددي (1)
ولمانعا عنّي، إذا جعلت ... نوب الزّمان تهيض من جلدي (2)
أو كان ما قدّمت من مقة ... سببا إلى البغضاء لم يزد (3)
بل لو قذفت بمدحتي لكم ... في البحر ذي الأمواج والزّبد
لرمى إليّ أشفّ جوهرة، ... وسقى بأعذب مائه بلدي
كم من مطالب قد عقدت بها ... طمعي، فحلّ مرائر العقد
وأعادني منها على أسف، ... وأباتني فيها على ضمد
الفعل مهزأة لكلّ فم، ... والعرض منديل لكلّ يد
فليثبتنّ الآن إن ثبتت ... قدم على جمر لمعتمد
وليصبرنّ لوقع صاعقتي، ... ويوطّنن حشا على الزّؤد (4)
فلتدخلنّ عليه قبّته، ... ولّاجة تخفى على الرّصد
وهواجم يدفعن كلّ يد، ... ونوافذ يهزأن بالزّرد
كالبيض لا يصقلن عن طبع، ... والسّمر لا يغمزن عن أود
حتّى يذوق لحدّ أنصلها ... طعنا، ولا طعن القنا القصد
ومتى يوقّع فلّ مقنبها، ... لم أخلها أبدا من المدد (5)
أخطأت في طلبي، وأخطأ في ... يأسي، وردّ يدي بغير يد
فلأجعلنّ عقوبتي أبدا، ... أن لا أمدّ يدا إلى أحد
فتكون أوّل زلّة سبقت ... منّي، وآخرها إلى الأبد
__________
(1) الروع: الخوف اللأواء: الشّدّة.
(2) تهيض: تكسر.
(3) المقة: البغض.
(4) الزؤد: الفزع.
(5) المقنب: الجماعة من الخيل.(1/369)
كريم القوم
(الطويل)
سافر الشريف الرضي الى الكوفة وقيل إنه عزم على التوجه الى مصر. إلا أنه رجع الى بغداد، ثم نظم هذه القصيدة يعبّر عما في نفسه ويمدح الأتراك، ويذكر ملوك بني بويه.
تزوّد من الماء النّقاخ، فلن ترى ... بوادي الغضا ماء نقاخا ولا بردا (1)
ونل من نسيم الرّند والبان نفحة ... فهيهات واد ينبت البان والرّندا
وعج بالحمى عينا، فلست برامق ... طوال اللّيالي ذلك العلم الفردا
وكرّ إلى نجد بطرفك إنّه ... متى يعد لا ينظر عقيقا ولا نجدا
تلفّت دون الرّكب والعين غمرة ... وقد مدّها سيل الدّموع بما مدّا
لعلّي أرى دارا بأسنمة النّقا، ... فأطربنا للدّار أقربنا عهدا
تلاعب بي بين المعالم لوعة، ... فتذهب بي يأسا وترجع بي وجدا
منازل ناشدت السّحاب فما قضى ... فريضتها عنّي السّحاب، ولا أدّى
وهل بالغ ما يبلغ الدّمع عندها ... حقائب غيث تحمل البرق والرّعدا
أمنك الخيال الطّارقي بعد هجعة، ... يعاطي جوى الظّمآن مبتسما بردا
دنا من أعالي الرّقمتين، وما دنا، ... وصدّ وقد ولّى الظّلام، وما صدّا
ومن عجب ربّي وما نقع الصّدى، ... وعدّي له منّا عليّ، وما اعتدّا
أساء ليالي القرب نأيا وهجرة، ... وأسدى على بعد من الدار ما أسدى
أفي كلّ يوم للمطامع جاذب ... يجشّمني ما يعجز الأسد الوردا
كأنّي إذا جادلت دون مطالبي، ... أجادل للأيّام ألسنة لدّا (2)
__________
(1) الماء النقاخ: الماء البارد العذب الصافي.
(2) لد: أعداء.(1/370)
أحلّ عقود النّائبات، وأنثني، ... وخلفي يد للدّهر تحكمها عقدا
إذا ما نفذت السّدّ من كلّ حادث ... رأيت أمامي دون ما أبتغي سدّا
أأترك أملاكا رزانا حلومهم، ... حلولا على الزّوراء أيمانهم تندى
كأنّك تلقى منهم أجميّة ... مؤلّلة الأنياب أو قللا صلدا (1)
ولا يأنف الجبّار أن يعتفيهم، ... ولا الحرّ يأبى أن يكون لهم عبدا
إذا ما عدمنا الجود منهم وجدته ... على النّار لا كابي الزّناد ولا وغدا
لهم كلّ موقوذ من التّاج رأسه ... غني بالعلى أن ينسب الأب والجدّا (2)
نحاسن أقمار الدّجى بوجوههم ... فنبهرها نورا ونغلبها سعدا
تخالهم غيدا، إذا بذلوا النّدى، ... وتحسبهم جنّا، إذا ركبوا الجردا (3)
إذا طربوا للجود أمطرتهم حيا ... وإن غضبوا للمجد هيّجتهم أسدا
وأنقل بيتي في البلاد مجاورا ... بيوت المخازي قد ضللت إذا جدّا
خياما قصيرات العماد تخالها ... كلابا على الأذناب مقعية ربدا
إذا عزّ ماء بينهم وردوا القذى ... وإن قلّ زاد عندهم مضغوا القدّا (4)
ترى الوفد عن أعطانهم وقبابهم ... من اللّؤم أنأى من نعامهم طردا (5)
أأترك أمطاء السّوابق ضلّة، ... وأستحمل الحاجات أحمرة قفدا (6)
لرأي لعمري غير دان من النّهى، ... ولا واسط في الحزم قبلا ولا بعدا
فلا طرب إن زدت قربا إليهم، ... ولا أسف إن زاد ما بيننا بعدا
__________
(1) الأجمية، نسبة الى الأجمة: مأوى الأسد، وأراد الأسد نفسه مؤلّلة:
محددة القلل: القمم الصلد: الصلب.
(2) الموقوذ: النعسان، من وقذه النعاس: غلبه.
(3) الجرد: الجياد القصيرة الشعر.
(4) القد: سير من جلد
(5) الأعطان، جمع عطن: مبرك الابل.
(6) القفد، جمع أقفد: المسترخي العنق.(1/371)
كعمت لساني أن يقول، وإن يقل، ... فقل في الجراز العضب إن فارق الغمدا (1)
وإنّ برودا للمخازي معدّة، ... فمن شاء في ذا الحيّ أسحبته بردا
قلائد في الأعناق بالعار لا تهي ... على مرّ أيّام الزّمان، ولا تصدا (2)
إذا صلصلت بين القنا قضت القنا ... وإن زفرت بالسّرد قطّعت السّردا
لها بين أعراض الرّجال قعاقع، ... مدارجها أسعى من الغرّ أو أعدى (3)
أآل بويه ما نرى النّاس غيركم، ... ولا نشتكي للخلق أولاكم فقدا
نرى منعكم جودا ومطلكم جدا، ... وإذلالكم عزّا وإمراركم شهدا
وعيش اللّيالي عند غيركم ردى، ... وبرد الأماني عند غيركم وقدا
إذا لم تكونوا نازلي الأرض لم نجد ... بها الوادي الممطور والكلأ الجعدا
وينبط محفاري بأرضكم الغنى، ... إذا ما نبا عن جانب اللؤّم أو أكدى (4)
وكنت أرى أنّي متى شئت دونكم ... وجدت مجازا للأماني ولا مغدى
خذوا بزمامي قد رجعت إليكم، ... رجوع نزيل لا يرى منكم بدّا
أريد ذهابا عنكم، فيردّني ... إليكم تجاريب الرّجال، ولا حمدا
نوالهم
(البسيط)
أرى وجوها وأيمانا مقفّلة، ... فمغلق البشر منها مغلق الجود
معبّسين لئلا يحدثوا طمعا ... للسّائلين، ولا يوفوا بموعود
نوالهم بين صعب النّيل ممتنع ... بالمطل أو مستخسّ القدر مردود
__________
(1) الجراز العضب: السيف القاطع.
(2) لا تهي: لا تضعف.
(3) قعاقع: ضجة، أصوات.
(4) ينبط: يستخرج الماء أكدى: قطع، منع.(1/372)
حننت إليكم
(الطويل)
هوى لكما إنّ الشّباب يعاد ... وإنّ بياض العارضين سواد
وإنّ اللّيالي عدن، والحيّ جيرة، ... كما كنّ، أم لا! ما لهنّ معاد
حننت إليكم حنّة النّيب أصبحت ... تلوب على الماء الرّوى وتذاد (1)
توان بأعناق الغليل، وقد حوى ... مشارعه عذب الجمام بردا (2)
دع الوجد يبلغ ما أراد، فما الهوى ... بدان، ولا عهد الدّيار معاد
وإنّ بذاك الجزع وحشا غريرة، ... تصيد، وأعيا النّاس كيف تصاد (3)
إذا أنبض الرّامي رمين فؤاده، ... فظلّ، ولم يملك لهنّ قياد (4)
غداة وقفنا، والدّموع مرشّة، ... كأنّ عيون الواقفين مزاد
أبى طول همّ أن تكون مضاجع، ... وغزر دموع أن يكنّ رقاد
فبين ضلوعي والهموم تقارع ... وبين جفوني والمنام طراد
لهم كلّ يوم، والنّوى مطمئنّة، ... سليم له يوم الفراق عداد (5)
فيا بين لم تنفع إليك وسيلة، ... ويا وجد لم يسلم عليك فؤاد
حلفت بأيديهنّ في كلّ مهمه، ... عليهنّ من باقي الظّلام سواد
كأيدي العذارى الفاقدات تدارعت ... للدم الطّلى أطمارهنّ حداد (6)
__________
(1) النيب: جمع ناب: الناقة المسنّة تلوب: تحوم حول الماء الروى:
الماء الغزير تذاد: تدفع، تمانع.
(2) المشارع: موارد الماء الجمام: الماء الكثير المجتمع البراد: البارد.
(3) وحشا غريرة: غزالة فتية، أراد بها الحبيبة.
(4) أنبض الرامي: شدّ وتر القوس.
(5) السليم: الملدوغ العداد: الجنون، وقت الموت.
(6) تدارعت: لبست دروعها أي قمصانها اللدم: اللطم الطلى: الاعناق أطمارهن: ثيابهن الرثة.(1/373)
خوانف، مهبوط بهنّ عشيّة، ... قرار، ومطلوع بهنّ نجاد (1)
تقصّ بآثار الدّماء، كأنّها ... مساحب جرحى يوم طال طراد
يطيّرن بالوقع الشّرار، كأنّما ... مناسمها تحت الظّلام زناد
كأنّ الدّجى والفجر يركب عقبه ... نزائع دهم خلفهنّ وراد
أزير سرى ما فيه للغمض مطمع، ... كأنّ قتود اليعملات قتاد (2)
روام إلى جمع كأنّ رؤوسها ... قباب بنتها بالمراقب عاد
يجعجعن أجلادا وهاما رواجفا، ... وهنّ على ما نابهنّ جلاد (3)
لحيّ على الجرعاء ألأم رحلة ... إذا ظعنوا ساقوا العيوب وقادوا (4)
إذا رحلوا عن خطّة اللّؤم خالفوا ... إليها بأعناق المطيّ وعادوا
لهم مجلس ما فيه للمجد مقعد، ... ومربط عار ما عليه جياد
بيوتهم سود الذّرى، ولنارهم ... مواقد بيض ما بهنّ رماد
لهم حسب أعمى أضلّ دليله، ... فلم يدر في الأحساب أين يقاد
تحيّر في الأحياء ذلّا متى يرم ... سبيل العلى يضرب عليه سداد
له عن بيوت الأكرمين دوافع ... وعن هضبات الماجدين ذياد
قباب يطاطي اللّؤم منها كأنّها، ... ولو رفعت فوق الجبال، وهاد
وأيد جفوف لا تلين، وإنّها، ... ولو مطرت فيها الغيوم، جماد
لهنّ على طرد الضّيوف تعاقد، ... هراش كلاب بينهنّ عقاد
تصان النّصول النّابيات، وعندهم ... نصول مواض ما لهنّ غماد
أما كان فيكم مجمل، أو مجامل، ... إذا لم يكن فيكم أغرّ جواد؟
__________
(1) الخوانف، جمع خانفة: الشامخة بأنفها.
(2) الأزيز: شدة السير السرى: السير ليلا القتود، جمع قتد: الرحل القتاد: شجر صلب له شوك دقيق.
(3) يجعجعن، من جعجع البعير: حركه للاناخة والنهوض الأجلاد:
الأجسام.
(4) الجرعاء: ارض مرملة لا تنبت شيئا.(1/374)
فلا مرحبا بالبيت لا فيه مفزع ... للاج، ولا للمستجنّ عماد (1)
فلا ترهبوني بالرّماح سفاهة، ... فعيدان أوطاني قنا وصعاد
ولا توعدوني بالصّوارم ضلّة، ... فبيني وبين المشرفيّ ولاد
سأمضغ بالأقوال أعراض قومكم، ... وللقول أنياب لديّ حداد
ترى للقوافي، والسّماء جليّة ... عليكم بروق جمّة ورعاد
فحمدا لآل الغوث إنّ أكفّهم ... سباط الحواشي، واللّمام جعاد
إذا وقفوا في المجد خافوا نقيضه، ... فتمّوا على عنف السّياق وزادوا
أقاموا بأقطار العلى، وتناقلوا ... عليها وأبدوا في العلى، وأعادوا
إلى حسب منه على البدر عمّة، ... وفي عاتق الجوزاء منه نجاد
بمن تنزل الحاجات، يا أمّ مالك، ... وأين رجال تعتفى وبلاد!
حبست مقالي محبس البدن أبتغي ... به عوضا جمّا، وليس يراد
أرى زهد مستام وأرجو زيادة، ... ضلالا، أبين الزّاهدين أزاد
فلا اخضرّ واد أنتم من حلاله، ... ولا جيد ما جاد البلاد عهاد (2)
ولا رفعت نار لكم مسي ليلة ... ولا راج مال طارف وتلاد
فما للنّدى فيكم نصيب وسهمه ... ولا للأماني مسرح ومراد
ألا إنّ مرعى الطّالبين هشائم ... لديكم، وورد الآملين ثماد (3)
لكم عقدة قبل النّوال مريرة، ... وداهية بعد النّوال نآد (4)
زرعتم ولكن حال من دون زرعكم ... جنود أذى منها دبى وجراد (5)
__________
(1) لاج: لاجئ مسهّلة.
(2) العهاد: مطر الربيع.
(3) الثماد: الماء القليل.
(4) نآد: داهية.
(5) الدبى: أصغر الجراد والنمل.(1/375)
ثلج بغداد
(الوافر)
سقط الثلج ببغداد في شهر ربيع الآخر سنة 398، وهذا ما لم ير الشريف الرضي مثله، فنظم هذه الأبيات.
أرى بغداد قد أخنى عليها، ... وصبّحها بغارته الجليد
كأنّ ذرى معالمها قلاص ... نواء كشّطت عنها الجلود (1)
كأنّ به لغام العيس باتت ... تساقطه عجال الرّجع قود (2)
غطى قمم النّجاد، فكلّ واد ... على نشزاته سبّ جديد (3)
كما تعرى به الغيطان محلا، ... وتغبرّ التّهايم والنّجود (4)
فمهما شئت تنظر من رباها ... إلى بيض عواقبهنّ سود
أقول له، وقد أمسى مكبّا ... على الأقطار يضعف، أو يزيد:
وراءك، فالخواطر باردات ... على الإحسان، والأيدي جمود
وإنّك لو تروم مزيد برد ... إلى برد، لأعوزك المزيد
__________
(1) القلاص، جمع قلوص: الناقة الشابة نواء، جمع نائية: بعيدة.
(2) اللغام: زبد أفواه الابل قود، جمع أقود: السهل القيادة.
(3) غطى: ستر نشزاته: مرتفعاته السب: الخمار، العمامة.
(4) الغيطان، جمع غوط: الأرض المطمئنة الواسعة التهايم: الارض المنخفضة والمنحدرة نحو البحر النجود: المرتفعات.(1/376)
ردوا تراث محمد
(السريع)
ردّوا تراث محمّد ردّوا، ... ليس القضيب لكم، ولا البرد (1)
هل عرّقت فيكم كفاطمة، ... أم هل لكم كمحمّد جدّ (2)
جلّ افتخارهم بأنّهم ... عند الخصام مصاقع لدّ (3)
إنّ الخلائف والأولى فخروا ... بهم علينا قبل، أو بعد
شرفوا بنا ولجدّنا خلقوا، ... وهم صنائعنا، إذا عدّوا
بان عهد الشباب
(الخفيف)
بان عهد الشّباب منكم حميدا، ... وجديدا لو كان دام جديدا
فترى الظّاعن المقوّض بيتي ... هـ يرجّى من قلعة أن يعودا (4)
لا يرى ناقلا إلى الحيّ رجلا، ... لا ولا ثانيا إلى الدّار جيدا
فإذا شئت أن تبكّي ليالي ... هـ، فملآن قل لعينيك جودا! (5)
__________
(1) القضيب: قضيب الملك، الصولجان البرد: أراد بردة النبي (صلعم).
(2) عرّقت: عادت الى أصل عريق، نبيل.
(3) المصاقع، جمع مصقع: البليغ العالي الصوت اللد: الشديد.
(4) القلعة: الرحلة.
(5) ملآن: من الآن.(1/377)
أحاجي الرجال
(الطويل)
أحاجي رجالا: ما ملابس سود، ... جدائد لا يبقى لهنّ جديد؟
سحائب تمضي بالفتى، فصواعق، ... وغيث، وهيف زعزع وبرود (1)
كذلك، والأيّام نعمى وأبؤس، ... لكلّ هبوب، يا أميم، ركود
نار القلوب
(المجتث)
يا قادحا بالزّناد، ... مر، فاقتدح بفؤادي
نار الغضا دون نار ال ... قلوب والأكباد
جدك أحمد
(الكامل)
هذا أمير المؤمنين محمّد، ... كرمت مغارسه وطاب المولد (2)
أو ما كفاك بأنّ أمّك فاطم، ... وأبوك حيدرة، وجدّك أحمد
يمسي، ومنزل ضيفه لا يحتوى ... كرما، وبيت نضاره لا يقلد
__________
(1) الهيف: الريح الحارة.
(2) في هذه الأبيات يعني الشريف الرضي نفسه.(1/378)
غيري أضلكم
(الكامل)
غيري أضلّكم، فلم أنا ناشد، ... وسواي أفقدكم، فلم أنا واجد
عجبا لكم يأبى البكاء أقارب ... منكم، وتشرق بالدّموع أباعد
مخالب الآساد
(الوافر)
أتوا بمخالب الآساد سلّت ... براثنها، وأشلاء الجلود
وأيّ ممنّع يأبى عليهم، ... إذا آبوا بأسلاب الأسود
طرفه يرمي
(الكامل)
ظبي برامة كحله من طرفه، ... يرمي القلوب وحليه من جيده
باتت ترائبه وشاح وشاحه، ... وغدت مضاحكه عقود عقوده
قلائد وعقود
(الكامل)
من كلّ سارية كأنّ رشاشها ... إبر تخيّط للرّياض برودا
نثرت فرائدها، فنظّمت الرّبى ... من درّهنّ قلائدا وعقودا(1/379)
أرهن اليدا
(الطويل)
بعادا، فليت اليمّ دونك أزبدا، ... وليت مكان الطّوق منك المهنّدا
أعذلا على أن أصحب الجود مقودي، ... وأرهن في كسب المكارم لي يدا
آل محرّق
(الطويل)
ولا حت لنا أبيات آل محرّق، ... بها اللّؤم ثاو لا يروح ولا يغدو
خيام قصيرات العماد، كأنّها ... كلاب على الأذناب مقعية ربد
قم واقعد
(الطويل)
جعلت لك الفرخين يا نصر طعمة، ... فقم غير رعديد لنفسك واقعد
فإنّي مشغول عن الرّأى بالهوى، ... وبابن سريج والغريض ومعبد (1)
لبيك
(السريع)
أقول لبّيك، ولم تناد، ... ما أوقع الموت على الجواد
ما كنت إلّا حيّة بواد، ... وأسدا على العدوّ عاد
وربّ جار لي من الأعادي، ... أقام بعد ذلّة عمادي
كأنّه في الكرب الشّداد، ... جار الحذاقيّ أبي دواد (2)
__________
(1) ابن سريج والغريض ومعبد: مغنون مشهورون.
(2) الحذاقي: الفصيح.(1/380)
قافية الذال
الهوى نازح
(المتقارب)
ترى النّازلين بأرض العرا ... ق، قد علموا أنّ وجدي كذا
فلا حبّذا بلد بعدهم، ... وإن أوطنوه، فيا حبّذا
دنا طرب، والهوى نازح، ... فيا بعد ذاك، ويا قرب ذا
هوى لي أطعت به العاذلين، ... وما طاعة العذل إلّا أذى
وكنت أقذّي به ناظريّ، ... فمذ غاب صار لعيني قذى (1)
__________
(1) أقذي: أخرج القذى من ناظري القذى: ما يقع في العين فيؤذيها.(1/381)
قافية الراء
الظلام المنجلي
(مجزوء السريع)
نظم هذه القصيدة في مدح بهاء الدولة، مهنئا إياه بنيروزه.
ما للبياض والشّعر ... ما كلّ بيض بغرر
صفقة غبن في الهوى ... بيع بهيم بأغرّ
صغّره في أعين الغي ... د بياض وكبر
لولا الشّباب ما نهى ... على المها، ولا أمر
ما كان أغنى ليل ذا المف ... رق عن ضوء القمر
قد كان صبح ليله ... أمرّ صبح ينتظر
واها، وهل يغني الفتى ... بكاء عين لأثر
يا حبّذا ضيفك من ... مفارق، وإن عذر
أين غزال داجن، ... رأى البياض، فنفر
هيهات ريم السّرب لا ... يدنو إلى ذيب الخمر (1)
يا دهر! ما ذنبك في ... ما رابني بمغتفر
ربّ ذنوب للفتى ... ليس لها اليوم عذر
أقصر فقد جزت المدى ... مجاملا، أو فاقتصر
__________
(1) الريم: الغزال الخمر: الشجر الغض الذي يخبئ ما وراءه.(1/382)
الآن إذ لفّ النّهى ... مرّة حزم بمرر (1)
وعاد منصاتي على ... أيدي اللّيالي يناطر (2)
وسالمت شمائلي، ... جنّ العرام والأشر (3)
كان ظلاما، فانجلى ال ... يوم، وظلّا فانحسر
أقسمت بالأطلاح قد ... أدمج منهنّ الضّمر (4)
كأنّ أيديها يلا ... طمن من المرو إبر (5)
يمطلن بالعشب، فلا ... رعي لها إلّا الجرر (6)
كلّ علاة تتّقي السّو ... ط بمجدول ممرّ (7)
كأنّها حنيّة، ... إلّا اللّياط والوتر (8)
يحملن كلّ شاحب، ... طوى اللّيالي ونشر
ملبّدا يرمي إلى ... مكّة حصباء الوبر
إذا رأى أعلامها ... عجّ إليها وجأر
أمّ اللّوى ثمّ نحا ال ... خيف، ولبّى وجمر
في محرمين بدّلوا ال ... غيظ بتعقاد الأزر (9)
إنّ قوام الدّين أو ... لي بالعلى من البشر
__________
(1) المرّة: قوة الخلق المرر، جمع مرة: طاقة الحبل. أي أن رجاحة العقل تفتل الاخلاق وتقويها كما تفتل طاقة الحبل.
(2) المنصاة، من النصي: عظم العنق ينأطر: يتعطف.
(3) جن العرام: كناية عن الأذى والشراسة الأشر: البطر.
(4) الأطلاح: الابل أدمج: لف الضمر: الهزال.
(5) المرو: حجارة رقيقة بيضاء.
(6) الرعي: العشب، ما يرعى الجرر: ما يفيض به البعير فيأكله ثانية.
(7) العلاة: الناقة المشرفة الجسيمة المجدول: السوط ممر: مفتول.
(8) الحنيّة: القوس اللياط: قشرة القصبة، وهي القوس أيضا.
(9) المحرمون: الذين قصدوا الأماكن المقدسة المحرمة.(1/383)
وبالجياد والقنا، ... وبالعديد والنّفر
وبالمقاويم العلا، ... وبالمعاظيم الكبر
مهذّب الأعياص في ال ... آباء مختار الشّجر (1)
مفترش للملك أح ... لى في المعالي وأمرّ
في صبية تفوّقوا، ... من حلب العزّ درر
ملاعب بين قباب ... الملك منهم والحجر
من معشر لم يخلقوا ... إلّا لنفع، أو ضرر
لسدّ ثغر فاغر، ... بالبيض، أو طعن ثغر
كانوا ثمال النّاس وال ... أمن، إذا ما الأمر هرّ (2)
أيّام لا نلقى لنا ... معتصما، ولا وزر
جرّوا إلى طعن العدى ... أرعن هدّاد المجرّ (3)
جحافلا، كالسّيل أب ... قى غمرا بعد غمر (4)
قد لبست جيادها ... براقعا من الغرر
ضمر كأمثال القنا، ... لولا السّبيب والعذر
معجلة فرسانها ... حتّى عن الدّرع تزرّ
يقرع فيهنّ القنا، ... وقع المداري في الشّعر (5)
ألم أكن أنهى العدى ... عن ناب نضناض ذكر (6)
__________
(1) الأعياص: الأصول، وعبارة مختار الشجر كناية عن النسب المختار.
(2) ثمال الناس: أي أنهم يغيثون الناس وينجدونهم هر: ساء.
(3) جيش أرعن: أي ذو فضول، يشمل كل شيء ويدخل كل مكان مجرّ الجيش: طوله، كثرته.
(4) غمرا بعد غمر: شدة بعد شدة، مكروه بعد مكروه.
(5) المداري، جمع مدرى: المشط.
(6) النضناض: يقال حيّة نضناض لا تستقر في مكان أو اذا نهشت قتلت ذكر: نافذ.(1/384)
له إليهم مسحب ... يهدي المنايا ومجرّ
مجاليا بكيده، ... إن عاجز القوم أسر
يمسي بطينا من دم ال ... أعداء وهو مضطمر
ينام لا عن غفلة، ... عينا، وبالقلب سهر
ما ضرّه من سمعه ... أن لا يعان بالبصر
بقيّة من قدم ال ... أضلال وقّاد النّظر
ومؤجد المتنين إن ... صمّم للعقر عقر
كأنّ في ساعده ... وعيا وعى ثمّ جبر
كالقاتل اعتام القوى ... بعد القوى ثمّ شزر
مخفّض الجأش، إذا ... صاح به الجمع وقر
أخبر خافي الشّخص إ ... لّا بالمقام المشتهر
يقعي بنجد والحمى، ... من وثبة على غرر
مبترك الصّالي على ... النّار ليالي القرر
كم قلت منه للعدى: ... حذار إن أغنى الحذر
وعوّذوا منه النّحو ... ر والرّقاب والقصر
إيّاكم منه، إذا ... أوعد نابا، وظفر
وقام نفض الحلس يج ... لو ناظرا ثمّ زأر (1)
ملتفعا بشملة، ... فيها البجاري والبجر (2)
أنذرهم منه، وعن ... د القوم أضعاف الخبر
توقّعوا طلاعها ... كناغر العرق نغر (3)
إنّ العدى لينضها، ... إن لم يق العفو حزر
كأنّها حائمة العق ... بان في اليوم المطر
__________
(1) الحلس: كساء على ظهر البعير تحت البرذعة.
(2) البجاري: الدواهي البجر (بالضم): الشر، الأمر العظيم.
(3) ناغر: من قولهم جرح نغار أي يسيل منه الدم.(1/385)
يمشين من صبغ الدّما ... ء في رياط وأزر (1)
تخاطر البزل، وقد ... مار عليهنّ القطر (2)
في كلّ يوم تحتها ... منجدل ومنعفر
تجرّ في شوك القنا ... جرّ القديد المصطهر (3)
تخبّروا اليوم، فما ... بعد الطّعان من خبر
آل بويه أنتم الأم ... طار، والنّاس الخضر
ما في اللّيالي غيركم ... شيء به العين تقرّ
إن نهض الجأش بكم ... فما نبالي من عثر
لولاكم لم يبق في ... عود الرّجاء معتصر
قد غني الملك بكم، ... وهو إليكم مفتقر
فدم على الأيّام أر ... سى في العلى من الحجر
ترفع ذيلا لمراقي ال ... مجد، أو ذيلا تجرّ
وانعم بذا النّيروز زو ... را نازلا ومنتظر (4)
يفاوح النّعمى، كما ... فاوحت الرّوض المطر
قضيت فيه وطرا، ... وما قضى منك وطر
ما جزعي لمن مضى، ... وأنت لي، فيمن غبر
أنت المراد والمرا ... د، والمعاذ والعصر (5)
رد من جمام العزّ لا ... مطّرقا، ولا كدر (6)
__________
(1) رياط، جمع ريطة: الثوب اللين والرقيق.
(2) البزل: النياق الشابة، التي نبتت أنيابها مار: تحرك.
(3) المصطهر: الذائب.
(4) الزور: الزائر، ويعني به العيد.
(5) المراد (بفتح الميم): المرعى، كناية عن الكرم العصر (بضم العين):
المطر، العطية.
(6) الجمام: الكثير، الخير الفائض المطرق: الماء الذي عكرته الابل.(1/386)
وازدد بقاء وعلى، ... ما بعد ورديك صدر
مقدّما إلى العلى، ... مؤخّرا عن القدر
مرحبا بالغيث
(الطويل)
وجّه هذه الأبيات الى الصاحب عميد الجيوش أبي علي بن أشناذ هرمز، ويعتذر عن تأخره مساء.
أيا مرحبا بالغيث تسري بروقه، ... تروّح يندي لا بكيّا ولا نزرا (1)
طلعت على بغداد والخطب فاغر، ... فعاد ذميما ينزع النّاب والظّفرا
أضاءت وعزّت بعد ذلّ وروّضت ... كأنّك كنت الغيث واللّيث والبدرا
تغاير أقطار البلاد محبّة ... عليك، فهذا القطر يحسد ذا القطرا
وقلّمت أظفار الخطوب فما اشتكى ... نزيلك كلما للخطوب ولا عقرا (2)
ومن ذا الذي تمسي من الدّهر جاره ... فيقبل للمقدار، إن رابه، عذرا
فيا واقفا دون الذي تستحقّه، ... لو انّك جزت الشمس لم تجز القدرا
فعثرا لأعداء رموك، ولا لعا، ... ونهضا على رغم العدوّ، ولا عثرا (3)
__________
(1) تروّح: وصل مساء البكي: كثير البكاء، كثير العطاء.
(2) الكلم: الجرح.
(3) لا لعا لهم: لا أعانهم الله ولا وقاهم.(1/387)
يجني العلى
(الخفيف)
نظم هذه القصيدة مادحا فخر الدين أبا غالب بن خلف، ويشكره على قضاء حاجة كاتبه بها.
فقد أمر بقضائها حين وصل إليها في قراءة الكتاب وقبل أن يستكمل قراءة. وكان الشريف آنذاك بفارس، وكتبها في شعبان سنة 396.
لن تشقّوا لذا الجواد غبارا، ... فاربحوا خلفه الوجى والعثارا (1)
وقفوا في مصارع العجز عنه، ... فات فوت الوميض من لا يجارى
سابق عضّت الأكفّ عليه، ... أنجد اليوم في العلاء وغارا (2)
قام يجني العلى، وأنتم قعود، ... وصحا للنّدى، وأنتم سكارى
طلبوا شأوك المبرّز، هيها ... ت طريقا على الجياد خبارا (3)
ليس منهم من ساق تلك المصاعي ... ب غلابا، وقاد ذاك القطارا
شمّري أيّها الرّكاب، وخلّي ... عطن اللّؤم والعماد القصارا
وانزلي بي مجاورا في أناس، ... لا يذمّ النّزيل فيهم جوارا
خلطوا الضّيف بالنّفوس على العس ... ر، وباتوا على السّماح غيارى
عند أقنى من البزاة عتيق، ... ترك الطّير واقعات وطارا
من إذا عرّضوا تعرّض جودا، ... وإذا جارت اللّيالي أجارا
ما مقامي على الجداول أرجو ... ها لنيل، وقد رأيت البحارا
كالّذي شاور الدّجى في سراه، ... واستغشّ النّجوم والأقمارا
__________
(1) الوجى: الحفا.
(2) عضّت الأكف عليه: أي أن الغير عجز عن اللحاق به وعض الأصابع أسفا أنجد: ارتفع.
(3) شأوك: غايتك الخبار: الأرض اللينة المسترخية.(1/388)
يا أبا غالب دعوتك للخط ... ب، ومن يظم يستدرّ القطارا
لم أجاوزك بالدّعاء، فلبّي ... ت جهارا، وقد دعوت سرارا
لم تقل لا، ولم تشدّ على خل ... ف النّدى بين راحتيك صرارا (1)
وسبقت العلّات، لم تنتظرها، ... وإذا شئتها لكانت كثارا (2)
قد هززناك للنّدى، فوجدنا ... ورقا ناضرا، وعودا نضارا
ورأينا النّوال عينا بلا مط ... ل، إذا ما النّوال كان ضمارا (3)
لم تزل كاملا، ولم تسم بالكا ... مل من قبل أن تشدّ الإزارا
صبية من معاشر حذقوهم ... أدب الجود والعلاء صغارا
أليق النّاس بالسّماح أكفّا، ... والمعالي شمائلا ونجارا (4)
في صيال الأسود إن نزل الخط ... ب عليهم وفي حياء العذارى
كلقاح تأبى على العصب درّا، ... وعلى المسح تستهلّ غزارا (5)
أطلقونا من الخطوب فبتنا ... في يد المنّ مطلقين أسارى
ما نرى عند غيركم من جميل ... ليس إلّا من عندكم مستعارا
قد رأينا الإحسان منكم عيانا، ... وسمعناه عنكم أخبارا
من رأى قبلكم شموسا مضيّا ... ت جمعن الأنوار والأمطارا
نظر الخلّة الخفيّة عندي ... نظر الغيث صاب يبغي قرارا (6)
لم يغالط عنها اللّحاظ، ولا أص ... فح عنها فعل اللّئيم ازورارا
بادر الحادث المعدّ إليها ... ورأى الغنم أن يكون بدارا
يوقد النّار للقرى، وعليها ... حسب لو خبا الوقود أنارا
__________
(1) الخلف: ضرع الناقة أو حلمته، وفي القول كناية عن الكرم الصرار:
خيط يشد به الضرع.
(2) العلات، من تعللت الناقة: أعطت ما عندها من السير.
(3) النوال: العطاء الضمار: المال الذي لا يرجى رجوعه.
(4) النجار: الأصل.
(5) العصب: شد فخذي الناقة لتدر المسح: هو مسح الضرع باليد ليدر.
(6) الخلّة: المصادقة والاخاء صاب: هطل.(1/389)
ولو اسطاع، والمطيّ تسامى، ... شبّ فوق الرّجال باللّيل نارا
همم همّها العلى علّمته ... بالنّدى كيف يملك الأحرارا
لا كقوم لم يطلعوا شرف الجو ... د، ولم يرفعوا لمجد منارا
يقف الحقّ عندهم، فيلاقي ... طرق الجود بينهم أوعارا
عرفوا محكم التّجارب في البخ ... ل، وكانوا عن النّدى أغمارا (1)
عند جول الآراء بله عن الحز ... م وفي الخطب عاجزون حيارى
يا كمال العلى، ويا وزر المل ... ك، إذا لم يجد معانا ودارا
معملا في الخميس أقلامك الغ ... رّ، إذا أعملوا القنا الخطّارا
كلّما أشرعوا الذّوابل أشرع ... ت غريما صدقا ورايا مغارا
بك سدّوا فوّار جائشة القع ... ر، لها عائد يردّ السّبارا (2)
وجدوا طبّها لديك، فولّو ... ك على البعد عرقها النّغّارا (3)
لو أقاموا لها سواك لشبّت، ... صعبة تمنع المطا والعذارا (4)
ضربوا أوجه البكار، وقادوا ... للأعادي قباقبا هدّارا (5)
ورأوا في مناكب الملك وهنا، ... فدعوا باسمه، فكان جبارا
قائدا للقراع كلّ حصان، ... تتراءى به عقابا مطارا
مثل لون العقار تحسبه نا ... را يطير الطّعان منها شرارا
دافعا بالرّماح في كلّ ثغر ... لججا تركب العدوّ غمارا
يتلاغطن باصطكاك العوالي، ... لغط الحجّ يرجمون الجمارا (6)
__________
(1) الندى: الكرم الأغمار: غرباء.
(2) السبار: ما يسبر به الجرح ويمتحن غوره.
(3) النغّار: الجياش بالدم.
(4) المطا: الظهر العذار: هو من اللجام ما سال على خد الفرس.
(5) البكار، جمع بكر: الفتي من الابل القباقب: الجمل الهدار.
(6) يتلاغطن: من اللغط: الكلام غير الواضح يرجمون الجمار: يضربون بالحصى.(1/390)
عجبا للّذي أجرت من الأ ... يّام لم لا يحارب الأقدارا
أيخاف الخطوب من كان للّي ... ث نزيلا وكان للنّجم جارا
لو قدرنا، وساعفتنا اللّيالي، ... لوصلنا بعمرك الأعمارا
يا ناشد النعماء
(الرجز)
نظمها في مدح فخر الدولة أبي غالب بن خلف.
يا ناشد النّعماء يقفو إثرها! ... قف المطايا قد بلغت بحرها
مسيلها فينا، ومستقرّها ... طود العلى وشمسها وبدرها
فوّضت الدّنيا إليه أمرها، ... وقلّدته نفعها وضرّها
عدّت مساعيها، فكان فخرها، ... لم تقذ عين المجد مذ أقرّها
ذو شيمة تعطي العيون خبرها، ... لا تحوج النّاظر أن يقرّها (1)
نرجو ونخشى حلوها ومرّها، ... كجمّة الماء نرجّي غمرها
يوم الورود، أو نهاب قعرها، ... يبعثها بعث السّحاب قطرها
محجّلات نعم وغرّها، ... شغلتنا حتّى نسينا شكرها
يهدي إلينا شفعها ووترها، ... عياب دارين حملن عطرها (2)
إنّ المعالي ولدتك بكرها، ... ما ضمّنت مثلك يوما حجرها
أمّا رؤوما أرضعتك درّها، ... لو ألّفت على النّظام نثرها
قلائد المجد لكنت درّها، ... نرى الأعادي إن عزمت ثغرها
__________
(1) الخبر: المعرفة، النظر الثاقب.
(2) الشفع: الزوج من العدد الوتر: المفرد من العدد، ويقال: أشفع أم وتر، أي أزوج أم فرد العياب، جمع عيبة: وعاء من جلد دارين: اسم بلد مشهور.(1/391)
أباغث الطّير تراءت صقرها، ... فحل وغى ينسي الفحول هدرها (1)
لأصبحتنا، ووقينا شرّها، ... ظلماء أمر لا تكون فجرها
عيون المجد والفخر
(السريع)
يمدح أبا سعيد بن خلف ويهنئه بخلع السلطان عليه.
قرّت عيون المجد والفخر ... بخلعة الشّمس على البدر
صبّت على عطفيه أطرافها ... معلمة بالعزّ والنّصر
كأنّها خلعة ثوب الدّجى، ... في عاتق العيّوق والنّسر (2)
زرّ عليه الملك فضفاضها، ... وإنّما زرّ على البحر
خطوت فيها غير مستكبر، ... خطو السّها في خلع الفجر
جاءت عوانا من تحيّاته، ... وأنت منها في على بكر
فكلّ يوم أنت في صدره ... فارس طرف الحمد والأجر
تغدو بك الأيّام نهّاضة ... تطلع من مجد إلى فخر
فانهض فلو رمت لحاق العلى ... صافحت أيدي الأنجم الزّهر
ولو زجرت المزن عن صوبه، ... لضنّت الأقطار بالقطر (3)
__________
(1) الأباغث: طيور لا تصيد اللحوم، وفي قوله: أباغث تراءت صقرها تذكير بالمثل: إن البغاث بأرضنا تستنسر.
(2) العيّوق: نجم يجاور الثريا النسر: كوكب، وهناك نسران يقال لأحدهما النسر الطائر وللآخر النسر الواقع.
(3) المزن: الغيم الماطر الصوب: المطر ضنت الأقطار: نصب الأقطار بنزع الخافض، والمراد: ضنت على الأقطار.(1/392)
وضمّت الأنواء أخلافها، ... كما استمرّ الماء في الغدر
فأنت سرّ في ضمير العلى، ... كالعقد بين الجيد والنّحر
تبرّجت منك وجوه المنى ... مرتجّة في النّائل الغمر
إنّك من قوم، إذا استلأموا ... تقبّلوا في البيض والسّمر (1)
وقطّروا الخيل بفرسانها، ... خارجة عن حلقة الحضر (2)
وجاذبوا الأيّام أثوابها ... عنها، بأيدي النّهي والأمر
من كلّ طلق الوجه سهل الحيا ... يبسم عن أخلاقه الغرّ
مقدّم في القوم ما قدّمت ... عن ريشها قادمة النّسر
ريّان، والأيّام ظمآنة، ... من النّدى، نشوان بالبشر
لا يمسك العذل يديه، ولا ... تأخذ منه سورة الخمر (3)
إليك سيّرت بها شامة، ... واضحة في غرّة الدّهر
شدا بها العترف في جوّه، ... وارتاح طير الصّبح في الوكر (4)
أبياتها مثل عيون المها، ... مطروفة الألحاظ بالسّحر (5)
جاءت تهنّيك بطوق العلى، ... ولفظها يفترّ عن درّ
فاسعد، أبا سعد، بإقباله، ... فالهدي مجنوب إلى النّحر
ما هو إنعام، ولكنّه ... ما خلع الغيث على الزّهر
جاءتك من قبلي، وإحسانها ... يقوم لي عندك بالعذر
ولو أجبت الشّوق لمّا دعا ... جاءك بي من قبل أن تسري
__________
(1) استلأموا: لبسوا اللأمة أي الدرع البيض والسمر: السيوف والرماح.
(2) الحضر: ارتفاع الفرس في عدوه.
(3) سورة الخمر: أثرها، سكرها.
(4) العترف: الديك.
(5) أبياتها: الضمير عائد الى القصيدة.(1/393)
نطق اللسان
(مجزوء الكامل)
نظم الشاعر هذه القصيدة مادحا أباه سنة 396، وفيها يذكر رد أملاكه إليه.
نطق اللّسان عن الضّمير، ... والبشر عنوان البشير
الآن أعفيت القلو ... ب من التّقلقل والنّفور
وانجابت الظّلماء عن ... وضح الصّباح المستنير
ما طال يوم ملثّم ... إلّا استراح إلى السّفور
خبر تشبّث بالمسا ... مع عن فم الملك الخطير
وأذلّ أعناق العدى، ... ذلّ المطيّة للجرير (1)
يسمو به قول الخطي ... ب وتستطيل يد المشير
وضمائر الأعداء تق ... ذف بالحنين على الزّفير
وسوابق العبرات تر ... كض في السّوالف والنّحور
تفدي ضميرك في النّوا ... ئب مستريب بالأمور
غرض بنعمته، وبع ... ض القوم يشرق بالنّمير (2)
يغترّ بالدّنيا، وحب ... لك لا يدلّى بالغرور
حسب المضمّخ بالدّما ... ء كمن تغلّف بالعبير
ولأنت مثل القرّ يع ... صف منه بالشّعرى العبور (3)
كنت النّسيم جرى علي ... هـ، فغضّ من نار الحرور
__________
(1) المطية: الناقة أو الدابة الجرير: الحبل، الرسن.
(2) غرض بنعمته: مملوء بنعمته يشرق بالنمير: يغص بالماء الزلال.
(3) القر: البرد الشعرى: كوكب يطلع في الجوزاء، ويبدو واضحا في الليالي الحارة العبور: العابر.(1/394)
عجلان يحمل مغرم ال ... دّنيا على ظهر حسير
يسطو بلا سبب، وتل ... ك طبيعة الكلب العقور
أنت المكلّل بالمنا ... قب عند إيماض الثّغور
في رفقة البيداء، أو ... بين المنازل والقصور
غيّرت ألوان الرّما ... ح، ورونق البيض الذّكور (1)
ورددت أعطاف الظّبى، ... تختال في العلق الغزير
بضوامر مثل النّسو ... ر وغلمة مثل الصّقور
وبأسرة من هاشم ... غدروا بربّات الخدور
سمر التّرائب والطّلى، ... بيض العوارض لا الشّعور (2)
مستنجدون على البعا ... د، ومنجدون على الحضور
المانعون من الأذى، ... والمنقذون من الدّهور
لهم الكلام، وإنّما ... للأسد صولات الزّئير
النّجر مختلف، وإن ... كان النّبال من الجفير (3)
في النّاس غير مطهّر، ... والحرّ معدوم النّظير
والنّسل يخبث بعضه، ... ما كلّ ماء للطّهور
لك دون أعراض الرّجا ... ل حميّة الرّجل الغيور
ولماء كفّك في المحو ... ل طلاقة العام المطير
ما بين نعمة طالب ... فينا، ودعوة مستجير
العزّ من شيع الغنى، ... والذّلّ أولى بالفقير
ولربّما رزق الغنى ... ربّ الشّويهة والبعير (4)
__________
(1) البيض الذكور: السيوف القاطعة.
(2) الترائب، جمع تريبة: عظمة الصدر الطلى: الأعناق العوارض، جمع عارضة: صفحة الوجه.
(3) الجفير: جعبة السهام تكون من الجلد.
(4) شويهة: تصغير شاة.(1/395)
عصفت بمبغضك النّوا ... ئب من أمير، أو وزير
لمّا أراد بك المن ... يّة صار من تحف القبور
جذبته في شطن المنو ... ن يد النّآد العنقفير (1)
وضحت به الأيّام في ... ظلّ النّعيم إلى الهجير
متأوّها تحت الخطوب ... تأوّه الجمل العقير
لعبت بك الدّنيا، وسع ... يك في فم الجدّ العثور
والرّيح تلعب بالذّوا ... بل، وهي تطعن في الصّدور (2)
ما التذّ لبس الصّوف إ ... لّا من تعمّم بالقتير (3)
متخدّد الخدّين مغ ... برّ الذّوائب والضّفور
سام بفضل حيائه، ... والطّرف يوصف بالفتور
أسر الوقار طماحه، ... والقدّ أملك بالأسير (4)
من بعد ما صحب الرّكا ... ئب لا يعفّ عن المسير
جذلان ينظر وجهه ... في عارض العضب الشّهير
متغطرفا كالسّيل يب ... طش بالجنادل والصّخور
إنّا بني الدّنيا نعلّ ... ل باللّيالي والشّهور
كفلت بأنفسنا، وهل ... طفل يعيش بغير ظير (5)
نحن الشّبول من الضّرا ... غم والنّطاف من البحور (6)
وإذا عزانا ناسب ... نسب الشّموس إلى البدور
غدر السّرور بنا، وكا ... ن وفاؤه يوم الغدير
__________
(1) الشطن: الحبل النآد العنقفير: الداهية.
(2) الذوابل: الرماح.
(3) القتير: الشيب.
(4) القد: سير من جلد يقيد به الأسير.
(5) ظير، ظئر مخففة: مرضعة.
(6) النطاف: الماء القليل، جمع نطفة.(1/396)
يوم أطاف به الوص ... يّ، وقد تلقّب بالأمير
فتسلّ فيه وردّ عا ... رية الغرام إلى المعير
وابتزّ أعمار الهمو ... م بطول أعمار السّرور
فلغير قلبك من يعلّ ... ل همّه نطف الخمور
لا تقنعن عند المطا ... لب بالقليل من الكثير
فتبرّض الأطماع مثل ... تبرّض الثّمد الجرور (1)
هذا أوان تطاول الحا ... جات والأمل القصير
فانفح لنا من راحتي ... ك بلا القليل ولا النّزور
لا تحوجنّ إلى العصا ... ب وأنت في الضّرع الدّرور
آثار شكرك في فمي، ... وسمات ودّك في ضميري
وقصيدة عذراء مث ... ل تألّق الرّوض النّضير
فرحت بمالك رقّها، ... فرح الخميلة بالغدير
وكأنّه في رصفها، ... جار الفرزدق أو جرير
وكأنّه في حسنها ... بين الخورنق والسّدير
سهم العلى
(المتقارب)
رأيت المنى نهزة الثّائر، ... وسهم العلى في يد القامر
وما عدم المجد مستأسد ... يبلّ القنا بالدّم المائر
ولو ضمن العزّ بعض الوكور ... أغارت يداه على الطّائر
وإن ولج الضّغن أثوابه ... نضا لبدة الأسد الخادر (2)
__________
(1) التبرّض: التبلغ بالقليل الثمد: الماء القليل الجرور: البعيد القعر.
(2) الضغن: الحقد نضا: خلع، نزع اللبدة: العفرة، الشعر المجتمع بين كتفي الأسد الخادر: الأسد في خدره، في عرينه وأجمته.(1/397)
يسفّه في الرّوع فعل القنا، ... ويرضى عن المقضب الباتر
فشمّر لمظلمة ما تزا ... ل تقبض من بطشة النّاظر
ورد غمرة العزّ بين الرّماح، ... واحجر على الماء في الحاجر
رأيتك تصلى بحرّ الطّعا ... ن، كما صليت شحمة الصّاهر
أبثّك أنّي قطعت الزّما ... ن أطلب عزّي، أو ناصري
فما ارتاح همّي إلى صاحب، ... ولا نام عزمي على سامر
إذا قيّد اللّيل خطو المنى ... مشى النّوم في مقلة السّاهر
وإنّي أخفّ إلى المسمعا ... ت عن خطرة الشّغف الخاطر
وما ذاك جهلا، ولكنّه ... نزاع الجواد إلى الصّافر
ولولا القريض وأشغاله ... شغلت بغير المنى خاطري
وما الشّعر فخري، ولكنّه ... أطول به همّة الفاخر
أنزّهه عن لقاء الرّجا ... ل وأجعله تحفة الزّائر
فما يتهدّى إليه الملو ... ك إلّا من المثل السّائر
وإنّي، وإن كنت من أهله، ... لتنكرني حرفة الشّاعر
وطوّقني الدّهر ثني الزّما ... م، فالآن أهزأ بالزّاجر
وإنّي لألقى من النّائبا ... ت ملقى الأشاء من الآبر (1)
أؤ انس وحشيّ هذا البرو ... ق في موطن النّعم النّافر (2)
وأصحب فيها رفاق السّحا ... ب تنبو عن البلد العامر
لعلّي ألقى عصيّ النّوى، ... تأوّب ذي اللّبد الصّادر (3)
وكنت، إذا منحتني الملوك ... نزازا من النّائل الغامر (4)
أبيت القليل، ولكنّني ... رددت الرّذاذ على الماطر
__________
(1) الآشاء: صغار النخل الآبر: ملقّح النخل.
(2) البروق: السحاب البارق النعم النافر: الخير الذي لا ينال.
(3) النوى: الوجهة المطلوبة والهدف تأوّب: عودة.
(4) النزاز: ما ينز من الماء ويرشح النائل الغامر: العطاء الكثير.(1/398)
وما الفخر في أدب ناتج ... يضاف إلى مطلب عاقر
وكم قمت في مشهد للخطوب ... قياما بغيضا إلى الحاضر
أردّ النّوائب بالموسويّ، ... وأعطي الرّقائب بالنّاصري
ولولا الحسين عصبت الرّجاء، ... وأغضيت عن برقه النّائر
وأشمتّ بالقرب أيدي النّوى، ... وخاطرت بالطّمع العائر
إذا همّ باع الطّلى بالظّبى، ... وكفّ المعاقر بالثّائر
كأنّ الظّلام إذا خاضه ... تلثّم بالقمر السّافر
رأى المجد أعظم ما يقتنى، ... إذا السّيف عقّ يد الشّاهر
فطاعن حتّى استباح الرّما ... ح إنّ الغنيمة للظّافر
رمى بالجياد صدور الرّكا ... ب عن قدرة الآمل القادر
فقاد الجديل إلى لاحق، ... وأهدى الوجيه إلى داعر (1)
وأصبح، وهو وراء المط ... يّ يلعب بالأجرد الضّامر
إذا مشق الخفّ فوق البطا ... ح وقّع فيهنّ بالحافر
يوقّع ألحاظه، والشّجا ... ع يلحظ عن ناظر فاتر
إذا عزّ عن حلمه أوّل، ... فإنّ الحميّة في الآخر
فما انفرج الدّهر عن مثله ... إذا عصف الرّوع بالصّابر
أحدّ على الطّعن من صارم، ... وأصفح عن زلّة العاثر
وأجدر، إن نابه نائب، ... بردّ الأمور إلى الآمر
أبا أحمد! ثمرات المدي ... ح تحرز عن فرعك النّاضر
إذا العجز حطّ المعالي هجم ... ت على هالة القمر الباهر
وما زلت تعدل في الغادري ... ن، حتّى انتصفت من الجائر
أتتك تشبّب لبّ الفتى، ... كما مزّقت نفثة السّاحر
__________
(1) الجديل: الزمام المجدول لاحق ووجيه وداعر: أسماء فحول من الخيل معروفة.(1/399)
وقف على العبرات
(الكامل)
في هذه القصيدة يمدح أباه وقد توجه من فارس بصحبة شرف الدولة سنة 375.
وقف على العبرات هذا النّاظر، ... وكفاه سقما أنّه بك ساهر
ردّي عليه ما نضا من لحظه، ... خدّاك والغصن الوريق النّاضر (1)
فلأنت آمن أن يلومك عاذل ... في فرط حبّ، أو يغرّك عاذر
هذا الفراق، وأنت أعلم بالهوى، ... فارعي، فأيّام المحبّ غوادر
وأنا الفداء لمن أباح حمى الهوى ... فغدت تطاه مناسم، وحوافر
حوشيت أن ألقاك سارق لحظة ... تلد الوفاء، وأمّ عهدك عاقر
وأبى الهوى ما كدت أسلو في الكرى ... إلّا ارتقى طرفي الخيال الزّائر
اليوم جار البين في أحكامه، ... فكأنّ أسباب الوفاء جرائر (2)
هذي الدّيار لها بمنعرج اللّوى، ... قفرا، تجنّبها الغمام الباكر
أرض أقول بها لسانحة المها: ... أنا، إن عثرن، لعا وقلبي العاثر
قالت وقد غمرت دموعي وجنتي: ... لله ما فعل المحلّ الدّاثر
أغضيت عن وجه الحبيب تكرّما، ... وأريته أنّ الجفون كواسر
هب لي وحسبي نظرة أرنو بها، ... فمقرّها وجه الحسين الزّاهر
فلثمّ أبلج إن أهلّ جبينه ... جمحت إليه خواطر، ونواظر
قرب الغمام فعن قريب ينثني ... فيبلّ مربعك العريض الماطر
إن حلّ بيد فالخلاء محافل، ... أو قاد خيلا فالسّروج منابر
يا ابن الأكابر لا أقمت بمشهد، ... إلّا وذكرك في المكارم سائر
__________
(1) نضا: نزع، أخذ.
(2) جرائر، جمع جريرة: ذنب، إثم جريمة. أي أن البعد كان ظالما في حكمه، كما لو أن الوفاء في الحب ذنب يحاسب عليه صاحبه.(1/400)
ما سرت حتّى سار نعتك أوّلا، ... فسريت تتبعه، وهمّك آخر
نفثت لك الأمطار في عقد الرّبى، ... فقصدتها، إنّ الغمام لساحر
ذلّل ركابك أين سرت كأنّما ... وصّى المطيّ بك الجديل وداعر (1)
ما ضرّ من شرب الحمام تكرّها ... بظباك في روع، وأنت تعاقر
قضب الأعادي لا ترومي ضربه ... أبدا، فأنت لما يخدّ مسابر (2)
سايرت أزماني، فلم أبلغ مدى، ... حتّى استقلّ بي الثّناء السّائر
وصحبت أيّام الهوى فرأيتها ... سرحا حمته عواذل وعواذر
ورأيت أكبر ما رأيت متيّما ... متنازعاه آمر، أو زاجر
فندمت بعد الحبّ كيف أطيعه، ... وعصيت عزماتي، وهنّ أوامر
أبكي على الأيّام وهي ضواحك ... في وجه غيري وهو فيها حائر
لو شاب طرف شاب أسود ناظري، ... من طول ما أنا في الحوادث ناظر
أو أنّ هذي الشّمس تصبغ لمّة، ... صبغت شواتي طول ما أنا حاسر (3)
أو كان يأنس بالأنيس أوابد ... يوما، لزمّ لي النّعام النّافر (4)
ما المجد إلّا في السّرى، والحمد إ ... لّا في القرى، والمستغرّ الخاسر (5)
وغدا أمشّي العيس بين حطيطة ... ووديقة لم يغن فيها ماطر (6)
تندى مناسمها دما، وشفاهها ... تندى لغاما، والخفاف مشافر (7)
__________
(1) الجديل: اسم فحل للنعمان داعر: اسم فحل تنسب إليه الإبل.
(2) يخدّ: يشق مسابر، من سبر الجرح: تفحّصه ليعرف مدى عمقه.
(3) اللمّة: الشّعر المجاوز شحمة الأذن شواتي: جلدة رأسي حاسر:
كاشف عن الرأس.
(4) الأوابد: الوحوش زمّ: تقدّم في السير.
(5) السرى: السير ليلا، اقتحام الظلمة والمجهول المستغر: المخدوع.
(6) الحطيطة والوديقة: موضعان.
(7) اللغام: الزبد من الفم.(1/401)
يخبطن أجواز الصّفيح على الوجى، ... واللّيل منتشر القوادم طائر (1)
بينا يوسّدنا الكرى أعضادها ... حتّى قذفن النّوم، وهي نوافر
خوص، كأنّ عيونها في هامها ... قلب بعدن عن الورود غوائر (2)
وإذا عبرن بماء واد جزنه ... عجلا، يخدن، كأنّهنّ صوادر
وإليك أنحلت الفلا أخفافها، ... تطوى بهنّ قبائل وعمائر (3)
يحملن ركبا مغرمين، إذا سروا ... رفعت لهم تحت الظّلام عقائر (4)
نحلوا من البلوى نحول مطيّهم ... فضوامر من فوقهنّ ضوامر
فأتتك لو كلّفت ما كلّفتها ... نوب الزّمان أتتك، وهي زوافر
لله صبرك حيث تفترق الظّبى ... بين الهوادي، والقنا متشاجر (5)
واليوم أسود لمّة من ليله، ... سترتك منه ذوائب وغدائر
في حيث سدّ على الطّيور مجالها، ... حتّى رعى ما في الوكور الطّائر
لثّمت خدّ الشّمس منه بأسود، ... والنّور يشهد أنّ وجهك سافر
يوم تودّ السّمر أنّ صدورها، ... لتعدّ ما كسبت يداك، خناصر
والسّبي تعصف بالجيوب أكفّها، ... في جنب ما عصفت قنا وبواتر
فعلى النّساء من الخروق يلامق ... وعلى الرّجال من النّجيع مغافر (6)
__________
(1) الصفيح: الحجارة الوجى: الحفا القوادم: الريش الكبير، استعاره لليل.
(2) خوص: الغائرة العيون وهي صفة مستحبة في النياق قلب، جمع قليب: البئر.
(3) عمائر: قبائل.
(4) العقائر، جمع عقيرة: الصوت العالي، ورفع عقيرته: رفع صوته.
(5) الظبى: السيوف الهوادي: النياق العالية الأسنمة القنا متشاجر:
الرماح متداخلة.
(6) اليلامق، جمع يلمق: القباء أو القنباز النجيع: الدم المغافر، جمع مغفر: زرد يلبس على الرأس تحت القلنسوة.(1/402)
ولّوا، وأيديهم على هاماتهم، ... فكأنّما تلك الأكفّ معاجر (1)
وبذلت أجساد الكماة لوحشة، ... فعلمن أنّك أنت فيه الظّافر
أنّى تعرّس فالرّياض مطافل ... لسوام إبلك، والوحوش جآذر (2)
وإذا تسالم فالسّموم صوارد ... وإذا تحارب، فالنّسيم هواجر (3)
وكأنّ رمحك حالب لدم الطّلى، ... وكأنّ سيفك في الجماجم جازر (4)
لو تعلم الأفلاك أنّك والدي، ... لم ترض أنّي للسّماء مصاهر
وبحسب جودك أنّني لك مادح ... وبحسب مدحي أنّني بك فاخر
إنّ الّذي حلّته غرّ مدائحي، ... ندب كساه مفاخر ومآثر
كثرت نعوت صفاته في مدحه، ... فكأنّ مادحه المفوّه سامر
كفل البقاء بنفسه فلو انقضى ... ذا الدّهر عاوده الزّمان الغابر
واليوم كم في صدره لك آمل ... يعطى، وكم في عجزه لك شاكر
أمعشّر الأحداث في أذيالها ... ناجاك مدحي، والجدود عواثر
إنّي رضيتك في الزّمان ممدّحا، ... وعلاك لا ترضى بأنّي شاعر
ثقا بالإله
(المتقارب)
بمناسبة خلاص والده وأخيه من القلعة في شيراز وضع الشريف هذه القصيدة.
__________
(1) المعاجر، جمع معجر: ثوب تشده المرأة على رأسها.
(2) تعرّس: تقيم المطافل، جمع مطفل: المكان الرخص والناعم جآذر، جمج جؤذر: ظبي.
(3) السّموم: الرياح الحارة صوارد: باردة.
(4) الطلى: الأعناق.(1/403)
من الظّلم أن نتعاطى الخمارا، ... وقد سلبتنا الهموم العقارا (1)
وفينا شآبيب صرف الزّمان، ... تروى مرارا وتظما مرارا (2)
تخيّرني عفّتي والغنى، ... ومن لي أنّي ملكت الخيارا
ولو أنّ لي رغبة في النّوا ... ل أجممته، واجتديت البحارا (3)
وهوّن صولته أنّني ... أرى العيش ثوب بلى مستعارا
فما أركب الخطب إلّا جليلا، ... ولا أجذب الأمر إلّا اقتسارا
وكنت، إذا ما استطال العدوّ ... نثلت عليه القنا والشّفارا
وكم لي إلى الدّهر من حاجة ... أبلّ بها ذابلا أو غرارا (4)
تجرّ إليها ذيول المنى، ... ويخلع فيها الزّمان العذارا
ويوم تخرّقت فيه السّيوف، ... وخضت إليه الدّماء الغزارا
أثرت العجاج عليه دخانا، ... وأضرمت من مائر الطّعن نارا (5)
وعانقت من بيضه في النّجيع ... شقيقا، ومن سمره جلّنارا
وليلة خوف شعار الفتى ... يصافح بالسّمع فيها السّرارا
أبحنا حماها أكفّ المطيّ، ... حتّى انتهبنا الرّبى والجرارا (6)
وأرض مقنّعة بالهجي ... ر تنضو من الآل عنها خمارا (7)
هجمت على جوّها بالرّماح ... تبني من الطّلّ فيها منارا
فما أرتعت من شعبات الحمام، ... ولا خفت فيه لأمر خطارا (8)
__________
(1) الخمار: صداع الخمر العقار: الخمر.
(2) شآبيب، جمع شؤبوب: دفعة المطر، استعارها لنكبات الزمن.
(3) أجممته: جمعته، من أجمّ الماء: تركه يجتمع اجتديت: طلبت.
(4) الذابل والغرار: الرمح والسيف.
(5) مائر الطعن: ما يسيله الطعن من دماء.
(6) الجرار: الوهاد، جمع جر.
(7) تنضو من الآل عنها خمارا: تخلع من السراب عليها سترا.
(8) شعبات الحمام: مزالقه الخطار: الخطر.(1/404)
وفلّلت من جنبات الخطوب ... بعزم، إذا جار دهر أجارا
وممّا يحلّل ذمّ الزّما ... ن إقصاؤه الماجدين الخيارا
أسمعي ذؤابة هذا الأنام ... دعاء يجرّ عليّ الجهارا
ثقا بالإله، فإنّ الزّما ... ن يعطي أمانا ويمطي حذارا
ولا عجب أن يعير الثّراء، ... فالمجد أكرم من أن يعارا
إذا سالم الموت نفسيكما، ... فلا حارب الدّهر إلّا اليسارا
أصابتكما نكبة فانجلت، ... وعاودتما العزّ إلّا الدّيارا
ودهر يردّ علينا العلا ... ء، أجدر به أن يردّ الغفارا (1)
ألم تر يا من رمته الخطوب ... يمينا تنازعه أو يسارا
ومن خوّض الدّهر من ماله ... قوارح أحداثه والمهارى
وما أكل الخطب من عزّنا، ... وكنّا له سلعا أو مرارا (2)
بنينا مصاد العلى مصمتا، ... فبعثر للذّلّ فيه وجارا (3)
عقدنا بباع الرّدى ذمّة، ... فحلّ الذّمام وفضّ الذّمارا
ونحن نؤمّل أنّ الزّمان ... يردّ الّذي من علانا استعارا
ونملك أعناق أحداثه، ... فنلبسها مسحلا أو عذارا (4)
وتجلو غمايمها عنكما ... هموما تظلّ القلوب الحرارا
ويعطيكما الله نفس الحسو ... د رقّا مسلّمة، أو أسارى
ويرجع شانيكما شاحبا، ... ينفّض عن منكبيه الغبارا (5)
ومن قمر الدّهر أمواله ... قضى جدّه أن يردّ القمارا (6)
__________
(1) الغفار (بالضم): شعر كالزغب يكون على العنق والقفا.
(2) السلع والمرار: من أنواع الشجر المر.
(3) المصاد: مكان الصيد الوجار: الجحر، الوكر.
(4) المسحل: اللجام العذار: ما سال من اللجام على خد الفرس.
(5) شانيكما: مبغضكما، الحاقد عليكما.
(6) قمر: راهن، لعب في القمار القمار: ما خسر في المقامرة، الرهان.(1/405)
وحسبك كيدا يميت العدوّ ... أن يطلب الذّلّ منك الفرارا
لئن جلتما في مكرّ الزّمان، ... فبوّاكما من مداه العثارا
فما يقرع الجهل إلّا الحليم، ... ولا ينكث الخرق إلّا الوقارا
تفرّق مالكما في العدى، ... وشخصكما واحد لا يمارى
ولم ألق منفردا في الزّمان ... يسائل عن إلفه: أين سارا
سأنتظر الدّهر ما دام لي ... بوعد وأسأر عندي انتظارا (1)
لحى الله دهرا كثير العدوّ ... حتّى الظّلام يعادي النّهارا
تصفّحت أوجه أبنائه، ... فلم يجد اللّحظ فيهم قرارا
رأيت الصّباح يذمّ المسا ... ء ذمّي، ويكره منه الجوارا
ويشحب فيه على أنّه ... يبدّل في كلّ يوم صدارا (2)
فكونوا كما أنا في النائبات ... آبى مع القدح إلّا استعارا
فما غرّني جوده بالثّراء، ... وما زادني منه إلّا نفارا
صهوات الدهر
(الوافر)
أما ذعرت بنا بقر الخدور، ... وغزلان المنازل والقصور (3)
عشيّة ما التفتن على رقيب، ... ولا استحيين من نظر الغيور
أما والله لو أطلقت شوقي ... لفاض على التّرائب والنّحور (4)
أكنت معنّفي لمّا التقينا ... على وطر من الدّمن الدّثور
__________
(1) أسأر: أبقى.
(2) الصدار: قميص يغطي الصدر من دون كمين.
(3) بقر الخدور: النساء.
(4) الترائب، جمع تريبة: عظمة في أعلى الصدر.(1/406)
نبلّ من الدّموع على زفير ... مراتع ذلك الظّبي الغرير
وقد أظما الهوى منّا قلوبا، ... كرعن من الصّبابة في غدير
وللسّير التدام في المطايا، ... وللبين احتدام في الصّدور (1)
أحين جذبتم الأوطان عنّا ... بأعناق المخطّمة النّفور (2)
وجدن الشّجو في نغم الأغاني، ... ونشو الشّوق في نطف الخمور
بواقينا تتيّم بالمواضي، ... وزائرنا يتيه على المزور (3)
سقى الله البطاح وما تصدّى ... لنا بين الخورنق والسّدير
وآراما برامة، كلّ غيث ... تملّس من سحائبه مطير (4)
ففيها هزّني أرج الخزامى، ... وأعداني على نار الهجير
قبضت يد السّحاب بفيض دمعي، ... وأسكتّ الحمايم بالزّفير
ركبت إليك أعجاز اللّيالي، ... أخوص من المساء إلى البكور
وفتيان تهزّهم المذاكي، ... بأطراف الحمايل والسّيور (5)
فجئتك راكبا صهوات دهر ... كثير وقائع الجدّ العثور
لحى الله أمرأ ينضو حساما، ... فيجبن، وهو ملآن الضّمير
أما في هذه الدّنيا نجيب ... يساعدني على حرب الدّهور
فنشرب آجن الغدران فيها، ... إذا ما الذّلّ حام على النّمير (6)
ونلقى أشهب الأمواه ترمي ... برغبتنا إلى شبه البحور
أبيت، إذا المطامع أيقظتني، ... ألا حظهنّ عن طرف كسير
__________
(1) التدام: التطام.
(2) المخطمة النفور: الناقة ترفع خطمها وتعاند.
(3) البواقي، جمع بائقة: الداهية، الشر يتيه: يتعالى.
(4) الآرام: حجارة تنصب في المفاوز للاهتداء بها، جمع إرم رامة:
اسم موضع.
(5) المذاكي، جمع مذكي: هو من الخيل ما تمّ سنه وكملت قوته.
(6) الآجن: الماء العكر النمير: الماء الزلال الصافي.(1/407)
وأملأ مقلتيّ من العوالي، ... إذا امتلأت من العلق الغزير
ويعجبني أطيط الرّحل ترمي ... أزمّته السّهول إلى الوعور (1)
ولا أرضى مصاحبة الهوينا، ... إلى طرق المطالب والشّقور (2)
ويصحبني ذؤالة مستريبا ... بشخصي في الأماعز كالخفير (3)
لأنّي ما تحيّفني زمان، ... فأحوجني الحسام إلى نصير
ولا اقتضت الهواجر لثم خدّي ... فماطلها لثامي عن سفوري
وكنت، إذا توعّدني قبيل ... وربّى الطّعن في البيض الذّكور (4)
رميتهم بمحتبل الأعادي، ... وقاطع حبوة الملك الخطير (5)
كأنّي لم أشقّ على اللّيالي ... بحرب، أو خصام، أو مسير (6)
ولا أضحكت سيفي في جهاد ... يمزّق عنه تعبيس الثّغور
عذيري من بلاد ليس تخلو، ... سوائي، من مليك أو أمير (7)
تضنّ وقد ضننت، فما أراها ... بعين المستعير، ولا المعير
إذا أدنيت رجلي من ثراها، ... فزعت بها إلى قتد البعير
أرى ترك الصّلاة بها حلالا، ... فما أمتاحها ماء الطّهور (8)
وكيف تتمّ في بلد صلاة، ... وجلّ بقاعه قبل الفجور
ألاحظ في جوانبها رجالا، ... فأعرف من أرى غير النّظير
__________
(1) الأطيط: الأصوات التي تحدثها الابل في سيرها.
(2) الشقور: الأمور المهمة.
(3) ذؤالة: اسم علم للذئب الأماعز، جمع أمعز: الأرض الصلبة والكثيرة الحجارة الخفير: الحارس.
(4) ربّى الطعن: هذّبه البيض الذكور: السيوف القاطعة.
(5) المحتبل، من الأحبولة: المصيدة الحبوة: ما يحتبى به أي يشتمل به.
(6) أشق: أوقع المشقة.
(7) العذير: النصير، المساعد.
(8) امتاح الماء: نزعه.(1/408)
تغمّض عن وجوههم الدّراري، ... وتسحب فيهم غرر البدور
علت أصواتهم صوتي، ولكن ... صهيل الخيل يطرق للهرير (1)
مضوا إلّا بقايا سوف تمضي، ... وشرّ القوم شذّ عن القبور
وما زالت جمام الماء تفنى، ... وتختم مدّة الثّمد الجرور (2)
ونكس شاطرته من اللّيالي ... يد عن شيمتي كرم وخير
فأصبح لا يرى للمال عتقا، ... وتملك كفّه رقّ البدور (3)
تخيّل ضوء درهمه الأماني ... مضاجع هامة القمر المنير
صحبنا الدّهر، والأيّام بيض، ... ونحن نواضر سود الشّعور
فلمّا اسودّت الدّنيا برزنا ... لها بيض الذّوائب بالقتير (4)
تميل على مناكبنا اللّيالي، ... بألوان الغدائر والضّفور
ونرسب في مصائبها، ونطفو ... لغير بني أبينا بالسّرور
إذا لحظت عزائمنا التقينا ... إلى مقل من الأيّام حور
ترينا في جباه الأسد ذلّا، ... وفي حدق الأراقم كالفتور (5)
أقول لناقتي، واليوم يملا ... إناء البيد من ماء الحرور (6)
وقد سحبت ذوائبها ذكاء ... على قمم الجنادل والصّخور (7)
نمرّ على الظّباء مكنّسات، ... كما قطن العذارى في الخدور (8)
__________
(1) يطرق: يصمت للإصغاء.
(2) جمام الماء: الماء الكثير مدّة (بفتح الميم)، من مده بالماء: ساعده فيه، زاده فيه الثمد: الماء القليل.
(3) البدور، جمع بدرة: كيس فيه عشرة آلاف درهم.
(4) القتير: الشيب.
(5) الأراقم: الحيّات.
(6) ماء الحرور: المياه الحارّة، والحرور: الرياح الساخنة.
(7) ذكاء: اسم علم للشمس.
(8) مكنسات: في الكناس، في المبيت.(1/409)
تعاتبها المراتع في الفيافي، ... ويشكوها الكباث إلى البرير (1)
إذا باب الحسين أضاف رحلي، ... أذمّ على المطيّ من المسير
فثمّ الغيث معقود النّواصي، ... وليث الغاب محلول الزّئير
أطال العشب من سرر الرّوابي، ... وحطّ الماء في قطع الصّبير (2)
سماح في جوانبه إباء ... كحسن الماء في السّيف الشّهير (3)
فتى يصلى بأطراف المواضي، ... ونار الحرب طائشة السّعير
ويمشق بالعوالي في الهوادي، ... وطرس اليوم مختلط السّطور (4)
يردّ الشّمس مطروفا سناها، ... وقد حجبت بأجنحة النّسور
همام جرّ أرسان المعالي ... إليه، وطاس أطناب الأمور (5)
يشاور، وهو أعلم بالقضايا، ... فيسبق رأيه قول المشير
ويفرغ صائبات الرّأي فيها، ... كإفراغ النّبال من الجفير (6)
رمى بالنّار في ثغر الدّياجي، ... وأدّب شيمة الكلب العقور
لمزؤود تقاذفه المطايا، ... ويسنده إلى ظهر حسير (7)
على ظلماء قابضة إليه ... بلحظ المجتلي ويد المشير
تناعص نجمها عن كلّ سار، ... فيقظ بين راحلة وكور (8)
متى ألقاك قائدها عرابا ... مثلّمة الأشاعر والنّسور (9)
__________
(1) الكباث: ما نضج من ثمر الأراك البرير: الفج من ثمر الأراك.
(2) سرر الروابي: أفضل مواقعها الصبير: السحاب.
(3) الماء في السيف: جوهره، بريقه، طيبه.
(4) يمشق: يسرع بالطعن العوالي: الرماح الهوادي: النياق.
(5) طاس: وطئ.
(6) الجفير: جعبة من الجلد للنبال.
(7) المزؤود: الخائف.
(8) تناغص: تعامى الراحلة: الناقة المحمّلة الكور: حمل الناقة.
(9) عرابا: سريعا الأشاعر: ما استدار بالحافر من طرف الجلد النسور، جمع نسر: لحمة في باطن الحافر.(1/410)
تهادى كالعذارى حاليات، ... معاقد حزمها بدل الخصور (1)
فأسبح من دمائك في خلوق، ... وأرفل من عجاجك في عبير
إذا ركضت بساحتك اللّيالي، ... فلا زالت تقاعس في الشّهور
وإن طالت بها أيدي الأماني، ... فلا امتدّت يد الوعد القصير
ولا زالت رماحك مطلقات ... تردّدها إلى الأجل الأسير
بغير شفيع
(الطويل)
في هذه المطوّلة يمدح والده ويذم بعض أعدائه، وقد نظمها سنة 374.
بغير شفيع نال عفو المقادر، ... أخو الجدّ لا مستنصرا بالمعاذر
وأعجب فعلا من قعودي على العلى، ... سراي بأعقاب الجدود العواثر
أؤمّل ما أبقى الزّمان، وإنّما ... سوالفه معقودة بالغوابر
فخلّ رقاب العيس يجذبها السّرى ... بآمال قوم محصدات المرائر (2)
فما التذّ طعم السّير إلّا بمنية، ... وإنّ الأماني نعم زاد المسافر
ودون مداراة المطيّ على الوجى ... مشاغبة الأشجان دون الضّمائر (3)
فليت قلوب العاشقين إذا ونى ... بها السّير كانت في صدور الأباعر
ولله قلبي ما أرقّ على الهوى، ... وأصبى إلى لثم الخدود النّواضر
يحنّ إلى ما تضمن الخمر والحلى، ... ويصدف عمّا في ضمان المآزر (4)
__________
(1) تهادى: تتهادى حاليات: عليهن الحلي.
(2) محصدات المرائر: مفتولة الحبال، وثيقة.
(3) الوجى: الحفا.
(4) الخمر، جمع خمار: ستر، وشاح، وفي القول كناية عن وجوه الحسان يصدف: يعرض، يصرف النظر المآزر، جمع مئزر: ستر، لباس.(1/411)
ولمّا غدونا للوداع ونقّرت ... صروف النّوى دون الخليط المجاور (1)
عنيت من القلب العفيف بعاذل، ... ومن خدع الشّوق السّفيه بعاذر
عشّية لا عرس الوفاء بمرمل ... لدينا، ولا أمّ الصّفاء بعاقر (2)
ومن لم ينل أطماعه من حبيبه ... رضي، غير راض، بالخيال المزاور
وكنت أذود الدّمع إلّا أقلّه ... لسقيا حمى من بعد بينك داثر
وإنّي لا أرضى، إذا ما تحمّلت ... إليه مرابيع السّحاب المواطر
كليني إلى ليل، كأنّ نجومه ... تغازل طرفي عن عيون الجآذر (3)
أمرّ بدار منك مشجوجة الثّرى ... بمجرى نسيم الآنسات الغرائر (4)
تمرّ عليها الرّيح، وهي كأنّها ... تلفّت في أعطاف تلك المقاصر
ويشهق فيها بالأصايل والضّحى ... حيا كلّ عرّاص الشّآبيب ماطر (5)
ويستنّ فيها البرق حتّى تخاله ... يفيض بفيض القطر في كلّ حاجر
ولمّا رأيت اللّيل مسترق الخطى، ... وأطرافه تجلو وجوه التّباشر (6)
أرقت لأجفان الرّكائب هبّة ... بألحاظ جوّال العزائم ساهر
رسيما به يعتلّ بالأعين الكرى، ... وينشقّ عن مكنونه كلّ ناظر (7)
بيهماء يستغوي الحداة سرابها ... على ظما بين الجوانح ثائر (8)
__________
(1) نقرت: نبهت.
(2) مرمل: نافد. أي أنهم يحافظون على الوفاء فلا ينفد ولا ينضب، كما يحافظون على صفاء المودّة.
(3) الجآذر، جمع جؤذر: غزال.
(4) مشجوجة: ممزوجة الغرائر: الفتيّات.
(5) الحيا: المطر العرّاص: السحاب ذو البرق والرعد الشآبيب، جمع شؤبوب: دفعة المطر.
(6) التباشر: أوائل الصباح.
(7) الرسيم: ضرب من سير الابل يعتل: يتعلل.
(8) اليهماء: الفلاة لا ماء فيها الجوانح: الاحشاء.(1/412)
ويحبو بها الأعياس حتّى كأنّها ... تنصّ على أخفافها بالكراكر (1)
ومولى أدانيه على السّخط والرّضى، ... ويبعط عنّي، والقنا في الحناجر (2)
يهزّ عليّ السّوط، والرّمح دونه، ... وهزّ العوالي غير هزّ المخاصر
عطفت له صدر الأصمّ، وتحته ... عواطف أسباب الحقود النّوافر
فخرّ، وفيه للطّعان مناظر ... يطالعها طير الفلا بالمناسر
فما ظفرت من نفسه أمّ قشعم، ... بما ظفرت من جسمه أمّ عامر (3)
وركب تفادى النّوم أن يستخفّه ... إذا ما الكرى ألقى يدا في المحاجر
وردت به بحبوحة الورد، فانثنى ... يقلّص صافي مائه في المشافر
وغادر أحشاء الغدير ضوامرا، ... من الماء في ظمء النّواحي الضّوامر
ورود خفيف الورد أوّل وارد ... طروقا إلى ماء، وأوّل صادر
إذا هزّ أطراف الخليج رمت به ال ... موارد خفّا في وجوه المصادر
وكان إذا ما عاقه بعد مطلب ... يضعضع أعضاد المطيّ الزّوافر
تمرّس بالأيّام حتّى ألفنه، ... وكرّ على أحداثها والدّوائر
وأخطأ سهم القطر مقتل محله ... فزمّ قسيّ العاديات الهوامر (4)
فتى حين أكدت أرضه هجمت به ... على لابن من آل عدنان تامر (5)
على ماجد لا يسرح اللّؤم عنده، ... ولا تدّرى أفعاله بالمناكر (6)
__________
(1) الأعياس: النياق، جمع عيس تنص: تحث على السير الكراكر:
الصدور.
(2) يبعط: يبعد.
(3) أم قشعم: المنية أم عامر: الضبع.
(4) القطر: النحاس المحل: الخديعة والكيد، ورجل محل: لا نفع منه زم: تقدم في السير القسي: السير الشديد العاديات: الخيل الهوامر: الضاربات بالحوافر.
(5) أكدت: بخلت في العطاء لابن: ذو اللبن وكثيره، ساقي اللبن.
(6) ماجد: صاحب المجد.(1/413)
إذا راوح الرّعيان ليلا سوامه، ... فقد لفّها جنح الظّلام بعاقر
تفرّعت حتّى عوّدتني رماحه، ... فعوّدت من سوء الظّنون سرائري
تشابه أيّامي به، فكأنّما ... أوائلها ممزوجة بالأواخر
هو الواهب الألف الّتي لو تسومها ... قبيلا، فداها بالجديل وداعر (1)
يطول إذا مدّ الرّدينيّ باعه، ... وعانق أعناق الرّجال المساعر (2)
فيفري طريقا للسّبار، كأنّما ... لها ذمّة في الطّعن، رسل المسابر (3)
تعلّق في ثني العرين بعزمة ... تذلّل أمطاء اللّيوث الخوادر
فطرّدها حتّى استباح شبولها، ... وما ضعضعته أسدها بالزّماجر
يخفّ إليه الجيش، حتّى كأنّه ... يمدّ بأعناق النّعام النّوافر
جزى الله عنه الخيل ما تستحقّه ... إذا رقصت بالدّارعين المغاور
وخبّت على بيداء تشرق ماءها ... عن الرّكب في طيّ العيون الغوائر (4)
تمرّ على المعزاء خفّاقة الحصى، ... وتحثو بوجه الشّمس ترب القراقر (5)
وتسترعف الآفاق لمع صفائها ... بمغبّرة تمحو سطور الهواجر (6)
حمى بيضة الإسلام بالحقّ فاحتمت ... وقرّت بأعشاش الرّماح الشّواجر
ومن قبل ما كانت تقلقل خيفة ... وترقب في الأيّام وهصة كاسر (7)
إذا عبّقت أخلاقه أرج العلى، ... تضوّع في الحيّين كعب وعامر
ولمّا انجلت من حوزة الشّرك فرصة ... تقنّصها والدّين دامي الأظافر
__________
(1) الجديل وداعر: فحلان.
(2) الرديني: الرمح المساعر الطوال الأعناق.
(3) يفري: يشق السبار: ما يسبر به غور الشيء الرسل: التمهل، الرفق.
(4) تشرق: تغص ماءها: الأصل تشرق بمائها، فنصبها بنزع الخافض.
(5) المعزاء: الأرض الصلبة الغليظة القراقر، جمع قرقرة: الأرض اللينة.
(6) تسترعف: تجعلها ترعف اي تنزف، استعارها للقول إن الآفاق فقدت بريقها.
(7) تقلقل: تتقلقل الوهصة: الوطأة الشديدة والرمي العنيف.(1/414)
تداركها والرّمح يركب رأسه، ... فيرعف من قطر الدّماء القواطر
بطعن كولغ الذّئب، إن زعزع القنا ... سقاها شآبيب الدّماء الموائر (1)
أفاض على عدنان فضل وقاره، ... وقد مسّها طيش السّهام الغوائر
فبوّأ أوفاهم يدا قلّة العلى ... ومدّ بأضباع الرّجال البحاتر (2)
إذا جنبوه للرّهان أتوا به ... جوادا يفدّى شاؤه باليعافر (3)
يغطّي على أوضاحها بغباره، ... ويخرج سهلا من جنوب الأواعر
إذا ذكروه للخلافة لم تزل ... تطلّع من شوق رقاب المنابر
لعلّ زمانا يرتقي درجاتها ... بأروع من آل النّبيّ عراعر (4)
ومن لي بيوم أبطحيّ سروره، ... يجوّل ما بين الصّفا والمشاعر
فها إنّ طوق الملك في عنق ماجد ... وإنّ حسام الحقّ في كفّ شاهر
ويا ربّ قوم ما استعاضوا لذلّة ... شهيق العوالي من حنين المزامر
كؤوسهم أسيافهم وخضابها ... إذا جرّدوها من دماء المعاصر
رضوا بخيال المجد والشّخص عنده، ... وما قيمة الأعراض عند الجواهر
هم تبعوه مقصرين، وربّما ... توسّدت الأظلاف وقع الحوافر
إذا عدّدوا المجد التّليد تنحّلوا ... على تتبرّى من عقود الخناصر
حريّون إلّا أن تهزّ رماحهم، ... ضنينون إلّا بالعلى والمفاخر
هم انتحلوا إرث النّبيّ محمّد، ... ودبّوا إلى أولاده بالفواقر (5)
وما زالت الشّحناء بين ضلوعهم ... تربّي الأماني في حجور الأعاصر
إلى أن ثنوها دعوة أمويّة، ... زوتها عن الإظهار أيدي المقادر
__________
(1) الولغ: هو اللعق باللسان الموائر، من مار الدم: اي جرى مضطربا.
(2) القلّة: القمة البحاتر، القصار، جمع بحتر.
(3) الشاء: الشاة اليعافر، جمع يعفور: الغزال.
(4) العراعر: الشريف.
(5) الفواقر: الدواهي، جمع فاقرة.(1/415)
ولو أنّ من آل النّبيّ مقيمها ... لعاجوا عليه بالعهود الغوادر
فما هرقوا في جمعها ريّ عامل ... ولا قطعوا في عقدها شبع طائر
وقد ملأوا منها الأكفّ، وأهلها، ... فما ملأوا منها لحاظ النّواظر
فراشوا لهم نبل العداوة بعد ما ... بروها وكانت قبل غير طوائر (1)
شهدت لقد أدّى الخلافة سيفه ... إلى جانب من عقوة الدّين عامر (2)
يفرّق ما بين الكؤوس وشربها، ... ويجمع ما بين الطّلى والبواتر (3)
فيرفع صدر السّيف إن حطّ كأسه، ... ويمري دماء الهام إن لم يعاقر
وينهض مشتاقا إلى مصرخ القنا، ... فيسحب بردي فاسق السّيف طاهر
معظّم حيّ ما رمته هجيرة، ... فقعقع في أعراضها بالهواجر
ولمّا طغت عيلان في عشق غيّها ... رماها من الكيد الوحيّ بساحر (4)
رماهم من الرّمح الطّويل بحالب، ... ومن شفرة العضب الحسام بجازر
وأضرم نارا، فاسترابوا بضوئها، ... وما هي إلّا للضّيوف السّوائر
فلمّا تراخت في الضّلال ظنونهم ... تراخى فطارت ناره في العشائر
ولمّا أروه نفرة العار خافها، ... ولو نفرت أرماحهم لم تحاذر
فأرسلها شعواء تقدح نارها ... على جنبات الأمعز المتزاور (5)
شماطيط يجرون الحديد كأنّما ... مشين على موج من اليمّ زاخر (6)
عليها من البيض العوارض فتية ... خضاب قناها من دماء المناحر
مفارق لا يعلو عليها مطاول، ... غداة وغى، إلّا قباب المغافر (7)
__________
(1) غير طوائر: غير فراشة، غير مهيأة.
(2) العقوة: ما حول الدار والمحلّة.
(3) الشّرب: جماعة الشاربين الطلى: الأعناق.
(4) الوحيّ: السريع.
(5) شعواء: ممتدّة وعنيفة الأمعز: المكان الصلب المتزاور: المعوج.
(6) شماطيط: متفرقون.
(7) المغافر، جمع مغفر ومغفرة: زرد يلبسه المحارب تحت القلنسوة.(1/416)
فجاؤوك والخيل العتاق طلائح ... تضاءل من عبء الرّماح العواثر
وما حرّكوها للطّعان، كأنّما ... زجاج قناها علّقت بالأشاعر
وجارت سهام الموت فيهم، وإنّما ... دليل المنايا في السّهام الجوائر
وطأتهم باللّاحقيّات وطأة ... تذلّل خدّ الجانب المتصاغر (1)
فأزعجت دارا منهم مطمئنّة، ... وأخليتها من كلّ عاف وسامر (2)
شننت بها الغارات حتّى ترابها ... يثور على العادات من غير حافر
وكلّ فتاة من نزار تركتها ... تريع إلى ظلّ الرّبوع الدّواثر
تحشّش في أذيالها مستكينة، ... وتحطب ذلّا في حبال الغدائر (3)
وكلّ غلام منهم شام سيفه ... رأى فيه وجه الحقّ طلق المناظر
ولمّا امتطى ظهرا من الغيّ كاسيا ... تندّم أن أعرى ظهور البصائر
جفته العلى، فانسلّ من عقداتها، ... وما علقت أعطافه بالمآثر
ولو لم تمسّح بالأمان رؤوسهم ... لما أنست هاماتهم بالغفائر
تفرّت قلوب القوم حتّى تهتّكت ... بما استترت فيه بنات السّرائر
أبا أحمد ثق بالمعالي، فإنّها، ... إذا لم ترع بالبخل غير غوادر
فما مالك المدخور إلّا لطالب، ... ولا ربعك المعمور إلّا لزائر
ولا تطلبا ثار الرّماح، وإنّما ... دماء المعالي في رقاب الجرائر (4)
جلوت القذى عن مقلتيّ فباشرت ... صنيعك أجفاني بألحاظ شاكر
فإن هزّ يوما فرع ملكك حاسد ... فإنّ المعالي محكمات الأواصر
هو العود سهل للسّماح جناته، ... ولكن على الأعداء وعر المكاسر
__________
(1) اللاحقيات: النياق.
(2) العافي: الضيف السامر: الساهر.
(3) تحشش: تجمع الحشيش الغدائر، جمع غديرة: المضفور من شعر النساء.
(4) تطلبا: الألف جاءت بدلا من نون التوكيد الخفيفة، والأصل تطلبن الجرائر، جمع جريرة: الذنب والجناية.(1/417)
أذمّ على الأيّام من كلّ حادث، ... وحاط جناب الدّين من كلّ ذاعر (1)
وضمّ شفاه الوحش حتّى ظننته ... سيصدى صقالا في نيوب القساور (2)
وما زال يسمو بالمعالي كأنّها ... تجرّ إليه بالنّجوم الزّواهر
له سابقات القبل في كلّ أوّل، ... مضى، وبقاء البعد في كلّ آخر
ترفّع في العلياء عن وصف مادح، ... ورفّعت عن مدح الملوك خواطري
فما هو لولا ما أقول بسامع ... ولا أنا لولا ما يمنّ بشاعر
بلاء القلب
(مجزوء الوافر)
نظمها في مدح والده.
بلاء القلب ناظره، ... وأنجى النّاس كاسره
إذا ما عنّ حسن لم ... تشبّثه نواظره
وأذكى المضمرات حشا ... تطهّره ضمائره
وتشهد بالعفاف على ... بواطنه ظواهره
وما فخر العفيف الجس ... م إن فسقت سرائره (3)
ولي طرف تصرّفه ... على حكمي محاجره
وقلب عاقر في الدّه ... ر من داء يخامره
ولفظ فم إذا ما جا ... ل لا تخشى هواجره (4)
وربّ سنا أرقت له ... يخادعني تباشره
__________
(1) أذمّ: أجار ذاعر: خبيث.
(2) القساور، جمع قسور: الأسد.
(3) سرائره: دواخله، بواطنه.
(4) الهواجر: القبيح من الكلام.(1/418)
حيا يستنّ بارقه، ... كما يستنّ ماطره
ويشدو فيه راعده ... كما تشدو زواخره
ومسجور على جدد ... تمطّى بي هواجره (1)
تخرّ لنهضه الحربا ... ء، ساجدة يعافره (2)
ترشّفني موارده ... وتلفظني مصادره
ونائي الحجرتين يكا ... د يدنيه تضافره (3)
تمسّ أسنّة الأرما ... ح من طول مغافره (4)
كأنّ الشّمس ترمقه ... فتخجلها بواتره
وتطرد ضوءها منه، ... على ذعر كواسره
فما ينساب لحظ الشّم ... س، أو ينساب طائره
يمجّ شعاعها تبرا، ... قوادمها نواثره
دنانير تلمّع من ... مواقعها دياجره
تنقّل في مغافره، ... كما انتقلت حوافره
وكلّ ملثّم بالنّق ... ع هافية غدائره
يخفّ مشيّعا كبرت ... بصارمه جرائره
وينثر طعنه شزرا، ... إذا انتظمت مفاخره
وليس كهائب يلقى ... الرّدى والسّيف زاجره
يروح عن الوغى أبدا ... مرفّهة ضوامره
وما حطمت ذوابله، ... ولا قرعت محاضره
ولا قبضت أنامله ... على مال زواجره
__________
(1) المسجور: الموقد الجدد: الأرض الغليظة المستوية، وما استرق من الرمل.
(2) اليعافر، جمع يعفور: غزال بلون التراب.
(3) الحجرتين: الناحيتين.
(4) المغافر، جمع مغفر ومغفرة: زرد يلبسه المحارب تحت القلنسوة.(1/419)
ولا ثنيت له إلّا ... على مجد خناصره
إذا ذكر اسمه ارتجّت، ... أو ارتعدت منابره
وحيد في طلاب المج ... د، ترفضه عشائره
ويعلم جرح صارمه ... بأنّ الرّمح سابره
فيا ليثا يراوحه ... قبيل لا يباكره
ويعلم من ينازله ... بأنّ الموت آسره
وأيّ الأسد قاد المو ... ت تحميه زماجره
تقود زمام جيش أن ... ت أوّله وآخره
تنطّق بالقنا يحم ... رّ ناهضه وعاثره
يبزّ اللّيث جلدته، ... إذا أرداه باتره (1)
ولا تلوي على سلب، ... إذا ظفرت عساكره
فيا غيثا يغيض الغي ... ث إن هجمت هوامره (2)
ويا رجلا تخاف الأس ... د إن خفقت أعاصره
ويا طوقا تخاوص عن ... جوانبه جبايره (3)
ويا قمرا دجاه ما ... تثير له مناسره (4)
ويا نصلا تطلّع من ... غراريه محاذره
ويا روضا يحيّي ما ... رن العلياء ناضره (5)
ويا عودا تنمّ على ... أعاليه عناصره
وكم هزأت بعاجمة ... على طمع مكاسره (6)
يمزّق عنك جيب النّق ... ع مصقول تسايره
__________
(1) يبز: ينزع.
(2) هوامر، جمع همرة: الدفعة من المطر.
(3) تخاوص: تغض من بصرها.
(4) المناسر، جمع منسر: القطعة من الخيل أو الجيش.
(5) المارن: ما لان من الأنف.
(6) أي أنه صلب لا تمتحن قسوته.(1/420)
وليل بات يسهره، ... كأنّ المجد سامره
يبثّ سوام لحظته، ... وأنجمه أزاهره
إذا ما افترّ خال اللّي ... ل أنّ الفجر باهره
وإن أسرى يودّ الأف ... ق أنّ البدر ضامره (1)
وتغشى في الظّلام بضو ... ء غرّته عذافره (2)
فلا عجب له في اللّي ... ل إن ضلّت أباعره
لقد ملك الفخار وبا ... ت ينهاه ويأمره
جواد أنت راكبه، ... وسيف أنت شاهره
ولم أر في الزّمان فتى ... تجنّبه بوادره
يحوط الدّهر مهجته ... وتكلؤها مقادره
وتقبل في سواه متى ... جنى جرما معاذره
ولمّا تاه مدحي في ... هـ دلّته مآثره
إذا ما ضلّ ناب اللّي ... ث هرّته أظافره
ألا من كنت شاعره، ... فإنّ المجد شاعره
وإنّ اللّفظ مطروح ... على فكري جواهره
فأمّا النّظم ناظمه، ... وأمّا النّثر ناثره
إذا ما كنت لي فخرا، ... فمن هذا أفاخره
يا للرجال
(البسيط)
نظمها الشريف في مدح والده.
شيمي لحاظك عنّا ظبية الخمر، ... ليس الصّبا اليوم من شأني ولا وطري (3)
__________
(1) أسرى: مشى ليلا.
(2) العذافر: الأسود، النياق الشديدة.
(3) شيمي: اغمدي الخمر: ما يخفيه الشجر.(1/421)
مات الغرام، فما أصغي إلى طرب، ... ولا أربّي دموع العين للسّهر
من يعشق العزّ لا يعنو لغانية ... في رونق الصّفو ما يغني عن الكدر
شغلت بالمجد عمّا يستلذّ به، ... وقائم اللّيل لا يلوي على السّمر
طويت حبل زمان، كنت أندبه، ... إذا جذبت به باعا من العمر
لا يبعد الله من غارت ركائبهم، ... وأنجد الشّوق بين القلب والبصر
يا وقفة بوراء اللّيل أعهدها، ... كانت نتيجة صبر عاقر الوطر
والوجد يغصبني قلبا أضنّ به، ... والدّمع يمنع عيني لذّة النّظر
طرقتهم والمطايا يستراب بها، ... واللّيل يرمقني بالأنجم الزّهر
أصانع الكلب أن يبدي عقيرته، ... والحيّ منّي، إذا أغفوا على غرر (1)
وفي الخباء الذي هام الفؤاد به، ... نجلاء من أعين الغزلان والبقر (2)
أبرزتها، فتحاضرنا، مباعدة ... عن الخيام، نعفّي الخطو بالأزر
ثمّ انثنيت ولم أدنس سوى عبق ... على جنوبي لريّا بردها العطر
لا أغفل المزن أرضا يعقلون بها ... ولا طوى عنهم مستعذب المطر
جرّ النّسيم على أعطاف دارهم ... ذيلا، وألبسها من رقّة السّحر
وما بكائي على إلف فجعت به، ... إلّا لكلّ فتى كالصّارم الذّكر
ما حاربوا الدّهر إلّا لان جانبه، ... إنّ المشيّع أولى النّاس بالظّفر
يا للرّجال، دعاء لا يشار به، ... إلّا إلى غرض بالذّلّ والحذر
ردوا الرّحيل فإنّ القلب مرتحل، ... وسافروا إنّ دمع العين في سفر
ويوم ضجّت ثنايا بابل، ومشت ... بالخيل في خلع الأوضاح والغرر
قمنا نجلّي وراء اللّثم كلّ فتى ... كأنّ حليته في صفحة القمر
إنّي لأمنح قوما لا أزورهم ... مجّ القنا من دم الأوداج والثّغر (3)
__________
(1) يبدي عقيرته: يرفع صوته بالنباح.
(2) نجلاء: صاحبة عينين واسعتين.
(3) الأوداج، جمع ودج: عرق في العنق ينتفخ عند الغضب.(1/422)
طعنا كما صبّح الغدران ممتحن ... رمى، فشتّت شمل الماء بالحجر
وجاهل نال من عرضي بلا سبب، ... أمسكت عنه بلا عيّ ولا حصر
حمته عنّي المخازي أن أعاقبه، ... كذاك تحمى لحوم الذّود بالدّبر (1)
ومهمه كشفار البيض مطّرد ... بالآل، عار من الأعلام والخمر (2)
إذا تدلّت عليه الشّمس أوحشها ... تولّع المور بالأنهار والغدر (3)
غصصت تربته بالعيس مالكة، ... على النّحاء، رقاب الورد والصّدر (4)
أطوي البلاد إلى ما لا أذلّ به ... من البلاد، وما أطوي على خطر
مجاهلا ما أظنّ الذّئب يعرفها، ... ولا مشى قائف فيها على أثر (5)
ينسى بها اليقظ المقدام حاجته، ... ويصبح المرء فيها ميّت الخبر
لا تبعدنّ أمانيّ الّتي نشزت ... على الزّمان بأيدي الأينق الصّعر (6)
إليك لولاك ما لجّ البعاد بها، ... ترى المنازل بالإدلاج والبكر
يا ابن النّبيّ مقالا لا خفاء به، ... وأحسن القول فينا قول مختصر
رأيت كفّك مأوى كلّ مكرمة، ... إذا تواصت أكفّ القوم بالعسر
لطاب فرعك، واهتزّت أراكته ... في المجد، إنّ المعالي أطيب الشّجر
ما كلّ نسل الفتى تزكو مغارسه، ... قد يفجع العود بالأوراق والثّمر
إنّ الرّماح، وإن طالت ذوائبها ... من العدى تتواصى عنك بالقصر
تسلّ منك اللّيالي سيف ملحمة ... يستنهض الموت بين البيض والسّمر
__________
(1) الذود: القطعة من الإبل الدبر: الزنابير.
(2) المهمه: المفازة لا ماء فيها الآل: السراب الخمر: الحجارة التي تنصب في البادية لارشاد المسافرين.
(3) المور، جمع الماري: ولد البقرة الوحشية، والمور أيضا طيور القطا.
(4) النحاء: الناحية.
(5) القائف: الذي يتقفّى الأثر ويتعرف الى صاحبه.
(6) الأينق الصعر: النياق التي تلوي رقابها، والصعر جمع أصعر: الذي به داء يلوي عنقه منه.(1/423)
مشيّع الرّأي إن كرّت أسنّته، ... جرّ القنا بين منآد ومنأطر (1)
فاسلم، إذا نكب المركوب راكبه، ... واستأسد الدّهر بالأقدار والغير
لك السوابق
(البسيط)
نظم الشاعر هذه القصيدة في مدح خاله.
لك السّوابق والأوضاح والغرر، ... وناظر ما انطوى عن لحظه أثر
وعاطفات من البقيا، إذا جعلت ... محقّرات من الأضغان تبتدر
إطراقة كقبوع الصّلّ يتبعها ... عزم يسور، فلا يبقي ولا يذر (2)
واللّيث لا ترهب الأقران طلعته ... حتّى يصمّم منه النّاب والظّفر (3)
أنت المؤدّب أخلاق السّحاب، إذا ... ضنّت بدرّتها العرّاصة الهمر (4)
من بعد ما اصطفقت فيها صواعقها، ... وشاغب البرق في أطرافها المطر
والبالغ الأمر جالت دون مبلغه ... سمر القنا، وأمرّت دونه المرر (5)
والقاذف النّفس في حمراء إن خفيت ... بالنّقع نمّ على ضوضائها الشّرر
في جحفل لم تزل تهدي أوائله ... مطالع من نجاد الأرض تنتظر
إن نال منك زمان في تصرّفه ... ما لا يملّكه من غيرك القدر
فالبيض تعلق إن سارت مهجّرة ... من الشّحوب بما لا تعلق السّمر
__________
(1) المنآد: المنحني، المنعطف المنأطر: المنثني.
(2) القبوع، من قبع: أدخل رأسه في جلده وتوارى الصل: الحيّة الخبيثة.
(3) الأقران: الشجعان، جمع قرن.
(4) العرّاصة: السحابة ذات البرق والرعد الهمر: السيالة.
(5) أمرّت: فتلت، حبكت المرر، جمع مرة: قوة الخلق وشدته.(1/424)
ما ناهض الرّحلة الخرقاء معتقلا ... بالحزم من فلّ من آرائه السّفر (1)
فاسلب مراح المطايا من مناسمها ... مزامل النّجم والإظلام معتكر (2)
وجبّ بين فروج اللّيل أسنمة، ... ما استاف أخفافها أين ولا ضجر (3)
خرس البغام، تردّ الصّوت كاظمة، ... وقد تصاعد من أعناقها الجرر (4)
كم حاجة بمكان النّجم قرّبها ... طول التّعرّض والرّوحات والبكر
أسال في اللّيل إفرند الصّباح بنا ... سير تساقط من إدمانه الأزر (5)
ومشهد مثل حدّ السّيف منصلت ... تزلّ عن غربه الألباب والفكر (6)
طعنت بالحجّة الغرّاء ثغرته، ... ورمح غيرك فيه العيّ والحصر
وقسطل شرقت شمس النّهار به، ... فأسفر النّقع، والآفاق تعتجر (7)
تسلّطت فيه أطراف الظّبى ودنت ... عوامل السّمر فارتابت بها الثّغر
فوّقت فيه سهاما غير طائشة، ... في حيث يرمح صدر المعجس الوتر (8)
فما استخفّك من حمل النّهى خرق، ... ولا استكفّك عن طعن العدى خفر
وما نظرت إلى الأيّام معتبرا، ... إلّا وأعطاك كنز العبرة النّظر
__________
(1) الخرقاء: الأرض الواسعة تخترقها الرياح.
(2) المزامل، من زامله: عادله على البعير.
(3) جبّ: قطع أسنمة، جمع سنام: كناية عن النياق استاف: اشتم الأين: التعب.
(4) البغام: صوت الظبية كاظمة: عابسة الجرر، جمع جرة: ما يفيض به البعير فيأكله مرة ثانية.
(5) افرند الصباح: أوّله، والافرند هو جوهر السيف.
(6) عمد الشاعر الى مراعاة النظير مستعيرا للمعاني المجردة محسوسات هي السيف المنصلت وحدّه القاطع.
(7) القسطل: الغبار الساطع في الحرب تعتجر: تنتفخ.
(8) فوّق السهم: جعل له فوقة وهي موضع الوتر من السهم المعجس:
مقبض القوس.(1/425)
ونعم قادح زند أنت في ظلم، ... لا يوقد النّار فيها المرخ والعشر (1)
بذكر جودك يستسقى المحول إذا ... لم يله فيها نساء الحلّة السّمر
لمّا جريت جرت خيل سواسية، ... ولّت وخيف على أنفاسها البهر (2)
إنّ البهيم إذا مسّحت جبهته، ... فالحكم أن تلطم الأوضاح والغرر
قارعت دهرك حتّى لاح مقتله ... ما استقبح الرّوع حتّى استحسن الظّفر
الآن نعم مقيل التّاج لمّته، ... ونعم مغنى العلى أيّامه الزّهر
تطيش أمواله والبذل يطلبها، ... ما وفّر المال عن أعراضه وقر (3)
مشيّع هذّب الأرماح مذ فطنت ... إلى طعان الأعادي، والرّدى غمر (4)
يسري من الكيد جيشا لا غبار له، ... ولا طلائع تهديه ولا نذر
كم بات في لهوات اللّيل تعركه ... ما بين أكوارها المهريّة الصّعر (5)
والخيل تقدح من أرساغها شررا ... أمسى يعثّن منه التّرب والمدر (6)
ردّ السّيوف، فمغلول ومنثلم، ... على الرّماح، ومنآد ومنأطر
إذا أشاح بنصل في أنامله ... قامت تعانقه الهامات والقصر (7)
نصل تمطّى المنايا في مضاربه، ... إذا المعزّز أثنى نصله الخور (8)
عار، يصافح أعناق الرّجال به، ... يوم النّزال، وما في باعه قصر
__________
(1) المرخ والعشر: نوعان من الشجر سريعا الاشتعال.
(2) البهر: انقطاع النفس.
(3) الوقر: الثقل.
(4) الغمر، جمع غمرة: شدّة الشيء وازدحامه.
(5) لهوات الليل: الظلمات أكوارها: أحمالها المهرية: النياق السريعة الصعر: التي تلوي أعناقها.
(6) الأرساغ، جمع رسغ: الموضع المستدق بين حافر الدابة وقائمتها يعثن: يدخن المدر: الغبار الأبيض، الطين الجاف.
(7) القصر: أصول الأعناق.
(8) المعزّز: المعين النصير الخور: الضعف.(1/426)
إذا الوفود دعت للضّرب شفرته ... أطاع فاحتشمت من ضيقه العكر (1)
سألت عن وجهه الظّلماء مقمرة ... عنه، وهل يتمارى أنّه القمر (2)
نفسي فداء أخ لم يقذ صحبته، ... إذ كلّ صافية في مائها كدر
ما حان منّا لغير العزّ مضطرب، ... ولا اطّبانا إلى غير العلى وطر (3)
أأعذر الدّهر إذ جارت حكومته ... إذا ففسّق عذري حين أعتذر
عند ابن خير أب حامت أنامله ... على القنا ومشت في كفّه البتر
وربّ قول مريض قد سهرت له، ... أفضى إليّ به عن لفظك الخبر
ما لي تسفّه أشعاري التي شهدت ... أنّي ببعض فخار منك أفتخر
يا ابن الذين تبارى في ندائهم ... أصواتنا، إن عرت أوطاننا الغير
إذا كررنا حديثا منهم اعترضت ... تجلو قديمهم الآيات والسّور
وكم عدوّ، إذا شاغبت دولته ... يزورّ عن طاعتيه السّمع والبصر
قد كان ملكك خلف العزّ يرضعه ... حتّى عصاك فخانت رشفه الدّرر (4)
كم حاطب خانه حبل، فأقعصه ... ذلّا، وشرّ الحبال الحيّة الذّكر (5)
ومجلس ما أظنّ الهمّ يعرفه، ... ينضو الكرى عن مآقي شربه السّهر (6)
ألمى الظّلال، إذا ما القيظ جلّله ... تراكضت في حواشي روضه الغدر
ماء كجيد الفتاة الرّود قابضة ... من الحليّ على أثنائه الزّهر
ضمّخت بالرّاح أثواب الكؤوس كما ... فضّ النّسيم على أعطافه السّحر
متيّم بالعلى، والمجد يألفه، ... وما مشى في نواحي خدّه الشّعر
__________
(1) العكر، جمع عكرة: القطعة من الابل.
(2) يتمارى: يتردد، يشك.
(3) اطّبانا: دعانا وطر: غاية، هدف.
(4) الدرر، من در اللبن: سال وكثر.
(5) أقعصه: أهلكه الذكر: القاتلة.
(6) ينضو الكرى: ينزع النوم الشّرب: جماعة الشاربين.(1/427)
يخبّر الوفد منه عند رحلته، ... والماء يخبرنا عن ورده الصّدر
أعيذ مجدك أن يشكو إليه فم ... أعدى على الشّهد فيه الصّاب والصّبر (1)
حيّاك بالعذر في عذراء قد خرقت ... عنها الحجاب وما اقتضّت لها عذر (2)
زفّت إليك وسجف الخدر يعلقها، ... ومع قبولك لا يغلو لها مهر
شرف الخمار
(المتقارب)
هذه القصيدة هي من أوائل شعر الشريف، وفيها يهنّئ أخاه بمولودة.
لبست الوغى قبل ثوب الغبار، ... وقارعت بالنّصل قبل الغرار
وأسد، إذا شعرت بالحمام ... رأت عيشها خلف ذاك الشّعار
طوال الخدود، قصار الحقود، ... رواء الشّفار، ظماء المهار
ومنتجعين ديار العدوّ ... في كلّ مضطرم ذي أوار (3)
بسمر مثقّفة للطّعان، ... وجرد مسوّمة للغوار
ويوم ختمنا عليه الرّدى، ... وقد فضّ عنه ختام الذّمار (4)
تصيد قلوب الأعادي به ... صدور القنا، وهي هيم ضوار (5)
إذا ستر النّقع آثارها، ... هتكن الضّمائر عن كلّ ثار
قلوبهم بذيول الحمام ... من وقع أطرافها في عثار
__________
(1) الصاب: شجر مر أو عصارته الصبر (بكسر الباء): عصارة شجر مر.
(2) العذراء: كناية عن قصيدته.
(3) الأوار: اللهيب.
(4) الذمار: ما يلزم حفظه وحمايته.
(5) الهيم: الابل العطاش.(1/428)
وتجهر بالموت أرواحهم، ... وسمر القنا معها في سرار
وقد وردوا بصدور الرّماح، ... كما صدروا بصدور الشّفار
كسونا قنانا ثياب الدّماء، ... ونحن من العار فيها عوار (1)
لقد كنت أسحب برد الشّماس ... لا يرفع العذل مرخى إزاري (2)
فأصبحت قبل نزول العذار ... معترفا، صابرا للعذار
ألا ربّ صبّ بحبّ العلى، ... وليد المطايا، رضيع السّفار
بعيد المعالي، قريب العوالي، ... صديق الأيادي، عدوّ النّضار
فتى لا يعفّر أحلامه ... غرار التّصابي بأيدي العقار (3)
يمزّق بالعيس جيب الدّجى، ... ويهتك بالخيل صدر النّهار
إذا غاض ماء النّدى أسبلت ... يداه بماء من الجود جار
إذا ما رعت في ربى جوده ... هزال الأماني غدت كالشّبار (4)
وكم نديت من نداه المنى، ... ندى سمره بالنّجيع الممار (5)
ومن كنّ يهوين خلف الرّجاء، ... فأمسين من جوده في قرار
كما قرّ قلبك يا ابن الحسين، ... من شوقه وعيون الفخار
بمولد غرّاء أعطيتها ... بدوّ الأهلّة بعد السّرار
أغارت على الحسن أسبابها، ... فأسبابه عندها في إسار
ولا عجب أن ترى مثلها، ... وزندك في كرم العرق واري
نثرن عليها سواد القلوب، ... وكان الهنا في خلال النّثار
ولو أنصف الدّهر لم نقتنع ... بغير قلوب النّجوم الدّراري
هناك بها الله ما غرّدت ... صدور القنا في أعالي نزار
__________
(1) قنانا: رماحنا.
(2) الشماس: الامتناع والإباء.
(3) العقار: الخمر.
(4) الشبار: البطر، من شبر: بطر.
(5) السمر: الرماح النجيع الممار: الدم المضطرب المتموّج.(1/429)
وأحيا بها لك ميت العلى، ... وأردى بها كلّ عاب وعار
وذلّت عمائم قوم بها، ... كما أنّها شرف للخمار (1)
فحسبك فخر بهذا المديح، ... وإن غاض في المدح ماء افتخاري
يزورك بين قلوب العداة، ... فيقطعها في اتّصال المزار
غدت كفّ مجدك من مدحتي ... تجول معاصمها في سوار
الجار قبل الدار
(الكامل)
نظم هذه المقطوعة على لسان رجل نزل بقبيلة من العرب فحمدها.
جرّبت آل الغوث ثمّ تركتهم ... متخيّرا والجار قبل الدّار
السّابقين إلى مناخ مطيّتي، ... لمّا تدافعت العريب جواري
والضّاربين عليّ بيت زمامة ... خسأ العدوّ فما يطيق ضراري
أعظمتم حسبي، ولمّا تحفلوا ... ما رثّ من سلبي ولا أطماري
وعرفتم منّي مخيلة سؤدد ... خفيت وراء ملابس الإقتار (2)
كيف اعترافي للزّمان وريبه، ... فعل الذّليل، وأنتم أنصاري
أجممتم في الصّبح راعي هجمتي، ... وكفيتم باللّيل موقد ناري (3)
__________
(1) الخمار: ما تغطي به المرأة رأسها، والستر عموما.
(2) مخيلة سؤدد: علائم العز والمكانة العالية الإقتار: الثياب الرثّة.
(3) أجممتم: شددتم هجمتي: ناقتي.(1/430)
عقيد العلى
(الطويل)
أهدى إليه صديق رداء فلم يقبله، فعتب عليه، فكانت هذه الأبيات.
عقيد العلى لا زلت تستعبد العلى، ... وتعتق منها رقّ كلّ أسير
لئن خفّ من ضافي ردائك عاتقي ... فودّك يخطو في رداء قتيري (1)
ستعلم أنّ الثّوب يدثر رسمه، ... ورسم الهوى في القلب غير دثور (2)
فلا تشمتنّ الحاسدين، فسرّهم ... يشفّ لظنّي من وراء أمور
شكر
(المتقارب)
لأيّ صنائعه أشكر، ... وفي أيّ أخلاقه أنظر
فتى طانب المجد في بيته، ... هو السّيف والعارض الممطر (3)
فتى، كالحسام وصوب الغمام، ... ذا يستهلّ، وذا يمطر
إذا ازدحمت فيه ألحاظنا، ... وقد ضمّ أعطافه المحضر
ترى أنّ جلبابه لامة ... من البأس، أو تاجه مغفر (4)
وأجريت شكري إلى شأوه، ... فجاء، وأنفاسه تزفر (5)
__________
(1) القتير: الشيب.
(2) يدثر: يبلى.
(3) طانب المجد: ارتفع العارض: الغيم.
(4) اللأمة: الدرع المغفر: زرد يلبسه المحارب تحت القلنسوة.
(5) شأوه: غايته.(1/431)
سأنزل حاجاتي
(الطويل)
سأنزل حاجاتي إذا طال حبسها ... بأبواب نوّام عن الحمد والأجر
بأروع مصبوب على قالب الحيا، ... وأبيض مطبوع على سكّة البدر
يا حبّذا
(الكامل)
يا حبّذا فوق الكثيب الأعفر، ... ركز الذّوابل في ظلال الضّمّر (1)
ومناخ كلّ مطيّة معقولة، ... ومجال كلّ مناقل متمطّر (2)
وتطرّح الرّكب الطّلاح على النّقا ... يهفون بين مزمّل ومعفّر (3)
رفعت لعين النّاظر المتنوّر، ... واللّيل مثل الواقف المتحيّر
نار كأطراف البروق تشبّها، ... بمطالع البيداء، أيدي معشر
كم نفّرت من شجو قلب نافر، ... واستمطرت من دمع عين ممطر
لله! أيّة ساعة حضر الأسى ... فيها، فغيّب في القلوب الحضّر
أجنت بها غدر الوفاء فلم تغض، ... والغدر طامي الماء غير مكدّر (4)
وفوارس ركبوا النّجاء، وأدلجوا ... من موغل خلف المنى ومغرّر (5)
__________
(1) الذوابل: الرماح الضمّر: الخيول الضامرة.
(2) المناقل: الفرس السريع نقل القوائم المتمطر: المتعرض للمطر، المسرع.
(3) الطلاح: الابل المتعبة من السفر مزمل، من زملت الناقة: مشت كأنها تعرج من التعب أو الضعف معفر: ممرغ بالتراب.
(4) الغدر، جمع غدير.
(5) النجاء: النياق السريعة أدلجوا: ساروا أوّل الليل.(1/432)
مرّوا يجرّون الرّماح لغارة، ... والطّالعات عن الدّجى لم تجرر
فكأنّما الجرباء لمّة أحلس ... ولها المجرّة مفرق لم يستر (1)
أفشى حنين ركابهم سرّ السّرى ... لغبا، فأضمر في نزائع ضمّر
نحروا بها نحر الفلاة، وقلّبوا ... قلب الظّلام على ذميل مسعر (2)
والعيس تلطم خدّ كلّ مفازة، ... وتريق ما أبقى المزاد وتمتري
ولربّ منذلق تمنطق سيفه، ... بنجيع كلّ ممنطق ومسوّر
ومسوّد بالغدر وجه وفائه، ... عصفرته بشبا الوشيج الأسمر
فشفيت غلّ النّفس من حوبائه ... نهلا يعلّ من الدّم المثعنجر (3)
خلع الحياء جناته، وصوارمي ... خلعت عليه يلمقا لم يزرر (4)
ولقد رميت ضميره من خشيتي ... بأحدّ من طرف السّنان، وأعقر
ولربّ روع رعته بفوارس، ... قلبوا صدور رماحهم للأظهر
فكدرت تحت النّقع، من جباتهم ... مثل النّجوم على العجاج الأكدر
وهم الألى ربّت لهم أحسابهم ... ولد المعالي في حجور الأعصر
من كلّ أبلج مذ تلثّم وجهه ... بالنّقع في طلب العلى لم يسفر
ما زال يخطر في غمامة قسطل، ... بين العوالي، أو قميص سنوّر (5)
لا يتّقي الشّمس، الظّهائر، إن سرى، ... إلّا بظلّ قنا وعارض عثير (6)
في معرك سحب العجاج ذوائبا ... سودا به، فوق النّجيع الأحمر (7)
__________
(1) الجرباء: السماء الأحلس: الكثير الشعر.
(2) الذميل: نوع من السير السريع المسعر: الشديد العدو.
(3) الحوباء: النفس المثعنجر: السائل.
(4) اليلمق: القباء وهو ثوب يلبس فوق الثياب.
(5) القسطل: غبار الحرب الساطع السنّور: السلاح، لباس من جلد كالدرع.
(6) الظهائر، جمع ظهيرة: انتصاف النهار العثير: الغبار.
(7) النجيع الأحمر: النجيع هو الدم، ومن باب التأثير قال: الأحمر.(1/433)
فكسفت ضاحيه بنقع مظلم، ... وكشفت داجيه بوجه مقمر
وكأنّما ثغر الظّلام نجومه، ... فتساقطت فوق الرّماح الخطّر
أفل السّنان عن الطّعان كأنّه ال ... مرّيخ بعد طلوعه كالمشتري (1)
وتقعقعت بين الكلى قصد القنا، ... فكأنّ كلّ حشى ربابة ميسر (2)
عثرت بأرياش القشاعم شمسه، ... والطّعن في هبواته لم يعثر (3)
نثرت على بيض الكماة دراهما، ... فنثرن ضربا، وهي لم تتنثّر
لم تشعر الهامات عند نثارها ... بقرارها، فكأنّها لم تنثر
يجرون، وهي مقيمة، لكنّها ... خطّارة من مغفر في مغفر (4)
من مبلغ عنّي القبائل أنّني ... متوطّن عنق العلاء بمفخر
أشرعت ضمّ الجود مشرع تالدي ... فامتاحهم، وطلاحهم لم تصدر (5)
جاءت كما جاء الشّهاب مضيئة، ... تجلو الأسى عن قلب كلّ مفكّر
من خاطر خطرت به همم العلى، ... والشّعر بعد بقلبه لم يخطر
نائي الخنا، داني النّهى، صافي السّدى، ... ضافي العطايا، والعلى والمفخر (6)
__________
(1) المرّيخ: النجم الأحمر المعروف المشتري: نجم أبيض.
(2) الربابة: خرقة تجمع فيها السهام.
(3) القشاعم، جمع قشعم: النسر العتيق الهبوات: الغبار الكثيف.
(4) المغفر: زرد يلبسه المحارب تحت القلنسوة.
(5) التالد: الموروث امتاحهم: شملهم الطلاح: الابل المرهقة من السفر.
(6) الخنا: الذل النهى: رجاحة العقل السدى: المعروف.(1/434)
عقار الشوق
(الوافر)
أما لو لم تعاقره العقار، ... عقار الشّوق مازجه الوقار (1)
وقفنا نغصب الأجفان ماء ... له من نار أضلعنا انتصار
فكم من نشوة للشّوق تهفو ... بصبر مسّه منها خمار (2)
سقى درر السّحاب صدى ربوع ... بما يظما إليهنّ المزار (3)
وجاذبها فضول المحل عنها ... بأيمان من الخصب القطار
ليالي يوقظ التّذكار شوقي، ... وهجعة سلوتي فيها غرار
ألا إنّ الزّمان قضى علينا ... بأحداث لنا فيها اعتبار
إذا ما الخطب ضلّلنا دجاه، ... أنارت من تحار بنا منار
نصدّ عن الحيا، والجوّ ماء ... ونستلم الثّرى، والأرض نار
سرينا في ضمير البيد حتّى ... تركناها، ونحن لها شعار
أيا للمجد من قوم لئام ... ألا حرّ على عرض يغار
فأشجعهم، إذا فزعوا، جبان، ... وأذكاهم، إذا نطقوا، حمار
لبونكم تدرّ لأبعديكم، ... وعندي الذّين منها والنّفار (4)
لغيري ضوء ناركم، وعندي ... دواخنها السّواطع والأوار (5)
وجرد قد لبسن ثياب ليل، ... ضوامر في أياطلها اقورار (6)
بركب ترعد الظّلماء منهم ... فيسترها من الجزع النّهار
__________
(1) العقار: الخمر.
(2) الخمار: السكر، صداع الخمر.
(3) درر السحاب: ما تدره من ماء.
(4) الذين (بكسر الذال): العيب.
(5) الأوار: شدّة الحر.
(6) ثياب ليل: كناية عن لون الخيل الأسود الأياطل: الخواصر.(1/435)
يهلهل نسج ثوب من عجاج، ... تشفّ وراء طرّته الشّفار
سترن الجوّ بالقسطال حتّى ... كأنّ البدر أضمره السّرار (1)
ويوم سلّطت فيه العوالي ... على الأرواح، واخترم الذّمار
نعانق فيه أبكار المنايا، ... وهنّ لغير أنفسنا ظؤار (2)
وقد حجز العجاج، فلا نجاء، ... وقد ضاق المجال، فلا قرار
وملنا بالجياد على وجاها، ... وقد دمي الشّكائم والعذار (3)
وقد وسمت حوافرها كؤوسا، ... ومن علق الدّماء لها عقار
وأجرى الضّرب في الأحشاء غدرا ... تبرّض ماءها الأسل الحرار (4)
ضربن لنا النّسور رواق ظلّ ... تلوذ بحقوة القبّ المهار (5)
تحلّ الهام فيه بالمواضي، ... وفي الأعناق حبل ردى مغار
تخوض ترائكا منها لجينا، ... وتصدر، وهي من علق نضار (6)
بضرب ينثر الشّفرات، حتّى ... لها في كلّ جانحة غرار
بكلّ فتى يزلّ العار عنه، ... إذا ما هزّ ضبعيه الفخار
حسام لا يضبّ عليه غمد، ... وليث لا يطلّ عليه زار (7)
تألّف حدّ صارمه المنايا، ... وفيها عن حشاشته ازورار
يجرّد معصما من صدر رمح، ... ويرجع، والفؤاد له سوار
وسمر الخطّ تعثر بالهوادي، ... فيجذبها إلى المهج العثار
__________
(1) القسطال: غبار الحرب السرار: الخطوط في الجبهة والكف.
(2) الظؤار، جمع ظئر: المرضعة.
(3) الوجى: الحفا الشكائم، جمع شكيمة: الحديدة المعترضة في فم الفرس.
(4) تبرّض، تتبرّض: تتبلّغ بالقليل الأسل: الرماح الحرار: العطاش.
(5) الحقوة: الكشح القب المهار: الخيول الفتية الضامرة.
(6) الترائك، جمع تريكة: بيضة الحديد.
(7) يضب عليه: يحتويه الزأر: صوت الأسد.(1/436)
وكم من طعنة في رحب صدر ... يجوز بها إلى القلب الصّدار
فلولا أنّها فهقت نجيعا، ... تخرّقها لوسعتها الغبار
وقد جثم الرّدى في كلّ سهم ... له في كلّ حيزوم مطار (1)
إذا اختارت بنو قيس نزالي ... رجعت وللرّدى فيها الخيار
برمح طرفه يزداد لحظا، ... إذا ما غضّ منه دم ممار (2)
صموت بين أطراف العوالي، ... وفي طعن القلوب له خوار
إذا سالت عواليه بحتف، ... فليس لها سوى قلب قرار
يصدّ حسامهم عن ماء قلبي، ... وأعلم أنّ غربيه حرار (3)
وينكص رمحهم في الطّعن حتّى ... كأنّ كعوبه عنّي قصار
عقاب النّصر تحتهم مهيض، ... ونسر الموت فوقهم مطار (4)
لقد أضحكت عنّي آل فهر ... بأرماح بكت فيها نزار
هم شهب، إذا اتقدوا لحرب ... فخرصان الرّماح لها شرار
إذا وقفت قناهم عن طعان، ... فليس لها سوى الموت انتظار
إذا اطّردت أكفّهم بجود ... أسرّت ماءها السّحب الغزار
بهم ألف الضّرائب حدّ سيفي، ... وشجّعني على الطّلب الخطار (5)
خذي أوذري
(الرجز)
قد زيّلت عظيمة، فشمّري، ... وارضي بما جرّ القضاء واصبري (6)
__________
(1) الحيزوم: ما شمل الحلقوم من جهة الصدر.
(2) ممار: سائل.
(3) أن غريبه حرار: أن حدّيه عطاش.
(4) مهيض: مكسور الجناح، وأراد بعقاب النصر: الراية.
(5) الخطار: جمع خطر.
(6) زيّلت: فرّقت.(1/437)
يا نفس قد عنّ المراد، فخذي ... إن كنت يوما تأخذين أو ذري
نهزة مجد كنت في طلابها، ... لمثلها ينصف ساقي مئزري
عشرون أعجلن الصّبا وجزن بي ... غاياته، وما قضين وطري
فكيف بالعيش الرّطيب بعد ما ... حطّ المشيب رحله في شعري
سواد رأس أم سواد ناظر، ... فإنّه مذ زال أقذى بصري
ما كان أضوى ذلك اللّيل على ... سواد عطفيه، ولمّا يقمر
عمر الفتى شبابه، وإنّما ... آونة الشّيب انقضاء العمر
ألا صديق في الزّمان ماجد ... أشكو إليه عجري وبجري (1)
يعتق من رقّ الهوان عاتقا، ... عجّ من الضّيم عجيج الموقر
حسبي من رعي الهشيم المجتوى، ... حسبي من ورد الأجاج الكدر (2)
فما أرى إلّا سواما همّلا، ... أو صورا مذمومة كالصّور (3)
ما أنا إلّا النّصل مغمودا ولو ... جرّدني الرّوع لبان جوهري
لا بدّ أن يظهر معروفي فقد ... طال على مرّ الزّمان منكري
لا بدّ أن أصدر بعد موردي، ... فربّ قوم يرقبون صدري
لا بدّ أن أشعر وجهي جرأة، ... فطالما ذلّل عنقي خفري
لا بدّ أن أحمل أبناء الوغى ... على خفاف في الطّراد ضمّر
يطلع للنّاظر هادي نقعها، ... طلوع قيدوم السّحاب الأغبر (4)
حواملا إلى العدى خطّيّة ... تعير طرف البطل المقطّر (5)
من كلّ أظمى ناهل سنانه ... أو حسن الإثر قبيح الأثر
__________
(1) عجري وبجري: أمري كلّه.
(2) الاجاج الكدر: الماء المالح العكر.
(3) السّوام: الماشية الصّور: الاعوجاج، أكال في الرأس.
(4) قيدوم الشيء: مقدمه وصدره.
(5) تعير، من أعوره: صيّره أعور المقطّر: المصروع على أحد قطريه، أي شقّيه وجانبيه.(1/438)
ينطحن بالأقران بين معلم ... بالدّم، أو معلّم بالعثير
كلّ جريّ القلب في مقتحم ... للرّوع، مغرور به مغرّر
عمائم من التّريك وضّح ... على جلابيب من السّنوّر (1)
كأنّما فوق قطا جيادها ... أسود خفّان وجنّ عبقر (2)
من كلّ ممشوق يجاري ظلّه ... كالطّائر الزّائف في التّمطّر (3)
مروّع من حوله كأنّه ... صال يقي البرد نوازي الشّرر (4)
دونك فانظرني، فإن جهلتني، ... فربّما دلّ عليّ منظري
كيف وقد طابت أصول دوحتي ... تمرّ للجانين يوما ثمري
أوائلي من قد علمت في العلى، ... ومعشري على القديم معشري
ذوائب المجد المنيفات على ... جماجم منيفة في مضر
ذوو البطاح الفيح والبيت الذي ... يعلو الورى والعدد المجمهر
كلّ عذيق في العلى مرجّب ... عزّا وعود في العلى مجرجر (5)
كم يوم مجد ظاهر فخاره ... عنهم، ظهور الأبلق المشهّر
يا قدمي دونك مسعاة العلى، ... قد ضمن الإقبال أن لا تعثري
ليكثرن خطوك، أو تنتعلي ... سرير ملك، أو مراقي منبر
لا بدّ من يوم أعزّ نصره ... يقرّ عين الواجد المستعبر
فإن نصرت، فالنّعيم مدّة، ... والمضجع العاذر إن لم تنصري
كم مطلب منتظر خدمته، ... ومطلب جاء ولم أنتظر
__________
(1) التريك: بيضة الحديد السنوّر: درع جلدي.
(2) القطا، جمع قطاة: مقعد الرديف من الدابة خفّان: اسم مأسدة عبقر: مكان في البادية كان يعتقد أنه كثير الجن.
(3) التمطر: اسراع الطير في هبوطه.
(4) النوازي جمع نازية: الحدّة.
(5) العذيق: عنقود التمر مرجّب: مسنود بالرّجبة وهي الدعامة العود:
المسن من الابل.(1/439)
علّة مثلي السّيف لا ممرضة ... أضجّ منها كضجيج الأدبر (1)
لا بدّ من تعفيره في تربها ... بالدّاء، أو بالقاطع المذكّر
فبالسّقام ذلّة لمن قضى، ... وبالظّبى أعزّ للمغفّر (2)
فإن أمت من دونها يمضي الرّدى ... بمعذر في السّعي لا بمعذر (3)
وإن أعش هنيهة، فربّما ... شقّ على أذن العدوّ خبري
خيل تختال
(السريع)
ولقد شهدت الخيل دامية، ... تختال في أعطافها السّمر (4)
في ظلمة من ليل غيهبها، ... ما إن لها إلّا الرّدى فجر
فكأنّ مجّ دم النّحور بها ... إثر الطّعان مقاود حمر (5)
سبع وعشرون
(الكامل)
نظم الشريف الرضي هذه القصيدة في شهر محرم سنة 388.
ما عند عينك في الخيال الزّائر، ... أطروق زور أم طماعة خاطر
__________
(1) الأدبر: المقروح.
(2) المغفّر: الذي يلبس الزرد على رأسه تحت القلنسوة.
(3) المعذر (الأولى): اتى بما يعذر عليه، أبدى عذرا المعذر (الثانية):
مقصّر، مذنب.
(4) السمر: الرماح.
(5) مقاود، جمع مقود: طريق.(1/440)
بات الكرى عندي يزوّر زورة ... من قاطع نائي الدّيار مهاجر
أحذاك حرّ الوجد غير مساهم، ... وسقاك كأس الهمّ غير معاقر
إنّ الظّعائن يوم جوّ سويقة ... عاودن قلبي عند يوم الحاجر
سارت بهم ذلل الرّكاب فلا روى ... للظّاميات، ولا لعا للعاثر
كم في سراها من سروب مدامع ... تقفو سروب ربارب وجآذر (1)
حلبت ذخائرها المدامع بعدكم ... في أربع قبل العقيق دواثر
يبكين حيّا خفّ غير مقايض ... بهوى، وحيّا قرّ غير مزاور
لو تحفلون بزفرة من واجد، ... أو تسمعون لأنّة من ذاكر
لا تحسبوا أنّي أقمت، فإنّما ... قلب المقيم زميل ذاك السّائر
قالوا: المشيب! فعم صباحا بالنّهى، ... واعفر مراحك للطّروق الزّائر
لو دام لي ودّ الأوانس لم أبل ... بطلوع شيب وابيضاض غدائر (2)
لكنّ شيب الرّأس إن يك طالعا ... عندي فوصل البيض أوّل غائر
واها على عهد الشّباب وطيبه، ... والغضّ من ورق الشّباب النّاضر
واها له ما كان غير دجنّة، ... قلصت صبابتها كظلّ الطّائر (3)
سبع وعشرون اهتصرن شبيبتي، ... وألنّ عودي للزّمان الكاسر
كان المشيب وراء ظلّ قالص ... لأخي الصّبا، وأمام عمر قاصر
وأرى المنايا إن رأت بك شيبة ... جعلتك مرمى نبلها المتواتر
تعشو إلى ضوء المشيب فتهتدي، ... وتضلّ في ليل الشّباب الغابر
لو يفتدى ذاك السّواد فديته ... بسواد عيني بل سواد ضمائري
__________
(1) سروب المدامع: جريانها سروب (الثانية) جمع سرب: قطيع ربارب، جمع ربرب: القطيع من بقر الوحش الجآذر، جمع جؤذر:
ولد البقرة الوحشية.
(2) لم أبل: لم أهتم.
(3) واها: كلمة تعجب للتلهف والتأسّف قلصت: انقبضت الصبابة:
بقية الماء، استعارها لبقية الدجنة، أي الظلمة.(1/441)
أبياض رأس واسوداد مطالب؟ ... صبرا على حكم الزّمان الجائر
إن أصفحت عنه الخدود، فطالما ... عطفت له بلواحظ ونواظر
ولقد يكون وما له من عاذل، ... فاليوم عاد وما له من عاذر
كان السّواد سواد عين حبيبه، ... فغدا البياض بياض طرف النّاظر
لو لم يكن في الشّيب إلّا أنّه ... عذر الملول وحجّة للهاجر
سالم تصاريف الزّمان، فمن يرم ... حرب الزّمان يعد قليل النّاصر
من كان يشكو من رشاش خطوبه ... فلقد سقاني بالذّنوب الوافر (1)
أبلغ ظباء الحيّ أنّ فؤاده ... قطع العلاقة، وارعوى للزّاجر
أوردنني فعلمت أنّ مواردي، ... لولا النّهى، لم أدر أين مصادري
فالتّ لبّا من علائق صبوة، ... ونشطت قلبا من جوى متخامر (2)
أنا من علمتنّ، الغداة، نقيّة ... أزري، وضامنة العفاف مآزري
فاعرفن كيف شمائلي وضرائبي، ... وانظرن كيف مناقبي ومآثري
كمعاقد الجبل الأشمّ معاقدي، ... ومجاور البيت الحرام مجاوري
لم يشتمل قلبي الرّجاء ولم يكن ... طرفي جنيبة كلّ برق نائر
وأبيت أن ترد المطالب همّتي، ... أو أن يسفّ إلى المطامع طائري (3)
أسعى على أثر النّوائب منصفا ... منها، وآسي كلّ عرق ناغر
قل للأعادي جنّبوا عن ساحلي، ... لا يغرقنّكم التطام زواخري
لولا خمولكم لقد قلّدتم ... عارا بنظم غرائبي وسوائري
أخزيتم ذا كبرة وتكاوس، ... وفضلتم ذا ودعة وقراقر (4)
__________
(1) الذّنوب: الدلو.
(2) فالتّ: فاجأت، صادفت جوى متخامر: حب معذب مخّبأ.
(3) يسف: يدنو.
(4) الكبرة: الشرف، الرفعة التكاوس: تراكم اللحم، كثرة العشب والتفافه، كثرة الخير الودعة، من الودع: أصداف بحرية تنظم في سلك وتعلّق(1/442)
فتناذروا ناب الشّجاع مشى به ... جنح الدّجى، ويد العقور الخادر
يا ساعيا لينال مطمح غايتي، ... أين الذّوائب من مدقّ الحافر
إذهب بسبّي إن سببتك فاخرا، ... قد نوّهت بك ضربة من باتر
من عار هذا الدّهر نيلك للعلى، ... وجنون هذا المنجنون الدّائر (1)
قومي الأولى لحبوا إلى نيل العلى ... وضح الطّريق لمنجد أو غائر (2)
أخذوا المعالي عن متون قواضب ... ترد الغوار وعن ظهور ضوامر
وعن الرّماح يشيط في أطرافها ... بالطّعن كلّ مغامر ومغاور (3)
قوم إذا اشتجرت عليهم خطّة ... زعموا النّوائب بالقنا المتشاجر
وإذا التقت أيديهم في أزمة ... ساجلن أذنبة السّحاب الماطر
لا نارهم نار مغمّضة، ولا ... أبياتهم بالغائط المتزاور (4)
وتسوف أفواه الملوك أكفّهم ... سوف السّوام ربيع روض باكر (5)
شجعاء أفئدة بغير صوارم، ... خطباء ألسنة بغير منابر
ذمروا قلوب المادحين، وإنّما ... مدح الملوك شجاعة للشّاعر (6)
يتغايرون على السّماح، كأنّما ... يتغايرون على وصال ضرائر
أهدي إلى قومي نصيحة حازم ... طبّ بأدواء الضّغائن خابر
لا تنظروا الجاني لمحو ذنوبه ... بملفّقات تنصّل ومعاذر
__________
في أعناق الأطفال وقاية لهم من العين الشريرة القراقر: الحادي الحسن الصوت.
(1) المنجنون: الدولاب يستقى بواسطته، استعارة للإشارة الى دوران الدهر.
(2) لحبوا: وطئوا، سلكوا المنجد: طالب المرتفع الغائر: نازل الغور.
(3) يشيط: يهلك مغاور: مشترك في الغارات.
(4) المغمضة: المبهمة، المخفيّة لئلا يراها طراق الليل الغائط: المطمئن من الأرض والمخفي المتزاور: المنحرف.
(5) تسوف: تشم السوامر: الماشية.
(6) ذمروا: شجعوا.(1/443)
لن تظفروا بالعزّ حتّى تصبغوا ... ثوب المعالي بالنّجيع المائر
لا تعتبوا إلّا بألسنة القنا، ... فلهنّ إطآر البعيد النّافر (1)
ودعوا التّظاهر بالحلوم، فإنّها ... سبب انبعاث جرائم وجرائر
لا تخدعنّ، فما عقوبة قادر ... إلّا بأحسن من تجاوز قادر
قرّبوهن
(الرمل)
قرّبوهنّ ليبعدن المغارا، ... ويبدّلن بدار الهون دارا
واصطفوهنّ لينتجن العلى، ... بالعوالي، لا لينتجن المهارا
في بيوت الحيّ أدنى منزلا، ... ومقامات من البيض العذارى
أخدموهنّ الغواني غيرة، ... إنّهم كانوا على المجد غيارى
غرر تقنص من لا طمها ... يوم تمسي لطمة الذّمر جبارا (2)
جلّلوها الرّقم من عزّتها، ... وأدرّوا لمقاريها العشارا (3)
أقضموها بدل الرّطب الجنى، ... وسقوها بدل الماء العقارا (4)
كلّ محبوك القرا تحسبه ... طائرا أوفى على النّيق، وطارا (5)
تخرج النّبأة منه وثبة، ... مضرب الرّيح على الطّود الإزارا
يلحق الرّمح، ولو كنّ القنا ... كسياط الاعوجيّات قصارا
__________
(1) إطآر: العطف، من أطر أي عطف.
(2) الذمر: الشجاع جبارا: هدرا.
(3) الرقم: الثوب المخطط المقاري: الضيوف العشارى: النياق التي مضى على حملها عشرة أشهر.
(4) الرطب: العشب العقار: الخمر.
(5) القرا: الظهر النيق: أرفع موضع في الجبل.(1/444)
وأغرّ الخلق، والخلق له ... نسب ردّد في السّيف مرارا
وبياض الخلق أعلى رتبة ... من بياض زان وجها وعذارا
سل بقوم نزل الدّهر بهم، ... فأساء اللّبث فيهم والجوارا
لم تكن علياؤهم منحولة ... أبد الدّهر، ولا المجد معارا
طيبو الأردان إن جالستهم ... قلت داريّون قد فضّوا العطارا (1)
كان نثر المسك باقي عهدهم، ... وعهود النّاس دمنا وذئارا (2)
ناب عرف الطّيب عن نار القرى ... في لياليهم، إذا الطّارق حارا (3)
ضرب المجد عليهم بيته ... وغدوا دون حمى المجد إطارا
شذّبت أيدي اللّيالي منهم ... عددا لا يرأم الضّيم كثارا (4)
عانقوا الهضب، وكانوا هضبة ... لا يلاقي عندها السّل قرارا
صدع المقدار فيهم صدعة ... منبذ القعب أبى إلّا انكسارا (5)
لم تكن ختلا، ولكن غارة ... أمن الشّلّة من لاقى العوارا (6)
قد نزلنا دار كسرى بعده ... أربعا ما كنّ للذّلّ ظؤارا (7)
أسفرت أعطانها عن معشر ... شغلوا المجد بهم عن أن يعارا (8)
__________
(1) الأردان: الأكمام، الأجواء داريون: نسبة الى دارين وهو بلد مشهور بمسكه.
(2) الدمن: الزبل والروث الذّئار: الزبل قبل خلطه بالتراب.
(3) الطارق: السائر ليلا.
(4) يرأم الضيم: يألفه.
(5) منبذ، من نبذه: طرحه ورمى به لقة الاحتفال به القعب: القدح الضخم.
(6) الشلّة: أن يصيب الثوب سواد لا يذهب بالغسل العوار: الخرق والشق بالثوب.
(7) ظؤار: من الظئر أي المرضعة، أي انهم بعيدون عن كل ذلك.
(8) الأعطان: مكان نزول الابل قرب الماء، وأراد الساحات والأبهاء.(1/445)
تصف الدّار لنا قطّانها: ... المعالي، والمساعي والنّجارا
وإذا لم تدر ما قوم مضوا، ... فسل الآثار واستنب الدّيارا
آل ساسان حدا الخطب بهم، ... واستردّ الدّهر منهم ما أعارا
بعدما شادوا البنى ترفعها ... عمد المجد قبابا ومنارا
كلّ ملموم القرا صعب الذّرى، ... يزلق العقبان عنه والنّسارا (1)
جعجعوا الإيوان في مبركه، ... مبرك البازل قد قضّى السّفارا
حمل الدّهر إلى أن ردّه ... ضاغط العبء ضلوعا وفقارا
مطرقا إطراق مأمون الشّذا ... غمر النّادي حلما ووقارا (2)
أو مليك وقع الدّهر به، ... فأماط الطّوق عنه والسّوارا
أوهنت منه اللّيالي فقرة، ... لا يلاقي وهنها اليوم جبارا
أين لا أين المعالي جمّة، ... والحمى أفيح، والرّأي مغارا
ورجال شدخت أوضاحهم، ... غلبوا الأعناق منّا وإسارا (3)
يهملون المال إهمالهم ... غارب السّرح ويرعون الذّمارا (4)
كلّ موقوذ من التّاج له ... نهر يسقي يلنجوجا وغارا (5)
ذي ضياء إن جلا عرنينه ... ضوّأ اللّيل، وما أوقد نارا
تسكن الضّوضاء عنه هيبة ... مثل ما لبّدت المزن الغبارا
كزئير اللّيث ينفي صوته، ... عن حفافيه، ثؤاجا ويعارا (6)
عمّروا لم يعلموا أنّ لنا ... جائز الأمر عليهم والإمارا
قدّروا جدّ نزار واقفا، ... ومشى الجدّ فما عزّوا نزارا
__________
(1) ملموم: مجموع، قائم القرا: الظهر، وأراد الجدران.
(2) الشذا: الأذى النادي: مجلس القوم.
(3) أوضاحهم: جماعاتهم.
(4) السرح: الماشية السارحة الذمار: ما ألزم حفظه ورعايته وحمايته.
(5) الموقوذ: الثقيل اليلنجوج: عود يتبخر به.
(6) حفافيه: جوانبه الثؤاج: صياح الغنم اليعار: صوت المعزى.(1/446)
لاوذوا لمّا رأوا من دونهم ... واديا يلقي به السّيل غمارا (1)
عاينوا الضّرب دراكا في الطّلى، ... يعجل الفارس، والطّعن بدارا (2)
أصحر اللّيث العفرنى، فانثنى ... يطلب اليربوع في الأرض وجارا (3)
قهقروا الشّرك على أعقابه، ... بعد ما استقدم غيّا وضرارا
وأثاروا الدّين من مربضه، ... وأطاروا عن مجاليه الخمارا
داينوا المجد بأطراف القنا، ... فغدا عينا، وقد كان ضمارا
علموا، لمّا أذيقوا بأسنا، ... أنّ عقب الجري قد بذّ الحضارا (4)
لا أغبّ الدّار من بعدهم ... شوّل يحملن وبلا وقطارا (5)
في غمام بهّل أخلافها، ... أطلق الرّاعد عنهنّ الصّرارا (6)
مثقلات ترجم الودق، بها ... كأكفّ الحجّ يرمون الجمارا (7)
تحفز الماطر في جرعائها، ... نغر العرق إذا ما العرق فارا (8)
كلّ دهماء ترى القطر بها ... من لجين، وترى البرق نضارا
جهمة تضرب غاريها الصّبا، ... رجّة الركب يكدّون البئارا (9)
__________
(1) لاوذوا: راوغوا الغمار: الدفعات.
(2) الطلى: الأعناق الدراك: إتباع الشيء بعضه على بعض البدار:
السريع.
(3) العفرنى: الشديد اليربوع: حيوان في حجم الفأرة قصير اليدين طويل الذنب الوجار: الوكر.
(4) بذّ: غلب، فاق الحضار: الجري.
(5) شوّل: غيم.
(6) البهل: التي لا صرار عليها، والصرار ما يربط به ضرع الناقة لئلا يرضعها ولدها، استعارها للاشارة الى الغيم الماطر.
(7) الودق: المطر.
(8) تحفز: تسوق الجرعاء: أرض مستوية مرملة نغر العرق: سال الدم منه.
(9) غاريها، مثنى الغار: الجيش يكدّون: ينزعون البئار: جمع بئر.(1/447)
كالمطايا أقبلت مرحولة، ... شلّها حاد، إذا أنجد غارا
أو نعام الدّوّ بادرن الدّجى، ... يتجاوبن عرارا وزمارا (1)
طاولوا الدّهر ولم يبقوا، ومن ... يأمن اللّيل عليه والنّهارا
صاحت بغداد
(البسيط)
في عاشوراء من سنة 377وضع الشريف هذه القصيدة في رثاء الحسين بن علي بن أبي طالب عليهما السلام.
صاحت بذودي بغداد، فآنسني ... تقلّبي في ظهور الخيل والعير (2)
وكلّما هجهجت بي عن منازلها ... عارضتها بجنان غير مذعور (3)
أطغى على قاطنيها غير مكترث، ... وأفعل الفعل فيها غير مأمور
خطب يهدّدني بالبعد عن وطني، ... وما خلقت لغير السّرج والكور
إنّي، وإن سامني ما لا أقاومه، ... فقد نجوت، وقدحي غير مقمور
عجلان ألبس وجهي كلّ داجية، ... والبرّ عريان من ظبي ويعفور (4)
وربّ قائلة، والهمّ يتحفني ... بناظر من نطاف الدّمع ممطور:
خفّض عليك، فللأحزان آونة، ... وما المقيم على حزن بمعذور
فقلت: هيهات! فات السّمع لائمه، ... لا يفهم الحزن إلّا يوم عاشور
يوم حدا الظّعن فيه لابن فاطمة ... سنان مطّرد الكعبين مطرور (5)
__________
(1) الدو: الفلاة العرار: صياح الظليم الزمار: صوت النعام.
(2) بذودي: بنياقي، والذود قطعة من الابل.
(3) هجهجت: هدرت الجنان: القلب.
(4) اليعفور: الغزال.
(5) مطرور: محدد.(1/448)
وخرّ للموت لا كفّ تقلّبه، ... إلّا بوطء من الجرد المحاضير (1)
ظمآن سلّى نجيع الطّعن غلّته ... عن بارد من عباب الماء مقرور (2)
كأنّ بيض المواضي، وهي تنهبه، ... نار تحكّم في جسم من النّور
لله ملقى على الرّمضاء عضّ به ... فم الرّدى بين إقدام وتشمير
تحنو عليه الرّبى ظلّا، وتستره ... عن النّواظر أذيال الأعاصير
تهابه الوحش أن تدنو لمصرعه، ... وقد أقام ثلاثا غير مقبور
ومورد غمرات الضّرب غرّته، ... جرّت إليه المنايا بالمصادير
ومستطيل على الأزمان يقدرها ... جنى الزّمان عليها بالمقادير (3)
أغرى به ابن زياد لؤم عنصره، ... وسعيه ليزيد غير مشكور (4)
وودّ أن يتلافى ما جنت يده، ... وكان ذلك كسرا غير مجبور
تسبى بنات رسول الله بينهم، ... والدّين غضّ المبادي غير مستور
إن يظفر الموت منّا بابن منجبة، ... فطالما عاد ريّان الأظافير (5)
يلقى القنا بجبين شان صفحته ... وقع القنا بين تضميخ وتعفير (6)
من بعد ما ردّ أطراف الرّماح به ... قلب فسيح ورأي غير محصور
والنّقع يسحب من أذياله، وله ... على الغزالة جيب غير مزرور
في فيلق شرق بالبيض تحسبه ... برقا تدلّى على الآكام والقور
بني أميّة! ما الأسياف نائمة ... عن شاهر في أقاصي الأرض موتور
والبارقات تلوّى في مغامدها، ... والسّابقات تمطّى في المضامير
__________
(1) المحاضير: الخيول التي ترتفع بعدوها.
(2) المقرور: البارد.
(3) يقدرها: يدبرها.
(4) ابن زياد: عبيد الله بن زياد بن أبيه.
(5) ريّان الأظافير: أي ان الموت عاد مخضوب الأظافر من دماء الذين قتلهم الحسين، أو عاد الحسين أحمر الأظافر من دماء قتلاه.
(6) تضميخ وتعفير: التضميخ بالطيب والتعفير بالتراب.(1/449)
إنّي لأرقب يوما لا خفاء له، ... عريان يقلق منه كلّ مغرور
وللصّوارم ما شاءت مضاربها، ... من الرّقاب شراب غير منزور
أكلّ يوم لآل المصطفى قمر ... يهوي بوقع العوالي والمباتير؟
وكلّ يوم لهم بيضاء صافية ... يشوبها الدّهر من رنق وتكدير (1)
مغوار قوم يروع الموت من يده، ... أمسى وأصبح نهبا للمغاوير
وأبيض الوجه مشهور تغطرفه، ... مضى بيوم من الأيّام مشهور
ما لي تعجّبت من همّي ونفرته، ... والحزن جرح بقلبي غير مسبور
بأيّ طرف أرى العلياء إن نضبت ... عيني، ولجلجت عنها بالمعاذير (2)
ألقى الزّمان بكلم غير مندمل، ... عمر الزّمان، وقلب غير مسرور
يا جدّ لا زال لي همّ يحرّضني ... على الدّموع ووجد غير مقهور
والدّمع تحفزه عين مؤرّقة، ... حفز الحنيّة عن نزع وتوتير (3)
إنّ السّلوّ لمحظور على كبدي، ... وما السّلوّ على قلب بمحظور
فجيعة السماء
(الكامل)
وضع الشريف الرضي هذه القصيدة في رثاء أبي طاهر بن ناصر الدولة. وفي هذه القصيدة من الفصاحة وغنى المعاني ما حمل ابن جني على تفسيرها والتعليق عليها.
ألقي السّلاح ربيعة بن نزار، ... أودى الرّدى بقريعك المغوار (4)
__________
(1) الرنق: الماء الكدر.
(2) لجلجت: ترددت بالكلام.
(3) تحفزه: تدفعه الحنية: القوس.
(4) القريع: سيد القوم.(1/450)
وترجّلي عن كلّ أجرد سابح، ... ميل الرّقاب نواكس الأبصار
ودعي الأعنّة من أكفّك إنّها ... فقدت مصرّفها ليوم مغار
وتجنّبي جرّ القنا، فلقد مضى ... عنهنّ كبش الفيلق الجرّار
وليغد كلّ مغرّض من بعده ... مغرى بحلّ معاقد الأكوار (1)
قطع الزّمان لسانك العضب الشّبا، ... وهدى تخمّط فحلك الهدّار (2)
واجتاح ذاك البحر يطفح موجه، ... وطوى غوارب ذلك التّيّار
اليوم صرّحت النّوائب كيدها ... فينا، وبان تحامل الأقدار
مستنزل الأسد الهزبر برمحه ... ولّى، وفالق هامة الجبّار
وتعطّلت وقفات كل كريهة ... أبدا، وحطّ رواق كلّ غبار
هيهات لا علق النّجيع بعامل ... يوما، ولا علق السّرى بعذار (3)
يا تغلب ابنة وائل! ما لي أرى ... نجميك قد أفلا عن النّظّار
غربا، فذاك غروبه لمنيّة ... عجلى، وذاك غروبه لإسار
ما لي رأيت فناء دارك عاطلا ... من كلّ أبلج كالشّهاب الواري
متخلّي الأقطار إلّا من جوى ... ونشيج كلّ خريدة معطار
وحنين ملقاة الرّحال مناخة، ... وصهيل واضعة السّروج عواري
فجعت سماؤك بالشموس وحوّلت ... عنها وعنك مطالع الأقمار
في كلّ يوم نوء مجد ساقط ... منها، ونجم مناقب متوار
عضّت ببازلها المنون ولم تزل ... تقرو طريق النّاب بالأظفار (4)
يا طالبا بالثّار أعجلك الرّدى ... عن أن تنام على وجود الثّار
يعتاد ذكرك ما تهزّم مرجل ... وطغى تغيّض برمة أعشار (5)
__________
(1) المغرّض: المتفكه، المازح الأكوار، جمع كور: الحمل.
(2) التخمط: الهدير.
(3) العذار: ما سال من اللجام على خد الفرس والعذاران شفرتا النصل.
(4) البازل: الاسنان.
(5) تغيض الماء: نقص، غار ونضب البرمة: القدر من حجر الأعشار:
العظيمة التي لا يحملها إلا عشرة.(1/451)
هجرت ركاب الركب بعدك قطعها ... هول الدّجى ومهاول الأوعار
وعدمن كلّ مفازة مرهوبة، ... وأمنّ كلّ مخاطر عقّار (1)
فالآن يجررن الأزمّة بدّنا، ... بين المياه تفيض والأنوار
أين القباب الحمر تفهق بالقرى ... مهتوكة الأستار للزّوّار (2)
أين الفناء تموج في جنباته ... بصهيل جرد أو رغاء عشار (3)
أين القنا مركوزة تهفو بها ... عذب البنود يطرن كلّ مطار
أين الجياد مللن من طول السّرى ... يقذفن بالمهرات والأمهار
من معشر غلب الرّقاب جحاجح ... غلبوا على الأقدار والأخطار
من كلّ أروع طاعن أو ضارب، ... أو واهب، أو خالع، أو قار
وفوارس كالشّهب تطرح ضوءها ... يوم الوغى وأوار حرّ النّار
ركبوا رماحهم إلى أغراضهم ... أمم العلى، وجروا بغير عثار (4)
واستنزلوا أرزاقهم لسيوفهم، ... فغنوا بغير مذلّة وصغار
كانوا هم الحيّ اللّقاح، وغيرهم ... ضرع على حكم المقاول جار (5)
لا ينبذون إلى الخلائف طاعة ... بقعاقع الإيعاد والإنذار
عقدوا لواءهم ببيض أكفّهم ... كبرا على العقّاد والأمّار
واستفظعوا خلع الملوك وأيقنوا ... أنّ اللّباس لها ادّراع العاري
كثر النّصير لهم، فلمّا جاءهم ... أمر الرّدى وجدوا بلا أنصار
هم أعجلوا داعي المنون تعرّضا ... للطّعن بين ذوابل وشفار
__________
(1) العقّار: الذي يعقر الابل.
(2) تفهق: تمتلئ مهتوكة الأستار: غير مخبأة ولا مغطّاة.
(3) الجرد والعشار: الجياد والنياق.
(4) أمم العلى: قصد العلى.
(5) اللقاح، جمع لقحة: العقاب الضرع: الضعيف الجبان المقاول:
الملوك.(1/452)
أو ليس يكفينا تسلّط بأسها، ... حتّى تسلّطها على الأعمار
نزلوا بقارعة تشابه عندها ... ذلّ العبيد وعزّة الأحرار
سلّ البلى، وأنار فوق جسومهم ... من كلّ منهال النّقا موّار
خرس قد اعتنقوا الصّفيح، وطالما ... اعتنقوا الصّفائح والدّماء جوار
نقضت مرائرهم، وكنّ أكفّهم ... مبلولة بالنّقض والإمرار
صاروا قرارا للمنون، وإنّما ... كانوا لسيل الذّلّ غير قرار
كنّا نرى أعيانهم ممدوحة، ... فاليوم يمتدحون بالآثار
شرفا بني حمدان! إنّ نفوسكم ... من خير عرق ضارب ونجار
أنفت من الموت الذّليل فأشعرت ... جلدا على وقع القنا الخطّار
بكرت عليك سحابة نفّاحة ... تلقي زلازلها على الأقطار
شهّاقة أسفا عليك برعدها، ... طورا، وباكية بعذب قطار
وسقتك أوعية الدّموع فجاوزت ... قطرات ذاك العارض المدرار
وإذا الصّبا حدت النّسيم مريضة ... تفلي جميم الرّوض والنّوّار (1)
ممطورة الأنفاس فاه بطيبها ... سحر يبين بها من الأسحار
فجرت على ذاك التّراب سليمة ... من غير اضرار لها بجوار
تجري وذاك القبر غير مروّع ... منها، وذاك التّرب غير مثار
إنّي ذكرتك خاليا، فكأنّما ... أخذت عليّ الأرض بالأطرار (2)
وكأنّما مالت عليّ بحدّها ... نزوات قانية الأديم عقار
لا زال زائر قبره في عبرة ... تنعى البقاء إليه، واستعبار
والرّوض من حال عليه وعاطل، ... والمزن من غاد عليه وسار
__________
(1) تفلي: ترعى النوّار: الأزهار.
(2) الأطرار: الأطراف والنواحي.(1/453)
أحشاء كالجمر
(الكامل)
كان الشاعر متوجها من الري إلى مدينة السلام فوصله خبر وفاة صديقه المظفر أبي الحسن عبيد الله بن محمد الذي توفي في ذي القعدة سنة 387، فرثاه بهذه القصيدة.
أو ما رأيت وقائع الدّهر، ... أفلا تسيء الظنّ بالعمر
بينا الفتى كالطّود تكنفه ... هضباته، والعضب ذي الأثر
يأبى الدّنيّة في عشيرته، ... ويجاذب الأيدي على الفخر
وإذا أشار إلى قبائله، ... حشدت إليه بأوجه غرّ
يترادفون على الرّماح كأنّهم ... سيل يعبّ وعارض يسري
إن نهنهوا زادوا مقاربة، ... فكأنّما يدعون بالزّجر (1)
عدد النّجوم، إذا دعي بهم، ... يتزاحمون تزاحم الشّعر
عقدوا على الجلّى مآزرهم، ... سبط الأنامل طيّبي الأزر (2)
زلّ الزّمان بوطء أخمصه، ... ومواطئ الأزمان للعثر
نزع الإباء، وكان شملته، ... وأقرّ إقرارا على صغر
صدع الرّدى أعيا تلاحمه، ... من ألحم الصّدفين بالقطر؟ (3)
جرّ الجياد على الوجى ومضى ... أمما يدقّ السّهل بالوعر (4)
حتّى التقى بالشّمس مغمده ... في قعر منقطع من البحر
__________
(1) هذه القصيدة هي من الكامل، وردت فيها أبيات تامة، وأبيات غير تامة.
(2) الجلى: الأمور العظيمة سبط الأنامل: كناية عن الكرم طيبي الأزر: كناية عن سمو النفس وصفاء الطويّة.
(3) الصدفان: غلافا اللؤلؤ القطر (بكسر الكاف): النحاس.
(4) الوجى: الحفا الأمم: القصد، الغاية.(1/454)
ثمّ انثنت كفّ المنون به، ... كالضّغث بين النّاب والظّفر (1)
لم تشتجر عنه الرّماح، ولا ... ردّ القضاء بماله الدّثر (2)
جمع الجنود وراءه، فكأنّما ... لاقته، وهو مضيّع الظّهر
وبنى الحصون تمتّعا فكأنّما ... أمسى بمضيعة، ولا يدري
وبرى المعابل للعدى فكأنّما ... لحمامه كان الذي يبري (3)
هذا عبيد الله حين رمى ... عرض العلى، وأبى على الدّهر
ورمت به العيّوق همّته، ... فوطي رقاب الأنجم الزّهر (4)
غلبت مآثره النّجوم على ... عرصاتها، وبدأن بالبدر (5)
وتناذر الأعداء صولته، ... فأبات أشجعهم على ذعر
قادت حزامته المنون فلم ... تمنع مضارب بيضه البتر
نكصت أسنّته وأحجم جنده ... جزعا لمطلع ذلك الأمر
قد كان مشهورا إذا ذكرت ... خطط الوغى ومواقف الصّبر
متهلّلا في كلّ نائبة، ... تضع القطوب مواضع البشر
يرقى إلى أمد المكارم والعلى، ... لم تختزله موانع الكبر
لو لم يعارضه الحمام، إذا ... لمضى على غلوائه يجري
أودى، وما أودت مناقبه، ... ومن الرّجال معمّر الذّكر
طوت اللّيالي بعد مصرعه ... نار القرى ومعرّس السّفر
خلّي وترب أبي لقد سلبت ... منّي النّوائب أنفس الذّخر
قد كان من عددي إذا طرقت ... بزلاء ضاق بها حمى الصّدر (6)
__________
(1) الضغث: قبضة الحشيش.
(2) لم تشتجر: لم تتشابك المال الدثر: المال الكثير.
(3) المعابل: نصول السهام.
(4) العيّوق: اسم نجم وطي: وطئ مسهّلة.
(5) العرصات: اللمعان.
(6) البزلاء: الداهية العظيمة.(1/455)
وهو الزّمان على تقلّبه، ... ينوي العقوق بنيّة البرّ
كم زفرة خرساء أكظمها ... متمسّكا بعلائق الأجر
ضمرت بجرّتها عليك، وفي ... أحشائها كلواعج الجمر
لو أنّ ما أنحى عليك يد ... راعتك بالإنباض عن عقر (1)
لوقفت بينكما لأعكس سهمها ... عن نحرك البادي إلى نحري
ولو انّها سمراء مشرعة، ... أعطيت حدّ سنانها صدري
وسمحت دونك بالحياة على ... ضنّي بها، وكرائم الوفر
أو بالغا بالنّفس معذرة، ... والسّعي بين النّجح والعذر
لكن رمتك أشدّ رامية ... سهما، وأهداها إلى العقر (2)
بلغتك من خلف الدّروع ومن ... خلل القنا، والعسكر المجر
حمل الغمام جديد ريّقه، ... فسقى مغيّب ذلك القبر
لولا مشاركة المدامع في ... سقياه قلّ له ندى القطر
لو أنبتت ترب الرّجال على ... قدر العلى ونباهة القدر
نبتت عليه من شجاعته ... تلك الجنادل بالقنا السّمر
إنّ التّوقّي فرط معجزة، ... فدع القضاء يقدّ أو يفري
لو مال بالقرنين خوفهما ... للموت، ما اضطغنا على الوتر (3)
أو عدّدا ما في الخطال، إذا ... لتوادعا أبدا على غمر (4)
نحمي المطاعم للبقاء، وذي ... الآجال ملء فروجها تجري
لو كان حفظ النّفس ينفعنا ... كان الطّبيب أحقّ بالعمر
الموت داء لا دواء له، ... سيّان ما يوبي وما يمري
__________
(1) العقر: محلة القوم، المنزل، البناء المرتفع.
(2) العقر، من عقره: جرحه، أوقع به.
(3) اضطغنا: أضمرا الحقد الوتر: الظلم، الانتقام.
(4) عددا: أحصيا الخطال، جمع خطل: الفحش في الكلام الغمر:
الحقد.(1/456)
وجب البدر
(الطويل)
قال الشريف هذه الأبيات على البديهة، فيها يرثي أبا بكر بن شاه ويه الذي توفي في جمادى الأولى سنة 396. ولم يتبع نعشه إلا ثلاثة نفر، والرضي أحدهم، على كثرة أصدقائه، وكان هذا الرجل جليل القدر ببغداد.
لعمري لقد ما طلت لو دفع الرّدى ... مطال وقد عاتبت لو سمع الدّهر
أفي كلّ يوم أنت غاد مشيّع ... حبيبا إلى دار يقال لها القبر
لئن كان لي في كلّ ما أنا تارك ... وراء الثّرى أجر لقد عظم الأجر
سقيت أبا بكر على البعد والنّوى، ... ولا بلّ هام الشّامتين بك القطر
أخي ما أقلّ التّابعيك إلى الثّرى، ... وإخوانك الأدنون من قبلها كثر
لقد كانت النّكراء منك خليقة، ... ولا عرف حتى يتّقى قبله النّكر
ألا إنّما الماضون منّا هم الأولى ... أراحوا وحطّوا والبواقي هم السّفر (1)
نتبّعه أبصارنا، وهو ذاهب، ... كما مال قرن الشمس أو وجب البدر (2)
عليك سلام الله فات بك الرّدى، ... ولم يبق عين للّقاء ولا أثر
لو رأيت الغرام
(الخفيف)
في هذه القصيدة يعزّي أبا سعيد بن خلف عن ابنه.
لو رأيت الغرام يبلغ عذرا، ... قلت حزنا ولم أقل لك صبرا
__________
(1) السّفر: المسافرون.
(2) وجب البدر: غاب.(1/457)
واستزدنا ريح الزّفير هبوبا ... وسحاب الدّموع وبلا وقطرا
ورأينا معرّس الحزن سهلا ... في الرّزايا وجانب الصّبر وعرا (1)
لكن الأمر ما علمت، وهل ... تنظر من وقعة الزّمان مبرّا
واقعا بالأضداد أروى، وأظما، ... وقضى، واقتضى، وساء وسرّا
كلّ يوم يغدو بقاطعة الآ ... مال غضبان قد تأبّط شرّا
مذنبا كلّما شكا شاك كيدا، ... وإذا قيل قد أناب أصرّا
ضيغما يخبط السّروب طروبا، ... كلّما مرّ بالعقيرة كرّا (2)
وأرى النّاس وافرا وملقّى ... بالرّزايا، والأرض دارا وقبرا
منزلي قلعة ولبث، فهذا ... ك مجازا لنا، وهذا مقرّا
كلّ يوم نذمّ للدّهر عهدا ... خان فيه ونشتكي منه غدرا
قد أنيخت لنا الرّكائب، فالحا ... زم عبّى زادا، ووطّأ ظهرا
أسمع الحاديان، واستعجل الرّك ... ب، زماعا إلى المنون ونفرا (3)
كم فقيد لنا طوته اللّيالي، ... ذقن منه حلوا وذوّقن مرّا
وكأنّ الأيّام يدركن ثأرا ... عندنا فيه، أو يقضّين نذرا
إنّما المرء كالقضيب، تراه ... يكتسي الأخضر الرّطيب ليعرى
معكس السّهم ذا يراش ليمضي ... في المرامي وذا يراش ليبرى
من مؤدّ إلى عليّ ألوكا، ... أبجدّ عصيت للصّبر أمرا (4)
أيّ خطب راخى قواك، وقد كن ... ت جديلا على الخطوب ممرّا (5)
__________
(1) المعرّس: المكان، السبيل الرزايا: المصائب.
(2) ضيغم: أسد السروب: الطريق العقيرة: ما عقر من الصيد.
(3) زماعا: بدون انثناء، بثبات وعدم تردد.
(4) ألوكا: حاجة، رسالة.
(5) الجديل: الزمام المجدول من جلد، استعاره للاشارة الى العزم وقوة الارادة ممرا: محكم الفتل.(1/458)
وقناة صمّاء تطعن في الخط ... ب خلاجا على الزّمان، وشزرا (1)
أعل من عثرة الأسى إنّ للأن ... جاد نهضا وللأعاجز عثرا
أيّ باق يبقي عليك، ولو كن ... ت المرجّى من أفقد الفرع نضرا
كن كعود الطّريق طال سراه ... يشتكي قفرة ويألم عقرا
والجليد الذي إذا الدّهر أبكى ... منه قلبا جلّى على النّاس ثغرا
مستميتا يزرّ بالصّبر درعا، ... ويراه في ظلمة الهمّ فجرا
وقرته روائع الدّهر، حتّى ... لم يرع غير مرّة، واستمرّا
كلّما زيد غمّة، زاد صبرا، ... ضرم الزّند كلّما لزّ أورى
أرمضته هواجر الخطب، فانقا ... د حمول الأذى، وما قال هجرا (2)
هاب ضحضاحها، ومرّ به الدّه ... ر على سبلها، فخاض الغمرا (3)
كلّما غاب من بني خلف بد ... ر يضيء الظّلام أخلف بدرا
نفض الدّهر منهم، ثمّ أعيو ... هـ بدورا من المطامع تترى
عجبا سمتك السّلوّ، وعندي ... مسّ جرح من الهوى ليس يبرا
أتوخّى برد القلوب من الوج ... د، وقلبي يزداد بالوجد حرّا
وإذا قلت: ينزع الدّهر نابا ... من بقايا ذويّ أعلق ظفرا
كلّما أبلغ العواذل سمعي ... في التّسلّي عن معشر زاد وقرا
أجد القلب بعد لومي أسخى، ... فكأنّ اللّاحي بما قال أغرى
زاد عذلا، فزاد قلبي ولوعا ... ربّ آس أراد نفعا، فضرّا
فسقى الدّمع معشرا نزلوا القل ... ب، وأخلوا باقي المنازل طرّا
كلّما قصّر الحيا كان ماء العي ... ن أبقى صوبا، وأعظم غزرا
كم حشوت الثّرى حساما طريرا، ... وطويلا لدنا، وطرفا أغرّا (4)
__________
(1) الخلاج: الجذب والانتزاع الطعن الشزر: الطعن على غير استواء.
(2) أرمضته: أحرقته ما قالا هجرا: لم يقل كلاما منكرا، أي أنه تحمّل بصبر.
(3) الضحضاح: الماء اليسير الغمر: الماء الكثير.
(4) الطرير: المحدد طويل لدن: رمح ليّن الطرف: الكريم من الخيل.(1/459)
وخدودا مثل الذّوابل ملسا، ... وجباها مثل الدّنانير غرّا
وكأنّ القبور منهم بذي الجز ... ع عياب حملن درّا وعطرا (1)
أوجه صانها الجلال، فأمسي ... ن ترابا تحت الجنادل غبرا
عطّل الدّهر من حلاهنّ فينا، ... وتحلّى الثّرى بهنّ وأثرى
قطع الموت بيننا، فتباي ... نّا لقاء، إلّا نزاعا وذكرا
فبعدنا، وما اعتمدنا بعادا، ... وهجرنا، وما أردنا الهجرا
روعة إن جزعت منها فعذر ... لجزوع، وإن صبرت، فأحرى
وقعت موقع العوان من الدّه ... ر، وإن كانت الرّزيّة بكرا (2)
تناسيت
(الطويل)
تذكر الشاعر قوما من عشيرته وأقاربه انقرضوا، فتألم لفقدهم ووضع هذه القصيدة، وذلك في شهر ربيع الأول سنة 393.
تناسيت، إلّا باقيات من الذّكر، ... ليالينا بين القرينة والغمر (3)
وكم زادني فيها الهوى عن جمامه، ... وقارعني الغيران عن بيضة الخدر (4)
وذي دعج لا نابل الحيّ رايشا، ... ولا باريا يبري من الشّرّ ما يبري (5)
__________
(1) ذي الجزع: اسم موضع عياب، جمع عيبة: وعاء من جلد.
(2) العوان: الحرب التي قوتل فيها مرة بعد أخرى الرزيّة البكر: المصيبة الأولى: اشارة الى أنها الأولى من نوعها والى فداحتها.
(3) القرينة: موضع في الطائف الغمر: موضع بينه وبين مكة يومان.
(4) الجمام: ما علا رأس المكيال وفاض بيضة الخدر: الحسناء في خدرها.
(5) ذي دعج: ذي عينين واسعتين.(1/460)
يقلّب لي في محجري أمّ شادن ... تجفّل، أو يدنو دنوّا على ذعر
تلقّيت من طرفيه سهما وجدته ... يلذّ على عيني ويؤلم في صدري
فيا لك من رام أضمّ سهامه، ... وإن نلن منّي باليدين إلى النّحر
أقول لغيداق، وأذكرني الهوى ... على النّأي: ما للقلب ويبك والذّكر (1)
تذكّرني ما حالت الأرض دونه، ... ألا إنّما سوّلت للدّمع أن يجري
وطيّ اللّيالي والجديد إلى بلى، ... وليس لما يطوي الجديدان من نشر (2)
وشرّ الرّفيقين الذي إن أمرته ... عصاك وإن ما حطته الدّهر لم يدر
يقارعني، حتّى إذا كلّ غربه، ... نسينا التّصافي واندملنا على غمر
أفي كلّ يوم أنت ماتح عبرة ... على طلل بالودّ، أو منزل قفر (3)
ومنتزح جمّات عينيك راجعا ... إلى غزر ماء لا بكيء ولا نزر (4)
أقول: عزاء، والجوى يستفزّه، ... وأعيا الأواسي عيّ عظم على وقر (5)
فلمّا أبى إلّا البكاء رفدته ... بعينين كانا للدّموع على قدر
وقلت له: ردّ الجفون على القذى ... وخلّ الجوى يمري من الدّمع ما يمري
قسمت زفير الوجد بيني وبينه، ... دواليك أقريه اللّواعج أو يقري (6)
عشيّة تغشاني من الدّمع كنّة، ... كأنّي مرهوم الإزارين بالقطر (7)
فزعت إلى فضل الرّداء مبادرا، ... تلقّي دمعي أن ينمّ على سرّي
كأنّي وغيداقا طريدا مخافة، ... أصابا دما في مالك وبني النّضر
__________
(1) الغيداق: الناعم والكريم ويبك: ويلك.
(2) الجديدان: الليل والنهار.
(3) ماتح: نازع، من متح الماء أي نزعه.
(4) المنتزح: المستخرج الماء الجمّات: الدموع، جمع جمّة وهي معظم الشيء البكيء والنزر: القليل.
(5) أعيا الأواسي: أعجز المؤاسين الوقر: الصدع في العظم.
(6) دواليك: أي مداولة، مرة بعد أخرى أقريه: أطعمه.
(7) الكنّة: السكون المرهوم: الممطور.(1/461)
نحلّأ عن ماء الحلول، وننثني ... على رصف أكباد أحرّ من الجمر (1)
فأين بنو أمّ المكارم والنّدى، ... وآل الجياد الغرّ والجامل الدّثر
وأين الطّوال الغلب كانت سيوفهم ... فرادى عن الأجفان للضّرب والعقر (2)
كأنّك تلقى هجمة الخطب منهم ... بزيد القنا، أو بالقلمّس أو عمرو (3)
إذا عدموا أثروا طعانا، وغيرهم ... لئيم الغنى يوم الغنى عاجز الفقر
لهم كلّ شهقى بالنّجيع كما رغا ... قراسية ردّ العجيج على الهدر (4)
لها رقصات بالدّماء، كأنّما ... تشقّق عن أعراف أحصنة شقر
تلمّظ تلماظ المروع، وتنكفي ... جواشنها من مظلم الجال ذي قعر (5)
رموا بجباه الخيل مأسدة الرّدى، ... وسدّوا بمربوع القنا طلع الثّغر
ولم تدر أيمان القوابل منهم ... أسلّت رجالا أم ظبى قضب بتر؟ (6)
هم استفرغوا ما كان في البيض والقنا، ... فلم يبق إلّا ذو اعوجاج وذو كسر
قباب من العلياء أعلى عمادها ... فحول الوغى بين الزّماجر والخطر
بنوها بأيّام الطّعان، وما بنت ... لتغلب أيّام الطّعان على بكر
يعودون قد ردّوا العظيمة عن يد ... وقد أغلقوا باب الطّلاطلة البكر (7)
وغيّر ألوان القنا طول طعنهم، ... فبالحمر تدعى اليوم لا بالقنا السّمر
__________
(1) نحلّأ: نترك شيئا ونأخذ غيره الرصف: الضم.
(2) فرادى عن الأجفان: مستلّة من الأغماد.
(3) القلمّس: الرجل الداهية، وهو اسم رجل من بني كنانة عمرو: هو ابن معدي كرب.
(4) شهقى بالنجيع: أي طعنة تشهق بالدم القراسية: الضخم الشديد من الابل.
(5) تنكفي: ترجع جواشنها: صدورها الجال: جدار القبر.
(6) أيمان القوابل: أيدي القابلات أي أن النساء القابلات لم تعرف أأولدت رجالا أم سيوفا قاطعة.
(7) ردوا العظيمة: واجهوا المصيبة وردّوها عن يد: بالقوة، بالقهر الطلاطلة: الداهية.(1/462)
غدوا سهكى الأيمان من صدإ الظّبى، ... وراحوا كراما طيّبي عقد الأزر (1)
هم الحاجبون العرض عن كلّ سبّة ... إذا طرقوا والآذنون على القدر
وهم ينفدون المال في أوّل الغنى، ... ويستأنفون الصّبر في أوّل الصّبر
مليئون أن يبدوا بذي التّاج ذلّة ... إذا كرموا في طاعة الجود ذي الطّمر (2)
إذا سئلوا لم يتبعوا المال وجمة، ... ولم يدفعوا في صفحة الحقّ بالعذر (3)
من البيض يستامون والعام كالح ... جدوبا ومطّارون في الحجج الغبر (4)
كأنّ عفاة المرء ذي الطّول منهم ... يمدّون أوذام الدّلاء من البحر (5)
مغاوير في الجلّى، مغابير للحمى، ... مفاريج للغمّى، مداريك للوتر (6)
سراع إلى الورد الذي ماؤه الرّدى، ... إذا أرعد النّكس الجبان بلا قرّ (7)
وتأخذهم في ساعة الجود هزّة، ... كما خايل المطراب عن نزوة الخمر
فتحسبهم فيها نشاوى من الغنى، ... وهم في جلابيب الخصاصة والفقر
عظيم عليهم أن يبيتوا بلا يد، ... وهين عليهم أن يفيئوا بلا وفر
إذا نزل الحيّ الغريب تقارعوا ... عليه، فلم يدر المقلّ من المثري
يميلون في شقّ الوفاء مع الرّدى ... إذا كان محبوب البقاء مع الغدر
حواقلة مثل الصّقور، وفتية، ... إذا ما حناني طارق دعموا ظهري (8)
__________
(1) سهكى، من السهك: صدأ الحديد.
(2) ذي الطمر: ذي الثوب البالي.
(3) الوجمة: العبوس. أي أنهم يعطون السائل من دون عبوس ولا يعتذرون عن دفع الحقوق.
(4) يستامون: يبحثون عن السوام، أي أنهم يأخذون الرزق بالقوة الحجج:
السنوات.
(5) الطول: الفضل، العطاء، القدرة الأوذام: السيور المعلقة في آذان الدلو.
(6) الجلّى: الأمور العظيمة المغابير: النخل الذي علاه الغبار، أي أنهم يقفون للتصدي والحماية الوتر: الغاية، الهدف.
(7) أرعد: ارتجف وخاف النكس: الجبان.
(8) حواقلة: سريعو المشي.(1/463)
وما لطموا عن غاية المجد جبهتي، ... بلى، خلعوا عنّي لإدراكها عذري
توارك لي في حال يسري، فإن رأوا ... دنوي من الإملاق جاء بهم عسري
إذا أوهنت عظمي اللّيالي وجدتهم ... بأيدي النّدى والطّعن قد جبروا كسري
هم أنهضوني بعد ما قيل لا لعا، ... وهم أغرموا الأيّام لي ما جنى عثري
كفوني، وما استكفيتهم من ضراعة، ... ترافد أيدي الأبعدين على نصري
ترى كلّ ذيّال العطاف، كأنّما ... تفرّج منه اللّيل عن قمر بدر (1)
له رائد يلقاك من قبل شخصه ... جلالا كما دلّ الضّياء على الفجر
يصدّع عنه النّاظرون كأنّما ... يرون به ذا لبدتين أبا أجر (2)
له عبق يغنيه عن طيب عرضه، ... سطوعا من البان المدينيّ والعطر
لقد أولع الموت الزّؤام بجمعهم، ... كأنّ الرّدى فيهم تحلّل من نذر
وروا كبدي في آخر الدّهر لوعة ... بما برّدوا قلبي على أوّل الدّهر
مضوا، فكأنّ الحيّ فرع أراكة ... على إثرهم عرّي من الورق النّضر
وأصبح ورد الدّمع للعين بعدهم ... على الغبّ إذ ورد الفراء على العشر (3)
وما تركوا عند الرّماح بقيّة ... لهزّ إلى يوم العماس ولا جرّ (4)
نبذتهم نبذ الإداوة لم تدع ... من الماء ما يعدي على غلّة الصّدر (5)
بقيت معنّى بالبقاء خلافهم، ... وما بيننا إلّا قديديمة السّفر (6)
وأغدوا على آثارهم وودادتي ... لو انّهم الغادون بعدي على إثري
__________
(1) ذيّال العطاف: صاحب الرداء المذيّل، وفي القول كناية عن سمو المكانة.
(2) يصدّع عنه: يغض النظر، يرتد ذو اللبدتين: الأسد أبا اجر:
صاحب الأشبال.
(3) الفراء، جمع فرا: حمار الوحش العشر: نهيق الحمار عشر مرات.
(4) العماس: الحرب الشديدة.
(5) الإداوة: إناء من جلد يعدي: يعين.
(6) المعنّى: المعذّب قديديمة، تصغير قيدام وقيدوم: مقدّم الشيء، من يكون في المقدمة السّفر: المسافرون، الراحلون.(1/464)
وفي الحيّ بيتي خالفا، وكأنّني ... من الوجد يوري بين أقبرهم قبري
كأنّي مغلوب على نصل سيفه، ... أقام بلا ناب يروع ولا ظفر
فما أتلافى الغمض إلّا على قذى، ... ولا أتناسى الوجد إلّا على ذكر
وقالوا اصطبر للخطب، هيهات إذ مضى ... مقوّم درئي، والمعين على دهري
نجدي تغوّر
(الطويل)
وذي نضد لا يقطع الطّرف عرضه، ... إذا قيل نجديّ المباح تغوّرا (1)
تخال به ركني أبان وشابة ... أطلّا ورجراجا من الرّمل أعفرا (2)
إذا مدّ بالأعناق قعقع رعده ... كعود الملا إن عضّه العبء جرجرا (3)
كما اصطرعت رايات قيس وخندف ... عجالى يجرّون العديد المجمهرا
إذا أجّ بالإيماض قلت: ابن كفّة ... يضرّم بالغاب الأباء المسعّرا (4)
تشوّل تشوال البروق ببرقة، ... ورجّع قرقار الفنيق بقرقرا (5)
كأنّ به النّوتيّ من سيف جدّة ... على عجل يزجي السّفين الموقّرا (6)
له نعرات بين قوّ ورامة، ... ولا نعرات الشّيخ أوس بن معيرا (7)
__________
(1) النضد من الجبال: صخور بعضها فوق بعض المباح: الواضح، البيّن.
(2) أبان وشابة: جبلان.
(3) العود: الجمل المسن الملا: الصحراء.
(4) أجّ: عدا الكفّة من الغيم: حرفه، منتهاه، طرّته الأباء: القصب.
(5) تشوّل: ارتفع البرقة: الأرض الغليظة القرقار: هدير البعير الفنيق: الفحل المكرم القرقر: القاع الأملس.
(6) سيف جدة: شاطئ البحر يزجي: يسوق، يدفع الموقر: الثقيل.
(7) النعرات: الهيجان قو ورامة: موضعان.(1/465)
أبسّت به ريح النّعامى منيحة، ... كما جعجع الوهم الثّفال ليعقرا (1)
وهو جاء في أشواطها عجرفيّة ... تسوق من الغور الغمام الكنهورا (2)
تبعّق بالأطباء من كلّ فيقة، ... كمخض الغريريّ المزاد الموكّرا (3)
وأقلع إقلاع الظّلام، وقد وزى ... قلال الرّوابي والرّكيّ المغوّرا (4)
قضى بك لا ضنّا عليك بمدمعي ... ولكن رسيل الدّمع جاد وأمطرا
لقد ساءني أنّ البلابل روّحت، ... وأنّ مطال الدّاء بعدك أقصرا
تضرّعت في أعقاب وجد عليكم، ... ومن فاته الإعذار بالأمر عذّرا
وأهجركم هجر الخليّ، وأنتم ... أعزّ على عينيّ من طارق الكرى
ولم أزجر العين الدّموع لتنتهي، ... ولم أعذل القلب اللّجوج ليصبرا (5)
وقالوا: أرح قرح الفؤاد، وإنّما ... أحبّ فؤاديّ انطوى دونه البرى (6)
كفى جانب القبر الذي أنت ضمنه ... زفيري ودمعي أن يراح ويمطرا
وما ضرّ قلبي إذ غدا منك آهلا، ... تأمّل عيني منزلا منك مقفرا
ذكرتك والأرض العريضة بيننا، ... وشرّ على ذي الوجد أن يتذكّرا
فإن لم يزل قلبي إليك فقد هفا، ... وإن لم يزد دمعي عليك فقد جرى
__________
(1) أبسّت: ساقت سوقا سهلا النعامى: ريح الجنوب المنيحة: الناقة الوهم: البعير الذلول والقوي الثّفال: البطيء من الابل.
(2) الهوجاء: الرياح العاتية العجرفية: قلة المبالاة الكنهور: السحاب المتراكم كالجبال.
(3) تبعّق السّحاب: انبعج بالمطر الأطباء: حلمات الضرع الفيقة:
اللبن يجتمع بالضرع بين الحلبتين الغريري: نسبة الى الغرير، وهو اسم فحل من الابل الموكر: المملوء.
(4) وزى: تجمع القلال: القمم، جمع قلة الركي، جمع ركية:
البئر المغوّر: الذاهب في الأرض.
(5) الدموع: نصب بنزع الخافض، والأصل عن الدموع.
(6) البرى: التراب.(1/466)
أين بانوك
(الخفيف)
اجتاز الشاعر بالحيرة فتذكر آل المنذر بن ماء السماء ورثاهم.
أين بانوك أيّها الحيرة البي ... ضاء، والموطئون منك الدّيارا
والأولى شقّقوا ثراك من العش ... ب، وأجروا خلالك الأنهارا
المهيبون بالضّيوف، إذا هبّ ... ت شمالا والموقدون النّارا (1)
كلّما باخ ضوءها أقضموها ... بالقبيبات مندليّا وغارا (2)
ربطوا حولك الجياد وخطّوا ... لك من مركز العوالي عذارا
وحموا أرضك الحوافر حتّى ... لقّبوا أرضها خدود العذارى
لم يدع منك حادث الدّهر إلّا ... عبرا للعيون واستعبارا
وبقايا من دارسات طلول، ... خبّرتنا عن أهلها الأخبارا
عبقات الثّرى كأنّ عليها ... لطميّين ينفضون العطارا (3)
وقباب كأنّما رفعوا من ... ها لمسترشد الظّلام منارا
عقدوا بينها وبين نجوم ال ... أفق من سالف اللّيالي جوارا
أين عقبانك الخواطف حلّق ... ن، وأبقين عندك الأوكارا
ورجال مثل الأسود مشوا في ... ك، تداعوا قوائما وشفارا (4)
حبّذا أهلك المحلّون أهلا، ... يوم بانوا، وحبّذا الدّار دارا
لم يكونوا إلّا كركب تأنّى ... برهة في مناخه ثمّ سارا
__________
(1) المهيبون: الداعون.
(2) أقضموها: أطعموها القبيبات: مواضع المندل: عود طيب الرائحة، وكذلك الغار.
(3) اللطميون: بائعو المسك، نسبة الى اللطيمة: المسك.
(4) الشفار: السيوف.(1/467)
غرّد الحادي
(الرمل)
طلعت، واللّيل مشتمل، ... سابغ الأذيال والأزر (1)
من خصاصات الغبيط، وقد ... غرّد الحادي على أقر (2)
ورقاب القوم مايلة ... من بقايا نشوة السّهر
فاستقاموا في رحالهم ... يتبعون الضّوء بالنّظر
فامترينا، ثمّ قلت لهم: ... ليس هذا مطلع القمر
يا ليالي الخيف
(الطويل)
ألا يا ليالي الخيف! هل يرجع الهوى ... إليكنّ لي؟ لا جاز كنّ ندى القطر
فيا دين قلبي من ثلاث على منى ... مضين ولم يبقين غير جوى الذّكر
ورامين وهنا بالجمار، وإنّما ... رموا بين أحشاء المحبّين بالجمر
رموا لا يبالون الحشى، وتروّحوا ... خليّين، والرّامي يصيب، ولا يدري
وقالوا: غدا ميعادنا النّفر عن منى، ... وما سرّني أنّ اللّقاء مع النّفر (3)
ويا بؤس للقرب الذي لا نذوقه ... سوى ساعة ثمّ البعاد مدى الدّهر
فيا صاحبي! إن تعط صبرا، فإنّني ... نزعت يديّ اليوم من طاعة الصّبر
وإن كنت لم تدر البكا قبل هذه، ... فميعاد دمع العين منقلب السّفر (4)
__________
(1) سابغ الأذيال: طويلها.
(2) الخصاصات: الفروج الغبيط: الرحل، الناقة أقر: اسم واد.
(3) النفر: الجماعة الراحلون.
(4) منقلب السفر: بعيد السفر.(1/468)
الركب قد مطر
(البسيط)
أرتاح إن أخذ الصّفصاف زينته ... من الرّبيع وقال: الرّكب قد مطرا
مسائلا، كلّما هبّت يمانية، ... وفد القرينة: هل أحسستم خبرا (1)
إن لم أرق فيك ماء النّاظرين أسى ... على الزّمان الذي ولّى، فلا نظرا!
تغيّرت الأسرار
(الكامل)
نأت القلوب وسوف تنأى الدّار، ... وتغيّرت بمذاعها الأسرار
ولقد شققت حشى الزّمان فلم يكن ... فيه سوى سرّ النّوى إضمار
ما للخطوب تبزّني ثوب الهوى، ... وعليّ من أحداثها أطمار (2)
ألفت ضميري النّائبات كأنّها ... لعتاق أفراس الجوى مضمار
ما لي أرقرق فيك دمعا ترتوي ... منه الخطوب، وما له مشتار (3)
إيها مؤمّل طيّء لا تنقضن ... ودّا له من ذمّة إمرار
فلقد حللت من الفؤاد محلّة ... في حيث ليس من الورى لك جار
فلئن وفيت فما الوفاء ببدعة ... إنّ الوفاء لذي الصّفاء شعار
ولئن غدرت، ولا عجيب أنّه ... بعض الزّمان ببعضه غدّار
نفسي فداء الغادرين تباعدوا، ... أو قاربوا، أو أنصفوا أو جاروا
__________
(1) القرينة: اسم موضع.
(2) تبزني: تلبسني أطمار: ثياب بالية.
(3) مشتار: انقطاع.(1/469)
تعانق الليل والنهار
(مخلع البسيط)
وربّ ليل طربت فيه، ... وما استرقّتني العقار (1)
صحوت من سكره ولكن ... بي من بقايا الهوى خمار (2)
نجهل فيه مع الأغاني، ... والجهل في مثله وقار
لمّا استضاء الظّلام منّا، ... تعانق اللّيل والنّهار
زار حبيب الفؤاد فيه، ... من بعد ما استبعد المزار
إذا تناءت بنا قلوب، ... فلا تدانت بنا ديار
الشباب هو الغنى
(الطويل)
خذا اليوم كفّي للبياع على النّهى، ... فلم يبق للإطراب عين، ولا أثر
فقد كنت لا أعطي العواذل طاعة، ... وأعذر نفسي في التّصابي ولا عذر
تقضّت لبانات الصّبا، وتصرّمت، ... فلا نهي للّاحي عليّ، ولا أمر (3)
ولا تحسبا أنّي نضوت بطالتي ... نزوعا ولكن صغّر اللّذّة الكبر (4)
ولا أمتري أنّ الشّباب هو الغنى، ... وإن قل مال فالمشيب هو الفقر (5)
__________
(1) العقار: الخمر.
(2) الخمار: صداع الخمر.
(3) لبانات: حاجات، رغبات، جمع لبانة اللاحي: اللائم.
(4) نضوت: خلعت.
(5) لا أمتري: لا أشك.(1/470)
لوم
(البسيط)
نظمها على لسان رجل شيخ سأله مدح جارية سوداء.
لاموا ولو وجدوا وجدي لقد عذروا، ... وذنب من لام ظلما غير مغتفر
لمّا تمالوا على عذلي أجبتهم ... بعزّ معترف لا ذلّ معتذر (1)
أهوى السّواد برأسي ثمّ أمقته ... فكيف يختلف اللّونان في نظري
تأبى طلائع بيض ذرّ شارقها ... في عارضي أن تكون البيض من وطري
إنّي علقت سواد اللّون بعدكم ... علاقة تشمت الظّلماء بالقمر
لو لم يكن فوق لون البيض ما رقمت ... صبغ اللّيالي على الأجياد والعذر
جعلته لسواد الرّأس تذكرة، ... إن تفقد العين يرض القلب بالأثر
واللّيل أستر للخالي بلذّته، ... والصّبح أفضح للسّاري على غرر
وللفتى في ظلام اللّيل معذرة، ... وما له في الضّحى إن ضلّ من عذر
لا أجمع الحبّ للبيض الحسان إلى ... ما بيّض الدّهر والأيّام من شعري
وكيف يذهب عن قلبي وعن بصري ... من كان مثل سواد القلب والبصر
أضاء المشيب
(مخلع البسيط)
ليس على الشّيب للغواني، ... وإن تجمّلن، من قرار
كأنّما البيض من لداتي ... ضرائر البيض من عذاري
إن خيّمت هذه بأرضي، ... تحمّلت تلك عن دياري
__________
(1) تمالوا، تمالأوا مخففة: اجتمعوا وتعاونوا.(1/471)
أرين في رأسي اللّيالي، ... شرّ ضياء لشرّ نار
يبدي الخفيّات من عيوبي، ... ويظهر السّرّ من عواري
أعدو به اليوم للغواني، ... أعدى من الذّئب للضّواري
وكنّ طربى إلى طروقي، ... إذ ليل رأسي بلا دراري
فمذ أضاء المشيب فودي، ... تورّع الزّور عن مزاري
مثل الخيالات زرن ليلا، ... وزلن مع طالع النّهار
أنا الفداء
(البسيط)
أنا الفداء لظبي ما اعترضت له، ... إلّا وهتّك شوقا لي أستّره
لاحظته، والنّوى تدمى ملاحظه ... بعارض من رشاش الدّمع يمطره
ما انفكّ من نفس للوجد يكتمه ... تحت الضّلوع ومن دمع يوفّره
أهوى إليّ يدا عقد العناق بها، ... والبين يعذله، والحبّ يعذره
وقال: تذكر هذاا بعد فرقتنا؟ ... فقلت: ما كنت أنساه فأذكره
تريني ما لا أرى
(المتقارب)
أقول، وقد عاد عيد الغرام ... لمّا هبطن بنا الأجفرا: (1)
أيا صاحبي! أترى نارهم؟ ... فقال: تريني ما لا أرى
دعاني الغرام، ولم يدعه، ... فأبصرت ما لم يكن مبصرا
فما زلت أطربه بالحنين، ... وأذكره المنزل المقفرا
إلى أن تنفّس عن زفرة ... وأنّ من الوجد مستعبرا (2)
__________
(1) الأجفر: اسم موضع.
(2) أنّ: أبدى الأنين مستعبرا: باكيا.(1/472)
أرين في رأسي اللّيالي، ... شرّ ضياء لشرّ نار
يبدي الخفيّات من عيوبي، ... ويظهر السّرّ من عواري
أعدو به اليوم للغواني، ... أعدى من الذّئب للضّواري
وكنّ طربى إلى طروقي، ... إذ ليل رأسي بلا دراري
فمذ أضاء المشيب فودي، ... تورّع الزّور عن مزاري
مثل الخيالات زرن ليلا، ... وزلن مع طالع النّهار
أنا الفداء
(البسيط)
أنا الفداء لظبي ما اعترضت له، ... إلّا وهتّك شوقا لي أستّره
لاحظته، والنّوى تدمى ملاحظه ... بعارض من رشاش الدّمع يمطره
ما انفكّ من نفس للوجد يكتمه ... تحت الضّلوع ومن دمع يوفّره
أهوى إليّ يدا عقد العناق بها، ... والبين يعذله، والحبّ يعذره
وقال: تذكر هذاا بعد فرقتنا؟ ... فقلت: ما كنت أنساه فأذكره
تريني ما لا أرى
(المتقارب)
أقول، وقد عاد عيد الغرام ... لمّا هبطن بنا الأجفرا: (1)
أيا صاحبي! أترى نارهم؟ ... فقال: تريني ما لا أرى
دعاني الغرام، ولم يدعه، ... فأبصرت ما لم يكن مبصرا
فما زلت أطربه بالحنين، ... وأذكره المنزل المقفرا
إلى أن تنفّس عن زفرة ... وأنّ من الوجد مستعبرا (2)
__________
(1) الأجفر: اسم موضع.
(2) أنّ: أبدى الأنين مستعبرا: باكيا.(1/472)
يا قلب
(البسيط)
يا قلب! ما أنت من نجد وساكنه، ... خلّفت نجدا وراء المدلج السّاري (1)
راحت نوازع من قلبي تتبّعه ... على بقايا لبانات وأوطار (2)
أهفو إلى الرّكب تعلو لي ركابهم ... من الحمي في أسيحاق وأطمار (3)
تضوع أرواح نجد من ثيابهم، ... عند النّزول لقرب العهد بالدّار
يا راكبان! قفا لي واقضيا وطري، ... وخبّراني عن نجد بأخبار
هل روّضت قاعة الوعساء أم مطرت ... خميلة الطّلح ذات البان والغار (4)
أم هل أبيت ودار عند كاظمة ... داري وسمّار ذاك الحيّ سمّاري
أيّام أودع سرّي في الهوى فرسي، ... وأكتم الحيّ إدلاجي وأخطاري (5)
فلم يزالا إلى أن نمّ بي نفسي، ... وحدّث الرّكب عنّي دمعي الجاري
طول وقصر
(المنسرح)
أشكو لياليّ، غير معتبة، ... إمّا من الطّول، أو من القصر
تطول في هجركم وتقصر في الوص ... ل، فما نلتقي على قدر
يا ليلة كاد من تقاربها، ... يعثر فيها العشاء بالسّحر
__________
(1) المدلج الساري: السائر خفية في الليل.
(2) اللبانات والأوطار: الحاجات، الغايات.
(3) أسيحاق، مصغر اسحاق: الثياب البالية.
(4) الوعساء: الأرض المرملة.
(5) الأخطار، من خطر في سيره: مشى متمايلا.(1/473)
جدت بالنّعمى
(الطويل)
أتحسب سوء الظنّ يجرح في فكري، ... إذا فاحتوي بي العجز من كنف الصّبر
وعاقت يدي عند النّزال عوائق ... عن السّيف لا تدني يديّ من النّصر
فلا تقرنا ظنّي بظنّ مسفّه، ... يظنّ بوقع الأثر في غرّة البدر
فقلبي يأبى أن يدنّس سرّه ... بريب وودّي أن يعنّف من غدري
وقد جدت بالنّعمى عليك لأنّني ... حللت عرى ضغني وكفكفت من وتري (1)
ولو أنّني جازيت قوما بفعلهم، ... لألبستهم حليا من البيض والسّمر
وأخلاقنا ماء زلال على الرّضى، ... وإن أسخطت عادت على السخط من صخر
إذا ما غضبنا كادت الأرض تنطوي ... حفاظا ويرمي الأفق بالأنجم الزّهر
وما نحن إلّا عارض إن قصدته ... لجود حباك النّائل الغمر بالقطر (2)
وإن هزّ للأضغان عادت بروقه ... حريقا على الأعداء مضطرم السّعر
غفرت ذنوبا منك أذكت عزايمي، ... وكاد شهاب السّخط يطلع من صدري
صفحت وقد كان التّغصّص ذادني ... عن الصّفح لكن أنت من كرم البحر (3)
ومن قيّد الألفاظ عند نزاعها ... بقيد النّهى أغنته عن طلب العذر
فرح غانما بالعفو ممّن لو انطوى ... على حنق مات الحمام من الذّعر
بكفّي أنّى شئت ناصية العلى، ... أهزّ، وأعناق المكارم في أسري
__________
(1) ضغني: حقدي الوتر: الثأر. هذه الأبيات موجهة الى صديق أغضبه، ثم صفح عنه.
(2) عارض: غيم ماطر حباك النائل: شملك العطاء.
(3) ذادني: ردني، دفعني.(1/474)
سأهجر القوافي
(الطويل)
ألا إنّها غمر السّخائم والغمر، ... جناية من يجني بها ثمر الدّهر (1)
تحنّ الرّبى للقطر لا لغمامه، ... وما تنفع السّحب السّواري بلا قطر
سأهجر أبكار القوافي، فإنّني ... أراها على الأيّام تقتصّ بالغدر
ربّ دوّية
(المتقارب)
ألا ربّ دوّيّة خضتها، ... وقد قيّد العين ديجورها (2)
وحاجة رمحي ذيّالها، ... وهمّ جوادي يعفورها (3)
ربأت بها في ذرى قلّة ... قريب من النّجم ديجورها (4)
كأنّ السّماء بها لامة، ... وزهر النّجوم مساميرها (5)
__________
(1) غمر السخائم: كثيرة الأحقاد، جمع سخيمة الغمر: الحقد.
(2) الدوية: الفلاة نشير إلى أن هذه الأبيات وضعها في وصف السماء والنجوم.
(3) الذيال: الثور الوحشي اليعفور: الغزال.
(4) ربأ: ارتفع الى جبل قلّة: قمة ديجورها: ترابها.
(5) لامة، مسهل لأمة: قميص من زرد للمحارب.(1/475)
جنود الجهل
(البسيط)
لمّا رأيت جنود الجهل غالبة، ... والنّاس في مثل شدق الضّيغم الضّاري
نهضت تكتم في برديك سابغة ... لفيلق كنجوم اللّيل جرّار
والحرّ تنهضه إمّا شجاعته ... إلى الملمّ، وإمّا خشية العار
الفايز من صبر
(الرجز)
صبرا فما الفايز إلّا من صبر ... إنّ اللّيالي واعدت بالظّفر
لا بدّ أن يمضي بما فيه القدر، ... يلقى الفتى من دهره خيرا وشرّ
لا بد أن ينهض جدّ من عثر، ... قد ينضب الخلف الغزير ويدّر (1)
وربّ عظم هيض حينا، وانجبر ... أخوك من كان مآلا ووزر (2)
إذا نحا الدّهر بناب وعقر ... ليس الذي إن جانب الخوف انحسر
أقبل في الأمن وولّى في الحذر ... أبلغ مقالي ذلك العضب الذّكر
ذا العنق الأغلب والوجه الأغرّ، ... لولاه ما لاقوا بعودي من خور (3)
ولو تعاطاني العدوّ ما قدر، ... وكان للخصوم عنّي مزدجر
حرمت حظّي منه من دون البشر، ... خصصت بالغلّة من ذاك المطر (4)
وقد سقى البدو وطبّق الحضر، ... عسى الذي ساء قريبا أن يسرّ
__________
(1) جد: حظ الخلف: الضرع.
(2) هيض: كسر المآل: المرجع الوزر: الملجأ، ووزر: ساعد، ساند.
(3) بعودي من خور: بجسمي من ضعف.
(4) الغلة: العطش.(1/476)
فليس ظنّي فيه كاذب الخبر، ... ولا رجائي ببعيد المنتظر
قد زاده الله على عظم الخطر، ... مكارما ذات حجول وغرر
فات بها كلّ جواد وطمرّ، ... سبقا إلى غاية كلّ مفتخر (1)
فالله يعشي عنه ناظر الغير، ... ما طلع النّجم، وأورق الشّجر
انتظرها
(المتقارب)
أرى ركدة ريحها يرتجى، ... ومظلمة صبحها ينتظر
لعلّ همومك هذي الطّوال ... سيكشفها فرج مختصر
فتأمن من حيث يخشى الأذى، ... كما خبت من حيث يقضى الوطر
إذا عاد جدّ كأن لم يزل، ... وإن سرّ دهر كأن لم يضرّ (2)
وقالوا: انتظرها على بطئها، ... ومن ضامن العمر للمنتظر
وهل نافعي يوم أقضي صدى، ... إذا صاب وادي قومي المطر؟ (3)
فإن لم يكن فرج في الحياة، ... فكم فرج في انقضاء العمر
الهمّ الضيف
(الطويل)
إذا ضافني همّ أملّ طروقه ... ببعض اللّيالي، أو أضيق به صدرا (4)
ولم أر لي ما يطرد الهمّ مثله، ... سماعا يجلّي عن ضمير ولا خمرا
__________
(1) الطمر: الجواد السريع.
(2) جد: حظ كأن لم يزل: كأنه لم يكن غائبا وزائلا.
(3) أقضي صدى: أهلك عطشا.
(4) طروقه: قدومه ليلا.(1/477)
أقول لندمانيّ كرّا إلى المنى ... وذكر التّصابي واندبا ذلك العصرا
فقد طال ما أحدثت عهدا بطيبة، ... فردّا عليّ القول أحدث به ذكرا
فما كان إلّا خلسة ثمّ إنّني ... رأيت يدي ممّا علقت به صفرا (1)
ناديته
(الرجز)
ناديته بالرّمل والأمر ذكر، ... وقد مضى الورد وأعجز الصّدر (2)
يا عمرو، ذا الجمّة والوجه الأغرّ، ... قم اضطرارا جاوز الأمر الخبر (3)
فقام مشزور القوى على مرر ... كأنّما ناط على الجيد القمر (4)
مضطرب الإزرة وقّاد النّظر، ... كأنّما ينظر من وقبي حجر (5)
قدح لحاظ كمطارات الشّرر، ... يلهب في إزاره، إذا نظر
كالصّلّ إن جرّ ذناباه زفر، ... أو الغريريّ إذا عجّ هدر (6)
جرجر لمّا سيم ضيما وزأر، ... جرجرة العود بلا طول السّفر (7)
فردّها بعد العراك والبهر، ... واليوم ذو مزادة تنضح شرّ
حتى رماني بهواديها ومرّ، ... مبتسما كأنّما قضى وطر (8)
__________
(1) صفر: خالية.
(2) الأمر ذكر: الأمر جليل.
(3) الجمة: شعر الرأس الوجه الأغر: الوجه المشرق.
(4) المرر، جمع مرة: قوة الخلق وشدته ناط: علق.
(5) الوقب: الثغرة في الصخر يجتمع فيها الماء.
(6) الصل: الحيّة ذناباه: ذنبه الغريري: نسبة الى غرير وهو فحل من الابل.
(7) بلا: جرّب، اختبر.
(8) الهوادي: الرفق واللين، ما يرجى به الصلاح.(1/478)
اختيار الصديق
(البسيط)
خذ من صديقك مرأى دون مستمع، ... يا بعد بين عيان المرء والخبر
قد يورق العود يوما وهو ذو يبس، ... وتقبس النّار من ذي نعمة حصر (1)
كذّب عليه، إذا أرضاك ظاهره، ... شهادة الصّادقين السّمع والبصر
وإن سمعت فقل ما كان عن أذن، ... وإن نظرت فقل ما كان عن نظر
إن كنت لا تصطفي إلّا أخا ثقة، ... فاخلق لنفسك إخوانا على قدر
يا ذا المعارج
(الكامل)
في هذه الأبيات يشكر الله على ما يسّر له من الحج وكفاه في ذهابه ورجوعه.
يا ذا المعارج كم سألتك نعمة، ... فمنحتنيها بالذّنوب الأوفر (2)
أيّ العوارف منك أشكر فضله، ... عجز المقلّ وزاد طول المكثر
أكفيتني ما قد حذرت وقوعه، ... أم ما كفيت من الذي لم أحذر؟
__________
(1) الحصر: البخيل.
(2) الذّنوب: الدلو.(1/479)
مودّات مطلّقة
(البسيط)
في كلّ يوم مودّات مطلّقة ... قد كان أنكحنيها الدّهر مغرورا
يطيّب النّفس عن قطعي علائقها ... أنّي أفارق من فارقت معذورا
كن في الأنام بلا عين ولا أذن، ... أو لا فعش أبد الأيّام مصدورا (1)
غيب الرّجال ظنون قبل مبحثه، ... فما طلابك أن تلقاه موفورا
فما نلائم إلّا عاد منصدعا ... ولا نثقّف إلّا عاد مأطورا (2)
محل البلاد، ولا جار تغصّ به، ... يضوي الفتى ويكون العام ممطورا (3)
والنّاس أسد تحامي عن فرائسها، ... إمّا عقرت، وإمّا كنت معقورا
كم وحدة هي خير من مصاحبة، ... ينسى الجميع ويغدو الفذّ مذكورا
من كشّف النّاس لم يسلم له أحد ... النّاس داء فخلّ الدّاء مستورا
المشيب ذنب
(البسيط)
من شافعي، وذنوبي عندها الكبر، ... إنّ المشيب لذنب ليس يغتفر
راحت تريح عليك الهمّ صاحية، ... وعند قلبك من غيّ الهوى سكر
رأت بياضك مسودّا مطالعه، ... ما فيه للحبّ لا عين ولا أثر
وأيّ ذنب للون راق منظره، ... إذا أراك خلاف الصّبغة الأثر
وما عليك ونفسي فيك واحدة ... إذا تلوّن في ألوانه الشّعر
__________
(1) المصدور: الذي يعاني من داء في الصدر.
(2) المأطور: المنحني.
(3) يضوي: يهزل.(1/480)
أنساك طول نهار الشّيب آخره، ... وكلّ ليل شباب عيبه القصر (1)
إنّ السّواد على لذّاته لعمى، ... كما البياض على علّاته بصر
البيض أوفى وأبقى لي مصاحبة، ... والسّود مستوفزات للنّوى غدر (2)
كنت البهيم وأعلاق الهوى جدد ... وأخلقتك حجول الشّيب والغرر
وليس كلّ ظلام دام غيهبه، ... يسرّ خابطه أن يطلع القمر (3)
أما تريني كصلّ تحت هضبته ... بالرّمل أطرق لا ناب، ولا ظفر
مسالما يأمن الأقران عدوته، ... ملقى الحنيّة عرّى متنها الوتر
كالفرع ساقط ما يعلوه من ورق، ... والجفن أفرد عنه الصّارم الذّكر (4)
إن أشهد القوم لا أعلم نجيّهم، ... ماذا قضوا، ويجمجم دوني الخبر
كان الشّباب الذي أنضيت مندله، ... عقب الخميلة لمّا صوّح الزّهر (5)
من بعد ما كنت أستسبي المها شغفا، ... أمست تروع بي الغزلان والبقر
لم أدر أنّ الصّبا تبلى خميصته، ... وأنّ منصات ذاك العود يناطر (6)
إن أمس لا يتّقي زجري ولا غضبي ... ولائد الحيّ، مملولا لي العمر
فقد أردّ العفرنى عن أكيلته، ... وأزجر الضّيغم الغادي فينزجر (7)
ما للزّمان رمى قومي فدعذعهم، ... تطاير القعب لمّا صكّه الحجر (8)
ينفضّ جمّاعهم عن كلّ نائبة، ... كما تهالك تحت الميسم الوبر
__________
(1) يعمد الشريف الرضي هنا الى المدح في معرض الذم، فعيب ليل الشباب قصره.
(2) مستوفزات: منتصبات للنوى: للبعد.
(3) الخابط: هو الذي يسير ليلا على غير هدى.
(4) الفرع: الغصن الجفن: غمد السيف.
(5) المندل: نسيج يحمله الرجل ليتمسح به عرقه صوح: يبس.
(6) الخميصة: ثوب أسود مربع المنصات: المستوي ينأطر: ينحني.
(7) العفرنى: الأسد، وهو الضيغم أيضا.
(8) فذعذعهم: فبددهم القعب: قدح الزجاج الكبير صكّه: ضربه.(1/481)
ما كان ضرّ اللّيالي لو نفسن بهم، ... على النّوائب، واستثناهم القدر
أصبحت بعدهم في شرّ خالفة، ... مثل السّلى حوله الذّؤبان والنّمر (1)
في كلّ يوم لرحلي عن نواقرهم ... إلى المعاطب مهواة ومحتفر
أردّ نبل الأداني ما رميت بها، ... فهل إلى الرّحم البلهاء لي عذر
وقد أروع سوام الحيّ راتعة، ... بمقرب لا يواري عنقه الخمر (2)
إذا توجّس كان القلب ناظره، ... والقلب ينظر ما لا ينظر البصر (3)
أجفو له الولد، مذخورا له شفقي ... عليه، دونهم الرّوعات والحذر
يمسون شعثا، ويمسي في بلهنية ... كأنّما جدّه عدنان أو مضر (4)
ففي القلوب على حوبائه حنق، ... وبالعيون إلى مضماره شرر (5)
من عاطيات تعالى في أعنّتها، ... صكّ القداح رماها القامر اليسر (6)
واليوم عريان مشهور بفرجته، ... يعتمّ بالنّقع أطوارا، ويأتزر
كأنّهنّ ذئاب القاع مجفلة، ... لولا السّبيب على الأعناق والعذر (7)
يطلعن نزو الدّبى العاميّ آونة، ... أو مطرق القين ينزو تحته الشّرر
تخالهن مزاد الماء أغفلها ... بالدّوّ ربط العزالي فهي تبتدر (8)
__________
(1) السّلى: جلدة يكون ضمنها الولد في بطن أمه، وكذلك صغار المواشي.
(2) أروع: أخيف السوام: الماشية المقرب: الفرس الكريم الخمر:
شجر لا يرى ما وراءه.
(3) توجّس: خاف، توقع حدوث شر.
(4) البلهنية: السعة من العيش.
(5) الحوباء: النفس.
(6) صك القداح: اضطراب السهام القامر اليسر: المقامر الذي يلعب بالميسر.
(7) السبيب: الشعر العذر، جمع عذار: ما سال من اللجام على خد الفرس.
(8) الدو: الفلاة العزالي، جمع عزلاء: مصب الماء.(1/482)
سواهما كصوالي النّار ألجأها ... إلى مواقدها الشّفّان والقرر (1)
تكاد تسبق أيديها نواظرها ... إلى الطّريدة لولا اللّجم والعذر
إنّي حلفت بأيدي الرّاقصات ضحى، ... وبالحجيج وما لبّوا وما جمروا
والرّائحات إلى جمع محزّمة، ... مرّ اليمام دعا أورادها الصّدر
تنوس ركبانها نوس القراط، إذا ... مالت من السّهر الأجياد والعذر (2)
وما أريق بأعلى الخيف من علق، ... توجى لها البدن الملقاة والجزر (3)
والبيت قالصة عنه ذلاذله، ... سوم المخيض جلا عن ركنه الحجر (4)
لأمطرنّ بني الدّيّان دامية، ... هطلى، تذمّ بها الأنواء والمطر
قلّوا عناء وإن أثرى عديدهم، ... وربّما قلّ أقوام وإن كثروا
لا يجبرون على الأيّام من وهنوا ... بالقارعات ولا يأسون من عقروا
تمسّكوا بوصايا اللّؤم تحسبهم ... تتلى عليهم بها الآيات والزّبر
يا أعثر الله أيدي أينق حملت ... رحلي إلى حيث لا ماء ولا شجر
منازل لا يرجّى عندها أمل ... على اللّيالي، ولا يقضى بها وطر
منابت سار فيها قادح عمل ... يرمي العروق، وعيدان بها خور (5)
من كلّ وجه نقاب العار نقبته ... كالعرّ مرّ عليه القار والقطر (6)
يصدى من اللّؤم حتّى لو تعاوده ... أيدي العيون زمانا لانجلى الأثر
أبقوا مخازي لا تعفي مواطنها ... على البلاد فضول الرّيط والأزر
__________
(1) السواهم: الضوامر، المتغيّرات اللون الشفّان: الريح القرر، جمع قرة: البرد.
(2) تنوس: تتحرك، تتذبذب القراط، جمع قرط: ما يعلق من حلي في الأذن.
(3) الخيف: اسم موضع الجزر: الاضحيات المذبوحة.
(4) ذلاذله: أسافل ثيابه المخيض: ما استخر زبده جلا: كشف.
(5) الخور: الضعف.
(6) العر: الجرب القطر: القطران.(1/483)
يا طلح رامة لا سقّيت من شجر ... مذمّم الأرض لا ظلّ ولا ثمر
كأنّني يوم أستدريك من حذر ... جاني دم طاح لا منجى ولا وزر
سيّان عندي وأيدي الحيّ جامدة ... إن أخطأ القطر واديهم وإن مطروا
ما كلّ مثمرة تحلو لذايقها ... إنّ السّياط لها من مثلها ثمر (1)
ألوم من لا يعدّ اللّؤم منقصة، ... وضاع عتب مسيء ليس يعتذر
يا نفس لا تهلكي يأسا، ولا تدعي ... لوك الشّكائم حتّى ينجلي العمر
قالوا: انتظرها وإن عزّت مطالبها، ... هل ينظر القدر الجاني، فأنتظر
ألقى المطامع مبتوتا حبائلها ... للرّزق والرّزق لا الدّاني ولا القفر (2)
طأمن رجاءك لا الأطواد مورقة ... يوما ولا جندل البقعاء معتصر (3)
ليل من الهمّ لا يدعى السّمير له ... أعمى المطالع لا نجم ولا سحر
أنقّل النّفس من صبر إلى جزع، ... والصّبر أعود إلّا أنّه صبر (4)
ماء وجه المرء
(الطويل)
أرى ماء وجه المرء من ماء عرضه، ... فحذرك لا يقطر على العار قاطره
فإن أنت لم تستبق بالصّون بعضه، ... تتابع مطلولا على الذّلّ سائره
تنكّر هذا النّاس بعدك للنّدى، ... وأقلع من نوء المكارم ماطره
فأولاهم بالحمد من لان ردّه، ... ومن حسنت علّاته ومعاذره
__________
(1) الثمر: عقدة في طرف السوط، تشبيها بالثمر في الشكل والتدلي.
(2) مبتوتا: مقطوعا القفر: القليل المال.
(3) طأمن: سكّن الجندل: الصخر.
(4) أعود: أنفع صبر: عصارة شجر مر.(1/484)
تجاف عن الأعداء
(الطويل)
تجاف عن الأعداء بقيا، فربّما ... كفيت ولم تعقر بناب ولا ظفر (1)
ولا تبر منهم كلّ عود تخافه، ... فإنّ الأعادي ينبتون مع الدّهر
دخول على زحلوفة الخطب بعد ما ... ترامت بهم أرجاء مظلمة القعر (2)
إذا شئت أن تبقى خليّا من العدى ... فعش عيش خال من علاء ومن وفر (3)
إذا أنت أفنيت العرانين والذّرى، ... رمتك اللّيالي عن يد الخامل الغمر (4)
وهبك اتّقيت السّهم من حيث يتّقى، ... فمن ليد ترميك من حيث لا تدري (5)
تحامي على دار المقام سفاهة، ... ضلالا لذا رأيا، ونحن مع السّفر (6)
لولا هناة
(الطويل)
ولولا هناة، والهناة معاذر، ... لطارت برحلي عنك بزلاء ضامر (7)
وشيّعت أظعانا، كأنّ زهاءها، ... بجانب ذي القلّام، نخل مواقر (8)
مفارق دار طأطأ الذّلّ أهلها، ... وما عزّ دار ليس فيها معاشر
__________
(1) بقيا: للبقاء والثبات.
(2) الزحلوفة: الزحلوقة، ما يسبب الانزلاق، المنحدر المالس.
(3) الوفر: المال.
(4) العرانين، جمع عرنين: الأنف الغمر: المغمور، الخامل الذكر.
(5) يد: عذر، قدر.
(6) السّفر: المسافرون.
(7) هناة: داهية البزلاء: الناقة الشابة.
(8) الزهاء: المقدار ذو القلّام: اسم موضع المواقر: المثقلة بثمرها.(1/485)
أقمت على ما ساء أذنا ومقلة، ... يبلّغني المكروه سمع وناظر
أبيت رميضا صاليا حرّ زفرة، ... لليلي من زور الملمّات سامر (1)
أرقت ولم يأرق معي من رجوته ... ليومي، إذا دارت عليّ الدّوائر
أقام على دار القطيعة والقلى، ... يشاور فيما ساءني ويؤامر (2)
رماني عن قوس العدوّ، وقال لي: ... أمامك! إنّي من ورائك ثائر
وعندي لتبديل الدّيار مناخة ... توقّع ما تملي عليّ المقادر
أقول: غدا، والشرّ أقرب من غد، ... أبى الضّيم أن يبقى بعشّك طائر
فما أنت نظّار، وغيرك رائح، ... ونضوك مزموم، ورحلك قاتر (3)
إذا لم يكن لي ناصر من عشيرتي، ... فلي من يد المولى وإن ذلّ ناصر
وإنّي وإن قلّوا لمستمسك بهم، ... وقد تمسك السّاق المهيض الجبائر (4)
وبعض موالي المرء يغمز عوده، ... كما غمز القدح الخليع المقامر (5)
وقد كان مولى الزّبرقان هراسة ... لها واخذ في الأخمصين وناقر (6)
وقد أكل الجيران قيس بن عاصم، ... وجار الأياديّ الحذافيّ واقر
وقد كان فيها للسّموأل عذرة، ... ومن رام عذرا أمكنته المعاذر
ولكنّه أصغى لما قال لائم، ... فأوفى، ولم يحفل بما قال عاذر
فلا يغررنك اليوم ثغر ابن حرّة ... تبسّم للأعداء والصّدر واغر (7)
شكا النّاس يبكي قلبه ولسانه، ... وإن كتمت عنك الدّموع النّواظر
تواكله الخلّان، حتّى حسامه ... وأعوانه، حتّى الجنان الموازر
__________
(1) رميضا: شاعرا بشدّة الحر.
(2) القلى: البغض.
(3) النضو: السهم القاتر من الرحل: اللطيف.
(4) المهيض: المكسور.
(5) القدح: سهم الميسر الخليع: المقامر.
(6) الزبرقان وما بعده: أسماء أعلام، والزبرقان هو ابن بدر وأحد سادات العرب.
(7) والصدر واغر: والصدر يخبّئ الحقد.(1/486)
وما كنت إلّا كالموارب نفسه ... بغى ولدا، والعرس جدّاء عاقر (1)
وهل ينفعنّ الطّارقين على الطّوى ... إذا غاب جود المرء والزّاد حاضر (2)
يفوز الفتى بالحمد، والمال ناقص، ... وتتبع موفور الرّجال المعائر
ولو كنت في فهر لقام بنصرتي ... غضوب، إذا لم يغضب الحيّ، غائر
وسدّد من دوني سنانا كأنّه ... إلى الطّعن ناب يقلس السّمّ قاطر (3)
إذا ضافت الحيّ الحريد مغيرة ... أدرّ عليها لقحة الطّعن عامر (4)
كليث الشّرى ما فات حدّ نيوبه ... من الطّعم يوما، أدركته الأظافر
ويأبى الفتى، والسّيف يحطم أنفه، ... وفي النّاس مصبور على السّيف صابر (5)
ولو بأبي العوّام كان مناخها ... لغامر عنها اللّوذعيّ المغامر (6)
وراحت طرابا لم تشمّس رحالها، ... ولا نغرت منها القدور النّواغر (7)
سوارح لم يدفع عن الرّعي دافع ... لئيم ولم ينهر عن الماء زاجر
فتلتم على ضلعاء منقوضة القوى ... إذا ما استمرّت بالرّجال المرائر
سهامكم في كلّ عار سديدة، ... وسهمكم في مرشق المجد عائر
وما كنتم لجم الجوامح قبلها، ... فتثنونني إن أعجلتني البوادر
إذا ما دعوا لليوم ذي الخطب أصفحوا ... صدور الحرابي أرمضتها الهواجر (8)
كأنّ بكورا من نطاة وخيبر ... لها ناحط منهم رميض وناعر (9)
__________
(1) الموارب: المخاتل الجدّاء: الصغيرة الثدي الذاهبة اللبن.
(2) الطارقون: الآتون ليلا الطوى: الجوع.
(3) يقلس: يمج.
(4) الحريد: المنفرد.
(5) صابر: ثابت لا يجبن.
(6) اللوذعي: الذكي.
(7) نغرت: غلت، فارت.
(8) الحرابي: جمع حرباء أرمضتها: أحرقتها.
(9) البكور: جمع بكر نطاة: اسم خيبر الناحط: من يسعل بشدة الرميض: الذي آذاه الحر الناعر: الذي فوجئ ببرد وهو في حر.(1/487)
وما أنا إلّا أكلة في رحالهم، ... لها الفم، إلّا أن يقي الله، فاغر
ولولا أبو العوّام لم يملكوا العلى ... على النّاس إلّا أن تشبّ النّوائر (1)
ولم يرفعوا بين الغوير وحاجر ... قبابهم ما دام للبدن ناحر (2)
أردّ على قومي فضول تغمّدي، ... وإني على ما ساء قومي لقادر
وإني لأستأني حلوم عشيرتي، ... ليعدل منآد، ويرجع نافر (3)
وأطلس منّاني الكذاب، وقال لي: ... ليهنك، إحدى اللّيلتين لباكر (4)
ينافط فيها هجرس، وهو نائم، ... وجرّر فيها هجرس، وهو فاتر (5)
تشبّه بالمجرين في حلبة النّدى ... أقم وادعا يا عمرو، إنّك عاثر
وأهملها مرعيّة في ضمانه، ... زمان ادّعى نسيانها، وهو ذاكر
رآها على علّاتها ظهر صعبة، ... تحادر من إرقاصها وتحاذر (6)
فأحجم عنها هائبا نزواتها، ... وطار عليها الشّحشحان المخاطر (7)
رأى سيفه فيها فعضّ بنانه، ... فألّا، أبا الغلّاق، كنت تبادر؟
يكشّ كشيش البكر في الحيّ أجليت ... عليه برمّان القروم الخواطر (8)
تطاوح، والأوراد تركب عنقه، ... خواطر ما دون الرّدى وكواسر
وإنّي مليء إن بقيت، لعرضكم ... بشوه المجالي، تحتهنّ النّواقر (9)
__________
(1) النوائر، من نأرت نائرة الناس: هاجت هائجتهم.
(2) البدن: النياق السمينة.
(3) المنآد: الأعوج.
(4) الأطلس: اللص، الرجل اذا رمي بقبيح.
(5) نافط: صوّت، عطس الهجرس: القرد، الثعلب، اللئيم.
(6) تحادر: تنحدر أرقاصها: ارتفاعها وانخفاضها في السير.
(7) الشحشحان: الشجاع الغيور.
(8) يكش: يهدّد البكر: الفتي من الابل أجليت: كشفت القروم:
الفحول الخواطر: التي تخطر في مشيتها.
(9) الشوه، جمع أشوه: المشوه المجالي، جمع مجلى: مقدم الرأس(1/488)
علالة ركبان الظّلام، إذا ونوا ... من السّير مرفوع بهنّ العقائر (1)
قوارع من تخبط يعد وهو موضح ... أميم، ومن تخطئ يبت وهو ساهر (2)
بواق بأعراض الرّجال خدوشها، ... كما رقشت رقّ الأبيل المزائر (3)
حقيبة شرّ بئس ما اختار ربّها، ... إذا نفضت عند الإياب المآزر
نلمّكم، والله يصدع شعبكم، ... ولا يجبر الأقوام ما الله كاسر
أحنّ إلى قومي، كما حنّ نازع ... إلى الماء قد دانى له القيد قاصر (4)
تذكّر جونا بالبطاح تلفّه ... بمنتضد الدّوح الغمام المواطر (5)
وجنّت عليه ليلة عقربيّة، ... لها سائل في كلّ واد وقاطر (6)
بأبطح معشاب كأنّ نطافه ... دموع العذارى أسلمتها المحاجر (7)
يبيت على الماء الذي في ظلاله ... كنانة والحيّان كعب وعامر
لهم في كفاف الأرض شرقا ومغربا ... عماعم يبنون العلى وكراكر (8)
أداروا رحى بالأعوجيّات قمحها ... صدور المواضي والرّؤوس النّوادر (9)
هم نشطوني منشط السّجل بعدما ... تطاوحه الجولان، والقعر غاير (10)
__________
النواقر: الدواهي.
(1) ونوا: تعبوا العقائر: الأصوات، جمع عقيرة.
(2) الموضح، من أوضحت الشجّة في رأسه: كشفت العظم الأميم:
الذي أصيبت أم رأسه وشج.
(3) الرق: جلد يكتب عليه الأبيل: الراهب المزائر: مكان الزيارة.
(4) القاصر: الذي يضيق قيد البعير.
(5) الجون: نبات تضرب خضرته الى السواد المنتضد: المجتمع.
(6) عقربية: ذات عقارب، اي ذات شر وشدّة.
(7) النطاف: الماء القليل.
(8) العماعم: الجيش الكثير الكراكر: الجماعة من الناس.
(9) الاعوجيات: النياق.
(10) نشطوني: نزعوني السجل: الدلو الجولان: التراب.(1/489)
ومدّوا يدي من بعد ما كان مطرحي ... من الأرض مجرورا عليه الجرائر
وقوا شرّها واليوم مستوجف الحشا، ... له أبجل من عائذ الطّعن فائر (1)
وما غير دار المرء إلّا مذلّة ... ولا غير قوم المرء إلّا فواقر (2)
وأخليت من قلبي مكانا لذكرهم ... وقد يذكر البادي وتنسى الحواضر
ظن محمد
(الطويل)
فيا عجبا ممّا يظنّ محمّد، ... وللظّنّ في بعض المواطن غرّار
يقدّر أنّ الملك طوع يمينه، ... ومن دون ما يرجو المقدّر أقدار (3)
له كلّ يوم منية وطماعة، ... ونبذ قريض بالأمانيّ سيّار
لئن هو أعفى للخلافة لمّة، ... لها طرر فوق الجبين وأطرار (4)
وأبدى لها وجها نقيّا كأنّه، ... وقد نقشت فيه العوارض، دينار
ورام العلى بالشّعر، والشّعر دائبا، ... ففي النّاس شعر خاملون وشعّار (5)
وإنّي أرى زندا تواتر قدحه، ... ويوشك يوما أن تشبّ لنا النّار (6)
__________
(1) مستوجف: ذاهب الأبجل: عرق غليظ في الرجل أو في اليد.
(2) الفواقر، جمع فاقرة: الداهية.
(3) في هذا البيت والابيات اللاحقة يحدّث الشريف نفسه بالخلافة ويتمناها.
(4) الطرر والأطرار، جمع طرة: الناصية، طرف كل شيء.
(5) أي أن الشعر وحده غير كاف لتحقيق الأمنيات. والبيت خارج عن الوزن.
(6) أي أن الشرر سينقلب يوما نارا مشتعلة، وما هو اليوم أمنبة يتحقق غدا واقعا قائما.(1/490)
بيني وبينكم الدهر
(الطويل)
رموا بمرامي بغيهم، فاتّقيتها ... وقلت لهم: بيني وبينكم الدّهر
كأني بكم لا تستطيعون حيلة، ... وليس لكم نهي يطاع ولا أمر
بغى الذلّان
(الوافر)
بغى الذّلّان غايتنا، وأنّى ... يقام المجد بالعمد القصار
وأهتكهم لكلّ خباء نقع، ... إذا ما مدّ أطناب الغبار
كأنّ الدّمع فوق الخدّ منها ... حباب يستدير على عقار
ذل جارك
(المتقارب)
لأمثالها يسخر السّاخر، ... لقد ذلّ جارك يا عامر
تراه لقى بين أيدي الخطو ... ب، لا أنت ناه ولا آمر
حيان
(الرجز)
أما تراها كالجراز البتّار، ... تحتلق القوم احتلاق الأشعار
حيّ على السّير، وحيّ قد سار(1/491)
تمطت بي العشرون
(الطويل)
وعين عوان بالدّموع وغيرها ... من الدّمع يعروري جوانبها بكر (1)
تمطت بي العشرون حتّى رمين بي ... إلى غاية من دونها يقطع العمر
هدنة الدهر
(الطويل)
يقولون: نم في هدنة الدّهر آمنا، ... فقلت: ومن لي أن يهادنني الدّهر
هل الحرب إلّا ما ترون نقيصة ... من العمر، أو عدم من المال أو عسر
فلا صلح حتّى لا يكون لواجد ... ثراء، ولا يبقى على وافر وفر (2)
كأنّها أجادل
(الطويل)
تطاير في مرّ العجاج كأنّها ... أجادل حطّتها سغابا وكورها (3)
لها بين جنبي ضرغد فضريّة، ... غريريّة يهدي الضّيوف زفيرها (4)
__________
(1) أي أن الدموع تعاود العين مرة بعد أخرى.
(2) الواجد: الغني، وكذلك الوافر الوفر: المال.
(3) تطاير: تتطاير العجاج: الغبار الكثيف الأجادل: الصقور سغاب:
جياع.
(4) ضرغد: اسم جبل لغطفان ضريّة: قرية بين البصرة ومكة الغريرية:
نسبة الى غرير وهو أحد الفحول.(1/492)
تمطت بي العشرون
(الطويل)
وعين عوان بالدّموع وغيرها ... من الدّمع يعروري جوانبها بكر (1)
تمطت بي العشرون حتّى رمين بي ... إلى غاية من دونها يقطع العمر
هدنة الدهر
(الطويل)
يقولون: نم في هدنة الدّهر آمنا، ... فقلت: ومن لي أن يهادنني الدّهر
هل الحرب إلّا ما ترون نقيصة ... من العمر، أو عدم من المال أو عسر
فلا صلح حتّى لا يكون لواجد ... ثراء، ولا يبقى على وافر وفر (2)
كأنّها أجادل
(الطويل)
تطاير في مرّ العجاج كأنّها ... أجادل حطّتها سغابا وكورها (3)
لها بين جنبي ضرغد فضريّة، ... غريريّة يهدي الضّيوف زفيرها (4)
__________
(1) أي أن الدموع تعاود العين مرة بعد أخرى.
(2) الواجد: الغني، وكذلك الوافر الوفر: المال.
(3) تطاير: تتطاير العجاج: الغبار الكثيف الأجادل: الصقور سغاب:
جياع.
(4) ضرغد: اسم جبل لغطفان ضريّة: قرية بين البصرة ومكة الغريرية:
نسبة الى غرير وهو أحد الفحول.(1/492)
ربة الخدر
(الطويل)
أيا ربّة الخدر الممنّع بالقنا، ... أتنأين لم تنظر بك العين منظرا
ومن عجب أصفيتك الودّ بعدما ... تعاطى القنا قومي وقومك أعصرا
ذنب المقادير
(البسيط)
أناشد أنت أطلالا بذي القور، ... أضلّها جولان القطر والمور (1)
فما أحيل عليهم عند نازلة، ... لكن أحيل على ذنب المقادير (2)
إن تقتطعه الأعادي عن مذاهبه، ... فربّ أبيض مغمود لمنشور
ذهب أحمر
(المتقارب)
ومن عامر غلمة كالسّيو ... ف جريال أوجههم يقطر (3)
إذا صدئ القوم لا يصدأون، ... كأنّهم الذّهب الأحمر
__________
(1) ذو القور: اسم موضع، والقور التلال الصغيرة المور: التراب تثيره الرياح.
(2) النازلة: المصيبة.
(3) الجريال: صباغ أحمر.(1/493)
الشباب يغطي العيوب
(الطويل)
رأيت شباب المرء ليلا يجنّه، ... يغطّي على بادي العيوب ويستر (1)
وشيب الفتى صبح يبين عواره، ... ويرمق فيه بالعيون فينظر
فإنّ ضلالي في النّهار لهجنة ... وإنّ ضلالي في دجى اللّيل أعذر
صبرت
(الطويل)
صبرت على عرك النّوائب فيكم، ... وقد بلغ المجلود أو غلب الصّبر
وقيّدني مرّ الحفاظ بداركم، ... وأطلق غيري من حبالكم العذر (2)
فما كان لولاكم يمرّ لي الغنى، ... ويحلو إلى قلبي الخصاصة والفقر (3)
ناصية الأشقر
(المتقارب)
وأفلتهنّ أبو عامر ... يقبّل ناصية الأشقر
يقول، إذا أرهقته الرّماح: ... إن لم تزد عنقا تعذر
سليبا يخفّف حتّى رمى، ... من الرّعب، بالدّرع والمغفر (4)
__________
(1) يجنّه: يستره، يخبئه.
(2) المر: الحبل.
(3) الخصاصة: الفقر، الحاجة.
(4) المغفر: زرد يلبسه المحارب تحت القلنسوة.(1/494)
تأمرني بالصبر
(الرجز)
لهذه كان الزّمان ينتظر، ... لم يبق من بعدك للمجد وطر
تأمرني بالصّبر، هيهات لقد ... هان على الأملس ما لاقى الدّبر (1)
لولا ظبى سيفك في صدورها ... لما نهى فيها الرّدى، ولا أمر (2)
لا يغررنك
(البسيط)
لا يغررنّك سلم جاء يطلبه، ... لم يخطب السّلم إلّا بعدما عقرا
أعطى يدا بعدما شلّت أناملها، ... وأسلم النّفس لمّا لم يجد وزرا
بعير
(الخفيف)
ربّ نائي الملاط يحسب جيدا، ... حائلا بين غرضه وصداره (3)
إن ثناه الزّمام جرجر كالرّا ... عد باللّيل لجّ في قرقاره (4)
__________
(1) الأملس: السليم الظهر من الابل الدبر: المعقور. والعجز مثل يضرب في استخفاف السليم بشدّة المصاب.
(2) الظبى، جمع الظبة: حد السيف.
(3) الملاط: جانبا السنام الغرض: هو للرحل كالحزام للسرج الصدار:
صدر البعير.
(4) قرقاره: هديره.(1/495)
وكأنّ اللّغام يسقط من في ... هـ هوافي ما طمّ من أوباره (1)
أغلب
(السريع)
أغلب لا يخشى وعيد السّفر، ... كأنّما يدعونه بالزّجر
لا بد للمسرع من عثار
(السريع)
كم قابس عاد بغير نار، ... لا بدّ للمسرع من عثار
__________
(1) اللغام: الزبد الهوافي: ما طار من الصوف في الهواء طم: قص.(1/496)
قافية الزاي
تأبى التعزّي
(مجزوء الكامل)
إطمح بطرفك هل ترى ... إلّا مصابا أو معزّى؟
نأبى التّعزّي، ثمّ يل ... حقنا الزّمان بمن تعزّى
أغدو وراء الذّاهبي ... ن تهزّني الزّفرات هزّا
لا ناظرا أثرا، ولا ... متوجّسا للقوم رزّا (1)
أبكي ظبى فجعت يدي ... منها بأصدقها مهزّا
قد كنت صلب العود لا ... يجني الزّمان عليّ غمزا
حتّى مضى بكم يؤزّ ... كم القضاء الجدّ أزّا (2)
لم أستطع منعا، فيا ... لله عزما عاد عجزا
هل غادروا إلّا حشا ... قلقا وقلبا مستفزّا
أمسي كأنّ من القنا ... بأضالعي قرعا ووخزا
يا ثانيا للنّفس، بل ... يا ثالث العينين عزّا
عضو عثت فيه المن ... يّة، ما أجلّ وما أعزّا
عزّ الحمام عليك، إ ... نّ القرن إن ما عزّ بزّا (3)
__________
(1) الرز: الصوت البعيد.
(2) الأز: الازعاج الزائد.
(3) القرن: السيّد، الشجاع من عز بز: من غلب سلب.(1/497)
قافية السين
شرف الخلافة
(الكامل)
في هذه القصيدة يمدح الشريف الرضي القادر بالله حين استقر في دار الخلافة في شهر رمضان سنة 381.
شرف الخلافة، يا بني العبّاس، ... اليوم جدّده أبو العبّاس
وافى لحفظ فروعها، وكنيّه ... كان المشير مواضع الأغراس (1)
هذا الّذي رفعت يداه بناءها ال ... عالي وذاك موطّد الآساس
ذا الطّود بقّاه الزّمان ذخيرة ... من ذلك الجبل العظيم الرّاسي (2)
ملك تطاوح مالكوه وأصبحوا ... منه وراء معالم أدراس
غاب أبنّ به ضراغم هاشم، ... من كلّ أغلب للعدى فرّاس (3)
حتّى نبا بهم الزّمان فأزعجوا ... عن تلكم الأغيال والأخياس (4)
فاليوم لمّ العزّ بعد تشعّث، ... وأعيد ذكر الدّين بعد تناس
قد كان زعزعك الزّمان فراعه ... عود على عجم النّوائب عاس
__________
(1) المشير: المعرف مواضع: منصوب بنزع الخافض.
(2) في هذا البيت والبيت السابق يشير الى الخليفة الأول أبي العباس السفاح.
(3) أبنّ به: أقام به الأغلب: الأسد.
(4) الأغيال والأخياس: عرائن الأسود.(1/498)
ما كان غير مجرّب لك في العلى ... لتكون راعي الأمر دون النّاس
فبلاك عيب البأس يوم كريهة، ... ورآك طود الحلم يوم مراس (1)
فلأنت قائم سيفها الذّرب الشّبا ... مجدا ووابل نوئها الرّجّاس (2)
من معشر وسموا الزّمان مناقبا ... تبقى بقاء الوحي في الأطراس
مترادفين على المكارم والعلى، ... متسابقين إلى النّدى والباس
خطموا أنوف الخالعين وذلّلوا ... أمما من الأعداء بعد شماس (3)
طلعوا على مروان يوم لقائه ... من كلّ أروع بالقنا دعّاس (4)
سدّوا النّجاء عليه دون جمامه ... بقراع لا عزل ولا نكّاس
بالزّاب والآمال واقفة الخطى ... بين الرّجاء لنيلها، والياس (5)
حتّى رأى الجعديّ ذلّ قياده ... ليد المنون تمدّ بالأمراس
وهوت به أيد أناملها القنا، ... مهوى كليب عن يدي جسّاس
ضربوه في بطن الصّعيد بنومة ... أبد الزّمان ولات حين نعاس
وتسلّموها غضّة، فمضى بها ... الأبرار ناشزة عن الأرجاس (6)
فالآن قرّ العزّ في سكناته، ... ثلج الضّمائر بارد الأنفاس
وقفت أخامص طالبيه، ورفّهت ... أيد نفضن معاقد الأجلاس (7)
__________
(1) أي أنك تظهر البأس والشجاعة في الشدّة، والحلم والتعقل في الصعوبات.
(2) الذرب: الحديد، القاسي الشبا: الحد الرّجّاس: الرعّاد.
(3) خطموا: قطعوا بعد شماس: بعد عناد.
(4) مروان: هو مروان بن محمد آخر خليفة أموي.
(5) الزاب: نو نهر الزاب الذي جرت قربه المعركة الفاصلة بين العباسيين والأمويين.
(6) تسلموها: الضمير عائد الى الخلافة.
(7) الأجلاس، جمع جلس: الصخرة الضخمة وكل مرتفع من الأرض، والجلس هو الجمل الوثيق والمعنى الأخير هو المقصود.(1/499)
واحتلّ غاربه وليّ خلافة، ... ما كان يلبسها على ألباس (1)
سبق الرّجال إلى ذراها ناجيا ... من ناب كلّ مجاذب نهّاس (2)
يقظان يخرج في الخطوب وينثني ... ولهاه للكلم الرّغيب أواس (3)
ويرقّ أحيانا، وبين ضلوعه ... قلب على المال المثمّر قاس
تغدو ظبى البيض الرّقاق بقلبه ... أحلى وأعذب من ظباء كناس (4)
وكأنّ حمل السّيف يقطر غربه ... أنسى يمين يديه حمل الكاس
أحسود ذي الغرر الشّوادخ أنّها ... حرم على الأغيار للأفراس (5)
لا تحسدن قوما إذا فاضلتهم ... فضلوك في الأخلاق والأجناس
وإذا رميت الطّرف راعك منهم ... أطلال أجبال عليك رواس
كانوا نجوما ثمّ شعشع نورهم، ... والنّار أوّلها من الأقباس
مجد، أمير المؤمنين، أعدته ... غضّا كنور المورق الميّاس
وبعثت في قلب الخلافة فرحة ... دخلت على الخلفاء في الأرماس (6)
ومكيدة أشلى عليك نيوبها ... غضبان، للقربى القريبة ناس
فغرت إليك ففتّها وتراجعت، ... ففرته بالأنياب والأضراس
حمراء من جمر الخطوب وطئتها ... فلبست فيها الصّبر أيّ لباس
فردا سلكت بها المضيق وإنّما ... طرق العلاء قليلة الإيناس
أورق أمين الله عودي، إنّما ... أغراس أصلك في العلى أغراسي
واملك على من كان قبلك شاؤه ... في فرط تقريبي، وفي إيناسي
__________
(1) الألباس: الشبهات، جمع لبس.
(2) النهاس: النهس هو الأخذ بالأسنان، والنهش هو الأخذ بالأضراس.
(3) الكلم الرغيب: الجرح الواسع أواس: جمع آس، من المؤاساة.
(4) الظبى: السيوف الظباء: الغزلان، وهو يجانس بينهما الكناس:
مبيت الغزال.
(5) الشوادخ، من الشدخ: انتشار الغرة.
(6) الأرماس: القبور.(1/500)
إنّي لأجتنب السّؤال متاركا ... خلفا يدرّ عليّ بالإبساس (1)
ولقد أطعتك طاعة ما رامها ... منّي امرؤ إلا عصاه شماسي
فرّت إليك، بغير داع، همّتي، ... وصغا إليك، بلا قياد، راسي
أخو الحرب
(الطويل)
يمدح في هذه القصيدة الملك بهاء الدولة، وقد أنفذها إليه بفارس في شهر صفر سنة 394.
تمنّى رجال نيلها، وهي شامس، ... وأين من النّجم الأكفّ اللّوامس
وإنّ المعالي عن رجال طلائق، ... وهنّ على بعض الرّجال حبائس
ولم أر كالعلياء ترضى على الأذى، ... وتهوى على علّاتها، وهي عانس
فقل للحسود اليوم أغض على القذى، ... فما كلّ نار أوقدت أنت قابس
وما لك والإقدام بالخيل والقنا، ... وحظّك عن نيل العلى متقاعس
وهل نافع يوما وجدّك راجل، ... إذا قيل، يوم الرّوع: إنّك فارس
فطب عن بلوغ العزّ نفسا لئيمة، ... فما للعلى إلّا النّفوس النّفائس
وإنّ قوام الدّين من دون ثغرها، ... له ناظر يقظان والنّجم ناعس
رعاها بهمّ لا يملّ وهمّة ... إذا نام عنها حارس قام حارس
أخو الحرب ذاق الرّائعات وذقنه، ... ونال، ونالته القنا والفوارس
يغاديك يوم السّلم طلقا، وفكره ... يمارس حدّ الرّوع فيما يمارس
كأنّ ملوك الأرض حول سريره ... بغاث وقوف والقطاميّ جالس (2)
إذا رمقوه، والجفون كواسر ... على غير داء، والرّقاب نواكس
__________
(1) الخلف: الضرع، استعاره للاشارة الى كرم الممدوح الابساس: اللطف.
(2) البغاث، جمع أبغث: طائر من الرخ بطيء الطيران القطامي: الصقر.(1/501)
يحيّون وضّاحا، كأنّ جبينه ... سنا قمر ما غيّرته الحنادس (1)
تصرّف أعناق الملوك لأمره، ... وتستخدم الأعضاء والرّأس رائس
من القوم حلّوا بالرّبى وأمدّهم ... قديم المساعي، والعلاء القدامس (2)
تحلّهم دار العدوّ شفارهم، ... وترعيهم الأرض القنيّ المداعس (3)
بهاليل أزوال بكلّ قبيلة ... ملاذع من نيرانهم ومقابس (4)
وما جالسوا إلّا السّيوف معدّة ... ليوم الوغى، والمرء ممّن يجالس
إذا أخطأوا مرمى من المجد أجهشوا، ... زئير الضّواري أفلتتها الفرائس
فمن خائض غمر الرّدى غير ناكص، ... ومن صافق يوم النّدى لا يماكس (5)
إذا ما اجتداه المجتدون على الطّوى ... يبيت رطيب الكفّ والبطن يابس (6)
له في الأعادي كلّ شوهاء يهتدي ... بتهدارها طلس الذّئاب اللّعاوس (7)
ونشّاجة تحت الضّلوع مرشّة، ... كما هاع مملوء من الخمر قالس (8)
مطرّقة الجالين هطلى كأنّما ... إزار الفتى فيها من الدّم وارس (9)
ألا ربّ حيّ من رجال أعزّة ... أسالت بهم منك الغمام الرّواجس (10)
__________
(1) الحنادس: الظلمات.
(2) القدامس، جمع قدموس: قديم.
(3) القني، جمع قناة: الرمح المداعس، جمع مدعاس: الرمح الطعّان.
(4) بهاليل، جمع بهلول: السيد الجامع لكل خير الأزوال: الشجعان.
(5) غير ناكص: غير مرتد الصافق: الموافق لا يماكس: لا يبخل.
(6) اجتداه: طلب منه العطاء الطوى: الجوع رطيب الكف: كناية عن العطاء.
(7) كل شوهاء: كل طعنة شوهاء تهدارها: صوت فوران الدم منها اللعاوس: الشرهة.
(8) النشاجة: التي تغلي بالدم المرشة، من أرشت الطعنة: اتسعت فتفرق الدم هاع: قاء، استفرغ قالس: فائض.
(9) مطرقة: مرققة الجالين: الجانبين الوارس: الأحمر.
(10) الرواجس: الراعدة، الهادرة برعودها.(1/502)
أرادوك بالأمر الجليل فردّهم ... على عوج الأعقاب جدّ ممارس
تطاعنهم عنك السّعود بجدّها، ... ولا يتّقي طعن المقادير تارس
إذا أفلتوا طعن الرّماح رمتهم ... بطعن عواليها النّجوم الأناحس
سلبتهم عزّ الثّراء، فلم تدع ... لهم ما يرى منه العدوّ المنافس
فما لهم، غير الشّعور، عمائم، ... ولا لهم، غير الجلود، ملابس
وعمّتهم من حدّ بأسك سطوة ... بها اجتدعت أعناقهم لا المعاطس
فما جازها في ذروة النّيق صاعد، ... ولا فاتها في لجّة الماء قامس (1)
ولا ناطق للخوف إلّا مخافت ... ولا ناظر للذّلّ إلّا مخالس
ترى الأب ينبو عن بنيه ويتّقي ... أخاه الفتى وهو القريب المؤانس
وليس يحيّا منهم اليوم طالع ... هوانا، ولا يجدي إذا اعتام بائس (2)
تملّس أعواد القنا من أكفّهم، ... وينفضهم من عن قطاها العوانس (3)
يكون مزرّ المرء غلّا لعنقه، ... من الخوف، حتّى ينزع الثوب لابس
إذا ضربوا في الأرض فهي مهالك، ... وإن أوطنوا الأبيات فهي محابس
وعاطسهم في الحفل غير مشمّت، ... فكالنّابح العاوي من القوم عاطس
وأطرق شيطان الغواية منهم، ... فلم يبق من نعّابة الغيّ نابس
وعند طبيب المعضلات شفاؤهم، ... إذا عاد من داء العداوة ناكس
فيوماه يوم بالمواهب غائم ... علينا، ويوم بالقواضب شامس
سجيّة بسّام يقول عدوّه: ... أهذا الّذي يلقى الوغى وهو عابس
نزاد، ويروى الأبعدون بمائكم، ... ونحن على الورد الظّماء الخوامس
وتندى لقوم آخرين سحابكم، ... ونحن مناشي أرضكم والغرائس (4)
__________
(1) النيق: أرفع موضع في الجبل القامس: الغائص.
(2) اعتام: طلب المال.
(3) قطاها: ظهرها، والقطاة هو المقعد الرديف على ظهر الدابة العوانس:
النياق، جمع عنس.
(4) مناشي، من نشأ: شب.(1/503)
رجوتك والعشرون ما تمّ عقدها، ... فلم أنا من بعد الثّلاثين آيس
ولي خدمة قدّمتها لتعزّني، ... ولولا الجنى ما رجّب الفرع غارس (1)
وما همّتي إلّا المعالي، وإنّني ... على المرء بالعلياء لا المال نافس
وقد غار حظّ أنت ثاني جماحه، ... وتقدع من بعد الجماح الشّوامس (2)
عسى ملك الأملاك ينتاش أعظما ... برتهنّ ذؤبان اللّيالي النّواهس
وقد كنت شمت العزّ منك وجادني ... بغيظ الأعادي ماطر منه راجس
فباعدني من صوب مزنك حاسد ... يضاحك ثغري والجنان معابس
يريني حنانا، وهو يضمر بغضة، ... كلا ناظرينا من قلى متشاوس (3)
فجدّد يدا عندي يرفّ لباسها، ... فقد أخلقت تلك الأيادي اللّبائس
وبابك أولى بي من الأرض كلّها، ... فحتّام لي عن قرع بابك حابس
وأقسم لولا أنّ دارك فارس، ... لما انتصفت من أرض بغداد فارس
نزعت فخاري
(الطويل)
نظم هذه القصيدة في مدح بهاء الدولة وأرسلها اليه.
أقول لركب خابطين إلى النّدى، ... رموا غرضا واللّيل داجي الحنادس (4)
أقيموا رقاب اليعملات، فإنّني ... سأستمطر النّعماء نوءا بفارس (5)
__________
(1) رجّب: سند الفرع: الغصن.
(2) تقدع: تكبح الشوامس: العنيدون.
(3) القلى: البغض، الحقد متشاوس: شديد العداوة.
(4) خابطين: سائرين ليلا داجي الحنادس: داجي الظلمة.
(5) اليعملات، جمع يعملة: الناقة المطبوعة على العمل النوء: العطاء.(1/504)
بنانا إذا سيم الحيا غير باخل، ... ووجها إذا سيل النّدى غير عابس
أحبّ ثرى أرض أقمت بجوّها، ... وإن كان في أرض سواها مغارسي
وكم رفعت لي نار حيّ فجزتها، ... وما نار ممنون القرى من مقابسي
نزعت فخاري يوم ألبس نعمة ... لغيرك، ما زرّت عليّ ملابسي
إذا كنت لي غيثا، فأنت غرستني، ... ومورق عودي بالنّدى مثل غارسي
تركت رجالا لم يهشّوا لمنّة، ... ولم ينقعوا غلّ الظّماء الخوامس (1)
على القرب إني فيهم غير طامع، ... ومنك على بعد المدى غير آيس
غياث النّدى ضمّت أكفّ وأغلقت ... على اللّؤم أبواب النّفوس الخسائس
ولولاك أمسى النّاس في كلّ مذهب ... على أثر من معلم الجود طامس
عضلت ثنائي عنهم وذخرته ... لأبلج ممنون النّقيبة رائس (2)
وما كنت إلّا الطّرف يمنع ظهره ... جبانا، ويعطي ظهره كلّ فارس (3)
لا ترقدن على الأذى
(مجزوء الكامل)
نظمها في مدح والده.
لا ترقدنّ على الأذى، ... واعزم كما عزم ابن موسى
لمّا ألظّ به العدى ... عنتا، وأضرارا وبوسا (4)
ورموا إليه نواظرا ... كأسنّة اليزنيّ شوسا (5)
__________
(1) الظماء الخوامس: الشديد والعطش.
(2) عضلت: منعت.
(3) الطرف: الجواد السريع.
(4) ألظ: أقام عنتا: فسادا بوس: بؤس.
(5) اليزني: الرمح المنسوب الى ذي يزن أحد ملوك حمير.(1/505)
أغضى لهم، وأثار لي ... ث الغاب يقتنص النّفوسا
غضبان يغلي بالزّما ... جر كلّما نظر الفريسا
يتنكّب اللّحم الذّلي ... ل ويطلب العضو الرّئيسا
أظنتموه على الأذى ... في داركم أبدا حبيسا
إنّ الذّلول على القوا ... رع عاد بعدكم شموسا (1)
وأرمّ مثل الصّلّ ين ... تظر التي تشفي النّسيسا (2)
حتّى أحدّ لكم حسا ... ما قاطعا نغض الرّؤوسا
إمّا عقرن ظباه أع ... جلن العقاير أن تكوسا (3)
إن تفجأوا بدخانها، ... فبعقب ما شجر الوطيسا (4)
كيدا سرى لكم، ولم ... تسمع له أذن حسيسا
قد ينزع اللّين الكريم ... ويلبس الخلق الشّريسا
وتكون طلقا ثمّ يؤ ... نس ذلّة فيرى عبوسا
ويعود مرّ الطّعم لا ... عذب المذاق ولا مسوسا (5)
ألقحتم النّعمى، ول ... كن طرّقت لكم ببوسى (6)
وغمطتم تلك السّعو ... د، فأبدلت بكم نحوسا (7)
وأهنتم ثوب العلى، ... فغدا الهوان لكم لبوسا
من بعد ما حلّتكم ال ... علياء جوهرها النّفيسا
حتّى ظننّا الله لي ... س برازق إلّا خسيسا
__________
(1) الشموس: الأبي، العنيد.
(2) أرم: سكت النسيس: الجوع، بقية الروح في الجسد.
(3) تكوس: تمشي على ثلاث قوائم.
(4) شجر: منع الوطيس: الحرب.
(5) المسوس: الماء بين العذب والملح.
(6) ببوس: ببؤس.
(7) غمطتم: جحدتم، أنكرتم.(1/506)
يا حسنكم في الدّهر أذ ... نابا، وأقبحكم رؤوسا
خلّوا الطّريق لمن تع ... وّد أن تجرّبه خميسا
ودعوا السّياسة في العلى، ... لأغرّ يحسن أن يسوسا
هذا خمار فتى أدا ... ر من البلاء لكم كؤوسا (1)
البحر الزاخر
(الكامل)
يا ذاكر النّعماء إن نسيت، ... ومجدّد المعروف إن درسا
ومنبّه الآمال إن رقدت ... بالطّول لا أغفى ولا نعسا (2)
نصل إذا وقف النّصول مضى ... جبل إذا اضطرب الجبال رسا
لله بحر ما هتفت به ... حتّى استهلّ عليّ وانبجسا (3)
أجممت جمّته، ففاض بها ... يطأ الرّبى ويبلّل اليبسا (4)
زخرت غواربه إليّ، ولم ... يقل الرّجاء: لعلّما وعسى
وأغرّ مختلس مكارمه، ... إنّ الكريم يرى النّدى خلسا
غرس الصّنائع ثمّ عاد به ... عود النّدى، فسقى الذي غرسا
كالعضب فيه صاقل عمل ... ينفي القذى، ويباعد الدّنسا
من معشر ركبوا المكارم في ... أولى الزّمان مصاعبا شمسا
شغلوا ملابسها فلم يدعوا ... للنّاس إلّا الدّنس اللّبسا (5)
__________
(1) الخمار: صداع الخمر.
(2) الطّول: الفضل، السعة، الاحسان والمعروف. ونشير الى أنه يوجّه القصيدة الى صديق له.
(3) انبجس: تدفق.
(4) الجمة: شعر الرأس، استعارها للاشارة الى مقامه.
(5) اللبس، من الالتباس: الشبهة.(1/507)
العاطفون، إذا الصّديق نبا ... والمحسنون إذا الزّمان أسا
وإذا خناق الكرب ضاق بنا، ... ردّوا النّفوس وردّدوا النّفسا
ما ضرّ من مطروا ببلدته ... إن كان ماء المزن محتبسا
لا أزلق اليوم العبوس لكم ... قدما، ولا أطفى لكم قبسا
لا تفترنّ على الزّمان، وإن ... عثر الزّمان بعزّكم تعسا
القلب في مأتم
(البسيط)
خذي حديثك من نفسي عن النّفس، ... وجد المشوق المعنّى غير ملتبس
الماء في ناظري، والنّار في كبدي، ... إن شئت فاغترفي، أو شئت فاقتبسي
كم نظرة منك تشفي النفس عن عرض، ... وترجع القلب منّي جدّ منتكس
تلذّ عيني، وقلبي منك في ألم، ... فالقلب في مأتم والعين في عرس
كمّ الفؤاد، حبيسا، غير منطلق، ... ودمع عيني، طليقا، غير منحبس (1)
علّ الزّمان على الخلصاء يسمح لي ... يوما بذاك اللّمى الممنوع واللّعس (2)
يقول: منّي، كأنّ الحبّ أوّله، ... فكيف أذكرني هذا الضّنا ونسي (3)
قل للّيالي: فري نحضي على بدني، ... أو فاعرقيني بالأنياب، وانتهسي (4)
خذي سلاحك لي إن كنت آخذة، ... قد أمكن النّاشط الذّيّال وافترسي (5)
__________
(1) الكم: غلاف الزهر.
(2) اللمى: سواد مستحسن في الشفة، وكذلك اللعس.
(3) الضنا: التعب.
(4) فري: اقطعي نحضي: لحمي اعرقيني، من عرق العظم: أكل ما عليه من لحم انتهسي، من النهس: أخذ اللحم بمقدّم الأسنان.
(5) الناشط الذيال: الثور الوحشي.(1/508)
فكم أريغ العلى، والحظّ في صبب، ... وكم أقول: لعا، والجدّ في تعس
مذبذب الرّزق لا فقر ولا جدة ... حظّ لعمرك لم يحمق ولم يكس (1)
في كلّ يوم بسربي منك غادية، ... إحالة الذّئب باد غير مختلس
فوهاء تفغر نحوي، وهي ساغبة، ... شجو الوليد إذا ما عبّ في النّفس (2)
يا بؤس للدّهر ألقاني بمسبعة، ... وقال لي عند غيل الضّيغم: احترس (3)
مضى الرّجال الأولى كانت نقائبهم ... لا بالرّجاع، ولا المبذولة اللّبس
وصرت أهون عند الحيّ بعدهم، ... ممّا على الإبل الجربا من العبس (4)
أستنزل الرّزق من قوم خلائقهم ... شمس الأعنّة عند الزّجر والمرس (5)
يستبدلون بي الأبدال معجزة، ... من يرض بالعير يهجر كاهل الفرس
العرض يترك للرّامي بمضيعة، ... والمال يحفظ بالأعوان والحرس
يحصّنون على الرّاجي مطالعه، ... خوفا من السّلّة الحذّاء والخلس (6)
أصبحت حين أريغ النّفع عندهم، ... كناشد الغفل بين العمي والخرس (7)
لقد زللت، وكانت هفوة أمما ... أيّام أرجو النّدى الجاري من اليبس
وإنّ أعجز من لاقيت ذو أمل ... يرجو الصّلا عند زند ضنّ بالقبس (8)
أبا الذّوائب من قومي أوازنهم ... لقد وزنت الصّفا العاديّ بالدّهس (9)
__________
(1) مذبذب الرزق: أي أن زرقه ضائع وحائر يكس: ينقص.
(2) فوهاء: كبيرة الفم ساغبة: جائعة عب: صوّت.
(3) المسبعة: الأجمة، مكان عيش السباع.
(4) العبس: ما يتعلق بأذناب الإبل من أبوالها وأبعارها.
(5) المرس: الممارسة، الشدّة.
(6) السلّة: أخذ الشيء في رفق وخفة الحذّاء: السريعة الخلس:
الاختلاس.
(7) أريغ النفع: أتحايل للوصول اليه.
(8) الصلا، الصلاء: الدفء.
(9) الصفا: الحجر الصلب الدهس: المكان السهل الوطء.(1/509)
يا صاحبيّ اشددا النّضوين، وانطلقا ... إن سلّم الله أفجرنا من الغلس
لا تنظرا غير وعد السّيف آونة، ... من لم يرس بذباب السّيف لم يرس (1)
سيرا عن الوطن المذموم واتّبعا ... إلى الإباء قياد الأنفس الشّمس
ولا تقيما على صعب مغالقه، ... بعرضه ما بثوبيه من الدّنس
قربت بالبعد
(السريع)
قربت بالبعد من النّاس، ... وفضّت الأطماع بالياس
إلّا بقايا من جميع الهوى، ... تهفو بلبّ الجبل الرّاسي
دمعي كجودي عند بذل النّدى، ... وحرّ بأسي مثل أنفاسي
وجهي رقيق يستشفّ الحيا ... منه، وقلبي دونه قاس
لا حظّ في المجد لمن لم يزل ... في حيّز الإبريق والكاس
كلّ غلام رام خدع العلى ... يلطف في برّي وإيناسي
بقاء الفتى
(الطويل)
بقاء الفتى مستأنف من فنائه، ... وما الحيّ إلّا كالمغيّب في الرّمس (2)
أرى الناس ورّادين حوضا من الرّدى، ... فمن فارط أو بالغ الورد عن خمس (3)
ويجري على من مات دمعي وما له ... بكيت ولكنّي بكيت على نفسي
__________
(1) من لم يرس: من لم يتوسّل.
(2) الرمس: القبر.
(3) الفارط: المتقدّم والسابق الى الماء أو الكلأ.(1/510)
وكلّ فتى باق سيتبع من مضى ... وكلّ غد جاء سيلحق بالأمس
فلا يبعدنك الله من متفرّد، ... رأى الموت أنسا فاستراح إلى الأنس
أقول وقد قالوا مضى لسبيله، ... مضى غير رعديد الجنان ولا نكس (1)
كأنّ حداد اللّيل زاد سواده ... عليك وردّ الضّوء من مطلع الشّمس
أرى كلّ رزء دون رزئك قدره، ... فليس يلاقيني ليومك ما ينسي
بعض البياض
(الوافر)
في شعبان من سنة 392حلق الشاعر شعر رأسه في منى، ورأى فيه بعض البياض، فنظم هذه القصيدة.
بقلبي للنوائب جانحات ... عماق القعر مؤنسة الأواسي
أقارع شغبها لو كان يغني ... قراعي للنّوائب أو مراسي
وتعذمني فتخطي صفحتيها ... عذامي يوم أعذم أو ضراسي (2)
كأنّي بين قادمتي نزور ... تراوح بين ولغي وانتهاسي (3)
ولم يلبثن غربان اللّيالي ... نغيقا أن أطرن غراب راسي (4)
وما زال الزّمان يحيف حتّى ... نزعت له على مضض لباسي
__________
(1) الرعديد: الجبان الجبان: النفس، القلب النكس: الضعيف.
(2) وتعذمني، من عذم: عضّ الضراس: العض بالأضراس.
(3) النزور: صفة للطير الولغ: هو الأخذ باللسان الانتهاس: هو الأخذ بالأسنان.
(4) أطرن غراب راسي: كناية عن ذهاب سواد الشعر.(1/511)
نضا عنّي السّواد بلا مرادي ... وأعطاني البياض بلا التماسي (1)
أروع به الظّباء وقد أراني ... زميلا للغزال إلى الكناس (2)
لمسقط حامل الشّعرات عنّي ... بحدّ السّيف في اليوم العماس (3)
أحبّ إليّ من نزعي رداء ... كسانيه الشّباب وأيّ كاس
وأخلق وهو يذكرني التّصابي ... وعود النّبع يغمز وهو عاس (4)
وددت بأنّ ما تخبى المواضي ... بدال لي بما جنت المواسي
وبغّضني المشيب إلى لداتي، ... وهوّنني البقاء على أناسي (5)
خذوا بأزمّتي فلقد أراني ... قليلا ما يلين لكم شماسي (6)
أليس إلى الثّلاثين انتسابي ... ولم أبلغ إلى القلل الرّواسي
فمن دلّ المشيب على عذاري ... وما جرّ الذّبول على غراسي
سأبكي للشّباب بشاردات ... كصاردة السّهام عن القياس (7)
يعلّل شدوها الطّلح المعنّى ... إذا سقط العصيّ من النّعاس
فمن يك ناسيا عهدا فإنّي ... لعهدك يا شبابي غير ناس
وكنت عليك مع طمعي جزوعا، ... فكيف يكون وجدي بعد ياسي
لضاع بكاء من يبكيك شجوا ... ضياع الدّمع بالطّلل الطّماس
ولو أجدى البكاء على نوار ... لأعيا الدّمع عين أبي فراس
فإنّ العيش بعدك غير عيش، ... وإنّ النّاس بعدك غير ناس
__________
(1) نضا: خلع، نزع.
(2) أروع: أخيف الظباء: أراد الحسان الكناس: مبيت الغزال.
(3) اليوم العماس: اليوم الشديد المظلم.
(4) النبع: شجر تتخذ من عيدانه القسي والسهام.
(5) لداتي: أترابي، رفاقي.
(6) الشماس: الامتناع والإباء.
(7) الصاردة: المخطئة من السهام.(1/512)
عندي العيون
(الكامل)
أمضرّة بالبدر طالعة، ... عند العيون، وضرّة الشّمس
أنا منك في كمد على كمد ... يومي عليّ أمرّ من أمسي
جنّيّة وقبيلها بشر ... عظم البلاء بها على الإنس
عجبا له إذ جاء يسأل من ... مسّ الفؤاد رقى من المسّ
لا تنكري هذا النّحول أما ... نفسي تذوب عليك من نفسي
دمعي طليق
(الطويل)
هم خلّفوا دمعي طليقا، وغادروا ... فؤادي على داء الغرام حبيسا
طلاع الحشى لم يتركوا فيه فضلة ... تضمّ جوى من بعدهم ورسيسا (1)
يخافكم قلبي، وأنتم أحبّة، ... كأنّ الأعادي ينظروني شوسا (2)
لقد خفت عيني أن تكون طليعة ... لكم وفؤادي أن يكون دسيسا
بوح
(مجزوء الخفيف)
باح بالمضمر الدّفين لسا ... ن من النّفس
عن مبلّ من الجوى ... راجع الدّاء فانتكس
__________
(1) طلاع الشيء: قدره، وطلاع الإناء: ملؤه الرسيس: أوّل الحب.
(2) ينظرون شوسا: ينظرون بمؤخرة العين تكبرا واحتقارا أو حقدا.(1/513)
ما لقلبي عن السّل ... وّ رأى النّار فاقتبس
جدّدت نظرة المها ... ة من الوجد ما درس
طلبت غرّة الفؤا ... د المعنّى، وما احترس
ركّبت صبغة الهلا ... ل على صبغة الغلس
في خمار من اللّمى، ... وقميص من اللّعس
تساوى الناس
(البسيط)
كنّا نعظّم بالآمال بعضكم، ... ثمّ انقضت فتساوى عندنا النّاس
لم تفضلونا بشيء غير واحدة، ... هي الرّجاء، فسوّى بيننا الياس
كم عرّضوا لي بالدنيا
(البسيط)
كم عرّضوا لي بالدّنيا وزخرفها ... مع الهلوك، فلم أرفع بها راسا (1)
وكيف يقبل رفد النّاس محتملا ... ذلّ المطالب من لا يمدح النّاسا
منعّمة الأطراف
(الطويل)
ومعتادة للطّيب ليست تغبّه، ... منعّمة الأطراف تدمى من اللّمس
إذا ما دخان النّدّ من ثوبها علا ... على وجهها أبصرت غيما على شمس
__________
(1) الهلوك: المرأة الفاجرة.(1/514)
قافية الشين
نسوة آل كعب
(الوافر)
لتبد اليوم نسوة آل كعب ... بأجياد مدمّاة الخدوش
على الفرسان من سلفي تميم ... يثلّهم الرّدى ثلّ العروش
مضوا وبقيت بعدهم مهيضا، ... كما نهض الجناح بغير ريش (1)
ومن نهشت أسنّة آل كعب، ... فلا درياق للرّجل النّهيش (2)
فيا نفس اذهبي أسفا عليهم، ... فبعدهم كموتك ان تعيشي
__________
(1) المهيض: المكسور.
(2) الدرياق: هو الترياق.(1/515)
قافية الصاد
حكم القدر
(الرجز)
نظم هذه القصيدة في رثاء صديق له من العرب كان قد عاهده أن يدعو إليه في أمر الخلافة، وله فيه عدة مراث.
ما هاج من ذي طرب مخماص ... ليل أبي العوّام والقلاص (1)
أرسلها خمصاء في خماص، ... زوراء من رعي الجميم الواصي (2)
بعد مطال القرب البصّاص، ... رام إلى غايتها الأقاصي (3)
قذى المآقي لبد العناصي ... في مطلق أنجمه شواصي (4)
لمع المداري جلن في العقاصي، ... كأنّ خفق الكوكب الوبّاص (5)
زرقاء من زرق بني ملاص، ... حتّى اتّقين الشّمس بالنّواصي (6)
__________
(1) المخماص: الجائع، الضامر البطن القلاص: النياق، جمع قلوص.
(2) زوراء: مائلة الجميم: العشب الكثير الواصي: المتتابع.
(3) القرب: البئر القريبة الماء البصاص: المتلألئ.
(4) اللبد: المتلبد العناصي: النبت المتفرق شواصي: شواخص.
(5) المداري: الأمشاط العقاص: غدائر الشعر، جمع عقيصة الوبّاص:
البرّاق.
(6) بنو ملاص: بطن من هذيل.(1/516)
مفتقة من جانب النّشاص، ... تطلّع الرّود من الخصاص (1)
ما لي وما للقدر المعاصي، ... كالعير مضروبا على القماص (2)
أين أبو العوّام للعواصي، ... يروضها، والخيل والدّلاص (3)
ورعيها بين القنا العرّاص، ... من آمن القلّام والقرّاص (4)
وللقرى والطّرق الخراص، ... وللقنا يلدغن بالأخراص (5)
هيهات لا حامي إلى العراص، ... شيم الظّبى وضمّت القواصي (6)
سمّ المطايا ليلة الإرقاص، ... يرجعن أرماقا بلا أشخاص (7)
زاد الفتى والقوم في انتقاص، ... وبعدوا عن جامح فحّاص
بعد اللّغاديد من القصاص، ... قام المجاري وكبا المناصي (8)
من معشر مطيّب الأعياص، ... بين لباب المجد والمصاص (9)
لهم بآداب النّدى تواصي، ... من كلّ سبّاق المدى نوّاص (10)
قوم لأعناق العدى قواص، ... قرن لقاء عجل الإقعاص (11)
__________
(1) النشاص: السحاب الرود: الفتاة الحسناء الخصاص: الفرجة في البناء أو الباب.
(2) القماص، من قمص العير: وثب ونفر.
(3) الدلاص: الدرع الملساء.
(4) العرّاص: اللدن القلّام: نوع من النبات القرّاص: عشب ذو وبر حاد يقرص من مسّه.
(5) الخراص: المستقيمة الأخراص: الأسنّة.
(6) القواصي: النواحي.
(7) سمّ: قصد الارقاص: نوع من السير أرماقا، من الرمق: الضعف.
(8) اللغاديد، جمع لغدود: لحمة في الحلق القصاص: حيث ينتهي نبت الشعر المناصي، من ناصاه: قبض كل واحد على ناصية الآخر.
(9) الأعياص، من العيص: الأصل الكريم المصاص: خالص الشيء.
(10) النوّاص: النهاض، المتحرك
(11) قواص: قواطع الاقعاص: القتل.(1/517)
يا قبر بين القور والدّعاص، ... ضمّ على لؤلؤة الغوّاص (1)
ضمّ الوعا وبزّ بالعقاص، ... سقيت من داني الحيا والقاصي
قاد ابن ليلى قائد المعتاص، ... كان سياغي فغدا اغتصاصي (2)
ما أثقل اليأس على الحراص، ... هل لجروح الدّهر من قصاص
جدّ الرّدى والنّاس في حياص، ... حيد الأقاطيع عن القنّاص (3)
قد ينزل العالي من الصّياصي، ... وقد يطيع الرّأس وهو عاصي (4)
أمر لجام القدر القرّاص، ... ما شاء من حكم فلا مناص (5)
مقتنص الغزال
(الكامل)
يا بؤس مقتنص الغزال طماعة، ... ذهب الغزال بلبّ ذاك القانص
كالدّرّة البيضاء حان ضياعها ... من بعد ما ملأت يمين الغائص
ما كان قربك غير برق لامع، ... ولّى الغمام به، وظلّ قالص
أغدو على أمل كحبّك زائد، ... وأروح عن حظّ كوصلك ناقص
__________
(1) الدعاص: التلال المرملة.
(2) المعتاص: الشديد الصعب اغتصاصي: غصّتي.
(3) الحياص: العدول والحياد الأقاطيع: جمع قطيع.
(4) الصياصي: الحصون.
(5) لا مناص: لا مفر.(1/518)
لمن الديار؟
(الكامل)
لمن الدّيار طلولها وقص، ... ما للقطين بعقرها شخص (1)
أبقى الخليط بها معاهده، ... أثر لعمرك ما له قصّ
ولقد تحلّ بها مربّبة، ... ظمأى الوشاح وللبرى غصّ (2)
غنيت بحلي الحسن عاطلة، ... ما للنّضار بجيدها وبص (3)
فرعاء إن نهضت لحاجتها، ... عجل القضيب وأبطأ الدّعص (4)
ومرجّل جعد ينوء به ... جيد الغزال، وناعم رخص (5)
سرقت بطرف الرّيم مهجته، ... ومن النّواظر قاطع لصّ
قسما بشعث جعجعت لهم ... بالمأزمين ظوالع خصّ (6)
طعنوا الظلام بكلّ ناجية، ... في موق كلّ دجى لها بخص (7)
ترمي الإكام بمنسم عمم، ... دامي الأظلّ كأنّه قرص (8)
والرّاجمين جمارها بمنى، ... غدوا وما حلقوا وما قصّوا (9)
__________
(1) وقص: مدقوقة العقر: المنزل.
(2) مرببة: حسناء فتية ظمأى الوشاح: ضامرة الخصر البرى: الخلاخيل غص: اي ممتلئة.
(3) عاطلة: لا تلبس الحلي وبص: لمعان، بريق.
(4) فرعاء: طويلة الدعص: السير في أرض رملية.
(5) ينوء: ينهض بجهد ومشقة.
(6) المأزمان: بين مكة ومنى ظوالع: تغمز في مشيها خص: جياع، عطشى.
(7) الناجية: الناقة موق: المؤق البخص: قلع العين.
(8) المنسم: خف البعير العمم: التام الأظل: باطن الخف.
(9) منى: من مناسك الحج.(1/519)
متجرّدين من الرّياض ضحى، ... حلّ النّطاق وأطلق العقص (1)
لأسقيّنّك كأس لاذعة، ... لا العبّ ينفدها ولا المصّ
بقوارع يمسي الرّميّ بها، ... من غير ما طرب له رقص
تنسي جرائحها قوارصها، ... والطّلق ينسى عنده المغص
أإلى معدّ جئت مرتقيا، ... يا عير! أين رمى بك القمص (2)
أمن الوهاد إلى الرّبى عجلا، ... سرعان ذا الذّملان والنّص (3)
ألحقت ريشك في قوادمهم، ... عجلان تلصقه وينحصّ (4)
إن زدتهم، فلقد نقصتهم، ... إنّ الزّيادة بالشّغا نقص (5)
غادرتها شنعاء ضاحية، ... لا النّفس يصبغها ولا الحصّ (6)
ومن المخازي عند لابسها ... ما لا تواري الأزر والقمص
يا موعدي بذناب مخلبه، ... إنّ البعوض أذاته القرص
لا تحسدنّ المرء ثروته، ... إنّ البطان إلى غد خمص (7)
وخف السّقاط على الذين علوا ... ومن العلوّ يحاذر الوقص (8)
واعقد يديك بمجتني كرم ... لا قدح في حسب، ولا غمص (9)
أسد، إذا بصر الرّجال به ... خفض الكلام وطومن الشّخص
__________
(1) الرياض: اسم موضع العقص: فتل الشعر.
(2) القمص: الوثب.
(3) الذملان: السير المتوسط النص: أقصى السير.
(4) ينحص: يذهب.
(5) الشغا: اختلاف نبتة الأسنان بالطول والقصر والدخول والخروج.
(6) النقس: الحبر الحص: الزعفران.
(7) البطان: الغنى، انتفاخ البطن من كثرة الأكل الخمص: الجوع، البطن الضامر.
(8) الوقص: دق العنق.
(9) الغمص: العيب.(1/520)
من معشر ركبت أوائلهم ... أولى العلى، وجيادها شمص
إن أحسنوا عمّوا بنائلهم، ... وإذا رموا بجريرة خصّوا
عدد المكارم في بيوتهم، ... والجامل القبقاب والقبص (1)
رفعوا المساعي من قواعدها، ... يعلو بهنّ الرّضم والرّصّ (2)
حتّى انتموا في رأس أشرفها، ... وعلى الكعوب يوقّع الخرص
أفنى العدوّ، وليس ينقصهم ... من رمل منقطع اللّوى القبص (3)
ناصب الحبائل
(الخفيف)
ربّ مستغمز إبائي وفي النّا ... س ذلول على الأذى وقموص (4)
ناصب لي حبائل الطّمع المز ... ري، وغيري للمطمعات قنيص
بذل المال لي يساوم عرضي ... إنّ عرضي إذا عليّ رخيص
لا يعاب المقلّ، وهو قنوع، ... ويعاب الغنيّ، وهو حريص
لبستي علّها تجلّى، ولم يد ... نس رداء من العلى وقميص
وانظرنها تجر زعازعها النّك ... ب، وبطني من النّوال خميص (5)
وارقبي عطفة الزّمان بجدّ، ... ربّما حلّق الجناح الحصيص (6)
يقدم الباسل الأبيّ على الحت ... ف، وفيه عن الهوان نكوص
__________
(1) الجامل: الحي العظيم القبقاب: الواسع الكثير الماء القبص: العدد الكثير من الناس.
(2) الرضم: الصخور العظيمة يتراكم بعضها فوق بعض الرص: الضم.
(3) القبص: التناول بأطراف الأصابع.
(4) الذلول: السهل الانقياد القموص: الدابة التي تثب بصاحبها.
(5) زعازعها النكب: عواصفها المدمّرة خميص: ضامر.
(6) الحصيص: قليل الريش.(1/521)
كلّما عضّه الأذى غضّ بالصّب ... ر يزجّي الأيّام وهي غصيص
قسما بالأشاعث الخمص أدّت ... هم إلى المأزمين قود وخوص (1)
ترتعي جرّة البطون من الجه ... د، إذا عزّ أجرد وقصيص (2)
أكلت نيّها الموامي فلم يب ... ق عليها إلّا الذّما والشّخوص (3)
لا جعلت الهوان دار مقام، ... وعن الضّيم معدل ومحيص (4)
خفّ عن عاتقي الرّجاء وكم با ... ت بمنّ الرّجال وهو وقيص (5)
إن يكن في ندى الملوك سبوغ ... للمرجّي، ففي رجاي قلوص (6)
__________
(1) المأزمان: مضيق بين جمع وعرفة وآخر بين مكة ومنى.
(2) الجرّة: ما يفيض به البعير فيأكله ثانية الأجرد والقصيص: نوعان من النبات.
(3) الموامي، جمع موماة: الفلاة الذما: بقية النفس.
(4) معدل ومحيص: مرتد ونافر.
(5) وقيص: قصير، ضعيف.
(6) سبوغ: عيش رغد.(1/522)
قافية الضاد
كنت أرجوه
(السريع)
تقدم الملك بهاء الدولة بكتب الكتب من البصرة الى بغداد بتولية النقابة وإمارة الحج في أول يوم من جمادى الأولى سنة 397. فكان من الاتفاق العجيب أن الصاحب عميد الجيوش ألزمه ببغداد للنظر في هذه الأعمال في ذلك اليوم بعينه. ثم دخلت الكتب بعد أيام وبلغ الملك ذلك فثقل عليه لأنه آثر أن يكون هو المبدئ بالمنّة والسابق إلى الصنيعة. وبلغ ذلك الرضي فكتب إليه بهذه القصيدة يعتذر مما جرى.
كيف أضاء البرق، إذ أومضا، ... منابت الرّمث بوادي الغضا (1)
عهد الحمى، لا أين عهد الحمى، ... قضى على الصّبّ جوى وانقضى
ونازل بالقلب أوطانه ... بين حمى الرّمل وبين الأضا (2)
لا ناله الدّاء الّذي نالني ... منه، وإن شفّ، وإن أمرضا
ولا يكابد ليل ذي غلّة، ... لو طلع البدر به ما أضا
__________
(1) الرّمث: مرعى للابل من الحمض.
(2) الأضا، جمع أضاة: مستنقع الماء.(1/523)
هان على الواجد طعم الكرى ... إنّ الفتى السّاهر ما غمّضا
ما آن للممطول أن يقتضي، ... ولا لذا الماطل أن يقتضى
إنّ غريمي بديون الهوى ... أدان قلبي وأساء القضا
يا راكبا تحمله جسرة، ... كالهقل ناش البلد الأعرضا (1)
أنحله الخوف، وخوف الفتى ... سيف على مفرقه منتضى
قل لبهاء الملك، إن جئته، ... سوّد دهري بك ما بيّضا
سخط لو انّ الطّود يرمى به، ... ساخ عن الأطواد، أو خفّضا
ومرّ قول ذلّ عزّي له، ... لو مزج الماء به عرمضا (2)
أعوذ بالعفو، وهل آمن ... نذيرة الصّلّ إذا نضنضا (3)
أيا غياث الخلق إن أجدبوا، ... ويا قوام الدّين إن قوّضا
ويا ضياء، إن نأى نوره، ... لم نر يوما بعده أبيضا
ما لي مطويّا على غلّة، ... أرمضني وجدك ما أرمضا (4)
قد قلق الجنب وطال الكرى، ... وأظلم الجوّ وضاق الفضا
لا تعطش الزّهر الّذي نبته ... بصوب إنعامك قد روّضا (5)
إن كان لي ذنب، ولا ذنب لي، ... فاستأنف العفو وهب ما مضى
لا تبر عودا أنت ريّشته، ... حاشا لباني المجد أن ينقضا
وارع لغرس أنت أنهضته، ... لولاك ما قارب أن ينهضا
لو عوّض الدّنيا على عزّها ... منك، لما سرّ بما عوّضا
ولا يكن عهدك، بعد الهوى، ... غيما تجلّى وخضابا نضا (6)
__________
(1) الجسرة: الناقة القوية الهقل: الفتي من النّعام ناش: طلب.
(2) عرمض: طحلب.
(3) الصل: الحيّة الخبيثة نضنض: حرك لسانه.
(4) أرمض: أصابه الحر.
(5) روّض: صبّر المطر الأرض كالروض.
(6) نضا: نزع، ذهب.(1/524)
يا راميا لا درع من سهمه، ... أقصدني من قبل أن ينتضى (1)
قضى على قلبي بإقلاقه، ... ما أنا بالجلد على ما قضى
وكيف لا أبكي لإعراض من ... يعرض عنّي الدّهر إن أعرضا
قد كنت أرجوه لنيل المنى، ... فاليوم لا أطلب غير الرّضا
عند قلبي
(الخفيف)
عند قلبي علاقة ما تقضّى، ... وجوى كلّما ذوى عاد غضّا
وبكاء على المنازل أبلت ... هنّ أيدي الأيّام بسطا وقبضا
والتفات إلى التّصابي، وقد أس ... رع بي جامح الثّلاثين ركضا
من معيد أيّام ذي الأثل، أو ما ... قلّ منها دينا عليّ وقرضا
سامحا بالقليل من عهد نجد، ... ربّما أقنع القليل وأرضى
إنّ عيدا من الغواني، إذا رم ... ت التّسلّي أشجى لقلبي وأنضى (2)
وإذا ما عزمت صبرا أرتني ... مقلا تفسخ العزائم مرضى
محسنات إلى الغريم مطالا ... منع الدّلّ دينها أن يقضّى
وإذا ما أمتن بالبعد بعضا ... من فؤادي أحيين بالقرب بعضا
فسقى الرّمل منزلا ومعانا ... هزجات ينبضن بالبرق نبضا
ومشت فيه بالنّسيم عليلا ... قطع المزن في الرّياض المرضى (3)
__________
(1) أقصدني: أصابني.
(2) العيد: الموسم، ما اعتادك من مرض أو حزن أو هم أنضى: أكثر نزعا.
(3) الرياض المرضى: كناية عن الأزهار والاعشاب المتمايلة كما لو أصابها صداع. وقد لجأ الى هذا التعبير مراعاة لكلمة عليل في صدر البيت.(1/525)
ما لذا الزّور ما يغبّ من الرّم ... ل طروقا في مضجع قد أقضّا
مهديا لي من طيب أرواح نجد ... ما يداوي نكس العليل المنضّى (1)
لم يكن غير خطرة البرق ما ... زوّد عين المشوق إلّا ومضا
قاده الغمض من زرود فلمّا ... زار أنبى عن مقلتيّ الغمضا (2)
قد لبست الخطوب سودا وبيضا، ... وقطعت الزّمان طولا وعرضا
ووردت الأمور صفوا ورنقا، ... ورعيت الآمال رطبا وحمضا
وتلفّعت ريطة من بياض، ... أنا راض منها بما ليس يرضى
أبرمت لي من صنعة الدّهر لا ... يسرع فيها إلّا المنايا نفضا
مخبر فاحم ولون مضيء ... من رأى اليوم فاحما مبيضّا (3)
كم مقامي تلقي عليّ اللّيالي ... نوبا، لا أطيق منهنّ نهضا
وخطوبا، إذا نحتن من العظ ... م فلا بدع إن عرقن النّحضا (4)
قاعدا مطرح السّقاء انتحته ... بصروف الأقدار جرّا ومخضا
ركبتني وهما جلالا، فما زا ... ل جذابي حتّى رمى بي نقضا (5)
كلّ يوم على مزلّة خطب، ... أتوقّى مرمى إلى الذّلّ دحضا (6)
ومسقّى على القذى يرد الور ... د جماما فيشرب الماء برضا (7)
كلّما سار طالبا خفض عيش ... نال ذلّا من الزّمان وخفضا (8)
__________
(1) العليل المنضّى: المريض الهزيل.
(2) زرود: اسم موضع أنبا: ابتعد.
(3) المخبر: ما خفي عن العيان، الداخل، وفي قوله مخبر فاحم إشارة الى النظرة السوداوية والأمل القاتم.
(4) عرقن النحض: أكلن اللحم عن العظم.
(5) الجلال: العظيم الجذاب: المنازعة النقض: البناء المنقوض، المهدم.
(6) الدحض: الانزلاق.
(7) القذى: الشوك، الضيم الورد الجمام: الماء الكثير البرض: القليل.
(8) خفض العيش: هناؤه، سهولته الخفض (الثانية): الذل، الانكسار.(1/526)
أين لا أين من يجير على الدّه ... ر، إذا الدّهر هرّ يوما وعضّا
قد وهبنا رجاءنا لزمان ... لم يدعنا حتّى وهبنا العرضا
وتركنا نفل الزّمان قنوعا، ... ثمّ زدنا حتّى تركنا الفرضا
فذماما على النّدى أن يرجّى، ... وعياب البخيل من أن يفضى (1)
وأمانا منّي عليه، فما أذ ... عر سربا، ولا أنازل أرضا
لا حملت الحسام إن لم أحمّل ... هـ رؤوس العدى قراعا وعضّا
فعل مستثقل الحياة يعدّ ال ... ذّلّ بعثا على المنون وحضّا
مستميتا يرى التّحيّة بالضّي ... م لطاما، والعار جرحا ممضّا
طارحا نفسه على كلّ هول، ... قد تعامى عنه الجبان وأغضى
حيث يلقى ضرب السّيوف أخادي ... د تمجّ الدّماء والطعن وخضا (2)
وفتور مثل الأسود أعدّوا ... لقنيص العلياء وثبا وربضا
فوق أكوار ضمّر أقلق النّس ... ع قديم اضطمارها والغرضا (3)
كلّما اجلوّذ الظّلام استلذّوا ... لعب اللّيل بالطّلاح الأنضا (4)
كلّ مستعسف اليدين بقوس ال ... مجد يرمي عن المكارم عرضا
حامل بزّه على ربد التّق ... ريب إن أسخط الضّوامر أرضى (5)
منقعا في ماء النّجابة منسو ... بأ لبابا إلى المناجيب محضا
سوطه نسعة العنان، إذا ح ... رّك جلّى إلى المراد وأفضى
__________
(1) يفضى: يفتقر.
(2) تمج الدماء: تنزفها بغزارة الوخض: الطعن يخالط الجوف ولا ينفذ.
(3) الأكوار: النياق المحمّلة النسع: الحبل يشدّ به الحمل الغرض:
الحزام.
(4) اجلوّذ: اسرع ومضى الطلاح: الابل المتعبة الأنضاء: الهزيلة، جمع نضو.
(5) البز: الثياب من الكتان أو القطن، والبز هو السلاح أيضا الربد:
السريع التقريب: نوع من السير.(1/527)
مثل باز العلياء عنّ له الطّع ... م، فخلّى يفاعه وانقضّا
فلعلّي ألقى المنى أو خلاجا ... من حمام قضى عليّ وأمضى
راكبا صهوة الخطار عقيدا ... لبنات الفلا، يجبن الأرضا (1)
كابتا للأنوف جدعا ورغما، ... ولهام الأعداء وقما وغضّا (2)
برد عزّ، أو حرّ نصل، فإنّي ... أجد اليوم في ضلوعي رمضا
مواقد باردة
(المتقارب)
مواقد نيرانهم قرّة، ... وسربال طاهيهم أبيض
إذا حرّكوا للمساعي أبوا، ... وإن أنزلوا دار ضيم رضوا
حذار
(الطويل)
حذار، فإنّ اللّيث قد فرّ نابه، ... وقد أوتر الرّامي المصيب وأنبضا (3)
أسرّ بمن أرجا إلى اليوم يومه، ... فأدرك ما يهوى، وآسى لمن مضى
وقد كنت أدعو أن تؤخّر مدّتي ... لعلّي أرى يوما من العدل أبيضا
__________
(1) الخطار: المراهنة، المخاطرة العقيد: المعاهد بنات الفلا: اراد وحوش الفلا يجبن: يجتزن.
(2) كابتا: مذلا، مخزيا الوقم: القهر.
(3) فرّ: كشف انبض: رمى من القوس.(1/528)
أهلا به
(الكامل)
أهلا به من رائح متصعّد، ... بخوالج من برقه ونوابض
هزج البروق، كأنّه متمنطق ... بأراقم قلن الرّمال نضانض (1)
حتّى يقول السّاهرون لومضه: ... نضر العراق بقطر هذا العارض (2)
منبت الرمل
(مجزوء الخفيف)
ضوّأ، حين أومضا، ... منبت الرّمل والغضا (3)
بارقا مزنه أطا ... ل استنانا وأعرضا (4)
طول وعرض
(المنسرح)
لغير تقدير ذرعن الأرضا، ... حتّى علمن طولها والعرضا
__________
(1) متمنطق بأراقم: متزنر بالحيّات قلن: نمن القيلولة النضانض:
الحيات التي تحرّك ألسنتها أو التي لا تستقر بمكان.
(2) العارض: الغيم.
(3) الغضا: شجر الأثل الكثيف.
(4) استنان: اضطراب أعرض: ظهر.(1/529)
لجام المشيب
(الوافر)
لجام للمشيب ثنى جماحي، ... وذلّلني لأيّام وراضا
أقرّ بلبسه، ولقد أراني ... أجاحده إباء وامتعاضا
تعوّضت الوقار من التّصابي، ... لشدّ على المعوّض ما استعاضا
لوى عنّي الخدود من الغواني، ... وقطّع دوني الحدق المراضا
فصار بياضه عندي سوادا ... وكان سواده عندي بياضا
رضى الأحباب
(الطويل)
رضيت من الأحباب دون الذي يرضي، ... وداينت من تقضى الديون ولا يقضي
وقد أنهرت فيّ اللّيالي جراحها، ... مرارا، وأنضاني من الهمّ ما ينضي (1)
طوى الدّهر أسباب الهوى عن جوانحي، ... وحلّ الصّبا عقد الرّحايل عن نقضي (2)
ولم يبق لي في الأعين النّجل طربة، ... ولا أرب عند الشّباب الذي يمضي (3)
ضحى اليوم عن ظلّ الشّبيبة مفرقي، ... وأبدل مسودّ العذار بمبيضّ
أتاني، وممطول من النّأي بيننا، ... قوارص تنبو بالجفون عن الغمض
ومولى ورى قلبي بلذعة ميسم ... من الكلم العوراء مضّا على مضّ (4)
__________
(1) أنهرت: وسعت أنضاني: أهزلني.
(2) الرحايل، جمع رحل: حمل الناقة النقض: المهزول من السير، ناقة أم جملا.
(3) الأعين النجل: الأعين الواسعة الجذابة.
(4) ورى: أشعل الميسم: الحديدة أو الآلة التي يوسم بها الكلم:
الجروح المض: الموجع.(1/530)
فعذرا لأعدائي، إذا كان أقربي ... يشذّب من عودي ويعرق من نحضي (1)
إذا ما رمى عرضي القريب بسهمه ... عذرت بعيد القوم إمّا رمى عرضي
ألم يأته أنّي تفرّدت بعده، ... روابي للعلياء جاش لها نهضي
وأنّي جعلت الأنف من كلّ حاسد ... قبالي وخدّي كلّ مضطغن أرضي (2)
وكم من مقام دون مجدك قمته ... على زلق بين النّوائب أو دحض (3)
وقارعت من أعياك قبل قراعه، ... فدامجني بعد التّشاور والبغض (4)
لقد أمست الأرحام منّا على شفا، ... فأخلق بمشف لا يعلّل أن يقضي
رأيت مخيلات العقوق مليحة، ... فلا تجعلن برق الأذى صادق الومض (5)
ولا تشمتن من ودّ لو أنّنا معا ... شحيحان تلطينا الجنادل بالأرض (6)
إذا كنت أغضي، والقواذع جمّة، ... فمثلك أولى أن يرمّ وأن يغضي (7)
على غصص لو كنّ في البدر لم ينر، ... وفي العود لم يورق وفي السّهم لم يمض
رزئتك حيّا بالقطيعة والقلى، ... وبعض الرّزايا قبل يوم الفتى المقضي
أناديك فارجع من قريب فإنّني ... إذا ضاق بي ذرعي مضيت كما تمضي
لقد كان في حكم الوشائج لو رأى ... عن المجد بطئي أن يبالغ في حضّي
فكيف ولم تخرج مناديح همّتي، ... ولا ذمّت العلياء بسطي ولا قبضي (8)
إذا هو أغضى ناظريّ على القذى، ... وكان لمثلي مسخطا فلمن يرضي
__________
(1) يعرق من نحضي: يأكل من لحمي. يشير في هذا البيت الى ما لقيه من أقرب الناس إليه، والذي كان دافعا لقول هذا الشعر.
(2) القبال: زمام النعل مضطغن: حاقد.
(3) الدحض: المكان الزلق.
(4) دامجني: وافقني.
(5) مخيلات: علامات مليحة: ظاهرة.
(6) تلطينا: تلزقنا.
(7) القواذع، من قذعه: رماه بالفحش يرم: يصلح.
(8) المناديح، جمع مندوحة: السعة.(1/531)
خليليّ ما عودي لأوّل غامز، ... ولا زبد وطبي للمقيم على مخض (1)
فقل للعدى عضّوا الأخامص إنّكم ... تعرّقتم الأيدي عليّ من العضّ (2)
هم نقضوا ما قد بنى أوّلوهم، ... وشدنا وهيهات البناء من النّقض
وفي كلّ يوم يصبغ العار منهم ... رداء امرئ والعار باق على الرّحض (3)
يريدون أن يخفوا النّواقر بيننا، ... وقد صاحت الأضغان في الحدق المرض (4)
ذكرت حفاظي والحفيظة في الحشا ... لها نغضان العرق يحفز بالنّبض (5)
دعوتكم قبل التي لا شوى لها، ... وقلت لهم: فيئوا إلى الخلق المرضي (6)
ردوني نميرا قبل أن أحمل القذى، ... ولا تردوا إلّا على الثّمد البرض (7)
ولسّوا جميمي قبل أن يمنع الحمى ... إبائي أو يوبى على رعيكم حمضي (8)
ومن قبل أن يسدي المعادون بيننا ... برود الخنا ما شئت في الطول والعرض
ولا تركبوا سيساء دامية القرا، ... بلا حقب تطوي البلاد ولا غرض (9)
تقوا عار حرب لا يعود مثيرها ... وإن غلب الأقران إلّا على رمض
ولا تولجوا زور العقوق بيوتكم، ... أناشدكم بالله في الحسب المحض
أراها بعين الظّنّ حمراء جهمة، ... ستجري إلى عار العواقب أو تفضي
تهضّمني من لا يكون لغيره ... من النّاس إطراقي على الهون أو غضّي
__________
(1) الوطب: سقاء اللبن.
(2) الأخامص، جمع أخمص: باطن القدم.
(3) على الرحض: على الرغم من الغسل.
(4) النواقر: الكلام السيء.
(5) الحفيظة: الغضب النغضان: التحرك يحفر: يدفع.
(6) الشوى: الأمر الهين فيئوا: عودوا.
(7) ردوني نميرا: اطلبوني ماء عذبا الثمد البرض: الماء القليل.
(8) لسّوا، من اللس: نتف الدابة الكلأ بمقدم فمها.
(9) السيساء: منتظم فقار الظهر القرا: الظهر الحقب: الحزام الذي يلي حقو الجمل الغرض: سير للرحل من جهة الصدر.(1/532)
أفوّق نبل القول بيني وبينه، ... فيؤلمني من قبل نزعي بها عرضي (1)
وأرجع لم أولغ لساني في دمي، ... ولم أدم أعضائي بنهشي ولا عضّي
إذا اضطرمت ما بين جنبيّ غضبة ... وكاد فمي يمضي من القول ما يمضي
شفعت على نفسي بنفسي فكفكفت ... من الغيظ واستعطفت بعضي على بعضي
موضع المعروف
(الطويل)
أرى موضع المعروف لو أستطيعه، ... وأغضي ولو شاء الغنى لي لم أغض
ألاحظ خلّات الكرام بغصّة، ... ويقصر ما لي عن بلوغ الذي يرضي
وأقبض كفّي عن عطاي وقد يرى ... ذهابي بها عند الفضول عن القبض
تقتّلنا هذي اللّيالي ولا تدي، ... وتستقرض الأيّام منّا ولا تقضي (2)
ولولا النّدى ما طأطأ العدم هامتي، ... ولا كان ينضيني من الهمّ ما ينضي (3)
وكيف وفور العرض والمال وافر، ... ومن يخزن الأموال ينفق من العرض
ومن عدم أقري النّوازل عذرة، ... ولو حلّ لي لحمي قريتهم بعضي (4)
__________
(1) أفوّق: أبري.
(2) لا تدي: لا تدفع الدية لا تقضي: لا ترد الدين.
(3) ينضيني: يؤلمني.
(4) أي أنه من العدم يطعم ضيوفه، ولو حل له أن يتصرف بلحمه لأطعم بعضه ضيوفه.(1/533)
هيهات
(مجزوء الكامل)
قالوا: تزاور عطفه، ... وأرابنا إيماضه
وأبى إباء الصّعب لا ... يسطيعه روّاضه
غضبان سلّ خطامه ... عنه وحلّ إباضه (1)
عطلت رباه من الصّفا ... ء، وعرّيت أنقاضه
إن يستعض منّي، فلا ... مغبوطة أعواضه
قد عزّ من يعتاض من ... هـ وذلّ من يعتاضه
هيهات لا أحبابه ... منّي، ولا أبغاضه
ما سرّني إقباله، ... فيسوءني إعراضه
__________
(1) الاباض: الحبل الذي تشد به يد البعير.(1/534)
قافية الطاء
أبا علي
(الرجز)
نظم الرضي هذه القصيدة في رثاء أبي علي الحسن بن أحمد الفارسي النحوي. وقد توفي ليلة الأحد لثلاث عشرة ليلة بقيت من شهر ربيع الأول سنة 377، ودفن بالشونيزية عند قبر أبي الرازي الفقيه، وكان قد تجاوز التسعين سنة.
أبا عليّ للألدّ إن سطا، ... وللخصوم إن أطالوا اللّغطا
تصيب عمدا إن أصابوا غلطا، ... ولمع تكشف عنهنّ الغطا
كشفك عن بيض العذاري الغطا ... ومصعب للقول صعب الممتطى
عسفت حتّى عاد مجزول المطا ... دامي الملاط رحله قد أغبطا (1)
وسائرات بالخطى لا بالخطا، ... شوارد عنك قطعن الرّبطا (2)
كما رأيت الخيل تعدو المرطى، ... ألبست فيها كلّ أذن قرطا (3)
قد وردت أفهامنا ورد القطا ... ومشكلات ما نشطن منشطا (4)
__________
(1) مجزول: مقطوع المطا: الظهر الملاط: جانبا السنام أغبط:
صار كالغبيط، وهو كالجمل شد عليه الهودج.
(2) الخطا: الأرض لم ينزل اليها أحد.
(3) المرطى: ضرب من العدو.
(4) القطا، جمع قطاة: طائر كالحمام.(1/535)
عطالها بمقول، إذا عطا ... ميّز من ديجورها ما اختلطا (1)
غلّل ما بين العقاص المشطا، ... ضلّ المجارون وما تورّطا
ملّوا مجاراة فنيق قد مطا، ... قرم يهدّ الأرض إن تخمّطا (2)
ملّ المطيّ القرب العنطنطا، ... تطرّفوا الفجّ الذي توسّطا (3)
لا جزعا أودى ولا مغتبطا، ... كانوا العقابيل، وكنت الفرطا (4)
عند السّراع يعرف القوم البطا، ... أرضى زمان بك ثمّ أسخطا
ما أطلب الأيّام منّا شططا
خض الأمر
(الوافر)
كأنّك لم تقد بعويرضات، ... أبا العوّام، فتيانا قطاطا (5)
ولم تحمل على الأعداء منهم ... قنا لدنا وأيمانا سباطا (6)
إذا المنجود نبّههم طروقا ... رأى زعل الشّبيبة والنّشاطا (7)
قيام السّمهريّ تبادروها، ... وقد لبسوا المخيلة والشّطاطا (8)
ولم تسق الجياد مسوّمات، ... تجشّمها المغاور والوراطا
__________
(1) عطالها: عدم لبسها الحلي.
(2) الفنيق: الفحل المكرّم تخمّط: هدر.
(3) القرب: سير الليل العنطنط: الطويل.
(4) العقابيل: بقايا العله الفرط: السابق.
(5) عويرضات: اسم موضع القطاط: القصار الشعر.
(6) قنا لدنا: رمحا لينا سباط: قوي، عزيز.
(7) المنجود: المغموم زعل الشبيبة: نشاطها.
(8) المخيلة: الكبر الشطاط: حسن القامة واعتدالها.(1/536)
وترسلها العرضنة صاديات ... مبادرة إلى الماء الغطاطا (1)
تصيب بها فواغر كلّ ثغر، ... كأنّك ترسل النّبل المراطا (2)
فلين مفارق المعزاء وخدا، ... كفلي الأنمل اللّمم الشّماطا (3)
ومن جعل الدّليل له ابن ليلى، ... فلن يخشى الضّلال ولا الغلاطا
وناجية تساقطها حسيرا، ... سقاط حسامك البدن العباطا (4)
وتطلق رحلها والفجر طفل ... وقد أكل البواني والملاطا (5)
وشاذبة طويت بها اعتسافا، ... بساط الدّوّ، إنّ له بساطا (6)
ذوارع للبلاد بغير حاد، ... تخال فضول أنسعها سياطا (7)
وعدت بها تساوك من وجاها ... دبيب النّمل ينتعل البلاطا (8)
ومنخرق كأنّ على رباه ... من الظّلم الأكنّة واللّياطا (9)
تعلّقت النّجوم بجانبيه، ... كأنّ اللّيل ألبسها القراطا
طعنت ظلامه بالرّكب حتّى ... رأيت له انجيابا وانعطاطا (10)
__________
(1) العرضنة: الناقة تمشي معارضة الغطاط: القطا.
(2) المراط: الذي لا ريش له.
(3) فلين: قطعن المعزاء: الأرض الغليظة اللمم: الشعر.
(4) الناجية: الناقة العباط، من عبط الذبيحة: نحرها وهي سمينة.
(5) الفجر طفل: في أوّله البواني: أضلاع زور الدابة.
(6) الشاذبة: الضامرة الاعتساف، من اعتسف: مال عن الطريق الدو:
الفلاة.
(7) فضول أنسعها: ما يتدلى من الأحزمة الجلدية.
(8) تساوك: تسير سيرا ضعيفا الوجى: الحفا.
(9) المنخرق: الفلاة الأكنّة، جمع كن: الستر اللياط، جمع ليطة:
القوس والقناة.
(10) انجياب: انخراق انعطاط: انشقاق.(1/537)
وكلّ فتى تبطّن بيت نبع، ... وصيّر غمد قاطعه إباطا (1)
أغيلمة زحمت بها الأعادي ... تعاطى بالذّوابل ما تعاطى
تخال عى عواملها، إذا ما ... وردن الطّعن، ألسنها السّلاطا
ويوم للوقيعة ذي أوار، ... ككير القين أوقد فاستشاطا (2)
فرقت جموعه فرق العناصي ... وقد مرج الطّعان به اختلاطا (3)
تعاطى كأسه فتعبّ فيها، ... ويحتقر الجبان فلا يعاطى
جعلت طلى العدى فيه اقتراحا ... على بيض القواضب واشتراطا (4)
تغلغل في جماجمها العوالي، ... كما غلغلت في اللّمم المشاطا (5)
تترّى بعد يومك كلّ خطب، ... كأنّك كنت للجلّى رباطا (6)
ألا أين السّريع إلى المنايا، ... إذا المعزال عرّد، أو تباطا (7)
إذا ولج الرّواق رأيت منه ... طويل الباع قد غمز السّماطا (8)
وكنت إذا أخذت بمنكبيه، ... غداة الضّيق، فرّج لي الضّغاطا
وكم بزلاء صيح بها إليه، ... تطاطا لها تجزك، فما تطاطا (9)
فقولا للمنفّض مذرويه: ... خض الأمر انغماسا وانغطاطا (10)
__________
(1) قاطعه: سيفه الاباط: ما يوضع تحت الإبط.
(2) الأوار: الحر الكير: المنفخ القين: الحداد.
(3) العناصي: قطعة من ابل أو غنم مرج: خلط.
(4) الطلى: الأعناق اشتراط: قطع.
(5) العوالي: الرماح اللمم: الشعر.
(6) تترّى: تواتر، توالى الجلّى: الأمور العظيمة.
(7) المعزال: الذي لا سلاح له عرّد: هرب.
(8) غمز: طعن السماط: البناء المصطف، وسماط الطريق: جانباه.
(9) البزلاء: الناقة الفتية التي برز نابها واكتمل نموّها تطاطا (الأولى):
تنحني وتتنحى من أمامها تطاطا (الثانية): تطأ بمناسمها.
(10) المنفض مذرويه: الذي يأتي مهددا متوعدا.(1/538)
مراس الحرب أسحبه العوالي، ... وطول الأمن أسحبك الرّياطا
هم حملوا لك الإحسان عفوا، ... فدونكهنّ ولغا واستراطا (1)
حموكم، والأسنّة في الهوادي، ... وقوع الطّير تبتدر اللّقاطا
غداة خلا بداركم الأعادي، ... فلم يدعوا لحوضكم لياطا
تشقّق في جلودكم العوالي، ... كأنّ الطّعن يلبسها الرّهاطا (2)
بكلّ قرارة منكم لحيم، ... يقضّي اللّيل زفرا وانتحاطا (3)
أجمّكم، ولاقى عن علاكم ... عضاض الطّعن والضّرب الخلاطا
ومدّ ببوعكم حتّى غدوتم ... وعالي النّجم أقربكم مناطا
وحلّق مضرحيّ كان فيكم، ... وإنّ لكلّ طائرة سقاطا (4)
فلا تبعد رجال من قريش، ... وسمت بهم فلم أعد العلاطا (5)
رعوا تلعات هذا المجد لسّا ... بأنياب العوامل، وانتشاطا (6)
تخيّرهم حمام الموت منّا، ... خيار الزّائد اعترض النّماطا (7)
تداعوا، كالسّلوك وهت قواها، ... مروقا بالنّوائب وانخراطا (8)
مضوا من كلّ أغلب مستميت ... إذا ما العار جلّله أماطا
نأوا عنّي، فضعضعني نواهم، ... وما كانوا، فقد قطعوا النّياطا (9)
__________
(1) الولغ: الأخذ باللسان الاستراط: الابتلاع.
(2) الرهاط: جلد تشقق جانبه من أسفله ويمكن المشي فيه.
(3) اللحيم: الكثير اللحم الانتحاط: التصويت من الإعياء والانزعاج.
(4) المضرحي: الصقر الطويل الجناح.
(5) العلاط: سمة في عنق البعير.
(6) اللس: الأخذ بمقدّم الأسنان.
(7) النماط، جمع نمط: الجماعة التي يتحد أفرادها، والنمط ثوب صوف يطرح على الهودج.
(8) السلوك: الخيوط.
(9) النياط: الفؤاد، عرق غليظ معلق في القلب.(1/539)
ضدّان
(الكامل)
سنحت لنا بلوى العقيق، وربّما ... عرض الزّلال وزيد عنه الفارط (1)
قلبي وطرفي، يوم حمّ لقاؤها، ... ضدّان ذا راض وهذا ساخط
نظرت بلا قصد فأقصدت الحشا، ... ويذيق طعم الموت سهم غالط (2)
قل للغزال إذا مررت بذي النّقا، ... فلعلّ جأشك للبلابل رابط
لم أنت في هبة القليل مناقش ... أبدا، وفي عدة الوصال مغالط
ظالم في الهوى
(الرمل)
ما لذا الدّاني إلى القلب شحط، ... وغريم الحبّ بالدّين ألطّ (3)
ظالم قلّد أحكام الهوى، ... طالما جار علينا وقسط (4)
نسخط الشّيء ونرضاه، إذا ... لم تر العتبى على طول السّخط
كلّ يوم لي خصيم ضالع، ... والمقادير لها حكم شطط (5)
عجبت أن عاد شغبا منطقي، ... كلّ ذي حلم، إذا ضيم، لغط (6)
ورأت وخط بياض طارق، ... وخط التّهمام قلبي، فوخط (7)
__________
(1) لوى العقيق: اسم موضع الفارط: المتقدم الى الورد.
(2) أقصدت: طعنت فلم تخطئ.
(3) شحط: ابتعد ألط: خبيث.
(4) قسط: عدل عن الحق.
(5) ضالع: جائر.
(6) شغبا: مهيجا للشر.
(7) وخط: طعن التهمام: مصدر الهم بمعنى القلق والحزن.(1/540)
ما لها تنكر مع هذا الشّجى ... وقعات الشّيب بالجعد القطط
وأرى عودي، على صمّائه، ... أنّ من غمز اللّيالي ونحط (1)
موقرا يحبسني عن غايتي، ... لا المدى يطوى ولا العبء يحطّ
إنّ قومي صدّعتهم نوبة، ... شقق البرد اليمانيّ يعطّ (2)
خلتهم، والخطب يعتامهم، ... شجر الوادي رماه المختبط (3)
وكما خايل يوما عاقر، ... كلّما ثارت له البدن عبط (4)
تبعوا أمر المقادير فهم ... قاطن يظعن، أو دان يشطّ (5)
فلّ أحداث رمى الدّهر بهم، ... فهم في رقع الدّهر نقط (6)
ذاقهم مستحليا أرواحهم، ... ورأى المضغ طويلا، فاسترط (7)
يصطفي كلّ كريم منهم، ... وإذا استكرم ذو العقب ربط
وبواق غير باقين، وكم ... يلبث القارب من بعد الفرط (8)
كم طوى الموت لهم من بهمة ... خائض الغمرة فرّاج الضّغط (9)
وجواد متعب مضماره، ... كلّما لزّت به الخيل معط (10)
سلهم، أو فسل الرّوع بهم، ... يوم خدر الشّمس بالنّقع يلطّ (11)
__________
(1) نحط: زفر.
(2) يعط: يشق.
(3) يعتامهم: يأخذ خيارهم.
(4) عبط: نحر.
(5) يشط: يبتعد.
(6) الفل: المنهزمون.
(7) استرط: ابتلع.
(8) القارب: طالب الماء ليلا الفرط: التقدم الى الماء.
(9) البهمة: الشجاع المباغت.
(10) معط: مدّ.
(11) يلط: يستر.(1/541)
يبصر النّاس على أيديهم ... قصب الأعناق بالبيض يقطّ (1)
أقبلوا الأعداء ملتفّ القنا، ... بين معروض ومجرور يحطّ
تحسب الأرماح من قعقاعها ... شجرا للطّير، فيهنّ لغط
ومواض تنثر الهام لهم، ... هبّة العاصف ترمي بالخبط (2)
فارقونا، فبقينا بعدهم ... كالرّذايا، وضعت عنها الغبط (3)
في ذنابى معشر جيرانهم ... مضغ للخطب يغدو، أو لقط
ليس بالرّاضي، إذا نبّههم ... طارق اللّيل، ولا بالمغتبط
صور رائعة لا يرتجى ... نفعها، مثل تهاويل النّمط (4)
شمخوا أن حلّق الجدّ بهم، ... غلط الدّهر، وكم يبقى الغلط
كسل الأيّام عنهم غرّهم، ... ربّما جاء زمان قد نشط
كلّ مخنوق على جرّته، ... خلط العجز بشوك، فاختلط (5)
إن رأى المغرم طاطا، وله ... حاجب من حافر اللّؤم يمطّ
أهمل العرض على علم به، ... ورعى، لمّا رعى، المال فقط
طمع ورّطني في حبلهم، ... ويصاد الطّير من حيث لقط
كنت أرجوهم ثمارا تجتنى، ... فهم اليوم قتاد يخترط
من عذيري من رصيد كيده ... راش ما راش طويلا ومرط (6)
جامع لي بين فخر وأذى، ... ربّما برّح بالأذن القرط
حمل الثّقل على ذي غارب، ... كلّما عجّ من الحمل ضغط
__________
(1) يقط: يقطع.
(2) الخبط، من خبط الشجرة: شدّها ونفض ورقها، هزّها.
(3) الرذايا، جمع رذي: هو من أثقله المرض الغبط، جمع غبيط: الرحل، الهودج.
(4) النمط: ضرب من البسط.
(5) الجرّة: اللقمة يتعلل بها البعير.
(6) مرط: أزال ريش السهم.(1/542)
أتّقي الرّمي، ولو شئت مضى ... كلّ مطرور إذا صمّم عطّ (1)
وإذا كشّفت ما يرمضني ... من مضيض الدّاء قال الحلم: غطّ
كلّ يوم رحم منبوذة، ... كرؤوم البوّ عضباء تئط (2)
مطرح الشّنّة قد أيبسها ... قدم العهد بعاميّ الأقطّ (3)
يسأل البقيا، وقد أحميته ... ميسما لو مرّ بالطّود غلط
صدّق الواشين، فيما زعموا، ... فنأى بالودّ عنّي، وشحط
لا أرى الجنّ وأفّاكا به، ... في دجى اللّيل، ولا الوحي هبط
نفثة من واغر جمجمها ... فيك، لولا الله والحلم قنط
__________
(1) عط: شق.
(2) الرؤوم: العطف البو: جلد يحشى فيقرب من أم الفصيل فتعطف عليه فتدر تئط: تئن.
(3) الشنّة: القربة البالية الأقط: الغالي الثمن.(1/543)
قافية الظاء
ما بالكم
(الكامل)
قل للهوامل في الدّنا: ما بالكم ... كالنّائمين، وأنتم أيقاظ
أين المقاول والجبابر قبلكم، ... فاضوا على علل الزّمان وفاظوا (1)
متنافسين على المقام، وإنّما ... خلف الرّكائب سائق ملظاظ (2)
اللّبث لمح، والمناخ محفّز، ... والرّعي خطف، والورود لماظ (3)
انظر إلى هذا الزّمان بعينه، ... ترجع إليك بمقته الألحاظ
يا عمرو
(الرجز)
يا عمرو! لا أعرف ثقلا بهظك ... خلّة حرّ، فأعرها ملحظك
من قائم على العلا ما أحفظك ... ما نام عن حاجته من أيقظك
__________
(1) المقاول: ملوك حمير فاظوا: ماتوا.
(2) ملظاظ: ملحاح.
(3) اللماظ: التذوق بطرف اللسان.(1/544)
أرجّي الرزق
(الوافر)
أسيغ الغيظ من نوب اللّيالي، ... وما يشعرن بالحنق المغيظ
أرجّي الرّزق من خرت دقيق، ... يسدّ بسلك حرمان غليظ (1)
وأرجع ليس في كفّيّ منه ... سوى عضّ اليدين على الحظوظ
__________
(1) الخرت: الثقب.(1/545)
قافية العين
يا حاجة القلب
(السريع)
في آخر سنة 394وضع الشريف الرضي هذه القصيدة في مدح الملك بهاء الدولة، وأنفذها من البصرة إليه.
ألهاك عنّا، ربّة البرقع، ... مرّ الثّلاثين إلى الأربع
أنت أعنت الشّيب في مفرقي، ... مع اللّيالي، فصلي، أو دعي
يا حاجة القلب ألم ترحمي ... جناية الدّمع على مدمعي
لولا ضلالات الهوى لم يكن ... عنان قلبي لك بالأطوع
كيف طوى دارك ذو صبوة، ... عهدي به يطرب للمربع (1)
كان يرى ناظره سبّة ... إن مرّ بالدّار ولم يدمع
يا حبّذا منك خيال سرى ... فدلّه الشّوق على مضجعي
أنّى تسرّى من عقيق الحمى ... منازل الحيّ على لعلع (2)
بات يعاطيني جنى ظلمه، ... وبتّ ظمآن، ولم أنقع (3)
__________
(1) يطرب: يجزع، يحزن المربع: مكان تجمع الربع.
(2) على لعلع: على خراب.
(3) الظلم: ريق الأسنان.(1/546)
معانقا كان عناقي له ... وراء أحشائي والأضلع
عاقرني يشرب من مهجتي ... ريّا، ويسقيني من أدمعي
هل تبلغنّي الدّار من بعدهم ... على الطّوى جائلة الأنسع (1)
كأنّ مجرى النّسع في ذفّها ... مضطرب الأيم على الأجرع (2)
تحملني والشّوق في كورها، ... أنّى دعاني طرب أسمع
إنّ بهاء الملك إن أدعه، ... والخطب قد نازلني، يمنع
ربّ زمام لي في ضمنه، ... لم أتقوّله، ولم أدّع
مصطنعي والسّنّ في روقها، ... أصاب منّي غرض المصنع (3)
لم أرض إلّاه، ومن قبله ... أقنعني الدّهر، ولم أقنع
أغرّ، إن روّع جيرانه ... لم يذق الغمض، ولم يهجع
كأنّما الضّيم إليه سرى، ... وهو على المطّلع الأمنع
في حسب أصبح وضّاحه ... قد غلب الشّمس على المطلع
لئن نأى عنّا، فإحسانه ... أدنى من النّاظر والمسمع
سوم الحيا أقلع عن أرضنا ... ونحن في آثاره نرتعي (4)
كم نفحة منه على فاقة ... تنبت عشب البلد البلقع
ونظرة تجبر وهن الفتى، ... وعظمه منصدع ما وعي (5)
إذا قضى مرّ على نهجه، ... واستوقف الحقّ عل المقطع
كم طار في ملكك ذو نخوة ... قالت له ريح المنايا: قع
إن شمخ اليوم بعرنينه، ... فهو غدا يعطس عن أجدع
__________
(1) الطوى: الجوع جائلة الانسع: كناية عن الناقة، والانسع جمع نسع وهو الحزام الذي يشد به رحل الناقة.
(2) الذف: الاسراع الأيم: الحية الأجرع: رملة مستوية لا تنبت شيئا.
(3) الروق: أول الشباب.
(4) سوم الحيا: رعاية الكلأ.
(5) الوهن: الضعف، الكسر.(1/547)
لم يلقك المغرور إلّا غدا ... يقوّم الجنب على المصرع
ينتظر الحيّ بهم هتفة ... من النّواعي وكأن قد نعي
من جاهد خاب، ومن طالب ... أوفى على الفجّ ولم يطلع
ومسرع أقلع من عثرة ... روعاء، والعثرة للمسرع
ونادم أطرق عن حزبه، ... قد نادم النّاجذ بالإصبع
معاشر ما اختلطوا بالعلى، ... ولا ربوا والعزّ في موضع
شابهت السّوأة ما بينهم، ... ما أشبه الحالق بالأنزع
ارتضعوا والعار من فيقة، ... ونزعوا واللّؤم من منزع (1)
من عاقد أغدر من مومس، ... وواعد أكذب من يلمع (2)
راموك بالأيدي وكان السّهى ... أعلى من ان يدرك بالأذرع
قد علموا عند قراع الصّفا ... أنّ الصّفا العاديّ لم يقرع
قل لبهام نشرت في الرّبى: ... هذا قوام الدّين، فاستجمعي
قد أصحر الضّيغم من غيله، ... أظفوره منك على مطمع (3)
غضبان قد غرّك همهامه ... على مجازي اللّقم المهيع (4)
كم فيك من خرق لأظفاره، ... كملغم الأشدق، لم يرقع (5)
ليس كغزو الذّئب بهم الحمى، ... إن مرّ بالسّخلة لم يرجع (6)
إن لم تشاور حلمه تصبحي ... وليمة الذّؤبان والأضبع (7)
يستمع الرّأي، وعنه غنى، ... قد يصقل السّيف ولم يطبع
__________
(1) الفيقة: اللبن يجتمع في الضرع بين الحلبتين.
(2) اليلمع: البرق الخلّب والسراب.
(3) أصحر: برز للصحراء.
(4) اللقم: معظم الطريق المهيع: الواضح، البيّن.
(5) الملغم: الفم.
(6) السخلة: الشاة.
(7) إن لم تشاور حلمة: إن لم تعد الى تعقّله ورجاحة عقله.(1/548)
لا بدّ أن ترمض روعاته، ... وإن عفا اليوم ولم يوقع (1)
والسّيف إن مرّ على هامة ... روّعها إن هو لم يقطع
قل لحسود النّجم في فوته: ... عشت بداء الكمد الموجع
لا بدّ للبطنة من خمصة، ... فجع على غيظك أو فاشبع
أما نهى الأعداء ما جرّبوا ... منك بزعزاع القنا الشّرّع
مواقف تفسخ فيها الظّبى ... عقدة رأي البطل الأروع
أيّامك الغرّ تسربلتها ... مثل متون القضب اللّمّع
أفاقت البصرة من دائها، ... وقد رقى النّاس ولم ينجع
عادات أسيافك في غيرها، ... والسّيف مدلول على المقطع
قدني إلى ما قدتني قبلها، ... أيّ جنيب لك لم يوضع
فلست بالخامل من غاربي ... على سنام النّقب الأظلع (2)
قد خاب من أصبح من غيركم ... عليّ، والإقبال منكم معي
يا أيّها البحر بنا غلّة، ... فهل لنا عندك من مكرع
تمضي العلى
(الكامل)
كتب هذه القصيدة الى حضرة الملك أبي شجاع فناخسرو بن قوام الدين، وقد عقد له بأرجان بعد أبيه أمر الدولة، وذلك في جمادى الآخرة سنة 403.
تمضي العلى وإلى ذراكم ترجع ... شمس تغيب لكم وأخرى تطلع
إنّ الصّفا العاديّ يقرع بالأذى ... من غيركم، وصفاكم لا يقرع
__________
(1) ترمض: تشتد.
(2) النقب: البعير الذي رقت أخفافه.(1/549)
متداولين لباس أثواب العلى، ... هذا يجاب له، وهذا ينزع
في كلّ يوم للنّواظر منكم ... أعلام علياء تحطّ وترفع
لا مثل من ملك العلى مستقبل ... فينا، ومن طوت المنون مودّع
عينان، عين للمزيد قريرة ... منّا، وعين للنّقيصة تدمع
وإذا اطمأنّ من العطيّة مضجع ... يوما أقضّ من الرّزيّة مضجع
فلئن فرحنا إنّ ذلك مفرح، ... ولئن جزعنا إنّ ذلك مجزع
للمجد من علياكم ومصابكم ... أنف به شمم، وآخر أجدع
بؤسى ونعمى أعقبت، فكأنّما ... ردّت على أعقابهنّ الأدمع
لولا الأعزّ أبو شجاع لم يكن ... وهي النّوائب عن قليل يرقع (1)
لولاه ما انجبر الكسير ولا سما ... طرف الحسير، ولا سلا المتفجّع (2)
ما كانت العلياء بعد مصابها ... لولاه بالبدل المجدّد تقنع
نثلوا كنائن مجدهم، فتخيّروا ... منهنّ أقوم نصلة لا تنزع
سهما رمى غرض العلى من بعد ما ... لم يبق في قوس المعالي منزع
لا يطمع الأعداء مطلع نجده، ... قد ضاق إلّا عنه ذاك المطلع
طلبتك قد قلقت إليك نصولها ... حتّى استقرّ بها النّصاب الأمنع
ظمأى إليك وأين عنك محيدها ... والرّعي عندك والرّوا والمرتع
ما كان غاربها بغيرك يمتطى ... يوما، وطينتها بغيرك تطبع (3)
سبقت ببيعتك القلوب أكفّها، ... أيد أطعنك، والضّمائر أطوع
من مضمر يخشى الهوى لا ينثني، ... أو صافق بيد الرّضى لا يرجع
أعطت تخايلها الصّدور، وربّما ... تعطى يد، ولها ضمير يمنع
الله أيد ملككم وسما به ... مجد القواعد والبناء الأرفع
بيت يسقّف بالسّماء رواقه، ... وتهاب ذروته الحمام الوقّع
__________
(1) الوهي: الضعف، الكسر.
(2) سلا: تعزّى، نسي.
(3) غاربها: ظهرها.(1/550)
أطناب قبّته أنابيب القنا، ... وسجوف ظلّته المواضي اللّمّع (1)
إن ساخت الأركان أشرف ركنه، ... أو ضعضع البنيان لا يتضعضع
كم مصعب منع الخطام تركته ... تحت الرّحالة يستقيم ويظلع (2)
أو خالع قصرت يداه عن العلى، ... بوع لكم تقص الرّقاب وأذرع (3)
فسبقتم وكبا به من جدّه ... دون المنى قصف الفقار موقّع
تخفى مكائده ويظهر سطوكم، ... الذّرّ يقرص، والأراقم تلسع
لا ثلّ عرش بني بويه إنّهم ... غدر المكارم والجناب الأمرع
فعلى روائهم يحوم المعتفي، ... وإلى روائهم تشير الإصبع (4)
إن قاربوا فهم الشّهاد المجتنى، ... وإذا أبوا فهم السّمام المنقع
أيديهم طرق النّدى، وجباههم ... أبهى من التّيجان لا بل ألمع
فهم لأيّام الحفائظ مفزع ... وهم لأيّام المكارم مطمع
هتف العلاء بهم إلى غاياته، ... فتضرّع القوم اللّئام وأسرعوا
أنا غرسكم والغصن لدن والصّبا ... غضّ وللعيس القياد الأطوع
رشتم سهامي للعدى، وتركتم ... قدمي إلى أمد المعالي تتبع
وحثثتم حظّي ليلحق شأوكم، ... حتّى استمرّ وحظّ غيري يقدع (5)
وصنعتم فعرفت قدر صنيعكم، ... ولربّما غلط الطّريق المصنع (6)
وحفظت ما استودعت من نعمائكم ... إنّ الوفاء أمانة تستودع
يا باني الشّرف الموطّد حيث لا ... تصل العيون ولا تنازل الأذرع
وسليل محصنة العلى في حجرها ... مستودع وبدرّها مسترضع
__________
(1) السجوف، جمع سجف: الستر.
(2) المصعب: الفحل، المحارب العنيد يظلع: يعرج.
(3) البوع: الباع.
(4) الرواء: الماء العذب المعتفي: المحتاج.
(5) الشأو: الغاية، الهدف يقدع: يكبح، يكف.
(6) المصنع، من أصنع: أحكم العمل.(1/551)
تحنو الملوك عليه من جنباته، ... كالقلب حانية عليه الأضلع
أرتق لها فتق النّوائب بالنّدى ... أو بالقنا ولكلّ خرق مرقع
واسلك سبيل أبيك، إنّ سبيله ... لقم يجيز إلى المناقب مهيع (1)
واطلب على أيّامه، وجياده ... حسرى يردن على الطّعان وظلّع
تدق الغوار على الغوار كأنّها ... وطفاء تحفزها بليل زعزع (2)
والصّبح منقدّ القميص كما جلا ... عن حرّ مفرقه البجال الأنزع (3)
واستقبل الأيّام غير جوامح ... يثني إليك بها عنان طيّع
تعنو لأخمصك الخطوب ذليلة ... بعد العراك وخدّهنّ الأضرع
إن سرّ أمسك كان يومك فوقه، ... ويقلّ عند غد لما يتوقّع
طلاب العز
(الوافر)
في هذه القصيدة يمدح أباه ويهنئه باسترجاع أملاكه، وذلك سنة 386.
طلاب العزّ من شيم الشّجاع، ... وسعي المرء تحرزه المساعي
ودون المجد قلب مستطيل، ... وباع غير مجبوب الذّراع (4)
أخوّف بالزّماع، ولست أدري ... بأين أجزّ ناصية الزّماع (5)
__________
(1) اللقم: الطريق يجيز: يوصل، يفضي المهيع: الطريق السهل.
(2) تدق: تدني، تلحق الغوار: الغارات الوطفاء: السحابة المسترخية لكثرة مائها.
(3) البجال: الشيخ الكبير مع جمال ونبل.
(4) المجبوب: المقطوع.
(5) الزماع: المضي في الأمر بأين: من أين، استعاض بالباء استقامة للوزن.(1/552)
ولست أضلّ في طرق المعالي، ... ونار العزّ عالية الشّعاع
ويعجبني البعاد كأنّ قلبي ... يحدّث عن عديّ بن الرّقاع
لقيت من المقام على الأماني، ... كما لقي الطّموح من الصّقاع (1)
ولو أنّي ملكت عنان طرفي، ... أخذت على الوسيقة بالكراع (2)
وكنت إذا تلوّن لي خليل، ... تلوّن بي له خلو النّزاع (3)
بخيل بالسّلام، إذا التقينا، ... ولكنّي جواد بالوداع
أيصرعني الزّمان ولست آوي ... إلى جنب ذليل للصّراع
وأرضع بالخداع عن المعالي، ... وكان الطّفل أولى بالرّضاع
ألا لله طينتنا بأرض ... مشوّهة المعالم والبقاع
إذا مرق الدّجى منّا أخذنا ... عليها بالمذانب والتّلاع (4)
وأولى بالضّيافة، لو علمنا، ... خصيب الرّحل مطروق الرّباع
إلى أمل الحسين بسطت ظنّي، ... ورشّحت المطالب لانتجاعي
إذا بخل الغمام على محلّ، ... تدارك غلّة الإبل الزّماع (5)
مجيري إن تناكرت اللّيالي، ... وعوني إن تكاثرت الدّواعي
وقد جعل الزّمان يضيء وجهي ... ويرفع ناظري ويمدّ باعي
رفعت إليك دعوة مستجير، ... وأنت مدى عقيرة كلّ داع (6)
ليهنك ما تجدّده اللّيالي، ... وحسبك من فراق واجتماع
وما ردّ الزّمان عليك حفظا ... من الأملاك والمال المضاع
تمارى النّاس قبلك وهي غصب، ... أديوان الضّياع أم الضّياع
__________
(1) الطموح: الجموح الصقاع: حبل يشد به أنف الناقة.
(2) الوسيقة: الناقة المرافقة الكراع: ما دون الركبة من قائمة الدابة.
(3) تلوّن: تبدّل النزاع: الخصومة.
(4) المذانب، جمع مذنب: مسيل الماء.
(5) الزماع: البطيئة المشي.
(6) عقيرة: صوت، صراخ.(1/553)
وعادت في يديك مروّضات، ... وكانت فقع قرقرة بقاع (1)
ظفرت بما اشتهيت وأنت وان، ... ونال البعض غيرك وهو ساع (2)
يبشّر، والقلوب مفجّعات، ... كأنّ بشيره في الخلق ناع
وما كلّ المواهب بالأماني، ... ولا كلّ الأحاظي بالقراع
لكلّ في بلوغ العزّ طبع، ... وبعض النّاس مختلف الطّباع
بزين الملّة اشتفت الأماني ... من المطل الممانع والدّفاع
وأصبحت الشّفاه مقلقلات، ... تنازع نطفة الخبر المذاع (3)
فأعلن بشره في كلّ وجه، ... وبيّن طوله في كلّ باع
رآك لكلّ ما يأتيه أهلا، ... وأنت أحقّ ذودا بالمراع
صنيعا لا يجرّ عليك منّا، ... وحمل المنّ غير المستطاع
أجار أبو الفوارس منك سيفا، ... تحامته يمين أبي شجاع
فدى لك من ينازعك الرّزايا، ... ويقرضك الأذى صاعا بصاع (4)
يعضّ أنامل الأسد الضّواري ... عليك بغيظ أنياب الأفاعي
رعاك بلحظ طرف غير ران، ... وعاج عليك سمعا غير واع
فكنت السّيف أغمده جبان، ... فسلّ وقد تصدّى للمصاع (5)
ألان رد العلاء بلا رقيب، ... وشمّر في الأمور ولا تراع
ولا يغررك قعقعة الأعادي، ... فذاك الصّخر خرّ من اليفاع
رجون منك يوما مستطيلا ... على الأعداء، وضّاح القناع
__________
(1) مروّضات: عادت كالرياض الفقع: الكمأة البيضاء الرخوة القرقرة:
الأرض المطمئنة. وفي المثل: هو أذل من فقع بقرقرة.
(2) وان: ساكن، غير ساع.
(3) النطفة: الريبة.
(4) الصاع: المكيال.
(5) المصاع: القتال.(1/554)
تغيظ الحاسدين به وترضي ... قلوبا لا تعلّل بالخداع
أتقنع أن تضام، وأنت حام، ... وتهملنا البقاع، وأنت راع
وما في الأرض أحسن من يسار، ... إذا استولى على أمر مطاع
ألان تراجعت تلك الرّعايا، ... وجهّزت الرّعيّة للمراعي
وعاد السّرب أمنع من قلوب ... تقلّب بين أضلاع السّباع
وصار الدّهر أمرح من طروب، ... تصافح سمعه نغم السّماع
تسمّح عطفه بعد اجتناب، ... وتخطم أنفه بعد امتناع
تفاخرنا رجال ليس تدري ... بما علم الجبان من الشّجاع
ولو خلّيت عنّا في رهان ... تبيّنت البطاء من السّراع
ونحن أحقّ بالدّنيا، ولكن ... تخيّرت القطوف على الوساع
أروم بحسن رأيك كلّ أمر ... يؤلّف فرقة الأمل الشّعاع
وأطلب منك ما لا عيب فيه، ... وأين المجد إلّا في اصطناعي
تخدعني ورق الحمام
(الطويل)
أعدّ الشريف الرضي هذه القصيدة لتهنئة أخيه بمولود ذكر، فلم يتفق الواقع مع ذلك. وقد وضعها سنة 374.
لأغنتك عن وصلي الهموم القواطع، ... وعن مشرع الذّلّ الرّماح الشّوارع (1)
وأيّ طلاب فاتني، وطلائعي ... منى قبل أعناق المطيّ طوالع
دعيني أقم أرضا، وأطلب غيرها، ... فبينهما، إن واصل الهمّ، قاطع (2)
__________
(1) المشرع: المورد، المشرب الشوارع: المشرّعة.
(2) أقم أرضأ: أقم بأرض، نصب على نزع الخافض.(1/555)
فما كلّ ممنوح من العزّ شاكر، ... ولا كلّ محظوظ من المال قانع
وما عاقني ربع، فبتّ ولم تبت، ... يوقّعني من غير ذاك المطامع
قطوع لأقران الرّجال كأنّني ... إلى كلّ فجّ ثائر الرّحل نازع
أفي كلّ يوم يعدم الدّهر جانبي، ... وتقرعني من ناظريه القوارع
وقد قطع المعروف باللّؤم قاطع، ... وباع الثّناء الحرّ بالذّمّ بائع
فلم ألق إلّا ماذق الودّ كاذبا، ... يسفّ به من طائر الغدر واقع (1)
ورايعة للبين من عامريّة، ... تزعزع منها بالسّلام الأصابع
فلو لم تزوّدنا السّلام عشيّة، ... لسرنا، وأعناق المطيّ خواضع
تصدّ حداء حين تبعث وعدها ... كذوبا، وإنّي بالرّجاء لقانع (2)
وتخدعني ورق الحمام بشدوها، ... ورجع زفيري للحمائم خادع
حنين المطايا علّم الشّوق مهجتي، ... فكيف تسلّيها الحمام السّواجع
بذلتك قلبا كنت أذخر صونه، ... إذا لاح لي برق من العزم لامع
سبقت إلى يأسي رجاي، فحزته، ... ولم تنتظر رأيي، فها أنا طامع
وما عند أملاك الطّوائف حاجتي ... إذا ما أبت أن تقتضيها القواطع
وما لي شغل في القريض، وإنّما ... أبيّن فيه ما تقول المطامع
ولو هزّ أسماع الملوك نشيده، ... دروا أنّ كلّ المجد ما أنا صانع
تقول لي الأيّام، وهي بخيلة: ... ألا اسأل، فإمّا ذو عطاء ومانع
رأيت كريما ما خلا قطّ من حمى ... يزار، ولو أنّ الدّيار بلاقع (3)
ولا مرضت نار القرى في خيامه ... بليل، ولو أنّ الرّياح زعازع
إذا صارعته الرّيح خلنا شعاعها ... يشير إلى الورّاد والرّكب هاجع
فضنّا، بني فهر، بما في أكفّكم ... من المجد، فالأيّام عود وراجع
__________
(1) الماذق: الذي لا يخلص الود يسف: يخفض، يحط.
(2) تصدّ حداء: اي لا تسير كما يرغب الحادي.
(3) بلاقع: خراب.(1/556)
وردّوا أكفّ الحرب حلما عن العدى ... إذا أمكنت حدّ السيوف المقاطع
فكم غارة تسترجف اللّيل أيقظت ... صدور القنا، والغادرون هواجع
عيون العوالي والنّجوم روامق، ... ونقع المذاكي، بينهنّ، براقع (1)
ولا بدّ من شعواء تظما نفوسها ... وليس لها إلّا السّيوف مشارع
هو اليوم أخفت خيله لمع آله، ... فأشباحه فوق العجاج لوامع (2)
ترى النّقع مسودّ الذّيول، وفوقه ... رداء الرّدى تحمرّ منه الوشائع (3)
وركب كأنّ التّرب ينهض نحوه ... يعانقه في سيره ويصارع
فلو أنّ ثغر اللّيل لاح ابتسامه ... عن الصّبح منه لم تسمه البلاقع
إذا ما سروا تحت الدّجى فوجوههم ... لضوء الضّحى قبل الصباح طلائع
وإن أدلجوا لم يسأل الليل عنهم ... كأنّهم فيه النّجوم الطّوالع
ويبدأ فيها للسّراب زخارف، ... تلاعب لحظ المجتلي وتخادع
فلا تعجبوا من سيرهم في هجيرها، ... فجرّ وغاهم للهجير طبائع
وأرض يضلّ اللّيل بين فروجها، ... ويجزعه أجزاعها والأجارع (4)
تخطّيتها والصّبح يخرق في الدّجى ... نوافذ لا يلقى بها الجوّ راقع
تطاول أسر اللّيل فيها، كأنّما ... دجاه لأعناق النّجوم جوامع
وقد مدّ من باع المجرّة فانثنى ... كأنّ الثّريّا فيه كفّ تقارع
وهبت لضوء الفرقدين نواظري ... إلى أن بدا فتق من الفجر ساطع
كأنّهما إلفان قال كلاهما ... لشخص أخيه: قل، فإنّي سامع
إذا أنا لم أقبض عن الخلّ هفوة، ... فلا بسطت كفّي إليه الصّنائع
__________
(1) النقع: الغبار الكثيف المذاكي، جمع مذكي: هو من الخيل ما تمّ سنه وكملت قوته.
(2) الآل: السراب.
(3) الوشائع، جمع وشيعة: التفاف الغبار.
(4) يجزعه، يخيفه أجزاعها، جمع جزع: محلّة القوم، والأجزاع هي أقسام الوادي أيضا الأجارع، جمع أجرع: رملة مستوية لا تنبت شيئا.(1/557)
وإن أنا لم يستنزل المجد حبوتي، ... فلا أهلت منّي الرّبى والمرابع
أبا قاسم! حلّاك بالشّعر ماجد، ... عليك له حتّى الممات رصائع
أخ لا يرى الأيّام أهلا لمدحه، ... ولو ضمنت أن لا تراه الفجائع
شجاع لأعناق النّوائب راكب، ... همام لأطواد الحوادث فارع
ستشرع ماء الفخر في كأس مدحتي، ... وما أنا في ماء النّدى منك شارع
ليهنك مولود يولّد فخره ... أب، بشره للسّائلين ذرائع
وليد لو انّ اللّيل ردّي بوجهه، ... لما جاورته بالجنوب المضاجع
ومبتسم، يرتجّ في ماء حسنه، ... له من عيون النّاظرين فواقع
رمى الدّهر منه كلّ قلب من العدى ... بسهم نضا أحقادهم وهو وادع (1)
يرامونه باللّحظ كي يعصفوا به ... وأبصارهم صور لديه خواشع
وما صرعوه باللّحاظ، وإنّما ... لأرواحهم في مقلتيه مصارع
يودّون أن لو كان بين قلوبهم ... مع الحقد، حتّى لا تراه المجامع
متى ابتسموا، فاعلم بأنّ ثغورهم ... دموع، لها تلك الشّفاه مدامع
تخيّرته
(المتقارب)
في سنة 398مدح أبا الخطاب حمزة بن ابراهيم وهنأه بالنيروز.
تخيّرته أطول القوم باعا، ... وأرحبهم في المعالي ذراعا
وآخذهم بعنان الخطوب، ... يجير على الدّهر أمرا مطاعا
بعزم كبارقة المشرفيّ ... يأبى على الهزّ إلّا قراعا (2)
__________
(1) نضا: نزع.
(2) المشرفي: السيف.(1/558)
يهاب ويرجى لريب الزّمان، ... كالنّصل راق عيونا وراعا (1)
وصدر وسيع على النّائبات، ... يجيل، إذا غبّ، رأيا وساعا
ترى كلّ يوم مع الحادثات ... عراكا له دوننا، أو قراعا
له قلم إن جرى غربه، ... أمنّا القنا، وخشينا اليراعا (2)
ومدره قول يبذّ الخصوم، ... إذا بلغوا بالخصام القذاعا (3)
كعالية الرّمح إن طاولوه ... طال إلى المجد نفسا وباعا
إذا نزعوا عن هوى المكرمات ... من اللّوم زاد إليها نزاعا
بحمزة أمسيت ألقى الخطوب ... وأرمي العدوّ وأرقى اليفاعا (4)
يدافع ركني حتّى أنال، ... ويدفع عنّي الأعادي دفاعا
أطال يدي ففرعت الهضاب، ... وأطلعني بالنّدى ما استطاعا
حقوق عليّ رأى أنّها ... حقوق عليه، فوالى وراعى
فلا الوعد كان مطالا ضمارا ... يغرّ ولا القول زورا خداعا (5)
صنعت فتمّمت حسن الصّنيع، ... وكم صانع لا يربّ اصطناعا (6)
تعاطوا صنيعك، فاستثقلوه ... إنّ التّطبّع يعيي الطّباعا
وغيرك يمطل فعل الجميل، ... فإن فعل الفعل يوما أضاعا
تلقّاك نيروزك المستجد ... يسرّ عيانا ويرضي سماعا
ولا زال دهرك طوع الجنيب ... إذا ما أمرت بأمر أطاعا (7)
__________
(1) راق: حسن منظرا راع: أخاف.
(2) غربه: حدّه، رأسه خشينا اليراع: أي أن كلمته أكثر نفاذا من سنان الرمح.
(3) مدره القوم: رأسهم القذاع: المشاتمة.
(4) اليفاع: التلال، المرتفعات.
(5) الضّمار: الوعد المسوّف.
(6) يرب: يزبد.
(7) الجنيب: الطائع، المنقاد.(1/559)
تلاقي الخطوب ثقالا بطاء، ... وغرّ الأماني عجالا سراعا
همام رميت قيادي إليه، ... مآلا إلى شعبه وانقطاعا (1)
مددت يميني، فأعلقتها ... يدا باصطناع الأيادي صناعا (2)
إذا قرحت عندنا نعمة ... أعاد أياديه فينا جذاعا
فلو رام قسمة عمري له ... لم ارض له العمر إلّا مشاعا
وإن هو ساومني مهجتي، ... صفقت على راحتيه بياعا
غالي الزائد
(الرجز)
غالى بها الزّائد حتّى ابتاعها ... بادنة قد ملأت أنساعها (3)
سوّغها الرّاعي ربيع ضارج، ... والأرض قد عمّ النّدى بقاعها (4)
يوردها بين نطاع، فالنّقا، ... زرق جمام لبست يراعها (5)
طاع لها حمض اللّوى ونشّرت ... لها ربى قباقب أقطاعها
رعت حليّ رامة وشاطرت ... جوازي الرّمل بها لعاعها (6)
تلسّ آثار درور جونة، ... ألقت على ذي بقر بعاعها (7)
__________
(1) شعبه: دربه.
(2) الصناع: الماهر في الصناعة.
(3) الانساع جمع نسع: سير عريض تشد به الرحال.
(4) ضارج: اسم موضع.
(5) زرق جمام: من إضافة الصفة الى الموصوف، أي الجمام الزرق: الكثير من الماء الصافي.
(6) الجوازي: بقر الوحش اللعاع: نبت ناعم.
(7) تلسّ: تنتف العشب بمقدم فمها الدرور: الناقة الكثيرة الدر جونة:
سوداء ذي بقر: اسم موضع البعاع: ثقل السحاب من المطر.(1/560)
مسيلة بين العقيق والحمى ... أضواج بطن الأرض أو أجزاعها (1)
تطلق عقل النّبت إمّا رجعت ... جلجالها بالرّعد، أو قعقاعها
يستنفض العشب لها رؤوسه، ... إذا البروق اعتصرت دفّاعها (2)
حتّى بنى النّبي على سنامها ... مبانيا ما بطنت سياعها (3)
شاغبه الهمّ، فأرضاه بها، ... تشرع عن دار الأذى نزاعها
إن قطع الرّاعي عليها لم تبل ... أشبعها الخذراف أم أجاعها (4)
مخيلة مبركها من شخصها، ... إذا المطايا عمرت رباعها
تضبع عن غبّ الونى، كأنّها ... عائمة قد رفعت شراعها (5)
تحسبها الورهاء ريعت فنجت ... من الأذى طارحة قناعها (6)
وقّرها السّير، وكانت حقبة، ... لو سمعت حسّ القراد راعها (7)
كأنّها طاوي المصير هاجه ... عضّ ضراع قد بلا مصاعها (8)
إذا رأى افتراقها زاولها، ... ثمّ يني، إذا رأى اجتماعها
أو أحقب أعجله قناصها، ... مشاورات النّفس، أو ازماعها (9)
في عانة تطيعه محاميا، ... فإن رآها شرّدا أطاعها
__________
(1) الأضواج، جمع ضوج: منعطف الوادي.
(2) اعتصرت دفاعها: أنزلت أمطارها.
(3) النيء: السمن السياع: الشحم.
(4) الخذراف: نبت ربيعي.
(5) تضبع: تمدّ أضباعها والضبع هو الابط والعضد.
(6) الورهاء: الحمقاء.
(7) وقّرها: سكّنها القراد: دويبة تتعلق بالبعير وغيره كالقمل للانسان.
(8) الطاوي المصير: البقر الوحشي الضراع: الشياه المصاع: المجالدة، المضاربة.
(9) الأحقب: الحمار الوحشي الذي في بطنه بياض ازماعها: قرارها، ثباتها.(1/561)
تنتصب انتصابه لنبأة، ... ذعرا، وينصاع لها انصياعها (1)
يحفظها مشايحا عن سربها، ... فإن رأى جدّ الرّدى أضاعها (2)
أقضى عليها أربا من همّة، ... لو عدل الدّهر ثنى زماعها (3)
مطبوعة على العلى لو رضيت ... بالذّلّ يوما أنكرت طباعها
يا حفظها إن بلغت مرامها، ... وإن أبى الدّهر فيا ضياعها
أستعجل الأمر وحظّي رايث، ... نفس أرجّي أبدا خداعها
ولو قنعت بالحظوظ لم أبل ... إبطاءها بالرّزق أم إسراعها
أصارع الأقدار عن وقوعها، ... بمنكب معوّد صراعها
تصادف الخرقاء من زمانها ... سجال رزق أخطأت صناعها (4)
قومي الأولى إمّا جروا لغاية ... بذّوا بطاء الغاي أو سراعها
هم الملاجي والمناجي والحمى، ... إذا المنايا وقعت وقاعها
هم المعاذ والملاذ والذّرى، ... إذا السّيول ركبت تلاعها
هم المقيلون المنيلون، إذا ... ما اللّزبة اللّزباء ألقت باعها (5)
أزوال أيّام الطّعان إن طغت ... يد الزّمان أحسنوا دفاعها (6)
في حيث لا تنظر تحت نقعها ... إلّا عصيّ الموت أو قراعها
لم يغنموا الأموال إلّا أخذوا ... صفيّها، وقبضوا مرباعها (7)
تلقى بهم مرسى الوقار والحجى، ... وضئضئ العلياء أو جمّاعها (8)
__________
(1) النبأة: المرتفع من الأرض انصياعها، من انصاع: انفتل.
(2) المشايح، من أشاح: جدّ، حذر.
(3) الزماع: المضاء في الأمر والعزم عليه.
(4) الخرقاء: الحمقاء الصناع: المرأة الحاذقة الماهرة.
(5) اللزبة: الشدّة.
(6) أزوال، جمع زول: الشجاع.
(7) المرباع: ربع الغنيمة.
(8) الضئضئ: الأصل جمّاعها: الأصل من كل شيء.(1/562)
إن نزلوا الجوّ أماتوا شمسه، ... والأرض كانوا أبدا طلاعها
بيوتهم مرهوبة تخالها ... أولاج غيل رشّحت سباعها
المانعون الضّيم باللّدن ترى ... هبابها للطّعن أو زعزاعها
كأنّ في الأيمان حيّات النّقا ... أرقمها النّضناض، أو شجاعها (1)
من كلّ سوّار، إذا رام العلى ... حاز عقاب الجوّ أو ملاعها (2)
محلّقا يبلغ منها غاية، ... لو رامها العيّوق ما استطاعها (3)
حاصوا خصاصات قريش بالقنا ... شوارعا، وجمّعوا شعاعها (4)
ردّوا على ساداتها إحضارها، ... وضمّنوا بيض الطّلى ارتجاعها
وتوّجوا بمجدهم مفرقها ... عن عطل وسوّروا ذراعها
كانوا صياصيها، وكانوا دونها ... فرّاطها في المجد أو نزّاعها (5)
والزّاحمين بالقنا أعداءها، ... على الثّنايا، منعوا طلّاعها
أيّام حطّوا بالظّبى أغمادها ... عن العلى، وغمزوا نباعها
بالخيل لا تعرف إلّا شدّها، ... أو ملقها بالبيد، واندراعها (6)
مثل الرّماح هزهزت كعوبها، ... أو كالذّباب اتبعت أطماعها
كأنّ عقبان الشّريف فوقها ... تعلو قنان الأرض أو جزاعها (7)
تلمح ما عارضها بأعين، ... مثل الجذى طارحة شعاعها (8)
هم رفعوا بمجدهم قبابها، ... وضوّأوا من نارهم يفاعها (9)
__________
(1) النقا: المكان الكثير الرمل النضناض: مدّ لسان الحية وتحريكه.
(2) الملاع: سرعة العقاب.
(3) العيّوق: اسم نجم.
(4) حاصوا: خاطوا الخصاصة: الخلل، الخرق الشعاع: التفريق.
(5) الصياصي: الحصون.
(6) الملق: السير الشديد الاندراع: الاندفاع.
(7) الشريف: اعلى جبل ببلاد العرب القنان: الجبال السهلة.
(8) الجذى، جمع جذوة: الجمرة الملتهبة.
(9) اليفاع: التلال.(1/563)
حموا بأطراف القنا سوامها ... من العدى وآمنوا رتاعها
وألصقوا بالرّغم دون نيلها، ... موارنا قد أوعبوا اجتداعها (1)
إن كان روع عاقدوا شجاعها ... على الرّدى، وأمّنوا مجزاعها
كبّوا على أذقانها أصنامها، ... لا ودّها أبقوا، ولا سواعها (2)
تدارك الله بجدّي عزّها، ... وقد شراها ذلّها وباعها
جازت به حدّ العلى، وقد رأت ... تقارع الجدود واصطراعها
بمجده، والعزّ من أيّامه، ... مدّت إلى نيل العلى أضباعها
وا عجبا لعصبة مغرورة ... تريد أن تلصق بي قذاعها (3)
أذهلني استواؤها في غيّها، ... مطيعها أعذل، أو مطاعها
تقودني إلى الهوان ضلّة، ... وقد أبى العزّ لي اتّباعها
تسومني ورد القذى وقد رأت ... عزّة هذي النّفس وامتناعها
تريد أن ألقى الخنا لقاءها، ... وأن أنيخ للأذى جعجاعها (4)
وألبس العار الطّويل لبسها، ... وأرضع الذّلّ لها رضاعها
قبيلة أغلطها نهج العلى ... لؤم عروق جرّت اتّضاعها
قوم هوت أنفسهم من دلّة، ... وأشرفت حظوظهم أيفاعها
يا ليتهم حطّوا انحطاط قدرهم، ... أو رفعتني همّتي ارتقاعها
أمّا المعالي، فأخذنا أوّلا ... طول سنيها، وأخذتم ساعها
أسمحت الدّنيا لكم وأعرضت ... صنائع لم تحسنوا اصطناعها
ردّت عليكم نعم مظلومة ... لم تشكروها فانظروا انقطاعها
يا بئس ما جرّت عليك عامدا ... من رائعات تكثر ارتياعها
نفحة عار لذّعت أعراضها ... لذع اللّظى، ووقّرت أسماعها
__________
(1) الموارن: الأنوف.
(2) ود وسواع: من الأصنام التي عبدها العرب في الجاهلية.
(3) قذاعها: فحشها، خناها.
(4) الجعجاع: التحريك للاناخة.(1/564)
وغادرت صفاحها دامية، ... عقر المطايا ألّمت إيضاعها
وأمنت منها نزار أنّها ... سوءة قول كفيت سماعها
الدهر يعصي ويطيع
(الطويل)
خصيم من الأيّام لي وشفيع، ... كذا الدّهر يعصي مرّة، ويطيع
وبي ظمأ لولا العلى ما بللته، ... وفي كلّ قلب غلّة ونزوع
وما أنا ممّن يطلب الماء للصّدى، ... ويجمعني والواردين شروع
رضاعي من الدّنيا الممات فطامه، ... وما نزح الثّدي الغزير رضيع
أبينا، ولا ضيم أصاب أنوفنا، ... وفي الأرض مصطاف لنا وربيع
إذا غدرت نفس الجبان بصبره ... حمتنا ذروع طلقة ودروع (1)
وأقنعنا بالبيد أن ليس منزل، ... وما بين أيدي اليعملات وسيع (2)
أبثّك أنّ المال عار على الفتى، ... وما المال إلّا عفّة وقنوع
أيطلع لي عزم إلى ما أريده، ... وصاحب سرّي في الرّجال مذيع
وتشتاق نفسي حالة بعد حالة، ... وأزجرها؟ إنّي إذا لقنوع
وإنّي لأغرى بالنّسيم إذا سرى، ... ويعجبني بالأبرقين ربوع
ويحني عليّ الشّوق نجديّ مزنة، ... وبرق بأطراف الحجاز لموع
ولا أعرق الأشجان حتّى يشوقني ... حمام ببطن الواديين سجوع
ولولا الهوى ما كنت إلّا مشمّرا ... أطاع على رغم الهوى وأطيع
إذا راق صبح فالحصان مصاحب، ... وإن عاق ليل فالحسام ضجيع
تركت اللّيالي خلف ظهري رذيّة ... وصاحبني طاغي الذّباب قطوع
__________
(1) الذروع: الخفيف السريع والواسع الخطو من الخيل والابل.
(2) اليعملات: النياق.(1/565)
وخاطرت مشغوفا بما أنا طالب، ... أجوب الدّجى والطّالبون هجوع
ألا إنّ رمحا لا يصول لنبعة، ... وإنّ حساما لا يقدّ قطيع (1)
وفارقت من أبناء قيس وخندف ... رجالا، ولم تنفر عليّ ضلوع
تركتهم يدعون، والدّمع ناشز، ... وما ملكت طرفي عليّ دموع
وحذّرهم منّي فؤاد مشيّع، ... وعزم لأقران الرّجال قطوع (2)
ونفس على كرّ النّوائب حرّة، ... وقلب على حرب الزّمان مطيع
وقلت: قبول الضّيم أعظم خطّة، ... وما الحرّ في رحب البلاد مضيع
فلمّا رأيت الذّلّ في القوم سبّة، ... ذهبت، فلم يقدر عليّ رجوع
ألا إنّ ليلي بالعراق كأنّه ... طليح تجافاه الرّجال ظليع (3)
مقيم يعاطيني الهموم، وناظري ... معنّى بأعجاز النّجوم ولوع
وخيل أبحناها السّماوة والوجى ... تنفّر أيديها الحصى، وتروع (4)
إلى أن تسامى الصّبح، واللّيل لافظ ... حشاشته، والطّالعات تريع
ولله يوم بالعراق نجوته، ... وأيدي المنايا بالنّجاء وقوع
تملّست منه أملس الجيب وانثنى ... له في جيوب النّاكثين ردوع (5)
تنازعه الأفواه في كلّ مشهد، ... وكلّ حديث كنت فيه بديع
طعمنا وأطعمنا القنا من دمائه، ... وسارت بآمال الرّجال صدوع
وتحفظ أيدينا كعوب رماحنا، ... وأطرافها بين القلوب تضيع
طماعيتي أن أملك المجد كلّه، ... وكلّ غلام في العلاء طموع
ومولى يعاطيني الكؤوس تجمّلا، ... وقد ودّ لو أنّ العقار نجيع (6)
__________
(1) النبعة: شجرة للقسي والسهام القطيع: السوط.
(2) مشيّع: شجاع قطوع: قاطع.
(3) طليح: هزيل، تعب ظليع: مائل، منحرف، غير سوي.
(4) السماوة: ظهر الفرس الوجى: الحفا.
(5) تملّست: تخلّصت.
(6) العقار: الخمر نجيع: دم.(1/566)
خبأت له ما بين جنبيّ فتكة ... دهته، ويوم الغادرين شنيع
فلا كان يوم لا يدوم وفاؤه، ... فإنّ وفاء في الزّمان بديع
وبعض مقال القائلين مكذّب، ... وبعض وراد الأقربين خدوع
أرى راشدا يصغي، وليس مكلّم، ... ومسترشد يدعو، وليس سميع
وما النّاس إلّا ماجد متلثّم، ... وآخر مجرور العطاف خليع
وما الدّهر إلّا نعمة ومصيبة، ... وما الخلق إلّا آمن وجزوع
ويوم رقيق الطّرّتين مصفّق، ... وخطب جراز المضربين قطيع (1)
عجبت له يسري بنا وهو واقف، ... ويأكل من أعمارنا ويجوع
وأيّ فتى من فرع سعد صحبته ... وما هجّنت تلك الأصول فروع
خفيف على ظهر النّجيب تهزّه ... عروض على أعطافه وقطوع
إذا غاب يوم أطلع العزّ وجهه، ... وللبدر فينا مغرب وطلوع
سأنقض من ليل الثّويّة وفرتي، ... إلى منزل للدّهر فيه خضوع (2)
أرى العيس قد خاط اللّغام شفاهها، ... ومن دونها صعب الضّراب منيع
إذا أخذت منها الأزمّة حثّها ... نجاء، وأعضاد المطيّ تبوع (3)
ونحن، إذا طار السّياط بشأوها، ... سجود على أكوارها وركوع
وإنّي لا أرضى من الدّهر بالرّضا، ... وعزمي أخوذ، والزّمان منوع
وفي العيش مشمول النّطاف مرقرق، ... وفي الأرض مخضرّ الجناب مريع
__________
(1) جراز المضربين: قاطع الحدّين.
(2) الثوية: حجارة ترفع فتكون علامات يستدل بها، والثوية هي المقام أيضا وفرتي: مالي، متاعي.
(3) تبوع: تبعد خطاها.(1/567)
الليالي ستريع
(الطويل)
نظم هذه القصيدة سنة 404في رثاء الملك قوام الدين. وهو يذكر ميله إليه، كما يذكر الخطوب والهموم التي مرت به.
أظنّ اللّيالي، بعدكم، ستريع، ... فمن يبقي لي من رائع فتروع
خذي عدّة الصّبر الجميل، فإنّه ... لكلّ نزاع، يا أميم، نزوع
وقد كنت أبكي للأحبّة قد أنى ... لقلبي سلوّ، واطمأنّ ولوع (1)
ولكنّما أبكي المكارم أخليت ... منازل منها للنّدى وربوع
وهل أنا جاز ذلك العهد بالبكا، ... ولو أنّ كحل الماقيين نجيع
أبيت وطرّاق الهموم كأنّها ... محافل حيّ تنتجي وجموع (2)
أقارع أولى اللّيل عن أخرياته، ... كأنّي أقود النّجم، وهو ظليع (3)
وعيني لرقراق الدّموع وقيعة، ... لها اليوم من عاصي الشّؤون مطيع
بمن تدفع الجلّى، بمن ترفع العلى ... بمن تحفظ الآمال، وهي تضيع (4)
بمن ينقع الظّمآن، وهو محلأ ... بمن يؤمن المطرود، وهو مروع
هو الرّزء لا يعدو المكارم والعلى، ... صلوم لأشراق العلاء جدوع (5)
فأين قوام الدّين للخطب يعتري، ... وللدّهر يغدو بالأذى ويروع
وأين قوام الدّين للبيض والقنا، ... إذا لم يكن إلّا اليقين دروع
وأين قوام الدّين للنّيل والقرى، ... إذ الجدب معط والسّحاب منوع
__________
(1) أنى: دنا، قرب سلو: عزاء.
(2) تنتجي: تختص بالمناجاة.
(3) ظليع: يتمايل في سيره، غير مستقر، مائل.
(4) الجلى: الأمر العظيم.
(5) صلوم وجدوع: شديد القطع وسريعه.(1/568)
ألا من لأضياف الشّتاء يلفّهم ... سقيط ظلام قطقط وصقيع (1)
تجاذبهم أيدي الشّمال رياطهم ... فيسقط سبّ أو يضلّ قطيع (2)
إذا كان بين البيت والزّفزف الصّبا ... أحاديث تخفى مرّة، وتذيع (3)
ومن للعفاة المرملين يشلّهم ... من الدّهر قرن لا يرام منيع (4)
فيا راعي الذّود الظّماء تركتها، ... وأحفظ راع مذ نأيت مضيع
وليس لها في الدّار دين شريعة، ... ولا في ثنايا الطّالعين طلوع
ولا للغوادي مذ فقدت مزايد، ... ولا للمعالي مذ عدمت قريع
أقول لناعيه عقرت، وجرّبت ... بشلوك فدعاء اليدين خموع (5)
وغلغل ما بين الحجابين والحشا ... سنان كمصباح السّليط وقيع (6)
نعيت النّدى غضّا يرفّ نباته، ... وشمل العلى، والمجد، وهو جميع
ببدر معمّ في الكواكب مخول ... نمته عروق للعلى وفروع
من القوم طالوا كلّ طول إلى العلى ... إذا أذرع يوما قصرن وبوع (7)
بنوا في يفاع المجد، وهو ممنّع ... بنى طيرها بين النّجوم وقوع
فلا حملت أمّ المكارم بعده، ... ولا شبّ للمجد التّليد رضيع (8)
ولا أدّت الرّكب الخماص، على الوجى، ... سفائن برّ، والسّياط قلوع
إلى أن يزاد المستنيلين بعده ... من الحيّ قرّ في الظّلام وجوع
__________
(1) القطقط: البرد.
(2) الرياط، جمع ريطة: الملاءة السب: الخمار.
(3) الزفزف: الريح الشديدة.
(4) العفاة المرملون: المحتاجون الجياع.
(5) فدعاء اليدين: معوّجة اليدين، وفي القول كناية عن الضبع خموع:
تعرج.
(6) السليط: الزيت.
(7) الطول: القدرة، الفضل البوع: الباع.
(8) المجد التليد: المجد القديم الموروث.(1/569)
أضمّ عليه الرّاحتين تعلّقا، ... وقد نزعته من يديّ نزوع
غصبتك علقا لم أبعه، ولم أكن ... كباغي رباح يشتري ويبيع
طويتك طيّ البرد لم ينض من بلى، ... وقد يغمد المطرور، وهو صنيع (1)
أناديك من تحت الخطوب غدا لها ... بظهري رحل ضاغط وقطوع
وما كانت الأيّام يفرعن هضبتي ... لو انّك واع للدّعاء سميع
رمتني سهام البأس بعدك جهرة، ... وأنبض نحوي عاجز وجزوع (2)
وزال مجنّ مانع كنت أتّقي ... به الخطب، والخطب الجليل قطوع
وما كنت أدري أن فوقك آمرا ... من الدّهر يدعو بغتة فتطيع
فغالب أطماعي عليك مغالب، ... وقارع آمالي عليك قروع
عصبت، فلم أسمح لغير أكفّكم ... بدرّي، وبعض الحالبين طموع
إباء، ولو طارت بكفّي مليحة ... إلى النّيق ربداء الجناح لموع (3)
لقد لسبتني من عقارب كيدهم ... دبوب، إذا جنّ الظّلام لسوع (4)
يسوّمني حسن الثّناء، وضامن ... لسوء مقال أن يسوء صنيع
وحسبك من ذمّ الفتى ترك مدحه ... لأمر يضيق القول وهو وسيع
سقاك على نأي الدّيار وشحطها ... ربيع، وهل يسقي الرّبيع ربيع
وحيّاك عنّا كلّ نجم وشارق، ... إذا جنّ ليل أو أضاء صديع (5)
ذكرتك ذكر العاطشات ورودها ... تحرّق أكباد لها وضلوع
تقاذفن يطلبن الرّواء عشيّة، ... نزائع أدنى وردهنّ نزيع (6)
ضربن طريقا بالمناسم أربعا ... إلى الماء لا تدنى إليه شروع
__________
(1) لم ينض: لم ينزع المطرور: السيف المسنون.
(2) أنبض: جذب وتر القوس ليرن.
(3) النيق: أرفع موضع في الجبل ربداء: قاتمة.
(4) لسبتني: لسعتني.
(5) صديع: فجر.
(6) النزائع: النياق التي تجلب الى غير بلادها النزيع: البئر القريبة القعر.(1/570)
فهجرا لدار الحيّ بعد رحيلكم، ... وما كلّ أظعان لهنّ رجوع
ولا مرحبا بالأرض لستم حلولها، ... وإن كان مرعى للقطين مريع
لقد جلّ قدر الرّزء أن يبلغ البكا ... مداه، ولو أنّ القلوب دموع
ولو أنّ قلبي بعد يومك صخرة ... لبان بها وجدا عليك صدوع
منابت العشب
(البسيط)
يرثي الشاعر في هذه القصيدة أحد أصدقائه من أمراء بني عقيل ومن ولد نصر بن شبث العقيلي.
وقد ورد نعيه في شهر جمادى الأولى سنة 385.
منابت العشب لا حام ولا راع، ... مضى الرّدى بطويل الرّمح والباع (1)
القائد الخيل يرعيها شكائمها، ... والمطعم البزل للدّيمومة القاع (2)
من يستفزّ سيوفا من مغامدها ... ومن يجلّل نوقا بين أنساع
يسقي أسنّته حتّى تقيء دما، ... ويهدم العيس من شدّ وإيضاع (3)
ما بات إلّا على همّ ولا اغتمضت ... عيناه إلّا على عزم وإزماع
خطيب مجمعة تغلي شقاشقه، ... إذا رموه بأبصار وأسماع (4)
لمّا أتاني نعيّ من بلادكم، ... عضضت كفّي من غيظ على النّاعي
أبدي التّصامم عنه حين أسمعه ... عمدا وقد أبلغ النّاعون أسماعي
__________
(1) طويل الرمح والباع: كناية عن طول المرثي وبعد شهرته.
(2) البزل: النياق الفتية الديمومة: التي يدوم بعدها القاع: الارض السهلة المنفرجة عنها الجبال.
(3) الايضاع: هو حمل النياق على شدّة السير.
(4) تغلي شقاشقه: كناية عن فصاحته، والشقشقة ما يخرجه البعير من فيه اذا هاج.(1/571)
عمّت عقيلا وإن خصّت بني شبث ... بزلاء تملأ أذن السّامع الواعي (1)
ليس الشّجاع الذي من دون رؤيته ... باب يلاحك مصراعا بمصراع (2)
ولا الذي إن مضى أبقى لوارثه ... سوائما بين أضواج وأجزاع (3)
لكنّه من إذا أودى فليس له ... إلّا عقائل أرماح وأدراع
يعتسّه الذّئب في الظّلماء مرتفقا ... على رحايل ملقاة وأقطاع
يذوّق العين طعم النّوم مضمضة ... إذ الجبان ملا عينا بتهجاع (4)
أشيعث الرّأس لا يجري الدّهان به، ... وإن فلي فبماضي الغرب قطّاع
لا يخلف المال إلّا ريث يتلفه، ... ولا يذمّ على ما روّح الرّاعي (5)
كم فجّعتني اللّيالي قبله بفتى ... مشمّر بغروب المجد نزّاع
يمرّ صوتي، فلا يلوي بجانبه، ... وكان يكفيه إيمائي وإلماعي
من كان أنسي أضحى وحشتي وغدا ... من كان برئي أسبابا لأوجاع
أنزلته حيث لا يظما إلى نهل، ... ولا يبالي بإخصاب وإمراع
وارتعت حتّى إذا لم يبق لي طمع ... أملت نهج دموعي غير مرتاع
في كلّ يوم أكرّ الطّرف ملتفتا، ... وراء نجم من الأقران منصاع
أمانع الدّمع عينا جدّ دامعة، ... وألزم اليد قلبا جدّ ملتاع
هل دمعة حذفتها العين شافية ... داء حنوت عليه بين أضلاعي
أم هل يردّ زمان في ثنيّته ... لنا أوائل سلّاف وطلّاع
يحدو على العنف أخرانا ليلحقنا ... عجلان أبرك أولانا بجعجاع (6)
__________
(1) البزلاء: الداهية العظيمة.
(2) يلاحك: يتداخل ويتلاءم.
(3) الأضواج، جمع ضوج: منعطف الوادي.
(4) مضمضة: غير مريح.
(5) الريث: البطء، التمهل.
(6) الجعجاع: التحريك للاناخة. والمعنى أن الزمان لا يترك أحدا بل ينيخ الأوائل والأواخر كما تناخ الجمال.(1/572)
جرّ الزّمان على قومي سنابكه، ... وأوقع الموت فيهم أيّ إيقاع
واستطعمتني المنايا من أضنّ به، ... فكان بالرّغم إطعامي وإشباعي
قلّد جناجنها الأنساع وارم بها ... مناكب اللّيل ندبا غير مجزاع (1)
فلا نجاء من الأقدار طالبة، ... فاطلب علالة آمال وأطماع
بينا يسير الفتى حتّى دعون به، ... فردّ عارضه ليّا إلى الدّاعي
يسعى مجدّا فإن ألوى به قدر ... ضلّ الدّليل وزلّت أخمص السّاعي
يا مصعبا بخست أيدي المنون به ... فقيد قود ذلول الظّهر مطواع
كم فرجة للأعادي بتّ تكلؤها، ... لولاك فاهت بذي ودقين منباع (2)
ألحمتها بصدور الخيل معلمة ... إلى الوغى وطوال ذات زعزاع
أرشّ فوقك نجديّ يمدّ له ... نيل السّماء بآذيّ ودفّاع (3)
يبدو مع اللّيل رجّافا تكركره ... ريح النّعامى بواني الخطو مظلاع
وكلّ هافتة الأعناق ينحرها ... لمع البروق على ميث وأجراع (4)
برق كخفق جناح المضرحيّ إذا ... جلّى الطّرائد من ومض وتلماع (5)
تجترّ ودقا وترغو من جوانبها ... رعدا إذا قيل قد همّت بإقلاع (6)
أستودع الأرض خلّاني لتحفظهم، ... لقد وثقت إلى هوجاء مضياع
__________
(1) الجناجن: عظام الصدر الأنساع: السيور.
(2) ذات الودقين: كناية عن الداهية.
(3) الآذي: الموج العالي دفاع: دفعات المطر.
(4) هافتة: منخفضة الميث، جمع ميثاء: الأرض السهلة.
(5) المضرحي: الطويل الجناح.
(6) الودق: المطر.(1/573)
أبكيك
(الكامل)
في هذه القصيدة يرثي أبا القاسم عبد العزيز بن يوسف الحكار، وقد ورد الى مدينة السلام خبر وفاته في واسط، وذلك في يوم الأربعاء لعشر خلون من شهر شوال سنة 388. وكانت بينهما صداقة ومراسلة.
لو كان يرتدع القضاء بمردع ... أو ينثني بمدجّج ومقنّع
لغدت مشمّرة تقيك من الرّدى ... عصب تجرّ قنا الطعان وتدّعي
ومسدّدون أسنّة يزنيّة، ... فتلوا بأكعبها حبال الأذرع (1)
قوم ذيولهم الرّماح، إذا خطوا ... رفعوا بمسحبها غبار الأجرع
خيل توقّح بالنّجيع من الوجى، ... وقنا تثقّف بالطّلى والأضلع (2)
متعلّقين عنان كلّ مسوّم، ... يشأى عجاجته بوقع الأربع (3)
ذي غرّة سبغت عليه كأنّه ... فيها يمدّ لحاظه من برقع
قعد عن الغنم القريب المجتبى، ... سرع إلى الطّلب البعيد المنزع
يا ناشدا همل المساعي نافضا ... في إثرها لقم الطّريق المهيع (4)
هيهات لا مسعاة تنشد بعدها ... بظبى القواضب والقنا المتزعزع
إنّ ابن يوسف عرّيت أنقاضه ... وثوى بمنزلة المكلّ المظلع
متطامنا من بعد ما وضعت له ... أيّامه خدّ الذّليل الأضرع
__________
(1) أسنّة يزنيّة: نسبة الى سيف بن ذي يزن.
(2) توقّح، تتوقح: تصلب حوافرها النجيع: الدم الوجى: الحفا الطلى: الأعناق.
(3) يشأى: يسبق العجاجة: الغبار.
(4) لقم: سبيل المهيع: الطريق الواسع والسهل.(1/574)
ألقى بطاعته، ولمّا يمتنع، ... ومضى لطيّته، ولمّا يرجع (1)
قذيت له مقل السّماح وقد شكا، ... وهوت له قلل العلاء وقد نعي
أبنته تحت الصّفائح لو يرى، ... ودعوته خلف الجنادل لو يعي
ما لبث من يمسي مجازا للرّدى ... ومعرّج القدر المغذّ المسرع (2)
يغدو لأقدام الخطوب بمعثر، ... ويرى بمرأى للمنون ومسمع
ما للزّمان يلذّ طعم مصائبي، ... فكأنّه يظما ليشرب أدمعي
مغرى بنزع قوادمي مستعذبا ... لتألّمي من صرفه وتوجّعي
أرعى الذين جنوا له ورق الغنى ... دوني وأعلكني شكيمة مطمعي
ومضى بإخوان الصّفاء فلم يدع ... منهم أخا ثقة، ولا عضدا معي
أبكيك، يا عبد العزيز، بخطّة ... تعمي مطالعها وخطب مضلع
ومقاوم ما زلت تعجز ليلها ... بلسان قوّال وقلب سميذع (3)
إنّي أرى في المجد بعدك ثلمة ... تبقى وخرقا ما له من مرقع
من يشرق الخصم الألدّ بريقه ... عيّا ويقدع منه ما لم يقدع (4)
أم من يبلّغ بالبلاغة غاية، ... تلوي بحسرى طالبين وظلّع
أم من يردّ من المغيرة غربها، ... والخيل تنهض كالقطا بالدّرّع
بنوافذ للقول يبلغ وقعها ... ما ليس يبلغ بالرّماح الشّرّع
شهب تشعشع في النّوائب ضوءها، ... كالشّمس تنغض رأسها للمطلع (5)
حتّى يقول الغابطون، وقد رأوا ... فعلاته: زاحم بجدّ أودع
ويودّ من حمل الثّنا لو أصبحت ... تلك الأداة على الكميّ الأروع (6)
__________
(1) مضى لطيته: مضى لغايته.
(2) المغذ: المسرع.
(3) المقاوم، جمع مقامة: الجماعة من الناس السميذع: الشريف، الشجاع.
(4) يقدع: يكف.
(5) تنغض: تحني، تضطرب.
(6) الكمي الأروع: المحارب الشجاع والمخيف.(1/575)
إن لا تكن في الجمع أمضى طعنة، ... فلأنت أمضى خطبة في المجمع
إنّ الفصاحة ذلّك لك عنقها، ... فأخذت منها بالعنان الأطوع
أمست ظهور المجد عندك ترتقي ... منها إلى قمع السّنام الأمنع (1)
كيد كمارقة النّصال ودونه ... بشر كبارقة النّصول اللّمّع
نهّاز أذنبة الكلام، إذا هفا ... قلب الجريّ وعيّ قول المصقع
قد قلت للمتعرّضين لسطوه: ... خلّوا وجار الأرقم المتطلّع
إيّاكم أن يستضيفكم الدّجى ... ومقيله ومقيلكم في موضع
لا تتبعوا شبه الأمور، فإنّه ... شبه يتيح الحقّ عند المقطع (2)
من كان ماء العين أصبح رزؤه ... مثل القذاة ملظّة بالمدمع
وإذا تغيطلت المطالع حيرة، ... صدع العماية بالقضاء المقنع (3)
بأبي من استودعته بطن الثّرى، ... وعلمت كيف خيانة المستودع
يا ليت شعري من أعد لدهره ... ماذا أعدّ لضيق هذا المضجع
لم يخل من ترمي الخطوب سواده ... من واقع أبدا ومن متوقّع
نجد الضّراعة والنّقيصة نزرة ... إنّ القلامة شكّة للإصبع (4)
إن أقض مفروض البكاء عليكم ... متحرّجا يجري الدّموع تبرّعي
فإلام تتبعكم لواعج زفرتي ... ونوازع من دمعي المتسرّع
هل تعلمون على بعاد دياركم ... أنّ الغليل عليكم لم ينقع
لا تعدموا منّي وإن بعد المدى ... نفس العميد وأنّة المتفجّع
ما شئت من دمع لكم متحدّر ... وزفير وجد بعدكم مترفّع
أمسى أخ لك لم يجارك في الصّبا ... طلقا ولا ساقاك درّ المرضع
__________
(1) القمع، جمع قمعة: رأس السنام.
(2) مقطع الحق: ما يقطع به الباطل.
(3) تغيطلت: أظلمت العماية: الغواية.
(4) القلامة: ما يسقط من الظفر عند قطعه.(1/576)
في صدره أرة عليك من الجوى ... تذكى بأنفاس المعنّى الموجع (1)
رزء تخضخض سهمه في مقتلي، ... يمضي الزّمان ونصله لم ينزع
نضح الثّرى ذو أنت فيه مجلجل، ... يستخلف الأكلاء بعد المقلع (2)
هزج الرّعود له بكلّ ثنيّة ... زجل كشقشقة الفنيق الموضع (3)
لئق المناخ ثقيلة أوراكه، ... حضر المجرّ مروّض بالبلقع
حتّى ترى نزع الرّبى من نوره ... غمما يرفّ على خصيب ممرع (4)
ومتى يكن فيه سقاك نقيصة ... أبد الزّمان تممتها بالأدمع (5)
نثني عليك ثناء راعي هجمة ... بعد الجدوب على الغمام المقلع
ونقول فيك، ولو سكتنا قا ... لت الأيّام أكثر ما نقول وندّعي
ولقد تجافى المجد عن ثفناته، ... قلقا عليك، فما يقرّ بمربع (6)
نقصت أداة الفضل بعدك كلّها، ... فوعى بمصطلم وشمّ بأجدع
فاذهب رعاك الله غير مضيّع، ... وسقى ثراك المزن غير مروّع
فالقلب للشّانين إن لم يكتئب، ... والجفن للأعداء إن لم يدمع (7)
__________
(1) الأرة: النار المعنّى: المعذّب.
(2) ذو أنت: الذي أنت المجلجل: السحاب الرعاد الأكلاء: الأعشاب بعد المقلع: بعد إقلاعه.
(3) الشقشقة: ما يخرجه البعير من فمه عند هياجه الفنيق: اسم فحل من الجمال.
(4) الغمم: سيلان الشعر فوق الجبهة.
(5) أي أن الدمع يساعد الغيث في ارواء تربة الفقيد.
(6) الثفنات، جمع ثفنة: ركبة البعير.
(7) الشانين: المبغضين.(1/577)
أمير عقيل
(الطويل)
يرثي هنا أبا حسان أمير عقيل، وقد قتله غلمان داره بالأنبار غيلة ليلا، وذلك في شهر صفر 391.
وتقدم له مرثية في حرف الدال من هذا الديوان.
ألا ناشدا ذاك الجناب الممنّعا، ... وجردا يناقلن الوشيج المزعزعا (1)
ومن يملأ الأيّام بأسا ونائلا، ... وتثنى له الأعناق خوفا ومطمعا (2)
أجلّي إليه ذلك الخطب مقدما، ... وقد كان لا يلقاه إلّا مروّعا
وجاز أضاميم البلاد مغيرة، ... وحيّ نزار حاسرين ودرّعا (3)
وسمر عقيل تحمل الموت أحمرا، ... وبيض عقيل تقطر السّمّ منقعا
ولم تخش من حدّ الصّوارم مضربا، ... ولم تلق من أيدي القبائل مدفعا
رأى ورق البيض الخفاف هشائما، ... وشوك العوالي ناصلا أو منزّعا
هو القدر الأقوى الذي يقصف القنا، ... ويلوي من الجبّار جيدا وأخدعا
ويستهزم الجرد الجياد تخالها ... بجافلة الأبطال سربا مذعذعا (4)
ترى الظّفر الماضي الشّباة قلامة، ... إذا غالب الأقدار، والباع إصبعا (5)
أتاني، وغول الأرض بيني وبينه، ... فيا لك رزءا ما أمضّ وأوجعا (6)
جوانب أنباء وددت بأنّني ... صممت لها ما أورق العود مسمعا
تصاممت حتّى أبلغ النّفس عذرة، ... وما أنطق النّاعون إلّا لأسمعا
__________
(1) الوشيج: شجر الرماح.
(2) نائلا: عطاء.
(3) أضاميم: جماعات الخيل.
(4) مذعذعا: مبددا.
(5) القلامة: ما يقع من الظفر.
(6) الغول: البعد.(1/578)
بأنّ أبا حسّان كبّت جفانه، ... وأخمد نيران القرى يوم ودّعا
أعزّ على عيني من العين موضعا، ... وألطف في قلبي من القلب موقعا
أكنّ غليلي بالضّلوع، ولم أجد ... لقلبي وراء الهمّ مذ غاب مطلعا
وفارقني مثل النّعيم مفارقا، ... وودّعني مثل الشّباب مودّعا
علا الوجد بي حتّى كأن لم أر الرّدى ... يخطّ لجنب قبل جنبك مصرعا
لقد صغّر الأرزاء رزؤك قبلها، ... وهوّن عندي النّازل المتوقّعا
فإن لم تزل نفسي عليك، فإنّها ... ستنفد أنفاسا حرارا وأدمعا
فيا لائميّ اليوم لا صبر بعده، ... فطيرا بأعباء الملامة أو قعا
برغمك أجممت الصّوارم والقنا، ... وأخليت يوم الرّوع بيضا وأدرعا
ومنتجع أرض العدوّ تخاله ... جبال شرورى طلن ميثا وأجرعا (1)
إذاا وردت أنقاع ماء وقيعة ... أنشّت على أخراه بالماء أجمعا
إذا انقاد علويّا حسبت جياده ... إكاما عليهنّ الأجادل وقّعا (2)
مطوت به حتّى استراث جماحه، ... وجعجع بالبيداء حسرى وظلّعا (3)
من القوم طاروا في الفلا كلّ طيرة، ... ومدّوا إلى الأحساب بوعا وأذرعا
إذا لبسوا الرّيط اليماني، وأقبلوا ... يجرّون منها الشّرعبيّ المضلّعا (4)
حسبت أسود الغاب رحن عشيّة، ... تخال بهنّ البابليّ المشعشعا
صفاح خدود كالذّوابل طلقة، ... يبادون بالظّلماء لحما مبضّعا
وأبيض من عليا معدّ سما به ... إلى السّورة العليا أب غير أضرعا (5)
كأنّك تلقى وجهه البدر طالعا، ... إذا ابتدر القوم الرّواق المرفّعا
فإن ألهبت فيه الحفيظة خلته ... وراء اللّثام الأرقم المتطلّعا (6)
__________
(1) شرورى: جبال لبني تميم ميثا وأجرعا: مكانان.
(2) الأجادل: الصقور.
(3) مطوت به: أسرعت به استراث جماحه: هدأه، جعله يتريث.
(4) الشرعبي: نوع من البرود.
(5) السورة: المنزلة الأضرع: الذليل.
(6) الأرقم: الحيّة.(1/579)
يقوم اهتزاز الرّمح خبّت كعوبه، ... ويقعد إقعاء ابن عيل تسمّعا (1)
ضموم على الهمّ الذي بات ضيفه، ... جموح على الأمر الذي كان أزمعا
صليب على قرع الخطوب، كأنّما ... يرادين طودا من عماية أفرعا (2)
وكم مثله يستفرغ الدّمع رزؤه، ... ويوهي صفاة القلب حتّى تصدّعا (3)
إذا أحجم الأقوام دون ثنيّة، ... تجيز إلى بحبوحة المجد، أطلعا
تراه الثّفال العود في حجراته، ... وفي كبّة الرّوع الغلام السّرعرعا (4)
فيا بانيا للعزّ ثلّم ما بنى، ... ويا راعيا للمجد أهمل ما رعى
فقدتك فقد النّاظرين تخرّما ... جميعا عن العينين، واختلجا معا
تهافت ثوب المجد بعدك عن بلى، ... كأنّك لم ترقع من الأرض مرقعا
لئن بزّ هذا الحيّ منك عماده، ... فغير عجيب أن يعزّ، ويمنعا (5)
فقد تسمع الأذنان أوعب صلمها، ... ويدرك أنف فغمة الطّيب أجدعا (6)
وإن يمض نصل من عقيل نجد له ... مناصل في أيدي الصّياقل قطّعا
فما غيض ذاك الماء حتّى علا الرّبى، ... ولا اجتثّ ذاك الأصل حتّى تفرّعا
وإن يختلسنا ذلك العضب حادث، ... فمن بعد ما أبقى الغماد المرصّعا
مجاور قوم أنزلوا دار غربة، ... إذا ظعنوا لا يظعنون المشيّعا
ولا يستجدّون اللّباس من البلى، ... ولا يعمرون المنزل المتضعضعا
بطيئون عن داعي اللّقاء تخالهم ... إذا ما دعوا يوما مرمّين، هجّعا (7)
__________
(1) خبّت كعوبه: اضطربت ابن عيل: الأسد.
(2) يرادين: يراودن عماية: جبل الأفرع: العالي.
(3) يوهي صفاة القلب: يحطم القلب الصخري.
(4) الثفال: البطيء العود: المسن من الابل الكبة: الحملة السرعرع: التام الناعم اللدن.
(5) بز: سلب.
(6) الصلم: القطع الفغمة: الرائحة.
(7) مرمّين: مائلين الى اللهو، أو ساكنين هجّعا: نياما.(1/580)
حفائر ألقى الجود أفلاذ كبده ... بهنّ، وخطّ المجد فيهنّ مضجعا
وحطّ بهنّ الرّحل تدمى صفاحه ... كما أفرد الحيّ الأجبّ الموقّعا (1)
أجدّك لا تلقى لذا المجد جامعا، ... ولا للمعالي الغرّ بعدك مجمعا
وكان طريق الجود عندك مأمنا، ... فأذأب بالقوم اللّئام وأسبعا
أسيت على آل المسيّب أنّهم ... بدور المعالي غاربات وطلّعا
تفرّوا تفرّي السّجل دقّ أديمه، ... ولمّا يدع فيه الخوارز مرقعا (2)
مضوا بعد ما أبقوا إلى المجد منهجا، ... ركوبا بأعلى غارب الأرض مهيعا
إذا وضعوا فيه أجازوا إلى العلى ... وإن سار فيه النّاس أرذى وأظلعا (3)
ولم يتركوا في نصل شنعاء مضربا، ... ولم يدعوا في قوس علياء منزعا
تغالتهم أيدي المنون علائقا ... من العزّ قد زايلن عادا وتبّعا
أخلّاي ما أبقوا لعيني قرّة، ... ولا زوّدوا إلّا الحنين المرجّعا
وكانوا على الأيّام ملهى ومطربا، ... فقد أصبحوا للقلب مبكى ومجزعا
كأنّ عقارا بعدهم بابليّة ... تخال بها في الرّأس نكباء زعزعا (4)
لها رقصات في الذّوائب والشّوى ... تردّ جبان القوم ندبا مشيّعا (5)
شربت بها شرب الظّميّة صادفت ... قرار عبابيّ من الماء مترعا
سقاكم وما سقي السّحائب غمرة ... من الجود أمرى من نداكم وأمرعا
نشاص الثّريّا كلّما هبّ برقه ... تذبذب يزجي عارضا مترفّعا (6)
حدته من الغورين هوجاء كلّما ... ونى عجرفت فيه فخبّ وأوضعا (7)
__________
(1) الأجب: المقطوع السنام الموقع: الذي تكثر عليه آثار القروح.
(2) السّجل: الدلو العظيمة دق أديمه: تمزق جلده.
(3) أرذى: جعل المطايا رذايا، أي هزيلة أظلع: جعلها تظلع، تعرج.
(4) العقار: الخمر.
(5) الشوى: الأطراف المشيع: الشجاع.
(6) نشاص: ارتفاع.
(7) هوجاء: ريح قوية عجرفت: اشتدت سرعتها.(1/581)
تلفّ به لفّ الحداة جمائلا، ... يزاد عن البيداء طردا مدفّعا (1)
كأنّ بقعقاع الرّعود، عشيّة، ... عشارا يراغين الجلال الجلنفعا (2)
كأنّ اليماني حاك في أخرياته، ... فأعرض أبراد الرّباب وأوسعا
إلى أن تفرّى من جلابيبه الصّبا ... كأنّ على الجرباء ريطا مقطّعا (3)
فشقّ على ذاك التّراب مزاده، ... وخوّى على تلك القبور وجعجعا
فبعدا لطيب العيش بعد فراقكم، ... فلا أسمع الدّاعي إليه ولا دعا
ولا أسفا للدّهر إن صدّ مؤيسا، ... ولا مرحبا بالدّهر إن عاد مطمعا
وإن عثر الأحياء من بعد موتكم ... فلا دعدعا للعاثرين ولا لعا (4)
عظيم الأسى
(الطويل)
في ليلة السبت لست ليال خلون من صفر سنة 381توفي قاضي القضاة أبو محمد عبيد الله بن أحمد بن معروف، وكان بينه وبين الشريف الرضي مودة. فرثاه بهذه القصيدة التي يعزّي فيها أمير المؤمنين الطايع لله لاصطناعه له وتنويهه باسمه.
عظيم الأسى في هذه غير مقنع، ... ولوم الرّدى فيما جنى غير منجع
ولا عين إلّا الدّمع تجري غروبه، ... فلاق به المقدور إن شئت أو دع
فليس القنا فيما أصاب بشرّع، ... وليس الظّبى فيما ألمّ بقطّع
__________
(1) الجمائل: جمع جمل.
(2) عشارا: نياقا لاقحة الجلال: البعير الضخم الجلنفع: الكبير والعالي.
(3) الجرباء: السماء.
(4) الدعدع: كلمة تقال للعاثر بمعنى وقاك الله، وكذلك لعا.(1/582)
ولا مانع ممّا رمى الله سهمه، ... دفاع المحامي وادّراع المدرّع
وإنّ المنايا إن طرقن بفادح، ... فسيّان لقيا حاسر أو مقنّع
إذا انتصر المحزون كان انتصاره ... بدمع يزيد الوجد أو عضّ إصبع
وإنّ غبين القوم من طاعن الرّدى ... إذا جاء في جيش الرّزايا بأدمع
أترضى عن الدّنيا وما زال بركها ... على مقصد منّا، وشلو مبضّع (1)
إذا سمحت يوما بسجواء سجسج، ... تلتها على عمد بنكباء زعزع (2)
أيوم عبيد الله كم رعت من حشى ... جليد، على طول المدى لم يروّع
وكم جفّ دمع فيك قد كان غربه ... بطيئا، إذا ما ريم لم يتسرّع
توقّع أمر زاد همّا وقوعه، ... وإنّ وقوع الأمر دون التّوقّع
أيا جدثا وارى من العزّ هضبة، ... تمدّ إلى العليا ببوع وأذرع
سقاك، ولولا ما تجنّ من التّقى، ... لقلت شآبيب العقار المشعشع (3)
وقلّ لقبر أنت سرّ ضميره ... بكاء الغوادي كلّ يوم بأربع
وقفت عليه عاطفا فضل عبرة، ... تفيض على فضل الحنين المرجّع
أقول له، والعين فيها زجاجة ... من الدّمع قد وارى بها الحول مدمعي
وما هي إلّا ساعة، وهو لا حق ... بعاد إلى يوم المعاد وتبّع:
هل انت مجيبي إن دعوت بأنّة، ... وهل أنت غاد بعد طول مدى معي
وهيهات حالت بيننا، مستطيلة، ... ضموم على الأجرام من كلّ مطلع
لنا كلّ يوم فرحة من مبشّر ... بمقتبل، أو رنّة من مفجّع
وطاري رجاء في ملمّ مسلّم، ... وعارض يأس من خليط مودّع
وما بعد ما بيني وبينك سامعا، ... وأنت بمرأى من مقامي ومسمع
لحا الله هذا الدّهر ماذا جرت به ... نوائبه من مؤلم الوقع مظلع
__________
(1) مقصد: مرمى الشلو: الجسد الميت.
(2) السجواء: الريح الساكنة سجسج: لا حر فيها ولا قر النكباء:
الريح الهوجاء.
(3) شآبيب العقار: كميّات الخمر.(1/583)
لقد جبّ منّا ذروة أيّ ذروة ... فأبنا بأضلاع الأجبّ الموقّع (1)
أليس عبيد الله خلّى مكانه؟ ... فلا عطس الإسلام إلّا بأجدع
تعزّ، أمير المؤمنين، صريمة ... من العزم عن ماضي الصّرائم أروع
أمينك لم يذخرك نصحا، إذا حنا ... رجال على الغشّ القديم بأضلع
هو السّابق الهادي إلى عقد بيعة، ... رأى النّاس فيها بين حسرى وظلّع
غرست به غرسا يرى الدّهر عوده، ... وكان متى تغرس على الرّغم ينزع
بقيت أمين الله عودا لمفزع، ... ومرعى لإخفاق ووردا لمطمع
إذا صفحت عنك اللّيالي وأغريت ... بحفظك فينا هان كلّ مضيّع
فلا فجعت بالعزّ دارك ساعة ... ولا غضّ من باب الرّواق المرفّع
ولا برحت تلك الرّباع مجودة ... على كلّ حال من مصيف ومربع
لقد هاج هذا الرّزء ريعان زفرة، ... تلقّيتها بالقول عن قلب موجع
ولا سبب إلّا المودّة إنّه ... تقطّع منّي، والقوى لم تقطّع
وليس مقال حرّكته حفيظة، ... وعهد كقول القائل المتصنّع
لو أنصف الحي
(المنسرح)
يرثي في هذه القصيدة أبا طاهر ابراهيم بن ناصر الدولة. وقد بلغ الشاعر أن قوما من بني عقيل غضبوا من مرثيته الرائية المتقدمة.
آب الرّدينيّ والحسام معا، ... ولم يؤب حامل الحسام معه (2)
__________
(1) جبّ: قطع.
(2) الرديني والحسام: الرمح والسيف لم يؤب: لم يعد.(1/584)
إنّ الخفيف الحاذين جدّله ... معيّر بالقعود والرّتعه (1)
غدا عليه من كان خيفته ... برقا على الهون لازما ظلعه (2)
لو أنصف الحيّ من ربيعته ... ما صاف محتلّه ولا ربعه
وانتزع الثّار من مظنّته ... معاجلا بالدّم الذي انتزعه
بالسّمر تهتزّ في أسنّتها، ... والخيل تعدو العنيق والرّبعه (3)
في جحفل قعقعت حوافره ... قعاقع الرّعد حاديا قزعه (4)
تملؤه عين من رآه وتر ... تجّ من الرّعب أذن من سمعه
كان سنانا يزين صعدتهم ... شلّ بذاك السّنان من نزعه (5)
ومارنا لم يزل له ظبة ... يجدع أعناق حيّ من جدعه (6)
يطلعه فوق كلّ مرقبة ... قلب جريّ وعزمة طلعه
إذا جرى والحسود في صعد ... من العلى يبغيان ممتنعه
خلّى غبار المدى له ومضى ... يطلب قوت العيون منقطعه
أبكي نداه العريض أم بشره اللّا ... مع للمعتفين أم ورعه؟ (7)
إيها عقيل وأيّ منقصة ... كوضع مولى الأقوام من رفعه
صار طراد الملوك عادتكم ... بعد طراد البعوض والقمعه (8)
ألام أنّي رثيت زافرة، ... كانوا نجوم الفخار أو لمعه (9)
__________
(1) الخفيف الحاذين: القليل المال الرتعة: التوسع في الخصب
(2) الهون: الهوان ظلعه، من الظلع: العرج.
(3) العنيق والربعة: ضربان من السير السريع.
(4) القزع: قطع السحاب.
(5) الصعدة: القناة المستقيمة.
(6) المارن: السيف الظبة: الحدّ القاطع.
(7) نداه: كرمه المعتافين: المحتاجين.
(8) القمعة: ذباب يركب الابل والظباء إذا اشتد الحر.
(9) الزافرة واللمعة: الجماعة من الناس.(1/585)
إن لا تكن ذي الأصول تجمعنا ... يوما إنّ القلوب مجتمعه
كم رحم بالعقوق نقطعها، ... ورحم الودّ غير منقطعه
لا تيأسوا من ثقوب زندهم، ... كأنّني بالزّمان قد قرعه
لا بدّ من أن يثوب حالهم، ... لكلّ ضيق من الأمور سعه
يا يوسف
(الكامل)
قالها يرثي أبا محمد يوسف بن الحسن بن عبد الله بن أبي سعيد السيرافي اللغوي النحوي، وذلك في يوم الأربعاء لثلاث ليال بقين من شهر ربيع الأول سنة 385. وكان من أعيان الأعلام في العربية، وبلغ خمسا وخمسين سنة، وتوفي بعد وفاة الصاحب بن عباد بأيام قلائل.
يا يوسف، ابن أبي سعيد دعوة ... أوحى إليك بها ضمير موجع
إنّ الفجائع بالرّجال كثيرة، ... ولقلّ من يرعى ومن يتفجّع
لمّا رأيت النّاس بعدك نكّبوا ... سنن الحفاظ فغادر ومضيّع
قرطست في غرض الوفاء بقولة ... لأكون بعدك حافظا ما ضيّعوا (1)
من كان أسرع عند أمرك نهضة ... قد بات، وهو إلى سلوّك أسرع (2)
كم من أخ لك لم يدم لك عهده، ... قد كان منك بحيث تثنى الإصبع
لم ينسنا كافي الكفاة مصابه، ... حتّى رمانا فيك خطب مظلع (3)
__________
(1) قرطست: أصبت القرطاس، الغرض.
(2) سلوك: نسيانك، والسلو هو العزاء والنسيان.
(3) كافي الكفاة: من الوظائف المهمة في العصر العباسي.(1/586)
قرف على قرح تقارب عهده، ... إنّ القروف على القروح لأوجع (1)
وتلاحق الفضلاء أعظم شاهد، ... إنّ الحمام بغير علق مولع
واها له لو كان أسر يفتدى ... برغيبة أو كان خرق يرقع
في كلّ يوم للنّعوش مشيّع ... منّا يرفّ وراجع يسترجع
كيف الغرور وللفناء ثنيّة، ... ويد المنون تشير ثمّ المطلع (2)
ولربّ أصغر عاقد عرنينه ... أمسى له في الأرض خدّ أضرع (3)
ما كنت أبخل أن أطيل لو انّه ... يجدي المطيل إذا أطال وينفع
لكنّه سيّان من تجري له ... عند الفجائع دمعة أو أدمع
غالط العيش
(البسيط)
قف موقف الشّكّ لا يأس ولا طمع، ... وغالط العيش لا صبر ولا جزع
وخادع القلب لا يود الغليل به، ... إن كان قلب على الماضين ينخدع
وكاذب النّفس يمتدّ الرّجاء لها ... إنّ الرّجاء بصدق النّفس ينقطع
سائل بصحبي أنّى وجهة سلكوا ... عنّا، وأيّ الثّنايا بعدنا طلعوا
حدا بأظعانهم حتّى استمرّ بها ... حادي المقادير لا يلوي بهم ظلع
غابوا فغاب عن الدّنيا وساكنها ... مرأى أنيق عن الدّنيا ومستمع
بني أبي قد نكى فيكم بشكّته، ... ونال ما شاء هذا الأزلم الجذع (4)
__________
(1) قرف الجرح: قشره وأدماه.
(2) ثمّ: هناك، أين.
(3) العرنين: الأنف.
(4) الأزلم الجذع: الدهر الشديد الكثير البلايا.(1/587)
كنتم نجوما لذي الدّهماء زاهرة ... تضيء منها اللّيالي السّود والدّرع (1)
إن تخب أنواركم من بعد ما صدعت ... ثوب الدّجى فلضوء الشمس منقطع
في غرّة المجد مذ غيّبتم كلف ... على الزّمان، وفي خدّ العلى ضرع (2)
وبالمواضي حران في الوغى، وبأع ... ناق الضّوامر مذ أرحلتم خضع
مصاعب ذعذعت أيدي المنون بها، ... فطاع معتصم وانقاد ممتنع
لم يعدموا يوم حرب تحت قسطلها ... طير الرّخام على لبّاتهم تقع (3)
لم ينزعوا البيض مذ لاثوا عمائمهم ... إلّا وقد غاض منها الشّيب والنّزع (4)
نسابق الموت تطويحا بأنفسنا، ... حتّى كأنّا على الآجال نقترع
أبكيهم، ويد الأيّام دائبة، ... تدوف لي فضلة الكأس التي جرّعوا
لا أمتري أنّني مجر إلى أمد ... جروا إليه قبيل اليوم أو نزعوا
وأنني وارد العدّ الذي وردوا ... بالكره أو قارع الباب الذي قرعوا (5)
سدّت فواغر أفواه القبور بهم، ... وليس للأرض لا ريّ ولا شبع
أعتادهم لا أرجّي أن يعود لهم ... إليّ ماض، ولا لي فيهم طمع
فما توهّج أحشاي على نفر ... كانوا عوادي للأيّام، فارتجعوا
نليح أن ترتعي الأقدار أنفسنا، ... وكلّنا للمنايا السّود مزدرع
نلهو، وما نحن إلّا للرّدى أكل ... والدّهر يمضغنا، والأرض تبتلع
ذوائب من لباب المجد ما فجعوا ... بمثل أنفسهم يوما، ولا فجعوا
كانوا حوامي جبال العزّ فانقرضوا، ... وصدّعوا قلل العليا مذ انصدعوا
فوارس قوّضوا عن سابقاتهم، ... فاستنزلوا بطعان الدّهر واقتلعوا
__________
(1) الدرع: ثلاث ليال من الشهر تلي البيض لاسوداد أوائلها وابيضاض أواخرها.
(2) ضرع: ذل وخضوع.
(3) القسطل: غبار الحرب الرّخام، جمع رخمة: طائر من الجوارح الكبيرة.
(4) لاثوا العمائم: عصبوها على رؤوسهم النزع: انحسار الشعر.
(5) العد: الماء الجاري.(1/588)
قوم فكاهتهم ضرب الطّلى، ولهم ... تحت العجاج بأطراف القنا ولع (1)
إمّا تؤود من الأيّام نائبة ... قاموا بها وأطاقوا الحمل واضطلعوا
لا تستلينهم الضّرّاء نازلة، ... ولا تقودهم الأطماع والنّجع
كم خمصة كان فيها العزّ آونة، ... وشبعة كان فيها العار والضّرع (2)
من كلّ أغلب نظّار على شوس ... له لواء على العلياء متّبع
يخفى به التّاج من لألاء غرّته، ... على جبين بضوء المجد يلتمع
ذو عزمة تلهم الدّنيا وساكنها، ... وهمّة تسع الدّنيا، وما تسع
يلقى الظّبى حاسرا تبدو مقاتله، ... ويرهب الذّمّ يوما، وهو مدّرع
إنّ المصائب تنسي المرء مقبلة ... قصد الطّريق لما يسلي وما يزع (3)
حتّى إذا انكشفت عنه غياطلها ... تبيّن المرء ما يأتي وما يدع
أرسى النّسيم بواديكم ولا برحت ... حوامل المزن في أجداثكم تضع (4)
ولا يزال جنين النّبت ترضعه ... على قبوركم العرّاصة الهمع (5)
هل تعلمون على نأي الدّيار بكم ... أنّ الضّمير إليكم شيّق ولع؟
لكم على الدّهر من أكبادنا شعل ... من الغليل، ومن آماقنا دفع
لواعج أفصحت عنها الدّموع وقد ... كادت تجمجمها الأحشاء والضّلع
أنزفت دمعي حتّى ما تركت له ... غربا يفيض على رزء، إذا يقع (6)
ثمّ اضطررت إلى صبري فعذت به، ... وأعرب الصّبر لمّا أعجم الجزع
__________
(1) الطلى: الأعناق العجاج: الغبار.
(2) الخمصة: الجوعة.
(3) قصد الطريق: غايته يزع: يدع، يترك.
(4) حوامل المزن: الغيوم الماطرة.
(5) العراصة: السحاب ذو البرق والرعد، والتاء للمبالغة الهمع: الماطر.
(6) غربا: مجرى.(1/589)
صبرت عنك
(البسيط)
نظمها في رثاء أحد أصدقائه، وقد توفي في شعبان من سنة 381.
صبرت عنك فلم ألفظك من شبع، ... لكن أرى الصّبر أولى بي من الجزع
وإنّ لي عادة في كلّ نازلة ... أن لا تذلّ لها عنقي من الضّرع (1)
لذاك شجّعت قلبي وهو ذو كمد، ... وملت بالدّمع عنّي وهو ذو دفع
ماض على وقعات الدّهر إن طرقت ... غدا بحمل أذاها جدّ مضطلع
وحاسر يتلقّى كلّ نائبة ... تدمي، فيصبر فيها صبر مدّرع
ما غاض دمعي إلّا بعدما انحدرت ... غروبه بين منهلّ، ومنهمع (2)
لولا اندفاع دموع العين غالبة، ... لم يعقب الصّبر دمعا غير مندفع
في اليأس منك سلوّ عنك يضمره، ... وقبل يومك يقوى الحزن بالطّمع
ما كان ذيلك مسدولا على دنس، ... ولا نطاقك معقودا على طمع
ما شئت من لين أخلاق ومكرمة ... ومن عفاف ومن فضل ومن ورع
لله نفرة وجد لست أملكها، ... إذا تذكّرت إخوان الصّفاء معي
يواصل الحزن قلبي كلّما فجعت ... يدي بحبل من الأقران منقطع
ألقى الغمام حواياه على جدث، ... نزلت منه بملقى غير متّسع (3)
في حيث لا طمع يوما لذي طمع ... في أن يعود ولا رجعى لمرتجع
لا عين تنظر إن أرسى بعقوتها ... زور ولا أذن عند النّداء تعي (4)
وهوّن الوجد أنّ الموت مشترك ... فينا، وأنّا لذا الماضي من التّبع
__________
(1) النازلة: الداهية، المصيبة الضرع: التضرع.
(2) منهمل ومنهمع: يسيل بغزارة وبقلّة.
(3) حواياه: ما يحويه من مطر.
(4) العقوة: ما حول الدار والمحلّة الزور: الزائر.(1/590)
هي الثّنايا إلى الآجال نطلعها، ... فمن حثيث ومن راق على ظلع (1)
كالشّاء يعذل منّا غير مكترث ... عيّا، ويوعظ منّا غير مستمع
الآن يعلم أنّ العيش مختلس، ... وأنّنا نقطع الأيّام بالخدع
هيهات لا قارح يبقى، ولا جذع ... على نوائب كرّ الأزلم الجذع (2)
إنّ المنايا لشتّى بين طارقة ... هونا، ونافرة عن هول مطّلع
إمّا فناء عن الدّنيا على مهل، ... أو اعتباطا يغادي غدوة السّبع
ما للّيالي يرنّقن المجاجة من ... شربي ويوبين مصطافي ومرتبعي (3)
عدت عوادي الرّدى بيني وبينكم، ... وأنزلتك النّوى عنّي بمنقطع
وشتّتت شملك الأيّام ظالمة، ... فشمل دمعي ولبّي غير مجتمع
أخيّ لا رغبت عيني ولا أذني ... من بعد يومك في مرأى ومستمع
ولا أراك بقلب غير مصطبر، ... إذا أهاب به السّلوان لم يطع
ذكرتك
(الطويل)
نظمها أيضا في رثاء صديق.
ذكرتك لمّا طبّق الأفق عارض، ... وأعرض برق كالضّرام لموع
وأنت مقيم حيث لا البرق يجتلى ... بعين، ولا روح النّسيم يضوع
غريب عن الأوطان لا لك هبّة ... إليها، ولا بعد المضيّ رجوع
خلا منك ربع قد تبدّلت بعده ... ربوع بلى ما مثلهنّ ربوع
وعاود قلبي الذّكر إذ نحن جيرة ... زمانا وإذ شمل الجميع جميع
__________
(1) الحثيث: السريع الظلع: السير الصعب، العرج.
(2) القارح: المسن الجذع: الشاب الأزلم الجذع: الدّهر الكثير البلايا.
(3) يرنقن المجاجة: يكدرن الشراب.(1/591)
وإذ عيشنا الرّقراق يسبغ خفضه ... علينا، وإذ طير النّعيم وقوع (1)
إلى أن مشى بيني وبينكم الرّدى، ... وقطّع أقران الصّفاء قطوع
وفي كلّ يوم صاحب أستجدّه، ... وينزعه من راحتيّ نزوع
إذا قلت يخطوه الحمام هوت به ... نيوب ردى فيها السّمام نقيع
سلام على تلك القبور، وجادها ... بأروى وأسنى ما يجود ربيع
فلا تغبطونا إذ أقمنا، وأنتم ... على ظعن، إنّ اللّقاء سريع
تفرّقوا
(مخلّع البسيط)
أأترك الغرّ من لداتي، ... خوالي البيض والدّروع (2)
تحدو اللّيالي بهم رفاقا، ... ماضيهم معوز الرّجوع
تفرّقوا لا عن اختيار، ... وانتقلوا لا إلى ربوع
رجعت في إثرهم برغمي، ... بعد نزاع إلى نزوع
أبقى الجوى جرحة بقلبي ... ما عشت، مكتومة النّجيع (3)
كم غبن الموت عن كريم، ... وقارع الخطب عن قريع
بانوا، فلم أنتزح عليهم ... دمعي، ولم أستذب ضلوعي (4)
وأسفح الدّمع للأعادي، ... إنّي، إذا، فارغ الدّموع (5)
__________
(1) الخفض: هو العيش الهني المريح.
(2) الغر: صاحب الجبين المشرق لداتي: رفاقي، من هم من عمري.
(3) النجيع: الدم.
(4) بانوا: بعدوا، رحلوا.
(5) أسفح: أذرف.(1/592)
القلب الصحيح
(الكامل)
يا صاحب القلب الصّحيح أما اشتفى ... ألم الجوى من قلبي المصدوع؟
أأسأت بالمشتاق حين ملكته، ... وجزيت فرط نزاعه بنزوع
هيهات لا تتكلّفنّ لي الهوى، ... فضح التّطبّع شيمة المطبوع
كم قد نصبت لك الحبائل طامعا، ... فنجوت بعد تعرّض لوقوع
وتركتني ظمآن أشرب غلّتي ... أسفا على ذاك اللّمى الممنوع (1)
قلبي وطرفي منك: هذا في حمى ... قيظ، وهذا في رياض ربيع
كم ليلة جرّعته في طولها ... غصص الملام ومؤلم التّقريع
أبكي ويبسم، والدّجى ما بيننا، ... حتّى أضاء بثغره ودموعي
تفلي أنامله التّراب تعلّلا، ... وأناملي في سنّي المقروع (2)
قمر إذا استخجلته بعتابه، ... لبس الغروب، ولم يعد لطلوع
لو حيث يستمع السّرار وقفتما ... لعجبتما من عزّه وخضوعي
أبغي هواه بشافع من غيره ... شرّ الهوى ما نلته بشفيع
ما كان إلّا قبلة التّسليم أر ... دفها الفراق بضمّة التّوديع
كمدي قديم في هواك، وإنّما ... تاريخ وصلك كان مذ أسبوع
أهون عليك إذا امتلأت من الكرى ... أنّي أبيت بليلة الملسوع (3)
قد كنت أجزيك الصّدود بمثله ... لو أنّ قلبك كان بين ضلوعي
__________
(1) الغلّة: العطش الشديد اللمى: سواد مستحسن في الشفة.
(2) أناملي في سنّي المقروع: كناية عن الندم والأسف.
(3) أبيت بليلة الملسوع: أي أنه لا يقدر على النوم، كالملسوع الذي كان يحمل على السهر اعتقادا بأن الموت يسرع إليه إذا غفا.(1/593)
تزافر صحبي
(الطويل)
أقول وما حنّت بذي الأثل ناقتي: ... قري لا ينل منك الحنين المرجّع (1)
تحنّين إلّا أنّ بي لا بك الهوى، ... ولي لا لك اليوم الخليط المودّع (2)
وباتت تشكّى تحت رحلي ضمانة، ... كلانا، إذا، يا ناق نضو مفجّع (3)
أحسّت بنار في ضلوعي فأصبحت ... يخبّ بها حرّ الغرام ويوضع (4)
أروح بفتيان خماص من الجوى، ... لهم أنّة في كلّ دار وأدمع (5)
إذا غرّد الرّكب الخفيّ تأوّهوا، ... لما وجدوا بعد النّوى وتوجّعوا (6)
على أبرق الحنّان كان حنيننا، ... وبالجزع مبكى إن مررنا ومجزع (7)
تزافر صحبي يوم ذي الأثل زفرة ... تذوب قلوب من لظاها وأدمع
منازل لم تسلم عليهنّ مقلة، ... ولا جفّ بعد البين فيهنّ مدمع
فدمع على بالي الدّيار مفرّق، ... وقلب على أهل الدّيار موزّع
أرى اليأس حتّى تعزم النّفس سلوة، ... ويرجع بي داعي الغرام، فأطمع
ذكرت الحمى ذكر الطّريد محلّه، ... يذاد مذاد العاطشات ويرجع
وأين الحمى لا الدّار بالدّار بعدهم، ... ولا مربع بعد الحنين مربّع
سلام على الأطلال لا عن جناية ... وإن كنّ يأسا حين لم يبق مطمع
__________
(1) ذو الأثل: اسم موضع، والأثل نوع من الشجر قري: فعل أمر من وقر: أي اثبتي، كوني رزينة، ذات وقار.
(2) الخليط: الجماعة من الناس.
(3) الضمانة: الداء.
(4) يخب ويوضع: يبطئ ويسرع.
(5) خماص من الجوى: ضوامر من عذاب الحب.
(6) وجدوا: تألموا من الحب وتعذبوا النوى: البعد.
(7) أبرق الحنّان: اسم موضع، والأبرق أرض غليظة فيها حجارة ورمل.(1/594)
نشدتكم هل زال من بعد أهله ... زرود، ورامته طلول وأربع (1)
وهل أنبت الوادي العقيقيّ بعدهم، ... وبدّل بالجيران شعب ولعلع (2)
فيا قلب إن يفن العزاء، فطالما ... عهدتك بعد الظّاعنين تصدّع
وقد كان من قلبي إلى الصّبر جانب، ... فقلبي، بعد اليوم، للصّبر أجمع
نعم عادني عيد الغرام، ونبّهت ... عليّ الجوى دار بميثاء بلقع (3)
وطارت بقلبي نفحة غضويّة، ... ينفّسها حال من الرّوض ممرع (4)
أصدّ حياء للرّفاق، وإنّما ... زمامي منقاد مع الشّوق طيّع
نظرت الكثيب الأيمن اليوم نظرة ... تردّ إليّ الطّرف يدمى ويدمع
وربّ غزال داجن في كناسه، ... على رقبة الواشين يعطي ويمنع (5)
وأحسن في الودّ التّقاضي إذا لوى، ... ويبذل منزور النّوال، فأقنع
وأيقظت للبرق اليمانيّ صاحبا ... بذات النّقا يخفى مرارا ويلمع
تعرّض نجديّا، وأذكى وميضه ... عقيق الحمى منه معان وأجرع (6)
أأنت معيني للغليل بنظرة، ... فنبكي على تلك اللّيالي ونجزع
معاذ الهوى لو كنت مثلي في الهوى ... إذا لدعاك الشّوق من حيث تسمع
هناك الكرى، إنّي من الوجد ساهر، ... وبرء الحشى، إنّي من البين موجع
فلا لبّ لي إلّا تماسك ساعة، ... ولا نوم لي إلّا النّعاس المروّع
تصامم عنّي لائثا فضل برده، ... ولا يحفل الشّوق النّؤوم المقنّع (7)
__________
(1) زرود: اسم موضع.
(2) الشعب: الطريق في الجبل، مسيل الماء في الوادي لعلع: سراب.
(3) ميثاء: اسم موضع بلقع: خراب.
(4) الغضوية: نسبة الى الغضا وهو شجر صلب يبقى جمره وقتا طويلا.
(5) الكناس: مبيت الغزال الرقبة: الحذر، التحفّظ.
(6) المعان: المنزل الأجرع: الأرض المستوية لا تنبت شيئا.
(7) لائثا: لابسا، عاصبا.(1/595)
طوتك اللّيالي من رفيق كأنّه ... من العجز يربوع الملا المتقصّع (1)
ينام على هدّ الصّفاة بلادة، ... إذا قام من نبذ الحصاة المشيّع
ألا ليت شعري كلّ دار مشتّت، ... ألا موطن يدنو بشمل ويجمع
ألا سلوة تنهى الدّموع فتنتهي، ... ألا مورد يروي الغليل فينقع
فصبرا على قرع الزّمان وغمزه، ... وهل ينكر الحمل الذّلول الموقّع
وهبت له ظهري على عقر غاربي، ... فكلّ زمام قادني منه أتبع
وكم ظهر صعب عاد بالذّل يمتطى، ... وعرنين آب بات بالضّيم يقرع (2)
وقل للّيالي حاملي، أو تحاملي، ... فلم يبق في قوس المقادير منزع
غزال الرمل
(الطويل)
ألا يا غزال الرّمل من بطن وجرة، ... إللواجد الظّمآن منك شروع (3)
خلا لك في الأحشاء مرعى تروده، ... وصابك من ماء الدّموع ربيع (4)
ألا هل إلى ظلّ الأثيل تخلّص، ... وهل لثنيّات الغوير طلوع (5)
وهل بليت خيم على أيمن الحمى، ... وزالت لنا بالأبرقين ربوع (6)
وهل لليالينا الطّوال تصرّم، ... وهل لليالينا القصار رجوع (7)
__________
(1) اليربوع: نوع من الفأر قصير اليدين طويل الرجلين المتقصّع: الداخل في قاصعائه، في جحره.
(2) عرنين آب: صاحب أنف شامخ وإباء.
(3) وجرة: اسم موضع.
(4) تروده: تطلبه الصاب: شجر مر.
(5) الأثيل والغوير: موضعان.
(6) الأبرقين: اسم موضع.
(7) تصرّم: انقطاع، نهاية.(1/596)
ولم أنس يوم الجزع حسنا خلسته ... بعيني، على أنّ الزّيال سريع (1)
ولمّا تواقفنا ذهلت، ولم يحن ... لطير قلوب العاشقين وقوع
على حين أعدت حيرتي قلب صاحبي ... فرحنا وسوط العامريّ مضيع
حديث يضلّ القلب عند استماعهم، ... فليس عجيبا أن يضلّ قطيع
عشيّة لى من رقبة الحي زاجر ... عن الدّمع، إلّا أن تشذّ دموع (2)
وقد أمرت عيناك عينيّ بالبكا، ... فقل لي: أيّ الآمرين أطيع
الشيب بدعة
(الطويل)
تشاهقن لمّا أن رأين بمفرقي ... بياضا كأنّ الشّيب عندي من البدع
وقلن: عهدنا فوق عاتق ذا الفتى ... رداء من الحوك الرّقيق فما صنع
ولم أر عضبا عيب منه صقاله، ... وكان حبيبا للقلوب على الطّبع
وقالوا: غلام زيّن الشّيب رأسه، ... فبعدا لرأس زانه الشّيب والنّزع (3)
تسلّى الغواني عنه من بعد صبوة، ... وما أبعد النّبت الهشيم من النّجع (4)
وكنّ يخرّقن السّجوف إذا بدا، ... فصرن يرقّعن الخروق إذا طلع (5)
__________
(1) الجزع: اسم موضع الزيال: الفراق.
(2) الرقبة: الحذر، التحفظ.
(3) النزع: انحسار شعر الرأس.
(4) النجع: بيت من شعر.
(5) السجوف: الأستار.(1/597)
سكان سلع
(الخفيف)
نظم هذه الأبيات عند دخول الحجيج إلى مدينة السلام، وذلك في شهر صفر سنة 395، وهي من لواحق الحجازيات.
عارضا بي ركب الحجاز أسائل ... هـ: متى عهده بسكّان سلع (1)
واستملّا حديث من سكن الخي ... ف ولا تكتباه إلّا بدمعي (2)
فاتني أن أرى الدّيار بطرفي، ... فلعلّي أرى الدّيار بسمعي
يا غزالا بين النّقا والمصلّى! ... ليس تبقى على نبالك درعي
كلّما سلّ من فؤادي سهم، ... عاد سهم لكم مضيض الوقع
وتحرّجت يوم رحت حراما ... من عطائي، فمن أباحك منعي
من معيد أيّام سلع على ما ... كان منها، وأين أيّام سلع
طالب بالعراق ينشد، هيها ... ت، زمانا أضلّه بالجزع
ربع العامريّة
(الطويل)
وقفت بربع العامريّة وقفة، ... فعزّ اشتياقي، والطّلول خواضع
وكم ليلة بتنا على غير ريبة، ... علينا عيون للنّهى ومسامع
نفضّ حديثا عن ختام مودّة، ... معاقلها أحشاؤنا والأضالع
يكاد غراب اللّيل عند حديثنا ... يطير ارتياحا وهو في الوكر واقع
__________
(1) سلع: اسم موضع، والسلع شجر مر المذاق.
(2) الخيف: اسم موضع.(1/598)
خلون فكانت عفّة لا تعفّف، ... وقد رفعت في الحيّ عنّا الموانع
سلوا مضجعي عنّي وعنها، فإنّنا ... رضينا بما يخبرن عنّا المضاجع
حاجة القلب
(الطويل)
لقلبي بغوريّ البلاد لبانة، ... وإن كنت مسدودا عليّ المطالع (1)
لعلّي أعطى، والأمانيّ ضلّة، ... وإنّ اللّيالي معطيات موانع
مبيتي في أثواب ظمياء، ليلة، ... بوادي الغضا والعاذلون هواجع (2)
وما نطفة مشمولة بمجمّة ... وعاها صفا من آمن الطّود فارع (3)
من البيض لولا بردها قلت: دمعة ... مرنّقة ما أسلمتها المدامع
بأعذب ممّا نوّلتنيه موهنا، ... وقد شيم بالغور النّجوم الطّوالع (4)
أرى بعد ورد الماء في القلب غلّة ... إليك، على أنّي من الماء ناقع (5)
وإنّي لأقوى ما أكون طماعة، ... إذا كذّبت فيك المنى والمطامع
__________
(1) لبانة: حاجة.
(2) ظمياء: كناية عن الحبيبة، والظمياء هي ذات الشفة الذابلة في سمرة، وهي ذات الجفون الرقيقة.
(3) المجمّة، من الجم: الكثير من كل شيء فارع: طويل.
(4) موهنا: ليلا شيم: ظهر.
(5) الغلّة: العطش الشديد.(1/599)
تضيء القوافي
(الطويل)
سأله صديقه بكر بن محمد بن علي بن شاهويه إنفاذ شيء من شعره فكتب له هذه الأبيات.
تجمجم بالأشعار كلّ قبيلة، ... وفي القول محفوظ عليها وضائع (1)
وكلّ فتى بالشّعر تجلو همومه ... ويكتب ما تملي عليه المطامع
وشعري تختصّ القلوب بحفظه، ... وتحظى به دون العيون المسامع
وأولى به من كان مثلك حازما، ... يذبّب عن أطرافه ويقارع
ستظفر من نظمي بكلّ قصيدة، ... كما حلّت اللّيل النّجوم الطّوالع
تضيء قوافيها وراء بيوتها، ... طراقا، كما يتلو النّصول القبائع (2)
إذا هزّها السّمّار طار لها الكرى، ... وهزّت جنوب النّائمين المضاجع
وغيرك يعمى عن معان مضيئة، ... كما تقبض اللّحظ البروق اللّوامع
وما كلّ ممدوح يلذّ بمدحه، ... ألا بعض أطواق الرّقاب جوامع (3)
وصف الذئب
(الطويل)
وعاري الشّوى والمكبين من الطّوى، ... أتيح له باللّيل عاري الأشاجع (4)
أغيبر مقطوع من اللّيل ثوبه، ... أنيس بأطراف البلاد البلاقع
__________
(1) تجمجم: تقول كلاما مبهما.
(2) القبائع، جمع قبيعة: ما على طرف مقبض السيف من فضّة أو غيرها.
(3) الجوامع: الأغلال.
(4) الشوى، جمع شواة: جلدة الرأس، واليدان، والرجلان، والأطراف(1/600)
قليل نعاس العين إلّا غيابة ... تمرّ بعيني جاثم القلب جائع
إذا جنّ ليل طارد النّوم طرفه، ... ونصّ هدى ألحاظه بالمطامع (1)
يراوح بين النّاظرين إذا التقت ... على النّوم أطباق العيون الهواجع
له خطفة حذّاء من كلّ ثلّة، ... كنشطة أقنى ينفض الطّلّ واقع (2)
ألمّ، وقد كاد الظّلام تقضّيا، ... يشرّد فرّاط النّجوم الطّوالع (3)
طوى نفسه وانساب في شملة الدّجى، ... وكلّ امرئ ينقاد طوع المطامع
إذا فات شيء سمعه دلّ أنفه، ... وإن فات عينيه رأى بالمسامع
تظالع حتّى حكّ بالأرض زوره، ... وراغ، وقد روّعته، غير ظالع (4)
إذا غالبت إحدى الفرائس خطمه، ... تداركها مستنجدا بالأكارع (5)
جريّ يسوم النّفس كلّ عظيمة، ... ويمضي إذا لم يمض من لم يدافع
إذا حافظ الرّاعي على الضّأن غرّه ... خفيّ السّرى لا يتّقي بالطّلايع
يخادعه مستهزئا بلحاظه، ... خداع ابن ظلماء كثير الوقائع
ولمّا عوى والرّمل بيني وبينه ... تيقّن صحبي أنّه غير راجع
تأوّب، والظّلماء تضرب وجهه ... إلينا، بأذيال الرّياح الزّعازع
له الويل من مستطعم عاد طعمة ... لقوم عجال بالقسيّ النّوازع
__________
الأشاجع، جمع أشجع: أصول الأصابع التي تتصل بعصب ظاهر الكف، وعاري الأشاجع: كناية عن القوة.
(1) جن: أظلم طارد النوم طرفه: كناية عن يقظته وعدم نومه نص:
استخرج
(2) خطفة حذّاء: وثبة سريعة قاتلة الثلّة: القطيع، جماعة الغنم الأقنى:
البازي.
(3) الفرّاط: السوابق.
(4) تظالع: تمايل، انحنى في مشيته زوره: صدره راغ: تحايل، خاتل.
(5) خطمه: فمه، شدقاه الأكارع: الايدي، جمع كراع وهو الساق.(1/601)
القلم الجّوال
(الطويل)
لك القلم الجوّال إذ لا مثقّف ... يجول ولا عضب تهاب مواقعه
سواء إذا غشّيته النّقس رهبة، ... وذو لهذم غشّي من الدّم رادعه (1)
يلجلج من فوق الطّروس لسانه، ... وليس يؤدّي ما تقول مسامعه (2)
وينطق بالأسرار حتّى تظنّه ... حواها، وصفر من ضمير أضالعه
إذا اسودّ خطب دونه وهو أبيض، ... يسوّد، وابيضّت عليه مطالعه
الطعن
(الطويل)
ولا قرن إلّا أدمع الطّعن نحره، ... وما غسلته بالدّموع مدامعه
ويوم كأنّ السّمهريّ عيونه ... إلى الموت، والنّقع المثار براقعه
يخرّق منه كلّ جلباب مهجة، ... على أنّه في منظر العين راقعه
السماء ماء
(الطويل)
وليل كجلباب الشّباب رقعته ... بصبح كجلباب المشيب طلائعه
كأنّ سماء اليوم ماء أثاره ... من اللّيل سيل، فالنّجوم فواقعه
__________
(1) النّقس: المداد، الحبر اللهذم: الحاد والقاطع من السيوف، استعاره لرأس القلم رادعه: لاطخه.
(2) يلجلج: يحرّك، يموّج الطروس: الصفحات، جمع طرس: الصحيفة.(1/602)
نزوي الوجوه
(الكامل)
ومروّع لي بالسّلام، كأنّما ... تسليمه فيما يمضّ وداع (1)
تغفى بمنظره العيون إذا بدا، ... وتقيء عند غنائه الأسماع
أبذاك نستشفي، ومن نغماته ... تتولّد الآلام والأوجاع
أم كيف يطربنا غناء مشوّه ... أبدا نهال بوجهه ونراع (2)
نزوي الوجوه تفاديا من صوته، ... حتّى كأنّ سماعه إسماع (3)
وكأنّ ضرب بنانه ضرب الطّلى، ... وكأنّما إيقاعه إيقاع (4)
أشهى إلينا من غنائك مسمعا ... زجل الضّراغم بينهنّ قراع
أروم انتصافي
(الطويل)
أروم انتصافي من رجال أباعد، ... ونفسي أعدى لي من النّاس أجمعا
إذا لم تكن نفس الفتى من صديقه ... فلا يحدثن في خلّة الغير مطمعا
__________
(1) يمض: يؤلم. في هذه الأبيات يهجو مغنّيا بارد الصوت قبيح الوجه.
(2) نهال: نشعر بالهول نراع: نخاف.
(3) نزوي: نستر، نشيح، نخبّئ الإسماع: الشتم.
(4) الطلى: الأعناق الايقاع (الأولى): توقيع الغناء وترجيع الصوت الايقاع (الثانية): الوقوع تحت الضرب، القتل.(1/603)
في الصدر حاجة
(الطويل)
سيسكتني يأسي، وفي الصّدر حاجة، ... كما أنطقتني والرّجال المطامع
بضائع قول عند غيري ربحها ... وعندي خسراناتها والوضائع
غرائب لو هدّت على الطّود ذي الصّفا ... أصاخ إليها يذبل والقعاقع (1)
تضاع كما ضاعت خلاة بقفرة، ... زفتها النّعامى والرّياح الزّعازع (2)
كأنّ لساني نسعة حضرميّة، ... طواها، ولم تبلغ لها السّوم، بائع (3)
لقد كان لي عن باحة الذّلّ مذهب، ... ومضطرب عن جانب الضّيم واسع (4)
وما مدّ ما بيني وبين مذاهبي ... حجاز، ولا سدّت عليّ المطالع
أكنّ ثنائي وابن فعلاء معرض، ... لئن أنت لم تسمع فعرضك سامع
ولو ما جزيت القرض بالعرض لم يضع، ... فإنّ النّدى عند الكرام ودائع
سيدرى من المغبون منّا ومنكم ... إذا افترقت عمّا تقول المجامع
وهل تدّعي حفظ المكارم عصبة ... لئام، ومثلي بينها اليوم ضائع
نعم لستم الأيدي الطّوال فعاونوا ... على قدركم، قد تستعان الأصابع
إذا لم يكن وصلي إليكم ذريعة، ... فيا ليت شعري ما تكون الذّرائع (5)
أرى بارقا لم يروني، وهو حاضر، ... فكيف أرجّي ريّه، وهو شاسع
وأخلف شيمي كلّ برق أشيمه، ... فلا النّوء مرجوّ ولا الغيث واقع (6)
__________
(1) هدت: صوتت يذبل: اسم جبل القعاقع: اسم موضع.
(2) خلاة: عشبة.
(3) النسعة: قطعة من السير المنسوج السوم، من سام السلعة: عرضها للبيع بثمنها، طلب ثمنها.
(4) مذهب: مخرج، طريق.
(5) ذريعة: وسيلة.
(6) شام الشيء: تطلع إليه، انتظره النوء: النجم المائل الى الغروب.(1/604)
سأذهب عنكم غير باك عليكم، ... وما لي عذر أن تفيض المادمع
وأهجركم هجر المفيق من الهوى ... خلا القلب منه واطمأنّ المضاجع
وأعتدّ فجّا أنتم من حلاله، ... ثنيّة خوف، ما لها اليوم طالع
وما موقفي والرّكب يرجو على الصّدى ... موارد قد نشّت بهنّ الوقائع (1)
أفارقكم لا النّفس ولهى عليكم ... ولا اللّبّ مخلوس ولا القلب جازع
ولا عاطفا جيدي إليكم بلفتة ... من الشّوق ما سار النّجوم الطّوالع
ولا ذاكرا ما كان بيني وبينكم ... مراجعة، إنّ المحبّ المراجع
نبذتكم نبذ المخفّف ثقله، ... وإنّي لحبل منّة الغدر قاطع
سهام الدهر
(البسيط)
ما أخطأتك سهام الدّهر رامية، ... فما أبالي من الدّنيا بمن تقع
النّاس حولك غربان على جيف، ... بله عن المجد إن طاروا وإن وقعوا
فما لنا فيهم، إن أقبلوا، طمع، ... ولا عليهم، إذا ما أدبروا، جزع
ماش الدهر
(الطويل)
يقولون ماش الدّهر من حيث ما مشى، ... فكيف بماش يستقيم وأظلع
وما واثق بالدّهر إلّا كراقد ... على فضل ثوب الظّلّ والظلّ يسرع
وقالوا: تعلّل! إنّما العيش نومة ... يقضّى ويمضي طارق الهمّ أجمع
ولو كان نوما ساكنا لحمدته، ... ولكنّه نوم مروع مفزّع
__________
(1) نشت: أخذ ماؤها في النضوب.(1/605)
العين والسمع
(الكامل)
ولربّ يوم هاج من طربي، ... ولقد يضيق بغيره ذرعي
من منظر حسن، ومن نغم، ... ندعوه قيد العين والسّمع
لمّا أظلّ اللّيل مجلسنا ... طعن الدّجى بأسنّة الشّمع
عميدك السيف
(السريع)
عميدك السّيف الذي لم يزل ... دونك مدلولا على المقطع
يرضيك في هدم رقاب العدى ... وفي بناء الحسب الأرفع
طاو من الماء خميص الحشى، ... قد طمّع النّاس، ولم يطمع
خلطوا الصوارم
(الكامل)
خلطوا الصّوارم بالقنا، وتعمّموا ... بالبيض، واجتابوا العجاج دروعا
قوم إذا هتف الصّريخ بنصرهم ... فجروا عليه من الظّبى ينبوعا
شرس
(الكامل)
شرس تيقّظه تيقّظ خائف، ... وفعال نجدته فعال شجاع
ومدرّبين على اللّقاء كأنّهم ... لم يخلقوا إلّا ليوم قراع(1/606)
لكل امرئ نفسان
(الطويل)
لكلّ امرئ نفسان: نفس كريمة، ... وأخرى يعاصيها الفتى أو يطيعها
ونفسك من نفسيك تشفع للنّدى ... إذا قلّ من أحرارهنّ شفيعها
ضلعاء
(المتقارب)
وضلعاء من مظلمات الخطوب ... عمياء ليس لها مطلع (1)
يكاد وجيب قلوب الرّجال ... من خوف مكروهها يسمع (2)
مكرّمة الخد
(المتقارب)
ومنسوبة من بنات الوجيه ... تحسب غرّتها برقعا
مكرّمة الخدّ تحت الطّراف ... يلطم لاطمها أربعا
__________
(1) الضلعاء: المعوجّة خلقة، القبيحة.
(2) مكروهها: شرّها.(1/607)
صدور العتب
(الطويل)
تضيق صدور العتب، والعذر أوسع، ... ويجمح طرف الهجر والودّ أطوع
لك الله من قلب ملاه وفاؤه، ... فليس لعذر في نواحيه مرتع
ولي خاطر ما إن سلكت مضاءه ... على الهمّ إلّا كاد في الدّهر يقطع
إليك فما تظما إلى الغدر همّتي، ... إذا ما سقاني من ودادك مشرع
ولكنّني في معشر حلي ودّهم ... إذا ما اجتلته النّائبات التّصنّع
إذا ركضت أقوالهم في مسامعي ... على العذر جاءت خاطري وهي ظلّع
لحا الله هذا الدّهر سيفا على المنى، ... أوصّل آرابي بها ويقطّع
إذا شمت منه بارق العزم ردّني ... كليل لحاظ النّاس والخطب يهمع
صحبت الرّجال الخابطين إلى العلى، ... فثبّطني لؤم الزّمان وأسرع (1)
أما لي من حظّ المكارم أن أرى ... سريعا إلى داعي العلى حين يسمع
تردّ سهامي الحادثات طوائشا، ... وفي قوس عزمي لو تبوّع منزع (2)
أصرّف فهمي، والمقاول سرّع، ... وأملك حلمي، والعوامل شرّع
السكّين
(الطويل)
ومهتزّة العرنين رقراقة السّنا، ... تناسب مستنّ البروق اللّوامع (3)
أفاض على أعطافها القين حلّة، ... تفضفض في مثل النّجوم الطّوالع (4)
__________
(1) ثبطني: أحّرني.
(2) تبوّع: امتد.
(3) السّنا: المنظر البرّاق.
(4) القين: الحدّاد تفضفض: توسّع.(1/608)
فجاءت بجسم يملأ العين بهجة ... إذا ما اجتلاها حاسر مثل دارع
يحيّا بها من لم تحيّ يمينه ... بغير العوالي، والسّيوف القواطع
أحدّ من العذل المطلّ على الهوى، ... وأرهف من غرب النّوى في المقاطع
القناعة
(المتقارب)
مقيم من الهمّ لا يقلع، ... وماض من العيش لا يرجع
ويوم أشمّ بإقباله ... ويوم بإدباره أجدع (1)
لأخفق من علقت بالمنى ... يداه، وأثرى الذي يقنع
وما الذّلّ إلّا خداع اللّئيم، ... والحرّ بالذّلّ لا يخدع
رأينا الرّجاء على نأيه، ... رشاء، وكلّ يد تنزع (2)
بليت، وغيري لا يبتلى، ... بأمرين ما فيهما مطمع
بدهر ألوم، ولا يرعوي، ... ومولى أقول، ولا يسمع
وإنّي، إذا ما استطال الزّمان ... أنجدني صاحب أروع
ونفس على صبرها مرّة، ... وقلب على رأيه مجمع
أخوض به كلّ دوّيّة، ... يزلّ بها الخفّ أو يظلع (3)
بكلّ مقلّدة بالنّسوع ... كأنّ اللّغام لها برقع (4)
يصيح الحصى تحت أخفافها، ... فنونا، ويصطخب اليرمع (5)
__________
(1) الأشم: العالي أجدع: مقطوع.
(2) الرشاء: الحبل.
(3) الدوية: الفلاة يظلع: يعرج.
(4) النسوع، جمع نسع: سير جلدي يشد به رحل الناقة اللغام: الزبد من فم الناقة.
(5) يصطخب: يتصايح اليرمع: الحجارة.(1/609)
وإنّي لأوعب في جلدها، ... وللرّكب هملجة زعزع (1)
أقيم وخدّ الضّحى أبيض، ... وأسري ووجه الدّجى أسفع (2)
وأمضي، إذا بلّد المستغير، ... وهاب الثّنيّة من يطلع
وأشلي على المقربات السّياط، ... إذا ضمّها البلد البلقع (3)
وأوردها الخمس في لجمها، ... تبرّض ما ألفت تكرع (4)
تعجّب منها وحوش الفلاة ... تسري، وأسرابها رتّع
أرى النّوم ينبو به ناظري، ... وكلّ العيون له مربع
ومن ضاقت الأرض عن همّه ... حر أن يضيق به مضجع
لئن كان أحزن بي منزل، ... فمن قبل أمرع لي مرتع (5)
على أنّني عند عضّ الزّمان، ... صفاة يضنّ بها المقطع (6)
لقد عاف أمواله من يجود، ... وقد طلّق النّفس من يشجع
وأبيض يوم الوغى حاسر، ... تردّى بقائمه الدّرّع
تحفّ مضاربه ماءه، ... كما حفّ واديه الأجرع (7)
وأسمر يهتزّ في راحتي، ... كما هزّت القلم الإصبع
وزغف تحدّر عن بيضة، ... كأنّ الأغمّ بها أنزع (8)
__________
(1) الهملجة: السير السريع.
(2) أسري: أمشي ليلا أسفع: أسود.
(3) أشلي: أرفع البلقع: الخرب، الذي لا بناء فيه.
(4) الخمس: الشرب على دفعات تبرّض، تتبرض: تتبلغ بالقليل.
(5) أحزن، من الحزن: ما غلظ من الأرض وارتفع.
(6) عض الزمان: إتيانه بالمصائب صفاة: حجر صلب يضن: يعجز، يكل.
(7) الأجرع: أرض رملية لا تنبت شيئا.
(8) الزغف: الدرع تحدّر: تتحدر البيضة: الخوذة. والمعنى أن الدرع المتصلة بالخوذة تظهر لابسها كأنه أنزع، والأنزع هو الذي انحسر شعر رأسه.(1/610)
يذلّل لي سطوات الزّمان ... سيفي، ومثلي لا يخضع
تطاولت للبرق لمّا سرى، ... وعنقي إلى مثله أتلع (1)
فما لي لا أستعيد الجوى، ... وقد لاح لي بارق يلمع
وأبذل قلبا بأمثاله ... تضنّ الجوانح والأضلع
ألا إنّ قلب الفتى مضغة، ... تضرّ، ولكنّها تنفع
وأبلج أعددته للخطوب ... طودا، إلى ظلّه أرجع
كريم الوفاء أمين الإخاء ... باق على العهد لا يقلع
سريع إلى دعوتي في الأمور، ... إنّي إلى صوته أسرع
جلوت به الدّمع عن ناظري، ... وكان على غيره يدمع
وكفكفت عمّن سواه يدي، ... وكنت أرى الماء لا يشبع
دعوتك يا ناصري في الهوى، ... وكان إلى ودّك المفزع
أتاني أنّك طوّحت بال ... زّيارة عن عارض يقطع (2)
لقد نال شكواك من مهجتي، ... كما نال من عرقك المبضع
دم جاش شؤبوبه عن يد، ... يقلّبها البطل الأروع
مفيض ولكنّه غايض، ... وخرق ولكنّه يرقع
ولو أنّ لي فسحة في الزّمان ... جاءك بي القدر الأسرع
وإن غبت عنك، فإنّ الفؤاد ... عندك ما فاته موضع
يعوج عليك فلا ينثني، ... ويشرب منك فلا ينقع
وإنّي لتعطفني المطمعات ... عليك، كما عطف الأخدع (3)
ولولاك لم أعترف بالغرام، ... ولا قيل إنّ الفتى موجع
وما فضل شوقي لولا البكاء، ... والشّوق عنوانه الأدمع
__________
(1) أتلع: طويل.
(2) طوّحت: ابتعدت.
(3) الأخدع: المتعالي، العاتي، الشديد.(1/611)
قافية الغين
روحات المطي
(الطويل)
لئن قرّب الله النّوى بعد هذه، ... وكان لروحات المطيّ بلاغ (1)
شغلت بكنّ النّفس عن كلّ حاجة، ... وهيهات من شغل بكنّ فراغ
وليس لبرد الماء لم تشربي به ... إلى القلب منّي، يا أميم، مساغ (2)
* * *
تم الجزء الأول من ديوان الشريف الرضي ويليه الجزء الثاني وبدايته قافية الفاء
__________
(1) النوى: البعد روحات المطي: عودة النياق ليلا.
(2) مساغ: قبول، من ساغ الطعام: قبله، وجد فيه لذة.(1/612)
فهرس القوافي والمحتويات
1 - فهرس القوافي
قافية الهمزة كلمة القافية: البحر: عدد الأبيات: الصفحة
تراءى: الوافر: 44: 2219
البرحاء: الكامل: 65: 2722
لقاء: الكامل: 8: 36
وإباء: الكامل: 2: 42
ماؤه: الكامل: 51: 3632
الضراء: الوافر: 50: 4138
أحياء: البسيط: 3: 42
وعطاء: الطويل: 55: 139
الضّياء: الوافر: 66: 1913
بدائي: الكامل: 67: 3227
الأنضاء: الخفيف: 9: 37
والفتاء: الوافر: 5: 41
وسخائه: الطويل: 2: 42(1/613)
قافية الألف القنا: المتقارب: 2: 43
الطّلا: المتقارب: 56: 4743
المصطفى: الرمل: 62: 5148
والقنا: الطويل: 2: 52
للحدا: المتقارب: 2: 52
قافية الباء التعب: المتقارب: 26: 106104
والحقب: المتقارب: 55: 129126
والحلب: المتقارب: 3: 190
بطبيب: الرمل: 1: 197
أشابها: الطويل: 42: 7673
عابا: الوافر: 71: 9792
وجبا: البسيط: 5: 106
مغلوبا: المنسرح: 39: 135133
تغابى: الرجز: 72: 153151
نوائبا: الطويل: 34: 156153
غريبا: المتقارب: 49: 163161
سليبا: الكامل: 8: 175
وثابا: الوافر: 2: 177
وقلبا: الوافر: 8: 180(1/614)
مذرّبا: الرجز: 5: 188
ضربا: المجتث: 2: 188
التربا: الطويل: 5: 193
لعبه: الرمل: 4: 195
محببا: الطويل: 2: 196
وأجلبا: الطويل: 2: 197
نقاب: الطويل: 69: 7066
إيابها: الطويل: 36: 7371
الخطوب: المتقارب: 50: 7976
وأطيب: الطويل: 71: 8379
قاضب: الكامل: 67: 8783
أرغب: الطويل: 72: 111107
نصاب: مجزوء الكامل: 60: 119116
المصاب: الوافر: 45: 125123
والحاجب: المتقارب: 46: 139136
المصائب: الطويل: 59: 143139
ويخبو: المجتث: 76: 160156
ذهبوا: المنسرح: 8: 165164
تشبّ: مجزوء الكامل: 8: 166
الرحب: الطويل: 17: 169168
ويطيب: الطويل: 16: 170
النوائب: الطويل: 5: 171
الحبيب: الوافر: 3: 172
قريب: الطويل: 8: 174173(1/615)
نهب: الكامل: 3: 176
قريب: الوافر: 3: 177
يجيب: الكامل: 9: 178
عواقبه: الطويل: 3: 178
جنوب: الطويل: 36: 184181
والشنب: البسيط: 6: 184
لبيب: الرجز: 33: 191190
جندب: المتقارب: 18: 192
المغلوب: الخفيف: 2: 195
القلوب: الوافر: 2: 197
عضبي: الخفيف: 36: 5553
بالضرب: الهزج: 43: 5855
الربيب: مجزوء الرمل: 61: 6258
مكذوب: البسيط: 50: 6662
والمطالب: الطويل: 64: 9288
الشهب: البسيط: 49: 10198
المشيب: الوافر: 46: 104101
لعب: البسيط: 8: 112
بالعتاب: الوافر: 58: 116112
التصابي: المتقارب: 51: 122120
وجيبه: الطويل: 51: 133130
والنوادب: الطويل: 77: 148143
يجب: المنسرح: 37: 151149
عتبي: مجزوء الكامل: 8: 164(1/616)
الرطب: الطويل: 8: 165
جنبي: الطويل: 4: 167166
حبيب: الطويل: 5: 167
وقريب: الكامل: 5: 167
وشعب: الخفيف: 9: 168
الركب: السريع: 9: 171
وركابي: الكامل: 9: 172
بالركب: الخفيف: 8: 173
الرطب: السريع: 4: 174
الأقرب: الكامل: 12: 177176
للطالب: المتقارب: 5: 179
والرتب: البسيط: 6: 179
والقواضب: الطويل: 8: 181180
به: مجزوء الكامل: 5: 181
الجواب: الوافر: 26: 186184
الغضب: المنسرح: 5: 186
الخطوب: الوافر: 21: 188187
أغلب: الطويل: 13: 189
الجندب: الرمل: 5: 191
مراقب: الكامل: 3: 193
ومغرب: الطويل: 10: 194193
الخطّاب: الكامل: 4: 194
الحبّ: الطويل: 3: 195194
الأرنب: المتقارب: 2: 196(1/617)
المتقارب: الكامل: 2: 196
قافية التاء النائبات: الخفيف: 3: 207
فانصاتا: الخفيف: 5: 210
صهواتها: الطويل: 70: 206202
لبكيتك: الخفيف: 11: 207206
ميت: السريع: 4: 208
مروتي: الطويل: 63: 202198
بالزفرات: الخفيف: 3: 207
السمرات: مجزوء الرمل: 21: 209208
وقت: الوافر: 3: 209
مصمت: الكامل: 25: 212210
خصاصاتها: المتقارب: 13: 212
بالميّت: السريع: 2: 213
حسرات: الكامل: 2: 213
قافية الثاء وارث: الطويل: 47: 217214
حثاث: الكامل: 13: 218
وتورث: الطويل: 3: 222
بنابث: الطويل: 53: 222219(1/618)
قافية الجيم الأجاج: السريع: 2: 228
لجاجا: الوافر: 50: 227224
وفرّجا: مجزوء الكامل: 2: 227
وعجاجها: الطويل: 8: 223
الأوداج: الكامل: 2: 228
قافية الحاء الصباح: السريع: 43: 244242
جرحا: البسيط: 49: 235232
مسفح: الكامل: 45: 247244
تنجح: الطويل: 5: 248
وأسمح: الطويل: 3: 249
القريح: مجزوء الكامل: 9: 250249
تنضح: الطويل: 6: 250
الأفيح: المتقارب: 2: 253
صلح: مجزوء الرمل: 2: 253
والمراح: الوافر: 40: 231229
والرّماح: الوافر: 3: 235
والسماح: المتقارب: 48: 238235
اللّاحي: الكامل: 53: 241238
صلح: الوافر: 15: 249248(1/619)
ورامح: الطويل: 22: 252251
دالح: الكامل: 2: 252
فالصّفاح: المتقارب: 2: 253
قافية الخاء ساخا: الرمل: 7: 254
مربخ: الطويل: 4: 255
قافية الدال ويقد: الرمل: 52: 263259
الرّدى: الطويل: 45: 266263
وأبعدا: الطويل: 75: 270266
أبدا: مجزوء الوافر: 5: 279278
نجدا: المتقارب: 65: 324320
غدا: مجزوء السريع: 61: 334331
مجدا: الطويل: 4: 336
النجادا: الوافر: 46: 352349
نجدا: الطويل: 13: 355
مقتصدا: الرمل: 5: 360359
البعادا: مجزوء الكامل: 13: 360
سودا: الكامل: 5: 364
بردا: الطويل: 45: 372370(1/620)
جديدا: الخفيف: 4: 377
برودا: الكامل: 2: 379
المهنّدا: الطويل: 2: 380
القود: البسيط: 53: 259256
العوائد: الطويل: 37: 278276
قاعد: الطويل: 78: 293289
تزيد: الكامل: 38: 295293
عهد: الطويل: 51: 315313
يردّ: الوافر: 39: 344342
بعد: مجزوء الرمل: 5: 361
أجد: مجزوء الرمل: 4: 361
وزرود: الطويل: 11: 363
وعدوا: المنسرح: 3: 363
والجيد: الرجز: 12: 364
موعد: المتقارب: 9: 365
سواد: الطويل: 51: 375373
الجليد: الوافر: 9: 376
البرد: السريع: 5: 377
المولد: الكامل: 3: 378
جديد: الطويل: 3: 378
واجد: الكامل: 2: 379
يغدو: الطويل: 2: 380
القود: الكامل: 84: 276271
الغادي: السريع: 37: 281279(1/621)
الحسّاد: الخفيف: 60: 284281
الكبد: المنسرح: 53: 288285
معمود: البسيط: 50: 299296
بعد: الطويل: 31: 301299
البعد: الطويل: 21: 302301
عندي: الكامل: 36: 304303
بالوعد: الطويل: 46: 307305
المربد: الرجز: 49: 309307
ناد: الوافر: 37: 311309
الأعادي: الخفيف: 12: 312
وبعاد: الكامل: 70: 320316
بفرنده: الكامل: 3: 320
البارد: السريع: 38: 326324
موعدي: الكامل: 63: 331327
ومحتدي: الطويل: 2: 334
مردي: مجزوء الكامل: 7: 335
عدي: الطويل: 9: 336335
جمادها: الكامل: 58: 340337
الأباعد: الطويل: 26: 342340
المقلّد: الطويل: 62: 349345
أبدي: الطويل: 41: 354352
النادي: الكامل: 82: 359355
نجد: الطويل: 12: 362
بمسعد: الطويل: 5: 366365(1/622)
محتدي: المتقارب: 13: 366
الكمد: الكامل: 53: 369367
الجود: البسيط: 3: 372
بفؤادي: المجتث: 2: 378
الجلود: الوافر: 2: 379
جيده: الكامل: 2: 379
الجواد: السريع: 4: 380
واقعد: الطويل: 2: 380
قافية الذال كذا: المتقارب: 5: 381
قافية الراء بغرر: مجزوء السريع: 89: 387383
بالظفر: الرجز: 28: 477476
ينتظر: المتقارب: 7: 477
الصّدر: الرجز: 18: 478
الاشعار: الرجز: 3: 491
وطر: الرجز: 3: 495
نزرا: الطويل: 8: 387
والعثارا: الخفيف: 53: 391388
بحرها: الرجز: 28: 392391(1/623)
العقارا: المتقارب: 48: 406403
دارا: الرمل: 59: 448444
صبرا: الخفيف: 48: 460457
تغوّرا: الطويل: 22: 466465
الدّيارا: الخفيف: 15: 467
مطرا: البسيط: 3: 469
الأجفرا: المتقارب: 5: 472
صدرا: الطويل: 5: 478477
مغرورا: البسيط: 9: 480
منظرا: الطويل: 2: 493
عقرا: البسيط: 2: 495
ساهر: الكامل: 61: 403400
كاسره: مجزوء الوافر: 66: 421418
أثر: البسيط: 61: 428424
أنظر: المتقارب: 6: 431
الوقار: الوافر: 48: 437435
السّمر: السريع: 3: 440
الدهر: الطويل: 9: 457
الاسرار: الكامل: 10: 469
العقار: مخلع البسيط: 6: 470
أثر: الطويل: 5: 470
أستّره: البسيط: 5: 472
ديجورها: المتقارب: 4: 475
يغتفر: البسيط: 13: 484480(1/624)
قاطره: الطويل: 4: 484
ضامر: الطويل: 69: 490485
غرّار: الطويل: 7: 490
الدهر: الطويل: 2: 491
عامر: المتقارب: 2: 491
بكر: الطويل: 2: 492
الدهر: الطويل: 3: 492
وكورها: الطويل: 2: 492
يقطر: المتقارب: 2: 493
ويستر: الطويل: 3: 494
الصبر: الطويل: 3: 494
البدر: السريع: 28: 393392
البشير: مجزوء الكامل: 69: 397394
القامر: المتقارب: 47: 399397
والقصور: الوافر: 57: 411406
بالمعاذر: الطويل: 119: 418411
وطري: البسيط: 41: 424421
الغرار: المتقارب: 34: 430428
الدّار: الكامل: 7: 430
أسير: الطويل: 4: 431
والأجر: الطويل: 2: 432
الضمّر: الكامل: 38: 434432
واصبري: الرجز: 43: 440437
خاطر: الكامل: 59: 444440(1/625)
والعير: البسيط: 41: 450448
المغوار: الكامل: 59: 453450
بالعمر: الكامل: 52: 456454
والغمر: الطويل: 71: 465460
والأزر: الرمل: 5: 468
القطر: الطويل: 8: 468
مغتفر: البسيط: 11: 471
قرار: مخلع البسيط: 9: 472471
الساري: البسيط: 9: 473
القصر: المنسرح: 3: 473
الصّبر: الطويل: 15: 474
الدّهر: الطويل: 3: 475
الضاري: البسيط: 3: 476
والخبر: البسيط: 5: 479
الأوفر: الكامل: 3: 479
ظفر: الطويل: 7: 485
القصار: الوافر: 3: 491
والمور: البسيط: 3: 493
الأشقر: المتقارب: 3: 494
وصداره: الخفيف: 3: 496495
عثار: السريع: 1: 496
بالزجر: السريع: 1: 496(1/626)
قافية الزاي معزّى: مجزوء الكامل: 13: 497
قافية السين النفس: مجزوء الخفيف: 7: 514513
موسى: مجزوء الكامل: 25: 507505
درسا: الكامل: 17: 508507
حبيسا: الطويل: 4: 513
راسا: البسيط: 2: 514
اللوامس: الطويل: 57: 504501
الناس: البسيط: 2: 514
العبّاس: الكامل: 45: 501498
الحنادس: الطويل: 13: 505504
ملتبس: البسيط: 28: 510508
بالياس: السريع: 6: 510
الأواسي: الوافر: 23: 512511
الشمس: الكامل: 5: 513
اللمس: الطويل: 2: 514(1/627)
قافية الشين الخدوش: الوافر: 5: 515
قافية الصاد شخص: الكامل: 32: 521519
وقموص: الخفيف: 15: 522521
والقلاص: الرجز: 50: 518516
القانص: الكامل: 4: 518
قافية الضاد الغضا: السريع: 28: 525523
غضّا: الخفيف: 49: 528525
وأنبضا: الطويل: 3: 528
والغضا: مجزوء الخفيف: 2: 529
والعرضا: المنسرح: 1: 529
وراضا: الوافر: 5: 530
أبيض: الطويل: 2: 528
إيماضه: مجزوء الكامل: 8: 534
ونوابض: الكامل: 3: 529
يقضي: الطويل: 42: 533530
أغض: الطويل: 7: 533(1/628)
قافية الطاء ألطّ: الرمل: 46: 543540
اللغطا: الرجز: 27: 536535
قطاطا: الوافر: 46: 539536
الفارط: الكامل: 5: 540
قافية الظاء ملحظك: الرجز: 4: 544
أيقاظ: الكامل: 5: 544
المغيظ: الوافر: 3: 545
قافية العين البدع: الطويل: 6: 597
ذراعا: المتقارب: 26: 560558
أنساعها: الرجز: 77: 565560
المزعزعا: الطويل: 76: 582578
معه: المنسرح: 21: 586584
أجمعا: الطويل: 2: 603
دروعا: الكامل: 2: 606(1/629)
برقعا: المتقارب: 2: 607
تطلع: الكامل: 52: 552549
الشوارع: الطويل: 56: 558555
ويطيع: الطويل: 52: 567565
فتروع: الطويل: 53: 571568
موجع: الكامل: 15: 587586
جزع: البسيط: 43: 589587
لموع: الطويل: 11: 592591
المرجّع: الطويل: 39: 596594
شروع: الطويل: 11: 597596
خواضع: الطويل: 6: 599598
المطالع: الطويل: 8: 599
وضائع: الطويل: 9: 600
مواقعه: الطويل: 5: 602
مدامعه: الطويل: 3: 602
طلائعه: الطويل: 2: 602
وداع: الكامل: 7: 603
المطامع: الطويل: 23: 605604
تقع: البسيط: 3: 605
وأظلع: الطويل: 4: 605
يطيعها: الطويل: 2: 607
مطلع: المتقارب: 2: 607
أطوع: الطويل: 12: 608
يرجع: المتقارب: 48: 611609(1/630)
الأربع: السريع: 59: 549546
المساعي: الوافر: 52: 555552
والباع: البسيط: 41: 573571
ومقنّع: الكامل: 64: 577574
منجع: الطويل: 37: 584582
الجزع: البسيط: 27: 591590
والدّروع: مخلّع البسيط: 8: 592
المصدوع: الكامل: 16: 593
سلع: الخفيف: 8: 598
الأشاجع: الطويل: 17: 601600
ذرعي: الكامل: 3: 606
المقطع: السريع: 3: 606
شجاع: الكامل: 2: 606
اللوامع: الطويل: 5: 609608
قافية الغين بلاغ: الطويل: 3: 612(1/631)
2 - فهرس المحتويات
المقدمة 5
قافية الهمزة 9
قافية الألف 43
قافية الباء 53
قافية التاء 198
قافية الثاء 214
قافية الجيم 223
قافية الحاء 229
قافية الخاء 254
قافية الدال 256
قافية الذال 381
قافية الراء 382
قافية الزاي 497
قافية السين 498
قافية الشين 515
قافية الصاد 516
قافية الضاد 523
قافية الطاء 535
قافية الظاء 544
قافية العين 546
قافية الغين 612(1/632)
المجلد الثاني
قافية الفاء
بالجد يبلغ الشرف
(البسيط)
يمدح هنا الملك بهاء الدولة، وكان الرضي قد عمل هذه القصيدة في أغراض أخرى ولم يسم الممدوح، ثم أضاف إليها أبياتا ذكره فيها وأنفذها اليه سنة 400.
بالجدّ لا بالمساعي يبلغ الشّرف، ... تمشي الجدود بأقوام، وإن وقفوا
أعيا من الدّهر خلق لا دوام له، ... البذل والمنع والإنجاز والخلف
واط بجفوته أعقاب خلّته، ... يوما ودود، ويوما ملّة طرف (1)
راحت تعجّب من شيب ألمّ به، ... وعاذر شيبه التّهمام والأسف
ولا تزال هموم النّفس طارقة، ... رسل البياض إلى الفودين تختلف
إنّ الثّلاثين والسّبع التوين به ... عن الصّبا، فهو مزورّ ومنعطف
فما له صبوة يبكى بها طلل ... ولا له طربة يعلى بها شرف
أين الذين رموا قلبي بسهمهم، ... ولم يداووا لي القرف الذي قرفوا (2)
يشكو فراقهم القلب الذي جرحوا ... منّي، وتبكيهم العين التي طرفوا
__________
(1) واط: من الوطء الخلة: الصداقة الملّة: الملول، وهو نعت بالمصدر، الطرف: الذي لا يثبت على صحبة أحد.
(2) القرف: الجرح قرفوا: قشروا.(2/5)
كم جاءني الخوف ممّا كنت آمنه، ... وكم أمنت التي قلبي بها يجف
قد يأمن المرء سهما فيه موقعه، ... وقد يخاف الذي ينأى وينحرف
لمّا رأيت مرامي الظّنّ خاطئة، ... ودون ما أرتجي منكم نوى قذف
صرفت نفسي عنكم، وهي غانية، ... والنّفس تصرف أحيانا، فتنصرف
ما هزّ فرعكم يأس، ولا طمع، ... ولا مرى درّكم لين، ولا عنف
ولا لكم في ثنايا الجود مطّلع ... ولا لكم في ظهور المجد مرتدف
يأبى لي العزّ، والغرّاء من شيمي، ... إمساك حبل غرور ما له طرف
هبها ضبابة ليل أنت خابطها ... إنّ الظّلام، وإن عنّاك منكشف
تنظّر الصّبح، إنّ الصّبح منتظر، ... والفجر يعرب عمّا أعجم السّدف
كأنّني، يوم أستعطي نوالكم، ... دان من الصّخرة الصّمّاء يغترف
ويوم أدعوكم للخطب أحذره ... داع يبلّغ من قد ضمّه الجدف (1)
ما كنتم من سيوفي، إذ هززتكم ... هزّ النّوابي، إذا أمضيتها تقف
يا راعي الذّود لا أصبحت في نفر ... تروى البكار وتظما الجلّة الشّرف (2)
ما أعجب القسمة العوجاء يقسمها ... الدّار واحدة والورد مختلف
لئن حرمت من العلياء ما رزقوا، ... لقد جهلت من الفحشاء ما عرفوا
لأرحلنّ المطايا ثمّ أبركها، ... حيث إطمأنّ النّدى وإستوطن الشّرف
كأنّما في رجال الرّكب خاطرة ... تعانق الدّوّ، والنّاجيّة العصف (3)
بدار أغلب ما في وعده خلف ... للرّاغبين، ولا في حكمه جنف (4)
حيث الحقوق قيام في مقاطعها، ... وكلّ من حاكم الأيّام منتصف
__________
(1) الجدف: القبر.
(2) الذود: القطعة من الإبل البكار: جمع بكر الجلّة: المسنّة من الإبل الشرف: المسنّة أيضا.
(3) الدو: الفلاة النأجية، من نأجت الريح: هبّت العصف، جمع عصوف:
ريح شديدة.
(4) خلف: كذب جنف: انحراف.(2/6)
راض الأمور على أولى شبيبته، ... فالرّأي محتنك، والعمر مؤتنف
يحيي المكارم أبناء له وردوا، ... كما بنى المجد آباء له سلفوا
يا ابن الأولى نزلوا العلياء خالية، ... منازل الدّرّ يرمى دونه الصّدف
المقدمين، فلا ميل، ولا عزل، ... والحاملون، فلا جور ولا ضعف (1)
لي فيهم خلف من كلّ مفتقد، ... وربّما جاز قدر الذّاهب الخلف
في كلّ يوم عدوّ أنت قائده ... قود الجنيب، لما عسّفت معتسف (2)
في السّلم دافقة، شؤبوبها خضل، ... والرّوع بارقة ذو رعدها قصف (3)
فمن شعاب ندى أمواهه دفع، ... ومن طعان قنا آباره خسف
تغدو كأنّك، والهامات طائرة، ... جان من الحنظل العاميّ ينتقف
كأنّ سيفك ضيف الشّيب ليس له ... عن الرّؤوس، إذا ما جاء، منصرف
فاستأنفوا العزّ مخضرّا زمانكم، ... كأنّما الدّهر فيكم روضة أنف
وابقوا بقاء الدّراري في مطالعها، ... إلّا البدور، فإنّ البدر ينكسف
تسعى البكار معنّاة، وقد ملكت ... أولى الجمام عليها الجلّة الشّرف (4)
إذا رأينا قوام الدّين راكبها، ... فليس في ظهرها للقوم مرتدف
__________
(1) الميل: هو الذي يميل عن الجواد ويسقط العزل، جمع أعزل: من لا سلاح له.
(2) الجنيب: السهل الانقياد عسّف: سار على غير علم ولا أثر، على غير هداية.
(3) الشؤبوب: الدفعة من المطر ذو رعدها: الذي رعدها.
(4) البكار، جمع بكر، وأراد الشديدة منها والفتيّة معنّاة: متعبة الجمام، من الجم: الكثير من كل شيء، والجمام: مجتمع شعر الرأس الجلّة:
الأمتعة كالبسط والأكسية ونحوها الشرف: العالية.
نشير هنا إلى أن الأبيات الستة الأخيرة من هذه القصيدة قد أضافها الشاعر الى القسم الأول، فتحوّلت إلى قصيدة مدحية وجهها إلى الممدوح.(2/7)
فقل لمعتسف يرجو لحاقهم: ... لبّث، فقد بلغوا العليا وما اعتسفوا (1)
لو انّ عين أبيك اليوم ناظرة، ... تعجّب الأصل ممّا أثمر الطّرف
ونى عن السّعي، فاسترعى مساعيه، ... مدرّبا بطريق المجد لا يقف
قد يسبق الخيل تاليها، وإن كثرت ... منها الفوارط يوم الجري والسّلف
رواق من القنا
(الخفيف)
كتب هذه القصيدة الى الملك أبي شجاع بن قوام الدين بفارس، وذلك في شهر صفر سنة 404، وهي آخر قصيدة مدح بها الملوك.
قل لأقنى يرمي إلى المجد طرفا، ... ضرم يعجل الطّرائد خطفا (2)
طار يستشرف المواقع، حتّى ... وجد العزّ موقعا، فأسفّا
يا عماد الدّين الذي رفع المج ... د، وقد مال بالعمادين ضعفا
ومغيث الأنام، وابن مغيث ال ... خلق، طود رسا وطود تعفّى (3)
ومجاري الزّمان خطبا، فخطبا، ... سابقا خطوه، وصرفا، فصرفا
أنت ثاني جماحها يوم لا يم ... لك كفّ لجامح الخطب كفّا
في رواق من القنا لا ترى في ... هـ سوى البيض والعوامل سقفا
كافأت أرضه السّماء على المز ... ن، وأهدت لها قساطل وطفا (4)
__________
(1) المعتسف: التائه، من يسير على غير هداية لبث: تمهّل.
(2) الأقنى: المرتفع الأنف الضرم: فرخ العقاب.
(3) طود تعفّى: جبل زال، كناية عن زوال والد الممدوح.
(4) قساطل، جمع قسطل: غبار الحرب.(2/8)
تتبع الطّعن فيه طعنا على الأع ... ناق شزرا والضّرب ضربا طلحفا (1)
لاث أبطاله عمائم بيضا ... لبسوا تحتها قتيرا وزغفا (2)
رسبوا في غمارها، ولو انّ ال ... طّود يمنى بها لذلّ وخفّا (3)
قد كفيت السّعي الطّويل، وتأبى ... أن يرى المجد منك حلسا وقفّا (4)
بين جدّ بذّ الجدود، فأوفى، ... وأب ضمّن العلاء، فوفّى (5)
قام فيه يلفّ خطبا بخطب، ... لا نؤوما، ولا سؤوما ألفّا (6)
يلبس الهمّة العليّة للأع ... داء درعا، ويركب العزم طرفا (7)
من رجال جنوا لكم ثمر المج ... د عريضا وعاقروا الموت صرفا (8)
عقدوا بينكم وبين المعالي، ... قبل يعلو الرّجال عقدا وحلفا
ركبوا صعبة العلى أوّل النّا ... س، فمن جاء بعدهم جاء ردفا
بيت جود تكفى النّوائب فيه، ... وجفان القرى به ليس تكفا
عنده النّار أوقدت باليلنجو ... جيّ تذكى عرفا، وتجزل عرفا (9)
قد بلاك الأعداء حلوا ومرّا، ... وبلوا شيمتيك لينا وعنفا
فرأوك الحسام قدّا وقطّا، ... ورأوك الغمام وبلا ووكفا
قلّبوا الغرّ من سجاياك تقلي ... ب اليمانيّ برده المستشفّا
__________
(1) الطلحف: الشديد.
(2) لاث: عصب القتير والزغف: الدرع.
(3) رسبوا: ثقلوا وصاروا إلى أسفل الغمار: الماء الكثير يمنى: يبتلى.
(4) الحلس: الذي لا يبرح بيته القف: الصغير من الرجال، القصير الضعيف.
(5) بذ: فاق، غلب.
(6) الألف: الرجل العي بالأمور.
(7) الطرف: الجواد الخفيف السريع.
(8) عاقروا الموت صرفا: جعل الموت خمرا للإشارة إلى لذتهم في الحرب.
(9) اليلنجوجي: عود طيب الرائحة يتبخر به القرف: الرائحة تجزل:
توقد بالحطب اليابس العرق: المعروف، الجود.(2/9)
حسبوها تصنّعا، فرأوها ... كلّ يوم تزداد ضعفا وضعفا
جحد الحاسدون منها الضّرورا ... ت، وأخفوا دراريا ليس تخفى
كهلال السّحاب ما غاب حتّى ... رقّ عن وجهه الغمام فشفّا
كذبوا، أنت أسبق النّاس إحسا ... نا، وأندى يدا وأمطر كفّا
خلق ثابت، إذا غيّر الدّه ... ر رجالا أخلاقهم تتكفّا
إن تناسوا تذكّر الجود طبعا، ... أو تولّوا ثنى إلى المجد عطفا
رام منّي قود القريض، ولولا ... هـ، لقد جاذب الزّمام الأكفّا
هبّ من رقدة الفتور إليه، ... بعد ما غضّ ناظريه وأغفى
هو ظهر ينقاد طوعا على اللّي ... ن، ويأبى القياد إن قيد عسفا
وبرود غالى بهنّ أبوك ال ... قرم، فاختارها الأشفّ الأشفّا (1)
إنّ من ضوئها لذي التّاج تاجا، ... ولربّ الأطواق طوقا وشنفا (2)
فابق للخطب مقذيا منه عينا، ... كلّ يوم، ومرغما منه أنفا
أنت أعلى من أن تهنّأ بالعزّ، ... إذا ما ضفا عليك ورفّا
بل تهنّا ملابس العزّ أن أب ... قيت فيها نشرا وأعبقت عرفا
ومراقي العلى بأن بتّ تعلو ... ها وثوبا، إذا علا النّاس زحفا
صل بفخر الملك الأغرّ حساما ... تجمع الماضيين عضبا وكفّا
داعم الملك يوم مال ولاقى ... موجانا من الخطوب ورجفا
ومداوي العلاء من علّة البؤ ... س، وقد أعجز الطّبيب وأشفى
لن ترى مثله اللّيالي، وهيها ... ت! لقد أجمل الزّمان وأصفى
__________
(1) القرم: السيد الشجاع.
(2) الشنف: القرط.(2/10)
ردوا الغليل
(الكامل)
قال رضي الله عنه يفتخر ويذكر غرضا من الأغراض:
ردّوا الغليل لقلبي المشغوف، ... وخذوا الكرى عن ناظري المطروف
ودعوا الهوى يقوى عليّ مضاعفا، ... إنّي على الأشجان غير ضعيف
ولقد رتقت على العذول مسامعي، ... وصممت عن عذل وعن تعنيف (1)
أرضى البطالة أن تكون قلائدي ... أبدا، ولوم اللّائمين شنوفي (2)
هل دارنا بالرّمل غير نزيعة، ... أم حيّنا بالجزع غير خلوف (3)
فلقد عهدت بها كنافرة المها، ... من كلّ ممشوق القوام قضيف (4)
سرب، إذا استوقفت في ظبياته، ... عينيّ رحت على جوى موقوف
يرعين أثمار القلوب تواركا ... مرعى ربيع باللّوى وخريف
كم بين أثناء الضّلوع لهنّ من ... قرف بأظفار النّوى مقروف (5)
لا تأخذيني بالمشيب، فإنّه ... تفويف ذي الأيّام لا تفويفي (6)
لو أستطيع نضوت عنّي برده، ... ورميت شمس نهاره بكسوف
كان الشّباب دجنّة، فتمزّقت ... عن ضوء لا حسن، ولا مألوف
ولئن تعجّل بالنّصول، فخلفه ... روحات سوق للمنون عنيف
وإذا نظرت إلى الزّمان رأيته ... تعب الشّريف، وراحة المشروف
__________
(1) رتقت: أقفلت.
(2) البطالة: الشجاعة الشنوف: الأقراط، جمع شنف.
(3) الحي الخلوف: هو الذي رحل أهله.
(4) القضيف: النحيف.
(5) القرف: القشر، قلامة الظفر.
(6) التفويف: الخطوط البيض.(2/11)
وعقال كلّ مشيّع متغطرف، ... ومجال كلّ موضّع مضعوف
أعليّ يستلّ الدّنيّ لسانه، ... سيذوق موبى مربعي ومصيفي (1)
فيمن تعيّرني، بفيك رغامها، ... أبتالدي في المجد أم بطريفي (2)
أبمعشري، وهم الأولى عاداتهم ... في الرّوع ضرب طلى وخرق صفوف (3)
من كلّ وضّاح الجبين مغامر ... عند العظائم، باسمه مهتوف
وإذا قرعت، فهم صدور ذوابلي، ... ومن العدوّ معاقلي وكهوفي
فاذهب بنفسك حاسما أطماعها ... عن صلّ واد أو هزبر غريف (4)
فلقد جررت على الزّمان عوائدي، ... إنّي أدقّ زحوفه بزحوفي
هذا، وقومك بين قاذف معشر، ... كذبا، وبين ملعّن مقذوف
لا المجد في أبياتهم بمعرّق ... يوما، ولا لهم النّدى بحليف
قبلي سقاك أبي كؤوس مذلّة، ... ولتشربن بيدي كؤوس حتوف
ذاك الثّقاف يقيم كلّ مميّل، ... وأنا الجراز أقدّ كلّ صليف (5)
فحذار إن شبّ الفنيق لحاظه، ... وتقاربت أنيابه لصريف (6)
خلّ الطّريق لمجمر أخفافه، ... ماض على سنن الطّريق منيف (7)
ولضيغم يطأ الرّجال، غلبّة ... بقنا من الأنياب أو بسيوف (8)
واشدد حشاك فلست تطمح خاليا ... إلّا بدا لك موقفي ووقوفي
__________
(1) الموبى: مكان الوباء.
(2) الرغام: التراب التالد والطريف: القديم والجديد، الموروث والمستحدث.
(3) الطلى: الأعناق.
(4) الصل: الحية الخبيثة الغريف: الأجمة.
(5) الثقاف: الرمح المقوّم مميّل: واقع عن الجواد الجراز: السيف القاطع الصليف: المتكبّر.
(6) الفنيق: الفحل من الجمال الصريف: صوت الأسنان.
(7) المجمر: الصلب، المسرع في السير المنيق: العالي.
(8) الضيغم: الأسد غلبّة: قهرا، والغلبّة من الرجال هو الذي يغلب بسرعة.(2/12)
وإذا رميت من الحذار بمقلة ... في الجوّ راعك في السّماء حفيفي
أهوي إلى فرص يسوءك غبّها، ... متسرّعا كالأجدل الغطريف (1)
كيدا يري أن لا دعيّ أميّة ... كاد الرّجال، ولا دعيّ ثقيف
أوفيت معتليا عليكم واضعا ... قدمي على قمر السّماء الموفي
ووليتكم فحززت في عيدانكم ... حتّى أقام مميلها تثقيفي
وفطمتكم بالزّجر عن عاداتكم، ... ورددت منكركم إلى المعروف
عفّ السّريرة لم تلطّ لريبة ... يوما عليّ مغالقي وسجوفي (2)
فلئن صرفت فلست عن شرف العلى ... ومقاعد العظماء بالمصروف
ولئن بقيت لكم، فإنّي واحد ... أبدا، أقوّم منكم بألوف
أنف كأنف الليث
(الوافر)
يفتخر ويذكر غرضا من الأغراض وهو ضيق صدره بأمر النقابة وما يتكلفه من التشدد وإقامة الهيبة فيها:
ردي مرّ الورود ولا تعافي، ... فما ينأى بيومك أن تخافي
فطورا تعرضين على زلال، ... وطورا تعرضين على ذعاف (3)
ومن يشرب بصاف غير رنق ... يرد يوما برنق غير صافي (4)
غمست يديّ في أمر، فمن لي، ... وأين بنزع كفّي وانكفافي
__________
(1) الأجدل: الصقر الغطريف: الفتي القوي.
(2) لط: ستر السجوف: الأستار.
(3) الزلال: البارد، المنعش ذعاف: السم.
(4) غير رنق: غير كدر.(2/13)
كفاني أنّني حرب لقومي، ... وذلك لي من الضّرّاء كاف
حطمت صعادهم حتّى استقاموا، ... مجاوزة بهم حدّ الثّقاف (1)
فصرت لذمّهم غرضا، رجيما، ... يراموني بمثل حصى القذاف
وأكذب بالتّصوّن مدّعيهم، ... وألجم قائليهم بالعفاف
ولو أنّي أطعت الرّشد يوما، ... لأبدلت التّحامل بالتّجافي
وأغضيت اللّواحظ عن ذنوب، ... وموضعها لعيني غير خاف
ولكنّ الحميّة فيّ تأبى ... قراري للرّجال على التّكافي
وأنظر سبّة وعظيم عار ... رضاي من المنازع بالكفاف
ولو أنّي رميت أصاب سهمي، ... ولكنّي أنقّب عن شغافي (2)
فما سهمي السّديد من النّوابي، ... ولا باعي الطّويل من الضّعاف
ولي أنف كأنف اللّيث يأبى ... شميمي للمذلّة واستيافي
وقد عرف العدى وبلوا قديما ... خطاي إلى المنايا وازدلافي
لي العزم الذي قد جرّبوه، ... يقدّ مضارب البيض الخفاف
وربط الجأش، والأقدام زلّ ... يزلزلها الرّدى يوم الوقاف
وقد كلّت صوارمها وملّت ... عرانين القنيّ من الرّعاف (3)
فعال أغرّ ريّان العوالي ... من الأعداء ملآن الصّحاف
يضيف، فلا يميّز من يراه ... أمارات المضيف من المضاف
إذا عدّ المناقب جاء بيتي ... يجرّ ذيول أحساب ضوافي
أقلّوا، لا أبا لكم، وخلّوا ... مطاعنة الأسنّة بالأشافي (4)
فقد مدّت غيابات المخازي ... على عرصاتكم مدّ الطّراف
صفوت لكم، فرنّقتم غديري، ... وأيّ مضاغن رجع المصافي
__________
(1) الصعاد، جمع صعدة: القناة المستقيمة الثقاف: الرماح المقوّمة.
(2) شغافي: غلاف قلبي أو حجابه.
(3) العرانين، جمع عرنين: الأنف القني: الأنوف المرتفعة.
(4) الأشافي: مثاقب الأساكفة، جمع إشفي الرعاف: النزيف.(2/14)
ويوشك أن يقام على التّقالي، ... أنابيب رجعن إلى التّصافي (1)
مضى زمن التّمازج والتّداني، ... وذا زمن التّزايل والتّنافي
لئن أعلى بناءكم اصطناعي، ... فسوف يثلّ عرشكم انحرافي
أداوي داءهم، فيزيد خبثا، ... وليس لداء ذي البغضاء شاف
حنوت عليهم ولربّ حان ... على جان، وإن بعد التّلافي
فما قلبي، وإن جهلوا، بقاس، ... ولا حلمي، وإن قطعوا، بهاف (2)
فما تغني القوادم من جناح، ... تحامل، إن قعدن به الخوافي
وعندي للزّمان مسوّمات ... من الأشعار تخترق الفيافي
قصائد أنست الشّعراء طرّا ... عواءهم على أثر القوافي
بوادر للغليل كأنّ قلبي ... يعبّ بهنّ في برد النّطاف (3)
أسرّ بهنّ أقواما، وأرمي ... أقيواما بثالثة الأثافي (4)
سلي بي!
(الطويل)
يفتخر بآبائه عموما ثم بأبيه الأدنى خصوصا:
وفى بمواعيد الخليط، وأخلفوا، ... وكم وعدوا القلب المعنّى ولم يفوا (5)
وما ضرّهم أن لم يجودوا بمقنع ... من النّيل، إذ منّوا قليلا وسوّفوا
__________
(1) الثقالي: التباغض.
(2) الهافي: الذاهب.
(3) النطاف: الماء القليل.
(4) الأثافي، جمع أثفية: الحجر توضع عليه القدر، ورماه بثالثة الأثافي. أي رماه بالشر كلّه أقيوام: تصغير أقوام.
(5) الخليط: الجماعة، القوم الذين أمرهم واحد المعنّى: المعذب.(2/15)
أفي كلّ يوم لفتة ثمّ عبرة ... على رسم دار، أو مطيّ موقّف
وركب على الأكوار يثني رقابهم، ... لداعي الصّبا، عهد قديم ومألف
فمن واجد قد ألزم القلب كفّه، ... ومن طرب يعلو اليفاع ويشرف (1)
ومستعبر قد أتبع الدّمع زفرة، ... تكاد لها عوج الضّلوع تثقّف
قضى ما قضى من أنّة الشّوق وانثنى ... بدار الجوى والقلب يهفو ويرجف
ولم تغن حتّى زايل البعد بيننا، ... وحتّى رمانا الأزلم المتغطرف (2)
كأنّ اللّيالي كنّ آلين حلفة، ... بأن لا يرى فيهنّ شمل مؤلّف (3)
ألمّ خيال العامريّة بعدما ... تبطّننا جفن من اللّيل أوطف (4)
يحيّي طلاحا حين همّوا بوقعة، ... تهاووا على الأذقان ممّا تعسّفوا (5)
وقيذين قد مال النّعاس بهامهم ... كما أرعشت أيدي المعاطين قرقف (6)
أعاريب لا يدرون ما الرّيف بالفلا، ... ولا يغبطون القوم إمّا تريّفوا (7)
رذايا هوى إن عنّ برق تطاولوا، ... وإن عارضوا الطير الغوادي تعيّفوا (8)
توارك للشّقّ الذي هو آمن، ... نوازل بالأرض التي هي أخوف
أيا وقفة التّوديع هل فيك راجع ... إشارته ذاك البنان المطرّف
وهل مطمعي ذاك الغزال بلفتة، ... وإن ثوّر الرّكب العجال وأوجفوا
__________
(1) واجد، من الوجد: الحب المتألم اليفاع: التلّ المشرف.
(2) الأزلم: الدهر الشديد.
(3) مؤلّف: مجتمع، قائم على الألفة.
(4) تبطننا:؟؟ فّنا الجفن: غمد السيف، استعاره لليل أوطف: دان، قريب.
(5) الطلاح: التعبين، جمع طليح الأذقان: جمع ذقن تعسّفوا: ساروا على غير هدى.
(6) وقيذين، جمع وقيذ: الذي مال به النعاس المعاطين: الشاربين قرقف:
حمر.
(7) الريف: أرض فيها زرع وخصب.
(8) الرذايا: الضعاف تعيّفوا، من العيافة: زجر الطير، التكهن.(2/16)
عشيّة لا ينفكّ لحظ مبهّت، ... مراقبة منّا، ودمع مكفكف
فلله من غنّى الحداة وراءه ... ولله ما وارى العبيط المسجّف (1)
وسائلة عنّي كأنّي لم ألج ... حمى قومها واليوم بالنّقع مسدف
لئن كنت مجهولا بذلّي في الهوى، ... فإنّي بعزّي عند غيرك أعرف
فلا تعجبي أنّي تعرّقني الضّنى، ... فإنّ الهوى يقوى عليّ وأضعف
يقرّع باسمي الجيش ثمّ يردّني ... إلى طاعة الحسناء قلب مكلّف
سلي بي ألم أنغلّ في لهواتها، ... وفحل الرّدى دوني بنابيه يصرف (2)
سلي بي ألم أحمل على الضّيم ساعدي، ... وقد ثلم الماضي، ورضّ المثقّف
سلي بي ألم أثن الأعنّة ظافرا، ... تحدّث عن يومي نزار وخندف
وحيّ تخطّت بي أعزّ بيوته ... صدور المواضي والوشيج المرعّف (3)
سلي بي ألم أصبر على الظّمء بعد ما ... هوى بالمهاري نفنف ثمّ نفنف (4)
وكلّ غلام ملء درعيه نجدة ... ولوثة أعرابيّة وتغطرف
على كلّ طاو فيه جدّ وميعة، ... وطاوية فيها هباب وعجرف (5)
وقد أتبعت سمر العوالي زجاجها، ... وحنّ من الإنباض جزع معطّف
فإن تسمعوا صوت المرنّات تعلموا ... بمن جعلت تدعو النّواعي وتهتف
لنا الدّولة الغرّاء، ما زال عندها ... من الجور واق أو من الظّلم منصف
بعيدة صوت في العلى، غير رافع ... بها صوته المظلوم والمتحيّف
ونحن أعزّ النّاس شرقا ومغربا، ... وأكرم أبصار على الأرض تطرف
بنو كلّ فيّاض اليدين من النّدى، ... إذا جاد ألغى ما يقول المعنّف
__________
(1) العبيط: الفتي والسمين من الجمال المسجّف: الذي عليه السجف أي الأستار.
(2) أنغل: أدخل لهواتها: مهالكها يصرف: يصر بأسنانه.
(3) الوشبج المرعف: الرماح التي تقطر دما.
(4) المهاري: الجياد الفتيّة النفنف: المهوى بين جبلين.
(5) طاو: ضامر هباب: نشاط عجرف: كبرياء، شموخ.(2/17)
وكلّ محيّا بالسّلام معظّم، ... كثير إليه النّاظر المتشوّف
وأبيض بسّام كأنّ جبينه ... سنا قمر، أو بارق متكشّف
حييّ، فإن سيم الهوان رأيته ... يشدّ ولا ماضي الغرارين مرهف
لنا الجبهات المستنيرات في العلى، ... إذا التثم الأقوام ذلّا وأغدفوا (1)
أبونا الذي أبدى بصفّين سيفه، ... ضغاء ابن هند، والقنا يتقصّف (2)
ومن قبل ما أبلى ببدر وغيرها، ... ولا موقف إلّا له فيه موقف
ورثنا رسول الله علويّ مجده، ... ومعظم ما ضمّ الصّفا والمعرّف
وعند رجال أنّ جلّ تراثه ... قضيب محلّى، أو رداء مفوّف (3)
يريدون أن نلقي إليهم أكفّنا، ... ومن دمنا أيديهم، الدّهر، تنطف
فلله ما أقسى ضمائر قومنا، ... لقد جاوزوا حدّ العقوق وأسرفوا
يضنّون أن نعطى نصيبا من العلا، ... وقد عالجوا دين العلى وتسلّفوا
وهذا أبي الأدنى الذي تعرفونه ... مقدّم مجد أوّل ومخلّف
مؤلّف ما بين الملوك إذا هفوا، ... وأشفوا على حزّ الرّقاب، وأشرفوا
إذا قال: ردّوا غارب الحلم راجعوا، ... وإن قال: مهلا بعض ذا الجدّ وقّفوا
وبالأمس لمّا صال قادر ملكهم، ... وأعرض منه الجانب المتخوّف
تلافاه حتّى سامح الضّغن قلبه، ... وأسمح لمّا قيل لا يتّألّف
وكان وليّ العقد والعهد بينه ... وبين بهاء الملك يسعى ويلطف
ولمّا التقى نجوى عقيل لنبوة، ... ومدّ لهم حبلا من الغدر محصف (4)
لوى عطفه ليّ القنيّ رقابهم، ... ولو لسواه استعطفوا ما تعطّفوا
وسل مضرا لمّا سما لديارها، ... فهبّ ونام العاجز المتضعّف
تولّجها كالسّيل صلحا وعنوة، ... فأبقى وردّ البيض ظمأى تلهّف
__________
(1) التثموا: لبسوا اللثام أغدف القناع: أرسله على وجهه.
(2) الضغاء: صياح السنور، صوت الذليل يتقصّف: يتكسّر.
(3) رداء مفوّف: ثوب مزخرف، موشّى.
(4) المحصف: المفتول.(2/18)
له وقفات بالحجيج شهودها ... إلى عقب الدّنيا منى والمخيّف
ومن مأثرات غير هاتيك لم تزل ... لها عنق عال على النّاس مشرف
حمى فاه عن بسط الملوك وقد كبت ... عليها جباه من رجال وآنف
زمام علا لو غيره رام جرّه، ... لساق به حاد من الذّلّ معنف
جرى ما جرى قبلي، وها أنا خلفه ... إلى الأمد الأقصى أغذّ وأوجف (1)
ولولا مراعاة الأبوّة جزته، ... ولكن لغير العجز ما أتوقّف
حذفت فضول العيش حتّى رددتها ... إلى دون ما يرضى به المتعفّف
وأمّلت أن أجري خفيفا إلى العلى، ... إذا شئتم أن تلحقوا فتخفّفوا
حلفت بربّ البدن تدمى نحورها، ... وبالنّفر الأطوار لبّوا وعرّفوا (2)
لأبتذلنّ النّفس حتّى أصونها، ... وغيري في قيد من الذّلّ يرسف (3)
فقد طالما ضيّعت في العيش فرصة، ... وهل ينفع الملهوف ما يتلهّف
وإنّ قوافي الشّعر ما لم أكن لها ... مسفسفة، فيها عتيق ومقرف (4)
أنا الفارس الوثّاب في صهواتها، ... وكلّ مجيد جاء بعدي مردف
__________
(1) أغذ: أسرع، وكذلك أوجف.
(2) البدن: النياق الأطوار: الأصناف المختلفة.
(3) يرسف: يمشي مشي المقيّد.
(4) مسفسفة: غير محكمة العتيق: الجواد الأصيل المقرف: الضامر.(2/19)
لهفي على ذاك الزمان
(الكامل)
وجه الشاعر هذه القصيدة إلى الوزير أبي علي الحسن بن حمد بن أبي الريان، وكان صديقة.
أشكو إليك مدامعا تكف، ... بعد النّوى، وجوانحا تجف (1)
وحشا، إذا ذكر الفراق هفا ... في جانبيه الشّوق والأسف
فجعت بعلق مضنّة يده، ... فأقام لا عوض، ولا خلف
كالنّاشط امتنعت موارده، ... ونأت عليه الرّوضة الأنف
أنس تناقص مع تكامله، ... لا بدع إنّ البدر ينكسف
لا يبعد الله الّذين نأوا، ... وقفوا الغرام بنا، وما وقفوا
أيّ القوى قطعوا، وأيّ دم ... سفكوا، وأيّ جراحة قرفوا
لم أنس موقفنا ووقفتهم ... بعد النّوى، ودموعنا تكف
متساكتين من الوجوم، وقد ... نطقت علينا الأدمع الذّرف
يا راكب الكوماء، غاربها ... كالطّود أوفى فوقه الشّعف (2)
يطأ الظّلام على مفارقه، ... واللّيل في أجفانه وطف (3)
ذرع الدّجى وطوى خميصته، ... ولها على قمم الرّبى كفف (4)
حتّى نضا الإظلام صبغته، ... وطواه جون اللّيل منكشف
ماض، إذا أهوى به كنف ... من جنح ليل ضمّه كنف
__________
(1) تجف: تضطرب.
(2) الكوماء: الناقة الغليظة السنام غاربها: حدها، رأسها الطود: الجبل الشعف: رؤوس الجبال، جمع شعفة.
(3) الوطف: الانسدال واسترخاء الجوانب.
(4) ذرع الدجى: قاسه بالذراع الخميصة: كساء أسود الكفف، جمع كفة: ما استدار حول الذيل واستطال من الثوب.(2/20)
أبلغ فتى حمد مذكّرة، ... تنقدّ منها البيض والزّغف (1)
نفثات مكروب ألظّ به ... حرّ الجوى، وعلا به الكلف (2)
ما كان أسرع ما نبا زمن، ... وتكدّرت من ودّنا نطف
حبل، غدا بأكفّنا طرف ... منه وفي أيدي النّوى طرف
هل حسن ذاك الدّهر مرتجع، ... أم طيب ذاك العيش مؤتنف (3)
أم هل يباح الورد ثانية، ... ويلذّ برد الماء مرتشف
لهفي على ذاك الزّمان، وهل ... يثني زمانا ماضيا لهف
أنبتّ بعدك حبلنا، وحدت ... كلّا لطيّته نوى قذف (4)
وانفكّ سلك نظامنا، بددا، ... ولقد غنينا، وهو مؤتلف
وتجنّب البتّيّ جانبنا، ... ونبا فلا ودّ، ولا شعف (5)
وقلى مجالسنا، ومال به ... عطف إلى البغضاء منعطف
وأزيح ذاك الأنس أجمعه، ... وأميط ذاك البرّ واللّطف
جعل الوصيّة تحت أخمصه، ... وأتى الإساءة، وهو معترف
إنّا نذمّ إليك خلّته، ... فهو الملول الغادر الطّرف (6)
فلعلّنا، ولعلّ مطمعة ... يوما بقربك منه ننتصف
فسقى ليالينا التي سلفت ... فرط من الأنواء أو سلف
يحدى بسوط الرّيح تحفزه ... هفّافة في سوقها عنف
نتج الصّباح عشاره سبلا ... جودا، وألقح شوله السّدف (7)
__________
(1) الزغف: الدروع.
(2) ألظ: أقام، لزم.
(3) المؤتنف: الأخذ من جديد.
(4) قذف: بعيدة.
(5) البتّي: الذي يصنع البتوت، جمع بت: نوع من الثياب الموشّاة الشعف:
الشغف.
(6) الطرف: الذي لا يثبت على صحبة أحد لسرعة ملله.
(7) السبل: المطر السدف: الظلام.(2/21)
ندعوك حين الشّمل منشعب، ... فتلافنا، والرّأي مختلف (1)
إن لم تقم تلك الغصون غدا ... منهنّ منآد ومنقصف (2)
لا تحسبن قولي مماذقة، ... وجدي ببعدك فوق ما أصف (3)
السن بالسن
(الكامل)
قال على لسان رجل سأله القول في هذا المعنى:
جرّعتني غصصا، ورحت مسلّما، ... فلأسقينّك مثلها أضعافا
إن نجتمع يوما أكن لك جذوة ... حمراء، توسع جانبيك ثقافا (4)
أنسى التفاتي لا أراك ورجعتي ... أبكي الدّيار، وأندب الألّافا (5)
أنسى إرتفاقي، والعيون هواجع، ... وجوانبي عن مضجعي تتجافى
أنسى اشتمالي بالسّقام مقيمة ... عندي عقائله، وأنت معافى
كم قد أردت على التّبدّل خاطري، ... فأبى، وزاغ عن البديل وعافا
ورقبته، فرأيته متمنّعا، ... وبعثته فوجدته وقّافا
وعذرته بعد الإباء لأنّه ... ظنّ الذي يطرى كأنت، فخافا
ولقد جنيت عليّ عمدا لا كمن ... عرف الجناية مخطئا فتلافى
ما هكذا من كان يزعم أنّه ... عين الصّديق ولا كذا من صافى
هب لم يكن لك بالوفاء عوائد، ... أتراك ما أحسنت أن تتوافى
__________
(1) فتلافنا: فاستجب لنا.
(2) منآد: معوج، منحن منقصف: منكسر.
(3) مماذقة: كذبا.
(4) جذوة: جمرة ثقافا: طعنا.
(5) الألاف: الأصحاب.(2/22)
ومن العجائب أن وفيت لغادر، ... نقض العهود وضيّع الأحلافا
لا كنت من ريب الزّمان بسالم ... إن كنت تسلم من يديّ كفافا
بل لا التذذت من الزّمان بشربة، ... إن لم أعضك من الزّلال ذعافا (1)
إن حاف لي دهر عليك، فطالما ... مال الزّمان عليّ فيك وحافا (2)
طرافة الزمان
(الخفيف)
يعاتب صديقا له:
كلّ شيء من الزّمان طريف، ... واللّيالي مغانم وحتوف
لا يبذّ الهموم إلّا غلام، ... يركب الهول، والحسام رديف (3)
كلّما حزّت النّوائب فينا، ... أطلعتنا على الكلوم القروف (4)
يا أبا الفضل، والأمور فنون، ... تبعث الهمّ، والخطوب صروف
وحفاظي كما علمت، ولكن ... أنكر الغدر ودّي المعروف
إنّما الغدر في الرّجال أذبّ، ... إن تأمّلت، والوفاء ألوف (5)
صرّح الإقتضاء، والقول محبو ... س على ما تريده موقوف
ومرادي يقلّ في جنب نعما ... ك، فأين التّكرّم المألوف
إنّ قول الجواد يتبعه الفع ... ل كما يتبع الوظيف الوظيف (6)
__________
(1) الذعاف: السم.
(2) حاف: جار وظلم.
(3) يبذ: يدفع.
(4) الكلوم: الجروح القروف: القشر.
(5) الأذب: الجاف، الهزيل، غير ألوف.
(6) الوظيف: يقال جاءت الإبل على وظيف اذا تبع بعضها بعضا.(2/23)
ما يذلّ الزّمان بالفقر حرّا، ... كيف ما كان فالشّريف شريف
إن تكرّمت، فالخليل كريم، ... أو تمنّعت، فالملول عنيف
أو يكن أنكر الإخاء قديما ... منك قلب فإنّ قلبي عروف
أحمد الله أنّني ما تقصّي ... ت، وإنّ الذي طلبت طفيف
فاجعل الآن ما سألتك برّا، ... إنّما البرّ منزل مألوف
واحتمل سطوة العتاب فخير ال ... نّبع ما مدّ متنه التّثقيف
وعتابي هزّا لعطفك، والأغ ... صان ما لم تهزّهنّ وقوف
الرسول الحريص
(الخفيف)
كتب إليه أبو إسحق الصابي يعتذر من تأخره عن زيارته لعلة عرضت له في شهر ذي القعدة سنة 396.
أقعدتنا زمانة وزمان، ... جائر عن قضاء حقّ الشّريف (1)
ولئن ثقّلا عن الخدمة الخط ... ولعن خاطر إليها خفيف
فاقتصرنا فيما نؤدّي من العر ... ض على الكتب والرّسول الحصيف (2)
والفتى ذو الشّباب يبسط في التّق ... صير عذر الشّيخ العليل الضّعيف
__________
(1) الزمانة: المرض الملازم، المزمن.
(2) الرسول الحصيف: الرسول الحريص.(2/24)
كل يوم وداع
(الخفيف)
فأجابه عن هذه الأبيات وجعل الجواب قصيدة كاملة.
كم ذميل إليكم ووجيف، ... وصدود عنّا لكم وصدوف (1)
وغرام بكم، لو انّ غراما ... جرّ نفعا للواجد المشغوف
صبوة ثمّ عفّة ما أضرّ الح ... بّ في كلّ خلوة بالعفيف
هجرونا، ولم يلاموا، وواصل ... نا على مؤلم من التّعنيف
وطلبنا الوفاء، حتّى إذا ع ... زّ رضينا بالمطل والتّسويف
كيف يرجو الكثير من راضه الشّو ... ق إلى أن رضي ببذل الطّفيف
إنّ بين الحمى إلى جانب الرّم ... ل معانا من الظّباء الهيف
عاطيات بل عاطلات، وما أغ ... نى الدّمى عن قلائد وشنوف (2)
عارضتك الحدوج بالجزع يحدي ... ن بعزّ يماتهم في السّيوف (3)
سائلات الرّفاق أين مصاب ال ... غيث من جوّ مربع ومصيف
وبدور يلطّ من دونها النّق ... ع ولا يكتفي بلطّ السّجوف (4)
بعدت شقّة الوصال، إذا كا ... ن بخوض القنا وخرق الصّفوف
ووراء الغبيط من ذلك السّر ... ب أجمّ مبرقع بالنّصيف (5)
__________
(1) الذميل والوجيف: نوعان من السير الصدوف: أعراض الوجه.
(2) عاطلات: لا حلى عليهن الشنوف: الأقراط، جمع شنف.
(3) الحدوج: الجمال المحمّلة الجزع: اسم موضع يماتهم: أمامهم.
(4) يلط: يستر النقع: الغبار السجوف: الأستار.
(5) الغبيط: الرحل يشد عليه الهودج الأجم: الذي لا قرون له، أي الظبي النصيف: الخمار.(2/25)
مانع لا يجود بالنّيل، ممنو ... ع برزّ من القنا وحفيف (1)
من أقاح غمسن في البارد العذ ... ب طويلا ومن قضيب قضيف (2)
مورد ينقع الغليل، ويزدا ... د صفاء على طروق الرّشيف
كلّ يوم وداع ركب عجال ... بالنّوى أو عناء ركب وقوف
فكثير إلى الحمول التفاتي، ... وطويل على الدّيار وقوفي
لا تولّ الأظعان عينا، فما تر ... جع إلّا بناظر مطروف
ودع المرء بالدّيار، فما يج ... دي على واقف، ولا موقوف
واعدد الجيرة الحضور، إذا ض ... نّوا عداد النّائين عنك الخلوف
شغل الهمّ أهله، واستقلنا ال ... ليل من زورة الخيال المطيف
وضيوف الهموم مذ كنّ لا ين ... زلن إلّا على العظيم الشّريف
كالجناب الممطور يزدحم الو ... رّاد فيه، والمنزل المألوف (3)
لم يثقّف عودي الزّمان، ولكن ... ضجّ عود الزّمان من تثقيفي
قلت للدّهر يوم رام اختداعي ... عن جناني الماضي ونفسي العزوف
عد ذميما هبلت واطلب لشمّ ال ... ذلّ يا دهر غير هذي الأنوف (4)
لم توفّ العشرين سنّي وإنّ ال ... حلم منّي على الجبال لموفي
فيّ معنى المشيب حكما وإن كا ... ن نهوضي عن الصّبا وخفوفي
وإذا البرد كان في اليد والعي ... ن صنيعا أغنى عن التّفويف
هزّ عطفي إلى الأغرّ أبي إس ... حق ودّ يلوي عليه صليفي (5)
ونزاع يهفو إليه بلبّي، ... هفوات المصرصر الغطريف (6)
__________
(1) النّيل: العطاء الرز: الطعن.
(2) الأقاح: زهر أبيض استعارة للإشارة إلى الأسنان قضيب قضيف: قامة نحيفة.
(3) الجناب: الناحية.
(4) هبلت: ثكلت، نوع من الدعاء على الغير.
(5) عطفي: جانبي صليفي: عنقي.
(6) يهفو: يميل المصرصر: الصقر المصوّت الغطريف: الجميل الشكل.(2/26)
كيف لا أغلب الزّمان، وهذا ال ... نّدب يغدو على الزّمان حليفي
كلم كالنّصول هذّبها القي ... ن ووجه كالهرقليّ المشوف (1)
إنّ شكواك للزّمان مبين ... لي على قدر عقله المضعوف
أيعوم المجهول بحرا، ولا ين ... قع غلّا للفاضل المعروف
قدّمت غيرك الجدود، وأخّر ... ت، ولكن أناف غير منيف
والحظوظ البلهاء من ذي اللّيالي ... أنكحت بنت عامر من ثقيف
قصف الدّهر فيك رمحا من الكي ... د وحامى عن المعيب المؤوف (2)
إن حرمت الرّزق الذي نال منه ... فدواء العييّ داء الحصيف (3)
عمل فاضح وأجمل من بع ... ض الولايات عطلة المصروف
فاصطبر للخطوب، ربّ اصطبار ... شقّ فجرا من ليلهنّ المخوف
إنّما نلبس الدّروع ثقالا، ... لرجوع إلى خفاف الشّفوف
كم تحمّلتها بظهر من الصّب ... ر فخفّت والعبء غير خفيف
إن أولى بالصّبر إن حرّجته، ... من حشاه منها كثير القروف
لم تغب عن سواد قلبي، وإن غب ... ت معنّى نوائب وصروف
قرّ عينا بطارقات الشّكايا، ... ما تجافت مطرّقات الحتوف
أترانا نطيق دفعا لما أع ... يا صلال النّقا وأسد الغريف
أمهل النّاقصون واستعجل الدّه ... ر بسوق للفاضلين عنيف
من يكن فاضلا يعش بين ذا النّا ... س بقلب جو وبال كسيف
كلّما كان زائد العقل أمسى ... ناقصا من تليده والطّريف
لا عجيب أنّي سبقت، وأعرق ... ت جياد المنثور والمرصوف
أنت يا فارس الكلام تقدّم ... ت وأخليت لي مكان الرّديف
__________
(1) كلم كالنصول: مشرق كالسيوف القين: الحدّاد: الهرقلي: الدينار، نسبة الى هرقل ملك الروم المشوف: المجلو.
(2) المؤوف: ما كان فيه آفة، فساد.
(3) الحصيف: الحريص، النبيه.(2/27)
قسما برب الراقصات
(الكامل)
يعاتب صديقا له:
قضت المنازل يوم كاظمة ... أنّ المطيّ يطول موقفها (1)
لمع من الأطلال يحزننا ... محتلّها البالي ومألفها
سبقت مدامعها برشّتها، ... من قبل أن يومي مكفكفها
وتكلّفت من صوب ماطرها ... فوق الذي يرجو مكلّفها
إن كنت أنفدت الدّموع بها، ... فالوجد بعد اليوم يخلفها
لا منّة منّي على طلل، ... ديم طلاع العين أذرفها
ولواعج نفسي ينفّسها، ... وبلابل دمعي يخفّفها
ظعنوا فللأحشاء مذ ظعنوا ... حرق تعسّفها وتعسفها (2)
لا تنشدنّ الدّار بعدهم، ... إنّي على الإقواء أعرفها (3)
وعلامة للشّوق أضمره، ... طربي إلى الإيقاع أشرفها (4)
في كلّ يوم لي غريم هوى، ... يلوي الدّيون، ولا يسوّفها
رفقا بقلبي، يا أبا حسن، ... العين منك، وأنت تطرفها
فكأنّني بعلائق شعب ... قد زال عن أمم تألّفها (5)
ومقوّمات من غصون هوى ... يعوجّ أطوارا مثقّفها
في القلب منك جراحة أبدا، ... ما زلت أدملها وتقرفها (6)
__________
(1) كاظمة، من كظم غيظه: حبسه، وكاظمة هنا اسم موضع.
(2) تعسّفها: تظلمها، تجور عليها.
(3) الإقواء: خلو الدار.
(4) طربي: حزني أشرفها: مشرف عليها.
(5) شعب: متفرقة أمم: قصد، قرب.
(6) أدملها: أغطيها وأداويها تقرفها: تقشّرها. وفي البيت عتاب موجّه إلى صديق.(2/28)
كم من معاقد بتّ تفسخها، ... ومواعد بالقرب تخلفها
أمّا الحفاظ، فأنت تمطله، ... والمحفظات فأنت تسلفها (1)
سأروم عطف النّفس عنك وإن ... كان الغرام إليك يعطفها
ولطالما استصرفتها مللا، ... ولئن صحوت فسوف أصرفها
وإذا طلبت بها السّلوّ أبى ... إلّا النّزاع إليك مدنفها (2)
فكأنّ منسيها يذكّرها، ... أو ما يؤسّيها يسوّفها
تمضي، ونحوكم تلفّتها، ... وإلى لقائكم تشوّفها (3)
فهواكم، والشّوق يعذرها، ... وذميم فعلكم يعنّفها
هل يعطفنّكم توجّعها، ... أو يقبلنّ بكم تلهّفها
فاستبق منها ما يضنّ به، ... تلك الصّبابة أنت ترشفها
لا تأمننها إن أسأت بها، ... هي ما علمت وأنت تعرفها
إن كان يطمعكم تذلّلها، ... فلسوف يفزعكم تغطرفها
ولئن غلا فيكم تهالكها، ... فليكثرن عنكم تعفّفها
سأروغ عن ورد الهوان به، ... هي غرفة لا بدّ أغرفها
إنّ الهضيمة أن أقاد لها، ... قدر لعمرك لا أؤثّفها (4)
يدنو بنفسي لينها كرما، ... ويبين عند الضّيم عجرفها
قسما بربّ الرّاقصات هوى، ... أمم البناء العود موجفها (5)
يطلبن رابدة الظّليم، إذا ... طرق الظّلام أضلّ مسدفها (6)
بلغت على علل السّرى، وغدت ... وملاؤها بالبدن نصّفها
__________
(1) الحفاظ: الأنفة المحفظات: الأمور التي تغضب.
(2) السلو: النسيان، العزاء المدنف: المعذب.
(3) التشوف: التطلع، الشوق.
(4) الهضيمة: طعام أؤثفها: أجعل لها الأثافي وهي حجارة الموقد.
(5) الأمم: القرب العود: المسن من الإبل موجفها: مسيرها.
(6) الرابدة: المقيمة الظليم: ذكر النعام المسدف: المظلم.(2/29)
يغدو على الإرقال مؤتدما ... من نيّها العاميّ نفنفها (1)
ينجو على رمق مقدّمها، ... ويقيم معذورا مخلّفها
وبحيث جعجعت العريب ضحى ... مثل الحنيّ بلي معطّفها (2)
وبفضل ما أوعى محصّبها، ... وأقرّ من قدم معرّفها (3)
إنّي على طول الصّدود لكم ... كالنّفس مأمون تحيّفها (4)
أرضى وأغضب في حبابكم، ... ورقاب ودّي لا أصرّفها
جاءتكم أسلا مشرّعة، ... متوقّعا فيكم تقصّفها
قد بات فيها قائل صنع، ... يهمي لهاذمها ويرهفها (5)
أعزز عليّ بأن يكون لكم ... بالأمس ثقّفها مثقّفها
وبراقعا للعار ضافية ... يبقى على الأيّام مغدفها (6)
يجلى لأعينكم مشوّهها، ... ولقد يكون لكم مفوّفها (7)
إن تستعيذوا من توسّطها ... أعراضكم، فكفى تطرّفها
فتزاجروا من قبل أن تردوا ... بموارد مرّ ترشّفها
وتغنّموا إبطاء عارضها، ... من قبل أن يمريه حرجفها (8)
فلترجعوا أمما تلوّمها، ... ولتقلعوا ندما توقّفها (9)
__________
(1) الأرقال: الإسراع مؤتدما: طالبا الادام، الطعام الني: السمن، الشحم العامي: الطافي، البارز النفنف: مهوى الجبل.
(2) الحني، جمع حنية: القوس.
(3) المحصّب والمعرّف: الرياح.
(4) التحيّف: التنقص.
(5) الصنع: الماهر، الحذق يهمي: يصقل اللهاذم، جمع لهذم حدّ السيف.
(6) مغدفها، من أغدف القناع: أرسله على وجهه.
(7) المفوّف: المزخرف، الموشّى، الجميل المنظر.
(8) عارضها: غيمها حجرفها: ريحها الباردة.
(9) أمما: عن قريب، بسرعة. يلاحظ الإقواء في هذا البيت.(2/30)
لا تستهبوا الشر
(الطويل)
قال في بعض الأغراض وذلك في شهر رمضان سنة 394:
أقول لها بين الغديرين والنّقا، ... سواد الدّجى بيني وبين المناصف
خذي الجانب الوحشيّ لا تتعرّضي ... لحيّ حلال باللّوى والأصالف (1)
أمامك! إنّ الخوف حاد مشمّر، ... وما للمطايا مثل حادي المخاوف
فمرّت تظنّ النّسع صوتا أجيله، ... فلا عذر إلّا تتّقي بالعجارف (2)
وقعت بها في أوّل الفجر وقعة، ... غشاشا، كما أقضي أليّة حالف (3)
وأشممتها رمل الأنيعم غدوة، ... فسافت بأنف منكر غير عارف (4)
أحمّلها الشّوق القديم، فتنبري ... بأجلاد عاني القلب جمّ المشاغف
كثير التفات الطّرف في كلّ مذهب ... بأنّة مصدور على البين لاهف
إذا ما دعاه الشّوق راوح كفّه ... على لاعج في مضمر القلب لاطف (5)
أعاد له البرق الحجازيّ موهنا ... عقابيل أيّام اللّقاء السّوالف (6)
كأنّ به من خطب ظمياء عصّة ... يسيغ شجاها بالدّموع الذّوارف
كأنّ أثيوابي على ذئب ردهة ... دنا اللّيل، فاستنشى رياح التّنائف (7)
__________
(1) الأصالف: الأرض الغليظة.
(2) العجارف، جمع عجرفة: الإقدام في هوج.
(3) غشاسا: على عجلة أليّة: يمين.
(4) سافت: شمت.
(5) لاطف: داخل.
(6) موهنا: ليلا العقابيل: بقايا العشق.
(7) الردهة: حفيرة في أرض مرتفعة التنائف: الأرض الواسعة البعيدة.(2/31)
أقوّمها، حتّى إذا قيل راكب، ... تظالعت مرّ المائل المتجانف (1)
عسفنا بإرقال المطيّ، وطالما ... صبرنا على ضيم العدى والمخاسف (2)
وما سرّني أنّي أقيم على الأذى، ... وأنّي بدار الهون بعض الخلائف
فجوبي الملا أو جاوري بي ربيعة، ... وأسرة عيلان الطّوال الغطارف (3)
من البيض، غرّان المجالي، إذا انتدوا ... بدا لك بسّامون شمّ المراعف
هناك إذا استلبست ألبست فيهم ... جناحي عتيق آمن الظّلّ واجف (4)
بحيث إذا أعطى الذّمام حبالة ... علقت بها غير البوالي الضّعائف
إذا ما طلعت النّقب، واللّيل دونه، ... أمنت العدى إلّا تلفّت خائف
نجوت فكم من عضّة في أنامل ... عليك، ولهف من قلوب لواهف
أتوعدني بالقارعات بجيلة؟ ... لقد ذلّ من عرّضتم للمتالف
إذا غضبوا للأمر كان وعيدهم ... حبيق الألايا، وارتعاد الرّوانف (5)
لهم نبعات الشّرّ ينتبلونها ... ضروبا، فمن بادي عقوق وراصف (6)
مجاهيل أغفال، إذا ما تعرّضوا، ... بأحسابهم أنكرتهم بالمعارف
وكم أسرة من غيركم ذات شوكة ... دبينا إلى عيدانهم بالقواصف (7)
عطفنا إليها بالعوالي أسنّة، ... شروعا كأذناب العظاء الدّوالف (8)
وعدنا بها حمرا تقيء صدورها ... دماء العدى قطر الأنوف الرّواعف
__________
(1) تظالعت: غمزت في مشيتي المتجانف: المائل عن الحق.
(2) عسفنا: ملنا الارقال: الإسراع المخاسف: الذل والهوان.
(3) الغطارف: الأسياد، المتخايلون.
(4) العتيق: من جوارح الطير الواجف: المضطرب.
(5) الحبيق: الضراط الألايا، جمع ألية: ما تدلّى في العجز من شحم ولحم الروانف: أسفل الألية.
(6) النبعات: الأصول ينتبلونها: يتراشقونها.
(7) دبينا: مشينا على مهل القواصف: السيوف.
(8) العظاء: الإبل التي آلمتها بطونها من أكل العنظوان، وهو نبت من الحمض.(2/32)
وكنّا، إذا داع دعا لوقيعة، ... سحبنا لها الأرماح سحب المطارف
عجبت لذي لونين خالط شيمتي، ... فكشّفت منه مخزيات المكاشف
ضممت يدي منه، وكانت غباوة ... على ضرب مردود من الورق زائف (1)
يخاوص عين النّار خوفا من القرى ... إذا نار قوم أوقدت بالمشارف (2)
وإن آنس الأضياف صمّت كلبه، ... وطأطأ أعناق المطيّ الصّوارف (3)
نبذتك نبذ السّنّ بعد انفصامها، ... وإنّي لمجذام القرين المخالف
إذا المرء مضّته قذاة بطرفه، ... فغير ملوم إن رماها بحاذف
وما أنت من جدّي فيرجع راجع ... من الرّحم البلهاء بعض العواطف
حلفت بمن عجّ الملبّون باسمه ... عجيج المطايا من منى والمواقف
عجافا كأوتار الحنايا من الطّوى، ... على مثل أعجاس القسيّ العطائف (4)
طوى الضّمر من أجوافها بعد ما انتهت ... ثمائلها، طيّ البرود اللّطائف (5)
ترى كلّ مجهود، إذا منّه السّرى، ... أكبّ على السّرجين إكباب راعف (6)
وربّ الهدايا المشعرات نكبّها ... عجالا، وربّ الرّاقصات الخوانف (7)
وما بالصّفا من حالق ومقصّر، ... ومن ماسح ركن العتيق وطائف
وساع إلى أعلام جمع، ودافع، ... وماش على جنبي ألال وواقف (8)
لأعراضكم عندي أشدّ مهانة ... من الحنظل العاميّ عند النواقف
__________
(1) الورق: الفضة زائف: مغشوش.
(2) يخاوص: يغض المشارف: الأرض العالية.
(3) الصوارف، جمع صروف: الناقة البيّنة الصريف وهو صرير الناب.
(4) عجاف: ضعاف الطوى: الجوع الأعجاس: الاعجاز.
(5) الثمائل: بقية الطعام والشراب في البطن.
(6) منّه: أضعفه، وقد وردت في نسخة أخرى: مضّه.
(7) الهدايا: النياق الخوانف: من خنف البعير إذا قلب خفّه وهو يسير، والخوانف أيضا هي اللاوية أنوفها من الذمام نشاطا.
(8) ألال: جبل بعرفات.(2/33)
فلا تستهبّوا الشّرّ من رقداته، ... فيسحتكم سحت السّنين الخوالف (1)
قوافي يقطرن السّمام كأنّها ... ملاغم حيّات الرّمال الزّواحف (2)
فكم حمضة منكم لنا بقرارة، ... يعود إليها ناشط بعد قاطف (3)
وإيّاكم أن تحملوا من قوارضي ... على ظهر زعراء الملاطين شارف (4)
تخبّ بجانيكم، وفي كلّ ساعة ... يتاح لها منكم براق ورادف
دعوا السّلف القمقام تسري رفاقه ... لنيل المعالي، واقعدوا في الخوالف (5)
وذاك أديم لم تكونوا سراته، ... بلى، ربّما استأثرتم بالزّعانف (6)
تغطّوا ولا تستكشفوني عواركم، ... فما جلبة إلّا لها ظهر قارف (7)
وإن مدّت الأيّام بيني وبينكم ... أطلت بكاء العاجز المتهاتف
ذم بعض الناس
(البسيط)
قال يذم بعض الناس وهي من قديم قوله رضي الله تعالى عنه:
الله يعلم ميلي عن جنابكم، ... ولو تناهيت لي في البرّ واللّطف
فكيف بي، وعلى عينيك ترجمة ... من الحقود وعنوان من الشّنف (8)
__________
(1) سحت: أهلك الخوانف: المجدبة.
(2) الملاغم: ما حول الفم.
(3) الحمضة: الشهوة للشيء، الباطن الفاسد القرارة: الداخل السّيء.
(4) زعراء: عارية من الشعر الملاطين: جانبي السّنام.
(5) القمقام: الكثير العدد.
(6) الأديم: الجلد الزعانف: طرف الجلد.
(7) الجلبة: القشرة تعلو الجرح عند البرء القارف: القاشر.
(8) ترجمة: مظاهر، علامة الشنف: الحقد، الكره.(2/34)
أطيف منك بوجه غير ملتفت ... إلى المناجي، وعطف غير منعطف (1)
فما أغبّك من عذر ولا شغل، ... ولا أزورك من وجد ولا شغف (2)
قد كان قبلك مرجوّ فواضله، ... راق إلى المجد طلّاع إلى الشّرف
تمرّ نفحة نعماه، إذا خطرت ... من القبول بجنبي روضة أنف (3)
إن تستعضك المعالي بعد ذاك، فقد ... أفحشن في بدل منه، وفي خلف
يهشّ للمرء تفريه أظافره، ... كما تهشّ سباع الطّير للجيف
إذا نجا من يديه غير منعقر ... أفنى أنامله عضّا من الأسف
يظنّ أنّي وصّال به سببي، ... إنّي إذا من أمير المؤمنين نفي
إذا لبست جمالا أنت ملبسه، ... فإنّني قد طرحت المجد عن كتفي
لا قدّس الله نفسا منك جامعة ... كيد البغال إلى ذي الجلّة الشّرف (4)
ولا سقى الغيث دارا أنت ساكنها ... إلّا بأغبر ناريّ الذّرى قصف
__________
(1) أطيف: ألمّ.
(2) أغبّك: أزورك من حين إلى آخر.
(3) الروضة الأنف: هي التي لم ترعها الماشية.
(4) ذي الجلّة الشرف: البعير العظيم العالي السنام.(2/35)
قافية القاف
ابن ام الندى
(الكامل)
وجّه الشريف هذه القصيدة إلى أمير المؤمنين القادر بالله، وفيها يصف مجلسه، وقد وصله الناس من أهل خراسان قادمين من الحج. وقد نظمها في شهر صفر سنة 382.
لمن الحدوج تهزّهنّ الأنيق، ... والرّكب يطفو في السّراب ويغرق (1)
يقطعن أعراض العقيق، فمشئم ... يحدو ركائبه الغرام ومعرق (2)
أبقوا أسيرا بعدهم لا يفتدى ... ممّا يجنّ، وطالبا لا يلحق
يهفو الولوع به فيطرف طرفه، ... ويزيد جولان الدّموع، فيطرق
ووراء ذاك الخدر عارض مزنة، ... لا ناقع ظمأ، ولا متألّق
ومحجّب، فإذا بدا من نوره ... للرّكب ملتهب المطالع مونق (3)
خرّوا على شعب الرّحال وأسندوا ... أيدي الطّعان إلى قلوب تخفق
هل عهدنا بعد التّفرّق راجع، ... أو غصننا بعد التّسلّب مورق (4)
__________
(1) الحدوج: الأحمال الأنيق: جمع نياق.
(2) مشئم: متجه نحو الشام معرق: متجه نحو العراق.
(3) مونق: مشرق، جميل.
(4) التسلب: سقوط ورق الشجر أو ثمرها.(2/36)
شوق أقام، وأنت غير مقيمة، ... والشّوق بالكف المعنّى أعلق
ما كنت أحظى في الدّنوّ فكيف بي ... واليوم نحن مغرّب ومشّرق
من أجل حبّك قلت عاود أنسه ... ذاك الحمى وسقي اللّوى والأبرق
طرق الخيال ببطن وجرة بعد ما ... زعم العواذل أنّه لا يطرق (1)
أتحنّنا بعد الرّقاد، وقسوة ... أيّام أصفيك الوداد وأمذق (2)
أنّى اهتديت، وما اهتديت، وبيننا ... سور عليّ من الطّعان وخندق
ومطلّحين لهم بكلّ ثنيّة ... ملقى، وسادته الثّرى والمرفق
أو قابضين على الأزمّة، والكرى، ... يغشى أكفّهم النّعاس، فتمرق (3)
أوموا إلى الغرض البعيد، فكلّهم ... ماض يخبّ مع الرّجاء ويعنق (4)
وإلى أمير المؤمنين نجت بهم، ... ميل الجماجم، سيرهنّ تدفّق
كنقانق الظّلمان أعجلها الدّجى، ... وحدا بها زجل الرّواعد مبرق (5)
يطلبن زائدة المكارم والنّدى، ... حيث استقرّ بها العلاء المعرق
الزاخر الغدق الذي يروى به ... ظمأ المنى، والوابل المتبعّق (6)
أبغاة هذا المجد إنّ مرامه ... دحض يزلّ الصّاعدين ويزلق (7)
هيهات ظنّكم تمرّد مارد ... من دون نيلكم، وعزّ الأبلق (8)
لا تحرجوا هذي البحار، فربّما ... كان الذي يروي المعاطش يغرق
ودعوا مجاذبة الخلافة، إنّها ... أرج بغير ثنائهم لا يعبق
__________
(1) وجرة: موضع تكثر فيه الظباء.
(2) أمذق: لا يكون الود وفيا.
(3) تمرّق: تعرى، يذهب نعاسها.
(4) الخب والعنق: نوعان من السير.
(5) النقانق، جمع نقنق: النافر من الظلمان، والظلمان ذكور النعام.
(6) المتبعق: الدافع، الهاطل.
(7) دحض: زلق.
(8) مارد والأبلق: حصنان يضرب بهما المثل في الامتناع لمن رام شيئا فأعجزه.(2/37)
غنيت بهم تحتزّ دون منالها ... قمم العدى، ويردّ عنها الفيلق
كعقائل الأبطال تجلب دونها ... بيض القواضب والقنا المتدفّق
فهم لذروتها التي لا ترتقى ... أبدا، وبيضتها التي لا تفلق
أشفت، فكنت شفاءها، ولقد ترى ... شلوا بأظفار العدوّ يمزّق
كنت الصّباح رمى إليها ضوءه، ... ومضى بهبوته الظّلام الأورق (1)
فسنامها لا يمتطى، ونباتها ... لا يختلى، وفناؤها لا يطرق (2)
ووزنت بالقسطاس غير مراقب، ... والعدل مهجور الطّريق مطلّق (3)
في كلّ يوم للعدوّ، إذا التوى، ... بظباك يوم أوارة ومحرّق (4)
أنتم موادع كلّ خطب يتّقى، ... وبكم يفرّج كلّ باب يغلق (5)
وأبوكم العبّاس ما استسقى به ... بعد القنوط قبائل إلّا سقوا
بعج الغمام بدعوة مسموعة، ... فأجابه شرق البوارق مغدق
ما منكم إلّا ابن أمّ للنّدى، ... أو مصبح بدم الأعادي مغبق
لله يوم أطلعتك به العلى ... علما، يزاول بالعيون ويرشق
لمّا سمت بك غرّة موموقة، ... كالشّمس تبهر بالضّياء وتومق (6)
وبرزت في برد النبيّ، وللهدى ... نور على أطرار وجهك مشرق
وعلى السّحاب الجود ليث معظّما ... ذاك الرّداء، وزرّ ذاك اليلمق (7)
__________
(1) الأورق: الذي يخالط سواده بياض. وقد وردت الأروق من ورق الليل أي أظلم.
(2) لا يختلى: لا ينزع لا يطرق: لا يدخل.
(3) القسطاس: الميزان.
(4) الظبى، جمع ظبة: حد السيف أوارة: حر شديد.
(5) الموادع، جمع ميدع: الثوب الخلق، وما يصان به الثوب. وعدم موانقة اللفظة للمعنى تجعلنا نعتقد أن الأصل هو: موانع.
(6) تومق: تبهر.
(7) اليلمق: ثوب يلبس فوق الثياب.(2/38)
وكأنّ دارك جنّة، حصباؤها ... الجاديّ، أو أنماطها الإستبرق (1)
في موقف تغضي العيون جلالة ... فيه، ويعثر بالكلام المنطق
وكأنّما فوق السّرير، وقد سما ... أسد على نشزات غاب مطرق
والنّاس إمّا راجع متهيّب، ... ممّا رأى، أو طالع متشوّق
مالوا إليك محبّة، فتجمّعوا، ... ورأوا عليك مهابة، فتفرّقوا
وطعنت من غرر الكلام بفيصل ... لا يستقلّ به السّنان الأزرق
وغرست في حبّ القلوب مودّة، ... تزكو على مرّ الزّمان وتورق
وأنا القريب إليك فيه، ودونه ... ليدي عدوّك طود عزّ أعنق (2)
عطفا، أمير المؤمنين، فإنّنا ... في دوحة العلياء لا نتفرّق
ما بيننا، يوم الفخار، تفاوت، ... أبدا كلانا في المعالي معرق (3)
إلّا الخلافة ميّزتك، فإنّني ... أنا عاطل منها، وأنت مطوّق
مودات القلوب
(الرجز)
في هذه القصيدة يهنئ ملك الملوك قوام الدين بالنيروز، وذلك في شعبان سنة 401.
رأى على الغور وميضا، فاشتاق، ... ما أجلب البرق لماء الآماق (4)
ما للوميض، والفؤاد الخفّاق ... قد ذاق من بين الخليط ما ذاق
__________
(1) الجادي: المطر الاستبرق: الديباج الغليظ ثياب من حرير وذهب.
(2) الأعنق: العالي، الأكمة فوق جبل عال.
(3) معرق: عريق، أصيل.
(4) ماء الآماق: كناية عن الدموع.(2/39)
داء غرام ما له من إفراق، ... قد كلّ آسيه، وقد ملّ الرّاق (1)
لآل ليلى في الفؤاد أعلاق ... تزيد من حيث تقضى الأشواق
قامت ترائيك بقلب مقلاق، ... وللوداع عجل وإرهاق
من ثقب الدّرّ النّقيّ برّاق، ... يرمي القلوب، وأسيلا رقراق
يقوم للّيل مقام الإشراق، ... حيّ، إذا قام الوغى على ساق
ردّوا القنا وطاعنوا بالأحداق، ... أحبّهم على الضّنا والإيراق
حبّ الضّنين المال بعد الإملاق ... إنّ مودّات القلوب أرزاق (2)
من منصفي من الملول المذّاق ... قلبي وطرفي من جوى وإقلاق (3)
في غرق ما ينقضي وإحراق، ... يضنّ حتّى بالخيال الطّرّاق
رمى الإله بالرّميض الذلّاق ... كلّ غراب بالزّيال نعّاق (4)
يا ناق أدّاك المؤدّي، يا ناق، ... ماذا المقام، والفؤاد قد تاق
هل حاجة المأسور إلّا الإطلاق، ... ألهاك عن ليل السّرى والإعناق (5)
مناشط الشّيح، ورعي الطّبّاق، ... سيري إلى ورد الجموم الفهّاق (6)
حمل المساعي غير حمل الأوساق، ... بحيث تسري للعلاء أعراق
نور الغواشي ومساك الأرماق ... من معشر باتوا بليل العشّاق
__________
(1) آسيه: طبيبه الراق: الذي يصنع الرقية، وهي وسيلة تساعد على تحقيق أمر يبدو مستحيلا أو غامضا، والراقي كان يقوم مقام الطبيب في زعم بعضهم.
(2) الأملاق: الفقر، الحاجة أرزاق: حظوظ.
(3) الملول: السريع الملل المذاق: الذي لا يخلص الود.
(4) الزيال: الفراق. وقد وردت في نسخة أخرى كلمة نغاق بدل نعاق، والا فرق.
(5) السرى: السيد ليلا الأعناق: السير السريع.
(6) الطبّاق: شجر ينبت في جبال مكة فيه منافع جمة الجموم: معظم الماء الفهاق: الممتلئ.(2/40)
إلى المعالي والنّدى بالأشواق، ... كانوا إذا أظلم ليل الطّرّاق
شهب الدّياجي، ونجوم الآفاق ... بيض وجوه كالظّبى وأعناق
أطوع من تيجانها والأطواق، ... سيّان منهم سابق ولحّاق
من قاد غير المجد منهم أو ساق، ... مهلا إلى أين الصّعود يا راق
ضلّ المجارون وقام السّبّاق، ... لم يلحقوا يوما غبار الأطلاق
إلّا قذى لناظر، أو حملاق، ... قد رجعوا عنك بليّ الأعناق
هيهات! فات الأعوجيّ المعناق ... سهم من الله بعيد الإغراق (1)
أعطى ديون القوم خصل الأسباق، ... مسعاة مجد عاق عنها ما عاق (2)
خطبتها على النّجيع المهراق ... غرّاء ما ناكحها بمطلاق
ليس لها إلّا الجزار الذّلّاق، ... يضرحها ضرح القذى من الماق (3)
ضربا أخاديد وطعنا شهّاق، ... نائي القرارات بعيد الأعماق
يذكرنا وابل طعن دفّاق، ... يوم الزّويرين ويوم التّحلاق (4)
جماجما من العريب أقلاق، ... أنذرتهم وثب هريت الأشداق (5)
طوي من الإدماج طيّ المخراق، ... صلّ على حتف العدوّ مطراق (6)
محاذر اللّحظ مرجّى الإطلاق، ... سحائب تشئم بعد إعراق
لنا حياها، والزّلال الغيداق، ... وللعدى إرعادها والإبراق
في كلّ يوم ذو الجلال الخلّاق ... يبري لقوس المجد منكم أفواق
أرقني طولك بعد الإعتاق، ... أساغ ريقي والخناق قد ضاق
فانعم بنيروز إليك مشتاق، ... والق به من خير ما يلقى اللّاق
__________
(1) الإغراق: مدّ القوس إلى أقصى ما يمكن.
(2) الخصل، من تخاصل: تراهن.
(3) الجراز الذلاق: السيف السريع القطع يضرحها: يدفعها الماق: العين.
(4) يوم الزويرين ويوم التحلاق: من أيام العرب.
(5) هريت الأشداق: واسعها، والمراد به الأسد.
(6) الإدماج، من أدمجه: لفّه، فتله جيدا المخراق: الثور البري.(2/41)
فما وقيت، فالعدى بلا واق ... عهد على الأيّام باقي الميثاق
أن لا يرى غصنك ذاوي الأوراق ... ضوى من الإثمار بعد الإيراق
ما أهون الفاني، إذا كنت الباق
تخذوا المجد أبا
(مجزوء الرمل)
وجه الرضي هذه القصيدة الى ملك الملوك قوام الدين، في ذي الحجة سنة 402.
خلّ دمعي وطريقه، ... أحرام أن أريقه
كم خليط بان عنّي ... ما قضى الدّمع حقوقه (1)
يا شقيقي، والقنا يغ ... ضب في العدل شقيقه
عاصيا ناصحه الأق ... رب ودّا، ورفيقه
من لبرق هبّ وهنا ... من أبانين وسوقه (2)
من شريقيّ الحمى ين ... شد نجدا وعقيقه
من غمام كالمتالي، ... ينقل اللّيل وسوقه (3)
لاح، فاقتاد فؤادا، ... عازب اللّبّ مشوقه (4)
طال ذكر النّفس أر ... واح زرود وبروقه (5)
__________
(1) الخليط: الجماعة من الناس بان: بعد.
(2) وهنا: ليلا الابانان: جبلان سوقة: موضع.
(3) المتالي: الإبل التي نتج بعضها وبعضها الآخر لم ينتج، والمتالي أيضا هي الأمّات إذا تلاها أولادها.
(4) العازب: الغائب.
(5) زرود: اسم موضع.(2/42)
وعقابيل غرام ... يذكر القلب حقوقه (1)
وخيال دلّس القل ... ب على العين طروقه
كذب يحسبه الصّ ... بّ من الشّوق حقيقه
أنعمي، يا سرحة الح ... يّ، وإن كنت سحيقه
أتمنّى لك أن تب ... قي على النّأي وريقه
ثمر حرّم واشي ... ك علينا أن نذوقه
يا قوام الدّين و؟؟؟ الفا ... رج للدّين مضيقه
أنت راعيه وهادي ... هـ، إذا ضلّ طريقه
من رجال ركبوا المج ... د، فما ذمّوا عنيقه (2)
معشر كانوا قبيل ال ... عزّ قدما وفريقه
وملوك في ثراهم ... ضرب المجد عروقه
ومغاوير الحفيظا ... ت وفرسان الحقيقه (3)
حسب يحسب من في ... هـ، وأعراق عريقه
من ترى يدفع روقي ... هـ، ومن يطلع نيقه (4)
لهم الأيدي الطّوال الطّو ... ل، والبيض الذّليقه
ومواريث مقاري اللّي ... ل، والنّار العتيقه
بوجوه واضحات ... في دجى الأزل طليقه (5)
وأكفّ منفقات ... في النّدى الغمر عريقه
وبأخلاق رقاق ... دون أعراض صفيقه
تخذوا المجد أبا ما اس ... تحسنوا قطّ عقوقه
__________
(1) العقابيل: بقايا العلّة، بقايا الحب.
(2) عنيقه: رأسه، ذروته.
(3) الحقيقة: ما يحق لك أن تحميه.
(4) الروق: القرن النيق: أرفع موضع في الجبل.
(5) الازل: الضيق والشدّة طليقة: حرّة، مشرقة.(2/43)
إنّ فيهم مولد المل ... ك، ومن قبل علوقه
ناشئا تسلمه الأ ... مّ إلى الظّئر الشّفيقه (1)
هم رموا عنّي جليل الخط ... ب يدمى، ودقيقه
طردوا الأيّام عن ور ... د دمى طرد الوسيقه (2)
أطلقوني من إسار ال ... دّهر إطلاق الرّبيقه (3)
هل نهى الأعداء سا ... قي علق ذمّوا رحيقه
فيلق جرّ على أر ... بق أذيال الفليقه (4)
مثل أعداد نجوم ال ... ليل أو رمل الشّقيقه (5)
احذر الشّمس بجون ... يعجل اللّيل غسوقه (6)
جلب الخيل ليوم، ... قد أقام الضّرب سوقه
مطلت بالوعد، حتّى ... نسي القود عليقه (7)
في هجير من أوار ال ... طّعن فوّار الوديقه (8)
كلّ صدر بالعوالي ... يسمع الطّعن شهيقه
فيه نجلاء رموح ... بالأسابيّ عميقه (9)
مجّة النّاهل في المح ... ض أراب مستذيقه (10)
قد أفاقوا والظّبى من ... هامهم غير مفيقه
__________
(1) الظئر الشفيقة: المرضعة صاحبة الشفقة
(2) الوسيقة: جماعة الإبل.
(3) الربيقة: الدابة المربوطة.
(4) الفيلق: الجيش أربق: اسم بلدة بفارس الفليقة: العجيبة.
(5) الشقيقة: الفرجة بين جبلين مرملين.
(6) الجون: النهار غسوقة: من الغسق.
(7) القود: الماشية التي تقاد ولا تركب.
(8) أوار: حرّ الوديقة: الدم، والودق هو المطر استعاره للدم.
(9) نجلاء: واسعة الأسابي: السيلان.
(10) المحض: اللبن.(2/44)
رجعوا من عزّة الفح ... ل إلى ذلّ الطّروقه
قلت للمختبط الطّا ... لب قد أوضع نوقه
فاتك البرق، فمن ير ... جو، وقد فات لحوقه
سبق السّيل فأعيا ... كلّ باغ أن يعوقه
لا تعاط اليوم عب ... ئا أبدا لست مطيقه
وهضابا تزلق الطّر ... ف، وأطوادا زليقه
حسب الأوشال جهلا ... كالعياليم العميقه (1)
ومدى الجازر تدمى، ... كالمباتير الرّقيقه
ضلّة الزّائد قد خا ... طر بالبكر فنيقه (2)
عشت تستدرك فينا ... خطل الدّهر وموقه (3)
لابسا درّاعة البخ ... ل، ورقّاعا خروقه
في معال باقيات ... للعدى غير مذيقه
واثقا بالدّهر تعطى ... من رزاياه وثيقه
كلّما عفت صبوح ال ... عمر عوطيت غبوقه (4)
مطلع الشّارق، إن غا ... ب رجا النّاس شروقه
آمن المرتع ترعى ... روضة العزّ أنيقه
إن يكن عيدا، فأيّا ... مك أعياد الخليقه
إنّها أنوار أح ... داق ونوّار حديقه
إنّ نعّاق الأعادي، ... أسكت الذّلّ نعيقه
لفظ الملك شجاه، ... وأساغ اليوم ريقه
__________
(1) الأوشال جمع وشل: الماء القليل يتحلّب من جبل أو صخر العياليم، جمع عيلم: البحر، البئر الكثيرة الماء.
(2) الفنيق: الفحل المكرم لا يؤذي ولا يركب.
(3) خطل الدهر: ضعفه، اختلافه الموق: الحمق، الغباوة.
(4) الصبوح والغبوق: ما يتعلق بالصباح والمساء.(2/45)
فرع أشار إلى السماء
(الكامل)
في هذه القصيدة يمدح الشاعر أباه ويذم عدوّا له، نظمها في سنة 375.
يا دار ما طربت إليك النّوق، ... إلّا وربعك شائق ومشوق
جاءتك تمرح في الأزمّة والبرى، ... والزّجر ورد والسّياط عليق (1)
وتحنّ ما جدّ المسير، كأنّما ... كلّ البلاد محجّر وعقيق (2)
دار تملّكها الفراق فرقّها ... بالمحل من أسر الغمام طليق (3)
شرقت بأدمعها المطيّ، كأنّما ... فيها حنين اليعملات شهيق
خفقت يمانية على أرجائها، ... وطغت عليها زعزع وخريق (4)
في كلّ إصباح وكلّ عشيّة، ... يسري عليها للدّموع فريق
سخط الغراب على المساقط بينها، ... فله بإنجاز الفراق نعيق
فتوزّعت تلك القذاة نواظر، ... وتقسّمت تلك الشّجاة حلوق
الآن أقبل بي الوقار عن الصّبا، ... فغضضت طرفي والظّباء تروق
ولو انّني لم أعط مجدي حقّه ... أنكرت طعم العزّ حين أذوق
رمت المعالي فامتنعن ولم يزل ... أبدا يمانع عاشقا معشوق
وصبرت حتّى نلتهنّ ولم أقل ... ضجرا: دواء الفارك التّطليق (5)
ما كنت أوّل من جثا بقميصه ... عبق الفخار، وجيبه مخروق
كثرت أمانيّ الرّجال، ولم تزل ... متوسّعات، والزّمان يضيق
__________
(1) البرى: التراب.
(2) محجّر وعقيق: موضعان.
(3) رقّها: رققها.
(4) يمانية: اسم ريح خريق: الريح الباردة والشديدة الهبوب.
(5) الفارك: المرأة التي تبغض زوجها.(2/46)
من كلّ جسم تقتضيه حفرة، ... فكأنّه من طينها مخلوق
ومفازة تلد الهجير خرقتها، ... والأرض من لمع السّراب بروق
بنجاء صامتة البغام كأنّها، ... والآل يركض في الفلاة، فنيق (1)
سبقت إليك العزم طائشة الخطى ... فنجت وأعناق المطيّ تفوق (2)
جذبت بضبعي من تهامة قاصدا، ... والنّجم في بحر الظّلام غريق (3)
مستشريا برقا تقطّع خيطه، ... فله على طرر البلاد شروق (4)
هزّ المجرّة أفقه، وكأنّها ... غصن بأحداق النّجوم وريق
مجّ الظّلام الفجر عنه، كأنّما ال ... أضواء في شفة العياطل ريق (5)
والليل محلول النّطاق عن الضّحى ... عار، وعقد الصّبح فيه وثيق
ما كان إلّا هجعة، حتّى انثنى، ... والطّرف من سكر النّعاس مفيق
وتماسكت تلك العمائم بعد ما ... أرخى جوانبها كرى وخفوق
ما رفّهت ركبانها، إلّا وفي ... جلد الظّلام من الضّياء خروق
يا ناق عاصي من يماطلك السّرى، ... فلحيق غيرك بالعقال خليق
وردي حياض فتى معدّ كلّها، ... فالحبل أتلع، والقليب عميق (6)
وإذا تراخت حبوتي أوثقتها ... بفناء بيت تربه العيّوق (7)
في بلدة، حرم على أعدائه ... وعلى النّوائب ربوة إزليق
تتزاحم الأضياف في أبياته، ... فرقا تحنّ إلى القرى وتتوق
__________
(1) النجاء: الناقة السريعة البغام: الصوت الآل: السراب فنيق: فحل مكرّم.
(2) تفوق: تمضي، ترتفع.
(3) الضبع: الإبل الشديد الجري.
(4) مستشريا: طالبا لمعان البرق طرر البلاد: الآفاق.
(5) العياطل: الظلام. يلاحظ تشخيص الظلمة واستعارة الريق للأضواء.
(6) الحبل أتلع: طويل القليب: البئر.
(7) العيوق: اسم نجم عال.(2/47)
وإذا رآهم لم يقل متمثّلا: ... أبني الزّمان لكلّ رحب ضيق
عجبا لربعك كيف تخصب أرضه ... وجنابه بدم السّوام شريق
والخيل تعلم أنّ حشو ظهورها ... منه نهى، ينجاب عنها الموق (1)
ما زال يجنبها إلى أعدائه، ... والشمس تسحب والفلاة تضيق
من كلّ رقّاص كأنّ صهيله ... نغم وما مجّ الطّعان رحيق
طرف تعوّد أن يخلّق وجهه ... في حيث ينضو النّقع وهو سبوق (2)
ذو جلدة حمراء تحسب أنّها ... من طول تخليق الرّهان خلوق
واليوم ملطوم السّوالف بالظّبى، ... واللّيل مرتعد النّجوم خفوق
لقطت نفوسهم شفاه صوارم ... فرغت وأسياف العوامل روق (3)
في كلّ يوم يندبون مصارعا، ... للوحش فيها والنّسور طروق
نشوانة الأعطاف من دم فتية ... فيهم صبوح للرّدى وغبوق
تبكي عليها، غير راحمة لها، ... بالهاطلات رواعد وبروق
وتبلّغت آراؤه، فكأنّها ... طلعت وفي سجف الغيوب فتوق
ويكرّ والفرس الجواد مبلّد، ... ويقدّ والعضب الحسام معوق
كرّات من شدّت قوائم عزمه، ... فلها رسيم في العلى وعنيق (4)
كفّاه أدّبتا السّهام، فما لها ... في النّبض عن خطإ البنان مروق
لولا احتذاء السّهم طاعة قوسه، ... ما شيّع النّصل المصمّم فوق (5)
يدني الحمام بكفّه مترسّل ... لقضائه، نائي السّنان رشيق
نفضت على الأيّام منه شمائل ... أبرزن وجه الدّهر وهو طليق
وأقام أسواق الضّراب فللرّدى ... فيهنّ من سبي النّفوس رقيق
__________
(1) الموق: الحمق، الغباوة.
(2) الطرف: الجواد الخفيف والسريع.
(3) روق: ملوّثة بالدماء.
(4) الرسيم والعنيق: نوعان من السير.
(5) الفوق: موضع الوتر من السهم.(2/48)
نفسي فداؤك أيّ يوم لم تقم ... لك فيه من جلب القواضب سوق
قمر يهاب الموت ضوء جبينه، ... واليوم خوّار العجاج غسوق (1)
والسّيف ليس يهاب قبل قراعه ... حتّى يمسّ العين منه بريق
عشق السّماح، وكلّ سحر للمنى ... فيه بأنفاث السّؤال يحيق
طهّرت قلبي مذ علمت بأنّه ... لسرى مدائحه العظام طريق
كم كاهل للشّعر أثقل نعته ... عطفيه، وهو لما يؤدّ مطيق (2)
طأطأت فرع المجد، ثمّ جنيته، ... فارتدّ وهو على عداك سحوق (3)
فرع أشار إلى السّماء فجازها، ... حتّى كأنّ له النّجوم عروق
ومبخّل شهدت عليه يمينه ... في حيث يمنعها النّدى ويعوق (4)
يبكي إذا بكت السّحاب كأنّه ... أبدا على طرف الغمام شفيق
وإذا تعرّض عارض أغضى له ... ألّا يرى الأنواء كيف تريق
لو أبدت الأيّام جانب وجهه، ... لتشبّثته مظالم وحقوق
إن سار سار إلى النّزال بخفية، ... حتّى كأنّ سلاحه مسروق
بيت أقام البخل فيه، فاستوى ... بفنائه المحروم والمرزوق
يرجو بلوغ نداك، وهو محقّق ... مع حرصه أنّ الجواد عتيق
في الطّينة البيضاء غرسك، إنّه ... غرس تداوله البقاع عريق
فإذا التثمت فكلّ وجه باسل ... وإذا حسرت فكلّ خدّ روق (5)
الله جارك، والمطيّ جوائر، ... والنّصر درعك، والحسام ذليق
لا زلت تجنب من سيوفك في العدى ... نحرا يخبّ وراءه التّشريق
وإذا جهرت بصوت عزمك مسمعا، ... أصغى إليك اليمن والتّوفيق
شرّفت مدحي فاعتلى بك طوده، ... ومن المدائح فائق ومفوق
شهدت له خيل الخواطر أنّه ... خير الصّهيل، وما سواه نهيق
__________
(1) غسوق: مظلم.
(2) يؤدّ: يثقل.
(3) السحوق: الطويل.
(4) المبخّل: شديد البخل.
(5) الباسل: الكريه المنظر الروق، جمع روقة: الجميل، الرائق.(2/49)
الدهر ثوب
(السريع)
وضع هذه القصيدة في مدح الملك قوام الدين أيضا.
لو صحّ أنّ البين يعشقه، ... ما استعبرت في السّير أينقه (1)
قمر على غصن يرنّحه ... مرّ اللّحاظ، وليس يرشقه
طأطأت لحظ العين حين خطا، ... والبين يرمقني ويرمقه
وأذبت دمعي يوم ودّعني، ... في صحن خدّ ذاب رونقه
ودّعته، والبدر تحسبه ... متقاعسا في الفجر أعنقه
واللّيل يكبو فيه أدهمه، ... والصّبح ينهض منه أبلقه (2)
واللّثم يركض في سوالفه، ... وتكاد خيل الدّمع تسبقه
ما غرّني يوم اللّقاء، ولا ... خدع ارتياح هواي ريّقه
وعلمت حين نشرت مطرفه ... أنّ الفراق غدا يمزّقه
بكت الجفون، وأنت طارفها، ... وشكا الفؤاد، وأنت محرقه (3)
ودّي لخير النّاس أذخره، ... ما كلّ ودّ فيك أنفقه
ودّ تقادم عهده فصفا، ... وجديد ودّ المرء أخلقه (4)
لمشمّر الأطراف منزعج ال ... أعطاف يهجعه تأرّقه
لأغرّ تعشي الشّمس غرّته، ... ويشقّ جيب اللّيل مشرقه
يسري فتحجبه خلائقه، ... ويضيء أوجهها تخلّقه
أبدت خبيّ المجد طلعته، ... وأذاع سرّ المجد منطقه
__________
(1) الأينق: النياق.
(2) الأدهم: الأسود الأبلق: الذي اجتمع فيه البياض والسواد.
(3) طارفها: مؤذيها.
(4) أخلقه: أكثره تعرضا للذهاب والفناء.(2/50)
ولقلّما شرقت أسنّته، ... إلّا وصفو الحمد يشرقه (1)
وإذا استرقّ المحل مرتبعا، ... أمر السّحاب الجون يعتقه
وإذا تأمّل شخصه ملك ... أوما إلى قدميه مفرقه
في كفّه عاري الذّباب له ... لمع يدلّك كيف ترمقه (2)
أطغاه رونق غربه، فطغى، ... والماء يطغيه ترقوقه (3)
جذلان يرقص في الرّؤوس إذا ... غنته بالصّهلات سبّقه
صلّى الرّدى لو يستطيع إلى ... نصل براحته مخلّقه
يؤوي الضّيوف ودون حجرته ... باب على الأحداث يغلقه
وإذا النّوائب زعزعت يده ... في الطّعن جاءته تملّقه
عريان خيل الغدر من دنس، ... لا يستطيع الغدر يعلقه (4)
الجود ينهاه ويأمره، ... والدّهر يرجوه ويفرقه (5)
هو قادر لكنّ صولته ... في البطش يصرعها ترفّقه
ولربّ مجهول ركائبه، ... خلف الرّياح الهوج تخرقه
قلقلت بالأجفاف تربته، ... والقيظ عن أمم يحرّقه (6)
ذمّتك ربوته ووهدته، ... وشكاك فدفده وسملقه (7)
ولربّ ورد بتّ قاربه، ... لا يطمئنّ به تدفّقه (8)
والماء يرعد في جوانبه، ... جزعا، وظمء العيس يشرقه
__________
(1) شرقت أسنته: غصت بالدم، إحمرت من الدم يشرقه: ينيره.
(2) عاري الذباب: السيف.
(3) الغرب: حدّ السيف.
(4) يعلقه: يتمسك به.
(5) يفرقه: يخافه.
(6) الأجفاف، جمع جف: جماعة الناس أمم: قرب.
(7) الفدفد: الصحراء السملق: القاع.
(8) القارب: طالب الماء ليلا.(2/51)
لمّا لحظت الدّهر زايله ... إظلامه، وافترّ ضيّقه (1)
ساورته، ففضضت سورته، ... وارتاح في نعماك مملقه (2)
وكذاك همّ الرّيح في غصن ... تثنيه، أو ماء تصفّقه
لمّا رآك الملك منصلتا ... بالسّيف ترعده وتبرقه
استنكف التّعديل مايله، ... واسترجع التّحكيم أخرقه
أفل السّماح، وأنت شارقه، ... ودجا العلاء، وأنت مشرقه
ولربّ يوم شمت بارقه، ... والموت يهطله ويودقه (3)
والسّيف قائمه يفارقه، ... والرّمح عامله يطلّقه
والشّمس تجري وهي مهملة ... في ثوب نقع لا تخرّقه
والخيل تطبع في حوافرها ... وشما تداوله، وتخلقه
من كلّ ذيّال السّبيب رمى ... بيديه أولى النّقع أولقه (4)
أشليت عزمك في كتائبه، ... والسّهم يشليه مفوّقه (5)
فاسلم على الأيّام تلبسها، ... فالدّهر ثوب أنت مخلقه
__________
(1) زايله: فارقه افتر: ابتسم.
(2) ساوره: واثبه السورة: الحدة، الغضب.
(3) يودقه: يمطره.
(4) ذيّال السبيب: هو شعر الذنب والعرف والناصية أولقه: أسرعه.
(5) أشليت: أغريت يشليه: يرفعه مفوّقه: راميه.(2/52)
عزّ الغزو
(الطويل)
نظم الرضي هذه القصيدة في عيد الفطر، وفيها يهنئ أباه بالعيد.
بودّ الرّذايا أنّها في السّوابق، ... وكم للعلى من طالب غير لاحق
وفي شدّة الدّهر اعتبار لعاقل، ... وفي لذّة الدّنيا غرور لواثق
أرى العيش أيّاما تمرّ، وليتنا ... نباعد من أحداثها والبوائق (1)
شهيّ إلى النّاس النّجاء من الرّدى، ... ولا عنق إلّا وهي في فتر خانق
وأكثر من شاورته غير حازم، ... وأكثر من صاحبت غير الموافق
إذا أنت فتّشت القلوب وجدتها ... قلوب الأعادي في جسوم الأصادق
وعندي من الودّ الذي لا يشوبه ... لحاظ المرائي أو كلام المنافق
أغالط نفسي بعد مرأى ومسمع، ... ولا أنظر الدّنيا بعين الحقائق
على أنّني أدري، إذا كان قائدي ... بقائي، فإنّ الموت لا شكّ سائقي
وما جمعي الأموال إلّا غنيمة ... لمن عاش بعدي واتّهاما لرازقي
تنفّس في رأسي بياض كأنّه ... صقال تراق في النّصول الرّوانق (2)
وما جزعي إن حال لون، وإنّما ... أرى الشّيب عضبا قاطعا حبل عاتقي
فما لي أذمّ الغادرين، وإنّما ... شبابي أدنى غادر بي وماذق (3)
تعيّرني شيبي كأنّي ابتدعته، ... ومن لي أن يبقى بياض المفارق
وإنّ وراء الشّيب ما لا أجوزه ... بعائقة تنسي جميع العوائق
وليس نهار الشّيب عندي بمزمع ... رجوعا إلى ليل الشّباب الغرانق (4)
__________
(1) البوائق: الباقية.
(2) التراقي: عظام أعلى الصدر.
(3) الماذق: الذي لا يدوم على صداقة.
(4) الغرانق: التام، الكامل.(2/53)
وما العزّ إلّا غزوك الحيّ بالقنا، ... وربط المذاكي في خدور العواتق (1)
وإغمادك الأسياف في كلّ هامة، ... وركزك أطراف القنا في الحمالق (2)
ولا ترتضي أن تدنس العرض ساعة، ... ومشيك في ثوب من الزّين رائق
فللعزّ ما أدنى لياني من القنا، ... وأكره رمحي في صدور الفيالق
سقى الله نفسا ما أضرّ بقاؤها ... بجسمي، وأغراها بما كان عارقي
تكلّفني سيرا إلى غير غاية، ... مضرّا بأبناء الجديل ولاحق (3)
وليل كعين الظّبي، إلّا نجومه، ... قطعت ولي من صبحه كفّ سارق
جريّا على الظّلماء، حتّى كأنّني ... أراها بألحاظ الرّزايا الطّوارق
وركب أناخوا ساعة، فتناهبوا ... ثرى البيد في أعضادهم والمرافق
وساروا بأيدي العيس عجلى كأنّها ... خراطم أقلام جرت في المهارق (4)
وما أنا ممّن يضجر السّير قلبه، ... وتذكره الأمواه حرّ الودائق (5)
ولكن شريك الوحش في كلّ مهمه، ... وردف اللّيالي في الرّبى والأبارق
رعى الله من فارقت من غير رغبة ... على الوجد منّي والسّقام المطابق
يباعد عنّي من غرامي لأجله، ... ويقرب من قلبي له غير وامق (6)
إذا شئت أن لا تهجر الهمّ فاغترب، ... وإن شئت أن يأتي الحمام ففارق
فكلّ غريب يألف الهمّ قلبه، ... ولا سيّما قلب الغريب المفارق
فكيف بطرف لحظه لحظ مدنف ... سقيم، وجسم قلبه قلب عاشق
إذا كنت ممّن يجحد الشّوق في النّوى، ... فكم فاض دمعي من حنين الأيانق (7)
__________
(1) المذاكي من الخيل: هي التي نضجت وبلغت كمالها العواتق: المناكب.
(2) الحمالق: بواطن أجفان العيون.
(3) الجديل: فحل للنعمان بن المنذر لاحق: اسم فرس.
(4) المهارق: الصحائف.
(5) الودائق، جمع وديقة: شدّة الحر.
(6) وامق: محب.
(7) الأيانق: النياق.(2/54)
وكم أنا وقّاف على كلّ منزل، ... وكم أنا مرتاح إلى كلّ بارق
أحنّ إلى من لا يحنّ صبابة، ... وما واجد قلبا مشوق وشائق
وعندي من الأحباب كلّ عظيمة ... تزهّد في قرب الضّجيع المعانق
تعطّلت الأحشاء من كلّ أنّة، ... فلا القرب يضنيني ولا البعد شائقي
وما في الغواني من سرور لناظر ... ولا في الخزامى من نسيم لناشق
رمى الله بي من هذه الأرض غيرها، ... وقطّع من هذا الأنام علائقي
فكم فيهم من واعد غير منجز ... وكم فيهم من قائل غير صادق
يظنّون أنّ المجد فيمن له الغنى، ... وأنّ جميع العلم فضل التّشادق
وفاء كأنبوب اليراع لصاحب، ... وغدر كأطراف الرّماح الزّوالق
ولولا ابن موسى لم يكن في زماننا ... معاذ لجان، أو محلّ لطارق (1)
ولا دبّرت سمر القنا كفّ فارس، ... ولا مدّ في رزق المنى باع رازق
تغمّدنا من كلّ أرض بنفحة، ... وأمطرنا من كلّ جوّ بوادق (2)
إذا همّ لم يبعد به زجر زاجر، ... وإن ثار لم يعطف به نعق ناعق
وإن رام أملاك البلاد بفتكة، ... مشى الذّلّ في تيجانها والمناطق
له العزّ والمجد التّليد وراثة، ... وأخذا عن البيض الظّبى والسّوابق (3)
وما زال يلقى كلّ غبراء فخمة ... تغالي بأطراف القنا والعقائق (4)
وما برحت في كلّ عصر سيوفه ... مواضع تيجان الرّجال البطارق (5)
يجرّدها مثل الأقاحي على الطّلى، ... ويغمدها محمرّة كالشّقائق
تبلّغه أقصى الأماني رماحه، ... وآراؤه، والرّأي أمضى مرافق
__________
(1) ابن موسى: كناية عن والد الشاعر معاذ لجان: ملجأ لمستجير، والجاني هو طالب الماء.
(2) الوادق: الغيم الماطر.
(3) التليد: القديم الموروث البيض الظبى: السيوف القاطعة السوابق:
الخيول.
(4) تغالي، من غالى بالسهم: رمى به إلى أقصى غاية العقائق: السيوف.
(5) البطارق: القادة، والبطريق هو قائد الروم.(2/55)
وخيل كأطراف العوالي جريئة ... على الطّعن مسقاة دماء الموارق (1)
إذا عنّ طرد أو طراد تبادرت ... طراد الأعادي قبل طرد الوسائق (2)
تدير عيونا بدّد الرّوع لحظها، ... وغطّى مآقيها غبار السّمالق (3)
نواصب آذان إلى كلّ نبأة، ... طوامح ألحاظ إلى كلّ مارق
ذواكر للنّجوى بيوم طعانه ... ينسّي رؤوس الخيل جذب العلائق
تروع جنان اللّيث إن لم تذمّه، ... وتطعن في الأقران إن لم تعانق
هنيئا لك العيد المضاعف سعده، ... كما ضاعف الوسميّ نبت الحدائق
وكم مثل هذا العيد قضّيت فرضه ... بمكّة، فى ظلّ البنود الخوافق
وقدت إليه العيس عجلى مروعة، ... تناهز في أنماطها والنّمارق (4)
مدفّعة تحت السّياط كأنّها، ... إذا جنّت الظّلماء، أيدي النّقانق (5)
ويعنتها الحادون أو توسع الخطا ... إلى قرب دار الموقف المتضائق
وأيّ مقام للورى تحت ظلّه، ... مهيب يطاطي من عيون الحدائق
وأكثر ما تلقى به العين أو ترى ... إفاضة مخلوق إلى قرب خالق
ثمانين أعطيت المنى في مرورها، ... ولم ترم عن مسراك فيها بعائق
وأكبر ظنّي أن أرى منك عارضا ... يؤمّمها في مثل تلك البوارق
أبا أحمد هذا طلابي، وهذه ... مناي التي أمّتك دون الخلائق
وإنّي لأرجو منك ما لا أذيعه، ... مخافة واش، أو عدوّ مماذق
ولا بدّ من يوم حميد، كأنّه ... من النّقع في أثناء برد شبارق (6)
عظيم دويّ الصّوت في سمع سامع، ... بعيد سماع الصّوت من نطق ناطق
__________
(1) الموارق: النوافذ أي الرماح.
(2) الوسائق: جماعة الإبل.
(3) السمالق، جمع سملق: القاع الصفصف.
(4) النمارق: الوسادات.
(5) النقانق، جمع نقنق: الظليم، النافر.
(6) برد شبارق: ثياب مقطعة.(2/56)
أعدّ عناي فيه روحا وراحة، ... وكم سعة للمرء غبّ المضائق
وهذا مقالي فيك غيث، وربّما ... رميت العدى من وقعه بالصّواعق
إذا أنت يوما سمتنيه، فإنّما ... تكلّفني قطع الذّرى والشّواهق
وحسبك منه ما رضيت استماعه، ... وأكثر ما في النّاس لغو المناطق
أنت الهوى
(مجزوء الخفيف)
وكتب إلى بعض أصدقائه:
سيّدي أنت ليس ك ... لّ صديق بصادق
كم لسان دنا إلي ... ك بقلب منافق
كيف تنمي الوفاء والخ ... لّ غير الموافق
سرت بالشّوق والتف ... تّ إلى غير وامق (1)
مستريح من الجوى، ... كاذب الودّ ماذق (2)
أنت لا غيرك الهوى، ... من جميع الخلائق
لا يراني العدوّ إ ... لّا بعين المسارق
أنا لولاك ما طفر ... ت بقلب مصادق
أنا مولى العدى، وإن ... كنت عبد الأصادق
منزلي لا يزال يد ... نو إلى كلّ طارق
بظلام الغروب، أو ... بضياء المشارق
وشفاه الغمام تج ... لو ثغور البوارق
__________
(1) الوامق: المحب.
(2) الماذق: الذي لا يثبت في صداقته.(2/57)
وأعقّ الغراب بي ... ن بروق وفارق (1)
بظبى تخلط الجزو ... ر بضرب المفارق
أنا للجود مذ خلق ... ت ووحّدت خالقي
خلقي ذاك والتّخ ... لّق ضدّ الخلائق
أحرز المال للعطا ... ء، بجرّ الفيالق
وأرى جمعي الثّرا ... ء اتّهاما لرازقي
ما أعزّ الرّجال لو ... قنعوا بالحقائق
لي من الدّهر ما يش ... يّعني في البوائق
فرس يلحق الأيا ... طل من نسل لاحق (2)
ونحيل الكعوب في ... رأسه مثل بارق (3)
وصقيل الذّباب يق ... بض لحظ المرامق
أتحدّى به الرّدى، ... في ظهور السوابق
يوم قود الجياد خ ... طّارة في السّمالق (4)
تتنزّى رؤوسها ... من جنوب العلائق
أرتقي غاية الكهو ... ل بسنّ المراهق
__________
(1) البروق: الجبان الفارق: المنفرد أعق: أشق.
(2) الأياطل: الخواصر لاحق: اسم فحل من الجياد.
(3) نحيل الكعوب: الرمح.
(4) السمالق: القاع الصفصف.(2/58)
رثاء ابن جني
(الطويل)
توفي أبو الفتح عثمان بن جني النحوي ببغداد مساء الجمعة لليلتين بقيتا من شهر صفر سنة 392، وكانت تربطه بالشريف الرضي مودّة متينة. فصلّى عليه قبل دفنه، ثم رثاه بهذه القصيدة.
ألا يا لقومي للخطوب الطّوارق، ... وللعظم يرمى كلّ يوم بعارق (1)
وللدّهر يعري جانبي من أقاربي، ... ويقطع ما بيني وبين الأصادق
ويوري بقلبي نار وجد شواظها ... تريني اللّيالي ضوءه في مفارقي (2)
وللنّائبات استهدفتني نصالها، ... على شرف يرميننا بالفلائق (3)
وللنّفس قد طارت شعاعا من الجوى ... لفقد الصّفايا وانقطاع العلائق (4)
لها كلّ يوم موقف مع مودّع، ... وملتفت في عقب ماض مفارق
نجوم من الإخوان يرمي بها الرّدى، ... مقاربها فوت العيون الرّوامق
كأنّي، إذا تبّعت آثار غارب ... بعيني، لم أنظر إلى ضوء شارق
ولا دار إلّا سوف يجلى قطينها، ... على نعق غربان الخطوب النّواعق
ويخرج منها بالكرائم حادث، ... ويدخلها صرف الرّدى بالبوائق (5)
كأنّا قذى يرمي به السّيل كلّما ... تطاوح ما بين الرّبى والأبارق (6)
__________
(1) العارق: هو الذي يعرق العظم، يأكل لحمه.
(2) يوري: يشعل.
(3) الفلائق: الأمور المنكرة.
(4) شعاعا: حزنا الجوى: الشوق الشديد.
(5) البوائق: الشرور.
(6) الأبارق: الأرض الغليظة.(2/59)
أعضّ بناني إصبعا ثمّ إصبعا، ... على ثامر من فرع مجد ووارق (1)
وعقد من الأخدان أوهى نظامه ... كرور الرّزايا واعتقاب الطّوارق (2)
أردّ الشّجا قبل الزّفير تجلّدا، ... وأغلب دمعي قبل بلّ الحمالق
كأنّي بعد الذّاهبين رذيّة ... تزجّى وراء الماضيات السّوابق (3)
ولا ريب أنّي مبرك في مناخهم، ... وأنّي بالماضين أوّل لاحق
فأين الملوك الأقدمون تساندوا ... إلى جذم أحساب كرام المعارق (4)
بهاليل منّاعون للضّيم أحسنوا ... بلاءهم عند النّصول الذّوالق (5)
عواصب بالتّيجان فوق جماجم، ... وضاء المجالي واضحات المفارق
إذا رثموا المسك العرانين خلتهم ... أسود الثّرى سافت دما بالمناشق (6)
فحول أطلن الهدر والخطر بالقنا، ... ضوارب للأذقان ميل الشّقائق (7)
هم انتعلوا العلياء قبل نعالهم، ... وداسوا طلى الأعداء قبل النّمارق
ترى كلّ حرّ الملطمين كأنّه ... عتيق المهارى من جياد عتائق
إذا قام ساوى الرّمح حتّى يمسّه ... بغارب ممطوط النّجاد وعاتق
ورائي الدّجى يعشو إلى ضوء وجهه ... كأنّ على عرنينه ضوء بارق
وأين الملاجي العاصمات من الرّدى ... إذا طرقت إحدى اللّيالي بطارق
مصاعب لم تعط الرّؤوس لقائد، ... ولا استوسقت قبل المنايا لسائق
فشنّ عليه الأزلم العود غارة، ... بلا قرع أرماح ولا نقع مازق (8)
__________
(1) ثامر: صاحب الثمار.
(2) الأخدان: الأصحاب، الأصدقاء أوهى: انقطع.
(3) الرذية: التي أثقلها المرض.
(4) الجذم: الأصل.
(5) بهاليل: أسياد الذوالق: اللماعة، القاطعة.
(6) رثموا: لطخوا العرانين: الأنوف سافت: شمت.
(7) الخطر: التخايل الشقائق: صفة للجياد التي تتمايل في عدوها.
(8) الأزلم: الدهر الشديد المصائب المازق: الطاعن وأراد الرمح.(2/60)
وشلّ بها شلّ الطّرائد بالقنا، ... وكعكعها من جلّة ودرادق (1)
لتبك أبا الفتح العيون بدمعها ... وألسننا من بعدها بالمناطق
إذا هبّ من تلك الغليل بدامع ... تسرّع من هذا الغرام بناطق
شقيقي إذا التاث الشّقيق وأعرضت ... خلائق قومي جانبا عن خلائقي
كأنّ جناني يوم وافى نعيّه، ... فريّ أديم بين أيدي الخوالق (2)
فمن لأوابي القول يبلو عراكها ... ويحذفها حذف النّبال الموارق (3)
إذا صاح في أعقابها أطردت له ... ثواني بالأعناق طرد الوسايق (4)
وسوّمها ملس المتون كأنّها ... بأبقى بقاء من وسوم الأيانق
ففي النّاس منها ذائق غير آكل، ... وقد كان منها آكلا غير ذائق
ومن للمعاني في الأكمّة ألقيت ... إلى باقر غيب المعاني وفاتق
يطوّح في أثنائها بضميره، ... مرير القوى ولّاج تلك المضايق
تسنّم أعلى طودها غير عاثر، ... وجاوز أقصى دحضها غير زالق (5)
طوى منه بطن الأرض ما تستعيده ... على الدّهر منشورا بطون المهارق (6)
مضى طيّب الأردان يأرج ذكره، ... أريج الصّبا تندى لعرنين ناشق
كأنّ جميع النّاس أثنوا عشيّة ... على بعض أمطار الرّبيع المغادق
أمدّوه من طيب لغير كرامة، ... وضمّوه في ثوب جديد البنائق (7)
وما احتاج بردا غير برد عفافه، ... ولا عرف طيب غير تلك الخلائق
__________
(1) كعكعها: حبسها الجلة: المسنّون الدرادق: الأطفال.
(2) فري الأديم: قطع الجلود الخوالق: صناع الجلود.
(3) أوابي القول: القول الذي يغضب، من أوب أوبا: غضب النبال الموارق:
السهام النافذة.
(4) الوسايق: جماعة الإبل المساقة.
(5) الدحض: الزلق، يقال مكان دحض أي يسبب الانزلاق.
(6) المهارق: الصحائف.
(7) البنائق، جمع بنيقة: البنيقة هي رقعة تزاد على القميص لتوسيعه.(2/61)
مرافق شعب كالهشائم وسّدوا ... بمنقطع البيداء غير المرافق
قد اعتنقوا الأجداث لا من صبابة، ... ويا ربّ زهد في الضّجيع المعانق
وما الميت إن واراه ستر من الثّرى ... بأقرب ممّا دون رمل الشّقائق
وفارقني عن خلّة غير طرقة، ... تضمّنها صدر امرئ غير ماذق (1)
تروّق ماء الودّ بيني وبينه، ... وطاح القذى عن سلسل الطعم رائق
سقاك، وهل يسقيك إلّا تعلّة، ... لغير الرّدى قطر الغمام الدّوافق
من المزن حمحام، إذا التجّ لجّة ... أضاءت تواليه زناد البوارق
سلافة غيث شلشلتها هميّة، ... نتيجة أنواء السّحاب الرّقارق (2)
ومستنبت روضا عليك منوّرا، ... على صابح من ماء مزن وغابق
وما فرحي إن جاورتك حديقة، ... وقبرك مملوء بغرّ الحدائق
أخ لك أمسى واجدا بك وجده، ... طوال اللّيالي بالشّباب الغرانق (3)
سخا لك من ريح الزّفير بحاصب ... مقيم، ومن ماء الشّؤون بوادق (4)
فما العهد منّي إن لهوت بثابت، ... ولا الودّ منّي إن سلوت بصادق
__________
(1) الماذق: الذي لا تدوم صداقته.
(2) شلشلتها: وزّعتها، فرقتها هميّة: سحابة.
(3) الغرانق: الكامل، التام.
(4) الحاصب: الذي يضرب بالحصى الشؤون، جمع شأن: العرق الذي تجري منه الدموع الوادق: السائل، النازل.(2/62)
معارض الركب
(السريع)
وضع الشريف هذه القصيدة في رثاء ابن ليلى البدوي، في محرم من سنة 393. وقد تقدمت له فيه مراث أخرى.
تعيّف الطّير، فأنبأنه ... أنّ ابن ليلى علقته علوق (1)
وإنّ سجلا من دم آمن ... أفرغه الطّعن بوادي العقيق (2)
يا ناعي الفارس قد أصبحت ... ضباع ذي العرعر منه نغوق (3)
تعلم من تنعى إلى قومه؟ ... طار ذراعاك بعضب ذلوق (4)
بعدا لأرماح تميم لقد ... هددن عاديّ بناء عتيق
قرعن في أصل كريم الثّرى، ... وجلن في فرع عزيز العروق
حدوا له من حيث لا يتّقي، ... عيرا من الطّعن ملاء الوسوق (5)
كأنّ ذا المطلع أمسى الرّدى ... رصيده، وازورّ عنه الفريق
قالت له النّفس على عارها: ... ما لك لا تنقض هذا الطّريق
ما كان بالرّاجع عن نهجه، ... لو وقف السّيف له في المضيق
لا يدع الذابل من طعمه ... على صبوح بدم، أو غبوق
كأنّ أعلاه لسان، فما ... يغبّه، الدّهر، بلال بريق
كم بات ربّاء لسيّارة ... طارقة غير أوان الطّروق (6)
__________
(1) تعيف: زجر، والعيافة زجر الطير العلوق: الداهية، المنية.
(2) السجل: الدلو العظيمة وادي العقيق: اسم موضع.
(3) نغوق: صائحة.
(4) عضب ذلوق: سيف سريع القطع.
(5) الوسوق: الأحمال.
(6) رباء: مغذيا ومنفسا للكرب.(2/63)
في قنّة عيطاء ممطولة ... كأنّها قلّة رأس حليق (1)
يزايل اللّيل على رحله، ... ويؤثر القوم بطعم الخفوق (2)
ويغتدي بعد عراك السّرى ... يعارض الرّكب بوجه طليق
أوفى، كما جلّى على رهوة، ... أزرق والى نظرات بنيق (3)
يسلّ عينيه على مرية، ... عن زجل الطّير قبيل الشّروق (4)
يعترق اللّحم على بارق، ... وينتقي العظم برمل الشّقيق
أو حيّة الرّعن ذوى رأسه، ... مشترق الشّمس بطود زليق (5)
يعقد أولاه بأخراته، ... لفاف بنت الرّقم الخنفقيق (6)
كعمّة الألوث مالت به ... بين النّدامى نزوات الرّحيق (7)
جامع لين وصيال معا، ... إطراق ذي حلم وصول الحنيق (8)
يدير في فيه ذليق الشّبا، ... مثل لماظ الرّجل المستذيق (9)
تخال ما تطرح أشداقه ... ما لطّخ المحض بقعب الغبوق (10)
مستجمع فرّق عن وثبة، ... نشطك حبل العربيّ الرّبيق (11)
نعم كعام الثّغر يشجو به ... فم المنايا، ونصاح الفتوق (12)
__________
(1) القنة: قمة الجبل العيطاء: الطويلة العنق.
(2) الخفوق: النوم.
(3) الرهوة: المكان المرتفع الأزرق: البازي النيق: أرفع موضع في الجبل.
(4) المرية: الشك.
(5) الرعن: أنف يتقدم الجبل، وهو أيضا الجبل الطويل.
(6) الرقم: الداهية الخنفقيق: السريعة.
(7) الألوث: المسترخي.
(8) صيال: سطو.
(9) ذليق الشبا: قاطع الحد، والمراد به اللسان.
(10) المحض: اللبن القعب: القدح الكبير.
(11) الربيق: الحبل كثرت عقده.
(12) الكعام: الرباط النصاح: الخيط والسلك.(2/64)
تضمّه في الرّوع من درعه ... أمّ لها منه أذى أو عقوق
زال وأبقى، عند أعقابه، ... خديم مال عرفته الحقوق (1)
مضى ووصّاهم بأن يقبلوا ... دعوى العدا فيهم وحكم الصّديق
كان هوى للنّفس، لو أنّني ... في حلق القدّ، وأنت الطّليق (2)
ما كنت بالهائب طرق الرّدى، ... ما سلم العضب، وأنت الرّفيق
ما أنا باللّاقي بذات النّقا ... خيل وغى مشعلة بالعنيق (3)
ماطلها الماء، فلمّا سلت ... عن الرّوى ماطلها بالعليق
ولابن ليلى عارضا رمحه ... يحدو بخفّان جمالا ونوق (4)
يأبى، إذا الضّيم غدا مضغة ... سلسالة سائغة في الحلوق
يروح من يرجو له غرّة، ... قد خضخض السّجل بجال عميق (5)
يحدّث النّفس بما فاته، ... تطاول الغمر لمجنى السّحوق (6)
استبدل الحيّ بعقبانه ... أغربة بعدك حمق النّغيق
خاطرت الشّول بأذنابها، ... لمّا انطوى قرقار ذاك الفنيق (7)
قد نطق الصّامت من بعده، ... وأصرد النّابل بعد المروق (8)
مخيلة لا مطر خلفها، ... تلمع منها شولان البروق
ما الحيّ بالضّاحك عن مثله، ... ولا وجوه الحيّ مذ غاب روق
ولا أغبّ الأرض تمسي بها ... ظلّ صفيق ونسيم رقيق
__________
(1) الخديم: الكريم.
(2) القد: سير جلدي يشد به الأسير.
(3) العنيق: العنق.
(4) الخفّان: اسم مأسدة قرب الكوفة.
(5) السجل: الدلو جال: بئر.
(6) الغمر: الماء الكثير السحوق: الزائف.
(7) الشول: النياق قرقار: هدير البعير الفنيق: الفحل من النياق.
(8) أصرد، من صرد السهم: أخطأ المروق، من مرق السهم: أصاب ونفذ.(2/65)
لا أغفلت قبرك حنّانة، ... خرقاء بالقطر صناع البروق
ما أبدع المقدار فيما جنى، ... لكنّه حمّل غير المطيق
الدهر يبلي
(الطويل)
في هذه القصيدة رثاء صديق له ووصف للحيّة.
ألوّي حيازيمي عليك تحرّقا، ... وأشكو قصور الدّمع فيك وما رقا (1)
فيا شمل لبّي لا تزال مبدّدا، ... ويا جفن عيني لا تزال مؤرّقا
فقد كنت أستسقي الدّموع لمثلها، ... وما جمّ دمع العين إلّا ليهرقا
أعاينت هذا الدّهر إن سرّ مرّة ... أساء، وإن صفّى لنا الودّ رنّقا (2)
كأنّي أنادي منه صمّاء صلدة، ... وصلّ فلاة لا يلين على الرّقى (3)
إذا غفل الحادون ثار مساورا ... وإن روجع النّجوى أرمّ وأطرقا (4)
طلوع الثّنايا ينفذ اللّيل لحظه، ... إذا ما رنا، جوّاب أرض، وحملقا
له المنظر العاري، وكلّ هنيهة ... تغاور بالأنقاء بردا مشرّقا
كأنّ زماما ضاع من أرحبيّة ... تلوّى بأقواز النّقا، وتعلّقا (5)
تلمّظ شيئا كالجباب، وغامرت ... به وثبة أمضى من اللّيث مصدقا (6)
__________
(1) الحيزوم: ما اكتنف الحلقوم.
(2) رنّق: كدّر.
(3) الرّقى، من رقى: استعمل الرقية نفعا له أو إضرارا به.
(4) أرمّ: بلي.
(5) الأرحبية: الناقة الأقواز: الكثبان المشرفة.
(6) الجباب: زبد لبن الإبل.(2/66)
رشاء الرّدى لو عضّ بالطّود هاضه، ... ولو شمّ ما لاقى على الأرض أحرقا (1)
دويهية يحمي الطّريق مجرّه، ... إذا نفخ الرّكبان نام وأرّقا (2)
وما العيش إلّا غمّة وارتياحة، ... ومفترق بعد الدّنوّ وملتقى
هو الدّهر يبلي جدّة بعد جدّة، ... فيا لابسا أبلى طويلا وأخلقا
فكم من عليّ فيك حلّق وانهوى، ... وكم من غنيّ نال منك وأملقا (3)
ومن قبل ما أردى جذاما وحميرا، ... وأطرق زور الموت عوجا وعملقا
وأبقى على دار السّموأل بركه، ... وقاد إلى ورد المنون محرّقا (4)
ففارق هذا الأبلق الفرد بغتة، ... وودّع ذا بعد النّعيم الخورنقا
فما البأس والإقدام نجّى عتيبة، ... ولا الجود والإعطاء أبقى المحلّقا
أراه سنانا للقريب مسدّدا، ... وسهما إلى النّأي البعيد مفوّقا
إذا ما عدا لم تبصر البيض قطّعا، ... ولا الزّغف منّاعا ولا الجرد سبّقا (5)
ولا في مهاوي الأرض إن رمت مهبطا، ... ولا في مراقي الجوّ إن رمت مرتقى
ولا الحوت إن شقّ البحار بفائت، ... ولا الطّير إن مدّ الجناح وحلّقا
وللعمر نهج إن تسنّمه الفتى ... إلى الغاية القصوى أزلّ وأزلقا
ألا قاتل الله الذي جاء غازيا، ... فقارعنا عن مخّة السّاق وانتقى (6)
وكم من عليل قد شرقت بيومه ... جوى، بعد ما قالوا أبلّ وأفرقا
وآخر طلّقت السّرور لفقده، ... وقد راح للدّنيا النّشوز مطلّقا
بنفسي من أفقدت دارا أنيقة ... من العيش واستودعت بيداء سملقا (7)
__________
(1) هاضه: أهلكه، أضعفه، أذلّه.
(2) دويهية، تصغير داهية، مصيبة.
(3) أملق: افتقر.
(4) ترد في الأبيات اسماء لشخصيات ماتت وأماكن زالت، منها محرّق بن عمرو بن هند.
(5) الزغف: الدرع اللينة والواسعة.
(6) المخة: العظام.
(7) السملق: الخالي من الحياة.(2/67)
وأبدلته من ظلّ فينان ناضر ... ظلال صفيح كالغمام مطبّقا
وخفّفت عن أيدي الأقارب ثقله، ... وحمّلته ثقل الجنادل والنّقا
جلست عليه طامعا ثمّ جاءني ... من اليأس أمر أن أخبّ وأعنقا (1)
وما من هوان خطّأ التّرب فوقه، ... وخطّ له بيتا من الأمر ضيّقا
وقد كان فوق الأرض يسحق نأيه، ... فصار وراء الأرض أنأى وأسحقا
خليليّ زمّا لي من العيس جسرة، ... مضبّرة الأضلاع أدماء سهوقا (2)
تمرّ كما مرّت أوائل بارق ... يشقّ الدّجى والعارض المتألّقا
كأنّ يد القسطار بين فروجها، ... يقلّب في الكفّ اللّجين المطرّقا (3)
وحطّا لجامي في قذال طمرّة، ... كأنّ بها من ميعة الشّدّ أولقا (4)
تعير الفتى ظهرا قصيرا، كأنّه ... قرا النّقنق الطّاوي وعنقا عشنّقا (5)
لعلّي أفوت الموت إن جدّ جدّه، ... وأعظم ظنّي أن ينال ويلحقا
وهل يأمن الإنسان من فجآته، ... وإن حثّ بالبيداء خيلا وأينقا (6)
لقد سلّ هذا الرّزء من عيني الكرى، ... وغصّص بالماء الزّلال وأشرقا
وممّا يعزّي المرء ما شاء أنّه ... يرى نفسه في الميّتين معرّقا
ولو غير هذا الموت نالك ظفره ... وولّاك غربا للمنايا مذلّقا
لكان وراء الثّأر منّا، ودونه ... عصائب تختار المنون على البقا
إذا ضربوا ردّوا الحديد مثلّما ... وإن طعنوا ردّوا الوشيج مدقّقا (7)
__________
(1) أخب وأعنق: طال ومد عنقه.
(2) الجسرة: العظيمة من الإبل مضبّرة: مجتمعة السهوق: الطويلة الساقين.
(3) القسطار: منتقد الدراهم.
(4) الطمرة: الفرس السريعة الأولق: الجنون.
(5) القرا: الظهر النقنق: الظليم، ذكر النعام الطاوي: الجائع العشنّق:
الطويل.
(6) الأينق: النياق.
(7) الوشيج: الرماح.(2/68)
بكلّ قصير يفلق الهام أبيض، ... وكلّ طويل يهتك السّرد أورقا
إذا اهتزّ من خلف السّنان حسبته ... بأعلى النّجاد الأرقم المتشدّقا
ولكنّه القرن الّذي لا نردّه، ... وهل لامرئ ردّ إذا اللّيث حقّقا
يقود الفتى ما زمّ بالضّيم أنفه، ... وقد قاد أبطالا، وقد جرّ فيلقا
مشقّق أعراف الخطابة صامت، ... ولاقي صدور الخيل يوم الوغى لقا
ولم تغن عنه الخطّ قوّم درؤها، ... ولا البيض أجرى القين فيهنّ رونقا (1)
سقاه، وإن لم ترو للقلب غلّة، ... وما كان ظنّي أن أقول له سقا
ولا زالت الأنواء تحبوه مرعدا ... من المزن ملآن الحيازيم مبرقا
إذا قيل ولّى عاد يحدو عشاره ... وإن قيل أرقا دمعة القطر أغدقا
وأعلم أن لا ينفع الغيث هالكا، ... ولا يشعر المندوب بالهام إن زقا (2)
ولو كان بالسّقيا يعود أنا له، ... كما لو سقي عاري القضيب لأورقا
ولكن أداري خاطرا متلهّفا، ... وقلبا بما خلف التّراب معلّقا
جيران القلب
(البسيط)
رثى في هذه المقطوعة أبا الحسن محمد بن المفضل الملهبي المتوفّى في ذي القعدة سنة 399، وكانت بينهما مودة.
لا يبعد الله فتيانا رزئتهم، ... رزء الغصون، وفيها الماء والورق (3)
إن يرحلوا اليوم عن داري فإنّهم ... جيران قلبي أقاموا بعد ما انطلقوا
__________
(1) الخط: مكان تنسب اليه الرماح الدرء: الإعوجاج القين: الحّداد.
(2) الهام: طائر وهمي كان الجاهليون يعتقدون أنه يخرج من رأس الميت ويحوم حول قبره، أو هو روح الميت تتحول إلى طائر زقا: صاح.
(3) رزئتهم: فقدتهم رزء الغصون: إشارة إلى أنهم كانوا في عمر الشباب.(2/69)
بانوا، فكلّ نعيم بعدهم كمد ... باق، وكلّ مساغ بعدهم شرق (1)
أراك تجزع للقوم الذين مضوا، ... فهل أمنت على القوم الذين بقوا
لا يلبث المرء يبلي شرخ جدّته، ... من الزّمان جديد ما له خلق
هدى الغرام دموعي في مسالكه ... عليهم، وأضلّت صبري الطّرق
وكيف ينعم بالتّغميض بعدهم ... عين أعان عليها الدّمع والأرق
إنّي لأعجب بعد اليوم من كبد ... تدمى لهم كيف تندى وهي تحترق
الزمن الأنيق
(الكامل)
اجتاز الشاعر بقبر أبي إسحاق إبراهيم بن هلال الصابي الكاتب فتذكر ما كان بينهما من المودة، ونظم هذه القصيدة، وذلك في جمادى الأولى سنة 393.
لولا يذمّ الرّكب عندك موقفي، ... حيّيت قبرك، يا أبا إسحق
كيف اشتياقك مذ نأيت إلى أخ ... قلق الضّمير إليك بالأشواق
هل تذكر الزّمن الأنيق، وعيشنا ... يحلو على متأمّل ومذاق
وليالي الصّبوات، وهي قصائر، ... خطف الوميض بعارض مبراق
لا بدّ للقرباء أن يتزايلوا ... يوما، بعذر قلى وعذر فراق
أمضي وتعطفني إليك نوازع، ... بتنفّس كتنفّس العشّاق
وأذود عن عيني الدّموع ولو خلت ... لجرت عليك بوابل غيداق
ولو انّ في طرفي قذاة من ثرى، ... وأراك ما قذّيتها من مآقي (2)
__________
(1) المساغ: الذي يسهل مشربه الشرق: الغصّة.
(2) قذيتها: أخرجت منها القذى.(2/70)
إن تمض فالمجد المرجّب خالد، ... أو تفن، فالكلم العظام بواقي (1)
مشحوذة تدمى بغير مضارب، ... كالسّيف أطلق في طلى الأعناق
يقبلن كالجيش المغير يؤمّه ... كمش الإزار مقلّص عن ساق (2)
قرطات آذان الملوك خليقة ... بمواضع التّيجان والأطواق
عقدوا بها المجد الشّرود وأثّلوا ... درجا إلى شرف العلى ومراقي (3)
أوترتها أيّام باعك صلّب، ... وكددتها بالنّزع والإغراق
حتّى إذا مرحت قواك شددتها ... باسم على عقب اللّيالي باقي
كنجائب قعدت بها أرماقها ... محسورة، فمشين بالأعراق (4)
فؤاد مأسور
(الطويل)
قال قدس الله روحه وهي من لواحق الحجازيات:
أمن ذكر دار بالمصلّى إلى منّى، ... تعاد كما عيد السّليم المؤرّق (5)
حنينا إليها والتواء من الجوى، ... كأنّك في الحيّ الولود المطرّق (6)
__________
(1) المرجب: المهيب، المعظم.
(2) كمش الازار: مشمره، يضرب في الجدّ والتشمير.
(3) أثلوا: زكّوا، ركّزوا المراقي: السلالم.
(4) الأرماق، جمع رمق: القليل من العيش، بقية الحياة الأعراق، جمع عراق: العظم الذي أكل لحمه.
(5) منى: اسم موضع، من مناسك الحج السليم: الملدوغ المؤرّق:
الذي لا يترك للنوم. وهذا يذكرنا باعتقاد القدماء وهو أن الملدوغ كان يجبر على السهر لئلا يموت إذا غفا.
(6) المطرّق، من طرقت الحامل بولدها: نشب في بطنها ولم يسهل خروجه.(2/71)
أألله، إنّي إن مررت بأرضها ... فؤادي مأسور ودمعي مطلق
أكرّ إليها الطّرف ثمّ أردّه، ... بإنسان عين في صرى الدّمع يغرق (1)
هواي يمان كيف، لا كيف نلتقي، ... وركبي منقاد القرينة معرق (2)
فواها من الرّبع الذي غيّر البلى ... وآها على القوم الّذين تفرّقوا
أصون تراب الأرض كانوا حلولها، ... وأحذر من مرّي عليها وأشفق
ولم يبق عندي للهوى غير أنّني ... إذا الرّكب مرّوا بي على الدّار أشهق
شوق
(مجزوء الكامل)
قال رضي الله عنه:
يا ليلة كرم الزّمان بها ... لو انّ اللّيل باق (3)
كان اتّفاق بيننا، ... جار على غير اتّفاق
واستروح المهجور من ... زفرات همّ واشتياق (4)
فاقتصّ للحقب الموا ... ضي بل تزوّد للبواقي
حتّى، إذا نسمت ريا ... ح الصّبح تؤذن بالفراق
برد السّوار لها، فأح ... ميت القلائد بالعناق
__________
(1) إنسان العين: سوادها الصرى: الماء إذا طال مكثه.
(2) معرق: متجه نحو العراق.
(3) كرم: جاد.
(4) استروح: وجد الراحة.(2/72)
نفحات نجد
(الكامل)
قال رضي الله عنه وهو منجد وقد شم في ليلة من الليالي رائحة الشيح فاستطابها:
ولقد أقول لصاحب نبّهته ... فوق الرّحالة، والمطيّ رواقي
أوما شممت بذي الأبارق نفحة ... خلصت إلى كبد الفتى المشتاق
فجنى نسيم الشّيح من نجد له ... حرق الحشى وتحلّب الآماق (1)
آها على نفحات نجد! إنّها ... رسل الهوى وأدلّة الأشواق
أسقيت بالكأس التي سقّيتها، ... أم هل خطتك إليّ كفّ السّاقي
فأوى وقال: أرى بقلبك لسعة ... للحبّ ليس لدائها من راق (2)
فصف الغرام لمفرق من دائه، ... إنّي لأقدم منك في العشّاق (3)
أبثثته كمدي وطول تجلّدي، ... وأليم ما بي من نوى وفراق
أشكو إليه بياض سود مفارقي، ... ويظلّ يعجب من سواد الباقي
__________
(1) تحلّب الآماق: سيلان مجاري الدمع.
(2) راق: دواء.
(3) المفرق: الذي فارقه داؤه.(2/73)
ضاع قلبي
(الخفيف)
قال في الحنين والاشتياق وهي من الحجازيات:
أيّها الرّائح المغذّ تحمّل ... حاجة للمعذّب المشتاق (1)
أقر عنّي السّلام أهل المصلّى ... وبلاغ السّلام بعد التّلاقي (2)
وإذا ما مررت بالخيف فاشهد ... أنّ قلبي إليه بالأشواق (3)
وإذا ما سئلت عنّي فقل: نض ... وهوى ما أظنّه اليوم باق (4)
ضاع قلبي فانشده لي بين جمع ... ومنّى عند بعض تلك الحداق
وابك عنّي فطالما كنت من قب ... ل أعير الدّموع للعشّاق
داء العشاق
(الرجز)
قال قدس الله روحه:
يا حسن الخلق قبيح الأخلاق! ... إنّي على ذاك إليك مشتاق
ربّ مصاف علق بمذّاق ... إنّ مودّات القلوب أرزاق (5)
يا هل لدائي من هواك إفراق ... هيهات ما أعضل داء العشّاق (6)
__________
(1) الرائح: الذاهب مساء المغذ: المسرع.
(2) أقر: أوصل.
(3) الخيف: اسم موضع.
(4) نضو هوى: صنو هوى.
(5) المذّاق: الذي لا يثبت على المودّة.
(6) الافراق: البرء، الشفاء.(2/74)
حسبي بقاؤك
(الطويل)
قال وكتب بها إلى بعض أصدقائه:
إذا قلت إنّ القرب يشفي من الجوى، ... أبى القلب أن يزداد إلّا تشوّقا
وإن أنا أضمرت السّلوّ تراجعت ... من الشّوق أخلاق يزلن التّخلّقا
وكم لي من ليل يجدّد لي الهوى ... إذا أشأم البرق اليماني وأعرقا (1)
أصانع لحظي أن يطول ذبابه ... إليك، وأنهى الدّمع أن يترقرقا
مخافة واش يثلم الحبّ قوله، ... وهيهات طال الحبّ منّا وأورقا
غدونا على الأعداء نحمي مودّة، ... ونمنع عن أطرافها أن تمزّقا
فما أنت إلّا السّهم صافح ثغره، ... وما أنا إلّا العضب صادم مفرقا (2)
إذا كنت لي خلّا فحسبي من الورى ... بقاؤك، لولا أنت ما طال لي بقا
جمعنا فلا نحفل بما صنع الهوى، ... وخفنا على الأيّام أن نتفرّقا
قريب غادر
(الطويل)
قال في بعض رسائله إلى أحد أصدقائه:
كفى حزنا أنّي صديق وصادق، ... وما لي من بين الأنام صديق
فكيف أريغ الأبعدين لخلّة، ... وهذا قريب غادر، وشقيق
__________
(1) أشأم: اتجه نحو الشام أعرق: اتجه نحو العراق.
(2) العضب: السيف القاطع.(2/75)
لحظ عينيك
(السريع)
وكان ما تطلبه غاية، ... كنت المصلّي، وأنا السّابق (1)
تظنّني أرغب عن موقف، ... يحضر فيه الشّوق والشّائق
فكّرت حتّى لم أجد فكرة ... تقدح إلّا ولها عائق
لو كنت في أثناء سرّي إذا ... علمت أنّي قائل صادق
قلبي جنيب لك لا يرعوي، ... وودّك القائد والسّائق (2)
ولحظ عينيك رمى مقلتي، ... كأنّ نومي تحتها عاشق
فاصبر، فإنّ الصّبر أحرى إذا ... ضاق عليك المسلك الضّايق
فالمنطق الطّاهر ما بيننا ... مترجم والنّظر الفاسق
النيلوفر
(المتقارب)
وليل تمزّق عنه النّسي ... م واستلب الجوّ غربا وشرقا
ونيلوفر فتّحته الرّياح، ... وعانقه الماء صفوا ورنقا (3)
تخيّل أطرافه في الغدير ... ألسنة النّار حمرا وزرقا
__________
(1) المصلّي: الفرس الذي يتلو السابق.
(2) جنيب: منقاد.
(3) النيلوفر: نبات ينمو في المياه الراكدة له أصل كالجزر وساق أملس يطول بحسب عمق الماء، فإذا ساوى سطح الماء أورق وأزهر.(2/76)
لا صديق يشفق
(الكامل)
وجّه هذه القصيدة الى أحد أصدقائه وقد بلغه أن كلاما جرى في داره مما ينكره.
ما رقّع الواشون فيّ ولفّقوا، ... قل لي، فإمّا حاسد أو مشفق
في كلّ يوم ظهر داري مغرب ... لكلامهم، وجبين دارك مشرق
وإلى متى عودي على أيديهم ... ملقى ينيّب دائبا ويحرّق
كم يسبك الذّهب المصفّى مرّة، ... قد لاح جوهره وبان الرّونق
يحلو لهم عرضي، فيسترطونه، ... ويصلّ عرضهم الذليل فيبصق (1)
نفضوا عيوبهم عليّ، وإنّما ... وجدوا مصحّا في الأديم فمزّقوا
من لي بمن إن بان عيب خليله ... غطّاه عن شانيه، أو من يصدق (2)
وإذا الحليم رمى بسرّ صديقه ... عمدا، فأولى بالوداد الأحمق
من كان يغتاب الرّجال وهمّ أن ... يبلو الأصادق فالصّديق المطرق (3)
وإذا تألّقت الثّغور لسبّة، ... لم يدر ثغرا أو سنا يتألّق
لا تملك الفحشاء جانب سمعه، ... ويزلّ قول الهجر عنه ويزلق (4)
جار الزّمان فلا جواد يرتجى ... للنّائبات، ولا صديق يشفق
وطغى عليّ فكلّ رحب ضيّق، ... إن قلت فيه، وكلّ حبل يخنق
أمرشّحي للعزم غير مرشّح، ... واليوم من ليل العجاجة أبلق
دعني، فإنّ الدّهر يقصف همّتي، ... ويجذّ من أملي الذي أتعلّق
__________
(1) استرطه: ابتلعه يصلّ: ينتن.
(2) شانيه: مبغضه.
(3) يغتاب: يتكلم سوءا عن شخص في غيابه.
(4) الهجر: الكلام السيء.(2/77)
الموت يركض في نواحي دهرنا، ... وكأنّ صرف النّائبات مطرّق (1)
بريق الوعد
(المنسرح)
برقت بالوعد في دجى أملي، ... والغيث لا يقتضى إذا برقا (2)
حاشاك أن أقتضيك منقبة، ... تسلك منها إلى العلى طرقا
فانهض لها إنّها الغلام تجد ... حبلا ضنينا بكفّ من علقا
وكم صريخ نهضت تنصره، ... والطّعن يسترعف القنا علقا (3)
دع العدا عن جوانبي بيد ... يروع فيها النّضار والورقا
نعدّك للجلّى
(البسيط)
أهزّ عاسية العيدان آبية، ... على الخوابط لا لينا ولا ورقا (4)
وما مدحتهم أنّي رجوتهم، ... لكنّه عوذ من شرّهم ورقى (5)
قالوا: نعدّك للجلّى، فقلت لهم: ... حسبي من الرّيّ ما لا يبلغ الشّرقا (6)
__________
(1) المطرّق، من طرقه: جعل له طريقا.
(2) يقتضى: يستوجب، يطلب.
(3) يسترعف: يستقطر العلق: الدم.
(4) عاسية: غليظة ويابسة، والعاسي هو النخل.
(5) العوذة والرقية واحد: ما يكتب ويعلق على الانسان ليقيه من الجنون والعين.
(6) الجلّى: الأمر الكبير والعظيم الشرق: الغص.(2/78)
ناموا خليّين عمّا بي، فلم تركوا ... وهنا عليّ مطال الهمّ والأرقا (1)
كفى بقوم هجاء أنّ مادحهم ... يهدي الثّناء إلى أعراضهم فرقا (2)
من لم يبال بأعقاب الحديث غدا، ... فما يبالي أمان القول أم صدقا (3)
يا عريق الهوى
(الخفيف)
قمر غاض ضوءه في المحاق، ... يوم جدّ انطلاقه وانطلاقي (4)
جامد اللّحظ حيرة البين إلّا ... أنّ منه ذوب الدّم المهراق
صار درّ الدّموع يخلف ثغري ... في حواشي تلك الخدود الرّقاق
عزّ صبري يوم اللّقاء، ولكن ... فضحته الأشجان يوم الفراق
يا عريق الهوى ستقضي إذا ما ... طلع البين من ثنايا العراق
يوم لا غير زفرة من فؤاد ... ذي قروح ورشّة من مآق
نسرق الدّمع في الجيوب حياء، ... وبنا ما بنا من الإشفاق
كاد طلّ الدّموع يلتذّ لولا ... هزّ سير الرّسيم والإعناق (5)
والثّرى منتش يعاقره السّي ... ر دما جاريا بأيدي النّياق
لا أذمّ الإسراء في طلب الع ... زّ ولكن في فرقة العشّاق (6)
بيننا، يا بني المغيرة، يوم ... غائر الشّمس مدنف الإشراق
__________
(1) وهنا: ليلا.
(2) الفرق: الخوف.
(3) مان: كذب.
(4) المحاق: آخر الشهر القمري.
(5) الرسيم والأعناق: ضربان من السير.
(6) الاسراء: السير ليلا.(2/79)
شهقة الضّرب في الطّلى والهوادي ... رنّة الطّعن في الكلى والصّفاق (1)
واتّشاح النّسور بعد ادّراع ال ... نّقع من حلّة النّجيع المراق
وعجاج مجرّر الذّيل تخطو ... هـ حيارى نواظر الأحداق
حمّرت نجدة، وليس بذمر ... في الوغى كلّ أرمد الحملاق (2)
وبنو عمّنا بنو جمرة الحر ... ب وماء المكارم الرّقراق
ونجوم تنوب عنها العوالي، ... من سماء العجاج في الآفاق
وسوامي اللّحاظ في الرّوع تلقا ... هم عناة في السّلم للإطراق
حرم حشوه القنا وفناء ... ذو طراز من الجياد العتاق
أمعيني على بلوغ الأماني، ... وشفائي من علّتي واشتياقي
وخليلي لمّا جفاني خليل، ... صدّ حتّى أغصصته بفراقي
ماء ودّي مصفّق لم أمازج ... هـ برنق من الرّيا والنّفاق (3)
حين وافقت نيّتي في التّصافي، ... ذقت منّي الوفاء عذب المذاق
لا أطيع العذول فيك، ولو أ ... نّي سليم الفؤاد، والعذل راق
أينعت بيننا المودّة حتّى ... جلّلتنا والدّهر بالأوراق
كم مقام خضنا حشاه إلى الله ... وجميعا واللّيل ملقي الرّواق
ومزجنا خمر الرّضابين في الرّش ... ف برغم المدام تحت العناق
وذعرنا الظّلام، حتّى لقينا ... خارجا من ثيابه الأخلاق
قم نبادر مرمى الزّمان ببين، ... فسهام الخطوب في الأفواق
واغتنمها قبل الفراق فما تع ... لم يوما متى يكون التّلاقي
ما افترقنا من الضّمير فينضو ال ... ذكر ما بيننا ظبى الإشتياق
نحن غصنان ضمّنا عاطف الوج ... د جميعا في الحبّ ضمّ النّطاق
لو رآنا العدوّ أضمرنا ما ... بين أحشائه وبين التّراقي (4)
__________
(1) الطلى: الأعناق، وكذلك الهوادي الصّفاق: الجلد الذي يمسك البطن.
(2) الذمر: الرجل الشجاع.
(3) صفّق الشراب: حوّله من إناء إلى آخر لتصفيته الرنق: الكدر والعكر.
(4) التراقي: عظام الصدر.(2/80)
كلّما كرّت اللّيالي علينا، ... شقّ فيها الوفاء جيب الشّقاق
في جبين الزّمان منك ومنّي ... غرّة كوكبيّة الائتلاق
لا تزال الأيّام تصدر منّا ... عن إخاء، لم نقذه بفراق
فراق
(مجزوء الكامل)
أأخيّ ما اتّسع الزّما ... ن على جماعتنا وضاقا
إلّا ليعقبنا اجتما ... عا بالنّوائب وافتراقا
سابق، فليس تنال أغ ... راض المنى إلّا سباقا
من قبل أن ترد الخطو ... ب على مودّتنا طراقا
فأزيد بعدا من لقا ... ئك كلّما ازددت اشتياقا
وأراك تمنحني الصّدو ... د وبعد لم أنو انطلاقا
إن كان ذا خوف الفرا ... ق، فقد تعجّلت الفراقا
لقاء وفراق
(المتقارب)
لقاؤك جرّ عليّ الفراقا، ... وما زادني القرب إلّا اشتياقا
جلوت عليّ هديّ الوداد، ... فأسلفتها بالقبول الصّداقا (1)
وأسرفت بالبشر حتّى ظنن ... ت أنّك أضجعت فيه النّفاقا
وحاشاك من تهمة في المغيب، ... فكيف حضور يضمّ الرّفاقا
__________
(1) الهديّ: العروس تهدى إلى زوجها.(2/81)
وكان الزّعيم بهذا الإخا ... ء يوما حسوناه كأسا دهاقا (1)
نحرنا الدّنان على صدره، ... فلله أيّ دماء أراقا
شرقنا بلذّاته، والسّرو ... ر يلوّي إزارا ويرخي نطاقا
وجيب على الصّبح ثوب الظّلا ... م، والبدر يخلع عنه المحاقا (2)
وكنت أخيّله في السّما ... ء رمحة طرف أصاب البراقا (3)
يشقّق واللّيل رطب الذّيو ... ل غلائل تندى نسيما رقاقا
سقى الله دهرا حبانا الودا ... د مبتدها، فشكرنا العراقا
وما زلت أعجب من حفظه ... لنا القرب حتّى نسينا الفراقا
أتقتصّ من جسدي بالبعاد، ... وما زوّد الباع منك العناقا
الى الشريف
(الطويل)
كتب أبو إسحاق الصابي وهو إبراهيم بن هلال الكاتب هذه الأبيات ووجهها إلى الشريف الرضي.
أبا حسن لي في الرّجال فراسة، ... تعوّدت منها أن تقول فتصدقا
وقد خبّرتني عنك أنّك ماجد، ... سترقى من العلياء أبعد مرتقى (4)
فوفّيتك التّعظيم قبل أوانه، ... وقلت: أطال الله للسيّد البقا
وأضمرت منه لفظة لم أبح بها ... إلى أن أرى إطلاقها لي مطلقا
__________
(1) دهاق: ممتلئة.
(2) جيب: قطع المحاق: الظلام.
(3) البراق: البرق.
(4) الماجد: ذو المجد، الحسن الخلق.(2/82)
فإن عشت أو إن متّ فاذكر بشارتي، ... وأوجب بها حقّا عليك محقّقا
وكن لي في الأولاد والأهل حافظا ... إذا ما اطمأنّ الجنب في موضع البقا
نم وادعا
(الطويل)
فأجابه الشريف الرضي بهذه القصيدة:
سننت لهذا الرّمح غربا مذلّقا، ... وأجريت في ذا الهندوانيّ رونقا (1)
وسوّمت ذا الطّرف الجواد، وإنّما ... شرعت له نهجا فخبّ وأعنقا
لئن برقت منّي مخايل عارض ... لعينيك يقضي أن يجود ويغدقا
فليس بساق قبل ربعك مربعا، ... وليس براق قبل جوّك مرتقى (2)
وإن صدقت منه اللّيالي مخيلة، ... تكن بجديد الماء أوّل من سقى
ويغدو لمن يروي جنابك مرويا ... زلالا، وللأعداء دونك مصعقا
وإن تر ليثا لائذا لفريسة، ... يراصد غرّات المقادير مطرقا
فما ذاك إلّا أن يوفّر طعمها ... عليك، إذا جلّى إليها وحقّقا
وإن يرق يوما في المعالي، فإنّه ... سما ليوقيّ وطء رجلك مزلقا
وإن يسع في الأمر العظيم، فإنّما ... سعى لك في ذاك الطّريق مطرّقا
وإن يصب السّهم الذي راش نصله، ... فما كان إلّا في هواك مفوّقا (3)
وإن ينهض الغرس الذي هو غارس، ... يكن لك مجنى في الخطوب ومعلقا
لتجنيه دون النّاس ما كان مثمرا، ... وتلبس طلّا منه ما كان مورقا
__________
(1) الغرب المذلّق: السيف السريع القطع.
(2) المربع: المكان.
(3) راش النصل: ألزق عليه ريشا مفوّقا: من فوّق السهم أي جعل له فوقا وجهزه لاطلاقه.(2/83)
فنم وادعا واستسقني فستنتضي ... حساما إذا ما مرّ بالعظم طبّقا
وجرّ ذيول العزّ إنّي أجرّه ... لهاما، إذا ما أظلم اللّيل أبرقا (1)
وجيشا جناحاه يزمّان بالرّدى، ... خفوقان ما نالا من الأرض مخفقا
به كلّ طعّان يلوث برأسه ... عنيق المذاكي ما يثير من النّقا (2)
لدن غدوة حتّى ترى الشمس ورسة، ... كأنّ على الغيطان ثوبا مزبرقا (3)
وركب أغذّوا بالرّكاب، فنشّفوا ... ثمائلها ... بالجوب غربا ومشرقا (4)
وكلّ معرّاة الضّلوع، كأنّما ... أقاموا عليها جازرا متعرّقا (5)
فإن راشني دهري أكن لك بازيا ... يسرّك محصورا ويرضيك مطلقا
أشاطرك العزّ الذي أستفيده ... بصفقة راض إن غنيت وأملقا (6)
فتذهب بالشّطر الذي كلّه غنى، ... وأذهب بالشّطر الذي كلّه شقا
وتأخذ منه ما أنام وما حلا، ... وآخذ منه ما أمرّ وأرّقا
فغيري إمّا طار غادر صحبه، ... دوين المعالي، واقعين وحلّقا
فإن تسلف التّبجيل قبل أوانه، ... أعضك به وجها من الودّ مونقا
وإن تعطني الإعظام قولا فإنّني ... سأعطيك فعلا منه أذكى وأعبقا
لعلّ اللّيالي أن يبلّغن منية، ... ويقرعن لي بابا من الحظّ مغلقا
نظار ولا تستبط عزمي فلن ترى ... علوقا، إذا ما لم تجد متعلّقا (7)
__________
(1) اللهام: الجيش العظيم الذي يلتهم كل شيء. وعبارة إذا ما أظلم الليل أبرق: كناية عن بريق السلاح وكثرته.
(2) يلوث: يغطي العنيق: السائر عنقا وهو ضرب من السير المذاكي:
الخيول النبيهة.
(3) ورسة: بلون الورس، صفراء المزبرق: المصبوغ بحمرة أو بصفرة.
(4) أغذوا: أسرعوا بالسير الثمائل، جمع ثملة: الماء القليل يبقى في أسفل الحوض الجوب: الدلو العظيمة، الحفرة.
(5) معرّاة الضلوع: ضعيفة، هزيلة الجازر، من جزر الشاة: ذبحها.
(6) أملق: افتقر.
(7) نظار: اسم فعل بمعنى انتظر.(2/84)
وليس ينال الأمر إلّا بحازم ... من القوم أحمى ميسما ثمّ ألصقا
فإن قعدت بي السّنّ يوما، فإنّه ... سينهض بي مجدي إليها محقّقا
فو الله لا كذّبت ظنّك، إنّه ... لعار، إذا ما عاد ظنّك مخفقا
فإنّ الذي ظنّ الظّنون صوادقا، ... نظير الذي قوّى الظّنون وحقّقا
ناقة سريعة
(الرجز)
جاء بها قالصة عن ساق، ... روعاء من إرث أبي الغيداق (1)
تحنّ، والحنّة للمشتاق، ... ما أولع الحنين بالنّياق
تمشي على نعل دم مراق، ... ليست بذي هلب ولا طراق (2)
تذكّري رمل النّقا واشتاقي، ... وبرد ماء ألعس وساقي (3)
ينزغ من أثعوب جمّ باقي، ... حمّضها في قلّص عتاق (4)
مناشط العشب على الملّاق ... أشعث بادي جنجن التّراقي (5)
كأنّه في السّمل الأخلاق ... من تيهه ذو التّاج والأطواق (6)
نحّارة للإبل المناقي، ... فواقها أدنى من الفواق (7)
__________
(1) القالصة: الطويلة الساق روعاء: جميلة
(2) الهلب: ما غلظ من الشعر الطراق: وسم على الأذن، علامة.
(3) ألعس: اسم موضع.
(4) الأثعوب: المنفجر حمّضها: أطعمها الحمض القلص: النياق.
(5) مناشط: مخارج الملّاق: السائر سيرا شديدا الجنجن: عظام الصدر.
(6) السّمل الأخلاق: الثوب البالي.
(7) المناقي: المختارة الفواق (الاولى): احتضارها، نزاعها الفواق (الثانية): الوقت ما بين الحلبتين.(2/85)
أسفع إلّا موضع النّطاق، ... ينزل حدّ الصّارم الذّلّاق (1)
منازل العقّال والرّباق، ... موطّن المنزل للرّفاق (2)
مرّت على الأقوار والبراق، ... مرّ جرور العارض الشّهّاق (3)
طائرة بالقرب الخفّاق، ... منفلت الدّلو من العراقي (4)
تحثو على نجد ثرى العراق، ... كأنّها بعض الهباب الباقي
واللّيل أعمى شارق الرّواق، ... نذير قوم جدّ في اللّحاق (5)
ينذر جيشا عجل الإرهاق، ... أقبل لا يحفل ما يلاقي
صل صفا
(الرجز)
نبّهت منّي، يا أبا الغيداق، ... أصمّ لا يسمع صوت الرّاقي
صلّ صفا، ملعّن البصاق، ... ريقته تهزأ بالدّرياق (6)
كأنّه أمّ من الإطراق، ... تلقى الرّجال عنده الملاقي (7)
ينظر من عين بلا حملاق، ... إن نام لا يكلؤها بماق
آثاره في القور والبراق، ... تستوقف الرّكب عن الإعناق (8)
__________
(1) الأسفع: الموسوم الصارم الذلّاق: السيف القاطع.
(2) الرباق: عرى الحبل، والرباق هنا أصحاب العهود.
(3) البراق: اسم موضع العارض الشهّاق: الغيم الماطر.
(4) القرب: الخاصرة العراقي: الأخشاب التي تعلّق في الدلو.
(5) الشارق: الشمس، الجانب الشرقي.
(6) صل صفا: حيّة خبيثة الدرياق: دواء ضد السموم.
(7) أمّ: شج في أم رأسه الملاقي: الشدائد، الدواهي.
(8) القور: الجبال الصغيرة، جمع قورة البراق: الأرض الغليظة الإعناق:
السير الواسع.(2/86)
يشمّ منك موضع النّطاق، ... بوخزة من ذرب حذّاق (1)
يكتمه في هرت الأشداق، ... ليّك من حديدة الحلّاق (2)
ترى على اللّبّات والتّراقي ... إهالة من سمّه المراق
مثل القذى لجلج في المآقي، ... ينحب بالماضي جنان الباقي (3)
رزقك أدّته يد الخلّاق، ... لكنّه مرّ من الأرزاق
قد حان إلّا أن يقيه الواقي، ... من ابتغى جهلا بما يلاقي
تجربة السّيف على الأعناق، ... ألم يعقك اليوم عنّي عاق
حتّى لقيت أذني عناق، ... سوف أغنّي بك في الرّفاق (4)
حدوا كحدو البدن بالقياقي، ... محمّلا غوارب النّياق (5)
من لاذعات الكلم البواقي، ... نهزا سيجليها إلى العراق
إنّي ارتقيت بعد ضعف السّاق ... روابيا مزلقة المراقي
أهدفت للإرعاد والإبراق، ... نصب مسيل العارض البعّاق (6)
ترقع عرضا منك ذا انخراق، ... كما رفدت النّعل بالطّراق (7)
حذار من مذروبة ذلاق، ... ترفع عنك جانب الرّواق (8)
هواجما مقطوعة الرّباق، ... حتّى على الآذان والأحداق (9)
تنتزع الأصول بالأعراق، ... يلجا بها الحرّ إلى الإباق (10)
__________
(1) الذرب: الحاد الحذاق: القاطع.
(2) هرت الاشداق: واسعها اللي: الثني والفتل.
(3) ينحب: يجرح.
(4) العناق: الداهية.
(5) البدن: النياق القياقي: الأراضي الغليظة غوارب: ظهور.
(6) العارض البعّاق: الغيم الدافع، الماطر.
(7) الطّرّاق: جلد النعل.
(8) المذروبة: الحادة المسنونة ذلاق: حادة، ويعني بها هنا اللسان الحاد.
(9) الرّباق: الرسن، عرى الحبل.
(10) الإباق: الهرب.(2/87)
أعقدها مواضع الأطواق، ... لها على الأعناق وسم باق
مثل وسوم الإبل المناقي، ... نزيعة من جلب العراق (1)
تقنى لغير الشّمّ والعناق، ... تميطها، وهي إلى التصاق
لا تقلع القوباء بالأرياق، ... عجّت لأعراضكم الأخلاق (2)
أفلق في جماجم أفلاق، ... وأجهز اليوم على أرماق
لا تأمن النّار على الإحراق، ... هذا ونبلي لك في الإيفاق
فكيف بعد النّزع والإغراق
الخيال الطارق
(المنسرح)
ما لخيال الحبيب قد طرقا، ... وما لهذا المحبّ قد قلقا (3)
سالت بإنسان عينه لجج، ... لو لم يكن سابحا لقد غرقا (4)
ديون ضائعة
(البسيط)
ضاعت ديونك عند الغيد أعناقا، ... وما قضينك لمّا جئت مشتاقا
تحمّلوا، وعيون الحيّ ناظرة، ... وعاق طرفك يوم الجزع ما عاقا
__________
(1) المناقي: المروّضة، الأصيلة.
(2) القوباء: داء جلدي يعالج بالريق الأرياق: جمع ريق.
(3) طرق: ظهر ليلا.
(4) انسان العين: سوادها.(2/88)
الشوق والأرق
(البسيط)
خلّوا عليك مطال السّفر وانطلقوا، ... وأسلفوك سلوّا قبل أن عشقوا
لو ينصفوني الهوى ما كان عندهم ... برد القلوب وعندي الشّوق والأرق
نجوم مذعذعة
(الطويل)
وردنا بها بين العذيب وضارج، ... تريكة جون أسأرتها البوارق (1)
وقد ذعذع اللّيل النّجوم لغورها، ... كبيض الأداحي بعثرته النّقانق (2)
بنيتم وغرستم
(مجزوء الخفيف)
دولة تطلب الفرا ... ر، ومجد محلّق
هو يأس مكذّب، ... ورجاء مصدّق
قد بنيتم، فشيّدوا ... وغرستم، فأورقوا
__________
(1) العذيب وضارج: موضعان التريكة: ما تركته السحب السود من الماء أسأرتها: أبقتها.
(2) ذعذع: فرق الأداحي، جمع أدحية: بيض النعام في الرمل النقانق، جمع نقنق: الظليم.(2/89)
انتصفت من الفراق
(مجزوء الكامل)
أترى نراح من الفراق، ... يوما، ونأخذ في التّلاقي
فأغضّ من جزعي، وأم ... حو الدّمع من بين المآقي
وأرواح في ظفر القويّ، ... وقد انتصفت من الفراق(2/90)
قافية الكاف
الملك الصاعد
(الخفيف)
نظم هذه القصيدة في مدح بهاء الدولة، وقد أرسلها اليه من البصرة سنة 397.
يا أراك الحمى تراني أراكا، ... أيّ قلب جنى عليه جناكا؟ (1)
أعطش الله كلّ فرع بنعما ... ن من الماطر الروى وسقاكا
أيّ نور لناظريّ، إذا ما ... مرّ يوم، وناظري لا يراكا
لا يرى السّوء من رآك مدى الدّه ... ر، وأحيا الإله من حيّاكا
ورعى كلّ ناشق لك دلّت ... هـ صبا طلّة على ريّاكا
ما على البرق لو تحمّل من نج ... د بأظعانه، فسقّى حماكا
يا ديار الأحباب كيف تغيّر ... ت ويا عهد ما الذي أبلاكا
هل أولاك الذين عهدي بهم في ... ك على عهدهم وأين أولاكا
لم تدع فيك نائبات اللّيالي ... أثرا للهوى سوى مغناكا (2)
وأثاف كأنّهنّ رذايا، ... وأسارى لا ينظرون فكاكا (3)
__________
(1) جناك: من الجنى، ما جنيته وقطفته.
(2) المغنى: المكان، المقام.
(3) الأثافي: حجارة الموقد.(2/91)
وشجيج طمّ الزّمان نواصي ... هـ، كما شعّث الوليد السّواكا (1)
الذّميل الذّميل، يا ركب، إنّي ... لضمين أن لا يخيب سراكا (2)
خلّ أوطان معشر منعوا سر ... حك رعي الحمى وملّوا قراكا
جيئهم مخمس الرّكاب فنادوا ... جنّب الورد لا نقعت صداكا (3)
وضحت غرّة الضّياء على القر ... ب، فبلّوا وأرسلوها العراكا (4)
يا مليك الملوك والى لك النّص ... ر على العالم الّذي ولّاكا
ورأيت العدوّ حيث تراه، ... ورآك العدوّ حيث يراكا
كم، إلى كم تبغي الصّعود وقد جز ... ت المعالي وقد طلعت السّكاكا (5)
زدت سبقا على أبيك، وكانت ... غاية المجد لو لحقت أباكا
بانيا ترفع السّموك، إلى أي ... ن المراقي وقد بلغت السّماكا (6)
نلت ما نلته انفرادا وزاحم ... ت الدّاراري على العلاء اشتراكا
يا أسير الخطوب ناد غياث ال ... خلق إنّ الذي رجوت هناكا
من إذا غالنا الضّلال رأينا ... هـ قواما لديننا أو مساكا (7)
ملك الملك ثمّ جلّ عن المل ... ك فأمسى يستخدم الأملاكا (8)
عجبا كيف يرتضي صفحة النّع ... ل لرجل يطا بها الأفلاكا
__________
(1) الشجيج: الوتد السواك: الأعواد التي تنظّف بها الأسنان.
(2) الذميل: ضرب من السير السريع السّرى: السير ليلا.
(3) الجيء: دعاء الإبل الى الماء الصدى: العطش.
(4) القرب: البئر، الماء بعامة بلوا: ذهبوا أرسلوها العراك: أرسلوها تعترك على الماء.
(5) السكاك: الهواء في أعالي الجو.
(6) السموك، جمع سمك: سقف السماك: نجم، وهما سماكان، السماك الرامح والسماك الأعزل. ويلاحظ اعتماده الجناس الناقص، على ما في ذلك من تكلّف.
(7) المساك: ما يمسك به.
(8) يستخدم الأملاك: يجعل الملوك خدما له.(2/92)
رسخت في العلاء أجبالك الش ... مّ ودارت على الأعادي رحاكا
من طموح خطمته وجموح ... بك أعضضته الشّكيم فلاكا (1)
لم تزل تطعن المولّين حتّى ... حسبت من قنا الظّهور قناكا
ورجال تحكّكوا، فأفاقوا ... بجذيل قد عوّدوه الحكاكا (2)
فرع عزّ يعطي على اللّين ما شا ... ء جناه، فإن رأى الضّيم شاكا
ضربوا في جوانب الطّود فانظر ... حمق العاجزين كيف أحاكا (3)
قطعت يا ابن واصل مدّة العم ... ر، فهاج الضّبارم الفتّاكا (4)
طاح في حدّ مخلبيك وخسّت ... أكلة الذّئب أن تقارب فاكا
هل يروع القروم عندك والأس ... د كليب عوى لها في حماكا
طلب الأمر فانثنى بغرور ... كان فوتا، فخاله إدراكا
صاحب الأمر من قرى السيف والضّي ... ف وروّى القنا وأنت كذاكا
كيف تقذى عين ويألم طرف ... نظر اليوم وجهك الضّحّاكا
أنا غرس غرسته، وأجلّ ال ... غرس ما قرّرت ثراه يداكا
لم أجد صانعا سواك، ولا أع ... رف في النّاس منعما ما سواكا
في حمى طولك اهتززت وأورق ... ت قريب الجنى بصوب نداكا (5)
كلّ يوم فضل عليّ جديد، ... وعلاء أناله من علاكا
وعطاء تزيّد البحر يعلو ... كلّما قيل قد بلغت مناكا
وإذا ما طويت عنك التّقاضي، ... عني الطّول منك بي فاقتضاكا
__________
(1) خطمته: قطعت أنفه، كسرت كبرياءه الشكيمة: حديدة اللجام في فم الجواد.
(2) الجذيل: عود تحتك به الجربى. والمعنى أن الناس يتحككون برأيه يستشفون به كما تتحكك الإبل الجربى بهذا العود مستشفية.
(3) أحاك: من قولهم: ضرب بالسيف فأحاك أي لم يقطع.
(4) الضبارم: الأسد الوثّاب.
(5) الصوب: الهطول الندى: الكرم، العطاء.(2/93)
لا سفير إليك إلّا معالي ... ك، ولا شافع إليك سواكا
أيّها الطّالب الذي قلقل العي ... س وأبلى غروضها والوراكا
ناد بالرّكب قد بلغت إلى البح ... ر فعرّس به، كفاك كفاكا (1)
رداء الظلام
(الطويل)
لقد جثمت تعبيسة في المضاحك ... تمدّ بأضباع الدّموع السّوافك (2)
فكفكف صدور السّمهريّ بعزمة ... على كلّ ملآن من الضّغن فاتك (3)
إذا ما أضلّ النّقع طرق سنانه، ... تسرّع من حجب الكلى في مسالك (4)
وليل مريض النّجم من صحّة الدّجى، ... خطته بنا أيدي الهجان الأوارك (5)
بركب فروا برد الظّلام وقلّصوا ... حواشيه في أيدي القلاص الرّواتك (6)
يصافحه نشر الخزامى، كأنّما ... يمسّح أعطاف الرّماح السّواهك (7)
فجاءت بأسد في الحديد ترقرقت ... عليها بماء الشّمس غدر التّرائك (8)
بدت تزلق الأبصار في لمعانها، ... على أنّها في ثوب أقتم حالك
__________
(1) عرّس به: أقم به.
(2) الأضباع: المجاري.
(3) السمهري: الرمح الضغن: الحقد.
(4) النقع: غبار الحرب الكلى: الجوانب.
(5) الأوراك: المزينة بالوارك، وهو ثوب يزيّن به الرحل. والليل المريض النجم هو الذي خفت بريق كواكبه.
(6) فروا: قصّوا القلاص: النياق، جمع قلوص وهي الناقة الطويلة القوائم.
الرواتك: المتقاربة الخطى.
(7) السواهك: الكريهة الريح.
(8) الترائك: جمع تريكة: ما تركه السيل من الماء.(2/94)
تلفّ بأعراف الجياد رماحها، ... وتنشر من أطمار بيض بواتك (1)
وتنكح أوتار الحنايا نبالها، ... فتشرد عنها في نصال فوارك
ألفّ بلألاء السّماح فروجها، ... تبيّض أعجاس القسيّ العواتك (2)
بيوم طراد قنّع الشّمس نقعه، ... بفاضل أذيال الرّبى والدّكادك (3)
خطوا تحته حمر الدّروع كأنّما ... تردّوا بموّار الدّماء الصّوائك (4)
ولا يألمون الطّعن حتّى كأنّهم ... أسرّوا ضلوعا من كعوب النيازك (5)
* * * ولا يوم إلّا أن ترامي رماحه ... قلوب تميم في صدور المهالك
وقد شربت ذود العوالي أنا مل، ... ولكنّها بين الطّلى في مبارك (6)
تطلّ دماء من نحور أعزّة ... كحقن أفاويق الضّروع الحواشك (7)
ألكني فتى فهر إلى البيض والقنا، ... فإنّي قذاة في عيون المآلك (8)
ولي أمل من دون مبرك نضوه، ... يقلقل أثباج المطيّ البوارك (9)
سقى الله ظمآن المنى كلّ عارض ... من الدّم ملآن الملاطين حاشك (10)
__________
(1) البيض البواتك: السيوف القاطعة.
(2) ألفّ: كان كثير لحم الفخذين الأعجاس: مقابض القسي العواتك:
المحمرة من الدم.
(3) الدكادك: المتلبّد بالرمل.
(4) موار الدماء: الدماء المتموّجة السائلة الصوائك: اللازمة.
(5) النيازك: الرماح القصيرة.
(6) شربت ذود العوالي: كناية عن الموت الطلى: الأعناق.
(7) الحواشك، من الحشك: شدّة الضرع وسرعة تجمع اللبن فيه.
(8) ألكني: أرسل من قبلي المآلك: الرسائل.
(9) الأثباج، جمع ثبج: ما بين الكاهل والظهر المطي البوارك: الجمال الباركة.
(10) الملاطان: جانبا السنام الحاشك: الكثير الماء.(2/95)
يزمجر من وقع الصّفيح على الطّلى، ... ويرعد من وقع القنا بالحوارك (1)
بطعن، إذا بادت عواليه قوّمت ... من القوم منآد الضّلوع الشّوابك
الليالي أنست الضحك
(البسيط)
تزايدت العلة على قوام الدين فتوفي نهار الأحد لأربع ليال خلون من جمادى الآخرة سنة 403.
فرثاه الشريف الرضي بهذه القصيدة.
دع الذّميل إلى الغايات والرّتكا، ... ماذا الطّلاب، أترجو بعدها دركا (2)
ما لي أكلّفها التّهجير دائبة ... على الوجى وقوام الدّين قد هلكا (3)
حلّ الغروض، فلا دار ملائمة، ... ولا مزور إذا لاقيته ضحكا (4)
أمسى يقوّض عنّا العزّ خلّفه، ... وثوّر المجد عنّا بعد ما بركا
اليوم صرّحت الجلّى، وقد تركت ... بين الرّجاء وبين اليأس معتركا (5)
تمثّل الخطب مظنونا لتالفه، ... فسوف نلقاه موجودا ومدّركا
رزيئة لم تدع شمسا ولا قمرا، ... ولا غماما، ولا نجما، ولا فلكا
لو كان يقبل من مفقودها عوض، ... لأنفق المجد فيها كلّ ما ملكا
قد أدهش الملك قبل اليوم من حذر، ... وإنّما اليوم أذرى دمعه وبكى
__________
(1) الصفيح: السيوف الحوارك، جمع حارك: أعلى الكاهل.
(2) الذميل: البعير يسير سيرا لينا الرتك: ضرب من السير.
(3) الوجى: الحفا.
(4) الغروض، جمع غرض: حزام الرجل.
(5) الجلّى: الأمر العظيم.(2/96)
أمسى بها عاطلا من بعد حليته، ... وهادما من بناء المجد ما سمكا (1)
من للجياد مراعيها شكائمها، ... يحملن شوك القنا اللّذّاع والشّككا
يطا بها تحت أطراف القنا زلقا ... من الدّماء ومن هام العدا نبكا (2)
من للظّبى يختلي زرع الرّقاب بها، ... حكم القصاقص لا عقل لما سفكا (3)
من للقنا جعلت أيدي فوارسه ... من القلوب لها الأطواق والمسكا (4)
من للأسود نهاها عن مطاعمها، ... فكم رددنا فريسا بعد ما انتهكا
من للعزائم والآراء يطلعها ... مطالع البيض يجلو ضوءها الحلكا
من للرّقاق إذا أشفت على عطب، ... يغدو لها بلغا بالطّول أو مسكا (5)
من للخطوب ينجّي من مخالبها، ... وينزع الظّفر منها كلّما سدكا (6)
من معشر أخذوا الفضلى فما تركوا ... منها لمن يطلب العلياء متّركا
قدّوا من البيض خلقا والحيا خلقا، ... عيصا ألفّ بعيص المجد فاشتبكا (7)
لو أنّهم طبعوا لم ترض أوجههم ... دراري اللّيل لو كانت لها سلكا
هم أبدعوا المجد لا أن كان أوّلهم ... رأى من الجدّ فعلا قبله فحكى
الرّاكبين ظهورا قلّما ركبت، ... والمالكين عنانا قلّما ملكا
هيهات لا ألبس الأعداء بعدهم، ... يوم الجراء، لجاما يقرع الحنكا
ولا أريحت على العلياء حافلة ... لها سنام من الإجمام قد تمكا (8)
__________
(1) العاطل: الذي لا يلبس الحلي سمك: رفع.
(2) النبك، جمع نبكة: أكمة محددة الرأس.
(3) الظبى: السيوف يختلي: يجز القصاقص: الأسد العقل: الدية.
(4) المسك: الخلاخيل.
(5) الرقاق: السيوف البلغ، جمع بلغة: ما يكفي من العيش المسك، جمع مسكة: ما يمسك الأبدان من الطعام.
(6) سدك: لزم.
(7) العيص: الأصل.
(8) تمك: ارتفع.(2/97)
يا صفقة من بياع كلّها غرر، ... من ضامن للعلى من بعدها الدّركا
خلا لها كلّ ذئب مع أكيلته، ... من واقع طار أو من عاجز فتكا
الموت أخبث من أن يرتضي أبدا ... لا سوقة بدلا منه ولا ملكا
كالعلق والعلق لو خيّرت بينهما ... لم ترض بالدّون يوما أن يكون لكا (1)
راق تفرّد بالإحسان يفرعها، ... وزايد النّجم في العلياء واشتركا
اللّين يمطيك من أخلاقه ذللا، ... والضّيم يخرج منه الآبي المعكا (2)
غمر العطيّة لا يبقي على نشب، ... وإن رأى قلّبيّ الرّأي محتنكا (3)
لا تتبعوا في المساعي غير أخمصه، ... فأخصر الطّرق في العلياء ما سلكا
ما مثل قبرك يستسقى الغمام له، ... وكيف يسقي القطار النّازل الفلكا
لا يبعد الله أقواما رزئتهم، ... لو ثلّموا من جنوب الطّود لانتهكا
فقد تهم مثل فقد العين ناظرها، ... يبكى عليها بها، يا طول ذاك بكا
إذا رجا القلب أن ينسيه غصّته ... ما يحدث الدّهر أدمى قرحه ونكا (4)
إن يأخذ الموت منّا من نضنّ به، ... فما نبالي بمن بقى ومن تركا
إنّي أرى القلب ينزو لادّكارهم، ... نزو القطاطة مدّوا فوقها الشّركا (5)
لا تبصر الدّهر بعد اليوم مبتسما ... إنّ اللّيالي أنست بعده الضّحكا
__________
(1) العلق: النفيس من كل شيء.
(2) المعك: الأحمق.
(3) النشب: المال، المقتنى القلّبي: البصير بتقلب الأمور.
(4) نكا، نكأ: قشّر القرحة.
(5) ينزو: ينزف القطاطة: القطاة، طائر في حجم الحمام.(2/98)
ظبية البان
(البسيط)
هذه القصيدة هي من الحجازيات المشهورة نظمها في المحرم من سنة 395.
يا ظبية البان ترعى في خمائله، ... ليهنك اليوم أنّ القلب مرعاك
الماء عندك مبذول لشاربه، ... وليس يرويك إلّا مدمعي الباكي
هبّت لنا من رياح الغور رائحة ... بعد الرّقاد عرفناها بريّاك (1)
ثمّ انثنينا، إذا ما هزّنا طرب ... على الرّحال، تعلّلنا بذكراك
سهم أصاب وراميه بذي سلم ... من بالعراق، لقد أبعدت مرماك (2)
وعد لعينيك عندي ما وفيت به، ... يا قرب ما كذبت عينيّ عيناك
حكت لحاظك ما في الرّيم من ملح ... يوم اللّقاء فكان الفضل للحاكي
كأنّ طرفك يوم الجزع يخبرنا ... بما طوى عنك من أسماء قتلاك (3)
أنت النّعيم لقلبي والعذاب له، ... فما أمرّك في قلبي وأحلاك
عندي رسائل شوق لست أذكرها، ... لولا الرّقيب لقد بلّغتها فاك
سقى منى وليالي الخيف ما شربت ... من الغمام وحيّاها وحيّاك (4)
إذ يلتقي كلّ ذي دين وماطله، ... منّا، ويجتمع المشكوّ والشّاكي
لمّا غدا السّرب يعطو بين أرحلنا، ... ما كان فيه غريم القلب إلّاك (5)
هامت بك العين لم تتبع سواك هوى، ... من علّم البين أنّ القلب يهواك
حتّى دنا السّرب، ما أحييت من كمد ... قتلى هواك، ولا فاديت أسراك
__________
(1) الريا: الرائحة الزكية الطيبة.
(2) ذو سلم: اسم موضع.
(3) الجزع: اسم موضع.
(4) منى وخيف: موضعان.
(5) يعطو: من العطو وهو رفع الرأس واليدين.(2/99)
يا حبّذا نفحة مرّت بفيك لنا، ... ونطفة غمست فيها ثناياك
وحبّذا وقفة، والرّكب مغتفل ... على ثرى وخدت فيه مطاياك (1)
لو كانت اللّمّة السّوداء من عددي ... يوم الغميم، لما أفلتّ أشراكي
ذل الهوى
(الكامل)
يا قلب ليتك حين لم تدع الهوى ... علّقت من يهواك مثل هواكا
لو كان حرّ الوجد يعقب بعده ... برد الوصال غفرت ذاك لذاكا
لا بل شجيت بمن يبيت مسلّما ... خالي الضّلوع، ولا يحسّ شجاكا
إن يصبحوا صاحين من خمر الهوى، ... فلقد سقوك من الغرام دراكا (2)
يا ليت شغلك بالأسى أعداهم، ... أو لا، فليت فراغهم أعداكا
أهوى وذلّا في الهوى وطماعة، ... أبدا، تعالى الله ما أشقاكا
يا قلب كيف علقت في أشراكهم، ... ولقد عهدتك تفلت الأشراكا
أكثبت حتّى أقصدتك سهامهم، ... قد كنت عن أمثالها أنهاكا (3)
إن ذبت من كمد، فقد جرّ الهوى ... هذا السّقام عليّ، من جرّاكا
لا تشكونّ إليّ وجدا بعدها، ... هذا الذي جرّت عليّ يداكا
لأعاقبنّك بالغليل، فإنّني ... لولاك لم أذق الهوى لولاكا
يا عاذل المشتاق دعه، فإنّه ... يطوي على الزّفرات غير حشاكا
لو كان قلبك قلبه ما لمته، ... حاشاك ممّا عنده حاشاكا
__________
(1) وخدت: أسرعت.
(2) الدراك: اتباع الشيء بعضه على بعض.
(3) أكثبت: دنوت أقصدتك: أصابتك.(2/100)
قلقي عليك
(مجزوء الكامل)
يا مقلقي! قلقي علي ... ك أظنّه ذنبي إليكا
أنت الشّقيق، فلو جني ... ت لما أخذت على يديكا
أمسيت ثالث ناظر ... يّ، فكيف أقذي ناظريكا
وكفاك أنّي لست أع ... قد خنصري إلّا عليكا
هادن الدهر
(البسيط)
أما تحرّك للأقدار نابضة ... أما يغيّر سلطان ولا ملك؟
قد هادن الدّهر حتّى لا قراع له، ... وأطرق الخطب حتّى ما به حرك
كلّ يفوت الرّزايا أن يقعن به، ... أما لأيدي المنايا فيهم درك؟
قد قصّر الدّهر عجزا عن لحاقهم، ... فأين أين ذميل الدّهر والرّتك (1)
أخلّت السّبعة العليا طرايقها، ... أم أخطأت نهجها أم سمّر الفلك؟
أين المهالك
(الطويل)
أفي كلّ يوم أنت رام بهمّة، ... إلى حيث لا ترمي النّجوم الشّوابك
وما كلّ ما منّيت نفسك خاليا، ... تنال، ولا تفضي إليه المسالك
يقولون رم تلق الذي أنت طالب، ... فأين العواقي دونها والمهالك
__________
(1) الذميل والرتك: من أنواع السّير.(2/101)
وكم سعي ساع جرّ حتفا لنفسه، ... ولولا الخطى ما شاك ذا الرّجل شائك
ألا ربّما حيّاك رزقك طالعا، ... ورحلك محطوط ونضوك بارك
جان عقابه الضحك
(المنسرح)
وربّ غاو رميت منطقه ... بسكتة، والحلوم تعترك
وللفتى من وقاره جنن، ... إن كثرت من عدوّ الشّكك
ثار به الجهل، فابتسمت له، ... وربّ جان عقابه الضّحك
شوك القتاد
(الطويل)
أيا راكبا ترمي به اللّيل جسرة، ... لها نمرق من نيّها ووراك (1)
قراها ربيع الواديين، وأتمكت ... قراها عهاد باللّوى وركاك (2)
لها هاديا عين وأذن سميعة، ... إذا غار أو غرّ العيون سماك
تحمّل ألوكا ربّما حمّلت به ... رذايا المطايا، مشيهنّ سواك (3)
وأبلغ عماد الدّين أمّا بلغته، ... بأنّ سلاح اللّوم عندي شاك
__________
(1) الجسرة: الناقة العظيمة النمرق: الطنفسة فوق الرحل النيّ: السمن الوراك: ثوب يزيّن الورك.
(2) أتمكت: سمنت العهاد: المطر الركاك: المطر الضعيف.
(3) الألوك: الرسالة الرذايا: الضعاف السواك: السير الضعيف.(2/102)
أفي الرّأي أن تسترعي الذّئب ثلّة، ... وغوثك بطء والخطوب وشاك؟ (1)
أردت وقاء الرّجل والنّعل عقرب ... مراصدة، والأفعوان شراك
وكان أبوك القرم هادم عرشه، ... فلم أنت أعماد له وسماك
يكون سماما للمعادين ناقعا، ... وأنت لأرماق العداة مساك
ألا فاحذروها، أوّل السّيل دفعة، ... وربّ ضئيل عاد وهو ضناك (2)
نذار لكم من وثبة ضيغميّة، ... لها بعد غرّار السّكون حراك
ولا تزرعوا شوك القتاد فإنّكم ... جديرون أن تدموا به وتشاكوا
طبعتم نصولا للعدوّ قواطعا، ... وليس عليكم للضّراب شكاك
وكان قنيصا أفلتته حبالة، ... وأين حبال بعدها وشراك
يكاد من الأضغان يعدم بعضكم، ... على أنّ في فيه الشّكيم يلاك (3)
فكيف إذا ألقى العذارين خالعا، ... وزال لجام قادع وحناك (4)
هناك ترون الرّأي قد فال والتوت ... حبال بأيدي الجاذبين ركاك (5)
دماء نيام في الأباجل أوقظت، ... وظنّي يوما أن يطول سفاك (6)
أليس أبوه من له في مجنّكم ... ضراب على مرّ الزّمان دراك
وكان سنانا في قناة ابن واصل ... إليكم، وللأجداد ثمّ عراك
فأمست له بين الغماد وأربق ... رهون منايا ما لهنّ فكاك (7)
تلاقت عليه العاسلات كأنّها ... أنامل أيد، بينهنّ شباك (8)
__________
(1) الثلة: جماعة الغنم.
(2) الضئيل: الضعيف، الحقير ضناك: الخلق الشديد.
(3) الشكيم، جمع شكيمة: حديدة اللجام في فم الفرس.
(4) قادع: كاف.
(5) فال: أخطأ.
(6) الأباجل جمع أبجل: عرق غليظ في الرّجل.
(7) الغماد وأربق: موضعان.
(8) العاسلات: الرماح المضطربة.(2/103)
وأمّل أن يرعى حمى الملك سربه، ... وبالجزع حمض عازب وأراك
فما أتبعته نشطة من حميمه، ... ولا من أراك الجلهتين سواك
يطاولكم وهو الحضيض إلى العلى، ... فكيف إذا ما عاد وهو سكاك
أحيلوا عليها بالمحافر انّها ... معاثر في طرق العلا ونباك (1)
وما الحزم للأقوام أن يطأوا الرّبى، ... وبين نعال الواطئين شياك
ولو عضد الملك اجتلاها مخيلة، ... لقطّعها بالعضب، وهي تحاك
فليت لنا ذاك الجذيل يطبّنا، ... إذا لجّ بالدّاء العضال حكاك (2)
وإنّ ملاك الرّأي نزع حماتها، ... قبيل أمور، ما لهنّ ملاك
فإن تطفئوها اليوم، فهي شرارة، ... وغدوا أوار، والأوار هلاك (3)
الزمان الساقط
(الرمل)
لا يرعك الحيّ إن قيل هلك، ... أخذ المقدار منّا وترك
أنظري ترضي بقايا قومنا، ... إن جلا اليوم غبار المعترك
أخذوا الشّطر الذي أبقى الرّدى، ... ثمّ قالوا: عن قليل هو لك
أبتغي عدل زمان ساقط، ... إنّما النّاس على دين الملك
باخل إن ضافه الحقّ، فلا ... أعتق المال، ولا العرض ملك
__________
(1) النباك: الأكمة المحددة الرأس.
(2) الجذيل: عود يتحكك به.
(3) الأوار: الحر الشديد.(2/104)
قافية اللام
الطائع الميمون
(الكامل)
في هذه القصيدة يمدح الشريف الرضي الخليفة الطائع لله ويشكره على تكرمة خصه بها وثياب وورق، وذلك سنة 376.
أنا للرّكائب إن عرضت، بمنزل، ... وإذا القنوع أطاعني لم أرحل
لم أطلب المثري البخيل لحاجة، ... أبدا، وأقنع بالجواد المرمل (1)
وأرى المعرّض باللّئيم، كأنّه ... أعشى اللّحاظ يحزّ غير المفصل
ولربّ مولى لا يغضّ جماحه ... طول العتاب، ولا عناء العذّل
يطغى عليك، وأنت تلأم شعبه، ... كالسّيف يأخذ من بنان الصّيقل (2)
أبكي على عمر يجاذبه الرّدى، ... جذب الرّشاء عن القليب الأطول (3)
أخلق بحبل مرسل في غمرة، ... أن سوف يرفعه بنان المرسل
ما كنت أطرب للّقاء، ولا أرى ... قلقا لبين الظّاعن المتحمّل (4)
ألوي عناني عن منازلة الهوى، ... وأصدّ عن ذكر الغزال المغزل
__________
(1) المرمل: الفقير، المعدم.
(2) تلأم شعبه: تصلح خلله، تجبر كسره.
(3) الرشاء: الحبل القليب: البئر.
(4) المتحمّل: الراحل.(2/105)
وأزور أطراف الثّغور، ودونها ... طعن يبرّح بالوشيج الذّبّل (1)
أأنال من عذب الوصال ودونه ... مرّ الإباء ونخوة المتدلّل
ما كنت أجزع نطفة معسولة ... طوع المنى، وإناؤها من حنظل
أعقيلة الحيّين دونك، فارفعي ... ما شئت من عذب القناع المسبل
هيهات تبلغك اللّحاظ، وبيننا ... هضب كخرطوم الغمام المقبل
أوطان غيرك للضّيافة طلقة، ... وسواك في اللأواء رحب المنزل (2)
وإذا أمير المؤمنين أضاف لي ... أملي نزلت على الجواد المفضل
بالطّائع الميمون أنجح مطلبي، ... وعلوت حتّى ما يطاول معقلي
قرم، إذا عرت الخطوب مراحه ... أدمى غواربها بناب أعضل (3)
متوغّل خلف العدوّ، وعلمه ... أنّ الجبان، إذا سرى، لم يوغل
وإذا تنافلت الرّجال غنيمة، ... قسم التّراث لها بحدّ المنصل (4)
ثبت لهجهجة الخطوب، كأنّما ... جاءت تقعقع بالشّنان ليذبل (5)
رأي الرّشيد، وهيبة المنصور في ... حسن الأمين ونعمة المتوكّل
آباؤك الغرّ الذين، إذا انتموا، ... ذهبوا بكلّ تطاول وتطوّل
درجوا كما درج القرون وعلمهم ... أن سوف يخبر آخر عن أوّل
نسب إليك تجاذبت أشياخه ... طولا من العبّاس غير موصّل (6)
هذي الخلافة في يديك زمامها، ... وسواك يخبط قعر ليل أليل (7)
أحرزتها دون الأنام، وإنّما ... خلع العجاجة سابق لم يذهل
__________
(1) الوشيج الذبّل: القصب الليّن، وفي القول كناية عن الرماح.
(2) اللأواء: الشدّة، الضيق.
(3) القرم: الشجاع، الثابت الغوارب، جمع غارب: حد السيف.
(4) تنافلت: تقاسمت.
(5) الهجهجة: الهدير الشنان، جمع شن: القربة البالية يذبل: جبل.
(6) الطول: الحبل غير موّصل: كناية عن قوته ومتانته.
(7) ليل أليل: ليل شديد السواد.(2/106)
بحوادر يعنقن من تحت القنا ... عنقا يعرّد بالذّئاب العسّل (1)
غرّ محجّلة، إذا احتضر الوغى، ... نقّبن عن يوم أغرّ محجّل
دفعت فأيّ الحزم عنها لم يضق، ... عرقا، وأيّ اللّجم لم يتصلصل
سلخ الظّلام إهابه وتهلّلت ... جنبات ذاك العارض المتهلّل
طلعت بوجهك غرّة نبويّة، ... كالشّمس تملأ ناظر المتأمّل
وإذا نبت بك في مسالمة العدى ... أرض، وهبت ترابها للقسطل (2)
وفوارس ما استعصموا بثنيّة، ... إلّا طلعت عليهم في جحفل
شردت بنا ذلل الرّكاب، كأنّما ... يذرعن بردة كلّ قاع ممحل
والآل ينهض بالشّخوص أمامنا، ... ويمدّ أعناق القنان المثّل
من كلّ رابية ترفّع جيدها، ... فكأنّه هادي حصان مقبل (3)
ومعرّس هزج الوحوش، كأنّما ... طرق المسامع عن غماغم مرجل (4)
عركت جوانبنا الفلاة، وأسرعت ... في العظم واقتاتت شحوم البزّل (5)
وإليك طوّح بالمطيّ مغرّر ... عصفت به أيدي المطيّ المضلل
فأتتك تلتهم الهواجر طلّحا، ... والظّلّ بين خفافها والجرول (6)
وخفائفا فجعت بكلّ حقيبة ... ملأى وكلّ مزاد ماء أثجل (7)
وعلى الرّحال عصائب ملتاثة، ... تلوي بشعر ثمّ غير مرجّل (8)
__________
(1) الحوادر: الجياد الأصيلة يعنقن: يسرن سيرا واسعا يعرّد، من عرد السهم: نفذ العسل: المضطربة في عدوها.
(2) القسطل: غبار الحرب.
(3) ترفّع جيدها: علا عنقها الهادي: العنق.
(4) المعرّس: مكان التعريس أي النزول ليلا الهزج: المصوّت الغماغم:
الهدير.
(5) البزّل: النياق الفتية، جمع بازل وهي الناقة التي نبت نابها وبلغت.
(6) الطلّح: الهزيلة الجرول: الأرض الكثيرة الحجارة.
(7) الحقيبة: الرفادة في مؤخرة الرّحل أثجل: واسع.
(8) ملتاثة: مرتخية غير مرّجل: غير مجعّد.(2/107)
علقت حبالك ثمّ أقسمت المنى ... أن لا لوين بغير حبلك أنملي (1)
أمل جثا بفناء دارك قاطنا، ... وكأنّه بفناء واد مبقل
ومجلّل يندي يديك، كأنّما ... غطّاه عرف العارض المتهدّل (2)
أرجوك للأمر الخطير، وإنّما ... يرجى المعظّم للعظيم المعضل
وأروم من غلواء عزّك غاية ... قعساء، تستلب النّواظر من عل
كم رامها منك الجبان فراوغت ... شقّاء يلعب شدقها بالمسحل (3)
تدمي قلوب الحاسدين، وتنثني ... فتردّ عادية الخطوب النّزّل
ضاق الزّمان، فضاق فيه تقلّبي، ... كالماء يجمع نفسه في الجدول
هذا الحسين إلى علائك ينتمي ... شرفا، وينسب مجده في المحفل
أسلفته وعدا، عليك تمامه، ... وسيدرك المطلوب إن لم يعجل
فاسمح بفعلك بعد قولك إنّه ... لا يحمد الوسميّ إلّا بالولي (4)
فلعلّنا نمتاح إن لم نغترف ... ماء المنى، ونعلّ إن لم ننهل (5)
كم وقفة ناجيته في ظلّها، ... والقول يغدر بالخطيب المقول
ثبّتّ فيها وطاءه، ووراءه ... جزع يقلقل من قلوب الجندل
إيه، وكم من نعمة جلّلته، ... تضفو كهدّاب الرّداء المخمل
فسما، وحلّق كالعقاب إلى العلى، ... وعدوّه يهوي هويّ الأجدل (6)
وبودّه لو كان قرنا سالفا، ... أو نطفة ذهبت بداء مغيل (7)
ومشمّر العرنين خرّ جبينه ... لك، غير مقبول ولا مستقبل
لمّا رآك تقاصرت خطواته ... جزعا، وجعجع بالرّواق الأوّل
__________
(1) الوادي المبقل: الكثير العشب.
(2) المجلّل: المطر يعم الأرض العرف: الموج العارض: السحاب.
(3) الشقّاء: الفرس المتباعدة الفخذين المسحل: اللجام.
(4) الوسمي: أول مطر الربيع الولي: المطر الذي يليه.
(5) نمتاح: نستخرج، نأخذ ما يكفي.
(6) الأجدل: الصقر.
(7) الداء المغيل: المرض القاتل.(2/108)
لله أنت لقد أثرت صنيعة ... بيدي معمّ في الصّنائع مخول
شرّفتنا دون الأنام، وإنّما ... برّ القريب علاقة المتفضّل
وجذبتنا جذب الجرير إلى العلى، ... وإذا ارتقى متمطّر لم ينزل (1)
فلأنت أولى بالإمامة والهدى، ... وأذبّ عن ولد النّبيّ المرسل
أغبار درّ من عطائك تفتدى ... من درّ غيرك بالضّروع الحفّل (2)
لولا غمام نداك أصبح راكب ... يشكو الأوام، وقد أناخ بمنهل (3)
وأحقّ بالإطراء باعث منّة، ... وصلت من الأرحام ما لم يوصل
مولاي من لي أن أراك، وكيف لي ... بحضور دارك، والعدوّ بمعزل
انظر إليّ ببعض طرفك نظرة، ... يسمو لها نظري ويعرب مقولي
فالآن لا أرضى، وأنت مموّلي ... برضى القنوع وعفّة المتجمّل
نعمى أمير المؤمنين حريّة ... أن لا ننام عن الرّجاء المهمل
بفم، إذا رفع الكلام سجافه، ... أوحى بنائله، وإن لم يسأل
ويد إذا استمطرت عابر مزنها، ... دفقت عليك من الزّلال السّلسل
تمحو أساطير الخطوب كما محا ... مرّ الشّمال من الغمام المثقل
لا يحتمي بالرّمح باع مؤيّد، ... لو شاء طاعن بالسّماك الأعزل
هذا الخليفة لا يغضّ عن الهدى، ... إن نام ليل القائم المتبتّل
لمّا أهبت بنصره لملمّة، ... دفع الزّمان وقد أناخ بكلكلي (4)
واليت فيه مدائحي، فكأنّما ... أفرغت نبلي كلّها في مقتل
من كلّ قافية، إذا أطلقتها ... عطفت عنان الرّاكب المستعجل
وظفرت من نفحاته وجواره ... بأجلّ نعماء وأحرز موئل
__________
(1) الجرير: الحبل الطويل المتمطر: الذاهب.
(2) الأغبار: البقايا الحفّل: الممتلئة.
(3) الأوام: العطش.
(4) الكلكل: الصدر.(2/109)
أنت الجواد
(الكامل)
نظمها في رمضان من سنة 377، وفيها يمدح الطائع لله ويهنئه بالمهرجان.
أمبلّغي ما أطلب الغزل؟ ... أم لا فتنجدني القنا الذّبل
والسّيف أولى أن أعوذ به ... ممّا تجرّ الأعين النّجل (1)
وأنا الذي نفر الزّمان به، ... واستأنست بركابه السّبل
أسري على غرر، وتصحبني، ... دون الرّجال، الأينق الذّلل (2)
لا المال يجذبني إليه، ولا ... يعتاقها الحوذان والنّفل (3)
عجل بي الشّدّ الحثيث إلى ال ... غايات خرّاج بي المهل
في غلمة تركوا قعودهم، ... نزعوا وراء اللّيل، وانحفلوا (4)
وإذا المزاد حمى صلاصله، ... قنعوا بما تقضي لنا المقل (5)
ومقوّم الأذنين تحسبه ... طودا أناف بصدره جبل (6)
متطاول يوفي معرّده ... عنقا تضاءل خلفها الكفل (7)
أجهدته، والكرّ يعصره، ... والماء من عطفيه ينهمل
__________
(1) الأعين النجل: الواسعة والجذابة.
(2) الأينق الذلل: النياق الطيّعة الغرر: التعرّض للهلاك.
(3) الحوذان: نبات طيب الطعم زهره أحمر تستسيغه الإبل النفل: بقل طيب الرائحة تسمن عليه الابل.
(4) غلمة: جمع غلام انحفلوا: اجتمعوا.
(5) المزاد، جمع مزادة: جلد يضم بعضه إلى بعض لحفظ الماء صلاصله:
بقية الماء فيه المقل، جمع مقلة: الحصاة يقتسم عليها الماء عند الحاجة.
(6) أناف: زاد، أشرف.
(7) معرّدة، من عرّد النجم: ارتفع، فيكون المعنى: عنقه المعرّد أي المرتفع.(2/110)
ونجيبة نهض الزّمان بها ... من بعد ما قعدت بها العقل
صدعت عرانين الرّبى ونجت ... هوجا، وينجد وخدها الرّمل (1)
طلبت أمير المؤمنين، ولا ... أين أطاف بها ولا مهل (2)
حيث العلى لا يستراب بها، ... والجود لا يلوي به البخل
والطّائع المرجوّ إن حمدت ... أيدي الرّجال وقلّ من يسل
ملك إذا حصر السّماط به، ... كثر العثار، وطبّق الزّلل (3)
وإذا السّرير سما بقعدته، ... غريت بظاهر كفّه القبل (4)
جلت الأئمّة عن مناقبه، ... واستودعته نورها الرّسل
وإذا العيوب مشت إليه بدا ... وجه تخاوص دونه المقل (5)
فاللّحظ محتبس ومنطلق، ... والقول منقطع ومتّصل
طرب إلى النّعماء عاهدها ... أن لا يمرّ بسمعه عذل
يلقى الخطوب، ووجهه طلق، ... ويخوضهنّ، وقلبه جذل
تخفي بشاشته حميّته، ... كالسّمّ موّه طعمه العسل
من معشر كانت سيوفهم ... حليا لمن ضربوا، ومن عطلوا
بالفخر يكسون الذي سلبوا، ... والذّكر يحيون الذي قتلوا
أنت الجواد، إذا غلا أمل، ... والمستجار، إذا طغى وجل
ومطاعن بعثت يداك له ... طعنا يذلّ لوقعه البطل
وعلمت أنّ السّيل يدفعه، ... لمّا أطلّ العارض الهطل
لله رمحك يوم تورده، ... والماء لا صرد ولا علل (6)
__________
(1) عرانين الربى: رؤوس التلال الهوج: السرعة الوخد والرمل: ضربان من السير السريع.
(2) الأين: التعب.
(3) السماط: صف القوم طبّق: عم.
(4) غريت: أولعت.
(5) تخاوص، تتخاوص: تغض.
(6) الصرد: الخالص العلل: الشرب بعد الشرب.(2/111)
خطل المناكب لا يميل به ... عوج، ومن نعت القنا الخطل (1)
ومطاعنين، إذا هما اعترضا، ... يتطاعنان، وللقنا زجل (2)
نزل الهصور على فريسته، ... ومضى يدحرج نجوه الجعل (3)
شيخان: هذا فارس بطل ... أبدا، وهذا عاجز مذل (4)
فإذا الزّمان أراد قودهما، ... حرن الجواد وأصحب الوعل (5)
أمريد زائدة الأنام أقم، ... هيهات منك الشّدّ والعجل
أتريد غايات الفخار، وما ... لك ناقة فيه، ولا جمل؟
فانعق بضأنك عن أناطحه، ... ودع الغمير تلسّه الإبل (6)
يا قابض الأيّام عن وجل، ... بيمينه عن مسّها شلل
يئل الذي أمّنت روعته، ... والعصم في الأطواد لا تئل (7)
لوليّك الدّنيا مزخرفة، ... ولأمّ من عاديته الهبل (8)
إن قال فيك عداك منقصة، ... قالوا: السّماء أديمها نغل (9)
إحذر عدوّك أن تقرّبه ... من قلبك الخدعات والحيل
لا تخدعنّ على رقاه، ولو ... أرضاك منه القول والعمل
ففؤاده حنق عليك، وإن ... طاطا، وذلّله لك الوجل
__________
(1) خطل المناكب: خشنها الخطل: الاضطراب.
(2) الزجل: الصوت، الرنين.
(3) النجو: الغائط الجعل: نوع من الخنافس.
(4) مذل: قلق، ضجر.
(5) أصحب: انقاد بعد صعوبة الوعل: تيس الجبل.
(6) انعق بضأنك: صح بها أناطحه جمع أنطح: اسم تفضيل من نطح الغمير: النبات تلسّه: تأكله بمقدم فمها.
(7) يئل: يلجأ العصم، جمع أعصم: الظبي في ذراعيه بياض وسائره أسود أو أحمر.
(8) الهبل: الحمق.
(9) نغل الأديم: فسد الجلد في الدباغ.(2/112)
إنّ المجرّد في هواك فتى ... لا اللّوم يردعه، ولا العذل
مثل الحسين، فبين أضلعه، ... قلب بغيرك ما له شغل
يثني عليك بكلّ عارفة ... أبدا، وستر الغيب منسدل
ذاك الحسام أطلت جفوته، ... ولقلّ ما طفرت به الخلل (1)
ووعدته وعدا تعلّقه، ... والوعد ملويّ به الأمل
فانهض به في النّائبات تجدّ ... عضبا تساقط دونه القلل
واسلم، أمير المؤمنين، إذا ... شرع الحمام وصمّم الأجل
متقلّدا بنجاد مملكة ... في غمدها الأقدار والدّول
وأنعم بيوم المهرجان، ولا ... نعم العداة به، ولا عقلوا
فلأنت نهّاض، إذا قعدوا، ... أبدا، وصعّاد، إذا نزلوا
يوم تجدّده السّنون، وقد ... درجت عليه الأعصر الأوّل
فالنّاس فيه معلّل طرب ... يرجو الأوار، وشارب ثمل (2)
ما استجمعت فرق الهموم به ... إلّا وبدّد جمعها الجذل
هو خطّة نزل الشّتاء بها، ... والصّيف منطلق ومرتحل
وأنا الذي أهوى هواك، ولو ... ضربت عليّ البيض والأسل
وطئت قبائل غالب عقبي، ... وتشرّفت بمقامي الحلل
وفقأت عين البخل مذ كثرت ... بنداك عندي الأينق البزل (3)
ومراغم يغدو على قنصي، ... فيحوزه، ويداي محتبل (4)
خضت الغمار، فجاز جمّتها ... دوني، وطبّق ثوبي البلل
ومذكّري رحما معنّسة، ... كالشّمس أخلق ضوءها الطّفل (5)
__________
(1) الخلل، جمع خلة: جفن السيف من جلد.
(2) الأوار: شدّة الحر، الدفء.
(3) الأينق البزل: النياق الفتيّة.
(4) يداي محتبل: المحتبل هو المربوط بالحبل، والأصح القول: يداي محتبلتان.
(5) معنّسة: محبوسة أخلق: أوهى الطفل: قرب الغروب.(2/113)
رحم تعلّق بالبعيد، كما ... علق الحباء النّازح الطّول (1)
اثنان يقتطعان من فرصي، ... وأنا الذي أرخي وأهتبل (2)
غرضي بمدحك أن يطاوعني ... عوج بأيّامي، ويعتدل
وأقوم بين يديك مرتجلا، ... لا العيّ يقطعني، ولا الخطل (3)
ولئن نما كلّ المديح إلى ... فلتات قولي، وانتمى الغزل
فالأرض أمّ التّرب أجمعه، ... وأبو البريّة كلّها رجل
__________
(1) الحباء، من حبا المسيل: دنا بعضه من بعض.
(2) أهتبل: أكذب، أخادع، احتال.
(3) الخطل: الخطأ.(2/114)
أيادي أمير المؤمنين
(الطويل)
يمدح الطائع لله في شهر رمضان من سنة 377.
مسيري إلى ليل الشّباب ضلال، ... وشيبي ضياء في الورى وجمال
سواد، ولكنّ البياض سيادة، ... وليل، ولكنّ النّهار جلال
وما المرء قبل الشّيب إلّا مهنّد ... صديّ، وشيب العارضين صقال (1)
وليس خضاب المرء إلّا تعلّة ... لمن شاب منه عارض وقذال (2)
وللنّفس في عجز الفتى وزماعه ... زمام إلى ما يشتهي وعقال (3)
بلوت وجرّبت الأخلّاء مدّة، ... فأكثر شيء في الصّديق ملال
وما راقني ممّن أودّ تملّق، ... ولا غرّني ممّن أحبّ وصال
وما صحبك الأدنون إلّا أباعد، ... إذا قلّ مال، أو نبت بك حال
ومن لي بخلّ أرتضيه، وليت لي ... يمينا يعاطيها الوفاء شمال
تميل بي الدّنيا إلى كلّ شهوة، ... وأين من النّجم البعيد منال
وتسلبني أيدي النّوائب ثروتي، ... ولي من عفافي والتّقنّع مال
إذا عزّني ماء، وفي القلب غلّة، ... رجعت، وصبري للغليل بلال
أرى كلّ زاد ما خلا سدّ جوعة ... ترابا، وكلّ الماء عندي آل
ومثلي لا يأسى على ما يفوته، ... إذا كان عقبى ما ينال زوال
كأنّا خلقنا عرضة لمنيّة، ... فنحن إلى داعي المنون عجال
نخفّ على ظهر الثّرى، وبطونه ... علينا، إذا حلّ الممات، ثقال
__________
(1) يشبه هنا سواد الشعر بالسيف علاه الصدأ، وشيب الصدغين شبهه بالسيف المصقول.
(2) القذال: مؤخر الرأس.
(3) الزماع: الثبات في الأمر.(2/115)
وما نوب الأيّام إلّا أسنّة ... تهاوى إلى أعمارنا ونصال
وأنعم منّا في الحياة بهائم، ... وأثبت منّا في التّراب جبال
أنا المرء لا عرضي قريب من العدى، ... ولا فيّ للباغي عليّ مقال
وما العرض إلّا خير عضو من الفتى ... يصاب، وأقوال العداة نبال
وقور، فإن لم يرع حقّي جاهل، ... سألت عن العوراء كيف تقال
إلى كم أمشّي العيس غرثى كليلة، ... وأودع منها ربرب ورئال (1)
أروغ كأنّي في الصّباح طريدة، ... وأسري كأنّي في الظّلام خيال
تمطّى بنا أذوادنا كلّ مهمه، ... خفائف تخفيها ربى ورمال (2)
لطمنا بأيديها الفيافي إليكم، ... وقد دام إغذاذ، وطال كلال (3)
خوارج من ليل كأنّ وراءه ... يد الفجر في سيف جلاه صقال
تقوّم أعناق المطيّ نجومه، ... فليس لسار فوقهنّ ضلال
وهو جاء قدّام الرّكاب مغذّة، ... لها من جلود الرّازحات نعال
رحلنا بها كالبدر حسنا وشارة، ... وملنا إلى البيداء، وهي هلال (4)
إليك، أمين الله، وسّمت أرضها ... بأخفافها، يدنو بهنّ نقال (5)
أيادي أمير المؤمنين كثيرة، ... ومال إمام المؤمنين مذال
وأوقاته اللّاتي تسوء قصيرة، ... وأيّامه اللّاتي تسرّ طوال
من الضّاربين الهام والخيل تدّعي، ... وإن غاب أنصار وقلّ رجال
هم القوم إن ولّى المعاريك أقبلوا، ... وإن سئلوا بذل النّوال أنالوا
وإن طرق القوم العبوس تهلّلوا، ... وإن مالت السّمر الذّوابل مالوا
أجيل لحاظي لا أرى غير ناقص، ... كأنّ الورى نقص وأنت كمال
__________
(1) غرثى: جائعة كليلة: متعبة الربرب: قطيع بقر الوحش الرئال، جمع رأل: فرخ النعام.
(2) الأذواد، جمع ذود: القطعة من الإبل المهمه: الفلاة.
(3) الإغذاذ: الشد في السير الكلال: التعب.
(4) شارة: هيئة.
(5) النقال: سرعة نقل القوائم.(2/116)
لنا كلّ يوم في معاليك شعبة ... وفائدة لا تنقضي ونوال (1)
وأنت الذي بلّغتنا كلّ غاية، ... لها فوق أعناق النّجوم مجال
فما طرد النّعماء وعدك ساعة، ... ولا غضّ من جدوى يديك مطال
إذا قلت كان الفعل ثاني نطقه، ... وخير مقال ما تلاه فعال
أزل طمع الأعداء عنّي بفتكة، ... فلا سلم إلّا أن يطول قتال
فإنّ نفوس النّاكثين مباحة، ... وإنّ دماء الغادرين حلال
وشمّر، فما للسّيف غيرك ناصر، ... ولا للعوالي، إن قعدت، مصال
ومن لي بيوم شاحب في عجاجه، ... أنال بأطراف القنا وأنال
لك الفرس الشّقراء في الجوّ شمسه ... لها من غيابات الغبار جلال
أردني مرادا يقعد النّاس دونه، ... ويغبطني عمّ عليه وخال
ولا تسمعن من حاسد ما يقوله، ... فأكثر أقوال العداة محال
هناء لك الصّوم الجديد، ولا تزل ... عليك من العيش الرّقيق ظلال
وجادك منهلّ الغمام، وصافحت ... حماك جنوب غضّة وشمال
ولا زال من آمالنا ورجائنا ... عليك، وإن ساء العدوّ، عيال
وفي كلّ يوم عندنا منك عارض، ... وعند الأعادي فيلق ونزال
أنا القائل المحسود قولي من الورى، ... علوت، وما يعلو عليّ مقال
يقولون: حاز الفضل قوم بسبقهم، ... وما ضرّني أنّي أتيت وزالوا
ولا فرق بيني في الكلام وبينهم ... بشيء سوى أنّي أقول، وقالوا
فلا زال شعري فيك وحدك كلّه، ... ولا اضطرّني إلّا إليك سؤال
__________
(1) الشعبة: الكمية من الشيء النوال: العطاء.(2/117)
أحظى الملوك
(البسيط)
في هذه القصيدة يمدح الملك شرف الدولة أبا الفوارس ابن عضد الدولة ويشكره على ما عمله مع أبيه من الجميل والتفضل، ويصف القلعة التي كان والده فيها معتقلا، وقد قدّمها اليه عند دخوله مدينة السلام سنة 376.
أحظى الملوك من الأيّام والدّول، ... من لا ينادم غير البيض والأسل
وأشرف النّاس مشغول بهمّته، ... مدفّع بين أطراف القنا الذّبل
تطغى على قصب الأبطال نخوته، ... وقائم السّيف مندوب إلى القلل (1)
ما زلت أبحث أمري عن عواقبه، ... حتّى رأيت حلول العزّ في الحلل (2)
وفي التغرّب إلّا عنك مغنمة، ... ومنبت الرّزق بين الكور والجمل (3)
لولا الكرام أصاب النّاس كلّهم ... داء البعاد عن الأوطان والحلل (4)
نرجو، وبعض رجاء النّاس متعبة، ... قد ضاع دمعك يا باك على الطّلل
كم اغتربت عن الدّنيا، وما فطنت ... بي المهامه حتّى جازني أملي (5)
في فتية ركبوا أعراصهم ورموا ... بالذّلّ خلف ظهور الخيل والإبل (6)
والماء إن صفرت منه مزادهم، ... شربته من بطون الأينق البزل
إيه لقد أسر الدّنيا بنجدته، ... أبو الفوارس، والإقدام للبطل
__________
(1) القصب: الرماح القلل، جمع قلة: أعلى الرأس.
(2) أبحث: أكاشف الحلل: السلاح.
(3) الكور: الرّحل، الحمل.
(4) الحلل، جمع حلة: المجتمع، مكان حلول القوم.
(5) المهامه، جمع مهمه: فلاة، صحراء.
(6) الأعراص: النشاط.(2/118)
صان الظّبى واستلذّ الرّأي وانكشفت ... له العواقب بين الهمّ والجذل
ماض على الهول طلّاع بغرّته ... على الحوادث مقدام على الأجل
هنّئت، يا ملك الأملاك، منزلة ... ردّت عليك بهاء الأعصر الأول
دعاك ربّ المعالي زين ملّته، ... وملّة أنت فيها أعظم الملل
صدمت بغداد، والأيّام غافلة، ... كالسّيل يأنف أن يأتي على مهل
بكلّ أبلج معروف بطلعته، ... إذا تناكر ليل الحادث الجلل
يا قائد الخيل، إن كان السّنان فما، ... فإنّ رمحك مشتاق إلى القبل
وكم مددت على الأقران من رهج ... في ليلة تغدر الألحاظ بالمقل (1)
ومستغرّين ما زالت قلوبهم ... تبدّد الرّأي بين الرّيث والعجل
حتّى أخذت عليهم حتف أنفسهم ... ما أظلموا ببروق العارض الهطل
رأوا مقامك، فازورّت عيونهم، ... ما كلّ لحظ إلى الآماق من قبل (2)
لله زهرة ملك قام حاسدها، ... وليس يعلم أنّ الشمس في الحمل
لا تأسفنّ من الدّنيا على سلف، ... فآخر الشّهد فينا أعذب العسل
ولا تبال بفعل إن هممت به، ... ولو رمى بك بين العذر والعذل
لا تمشينّ إلى أمر تعاب به، ... فقلّما تفطن الأيّام بالزّلل
لله أيّ فتى أمست لبانته ... رذيّة بين أيدي العيس والسّبل (3)
لا ينشد الحبّ رأيا كان أصلحه ... إذا الفتى طرد الآراء بالغزل
رآك أشرف ممدوح لممتدح، ... وخير من شرعت فيه يد الأمل
نحا لنحوك لا يلوي على أحد، ... إنّ المقيم عن النّزّاع في شغل (4)
وليس يأتلف الإحسان في ملك، ... حتّى يؤلّف بين القول والعمل
فما أملّ مديحا أنت سامعه ... وعاشق العزّ لا يؤتى من الملل
__________
(1) الرهج: الغبار.
(2) القبل: اتجاه النظر إلى الأنف.
(3) لبانته: حاجته رذيّة: ضعيفة العيس: النياق السبل: المسافرون.
(4) النزّاع: الغرباء.(2/119)
ما عذر مثلي في نقص، وقولته ... إنّي الرّضيّ وجدّي خاتم الرّسل
هذا أبي والذي أرجو النّجاح به، ... أدعوه منك طليق الهمّ والجذل
لو لاك ما انفسحت في العيش همّته، ... ولا أقرّ عيون الخيل والخول
حططته من ذرى صمّاء شاهقة ... من الزّمان عليها غير محتفل
تلعاء عالية الأرداف تحسبها ... رشاء عاديّة مستحصد الطّول (1)
تلقى ذوائبها في الجوّ ذاهبة، ... يلفّها البرق بالأطواد والقلل
وأنت طوّقته بالمنّ جامعة، ... قامت عليه مقام الحلي والحلل (2)
أوسعته، فرأى الآمال واسعة، ... وكلّ ساكن ضيق واسع الأمل
جذبت من لهوات الموت مهجته، ... وكان يطرف في الدّنيا على وجل (3)
ما كان إلّا حساما أغمدته يد، ... ثمّ انتضته اليد الأخرى على عجل
فاقذف به ثغر الأهوال منصلتا، ... واستنصر اللّيث إنّ الخيس للوعل (4)
ولا تطيعنّ فيه قول حاسده ... إنّ العليل ليرمي النّاس بالعلل
أولى بتكرمة من كان يحمدها، ... والحمد يقطع بين الجود والبخل
كفاك منظره إيضاح مخبره، ... في حمرة الخدّ ما يغني عن الخجل
تحمّل الشّرف العالي، وكم شرف ... غطّى عليه رداء العيّ والخطل (5)
أويته من نزال المستطيل إلى ... مرعى أنيق وظلّ غير منتقل
إنّا لنرجوك، والأيّام راغمة، ... والرّوض يرجو نوال العارض الخضل (6)
تبلى بدولتك الدّنيا، وحاش لها ... أن لا يكون علينا أبرك الدّول
__________
(1) التلعاء: الطويلة العنق الرشاء: الحبل العادية: البئر القديمة مستحصد: مفتول.
(2) الجامعة: الغل.
(3) لهوات، جمع لهاة: اللحمة المشرفة على الحلق، وأراد هنا أشداق الموت يطرف: ينظر وجل: خوف.
(4) الخيس: الأجمة.
(5) الخطل: الحمق، الخفّة.
(6) العارض الخضل: الغيم الكثيف الماطر.(2/120)
ندى الكف
(المنسرح)
وجّه الشريف الرضي هذه القصيدة الى الملك قوام الدين، وقد تعرّض لوعكة ثم نهض منها. وكان ذلك في شوال سنة 398.
لا زعزعتك الخطوب يا جبل، ... وبالعدا حلّ لا بك العلل (1)
قد يوعك اللّيث لا لذلّته، ... على اللّيالي، ويسلم الوعل
لا طرق الدّاء من بصحّته ... يصحّ منّا الرّجاء والأمل (2)
حاشاك من عارض تراع به، ... ذاك فتور النّعيم والكسل
النّجم يخفى، وأنت متّضح، ... والشّمس تخبو، وأنت مشتعل
وأنت لا مرهق، ولا قلق، ... والبدر مستوفز ومنتقل (3)
وعك كما يطبع الحسام، وفي ... جوهره صاقل له عمل
ما ضرّه ذاك، وهو منصلت، ... تسقط منه الرّقاب والقلل
ما صرف الدّهر أسهمه، ... فكلّ جرح يصيبنا جلل
باق تخطّاك كلّ نائبة ... إلى العدا، والنّوازل العضل
قد ضمن الله أن تدوم لنا ... مسلّما، والزّمان والدّول
فما يقول الأعداء لا بلغوا ال ... سؤال، ولا أدركوا الذي أملوا
ما قدروا، لا علت جدودهم، ... ولا نجوا بعدها، ولا وألوا (4)
لا خوف، والجدّ مقبل أبدا، ... على اللّيالي، وأنت مقتبل
هل قدم الطّود، وهي راسخة، ... يخاف منها العثار والزّلل
__________
(1) يا جبل: كناية عن الممدوح.
(2) يعمد هنا إلى المجانسة بين صحته وما يصح بواسطته.
(3) المستوفز: المنتصب وهو غير مطمئن.
(4) وألوا: خلصوا.(2/121)
فانتفضي أيّها الرّؤوس لها، ... واستوثقي للقياد يا إبل
فقد أعدّت لك الأخشّة من ... ها الشّدّة والغروض والعقل (1)
لا ترتعي معشبا، منابته ... بيض الظّبى والعواسل الذّبل (2)
ترعى سوام العبيد هيبته، ... فكيف يرضى، وذوده همل (3)
فقل لغاو مشى الظّلام به: ... أين، إلى أين قادك الخطل (4)
طمعت أن ترتقي بلا قدم، ... إلى العلى، راع أمّك الثّكل
حلمت في نومة الغرور بها ... شرّ حلوم وغرّك المهل
فاحذر مرامي الأقدار عن ملك، ... ما أمر الدّهر، فهو ممتثل
أتزحم البحر في غطامطه، ... أم تتعاطى السّيول، يا وشل (5)
هيهات أن يسبق الجياد وج، ... ويطلع الغاد قبلها وجل (6)
بادرت نهب العلى فرجرجه ... بوع طوال وأذرع فتل
رأى لصابا، فشارها صبرا، ... ذق الجنى قد أظلّك العسل (7)
سطو أقام العدى على قدم ... وقوّم المائلين، فاعتدلوا
قد سبق السّيف عذل عاذله ... لمّا تجارى الحسام والعذل
أليس من معشر بنوا شرفا ... صعبا، وفيهم خلائق ذلل
قشاعم طارت الجدود بهم، ... مذ صعدوا في العلاء ما نزلوا (8)
__________
(1) الأخشة، جمع خشاش: عود يجعل في أنف البعير العقل: جمع عقال.
(2) بيض الظبى: السيوف المصقولة العواسل الذبل: كناية عن الرماح.
(3) ذوده همل: نياقه متروكة.
(4) الخطل: الخطأ.
(5) الغطامط: العظيم الأمواج والكثير الماء الوشل: الماء القليل.
(6) الوجي: الحافي الغاد: أراد الغادي، فحذف الياء على غرار قولنا الواد بدل الوادي.
(7) اللصاب، جمع لصب: مضيق الوادي، الطريق في الجبل الصبر: عصارة شجر مر.
(8) القشاعم، جمع قشعم: النسر العتيق، الأسد المسن.(2/122)
مدّوا علابيّ مجدهم، وسمت ... بهم رعان الفضائل الطّول (1)
المبشرات العلى منازلهم، ... والقمم العاليات والقلل (2)
كانوا سماء لنا، فلا عجب، ... إن قطروا بالنّوال، أو هطلوا
طال لزوم القنا أكفّهم ... ينآد من طعنهم ويعتدل
كأنّ أيديهم نبتن لهم ... مع القنا حيث ينبت الأسل
يستعذب القتل من أكفّهم ... كأنّهم ينشرون من قتلوا
ما أهملوا السّائمات حيث رعوا، ... ولا أضاعوا الأمور حين ولوا
إذا استهبّوا سيوفهم أبدا، ... فلم أعدّ الغمود والحلل
من كلّ ممطورة مخالبه ... على العدا، غير أنّه رجل
يعترف النّاس في مطالبه، ... ويلتقي عند بابه السّبل
يرى جبانا عن ردّ سائله، ... وهو إذا اعصوصب الوغى بطل (3)
بعوده عند ضنّه يبس، ... وفي يديه من النّدى بلل
كم نعمة منك كاللّطيمة مس ... راها نموم وعرفها ثمل (4)
ألبستنيها بغيظ طالبها، ... وغودرت في الأضالع الغلل
أصبح كيد العدوّ يجذبها ... عنّي لأيدي الجواذب الشّلل
ما لي، إذا شئت أن أزاد حلى، ... من غيركم كان حظّي العطل
أرى نهابا تساق حافلة، ... لا ناقة لي بها ولا جمل (5)
وشرّ ما يرجع الغريّ به ... أن عاد يرمي، وفاته الوعل
أين ندى كفّك الكريم لها، ... وأين عادات طولك الأول (6)
__________
(1) العلابي، جمع علباء: عصبة في صفحة العنق الرعان، جمع رعن:
أنف الجبل.
(2) المبشرات، من أبشرت الأرض: أخرجت نباتها.
(3) إعصوصب الشر: اشتد.
(4) اللطيمة: وعاء المسك نموم: منتشر.
(5) النهاب: الغنائم.
(6) الطول: الفضل.(2/123)
بنا الأذى لا بكم، إذا نزل الخط ... ب طروقا، وصمّم الأجل
ودمتم للعلى، وعيشكم ... غضّ، وراووق عزّكم خضل (1)
لا عجب إن نقيكم حذرا، ... نحن جفون، وأنتم مقل
غياث كل أزمة
(مجزوء السريع)
بمناسبة عيد النيروز كتب الشاعر هذه القصيدة الى الملك قوام الدين، وذلك في سنة 399.
أين الغزال الماطل، ... بعدك، يا منازل (2)
قد بان حالي سربه، ... فلم أقام العاطل؟
من لقتيل الحبّ لو ... ردّ عليه القاتل
يجرحه النّبل، ويه ... وى أن يعود النّابل
شيّع بالقطر الرّوى ... ذاك الشّباب الرّاحل (3)
ما سرّني من بعده ... الأعواض والبدائل
ما ضرّ ذي الأيّام لو ... أنّ البياض النّاصل
كلّ حبيب أبدا ... أيّامه قلائل
ظلّ، وكم يبقى على ... فودك ظلّ زائل
لقد رأى بعارضي ... ك ما أحبّ العاذل (4)
__________
(1) الراووق: المصفاة، إناء يروّق فيه الشراب، استعارة للإشارة الى صفاء عيش الممدوح.
(2) الغزال الماطل: الحبيب الذي يماطل في وعوده.
(3) الروى: الماء الغزير.
(4) ما أحب العاذل: ما أحب اللائم الحاسد، أي الشيب في العارضين.(2/124)
واسترجعت منك اللّحا ... ظ الخرّد العقائل (1)
وأغمدت عنك نصو ... ل الأعين القواتل
فلا الدّماليج يقعقع ... ن، ولا الخلاخل
فإن وعدن، فاعلمن ... أنّ الغريم الماطل
ووعد ذي الشّيبة بالوص ... ل غرور باطل
سقى ليالي الدّار جو ... ن برقة سلاسل (2)
يخلفه على الربى ال ... نّوّار والخمائل
أطفال نور أرضعت ... ها الفرق المطافل (3)
تكسى العوالي، وتح ... لّى بعده العواطل
كأنّما يمطره ... ملك الملوك العادل
هو الحيا، وفي الحيا ... من جوده شمائل
غياث كلّ أزمة، ... إن عضّ عام ماحل
وداعم الدّنيا، إذا ... مادت بها الزّلازل
ليث هموس اللّيل ع ... دّاء النّهار باسل (4)
ذو راحة يعترك البأ ... س بها والنّائل
الفاعل الفعل الّذي ... يعجز عنه القائل
والحامل العبء رمى ... أقلّ منه الحامل
والقائد الفيلق تن ... قاد له القبائل
تنسدّ فيه الشّمس قد ... تاهت بها القساطل (5)
__________
(1) الخرّد العقائل: الفتيات الكريمات المخدّرات.
(2) الجون: المطر سلاسل: عذب.
(3) الفرق، جمع فرقة: ما دون المئة من الإبل، استعارها للسحاب الماطر المطافل: ذوات الأطفال.
(4) هموس الليل: سيّار فيه على خفّة.
(5) القساطل، جمع قسطل: غبار الحرب.(2/125)
قنابل تحفزها ... إلى الرّدى قنابل (1)
جمع كشجراء اللّدي ... دين له أرامل (2)
يخشى عواليه ورا ... ء الحبر المقاتل (3)
كأنّ معروض القنا ... ينقله الصّواهل
أراقم تحملها ... عقارب شوائل (4)
كما تثوب الدّبر قد ... عاد إليها العاسل (5)
فقل لغاو مدّه ... في الغيّ رأي قاتل:
إنّي ارتقيت خطّة، ... أمّك فيها هابل (6)
ساورت أطوادا تر ... دّى دونها الأجادل (7)
ردّك عن صعودها ... بالخزي جدّ نازل
فات يديك قابها، ... والقلل الأطاول
وهل تنال ما علا ... عن لحظك الأنائل (8)
يا لك من حاف مشى ... حيث يزلّ النّاعل
إنّ قوام الدّين عن ... ثغر العلى مناضل
يمنّع الطّود، فلا ... راق ولا مطاول
أما رأى ابن واصل ... تقنصه الحبائل
ألقاه في تيّار ج ... مّ ما له سواحل
__________
(1) القنابل، جمع قنبلة: الطائفة من الناس والخيل تحفزها: تسوقها، تدفعها.
(2) اللديدان: جانبا الوادي الأرامل، جمع أرمولة: نوع من الشجر.
(3) العوالي: الرماح العالية الحبر (بفتح الباء): كثرة النبات.
(4) أراقم: حيّات شوائل: رافعات أذنابها.
(5) الدبر: مجموعة النخل العاسل: الذي يجني العسل.
(6) هابل: ثكلى، وعبارة أمّك هابل تعني شدّة الخطر.
(7) الأجادل: الصقور، جمع أجدل.
(8) الأنائل، جمع نائل: ما ناله الانسان.(2/126)
فطار ترقيه الظّبى، ... والأسل الذّوابل
أفلتها منخرق ال ... جلد له ولاول
عار على عاتقه ... من دمه حمائل
ينزل منه منزل الرّد ... ف الطّويل الذّابل
يلفظه لفظ السّحا ... الآطام والمعاقل (1)
تقطّعت بينهما ... بالقضب الوسائل
دلّاه فيها مثل ما ... دلّى السّنان العامل
يمضي العوالي حيث تث ... وي تحتها الأسافل
وما على الأكعب أن ... تنحطم العوامل
حاول ردّ غربها، ... يا بعد ما يحاول
كدافع في صدر سي ... ل الطّود، وهو سائل
حتّى امتطى راحلة ... تنكرها الرّواحل
لا ترد الماء، ولا ... تطوى بها المنازل
لربّها نباهة ... في النّاس، وهو خامل
في العين عال، وهو في ال ... قلب مذال سافل (2)
وفارس لا ينزل ال ... دّهر، ولا ينازل
فاخبط رصيد فتنة ... تخشى بها الغوائل
هناك ضبّ كدية ... لاط، وذئب عاسل (3)
فاليوم بكر، وغدا ... صعب القياد بازل
والله فيه ضامن ... لما أردت كافل
إن كان ذا العام له، ... فللمنايا قابل
ومن دواء الدّاء أن ... ماطل كيّ عاجل
__________
(1) السّحا: ما انقشر من الشيء الآطام والمعاقل: الحصون.
(2) مذال: مهان.
(3) الكدية: الأرض الصلبة لاط: لصق عاسل: مضطرب في سيره.(2/127)
في كلّ يوم من أيا ... ديك قطين نازل
أبعد عنه، وهو ع ... نّي في البلاد سائل
كالغيث ضوء بارق ... منه، وريّ وابل
أواخر من منن ... يضمّها الأوائل
فنعم لي من ولد، ... ونعمت الحوامل
فدم على الدّهر تخ ... طّى ربعك النّوازل
ما لك عن دار العلى، ... أخرى اللّيالي، ناقل
وابلغ من النّيروز ما ... يبلغ منك الآمل
تمضي اللّيالي بك، وال ... مقدار عنك غافل
كالنّصل يمضي صاقل ... عنه، ويأتي صاقل
وهو، كما ساء العدا، ... ماضي الغرار قاصل
آل بويه أنتم ال ... أعناق والكواهل
فيكم ينابيع النّدى، ... والدّلّح الهوامل (1)
هواجر الأيّام في ... ظلالكم أصائل (2)
والنّاس أنتم، وسوا ... كم باقر وجامل (3)
ما في الرّجاء بعدكم، ... ولا البقاء طائل
__________
(1) الدّلّح، جمع دالح: السحابة الكثيرة الماء.
(2) هواجر، جمع هاجرة: شدّة الحر.
(3) باقر وجامل: راعي بقر وراعي جمال.(2/128)
أهلا بهن
(البسيط)
كتب الشريف هذه القصيدة إلى الملك قوام الدين وفيها يشكره على ورود الكتب من حضرته مع الأمر بإعداد الخلع والحملان له، وذلك في جمادى الأولى سنة 402.
أهلا بهنّ على التّنويل والبخل، ... وقرّبتهنّ أيدي الخيل والإبل
القاتلات بلا عقل ولا قود، ... والماطلات بلا عذر ولا علل (1)
كان اللّقاء إساءات بذي سلم ... إلى القلوب وإحسانا إلى المقل
كأنّما عاذلات الصّبّ بعدهم، ... يفتلن عقلا لشرّاد من النّزل (2)
يرمن في السّارح المرعيّ محبسه، ... وهمّه اليوم أن يغدو مع الهمل (3)
رمين منه وحادي الشّوق يحفزه، ... بقاطع ربق الأقياد والعقل (4)
يطلبن برئي بأمر زاد في سقمي ... إنّ الأساة لأعوان مع العلل (5)
حاولن شغل فؤادي من علاقته ... بالعقل، والقلب عند البيض في شغل
إنّ الرّبائب من غزلان أسنمة، ... أعلقن ذا الشّيب أعلاقا من الغزل (6)
من كلّ ريم هوى ألحاظ مقلته ... يمسين للعذر أنصارا على العذل
حليّه جيده لا ما يقلّده، ... وكحله ما بعينيه من الكحل
__________
(1) العقل: الدّية القود: القصاص، الانتقام.
(2) العقل: جمع عقلة: ما يعقل به ويربط كالقيد، والعقال هو حبل يشد به البعير في ذراعه النزل: النازلون.
(3) يرمن، من رام بالمكان: أقام فيه وثبت الهمل: المتروك يرعى وحده.
(4) الربق، جمع ربقة: العروة في الحبل.
(5) الأساة: الأطبّاء.
(6) الربائب: القطعان أسنمة: اسم لجبال.(2/129)
غاد تلفّت، والمشتاق يتبعه، ... صفح الطّليق إلى المقصور بالطّول (1)
أما كفاهم لجاج الدّمع بعدهم، ... حتّى استعانوا على عينيّ بالطّلل
يا قاتل الله ريعان الشّباب، وما ... خلّى عليّ من الأشجان والغلل
ورفضة من سواد اللّيل مطمعة ... كان المشيب إليها رائد الأجل (2)
قالوا: الجفان لودّ البيض مطمعة ... قد ضلّ طالب ودّ البيض بالحيل
إنّي أقول لملّاق ركائبه: ... مهّل عليك فليس الرّزق بالعجل
ليس المقام بثان عنك واردة ... من الحظوظ، ولا الأرزاق بالرّحل
أما ترى الرّزق في الأوطان يطرقني ... ولم أقلقل أصيحابي ولا إبلي
في كلّ يوم قوام الدّين ينضحني ... بماطر غير منزور ولا وشل (3)
يروي، ولم يتوقّع صوب عارضه، ... ولم يقدّم بشير الطّارق العمل (4)
ظفرت بالنّفل المطلوب في وطني، ... وإنّما يرجع الغازون بالنّفل (5)
من كلّ بيضاء لم تخطر على خلدي ... من الأيادي ولم تبلغ إلى أملي
ذرّت إليّ ذرور الشّمس طالعة، ... شروقها أبدا باق بلا أصل (6)
في كلّ يوم جديد من صنائعه ... إليّ، لا ناقتي فيها ولا جملي
يردّني بقنيص ما نصبت له ... على المطامع أشراكا من الأمل
وسمت عقلي وأرغمت المعاطس في ... منّ العدا وأقمت الصّفو من ميلي
رفعت ناري على علياء مشرفة ... من المعالي وأخضعت النّوائب لي
فهل تركت لذي الأوطار من وطر ... يسعى له ولذي الآمال من أمل
لم يبق طولك في جيدي مكان حلى، ... وإنّما يستعار الحلي للعطل
__________
(1) المقصور بالطول: المربوط بالحبل.
(2) الرفضة: الشيء القليل سواد الليل: كنّي به عن لون الشّعر.
(3) الوشل: ما ينزّه الصخر من ماء.
(4) صوب عارضه: مطر غيمه الطارق العمل: القادم ليلا والثابت.
(5) النفل: الغنيمة.
(6) ذرّت: طلعت الأصل، جمع أصيل: الوقت بعد العصر.(2/130)
أغنت ملابس فخر أنت مسحبها ... عن رائع الحلي أو عن رائق الحلل
أنتم لنا نفس من كلّ كاربة، ... وأنجم في ظلام الحادث الجلل
تنبو إذا لم تكن عنكم ضرائبنا، ... والسّيف أقطع شيء في يد البطل
النّاس ما غبتم سلك بلا درر، ... ولا نظام، وأجفان بلا مقل
مثل النّهار بلا شمس تضيء به، ... أو الظّلام بلا بدر ولا شعل
من معشر وردوا العلياء جمعتها، ... وسابقوا عجل الجارين بالمهل
لقوا الخطوب بلا خوف ولا ضعف، ... والرّائعات بلا ميل ولا عزل (1)
طاروا بألباب ذؤبان مسوّمة، ... رعين بين مجال البيض والأسل
في جحفل كشحاء البحر مدّ به ... مزمجر يضرب العرنين بالجفل (2)
مجرّه كمجرّ السّيل ذو لثق ... من انبعاق الدّم الجاري وذو خضل (3)
يرمي به ملك الأملاك يعتبه ... قطع الدّليل بما يعمي من السّبل (4)
أما نهى النّاس عنكم صوب بارقة ... يشكو إلى اليوم ناحيها من البلل
في أربق، وسيوف الموت ماضية، ... يطعن أمرك في الأعناق والقلل (5)
قصّرت رمحك طولا في صدورهم، ... ورمح غيرك لم يقصر ولم يطل
طاشت رؤوسهم حتّى جعلت لهم ... مناصبا من أنابيب القنا الذّبل
راموا بذلّهم إيهان عزّكم، ... كمبرد القين نحّاتا من الجبل (6)
فأين رخم الرّقاب الغلب رافعة ... دون العلى وقراع الأذرع الفتل (7)
__________
(1) الميل، جمع أميل: من يميل عن السرج عزل، جمع أعزل: من لا سلاح معه.
(2) شحاء البحر: سعته العرنين: الأنف الجفل: الهزيمة.
(3) اللثق: الماء والطين، الوحل الخضل: الابتلال.
(4) يعتبه: يرضيه، يزيل عتبه.
(5) أربق: اسم قرية بفارس القلل: الرؤوس.
(6) القين: الحدّاد.
(7) الرخم، جمع أرخم: هو من الخيل ما كان فيه بياض وسواد.(2/131)
هيهات ردّت إلى الأعناق كانعة ... أيد قصرن عن الأطواد والقلل (1)
كدأبها يوم يمّ، والقنا شرع، ... والضّرب يبعد بين العنق والكفل
أسلن بالدّم وادي كلّ غامضة ... من العيون كماء المزن لم يسل
حتّى رجعن ولم يتركن فاغرة ... من العدوّ إلى قول ولا عمل
جرى الثّقاف على عوذ مقلقلة، ... ذودين من أود باد ومن خطل (2)
قضى لك الله أن يجري بلا أمد، ... وأن يدوم مع الدّنيا بلا أجل
توقّلا في بناء غير منتقض ... من المعالي، وظلّ غير منتقل (3)
معطى عنانا من النّعمى فقدت به ... تغاير الدّهر بالأيّام والدّول
وكلّما جزت عاما أو بلغت مدى ... ردّ الزّمان على أيّامك الأول
صفحات بيض
(المتقارب)
بمناسبة عيد النيروز نظم الرضي هذه القصيدة في مدح الملك قوام الدين، وذلك سنة 402.
ذكرت، على بعدها من منالي، ... منازل بين قبا والمطال
ومبنى قباب بني عامر، ... على الغور أطنابهنّ العوالي
عقائل علّمهنّ العفا ... ف وصل المطال ومطل الوصال (4)
مرابع يشكو بهنّ الجراح ... أسود الشّرى من ظباء الرّمال
__________
(1) كانعة: مشنّجة القلل: القمم.
(2) العوذ: الحديثة الولادة من الظباء والإبل والخيل ذودين، مثنى ذود:
القطعة من الإبل الأود: الإعوجاج الخطل: الخطأ.
(3) توقّلا: تصعدا.
(4) عقائل، جمع عقيلة: الكريمة العفيفة.(2/132)
مضاحكهنّ عقود العقود، ... وأجيادهنّ لآلي اللآلي
أبعد الأسى عاد عيد الغرا ... م، وقرف من الشّوق بعد اندمال
هوى بين مقتصّ إثر الغزا ... ل ولّى، ومنتصّ جيد الغزال (1)
وما طلب البذل من باخل ... بميسوره، غير داء عضال
وما زال يلوي ديون الهوى، ... ويؤيسنا من قليل النّوال
إلى أن قنعنا بزور المزا ... ر، بعد النّوى، وخيال الخيال
إليك، فقد قلصت شرّتي، ... بعيد البياض، قلوص الظّلال (2)
وبدّلت ممّا يروق الحسا ... ن من منظر ما يروع العوالي
سواد يعجّل زور البياض، ... علوق الضّرام برأس الذّبال (3)
ومرّ على الرّأس مرّ الغمام، ... قليل المقام سريع الزّيال
فليس الصّبا اليوم من أربتي، ... ولا ذلك البال، يا عزّ، بالي (4)
حلفت بهنّ دوامي الفجاج ... إلى الخوف يطلبنه من ألال (5)
خماصا تساوك بالمجرمين ... بعقل الوجا وقيود الكلال (6)
يماطلن بالوخد عند الجذاب، ... كأنّ الزّمام مكان العقال (7)
أطرن من الأين حتّى بري ... ن، أطر القسيّ وبري النّبال (8)
لقد ربّنا من غياث الأنام ... مقيم الصّغا ودليل الضّلال (9)
__________
(1) منتص، من انتص: ارتفع. يعمد هنا إلى المجانسة بين مقتص ومنتص.
(2) قلصت: انقبضت الشرة: الحدّة، النشاط.
(3) الذبال: الفتيلة.
(4) عز، مرخّم عزّة: اسم امرأة.
(5) الفجاج: الأودية، الشقوق في الأرض الألال: الأمان.
(6) خماصا: ضامرة تساوك: تسير سيرا ضعيفا عقل جمع عقال:
رباط الوجا: الحفا.
(7) الوخد: نوع من السير.
(8) الأين: التعب.
(9) ربّنا: جمعنا الصّغا: الميل.(2/133)
حمول نهوض بأعبائها، ... إذا البزل جرجرن تحت الرّحال (1)
فتى في النّدى أخرق الرّاحتين، ... صناعهما في بناء المعالي (2)
إذا ما علقت به في الخطوب ... زحمت بكلكل عود جلال (3)
عرفنا بك اليوم عليا أبي ... ك، والفحل تعرفه بالسّخال (4)
هو الغيث أقلع مستخلفا ... علينا وقيعة ماء زلال
لئن كنت تاليه في ذا الجلال، ... فإنّك قدّامه في الكمال
ولولا الحياء لجاورته، ... وربّ أخير أمام الأوالي
مقيم بحيّ على فارس، ... رقاق البرود رقاق النّعال (5)
أبوا أن يخلّوا بنار القرى، ... ولو وقدوا نارهم بالعوالي
يدلّ الضّيوف على دارهم ... سنا المجد أو طيب عرف الخلال
بنار المقاري ونقع الغبار، ... تشابه أيّامهم واللّيالي
لقد نطح الجدّ أعداءهم ... برأس جموح وروق طوال (6)
لهم صفحات كبيض الصّفيح، ... حلاهنّ عن جوهر المجد حال (7)
وأيد سجاح كرام معا، ... بمجد مصون ومال مذال (8)
__________
(1) البزل، جمع بازل: الجمل الذي طلع نابه جرجرن، من الجرجرة:
(2) صوت يردده البعير في حنجرته.
(3) الأخرق: المتوسّع في السخاء الصناع: الحاذق.
(4) زحمت: دفعت الكلكل: الصدر العود: المسنّ من الإبل الجلال:
(5) العظيم.
السخال، جمع سخل: ولد الشاة.
رقاق البرود رقاق النعال: كناية عن الحياة المتنعمة وعلو المنزلة.
(6) الروق: القرن طوال: طويل.
(7) حلاهن: زيّنهن.
(8) سجاح: حسان، معتدلة، لينة مذال: مبتذل بالانفاق.(2/134)
إذا افتخروا ضعضعوا الفاخري ... ن، خطم القروم رقاب الإفال (1)
وجاؤوا بأصل من الدّيلمين ... أرسى على من أصول الجبال (2)
أقول لساع على إثرهم، ... يطالب شأوا بعيد المنال
حذار، فإنّ على الجلهتين ... هموس الدّجى مرصدا للرّعال (3)
له هامة كرحى الطّاحنات، ... تدور على لبدة كالثّفال (4)
ينوء تحامل ذي ريثة، ... ويقعد إقعاء غرثان صال (5)
وما زال ساعده واللّبان ... على جزر من لحوم الرّجال
كسوب، إذا ما اكتفى بالقني ... ص لم يدّخر مطعما للعيال
ألم ينهكم رشّ شؤبوبه ... بوابل ذي برد وانسجال
ويحميكم عن ورود الحمام ... تخمّط قرم قديم الصّيال (6)
وقود الجياد على أنّها ... تصاهل تحت القنيّ الطّوال
توقّع يوم الوغى بالنّجيع، ... وتنعل بين القنا بالقلال (7)
سبقن العجاجة يحملنها، ... أراقم لامظة للنّزال (8)
عليهنّ كلّ ابن أمّ الطّعان ... ربّي القنا، أو ربيب النّصال
__________
(1) الخطم: الانف القروم، جمع قرم: شجاع، سيّد الافال، جمع أفيل:
الفصيل، ابن الناقة.
(2) الديلمين: اسم جبال وإليها ينسب شعب الديلم.
(3) الجلهتين: حافتي الوادي الهموس: السيار في الليل، الأسد الخفيف الوطء، الأسد الكاسر لفريسته الرعال، جمع رعلة: القطعة من الخيل.
(4) الهامة: الرأس اللبدة: الشعر المتلبد على كتفي الأسد الثفال: الحجر الأسفل من الرحى، وهو أيضا جلد يبسط تحت الرحى.
(5) ينوء: ينهض بجهد ومشقة الريثة: البطء.
(6) التخمط: الغضب الزائد القرم: السيد الشجاع الصيال: جمع صولة.
(7) النجيع: الدم القلال: الرؤوس.
(8) العجاجة: الإبل الكثيرة العظيمة، وغبار الحرب أراقم: حيّات لامظة:
محركة ألسنتها.(2/135)
إذا ريع شمّر للمحفظات، ... وجرّ ذيول الحديد المذال (1)
نضحن من الشّدّ نضح المزاد، ... ثمّ انطلقن انطلاق العزالي (2)
يخلن، إذا بلّهنّ الجميم، ... عقبان يوم ندى أو ظلال (3)
ترى كلّ مشترف للعوار ... ضليع الأضالع سامي القذال (4)
يفوت مقلّده والعذا ... ر مرمى يد الشّيظميّ الطّوال (5)
كأنّ الطّريد إلى ظلّة، ... يمدّ بعلو لفات الجبال (6)
ينال المدى قبل رشح العذار، ... وما سوط فارسه غير هال (7)
إذا حرّكته عروق السّياق ... بين الحضار وبين الثّقال (8)
مضى يثب الدّوّ وثب التّمام، ... وينضو المقاديم نضو التّوالي (9)
مددتم بباعي بعد القصور، ... وألحقتم عطلي بالحوالي
وأطلعتموني فوق الرّجاء، ... بعيدا، وفوق منال اللّيالي
وأطلقتم الحدّ من مضربي، ... وحادثتم قائمي بالصّقال
وأحذيتم قدمي حذوة ... من المجد غير جذيم القبال (10)
رمى الله دولتكم بالثّبات، ... إذا ما رمى غيرها بالزّوال
__________
(1) المذال: الطويل.
(2) العزالي، جمع عزلاء: مصب الماء.
(3) الجميم: معظم الماء.
(4) المشترف: المنتصب العوار: العيب القذال: أسفل مؤخر الرأس.
(5) الشيظمي: الطويل الجسيم.
(6) اللفات، جمع لفت: شق الشيء، جانبه.
(7) هال: زجر للخيل.
(8) الحضار: جودة العدو الثقال: البطء.
(9) الدو: الفلاة التمام: الكمال، ما يتم به الشيء ينضو: يتقدم المقاديم، جمع مقدم: ما استقبلت من الوجه التوالي: التوابع من الخيل.
(10) الجذيم: المقطوع القبال: زمام بين الأصبع الوسطى والتي تليها.(2/136)
وأسحبكم صافنات العلاء، ... جرّ الشّموس طراق الجلال (1)
جريتم على الدّهر جري الثّقاف ... رأب اللّثى وقيام الممال (2)
زمان على كزمان الشّباب ... غضّ الجنى، أو زمان الوصال
لياليه صبح من المغبطات، ... وأيّامه من سكون ليالي
ما حاجتي إلّا المعالي
(الطويل)
نظم الشاعر هذه القصيدة سنة 378وفيها يهنئ والده بعيد الأضحى.
ردي، يا جيادي، وأذني برحيل، ... سترعين أرض الحيّ بعد قليل
ألا إنّ في قلبي إلى المجد طربة، ... وعند القنا يوما شفاء غليلي
إذا ما اتّخذت اللّيل درعا حصينة ... فأهون بخطب للزّمان جليل
عليّ دماء البدن إن لم أثر بها ... رعيلا يشقّ الأرض بعد رعيل (3)
فآخذ حقّي أو يثور غبارها، ... من القاع، عن أرض بشرّ مقيل
وما حاجتي إلّا المعالي، وقلّما ... يضيع رجائي، والطّعان رسولي
وإنّي لترّاك البلاد، إذا نبت ... عليّ، وما ذو نجدة بذليل
وإنّي معير ساعدي من أراده، ... بأبيض طاغي الشّفرتين صقيل
إلى المجد دون الرّبع رمّت عزائمي، ... وبالعزّ دون الغيد بان نحولي (4)
__________
(1) الجلال: جمع جل.
(2) الثقاف: ما تسوّى به الرماح وتقوّم الرأب: الاصلاح اللّثى: ماء يسيل من الشجر كالصمغ وغيره.
(3) أثر: أثب الرعيل: جماعة الخيل المتقدمة.
(4) رمّت: بليت نحولي: هزالي.(2/137)
أسوم الهوى نفسا عزوفا عن الهوى، ... وقلبا لضيم الحبّ غير قبول
وأمنع ودّي النّاس إلّا أقلّه، ... لآمن من طاغ عليّ صؤول
وأعدو من عقلي خبيئا أصونه، ... وأفدي كثيري منهم بقليل
وأحطم سرّي في الضّلوع مخافة، ... ألم يأن يوما أن أذيع دخيلي
نديمي على شرب الهموم مهنّد، ... إذا شاء أصغى الهمّ دون مقيلي (1)
وإنّي آبى أن أذلّ وفي يدي ... عناني، ولم يقطع عليّ سبيلي
وكلّ دم عندي، إذا ما حملته، ... وإن أثقل الأقوام، غير ثقيل
وإنّ طريقي بالمناسم فاضحي، ... إذا لم تسر فيه الصّبا بذيول (2)
وكم من حبيب قد سقاني فراقه ... وغالطت عنه القلب غير ملول
وقد نمنم الوسميّ بيني وبينه، ... ووالى بمغبرّ الرّباب هطول (3)
وإنّ طراد النّفس عمّا ترومه ... أشدّ عناء من طراد قتيل
يرجّي عداتي كلّ يوم، ويتّقى ... شذاتي، وبعضي في الجدال لقيلي (4)
يقرّ بعيني أن أروح محسّدا، ... فما حسد الحسّاد غير نبيل (5)
وما صافحت يوما يدي يد غادر، ... ولا ضاق خلقي عن مقام نزيل
وأوّل لؤم المرء لؤم أصوله، ... وأوّل غدر المرء غدر خليل
عذولي من أوطا قرا العجز مركبا، ... ولكنّ ظهر العزم غير ذلول (6)
نسيم من الدّنيا يطيب لناشق، ... وأيّ أوام بعده وغليل (7)
__________
(1) أصغى: أمال.
(2) المناسم، جمع منسم: الطريق.
(3) الوسمي: أول المطر نمنم: نقش، زخرف، ترك أثرا في التراب الرباب: السحاب الأبيض الهطول: المطر الغزير.
(4) الشذاة: بقيّة القوة القيل: القول.
(5) نبيل: ذكي.
(6) أوطا: مهّد القرا: الظهر.
(7) الأوام: العطش.(2/138)
تفيء اللّيالي فيئة الظّلّ للفتى، ... بنعمى، وما إنعامها بجزيل
تداعت لي الأيّام حتّى رمينني ... بما كنت أخشى من لقاء بخيل
ولا بدّ لي أن أغسل العار بعده، ... ويا ربّ عار دام غير غسيل
يظنّ الفتى أنّ التّطاول دائم، ... وكلّ صعود معقب بنزول
أأرجو ذباب السّيف ثمّ أخافه، ... وأرضى بسخط المجد قول عذول
وبالضّرب ما نال ابن موسى مراده، ... وحلّ ذرى العلياء أيّ حلول
فتى سوّم الآراء مبرمة القوى، ... ولا رأي إلّا الرّأي غير سحيل (1)
تعلّم من آبائه وثباتهم ... على المجد من عليا قنا ونصول
وما ضرّه لو كان كلّ قبيلة ... تطالبه يوم الوغى بدخول
وقد علم الأعداء أن لا يردّهم ... بغير زفير خانق وعويل
إذا طرق الخطب البهيم عياله، ... وقد مال عنق الرّأي كلّ مميل
عزيمة لاو مستبدّ برأيه، ... وعقل امرئ لم يستعن بعقول
جرور على مرّ الخدائع ذيله، ... وأعظم ما يعطي بغير سؤول
ويا ربّ طاغ من أعاديه طامح ... أذال اللّيالي منه أيّ مذيل
أطال عنان الأمن حتّى أظلّه ... بأغبر طام من قنا وخيول
وكم رحم أطّت به وهو مغضب ... فعاد إلى الإحسان غير مطول (2)
إذا بعد الأعداء عن سطواته، ... فلا يأمنوا من بالغ ووصول
كأنّي بها بزلاء قد صبّحتهم ... سميط الذّنابى غير ذات حجول (3)
مذكّرة لا تصدم القوم صدمة ... فتقلع إلّا عن دم وقتيل
نذار لكم من كيده، إنّ قلبه ... ضموم على الأسرار غير مذيل
__________
(1) السحيل: ما لم يبرم غزله.
(2) أطت: حنت المطول: المماطل.
(3) البزلاء: الداهية العظيمة السميط: المسموطة الحجول، جمع حجل:
القيد، الخلخال.(2/139)
ورجراجة تلتفّ أيدي جيادها، ... وأيّ ضجاج من وغى وصهيل (1)
وجرد تمطّى في الأعنّة شزّب، ... كأنّ حواميها رقاب وعول (2)
ضوامر من طول الوجيف كأنّها ... ذوائب نبت طامنت لذيول (3)
تدافعن في شعواء لا الطّود عندها ... بعال، ولا جلد الرّبى بحمول (4)
رعين بها شول الرّماح كأنّها ... غداة الوغى في بارض وجليل (5)
وكم خاض تأمور الظّلام بفتية، ... يرون وعور اللّيل مثل سهول (6)
تنوش أنابيب الرّماح وراءهم ... كأسد تماشيها جوانب غيل (7)
سيوف إباء في أكفّ أبيّة، ... وكلّ طويل في يمين طويل
تغامر بالآراء قبل جيوشه، ... وبيض الظّبى بيض بغير فلول
فإن غنم الجيش المغير وراءه، ... فما غنمه في الحرب غير غلول
لك الله هذا العيد يحدو طليعة ... كغائب عزّ مؤذن بقفول
ولو لم يكن في عيدنا غير أنّه ... دليل على السّرّاء أيّ دليل
وما زاحم الأيّام إلّا تطلّعا، ... إليك، بيوم في العيون جميل
ومدّ سماء من علائك ملؤها ... نجوم من الإقبال غير أفول
فنل ما أنال الدّهر سعدا وغبطة، ... فربّ زمان حلّ غير منيل
بقيت اللّيالي ما سلبن، وهل فتى ... يطالب أمرا إن مضى بكفيل
بقيت، وأفنيت الأعادي، فإنّه ... شفاء جوى بين الضّلوع دخيل
وهوّن تقديم العدوّ بغصّة، ... ولوج الرّدى في أسرتي وقبيلي
__________
(1) الرجراجة: الكتيبة المحاربة التي تضطرب في سيرها لكثرتها.
(2) الشزّب: الضامرة الحوامي: الحوافر.
(3) الوجيف: ضرب من سير الإبل والخيل طامنت: سكنت وانحنت.
(4) الشعواء: الغارة المتفرقة جلد الربى: أرض الربى.
(5) الشول: الموضع البارض: النبات أول خروجه الجليل: نوع من النبات.
(6) تامور الظلام: قلبه.
(7) تنوش: تقضم، تكسر الغيل: مبيت الأسد.(2/140)
ولي في عدوّي إن مشى الموت نحوه ... عزاء إذا أودى الرّدى بخليل
على أنّه ما أخطأتني منيّة، ... إذا هي غالت من أودّ بغول
ولي غرض أن لا تزال قصيدة ... تجمجم يوما عن مناي وسولي (1)
كلام كنظم الدّرّ غير مناهب، ... وقول كصدر العضب غير مقول
ولست بداع بعد هذه فوقها، ... ولا مثلها من موجز ومطيل (2)
جدي النبي المرسل
(الكامل)
نظم هذه القصيدة في عيد الفطر سنة 379وفيها يهنئ والده ويمدحه.
ما ابيضّ من لون العوارض أفضل، ... وهوى الفتى ذاك البياض الأوّل
مثلان: ذا حرب الملام وذا له ... سبب يعاون من يلوم ويعذل
أرنو إلى يقق المشيب، فلا أرى ... إلّا قواضب للرّقاب تسلّل (3)
واللّمّة البيضاء أهون حادث ... في الدّهر لو أنّ الرّدى لا يعجل (4)
ولقد حملت شبابها ومشيبها، ... فإذا المشيب على الذّوائب أثقل
إنّي غررت من الهوى، فشربته، ... لم أدر أنّ عقيب شربي حنظل
وعلمت أنّ وراي أطول سكرة ... ممّا أعلّ من الغرام وأنهل
عجبا لمن يلقى الهوى بفؤاده، ... عجلان، وهو من التّجلّد أعزل
__________
(1) تجمجم: تقول كلاما مبهما.
(2) بداع: وردت في نسخة أخرى: براع، وفي غيرها: بواع.
(3) اليقق: البياض الشديد.
(4) اللمّة: الشعر المجاوز شحمة الأذن.(2/141)
إن لا يعرّض للذّوابل قلبه، ... إنّ الطّعان من البلابل أسهل (1)
الآن جلّلني الوقار رداءه، ... وانجاب عن عينيّ ذاك الغيطل (2)
ونزعت وجدا كان يشمخ كلّما ... أغرى الملام به ولجّ العذّل
أنا من علمت وليس يطفئ سطوتي ... غلواء من يطغى إليّ ويجهل
يغضي العدوّ، إذا طلعت، وقلبه ... يغلي عليه من الضّغائن مرجل
ويزيغني عمّا أجنّ مخاتلا، ... والأورق العاديّ لا يتزلزل (3)
أجلو عليه ناجذي، ولو اجتلى ... ما بين أضلاعي لبات يقلقل
فعلام أزجر بالوعيد وأجتري، ... وإلام أطلب بالدّخول وأمطل
ما لي قنعت كأنّ ليس مهنّدي ... بيدي، ولا جدّي النّبيّ المرسل
فلآخذنّ من الزّمان، غلبّة، ... حقّي، وأمنع ما أشاء وأبذل (4)
ولأدخلنّ على النّساء خدورها ... واليوم ليل بالعجاجة أليل (5)
متضايق يدعو القريب ضجاجه ... أبدا، ويلمع بالبعيد القسطل (6)
وعليّ أن يطأ العراق وأهلها، ... يوم أغرّ من الدّماء محجّل
يوم تزلّ به القلوب من الرّدى ... جزعا، وأحرى أن تزلّ الأرجل
وعجاجة تلقى السّماء بمثلها ... عظما، كما مدّ الغمام المثقل
لو شام موسى كفّه في ليلها، ... خفي البياض على الذي يتأمّل
طلب العلى، والجدّ فيه من العلى، ... وإلى المرام نأى وطال تغلغل
فاعزم، فليس عليك إلّا عزمة، ... والعجز عنوان لمن يتوكّل
أو حمّل اللّوم القضاء، فإنّه ... عود لأثقال الملام مذلّل
__________
(1) البلابل، جمع بلبال: الهموم والوساوس.
(2) الغيطل: هو حيث تكون الشمس من مشرقها كهيئتها من مغربها.
(3) يزيغني: يميلني الأورق: هو من الإبل ما في لونه بياض الى سواد.
(4) الغلبّة: القهر.
(5) العجاجة: الغبار أليل: أشدّ سوادا.
(6) القسطل: غبار الحرب.(2/142)
ويجير من عوراء همّك سابح، ... أو صارم، أو ذابل، أو مقول
لا تحدثن طمعا وجدّك مدبر، ... واطلب مدى الدّنيا وجدّك مقبل
واعقل رجاءك بالحسين، فإنّه ... حرم يذمّ من الزّمان ومعقل (1)
جذلان تقطر نعمة أيّامه، ... للطّالبين، فراغب ومؤمّل
ماضي المقال يكاد من تطبيقه، ... يوم الجدال، يئنّ منه المفصل
غير المعاجل بالعقاب، إذا هفا ... جرم، ويسبق بالعطاء ويعجل
ضرغام هيجاء كفاه بأنّه ... عند القواضب والقنا بي مشبل (2)
نستعطف الأمر المولّي باسمه ... فيعود، أو ندعو العلاء فيقبل
ولربّ يوم قد ملأت فروجه ... خيلا، تدرّع بالغبار وترقل (3)
وفوارسا يتزاحمون على الرّدى ... نهلا، وقد عزّ البرود السّلسل
من كلّ أروع ماجد في كفّه ... قلق هتوف بالمنون ومعول
ضربا كأشداق الهجان رواغيا، ... ووغى كما اضطرم الأباء المشعل (4)
وعيون طعن كالعيون يمدّها ... ماء مذانبه العروق الذّبّل (5)
من كلّ شوهاء الضّلوع مثيرها ... متعوّذ، والنّاظر المتأمّل
شهّاقة تدق النّجيع، وتنطوي ... فيها المسائل أو تضلّ الأنمل (6)
ينزو لها علق تمطّق خلفه، ... أو عاند يلقى النّواظر شلشل (7)
ولديك إن طمح العدوّ صوارم ... تدمي عرانين العدا وتذلّل
__________
(1) يذم، من أذمّ: أجار.
(2) مشبل: ملتصق، ملتزم، وقد استعملها على سبيل الاستعارة.
(3) ترقل: تسرع.
(4) الأباء: القصب.
(5) المذانب، جمع مذنب: جدول.
(6) تدق: تقطر النجيع: الدم.
(7) العلق: الدم التمطق: التذوق العاند: العرق الذي لا يرقا دمه الشلشل: المتتابع القطر.(2/143)
كالنّار ما يسألن غير ضريبة، ... والسّيف أعلى من يجود ويسأل
يستبهم الأمر الفظيع، فلا ترى ... إلّا القواضب مطلعا يتقبّل
ما بين من يخشى المنيّة، والذي ... يصلى بها في العمر، إلّا منزل
لا تنظر الباغي لقربى، وارمه ... بالذّلّ، واقطع ما عليه يعوّل
هذا الأمين أدال منه شقيقه، ... ومضى عقيرا بابنه المتوكّل (1)
والعفو مكرمة، فإن أغرى بها ... متغافل قال الرّجال: مغفّل
ولقد حضرت، وأنت غائب نكبة، ... فخلاك ما قال العدا، وتقوّلوا
لا يغررنّك أنّهم بسهامهم ... أشووا، وما بلغوا مدى ما أمّلوا (2)
هيهات لم يرم العدوّ بسهمه، ... وإن انزوى، إلّا ليدمى المقتل
وأنا المضارب عن علاك بمقول ... ماضي الغرار، ولا الجزار المصقل (3)
يدمي الجوارح وهو ساكن غمده، ... ولقلّما يمضي بغمد منصل
هيهات يلحق بالصّميم مدرّع، ... أبدا، ويزري بالبحار الجدول
ما صارم كدر الذّباب كصارم ... خلع الجلاء على ظباه الصّيقل
وسماؤنا الظّلماء يكتم شخصها ... أنّى أضاء العارض المتهلّل
ليس التّفرّد بالعلاء طماعة، ... إنّ العلى درج لمن يتوقّل (4)
نظم ونثر قد طمحت إليهما ... صعدا، ويعنو للأخير الأوّل
وحديث فضلي ضارب بعروقه ... في الأرض ينقله المطيّ البزّل
لولاك ما سمحت بقول همّتي، ... قدري أجلّ من القريض وأفضل
هذا، وفي بعض الذي امتلأت به ... عنّي البلاد لقائل متعلّل
لمّا نظرت إلى علاك غريبة، ... ومضيّع راعي المناقب مهمل
أحرزتها متوغّلا غاياتها، ... والمجد ملء يد الذي يتوغّل
__________
(1) أدال: أزال.
(2) أشووا: أصابوا ولم يقتلوا.
(3) الغرار: الحد الجراز: السيف المصقل: الصقيل، القاطع.
(4) التوقل: الاسراع في الصعود.(2/144)
في سيرة غرّاء تستضوى بها ال ... دّنيا، ويلبسها الزّمان الأطول
ملئت بفضلك، فالوليّ مكثّر ... ما شاع عنها، والعدوّ مقلّل
يفتنّ فيها القائلون كأنّما ... طلعت كما طلع الكتاب المنزل
هنّأت جدّك بالتّحلّق في العلى، ... ولأنت نعم المقبل المتقبّل
وطرحت تهنئة بأيّام أرى ... فيها سواء من يقلّ وينبل
وأرى لحاظ الحاسدين مريبة، ... والغيظ بين ضلوعهم يتغلغل
ما للزّمان يعقّني بعصابة ... تجفو عليّ، مع الزّمان، وتثقل
يذوي على قدم اللّيالي عهدها، ... مثل الأديم على التّقادم ينغل (1)
ودّ الحليم شفاء دائك كلّه، ... وصداقة السّفهاء داء معضل
العيد الجديد
(الطويل)
في هذه القصيدة يمدح الشاعر أباه ويهنئه بعيد الأضحى، ويعرض له بنكبة بعض أعدائه.
إلى الله إنّي للعظيم حمول، ... كثير بنفسي، والعديل قليل (2)
ومن طعمه من سيفه كيف يتّقي، ... ومن يطلب العلياء كيف يقيل
يقولون: خالل في البلاد، وإنّما ... خليلي من لا يطّبيه خليل (3)
وليس طباع النّاس وفقا، وربّما ... تفاضل فيهم أنفس وعقول
ولولا نفوس في الأقلّ عزيزة، ... لغطّى جميع العالمين خمول
__________
(1) ينغل: يفسد.
(2) العديل: الشبيه، المماثل، وقد وردت في نسخة أخرى العدو.
(3) يطبّيه: يستميله.(2/145)
فما تطلب الأيّام من متغرّب، ... له كلّ يوم رحلة ونزول
رمى مقتل الدّنيا بسهم قناعة، ... فعزّ لأن غال الرّميّة غول
ألا إنّما الدّنيا، إذا ما نظرتها ... بقلبك، أمّ للبنين ثكول
وما يثقل الميت الصّعيد، وإنّما ... على الحيّ عبء للزّمان ثقيل
وتختلف الأيّام حتّى ترى العلى ... عناء، ويغدو ما يروق يهول
أقول لغرّ بالمنايا ودونه ... لهنّ خيول جمّة وحبول
ستعطى يد العاني، إذا ما دنا لها ... بغير وغى قرن ألدّ صؤول (1)
فلا تعتصم بالبعد عنها، فإنّها ... مسرّة نقي في العظام دمول (2)
أرى شيبة في العارضين فيلتوي ... بقلبي حدّاها جوى وغليل
ومن عجب غضّي عن الشّيب جازعا، ... وكرّي إذا لاقى الرّعيل رعيل (3)
ولي نفس يطغى، إذا ما رددته، ... فيعرقني عرق المدى، ويغول (4)
وما تسع الأضلاع ريعان زفرة، ... يكاد لها قلب الجليد يزول
وما ذاك من وجد خلا أنّ همّة ... عنائي بها في الواجدين طويل
بكيت وكان الدّمع شيبا مبيّضا ... عذاري، لا جاري الغروب هطول
وشوكة ضغن ما انتقشت شباتها ... ذهابا بنفسي أن يقال عجول (5)
وإنّي إن أعط المدى متنفّسا، ... نزعت أذاها، والزّمان يديل
وما أنا إلّا اللّيث، لو تعلمونه، ... وذا الشّعر البادي عليّ قبيل (6)
وقد عصبت منّي اللّيالي بساعد، ... تئنّ الأعادي مرّة وتنيل
__________
(1) العاني: المهتم، المتعب القرن: السيد الشجاع.
(2) مسرّة، من أسرّه: كتمه النقي: مخ العظم الدمول، من دمل الجرح:
تماثل للشفاء.
(3) الرعيل: القطعة من الخيل.
(4) يعرقني: يأكل لحمي، يأخذ من لحمي كما تأخذ المدى.
(5) الضغن: الحقد الشباة: إبرة العقرب وحدّ كل شيء.
(6) القبيل: الكفيل.(2/146)
إذا سطّرت نهرا وراء بيوتها، ... سطوت، وما يعدي عليّ قبيل (1)
وزور المآقي من جديل وشدقم ... تبلّد عنها شدقم وجديل (2)
شققنا بها قلب الظّلام، وفوقها ... رجال كأطراف الذّوابل ميل
وهبّت لأصحابي شمال لطيفة، ... قريبة عهد بالحبيب بليل
ترانا، إذا أنفاسنا مزجت بها، ... نرنّح في أكوارنا ونميل (3)
ولم أر نشوى للشّمال عشيّة، ... كأنّ الذي غال الرّؤوس شمول
وبرق يعاطينا الجوى غير أنّه ... به من عيون النّاظرين نحول
وليل مريض النّجم من صحّة الدّجى ... نضونا، ولألاء النّصول دليل
وأخضر مستور التّراب بروضة، ... رعينا، وقد لبّى الرّغاء صهيل
وعدنا بها واللّيل ينفض طلّه، ... سقاط اللآلي، والنّسيم عليل
إذا استوحشت آذانها من تنوفة، ... وحمحم وخد دائب وذميل (4)
رمت بأناسيّ الحداق وراعها ... أبارق يعرضن الرّدى وهجول (5)
ولولا رجاء منك هزّ رقابها، ... لما آب إلّا ضالع وكليل
ودون رواق المجد منك ممنّع ... جزيل المعالي، والعطاء جزيل
مرير القوى لا يرأم الضّيم أنفه، ... وأيدي العدى إلّا عليه تصول (6)
ينهنه بالأعداء، وهو مصمّم، ... ويزجر بالعذّال، وهو منيل (7)
__________
(1) القبيل: الجماعة.
(2) الزور، جمع أزور: المائل جديل وشدقم: فحلان من الإبل كانا للنعمان ابن المنذر.
(3) الأكوار: الرّحل.
(4) التنوفة: الفلاة الوخد والذميل: ضربان من السير.
(5) الأناسي: جمع انسان الأبارق، جمع أبرق: أرض فيها حجارة ورمل وطين الهجول، جمع هجل: المطمئن من الأرض.
(6) مرير: شديد يرأم: يألف.
(7) ينهنه: يكف ويزجر منيل، من النوال: العطاء.(2/147)
فتى لا يرى الإحسان عبأ يجرّه، ... ولكنّه، لولا الإباء، ذلول
أقرّ بحقّ المجد، وهو مضيّع، ... وعظّم قدر الدّين، وهو ضئيل
سرى طالبا ما يطلب النّاس غيره، ... وما كلّ قرن في الرّجال رجيل (1)
فما آب حتّى استفرغ المجد كلّه ... شروب على غيظ العدوّ أكول
أيرجى مداه بعدما ضحكت به، ... أمام المعالي، غرّة وحجول؟
أرى كلّ حيّ من فضالات سيفه، ... وها هو ذا طاغي الغرار صقيل (2)
وكم غمرة يعلو الملجّم ماؤها ... شققت، ولو أنّ الدّماء تسيل (3)
وهول يغيظ الحاسدين ركبته، ... وحيد العلى، والهائبون نزول
بطعنة ميّاس إلى الموت رمحه، ... يروم العلى من غاية فيطول
فداك رجال للمنى في ديارهم ... نحيب، وللظّنّ الجميل عويل
فواغر عمر الدّهر لم يطعموا العلى، ... ألا قلّ ما يعطي العلاء بخيل
أرادوك بالأمر الجليل، وإنّما ... يصادم بالأمر الجليل جليل
أألآن إن ألقيت ثني زمامها، ... وعطّل أغراض لها وجديل (4)
وإلّا ليال أنت راكب ظهرها، ... وأمر العلى، جمعا، إليك يؤول
وطاغ، وعاء الشّرّ بين ضلوعه، ... وداء من الغلّ القديم دخيل
رماك، وبين العين والعين حاجز، ... وقال، وراء الغيب فيك، وقيل
فما زلت تستوفي مراميه، والقوى ... تقطّع، والإقبال عنه يميل
إلى أن أطعت الله، ثمّ رميته، ... فلم تغض إلّا والرّميّ قتيل
كذلك أعداء الرّجال وهذه ... لسائر من يطغى عليك سبيل
وتسمو سموّ النّار عزّا وهمّة، ... ويهوي هويّ الأرض، وهو ذليل
هنيئا لك العيد الجديد، فإنّه ... بيمنك وضّاح الجبين جميل
__________
(1) الرجيل: الراجل.
(2) الفضالات، جمع فضالة: البقية.
(3) الملجّم، من لجمه الماء: بلغ فاه.
(4) أغراض، جمع غرض: حزام الرحل الجديل: الزمام المجدول من أدم.(2/148)
ولا زالت الأعياد هطلى رخيّة، ... يحيّيك منها زائر ونزيل
وساق عداك العاصفات وأقبلت ... عليك شمال لدنة وقبول (1)
وقد تعقم الأفهام عن قول قائل، ... فيوجز بعض القول وهو مطيل
وما الفضل إلّا ما أقول براعة، ... وباقي مقامات الأنام فضول (2)
أحصد قواي
(الكامل)
نظم هذه القصيدة في مدح والده، وهي من أوائل نظمه.
من لي برعبلة من البزل، ... ترمي إليك معاقد الرّحل (3)
عجلى الرّواح كأنّما لمحت ... فيكم غدير الجود من قبلي
نغّرتها، والبدر مطّلع، ... حتّى استجاب لقائد الأفل (4)
كتبت سطورا من مناسمها ... فوق الأباطح والسّرى يملي
إنّي بها في السّير مقترح، ... عجلا على الإقتاب والجدل (5)
إنّ الذي وخدت إليه فتى ... يبرا إلى أملي من البخل (6)
__________
(1) الشمال والقبول: الريح الشمالية والريح الجنوبية.
(2) براعة: بتفوّق.
(3) الرعبلة: الناقة الضخمة البزل، جمع بازل: الفتيّة، التي برز نابها.
(4) نغرتها: صحت بها الأفل، جمع أفيل: الفصيل، ابن الناقة.
(5) الإقتاب: شد القتب، الرحل الجدل، جمع جديل: الزمام المجدول من أدم.
(6) وخدت: أسرعت.(2/149)
لا تملك العرصات قعدته، ... وإن استقرّ، ففي ذرى الإبل
لم يستمل بالذّلّ جانبه، ... مذ شدّ قبضته على النّصل
تنبيك نفحته، إذا فغمت، ... عن طيب مغرس ذلك الأصل (1)
ولأنت مثل السّيف في مضر، ... عاذت بقائمه من الذّلّ
وإذا هتفت بهم لنائبة، ... جذبوا وراءك بالقنا الذّبل
لا يسلمون من اتّقى بهم ... قرع القنا ومواقع النّبل
عامي وعام المحل في بلد، ... فاسحب إليّ ذؤابة الوبل
واحصد قواي، فإنّني أبدا ... بين القرائن مارج الحبل (2)
كنز من الحمد
(الطويل)
في هذه القصيدة يشكر الشيخ أبا الفتح عثمان بن جني النحوي على تفسير قصيدته الرائية التي رثى بها أبا طاهر إبراهيم بن ناصر الدولة الحمداني.
أراقب من طيف الحبيب وصالا، ... ويأبى خيال أن يزور خيالا
وهل أبقت الأشجان إلّا ممثّلا، ... تعاوده أيدي الضّنا، ومثالا
ألمّ بنا، واللّيل قد شاب رأسه، ... وقد ميّل الغرب النّجوم ومالا
وأنّى اهتدى في مدلهمّ ظلامه، ... يخوض بحارا، أو يجوب رمالا
تأوّب من نحو الأحبّة طاردا ... رقادي، وما أسدى إليّ نوالا
أوائل مسّ الغمض أجفان ناظري، ... كما قارب القوم العطاش صلالا (3)
__________
(1) فغمت، من فغم الطيب فلانا: ملأ خياشيمه.
(2) مارج الحبل: مرسله.
(3) الصلال، جمع صل: المطرة الخفيفة.(2/150)
وما كان إلّا عارضا من طماعة، ... أزال الكرى عن مقلتيّ، وزالا
سقى الله أظعانا أجزن على الحمى ... خفافا، كأقواس النّصال عجالا
يغالبن أعناق الرّبى عجرفيّة، ... قراع رجال في اللّقاء رجالا (1)
وجدت اصطباري دونهنّ سفاهة، ... وأبصرت رشدي بعدهنّ ضلالا
وما ضرّ من أمسى زمامي بكفّه، ... على النّأي، لو أرخى لنا وأطالا
تذكّرت أيّام القرينة، والهوى ... يجدّد أقرانا لنا وحبالا (2)
مضين بعيش لا يعدن بمثله، ... وأعقبننا مرّ الزّمان خيالا
سلي عن فمي فصل الخطاب وعن يدي ... رماحا كحيّات الرّمال طوالا
وبيضا تروّى بالدّماء متونها، ... إذا ما لقين الدّارعين نهالا
فما لي أرضى بالقليل ضراعة، ... وأوسع دين المشرفيّ مطالا
تريد اللّيالي أن تخفّ بمقودي، ... وأيّ جواد لو أصاب مجالا (3)
سآخذها إمّا استلابا وفلتة ... وإمّا طرادا في الوغى وقتالا
فإن أنا لم أركب إليها مخاطرا، ... وأعظم قولا دونها وقتالا
فهذا حسامي لم أرقّ ذبابه، ... مضاء، وهذا ذابلي لم طالا
وأطلبها بالرّاقصات، كأنّما ... أثوّر منها ربربا ورئالا (4)
إذا أسقط السّير العنيف نعالها ... من الأين أحذتها الدّماء نعالا (5)
وكلّ غضنيّ، إذا قلت قد ونى ... من الشّدّ جلّى في الغبار وجالا (6)
وأكبر همّي أن ألاقي فاضلا، ... أصادف منه للغليل بلالا
فدى لأبي الفتح الأفاضل إنّه ... يبرّ عليهم، إن أرمّ، وقالا (7)
__________
(1) عجرفية: يقال: في الجمل عجرفية في المشي، إذا كان لا يبالي لسرعته.
(2) الحبال: العهود.
(3) تخف بمقودي: تسرع في قيادي.
(4) الربرب: قطيع الغزلان الرئال: أفراخ النعام.
(5) الأين: التعب.
(6) الغضن: تلوي العود وتثنيه، استعارة للفرس لكثرة تلويه وتثنيه ونى: تعب.
(7) يبر: يحسن أرم: سكت.(2/151)
إذا جرت الآداب جاء أمامها، ... قريعا، وجاء الطّالبون إفالا (1)
فتى مستعاد القول حسنا ولم يكن ... يقول محالا، أو يحيل مقالا
ليقري أسماع الرّجال فصاحة، ... ويورد أفهام العقول زلالا
ويجري لنا عذبا نميرا، وبعضهم، ... إذا قال، أجرى للمسامع آلا
أسفّهم إن ميّز القوم خلّة، ... وأثقبهم، يوم الجدال، نصالا (2)
وما كان إلّا السّيف أطلق غربه، ... وزاد غراري مضربيه صقالا
ولمّا رأيت الوفر دون محلّه ... جزاء وقد أسدى يدا وأنالا
بعثت له وفرا من الشّعر باقيا، ... وكنزا من الحمد الجزيل ومالا
فسم آخرا منه كوسمك أوّلا، ... وشنّ عليه رونقا وجمالا (3)
ومثلك إن أولى الجميل أتمّه، ... وإن بدأ الإحسان زاد، ووالى
قلب شجاع
(المتقارب)
يوجّه الرضي هذه القصيدة إلى صديقه أبي الطيب خداد بن ماقية.
أأبقى كذا أبدا مستقلّا، ... يقلّبني الدّهر عزّا وذلّا؟
وأقنع بالدّون، فعل الذّلي ... ل، يخشى الأجلّ ويرضى الأقلّا
وإنّي رأيت غنيّ الأنام، ... إذا لم يكن ذا علاء، مقلّا
__________
(1) القريع: فحل الإبل الأفال، جمع أفيل: الفصيل.
(2) أسفهم: أحد نظرا.
(3) شن عليه: صب عليه.(2/152)
ومن دون ضيمي فناء الرّماح، ... وبيض القواضب ذفّا وفلّا (1)
فلا زلت كلّا على المقربات، ... إلى أن أنال ذرى المجد كلّا (2)
إذا عزّ قلبك في دهره، ... فما عذر وجهك في أن يذلّا
ألا فاجهد النّفس في نيلها، ... ولا ترقبنّ عسى، أو لعلّا
إذا المرء لم يحظ بعد الطّلاب، ... فالجدّ لا قدم المرء زلّا
وحلّ حبي العجز عن همّة، ... تؤدّ الأيانق شدّا وحلّا (3)
وجب غير مستكثر بالصّحاب ... حزنا يغول المطايا، وسهلا (4)
إلى حيث تومي إليك البنان، ... وتصبح ثمّ الأعزّ المجلّا
قليل المثال وخير البلاد، ... حمى منزل لا أرى فيه مثلا
ولا تصحبن غير حدّ الحسا ... م برقا يسحّ من الضّرب وبلا
وأيم من السّمر طاغي اللّسا ... ن يأبى اللّديغ به أن يبلّا (5)
وتعلو المعالي إلى العاجزين، ... ونحن نرى الذّلّ أعلى وأغلى
عدتك، أبا الطّيّب، العاديات، ... فإنّك أبذل جاها وبذلا
بلوت خلائق هذا الأنام، ... وما زلت أبلو مرارا وأبلى
فلم أر إلّاك من يصطفي ... ثناء، ويرعى ذماما وإلّا (6)
فأصبح قلبي يرى مذرآ ... ك أنّك أوقع فيه وأحلى
وحلّت نداي جميع الورى، ... غداة اعتقدتك عضدا وخلّا
فدى لك أعمى عن المكرما ... ت، يعجز أن يجعل القول فعلا
__________
(1) الذف: من قولهم: ذفّ على الجريح إذا أجهز عليه الفل: الثلمة في حد السيف.
(2) الكلّ: العيال المقربات: الخيول الكريمة.
(3) تؤد، من أدّ الأمر: أثقله وعظم عليه، اشتد الأيانق: النياق.
(4) الحزن: ما غلظ من الأرض وارتفع يغول: يهلك.
(5) الأيم: الحيّة يبل، من أبل المريض: شفي.
(6) الإل: العهد.(2/153)
ينام عن الخير نوم الضّباع، ... وفي الشّرّ يطلع سمعا أزلّا (1)
طويل اليدين إلى المخزيات، ... يمدّ إلى المجد باعا أشلّا
فتى أعلقته عنان الفخار ... مكارم جاءت به المجد قبلا
وأصبح حاسده خابطا، ... إذا كاد يهدى إلى المجد ضلّا
أشمّ كعالية السّمهريّ، ... وهمّته منه أغلى وأعلى
ويجمع قلبا جريئا، ووجها ... أتمّ من البدر نورا وأملا
مضاء القضيب، إذا ما انجلى، ... وضوء الهلال، إذا ما تجلّى
وقلب الشّجاع حسام، فإن ... حلا منظرا، فحسام محلّى
يغيّم يوم النّدى المستهلّ، ... ويقشع يوم الوغى المصمئلّا (2)
ويوسع مادحه بشره، ... فيوليه أضعاف ما كان أولى
يشمّر للرّوع عن ساقه، ... ويسحب للجود ذيلا رفلّا (3)
فيوما يعود بجدّ عليّ ... ويوما يعود بقدح معلّى
ويلقي إليه عظيم الزّمان ... من المأثرات، الأجلّ الأجلّا
فيمسي لأسرارها حافظا، ... ويغدو بأعبائها مستقلّا
فدونكها كإضاة الغدير، ... أو السّيف سلّ أو الرّوض طلّا (4)
ولولاك كانت كأمثالها، ... تصان عن المدح عزّا ونبلا
فقد كنت حصّنت أبكارهنّ، ... وعوّدتهنّ عن القوم عضّلا (5)
__________
(1) السّمع: ولد الذئب من الضبع الأزل: السريع والخفيف الوركين.
(2) يقشع، من أقشع السحاب: انكشف المصمئل: الشديد.
(3) الرفلّ: الطويل الذيل.
(4) دونكها: الضمير عائد إلى قصيدته الإضاة: المستنقع.
(5) العضل، من عضل المرأة عن الزواج: منعها وحسبها عنه.(2/154)
مللت من إقامتي
(الرجز)
أتذكراني طلب الطّوائل، ... أيقظتما منّي غير غافل
قوما، فقد مللت من إقامتي، ... والبيد أولى بي من المعاقل
شنّا بي الغارات كلّ ليلة، ... وعوّداني طرد الهوامل (1)
وصيّراني سببا إلى العلى، ... إنّي عين البطل الحلاحل (2)
قد حشد الدّهر عليّ كيده، ... وجاءت الأيّام بالزّلازل
ومن عجيب ما أرى من صرفه ... قد دميت من ناجذي أناملي (3)
توكس أحداث اللّيالي صفقتي، ... لا درّ درّ الدّهر من معامل (4)
لا خطر الجود على بالي، ولا ... سقت يدي يوم الطّعان ذابلي
إن لم أقدها كأضاميم القطا، ... أو بدد العقارب الشّوائل (5)
طوامح الأبصار يهفو نقعها ... على طموح النّاظرين، بازل
مستصحبا إلى الوغى فوارسا، ... يستنزلون الموت بالعوامل
تحتهم ضوامر كأنّها ... أجادل تنهض بالأجادل (6)
غرّ، إذا سدّت ثنيّات الدّجى، ... طلعنها بالغرر السّوائل (7)
وذي حجول نافض سبيبه، ... عجبا، على مثل المهاة الخاذل (8)
__________
(1) الهوامل: الإبل المهملة ليلا ونهارا.
(2) الحلاحل: الشجاع.
(3) الناجذ: الاضراس القصوى. أي أن أنامله دميت لعضه إياها.
(4) توكس: تنقص.
(5) الأضاميم، جمع إضمامة: الجماعة القطا، جمع قطاة: طائر كالحمام بدد: متفرقة الشوائل: التي شالت أذنابها، رفعتها.
(6) ضوامر: خيول ضامرة أجادل: صقور.
(7) السوائل، من سالت غرة الفرس: استطالت وعرضت.
(8) السبيب: الذنب المسترسل الخاذل: التي خذلت صواحبها، أي تخلّفت عنها وانفردت.(2/155)
ينقضّ لا تلحق من غباره، ... إلّا بقايا فلق الجراول (1)
يكرع في غرّته من طولها، ... ويتّقي الجندل بالجنادل
بمثله أبغي العلى، وأغتدي ... أوّل نزّال إلى النّوازل
وذي فلول مرهف، نجاده ... على لموع ذات ذيل ذائل (2)
إنّ أمير المؤمنين، والدي، ... حزّ الرّقاب بالقضاء الفاصل
وجدّي النّبيّ في آبائه، ... علا ذرى العلياء والكواهل
فمن كأجدادي إذا نسبتني، ... أم من كأحيائي، أو قبائلي
من هاشم أكرم من حجّ، ومن ... جلّل بيت الله بالوصائل
قوم لأيديهم على كلّ يد ... فضل سجال من ردى ونائل (3)
فوارس الغارات لا يطربهم، ... إلّا نوازي نغم الصّواهل (4)
بالسّمر تختبّ ثعيلباتها، ... مثل ذئاب الرّدهة العواسل (5)
والبيض قد طلعن من أغمادها ... للرّوع تعلو قمم القبائل
يخضبن إمّا من دماء مارق، ... أو من دماء العوذ والمطافل (6)
ذوو القباب الحمر ينضى سجفها ... عن عدد من سامر وجامل (7)
أرى ملوكا كالبهام غفلة، ... في مثل طيش النّعم الجوافل
أولى من الذّود، إذا جرّبتهم، ... برعي ذي الرّياض والخمائل (8)
__________
(1) الجراول: الأرض ذات الحجارة.
(2) اللموع: صفة للدرع ذائل: طويل.
(3) سجال: دافق نائل: عطاء.
(4) النوازي، جمع نازية: الحدة.
(5) تختب: تضطرب ثعيلباتها، جمع مصغر للثعلب: طرف الرمح الداخل في السنان الردهة: الحفرة.
(6) العوذ: النياق الحديثة النتاج المطافل: ذوات الأطفال، وفي البيت إشارة إلى الشجاعة والكرم.
(7) ينضى: ينزع سجفها: سترها.
(8) الذود: هو من الإبل ما كان من الثلاثة الى العشرة.(2/156)
إن أنا أعطيتهم مقادتي، ... فلم إذا أطلق غربي صاقلي (1)
ومقولي كالسّيف يحتمي به ... أشوس أبّاء على المقاول (2)
ما لك ترضى أن يقال شاعر؟ ... بعدا لها من عدد الفضائل
كفاك ما أورق من أغصانه، ... وطال من أعلامه الأطاول
فكم تكون ناظما وقائلا، ... وأنت غبّ القول غير فاعل
كم يقتضيني السّيف عزمي ويدي ... تدفعه دفع الغريم الماطل
أأرهب القتل حذار ميتة، ... لا بدّ ألقاها بغير قاتل
قد غار قبلي الرّمح في عتيبة، ... تحت العوالي، وكليب وائل
هبني شبيبا يوم طاحت عنقه، ... عن حدّ مفتوق الغرار قاصل (3)
لمّا رأى الموت أو الذّلّ انبرى ... إلى الرّدى مشمّر الذّلاذل (4)
أو مصعبا لمّا دنا ميقاته، ... وضرب المقدار بالحبائل
حمى يمين الضّيم أن يقوده، ... وانقاد في حبل الرّدى المعاجل
فعل امرئ رأى الخمول ذلّة، ... فاختار أن يقبر غير خامل
إن كان لا بدّ من الموت فمت ... تحت ظلال الأسل الذّوابل
دار الألى
(الوافر)
لمن دمن بذي سلم وضال، ... بلين، وكيف بالدّمن البوالي؟
وقفت بهنّ لا أصغي لداع، ... ولا أرجو جوابا عن سؤالي
__________
(1) المقادة: القود، نقيض السوق الغرب: الحد.
(2) أشوس، من الشوس: النظر بمؤخر العين تكبرا المقاول، جمع مقول:
اللسان، وهو أيضا السيف.
(3) قاصل: قاطع.
(4) الذلاذل: أسافل القميص الطويل.(2/157)
أيا دار الألى درجت عليها ... حوايا المزن والحجج الخوالي (1)
فأيّ حيا بأرضك للغوادي، ... وأيّ بلى بربعك للّيالي
وبين ذوائب العقدات ظبي، ... قصير الخطو في المرط المذال (2)
ربيب إن أريغ إلى حديث، ... نوار إن أريد إلى وصال (3)
فهل لي والمطامع مرديات، ... دنوّ من لمى ذاك الغزال؟ (4)
لقد سلبت ظباء الدّار لبّي، ... ألا ما للظّباء بها وما لي؟
تنغّصني بأيّام التّلاقي، ... معاجلتي بأيّام الزّيال (5)
تحيّفني الصّدود وكنت دهرا ... أروّع بالصّدود، فلا أبالي (6)
وكيف أفيق لا جسدي بناء ... عن البلوى، ولا قلبي بسالي
يرنّحني إليك الشّوق حتّى ... أميل من اليمين إلى الشّمال
كما مال المعاقر عاودته ... حميّا الكأس حالا بعد حال
ويأخذني لذكركم ارتياح، ... كما نشط الأسير من العقال
وأيسر ما ألاقي أنّ همّا ... يغصّصني بذا الماء الزّلال
فلولا الشّوق ما كثر التفاتي، ... ولا زمّت إلى طلل جمالي
وإنّي لا أوامق ثمّ إنّي ... إذا وامقت يوما لا أقالي (7)
أنا ابن الفرع من أعلى نزار، ... ومن يزن الأسافل بالأعالي
نماني كلّ ممتعض أبيّ ... جرى طلق الجموح إلى المعالي
من القوم الألى ملكوا رقاب ال ... أواخر واختلوا قمم الأوالي
__________
(1) حوايا المزن: سودها.
(2) العقدات: أماكن المرط: الكساء المذال: المرسل إلى الأرض.
(3) النوار: النفور من الريبة.
(4) اللمى: الشفة في وسطها سواد مستحسن.
(5) الزيال: الفراق.
(6) تحيّفني: جار علي، ظلمني.
(7) أوامق، من وامق: أحب الواحد الآخر أقالي، من المقالاة: البغض.(2/158)
إذا بسطوا الخطا سحبوا رقاق ال ... برود على الرّقاق من النّعال
وإن قسمت بيوت المجد حازوا ... فناء البيت ذي العمد الطّوال
وإنّهم لأعنف بالمذاكي، ... محاضرة، وأقرع بالعوالي (1)
أفظّ من الأسود، فإن أنالوا ... رأيت أرقّ من بيض الحجال
يخفّ عليهم بذل الأيادي، ... وقد أثقلن أعناق الرّجال
بني عمّي، وعزّ على يميني ... من الضّراء ما لقيت شمالي
أعود على عقوقكم بحلمي، ... إذا خطر العقوق لكم ببال
أروني من يقوم لكم مقامي، ... أروني من يقول لكم مقالي
ومن يحمي الحريم من الأعادي، ... ومن يشفي من الدّاء العضال
يشايح دونكم يوم المنايا، ... ويرمي عنكم يوم النّضال (2)
سأبلغ بالقلى والبعد عنكم، ... مبالغ ليس تبلغ بالألال (3)
فمن لا يستقيم على التّصافي، ... جدير أن يقوّم بالتّقالي
وأحسب أن سينفعني انتصاري ... إذا ما عاد بالضّرر احتمالي
أكيدا بعد أن رفعت مناري، ... وأرست في مقاعدها جبالي
وشدّ المجد أطنابي إليه، ... ومدّ على جوانبه حبالي
وتمّ علاؤكم بي بعد نقص، ... تمام الحضرميّة بالقبال (4)
وما فضلي على قومي بخاف، ... كما فضل القريع على الإفال (5)
وإني إن لحقت أبي جلالا، ... فهذي النّار من ذاك الذّبال (6)
وأين القطر إلّا للغوادي ... وأين النّور إلّا للهلال
__________
(1) المذاكي، جمع المذكي: هو من الخيل ما تمّ سنه وكملت قوته.
(2) يشايح: يقاتل.
(3) الألال: السلاح.
(4) الحضرمية: نوع من النعل القبال: زمام بين الأصبع الوسطى والتي تليها.
(5) القريع: فحل الإبل الإفال: جمع أفيل: الفصيل.
(6) الذبال: الفتيلة.(2/159)
أصون عن الرّجال فضول قولي، ... وأبذل للرّجال فضول مالي
وربّ قوارص نكتت جناني، ... أشدّ عليّ من صرد النّبال (1)
صبرت لها، ولم أردد مقالا، ... فكان جزاء قائلها فعالي
وجاذبني على العلياء قوم، ... وما علموا بأنّ جميعها لي
لئن نلت الكواكب في علاها، ... لقد أبقيت فضلا من منالي
حلفت بها كراكعة الحنايا، ... خوابط للجنادل والرّمال
مهدّمة العرائك من وجاها ... تعاض من الغوارب بالرّحال (2)
إلى البلد الحرام معرّضات ... لإجراء الطّلى بدم حلال (3)
ليعتسفنّ هذا اللّيل منّي ... أشيعث، عاب لمّته الغوالي
خفيف الحاذ يشغله سراه، ... زمانا، أن يفكّر في الهزال (4)
وممترق إلى العلياء، حتّى ... يجاوز مدّ غاية كلّ عال
فإن أنا لم أقم فيها، فقامت ... على قبري النّوادب بالمآل
غنى نفسي
(البسيط)
حبّ العلى شغل قلب ما له شغل، ... وآفة الصّبّ فيه اللّوم والعذل
قالت ضنيت، فقلت الشّوق يجمعنا، ... ويعرق الوجد ما لا تعرق العلل
__________
(1) القوارص: الكلمات المؤذية نكتت: أثرت جناني: قلبي صرد النبال: نافذها.
(2) العرائك: الأسنمة الوجا: الحفا.
(3) معرّضات: معرّضات للهلاك الطلى: الأعناق.
(4) خفيف الحاذ: خفيف الظهر.(2/160)
وإن تحوّن جسمي ما علمت به، ... فالرّمح ينآد طورا ثمّ يعتدل (1)
كيف التّخلّص من عين لها علق ... بالظّاعنين ومن قلب به خبل (2)
ومن لوجدي أن يقتادني طمع ... إلى الحبيب، وأن يعتاقني طلل
لا تبعدنّ مطايانا التي حملت ... تلك الظّعائن مرخاة لها الجدل
سير الدّموع على آثارها عنق، ... وسيرها الوخد والتّبغيل والرّمل (3)
دون القباب عفاف في جلاببها، ... والصّون يحفظ ما لا تحفظ الكلل (4)
فلا الحدوج يرى وجه المقيم بها، ... ولا تحسّ بصوت الظّاعن الإبل (5)
وفي البراقع غزلان مربّبة، ... يرميننا بعيون نبلها الكحل
إذا الحسان حملن الحلي أسلحة، ... فإنّما حليها الأجياد والمقل
ألا وصال سوى طيف يؤرّقني، ... ولا رسائل إلّا البيض والأسل
وعادة الشّوق عندي غير غافلة، ... قلب مروع ودمع واكف هطل
وأفجع النّاس من ولّى حبائبه، ... ولا عناق، ولا ضمّ، ولا قبل
لا ناصر غير دمعي، إن هم ظلموا، ... والدّمع عون لمن ضاقت به الحيل
والعذل أثقل محمول على أذن، ... وهو الخفيف على العذّال إن عذلوا
من لي ببارق وعد خلفه مطر، ... وكيف لي بعتاب بعده خجل
النّفس أدنى عدوّ أنت حاذره، ... والقلب أعظم ما يبلى به الرّجل
والحبّ ما خلصت منه لذاذته، ... لا ما تكدّره الأوجاع والعلل
قد عوّد النّوم عيني أن تفارقه، ... وهوّن السّير عندي الأينق الذّلل
فما تشبّث بي دار، ولا بلد، ... أنا الحسام، وما تحظى به الخلل (6)
__________
(1) التحوّن: الذل والهوان ينآد: يعوج.
(2) الخبل: الاضطراب.
(3) العنق والوخد والتبغيل والرّمل: أنواع من السير.
(4) الكلل، جمع كلة: غشاء رقيق يتوقى به من البعوض.
(5) الحدوج، جمع حدج: مركب للنساء، هودج.
(6) تشبث: تعلق، تمسك الخلل، جمع خلة: جفن السيف.(2/161)
اللّيل أحمل ظهر أنت راكبه، ... إنّ الصّباح لطرف والدّجى جمل (1)
ولّى الشّباب وهذا الشّيب يطرده، ... يفدي الطّريدة ذاك الطّارد العجل
ما نازل الشّيب في رأسي بمرتحل ... عنّي، وأعلم أنّي عنه مرتحل
من لم يعظه بياض الشّعر أّدركه ... في غرّة حتفه المقدور والأجل
من أخطأته سهام الموت قيّده ... طول السّنين، فلا لهو ولا جذل
وضاق من نفسه ما كان متّسعا، ... حتّى الرّجاء، وحتّى العزم والأمل
ما عفّتي في الهوى يوما بمانعتي ... أن لا تعفّ بكفّيّ القنا الذّبل
وللرّجال أحاديث، فأحسنها ... ما نمّق الجود لا ما نمّق البخل
ولا اقتحامي على الغارات يعصمني ... من المنون، ولا ريث، ولا عجل
وميتتي في النّوى والقرب واحدة، ... إذا تكافأت الغايات والسّبل
يستشعر الطّرف زهوا يوم أركبه، ... كأنّه بنجوم اللّيل منتعل
والخيل عالمة ما فوق أظهرها ... من الرّجال جبان كان أو بطل (2)
أغرّ أدهم صبغ اللّيل صبغته، ... تضلّ في خلقه الألحاظ والمقل
مناقل في عنان الرّيح جريته، ... كأنّه قبس أو بارق عمل (3)
قصير ما بين أولاه وآخره، ... كأنّما العنق معقود بها الكفل
إذا الرّبيع كسا البيداء بردته، ... ضافت ركابي وهاد الأرض والقلل
والواردات مياه القاع سانحة ... على جوانبها الحوذان والنّفل (4)
وكالثّغور أقاحيها، إذا غربت ... شمس النّهار، وألقت صبغها الأصل
ورد ومرعى، إذا شاءت مشافرها، ... مستجمعان، ولا كدّ ولا عمل
وغافلين عن العلياء قائدهم ... في كلّ غيّ فتيّ العقل مكتهل
شنّوا الخضاب حذارا أن يطالبهم ... بحلمه الشّيب، أو يقصيهم الغزل
__________
(1) الطرف: الجواد الكريم والخفيف.
(2) كان: تأتي هنا فعلا تاما بمعنى حدث، وقع.
(3) قبس: ضوء، شعلة عمل: دائم.
(4) الحوذان والنفل: من النبات.(2/162)
عارين ألّا من الفحشاء يسترهم ... ثوب الخمول وتنبو عنهم الحلل
قوم بأسماعهم عن منطقي صمم، ... وفي لواحظهم عن منظري قبل (1)
يبدّدون، إذا أقبلت، لحظهم، ... شرب المروّع لا علّ، ولا نهل
يبدون ودّي ويحموني ثراءهم، ... لو كان حقّا تساوت بيننا الدّول
كفى حسودي كبتا أنّه رجل ... أغرى به الهمّ مذ أغرى بي الجدل
ما بال شعري ملوما لا يجانبه ... عن كلّ ما يقتضيه القول والعمل
لا حاجة بي إلى مال يعبّدني ... له الرّجاء، ويضنيني به الشّغل
حسبي غنى نفسي الباقي، وكلّ غنى ... من المغانم والأموال ينتقل
تغيّر النّاس في سمع وفي نظر، ... واستحسن الغدر حتى استقبح الخلل (2)
فما طلابك إنسانا تصاحبه، ... كلّ الأنام، كما لا تشتهي، همل
يستبشرون، إذا صحّت جسومهم، ... وبالعقول، إذا فتّشتها، علل
ما هيّجتني العدا، إلّا وكنت لها ... سماء كلّ جواد أرضه القلل
يمشي الحسام بكفّي في رؤوسهم، ... ويخرق الرّمح ما تعيا به الفتل (3)
قومي هم النّاس لا جيل سواسية، ... الجود عندهم عار، إذا سئلوا
أبي الوصيّ وأمّي خير والدة، ... بنت الرّسول الذي ما بعده رسل
وأين قوم كقومي إن سألتهم ... سوابق الخيل في يوم الوغى نزلوا
كالصّخر إن حلموا والنّار إن غضبوا، ... والأسد إن ركبوا والوبل إن بذلوا
الطّاعنين من الجبّار مقتله، ... والضّاربين، وذيل النّقع منسدل
والرّاكبين المطايا، والجياد معا، ... لا الشّكل تحبسها يوما ولا العقل
تغضي عيون الأعادي عن رماحهم، ... وللأسنّة فيهم أعين نجل
ليس المعاد إلى الدّنيا بمتّفق، ... ولا رجوع لمن يمضي به الأجل
والله أكرم مولى أنت آمله، ... يوما، وأعظم من يعطي ومن يسل
__________
(1) القبل: الحول.
(2) الخلل: الود، الصداقة.
(3) الفتل، جمع فتيل: ما يوضع في جرح الجريح.(2/163)
عفو، وحلم، ونعماء، ومقدرة، ... ومستجيب، ومعطاء، ومحتمل
وكيف نأمل أن تبقى الحياة لنا، ... وغير راجعة أيّامنا الأول
قلق العدو
(الكامل)
لما تقلد الشريف الرضي النقابة بلغته أقوال من بعض أعدائه لم تعجبه، فنظم هذه الأبيات.
قلق العدوّ، وقد حظيت برتبة ... تعلو عن النّظراء والأمثال
لو كنت أقنع بالنّقابة وحدها ... لغضضت، حين بلغتها، آمالي
لكنّ لي نفس تتوق إلى التي ... ما بعد أعلاها مقام عال (1)
قالوا: حجرت على نداك، وطالما ... أرغمت فيه معاطس العذّال
هيهات! قلّ الحامدون وصار من ... أحبوه يحسدني على أموالي (2)
من لي بمن تزكو الصّنائع عنده، ... حتّى أشاطره كرائم مالي (3)
__________
(1) لكن: اسمها ضمير الشأن تقديره: لكنه.
(2) أحبوه: أميل إليه وأعطف.
(3) تزكو: تنمو، تزدهر.(2/164)
حامل الأعباء
(الطويل)
نظم الرضي هذه القصيدة الفخرية في سنة 404.
أمل من مثانيها، فهذا مقيلها، ... وهذي مغاني دارهم وطلولها (1)
حرام على عيني تجاوز أرضها، ... ولم يرو أظماء الدّيار همولها
وقد خالطت ذاك الثّرى نفحاتها، ... وجرّت على ذاك الصّعيد ذيولها
حقوف رمال ما يخاف انهيالها، ... وأغصان بان ما يخاف ذبولها (2)
إذا ما تراآها اللّوائم ساعة، ... فأعذرها فيمن يحبّ عذولها
رضينا ولم نسمح من النّيل بالرّضا، ... ولكن كثير، لو علمنا، قليلها
شموس قباب قد رأينا شروقها، ... فيا ليت شعري أين منّا أفولها
تعالين عن بطن العقيق تيامنا، ... يقوّمها قصد السّرى ويميلها
فهل من معيري نظرة فأريكها، ... شريقيّ نجد يوم زالت حمولها
كطامية التّيّار يجري سفينها، ... أو الفلج العلياء يهفو نخيلها (3)
ولم تر إلّا ممسكا بيمينه ... رواجف صدر ما يبلّ غليلها
ومختنقا من عبرة ما تزوله، ... ومختبطا في لوعة ما يزولها
محا بعدكم تلك العيون بكاؤها، ... وغال بكم تلك الأضالع غولها
فمن ناظر لم تبق إلّا دموعه، ... ومن مهجة لم يبق إلّا غليلها
دعوا لي قلبا بالغرام أذيبه ... عليكم، وعينا في الطّلول أجيلها
سقاها الرّباب الجون كلّ غمامة ... يهشّ لها حزن الملا وسهولها (4)
__________
(1) أمل من مثانيها: أمل من أعنتها، والمثاني، جمع مثناة، حبل من صوف أو شعر.
(2) الحقوف، جمع حقف: الكثيف من الرمل.
(3) الفلج، جمع فلجة: الأرض المشقوقة للزراعة.
(4) الرباب الجون: السحاب الأسود الحزن: الأرض المرتفعة الملا:
الصحراء.(2/165)
إذا ملكت ريح الجنوب عنانها، ... أحالت عليها بعد لأي قبولها (1)
وساق إليها مثقلات عشاره، ... ضوامر، ترغو بالضّريب فحولها (2)
نجائب لا يودي بأخفافها السّرى، ... وإن طال بالبيد القواء ذميلها (3)
فكم نفخة من أرضها برّدت حشى، ... وبلّ غليلا من فؤاد بليلها
تخطّى الرّياح الهوج أعناق رملها ... فتجبرها جبر القرا، وتهيلها (4)
منازل لا يعطي القياد مقيمها، ... مغالبة، ولا يهان نزيلها
خليليّ قد خفّ الهوى وتراجعت ... إلى الحلم نفس لا يعزّ مذيلها
فلست ابن أمّ الخيل إن لم أمل بها ... عوابس في دار العدوّ أبيلها
إذا انجفلت من غمرة ثاب كرّها، ... وعاد إلى مرّ المنايا جفولها (5)
يزعفر من عضّ الشّكيم لعابها، ... ويرعد من قرع العوالي خصيلها (6)
وأعطف عن خوض الدّماء رؤوسها، ... فقد فقدت أوضاحها وحجولها
نميل عليها بالسّياط نوازعا، ... إلى كلّ بيداء يرمّ دليلها (7)
توقّر من عنف السّياط مراحها، ... وغاض على طول القياد صهيلها (8)
ونحن القروم الصّيد إن جاش بأسها ... تنوذر مرعى ذودها ومقيلها (9)
بأيماننا بيض الغروب خفائف، ... نغول بها هام العدا وتغولها
__________
(1) لأي: جهد، تعب القبول: الريح الشمالية.
(2) الضريب: اللبن يحلب من عدة ضروع في إناء واحد، وقد استعاره للمطر.
(3) القواء: القفر الذميل: السير اللين.
(4) القرا: الظهر، وأراد ظهر الأكمة تهيلها، من هال الرمل: صبّه.
(5) ثاب: عاد.
(6) يزعفر: يلطّخ الشكيم: حديدة اللجام المعترضة في فم الفرس خصيلها:
الخصيلة هي لحمة فيها عصب، ويقال: ارتعدت فرائصه واضطربت خصائله.
(7) يرم: يسكت ويخاف.
(8) توقر: سكن مراحها: نشاطها غاض: قلّ، نقص.
(9) القروم الصيد: الأسياد الملوك تنوذر، من تناذر القوم أمرا: حذر بعضهم بعضا.(2/166)
تفلّلن حتّى كاد من طول وقعها ... بيوم الوغى يقضي عليها فلولها
قوائم قد جرّبن كلّ مجرّب، ... بضرب الطّلى حتّى تفانت نصولها (1)
وأودية بين العراق وحاجر ... ببيض المواضي والعوالي نسيلها
يمدّ بدفّاع الدّماء غشاؤها، ... ويجري بأعناق الرّجال حميلها (2)
إذا هاشم العلياء عبّ عبابها، ... وسالت بأطناب البيوت سيولها
مدفّعة تحت الرّحال ركابها، ... محفّزة تحت اللّبود خيولها
وكلّ مثنّاة النّسوع مطارة ... سواء عليها حلّها ورحيلها (3)
كأنّ على متن الظّليم قتودها، ... وفي يد علويّ الرّياح جديلها (4)
رأيت المساعي كلّها وتلاحقت ... فروع العلى مجموعة وأصولها
إذا استبقت يوما تراخى تبيعها، ... وخلّى لها الشّأو البعيد رسيلها (5)
وإمّا أمالت للطّعان رماحها، ... وشنّ عليها للّقاء شليلها (6)
فثمّ عوال ما تردّ صدورها ... وثمّ جياد ما يفلّ رعيلها (7)
وثمّ الحماة الذّائدون عن الحمى، ... عشيّة لا يحمي النّساء بعولها
أبي، ما أبي، لا تدّعون نظيره، ... رديف العلى من قبلكم وزميلها
هو الحامل الأعباء كلّ مطيقها، ... وعجّ عجيج الموقرات حمولها
طويل نجاد يحتبي في عصابة، ... فيفرعها مستعليا، ويطولها (8)
__________
(1) الطلى: الأعناق.
(2) الدفّاع: اندفاع السيل الحميل: ما يحمله السيل.
(3) النسوع، جمع نسع: سير يربط به الحمل.
(4) الظليم: الذكر من النعام القتود: خشب الرحل الجديل: الزمام المجدول.
(5) التبيع: الذي يتبعها الشأو: الغاية والسبق الرسل: الذي يرسل معها.
(6) الشليل: الدرع الصغيرة تحت الدرع الكبيرة.
(7) عوال: رماح الرعيل: القطعة من الخيل.
(8) طويل نجاد: طويل غمد السيف، كناية عن طول حامله فيفرعها:
فيزيدها طولا.(2/167)
إذا صال قلنا: أجمع اللّيث وثبة ... وإن جاد قلنا: مدّ من مصر نيلها
حليم، إذا التفّت عليه عشيرة ... تطاطا له شبّانها وكهولها
وإن نعرة يوما أمالت رؤوسها، ... أقام على نهج الهدى يستميلها (1)
وأنظرها حتّى تعود حلومها، ... وأمهلها حتّى تثوب عقولها
ولم يطوها بالحلم فضل زمامها، ... فتعثر فيه عثرة لا يقيلها (2)
فعن بأسه المرهوب يرمى عدوّها، ... ومن ماله المبذول يودى قتيلها
أكابرنا، والسّابقون إلى العلى، ... ألا تلك آساد، ونحن شبولها
وإنّ أسودا كنت شبلا لبعضها، ... لمحقوقة أن لا يذلّ قتيلها
يوم عاشوراء
(الخفيف)
نظم الشاعر هذه القصيدة في رثاء أبي عبد الله الحسين بن علي عليهما السلام، في عاشوراء سنة 387.
راحل أنت، واللّيالي نزول، ... ومضرّ بك البقاء الطّويل
لا شجاع يبقى فيعتنق ال ... بيض، ولا آمل، ولا مأمول
غاية النّاس في الزّمان فناء، ... وكذا غاية الغصون الذّبول
إنّما المرء للمنيّة مخبو ... ء، وللطّعن تستجمّ الخيول (3)
__________
(1) النعرة: الفتنة.
(2) لا يقيلها: لا يقيمها، لا يساعدها على النهوض.
(3) تستجم، من قولهم: استجمت البئر: امتلأت ماء، وأراد: تترك الخيول مستريحة حتى تمتلئ نشاطا وقوة.(2/168)
من مقيل بين الضّلوع إلى طو ... ل عناء، وفي التّراب مقيل (1)
فهو كالغيم ألّفته جنوب، ... يوم دجن، ومزّقته قبول (2)
عادة للزّمان في كلّ يوم، ... يتناءى خلّ، وتبكي طلول
فاللّيالي عون عليك مع البي ... ن، كما ساعد الذّوابل طول
ربّما وافق الفتى من زمان ... فرح، غيره به متبول (3)
هي دنيا إن واصلت ذا جفت ها ... ذا ملالا، كأنّها عطبول (4)
كلّ باك يبكى عليه، وإن طا ... ل بقاء، والثّاكل المثكول
والأمانيّ حسرة وعناء ... للّذي ظنّ أنّها تعليل
ما يبالي الحمام أين ترقّى، ... بعد ما غالت ابن فاطم غول
أيّ يوم أدمى المدامع فيه، ... حادث، رائع، وخطب جليل
يوم عاشوراء الذي لا أعان ال ... صّحب فيه ولا أجار القبيل (5)
يا ابن بنت الرّسول ضيّعت العه ... د رجال، والحافظون قليل
ما أطاعوا النبيّ فيك، وقد ما ... لت بأرماحهم إليك الذّحول (6)
وأحالوا على المقادير في حر ... بك لو أنّ عذرهم مقبول
واستقالوا من بعد ما أجلبوا في ... ها أألآن أيّها المستقيل
إنّ أمرا قنّعت من دونه السّي ... ف لمن حازه لمرعى وبيل (7)
يا حساما فلّت مضاربه الها ... م، وقد فلّه الحسام الصّقيل
يا جوادا أدمى الجواد من الطّع ... ن، وولّى، ونحره مبلول
__________
(1) مقيل، من قال قيلولة ومقيلا: نام نصف النهار.
(2) الدجن: المطر، والدجن وصول الغيم إلى الأرض القبول: الرياح الشمالية.
(3) متبول: حزين.
(4) العطبول: المرأة الفتية الجميلة.
(5) القبيل: الجماعة من الناس.
(6) الذحول: الثارات.
(7) وبيل: وخيم.(2/169)
حجل الخيل من دماء الأعادي ... يوم يبدو طعن، وتخفى حجول
يوم طاحت أيدي السّوابق في النّق ... ع وفاض الونى وغاض الصّهيل (1)
أتراني أعير وجهي صونا، ... وعلى وجهه تجول الخيول
أتراني ألذّ ماء، ولمّا ... يرو من مهجة الإمام الغليل
قبّلته الرّماح وانتضلت في ... هـ المنايا، وعانقته النّصول
والسّبايا على النّجائب تستا ... ق، وقد نالت الجيوب الذّيول
من قلوب يدمى بها ناظر الوج ... د ومن أدمع مراها الهمول (2)
قد سلبن القناع عن كلّ وجه ... فيه للصّون من قناع بديل
وتنقّبن بالأنامل، والدّم ... ع على كلّ ذي نقاب دليل
وتشاكين، والشّكاة بكاء، ... وتنادين، والنّداء عويل
لا يغبّ الحادي العنيف، ولا يف ... تر عن رنّة العديل العديل (3)
يا غريب الدّيار! صبري غريب ... وقتيل الأعداء، نومي قتيل
بي نزاع يطغى إليك وشوق، ... وغرام، وزفرة، وعويل
ليت أنّي ضجيع قبرك، أو أ ... نّ ثراه بمدمعي مطلول
لا أغبّ الطّفوف في كلّ يوم ... من طراق الأنواء غيث هطول (4)
مطر ناعم، وريح شمال، ... ونسيم غضّ، وظلّ ظليل
يا بني أحمد! إلى كم سناني ... غائب عن طعانه ممطول
وجيادي مربوطة، والمطايا، ... ومقامي يروع عنه الدّخيل (5)
كم إلى كم تعلو الطّغاة، وكم يح ... كم في كلّ فاضل مفضول
قد أذاع الغليل قلبي، ولكن ... غير بدع إن استطبّ العليل
__________
(1) طاحت: هلكت، سقطت الوني: التعب.
(2) مراها: استخرجها الهمول: الذرف.
(3) العديل: المثيل والنظير.
(4) الطفوف، جمع طف: شاطئ الفرات وما ارتفع من جانبه غيث: مطر.
(5) يروع: يرتد، يرجع.(2/170)
ليت أنّي أبقى، فأمترق النّا ... س وفي الكفّ صارم مسلول (1)
وأجرّ القنا لثارات يوم ال ... طّفّ يستلحق الرّعيل الرّعيل (2)
صبغ القلب حبّكم صبغة الشّي ... ب وشيبي، لولا الرّدى، لا يحول
أنا مولاكم، وإن كنت منكم، ... والدي حيدر، وأمّي البتول (3)
وإذا النّاس أدركوا غاية الفخ ... ر شآهم من قال جدّي الرّسول (4)
يفرح النّاس بي لأني فضل، ... والأنام الذي أراه فضول
فهم بين منشد ما أقفّي ... هـ سرورا، وسامع ما أقول
ليت شعري، من لائمي في مقال ... ترتضيه خواطر وعقول
أترك الشيء عاذري فيه كلّ ال ... نّاس من أجل أن لحاني عذول
هو سؤلي إن أسعد الله جدّي، ... ومعالي الأمور للذّمر سول (5)
موت الفتى خير له
(الطويل)
في هذه القصيدة يعزي الشاعر الخليفة عن عمر بن اسحق بن المقتدر، آخر ولد كان بقي للمقتدر، وقد توفي في ذي القعدة سنة 377.
أيرجع ميتا رنّة وعويل، ... ويشفى بأسراب الدّموع غليل؟ (6)
نطيل غراما، والسّلوّ موافق، ... ونبدي بكاء، والعزاء جميل
__________
(1) امترق: أخترق.
(2) يوم الطف: هو اليوم الذي قتل فيه الحسين بن الامام علي.
(3) حيدر: لقب الإمام علي، والحيدر هو الأسد البتول: لقب زوجه فاطمة بنت الرسول صلّى الله عليه وسلم.
(4) شآهم: سبقهم.
(5) الذمر: الشجاع.
(6) أسراب، من سرب: الماء السائل.(2/171)
شباب الفتى ليل مضلّ لطرقه، ... وشيب الفتى عضب عليه صقيل
فما لون ذا قبل المشيب بدائم، ... ولا عصر ذا بعد الشّباب طويل
وحائل لون الشّعر، في كلّ لمّة، ... دليل على أنّ البقاء يحول
نؤمّل أن نروى من العيش، والرّدى ... شروب لأعمار الرّجال أكول
وهيهات ما يغني العزيز تعزّزّ ... فيبقى، ولا ينجي الذّليل خمول
نقول: مقيل في الكرى لجنوبنا، ... وهل غير أحشاء القبور مقيل (1)
دع الفكر في حبّ البقاء وطوله، ... فهمّك، لا العمر القصير، يطول
ولا ترج أن تعطى من العيش كثرة، ... فكلّ مقام في الزّمان قليل
ومن نظر الدّنيا بعين حقيقة، ... درى أنّ ظلّا لم يزل سيزول
تشيّع أظعان إلى غير رجعة، ... وتبكى ديار بعدهم وطلول
لماذا تربّي المرضعات طماعة ... لماذا تخلّى بالنّساء بعول (2)
أليس إلى الآجال نهوي، وخلفنا ... من الموت حاد لا يغب عجول؟
فمحتضر بين الأقارب، أو فتى ... تشحّط ما بين الرّماح قتيل (3)
إذا لم يكن عقل الفتى عون صبره، ... فليس إلى حسن العزاء سبيل
وإن جهل الأقدار والدّهر عاقل، ... فأضيع شيء في الرّجال عقول
تغيّر ألوان اللّيالي، وتنمحي ... به غرر معلومة وحجول
تعزّ، أمين الله، واستأنف الأسى، ... ففي الأجر من عظم المصاب بديل
وما هذه الأيّام إلّا فوارس ... تطاردنا، والنّائبات خيول
وإن زال نجم من ذؤابة هاشم، ... فلا عجب، إنّ النّجوم تزول
مضى والذي يبقى أحبّ إلى العلى، ... وأهدى إلى المعروف حين ينيل
بقاءك نهوى وحده دون غيره، ... فدع كلّ نفس ما سواك تسيل
وموت الفتى خير له من حياته، ... إذا جاور الأيّام، وهو ذليل
__________
(1) المقيل: النوم، القيلولة.
(2) تخلّى: تنفرد في خلوة.
(3) تشحّط: تضرج بالدم، اضطرب فيه.(2/172)
تلفّت إلى آبائك الغرّ هل ترى ... من القوم باق جاوزته حبول (1)
وهل نال في العيش الفتى فوق عمره، ... وهل بلّ من داء الحمام غليل
ومن مات لم يعلم وقد عانق الثّرى ... بكاه خليل أم سلاه خليل
فكفكف عنان الوجد، إمّا تعزّيا، ... وإمّا طلابا أن يقال حمول
فكلّ، وإن لم يعجل الموت، ذاهب، ... إلا إنّ أعمار الأنام شكول (2)
وللحزن ثورات تجور على الفتى، ... كما صرعت هام الرّجال شمول
لقد كنت أوصي بالبكاء من الجوى ... لو انّ غراما بالدّموع غسيل
فأمّا، ولا وجد يزول بعبرة، ... فصبر الفتى، عند البلاء، جميل
وكم خالط الباكين من سنّ ضاحك، ... وبين رغاء الرّازحات صهيل (3)
وإنّي أراني لا ألين لحادث ... له أبدا وطء عليّ ثقيل
وأغضي عن الأقدار، وهي تنوبني، ... وما نظري، عند الأمور، كليل
يهوّن عندي الصّبر ما وقعت به ... صروف اللّيالي، والخطوب نزول
وما أنا بالمغضي على ما يعيبني ... ولا أنا عن ودّ القريب أحول
ولا قائل ما يعلم الله ضدّه، ... ولو نال من جلدي قنا ونصول
ولولا أمير المؤمنين تحضّرت ... بي البيد هوجاء الزّمام ذمول (4)
وطوّح بي، في كلّ شرق ومغرب، ... زمان ضنين بالرّجاء بخيل
ولكنّه أعلى محلّي على العدا، ... وعلّم نطقي فيه كيف يقول
وعوّدني من جود كفّيه عادة، ... أعوج إليها بالمنى وأميل
يقولون: لو أمّلت في النّاس غيره، ... وهل فوقه للسّائلين مسول
ومن يك إقبال الخليفة سيفه، ... يلاق اللّيالي، وهي عنه نكول
ومن كان يرمي عن تقدّم باعه ... يصب سهمه أغراضه ويؤول (5)
__________
(1) الحبول: الداهية.
(2) شكول: أشكال وأنواع.
(3) الرغاء: صوت الجمل الرازحات: النياق التي سقطت إعياء وهزالا.
(4) تحضرت بي: عدت بي الهوجاء: الناقة المسرعة الذمول: التي تسير الذميل وهو سير متوسط.
(5) يؤول: يرجع.(2/173)
فتى تبصر العلياء في كلّ موقف ... به الرّمح أعمى والحسام ذليل
ويدخل أطراف القنا كلّ مهجة ... بها أبدا غلّ عليه دخيل
إذا لاح يوم الرّوع في سرج سابح ... تناذره بعد الرّعيل رعيل (1)
بقيت، أمير المؤمنين، فإنّما ... بقاؤك بالعزّ المقيم كفيل
ولا ظفرت منك اللّيالي بفرصة، ... ولا غال قلبا بين جنبك غول
وأعطيت ما لم يعط في الملك مالك، ... فإنّك فضل، والأنام فضول
سقوط طود
(مجزوء الكامل)
في شعبان من سنة 381خلع الخليفة الطائع لله، فحزن الشريف الرضي لذلك ونظم هذه القصيدة التي يذكر فيها أيامه ويرثيها ويتوجّع له مما لحقه.
إن كان ذاك الطّود خ ... رّ، فبعدما استعلى طويلا
موف على القلل الذّوا ... هب في العلى عرضا وطولا
قرم يسدّد لحظه، ... فترى القروم له مثولا (2)
ويرى عزيزا حيث ح ... لّ، ولا يرى إلّا ذليلا
كاللّيث، إلّا أنّه ... اتّخذ العلى والمجد غيلا
وعلا على الأقران لا ... مثلا يعدّ ولا عديلا
من معشر ركبوا العلى، ... وأبوا عن الكرم النّزولا
غرّ، إذا نسبوا لنا ال ... غرر اللّوامع والحجولا
__________
(1) السابح: الفرس السريع والمريح تناذره: خوّف منه بعضهم بعضا الرعيل: جماعة الخيل المتقدمة.
(2) القرم: السيد الشجاع.(2/174)
كرموا فروعا، بعدما ... طابوا، وقد عجموا أصولا
نسب غدا رواده ... يستنجبون لنا الفحولا
يا ناظر الدّين الّذي ... رجع الزّمان به كليلا
يا صارم المجد الّذي ... ملئت مضاربه فلولا
يا كوكب الأحساب أع ... جلك الدّجى عنّا أفولا
يا غارب النّعم العظا ... م غدوت معمورا جزيلا (1)
يا مصعب العلياء قا ... دتك العدا نقضا ذلولا (2)
لهفي على ماض قضى ... ألّا ترى منه بديلا
وزوال ملك لم يكن ... يوما يقدّر أن يزولا
ومنازل سطر الزّما ... ن على معالمها الحؤولا (3)
من بعد ما كانت على ال ... أيّام مربأة زلولا (4)
والأسد ترتكز القنا ... فيها، وترتبط الخيولا
من يسبغ النّعم الجسا ... م، ويصطفي المجد الجزيلا
من ينتج الآمال يو ... م تعود باللّيّان حولا (5)
من يورد السّمر الطّوا ... ل، ويطعم البيض النّصولا
من يزجر الدّهر الغشو ... م، ويكشف الخطب الجليلا
وتراه يمنع دوننا ... وادي النّوائب أن يسيلا
عقّاد ألوية الملو ... ك على العلى جيلا، فجيلا
هذا، وكم حرب تب ... زّ الأسد سطوتها الغليلا (6)
__________
(1) الغارب: الكاهل المعمور: الباقي على الزمان.
(2) المصعب: الفحل النقض: المهزول.
(3) الحؤول: التحول من حالة إلى أخرى.
(4) المربأة: المكان الذي يقف فيه من يرقب الزلول: المزلقة.
(5) الليان: المطل الحول: من التحول والانقلاب.
(6) تبز: تسلب الغليل: الحقد.(2/175)
صمّاء تخرس آلها، ... إلّا قراعا، أو صهيلا
والخيل عابسة تج ... رّ من العجاج بها ذيولا
أجتاب عارضها، وقد ... رحل المنون به همولا (1)
كالثّائر الضّرغام إن ... لبس الوغى دقّ الرّعيلا (2)
صانعت يوم فراقه ... قلبا، قد اعتنق الغليلا
ظعن الغنى عنّي، وح ... وّل رحله إلّا قليلا
إن عاد يوما عاد وج ... هـ الدّهر مقتبلا جميلا
ولئن مضى طوع المنون ... مؤمّما تلك السّبيلا
فلقد تخلّف مجده ... عبأ على الدّنيا ثقيلا
واستذرت الأيّام من ... نفحاته ظلّا ظليلا (3)
أيّها القبر
(الرمل)
وضع الشاعر هذه القصيدة في رثاء الخليفة الطائع لله الذي توفي في مجلسه وهو مخلوع يوم الأربعاء لليلتين خلتا من شوال سنة 393، ودفن في تربة كان عمرها بالرصافة. وكان الطائع شديد الميل إلى الرضي وتجمع بينهما صداقة متينة.
أيّ طود دكّ من أيّ جبال، ... لقحت أرض به بعد حيال (4)
ما رأى حيّ نزار قبلها ... جبلا سار على أيدي الرّجال
__________
(1) الهمول: المتروك ليلا ونهارا يرعى بلا راع.
(2) دق: كسر، هزم الرعيل: القطعة من الخيل.
(3) استذرت: استظلت.
(4) لقحت: حملت حيال: محل.(2/176)
عجبا أصبحت للضّيم، وما ... نثر الطّعن أنابيب العوالي
فإذا رامي المقادير رمى ... فدروع المرء أعوان النّصال
قاده المقدار قسرا بعدما ... أكره السّمر على المقّ الطّوال (1)
وأبال الخيل في كلّ حمى، ... يمنع الماطر منهلّ العزالي (2)
مثل عقبان الموامي دلّحا، ... راشها قرع الحنايا بالنّبال (3)
حاملا عن قومه العبء، وما ... حمدوا عرعرة العود الجلال (4)
أيّها القبر الذي أمسى به ... عاطل الأرض جميعا وهو حالي
لم يواروا بك ميتا إنّما ... أفرغوا فيك ذنوبا من نوال (5)
طال ما لاذ به المال كما ... لاذت الإصبع يوما بالقبال (6)
حملوه بازلا محتقرا ... دلج اللّيل ولزّات الحبال (7)
إن غدا مجدوعة أشرافه، ... فالبنى وافية، والمجد عالي
عقروا ليثا، ولو هاهوا به ... كان بعد العقر أرجى للصّيال (8)
وكذا الأيّام من قارعها، ... تركت فيه علامات النّزال
عقلوه بعد ما جاز المدى، ... وطوى شأو مساع ومعالي (9)
وكذا السّابق، يوما بعنان ... يحرز السّبق، ويوما بعقال
__________
(1) المق: الشق.
(2) منهل العزالي: هو من القول أرسلت السماء عزاليها إذا أمطرت مطرا شديدا.
(3) الموامي: الفلوات، جمع موماة الدلّح، جمع دالح: السحاب الكثير الماء.
(4) العرعرة: السنام العود: الجمل السمن.
(5) الذنوب: الدلو العظيمة، استعارها للدلالة على الكرم النوال: العطاء.
(6) القبال: زمام بين الاصبع الوسطى والتي تليها.
(7) البازل: الفتي، والبازل صفة الجمل اذا طلع نابه، استعارها للإشارة إلى الفتوّة الدلج: السير من أول الليل اللزات: الشدائد.
(8) هاهوا به: زجروه.
(9) الشأو: المدى، الغاية.(2/177)
قمت عنها بعد ما عجّ بها، ... ورمى أوسقها بزل الجمال (1)
وانتزعت النّصل من مقلتها، ... بعد غايات نزاع ومطال
ليتهم أعطوك إن لم يعدلوا، ... بسلة الرّاقي من الدّاء العضال (2)
نتجوا في المجد ما ألقحته، ... ربّما أوقد نارا غير صالي
وكأنّي خلل الغيب أرى ... نغرة من جرحها بعد اندمال (3)
وإذا الأعداء عدوّك لها ... سلّموا فضلك من غير جدال
لا أضاعوا رابئا في قلّة ... كلأ المجد، وقد نام الكوالي (4)
يوم للشّعب دهان من دم، ... والمواضي للمقاديم فوالي (5)
في فتوّ شيّعوا أرماحهم، ... أمم الموت إلى الطّعن عجال (6)
بخفاف فوق أيمان رجال، ... وثقال فوق أعناق رجال
قضب، يوم صداها في الوغى، ... بالطّلى، أطول من يوم الصّقال (7)
لك منها ناحل تعصى به، ... يوم أبدلن عصيّا بعوالي
تلحم الأعداء منه جازرا، ... ينقل اللّحم إلى غير عيال
قد قدحت العزّ زندا غير كاب، ... ولبست المجد بردا غير بالي
وإذا أغلى الورى أكرومة، ... وجدوا عندك أثمان الغوالي
إنّ للطّائع عندي منّة، ... وحمى قد بلّها لي ببلالي
ليس ينسيها، وإن طال المدى، ... مرّ أيّام عليها وليالي
__________
(1) الأوسق: الأحمال، جمع وسق البزل، جمع بازل: البالغ من الجمال.
(2) البسلة: الأجرة.
(3) النغرة: سيلان الدم من الجرح.
(4) الرابئ: الرقيب الكلأ: الحرس الكوالي، جمع كالئ: حارس.
(5) الشّعب: الشق، الجرح المواضي: السيوف المقاديم، جمع مقدام:
الكثير الإقدام.
(6) فتو، جمع فتى: الشاب الأمم: القرب، القصد.
(7) قضب: سيوف الطلى: الأعناق.(2/178)
فاتني منك انتصار بيميني، ... فتلافيت انتصارا بمقالي
لا عجيب حفظ كفّ لبنان، ... ووفاء من يمين لشمال
عزّ من أمسى معدّا ظهره، ... أخذ الأهبة يوما للزّيال
ينظر الدّنيا بعيني ناهض، ... مطر ينفض أنداء الطّلال (1)
ينشط البلغة من آكلها، ... نشطة المطرود ولّى، وهو خالي (2)
لا يرم قبرك مبراق الذّرى، ... منجد الأعناق غوريّ التّوالي (3)
كلّما عجّ رمى في عرضه ... شعل البرق الرّباب المتعالي (4)
كرهاء الدّهم لاقيت به ... في رعال يتعدّى برعال (5)
تطلق الصّرّة من أخلافه، ... أمّ أوبين: نعامى وشمال (6)
ألحقت شعّاعة الرّيح كما ... جرّت الخيل رعابيب الحلال (7)
لا أرى الدّمع كفاء للجوى، ... ليس أنّ الدّمع من بعدك غالي
وبرغمي أن كسوناك الثّرى، ... وفرشناك زرابيّ الرّمال (8)
وهجرناك على ضنّ الهوى ... ربّ هجران على غير تقالي
أيّها الظّاعن لا جاز الحيا ... أبدا بعدك بالحيّ الحلال
كنت في الأحجال أرجوك، ولا ... أرتجي اليوم عظيما في الحجال (9)
__________
(1) الناهض: فرخ الطائر الذي كمل جناحاه وقدر على الطيران.
(2) ينشط: ينزع البلغة: ما يتبلغ به من العيش.
(3) لا يرم: لا يبرح المنجد: المرتفع غوري: منخفض، نسبة الى الغور.
(4) عرضه: ناحيته الرباب: الغيم.
(5) رهاء الدهم: تتابع الخيل السود الرعال: جماعة الخيل.
(6) الصّرّة: شد ضرع الناقة الأوبين: الجهتين النعامى: ريح الجنوب.
(7) شعّاعة الريح: الريح التي اختلفت مهابها الرعابيب: النوق الطائشة، جمع رعبيب.
(8) الزرابي: البسط.
(9) الأحجال، جمع حجل: القيد الحجال، جمع حجلة: ما يزين بالثياب والستور للعروس.(2/179)
كلّ مأسور يرجّى فكّه، ... غير من أصبح في قيد اللّيالي
نسب كالشّمس أوفيت به ... في المعالي بين نجم وهلال
زلق المرقى بعيد المنتمى، ... في قنان للمساعي وقلال (1)
تقصر الألحاظ عنهنّ، فما ... ظنّ من مدّ يديه للمنال
في الرّوابي من معدّ، والذّرى ... نهز المجد بعاديّ السّجال
وإذا ما الأرض كانت شوكة ... خطروا فيها على غير نعال
كلّ راق مرّ بالنّجم إلى ... قنن السّؤدد والمجد الطّوال
معشر، إن غابت الأرض بهم، ... لم يغيبوا عند مجد وفعال
كلما ازدادت بلى أعظمهم ... نشرتهم سمع غير بوالي
والعلى ما لم يربّوا دارها، ... طرق عوج، وأطلال خوالي (2)
ضمنت منهم قراراتهم ... عمد المجد، وأركان المعالي
لا تقل تلك قبور، إنّما ... هي أصداف على غير لآل
رثاء كافي الكفاة
(الكامل)
في هذه القصيدة يرثي الرضي الصاحب أبا القاسم كافي الكفاة اسماعيل بن عباد. وقد ورد خبر وفاته في يوم الأربعاء لعشر ليال بقين من ربيع الأول سنة 385، وكان قد قارب الستين من عمره.
أكذا المنون تقنطر الأبطالا ... أكذا الزّمان يضعضع الأجبالا (3)
__________
(1) زلق المرقى: أي يصعب الإرتقاء إليه القنان والقلال: رؤوس الجبال.
(2) يربّوا: يقيموا ويصلحوا.
(3) تقنطر: تردي، ترفع من الدنيا.(2/180)
أكذا تصاب الأسد، وهي مذلّة ... تحمي الشّبول، وتمنع الأغيالا؟
أكذا تقام عن الفرائس بعد ما ... ملأت هماهمها الورى أوجالا؟ (1)
أكذا تحطّ الزّاهرات عن العلى، ... من بعد ما شأت العيون منالا؟ (2)
أكذا تكبّ البزل وهي مصاعب، ... تطوي البعيد، وتحمل الأثقالا؟
أكذا تغاض الزّاخرات وقد طغت ... لججا، وأوردت الظّماء زلالا؟
يا طالب المعروف حلّق نجمه، ... حطّ الحمول وعطّل الأجمالا!
وأقم على يأس، فقد ذهب الذي ... كان الأنام على نداه عيالا
من كان يقري الجهل علما ثاقبا، ... والنّقص فضلا، والرّجاء نوالا
ويجبّن الشّجعان دون لقائه، ... يوم الوغى، ويشجّع السّؤّالا (3)
خلع الرّدى ذاك الرّداء نفاسة ... عنّا، وقلّص ذلك السّربالا
خبر تمخّض بالأحبّة ذكره، ... قبل اليقين، وأسلف البلبالا (4)
حتّى إذا جلّى الظّنون يقينه، ... صدع القلوب، وأسقط الأحمالا (5)
الشّكّ أبرد للحشا من مثله، ... يا ليت شكّي فيه دام وطالا
جبل تسنّمت البلاد هضابه، ... حتى إذا ملأ الأقالم زالا
يا طود! كيف وأنت عاديّ الذّرى، ... ألقى بجانبك الرّدى زلزالا (6)
إن قطّع الآمال منك، فإنّه ... من بعد يومك قطّع الأمّالا
ما كنت أوّل كوكب ترك الدّنا ... وسما إلى نظرائه، فتعالى
أنفا من الدّنيا بتتّ حبالها، ... ونزعت عنك قميصها الأسمالا (7)
__________
(1) هماهمها: أصواتها الأوجال، جمع وجل: خوف.
(2) الزاهرات: النجوم، كناية عن علو منزلة الفقيد.
(3) السؤّال: السائلين.
(4) البلبال: شدّة الهم والوسواس.
(5) الأحمال، جمع حمل: ما تحمله المرأة من الولد في بطنها.
(6) طود: جبل عادي: قديم.
(7) بتت: قطعت الأسمال: الخلق، البالي.(2/181)
ذا المنزل المظعان قد فارقته، ... وغدا تبوّأ منزلا محلالا (1)
لا رزء أعظم من مصابك، إنّه ... وصل الدّموع، وقطّع الأوصالا
يا آمر الأقدار كيف أطعتها، ... أوما وقاك جلالك الآجالا
كيف اغتفلت، ففاجأتك بغرّة، ... أو ليس كنت المخلط المزيالا (2)
لم تكف، يا كافي الكفاة، منيّة ... نفذت إليك صوارما وألالا (3)
ألّا وقى المجد المؤثّل ربّه ... ألّا زوى المقدار، ألّا حالا (4)
ألّا أقالتك اللّيالي عثرة، ... يا من، إذا عثر الزّمان، أقالا
إنّ الّذي أنحى إليك بسهمه، ... قدر ينال ذبابه الرّئبالا (5)
لا مسمع الإنباض منه، فيتّقى ... يوما، ولا مالي الجفير نبالا (6)
وأرى اللّيالي طارحات حبالها ... تستوثق الأعيان والأرذالا
يبرين عود النّبع غير فوارق ... بين النّبات كما برين الضّالا (7)
لا تأمن الدّنيا عليك، فإنّها ... ذات البعول تبدّل الأبدالا
وتناذر الدّهر الذي شرع الرّدى ... وتخرّم الأذواء والأقيالا (8)
واسترجل الأملاك قسرا بعد ما ... ركبوا من الشّرف المطلّ جبالا
__________
(1) المظعان: الكثير الظعن، السير تبوأ: يهيّأ لك.
(2) المخلط: الذي يخالط الناس ويختبر الأمور المزيال: اللطيف.
(3) لم تكف: لم تمنع الألال: أدوات الحرب، جمع ألة.
(4) زوى: منع.
(5) ذبابه: حدّه الرئبال: الأسد.
(6) الإنباض، من أنبض وتر القوس: حركه مالي: مالئ الجفير: الكنانة.
(7) النبع: شجر تصنع منه القسي والسهام الضال: نوع من الشجر.
(8) تناذر: خوّف بعضهم بعضا تخرّم: اقتطع الأذواء: ملوك اليمن التبابعة، أول أسمائهم ذو، مثل «ذو يزن» الأقيال: الملوك أو الذين يأتون بعد الملك، وقد عرفت هذه الألقاب في اليمن.(2/182)
وطوى مقاول من نزار ذادة ... في الحرب لا كشفا ولا أميالا (1)
قوم، إذا وقع الصّريخ تناهضوا ... بالخيل قبّا والقنيّ طوالا (2)
وترى خفافا في الوغى، فإذا انتدوا ... وتلاغط النّادي رأيت ثقالا
صاحت بهم نوب اللّيالي صيحة ... فتتابعوا لدعائها أرسالا
يتواكلون الموت جبنا بعد ما ... كانوا لكلّ عظيمة حمّالا (3)
من بعد ما دعموا القباب وخيّسوا ... ذلل المطيّ ودمّنوا الأطلالا (4)
عرب، إذا دفعوا الجياد لغارة ... هزّوا العباب وخضخضوا الأوشالا (5)
من كلّ منهب ماله سؤّاله، ... أو بالغ بعطائه ما نالا
أو بائت يرعى النّجوم لغارة، ... ويعدّ للمغدى قنا ونصالا
لم ترهب الأقدار عزّته، ولا ... اتّقت النّوائب جمعه العضّالا
وعصائب اليمن الّذين تبوّأوا ... قلل الهضاب وشرّدوا الأوعالا
كانوا فحول وغى تساند بالقنا، ... لا كالفحول تساند الأجذالا (6)
زفر الزّمان عليهم، فتطارحوا ... فرقا وطاروا بالمنون جفالا
وعلى الهباءة آل بدر إنّهم ... طرحوا له الأسلاب والأنفالا (7)
__________
(1) المقاول: الملوك الذادة: الحماة، جمع ذائد الكشف، جمع أكشف:
الذي لا ترس معه الأميال، جمع أميل: الذي لا سيف معه، والذي يميل ليسقط عن مطيّته.
(2) الصريخ: الاستغاثة القب: الضوامر القني: الرماح.
(3) يتواكلون: يتكل بعضهم على بعض.
(4) خيسوا: حبسوا، ذللوا دمّنوا، من دمنت الماشية المكان: سوّدته بفضالاتها.
(5) العباب: معظم السيل وارتفاعه الأوشال، جمع وشل: الماء القليل.
(6) تسانذ: تعاضد الأجذال، جمع جذل: عود يتحكك به الجرب.
(7) الهباءة: أرض لغطفان الأنفال: الغنائم.(2/183)
من بعد ما خلطوا العجاج وجلجلوا ... تلك الزّعازع والقنا العسّالا (1)
والمنذرون الغرّ شرّد منهم ... حيّا على لقم العراق حلالا (2)
والأزدشيريّون أبرز منهم ... متفيّئين من النّعيم ظلالا
تلوي لهم عنق الفرات بمدّه، ... ويروّقون البارد السّلسالا
من معشر وردوا المنون، ومعشر ... سلبوا الحجال، وألبسوا الأحجالا
قد غادروا الإيوان بعد فراقهم ... ينعى القطين ويندب الحلّالا
إن كنت تأمل بعدهم مهلا فقد ... منّتك نفسك في الزّمان ضلالا
لمن الضّوامر عرّيت أمطاؤها، ... حول الخيام، تنازع الأمطالا
بدّلن من لبس الشّكيم مقاودا ... مربوطة، ومن السّروج جلالا
فجعت بمنصلت يعرّض للقنا ... أعناقها، ويحصّن الأكفالا
لمن المطايا غير ذات رحائل، ... فارقن ذاك السّدو والإرقالا (3)
أمست تمنّع بالسّقاب، وطالما ... جعل الظّبى لرضاعهنّ فصالا (4)
من كان يحمل فوقهنّ عصابة ... مثل الصّقور غرانقا أزوالا (5)
من كان يجشمهنّ كلّ مفازة ... تلد المنون، وتنبت الأهوالا
لمن النّصول نشبن في أغمادها، ... كلف الظّبى لا ينتظرن صقالا
لمن الأسنّة قد نصلن عن القنا، ... وعدمن جرّا في الوغى ومجالا
إن صين سردك في العياب، فطالما ... أمسى عليك مذيّلا ومذالا (6)
__________
(1) العجاج: الغبار جلجلوا: حركوا الزعازع: شدائد الدهر العسّال:
المهتز، اللّين.
(2) لقم: طريق.
(3) السدو: الاتساع في الخطو الإرقال: الإسراع.
(4) السقاب، جمع سقب: ولد الناقة الظبى: السيوف.
(5) الغرانق (بالفتح)، جمع غرانق (بالضم): الشاب الأبيض الجميل الأزوال، جمع زول: الفتي الخفيف والظريف.
(6) السرد: الدروع والحلقات العياب، جمع عيبة: ما تجعل فيه الثياب كالصندوق.(2/184)