مقدمة شارح الديوان
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله وحده والصلاة والسلام على نبيّه المصطفى وبعد
يعد ابن عربي رأسا من رؤوس الصوفية، وإماما من أئمتهم، وديوانه هذا يحتوي على طائفة من آرائه في التصوف والعقائد والكلام، قلّما نجد له مثيلا لدى غيره من المتصوفين.
والديوان نظرا لما يضم من أشعار وقصائد وموشحات كثيرة ومتنوعة، يدل على شاعرية ابن عربي، وعلى إحساسه المرهف وتمكنه من الصنعة، حيث نراه لا يفوت فرصة إلا وينظم فيها شعرا. من هنا كان اهتمامنا بإعادة نشر الديوان لا سيما وأنه كان نشر لأول مرّة سنة 1271للهجرة بمطبعة بولاق المصرية. وها نحن نعيد تقديم الكتاب بحلة جديدة، وقد حاولت جهدي أن أتبين مقاصده ومراميه، فاستعنت بالله ثم لجأت إلى معاجم المصطلحات الصوفية، وغيرها من المصادر التي أفادتني في تفسير بعض مفرداته الخاصة. كما أني خرّجت ما ورد من الآيات والأحاديث، وترجمت للأعلام لكلّ في مكانه.
ومع ذلك فإني أعترف بأن ما قمت به ليس أكثر من محاولة أولية، قد تكون عونا للقراء الكرام في التعرف إلى بعض المعاني الصوفية، ولا أدّعي أنني بلغت الغاية، خصوصا أنّ بعض قصائده يشتمل على معان لها ظاهر وباطن وتحتاج إلى تأويل وبالتالي إلى مقارنتها بأقوال أخرى تنظر في مواضعها من مؤلفات ابن عربي، وبما أن الأمر كذلك فقد اكتفيت بإشارات سريعة وتعليقات وجيزة حيث يلزم، ولعلي في ذلك قد قاربت الهدف، فصفحا قارئي الكريم إن كنت قد قصّرت فيما سعيت إليه. والحمد لله أولا وآخرا.
شارح الديوان: أحمد حسن بسج بيروت في 30رجب 1415هجرية الموافق 1/ 1/ 1995رومية(1/3)
مقدمة
بِسْمِ اللََّهِ الرَّحْمََنِ الرَّحِيمِ
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيد المرسلين وعلى آله وأصحابه الطاهرين. وبعد:
تعد شخصية الحسين بن منصور الحلاج في الشخصيات الأكثر جدلا، فقد اختلفت آراء القدماء فيها، كما انقسم المتأخرون ما بين مؤيد له ومعارض.
ويعود السبب في ذلك إلى الاختلاف في فهم عقيدته، وتأويل أقواله وأشعاره.
وعند ما شرعت بإعداد ديوان الحلاج استعنت بديوانه الذي جمعه وحققه لويس ماسينيون، وديوانه الذي أعده كامل الشيبي، واعتمدت في شرح مفرداته على معجم المصطلاحات الصوفية الذي أعده عبد المنعم الحنفي، كما اعتمدت على كتاب التعرف لمذهب أهل التصوف للكلاباذي.
وقد لفت نظري أن في هذا الكتاب مقطعات شعرية للحلاج، لكنها لم تنسب إليه، وقدم لها الكلاباذي بقوله: (أنشدونا لبعض الكبار، وقال بعض الكبراء من أهل المعرفة). وقد يعود السبب في إغفال اسم الحلاج عند عرض أشعاره في هذا الكتاب إلى أن الكلاباذي توفي سنة 380هـ أي في القرن نفسه الذي صلب فيه الحلاج، وهو زمن الحكم العباسي، فلعل السلطة الحاكمة حينذاك ما زالت تحظر على الناس تداول أقوال الحلاج وأشعاره، فلذلك أغفل الكلاباذي اسم الحلاج.(1/3)
تمهيد
ابن عربي (1)
هو محمد بن علي بن محمد بن أحمد، الطائي الحاتمي المرسي، المعروف بمحيي الدين ابن العربي المكنى بأبي بكر، والملقب بالشيخ الأكبر.
ولد سنة 560هـ / 1165م بمرسية في الأندلس، وانتقل إلى إشبيلية. وتنقل في البلاد فزار المغرب وكتب الإنشاء لبعض الأمراء فيها، وزار مصر، وقد صدرت عنه أقوال استنكروها عليه وعمل بعضهم على إراقة دمه وحبس مدة ثم خرج ناجيا بمساعدة علي بن فتح البجائي، كما زار الحجاز وسمع بمكة من زاهر بن رستم، ومر ببغداد وسكن الروم مدة حتى استقر أخيرا في دمشق وسمع فيها من ابن الحرستاني. وكان سمع في موطنه من ابن بشكوال وابن صاف.
كان ذكيا كثير العلم، زاهدا، متفردا متعبدا متوحدا، وقد عمل الخلوات «وعلّق شيئا كثيرا في تصوّف أهل الوحدة». وقد عظّمه جماعة وتكلفوا لما صدر منه ببعيد الاحتمالات، ونقل الذهبي في سياق ترجمته عن ابن دقيق العيد أنه سمع الشيخ عز الدين بن عبد السلام يقول عن ابن العربي: «شيخ سوء كذّاب يقول بقدم العالم ولا يحرّم فرجا». أما الذهبي نفسه فقال: «إن كان محيي الدين رجع عن مقالاته تلك قبل الموت فقد فاز وما ذلك على الله بعزيز». ومما قاله أيضا:
«وله شعر رائق وعلم واسع وذهن وقاد ولا ريب أن كثيرا من عباراته له تأويل إلا كتاب الفصوص». فهذا الكتاب يحوي الكثير من الكفر.
__________
(1) ترجمته في: سير أعلام النبلاء 23/ 48. فوات الوفيات: 2/ 241نفح الطيب 1/ 404. شذرات الذهب 5/ 190. الأعلام: 6/ 281.(1/4)
كما استعنت في شرح شعره بكتاب نشأة التصوف للدكتور بسيوني، وغير ذلك من الكتب التي أشرت إليها في الحواشي.
وقد رأيت أن أشعاره في ديوانه بطبعتيه السابقتين لم تكن مرتبة، فأعدت ترتيبها على نحو يوافق الترتيب الهجائي، مبتدئا بالروي الساكن ثم المفتوح ثم المضموم ثم المكسور.
وقد بدأت الديوان بترجمة للحلاج، وعرضت بعدها آراء الفقهاء وأقوالهم حول عقيدته، ثم سردت أقوال الحلاج التي استخلصتها من أخباره، أتبعت ذلك بأقواله التي تنبأ بها بأنه سيصلب، هذا فيما يتعلق بالدراسة التي قدمتها لهذا الكتاب.
وفيما يتعلق بتراثه، فقد وضعت أولا كتاب أخبار الحلاج مع ملحقه، واستدركت عليه أخبارا من كتب التراث التي لم ترد في كتاب أخبار الحلاج الذي نشره لويس ماسينيون و. ب. براوس، ووضعت بعد ذلك كتاب «بداية حال الحلاج» لابن باكويه، ثم أردفت ذلك بطواسينه، ثم بديوانه.
ولا يسعني إلا أن أقدم خالص شكري إلى دار الكتب العلمية ببيروت ممثلة بالحاج محمد علي بيضون الذي شجعني على إنجاز هذا العمل، وكان له فضل نشره، وما ذاك منه إلا حبا بالعلم ونشره.
بيروت
محمد باسل عيون السود(1/4)
مؤلفاته:
له نحو أربعمائة كتاب ورسالة منها:
الفتوحات المكية في التصوف وعلم النفس.
محاضرة الأبرار ومسامرة الأخيار، في الأدب.
فصوص الحكم.
مفاتيح الغيب.
التعريفات.
عنقاء مغرب، في التصوف.
الإسرا إلى المقام الأسرى.
التوقيعات.
أيام الشان.
مشاهد الأسرار القدسية.
إنشاء الدوائر.
الحق.
القطب والنقباء.
كنه ما لا بد للمريد منه.
الوعاء المختوم.
مراتب العلم الموهوب.
العظمة.
الإمام المبين.
التجليات الإلهية.
فتح الذخائر والأغلاق شرح ترجمان الأشواق. (شعر).
أسرار الخلوة.
مواقع النجوم ومطالع أهلة الأسرار والعلوم.
شجرة الكون.
شرح الألفاظ التي اصطلحت عليها الصوفية.
شرح أسماء الله الحسنى.
ديوان شعر، أكثره في التصوف وهو الكتاب الذي نقدمه.
وأكتفي بهذه الطائفة من كتبه الكثيرة التي طبع بعضها وبعضها الآخر ما زال ينتظر.(1/5)
ترجمة المؤلف
(1)
اسمه وكنيته
هو الحسين بن منصور بن يحيى، يكنى أبا مغيث وقيل أبا عبد الله (2)،
__________
(1) لسان الميزان 2/ 581، 582ترجمة رقم 2832. سير أعلام النبلاء 14/ 313ترجمة رقم 205. صلة تاريخ الطبري: عريب بن سعد القرطبي 79. طبقات الصوفية: للسلمي 307. تجارب الأمم: لمسكويه 1/ 76حوادث 309. تاريخ بغداد: للخطيب 8/ 112 ترجمة رقم 4222. المنتظم: لابن الجوزي 13/ 132. الكامل: لابن الأثير 8/ 126.
وفيات الأعيان 2/ 140ترجمة رقم 189. العبر: للذهبي 1/ 454وفيات سنة 309.
ميزان الاعتدال: للذهبي 1/ 548ترجمة رقم 2059. دول الإسلام: للذهبي 1/ 187.
مرآة الجنان: لليافعي 2/ 253. البداية والنهاية: لابن كثير 11/ 152وفيات سنة 309.
الفهرست: للنديم 241. المختصر من أخبار البشر: لأبي الفداء 2/ 70. طبقات الأولياء:
لابن ملقن 187. النجوم الزاهرة: لابن تغري بردي 3/ 182، 202. شذرات الذهب:
لابن العماد الحنبلي 2/ 253وفيات سنة 309. روضات الجنان: للخوانساري 226.
الوافي: للصفدي 13/ 70ترجمة رقم 62. تاريخ الخميس: للديار بكري 2/ 347. مشكاة الأنوار: للغزالي 57. قاموس الرجال: للتستري 3/ 330. طبقات الشعراني 1/ 86.
التنبيه والإشراف: للمسعودي 387. تذكرة السامع: للكناني 219. مفتاح السعادة:
لطاش كبرى زاده 1/ 341. طبقات المفسرين: للداودي 1/ 159. رسالة الغفران 444.
تكملة إكمال الإكمال: لابن الصابوني 309ذكر في ترجمة أبي الحسن علي بن أحمد بن علي. تنقيح المقال: للمامقاني 1/ 346. منهج المقال: لميرزا أحمد 117. الرسالة القشيرية: للقشيري 11. كحالة 4/ 63. دائرة المعارف. للبستاني 7/ 152.
(2) تاريخ بغداد 8/ 112، وسير أعلام النبلاء 14/ 314.(1/5)
وقد ألّفت حوله وعنه كتب كثيرة مؤيدة له أو مهاجمة منها: «محيي الدين ابن عربي» لطه عبد الباقي سرور.
«محيي الدين ابن عربي» حياته، مذهبه، زهده، لفاروق عبد المعطي.
وفاته:
ظل ابن عربي يحرر ويؤلف دون كلل أو ملل حتى أواخر أيامه حيث بلغ الثمانين، فجاءته المنية في دمشق في منزل ابن الذكي وكان يحيط به أهله وأتباعه من الصوفية، ليلة الجمعة 28 ربيع الآخر سنة 638هـ / 1240م وقام ابن الذكي بتغسيله وحمله مع اثنين من مريديه هما ابن عبد الخالق وابن النحاس إلى خارج دمشق ودفنوه في الصالحية شمالي المدينة بسفح جبل قاسيون بتربة خاصة بأسرة ابن الذكي، ولا يزال قبره مزارا للناس.
أولاده:
خلف ولدين أحدهما سعد الدين محمد وقد ولد في ملطية سنة 618هـ وكان شاعرا صوفيا وله ديوان، توفي في دمشق سنة 656هـ ودفن بجوار والده. وثانيهما عماد الدين أبو عبد الله محمد وتوفي بمدرسة الصالحية ودفن بجوار والده وأخيه. وكانت لابن عربي بنت اسمها زينب لا نعرف عنها شيئا.(1/6)
ولد سنة 244هـ 858م بالبيضاء (1) في موضع يقال له الطور (2)، ويقال (3): إن للحلاج اسمين، أحدهما الحسين بن منصور والآخر محمد بن أحمد الفارسي.
أما كنيته فلم تكن واحدة.
فقد ذكر ابنه حمد أن والده (قصد إلى الهند، ثم خراسان ثانيا، ودخل ما وراء النهر، وتركستان، وإلى ماصين، ودعا الخلق إلى الله تعالى، وصنف لهم كتبا لم تقع إليّ. إلّا أنه لما رجع كانوا يكاتبونه من الهند بالمغيث، ومن بلاد ماصين وتركستان بالمقيت، ومن خراسان بالمميز، ومن فارس بأبي عبد الله الزاهد، وكان ببغداد قوم يسمونه المصطلم، وبالبصرة قوم يسمونه المحير) (4).
سبب تسميته الحلاج
لم تتفق المصادر التي ترجمت له على سبب تسمية الحسين بن منصور بالحلاج، وسأسوق هنا الأقوال المتعددة في سبب التسمية:
1 - كان يتكلم على أسرار الناس وما في قلوبهم ويخبر عنها، فسمي بذلك «حلاج الأسرار» فصار الحلاج لقبه (5).
2 - قيل إنما سمي الحلاج لأنه دخل واسطا فتقدم إلى حلاج وبعثه في شغل له، فقال له الحلاج: أنا مشغول بصنعتي. فقال: اذهب أنت في شغلي حتى أعينك في شغلك. فذهب الرجل، فلما رجع وجد كل القطن في حانوته محلوجا فسمي بذلك الحلاج (6).
__________
(1) البيضاء: مدينة مشهورة بفارس، وقيل هي أكبر مدينة في كورة اصطخر. انظر معجم البلدان 1/ 529.
(2) الطور في كلام العرب: الجبل.
(3) تاريخ بغداد 8/ 134.
(4) تاريخ بغداد 8/ 113، وسير أعلام النبلاء 14/ 315، وشذرات الذهب 2/ 254.
(5) تاريخ بغداد 8/ 113، وسير أعلام النبلاء 14/ 315.
(6) تاريخ بغداد 8/ 114، وسير أعلام النبلاء 14/ 316، وأخبار الحلاج ص 89، وخرج محققا أخبار الحلاج الخبر أيضا في تاريخ الصوفية للسلمي، وكتاب عيون التواريخ لابن شاكر الكتبي، والتكملة لمحمد الهمداني، والأنساب للسمعاني، ووفيات الأعيان لابن خلكان، والكواكب الدرية للمناوي.(1/6)
3 - وقيل إنه كان يتكلم في ابتداء أمره من قبل أن ينسب إلى ما نسب إليه، على الأسرار، ويكشف عن أسرار المريدين ويخبر عنها، فسمي بذلك حلاج الأسرار، فغلب عليه اسم الحلاج (1).
4 - وقيل إن أباه كان حلاجا، فنسب إليه (1).
رحلات الحلاج
انتقل الحلاج مع أسرته من الطور إلى واسط (2) في العراق، حيث تلقى بعض العلم في الكتاتيب وكان لا يزال حدثا. ثم انتقل إلى تستر (3) حيث صحب فيها سهل بن عبد الله التستري (4) لمدة سنتين. ثم اتجه إلى البصرة وكان عمره ثماني عشرة سنة (5)، وفيها صحب عمرو بن عثمان المكي (6) وأقام معه ثمانية عشر شهرا، وعن هذه الإقامة مع عمرو بن عثمان المكي يقول أبو نصر السراج:
(صحب الحلاج عمرو بن عثمان وسرق منه كتبا فيها شيء من علم التصوف، فدعا عليه عمرو: اللهم اقطع يديه ورجليه) (7).
__________
(1) تاريخ بغداد 8/ 114.
(2) واسط: اسم لعدة أمكنة، أهمها مدينة واسط التي بناها الحجاج بن يوسف الثقفي، بدأ بنائها سنة 84هـ وانتهى منه سنة 86هـ. وسميت واسط بهذا الاسم لتوسطها بين الكوفة والبصرة. انظر معجم البلدان 5/ 347.
(3) تستر: قال ياقوت: أعظم مدينة بخوزستان اليوم، وهو تعريب «شوشتر» أي النزه والحسن والطيب واللطيف. انظر معجم البلدان 2/ 29، والروض المعطار ص 140، وخوزستان هي اليوم عربستان.
(4) سهل بن عبد الله التستري: أحد أئمة القوم وعلمائهم، والمتكلمين في علوم الرياضيات والإخلاص وعيوب الأفعال. توفي سنة ثلاث وثمانين وقيل ثلاث وتسعين ومائتين. انظر طبقات الصوفية للسلمي ص 206، وحلية الأولياء 10/ 189، وطبقات الأولياء ص 232.
(5) سير أعلام النبلاء 14/ 314، وتاريخ بغداد 8/ 112.
(6) عمرو بن عثمان المكي: توفي سنة 291هـ، كان ينتسب إلى الجنيد في الصحبة، وهو عالم بعلوم الأصول، وله كلام حسن. انظر طبقات الصوفية للسلمي ص 200، وحلية الأولياء 10/ 291.
(7) سير أعلام النبلاء 14/ 316.(1/7)
بسم الله الرحمن الرحيم
قال في باب البحر المسجور:
لما بدا السرّ في فؤادي ... فنى وجودي وغاب نجمي (1)
وحال قلبي بسرّ ربي ... وغبت عن رسم حسّ جسمي
وجئت منه به إليه ... في مركب من سنيّ عزمي
نشرت فيه قلاع فكري ... في لجة من خفيّ علمي
هبّت عليه رياح شوقي ... فمرّ في البحر مرّ سهم
فجزت بحر الدنوّ حتى ... أبصرت جهرا من لا اسمي
وقلت يا من رآه قلبي ... أضرب في حبكم بسهم
فأنت أنسي ومهرجاني ... وغايتي في الهوى وغنمي
وقال أيضا في باب روح سماء الدنيا:
يا قمر الأسرار يا ملبسي ... غلالة من أخضر السندس (2)
أصبحت معشوقا ترى يابسا ... لولا لهيب النار لم تيبس
جلست فيه زمنا عاجلا ... لذاك تدعى صاحب المجلس
رأست فيه بعلوم بدت ... فيك ولولا ذاك لم ترأس
فأنت تسري في ثمان وفي ... عشرين حماسا على الكنس (3)
على جواد سابح صيغ من ... نحاس قاصى صنعة المفلس
__________
(1) السر. لطيفة مودعة في القلب كالروح لبدن، ونور روحاني هو آلة النفس، وهو محل المشاهدة. الفناء:
الغيبة عن الأشياء، وسقوط الأوصاف المذمومة وقال بعضهم: هو تبديل الصفات البشرية بالصفات الإلهية دون الذات.
(2) الغلالة: ما يلبس تحت الثوب. السّندس: الديباج الرقيق.
(3) الكنس: أراد النجوم الخمسة السيّارة.(1/7)
وقال أيضا في باب روح الكاتب العيسوي:
يا أيها الكاتب اللبيب ... أمرك عند الورى عجيب (1)
قرّبك السيّد العليّ ... فيممت نحوك القلوب
لما تغيبت عن جفوني ... تاهت على الظاهر الغيوب
لولاك يا كاتب المعاني ... ما كان لي في العلى نصيب
فاكتب طير الأمان حتى ... يأمنك الخائف المريب
وقال أيضا في الروح الإدريسي:
هنيئا لأهل الشرق من حضرة القدس ... بشمس جلت أنوارها ظلمة الرّمس (2)
وجلّت عن التشبيه فهي فريدة ... فليست بفصل في الحدود ولا جنس
ويدرك منها في الكمال وجودنا ... كما يدرك الخفّاش من باهر الشمس (3)
فلله من نور أتته رسالة ... تصان عن التخمين والظنّ والحدس (4)
أتانا بها والقلب ظمآن تائه ... إلى المنظر الأعلى إلى حضرة القدس
فجاء ولم يحفل بيوت كثيرة ... فخاطبها من حضرة النعل والكرسي (5)
أنا البعل والعرس الكريم رسالتي ... فبورك من بعل وبورك من عرس
غرست لكم غصن الأمانة يانعا ... وإني لجان بعده ثمر الغرس
تولعت بالتبليغ لما تبينت ... أمور ترقيني عن الانس والإنس
ورحت وقد أبدت بروقي وميضها ... وجزت بحار الغيب في مركب الحس
ونمت وما نامت جفوني غدية ... وتهت بلا تيه عن الجن والإنس
فيا نفس بذا الحق لاح وجوده ... فإيّاك والإنكار يا نفس يا نفسي
فعني فتش في تلقان في أنا ... أنا في أنا إني أنا في أنا نفسي
وقال أيضا في باب الروح الأحمر الهاروني:
هذا الخليفة هذا السيد العلم ... هذا المقام هذا الركن والحرم
ساد الأنام ولم تظهر سيادته ... لما بدا العجل للأبصار والصنم
ما زال يروع قوما همّهم أبدا ... في نيل ما ناله موسى وما علموا
إن العيان حرام كلما نظرت ... عين البصيرة شيئا أصله عدم
__________
(1) الورى: الخلق.
(2) الرّمس: القبر.
(3) الخفاش: طير الليل وهو الوطواط.
(4) الحدس: الظن والتوهم.
(5) الكرسي: تجلّي جملة الصفات الفعلية، هو مظهر الاقتدار الإلهي.(1/8)
وروي عن عمرو بن عثمان أنه لعن الحلاج وقال: لو قدرت عليه لقتلته، فقيل له: إيش الذي وجد الشيخ عليه؟ قال: قرأت آية من كتاب الله فقال: يمكنني أن أؤلف مثله وأتكلم به (1).
ثم تزوج الحلاج بأم الحسين بنت أبي يعقوب الأقطع منافس عمرو بن عثمان على زعامة المتصوفة في مدينة البصرة. ونجم عن هذا الزواج وحشة عظيمة بين عمرو المكي وبين أبي يعقوب الأقطع، مما جعل الحلاج يتوجه إلى بغداد للقاء المتصوف الكبير الجنيد بن محمد البغدادي (2)، وعرض عليه ما فيه من الأذية لأجل ما يجري بين الشيخين المتصوفين عمرو المكي والأقطع، فأمره الجنيد بالسكون والمراعاة، فصبر على ذلك مدة، ثم خرج إلى مكة (وكان أول دخلته، فجلس في صحن المسجد سنة لا يبرح عن موضعه إلّا للطهارة أو للطواف ولا يبالي بالشمس ولا بالمطر، وكان يحمل إليه كل عشية كوز ماء للشرب، وقرص من أقراص مكة، فيأخذ القرص ويعض أربع عضات من جوانبه، ويشرب شربتين من الماء شربة قبل الطعام، وشربة بعده، ثم يضع باقي القرص على رأس الكوز فيحمل من عنده) (3).
بعد رحلته إلى مكة التي دامت سنة رجع الحلاج إلى بغداد مع جماعة من الفقراء الصوفية، فقصد الجنيد بن محمد وسأله عن مسألة فلم يجبه (4)، ونسبه الجنيد إلى أنه مدّع فيما يسأله، فاستوحش الحلاج وأخذ زوجته ورجع إلى تستر، وأقام نحوا من سنة، ووقع له عند الناس قبول عظيم حتى حسده جميع من في وقته ولم يزل عمرو بن عثمان المكي يكتب الكتب في بابه إلى خوزستان، ويتكلم فيه بالعظائم (5).
__________
(1) تاريخ بغداد 8/ 121، وشذرات الذهب 2/ 254، وفي أخباره رقم 18أن عمرو بن عثمان أشاع عنه أنه قال: يمكنني أن أتكلم بمثل هذا القرآن.
(2) الجنيد بن محمد توفي سنة 297هـ: أبو القاسم الخزاز، أصله من نهاوند، ومولده ومنشؤه بالعراق، وكان فقيها، وكان يفتي في حلقته، وهو من أئمة القوم وسادتهم. انظر طبقات الصوفية للسلمي ص 155، وحلية الأولياء 10/ 255، وتاريخ بغداد 7/ 214.
(3) تاريخ بغداد 8/ 118، وسير أعلام النبلاء 14/ 328، وأخباره رقم 21.
(4) لعل هذه المسألة هي ما ورد في أخباره رقم 18حيث سأل الحلاج: ما الذي يصد الخلق عن رسوم الطبيعة؟ فقال الجنيد: أرى في كلامك فضولا، أي خشبة تفسدها.
(5) قيل إن عمرو بن عثمان أشاع عن الحلاج أنه قال: يمكنني أن أتكلم بمثل القرآن. انظر أخباره رقم 18.(1/8)
وقال أيضا في روح القاضي الموسوي:
السرّ ما بين إقرار وإنكار ... في المشتريّ وهمّ المدلج الساري (1)
لم لا يقول وقد أودعت سرّهما ... أنا المعلم للأرواح أسراري
أنا المكلّم من نار حجبت بها ... نورا فخاطبت ذات النور في النار
أنا الذي أوجد الأكوان مظلمة ... ولو أشاء لكانت ذات أنوار
أنا الذي أوجد الأسرار في شج ... مجموعة لم ينلها بؤس أغيار
يا ضاربا بعصاه صلد رابية ... شمس وبدر وأرض ذات أحجار
فاعجب إلى شجر قاص على حجر ... وانظر إلى ضارب من خلف أستار
لقد ظهرت فما تخفى على أحد ... إلا على أحد لا يعرف الباري (2)
قطعت شرقا وغربا كي أنالهم ... على نجائب في ليل وأسحار
فلم أجدكم ولم أسمع لكم خبرا ... وكيف تسمع أذن خلف أسوار
أم كيف أدرك من لا شيء يدركه ... لقد جهلتك إذ جاوزت مقداري
حجبت نفسك في إيجاد آنية ... فأنت كالسرّ في روح ابنة القاري
أنت الوحيد الذي ضاق الزمان به ... أنت المنزه عن كون وأقطار
وقال أيضا:
بذكر الله تزداد الذنوب ... وتحتجب البصائر والقلوب
وترك الذكر أفضل منه حالا ... فإنّ الشمس ليس لها غروب
وقال أيضا في قوله: {سُبْحََانَ الَّذِي أَسْرى ََ بِعَبْدِهِ}:
أنضى الركاب إلى ربّ السموات ... وانبذ عن القلب أطوار الكرامات (3)
واعكف بشاطىء وادي القدس مرتقيا ... واخلع نعالك تحظى بالمناجات
وغب عن الكون بالأسماء يا سندي ... حتى تغيب عن الأسماء بالذات
ولذ بجانب فرد لا شبيه له ... ولا تعرّج على أهل البطالات
بل صم وصلّ وفكّر وافتقر أبدا ... تنل معالم من علم الخفيّات
فقد قضى الله بالميراث سيّدنا ... لكلّ عبد صدوق ذي تقيات
__________
(1) المدلج: الذي يسير في أول الليل. الساري: الذي يسير عامة الليل.
(2) الباري: الخالق.
(3) أنضى الرّكاب أي سيّرها بجد. والنّضو: المهزول من الإبل. والركاب: الإبل.(1/9)
فما كان من الحلاج إلّا أن حرد ورمى بثياب الصوفية، ولبس قباء، وأخذ في صحبة أبناء الدنيا (1). ولم يفعل الحلاج ذلك إلّا مبالغة منه في الارتماء بكليته بين يدي الله. إنه لا يفهم الصوفية زيّا، ولا يفهمه انعزالا، وإنما يفهمه سعيا إلى المعرفة وجهادا ضد النفس وحربا على الظلم والاستبداد ودعوة إلى العدل وإحقاق الحق (2).
وروى حمد ابن الحلاج أن أباه بعد ما رمى بثياب الصوفية (غاب خمس سنين، بلغ إلى خراسان، وما وراء النهر، ودخل إلى سجستان، وكرمان، ثم رجع إلى فارس، فأخذ يتكلم على الناس، ويتخذ المجالس، ويدعو الخلق إلى الله، وكان يعرف بفارس بأبي عبد الله الزاهد، وصنف لهم تصانيف، ثم صعد من فارس إلى الأهواز، وتكلم على الناس، وقبله الخاص والعام، وكان يتكلم على أسرار الناس وما في قلوبهم، ويخبر عنها فسمي بذلك حلاج الأسرار، فصار الحلاج لقبه، ثم خرج إلى البصرة وأقام مدة يسيرة، وخرج ثانيا إلى مكة، ولبس المرقعة والفوطة، وخرج معه في تلك السفرة خلق كثير (3)، فحسده أبو يعقوب النهر جوري (4)، فتكلم فيه بما تكلم) (1).
ويرى سامي مكارم (5) أن خروج الحلاج إلى مكة برفقة أربعمائة من أتباعه يعد تظاهرة من المؤمنين به الناقمين على الفساد، وأن الحلاج استطاع أن يدخل في قلوب مريديه مفهوما اجتماعيا يعنى بإصلاح المجتمع عنايته بإصلاح الفرد، وهذا ما جعل السلطة الحاكمة تنظر نظرة خوف على مصالحها من الحلاج وأتباعه.
__________
(1) تاريخ بغداد 8/ 113.
(2) الحلاج فيما وراء المعنى ص 27.
(3) قيل كان معه أربعمائة رجل. انظر تاريخ بغداد 8/ 125.
(4) ورد في أخبار الحلاج رقم 18أن أبا يعقوب النهر جوري كان ينكر على الحلاج ما يراه منه، إلّا أنه رجع عن إنكاره في آخر عمره. ولعل ما كان ينكره النهر جوري هو اعتقاده أن الحلاج كان مخدوما. انظر تاريخ بغداد 8/ 125، 126، وسير أعلام النبلاء 14/ 320، وأخباره رقم 19.
(5) انظر كتابه «الحلاج» ص 29، 30.(1/9)
وقال أيضا وهي أوّل قصيدة ظهرت من قلبي على لساني:
بدني أضحى إلى الأمم ... نائبا عن كعبة الحرم
كعبة للسرّ يسعى لها ... كلّ من يمشي على قدم
من أراد الحج يقصده ... من جميع العرب والعجم
أنا سرّ الخلق كلهّم ... أنا اللاقسمة الكلم
إنني شفع ووتر إذا ... لم يكن بالرّبع من إرم (1)
أنا كن لكنني شبح ... قابل للجهل والحكم
فيكون الجهل في صبب ... ويكون العلم في علم (2)
إننا لوحان قد رقما ... غير أنّ الوتر في القلم
أنا وصف الوصف فاتصفوا ... أنا ذات الذات فالتزم (3)
أنا سرّ السرّ قد عدلت ... همتي عن موقف الهمم (4)
أنا نور النور قد برزت ... بوجودي ذرة الظلم (5)
أنا عزّ العز ما ملكت ... نفسي ذات الذلّ والعدم
من رآني قد رأى ما خفي ... في مثال النور والقدم
بلغ الغايات قلب فتى ... ليمين الله ملتزم
قد أبحنا لثمها فمه ... علية في سابق القدم
سعد نفسي أنها سعدت ... بسلوك الواضح الأمم
لم ينله غيرها عشقا ... مثلها في سالف الأمم
يا رجالا غيرنا طلبوا ... أين جود البحر من كرمي
ارجعوا واستلموا كفّ من ... إن يهب لم يخش من عدم
كلّ طرف في العلى سابح ... نحونا وجدا بنا يرتمي (6)
كلّ سرّ خافض رافع ... لوجودي رغبة ينتمي
مثل حل الشمس في حمل ... أمنوا تحلّة القسم
لم يزل ولا يزال غدا ... في نعيم غير منصرم
وشموس الوصل طالعة ... وخسوف البحر في العدم
__________
(1) الشفع: الزوج. الوتر: الفرد. الرّبع: الدار أينما كانت. الإرم: العلم.
(2) الصّبب: ما انحدر من الأرض.
(3) الذات: الأمر الذي تستند إليه الأسماء والصفات في عينها لا في وجودها.
(4) سر السر: ما انفرد به الحق عن العبد.
(5) النور: أو نور النور: الحق.
(6) الطرف: الكريم من الخيل ومن الناس.(1/10)
(بعد انتهاء رحلته إلى مكة رجع إلى البصرة وأقام شهرا واحدا، وجاء إلى الأهواز، وحمل جماعة من كبار الأهواز إلى بغداد، وأقام ببغداد سنة واحدة، ثم قال لبعض أصحابه: احفظوا ولدي حمد إلى أن أعود أنا، فإني قد وقع لي أن أدخل إلى بلاد الشرك وأدعو الخلق إلى الله عز وجل وخرج) (1).
ويتابع ابنه رواية الخبر فيقول: (فسمعت بخبره أنه قصد إلى الهند، ثم قصد خراسان ثانيا، ودخل ما وراء النهر، وتركستان، وإلى ماصين، ودعا الخلق إلى الله تعالى، وصنف لهم كتبا لم تقع إليّ) (2).
وعن هذه الرحلة التي بدأت إلى الهند يحدثنا محمد بن عبد الله الصوفي الشيرازي ويقول (3): (سمعت أبا الحسين بن أبي توبة يقول: سمعت علي بن أحمد الحاسب يقول: سمعت والدي يقول: وجهني المعتضد إلى الهند لأمور أتعرفها ليقف عليها، وكان معي بالسفينة رجل يعرف بالحلاج بن منصور، وكان حسن العشرة طيب الصحبة. فلما خرجنا من المركب ونحن على الساحل والحمالون ينقلون الثياب من المركب إلى الشط فقلت له: إيش جئت إلى هاهنا؟ قال: جئت لأ تعلم السحر، وأدعو الخلق إلى الله تعالى، قال: وكان على الشط كوخ وفيه شيخ كبير، فسأله الحسين بن منصور: هل عندكم من يعرف شيئا من السحر؟ قال:
فأخرج الشيخ كبّة غزل وناول طرفها الحسين بن منصور، ثم رمى الكبّة في الهواء فصارت طاقة واحدة، ثم صعد عليها ونزل! وقال للحسين بن منصور:
مثل هذا تريد؟ ثم فارقني ولم أره بعد ذلك إلّا ببغداد).
ولعل قول الحلاج في هذه الرحلة إنه ذهب إلى الهند ليتعلم السحر هو من قبيل إخفاء مقصده المعرفي الحقيقي.
ويرى سامي مكارم (4) أن الحلاج في رحلته كان يرمي إلى تحقيق روح الإسلام الحق بالانفتاح على العالم أجمع، علّه يستطيع بالتفاعل المعرفي أن ينطلق بتوباته وتطلعاته إلى تحقيق ما يصبو إليه من عرفان. وقد تعلم في هذه الرحلة كثيرا من العلوم، واكتسب كثيرا من المعرفة، وازداد تعمقا في الحقائق، وذلك من خلال تعرفه بمسالك الحكمة في الهند والصين.
__________
(1) تاريخ بغداد 8/ 113، وسير أعلام النبلاء 14/ 315.
(2) تاريخ بغداد 8/ 113، 114، وسير أعلام النبلاء 14/ 315، وشذرات الذهب 2/ 254.
(3) سير أعلام النبلاء 14/ 318، 319، وتاريخ بغداد 8/ 120.
(4) انظر كتابه «الحلاج» ص 63.(1/10)
وأنشأ الحلاج في رحلته صلات وثيقة بأهالي المناطق التي زارها، يتضح ذلك من تتمة الخبر الذي رواه ابنه حمد الذي قال عن أبيه الحلاج: (لما رجع كانوا يكاتبونه من الهند بالمغيث ومن بلاد ماصين وتركستان بالمقيت ومن خراسان بالمميز ومن فارس بأبي عبد الله الزاهد ومن خوزستان بالشيخ حلاج الأسرار وكان ببغداد قوم يسمونه المصطلم وبالبصرة قوم يسمونه المحير ثم كثرت الأقاويل عليه بعد رجوعه من هذه السفرة) (1). وإن دلت هذه الألقاب على شيء فإنما تدل على المكانة العالية التي كان يتمتع بها هذا العارف عند هذه الأقوام.
ويرى سامي مكارم (2) أنه كان لهذه الرحلة المشرقية أثر عميق في الحلاج ففي هذه الحقبة من حياته، بدءا من رحلته هذه حتى إعدامه، وتوصل هذا الصوفي العارف إلى التحقق بالوحدة الإلهية التي لا تتأتى للمرء أن يحقق ذاته بها إلّا من خلال هذا الشوق الإلهي وهذا الوجد وهذا الحب. فيتخلى عن إنائيته مصدر الظلمة والعدم والجهل والعذاب، فالحب العارم الشامل لكل حب آخر، والماحق لكل تعبير عن وهم الجزئية ولكل شيء في الوجود الحسي الموهوم هو الحياة كل الحياة.
وبعد عودة الحلاج من هذه الرحلة المشرقية قام وحجّ ثالثا وجاور سنتين، وذلك حوالي سنة 290هـ / 903م، وكان عمره حينذاك نحو ست وأربعين سنة. ثم رجع وتغير عما كان عليه. واقتنى العقار ببغداد، وبنى دارا، وأقام في بيته كعبة مصغرة، حتى خرج عليه قاضي بغداد محمد بن داود الظاهري (3)، الذي عدّ ما اعتقده الحلاج من علاقة إلهية بمثابة تنزيل من الله، كما أن الحب بنظر ابن داود مقصور على العلاقة الزوجية التي ليس لها غاية سوى الإبقاء على الجنس البشري، وإطلاق العنان لمفهوم الحب يؤدي كما يرى ابن داود إلى الضلال.
وهذا ما أثار نقمة ابن داود وحدا به إلى رفع أمر الحلاج إلى القضاء لمحاكمته بتهمة الكفر. غير أن القاضي الشافعي ابن سريج الذي كان مطّلعا على آراء الصوفية ومتفهما لمعانيها أبى إدانة الحلاج. وكان إذا سئل عنه يقول: هذا رجل خفي عني حاله وما أقول فيه شيئا، وهذا الموقف الذي وقفه ابن سريج منع محاكمة الحلاج بتهمة الكفر (4).
__________
(1) تاريخ بغداد 8/ 113، 114، وسير أعلام النبلاء 14/ 315، وشذرات الذهب 2/ 254.
(2) انظر كتابه «الحلاج» ص 34.
(3) تاريخ بغداد 8/ 114.
(4) انظر كتابه «الحلاج» ص 38، 40.(1/11)
انظروا قولي لكم فلقد ... طرف كلّ الناس عنه عمي
تجدوه واضحا حسنا ... منبئا عن رتبة الكرم
يا إله الخلق يا إلهي ... وسميري في دجى الظلم (1)
جد على صبّ حليف ضني ... يا كثير الفضل والنعم (2)
وقال أيضا في أرواح الورثة الصادقين المحمديّين:
لله درّ عصابة سارت بهم ... نجب الفناء لحضرة الرحمان (3)
قطعوا زمانهم وبذكر إلههم ... وتحققوا بسرائر القرآن
ورثوا النبي الهاشميّ المصطفى ... من أشرف الأعراب من عدنان
ركبوا براق الحبّ في حرم المنى ... وسروا لقدس النور والبرهان (4)
وقفوا على ظهر الصّفا فأتاهم ... لبن الهدى من منزل الفرقان
قرعوا سماء جسومهم فتفتّحت ... أبوابها فبدت لهم عينان
عين تبسّم ثغرها لما رأت ... أبناءها في جنة الرضوان
وشمالها عين تحدّر دمعها ... لما رأتهم في لظى النيران
قرعوا سماء الروح لما آنسوا ... جسما ترابيا بلا أركان
فبدا لهم لاهوت عيسى المجتبى ... روحا بلا جسم ولا جثمان (5)
كمل الجمال بيوسف فتطلعوا ... لمقام إدريس العليّ الشان
ورثوا الخلافة إذ رأوا هارون قد ... أربت منازله على كيوان (6)
نالوا الخلافة عندما نالوا منى ... موسى كليم الراحم الرحمان
سجد الملائكة الكرام إليهم ... دون اعتقاد وجود رب ثاني
طمحت بهم هماتهم فتحللوا ... في حضرة الزّلفى قرى الضيفان (7)
كملت صفاتهم العلية وارتقوا ... عن سدرة الإيمان والإحسان
للذات كان مصيرهم فحباهم ... بشهوده عينا بلا أكوان
وصلوا إليه وعاينوا ما أضمروا ... من غيب سرّ السرّ كالإعلان
سبحانه وتقدّست أسماؤه ... وعن الزيادة جلّ والنقصان
__________
(1) السمير: المسامر. الدجى: الظلام وهو جمع دجية.
(2) الصب: المشتاق.
(3) العصابة: الجماعة. الفناء: الغيبة عن الأشياء.
(4) البراق: دابة فوق الحمار ودون البغل.
(5) اللاهوت: عند النصارى: العلوم الإلهية.
(6) أربى: زاد. كيوان: زحل.
(7) الزّلفة: القربة والدرجة. الضيفان: الضيوف.(1/11)
وقال أيضا في حالة موسوية:
هب النسيم مع الإمساء والغلس ... بعرف روض النّهى من حضرة القدس (1)
فشمّ بريقا بأفق البين لاح لنا ... يدلّ أنّ عيون الماء في البلس (2)
ألم تروا لكليم الله كيف بدا ... له الخطاب من الأشجار في القبس (3)
وقال أيضا في باب الفخر بالله:
نحن سرّ الأزليّ ... بالوجود الأبديّ
إذ ورثنا خلق المظا ... هرفينا الهاشميّ
واعتلينا واستوينا ... بالمقام القدسيّ
ووهبنا ما وهبنا ... سرّ بدر الحبشيّ
وبعثناه رسولا ... للرئيس الندسيّ (4)
بكتاب رقمته ... كفّ ذات الحكميّ (5)
بعلوم وسمتها ... موقع النجم العليّ (6)
ومطالع هلا ... لين بأفق قطبيّ
حرّض الناس على ني ... ل الوجود العمليّ
ونهايات التلقي ... بالمقام الخلقيّ
ومشت أسماء ذاتي ... في وضيع وعليّ
فالذي آمن منهم ... لم يزل حيّا بحيّ
والذي أعرض منهم ... لم يفز منا بشيّ
وقال أيضا في أحوال منها خلع النعلين ولباسهما:
يا بدر بادر إلى المنادي ... كفيت فاشكر ضرّ الأعادي
قد جاءك النور فاقتبسه ... ولا تعرّج على السواد
فمن أتاه النّضار يوما ... يزهد في الخط بالمداد (7)
فقم بوصف الإله وانظر ... إليه فردا على انفراد
وحصن السّمع إذ تنادي ... وخلص القول إذ تنادي
والبس لمولاك ثوب فقر ... كي تحظى بالواهب الجواد
__________
(1) الغلس: ظلمة آخر الليل. النهى: العقل.
(2) البلس: جبل أحمر ببلاد محارب.
(3) القبس: شعلة نار تقتبس من معظم النار.
(4) الرجل النّدس: الرجل السريع الفهم.
(5) رقم: كتب.
(6) وسم: علّم.
(7) النضار: الذهب أو الفضة.(1/12)
وتابع الحلاج دعوته إلى الحب الإلهي، وكان يرى ظلم الحكام وجورهم وتكالبهم على الدنيا وملذاتها، فازداد بغضه للدنيا ومحبيها، ودفعه تصرف الحكام إلى التمرد على الظلم ومقاومة الفساد، وكثر أتباعه ومريدوه، مما جعل الحكام يرون فيه خطرا على مراكزهم، وتزامنت دعوة الحلاج إلى التمرد والمقاومة مع انتشار نشاط حركتي الزنج والقرامطة اللتين كانتا متضامنتين في مناهضة حكم بني العباس ومن الراجح أن الحلاج قد اتصل بالقرامطة. فقد روي أنه في سنة 301هـ أدخل الحلاج بغداد مشهورا على جمل، فصلب حيا ونودي عليه: هذا أحد دعاة القرامطة فاعرفوه (1).
وإذا لم يكن الحلاج قرمطيا، وإنما اتهمه العباسيون بأنه أحد القرامطة، فإن ذلك يدل على أن العباسيين كانوا يعدون الحلاج خطرا عليهم لأن سلوكه ومنهجه الفكري وروحه الثورية ومناداته بالإصلاح على الصعيدين السياسي والاجتماعي كل ذلك كان يتفق مع أهداف الحركة القرمطية. أضف إلى ذلك أن فكر الحلاج كان يحاكي توجهات العقيدة الفاطمية الإسماعيلية، بل إن الحلاج نفسه كان منتميا إلى هذه العقيدة التي كانت على صلة وثيقة مع القرامطة حينذاك، ويتضح ذلك من خلال رسالته التي أرسلها إلى أحد مريديه، والتي جاء فيها: (قد آن الآن أو انك للدولة الغراء الفاطمية الزهراء المحفوفة بأهل الأرض والسماء) (2).
وسمح للحلاج خلال إقامته في السجن بالاتصال بالسجناء والقيام بو عظهم وذلك بسبب مساندة عدد من رجال الدولة مثل أم الخليفة المقتدر وحاجب الخليفة نصر القشوري الذي استأذن الخليفة ببناء بيت للحلاج قرب السجن، والسماح للناس بزيارة الحلاج (3).
وحول الحلاج السجن إلى مدرسة نشر من خلالها تعاليمه في الحب الإلهي، فكثر أنصاره ومريدوه، والتمسوا له عند الخليفة إطلاق سراحه، ومع أن الحلاج بما أوتي من كرامات كان يستطيع التخلص من السجن، إلّا أنه آثر البقاء في السجن ليواصل نشر تعاليمه وتحت أنظار رجال السلطة الحاكمة.
__________
(1) سير أعلام النبلاء 14/ 327.
(2) نشوار المحاضرة 1/ 169.
(3) أخبار الحلاج رقم 60.(1/12)
وقل إذا جئته فقيرا ... يا سيّدا ودّه اعتمادي
اسق شراب الوصال صبا ... ما زال يشكو صدى البعاد
تاه زمانا بغير قوت ... إذ لم يشاهد سوى العباد
فكن له القوت ما استمرت ... أيّامه الغرّ باقتصاد (1)
حتى يموت العذول صبرا ... وتنطفي جمرة البعاد
ويعجب الناس من شخيص ... يكون بعد الضلال هادي
من كان ميتا فصار حيا ... فقد تعالى عن النفاد
ما خلع النعل غير موسى ... بشرطها عند بطن واد
من خلعت نعله تناهت ... رتبة أقواله السّداد
فإن تكن هاشميّ ورث ... فاسلك بها منهج السّداد
والبس نعاليك إن من لم ... يلبس نعاليه في وهاد
فهل يساوي المحيط حالا ... من لم ير العين في الرماد
فميز الحال إذ تراه ... في مركب القدس في الغوادي (2)
ورتب العلم إذ يناجي ... سرك بالسرّ في الهوادي (3)
وارقبه في وهم كل سرّ ... في ساتر إن أتى وبادي
ولا تشتّت ولا تفرّق ... عبديه من حاضر وبادي
فإن وهبت الرجوع فرّق ... بين الحواضر والبوادي
واحذر بأن تركب المهارى ... إذ تقرن العير بالجواد (4)
لا يحجبنك الشخوص واصبر ... على مهماته الشداد
وانظر إلى واهب المعاني ... وقارن العين بالفؤاد
وأسند الأمر في التلقي ... له تكن صاحب استناد
ولا يغرّنك قول عبدي ... فالحقّ في الجمع لا ينادي
وإنّ هذا المقام أخفى ... من عدم المثل للجواد
فكنه علما وكنه حالا ... مع رائح إن أتى وغادي
وكنه نعتا ولا تكنه ... ذاتا فعين المحال بادي
ولا تكن ذا هوى وحب ... فيه فقلب المحب صادي (5)
من بات ذا لوعة محبا ... شكا له حرقة الجواد
وانظر بعين الفراق أيضا ... فيه ترى حكمة العناد
__________
(1) القوت: المسكة من الرزق. الأيام الغر: الأيام البيضاء.
(2) الغوادي: جمع الغدوة: البكرة.
(3) الهوادي من الليل: أوائله.
(4) المهارى: جمع المهرة: الأنثى من أولاد الفرس.
(5) الصادي: العطشان.(1/13)
ومما يدل على أن الحلاج كان يستطيع تحرير نفسه من قيود السجن ما رواه أحمد بن فاتك الذي قال: (لما حبس الحلاج ببغداد كنت معه. فأول ليلة جاء السجان وقت العتمة فقيده ووضع في عنقه سلسلة وأدخله بيتا ضيقا. فقال له الحسين: لم فعلت بي هذا؟ قال: كذا أمرت. فقال الحلاج: الآن أمنت مني؟
قال: نعم. فتحرك الحلاج فتناثر الحديد عنه كالعجين وأشار بيده إلى الحائط فانفتح فيه باب، فرأى السجان فضاء واسعا فعجب من ذلك. ثم مد الشيخ يده وقال:
الآن افعل ما أمرت به. فأعاده كما فعل أول مرة) (1).
واشتد تأثير الحلاج في الناس، مما جعل الوزير حامد بن العباس يزداد خوفا من افتضاح أمره على يد الحلاج، إذ كان جشعا يسعى إلى جمع ما استطاع من المال، فكان يعمل على زيادة الضرائب ويشدد على جبايتها، ولما كان الحلاج يظهر مفاسد المفسدين فقد خشي الوزير من انكشاف أمره فسعى حثيثا إلى تشكيل محكمة للانتقام من الحلاج الثائر الذي فتن الناس وحرضهم على الثورة، ومن الاتهامات التي وجهت إلى الحلاج ما وجده الوزير حامد في الدفاتر التي أحضرها من دور أصحاب الحلاج وفيها: (أن الإنسان إذا أراد الحج أفرد في داره بيتا وطاف به أيام الموسم، ثم جمع ثلاثين يتيما وكساهم قميصا قميصا، وعمل لهم طعاما طيبا، فأطعمهم وخدمهم وكساهم، وأعطى لكل واحد سبعة دراهم أو ثلاثة، فإذا فعل ذلك، قام له ذلك مقام الحج. فلما قرأ ذلك الفصل التفت القاضي أبو عمر إلى الحلاج وقال له: من أين لك هذا؟ قال: من كتاب «الإخلاص» للحسن البصري قال: كذبت يا حلال الدم! قد سمعنا كتاب «الإخلاص» وما فيه هذا. فلما قال أبو عمر: كذبت يا حلال الدم، قال له حامد: اكتب بهذا. فتشاغل أبو عمر بخطاب الحلاج، فألح عليه حامد، وقدم له الدواة، فكتب بإحلال دمه، وكتب بعده من حضر المجلس، فقال الحلاج: ظهري حمى، ودمي حرام، وما يحل لكم أن تتأوّلوا علي، واعتقادي الإسلام، ومذهبي السنة، فالله الله في دمي.
ولم يزل يردد هذا القول وهم يكتبون خطوطهم، ثم نهضوا، ورد الحلاج إلى الحبس وكتب إلى المقتدر بخبر المجلس فأبطأ الجواب يومين، فغلظ ذلك على حامد، وندم وتخوف، فكتب رقعة إلى المقتدر في ذلك ويقول: إن ما جرى في المجلس قد شاع، ومتى لم تتبعه قتل هذا افتتن به الناس، ولم يختلف عليه اثنان.
__________
(1) أخبار الحلاج رقم 60.(1/13)
وحكمة الحزم والتواني ... وحكمة السّلم والجلاد (1)
فحكمة الصدّ لا يراها ... سوى حكيم لها وسادي
وانظر إلى ضارب بعود ... صفاة يبس فانساب وادي (2)
واعجب له واتخذه حالا ... تجده كالنار في الزناد
فالماء للروح قوت علم ... والجسم للنار كالمزاد
فإن مضى الماء لم تجده ... بدار دنياك في المعاد
وإن خبت ناره عشاء ... فسوّ من مات في المهاد (3)
أوضحت سرّا إن كنت حرّا ... كنت به واري الزناد (4)
من علم الحقّ علم ذوق ... لم يقرن الغيّ بالرشاد
فمن أتاه الحبيب كشفا ... لم يدر ما لذة الرقاد
مثل رسول الإله إذ لم ... يسكن له النوم في فؤاد
لو بلغ الزرع منتهاه ... اشتغل القوم بالحصاد
أو نازل الحصن قوم حرب ... لبادر الناس للجهاد
ناشدتك الله يا خليلي ... هل فرش الخزّ كالقتاد (5)
لا والذي أمرنا إليه ... ما عنده الخير كالفساد
وقال أيضا من باب المقام البكريّ الصديقي:
قل لامرىء رام إدراكا لخالقه ... العجز عن درك الإدراك إدراك (6)
من دان بالحيرة الغرّاء فهو فتى ... لغاية العلم بالرحمن درّاك
وأيّ شخص أبى إلا تحققه ... فإنّ غايته جحد وإشراك
فالعجز وعن درك التحقيق شمس حجى ... جرت بها فوق جوّ النسك أفلاك
وقال أيضا في موافقة النجم الهلال من باب الموافقة:
إن وافق النجم السعيد هلاله ... كان الوجود على ساق واحد
فإن انتفى عين التواصل منهما ... نقص الوجود عن الوجود الراشد
فانظر بقلبك أين حظك منهما ... في الرزق أو في العالم المتباعد
__________
(1) التواني: الفتور. الجلاد: القتال.
(2) الصفاة: الحجر.
(3) خبت ناره: انطفأت. المهادة والمهد: الموضع يهيىء للصبي، ويقال الأرض كالمهاد.
(4) أورى الزّناد: قدح الزناد.
(5) القتاد: شجر صلب له شوكة كالإبر. الخز: ضرب من الثياب.
(6) المعنى أنه من تفكّر في ذات الله عز وجل فلن يدرك أي شيء.(1/14)
فعاد الجواب من الغد من جهة مفلح: إذا كان القضاة قد أباحوا دمه فليحضر محمد بن عبد الصمد صاحب الشرطة، ويتقدم بتسليمه وضربه ألف سوط فإن هلك وإلا فضربت عنقه.
فسر حامد، وأحضر صاحب الشرطة، وأقرأه ذلك، وتقدم إليه بتسليم الحلاج، فامتنع، وذكر أنه يتخوف أن ينتزع منه، فبعث معه غلمانه حتى يصيروه إلى مجلسه، ووقع الاتفاق على أن يحضر بعد عشاء الآخرة، ومعه جماعة من أصحابه، وقوم على بغال موكفة مع سياس، فيحمل على واحد منها، ويدخل في غمار القوم. وقال حامد له: إن قال لك: أجري لك الفرات ذهبا، فلا ترفع عنه الضرب.
فلما كان بعد العشاء، أتى محمد بن عبد الصمد إلى حامد، ومعه الرجال والبغال، فتقدم إلى غلمانه بالركوب معه إلى داره، وأخرج له الحلاج، فحكى الغلام: أنه لما فتح الباب عنه وأمره بالخروج، قال: من عند الوزير؟ قال:
محمد بن عبد الصمد. قال: ذهبنا والله. وأخرج، فأركب بغلا، واختلط بجملة الساسة، وركب غلمان حامد حوله حتى أوصلوه، فبات عند ابن عبد الصمد، ورجاله حول المجلس. فلما أصبح، أخرج الحلاج إلى رحبة المجلس، وأمر الجلاد بضربه، واجتمع خلائق، فضرب تمام ألف سوط وما تاؤه، بلى لما بلغ ستمائة سوط، قال لابن عبد الصمد: ادع بي إليك، فإن عندي نصيحة تعدل فتح قسطنطينية. فقال له محمد: قد قيل لي: إنك ستقول ما هو أكبر من هذا، وليس إلى رفع الضرب سبيل.
ثم قطعت يده، ثم رجله، ثم حز رأسه، وأحرقت جثته. وحضرت في هذا الوقت راكبا والجثة تقلب على الجمر، ونصب الرأس يومين ببغداد، ثم حمل إلى خراسان وطيف به. وأقبل أصحابه يعدون أنفسهم برجوعه بعد أربعين يوما.
واتفق زيادة دجلة تلك السنة زيادة فيها فضل، فادعى أصحابه أن ذلك بسببه، لأن رماده خالط الماء.
وزعم بعضهم: أن المقتول عدو للحلاج ألقي عليه شبهه.
وادعى بعضهم أنه في ذلك اليوم بعد قتله رآه راكبا حمارا في طريق النهروان، وقال: لعلكم مثل هؤلاء البقر الذين ظنوا أني أنا المضروب المقتول. وزعم بعضهم أن دابة حولت في صورته.
وأحضر جماعة من الوراقين، فأحلفوا أن لا يبيعوا من كتب الحلاج شيئا ولا يشتروها) (1).
__________
(1) سير أعلام النبلاء 14/ 341339، وتاريخ بغداد 8/ 138، ونشوار المحاضرة 6/ 9287.(1/14)
وقال أيضا من باب الكور والدور:
انظر إلى العرش على مائه ... سفينة تجري بأسمائه
واعجب له من مكرب دائر ... قد أودع الخلق بأحشائه
يسبح في بحر بلا ساحل ... في حندس الغيب وظلمائه (1)
وموجه أحوال عشّاقه ... وريحه أنفاس أبنائه
فلو تراه بالورى سائرا ... من ألف الخط إلى يائه (2)
ويرجع العود على بدئه ... ولا نهايات لإبدائه
يكوّر الصبح على ليله ... وصبحه يفنى بإمسائه (3)
فانظر إلى الحكمة سيارة ... في وسط الفلك وأرجائه
ومن أتى يرغب في شانه ... يقعد في الدنيا بسيسائه (4)
حتى يرى في نفسه فلكه ... وصنعة الله بإنشائه
وقال أيضا في باب حكمة ظهور البدر والشمس معا في النهار:
يا هلال الدياج لح بالنهار ... فلقد أنت نزهة الأبصار (5)
أنت محو وأنت في العين بدر ... بتجليك في الضياء المحار
فإذا ما بدا هلال المعاني ... طالعا من حديقة الأبصار
قل له بالتواضع المتعالي ... لا بنفس الدعاء والإنكار
يا هلا بين الجوانح سار ... لا تفارق حنادس الأغيار (6)
كن عبيدا بقصرها ومليكا ... بعد محوينا لكم في السرار
حكمة قد تحيّر الخلق فيها ... وسراجان أسرجا بنهار
عجبا في سناهما كيف لاحا ... وسناء الشمس مذهب الأنوار
كلّ نور في كلّ قلب محار ... ما عدا قلب وارث المختار
فاشكر الله يا أخيّ على ما ... وهبته نتائج الأذكار
وقال أيضا في تأخر الأنوار عن النور:
هزم النور عسكر الأسحار ... فأتى الليل طالبا للنهار
فمضى هاربا فرار خداع ... والتوى راجعا على الأسحار
__________
(1) بحر بلا ساحل: يعني الحال التي يصل إليها امرؤ في تعظيمه لله لا انقطاع لها. الحندس: الظلمة.
(2) الورى: الخلق.
(3) يكوّر الصبح على الليل: يدخل هذا في هذا.
(4) السيساء: منتظم فقار الظهر. وسيساء الحق: حدّه.
(5) الدياجي: الظلمات.
(6) الجوانح: جمع الجانحة: العضو من أعضاء الجسم حنادس: جمع حندس: ظلام.(1/15)
مؤلفاته
أورد النديم في فهرسه (1) والحافظ الذهبي في سير أعلام النبلاء (2) ثبتا بأسماء الكتب التي وضعها الحلاج، وهي:
1 - كتاب طاسين الأزل والجوهر الأكبر والشجرة الزيتونة النورية.
2 - كتاب الأحرف المحدثة والأزلية والأسماء الكلية.
3 - كتاب الظل الممدود والماء المسكوب والحياة الباقية.
4 - كتاب حمل النور والحياة والأرواح.
5 - كتاب الصهيون.
6 - كتاب تفسير {قُلْ هُوَ اللََّهُ أَحَدٌ}.
7 - كتاب الأبد والمأبود.
8 - كتاب قران القرآن والفرقان.
9 - كتاب خلق الإنسان والبيان.
10 - كتاب كيد الشيطان وأمر السلطان.
11 - كتاب الأصول والفروع.
12 - كتاب سر العالم والمبعوث.
13 - كتاب العدل والتوحيد.
14 - كتاب السياسة والخلفاء والأمراء.
15 - كتاب عالم البقاء والفناء.
16 - كتاب شخص الظلمات.
17 - كتاب نور النور.
18 - كتاب المتجليات.
19 - كتاب الهياكل والعالم والعالم.
20 - كتاب مدح النبي والمثل الأعلى.
21 - كتاب الغريب الفصيح.
22 - كتاب النقطة وبدء الخلق.
23 - كتاب القيامة والقيامات.
__________
(1) فهرست النديم 243242.
(2) سير أعلام النبلاء 14/ 353.(1/15)
24 - كتاب الكبر والعظمة.
25 - كتاب الصلاة والصلوات.
26 - كتاب خزائن الخيرات، ويعرف بالألف المقطوع والألف المألوف.
27 - كتاب العين.
28 - كتاب التوحيد.
29 - كتاب النجم إذا هوى.
30 - كتاب الذاريات ذروا.
31 - كتاب في أن الذي أنزل عليك القران لرادك إلى معاد.
32 - كتاب الدرة، إلى نصر القشوري.
33 - كتاب السياسة، إلى الحسين بن حمدان.
34 - كتاب هو هو.
35 - كتاب كيف كان وكيف يكون.
36 - كتاب الوجود الأول.
37 - كتاب الكبريت الأحمر.
38 - كتاب السمري وجوابه.
39 - كتاب الوجود الثاني.
40 - كتاب لا كيف.
41 - كتاب الكيفية والحقيقة.
42 - كتاب الكيفية بالمجاز.
43 - كتاب موائد العارفين.
44 - كتاب خلق خلائق القرآن.
45 - كتاب الصدق والإخلاص.
اختلاف الآراء حول عقيدته
اختلفت الآراء والأقوال في شخصية الحلاج بين مؤيد ومعارض وقد ارتأيت أن أفصل بين الأقوال المعارضة له.
أولا: الأقوال المؤيدة له:
ذكر أن ابن خفيف وابن عطاء والنصر آباذي قد قبلوه وصححوا له حاله
ودونوا كلامه حتى قال ابن خفيف: الحسين بن منصور عالم رباني (1).(1/16)
وقال أيضا رضي الله عنه:
أهل الهلال لشهر الصيام ... وشهر الزكاة وشهر القيام
فصام الحكيم على اسم الصفات ... وأفطر ذاتا بدار السلام
وقال أنا الحق فاستمتعوا ... بنور التجلي وحسّ الكلام
تعالى الهلال بأوصافه ... على بدره الفرد عند التمام
وقال أيضا في باب النور القمري:
قمر شاهد الغيوب عيانا ... بين جسم وبين روح دفين
وحباه الإله منه بعلم ... لم ينله بعد المطاع المكين
غيره فانعموا بما لاح فيكم ... من سناه البهيج عند السكون (1)
وقال أيضا:
شمس الهوى في النفوس لاحت ... فأشرقت عندها القلوب
الحبّ أشهى إليّ مما ... يقوله العارف اللبيب
يا حبّ مولاي لا تولّ ... عني فالعيش لا يطيب
لا إنس يصغو للقلب إلا ... إذا تجلّى له الحبيب
وقال أيضا في باب النور البدري:
البدر في المحو لا يجارى ... وفي تناهيه لا يحدّ
صحّ له النور بعد محو ... ثم إليه يعود بعد
سرائر سرّها ثلاث ... رب مليك والله فرد
في المحو صحّت له فأثنت ... عليه لما أتاه يعدو
وقال أيضا في باب النور الكوكبي:
كوكب قال بتنزيه نفسه ... فرماه العجب في سجن رمسه (2)
طلعت حكمة مولاه ليلا ... لمحياه فأودت بنفسه
فشكا الكوكب وجدا وشوقا ... لسناها عند أبناء جنسه (3)
قيل ما حكمة هذا محبّ ... جاءكم يرغب وصلا بخمسه
قبضتها وأتت في حلاها ... نحو باريها وحطّت بقدسه
ودعته فأتاها مجيبا ... يا محبا يشتهيها لنفسه
__________
(1) السنا: الضوء.
(2) الرمس: القبر.
(3) في الأصل: لناها وهو تصحيف.(1/16)
اشكر الله على كل حال ... ابتني ليلك هذا بعرسه
وقال أيضا في باب النور الناري:
النار تضرم في قلبي وفي كبدي ... شوقا إلى نور ذات الواحد الصمد (1)
فجد عليّ بنور الذات منفردا ... حتى أغيب عن التوحيد بالأحد
جاد الإله به في الحال فارتسمت ... حقيقة غيبت قلبي عن الجسد
فصرت أشهده في كلّ نازلة ... عناية منه في الأدنا وفي البعد
وقال أيضا في باب النور السراجي:
سرج العلم أسرجت في الهواء ... لمراد بليلة الإسراء (2)
أسرجتها عند المساء لديه ... طالعات كواكب الجوزاء (3)
فاهتدى كلّ مالك بسناها ... من مقام الثرى إلى الاستواء
ثم لما توحّدوا واستقلّوا ... ردّ أعلاهم إلى الابتداء
هكذا حكمة المهيمن فينا ... بين دان وبين وان ونائي (4)
وقال أيضا في باب النور البرقي:
لمع البرق علينا عشاء ... وكمثل الصبح ردّ المساء
وسطا باسم حكيم فأخفى ... زمن الصيف وأبدى الشتاء
زرع الحكمة في أرض قوم ... وكساها من سناه البهاء
وقال أيضا في باب هلالين اثنين أعني الإمام والقطب (5):
قل إلى الكوكب السعيد أمامي ... عن هلالين طالعين أمامي
فإذا استقبلا إليّ جميعا ... كنت سرّ الليال والأيّام
وإذا أدبرا بقيت وحيدا ... ساهرا لا أذوق طعم المنام
ذاك نور الوجود بالحقّ يسعى ... من ورائي به ومن قدّامي
يوم فقري ويوم حشري لربي ... وبه همتي ومنه اهتمامي
__________
(1) الصّمد: أي الذي تفتقر إليه المخلوقات.
(2) ليلة الإسراء: ليلة أسري بالنبي صلى الله عليه وسلم من البيت الحرام إلى المسجد الأقصى في 27رجب.
(3) الجوزاء: من أبراج السماء.
(4) الواني: الضعيف. النائي: البعيد. الداني: القريب.
(5) القطب: عبارة عن رجل واحد هو موضع نظر الله تعالى من العالم في كل زمان.(1/17)
ذكر أن ابن خفيف وابن عطاء والنصر آباذي قد قبلوه وصححوا له حاله
ودونوا كلامه حتى قال ابن خفيف: الحسين بن منصور عالم رباني (1).
عن إبراهيم بن شيبان قال (2): دخلت على ابن سريج يوم قتل الحلّاج فقلت: يا أبا العبّاس ما تقول في فتوى هؤلاء في قتل هذا الرجل. قال: لعلّهم نسوا قول الله تعالى: {أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللََّهُ}.
وقال الواسطيّ: قلت لابن سريج: ما تقول في الحلّاج. قال: أمّا أنا أراه حافظا للقرآن عالما به، ماهرا في الفقه، عالما بالحديث والأخبار والسنن صائما الدهر، قائما الليل يعظ ويبكي، ويتكلّم بكلام لا أفهمه، فلا أحكم بكفره (3).
قال نصر الحاجب: إنه مظلوم وإنه رجل من العباد (4).
قال النصر باذي: إن كان بعد النبيين والصديقين موحد فهو الحلاج (5).
قال الشبلي: كنت والحلاج شيئا واحدا إلّا أنه أظهر وكتمت (5).
ثانيا: الأقوال المعارضة له:
بدأ الاختلاف حول عقيدة الحلاج منذ أن كان في حوالي العشرين من العمر، حين سأل الجنيد عن مسألة ولم يجبه، ونسبه إلى أنه مدّع فيما يسأله (6).
ولعل هذه المسألة هي التي وردت في أخباره (7) حيث سأل الحلاج الجنيد: ما الذي باين الخليقة عن رسوم الطبع؟ فقال الجنيد: أرى في كلامك فضولا، لم لا تسأل عما في ضميرك من الخروج والتقدم على أبناء جنسك، فأقبل الجنيد وتكلم وأخذ هو يعارضه إلى أن قال له الجنيد: أي خشبة تفسدها، يريد أنه يصلب، فخرج الحلاج باكيا، فلحق به أبو محمد الجسري وتتبع خطاه، ورآه يدخل المقابر ويقعد في زاوية ويضع رأسه على ركبتيه، فدنا الجسري واعتذر منه للجنيد، فقال الحلاج: ليس له إلّا الشيخوخة، وإنما منزلة الرجال تعطى ولا تتعاطى.
__________
(1) تاريخ بغداد 8/ 112.
(2) أخباره رقم 71.
(3) أخباره رقم 72.
(4) سير أعلام النبلاء 14/ 441.
(5) تاريخ بغداد 8/ 121، شذرات الذهب ص 256
(6) تاريخ بغداد 8/ 113.
(7) سير أعلام النبلاء 14/ 317، وأخباره رقم 18.(1/17)
والخلاف الثاني كان مع أستاذه عمرو بن عثمان المكي، الذي كان يلعنه ويقول: لو قدرت عليه لقتلته بيدي، فسأله محمد بن يحيى الرازي: إيش الذي وجد عليه الشيخ؟ فقال: قرأت آية من كتاب الله فقال: يمكنني أن أؤلف مثله وأتكلم به (1). وقيل إن عمرو المكي قد أشاع عنه هذا القول، فقد ذكر أبو محمد الجسري أن الحلاج دخل مكة ولقي عمرا المكي، فلما دخل عليه قال له: الفتى من أين؟ فقال الحلاج: لو كانت رؤيتك بالله لرأيت كل شيء مكانه، فإن الله تعالى يرى كل شيء. فخجل عمرو وحرد عليه ولم يظهر وحشة حتى مضت مدة، ثم أشاع عنه أنه قال: يمكنني أن أتكلم بمثل هذا القرآن (2). وقيل إن الحلاج صحبه وسرق منه كتبا فيها شيء من علم التصوف فدعا عليه عمرو: اللهم اقطع يديه ورجليه. ولم يزل عمرو بن عثمان يكتب فيه بالعظائم (3). وكثرت الأقاويل عليه بعد عودته من رحلته إلى الهند وخراسان وتركستان (4). وتبرأ منه سائر الصوفية والمشايخ والعلماء، ومنهم من نسبه إلى الحلول، ومنهم من نسبه إلى الزندقة، وإلى الشعبذة (5) والزوكرة.
قال السلمي: أكثر المشايخ ردوا الحلاج ونفوه، وأبوا أن يكون له قدم في التصوف، وقبله ابن عطاء، وابن خفيف، والنصر آباذي (6).
ووقع بينه وبين الشبلي وغيره من مشايخ الصوفية، فقيل: هو ساحر، وقيل: هو مجنون، وقيل: هو ذو كرامات، حتى أخذه السلطان (7).
وخرج عليه محمد بن داود وجماعة من العلماء، وقبحوا صورته، ووقع بينه وبين الشبلي (8).
قال ابن الوليد: كان المشايخ يستثقلون كلامه، وينالون منه لأنه كان يأخذ نفسه بأشياء تخالف الشريعة، وطريقة الزهاد، وكان يدعي المحبة لله، ويظهر منه ما يخالف دعواه (7).
__________
(1) تاريخ بغداد 8/ 121.
(2) انظر أخبار الحلاج رقم 18.
(3) سير أعلام النبلاء 14/ 315، 316.
(4) تاريخ بغداد 8/ 113، 114.
(5) سير أعلام النبلاء 14/ 314.
(6) سير أعلام النبلاء 14/ 329.
(7) سير أعلام النبلاء 14/ 316.
(8) سير أعلام النبلاء 14/ 325.(1/18)
إنّ سرّي وإنّ سرّ حبيبي ... واحد أوّلا وعند الختام (1)
هو غيري إذا بعثت رسولا ... وهو داري بقدس دار نظامي
خادمي نوري الذي كان عندي ... والذي عند من هويت أمامي
يا أخي فالتفت لحالك وانظر ... لوجودي بطرفك المتعامي
هو غير إذا افترقت أمامي ... وإذا ما اجتمعت كنت أمامي
وقال أيضا في باب ارتباط الحقيقتين البسيط والمركب:
جسم بلا روح ضجيع الرّدى ... غصن ذوى يا ليته أورقا
روح بلا علم وهي بيته ... لرؤية الأغيار إذ أخلقا
افتقر الكل إلى جوده ... أهل الأباطيل ومن حققا
فوجّه الأنوار سيارة ... أنارت المغرب والمشرقا
فأشرق الجسم بأنواره ... وأظهر الأسرار إذ أشرقا
فالحمد لله الذي قد وقى ... من شرّ ما يحذر أو يتّقى
وقال أيضا في باب البصر المكلف:
يا صاحب البصر المحجوب ناظره ... غمض لتدرك من لا شيء يدركه
واعلم بأنك إن أرسلته عبثا ... فإنه خلف ستر الكون تتركه
وقال أيضا في باب السمع المكلف:
يا صاحب الأذن إنّ الأذن ناداكا ... دع الخطاب إذا الرحمن ناجاكا
فإن دعيت الذي يلقيه من حكم ... عليك كانت لك الأسرار أفلاكا
وإن تصاممت عن إدراك ما نثرت ... لديك كانت لك الأكوان أشراكا
وقال أيضا في باب اللسان المكلف:
إن اللسان رسول القلب للبشر ... بما قد أودعه الرحمن من درر
فيرتدي الصدق أحيانا على حذر ... ويرتدي المين أحيانا على خطر
كلاهما علم في رأسه لهب ... لا يعقل الحكم فيه غير معتبر
وانظر إلى صادق طابت موارده ... وكاذب رائح غاد على سفر
مع اتحادهما والكيف مجهلة ... من سائل كيف حكم الحقّ في البشر
وقال أيضا في باب اليد المكلفة:
من كان يبطش بالرحمن فهو فتى ... كان التكرّم هجيرا له فعلا
__________
(1) السر: هو لطيفة مودعة في القلب كالروح في البدن، ونور روحاني هو آلة النفس، ومحل المشاهدة.(1/18)
اتهامه بالربوبية
أول من أوقع بالحلاج الأمير أبو الحسين علي بن أحمد الراسبي، وأدخله بغداد وغلاما له على جملين، وقد شهر هما في سنة إحدى وثلاثمائة، وكتب معهما كتابا: إن البينة قامت عندي أن الحلاج يدعي الربوبية ويقول بالحلول.
فحبس مدة (1).
في سنة إحدى وثلاثمائة أدخل الحلاج مشهورا على جمل، قبض عليه بالسوس، وحمل إلى الراسبي، فبعثه إلى بغداد، فصلب حيّا ونودي عليه: هذا أحد دعاة القرامطة فاعرفوه (2).
بلغ من أمره أنهم قالوا: إنه إله، وإنه يحيي الموتى (1).
قال الصولي: قيل: إنه كان في أول أمره يدعو إلى الرضا من آل محمد وكان يري الجاهل أشياء من شعبذته، فإذا وثق منه دعاه إلى أنه إله (1).
قال الفقيه أبو علي بن البناء: كان الحلاج قد ادعى أنه إله وأنه يقول بحلول اللاهوت في الناسوت (2).
قال ابن الوليد: كان المشايخ يستثقلون كلامه، وينالون منه لأنه كان يأخذ نفسه بأشياء تخالف الشريعة وطريقة الزهاد، وكان يدعي المحبة لله، ويظهر منه ما يخالف دعواه (3).
قال إبراهيم بن شيبان: من أحب أن ينظر إلى ثمرات الدعاوي الفاسدة فلينظر إلى الحلاج وإلى ما صار إليه (4).
قال ابن باكويه: سمعت عيسى بن بزول القزويني يقول: إنه سأل ابن خفيف عن معنى هذه الأبيات:
سبحان من أظهر ناسوته ... سرّ سنا لاهوته الثّاقب
ثمّ بدا في خلقه ظاهرا ... في صورة الآكل والشّارب
حتّى لقد عاينه خلقه ... كلحظة الحاجب بالحاجب
__________
(1) سير أعلام النبلاء 14/ 347.
(2) سير أعلام النبلاء 14/ 327.
(3) سير أعلام النبلاء 14/ 316.
(4) سير أعلام النبلاء 14/ 317، تاريخ بغداد 8/ 120، أخباره رقم 70.(1/19)
فاسأله إذ يقبض الدنيا ويبسطها ... يداك تفعل كما ربكم فعلا (1)
وفي هذا الباب وفي المبايعة:
هذا المقام وهذه أسراره ... رفع الحجاب فأشرقت أنواره (2)
وبدا هلال التمّ يسطع نوره ... للناظرين وزال عنه سراره
فأنار روض القلب في ملكوته ... وأتت بكلّ حقيقة أشجاره
عند التنزّل صحّ ما يختاره ... قلب أحاطت بالردى أستاره
وبدا النسيم ملاعبا أغصانه ... فهفت بأسرار العلى أطياره
جادت على أهل الروائح منّة ... منه برّيا طيبها أزهاره
هام الفؤاد بحبه فتقدّست ... أوصافه وتنزّهت أفكاره
وتنزّل الروح الأمين لقلبه ... يوم العروبة فانقضت أوطاره (3)
إنّ الفؤاد مع التنزّل واقف ... ما لم يصح إلى النزيل مطاره
من كان يشغله التكاثر لم يكن ... بعثته يوم وروده اكثاره
من فتي لحقيقة يصبر على ... لأوائها حتى يرى مقداره
لا كالذي أمسى لذاك منافرا ... والمنتمي من لا يخاف نفاره
من يدّعي أنّ الحبيب أنيسه ... في حاله فدليله استبشاره
من يدّعي حكم الكيان فإنه ... قد تيمته بحبها أغياره
من كان يزعم أنه من آله ... سبحانه فشهوده أذكاره
شهداء من نال الوجود شعاره ... أمر يعرّف شرعه ودثاره (4)
وأنينه مما يجنّ وصمته ... عنه وعبرة وجده وأواره
ما نال من جعل الشريعة جانبا ... شيا ولو بلغ السماء مناره
الحال إمّا شاهد أو وارد ... تجري على حكم الهوى آثاره (5)
والناس إمّا مؤمن أو جاحد ... أو مدّع ثوب النفاق شعاره
المنزل العالي المنيف بناؤه ... واه متى ما لم تقم عماره
العقل إن جاريته في رأيه ... فلك على نيل المقام مداره
لو كان تسعده النفوس وإنما ... حجبته عن نيل العلى أوزاره
__________
(1) في الأصل: «تفعل كلا ربكم» ولا يستقيم المعنى بها.
(2) النور: الحق.
(3) الروح الأمين: يريد جبريل عليه السلام. الأوطار. الحاجات.
(4) الدثار: الغطاء.
(5) الحال: هو ما يرد على القلب من طرب أو حزن أو بسط أو قبض.(1/19)
فإذا أتته عناية من ربّه ... في الحال حفّ ببابه زوّاره
ورأيته لما تخلص روحه ... من سجنه أسرى به جباره
وقد امتطى رحب اللبان مدبرا ... يدعى البراق فما يشق غباره (1)
تهوى به الهوج الشّداد فيرتمي ... نحو الطّباق وشهبهنّ شفاره (2)
ما زال ينزل كل نور لائح ... من جانبيه فما يقرّ قراره
حتى بدت شمس الوجود لقلبه ... وبدا لعين فؤاده إضماره
وتلاقت الأرواح في ملكوته ... فتواصلت ببحاره أنهاره
مدّ اليمين لبيعته مخصوصة ... أبدى لها وجه الرضى مختاره
لما بدا حسن المقام لعينه ... عقدت عليه خلافة أزراره
ثم التوى يطوي الطريق لجسمه ... ليلا حذار أن يبوح نهاره
وأتت ركائبه لحضرة ملكه ... بودائع يعتادها أبراره
وتوجهت سفراؤه بقضائه ... في كلّ قلب لم يزل يختاره
وحمت جوانبه سيوف عزائم ... منه وطاف ببابه سمّاره
أين الذين تحققوا بصفاته ... هذي العداة فأين هم أنصاره
من يدّعي حبّ الإمام فإنما ... قذفت به نحو المنون بحاره
وسطا على جيش الكيان بصارم ... عضب المضارب لا يفلّ غراره (3)
من يهتدي أهل النهى بمناره ... ذاك الخليفة تقتفى أثاره
إنّ الذين يبايعونك إنهم ... ليبايعون من اعتلّت أسراره
فيمينك الحجر المكرّم فيهم ... يا نصبة خضعت له أخياره
يا بيعة الرضوان دمت سعيدة ... حتى تعطّل للإمام عشاره
إنّ الديار بلاقع ما لم يكن ... صفوا للجبين نزيلها ونضاره (4)
المال يصلح كلّ شيء فاسد ... وبه يزول عن الجواد عثاره
وقال أيضا في باب البطن المكلف:
في شهوة البطن سر ليس يعلمه ... إلا الذي شاهد الرزّاق رزاقا
لولا الغذاء ولولا سرّ حكمته ... ما لاح فرع ولا عاينت أعراقا
__________
(1) البراق: دابة فوق الحمار ودون البغل.
(2) الهوج الشداد: يريد النوق الهوج الشداد. الطّباق: أي السموات.
(3) الصارم العضب: أي السيف القاطع. الغرار: حد السيف. يفل: يكسر.
(4) بلاقع: قفر. اللجين: الفضة. النّضار: الذهب أو الفضة.(1/20)
فقال ابن خفيف: على قائل ذا لعنة الله. قال: هذا شعر الحسين الحلاج. قال:
إن كان هذا اعتقاده، فهو كافر فربما يكون مقولا عليه (1).
قال محمد بن داود: إن كان ما أنزل الله على نبيه حقا، فما يقول الحلاج باطل. وكان شديدا عليه (2).
قال أبو بكر بن أبي سعدان: الحلاج مموه ممخرق (2).
كانت أكثر مخاريق الحلاج أنه يظهرها كالمعجزات يستغوي بها ضعفة الناس (3).
قال أبو الوفاء بن عقيل: أصابوا وأخطأ هو «الحلاج» وحده (4).
قال أبو يعقوب الأقطع والد زوجته: زوجت ابنتي من الحسين بن منصور لما رأيت من حسن طريقته واجتهاده، فبان لي بعد مدة يسيرة أنه ساحر محتال خبيث كافر (5).
انتهى إلى الوزير حامد أن الحلاج قد موه على الحشم والحجاب بالدار بأنه يحيي الموتى وأن الجن يخدمونه، وأظهر أنه قد أحيا عدة من الطير (6).
أقوال الحلاج
لم تكن أقوال الحلاج التي كانت مبثوثة في كتبه بأسعد حظّا من صاحبها، فقد صودرت كتبه وأتلفت، وأخذ على الوراقين عهد بعدم تداولها. ولم ينج من آثاره إلا كتاب «الطواسين» وطائفة من أقواله وأشعاره (7).
ويمكن وضع أقواله في قسمين، يتضمن الأول منهما مناجاته لرب العالمين ويتضمن الثاني منهما ما يمكن أن نسميه قولا أو أثرا، ولا بد في البداية من القول إن عمر الحلاج كان خمسا وعشرين سنة عند ما أخذ يتكلم على الناس، ويعمل المجلس ويدعو الخلق إلى الله تعالى، وصنّف لهم تصانيف، وكان يتكلم على ما في
__________
(1) سير أعلام النبلاء 14/ 325.
(2) سير أعلام النبلاء 14/ 330.
(3) سير أعلام النبلاء 14/ 332.
(4) سير أعلام النبلاء 14/ 331.
(5) سير أعلام النبلاء 14/ 330، تاريخ بغداد 8/ 121، شذرات الذهب 255254.
(6) سير أعلام النبلاء 14/ 336.
(7) الحلاج: سامي مكارم ص 63، وتاريخ بغداد 8/ 141.(1/20)
فكل حلالا إذا كان المحلّل موج ... ودا بقلبك وهّابا وخلّاقا
وقال أيضا في باب الفرج المكلف:
الفرج يحمل في الأنثى وفي الذكر ... على حقيقة لوح العلم والقلم
فذا يخط حروف الجسم في ظلم ... وذا يخط حروف العلم في همم
كلاهما بدل من ذات صاحبه ... عند الوجود فلا تنظر إلى العدم
وقال أيضا في باب الرجل المكلف:
الرجل إن جاريته في فعله ... أربى على حدّ السّوى والمستوى (1)
فاقبض عنان الطرف عن إسرائه ... فالعجز علم محقق أخذ اللوى (2)
من عنده في موقف تاهت به ... ظلم الغيوب فما يحس وما يرى
وقال أيضا في باب القلب المكلف:
قلب المحقق مرآة فمن نظرا ... يرى الذي أوجد الأرواح والصّورا
إذا أزال صدى الأكوان واتّحدت ... صفاته بصفات الحقّ فاعتبرا
من شاهد الملأ الأعلى فغايته ... النور وهو مقام القلب إن شكرا
ومن يشاهد صفات الحقّ فاعلة ... لكلّ شيء يكن في الوقت مفتكرا
ومن يشاهد مقام الذات يحظ بها ... في الوقت من سلب الأوصاف مفتقرا
فكلّ قلب تعالى عن أكنّته ... لم يدر في الملأ الأعلى ولا ذكرا
وكيف يدرك قلب بات محتجبا ... عن الوجود فما صلّى ولا اعتمرا (3)
ما يعرف العين إلا العين فاستمعوا ... ما قلب عين كقلب قلّد الخبرا
وقال أيضا في مطلع من مطالع أهلة المعارف:
نحن حزب الله من يلحقنا ... جدّنا جدّ وجدّ هزلنا
أشهد الأسرار من أحبابه ... من يشاء ولها أشهدنا (4)
فمتى أدرككم فينا عمى ... سائلوا عنا الذي يعرفنا
ذاكم الله عظيم جدّه ... يمنح الأسرار من شاء بنا
ما أماكنا رجالا هتفت ... بهم الورق بدوحات منى (5)
__________
(1) السّوى: الوجود والعدم.
(2) عنان الطّرف: جانبه.
(3) اعتمر: أدّى مناسك العمرة.
(4) السر: لطيفة مودعة في القلب كالروح في البدن: ونور روحني هو آلة النفس.
(5) الورق: جمع الورقاء: الحمامة. دوحات: جمع دوح وهو جمع دوحة: الشجرة العظيمة.(1/21)
قلوب الناس (1). وكان للحلاج حسن عبارة وحلاوة منطق وشعر على طريقة التصوف (2)، ووقع له عند الناس في تستر قبول عظيم حتى حسده جميع من في وقته (3).
أولا: مناجاته: اللهمّ إنّك المتجلّي عن كلّ جهة. المتخلّي من كلّ جهة.
بحقّ قيامك بحقّي وبحقّ قيامي بحقّك. وقيامي بحقّك يخالف قيامك بحقّي. فإنّ قيامي بحقّك ناسوتيّة، وقيامك بحقي لاهوتيّة. وكما أنّ ناسوتيّتي مستهلكة في لاهوتيّتك غير ممازجة إيّاها فلاهوتيّتك مستولية على ناسوتيّتي غير مماسّة لها.
وبحقّ قدمك على حدثي، وحقّ حدثي تحت ملابس قدمك، أن ترزقني شكر هذه النعمة التي أنعمت بها عليّ حيث غيّبت أغياري عمّا كشفت لي من مطالع وجهك، وحرّمت على غيري ما أبحت لي من النظر في مكنونات سرّك. وهؤلاء عبادك قد اجتمعوا لقتلي تعصّبا لدينك وتقرّبا إليك. فاغفر لهم، فإنّك لو كشفت لهم ما كشفت كشفت لي لما فعلوا، ولو سترت عنّي ما سترت عنهم لما ابتليت بما ابتليت. فلك الحمد فيما تفعل ولك الحمد فيما تريد (4).
نحن بشواهدك نلوذ، وبسنا عزّتك نستضيء، لتبدي ما شئت من شأنك وأنت الذي في السماء عرسك، وأنت {الَّذِي فِي السَّمََاءِ إِلََهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلََهٌ} (5).
تتجلّى كما تشاء مثل تجلّيك في مشيئتك كأحسن صورة، والصورة فيها الروح بالعلم والبيان والقدرة والبرهان. ثم أو عزت إلى شاهدك الأنيّ في ذاتك الهوي كيف أنت إذا مثّلت بذاتي، عند عقيب كرّاتي ودعوت إلى ذاتي بذاتي، وأبديت حقائق علومي ومعجزاتي، صاعدا في معارجي إلى عروش أزلياتي، عند القول من بريّاتي. إنّي أخذت، وحبست، واحضرت، وصلبت، وقتلت، وأحرقت واحتملت السافيات الذاريات أجزائي. وإنّ لذرّة من ينجوج مظانّ هاكول متجلّياتي أعظم من الراسيات. ثم أنشأ يقول:
أنعى إليك نفوسا طاح شاهدها ... فيما ورا الحيث يلقى شاهد القدم
إلى آخر الأبيات (6).
__________
(1) سير أعلام النبلاء 14/ 315، وتاريخ بغداد 8/ 113.
(2) تاريخ بغداد 8/ 112.
(3) تاريخ بغداد 8/ 113.
(4) ورد القول في أخباره برقم 1.
(5) الزخرف: 84.
(6) ورد القول في أخباره برقم 2.(1/21)
فرمينا جمرة الكون بها ... فرمينا بمريشات الفنا
وازدلفنا زلفة الجمع فهل ... أسمع القوم مناجاة المنى
يا عبادي هل رأيتم ما أرى ... يا عبادي هل بنا أنتم أنا
خرس القوم وقالوا: ربنا ... أنت مولانا ونحن القرنا
يا عباد الله سمعا إنني ... روح مولاكم أمين الأمنا
أنا ما حي الكون من أسراركم ... أنا سرّ الكنز ما الكنز أنا
أنا جبريل هذي حكمتي ... فاقرأوها تكشفوا ما كمنا
جئت بالتوحيد كي أرشدكم ... فاقتنوا أنفسكم من أجلنا
وخذوا عني فيكم عجبا ... تجدوا السرّ لديه علنا
ميزوا الأحوال في أنفسكم ... لا تكونوا كدعيّ فتنا (1)
إن صحو العبد سكران بدا ... عالم الأمر له فافتتنا
كما أنّ المحو دعوى إن بدت ... في محياه علامات الونا
قل إلى المثبت في أحواله ... طبت بالحق فكنت المأمنا
ليست الهيبة خوفا إنها ... أدب يعربه العذب الجنى
حالها الإطراق من غير بكا ... ووجود الجهد من غير عنا
وحليف الأنس طلق وجهه ... إن تدلّى لحبيب ودنا
يرشد الخلق ويبدي رسمه ... شاكرا واستمعوا إن أذنا
صاحب القبض غريب مفرد ... إن رأى بسطا عليه حزنا
وخليل البسط يخفي غيرة ... ضرّ باديه ويبدي المننا
لا تراه الدّهر إلا ضاحكا ... تبصر الحسن به قد قرنا
صاحب الهمة في إسرائه ... سائر قد ذبّ عنه الوسنا (2)
صاحب التوحيد أعمى أخرس ... لا أنا قال ولا أيضا أنا
يا عبيد النفس ما هذا العمى ... لم تزالوا تعبدون الوثنا
سقتم الظاهر من أحوالكم ... ما لنا منكم سوى ما بطنا (3)
فاقتنوا للعلم من أعمالكم ... علم فتح واشربوه لبنا
واخرجوا بالموت عن أنفسكم ... تبصروا الحقّ بكم مقترنا
وانظروا ما لاح في غيركم ... تجدوه فيكم قد ضمنا
__________
(1) الدّعي: الذي ينتسب إلى غير قومه.
(2) الوسن: النعاس.
(3) الظاهرة ظاهر العلم: عبارة عن أعيان الممكنات، ويقولون: ظاهر الممكنات هو تجلّي الحق بصور أعيانها وصفاتها.(1/22)
يا من لازمني في خلدي قربا، وباعدني بعد القدم من الحديث غيبا.
تتجلى علي حتى ظننتك الكل، وتسلب عني حتى أشهد بنفيك. فلا بعدك يبقي، ولا قربك ينفع، ولا حربك يغني، ولا سلمك يؤمن (1).
يا من أسكرني بحبه، وحيرني في ميادين قربه، أنت المنفرد بالقدم، والمتوحد بالقيام على مقعد الصدق، قيامك بالعدل لا بالاعتدال، وبعدك بالعزل لا بالاعتزال، وحضورك بالعالم لا بالانتقال، وغيبتك بالاحتجاب لا بالارتحال.
فلا شيء فوقك فيظلك، ولا شيء تحتك فيقلك، ولا أمامك شيء فيجدك، ولا وراءك شيء فيدركك. أسألك بحرمة هذه الترب المقبولة والمراتب المسؤولة، أن لا تردني إلي بعد ما اختطفتني مني، ولا تريني نفسي بعد ما حجبتها عني، وأكثر أعدائي في بلادك، والقائمين لقتلي من عبادك (2).
يا إله الآلهة، ويا رب الأرباب، ويا من {لََا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلََا نَوْمٌ} رد إلي نفسي لئلا يفتتن بي عبادك. يا هو أنا وأنا هو لا فرق بين أنيتي وهويتك إلا الحدث والقدم (3).
يا من لم تصل إليه الضمائر، ولم تمسه شبه الخواطر والظنون، وهو المترائي عن كل هيكل وصورة، من غير مماسة ومزاج. وأنت المتجلي عن كل أحد، والمتجلي بالأزل والأبد. لا توجد إلا عند اليأس، لا تظهر إلا حال الالتباس. إن كان لقربي عندك قيمة، ولإعراضي لديك عن الخلق مزية، فأتنا بحلاوة يرتضيها أصحابي (4).
اللهم، أنت الواحد الذي لا يتم به عدد ناقص، والأحد الذي لا تدركه فطنة غائص، وأنت {فِي السَّمََاءِ إِلََهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلََهٌ} (5) أسألك بنور وجهك الذي أضاءت به قلوب العارفين، وأظلمت منه أرواح المتمردين، وأسألك بقدسك الذي تخصصت به عن غيرك، وتفردت به عمن سواك، أن لا تسرحني في ميادين الحيرة، وتنجيني من غمرات التفكر، وتوحشني عن العالم، وتؤنسني بمناجاتك، يا أرحم الراحمين (6).
__________
(1) ورد القول في أخباره برقم 3.
(2) ورد القول في أخباره برقم 5.
(3) ورد القول في أخباره برقم 7.
(4) ورد القول في أخباره برقم 8.
(5) الزخرف: 84.
(6) ورد القول في أخباره برقم 9.(1/22)
وقال أيضا في مطلع من مطالع أهلة المعارف:
صحت بالكوكب المنير عشاء ... يا نظير النور بدر الصباح
يا حبيبي وهل عليّ إذا ما ... جئتكم عن حقيقة من جناح
أين سرّ الوصال بالله قل لي ... منكما في الطلاق أو في النكاح
عمل هل يصح فيه ازدواج ... أي وتهيام بالوجوه الصباح
نكح المغرب الصباح فأبدى ... ربّنا عند ذاك نور الصلاح
فأنارت أرض الوجود وأبدت ... كلّ شيء مخبأ في البطاح
ثمّ غابا عن الوجود زمانا ... حين حلّت عساكر الاقتراح
وأقاما بربوة المحو حتى ... ما أهلّت أهلة الافتتاح
قيل يا كوكبان هبّا بخير ... كمهبّ الجنوب بين الرياح
وانعما بالشهود حالا وعلما ... واسعيا للصلاة عند الرّواح (1)
ثم لما منّ الكريم عليهم ... باتصال الذوات بعد انتزاح (2)
قلت: ليت الإله يشرح صدري ... لعلوم تنال دون تلاحي (3)
جاءني الكوكب العليّ رسولا ... من حكيم مهيمن فتّاح
قال يا سائل الكريم علوما ... ما على عالم بها من جناح
إن تكن تحسن استماع خطابي ... خذ حباك الإله بالانشراح
فعل أشباحنا على الروح يبدو ... وكذا فعله على الأشباح
حكمة مهّد الحكيم ثراها ... وبنا سقفها لأمر متاح
يا أخي قم تر حبيبك عينا ... فاعلا في الجسوم والأرواح
وقال أيضا في وصف حال إلهيّ:
اختلسنا من كرامات الكيان الأبديّ
وجينا بمقامات العيان الأزليّ (4)
ورفعنا عن تكاليف الوجود العمليّ
لمضاهاة استواء ... فوق عرش فلكيّ (5)
فرأينا من تعالى ... بالوجود الخلقيّ
__________
(1) الرّواح: العشيّ.
(2) الانتزاح: البعد.
(3) التلاحي والملاحاة: المنازعة.
(4) الأزلي: القديم ولا أزلي غير الله تعالى.
(5) العرش: هو أعظم الأجرام السماوية وقد خلقه الله إظهارا لقدرته، ولم يتخذه مكانا، لأن الله تنزه أن يتخذ مكانا وفي البيت إشارة إلى قوله تعالى: {الرَّحْمََنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى ََ}، وذهب أهل التأويل إلى القول بأن الاستواء ههنا بمعنى القهر والاستيلاء.(1/23)
يا من استهلك المحبّون فيه، واغترّ الظالمون بأياديه. لا يبلغ كنه ذاتك أوهام العباد، ولا يصل إلى غاية معرفتك أهل البلاد. فلا فرق بيني وبينك إلّا الإلهية والربوبيّة (1).
اللهمّ أنت المأمول بكلّ خير، والمسؤول عند كل مهمّ، المرجو منك قضاء كل حاجة، والمطلوب من فضلك الواسع كل عفو ورحمة. وأنت تعلم ولا تعلم، وترى ولا ترى، وتخبر عن كوامن أسرار ضمائر خلقك، وأنت على كل شيء قدير. وأنا بما وجدت من روائح نسيم حبك، وعواطر قربك أستحقر الراسيات، وأستخفّ الأرضين والسماوات. وبحقّك لو بعت منّي الجنّة بلمحة من وقتي، أو بطرفة من أحرّ أنفاسي لما اشتريتها. ولو عرضت عليّ النار بما فيها من ألوان عذابك لاستهونتها في مقابلة ما أنا فيه من حال استتارك منّي. فاعف عن الخلق ولا تعف عنّي، وارحمهم ولا ترحمني. فلا أخاصمك لنفسي، ولا أسائلك بحقّي، فافعل بي ما تريد (2).
ثانيا: أقواله:
1 - الكفر والإيمان يفترقان من حيث الاسم، فأما من حيث الحقيقة، فلا فرق بينهما (3).
2 - من فرّق بين الإيمان والكفر، فقد كفر. ومن لم يفرق بين المؤمن والكافر، فقد كفر (4).
3 - عن جندب بن زاذان تلميذ الحسين قال: كتب الحسين إليّ: بسم الله المتجلي عن كل شيء لمن يشاء، والسلام عليك يا ولدي، ستر الله عنك ظاهر الشريعة، وكشف لك حقيقة الكفر، فإن ظاهر الشريعة كفر، وحقيقة الكفر معرفة جلية، وإني أوصيك أن لا تغتر بالله، ولا تيأس منه، ولا ترغب في محبته، ولا ترض أن تكون غير محبّ، ولا تقل بإثباته، ولا تمل إلى نفيه، وإياك والتوحيد، والسلام (5).
__________
(1) ورد القول في أخباره برقم 9.
(2) ورد القول في أخباره برقم 44.
(3) سير أعلام النبلاء 14/ 352، أخباره رقم 35.
(4) سير أعلام النبلاء 14/ 353، أخباره رقم 48.
(5) سير أعلام النبلاء 14/ 353، وأخباره رقم 41.(1/23)
4 - ما وحد الله غير الله.
5 - أعوذ بالله أن أدعي النبوة والربوبية، إنما أنا رجل أعبد الله وأكثر الصلاة والصوم وفعل الخير، ولا أعرف غير ذلك (1).
6 - سبحانك لا إله إلا أنت، عملت سوءا وظلمت نفسي، فاغفر لي إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت (2).
7 - القرآن حجاب، والرسول حجاب، وليس إلا عبد ورب (3).
8 - لما أحل دم الحلاج قال: ظهري حمى ودمي حرام، وما يحل لكم أن تتأولوا علي بما يبيحه، واعتقادي الإسلام، ومذهبي السنة وتفضيل أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وطلحة والزبير وسعد وسعيد وعبد الرحمن بن عوف وأبي عبيدة بن الجراح، ولي كتب في السنة موجودة في الوراقين، فالله الله في دمي (4).
9 - عليك بنفسك، إن لم تشغلها بالحق شغلتك عن الحق (5).
10 - علم الأولين والآخرين مرجعه إلى أربع كلمات: حب الجليل، وبغض القليل، واتباع التنزيل، وخوف التحويل (6).
11 - كن مع الحق بحكم ما أوجب (7).
12 - أسماء الله من حيث الإدراك رسم، ومن حيث الحق حقيقة (8).
13 - إذا تخلص العبد إلى مقام المعرفة، أوحي إليه بخاطرة (8).
14 - من التمس الحق بنور الإيمان، كان كمن طلب الشمس بنور الكواكب (8).
15 - ما انفصلت البشرية عنه ولا اتصلت به (8).
__________
(1) سير أعلام النبلاء 4/ 337، وتاريخ بغداد 8/ 133.
(2) تاريخ بغداد 8/ 137.
(3) سير أعلام النبلاء 14/ 336.
(4) تاريخ بغداد 8/ 139.
(5) سير أعلام النبلاء 14/ 345، 350، وتاريخ بغداد 8/ 114.
(6) تاريخ بغداد 8/ 115114.
(7) تاريخ بغداد 8/ 114.
(8) سير أعلام النبلاء 14/ 326.(1/24)
في لطيف ملكيّ ... وكثيف بشريّ
وسألناه بأسرار المقام القدسيّ
نيل ما قد نحن نلناه لبدر الحبشيّ
وقال أيضا في مطلع من مطالع أهلة المعرفة:
سرّ سرّ الوجود فرد بعيد ... عن نظير له بدار أمان
هو علم في أول الحال عار ... وكذا كان في الوجود الثاني
فانظر ذا في الكيان سرّ علاه ... ثم تنقيصه بآي المثاني (1)
يطلب الرشد والرشاد سناه ... وهو أصل للكائنات الحسان
وإنّ هذا لهو العجاب فمهد ... عقلك القاضي لانقلاب العيان
لو توالى أصل الوجود على ما ... كان في الأصل ما التقى زوجان
ثم لما شاء الحكيم أمورا ... أيّدتها حقائق البرهان
أظهر الضدّ والنظير جميعا ... بالعلى والثرى فلاح إثنان
فأمدّ العلوّ للسّفل سرّا ... وكذا السفل للعلوّ الداني
حكمة شاءها الحكيم فأبدت ... كل سرّ بواضحات البيان
فاشكر الله يا أخيّ على ما ... أودعته حقيقة الإنسان
وقال أيضا:
قلت: يا بيضة الفلك ... هذه النفس هيت لك
أنا عرش مهيأ ... فاستو أيها الملك
أنت بدر مكمل ... وأنا دورة الفلك
إن أتى الفرع من هنا ... جاءه من هنا الملك
عشت في برزخ المنى ... كلّ ما شئت قيل لك (2)
وقال أيضا في باب الغنى والاستغناء:
بالمال ينقاد كلّ صعب ... من عالم الأرض والسماء
يحسبه عالم حجابا ... لم يعرفوا لذة العطاء
لولا الذي في النفوس منه ... لم يجب الله في الدعاء
لا تحسب المال ما تراه ... من عسجد مشرق لرائي
بل هو ما كنت يا بنيّ ... به غنيا عن السواء
__________
(1) المثاني: القرآن، أو ما ثنّي منه مرة بعد مرّة أو الحمد، أو البقرة إلى براءة، أو كل سورة دون المائتين.
(2) البرزخ: العالم المشهود بين عالمي المعاني والأجسام، أي بين الآخرة والدنيا.(1/24)
16 - وجد في كتبه: إني مغرق قوم نوح، ومهلك عاد وثمود (1).
17 - كان يقول للواحد من أصحابه: أنت نوح، ولآخر: أنت موسى، ولآخر: أنت محمد، ويدعي التناسخ، وأن أرواح الأنبياء انتقلت إليهم (2).
18 - لولا أن الله تعالى قال: {لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنََّاسِ أَجْمَعِينَ} *
لكنت أبصق في النار حتى تصير ريحانا على أهلها (3).
19 - باطن الحق ظاهره الشريعة، ومن يحقق في ظاهر الشريعة ينكشف له باطنها، وباطنها المعرفة بالله. وباطن الباطل أقبح من ظاهره، وظاهره أشنع من باطنه (4).
20 - ما تمذهبت بمذهب أحد من الأئمة جملة، وإنما أخذت من كل مذهب أصعبه وأشده وأنا الآن على ذلك. وما صليت صلاة الفرض قطّ إلا وقد اغتسلت ثم توضأت لها. وها أنا ابن سبعين سنة وفي خمسين سنة صليت صلاة ألفي سنة، كل صلاة قضاء لما قبلها (4).
21 - أيها الناس أغيثوني عن الله، فإنه اختطفني مني وليس يردني عليّ ولا أطيق مراعاة تلك الحضرة، وأخاف الهجران فأكون غائبا محروما. والويل لمن يغيب بعد الحضور، ويهجر بعد الوصل (5).
22 - يا أهل الإسلام أغيثوني فليس يتركني ونفسي فآنس بها، وليس يأخذني من نفسي فأستريح منها، وهذا دلال لا أطيقه (5).
23 - أيها الناس: إنه يحدّث الخلق تلطفا فيتجلّى لهم، ثم يستتر عنهم تربية لهم فلولا تجلّيه لكفروا جملة ولولا ستره لفتنوا جميعا. فلا يديم عليهم إحدى الحالتين لكني ليس يستتر عني لحظة فأستريح حتى استهلكت ناسوتيتي في لاهوتيته وتلاشى جسمي في أنوار ذاته، فلا عين لي ولا أثر، ولا وجه ولا خبر (6).
__________
(1) سير أعلام النبلاء 14/ 326.
(2) سير أعلام النبلاء 14/ 327، وشذرات الذهب 2/ 255.
(3) أخبار الحلاج رقم 54.
(4) أخبار الحلاج رقم 6.
(5) أخبار الحلاج رقم 38.
(6) أخبار الحلاج رقم 10.(1/25)
فكن برب العلى غنيّا ... وعامل الحقّ بالوفاء
وقال أيضا:
ستكون خاتمة الكتاب لطيفة ... من حضرة التوحيد في عليائها
تحوي وصايا العارفين وقطبهم ... فهي المنار لسالكي سيسائها (1)
من كلّ نجم واقع بحقيقة ... وأهلّة طلعت بأفق سمائها
وأتى بها عرسا غرانيق على ... من منزل الملكوت في ظلمائها (2)
ليعرّف النحرير قطب وجوده ... وبنية بدرا بنور سنائها (3)
فمن اقتفى أثر الوصية إنه ... بالحال واحد عصره في يائها
ويكون عند فطامه من ثديها ... وطلابه الترشيح من أمرائها
هذي الطريقة أعلنت بعلائها ... فمن السعيد يكون من أبنائها
وقال أيضا في باب الطمأنينة:
قل كيف يسكن قلب لا يحيط به ... وقد تيقن هذا في تقلبه
من يطمئن إلى تحصيل فائتة ... فإن ما فاته أعلى لمنتبه
وقال أيضا في باب الخشية:
كيف يخشى فؤاد من ليس يخشى ... غير محبوبه القديم ويرجو
كلّ قلب قد داخلته حظوظ ... من كيان العلى فذا القلب ينجو
وقال أيضا في باب التوبة:
ما فاز بالتوبة إلا الذي ... قد تاب منها والورى نوّم
فمن يتب أدرك مطلوبه ... من توبة الناس ولا يعلم
وقال أيضا في باب الإنابة:
لا ينيب الفؤاد إلا إذا ما ... لم يشاهد بذكره ما سواه (4)
فإذا شاهد العجائب فيه ... لم يكن ذا إنابة في هواه
__________
(1) القطب: رجل واحد هو موضع نظر الله تعالى من العالم في كل زمان. والعالم. سيساء الحق: حد الحق.
(2) الغرنيق: الشاب الأبيض الجميل، وجمعه الغرانيق.
(3) النّحرير: الحاذق الماهر، العاقل المجرّب. القطب، يريد: العالم.
(4) أناب وناب إلى الله: تاب.(1/25)
وقال أيضا في باب الأوبة:
إن قلبي إلى الذي آب عنه ... فهو فرد وما سواه مثنى (1)
كلّ قلب يراك يا من تعالى ... فحقيق عليه أن يتجنّى
فإذا ما دنا إليك تعزى ... وإذا ما دنوت منه تهنى
وقال أيضا في باب الهمة:
عمل الهمة اعتلى ... فوق رسم المزبره (2)
وكذا الرسم غاية ... للبرود المدبره
غاية الرسم همة ... مصطفاة مطهره
ولها غاية علت ... بالوجود المنظره
وقال أيضا في باب الظنون:
دع الظنّ واعلم أنّ للظن آفة ... وقوفك حيث الظنّ والظنّ متهم
فشرّد وساويس الظنون بلمحة ... من الكوكب العلميّ إن كنت تحترم
فلا ظنّ إلا ما يقال بقطعه ... وإلا فنار للجهالة تضطرم
وقال أيضا في باب المشيئة:
أنا إن شئت شئت منك وإلا ... أنا إن شئت شاء من لا يشاء
عجبا شئت والمشيئة غيري ... ثم إن لم أشأ فلست تشاء
بل أنا صاحب المشيئة فاعلم ... ومشيئي بها وذاتي المشاء
كيف شاءت مشيئة المتلاشي ... ولها الحكم ان تشا والقضاء
بمشيء المشيء شاءت فأبدت ... كلّ شيء يصحّ فيه المشاء
عدم شاء والوجود بصير ... عميت عين كلّ من لا يشاء
كلّ من شاء بالوجود يشاء ... وله المجد في العلى والثناء
وقال أيضا في المراد والمريد:
إن المراد مع المريد مطالب ... بدلائل التحقيق في دعواهما
فإذا جهلت الأمر في حاليهما ... فدليل ما والاه في تقواهما
وقال أيضا في المتقي:
من اتقى الله فذاك الذي ... أساء ظنا بالذي أوجده
__________
(1) آب: رجع.
(2) المزبر: القلم.(1/26)
24 - اعلموا أن الهياكل قائمة بياهوه، والأجسام متحركة بياسينه، والهو والسين طريقان إلى معرفة النقطة الأصلية (1).
25 - لو ألقى ممّا في قلبي ذرّة على جبال الأرض لذابت، وإنّي لو كنت يوم القيامة في النار لأحرقت النار، ولو دخلت الجنّة لانهدم بنيانها (2).
26 - إنّ الله تبارك وتعالى وله الحمد ذات واحد قائم بنفسه، منفرد عن غيره بقدمه، متوحّد عمّن سواه بربوبيّته. لا يمازجه شيء، ولا يخالطه غير ولا يحويه مكان، ولا يدركه زمان ولا تقدّره فكرة، ولا تصوّره خطرة، ولا تدركه نظرة، ولا تعتريه فترة.
صن قلبك عن فكره، ولسانك عن ذكره، واستعملهما بإدامة شكره. فإنّ الفكرة في ذاته والخطرة في صفاته والنطق في إثباته، من الذنب العظيم والتكبّر الكبير (3).
27 (4) ألزم الكلّ الحدث لأنّ القدم له. فالذي بالجسم ظهوره فالعرض يلزمه؟ والذي بالإرادة اجتماعه، فقواها تمسكه، والذي يؤلّفه وقت يفرّقه وقت والذي يقيمه غيره فالضرورة تمسّه والذي الوهم يظفر به فالتصوير يرتقي إليه.
ومن آواه محلّ أدركه أين، ومن كان له جنس طاله كيف. إنّه تعالى لا يظلّه فوق ولا يقلّه تحت، ولا يقابله حدّ، ولا يزاحمه عند، ولا يأخذه خلف، ولا يحدّه أمام، ولا يظهره قبل. ولا يفيته بعد، ولا يجمعه كلّ ولا يوجده كان، ولا يفقده ليس. وصفه لا صفة له، وفعله لا علّة له وكونه لا أمد له. تنزّه عن أحوال خلقه ليس له من خلقه مزاج، ولا في فعله علاج. باينهم بقدمه كما باينوه بحدوثهم. إن قلت: متى، فقد سبق الوقت كونه، وإن قلت هو فالهاء والواو خلقه، وإن قلت:
أين فقد تقدّم المكان وجوده فالحروف آيناته، ووجوده إثباته، ومعرفته توحيده، وتوحيده تمييزه من خلقه ما تصوّر في الأوهام فهو بخلافه. كيف يحلّ به ما منه بدأ، أو يعود إليه ما هو أنشأه. لا تماثله العيون، ولا تقابله الظنون قربه كرامته، وبعده إهانته، علوّه من غير توقّل، ومجيئه من غير تنقل {هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظََّاهِرُ وَالْبََاطِنُ} (5) القريب البعيد {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} (6).
__________
(1) أخبار الحلاج رقم 10.
(2) أخبار الحلاج رقم 11.
(3) أخبار الحلاج رقم 12.
(4) أخبار الحلاج رقم 13.
(5) الحديد: 3.
(6) الشورى: 11.(1/26)
فمن يشاهد ما رمزنا له ... فليتق الله الذي أشهده
وقال أيضا في باب إهلاك الشرع والحقيقة:
لا تعترض فعله إن كنت ذا أدب ... واضمم إليك جناح السلم من رهب
وسلّم الأمر ما لم تبد فاحشة ... فإن بدت فاحذر التدريج في الهرب
ولا يغرّنك أرواح مخبّرة ... من عند ربك إن السلم كالحرب
إنّ الذي قال إن الفعل مصدره ... من قد درى منه كالشرك والكذب
فاهرب إلى فعله من فعله فإذا ... ما غبت عن فعله فاحذر من السبب
وقال أيضا في إنكار الخلاف في الطريق:
كيف يكون الخلاف في بشر ... تميزوا في العلى عن البشر
فهم ذوو رحمة ذوو نظر ... مسدّد في تخالف الصور
ونعمة لا تزال تصحبهم ... ليسوا ذوي مرية ولا ضرر (1)
وقال أيضا:
من يشتغل بالذي قد ألزمه ... في وقته ربه فليس هناك
لأنه مدّعي بحالته ... بمقت أضداده وليس كذاك
وقال أيضا:
حزن الفؤاد أدبه ... ودينه ومذهبه
إن جئته وجدته ... أمرا عسيرا مركبه
وكلّ من يشغله ... مقامه لا يطلبه
وقال أيضا:
من صحب الحقّ لا يبالي ... من ذلة المنع والسؤال
من طعم الهجر في هواه ... أذاقه لذة الوصال
وقال أيضا:
من ظن أنّ طريق أرباب العلى ... قول فجهل حائل وتعذّر
إن السبيل إلى الإله عناية ... منه بمن قد شاءه وتعزّر
لا يرتضي لحقيقة وعزّة ... إلا إذا ضمّ السنابل بيدر
الحال يطلبه بشرط مقامه ... فإذا ادّعاه فحاله لك يشهر (2)
__________
(1) ذوو مرية: مشكّكون.
(2) الحال: هو ما يرد على القلب من طرب أو حزن أو بسط أو قبض.(1/27)
28 - دعوى العلم جهل، توالي الخدمة سقوط الحرمة. الاحتراز من حربه جنون. الاغترار بصلحه حماقة. النطق في صفاته هوس. السكوت عن إثباته خرس. طلب القرب منه جسارة، والرضى ببعده من دناءة الهمّة (1).
29 - من ظنّ أنّ الإلهية تمتزج بالبشريّة أو البشريّة تمتزج بالإلهية فقد كفر. فإنّ الله تعالى تفرّد بذاته وصفاته عن ذوات الخلق وصفاتهم، فلا يشبههم بوجه من الوجوه ولا يشبهونه بشيء من الأشياء. وكيف يتصوّر الشبه بين القديم والمحدث ومن زعم أنّ البارئ في مكان أو على مكان أو متّصل بمكان أو يتصوّر على الضمير أو يتخايل في الأوهام أو يدخل تحت الصفة والنعت فقد أشرك (2).
30 - ما ظهرت النقطة الأصليّة إلّا لقيام الحجّة بتصحيح عين الحقيقة، وما قامت الحجّة بتصحيح عين الحقيقة إلّا لثبوت الدليل على أمر الحقيقة (3).
31 - صفات البشريّة لسان الحجّة على ثبوت صفات الصمديّة، وصفات الصمديّة لسان الإشارة إلى فناء صفات البشريّة. وهما طريقان إلى معرفة الأصل الذي هو قوام التوحيد (4).
32 - نزول الجمع ورطة وغبطة، وحلول الفرق فكاك وهلاك. وبينهما يتردّد الخاطران، إمّا متعلّق بأستار القدم، أو مستهلك في بحار العدم (5).
33 - من لا حظ الأزليّة والأبديّة وغمض عينيه عمّا بينهما فقد أثبت التوحيد. ومن غمض عينيه عن الأزليّة والأبديّة ولا حظ ما بينهما فقد أتى بالعبادة.
ومن أعرض عن البين والطرفين فقد تمسّك بعروة الحقيقة (6).
34 - من طلب التوحيد في غير لام ألف، فقد تعرّض للخوضان في الكفر ومن تعرّف هو الهويّة في غير خطّ الاستواء فقد جاس خلال الحيرة المذمومة التي لا استراحة بعدها (7).
__________
(1) أخبار الحلاج رقم 14.
(2) أخبار الحلاج رقم 25.
(3) أخبار الحلاج رقم 27.
(4) أخبار الحلاج رقم 29.
(5) أخبار الحلاج رقم 30.
(6) أخبار الحلاج رقم 31.
(7) أخبار الحلاج رقم 32.(1/27)
35 - عين التوحيد مودعة في السرّ، والسرّ مودع بين الخاطرين، والخاطران مودعان بين الفكرتين، والفكرة أسرع من لواحظ العيون (1).
36 - القرآن لسان كل علم، ولسان القرآن الأحرف المؤلّفة وهي مأخوذة من خطّ الاستواء، أصله ثابت وفرعه في السماء، وهو ما دار عليه التوحيد (2).
37 - ليس على وجه الأرض كفرا إلّا وتحته إيمان، ولا طاعة إلّا وتحتها معصية أعظم منها، ولا إفراد بالعبودية إلّا وتحته ترك الحرمة، ولا دعوى المحبة إلّا وتحتها سوء الأدب. لكن الله عامل عباده على قدر طاقتهم (3).
38 - أيّها الناس: إذا استولى الحقّ على قلب أخلاه عن غيره، وإذا لازم أحدا أفناه عمّن سواه، وإذا أحبّ عبدا حثّ عباده بالعداوة عليه، حتى يتقرّب العبد مقبلا عليه. فكيف لي ولم أجد من الله شمّة ولا قربا منه لمحة وقد ظلّ الناس يعادونني ثم بكى حتى أخذ أهل السوق في البكاء (4).
39 - إنّ الله تعالى لا تحيط به القلوب، ولا تدركه الأبصار، ولا تمسكه الأماكن، ولا تحويه الجهات، ولا يتصوّر في الأوهام، ولا يتخايل للفكر، ولا يدخل تحت كيف، ولا ينعت بالشرح والوصف. ولا تحرّك ولا تسكن ولا تتنفّس إلّا وهو معك، فانظر كيف تعيش. وهذا لسان العوامّ، وأمّا لسان الخواصّ فلا نطق له. والحقّ حقّ والعبد باطل (5).
40 - بسم الله الرحمن الرحيم المتجلّي عن كلّ شيء لمن يشاء. السلام عليك يا ولدي، ستر الله عنك ظاهر الشريعة، وكشف لك حقيقة الكفر. فإنّ ظاهر الشريعة كفر خفيّ، وحقيقة الكفر معرفة جليّة. أمّا بعد حمد الله الذي يتجلّى على رأس إبرة لمن يشاء، ويستتر في السماوات والأرضين عمّن يشاء، حتى يشهد هذا بأن لا هو، ويشهد ذلك بأن لا غيره. فلا الشاهد على نفيه مردود، ولا الشاهد بإثباته محمود. والمقصود من هذا الكتاب أني أوصيك أن لا تغترّ بالله ولا
__________
(1) أخبار الحلاج رقم 33.
(2) أخبار الحلاج رقم 34.
(3) أخبار الحلاج رقم 58.
(4) أخبار الحلاج رقم 36.
(5) أخبار الحلاج رقم 37.(1/28)
يتخيل المسكين أنّ علومها ... ما بين أوراق الكتاب تسطر
هيهات بل ما أودعوا في كتبهم ... إلا يسيرا من أمور تعسر
لا يقرأ الأقوام غير نفوسهم ... في حالهم مع ربّهم هل يحصر
فترى الدخيل يقيس فيه برأيه ... ليقال هذا منهم فيكبر
وتناقضت أقواله إن لم يكن ... عن حاله فيما تقدّم يخبر
علم الطريقة لا ينال براحة ... ومقايس فاجهد لعلك تظفر
غرّت علوم القوم عن إدراك من ... لا يعتريه صبابة وتحيّر
وتنفّس مما يجنّ وأنة ... وجوى يزيد وعبرة لا تفتر
وتذلّل وتولّه في غيبة ... وتلذّذ بمشاهد لا تظهر
وتقبض عند الشهود وغيرة ... إن قام شخص بالشريعة يسخر
وتخشع وتفجّع وتشرّع ... بتشرّع لله لا يتغير
هذا مقام القوم في أحوالهم ... ليسوا كمن قال الشريعة مزجر
ثم ادّعى أنّ الحقيقة خالفت ... ما الشرع جاء به ولكن تستّر
تبّا لها من قالة من جاحد ... ويل له يوم الجحيم يسعر
أو من يشاهد في المشاهد مطرقا ... ليقال هذا عابد متفكّر
هذا مرائي لا يلذ براحة ... في نفسه إلا سويعة يتطيّر (1)
لكنه من ذاك أسعد حالة ... وله النعيم إذا الجهول يفطر
وقال أيضا في باب الحال الموسوي:
كان لي قلب فلما ارتحل ... بقي الجسم محلّ العلل
كان بدرا طالعا إذ أتى ... مغرب التوحيد ثم أفل
زاده شوقا إلى ربّه ... صاحب الصعقة يوم الجبل
لم يزل يشكو الجوى والنوى ... ليلة الإثنين حتى اتصل (2)
فدنا من حضرة لم تزل ... تهب الأرواح سرّ الأزل
قرع الأبواب لمّا دنا ... قيل من أنت فقال: الحجل
قيل: أهلا سعة مرحبا ... فتح الباب فلما دخل
خرّ في حضرته ساجدا ... وانمحى رسم البقا وانسجل (3)
وشكا العهد فجاء الندا ... يا عبيدي زال وقت العمل
رأسك ارفع هذه حضرتي ... وأنا الحقّ فلا تنتعل
__________
(1) مرائي، من الرياء أي الكذب.
(2) الجوى: الحزن. النوى: البعد.
(3) يقال: انسجل الماء أي: انصب.(1/28)
رأسك ارفع ما الذي تبتغي ... قلت: مولاي حلول الأجل
قال: سجني قال: مت واعلمن ... أنّ في السجن بلوغ الأمل
يا فؤادي قد وصلت له ... قل له قول حبيب مدل
لولا ذاتي لم يصح استوى ... وبنوري صح ضرب المثل
وقال أيضا في باب الوعاء المختوم على السرّ المكتوم:
حمدت إلهي والمقام عظيم ... فأبدى سرورا والفؤاد كليم
ويا عجبا من فرحة كيف قورنت ... بترحة قلب حلّ فيه عظيم (1)
ولكنني من كشف بحر وجوده ... عجبت لقلبي والحقائق هيم (2)
كذاك الذي أبدى من النور ظاهرا ... على سدف الأجسام ليس يقيم (3)
وما عجبي من نور جسمي وإنّما ... عجبت لنور القلب كيف يريم
فإن كان عن كشف ومشهد رؤية ... فنور تجلّيه عليه عميم
تفطّنت فاستر علة الأمر يا فتى ... فهل زيّ خلق بالعليم عليم
تعالى وجود الذات عن نيل علمه ... به عند فصلي والفصال قديم
فغرنيق ربي قد أتاني مخبرا ... بتعيين ختم الأولياء كريم
فقلت وسرّ البيت صف لي مقامه ... فقال: حكيم يصطفيه حكيم
فقلت يراه الختم فاشتدّ قائلا ... إذا ما رآه الختم ليس يدوم
فقلت وهل يبقى له الوقت عند ما ... يراه نعم والأمر فيه جسيم
وللختم سرّ لم يزل كلّ عارف ... عليه إذا يسري إليه يحوم
أشار إليه التّرمذي بختمه ... ولم يبده والقلب منه سليم
وما ناله الصدّيق في وقت كونه ... وشمس سماء الغرب منه عديم
مذاقا ولكنّ الفؤاد مشاهد ... إلى كلّ ما يبديه وهو كتوم
يغار على الأسرار أن تلحق الثرى ... ولا تمتطيها الزهر وهي نجوم
فإن أبدروا أو أشمسوا فوق عرشه ... وكان لهم عند المقام لزوم
فربّما يبدو عليهم شهودها ... فمنهم نجوم للهدى ورجوم (4)
ولكنه المرموز لا يدرك السنا ... وكيف يرى طيب الحياة سقيم
فسبحان من أخفى عن العين ذاته ... وبحر تجلّيها عليه عميم
__________
(1) ترحة القلب: همّه.
(2) هيم: عطاش.
(3) السّدف: الصبح، وكذلك سواد الليل.
(4) الرجوم من النجوم: ما ترجم به الملائكة الشياطين.(1/29)
تيأس منه، ولا ترغب في محبّته ولا ترض أن تكون غير محبّ، ولا تقل بإثباته ولا تمل إلى نفيه، وإيّاك والتوحيد، والسلام (1).
41 - أمّا بعد: فإنّي أحمد إليك الله الذي لا إله إلّا هو، الخارج من حدود الأوهام وتصاوير الظنون وتخييل الفكر وتحديد الضمير، الذي {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} (2) واعلم أنّ المرء قائم على بساط الشريعة ما لم يصل إلى مواقف التوحيد. فإذا وصل إليها سقطت من عينه الشريعة واشتغل باللوائح الطالعة من معدن الصدق. فإذا ترادفت عليه اللوائح، وتتابعت عليه الطوالع، صار التوحيد عنده زندقة. والشريعة عنده هوسا، فبقي بلا عين ولا أثر. إن استعمل الشريعة استعملها رسما وإن نطق بالتوحيد نطق به غلبة وقهرا (3).
42 - أما بعد: فإنّي لا أدري ما أقول. إن ذكرت برّكم لم أنته إلى كنهه وإن ذكرت جفاءكم لم أبلغ الحقيقة. بدت لنا باديات قربكم فأحرقتنا وأذهلتنا عن وجود حبّكم. ثم عطف وألف مما ضيّع وأتلف، ومنع عن وجود طعم التلف.
وكأني وقد تخرّقت الأنوار وتهتّكت الأستار، وظهر ما بطن، وبطن ما ظهر، وليس لي من خبر، ومن لم يزل كما لم يزل (4).
43 - أطال الله لي حياتك وأعدمني وفاتك، على أحسن ما جرى به قدر، ونطق به خبر. مع ما إن لك في قلبي من لواعج أسرار محبّتك، وأفانين ذخائر مودّتك، ما لا يترجمه كتاب، ولا يحصيه حساب، ولا يفنيه عتاب (5).
44 - الأديان كلّها لله عزّ وجلّ، شغل بكلّ دين طائفة لا اختيارا فيهم بل اختيارا عليهم. فمن لام أحدا ببطلان ما هو عليه فقد حكم أنه اختار ذلك لنفسه، وهذا مذهب القدريّة و «القدريّة مجوس هذه الأمّة». واعلم أنّ اليهوديّة والنصرانيّة والإسلام وغير ذلك من الأديان هي ألقاب مختلفة وأسام متغايرة، والمقصود منها لا يتغيّر ولا يختلف (6).
__________
(1) أخبار الحلاج رقم 41.
(2) الشورى: 11.
(3) أخبار الحلاج رقم 47.
(4) ملحق أخبار الحلاج رقم 2.
(5) ملحق أخبار الحلاج رقم 3.
(6) أخبار الحلاج رقم 45.(1/29)
فأشخاصنا خمس وخمس وخمسة ... عليهم نرى أمر الوجود يقوم
ومن قال إن الأربعين نهاية ... لهم فهو قول يرتضيه كليم
وإن شئت أخبر عن ثمان ولا تزد ... طريقهم فرد إليه قويم
فسبعتهم في الأرض لا يجهلونها ... وثامنهم عند النجوم لزوم
فعند فنا خاء الزمان ودالها ... على فاء مدلول الكوور يقوم
مع السبعة الأعلام والناس غفل ... عليم بتدبير الأمور حليم
وفي الروضة الغرّاء سمّ غذائه ... وصاحبها بالمؤمنين رحيم
ويختص بالتدبير من دون غيره ... إذا فاح زهر أو يهبّ نسيم
تراه إذا ناداه في الأمر جاهل ... كثير الدعاوى أو يكيد زنيم (1)
فظاهره الإعراض عنه وقلبه ... غيور على الأمر العزيز زعيم
إذا ما بقي من يومه نصف ساعة ... إلى ساعة أخرى وحلّ صريم (2)
فيهتز غصن العدل بعد سكونه ... ويحيي نبات الأرض وهو هشيم (3)
ويظهر عدل الله شرقا ومغربا ... وشخص إمام المؤمنين رحيم
وثم صلاة الحق تترى على الذي ... به لم أزل في حالتيّ أهيم
وقال أيضا في الباب:
تدبر أيها الحبر اللبيب ... أمورا قالها الفطن المصيب (4)
وحقّق ما رمى لك من معان ... حواها لفظه العذب العجيب
ولا تنظره في الأكوان تشقى ... ويتعب جسمك الفذّ الغريب (5)
إذا ما كنت نسختها فما لي ... أروم البعد والمعنى قريب
وقال أيضا في الباب عينه:
فما أبالي إذا نفسي تساعدني ... على النجاة بمن قد فاز أو هلكا
فانظر إلى ملكك الأدنى إليك تجد ... في كلّ شخص على أجزائه ملكا
وزنه بالعدل شرعا كلّ آونة ... واسلك به خلفه من حيث ما سلكا
ولا تكن ماردا تسعى لمفسدة ... في ملك ذاتك لكن فيه كن ملكا
وقال أيضا في إيضاح حجه ومفتاح محجه:
أقول وروح القدس ينفث في النفس ... بأنّ وجود الحق في العدد الخمس
__________
(1) زنيم: مستلحق في قوم ليس منهم.
(2) الصريم: الصبح والليل، ضد.
(3) هشيم: يابس.
(4) الحبر: العالم أو الصالح.
(5) الغذ: الجرح الذي يسيل بما فيه.(1/30)
45 - من طلب الله بين الميم والعين وجده، ومن طلبه بين الألف والنون في حرف الإضافة فقده، فإنّه تقدّس عن مشكلات الظنون، وتعالى عن الخواطر ذوات الفنون (1).
46 - قال عبد الودود بن سعيد بن عبد الغني الزاهد: دخلت على الحلّاج فقلت له: دلّني على التوحيد. فقال: التوحيد خارج عن الكلمة حتى يعبّر عنه قلت: فما معنى لا إله إلّا الله. قال: كلمة شغل بها العامّة لئلّا يختلطوا بأهل التوحيد وهذا شرح التوحيد من وراء الشرع. ثم احمرّت وجنتاه وقال: أقول لك مجملا.
قلت: بلى. قال: من زعم أنه يوحّد الله فقد أشرك (2).
47 - الحقّ تعالى عن الأين والمكان، وتفرّد عن الوقت والزمان، وتنزه عن القلب والجنان، واحتجب عن الكشف والبيان، وتقدّس عن إدراك العيون، وعمّا تحيط به أوهام الظنون، تفرّد عن الخلق بالقدم كما تفرّدوا عنه بالحدث، فمن كان هذا صفته كيف يطلب السبيل إليه (3).
48 - أمر بشهادة وحدانيّته، ونهى عن وصف كنه هويّته، وحرم على القلوب الخوض في كيفيّته، وأفحم الخواطر عن إدراك لاهوتيّته. فليس منه يبدو للخلق إلّا الخبر، والخبر يحتمل الصدق والكذب. فسبحانه من عزيز يتجلّى لأحد من غير علّة، ويستتر عن أحد من غير سبب (4).
49 - من أراد أن يصل إلى المقصود فلينبذ الدنيا وراء ظهره (5).
50 - ما وحّد الله غير الله، وما عرف حقيقة التوحيد غير رسول الله (6).
51 - اعلم أنّ العبد إذا وحّد ربّه تعالى، فقد أثبت نفسه، ومن أثبت نفسه فقد أتى بالشرك الخفيّ. وإنّما الله تعالى هو الذي وحّد نفسه على لسان من شاء من خلقه. فلو وحّد نفسه على لساني فهو وشأنه. وإلّا فما لي يا أخي والتوحيد (7).
__________
(1) أخبار الحلاج رقم 46.
(2) أخبار الحلاج رقم 49.
(3) أخبار الحلاج رقم 51.
(4) أخبار الحلاج رقم 53.
(5) أخبار الحلاج رقم 55.
(6) أخبار الحلاج رقم 57.
(7) أخبار الحلاج رقم 62.(1/30)
52 - التوحيد: تمييز الحدث عن القدم، ثم الإعراض عن الحدث والإقبال على القدم، وهذا حشو التوحيد. وأمّا محضه فالفناء بالقدم عن الحدث وأمّا حقيقة التوحيد فليس لأحد إليه سبيل إلّا لرسول الله صلى الله عليه وسلم (1).
53 - في القرآن علم كل شيء، وعلم القرآن في الأحرف التي في أوائل السّور، وعلم الأحرف في لام ألف، وعلم لام ألف في الألف، وعلم الألف في النقطة، وعلم النقطة في المعرفة الأصليّة، وعلم المعرفة الأصليّة في الأزل، وعلم الأزل في المشيئة، وعلم المشيئة في غيب الهو، وعلم غيب الهو {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} ولا يعلمه إلّا هو (2).
54 - أنا الحق والحق للحق حق ... لابس ذاته فما ثمّ فرق (3).
55 - حجبهم بالاسم فعاشوا، ولو أبرز لهم علوم القدرة لطاشوا ولو كشف لهم عن الحقيقة لماتوا (4).
56 - أسماء الله من حيث الإدراك اسم، ومن حيث الحقّ حقيقة (4).
57 - خاطر الحقّ هو الذي لا يعارضه شيء (4).
58 - إذا تخلّص العبد إلى مقام المعرفة أوحى الله تعالى إليه بخاطره وحرس سرّه أن يسنح فيه غير خاطر الحقّ (4).
59 - علامة العارف أن يكون فارغا من الدنيا والآخرة (4).
60 - وسئل الحسين: لم طمع موسى في الرؤية وسألها. قال لأنه انفرد للحقّ فانفرد الحقّ به في جميع معانيه، وصار الحقّ مواجهه في كلّ منظور إليه، ومقابله دون كلّ محضور لديه، على الكشف الظاهر عليه لا على الغيب. فذلك الذي حمله على سؤال الرؤية لا غير (4).
61 - قال فارس البغداديّ: سألت الحسين بن منصور عن المريد، فقال: هو الرامي بأوّل قصده إلى الله ولا يعرّج حتى يصل (5).
62 - وقال: المريد الخارج عن أسباب الدارين أثرة بذلك على أهلها (5).
__________
(1) أخبار الحلاج رقم 63.
(2) أخبار الحلاج رقم 64.
(3) أخبار الحلاج رقم 74.
(4) ملحق أخبار الحلاج رقم 1.
(5) ملحق أخبار الحلاج رقم 1.(1/31)
أيا كعبة الأشهاد يا حرم الأنس ... ويا زمزم الآمال زمّ على النّفس
سرى البيت نحو البيت يبغي وصاله ... وطهر بالتحقيق من دنس اللبس
فيا حسرتي يوما ببطن محسر ... وقد دلّني الوادي على سقر الرّجس (1)
تجرّعت بالجرعاء كأس ندامة ... على مشهد قد كان مني بالأمس (2)
وما خفت بالخيف ارتحالي وإنما ... أخاف على ذي النفس من ظلمة الرّمس (3)
لمزدلف الحجاج أعملت ناقتي ... لأنعم بالزّلفى وألحق بالجنس (4)
جمعت بجمع بين عيني وشاهدي ... بوترين لم أشهد به رتبة النفس
خلعت الأماني بعد ما كنت في منى ... وطوّفتها فانظره بالطرد والعكس
ففي الجمرات الغرّ في رونق الضحى ... حصبت عدوّ الجهل فارتدّ في نكس
ركنت إلى الركن اليماني لأن في اس ... تلام اليماني اليمن في جنة القدس
صفيت على حكم الصفا عن حقيقتي ... فما أنا من عرب فصاح ولا فرس
أقمت أناجي بالمقام مهيمنا ... تعالى عن التحديد بالفصل والجنس
فشاهدته في بيعة الحجر الذي ... تسوّد من نكث العهود لذي اللمس (5)
وبالحجر حجرت الوجود وكونه ... عليّ فلا يغدو الزمان ولا يمسي
وفي رمضان قال لي تعرف الذي ... تشاهده بين المهابة والأنس
فلما قضيت الحج أعلنت منشدا ... بسيري بين الجهر للذات والهمس
سفينة إحساسي ركبت فلم تزل ... تسيرها أرواح أفكاره الخرس
فلما عدت بحر الوجود وعاينت ... بسيف النهي من جلّ عن رتبة الأنس (6)
دعاني به عبدي فلبّيت طائعا ... تأمل فهذا القطف فوق جنى الغرس
فعاينت موجودا بلا عين مبصر ... وسرّح عيني فانطلقت من الحبس
فكنت كموسى حين قال لربّه ... أريد أرى ذاتا تعالت عن الحسّ
فدكّ الجبال الراسيات جلاله ... وأصعق موسى فاختفى العرش في الكرسي
وكنت كخفّاش أراد تمتعا ... بشمس الضحى فانهدّ من لمحة الشمس
فلا ذاته أبقى ولا أدرك المنى ... وغودر في الأموات جسما بلا نفس
ولكنني أدعي على القرب والنوى ... بلا كيف بالبعل الكريم وبالعرس
__________
(1) سقر: جهنم. الرجس: القذر.
(2) الجرعاء: الرملة الطيبة المنبت لا وعوثة فيها.
(3) الخيف: الناحية، وموضع. الرمس: القبر.
(4) الزّلفى: القربى.
(5) نكث العهد: نقضه.
(6) النّهى: العقل.(1/31)
وقال أيضا في باب حكمة تعليم من عالم حكيم:
قلبي بذكرك مسرور ومحزون ... لما تملكه لمح وتلوين
فلو رقت في سماء الكشف همته ... لما تملكه وجد وتكوين
لكنه حاد عن قصد السبيل فلم ... يظفر به فهو بين الخلق مسكين
حتى دعت من الأشواق داعية ... همت لها نحو قلبي سحبة الجون (1)
وأبرقت في نواحي الجوّ بارقة ... أضحى بها وهو مغبوط ومفتون
والسحب سارية والريح ذارية ... والبرق مختطف والماء مسنون (2)
وأخرجت كل ما تحويه من حبس ... أرض الجسوم وفاح الهند والصين
فما ترى فوق أرض الجسم مرقبة ... إلا وفيها من النّوّار تزيين (3)
وكلما لاح في الأجسام من بدع ... وفي السرائر معلوم وموزون
والقلب يلتذ في تقليب مشهده ... بكلّ وجه من التزيين ضنّين (4)
والجسم فلك ببحر الجود يزعجه ... ريح من الغرب بالأسرار مشحون
وراكب الفلك ما دامت تسيّره ... ريح الشريعة محفوظ وممنون
ألقى الرئيس إلى التوحيد مقدمه ... وفيه للملأ العلويّ تأمين
فلو تراه وريح الشوق تزعجه ... يجري وما فيه تحريك وتسكين
إن العناصر في الإنسان مودعة ... نار ونور وطين فيه مسنون (5)
فأودع الوصل ما بيني على كثب ... وبين ربي مفروض ومسنون
فالسرّ بالله من خلقي ومن خلقي ... إذا تحققت موصول وممنون
يقول إني قلب الحقّ فاعتبروا ... فإن قلب كتاب الله ياسين
من بعد ما قد أتى من قبل نفحته ... عليّ من دهره في نشأتي حين
لا يعرف الملك المعصوم ما سببي ... ولا اللعين الذي ينكيه تنيّن (6)
لما تسترت عن صلصال مملكتي ... أخفان عن علمه في عينه الطين
فكان يحجبه عني وعن صفتي ... غيم العمى وأنا في الغيب مخزون
فعند ما قمت فيه صار مفتخرا ... يمشي الهوينا وفي أعطافه لين
لما سرى القلب للأعلى وجاز على ... عدن وغازلنه حور بها عين (7)
__________
(1) الجون: جمع الجون: الأسود، والأبيض، ضد.
(2) السحب السارية: السحب التي تأتي ليلا. الماء مسنون، أي: منتن.
(3) النوّار: الزهر، أو الزهر الأبيض.
(4) ضنين: بخيل.
(5) النار والنور والعين هي العناصر التي تتألف منها الأجسام.
(6) التنين: حية عظيمة.
(7) إشارة إلى جنة عدن وفيها الحور العين.(1/32)
63 - إنّ الأنبياء سلّطوا على الأحوال فملكوها، فهم يصرّفونها لا الأحوال تصرّفهم، وغيرهم سلّطت عليهم الأحوال، فالأحوال تصرّفهم لا هم يصرّفون الأحوال (1).
64 - إلهي أنت تعلم عجزي عن مواضع شكرك، فاشكر نفسك عنّي، فإنّه الشكر لا غير (1).
65 - من لاحظ الأعمال حجب عن المعمول له، ومن لاحظ المعمول له حجب عن رؤية الأعمال (1).
66 - الحقّ هو المقصود إليه بالعبادات، والمصمود إليه بالطاعات لا يشهد بغيره، ولا يدرك بسواه، بروائح مراعاته تقوم الصفات وبالجمع إليه تدرك الدرجات (1).
67 - لا يجوز لمن يرى أحدا أو يذكر أحدا أن يقول إنّي عرفت الأحد الذي ظهرت منه الآحاد (1).
68 - ألسنة مستنطقات تحت نطقها مستهلكات، وأنفس مستعملات تحت استعمالها مستهلكات (1).
69 - حياء الربّ أزال عن قلوب أوليائه سرور المنّة بل حياء الطاعة أزال عن قلوب أوليائه سرور الطاعة (1).
70 - من أسكرته أنوار التوحيد حجبته عن عبارة التجريد، بل من أسكرته أنوار التجريد نطق عن حقائق التوحيد، لأنّ السكران هو الذي ينطق بكلّ مكتوم (1).
71 - كما كان الله أوجد الأجسام بلا علّة، كذلك أوجد فيها صفاتها بلا علّة. كما لا يملك العبد أصل فعله كذلك لا يملك فعله (1).
تنبؤه بأنه سيصلب
ثمة أخبار وأقوال تدل على أن الحلاج كان يعلم أنه سيصلب، وكان يعلم أيضا أن الله إذا أحب عبدا حثّ عباده بالعداوة عليه، لذلك كان يطلب أن يكثر أعداؤه والقائمون على قتله. ومن هذه الأخبار الدالة على ذلك:
__________
(1) ملحق أخبار الحلاج رقم 1.(1/32)
1 - عن موسى بن أبي ذرّ البيضاويّ قال: كنت أمشي خلف الحلّاج في سكك البيضاء، فوقع ظلّ شخص من بعض السطوح عليه. فرفع الحلّاج رأسه فوقع بصره على امرأة حسناء، فالتفت إليّ وقال: سترى وبال هذا عليّ ولو بعد حين. فلمّا كان يوم صلبه، كنت بين القوم أبكي، فوقع بصره عليّ من رأس الخشبة، فقال: يا موسى، من رفع رأسه كما رأيت وأشرف إلى ما لا يحلّ له، أشرف على الخلق هكذا، وأشار إلى الخشبة (1).
2 - قال الحلاج لإبراهيم بن فاتك: كيف أنت يا إبراهيم حين تراني وقد صلبت وقتلت وأحرقت، وذلك أسعد يوم من أيّام عمري جميعه. ثم قال لي: لا تجلس، واخرج في أمان الله (2).
3 - وقال أحمد بن فاتك: كنّا بنهاوند مع الحلّاج، وكان يوم النيروز، فسمعنا صوت البوق، فقال الحلّاج: أيّ شيء هذا؟ فقلت: يوم النيروز. فتأوّه وقال: متى ننورز؟ فقلت: متى تعني؟ قال: يوم أصلب! فلمّا كان يوم صلبه بعد ثلاث عشرة سنة، نظر إليّ من رأس الجذع، وقال: يا أحمد نورزنا!.
فقلت: أيّها الشيخ هل أتحفت؟ قال: بلى، أتحفت بالكشف واليقين، وأنا ممّا أتحفت به خجل غير أني تعجّلت الفرح (3).
4 - ألا أبلغ أحبّائي بأني ... ركبت البحر وانكسر السّفينه
على دين الصّليب يكون موتي ... ولا البطحا أريد ولا المدينه
5 - ولعل هذا الحدس بالصلب الذي كان يعتري الحلاج، هو نفسه الذي اعترى أبا عبد الله المغربي. فقد ورد في أخبار الحلاج عن إبراهيم بن شيبان قال:
دخلت مكّة مع أبي عبد الله المغربيّ فأخبرنا أنّ ههنا الحلّاج مقيم بجبل أبي قبيس.
فصعدناه وقت الهاجرة فإذا به جالس على صخرة والعرق يسيل منه، وقد ابتلّت الصخرة من عرقه. فلمّا رآه أبو عبد الله، رجع وأشار إلينا أن نرجع فرجعنا. ثم قال أبو عبد الله: يا إبراهيم، إن عشت ترى ما يلقى هذا، سوف يبتليه الله ببليّة لا يطيقها أحد من خلقه يتصبّر مع الله (4).
__________
(1) أخبار الحلاج رقم 15.
(2) أخبار الحلاج رقم 3.
(3) أخبار الحلاج رقم 22.
(4) أخبار الحلاج رقم 69، وانظر تاريخ بغداد 8/ 119.(1/33)
غضّ الجفون ولم يثن العنان لها ... لما مضى عن هواه القرض والدّين (1)
فعند ما قام فوق العرش بايعه ... اللوح والقلم والعلّام والنّون
فلو تراه وقد أخفى حقيقته ... له فويق استواء الحقّ تمكين
فإن تجلى على كون بحكمته ... له علا ظهر ذاك الكون تعيين
فلا يزال لمرح الملقيات به ... يقول للكائنات في الورى كونوا (2)
فكلّ قلب سها عن سرّ حكمته ... في كل كون فذاك القلب مغبون
فاعلم بأنك لا تدري الإله إذا ... ما لم يكن فيك يرموك وصفّين (3)
فاعرف إلهك من قبل الممات فإن ... تمت فأنت على التقليد مسجون
وإن تجليت في شرقي مشهده ... علما تنزه فيك العال والدون
ولاح في كلّ ما يخفى ويظهره ... من التكاليف تقبيح وتحسين
فافهم فديتك سرّا لله فيك ولا ... تظهره فهو عن الأغيار مكنون
وغر عليه وصنه ما حييت به ... فالسرّ ميت بقلب الحرّ مدفون
وقال أيضا في باب صدور الأحرار قبور الأسرار:
نبه على السرّ ولا تفشه ... فالبوح بالسرّ له مقت (4)
على الذي يبديه فاصبر له ... واكتمه حتى يصل الوقت
وقال أيضا في باب نكاح عقده وعرس شهده:
عجبت من بحر بلا ساحل ... وساحل ليس له بحر (5)
وضحوة ليس لها ظلمة ... وليلة ليس لها فجر (6)
وكرة ليس لها موضع ... يعرفها الجاهل والحبر (7)
وقبة خضراء منصوبة ... جارية نقطتها القهر
وعمد ليس لها قبة ... ولا مكان خفي السرّ
خطبت سرّا لم يغيره كن ... فقيل هل هيمك الفكر (8)
فقلت ما لي قدرة فارفقوا ... عليه في الكون ولا صبر
__________
(1) العنان: سير اللجام الذي تمسك به الدابة.
(2) الورى: الخلق.
(3) اليرموك: موضع ببلاد الشام جرت فيه معركة بين المسلمين والروم وفتحت الشام بعدها.
وصفّين: موضع بين الشام والعراق اقتتل فيه المسلمون أيام خلافة علي رضي الله عنه.
(4) المقت: الكره.
(5) بحر بلا ساحل، يريد أن الحال الذي خصه به الله من التعظيم لله والانقطاع إليه لا ينقطع.
(6) الظلمة: يريد بها العلم بالذات الإلهية.
(7) الحبر: العالم.
(8) هيّم: شوّق.(1/33)
فإنّ بالفكر إذا ما استوى ... في خلدي يتّقد الجمر
فيصبح الكلّ حريقا فلا ... شفع يرى فيه ولا وتر
فقيل لي ما يجتني زهره ... من قال رفقا إنني حرّ
من خطب الخنساء في خدرهها ... متيما لم يغله المهر (1)
أعطيتها المهر وأنكحتها ... في ليلتي حتى بدا الفجر
فلم أجد غيري فمن ذا الذي ... أنكحته فلينظر الأمر
فالشمس قد أدرج في ضوئها ... القمر الساطع والزهر
كالدّهر مذموم وقد قال من ... صلى عليه ربّك الدهر
وقال أيضا:
ولما أتاني الحقّ ليلا مكلما ... كفاحا وأبداه لعيني التواضع
وأرضعني ثدي الوجود تحققا ... فما أنا مفطوم ولا أنا راضع (2)
ولم أقتل القبطيّ لكن زجرته ... بعلمي فلم تعسر عليّ المواضع
وما ذبح الأبناء من أجل سطوتي ... ولا جاء شرّير ببطشي رافع
فكنت كموسى غير أني رحمة ... لقومي فلم تحرم عليّ المراضع
لغزت أمورا إن تحققت أمرها ... بدا لك علم عند ربّك نافع
وقال أيضا في باب المواقف الأدبية:
مواقف الحقّ أدّبتني ... وإنما يوقف الأديب (3)
أشهد في ذاته كفاحا ... فلم أجد شمسها تغيب
واتحدت ذاتنا فلما ... كنت أنا العاشق الحبيب
أرسلني بالصفات كيما ... يعرفني العاقل المصيب
فيأخذ السرّ من فؤادي ... فتغتذي باسمه القلوب (4)
وقال أيضا في نكتة الشرف في غرف من فوقها غرف:
فمن شرف النبيّ على الوجود ... ختام الأولياء من العقود
__________
(1) الخنساء: المرأة إذا كان في أنفيها تأخّر عن الوجه. الخدر: الخباء.
(2) المراد أن له أوان فطام وأوان ارتضاع، فلا ينبغي عند المتصوفة للمريد أن يفارق شيخه إلا بإذنه، ولا يأذن الشيخ للمريد في المفارقة إلا بعد علمه بأن آن له أوان الفطام، وأنه يقدر أن يستقل بنفسه.
(3) أدّبتني: أرجعتني.
(4) السرّ: يريد تلك اللطيفة المودعة في القلب كالروح في البدن، وهو نور روحاني هو آلة النفس ومحل المشاهدة، وبدونه برأيهم تعجز النفس عن العمل.(1/34)
6 - اللهم أكثر أعدائي في بلادك والقائمين لقتلي من عبادك (1).
7 - اعلموا أن الله تعالى أباح لكم دمي فاقتلوني اقتلوني تؤجروا وأستريح. ليس في الدنيا للمسلمين شغل أهم من قتلي (2).
8 - اقتلوني يا ثقاتي ... إنّ في قتلي حياتي
9 - وعن عمران بن موسى قال: سمعت بعض البصريّين يقول: كنت أنكر على الحلّاج وأقدح فيه حتى مرض لي أخ، وكدت أموت أسفا عليه. فهمت على وجهي ممّا داخلني من الحسرة عليه، حتى وقفت على باب الحلّاج، فدخلت وقلت: يا شيخ، فلان أخي أشرف على الموت، ادع له. فضحك وقال: أنجيه بشرط تفي لي به. قلت: وما هو؟ قال: لا ترجع عن الإنكار عليّ بل تزيد وتشهد عليّ بالكفر وتعين على قتلي. فبقيت مبهوتا فقال: لا ينفعك إلّا قبول الشرط. قلت: نعم أفعل (3).
حال الحلاج حين صلب:
1 - عن فارس البغدادي قال: قطعت أعضاء الحلاج وما تغير لونه (4).
2 - عن أبي بكر العطوفي قال: قطعت يدا الحلاج ورجلاه وما نطق (4).
3 - عن أبي العباس بن عبد العزيز قال: كنت أقرب الناس من الحلاج حين ضرب، فكان يقول مع كل سوط: أحد أحد (4).
4 - آخر كلمة تكلم بها الحسين بن منصور عند قتله: حسب الواجد إفراد الواحد له، فما سمع بهذه الكلمة فقير إلا رقّ له واستحسنها منه (5).
__________
(1) أخبار الحلاج رقم 69، وانظر تاريخ بغداد 8/ 119. وأخبار الحلاج رقم 5.
(2) أخبار الحلاج رقم 50.
(3) أخبار الحلاج رقم 54.
(4) سير أعلام النبلاء 14/ 342، وتاريخ بغداد 8/ 131.
(5) سير أعلام النبلاء 14/ 342، 350، وتاريخ بغداد 8/ 132، وأخبار الحلاج رقم 17.(1/34)
5 - ضرب الحلاج خمسمائة سوط، ثم أخرج وقطعت يداه ورجلاه، ثم صلب فقال: إلهي أصبحت في دار الرغائب أنظر إلى العجائب، إلهي إنك تتودد إلى من يؤذيك، فكيف تتودد إلى من يؤذى فيك (1).
6 - حكي أنه رؤي واقفا في الموقف والناس في الدعاء، وهو يقول:
أنزّهك عما قرفك به عبادك، وأبرأ إليك مما وحّدك به الموحدون (2).
7 - قال أبو عمر بن حيّوية: لما أخرج الحلاج ليقتل، مضيت وزاحمت حتى رأيته، فقال لأصحابه: لا يهولنكم، فإني عائد إليكم بعد ثلاثين يوما (3).
8 - وقيل: إنه لما أخرج للقتل أنشد:
طلبت المستقر بكل أرض ... فلم أر لي بأرض مستقرّا
أطعت مطامعي فاستعبدتني ... ولو أني قنعت لكنت حرّا
9 - يقال: إن يده لما قطعت كتب الدم على الأرض: الله الله (4).
10 - سئل الحلاج عن الصبر فقال: أن تقطع يدا الرجل ورجلاه، ويسمّر ويصلب على هذا الجسر. ففعل به كل ذلك (5).
__________
(1) سير أعلام النبلاء 14/ 345، 350.
(2) سير أعلام النبلاء 14/ 342.
(3) سير أعلام النبلاء 14/ 346، وتاريخ بغداد 8/ 131.
(4) سير أعلام النبلاء 14/ 346، وتاريخ بغداد 8/ 130.
(5) سير أعلام النبلاء 14/ 347.(1/35)
من البيت الرفيع وساكنيه ... من الجنس المعظم في الوجود
وتبيين الحقائق في ذراها ... وفضل الله فيه من الشهود
لو أنّ البيت يبقى دون ختم ... لجاء اللصّ يفتك بالوليد
فحقّق يا أخي نظرا إلى من ... حمى بيت الولاية من بعيد
فلولا ما تكوّن من أبينا ... لما أمرت ملائكة السجود
فذاك الأقدسيّ أمام نفسي ... يسمّى وهو حيّ بالشهيد
وحيد الوقت ليس له نظير ... فريد الذات من بيت فريد
لقد أبصرته حتما كريما ... بمشهده على رغم الحسود
كما أبصرت شمس البيت منه ... مكان الحلق من حبل الوريد (1)
لو أنّ النور يشرق من سناه ... على الجسم المغيب في اللحود
لأصبح عالما حيّا كليما ... طليق الوجه يرفل في البرود (2)
فمن فهم الإشارة فليصنها ... وإلا سوف يلحق بالصّعيد
فنور الحقّ ليس به خفاء ... على الأفلاك من سعد السّعود (3)
رأيت الأمر ليس به توان ... سواء في هبوط أو صعود
نطقت به وعنه وليس إلا ... وإنّ الأمر فيه على المزيد
وكوني في الوجود بلا مكان ... دليل أنني ثوب الشهيد
فما وسع الوجود جلال ربّي ... ولكن كان في قلب العميد
أردت تكتما لما تجارى ... إليه النكر من بيض وسود
وهل يخشى الذئاب عليه من قد ... مشى في القفر من خفر الأسود
وخاطبت النفيسة من وجودي ... على الكشف المحقّق والوجود
أبعد الكشف عنه لكل عين ... جحدت وكيف ينفعني جحودي
فردّت في الجواب عليّ صدقا ... تضرّع للمهيمن والشهيد
وسله الحفظ ما دام التلقّي ... وسله العيش للزّمن السّعيد
سألتك يا عليم السرّ مني ... عصا ما في المودّة بالودود (4)
وأن تبقي عليّ رداء جسمي ... بكعبتكم إلى يوم الصّعود
__________
(1) الشمس: يريد بها ذلك النور، مظهر الألوهية، وهي عندهم أصل لسائر المخلوقات العنصرية، ويزعمون أن الوجود بأسره خلق مرموزا بقرص الشمس.
(2) البرود: جمع البرد: الثوب المخطط.
(3) الأفلاك: جمع الفلك، ويريد: القلوب وهي محل الأنوار.
(4) السّر، عندهم: آلة النفس ومحل المشاهدة، وموضعها القلب.(1/35)
وأن تخفي مكاني في مكاني ... كما أخفيت بأسك في الحديد
وتستر ما بدا مني اضطرارا ... كسترك نور ذاتك في العبيد
وأن تبدي عليّ شهود عجزي ... بتوفيتي مواثيق العهود
وقال أيضا في باب الإمامة والخلافة:
ولما جلّ عتبي حلّ غيبي ... على عيني فصيّره عديما
وعند شهود ربّي دبّ حيّ ... على قلبي فغادره سليما
ولما فاح زهري هبّ سري ... على نوري فصيّره هشيما (1)
ولما اضطر أهلي لاح نار ... من الرحمن صيّرني كليما
ولما كنت مختارا حبيبا ... وكان براق سيري بي كريما (2)
مطوت ولم أبال بكلّ أهل ... تركت فعدت رحمانا رحيما
وكنت إلى رجيم البعد نجما ... دوين العرش وقّادا رجيما
ولما كنت مرضيا حصورا ... وكان أمام وقت الشمس ميما
لحظت الأمر يسري من قريب ... على كفر يصيّره رميما
وكنت به لفرد بعد ستّ ... لعام العقد قوّاما عليما
فلو أظهرت معنى الدهر فيه ... لأعجزت العبارة والرقوما (3)
ولكني سترّت لكون أمري ... محيطا في شهادته عظيما
فغطّيت الأمور بكل كشف ... لعين صار بالتقوى سليما
وقال أيضا في باب الاتحاد بل الأحد:
أخاطبني عني ... بلسان أني
من انتقاصي إلى كمالي ... من انحرافي إلى اعتدالي
ومن سناي إلى جمالي ... ومن سنائي إلى جلالي
ومن شتاتي إلى اجتماعي ... فمن صدودي إلى وصالي
ومن خسيسي إلى نفيسي ... فمن حجار إلى اللآلي
ومن شروقي إلى غروبي ... فمن نهاري إلى الليالي
ومن ضيائي إلى ظلامي ... فمن هداي إلى ضلالي
ومن حضيضي إلى استوائي ... فمن زجاج إلى العوالي
__________
(1) الهشيم: النبت اليابس المتكسّر.
(2) البراق في الأصل: دابة فوق الحمار ودون البغل.
(3) الرقوم: جمع الرقيم وهو لوح أو صخرة ينقش عليه الناس أسماءهم ونسبهم.(1/36)
ومن دخولي إلى خروجي ... فمن محاقي إلى هلالي
ومن طلابي إلى نفوري ... فمن جوادي إلى غزالي
ومن نسيمي إلى غصوني ... ومن غصوني إلى ظلالي
ومن ظلالي إلى نعيمي ... ومن نعيمي إلى محالي (1)
ومن محالي إلى مثالي ... ومن مثالي إلى محالي
ومن محالي إلى صحيحي ... ومن صحيحي إلى اعتلالي
فما أنا في الوجود غيري ... فما أعادي وما أوالي
وما أنادي على فؤادي ... من أجل رام ماضي النصال
فإن رامي السهام جفني ... إلى فؤادي بلا نبال
فما أحامي على مقامي ... وما أعالي فما أبالي
فإنني عشقت غيري ... فعين فصلي هو اتصالي
فلا تلمني على هواي ... فلست عن هاجري بسالي
وقال أيضا من هذا النفس في هذا الباب:
فمن حسّي إلى عقلي ... ومن عقلي إلى حسّي
بعلمين غريبين ... بلا شكّ ولا لبس
ومن حدسي إلى علمي ... ومن علمي إلى حدسي (2)
فنور العلم ممدود ... ونور الحدس ما يمسي
ومن نفسي إلى روحي ... ومن روحي إلى نفسي
بتحليل وتركيب ... كمثل الميت في الرّمس (3)
ومن قدسي إلى رجسي ... ومن رجسي إلى قدسي
فقدسي كان في وقتي ... ورجسي كان في أمسي
ومن إنسي إلى جنّي ... ومن جني إلى إنسي
فجني يبتغي غمي ... وإنسي يبتغي أنسي
ومن حبّي إلى سعتي ... ومن سعتي إلى حبّي
لنكر قام في نفسي ... على عقلي وبالعكس
ومن أيسي إلى ليسي ... ومن ليسي إلى أيسي
__________
(1) ظلال: جمع ظل ويريد الوجود الإضافي الظاهر بتعينات الأعيان الممكنة وأحكامها التي هي معدومات ظهرت باسمه النور الذي هو الوجود الخارجي المنسوب إليها فيستر ظلمة عدميتها النور الظاهر بصورها صار ظلا لظهور الظل بالنور وعدميته في نفسه.
(2) الحدس: الظن والتوهم.
(3) الرمس: القبر.(1/37)
أخبار الحلاج
[1]
عن إبراهيم بن فاتك قال: لمّا أتي بالحسين بن منصور ليصلب، رأى الخشبة والمسامير، فضحك كثيرا حتى دمعت عيناه. ثم التفت إلى القوم فرأى الشبليّ فيما بينهم، فقال له: يا أبا بكر، هل معك سجّادتك. فقال: بلى يا شيخ.
قال: افرشها لي. ففرشها، فصلّى الحسين بن منصور عليها ركعتين، وكنت قريبا منه. فقرأ في الأولى فاتحة الكتاب، وقوله تعالى: {لَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ} (1) الآية، وقرأ في الثانية فاتحة الكتاب، وقوله تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ ذََائِقَةُ الْمَوْتِ} (2) الآية. فلمّا سلّم عنها، ذكر أشياء لم أحفظها وكان ممّا حفظته:
اللهمّ إنّك المتجلّي عن كلّ جهة. المتخلّي من كلّ جهة. بحقّ قيامك بحقّي وبحقّ قيامي بحقّك. وقيامي بحقّك يخالف قيامك بحقّي. فإنّ قيامي بحقّك ناسوتيّة، وقيامك بحقي لاهوتيّة. وكما أنّ ناسوتيّتي مستهلكة في لاهوتيّتك غير ممازجة إيّاها فلاهوتيّتك مستولية على ناسوتيّتي غير مماسّة لها. وبحقّ قدمك على حدثي، وحقّ حدثي تحت ملابس قدمك، أن ترزقني شكر هذه النعمة التي أنعمت بها عليّ حيث غيّبت أغياري عمّا كشفت لي من مطالع وجهك، وحرّمت على غيري ما أبحت لي من النظر في مكنونات سرّك.
وهؤلاء عبادك قد اجتمعوا لقتلي تعصّبا لدينك وتقرّبا إليك. فاغفر لهم، فإنّك لو كشفت لهم ما كشفت لي لما فعلوا، ولو سترت عنّي ما سترت عنهم لما ابتليت بما ابتليت. فلك الحمد فيما تفعل ولك الحمد فيما تريد، ثم سكت وناجى سرّا.
__________
(1) البقرة: 155.
(2) آل عمران: 185.(1/37)
فتقدّم أبو الحارث السيّاف، فلطمه لطمة هشّم أنفه وسال الدم على شيبه.
فصاح الشبليّ ومزّق ثوبه، وغشي على أبي الحسين الواسطيّ وعلى جماعة من الفقراء المشهورين. وكادت الفتنة تهيج، ففعل أصحاب الحرس ما فعلوا.
[2]
ذكر عن قاضي القضاة أبي بكر بن الحدّاد المصريّ قال: لمّا كانت الليلة التي قتل في صبيحتها الحلّاج، قام واستقبل القبلة متوشّحا بردائه، ورفع يديه، وتكلّم بكلام كثير جاوز الحفظ. فكان ممّا حفظته منه أن قال:
نحن بشواهدك نلوذ، وبسنا عزّتك نستضيء، لتبدي ما شئت من شأنك.
وأنت الذي في السماء عرشك، وأنت {الَّذِي فِي السَّمََاءِ إِلََهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلََهٌ} (1).
تتجلّى كما تشاء مثل تجلّيك في مشيئتك كأحسن صورة، والصورة فيها الروح الناطقة بالعلم والبيان والقدرة والبرهان. ثم أو عزت إلى شاهدك الأنيّ في ذاتك الهويّ. كيف أنت إذا مثّلت بذاتي، عند عقيب كرّاتي ودعوت إلى ذاتي بذاتي، وأبديت حقائق علومي ومعجزاتي، صاعدا في معارجي إلى عروش أزلياتي، عند القول من بريّاتي. إنّي أخذت، وحبست، واحضرت، وصلبت، وقتلت، وأحرقت واحتملت السافيات الذاريات أجزائي. وإنّ لذرّة من ينجوج مظانّ هاكول متجلّياتي أعظم من الراسيات. ثم أنشأ يقول: [من البسيط]
أنعى إليك نفوسا طاح شاهدها ... فيما ورا الحيث يلقى شاهد القدم
أنعى إليك قلوبا طالما هطلت ... سحائب الوحي فيها أبحر الحكم
أنعى إليك لسان الحقّ مذ زمن ... أودى وتذكاره في الوهم كالعدم
أنعى إليك بيانا تستكين له ... أقوال كلّ فصيح مقول فهم
أنعى إليك إشارات القلوب معا ... لم يبق منهنّ إلّا دارس الرّمم
أنعى وحقّك أخلاقا لطائفة ... كانت مطاياهم من مكمد الكظم
مضى الجميع فلا عين ولا أثر ... مضيّ عاد وفقدان الألى إرم
وخلفوا معشرا يجرون لبستهم ... أعيا من البهم بل أعيا من النّعم
__________
(1) الزخرف: 84.(1/38)
بسعد فيه تأليف ... كما في شنّه يحسي
ومن حلسي إلى صدري ... ومن صدري إلى حلسي (1)
فلولا باقل ما لا ... ح نور الفضل في قسّ
ومن شمسي إلى بدري ... ومن بدري إلى شمسي (2)
لاظهار الخفايا في ... بطون نواشىء دبس
ومن فرس إلى عرب ... ومن عرب إلى فرس
لشرح قوام أسرار ... ورمز حقائق نكس
ومن أسّي إلى فرعي ... ومن فرعي إلى أسّي
لعيش دسّ في موت ... بحسّ أو بلا حسّ
فلا تهتم يا نفسي ... لقول الحاسد النّكس (3)
وقول الجاهل المغرو ... ر يا ريحانة النفس
فكم من جاهل قد قا ... ل في أرواحنا الخرس
لدى تنزيل تنزيلي ... بروح النفث والحسّ
كاس فيه شيطان ... يخبطه من المسّ
فإن الناس ما زالوا ... من التحقيق في لبس
فسرّ الله موجود ... مبين الجهر والهمس
وقال أيضا من هذا النفس في هذا الباب:
يخاطب ذاته بذاته ... بالسنة صفاته
فلو أرآني إذا أتاني ... سهرّا وجهرا أنا بذاتي
وقلت أنعم فقلت طوعا ... وكان مني لي التفاتي
فنيت عني بعين أني ... وعن عداتي وعن ثقاتي
وعن وعيدي وعن مزيدي ... وعن نعيمي وعن عداتي
وعن شهيدي وعن شهودي ... وكنت لي بي نعم المواتي (4)
فيا أنا ردّني بعيني ... إليّ حتى أرى ثباتي
فردّني بي إليّ مني ... فلم يقم بي سوى صفاتي
__________
(1) الحلس: الكساء على ظهر البعير، وأراد الظهر.
(2) الشمس، يريد بها: مظهر الألوهية ومجلى لتنوعات أوصافه المقدسة النزيهة، وكذلك هي نقطة الأسرار ودائرة الأنوار.
(3) النكس: الضعيف.
(4) الشهود، أي أن يرى حظوظ نفسه وتقابله الغيبة وهي أن يغيب عن خظوظ نفسه فلا يراها.(1/38)
[3]
وقال إبراهيم بن فاتك: دخلت يوما على الحلّاج في بيت له على غفلة منه فرأيته قائما على هامة رأسه، وهو يقول: يا من لازمني في خلدي قربا، وباعدني بعد القدم من الحديث غيبا. تتجلّى عليّ حتى ظننتك الكلّ، وتسلب عنّي حتى أشهد بنفيك. فلا بعدك يبقي، ولا قربك ينفع، ولا حربك يغني، ولا سلمك يؤمن.
فلمّا أحسّ بي قعد مستويا، وقال: ادخل ولا عليك، فدخلت وجلست بين يديه، فإذا عيناه كشعلتي نار. ثم قال: يا بنيّ، إنّ بعض الناس يشهدون عليّ بالكفر وبعضهم يشهدون لي بالولاية، والذين يشهدون عليّ بالكفر أحبّ إليّ وإلى الله من الذين يقرّون لي بالولاية.
فقلت: يا شيخ ولم ذلك؟ فقال: لأنّ الذين يشهدون لي بالولاية من حسن ظنّهم بي. والذين يشهدون عليّ بالكفر تعصّبا لدينهم، ومن تعصّب لدينه أحبّ إلى الله ممّن أحسن الظنّ بأحد. ثم قال لي: وكيف أنت يا إبراهيم حين تراني وقد صلبت وقتلت وأحرقت، وذلك أسعد يوم من أيّام عمري جميعه. ثم قال لي: لا تجلس، واخرج في أمان الله.
[4]
وعن الشيخ إبراهيم بن عمران النيليّ أنه قال: سمعت الحلّاج يقول:
النقطة أصل كلّ خطّ، والخطّ كلّه نقط مجتمعة. فلا غنى للخطّ عن النقطة، ولا للنقطة عن الخطّ. وكلّ خطّ مستقيم أو منحرف فهو متحرّك عن النقطة بعينها.
وكلّ ما يقع عليه بصر أحد فهو نقطة بين نقطتين. وهذا دليل على تجلّي الحقّ من كلّ ما يشاهد وترائيه عن كلّ ما يعاين. ومن هذا قلت: ما رأيت شيئا إلّا ورأيت الله فيه.
[5]
وعن ابن الحدّاد المصريّ قال: خرجت في ليلة مقمرة إلى قبر أحمد بن حنبل، رحمه الله، فرأيت هناك من بعيد رجلا قائما مستقبلا القبلة. فدنوت منه من
غير أن يعلم، فإذا هو الحسين بن منصور وهو يبكي ويقول: يا من أسكرني بحبّه، وحيّرني في ميادين قربه، أنت المنفرد بالقدم، والمتوحّد بالقيام على مقعد الصدق، قيامك بالعدل لا بالاعتدال، وبعدك بالعزل لا بالاعتزال، وحضورك بالعالم لا بالانتقال، وغيبتك بالاحتجاب لا بالارتحال. فلا شيء فوقك فيظلّك، ولا شيء تحتك فيقلّك، ولا أمامك شيء فيجدك، ولا وراءك شيء فيدركك. أسألك بحرمة هذه التّرب المقبولة والمراتب المسؤولة، أن لا تردّني إليّ بعد ما اختطفتني منّي، ولا تريني نفسي بعد ما حجبتها عنّي، وأكثر أعدائي في بلادك، والقائمين لقتلي من عبادك.(1/39)
فصال كفي على عصاي ... وصال عودي على صفاتي
فسال نهر البروج منها ... عشر أو ثنتين معلمات
فقلت لي يا أنا وزدني ... مني ثباتا على ثباتي
هذي علوم الحياة لاحت ... على وجودي من النبات
فأين سرّي اللطيف مني ... ما أودع الله في الذوات (1)
فزدتني ما طلبت مني ... فدام شوقي إلى مماتي
فصرت أشكو الغرام مني ... إليّ كيما تبدو سماتي
إلى جفوني من عين كوني ... فزاد جمعي على شتاتي
وصلت ذاتي وحدا بذاتي ... من أجل ذاتي مدى حياتي
ولم أعرّج على جفائي ... وطول هجري وسيئاتي
أنا حبيبي أنا محبي ... أنا فتاي أنا فتاتي
وقال أيضا على لسان الإنسان الكامل لا الإنسان الحيواني:
لي الأرض الأريضة والسماء ... وفي وسطي السواء والاستواء
لي المجد المؤثّل والهباء ... وسرّ العالمين والاعتلاء (2)
إذا ما أتت الأفكار ذاتي ... يحيرّها على البعد العماء
فما في الكون من يدري وجودي ... سوى من لا يقيده الثّناء
له التصريف والأحكام فينا ... هو المختار يفعل ما يشاء
وقال أيضا في هذا الباب على لسان النفس الناطقة:
أنا ورقاء المثاني ... مسكني روض المعاني (3)
أنا عين في العيان ... ليس لي غير المثاني
فيناديني يا ثاني ... وأنا لست بثاني
ينتهي إلى وجودي ... كلّ شيء في الكيان
أنا أتلو من تسامت ... ذاته عن العيان
لي حكم مستفاد ... في الأقاصي والأداني
ليس لي مثل سوى من ... شانه يشبه شاني
فانتقد إن كنت تبغي ... ما أتى به لساني
من رقائق تدلّت ... بحقائق حسان
__________
(1) السّر: ويريد الروح أو ما بعد الروح.
(2) المؤثّل: المعظّم.
(3) الورقاء، أي النفس الكلية. والورقاء في الأصل: الدئبة، والحمامة.(1/39)
لقلوب قد تولّت ... عن زخارف الجنان (1)
طالبات من تعالى ... عن تصاريف الزمان
فهو الفرد المعلى ... ما له في الحكم ثاني
وهو الذي اجتباني ... وهو الذي اصطفاني
وأقامني عديلا ... بين دنّ ودنان (2)
فأقاصي كلّ قاص ... وأداني كلّ داني
وأوالي كلّ وال ... وأعاني كلّ عاني (3)
فإذا هويت سفلا ... فبروج السّريان
وإذا صعدت علوا ... فلتحليل المباني
فأنا أعطي المعاني ... وأنا أخلي المغاني (4)
قال أيضا في هذا الباب على لسان العقل الأوّل (5):
أنا العقاب لي المقام الأرفع ... والحسن والنور البهيّ الأسطع
أمضي الأمور على مراتب حكمها ... في العدوة الدنيا وعزي أمنع
أنا فيضة السامي ونور وجوده ... وأنا الذي أدعو الوجود فيخضع
وأنا الذي ما زلت قبضة موجدي ... فالجود جودي والخلائق توضع
نحوي لتطلب ما لها من شربها ... منا فأعطي من أشاء وأمنع
أدنو فيبهرني جمال وجوده ... أنأى فيدعوني البهاء الأروع
فإذا دنوت فحكمة مقبولة ... لكنّ لها قلب العلى يتصدّع
وإذا بعدت فإمرة مقومة ... والنور من أرجائها يتشعشع
فأنا الأمير إذا بعدت فشقوتي ... في إمرتي وسعادتي إذ أنزع
فأمرّ أوقاتي وأسعدها إذا ... عاينت أعيان الأهلّة تطلع
وقال أيضا من هذا النفس على لسان الهباء (6):
فأنا الذي لا عين لي موجود ... وأنا الذي لا حكم لي مفقود
__________
(1) الجنان: جمع الجنّة. والزّخرف: الذهب، وكمال حسن الشيء
(2) الدن: وعاء الخمرة.
(3) المعاناة: المشاجرة.
(4) المغاني: جمع المغنى: المنزل.
(5) العقل الأول، قالوا: هو مرتبة الوحدة، وقيل هو محل تشكيل العلم الإلهي في الوجود، لأنه العلم الأعلى، ثم ينزل منه العلم إلى اللوح المحفوظ.
(6) الهباء: الغبار، وما يشبه الدخان، وقليلو العقول من الناس.(1/40)
وعن ابن الحدّاد المصريّ قال: خرجت في ليلة مقمرة إلى قبر أحمد بن حنبل، رحمه الله، فرأيت هناك من بعيد رجلا قائما مستقبلا القبلة. فدنوت منه من
غير أن يعلم، فإذا هو الحسين بن منصور وهو يبكي ويقول: يا من أسكرني بحبّه، وحيّرني في ميادين قربه، أنت المنفرد بالقدم، والمتوحّد بالقيام على مقعد الصدق، قيامك بالعدل لا بالاعتدال، وبعدك بالعزل لا بالاعتزال، وحضورك بالعالم لا بالانتقال، وغيبتك بالاحتجاب لا بالارتحال. فلا شيء فوقك فيظلّك، ولا شيء تحتك فيقلّك، ولا أمامك شيء فيجدك، ولا وراءك شيء فيدركك. أسألك بحرمة هذه التّرب المقبولة والمراتب المسؤولة، أن لا تردّني إليّ بعد ما اختطفتني منّي، ولا تريني نفسي بعد ما حجبتها عنّي، وأكثر أعدائي في بلادك، والقائمين لقتلي من عبادك.
فلمّا أحسّ بي، التفت وضحك في وجهي، ورجع وقال لي: يا أبا الحسن، هذا الذي أنا فيه أوّل مقام المريدين. فقلت تعجّبا: ما تقول يا شيخ، إن كان هذا أوّل مقام المريدين فما مقام من هو فوق ذلك؟
وقال: كذبت، هو أوّل مقام المسلمين، لا بل كذبت هو أوّل مقام الكافرين.
ثم زعق ثلاث زعقات وسقط، وسال الدم من حلقه. وأشار إليّ بكفّه أن أذهب، فذهبت وتركته. فلمّا أصبحت رأيته في جامع المنصور فأخذ بيدي ومال بي إلى زاوية، وقال: بالله عليك لا تعلم أحدا بما رأيت منّي البارحة.
[6]
وعن أبي إسحاق إبراهيم بن عبد الكريم الحلواني قال: خدمت الحلّاج عشر سنين، وكنت من أقرب الناس إليه. ومن كثرة ما سمعت الناس يقعون فيه ويقولون إنّه زنديق، توهّمت في نفسي فأخبرته. فقلت له يوما: يا شيخ أريد أن أعلم شيئا من مذهب الباطن. فقال: باطن الباطل أو باطن الحقّ؟
فبقيت متفكرا، فقال: أمّا باطن الحقّ فظاهره الشريعة، ومن يحقّق في ظاهر الشريعة ينكشف له باطنها، وباطنها المعرفة بالله وأمّا باطن الباطل، فباطنه أقبح من ظاهره، وظاهره أشنع من باطنه فلا تشتغل به. يا بنيّ أذكر لك شيئا من تحقيقي في ظاهر الشريعة. ما تمذهبت بمذهب أحد من الأئمّة جملة وإنّما أخذت من كلّ مذهب أصعبه وأشدّه، وأنا الآن على ذلك. وما صلّيت صلاة الفرض قطّ إلّا وقد اغتسلت أوّلا، وتوضّأت لها. وها أنا ابن سبعين سنة، وفي خمسين سنة صلّيت صلاة ألفي سنة، كلّ صلاة قضاء لما قبلها.(1/40)
عنقاء مغرب قد تعورف ذكرها ... عرفا وباب وجودها مسدود (1)
ما صيّر الرحمن ذكري باطلا ... لكن لمعنى سرّه مقصود
هو أنني وهابه أسرارهم ... عرفانها فصراطنا ممدود
والسالكون على مراتب نورهم ... فأجلهم من نوره التجريد
وقال أيضا في هذا الباب على لسان الجسم الكل:
فأنا السّرّ المسوّى ... خلقه بلا بنان (2)
رتّب الأمور فيه ... خالقي لما بناني
فأنا صخر ومني ... تتفجر المعاني
وأنا مع العوالي ... مثل أفراس الدهان
وأنا الذي توارى ... جسمه عن العيان
والذي أجبت ربّي ... طائعا لما دعاني
فالذي يرى وجودي ... لتصاريف الزمان (3)
كفؤاد أمّ موسى ... فارغا من المعاني
فهو الخليّ حقا ... من حقائق البيان
فأنا أصل المعاني ... وأنا أسّ الأغاني
وأنا سرّ إمام ... فاضل سامي المكان
علمه أكمل علم ... شانه أعظم شان
هام بي لمّا رآني ... في مقاصير الجنان (4)
لا أسميه فإني ... خائف حدّ السّنان
والذي يفهم قولي ... هو صخر بن سنان
أكرم الوجود كفّا ... ثابت عند الطّعان
فأنا والأمّ والجدّ ... ة والجدّ المعاني
في وجودنا من الجو ... د معا بلا زمان
مثل ما لاح لعين ... في الهوى برق يماني
وقال أيضا:
حروف المدّ واللين ... أتت في حال تسكين
لتلويني وتمكيني ... لتعريني وتكسوني
__________
(1) عنقاء مغرب: طائر معروف الاسم لا الجسم.
(2) البنان: الأصابع أو أطرافها.
(3) تصاريف الزمان: حوادثه.
(4) الجنان: جمع الجنة.(1/41)
[7]
وقال إبراهيم الحلوانيّ: دخلت على الحلّاج بين المغرب والعشاء، فوجدته يصلّي. فجلست في زاوية البيت كأنه لم يحسّ بي لا نشغاله بالصلاة. فقرأ سورة البقرة في الركعة الأولى، وفي الركعة الثانية آل عمران، فلمّا سلّم سجد وتكلّم بأشياء لم أسمع بمثلها. فلمّا خاض في الدعاء رفع صوته كأنه مأخوذ عن نفسه، ثم قال:
يا إله الآلهة، ويا ربّ الأرباب، ويا من {لََا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلََا نَوْمٌ} (1) ردّ إليّ نفسي لئلّا يفتتن بي عبادك. يا هو أنا وأنا هو لا فرق بين أنيّتي وهويّتك إلّا الحدث والقدم.
ثم رفع رأسه ونظر إليّ وضحك في وجهي ضحكات ثم قال: يا أبا إسحاق أما ترى أنّ ربّي ضرب قدمه في حدثي حتى استهلك حدثي في قدمه، فلم يبق لي صفة إلّا صفة القديم، ونطقي في تلك الصفة. والخلق كلّهم أحداث ينطقون عن حدث ثم إذا نطقت عن القدم ينكرون عليّ، ويشهدون بكفري ويسعون إلى قتليّ. وهم بذلك معذورون، وبكلّ ما يفعلون بي مأجورون.
[8]
وقال الحلوانيّ: كنت مع الحلّاج وثلاثة نفر من تلاميذه، وواسطت قافلتي من واسط إلى بغداد. وكان الحلّاج يتكلّم فجرى في كلامه حديث الحلاوة. فقلنا:
على الشيخ الحلاوة. فرفع رأسه وقال: يا من لم تصل إليه الضمائر، ولم تمسّه شبه الخواطر والظنون، وهو المترائي عن كلّ هيكل وصورة، من غير مماسّة ومزاج. وأنت المتجلّي عن كلّ أحد، والمتجلّي بالأزل والأبد. لا توجد إلّا عند اليأس، لا تظهر إلّا حال الالتباس. إن كان لقربي عندك قيمة، ولإعراضي لديك عن الخلق مزيّة، فأتنا بحلاوة يرتضيها أصحابي. ثم مال عن الطريق مقدار ميل فرأينا هناك قطعا من الحلاوة المتلوّنة، فأكلنا ولم يأكل منه. فلمّا استوفينا ورجعنا خطر ببالي سوء ظنّ بحاله، وكنت لا أقطع النظر عن ذلك المكان وحافظته أحوط ما يحافظ مثله. ثم عدلت عن الطريق للطهارة وهم ذاهبون، ورجعت إلى المكان فلم أر شيئا، فصلّيت ركعتين وقلت: اللهمّ، خلّصني من هذه التهمة الدنيئة، فهتف لي هاتف: يا هذا، أكلتم الحلاوة على جبل قاف، وتطلب القطع ههنا؟! أحسن همّك.
فما هذا الشيخ إلّا ملك الدنيا والآخرة.
__________
(1) البقرة: 255.(1/41)
ولي منها وجود ما ... عليه الله يحييني
ويفنيني فيقصيني ... ويبقيني فيدنيني
وإن ضللت يهديني ... وإن مرضت يشفيني
وإن جوّعت أطعمني ... وإن ظمئت يسقيني
وإن أقبلت يأتيني ... وإن أعرضت يدعوني
فأوافي عالم النور ... وإني في عالم الطّين
وأى للكامل البادي ... بحال العال والدون
وقال أيضا في تخصيص التسديس دون التثليث والتربيع:
إذا سدّس الذات النزيهة عارف ... وأدرج في بدر التمام ذكاء (1)
وألحق أرواح العلى بنفوسها ... وأعطاك من نور السّناء ضياء
وأحكم أشياء وأرسل حكمة ... وصيرّ أعمال الكيان هباء (2)
فذاك الذي يجري إلى غير غاية ... ويطلع أقمار الشهود عشاء
وتبصره يعطي صباحا حياته ... ويقبضها جودا عليك مساء
وقال أيضا في العلم الإلهيّ من طريق الصنعة:
خرقت حجاب الغيب أطلب سرّه ... فلم ألف إلا بهتة وتحيّرا (3)
فعدت إلى الأكوان أبغي شهوده ... فلم أر في الأكوان علما مقرّرا
فيا مدّعي علم الأكاسير ليته ... تقرر في الأوزان وزنا محرّرا
يوافق أوزان الطبيعة كونه ... على الفعل لا يلقى عن الأمر مخبرا
فيقلب عين البدر شمسا منيرة ... وينشئ بهراما شموسا وأقمرا (4)
فقال له الميزان لست بحاصل ... لمن ظلّ طول الدّهر فيّ مفكّرا
ولكنّ حصولي اتفاقا فإنني ... عزيز عن الإدراك غيبا ومحضرا
وقال أيضا في باب الرجوم:
عجبت من رجم نار يحرق النارا ... والله يظهره في العين أنوارا (5)
لا بدّ منه له حفظا لشرعتنا ... ولو تسرّب أنفاقا وأغوارا
يشوّه الوجه منه عند رؤيته ... وثم يخطف أسماعا وأبصارا
__________
(1) ذكاء: الشمس. والشمس عندهم تعني نقطة الأسرار ودائرة الأنوار.
(2) الهباء: الدخان وما يشبهه، والغبار، وقليلو العقول من الناس.
(3) لم ألف: لم أجد.
(4) الشمس: تعني نقطة الأسرار ودائرة الأنوار.
(5) الرجم: المراد والرمي بالحجارة وجمعه رجوم، ويشير إلى رجم الشياطين بالشهب.(1/42)
[9]
وعن عليّ بن مردويه قال: سمعت الحسين بن منصور قد سلّم من الصلاة فقال: اللهم، أنت الواحد الذي لا يتمّ به عدد ناقص، والأحد الذي لا تدركه فطنة غائص، وأنت {فِي السَّمََاءِ إِلََهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلََهٌ} (1) أسألك بنور وجهك الذي أضاءت به قلوب العارفين، وأظلمت منه أرواح المتمرّدين، وأسألك بقدسك الذي تخصّصت به عن غيرك، وتفرّدت به عمّن سواك، أن لا تسرحني في ميادين الحيرة، وتنجيني من غمرات التفكر، وتوحشني عن العالم، وتؤنسني بمناجاتك، يا أرحم الراحمين.
ثم سكت ساعة وترنّم، ورفع صوته في ذلك الترنّم وقال: يا من استهلك المحبّون فيه، واغترّ الظالمون بأياديه. لا يبلغ كنه ذاتك أوهام العباد، ولا يصل إلى غاية معرفتك أهل البلاد. فلا فرق بيني وبينك إلّا الإلهية والربوبيّة. وكانت عيناه في خلال الكلام تقطر دما. فلمّا التفت إليّ ضحك فقال: يا أبا الحسن خذ من كلامي ما يبلغ إليه علمك، وما أنكره علمك فاضرب بوجهي ولا تتعلّق به، فتضلّ عن الطريق.
[10]
وعن أبي الحسن عليّ بن أحمد بن مردويه قال: رأيت الحلّاج في سوق القطيعة ببغداد باكيا يصيح: أيّها الناس أغيثوني عن الله، ثلاث مرّات، فإنّه اختطفني منّي وليس يردّني عليّ، ولا أطيق مراعاة تلك الحضرة، وأخاف الهجران فأكون غائبا محروما. والويل لمن يغيب بعد الحضور ويهجر بعد الوصل. فبكى الناس لبكائه حتى بلغ مسجد عتّاب فوقف على بابه وأخذ في كلام فهم الناس بعضه وأشكل عليهم بعضه.
فكان ممّا فهمه الناس أنه قال: أيّها الناس. إنّه يحدّث الخلق تلطّفا فيتجلّى لهم، ثم يستتر عنهم تربية لهم. فلولا تجلّيه لكفروا جملة. ولولا ستره لفتنوا جميعا، فلا يديم عليهم إحدى الحالتين. لكنّي ليس يستتر لحظة فأستريح حتى استهلكت ناسوتيّتي في لاهوتيّته وتلاشى جسمي في أنوار ذاته، فلا عين لي ولا أثر ولا وجه ولا خبر.
__________
(1) الزخرف: 84.(1/42)
وقال أيضا في قوله تعالى: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلََّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللََّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمََامِ} (1):
إنّ الغمام مطارح الأنوار ... ولذاك أضحى أقرب الأستار
منه تفجرت العلوم على النهى ... وبه يكون الكشف للأبصار (2)
فيه البروق وليس يذهب ضوءها ... أبصارنا لتقدس الأبصار
فيه الرعود وليس يذهب صوتها ... أسماعنا لتنزّه الأسرار
فيه الصواعق ليس يذهب رسمنا ... إحراقها لعناية الآثار
فيه الغيوم وليس يهلك سيلها ... أشجارنا لتحقق الإيثار
ما بعده شيء سوى مطلوبنا ... ربّ الأنام مع اسمه الغفّار
فإذا انجلى ذاك الغمام فذاته ... تبدو إلى الأنوار في الأنوار
والنور يدرج مثله في ضوئه ... كالشمس لا تفني ضياء النار
فترى البصائر والعيون جلاله ... وجماله في الشمس والأقمار
فافهم إشارتنا تفز بحقائق ... تخفى على العقلاء والنظّار
وقال أيضا في باب السبحات الوجهية:
إذا بدت سبحات الوجه فاستتر ... فالنور يذهب بالأعيان والأثر (3)
وانظر إلى من وراء النور مستترا ... ترى الضياء فأمعن فيه بالبصر
وقل لقلبك أمسك عنه شاهده ... فعند ردّك تلقى لذة النظر
وقال أيضا في باب التلوين في الدور الفلكي:
هذي المنازل والفؤاد الساري ... فيها بحكم تصرّف الأقدار (4)
دارت به الأفلاك في فسحاتها ... والكون في الأدوار بالأكوار
فإذا تحل بمنزل تهفو له ... شوقا إليه مطارح الأنوار
فيمدّها بالفيض في غسق الدّجى ... حتى يشمّر عسكر الأسحار (5)
للانتقال من البسيطة قاصدا ... جهة اليمين ومغرب الأسرار
ويحل إدريس العليّ ببوحه ... في أثر ذاك العسكر الجرار
__________
(1) سورة البقرة، آية: 210.
(2) النهى: العقل. الكشف، يريد به الاطلاع على ما وراء الحجاب من المعاني الغيبية والأمور الحقيقية وجودا وشهودا.
(3) الوجه: وجه الحق، إشارة إلى الآية {فَأَيْنَمََا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللََّهِ}.
النور، يريد الحق أيضا.
(4) الساري: الذي يسير ليلا.
(5) الدجى: الظلام.(1/43)
وكان ممّا أشكل على الناس معناه أنه قال: اعلموا أنّ الهياكل قائمة بياهوه والأجسام متحرّكة بياسينه. والهو والسين طريقان إلى معرفة النقطة الأصليّة.
ثم أنشأ يقول: [من البسيط]
عقد النبوة مصباح من النور ... معلّق الوحي مشكاة تأمور
بالله ينفخ نفخ الرّوح في خلدي ... لخاطري نفخ إسرافيل في الصّور
إذا تجلّى لروحي أن يكلّمني ... رأيت في غيبتي موسى على الطّور
[11]
وقال عبد الكريم بن عبد الواحد الزعفراني: دخلت على الحلّاج وهو في مسجد وحوله جماعة وهو يتكلّم فأوّل ما اتّصل بي من كلامه أنه قال: لو ألقى ممّا في قلبي ذرّة على جبال الأرض لذابت، وإنّي لو كنت يوم القيامة في النار لأحرقت النار، ولو دخلت الجنّة لانهدم بنيانها، ثم أنشأ يقول: [من الطويل]
عجبت لكلّي كيف يحمله بعضي ... ومن ثقل بعض ليس تحملني أرضي
لئن كان في بسط من الأرض مضجع ... فقلبي على بسط من الخلق في قبض
[12]
وقال أحمد بن أبي الفتح بن عاصم البيضاوي: سمعت الحلّاج على بعض تلامذته: إنّ الله تبارك وتعالى وله الحمد ذات واحد قائم بنفسه، منفرد عن غيره بقدمه، متوحّد عمّن سواه بربوبيّته. لا يمازجه شيء، ولا يخالطه غير ولا يحويه مكان، ولا يدركه زمان ولا تقدّره فكرة، ولا تصوّره خطرة، ولا تدركه نظرة، ولا تعتريه فترة. ثم طاب وقته وأنشأ يقول: [من الهزج]
جحودي لك تقديس ... وظنّي فيك تهويس
وقد حيّرني حبّ ... وطرف فيه تقويس
وقد دلّ دليل الحب ... ب أنّ القرب تلبيس
ثم قال: يا ولدي، صن قلبك عن فكره، ولسانك عن ذكره، واستعملهما بإدامة شكره. فإنّ الفكرة في ذاته والخطرة في صفاته والنطق في إثباته، من الذنب العظيم والتكبّر الكبير.(1/43)
[13]
وعن أبي نصر أحمد بن سعيد الإسبينجاني يقول: سمعت الحلّاج يقول:
ألزم الكلّ الحدث لأنّ القدم له. فالذي بالجسم ظهوره فالعرض يلزمه؟ والذي بالإرادة اجتماعه، فقواها تمسكه، والذي يؤلّفه وقت يفرّقه وقت، والذي يقيمه غيره فالضرورة تمسّه والذي الوهم يظفر به فالتصوير يرتقي إليه. ومن آواه محلّ أدركه أين، ومن كان له جنس طاله كيف. إنّه تعالى لا يظلّه فوق، ولا يقلّه تحت، ولا يقابله حدّ، ولا يزاحمه عند، ولا يأخذه خلف، ولا يحدّه أمام، ولا يظهره قبل.
ولا يفيته بعد، ولا يجمعه كلّ ولا يوجده كان، ولا يفقده ليس. وصفه لا صفة له، وفعله لا علّة له وكونه لا أمد له. تنزّه عن أحوال خلقه، ليس له من خلقه مزاج، ولا في فعله علاج. باينهم بقدمه كما باينوه بحدوثهم. إن قلت: متى، فقد سبق الوقت كونه، وإن قلت هو فالهاء والواو خلقه، وإن قلت: أين فقد تقدّم المكان وجوده فالحروف آياته، ووجوده إثباته، ومعرفته توحيده، وتوحيده تمييزه من خلقه، ما تصوّر في الأوهام فهو بخلافه. كيف يحلّ به ما منه بدأ، أو يعود إليه ما هو أنشأه. لا تماثله العيون، ولا تقابله الظنون قربه كرامته، وبعده إهانته، علوّه من غير توقّل، ومجيئه من غير تنقل {هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظََّاهِرُ وَالْبََاطِنُ} (1) القريب البعيد {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} (2).
[14]
عن يونس بن الخضر الحلواني قال: سمعت الحلّاج يقول: دعوى العلم جهل، توالي الخدمة سقوط الحرمة. الاحتراز من حربه جنون الاغترار بصلحه حماقة. النطق في صفاته هوس. السكوت عن إثباته خرس. طلب القرب منه جسارة، والرضى ببعده من دناءة الهمّة.
__________
(1) الحديد: 3.
(2) الشورى: 11.(1/44)
يخفى على عين المشاهد نوره ... كالشمس تنفي سطوة الأقمار (1)
فالزمهرير مع الأثير تحكما ... بالبرد والتسخين في الأطوار
وقال أيضا في الطالع الإلهي والغارب بأسماء المنازل (2):
نطح الغفر بطينا زابنا ... والثريا كللت بالأفق
دبر القلب بهقعات على ... شولة طالعة بالمشرق
هنعة الأنعام في أفلاكها ... ذرعت بلدتها في الغسق
نثرة الذابح للطرف رات ... بلعا يشكو كمين الحرق
جبهة السعد إذا ما زبرت ... علمها وسط خباء أزرق
صرف المقدم عوّاء له ... مؤخر يثقله في الطرق
وسماك سبحت أرجله ... في رشاء طالع كالزورق (3)
وقال أيضا في الطالع وهو الأول في كل بيت من القصيدة المتوسط، وهو الذي يليه، والغارب وهو الذي يلي المتوسط من المنازل الإلهية، وأسماء المنازل المقدّرة للسيارة من الكواكب:
نطح النّثر غفره ... فانظر الأمر يا فتى
بطن الطرف في الزبا ... ني فقلنا إلى متى
والثريّا بزبرة ... كللت وجه من أتى
دبران بصرفة ... قلبه منه قد عتا
هقعة قد عوت لها ... شولة جسمها نتا
هنعة في سماكها ... والنعائم صوّتا
ذرع الغفر بلدة ... إذ رأى الصيف مصلتا
نثرت في زبانه ... ذبحها فاستوى الشتا
طرف إكليل بالع ... ما أراه معنتا
جبهة القلب في السعو ... د تراه مسمتا
زبرة عند شولة ... في خباء قد أفلتا
__________
(1) الشاهد هو الحاضر وقالوا: الشاهد الحق في ضميرك وأسرارك مطلع عليها والمشهود ما يشهده المشاهد. وقيل: إن المشاهدة هي رؤية الحق ببصر القلب.
(2) المنازل: منازل النجوم. والطالع، والطوالع: أول ما يبدو من تجليات الأسماء الإلهية على باطن العبد.
وأراد بالمنازل مقامات العارفين.
(3) الرشاء: الحبل.(1/44)
صرفة في نعائم ... مقدم الفرغ عنتا
وعوت بلدة على ... مؤخّر الفرغ يا فتى
وسماك بذابح ... في رشاء قد أسمتا
وقال أيضا في باب شرف الوحدة:
وليت أمور الخلق إذ صرت واحدا ... عزيزا ولا فخر لديّ ولا زهو
تركت وجود الشفع يلزم بابه ... فغيبتنا توّ وحضرتنا توّ
وقال أيضا يخاطب النّور بن الرشيد حين بشره بفتح أنطاكيه:
فخلع عليه ... ما كان عليه:
خلعت عليك أثوابي ... وكان التّرك أولى بي
لأنّ القوم ما قاموا ... من أجل الله بالباب
ولكن قد أبت نفسي ... سوى كرمي وأحسابي
فما سيفي له نابي ... ولا طرفي له كابي (1)
سأركضه وأنكصه ... وأحمي الباب بالباب
سوى هذا فلا أرجو ... شفاء منه مما بي
على هذا مضى الأسلا ... ف مني ثم أحبابي
فدأب القوم إشراك ... كما توحيده دابي
فربّ واحد خير ... من أملاك وأرباب
جعلت منزلي قبري ... وأكفاني من أثوابي
وأغفلت من أجل الله ... دون القوم أبوابي
فما أنا منهم خرب ... ولا القوم من أحزابي
ولولا صبية يتم ... لما فارقت محرابي (2)
وقال أيضا في باب تيه الذاكرين الله تعالى:
تاه الفؤاد بذكر الله وابتهجا ... ولاح صبح الهدى للعبد وابتلجا
وأسرج الله من أنوار حكمته ... ومن معارفه في قلبه سرجا
فظلّ يفتح من أبواب رحمته ... على خليقته ما كان قد رتجا (3)
__________
(1) نبا السيف عن الضريبة: كلّ. ويقال: كبا الفرس، أي: كتم الربو.
والطّرف: الكريم من الخيل.
(2) المحراب: الغرفة، وصدر البيت، ومقام الإمام من المسجد.
(3) رتج: أغلق.(1/45)
[15]
عن موسى بن أبي ذرّ البيضاويّ قال: كنت أمشي خلف الحلّاج في سكك البيضاء، فوقع ظلّ شخص من بعض السطوح عليه. فرفع الحلّاج رأسه فوقع بصره على امرأة حسناء، فالتفت إليّ وقال: سترى وبال هذا عليّ ولو بعد حين.
فلمّا كان يوم صلبه، كنت بين القوم أبكي، فوقع بصره عليّ من رأس الخشبة، فقال: يا موسى، من رفع رأسه كما رأيت وأشرف إلى ما لا يحلّ له، أشرف على الخلق هكذا، وأشار إلى الخشبة.
[16]
وعن أبي الحسن الحلواني قال: حضرت الحلّاج يوم وقعته، فأتي به مسلسلا مقيّدا وهو يتبختر في قيده، وهو يضحك ويقول: [من الهزج]
نديمي غير منسوب ... إلى شيء من الحيف
سقاني مثلما يشر ... ب، فعل الضّيف بالضّيف
فلمّا دارت الكأس ... دعا بالنّطع والسّيف
كذا من يشرب الرّا ... ح مع التّنّين في الصّيف
[17]
وعن أبي بكر الشبليّ قال: قصدت الحلّاج وقد قطعت يداه ورجلاه وصلب على جذع. فقلت له: ما التصوّف؟ فقال: أهون مرقاة منه ما ترى. فقلت له:
ما أعلاه؟ فقال: ليس لك إليه سبيل، ولكن سترى غدا، فإنّ في الغيب ما شهدته وغاب عنك.
فلمّا كان وقت العشاء جاء الإذن من الخليفة أن تضرب رقبته فقال الحرس:
قد أمسينا، نؤخّر إلى الغدّ: فلمّا كان من الغدّ أنزل من الجذع، وقدّم لتضرب عنقه فقال بأعلى صوته: حسب الواجد إفراد الواحد له. ثم قرأ {يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لََا يُؤْمِنُونَ بِهََا وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهََا وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ} (1) الآية.
__________
(1) الشورى: 18.(1/45)
وقال أيضا في باب قوله: «أنا سيّد الناس يوم القيامة ولا فخر» (1):
الله يعلم والدلائل تشهد ... أني إمام العالمين محمد
لكن لنا وقت نراقب كونه ... فإذا أتى فالسلك فيه مهند
وقال أيضا في باب الفخر ولا فخر بالراء والزاي معا:
أنا المحي لا أكنى ولا أتبلد ... أنا العربيّ الحاتميّ محمد
لكلّ زمان واحد هم عينه ... وإني ذاك الشخص في العصر أوحد
وما الناس إلا واحد بعد واحد ... حرام على الأدوار شخصان يوجد
أقابل عضات الزمان بهمة ... تذلّ لها السّبع الشداد وتخمد
مؤيّدنا فيه على كلّ حالة ... إله السما وهو النّصير المؤيد
وما ذاك عن حقّ ولكن عناية ... اتتني وحسّادي تروم وتجهد
وقال أيضا في هذا الباب عينه من باب العلم بالله تعالى:
أشهد في خالقي بجوده ... ما شاءه من سنا وجوده
واختارني للعلوم قلبا ... عناية بي على عبيده
وقال لي لا تكن محلا ... لوارد الكون في شهوده
فإنما جنتي وناري ... لكلّ رسم دارا خلوده
فاذكر وجودي بعين جودي ... يكن عطاء على حسوده
وقال أيضا:
قد تاه غلماننا علينا ... فما لنا في الوجود قدر
أذنابنا صيرت رؤوسا ... ما لي على ما أراه صبر
قد أوذي الله مثل هذا ... فالوقت حلو وقتا ومرّ
هذا هو الدهر يا خليلي ... فمن يقاسيه فهو دهر
وقال أيضا في باب رضي الله بسخطه ما سواه:
إذا علم الله الكريم سريرتي ... فلست أبالي من سواه إذا سخط
وقد صح عندي منزلي من مهيمني ... فلست أبالي من دنا اليوم أو شحط (2)
__________
(1) رواه البخاري: أنبياء 3وتفسير سورة 17، 5ورواه مسلم: إيمان 327وفضائل 3والترمذي: قيامه 10، والدارمي مقدمة 8. وابن حنبل 2811
(2) دنا: اقترب. شمط: بعد.(1/46)
وقيل: هذا آخر شيء سمع منه. ثم ضربت عنقه ولفّ في بارية، وصبّ عليه النفط وأحرق، وحمل رماده على رأس منارة لتنسفه الريح.
[18]
عن أبي محمد الجسري قال: رأيت الجنيد ينكر على الحلّاج، وكذلك عمرو ابن عثمان المكّي وأبو يعقوب النهرجوري، وعليّ بن سهل الأصبهاني ومحمد بن داود الأصبهاني، وأمّا أبو يعقوب فقد رجع عن إنكاره في آخر عمره.
وأمّا عمرو بن عثمان فكان علّة إنكاره أنّ الحلّاج دخل مكّة ولقي عمرا، فلمّا دخل عليه، قال له: الفتى من أين؟ فقال الحلّاج: لو كانت رؤيتك بالله لرأيت كلّ شيء مكانه، فإنّ الله تعالى يرى كلّ شيء، فخجل عمرو وحرد عليه، ولم يظهر وحشته حتى مضت مدّة. ثم أشاع عنه أنه قال: يمكنني أن أتكلّم بمثل هذا القران.
وأمّا عليّ بن سهل فدخل الحلّاج أصفهان وكان عليّ بن سهل مقبولا عند أهلها فأخذ عليّ بن سهل يتكلّم في المعرفة، فقال الحسين بن منصور: يا سوقيّ، تتكلّم في المعرفة وأنا حيّ؟!. فقال عليّ بن سهل: هذا زنديق. فاجتمعوا عليه وأخرجوه منها.
وأمّا الجنيد فكنت عنده إذ دخل شاب حسن الوجه والمنظر، وعليه قميصان وجلس سويعة، ثم قال للجنيد: ما الذي يصدّ الخلق عن رسوم الطبيعة؟ فقال الجنيد:
أرى في كلامك فضولا أيّ خشبة تفسدها. فخرج الشابّ باكيا، وخرجت على أثره وقلت: رجل غريب قد أوحشه الشيخ. فدخل المقابر وقعد في زاوية ووضع رأسه على ركبته. فرأيت صديقا لي فقلت له: رأيت بالعجلة شيئا من الشواء والفالوذج والسكّر وخبزا حوارى، وماء مبرّدا، والخلال وقدرا من الأشنان وأنا في الموضع الفلانيّ. فأتيت الشابّ وجلست بين يديه ألاطفه وأداريه حتى جاء بما التمست منه، فوضعته بين يديه وقلت له: تفضّل. فمدّ يده وتناول. ثم قلت: الفتى من أين.
قال: من بيضاء فارس إلّا أنني ربّيت بالبصرة. فاعتذرت منه للجنيد، فقال: ليس له إلّا الشيخوخة وإنّما منزلة الرجال تعطى ولا تتعاطى.
وأمّا محمد بن داود فكان فقيها والفقيه من شأنه الإنكار على التصوّف إلّا ما شاء الله.(1/46)
[19]
أبو يعقوب النهر جوري قال: دخل الحسين بن منصور مكّة في المرّة الثانية ومعه أربعمائة رجل. فلمّا وصلوا إلى مكّة تفرّقوا عنه، وبقي معه شرذمة قليلة. فلمّا أمسوا قلت له: دبّر في عشاء القوم. فقال: اخرج بهم إلى أبي قبيس.
فخرجت بهم ومعنا ما نفطر عليه.
فلمّا أكلنا قال الحلّاج: ألا تأكلون الحلاوة؟ قلنا: قد أكلنا التمر. فقال أريد شيئا مستّه النار. فغاب لحظة، ثم رجع ومعه طبق عليه من الحلواء شيء كثير.
فوقع في قلبي شبهة، فأمسكت من الحلواء قطعة، ودخلت السوق فأريتها الحلوائيين فلم يعرفوها. فقالوا: هذه لا تتّخذ بمكّة، فرأيت امرأة طبّاخة فأريتها، فقالت: هذه تتّخذ بزبيد ولكن لا يمكن حملها ولا أدري كيف حملت. فتأكدت تلك الشبهة.
وكانت المرأة عازمة على العروج إلى زبيد، فأوصيتها أن تفحص وتسأل الحلوائيين: هل ضاع لأحد منهم طبق حلواء. فلمّا كأن بعد أيّام كاتبتني أنّ أحد الحلوائيين بزبيد ضاع له طبق حلواء، فتيقّنت أنه ساحر ليس يحترز من المظالم، حتى ورد عليّ كتاب آخر من المرأة أنّ الحسين بن منصور نفذ إلى الحلوائي ثمن الحلواء وقيمة الطبق وأكثر من ذلك. فزال من قلبي الإنكار عليه وعلمت أنّ ذلك من كراماته.
[20]
قال أحمد بن فاتك: لمّا قطعت يدا الحلّاج ورجلاه قال: إلهي أصبحت في دار الرغائب، أنظر إلى العجائب. إلهي إنّك تتودّد إلى من يؤذيك، فكيف لا تتودّد إلى من يؤذى فيك.
[21]
عن أبي يعقوب النهرجوري قال: دخل الحلّاج مكة أوّل دخلة، وجلس في صحن المسجد سنة لم يبرح من موضعه إلّا للطهارة والطواف، ولم يحترز من الشمس ولا من المطر.(1/47)
فيا عجبا من عارف قال إنه ... تولّع حبا بالإله ولم يمط (1)
سوى ربّه عنه وساءت ظنونه ... بنا فمتى تدركه فيستدرك الغلط
إذا كان من أبدى التحفي بجانبي ... يغيره قول الوشاة فقد سقط
ولكنّ ربي قد أتى فأتيته ... وقلت لسرّي حسبك المنتهى فقط (2)
ولا تلتفت من ظنّ سوءا بنا ولا ... تعرّج عليه واعف عن سيء فرط
وقال أيضا في العلم الخاص واللوح والقلم:
قلمي ولوحي في الوجود يمدّه ... قلم الإله ولوحه المحفوظ
ويدي يمين الله في ملكوته ... ما شيئت أجري والرسوم حظوظ
وقال أيضا في باب المقام المجهول المذكور:
أنا عنقاء الوجود المشترك ... قدّست ذاتي عن حبس الشّرك (3)
أنا مثن والمثاني صفتي ... وأنا الثاني لسرّ مشترك (4)
وقال أيضا في واعظ ظريف اسمه عيسى:
عجبا كيف تترك القلب ميتا ... وحياة القلوب في ألفاظك
أنت عيسى القلوب تنشرها من ... جدث الجهل وهي من حفاظك (5)
فالحظ القلب ليلة السبت يحيى ... سرّه فالحياة في ألحاظك
وقال أيضا مجيبا الشيخ عبد الله الغزال:
وافى كتاب وليّنا الغزال ... مني على شوق له متوال
وفضضت خاتمه الكريم فلم أجد ... غير الجمال مقيدا بوصال
فأخذته فالا وسرت مبادرا ... فوجدت ما أضمرته في الفال
فتنزّل الأمر العليّ لخاطري ... بحقائق الأمر العزيز العالي
فظهرت مرتديا بثوب جلالة ... بين العباد مؤزّرا بجمال
كلتا يديّ يمين ربي خلقته ... والله قد أخفى عليّ شمالي
وخطوت عنه خطوة وترية ... منه إليه بأمره المتعالي
__________
(1) العارف، قال ابن عربي: العارف من أشهده الرب عليه فظهرت الأحوال عن نفسه، والمعرفة حاله.
(2) السر: لطيفة مودعة في القلب كالروح في البدن، وهو محل المشاهدة.
(3) العنقاء، يريد الهباء الذي فتح الله فيه أجساد العالم.
(4) المثاني: القوى والطاقات. والمثاني: القرآن أو مائتين منه مرة بعد مرة. وأراد القوى.
(5) الجدث: القبر.(1/47)
وكان يحمل إليه في كلّ عشية كوز ماء وقرص من أقراص مكّة، وكان عند الصباح يرى القرص على رأس الكوز وقد عضّ منه ثلاث عضّات أو أربعا، فيحمل من عنده.
[22]
وقال أحمد بن فاتك: كنّا بنهاوند مع الحلّاج، وكان يوم النيروز، فسمعنا صوت البوق، فقال الحلّاج: أيّ شيء هذا؟ فقلت: يوم النيروز. فتأوّه وقال: متى ننورز؟ فقلت: متى تعني؟ قال: يوم أصلب!.
فلمّا كان يوم صلبه بعد ثلاث عشرة سنة، نظر إليّ من رأس الجذع، وقال: يا أحمد نورزنا!. فقلت: أيّها الشيخ هل أتحفت؟ قال: بلى، أتحفت بالكشف واليقين، وأنا ممّا أتحفت به خجل غير أني تعجّلت الفرح.
[23]
وعن أحمد بن كوكب بن عمر الواسطي قال: صحبت الحلّاج سبع سنين فما رأيته ذاق من الأدم سوى الملح والخلّ، ولم يكن عليه غير مرقّعة واحدة وكان على رأسه برنس. وكلّما فتح عليه بإزار قبله وآثر به. ولم ينم الليل أصلا إلّا سويعة من النهار.
[24]
عن خوراوزاد بن فيروز البيضاوي وكان من أخصّ الجيران وأقربهم إلى الحلّاج أنه قال: كان الحلّاج ينوي في أوّل رمضان ويفطر يوم العيد، وكان يختم القرآن كلّ ليلة في ركعتين وكلّ يوم في مائتي ركعة. وكان يلبس السواد يوم العيد ويقول: هذا لباس من يردّ عليه عمله.(1/48)
فلحظت ما قد كنت قبل علمته ... فعلمت أني لم أزل عن حالي
فالعين عين مشاهد في علمه ... ما دام في كون وفي اضمحلال (1)
فإذا تخلص عن كيان وجوده ... بالموت عاين غير ما في البال
ويكون يشهد فوق رتبة علمه ... بشهوده في عالم التّرحال
فكأنّ ما يبديه عزّ جلاله ... من ذاته للعلم لمحة وآل
وقال أيضا في باب الحماسة:
إذا أفلّ سيفي لم تفلّ عزايمي ... فلي عزمات شاحذات صوارمي (2)
وإلّا فسل عنا القنا هل وفت لنا ... وأسيافنا يوما بقدر عزائمي
لنا الجود إذ كنا سلالة حاتم ... وما زال مذ قلدته في تمائمي (3)
وقال أيضا في هذا الباب:
لنا همته إن الثريا لدونها ... نعم ولنا فوق السّماكين منزل (4)
تقدمت سبقا في المكارم والعلى ... وفي كل ما ينكي العدى أنا أوّل
ولم ألف صمصاما بقدر عزائمي ... ولو جمعوا الأسياف عزمي أفضل
كذلك جودي لا يفي الغيث والثرى ... إذا كان أموالا به حين أبذل
إذا التحم الجمعان في كومة الوغى ... وكانت نزال ما عليها معوّل
نصبت حساما للردى في فرنده ... شعاع له بين الفريقين فيصل
له عزة لا تبتغي غير كبشهم ... فليس له عن قمة الهام معدل
حملت به لا أرهب الموت والردى ... ولا أبتغي حمدا له النفس تعمل
ولكن ليعلو الدين عزّا وشرعنا ... إلى موضع عنه الطواغيت تسفل
أنا العربيّ الحاتميّ أخو النّدى ... لنا في العلى المجد القديم المؤثّل (5)
وكلا فمجدي ليس يعزى إلى العلى ... ألا كيف يسمو والعلى منه أسفل
وقال أيضا في باب التبرّي من التقليد:
نسبوني إلى ابن حزم وإني ... لست ممن يقول قال ابن حزم (6)
__________
(1) الاضمحلال: القلة.
(2) صوارم: جمع صارم: وهو السيف القاطع. فل السيف: تثلّم.
(3) إشارة إلى نسبة الحاتمي. التمائم: جمع التميمة، وهي ما كان يتخذ من أشياء بزعم أنها تقي من الشر والأذى، وأراد الأشياء التي يحتفظ بها.
(4) الثريا: النجم. السّما كان: نجمان نيران هما الأعزل والرامح.
(5) المؤثّل: العظيم.
(6) ابن حزم: علي بن أحمد بن سعيد بن حزم الظاهري ترك الوزارة وانصرف إلى التأليف، اجمع العلماء(1/48)
[25]
وقال أحمد بن فاتك: قال الحلّاج: من ظنّ أنّ الإلهية تمتزج بالبشريّة أو البشريّة تمتزج بالإلهية فقد كفر. فإنّ الله تعالى تفرّد بذاته وصفاته عن ذوات الخلق وصفاتهم، فلا يشبههم بوجه من الوجوه ولا يشبهونه بشيء من الأشياء.
وكيف يتصوّر الشبه بين القديم والمحدث ومن زعم أنّ البارئ في مكان أو على مكان أو متّصل بمكان أو يتصوّر على الضمير أو يتخايل في الأوهام أو يدخل تحت الصفة والنعت فقد أشرك.
[26]
عن عثمان بن معاوية أنه قال: بات الحلّاج في جامع دينور ومعه جماعة فسأله واحد منهم وقال: يا شيخ ما تقول فيما قال فرعون؟ قال: كلمة حقّ. فقال:
ما تقول فيما قال موسى؟ قال: كلمة حقّ، لأنهما كلمتان جرتا في الأبد كما جرتا في الأزل.
[27]
وعنه أيضا أنه قال: ما ظهرت النقطة الأصليّة إلّا لقيام الحجّة بتصحيح عين الحقيقة، وما قامت الحجّة بتصحيح عين الحقيقة إلّا لثبوت الدليل على أمر الحقيقة.
[28]
وقال: سين يا سين وموسى هما لوح أنوار الحقيقة وإلى الحقّ أقرب من يا ومو.
[29]
وقال أيضا: صفات البشريّة لسان الحجّة على ثبوت صفات الصمديّة، وصفات الصمديّة لسان الإشارة إلى فناء صفات البشريّة. وهما طريقان إلى معرفة الأصل الذي هو قوام التوحيد.(1/49)
لا ولا غيره فإن مقالي ... قال نصّ الكتاب ذلك علمي
أو يقول الرسول لو أجمع الخ ... لق على ما أقول ذلك حكمي
وقال أيضا في باب ليلة قدر العارف (1):
كلّ وقت اراك ليلة قدري ... والتي للأنام في رمضان
هي خير من ألف شهر وإني ... أنا خير منها بغير زمان (2)
فضلها راجع إليّ وفضلي ... راجع للذي عليه براني
فانظروا الخلق كلّه تجدوه ... أرضه وأسماؤه الملوان (3)
جسدا ميتا يزول ويفنى ... يوم أمشي عنه لدار الجنان (4)
فحياة الوجود حيث حللنا ... منه والموت عند من لا يراني
كل فخر في كل شخص معار ... غير فخري بصورة الرحمن
وبأشياء جمة تتعالى ... كعلوم دليلها في عيان
وتخلى لله دنيا وأخرى ... في عياني وتارة في جناني
وقال أيضا في باب ما يخف على النفوس من الأوامر:
أيّ أمر من الأمور يكون ... فرض عين وتشتهيه النفوس
كلّ أمر تمجه غير أمر ... ادخلي جنته العلى يا عروس
وقال أيضا في باب الفخر بالعلم بالله المشكور:
خصصت بعلم لم يخصّ بمثله ... سواي من الرحمن ذي العرش والكرسي (5)
وأشهدت من علم الغيوب عجائبا ... تصان عن التذكار في عالم الحسّ
فيا عجبا إني أروح وأغتدي ... غريبا وحيدا في الوجود بلا جنس
لقد أنكر الأقوام قولي وشنّعوا ... عليّ بعلم لا ألوم به نفسي
فلا هم مع الأحياء في نور ما أرى ... ولا هم مع الأموات في ظلمة الرمس (6)
فسبحان من أحيى الفؤاد بنوره ... وأفقدهم نور الهداية بالطّمس
__________
على تضليله. كانت ولادته في قرطبة سنة 384هـ وتوفي سنة 456هـ.
(1) العارف، قال ابن عربي: الصارف من أشهده الرب عليه فظهرت الأحوال عن نفسه.
(2) إشارة إلى الآية: {لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ}.
(3) الملوان: الليل والنهار.
(4) الجنان: جمع الجنّة.
(5) قيل عن العرش بأنه جرم فوق السماء السابعة وقد خلقه الله إظهارا لقدرته، والكرسي جرم أيضا، وهو من مظاهر القدرة الإلهية.
(6) الرّمس: القبر.(1/49)
[30]
وقال: نزول الجمع ورطة وغبطة، وحلول الفرق فكاك وهلاك. وبينهما يتردّد الخاطران، إمّا متعلّق بأستار القدم، أو مستهلك في بحار العدم.
[31]
وقال: من لاحظ الأزليّة والأبديّة وغمض عينيه عمّا بينهما فقد أثبت التوحيد. ومن غمض عينيه عن الأزليّة والأبديّة ولاحظ ما بينهما فقد أتى بالعبادة.
ومن أعرض عن البين والطرفين فقد تمسّك بعروة الحقيقة.
[32]
وقال: من طلب التوحيد في غير لام ألف، فقد تعرّض للخوضان في الكفر ومن تعرّف هو الهويّة في غير خطّ الاستواء فقد جاس خلال الحيرة المذمومة التي لا استراحة بعدها.
[33]
وقال: عين التوحيد مودعة في السرّ، والسرّ مودع بين الخاطرين، والخاطران مودعان بين الفكرتين، والفكرة أسرع من لواحظ العيون.
ثم أنشأ يقول: [من الطويل]
لأنوار نور النّور في الخلق أنوار ... وللسّرّ في سرّ المسرّين أسرار
وللكون في الأكوان كون مكوّن ... يكنّ له قلبي ويهدي ويختار
تأمّل بعين العقل ما أنا واصف ... فللعقل أسماع وعاة وأبصار
[34]
وقال: القرآن لسان كل علم، ولسان القرآن الأحرف المؤلّفة وهي مأخوذة من خطّ الاستواء، أصله ثابت وفرعه في السماء، وهو ما دار عليه التوحيد.(1/50)
علوم لنا في عالم الكون قد سرت ... من المغرب الأقصى إلى مطلع الشمس
تحلّى بها من كان عقلا مجرّدا ... عن الفكر والتخمين والوهم والحدس (1)
وأصبحت في بيضاء مثلي نقية ... إماما وإن الناس منها لفي لبس
وقال أيضا في المفارد:
ظهرت آيات وجودك لك ... بفنائك لا بشهودك لك
ومن المفارد أيضا:
وحقّ الهوى إنّ الهوى سبب الهوى ... ولولا الهوى في القلب ما عبد الهوى
ومن المفارد أيضا:
النور يمنح أضواء ونوركم ... لا يمنح الضوء لكن يمنح الظّلما (2)
ومن المفارد أيضا:
صيّر الأعيان عينا واحدا ... فوجود الحقّ في نفي العدد (3)
ومن المفارد أيضا:
إن الذين يبايعونك إنهم ... ليبايعون الله دونك فاعتبر
وقال أيضا من المفارد:
فأبدى وجود الوجد ما كان يكتم ... ولاحت رسوم الحقّ منا ومنهم
ومن المفارد أيضا:
فررت إلى الرحمن أبغي التصرّفا ... بسطوة جبار ورحمة مصطفى
ومنها أيضا:
فأنوار تلوح على وليّ ... ظهور الوشي في الثوب الموشّى (4)
ومن المفارد أيضا:
نكحت نفسي بنفسي ... وكنت بعلي وعرسي
ومنها أيضا:
الصوم ميّز ذات الحقّ من ذاتي ... لأنه بين آلام ولذّات
__________
(1) الحدس: الظن.
(2) الظلمة: يريد العلم بالذات الإلهية. والنور: الحق.
(3) أعيان: جمع عين إشارة إلى ذات الشيء.
(4) النور، يعني الحق، ويسمونه نور الأنوار، لأن جميع الأنوار منه.(1/50)
[35]
وقال: الكفر والإيمان يفترقان من حيث الاسم، وأمّا من حيث الحقيقة فلا فرق بينهما.
[36]
وقال أحمد بن فارس: رأيت الحلّاج في سوق القطيعة قائما على باب مسجد وهو يقول: أيّها الناس، إذا استولى الحقّ على قلب أخلاه عن غيره، وإذا لازم أحدا أفناه عمّن سواه، وإذا أحبّ عبدا حثّ عباده بالعداوة عليه، حتى يتقرّب العبد مقبلا عليه.
فكيف لي ولم أجد من الله شمّة ولا قربا منه لمحة وقد ظلّ الناس يعادونني ثم بكى حتى أخذ أهل السوق في البكاء. فلمّا بكوا عاد ضاحكا وكاد يقهقه، ثم أخذ في الصياح صيحات متواليات مز عجات، وأنشأ يقول: [من الطويل]
مواجيد حقّ أوجد الحق كلّها ... وإن عجزت عنها فهوم الأكابر
وما الوجد إلّا خطرة ثمّ نظرة ... تنشّي لهيبا بين تلك السّرائر
إذا سكن الحقّ السّريرة ضوعفت ... ثلاثة أحوال لأهل البصائر
فحال يبيد السّرّ عن كنه وصفه ... ويحضره للوجد في حال حائر
وحال به زمّت ذرا السّرّ فانثنت ... إلى منظر أفناه عن كلّ ناظر
[37]
يروى عن مسعود بن الحارث الواسطيّ أنه قال: سمعت الحسين بن منصور الحلّاج يقول لإبراهيم بن فاتك وأنا أسمع وكنت منزوعا: يا إبراهيم، إنّ الله تعالى لا تحيط به القلوب، ولا تدركه الأبصار، ولا تمسكه الأماكن، ولا تحويه الجهات، ولا يتصوّر في الأوهام، ولا يتخايل للفكر، ولا يدخل تحت كيف، ولا ينعت بالشرح والوصف. ولا تحرّك ولا تسكن ولا تتنفّس إلّا وهو معك، فانظر كيف تعيش. وهذا لسان العوامّ، وأمّا لسان الخواصّ فلا نطق له. والحقّ حقّ والعبد باطل وإذا اجتمع الحقّ والباطل فيضرب {بِالْحَقِّ عَلَى الْبََاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذََا هُوَ زََاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمََّا تَصِفُونَ} (1).
__________
(1) الأنبياء: 18.(1/51)
ومنها أيضا:
لولا وجود النفس الأنزه ... ما لاح عين العالم المشبه
وقال أيضا في باب الأركان الأربعة:
يحكم كرّ الليل والنهار ... على شخوص مزجة الأطوار
مثل التراب اليابس الثريار ... والماء والهواء ثم النار (1)
بالاستحالات وبالتكوين ... وبتناهي مدّة الأعمار
وذاك بالأمر العزيز العالي ... أمر الإله الواحد القهّار
وقال أيضا:
إذا تجرّدت عن وجودي ... كنت أنا ألهو على الشهود (2)
وكان كوني لأنّ عيني ... عين شهودي بلا مزيد
وقال أيضا في باب عموم الوحي الإلهي:
ألا إنّ وحي الله في كلّ كائن ... من الصخر والأشجار والحيوان (3)
وفي عالم الأركان في كلّ حالة ... وفي أنفس الأفلاك والملوان (4)
وقد نزلت أملاكه من مقامها ... ليلقاه منها بالتقى الثقلان
وقال أيضا في باب من تحرّك عن ضجر:
إنّ التحرّك عن ضجر ... سخط على حكم القدر
الساكنون لحكمنا ... قوم أعزّاء صبر
فهم لنا وأنا لهم ... وهم المراد من البشر
لا تركننّ لغيرنا ... واصبر تعش مع من صبر
إني لكل مسلم ... عرف الحقيقة فاعتبر
في كلّ ما يجري علي ... هـ من المكاره والضّرر
قل للذين تحرّكوا ... من حكمنا أين المفر
ما ثمّ إلّا حكمنا ... عند الإقامة والسفر
__________
(1) إشارة إلى العناصر الموجودة في الطبيعة.
(2) الشهود: أن يرى حظوظ نفسه، ويقابل ذلك عندهم الغيبة.
(3) أراد بالوحي الإشارة والدلالة، والمعنى أن في كل شيء من الجماد والحيوان ما يدل على وجود الله تعالى.
(4) الملوان: الليل والنهار. الأفلاك: يريد المجاري التي تدور بها الشمس وفيها.(1/51)
فاربح قعودك تسترح ... فتكون من أهل الظفر
فالله ليس بغائب ... وهو الكفيل لمن نظر
وقال أيضا في خاتم النبوّة والولاية:
جاء المبشر بالرسالة يبتغي ... أجر السرور من الكريم المرسل
فأتى به ختم الولاية مثلما ... ختم النبوة بالنبيّ المرسل
ولنا من الختمين حظّ وافر ... ورثا أتانا في الكتاب المنزّل
وقال أيضا في باب شرف المصطفى وطيبة:
يا حبذا المسجد من مسجد ... وحبذا الروضة من مشهد (1)
وحبذا طيبة من بلدة ... فها ضريح المصطفى أحمد (2)
صلى عليه الله من سيّد ... لولاه لم نعلم ولم نهتد
قد قرن الله به ذكره ... في كلّ يوم فاعتبر ترشد
عشر خفيّات وعشر إذا ... أعلنّ بالتأذين في المسجد
فهذه عشرون مقرونة ... بأفضل الذكر إلى الموعد
وقال أيضا في شرف أبي قبيس (3) وهو الجبل الأمين:
وبالجبل الأمين يمين ربي ... قد أودعه به الروح الأمين (4)
إلى أن جاء إبراهيم يبني ... مكان البيت ناداه الأمين
لديّ وديعة حبست زمانا ... مطهّرة يقال لها اليمين
فخذها يا خليل الله تربح ... فهذا السوق والثمن الثمين
وكبّر واستلم واسجد وقبّل ... ليشرق عن سجدتك الجبين
وقل هذي اليمين يمين ربي ... وإني الواله الدّنف الحزين (5)
ينادي من طباق القرب عبدي ... أتاك الجدّ والعزّ المكين
ولبتك المشاعر والمساعي ... وقال بفضلك البلد الأمين
ألا يا أيها الحجر المعلّى ... تغيّر وجهك الغضّ المصون
سوادك من سويدا كلّ قلب ... ويبسك من قساوتها يكون
يهون عليّ فيك سواد عيني ... إذا بخلت بأسودها العيون
__________
(1) المسجد، أي المسجد النبوي في المدينة المنورة. والروضة: ما بين المقام النبوي والمحراب.
(2) طيبة: من أسماء المدينة المنورة.
(3) أبو قبيس: جبل بمكة.
(4) الروح الأمين: أي جبريل عليه السلام.
(5) الدّنف: المريض.(1/52)
[38]
وقال أحمد بن القاسم الزاهد: سمعت الحلّاج في سوق بغداد يصيح:
يا أهل الإسلام أغيثوني. فليس يتركني ونفسي فآنس بها، وليس يأخذني من نفسي فأستريح منها، وهذا دلال لا أصيقه. ثم أنشأ يقول: [من الطويل]
حويت بكلّي كلّ كلّك يا قدسي ... تكاشفني حتّى كأنك في نفسي
أقلّب قلبي في سواك فلا أرى ... سوى وحشتي منه وأنت به أنسي
فها أنا في حبس الحياة ممنّع ... من الأنس فاقبضني إليك من الحبس
[39]
وقال أبو القاسم عبد الله بن جعفر المحبّ: لمّا دخل الحلّاج بغداد واجتمع حوله أهلها، حضر بعض الشيوخ عند بعض رؤساء بغداد يقال له أبو طاهر الساوي وكان محبّا للفقراء، فسأله الشيخ أن يعمل دعوة ويحضر فيها الحلّاج. فأجابه إلى ذلك وجمع المشايخ في داره، وحضر الحلّاج. فقال للقوّال: قل ما يختار الشيخ، يعني به الحلّاج. فقال الحلّاج: إنّما يوقظ النائم وقوّال الفقراء ليس بنائم. فقال القوّال: وطاب وقت القوم. ووثب الحلّاج وسطهم وتواجد تواجدا تلألأت منه أنوار الحقيقة وأنشد: [من الوافر]
ثلاثة أحرف لا عجم فيها ... ومعجومان وانقطع الكلام
فمعجوم يشاكل واجديه ... ومتروك يصدّقه الأنام
وباقي الحرف مرموز معمّى ... فلا سفر هناك ولا مقام
[40]
ويروى عنه أيضا، أنّ رجلا من الأكابر يسمّى ابن هارون المدائني، استحضر الحلّاج وجماعة من مشايخ بغداد ليناظروه. فلمّا اجتمعوا تفرّس الحسين ابن منصور فيهم النكارة، فأنشأ يقول: [من الكامل]
يا غافلا لجهالة عن شاني ... هلّا عرفت حقيقتي وبياني؟
فعبادتي لله ستّة أحرف ... من بينها حرفان معجومان:
حرفان، أصليّ وآخر شكله ... في العجم منسوب إلى إيماني
فإذا بدا رأس الحروف أمامها ... حرف يقوم مقام حرف ثاني
أبصرتني بمكان موسى قائما ... في النور فوق الطور حين تراني
فبهت القوم.(1/52)
وقال في ذلك أيضا:
يمين المؤمن الركن اليماني ... أبايعه لأحظى بالأماني
يمين ما لها حجب تعالت ... عن الحجاب والحجب المثاني (1)
أمنت بلثمها من كلّ سوء ... يصيّرني إلى دار الهوان
فأنعم بالكثيب وساكنيه ... على مرأى من الحور الحسان (2)
تنادي من أريكتها تأمل ... جمالا ما له في الحسن ثاني
فليس الزهد في الأكوان شيا ... لأنّ الكون من سرّ العيان
فلا ألوي ولا أرعيه سمعي ... فأعجب بالمعان عن المعاني
وقال أيضا ما قال ابن عمر في طائف معرض عن البيت:
يطوف بالبيت من يدين له ... لكنه خارج عن البشر
كأنه في طوافه جمل ... يخبط لا يلتوي على الحجر
مثل حنين وقد رآه فتى ... من أعلم الناس من بني عمر
فقال هذا الذي أقول به ... في حقّ هذا الأنيس فازدجر
لكنني قد وجدت معذرة ... كان عليها في سالف العمر
كان له مقطع يطوف به ... ومن أتى عادة فلم يمر
وقال أيضا في طوافه وهاتف يجيبه:
أطوف على طوافي بالمعاني ... فقال الهاتف ... فغايتك الوصول إلى الغواني (3)
فقال: فكم من طائف ما نال إلا ... فقال الهاتف ... ملاحظة من الحور الحسان
فقال: وكم من طائف ما نال إلا ... فقال الهاتف ... عيانا من عيان في عيان (4)
فقال أيضا:
ما يتّقي الله إلا كلّ ذي نظر ... مسدّد مجتبى قد خصّه الله
يقطع الليل بالتسبيح بين يدي ... مولاه دامعة في الليل عيناه
يقول يا سيدي يا منتهى أملي ... ما للعبيد رحيم غير مولاه
الله كرّم من هذي سجيّته ... ونعته فإذا يدعوه لبّاه
لولاه ما ضحكت أرض بزهرتها ... ولا بكت سحبها لولاه لولاه
__________
(1) الحجب: يريد انطباع الصور الكونية في القلب المانعة لقبول تجلي الحق.
(2) الكثيب: المرتفع من الرمل، ويريد عالم القدس ومجلاه.
(3) الغواني: جمع الغانية وهي الحسناء التي غنيت بجمالها.
(4) العيان والمعاينة: المشاهدة وهي المحاضرة والمداناة ورؤية الحق ببصر القلب من غير شبهة.(1/53)
يا غافلا لجهالة عن شاني ... هلّا عرفت حقيقتي وبياني؟
فعبادتي لله ستّة أحرف ... من بينها حرفان معجومان:
حرفان، أصليّ وآخر شكله ... في العجم منسوب إلى إيماني
فإذا بدا رأس الحروف أمامها ... حرف يقوم مقام حرف ثاني
أبصرتني بمكان موسى قائما ... في النور فوق الطور حين تراني
فبهت القوم.
وكان لابن هارون ابن مريض مشرف على الموت، فقال للحلّاج: ادع له فقال الحلّاج: قد عوفي فلا تخف. فدخل الابن كأنه لم يمرض قطّ. فتعجّب الحاضرون من ذلك. فأتى ابن هارون بكيس مختوم، وقال: يا شيخ فيه ثلاثة آلاف دينار اصرفها فيما تريد. وكان القوم في غرفة على الشطّ فأخذ الحلّاج الكيس ورمى به إلى دجلة، وقال للمشايخ: تريدون مناظرتي، على ماذا أناظر. أنا أعرف أنكم على الحقّ وأنا على الباطل، وخرج. فلمّا أصبحنا استحضر ابن هارون الجماعة ووضع الكيس بين أيديهم، وقال: البارحة كنت أتفكّر فيما أعطيت الحلّاج وندمت على ذلك. فلم تمض ساعة على ذلك إذ جاء فقير من أصحاب الحلّاج، وقال: الشيخ يقرئك السلام ويقول: لا تندم فإنّ هذا كيسك، فإنّ من أطاع الله أطاعه البرّ والبحر.
[41]
عن جندب بن زادان الواسطيّ وكان من تلامذة الحلّاج، قال: كتب الحسين بن منصور كتابا هذه نسخته: «بسم الله الرحمن الرحيم المتجلّي عن كلّ شيء لمن يشاء. السلام عليك يا ولدي، ستر الله عنك ظاهر الشريعة، وكشف لك حقيقة الكفر. فإنّ ظاهر الشريعة كفر خفيّ، وحقيقة الكفر معرفة جليّة. أمّا بعد حمد الله الذي يتجلّى على رأس إبرة لمن يشاء، ويستتر في السماوات والأرضين عمّن يشاء، حتى يشهد هذا بأن لا هو، ويشهد ذلك بأن لا غيره. فلا الشاهد على نفيه مردود، ولا الشاهد بإثباته محمود. والمقصود من هذا الكتاب أني أوصيك أن لا تغترّ بالله ولا تيأس منه، ولا ترغب في محبّته ولا ترض أن تكون غير محبّ، ولا تقل بإثباته ولا تمل إلى نفيه، وإيّاك والتوحيد، والسلام».(1/53)
[42]
وقال جندب: دخل عليّ في نصف الليل ببغداد بهرام بن مرزبان المجوسيّ وكان مكثرا ومعه كيس فيه ألفا دينار، وقال لي: تذهب معي إلى الحلّاج فلعلّه يحتشمك، فتعطيه هذا الكيس. فذهبت معه ودخلنا عليه وكان قاعدا على سجّادته يقرأ القران ظاهرا. فأجلسنا وقال: ما الحاجة في هذا الوقت. فتكلّمت في ذلك فأبى أن يقبل. فألححت عليه وكان يحبّني فقبل. وقال لي: لا تخرج. فوقفت وخرج المجوسيّ. فلمّا ذهب المجوسيّ قام الحلّاج وخرجت معه حتى دخل جامع المنصور ومعه الكيس، والفقراء نيام. فأيقظهم وفرّق الدنانير عليهم حتى لم يبق في الكيس شيء. فقلت: يا شيخ، هلّا صبرت إلى الغد. فقال: الفقير إذا بات في عقارب نصيبين خير له من أن يبيت مع المعلوم.
[43]
عن إبراهيم بن فاتك قال: دخلت على الحلاج ليلة وهو في الصلاة مبتدئا بقراءة سورة البقرة، فصلّى ركعات حتى غلبني النوم، فلما انتبهت سمعته يقرأ سورة {حم عسق} (1) فعلمت أنه يريد الختم، فختم القرآن في ركعة واحدة وقرأ في الثانية ما قرأ فضحك إليّ وقال: ألا ترى أني أصلّي أراضيه من ظن أنه يرضيه بالخدمة فقد جعل لرضاه ثمنا، ثم ضحك وأنشأ يقول: [من الطويل]
إذا بلغ الصّبّ الكمال من الهوى ... وغاب عن المذكور في سطوة الذّكر
يشاهد حقّا حين يشهده الهوى ... بأنّ كمال العاشقين من الكفر
[44]
وقال ابن فاتك: قصدت الحلّاج ليلة، فرأيته يصلّي، فقمت خلفه. فلمّا سلّم قال: اللهمّ أنت المأمول بكلّ خير، والمسؤول عند كل مهمّ، المرجو منك قضاء كل حاجة، والمطلوب من فضلك الواسع كل عفو ورحمة. وأنت تعلم ولا تعلم،
__________
(1) الشورى: 1، 2.(1/54)
الله فضّله الله جمّله ... الله عدّله الله سوّاه
يا صفوة الدين أنت الدين أجمعه ... طابت بذكرك أعراف وأفواه
ومن ذلك:
ثوب التقى والهدى ألبست فاطمة ... وما أرى للباس الخير من عوض
ألبستها خرقة علياء جامعة ... تزيل عن قلبها ما فيه من مرض (1)
جمعت والله في البأس ما لبست ... مني من الخير بين الذات والعرض (2)
قد كان لي غرض في أن تكون لنا ... بنتا وربي فيها قد قضى غرضي
فلتشكر الله لا أرجو سواه لها ... على الذي قدّر الرحمن حين رضي
ومن ذلك:
لبست صفية خرقة الفقراء ... لمّا تحلت حلية الأمناء
وأتت بكلّ فضيلة وتنزّهت ... عن ضدّها فعلت على النظراء
وتكالمت أخلاقها وتقدّست ... وتخلّقت بجوامع الأسماء
جاءت لها الأرواح في محرابها ... فهي البتول أخيّة العذراء (3)
وهي الحصان فما تزنّ بريبته ... وهي الرّزان شقيقة الحمراء
نزلت تبشّرها ملائكة السما ... ليلا بنيل وراثة النبآء
ومن ذلك:
ألبست ستّ العيش مثل الذي ... ألبسني أهل التّقى والسماح
خرقة أهل الله فخرا وما ... على الذي يلبسها من جناح
وشرطها أن تلبيها على الشر ... ط الذي يلبس أهل الصلاح
مقامها الفوز غدا والنجاح ... في كلّ ما تطلبه والفلاح
ومن ذلك:
يا لابسا خرقة التصوّف ما ... عليك فيما لبسته حرج
إن كنت من عصبة منزّهة ... قد عرفوا ذاتهم وما مرجوا
قاموا على عفّة ومسغبة ... تهلك حتى أتاهم الفرج
تحصّنوا بالعليّ حين علوا ... وخصهم بالشهود إذ عرجوا
__________
(1) لبس الخرقة: يعني ارتباطا بين الشيخ وبين المريد: وفيها معنى المبايعة.
(2) الذات: مطلق الذات هو الأمر الذي تستند إليه الأسماء والصفات في عينها لا في وجودها.
(3) البتول: المنقطعة إلى الله عن الدنيا واتصالها في العقبى.(1/54)
وترى ولا ترى، وتخبر عن كوامن أسرار ضمائر خلقك، وأنت على كل شيء قدير.
وأنا بما وجدت من روائح نسيم حبك، وعواطر قربك أستحقر الراسيات، وأستخفّ الأرضين والسماوات. وبحقّك لو بعت منّي الجنّة بلمحة من وقتي، أو بطرفة من أحرّ أنفاسي لما اشتريتها. ولو عرضت عليّ النار بما فيها من ألوان عذابك لاستهونتها في مقابلة ما أنا فيه من حال استتارك منّي. فاعف عن الخلق ولا تعف عنّي، وارحمهم ولا ترحمني. فلا أخاصمك لنفسي، ولا أسائلك بحقّي، فافعل بي ما تريد.
فلمّا فرغ قام إلى صلاة أخرى وقرأ الفاتحة وافتتح بسورة النور وبلغ إلى سورة النمل. فلمّا بلغ إلى قوله تعالى: {أَلََّا يَسْجُدُوا لِلََّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضِ} (1) صاح صيحة وقال: هذه صيحة الجاهل به. ومن ودّ المحبّ المحقّ أن لا يعبد ما حدّ.
[45]
يروى عن عبد الله بن طاهر الأزديّ أنه قال: كنت أخاصم يهوديّا في سوق بغداد وجرى على لفظي أن قلت له: يا كلب. فمرّ بي الحسين بن منصور ونظر إليّ شزرا، وقال: لا تنبح كلبك، وذهب سريعا. فلمّا فرغت من المخاصمة، قصدته، فدخلت عليه، فأعرض عنّي بوجهه. فاعتذرت إليه فرضي، ثم قال: يا بنيّ، الأديان كلّها لله عزّ وجلّ، شغل بكلّ دين طائفة لا اختيارا فيهم بل اختيارا عليهم. فمن لام أحدا ببطلان ما هو عليه فقد حكم أنه اختار ذلك لنفسه، وهذا مذهب القدريّة و «القدريّة مجوس هذه الأمّة».
واعلم أنّ اليهوديّة والنصرانيّة والإسلام وغير ذلك من الأديان هي ألقاب مختلفة وأسام متغايرة، والمقصود منها لا يتغيّر ولا يختلف. ثم قال: [من الطويل]
تفكّرت في الأديان جدّ محقّق ... فألفيتها أصلا له شعب جمّا
فلا تطلبن للمرء دينا، فإنّه ... يصدّ عن الأصل الوثيق، وإنّما
يطالبه أصل يعبّر عنده ... جميع المعالي والمعاني فيفهما
__________
(1) النمل: 25.(1/55)
فانظر إلى حالهم وحليتهم ... وحصن تقديسه الذي ولجوا
وادخل من الموضع الذي دخلوا ... تخرج بالحلية التي خرجوا
ومن ذلك:
ألبست من هوى ذاتي خرقة الخضر ... ما بين زمزم والركنين والحجر
على التزيّن بالمرضيّ من صفة ... محمودة بين أهل الشّرع والنظر
ولا تزال مع الأنفاس قائمة ... به إلى منتهى الأوقات والعمر
وما تحللها من سيء فلنا ... عليه شرط صحيح جاء في الخبر
ومن ذلك:
ألبسته خرقة التصوّف ... وما له نحوها تشوّف (1)
لعلمه بالذي يراه ... من أدب الوقت والتظرّف
ألبسته بعد ما تعالى ... عن رتبة الأخذ والتعطّف
وحصل الكون في حماه ... وأحكم العلم والتصرّف
فمثل هذا ألبست ثوبي ... إذ كان ثوبا على التعرّف
ومن ذلك:
ألبست بدرا خريقة الخلق ... لما حكى نوره دجى الغسق (2)
وقلت يا بدر لا كسفت ولا ... عدلت يوما عن أحسن الطرق
ألبستك الزهد والصيانة إذ ... جرّدت ثوب المجون والعلق
ومن ذلك في لباس أخته:
ألبست بنتي دنيا ... لباس دين وتقوى
عسى أراها على ما ... قد كلّف الله تقوى
فإن دارك هذي ... دار اختبار وبلوى
إذا شربت بنفس ... ماء الحياة لتروى
إنّ التنفس فيه ... أهنى وأمرى وأروى
ومن ذلك:
لما تأدبت بي يا منتهى ألمي ... وأحسن الناس في المعنى وفي الصور
__________
(1) لبست خرقة الصوف أي ارتبط بشيخه وبايعه، والصوفية هم كما قال الجنيد: القائمون مع الله تعالى بحيث لا يعلم قيامهم إلا الله. وقال بشر بن الحارث: الصوفي من صفا قلبه لله.
(2) الدجى: الليل. الغسق: أول الليل.(1/55)
وكان قد ملكت قلبي محاسنها ... خبرا تحققه يربى على الخبر
ألبستها من سنى الأثواب ثوب تقى ... فخرا على جنسها من خرقة الخضر
وهي التأدّب بالآداب أجمعها ... مع التخلّق بالآيات والسّور
والعهد ما بيننا أن لا تبوح بها ... ولا تعرّفها شخصا من البشر
لكي تكون من الإخلاص نشأتها ... فليس يلحقها شيء من الغير
ومن ذلك:
لبست جارية من يدنا ... خرقة نالت بها عين الكمال
خرقة دينية علوية ... ألحقتها بمقامات الرجال
وكذاك الله قد ألبسها ... ثوب عزّ وقبول وجمال
وضياء وسناء وسنا ... واعتدال وبهاء وجلال
كلّما أبصرتها غيّبني ... ما أرى من حسن دلّ ودلال
حفظ الله عليها عهدها ... وعلينا حفظها طول الليالي
ومن ذلك لبسته نوم عند الحجر في حضرة من الكعبة المعظمة بحال:
ألبست جارية ثوبا من الخفر ... في النوم ما بين باب البيت والحجر (1)
وقبّلته فقبّلنا مقبّلها ... وغبت فيه عن الإحساس بالبشر
واستصرخت في ثنيات الطواف وقد ... حسرن عن أوجه من أحسن الصّور
هذا إمام نبيل بين أظهرنا ... هذا قتيل الهوى واللثم والنظر
قالت لها قبليه الأمّ ثانية ... عساه يحيى كمثل النفخ في الصور
فالنفخ يخرج أرواح الورى وبه ... يحيى إذا دعيت للنشر من حفر (2)
فعاودت فأزالت حكم غاشيتي ... وأدبرت وأنا منها على الأثر
أقبل الأرض إجلالا لوطأتها ... حباله وأنا منه على حذر
من أجل تقييده بصورة امرأة ... عند التجلّي فقلت النقص من بصري
ونسوة كنجوم في مطالعها ... وأنت منهن عين الشمس والقمر
يا حسنها غادة كالشمس طالعة ... تسبي العقول بذاك الغنج والحور (3)
ومن ذلك نومية في حضرة خيالية ووقع لباسها بعد ذلك في الحس:
سألتنا شرف نلبسها ... خرفة القوم على شرط الوفا
__________
(1) الخفر: الحياء.
(2) الورى: الخلق.
(3) الحور في العين: شدة بياض العين وسوادها، أو شدة بياض البياض، وشدة سواد السواد. ويريد بالشمس شمس المعارف. وقوله غادة حسناء يعني مقام المشاهدة.(1/56)
[46]
ويروى عن إبراهيم بن سمعان أنه قال: رأيت الحلّاج في جامع المنصور وكان في تكّتي ديناران شددتهما لغير طاعة الله. فسأل سائل، فقال الحسين: يا إبراهيم، تصدّق عليه بما شددت في تكّتك. فتحيّرت، فقال: لا تتحيّر، التصدّق بهما خير ممّا نويت. فقلت: يا شيخ هذا من أين؟ فقال: كلّ قلب تخلّى عن غير الله يرى في الغيب مكنونه وفي السرّ مضمونه.
فقلت له: أفدني بكلمة. فقال: من طلب الله بين الميم والعين وجده، ومن طلبه بين الألف والنون في حرف الإضافة فقده، فإنّه تقدّس عن مشكلات الظنون، وتعالى عن الخواطر ذوات الفنون. ثم أنشأ يقول: [من البسيط]
إرجع إلى الله، إنّ الغاية الله ... فلا إله إذا بالغت إلّا هو
وإنّه لمع الخلق الذين لهم ... في الميم والعين والتّقديس معناه
معناه في شفتي من حلّ منعقدا ... عن التّهجّي إلى خلق له فاهوا
فان تشكّ، فدبّر قول صاحبكم ... حتّى يقول بنفي الشّكّ هذا هو
فالميم يفتح أعلاه وأسفله ... والعين يفتح أقصاه وأدناه
[47]
وقال أبو نصر بن القاسم البيضاويّ: رأيت رقعة بخطّ الحلّاج عند بعض تلامذته: أمّا بعد، فإنّي أحمد إليك الله الذي لا إله إلّا هو، الخارج من حدود الأوهام وتصاوير الظنون وتخييل الفكر وتحديد الضمير، الذي {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} (1) واعلم أنّ المرء قائم على بساط الشريعة ما لم يصل إلى مواقف التوحيد. فإذا وصل إليها سقطت من عينه الشريعة واشتغل باللوائح الطالعة من معدن الصدق. فإذا ترادفت عليه اللوائح، وتتابعت عليه الطوالع، صار التوحيد عنده زندقة. والشريعة عنده هوسا، فبقي بلا عين ولا أثر. إن استعمل الشريعة استعملها رسما وإن نطق بالتوحيد نطق به غلبة وقهرا.
__________
(1) الشورى: 11.(1/56)
[48]
وقال ابن أخته: رأيت بخطّ خالي: من فرّق بين الكفر والإيمان فقد كفر، ومن لم يفرّق بين الكافر والمؤمن فقد كفر.
[49]
يروى عن عبد الودود بن سعيد بن عبد الغني الزاهد، قال: دخلت على الحلّاج فقلت له: دلّني على التوحيد. فقال: التوحيد خارج عن الكلمة حتى يعبّر عنه قلت: فما معنى لا إله إلّا الله. قال: كلمة شغل بها العامّة لئلّا يختلطوا بأهل التوحيد، وهذا شرح التوحيد من وراء الشرع. ثم احمرّت وجنتاه وقال: أقول لك مجملا. قلت: بلى. قال: من زعم أنه يوحّد الله فقد أشرك.
[50]
وعنه قال: رأيت الحلّاج دخل جامع المنصور وقال: أيّها الناس اسمعوا منّي واحدة. فاجتمع عليه خلق كثير، فمنهم محبّ ومنهم منكر فقال: اعلموا أنّ الله تعالى أباح لكم دمي فاقتلوني. فبكى بعض القوم. فتقدّمت من بين الجماعة، وقلت:
يا شيخ كيف نقتل رجلا يصلّي ويصوم ويقرأ القرآن. فقال: يا شيخ، المعنى الذي به تحقن الدماء خارج عن الصلاة والصوم وقراءة القرآن فاقتلوني تؤجروا وأستريح فبكى القوم وذهب، فتبعته إلى داره وقلت: يا شيخ ما معنى هذا. قال: ليس في الدنيا للمسلمين شغل أهمّ من قتلي. فقلت له: كيف الطريق إلى الله تعالى؟ قال:
الطريق بين اثنين وليس مع الله أحد. فقلت: بيّن. قال: من لم يقف على إشاراتنا لم ترشده عباراتنا. ثم قال: [من البسيط]
أأنت أم أنا هذا في إلهين ... حاشاك حاشاك من إثبات اثنين
هويّة لك في لائيّتي أبدا ... كلّي على الكلّ تلبيس بوجهين
فأين ذاتك عنّي حيث كنت أرى ... فقد تبيّن ذاتي حيث لا أيني
وأين وجهك؟ مقصودا بناظرتي ... في باطن القلب أم في ناظر العين
بيني وبينك إنّيّ ينازعني ... فارفع بلطفك إنّيّ من البين
فقلت له: هل لك أن تشرح هذه الأبيات. قال: لا يسلّم لأحد معناها إلّا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، استحقاقا ولي تبعا.(1/57)
حين تابت عندنا من كل ما ... كان منها قبل هذا سلفا
فأجبناها إلى ما سألت ... باعتقاد ووداد وصفا
وأمرناها بأن تلبسها ... كل من كان بخير عرفا
إلى هنا انتهى ما وقع في الحس من هذه الواقعة وما أذكره بعد هذا هو مما وقع في النوم وأما النظم فإنه كله في حال النوم فكانت بشرى وهذا ذكر ما بقي من النظم فيها:
هي لمّا لبستها سبّحت ... حسبي الله تعالى وكفى
وأتت تلثم نعلي خدمة ... ولقد كان لنا فيه شفا
ولقد عانقت منها غصنا ... يخجل الغصن إذا ما انعطفا
وارتشفنا ريقة مسكية ... تخجل الشّهد إذا ما ارتشفا (1)
ما أتينا محرما نحذره ... بل أتينا فيه ما الله عفا
فانظروا المعنى الذي أرمزه ... في كلامي تجدوه في الوفا
ومن ذلك:
ألبست بنت زكيّ الدين خرقتنا ... من بعد صحبتها إياي بالأدب (2)
تخلقت فصفت منها مواردها ... وقدّست ذاتها عن أكثر الريب
لما حويت علوما أنت أكثرها ... أخذتها عن مربّ صادق وأب
فلتلبس البنت من شاءته خرقتنا ... بعد التحقق بالأسماء والنسب
لكل إنس وجنّ بعد صحبتهم ... على الشروط التي أودعتها كتبي
ومن ذلك:
ألبست ستّ العابدي ... ن خرقة التصوف (3)
ألبستها من رغبتي ... فيها ومن تخوّفي
على إنكسار راعني ... منها ومن تشوّف
ألبستها بمكة ... في الحجّ بالمعرّف
ألبستها ثوب تقى ... توّقني تشرّفي
لأنها معشوقة ... لطيفة التظرف
محجوبة مطلوبة ... لطالب التطرّف
__________
(1) الارتشاف: الامتصاص، ويريد الإشارة إلى ما عنده من أمور غيبية طيبة المذاق.
(2) لبس الخرقة: يعني الارتباط بين الشيخ وبين المريد وفيها معنى المبايعة.
(3) الخرقة، هي عتبة الدخول في الصحبة، وارتباط بين الشيخ وبين المريد.(1/57)
أأنت أم أنا هذا في إلهين ... حاشاك حاشاك من إثبات اثنين
هويّة لك في لائيّتي أبدا ... كلّي على الكلّ تلبيس بوجهين
فأين ذاتك عنّي حيث كنت أرى ... فقد تبيّن ذاتي حيث لا أيني
وأين وجهك؟ مقصودا بناظرتي ... في باطن القلب أم في ناظر العين
بيني وبينك إنّيّ ينازعني ... فارفع بلطفك إنّيّ من البين
فقلت له: هل لك أن تشرح هذه الأبيات. قال: لا يسلّم لأحد معناها إلّا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، استحقاقا ولي تبعا.
[51]
وعن الحسن بن حمدان قال: دخلت على الحلّاج يوما، فقلت له: أريد أن أطلب الله، فأين أطلبه؟ فاحمرّت وجنتاه، وقال: الحقّ تعالى عن الأين والمكان، وتفرّد عن الوقت والزمان، وتنزه عن القلب والجنان، واحتجب عن الكشف والبيان، وتقدّس عن إدراك العيون، وعمّا تحيط به أوهام الظنون، تفرّد عن الخلق بالقدم كما تفرّدوا عنه بالحدث، فمن كان هذا صفته كيف يطلب السبيل إليه. ثم بكى وقال:
[من الطويل]
فقلت: أخلّائي، هي الشّمس ضوؤها ... قريب، ولكن في تناولها بعد
[52]
وعنه أيضا قال: سمعت الحسن يقول في سوق بغداد: [من الوافر]
ألا أبلغ أحبّائي بأني ... ركبت البحر وانكسر السّفينه
على دين الصّليب يكون موتي ... ولا البطحا أريد ولا المدينه
فتبعته، فلمّا دخل داره كبّر يصلّي، فقرأ الفاتحة والشعراء إلى سورة الروم، فلمّا بلغ إلى قوله تعالى {وَقََالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمََانَ} (1) الآية كرّرها وبكى. فلمّا سلّم، قلت: يا شيخ تكلّمت في السوق بكلمة من الكفر، ثم أقمت القيامة ههنا في الصلاة، فما قصدك. قال: أن تقتل هذه الملعونة، وأشار إلى نفسه. فقلت: يجوز إغراء الناس على الباطل. قال: لا ولكنّي أغريهم على الحقّ، لأنّ عندي قتل هذه من الواجبات، وهم إذا تعصّبوا لدينهم يؤجرون.
[53]
وعنه أيضا قال: أمر بشهادة وحدانيّته، ونهى عن وصف كنه هويّته،
__________
(1) الروم: 56.(1/58)
ومن ذلك:
ألبست بنتي سفري ... خرقة أهل الأدب
ألبستها ثوب تقى ... من كل خلق معجب
وقلت يا بنت اسلكي ... طريقتي ومذهبي
فمذهبي شرع النبي ... الهاشميّ العربي
فهكذا ألبستها ... من كلّ شيخ منجب
أقول هذا وأنا ... محمد بن العربي
ومن ذلك:
ألبست من همومنا اليوم خرقتنا ... لباس تقوى وفيه بعض ما فيه
إذا يصح له من أصله نسب ... صحّ اللباس لباس الفخر والتيه
وأيّ فخر يسامي فخر ذي نسب ... تفجر العلم منه في نواحيه
فليلبس الولد المحفوظ خرقتنا ... على الشروط التي ضمنتها فيه
وهي التزيّن بالأخلاق أجمعها ... محمودها في الذي يبدي ويخفيه
ومن ذلك:
ألبست أمّ محمد ... ثوب التصوّف معلما
بشروطها مستوثقا ... منها بذاك ومحكما
ما يقتضيه وسلمت ... فمنحتها مستسلما
لله فيما قد فعلت ... من اللباس ومنعما
لشفاعة الصفتين إذ ... كان المهيمن أنعما
بهما على مملوكة ... وهما اللتان هما هما
خلق وعلم جامع ... أخذ التصوّف عنهما
فالحمد لله الذي ... قد كان ذلك منهما
والملك لله العليّ ... لباس شخص منهما
في خرقة فرحية ... قلم الإله قد أحكما
فيها رقوم نصّها: ... الملك لله فما
عاينت رقما مثله ... في العالمين منمنما(1/58)
وحرم على القلوب الخوض في كيفيّته، وأفحم الخواطر عن إدراك لاهوتيّته فليس منه يبدو للخلق إلّا الخبر، والخبر يحتمل الصدق والكذب.
فسبحانه من عزيز يتجلّى لأحد من غير علّة، ويستتر عن أحد من غير سبب. ثم بكى وأنشأ يقول: [من الطويل]
دخلت بناسوتي لديك على الخلق ... ولو لاك، لاهوتي، خرجت من الصّدق
فإنّ لسان العلم للنّطق والهدى ... وإنّ لسان الغيب جلّ عن النّطق
ظهرت لخلق والتبست لفتية ... فتاهوا وضلّوا واحتجبت عن الخلق
فتظهر للألباب في الغرب تارة ... وطورا عن الأبصار تغرب في الشّرق
[54]
وعن عمران بن موسى قال: سمعت بعض البصريّين يقول: كنت أنكر على الحلّاج وأقدح فيه حتى مرض لي أخ، وكدت أموت أسفا عليه. فهمت على وجهي ممّا داخلني من الحسرة عليه، حتى وقفت على باب الحلّاج، فدخلت وقلت:
يا شيخ، فلان أخي أشرف على الموت، ادع له. فضحك وقال: أنجيه بشرط تفي لي به. قلت: وما هو؟ قال: لا ترجع عن الإنكار عليّ بل تزيد وتشهد عليّ بالكفر وتعين على قتلي.
فبقيت مبهوتا فقال: لا ينفعك إلّا قبول الشرط. قلت: نعم أفعل. فصبّ شيئا من الماء في سكرجة، وبصق فيها وقال لي: مرّ واجعل من هذا الماء في فيه فذهبت وفعلت ذلك فقام أخي في الوقت كأنه لم يمرض أو نائم فانتبه. فرجعت بأخي إليه وشكرته، فضحك وقال: لولا أنّ الله تعالى قال {لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنََّاسِ أَجْمَعِينَ} * (1) لكنت أبصق في النار حتى تصير ريحانا على أهلها.
[55]
وعنه قال: سمعت الحسين يقول: من أراد أن يصل إلى المقصود فلينبذ
__________
(1) الأعراف: 18.(1/59)
ألبست أمّ محمد ... ثوب التصوّف معلما
بشروطها مستوثقا ... منها بذاك ومحكما
ما يقتضيه وسلمت ... فمنحتها مستسلما
لله فيما قد فعلت ... من اللباس ومنعما
لشفاعة الصفتين إذ ... كان المهيمن أنعما
بهما على مملوكة ... وهما اللتان هما هما
خلق وعلم جامع ... أخذ التصوّف عنهما
فالحمد لله الذي ... قد كان ذلك منهما
والملك لله العليّ ... لباس شخص منهما
في خرقة فرحية ... قلم الإله قد أحكما
فيها رقوم نصّها: ... الملك لله فما
عاينت رقما مثله ... في العالمين منمنما
ومن ذلك في كون القلب خرقة لما وسع الحقّ:
ألا إنني العالم الأبخل ... بديني وسرّي فلا أكرم (1)
وما ذاك بخل ولكنه ... هو الفضل والكرم الأكرم
انزل منزلة كلما ... تحقق علمي الأعلم
أنا الشمس أبدو بذاتي إذا ... أشاء ويظهرني الأزمم (2)
إذا شئت ذاك لما يقتضي ... مقامي ويظهرني الأنجم
إذا ما دجا الليل من غيبتي ... ويفقدني العالم المظلم
إذا لبست خرقتي ذاته ... تحار لها العرب والأعجم
وقال أيضا:
لبس التقى للنفس خير لباس ... يزهو به المسعود بين الناس
إنّ الشريف هو التقيّ المرتضى ... لا الهاشميّ ولا بنو العباس
إلا إذا اتّقوا الإله فإنهم ... أهل المكارم والندى والباس
إني لبست بحمص أندلس وبال ... حرم الشريف ومكة وبفاس (3)
من سادة مثل الشموس أئمة ... الله أكرمهم بخير لباس
بهدى هداتهم اهتديت لأنهم ... في الليلة الظلماء كالنبراس (4)
وقال أيضا:
سألتنا زمرّذ ... تلبس الخرقة التي (5)
ثمّ لما أجبتها ... لبستها وولّت
نحو مصر ببنتها ... تبتغي سدّ خلّة (6)
عند ما تمّ ما نوت ... تركتها وانسلّت
تبتغي أرض جلّق ... بانكسار وذلّة (7)
لبنات لها بها ... حين ملّت وملّت
وأتت عند ما أتت ... شانها سوء فعلة
__________
(1) السر: يريد تلك اللطيفة المودعة في القلب كالروح في البدن، ونور روحاني هو آلة النفس، وهو محل المشاهدة.
(2) يشبه نفسه بالشمس للنور والذي تبعثه، فهي نقطة الأسرار ودائرة الأنوار.
(3) حمص أندلس: موضع بالأندلس، وفاس: مدينة بالمغرب.
(4) النبراس: المصباح.
(5) زمرذ: علم مؤنث. والخرقة، تعني الارتباط بين الشيخ وبين المريد.
(6) الخلّة: الحاجة.
(7) جلّق: اسم لدمشق.(1/59)
الدنيا وراء ظهره. ثم أنشد يقول: [من مخلع البسيط]
عليك يا نفس بالتّسلّي ... فالعزّ بالزّهد والتّخلّي
عليك بالطّلعة التي ... مشكاتها الكشف والتّجلّي
قد قام بعضي ببعض بعضي ... وهام كلّي بكلّ كلّي
[56]
وقال أحمد بن فاتك: رأيت ربّ العزّة في المنام كأني واقف بين يديه!!.
فقلت: يا ربّ، ما فعل الحسين حتى استحقّ تلك البليّة؟ فقال: إنّي كاشفته بمعنى، فدعا الخلق إلى نفسه، فأنزلت به ما رأيت.
[57]
وقال أيضا: قال الحلّاج: ما وحّد الله غير الله، وما عرف حقيقة التوحيد غير رسول الله صلى الله عليه وسلم.
[58]
وعنه قال: سمعت الحسين بن منصور يقول: ليس على وجه الأرض كفر إلّا وتحته إيمان، ولا طاعة إلّا وتحتها معصية أعظم منها، ولا إفراد بالعبوديّة إلّا وتحته ترك الحرمة، ولا دعوى المحبّة إلّا وتحتها سوء الأدب. لكن الله تعالى عامل عباده على قدر طاقتهم.
[59]
عن ضمرة بن حنظلة السمّاك قال: دخل الحلّاج واسط وكان له شغل.
فأوّل حانوت استقبله كان لقطّان، فكلّفه الحلّاج السعي في إصلاح شغله، وكان للرجل بيت مملوء قطنا، فقال له الحسين: اذهب في إصلاح شغلي فإنّي أعينك على عملك. فذهب الرجل، فلمّا رجع رأى كل قطنه في دكّانه محلوجا، وكان أربعة وعشرين ألف رطل فسمّي من ذلك اليوم حلّاجا.(1/60)
وتعالت لأنها ... بهواها استقلّت
وقال أيضا:
ألبست زينب ثوب الفضل والدين ... من يد من هو مسكين ابن مسكين (1)
هو الفقير الذي قد باع متجرا ... أضلاله بالهدى لله والدّين
على التخلّق بالأسماء أجمعها ... أسماء ديّان يوم الفصل والدين
وأعكف على كلّ خير أنت فاعله ... فإنما الخير في التشريع بالدّين
وقال أيضا:
لبست صفية بنت ابنتنا ... خرقة ضمنتها كلّ المنى
مثل ما ضمّ من الخير لنا ... زمن الرمي بأيام منى
وسألت الله أن يعصمها ... من أذى النفس ومن كل خنا (2)
يوم تجزى كلّ نفس سعيها ... ولنا أيضا هناكم وهنا
وسألت الله أن ينبتها ... مثل ما قال نباتا حسنا
في أمان وانتظام بهدي ... واغتباط بسرور وهنا
وقال أيضا:
جميلة ما لها عديل ... ملبسها الملبس الجليل
ألبستها خرقة المعاني ... إذ علمت أنني الوكيل
مذ صحبت حضرتي تحلّت ... فكلّ أفعالها جميل
ونسبتي ما لها حدوث ... أو نلبي ربي الكفيل
وقال أيضا:
لباسي لباس المتقين وإنني ... عريّ من التقوى إذا كنت كاسيا
دعاني منادي الحقّ من بين أضلعي ... فلو كان توفيق أجبت المناديا
ولما رأى ترك الإجابة لم يقم ... وراح وخلى القلب في الحال خاليا
ولو غير داعي الحقّ نادى من الحشى ... أجاب فؤادي صوته إذ دعانيا
وقال أيضا: خليليّ إني للشريعة حافظ ... ولكن لها سرّ على عينه غطا (3)
فمن لزم الأوراد واستعمل الذي ... قد ألزمه الرحمن لم يمش في عمى (4)
__________
(1) زينب: علم مؤنث.
(2) الخفا: الفحش.
(3) السّر: محل المشاهدة، ونور روحاني هو آلة النفس.
(4) الأوراد: جمع الورد ويريد الذكر والتسبيح.(1/60)
وصح له سرّ الوجود خلافة ... وكان ولا أين وكان ولا متى
ومن هذه المقصورة أيضا في كمية الأحكام الشرعية:
وأحكامها خمس تلوح لناظر ... شديد سديد البحث عن طرق السوا
فواحيها أن لا يراك ملاحظا ... لكون من الأكوان ما دمت تجتبى
ومندوبها أن لا يراك مفارقا ... لوصف إلهيّ متى كنت تحتبى
ومكروهها أن تلحظ الكون زاجرا ... فتنزل من أعلى السماء إلى الهوا
ومحظورها أن تلحظ الغير عاشقا ... فتخرج من نعمى الجنان إلى لظى (1)
وأمّا مباحات الشريعة فاستقم ... على الغرض النصيّ في عالم الهوى
ومنها في أصول أحكام الشريعة:
وأمّا أصول الحكم فهي ثلاثة ... كتاب وإجماع وسنّة مصطفى
ورابعها منّا قياس محققّ ... وفيه خلاف بينهم مرّ وانقضى
ومنها في أركان الإسلام التي بني عليها وهي خمس بالخبر الصحيح: شهادة أن لا إله إلا الله وأنّ محمدا رسول الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان والحج. فأوّلها الإيمان بالله ورسوله:
وأركانها خمس عتاق نجائب ... تسير على حكم الحقيقة بالصّوى (2)
فأوّلها الإيمان بالله بعده ... رسول عزيز جاء بالصّدق والهدى
فيعرض للمحجوب شفع شهادة ... فأوترها الرحمن في سورة النّسا
وعرّفه مقدار نفس ضعيفة ... وأيّده بالحال في سابق القضا
وثم الصلاة والزكاة وصومنا ... وحجّ وهذي خمسة ما بها خفا
فى اسرار الطهاره
ومنها أيضا في أسرار الطهارة التي هي من أشراط الصلاة:
ومن بعده سرّ الطهارة واضح ... يسير على أهل التيقظ والذّكا
فكم طاهر لم يتّصف بطهارة ... إذا جاور البحر اللدنيّ واحتمى
ولو غاص في البحر الأجاج حياته ... ولم يفن عن بحر الحقيقة ما زكا (3)
إذا استجمر الإنسان وترا فقد مشى ... على السنة البيضاء خلقا لمن مضى (4)
فإن شفع استجماره عاد خاسرا ... وفارق من يهواه من باطن الرّدى
__________
(1) الجنان: جمع الجنة. اللظى: النار.
(2) عتائق: كرام. نجائب: جمع نجيبة. كريمة. الصّوى: جمع الصّوّة: ما غلظ وارتفع من الأرض.
(3) البحر الأجاج: البحر الملح.
(4) استجمر: استنجى بالجمار. أي بالحصوات.(1/61)
[60]
وعن أحمد بن فاتك قال: لمّا حبس الحلّاج ببغداد كنت معه. فأوّل ليلة جاء السجّان وقت العتمة فقيّده ووضع في عنقه سلسلة، وأدخله بيتا ضيّقا. فقال له الحسين: لم فعلت بي هذا. قال: كذا أمرت. فقال له الحلّاج: الآن أمنت منّي؟
قال: نعم. فتحرّك الحلّاج فتناثر الحديد عنه كالعجين، وأشار بيده إلى الحائط فانفتح فيه باب، فرأى السجّان فضاء واسعا، فعجب من ذلك. ثم مدّ الشيخ يده وقال: الآن افعل ما أمرت به. فأعاده كما فعل أوّل مرّة. فلمّا أصبح، أخبر السجّان المقتدر الخليفة بذلك. فتعجّب الناس واستأذن نصر القشوريّ الخليفة في بناء بيت له في السجن، فأذن له، وكان محبّا له. فبنى له بيتا وفرشه وكنت معه فيه إلى أن أخرج وقتل وصلب.
[61]
وقال أحمد بن يونس: كنّا في ضيافة ببغداد، فأطال الجنيد اللسان في الحلّاج، ونسبه إلى السحر والشعبذة والنيرنج، وكان مجلسا خاصّا غاصّا بالمشايخ فلم يتكلّم أحد احتراما للجنيد. فقال ابن خفيف: يا شيخ لا تطوّل، ليس إجابة الدعاء والإخبار عن الأسرار من النيرنجات والشعبذة والسحر. فاتّفق القوم على تصديق ابن خفيف. فلمّا خرجنا أخبرت الحلّاج بذلك فضحك وقال: أمّا محمد بن خفيف فقد تعصّب لله وسيؤجر على ذلك. وأمّا أبو القاسم الجنيد فقد قال: إنّه كذب ولكن قل له: {سَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ} (1).
[62]
عن إبراهيم بن محمد النهرواني قال: رأيت الحلّاج في جامع نهروان في زاوية يصلّي وختم القرآن في ركعتين. فلّما أصبح سلّمت عليه، وقلت: يا شيخ أفدني بكلمة من التوحيد. فقال: اعلم أنّ العبد إذا وحّد ربّه تعالى، فقد أثبت نفسه، ومن أثبت نفسه فقد أتى بالشرك الخفيّ. وإنّما الله تعالى هو الذي وحّد نفسه على
__________
(1) الشعراء: 227.(1/61)
لسان من شاء من خلقه. فلو وحّد نفسه على لساني فهو وشأنه. وإلّا فما لي يا أخي والتوحيد. ثم قال: [من السريع]
من رامه بالعقل مسترشدا ... أسرحه في حيرة يلهو
[63]
عن أحمد بن عبد الله قال: سمعت الحلّاج وقد سئل عن التوحيد فقال:
تمييز الحدث عن القدم، ثم الإعراض عن الحدث والإقبال على القدم، وهذا حشو التوحيد. وأمّا محضه فالفناء بالقدم عن الحدث وأمّا حقيقة التوحيد فليس لأحد إليه سبيل إلّا لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
[64]
وقال ابن فاتك: سمعت الحلّاج يقول: في القرآن علم كل شيء، وعلم القرآن في الأحرف التي في أوائل السّور، وعلم الأحرف في لام ألف، وعلم لام ألف في الألف، وعلم الألف في النقطة، وعلم النقطة في المعرفة الأصليّة، وعلم المعرفة الأصليّة في الأزل، وعلم الأزل في المشيئة، وعلم المشيئة في غيب الهو، وعلم غيب الهو {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} (1) ولا يعلمه إلّا هو.
[65]
وقال أحمد بن فاتك: قلت للحلّاج: أوصني. قال: هي نفسك إن لم تشغلها شغلتك.
[66]
عن أحمد بن عطاء بن هاشم الكرخيّ قال: خرجت ليلة إلى الصحراء،
__________
(1) الشورى: 11.(1/62)
وإن غسل الكفين وترا ولم يزل ... بخيلا بما يهوى على فطرة الأولى
فلا غسلت كفّ خضيب ومعصم ... إذا لم يلح سيف التوكّل ينتضى
إذا ولد المولود قابض كفّه ... فذاك دليل البخل والجمع يا فتى
ويبسطها عند الممات مخبرا ... بترك الذي حصلت في منزل الدّنا
إذا صح غسل الوجه صحّ حياؤه ... وصح له رفع الستور متى يشا
وإن لم يمسّ الماء لمة رأسه ... ولا وقعت كفاه في ساحة القفا (1)
فما انفكّ من رقّ العبودية التي ... تنجزها الأغيار في منزل السّوى
وإن لم ير الكرسيّ في غسل رجله ... تناقض معنى الطهر للحين وانتفى (2)
إذا مضمض الإنسان فاه ولم يكن ... بريّا من الدعوى وفتيا بما ادّعى
ومستنشق ما شمّ ريح اتصاله ... ومستنثر أودى بكثرة الردى
صماخاه ما ينفك يطهران صغا ... إلى أحسن الأقوال واكتف واقتفى
ومنها في المسح على الخفّين والجبائر:
وإن لبس الجرموق وهو مسافر ... على طهره يمسح وفي سرّه خفا (3)
ثلاثة أيّام وإن كان حاضرا ... بمنزله فالمسح يوما بلا قضا
وفي ذا خلاف بيّن متحقّق ... يقول به أهل الشريعة والهدى
وفي المسح سرّ لا أبوح بذكره ... ولو قطّعت منك المفاصل والكلى
ويتلوه سرّ في الجبائر بيّن ... لكلّ مريد لم يرد ظاهر الدنا
ومن هذه المقصورة في التيمم:
وإن عدم الماء القراح فإن ... تيممه يكفيه من طيّب الثّرى (4)
ويوتره كفّا ووجها فإن أبى ... وصيرّه شفعا فنعم الذي أتى
ومنها في الغسل من الجنابة:
إذا أجنب الإنسان عمّ طهوره ... كما عمه الإنعاظ قصدا على السوا
ألم تر أنّ الله نبّه خلقه ... بإخراجه بين الترائب والمطا
فذاك الذي أجنى عليه طهوره ... ولو غاب بالذات المرادة ما جنى
__________
(1) لمّة الرأس: الشعر المجاوز شحمة الأذن.
(2) الكرسي: السرير، ويريد بأنه مظهر الاقتدار الإلهي.
(3) الجرموق: ما يلبس فوق الخف.
(4) الماء القراح: الماء الخالص.(1/62)
فرأيت الحلّاج يقصدني. فملت إليه وقلت: السلام عليك أيّها الشيخ. فقال: هذا كلب بطنه جائع فأتني بحمل مشويّ ورغفان حوّارى وأنا واقف ههنا. فمضيت وحصّلت ما أحضرته. فربط الكلب بإحدى رجليه ووضع الحمل والرغفان بين يديه حتى أكله، ثمّ خلّى الكلب وأرسله وقال لي: هذا الذي تطالبني به نفسي منذ أيّام وكنت معنفها حتى أخرجتني الليلة في طلبه والله تعالى غلّبني عليها. ثم طاب وقته وأنشأ يقول في وجده: [من الطويل]
كفرت بدين الله والكفر واجب ... عليّ، وعند المسلمين قبيح
ثم قال لي: ارجع ولا تقف أثري فيضرّك.
[67]
وقيل: كان الحلّاج في بدايته يلبس مرّات المسوح ومرّات الثوب ومرات الشاشية، وأوّل سفره عن بلده إلى البصرة وكان عمره ثماني عشرة سنة، وتزوّج وخرج إلى مكّة، وجرى بينه وبين أبي يعقوب النهر جوريّ كلام، وقال في جملة كلامه: وإن ورد عليك بعض إشارة ورمز، فلولا أن تكون الواردات متّصلة والأحوال مشتبهة مشتركة في المنزلة، لما تقابلت الواردات ولا تساوت الحالات ولا علمت الخافيات. قال: اذهب فعندي من الأنباء مما فيه مزدجر، وعن غد يأتيك الخبر. فقال: يا شيخ قد أعلمني المعلم بعد أن أخبرني المخبر. فقال: لا أعلمك اطّلاعا إلّا إذا ثبت لك عن إخبار كان أوّله سماعا.
فقال: يا شيخ أنتج الإخبار شيئا على سبيل الفراسة فلم أثق به حتى اطّلعت مع الوارد على الأمر اطّلاعا، وعقدت إخباره على علمي، فتقرّب العلمان وتلاقى الخاطران وتساوى الفهمان. ولكنّي أنكر أن يكون الاطّلاع من غير إخبار أقوى والاستضاءة من غير نظر أضوأ. قال ثم مضى كلّ واحد منهما، وهو يتكلّم بكلام مع نفسه لا يفهم أحد معناه ولا يدرك مغزاه.
[68]
عن محمد بن خفيف قال: رجعت من مكّة ودخلت بغداد، وأردت أن ألقى الحسين بن منصور، وكان محبوسا قد منع الناس عنه. فاستعنت معارفي وكلّموا
السجّان، وأدخلني عليه. فدخلت السجن والسجّان معي، فرأيت دارا حسنة، ورأيت في الدار مجلسا حسنا، وفرشا حسنا، وشابّا قائما كالخادم. فقلت له: أين الشيخ.(1/63)
فصل منها:
فإن نسي الإنسان ركنا فإنه ... يعيد ويقضي ما تضمّن واحتوى
وإن لم يكن ركن وعطل سنّة ... فلم يأنس الزّلفى ولم يبلغ المنى
وذلك في كلّ العبادات سائر ... وليس جهول بالأمور كمن درى
إذا كان هذا ظاهر الأمر فالذي ... توراى عن الأبصار أعظم منتشا
وهذا طهور العارفين فإن تكن ... من أحزابهم تحظى بتقريب مصطفى
فى الصلاة
ومنها في الصلاة:
وكم من مصلّ ما له من صلاته ... سوى رؤية المحراب والكدّ والعنا
وآخر يحظى بالمناجاة دائما ... وإن كان قد صلّى الفريضة وابتدا
وكيف وسرّ الخلق كان إماما ... وإن كان مأموما فقد بلغ المدى
فتحريمها التكبير إن كنت كابرا ... وإلّا فحلّ المرء أو حرمه سوا
وتحليلها التسليم إن كنت داريا ... لرجعته العلياء في ليلة السّرى
وما بين هذين المقامين غاية ... وأسرار غيب ما تحسّ وما ترى
ومنها في أنواع الصلاة وأحوال المصلّي:
فمن نام عن وقت الصلاة فإنه ... غريب وحيد الدهر وطب قد استوى
وإن حلّ سهو في الصلاة وغفلة ... وذكره الرحمن يلغى الذي سها
صلاة المسافر:
وإن كان في سير إلى الذات قاصدا ... فشطر صلاة اليوم تنقص ما عدا
صلاة صباح ثم مغرب شاهدا ... لسرّ خفيّ في الصّباح وفي المسا
صلاة الوتر:
وحافظ على الشفع الكريم ووتره ... تفز بالذي فاز الخضارمة الأولى (1)
فإنّ دخلا يريد بلوغه ... ومن حصّل الأوتار قد حصّل المنى
الصلاة في الجماعة:
وبين صلاة الفذّ والجمع سبعة ... وعشرون إن كان المصلّي على طوى
صلاة العيد:
ولا تنس يوم العيد واشهد صلاته ... لدى مطلع النور السماويّ والسّنا
__________
(1) الخضارمة: جمع الخضارم: السيد المعطاء الحمول.(1/63)
عن محمد بن خفيف قال: رجعت من مكّة ودخلت بغداد، وأردت أن ألقى الحسين بن منصور، وكان محبوسا قد منع الناس عنه. فاستعنت معارفي وكلّموا
السجّان، وأدخلني عليه. فدخلت السجن والسجّان معي، فرأيت دارا حسنة، ورأيت في الدار مجلسا حسنا، وفرشا حسنا، وشابّا قائما كالخادم. فقلت له: أين الشيخ.
فقال: مشغول يشغل. فقلت: ما يفعل الشيخ إذا كان جالسا ههنا. قال: ترى هذا الباب. هو إلى حبس اللصوص والعيارين، يدخل عليهم ويعظهم فيتوبون. فقلت:
من أين طعامه. فقال: تحضره كل يوم مائدة عليها ألوان الطعام فينظر إليها ساعة ثم ينقرها بإصبعه فترفع ولا يأكل. فإذا الحلّاج قد خرج إلينا، فرأيته حسن الوجه، لطيف الهيئة، عليه الهيبة والوقار. فإذا هو سلّم عليّ وقال: من أين الفتى. قلت:
من شيراز. فسألني عن مشايخها فأخبرته. وسألني عن مشايخ بغداد، فأخبرته.
فقال: قل لأبي العبّاس بن عطاء احتفظ بتلك الرقاع. ثم قال: كيف دخلت؟ فأخبرته.
فدخل أمير الحبس يرتعد. فقبّل الأرض بين يديه، فقال له: ما لك. قال: سعي بي إلى أمير المؤمنين بأني أخذت رشوة، وخلّيت أميرا من الأمراء وجعلت مكانه رجلا من العامّة. وها أنا ذا أحمل لتضرب عنقي. فقال: امض، لا بأس عليك.
فذهب الرجل، وقام الشيخ إلى صحن الدار، وجثا على ركبته ورفع يديه، وأشار بمسبحته إلى السماء وقال: يا ربّ. ثم طأطأ رأسه حتى وضع خدّه على الأرض، وبكى حتى ابتلّت الأرض من دموعه، وصار كالمغشيّ عليه. وهو على تلك الحالة حتى دخل أمير الحبس وقال: عفي عنّي. قال ابن خفيف: وكان الحلّاج جالسا في طرف الصفّة وفي آخر الصفّة منشفة، وكان طول الصفّة خمسة أذرع. فمدّ يده وأخذ المنشفة فلا أدري أطالت يده أم جاء المنديل إليه فمسح وجهه بها. فقلت: هذا من ذاك.
[69]
وعن إبراهيم بن شيبان قال: دخلت مكّة مع أبي عبد الله المغربيّ فأخبرنا أنّ ههنا الحلّاج مقيم بجبل أبي قبيس. فصعدناه وقت الهاجرة فإذا به جالس على صخرة والعرق يسيل منه، وقد ابتلّت الصخرة من عرقه. فلمّا رآه أبو عبد الله، رجع وأشار إلينا أن نرجع فرجعنا. ثم قال أبو عبد الله: يا إبراهيم، إن عشت ترى ما يلقى هذا، سوف يبتليه الله ببليّة لا يطيقها أحد من خلقه يتصبّر مع الله.(1/64)
صلاة الجمعة:
وبادر لتهجير العروبة قاصدا ... تحز قصب السباق في حلبة العلى (1)
صلاة الكسوف:
وإن حلّ خسف بالمهاة فإنه ... حجاب ملاك النفس ومنك يا فتى
وإن كان خسف الزبرقان فإنه ... حجاب وجود الطبع في مضمر الحشى
صلاة الاستسقاء:
ومن كان يستسقي يحوّل ثوبه ... تحول عن الأحوال علك ترتضى
صلاة الاستخارة:
إذا يستخير العبد مما يهمّه ... يصلّي ويدعو ركعتين على السوا
ويطلب فيها الخير لم يبغ غيره ... بصرف وإنفاذ على حكم ما يرى
ومنها أيضا في الزكاة:
وتثمين أصناف الزكاة محقّق ... ليحمل عرش الاستواء بلا مرا
ويقسم أيضا في ثمان وعينهم ... هو العرش للرحمن في قوله استوى (2)
ومنها أيضا في صوم رمضان:
وأما زمان الصوم فهو سميّ من ... قد أوجبه في خلقه الحقّ والتقى
ومنها في الحج أيضا:
قدمنا على أرض الحجاز غدية ... وجاء بشير القوم قد بلغ المنى
أيا صاحبيّ عرّجا بي على الصفا ... نطوف به أو بالمحصّب من منى
فمن طاف يوما بين مروة والصفا ... ينزه يوم الحشر في موقف السّوى
فكم بين مطلوب يطوف بعرشه ... وآخر يسعى بين مروة والصفا (3)
فهذي عبادات المراد تخلّصت ... وأن ليس للإنسان غير الذي سعى (4)
__________
(1) العروبة: يوم الجمعة.
(2) أشار إلى أصناف الزكاة أي مصارفها وهي: للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل.
(3) الصفا والمروة: موضعان بالبيت الحرام، والسعي بينهما من أركان الحج.
(4) إشارة إلى الآية: {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسََانِ إِلََّا مََا سَعى ََ} سورة النجم، الآية: 39.(1/64)
ومنها:
فيا سائلي ماذا رأى قلبك الذي ... يصحح فيه الورث في ليلة السّرى
إذا راح قلب المرء من أرض جسمه ... إلى الموقف الأجلى إلى منزل الرضى
تبدّت له أعلام صدق شهوده ... من الرفرف الأعلى إذا انتشر اللوا
ومنها في كوائن:
ويلتاح في حق السماء إذا انبرى ... نسيم الصبا برق يدلّ على الفنا (1)
وفي رمضان صحّة يهتدي بها ... قلوب رجال عاينوا الأمر في العمى
إذا لاح في كنز الفرات مغرّب ... له الطائر الميمون والنصر في العدى
ويقدم ذو الشامات عسكره الذي ... كمنطقة الجوزاء لكن في الاستوا
يسمى بيحيى الأزدأزد شنوءة ... فيحيى به الدين الحنيفيّ والهدى (2)
ولا تلتفت إذ ذاك فحل جداله ... فإن الكلاب السود تولغن في الدما
على كبشهم يلتاح نور هداية ... بمغربنا الأقصى إذا أشرقت ذكا (3)
ومنتسب يعزو لسفيان نفسه ... بذي سلم لما تمرّد أو طغى (4)
ويقدم نصر الله جيش ولاته ... إلى بلدة بيضاء سامية البنا
فيفتج بالتكبير لا بقواضب ... تسلّ على الأعداء في رونق الضحى
فما تنقضي أيّام خاء وتائها ... مكملة إلا ويسمعك الندا
أتى الأعور الدجّال بالدعوة التي ... تنزله دار الخسارة والشقا
فيمكث ميما لا يفلّ حسامه ... وتأتي طيور الحقّ بالبشر والزها (5)
وفي عام جيم الفاء تنزل روحه ... من الماية الأخرى دمشق فينتضى (6)
هنالك سيف للشريعة صارم ... بدعوة مهديّ وسنّة مصطفى
فيقتل دجّالا ويدحض باطلا ... ويهلك أعداء وينجو من اهتدى (7)
ويحصر روح الله في الأرض مدّة ... ويأتي نفاق الموت للكفر بالردى
بناه له عيسى بن أيوب رتبة ... حباه بها ربّ السموات في العلى
__________
(1) يلتاح: يبيضّ.
(2) أزد شنوءة: من قبائل العرب.
(3) ذكا: الشمس.
(4) ذو سلم: موضع بالحجاز.
(5) فلّ الحسام: تثلّم.
(6) يشير إلى نزول سيدنا عيسى آخر الزمان في دمشق كما في الحديث: «كيف أنتم إذا نزل فيكم عيسى ابن مريم» رواه البخاري: أنبياء 49ومسلم 244، 246وابن حنبل 20، 77.
(7) الدّجال: ويظهر في آخر الزمان فيفتتن به كثير من الناس ويتبعونه على الضلال والكفر فيهلكه الله على يد عيسى ابن مريم. وظهور كل منهما من علامات قيام الساعة.(1/65)
[70]
قال إبراهيم بن شيبان: إيّاكم والدعوى، ومن أراد أن ينظر إلى ثمرات الدعوى فلينظر إلى الحلّاج وما جرى عليه.
[71]
عن إبراهيم بن شيبان قال: دخلت على ابن سريج يوم قتل الحلّاج فقلت:
يا أبا العبّاس ما تقول في فتوى هؤلاء في قتل هذا الرجل. قال: لعلّهم نسوا قول الله تعالى: {أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللََّهُ} (1).
[72]
وقال الواسطيّ: قلت لابن سريج: ما تقول في الحلّاج. قال: أمّا أنا أراه حافظا للقرآن عالما به، ماهرا في الفقه، عالما بالحديث والأخبار والسنن صائما الدهر، قائما الليل يعظ ويبكي، ويتكلّم بكلام لا أفهمه، فلا أحكم بكفره.
[73]
يروى أنّ الشبليّ دخل يوما على الحلّاج، فقال له: يا شيخ، كيف الطريق إلى الله تعالى. فقال: خطوتين وقد وصلت. اضرب بالدنيا وجه عشّاقها وسلّم الآخرة إلى أربابها.
[74]
وقال أحمد بن فاتك: سمعت الحلّاج يقول: [من الخفيف]
1 - خصّني واحدي بتوحيد صدق ... ما إليه من المسالك طرق
2 - فأنا الحقّ حقّ للحقّ حقّ ... لابس ذاته فما ثمّ فرق
3 - قد تجلّت طوالع زاهرات ... يتشعشعن والطّوالع برق
__________
(1) غافر: 28.(1/65)
ملحق أخبار الحلاج
[1]
قال أبو عبد الرحمن محمد بن الحسن السلميّ في كتاب طبقات الصوفيّة:
سمعت عبد الواحد بن بكر يقول: سمعت أحمد بن فارس بن حسرى يقول: سمعت الحسين بن منصور يقول: حجبهم بالاسم فعاشوا، ولو أبرز لهم علوم القدرة لطاشوا ولو كشف لهم عن الحقيقة لماتوا.
وقال الحسين: أسماء الله من حيث الإدراك اسم، ومن حيث الحقّ حقيقة.
وقال الحسين: خاطر الحقّ هو الذي لا يعارضه شيء.
وقال الحسين: إذا تخلّص العبد إلى مقام المعرفة أوحى الله تعالى إليه بخاطره وحرس سرّه أن يسنح فيه غير خاطر الحقّ.
وقال: علامة العارف أن يكون فارغا من الدنيا والآخرة.
وسئل الحسين: لم طمع موسى في الرؤية وسألها. قال لأنه انفرد للحقّ فانفرد الحقّ به في جميع معانيه، وصار الحقّ مواجهه في كلّ منظور إليه، ومقابله دون كلّ محضور لديه، على الكشف الظاهر عليه لا على الغيب. فذلك الذي حمله على سؤال الروية لا غير.
سمعت أبا الحسين الفارسي قال: أنشدني ابن فاتك للحسين بن منصور:
[من الخفيف]
أنت بين الشّغاف والقلب تجري ... مثل جري الدّموع من أجفاني
وتحلّ الضّمير جوف فؤادي ... كحلول الأرواح في الأبدان
ليس من ساكن تحرّك إلّا ... أنت حرّكته خفيّ المكان
يا هلالا بدا لأربع عشر ... فثمان وأربع واثنتان
سمعت عبد الواحد النيسابوريّ يقول: قال فارس البغداديّ: سألت الحسين ابن منصور عن المريد، فقال: هو الرامي بأوّل قصده إلى الله ولا يعرّج حتى يصل وقال: المريد الخارج عن أسباب الدارين أثرة بذلك على أهلها.(1/66)
يخرّ به رايا ويبقى رسومه ... ليعلم منه ما تهدّم واعتنى
فيهلكهم في الوقت ربّ محمد ... وتأتي طيور القدس ينسلن في الهوا
فتلقى عباد الله في بحر سخطه ... ويأتي سمناء ينزع النتن والدما
فيمكث ميما في السنين ونصفها ... على خير حال في الغضاضة والرخا (1)
ويمشي إلى خير الأنام مجاورا ... لينكحه الأمّ الكريمة في العلى (2)
ومن بعده تنشق أرض بدخها ... ودابة بلوى لم تزل تسم الورى (3)
ومن بعد ذا صعق يكون ونفخة ... لبعث فحقّق ما يمرّ ويتقى
فهذي أمور الكون لخصتها لمن ... يتقن أنّ الحادثات من القضا
وليس مرادي شرح وقع كوائن ... ولكنّ قصدي شرح أسرارها العلى
فينزل للأسرار يبدي عيونها ... إلى كلّ ذي فكر سليم وذي نهى (4)
ومنها أيضا:
إذا خفق النجم السعيد بشرقه ... يقول لسان الحال منه بلا امترا
تأمّل حجابا كان قد حال بيننا ... له مكنة تسمو على ظاهر السوا
خزانة أسرار الإله وغيبه ... ومنبع أسرار تراءت لذي حجى (5)
ركضنا جياد العزم في سبسب التقى ... وقد سترتنا غيرة فحمة الدّجى (6)
وأبنا بما يرضي الصّديق فلو ترى ... ركائبنا للغب تنفخ في البرى (7)
علوت على نجب من السّمر ضمّر ... رقيت بها حتى ظهرت لمستوى
وعاينت من علم الغيوب عجائبا ... تصان عن التذكار في رأي من وعى
فمن صادحات فوق غصن أراكة ... يهجن بلابيل الشّجيّ إذا دعا (8)
ومن نيّرات سابلات ذؤابها ... أفيضوا علينا النور من قرصة المهى (9)
__________
(1) يشير إلى العيش الهنيء الذي يتمتع به الناس أيّام عيسى ابن مريم.
(2) إشارة إلى موت عيسى. الأم: يعني الأرض. وموته يكون بعد نزوله عليه السلام.
(3) الدابة: دابة الأرض وهي دابة عجيبة من العلامات الكبرى لقيام الساعة تظهر في آخر الزمان من بعد عيسى وتسم الناس بعلامات فتفرق بين الكافر والمؤمن.
(4) النّهى: العقل.
(5) الحجى: العقل.
(6) سبسب: صحراء. الدجى: الظلمة.
(7) الركائب: الإبل، والواحد: ركاب. وناقة ذات براية، أي ذات شحم.
ألغبه السير: أتعبه.
(8) صادحات: منشدات. الأراكة: شجرة يتخذ منها السّواك. البلابيل: الوسواس.
(9) المهى: هنا الشمس.(1/66)
أنت بين الشّغاف والقلب تجري ... مثل جري الدّموع من أجفاني
وتحلّ الضّمير جوف فؤادي ... كحلول الأرواح في الأبدان
ليس من ساكن تحرّك إلّا ... أنت حرّكته خفيّ المكان
يا هلالا بدا لأربع عشر ... فثمان وأربع واثنتان
سمعت عبد الواحد النيسابوريّ يقول: قال فارس البغداديّ: سألت الحسين ابن منصور عن المريد، فقال: هو الرامي بأوّل قصده إلى الله ولا يعرّج حتى يصل وقال: المريد الخارج عن أسباب الدارين أثرة بذلك على أهلها.
سمعت محمد بن غالب يقول: قال الحسين بن منصور: إنّ الأنبياء سلّطوا على الأحوال فملكوها، فهم يصرّفونها لا الأحوال تصرّفهم، وغيرهم سلّطت عليهم الأحوال، فالأحوال تصرّفهم لا هم يصرّفون الأحوال.
قال: وكان الحلّاج يقول: إلهي أنت تعلم عجزي عن مواضع شكرك، فاشكر نفسك عنّي، فإنّه الشكر لا غير
وقال: من لاحظ الأعمال حجب عن المعمول له، ومن لاحظ المعمول له حجب عن رؤية الأعمال.
وقال: الحقّ هو المقصود إليه بالعبادات، والمصمود إليه بالطاعات لا يشهد بغيره، ولا يدرك بسواه، بروائح مراعاته تقوم الصفات وبالجمع إليه تدرك الدرجات.
وقال: لا يجوز لمن يرى أحدا أو يذكر أحدا أن يقول إنّي عرفت الأحد الذي ظهرت منه الآحاد.
وقال: ألسنة مستنطقات تحت نطقها مستهلكات، وأنفس مستعملات تحت استعمالها مستهلكات.
وقال: حياء الربّ أزال عن قلوب أوليائه سرور المنّة بل حياء الطاعة أزال عن قلوب أوليائه سرور الطاعة.
وقال الحسين بن منصور: من أسكرته أنوار التوحيد حجبته عن عبارة التجريد، بل من أسكرته أنوار التجريد نطق عن حقائق التوحيد، لأنّ السكران هو الذي ينطق بكلّ مكتوم.
وقال: من التمس الحقّ بنور الإيمان كان كمن طلب الشمس بنور الكواكب.
وقال الحسين لرجل من أصحاب الجبّائيّ المعتزليّ: كما كان الله أوجد الأجسام بلا علّة، كذلك أوجد فيها صفاتها بلا علّة. كما لا يملك العبد أصل فعله كذلك لا يملك فعله.
وقال: ما انفصلت البشريّة عنه ولا اتّصلت به.(1/67)
ومن نقر أوتار بأيدي كواعب ... عذات الثنايا طاهرات من الخنا (1)
ومن نافثات السّحر في غسق الدجى ... عسى ولعلّ الدهر يسطو بهم غدا (2)
وقد علموا قطعا إصابة نفثه ... لكل فؤاد ضلّ عن طرق الهدى
دخلت قبور المؤمنين فلم أجد ... سوى الحور والولدان في جنة الرضى (1)
فقلت هنيئا ثم جزت ثمانيا ... من المنزل الأدنى لسدرة منتهى
وقصّ جناح الرّيب من عين مبصر ... وفضّ ختام المسك في سجة الضحى
فيا ليت أن لا أبصر الدهر واحدا ... أسرّ به إلا انقلبت على زكا
ولما لحظت العلم ينهض عنوة ... على نجب الأوراق أيقنت بالبقا
وقلت لفتيان كرام ألا انزلوا ... على المسجد الأقصى إلى كعبة الدما
وقوموا على باب الحبيب وبلغوا ... رسالة من لو شاء كان ولا عنا
فقاموا ونادوا بالحبيب وأهله ... سلام على أهل المودّة والصفا
سلام عليكم منكم إن نظرتم ... بعين مسوّى بين من طاع أو طغى
فقام رئيس القوم يبتدرونه ... رجال أتت أجسامهم تسكن العلى
وقال عليكم مثل ما جئتم به ... فقام خبير القومّ يمنحني القرى (3)
ألا فاسمعوا قولي دعوا سرّ حكمتي ... وهذا دعائي فاستجيبوا لمن دعا
ومنها:
فلله قوم في الفراديس مذ أبت ... قلوبهم أن تسكن الجوّ والسما
ففي العجل السرّ الذي صدعت له ... رعود اللظى في السفل من ظاهر العجى
وأبرق برق في نواحيه ساطع ... يجلله من باطن الرجل في الشوى (4)
فأول صوت كان منه بأنفه ... فشمته فاستوجب الحمد والثنا
وفاجأه وحي من الله آمر ... وكان له ما كان في نفسه اكتمى
فيا طاعتي لو كنت كنت مقرّبا ... ومعصيتي لولاك ما كنت مجتبى
فما العلم إلا في الخلاف وسرّه ... وما النور إلا في مخالفة النهى
ومنها:
نزلت إلى الأمر الدنيّ وكان لي ... بذات العلى سرّ على عرشه استوى
__________
(1) الكواعب: جمع الكاعب: الفتاة إذا نهد ثديها. الخنا: الفحش.
(2) الغسق: أول الليل.
(3) القرى: ما يقدّم للضيف.
(4) الشّوى: الأطراف.(1/67)
فعدت إلى الكرسيّ أنظر يمنته ... فقال يساري من يبرزخ ما اعتدى (1)
فأزعجني وعد من الله صادق ... من العالم الأعلى إلى عالم الثأى (2)
وأودعني من كلّ شيء نظيره ... فإن لاح شيء خارج كان لي صدى
وخاطبني إنا بعثناك رحمة ... فأسر فعند الصبح يحمدك السّرى
على كل كوماء عظيم سنامها ... طويلة ما بين القذال إلى المطا (3)
قطعت بها موماة كل مهمة ... وأنتجت كير الأمر لم أنتج الضوى (4)
نزلت بلاد الهند أطمع أن أرى ... أريباله بحر على أرضها طما (5)
فتلك برازيخ الأولى شيّدوا العلى ... أقمنا بها والليل بالصين قد سجا (6)
ولما رأوا أن لا صباح لليلهم ... وإن وجود النور إن أشرقت ذكا (7)
أتانا رسول القوم مرتدي الدجى ... فألفى نساء ما ربين على الطوى
فبادرنه أهلا وسهلا ومرحبا ... فأينع غصن كان بالأمس قد ذوى
وذرّ له قرن الغزالة شارقا ... ولاح له سرّ الغزالة وانجلى (8)
وخرّ مريعا للمعلم خاضعا ... فعاين سرّ النون في مركز السفا
وأخرس لما أن تيقن أنه ... لدى جانب الأحلام غيث ومجتوى
وأطبق جفن العين غيرة واصل ... لمحبوبه جذلان مستوهن القوى
ومن بعده جاءت ركائب قومه ... عطاشا فحطوا بالإياب وبالأضا (9)
فقام لهم عن صورة الحال مفصحا ... طليق المحيّا لا يخيب من دعا
وقال لهم لو أنّ في الملك ثانيا ... يضاهي جمالي لاستوى القاع والصوى (10)
ومنها:
لقد أبصرت عيني رجالا تبرقعوا ... ولو حسروا ضجّت على أرضها السما
فمن سالك نهج الطريق مسافر ... إلى سفر يسمو وفي الغيب ما سما
ومن واصل سرّ الحقيقة صامت ... ولو نطق المسكين عجزه الورى (11)
__________
(1) البرزخ: الحاجز بين الشيئين.
(2) عالم الثأى: عالم الفساد.
(3) الكوماء: الناقة العظيمة السّنام. القذال: جماع مؤخر الرأس. مطا: جد في السير.
(4) موماة: فلاة. مهمة: فلاة. الضّوى: الضعف والهزال.
(5) الأريب: العاقل.
(6) سجا: سكن.
(7) ذكا أي: الشمس.
(8) الغزالة: الشمس.
(9) الركائب: الإبل، والواحد ركاب: الأضاة: المستقع.
(10) الصّوى: جمع الصّوّة: ما ارتفع وغلظ من الأرش.
(11) سرّ الحقيقة، يريد ما لا يفشى من حقيقة الحق في كل شيء. الورى: الخلق.(1/68)
[2]
كتب الحلّاج إلى أبي العبّاس بن عطاء من السجن: أمّا بعد فإنّي لا أدري ما أقول. إن ذكرت برّكم لم أنته إلى كنهه، وإن ذكرت جفاءكم لم أبلغ الحقيقة.
بدت لنا باديات قربكم فأحرقتنا وأذهلتنا عن وجود حبّكم. ثم عطف وألف مما ضيّع وأتلف، ومنع عن وجود طعم التلف. وكأني وقد تخرّقت الأنوار وتهتّكت الأستار، وظهر ما بطن، وبطن ما ظهر، وليس لي من خبر، ومن لم يزل كما لم يزل.
وختم الكتاب وعنون بقوله: [من مجزوء الكامل]
همّي به وله عليكا ... يا من إشارتنا إليكا
روحان ضمّهما الهوى ... فيما يليك وفي يديكا
[3]
كتب الحلّاج إلى أبي العبّاس بن عطاء: أطال الله لي حياتك وأعدمني وفاتك، على أحسن ما جرى به قدر، ونطق به خبر. مع ما إن لك في قلبي من لواعج أسرار محبّتك، وأفانين ذخائر مودّتك، ما لا يترجمه كتاب، ولا يحصيه حساب، ولا يفنيه عتاب. وفي ذلك أقول: [من الطويل]
كتبت ولم أكتب إليك وربما ... كتبت إلى روحي بغير كتاب
وذلك أنّ الرّوح لا فرق بينها ... وبين محبّيها بفصل خطاب
وكلّ كتاب صادر منك وارد ... إليك بلا ردّ الجواب، جوابي
[4]
حدّثني أبو عليّ الفارسي قال: رأيت الحلّاج واقفا على حلقة أبي بكر الشبليّ أنت بالله ستفسد خشبة. فنفض كمّه في وجهه وأنشد: [من مخلع البسيط]
يا سرّ سرّ، يدقّ حتّى ... يخفى على وهم كلّ حيّ
وظاهرا باطنا تجلّى ... لكلّ شيء بكلّ شيّ
يا جملة الكلّ، لست غيري ... فما اعتذاري إذن إليّ(1/68)
ومن قائم بالحال في بيت مقدس ... فلا نفسه تظمأ ولا سرّه ارتوى
ومن واقف للخلق عند مقامه ... ومنزله في الغيب منزلة الأسا
ومن ظاهر وسط المكان مبرّز ... له حكمة تسمو على كلّ مستمى
ومن شاطح لم يلتفت لحقيقة ... قد أنزله دعواه منزلة الهبا (1)
ومن نيّرات في القلوب طوالع ... تدل على المعنى ومن يتصل يرى
ومن عاشق سرّ الذهاب متيم ... قد أنحله الشوق المبرّح والجوى (2)
وصاحب أنفاس تراه مسلطا ... على نار أشواق بها قلبه اكتوى
ومن كاتم للسرّ يظهر ضدّه ... عليه لطلّاب المشاهد بالتقى (3)
ومن فاضل والفضل حقّ وجوده ... ولكنّ ما يرجوه في راحة الندى
ومن سيّد أمسى أديب زمانه ... يقابل من يلقاه من حيث ما جرى
ومن ماهر حاز الرياضة واعتلى ... فصار ينادي بالأسنّة واللهى
ومن متحلّ بالصفات التي حدا ... بأجسادها عادى المنية للبلى
ومن متحلّ طالب الأنس بالذي ... تأزّر بالجسم الترابيّ وارتدى
ومستيقظ بالانزعاج لعلة ... أصابته مطروحا على فرش العمى
فقام له سرّ التجلّي بقلبه ... فلم يفن في الغير الدنيّ ولا الدنا (4)
ومن شاهد للحق بالحقّ قائم ... له همته تفني الزوائد والفنا (5)
ومن كاشف وهم الأتم حقيقته ... ولولا أبو العباس ما انصرف القضا
ومن حائر قد حيّرته لوائح ... تقول له قد أفلح اليوم من رقى
ومن شارب حتى القيامة ما ارتوى ... ومن ذائق لم يدر ما لذة الطّوى (6)
ومن عزمة والمكر فيها مضمن ... ومن اصطلام حلّ في مضمر الحشى
__________
(1) الهباء: الغبار والدخان. والشاطح: هو الذي يقول كلاما عليه رائحة رعونة ودعوى تصدر من أهل المعرفة باضطرار واضطراب.
(2) الشوق: هيجان القلب عند ذكر المحبوب.
(3) المشاهدة: تعني المحاضرة والمداناة، وقيل هي رؤية الحق ببصر القلب من غير شبهة.
(4) سر التجلي: هو شهود كل شيء في كل شيء برأيهم.
(5) الشاهد: الحاضر، وكل هو حاضر القلب غلب عليه ذكره حتى كأنه يراه ويبصره وإن كان غائبا عنه فهو شاهده وقال الجنيد: الشاهد الحق في ضميرك وأسرارك.
(6) الطوى: الجوع. الشراب: العشق. والذوق، يريد: النور العرفاني يقذفه الحق بتجليه في قلوب أوليائه يفرقون به بين الحق والباطل وهو كالشراب، لكن الشراب لا يستعمل إلا في الراحات، والذوق يلائم الراحات والمتاعب، وأول التجليات الذوق ثم الشرب.(1/69)
[5]
قال عبد الرؤوف بن محمد المناوي في كتاب الكواكب الدرية في سيرة الحلّاج:
وقال الحلواني: قدّم الحلّاج للقتل، وهو يضحك، فقلت: يا سيّدي، ما هذا الحال؟ قال: دلال الجمال، الجالب إليه أهل الوصال.
[6]
قال عليّ بن انجب ابن الساعي البغدادي في كتاب مختصر أخبار الخلفاء:
قال بعضهم: رأيت حسينا الحلّاج وقد سمع قارئا يقرأ، فأخذه وجد، فرأيته يرقص ورجلاه مرفوعتان عن الأرض فإذا هو يقول: [من البسيط]
من لم يصن سرّ مولاه وسيّده ... لم يأمنوه على الأسرار ما عاشا
وعاقبوه على ما كان من زلل ... وأبدلوه مكان الأنس إيحاشا(1/69)
ومن واجد قد قام من متواجد ... فأبدى له الوجد الوجود وما زها (1)
ومن ساتر علما وهو إشارة ... إلى عارف فوق الأقاويل والحجى (2)
ومن ناشر يوما جناح يقينه ... يطير ويسري في الهواء بلا هوى
ومن باسط كفّيه وهي بخيلة ... ولولا وجود البخل ما مدح الندى
وصاحب أنس لم يزل ذا مهابة ... وصاحب محو عن نسيم قد انبرى
وصاحب إثبات عظيم جلاله ... تتوّج بالجوزاء وانتعل السّهى (3)
وقال أيضا:
زمن يمرّ بقوّتي وشبابي ... قصدا ليلحقني بدار تباب (4)
فيحلّ تركيبي ويفسد صورتي ... بالفعل تحت جنادل وتراب (5)
فاعجب لبعد فيه قرب مسافة ... قد حال ما بيني وبين صحابي
إني أقمت حبيس بيت موحش ... في غاية الشوق إلى الأحباب
مستنظرا متهيئا للقاء من ... يؤتى إليّ به من الغياب
لكن على كره يكون مجيئهم ... فهو هم في رؤيتي بأياب
إني لأسمعهم وإن خفتوا بما ... نعطقوا وما أسطيع ردّ جواب
ويكون ما كتبت يداي وما به ... نطق اللسان مقيدا بكتاب
حتى تجازى كلّ نفس سعيها ... يوم الوقوف عليه يوم حساب
فيجازى بالإحسان حسنا والذي ... هو سيىء يعفو وينظر ما بي
ظني به ظن جميل ما أنا ... في الظنّ بالرحمن بالمرتاب
إني رضيع ما فطمت لجوده ... كيف الفطام وما وقفت بباب (6)
__________
(1) الوجد: خشوع الروح عند مطالعة سر الحق.
(2) الستر: كل ما يسترك عما يغنيك. الصارف، قال ابن عربي: من أشهده الرب عليه فظهرت الأحوال، والمعرفة حاله. وقال ذو النون: علامة العارف ثلاثة: لا يطفىء نور معرفته نور ورعه، ولا يعتقد باطنا من العلم ينقض عليه ظاهرا من الحكم، ولا يحمله كثرة نعم الله تعالى عليه وكرامته على هتك أستار محارم الله. الحجى: العقل.
(3) الجوزاء: من أبراج السماء. السّها: كوكب خفي من بنات نعش الصغرى.
(4) تباب: خسران.
(5) جنادل: جمع الجندل: الأرض التي تجتمع فيها الحجارة.
(6) الفطام: للمريدين مع الشيوخ أوان ارتضاع وأوان فطام، وأوان الارتضاع هو أوان لزوم الصحبة، ولا ينبغي للمريد أن يفارق الشيخ إلا بإذنه، ولا يأذن الشيخ للمريد في المفارقة إلا بعد علمه بأن آن له أوان الفطام وأنه يقدر أن يستقل بنفسه، وفطامه هو استقلاله بنفسه بأن يفتح له باب الفهم من الله، فإذا بلغ هذه المرتبة فقد بلغ أوان الفطام.(1/70)
المستدرك على أخباره
[1]
(1)
أنبأنا علي بن أبي علي البصري أخبرني أبي قال: حدثني أبو الحسن محمد بن عمر القاضي قال: حملني خالي معه إلى الحسين بن منصور الحلاج، وهو إذ ذاك في جامع البصرة يتعبد ويتصوف ويقرأ قبل أن يدعي تلك الجهالات، ويدخل في ذلك وكان أمره إذ ذاك مستورا، إلا أن الصوفية تدعي له المعجزات من طريق التصوف وما يسمونه مغوثات، لا من طريق المذاهب.
قال: فأخذ خالي يحادثه وأنا صبي جالس معهما أسمع ما يجري، فقال لخالي: قد عملت على الخروج من البصرة، فقال له خالي لم؟ قال: قد صير لي أهل هذا البلد حديثا، فقد ضاق صدري وأريد أبعد منهم، فقال له مثل ماذا؟ قال:
يروني أفعل أشياء فلا يسألوني عنها، ولا يكشفونها، فيعلمون أنها ليست كما لهم ويخرجون فيقولون: الحلاج مجاب الدعوة وله مغوثات، قد تمت على يده ألطاف ومن أنا حتى يكون لي هذا، بحسبك أن رجلا حمل إلي منذ أيام دراهم وقال لي اصرفها إلى الفقراء فلم يكن بحضرتي في الحال أحد، فجعلتها تحت بارية من بواري الجامع إلى جنب اسطوانة عرفتها، وجلست طويلا فلم يجئني أحد وانصرفت إلى منزلي: وبت ليلتي، فلما كان من غد جئت إلى الاسطوانة وجعلت أصلي. فاحتف بي قوم من الفقراء، فقطعت الصلاة وشلت البارية فأعطيتهم تلك الدراهم، فشنعوا علي بأن قالوا إني إذا ضربت يدي إلى التراب صار في يدي دراهم. قال: وأخذ يعدد مثل هذا، فقام خالي عنه وودعه ولم يعد إليه. وقال:
هذا منمّس وسيكون له بعد هذا شأن، فما مضى إلّا قليل حتى خرج من البصرة وظهر أمره.
__________
(1) [1] تاريخ بغداد 8/ 120119، سير أعلام النبلاء 14/ 318.(1/70)
[2]
(2)
أخبرنا محمد بن علي بن الفتح أنبأنا محمد بن الحسين النيسابوري قال:
سمعت أبا العباس الرزاز يقول: قال لي بعض أصحابنا قلت لأبي العباس بن عطاء ما تقول في الحسين بن منصور؟ فقال: ذاك مخدوم من الجن. قال: فلما كان بعد سنة سألته عنه فقال: ذاك من حق. فقلت: قد سألتك عنه قبل هذا فقلت مخدوم من الجن وأنت الآن تقول هذا حق! فقال: نعم ليس كل من صحبنا يبقى معنا فيمكننا أن نشرفه على الأحوال. وسألت عنه وأنت في بدء أمرك وأما الآن وقد تأكد الحال بيننا فالأمر فيه ما سمعت.
[3]
(3)
أنبأنا علي بن أبي علي المعدل عن أبي الحسن أحمد بن يوسف الأزرق قال: حدثي غير واحد من الثقاة من أصحابنا أن الحسين بن منصور الحلاج كان قد أنفذ أحد أصحابه إلى بلد من بلدان الجبل، ووافقه على حيلة يعملها، فخرج الرجل فأقام عندهم سنين يظهر النسك والعبادة، ويقرأ القرآن ويصوم، فغلب على البلد، حتى إذا علم أنه قد تمكن أظهر أنه قد عمي، فكان يقاد إلى مسجده، ويتعامى على كل أحد شهورا، ثم أظهر أنه قد زمن، فكان يحبو ويحمل إلى المسجد حتى. مضت سنة على ذلك، وتقرر في النفوس زمانته وعماه. فقال لهم بعد ذلك: إني رأيت في النوم كأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول لي إنه يطرق هذا البلد عبد لله صالح مجاب الدعوة، يكون عافيتك على يده وبدعائه، فاطلبوا لي كل من يجتاز من الفقراء، أو من الصوفية، فلعل الله أن يفرج عني على يد ذلك العبد وبدعائه كما وعدني رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتعلقت النفوس إلى ورود العبد الصالح، وتطلعته القلوب، ومضى الأجل الذي كان بينه وبين الحلاج فقدم البلد فلبس الثياب الصوف الرقاق، وتفرد في الجامع بالدعاء والصلاة، وتنبهوا على خبره، فقالوا للأعمى، فقال احملوني إليه، فلما حصل عنده وعلم أنه الحلاج قال له: يا عبد الله إني رأيت
__________
(2) [2] تاريخ بغداد 8/ 121120.
(3) [3] تاريخ بغداد 8/ 123122.(1/71)
الجود أمي والرضاعة مسكني ... وجميع ما عندي من الوهاب
وقال أيضا:
لما نظرت إلى مجموع أحوالي ... علمت ما لم يكن يخطر على بالي
مني علمت الذي في الكون من صور ... وما به صور فالكلّ أمثالي
يران بي مثل ما أنى أراه به ... نصّا بنصّ وأشكالا بأشكال
فكلما قمت في شيء يقوم به ... كأنه في الذي يبدو من أشكالي
علمي صحيح وحالي قد يكذبه ... فانظر إلى العلم لا تنظر إلى الحال (1)
الحقّ عيني بلا شك ولست أرى ... إلا الذي هو في قيد وأغلال
والحق ليس له مثل فكيف يرى ... هذا الذي جاء في سمعي من التالي
إذا يرانا فلا شكّ يداخلنا ... إني أراه فإني النائب الوالي
وقال أيضا لزوميته:
يقول لي الحق المبين فإنني ... أنا الردم فانظره تجده بمالكي
فإن كان ما قد قاله عين فهمنا ... فلست أرى في العالمين بهالك
وإني أنا الوجه الذي قال إنه ... يدوم ويبقى في جميع المسالك
مبينا جليّا ثابتا غير زائل ... وءن كنت شخصا من جميع الممالك
أنا عرشه الأعلى وكرسيّ علمه ... لذلك يلقي نفسه في المهالك (2)
بذا جاءنا النصّ الجليّ مخبرا ... بألسنة الإرسال عند الممالك
وقال أيضا:
ليس إلى العلم بي سبيل ... ما لي إلى العلم بي دليل
__________
(1) العلم: هو العلم المفروض على كل مسلم، والعلم المقصود هو علم الأمر والنهي، والمأمور ما يثاب على فعله ويعاقب على تركه، والمنهي ما يعاقب على فعله ويثاب على تركه والعلماء الزاهدون ومشايخ الصوفية والمقربون رزقوا سائر العلوم وقالوا إنها فرض، فمن ذلك علم الحال، وعلم القيام، وعلم الخواطر، وعلم اليقين وعلم الإخلاص، وعلم النفس ومعرفة أخلاقها، وهو من أعز علوم الصوفية، فضلا عن علوم أخرى.
الحال: ما يرد على القلب من طرب أو حزن أو بسط أو قبض وتسمى الحال بالوارد أيضا.
(2) العرش وهو أعظم الأجرام التي خلقها الله تعالى، وقد خلقه إظهارا لقدرته. ويعني عندهم مظهر العظمة ومكانة التجلي، وهو الفلك المحيط بجميع الأفلاك المعنوية والصورية، له ظاهر وباطن، فباطنه عالم القدس وهو عالم أسماء الحق سبحانه وصفاته، فمتى قيل العرش مطلقا فالمراد به هذا الفلك المذكور، ومتى قيد بشيء من الصفات فالمراد به ذلك الوجه من هذا الفلك.
الكرسي: مظهر الاقتدار الإلهي، ويريدون أيضا إنه محل نفوذ الأمر والنهي والإيجاد والإعلام.(1/71)
في المنام كيت وكيت، فتدعو الله لي، فقال ومن أنا وما محلي؟ فما زال به حتى دعى له ثم مسح يده عليه، فقام المتزامن صحيحا مبصرا! فانقلب البلد، وكثر الناس على الحلاج فتركهم وخرج من البلد، وأقام المتعامي المتزامن فيه شهورا.
ثم قال لهم: إن من حق نعمة الله عندي، ورده جوارحي عليّ أن أنفرد بالعبادة انفرادا أكثر من هذا، وأن يكون مقامي في الثغر، وقد عملت على الخروج إلى طرسوس، فمن كانت له حاجة تحملتها، وإلا فأنا أستودعكم الله، قال: فأخرج هذا ألف درهم فأعطاه وقال: أغز بها عني، وأعطاه هذا مائة دينار،
وقال أخرج بها غزاة من هناك، وأعطاه هذا مالا وهذا مالا حتى اجتمع ألوف دنانير ودراهم، فلحق بالحلاج فقاسمه عليها.
[4]
(4)
حدثنا علي بن أبي علي حدثني أبي قال: أخبرني أبو بكر محمد بن إسحاق بن إبراهيم الشاهد الأهوازي قال أخبرني فلان المنجم وأسماه ووصفه بالحذق والفراهة قال: بلغني خبر الحلاج وما كان يفعله من إظهار تلك العجائب التي يدعي أنها معجزات. فقلت: أمضي وأنظر من أي جنس هي من المخاريق.
فجئته كأني مسترشد في الدين، فخاطبني وخاطبته ثم قال لي: تشهّ الساعة ما شئت حتى أتيك به، وكنا ففي بعض بلدان الجبل التي لا يكون فيها الأنهار، فقلت له أريد سمكا طريا في الحياة الساعة، فقال أفعل، اجلس مكانك فجلست، وقام فقال: أدخل البيت وأدعوا الله أن يبعث لك به قال: فدخل بيتا حيالي، وأغلق بابه وأبطأ ساعة طويلة، ثم جاءني وقد خاض وحلا لمز إلى ركبتيه وماء، ومعه سمكة تضطرب كبيرة، فقلت له ما هذا؟ فقال: دعوت الله فأمرني أن أقصد البطائح وأجيئك بهذه، فمضيت إلى البطائح فخضت الأهواز، فهذا الطين منها حتى أخذت هذه. فعلمت أن هذه حيلة، فقلت له دعني أدخل البيت فإن لم ينكشف لي حيلة فيه آمنت بك. فقال: شأنك، فدخلت البيت وغلقته على نفسي، فلم أجد فيه طريقا ولا حيلة، فندمت، وقلت إن وجدت فيه حيلة فكشفتها لم آمن أن يقتلني في الدار، وإن لم أجد طالبني بتصديقه، فكيف أعمل؟ قال: وفكرت في
__________
(4) [4] سير أعلام النبلاء 14/ 323، نشوار المحاضرة 1/ 168165، تاريخ بغداد 8/ 123، 124.(1/72)
والله إني عجزت عني ... فلا نبيّ ولا رسول
ولا العقول التي فرضتم ... تدرك أعيانها فقولوا
ما يصنع العالم الذي قد ... قيل له اعلم وما يقول
إن كان في العجز عين علمي ... به فقد هانت السبيل
قد حرت والله في وجودي ... فإنه جودة الأثيل
إن قلت إن الظهور فيه ... والحكم لي حارت العقول
أو قلت إنّ الظهور فينا ... به فما لي بذا دليل
حرنا وحار الوجود فينا ... فما لنا نحوه وصول
فما لنا بالإله علم ... إلا الذي أثبت الخليل (1)
أعطاه علما به جليا ... مراتب النور والقبول
ثم نفى عنه ما رآه ... ربّا ببرهانه الأفول (2)
أثبته حجة على من ... أشرك من قومه الجليل
فوحّد العين لا تثنى ... فالنسب الغرّ ما تحيل
توحيده للذي تراه ... من نسب كلها أصول
وقال أيضا:
ألم تدر أني واحد وكثير ... وإني بما أدري به لبصير
وإني شكور بالذي أنا أهله ... وإني كما قال الإله كفور
ولكن لما عندي من العلم بالذي ... إذا أنا لم أذكره قيل غيور
تسترت عن دهري بدهري فلم يكن ... لي الدهر إلّا صاحب ووزير
كذا جاء في القرآن إياك نستعين ... ولم يأت إلّا والمقام حظير
روائح دعوى واشتراك فكيف بي ... بتوحيد فعل والسميع بصير
بما قاله والأمر فيه محقق ... كما قاله وإنه لعسير
وقال أيضا:
إني أفدت من استفدت علوما ... منه ولم أك بالأمور عليما
فعلمت أن العلم عين تعلق ... إنّ التعلق لا يكون قديما
بالذات يعلم لا بأمر زائد ... إن كنت علّاما وكنت حليما
لا تنظرنّ العلم أمرا زائدا ... فتكن جهولا بالأمور ظلوما
__________
(1) الخليل: يريد النبي إبراهيم عليه الصلاة والسلام.
(2) إشارة إلى الحوار الذي جرى بين إبراهيم والنمروذ، حيث نزّه إبراهيم ربّه عن المثل.(1/72)
لا يحجبنك ما ترى من فائت ... فالحقّ كلم عبده تكليما (1)
يأتي بأمر ثم ينسخ حكمه ... إتيان أمر محدث تعليما
بلسان شخص صادق من رسله ... صلّوا عليه وسلّموا تسليما
قد قال في القرآن في مزبوره ... إنّ البلاء يولد المعلوما
والعلم يحدث من حدوث بلائه ... وهو التعلق فافهموا التحكيما
انظر إلى الضدّين كيف تماثلا ... حتى يقال من اللديغ سليما
وقال أيضا:
العلم بالأحكام لا يظهر ... إلا على ألسنة الرسل
والعلم بالآيات لا ينجلي ... إلا لمن يمشي على السبل
فاحذر إذا شاهدت توحيده ... شهود عين المثل لا الشكل
فإنه لم ينف إلا الذي ... سميته بالشكل والمثل
فلو نفى الرتبة لم يتخذ ... خليفة في عالم السفل
والله قد عيّن نوّابه ... في نشأة قامت من الثقل
لم يقبل الروح له صورة ... مجرّدا عن نسبة الأصل
ألا ترى كيف نهى عبده ... عن البترا وهي في النفل
وقدّم الشفع على وتره ... في سورة الفجر إلى الليل
لأنه يقصد إنتاجها ... في عالم التفصيل والوصل
لا يعرف الفضل على وجهه ... إلا الذي يعطي من الفضل
ينقص ذو الإيثار في بذله ... عن منزل الأفضال والفضل
وقال أيضا:
لا تفرحنّ ببشرى الوقت إن لها ... شرطا تعينه الأحكام بالحال (2)
فإن علمت بأنّ الحال دائمة ... إلى انفصالك عن اصر وأغلال (3)
فتلك بشرى لكم من عند ربكم ... وما تقدّم بشرى الحال في الحال
فقد يقال لنا وعد نسرّ به ... ولا يقيد في شرط بإخلال
فتأخذنه وعين الشرط تجهله ... لأنّ حرصك لم يخطره بالبال
__________
(1) إشارة إلى تكليم الله لسيدنا موسى عليه الصلاة والسلام، في قوله تعالى: {وَكَلَّمَ اللََّهُ مُوسى ََ تَكْلِيماً}
سورة النساء، الآية: 164.
(2) الحال: ما يرد على القلب من طرب أو حزن أو بسط أو قبض.
(3) الإصر: العهد والذنب. الأغلال: القيود.(1/73)
البيت فرفعت تأزيره وكان مؤزرا بإزار ساج فإذا بعض التأزير فارغا، فحركت جسرية منه خمنت عليها فإذا هي قد انفلقت، فدخلت فيها فإذا هي باب ممر، فولجت فيه إلى دار كبيرة، فيها بستان عظيم، فيه صنوف الأشجار والثمار والريحان، والأنوار التي هي وقتها وما ليس هو وقته مما قد غطى وعتق، احتيل في بقائه. وإذا الخزائن مفتوحة فيها أنواع الأطعمة المفروغ منها والحوائج لما يعمل في الحال إذا طلب، وإذا بركة كبيرة في الدار فخضتها فإذا هي مملوءة سمكا كبارا وصغارا، فاصطدت واحدة كبيرة وخرجت، فإذا رجلي قد صارت بالوحل.
والماء إلى حد ما رأيت رجله، فقلت الآن إن خرجت ورأى هذا معي قتلني فقلت احتال عليه في الخروج، فلما رجعت إلى البيت أقبلت أقول: آمنت وصدقت، فقال لي ما لك؟ قلت: ما ها هنا حيلة، وليس إلا التصديق بك. قال فاخرج فخرجت وقد بعد عن الباب، وتموه عليه قولي. فحين خرجت أقبلت أعدو أطلب باب الدار، ورأى السمكة معي، فقصدني وعلم أني قد عرفت حيلته فأقبل يعدو خلفي فلحقني، فضربت بالسمكة صدره ووجهه، فقلت له أتعبتني حتى مضيت إلى البحر، فاسخرجت لك هذه منه! قال: واشتغل بصدره وعينه وما لحقهما من السمكة وخرجت. فلما صرت خارج الدار طرحت نفسي مستلقيا لما لحقني من الجزع والفزع. فخرج إليّ وضاحكني وقال أدخل. فقلت هيهات والله لئن دخلت لا تركتني أخرج أبدا. فقال اسمع، والله لئن شئت قتلتك على فراشك لأفعلن، ولئن سمعت بهذه الحكاية لأقتلنك ولو كنت في تخوم الأرض ومادام خبرها مستورا فأنت آمن على نفسك، امض الآن حيث شئت. وتركني ودخل فعلمت أنه يقدر على ذلك بأن يدس أحد من يطيعه ويعتقد فيه ما يعتقده فيقتلني، فما حكيت الحكاية إلى أن قتل.
[5]
(5)
أخبرنا علي بن أبي علي عن أبي الحسن أحمد بن يوسف الأزرق أن الحسين بن منصور الحلاج لما قدم بغداد يدعو، استغوى كثيرا من الناس والرؤساء وكان طمعه في الرافضة أقوى لدخوله من طريقهم، فراسل أبا سهل بن نوبخت
__________
(5) [5] سير أعلام النبلاء 14/ 323322، تاريخ بغداد 8/ 125124.(1/73)
المكر يصحبه لو كنت تعقله ... وليس يحذره إلا كأمثالي
لذا طلبت من الله النصوص ولم ... أفرح بما ضمنه تفصيل أحوال
النصّ بالدون أولى بي وأحسن لي ... في مجمل القول بالبشرى من العالي
إنّ الرجال الذين الله يعصمهم ... قد عاينوا فضله في عين اجمال
إذا تجرّد لي عن مثل صورته ... جودا ولقبني بالنائب الوالي (1)
فكيف يبخل من هذي سجيّته ... برحمة تجمع الأعلى مع التالي
وذاك ظني فإن العلم منقصة ... هنا فلا تصغين للقيل والقال
وقال أيضا:
الله يعلم أني لست أذكره ... لعلمه باعتقادي أنه الذاكر
فليس يذكره إلا هوّيته ... والعبد يحجبها عن عينه ساتر
وقد علمت بما في الدار من حرم ... مسترات عن الإدراك بالناظر
الدار دار نعيم لا اكتراث بها ... فإن أضيف إليها فهو بالنادر
لأن ذلك إن قالوه عن غرض ... من النفوس إذا ما لم يكن زاجر
أو كالذي قيل في عين الحسان إذا ... أمرضن في نظريا طرفها الفاتر
تلهّفي حيث لا أحظى بجنّتها ... عن التألم وهو المؤلم الحاضر
إن التألم يعطي الشخص نشأته ... لا الدار فاعلم بأنّ الحكم للخابر
لو كان للدار أخران لما وجدت ... لذاتها أنفس سرورها ظاهر
بما ينعم ذا به يعذّب ذا ... أعني به السبب المشهود لا الناظر
فإن علمت الذي قلناه قلت به ... وإن جهلت فأنت التاجر الخاسر
وقال أيضا:
شؤون ربي من تغيير أنفاسي ... كالجود منه لما عندي من إفلاس
فراعه لي مني بالزمان مما ... في الكون إلا وجود الجنّ والناس
لما ينافي وجود النشىء من ثقل ... فلو يخف لكنا التاج في الراس
لكننا منه كالنعلين في قدم ... من التقلب أو كالشامخ الراسي (2)
في نشأة العجل برهان لذي نظر ... في السامريّ وما في الأمر من باس (3)
__________
(1) النائب: نائب الإمام أو القطب، ونائب الإمام يعرف أن الإمام غيره.
(2) الشامخ: الجبل.
(3) السامري: الذي عبد العجل، وكان من عظماء بني إسرائيل منسوب إلى موضع لهم.(1/74)
يستغويه، وكان أبو سهل من بينهم مثقفا فهما فطنا، فقال أبو سهل لرسوله: هذه المعجزات التي يظهرها قد تأتي فيها الحيل، ولكن أنا رجل غزل، ولا لذة لي أكبر من النساء وخلوتي بهن، وأنا مبتلى بالصلع حتى أني أطول قحفي وآخذ به إلى جبيني وأشده بالعمامة واحتال فيه بحيل، ومبتلى بالخضاب لستر المشيب، فإن جعل لي شعرا ورد لحيتي سوداء بلا خضاب آمنت بما يدعوني إليه كائنا ما كان، إن شاء قلت إنه باب الإمام، وإن شاء الإمام، وإن شاء قلت إنه النبي، وإن شاء قلت إنه الله! قال فلما سمع الحلاج جوابه أيس منه، وكف عنه. قال أبو الحسن: وكان الحلاج يدعو كل قوم إلى شيء من هذه الأشياء التي ذكرها أبو سهل على حسب ما يستبله طائفة طائفة.
[6]
(6)
قال ابن باكوا: حدثنا أبو عبد الله بن مفلح حدثنا طاهر بن أحمد التستري قال: تعجبت من أمر الحلاج فلم أزل أتتبع وأطلب الحيل، وأتعلم النيرنجات لأقف على ما هو عليه، فدخلت عليه يوما من الأيام وسلمت وجلست ساعة ثم قال لي: يا طاهر لا تتعنّ، فإن الذي تراه وتسمعه من فعل الأشخاص لا من فعلي، لا تظن أنه كرامة أو شعوذة، فصح عندي أنه كما يقول.
[7]
(7)
حدثني أبو سعيد السجزي أنبأنا أبو محمد بن عبد الله بن عبيد الله الصوفي الشيرازي قال: سمعت علي بن الحسن الفارسي بالموصل يقول:
سمعت أبا بكر بن سعدان يقول: قال لي الحسين بن منصور: تؤمن بي حتى أبعث إليك بعصفورة تطرح من ذرقها وزن حبة على كذا منا من نحاس فيصير ذهبا؟! قال: فقلت له: بل أنت تؤمن بي حتى أبعث بفيل يستلقي فتصير قوائمه في السماء فإذا أردت أن تخفيه أخفيته في إحدى عينيك؟! قال: فبهت وسكت.
__________
(6) [6] تاريخ بغداد 8/ 126، سير أعلام النبلاء 14/ 326.
(7) [7] سير أعلام النبلاء 14/ 324، تاريخ بغداد 8/ 126.(1/74)
[8]
(8)
أنبأنا إبراهيم بن مخلد أنبأنا إسماعيل بن علي الخطبي في تاريخه قال: وظهر أمر رجل يعرف بالحلاج يقال له الحسين بن منصور، وكان في حبس السلطان بسعاية وقعت به في وزارة علي بن عيسى الأولى، وذكر عنه ضروب من الزندقة، ووضع الحيل على تضليل الناس من جهات تشبه الشعوذة والسحر، وادعاء النبوة، فكشفه علي بن عيسى عند قبضه عليه، وأنهى خبره إلى السلطان يعني المقتدر بالله فلم يقر بما رمي به من ذلك، وعاقبه وصلبه حيا أياما متوالية في رحبة الجسر في كل يوم غدوة، وينادي عليه بما ذكر عنه، ثم ينزل به ثم يحبس، فأقام بالحبس سنين كثيرة، ينقل من حبس إلى حبس، حتى حبس بأخرة في دار السلطان فاستغوى جماعة من غلمان السلطان وموه عليهم واستمالهم بضروب من حيله حتى صاروا يحمونه، ويدفعون عنه، ثم أرسل جماعة من الكتاب وغيرهم ببغداد وغيرها، فاستجابوا له، وتراقى به الأمر حتى ذكر أنه ادعى الربوبية، وسعي بجماعة من أصحابه إلى السلطان فقبض عليهم ووجد عند بعضهم كتبا له تدل على تصديق ما ذكر عنه، وأقر بعضهم بلسانه بذلك وانتشر خبره، وتكلم الناس في قتله، فأمر أمير المؤمنين بتسليمه إلى حامد بن العباس، وأمر أن يكشفه بحضرة القضاة، ويجمع بينه وبين أصحابه، فجرى ذلك خطوب طوال، ثم استيقن السلطان أمره، ووقف على ما ذكر له عنه، فأمر بقتله وإحراقه بالنار. فأحضر مجلس الشرطة بالجانب الغربي يوم الثلاثاء لسبع بقين من ذي القعدة سنة تسع وثلاثمائة، فضرب بالسياط نحوا من ألف سوط، وقطعت يداه ورجلاه، وضربت عنقه، وحرقت جثته بالنار، ونصب رأسه للناس على سور السجن الجديد، وعلقت يداه ورجلاه إلى جانب رأسه.
__________
(8) [8] تاريخ بغداد 8/ 127126، سير أعلام النبلاء 14/ 335.(1/75)
وقال أيضا لزومية التفصيل:
إني لأقسم بالذي تدريه ... في كل ما أمضيه أو أجريه
لو بيع من منع المشرع بيعة ... لحق الخسار ببائع يشريه
وإن اقتدى فيه بإخوة يوسف ... فلذاك حكم كلنا ندريه
إنا تعبدنا بشرع محمد ... وكفاك هذا القدر من تنبيه
أنا لا أفضل أمّة قد أخرجت ... للناس في تنزيه أو تشبيه
إن الذي قال الزمان بفضله ... حكم القضاء بما يرضيه
فتراه واحد عصره في حاله ... في كلّ ما يبغيه أو يمضيه
إني اتبعت لكلّ صاحب علة ... استحكمت منه التي تشفيه
فإذا الخطاب لربنا من سرّنا ... أني لما أبديه ما أخفيه
من ليس يقدر قدر ما أعطيته ... في نفسه مني فما أبغيه
جهل الحقائق من يخلط أمرها ... والعالم المسعود من يلغيه
إني جعلت لكلّ حقّ موطنا ... يدري به الشخص الذي في فيه
درر البيان مسرّحا ومقيّدا ... فله التحكم من وجودي فيه
وقال أيضا:
الحقّ يعلم والحقائق تجهل ... والحجب تسدل والمهيمن يهمل (1)
لو ترفع الأستار لا نهتك الذي ... عظمت مقالته فأصبح يهمل
حجب العقول نزاهة لجلاله ... حتى ترى نحو الطواغيت تسفل
طلبا له لما علت من أجله ... حارت محيرة فعادت تنزل
حكمت عليها بالزمان رياحه ... لما تجلى الدهر كشفا يرفل
شال الستور عن العيون هبوبها ... مثل الجنوب إذا تهب وشمأل
ودبور تأتي خلفه لتسوقه ... لصبا القبول لكونها تستقبل (2)
فإذا انتفى عنه الوجود فلم يجد ... جاءته نكباء وتلك المعدل (3)
فدرى بها أن الذي بالهه ... من منزل النكباء أصبح يعدل
وهو الكفور لعلمه بظهوره ... في كلّ شيء وهو علم مجمل
__________
(1) المهيمن: من أسماء الله تعالى.
(2) الدّبور: ريح تقابل الصبا.
(3) النكباء: ريح الخرفت ووقعت بين ريحين، أو بين الصبا والشمال.(1/75)
[9]
(9)
أنبأنا ابن الفتح أنبأنا محمد بن الحسين قال: سمعت عبد الله بن علي يقول: سمعت عيسى القصار يقول: آخر كلمة تكلم بها الحسين بن منصور عند قتله وصلبه أن قال: حسب الواحد إفراد الواحد له. فما سمع بهذه الكلمة أحد من المشايخ إلا رق له واستحسن هذا الكلام منه.
[10]
(10)
قال الصولي: قيل: إنه كان في أول أمره يدعو إلى الرضا من آل محمد وكان يري الجاهل أشياء من شعبذته، فإذا وثق منه دعاه إلى أنه إله.
[11]
(11)
قال أبو نصر السراج: صحب الحلاج عمرو بن عثمان، وسرق منه كتبا فيها شيء من علم التصوف، فدعا عليه عمرو: اللهم اقطع يديه ورجليه.
[12]
(12)
قال ابن الوليد: كان المشايخ يستثقلون كلامه، وينالون منه لأنه كان يأخذ نفسه بأشياء تخالف الشريعة، وطريقة الزهاد، وكان يدعي المحبة لله، ويظهر منه ما يخالف دعواه.
__________
(9) [9] تاريخ بغداد 8/ 132، سير أعلام النبلاء 14/ 342.
(10) [10] سير أعلام النبلاء 14/ 347.
(11) [11] سير أعلام النبلاء 14/ 316.
(12) [12] سير أعلام النبلاء 14/ 316.(1/76)
وقال أيضا:
يا موضع الكوماء مهلا إن من ... تبغيه بالإيصاع خلفك قائم (1)
فارجع إليه ولا تفارق سيركم ... فله به وجه عليكم حاكم
هو صاحب لك في السري وخليفة ... في الأهل بعدك فانتبه يا نائم
المصطفون ثلاثة مذكورة ... أسماؤهم منهم إمام ظالم
ثم الذي سموه مقتصدا وذا ... ك التال في ورث الكتاب العالم
والثالث المذكور فيهم سابق ... بالباء لا أبالي وذاك الراحم
لولا التهمم بالسباق لما أتى ... متأخرا من أجل من هو خاتم
ومن أجل من هو رابع لثلاثة ... جار وذاك هو الإله القاسم
وقال أيضا:
قل للذي نظم الوجود عقودا ... هلا اتخذت عليك فيه شهودا
عدلا من الأكوان من ساداته ... المصطفين معالما وحدودا
إنّ الذين يبايعونك إنهم ... ليبايعون الحاضر المفقودا
فإذا مضى زمن مضى لمروره ... عقد فجدّد للإمام عقودا
اشهد عليه بها جوارح ذاته ... وكفى بربّ الواردات شهودا
إنّ الإمام هو الذي شهدت له ... صمّ الجبال بكونه معبودا
وقال أيضا:
إن الذي فتح الخزائن جوده ... لم يبد للأبصار غير وجوده
والحكم للأعيان ليس لذاته ... إلا القبول له بحكم شهوده
هو مظهر أحكامهم في عينه ... لما تعين مظهرا لعبيده
لا وجه أعظم من غنى في نعته ... بغنى تقيّد عندنا بحدوده
وإذا يكون الأمر هذا لم يزل ... سلك القلادة ثابتا في جيده
إنا لنبصره ونعلم أنه ... حال بنا وحليّه من جوده
إنا جعلنا ما علينا زينة ... لوجوده بعقوده وعقوده
فإذا أنا أوفيته ألزمته ... ذاك الوفاء بعينه لعهوده
وقال أيضا:
ما لي استناد ولا ركن ولا وزر ... إلا إليّ وإني العين والخبر
__________
(1) الكوماء: الناقة العظيمة السنام.(1/76)
لي التحكم في عيني يحققه ... علمي وكشفي فمني النفع والضرر
لولاي ما كان للأسماء من أثر ... أنا المسمى فلي الأسماء والأثر
انظر إليه بنا تجده عين أنا ... فالناظر الحقّ والمنظور والنظر
ولا تفرّق فإن الفرق مجهلة ... فلا يفرّق إلا الحقّ والصور (1)
ألا ترى ليديه إذ توجهتا ... على خميرة من تدعونه بشر
قد فرّق الله أعيانا فقال لنا ... هذا المقام وهذا الركن والحجر
وقال أيضا:
لما شهدت الذي في الكون من صور ... عين الذي كنت أبغيه بلا صور
علمت أن الذي أبغيه يطلبني ... بالعلم بي لا به فانهض على أثري
ترى الذي قد رأينا من منازله ... في كلّ آية تنزيه من السّور
وكلّ آية تشبيه ومحكمة ... تتلى علينا من المكتوب في الزبر (2)
ومطلب الحقّ منا أن نوحّده ... ربا كما هو في القرآن والنظر
ما مطلب الحقّ منا أن نكيفه ... حتى نراه بمجلى الشمس والقمر (3)
ولا تفكرت فيه ما بقيت ولا ... يزال من فكره عقلي على غرر
في آل عمران جاء النصّ يطلبني ... بما لديه من التخويف والخدر
وذاك عن رأفة منه بنا ولذا ... يتلى علينا مع الآصال والبكر
الليل لله لا لي والنهار معا ... لأنه الدهر فانظر فيه واعتبر
لا تعتبر نفسه إن كنت ذا نظر ... مسدّد ولتكن تمشي على قدر
إن المعارج والإسرا إليه به ... على البراق الذي أنشأت من فكري
حتى انتهيت إلى ما شاءه وقضى ... تركته وامتطينا رفرف الدرر (4)
عند التفاتي به إذ كان ينزل بي ... إلى السماء يناجيني إلى السحر
ودّعته ثم سرنا حيث قال لنا ... إذا به عن يميني طالبا أثري
لما تأمّلته لم أدر صورته ... وعلمنا أنه هو غاية الخطر
غفلت عنه له إذ كان مقصده ... مني التغافل بالتحويل في الصور
لأنه عالم أني أميّزه ... لما تكفلني من حالة الصغر
له ولدت لهذا ما برحت له ... مشاهد أناظرا فيه إلى كبري
لذاك أخبرنا بأنه معنا ... على مكانتنا في بدو أو حضر
__________
(1) الصور، في طور الحقيق الكشفي: علوية وسفلية.
(2) الزبر: جمع الزّبور أي الكتاب.
(3) إشارة إلى تنزيه الله تعالى عن الكيفية والمثل.
(4) الرفرف: الرقيق من الثياب، والفرش.(1/77)
بداية حال الحلاج
[1]
أخبرنا الشيخ الإمام صلاح الدين أبو بكر أحمد بن المقرب بن الحسين بن الحسن الكرخي الصوفي بقراءتي عليه في ثالث عشر ذي الحجة سنة ثلاث وخمسمائة بالمسجد الحرام زاده الله شرفا وتعظيما.
قلت له: أخبرنا أبا الحسن المبارك بن عبد الجبار بن أحمد الصيرفي قراءة عليه في يوم السبت تاسع وعشرين ذي القعدة من سنة ثلاث وتسعين وأربعمائة فأقر به.
وقال: حدثنا أبا سعيد مسعود بن ناصر السجستاني من لفظه حدثنا أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن عبيد الله بن أحمد بن باكويه الشيرازي الصوفي بنيسابور في سنة ست وعشرين وأربعمائة، قال: أخبرني أحمد بن الحسين بن منصور بتستر قال: مولد والدي الحسين بن منصور بالبيضاء، في موقع يقال له:
الطور، ونشأ بتستر وتتلمذ لسهل بن عبد الله التّستري سنتين، ثم صعد إلى بغداد.
وكان بالأوقات يلبس المسوح، وبالأوقات يمشي بخرقتين مصبغ، ويلبس بالأوقات الدراعة والعمامة، ويمشي بالأوقات بالقباء أيضا على زي الجند. وأول ما سافر من تستر إلى البصرة، وكان له ثماني عشرة سنة، ثم خرج بخرقتين إلى عمرو بن عثمان المكي وإلى الجنيد بن محمد، وأقام مع عمرو المكي ثمانية عشر شهرا، ثم تزوج بوالدتي أم الحسن بنت أبي يعقوب الأقطع وتعير عمرو بن عثمان في تزويجه، وجرى بين عمرو وبين أبي يعقوب وحشة عظيمة بذلك السبب.(1/77)
وقال أيضا:
رأيت بارقة كالنجم لامعة ... بسقف بيتي على قرب من السحر
علمتها عين من أهوى تعرفني ... بما أنا منه في ورد وفي صدر
وكنت في حاضر الأبصار أرقبه ... لحادث كان لي فيهم من الخبر
على لسان الذي ظني به حسن ... يحيى الفؤاد بذكراه وبالنظر
عن الرسول رسول الله سيدنا ... المصطفى المجتبى المختار من مضر
فقلت أعرفكم حالا وأشهدكم ... عينا وأظهركم لأعين البشر
لأنهم جهلوا ما نحن نعلمه ... من التجلي الذي لله في الصور
ما قلت فيكم ولا فهنا بذكركم ... إلّا بما جاء في الآيات والسور
أتلو وأسرد آيات علمت بها ... في شأنكم عنكم ما قلت عن نظر
ما لي التحكم في نفسي فكيف لنا ... فيه التحكم والرامي على خطر
من أن يصيب به من لا يجوز له ... فيه التصرف إلا حالة الضرر
مثل النبي الذي يوحى إليه به ... لكي يبلغه للسمع والبصر
وقال أيضا:
بالشمّ أدرك أحيانا وبالنظر ... ما ليس يدركه غيري من النظر
ولست منه بلا شكّ على خطر ... مثل المقلّد للمعصوم في الخبر
من حاله الشمّ أعلى منه منزلة ... أعني المقلد لا الإدراك بالنظر
للذوق أخذ شريف لا يكيفه ... في فعله غير أهل الضرب والبصر
وليس يعرف من ذوق بجارحة ... مذاق جارحة أخرى أبو البشر
وقال أيضا:
علوم الذوق ليس لها طريق ... تعينه الأدّلة للعقول
سوى عمل بمشروع وأخذ ... بناموس يكون مع القبول (1)
وهمة صادق جلد شؤوس ... أدلّ من الدليل على ذلول (2)
وقال أيضا في نظرة الصعق المكي والموسوي:
الفضل للسابق في كل حال ... بالفضل حازوا قصب السّبق
وما لوسع الخلق أن يبلغوا ... تسابق المخلوق والحقّ
__________
(1) الناموس: صاحب السر. وجبريل عليه السلام.
(2) شؤوس: قوي.(1/78)
ثم اختلف والدي إلى الجنيد بن محمد، وعرض عليه ما فيه من الأذية لأجل ما جرى بين أبي يعقوب وبين عمرو، فأمره بالسكوت والمراعاة، فصبر على ذلك مدة، ثم خرج إلى مكة وجاور سنة، ورجع إلى بغداد مع جماعة من الفقراء الصوفية.
فقصد الجنيد بن محمد وسأله عن مسألة فلم يجبه، ونسبه إلى أنه مدع فيما سأله. فاستوحش وأخذ والدتي ورجع إلى تستر، وأقام نحو سنة. ووقع له عند الناس قبول عظيم حتى حسده جميع من في وقته.
ولم يزل عمرو بن عثمان يكتب الكتب في بابه إلى خوزستان، ويتكلم فيه بالعظائم حتى حرد ورمى ثياب الصوفية ولبس قباء وأخذ في صحبة أبناء الدنيا، ثم خرج وغاب عنا خمس سنين إلى خراسان وما وراء النهر، ودخل إلى سجستان وكرمان ثم رجع إلى فارس، فأخذ يتكلم على الناس، ويدعو الخلق إلى الله تعالى.
وكان يعرف بفارس: بأبي عبد الله الزاهد، وصنف لهم تصانيف، ثم صعد من فارس إلى الأهواز وأنفذ من حملني إلى عنده. وتكلم على الناس، وقبله الخاص والعام.
وكان يتكلم على أسرار الناس وما في قلوبهم ويخبر عنها، فسمي بذلك حلاج الأسرار، فصار الحلاج لقبه، ثم خرج إلى البصرة وأقام مدة يسيرة. وخلفني بالأهواز عند أصحابه، وخرج ثانيا إلى مكة، ولبس المرقعة والفوطة، وخرج معه في تلك السفرة خلق كثير، وحسده أبو يعقوب النهرجوري، فتكلم فيه بما تكلم.
فرجع إلى البصرة وأقام شهرا واحدا، وجاء إلى الأهواز، وحمل والدتي وحمل جماعة من كبار الأهواز إلى بغداد، وأقام ببغداد سنة واحدة، ثم قال لبعض أصحابه: احفظ ولدي حمدا إلى أن أعود أنا، فإني قد وقع لي أن أدخل إلى بلاد الشرك، وأدعو الخلق إلى الله عز وجل، وخرج.
فسمعت بخبره أنه قصد إلى الهند، ثم قصد خراسان ثانيا، ودخل ما وراء النهر وتركستان وإلى ماصين. ودعا الخلق إلى الله، وصنف لهم كتبا لم تقع إلي.
إلا أنه لما رجع كانوا يكاتبونه من الهند بالمغيث، ومن بلاد ماصين وتركستان بالمقيت، ومن خراسان بالمميز، ومن فارس بأبي عبد الله الزاهد، ومن خوزستان بالشيخ حلاج الأسرار، وكان ببغداد قوم يسمونه: المصطلم، وبالبصرة قوم يسمونه: المحير.(1/78)
ثم كثرت الأقاويل عليه بعد رجوعه من هذه السفرة، فقام وحج ثالثا، وجاور سنتين ثم رجع وتغير عما كان عليه في الأول، واقتنى العقار ببغداد، وبنى دارا، ودعا الناس إلى معنى لم أقف إلا على شطر منه. حتى خرج عليه محمد بن داود وجماعة من أهل العلم، وقبحوا صورته عند المعتضد.
ووقع بين علي بن عيسى وبينه لأجل نصر القشوري. ووقع بينه وبين الشبلي وغيره من مشايخ الصوفية. فكان يقول قوم: إنه ساحر، وقوم يقولون:
مجنون، وقوم يقولون: له الكرامات وإجابة السؤال. واختلفت الألسن في حقه حتى أخذه السلطان وحبسه.
فذهب نصر القشوري واستأذن الخليفة أن يبني له بيتا في الحبس، فبنى له دارا صغيرة بجنب الحبس. وسدوا باب الدار، وعملوا حواليه سورا، وفتحوا بابه إلى الحبس، وكان الناس يدخلون عليه قريبا من سنة، ثم منع الناس، وبقي خمسة أشهر لا يدخل عليه أحد، إلا مرة رأيت أبا العباس بن عطاء الآدمي كان قد دخل عليه بالحيلة. ورأيت مرة أبا عبد الله بن خفيف. وأنا كنت برا عند والدتي بالليل، وبالنهار عنده، ثم حبسوني معه شهرين، وحين حبسوني كان لي خمس عشرة سنة.
فلما كانت الليلة التي أخرج في صبيحتها والدي من الحبس، قام فصلى ركعات، فلما فرغ من صلاته لم يزل يقول: مكر، مكر، إلى أن مضى من الليل أكثره، ثم سكت طويلا ثم قال: حق، حق. ثم قام قائما وتغطى بإزار واتزر بمئزر ومد يديه نحو القبلة وأخذ في المناجاة، وكان خادمه أحمد بن فاتك حاضرا، فحفظ لنا بعضها. فكان من مناجاته:
نحن شواهدك نلوذ بسنا عزتك، لتبدي ما شئت من شأنك ومشيئتك، فأنت الذي في السماء إله وفي الأرض إله، يا مدهر الدهور، ومصور الصور، يا من ذلت له الجواهر وسجدت له الأعراض، وإنعقدت بأمره الأجسام وتصورت عنده الأحكام. يا من تجلى لما شاء كما شاء كيف شاء، مثل التجلي في المشيئة لأحسن الصورة. والصورة هي الروح الناطقة التي أفردته بالعلم والبيان والقدرة.
ثم أو عزت إلى شاهدي في ذاتك الهوى اليسير لما أردت بدايتي، وأظهرتني عند غضب كراتي، ودعوت إلى ذاتي بذاتي، وأبديت حقائق علومي ومعجزاتي صاعدا في معارج إلى عروش أوليائي، عند القول من برياتي، إني أحتضر وأقتل
وأصلب وأحرق، وأحمل على الساقيات الذاريات. وإن الذرة من ينجوج مظان هيكل متجلياتي لأعظم من الراسيات. ثم أنشأ يقول: [من البسيط](1/79)
لما تجارت نحو أنفس ... اقعدها في مقعد الصدق
فعمّ كلّ الخلق أفضاله ... ولم يعم الحق للخلق
أبدى لهم مشهده بارقا ... كلمحة العين أو البرق
وعنده خرّوا له سجّدا ... لكن يحوزوا نظرة الصعق (1)
من فاز بالأسماء في خلقه ... قد فاز بالذات وبالخلق
وقال، وقد قرىء عليه الباب السابع لأبواب الفتوحات فتعجب من إيجازه وإعجازه:
إنّ هذا لهو السحر الحلال ... أين أنتم أين أنتم يا رجال
اشربوه لبنا من ضرعنا ... شرب صاد وجد الماء الزّلال (2)
يشبه المعجز في معدنه ... يا لثارات لأمر لا ينال
باكتساب أنه من قول من ... قال بالإسكان في عين المحال
ما أنا القائل بل قال بنا ... عيّن الفرقان أعيان المحال
هو ظل للذي تعرفه ... ولهذا حكمه حكم الظلال
ما كمال الشخص إلا ظله ... إن بالظل له عين الكمال
ولهذا مدّه الله لنا ... فنراه عندنا ضرب مثال
يتعالى الله عن إدراكنا ... وكذا نحن جلال في جمال
إنما العلم به العلم بنا ... فلذا نجهله في كل حال
في رجوع الظلّ علم واضح ... حكمة الظلّ ترى عند الزوال
وقال أيضا:
استغفر الله من علم أفوه به ... فإنّ قائله منهم على خطر
وهو الصحيح الذي لا شك يدخلني ... فيه ولكنني منه على حذر
وقد أتيت به لحكمة حكمت ... عليّ فيه على ما جاء في القدر
من العلوم التي قد عزّ طالبها ... ولم ينلها لما في الأمر عن غرر (3)
لولا وارثتنا خير الأنام لما ... حصلتها السيد المختار من مضر
وهو العليم بها من ضربة حصلت ... له من الله ذي الآلاء في السمر
فاسمع فديتك إني قد عزمت على ... إبراز ما كان في الأصداف من درر
__________
(1) الصعق: ويقصدون الفناء في الحق عند التجلي الذاتي الوارد بسبحات يحترق ما سوى الله فيها.
(2) الصادي: العطشان. والشرب: تلقي الأرواح والأسرار الطاهرة لما يرد عليها من الكرامات، وتنعمها بذلك.
(3) الغرر: التهلكة.(1/79)
ثم أو عزت إلى شاهدي في ذاتك الهوى اليسير لما أردت بدايتي، وأظهرتني عند غضب كراتي، ودعوت إلى ذاتي بذاتي، وأبديت حقائق علومي ومعجزاتي صاعدا في معارج إلى عروش أوليائي، عند القول من برياتي، إني أحتضر وأقتل
وأصلب وأحرق، وأحمل على الساقيات الذاريات. وإن الذرة من ينجوج مظان هيكل متجلياتي لأعظم من الراسيات. ثم أنشأ يقول: [من البسيط]
أنعى إليك نفوسا طاح شاهدها ... فيما ورا الحيث يلقى شاهد القدم
أنعى إليك قلوبا طالما هطلت ... سحائب الوحي فيها أبحر الحكم
أنعى إليك لسان الحقّ مذ زمن ... أودى وتذكاره في الوهم كالعدم
أنعى إليك بيانا تستكين له ... أقوال كلّ فصيح مقول فهم
أنعى إليك إشارات القلوب معا ... لم يبق منهنّ إلّا دارس الرّمم
أنعى وحقّك أخلاقا لطائفة ... كانت مطاياهم من مكمد الكظم
مضى الجميع فلا عين ولا أثر ... مضيّ عاد وفقدان الألى إرم
وخلّفوا معشرا يجرون لبستهم ... أعيا من البهم بل أعيا من النّعم
ثم سكت. فقال أحمد بن فاتك: أوصني يا سيدي. فقال: هي نفسك، إن لم تشغلها شغلتك. فلما أصبحنا خرج من الحبس، ورأيته يتبختر في قيده ويقول: [من الهزج]
نديمي غير منسوب ... إلى شيء من الحيف
سقاني مثلما يشر ... ب، فعّل الضّيف بالضّيف
فلمّا دارت الكأس ... دعا بالنّطع والسّيف
كذا من يشرب الرا ... ح مع التنين في الصيف
ثم حمل وقطعت يداه ورجلاه بعد أن ضرب خمسمائة سوط، ثم صلب.
فسمعته وهو على الجذع يناجي ويقول: إلهي أصبحت في دار الرغائب أنظر إلى العجائب. إلهي، إنك تتودد إلى من يؤذيك، فكيف لا تتودد إلى من يؤذى فيك.
ثم رأيت أبا بكر الشبلي وقد تقدم تحت الجذع وصاح بأعلى صوته يقول:
أو لم أنهك عن العالمين.
ثم قال له: ما التصوف؟ قال: أهون مرقاة فيه ما ترى. فقال: فما أعلاه؟
قال: ليس لك إليه سبيل، ولكن سترى غدا ما يجري، فإن في الغيب ما شهدته وغاب عنك.
فلما كان العشي جاء الإذن من الخليفة أن تضرب رقبته فقالوا: قد أمسينا ويؤخر إلى الغداة. فلما أصبحنا أنزل من الجذع وقدم لتضرب رقبته، فسمعته يصيح ويقول بأعلى صوته: حسب الواجد إفراد الواحد له، وقرأ هذه الآية:
{يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لََا يُؤْمِنُونَ بِهََا وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهََا وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ} (1)
__________
(1) الشورى: 18.(1/80)
إن قيل ما سبب التكبير والغير ... فقل له ذاك مجلى الحقّ في الصور (1)
فما ترى العين إلّا واحدا أبدا ... والكبر جاء من الإحكام في النظر
إن الوجود على الإيهام نشأته ... مثل الشهادة حال الذرّ في الفطر
والحكم مني بهذا القول صورته ... ما قلته وكذا المشهود بالبصر
الغيب لله لا الأبصار تدركه ... وما ترى العين يكنى عنه بالبشر
من كلّ نجم وأفلاك يدور بها ... وما يولده من هذه الأكر (2)
إن لم تحققه برهانا ومعرفة ... كما هو الأمر فاقنع فيه بالخبر
من ذائق لم يقل ما قال عن نظر ... ولا قياس ولا حدس ولا ضرر
إن الوجود وجود الحقّ ليس له ... فيه شريك كما قد جاء في الأثر
وأين مثل رسول الله سيّدنا ... فيما يقال ففكّر فيه واعتبر
فيما يقول لبيد في جهالته ... وليس يدري الذي قد قال فادكر (3)
فإنّ ذا فطنة مثلي مخلقة ... ترى الحقائق تأتيها على قدر
ولا تقل إن ذا وهم وسفسطة ... القول ما قلته فانهض على أثري
والله لولا شهود الحقّ ما نظرت ... عيني إلى أحد من عالم الغير
إني يتيمة دهري ما لها شبه ... من الفرائد في نجر ولا بحر (4)
وقال أيضا:
كلّ بيت محتّم ... فيه سرّ مكتم
ليس يدري به سوى ... من به الكون يعظم
هو علم عنت له ... أعرب ثم أعجم
كلّ ملك متوّج ... يدري بالأمر يخدم
وبه الله يفصل ... وبه العدل يحكم
بقضاء محقق ... ليس فيه توهّم
كعبة الله بيت من ... جاء بالحقّ يحرم
ويلبي الذي دعا ... هـ لها حين يقدم
وفؤادي حرامه ... وهو بيت محرّم
اغلق الباب دون من ... جاءه وهو محرم
يجد الناس بابه ... وهو بالسدّ محكم
__________
(1) الصور: يريد الصور العلوية والسفلية.
(2) الأكرة: الكرة.
(3) لبيد: هو لبيد بن ربيعة العامري.
(4) النجر: الأصل.(1/80)
وهذا آخر كلامه. ثم ضربت رقبته، ولف في بارية وصب عليه النفط وأحرق، ثم حمل رمادا إلى رأس المنارة لتسفيه الرياح.
[2]
وحدثنا أحمد بن الحسين بن منصور قال: سمعت أحمد بن فاتك البغدادي تلميذ والدي يقول: بعد ثلاث من قتل والدي، قال: رأيت رب العزة في المنام كأني واقف بين يديه، فقلت: يا رب، ما فعل الحسين بن منصور؟ فقال: كاشفته بمعنى، فدعا الخلق إلى نفسه، فأنزلت به ما رأيت.
[3]
سمعت أبا علي بن مرذانقا بواسط يقول: سمعت أبا عبد الله بن البازيار يقول: سمّي الحسين بن منصور حلّاجا، لأنه دخل واسط فتقدم إلى حلّاج وبعثه في شغل، وقال له: أنا أعينك في شغلك فاذهب أنت في شغلي. فلما رجع الحلاج من شغله، وجد كل قطن في حانوته محلوجا فسمي الحلّاج.
[4]
سمعت أبا زرعة الطبري يقول: الناس فيه، يعني في الحسين بن منصور بين قبول ورد، ولكني سمعت محمد بن يحيى الرازي يقول: سمعت عمرو بن عثمان يلعنه ويقول: لو قدرت عليه لقتلته بيدي.
فقلت: أيش الذي وجد الشيخ عليه؟ قال: قرأت آية من كتاب الله.
فقال: يمكنني أن أؤلف مثله وأتكلم به.
[5]
وسمعت أبا زرعة الفري يقول: سمعت أبا يعقوب الأقطع يقول: زوجت
ابنتي من الحسين بن منصور لما رأيت من حسن طريقته واجتهاده، فبان لي بعد مدة يسيرة أنه ساحر محتال خبيث كافر.(1/81)
وهو من خلف بابه ... ناظر ليس يعلم
وقال أيضا:
جدّد السعد منزلا ... جامعا للفضائل
خير مأوى ومنزل ... لعليّ وسافل
أيّ بيت لكل خي ... ر من الرزق شامل
هو هذا تمتعوا ... فهو خير المنازل
ومن نظمه في التوشيح الأقرع (1):
دور الحقّ صوّرني في كلّ صوره
كمثل بسملة من كلّ سوره
أقامني عند حشر الناس سوره
بجنة وبنار على اختلاف الذراري ... فأنا بين حيّ وميت في تبار
دور لو أنّ هذا الذي أخذت عنه
من كلّ ما لاح لي مني ومنه
ما كان لي في وجود الحق كنه
أسري فلست بساري كمثل سير الدراري ... بين نشر وطيّ فعل الشّؤوس المدار (2)
دور أنا الإمام الذي ضم المواكب
كمثل بدر بدا بين الكواكب
أرمى الكتائب بي على الكثائب (3)
حتى أخذت بثاري وقمت أحمي ذماري ... أنا من نسل طيّ السادة الكبار
دور عاد الحبيب الذي يكون يعرف
وإنه بوجودي مني أعرف
__________
(1) الموشح الأقرع: الموشح الذي يبدأ بدور دون مطلع.
(2) أسري: أسير ليلا. الشؤوس: القوي.
(3) كثائب: جمع كثيب وهو الرمل المرتفع.(1/81)
وسمعت أبا زرعة الفري يقول: سمعت أبا يعقوب الأقطع يقول: زوجت
ابنتي من الحسين بن منصور لما رأيت من حسن طريقته واجتهاده، فبان لي بعد مدة يسيرة أنه ساحر محتال خبيث كافر.
[6]
وسمعت أبا زرعة يقول: سمعت الفوطيّ وهو جالس عند أبي يعقوب في جامع المدينة يقول: ما قول الشيخ في أمر الحسين بن منصور؟ فقال: هو كما تقول: خبيث كافر.
[7]
وسمعت أبا القاسم يوسف بن يعقوب النعماني يقول: سمعت أبا بكر محمد ابن داود الفقيه الأصبهاني يقول: إن كان ما أنزل الله تعالى على نبيه عليه السلام حق وما جاء به حق، فما يقول الحلاج باطل. وكان شديدا عليه.
[8]
سمعت هبة الله بن أحمد الشيرازي يقول: سمعت القناد يقول: رأيت الحسين بن منصور ببغداد في حالة رثة، فقلت له: كيف حالك؟ فانشأ يقول متمثلا [من الوافر]
لئن أمسيت في ثوبي عديم ... لقد بليا على حرّ كريم
فلا يحزنك أن أبصرت حالّا ... مغيّرة عن الحال القديم
فلي نفس ستتلف أو سترقى ... لعمرك بي إلى أمر جسيم
[9]
سمعت أبا الفوارس الجوزقاني بقرميسين قال: سمعت إبراهيم بن شيبان يقول: من أحب أن ينظر إلى ثمرات الدعاوى، فلينظر إلى الحلاج وما جرى عليه.(1/82)
وفي مشامّ رجال الله أعرف
لولا وجود السراري وسابحات الدراري ... لم يكن ثمّ عيّ غداة تزجى السواري (1)
دور أهيم وجدا بمن ألقى عليّا
قولا ثقيلا أتى مني إليّا
أعوذ منه به يا صاحبيّ
بدر حلاه الدراري بين الجوانح ساري ... ليس يدنيه شيّ على دنوّ المزار
وقال أيضا:
يا أيها المشغوف بالذكر ... في حالة الإشفاع والوتر (2)
لو كنت لي في عالم الخلق ... لكنت لي في عالم الأمر
إن ضاق ظرف الدهر عن عينكم ... فلم يضق عن عينكم صدري
ما أوسع القلب إذ آمنت ... جوارحي بكلّ ما يجري
لم أدر أنّ للقلب ظرف لكم ... لولا الذي أخبرني سرّي
عند تجليه لنا طالبا ... في ليلة يعطى إلى الفجر
أنت الذي أخبرتني بالذي ... فهمت به في السّرّ والجهر
على لسان السّيّد المصطفى ... الطيّب الأسلاف من فهر
ما جئتكم بالأمر من خارج ... بل جئتكم بالأمر من بحر
تلتطم الأمواج فيه كما ... تأتي به الأنفاس في الذكر
فإن ذكرتم فاذكروه بما ... تلاه في القرآن ذي الذكر
لا تذكروه بالذي تنظروا ... فالفرع يعطى قوّة النجر (3)
ذكرته يوما على غفلة ... بغير ما قلب من الأمر
فلم أجد عند مذاق الجنى ... طعم الذي أعلم بالخبر
وجدته كالمنّ في طعمه ... والفارق الواضح بالسّكر
بالصحو يأتي ذكره دائما ... والقبض والبرد مع الوفر
والذكر من عندي على ضدّه ... يأتيك بالسكر وبالحرّ
فذكره ما بين أذكارنا ... بين الليالي ليلة القدر
سبحان من صيّرني عالما ... من بعد ما قد كنت كالغمر (4)
__________
(1) زجاه: ساقه.
(2) الشفع: خلاف الوتر وهو الزوج.
(3) النجر: الأصل.
(4) الغمر: الماء الكثير.(1/82)
[10]
سمعت أبا عبد الله الحسين بن محمد المذاري يقول: سمعت أبا يعقوب النهرجوري يقول: دخل الحسين بن منصور إلى مكة، وكان أول دخوله فجلس في صحن المجلس سنة لا يبرح من موضعه إلا للطهارة أو الطواف، ولا يبالي بالشمس ولا بالمطر.
وكان يحمل إليه كل عشية كوز ماء ليشرب، وقرص من أقراص مكة، فيأخذ القرص ويعض أربع عضات من جوانبه، ويشرب شربتين من الماء، شربة قبل الطعام وشربة بعده. ثم يضع باقي القرص على رأس الكوز فيحمل من عنده.
[11]
سمعت عيسى بن بزول القزويني وقد سأل أبا عبد الله بن خفيف يقول: ما تعتقد في الحسين بن منصور؟ قال: أعتقد فيه أنه رجل من المسلمين فقط.
فقال له: قد كفره المشايخ وأكثر المسلمين، فقال: إن كان الذي رأيته منه في الحبس لم يكن توحيدا فليس في الدنيا توحيد.
[12]
سمعت أبا عبد الله بن خفيف وقد سأله أبو الحسن بن أبي توبة عن الحسين ابن منصور فقال: سمعت أبا يعقوب النهرجوري يقول: دخل الحسين بن منصور مكة ومعه أربعمائة رجل، فأخذ كل شيخ من مشايخ الصوفية جماعة، وكان في سفرته الأولى كنت آمر من يخدمه.
قال: ففي هذه الكرة أمرت المشايخ، وشفعت إليهم ليحملوا عنه الجمع العظيم، قال: فلما كان وقت المغرب جئت إليه فقلت: أمسينا، فقم بنا حتى نفطر.
فقال: نأكل على أبي قبيس.
فأخذنا ما أردنا من الطعام، وصعدنا إلى أبي قبيس وقعدنا لنأكل. فلما فرغنا من الأكل قال الحسين بن منصور: لم نأكل شيئا حلوا. فقلت: أليس قد أكلنا
التمر؟! فقال: أريد شيئا قد مسته النار. فقام وأخذ ركوته وغاب عنا ساعة، ثم رجع ومعه جام حلواء، فوضعه بين أيدينا وقال: بسم الله، فأخذ القوم يأكلون وأنا أقول في نفسي: قد أخذ في الصنعة التي نسبها إليه عمرو بن عثمان.(1/83)
وقال أيضا:
توهمت من أهواه خارج صورتي ... فقدّرته في القرب بالباع والشبر
فيحيي فؤادي بالوصال وباللقا ... ويقتلني بالصدّ منه وبالهجر
يجرّد عن غصن قويم وعن نقا ... ويبسم عن درّ ويسفر عن بدر
ويجري لنا نهرا من الضّرع طيبا ... ومن عسل أصفى وماء ومن خمر
يمدّ به كوني لأني من أربع ... خلقت بها في النشأتين بلا أمر
مع الأمر بالتكوين في كلّ حالة ... ولا أدر معناه ولا أدر لا أدري
أتيت إليه من طريق ذلولة ... مسهّلة لكن على مركب وعر
بنقر بأوتار بأيدي كواعب ... يملن علينا من هوى لا من السّكر (1)
فلما تأملنا وجدنا وجودنا ... بأسمائه الحسنى فقمت بها أجري
إلى عالم الأكوان أخبرهم بها ... كما أخبر الرحمن في محكم الذكر
ومن نظمه في التوشيح المضفر الأقرع (2):
دور قل لمن قال لنا ... اتبعوا رسلنا
اعلمن أن بنا ... يندفعوا نحونا
فالزمن قول أنا ... إن شرعوا سبلنا
العوال لمن علا ... قدرا على القانت ... واستمال من قال لا ... لفرعه النابت
دور سادتي الترمذي ... عرفكم حيلتي
قادتي جاء الذي ... صيّركم جملتي
عادتي من كل ذي ... علم لكم بغيتي
يا موال أنتم على ... ما قلت للصامت ... من نوال ومن إلى لعاذل شامت
دور قد بدا للعين ما ... أظهره الطالع
وأرتدي حسن الدمى ... مظهره الطامع
وابتدا يطلب ما ... يستره الطابع
من خلال هنّ حلى كلّ فتى ثابت ... في ليال هنّ على الحاصل الفائت
__________
(1) الكواعب: جمع الكاعب وهي الفتاة إذا نهد ثديها.
(2) الموشح المضوّ.(1/83)
دور كم أتى يطلبني ... من خلته المرتقى
والفتى تجذبني ... خلته للقا
ومتى تحجبني ... خدمته والتقى
في الظلال حال الطلا يخر عن باهت ... في جمال خلف ملا ناطق أو صامت
دور قد بدا ما شاله ... الواقف في زعمه
وغدا إذ ناله ... العاكف في حكمه
منشدا ما قاله ... السالف في نظمه
الجمال وقف على ظبي بني ثابت ... لا زوال في الحبّ لا عن عهده الثابت
وقال أيضا في نظم التوشيح ذي المنقال وهو مضفّر:
مطلع سرائر الأعيان ... لاحت على الأكوان ... للناظرين
والعاشق الغيران ... من ذاك في بحران ... يبدي الأنين
دور يقول والوجد ... أضناه والسهد ... قد حيّره (1)
لما دنا البعد ... لم أدر من بعد ... من غيّره
وهيّم العبد ... والواحد الفرد ... قد خيّره (2)
في البوح والكتمان ... والسّرّ والإعلان ... في العالمين
أنا هو الديّان ... يا عابد الأوثان ... أنت الضنين (3)
دور كلّ الهوى صعب ... على الذي يشكو ... ذلّ الحجاب
يا من له قلب ... لو أنه يزكو ... عند الشباب
قربه الربّ ... لكنه إفك ... فأتوا المتاب
__________
(1) الوجد: العشق.
(2) هيّم من الهيام وهو الجنون في العشق. الواحد الفرد، يريد: الله تعالى.
(3) الضنين: البخيل.(1/84)
فأخذنا ما أردنا من الطعام، وصعدنا إلى أبي قبيس وقعدنا لنأكل. فلما فرغنا من الأكل قال الحسين بن منصور: لم نأكل شيئا حلوا. فقلت: أليس قد أكلنا
التمر؟! فقال: أريد شيئا قد مسته النار. فقام وأخذ ركوته وغاب عنا ساعة، ثم رجع ومعه جام حلواء، فوضعه بين أيدينا وقال: بسم الله، فأخذ القوم يأكلون وأنا أقول في نفسي: قد أخذ في الصنعة التي نسبها إليه عمرو بن عثمان.
قال: فأخذت منه قطعة ونزلت الوادي، ودرت على الحلاوين أريهم ذلك الحلواء وأسألهم: هل يعرفون من يتخذ هذا بمكة، فما عرفوه. حتى حمل إلى جارية طباخة فعرفتها وقالت: لا يعمل هذا إلا بزبيد. فذهبت إلى حاج زبيد، وكان لي فيه صديق، فأريته الحلواء، فعرفه وقال: يعمل هذا عندنا إلا أنه لا يمكن حمله فلا أدري كيف حمل.
وأمرت حتى حمل إليه الجام. وتشفعت إليه ليتعرف الخبر بزبيد: هل ضاع لأحد من الحلاوين جام علامته كذا وكذا. فرجع الزبيدي إلى زبيد، وإذا أنه قد حمل من دكان إنسان حلاوي. فصح عندي أن الرجل مخدوم.
[13]
وسمعت أبا أحمد الصغير يقول: سمعت أبا عبد الله بن خفيف يقول: لما دخلت بغداد وأردت لقاء الحسين بن منصور، وكان قد منع الناس عنه، فذهبت واستعنت ببعض معارفي من الجند حتى يكلم السجان في بابي وأدخلني بحيلة عظيمة بعد أن ركب إلى السجان جماعة من أولياء الدولة، فلما حصلت في السجن، حملني السجان وأراني بابا حديدا في السجن، فقال: ادخل إلى ثم، فدخلت، ورأيت دارا حسنة أمر ببنيانها إنسان من أصحابه يقال له: نصر القشوري ورأيت في الدار مجلسا حسنا قد بسط فيه بسط حسنة، وقد طرح زرباني لم أر أحسن منه. وعلى الدست مقرمة ممدودة. ورأيت حدثا جالسا، وشابا آخر كالخادم. فقاما واستقبلاني وأجلساني، وقالا: مذ مدة لم يدخل علينا أحد غير السجان. فقلت: أين الشيخ؟
فقالا: مشتغل. فقلت للرجل: مذ كم تخدمه وكان الرجل أحمد بن فاتك قال:
منذ قرب، فقلت: ما يفعل الشيخ إذا كان في الدار؟ فقال: ترى هذا الباب؟ هو إلى حبس العيارين واللصوص والصعاليك، فيدخل إليهم ويذكر هم الله تعالى، فيتوبون على يده. قلت: كيف أكله؟ قال: يحضر له كل يوم مائدة، وينقل إليها ألوان الطعام. قال: فينظر إليها، ثم ينقرها بإصبعه فترفع ولا يتناول منها شيئا.(1/84)
وناد يا رحمان ... يا برّ يا منّان ... إني حزين
أضناني الهجران ... ولا حبيب دان ... ولا معين
دور فنيت بالله ... عما تراه العين ... من كونه
في موقف الجاه ... وصحت أين الأين ... في بينه (1)
فقال يا ساهي ... عاينت قط أين ... بعينه
أما ترى غيلان ... وقيس ومن قد كان ... في الغابرين (2)
قالوا الهوى سلطان ... ان سل بالإنسان ... أفناه دين
دور كم مرّة قالا ... أنا الذي أهوى ... من هو أنا
فلا أرى حالا ... ولا أرى شكوى ... إلا الفنا
لست كمن مالا ... عن الذي يهوى ... بعد الجنى
ودان بالسّلوان ... هذا هو البهتان ... للعارفين
سلوهم ما كان ... عن حضرة الرحمن ... ولا يكون
دور دخلت في بستان ... الأنس والقرب ... لمكنسه
فقام لي الريحان ... يختال من عجب ... في سندسه
أنا هو يا إنسان ... مطيب الصّب ... في مجلسه
جنان فيا جنان ... أجني من البستان ... الياسمين
وحلل الرّيحان ... بحرمة الرحمن ... للعاشقين
ومن نظمه في التوشيح المضفّر ذي المنقال:
مطلع عدّ عن جنات عدن ... وارتسم في الصدر الأوّل
تخفض القسط وترفع ... وتولّي ثم تعزل
__________
(1) الأين: التعب.
(2) غيلان: يريد ذات الرمة الشاعر الأموي المتوفى سنة 117هـ.
قيس: يريد قيس لبنى أو قيس بني عامر، وكلاهما كان متيما عاشقا.(1/85)
ونحن في ذلك وإذا الحسين بن منصور قد خرج إلينا، فرأيته حسن الوجه نظيف الحلة، عليه صوف أبيض، والشيخ بفوطة رملية وفي رجله نعل طاق عالي وقد علاه الهيبة، فسلم علي وقال: من أين الفتى؟ قلت: من شيراز. فسألني عن المشايخ فأخبرته. ثم قال: من أي ناحية وردت الساعة؟ قلت: من مكة. فسألني عن مشايخ مكة فأخبرته. قال: رأيت مشايخ بغداد؟ قلت: نعم، فسألني عن أبي العباس بن عطاء. قلت: في عافية. قال: إذا لقيته فقل له: احتفظ بتلك الرقاع.
ثم قال: كيف دخلت علي؟ فقلت: توسلت ببعض الجند ممن كان معارفي بشيراز.
قال: ونحن في ذلك حتى دخل عليه أمير الحبس وهو يرتعد فقبل الأرض بين يديه، فقال: ما لك؟ فقال: قد سعي بي إلى أمير المؤمنين أني أخذت رشوة، وخليت أميرا من الأمراء، وجعلت بدله رجلا من العامة، وهأنذا أحمل لتضرب رقبتي. فقال له: امض، لا بأس عليك وذهب الرجل، فقام الحسين بن منصور إلى صحن الدار، وبرك على ركبته ورفع يديه، وأشار بالمسبحة إلى السماء وهو يقول: يا رب، ثم طأطأ رأسه حتى وضع خده على الأرض وبكى حتى ابتلت الأرض من دموعه وصار كالمغشي عليه، وهو على تلك الحالة، حتى دخل أمير الحبس فجلس، فقال: ما وراءك؟ قال: قد عفي عني. ثم قام ورجع إلى موضعه وقال له: إيش قال لك؟ قال: قال لي: إني دعوتك لأضرب رقبتك، والآن فقد عفوت عنك، فلا تعد إلى مثل هذا. قلت: قد كذبوا علي. فخلع علي وأعطاني جائزة وصدقني.
قال: وكان الحسين بن منصور جالسا في طرف الصّفة، وفي آخر الصّفة منديل صغير عند الدّست. وكان طول الصّفة قريبا من خمسة عشر ذراعا باليد أو أكثر فمد يده إليه فأخذه، فلا أدري طالت يده أم جاء المنديل إليه فمسح به وجهه.
وخرجت من عنده وقصدت أبا العباس بن عطاء، وحكيت له ما جرى فقلت: قال لك: احتفظ بالرقاع. قال: قل له: إن تركتك!!.
[14]
سمعت أبا الحسن بن أبي توبة قال: سمعت حمدا الأصفهاني قال: دخل الحسين بن منصور أصبهان، ودخل على علي بن سهل، وكان يتكلم في علم
المعرفة فقال له الحسين بن منصور: يا سوقي! تتكلم في علم المعرفة وأنا حي وبين الصحو والاصطلام سبعمائة درجة ما عرفتها ولا سمعتها.(1/85)
دور بابي معنى شريف ... بابي معنى غريب
بيته بيت كثيف ... حجبت فيه الغيوب
حكمه فيه لطيف ... رأيه فيه مصيب
بطل خلف مجنّ ... امتطى أغرّ أرجل
فترى المتلالي الأترع ... تحته السماك الأعزل (1)
دور أظهر العقل النفيس ... نفس غيب المتمنى
فهو الملك الرئيس ... وهي ملك ليس يفنى
وجد الجسم الخسيس ... أحرفا جاءت لمعنى
وعنى بذاك عني ... وأنا لا أتبدل
ثم أخفاه وأودع ... أمره الإمام الأعدل
دور أشرقت شمس المعاني ... بقلوب العارفينا
أشرفت أرض المثاني ... فتنة للسالكينا
وبدا سرّ المثاني ... لعيون الناظرينا
إذ خفى في نشر كوني ... نوره لما تنزل
لسراج ليس يسطع ... بمثال ليس يهمل
دور حضرة العليّ زين ... ومقام الوارثينا
جدول بها معين ... لذة للشاربينا
فهي الصبح المبين ... تجعل الشك يقينا
وهي تجلو كلّ دجن (2) ... مع بقاء الوبل والطلّ (3)
فسناها الوتر الأرفع ... من سنا المهاة أجمل (4)
__________
(1) السّماك: ما سمك به الشيء، والأعزل والرامح وهما نجمان نيّران.
(2) الدّجن: المطر الكثير، وإلباس الغيم الأرض وأقطار السماء. الوبل: المطر الغزير.
(3) الطل: الندى.
(4) المهاة: الشمس.(1/86)
سمعت أبا الحسن بن أبي توبة قال: سمعت حمدا الأصفهاني قال: دخل الحسين بن منصور أصبهان، ودخل على علي بن سهل، وكان يتكلم في علم
المعرفة فقال له الحسين بن منصور: يا سوقي! تتكلم في علم المعرفة وأنا حي وبين الصحو والاصطلام سبعمائة درجة ما عرفتها ولا سمعتها.
فحرد علي بن سهل وقال بالفارسية: لو عرفك أهل أصفهان لم يتركوا أن يدخلها مثلك فتشوش على العامة. وقام وخرج من المدينة وقال: التحصن من الله بغير الله جهل بالله عزّ وجل.
[15]
سمعت أبا الحسن بن أبي توبة يقول: سمعت علي بن أحمد الحاسب قال:
سمعت والدي يقول: وجهني المعتضد على الهند لأمور أتعرفها ليقف عليها، وكان معي في السفينة رجل يعرف بالحسين بن منصور، وكان حسن العشرة، طيب الصحبة. فلما خرجنا من المركب ونحن على الساحل والحمالون ينقلون الثياب من المركب إلى الشط. فقلت له: في أيش جئت إلى ههنا؟ قال: جئت لأتعلم السحر وأدعوا الخلق إلى الله تعالى.
وكان على الشط كوخة فيها شيخ كبير. فسأله الحسين بن منصور: هل عندكم من يعرف شيئا من السحر؟ قال: فأخرج الشيخ كبة غزل وناول طرفه الحسين بن منصور، ثم رمى الكبة في الهواء فصارت طاقة واحدة، وصعد عليها ونزل. وقال للحسين بن منصور: مثل هذا تريد. ثم فارقني، فلم أره بعد ذلك إلا ببغداد.
[16]
حدثنا أبو الفوارس، الجوزقاني: فإبراهيم بن شيبان يقول: سلم أستاذي [يعني أبا عبد الله المغربي] على عمرو بن عثمان المكي فجاراه في مسألة، فجرى في عرض الكلام أن قال عمرو بن عثمان: إن ههنا شابا على أبي قبيس فلما خرجنا من عند عمرو فصعدنا إليه، وكان وقت الهاجرة فدخلنا عليه، وإذا هو جالس في صحن الدار على صخرة من أبي قبيس وهو قاعد على تلك الصخرة في الشمس، والعرق يسيل منه على تلك الصخرة، فلما نظر إليه أبو عبد الله المغربي رجع
وأشار إلي بيده: ارجع. فخرجنا من الدار ونزلنا الوادي، ودخلنا المسجد.(1/86)
حدثنا أبو الفوارس، الجوزقاني: فإبراهيم بن شيبان يقول: سلم أستاذي [يعني أبا عبد الله المغربي] على عمرو بن عثمان المكي فجاراه في مسألة، فجرى في عرض الكلام أن قال عمرو بن عثمان: إن ههنا شابا على أبي قبيس فلما خرجنا من عند عمرو فصعدنا إليه، وكان وقت الهاجرة فدخلنا عليه، وإذا هو جالس في صحن الدار على صخرة من أبي قبيس وهو قاعد على تلك الصخرة في الشمس، والعرق يسيل منه على تلك الصخرة، فلما نظر إليه أبو عبد الله المغربي رجع
وأشار إلي بيده: ارجع. فخرجنا من الدار ونزلنا الوادي، ودخلنا المسجد.
وقال لي أبو عبد الله: إن عشت ترى ما يلقى هذا، لأن الله يبتليه ببلاء لا يطيقه، قعد بحمقه يتصبر مع الله تعالى. فسألنا عنه، وإذا هو الحلاج.
[17]
سمعت علي بن الحسين الفارسي بالموصل يقول: سمعت أبا بكر بن سعدان يقول: قال لي الحسين بن منصور: تؤمن بي حتى أبعث إليك بعصفورة تطرح من ذرقها وزن حبة على كذا منا نحاس فيصير ذهبا؟ قال: قلت له: بل أنت تؤمن بي حتى أبعث إليك بفيل يستلقي، فتصير قوائمه في السماء، فإذا أردت أن تخفيه أخفيته في إحدى عينيك قال: فبهت وسكت.
[18]
وحدثنا عليّ بن الحسن قال: سمعت أبا بكر بن سعدان يقول: الحسين بن منصور مموه ممخرق مشعوذ.
[19]
سمعت عيسى بن بزول القزويني وقد سأل أبا عبد الله بن خفيف عن معنى هذه الأبيات: [من السريع]
سبحان من أظهر ناسوته ... سرّ سنا لاهوته الثّاقب
ثمّ بدا في خلقه ظاهرا ... في صورة الآكل والشّارب
حتّى لقد عاينه خلقه ... كلحظة الحاجب بالحاجب
فقال الشيخ: على قائلها لعنة الله. فقال عيسى بن بزول: هذا للحسين بن منصور.
فقال: إن كان هذا اعتقاده فهو كافر، إلا أنه لم يصح أنه له، ربما يكون مقولا عليه.(1/87)
دور يا لطيفا بالعباد ... أرني أنظر إليكا
قال زل عن كلّ واد ... يعقد الأمر عليكا
ما أنا غير المنادي ... فالتفت لناظريكا
كيف لا وأنت مني ... بمكان السّرّ الأكمل (1)
فبمع الحقّ تسمع ... وبأمر الأمر ينزل
ومن نظمه أيضا في التوشيح وله منقال:
مطلع تاهت على النفوس القلوب ... فسرّ عاذل ورقيب
دور في سبح اسم ربّك الأعلى (2)
غصن زها فعزّ وجلّا
سواه كالحسام المحلّى
فيممت حماه الغيوب ... وأشعلت هناك حروب
دور في الطّور طار عني فؤادي (3)
فلم أزل عليه أنادي
أضنان هجرك المتمادي
فقال لي الوصال قريب ... يا أيها الصفيّ الحبيب
دور في النجم صحّ لي العرش ملكا (4)
وقيل خذه قهرا وملكا
__________
(1) السر: يريد النور الروحاني، وهو آله النفس ومحل المشاهدة.
(2) إشارة إلى قوله تعالى: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} سورة الأعلى، آية: 1.
(3) الطّور: الجبل. وجبل بالشام. وجبل قرب أيلة. ومما تعنيه الطور عند الصوفية النفس.
(4) العرش: هو جرم عظيم بل هو أعظم مخلوقات الله تعالى وقد خلقه إظهارا لقدرته.
ويريد به الفلك المحيط بجميع الأفلاك المعنوية والصورية، له باطن وظاهر، فباطنه عالم القدس وهو عالم أسماء الحق سبحانه وصفاته.(1/87)
[20]
سمعت محمد بن علي الحضرمي، بالنيل قال: سمعت والدي يقول: كنت جالسا عند الجنيد إذ ورد شاب حسن الوجه عليه خرقتان، فسلم وجلس ساعة، ثم أقبل عليه الجنيد وقال له: سل ما تريد أن تسأل، فقال له: ما الذي باين الخليقة عن رسوم الطبع؟ فقال الجنيد: أرى في كلامك فضولا! لم لا تسأل عما في ضميرك من الخروج والتقدم على أبناء جنسك؟ فسكت الحسين بن منصور، وسكت الجنيد ساعة، ثم أشار إلى أبي محمد الجريري أن قم، فقمنا وتأخرنا قليلا، فأقبل الجنيد يتكلم عليه وأقبل هو يعارضه إلى أن قال له أي خشبة تفسدها، فبكى وقام يمشي، فقام أبو محمد الجريري، وتبعه إلى أن خرج إلى بعض المقابر، وجلس، فقال لي أبو محمد الجريري: قلت في نفسي: هو في حدة شبابه واستوحش منا فربما به فاقة.
قال: فقصدت صديقا لي وقلت له: اشتر خبزا سميذا وشواء وفالوذجا بسكر واحمل إلى موضع كذا وكذا مع ثلجية ماء وخلال وقليل وأشنان، وبادرت إليه وسلمت وجلست عنده. وكان قد جعل رأسه بين ركبتيه فرفع رأسه فانزعج وجلس بين يدي، وأخذت ألاطفه وأداريه إلى أن جاء صديقي، ثم قلت له: تفضل، فمد يده وأكل قليلا. ثم قلت له: من أين القصد، ومن أين الفقير؟ قال: من البيضاء، إلا أني ربيت بخوزستان والبصرة، فقلت: ما الاسم؟ قال: الحسين بن منصور، وقمت وودعته، فمضى على هذا خمس وأربعون سنة. ثم سمعت أنه صلب وفعل به ما فعل.
[21]
حدثنا عمرو المنقوري المعروف بأبي جعفر الكبير بالبصرة، حدثنا عبيد ابن أحمد السلولي قال: كان والدي مقيما ببغداد والحلاج مقيم بتستر، وكان كل يوم يرد إلى والدي أخبار الحسين بن منصور، وكان قد شاع أمره. فقلت لوالدي: من الذي يعرفك هذه الأخبار. قال: شخص يختلف إلي، ويختلف إلى الحسين بن منصور، فيخبرني بما يعمله، ويخبره بما أعمل. قلت فهو مسلم؟ قال: نعم، إلا أن الحسين ليس يقنع به. فطالبه بأن أمر أولاده أن يخدموه، وهو يأبي. وإن أجابه إلى ما يطلب منه يكون فيه هلاكه.(1/88)
فقمت فيه عبدا وملكا
فمن سماه زهر تصوب ... ومن ثراه زهر يطيب
دور في الحجر حجر عبد تولىّ
عن سرّ نور علم تجلّى
فحاز سبعة ليس إلّا
منها بدا وفيها يغيب ... يصاب تارة ويصيب
دور في لم يكن أتاني الرسول
فلاح في المحيّا السبيل
وكان لي بذاك دليل
إن الوجود سرّ عجيب ... يدعو لنفسه ويجيب
وقال في النظم التوشيحي:
مطلع حاز مجدا سنيا ... من غدا لله برّا تقيّا
دور بقديم العناية
لرجال الولايه
لاح نور الهدايه
لاح شيّا فشيّا ... حين خرّوا سجّدا وبكيا
دور يا منير القلوب
بشموس الغيوب
نفحات الحبيب
تتوالى عليّا ... فيريني الحقّ طلق المحيّا
دور زلزلت أرض حسّي
وفنى عين نفسي
وبدا نور شمسي
وغدا الروح حيّا ... للكبير المتعالي نجيّا
دور في الفنا عن فنائي
يبدو سرّ الردآء
ذو السّنا والسّناء (1)
صمدا سرمديّا ... عن جميع الخلق أضحى غنيا (2)
دور من لصبّ كئيب (3)
مستهام غريب
يدعى شمس القلوب
واحد بين ذيّا ... قلت مني أخبروني عليا
وقال أيضا:(1/88)
مطلع حاز مجدا سنيا ... من غدا لله برّا تقيّا
دور بقديم العناية
لرجال الولايه
لاح نور الهدايه
لاح شيّا فشيّا ... حين خرّوا سجّدا وبكيا
دور يا منير القلوب
بشموس الغيوب
نفحات الحبيب
تتوالى عليّا ... فيريني الحقّ طلق المحيّا
دور زلزلت أرض حسّي
وفنى عين نفسي
وبدا نور شمسي
وغدا الروح حيّا ... للكبير المتعالي نجيّا
دور في الفنا عن فنائي
يبدو سرّ الردآء
ذو السّنا والسّناء (1)
صمدا سرمديّا ... عن جميع الخلق أضحى غنيا (2)
دور من لصبّ كئيب (3)
مستهام غريب
يدعى شمس القلوب
واحد بين ذيّا ... قلت مني أخبروني عليا
وقال أيضا:
سبحان من يعلم لا يعلم ... كما أنا أعلم لا أعلم
فلا تقل من بعد ذا إنه ... بما أنا فيه به أعلم
لأنني لا علم لي بالذي ... يعلمه منّي فلا أعلم
فإن يكن في العلم فضل بنا ... صح الذي قال هو الأعلم
لذاك أبدى حرف حتى إذا ... نعلم أمرا لم نكن نعلم
فهو على الوجهين علامة ... الحادث المنصوص والأقدم
فيحدث النسبة من كوننا ... لأجل ذا الواقع لا يعلم
كرحمة الصحو إذا أقبلت ... وبعد ذا أعقبها الصيلم (4)
فالشيء يمتاز بآثاره ... والحكم في القابل لا يعلم
حتى يرى في عينه ظاهرا ... وعنده يحكم من يحكم
بأنه الواقع في كونه ... ولم يكن من قبل ذا يفهم
__________
(1) السنا: ضوء البرق، أو الضوء عموما.
(2) السرمدي: الذي لا أول له ولا آخر. والصّمد: الذي لا يحتاج إلى أحد وجمع المخلوقات تحتاج إليه وهو الله تعالى.
(3) الصّب: المشتاق.
(4) الصيلم: الأمر الشديد.(1/89)
[22]
حدثنا أبا عبد الله بن مفلح، حدثنا طاهر بن أحمد التشستري قال: تعجبت من أمر الحلاج، فلم أزل أتتبع، وأطلب الحيل، وأتعلم النيرنجات، لأقف على ما هو عليه.
قال: فدخلت عليه يوما من الأيام، وسلمت وجلست ساعة، ثم قال لي:
يا طاهر لا تتعن فإن الذي تراه وتسمعه من فعل الأشخاص، لا من فعلي. لا تظن أنه كرامة أو شعوذة قال: فصح عندي أنه كما يقول.
آخر البداية والنهاية. الحمد لله وحده والصلاة على سيدنا محمد رسوله ومن لا نبي بعده.
سمع جميع بداية حال الحسين بن منصور، رحمه الله على الشيخ الإمام صلاح الدين أبي بكر أحمد بن المقرب بن الحسين الصوفي الكرخي أبقاه الله بقراءة صاحبها الشيخ الإمام الأجل الحافظ العراف الزاهد الناقد البارع أبي المحاسن عمر ابن علي بن الخضر القرشي الدمشقي محمد بن عبد الرحمن بن محمد المسعودي الفنجديهي، والشيخ محمود بن محمد الأبيوردي، وعلي بن محمد بن أبي طاهر الطبرقي والشيخ أبو القاسم عبد الله بن محمد بن أبي منصور الطوسي الصوفي.
وذلك في الثالث عشر من ذي الحجة من سنة ثلاث وخمسين وخمسمائة في الحرم بمكة حرسها الله عزّ وجل. وسمع معهم أبو المعالي بن عبد الله الباذني.
سمع جميعه من لفظي الشيخ أبو الحسين علي بن أبي بكر بن علي البغدادي في ذي القعدة من سنة أربع وخمسين وخمسمائة ببغداد.(1/89)
حقيقة الإمكان قد ردّدت ... من ينسب العلم له الأقوم
إذا بدا حاجب شمس الضحى ... خرّت له من حينها الأنجم (1)
واندرجت أنوارها عنده ... إذ كان للشمس السنا الأعظم (2)
فالعقل يدري أنّ أنوارها ... مشرقة والحسّ لا يفهم
لا يدرك النّور سوى نفسه ... بنا كما يدركه المظلم
لكنه بالنور إدراكنا ... معنى وحسّا هكذا فافهموا
وقال أيضا: رأيت في المنام شمس الدّين إسماعيل بن سودكين النوري (3) وقد استقبلني وهو ينشدني في بيتين ما سمعتهما قبل ذلك منه ولا من غيره وهما:
أنا في العالم الذي لا أراكم ... كمسيح النصارى بين اليهود
فإذا ما رأيتكم نصب عيني ... أنا والله في جنان الخلود
ينظر إلى الأول قول المتنبي:
ما مقامي بأرض نخلة إلا ... كمقام المسيح بين اليهود
أنا في أمة تداركها الله ... غريب كصالح في ثمود
وكانت هذه الرؤيا في ليلة صبيحة يوم الإثنين ثامن عشر جمادى الأولى سنة عشرين وستمائة بظاهر دمشق.
وقال أيضا:
الحقّ للرحمن في العرش ... وفي السموات وفي الفرش
وفي نزول الغيث في وابل ... حمدته أيضا وفي الرش
حمدا كثيرا طيبا خالصا ... يسلم في البحث من الهرش (4)
وكلّ حمد ليس فيه أنا ... يقبله الله بلا أرش (5)
يمتاز ختم الحقّ عن ختمنا ... بما نرى فيه من النقش
لو سلمت أغنامنا لم يكن ... يقضي سليمان من النقش
فبطشه الأقوى على عزّه ... ينزل في الشدّة عن بطشي
__________
(1) الشمس، عندهم: النور مظهر الألوهية ومجلى لتنوعات أوصافه المقدسة النزيهة، والشمس نقطة الأسرار ودائرة الأنوار.
(2) السنا: الضوء.
(3) النوري: إسماعيل بن سودكين الصوفي الحنفي التونسي، المتوفى سنة 646هـ.
(4) الوابل: المطر الغزير. الهرش: الشّدة.
(5) الأرش: الدية.(1/90)
لمزجه برحمته لم تضق ... فهي لدى بطشي كالخدش
ألفيته في وزن أعماله ... يربى على الأوزان بالنش (1)
أخلصت ودي لحبيب الهوى ... فليس في ودّي من غش
وليس ذا عشك فلتدرجي ... وأين عش السرّ من عشي
نبشت عنه عند أسمائه ... حتى رأيت الأمر في النبش
خادعني عند التجلي كما ... خادع إبراهيم بالكبش
أظهره في صورة ابن له ... فكاد يختلّ من الدّهش
وهكذا الأمر إذا لم يكن ... كالنصّ في الأمر الذي يفشي
إني وإياه كليل أتى ... نهاره للولد إذ يغشي
بالله يا نفسي كذا فافعلي ... إذا أتى يبغي السّوى غشي
حتى يرى فعلكمو فعله ... كمثل موسى في عصا الهشّ
أجمل أمرا بعد تفصيله ... ليحصل المطلوب بالفتش
أخبرنا حكمة إمساكه ... كما روى قائمة العرش
إن عصاه لم يزل حكمها ... لكي يرى الأعين من يعشي
هيهات هيهات لما تبتغي ... وأين فرغانة من النش (2)
لقيت شخصا عند وداي القرى ... فقلت ذا محمد اللوشي
ولم يكن فقلت مكرا بنا ... فلم أثق من بعد بالنوش (3)
إن جاءكم نص بضدّ الذي ... ذكرته مع الهدى يمشي
تمسكوا منه بأهدابه ... وألقوا الذي ذكرت في الحش (4)
أنا ابن سام لا ابن حام فلي ... فضل على الأغربة الحبش (5)
في صاحب الفيل لكم عبرة ... وهادمي الكعبة بالنكش
لله سرّ لو بدا ما اهتدى ... به رجال الأعين العمش
والله ما أخفيته عنهم ... إلا لما فيه من الفحش
لله قوم لهم فطنة ... تراهم كالحمر الوحشي
لهم نفور ولهم وقفة ... تردّهم عن بطشة الطّيش
العرش فرش للذي يستوي ... عليه وهو السقف للفرش
__________
(1) النش: السوق الرقيق.
(2) فرغانة: ناحية بالمشرق. أوش: بلد في فرغانة.
(3) النّوش: التناول.
(4) الحش: النار.
(5) يشير إلى أنه من قوم سام بن نوح وعرفوا ببياض البشرة، ونسل حام عرفوا بسوادهم، وأهل الحبشة منهم وسماهم أغربة لسوادهم.(1/91)
كتاب الطواسين
للحسين بن منصور الحلّاج المتوفّى سنة 309هـ(1/91)
فما أرى شيئا بلا نسبة ... فنزّهوا الرحمن ذا العرش
وقال أيضا:
أسبّح الله بأسمائه ... من كلّ مذموم ومحمود
إن نطقت بحمده ألسن ... فبين مفقود وموجود
فحامد يجري بإطلاقه ... وحامد يجري بتقييد
وكلهم في حمده محسن ... وإن أتوا فيه بتحديد
وليس في الوسع سوى ما بدا ... فإنه جمع بتبديد
لو كان في الوسع لقلنا به ... ولم نقل فيه بتجريد
والله إني عابد للهوى ... ليس له فأين توحيدي
حكم الهوى صيّرني عابدا ... لربه فذاك معبودي
إني لما جئت به منصف ... لست كمن قد ضلّ في البيد
ولم أقل عجّل لنا قطنا ... سخرية يا خير مشهود
لا بد من يوم لنا جامع ... ما بين منحوس ومسعود
وقال أيضا:
يا من إذا أبصرته ... أبصرت نفسي وإذا
أبصرني أبصر أي ... ضا نفسه معوّذا
منه به فليتني ... لم أك إذ كنت كذا
فكلّ ما أسأله ... فيه يقول حبّذا
هذا هو الجود الذي ... صيّر قلبي جهبذا (1)
لذا تراني كلما ... أذكره منتبذا
فالحمد لله الذي ... أقامني في ذا وذا
وقال أيضا:
ولما رأيت الكون يعلو ويسفل ... وبينهما الأمر الإلهي ينزل
علمت بأنّ الحقّ سور وإنه ... لما ضمن الكونين فيه مفصل
يدّبر أمرا من سماء وأرضها ... وآياتها للعالمين يفصل
ويعرج ذاك الأمر للفصل طالبا ... فيعدل فيهم ما يشاء ويفصل
ولو قام فيهم عدله عشر ساعة ... لأهلكهم سيف من الله فيصل
__________
(1) الجهبذ: النقاد الخبير.(1/92)
كتاب الطواسين (10)
[1] طاسين السراج
1 - قال الحسين بن منصور الحلّاج رضي الله عنه:
سراج من نور الغيب بدا وعاد، وجاوز السراج وساد، قمر تجلّى بين الأقمار كوكب برجه في فلك الأسرار، سمّاه الحقّ «أمّيّا» لجمع همّته، و «حرميّا» لعظم نعمته، و «مكّيّا» لتمكينه عند قربته.
2 - شرح صدره، ورفع قدره، وأوجب أمره، فأظهر بدره.
طلع بدره من غمامة اليمامة، وأشرقت شمسه من ناحية تهامة، وأضاء سراجه من معدن الكرامة.
3 - ما أخبر إلّا عن بصيرته، ولا أمر بسنّته إلّا عن حسن سيرته حضر فأحضر، وأبصر فأخبر، وأنذر فحذّر.
4 - ما أبصره أحد على التحقيق سوى الصدّيق، لأنه وافقه، ثم رافقه، لئلّا يبقى بينهما فريق.
5 - ما عرفه عارف إلّا جهل وصفه. {الَّذِينَ آتَيْنََاهُمُ الْكِتََابَ يَعْرِفُونَهُ كَمََا يَعْرِفُونَ أَبْنََاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} (1).
__________
(10) النجمة المرافقة للرسومات في الطواسين هي إشارة إلى طبعة بولس اليسوعي.
والنجمتان إشارة إلى طبعة ماسينيون.
(1) البقرة: 146.(1/93)
ولكنه روح التجاوز حاكم ... فيحكم فيهم حكم من هو يغفل
فإهماله إمهاله عن مصابه ... ولو حقق التفتيش عنهم لزلزلوا
وعلة هذا الأمر أن ليس فاعل ... سواه وأنّ الحقّ بالحقّ يفعل
فما كان من حمد فحقّ محقق ... وما كان من ذمّ فحقّ معلل
وما ثم إلّا الحقّ ما ثم غيره ... ولكنهم قالوا محقّ ومبطل
يقول رسول الله يا رب فاحكمن ... بذلكم الحق الذي كنت ترسل
وعلة هذا أنهم جحدوا الذي ... أتتهم به أرساله وتعللوا
فزادهم وهما وغما وحسرة ... خلال الذي ظنوه ذاك التعلل
فلو أنهم لم يكذبوهم وصدّقوا ... مقالتهم فيهم لكانوا به أوّلوا
نجاة فإن الاعتراف مقامه ... إلى جانب العفو الكريم يهرول
لقد حكمت في حالهم غفلاتهم ... فلولا وجود العفو لم تك تهمل
فيا رب عفوا فالرجاء محقق ... وهذا الذي ما زلت مني تسأل
وقال أيضا:
إذا أخذ الفرقان من كان يتقي ... جزاء لتقواه وعفوا وتكفيرا
فما بعد ذا من غاية يطلبونها ... سوى قربه الأعلى وجوبا وتقريرا
ففي جنة المأوى وجودا محققا ... وفي جنته المعنى جلالا وتوقيرا
لأنّ اقتراب الذات قرب مسافة ... محال عليها فالتزم ذاك تعزيزا
تباركت أنت الله في كلّ صورة ... كذا جاء في القرآن كبّره تكبيرا
وأنت شرعت الله أكبر من كذا ... فحيّر أهل الفكر قولك تحييرا
لذاك ترى أهل الحقائق شمّروا ... ذيولهم عن أخذهم فيه تشميرا
وأوّله أهل العقول بفكرهم ... ولو سلّموه مثلنا كان توفيرا
لقد أطلق الله العليم مقالة ... بزهراته فيها تدمره تدميرا
وقال أيضا:
وجوده منتج كوني لنعلمه ... والعلم بي منتج للعلم بالله
فكوننا من دليل العقل مأخذه ... والعلم مأخذه من شرعه الزاهي
ولا تقل هذه في الحق مغلطة ... الحقّ ما قلته في الأمر يا ساهي
عناية الله بي إذ كان يعلمني ... مثل هذا بلا مال بلا جاه
هذا هو الجاه إن حققت منصبه ... وليس يعرفه ساه ولا واهي
الحقّ يسألني ما ليس يدركه ... إلا بنا مدرك من حسّ أو باه
بيت التفكر بيت العنكبوت وبي ... ت الكشف عندهم في فكرهم واهي (1)
لولا التفكر كان الناس في دعة ... في العلم بالله لا بالآمر الناهي
وليس يعبده إلا منزهه ... في كلّ عين من أمثال وأشباه
إذا أتاكم رسول الحقّ يمنحكم ... أسماء مرسلة فلا تقل ما هي
خذها ولا تعتبر فيها مقايسة ... ولا اشتقاقا وكن كالعالم الواهي(1/93)
وجوده منتج كوني لنعلمه ... والعلم بي منتج للعلم بالله
فكوننا من دليل العقل مأخذه ... والعلم مأخذه من شرعه الزاهي
ولا تقل هذه في الحق مغلطة ... الحقّ ما قلته في الأمر يا ساهي
عناية الله بي إذ كان يعلمني ... مثل هذا بلا مال بلا جاه
هذا هو الجاه إن حققت منصبه ... وليس يعرفه ساه ولا واهي
الحقّ يسألني ما ليس يدركه ... إلا بنا مدرك من حسّ أو باه
بيت التفكر بيت العنكبوت وبي ... ت الكشف عندهم في فكرهم واهي (1)
لولا التفكر كان الناس في دعة ... في العلم بالله لا بالآمر الناهي
وليس يعبده إلا منزهه ... في كلّ عين من أمثال وأشباه
إذا أتاكم رسول الحقّ يمنحكم ... أسماء مرسلة فلا تقل ما هي
خذها ولا تعتبر فيها مقايسة ... ولا اشتقاقا وكن كالعالم الواهي
وقال أيضا ذوقية مجنسته:
تغيرّت لما أن تغير لي المجرى ... لذا جئت شيئا خارقا عندكم أمرا
فيا ليت شعري من يسير سيرنا ... إلى حضرة ذوقية شربها أمرا (2)
إذا رويت أكبادنا من شرابها ... وأحدث في الأكوان من شربها أمرا
وصحت لنا في العالمين خلافة ... خلعت بها عن ذاته النهي والأمرا
وقال أيضا:
أقول وعندي انني لست قائلا ... بنفسي ولكني أقول كما قالا
بأني ذو قول لما هو قائل ... بنا ولساني عينه فيّ ما زالا
وما أنا ظرف كالمكان ولا أنا ... محلّ له والميل ميلي إذا مالا
فلا تيأسي يا نفس مما نريده ... فلا بدّلي منه وإن طال ما طالا
تكشف عن عيني غطاء عمايتي ... فأدركت ما خلف الحجاب وما شالا (3)
وأصبحت في قوم هداة أيمة ... وغادرت أقواما عن الحقّ ضلالا
إذا جاءهم حق أتوا ينكرونه ... فلا تضربوا لله بالفكر أمثالا
وإن كان حقا ذلك المثل الذي ... أتاهم به لم يعرفوا فيه أشكالا
وما كنت في ريب من أمر شهدته ... وما كنت في زهدي وفخري مختالا
أجرّر أذيالي كما قال عقبة ... وما كل مختال يجرّر أذيالا
ألم تدر أني في الجهاد مقدّم ... أصيّر أسد الغاب في الحرب أشبالا (4)
إذا جئت بيت الحقّ جئت ملبيا ... مهلا وإن جئناه لم ندر إهلالا
وهل ترفع الأصوات إلا لغائب ... بعيد وذو التقريب يهمس إجلالا
__________
(1) الكشف: الاطلاع على ما وراء الحجاب من المعاني الغيبية والأمور الحقيقية. وجودا وشهودا.
(2) الذوق: نور ربّاني يقذفه الحقّ كما يقولون بتجليه في قلوب أوليائه، يفرقون به بين الحق والباطل، من غير أن ينقلوا ذلك من كتاب أو غيره. والذوق كالشراب ولكن الشراب لا يستعمل إلا في الراحات، والذوق يلائم الراحات والمتاعب.
(3) الحجاب: حائل يحول بين الشيء المطلوب المقصود وبين طالبه وقاصده.
(4) الأشبال: صغار الأسد.(1/94)
6 - أنوار النبوة من نوره برزت، وأنوارهم من نوره ظهرت، وليس في الأنوار نور أنور ولا أطهر وأقدم من القدم، سوى نور صاحب الكرم.
7 - همته سبقت الهمم، وجوده سبق العدم، واسمه سبق القلم، لأنه كان قبل الأمم. مما كان في الآفاق وراء الآفاق ودون الآفاق، أطرف وأشرف وأعرف وأنصف وأرأف وأخوف وأعطف، من صاحب هذه القضية، وهو سيد البرية الذي اسمه أحمد، ونعته أوحد، وأمره أوكد، وذاته أوجد، وصفته أمجد، وهمته أفرد.
8 - يا عجبا ما أظهره، وأنظره، وأكبره وأشهره وأنوره وأقدره وأبصره لم يزل، كان، كان مشهورا قبل الحواديث والكواين والأكوان ولم يزل. كان مذكورا قبل القبل وبعد البعد والجواهر والألوان. جوهره صفوي، كلامه نبوي، علمه علوي، عبارته عربي، قبيلته «لا مشرقي ولا مغربي» جنسه أبوي، رفيه رفوي، صاحبه أمي.
9 - بإشارته أبصرت العيون، به عرفت السرائر والضمائر والحق أنطقه والدليل أصدقه، والحق أطلقه. هو الدليل وهو المدلول، هو الذي جلا الصدأ عن الصدر المعلول، هو الذي أتى بكلام قديم، لا محدث ولا مقول ولا مفعول، بالحق موصول غير مفصول، الخارج عن المعقول، هو الذي أخبر عن نهاية النهايات ونهايات النهاية.
10 - رفع الغمام، وأشار إلى البيت الحرام، هو التمام هو الهمام، هو الذي أمر بكسر الأصنام، هو الذي أرسل إلى الأنام والأجرام.
11 - فوقه غمامة برقت، وتحته برقة لمعت وأشرقت وأمطرت وأثمرت.
العلوم كلها قطرة من بحره.
الحكم كلها غرفة من نهره.
الأزمان كلها ساعة من دهره.
12 - الحق به وبه الحقيقة، هو الأول في الوصلة، هو الآخر في النبوة، والباطن بالحقيقة، والظاهر بالمعرفة.
13 - ما وصل إلى علمه عالم، ولا اطلع على فهمه حاكم.
14 - الحق ما أسلمه إلى خلقه لأنه هو، وأنى هو وهو هو؟.
15 - ما خرج من ميم «محمد» وما دخل في حائه أحد حاؤه ميم ثانية، والدال ميم أوله، داله دوامه، ميمه محله، حاؤه حاله، ميم ثانية مقاله
16 - أظهر مقاله، أبرز أعلامه، أشاع برهانه، أنزل فرقانه، أطلق
لسانه، أشرق جنانه، أعجز أقرانه، أثبت بنيانه، رفع شانه(1/94)
16 - أظهر مقاله، أبرز أعلامه، أشاع برهانه، أنزل فرقانه، أطلق
لسانه، أشرق جنانه، أعجز أقرانه، أثبت بنيانه، رفع شانه
17 - إن هربت من ميادينه فأين السبيل بلا دليل يا أيها العليل.
وحكم الحكماء عند حكمته ككثيب مهيل!.
[2] طاسين الفهم
1 - أفهام الخلائق لا تتعلق بالحقيقة، والحقيقة لا تليق بالخليقة، الخواطر علائق، وعلائق الخلائق لا تصل إلى الحقائق، والإدراك إلى عالم الحقيقة صعب فكيف إلى حقيقة الحقيقة؟ الحق وراء الحقيقة والحقيقة دون الحق.
2 - الفراش يطير حول المصباح إلى الصباح، ويعود إلى الأشكال، فيخبرهم عن الحال بألطف المقال، ثم يمرح بالدلال طمعا في الوصول إلى الكمال.
3 - ضوء المصباح علم الحقيقة، وحرارته حقيقة الحقيقة، والوصول إليه حق الحقيقة.
4 - لم يرض بضوئه وحرارته فيلقي جملته فيه والأشكال ينتظرون قدومه ليخبرهم عن النظر حين لم يرض بالخبر فحينئذ يصير متلاشيا متصاغرا متطايرا، فيبقى بلا رسم وجسم واسم ووسم. فبأي معنى يعود إلى الأشكال، وبأي حال؟ بعد ما حاز صار، من وصل إلى النظر استغنى عن الخبر، ومن وصل إلى المنظور استغنى عن النظر.
5 - لا تصح هذه المعاني للمتواني ولا الفاني ولا الجاني ولا لمن يطلب الأماني. كأني كأني، أو كأني هو، أو هو أني: لا توق عني إن كنت أني
6 - يا أيها الظان لا تحسب أني «أنا» الآن أو يكون أو كان
7 - إن كنت تفهم فافهم، ما صحت هذه المعاني لأحد سوى أحمد، {مََا كََانَ مُحَمَّدٌ أَبََا أَحَدٍ} (1) حين جاوز الكونين، وغاب عن الثقلين، وغمض العين عن الأين، حتى لم يبق له رين ولا مين.
__________
(1) الأحزاب: 40.(1/95)
وقال أيضا:
ما رأينا من غاية ... إلا كانت لنا ابتدا
ثم عدلي إذا أضي ... ف إلينا كان اعتدا (1)
الوليّ الذي إذا ... بلغ الغاية ابتدى
والحكيم الذي إذا ... بلغ المقصد اهتدى
إن تجلّى له الذي ... كان مطلوبه اقتدى
ثم إن زاد علمه ... ضلّ فيه وما اهتدى
لم يقل عالم إذا ... نسخ الحكم بالبدا
مثل ما قيل في ذكا ... رجعت وهي في المدى (2)
الإمام الذي إذا ... أبصر العين أسندا
اقتداء بمن إذا ... أصلح الأمر أفسدا
بفسادهم الصلاح ... لمن ظلّ مرشدا
لم يدع ربنا الذي ... لم يزل مصطفى سدى
إنما قال إنه ... علم بل هم الهدى
لا تقل غير ذا فمن ... ضلّ في القول ما هدى
وتحفظ من عصبة ... لم يكونوا ذوي ندى (3)
إنما الشّحّ مهلك ... وهو من أعظم العدى (4)
لا يغرنك كونه ... مانعا منعه جدى
إنما الشحّ للنفو ... س التي تقبل الردى
فإذ أنا تخلصت ... فهي للحقّ كالردا
فاحمد الله يا أخيّ ... على ما به هدى
وقال أيضا:
ما لقومي عن حديثي في عما ... ثم قالوا نحن فيكم علما
صدقوا في نصف ما قالوا وما ... صدقوا في نصفه الثاني لما
يقتضيه حكم ما جئت به ... من علوم جهلتها الحكما
عزّ علم الذّوق أن يدركه ... عالم جانبنا ما احترما (5)
__________
(1) العدل: يريد: تنزيه الباري تعالى عن فعل القبيح والإضلال بالواجب.
(2) ذكاء: الشمس.
(3) الندى: الكرم.
(4) الشح: البخل.
(5) الذوق، عندهم: نور ربّاني يقذفه الحقّ بتجليه في قلوب أوليائه.(1/95)
8 {فَكََانَ قََابَ قَوْسَيْنِ} (1): حين وصل إلى مفازة علم الحقيقة أخبر عن السواد، وحين وصل إلى حقيقة الحقيقة، أخبر عن الفؤاد، وحين وصل إلى حق الحقيقة ترك المراد واستسلم للجواد، وحين وصل إلى الحق عاد فقال: «سجد لك سوادي وآمن بك فوادي» وحين وصل إلى غاية الغايات قال: «لا أحصي ثناء عليك» وحين وصل إلى حقيقة الحقيقة قال: «أنت كما أثنيت على نفسك» جحد الهوى فلحق المنى، {مََا كَذَبَ الْفُؤََادُ مََا رَأى ََ} (2) {عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى ََ} (3) ما التفت يمينا إلى الحقيقة، ولا شمالا إلى حقيقة الحقيقة {مََا زََاغَ الْبَصَرُ وَمََا طَغى ََ} (4).
[3] طاسين الصفاء
1 - الحقيقة دقيقة، طرفها مضيقة، فيها نيران شهيقة، ودونها مفازة عميقة، الغريب قطعها يخبر عن مقامات الأربعين، مثل مقام الأدب والرهب والسبب والطلب والعجب والعطب والطرب والشره والنزه والصفاء والصدق والرفق والعتق والتسويح والترويج والتماني والشهود والوجود والعدّ والكدّ والردّ والامتداد والاعتداد والانفراد والانقياد والمراد والشهود والحضور والرياضة والحياطة والافتقاد والاصطلاء والتدبر والتحير والتفكر والتصبر والتعبر والرفض والتيقظ والرعاية والهداية والبداية: فهذه مقامات أهل الصفاء والصفوية.
2 - ولكل مقام علو مفهوم وغير مفهوم.
3 - ثم دخل المفازة وحازها ثم جازها بالأهل والمهل من الجبل والسهل.
4 {فَلَمََّا قَضى ََ مُوسَى الْأَجَلَ} (5) ترك الآهل حين صار للحقيقة أهلا، ومع ذلك رضي، بالخبر دون النظر، ليكون فرقا بينه وبين خير البشر فقال:
{لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهََا بِخَبَرٍ} (5).
__________
(1) النجم: 9.
(2) النجم: 11.
(3) النجم: 14.
(4) النجم: 17.
(5) القصص: 29.(1/96)
ولهذا يخطىء الحكم الذي ... يطلب الحال إذا ما حكما
تضحك الأزهار بالأرض إذا ... بكت الزهر التي فوق السما
وكذا العلم الذي أظهره ... عندنا تضحك منه العلما
علماء السّوء لا كانوا ولا ... كانوا بالتقوى لديه كرما
إن شخصا جهل الأمر الذي ... قلت في نظمي هذا في عما
إنما الكيّس من دان به ... نفسه حين أراه القدما (1)
قدم الصدق الذي قال لنا ... إنه من عنده للقدما
قدم الصدق الذي نعرفه ... كلّ من يشهده محتكما
فترى الحقّ كما أنزله ... في نزول واستواء وعما (2)
وإذا كان وجودي عينه ... لم أزل في عين كوني عدما
أعلم الله الذي نحن به ... من أمور لوحه والقلما
حين أجرى الحياة نهرا ... من بخار فيه سماه دما
عجبا إني على صورته ... ولذا أصبح أمري مبهما
فله التنزيه عن وصفي وقد ... جاء في القرآن علما محكما
هو في الأرض إله قادر ... ومعي في كلّ وجه أينما
وأنا لست كذا فاعتبروا ... كونه في كلّ وجه وسما
أمهلوا ما أهملوا إنهم ... عندنا والله قوم حكما
حين أبقونا وفي عقدهم ... أنهم فينا رؤوس زعما
إنما نحن عبيد كلنا ... عندنا وعندهم ليس كما
قلت فيهم إنهم قد زعموا ... أكذب الله الذي قد زعما
في كتاب الله إذ جاء به ... مخبرا عنهم لهم مستفهما
وقال أيضا:
تولدت عني وعن واحد ... فسميت بالغائب الشاهد (3)
فلولا قبولي وأسماؤه ... لما كنت عني وعن واحد
فيا من هو النعت في عينه ... ومن نعته ليس بالزائد (4)
__________
(1) الكيّس: الظريف.
(2) العماء: يقولون: هي ذات محض لا تتصف بالحقية ولا بالخلقية، فلا تقتضي لعدم الإضافة وصفا ولا اسما.
(3) الشاهد: هو الحاضر، فكل ما هو حاضر القلب غلب عليه ذكره حتى كأنه يراه ويبصره.
(4) العين: إشارة إلى ذات الشيء.(1/96)
لقد رمت أمرا فلم أستطع ... كما رامه الصّيد بالصائد
تراوغ عن سهمه قاصدا ... وأين الفرار من القاصد
ومن أعجب الأمر أني به ... صدرت ولم يك عن وارد (1)
وكيف الصدور وما في الصدور ... سوى مقبل عنه أو شارد
تعاليت لما تعاليتم ... وما أنت بالواحد الواجد
أنا واحد واجد كونكم ... ولست لعيني بالفاقد
أنا ثابت لست عن مثبت ... كما أنا عن موجد ماجد
فإنّ غناه وإنّ افتقاري ... دليل لذي النظر الفاسد
وكيف الغنى والذي عندنا ... من أسمائه بالغنى شاهدي
فإن غناه بأعياننا ... محال عليه لدى الناشد
ولكنه مثل ما قاله ... غنيّ عن العالم الراصد
وذاك الغنيّ بلا مرية ... وإياك من نفثة العاقد (2)
تعالى عن الفقر في ذاته ... علوّ الحفيظ على الراقد
تعوّذت منه به مثل ما ... تعوّذت من غاسق حاسد (3)
فنعتي الإقامة في موطني ... كما نعته عنه بالوافد
فينزل ربي إلى خلقه ... ولا وصف للخلق بالصّاعد
إليه ولكن لآياته ... كما جاء في المحكم النافد
يقرّ ويجحد إقراره ... وأين المقرّ من الجاحد
أزينه وهو لي زينة ... كما زيّن القلب بالساعد
طردت الذي لم ترد قربه ... وسميت عبدك بالطارد
إذا امتحن الله عبّاده ... نفوز بمعرفة العابد
كما الأمّ تضرب أولادها ... لتظهر مرتبة الوالد
دعاني إلى رفده جوده ... فجئت مع الوفد كالوافد
وكان معي حال ما جئته ... وما كلّ من سار كالقاعد
فسيري به مثل سيري له ... فأنعت بالسائق القائد
أذود الردى عن جناب الهدى ... لا علم في الناس بالذائد
وما ذدته عنه إلّا به ... فيا خيبة العالم الحائد
__________
(1) الوارد: كل ما يرد على القلب من المعاني الغيبية من غير تعمد من العبد.
(2) نفثة العاقد، يريد السحر.
(3) الغاسق: الليل إذا غاب الشفق.(1/97)
5 - فإذا رضي المهتدى بالخبر فكيف لا يكون المقتدي على الأثر؟.
6 «من الشجرة» {مِنْ جََانِبِ الطُّورِ} (1). ما سمع من الشجرة ما سمع من بررة.
7 - ومثلي مثل تلك الجرة، هذا كلامه
8 - فالحقيقة حقيقة، والحقيقة خليقة، دع الخليقة لتكون أنت هو وهو أنت من حيث الحقيقة.
9 - لأنّي واصف، والوصف وصف الواصف بالحقيقة فكيف الواصف؟.
10 - فقال له الحق: أنت تهدي إلى الدليل لا إلى المدلول وأنا دليل الدليل.
11 - قال الحلاج: [من مخلع البسيط]
صيّرني الحقّ بالحقيقه ... بالعهد والعقد والوثيقه
شاهد سرّي بلا ضميري ... هذاك سرّي، وذي الطّريقه
وقال أيضا: [من مخلع البسيط]
خاطبني الحقّ من جناني ... فكان علمي على لساني
قرّبني منه بعد بعد ... وخصّني الله واصطفاني
[4] طاسين الدائرة
هذه صورة الحقيقة وطلابها وأبوابها وأسبابها
1 (ب) البرّاني ما وصل إليها، والثاني وصل وانقطع، والثالث ضل في مفازة حقيقة الحقيقة.
2 - وهيهات! من يدخل الدائرة والطريق مسدود؟ والطالب مردود؟
فالنقط الفوقاني همّته، والنقط التحتاني رجوعه إلى أمله، والنقط الوسطاني تحيره.
3 - والدائرة ما لها باب والنقطة التي في وسط الدائرة هي معنى الحقيقة.
4 - ومعنى الحقيقة شيء لا تغيب عنه الظواهر والبواطن ولا تقبل الأشكال.
__________
(1) القصص: 29.(1/97)
وقال أيضا:
أنا المختار لا المختار أني ... على علم من اتّباع الرسول
ورثت الهاشميّ أخا قريش ... بأوضح ما يكون من الدليل
أبايعه على الإسلام كشفا ... وإيمانا لألحق بالرعيل (1)
أقوم به وعنه إليه حتى ... أبينه لأبناء السبيل
سري في النوى حتى كان أدنى ... من القوسين في ظلّ ظليل
وشرّف بالكلام أخاه موسى ... على كتب وذلك بالمسيل
وأين العرش من واد بقاع ... كما أين الكليم من الخليل
بهذا يعرف الحقّ الذي لم ... يزل يهدي الخليل إلى الخليل
أقول لمن يدلّ على وجود ... تحققه ببرهان الأفول (2)
أصبت تلك حجتكم على من ... يحيد عن الإصابة بالنكول
وقد قام الدليل بأن شمس الس ... ما أسنى النجوم بكلّ قيل
دليل الكشف في كون مقيم ... وعند الفكر في رسم محيل (3)
فهذا عابد ربّا بكشف ... وهذا عابد ولد العقول
ولم يولد فكيف الأمر قل لي ... وليس لهم سواه من دليل
فسبحان العليم بكل وجه ... وسبحان العليّ مع النزول
فما للحقّ إن فكرت فيه ... مع الإنصاف بحثا من عديل
لقد كفر الذين له أقاموا ... عديلا بالغداة وبالأصيل
وقال أيضا:
كم رأينا برامة ... من طلول ودارس (4)
ما رأينا من غادة ... في الجواري الأوانس
مثل لبنى إذا أقبلت ... نحونا من غدامس (5)
__________
(1) الرعيل: المجموعة من الخيل، أو العيال.
(2) الأفول، إشارة إلى أفول الشمس والقمر، كدليل اتخذه إبراهيم عليه السلام وهو يحاور الكافر، فالأفول يعني الغياب.
(3) الكشف: الإطلاع على ما وراء الحجاب من المعاني الغيبية والأمور الحقيقية.
(4) رامة: موضع بالبادية، قيل إنه من ديار بني عامر، وتكثر تثنيته في الشعر. الطلول الدوارس: الآثار الزائلة المتغيرة من حال إلى حال. ويريد بالطلول القوى الجثمانية منه، وأراد برامة الروم بمعنى المحاولة.
(5) لبنى: صاحبة قيس بن ذريح. غذامس: موضع بالمغرب. وأراد بلبن مظهرا للمعارف.(1/98)
5 - فإن أردت فهم ما أشرت إليه {فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ} (1) لأن الحق لا يطير.
6 - الغيرة أحضرتها بعد الغيبة، والهيبة منعتها والحيرة سلبتها.
7 - هذه معاني الحقيقة، وأدق من ذلك دايرة المعادن ومأثرة القواطن، وأدق من ذلك فهم الفهم بإخفاء الوهم.
8 - هذا من حول الدائرة ينظر لا من وراء الدائرة.
9 - وأما علم علم الحقيقة فإنه حرمي، والدائرة حرمه.
10 - فلذلك سمي النبي صلى الله عليه وسلم حرميا، ما خرج من دائرة الحرم سواه، لأنه من فزع أواه.
11 - تأوه حين رأى بيتا في دائرة الحرم وهو وراءة فقال: «آه».
[5] طاسين النقطة
1 - وأدق من ذلك ذكر النقط، وهو الأصل لا يزيد ولا ينقص، ولا يبيد.
2 - المنكر بقي في دائرة البراني، وأنكر حالي حين ما رآني، وبالزندقة سماني، وبالسود رماني.
3 - وصاحب الدائرة الثانية ظن أني عالم رباني.
4 - والذي وصل إلى الثالثة حسب أني في الأماني.
5 - والذي وصل إلى دائرة الحقيقة نسي وغاب عن عياني.
6 {كَلََّا لََا وَزَرَ * إِلى ََ رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ * يُنَبَّؤُا الْإِنْسََانُ يَوْمَئِذٍ بِمََا قَدَّمَ وَأَخَّرَ} (2)
7 - هرب إلى الخبر، فر إلى الوزر، خاف من الشرر، اغترّ وغررّ.
8 - رأيت طيرا من طيور الصوفية، وعليه جناحان، وأنكر شاني حين بقي على الطيران
9 - فسألني عن الصفاء فقلت له: اقطع جناحيك بمقراض الفناء وإلا فلا تبغني.
__________
(1) البقرة: 261.
(2) القيامة: 11، 12، 13.(1/98)
10 - فقال!: بجناحي أطير إلى إلفي، فقلت له: ويحك {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} (1) فوقع حينئذ في بحر الفهم وغرق.
11 - وصورة الفهم هذه:
12 - النقط أفكار الفهم، الواحد منها حق وما سواها باطل.
قال: [من مخلع البسيط]
رأيت ربّي بعين قلبي ... فقلت: من أنت؟ قال: أنت
فليس للأين منك أين ... وليس أين بحيث أنت؟!
أنت الذي حزت كلّ أين ... بنحو لا أين فأين أنت؟
وليس للوهم منك وهم ... فيعلم الوهم أين أنت؟
13 {ثُمَّ دَنََا فَتَدَلََّى} (2) دنا سموّا فتدلى علوّا، دنا طلبا فتدلى طربا، من قلبه نأى ومن ربه دنا، غاب حين رأى، ما غاب كيف حضر؟ ما حضر كيف نظر ما نظر؟.
14 - تحير فأبصر، أبصر فتحير، شوهد فشاهد، وصل فانفصل، وصل بالمراد فانفصل عن الفؤاد {مََا كَذَبَ الْفُؤََادُ مََا رَأى ََ} (3).
15 - أخفاه فأدناه، وأولاه فأصفاه، وأرواه فأغذاه، وصفاه فاصطفاه، ودعاه فناداه، وبلاه فشقاه، ووقاه فأملاه.
16 {فَكََانَ قََابَ} (4) حين آب وأصاب، ودعي فأجاب، وأبصر فغاب وشرب فطاب، وقرب فهاب، فارق الأمصار والأنصار والأسرار والأبصار والآثار.
17 {مََا ضَلَّ صََاحِبُكُمْ} (5)، ما اعتلّ حين ملّ، ما اعتلّ حين بان ما ملّ حين كان
__________
(1) الشورى: 12.
(2) النجم: 8.
(3) النجم: 11.
(4) النجم: 9.
(5) النجم: 2.(1/99)
خلتها حين أقبلت ... قطعة من حنادس (1)
صورة ما أرى لها ... صورة في الكنائس
إنما حرّك الهوى ... اهتزاز النواقس (2)
قلت من أنت إنني ... خالطتني وساوسي
قالت: أعلم بأنني ... من حسان الفرادس (3)
لست إنسا لكنني ... مظهر للنوامس (4)
وأنيسي الذي أرا ... هـ أنيسي مجالسي
ظاهر افويق تحته ... في صدور المجالس
أنا من كلّ زينة ... رقمت في الملابس
ما يرى حسن زينتي ... منكم غير لابس
أنا من حبها كما ... قيل في حرب داحس (5)
قلت مني على فتى ... طامع فيك آيس
قالت أعلم بأنه ... في الهوى غير سائس
ودليلي إظهاره ... ما به من وساوس
وقال أيضا:
إنّ الوجود لعين الحكم والذات ... تحققّ آلامي ولذّاتي (6)
وحكمها صور بالذات ظاهرة ... للعين في الحال لا ماض ولا آتي
نقول ذا فلك نقول ذا ملك ... في أيّ كون من أرض أو سموات (7)
فالصّور مختلف والعين واحدة ... وإنّ فيه لما يدري لآيات (8)
وهو الذي ينتفي إن كنت تعقله ... وحكم أعياننا عين الدلالات
فما ترى صورا في العين قائمة ... إلّا بوجهين من نفي وإثبات
إن الأمور لتجري نحو غايتها ... وعزة الحقّ ما أدري بغايات
__________
(1) حنادس: ظلمات، واحدها حندس.
(2) النواقس: الأجراس.
(3) الحسان: يريد أنها من عين المشاهدة، لإن الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه. الفرادس: جمع الفردوس.
(4) نوامس: جمع ناموس أي صاحب السر المطلع على باطن أمرك.
(5) إشارة إلى حرب داحس والغبراء في الجاهلية، ويريد إنه مشتاق إلى تلك المعارف والحقائق ولكن لا ينالها لها إلا مستحقوها.
(6) عين الحكم: هو أن يتحدى الولي بما يريده إظهارا لمرتبته لمن يراه.
(7) الفلك، يريد اللب لاستدارته.
(8) العين: إشارة إلى ذات الشيء الذي تبدو منه الأشياء.(1/99)
18 «ما ضل صاحبكم» كما في مشاهدتنا، وما غوى في مضافاتنا ورسالاتنا، وما انحرف في مصافاتنا ومعاملاتنا، ما ضل صاحبكم في نسيان الذكر وما غوى في جولات الفكر
19 - بل كان للحق في الأنفاس واللحظات ذاكرا، وكان على البلايا والعطايا شاكرا.
20 {إِنْ هُوَ إِلََّا وَحْيٌ يُوحى ََ} (1) من النور إلى النور.
21 - قال الحسين بن منصور: اقلب الكلام، وغب عن الأوهام، وارفع الأقدام عن الوراء والأمام، واقطع منه النظم والنظام، وكن هائما مع الهيام. واطلع لتكون طيرا بين الجبال والآكام، جبال الفهم وآكام السلام، لترى ما ترى، فتصير صمصام الصام في المسجد الحرام.
22 - ثم «دنا» كأنه دنا من معنى، ثم حاجز كحاجز، لا كعاجز، ثم من مقام التهذيب إلى مقام التأديب ومن مقام التأديب إلى مقام التقريب، دنا طلبا فتدلى هربا، دنا داعيا فتدلى مناديا، دنا مجيبا فتدلى قريبا، دنا شاهدا فتدلى مشاهدا، ثم ثم
23 {فَكََانَ قََابَ قَوْسَيْنِ} (2) يرمي «أين» بسهم «بين» أثبت قوسين لتصحيح «بين» أو لغيبة العين أدنى بعين العين
24 - قال العالم الغريب الحسين بن منصور الحلاج رحمه الله:
25 - ما أظن أن يفهم كلامنا سوى من بلغ القوس الثاني والقوس الثاني دون اللوح.
26 - وله حروف سوى أحرف العربية لا يداخله حرف من حروف العربية.
27 - سوى حرف واحد هو الميم.
28 - يعني الاسم الأخير.
29 - وهو وتر قوس الأول.
30 - من زند العروة
31 - قال الحسين بن منصور رضي الله عنه: صيغة الكلام في معنى الدنو. فجاء المعنى لحقيقة الحق، لا لطريقة الخلق.
32 - والدنو دائرة الضبط لحقيقة حق الحقائق، في دقيقة دقة الدقائق، من شهود السوابق، بوصف ترياق التأئق، برؤية قطع العلائق، في نمارق الصفائق، بإبقاء البوائق وتبين الدقائق بلفظ الخلاص من سبيل الخاص، من حيث الأشخاص.
__________
(1) النجم: 4.
(2) النجم: 9.(1/100)
الأمر كالدور أو كالخط ليس له ... في الامتداد انتهاء كالكميات
بالفرض كانت له الغايات إن نظرت ... عقولنا ليس هذا فيه بالذات
إن الوجود لدار أنت ساكنها ... بالوهم في عين ما يحوي من أبيات
وما هنالك أبيات لذي نظر ... وإنها صور أولاد علّات (1)
إنّ الذي أوجد الأعيان في نظري ... لصانع صنعه بغير آلات
لو لم يكن صنعه لم يدر ذو نظر ... بأنه صانع جميع ما يأتي
وإنها صور للحسّ ظاهرة ... لكنها بين أحياء وأموات
والكل حيّ فإنّ الكل سبحه ... بذاك أعلمني قرآنه فات
بمثله إن تكن دعواك صادقة ... وإن عجزت فذاك العجز من ذاتي
لولا معارضة قامت بأنفسهم ... له فأعجزهم برهان إثبات
الصدق أصلك في الإعجاز أعلمني ... بذاك في مشهد ربّ البريّات
فاصدق ترى عجبا فيما تفوه به ... للسامعين له من الخفيات
ذاك الهدى للذي قد بات يطلبه ... وليس يدري به أهل الضّلالات
فاعكف بشاطىء واديه عساك ترى ... ولا تقل إنه من المحالات
وانهض به طالبا ما شئت من حكم ... ولا تعرّج على أهل البطالات
وقم به علما في رأس مرقبة ... فإن فيه لمن يدري علامات
واحذر جهالة قوم إن هم غضبوا ... فالله يهلك أصحاب الحميّات
يا طالب الحقّ والتحقيق من كلمي ... أودعت ما تبتغيه طيّ أبياتي
صغر وكبر وقل ما شئت من لقب ... مثل اللتيا إذا صغرت واللاتي
وقال أيضا:
إن قلبي وخاطري ... صيّراني كما ترى
أقطع الليل ساهرا ... أهجر النوم والكرى (2)
وأنيسي من يعمر الس ... يّد لا يعمر القرى
مذ تجلى لناظري ... في سماء وفي الثرى
ما أرى غير سيدي ... دون شكّ ولا أمترا
أعظم الناس فرية ... من على ربّه افترى
أحضروه في كلّ ما ... يعلم الخلق أو يرى
__________
(1) أولاد علّات: بنو أمهات شتى من رجل واحد. ويريد أنها صور مختلفة لشيء واحد.
(2) الكرى: النعاس.(1/100)
ومن الدنو ما هو بمعنى المعرض العريض، ليفهم المعنويّ الذي سلك سبيل المرعويّ المرويّ النبويّ
33 - قال صاحب يثرب صلى الله عليه وسلم في شأن من هو محصون مصون في كتاب مكنون، كما ذكرناه في كتاب «منظور» «مسطور» من معاني منطق الطيور.
ورجعنا إلى «فكان قاب قوسين يرمي العين».
34 - فافهم إن كنت تفهم يا أيها الصابر، ما خاطب المولى إلا الأهل ومن للأهل أهل، أو أهل الأهل والأهل.
35 - من لا أستاذ له ولا تلميذ، ولا اختيار ولا تمييز ولا نبيه ولا تمويه ولا تنبيه، لا به ولا منه، بل فيه ما فيه، هو فيه لا فيه، فيه تيه في تيه، آية في آية.
36 - الدعاوى معانيه، والمعاني أمانيه، وأمنيته بعيدة طريقته شديدة.
اسمه مجيد رسمه فريد، معرفته نكرته، نكرته حقيقته، قيمته وثيقته، اسمه طريقته، وسمه حريقته.
37 - التحرص صفته، والناموس نعته، والشموس ميدانه، والنفوس إيوانه، والمأنوس حيوانه، والمطموس شانه، والمدروس عيانه، والعروس بستانه والطموس بنيانه.
38 - أربابه مهربي، أركانه مرهبي، إرادته مشربي، أعوانه متربي، إخوانه محربي، حواليه همد، تواليه رمد.
39 - مقالته ركز، هذا فحسب وما دونه فغضب ثم بالله التوفيق.
[6] طاسين الأزل والالتباس
في فهم الفهم، في صحة الدعاوى بعكس العكس قال العالم السيد الغريب أو المغيث الحسين بن منصور الحلاج (أحسن الله مثواه)، قدس الله روحه:
1 - ما صحت الدعاوى لأحد إلا لإبليس وأحمد صلى الله عليه وسلم غير أن إبليس سقط عن العين وأحمد صلى الله عليه وسلم كشف له عن عين العين.(1/101)
واحذروه فإنه ... عين من عينه يرى
وقال أيضا في درج كلام تقدّم في محضر يصف فيه ما جرى:
إذا أنا بالقرع الشديد لبابه ... وقد راضني إذ كنت حشواها به
فلا تك ممن لا يقوم لقرعه ... فإن الذي تبغيه من خلف بابه
وهذا خلاف العرف في كل قارع ... وما كان هذا الأمر إلا لما به
من الشوق للمطلوب إذ جاء خارجا ... وسرّ وجود الباب عين حجابه
فأرسل إرسالا إلى كلّ شارد ... يردّونه عن وجهه وذهابه
إليه على كره وإن كان عالما ... بخير يراه منه عند إيابه
ووقع في توقيعهم كلّ ما لهم ... من الخير إن عاد وابيض كتابه
وهم طالبوا ما قد دعاهم لنيله ... وأين اقتراب العبد من اغترابه
لقد أخطأوا نهج السلامة لو بقوا ... على سيرهم لولا رجيم شهابه (1)
فأفزعهم رجم النجوم أمامهم ... فحادوا إلى ما قاله في خطابه
وقد علموا أن السلامة في الذي ... دعاهم إليه من أليم عقابه
وإن لهم من كلّ خير أتمه ... وأعظمه فيهم جزيل ثوابه
إذا خلّق البازي يروّع آمنا ... يروّعه بالفعل صوت عقابه
فيأخذ سفلا لا يريد فرية ... ويذهل عن مطلوبه وصحابه
ويأخذه الفكر الصحيح منبها ... على منزل لا أمن فيمن ثوى به
وقال أيضا:
لا تعجلنّ فإنّ الأمر حاصله ... إليك مرجعه فانهض على قدر
واسلك سبيل إمام جلّ مقصده ... مصدّق في الذي قد جاء من خبر
وخذ به خلفه في الحال مقتديا ... واركن إليه ولا تركن إلى النظر
واعلم بأنّ ذوي الأفكار في عمه ... فكن من الفكر يا هذا على حذر
والعقل ليس له تقبيح ما قبحت ... صفاته وله التحكيم في العبر
وما له ذلك التحكيم في عبر ... إلا إذا كان في التحكيم ذا بصر
وليس يعرف سرّ الله في القدر ... إلّا الذي علم الأعيان بالأثر
وما رأى أثر الأسماء في أحد ... فقال في قبتيها هم على خطر
لا نعت أشرف من علم يفوز به ... يقول من فاته يا خيبة العمر
__________
(1) الرّجم: أن يرمى بحجر. والمراد: رجم الملائكة للشياطين بالشهب، لقوله تعالى: {وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمََاءَ الدُّنْيََا بِمَصََابِيحَ وَجَعَلْنََاهََا رُجُوماً لِلشَّيََاطِينِ} سورة الملك، آية: 5.(1/101)
يمشي به آمنا فالعلم محفظة ... لمن يحصله من وقعة الغرر (1)
وقال أيضا:
عجبت لإنسان يراحم رحمانا ... فأوسع أهل الأرض روحا وريحانا
فقام له الإيمان بالغيب ناصحا ... فأرسل دمع العين للغيب طوفانا
فعارضه علم الحقائق مفصحا ... بصورة من سوّاه أصبح رحمانا
وأنزله في الأرض وجها خليفة ... على الملأ الأعلى وسمّاه إنسانا
فلم يك هذا منه دعوى أتى بها ... ولكنه بالحال كوّن محانا
وشرفه بالشحّ إذ كان مانعا ... فكان النقصان فضلا ما وإحسانا
فلو لم يكن في الكون نقص محقّق ... لكان أخيّ النقص يخسر ميزانا
ولم يك مخلوقا على الصورة التي ... أقام بها عند التنازع برهانا
فمن كان بالنقصان أصل كماله ... فلا بد أن يعطيك ربحا وخسرانا
إذا كان بالنقصان عين كماله ... فأصبح كالميزان بالحمد ملآنا
فإن عموم الحمد ليس كبيرة ... من أذكاره في كلّ شيء وإن هانا
فما هان في الأذكار إلا لعزّة ... يميل بها عنهم مكانا وإمكانا
وآخر دعوانا أن الحمد فاستمع ... وما ثمّ قول بعد آخر دعوانا
إذا جاءت الأذكار للعدل تبتغي ... مفاضلة يأتين رجلا وركبانا
فيظهر فضل الحمد إذ كنّ سوقة ... وكان وجود الحمد فيهنّ سلطانا
تأمل فإني أعلم الخلق بالذي ... أتيت به علما صحيحا وإيمانا
وقال أيضا يفرّق بين الأسماء الإلهية من كونه متكلما وبين ما بأيدينا من الأسماء الحسنى وهي أسماء أسمائه الحسنى:
أسماء أسمائه الحسنى التي تبدى ... هي الكثيرة بالأوثار والعدد
وما بأسمائه الحسنى التي خفيت ... عن العقول سوى حقيقة الأحد
وإنّ أسماءه الحسنى التي بقيت ... لنا وإن جهلت من أعظم العدد
ولا ظهور لها فإنها نسب ... فكيف أجعلها في الدفع معتمدي
والناس في غفلة عما ذكرت لهم ... فيها وعن سبل التحقيق في حيد
فليس يفقدها وليس يوجدها ... والفقد والوجد في سلم وفي لدد (2)
فليت شعري إذا مرّ الزمان بها ... هل يبقى للكون من خلد ومن أبد
وكيف يبقى ولا دور يعدّ به ... والدهر يعرف بالأدوار والمدد
__________
(1) الغرر: الهلاك.
(2) اللّدد: الخصومة.(1/102)
2 - قيل لإبليس: «اسجد» ولأحمد «انظر»، هذا ما سجد وأحمد ما نظر، ما التفت يمينا ولا شمالا، {مََا زََاغَ الْبَصَرُ وَمََا طَغى ََ} (1).
3 - أما إبليس فإنه ادعى تكبره ورجع إلى حوله.
4 - وأحمد ادعى تضرعه ورجع عن حوله.
5 - بقوله: «بك أحول، وبك أصول»، وبقوله: «يا مقلب القلوب» وقوله: «لا أحصي ثناء عليك».
6 - وما كان في أهل السماء موحد مثل إبليس.
7 - حيث ألبس عليه العين، وهجر اللحوظ والألحاظ في السرّ، وعبد المعبود على التجريد.
8 - ولعن حين وصل إلى التفريد، وطرد حين طلب المزيد.
9 - فقال له: «اسجد» قال: «لا غير» قال له: {وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي} (2)
قال: لا ضير، ما لي إلى غيرك سبيل، وإنّي محب ذليل.
10 - قال له: «استكبرت» قال: لو كان لي معك لحظة لكان يليق بما التكبّر والتحير، فكيف وقد قطعت معك الأدهار؟ فمن أعز مني وأجل؟ وأنا الذي عرفتك في الأزل {أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ} (3)، لأن لي قدمة في الخدمة، وليس في الكونين أعرف مني بك.
11 - ولي فيك إرادة ولك فيّ إرادة، إرادتك فيّ سابقة، وإرادتي فيك سابقة، إن سجدت لغيرك وإن لم أسجد، فلا بد لي من الرجوع إلى صادق الأصل لأنك خلقتني من النار، والنار ترجع إلى النار ولك التقدير والاختيار.
12 - وقال: [من الطويل]
فما لي بعد بعد بعدك بعد ما ... تيقّنت أنّ القرب والبعد واحد
وإنّي وإن أهجرت فالهجر صاحبي ... وكيف يصحّ الهجر والحبّ واحد
لك الحمد في التّوفيق في محض خالص ... لعبد زكيّ ما لغيرك ساجد
13 - التقى موسى عليه السلام وإبليس على عقبة الطور فقال: يا إبليس ما منعك عن السجود؟ فقال: منعني الدعوى بمعبود واحد، ولو سجدت لآدم لكنت مثلك، فإنك نوديت مرة واحدة {انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ} (4) فنظرت، ونوديت أنا ألف مرة أن أسجد فما سجدت لدعواي بمعناي.
__________
(1) النجم: 17.
(2) ص: 78.
(3) الأعراف: 12.
(4) الأعراف: 143.(1/102)
14 - فقال له: «تركت الأمر» قال: «كان ذلك ابتلاء لا أمرا» فقال له لا جرم قد غير صورتك. قال له: «يا موسى ذا تلبيس وهذا تلبّس والحال لا معوّل عليه لأنه يحول، لكن المعرفة صحيحة كما كانت، ما تغيرت وإن كان الشخص تغير».
15 - فقال موسى: «الآن تذكره؟» فقال: يا موسى الذكر لا يذكر، أنا مذكور وهو مذكور. وقال: [من الرمل]
ذكره ذكري وذكري ذكره ... هل يكون الذاكران إلّا معا؟
خدمتي الآن أصفى، ووقتي أخلى، وذكري أجلى لأني كنت أخدمه في القدم لحظّي والآن أخدمه لحظّه.
16 - رفعنا الطمع عن المنع والدفع والضر والنفع أفردني أوجدني، حيرني، طردني لئلا أختلط مع المخلصين، منعني عن الآغيار لغيرتي، غيرني لحيرتي، حيرني لغربتي، غربتي لخدمتي، حرمني لصحبتي، قبحني لمدحتي، أحرمني لهجرتي، هجرني لمكاشفتي، كاشفني لوصلتي. واصلني لقطيعتي، قطعني لمنع منيتي.
17 - وحقه ما أخطأت في التدبير، ولا رددت التقدير، ولا باليت بتغيير التصوير ولا أنا على هذه المقادير بقدير، إن عذبني بناره أبد الأبد، ما سجدت لأحد ولا أذل لشخص وجسد، ولا أعرف ضدا ولا ولدا، دعواي دعوى الصادقين، وأنا في الحب من السابقين. كيف لا؟.
18 - قال الحسين بن منصور الحلاج رحمه الله: وفي أحوال عزازيل أقاويل: أحدها أنه كان في السماء داعيا وفي الأرض داعيا، في السماء دعا الملائكة يريهم المحاسن وفي الأرض دعا الإنس يريهم القبائح.
19 - لأن الأشياء تعرف بأضدادها، والثوب الرقيق ينسج من وراء المسح الأسود فالملك يعرض المحاسن. ويقول للمحسن: «إن فعلتها جزيت» وإبليس يعرض القبائح ويقول: «إن فعلتها جزيت مرموزا» ومن لا يعرف القبيح لا يعرف الحسن.
20 - قال أبو عمارة الحلاج وهو العالم الغريب: تناظرت مع إبليس وفرعون في باب الفتوة، فقال: إبليس: «إن سجدت سقط مني اسم الفتوة»، وقال فرعون: «إن آمنت برسوله أسقطت من منزلة الفتوة».
21 - وقلت أنا: إن رجعت عن دعواي وقولي سقطت من باب الفتوة.(1/103)
وما تسمى به الحقّ العليم سدى ... إلا من أجل الذي يعطيه من مدد
ها إن ذي حكمة تجري بصورتها ... مع الزمان ولكن لا إلى أمد
لا بل إلى أبد الآباد جريتها ... هل في الزمان زمان فاعتبر تجد
والله لو علمت نفسي بما سمحت ... من العلوم التي أعطتك في الرّفد
بذاتها وهي لم تشعر بما وهبت ... من العطايا لماتت وهي لم تجد
فاشكر إلهك لا تشكر عطيتنا ... إن العطايا لمن لو شاء لم تفد
هذا من الجهة المقصود جانبها ... كما الوفود لمن لو شاء لم يفد
إن الورود الذي في الكون صورته ... من النفوس التي لو شاء لم ترد
هذا هو الأدب المشروع ليس له ... إلّا أداة امتناع الشيء لم يرد
قد قلت فيه مقالا لست أنكره ... إذ النفوس عن التحقيق لم تحد
إنّ العلوم التي التحقيق جاء بها ... هي العلوم التي تهدي إلى الرشد
رشد المعارف لا رشد السعادة و ... الإيمان يسعد أهل الصّور والجسد
فاحمد إلهك لا تحمد سواءه فما ... يعطي السعادة إلا حمده وقد
لا تنكروا الطبع إن الطبع يغلبني ... والحقّ يغلبه إن كان ذا فند (1)
دين العجائز مأوانا ومذهبنا ... وهو الظهور به في كلّ معتقد (2)
به أدين فإنّ الله رجحه ... على التفكّر في كشف وفي سند
في كلّ طالعة عليا ونازلة ... سفلى مع القول بالتوحيد للأحد
سكّن إلهي روعاتي فإن لها ... ميلا شديدا إلى ما ليس مستندي
إن الركون إلى الأدنى من السبب ... الأعلى تجد طعمه أحلى من الشّهد
ولا أخص به أنثى ولا ذكرا ... ولا جهولا ولا من قال بالرصد
بل حكمه لم يزل في كلّ طائفة ... من كلّ صاحب برهان ومعتقد
لولا مسامحة الرحمن فيك لما ... رأيت شخصا سعيدا آخر الأبد
هو الإله الذي عمت عوارفه ... لما سرى الجود في الأدنى وفي البعد
ألا ترى الجود بالإيجاد عمّ فلم ... يظهر به أحد فضلا على أحد
وقال أيضا:
الحمد لله الذي صيرّا ... وجودنا لفعله مظهرا
لو أننا نعلم أرواحنا ... بالوجه في الصبح إذا أسفرا
كما علمنا بالجسوم التي ... عينها الليل إذا أدبرا
__________
(1) الفند: الكذب.
(2) دين العجائز: يريد الإيمان الفطري دون تفكّر وإعمال للعقل بل عن طريق التسليم.(1/103)
22 - وقال إبليس: {أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ} (1) حين لم ير غيره غيرا، فرعون: {مََا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلََهٍ غَيْرِي} (2) حين لم يعرف في قومه من يميز بين الحق والباطل.
23 - وقلت أنا: «إن لم تعرفوه فاعرفوا أثره، وأنا ذلك الأثر، وأنا الحق لأني ما زلت أبدا بالحق حقا».
24 - فصاحبي وأستاذي إبليس وفرعون، وإبليس هدد بالنار وما رجع عن دعواه، وفرعون أغرق في اليم وما رجع عن دعواه ولم يقر بالواسطة إليه لكنه قال: {آمَنْتُ أَنَّهُ لََا إِلََهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرََائِيلَ} (3) ألا ترى أن الله سبحانه عارض جبريل في بابه فقال: «لم حشوت فاه رملا».
25 - وأنا إن قتلت وقطعت يداي ورجلاي ما رجعت عن دعواي.
26 - اشتق اسم «إبليس» من اسمه: فعين عزازيل لعلو همته، والزاي لازدياد الزيادة في زيادته والألف آراؤه في ألفته، والزاي الثانية لزهده في رتبته والياء حين يأوي إلى علم سابقته واللام لمجادلته في بليته.
27 - قال له: «لم لا تسجد يا أيها المهين؟» قال: «أنا محب والمحب مهين» إنك تقول «مهين» وأنا قرأت في كتاب مبين ما يجري عليّ يا ذا القوة المتين.
كيف أذل وقد {خَلَقْتَنِي مِنْ نََارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} (4) وهما ضدّان لا يتوافقان وإنّي في الخدمة أقدم، وفي الفضل أعظم، وفي العلم أعلم، وفي العمر أتم.
28 - قال له الحق سبحانه: «الاختيار لي لا لك» قال: «الاختيارات كلها واختياري لك، قد اخترت لي يا بديع. وإن منعتني عن سجوده، فأنت المنيع، وإن أخطأت في المقال، فلا تهجرني فأنت السميع. وإن أردت أن أسجد له فأنا المطيع، لا أعرف في العارفين أعرف بك مني».
29 - وقال: [من الخفيف]
لا تلمني، فاللوم منّي بعيد ... وأجر سيّدي، فإنّي وحيد
إنّ في الوعد، وعدك الحقّ حقّا ... إنّ في البدء، بدء أمري شديد
من أراد الكتاب هذا خطابي ... فاقر أوا واعلموا بأنّي شهيد
30 - يا أخي، سمي «عزازيل» لأنه عزل وكان «معزولا» في ولايته، ما رجع من بدايته إلى نهايته لأنه ما خرج من نهايته.
__________
(1) الأعراف: 11.
(2) القصص: 38.
(3) يونس: 9.
(4) الأعراف: 12.(1/104)
كنا به نعلم أعياننا ... لكن جهلناها لأمر طرا
من ظلمة الطبع وأخلاطه ... فاعتم الليل وما أقمرا
وألبس الأنجم أنوارها ... لما رأى عسكرها شمّرا
حين رمت بالرجم أرواح من ... يسترق السمع كما أخبرا (1)
انظر إلى الأرض وخيراتها ... وما بها الرحمن قد أظهرا
لا بدّ أن يصبح عمرانها ... كمثل ما أصبح وادي القرى (2)
عروشها خاوية حين لم ... يغير الناس بها المنكرا
عمّ بلاء الله سكّانها ... فأهلك المقبل والمدبرا
بذا أتانا النصّ من عنده ... في محكم الذكر كذا سطرا
فقال فيه واتّقوا فتنة ... وتمم القول به منظرا
سبحان من أخبرنا أنه ... كان على الأخذ بنا أقدرا
هذا الذي جئت به واضح ... في سورة الأنفال قد حرّرا (3)
وبعد ذا ترجع أفكارها ... إلى امام ما له من ورا
لا فعل في العالم إلا له ... فإنّ ما سميته منكرا
فحكمه ذلك لا عينه ... فلتعتبر قولي حتى ترى
به وإن شئت بأعياننا ... لتشهد الأسماء والمحضرا
يبدو إليك الأمر من فصّه ... كما بدا لمن به أخبرا
مثل رسول الله في وقته ... والوارث المختار بين الورى (4)
فالحمد لله الذي قد وقى ... من شرّ ما يمكن أن يحذرا
لولا كتاب سابق فيكم ... نبذتم لفعلكم بالعرا
ما شرع الرحمن أذكاره ... إلا لكي تعصمكم كالعرى (5)
لأنها أعصم ما يتقى ... لما بدا الرحمن قد قدرا
تعوّذوا منه به أسوة ... بسيّد يعلم ما قرّرا
من يعرف الحقّ وأسراره ... يكن لما جئت به مظهرا
من لم يرى الحقّ بأنواره ... يكن لما أذكره منكرا
العمى لا تدرك أبصارنا ... إلا ظلاما وهي شيء يرى
__________
(1) إشارة إلى رجم الملائكة للشياطين الذين يحاولون استراق السمع من السماء الأولى.
(2) وادي القرى: موضع بالحجاز.
(3) إشارة إلى قوله تعالى: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لََا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً} سورة الأنفال، آية: 25.
(4) الورى: الخلق.
(5) العرى: جمع العروة، يريد الرابطة.(1/104)
41 - خروجه معكوس في استقرار تأريسه، مشتعلا بنار تعريسه ونور ترويسه.
32 - وقواصيه بمحل رميض، مقابضه بعل رميض، شراهمه برهميه، صوارمه مخلية، عماياه فطهمية.
33 - هاه، يا أخي لو فهمت لترضمت الرضى رضما، وتوهمت الوهم وهما، ورجعت غما، وفنيت هما.
34 - فصحاء القوم في بابه خرسوا، والعرفاء عجزوا عما درسوا، هو الذي كان أعلمهم بالسجود، وأقربهم من الموجود، وأبذلهم للمجهود، وأوفاهم بالعهود، وأدناهم من المعبود.
35 - سجدوا لآدم على المساعدة، وإبليس جحد السجود لمدته الطويلة من المشاهدة.
[7] طاسين المشيئة
1 - الدائرة الأولى مشيئته، والثانية حكمته، والثالثة قدرته، والرابعة معلومته وأزليته.
2 - قال إبليس: «إن دخلت في الدائرة الأولى ابتليت بالثانية، وإن حصلت في الثانية ابتليت بالثالثة وإن قنعت بالثالثة ابتليت بالرابعة».(1/105)
وليس يدري بالذي قلته ... إلا الذي في غيبه قد سرى
فالغيب لا يدركه غائب ... إلا الذي في غيبه أحضرا
أوضحت أمرا ليس يدري به ... إلا الذي في شأنه قد جرى
أو سيّد خص بأسراره ... مثل إمام نفسه قد درى
يسري به قدما إلى ذاته ... لا يعرف الخلف ولا القهقرى
ما هو كالخنس في سيرها ... بل هو كالبدر الذي أزهرا (1)
أظهر عين الشمس في ذاته ... وهو على ما هو لمن أبصرا
وقال أيضا في نظم التوشيح المضفر (2):
مطلع عين الدليل على اليقين ... الزيت النبراس للناظرين (3)
دور لأنه النائب ... في ستره
وهديه الغائب ... في كفره
وسهمه الصائب ... في نحره
حقا أقول يا غافلين ... معارف الأكياس على فنون (4)
دور لله ما أحلى ... طعم المذاق
بالمنظر الأعلى ... عند المساق
آياته تتلى ... على اتّساق
ليل طويل صبح مبين ... كأنه إلياس في المرسلين (5)
دور لو انّ إدريسا ... إذ أعرضا (6)
عليله يوسى ... ما مرّضا
__________
(1) الخنّس: النجوم.
(2) التوشيح المضفّر: هو الموشح الذي تكون فيه أجزاء كل دور على قافية واحدة.
(3) النبراس: المصباح.
(4) الأكياس: جمع الكيّس: الظريف.
(5) إلياس: النبي عليه السلام.
(6) إدريس: النبي عليه السلام، وهو أول من خط بالقلم، وإدريس من الدرس وهو العلم المكتسب.(1/105)
وجاءه عيسى ... مع القضا (1)
على السبيل يبدي الأنين ... من علة الإفلاس مع القرين
دور قد قال من قالا ... بعلمه
بأنه نالا ... من حكمه
وعنه ما زالا ... في زعمه
كذا يقول وهو الظنين ... وساوس الخناس عند الظنون (2)
دور لما رأى العاذل ... ما أمّلا
وقال للسائل ... هذا سلا
أنشدت للقائل ... إذ عللا
ما لي شمول إلا الشّجون ... مزاجها في الكاس دمع هتون (3)
وقال أيضا في نظم التوشيح:
مطلع سألت جود فالق الإصباح ... هل لي من سراح
دور فقال لا فإنك معلول
وعن أمور ملكك مسؤول
ما كلّ قائل هو مقبول
قد جاءت الجسوم والأرواح ... تسعى في الرواح
دور من قال بالتقابل يلقاه
وفي براعة الخصم لاقاه
من كان مثله ما توقّاه
قلنا له فهذه الأشباح ... ضيق وانفساح
__________
(1) عيسى: النبي عليه السلام.
(2) الخنّاس: الشيطان.
(3) الشّمول: الخمرة. هتون: متصبب.(1/106)
3 - فلا ولا ولا ولا فبقيت على «لا» الأول فلعنت إلى «لا» الثاني، وطرحت إلى «لا» الثالث وأين مني الرابع؟.
4 - لو علمت أن السجود لآدم ينجيني لسجدت، ولكن قد علمت أن وراء تلك الدائرة دوائر، فقلت في حالي: «هب أني نجوت من هذه الدائرة كيف أنجو من الثانية والثالثة والرابعة؟».
[8] طاسين التوحيد
1 - والألف الخامس هو الحق.
2 - والحق واحد وحيد موحد.
3 - والواحد والتوحيد «في» و «عن».
4 - و «منه» بينونة البينونة.
5 - علم التوحيد مفرد مجرد.(1/106)
6 - والتوحيد صفة الموحّد لا صفة الموحّد.
7 - بان قلت: «أنا» قال: «أنا» فلك لا له.
8 - وإن قلت رجوع التوحيد إلى الموحّد فقد جعلت التوحيد مخلوقا.
9 - وإن قلت: «يرجع إلى الموحّد» فمن توحّد كيف يرجع إلى التوحيد؟.
10 - وإن قلت: «من الموحّد إلى الموحّد» فقد نسبته إلى الحدة.
[9] طاسين الأسرار في التوحيد
هذه صفة طاسين أسرار التوحيد
1 - الأسرار منه فازعة وإليه نازعة، وبه وازعة.
2 - ضمر التوحيد صائرة لا في ضمير ومضمر وضمائر هاؤه، هاؤه.
3 - إن قلت: «واه» قالوا «آه».
4 - ألوان وأنواع، والإشارة إلى المنقوص لا يلوص.
5 {كَأَنَّهُمْ بُنْيََانٌ مَرْصُوصٌ} (1) هي حد والحد لا يستثنى عليه أحديته والحد حد، وأوصاف الحد إلى المحدود، والموحّد لا يحد.
6 - الحق مأوى الحق [الخلق]، لا الحق ما «قال» التوحيد لأن المقال والحقيقة لا يصحان للخلق فكيف [يصحان] للحق.
7 - ذا ذا لا ذا: فذا الأول ذات، والثاني ذات العالم، والثالث ذات الحق «ذا» لا يكون ولا لا يكون، واللا كيف يكون؟ إنما يكون ما لا يكون
__________
(1) الصف: 4.(1/107)
دور ليس النديم من دان بالعقل (1)
إن النديم من دان بالنّقل
أقول كلما قال لي قل لي
املا له وصفف الأقداح ... في البيت الشراح
دور في الراح راحة الروح يا صاحي (2)
فقل بها مقالة إفصاح
ما بين عاذلين ونصّاح
والله ما على شارب الراح ... فيه من جناح
دور فاح النّدى من عرف محبوبي
إذ كان ما بدا منه مطلوبي
فصحت يا مناي ومرغوبي
حبيبي إن أكلت التفاح ... جىء واعمل لي آح
وقال أيضا في نظم التوشيح المضفر:
مطلع رأيت سما لاح بأفق مبين ... من العلم الفرد
دور ولما ارتدى ... بالبردة المثلى
هلال بدا ... بالأفق الأعلى (3)
طعمت الهدى ... بالمورد الأحلى
وما أنا فيما ذقته بالظنين ... لعلمي بالقصد
__________
(1) النديم: الصاحب والخليل وأراد الصاحب المقرّب. وواضح أنه يقدّم الشرع الوارد عن النبي صلى الله عليه وسلّم على العقل، على خلاف الفلاسفة.
(2) الراح: الخمرة، وأراد الشراب، والشرب هو تلقي الأرواح والأسرار الطاهرة لما يرد عليها من الكرامات وتنعمها بذلك.
(3) يريد نور المعرفة، وشبهه بالهلال.(1/107)
دور سمعت الصدا ... من طور سيناء (1)
وعندي صدا ... الماء زيراء
فقال الصّدا ... ينبئ أبناء
ليعلم ما جئت به بعد حين ... من الصدق للوعد
دور تمنيت أن ... أشهد بالله
ولم أعلمن ... أنّ به جاهي
فقلت لمن ... خصّ بانباهي
لقد علم الروح الخبير الأمين ... بما لكم عندي (2)
دور وفيت لكم ... بالعهد أزمانا
وكان بكم ... ذاك الذي كانا
وما قلتكم ... صدقا وإيمانا
إذا كان مثلي في هواكم يخون ... فمن يوفي بالعهد
دور رجوت وصالا ... والنوى يردي (3)
طلبت اتّصالا ... قال يا بعدي
فأنشدت حالا ... للذي عندي
أحين رجوت الوصل منكم أحين ... أعذّب بالصّدّ
وقال أيضا:
لما رأيت منازل الجوزاء ... خفيت عليّ حقائق الأنباء (4)
وعلمت أنّ الله يحجب عبده ... عن ذاته لتحقق الأنساء (5)
إن الدليل مقابل مدلوله ... حكم التقابل بنفسه الإنشاء
__________
(1) طور سيناء: الجبل الذي في سيناء.
(2) الروح الأمين: جبريل عليه السلام.
(3) الوصال: القرب.
(4) الجوزاء: برج من أبراج السماء.
(5) ذات الله: عبارة عن نفسيه، التي هو بها موجود لأنه قائم بنفسه. يحجب عبده: أي يمنعه عن الشيء المطلوب.(1/108)
8 - إن قلنا: «التوحيد بدا منه» فقد جعلت الذات ذاتين الذي بدا منه ذات والذات كيف لا يكون ذاتا [ذاته ولا ذاته]؟.
9 [خفي كيف يكون بدا]؟ إن خفي فأين هو؟ لا «ما» ولا «ذا» و «الأين» ليست في ضمته.
10 - لأن البدو خلقه و «أين» خلقه.
11 - إن قلت: «صح به التوحيد» فكيف يصح «لك» و «ما لك»؟
والمفعول والمقول فضول فضل الذات، لأنها عوارض، والعوارض لا تعارض.
والذي يحمل العرض، كيف لا يكون جوهرا؟ والذي يفارق الجسم لا يكون إلا جسما. والذي يفارق الروح لا يكون إلا روحا.
12 - رجوعنا إلى «ما» وهما ضمن مشمولة و «ها» ضمة ومقولة و «ها» شمه ومحمولة.
13 - الأول مفعولاته والثاني مرسومات دوائر الكونين.
14 - النقطة معنى التوحيد، لا التوحيد، وإن انفصل عن الدائرة.
[10] طاسين التنزيه
1 - وهذه الدائرة مثاله وهذه صورته.
2 - وجمله ما سبق جمله بأقاويل أهل الملل والمهل والمقل والسبل.(1/108)
3 - فالأولى ظاهرة، والثانية باطنة والثالثة إشارة.
4 - هذه كلها مكون، ومتكون، ومحور، ومطروق، ومسمور، ومنكور، ومغرور، ومبهور.
5 - في ضمائر الضمائر دائر، ومائر، وحائر، وهائر، وعائر، ونائر، وصائر. أما الدائر فالإلهام، والغائر والحائر الأوصاف، والنائر البيان، والمائر الشواهد.
6 - وهذه كلها مكوناته وملوناته.
7 - فإن قلت: «هو»، قال: «فالتوحيد لا يقال».
8 - وإن قلت: «صح توحيد الحق»، يقولون: «متى يكون»؟.
9 - وإن قلت: «لا زمان»، يقولون: معنى التوحيد تشبيه، والتشبيه لا يليق بأوصاف الحق، والتوحيد لا ينسب إلى الحق ولا إلى الخلق، لأن العد حد فإن زدت فيه التوحيد، صار حادثا، والحادث ليس من صفات الحق. الذات واحد لا يبدو منه شيء ولا يشوبه شيء من معاني الحق والباطل.
10 - وإن قلت: «التوحيد كلام» فالكلام صفة الذات وليس بذات.
11 - وإن قلت: «أراد أن يكون واحدا»، فالإرادة صفة الذات والمرادات خلق.
12 - وإن قلت: «الله» فالتوحيد ذات والذات توحيد.
13 - وإن قلت: «الله غير الذات» فقد سميته، مخلوقا.
14 - وإن قلت: «الاسم والمسمى واحد» فما معنى التوحيد؟.
15 - وإن قلت: «الله الله» فالله عين العين وهو هو.
16 - هذا الطاسين نفي العلل وهذه الدوائر مع اللام ألفات.
17 - ف «لا» الأول الأزل، والثاني الأبد، والثالث جهة، والرابع معلومات ومفهومات.(1/109)
انظر إلى أسمائه الحسنى تجد ... أعياننا من حضرة الأسماء (1)
فإذا بدا بالوجه أظهر كوننا ... بالنسخة المشهودة الغرّاء (2)
زلنا عن الأمثال لا بل ضربها ... لله إذ كنا من الجهلاء
أين الذراع وهقعة وتحية ... من فرض قدر فوقهم متنائي (3)
في أطلس ما فيه نجم ثابت ... يبدو يشاهد نوره للرائي (4)
وله الرطوبة والحرارة إذ له ... طبع الحياة وسرّه في الماء
عصر الشباب له وليس لكونه ... في الرتبة العلياء برج هواء
والدالي والميزان أمثال له ... فالحكم مختلف بغير مراء (5)
حكم المنازل قد تخالف طبعه ... كيف الشفاء وفيه عين الداء
حار المكاشف في الدجى خياله ... مثل المفكر إذ هما بسواء
الأمر أعظم أن يحاط بكنهه ... ومع النزاهة جاء بالأنواء
حرنا وحار العقل في تحصيله ... إذ ليس منحصرا على استيفاء
لولا ثبوت المنع قلت بجوده ... المنع يذهب رتبة الكرماء
لا تفرحنّ بما ترى من شاهد ... يبدو لعينك عند كشف غطاء (6)
من شانه المكر الذي قد قاله ... في محكم الآيات والأنباء
القصد في علم الأمور كما جرت ... ما القصد في حمل ولا جوزاء
إن الطبيعة كالعروس إذا انجلت ... والبعل من تدريه بالإيماء
عنها تولدت الجسوم بأسرها ... وتعاقب الإصباح والإمساء
فهي الأميمة للكثيف وروحه ... وهو لها للنشء كالأبناء
وهم الشقائق ينسبون إليهما ... بالفعل لا بالتحام النائي
من دان بالإحصاء دان بكلّ ما ... دلّت عليه حقائق الإحصاء (7)
لا تلق ألواحا تضمن رحمته ... وادفع بهن شماتة الأعداء (8)
__________
(1) العين وجمعها: أعيان، هي إشارة إلى ذات الشيء الذي تبدو منه الأشياء.
(2) النسخة المشهودة، يريد الكون المشهود، أي المشاهد.
(3) الذراع والهقعة: من منازل القمر.
(4) الأطلس: الثوب الخلق، ويريد العالم.
(5) الدالي والميزان: من أبراج السماء.
(6) الشاهد: الحاضر. مثل ما هو حاضر القلب غلب عليه ذكره حتى كأنه يراه ويبصره.
(7) الإحصاء: يريد إحصاء الأسماء الإلهية ويقصد التحقق بها في الحضرة الوحدية بالفناء عن الرسوم الخلقية والبقاء ببقاء الحضرة الأحدية.
(8) ألواح: اللوح هو الكتاب المبين محل التدوين والتسطر المؤجل إلى حد معلوم. والألواح أربعة كما(1/109)
17 - ف «لا» الأول الأزل، والثاني الأبد، والثالث جهة، والرابع معلومات ومفهومات.
18 - بقي «لا» الذات دون صفات.
19 - الأول دخل من باب «العلم» فما رأى، والثاني دخل من باب «الصفا» فما رأى، والثالث دخل من باب «الفهم» فما رأى، والرابع دخل من باب «المعنى» فما رأى، ولا بذا «ذات» ولا بشا «شيء» ولا بقا «قال» ولا بما «ماهية».
20 - العزة لله الذي تقدس بقدسه عن سبل أهل المعارف وإدراك أهل الكواشف.
21 - هذا في محل الطاسين، النفي والإثبات وهذه صورته:
22 - النقش الأول فكر العام، والثاني فكر الخاص، والدائرة علم الحق، والوسطاني مدار الكل. واللام ألفات المحيطة بالدائرة نفي من كل الجهات، والحاءان الحاملان من جوانب الأجانب توحيد وما وراءها حوادث.(1/110)
واسلك بنا النهج القويم ملبيا ... صوت المنادى عند كلّ نهداء
هو حاجب الباب الذي خضعت له ... غلب الرقاب وآمر الأمراء
وقال أيضا في نظم التوشيح الأقرع المضفر المحير الممتزج:
دور هذا الوجود العام ... علمي به أولى
لأنه إنعام ... من سيّد مولى
ويومه من عام ... في الشمس إذ تجلى
ترى البصير ... بلا نصير ... يعطي البشير
إعطاء ذات ... بلا صفات ... سوى السّمات
فانهض إلى ... ماوي الأولى ... من عند لا
تبصر وجود الواحد الأعلى ... يعطي العلوم ... من حضرة مثلى
دور أنشأت ناقوسا ... لذكره الزاهر
أحييت ناموسا ... من قبره الداثر
ولم أكن عيسى ... لإنني الآخر
حلو الضرب ... لذي نسب ... بلا سبب
أحيي الصّدا ... من الصّدا ... وفي السّدا
للمصطفى ... إذا عفا ... عين الشفا
من كلّ ما يبلى ولا يبلى ... هذي الرسوم ... آياتها تتلى
دور أبدى لي الله ... في سرّ إضماري
نورا به تاهوا ... من خلف أستاري
قوم به باهوا ... يدرون مقداري
في زعمهم ... وحكمهم ... بعلمهم
إني أنا ... وما أنا ... إلا أنا
بكلّ حال إن المحال ... عين المحال
__________
قالوا: لوح القضاء السابق على المحو والإثبات، ويسمونه لوح العقل الأول، والثاني يسمونه لوح القدر أي لوح النفس الناطقة الكلية وهو اللوح المحفوظ، والثالث لوح النفس الجزئية التي ينتعش فيها كل ما في هذا العالم، وهو المسمى بالسماء الدنيا، والرابع لوح الهيولى القابل للصور في عالم الشهادة.(1/110)
23 - فكر العوام غوص في بحر الأوهام، وفكر الخواص غوص في بحر الأفهام، والبحران يجفان، والطريق مندرسة تصير، والفكران يضيعان، والحاملان يضمحلان والكونان يفنيان، وتضعف الحجة، والعرفان يتلاشى.
24 - من حضرة الألوهية يبقى الرحمن منزها من الحدثان. سبحان هذا ربي منزه من كل العلل. برهانه قوي، سلطانه عزيز، ذو الجلال، ذو المجد والكبرياء، الواحد بلا عد، لا الواحد، لأن الواحد حد وعد، وابتداء وانتهاء، والطريق غير سالكة. بديع كونه، منزه من كونه لا يعرفه إلا هو، ذو الجلال والإكرام، خالق الأرواح والأجسام.
[11] بستان المعرفة
1 - قال العالم السيد الغريب أبو عمارة الحسين بن منصور الحلاج قدس الله روحه: المعرفة في ضمن النكرة مخفية، والنكرة في ضمن المعرفة مخفية، النكرة صفة العارف أو حليته، والجهل صورته، فصورة المعرفة عن الأفهام غائبة آيبة، كيف عرفه «ولا كيف»؟. أين عرفه و «لا أين»؟. كيف وصل ولا وصل؟
كيف انفصل ولا فصل؟. ما صحت المعرفة لمحدود قط، ولا لمعدود ولا لمجهود ولا لمكدود.
2 - المعرفة وراء الوراء، وراء المدى، ووراء الهمة، ووراء الأسرار ووراء الأخبار، ووراء الإدراك. هذه كلها شيء لم يكن فكان، والذي لم يكن ثم كان لا يحصل إلا في مكان، والذي لم يزل كان قبل الجهات والعلات والآلات.
كيف تضمنته الجهات وكيف تلحقه النهايات.
3 - ومن قال: عرفته بفقدي، فالمفقود كيف يعرف الموجود؟
4 - ومن قال: عرفته بوجودي، فقديمان لا يكونان.
5 - ومن قال: عرفته حين جهلته، والجهل حجاب، والمعرفة وراء الحجاب لا حقيقة لها.(1/111)
فقل لمن يقول بالأولى ... إنّ الفهوم ... من سبّح الأعلى
دور هذا الذي قلنا ... الحقّ أبداه
لما أتى عدنا ... ولم نقل ما هو
وأرسل المزنا ... فسالت أمواه
ولم يكن ... إلا بكن ... ليعلمن
إن الأمور ... عند الصدور ... من الشكور
تجري بلا ... حصر إلى ... وادي العلى
فما ترى إلّا الذي أدلى ... إلى العليم ... بالحجة الأولى
دور إني أنا العبد ... كما هو الرب
ولي بذا عهد ... الفقر والذنب
من قربه بعد ... وبعده قرب
أعمى الورى ... فانظر ترى ... ماذا ترى
ترى العبر ... لمن نظر ... على سرر
يبدي العجاب ... خلف الحجاب ... ولا تجاب
عند الندا إلا إذا تملي ... كاس النديم ... بالمورد الأحلى
وقال أيضا:
في فؤاد العارفين بصر ... ما له في المؤمنين خبر
حظه علم ومعرفة ... ليس يدري ما يقول حير
يعرف الأشيا مشاهدة ... ما له في علم ذاك نظر
يثبت الأشياء الموجده ... أدبا وما رأى من أثر
كالذي جاءت مسطرة ... وهي سرّ في قضا وقدر
عالم بكلّ ما نسبوا ... فعله لله أو لبشر
شاهد خلاف ما شهدوا ... عالم إن الإله ستر
واقتدى فيه بموجده ... وعفا عما جرى وصبر
وادّعاه الحقّ فيه كما ... جاء في نص الهدى وغفر
فهو ذو علم على حدة ... قابل بما الوجود ظهر
ما نرى فيه منازعة ... مثبت ما قد بقى وغبر
أخرس أعمى معلقة ... يده فلا يزال بشر
إنه في كونه عدم ... مثل نور قد بدا بقمر
فتقول العين ذاك له ... ويقول البدر لا وعبر
هكذا أمر الوجود فكن ... لا تكن واسكت وقل بقدر
وقال أيضا:(1/111)
في فؤاد العارفين بصر ... ما له في المؤمنين خبر
حظه علم ومعرفة ... ليس يدري ما يقول حير
يعرف الأشيا مشاهدة ... ما له في علم ذاك نظر
يثبت الأشياء الموجده ... أدبا وما رأى من أثر
كالذي جاءت مسطرة ... وهي سرّ في قضا وقدر
عالم بكلّ ما نسبوا ... فعله لله أو لبشر
شاهد خلاف ما شهدوا ... عالم إن الإله ستر
واقتدى فيه بموجده ... وعفا عما جرى وصبر
وادّعاه الحقّ فيه كما ... جاء في نص الهدى وغفر
فهو ذو علم على حدة ... قابل بما الوجود ظهر
ما نرى فيه منازعة ... مثبت ما قد بقى وغبر
أخرس أعمى معلقة ... يده فلا يزال بشر
إنه في كونه عدم ... مثل نور قد بدا بقمر
فتقول العين ذاك له ... ويقول البدر لا وعبر
هكذا أمر الوجود فكن ... لا تكن واسكت وقل بقدر
وقال أيضا:
ما لمن أبصرني ... غير ما أبصره
فله مني الذي ... بعد ذا أذكره
شجي قام به ... وأنا أستره (1)
بل هو المعنى الذي ... لم أزل أظهره
وبدا منه لهم ... خبر أكبره
وأبى العقل الذي ... ما إلي مخبره
وإن إيمان الورى ... في الورى معبره (2)
فبه أسمعه ... وبه أبصره
قدمي ساعية ... وهي بي تظهره
ويدي باطشة ... فأنا مصدره
فاكتم الأمر الذي ... قلت لا تشهره
طاب ذوقا عندنا ... جملة مخبره
مثل ما طاب لنا ... خبرا أكبره
أنه ليس بهو ... والهو لا يحصره
فإذا قلت أنا ... فأنا أشعره
أنني لست أنا ... وأنا مظهره
إنّ ذا الهو المقا ... م الذي يبهره
إن تجلى بأنا ... فأنا أفقره
أو تجليت به ... وهو لا ينكره
قام بي نعت الغنى ... وأنا أنكره
ثم عن هذا أو ذا ... علمنا يكبره
وقال أيضا:
الأصل قد يثبته فرعه ... والفرع لا يثبته الأصل
__________
(1) شجي: مشغول.
(2) الورى: الخلق.(1/112)
6 - ومن قال: عرفته بالاسم، فالاسم لا يفارق المسمى لأنه ليس بمخلوق.
7 - ومن قال: عرفته به، فقد أشار إلى معروفين.
8 - ومن قال: عرفته بصنعه، فقد اكتفى بالصنع دون الصانع.
9 - ومن قال: عرفته بالعجز عن معرفته، فالعاجز منقطع، والمنقطع كيف يدرك المعروف؟
10 - ومن قال: كما عرفني عرفته، فقد أشار إلى العلم فرجع إلى المعلوم، والمعلوم يفارق الذات، ومن فارق الذات، كيف يدرك الذات؟
11 - ومن قال: عرفته كما وصف نفسه فقد قنع بالخبر دون الأثر.
12 - ومن قال: عرفته على حدين، فالمعروف شيء واحد، لا يتجزأ ولا يتبعض.
13 - ومن قال: المعروف عرف نفسه فقد أقر بأن العارف في البين متكلف به لأن المعروف لم يزل كما كان عارفا بنفسه.
14 - يا عجبا ممن لا يعرف شعرة من بدنه كيف تنبت سوداء أم بيضاء، كيف مكون الأشياء. من لا يعرف المجمل والمفصل، ولا يعرف الآخر والأول والتصاريف والعقل والحقائق والحيل، لا تصح له معرفة من لم يزل.
15 - سبحان من حجبهم بالاسم، والرسم، والوسم حجبهم، بالقال، والحال والكمال، والجمال. عن الذي لم يزل ولا يزال. القلب مضغة جوفانية، فالمعرفة لا تستقر فيها لأنها ربانية.
16 - الفهم طول وعرض، والمطالعات سنن وفرض، والخلق كلهم في السماء والأرض.
17 - وليس للمعرفة طول ولا عرض، ولا تسكن في السماء ولا الأرض ولا تستقر في الظواهر والبواطن مثل السنن والفرض.
18 - ومن قال: «عرفته بالحقيقة» فقد جعل وجوده أعظهم من وجود المعروف لأن من عرف شيئا على الحقيقة، فقد صار أقوى من معروفه حين عرفه.
19 - يا هذا، ما في الكون أقل من الذرة وأنت لا تدركها، فمن لا يعرف الذرة كيف يعرف ما هو أدق منها بتحقيق؟ فالعارف «من رأى» والمعرفة «بمن
بقي» فالمعرفة ثابتة من جهة النقص وفيها شيء مخصوص، مثل دائرة العين المشقوق.(1/112)
19 - يا هذا، ما في الكون أقل من الذرة وأنت لا تدركها، فمن لا يعرف الذرة كيف يعرف ما هو أدق منها بتحقيق؟ فالعارف «من رأى» والمعرفة «بمن
بقي» فالمعرفة ثابتة من جهة النقص وفيها شيء مخصوص، مثل دائرة العين المشقوق.
20 - ومن جانب المتلاشي والمسدود من جانب العلم الذاتي، عينها غائبة في ميمها بالهيولية، ميمها منقطعة منفصلة الخواطر عنها، لاهية، شاهية راغبها راهبها، راهبها غاربها، شارقها غارب غاربها شارق، مالها فوق عال، ولا لها تحت دان.
21 - المعرفة مع المكونات بائنة، مع الديمومة دائمة، طرقها مسدودة ما إليها سبيل، معانيها مبينة ما عليها دليل. لا تدركها الحواس ولا يلحقها أوصاف الناس.
22 - صاحبها واحد، مارسها لاحد، وارقها رامد، [واقعها راقد]، لاصقها فاقد، بارقها ماكد، تارقها شاكد، مارقها لاقد، صارعها حامد، خائفها زاهد، لا يمدها راصد، أطنابها أربابها أسبابها.
23 - كأنها كأنها كأنها، كأنه كأنه كأنه، كأنها كأنها، كأنه كأنه، كأنه كأنها كأنه كأنه، كأنها كأنها، بنيانها أركانها، أركانها ببنانها، أصحابنا أصحابها بها، لها بها، لا هي هو، ولا هو هي، ولا هو إلا هي، ولا هي إلا هو، لا هي إلا هو ولا هو إلا هو.
24 - فالعارف «من رأى» والمعرفة «بمن بقى»: «كذا» العارف مع عرفانه لأنه عرفانه وعرفانه هو، والمعرفة وراء ذلك والمعروف وراء ذلك.
25 - بقية القصة مع القصاص، والمعرفة مع الخواص، والكلفة مع الأشخاص، والنطق مع أهل الوسواس، والفكرة مع أهل الإياس والغفلة مع أهل الاستيحاش.
26 - والحق حق والخلق خلق ولا باس.(1/113)
الأصل لا أصل له فاعتبر ... قدر الذي ليس له أصل
الفرع قد يرجع في علمنا ... أصلا لا ينكره العقل
كعلمنا بالله من علمنا ... بنا كما عيّنه النقل
حتى يرى حمدي له مطلقا ... ليس له جنس ولا فصل
ناداني الحقّ بقرآنه ... يا فاعلا ليس له فعل
فقلت لبيك كذا علمنا ... فالأمر من بعد ومن قبل
لله مولانا ولكن بنا ... دقيقة جاء بها الفضل
لكلّ ذي كشف وذي فطنة ... خصّصها جودا بها البذل (1)
وقال أيضا في الإنسان الكامل:
رأيت الذي لا بدّ لي منه جهرة ... ولم يك إلّا ما رأيت من الكون
ولكنه منه على ما رأيته ... كإنسان عين الشخص فيه من العين (2)
ويأتي على ما يأتي للفصل والقضا ... وقد كان قبل الخلق في ذلك العين
وما جاءني في كلّ معنى وصورة ... لأمر سوى ما يتقيه من العين
إذا المرء لم يعرف بسمع ولا بدا ... لعين أتاه إلا من بالحفظ والصّون
فرضنا له عين الكمال لأنه ... إذا كان في الأحجار فيها من العين
إذا شاء أن يروي من الماء مرتو ... فلا يشرب إلا ما يكون من العين
فذاك له مثل الرّضاع لأنه ... تولّد منها عن فصال وعن بين
وما كان قولي إنه عين ما يرى ... من الكون إلا قوله لي بلا مين (3)
ولما سألت الله عونا على الذي ... يكلفني من فرضه كان في عوني
ويا عجبا إن المعين هو الذي ... يكون معانا ردّه شاهد البين (4)
ولو لم يكن في الغيب عين لصورة ... لما كان للعين التصوّر في العين
وما زينة الأعيان إلّا بربّها ... وقد ظهرت للعين في أحسن الزين (5)
تباعد عنها الشّين والشين كونها ... فأنت ترى عينا وما ثمّ من شين
إذا قال لي ما أنت إلا هويتي ... فأين الذي قال المنازع من بوني (6)
لقد حرت في أمري وإني لصادق ... تقابل ألفاظ تترجم عن عيني
__________
(1) الكشف: الاطلاع على ما وراء الحجاب من المعاني الغيبية والأمور الحقيقية وجودا وشهودا.
(2) إنسان عين الشخص: يريد سواد العين. العين: إشارة إلى ذات الشيء الذي تبدو منه الأشياء.
(3) المين: الكذب.
(4) البين: الفراق.
(5) الأعيان: يريد حقائق الممكنات في علم الحق تعالى.
(6) البون: البعد.(1/113)
وما عجبي عن واحد عنه واحد ... كما قيل لكن من وحيد عن اثنين
فلولاه لم أوجد ولولاي لم يكن ... ولا بدّ لي في كون ذاتي من اثنين
حقيقة ذاتي من حقيقة ذاته ... ولا بدّ من ذاتي فلا بدّ من تين
وإني من الأضداد في كلّ حالة ... كما هو مثل الغرّ في اللوّن والجون (1)
إذا كان عيني عينه فمن الذي ... تحكم فيه بالنوى حاكم البين
ومن ذا الذي قد قيل فيه مداين ... وهل كان هذا الحكم إلّا من الدّين
لقد حجبت منا قلوب صقيلة ... عن الكشف والتحقيق من حجب الرّين (2)
لقد خالفوا في اللون وهو مشاهد ... وأين شهيد الكون من شاهد اللون
لقد لنت للأقوام حتى كأنني ... عجزت عن التقييد من شدّة اللين
وقد جاء حكم الفال فيما علمتم ... وحاشاه مما تعرفون من الغين (3)
كما قيل حدّاد لحاجب بابهم ... وقد قيل هذا اللفظ في العرف للقين (4)
ولو كان في الداعي إلى الله غلظة ... لفرّوا ولكن جاء باللين والهين
وقال أيضا:
وجودي عن الأمر الإلهيّ لم يكن ... عن الذات والتكوين لي فأعقل الشانا
وهذا الذي قد قلته لم يقل به ... سوانا فحقّق من يكون إذا كانا
توحدت سرّا وهو أمر يخصّني ... وإني كثير بالتأمّل إعلانا
فمن يرني مني يرى العين واحدا ... ومن يرني منه يرى العين أعيانا (5)
وذلك من صدع يكون بعينه ... يقيم به وزني فيخسر ميزانا
وإن لنا في كلّ حال ومشهد ... دليلا على علمي بنفسي وبرهانا
وعلمي بنفسي عين علمي بربّها ... يحققه كشفا جليا وإيمانا
ألست تراني في مجالس علمنا ... أفتّق أسماعا أبصّر عميانا
وأهدي إلى النهج القويم بوحيه ... قليب عبيد لم يزل فيه حيرانا
إذا نحن نادينا نفوسا به أتت ... من الملأ العلويّ رجلا وفرسانا (6)
__________
(1) الجون: النبات، وكذلك اللون الأحمر والأبيض والأسود، والنهار.
(2) الحجب: يريد: انطباع الصور الكونية في القلب المانعة لقبول تجلي الحق.
والرّين: حجاب القلب لا يمكن كشفه إلا بالإيمان، وقال بعضهم: الرين هو الصدأ الذي يقع على القلوب.
(3) الفال: ضعيف الرأي. الغين: ما يعارض القلب ثم يزول بالتوبة والاستغفار، ومثله كمثل المرأة إذا تنفس فيها الناظر فينقص من ضوئها ثم تعود إلى حالة ضوئها.
(4) القين: الحدّاد.
(5) العين: إشارة إلى ذات الشيء الذي تبدو منه الأشياء، الأعيان: حقائق الممكنات في علم الحق تعالى.
(6) الملأ العلوي: يريد العقول المجردة والنفوس الكلية.(1/114)
ديوان الحلّاج
309244 - هـ / 922858م(1/115)
يلبي منادي الحقّ من كلّ جانب ... فيكتبن أنصارا ويثبتن أعوانا
لقد علل الصدّيق إخفاء صوته ... بما كان يتلوه من الليل قرآنا
بأسماع من ناجاه منفردا به ... ليظهر ما سماه جبريل إحسانا
وعلله الفاروق إذ كان معلنا ... ليطرد شيطانا ويوقظ وسنانا (1)
وكلّ رأي خيرا ولم يك خارجا ... عن الحكم بالميزان نقصا ورجحانا
فجاء إمام الخير بالحكم فيهما ... وقد صاغه الرحمن روحا وريحانا
فقال له ارفع ثم للآخر اتضع ... يظهر حكم العدل عينا وسلطانا
فكم بين من فيه ومنه ومن أتى ... بهذا وذا إذ كان بالكلّ رحمانا
ألم ترني أدعى على كل حالة ... أكون عليها بالتقلب إنسانا
وسوّاه شخصا قابلا كلّ صورة ... فعدّل أجزاء ورتّب أركانا
وأظهره جسما سويا معدّلا ... بتربيع أخلاط وسماه جثمانا
وأودع فيه النفخ روحا مقدّسا ... ليعصم أرواحا ويقصم شيطانا
وقال أيضا في نظم التوشيح:
مطلع السرّ مني ... كافي من أني
دور رأيت ربي ... بالمنظر الأجلى
دعوت صحبي ... للمورد الأحلى
رآه قلبي ... في الصورة المثلى
فما ثني ... إلا إذا ثني
دور إلى الكثيب ... دعتني أشواقي
نحو الحبيب ... دعاء مشتاق
فيا طبيبي ... هل لي من راق
فقال خدني ... ذلك في عدن (2)
دور رأيت صوني ... يطلبه كوني
__________
(1) وسنان: ناعس.
(2) الخدن: الخليل.(1/115)
وقال عيني ... إنّ به عوني
وليس بيني ... عنه سوى بيني (1)
فقال أثن ... قلت إذا تثنى
دور من لي بذاتي ... من لي بإيلافي (2)
وفي مماتي ... حكم لإيلافي
فقلت آتي ... قال بأوصافي
إيّاك أعني ... بالذكر إذ أكني
دور من كان مثلى ... يبلى ولا يبلي
فقال كلي: ... إنك من اهلي
قد قال قبلي: ... من ليس من شكلي
أخلفت ظني ... يا كعبة الحسن (3)
وقال أيضا في نظم التوشيح:
مطلع كلّ شيء بقضاء وقدر ... هكذا المعلوم
والذي يقضي به حكم النظر ... سرّه مكتوم
دور كلّ من أشهده سرّ القدر ... ربّه يعلم
إنّ بالحكم الذي فيه ظهر ... عينه يحكم
عجبا فيمن له نعت البشر ... وهو لا يفهم
والذي يشهده نور القمر ... فهو المرحوم
والذي عيّب عنه واستسرّ ... ذلك المحروم
دور شاهد النقل الذي حيرني ... وبه أحيى
ودليل العقل قد صيّرني ... منكرا أشيا
__________
(1) البين: الفراق.
(2) الإيلاف: العهد.
(3) الكعبة: يريد بها الذات.(1/116)
فتراني عند ما خيّرني ... أكره المحيا
فأنا ما بين عقل وخبر ... ظالم مظلوم
فإذا سرّحت من سجن الفكر ... قمت بالقيوم (1)
دور بالتجلّي في التدلّي قلت به ... فأبى عقلي (2)
والتجلي في التحلّي منه به ... قال لي قل لي
انت مني عين ظلّي فانتبه ... بالهوى من لي
إن جرى الأمر على حكم البصر ... قلت بالمفهوم
أو جرى الأمر على حكم العبره ... ينتفي المرسوم
دور لو أنّ ما بي من شؤون العباد ... وكلّ ما يجري
يكون بالسبع الطباق الشداد ... يسكّن عن دور
إنّ الذي كان مسبيّ مراد ... لصاحب الأمر
الصبر أولى بي من أجل الظفر ... وإنه موهوم
فاشرب رحيقا عند وقت السّحر ... مزاجه تسنيم (3)
دور بساحل البحر رأيت التي ... ما زلت ألغيها
فقلت للنفس ترى قبلتي ... بالله أبغيها
فأنشدت تخبر عن جملتي ... وذاك يطعيها
ليتني رمل على شطّ البحر ... يا ابني أو أطوم (4)
وترى عيني مذ تطلع سحر ... لبلاد الرّوم
وقال أيضا:
شؤونك يا مولاي قد حيرت سرّي ... وقولك بالتفريع أذهلني عني
__________
(1) القيام بالقيوم: يريد الاستقامة عند البقاء بعد الفناء، والعبور على المنازل كلها.
(2) التجلي: هو ما ينكشف للقلوب من أنوار الغيوب.
(3) الرحيق: أطيب الخمرة. التسنيم: ماء بالجنة يجري فوق الغرف. أو عين تتسنم عليهم من فوق.
(4) الأطوم: جمع الأطم: القصر أو كل حصن مبني بحجارة.(1/117)
أشعار الحلاج
قافية الهمزة
العشق
[من البسيط] [1]
1 - العشق (1) في أزل الآزال من قدم ... فيه به منه يبدو فيه إبداء
2 - العشق لا حدث إذ كان هو صفة ... من الصّفات لمن قتلاه أحياء ... (2)
3 - صفاته منه فيه غير محدثة ... ومحدث الشّيء ما مبداه أشياء
4 - لمّا بدا البدء أبدى عشقه صفة ... فيما بدا فتلالا فيه لألاء
5 - واللّام بالألف المعطوف مؤتلف ... كلاهما واحد في السّبق معناء (5)
6 - وفي التّفرّق اثنان إذا اجتمعا ... بالافتراق هما عبد ومولاء
7 - كذا الحقائق: نار الشّوق ملتهب ... عن الحقيقة (7) إن باتوا وإن ناؤوا
8 - ذلّوا بغير اقتدار عند ما ولهوا (8) ... إنّ الأعزّا إذا اشتاقوا أذلّاء
__________
(1) 1العشق: اتحاد ذات المحبوب بذات المحب اتحادا يوجب غفلة المحب شغلا بشهود محبوبه في ذاته بذاته.
(2) 2الحدث: اسم لما يكن فكان. الصفات أنواع: جلالية وجمالية وذاتية وفعلية وكمالية.
(5) 5معناء: معناه.
(7) 7الحقيقة: سلب آثار أوصافك عنك بأوصاف الله، بأنه الفاعل بك فيك منك لا أنت.
(8) 8الوله: إفراط الوجد.(1/117)
لأني لا أدري بماذا تجيبني ... مع العلم أن الأصل فيما أتى مني
وو الله ما تجني عليّ وإنما ... نفوس الورى منها على نفسها تجني (1)
فلم أو فسلم فالأمور كما ترى ... وما هو عن حدس وما هو عن ظنّ
ولكنه علم صحيح محقق ... أتين به الأرواح في ظلمة الدّجن (2)
وقال أيضا:
إذا كنت محسانا فليتك تسلم ... فكيف إذا ما كنت بالضدّ تعلم
لحى الله دهرا كنت فيه مقدّما ... فويل لدهر أنت فيه المقدّم (3)
فأخسر خلق الله من باع دينه ... بدنيا جهول غيره وهو يظلم
وقال أيضا:
إلهي إذا ناديت فالسمع أنتم ... ولبّاك من لبّاك أنت المترجم (4)
توحدت الأشياء إذ كنت عينها ... وما ثمّ إلا سامع ومكلّم (5)
بكن وهو قول الله والأمر أمره ... وقد جاء في القرآن معناه عنكم
أجره إذا يبغي سماع كلامنا ... فيتلو عليه التلاوة منكم
تقسم في الإحساس من هو واحد ... عزيز نزيه الذات لا يتقسم
بإخباره عن نفسه لا بعقلنا ... فيعلن ما عقلي به يتكتّم
نظرت إليه من قريب وإنني ... بحدّي بعيد والحدّ ودّ توهم
إذا كان من سميتم الغير عينه ... ففي نفسه من نفسه يتحكم
وقال أيضا من نظم التوشيح:
مطلع سرّ الكون ... علم الشؤون ... لو كان يكفيني
دور لكنّ سرّي ... يبغي الزياده (6)
__________
(1) الورى: الخلق.
(2) الدّجن: إلباس الغيم الأرض وأقطار السماء، والمطر الكثير.
(3) لحا، أي: شتم.
(4) السمع: عبارة عن تجلي الحق بطريق إفادته من العلوم، لأنه سبحانه يعلم كل ما يسمعه من قبل أن يسمعه ومن بعد ذلك.
(5) العين: إشارة إلى ذات الشيء الذي تبدو منه الأشياء.
(6) السر: لطيفة مودعة في القلب كالروح في البدن، ونور روحاني هو آلة النفس، وهو محل المشاهدة كما(1/118)
دعاء
[من البسيط] [2]
1 - لبّيك (1)، لبّيك، يا سرّي ونجوائي ... لبّيك، لبّيك يا قصدي ومعنائي
2 - أدعوك، بل أنت تدعوني إليك فهل ... ناديت إيّاك أم ناديت إيّائي؟
3 - يا عين عين وجودي يا مدى هممي ... يا منطقي وعباراتي وإيمائي ... (3)
4 - يا كلّ كلّي، يا سمعي ويا بصري ... يا جملتي وتباعيضي (4) وأجزائي
5 - يا كلّ كلّي، وكلّ الكلّ ملتبس ... وكلّ كلّك ملبوس بمعنائي
6 - يا من به علقت روحي فقد تلفت ... وجدا (6) فصرت رهينا تحت أهوائي
7 - أبكي على شجني (7) من فرقتي وطني ... طوعا، ويسعدني بالنّوح أعدائي
8 - أدنو فيبعدنى خوفي (8)، فيقلقني ... شوق تمكّن في مكنون أحشائي
9 - فكيف أصنع في رحب كلفت به؟ ... مولاي، قد ملّ من سقمي أطبّائي ... (9)
10 - قالوا: تداو به منه، فقلت لهم: ... يا قوم، هل يتداوى الدّاء بالدّاء (10)
11 - حبّي لمولاي أضناني وأسقمني ... فكيف أشكو إلى مولاي مولائي ... (11)
12 - إنّي لأرمقه (12) والقلب يعرفه ... فما يترجم عنه غير إيمائي
[2]
__________
(1) 1لبيك: اتجاهي إليك وإقبالي على أمرك، وقيل معناه: إخلاصي لك.
(3) 3العين: إشارة إلى ذات الشيء الذي تندو منه الأشياء.
الإيماء: الإشارة بحركة جارحة.
(4) 4التباعيض: الأجزاء.
(6) 6الوجد: خشوع الروح عند مطالعة سر الحق.
(7) 7الشجن: الهم والحزن.
(8) 8الخوف: هو الحياء من المعاصي والمناهي والتألم فيها.
(9) 9الحبّ، بكسر الحاء: المحبوب.
السقم: المرض.
(10) 10ومثله قول الأعشى:
وكأس شربت على لذة ... وأخرى تداويت منها بها
(11) 11ضني الرجل: إذا كان به مرض مخامر، وكلما ظنّ أنه برأ نكس.
المولى: العبد والسيد.
(12) 12رمقته ببصرك: أتبعته بصرك تتعهده وتنظر إليه وترقبه.(1/118)
عن الأمر ... وهي العباده
وذو الأمر ... منه الإفاده
فإن يبدو ... في كلّ حين ... ما زلت في همون
دور لكن يبدو ... وقتا ويخفى
وما يعدو ... من كان أحفى
فهو الفرد ... البرّ الأوفى
في مجلاه ... يا نفس بيني ... عن كلّ تكوين
دور خير الناس ... من كان أعلم
ووسواسي ... لو كان يكتم (1)
عن وسواسي ... ما الحق أنعم
على قلبي ... بما يقيني ... من كلّ تزيين
دور جل الأمر ... اني فقير
وفي الفقر ... خير كثير
وفي الوفر ... كم يفور
ما يدري بي ... عند الكمون ... إلا الذي دوني
دور ما أحياني ... إلا الوجود
وعناني ... إلا المزيد
قد أغناني ... بما أريد
يفرح بي ... إذ تلتقيني ... من هو على ديني
وقال أيضا:
من كان يبغيني وأبغيه ... ما زلت للإحسان أنعيه
__________
أن الروح محل المحبة، والقلب محل المعرفة، وبدون السر تعجز النفس عن العمل ولا تفيد فائدة ما لم يكن السر الذي هو همة معها.
(1) الوسواس: لمة الشيطان.(1/119)
13 - يا ويح (13) روحي من روحي، فوا أسفي ... عليّ منّي فإنّي أصل بلوائي
14 - كأنني غرق تبدو أنامله ... تغوّثا (14) وهو في بحر من الماء
15 - وليس يعلم ما لاقيت من أحد ... إلّا الذي حلّ منّي في سويدائي ... (15)
16 - ذاك العليم بما لاقيت من دنف ... وفي مشيئته موتي وإحيائي ... (16)
17 - يا غاية السّؤل والمأمول يا سكني ... يا عيش روحي، يا ديني ودنيائي
18 - قل لي فديتك يا سمعي ويا بصري ... لم ذي اللجاجة في بعدي وإقصائي؟ ... (18)
19 - إن كنت بالغيب عن عيني محتجبا ... فالقلب يرعاك في الإبعاد والنّائي
[من البسيط] [3]
1 - ما حيلة العبد والأقدار جارية ... عليه في كلّ حال أيّها الرّائي؟
2 - ألقاه في اليمّ مكتوفا وقال له: ... إيّاك إيّاك أن تبتلّ بالماء
__________
(13) 13ويح: كلمة رحمة تقال لمن أشرف على الهلكة، والويل: كلمة عذاب تقال لمن وقع في الهلكة.
(14) 14غوث الرجل واستغاث: صاح وا غوثاه.
(15) 15سويداء القلب: حبته ودمه.
(16) 16الدنف: المرض الملازم وشدة الحب.
مشيئة الله: عبارة عن تجلية الذات والعناية السابقة لإيجاد المعدوم أو إعدام الموجود.
الموت: قمع هوى النفس، فمن مات عن هواه فقد حيى بهداه.
الإحياء: حصول التجلي للنفس وتنورها بالأنوار الإلهية.
(18) 18قوله: «يا سمعي ويا بصري» إشارة إلى الحديث القدسي الذي رواه البخاري في صحيحه:
(وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به) والمراد من ذلك أن يصير العبد بكليته مشغولا بربه تعالى، فلا يسمع إلا ما يرضيه سبحانه، ولا ينظر ببصره إلا ما أمره به ربه تعالى، وهكذا تشتغل جميع حواسه وأعضائه فيما يرضي الله تعالى. وقيل إن المراد أن الله يسمعه ما لا يسمعه غيره مما هو المعتاد، ويبصره بما لا يبصره غيره.
البعد: عبارة عن بعد العبد عن المكاشفة والمشاهدة.(1/119)
حتى بدا للذوق ما قد بدا ... منه إلى قلبي فألغيه
خوفا على قلبي أن الردى ... يلحقه إذ كان يطغيه
وقال أيضا:
سمعت الخلق ليس لهم وجود ... وفي ظني الوجود لهم حقيقه
فلما أن شهدت الأمر منه ... رأيت الخلق ظاهره خليقه
فظاهرهم وباطنهم سواء ... وهذا من معانيه الدقيقه
رقائقه من الأعيان مدّت ... وفي تلك الرقائق لي رقيقه (1)
علمت بها بأني غير شيء ... وإن كانت تخالفني السليقه
وقد كتبت عليّ بذا كتابا ... وشرح الأمر في تلك الوثيقه
لقد لله في كوني أمور ... يريك بها المطرّق للطريقه
أمورا أبطن الرحمن فيها ... عجائب مكره الغرّ الأنيقة (2)
لها غور بعيد ليس يدرى ... لذا قال اللبيب هي الفليقه (3)
وقال أيضا:
واحد العين الذي نعرفه ... وكثير الحكم ما نجهله
عدّدت أحكامه آثاره ... وهو العلم الذي يقبله
فإذا ما قلت هذا عملي ... قال لا إني أنا أعمله
قلت أهلا فلماذا قلت لي ... أنت رهن بالذي تفعله
ثم تنفي الفعل عني وأنا ... في جهاد في الذي أبذله
ولقد أعلم قطعا أنكم ... أنت علّام بما أجهله
الذي أجمله تجمله ... والذي تجمل ما أجمله
فإذا قبحت فعلا لم أقل ... أدبا إنك بي تعمله
وإذا أحسنت فعلا فأنا ... بك ربي أدبا أوصله
وأنا الفاعل في هذا وذا ... ظاهرا والكشف ما يقبله
أنا أسعى الدهر في تحصيل ما ... عالم الأمر أرى يهمله
__________
(1) الأعيان: يريد: حقائق الممكنات في علم الحق تعالى. الرقيقة: هي اللطيفة الروحانية، وقد تطلق على الواسطة اللطيفة الرابطة بين الشيئين كالمدد الواصل من الحق إلى العبد، ويقال لها رقيقة النزول.
(2) مكر الله: إمهاله العبد وتمكينه من أعراض الدنيا. أو إيقاعه بأعدائه.
(3) الفليقة: الأمر العجب.(1/120)
[من الوافر] [4]
1 - وأيّ الأرض تخلو منك حتّى ... تعالوا يطلبونك في السّماء؟ ... (1)
2 - تراهم ينظرون إليك جهرا ... وهم لا يبصرون من العماء! (2)
قافية الباء
[من الخفيف] [5]
1 - طلعت شمس من أحبّ بليل ... فاستنارت فما لها من غروب ... (3)
2 - إنّ شمس النّهار تغرب باللّي ... ل، وشمس القلوب ليس تغيب
3 - من أحبّ الحبيب طار إليه ... اشتياقا إلى لقاء الحبيب
زهد القلب
[من الطويل] [6]
1 - كفى حزنا أنّي أناديك دائبا ... كأنّي بعيد أو كأنّك غائب
2 - وأطلب منك الفضل من غير رغبة ... فلم أر قلبي زاهدا وهو راغب
[4]
__________
(1) 1البيت غدق من قوله تعالى: {يَعْلَمُ مََا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمََا يَخْرُجُ مِنْهََا وَمََا يَنْزِلُ مِنَ السَّمََاءِ وَمََا يَعْرُجُ فِيهََا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مََا كُنْتُمْ وَاللََّهُ بِمََا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} الحديد: 4.
(2) 2البيت غدق من قوله تعالى: {لََا تُدْرِكُهُ الْأَبْصََارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصََارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ}
الأنعام: 103.
[5]
(3) 1حقيقة النور في الأصل كيفية تنبسط من النيّرين على سطح الجسم فينكشف ما عليها بواسطة البصر، ثم شبه به العلم واليقين والمعرفة لما بينهما من الشبه في كشف حقيقة الأشياء وتمييزها، فالنور الحسي ينقطع بانقطاع أصله، والنور المعنوي هو نور القلوب، لا ينقطع أبدا. (إيقاظ الهمم 1/ 153).(1/120)
وأنا من عالم الخلق وقد ... حزته كشفا وما أمهله
فيراني في الذي أعلمه ... إنه بي وبه أعجله
فإذا أخلصه لي قلت لا ... إنما منه لنا مجمله
قال أيضا:
ألا إنني أرجو عوارف فضل من ... يكون له التحميد في اليسر والعسر
فإن كان عسر أطلق العبد حمده ... على كلّ حال منه في نفع أو ضرّ
وإن كان يسر قيد العبد حمده ... كما جاء في الانعام والفضل في اليسر
بذا جاءت الأخبار في حمد سيد ... رسول إمام مصطفى صادق برّ
معلم أسباب السعادة كلها ... لكلّ لبيب عاقل ماجد حرّ
أنا أسوة فيه كما قال ربنا ... تلوناه في الأحزاب في محكم الذكر
وفي غيرها فاعلم بأنك مقتد ... به متأسّ مؤمن بالذي يجري
نصحتك يا نفسي على كلّ حالة ... فقومي له فيها على قدم الشكر
فإنّ الذي يدعى عن الخلق في غنى ... ونحن على ما نحن من حالة الفقر
ولي منه في الأحوال صحو وسكرة ... إذا ما بدا لي في تجلّ وفي ستر
فأصحو إذا عمّ التجلّي وجوده ... وإن خصه بالذات إني لفي سكر
يخاطبني من كل ذات عناية ... بما شاءه في كلّ نظم وفي نثر
فنثري الذي يدريه ما هو من نثري ... وشعري الذي أبديه ما هو من شعري
هويته من كل شيء وجوده ... وصحت به الآثار فانهض على أثري
ترى الحق حقا فاتبعه ولا تقل ... إذا ما رأيت الحق إني في خسر
فما الناس إلا بين هاد ومهتد ... فمنهم إلى شام ومنهم إلى مصر
وهذي إشارات لمن كان عالما ... بما قلته في السرّ كان أو الجهر
إلهي لا تعدل بقلبي عن الذي ... شرعت من الإيمان بالنهي والأمر
فما عندكم إلا وجود محقق ... وما عندنا إلا التبرّي من الكفر
لقد قرّر الإيمان عندي حقائقا ... تنافي براهين النهي من ذوي الفكر
فحزت به كشفا فعادت معارفا ... مطالعها في القلب كالأنجم الزّهر
فلا ريب عندي في الذي قد طعمته ... من العلم بالله المقرّر في صدري
حييت به علما وعقدا وحالة ... هنا في حياتي ثم موتي وفي النشر
لقيت به ربّا كريما بحضرة ... منزهة علياء ماطرة النثر
وقال أيضا:(1/121)
[من البسيط] [7]
1 - للعلم أهل وللإيمان ترتيب ... وللعلوم وأهليها تجاريب
2 - والعلم علمان: منبوذ ومكتسب ... والبحر بحران: مركوب ومرهوب
3 - والدّهر دهران: مذموم وممتدح ... والنّاس اثنان: ممدوح ومسلوب
4 - فاسمع بقلبك ما يأتيك عن ثقة ... وانظر بفهمك، فالتّمييز موهوب
5 - إنّي ارتقيت إلى طود بلا قدم ... له مراق على غيري مصاعيب ... (5)
6 - وخضت بحرا ولم يرسب به قدمي ... خاضته روحي وقلبي منه مرعوب
7 - حصباؤه جوهر لم تدن منه يد ... لكنّه بيد الأفهام منهوب
8 - شربت من مائه ريّا بغير فم ... والماء مذ كان بالأفواه مشروب
9 - لأنّ روحي قديما فيه قد عطشت ... والجسم ما مسّه من قبل تركيب
10 - إنّي يتيم ولي آب ألوذ به ... قلبي لغيبته، ما عشت، مكروب ... (10)
11 - أعمى بصير، وإنّي أبله فطن ... ولي كلام، إذا ما شئت، مقلوب
12 - وفتية عرفوا ما قد عرفت فهم ... صحبي ومن يحظ بالخيرات مصحوب
13 - تعارفت في قديم الذّرّ أنفسهم ... فأشرقت شمسهم والدّهر غربيب (13)
[7]
__________
(5) 5الطود: الجبل العظيم، أو الهضبة.
المراقي: جمع المرقاة وهي الدرجة، ورقي فلان في الجبل إذا صعّد، ورقي في الشيء: صعد.
(10) 10ألوذ: ألجأ.
مكروب: مصاب بالكرب، وهو الحزن والغم الذي يأخذ بالنفس.
(13) 13في هذا البيت إشارة إلى قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللََّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمََاءِ مََاءً فَأَخْرَجْنََا بِهِ ثَمَرََاتٍ مُخْتَلِفاً أَلْوََانُهََا وَمِنَ الْجِبََالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوََانُهََا وَغَرََابِيبُ سُودٌ}. فاطر: 27.
الغربيب: الشديد السواد.
الذّر: الخلق والنسل. وقول الحلاج «قديم الذّر» يقول: إن أرواح أصحابه قد تعارفت في عالم الذّر، ووصف الدهر بشدة السواد تشبيها له بالليل فتشرق الشمس عليه ليطلع بعده النهار ويتحرك الزمان.(1/121)
عذاب المحب
[من المجتث] [8]
1 - الصّبّ (1) ربّ محبّ ... نواله منك عجب؟
2 - عذابه فيك عذب (2) ... وبعده عنك قرب
3 - وأنت عندي كروحي ... بل أنت منها أحبّ
4 - وأنت للعين عين ... وأنت للقلب قلب
5 - حسبي من الحبّ أني ... لما تحبّ أحبّ
مراسلة
كتب الحلّاج إلى أبي العبّاس بن عطاء: أطال الله لي حياتك وأعدمني وفاتك، على أحسن ما جرى به قدر، ونطق به خبر. مع ما إن لك في قلبي من لواعج أسرار محبّتك، وأفانين ذخائر مودّتك، ما لا يترجمه كتاب، ولا يحصيه حساب، ولا يفنيه عتاب. وفي ذلك أقول:
[من الطويل] [9] (9)
1 - كتبت ولم أكتب إليك وإنّما ... كتبت إلى روحي بغير كتاب
2 - وذلك أنّ الرّوح لا فرق بينها ... وبين محبّيها بفضل خطاب
3 - وكلّ كتاب صادر منك وارد ... إليك بلا ردّ الجواب، جوابي
[8]
__________
(1) 1الصب: العاشق المشتاق.
(2) 2العذب: الطيب.
(9) [9] علّق الدكتور إبراهيم البسيوني في «نشأة التصوف» صفحة 260:
أما الحلاج فقد سلك في معراجه مسلكا ميتافيزيقيا، حين ركّز اهتمامه بمذاق الفطرة الأولى، فعاد بالحب إلى نقطة الصدور.
وانظر هذه الأبيات في تاريخ بغداد 8/ 115، مصارع العشاق 1/ 129.(1/122)
ألا إنني أرجو عوارف فضل من ... يكون له التحميد في اليسر والعسر
فإن كان عسر أطلق العبد حمده ... على كلّ حال منه في نفع أو ضرّ
وإن كان يسر قيد العبد حمده ... كما جاء في الانعام والفضل في اليسر
بذا جاءت الأخبار في حمد سيد ... رسول إمام مصطفى صادق برّ
معلم أسباب السعادة كلها ... لكلّ لبيب عاقل ماجد حرّ
أنا أسوة فيه كما قال ربنا ... تلوناه في الأحزاب في محكم الذكر
وفي غيرها فاعلم بأنك مقتد ... به متأسّ مؤمن بالذي يجري
نصحتك يا نفسي على كلّ حالة ... فقومي له فيها على قدم الشكر
فإنّ الذي يدعى عن الخلق في غنى ... ونحن على ما نحن من حالة الفقر
ولي منه في الأحوال صحو وسكرة ... إذا ما بدا لي في تجلّ وفي ستر
فأصحو إذا عمّ التجلّي وجوده ... وإن خصه بالذات إني لفي سكر
يخاطبني من كل ذات عناية ... بما شاءه في كلّ نظم وفي نثر
فنثري الذي يدريه ما هو من نثري ... وشعري الذي أبديه ما هو من شعري
هويته من كل شيء وجوده ... وصحت به الآثار فانهض على أثري
ترى الحق حقا فاتبعه ولا تقل ... إذا ما رأيت الحق إني في خسر
فما الناس إلا بين هاد ومهتد ... فمنهم إلى شام ومنهم إلى مصر
وهذي إشارات لمن كان عالما ... بما قلته في السرّ كان أو الجهر
إلهي لا تعدل بقلبي عن الذي ... شرعت من الإيمان بالنهي والأمر
فما عندكم إلا وجود محقق ... وما عندنا إلا التبرّي من الكفر
لقد قرّر الإيمان عندي حقائقا ... تنافي براهين النهي من ذوي الفكر
فحزت به كشفا فعادت معارفا ... مطالعها في القلب كالأنجم الزّهر
فلا ريب عندي في الذي قد طعمته ... من العلم بالله المقرّر في صدري
حييت به علما وعقدا وحالة ... هنا في حياتي ثم موتي وفي النشر
لقيت به ربّا كريما بحضرة ... منزهة علياء ماطرة النثر
وقال أيضا:
رأيت ذكورا في إناث سواحر ... ترآأين لي ما بين سلع وحاجر (1)
فخاطبت ذكرانا لأني رأيتهم ... رجالا بكشف صادق متواتر
وكنّ إناثا قد حملن حقائقا ... من الروح القاء لسورة غافر
وبعلهم الروح الذي قد ذكرته ... وإنهم ما بين ناه وآمر
هم العارفون الصمّ ردما ولا تقل ... بأنّ الذي قد جاء ليس بخابر (2)
وما خص نوعا دون نوع لأنه ... رأى الأمر يسري في صغير وكابر
ولا تمتر فيما أقول فإنني ... وقفت على علم من البحر زاخر
تحسيته ماء فراتا وإنه ... لملح أجاج في السنين المواطر
فمن كان ذا فكر تراه محيّرا ... ومن كان ذا شرع فليس بحائر
تمنيت أن أحظى برؤية مؤمن ... صدوق من الفتيان ليس بكافر
وذاك الذي يأتي بصورة تاجر ... مليّ من الأرباح ليس بخاسر
فلم أر إلا خالعا ثوب ماجن ... ولم أر لابسا زيّ شاطر
تنوّعت الأشياء والأمر واحد ... وما غائب في الأخذ عنه كحاضر
إذا صحّ غيب الغيب ما لأمر حاضر ... يشاهده قلبي وعقلي وناظري
تناولته منه على حين غفلة ... من الكون لم يشعر به غير شاعر
فنظمته فيه مديحا منزها ... ونثرا علا قدرا على كلّ ناثر
وقال أيضا:
النظم أولى به إن كنت تعرفه ... والنثر أولى بنا إن كنت تعرفنا
فالوجه أولى بنا إن كنت تشهده ... ونحن أولى به إن كنت تشهدنا
فما يعز عليه فهو بي وله ... وما يعز علينا قد يخص بنا
فما لنا منه إلا ما يكون لنا ... مجلى فننظره وليس ينظرها
ما إن ذكرتك في سرّ وفي علن ... إلا رأيت الذي ما زال يذكرنا
ولست أفرح بالذكرى على سخط ... لكن على كثب إن كنت تعلمنا
والله يذكر قوما ما لأخلاق لهم ... بقوله: اخسأوا فيها ويشهدنا
مقامهم وهم عن عينهم حجبوا ... به وعنهم بما هم فيه يحجبنا
__________
(1) سلع وحاجر: موضعان.
(2) العارفون: قال ابن عربي: العارف من أشهده الرب عليه فظهرت الأحوال عن نفسه، والمعرفة حاله، وقال ابن معاذ: إذا ترك العارف أدبه عند معرفته فقد هلك مع الهالكين.(1/122)
لو عاين القلب منهم ما أعاينه ... لعاينوه بلا شك يعايننا
وقال أيضا:
ألم تر أن الله أكرم أحمدا ... ونادى به حتى إذا بلغ المدى
تلقاه بالقرآن وحيا منزلا ... فكان له روحا كريما مؤيدا
وأعطاه ما أبقى عليه مهابة ... فأورثه علما وحلما وسؤددا (1)
وأعلى به الدين الحنيفي والهدى ... وصيرّه يوم القيامة سيّدا
وهيأ يوم الفصل عند وروده ... له فوق أدنى في التقرب مقعدا
وعين يوم الزور في كلّ حضرة ... له في كثيب المسك نزلا ومشهدا
فيا خير خلق الله بل خير مرسل ... لقد طبت في الأعراق نشأ ومحتدا
تحليت للإرسال في كل شرعة ... يظهرن آيات ويقدحن أزندا (2)
ففي قولكم لما دعيت مذمما ... وقد كان سمّاك الإله محمدا
لقد عصم الرحمن بالرحمة اسمنا ... كعصمتنا من سبّ من كان ألحدا
علوم وأسرار لمن كان ذا حجى ... تدل على خلق كريم من العدى (3)
فيا خير مبعوث إلى خير أمّة ... لو أنك في ضيق لكنت لك الفدا
ولما دعوت الله غيرة مؤمن ... على من تعدّى في الشريعة واعتدى
أتاك عتاب الله فيه ولم تكن ... أردت به إلا التعصب للهدى
بأنك قد أرسلت للخلق رحمة ... ومن كان هذا أصله طاب مولدا
مدحتك للأسماع مدح معرّف ... وقمت به في موقف العدل منشدا
وها أنا أتلو في مديحك السنا ... تعز على من كان في العلم قد شدا
ولم أغل بل قلت الذي قال ربنا ... وجئت به فضلا مبينا لأرشدا
مدحتك بالأسماء أسماء ربنا ... ولم ألتفت عقلا ورأيا مسدّدا
بأنك عبد الله بل أنت كونه ... وأنت مضاف الكاف شرعا وما عدا
فعينك عين السّرّ والسمع سمعه ... وأنت الكبير الكل للعين إن بدا (4)
وأنت الذي أكني إذا قلت كنية ... وأنت الذي أعني إذا ما تمجدا
لقد خصك الرحمن بالصورة التي ... روينا ولم ينزل لنا ذكرها سدى
وأنت مقال العبد عند قيامه ... من الركعة الزلفى ليهوي فيسجدا
وأنت وجود الهاء مهما تعبدت ... وأنت وجود الواو مهما تعبّدا
__________
(1) السؤدد: المجد.
(2) يقدحن أزندا: أي يشعلن النار.
(3) الحجى: العقل.
(4) السر: لطيفة مودعة في القلب كالروح في البدن، ونور روحاني هو آلة النفس، وهو محل المشاهدة.(1/123)
تجلي الله
[من السريع] [10] (10)
1 - سبحان من أظهر ناسوته ... سرّ سنا لاهوته الثّاقب
2 - ثمّ بدا في خلقه ظاهرا ... في صورة الآكل والشّارب
3 - حتّى لقد عاينه خلقه ... كلحظة الحاجب بالحاجب
قافية التاء
مناجاة الحقّ
[من مخلع البسيط] [11] (11)
1 - رأيت ربّي بعين قلبي ... فقلت: من أنت؟ قال: أنت
__________
(10) [10] انظر الأبيات في تاريخ بغداد 8/ 129.
يظهرنا استعمال الحلاج للفظتي «اللاهوت والناسوت» وقوله بحلول الأول في الثاني على الأثر الذي تركته المسيحية في التصوف الإسلامي منذ الفتح: فقد فتح المسلمون البلاد وهي مملوءة بالنصارى في الشام ومصر والمغرب والأندلس. وقد اختلفت الطوائف المسيحية حول مسألة اللاهوت والناسوت.
فاليعاقبة «في مصر والحبشة» كانوا يرون أن المسيح هو الله والإنسان اتحدا في طبيعة واحدة هي المسيح.
والنساطرة «في الموصل والعراق وفارس» والملكانية «في صقلية والأندلس والشام» أولئك وهؤلاء كانوا يقولون بأن للمسيح طبيعتين متمايزتين: الطبيعة اللاهوتية والطبيعة الناسوتية.
واختلفت هذه الطوائف في تصوير اتحاد اللاهوت بالناسوت: فقال اليعاقبة، إنه كاتحاد الماء يلقى في الخمر فيصيران شيئا واحدا. وقالت النسطورية: إنه كاتحاد الماء يلقى في الزيت، فكل واحد منهما بق بحسبه. وقالت الملكانية: إنه كاتحاد النار في الصفيحة المحماة.
(فجر الإسلام 1/ 149، 150. الطبعة الأولى).
(11) [11] انظر الطواسين، طاسين النقطة، رقم 5.(1/123)
فقل إنه هو أو فقل ليس هو بهو ... وإياك أن تبغي لنفسك موعدا
ولا تأخذ إلا لقاء زورا فإنه ... حقيقتكم إن راح عنكم وإن غدا
ولما اصطفاك الله عبدا مقرّبا ... أراك الذي أعطى عليك وأشهدا
فمن كان يدريه يكون موحدا ... ومن كان لا يدري يكون موحدا
إذا ما مدحت العبد فامدحه هكذا ... وكن في الذي تلقيه عبدا موحدا
فإنك لم تمدحه إلا به فكن ... لمن جاء يستفتيك ركنا ومقصدا
فو الله لولا الله ما كنت مصلحا ... وو الله لولا الكون ما كنت مفسدا
فمن كان مشهودا به كان مؤمنا ... ومن كان معلوما له كان ملحدا
فكن من علا في الأمر بالأمر نفسه ... ولاتك ممن قال قولا فأخلدا
فهذا مديح الاختصاص مبين ... جمعت لكم بين الندا فيه والندا (1)
وأجريت فيه الخمر نهر الشارب ... إذا ما تحسّى جرعة منه عربدا (2)
ألا إنني أرجو من الله أن أرى ... بمشهده الأعلى عبيدا مؤيدا
بأسمائه الحسنى وأنفاس جوده ... أكون بها بين الأنام مسوّدا
وقال أيضا في نظم التوشيح:
مطلع رأيت عند السّحر ... رؤيا من الوحي المبين ... انزالا
على قليب أمر ... حالا وقولا أن يكون ... فعالا (3)
دور لما دعاه الهوى ... إلى الذي ذكرته
أوهن مني القوى ... ذاك الذي سمعته
من ساكني نينوى ... وذوقهم قد ذقته (4)
في نومه قد فر ... كمثل ذي النون الأمين ... إدغالا (5)
لم يدر عين الخبر ... فظن ظنّا واليقين ... ما زالا
__________
(1) الندى: الجود.
(2) العربدة: سوء الخلق.
(3) القليب: البئر.
(4) نينوى: موضع بالعراق.
(5) ذو النون: هو أبو الفيض ذو النون المصري، نوبي من اخميم بصعيد مصر كان عالما متأدبا، مات سنة 245هـ.(1/124)
2 - فليس للأين منك أين ... وليس أين بحيث أنت؟!
3 - أنت الذي حزت كلّ أين ... بنحو لا أين فأين أنت؟
4 - وليس للوهم منك وهم ... فيعلم الوهم أين أنت؟
5 - وجزت حدّ الدنوّ حتّى ... لم يعلم الأين أين أنت
6 - ففي بقائي ولا بقائي ... وفي فنائي وجدت أنت
7 - في محو اسمي ورسم جسمي ... سألت عني فقلت: أنت
8 - أشار سرّي إليك حتّى ... فنيت عنّي ودمت أنت
9 - وغاب عني حفيظ قلبي ... عرفت سرّي فأين أنت
10 - أنت حياتي وسرّ قلبي ... فحيثما كنت كنت أنت
11 - أحطت علما بكلّ شيء ... فكلّ شيء أراه أنت
12 - فمنّ بالعفو يا إلهي ... فليس أرجو سواك أنت
معرفة الكيف والجهل بالغيب
[من البسيط] [12]
1 - سرّ السّرائر مطوي بإثبات ... من جانب الأفق من نور، بطيّات
2 - فكيف والكيف معروف بظاهره؟ ... فالغيب باطنه للذّات بالذّات ... (2)
3 - تاه الخلائق في عمياء مظلمة ... قصدا ولم يعرفوا غير الإشارات
4 - بالظّنّ والوهم نحو الحقّ مطلبهم ... نحو السّماء يناجون السّماوات
5 - والرّبّ بينهم في كلّ منقلب ... محلّ حالاتهم في كل ساعات
6 - وما خلوا منه طرف العين، لو علموا ... وما خلا منهم في كلّ أوقات
[12]
__________
(2) 2يشير الحلاج في هذا البيت إلى قول مالك بن أنس (ت 179هـ) الذي صرخ في وجه الباحثين عن معنى قوله تعالى: {الرَّحْمََنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى ََ} طه: 5، فقال: «الاستواء منه معقول، والكيف منه مجهول، والسؤال عنه بدعة، والإيمان به واجب».(1/124)
دور بالله يا من دعا ... قلبي إليه ليرى
أمرا إليه سعى ... يطلبه عند السّرى (1)
فكان نعم الوعا ... لما إليه قد سرى
حلاه دون البشر ... بحلية السّرّ المصون ... إن جالا
هو القضا والقدر ... كأنه الصبح المبين ... جوّالا
دور المورشان حكما ... عليهما النار التي
تفنيهما إذ هما ... ضدّان فانظر حكمتي
سيلهما قد طما ... وناره من جملتي
ما إن لها من شرر ... قد أمنت منها الغصون ... إشعالا
وفي مجاري العبر ... أن لها من اليمين ... إدلالا
دور لما أتى طالبا ... يبغى الإزار والردا (2)
ولى به هاربا ... رب الندى والندا
فجاءه غالبا ... تاج على الراس بدا
تاج حشاه الدرر ... يلوح من فوق الجبين ... هلالا
يذهب نور البصر ... سناه يعطي كل حين ... أشكالا (3)
دور بحر العمى في عمى ... يدري بذاك المرتدى
وجاء مستفهما ... فيما به الوحي بدى
أوضحت ما أبهما ... في ناشد أو منشد
إذ الإله نشر ... رحمته في العالمين ... ارسالا
أزال حكم الغير ... وجاء أصحاب اليمين ... ارسالا
وقال أيضا:
إني وذكر من يأتي فيذكرني ... بأفضل الذكر في نفس وفي ملأ
__________
(1) السّرى: السير ليلا.
(2) الإزار: الثوب.
(3) السنا: النور.(1/125)
الصحوة من غلبة الحال
[من مجزوء الرمل] [13] (13)
1 - اقتلوني يا ثقاتي ... إنّ في قتلي حياتي
2 - ومماتي في حياتي ... وحياتي في مماتي
3 - أنا عندي محو ذاتي ... من أجلّ المكرمات
4 - وبقائي في صفاتي ... من قبيح السّيّئات
5 - سئمت روحي حياتي ... في الرّسوم (5) الباليات
6 - فاقتلوني واحرقني ... بعظامي الفانيات
7 - ثمّ مرّوا برفاتي ... في القبور الدّارسات ... (7)
8 - تجدوا سرّ حبيبي ... في طوايا الباقيات
9 - إنّني شيخ كبير ... في علوّ الدّارجات
10 - ثمّ إنّي صرت طفلا ... في حجور المرضعات
11 - ساكنا في لحد قبر ... في أراض سبخات ... (11)
12 - ولدت أمّي أباها! ... إنّ ذا من عجباتي ... (12)
13 - فبناتي بعد أن كن ... ن بناتي أخواتي
14 - ليس من فعل زمان ... لا، ولا فعل الزّناة
15 - فاجمع الأجزاء جمعا ... من جسوم نيّرات
16 - من هواء ثمّ نار ... ثمّ من ماء فرات
17 - فازرع الكلّ بأرض ... تربها ترب موات
18 - وتعاهدها بسقي ... من كؤوس دائرات
19 - من جوار ساقيات ... وسواق جاريات
20 - فإذا أتممت سبعا ... أنبتت خير نبات
__________
(13) [13]
يقول الحلاج: طالما هذا الجسد ترب رميم فليصنع به الناس ما يريدون، فإن الروح عائدة إلى الديان العليم، ولا خير: حياة كالموت، طالما هناك حياة حقيقية يمكن اختراق الحجب إليها. (نشأة التصوف ص 254).
(5) 5الرسوم: جمع رسم، وهو الخلق وصفاته، لأن الرسوم هي الآثار.
(7) 7الدارسات، من قولهم: درست الريح الأثر: إذا محته.
(11) 11السبخة: أرض ذات ملح ونزّ.
(12) 12شرح الأمير عبد القادر الجزائري (ت 1300هـ / 1882م) ما يتعلق بولادة الأب من الابن وما إلى ذلك، فقال: (إنّ كل شيء كان سببا أو شرطا في ظهور شيء كان أبا به من ذلك الوجه، وقد يكون الابن عين الأب لكونه له عليه ولادة من وجه، وقد يكون الأب عين الابن كذلك ومن هذا المقام يقول ابن الفارض:
وإني وإن كنت ابن آدم صورة ... فلي فيه معنى شاهد بأبّوتي
وقول الحلاج:
ولدت أمي أباها ... إنّ ذا من عجباتي
وأبي طفل صغير ... في جحور المرضعات
فكل من له عليك ولادة من أي نوع في أي صورة كان من ظاهر وباطن واسم إلهي ومخلوق فهو ابنك. وكل من له عليك ولادة من أي نوع وفي أي صورة كان، من ظاهر وباطن واسم إلهي ومخلوق، فهو أبوك.(1/125)
الحاضر الغائب القريب البعيد
[من الخفيف] [14]
1 - لي حبيب أزور في الخلوات ... حاضر غائب عن اللّحظات
2 - ما تراني أصغي إليه بسرّي ... كي أعي ما يقول من كلمات؟
3 - كلمات من غير شكل ولا نق ... ط ولا مثل نغمة الأصوات
4 - فكأنّي مخاطب كنت إيّا ... هـ على خاطري بذاتي لذاتي
5 - حاضر غائب قريب بعيد ... وهو لم تحوه رسوم الصّفات
6 - هو أدنى من الضمير إلى الوه ... م وأخفى من لائح الخطرات(1/126)
ذاك الإله الذي عمّت عوارفه ... أتى به السيد المعصوم في النبأ
كما أتى نبأ من هدهد صدقت ... أخباره لنبيّ الريح من سبأ (1)
فالذكر يحجبني والذكر يكشف لي ... خبأ السماء وخبأ الأرض في نبأ (2)
صدق ويعضد وما لا أفوه به ... فيه وإني في خصب من الكلأ
أشاهد العين في ضيق وفي سعة ... لما جلوت مرآة القلب من صدأ
وكلما وطئت رجلي مجالسه ... مجالس الذكر بالأغيار لم تطأ
غير أن ما منع السؤال من بخل ... لكنه لاقتضاء العلم لم يشأ
إن الوجود الذي أبصرته عجب ... فيه الخسارة والأرباح إن يشأ
أخبره بالحال يا حالي إذا سألت ... آياته البينات الغرّ عن نبىء
بأنني من بلاد أنت ساكنها ... ولست والله من سلمى ولا أجأ (3)
إن كان أوجدني الرحمن من ملأ ... فالفرد أوجدني من قبل في ملأ
إني وجدت علوما ليس ينكرها ... إلا الذي هو في جهد وفي عنأ
وقال أيضا في حروف أوائل السور المسماة لما وقع التلفظ بأسماء حروفها لا بحروفها:
حروف أوائل السور ... يبينها تباينها
إن أخفاها تماثلها ... لتبديها مساكنها
فمفردها مثناها ... إذا ما جاء ساكنها
يثلثها لتربيع ... إلهيّ مساكنها
ويحفظها لخمستها ال ... ذي منها يعاينها
فيا عجبا لقد أبدت ... منازلنا أماكنها
وبالإيمان يحجبها ... عن إدراكي مصاونها
لها شطر من الفلك ال ... ذي تبدي ضنائنها
تولدها إذا نكحت ... بلا مهر كنائنها
فلو زادت على خمس ... فمن عندي بنائنها
لقد أعيت خبير القو ... م إعجازا معانيها
وأين بيان معربها ... وعجمتها تراطنها (4)
لقد بانت لأعيان ... تحققها مواطنها
__________
(1) في البيت إشارة إلى النبي سليمان عليه السلام وتسخير الريح له.
(2) الذكر: يريد: الخروج من ميدان الغفلة إلى فضاء المشاهدة على غلبة الخوف أو لكثرة الحب، ومن أقسامه: ذكر اللسان، وذكر الخواص وهو ذكر القلب، وذكر السر.
(3) أجأ وسلمى: جبلان.
(4) التراطن: التكلم بغير العربية.(1/126)
صفت فينا مشاربها ... وعزّ عليك آسنها (1)
وما منعت من الزلفى ... إلى ربي معاطنها (2)
تحلّ بنا ملائكة ... إذا فرّت شياطنها
حروف كلها علم ... أتتك بها محاسنها
ولا يدريه إلا من ... يكون به يحاسنها
وما أبدت سوى شطر ... وما أخفت ضنائنها (3)
فما أخفاه مضمرها ... لقد أبداه كائنها
وقال أيضا في النوم مرتجلا: وقد رأى شخصا، قد ثبت له حق على ميت من أصحابه، فجاز به كتابا كان في وعاء، كان مما خلفه الميت، فقال له شخص في النوم: لم حازه هذا دون الوارث؟ فأجابه:
ضم الكتاب إلى الوعاء فحازه ... ما كل من ضم الكتاب يحوز
لولا ثبوت الحقّ لم يجز الذي ... قد كان لكن بالثبوت يجوز
وقال أيضا في حروف لو ولولا وإن:
قد حزت من عدمي بالكون ما ثبتت ... في العين صورته والكون لله
فالحكم فينا لنا فليس يظلمنا ... وقامت الحجة الغرّاء لله
ما للمحالات في العين الثبوت وقد ... أقامها العقل للأوهام لله
والطبع ساعده والطرف شاهده ... شهود وهم بأحكام من الله
لو لم يرد لم يكن وقد أراد فكان ... ولو فليس لها حكم مع الله
من يزرع المنع لم يحصد سوى عدم ... والجود يزرع والايجاد لله
وحيثما ثبتت في العين صورتها ... فليس ينتج إلا المنع والله
ويضعف الحكم فيها إن قرنت بها ... وجود لا حكمة أيضا من الله
لولا تحقق لو دان لنيط به ... خلاف ما يستحق الذات والله
فرحمة الله بالأعيان أوجدت ... الألحان فاحكم بها جودا من الله
ضاق النطاق على من ليس يعرفها ... ولست تعرفها إلا من الله
فإنه أوجد الأكوان أجمعها ... تفضّلا وعنايات من الله
فليس يشهد في الأكوان كائنة ... وحكمها أحد إلا من الله
__________
(1) الآسن من الماء: المتغير الفاسد.
(2) المعاطن: جمع المعطن: مبرك الإبل حول الماء.
(3) ضنائن الله: خواص خلقه. والضنين: البخيل.(1/127)
قافية الثاء
موت وحياة
[من البسيط] [15]
1 - والله لو حلف العشّاق أنهم ... موتى من الحبّ أو قتلى لما حنثوا ... (1)
2 - قوم إذا هجروا من بعد ما وصلوا ... ماتوا (2)، وإن عاد وصل بعده بعثوا
3 - ترى المحبّين صرعى في ديارهم ... كفتية الكهف: لا يدرون كم لبثوا (3)
قافية الحاء
عن أحمد بن عطاء بن هاشم الكرخيّ قال: خرجت ليلة إلى الصحراء، فرأيت الحلّاج يقصدني. فملت إليه وقلت: السلام عليك أيّها الشيخ. فقال: هذا كلب بطنه جائع فأتني بحمل مشويّ ورغفان حوّارى وأنا واقف ههنا. فمضيت وحصّلت ما أحضرته. فربط الكلب بإحدى رجليه ووضع الحمل والرغفان بين يديه حتى أكله، ثمّ خلّى الكلب وأرسله وقال لي: هذا الذي تطالبني به نفسي منذ أيّام [15]
__________
(1) 1الحنث في اليمين: نقضها والنكث فيها.
(2) 2المراد بالموت هنا: الموت المعنوي لا الحسي، أي هو الحجاب عن أنوار المكاشفات والتجلي فمن مات عن هواه حيى بهداه.
(3) 3في هذا البيت إشارة إلى قوله تعالى في سورة الكهف، الآية 10: {إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقََالُوا رَبَّنََا آتِنََا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً}.(1/127)
فاحمد وزد واعترف بالكون من عدم ... واشكر إلهك لا تشكر سوى الله
إني أتيت علوما في قصيدتنا ... تخفى على كل محجوب عن الله
وقل بها إنها العلم الصحيح ولا ... تعدل إلى غيرها تدنو من الله
لا تركننّ إلى شيء تسرّ به ... إلا وتشهده جودا من الله
تدفع غوائله بما اتصفت به ... من الشهود فلا تغفل عن الله
ولا تخف من أمور أنت تحذرها ... إلا وعصمتكم فيها من الله
قصدي حضورك لا تغفل وكن رجلا ... لله بالله في الله مع الله (1)
فكن كسهل وأمثال له علموا ... في أنّ كون وجود الله الله (2)
يا بردها حكمة ذوقا على كبدي ... الحال جاء بها فضلا من الله (3)
وقال أيضا وما ألقي إليه إلا بإقوائه على غير شعور منه بذلك:
الحقّ ما بين معلوم ومجهول ... برهانه بين معقول ومنقول (4)
شرحه منه:
فمن يكون بنا حقا فنعلمه ... ومن يكون به حقا فمجهول
والنقل يأخذه بالعقل فهو به ... فقد ترجّح بالتفصيل معقول
قال الوارد:
وقد تردّدت الألباب حائرة ... في موجد بين مشروط ومعلول
شرحه منه أيضا:
فما لنا علّة في الحكم ثابتة ... إلا بنا وهو شرط فيه تفصيل
ثم قال الوارد:
وانظر إلى خلقه في كل آونة ... تجده ما بين منصور ومخذول
شرحه منه أيضا:
النصر في الخلق إيمان يقوم بهم ... ولا أقول بمن ففيه تضليل
__________
(1) ظاهر القول يفيد الحلول، فليحذر.
(2) الكون مخلوق لله تعالى، وقد خلقه الله ليس لحاجة.
(3) الحال: هو ما يرد على القلب من طرب أو حزن أو بسط أو قبض.
وبناء على هذا يكون ما قاله في الأبيات السابقة، قد قاله وهو في وضع الطرب!
(4) المعقول: هو ما يقره العقل المحض. والمنقول: ما جاء في الشريعة.(1/128)
وكنت معنفها حتى أخرجتني الليلة في طلبه والله تعالى غلّبني عليها. ثم طاب وقته وأنشأ يقول في وجده:
[من الطويل] [16]
1 - كفرت بدين الله والكفر واجب ... عليّ، وعند المسلمين قبيح (1)
ثم قال لي: ارجع ولا تقف أثري فيضرّك.
قافية الدال
القرب والبعد
[من الطويل] [17]
1 - فما لي بعد بعد بعدك بعد ما ... تيقّنت أنّ القرب والبعد واحد ... (2)
2 - وإنّي وإن أهجرت فالهجر صاحبي ... وكيف يصحّ الهجر والحبّ واحد
3 - لك الحمد في التّوفيق في محض خالص ... لعبد زكيّ ما لغيرك ساجد
[16]
__________
(1) 1هذا البيت من شطحات الصوفية وليس معناه ما يتراءى للقارئ العابر، بل المقصود أن للدين شكلين: شكلا بسيطا يتمثل في الشرائع العلمية المعروفة التي ترتبط بالأنبياء، بوصفهم وسائط بين الله والناس، وشكلا آخر جوهريّا خالصا لا يعرفه الناس بل قد لا يؤمنون به بسهولة. والحلاج يكفر بدين الله أي يغطيه ولا يبوح به: باستعمال كلمة الكفر استعمالا لغويّا لا اصطلاحيّا.
وانظر البيت ضمن أخباره برقم 66، وقارن البيت مع القطعتين رقم (32)، (73).
[17]
(2) 1البعد: بعد العبد عن المكاشفة والمشاهدة، وقيل هو الإقامة على المخالفة.
وانظر البيت الثاني من القطعة (19) التالية.
علق البقلي على هذه الأبيات: (قال: القرب والبعد واحد في التوحيد إلا للمتحنين، والهجر والوصل واحد إلا للمطرودين، وإذا سجدت لآدم مأمورا فقد سجدت للحق، إذا لم يكن غيره، لأن الغيرية بدت له من حيث كان محتجبا من القدم بالحدث).
وانظر الأبيات في طواسينه، رقم (6) طاسين الأزل والالتباس في فهم الفهم.(1/128)
ثم قال الوارد:
قد جاءك القول يا موسى على قدر ... والقول ما بين متروك ومقبول
شرحه أيضا منه:
ما يقبل القول إلا أن ترى نسب ... تقول للخلق في أعيانها حولوا (1)
ثم قال الوارد:
ولتنظر الأمر فيما قد تشاهده ... فالأمر من حامل يبدو ومحمول
شرحه منه أيضا:
وخذ من الأمر ما يعطيك حامله ... فإنه قابل في الحسّ مقبول
ثم قال الوارد:
قد أفصح الشان فيما قد أتاك به ... فإنه بين موصول ومفصول
شرحه منه أيضا:
من شانه الفصل لم توصل حقيقته ... فإنّ عين الهوى بالوصل مملول
ثم زاد وارد الشرح:
هذا الثبوت الذي ما فيه تعطيل ... الروض منها إذا استنشقت مطلول
لذاك يخرج ما فيه على صور ... شتى تراها فتبديل وتحويل
لا تسكننّ إلى صور تشاهده ... فيه فغايته في الحسّ تبديل
واثبت على الجوهر الأصليّ تخط به ... علما أتاك به من صدقه القيل (2)
الله أعظم قدرا أن يحاط به ... علما فما هو للبرهان مدلول
إنّ استنادي إليه لا أكيفه ... فكيف أعلمه والعلم تحصيل (3)
وليس عندي منه ما أعينه ... إلا افتقاري إليه فهو محصول
كما علمت غناه عن خليقته ... من اسمها عالما أعطاه تنزيل
كفى يسرّح ما عقلي يقيده ... فبيت عقلك بالأفكار معقول
__________
(1) الأعيان الثابتة هي حقائق الممكنات في علم الحق تعالى، والعين إشارة إلى ذات الشيء الذي تبدو منه الأشياء.
(2) الجوهر: ماهية إذا وجدت في الأعيان كانت لا في موضوع.
(3) في هذا البيت والذي قبله تنزيه لله تعالى عن الكيف.(1/129)
لا تلمني
[من الخفيف] [18] (18)
1 - لا تلمني، فاللوم منّي بعيد ... وأجر سيّدي، فإنّي وحيد
2 - إنّ في الوعد، وعدك الحقّ حقّا ... إنّ في البدء، بدء أمري شديد
3 - من أراد الكتاب هذا خطابي ... فاقرأوا واعلموا بأنّي شهيد
شرف الإنسان
[من المجتث] [19]
1 - تأمّل الوجد وجد ... والفقد في الوجد فقد ... (1)
2 - والبعد لي منك قرب ... والقرب لي منك بعد ... (2)
3 - وكيف يثبت ثان ... وأنت، يا فرد، فرد
4 - فذاك قلب للمعاني ... وليس من ذاك بدّ
5 - والشّرك إثبات غير ... والشّرك لا شكّ جحد
6 - فجاء من ذا [ك أني] ... بوصف غير أعدّ
7 - أعدّ في الناس مولى (7) ... لأنني فيه عبد
__________
(18) [18] انظر الأبيات في طواسينه، رقم (6) طاسين الأزل والالتباس في فهم الفهم.
[19]
(1) 1الوجد: خشوع الروح عند مطالعة سر الحق، وقل: عجز الروح من احتمال غلبة الشوق عند وجود حلاوة الذكر، والوجد لا يكون إلا لأهل البدايات لأنه يرد عقب الفقد، فمن لا فقد له فلا وجد له. والفقد هو ذهاب القلب عن حس المحسوسات بمشاهدة ما شاهد.
(2) 2قارن هذا البيت مع البيت الأول من القطعة رقم (17).
(7) 7المولى: العبد والسيد، وأراد هنا السيد.(1/129)
أنسي ومرادي
[من مجزوء الرمل] [20] (20)
1 - قد تصبّرت، وهل يصب ... ر قلبي عن فؤادي
2 - مازجت روحك روحي ... في دنوّي وبعادي
3 - فأنا أنت كما أنّ ... ك أنّى ومرادي
الانفراد بالحبيب
[من المجتث] [21]
1 - أنتم ملكتم فؤادي ... فهمت في كلّ واد
2 - ردّوا علي فؤادي ... فقد عدمت رقادي
3 - أنا غريب وحيد ... بكم يطول انفرادي
قافية الراء
[من الرجز] [22] (22)
1 - يا طالما غبنا عن اشباح النّظر ... بنقطة يحكي ضياؤها القمر
2 - من سمسم وشيرج (2) وأحرف ... وياسمين في جبين قد سطر
3 - فامشوا ونمشي ونرى أشخاصكم ... وأنتم لا ترونّا يا دبر (3)!
__________
(20) [20] قال ابن عربي في الفتوحات المكية 3/ 155طبعة مصر 1293قبل إنشاد هذه الأبيات:
(وفيها ما ادعت ذلك في حال السكر عليه وما أخلص، فبهذا سعد، وإن شقي به آخرون، فلا جناح عليه ولا حرج، لأنه سكران وهم المسؤولون).
وأثبت د. الشيبي في البيت الثالث: (أنسي) مكان (أني).
(22) [22] يرى د. الشيبي أن هذه القطعة من الألغاز الشعرية التي نسبت إلى الحلاج وفيها تصحيف كثير وعامية بلدية.
وهذه الأبيات تتضمن أسماء المواد المستعملة في عملية الاختفاء عن الأنظار.
(2) 2الشيرج: دهن السمسم.
(3) 3الدبر: الذاهبون.(1/130)
فصاحب الفكر بالأوهام في جهة ... وصاحب الكشف بالتنزيل مقبول (1)
وقال أيضا يذكر حروف أوائل سور القرآن المجهولة:
ألف لام ميم وذلك ما أردنا ... من إنزال الكتاب على وجود
ألف لام ميم سجيّ ليس يفنى ... لما يعطى الفناء من الجحود
ألف لام ميم بصاد عند صاد ... لو أرد علمه عند الشهود
ألف لام را لسابقة أتينا ... بصدق الوعد لا صدق الوعيد
ألف لام را لقد عظمت أمرا ... يشيب لهوله رأس الوليد
ألف لام را مبشرة تجلت ... بسجدتها على رغم الحسود
ألف لام ميم ورا لوميض برق ... يبشّرني بإقبال الرعود
ألف لام را أنست به خليلا ... إلى يوم النشور من الصعيد
ألف لام را بميزان صدوق ... فصلت به المراد من المريد
وكاف ها يا يربعهن عين ... إلى صاد تطأطأ للسجود
وطاها ما رأيت له نظيرا ... إذا حضر المشاهد بالشهيد
وطاسين ميم يضيق لها صدور ... وروح الشّعر في بيت القصيد
وطاسين جاء مقتبسا لنار ... وكلّمه المهيمن بالوجود
وطاسين ميم قتلت به قتيلا ... لينقله إلى ضيق اللحود
ألف لام ميم لأوهن بيت شخص ... تولع بالذباب من الصّيود
ألف لام ميم غلبت الروم فيه ... ليغلبني بآيات المزيد
ألف لام ميم ليحفظ بي وصايا ... سرت في الكون من بيض وسود
ألف لام ميم ينزل من مقام ... إلهيّ إلى حال العبيد
وياسين قلب قرآن عظيم ... له التمجيد من كرم المجيد
وصاد شكركم إياه شرعا ... وعقلا ساريا طلب المزيد
وحاميم غافرا ذنبا مبيرا ... حمدت بحمده حمد الحميد
وحاميم فصلت آيات قول ... فداه بالطريف وبالتليد (2)
وحاميم عين سين القاف منه ... بتنزيه المشاهد من بعيد
وحاميم قام بالدرجات فينا ... يسخرنا بأبنية العقود
__________
(1) يريد بأن الذي يعتمد على العقل وحده قد يؤدي به عقله إلى التوهم في بعض الأحيان، فلا يصيب الحقيقة كلها. وصاحب الكشف ويعني صاحب الإطلاع على ما وراء الحجاب من المعاني الغيبية والأمور الحقيقية وجودا وشهودا، وهو الذي يعرف الحقائق.
(2) الطارف: المال المستحدث. التليد: المال القديم الموروث.(1/130)
فهم الإشارة ونطق العبارة
[من المتقارب] [23] (1)
1 - كتبت إليه بفهم الإشاره ... وفي الأنس فتّشت نطق العباره
2 - كتابا [له] منه عنه إليه ... يترجم عن غيب علم الستاره
3 - بواو الوصال ودال الدّلال ... وحاء الحياء وطاء الطّهاره
4 - وواو الوفاء وصاد الصّفاء ... ولام وهاء لعمر مداره
5 - على سرّ مكنون وجد الفؤاد ... وخاء الخفاء وشين الإشاره
6 - وللحقّ في الخلق حق حقيق ... بحقّ إذا حقّ حقّ الزّياره
7 - بهم لا بهم، إذ هم لا هم ... ولا غيرهم في سموّ السّراره
8 - فكلّ بكل جميع الجميع ... من الكلّ بالكلّ حرف نهاره
9 - هو الطّين والنّار والنّور إذ ... يعود الجواب بعقب العباره
10 - ويبقى الّذي كان قبل المكان ... محيطا على الكلّ بالعلم داره
11 - ويحشر أعداءه عاجلا ... من الجنّ والإنس في حرّ ناره
12 - ويسكن أحبابه قربه ... بطيب النّعيم وحسن النّظاره
13 - وهو هو بدء [لبدء] البدايا ... وهو هو دهر [دهور] الدّهاره
الوصف بعين العقل
وقال: عين التوحيد مودعة في السر، والسر مودع بين الخاطرين، والخاطران مودعان بين الفكرتين، والفكرة أسرع من لواحظ العيون.
[23]
__________
(1) 1الإشارة: أحد علوم الصوفية، وسمي بذلك لأن مشاهدات القلوب ومكاشفات الأسرار لا يمكن العبارة عنها على التحقيق، بل تعلم بالمنازلات والمواجيد، ولا يعرفها إلا من نازل تلك الأحوال وحل تلك المقامات. وسأل بعض المتكلمين أبا العباس بن عطاء: ما بالكم أيها المتصوفة قد اشتققتم ألفاظا أغربتم بها على السامعين، هل هذا إلا طلب للتمويه أو ستر لعوار المذهب؟ فقال أبو العباس: ما فعلنا ذلك إلا لغيرتنا عليه، لعزته علينا، كيلا يشربها غير طائفتنا ثم اندفع يقول:
إذا أهل العبارة سائلونا ... أجبناهم بأعلام الإشاره
نشير بها فنجعلها غموضا ... تقصر عنه ترجمة العباره
انظر التعرف للكلاباذي ص 107105، الباب (31).(1/131)
وحاميم دخنة لعذاب قوم ... اليم في عقوبته شديد
وحاميم قد جثت لقدوم شخص ... حقيقة عينه ظهرت بجود
وحاميم لقد تفرّد في اجتماع ... ليلحق بالصعود من الصعيد (1)
وقاف أنزلته مني بخسر ... نزول الروح من حبل الوريد
ونون أقلامه قد فصلته ... ليعلم خصمها صدق الشهود (2)
رمزت حقائقا فيها معان ... علت من أن تحصل بالقصود
وليس ينالها كرما وجودا ... إذا حققتها غير السعيد
طلبت وجوده من غير حدّ ... فقال العلم عيني في الحدود
ألا إنّ البراءة من قيود ... لأوثق ما يكون من القيود
فى ارواح السور
وقال أيضا في أرواح السور في تحقيق العظمة الإلهية من روح الفاتحة:
الحمد لله ربّ العالمين على ... ما كان منه من الأحوال في الناس
مما يسرّهم مما يسؤهم ... وكلّ ذلك محمول على الراس
له الثناء له التمجيد أجمعه ... من قبل والدنا المنعوت بالناسي (3)
عبدته وطلبت العون منه كما ... قد قال شرعا على تحرير أنفاسي
وأن يهيىء لي من أمرنا رشدا ... وأن يليّن مني قلبي القاسي
حتى أكون على النهج القويم به ... خلقا كريما بإسعاد وإيناس
الله نور تعالى أن يماثله ... نور وقد لاح لي في نار نبراس
لو قال خلق به من دون خالقه ... لكفروه وما في القول من باس
لأنه مثل لو قلته قيل هل ... لداء هذا الذي قد قال من آسي
وما جهلت سوى أوقاتها ولذا ... نهيت عنها ووسواسي وخناسي (4)
فلو تجارت لها سبقا خيول نهى ... فازت بها في سباق الكشف أفراسي
وقال أيضا في الحياة البرزخية من روح البقرة (5):
إذا كانت الأشياء تبدو عن الأمر ... تساوى الدنيّ الأصل والطيّب النجر (6)
لقد ضربوه قاطعين بأنه ... إذا ضربوه لا يقوم من القر
فأنطقه للقوم ثم أعاده ... إلى الحالة الأولى إلى مطلع الفجر
__________
(1) الصعيد: التراب.
(2) النون: الدواة.
(3) أراد بالوالد الناسي: الإنسان.
(4) الوسواس الخناس: الشيطان.
(5) الحياة البرزخية: ما بين الآخرة والدنيا.
(6) النجر: الأصل الطيب.(1/131)
[من الطويل] [24]
1 - لأنوار نور النّور في الخلق أنوار ... وللسّرّ في سرّ المسرّين أسرار
2 - وللكون في الأكوان كون مكوّن ... يكنّ له قلبي ويهدي ويختار
3 - تأمّل بعين العقل ما أنا واصف ... فللعقل أسماع وعاة وأبصار
[من الطويل] [25] (25)
1 - كفاك بأن الصّحو أوجد أنني ... فكيف بحال السّكر والسّكر أجدر
2 - فحالاك لي حالان: صحو وسكرة ... فلا زلت في حاليّ أصحو وأسكر
حقيقة الحق
[من البسيط] [26]
1 - حقيقة الحقّ تستنير ... صارخة «بالنّبأ خبير»
2 - حقيقة [فيه] قد تجلّت ... مطلب من رامها عسير
خيفة العار
[من مخلع البسيط] [27]
1 - يا شمس، يا بدر، يا نهار ... أنت لنا جنّة ونار
2 - تجنب الإثم فيك إثم ... وخيفة العار فيك عار
3 - يخلع فيك العذار قوم ... فكيف من لا له عذار!؟
__________
(25) [25] ورد البيتان في التعرف لمذهب أهل التصوف للكلاباذي ص 140، وأنشدهما منسوبين إلى بعض الكبار، وعلق على البيتين بقوله: (معناه أن حالة التمييز إذا أسقط عني مالي وأوجد مالك، فكيف يكون حالة السكر وهو سقوط التمييز عني، ويكون الله هو الذي يصرفني في وظائفي ويراعيني في أحوالي، وهاتان حالتان تجريان عليّ، وهما لله تعالى لا لي، فلا زلت في هاتين الحالتين أبدا.
وروى الشيبي صدر البيت الأول كما يلي: (كفاك بأن السكر أوجد كربتي).(1/132)
كما سبّح الحصباء في كفّ سيّد ... وأصحابه الأعلام كالأنجم الزهر (1)
فما كانت الآيات إلا سماعهم ... وهذا الذي قد جاء ضرب من النثر
وكلّ له حال ووقت معيّن ... فحال إلى كشف ووقت إلى ستر (2)
فما كان من شام يراه ممثلا ... فيبصره حيّا إذا كان من مصر
وجاء الذي مثلي غريبا مقرّرا ... يقول الذي قالاه ما فيه من نكر
فمن شاء فليكفر ومن شاء فليقل ... بأني على حق يقين من الأمر
لقوّة إيماني بما قال خالقي ... وصدقي الذي قد قرّر الله في صدري
وقال أيضا فيمن كمل من النساء من روح آل عمران:
يا آل عمران إنّ الله فضلكم ... بمريم بنت عمران التي كملت
بما رآه الذي لله كفلها ... من العناية فيما فيه قد كفلت
أتى إليها وفي محرابها طبق ... فقال: ماذا فقالت: رتبة عجلت
خذها إليكم فإنّ الله أطلعكم ... لتسألوه فإن النفس ما بخلت
فكان يحيى حصورا مثلها وبها ... لهمة من أبيه عنده حصلت
فاستفرغت طاقة الإنسان حالتها ... هذي مقالتها لو أنها سئلت
لقد نظرت إليها وهي سافرة ... فما به فصلت به لها وصلت
فانظر إليها وسلمها لخالقها ... فإن نفسك تجزى بالذي عملت
وقال أيضا في الدعاء بالتحذير بلسان النذير من روح النساء:
يا أيها الناس خافوا الله واعتمدوا ... عليه في كلّ حال إنكم صبر
ولا يزال وجود الحقّ عينكم ... في هذه الدار حتى ينقضي العمر
إذا نقلتم إلى الأخرى فإنّ لكم ... فيها شؤونا يراها من له نظر
هناك والمؤمنون العالمون بها ... يرونها بعيون ما لها بصر
فيها الكمال الذي بالنشىء أطلبه ... فيها المنافع ما فيها لنا ضرر (3)
قد خص بالضرّ أقوام ذو وأعمه ... في دار خزي لهم فيها بما كفروا (4)
جاءت سعادتهم تمشي على قدم ... فيما ابتلاهم به لو أنهم صبروا
أعماهم الله عن أمر له خلفوا ... حتى يكون الذي يأتي به القدر
أشقاهم الله في أشياء تسرّهم ... قد زينت لهم فيهم وما شحروا
__________
(1) الحصباء: الحصى.
(2) الحال: ما يرد القلب من طرب أو حزن أو بسط أو قبض.
(3) يريد أن في الآخرة فوزا للمؤمنين.
(4) يريد أن للكفار في الآخرة خزيا بما كفروا.(1/132)
لو أنهم صبروا ما كان حالهم ... إلا السعادة والإسعاد والظفر
وقال أيضا في الوفاء تقليدا بلسان البشير من روح العقود:
يا أيها المؤمنون أوفوا ... فإنكم في الذراع وقف
زينتم إذ كتبتوه ... لذاك أنتم عليه وقف
إن كان في قلبكم سواكم ... فهو لما يحتويه ظرف
والحق بي قد أشار نحوي ... فقلت ماذا فقال لطف
منى بمن كان لي جليسا ... فيه معان وفيه ظرف
ما كنت أجني عليّ إلا ... حتى ترى العين كيف تغفو
فإنه سيّد كريم ... لذاك نفسي إليه تهفو
وقال أيضا في حال نزول السكينة في الغمام لتلاوة القرآن من روح سورة الأنعام:
الحمد لله الذي أعلما ... بأنه الله الذي في السما (1)
وأنه في الأرض سبحانه ... على الذي قال لنا معلما
بأنه يعلم أسرارنا ... وجهرنا والمكسب الأعظما
ثم له من قبل إيجادنا ... اينية أثبتها في العمى
وشاب لي أربا بسرّي إذا ... كان معي في حالتي أينما (2)
فيأخذ المغرور ما قاله ... بأنه بشرى بما أنعما
والحذر النحرير يدري الذي ... جاء به محذّرا منعما (3)
وإنه سبحانه بالذي ... قال لنا أوضح ما أبهما
بعين هذا وبأمثاله ... يسعد من آمن إن أسلما
لا تعذلوه بالذي لم يزل ... خلقا لكم أو لم يزل في عما
كمثل فرعون وأشباهه ... وما نحتم فاحذروا منهما
وقال أيضا في مشامّ العارفين الأعراف الطيبة، وهم المسمّون عالم الأنفاس، وما رأيت منهم سوى رجلين من الكمل بإشبيلية، وممن نزل عن الكمال منهم القنجباري، من روح الأعراف:
__________
(1) قوله: «الله الذي في السما» يعني: الله الذي رحمته في السماء. فالسماء مخلوقة لله تعالى وهو ليس محتاجا إليها ولا إلى غيرها.
(2) السر: لطيفة مودعة في القلب كالروح في البدن، ونور روحاني هو آلة النفس وهو محل المشاهدة كما أن الروح محل المحبة.
(3) النحرير: الحاذق الماهر، العاقل الفطن.(1/133)
دلال
[من الوافر] [28] (28)
1 - دلال، يا محمد، مستعار ... دلال بعد أن شاب العذار؟!
2 - ملكت وحرمة الخلوات قلبا ... لعبت به وقرّ به القرار
3 - فلا عين يؤرّقها اشتياق ... ولا قلب يقلّقه ادّكار
4 - نزلت بمنزل الأعداء منّي ... وبنت، فلا تزور ولا تزار
5 - كما ذهب الحمار بأمّ عمرو ... فلا رجعت ولا رجع الحمار
[من الكامل] [29] (29)
1 - أبدى الحجاب فذلّ في سلطانه ... عزّ الرّسوم وكلّ معنى يخطر
2 - هيهات يدرك ما الوجود وإنّما ... لهب التّواجد رمز عجز يقهر
3 - لا الوجد يدرك غير رسم داثر ... والوجد يدثر حين يبدو المنظر
4 - قد كنت أطرب للوجود مرّوعا ... طورا يغيبني وطورا أحضر
5 - أفنى الوجود بشاهد مشهوده ... أفنى الوجود وكلّ معنى يذكر
حرمة الودّ
[من السريع] [30] (30)
1 - وحرمة الودّ الذي لم يكن ... يطمع في إفساده الدّهر
2 - ما نالني عند هجوم البلا ... بأس ولا مسّني الضّرّ
3 - ما قدّ لي عضو ولا مفصل ... إلّا وفيه لكم ذكر
__________
(28) [28] وردت هذه الأبيات في تاريخ بغداد 8/ 116، وأنشدها أبو عبد الله محمد بن عبيد الله الكاتب عن الحلاج عند ما حبس معه في المطبق.
وهذه الأبيات من شعر الحلاج الحسي الساخر وفيها سلاسة وحسن تصرف في التضمين.
(29) [29] وردت الأبيات في التعرف لمذهب أهل التصوف للكلاباذي ص 135، ونسبها إلى بعض الكبار، وفي الصفحة 134: (الوجد: هو ما صادف القلب من فزع، أو غم، أو رؤية معنى من أحوال الآخرة، أو كشف حالة بين العبد والله عزّ وجل. فمن ضعف وجده تواجد، والتواجد: ظهور ما يجد في باطنه على ظاهره، ومن قوي تمكن فسكن).
وقال بعضهم: الوجد بشارات الحق بالترقي إلى مقامات مشاهداته.
(30) [30] قدّ: قطع.(1/133)
إذا كانت الأعراف تعطى عوارفا ... فإن السليم الشمّ لينشق العرفا (1)
ولا يقبل الرحمن منه إذا أتى ... قبول الذي قد شمّ عدلا ولا صرفا
وإن جاءه الإقبال من كلّ جانب ... ولم يقبل الرحمن لم يكن إلّا حفى
وإياك واستدراجه في عباده ... فإنّ لمكر الله في خلقه عرفا
يراه الذي ما زال فيهم مقدّما ... فيعز له حكما ليشربه صرفا
وقال أيضا في المصيب بالمصادفة ما هو الأمر عليه من روح الأنفال:
إذا صادف الإنسان علما من الحق ... فليس بعلم عنده وهو في الذوق
لمن قاله بالكشف علم محقق ... به يقعد الإنسان في مقعد الصدق
وما حازه إلا إمام مجرّد ... نزيه عن الثوب المحيّر والريق
به يشرب الإنسان ماء حياته ... به تفتق الأسماع إن كنّ في رتق (2)
إذا طلعت شمس من الغرب صيّرت ... بمطلعها الغرب المحقق في شرق
كفار وقنا والمنتقى وخليفته ... وقد عاد حكم الله فيه لذي السّبق
فلو كان عن كشف لما كان باكيا ... ولو كان عن ظنّ لما قال بالعتق (3)
وقال أيضا بلسان الإيعاد والاعتبار من روح التوبة:
أتوب منه إليه ... لأنني في يديه
كما تعوّذ منه ... به القريب لديه
محمد خير شخص ... صلى الإله عليه
لو نلت منه مرادي ... قطفت من وجنتيه
ورد الحياء اعتبارا ... وجئت منه إليه
حاز الوجود كمالا ... من كان من راحتيه
كمثل آدم ممن ... سواه من جنتيه
لله بدر تبدّى ... إليّ من مطلعيه
أعطان قرّة عيني ... منه ومن مشهديه
وقال أيضا في بشرى بوراثة نبوية من روح يونس:
بشرى من الله الكريم أتت بها ... أرواح أملاك من الأمناء (4)
لرجال أهل ولاية معلومة ... معصومة الأنحاء والأرجاء
__________
(1) العرف: الرائحة العطرة.
(2) الرتق: ضد الفتق.
(3) الكشف: الاطلاع على ما وراء الحجاب من المعاني الغيبية والأمور الحقيقية وجودا وشهودا.
(4) أملاك، أي: ملائكة.(1/134)
سرائر
[من الطويل] [31]
1 - سرائر (1) سرّي ترجمان إلى سرّي ... إذا ما التقى سرّي وسرّك في السّرّ
2 - وما أمر سرّ السرّ (2) مني، وإنما ... أهيم بسرّ السّرّ منه إلى سرّي
3 - وما أمر أمر الأمر منّي وإنّما ... أمرت بأمر الأمر لمّا قضى أمري
4 - وما أمر صبر الصّبر (4) منّي وإنّما ... أمرت بصبر الصّبر إذ عزّني صبري
كمال العاشقين
عن إبراهيم بن فاتك قال: دخلت على الحلاج ليلة وهو في الصلاة مبتدئا بقراءة سورة البقرة، فصلّى ركعات حتى غلبني النوم، فلما انتبهت سمعته يقرأ سورة {حم عسق} (5) فعلمت أنه يريد الختم، فختم القران في ركعة واحدة وقرأ في الثانية ما قرأ فضحك إليّ وقال: ألا ترى أني أصلّى أراضيه من ظن أنه يرضيه بالخدمة فقد جعل لرضاه ثمنا، ثم ضحك وأنشأ يقول:
[من الطويل] [32] (32)
1 - إذا بلغ الصّبّ الكمال من الهوى ... وغاب عن المذكور في سطوة الذّكر
2 - يشاهد حقّا حين يشهده الهوى ... بأنّ كمال العاشقين من الكفر
[31]
__________
(1) 1السر: لطيفة مودعة في القلب كالروح في البدن، ونور روحاني هو آلة النفس.
وبدون السر تعجز النفس عن العمل ولا تفيد فائدة ما لم يكن السر هو همة معها.
(2) 2سر السر: ما انفرد به الحق عن العبد كالعلم في تفصيل الحقائق في إجمال الأحدية وجمعها واشتمالها على ما هي عليه {وَعِنْدَهُ مَفََاتِحُ الْغَيْبِ لََا يَعْلَمُهََا إِلََّا هُوَ} الأنعام: 59.
(4) 4الصبر على ثلاثة أوجه: متصبر وصابر وصبار، فالمتصبر من صبر في الله تعالى، والصابر من صبر في الله ولله ولا يجزع ولا يتمكن منه الجزع، والصبار: الذي صبره في الله ولله وبالله، فهذا لو وقع عليه جميع البلايا لا يعجز ولا يتغير من جهة الوجوب والحقيقة لا من جهة الرسم والخلقة.
(5) الشورى: 1، 2.
(32) [32] انظر البيتين ضمن أخباره برقم (43)، وقارن مع القطعة رقم (16)، (73). يرى الحلاج هنا أن الذكر واسطة تحجب، وألّا فضل في إحداث التوله إلّا لله. (نشأة التصوف ص 253).(1/134)
لعناية سبقت لهم من صدقهم ... حصلوا بها في رتبة النبآء
بوراثة مرعية محفوظة ... لرجال أهل رسالة وولاء
نالوا بها حسناه من إحسانهم ... في ساعة مشهودة غرّاء
ورثوا النبيّ تحققا وتخلقا ... بمعالم الكلمات والأسماء
فهم الذين يقال فيهم إنهم ... أبناؤهم وهم من الآباء
إنّ النبوّة يستمرّ وجودها ... دنيا وآخرة بلا استيفاء
ونبوّة التشريع أغلق بابها ... فلذاك حازوا رتبة السمراء
فهم الملوك من سواهم سوقة ... لا يشهدون مواقع الأشياء
نظموا حديث سميرهم فأنالهم ... نظم الحديث فصاحة البلغاء
فهم الضنائن في حفاظ مصاون ... من حرّها جرم بدار بلاء
حتى إذا انقلبوا إلى الأخرى بدت ... أعلامهم بسنا لهم وسناء (1)
وقال أيضا في تأثير الإخوان من روح هود:
أمر الإله من الإله تعلّق ... ما أمره في العالمين محقّق
إلا بواسطة الرسول فإنه ... أمر مطاع سرّه يتحقق
إن خالفت أمر الإله إرادة ... منه تكاد النفس منه تزهق
ولذاك شيبت النبيّ مقالة ... هي فاستقم فيما أمرت توفّق (2)
فإذا أراد نقيض ما أمرت به ... نفس المكلّف فالوقوع محقق
وقال أيضا في مكارم الأخلاق النبويّة من روح يوسف:
إن الفتى من يراعي حقّ خالقه ... وثم حقّ رسول الله إيثارا
والعارفون يرون الحقّ عينهم ... ولا يرون بعين الحق أغيارا (3)
فهم يغارون أن يلقى بساحتهم ... خيانة من نفوس كنّ أغوارا
فهم مع الله لا في حقّ أنفسهم ... لذا أقاموا من التنزيه أسوارا
تنزيه تشبيه لا تنزيه ليس كذا ... بما أتاهم من الرحمن أخبارا
يحكون ما قاله عن نفسه فإذا ... حكوه كانوا له جندا وأنصارا
لا يعرفون سوى الرحمن من أحد ... لم يألفوا فيه لا دارا ولا جارا
لو أنهم وجدوا أمرا ينازعهم ... فيه لأدخلهم نزاعهم نارا
__________
(1) السنا: النور.
(2) معنى الاستقامة الوارد صدى الآية الكريمة: {فَاسْتَقِمْ كَمََا أُمِرْتَ وَمَنْ تََابَ مَعَكَ} هود، آية: 112.
(3) العارفون: قال ابن عربي: العارف من أشهده الرب عليه فظهرت الأحوال عن نفسه، والمعرفة حاله.(1/135)
الوجد
وقال أحمد بن فارس: رأيت الحلّاج في سوق القطيعة قائما على باب مسجد وهو يقول: أيّها الناس، إذا استولى الحقّ على قلب أخلاه عن غيره، وإذا لازم أحدا أفناه عمّن سواه، وإذا أحبّ عبدا حثّ عباده بالعداوة عليه، حتى يتقرّب العبد مقبلا عليه.
فكيف لي ولم أجد من الله شمّة ولا قربا منه لمحة وقد ظلّ الناس يعادونني ثم بكى حتى أخذ أهل السوق في البكاء. فلمّا بكوا عاد ضاحكا وكاد يقهقه، ثم أخذ في الصياح صيحات متواليات مزعجات، وأنشأ يقول:
[من الطويل] [33]
1 - مواجيد (1) حقّ أوجد الحقّ كلّها ... وإن عجزت عنها فهوم الأكابر
2 - وما الوجد إلّا خطرة ثمّ نظرة ... تنشّي لهيبا بين تلك السّرائر ... (2)
3 - إذا سكن الحقّ السّريرة ضوعفت ... ثلاثة أحوال لأهل البصائر ... (3)
4 - فحال يبيد السّرّ عن كنه وصفه ... ويحضره للوجد في حال حائر ... (4)
5 - وحال به زمّت ذرا السّرّ (5) فانثنت ... إلى منظر أفناه عن كلّ ناظر
[33]
__________
(1) 1المواجيد: أحوال ومقامات عديدة تظهر للأولياء والسالكين بطريق الكشف والوجدان.
(2) 2الوجد: خشوع الروح عند مطالعة سر الحق، وقيل: عجز الروح من احتمال غلبة الشوق عند وجود حلاوة الذكر.
الخطرة: ما يمر بالقلب من أحكام الطريقة.
السرائر: منها سرائر الآثار، وهي الأسماء الإلهية التي هي بواطن الأكوان، وسرائر الربوبية وهي ظهور الرب بصور الأعيان.
(3) 3البصيرة: قوة للقلب منورة بنور القدس، منكشف حجابها بهداية الحق.
(4) 4السر: لطيفة مودعة في القلب كالروح في البدن، ونور روحاني هو آلة النفس.
الحيرة: بديهة ترد على قلوب العارفين عند تأملهم وحضورهم وتفكرهم، تحجبهم عن التأمل والفكرة.
(5) 5ذرا السر: أي سر السر، وهو ما انفرد به الحق عن العبد كالعلم في تفصيل الحقائق.(1/135)
ولم يكن مادح منهم له أبدا ... بكل فنّ من الأمداح مكثارا
هم الأقلون إن قلوا وإن كثروا ... حلاهم الحقّ أسرارا وأسرارا
وقال أيضا من روح سورة الرعد:
البرق يلمع والرعود تسبح ... والغيث ينزل والمنازل تصبح
مخضرة هاماتها وبقاعها ... والزهر في روضاتها يتفتح
فترى جنان الخلد أنشاها لنا ... بصدور أعلام إذا هي تشرح
وقطوفها تدنو فتطعم من له ... ذوق إذا هي بالعبارة تفصح
فالخلق منه إذا نظرت مهلل ... ومكبّر ومعظّم ومسبّح
والكل مثن بالذي هو أهله ... فالله يعطي من يشاء ويمنح
وقال أيضا في هبات الصاحب من روح إبراهيم:
إنّ الخليل إذا أراك مقاما ... شاهدت منه اللوح والأقلاما
فترى المعارف بالكتابة تنجلي ... لعيون أهل كشوفه أعلاما (1)
ويكون ذاك الكشف من إعطائه ... ما ينبغي أعلامه أعلاما
ويزيدني علمي به من عنده ... صدقا لما قد قاله إعظاما
وقال أيضا من روح الحجر:
إنّ السماء برجمها محفوظة ... من كلّ شيطان وكلّ رجيم (2)
أوحى الإله الحق فيها أمرها ... لتنزل الأرواح بالتعليم
منها إلينا ثم تبقى أعصرا ... في عالم الأركان بالتدويم
حتى إذا ما ينقضي الأمد الذي ... قلناه جاء إليّ بالتفهيم
فتراه أبصار العباد مشاهدا ... في عالم الأخلاط والتجسيم
ما الحفظ إلا للذي فيها من ال ... وحي الذي حملته من معلوم
ثم القوابل قسمته بذاتها ... ما بين معلوم وبين عليم
وقال أيضا من روح النحل:
الوحي علم الكون إلا أنه ... يخفى على العلماء بالأنواع
ولذاك ينكره الذي ما عنده ... علم بما فيه من الأفظاع
فإذا يسطره اللبيب بكشفه ... أو فكره ليلذ بالأسماع
__________
(1) اهل الكشوف، يعني الذين يطلعون على المعاني الغيبية.
(2) الرّجم: الرمي بالحجارة، واسم ما يرجم به، ويريد الشهب التي ترجم بها الشياطين.(1/136)
أصناف الحب
[من البسيط] [34] (34)
1 - الحبّ ما دام مكتوما على خطر ... وغاية الأمن أن تدنو من الحذر
2 - وأطيب الحبّ ما نمّ الحديث به ... كالنّار لا تأت نفعا وهي في الحجر
3 - من بعد ما حضر السّجّان واجتمع ... الأعوان واختطّ اسمي صاحب الخبر
4 - أرجو لنفسي براء من محبتكم؟! ... إذا تبرأت من سمعي ومن بصري
[من البسيط] [35]
1 - وما وجدت لقلبي راحة أبدا ... وكيف ذاك، وقد هيّئت للكدر؟ ... (1)
2 - لقد ركبت على التّغرير (2)، واعجبا ... ممّن يريد النّجا في المسلك الخطر
3 - كأنّني بين أفواج تقلّبني ... مقلّبا بين إصعاد ومنحدر
4 - الحزن في مهجتي والنّار في كبدي ... والدّمع يشهد لي فاستشهدوا بصري
الوجد والفقد
[من البسيط] [36] (36)
1 - الجمع أفقدهم من حيث هم قدما ... والفرق أوجدهم حينا بلا أثر
__________
(34) [34]
تصور الصوفية ملازمة الحب لا على أنها شيء تكميلي ثانوي، بل هي في تصورهم داخلة في تركيبهم تسري في أبدانهم سريان الروح. (نشأة التصوف ص 207).
[35]
(1) 1الكدر: نقيض الصفاء.
(2) 2التغرير: حمل النفس على الغرر، وهو الخطر، وغرر بنفسه وماله تغريرا عرضهما للهلكة.
(36) [36]
وردت الأبيات في التعرف لمذهب التصوف للكلاباذي ص 144143، وقدّم لها بقوله:
(أنشدونا لبعض الكبار) وشرح الأبيات بقوله:
1 - معنى قوله: «الجمع أفقدهم من حيث هم» أي علمهم بوجودهم للحق في علمه بهم: أفقدهم من الحين الذي صاروا موجودين له، فجعل الجمع حالة العدم، حيث لم يكن إلا علم الحق بهم.
و «الفرق»: حالة ما أخرجهم من العدم إلى الوجود.(1/136)
2 - فاتت نفوسهم (2)، والفوت عندهم ... في شاهد جمعوا فيه عن البشر
3 - وجمعهم (3) عن نعوت الرّسم محوهم ... عمّا يؤثّره التّلوين في الغير
4 - والعين حال تلاشت في قديمهم ... عن شاهد الجمع إضمارا بلا صور
5 - حتّى توافى لهم في الفرق ما عطفت ... عليهم من علوم الوقت في الحضر
6 - فالجمع غيبتهم والفرق حضرتهم ... والوجد والفقد في هذين بالنّظر (6)
الذكر واسطة
[من البسيط] [37] (37)
1 - أنت المولّه لي لا الذّكر ولّهني ... حاشا لقلبي أن يعلق به ذكري ... (1)
2 - الذّكر واسطة تخفيك عن نطري ... إذا توشّحه من خاطري فكري
__________
(2) 2قوله: «فاتت نفوسهم» أي رأوها حين الوجود، كما كانوا إذ هم فقود، لا يملكون لأنفسهم ضرّا ولا نفعا، ولا يتغير علم الله فيهم.
(3) 3و «جمعهم» هو أن يمحوهم عن نعوت الرسم، وهي أفعالهم وأوصافهم، في أنها لا تؤثر أثر تلوين وتغيير، بل تكون على ما علم الله عزّ وجل وقدر وحكم، فتلاشت حالهم حين وجودهم في قديم العلم إذ كانوا معدمين لا موجودين مصورين وإذا أوجدهم أجرى عليهم ما سبق لهم منه.
(6) 6فالجمع: أن يغيبوا عن حضورهم، وشهودهم إياهم متصرفين.
و «الفرق»: أن يشهدوا أحوالهم وأفعالهم.
و «الوجد والفقد»: حالتان متغايرتان لهم لا للحق تعالى.
قال أبو سعيد الخراز: معنى الجمع: أنه أوجدهم نفسه في أنفسهم، بل أعدمهم وجودهم لأنفسهم عند وجودهم له.
(37) [37]
ورد البيتان في التعرف لمذهب أهل التصوف للكلاباذي ص 125، وقدم لهما بقوله: (أنشدونا لبعض الكبار). وعلق على البيتين بعد إنشادهما بقوله: (معناه الذكر صفة الذاكر، فإن غبت في ذكري كانت غيبتي في، وإنما يحجب العبد عن مشاهدة مولاه أوصافه).
وقال د. بسيوني في نشأة التصوف ص 253: (ويعتبر الحلاج الذكر واسطة تحجب، وألّا فضل في إحداث التوله إلا لله).
(1) 1حقيقة الذكر أن تنسى ما سوى المذكور في الذكر، وقيل: الذكر طرد الغفلة، فإذا ارتفعت الغفلة فأنت ذاكر وإن سكت. (التعرف للكلاباذي ص 125).(1/137)
يدري به من ذاقه طعما ولم ... يكفر به إلا لضيق الباع (1)
وقال أيضا من روح الإسراء:
لما تألفت الأشياء بالألف ... أعطاك صورته في كل مؤتلف
فأحرف الرقم والألفاظ دائرة ... ما بين مؤتلف منها ومختلف (2)
وإن تمادت إلى ما لا انقضاء له ... فإنّ مرجع عقباها على الألف
لولا تألّفها وسرّ حكمته ... لم تدر أمرا ولا نهيا فقف وخف
وفي أوامره إن كنت ذا بصر ... سرّ عجيب ولكن غير منكشف
لا يأمر الله بالفحشا وقال لمن ... عصاه وعدا له فاركض ولا تقف
وليس يبدو الذي قلناه من عجب ... في أمر امرهم إلّا المعترف
يا رحمة وسعت كلّ الوجود فما ... يشذّ عنها وجود فاعتبر وقف (3)
ولا يرى الله في شيء يعنّ له ... مما له عنّ إلّا صاحب الغرف
أو من يجود إذا أثرى بنعمته ... أو من يكون من الرحمن في كنف (4)
لذا أقام له عذرا بما صدرت ... أوامر منه في القربى وفي الزلف (5)
وقال أيضا من روح الكهف:
لله عبد مشى المختص في طلبه ... وقد أقام له البرهان في طلبه
لقد تزكّى بما زكّاه خالقه ... لكن تصح له دعواه في نسبه
وأنصف الخير بالإقرار معترفا ... بما درى منه من علم ومن نسبه
أعدّ ألفا ولم يحصل فأعلم أن ... النقص نعت له منه ومن تعبه
أين الثلاثة من ألف أعدّ له ... فلا تقف عند ما يدريه من سببه
فكل شخص على علم ويجهله ... الغير منه وذاك العلم في كتبه
ومن تحقق بالآداب أجمعها ... فكلّ علم يرى منه فمن أدبه
وقال أيضا من روح مريم:
لما حللت مقام القلب إدريسا ... ولم أجد فيه تخييلا وتلبيسا
حللت من مشكلات العلم ما انعقدت ... فكلّ ذي علّة بشرحها يوصى
ورثت منه النبيّ المصطفى وكذا ... مع الذي عندنا من روحه عيسى
وآدم ثم إبراهيم والدنا ... وداود والكليم المجتبى موسى
__________
(1) الباع: قدر مدّ اليدين.
(2) يقال: رقم الكتاب إذا اعجبه وبينه.
(3) البيت صدى الآية: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهََا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ} الأعراف، آية: 156.
(4) الكنف: الحرز والستر.
(5) الزّلف: القربة والدرجة.(1/137)
وقال أيضا من روح طه:
من يتخذ غير الإله جليا ... أضحى عليه مقدّما ورئيسا
وبحكمة يجري فإن بلغ المدى ... أمسى لرّبات الحجال حبيسا (1)
فإذا انجلى ذاك الجليس لقلبه ... ظهر الخسيس مع الجلاء نفيسا
ودرى بأنّ الحقّ فيه فلم يكن ... لسوى الإله مع الشهود جليسا
لما علمت به علمت حقيقتي ... فأبحت قلبي من أراد جلوسا
وقال أيضا في حقّ الإرسال والورثة بالاتباع من روح الأنبيا:
أرى الأتباع تلحق سابقوهم ... بمن تبعوه في حكم وحال
وهذي لا خفاء بهم لديهم ... تبينه مقامات الرجال
ولما أن رأيت وجود عيني ... بعين القلب في ظلم الليالي
سجدت لربنا معنى وحسّا ... سجود القلب أو عين الظلال
ولم أرفع لما تعطيه ذاتي ... من الحاق الأسافل بالأعالي
وإلحام الأباعد بالأداني ... وإظهار السوابق بالمآل
وقلت له لقد أسجدت قلبي ... لقلبي كالزّجاج مع العوالي (2)
وخاطبني به فأبى وجودي ... قبول خطابه لصلاح بالي
فإني ما علمت من أيّ وجه ... يخاطبني فقال من السؤال
فقلت علمت إنك لي مجيب ... على قدر السؤال بشرح حالي
فإني ما أريد سوى ملاذي ... بملذوذ التواله والنوال
وقال أيضا من روح الحج:
يا أيّها الناس اتقوا ربّكم ... زلزلة الساعة شيء عظيم (3)
يحذرها الكافر في كفره ... كمثل ما يحذرها المستقيم
وإنني إن قلت فيها بما ... أعلمه كنت العليم الحكيم
وإن سترناها ولم نبدها ... لعينها كنت القسيم الكريم
الأمر موقوف على شعرة ... تزال عن عين الغريم العديم
فيظهر الأمر بأحكامه ... ظهور منعوت بنعت القسيم
__________
(1) ربّات الحجال: أي النساء.
(2) الزّجاج: جمع الزّج: الحديدة في أسفل الرمح. والعوالي: جمع العالية وهي النصف الذي يلي السّنان، أو أعلى القناة.
(3) نص الآية بتمامها: {يََا أَيُّهَا النََّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السََّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ}، سورة الحج، آية: 1.(1/138)
التجلّي
عن أبي الحسن عليّ بن أحمد بن مردويه قال: رأيت الحلّاج في سوق القطيعة ببغداد باكيا يصيح: أيّها الناس أغيثوني عن الله، ثلاث مرّات، فإنّه اختطفني منّي وليس يردّني عليّ، ولا أطيق مراعاة تلك الحضرة، وأخاف الهجران فأكون غائبا محروما. والويل لمن يغيب بعد الحضور ويهجر بعد الوصل. فبكى الناس لبكائه حتى بلغ مسجد عتّاب فوقف على بابه وأخذ في كلام فهم الناس بعضه وأشكل عليهم بعضه.
فكان ممّا فهمه الناس أنه قال: أيّها الناس. إنّه يحدّث الخلق تلطّفا فيتجلّى لهم، ثم يستتر عنهم تربية لهم. فلولا تجلّيه لكفروا جملة. ولولا ستره لفتنوا جميعا، فلا يديم عليهم إحدى الحالتين. لكنّي ليس يستتر لحظة فأستريح حتى استهلكت ناسوتيّتي في لاهوتيّته وتلاشى جسمي في أنوار ذاته، فلا عين لي ولا أثر ولا وجه ولا خبر.
وكان ممّا أشكل على الناس معناه انه قال: اعلموا أنّ الهياكل قائمة بياهوه والأجسام متحرّكة بياسينه. والهو والسن طريقان إلى معرفة النقطة الأصليّة.
ثم أنشأ يقول:
[من البسيط] [38]
1 - عقد النبوة مصباح من النور ... معلّق الوحي مشكاة تأمور ... (1)
2 - بالله ينفخ نفخ الرّوح في خلدي ... لخاطري نفخ إسرافيل في الصّور ... (2)
3 - إذا تجلّى لروحي أن يكلّمني ... رأيت في غيبتي موسى على الطّور (3)
[38]
__________
(1) 1عقد النبوة: عهدها.
المشكاة: كوة في الجدار يوضع فيها المصباح.
التأمور: دم القلب، أو مهجة النفس.
(2) 2الخلد: البال.
إسرافيل: اسم الملك الموكل بإعلان يوم القيامة بالنفخ في الصور، أي البوق.
(3) 3الطور: الجبل، والحلاج يشير هنا إلى الجبل في سيناء حيث تجلّى الله وكلم موسى عليه السلام.(1/138)
الغيرة
[من البسيط] [39]
1 - لو شئت كشّفت أسراري بأسراري ... وبحت بالوجد في سرّي وإضماري ... (1)
2 - لكن أغار على مولاي يعرفه ... من ليس يعرفه إلّا بإنكار
3 - فمن إلهي إشاراتي (3) وإن كثرت ... في الخلق ما بين إيراد وإصدار
4 - ما لاح نورك لي يوما لأثبته ... إلّا تنكّرت منه أيّ إنكار
5 - ولا ذكرتك إلّا تهت من طرب ... حتّى أمزّق أحشائي وأطماري (5)
سمير الدجى
[من مخلع البسيط] [40]
1 - غبت وما غبت عن ضميري ... فمازجت ترحتي (11) سروري
2 - واتّصل الوصل بافتراق ... فصار في غيبتي حضوري
3 - فأنت في سرّ غيب همّي ... أخفى من الوهم في ضميري
4 - تؤنسني بالنّهار حقّا ... وأنت عند الدّجى سميري (4)
[39]
__________
(1) 1السر: لطيفة مودعة في القلب كالروح في البدن، ونور روحاني هو آلة النفس.
الوجد: خشوع الروح عند مطالعة سر الحق، وقيل: عجز الروح عن احتمال غلبة الشوق عند وجود حلاوة الذكر.
(3) 3الإشارة: هو علم سمي بذلك لأن مشاهدات القلوب ومكاشفات الأسرار لا يمكن العبارة عنها على التحقيق، بل تعلم بالمنازلات والمواجيد، ولا يعرفها إلا من نازل تلك الأحوال وحل تلك المقامات.
(5) 5الطرب: خفة تعتري الإنسان عند شدة الفرح أو الحزن، وقيل: حلول الفرح وذهاب الحزن.
الأطمار: جمع الطمر، وهو الثوب الخلق، وخصّ ابن الأعرابي به الكساء البالي من غير الصوف.
[40]
(11) 1الترح: ضد الفرح، وهو الهلاك والانقطاع أيضا.
(4) 3الدجى: سواد الليل مع غيم وأن لا ترى نجما ولا قمرا.
السمير: الذي يشاركك الحديث في الليل خاصة.(1/139)
وقال أيضا في نعت المؤمنين الصادقين ومقامهم من روح المؤمنين:
قد أفلح المؤمنون الصادقون بما ... رأوه في صدقهم من كل معلوم
هم الأعزّاء لا جاه ولا شرف ... إلا بشربهم من عين تسنيم (1)
إن قالوا قالوا به وقال قالوا به ... فهم بما نعتوا بكل تقسيم
عين له وهو عين ثابت لهم ... فلا يصرّفهم إلا بترسيم
بمثل ذا أثبت البرهان جبرهم ... فلا اختيار لهم من غير تتميم
تمّ الوجود بهم إذ كان ينقصه ... أعيانهم وهو حال النون والميم
لذاك تبصرهم إذا تعاينهم ... في زينة الله في أحوال تعظيم
وقال أيضا في تقسيم الأنوار والظلم من روح النور:
الله نوّر أفلاكا بأنجمها ... ليهتدى في ظلام الليل في الطرق
ونوّر الجوّ بالبيضاء شارقة ... ونوّر العقل بالتوحيد والخلق (2)
ونوّر القلب أنوارا منوّعة ... لأنه وسع المذكور في العلق
ونور البدر بالبيضاء إن غربت ... وجدّ في سيره بالنصّ والعنق (3)
كما ينوّر آفاقا يشاهدها ... شرقا وغربا من الإشفاق بالشّفق
ونور الجسم بالأرواح فانتشرت ... أنواره كانتشار النور في الفلق
ونور الأرض بالأزهار فابتسمت ... عن أحمر ناصع وأبيض يقق (4)
وأظلم السّرّ بالهوا حيث ما وقعت ... من الطباق التي أظهرن عن طبق
وأظلم العقل في أفكاره نظرا ... وأظلم النفس بالأطماع والعلق
وأظلم المتعدي من طبيعته ... بالأكل من جرض والشرب من شرق (5)
وأظلم الولد المخلوق من نطف ... مكنونة بثلاث جئن في نسق (6)
فليس من نور إلا قد يقابله ... ضدّ كما قابل الإشراق بالغسق (7)
من أجل ذا ضل فإن في مقالته ... باثنين وافترقوا في ذا على فرق
__________
(1) التسنيم: ماء بالجنة يجري فوق الغرف.
(2) أراد بالبيضاء الشمس. والبيضاء عند الصوفيين العقل الأول.
(3) النّص والعنق: ضربان لسير الناقة، الأول سريع، والعنق: سير مسبطر للإبل.
(4) أبيض يقق: شديد البياض.
(5) الجرض: الغصص. الشّرق: الغصص بالماء.
(6) يريد الظلمات الثلاث التي تحجب الجنين في بطن أمه، كما قررت ذلك الآية الكريمة: {يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهََاتِكُمْ خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمََاتٍ ثَلََاثٍ} الزمر آية: 6.
(7) الغسق: ظلمة أول الليل.(1/139)
والكلّ جاء إليه في تفكّره ... من الإله أمور فيه لم تطق
لذاك ما اختلفت فيه مقالتهم ... ما بين قول بتقييد ومنطلق
وكل من قال قولا في عقيدته ... فإنه جاعل التقليد في العنق
سمعا وعقلا فما ينفكّ ذو نظر ... من التحيرّ للتهييج والحرق
لذا ترى كلّ من قد كان ذا فطن ... وقتا على عرق مفض إلى حرق
وقال أيضا في روح الفرقان:
الفرق بين القديم الذات والحدث ... يبين للمنكر المحجوب في الجدث (1)
فاصبر عليه ولا تحفل بصولته ... ما دام في عالم التقييد بالخبث
الدهر ينقله لو كان يعقله ... لي اسم شيخ من اسم الكهل والحدث
هذي شبيبته هذي كهولته ... هذا هو الهرم ما ينفك عن حدث
فما ترى طيبا يلذّ مطعمه ... ألا ترى ضدّه المنعوت بالخبث
أين الحبائب من جمع الإناث من الذّ ... كران إذ جمعوا لحنا على خبث
فليس ثم سوى فرق يبينه ... ما قلته فاسترح فيه أو اكترث
وقال أيضا من روح الشعراء:
الشعر ما بين محمود ومذموم ... لذا أتى ربّنا فيه بتقسيم
في كلّ واد تراه جائلا أبدا ... يهيم فيه لإيصال وتعليم (2)
فإنه يطلب التعريف من شبه ... في عالم الخفض عن مزج بتسنيم (3)
فما تراه على نجد لذاك أتى ... بالواد في لغتهم بكلّ مفهوم
فإن مدحت به من يستحقّ علا ... وإن مدحت به ضد التفهيم
هوى لذا قلت فيه ما سمعت به ... الشعر ما بين محمود ومذموم
كذا هو القول شعرا كان أو مثلا ... فلا يقال تعالى الشرب للهيم (4)
لو يعلم الناس ما القرآن جاء به ... فيه لقالوا به في كلّ منظوم
وقال أيضا في الاسم العظيم الأعظم الإلهيّ من روح النمل:
ألا إنّ أسماء الإله عظيمة ... وأعظمها في العقل ما ليس يعلم
هو الأعظم المطلوب في كلّ حالة ... بهذا له قد صحّ منه التقدّم
__________
(1) الجدث: القبر.
(2) يشير إلى الآية الكريمة: {وَالشُّعَرََاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغََاوُونَ أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وََادٍ يَهِيمُونَ وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مََا لََا يَفْعَلُونَ} الشعراء آية: 225.
(3) التسنيم: ماء بالجنة يجري فوق الغرف.
(4) الهيم: العطاش.(1/140)
خواطر
[من السريع] [41]
1 - يا موضع النّاظر من ناظري ... ويا مكان السّرّ من خاطري
2 - يا جملة الكلّ التي كلّها ... أحبّ من بعضي ومن سائري
3 - تراك ترثي للّذي قلبه ... معلّق في مخلبي طائر
4 - مدلّه حيران مستوحش ... يهرب من قفر إلى آخر ... (4)
5 - يسري وما يدري وأسراره ... تسري كلمح البارق النّائر ... (5)
6 - كسرعة الوهم لمن وهمه ... على دقيق الغامض الغائر
7 - في لجّ بحر الفكر تجري به ... لطائف من قدرة القادر
عقوبة البطر
[من المنسرح] [42]
1 - قد كنت في نعمة الهوى بطرا (1) ... فأدركتني عقوبة البطر!
الله
وقال: [من الخفيف] [43]
1 - أحرف أربع بها هام قلبي ... وتلاشت بها همومي وفكري
2 - ألف تألف الخلائق بالصّف ... ح ولام على الملامة تجري
3 - ثمّ لام زيادة في المعاني ... ثم هاء بها أهيم وأدري
[41]
__________
(4) 4المدلّه: الذي لا يحفظ ما فعل ولا ما فعل به، والتدلّه: ذهاب العقل من الهوى، يقال: دلّه الحب: أي حيره وأدهشه.
(5) 5يسري: يسير ليلا.
النائر: الهائج.
[42]
(1) 1البطر: الأشر، وهو شدة المرح، أو الطغيان في النعمة، وقيل: البطر هو النشاط، وقيل: البطر هو التبختر.(1/140)
قافية السين
ثلاثيات
[من الوافر] [44]
1 - سكوت ثمّ صمت ثمّ خرس ... وعلم ثمّ وجد ثمّ رمس ... (1)
2 - وطين ثمّ نار ثمّ نور ... وبرد ثم ظلّ ثمّ شمس ... (2)
3 - وحزن ثم سهل ثمّ قفر ... ونهر ثمّ بحر ثمّ يبس ... (3)
4 - وسكر ثمّ صحو ثمّ شوق ... وقرب ثمّ وصل ثمّ أنس (4)
[44]
__________
(1) 1قيل: المحب إذا سكت هلك، والعارف إذا سكت ملك.
والصمت: ليس بمخصوص على اللسان، لكنه على القلب والجوارح كلها.
والوجد: خشوع الروح عند مطالعة سر الحق.
والرمس: الدفن. قال الجنيد: وأرمس مرمسه في غيب غافر الارتماس، وهي إشارة إلى حقيقة التوحيد بذهاب الخلق فيما كان كأنه لم يكن.
(2) 2النور: هو الحق، ويسمى نور الأنوار لأن جميع الأنوار منه. الشمس: هي النور، مظهر الألوهية، وهي نقطة الأسرار ودائرة الأنوار.
(3) 3الحزن: الأرض الغليظة.
الفقر: الأرض لا نبات بها ولا ماء.
(4) 4السكر: دهش يلحق المحب في مشاهدة جمال المحبوب فجأة.
الصحو: هو رجوع العارف إلى الإحساس بعد غيبته وزوال إحساسه، وعكسه السكر.
الشوق: هيجان القلب عند ذكر المحبوب، وهو في قلب المحب كالفتيلة في المصباح.
القرب: قرب العبد من الحق سبحانه بالمكاشفة والمشاهدة والانقطاع عما دون الله.
الوصل: الانقطاع عما سوى الحق، وأدنى درجات الوصل مشاهدة العبد ربه تعالى بعين القلب.
الأنس: التذاذ الروح بكمال الجمال، وهو أثر مشاهدة جمال الحضرة الإلهية في القلب.(1/141)
وما هو إلا كونه جامعا لما ... تكون عنها فافهم إن كنت تفهم
بأنك مفطور على الحالة التي ... تكون بها وقتا تجور وتظلم
فتطلبها فقرا إليها وذلة ... لأنك عبد بالأصالة معدم
لقد غبتم عن آصف بالذي أتى ... به لسليمان النبيّ المحكم
لذا قال في دست الإمامة أيكم ... لتعلم من هذا العليّ المعظم
وقال أيضا في ثلاثة عينها واحد من روح القصص:
من كان وجه الحق لا يهلك ... ويملك الكون ولا يملك
ويدرك الشيء بلا آلة ... حسية منه ولا يدرك (1)
من شهد الأمر يرى أنه ... إذا تحققت به المدرك
تفنى من العالم أسماؤه ... وعينه العين التي تدرك (2)
فإن تشاقلت به أو بنا ... فإنه بكلّ ذا أملك
تفصيلنا هذا يؤدّي إلى ... من وحد الأمر هو المشرك
وأنّه لولا أنا لم يكن ... حكم ولا ثم أنا فاتركوا
وإن يكن ثم فما ثم لي ... كناية فقل لهم شرّكوا
فإنه من لم يكن عنده ... أسماؤه فإنه يؤفك
وقال أيضا في اشتقاق البيوت من المبيت من روح العنكبوت:
مقام العارفين لمن يراهم ... على كشف كبيت العنكبوت (3)
ضعيف ما لهم سندا سواهم ... لذا اشتقوا البيوت من المبيت
ولولا الليل ما علموا مبيتا ... تنبه كالقوي من كلّ قوت
هنا سمي ضراحهم بييت ... وليس هناك أسماء البيوت
كما أنّ البيوت لهم محال ... على حال لنقص في الثّبوت
وفي تقليبهم عين البيوت ... على التقليب في الأمر الشتيت
وما قوت النفوس سوى قواها ... وإن العين عيّن كلّ قوت
وسهل ما له قوت سواه ... وأين الحقّ من خبز وحوت
جميع الخلق في الأقوات تاهوا ... وسهل ما يراه سوى المقيت
__________
(1) يريد بأن الله تعالى لا تضاف إليه الجوارح، فهو يرى ويسمع دون جارحة.
(2) العين: إشارة إلى ذات الشيء الذي تبدو منه الأشياء.
(3) قال ابن عربي: العارف من أشهده الرب عليه فظهرت الأحوال عن نفسه والمعرفة حاله.(1/141)
5 - وقبض ثمّ بسط ثمّ محو ... وفرق ثمّ جمع ثمّ طمس ... (5)
6 - عبارات لأقوام تساوت ... لديهم هذه الدّنيا وفلس
7 - وأصوات وراء الباب لكن ... عبارات الورى في القرب همس
8 - وآخر ما يؤول إليه عبد ... إذا بلغ المدى حظّ ونفس
9 - لأنّ الخلق خدّام الأمأني ... وحقّ الحقّ في التّقديس قدس
جحود إبليس
وقال أحمد بن أبي الفتح بن عاصم البيضاوي: سمعت الحلّاج على بعض تلامذته: إنّ الله تبارك وتعالى وله الحمد ذات واحد قائم بنفسه، منفرد عن غيره بقدمه، متوحّد عمّن سواه بربوبيّته. لا يمازجه شيء، ولا يخالطه غير ولا يحويه مكان، ولا يدركه زمان ولا تقدّره فكرة، ولا تصوّره خطرة، ولا تدركه نظرة، ولا تعتريه فترة. ثم طاب وقته وأنشأ يقول:
[من الهزج] [45] (45)
1 - جحودي لك تقديس ... وظنّي فيك تهويس
2 - وقد حيّرني حبّ ... وطرف فيه تقويس
3 - وقد دلّ دليل الحب ... ب أنّ القرب تلبيس
4 - وما آدم إلّاك ... ومن في البين إبليس
__________
(5) 5القبض: حال شريف لأهل المعرفة، إذا قبضهم الحق أحشمهم عن تناول المباحات والأكل والشرب والكلام، ويقابله البسط، فإذا بسطهم ردهم إلى هذه الأشياء، وتولى حفظهم بذلك.
المحو: رفع أوصاف العادة بحيث يغيب العبد عندها عن عقله، ويحصل منه أفعال وأقوال لا مدخل لعقله فيها كالسكر من الخمر.
الفرق: ما نسب إليك، والجمع: ما سلب منك. ومعناه أن ما يكون كسبا للعبد من إقامة العبودية وما يليق بأحوال البشرية فهو فرق، وما يكون من قبل الحق من إبداء معان وإسداء لطف وإحسان فهو جمع.
الطمس: ذهاب سرائر الصفات البشرية في صفات أنوار الربوبية، أي تفنى صفات العبد في صفات الحق تعالى.
(45) [45] قدم د. بسيوني في نشأة التصوف ص 188لهذه الأبيات بقوله: (إبليس في نظر الحلاج محب صادق الحب، لأن سيطرة تنزيه الله عليه ألهمته ألّا يسجد لغير من يستحق السجود تعظيما وتفريدا لحبه، وهذه هي مشيئة الله فلو شاء الله أن يطيع إبليس لأطاع إبليس، لأن الله تعالى لا يشاء إلّا وقع. وهكذا ضحى إبليس في حبه، وضرب في البذل والفتوة والاستعداد لأن يصاب بما أصيب به أروع مثل).(1/142)
وقال أيضا في الآيات المعتادة وغير المعتادة من روح الروم:
إذا كانت الآيات تعتاد لم يكن ... لها أثر في نفس كلّ جهول
وما لم تكن تعتاد فهي لديهم ... إذا نظروا فيها أدلّ دليل
وأما فحول القوم لا فرق عندهم ... لقد خصصوا منها بأقوم قيل
إذا جاءت الآيات تترى تراهم ... سكارى لها خوفا بكل سبيل
فسبحان من أحياهم واصطفاهم ... وإنهم فينا أقل قليل
وقال أيضا في الحكمة المجهولة عند النفس المعلومة من روح لقمان:
إذا كانت الأشياء صنع حكيم ... فحكمته فيها لكل عليم
فتعلمها الأرواح في كل حالة ... وتجهلها أرواح كلّ جسوم
أرى ظلمة الطبع المحكم فيهم ... لتعمى قلوب قيدت بعلوم
وما هم إلّا أنّ في الطبع نكتة ... لها ظلمة في قلب كلّ ظلوم
فأوّل مظلوم بها عين ذاته ... وليس يرى ما قلت غير فهيم
إذا قصّرت أفهام كلّ محقق ... فما قصّرت عنها وعنه فهومي
وقال أيضا في: «جعلت قرّة عيني في الصلاة» (1)
، قال تعالى في صلاة الليل: {فَلََا تَعْلَمُ نَفْسٌ مََا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ} (2) يعني فيها لأنه مناج ربه من حيث ما هو مصلّ وجليس من حيث ما هو ذاكر. كما قال في الصلاة من أنها: {تَنْهى ََ عَنِ الْفَحْشََاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللََّهِ أَكْبَرُ} (3) يعني الذكر الذي فيها فإنها تشتمل على أقوال وأفعال، والذكر من أقوالها. وإنما نهت عن الفحشاء والمنكر بوضع ذاتها فإنه يحرم على المصلّي التصرّف في غيرها حتى يفرغ منها، وإلا فليس بمصلّ من روح السجدة:
ما قرّة العين غير عيني ... فبيني كان الهوى وبيني
والله لولا وجود كوني ... ما لاح عيني لغير عيني
فكونه ما رأيت فيه ... أكمل من صورتي وكوني
بالبين أوصلت كلّ بين ... فقام شكر البين بيني
قد أحسّ الله في وجودي ... عند أداء الفروض عوني
أشهدني فيه علم ذاتي ... في هذه الدار قبل حيني
لا فرّق الله يا حبيبي ... ما بين أنفاسه وبيني
__________
(1) رواه النسائي 1، وابن حنبل 3، 128، 199، 285.
(2) سورة السجدة، آية: 17.
(3) سورة العنكبوت، آية: 45.(1/142)
وقال أيضا في رؤية المقام المحمديّ من روح الأحزاب:
يا أهل يثرب لا مقام لعارف ... ورث النبيّ الهاشميّ محمدا (1)
عمّ المقامات الجسام عروجه ... وبذاك أضحى في القيامة سيّدا
صلّى عليه الله من رحموته ... ومن أجله الروح المطهر أسجدا (2)
لأبيه آدم والحقائق نوّم ... عن قولنا وعن انشقاق قد هدى
فجوامع الكلم التي أسماؤها ... في آدم هي للمقرّب أحمدا
جمع الإناث إلى الذكور كلامه ... بأخصّ أوصاف الثناء وقيدا
إنّ الأنوثة عارض متحقق ... مثل الذكورة لا تكن متردّدا
الحدّ يجمعنا إذا أنصفتني ... هنّ الشقائق لا تجب من فندا
لا تحجبنّ بالانفعال فإنه ... قد كان عيسى قبلها فتأبدا
قولي وعيسى لا يشك بكونه ... روح الإله مقدّسا ومؤيدا (3)
الله يعلم صدق ما قد قلته ... لن يصلح العطّار ما قد أفسدا
مثل أتاك ولا أسمّيه لما ... قد جاء في نصّ الشريعة مسندا
أدبا مع الله العظيم جلاله ... فالدهر للذات النزيهة كالرّدا
الكاف في التشبيه يعمل حكمها ... وتكون زائدة إذا أمر بدا
مثل الذي قد جاء ليس كمثله ... في سورة الشورى وخاب من اعتدى
وقال أيضا من روح سبأ:
إنّ لنا في سبأ آية ... يعرفها السابق والمقتصد (4)
إذ تصعق الأرواح من وحيه ... ولم تجد شيئا له يستند
حتى إذا فزّع عن قلبهم ... فقيل ماذا قيل قالوا الأحد
فابحث على حكمتها جاهدا ... بالذكر لا بالفكر حتى تجد
من الذي أجلى إليك الذي ... أصعق منك الروح قبل الجسد
كمثل موسى حين أبدى له ... في ذاته الربّ الذي لم يلد
لذاك لم ينتج له قصده ... فابحث على حكمته واتئد
ولا تكن فيما ترى طالبا ... بعقلكم دون الهدى تستند
__________
(1) العارف: قال ابن عربي: العارف من أشهده الرب عليه فظهرت الأحوال عن نفسه، والمعرفة حاله.
(2) الرحموت من الرحمة.
(3) يريد: الروح المشرفة عند الله.
(4) القصد: العدل، وضد الإفراط. السابق: المتقدم.(1/143)
عذاب النفس
وقال أحمد بن القاسم الزاهد: سمعت الحلّاج في سوق بغداد يصيح:
يا أهل الإسلام أغيثوني. فليس يتركني ونفسي فآنس بها، وليس يأخذني من نفسي فأستريح منها، وهذا دلال لا أطيقه. ثم أنشأ يقول:
[من الطويل] [46]
1 - حويت بكلّي كلّ كلّك يا قدسي ... تكاشفني حتّى كأنك في نفسي
2 - أقلّب قلبي في سواك فلا أرى ... سوى وحشتي منه وأنت به أنسي
3 - فها أنا في حبس الحياة ممنّع ... من الأنس فاقبضني إليك من الحبس
قافية الشين
قال عليّ بن انجب ابن الساعي البغدادي في كتاب مختصر أخبار الخلفاء:
قال بعضهم: رأيت حسينا الحلّاج وقد سمع قارئا يقرأ، فأخذه وجد، فرأيته يرقص ورجلاه مرفوعتان عن الأرض فإذا هو يقول:
[من البسيط] [47]
1 - من سارروه فأبدى كلّ ما ستروا ... ولم يراع اتّصالا، كان غشّاشا
2 - إذا النّفوس أذاعت سرّ ما علمت ... فكلّ ما حملت من عقلها حاشا ... (2)
3 - من لم يصن سرّ مولاه وسيّده ... لم يأمنوه على الأسرار ما عاشا
4 - وعاقبوه على ما كان من زلل ... وأبدلوه مكان الأنس إيحاشا
5 - وجانبوه فلم يصلح لقربهم ... لمّا رأوه على الأسرار نبّاشا
6 - من أطلعوه على سرّ فنمّ به (6) ... فذاك مثلي بين النّاس قد طاشا
[47]
__________
(2) 2حاش: جمع الإبل وساقها. ولعل الحلاج يريد أن يقول: إن من أذاع الأسرار صرف الله كل ما عرفه منها.
(6) 6نمّ فلان ينمّ نمّا إذا ضيع الأحاديث ولم يحفظها، والنمّ: تزيين الكلام بالكذب، أو إشاعة الحديث وإفساده.(1/143)
فإنما الشرع سبيل الهدى ... عليه ععوّل غيره لا ترد (1)
من يعرف المعنى الذي صغته ... من نظمنا هذا هو المقتصد
فإنه الأفضل في حكمنا ... يجري على حكمته لم يزد
يدور بالحكمة دولابه ... فماؤه يسقي جميع البلد
لذا أتى في وسط ذكره ... والوسط الأفضل في المعتقد
به أتى القرآن في فضلنا ... وهو لمن يطلب أقوى سند
فمن يقل سكن لنا صاده ... أقل له هذا وهذا ورد
وقال أيضا في كلمة حقيقية إلهية خلقية من روح الملائكة:
إن الغنى لله منا كما ... منه أنا الفقر الذي يعرف
إذ قد تسمى الله في خلقه ... بما سمعتم وهو المنصف
فكلّ من يسأل عن حاله ... فإنه هو إن تكن تنصف
وقال أيضا في يس من روح يس:
إذا كنت قرآنا فقلبك ياسين ... وإن كنت فرقانا فما لك من قلب (2)
فإن وجود الحقّ في قلب عبده ... وما لك من قلب فما لك من قلب
ألا إنه الله الغنيّ بذاته ... عن العالم الكونيّ أو عالم الحجب (3)
فمن شاء فليسمع فإني قائل ... ومن شاء فلينطق فحسب الهوى حسبي
إذا كنت مفطورا عليه بصورتي ... فكيف يضاف الجسم مني إلى الترب
لقد جاء في النص الجليّ لذي حجى ... حديث هبوط الحبل منه إلى الرب
لقد شرّف الله التراب بكوننا ... وشرّفني بالتاج والقرط والقلب
وأسمعني بالقرط وسواسه كما ... أجود تتويج المناشر والكتب (4)
أساعده بالقلب إذ كنت قائلا ... إلى الأثر العالي ولم أخش من عجب
إذا كان لي مثل ومثلي فليسني ... ولست له حزبا وما هو من حزبي
وقال أيضا، وقد سمع قول رسول الله صلى الله عليه وسلم في قربه من ربّه: «لا تفضّلوني على يونس بن متّى» (5)
__________
(1) يريد أن الدين هو الطريق الصحيح لنتبعه، ولا يعوّل على العقد أو غيره في إدراك سبيل الرشاد، دون الشرع.
(2) يريد أن سورة ياسين هي بمنزلة القلب للقرآن.
(3) الحجب عندهم: انطباع الصور الكونية في القلب المانعة لقبول تجلي الحق.
(4) الوسواس: صوت الحلي.
(5) رواه البخاري أنبياء 35، ومسلم: فضائل 159، ولفظه: «لا تفضلوا بين أنبياء الله».(1/144)
7 - هم أهل سر وللأسرار قد خلقوا ... لا يصبرون على من كان فحّاشا
8 - لا يقبلون مذيعا في مجالسهم ... ولا يحبّون سترا كان وشواشا ... (8)
9 - لا يصطفون مذيعا بعض سرّهم ... حاشا جلالهم من ذلكم حاشا
10 - فكن لهم وبهم في كلّ نائبة ... إليهم ما بقيت الدّهر هشّاشا (10)
[من الرمل] [48] (48)
1 - نسمات الرّيح قولي للرّشا ... لم يزدني الورد إلّا عطشا
2 - لي حبيب حبّه وسط الحشا ... إن يشأ يمشي على خدّي مشى
3 - روحه روحي وروحي روحه ... إن يشأ شئت وإن شئت يشا
قافية الضاد
وقال عبد الكريم بن عبد الواحد الزعفراني: دخلت على الحلّاج وهو في مسجد وحوله جماعة وهو يتكلّم فأوّل ما اتّصل بي من كلامه أنه قال: لو ألقى ممّا في قلبي ذرّة على جبال الأرض لذابت، وإنيّ لو كنت يوم القيامة في النار لأحرقت النار، ولو دخلت الجنّة لانهدم بنيانها، ثم أنشأ يقول:
[من الطويل] [49] (49)
1 - عجبت لكلّي كيف يحمله بعضي ... ومن ثقل بعض ليس تحملني أرضي
2 - لئن كان في بسط من الأرض مضجع ... فقلبي على بسط من الخلق في قبض
__________
(8) 8الوشواش من الرجال: الخفيف السريع. والوشوشة: كلام مختلط حتى لا يكاد يفهم.
(10) 10النائبة: المصيبة.
الهش والهشيش من كل شيء: ما فيه رخاوة ولين.
(48) [48] الرشا: الظبي إذا قوي وتحرك ومشى مع أمه. الورد: الشرب.
(49) [49] القبض: حال شريف لأهل المعرفة، إذا قبضهم الحق أحشمهم عن تناول المباحات والأكل والشرب والكلام، ويقابله البسط، فإذا بسطهم ردهم إلى هذه الأشياء.(1/144)
قافية الطاء
[من السريع] [50] (50)
1 - ما زلت أطفو في بحار الهوى ... يرفعني الموج وأنحطّ
2 - فتارة يرفعني موجها ... وتارة أهوي وأنغطّ
3 - حتى إذا صيّرني في الهوى ... إلى مكان ما له شطّ
4 - ناديت: يا من لم أبح باسمه ... ولم أخنه في الهوى قطّ
5 - تقيك نفسي السّوء من حاكم ... ما كان هذا بيننا الشّرط
قافية العين
[من الرمل] [51]
1 - ذكره ذكري وذكري ذكره ... هل يكون الذاكران إلّا معا؟
مكانك القلب
[من الطويل] [52] (52)
1 - مكانك من قلبي هو القلب كلّه ... فليس لشيء فيه غيرك موضع
2 - وحطّتك روحي بين جلدي وأعظمي ... فكيف تراني إن فقدتك أصنع؟
__________
(50) [50] تمثل هذه القطعة قاعدة التقية الشيعية بالنسبة إلى الإمام، والحب العذري بالنسبة إلى المحبوب.
(52) [52] قال د. بسيوني في نشأة التصوف ص 183182: (إذا ما استقر الحب في القلب استقرارا تامّا عبّر الصوفية عن ذلك بأن برد الحب قد أطفأ لهيب الحنين. وأهم ما يلفت النظر عقب حصول هذا السكون أن المحب يحدثنا عن التوحيد يقول الحلاج) وأنشد البيتين.(1/145)
تنزيها لجناب الحقّ عن التحديد في قوله تعالى: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مََا كُنْتُمْ} (1)، من روح الصافات:
إذا غار عبد للإله وقد رأى ... من الله انعاما لمن هو كافر
على رغمه والله يعلم أمره ... وما الله فيما يقصد العبد جائر
وتحجبه العادات إذ كان حكمها ... على بابه يجري وما الحقّ ظاهر
يعاقبه بالقبر في أرض غربة ... نهارا وليلا والمهيمن ساتر
وقال أيضا من روح ص:
نمشّ بأعراف الجياد أكفنا ... لأنّ لها جودا على نشأة النفس
لما جاء في الأنباء عن خير مرسل ... بأصدق قيل جاء من حضرة القدس
وضعفه النقاد من أجل واحد ... رواه عن الأثبات عن عالم الإنس
وكم صحّ من أمثاله فهو واحد ... من النوع إن شئتم وإلا من الجنس
وما فيه إن أنصفت في القول مثبت ... له عندنا ويل تحقق من لبس
وكيف يكون اللبس والأمر ظاهر ... يلوح لذي عينين من حضرة الأنس
لقد كان خير الناس يفعل مثل ما ... بأعرافها والبيع بالثمن البخس
لقد صغت معناه بأدنى عبارة ... وألطفها للعقل بالفكر والحسّ
وقال أيضا في قوله تعالى: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} و {إِنَّ اللََّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً} (2)، وقد يكون غفرانه ابتداء وبعد أخذ، وهذا يجب الإيمان به. من روح الزّمر:
عمّ بالغفران أصحاب الذنوب ... بعد أخذ وابتداء للعموم
غير أنّ الأمر قد قسمه ... بين سكني في جنان وجحيم
وكلا الصنفين في رحمته ... في التذاذ دائم فيه مقيم
زمهرير عند محرور جدي ... وحرور عند مقرور نعيم
ليكون الكلّ في رحمته ... إنه قال هو البرّ الرحيم
وقال أيضا في معنى قوله تعالى: {يَطْبَعُ اللََّهُ عَلى ََ كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبََّارٍ} (3)، من روح المؤمن:
العلم أفضل ما يقنى ويكتسب ... والعلم أزين ما على النفوس به
بالعلم يطبع ربّ العالمين على ... قلب العبيد فلا كبر يحلّ به
__________
(1) سورة الحديد، آية: 4.
(2) سورة الأعراف، آية: 156.
(3) سورة غافر، آية: 35. وتمامها: {كَذََلِكَ يَطْبَعُ اللََّهُ عَلى ََ كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبََّارٍ}.(1/145)
أحزان وأوجاع
[من البسيط] [53]
1 - إذا ذكرتك كاد الشّوق يتلفني ... وغفلتي عنك أحزان وأوجاع
2 - وصار كلّي قلوبا فيك واعية ... للسّقم فيها وللآلام إسراع
3 - فإن نطقت فكلّي فيك ألسنة ... وإن سمعت فكلّي فيك أسماع
[من البسيط] [54]
1 - شرط المعارف محو الكلّ منك إذا ... بدا المريد بلحظ غير مطّلع
قافية الفاء
إلف الأرواح للرحمن
[من السريع] [55]
1 - وجوده بي، ووجودي به ... ووصفه فهو له واصف
2 - لولاه لم أعرف رشادي ولو ... لاي لما كان له عارف
3 - فكلّ معنى فيه معنى له ... فقل لمن خالفني: خالفوا
4 - ليس سوى الرّحمن يا قومنا ... شيء له أرواحنا تألف
جهل
[من السريع] [56]
1 - يا جاهلا مسلك طرق الهدى ... فما على الحقّ له موقف
2 - خلّ طريق الجهل واعدل إلى ... مولى له الأعمال تستأنف(1/146)
لأنه يجد الأبواب مغلقة ... بفطرة هو فيها أو بمكسبه
قل كيف شئت فإنّ الأمر يقلبه ... ولا تخف من غويّ في تطلّبه
وكيف يدخل كبر من حقيقته ... فقر وعجز وموت عند منتبه
شخص يرى قرصة البرغوث تؤلمه ... إلى مكاره يلقى في تقلبه
فالحسّ يعلم هذا من يقوم به ... لدى إقامته أو حال مذهبه
وقال أيضا في قوله تعالى: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدََاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ وَمََا يُلَقََّاهََا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمََا يُلَقََّاهََا إِلََّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} (1) من روح فصلت:
إذا رأيت مسيئا يبتغي ضررا ... فداره ثم لا تظهر له خبرا
وادفع أذاه بما توليه من حسن ... وامنن عليه ولا تعلم به بشرا
فإن ذلك إكسير وقوّته ... إنّ تقلب العين والأجساد والصورا
يرجع عدوّك صدّيقا فتأمنه ... ولا تخف منه إضرارا ولا ضررا
وما يلقاها إلا صابر وله ... حظّ من العلم لما أمعن النظرا
وقال أيضا في معنى المثلين، وإن تقابلا، من روح الشورى:
المثل يعقل ما يحوي مماثله ... في النفس من كلّ ما تعطى حقيقته
فما من اسم له إلّا ويأخذه ... منه ولكن بما تعطي سليقته (2)
ما يمتري في الذي جئنا به بشر ... إلّا الذي عندنا اختلّت طريقته
قد يحكم الشخص أمرا ثم يخطئه ... وقد تعود على الداهي فليقته
كما يطالب شخص عن عقيقته ... كذاك تطلبه عقلا عقيقته
كنّى بها عن الفطرة التي فطر عليها إذ كانت العقيقة الشعر الذي يولد به الإنسان.
وقال أيضا من روح الزخرف:
الخلف تحسن في الإيعاد صورته ... كقبحها عند وعد الجود والكرم (3)
إنّ الكريم الذي يسقي الدواء لما ... فيه من الكره كي يبرى من الألم
وهي الحدود التي جاء الرسول بها ... دنيا وآخرة لكلّ ذي سقم
فلا يهولك ما يلقاه من غصص ... وإن تألم فالعقبى إلى نعم
وقال أيضا من روح الدخان:
من عزّ ذلّ إذا طال الزمان به ... وآية الدهر تقليب وتصريف
__________
(1) سورة فصلت، آية: 34.
(2) السليقة: الطبيعة.
(3) الإيعاد: التوعد والتهدد.(1/146)
قافية القاف
تمازج
[من الرمل] [57] (57)
1 - جبلت روحك في روحي كما ... يجبل العنبر بالمسك الفتق
2 - فإذا مسّك شيء مسّني ... فإذا أنت أنا لا نفترق
السّر
[من مخلّع البسيط] [58] (58)
1 - صيّرني الحقّ بالحقيقه ... بالعهد والعقد والوثيقه
2 - شاهد سرّي بلا ضميري ... هذاك سرّي، وذي الطّريقه
شوق النفس
[من المنسرح] [59] (59)
1 - أنا الّذي نفسه تشّوقه ... لحتفه عنوة وقد علقت
2 - أنا الّذي في الهموم مهجته ... تصيح من وحشة وقد غرقت
3 - أنا حزين معذّب قلق ... روحي من أسر حبّها أبقت
4 - كيف بقائي وقد رمى كبدي ... بأسهم من لحاظه رشقت
5 - فلو لفطم تعرضت كبدي ... ذابت بحرّ الهموم واحترقت
6 - باحت بما في الضمير يكتمه ... دموع بثّ بسرّه نطقت
__________
(57) [57] جلبت: خلقت.
العنبر: طيب يقذف به حوت العنبر.
الفتق: المستخرج.
والبيتان في تاريخ بغداد 8/ 115، وانظر القطعة رقم (71).
(58) [58] ورد البيتان في طواسين الحلاج، رقم (3) طاسين الصفاء.
(59) [59] الحب: الحبيب. أبق العبد: هرب من سيده.(1/147)
ميزانه ما له عدل يشاهده ... وإنما هو نقصان وتطفيف
فليس يفرح شخص باستقامته ... إلا ومن حينه يأتيه تحريف
وقال أيضا من روح الجاثية:
إنّ الإله الذي بالشرع تعرفه ... ليس الإله الذي بالفكر تدريه (1)
العقل نزّه والتحديد يأخذه ... والشرع ما بين تنزيه وتشبيه
الشرع أصدق ميزان يعرّفنا ... بربنا ولهذا همتي فيه
إن الشريعة تجري غير قاصرة ... والمعقل في عمه فيه وفي تيه
إنّ العقول لتجري وهي قاصرة ... والشرع يظهره وقتا ويخفيه
وقال أيضا من روح الأحقاف:
لا فرق بين نزول الوحي بالملك ... أو يلهم القلب إلهاما من الملك
ليس المراد سوى علم تحصّله ... من غير منزلة من فلك أو فلك
ما الشان في المنزل الوهاب من كرم ... الشان في المنزل المنعوت بالحبك
فخذه علما وتحقيقا تسرّ به ... من واهب العقل أو قل ضامن الدرك
الكلّ من عنده لا يمتري أحد ... فيما أفوه به إن كان ذا نسك
واعلم بأنّ وجود الأمر واحده ... كما علمت به في كلّ مشترك
وقال أيضا من روح القتال:
شرع القتل للرجوع سريعا ... للذي جئت منه عند الكفاح
دون موت وإنّ عيني تراه ... ميتا قد علمت معنى السراح
جعل الله في الشهادة رزقا ... للذي نالها بغير انتزاح (2)
فهو إن كان في العيان فسادا ... فهو عند الإله عين الصّلاح
كلّ ما كان أو يكون وما لا ... إنما كونه بأمر متاح
ما يريد العبيد منه تعالى ... غير درك المنى وخفض الجناح
ما على من يريد ردّا إليه ... في الذي قد أتى به من جناح
ما يريد العصاة منه تعالى ... غير عفو عن الذنوب القباح
ما يريد الفقير منه تعالى ... غير بذله الندى وجود السماح
هو ليلي إذا أتيت أناجي ... ونهاري عند المسا والصباح
__________
(1) يريد بأن الإيمان يكون عن تصديق بالشرع وتسليم وليس بإعمال الفكر.
(2) الانتزاح: الاستقاء من البئر.(1/147)
الحق حق
وقال أحمد بن فاتك: سمعت الحلّاج يقول:
[من الخفيف] [60] (60)
1 - خصّني واحدي بتوحيد صدق ... ما إليه من المسالك طرق
2 - فأنا الحقّ حقّ للحقّ حقّ ... لابس ذاته فما ثمّ فرق
3 - قد تجلّت طوالع زاهرات ... يتشعشعن والطّوالع برق
ركوب الحقيقة
[من المتقارب] [61] (61)
1 - ركوب الحقيقة للحقّ حقّ ... ومعنى العبارة فيه يدقّ
2 - ركبت الوجود بفقد الوجو ... د وقلبي على قسوة لا يرقّ
لسان
عن الحسن بن حمدان قال: أمر بشهادة وحدانيّته، ونهى عن وصف كنه هويّته، وحرم على القلوب الخوض في كيفيّته، وأفحم الخواطر عن إدراك لاهوتيّته.
فليس منه يبدو للخلق إلّا الخبر، والخبر يحتمل الصدق والكذب.
فسبحانه من عزيز يتجلّى لأحد من غير علّة، ويستتر عن أحد من غير سبب. ثم بكى وأنشأ يقول:
[من الطويل] [62] (62)
1 - دخلت بناسوتي لديك على الخلق ... ولولاك، لاهوتي، خرجت من الصّدق
2 - فإنّ لسان العلم للنّطق والهدى ... وإنّ لسان الغيب جلّ عن النّطق
3 - ظهرت لخلق والتبست لفتية ... فتاهوا وضلّوا واحتجبت عن الخلق
4 - فتظهر للألباب في الغرب تارة ... وطورا عن الأبصار تغرب في الشّرق
__________
(60) (60) [60] قال د. بسيوني في نشأة التصوف ص 179: (إن الله بعد أن فطر مخلوقاته جميعا على الحب خص منهم طائفة لنفسه، وأعطشهم لوصاله، يقول بندار بن الحسين: «الصوفي من اختاره الحق لنفسه فصافاه، وعن نفسه فباراه». ويقول الحلاج في هذه الخصوصية
والطوالع أنوار التوحيد تطلع على قلوب أهل المعرفة فتطمس سائر الأنوار).
(61) (61) [61] يرى الحلاج أن الصوفي لا يدرك الوجود المطلق إلا بفقد وجوده الجزئي.
المقصود بالقسوة هنا شدة المجاهدة والإغلاظ على النفس.
(62) (62) [62] تقدم تفصيل القول في اللاهوت والناسوت في شرح القطعة رقم (10).(1/148)
لو تراني إذا وصلت إليه ... من وجودي في بسطة وانشراح
لست أبغي سواه في كلّ حال ... أنا فيه من ضيق أو انفساح
وفي الباب:
إذا كان أنهار المعارف أربعة ... على عدد الأخلاط والحكم أمعه
وذلك حكم الحقّ في حقّ خلقه ... فأين يكون الشخص قال أنا معه
وقال أيضا في الاتحاد بالنيابة من روح الفتح:
من يطع الارسال صدقا فقد ... أطاع من أرسلهم والسلام (1)
كمثل من بايع معبوده ... وإنما بايعه في الإمام
وقد أتى أوضح من ذا وذا ... في الحجر الأسود بالاستلام
فقل لمن يفهم ما قلت ... بعد الذي سمعته لا كلام
وقال أيضا في التحجير وأربابه من روح الحجرات:
من حجر الأمر على الناس ... ما حجر الأمر على الناسي
ما شافعي من رفع حجري إذا ... فكرت فيه غير إفلاسي
انظر إلى المضطرّ في حاله ... ليس عليه فيه من باس
ذوق عزيز لم ينله سوى ... من جعل النعل على الراس
وقال أيضا فيما ذهب إليه الجبائية (2) من تجديد العالم والأشاعرة (3) في الأعراض، من روح ق:
الناس في لبس من الخلق الجديد ... لكونه يفعل فيهم ما يريد
فما يرى الأمر كما يعلمه ... يشهده بعينه الخلق الجديد
في الزمن الفرد الذي أثبته ... لطالب البرهان بالفكر السديد
ما نظرت عقولنا في مشكل ... أشكل من هذا ولا ركن شديد
يأوي إليه فكره مستندا ... ممكنا فيه فعنه ما يحيد
__________
(1) الأرسال: المرسلون. ويريد إن طاعة الله تكون بقبول ما أتى به النبيون.
(2) الجبائية: فرقة من المعتزلة، نسبوا إلى أبي علي محمد بن عبد الوهاب بن سلام الجبائي ونسبته إلى جبى وهي من قرى البصرة. توفي سنة 303هـ.
(3) الأشاعرة: فرقة منسوبة إلى أبي الحسن الأشعري وهو علي بن إسماعيل بن إسحاق، من نسل أبي موسى الأشعري. له ثلاثمائة مصنف، برع في علم الكلام وله فضل كبير في رد شبهات المعتزلة والمجسّمة توفي منه 324هـ.(1/148)
وقال أيضا في القسم المطلق والمحجور وهو صاحبها من روح الذاريات:
أقسم بالسماء ذات الحيك ... وقال لا تقسم إلا بالملك
عظمتكم إذ كنتم إلى قسما ... فعظموني مثل تعظيم الملك
تعظيمه منزّه مقدّس ... من كلّ ما يحدثه دور الفلك
وما لمخلوق به معرفة ... إلا إذا العبد إلى الله سلك
وكلّ من يسلك نحوي قاصدا ... هو الذي سرّ الوجود قد ملك
وما سواه ضل في مهلكة ... تاه بها منفردا حتى هلك
قلت متى يشهدك الوصف الذي ... تعلمه قال إذا الشمس دلك (1)
وقال أيضا في الميل الحسي والمعنوي، قال تعالى: {إِنَّمََا قَوْلُنََا لِشَيْءٍ إِذََا أَرَدْنََاهُ} (2)، من روح الطور:
الميل في الأمرين لا ينكر ... لكنه في جانبي أظهر
لأنني بالجسم حصّلته ... مشاهدا للعين إذ تبصر
ثم اجتمعنا في المعاني وقد ... زدت بميل الحسّ إذ تشعر
اضرب أسداسا بأخماسها ... لعلني في ضربها أذكر
ما فاتني منه وإني إذا ... أذكره يشهدني المحضر
وذا عزيز إن يرى حاصلا ... وما عليه أحد يعثر
يخسر من كان مليكا به ... ويربح السوقة والمتجر
يعطي ولا يأخذ وهو الذي ... يظهره في عينه المظهر
وقال أيضا في الشهب العلمية من روح النجم:
هوى النجم من أوجه محرقا ... لمن جاء يسترق المنطقا
وأظهر في الغرب أنواره ... فصيّر مغربه مشرقا
وكلّ وجود له باطن ... إذا ما دجا ليله أشرقا
وكلّ رياض له ذابل ... إذا ما ذوى غصنه أورقا
وإن الفواد إذا ما اهتدى ... بأنواره وحيه صدقا
وقى الله حساده شرّه ... بما الله أمثاله قد وقى
إذا وجد الباب قصاده ... لجهلهم دونهم مغلقا
أقاموا حيارى على بابه ... وما أحد منهم حققا
__________
(1) دلكت الشمس: غربت الشمس.
(2) سورة النحل، آية: 40. وتمامها: {إِنَّمََا قَوْلُنََا لِشَيْءٍ إِذََا أَرَدْنََاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ}.(1/149)
[من السريع] [63]
1 - اتّحد المعشوق بالعاشق ... ابتسم الموموق للوامق ... (1)
2 - واشترك الشّكلان في حالة ... فامتحقا في العالم الماحق (2)
قافية الكاف
شفاء السقيم
[من المجتث] [64]
1 - أنا سقيم عليل ... فداوني بدواك
2 - أجري حشاشة نفسي ... في سفن بحر رضاك (12)
3 - أنا حبيس فقل لي: ... متى يكون الفكاك؟
4 - حتّى يظاهر روحي ... ما مضّها من جفاك (4)
5 - طوبى لعين محب ... حبوتها من رؤاك (5)
6 - وليس في القلب واللّ ... بّ موضع لسواك
[63]
__________
(1) 1الموموق والوامق: من المقة أي المحبة. وهما المحبوب والمحب.
وقيل: الوماق محبة: لغير ريبة، والعشق: محبة لريبة.
(2) 2المحق: فناء وجود العبد في ذات الحق تعالى، كما أن المحو: فناء أفعاله في فعل الحق، والطمس: فناء الصفات في صفات الحق.
[64]
(12) 2الحشاشة: روح القلب ورمق حياة النفس، وكل بقية حشاشة، وحشاشاك أن تفعل ذلك أي مبلغ جهدك.
بحر رضاك: أي رضاك ليس له نهاية ولا غاية.
(4) 4مضّها: آلمها وأوجعها، ومضّني الهم والحزن: أحرقني ومشقّ عليّ.
(5) 5طوبى لهم: حسنى لهم، وقيل: خير لهم، وقيل: خيرة لهم. وقيل: طوبى: شجرة في الجنة، وقيل اسم الجنة بالهندية أو الحبشية.
حبوت: أعطيت. وقارن هذا البيت مع البيت الأول من القطعة (78).(1/149)
وهل زي باب كريم دعا ... إلى بابه أحدا أطبقا
فكيف بباب الذي لم يزل ... رفيقا بنا راحما مشفقا
وقال أيضا في الأنواء والأهواء، من روح القمر:
يقرّب الأمر إذا انشق القمر ... لأنه في اللوح رقم مستطر
ولا تقل يا سيّدي بأنّ ذا ... إذا رأته العين سحر مستمر
لو لم يكن هذا الذي رأيته ... لما انتهى شخص به ولا ائتمر
تبتسم الأرض وتبدي خيرها ... إن جادت السحب بماء منهمر
وجادت الشمس لها بنورها ... صبيحة اليوم الذي فيه مطر
وأصبحت أرض الهوى مخضرّة ... تظهر للأبصار غيب ما ستر
وطاب عرف الجوّ من أعرافها ... فقلت للأنواء ما هذا الخبر (1)
رأيته طلق المحيّا ضاحكا ... من كان يدعى بالعبوس المكفهر
فاشكر وزد في شكره مجتهدا ... واحذر من المكر إنّ الله مكر (2)
أنذرته المكر فقال لا تقل ... هذا الذي قلت فما تغني النذر
قلت فما أعرف إلا مؤمنا ... بما به يجري القضاء والقدر
فقال هيهات لما تعرفه ... مني فإني منذ وليت الدبر
أعرض عني الرشد واستفزني ... شيطانه فقلت هل من مدّكر
قلت: أنا فقال: لا أصغي إلى ... ما قلت إني في ضلال وسعر
كم بين سخص في جنان ونهر ... في مقعد صدق مليك مقتدر (3)
وبين شخص خاسر قيل له ... يا أيها الخاسر ذق مسّ سقر (4)
فالحمد لله الذي أعطى البشر ... حمد شكور شاكر شكر الشكر
وقال أيضا في أداء الحقوق، من روح الرحمن:
إذا وضع الميزان في قبة العدل ... ترجّح ميزان السماحة بالفصل
وإن لم يكن بالفضل فالوزن خاسر ... وإن كان إيثارا بما كان من بذل
فأوّل حقّ فيه حقّ إلهه ... وحقّ رسول الله ذي المجد والفضل
__________
(1) الأنواء: النجوم مالت للغروب. والواحد نوء.
(2) المكر بالنسبة إلى العبد: الخديعة، وبالنسبة إلى الله تعالى إيقاعه بالعباد الذين يستحقون البلاء، أي بمعنى الجزاء.
(3) إشارة إلى الآية الكريمة: {فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ} سورة القمر، آية: 55.
(4) سقر: من أسماء جهنّم.(1/150)
دليل
[من البسيط] [65] (65)
1 - فيك معنى يدعو النّفوس إليكا ... ودليل يدلّ منك عليكا
2 - لي قلب له إليك عيون ... ناظرات وكلّه في يديكا
رسالة من السجن
كتب الحلّاج إلى أبا العبّاس بن عطاء من السجن: امّا بعد فإنّي لا أدري ما أقول. إن ذكرت برّكم لم أنته إلى كنهه، وإن ذكرت جفاء كم لم أبلغ الحقيقة.
بدت لنا باديات قربكم فأحرقتنا وأذهلتنا عن وجود حبّكم. ثم عطف وألف مما ضيّع وأتلف، ومنع عن وجود طعم التلف. وكأني وقد تخرّقت الأنوار وتهتّكت الأستار، وظهر ما بطن، وبطن ما ظهر، وليس لي من خبر، ومن لم يزل كما لم يزل.
وختم الكتاب وعنون بقوله:
[من مجزوء الكامل] [66] (66)
1 - همّي به وله عليكا ... يا من إشارتنا إليكا
2 - روحان ضمّهما الهوى ... فيما يليك وفي يديكا
كيف السبيل
[من المجتث] [67] (67)
1 - لا كنت إن كنت أدري ... كيف السّبيل إليكا
2 - أفنيتني عن جميعي ... فصرت أبكي عليكا
__________
(65) [65] قارن بالقطعة (51) الآتية في الشعر المنسوب إليه.
(66) [66] الوله: إفراط الوجد. الإشارة من علوم الصوفية، سمي بذلك لأن مشاهدات القلوب ومكاشفات الأسرار لا يمكن العبارة عنها على التحقيق، بل علم بالمنازلات والمواجيد، ولا يعرفها إلّا من نازل تلك الأحوال، وحل تلك المقامات.
وانظر ما تقدم من تعليق على القطعة رقم (23).
(67) [67] الفناء: تبديل الصفات البشرية بالصفات الإلهية دون الذرات. فكلما ارتفعت صفة قامت صفة إلهية مقامها، فيكون الحق سمعه وبصره.
وقيل: الفناء: هو الغيبة عن الأشياء كما كان فناء موسى حين تجلى ربه للجبل فجعله دكّا وخرّ موسى صعقا.(1/150)
قافية اللام
دنيا
[من مجزوء الكامل] [68] (68)
1 - دنيا تخادعني كأن ... ني لست أعرف حالها
2 - حظر الإله حرامها ... وأنا اجتنبت حلالها
3 - مدّت إلىّ يمينها ... فرددتها وشمالها
4 - ورأيتها محتاجة ... فوهبت جملتها لها
5 - ومتى عرفت وصالها ... حتّى أخاف ملالها؟!
نعم الإعانة
[من البسيط] [69]
1 - نعم الإعانة رمزا في خفا لطف ... في بارق لاح فيها من علا خلله ... (1)
2 - والحال يرمقني طورا وأرمقه ... إن شا فيغشى على الإخوان من قلله ... (2)
3 - حال إليه جرى فيه بهمّته ... عن فيض بحر من التّمويه من ملله
4 - فالكلّ يشهده كلّا وأشهده ... مع الحقيقة لا بالشّخص من طلله
__________
(68) [68] وردت الأبيات (1، 2، 4) في تاريخ بغداد 8/ 117، 118.
[69]
(1) 1الخلل: منفرج ما بين كل شيئين، وخلل السحاب: مخارج الماء منه، ومن هذه المخارج يلمع البارق في السماء رمز للإشارات الإلهية.
(2) 2الحال: هو ما يرد على القلب من طرب أو حزن أو بسط أو قبض، وقيل: معنى الأحوال هو ما يحل بالقلوب، أو تحل به القلوب من صفاء الأذكار.
القلل: القمم، وقلة كل شيء: أعلاه، والقلل أيضا: جمع القليل.(1/151)
ومن بعده حقّ المكلّف نفسه ... وحق فراش الشخص إن كان ذا أهل
وحقّ بنيه ثم حقّ خديمه ... ومن بعده حقّ القرابة بالعدل
إلى جاره الأدنى إلى أهل دينه ... إلى كلّ ذي حقّ ويجري على الأصل
لهذا الذي قد قلته وزن شرعه ... وأما الذي للكل فاضربه في الكل
فيخرج كل الكل من ضرب كله ... كما تخرج الأمثال من واحد المثل
فإن كان ذا فضل فيوصل فضله ... وما ثم من وصل وما ثم من فصل
إذا ضرب الإنسان واحد عينه ... بعين وجود الأصل لم يبد للمثل
سوى نفسه فافهم حقيقة ضربه ... فما ثم إلا الحقّ إذ أنت كالظلّ
وقال أيضا في التمثيل في النشأتين قال تعالى: {وَنُنْشِئَكُمْ فِي مََا لََا تَعْلَمُونَ وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولى ََ فَلَوْلََا تَذَكَّرُونَ} {كَمََا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ} (1)، من روح الواقعة:
كما بدأ الرحمن نشأ يعيده ... بغير مثال حاصل قبله سبق
كذا قال لي الرحمن فيه مخاطبا ... وما كان عن أمر اتفاقيّ اتفق
بلى كان مقصودا له حين قاله ... فمن كان يحكي القول عن ربه صدق
فلاحظ للعقل المفكر ههنا ... وما هو إلا ما الكتاب به نطق
إذا نظر الإنسان أحوال نفسه ... رأى الأمر يجري في الوجود على نسق
فيأخذ من هذا وهذا علومه ... فإن الذي أبدأه في عينه لحق
فما سابق إلّا وآخر بعده ... يليه وجودا ثم إن فاته لحق
وقال في تفصيل الشرائع من روح الحديد:
الشرع شرعان شرع الرسل والحكما ... وكله فهو مرعيّ لمن فهما
عند الإله فإن الله قرّره ... شرعا قويما لمن يدري إذا علما
إن الإله هو الموحي بذاك إلى ... قلوبهم وهم لا يشعرون بما
ألقاه في القلب من حكم ومن حكم ... لأنهم زعموا بأنهم علما
وليس يدرون أنّ الله أعلمهم ... كذا أتتنا به مقالة القدما
لأنهم جهلوا ما نحن نعلمه ... من الإله الذي بالحق قد حكما
فنحن أسعد منهم في قيامتنا ... ويزعمون غدا بأنهم زعما
روحا وقد غدرت بهم مواكبهم ... فهم وإن سعدوا لم يفقدوا ندما
فنحن أعلم ما قالوه واعتقدوا ... وما رأينا لهم في علمنا قدما
ونحن أهل شهود في طريقتنا ... وهم بأفكارهم في حيرة وعمى
__________
(1) سورة الواقعة، آية: 62.(1/151)
وقال أيضا من روح المجادلة:
قد سمع الله قول عبده ... إذ حمد الله حقّ حمده (1)
لقد وفى الربّ لي بعهدي ... لما وفينا له بعهده
وقد أرانا الإله جودا ... من كرم الذات صدق وعده
وهو معي حيث كنت منه ... بقرب إن كان أو ببعده
وقال أيضا في الباب منها:
إذا سمع الله العليم مقالتي ... وأنّ مدى أمري إليه يؤول
فلست أبالي من يخوض بفكره ... ويزعم أني بالأمور جهول
فيرخي عنان القول فيّ ويفتري ... عليّ بشيء ما عليه دليل
ويطنب في الذمّ الذي أنا أهله ... ويوسع فينا بالهوى ويقول
وإن كنت معصوما فعصمة عرضنا ... محال وفرض ما إليه سبيل
وقال أيضا في الباب منها:
إني قرأت كتاب الله أجمعه ... فلم أجد سورة لله إلا التي
في زوجها جادلت خير الأنام وقد ... أرسلت من أجلها بأدمعي مقلتي
هذه السورة الغرّاء هيمني ... سرّ بها ولذا جعلتها قبلتي
وقال أيضا في حكمة الحشر والنشر من روح الحشر:
حشرت أجزاء جملتنا ... لظهور الروح في البدن
وبدت أعلام قبلتنا ... فنفت عن مقلتي وسني (2)
طلبا للاجتماع بها ... إنها من جملتي سكني
جعل الرحمن آخرها ... عصمة لنا من الفتن
عصم الرحمن قارءها ... أبدا في السرّ والعلن
فلقد تاه الفؤاد بها ... للذي فيها من الحسن
وقال أيضا في سبب الابتداء حيث كان لا أحاشي، من روح الممتحنة:
لولا الدعاوى ما ابتلى من ابتلي ... من كل شخص من رسول أو ولي
لا تبتلي ما تبتلي واستسلمن ... إلى الذي يقضي به الرحمن لي
فإنه أعلم بي منا بنا ... ومن يكن أعلم بي فهو العلي
__________
(1) يريد الآية: {قَدْ سَمِعَ اللََّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجََادِلُكَ فِي زَوْجِهََا وَتَشْتَكِي إِلَى اللََّهِ} المجادلة، آية: 1.
(2) الوسن: شدة النوم أو أوله.(1/152)
انشغال الجوارح
[من الوافر] [70]
1 - أيا مولاي، دعوة مستجير ... بقربك في بعادك والتّسلي
2 - لقد أوضحت أوضاح المعاني ... بعرضكها بأثواب التّجلّي
3 - شغلت جوارحي عن كلّ شغل ... فكلّي فيك مشغول بكلّي
[من الرمل] [71] (71)
1 - مزجت روحك في روحي كما ... تمزج الخمرة بالماء الزلال
2 - فإذا مسّك شيء مسّني ... فإذا أنت أنا في كلّ حال
قافية الميم
[من الرمل] [72] (72)
1 - هيكليّ الجسم نوريّ الصّميم ... صمديّ الرّوح ديّان عليم ... (1)
2 - عاد بالرّوح إلى أربابها ... فبقى الهيكل في التّرب رميم
__________
(71) [71] ورد البيتان في تاريخ بغداد 8/ 115، وانظر القطعة التي تقدمت برقم 57.
جاء في كتاب نشأة التصوف ص 262: (وتشرح دائرة المعارف البريطانية هذا الامتزاج:
وتلاشى حبنا في الحب الإلهي كما تتلاشى قطرة الماء الصغيرة في وعاء الخمر الكبير، فتبدو كأنها قد فقدت خاصيتها وأخذت مذاق الخمر، أو كما يفقد الحديد المحمى لونه ومظهره ويتوهج كالنار التي يحمى فيها، أو كما يأخذ الفضاء لون الشروق حين يملؤه ضوء الشمس هكذا تنمحي المشاعر الإنسانية في الواحد، ويصبح الواحد هو الكل لأنه لم يعد للإنسان بقية من مجد أو سلطان. هذا رغم بقاء الإنسان على ماديته كما هو).
(72) [72] جاء في نشأة التصوف ص 183، 184: (والجسد هو الوعاء الخارجي لهذا الأصل
النوراني يقول الحلاج «هيكلي الجسم» وهذه الفكرة في الواقع إنسانية، نجدها في تصوفات أخرى، فنرى أحد الشعراء الصينين من التاويين المتصوفين يقول:
تحيا الروح في هيكل البدن
البدن يتمثل إلى الروح
الروح تقود إلى الطريق
الطريق وارد إلى مصدره الأصيل
ونظر المحبون إلى الجسد على أنه سجن الروح، والروح تواقة لأن تنعتق منه).
(1) 1هيكلي الجسم: مادي الناسوت.
نوري الصميم: اللاهوت، صمدي نسبة إلى الصمد، والصمد: من صفاته تعالى وتقدس لأنه أصمدت إليه الأمور فلم يقض فيها غيره، وقيل: الصمد: الدائم الباقي بعد بقاء خلقه أو الذي صمد إليه كل شيء، أي الذي خلق الأشياء كلها لا يستغني عنه شيء وكلها دالّ على وحدانيته.
الديان: صفة لله عزّ وجل وتعني الذي يجزي ويحاسب.(1/152)
الحقيقة
يروى عن عبد الله بن طاهر الأزديّ أنه قال: كنت أخاصم يهوديّا في سوق بغداد وجرى على لفظي أن قلت له: يا كلب. فمرّ بي الحسين بن منصور ونظر إليّ شزرا، وقال: لا تنبح كلبك، وذهب سريعا. فلمّا فرغت من المخاصمة، قصدته، فدخلت عليه، فأعرض عنّي بوجهه. فاعتذرت إليه فرضي، ثم قال: يا بنيّ، الأديان كلّها لله عزّ وجلّ، شغل بكلّ دين طائفة لا اختيارا فيهم بل اختيارا عليهم. فمن لام أحدا ببطلان ما هو عليه فقد حكم أنه اختار ذلك لنفسه، وهذا مذهب القدريّة و «القدريّة مجوس هذه الأمّة».
واعلم أنّ اليهوديّة والنصرانيّة والإسلام وغير ذلك من الأديان هي ألقاب مختلفة وأسام متغايرة، والمقصود منها لا يتغيّر ولا يختلف. ثم قال:
[من الطويل] [73] (73)
1 - تفكّرت في الأديان جدّ محقّق ... فألفيتها أصلا له شعب جمّا
2 - فلا تطلبن للمرء دينا، فإنّه ... يصدّ عن الأصل الوثيق، وإنّما
3 - يطالبه أصل يعبّر عنده ... جميع المعالي والمعاني فيفهما
__________
(73) [73] قارن مع القطعتين السابقتين برقم (16)، (32).
يقول د. بسيوني في نشأة التصوف ص 187: (النبوات كلها أسماء لحقيقة واحدة وفروع لأصل واحد، ولكل طائفة دينها، لا اختيارا منهم بل اختيارا عليهم، وإن من لام أحدا ببطلان ما هو عليه فقد حكم أنه اختار ذلك لنفسه وذلك هو مذهب القدرية. وما اليهودية والنصرانية والإسلام وغير ذلك من الأديان إلّا ألقاب مختلفة وأسام متغيرة، والمقصود منها لا يتغير ولا يختلف. والحلاج يهز أعصاب رجال التدين، وبخاصة من تعصب منهم وتزمّت، وذلك لأنه يعلن في صراحة وعنف) وأنشد الأبيات.(1/153)
علم البلاء خبرة فاحكم له ... بالذوق فيه وعليه فاعمل
يا نفس قومي للذي عرفته ... بكلّ ما يطلبه لا تأتلي
إن كان قول الله حيّ نحو ما ... يعطي اللسان فاطلبي لا تحملي
وليس يدري سرّ ما أذكره ... في شعرنا الا خبير قد ولي
وقال أيضا على أنّ الحب نكرة لا تتعرّف ومجهول لا يعرف له في كل حالة صورة فمن علمها لا يتوقف، من روح سورة الصّف:
إذا كان عين الحب ما ينتج الحب ... فما ثم من يهوى ولا من له حبّ
فإن التباس الأمر في ذاك بين ... وقد ينتج البغضاء ما ينتج الحبّ
ولكنه معنى لطيف محقق ... يقوم بسرّ العبد يجهله القلب
لأنّ له التقليب في كلّ حالة ... به فتراه حيث يحمله الركب
وذو الحب لم يبرح مع الحب ثابتا ... على كلّ حال يرتضيها له الحب
فإن كان في وصل فذاك مراده ... وإن كان في هجر فنار الهوى تخبو
شكور لما يهواه منه حبيبه ... فليس له بعد وليس له قرب
ولكنه يهوى التقرّب للذي ... أتته به الآمال إذ تسدل الحجب (1)
فيهوى شهود العين في كل نظرة ... وما هو مستور ويجهله الصّب (2)
فلو ذاقه علما به وعلامة ... له فيه لم يبرح له الأكل والشّرب
ولكنه بالجهل خابت ظنونه ... فليس له فيما أفوه به شرب
فيطلبه من خارج وهو ذاته ... وينتظر الإتيان إن جادت السّحب
فلا خارج عني ولا فيّ داخل ... كذاتي من ذاتي كذا حكمه فاصبوا
إليه فلا علم سوى ما ذكرته ... ولكنّ صغير القوم في بيته يحبو
فلو كان يمشي في الأمور منفذا ... لما كان يعميه عن إدراكه الذّنب
وقال أيضا، من روح الجمعة:
علا كلّ سلطان على كلّ سوقة ... إذا سكن الأطوال وأسكن العرضا
وما ذاك إلا ههنا بتكلّف ... وينعدم التكليف إن فارق الأرضا
إلى جنة المأوى بنشأة حسّه ... وما عندها ظل وإنّ لها عرضا
وقال أيضا في حقيقة الأنس من الخلق من روح المنافقين، كما أعطاه الوارد (3)،
وضعته
__________
(1) الحجب: يريد انطباع الصور الكونية في القلب المانعة لقبول تجلي الحق.
(2) الصّب: المحب.
(3) الوارد: كل ما يرد على القلب من المعاني الغيبية من غير تعمد من العبد.(1/153)
[من البسيط] [74] (74)
1 - شيء بقلبي، وفيه منك أسماء ... لا النّور يدري به كلّا! ولا الظّلم
2 - ونور وجهك سرّ حين أشهده ... هذا هو الجود والإحسان والكرم
3 - فخذ حديثي، حبّي أنت تعلمه ... لا اللّوح يعلمه حقا ولا القلم
ثلاثة أحرف
قال أبو القاسم عبد الله بن جعفر المحبّ: لمّا دخل الحلّاج بغداد واجتمع حوله أهلها، حضر بعض الشيوخ عند بعض رؤساء بغداد يقال له أبو طاهر الساوي وكان محبّا للفقراء، فسأله الشيخ أن يعمل دعوة ويحضر فيها الحلّاج. فأجابه إلى ذلك وجمع المشايخ في داره، وحضر الحلّاج. فقال للقوّال: قل ما يختار الشيخ، يعني به الحلّاج. فقال الحلّاج: إنّما يوقظ النائم وقوّال الفقراء ليس بنائم. فقال القوّال: وطاب وقت القوم. ووثب الحلّاج وسطهم وتواجد تواجدا تلألأت منه أنوار الحقيقة وأنشد:
[من الوافر] [75] (75)
1 - ثلاثة أحرف لا عجم فيها ... ومعجومان وانقطع الكلام
2 - فمعجوم يشاكل واجديه ... ومتروك يصدّقه الأنام
3 - وباقي الحرف مرموز معمّى ... فلا سفر هناك ولا مقام
شروط الهوى
[من البسيط] [76] (76)
1 - قضى عليه الهوى ألّا يذوق كرى ... وبات مكتحلا بالصّاب لم ينم
2 - يقول للعين: جودي بالدموع، فإن ... تبكي بجدّ وإلّا فلنجد بدم
3 - فمن شروط الهوى أنّ المحبّ يرى ... بؤس الهوى أبدا أحلى من النّعم
__________
(74) [74] لعل الحلاج قد توجه بهذه الأبيات إلى أحد أصدقائه، ويبدو أن هذه الأبيات من الشعر الحسي، إلا أن عدم استطاعة الحلاج الخروج من حدود طابعه الصوفي التجريدي الرمزي جعل الأبيات تبدو وكأنها من الشعر العرفاني.
(75) [75] تتضمن هذه الأبيات لغزا شعريا يقصد به كلمة «التوحيد»
(76) [76] الصباب: شجر إذا اعتصر خرج منه كهيئة اللبن، وربما نزت منه نزيّه أي قطرة فتقع في العين كأنها شهاب نار وربما أضعف البصر. وقيل: الصباب عصارة شجر مر.(1/154)
وأعلم بتعيين الروي وكسبه كما ألقى إذ لم يكن لي في اختيار:
تظن ترى ناسا وما هم كما ترى ... وما لهم غير اليرابيع من مثل
قلوبهم كالنافقاء لحكمة ... وإن فارقوا اليربوع في الخلق والشكل (1)
لأن لهم وجهين في أصل خلقهم ... فوجه إلى فصل ووجه إلى وصل
وهذا مديح منبيء بحقيقة ... وما هو هجو جلّ عن هجوهم مثلي
وما أنا عما قد ذكرت بغائب ... ولكنّ ذا الأفضال يمتاز بالفضل
وما قلت إلا ما تحققت كونه ... فإنّ مثال الشخص يظهر بالظل
وقد علم الأقوام أني بصورة ... حبيت بها جود اختصاص على الكلّ
فيا نفس جودي بالسماح على فتى ... قد أنزلكم بالفقر منزلة الأصل
فإن لم يكن أهلا فإنك أهله ... وما هو بالإتيان إلا من الأهل
وما ثم ذات تستحق لعينها ... وجود مديح أو هجاء بلا فعل
وقال أيضا من روح التغابن:
إذا كنت في شيء ولا بد قائلا ... فقل فيه علما لا تقل فيه بالزعم
فإنّ الذي قد قال بالزعم مخطىء ... كذا جاء في القرآن إنّ كنت ذا فهم
ولا تك ذا فكر إذا كنت طالبا ... مشاهدة الأعيان واحذر من الوهم (2)
وكن مع حكم الله في كلّ حالة ... فقد فاز بالإدراك من قام بالحكم
ومن قال بالتحيير أعطاه حيرة ... فلا تتصرف فيه إلا على علم
تكن بين أهل الكشف عبدا مخصصا ... بأسمائه الحسنى بعيدا عن الرسم (3)
وكن مركبا للأمر تحصل على المنى ... ولا تك ذا قلب خليّ عن الجسم
وما ثم عين تدرك العين ذاته ... فيخلو عن الكيف المحكم والكمّ (4)
وقال أيضا من روح النساء الصغرى:
ألا فاتبع من كان عبدا مخصصا ... بعلم غريب لم ينل ذوقه خبرا
ولا تعترض فيه عليه لأنه ... سيحدث في معناه منه لكم ذكرا
ولا تك فيه موسويا فإنه ... مع القول بالتعديل لم يستطع صبرا
تزحزح ألباب الرجال إذا رأوا ... بأعينهم من غيرهم أحدثوا أمرا
__________
(1) النافقاء: إحدى جحرة اليربوع، واليربوع: دابة.
(2) الأعيان الثابتة هي حقائق الممكنات في علم الحق تعالى، والعين إشارة إلى ذات الشيء.
(3) الكشف: الاطلاع على ما وراء الحجاب من المعاني الغيبية والأمور الحقيقية.
(4) العين: إشارة إلى ذات الشيء الذي تبدو منه الأشياء.(1/154)
عين العلم
[من مخلّع البسيط] [77]
1 - أشار لحظي بعين علم ... بخالص من خفيّ وهم ... (1)
2 - ولائح (2) لاح في ضميري ... أدقّ من فهم وهم همّي
3 - فخضت في لجّ بحر فكري ... في مركّب في رياح عزمي
4 - وطار قلبي بريش شوق ... أمرّ فيه كمرّ سهم
5 - إلى الّذي إن سئلت عنه ... رمزت (5) رمزا ولم أسمّ
6 - حتّى إذا جزت كلّ حدّ ... في فلوات الدّنوّ أهمي
7 - نظرت إذ ذاك في سجلّ (7) ... فما تجاوزت حدّ رسمي
8 - فجئت مستسلما إليه ... حبل قيادي بكفّ سلمي
9 - قد وسم الحبّ منه قلبي ... بميسم الشّوق أيّ وسم
10 - وغاب عنّي شهود ذاتي ... بالقرب، حتّى نسيت اسمي
[77]
__________
(1) 1لحظي: إشارة إلى ملاحظة أبصار القلوب لما يلوح لها من زوائد اليقين بما آمنت به من الغيوب.
عين علم، عين: إشارة إلى ذات الشيء الذي تبدو منه الأشياء. ومشايخ الصوفية المقربون رزقوا سائر العلوم وقالوا إنها فرض، فمن ذلك علم الحال وعلم القيام وعلم الخواطر وعلم اليقين وعلم الإخلاص وعلم النفس ومعرفة أخلاقها هو من أعز علوم الصوفية.
خفي: هو لطيفة ربانية مودعة في الروح بالقوة فلا يحصل بالفعل إلا بعد غلبات الواردات الربانية ليكون واسطة بين الروح والحضرة في قبول تجلي صفات الربوبية.
(2) 2لائح: هو ما يلوح من الأسرار الظاهرة من السمو من حال إلى حال.
(5) 5الرمز: معنى باطن مخزون تحت كلام ظاهر لا يظفر به إلا أهله.
(7) 7السجل: الغيب والقضاء الإلهيان اللذان بلغهما الحلاج بسلوكه الروحي.(1/155)
فينكرهم في الحين دينا وغيرة ... فيرهقها المتبوع من أمرها عسرا
فإن عاد بالأعراض عنهم لنكرهم ... تقيم له مما أتته به عذرا
كذا سنة الرحمن في كلّ تابع ... ومتبوعه فاحذر من العالم المكرا
فمن يتق الله العليم بحاله ... سيجعل له الرحمن من أمره يسرا
ومن يتوكل في الأمور على الذي ... يكون بها أولى كما أنه يدرى
وقد جعل الله العليم بأمره ... لكلّ الذي يجريه في خلقه قدرا
لقد جئتكم بالأمر من عند ربكم ... كما جاءت الأرسال من عنده تترى
وإني لهم في كلّ ما قلت وارث ... ولم ألتمس منكم ثناء ولا أجرا
وأجري على الله الكريم جعلته ... لديه إلى يوم الورود لنا ذخرا (1)
وقال أيضا: فيمن قاوم الاقتدار الإلهي من روح التحريم
، قال الله تعالى: {وَإِنْ تَظََاهَرََا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللََّهَ هُوَ مَوْلََاهُ وَجِبْرِيلُ وَصََالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلََائِكَةُ بَعْدَ ذََلِكَ ظَهِيرٌ} (2). وقال عليه الصلاة والسلام: «إن المرأة خلقت من ضلع أعوج فإن رمت تقويمها كسرتها وكسرها طلاقها، وإن استمتعت استمتعت وبها عوج» (3).
تعجبت من أنثى يقاوم مكرها ... بخير عباد الله ناصره الأعلى
وجبريل أيضا ناصر ثم بعده ... ملائكة بالعون من عنده تترى
ومن صلحاء المؤمنين عصابة ... سمعناه قرآنا بآذاننا يتلى
وما ذاك إلا عن وجود تحققت ... به المرأة الدنيا ومرتبة عليا
وقد صحّ عند الناس أن وجودها ... من النفس في القرآن والضلع العوجا
فإن رمت تقويما لها قد كسرتها ... وما كسرها إلّا طلاق به تبلى
وإن شئت أن تبقى بها متمتعا ... فمعوجها يبقى وراحتكم تفنى
فما أمها إلا الطبيعة وحدها ... فكانت كعيسى حين أحيى بها الموتى
لقد أيّد الرحمن بالروح روحه ... وهذي تولاها الإله وما ثنى (4)
فإن كنت تدري ما أشرت به فقد ... أبنت لكم عنها وعن سرّها الأخفى
وقال أيضا في الإمام الذي يرث الغوث، من روح تبارك الملك:
شهدت الذي تدعونه الغوث والذي ... له الملك بعد الغوث والغوث لا يدري (5)
__________
(1) يوم الورود: أراد يوم القيامة.
(2) سورة التحريم، آية: 4.
(3) رواه البخاري: أنبياء 1. ومسلم: رضاع 61، 62، والدارمي: نكاح 35. وابن حنبل 5، 8.
(4) الروح، يعني عيسى عليه السلام.
(5) الغوث: هو القطب حينما يلتجأ إليه، ولا يسمى في غير ذلك الوقت غوثا.(1/155)
بما هو غوث ثم إن كان عالما ... به فاختصاص جاء في ليله يسري
تبارك ملك الملك جلّ جلاله ... وعزّ فلم يدرك بفكر ولا ذكر
تعالى عن الأمثال علو مكانة ... تبارك حتى ضمه القلب في صدري
ولم أدر ما هذا ولا ينجلي لنا ... مقالته فيه وبالشفع والوتر
عرفناه لما أن تلونا كتابه ... فللجهر ذاك الوتر والشفع للسرّ
وما عجبي من ماء مزن وإنما ... عجبت لماء سال من يابس الصخر (1)
كضربة موسى بالعصا الحجر الذي ... تفجر ماء في أناس له تجري (2)
وكلّ أناس شربه عالم به ... يميزه ذوقا وإن حلّ في النهر
وقال أيضا، من روح سورة ن:
إذا جاء بالإجمال نون فإنه ... يفصّله العلام بالقلم الأعلى
فيلقيه في اللوح الحفيظ مفصّلا ... حروفا وأشكالا وآياته تتلى
وما فصل الإجمال منه بعلمه ... وما كان إلا كاتبا حين ما يتلى
عليه الذي ألقاه فيه مسطر ... لتبلى به أكوانه وهو لا يبلى
هو العقل حقا حين يعقل ذاته ... له الكشف والتحقيق بالمشهد الأجلى (3)
وقال أيضا من روح سورة الحاقة:
العرش يحمله من كان يحمله ... العرش فاعجب له من حامل محمول
إن كان عرش سرير كان حامله ... ملائك كالذي قد جاء في المنقول
أو كان ملكا فإن الحاملين له ... خمس ملائكة أناهم جبريل
ومن أناس ثلاث لا خفاء بهم ... أئمة روضهم بعلمهم مطلول (4)
للصور والروح والأرزاق أجمعها ... والوعد ثم وعيد سيفه مسلول
وقال أيضا في روح من أرواح سورة المعارج:
يوم المعارج يوم لا انقضاء له ... دنيا وآخرة لا ينقضي أمده
وكلّ ما ينقضي منه لحادثة ... تكون فيه وفيها ينتهي أبده
ولو يعدّ الذي يكون من حدث ... في يومه ما انتهى في يومه عدده
__________
(1) المزن: الغيم، والمزنة: المطرة.
(2) إشارة إلى تفجر الماء من الصخر حين ضرب موسى عليه السلام الصخر بعصاه، كما في الآية: {فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصََاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتََا عَشْرَةَ عَيْناً} سورة البقرة، آية: 60.
(3) الكشف: الاطلاع على ما وراء الحجاب من المعاني الغيبية.
(4) مطلول: من الطّل وهو المطر الضعيف.(1/156)
قافية النون
طوبى
[من مجزوء الكامل] [78] (78)
1 - طوبى لطرف فاز من ... ك بنظرة أو نظرتين
2 - ورأى جمالك كلّ يو ... م مرة أو مرّتين
3 - يا زين كلّ ملاحة ... حوشيت من عيب وشين
4 - أنت المقدم في الجما ... ل، فأين مثلك أين؟ أين؟
وصيّة
[من الوافر] [79] (79)
1 - ألا أبلغ أحبّائي بأني ... ركبت البحر وانكسر السّفينه
2 - على دين الصّليب يكون موتي ... ولا البطحا أريد ولا المدينه
رسالة
[من مجزوء الرجز] [80] (80)
1 - إن كتابي يا أنا ... عن فرط سقم وضنى
__________
(78) [78] طوبى لهم: حسنى لهم، وقيل: خير لهم، وقيل: خيرة لهم. وقيل: طوبى: شجرة في الجنة، وقيل اسم الجنة بالهندية أو الحبشية.
وقارن هذا البيت مع البيت الخامس من القطعة رقم (66).
(79) [79] قال أبو العباس المرسي: أكره من الفقهاء خصلتين، قولهم بكفر الحلاج، وقولهم بموت الخضر عليه السلام. أما الحلاج فلم يثبت عنه ما يوجب القتل. وما نقل عنه يصح تأويله نحو قوله:
(على دين الصليب يكون موتي) ومراده أنه يموت على دين نفسه، فإنه هو الصليب. وكأنه قال: أنا أموت على دين الإسلام، وأشار أنه يموت مصلوبا. انظر لطائف المنن لعبد الوهاب الشعراني 2/ 84، طبعة مصر 1321، وانظر نشأة التصوف للدكتور بسيوني ص 187.
(80) [80] السقم والضنى: المرض.(1/156)
2 - وعن فؤاد هائم ... وعن سقام وعنا ... (2)
3 - وعن بكاء دائم ... جرى فأجرى السّفنا
4 - وعن جفون أرقت ... فما تذوق الوسنا ... (4)
5 - وعن نحول ساقني ... طوعا إلى فنا الفنا ... (5)
6 - وعن حشا (6). ...
7 - فاكفف ملامي، عاذلي، ... فقد فقدت السّكنا
8 - وغاض ماء أدمعي ... وصار عيشي محنا ... (8)
9 - وغاب من عذت به ... ولم يزل لي وطنا
10 - أتلفت فيه مهجتي ... وصار شوقي ديدنا ... (10)
11 - وصار، إذ سرت به، ... نضوي لغيري مرسنا ... (11)
12 - يا أيها الحقّ الّذي ... يدنو إليه من دنا
13 - ما لي رميت بالضّنى ... وبالصّدود والونا ... (13)
14 - ما لي جفا معذّبي ... وما جفوت المعدنا؟ ... (14)
15 - فلم جرى ذا، يا أنا، ... بحقّ حقّ الأمنا
__________
(2) 2الهائم: المتحير، وهام على وجهه: ذهب على مجهه من العشق وغيره.
السقام: المرض.
العناء (بالمد): التعب والضر والمقاساة.
(4) 4الوسن: النوم.
(5) 5الفناء: أن لا ترى شيئا إلا الله، ولا تعلم إلا الله، وتكون ناسيا لنفسك سوى الله.
(6) 6الحشى: ما دون الحجاب مما في البطن كله من الكبد والطحال والكرش.
(8) 8المحن: جمع محنة، وهي الخبرة، ومحنته وإمتحنته: خبرته واختبرته.
(10) 10المهجة: الروح أو خالص النفس.
الديدن: الدأب والعادة.
(11) 11النضو: الدابة التي هزلتها الأسفار وأذهبت لحمها.
الرسن: الحبل، أو ما كان من الأزمّة على الأنف، والمرسن: موضع الرسن من أنف الفرس.
(13) 13الونا: ضعف البدن، والتعب، والإعياء.
(14) 14المعدن: مركز كل شيء.(1/157)
لو كان لي سند ما كنت مستندا ... إليه والعلم يقضي أنني سنده
وقال أيضا من روح سورة نوح:
دعا قومه نوح ليغفر ربهم ... لهم فأجابوه لما كان قد دعا
أجابوا بأحوال فغطوا ثيابهم ... لسر بستر والسميع الذي وعى
ولو أنهم نادوا ليكشف عنهم ... غطاء العمى ما ارتد شخص ولا سعى
وهذي إشارات لأمّة أحمد ... وليست لنوح والحديث هما معا
رعى الله شخصا لم يزل ذا مهابة ... كريما إماما حرمة الحق قد رعى
لو أنّ له الخلق ينزل وحيه ... على جبل راس به لتصدّعا (1)
وأثبت منه قلب شخص علمته ... ولما أتاه وحيه ما تزعزعا
وإن كان من قوم إذا ليلهم دجا ... تراهم لديه ساجدين وركّعا
وتبصرهم عند المناجاة حسّرا ... حيارى سكارى خاضعين وخشعا
وقال أيضا من روح سورة الجن:
تعالى جدّ ربي عن وجودي ... فأعجب إذ دعاني للسجود
فذلك لي فإنّ الله أعلى ... وأعظم أن يضاف إلى العبيد
لقد جاهدت أن ألقى رشيدا ... وما في القوم من شخص رشيد
فبيني إن نظرت وبين ربي ... كما بين الشهادة والشهيد
علا من قد علا والخلق حقّ ... وأين على السماء من الصعيد (2)
وقيده لنا الإطلاق فيه ... ونقصه لنه طلب المزيد
لأنّ له الكمال بغير شكّ ... فيظهر في القريب وفي البعيد
فنحن به فأثبتني فقيرا ... ونحن له فأين وجود جودي
تنزه لي فلم أقدر عليه ... فلما أن تحصّل في القيود
ظفرت به فلم أر غير ذاتي ... فقلت أنا فقال أبى وجودي
وقال أيضا من روح سورة المزمل:
أنا صاحب الملك الذي قال إنني ... أنا نائب فيه بأصدق قيل
ولو لم يكن ملكي لما صح أن أرى ... موكله والحقّ فيه وكيلي
وعن أمرنا كانت وكالتنا له ... وبرهان دعواي وعين دليلي
__________
(1) إشارة إلى معنى الآية: {لَوْ أَنْزَلْنََا هََذَا الْقُرْآنَ عَلى ََ جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خََاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللََّهِ} سورة الحشر، آية: 21.
(2) الصعيد: التراب.(1/157)
16 - أردد جواب واله (16) ... خاصم فيك الحزنا
17 - فأوصلوا الوصل له ... بهجر هجر القرنا
18 - وراقبوا العهد الّذي ... أمطر فينا المننا
19 - فمثلكم، يا سادتي، ... أجمل ثمّ أحسنا
20 - يا واهبي السّؤل أما ... ترون شوقي معلنا
21 - شهوده ضرورة ... حقائقي قد بيّنا
22 - منك دعاني ما دعا ... فجئته بلا أنا
23 - جئت إليكم بكم ... فصرتم لي وطنا
24 - إلى متى أبقى أنا ... كعابد ترهبنا
25 - فما ألوم لائمي ... وليس في اللّوم ونى
26 - ففي النوى عهد الهوى ... وطيب عيش وهنا
27 - أظنّه البحر ومن ... مرّ الجفا قد أمنا
28 - فكن هواء في الهوى ... من الهوى قد كمنا
29 - وانظر ترى (29) عجائبا ... تحار فيها الفطنا
30 - إنّ الّذي هي الّتي ... حشت حشانا شجنا
31 - ينقضها عقد الهوى ... وما من المهيمنا
32 - رعى لها حقوقها، ... تواصلا، والدّمنا ... (32)
33 - لكنّها عنه ونت ... وليس في الحبّ ونا
34 - أنا أراعي فاتنا ... جميل فعل وثنا
روحان في جسد
[من الرمل] [81]
1 - أنا من أهوى، ومن أهوى أنا ... نحن روحان حللنا بدنا
2 - نحن، مذ كنا على عهد الهوى ... يضرب الأمثال للنّاس بنا
3 - فإذا أبصرتني أبصرته ... وإذا أبصرته أبصرتنا
__________
(16) 16الوله: ذهاب العقل لفقدان الحبيب.
(29) 29ترى: بمعنى: لترى، وإلا فيجب الجزم بحذف حرف العلة.
(32) 32الدمن: الآثار.(1/158)
كتاب له حقّ وفيه اعترافه ... بما قلت فيه فالسبيل سبيلي
يقول بأضداد الأمور وجوده ... فقد حرت فيه وهو خير خليل
عجبت له من غائب وهو حاضر ... بتنغيذ أخبار وبعث رسول
إلى من وإنّ العين عين وجوده ... وممن فقد حرنا فكيف وصولي (1)
إلى منزل ما فيه عين غريبة ... ولا حيرة فيها شفاء خليل
وقال أيضا من روح المدثر:
الكسب منه ما أنا كاسب ... فرهن نفسي ما الذي أوجبه
ما أعجب الأمر الذي قلته ... على صحيح العلم ما أعجبه
وقد يقول الحقّ من عنده ... من أقدر الخلق ومن أكسبه
إلا أنا فالفعل مني به ... فلا تقل في العبد ما أكذبه
يصدق في الفعل إذا قال لي ... برهاننا الكاتب ما أكتبه
وقال أيضا من روح سورة القيامة:
إن الظنون على الوجوه محال ... أهل التفكر هكذا قد قالوا
والكشف يقضي أنها لحياتها ... فيها لها عند الشهود مجال (2)
شهدت بذلكم الجوارح عندنا ... في النور إذ جاءت بها الأرسال
وقال أيضا من روح سورة الإنسان:
لولا مطالبتي لم يثقل اليوم ... ولا أحسّ به للخفة القوم
يوم الصيام له ثقل يحسّ به ... من صامه والذي لربنا الصوم
لأنه نعت تنزيه وليس لنا ... نعم ويعضده في ذلك الشيم
وليس يدري بشيء من فضيلته ... إلا إمام له من دهره يوم
وليس في حضرات الكون أكمل من ... وجود حضرة ما يأتي به النوم
وقال أيضا من روح سورة المرسلات:
تتابعت الأرسال من كلّ جانب ... فضاقت بما جاءت عليّ مذاهبي
سررت بها لما علمت وجودها ... من الله ذي العرش المجيد المطالب
بما كلف الإنسان مما أتت به ... شرائعه والحقّ عين المخاطب
سمعنا أجبنا طاعة لإلهنا ... وما الشان إلا في صدوق وكاذب
__________
(1) العين: إشارة إلى ذات الشيء الذي تبدو منه الأشياء.
(2) الكشف: الاطلاع على ما وراء الحجاب من المعاني الغيبية.(1/158)
4 - أيّها السّائل عن قصّتنا ... لو ترانا لم تفرّق بيننا
5 - روحه روحي وروحي روحه ... من رأى روحين حلّت بدنا؟
نطق الحق
[من الطويل] [82]
1 - بيان بيان الحقّ أنت بيانه ... وكلّ بيان أنت فيه لسانه
2 - أشرت إلى حقّ بحقّ وكلّ من ... أشار إلى حقّ فأنت أمانه
3 - تشير بحقّ الحقّ والحقّ ناطق ... وكلّ لسان قد أتاك أوانه
4 - إذا كان نعت الحقّ للحقّ بيّنا ... فما باله في النّاس يخفى مكانه
القلب
[من البسيط] [83] (83)
1 - حمّلتم القلب ما لا يحمل البدن ... والقلب يحمل ما لا يحمل البدن
2 - يا ليتني كنت أدنى من يلوذ بكم ... عينا لأنظركم أو ليتني أذن
أنت في كل الجهات
[من الطويل] [84] (84)
1 - رقيبان منّي شاهدان لحبّه ... واثنان منّي شاهدان تراني
2 - فما حال في سرّي لغيرك خاطر ... ولا قال إلّا في هواك لساني
3 - فإن رمت شرقا أنت في الشّرق شرقه ... وإن رمت غربا أنت نصب عياني
4 - وإن رمت فوقا أنت في الفوق فوقه ... وإن رمت تحتا أنت كلّ مكان
5 - وأنت محلّ الكلّ بل لا محلّه ... وأنت بكلّ الكلّ ليس بفان
6 - بقلبي وروحي والضّمير وخاطري ... وترداد أنفاسي وعقد لساني
__________
(83) [83] البدن: الجسم. البدن: جمع بدن وهي الناقة.
(84) [84] الشاهد: هو الحاضر، فكل ما هو حاضر القلب غلب عليه ذكره حتى كأنه يراه ويبصره وإن كان غائبا عنه فهو مشاهده.(1/159)
إذا جاءت الأملاك تحمل عرشه ... وتعضدها أمثالها في السحائب
وتأتي بما يقضيه بين عباده ... لينتصف المظلوم من ظلم غاصب
وقال أيضا من روح سورة النبأ:
إذا اختصم الجمعان قيل لهم كفّوا ... فمن شاء فليأخذ ومن شاء فليعف
وكلّ لبيب القلب في الأمر حازم ... إذا جاءه خير إليه به يهفو
فيأخذه علما من الله زينة ... ولو رواح عنه سار في أثره يقفو
فيظهر فينا ذا صنوف كثيرة ... وفي عينه عند العليم به صنف
وحيد بمعناه كثير بصورة ... وذلك في المعقول والعادة العرف
ففي أذني قراط وفي الساق دملج ... وفي مفرقي تاج وفي ساعدي وقف (1)
إذا حصل الإجماع ليس لصورة ... على صورة أخرى افتخار ولا شفّ (2)
تنوّع عندي زينة الله أنها ... عليّ بإنعام الكريم بها وقف
تنوّعت الأشكال والماء واحد ... نزيه عن الأوصاف بل خالص صرف
تقنع بما قد جاء منه ولا تزد ... مخافة أن يأتيك من بعده خلف
هو الحقّ فاعلمه يقينا محققا ... فليس لما قد قلت في ذلكم خلف
وقال أيضا من روح هذه السورة:
إن سيرت صمّ الجبال سرابا ... وتفتحت أفلاكها أبوابا
يبدو لنا من لم تزل سبحاته ... تفني الحجاب وتحرق الحجابا (3)
فعرفته بالنفي لم أعرفه بالإ ... ثبات ما إن لم أكن مرتابا
فأذاقني من حيرة قامت بنا ... لشهوده في الأكثرين عذابا
فلبثت في نار الطبيعة عنده ... من أجل هذا مدّة أحقابا (4)
لما خصصت الأكثرين ولم أقل ... عم الوجود مظاهر أكبابا
إني طعمت من الشهود مطاعما ... وشربت ماء المعصرات شرابا (5)
وشهدته في غير صورة عقدنا ... فرأيت أمرا في الشهود عجابا
فوددت اني لم أزل في غيبة ... في غيبه أو لا أزال ترابا
فدعا بديوان الوجود ورأسه ... عند التقى وأراد منه حسابا
__________
(1) الدّملج: المعضد. الوقف: سوار من عاج.
(2) الشّف: الفضل.
(3) الحجاب: حائل يحول بين الشيء المطلوب المقصود وبين طالبه.
(4) أحقاب: جمع حقبة: مدة من الدهر.
(5) المعصرات: يريد المطر.(1/159)
فأجابه لما دعاه ملبّيا ... سمعا وطوعا ثم قال صوابا
أوحى إليه أن اتخذ دار الشقا ... للمسرفين المجرمين مآبا
جلّ الإله الحقّ في إجلاله ... قدسا وتعظيما وعزّ جنابا
فإذا أتته من المهيمن تحفة ... قطع الثياب وقطع الأسبابا
وقال أيضا من روح سورة النازعات:
الوهية الخلق مجهولة ... وشاهدها أبدا يسلم
فإن الكوائن عنها تكن ... وأفعالها أبدا تحكم
فظاهرها أبدا حاكم ... وما خلفها أبدا يكتم
وإنّ الذي هو أصل لها ... بعاداته أبدا يقدم
فأسماؤه ما لها سطوة ... بأسبابه والهوى معدم
إذا أرسل الغيث انعامه ... وأعقبه فيهم الصيلم (1)
يصحّ الذي يدّعى أنه ... إله عبيدك لا يحرم
فأين الدعاوى وسلطانها ... وأين الذي كنت بي تزعم
أراك لما كنت شيّدته ... بناء عليا لكم تهدم
فما أهملوا حين ما أمهلوا ... وجاء الرجوع ومن يندم
فمن قام في غيّه تابعا ... هوى نفسه ذلك المجرم
ومن قام عن غيه طالبا ... هدى نفسه ذلك المسلم
وقال أيضا من روح سورة الأعمى:
صفة الإله لكلّ شخص مبتغى ... في كلّ موجود تواضع أو طغا
والمبتغى المعتوب في أعراضه ... عن نفسه وقبوله لمن ابتغى
منه القياد لربه طمعا به ... من أجل أتباع له لما بغى
فيعود إكسيرا يردّ حديدهم ... للفضة البيضا إذا سقب رغا (2)
فكذا تعين قصده فيما جرى ... وهو المراد وذاك عين المبتغى
وقال أيضا من روح سورة التكوير:
مشيئة العبد من مشيئة الله ... بل عينها عينها والحكم لله (3)
من حيث ما هو رب العالمين ولا ... تعم واحكم به فيه من الله
__________
(1) الصّيلم: الأمر الشديد.
(2) الإكسير: الكيمياء. السّقب: ولد الناقة. الرغاء: صوت ولد الناقة.
(3) إشارة إلى الآية: {وَمََا تَشََاؤُنَ إِلََّا أَنْ يَشََاءَ اللََّهُ رَبُّ الْعََالَمِينَ} سورة التكوير، آية: 29.(1/160)
جوارح
[من البسيط] [85] (85)
1 - لمّا اجتباني وأدناني وشرّفني ... والكلّ بالكلّ أوصاني وعرّفني
2 - لم يبق في القلب والأحشاء جارحة ... إلّا وأعرفه فيها ويعرفني
سؤال
[من البسيط] [86]
1 - أرسلت تسال عنّي كيف كنت؟ وما ... لقيت بعدك من همّ ومن حزن؟
2 - لا كنت إن كنت أدري كيف كنت ولا ... ما كنت إن كنت أدري كيف لم أكن
الأنيّة دون الاثنينيّة
عن عبد الودود بن سعيد بن عبد الغني الزاهد، قال: رأيت الحلّاج دخل جامع المنصور وقال: أيّها الناس اسمعوا منّي واحدة. فاجتمع عليه خلق كثير، فمنهم محبّ ومنهم منكر فقال: اعلموا أنّ الله تعالى أباح لكم دمي فاقتلوني. فبكى بعض القوم. فتقدّمت من بين الجماعة، وقلت: يا شيخ كيف نقتل رجلا يصلّي ويصوم ويقرأ القرآن. فقال: يا شيخ، المعنى الذي به تحقن الدماء خارج عن الصلاة والصوم وقراءة القرآن فاقتلوني تؤجروا وأستريح فبكى القوم وذهب، فتبعته إلى داره وقلت: يا شيخ ما معنى هذا. قال: ليس في الدنيا المسلمين شغل أهمّ من قتلي. فقلت له: كيف الطريق إلى الله تعالى؟ قال: الطريق بين اثنين وليس مع الله أحد. فقلت: بيّن. قال: من لم يقف على إشاراتنا لم ترشده عباراتنا. ثم قال:
[من البسيط] [87] (87)
1 - أأنت أم أنا هذا في إلهين ... حاشاك حاشاك من إثبات اثنين
2 - هويّة لك في لائيّتي أبدا ... كلّي على الكلّ تلبيس بوجهين
3 - فأين ذاتك عنّي حيث كنت أرى ... فقد تبيّن ذاتي حيث لا أيني
4 - وأين وجهك؟ مقصودا بناظرتي ... في باطن القلب أم في ناظر العين
5 - بيني وبينك إنّي ينازعني ... فارفع بلطفك إنّي من البين
__________
(85) [85] اجتباني: اختارني واصطفاني.
(87) [87] الهوية: من «هو» هي عين الإنية المشار إليها بلفظة «أنا» فكانت الهوية معقولة في الإنية وأطلقوا الهوية على الغيب وهو ذات الحق، والإنية على الشهادة وهو معقول العبد.
لائيتي: فنائي.
التلبيس: إرادة شيء للخلق بخلاف حقيقة ذلك الشيء، وقيل هو تحلي الشيء بنعت ضده.(1/160)
كما أتى في صريح الوحي في مللي ... إذا تمل يملّ الله والساهي
لا يعرف الحقّ إلا من عقيدته ... ونحن نعرف حقّ الله بالله
وقال أيضا من روح سورة الانفطار:
إني لأعلم أن شيئا ما هنا ... ويقال لي ما أنت عنه بغائب
وتحقق الأمرين عبد مؤمن ... بمغيبه عنا وقول الصاحب
فتراه في هذا وذاك مقلّدا ... والقول بالحكمين ضربة لازب (1)
كالنفي في الرمي الذي شهدوا له ... ثبتا من الرامي الإمام النائب
لا يمترون ولا يشك بأنه ... لم يرم إلا الحق في يد حاجب
فالحكم في هذا وذاك كمثله ... في قصة المغصوب مع يد غاصب
دور غريب ليس يعرف سرّه ... إلا الذي يأتي بصورة ذاهب
وقال أيضا من روح سورة التطفيف:
الربّ يعرف مطلقا ومقيدا ... من حيث أسماء له وصفات
ولو انتفى التقييد كان مقيدا ... بحقيقة الإطلاق في الإثبات
فالربّ ربّ الاعتقاد لديهم ... وهو الذي قد جاء في الآيات
فلكل عقد في الإله علامة ... وبها تحلى نفسه إذ ياتي (2)
حتى يقولوا إنّ هذا ربنا ... جلّ الإله عن الحلول بذات (3)
فله من الوجه القريب تعلقّ ... وله الغنى عن كوننا بالذات
ولذا أتى حكم التضايف بيننا ... ما بين جمع كائن وشتات
فرأيت موجودا بنعت وجودنا ... وعرفت موجودا بغير سمات
وقال أيضا من روح سورة الانشقاق:
تنوّعت الأحوال فاعترف العبد ... وكان له القرب المعين والبعد
ألم تر أنّ الله قد وعد الذي ... أتاه به صدقا وقد صدق الوعد
فمن كان ذا عهد وفيا بعهده ... يوفي له بالشرع ما قرّر العهد
فسلم إليه الأمر في كلّ حالة ... فلله هذا الأمر من قبل من بعد
أنا المؤمن السّجاد أبغي بسجدتي ... شهود إله قيل فيه هو الفرد
وما هو إلا الواحد الأحد الذي ... يقرّبه عقد ويجحده عقد
__________
(1) ضربة لازبة: أي صار لازما ثابتا.
(2) العقد: عقد السر، هو ما يعتقد العبد بقلبه بينه وبين الله تعالى أن يفعل كذا أو لا يفعل كذا.
(3) ينزه الله تعالى عن الحلول كما زعمت فرق من المتصوفين.(1/161)
مقالة في الوجود
[من البسيط] [88] (88)
1 - لم يبق بيني وبين الحقّ تبياني ... ولا دليل بآيات وبرهان
2 - هذا تجلّي طلوع الحقّ: نائرة ... قد أزهرت في تلاليها بسلطان
3 - لا يعرف الحقّ إلّا من يعرّفه ... لا يعرف القدميّ المحدث الفاني
4 - لا يستدلّ على الباري بصنعته ... رأيتم حدثا ينبي عن ازمان
5 - كان الدّليل له منه إليه به ... من شاهد الحقّ في تنزيل فرقان
6 - كان الدّليل له منه به وله ... حقّا وجدنا به علما بتبيان
7 - هذا وجودي وتصريحي ومعتقدي ... هذا توحّد توحيدي وإيماني
8 - هذي عبارة أهل الانفراد به ... ذوي المعارف في سرّ وإعلان
9 - هذا وجود وجود الواجدين له ... بني التّجانس: أصحابي وخلّاني
الوصال
[من مخلّع البسيط] [89]
1 - مواصلي، بالوصال (1)، صلني ... وصل وصالا بلا تجنّي
2 - زعمت أنّي فنيت (2) عنّي ... فكيف لي بالدّنوّ مني
__________
(88) [88] وردت الأبيات في التعرف لمذهب أهل التصوف ص 80وفيه: (وقال بعض الكبراء من أهل المعرفة).
تدور معاني هذه الأبيات كلها حول أن الباري سبحانه لا يعرفه أهل الله ذوو الانفراد به، والتبتل له بصفته ولا مخلوقاته، وإنما يعرفونه بتعريفه سبحانه إياهم، وهو مسلك يبدو أنه أقوى من مسالك الآخرين ودلت عليه أقوال الصوفية، وعباراتهم كقولهم: متى غاب حتى يستدل عليه، وأمثال ذلك.
[89]
(1) 1الوصال: مرادف للوصل والاتصال. قالوا: هو الانقطاع عما سوى الحق وليس المراد به اتصال الذات بالذات، لأن ذلك إنما يكون في جسمين، وهذا التوهم في حقه تعالى كفر، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: «الاتصال بالحق على قدر الانفصال عن الخلق».
وقيل: من لم ينفصل لم يتصل.
(2) 2الفناء: هو الغيبة عن الأشياء كما كان فناء موسى عليه السلام حين تجلى ربه للجبل فجعله دكّا وخر موسى صعقا.(1/161)
فمن شاء فليرحل ومن شاء فليقم ... فقد عرف المعنى وقد حقق القصد
وقال أيضا من روح سورة البروج:
الحق في شاهد يبدو ومشهود ... والخلق ما بين مفقود وموجود
إن قلت هذا هو المخلوق قيل أنا ... الحق باطنه من غير تقييد
أو قلت هذا هو الحق الذي شهدت ... له دلالته في عين توحيد
يقال لي بل هو الحق الذي عرفوا ... وجوده أنه من حضرة الجود
وقال أيضا من روح سورة الطارق:
خلقي من الماء والباقي له تبع ... من العناصر فاطلبني على الماء (1)
والماء ليس له حدّ يحيط به ... كذا أنا في وجودي عند أسمائي
لله في الماء أوصاف منوّعة ... تغني مشاهدها عن حكم إيماء
قد جاء في خلقه ما قال من عرق ... تكفي الإشارة عن تصريح إنباء
وقال أيضا من روح سورة الأعلى:
إن الثناء على الأسماء أجمعها ... بها وليس سواها يعرفون ولا
أليس هذا صحيحا قد أتاك به ... في محكم الذكر قرآنا عليك تلا
في أخذه الذرّ ثم الحق أشهدنا ... ألست ربكم كان الجواب بلى (2)
ولم يخص بهذا الحكم امرأة ... عند الشهود ولا أيضا به رجلا (3)
حاز الوجود بعيني عين صورته ... فلا أبالي ألاح النجم أم أفلا (4)
إن الوجود وجودي لا يزاحمني ... فيه سوى من يقول العبد فيه حلا
إن الذي يرتجى فقدي عوارفه ... قد حقق الله ظني إذ يقول إلى
في رؤية الوجه والأبصار ناظرة ... فلم يرد بالى أداة من وإلى
إن الظنون أحالت أن تكون إلى ... كمثلها في إليه فانصرف عجلا
وقال أيضا من روح سورة الغاشية:
صفات الأولياء تزول عنهم ... ويأخذها الشقيّ هناك منهم
كما ناب السعيد هنا زمانا ... تنوب الأشقياء هناك عنهم
__________
(1) إشارة إلى قوله تعالى: {فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسََانُ مِمَّ خُلِقَ، خُلِقَ مِنْ مََاءٍ دََافِقٍ} سورة الطارق، آية: 65.
(2) إشارة إلى قوله تعالى: {وَأَشْهَدَهُمْ عَلى ََ أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ} سورة الأعراف، آية: 17.
(3) الشهود: أن يرى حظوظ نفسه.
(4) العين: إشارة إلى ذات الشيء الذي تبدو منه الأشياء.(1/162)
3 - إذا دنا منك لي فؤادي ... فلا تسلني وسله عنّي
4 - سؤال مستيقظ حفيظ ... الحقّ أعني وأنت تعني
5 - مواصلي بالصّدود لمّا ... بحقّ حقّ الصّدود صلني
6 - ولا تمتني بكرب صدّ ... فبعض ضرب الصّدود يضني
7 - عجبت إنما أموت شوقا ... وأنت يا سيّدي تعدني
خطاب الحق
[من مخلّع البسيط] [90]
1 - خاطبني الحقّ من جناني ... فكان علمي على لساني
2 - قرّبني منه بعد بعد ... وخصّني الله واصطفاني
3 - أجبت لمّا دعيت طوعا ... ملبّيا للذي دعاني
4 - وخفت ممّا جنيت قدما ... فوقع الحبّ بالأمان
عبادة الله
قال أبو القاسم عبد الله بن جعفر المحبّ: إنّ رجلا من الأكابر يسمّى ابن هارون المدائني، استحضر الحلّاج وجماعة من مشايخ بغداد ليناظروه.
فلمّا اجتمعوا تفرّس الحسين ابن منصور فيهم النكارة، فأنشأ يقول:
[من الكامل] [91]
1 - يا غافلا لجهالة عن شاني ... هلّا عرفت حقيقتي وبياني؟
2 - فعبادتي لله ستّة (2) أحرف ... من بينها حرفان معجومان:
3 - حرفان، أصليّ (3) وآخر شكله ... في العجم منسوب إلى إيماني
4 - فإذا بدا رأس الحروف أمامها ... حرف يقوم مقام حرف ثاني
5 - أبصرتني بمكان موسى قائما ... في النور فوق الطّور حين تراني
فبهت القوم.
وكان لابن هارون ابن مريض مشرف على الموت، فقال للحلّاج: ادع له [91]
__________
(2) 2الأحرف الستة هي: (ات ت ح اد)، والحرفان المعجومان هما التاء المكررة.
الاتحاد: تصيير ذاتين واحدة، وهو حال الصوفي الواصل.
(3) 3الحرف الأصلي هو حرف التاء الثانية، «وآخر شكله»: التاء الأولى.(1/162)
فما لجأوا إلى الراحات إلا ... وكان الأمر فيهم من لدنهم
وإن طلبوا المعونة من إمام ... به كفؤ هنالك لم يعنهم
بنيّ إذ رأيتهم سكارى ... فمل معهم وبشرهم وصنهم
إذا عجز الرجال بأن يكونوا ... على تحقيقهم منهم فكنهم
وقال أيضا من روح سورة الفجر:
حنيني إلى الليل الذي جاءني يسري ... حينيني إلى الشمس المنيرة والفجر (1)
فإني أحظى في النهار بشفعه ... وأحظى إذا ما جاء في الليل بالوتر
لقد أقسم الحقّ العليّ بليله ... وبالفجر والإتباع فيه لذي حجر (2)
بأن الذي قد جاء في الذكر ذكره ... مضافا إلينا ما له الأنس بالأجر
إذا كنت في قوم ولم أك عينهم ... وسرّهم سرّي وجهرهم جهري (3)
فما أنا فيهم ذو وفاء وإنني ... إذا حقق الأقوام شاني لفي خسر
وقال أيضا من روح سورة البلد:
قد أقسم الله لي في سورة البلد ... بأنه خلق الإنسان في كبد (4)
وما أراد بهذا الخلق من أحد ... من نشأتي سوى روحي مع الجسد
وإنها حضرة الأسماء حضرته ... تسع وتسعون لم تنقص ولم تزد (5)
وإنها درجات في الجنان على ... أعدادها نزلت بحكمها وقد
وما لنا سند في ذاك أسرده ... للسامعين وإن الأمر في سند
وقال أيضا من روح سورة الشمس:
إذا شمس النفوس أرت ضحاها ... تزايدت القلوب بما تلاها (6)
تراها فيه حالا بعد حال ... ومجلاها الهلال إذا تلاها
وإني من حقيقته بسرّي ... كمثل الشمس إذ تعطي سناها (7)
__________
(1) الشمس: يريد النور، والشمس عند الصوفيين رمز للوجود بأسره، وهي أيضا نقطة الأسرار ودائرة الأنوار.
(2) إشارة إلى قوله تعالى: {وَالْفَجْرِ وَلَيََالٍ عَشْرٍ وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ وَاللَّيْلِ إِذََا يَسْرِ} سورة الفجر، آية: 41.
(3) العين: إشارة إلى ذات الشيء الذي تبدو منه الأشياء.
(4) إشارة إلى قوله تعالى: {لََا أُقْسِمُ بِهََذَا الْبَلَدِ، وَأَنْتَ حِلٌّ بِهََذَا الْبَلَدِ، وَوََالِدٍ وَمََا وَلَدَ، لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسََانَ فِي كَبَدٍ} سورة البلد، الآيات: 41.
(5) الأسماء: يريد أسماء الله الحسنى.
(6) شمس النفوس: يريد نور النفوس.
(7) السر: اللطيفة المودعة في القلب كالروح في البدن. السنا: الضوء.(1/163)
فقال الحلّاج: قد عوفي فلا تخف. فدخل الابن كأنه لم يمرض قطّ. فتعجّب الحاضرون من ذلك. فأتى ابن هارون بكيس مختوم، وقال: يا شيخ فيه ثلاثة آلاف دينار اصرفها فيما تريد. وكان القوم في غرفة على الشطّ فأخذ الحلّاج الكيس ورمى به إلى دجلة، وقال للمشايخ: تريدون مناظرتي، على ماذا أناظر. أنا أعرف أنكم على الحقّ وأنا على الباطل، وخرج. فلمّا أصبحنا استحضر ابن هارون الجماعة ووضع الكيس بين أيديهم، وقال: البارحة كنت أتفكّر فيما أعطيت الحلّاج وندمت على ذلك. فلم تمض ساعة على ذلك إذ جاء فقير من أصحاب الحلّاج، وقال: الشيخ يقرئك السلام ويقول: لا تندم فإنّ هذا كيسك، فإنّ من أطاع الله أطاعه البرّ والبحر.
أنا أنت
[من الهزج] [92]
1 - أنا أنت بلا شكّ ... فسبحانك سبحاني
2 - وتوحيدك توحيدي ... وعصيانك عصياني
3 - وإسخاطك إسخاطي ... وغفرانك غفراني
4 - ولم أجلد يا ربّي ... إذا قيل، هو الزّاني
قتيل الحب
[من مجزوء الرمل] [93]
1 - يا حبيبي أنت سؤلي ... قد تراني في مكاني
2 - نورك المبهر حقا ... لعياني لعياني
3 - وتحقّقتك فاصنع ... كلّ ما شئت بشاني ... (3)
4 - أنا في الحبّ قتيل ... ومع الأحباب فاني (4)
[93]
__________
(3) 3التحقق: وقوف القلب بدوام الانتصاب بين يدي من آمن به.
الشأن: إذا تجلى الحق سبحانه على العبد سمي ذلك التجلي بنسبته إلى الحق شأنا إلهيا، وبنسبته إلى العبد حلا.
(4) 4الفناء: هو الغيبة عن الأشياء كما كان فناء موسى عليه السلام حين تجلى ربه للجبل فجعله دكّا وخر موسى صعقا.(1/163)
فما أنا في الوجود سواه عينا ... وما هم في الوجود بنا سواها
فتلك سماؤنا لما بناها ... وهذي أرضنا لما طحاها (1)
من أجلي كان ربي في شؤون ... وقد بلغت فواكهكم أناها
سنفرغ منكم جودا إليكم ... لتعطي نفوسكم منها مناها
ويلحمها بذات منه لما ... علمت بأنها كانت سداها
يعذبنا النهار سدى وويلا ... وليلته يعذبنا نداها
فغطاها الظلام بسرّ كوني ... وجلاها النهار وما جلاها
وقال أيضا من روح سورة الليل:
ليل الجسوم إذا ولّت منازله ... فإنّ فجر ضياء الصبح نازله
لذا أتى بالضحى عقيب رحلته ... ورقبت عند باقيه دلائله
وأضحك الروض أزهارا وقد رقصت ... من الغصون بأوراق غلائله
وما تبسّم إلا كي يفرحنا ... فلاح يانعه إذ راح ذابله
إنّ التقي الذي في الروض مسكنه ... هو الصّدوق الذي عدّت فضائله
كما الشقيّ الذي في الأرض مسكنه ... هو الكذوب الذي تردى رذائله
وصاحب البرزخ الأعراف منزله ... زمّت لرحلته عنا رواحله (2)
اليسر شيمة ذا والعسر شيمة ذا ... لولا عطاء الغني ما نيل نائله
منه تعالى وما كانت مقالة من ... قد كان منطقه عينا يقابله (3)
كان التولي له من أصل نشأته ... فمن تولّى تولّته أباطله
من نازع الحقّ في شيء يكون له ... فلن ينازعه إلا مقابله
وقال أيضا من روح سورة الضحى:
يقرّر المنعم النعما إذا شاء ... على الذي شاءه ومثله جاء
امتنّ جودا فأعطاه عنى وهدى ... معنى وحسّا وإيجادا وإيواء
من جوده كان شكر الجود في خبر ... كان الحديث عن النعماء نعماء
رفقا من الله للجل الذي عجبت ... نفوسنا فيه إذ أنشأن إنشاء
إن المنازع في الأمثال ذو حسد ... ما شئته لم يشأ ما لم أشأ شاء
__________
(1) إشارة إلى قوله تعالى: {وَالسَّمََاءِ وَمََا بَنََاهََا، وَالْأَرْضِ وَمََا طَحََاهََا} سورة الشمس، الآيتان: 65.
(2) البرزخ: العالم المشهود بين عالم المعاني والأجسام، أي بين الآخرة والدنيا.
الأعراف: هو المطلع، وهو مكان شهود الحق في كل شيء.
(3) العين: إشارة إلى ذات الشيء الذي تبدو منه الأشياء.(1/164)
محاورة
[من مجزوء الرمل] [94] (94)
1 - قد تحقّقتك في سر ... ري فناجاك لساني
2 - فاجتمعنا لمعان ... وافترقنا لمعاني
3 - إن يكن غيّبك التّع ... ظيم عن لحظ عياني
4 - فلقد صيّرك الوج ... د من الأحشاء داني
جمال الحقيقة
قال أبو عبد الرحمن محمد بن الحسن السلميّ في كتاب طبقات الصوفيّة:
سمعت عبد الواحد بن بكر يقول: سمعت أحمد بن فارس بن حسرى يقول: سمعت الحسين بن منصور يقول: حجبهم بالاسم فعاشوا، ولو أبرز لهم علوم القدرة لطاشوا ولو كشف لهم عن الحقيقة لماتوا.
وقال الحسين: أسماء الله من حيث الإدراك اسم، ومن حيث الحقّ حقيقة.
وقال الحسين: خاطر الحقّ هو الذي لا يعارضه شيء.
وقال الحسين: إذا تخلّص العبد إلى مقام المعرفة أوحى الله تعالى إليه بخاطره وحرس سرّه أن يسنح فيه غير خاطر الحقّ.
وقال: علامة العارف أن يكون فارغا من الدنيا والآخرة.
وسئل الحسين: لم طمع موسى في الرؤية وسألها. قال لأنه انفرد للحقّ فانفرد الحقّ به في جميع معانيه، وصار الحقّ مواجهه في كلّ منظور إليه، ومقابله دون كلّ محضور لديه، على الكشف الظاهر عليه لا على الغيب. فذلك الذي حمله على سؤال الروية لا غير.
سمعت أبا الحسين الفارسي قال: أنشدني ابن فاتك للحسين بن منصور:
__________
(94) [94] وردت الأبيات في تاريخ بغداد 8/ 115.(1/164)
[من الخفيف] [95] (95)
1 - أنت بين الشّغاف والقلب تجري ... مثل جري الدّموع من أجفاني
2 - وتحلّ الضّمير جوف فؤادي ... كحلول الأرواح في الأبدان
3 - ليس من ساكن تحرّك إلّا ... أنت حرّكته خفيّ المكان
4 - يا هلالا بدا لأربع عشر ... فثمان وأربع واثنتان
معين الضنى
[من الخفيف] [96]
1 - يا معين الضّنى على جسدي ... يا معين الضّنا (1)، عليه أعنّي
عجائب
[من المجتث] [97]
1 - عجبت منك ومنّي ... يا منية المتمنّي
2 - أدنيتني منك حتّى ... ظننت أنّك أنّي
3 - وغبت في الوجد حتّى ... أفنيتني بك عنّي
4 - يا نعمتي في حياتي ... وراحتي بعد دفني
5 - ما لي بغيرك أنس ... إذ كنت خوفي وأمني
6 - يا من رياض معاني ... هـ قد حوت كلّ فنّ
7 - وإن تمنّيت شيئا ... فأنت كلّ التّمنّي
__________
(95) [95] وردت هذه الأبيات في ملحق أخباره برقم (1).
علق د. بسيوني على هذه الأبيات في نشأة التصوف بقوله: (أرأيت من هذه الأبيات أن توحيد المحبين لا يقف عند التبرئة من الشريك فحسب بل إنه إصرار على أن يكون المحبوب قائما عن العبد بالتصرف في أدق دقائق حركاته وسكناته وقد جعلتهم الفكرة الفطرية يهتمون بالروح اهتماما كبيرا لأنها من فيض الله).
[96]
(1) 1الضنا: السقيم الذي قد طال مرضه وثبت فيه. وانظر القطعة الآتية برقم (104).(1/165)
وقد يكون لنا خيرا نفوز به ... لعلمنا أنّ ظلّ المثل قد فاء
وقال أيضا من روح سورة الشرح:
أرى الأنوار في شرح الصدور ... عيانا في الورود وفي الصدور
وليس له امتنان فيه أني ... أرى أثر الأمور من الأمور
فإن الحكم للمعلوم عقلا ... وكشفا في الجنان وفي السعير
فحكم الشيء مقصور عليه ... وما أدّاه ذاك إلى القصور
ولكنّ الأديب إذا رآه ... يقول بذاك من خلف الستور
ويدخل محرما بلدا إحراما ... ويلبس للملابس ثوب زور
فيأخذه العليم بما ذكرنا ... ويوصله إلى دهر الدهور
لقد دلّت شواهده عليه ... بما دارت عليه رحى السرور
وقال أيضا من روح سورة والتين:
أرى في التين علم الحقّ حقا ... وعلمي أنه الحقّ المبين
وعلم المصطفى الأميّ منه ... به قد جاء في النبأ اليقين
يقول به الكليم بطور سينا ... وذلك عندنا البلد الأمين (1)
يجول به العليم بكلّ شيء ... بظاهره وباطنه مسكون
لقد أيدت بالتحقيق فيه ... وقد أعطت معالمه الشؤون
وعلم الزيت عن نظر صحيح ... وفي تين الهدى العلم المتين
وقال أيضا من روح سورة العلق:
يرى الحق أعمالي بما هو ذو بصر ... وما عندنا من ذاك علم ولا خبر
ولما أتى الشرع الذي خص بالهدى ... به نحو ما قلنا به مثل ما أمر
ولا تك ممن قال فيه بأنه ... مزيد وضوح العلم في عالم البشر
فذلك قول لا خفاء بنقضه ... وإن كان مدلولا عليه بما ذكر
وقال أيضا من روح سورة القدر:
أرى ليلة القدر المعظم قدرها ... ترفع مني في الشهود ومن قدري (2)
وذلك شطر الدهر عندي لأنها ... تكون بما فيها إلى مطلع الفجر
ترحل عني تبتغي عين موجدي ... وقد سترت أمري وقد شرحت صدري
__________
(1) إشارة إلى تكليم الله تعالى لسيدنا موسى عليه السلام بطور سينا.
(2) الشهود: أي أن يرى حظوظ نفسه.(1/165)
وقال أيضا من روح سورة لم يكن:
إذا طلعت شمس الفناء الذي حجى ... أكور بها حقا إذا هو لم يكر (1)
بكوني إذا ما كنت خلعا فإنه ... نزيه عن أحكام تكون عن الأكر
إذا كان قد جاء الحديث بأنه ... لأجل اختلاف الاعتقادات ذو غير
ولكنه بالذات عند أولي النّهى ... غنيّ بنصّ الذكر في محكم السّور
وقال أيضا من روح سورة إذا زلزلت:
إذا زلزلت أرض الجسوم تراها ... وما نالت الأجفان فيه كراها
لقد ظهرت فيها أمور عظيمة ... وما انفصمت مما رأته عراها (2)
إذا جاءها الداعي ليخرج ما بها ... وأخرج لي ما قد أجنّ ثراها
وقد عجزت أبصارنا أن ترى لها ... بساحتنا حكما فكيف تراها
وقال أيضا من روح سورة والعاديات:
ألا إنّ علم الصبح يعسر دركه ... كشقشقة الفحل الفنيق إذا رغا (3)
فما ذلك الأمر الذي قد سمعته ... وما ذلك الأمر الذي بالرغا طغا
إذا ما ابتغى شخص جلية أمره ... فقد جئتكم أعطي فأين من ابتغى
فلا تبغ إنّ البغي للشخص مهلك ... فقد يحرم استعماله فيه إن بغى
وقال أيضا من روح سورة القارعة:
إن الجبال وإن أصبحن جامدة ... فإنها عند أهل الكشف كالصّوف (4)
أو كالبيته أجزاء مفرقة ... في كلّ وجه عن التحقيق مصروف
كما أتت في كتاب الله صورته ... وزنا صحيحا لنا من غير تطفيف (5)
ينزه الأمر عن وضع وعن صفة ... وعن مثال وعن كم وتكييف
أما الذي ثقلت منا موازنه ... بالخير في منزل بالبرّ معروف
وثم هذا الذي خفّت موازنه ... بالشرّ في منزل بالدّخ مسقوف (6)
__________
(1) الفناء: قيل هو سقوط الأوصاف المذمومة. وقيل هو الغيبة عن الأشياء كما كان فناء موسى حين تجلى ربه للجبل فجعله دكا.
(2) عراها: جمع عروة والعروة من الدلو: المقبض.
(3) شقشقة الفحل: شيء كالرئة يخرجه البعير من فيه إذا هاج، والفحل الفنيق. الفحل المكرم لا يؤذى لكرامته على أهله ولا يركب. والرغاء: صوت الإبل.
(4) الكشف: الاطلاع على ما وراء الحجاب من المعاني الغيبية والأمور الحقيقية.
(5) التطفيف: التنقيص.
(6) الدّخ: الدخان.(1/166)
قافية الهاء
مبارزة
[من الوافر] [98]
1 - إلى كم أنت في بحر الخطايا ... تبارز من يراك ولا تراه؟
2 - وسمتك سمت ذي ورع ودين ... وفعلك فعل متّبع هواه؟!
3 - فيا من بات يخلو بالمعاصي ... وعين الله شاهدة تراه
4 - أتطمع أن تنال العفو ممّن ... عصيت، وأنت لم تطلب رضاه؟
5 - أتفرح بالذّنوب وبالخطايا ... وتنساه، ولا أحد سواه؟!
6 - فتب قبل الممات وقبل يوم ... يلاقي العبد ما كسبت يداه
دواء
[من البسيط] [99] (99)
1 - اسم مع الخلق قد تاهوا به ولها ... ليعلموا منه معنى من معانيه
2 - والله، لا وصلوا منه إلى سبب ... حتّى يكون الذي أبداه يبديه
التجلي والاستتار
[من البسيط] [100] (100)
1 - سرائر الحقّ لا تبدو لمحتجب ... أخفاه عنك، فلا تعرض لمخفيه
2 - لا تعن نفسك فيما لست تدركه ... حاشا الحقيقة أن تبدو فتوفيه
__________
(99) [99] ذكر ماسينيون أن هذه القطعة دواء يشفى به من يبحث عن الاسم الأعظم.
(100) [100] ورد البيتان في التعرف لمذهب أهل التصوف ص 147، وفيه: (وأنشدونا لبعض الكبار) وهي في التجلي والاستتار.(1/166)
وثم وزن صحيح أنت صنجته ... جاءت إليّ به رسل بتعريف
وقال أيضا من روح سورة ألهاكم التكاثر:
حق اليقين علوم لا يحصلها ... إلا بلم وهو المخصوص بالعلل
وهي العلوم التي أرست قواعدها ... بالمشتريّ وبالمعهود من زحل (1)
وعينه دونه ذوقا تشاهده ... ولو بغيت فيبقى فيه بالمثل
وعلمه دون هذا العين تعلمه ... بحدّه وهو إن أزيل لم يزل
وقال أيضا من روح سورة والعصر:
بالعصر أقسم أن الخير يلزم من ... في الوزن يخسر ميزانا ويرجحه
حتى إذا جاء يوم الحشر موقفنا ... الخوف يبهمه والوزن يوضحه
وليس باب من الأبواب يغلقه ... إلا وفعلك يأتيه فيفتحه
فالجود يمنحه والعدل يصلحه ... والعلم يوضحه والوزن يفضحه
إن كان شرا فشرا أنت كاسبه ... أو كان خيرا فخيرا أنت تمنحه
وقال أيضا من روح سورة الهمزة:
نار الإله على الأسرار تطلع ... وما لها أثر في القلب ينطبع
إذا يحس بأصوات اللهيب بها ... يأتي إليه رجيم السمع يستمع (2)
والقلب حافظه فيه وليس له ... إلا العنا فلهذا ليس يتضع
فالآل يرفعه طورا ويخفضه ... لأنه بدل منه فيتسع (3)
وقال أيضا من روح سورة الفيل:
غار الإله لبيته وحريمه ... فلذاك ما حصب الذي يبغيه (4)
بالسوء ثم تراه من إحسانه ... بعباده يلغي الذي يلغيه
إن اللئيم الطبع إن أكرمته ... لم يلتفت فبجوره يطغيه
وقال أيضا من روح سورة قريش:
إنّ التقرّش تأليف والفته ... بربه فلهذا إلا من يصحبه
__________
(1) المشتري وزحل: كوكبان.
(2) الرجيم: الذي يرجم، ويريد الشيطان الذي يسترق السمع من السماء الأولى فترجمه الملائكة.
(3) الآل: ما أشرف من البعير، والسراب.
(4) الحصب: الحجارة والواحدة حصبة. أما قوله غار فالمعروف قولهم: غارهم الله بخير أي أعطاهم.
وغار فلان على امرأته.(1/167)
قافية الواو
المعية
يروى عن إبراهيم بن سمعان أنه قال: رأيت الحلّاج في جامع المنصور وكان في تكّتي ديناران شددتهما لغير طاعة الله. فسأل سائل، فقال الحسين: يا إبراهيم، تصدّق عليه بما شددت في تكّتك. فتحيّرت، فقال: لا تتحيّر، التصدّق بهما خير ممّا نويت. فقلت: يا شيخ هذا من أين؟ فقال: كلّ قلب تخلّى عن غير الله يرى في الغيب مكنونه وفي السرّ مضمونه.
فقلت له: أفدني بكلمة. فقال: من طلب الله عن الميم والعين وجده، ومن طلبه لين الألف والنون في حرف الإضافة فقده، فإنّه تقدّس عن مشكلات الظنون، وتعالى عن الخواطر ذوات الفنون. ثم أنشأ يقول:
[من البسيط] [101]
1 - إرجع إلى الله، إنّ الغاية الله ... فلا إله إذا بالغت إلّا هو
2 - وإنّه لمع الخلق الذين لهم ... في الميم والعين (2) والتّقديس معناه
3 - معناه في شفتي من حلّ منعقدا ... عن التّهجّي إلى خلق له فاهوا
4 - فان تشكّ، فدبّر قول صاحبكم ... حتّى يقول بنفي الشّكّ هذا هو
5 - فالميم يفتح أعلاه وأسفله ... والعين يفتح أقصاه وأدناه
كيف أسهو
[من مجزوء الرمل] [102]
1 - لست بالتّوحيد ألهو ... غير أنّي عنه أسهو
2 - كيف أسهو؟ كيف ألهو ... وصحيح أنّني هو
[101]
__________
(2) 2المراد بالميم والعين كلمة (مع) إشارة إلى المعية مع الله.(1/167)
من أجل أهل له بالبيت آمنهم ... من المخاوف إذ تأتي فتركبه
لذاك أطعمهم من جوع طبعهم ... فالجوع يرهقه والطعم يذهبه
وقال أيضا من روح سورة الدين:
إن القبول للاقتدار معين ... فيعان في حكم النهى ويعين (1)
فالأمر ما بيني وبين مقسمي ... فهو المعين وإنني المعين
الحقّ حقّ فالوجود وجوده ... وأنا الأمين وما لديّ أمين
دفع اليتيم محرّم في شرعنا ... والشرع جانبه إليه يلين
وقال أيضا من روح سورة الكوثر:
العلم بحر ما له من ساحل ... عذب المشارب حكمه في النائل
بالجمع جاء من الذي أعطاكه ... ما سلطن المسؤول غير السائل
لما دعاه دعا له في نفسه ... بالمنحر الأعلى الكريم القائل
واستخلص الشخص الذي قد ذمه ... بهواه لما أن دعا بالحائل
ليصيد من شرك العقول صيودها ... بشريعة جلت عن المتطاول
فلذاك لم يعقب واعقب من له ... كل الفضائل فاضلا عن فاضل
وقال أيضا من روح سورة قل يا أيها الكافرون:
من يدّرع يطلع صونا على الحرم ... وليس يدري به إلا أولوا الكرم (2)
قوم تراهم إذا الرحمن فاجأهم ... سكرى حيارى به في مجمع الهمم
لا يعبدون سوى الرحمن ربهم ... في صورة النون لا بل صورة القلم
لذاك يجمله وقتا فيبهمه ... وثم يوضحه التفصيل في الأمم
إذا تسطره في اللوح تعرفه ... أهل التلاوة من عرب ومن عجم
لكلّ صنف من الأصناف دينهم ... ولي أنا دين شرع الله في القدم
إذا عملت به ربّي يميزني ... في أهله أهل هذا الذكر والحكم
وقال أيضا من روح سورة النصر والفتح:
من اسم العزيز النصر إن كنت تعقل ... ومن بعده فتح له النفس تعمل
فقوموا له واستغفروا الله إنه ... رحيم إذا الخطّاء يأتي فيسأل
يختض بالنصر العزيز مؤيّد ... ويختصّ بالنصر المشاهد مفضل
__________
(1) النّهى: العقل.
(2) ادّرع: لبس الدّرع. ادّرع فلان الليل: دخل في ظلمته.(1/168)
حيرة
عن إبراهيم بن محمد النهرواني قال: رأيت الحلّاج في جامع نهروان في زاوية يصلّي وختم القران في ركعتين. فلّما أصبح سلّمت عليه، وقلت: يا شيخ أفدني بكلمة من التوحيد. فقال: اعلم أنّ العبد إذا وحّد ربّه تعالى، فقد أثبت نفسه، ومن أثبت نفسه فقد أتى بالشرك الخفيّ. وإنّما الله تعالى هو الذي وحّد نفسه على لسان من شاء من خلقه. فلو وحّد نفسه على لساني فهو وشأنه. وإلّا فما لي يا أخي والتوحيد. ثم قال:
[من السريع] [103] (103)
1 - من رامه بالعقل مسترشدا ... أسرحه في حيرة يلهو
2 - قد شاب بالتّدليس أسراره ... يقول في حيرته، هل هو؟
قافية الألف اللينة
ويح قلبي
[من الخفيف] [104] (104)
1 - نظري بدء علّتي ... ويح قلبي وما جنى
2 - يا معين الضّنى عل ... يّ، أعنّي على الضّنى
__________
(103) [103] البيتان في التعرف لمذهب أهل التصوف ص 79، وفيه: (وأنشدونا لبعض الكبار) في باب معرفة الله تعالى. وعلق على البيتين: (وقال بعض الكبار: لا يعرفه إلا من تعرف إليه ولا يوحده إلا من توحد له، ولا يؤمن به إلا من لطف به، ولا يصفه إلا من تجلى لسره، ولا يخلص له إلا من جذبه إليه، ولا يصلح له إلا من اصطنعه لنفسه).
وانظر نشأة التصوف ص 270.
(104) [104]
انظر القطعة التي تقدمت برقم (96).(1/168)
تقسم قلبي في هواه وإنه ... لداء عظيم إن تحققت معضل
فرؤية علمي تغني عن عين ناظري ... وما رؤيتي الأخرى عن العلم تعدل
فما تعطي أبصار سوى شخص ما رأت ... ويعطيك عين القلب ما كنت تجهل
إلا أنه المنكور من حيث ناظري ... كما أنه المعروف للعقل فاعقلوا
وقد جاء في الأخبار هذا الذي أنا ... أقول به حكما لمن كان يعقل
وقال أيضا من روح سورة تبت يدا أبي لهب:
التّبّ من صفة اليدين لأنها ... جادت على الكفار بالإنفاق
وكلاهما عين الهلاك ونفسه ... فالهلك في الأملاك والإرفاق
نفقت يميني وهو عين هلاكها ... أين الهلاك من اسمه الخلّاق
لولا وجود القبض ما انبسطت لنا ... كفّ الكريم بسيبه الغيداق (1)
وقال أيضا من روح سورة الإخلاص:
ممن تخلصت أو إلى من ... تخلص يا طالب الخلاص
إن كنت بالعلم في مزيد ... أنا من العلم في انتقاص
إنّ لنا حكمة تعدّت ... بذاتها منزل القصّاص
إن كانت الحال ما ذكرنا ... كيف لنا منه بالخلاص
فإنني طالب أمورا ... أخرها حاكم المناص
وقد علمنا كذا أمورا ... قدّمها حاكم المناص
وقال أيضا من روح سورة الفلق:
إني تعوذت بي مني فإن لنا ... النور بالروح والإظلام بالجسد
ولا أزال كذا ما دام مسكننا ... فلو ترحلت عن أهل وعن بلد
وجدت فيه ضياء لا ظلام به ... يغني عن الأهل والأموال والولد
لكنّ له الظلّ ذاك الظلّ راحتنا ... في صورة الجسم لا في صورة الجسد (2)
منزه العين من تأثير ما ظهرت ... به الطبيعة في الأركان من مدد (3)
لي النقاء بها ما دمت أسكنها ... واللبث لا ينتهي فيها إلى أمد
__________
(1) السّيب: العطاء. الغيداق: الكريم.
(2) الظل: هو الوجود الإضافي الظاهر بتعينات الأعيان الممكنة وأحكامها التي هي معدومات ظهرت باسمه النور الذي هو الوجود الخارجي المنسوب إليها، فيستر ظلمة عدميتها النور الظاهر بصورها صار ظلا لظهور الظل بالنور وعدميته في نفسه.
(3) الطبيعة: يريد: الحقيقة الإلهية الفعالة للصور كلها.(1/169)
[من المتقارب] [105]
1 - إذا دهمتك خيول البعاد ... ونادى الإياس بقطع الرّجا
2 - فخذ في شمالك ترس الخضو ... ع وشدّ اليمين بسيف البكا
3 - ونفسك، نفسك! كن خائفا ... على حذر من كمين الجفا
4 - فإن جاءك الهجر في ظلمة ... فسر في مشاعل نور الصّفا
5 - وقل للحبيب، ترى ذلّتي؟! ... فجد لي بعفوك قبل اللّقا
6 - فو الحبّ، لا تنثني راجعا ... عن الحبّ إلّا بعوض المنى
قافية الياء
نصائح
عن عمران بن موسى قال: سمعت الحسين يقول: من أراد أن يصل إلى المقصود فلينبذ الدنيا وراء ظهره. ثم أنشد يقول:
[من مخلع البسيط] [106]
1 - عليك يا نفس بالتّسلّي ... فالعزّ بالزّهد والتّخلّي
2 - عليك بالطّلعة التي ... مشكاتها الكشف والتّجلّي
3 - قد قام بعضي ببعض بعضي ... وهام كلّي بكلّ كلّي
حدّثني أبو عليّ الفارسي قال: رأيت الحلّاج واقفا على حلقة أبي بكر الشبليّ أنت بالله ستفسد خشبة. فنفض كمّه في وجهه وأنشد:
[من مخلّع البسيط] [107] (107)
1 - يا سرّ سرّ، يدقّ حتّى ... يخفى على وهم كلّ حيّ
2 - وظاهرا باطنا تجلّى ... لكلّ شيء بكلّ شيّ
3 - إن اعتذاري إليك جهل ... وعظم شكّ وقرط عيّ
4 - يا جملة الكلّ، لست غيري ... فما اعتذاري إذن إليّ
__________
(107) [107] وردت الأبيات في كتاب البدء والتاريخ 2/ 91، 92.(1/169)
لو لم يكن فيه من خير ومن دعة ... إلا تخلصنا من باعث الحسد
وقال أيضا من روح سورة الناس وهي آخر سورة المصحف العثماني:
ألا إنّ ربّ الناس ربي وإنه ... لذي النظر الفكريّ ربّ المشارق
ثلاثة أسماء بإحكام دورها ... نموت ونحيى ما أنا بالمفارق
لها ولهذا لو تفكرت شيبت ... باحكامها فينا وفيكم مفارقي
فلولا الرحيم الربّ ما كنت طامعا ... وإن كان فيها حكمة بالتطابق
وبالواسع الرحمن وسعت خاطري ... وقد كنت منها في عقود المضايق
وقد انتهت سور القرآن على ما أعطاه وارد الوقت من غير مزيد ولا حكم فكر ولا روية ولله الحمد.
وقال أيضا في مرضه:
توالى عليّ اليبس من كلّ جانب ... وأقلقني طول التفكّر والسهر
وأزعجني داعي المنية للبلى ... وأذهلني عما يجلّ يحتقر
وقوّى فؤادي حسن ظني بخالقي ... وأضعف مني قوّة السمع والبصر
وإن مرادي حيل بيني وبينه ... بردّي كما يتلى إلى أرذل العمر
فنادى بروحي للبرازخ والتوى ... ينادي بجسمي للمقابر والحفر
فهذا حبيس القبر في منزل البلى ... وهذا حبيس الصور في برزخ الصور (1)
فلو لم أكن بالحق كنت مقيدا ... ولو لم أكن بالخلق كنت على خطر
فحقي يحلّيني بما فيّ من قوى ... وخلقي يحلّيني بما يوصف البشر
فما أعذب الطعم الذي قد طعمته ... من الظنّ بالربّ الجميل لمن نظر
وما أفظع الطعم الذي قد طعمته ... من العلم بالله المريد وما أمر
كأني طعمت التمر في طيباته ... وفي العلم ما ذقنا سوى مطعم العشر
فوفيت ما قد أوجب الله فعله ... عليّ بتصريف القضاء مع القدر
عناية مختار عليم منبأ ... وجئت كما قد جاء موسى على قدر
وقال أيضا:
قرّة العين والبصر ... جاء موسى على قدر
بالذي يقتضي النظر ... والذي يرتضي القدر
من أمور إذا بدت ... أذهلت صاحب النظر
__________
(1) البرزخ: العالم المشهود بين عالم المعاني والأجسام، أي بين الآخرة والدنيا.(1/170)
حقائق
[من مخلّع البسيط] [108] (108)
1 - راعيتني بالحفاظ حتّى ... حميت عن مربع وبيّ
2 - فأنت عند الخصام عذري ... وفي ظمآئي فأنت رييّ
3 - إذا امتطى العارف المصلّى ... أسرى إلى منظر عليّ
4 - وغاص في أبحر غزار ... تفيض بالخاطر الوحيّ
5 - فضّ ختام الغيوب عمّا ... يحيي فؤاد الشّجي الوليّ
6 - من حار في دهشة التلاقي ... أبصرته ميّتا كحيّ
__________
(108) [108] وردت الأبيات في التعرف لمذهب أهل التصوف للكلاباذي ص 160، وفيه: (أنشدونا لبعض الكبار). وعلق عليها قائلا: (يعني من حيّرته دهشة ما يبدو له من الله من شاهد تعظيم الله وإجلاله أبصرته حيّا، كميت يفنى عن رؤية ما منه ولا يجد له متقدما ولا متأخرا).(1/170)
أشعار تنسب إلى الحلاج
قافية الهمزة
[من البسيط] [1] (1)
1 - كانت لقلبي أهواء مفرّقة ... فاستجمعت، مذ رأتك العين، أهوائي
2 - فصار يحسدني من كنت أحسده ... وصرت مولى الورى مذ صرت مولائي
3 - تركت للنّاس دنياهم ودينهم ... شغلا بحبّك يا ديني ودنيائي
4 - ما لامني فيك أحبابي وأعدائي ... إلّا لغفلتهم عن عظم بلوائي
5 - أشعلت في كبدي نارين: واحدة ... بين الضّلوع وأخرى بين أحشائي
قافية الباء
[من الطويل] [2] (2)
1 - سكرت من المعنى الذي هو طيب ... ولكنّ سكري بالمحبّة أعجب
2 - وما كلّ سكران يحدّ بواجب ... ففي الحبّ سكران ولا يتأدّب
3 - تقوم السّكارى عن ثمانين جلدة ... صحاة وسكران المحبّة يصلب
__________
(1) [1] لمحمد بن داود الأصفهاني في الزهرة ص 50، ونسبها إلى بعض أهل عصره.
(2) [2] قيلت على لسان حال الحلاج.(1/171)
قد تعالت فما يرا ... ها سوى من له بصر
والذي يدركونه ... إنما ذلك الأثر
مثل أسمائه العلى ... التي عيّن البشر
وهي بالذات في حمى ... مانع ما له خبر
نسب كلها لها ... نسب في الذي ظهر
من وجودي ومن بلو ... غي إلى غاية العمر
وانتقالي ما ينتهي ... هكذا جاء في الزّبر (1)
من نعيم مؤبّد ... في جنان وفي نهر
عند ربّ مؤيّد ... في الذي شاء مقتدر
أو عذاب سرمد ... في ضلال وفي سعر (2)
نسأل الله عفوه ... فالكريم الذي غفر
وقال أيضا:
إنّ الوجود وجود الحقّ ليس لنا ... فيه مجال إذا ما كنت أعنيه
إني لأشهده والحقّ يشهدني ... إني أشاهده بما أنا فيه
فليس للكون إلا ما يشاهده ... وأما نعتّ بمعنى من معانيه
لذا أكون به في ظاهري علما ... وباطني ألم مما أعانيه
بيني وبينك عهد منك قرّره ... شرع أتانا فنوفيه وأوفيه
فما ترى العين من شيء تسرّ به ... إلا وفي الحال يخفيه ويحميه
فلست أدرك من شيء حقيقته ... وكيف أدركه وأنتم فيه
بل عينه ولذا قام الدليل لكم ... عليّ قطعا فتبديه وتخفيه
وما علمت بهذا الأمر من حهتي ... بل بالكلام الذي سمعت من فيه
فإنه عين نطقي إذ أكلمكم ... مع اللسان وهذا القدر يكفيه
إني لأخفي أمورا من حقائقه ... مبينات لأمر كان يرضيه
عمن وما ثمّ إلا واحد فلذا ... أقاسي منه الذي مني يقاسيه
شوقي شديد وشوق الحقّ أعظم من ... شوقي كذا جاء فيما كان يوحيه
إني خليفيه داود وأضوأ من ... قد كان في قبضة الرحمن يبديه
هبّت علينا رياح الجود من كرم ... أتت به رسله لدى تجلّيه
__________
(1) الزّبر: جمع الزّبور أي الكتاب.
(2) السّرمد: الدائم.(1/171)
فناله العارف النّحرير من كتب ... بما يكون عليه من تحليه (1)
إن كان في ملأ فالحال يخجله ... لذا يرى مائلا إلى تخليه
إن الجهول الذي للغير يثبتها ... وفيّ منكرها جهرا يباريه
وإن درى انني بالورث أملكها ... لقام من حدّ للنور يطفيه
فما لنا حيلة نرجو الخلاص بها ... إلا لنسأل من أطغاه يهديه
وقال أيضا يخاطب وليه إسماعيل بن سودكين (2):
جزاك الله خيرا من وليّ ... عليم بالخفيّ وبالجليّ
رعاك الله من شخص تعالى ... عن الأمثال بالنعت العليّ
صدوق الوعد أنزله كتابا ... فإسماعيل ذو الخلق الرّضيّ
وقال أيضا يخاطب صاحبا له في حالة تخصه في العلم الإلهي:
فلا تتعب ولا تتعب ... وكن كالحوّل القلب
إذا ما لم تكن هذا ... فلم تعثر على المطلب
وقال أيضا يخاطبه:
فالأوّل الحقّ بالوجود ... والآخر الحقّ بالشهود
إليه عادت أمور كوني ... فإنما الربّ بالعبيد
فكلّ ما أنت فيه حقّ ... ولم تزل فيه في مزيد
وقال أيضا يخاطبه ينبهه على غلط القائل لا يصدر عن الواحد إلا واحد:
نتيجة عن واحد لا تكن ... ألا ترى لم يكن إلّا بكن
فهو بما أظهر ما عنده ... منا ومنه ظاهر قد بطن
وقال أيضا:
إنّ الذي أظهر الأعيان لو ظهرا ... ما زاد حكما على الأمر الذي ظهرا (3)
هو الجليّ الخفيّ في تصرّفه ... ففليس يظهر منه غير ما ظهرا
مقدّس الذات عن إدراك ما ظهرا ... لكنه يهب الأرواح والصورا
__________
(1) العارف: قال ابن عربي: العارف من أشهده الرب عليه فظهرت الأحوال عن نفسه، والمعرفة حاله.
والنّحرير: الحاذق الماهر.
(2) إسماعيل بن سودكين بن عبد الله، أبو الطاهر شمس الدين النوري، صوفي حنفي تونسي، من أصحاب ابن العربي. توفي سنة 646هـ.
(3) الأعيان الثابتة هي حقائق الممكنات في علم الحق تعالى. والعين إشارة إلى ذات الشيء.(1/172)
يا ليت
[من الطويل] [3] (3)
1 - فليتك تحلو والحياة مريرة ... وليتك ترضى والأنام غضاب
2 - وليت الذي بيني وبينك عامر ... وبيني وبين العالمين خراب
3 - إذا نلت منك الودّ فالكلّ هيّن ... وكلّ الذي فوق التّراب تراب
4 - فيا ليت شربي من ودادك صافيا ... وشربي من ماء الفرات سراب
استغفار
[من مخلّع البسيط] [4] (4)
1 - يا ربّ، إنّي إليك ممّا ... جنيته تائب منيب
2 - أستغفر الله مستقيلا، ... والعبد ممّا جنى يتوب
3 - أرجوك، بل قد وثقت، أنّي ... من رحمة الله لا أخيب
4 - وليس لي شافع سواها ... إذا أضّرت بي الذنوب
مآربي
[من الوافر] [5] (5)
1 - أريدك لا أريدك للثّواب ... ولكنّي أريدك للعقاب
2 - فكلّ مآربي قد نلت منها ... سوى ملذوذ وجدي بالعذاب
__________
(3) [3] الأبيات لأبي فراس الحمداني في ديوانه ص 41 (تحقيق التونجي)، 2/ 22 (تحقيق الدهان)، ويتيمة الدهر 1/ 69، 70، والبيت الثالث للمتنبي في ديوانه 1/ 200من قصيدة مطلعها:
(منى كن لي أن البياض خضاب ... فيخفى بتبييض القرون شباب)
(4) [4] لعلها لبندار بن الحسين الشيرازي الصوفي.
(5) [5] أنشدهما ابن عطاء في تاريخ بغداد 8/ 116، ثم قال ابن عطاء: (هذا مما يتزايد به عذاب الشغف، وهيام الكلف، واحتراق الأسف، وشغف الحب، فإذا صفا ووفا علا إلى مشرب عذب، وهطل من الحق دائم سكب). ونسبهما ابن عربي في الفتوحات المكية في ثمانية مواضع إلى أبي يزيد البسطامي. وانظر نشأة التصوف ص 248، 272.(1/172)
[من مجزوء الخفيف] [6] (6)
1 - نسمة من جنابه ... أوقفتني ببابه
2 - جذبتني لوصله ... أبدا واقترابه
3 - واستراح الفؤاد من ... هجره واحتجابه
4 - طاب لي ما سمعته ... في الدّجى من عتابه
5 - وعلى كلّ حالة ... سكرتي، من شرابه
[من الوافر] [7] (7)
1 - حنين المريد لشوق يزيد ... أنين المريض لفقد الطّبيب
2 - قد اشتدّ حال المريدين فيه ... لفقد الوصال وبعد الحبيب
قافية التاء
[من البسيط] [8] (8)
1 - طاب السّماع وهبّت النّسمات ... وتواجدت في حانها السّادات
2 - سمعوا بذكر حبيبهم فتهتّكوا ... خلعوا العذار ودارت الكاسات
3 - طربوا فطابت باللّقا أرواحهم ... كتموا فبانت منهم حالات
4 - شربوا بأقداح الصّفا لما صفوا ... سكروا فلاحت منهم رقصات
5 - ظهرت عليهم من بواطن سرّه ... كاسات بشر كلّها راحات
6 - هطلت مدامعها على وجناتهم ... وتصاعدت من شوقهم زفرات
7 - زاد الغرام بهم وفي أحشائهم ... نار وفي أكبادهم جمرات
8 - فتقطّرت ريح الصّبا من عطرهم ... وسرت بنشر روائح نفحات
__________
(6) [6] قيلت على لسان حال الحلاج.
(7) [7] قيلت على لسان حال الحلاج.
(8) [8] هذه القطعة نظم لعبارة منسوبة إلى الإمام الرضا علي بن موسى بن جعفر الصادق.(1/173)
فكلّ صورة روح عين صورته ... وهو الذي عين الأفلاك والبشرا
من آدم خمرت يداه طينته ... بذاك سمّي في ما قد روى بشرا
لما أتى من وراء السّتر كلمني ... وما رأيت له عينا ولا خبرا
علمت أنّ حجابي لم يكن أحدا ... غيري فلم أتعب الألباب والفكرا
فما رأيت وجود الحقّ في أحد ... إلا رأيت له في كونه أثرا
وقال أيضا:
ألا إنني مولى لمن أنا عبده ... فأنصره عن أمره وأناضل
وإنّ سهامي لا تطيش وإنها ... تصيب إذا التفت عليّ القبائل
أقاتلهم بالسيف والحجة التي ... بها يدمغ القرن الكميّ المنازل (1)
وقال أيضا:
إنّ التحكم في الأشياء للقدر ... وإنّ فيه مجال الفكر والعبر
وقل به إنه على تحكمه ... لا حكم فيه على الأرواح والصور
إلا بأعيانها فاعلم طريقة ... الحكم فيها لها إن كنت ذا نظر
وقال أيضا:
فلا تنظر لما عندي ... فإن الأمر من عندك
ولا تطلب وفا عهدي ... إذا ما خنت في عهدك
فوعدي صادق مني ... إذا صدقت في وعدك
وما أتيت إلا من ... فساد كان في عقدك (2)
وقال أيضا:
سافر عني تستقم ... فأمركم قد علم
أين عفوّ اسمه ... من اسمه المنتقم
وقال أيضا:
إنّ البروج أماكن مقدّرة ... في أطلس تحدث الأيّام دورته (3)
ولا تزال إلى ما لا انقضاء له ... فاحفظه لا يحجبنك اليوم سورته (4)
__________
(1) القرن: المثل. الكمي: المدجج بالسلاح.
(2) العقد: عقد السّر: هو ما يعتقده العبد بقلبه بينه وبين الله تعالى أن يفعل كذا أو لا يفعل كذا.
(3) الأطلس: الثوب الخلق. والأسود اللون. والبروج: الأبراج السماوية.
(4) السّورة من السلطان: سطوته. السورة من البرد: شدته ومن المجد: أثره.(1/173)
[من الطويل] [9] (9)
1 - متى سهرت عيني لغيرك أو بكت ... فلا أعطيت ما منّيت وتمّنت
2 - وإن أضمرت يوما سواك فلا رعت ... رياض المنى من وجنتيك وجنّة
[من الطويل] [10] (10)
1 - سقوني وقالوا: لا تغنّ، ولو سقوا ... جبال حنين ما سقيت لغنّت
2 - تمنّت سليمى أن أموت بحبّها ... وأسهل شيء عندنا ما تمنّت!
قافية الجيم
[من المديد] [11] (11)
1 - يا بديع الدّلّ والغنج ... لك سلطان على المهج
2 - إنّ بيتا أنت ساكنه ... غير محتاج إلى السّرج
3 - وجهك المأمول حجّتنا ... يوم يأتي النّاس بالحجج
قافية الحاء
[من الطويل] [12] (12)
1 - وكان فؤادي خاليا قبل حبّها ... وكان بذكر الخلق يلهو ويمزح
__________
(9) [9] البيتان للحلاج في تاريخ بغداد 8/ 116، 118، وذكر ماسينيون أنهما لسمنون المحب.
(10) [10] البيت الأول بلا نسبة في الظرف والظرفاء 355، والعقد الفريد 6/ 23، والثاني للسمهري العكلي في أشعار اللصوص 1/ 37، ومعجم البلدان (ساجر).
(11) [11] تروى الأبيات لديك الجن في ديوانه ص 207، ولعبد الصمد بن المعذل في ديوانه ص 77 وللشبلي في ديوانه ص 73.
(12) [12] تروى الأبيات لسمنون المحب في مصارع العشاق 2/ 50، وتاريخ بغداد 9/ 237، ولكن يظهر فيها نفس محمد بن داود الأصفهاني.(1/174)
فما لغيرته في الخلد من أثر ... لكن تؤثر في الأركان غيرته
لولا تحركه لم ندر ما زمن ... ففيه حيرتنا وفيه حيرته
وما استقامته إلّا تمايله ... فإنه عورة والكلّ عورته
فما ترى في وجود الكون من أثر ... إلا وفيه إذا حققت صورته
فكل منزلة في الكون ظاهرة ... وإنما هي في التحقيق سورته
فلا تذّمنّ دهرا لست تعرفه ... فالدهر من شهدت بالملك فطرته
به تواصلت الأشياء وانصرمت ... فسيرة الدهر في الأشياء سيرته
وليس يدري بها إلا الذي حسنت ... مع المهيمن في سرّ سريرته
ما التفت الساق بالساق التي تليت ... إلا تقول قد التفّت غديرته
وقال أيضا في سير الجواري (1) في البروج والمنازل وذكر أسمائها:
لكيوان الثبات بغير شكّ ... كما للمشتري علم النبيّ (2)
وللمريخ أرماح طوال ... إذا اجتمع الكميّ مع الكميّ
وللشمس الأمانة في مكان ... كما قال الإله لنا عليّ
وللزهراء ميل هوى وحب ... فويل للشجيّ من الخليّ
ونش عطارد مرّيخ لطف ... يضم به العليّ إلى الدنيّ
بأمر البدر يكتب ما أردنا ... إلى الداني المقرّب والقصيّ
ويقطع في بروج معلمات ... يكنّ لسيرها حرف الرويّ
فمن حمل إلى ثور ويعلو ... إلى الجوزاء في الفلك البهيّ
إلى السرطان من أسد تراه ... بنبلة لميزان الهويّ
وعقرب صدغه يرمي بقوس ... من النيران من أجل الجدي
ليشويه فيطفيه بدلو ... كحوت دلالة العبد النجيّ
وليس لهذه الأبراج عين ... من الأنوار في النظر الجليّ
ولكنّ المنازل عينتها ... من الفلك المكوكب للخفيّ
فمنزلتان مع ثلث لبرج ... كتقسيم المراتب في النديّ
وبان لكل منزلة دليل ... من الأسماء عن نظر خفيّ
كنطح في بطين في ثريا ... إلى الدبر إن هقعته تحيّ
ذراعا عند نثرة طرف شخص ... بجبهته زبرت على بنيّ
لتعلمه بصرفته فمالت ... بعوّاء السّماك على وليّ
__________
(1) الجواري: الكواكب السيّارة.
(2) كيوان: زحل.(1/174)
2 - فلمّا دعا قلبي هواك أجابه ... فلست أراه عن ودادك يبرح
3 - حرام على جفني الكرى، يا معذّبي ... وأنت على الهجران تمسي وتصبح
4 - بليت ببين منك إن كنت كاذبا ... وإن كنت في الدنيا بغيرك أفرح
5 - وإن كان شيء في البلاد بأسرها ... إذا غبت عن عيني بعيني يملح
3 - فإن شئت واصله وإن شئت بالجفا ... فلست أرى قلبي لغيرك يصلح
عقوبة
[من الكامل] [13] (13)
1 - بالسّر إن باحوا تباح دماؤهم ... وكذا دماء البائحين تباح
التصوّف
[من الكامل] [14] (14)
1 - لا تسأمنّ مقالتي يا صاح ... واقبل نصيحة ناصح نصّاح
2 - ليس التّصوّف حيلة وتكلّفا ... وتقشّفا وتواجدا بصياح
3 - ليس التّصوّف كذبة وبطالة ... وجهالة ودعاية بمزاح
4 - بل عفّة ومروءة وفتوّة ... وقناعة وطهارة بصلاح
5 - وتقى وعلم واقتداء والصفا ... ورضى وصدق والوفا بسماح
6 - من قام فيه بحقّه وحقوقه ... وخلا عن الحدثان والأشباح
7 - متيقّنا متصبّرا متشمّرا ... مستمطرا متقصّد السيّاح
8 - متعزّزا متحرّزا متواضعا ... متبدّل الأشباح والأرواح
9 - تتشعشع الأنوار من أسراره ... كتشعشع المشكاة في المصباح
10 - تاء التّقى صاد الصّفا واو الوفا ... فاء الفتوّة فاغتنم يا صاح
__________
(13) [13] البيت من قطعة مشهورة للسهروردي مطلعها:
أبدا تحن إليكم الأرواح ... ووصالكم ريحانها والراح
(14) [14] نسبت الأبيات إلى الحلاج في كتاب «تقييد بعض الحكم والأشعار»، وتنسب أيضا إلى أبي نصر السراج، وعبد الله بن علي، وطاووس الفقراء.(1/175)
غفرن له زبانات بأمر ... من الإكليل عن قلب نقيّ
فجادت شولة صادت ناما ... ببلدتها لكلّ فتى تقيّ
وذابحها يخبرها بما قد ... بدا في العجل من سرّ الحليّ
فتبلعها السعود على شهود ... من أخبية وأدلاء الشقيّ
مقدّمها مؤخرها لفرغ ... يدليه الرّشاء إلى الركيّ
ليسقي زرعه كرما وجودا ... ليقري بالغداة وبالعشيّ
أما أسماء الدراري الجواري:
فكيوان وهو زحل والمقاتل، المشتري وهو بهرام والبرجيس، المرّيخ وهو الأحمر، الشمس وهي يوح والغزالة، الزّهرة وهي البيضاء، عطارد وهو الكاتب، القمر وهو الزبرقان.
وأما أسماء البروج: فالحمل، الثور، الجوزاء وهي التوأمان، السرطان، الأسد، السنبلة، الميزان، العقرب، القوس، الجدي، الدول، الحوت.
ثلاثة منها نارية، وثلاثة ترابية، وثلاثة هوائية، وثلاثة مائية.
وأمّا أسماء المنازل وهي ثمان وعشرون: فالنّطح، البطين، الثريّا، الدّبران الهقعة، الهنعة وهي التحية، الذراع، النشرة، الطّرف، الجبهة، الزبرة، الصرفة، العوّاء، السّماك، الغفر، الزباني، الإكليل، القلب، الشّولة، النعائم، البلدة، الذابح، بلع، السعود، الأخبية، الفرغ المقدّم، الفرغ المؤخّر، الرّشاء.
ومن تمام القصيدة:
وعيّوقاتها تهدي إلينا ... إذا أخفيت لذي الرصد الذكيّ (1)
نجوم الرجم أرسلها إلهي ... لتحرق كلّ شيطان غويّ (2)
وتظهر بالأثير من اشتعال ... فتهوي بالهواء إلى الغبيّ
فتحرقه فيذهب ما لديه ... من العلم المحقّق بالهويّ
هي النيران في الأبصار نور ... كماء شراب ظمآن شقي
فسبحان العليم بكلّ شيء ... وموحيه إلى قلب الوليّ
وقال أيضا:
انظر إليّ ولا تنظر إلى حالي ... واحذر من العذل لا تخطره بالبال
__________
(1) عيوقات: جمع عيّوق وهو نجم أحمر مضيء في طرف المجرة الأيمن.
(2) إشارة إلى قوله تعالى: {وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمََاءَ الدُّنْيََا بِمَصََابِيحَ وَجَعَلْنََاهََا رُجُوماً لِلشَّيََاطِينِ} سورة الملك، آية: 5.(1/175)
وافرغ إلى طلب الفضل الذي صبنت ... عنه ظنوني في ترتيب أحوالي (1)
لو أنّ لي سيّدا فتّ الأنام جدا ... ولم أعرّج على جاه ولا مال
المال مال الذي مال الوجود به ... إليه من كرم فلا تقل مالي
بل قل إذا جاء من يبغي نزالكم ... مالي من المال إلا حظ آمالي
وقد علمت بأنّ الجود من خلقي ... طبعا جبلت عليه فيه إقبالي
لا تفرحنّ بشيء لست مالكه ... بل أنت مستخلف فيه وكالوالي
مكانتي عند من أصبحت نائبه ... في ملكه حاكما بقدر أعمالي
فإن عدلت فإن العدل شيمتنا ... لعلمنا أو تفضّلنا فلا مالي
الفضل فضل إلهي ما لنا قدم ... فيه لفقري وما أدريه من حالي
فليس يفضل عني ما أجود به ... ولا يليق بنا قصد لأمثالي
فما لنا غير من ترجّى عوارفه ... وهو الغنيّ عن الحاجات والعالي
لما رأى من رأى حكمي ومملكتي ... وما درى أنني العاطل الحالي
وقد رأى من أنا فيهم خليفته ... يقول تقرضني من عرض أموالي
وما رأى أنه قد جال في خلدي ... أقرضن بالفعل لا بالعقد والحال (2)
لذاك نطقهم فيه بأنّ له ... فقرا إلينا وما ربي من أشكالي
الفيت فيه الذي عليّ يلبسه ... بأن تشخص لي أفعال أفعى لي
لا أعرف اللغو في قول أفوه به ... إنّ السديد من الأقوال أقوالي
أجلّ وصفي أنّ الله أهّلني ... لحلّ ما عند أشكالي من أشكالي
وقال أيضا يذكر الحروف الصغار وهي الحركات حركات البناء وحركات الإعراب ويذكر الجزم والسكون وحروف العلة:
من الحروف حروف هن كالعرض ال ... مجهول تغييره في سمعنا ظهرا
تبدو لإشباعها في لفظ مشبعها ... حروف علتها بها الكلام جرى
ضمّ وفتح وكسر للبناء أتت ... أسماؤها وبهذا الحكم قد شهرا
وثم رفع ونصب جاء بعدهما ... خفض لإعراب ما في لفظه ذكرا
والجزم يذهبها مع السكون فلا ... تسمع لها منذ لفظ وارد خبرا
__________
(1) صبن: كفّ ومنع.
(2) الخلد: البال والقلب. العقد: عقد السر وهو ما يعتقده العبد بقلبه بينه وبين الله تعالى أن يفعل كذا أو لا يفعل كذا.
الحال: هو ما يرد على القلب من طرب أو حزن أو بسط أو قبض.(1/176)
قافية الدال
صفات
[من البسيط] [15]
1 - ما في صفاتك عند السرّ منه يرى ... لا شيء عندك موجود إذا وجدا
2 - فبادري قبل أن تبقي، مشرّدة، ... عن التّقدّس والعفو الّذي حمدا
3 - فأنت جوهر ذاك الأصل فانتهجي ... مناهج الحقّ والخير الّذي قصدا
4 - لا تصحبنّ من الأشباح سائمة ... ولا تعودي إلى إنسيّة أبدا
القريب البعيد
عن الحسن بن حمدان قال: دخلت على الحلّاج يوما، فقلت له: أريد أن أطلب الله، فأين أطلبه؟ فاحمرّت وجنتاه، وقال: الحقّ تعالى عن الأين والمكان، وتفرّد عن الوقت والزمان، وتنزه عن القلب والجنان، واحتجب عن الكشف والبيان، وتقدّس عن إدراك العيون، وعمّا تحيط به أوهام الظنون، تفرّد عن الخلق بالقدم كما تفرّدوا عنه بالحدث، فمن كان هذا صفته كيف يطلب السبيل إليه. ثم بكى وقال:
[من الطويل] [16] (16)
1 - فقلت: أخلّائي، هي الشّمس ضوؤها ... قريب، ولكن في تناولها بعد
شكوى
[من الطويل] [17]
1 - وكم تشتكي ضرّ اشتياقك في الهوى ... وأنت قريب والمراد بعيد؟
2 - فكن للأسى والسّقم والحزن والبكا ... حليفا وإن آذاك منه لدود
3 - سلام على قلب وروح ومهجة ... سقين بكأس الودّ فهي تريد
__________
(16) [16] يروى البيت للعباس بن الأحنف، وليس في ديوانه.(1/176)
وما تولد عنها حين تشبعها ... لكي يقضي منها اللافظ الوطرا (1)
كواو أو ياء أو ما جاء من ألف ... حروف مدّ ولين تشبه القدرا
وقال أيضا:
الجود أولى به والفقر أولى بنا ... فكن به لا تكن إلّا له ولنا
ما في الوجود سوى فقر وليس له ... ضدّ يسمونه في الاصطلاح غنى
أين الغنى وأنا بالذات أقبل ما ... يريد تكوينه والكون مني أنا
فالكون مني ومنه فاعتبر عجبا ... هذا الذي قلته قد كان قبل بنا
أنا به كالذي ضربته مثلا ... وإنه بوجود المعتقين بنا
قد ارتبطنا لأمر لا انفكاك لنا ... منه وما منه من نشأتيّ عنا
مثل النتيجة كان الكون عن عدم ... ولم يكن عن وجود تحمل الأمنا
عين النكاح بدا بالكشف يشهده ... بصورتيه ولكنّ الإله كنى
قد أشرقت أرضنا بنور بارئها ... كالنفس منه إذا سوّى لها البدنا
والنفس في الكون عن جسم وعن نفس ... جاد الإله به لذاك عللنا
فلم أزل لوجود الجود أطلبه ... فعلة الفقر فينا علة الزمنا
لو لم يكن لم أكن لو لم أر لم ير ... فالكون مني به والعلم منه بنا
لولا النبيّ صحيح ما أتاك به ... نصّ جليّ حكاه في القرآن لنا
في سورة الأنبياء الزهر في زمر ... أتى بحرف امتناع واضحا علنا
هذا الدليل على إمكانه ولذا ... لو شاء كان اصطفاء منه عنه لنا
ولو يكون لصلب كان عن جسد ... في ناظر العين لم يدرك به غبنا
لقد تجلّى لقوم في منامهم ... فعاينوه شهودا منظرا حسنا
مثل المعاني التي التجميل جسدها ... كالعلم يشربه في نومه لبنا
وقال أيضا:
إذا أشهدت أنك في شهود ... خليّ عن مقاومة الشهيد
وإنك ناظر فيه إليه ... به من كونه ربّ العبيد
وإنك مبتغ طلبا مزيدا ... فقد شرع السؤال من المزيد
رأيت العين ليس لها نظير ... يقاوم من مراد أو مريد
إذا ما الحق جلاه إلينا ... تعيّن في السيادة والمسود
فما في الكون من يدري كلامي ... سوى من عينه حبل الوريد
__________
(1) الوطر: الحاجة.(1/177)
عقيدة
[من الكامل] [18] (18)
1 - عقد الخلائق في الإله عقائدا ... وأنا اعتقدت جميع ما عقدوه
فقد الوجد
[من البسيط] [19] (19)
1 - الوجد يطرب من في الوجد راحته ... والوجد عند وجود الحقّ مفقود
2 - قد كان يوحشني وجدي ويؤنسني ... برؤية الوجد من في الوجد موجود
البعد والقرب
[من الهزج] [20] (20)
1 - لقد أعجبني الوجد ... بمن أهواه والفقد
2 - فلا بعد ولا قرب ... ولا وصل ولا صدّ
3 - ولا فوق ولا تحت ... ولا قبل ولا بعد
4 - ولا عرف ولا نكر ... ولا يأس ولا وعد
5 - فهذا منتهى سؤلي ... وأنت الواحد الفرد
مواجيد
[من الطويل] [21] (21)
1 - مواجيد أهل الحقّ تصدق عن وجدي ... وأسرار أهل السّرّ مكشوفة عندي
__________
(18) [18] البيت لابن عربي في الرسائل والمسائل لابن تيمية، ولم يرد في ديوان ابن عربي.
(19) [19] يروى البيتان أيضا للجنيد البغدادي، ولم يردا في ديوانه.
(20) [20] قيلت الأبيات على لسان حال الحلاج. وفي هذه القطعة تعبير عن الفناء الصوفي الذي يتمثل في وحدة الشهود، وبه يتصل باطن الصوفي وبصريته بالمثل الأعلى، وينمو فيه إحساس بأنه جزء منه.
(21) [21] قيل البيت على لسان حال الحلاج.(1/177)
فيظهرني فأظهره فيخفى ... فأخفيه بآداب السجود
سجدت له سجود هوى بحقّ ... فأكرم بالسلام وبالشهود
رفعت به فلم أر غير ذاتي ... تصرف في القيام وفي القعود
ليشهد في جميع الأمر منه ... وفيه فينطفي غيظا حسودي
وقال أيضا:
الوحي بالشرع قد سدّت مغالقه ... وليس ينكر ذا إلّا الذي كفرا (1)
لم يبق منه سوى ما الشخص يدركه ... في نومه أو بكشف هكذا ظهرا (2)
وليس يدركه من غير صورته ... إلا هنا ولهذا حاز من عبرا
علما صحيحا من الرحمن بشره ... به المهيمن في رؤياه إن شكرا
وفيه مزج رقيق ليس يعرفه ... إلا الذي يعرف الآيات والسورا
فينزل الشيء في رؤياه منزلة ... بآية فهي قرآن لمن نظرا
في جمعها والذي تحويه من عبر ... وحيا صحيحا لنا به القضاء جرى
فاسلك طريقتنا إن كنت ذا نظر ... ولا تعرّج بنا إن كنت معتبرا
قد يخطىء العابر الرؤيا يعبرها ... وقد يصيب كما رويته خبرا (3)
عن النبي رسول الله سيّدنا ... فيما تأوّله الصديق لو عثرا
أصاب بعضا وأخطى بعضها وبذا ... أتى الحديث الذي رويته أثرا
وقال أيضا:
إني نذرت وما في النذر من حرج ... بذل الذي ملكت كفّي من المهج (4)
لوجه ربي إن جاد الإله على ... قلبي بمعرفة الأوزان والدرج
في العلم بالله إلا بالغير انّ لنا ... نفسا قد اعتادت التنزيه في الفرج
ما بين أطباق أفلاك مزينة ... بزينة الله في التأديب والدّلج
إني أسير إليه وهو يطلبني ... في كلّ حال بسرّ غير منزعج
وذاك أني في سيري أشاهده ... يسير بي نحو ذاتي سير مبتهج
في كلّ حال فيفنيني مشاهدة ... عني وما عندنا في ذاك من حرج
__________
(1) يريد أن لا نبي بعد محمد صلى الله عليه وسلم يوحى إليه.
(2) يريد أن ما يراه المؤمن أحيانا في نومه قد يصدق. الكشف: الاطلاع على ما وراء الحجاب من المعاني الغيبية.
(3) المعنى: إن الذي يعبر الرؤيا قد يصدق أو يخطىء.
(4) يشير إلى أن النذر إذا كان لله فلا حرج فيه. المهج: جمع المهجة: بقية الدم في القلب، أو الروح.(1/178)
قافية الراء
مطامع
[من الوافر] [22] (22)
1 - طلبت المستقرّ بكلّ أرض ... فلم أر لي بأرض مستقرّا
2 - وذقت من الزّمان وذاق منّي ... وكان مذاقه حلوا ومرّا
3 - أطعت مطامعي فاستعبدتني ... ولو أنّي قنعت لكنت حرّا
أسرار
[من البسيط] [23] (23)
1 - سكنت قلبي وفيه منك أسرار ... فلتهنك الدّار أو فليهنك الجار
2 - ما فيه غيرك من سرّ علمت به ... فانظر بعينك: هل في الدّار ديّار
3 - وليلة الهجر إن طالت وإن قصرت ... فمؤنسي أمل فيها وتذكار
4 - إنّي لراض بما يرضيك من تلفي ... يا قاتلي، ولما تختار أختار
وجه البدر
[من الهزج] [24] (24)
1 - أيا من طرفه سحر ... ويا من ريقه خمر
2 - تجاسرت فكاشفت ... ك لمّا غلب الصّبر
3 - وما أحسن في مثل ... ك أن ينتهك السّتر
4 - وإن لامني النّاس ... ففي وجهك لي عذر
5 - لأنّ البدر محتا ... ج إلى وجهك يا بدر
__________
(22) [22] نسبت الأبيات إلى الحلاج في تاريخ بغداد 8/ 130، وفيه أن الحلاج أنشد الأبيات لما أخرج ليقتل، والأول والثالث لأبي العتاهية في ديوانه ص 141.
(23) [23] تنسب الأبيات إلى البهاء زهير في ديوانه ص 113، وانظر نشأة التصوف ص 182.
(24) [24] تنسب الأبيات إلى أبي نواس في ديوانه ص 336، وإلى الحسين بن الضحاك الخليع في ديوانه ص 54.(1/178)
لم يبق عقل ولا حسّ أحسّ به ... فيرحم الغصن ما في اللدن من عوج
أومت إليّ وقد ظلت محفتها ... بكفها والذي في الطرف من غنج
لا تركبنّ بحارا لست تعرفها ... فقد تلاطمت الأمواج في اللجج (1)
واثبت على السيف إن السيف مرحمة ... ولا توسّط فإنّ الهلك في الثبج (2)
قد ضقت ذرعا بما تأتي شكايته ... فهل لديكم بما يشكوه من فرج
وقال أيضا:
لما سمعت بأنّ الحقّ يطلبني ... وقد علمت عناه قلت بالداء
غرقت في عبرات ما لأبحرها ... من ساحل فافهموا قصدي وإيمائي (3)
وقد أحاطت بي الأنواء واتسعت ... بحارها للذي فيه من أسماء (4)
ولم أجد غيره يشفي فأطلبه ... هو العليل المعل السامع الرائي
سمعت بيتا رواه الناس في صفتي ... من قبل كوني فيه شرح أنبائي
ما أنت نوح فتنجيني سفينته ... ولا المسيح أنا أمشي على الماء
وقال أيضا:
ما أنا اليوم لنفسي ... قد مضى عقلي وحسي
فأنا روم لأني ... شاهد أصلّي وأسي
فليقم من شاء منكم ... أو يرح رواح أمس
ومتى رأيت شخصا ... وهو من شكلي وجنسي
نفرت منه طباعي ... ومضى عني أنسي
أبغض الخلق إلينا ... من تسمى لي بإنسي
فاعذروني يا عدايا ... أنا في أضيق حبس
لست من خلق جديد ... حادث صاحب لبس
وقال أيضا:
إذا جاءت الأرسال من عند مرسل ... إلى كلّ ذي قلب بوحي منزل
علمت به ما لم أكن قد علمته ... وعللته بي وهو خير معلل
__________
(1) لجج: جمع لجّة: معظم الماء.
(2) الثّبج: اضطراب الكلام، وتعمية الخط.
(3) بحر بلا ساحل: يريد أن الحال الذي خصه الله به من التعظيم لله وخالص الذكر له والانقطاع إليه لا نهاية لذلك ولا انقطاع.
(4) الأنواء: جمع النّوء: النجم مال للغروب. ويقال: ناء نوءا: نهض بجهد ومشقة.(1/179)
حكمة
[من الطويل] [25] (25)
1 - تعوّدت مسّ الضّرّ حتّى ألفته ... وأسلمني حسن العزاء إلى الصّبر
فقد الأليف
[من البسيط] [26] (26)
1 - وطائر، حلّ أرض الشّام، أقلقه ... فقد الأليف له نطق بإضمار
2 - قد كان إلف قصور، صار مسكنه ... في غيضة الأيك في أغصان أشجار
3 - يقول أخطأت حتّى الصّبح يسعده ... صوت شجيّ ويبكي وقت أسحار
4 - في نطقه زفر تنبيك عن حرق ... فينثني نوحه نطقا بإضمار
العين تبصر
[من البسيط] [27] (27)
1 - العين تبصر من تهوى وتفقده ... وناظر القلب لا يخلو من النّظر
2 - إن كان ليس معي فالذّكر منه معي ... يراه قلبي وإن قد غاب عن بصري
شغل القلب
[من المنسرح] [28] (28)
1 - شغلت قلبي بما لديك فما ... ينفكّ طول الحياة من فكري
2 - آنستني بالوداد منك وقد ... أوحشتني من تخلّط البشر
3 - ذكرك لي مؤنس يعارضني ... يؤذنني منك عنك بالظّفر
4 - وحيثما كنت يا مدى هممي ... فأنت منّي بموضع النّظر
__________
(25) [25] ينسب البيت إلى أبي العتاهية في ديوانه ص 175، كما تنسب إلى عبد الله بن معاوية الطالبي.
(26) [26] الأبيات لمجهول من الشعر السائر.
(27) [27] ينسب البيتان إلى قطرب اللغوي.
(28) [28] الأبيات لرويم في التعرف لمذهب أهل التصوف ص 127.(1/179)
فلولا وجودي لم يكن ثم نازل ... كما أنه بي كان عين التنزّل
وقد علمت أسماؤه أنّ ذاتنا ... بعلم صحيح أنها خير منزل
تخيلت أني سامع وحي قوله ... فشاهدت من أوحى السميع لمقولي
فقلت أنا عين المقول فقال لي ... تأمل فليس المقول عني بمعزل
فثبت عندي أنه القول مثلما ... هو السمع فالأمران منه له ولي
وإني وإن كنت المبلغ وحيه ... إلى كل ذي سمع فلست بمرسل
ولكنني في رتبة القوم وارث ... بحال وعقد ثم قول مفصّل (1)
وقل تابع إن شئت فالقول واحد ... ولا تبتدع قولا فلست بأفضل
به ختم الله الشرائع فاعلمن ... ولا تعملن يا صاح في غير معمل
وما انقطع الوحي المنزل بعده ... ولكن بغير الشرع فاعلمه واعمل
تصرّفت الأرواح بيني وبينه ... بشرق وغرب في جنوب وشمأل
وما أنا ممن قيّد الحب قلبه ... بليلي ولبنى أو دخول ومأسل (2)
ألا إنّ حبي مطلق الكون ظاهر ... بصورة من يهواه منه تخيلي (3)
وما لي منه ما أقيده به ... سوى ما شهدنا منه عند التمثل
كمريم إذ جاء البشير ممثلا ... على صورة مشهودة في التبعل
فألقى إليها الروح روحا مقدّسا ... يسمى بعيسى خير عبد ومرسل (4)
فلم أدر هل بالذات كان وجود ما ... رأيت بها أو كان عند تأمل
أنا واقف فيه إلى الآن لم أقل ... بما هو إلا أن يقول فينجلي
وقلت له لا بدّ إن كنت قاطعا ... وجودي على التحقيق منك فأجمل
فإني ورب البيت لست من الذي ... إذا قال قولا كان فيه بمؤتل (5)
كمثل ابن حجر حين قال بجهله ... لمحبوبة كانت له عند حومل (6)
وإن كنت قد ساءتك مني خليقة ... فسلّي ثيابي من ثيابك تنسل (7)
__________
(1) العقد: عقد السر، هو ما يعتقد العبد بقلبه بينه وبين الله تعالى أن يفعل كذا أو لا يفعل كذا.
(2) ليلى ولبنى اسما علم مؤنثان. الدّخول ومأس: موضعان. يريد أنه لم يتمكن منه حب النساء، ولم يبك عليهن أو يقف على أطلالهن.
(3) يريد أن حبه غير مقيد بل هو للكون مطلقا.
(4) يشير في هذا البيت والذي سبقه إلى حمل مريم بعيسى، وإلى نزول جبريل لينفخ فيها من الروح.
(5) مؤتل: من قولك أتل يأتل إذا قارب الخطو في غضب.
(6) يتهم ابن حجر العسقلاني بالجهل. ابن حجر هو أحمد بن علي بن محمد الكناني، حافظ محدث كثير التصانيف. مات بالقاهرة سنة 852هـ.
(7) البيت في ديوان امرىء القيس ص 37. وفيه «وإن تك قد».(1/180)
قافية السين
[من البسيط] [29] (29)
1 - والله ما طلعت شمس ولا غربت ... إلّا وحبّك مقرون بأنفاسي
2 - ولا جلست إلى قوم أحدّثهم ... إلّا وأنت حديثي بين جلّاسي
3 - ولا ذكرتك محزونا ولا فرحا ... إلّا وأنت بقلبي بين وسواسي
4 - ولا هممت بشرب الماء من عطش ... إلّا رأيت خيالا منك في الكاس
5 - ولو قدرت على الإتيان جئتكم ... سعيا على الوجه أو مشيا على الرّاس
6 - ويا فتى الحيّ إن غنّيت لي طربا ... فغنّني واسفا من قلبك القاسي
7 - ما لي وللنّاس كم يلحونني سفها ... ديني لنفسي ودين النّاس للنّاس
قافية الضاد
[من مجزوء الكامل] [30] (30)
1 - يا عوضي من عوضي ... وصحّتي من مرضي
2 - يا من هواه دائما ... في مهجتي لا ينقضي
3 - هيّمت قلبي سيّدي ... والقلب بالقفل رضي
4 - أفنيتني أضنيتني ... قلبي بذكرك قد رضي
__________
(29) [29] البيتان الخامس والسابع لأبي نواس في ديوانه ص 265، والخامس للعباس بن الأحنف في ربيع الأبرار 2/ 585، وقدم للأبيات الدكتور بسيوني في نشأة التصوف ص 207بقوله:
(وتصور الصوفية ملازمة الحب لا على أنها شيء تكميلي ثانوي، بل هي في تصورهم داخلة في تركيبهم، تسري في أبدانهم سريان الروح والحلاج يصور الملازمة في الأبيات التالية تصويرا دقيقا، حين يطبع بها الزمان، ويخلطها بكل المشاعر والأحاسيس).
(30) [30] شعر عامي على لسان الحال.(1/180)
قافية العين
[من الكامل] [31] (31)
1 - النّفس بالشّيء الممنّع مولعه ... والحادثات أصولها متفرّعه
2 - والنّفس للشّيء البعيد مريدة ... ولكلّ ما قربت إليه مضيّعه
3 - كلّ يحاول حيلة يرجو بها ... دفع المضرّة واجتلاب المنفعه
قافية الفاء
[من الكامل] [32] (32)
1 - ما لي جفيت وكنت لا أجفى ... ودلائل الهجران لا تخفى
2 - ما لي أراك نسيتني بطرا ... ولقد عهدتك تذكر الإلفا
3 - وأراك تمزجني وتشربني ... ولقد عهدتك شاربي صرفا
التنين
عن أبي الحسن الحلواني قال: حضرت الحلّاج يوم وقعته، فأتي به مسلسلا مقيّدا وهو يتبختر في قيده، وهو يضحك ويقول:
[من الهزج] [33]
1 - نديمي غير منسوب ... إلى شيء من الحيف
2 - سقاني مثلما يشر ... ب، فعل الضيّف بالضيّف
3 - فلمّا دارت الكأس ... دعا بالنّطع والسّيف
4 - كذا من يشرب الرّا ... ح مع التّنّين في الصّيف
__________
(31) [31] الأبيات لأبي العتاهية في ديوانه ص 234، 235.
(32) [32] وردت الأبيات في تاريخ بغداد 8/ 131، 132، وتنسب إلى الحسين بن الضحاك الخليع في ديوانه ص 81، وتنسب إلى أبي نواس في أخبار أبي نواس لابن منظور 1/ 218.(1/181)
وهيهات كيف السل والثوب واحد ... فممن وعيني ليس غير مؤمل
بذلت له جهدي على القرب والنوى ... وكانت حياتي بالمنى والتعلل
وهذا محال أن يكون فإنني ... حقيقة من أهواه من غير فيصل
توليت عنهم حين قالوا بأنهم ... سواي فما أعطيتهم في تململي
أغرّك إقبالي بصورة معرض ... كذلك إعراضي بصورة مقبل
فمكري كمر الله إن كنت عالما ... فمهما تشا فأمر فؤادي يفعل (1)
أبيت لعز أنت فيه محقق ... على كلّ عقد كان إلا تذللي
فو الله ما عزي سوى عين ذلتي ... فإن شئت فاعلم ذاك أو شئت فاجهل
ووالله ما عزي سوى ذلتي التي ... يكون لها فضل لكلّ موصل
كذا قال بسطامينا في شهوده ... بعلم صحيح ما به من تحيّل (2)
فإنّ وصالي ليس لي بحقيقة ... وإنّ فصالي حاكم بالتوسّل
فما لي من وصل سوى ما ذكرته ... ففقري وذلّي فيه عين التوصّل
دليلي على ما قلت في ذاك أنني ... إذا جئت أسكن قيل لي قم ترحل
وما هي إلا من شؤونك رحلتي ... وما الشان الأغلى قدر بمرجل
فأسفله أعلاه والعلو سافل ... فقل ما تشاء واحمله في كلّ محمل
يسع حمله فالحال حالي وإنه ... بريء فلا تعدل به غير معدل
ونزّه وجود الحقّ عن كل حادث ... فإن وجود الحق كوني فضلل
فما علمنا بالله إلا تحير ... كذا جاءنا في محكم الذكر واسأل
فكن عبد قنّ لا تكن عبد نعمة ... وإن هو ولّاك الأمور فلا تل
فما ثم إلا العرض ما ثم فيصل ... فقد أغلق الباب الذي كان للولي
أراح به الأتباع أتباع رسله ... فكم بين معلول وبين معلل
فما العلة الأولى سوى العلة التي ... هي القمر العالي على كل معتلي
أنا أكرم الأسلاف في كل مشهد ... أعين فيه من معمّ ومخول
فوالدنا من قد علمتم وجوده ... ولم تعلموا ما هو لمنصبه العلي
وأميّ التي ما زلت أذكرها لكم ... من النفس العالي النزيه المكمل
بهم كنت في أهل الولاية خاتما ... فكلّ وليّ جاء من بعدنا يلي
فيحصل فيه نائبا عن ولايتي ... بذا قال أهل الكشف عن خير مرسل (3)
__________
(1) المكر للإنسان: الخديعة، والمكر بإضافته إلى الله تعالى: المجازاة والإبتلاء.
(2) بسطامينا: هو أبو يزيد طيفور البسطامي، كان زاهدا رفيع الحال مات سنة 261هـ.
(3) الكشف: الاطلاع على ما وراء الحجاب من المعاني الغيبية.(1/181)
قافية القاف
دم العشاق
[من الخفيف] [34] (34)
1 - لا تعرّض لنا، فهذا بنان ... قد خضبناه من دم العشّاق
قافية الكاف
حب الفناء
[من المجتث] [35] (35)
1 - أجريت فيك دموعي ... والدّمع منك إليك
2 - وأنت غاية سؤلي ... والعين وسنى عليك
3 - فإن فنى فيك بعضي ... حفظت منك لديك
شواهد الحق
[من البسيط] [36] (36)
1 - ما إن ذكرتك إلّا همّ يقتلني ... ذكري، وسرّي وقلبي عند ذكراكا
2 - حتّى كأنّ رقيبا منك يهتف بي: ... إيّاك، إيّاك والتّذكار إيّاكا
3 - أما ترى الحقّ قد لاحت شواهده ... وواصل الكلّ من معناه معناكا
__________
(34) [34] من إنشاد أبي بكر السمعاني الواعظ.
(35) [35] لمجهول على لسان الحال في «تقييد بعض الحكم والأشعار».
(36) [36] لأبي الحسين النوري.(1/182)
كعيسى رسول الله بعد محمد ... فأنزله الرحمن منزلة الولي
فيحكم فينا من شريعة أحمد ... ويتبعه في كلّ حكم منزل
وقال أيضا:
ألا إنّ أمر الله أمر رسوله ... فإنّ رسول الله عنه يترجم
وما هو إلا واحد بعد واحد ... يكون على شرع به الله يحكم
وذلك عين الحقّ في كلّ شرعة ... ومنهاجه والكلّ منه ومنهم
على حسب الوقت الذي يقتضي له ... فيطلبه حالا كما جاء عنهم
فتختلف الآيات والأمر واحد ... فإنّ الإله الحقّ بالوقت أعلم
وأعجب من هذا الكلام بنظرة ... فيفهم عني ما أقول وأفهم
وما ثمّ لفظ يدرك السمع حرفه ... وأدري بأني ناطق ومكلّم
وما ثم صوت لا ولا ثم أحرف ... كما قال قبلي ناظم متقدّم
تكلم منا في الوجوه عيوننا ... فنحن سكوت والهوى يتكلم
فألسنة الأحوال أفصح ناطق ... لها يسمع القلب الذكيّ ويفهم
علوم رسول الله ضرب منزّه ... عن الحدّ والتكييف والكلّ معلم
وكلّ كلام من حروف تعينت ... مخارجها يدريه عرب وأعجم
سماعا ولا يدري الذي جاءهم به ... إذا جهل للحن الذي هو مفهم
إذا حكم المجلّي عليه بصورة ... فمستلزم أحكامها فهي تحكم
فلا تفزعن إلا إليها فإنها ... هي الحكم الأعلى الإمام المقدّم
الا من هنا قد جاء في أي صورة ... يشاء إلهي ركّب الخلق فاعلموا (1)
إذا قلت ذا حقّ فقل بحقيقة ... بصاحبه إنّ الحقائق تعصم
بذا نطقت أرساله عن شهودها ... وما منهم إلا رسول محكم
وكيف يرى حقّ بغير حقيقة ... لها في وجود الحقّ حكم مترجم
حقيقة عين الحقّ رؤية ذاته ... بها جوده يسدي إليّ وينعم
وما كون حقي غير كون حقيقتي ... ولكنها الألفاظ بالفرق توهم
وقال أيضا:
هنيت بالشهر بل هنى بي الشهر ... وما له بالذي يجري به أمر
له التصرف في الأركان أجمعها ... والحكم في يده والنفع والضرّ
وما له خبر بما يكوّنه ... عنه الإله العليم الواحد البرّ
__________
(1) إشارة إلى الآية: {فِي أَيِّ صُورَةٍ مََا شََاءَ رَكَّبَكَ} سورة الانفطار، آية: 8.(1/182)
لو أنّ يونس والحيتان تطلبه ... يكون من مكة لم يدر ما البحر
لطمنا بالذي أعطت معالمها ... من الذي أخبرت بكونه الزهر
فإنّ ربك أوحى أمرها بكذا ... فيها وما عندها ذوق ولا خبر
مسخرات بأمر الله ليس لها ... إلا الشهادة والتسبيح والذكر
بألسن ما لنا فقه بما نطقت ... لأنّ حاجبها الحكم والفقر
تثني عليه بطبع فيه قد جبلت ... وما لها في الذي تثني به فكر
بالله عالمة لله قائمة ... في الله جاهدة في أمره الأمر
قال الخليل بها سترا محكمة ... وحجة للذي أودى به الفكر
وقد أتاها رسول الله وهو بها ... أدرى وأعلم فهو العالم البحر
وما له في الذي يدريه من حكم ... مثل يعادله عبد ولا حر
القل دان له والكثر دان له ... فليس يعجزه قلّ ولا كثر
الله أعظم أن يحظى به أحد ... وكيف يحظى بمن رداؤه الكبر
الكبرياء وما تحصى عوارفه ... وليس يدري لها بجهلهم قدر
إنّ العوارف أستار المعارف لا ... يدخلك في ذاك إشكال ولا نكر
فعندها العجز عن إحصائها عددا ... وعندها أنها النائل النّزر (1)
خزائن الجود ما انسدّت مغالقها ... لو انتهت لانتهى في العالم الفقر
وفقره دائم لا ينتهي أبدا ... كذاك نائله لا ينقضي عمر
الفقر بالذات ذاتيّ لصاحبه ... ولو يدوم له من ربّه اليسر
ما قلت إلا الذي قال الإله لنا ... فينا ففي كلّ يسر مدرج عسر
إن الإله بلا حد يحدّدنا ... مع الزمان لذا كان اسمه الدهر (2)
لله قوم ذوو أعلم مقامهم ... الشمس والتين والأحقاف والفجر
هم النجوم التي الأفلاك مركبها ... لا بل أقول هم الأحجار والتّبر
حازوا الكمال فلم يظفر بهم أحد ... غيري لأنهم الأشفاع والوتر
سكرى حيارى تراهم في محاربهم ... وما لهم في سوى مطلوبهم فكر
قد استوى عندهم من ليس يعرفهم ... مع العليم بهم والسرّ والجهر
هم الوجود ولكن لا وجود لهم ... فليس يحجبهم نفع ولا ضر
لهم من الفلك العلويّ صورته ... ومن ثرى الأرض ما يأتي به الزهر
من المطاعم والأنهار شربهم ... الماء والعسل النحليّ والخمر
وشربهم لبن يأتي به بقر ... هذا شرابهم مما له ذرّ
__________
(1) النزر: القليل. النائل: العطاء.
(2) الدهر قد يعد في أسماء الله تعالى.(1/183)
حسرات
[من البسيط] [37]
1 - كم حسرة فيك لي غصّت مرارتها ... جعلت قلبي لها وقفا لبلواكا؟!
2 - وحقّ ما منك يضنيني وينعشني ... لأبكيّنك أو أحظى بلقياكا
شغل الجوارح
[من الخفيف] [38] (38)
1 - ليس تخلو جوارحي منك وقتا ... هي مشغولة بحمل هواكا
2 - ليس يجري على لساني شيء ... علم الله ذا سوى ذكراكا
كأس العاشقين
[من البسيط] [39] (39)
1 - الكأس سهّلت الشّكوى فبحت بكم ... وما على الكأس من شرّابها درك
2 - هبني ادّعيت بأنّي مدنف سقم ... فما لمضجع جنبي كلّه حسك
3 - هجر يسوء ووصل لا أسرّ به ... ما لي يدور بما لا أشتهي الفلك
4 - فكلّما زاد دمعي زادني قلقا ... كأنّني شمعة تبكي فتنسبك
قافية اللام
[من الخفيف] [40]
1 - ادن منّي ولا تخافنّ غدري ... ليس يخشى الخليل غدر الخليل
2 - إنّ أدنى الذي ينالك منّي ... ستر ما يتّقى وبثّ الجميل
__________
(38) [38] لأبي بكر الشبلي في ديوانه ص 117، وتاريخ بغداد 14/ 390، 391.
(39) [39] نسبها ماسينيون إلى أبي العتاهية، وليست في ديوانه، كما نسبها إلى العباس بن الأحنف.(1/183)
ويأكلون طعاما ما له صفة ... منزّه الطعم لا حلو ولا مرّ
مقامهم ما هم فيه وحالهم ... ما يشتهون فهم بهالل غرّ
لا يجهلون ولا تدري مقاصدهم ... سكناهم المجلس المعمور والقبر
خرس إذا نطقوا عمي إذا نظروا ... صمّ إذا سمعوا إيمانهم كفر
لا يهتدون ولا يهدون صاحبهم ... عمار أندية كثبانها حمر (1)
وقال أيضا في نظم التوشيح وله رأس:
مطلع يا صاح إنّ القلوب ... أضحت بسرّ الغيوب ... في نعيم
دور ما عندي إلّا الذي
قد قاله التّرمذي (2)
للعالم الجهبذي (3)
إني إذا ما أتوب ... إليه لا من ذنوب ... لا أقيم
دور لم يدر ما قالها
إلا الذي نالها
فلا تقل ما لها
فيها لسرّ الحبيب ... معنى بديع عجيب ... مستقيم
دور بالله يا ظلتي
إن كنت لي قبلتي
فأنت من جملتي
فاعمل عليه تصيب ... فأنت فيه المصيب ... في العموم
__________
(1) كثبان: جمع كثيب وهو التل من الرمل.
(2) التّرمذي: محمد بن علي صاحب التصانيف، كتب الحديث ورواه، مات سنة 296هـ.
(3) الجهبذي: نسبة إلى جهبذ: نقّاد خبير.(1/184)
هجران
[من المجتث] [41] (41)
1 - إذا هجرت فمن لي؟ ... ومن يجمّل كلّي
2 - ومن لروحي وراحي ... يا أكثري وأقلّي
3 - أحبّك البعض مني ... وقد ذهبت بكلّي
4 - يا كلّ كلّي فكن لي ... إن لم تكن لي فمن لي؟
5 - يا كلّ كلّي وأهلي ... عند انقطاعي وذلّي
6 - ما لي سوى الرّوح، خذها ... والرّوح جهد المقلّ
قافية الميم
[من الطويل] [42] (42)
1 - بدا لك سرّ طال عنك اكتتامه ... ولاح صباح كنت أنت ظلامه
2 - وأنت حجاب القلب عن سرّ غيبه ... ولو لاك لم يطبع عليه ختامه
ترك السلام
[من الكامل] [43]
1 - يا ذا الّذي ترك السّلام تجنّبا ... ليس السّلام بضائر من سلّما
2 - إنّ السّلام تحية مبرورة ... ليست لتكسب قائليها مأثما
عهد قديم
[من مجزوء الرمل] [44]
1 - لم تغيّره رسوم ... لا ولا عهد قديم
2 - سمة الوجد عليه ... وهو بالوجد يهيم
__________
(41) [41] على لسان الحلاج، وربما كانت له.
(42) [42] ذكر ماسينيون أنهما لابن العريف الصنهاجي، الذي كان من أساتذة ابن عربي.(1/184)
دور إنّ الصيود ترى
في جوف هذا الفرا
ما فيه من افترا
فإنه ما يخيب ... عند اللبيب الأريب ... القويم (1)
دور لو أنّ بدرا بدا
لم يتركني سدا
وجاءني ابتداء
بكل معنى غريب ... فيه غذاء الأديب ... والنديم
دور إنّ القلوب التي
عن الهدى دلّت
ما هي من ملتي
تروح عند الغروب ... لما دعاه القريب ... بالقيم
دور لله نور بدا
في المرتدي والردا
به الوليّ اهتدى (2)
شبابه كالمشيب ... إذا دعاه الحبيب ... القديم
دور فما له من شبيه
عند العليم النبيه
قد حرت فيّ وفيه
أراه عند الكثيب ... من غير شك مريب ... كالحميم
__________
(1) الأريب: العاقل.
(2) الولي: هو من يتولى الله سبحانه أمره فلا يكله إلى نفسه لحظة، ومن يتولى عبادة الله وطاعته.(1/185)
حشو القلب
[من مجزوء الرمل] [45] (45)
1 - كلّ حبّ حشو قلبي ... غير حبّيك حرام
2 - أنت لي روح وراح ... أنت زهر ومدام
3 - وسرور وهموم ... وشفاء وسقام
4 - فعلى كلّ هوى بع ... د هوى فيك سلام
نعيّ
ذكر عن قاضي القضاة أبي بكر بن الحدّاد المصريّ قال: لمّا كانت الليلة التي قتل في صبيحتها الحلّاج، قام واستقبل القبلة متوشّحا بردائه، ورفع يديه، وتكلّم بكلام كثير جاوز الحفظ. فكان ممّا حفظته منه أن قال:
نحن بشواهدك نلوذ، وبسنا عزّتك نستضيء، لتبدي ما شئت من شأنك.
وأنت الذي في السماء عرشك، وأنت {الَّذِي فِي السَّمََاءِ إِلََهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلََهٌ}.
تتجلّى كما تشاء مثل تجلّيك في مشيئتك كأحسن صورة، والصورة فيها الروح الناطقة بالعلم والبيان والقدرة والبرهان. ثم أو عزت إلى شاهدك الأنّي في ذاتك الهويّ. كيف أنت إذا مثّلت بذاتي، عند عقيب كرّاتي ودعوت إلى ذاتي بذاتي، وأبديت حقائق علومي ومعجزاتي، صاعدا في معارجي إلى عروش أزلياتي، عند القول من بريّاتي. إنّي أخذت، وحبست، واحضرت، وصلبت، وقتلت، وأحرقت واحتملت السافيات الذاريات أجزائي. وإنّ لذرّة من ينجوج مظانّ هاكول متجلّياتي أعظم من الراسيات. ثم أنشأ يقول:
[من البسيط] [46] (46)
1 - أنعى إليك نفوسا طاح شاهدها ... فيما ورا الحيث يلقى شاهد القدم
2 - أنعى إليك قلوبا طالما هطلت ... سحائب الوحي فيها أبحر الحكم
3 - أنعى إليك لسان الحقّ مذ زمن ... أودى وتذكاره في الوهم كالعدم
4 - أنعى إليك بيانا تستكين له ... أقوال كلّ فصيح مقول فهم
5 - أنعى إليك إشارات القلوب معا ... لم يبق منهنّ إلّا دارس الرّمم
__________
(45) [45] قيلت على لسان حال الحلاج.
(46) [46] وردت الأبيات في تاريخ بغداد 8/ 130، وتنسب أيضا إلى أبي الحسين النوري «البغوي».(1/185)
6 - أنعى وحقّك أخلاقا لطائفة ... كانت مطاياهم من مكمد الكظم
7 - مضى الجميع فلا عين ولا أثر ... مضيّ عاد وفقدان الألى إرم
8 - وخلّفوا معشرا يجرون لبستهم ... أعيا من البهم بل أعيا من النّعم
رضا الحبيب
[من البسيط] [47] (47)
1 - إنّ الحبيب الذي يرضيه سفك دمي ... دمي حلال له في الحلّ والحرم
2 - إن كان سفك دمي أقصى مرادكم ... فلا عدت نظرة منكم بسفك دمي
3 - والله لو علمت روحي بمن علقت ... قامت على رأسها فضلا عن القدم
4 - يا لائمي، لا تلمني في هواه فلو ... عاينت منه الذي عاينت لم تلم
5 - يطوف بالبيت قوم لا بجارحة: ... بالله طافوا فأغناهم عن الحرم
6 - ضحّى الحبيب بنفس يوم عيدهم ... والنّاس ضحّوا بمثل الشّاء والنّعم
7 - للنّاس حجّ ولي حجّ إلى سكني: ... تهدى الأضاحي وأهدي مهجتي ودمي
تفكر
[من الوافر] [48] (48)
1 - لئن أمسيت في ثوبي عديم ... لقد بليا على حرّ كريم
2 - فلا يحزنك أن أبصرت حالا ... مغيّرة عن الحال القديم
3 - فلي نفس ستتلف أو سترقى ... لعمرك بي إلى أمر جسيم
ندم
[من مجزوء الوافر] [49] (49)
1 - إلى حتفي سعى قدمي ... أرى قدمي أراق دمي
2 - فما أنفكّ من ندمي ... وهان دمي فها ندمي
__________
(47) [47] من الشعر الاجتماعي السائر، وهي لمجهول.
(48) [48] الأبيات للحلاج في تاريخ بغداد 8/ 117، وحماسة الظرفاء 1/ 186، ونسبها الوطواط إلى سمنون المحب.
(49) [49] لأبي الفتح البستي في ديوانه ص 164، ويتيمة الدهر 4/ 326.(1/186)
وقال أيضا في نظم التوشيح المرؤس:
مطلع حاز مجدا سنيّا ... من غدا لله برا تقيّا
دور بقديم العنايه
لرجال الولايه (1)
لاح نور الهدايه
لاح شيا فشيا ... حين خرّوا سجّدا وبكيا
دور زلزلت أرض حسّي
وفني عين نفسي (2)
وبدا نور شمسي
دور وغدا الروح حيّا ... للكبير المتعالي نجيّا
دور يا منير القلوب
بشموس الغيوب (3)
نفحات الحبيب
تتوالى عليّا ... فتريني الحقّ طلق المحيّا
دور يا لطيفا بعبده
وكريما برفده
ووفيّا بعهده
أعط عبدا رزيا ... أنه ما جاء شيّا فريا
__________
(1) الولاية: قيل: الولاية تولى الحق سبحانه وتعالى عبده بظهور أسمائه وصفاته عليه.
(2) الفناء: قالوا: الفناء هو تبديل الصفات البشرية بالصفات الإلهية دون الذات. وقيل: الفناء سقوط الأوصاف المذمومة. والعين: إشارة إلى ذات الشيء الذي تبدو منه الأشياء.
(3) الشمس هو النور، ويرون بأن الشمس مظهر الألوهية ومجلى لتنوعات أوصافه المقدسة النزيهة.(1/186)
[من الخفيف] [50] (50)
1 - أنت في حلّ وفي سعة ... من دمي، يا من أراق دمي
2 - عظم حبّي واحتراقي جوى ... جعلاني لا أرى قدمي
قافية النون
عيون قلوب العاشقين
[من الطويل] [51] (51)
1 - قلوب العاشقين لها عيون ... ترى ما لا يراه النّاظرونا
2 - وألسنة بأسرار تناجي ... تغيب عن الكرام الكاتبينا
3 - وأجنحة تطير بغير ريش ... إلى ملكوت ربّ العالمينا
4 - وترتع في رياض القدس طورا ... وتشرب من بحار العارفينا
5 - فأورثنا الشّراب علوم غيب ... تشفّ على علوم الأقدمينا
6 - شواهدها عليها ناطقات ... تبطّل كلّ دعوى المدّعينا
7 - عباد أخلصوا في السّرّ حتّى ... دنوا منه وصاروا واصلينا
كتم العلم عن الجاهل
[من البسيط] [52] (52)
1 - إنّي لأكتم من علمي جواهره ... كي لا يرى العلم ذو جهل فيفتتنا
2 - وقد تقدّم في هذا أبو حسن ... إلى الحسين ووصّى قبله الحسنا
3 - يا ربّ جوهر علم لو أبوح به ... لقيل لي: أنت ممّن يعبد الوثنا
4 - ولاستحلّ رجال مسلمون دمي ... يرون أقبح ما يأتونه حسنا
__________
(50) [50] لمجهول قصد معارضة القطعة السابقة المروية للبستي.
(51) [51] مطلع القصيدة للحلاج، ورويت بعض أبياتها لسهل بن عبد الله. انظر حلية الأولياء 10/ 200 وقارن بالقطعة التي تقدمت برقم (65) في شعره الصحيح.
(52) [52] الأبيات في تاريخ بغداد 1/ 488، ونسبها ابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة إلى الحلاج.(1/187)
دور في الفنا عن فنائي
يبدو سرّ الرداء
والسنا والسناء
صمدا سرمديّا ... أحديا أزليا عليّا (1)
دور من لصبّ كئيب (2)
مستهام غريب
يدعو شمس القلوب
لو أنادي إليا ... قلب عبد لم يزل بي غنيا
دور ضاع قلبي لديه
مرّ عقلي إليه
مستغيثا عليه
وأخذ من يديّا ... قلت مني فأخبروا عليا
قال أيضا من نظم التوشيح المروس:
مطلع يا طالب العلم بالأسرار ... هيهات لا تكشف الأسرار (3)
دور إلا لمن أخذ القزديرا
ودسّ في ذاته الإكسيرا (4)
ليقلب العين والتصويرا
شمسا تلوح لذي الأبصار ... وليس تدركها الأبصار (5)
__________
(1) السرمدي: الدائم، وما لا أول له ولا آخر، هي صفة من صفات الله تعالى.
(2) الصب: المحب.
(3) الأسرار: هي ما يختص بكل شيء من جانب الحق عند التوجه الإيجادي إليه.
(4) القزدير: من المعادن. الإكسير: الكيمياء.
(5) الشمس: يعني النور. نور الهداية.(1/187)
دور يا سائلي عن مقام الروح
وهل تضاهي لنور يوح
اسلك بديت سبيل نوح
ما زال يولع بالأنوار ... حتى تجلّت له الأنوار
دور لما رأيت بها إدريسا
شبهته بالنبيّ عيسى
محبي الصدا وأخاه موسى
يهدي إلى منزل الأبرار ... ما تشتهيه به الأبرار
دور لما تحققت بالأنواء (1)
وقد تلاعبت بالأهواء
تلاعب الفعل بالأسماء
لما تحققت بالإيثار ... علمت ما أعطت الإيثار (2)
دور يا سائلي أين حظّ الجسم
وروحه من حظوظ الرسم (3)
فقال لي حظه في الاسم
من يبتغي العلم بالأفكار ... حارت في مطلبه الأفكار
وقال أيضا:
إن سرّي هو قولي ... إنني عين وجوده (4)
وإذا أبصر عيني ... أنني عين شهوده (5)
__________
(1) الأنواء: جمع النّوء: النجم مال للغروب.
(2) الإيثار: من أخلاق الصوفية.
(3) الرسم: هو الخلق وصفاته لأن الرسوم هي الآثار.
(4) السر: لطيفة مودعة في القلب كالروح في البدن. والعين: يعني ذات الشيء الذي تبدو منه الأشياء.
الوجود: يعني فقدان العبد بمحاق أوصاف البشرية ووجود الحق.
(5) الشهود: أن يرى حظوظ نفسه، وتقابله الغيبة.(1/188)
العيش بعد الفناء
[من الرمل] [53] (53)
1 - قل لمن يبكي علينا حزنا ... افرحوا لي قد بلغنا الوطنا
2 - إنّ موتي هو حياتي، إنّني ... أنظر الله جهارا علنا
3 - من بنى لي دار في دنيا البقا ... ليس يبنى دار في دنيا الفنا
4 - إنّما الموت عليكم راصد ... سوف ينقلكم جميعا من هنا
5 - أنا عصفور وهذا قفصي ... كان سجني وقميصي كفنا
6 - فاشكر الله الّذي خلّصنا ... وبنى لي في المعالي مسكنا
7 - فافهموا قولي ففيه نبأ ... أيّ معنى تحت قولي كمنا
8 - وقميصي قطّعوه قطعا ... ودعوا الكلّ دفينا زمنا
9 - لا أرى روحي إلا أنتم ... واعتقادي أنّكم أنتم أنا
الأسر
[من الكامل] [54] (54)
1 - وبدا له من بعد ما اندمل الهوى ... برق تألّق موهنا لمعانه
2 - يبدو كحاشية الرّداء، ودونه ... صعب الذّرى متمنّع أركانه
3 - فدنا لينظر كيف لاح فلم يطق ... نظرا إليه، وصدّه سجّانه
4 - فالنّار ما اشتملت عليه ضلوعه ... والماء ما سحّت به أجفانه
ذكرتك لأني نسيتك
[من الطويل] [55] (55)
1 - ذكرتك لأنّي نسيتك، سيّدي ... وأيسر ما في الذكر ذكر لساني
2 - وكدت من الأسرار أخفى عن الورى ... وهاج عليّ القلب بالخفقان
__________
(53) [53] على لسان الحال مجاراة للحلاج وتضمينا لقصيدة ابن المسفر التي نسبت إلى السهروردي والغزالي. انظر «الحلاج موضوعا للآداب والفنون العربية والشرقية قديما وحديثا» ص 35، 36.
(54) [54] للحلاج في مصارع العشاق 1/ 244، ولأبي عبد الله محمد بن صالح العلوي في الأغاني 16/ 361، وغنتهما مغنية في مصارع العشاق 1/ 170.
(55) [55] للشبلي في ديوانه ص 127، وتاريخ بغداد 4/ 390.(1/188)
3 - فلما أراني الشّوق أنك حاضري ... شهدتك موجودا بكلّ مكان
4 - وخاطبت موجودا بغير تكلّم ... ولا حظت معلوما بعير عيان
5 - وإخوان صدق قد سمعت حديثهم ... وأقصيت عنهم خاطري وجناني
6 - وما الدّهر أسلى عنهم غير أنّني ... أراك على كلّ الجهات تراني
رماني بالصدود
[من الوافر] [56] (56)
1 - رماني بالصّدود كما تراني ... وألبسني الغرام وقد براني
2 - ووقتي كلّه حلو لذيذ ... إذا ما كان مولائي يراني
3 - رضيت بصنعه في كلّ حال ... ولست بكاره ما قد رماني
4 - فيا من ليس يشهد ما أراه ... لقد غيّبت عن عين تراني
البلاء
[من مخلّع البسيط] [57] (57)
1 - كلّ بلاء عليّ منّي ... فليتني قد أخذت عنّي
2 - أردت منّي اختبار سرّي ... وقد علمت المراد منّي
3 - وليس لي في سواك حظّ ... فكيفما شئت فامتحنّي
أنت في القلب
[من الخفيف] [58] (58)
1 - أنت في القلب والجوانح تجري ... مثل جري الدّموع في الأجفان
2 - كلّ عضو منّي يراك على القر ... ب بعيني عيانه عن عيان
3 - فإذا اشتقت أن أراك ... تمثلتك عندي بغير كلّ مكان
4 - لا لأني أنساك أكثر ذكرا ... ك ولكن بذاك يجري لساني
__________
(56) [56] على لسان الحال لمجهول.
(57) [57] لسمنون المحب.
(58) [58] هذه القطعة لها علاقة بالقطعة رقم 70من شعر أبي بكر الشبلي.(1/189)
وبذا يكون شكري ... إن شكرت من مزيده
أقرب الأمر لكوني ... من يكن حبل وريده
فأنا بين مراد ... لحبيبي ومريده (1)
عدم لست وجودا ... مع كوني من عبيده
بوجودي أثبت النا ... ظر عندي عين جوده
وقال أيضا في نظم التوشيح:
مطلع إنني أنا النيّر الغاسق ... مثل ما أنا الصامت الناطق ... إذا كتب (2)
دور تهت بالذي فيّ من مجلى
وأنا به البصر الأجلى
مثل ما أنا المورد الأحلى
لا أخاف من فجأة الطارق ... إنه به الهائم العاشق ... لذا أرغب
دور ربّ وارد جاء من عنده
يطلب الأمانة من عبده
والوفا بما كان من عهده
امتطي الجياد السوابق ... التقي بهيّ الغرانق ... من المطلب (3)
دور أشتهي يريني إجلالي
عند ما يفصّل إجمالي
إنني لك النائب الوالي
أعرف الكذوب من الصادق ... والذي يجيء به الفاسق ... من المذهب
دور قلت للذي كان أوصى به
__________
(1) المريد: من انقطع إلى الله عن نظر واستبصار وتجرد عن إرادته.
(2) الغاسق: الداخل في أول الليل وهو الغسق.
(3) الغرانق: جمع الغرنوق: طائر مائي أسود وقيل أبيض. أما الغرانق: فالشاب الأبيض الجميل.
عند ما نسكت بانصبابه
حلوه مزجت بأوصابه (1)
أنا والولي المفارق ... بالذي أنا فيه من فارق ... عسى يغلب
دور آمري لقد حرت في أمري
ضاق من هواي فيكم صدري
فعلى على سنتي تجري
أرسل الخيول والسلالق ... هي تجيك براس المنافق ... وبالأريب (2)
وقال رضي الله عنه:(1/189)
دعاء
[من مجزوء المتدارك] [59] (59)
1 - كن لي كما كنت لي ... في حين لم أكن
2 - يا من به صرت بي ... ن الرّزء والحزن
الهجران
[من الدوبيت] [60] (60)
1 - كم ينشرني الهوى وكم يطويني ... يا مالك دنياي ومولى ديني
2 - يا من هو جنّتي ويا روحي أنا: ... إن دام عليّ هجركم يعييني
قافية الهاء
الله يعلم
[من البسيط] [61] (61)
1 - كم دمعة فيك لي ما كنت أجريها ... وليلة لست أفنى فيك أفنيها
2 - لم أسلم النّفس للأسقام تتلفها ... إلّا لعلمي بأنّ الوصل يحييها
3 - ونظرة منك يا سؤلي ويا أملي ... أشهى إليّ من الدّنيا وما فيها
4 - نفس المحبّ على الآلام صابرة ... لعلّ مسقمها يوما يداويها
5 - الله يعلم: ما في النّفس جارحة ... إلّا وذكرك فيها قبل ما فيها
__________
(59) [59] نسبها ماسينيون إلى سمنون المحب.
(60) [60] لمجهول. ولم يعرف عن الحلاج أنه نظم على مثل هذا النوع، فقد ظهر هذا اللون من النظم بعده.
(61) [61] ذكر ماسينيون أن هذه القطعة قيلت على لسان الحال، وأن الحلاج لم يقلها، ولعلها لشبابة بن الوليد العذري من، رجال القرن الثاني الهجري.(1/190)
__________
(3) الغرانق: جمع الغرنوق: طائر مائي أسود وقيل أبيض. أما الغرانق: فالشاب الأبيض الجميل.
عند ما نسكت بانصبابه
حلوه مزجت بأوصابه (1)
أنا والولي المفارق ... بالذي أنا فيه من فارق ... عسى يغلب
دور آمري لقد حرت في أمري
ضاق من هواي فيكم صدري
فعلى على سنتي تجري
أرسل الخيول والسلالق ... هي تجيك براس المنافق ... وبالأريب (2)
وقال رضي الله عنه:
تضلعت من شرب رويّ بلا شرب ... كما أنني أشتهي إلى القلب من قلبي
فإنّ لمقلوبي جمالا يخصّه ... أهيم به وجدا على البعد والقرب
أبيت أناجيه بنومي ممثلا ... وإني إذا استيقظت عدت إلى صحبي
فإن كان عن بين فشوق مجدّد ... وإن كان عن وصل فحسبي إذا حسبي
فإن جاد بالتمثيل في حال يقظتي ... فذلك أحلى لي من المورد العذب
إذا ما رأيت الدار أهوى دخولها ... ولكن على الأبواب أردية أعجب
ومن خلفها البوّاب يسمع وطأتي ... فيغفل عني للذي بي من عجب
كعتبة يزهو بالعبودة عند ما ... تحقق فيها من مساكنة القرب
هي الأمّ سماها ذلولا لخلقه ... وقد أعرضت عني كإعراض ذي ذنب
حياء وأعطتنا مناكب نظمها ... فنمشي بها عن أمر خالقها الربّ
إذا كان حال الأمّ هذا فإنني ... لأولى به منها إلى انقضا نحبي
تمنيت منه أن أكون بحالها ... مع الله في عيش هنيء بلا كرب
فياتي وجودي للدعاوى بصورة ... تنزله مني كمنزلة الربّ
وهيهات أين الحقّ من حال خلقه ... بذا جاءت الأرسال منه مع الكتب
لقد أوردت نفسي حديثا معنعنا ... عن الرّوح عن سري عن الله عن قلبي
بأنّ وجودي عينه وهويتي ... هويته فاركب على مركب صعب
فلم يبق فينا مفصل فيه قوّة ... أشاهدها إلا وعينها ربي
فكيف لنا منه وقد صحّ مخلص ... ويعتبني وقتا فأعجب من عتبي
وإنّ له إن حدّث المرء نفسه ... دليلا له فيما ذكرت من العتب
(1) الأوصاب: جمع الوصب: المرض.
(2) الأريب: العاقل.(1/190)
6 - ولا تنفّست إلّا كنت في نفسي ... تجري بك الرّوح منّي في مجاريها
7 - إن كنت أضمرت غدرا أو هممت به ... يوما، فلا بلغت روحي أمانيها
8 - أو كانت العين مذ فارقتكم نظرت ... شيئا سواكم فخانتها أمانيها
9 - أو كانت النّفس تدعوني إلى سكن ... سواك فاحتكمت فيها أعاديها
10 - حاشا، فأنت محلّ النّور من بصري ... تجري بك النّفس منها في مجاريها
أقبل الحق
[من البسيط] [62] (62)
1 - كادت سرائر سرّي أن تسرّ بما ... أوليتني من جميل لا أسميّه
2 - وصاح بالسّرّ سرّ منك يرقبه ... كيف السّرور بسرّ دون مبديه
3 - فظلّ يلحظني سرّي لألحظه ... والحقّ يلحظني أن لا أخلّيه
4 - وأقبل الوجد يفني الكلّ من صفتي ... وأقبل الحقّ يخفيني وأبديه
قافية الألف اللينة
[من المتقارب] [63] (63)
1 - أما والذي لدمي حلّلا ... ومن خصّ أهل الولا بالبلا
2 - لئن ذقت فيك كؤوس الحمام ... لما قال قلبي لساقيه: لا
3 - وما كنت ممّا تشاكى الهوى ... ولو قدّني مفصلا مفصلا
4 - رضيت وحقّك كلّ الرّضى ... إذا كان يرضيك أن أقتلا
5 - فلا عيب إن متّ موت الكرام ... كما مات في الحبّ من قد خلا
__________
(62) [62] لأبي الحسين الثوري، وانظر حلية الأولياء 10/ 253.
(63) [63] لابن غانم المقدسي في مخطوط «شرح الأولياء» بالمتحف العراقي.(1/191)
ألا إنني عبد لمن أنا ربّه ... قضى بالذي قد قلته في الهوى حبي
وقال أيضا:
ألا إنني عبد لمن أنا ربّه ... قضى بالذي قد قلته في الهوى الخبر
إذا كان عين الحقّ عيني وشاهدي ... يكون لنا في العالم الخلق والأمر
فيعرفني من كان في الحق مثلنا ... ومن لم يكن يسرع إلى قلبه النكر
فمن كان علاما بما جئته به ... يكون له من ربه النائل الغمر (1)
ومن قال فيه بالجواز فإنه ... يكون له من نفسه الغلّ والغمر (2)
ومن قال فيه بالمحال فإنه ... هو الظالم المحجوب والجاهل الغمر (3)
لقد طبع الله القلوب بطابع ... من الطبع حتى لا يداخلها الكبر
وكيف يكون الكبر في قلب عاجز ... ذليل له من ذاته العجز والفقر
فسبحان من أحيا الفؤاد بفهمه ... فلن يحجبنه العسر عنه ولا اليسر
تراءيت لي من خلف ستر طبيعتي ... وقد علمت نفسي الذي يحجب الستر
فراكب بحر الطبع بالحال طالب ... ويطلبه من حاله الصبر والشكر
ومن كان في البرّ المشق مسافرا ... تعوّذ من وعثائه العارف الحبر (4)
وقال أيضا:
رأيت الذي قد جاء من أرض بابل ... بعلم صحيح للهوى غير قابل
فقلت له أهلا وسهلا ومرحبا ... فردّ بتأهيل على كلّ آهل
ألا إنّ شرّ الناس من كان أعزبا ... وإن كان بين الناس جمّ الفضائل
وما في عباد الله من هو أعزب ... فيا جاهلا لم تخل مني بطائل
تأمل وجود الأصل إذ شاء كوننا ... فهل كنت إلا بين قول وقائل
فقال لشيء كن فكان لحينه ... عن أمر إله بالطبيعة فاعل
فأرضعني حولين جودا ومنّة ... تماما لكي أربى على كلّ كامل (5)
فثنّى ولم يفرد فعمّ وجودنا ... بحوليه جودا كلّ عال وسافل
__________
(1) النائل: العطاء. الغمر من الناس: الكريم الواسع الخلق. والغمر: معظم البحر.
(2) الغل: العطش. الغمر: قليل التجربة والذي لا خبرة له.
(3) المحجوب: الذي حيل بينه وبين الشيء المطلوب.
(4) الوعثاء: المشقة. العارف: من أشهده الرب عليه فظهرت الأحوال عن نفسه. الحبر: العالم النّحرير.
(5) الارتضاع: ويكون للمريد مع شيخه، وأوانه أوان لزوم الصحبة، والشيخ يعلم وقت ذلك، ولا ينبغي للمريد أن يفارق الشيخ إلا بإذنه.(1/191)
قافية الياء
الحقّ ليس بمدرك
[من الطويل] [64] (64)
1 - وقصّرت عقلي بالهويّة طالبا ... فعاد ضعيفا في المطالب هاويا
2 - وكنت لربّ العالمين نصرة ... فلا تتعجّل في التّطلّب جاريا
3 - تحقّق بأنّ الحقّ ليس بمدرك ... فلا [تله عنه] جاهلا ومرائيا
4 - ولكنّه يبدو مرارا ويختفي ... فيعرفه من كان بالعلم حاليا
__________
(64) [64] على لسان الحال.(1/192)
وفاطمتي ما كانت إلا طبيعتي ... لآخذ عنه العلم من غير حائل (1)
لقد فطمتني والهوى حاكم لها ... عليّ بحب ثابت غير زائل
فما ثمّ إلا عاشق عين ذاته ... عموما وتخصيصا لدى كلّ عاقل (2)
فلو لم يكن لي شاهد غير نشأتي ... على الصورة المثلى كفاني لسائل
بها أقبل الأسماء منه تحققا ... ويقبل آسمائي حكومة عادل
إذا هو ناداني فتى فأجبته ... به عند فصل واصل غير فاصل (3)
لقد قسم الرحمن بيني وبينه ... صلاة على رغم الأنوف الأوائل
فقمت بها والعلم يشهد أنني ... بها بين مفضول يقوم وفاضل
فقال وقلنا والخطوب كثيرة ... فاسمني شرّ الخطوب النّوازل
وما قسم الرحمن إلا كلامه ... فنحكي وما يتلى بغير المقاتل
بذا جاء لفظ العبد فيها لأنه ... غيور فينفي عنه جدّ المماثل
كما جاء في الشورى وفيه تنبّه ... لكلّ لبيب في المحاضر واصل
تمنيت منه أن أفوز بقربه ... فقال تمن حكمه غير حاصل
ومن يقترب منه يجد غير نفسه ... وليس أخو علم بأمر كجاهل
ولو علم الرآؤون ماذا يرونه ... وفيما رأوه لم يفوزوا بنائل
ولكنها الأوهام لم تخل فيهم ... بأحكامها ما بين باد وآفل
فيعطيك زهدا بالأفول ورغبة ... إذا هي تبدو ناجزا غير آجل
تحفظ فإنّ الوهم مدّ شباكه ... وما يبتغي غير النفوس الغوافل
فلا تطمعن في الحبّ فهو خديعة ... أراك لتمشي في حبالة حابل (4)
لذلك كان الزهد أشرف حلية ... تحلّى بها قلب الشجاع المناضل
وقال أيضا:
تعشقت نفسا ما رأيت لها عينا ... وما سمعت أذناي فيها من الخلق (5)
كلاما يؤدّيني إلى حسن عينها ... فعشقي لها بالاتفاق وبالوفق
مناسبة تخفى على كلّ ناظر ... ويعلمها العلّام بالرتق والفتق (6)
أشاهد منها كلّ سرّ محجب ... وما لي فيها غير ذلك من حقّ
__________
(1) للمريد أوان فطام كما له أوان ارتضاع. ففطامه استقلاله بنفسه، ويكون ذلك بأن يفتح الله له باب الفهم.
(2) العشق: أقصى درجات المحبة.
(3) الفصل: فوت الشيء المرجو من المحبوب.
(4) الحبالة: المصيدة.
(5) العين: إشارة إلى ذات الشيء الذي تبدو منه الأشياء.
(6) الفتق: الشق. والرتق ضد الفتق.(1/192)
فهرس قوافي الأشعار
المطلع: القافية: البحر: عدد الأبيات: رقم الصفحة
* * * [ء] * * *
العشق: إبداء: البسيط: 8: 117
لبيك: معنائي: البسيط: 19: 118
ما: الرائي: البسيط: 2: 119
وأي: السماء: الوافر: 2: 120
* * * [ب] * * *
طلعت: غروب: الخفيف: 3: 120
كفى: غائب: الطويل: 2: 120
للعلم: تجاريب: البسيط: 13: 121
الصب: عجب: المجتث: 5: 122
كتبت: كتاب: الطويل: 3: 122
سبحان: الثاقب: السريع: 3: 123
* * * [ت] * * *
رأيت: أنت: م. البسيط: 12: 123
سر: بطيات: البسيط: 6: 124
اقتلوني: ثقاتي: م. الرمل: 20: 125
لي: اللحظات: الخفيف: 6: 126
* * * [ث] * * *
والله: حنثوا: البسيط: 3: 127
* * * [ح] * * *
كفرت: قبيح: الطويل: 1: 128
* * * [د] * * *
فما: واحد: الطويل: 3: 128
لا: وحيد: الخفيف: 3: 129
تأمل: فقد: المجتث: 7: 129
قد: فؤادي: م. الرمل: 3: 130
أنتم: واد: المجتث: 3: 130
* * * [ر] * * *
يا: القمر: الرجز: 6: 130
كتبت: العباره: المتقارب: 13: 131(1/193)
وليس حجابي غير كوني فلو مضى ... قعدت مع المحبوب في مقعد الصدق (1)
وهذا محال أن يكون ذهابه ... فما ثمّ صفو لا يخلط بالرفق
تجلّى لنا بالأفق بدرا مكملا ... وإن فؤادي لا يحنّ إلى الأفق
وإن كان حقا فالمجالي كثيرة ... وشرعي نهاني عنه في حلبة السبق
لقد أوّب الحقّ العليم بلادنا ... نفوس عباد حظّها الوهم إذ يلقى (2)
وسرّحني في كلّ وجه بوجهة ... ولم يتقيد لي بغرب ولا شرق
وفرّق لي ما بين كوني وكونه ... وإنّ وجود السعد في ذلك الفرق
تعالى فلم تعلم حقيقة ذاته ... سغلت فلم أجهل فحدّي في نطقي (3)
ولم أدر أنّ الحدّ يشمل كونه ... وكوني إذا كانت هويته خلقي
كما جاء في الوحي المقرّر صدقه ... على ألسن الأرسال والقول للحق
به يسمع العبد المطيع به يرى ... به يظهر الأفعال في الفتق والرتق
لو أنّ الذي قد لاح منه يلوح لي ... ولا شرع عندي ما جنحت إلى الفسق
وكنت بما قد لاح لي في بصيرة ... فقيدني بالشرع كشفا وما يبقي
خلافا فإنّ الأمر فيه لواحد ... ولا ينكر الحقّ الذي جاء بالحق
إلهي يحب الرفق في الأمر كله ... كذلك أهل الله يأتون بالرفق
لقد شاهدت عيني ثلاث أسرّة ... وفي ثالث منها ازورار من العرق
وأخره عن صاحبيه اعتراقه ... وكلّ له شرب رويّ من الحق
موازين لا تخطيك فالوزن قائم ... ولا سيما في عالم الحبّ والعشق (4)
ظفرت به حقا جليا مقدسا ... ولا حقّ إلا ما تضمنه حقي
نطقت به عنه فكان منطقي ... وقد زاد في الإشكال ما بي من النطق
تقسم هذا الأمر بيني وبينه ... فها هو في شقّ وها أنا في شقّ
وصورة هذا ما أقول لصاحبي ... أنا عبد قنّ وهو لي مالك الرّق (5)
عبودية ذاتية لم أزل بها ... وما لي عنها من فكاك ولا عتق
إذا رزق العبد التهي لنيل ما ... يكون من الرزاق من خالص الرزق
وما رزق الإنسان أعلى من الذي ... يحصله بالعين في لمحة البرق
فذلك رزق الذات ما هو غيره ... وآثاره فينا الذي كان في الودق (6)
__________
(1) الحجاب: حائل يحول بين الشيء المطلوب المقصود وبين طالبه وقاصده.
(2) الأوبة: الرجوع. ويقال: آبه الله: أي أبعده.
(3) سغلت: هزلت.
(4) العشق: أقصى درجات المحبّة.
(5) القنّ: العبد الخالص العبودة.
(6) الودق: المطر.(1/193)
وقال أيضا، يذكر ما صح من الأسماء التسعة والتسعين التي صحّ النص بها، وبحث الحفاظ عنها، فما قدر على الصحيح منها إلا رجل من حفاظ المغرب يقال له علي بن حزم (1)
، فوقفت عليها في كتابه المسمى بالمجلى فذكرتها في قصيدتي لتحفظ معرّفة ومنكّرة كما ذكرها وعدّدها وهي:
الله الرحمن الرحيم العليم الحكيم الكريم العظيم حليم القيوم الأكرم السلام التوّاب الرب الوهاب الأقرب السميع مجيب واسع العزيز شاكر القاهر الآخر الظاهر الكبير الخبير القدير البصير الغفور الشكور الغفار القهار الجبار المتكبر المصوّر البرّ مقتدر الباري العليّ الغنيّ الوليّ القويّ الحيّ الحميد المجيد الودود الصمد الأحد الواحد الأوّل الأعلى المتعال الخالق الخلّاق الرزاق الحق اللطيف رؤوف عفوّ الفتاح المتين المبين المؤمن المهيمن الباطن القدّوس المليك ملك الأكبر الأعز السيّد سبوح وتر محسان جميل رفيق المسعر القابض الباسط الشافي المعطي المقدّم المؤخر الدهر
فهذه ثلاثة وثمانون اسما وما وجدنا صحة لما بقي من التسعة والتسعين نقلا.
قال ابن حزم الحافظ: لما لم نجد من الأسماء إلا ما ذكرنا، وقد جاءت أحاديث في إحصاء التسعة والتسعين اسما مضطربة لا يصح منها شيء أصلا أتيت بها في قصيدتي على حسب ما ذكرها الحافظ في كتاب المجلي، في باب الإيمان منه. فقلت: وجعلت آخر كل بيت من القصيدة اسم الله تأكيدا إذ هو الاسم المنعوت بكلّ اسم، ولا ينعت به فإنه جار مجرى أسماء الأعلام، وإن كان قد تكلم في اشتقاقه، والأصح أنه اسم علم، يدل على الذات المسماة بأسماء الاشتقاق، من أسماء وأفعال وصفات ونعوت، وهذه المذكورة عندنا هي الأسماء التي سمى نفسه بها، من حيث إنّ له كلاما (2) بقوله: {وَكَلَّمَ اللََّهُ مُوسى ََ تَكْلِيماً}. فاكّده بالمصدر. وهذه القصيدة والحمد الله:
إذا جاءت الأسماء يقدمها الله ... فعظّمه بالذكرى وقل قل هو الله
ألا إنه الرحمن في عرشه استوى ... ولو كان ألف اسم فذاك هو الله (3)
وقالوا لنا باسم الرحيم خصصتم ... بآخرة فانظر تجده هو الله
ركنت إلى الاسم العليم لأنني ... عليم بما قد قال في العالم الله
يرتب أحوالي الحكيم بمنزل ... يؤيدني فيه وجود هو الله
__________
(1) علي بن حزم الظاهري، أبو محمد، من علماء الأندلس، كثير التصانيف، انتقد العلماء والفقهاء، وقد أجمعوا على تضليله. مات سنة 456هـ.
(2) سورة النساء، آية: 164.
(3) ما جاء في الآية الكريمة بشأن الاستواء قوله تعالى: {الرَّحْمََنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى ََ} سورة طه، آية: 5.(1/194)
المطلع: القافية: البحر: عدد الأبيات: رقم الصفحة
لأنوار: أسرار: الطويل: 3: 132
كفاك: أجدر: الطويل: 2: 132
حقيقة: خير: البسيط: 2: 132
يا: نار: م. البسيط: 3: 132
دلال: العذار: الوافر: 5: 133
أبدى: يخطر: الكامل: 5: 133
وحرقة: الدهر: السريع: 3: 133
سرائر: السر: الطويل: 4: 134
إذا: الذكر: الطويل: 2: 134
مواجيد: الأكابر: الطويل: 5: 135
الحب: الحذر: البسيط: 4: 136
وما: للكدر: البسيط: 4: 136
الجمع: أثر: البسيط: 6: 136
أنت: ذكري: البسيط: 2: 137
عقد: تأمور: البسيط: 3: 138
لو: إضماري: البسيط: 5: 139
غبت: سروري: م. البسيط: 4: 139
يا: خاطري: السريع: 7: 140
قد: البطر: المنسرح: 1: 140
أحرف: فكري: الخفيف: 3: 140
* * * [س] * * *
سكوت: رمس: الوافر: 9: 141
جحودي: تهويس: الهزج: 4: 142
* * * [ش] * * *
من: غشاشا: البسيط: 10: 143
نسمات: عطشا: الرمل: 3: 144
* * * [ض] * * *
عجبت: أرضي: الطويل: 2: 144
* * * [ط] * * *
مازلت: أنحط: السريع: 5: 145
* * * [ع] * * *
ذكره: معا: الرمل: 1: 145
مكانك: موضع: الطويل: 2: 145(1/194)
المطلع: القافية: البحر: عدد الأبيات: رقم الصفحة
إذا: أوجاع: البسيط: 3: 146
شرط: مطلع: البسيط: 1: 146
* * * [ف] * * *
وجوده: واصف: السريع: 4: 146
يا: موقف: السريع: 2: 146
* * * [ق] * * *
جبلت: الفتق: الرمل: 2: 147
حيرني: الوثيقه: م. البسيط: 2: 147
أنا: علقت: المنسرح: 6: 147
خصني: طرق: الخفيف: 3: 148
ركوب: يدق: المتقارب: 2: 148
دخلت: الصدق: الطويل: 4: 148
اتحد: للوامق: السريع: 2: 149
* * * [ك] * * *
أنا: بدواك: المجتث: 6: 149
فيك: عليكا: البسيط: 2: 150
همي: إليكا: م. الكامل: 2: 150
لا: إليكا: المجتث: 2: 150
* * * [ل] * * *
دنيا: حالها: م. الكامل: 5: 151
نعم: خلله: البسيط: 4: 151
أيا: التسلي: الوافر: 3: 152
مزجت: الزلال: الرمل: 2: 152
* * * [م] * * *
هيكلي: عليم: الرمل: 2: 152
تفكرت: جما: الطويل: 3: 153
شيء: الظلم: البسيط: 3: 154
ثلاثة: الكلام: الوافر: 3: 154
قضى: ينم: البسيط: 3: 154
أشار: وهم: م. البسيط: 10: 155
* * * [ن] * * *
طوبى: نظرتين: م. الكامل: 4: 156
ألا: السفينه: الوافر: 2: 156(1/195)
أتتني كرامات فقلت من اسمه ال ... كريم أتاني في وجودي بها الله
إذا عظموني بالعظيم رأيتهم ... أخلاء ودّ اصطفاهم له الله
حليم على الجاني إذا عبده جنى ... على نفسه يبدي له عفوه الله
لقد قام بالقيوم عال وسافل ... إليه التجاء الخلق سبحانه الله
وقد نص فيه إنه الأكرم الذي ... إليه مردّ الأمر والكافل الله
ألا إنني باسم السلام عرفته ... وقد قيل لي إنّ السلام هو الله
رجعت إليه طالبا غفر زلتي ... فراجعني التوّاب إني أنا الله
وناداني الربّ الذي قامني به ... أجبتك فيما قد سألت أنا الله
إذا جاءني الوهاب ينعم لا يرى ... جزاء على النعماء ذلكم الله
فكن معه تحمد على كلّ حالة ... ولا تخف الأقصاء فالأقرب الله
لقد سمع الله السميع مقالتي ... بأني عبد والسميع هو الله
إذا ما دعوت الله صدقا يقول لي ... مجيب أنا فاسأل فإني أنا الله
أنا واسع أعطى على كلّ حالة ... كفور أو شكّارا لأني أنا الله
فقلت له أنت العزيز فقال لي: ... حماي منيع فالعزيز هو الله
عجبت له من شاكر وهو منعم ... ومن يشكر النعماء ذاك هو الله
هو القاهر المحمود في قهر عبده ... ولولا نزاع العبد ما قاله الله
وجاء يصلي إذ علمنا بأنه ... هو الآخر الممتنّ والآخر الله
هو الظاهر المشهود في كلّ ظاهر ... وفي كلّ مستور فمشهودك الله
له الكبرياء السار في كلّ حادث ... فلا تمتر إنّ الكبير هو الله
ويعلم ما لا يعلم إلا بخبره ... لذا قال حيّ فالخبير هو الله
ومن ينشىء الأكوان بدءا أو عودة ... فذاك قدير والقدير هو الله
ومن يرني أشهد لنفسي بأنه ... بصير يراني والبصير هو الله
يبالغ في الغفران في كلّ ما يرى ... من السّوء مني فالغفور هو الله
يبالغ في شكري إذا كنت عاملا ... ولا فعل لي إنّ الشكور هو الله
إذا ستر الغفار ذاتك أن ترى ... مخالفة فاشكره إذ عصم الله
وما قهر القهار إلّا منازعا ... بدعواه لا بالفعل والفاعل الله
وما ذكر الجبار إلا من أجلنا ... ليجبرنا في الفعل والعامل الله
نزول من أجلي كونه متكبرا ... بآلة تعريف وهذا هو الله
بآلة عهد قلت فيه مصوّر ... لنا فيه والأرحام إذ قاله الله
وإنّ شؤون البرّ إصلاح خلقه ... لمن يطلب الإصلاح فالمحسن الله
بمقتدر أقوى على كلّ صورة ... أريد بها فعلا ليرضى بها الله
ألم تر أنّ الله قد خلق البرا ... وأنشأ منه الناس فالبارىء الله
وكلّ عليّ في الوجود مقيّد ... سوى من تعالى فالعليّ هو الله
وكلّ ولي ما عدا الحق نازل ... فليس وليا فالوليّ هو الله (1)
لنا قوة من ربنا مستعارة ... فنحن ضعاف والقويّ هو الله
ولا حيّ إلّا من تكون حياته ... هويته والحيّ سبحانه الله
فعيل لمفعول يكون وفاعل ... كذا قيل لي إنّ الحميد هو الله
يمجده عبد الهوى في صلاته ... على غير علم والمجيد هو الله
تحبب لي باسم الودود بجوده ... فأثبت عندي جوده أنه الله
لجأت إليه إنه الصمد الذي ... إليه التجاء الخلق والصّمد الله (2)
وما أحد تعنو له أوجه العلى ... سواه كما قلناه والأحد الله
هو الواحد المعبود في كلّ صورة ... تكون له مجلى فذلكم الله
أنا أوّل في الممكنات مقيد ... وإطلاقها ألله فالأول الله
أقول هو الأعلى ولكن لغير من ... وإن قلت من فافهم كما قاله الله
هو المتعالي للذي جاء من ظما ... وجوع وسقم مثل ما قاله الله
يقدّر أرزاقا ويوجدها بنا ... كما جاء في الأخبار فالخالق الله
وإن جاء بالخلاق فهو بكوننا ... كثيرين بالأشخاص والموجد الله
ولا تطلب الأرزاق إلا من الذي ... تسميه بالرزّاق ذلكم الله
هو الحقّ لا أكني ولست بملغز ... ولا رامز والحقّ يعلمه الله
لقد جاءني حكم اللطيف بذاته ... وإن كان من أسمائه فهو الله
رؤوف بنا والنهي عن رأفة يكن ... بحاكمنا في الزان إن حدّه الله
عفوّ بإعطاء القليل وإن يكن ... كثيرا سواء هكذا نصّه الله
إذا جاءك الفتاح أبشر بنصره ... وإنك مدعوّ كما حكم الله
فإنّ له حكم المتانة في الورى ... وأنت رقيق فالمتين هو الله (3)
وأنت خفي في ضنائن غيبه ... ولست جليا فالمبين هو الله
تأمّل إذا ما كنت بالله مؤمنا ... من المؤمن الصّدّيق فالمؤمن الله (4)
ولا تختبر حكم المهيمن إنه ... شهيد لما قد كان والشاهد الله (5)(1/195)
المطلع: القافية: البحر: عدد الأبيات: رقم الصفحة
إن: وضنى: م. الرجز: 68: 156
أنا: بدنا: الرمل: 5: 158
بيان: لسانه: الطويل: 4: 159
حملتم: البدن: البسيط: 2: 159
رقيبان: تراني: الطويل: 6: 159
لما: عرفني: البسيط: 2: 160
أرسلت: حران: البسيط: 2: 160
أأنت: اثنين: البسيط: 5: 160
لم: برهان: البسيط: 9: 161
مواصلي: تجني: م. البسيط: 7: 161
خاطبني: لساني: م. البسيط: 4: 162
يا: بياني: الكامل: 5: 162
أنا: سبحاني: الهزج: 4: 163
يا: مكاني: م. الرمل: 4: 163
قد: لساني: م. الرمل: 4: 164
أنت: أجفاني: الخفيف: 4: 165
يا: أعني: الخفيف: 1: 165
عجبت: المتمني: المجتث: 7: 165
* * * [هـ] * * *
إن: تراه: الوافر: 6: 166
اسم: معانيه: البسيط: 2: 166
سرائر: لمخفيه: البسيط: 2: 166
* * * [و] * * *
ارجع: هو: البسيط: 5: 167
لست: أسهو: م. الرمل: 2: 167
من: يلهو: السريع: 2: 168
* * * [ى] * * *
نظري: جنى: الخفيف: 2: 168
إذا: الرجا: المتقارب: 6: 169
* * * [ي] * * *
عليك: التخلي: م. البسيط: 3: 169
يا: حي: م. البسيط: 4: 169
راعيتني: وبي: م. البسيط: 6: 170(1/196)
أتتني كرامات فقلت من اسمه ال ... كريم أتاني في وجودي بها الله
إذا عظموني بالعظيم رأيتهم ... أخلاء ودّ اصطفاهم له الله
حليم على الجاني إذا عبده جنى ... على نفسه يبدي له عفوه الله
لقد قام بالقيوم عال وسافل ... إليه التجاء الخلق سبحانه الله
وقد نص فيه إنه الأكرم الذي ... إليه مردّ الأمر والكافل الله
ألا إنني باسم السلام عرفته ... وقد قيل لي إنّ السلام هو الله
رجعت إليه طالبا غفر زلتي ... فراجعني التوّاب إني أنا الله
وناداني الربّ الذي قامني به ... أجبتك فيما قد سألت أنا الله
إذا جاءني الوهاب ينعم لا يرى ... جزاء على النعماء ذلكم الله
فكن معه تحمد على كلّ حالة ... ولا تخف الأقصاء فالأقرب الله
لقد سمع الله السميع مقالتي ... بأني عبد والسميع هو الله
إذا ما دعوت الله صدقا يقول لي ... مجيب أنا فاسأل فإني أنا الله
أنا واسع أعطى على كلّ حالة ... كفور أو شكّارا لأني أنا الله
فقلت له أنت العزيز فقال لي: ... حماي منيع فالعزيز هو الله
عجبت له من شاكر وهو منعم ... ومن يشكر النعماء ذاك هو الله
هو القاهر المحمود في قهر عبده ... ولولا نزاع العبد ما قاله الله
وجاء يصلي إذ علمنا بأنه ... هو الآخر الممتنّ والآخر الله
هو الظاهر المشهود في كلّ ظاهر ... وفي كلّ مستور فمشهودك الله
له الكبرياء السار في كلّ حادث ... فلا تمتر إنّ الكبير هو الله
ويعلم ما لا يعلم إلا بخبره ... لذا قال حيّ فالخبير هو الله
ومن ينشىء الأكوان بدءا أو عودة ... فذاك قدير والقدير هو الله
ومن يرني أشهد لنفسي بأنه ... بصير يراني والبصير هو الله
يبالغ في الغفران في كلّ ما يرى ... من السّوء مني فالغفور هو الله
يبالغ في شكري إذا كنت عاملا ... ولا فعل لي إنّ الشكور هو الله
إذا ستر الغفار ذاتك أن ترى ... مخالفة فاشكره إذ عصم الله
وما قهر القهار إلّا منازعا ... بدعواه لا بالفعل والفاعل الله
وما ذكر الجبار إلا من أجلنا ... ليجبرنا في الفعل والعامل الله
نزول من أجلي كونه متكبرا ... بآلة تعريف وهذا هو الله
بآلة عهد قلت فيه مصوّر ... لنا فيه والأرحام إذ قاله الله
وإنّ شؤون البرّ إصلاح خلقه ... لمن يطلب الإصلاح فالمحسن الله
بمقتدر أقوى على كلّ صورة ... أريد بها فعلا ليرضى بها الله
ألم تر أنّ الله قد خلق البرا ... وأنشأ منه الناس فالبارىء الله
وكلّ عليّ في الوجود مقيّد ... سوى من تعالى فالعليّ هو الله
وكلّ ولي ما عدا الحق نازل ... فليس وليا فالوليّ هو الله (1)
لنا قوة من ربنا مستعارة ... فنحن ضعاف والقويّ هو الله
ولا حيّ إلّا من تكون حياته ... هويته والحيّ سبحانه الله
فعيل لمفعول يكون وفاعل ... كذا قيل لي إنّ الحميد هو الله
يمجده عبد الهوى في صلاته ... على غير علم والمجيد هو الله
تحبب لي باسم الودود بجوده ... فأثبت عندي جوده أنه الله
لجأت إليه إنه الصمد الذي ... إليه التجاء الخلق والصّمد الله (2)
وما أحد تعنو له أوجه العلى ... سواه كما قلناه والأحد الله
هو الواحد المعبود في كلّ صورة ... تكون له مجلى فذلكم الله
أنا أوّل في الممكنات مقيد ... وإطلاقها ألله فالأول الله
أقول هو الأعلى ولكن لغير من ... وإن قلت من فافهم كما قاله الله
هو المتعالي للذي جاء من ظما ... وجوع وسقم مثل ما قاله الله
يقدّر أرزاقا ويوجدها بنا ... كما جاء في الأخبار فالخالق الله
وإن جاء بالخلاق فهو بكوننا ... كثيرين بالأشخاص والموجد الله
ولا تطلب الأرزاق إلا من الذي ... تسميه بالرزّاق ذلكم الله
هو الحقّ لا أكني ولست بملغز ... ولا رامز والحقّ يعلمه الله
لقد جاءني حكم اللطيف بذاته ... وإن كان من أسمائه فهو الله
رؤوف بنا والنهي عن رأفة يكن ... بحاكمنا في الزان إن حدّه الله
عفوّ بإعطاء القليل وإن يكن ... كثيرا سواء هكذا نصّه الله
إذا جاءك الفتاح أبشر بنصره ... وإنك مدعوّ كما حكم الله
فإنّ له حكم المتانة في الورى ... وأنت رقيق فالمتين هو الله (3)
وأنت خفي في ضنائن غيبه ... ولست جليا فالمبين هو الله
تأمّل إذا ما كنت بالله مؤمنا ... من المؤمن الصّدّيق فالمؤمن الله (4)
ولا تختبر حكم المهيمن إنه ... شهيد لما قد كان والشاهد الله (5)
__________
(1) الولي: من أسماء الله تعالى بمعنى النصير.
(2) الصمد: أي الذي تحتاج إليه الخلائق جميعها.
(3) الورى: الخلق.
(4) المؤمن: أي المصدّق عباده المسلمين يوم القيامة.
(5) الشاهد: أي العالم.(1/196)
فهرس المصادر والمراجع
أخبار أبي نواس: ابن منظور. مصر، لا. ت.
أخبار الحلاج أو مناجيات الحلاج. اعتنى بنشره وتصحيحه وتعليق الحواشي عليه: لويس ماسينيون وب. كراوس. مطبعة القلم ومكتبة لاروز، باريس 1936.
أشعار الخليع الحسين بن الضحاك. جمعها وحققها عبد الستار أحمد الفراج.
دار الثقافة، بيروت، 1960.
أشعار اللصوص. جمع وتحقيق عبد المعين الملوحي. دار الحضارة الجديدة، بيروت، 1993.
إيقاظ الهمم في شرح الحكم: أحمد بن محمد بن عجيبة الحسني. مكتبة مصطفى البابي الحلبي، القاهرة، 1961.
البدء والتاريخ: المقدسي (مطهر بن طاهر). باريس 1919.
بداية حال الحلاج: ابن باكويه. تحقيق لويس ماسينيون ضمن كتاب «أربعة نصوص». باريس، 1913.
تاريخ بغداد أو مدينة السلام: الخطيب البغدادي (أبو بكر أحمد بن علي) دار الفكر، بيروت، لا. ت.
التعرف لمذهب أهل التصوف: تأليف تاج الإسلام أبي بكر محمد الكلاباذي.
قدم له وحققه محمود أمين النواوي، مكتبة الكليات الأذهرية، القاهرة ط 2، 1980
الحلاج في ما وراء المعنى والخط واللون: سامي مكارم. دار رياض الريس للكتب والنشر (تاريخ المقدمة: آذار 1989).
حلية الأولياء وطبقات الأصفياء: أبو نعيم الأصفهاني، القاهرة 1932.
ديوان أبي العتاهية (إسماعيل بن القاسم) تحقيق شكري فيصل، دار الملاح، دمشق (تاريخ المقدمة: 19/ 11/ 1964).
ديوان أبي الفتح البستي: تحقيق درية الخطيب ولطفي الصقال، مطبوعات مجمع اللغة العربية بدمشق 1989.
ديوان أبي فراس الحمداني: حققه وشرحه محمد التونجي، المستشارية الثقافية الإيرانية، دمشق 1987.
ديوان أبي نواس (الحسن بن هانئ) حققه وضبطه أحمد عبد المجيد الغزالي دار الكتاب العربي، بيروت 1982.
ديوان البهاء زهير: تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم ومحمد طاهر الجبلاوي دار المعارف بمصر، لا. ت.
ديوان الحسين بن الضحاك أشعار الخليع.
ديوان الحلاج: صنعه وأصلحه أبو طريف الشيبي كامل بن مصطفى، دار آفاق عربية، بغداد، ط 2، 1984.
ديوان الحلاج: تحقيق لويس ماسينيون. باريس 1955.(1/197)
جلاه لنا من باطن الأمر حكمه ... هو الباطن المجهول فالمدرك الله (1)
يشاهد في القدّوس في كلّ حالة ... أكون عليها فالشهيد هو الله (2)
شديد إذا يدعى المليك بحكمه ... على خلقه فانظره فالحاكم الله (3)
كما هو إن نكرته وأزلته ... عن الياء فأقصره تجده هو الله
وكبّر تكبيرا إذا ما ذكرتنا ... به حاكم ألله والأكبر الله (4)
وما عزّ من يفنيه برهان فكره ... وقد عزّ عنه والأعز هو الله
هو السيّد المعلوم عند أولي النّهى ... وجاءت به الأنباء والسيّد الله (5)
إذا قلت سبّوح فذلكم اسمه ... لما كان من تنزيهكم وهو الله (6)
كما هو وتر للطلاب بثاره ... لكلّ شريك يدّعي أنه الله
وقل فيه محسان كما جاء نصه ... بالسنة الأرسال فالمحسن الله
جميل ولا يهوى من أعجب ما يرى ... فقال لي المجلي الجميل هو الله (7)
ولما علمنا بالبراهين أنه ... رفيق بنا قلنا الرفيق هو الله
لقد جاءني باسم المسعر عبده ... محمد المبعوث والمخبر الله
وفي قبضة الرحمن كانت ذواتنا ... مع الحدث المرئيّ والقابض الله
ويبسطنا عند الكثيب لكي نرى ... على جهة الانعام فالباسط الله (8)
ألا إنه الشافي لسقم طبيعتي ... كما جاء يشفيني وإن أسقم الله
كما أنه المعطى الوجود وما له ... من الحقّ خلقا هكذا قاله الله
ولما أتى داعي المقدّم طالبا ... تقدم من يدعو من العالم الله
ومن حكمه باسم المؤخر لم أكن ... على حكمه الهادي كما قد قضى الله
هو الدهر يقضي ما يشاء بعلمه ... على كلّ شيء منه يعلمه الله
فهذا الذي قد صح قد جئتكم به ... وقد قالت الحفاظ ما ثم إلّا هو
ونعني به في النقل إذ كان قد روت ... بانّ له الأسماء من صدق دعواه
وقيدها في تسعة لفظه لنا ... وتسعين من أحصاها يدخل مأواه (9)
وما هو إلّا جنّته فوق جنّة ... على درج الأسماء والخلد مثواه
__________
(1) الباطن: الذي لا تدركه الأبصار ولا الحواس. والظاهر: الذي يدل عليه كل شيء.
(2) القدّوس: الذي يقدّس.
(3) الحاكم: منفّذ الحكم.
(4) الأكبر: أي الأعلى مكانة وقدرة.
(5) السيّد: أي السائد الذي له السيادة والعظمة.
(6) السّبوح: الذي يسبّح.
(7) الجميل: أي جميل الصفات.
(8) الباسط: أي الذي يبسط الرزق لمن يشاء. الكثيب: عالم القدس ومجلاه.
(9) أي من أحصى الأسماء الحسنى دخل الجنة.(1/197)
وقال أيضا في حال يخاطب فيه الحقّ في تجل قلبيّ لسبب:
أنتم لكل فضيلة أهل ... وأنا لكل رذيلة أصل
فافعل وأفعل فالفروع بأصلها ... فالكلّ يفعل ما هو الأهل
وقال أيضا في نظم التوشيح وهو أقرع:
دور حقائق القرب رؤية الملك (1)
وهو حجاب المهيمن الملك (2)
إذا انجلى عنك غيهب النفس (3)
وهب عرف من روضة القدس
فأنت ألحان ... بلا لحن
على الأوثان ... ولم تثن
دور يا أيها الطائف الذي طرقا
ليت النوى للمحب ما خلقا
فهو إذا ما حبيبه انتزحا
يروض طرفا لأنه جمحا
فيا إخوان ... هبوا جفني
كرى السّلوان ... عسى يدني
دور لله عبد مشى على عجل
لقاب قوسين مشي مقتبل
يشقّ جنح الظلام في طلقه
مرتديا ثوب محبتي غسقه (4)
على كتمان ... من الدّجن (5)
__________
(1) القرب: قرب العبد من الحق عن طريق المكاشفة والمشاهدة كما يزعمون، والانقطاع عما دون الله.
(2) الحجاب: حائل يحول بين الشيء المطلوب المقصود وبين طالبه وقاصده.
(3) الغيهب: الظلام.
(4) الغسق: أول الليل.
(5) الدجن: الظلام.(1/198)
ديوان ديك الجن الحمصي (عبد السلام بن رغبان) جمع وتحقيق مظهر الحجي وزارة الثقافة السورية 1987.
ديوان أبي بكر الشبلي (جعفر بن يونس المشهور بدلف بن جحدر) جمع وتحقيق وتعليق كامل مصطفى الشيبي، دار التضامن، بغداد 1967.
ديوان عبد الصمد بن المعذل شعر عبد الصمد بن المعذل.
ديوان المتنبي بشرح العكبري: تحقيق مصطفى السقا ورفاقه، مطبعة الحلبي القاهرة 1971.
ربيع الأبرار: للزمخشري (محمود بن عمر). تحقيق سليم النعيمي، دار الذخائر للمطبوعات، قم، إيران 1410هـ.
الزهرة: محمد بن داود الظاهري الأصبهاني. باعتناء لويس نيكل، بيروت، 1932.
سير أعلام النبلاء: الحافظ الذهبي محمد بن أحمد. تحقيق مجموعة من المحققين مؤسسة الرسالة، بيروت 1985.
شذرات الذهب في أخبار من ذهب: ابن العماد الحنبلي، دار الفكر، بيروت، لات.
شرح ديوان الحلاج: صنعة كامل مصطفى الشيبي، مكتبة النهضة، بغداد 1974
شعر عبد الصمد بن المعذل. حققه وقدم له زهير غازي زاهد، مكتبة الأندلس بغداد 1970.
صحيح البخاري: تحقيق مصطفى البغا، دار القلم، دمشق بيروت 1981.
الطواسين: تحقيق لويس ماسينيون، باريس 1913.
الطواسين: تحقيق بولس نويا اليسوعي، جامعة القديس يوسف، بيروت 1972.
الظرف والظرفاء: أبو الطيب محمد بن إسحاق بن يحيى الوشاء، تحقيق ودراسة فهمي سعد، عالم الكتب، بيروت 1985.
العقد الفريد: ابن عبد ربه، تحقيق أحمد أمين ورفاقه، دار الكتاب العربي، بيروت 1982.
فجر الإسلام: أحمد أمين، القاهرة 1928.
الفتوحات المكية: ابن عربي، القاهرة 1392هـ.
لطائف المنن: الشعراني، مصر 1321هـ.
مصارع العشاق: أبو محمد جعفر بن أحمد بن الحسين السراج، دار صادر، بيروت لا. ت.
معجم البلدان: ياقوت الحموي، دار صادر، بيروت 1977.
معجم مصطلحات الصوفية: عبد المنعم الحنفي، دار المسيرة، بيروت 1987.
نشوار المحاضرة: القاضي أبو الحسن التنوخي، تحقيق عبود الشالجي، دار صادر، بيروت 1971.
يتيمة الدهر: الثعالبي، تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد، دار الكتب العلمية، بيروت 1979.(1/198)
المحتويات
مقدمة المحقق 3
ترجمة المؤلف 5
أخبار الحلاج 37
ملحق أخبار الحلاج 66
المستدرك على أخبار الحلاج 70
بداية حال الحلاج 77
طواسين الحلاج 93
أشعار الحلاج 117
أشعار تنسب إلى الحلاج 171
فهرس قوافي الأشعار 193
فهرس المصادر والمراجع 197(1/199)
لعلّ المانّ ... يرى مني
دور ناداني الحق من طوى خلدي
ولم يعرّج فيه على الجسد
يا فرحة القلب بالمناجات
وحسرة النفس بالغيابات
فهل من بان ... كمن يكني
عن الرحمن ... عن الأذن
دور أنا محبّي وحبي المحبوب
وطالبي والطلاب والمطلوب
أنشد من غيرة وقد هتكا
مني نسيم الرياض ما هتكا
يا عود الزان ... قم ساعدني
طاب الرّمان ... لمن يجني
وقال أيضا من نظم التوشيح الأقرع:
دور متيم بالجمال قد شغفا
قد امتطى السهد فيه والأسفا
حتى إذا ما انتهى له وقفا
يشكو الجوى والسهاد والخيلا ... ودمعه فوق خدّه انهملا سالا (1)
دور يا حسنه والظلام قد نزلا
يتلو كتاب الحبيب مبتهلا
ودمعه لا يزال منهملا
حتى إذا ما صباحه اتصلا ... بليله والظلام قد رحلا مالا
__________
(1) السهاد: السهر. الجوى: الشوق.(1/199)
دور لا عذر لي في غداي يا كبدي
إذ ألقيت الحبيب في الخلد
وأنت تشكو صبابة الكمد (1)
ولم تذوبي شوقا إليه ولا ... وكلّ من ذاب فيه إذ وصلا غالا (2)
دور عجبت من لوعتي ومن كمدي
ومن عنائي ومن قوى جلدي
ومن به قد شغفت في خلدي
فصل به يا فؤاد إن وصلا ... فكلّ من بالمهيمن اتصلا صالا
دور إن كان لا بد بين المحتوم
حسبي اتصال العلوم بالمعلوم
فاستمعوا جيرتي شدا المحروم
أودعني يوم بينه خبلا ... لا صبر لي بعده وقد رحلا لا لا
وقال أيضا من نظم التوشيح ذي الرأس:
مطلع أطوالي المهيمن الطرقا ... عساك يوما نحوها ترقى (3)
دور عزيزة الإنسان قد ذلّت (4)
عساكر الأحوال قد حلّت (5)
__________
(1) الصبابة: الشوق والحب.
(2) غالى: من المغالاة أي المبالغة. وأراد بالوصول الوصول إلى الله على زعمه.
(3) المهيمن: من صفات الله تعالى. وقوله أطوالي: أي قرّب لي المسافاة.
(4) يريد بعزيزة الإنسان: نفسه.
(5) الأحوال: أي الغيبة والحضور والصحو، والسكر، والوجد والهجوم والغلبات والفناء والبقاء، وهي من أحوال القلوب المتحققة بالذكر والتعظيم لله.(1/200)
أهلّة الأسرار قد جلّت (1)
وصيّرت قلبي له شرقا ... وأضلعي لبدرها أفقا
دور اخرق سفين الحسّ يا نائم
واقتل غلاما إنك الحاكم
ولا تكن للحائط الهادم
وافتق سموات العلى فتقا ... وارتق أراضي جسمها رتقا (2)
دور سفينة الإحساس أخرقها
وعروة الشيطان أوثقها
وصورة الإنسان أطلقها
وهم بها في ذاته عشقا ... وناده رفقا بها رفقا
دور خليفة الرحمن قد جلّا
عن أن يرى بالسجن قد حلّا
أو مدبرا عنه إذا ولّى
قد أحكم الله به الخلقا ... فجلّ أن يحول أو يشقى
دور يا سائلي عن كنه ما أجمل (3)
من حبّ مولى لم يزل يحمل
فقمت أشدوه كما أنزل
ألقى الهوى بالقلب ما ألقى ... فلا تسل عن كنه ما ألقى
وقال أيضا: من نظم الزجل وهو لحسن العوام يذكر فيه ألفاظ الجواهر لأبي حامد (4):
__________
(1) أهلة: جمع هلال. الأسرار: جمع السر وهو: لطيفة مودعة في القلب كالروح في البدن.
(2) الفتق: الشق. والرّتق: ضد الفتق.
(3) الكنه: جوهر الشيء وغايته.
(4) أبو حامد الغزالي: هو محمد بن محمد بن الغزالي الطوسي، متكلم متصوف كثير المؤلفات مات بخراسان سنة 505هـ.(1/201)
مطلع يا طالب التحقق انظر وجودك ... ترى جميع الناس عبيد عبيدك (1)
دور قعدت في ساحل ... البحر الأخضر
أرمت لي أمواجه ... الدرّ الأزهر
فقلت لا تفعل ... يا قوتي الأصفر
وارم فيه تطلع إلى محيدك
دور أرمات لي فالحين ... مع در أكهب
فقلت أوفيني ... عنبرك الأشهب
قالت نعم إن كان ... تعمل لي مركب
من عودك الفوّاح ... وخذ نزيدك
دور زبرجدك أخضر ... ومسك أذفر (2)
ودرّياق الأكبر ... الله أكبر (3)
فأنا والمطلوب ... وقال وعزر
لمن تروني ... قل إليك نريدك
دور وأمشي على الساحل ... وأطلب وافتش
ياقوتي الأحمر ... لعلّ تنعش (4)
فإن لقيت إنسان ... أعمى أو أعمش
وقال: لمن تطلب ... فقل لسيدك
دور يا طالب الصنعة ... دبر حياتك
__________
(1) التحقق: وقوف القلب بدوام الانتصاب بين يدي من آمن به.
(2) الزبرجد: الجوهر.
(3) الدرياق: الترياق، والخمر.
(4) الياقوت: من الأحجار الكريمة.(1/202)
وانظر إلى الإكسير ... على صفاتك (1)
تجده من ذاتك ... يسري لذاتك
مربع التركيب ... على وجودك
دور كبريتك الأمر ... لقد معلوم
وهو على التحقيق ... أجلّ معدوم
خفي ظهر للعين ... مرموز ومفهوم
فذاب قد بانت حوار وزيدك ... وعمت أسراره أركان جديدك
دور العبد إذا فرط ... لابدّ يندم
ويعمل الحيلة ... ولا يفيد ثم
فقلت قال قبلك ... من قد تقدّم
من أوّل العاشور انظر فعيدك ... الحيلة وقت الضيق ما ليس يفيدك
وقال أيضا:
ما في الوجود اختيار عند من شهدا ... وكيف ينكر ما في الكون قد وجدا
وقد أتاك به القرآن في سور ... يدري بها عندما تتلى الذي جحدا
لذاك قيدته بذي الشهود فلا ... تزد عليه ولا تشرك به أحدا
فمن أجوز وما في العلم من أحد ... سوى الإله الذي في خلقه شهدا
الصور صورهم والخلق عينهم ... نعم وصورتهم حقا كما وردا
لأنه سمعنا بل كان نشأتنا ... روحا وصورة جسم لا تقل جسدا
فما يخاطبه إلا حقيقته ... مقصودة عينه وهو الذي قصدا
ما ثم غير فتفنيه هويته ... لذاك جاء بأنّ الحقّ ما ولدا
ولا تولد عن شيء تقدّمه ... فبالوجود القديم الحادث انفردا (2)
وقال أيضا:
الله أنزل نورا يستضاء به ... على فؤاد نبيّ سرّه الله
__________
(1) الإكسير: الكيمياء.
(2) إشارة إلى قوله تعالى: {قُلْ هُوَ اللََّهُ أَحَدٌ اللََّهُ الصَّمَدُ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ} سورة الإخلاص.(1/203)
أتى به روحه من فوق أرقعة ... سبع إلى قلبه والسامع الله (1)
منه إليه به كان النزول له ... فليس في الكون إلا الواحد الله
والجسم والعرض المشهود فيه وما ... في الغيب ما ان تراه ذلك الله (2)
ولا تناقض فيما قلته فأنا ... عين الكثير وعيني الواحد الله (3)
من أعجب الأمر أنّ الحكم من عدم ... في عين كون فأين العبد والله
فالعين تشهد خلقا جاء من عدم ... والأمر حقا وعين المبصر الله
له اليمين له العينان في خبر ... أتى به منه والآتي هو الله
فالحكم لي وله عين الوجود وما ... للعين مني وجود بل هو الله
فانظره في شجر وانظره في حجر ... وانظره في كل شيء ذلك الله (4)
كل الأسامي له إن كنت تعقله ... هو المسمى بها فكلها الله
فلو يقول جهول قد جهلت وما ... بالله جهل فما كوني هو الله
فقل له ذاك حكم العين فيه ومن ... يدري الذي قلته بأنه الله
ما ثم والله إلا حيرة ظهرت ... وبي حلفت وإنّ المقسم الله
لو كان ثم وجود ما هو الله ... لم ينفرد بالوجود الواحد الله
بل الحدوث لنا وما يتابعه ... وهذه نسب والثابت الله
ينوب عنا وأنا منه في عدم ... ونحن نشهده والشاهد الله
وقال أيضا:
إن الزمان الذي سميته بفنا ... هو الزمان الذي سميته بفنا
هذا الزمان إذا فكرت فيه ترى ... في شانه عجبا لم يتخذ سكنا
مع طول صحبته لكلّ طائفة ... من الخلائق روحا كان أو بدنا
يذمّه كل شخص إذ يشاهده ... وإن مضى كان ما قد ذمّه حسنا
ما أنصف الدهر خلق من بريته ... وهو الذي يورث الأفراح والحزنا
فينظرون الذي قد ساءهم أبدا ... وينظرون وجود الخير والمننا
فيسترون الذي قد سرّ أكثره ... ويجهرون بما قد ساءهم علنا
فداه خالقه بنفسه فلذا ... يقول إني أنا الدهر الذي امتحنا (5)
__________
(1) أرقعة سبعة: يريد السموات. ويريد بالروح جبريل عليه السلام.
(2) العرض في اصطلاح المتكلمين: ما يقوم بغيره.
(3) عين: إشارة إلى ذات الشيء الذي تبدو منه الأشياء.
(4) المراد أن مخلوقات الله ما هي إلا آيات تشهد على وجوده تعالى.
(5) إشارة إلى أن من أسمائه تعالى الدهر.(1/204)
وقال أيضا:
لا تندمنّ على خير تجود به ... وإن أغاظك من تعطيه واقترفا
فالله يرزق من يعطيه نعمته ... سواء أنكرها كفرا أو اعترفا
وقال أيضا:
الحكم حكم الجبر والاضطرار ... ما ثم حكم يقتضي الاختيار (1)
إلا الذي يعزى إلينا ففي ... ظاهره بأنه عن خيار
كمثل ما يعزى إلى خالقي ... وعرشنا عن عرشه في ازورار (2)
لو فكر الناظر فيه رأى ... بأنه المختار عن اضطرار (3)
لكل هذا ثابت لا تقل ... بأنه خاص بنا مستعار
فالعلم ما يتبع معلومه ... فالحكم للساكن مثل الديار
لا تعتب العالم في كلّ ما ... يكون فيه من غنى وافتقار
ولا الذي أوجده إنه ... يحكم بالعلم فأين الفرار
حرت وحار الأمر في حيرتي ... فليلزم العالم دار القرار
وليرتضي بما له لا يزد ... على رضاه إنه في تبار
لا يعلم الحقّ سوى واحد ... يقضي على الحكام بالاضطرار
ألا ترى القاضي في حكمه ... بمقتضى الشّرع فأين الخيار (4)
ما أقلق العالم إلا الذي ... قام به من حكمة الانتظار
هذا هو الفصل الذي بينه ... وبين من يفعل بالاقتدار
فى الحروف
وقال أيضا في حرف الألف:
انظر إلى الحقّ من مدلول أسماء ... وكونه عين كلّي عين أجزائي (5)
__________
(1) في البيت إقرار بمبدإ الجبر ونفي اختيار العبد إلا في الظاهر.
(2) العرش عند الصوفيين مظهر العظمة ومكانة التجلي، لكنه المكان المنزه عن الجهات، وهو الفلك المحيط. لجميع الأفلاك المعنوية والصورية.
(3) الاختيار عن اضطرار يوافق ذلك ما ذهب إليه الغزالي في مسألة الحرية، فقال: إن الإنسان مجبر على الاختيار ومعنى ذلك أن الله في الأزل قد علم ما سيكون من الناس فشاء لهم أفعالهم، إلا أن ذلك لا يعني بأن الله تعالى يرضى لعباده الكفر أو الظلم، فهو نهاهم عن ذلك وأمرهم باتباع الهدى والحق والخير، فاختاروا بما أعطاهم من العقل والفهم.
(4) يريد بأن الحكم بالاضطرار حكم إلهي، ويضرب لذلك المثل قاضيا يصدر حكمه بمقتضى الشريعة فلا خيار له ولا للمحكوم.
(5) العين: إشارة إلى ذات الشيء الذي تبدو منه الأشياء.(1/205)
إن كان ينصفني من كان يعرف ما ... يبدو إليه من إعراضي وإنحائي
أسماء ربي لا يحصى لها عدد ... ولا يحاط بها كمثل أسمائي
إن قلت قلت به أو قال قال بنا ... تداخل الأمر كالمرئيّ والرائي
العين واحدة والحكم مختلف ... فانظر به منك في تلويح إيمائي
النور ليس له لون يميزه ... وبالزجاج له الألوان كالماء
الماء ليس له شكل يقيده ... إلا الوعاء في تقييده دائي
الداء داء دفين لا علاج له ... كيف العلاج ودائي عين أدوائي
أروم برءا لداء لا يزايلني ... هيهات كيف يداوى الداء بالداء
أقول باللام لا بالباء إنّ لنا ... شخصا ينازعني في القول بالباء
وقال أيضا في حرف الباء:
بالذي قلت إنه عين ما بي ... من سؤال ومنطق وجواب
برّد اليوم عن فؤادي غليلا ... فقبولي عليه عين انقلابي
بوجودي عرفته وبنفسي ... فهو منها بنا كحشو إهاب
بان عني فقلت بان حبيبي ... فأراني في البعد عين اقترابي
بنتم قال لا ولكن جهلنا ... فلذا ما يقول ما بي وما بي
بالهوى فزتم وشاركتموني ... في اسم حبيّ والشوق للغياب
بعتم الرشد بالغواية فينا ... وهو رشد الهداة والأحباب
بدرة أنت بالكمال فما لي ... قلت بالنقص إنني في حجاب (1)
بحجابي علمت أني لما ... جئتكم جئتكم بأمر عجاب
بينوا أمرنا لكل لبيب ... في كلام إن شئتم أو كتاب
وقال أيضا في حرف التاء:
توليت عنها طاعة حيث ملّت ... فيا ليت شعري بعدنا هل تولّت
تأملت خلفي هل أرى رسم دارها ... فقالت ظنوني: لا تخف ما تخلّت
تمت إلينا وهي تهجر ذاتنا ... فأفنى وجودي عينها فاستقلّت
تغافلت عنها مذ علمت بأنها ... إذا بنت عنها أنها وجه قبلتي
تعجبت مني ثم منها لعلمها ... وجهلي لما أن ضللت وضلت
ترى ليت شعري هل ترى العلم حيرة ... وبالجهل عزّت ثم بالعلم ذلّت
__________
(1) الحجاب: حائل يحول بين الشيء المطلوب المقصود وبين طالبه وقاصده.(1/206)
تخاطبها مني سرائر (1) ذاتها ... فما أنا منها غيرها حيث حلّت
تولت وما بانت وبانت وما مشت ... لأني معلول لها وهي علتي (2)
توهمت فيها حين قلت بأنها ... هي الشرط في كوني وكان لغفلتي
تعاليت يا ذاتي فما ثمّ غيرنا ... وما هي عيني فاعلموا أصل حيرتي (3)
وقال أيضا في حرف الثاء:
ثلاثة أسماء تكون بينها ... على ما تراه العين شكل مثلّث
ثوى في جنان راحلا ومودّعا ... لأمر من الغيب الإلهي يحدث
ثنيت عنان الفكر فيه فلم أصب ... إلى أن أتاني الروح في الرّوع ينفث (4)
ثبت له حتى إذا ما انقضى الذي ... أتاني به عينا فقمت أحدّث
ثناء على الله الذي خصّه بما ... جرى عند نسيان فلم يك ينكث
ثمال لأسماء إلهية بدت ... بسلطانها فهو الإمام المحدّث
ثقلت بهذا الجسم عن نيل مطلبي ... مدى هذه الدنيا إلى حين أبعث
ثناني عليه فارحا لا مجاهدا ... لذا أنا مسموع إذا ما يحدث
ثقيل على الأسماع ما جئتها به ... وفي الأرض والأفلاك والكلّ محدث
ثمانية حمالة عرش ذاته ... أنا وصفاتي بل أنا العرش فابحثوا (5)
وقال أيضا في حرف الجيم:
جميل ولا يهوى جليّ ولا يرى ... لقد حار فيه صاحب الفكر والحجج
جنيت بمصحوب على كل حالة ... تحيره الأمواج في هذه اللجج (6)
جرى معه الفكر الصحيح إلى مدى ... فما غاب عن ثفّ ولا بلغ البثج (7)
جميع النهى غرقى شهود أو فكرة ... ففي عينه نفي العقول مع المهج (8)
جمعت له ذاتي فلم تك غيره ... فحرت فما أدري ثوى فيّ أم خرج
__________
(1) السرائر: جمع السر: والسر لطيفة مودعة في القلب كالروح في البدن. والذات إذا اطلقت. الأم الذي تستند إليه الأسماء والصفات في عينها لا في وجودها.
(2) العلة: كناية عن بعض ما لم يكن فكان. والعلة تنبيه الحق لعبده بسبب أو بغير سبب.
(3) الحيرة: بديهة ترد على قلوب العارفين عند تأملهم وحضورهم. وتفكرهم تحجبهم عن التأمل والفكرة.
(4) المراد بالروح هنا: القرآن على الأرجح، والروج: جبريل عليه السلام.
(5) إشارة إلى الآية: {وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمََانِيَةٌ} سورة الحاقة، آية: 17. والعرش مطلقا هو الفلك المحيط بجميع الأفلاك.
(6) اللجج: جمع اللجة: معظم الماء.
(7) الثّبج: ما بين الكاهل إلى الظهر.
(8) النهى: العقل. المهج: جمع المهجة: القلب، أو دم القلب، أو الروح.(1/207)
جرى القدر المحتوم في كلّ كائن ... بما هو فيه ما عليه به حرج
جزى الله عنا من يجازي مسيئنا ... على سوءه حسنا فأصبح يبتهج
جزاء وفاقا لا اتفاقا وإنهم ... يقولون بالتوحيد والأمر مزدوج
جنينا عليه بالقبول فأمرنا ... مريج فعين الكون تبدو إذا مرج (1)
جماع بأنثى قيل فيها طبيعة ... تولّد منه كل ما دبّ أو درج
وقال أيضا في حرف الحاء:
حمد الإله يقدّس الأرواحا ... باللام لا بالباء والأشباحا
حمد سرى نحو المهيمن سرّه ... ليشاهد الأقلام والألواحا (2)
حياه عند نزوله في لا ولا ... من شرّف المشكاة والمصباحا
حتى يراقب نشأة ممزوجة ... ويواصل الإمساء والإصباحا
حرّ عن الأغيار عبد للذي ... جلى إليه وجهه الوضّاحا
حاذر غوائل مكره في بسطه ... لا تأمن الرزاق والفتّاحا
حنت إليه ركائب من شوقه ... منحته فتح الباب والمفتاحا
حاميم يتلوها طواسم رمزه ... ليسخر الأفلاك والأرواحا (3)
حاربت من أهواه فيه بأمره ... لأحصّل الأكساب والأرباحا
حتى أوافي الضدّ صحبة عاشق ... وأجانب العذال والمنصاحا (4)
وقال أيضا في حرف الخاء:
خبير بما أبدى عليم بما أخفى ... علي من التفريغ من كرم السخّ (5)
خفى بما أبداه من نور ذاته ... عن العقل والأبصار في عالم السلخ
خبرت وجود الكون في كلّ حالة ... فعاينته قد حاز مرتبة المسخ
خؤونا أمينا صادقا كاذبا وما ... تقابلت الأحوال إلّا من الطبخ
خلقت لأمر لا أقوم بحقه ... وذلك لاستعدادنا حالة النفخ
__________
(1) المرج: الاختلاط.
(2) السر: لطيفة مودعة في القلب كالروح في البدن. والقلم: يريد به علم التفصيل، فالحروف مجملة في مراد الدواة ولا تقبل التفصيل ما دامت فيها، فإذا انتقل المداد منها إلى القلم تفصلت الحروف به في اللوح وتفصل العلم لها، واللوح: الكتاب المبين محل التدوين والتسطر الموصل إلى حد معلوم والألواح أربعة: لوح القضاء ولوح القدر ولوح النفس الجزئية ولوح الهيولي، هكذا عند أهل التصوف.
(3) الطواسم: جمع الطّسم: الظلام.
(4) العاشق: المحب إلى أقصى درجة من درجات المحبة.
(5) السّخ: من السخاء ويريد: الإمعان.(1/208)
خصصنا بأسماء الإله عناية ... وبالصورة المثلى وأكرمت بالنسخ
خصوصية جاءت من الله تبتغي ... كرامة شيخ نالها زمن الشّرخ
خصيص به ذاك المقام لأنه ... تولّد ما بين العفار إلى المرخ (1)
خفيف مع الطبع الثقيل إذا مشى ... يحوز طريق الشاة والفيل والرّخ (2)
خبيئة صاف كرّم الله ذاته ... بها فله من نورها سورة الدّخ (3)
وقال أيضا في حرف الدال:
دنا وتدلّى عبد ربّ وربه ... فلما التقينا لم أجد غير واحد
دواما مع الدنيا على كل حالة ... وفي الساحة الأخرى بأعدل شاهد
دعوت به حتى إذا ما استجاب لي ... رأيت الصدى يجري فكنت كفاقد
دووا بي عليه كي أرى غير موجدي ... لذاك أرى بين السّهى والفراقد (4)
دعاني إليه بالسجود فعندما ... سجدت له خابت لديه مقاصدي
ولا لك يا هذا حجابك فلتقم ... بعزة معبود وذلة عابد
دعيت فلما جئت أكرم مجلسي ... وقال لنا أهلا بأكرم وارد
ومشيت لما قد جاءني من خطابه ... وأطعمني ذوقا لذيذ المواعد
دوام شهود الذات فيه لمن درى ... إذا ما ابتلاه الله سمّ الأساود (5)
دع الأمر يجري منه لا منك واتئد ... تكن في عداد المحصنات الفرائد
وقال أيضا في حرف الذال:
ذلّل وجودك لا تكن ذا عزّة ... حتى تصير نشأتيك جذاذا (6)
ذنبا عظيما قد أتى وكبيرة ... من يتخذ غير الإله ملاذا (7)
ذنب ولا تعد التأخر واتضع ... إنّ المذنب يثبت الأستاذا
ذابت حشاشته وعمّ بلاؤه ... لما سقاه وابلا ورذاذا (8)
__________
(1) المرخ: شجر سريع الوري. العفار: شجر يتخذ منه الزّناد.
(2) الرّخ: طائر كبير يحمل الكركدن.
(3) سورة الدخ: سورة الدخان.
(4) السهى: كوكب خفي من بنات نعش. الفرقد: النجم الذي يهتدى به، وهما فرقدان.
(5) الشهود: أن يرى حظوظ نفسه.
(6) الجذاذ: الإسراع.
(7) الملاذ: الملجأ.
(8) الحشاشة: بقية الروح في المريض أو في الجريح. الوابل: المطر الشديد الضخم القطر. الرذاذ: المطر الضعيف.(1/209)
ذهبت به أيّامه في غفلة ... إذ لم تكن عين الثبوت معاذا (1)
ذهب الذين يشاهدون ذواتهم ... وتسللوا منه إليه لواذا
ذبّوا إلى العلم الغريب بظاهر ... لم يبرحوا في ذاتهم أفذاذا
ذكرهم بوجودهم في بهتهم ... حتى يروه ملجأ وعياذا
ذاك الإمام وما سواه فسوقة ... فإذا رأوه فيه قالوا ماذا
ذهلوا بمجلاه ولم يك غيرهم ... ليس القديم مع الحديث يحاذى
وقال أيضا في حرف الراء:
رأيت وجود الدور يعطي الدوائر ... ويعطي وجود الدور فيه الدوائر
رميت بأمر لم ير العقل مثله ... بما أنا علّام به أنا حائر
رمى بي وجوه القوم ثم يقول لي ... رميت وجوه القوم هل أنت ناظر
رأى نظري بالحق ما لم يكن يرى ... إلّا أنه الرائي لما هو ساتر
رعى الله من يرعاه في كلّ حالة ... وإن لم يكن ما قلته فهو خاسر
رقيت به حتى ظهرت لمستوى ... وجودي فقال الكشف ما هو حاضر (2)
ربابة سهم الذم صيّر ذاتنا ... ونحن إشارات السّهام الغوائر
ربا بفؤادي عين إيمانه بنا ... وذلك كفر الكفر ما هو كافر
رأى الأمر من قبل الوقوع لأنه ... يرى في ثبوت العين ما هو ظاهر
رقيبا عليه غائبا ثم شاهدا ... فما أنا مقهور ولا السّرّ قاهر (3)
وقال أيضا في حرف الزاي:
زمّلوني زملوني لا تقل ... إنني الشهر الذي في شهرناز
زبرت شهر الذي قد زبرت ... كفنا من كلّ حقّ ومجاز
زينة الله التي أخرجها ... قد دعت زينة نفسي للبراز
زجرتها همة علوية ... في وجوب ومحال وجواز
زينتي يسمع ما أسرده ... وإليه كان منه الانحياز
زين السوء كذا قال لنا ... لم يقل زينة للامتياز
زينت أسماؤه حضرته ... فالذي يحفظه بالعلم فاز
زهرة الروض شذاها عنبر ... فالذي استنشقها فاز وحاز
__________
(1) العين الثابتة: قالوا: هي حقيقة في الحضرة العلمية ليست بموجودة في الخارج بل معدومة ثابتة في علم الله تعالى.
(2) الكشف: الاطلاع على ما وراء الحجاب من المعاني الغيبية والأمور الحقيقية وجودا وشهودا.
(3) السر: لطيفة مودعة في القلب كالروح في البدن.(1/210)
زهرة في فلك سابحة ... من يراها هام فيها ثم جاز
زينب تعرف والله الذي ... قلته في كلّ سهل وعزاز (1)
وقال أيضا في حرف السين:
سأحرف عن قوم عن الحقّ أعرضوا ... بنا فهم الأفراد يدعون بالخرس
سرورا بتكوين وعزا بجلوة ... ليستوحش الأقوام في حالة الأنس
سموا بل علوا إلا قليلا لأنهم ... تعالوا عن التنزيه في حضرة القدس
سلام على قوم تباهوا بربّهم ... على كلّ موجود من الجنّ والإنس
سروا وظلام الليل يستر سيرهم ... إلى أن علوا فوق الإشارة بالكرسي
سرت همة مني على خير مركب ... من الطبع من عقل نزيه ومن حسّ
سرى نحوه سرّي ليدري حديثه ... على هيكل قد بيع بالثمن البخس
سباها وأسلاها وجود منزه ... عن الحدّ بالفصل المقوّم والجنس
سناه مزيل ظلمة العرش والعمى ... وما كان من أين يقال ومن جنس
سلت بوجود القيد عن نيل مطلق ... عن الحبس بالتقييد باليوم والأمس
وقال أيضا في حرف الشين:
شهدت الذي قد مهد الأرض لي فرشا ... شهود إمام حاكم حكم العرشا
شغفت به حبا فأسهر مقلتي ... ومن أجل وجدي رحمة سكن الفرشا
شهودي له بالباء ليس بغيرها ... لأجل الذي قدّ سنّ أن نغرم الأرشا (2)
شيوخ من الأقوام فيه لقيتهم ... فكانوا لنا سقفا وكنت لهم فرشا
شداد أولو أعزم رعاة أيمة ... تجلى لهم فينا وفي الحية الرقشا
شعارهم التوحيد يبغون قربه ... به وهو الشرك الذي أثبت الأعشى
شبيه بهم من كان طول حياته ... وفي البرزخ المعلوم في الليل إذ يغشى (3)
شمرت عليهم بعد تعظيم قدرهم ... ولم آمن الهجران منه ولم أخشا
شربت الذي من شربه اللذة التي ... لشاربه نصّا أتانا به يغشى
شممت له ريحا من المسك عاطرا ... يخبرني في هذا المقام الذي يغشى
وقال أيضا في حرف الصاد:
صادني من كان فكري صاده ... ما له والله عنه من محيص
صابرا في كل سوء وأذى ... في كيان من عموم وخصوص
__________
(1) العزاز: الأرض الصلبة.
(2) الأرش: الدية.
(3) البرزخ: العالم المشهود بين عالم المعاني والأجسام، أي بين الآخرة والدنيا.(1/211)
صرة أودعت قلبي علمها ... في كتاب وسمته بالفصوص (1)
صبرت قهرا وعجزا وأبت ... غيرة منها عليه أن تنوص (2)
صيرته واحدا في دهره ... ثم رامت عنه عزا أن تبوص (3)
صادفت والله في غيرتها ... عين ما جاء به لفظ النصوص
صدقتها فلها النور الذي ... ما له في كونها ذاك الوبيص (4)
صلبت في الدين فانقاد لها ... كل معنى هو في البحث عويص
صلّى القلب اشتعالا بعد ما ... كان ذا عزم عليه وحريص
صامت النفس وصلت فلها ... لمعان من سناها وبصيص
وقال أيضا في حرف الضاد:
ضاق صدري لما أتى ... لوجودي به القضا
ضقت ذرعا بموجدي ... بعد ما كنت في فضا
ضرري لم يكن سوى ... عفوه حين غمضا
ضرّني ما به أتى ... من حديث وأمرضا
ضرر قوله عفا ... رحمة بي عما مضى
ضمني ضمة فما ... قلت هذا إلا مضى
ضدّ ذا لو رأيته ... كنت في الحال معرضا
ضارب الباب جاهل ... يطلب العفو والرضى
ضرب النحل مخبرا ... عنه فينا بما قضى
ضرب العلم خيمته ... ساعة ثم قوّضا
وقال أيضا في حرف الطاء:
طابت مطاعم من يحقر قدره ... فمضى على حكم الوجود وما سطا
طنّب ففي التطنيب إن حققته ... متوّسّما بسماته كشف الغطا (5)
طبتم فطاب بك النعيم بحضرة ... فاحذر من التحريف كن متوسّطا
طوبى له من مالك متملك ... جوّاب آفاق وعد لا مقسطا
طاعاته مردودة في وجهه ... لما أطاع وما رأى عين العطا
__________
(1) الفصوص: كتاب لابن عربي سمّاه فصوص الحكم.
(2) تنوص: تتأخر.
(3) تبوص: تتقدم.
(4) الوبيص: لمعان البرق.
(5) التطنيب: المد بالأطناب والشد. والأطناب: جمع الطّنب وهو حبل طويل يشد به. سرادق البيت:
الكشف: الاطلاع على ما وراء الحجاب من المعاني الغيبية.(1/212)
طاف اللبيب ببيته متدينا ... متواضعا متهذبا متثبطا
طربت به أيامه لما رأت ... أن الخليفة في الحكومة أقسطا (1)
طفئت مصابيح الهدى بهوائه ... وعلى مطا طرق العماء قد امتطى
طاشت عقول ذوي النّهى من سيره ... لما أتاه محرّضا ومنشطا (2)
طهّر ثيابك فالطهور شريعة ... جاءت بها الأرسال في ضفف الخطا (3)
وقال أيضا في حرف الظاء:
ظلام الليل معتبر ... لعبد عنده يقظه
ظنوني في منازلها ... علوم الخلق والحفظه
ظلوم ليس يجهلها ... إمامق قبله حفظه
ظبا لما حللت به ... رأيت الحجب في اليقظه (4)
ظباء كلها شمس ... إذا علمت بمن حفظه (5)
ظللت به فأرّقني ... فلما كنت هو لفظه
ظننت الأمر يشهدني ... ويشهدني فما حفظه
ظنون ما حصلت بها ... على ما قال من وعظه
ظبى سيف القضاء أتى ... إلى المغرور كي يعظه (6)
ظنين القلب متّهم ... نؤوم قلبه يقظه
وقال أيضا في حرف العين:
علمت بما في الغيب من كل كائن ... وما لا فما قلنا وما أدرك السمع
على أنني ما كنت إلا موحّدا ... بتوحيد فرق ما يخالطه جمع
علا الحقّ في الإدراك عن كلّ حادث ... وهل يدرك التنزيه ما قيد الطبع
علاه بها عقلا وليس بذاته ... وليس لمخلوق على حمله وسع (7)
عبيد وفي التحقيق ربّ كصورة ... وليس له ضرّ وليس له نفع
عظيم على من أو جليل من أجل من ... تعالى فلا فطر لديه ولا صدع
__________
(1) أقسط: عدل.
(2) ذوو النّهى: أهل العقل.
(3) الضّفف: الضيق والشدة.
(4) الحجاب: حائل يحول بين الشيء المطلوب المقصود وبين طالبه وقاصده. وظبا: موضع.
(5) ظباء: جمع ظبية ويريد النساء.
(6) ظبى: جمع ظبة وهي: حد السيف.
(7) الوسع: المراد وسع المحققين ويسمى وسع الاستيفاء أيضا، هو وسع الخلافة وهو التحقيق بأسمائه وصفاته، حتى أن يرى ذاته ذاته، فتكون هوية العبد عين هوية الحق، كما يزعمون.(1/213)
عزيز ذليل بائس وهو ذو غنى ... ولكن عمن إذ هو السيب والمنع
عبدناه بالفقر الذي قام عندنا ... ولو قام ضدّ الفقر لم ندر ما الصنع
علينا من التقوى رقيب مسلّط ... نقيّ وقيّ فهو لي الوتر والشفع
علوت عن التنزيه معنى وما علا ... عن الحكم والتشبيه فليدع من يدعو
وقال أيضا في حرف الغين:
غنيّ عن الأكوان بالذات والذي ... له من سنى الأسماء ما ليس يبلغ (1)
غوى من له حكم الخلافة في الورى ... لذا جاء في القرآن حقا سنفرغ (2)
غريق ببحر والنجاة بعيدة ... ولولا وجودي لم ير الحقّ يدمغ
غنيّ وإني أكثر الذكر جاهدا ... فقال أنا عن كلّ ذاك مفرّغ
غنيت به إذ كان كوني وجوده ... ونشىء به في قالب الطبع يفرغ
غريب تراه العين في أرض غربة ... من الأهل والمرجوّ منه سيبلغ
غوايتنا ما كانت إلا لحكمة ... هي الرشد عن أمر أتاه المبلغ
غصصت بريقي بل شرقت بمائه ... ويا عجبا وهو الحياة فبلغوا
غرار حسام الموت والحكم فيصل ... لسان فصيح النطق ما هو ألثغ
غمام جوى إتيان حقّ بمحشر ... وأرواح أملاك فقولوا وسوّغوا
وقال أيضا في حرف الفاء:
فررت إلى ربي كموسى ولم يكن ... فراري عن خوف عناية مصطفى
فنوديت من تبغي فقلت: وصال من ... دعاني إليه قبل والرسم قد عفا (3)
فما هو مطموس وما هو واضح ... وطالبه بالنفس منه على شفا
فلو كان معلوما لكان مميّزا ... ولو كان مجهولا لما كان منصفا
فيا ليت شعري هل أراه كما أرى ... وجودي ومن يرجو غنيّا قد أنصفا
فقال لسان الحال يخبر أنني ... غلطت ولا والله جئت معنفا (4)
فبادرني في الحال من غير مقصدي ... أيا حادبي عندي ببابي توقفا
__________
(1) الذات: يراد بها، مطلقا، الأمر الذي تستند إليه الأسماء والصفات في عينها لا في وجودها.
(2) الورى: الخلق.
(3) الوصال: يعني الوصل والاتصال. وقالوا هو أيضا الانقطاع عما سوى الحق، وليس المراد اتصال ذات بذات كما يتوهم، فذلك كفر، وأدنى الوصال مشاهدة العبد ربه تعالى بعين القلب.
(4) الحال: هو ما يرد على القلب من طرب أو حزن أو بسط أو قبض. واللسان: أي البيان عن علم الحقائق.(1/214)
فإني بحكم العين لست مخيرا ... ولو كنت مختارا لما سمعوا قفا
فنيت به عني فأدرك ناظري ... وجودي وغيري لو يكون تأسفا (1)
فما ثمّ إلا ما رأيت ومن يرم ... سوى ما رأينا فهو شخص تعسفا
فرام أمورا عقله حاكم بها ... وما أثبت البرهان فالكشف قد نفى (2)
وقال أيضا في حرف القاف:
قرأت كتاب الحقّ بالحقّ مفهما ... فلم أر مشهودا سوى ألسن الخلق (3)
قلقت فلما أن سمعت معلمي ... تسمّى بما للخلق عدت إلى الحقّ
قريبا بما عندي من الحال بائنا ... بعيدا بما عندي من العلم والخلق
قد أفلح من زكّى حقيقة نفسه ... وقد خاب من دساها في عالم الرتق (4)
قدرت على كوني بعلمي بفاطري ... ولولا وجود الرتق لم أحظ بالفتق (5)
قليل ترى من كان رتقا منضدا ... يحوز بميدان النهى قصب السبق
قتيل بسيف الوهم من كان ذا فكر ... وأين شهود الصفو من مشهد الرنق (6)
قصدت بصدقي أن أفوز بخالقي ... فناداني المطلوب لا قرب في الصدق
قنعت بما قد جاءني في بداية ... أيقنع بالتكليم من كان ذا عشق (7)
قبضت على ما قاله لا حجه ... فيا ليت شعري هل يرى الحق في الحق
وقال أيضا في حرف الكاف:
كبرت بملك الملك إذ كان من ملكي ... أسخره من غير مين ولا إفك (8)
كتصريفه بالحال غيبا وشاهدا ... وبالأمر حقا لست من ذاك في شك (9)
كياني كيان الحق إذ كنت ذا حجى ... وفهم وإني ما برحت من الملك
كما لي في فقري ونقصي تملكي ... فحالي ما بين التملك والملك
كلام كمثل الروض عطره الندى ... وكاللؤلؤ المنثور نظم في سلك
__________
(1) الفناء: سقوط الصفات المذمومة، والفناء عن الخلق هو الانقطاع عنهم وعن التردد إليهم واليأس مما لديهم.
(2) الكشف: الاطلاع على ما وراء الحجاب من المعاني الغيبية والأمور الحقيقية.
(3) المشهود: يريدون به الكون وهو ما يشهده الشاهد.
(4) إشارة إلى قوله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكََّاهََا وَقَدْ خََابَ مَنْ دَسََّاهََا} سورة الشمس، آية: 9، 10.
(5) الفاطر: الخالق سبحانه وتعالى. الفتق: الشق. الرّتق: ضد الفتق.
(6) الرّنق: الكدر، ضد الصفو.
(7) العشق: أقصى درجات المحبة.
(8) المين: الكذب.
(9) الحال: أي ما يرد على القلب من طرب أو حزن أو بسط أو قبض. الشاهد: الحاضر.(1/215)
كلام له التأثير في كلّ قابل ... فيضحك وقتا للتلاحين أو يبكي
كما نمّ أزهار الرياض حروفه ... فتشكو من التالي له وهو لا يشكي
كتاب حكيم من حكيم منزل ... أكون به في الرحب وقتا وفي ضنك (1)
كساني نحولا نثره ونظامه ... فجسمي مما نالني منه في السبك
كتبت إليه أشتكي ما يصيبني ... كما كان يشكو الناس من صاحب النبك
وقال أيضا في حرف اللام:
لله درّ رجال ما لهم دول ... وهم يقيمون ما في الدهر من دول
لهم عنت أوجه الأملاك ساجدة ... وما لهم أرب في علة العلل (2)
لأنهم عينه ومن يكون على ... ما قلته فله التصريف في الملل
لما تفكرت فيما اختص بي وبهم ... رأيتهم عين نفس الحقّ في الأزل (3)
لقد رأيتهم والعين تصحبهم ... على محجتهم في أقوم السّبل
لبيتهم حين نادوني على كثب ... أنا المشرع ما في الكون من نحل
لو كان لي غرض في نسخ ما شرعوا ... لما عجزت ولكن حكم ذلك لي
لي كل ما شئت أخفيه وأظهره ... من العماء إلى الأركان في السفل
لدورتي أوجد الأدوار في أكر ... من الهلال إلى البيضا إلى زحل (4)
لعبت بالدهر دهري في تصرّفه ... ولو تصرّف غيري كان ذا ملل
وقال أيضا في حرف الميم:
مرادي مراد الطالبين أولي النهى ... وحالهم حالي وعلمهم علمي (5)
مكانتهم مني مكانة باطني ... من الجسد المشهود في عالم الرسم
مكان وإمكان وإخوان راحة ... هو الغرض المطلوب عند ذوي الفهم
مراتبهم علوية يشهدونها ... فويق استواء الأمر في العدل والحكم
مناط الثريا كان ايمنهم بنا ... وأيسرهم إكليلها وهو من كمي
مشيت على مثليّ بيضا نقية ... بقومي فلم أجهل وما جرت في زعمي
__________
(1) الضّنك: الضيق في كل شيء.
(2) العلة: أي تنبيه الحق لعبده بسبب أو بغير سبب، وقيل: علة كل شيء صنعه.
(3) الأزل: اللا بداية، والله تعالى وحده الأزلي.
(4) في الأصل: أوجد الأدوار ولا وجه له إلا كما أثبتناه. البيضاء في اصطلاحهم العقل الأول، وهو عندهم مركز العماء وأول منفصل من سواد الغيب، أو هو مرتبة الوحدة، أو محل تشكيل العلم الإلهي في الوجود كما قالوا.
(5) أولو النّهى: العقلاء.(1/216)
مقامي مقامي حيث لا أين وانتهت ... مقالتهم فينا وجرّدت عن جسمي
مضى زمن كان التأسي برأسهم ... لأن شهود العين حيرهم في اسمي (1)
مقابل من تعنو له أوجه العلى ... أنا ولهذا لم أزل ناقص القسم (2)
مرامهم كوني ومرماه غائب ... عن الفكر والتحديد بالعقل والوهم
وقال أيضا في حرف النون:
نهاني ودادي أن أبث سرائري ... إلى أحد غيري فمت بكتماني
نبابي زمان عز عندي وجوده ... وقد كان مشهودي لمشهد إحساني
نزلت إلى الأمر الدني وكان لي ... علوّ الذي أعلى الإله به شاني
نروم أمورا من زمان محكم ... بتضعيف آرائي وتحليل أركاني
نرى فيه ربي عين دهري وموجدي ... بتوحيد إسلام عميم وأيمان
نموت ونحيى حكم دهري بنشأتي ... ولم آت فيما قلت فيه ببهتان
نسميه بالدهر العظيم لأنه ... به قد تسمى لي بأوضح تبيان
نمتّ إليه بالوداد فعله ... يجود على أهل الوجود بطوفان
نعيش به لما تألم باطني ... بما أشعل التبريح من نار تركاني (3)
نحت نحوه سبحانه من وجودنا ... خواطر إيماء بتقويض بنيان
وقال أيضا في حرف الهاء:
هوية الحق أسراري وأعضائي ... فليس في الكون موجود سوى الله
هذا الذي قلته الشرع جاء به ... من عنده معلما وحيا من الباه
هو الوجود الذي جلّت عوارفه ... ستور أغطية عنه بأشباه
ها إنّ ذي عبرة إن كنت معتبرا ... ظهرت فيها بحكم المال والجاه
هي التي عين التوحيد مشهدها ... فلا تقل عند ما تبدو لنا ما هي
هي ليس يدركها عين سواها ولا ... تقول أهل النهى في مطلب ما هي (4)
هب أنه عين ذاتي كيف أفصله ... عني ولست بما قد قلت بالساهي
هنّيت يا طالب التحقيق من قدم ... صدق بما حزته من عين أنباه
هناك معطى وجود الكون من عدم ... في عين حدّ وفي ساه وفي لاهي
هو الذي حيّر الألباب واعتمدت ... على براهينها من كلّ أوّاه
__________
(1) الشهود: أن يرى حظوظ نفسه، وتقابله الغيبة. العين: إشارة إلى ذات الشيء الذي تبدو منه الأشياء.
(2) تعنو: تخضع.
(3) التبريح: الشوق.
(4) النّهى: العقل.(1/217)
وقال أيضا في حرف الواو:
وددت بأني ما علوت كما علوا ... عليه وإني ما دنوت كما دنوا
وعطلت ما عندي بما عندهم وما ... حصلت على ما حصلوه وما دروا
وانهم في كلّ حال ومشهد ... على حكم ما ظنوه فيه وما نووا
وليتهم لو قدّموه وثابروا ... عليه تدلوا في النزول وما علوا
ولكنهم لما تحقق جودهم ... وجودهم هدّوا قواعد ما بنوا
وما ذاك إلا أنّ في الصدق ثلمة ... تخوّنهم فيما رأوه وما رووا
وليتهم لما تحقق كونهم ... لديهم وما اهتموا لذاك وما بلوا
ولو كان غير الكون كوّن كونهم ... لما ابتاع أضداد الهوى ولما شروا
ودادك مطلوبي وحبك مذهبي ... وعشقك صفو العيش هذا إذا صفوا
وصيتهم حبل الإله تمسكوا ... به وتدانوا منهم عند ما خلوا
وقال أيضا في حرف اللام ألف:
لا تتخذ غير الإله وكيلا ... ولتتخذ نحو الإله سبيلا
لا تنه عن أمر وأنت تريده ... واعكف عليه بكرة وأصيلا
لا غرو انك إن عملت بنصّ ما ... أخبرتكم أرشدت أقوم قيلا
لا تبتغي عنه فإنك عينه ... ولذاك أودع حكمه التنزيلا
لا تعصين أهل الحجاب فإنهم ... قد أحكموا الإجمال والتفصيلا (1)
لاذوا بأحمى جابر وأعزه ... وبذاك نالوا الفضل والتفضيلا
لاثوا العمائم فوق أرؤسهم وما ... ستروا بها قرطا ولا إكليلا
لاكوا بألسنة حديث متيم ... يشكو الغليل ويكثر التعليلا
لا بارك الرحمن فيهم إنهم ... قد بدّلوا فرقانه تبديلا
لا نصّ أجلى من نصوص كتابه ... قد رتلته رسله ترتيلا
وقال أيضا في حرف الياء:
يلبي نداء الحقّ من كان داعيا ... جزاء لما يدعو أجاب المناديا
يقول تذكر ما أتى في خطابه ... وما أودع الله السنين الخواليا
يرى حضرة لم تشهد العين مثلها ... يناديه أيّاما بها ولياليا
يؤمل أمرا لم يزل قائلا به ... من الله لم يدعو له الله داعيا
__________
(1) الحجاب: قيل: الحجاب هو الذي يحتجب به الإنسان عن قرب الله، إما نوراني وهو نور الروح، وإما ظلماني وهو ظلمة الجسم.(1/218)
يحيى فيحيى من يشاء بنطقه ... لذاك تراه في المحاريب تاليا (1)
يمين له مدّت لبيعة مالك ... هو العبد إلا أنه كان واليا
يوليه أمر الكون فهو خليفته ... وإقليده التقليد إن كنت واعيا
ينزله في الأرض عبدا مسوّدا ... سؤوسا عليما بالأمور وراعيا
يكسر أصنام النفوس بعزمه ... من الهمة العليا خفيّا وخافيا
يناديه من ولاه أنت خليفتي ... على الكل مهديّ المقام وهاديا
وقال أيضا في مبشرة في حقّ بعد إخوانه:
لا تدعي في طريق أنت سالكه ... وإنما أمره مكارم الخلق
وليس عندك منها ما تكون به ... من أهملها ولهذا أنت في قلق
أنت الذي قال فيه الحقّ يعلمكم ... جريت سبعا مع الأهواء في طلق
لأتبع غرضا إن كنت تطلبنا ... وكن مع أهل طريق الله في نسق
ولو نظرت بعيني لا بعينكم ... لما رأيتك في خوف ولا ملق
ماذا صفات رجالي إنهم صبروا ... على المكاره في نور وفي غسق (2)
يا يوسف بن أبي إسحق كن رجلا ... ولا تكن عندنا من أخسر الفرق
فأنت ذو لؤم طبع لست ذا كرم ... لو كنت ذا كرم ما كنت ذا فرق
إن الكريم شجاع في سجيته ... له من النعت طول لباع في العنق
أعيذه بالذي في النور من سور ... معلومة مثل ربّ الناس والفلق
وقال أيضا:
أحاطت بنا الأفكار من كلّ جانب ... فأصبحت قد سدّت عليّ مسالكي
عبوسا لمن قد جاء في غير ضاحك ... وهل وجه رضوان كسحنة مالك (3)
ولكنني لما علمت بأنني ... قد أصبحت مملوكا لأكرم مالك
ينفس عني كل كرب وجدته ... فملكني حالي جميع الممالك
فلبيت إجلالا وشكرا لخالقي ... وعظمت ربي في جميع المناسك
وقلت لنفسي لم يكثر الهنا ... مناسكه إلا لأجل التماسك
فإن لم تجده ههنا ربما ترى ... تجده هنا فاحذر حجاب التباسك
لكل أناس واحد يقصدونه ... وإني على حكم الهوى من أناسك
نزلت على الحق انتساكا لأنه ... وجود الذي تبغيه عند انتساكك
__________
(1) المحاريب: جمع المحراب: صدر المجلس، أو مكان وقوف الإمام في الصلاة.
(2) الغسق: ظلمة أول الليل.
(3) رضوان من الملائكة وهو خازن الجنة. مالك: من الملائكة وهو خازن النار.(1/219)
ولا تختلس إنّ الوجود محرّم ... عليك إذا لم تعتمد في اختلاسك
شمست فلم تظفر بما تبتغينه ... لأجل الذي أعطاه عين شماسك
نفست فلم يقربك إلا مكذب ... كذوب وهذا أصله من نفاسك
فلا تقتبس نارا من الزندانه ... حجاب عليه فهو نفس اقتباسك
وقال أيضا:
ما لقومي عن وجودي قد عموا ... أترى أدركهم فيه صمم
إنني عرفت هودا بالذي ... أنا فيه من سرور وألم
فالذي يدري الذي أقصده ... كلما قلت ألا قال ألم
ما لهم لم يعرفوا أو يسمعوا ... أنني أمشي على النهج الأمم
وهم يمشون بي في أثري ... فهم حيث أنا من غير لم
والذي أخبر عني بالذي ... قلته ليس من أرباب التهم
هو هود والذي أخبركم ... أحمد المبعوث في خير الأمم
لا تقولوا إنه من عرب ... إن هودا ليس من أهل العجم
إنني ترجمت عنه بالذي ... قاله للناس عني وحكم
فاشكروا الله الذي أظهركم ... عن ثبوت هو في عين العدم
فأنا الظاهر لا أنت بما ... أنت في نفسك من حمد وذم
لا تبالي إنكم في عدم ... وأنا الكل حدوثا وقدم
ما لكم في عين كوني أثر ... لا ولا عين وحكم وقدم (1)
إن أسمائي بكم قد حكمت ... في وجودي فلنا كيف وكم
وقال أيضا:
أيا خير مصحوب ويا خير صاحب ... عليك اتكالي في جميع مطالبي
عليك اتكالي ثم أنت وسيلتي ... إليك فحل بيني وبين مطالبي
وكن عند ظني لا تخيبه إنه ... من أكرم مطلوب وأفقر طالب
لقد ترجم الإيمان عنكم بأنكم ... ضمنتم لأمثالي جميع المطالب
وقال أيضا:
الأمر أعظم أن يدرى فيعتقدا ... على الحقيقة إجمالا وتفصيلا
عنه العبارة في الألفاظ قاصرة ... يدريه من رتّل القرآن ترتيلا
ولا التصوّر في الألقاب يضبطه ... ولا يقيده عقلا وتنزيلا
__________
(1) العين: إشارة إلى ذات الشيء الذي تبدو منه الأشياء.(1/220)
فحدّه كل محدود بصورته ... وما تناهت فيبقى الأمر مجهولا
فلست أعرفه إلا مشاهدة ... ولست أشهده حسّا ومعقولا
قد جل مظهره إذ جلّ ظاهره ... وحلّ مظهره نصّا وتأويلا (1)
إنّ البصائر والأفكار ما اجتمعت ... فيه وقد عجرت قطعا وتفصيلا
إن قلت بالحسّ لم تظفر بطلعته ... أو قلت بالعقل تبديلا وتحويلا
فالوهم يحكم والأوهام يعرفها ... والوهم لم أر فيه قط محصولا
وليس يدرك ذو عقل وذو بصر ... ما ليس يدرك موصولا ومفصولا
حارت عقول ذوي الألباب فيه كما ... حارت خواطر من يبغيه تضليلا
وقال أيضا في النوم:
غزال من الفردوس بات معانقي ... فقبلني ودّا فتم مرادي (2)
له زينة الأسماء أسماء خالقي ... عليه من الأثواب ثوب حداد
من أجل الذي قد بات فيه مهيما ... ضحوكا للقياه صحيح وداد
تراه مع الأنفاس يتلو كتابه ... بعبرة محزون حليف سهاد
يقوم بأمر الله إذ قال قم به ... بطاعة مهديّ وسنة هادي
وقال أيضا في النوم:
الأمر أعظم أن يخطىء به أحد ... فما له في وجود العلم مستند
جاء الحديث فما تدرى حقيقته ... ولا يعينها فكر ولا سند
والكشف ليس له فيها مداخلة ... لأنه بوجود الصور ينفرد
أمر الإله كما قد جاء واحدة ... والعبد من سرّه بالحقّ متحد
فما ترى جسدا إلا ويعقبه ... إذا مضى عينه من حينه جسد
وقال أيضا:
لما رأى القلب بنور الهدى ... ما صنع الرحمن في نشأته
من حكمة أعطاه ترتيبها ... علم الذي رتب في هيئته
من فلك دار بأحكامه ... ليبرز الأعيان في فيئته (3)
__________
(1) الظاهر: ظاهر العلم: عبارة عن أعيان الممكنات: وظاهر الوجود: عبارة عن تجليات الأسماء.
التأويل: التفسير.
(2) الغزال: كناية عن المحبوبة، ويريد المعرفة.
(3) الأعيان الثابتة: هي حقائق الممكنات في علم الحق تعالى. الفيئة: الرجوع.(1/221)
وقال أيضا:
إذا بدا علم الأحوال يستبق ... إليه والسحب بالأمطار تندفق (1)
فما ترى علما إلا رأيت سنا ... ولا مضى طبق إلا أتى طبق
الأمر مشترك في كل معترك ... فما انقضت علق إلا بدت علق
إذا رأيت الذي في الغيب من عجب ... رأيت نور وجود الحق ينفتق
عليك من خلف ستر أنت وافره ... وعنده تبصر الأسرار تستبق (2)
إليه وهي مع الإتيان فانية ... عنها وعنه وهذا كيف ينفق
لذاك قلنا بأنّ الأمر مشترك ... ما بيننا ولهذا عمنا القلق
فالكل في قلق لا يعرفون لما ... لأنّ باب وجود العلم منطبق
ضاعت مقاليده لذاتها فلذا ... والله قد رجّح التقليد حين شقوا
بالفكر في نيل علم لا يكون لهم ... ولو يكون مفاتيحا لما وثقوا
فسلم الأمر إنّ الأمر مرجعه ... إلى عمى وإليه الكل قد خلقوا
حرنا وحاروا فخذ علما منحتكه ... وكن ذريبته تحظى بك الفرق
ولا تخف إنهم في كلّ آونة ... في شبهة حكمها لنفسها الفرق
تردّهم لمحل الفكر فهي لهم ... نار تحرّقهم فالكلّ محترق
هم المسمون إن حققت امعة ... كنعت خالقهم فاصدق كما صدقوا (3)
وكن بهم نائبا عنهم فلبهم ... غضّ جديد ولبسي دونهم خلق
ولا تسابق سوى الحرباء إنّ لها ... حال الوجود وريّا مسكها عبق (4)
وقال أيضا:
المرجفان هما الإبريق والطاس ... والأحمران كذاك اللحم والراح (5)
والشحم ثم الشباب الأبيضان إلى ... شهود هذين نفس القوم ترتاح
والتمر والماء عندي الأسودان يرى ... كأنه في ظلام الليل مصباح
الجاه والذهب المسكوك نعتهما ... الأصفران ووجه التبر وضّاح (6)
__________
(1) الأحوال: الغيبة والحضور والصحو والسكر والوجد والهجوم والغلبات والفناء والبقاء.
(2) السر: لطيفة مودعة في القلب كالروح في البدن. وبدون السر تعجز النفس عن العمل ولا تفيد فائدة ما لم السر الذي هو همة معها.
(3) كذا في الأصل.
(4) الحال ما يرد على القلب من طرب أو حزن.
(5) الراح: الخمرة.
(6) القبر: الذهب.(1/222)
إذا تجلى لك المطلوب فيه بدت ... لناظر القلب في الأشباح أرواح
هي المعاني قد راحت وما برحت ... قد قيدتها عن التسريح أشباح (1)
لو أنها سألت عنهم جماعتهم ... لقال قائلهم راحوا وما راحوا
في فقد ما قلته الآلام أجمعها ... كما بوجد إنها للنفس أفراح
إني نصحتكم لما رحتكم ... وذا الوجود قليل فيه نصّاح
وقال أيضا:
الله يعلم نفسي ... وما عليه أجنّت (2)
فحكمة الله لما ... طلبتها ما تجنت
فكم تمنت نفوس ... إدراكها واطمأنت
ولو درت أن هذا ... يضرّها ما استكنت
لذاك خابت فذابت ... ولم تنل ما تمنّت
ولو تمت عقول ... إليه بالشوق حنت
نالته علما ولكن ... ضلّت به حين ظنت
لقد منحت مقاما ... له الخلائق أنّت
كما خصصت بأمر ... عنه الملائك جنّت
وقال أيضا:
حروف الهجا عشرتها لتكون لي ... ذخيرة خير للسعادة شامله
فضمنتها علما وأنشأت صورة ... مخلقة عند المحقّق كامله
وصوّرتها مثل الهيولى لأنها ... إلى صورة الألفاظ بالذات قابله (3)
فأظهرتها للعين شمسا منيرة ... على صفة تفني الزوائد فاضله
تراها إذا خاطبتها بذواتها ... تردّ جوابي فهي قول وقائله
فأمنتها من كلّ تحريف لافظ ... وآمنتها من كلّ مكر وغائله
يترجم عما في الضمير وجودها ... إذا أفردت أو ركبت هي باذله
بها وحاية العلم عشرت ذاتها ... هي الروح إلا أنها فيه فاصله (4)
تقسمه تقسيم خر ممكن ... خبير بما لي فهي للخير واصله
__________
(1) الأشباح: جمع الشّبح: الشخص.
(2) أجنّت: سترت.
(3) الهيولى: القطن، وقد شبّه به الأوائل طينة العالم. وعند أهل الفلسفة هو المادة التي صنع منها العالم.
(4) عشرت: قسمت إلى عشرة أقسام.(1/223)
تراها على النعيين مهما تكلمت ... بها ألسن ما بين حال وعاطله
إذا ما أبانت فهي أعدل شاهد ... وإن لم تبن كانت عن الحقّ عادله
وقال أيضا:
تولّد ما بين الطبيعة والأمر ... وجود يسمى عالم الخلق والأمر (1)
أهيم به دهري لصورة خالقي ... ولولا وجود الدهر لم أفن في الدهر (2)
أذوب وأفنى رقة وصبابة ... إذا ما ذكرت الله في السرّ والجهر (3)
وفي صورة الأكوان أبصرت صاحبي ... لذا كثرت أسماء حبي في شعري
فإن قلت شعرا في شخيص معين ... فما هو إلا ما تضمنه صدري
هو الحق لكن قيدته حقائق ... تقوم به من عقل أو حسّ أو فكر
يناجيه في سرّي ضميري وشاهدي ... بأسمائه في الشفع كان أو الوتر
أقول له حبي فأسمع ردّه ... بما قلته مثل الصدى حكمه يجري
وقال أيضا في زلزلة رآها في النوم:
رأيت زلزلة عظمى منهبة ... على أمور عظام كدت أخفيها
في برزخ من برازخ الكرى ظهرت ... آثارها وهو حالي قد بدا فيها (4)
بدا لشاهد عيني عين صورته ... تراه يا ليت شعري هل يوافيها
قالت خواطرنا من فوق أرقعة ... تحريك أفلاكنا منا يكافيها (5)
لو كان يصفو لنا في حال رؤيتنا ... إياها خاطرنا كنا نصافيها
لكنها مرضت نفسي لرؤيتها ... وقد سألت إلهي أن يعافيها
شافهتها ومرادي أن أذكرها ... بما لها عندنا من في إلى فيها
تحرّك الجسم مني في تحركها ... بسجدة لأمور لا تنافيها
وكان فيما بدا مني لما قصدت ... من المواعظ والذكرى تلافيها
وقال أيضا، في الملك العزيز ابن الملك العادل لما مات، وكان موته يوم الإثنين عاشر لشهر رمضان سنة ثلاثين وستماية وذلك ببستانه بالناغة بظاهر دمشق:
__________
(1) الطبيعة باصطلاح الفلاسفة هي الحقيقة الإلهية الفعالة للصور كلها.
(2) الفناء: سقوط الأوصاف المذمومة، وفي اصطلاحهم أيضا هو تبديل الصفات البشرية بالصفات الإلهية دون الذات.
(3) الصبابة: الشوق.
(4) البرزخ: العالم المشهود بين عالم المعاني والأجسام، أي بين الآخرة والدنيا.
(5) الأرقعة: السماوات.(1/224)
طلبت ذلول عزيزها لتزيله ... عن ظهرها كرما به فأجابا (1)
عن إذن خالقها دعته لنفسها ... فلذاك لبى طائعا وأنابا
قد ألبسته من التراب لغيرة ... قامت بها حبا له جلبابا
مما تحب مقامه في بطنها ... ألقت عليه جنادلا وترابا (2)
حتى يقيم بها إلى اليوم الذي ... يدعى ليحضر موقفا وحسابا
فيفوز بالخير الأعم ويعتلي ... نحو الكثيب ليبصر الأحبابا
وقال أيضا:
الوهم يصلح ما الألباب تفسده ... في الحق لكنها ما لوهم تعبده
العقل يحكم والأوهام تحكمه ... فيه فتضبطه ولا تحدّده
وكيف يحكم عقل قاصرا حدث ... على مكوّنه والعجز مشهده
تنوّع الذات بالأفكار إن لها ... مثل الهيولى ولكن لا تعدّده (3)
يرمي الإله بها من كان عنه به ... وليس يرمى به إلا ويقصده (4)
العقل بالنظر الفكريّ يمسكه ... والكشف يرسله ولا يقيده (5)
لو كان للعقل حكم في مكوّنه ... لما أتى شرعه وقتا يفنده
وقال أيضا:
وجودي وجود العارفين لأنهم ... كمثل الذي أشهدته أشهدوا حقا (6)
فعينهم عيني ولست سوى لهم ... ولو أطلقوا جمعا ولو أطلقوا فرقا (7)
وكونهم كون الإله كما أنا ... فقل إن تشا حقا وقل إن تشا خلقا
كزيتونة قامت على ساق موجدي ... فما هي في غرب ولا رأت الشرقا (8)
تعالت عن الأرواح لا ميل عندها ... ويمطرها السحب الذي يخرج الودقا (9)
فمنها بدا إلى ساق حرّ كما بدت ... لعيني منها المطوقة الورقا (10)
__________
(1) ذلول: يريد الأرض.
(2) الجنادل: الحجارة والواحد جندل.
(3) الهيولى: في اللغة القطن، وفي اصطلاحه المادة التي صنع منها العالم.
(4) يقال: رماه فأقصده: قتله، أو أصابه فلم يخطئه.
(5) الكشف: الاطلاع على ما وراء الحجاب من المعاني الغيبية والأمور الحقيقية.
(6) العارف: باصطلاحهم هو من أشهده الرب عليه فظهرت الأحوال عن نفسه.
(7) العين: إشارة إلى ذات الشيء الذي تبدو منه الأشياء.
(8) وصدى الآية: {يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبََارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لََا شَرْقِيَّةٍ وَلََا غَرْبِيَّةٍ} سورة النور، آية: 35.
(9) الودق: المطر.
(10) ساق حر: ذكر القماري. المطوّقة الورقاء: الحمامة.(1/225)
فعاينت آحادا ولم أر كثرة ... وقد قلت فيما قلته الحقّ والصدقا
ونظمت أبياتا من الشعر فيهما ... وما كان نطقي بل هما عينا النطقا
سواسية أسنان مشط تراهم ... وهم في سفال جاوزوا الدوح والأفقا (1)
لهم حركات في سكون فصنعهم ... صنيع الذي من أجله أوجدوا الفرقا
فيفعل بالشكل المعين وضعه ... لذاك تراه يحفظ الرتق والفتقا (2)
وقال أيضا:
ريان فلكي عين الحق تحفظه ... وهو السفينة والأمواج والماء
تجري بأعينه والعين واحدة ... ممن وقل لي إلى من فهي أسماء
ما في الوجود سوى هذا وكان لنا ... في كل حادثة رمز وإيماء
الله يحفظنا منه ويحفظه ... منا فتحن الأذلاء الأعزاء
به اعتززنا كما بنا يعزّ وهل ... يحلّ رمزي إلا الواو والهاء
مضى وجودي به عني فلست أنا ... ولست هن وهي أغراض وآراء
قد قلت ذلك عن علم وعن ثقة ... بما أقول وراح اللام والياء
فلا به كان كون لا ولا وله ... وعنه كان فأمراض وأدواء
لذاك قيل بمعلول وعلة ... من أجل ذا ثم أسرار وأشياء (3)
ونحن نعلمها وهو العليم بها ... حين التوالد آباء وأبناء
هو الشخيص الذي لا ريب يلحقنا ... فيه ونحن ظلالات وأفياء
لولا السنا ما بدت منه الظلال ولا ... إليه يقبض فالأنوار آباء
والشخص أم لها وعنه قد ظهرت ... وفيه كانت فإظهار وإخفاء
وقال أيضا:
إذا تجليت لي أنثى أهيم بها ... ولو تجليت لي في أقبح الصور
لعاد قبح الذي جعلت مظهركم ... عندي وفي نظري من أحسن الصور
تبارك الله في مجلاه نعرفه ... ولو جهلناه كنا منه في ضرر
هو المشاهد في ذات وفي صفة ... في عالم الأمر والأفلاك والبشر
به أراه وأصغي عند دعوته ... لأنه عين سمع الأذن والبصر
__________
(1) الدوح: جمع الدوحة: الشجرة العظيمة.
(2) الفتق: الشق. والرّتق: ضد الفتق.
(3) العلة: قيل: هي كناية عن بعض ما لم يكن فكان. وقال ذو النون المصري: علة كل شيء صنعه، ولا علة لصنعه. والعلة تنبيه الحق لعبده بسبب أو بغير سبب.(1/226)
وعالم الرسم لا يدري مقالتنا ... ولو يقول بها لكان في غرر (1)
وكلّ صاحب عقد في الذي علمت ... ألبابنا إنه فيه على خطر
تراه يسبح في بحر وليس له ... سيف يؤمّله إن كان ذا حذر
فاثبت على ما يقول الشرع فيه ولا ... تعدل عن النظر العقليّ والخبر
ولتنفرد بالذي أشهدته فإذا ... مشيت في الناس لا تعدل عن الأثر
وقال أيضا:
الصدق سيف الله في الأرض ... يقطع بالطول وبالعرض
يعم بالقطع لهذا يرى ... يحكم في الرفع وفي الخفض
والعالم الأقرب في عزه ... والعالم الأبعد في الأرض
يقيم دين الله في خلقه ... نيابة في النفل والفرض (2)
ولا يرى في ملكه جائرا ... إلا الذي ينصب بالغرض
وقال أيضا:
نظرت إلى الحق المستر بالخلق ... فقلت بتنزيه الخلائق والحقّ
فلم أر تشبيها بخلق محققا ... لأن صفات الخلق حقّ بلا خلق (3)
فما الأمر إلا واحد لا موحد ... عن النظر العقليّ والقول بالوفق
فلا تعدلوا عني فإني منبىء ... انبئكم بالحال وقتا وبالنطق (4)
فما كان عن حال فذوق محقق ... وما كان عن نطق سيسفر عن خلق
فقوموا إليه عند ما تسمعونه ... فذلك حظ النفس من مطلق الرزق
ألم تر أن الحقّ بالذات رزقنا ... ونحن له رزق بفتق على رتق (5)
وقال أيضا:
أمرت فلم أسمع دعوت فلم تجب ... ألا ليت شعري من هو الربّ والعبد
تسترت عني بي فقلت بأني ... ظهرت فلم تخف خفيت فلم أبد
طلبتكم مني فلم أر غيركم ... فهل حكم القبل المحكم والبعد
قعدت بكم عنكم لكوني كونكم ... فلما قعدنا قمت أنت بنا تعدو
__________
(1) الرسم: هو الخلق وصفاته لأن الرسوم هي الآثار.
(2) النفل: الزيادة.
(3) إشارة إلى أن صفات الله تعالى ليست حادثة.
(4) الحال: ما يرد على القلب من طرب أو حزن أو بسط أو قبض.
(5) الفتق: الشق. والرتق: ضد الفتق.(1/227)
إليكم عسى يبدو وجودي إليكم ... فألفيته في اسم يقال له الفرد
فأسماؤك الحسنى يكثر كونها ... وجودي ولولا ذاك لم يكن البعد
فمن يحصها حالا يكون بجنة ... ومن يحصها عدّا يكون له الحدّ
لي البعد منكم والتداني من اسمكم ... فبعدي لكم قرب وقربي بكم بعد
إذا أنت أعطيت النعيم وجدتني ... شكورا وإن لم تعطني فلك الحمد
مركبنا يبغيه برهان وجدكم ... وأفراده بالذات يطلبها الحدّ
فمن قام في الأفراد فالحدّ آجل ... ومن قام في التركيب برهانه النقد
فكم بين موضوع حماه محرّم ... وكم بين محمول يساعده الجدّ
إذا غطني ملقى الحديث بباطني ... ففي حلّ تركيبي يكون له قصد
فيفصم عني وهو للذات قاهر ... إذا بلغ المقصود من غطى الجهد
أسايره حتى إذا ينقضي الذي ... أتاني به ألوي على عقبي أعدو
يزملني من كان عندي حاضرا ... لما هدّ مني ما تضمنه العهد (1)
ولست بما قد قلته بمشرّع ... لقومي ولكني ورثت فلم أعد
تروح عليّ الروح يوما إذا يرى ... قبولا بآداب وعن أمره تغدو
بما أنا مأمور به أنا آمر ... وما لي مهما جاني منهما بدّ
لعبت بشطرنج العقول مدبرا ... ولي في الذي يبدو القبول أو الردّ
وبالنرد يلهو صاحب الشرع والحجى ... وقد عرف المطلوب من لهوه والنرد (2)
وبينهما شطرنج نرد لمن يرى ... ويقضي عليه ما يقابله العقد
تولى على الأسرار سلطان ودّه ... وأفلح سرّ كان سلطانه الودّ
له حرمات في شهور تعينت ... فواحدهم فرد وباقيهم سرد
إذا أنت شاهدت الوجود وجوده ... بذلك ما يعطيه من قدحه الزند
ولكنه بالريح روح بقائه ... يقال له في عرفنا النفخ والوقد
فيفعل فعل النور والنار وسمه ... كما لهما الإطفاء والذم والحمد
فخص بفتح النون إذ عمّ نفعه ... ورحمته والضم من شأنه السدّ
فتطمع فيه الكاعبات لنفعه ... وترهب منه في أماكنها الأسد (3)
__________
(1) التزميل: التلفف.
(2) الحجى: العقل. النرد والشطرنج: من ألعاب التسلية.
(3) الكاعبات: جمع الكاعب: الفتاة إذا نهد ثديها.(1/228)
وقال أيضا:
هذا الوجود الذي بالعرف نعرفه ... ليس الوجود الذي بالكشف نعلمه (1)
العقل يجهله والفكر ينكره ... والذكر يظهره والسرّ يكتمه
هو الإله ولا تدري مظاهره ... بأنه عينها والحقّ يبهمه
على العقول التي العادات تحجبها ... لذاك تنكر ما الأسرار تفهمه
إلا على واحد من كل طائفة ... فإنّ ربك بالتعريف يكرمه
يا ربّ غفرا وعفوا إنني رجل ... من يطلب الأمر مني لست أعلمه
إلا بأمرك إن العبد ليس له ... تصرّف دون أمر مني لست أعلمه
وهبتني كرما سرّا فبحت به ... ولم يكن أدبا ما قاله فمه
عتبت عبدك فيه ثم قمت به ... عنه لتحفظه إذ أنت تلهمه
محوته من صدور أنت تعرفها ... بسنة أو نعاس فاحتمى دمه
ما كنت أعلم أن الأمر فيه كذا ... عند الإله وأن العتب يلزمه
لولا محبته فينا لعذبنا ... ولا يهان من الرحمن مكرمه
إنّ الذي شاء ربي أن أدخره ... أريد أعربه والحال يعجمه (2)
إلا على قلب من قد شاء خالقنا ... يدري به فلسان الوقت يبرمه
كالتونسيّ ومن يجري بحلبته ... من القلوب التي تعطى وتكتمه
أعطيت كلّ محل ما يليق به ... وقلت فيه مقالا لا أجمجمه (3)
يقول للقول كن حتى يكون به ... من بعد ذلك يأتيه يندّمه
لو لم يكوّنه لم تظهر حقيقته ... لكنه العلم بالمعلوم يحكمه
يقضى عليه به فالحقّ بايعه ... لكنه بحدوث العين يوهمه
وقال أيضا:
إني لأجهل ذات من علمي بها ... عين الجهالة فالعليم الجاهل
فإذا طلبت بحار معرفتي بها ... جاءت بحار ما لهن سواحل (4)
ما يشغل الألباب إلا ذاتها ... فلقلبنا في الذات شغل شاغل
__________
(1) الكشف الاطلاع على ما وراء الحجاب من المعاني الغيبية والأمور الحقيقية.
(2) الحال: ما يرد على القلب من طرب أو حزن أو بسط أو قبض.
(3) الجمجمة: التحدث بكلام غير مفهوم.
(4) بحر بلا ساحل يعني أن الحال الذي خصه الله تعالى به من التعظيم لله وخالص الذكر له والانقطاع إليه، لا نهاية لها ولا انقطاع.(1/229)
ما نالها من نالها إلا بها ... وبما لها فهي المنال النائل (1)
ما قلت قولا في الوجود محققا ... إلا وأنت هو المقول القائل
فانظر بعيني ما تراه فإنه ... عيني على التحقيق وهو الحاصل
لا تفصلوا بيني وبين أحبتي ... إن المحب هو الحبيب الفاصل
إني مررت بغادة في روضة ... ترعى الخزامى لم يرعها حابل (2)
تصطاد لا تصطاد فهي فريدة ... في شانها فصفاتها تتقابل
لو أنها ظهرت بنعت مقامها ... حازت أعاليها لذاك أسافل
العلم مني بالإله فريضته ... فأنا الفريضة والحبيب نوافل (3)
وبذا أتى وحي الإله لسمعنا ... في نطقه وهو الصّدوق القائل
ما مرّ بي يوم أراه بناظري ... يمضي بنا إلا ويأتي الآجل
ما قسم الدور الذي لا قسمة ... في ذاته إلا الحجاب الحائل (4)
فيقال ليل قد أتاه نهاره ... ليزيله وهو المزيل الزائل
فإذا ظهرت لمستوى نعتي له ... لم تبد أعلام هناك فواصل
فرأيت أمرا واحدا لا تمتري ... فيه العقول وخيره لك شامل
فلمثل هذا يعمل الشخص الذي ... هو في الحقيقة بالشريعة عامل
وهو الذي فاق الوجود تظرّفا ... وتصرّفا وهو الشخيص الكامل
صغرته في اللفظ تعظيما له ... وهو المكبر والغنيّ العائل
فهو المجيب إذا سألت جلاله ... وإذا أجبت نداه فهو السائل
فالأمر بين تردّ وتحيرّ ... وتماثل وتقابل متداخل
سفرت عن الشمس المنيرة إذ علت ... فوق العماء فحار فيها الداخل (5)
لله نور كالسراج يمدّه ... وهن التقابل بالنزاهة يأفل (6)
مثل أتاك ولم تكن تدري به ... والضارب الأمثال ليس يماثل
لا يقبل الإنسان علم وجوده ... إلا به فهو العليّ السافل
__________
(1) النائل: العطاء.
(2) الحابل: المهمل من الإبل. الخزامى: نبات له عطر. ويرمز هنا إلى المعرفة بالغادة.
(3) يشير إلى أن معرفة المعبود فرض على المسلم.
(4) الحجاب: حائل يحول بين الشيء المطلوب المقصود وبين طالبه وقاصده.
(5) العماء: السحاب المرتفع أو الكثيف.
(6) يأفل: يغيب.(1/230)
ولما در في فضل معن مدخل ... وأبان سحبان الفصاحة باقل (1)
نفس الثناء أسماؤه وهي التي ... ظهرت بنا ولنا عليه دلائل
لو لم يكن ما كان ثم بعكسه ... قالت بما قلناه فيه أوائل
لولا منازلنا لقلت معرّفا ... لك يا منازل في الفؤاد منازل (2)
إن النجوم إذا بدت أنوارها ... هي في السماء لمن يسير مشاعل
يسري لنور ضيائها أهل السّرى ... أهل المعارج في العلوم أفاضل
وضعت يدي للمهتدين وزينة ... للناظرين فسوقة وأقاول
إني أحامي عن وجود حقيقتي ... بحقيقة عنها اللسان يناضل
لا يعرف الحق المبين لأهله ... إلا الإمام اليثربيّ العادل
لا تعذلوا من هام فيه محبة ... قد أفلح الراضي وخاب العاذل
والمحصنات المؤمنات أعفة ... لا ترمهنّ فإنهنّ غوافل
يا مصغيا لنصيحتي لا تغفلن ... وأعمل بها فالخاسر المتغافل
واحذر نداء الحقّ يوم ورودكم ... عند السؤال بعلمه يا غافل
المنزل المعمور إن أخليته ... عن ساكنيه هو المحلّ الآهل
لا يعرف القدر الذي قد قلته ... في نظمنا إلا اللبيب العاقل
القول قول الشرع لا تعدل به ... زهر النّهى عند الحقيقة ذابل
تجري على حكم الوجود قيوده ... فهو المحبّ المستهام الناحل
لا تأمل إلا من ينفذ حكمه ... قد خاب من غير المهيمن يامل
من كان موصوفا بكل حقيقة ... كونية هو للمعارف قابل (3)
لا تنفرد بالعقل دون شريعة ... روض النهى عند الشريعة ماحل
واعكف على علم الحقيقة ... كلّ إلى علم الحقيقة آئل
لا يقبل الإلقاء إلا عاقل ... فإذا تخلّى عنه ما هو عاقل
__________
(1) سحبان وائل: خطيب من خطباء العرب، يضرب به المثل في الفصاحة.
وباقل: يضرب به المثل في العي فيقال: «أعيا من باقل».
(2) صدى لبيت المتنبي:
لك يا منازل في القلوب منازل ... أنت أقفرت وهن أواهل
(3) الحقيقة: هي إقامة العبد في محل الوصال إلى الله. وقيل: الحقيقة هي اسم الصفات، ذلك أن المريد إذا ترك الدنيا وتجاوز عن حدود النفس والهوى، ودخل في عالم الإحسان، يقولون: دخل في عالم الحقيقة والمعرفة كما قالوا: تحقيق القلب بإثبات وحدانية الله بكمال صفاته وأسمائه فإنه المتفرد بالعز والقدرة والسلطان والعظمة، الحي الدائم الذي ليس كمثله شيء، وهو السميع البصير بلا كيف ولا شبه ولا مثل.(1/231)
بيني وبين أحبتي سمر القنى ... عند الحمى وتنائف ومجاهل (1)
وقال أيضا:
باب المعارف مفتوح لقارعه ... وكيف يقرع باب وهو مفتوح
ما ذاك إلا لما في الدار من حرم ... والشخص ذو بصر والصدر مشروح
وصاحب الدار غيران وذو مقة ... في أهله والهوى رمز وتشريح
وليس يقرع هذا الباب غير فتى ... له قليب به وجد وتبريح (2)
له قليب مع أهل الدار حيره ... هوى له فيه تطفيف وترجيح (3)
ما الحب إلا لأهل الدار ليس لها ... وقد يكون لها وفيه تلويح
لأنهم عينها إن كنت ذا نظر ... ولا تقل هي دار إنه ريح
وقال أيضا:
عجبت من أمر دار كلّها عجب ... فيها النقيضان فيها الفوز والعطب
يلتذ شخص بما يشقى سواه به ... لذاك جئت بقولي كلها عجب
نعمت مطيتنا إن كنت ذا نظر ... فيها يشال وفيها تسدل الحجب
وقال أيضا:
من يعبد الله على أمره ... ذاك الذي يعبده حقا
من يعبد الله على شرعه ... ذاك الذي يعبده رقا
العبد من يعبده هكذا ... لا يلتفت أجرا ولا خلقا
والله يجزيه على فعله ... صدقا لما قد قاله صدقا
وقال أيضا:
من يعبد الله إنّ الله قد عبدا ... ذاك الوحيد فلا تشرك به أحدا
كما أتاك بآي الكهف آخرها ... وقد أضاف إليه ذاك فاستندا
ذا الفعل كلف والأفعال أجمعها ... لله ليس لكون فعله أبدا
وقد أضيف إليه وهو فاعله ... لكي يميز من أقرّ أو جحدا
إن الحقائق لم تترك لنا سبدا ... بما أتينا به فيه ولا لبدا (4)
فكل فعل فإن الله خالقه ... وقد جعلت له من دونه سندا
__________
(1) سمر القنا أي: الرماح. التنائف: جمع الثّنوفة: المفازة.
(2) التبريح: الشوق. القليب: البئر.
(3) التطفيف: التنقيص.
(4) قوله: لم تترك لنا سبدا ولا لبدا: أي لم تترك قليلا ولا كثيرا.(1/232)
لكي يصيب فلا تحظى إضافته ... إذا أضاف إليه فعل ما شهدا
ولا يحاسب إلا من عقيدته ... هذا الذي قلته عدلا كما وردا
إلا الذي قالها في الله من أدب ... لا باعتقاد فيجزيه بما قصدا
وتلك مسألة حار الأنام لها ... وليس يعرفها إلا الذي شهدا
وقال أيضا:
إن الإله الذي يرى وتدركه الأ ... بصار ذاك إله الاعتقاد فلا
تدري سواه فإن الله قرّره ... على لسان الذي أبداه حين جلا
أما الإله الذي لا عين تدركه ... ذاك الإله الذي في خلقه جهلا
فيصدق الأشعريّ في مقالته ... ومن يقابله هذا لمن عقلا (1)
وليس يجهل خلق ربه أبدا ... وكيف يجهل من قد حبله وصلا
الله أوسع علما أن يقيده ... عقد لذلك لم يضرب له مثلا
وكلّ من يضرب الأمثال فيه يصب ... لذا نهى وأتانا اتبعوا الرسلا
فالعقد ما قاله لا ما نصوّره ... وما نقيم له في قلبنا مثلا
وقال أيضا:
ولما رأيت الأمر يعلو ويسفل ... ويقضي به الحقّ المبين ويفصل
تصرّفه الأهواء أنى توجهت ... فيقضي به ريح جنوب وشمأل
تنبه قلبي عند ذاك عناية ... من الله جاءته وقد كان يعقل
فو الله لولا أن في الصدق ثلمة ... لما كان قلب العبد يسهو ويغفل
وقلت لقلبي ما دعاك لما أرى ... فلم أدر إلا أنها تتأوّل (2)
بحثت عن أصل الأمر ما أصل كونه ... فلاح لنا في ذلك البحث فيصل
فأعلم أنّ الحكم للعلم تابع ... كما هو للمعلوم والأمر يجهل
ولما رأيت الحقّ فيما ذكرته ... علمت بأن الأمر جبر مفصل
وأن إله الخلق بالخلق يفصل ... وبالخلق أيضا بالمكاره يعدل
فمن لام غير النفس قد جار واعتدى ... ومن لامها فهو الشهيد المعدّل
ولما رأيت الحق للخلق تابعا ... تساوى لديّ الخوف والأمن فاعملوا
على كشف هذا واعملوا بمناره ... فإن به تسمو الذوات وتكمل
__________
(1) الأشعري: أبو الحسن، علي بن إسماعيل بن إسحاق، من نسل الصحابي أبي موسى الأشعري. وهو من أئمة المتكلمين المجتهدين. مات سنة 324هـ.
(2) التأويل: التفسير.(1/233)
وقال أيضا:
من علم السرّ الذي في القضا ... قد علم الأمر الذي ينبغي
فأمره يجري على حكمه ... في كل ما ينوي وما يبتغي
يستعجل الأمر الذي لم يصل ... أوانه حبرا ولم يبلغ
يقذف بالحق على باطل ... يدمغه وقتا فلم يدمغ
قد يفرغ الرحمن منالنا ... وشأننا الدائم لم يفرغ
من مبلغي لما رأى رشدنا ... في نيله بالله من مبلغي
وقال أيضا:
تجري الأمور إلى آجالها ركضا ... لذاك يفضل فيها بعضها بعضا
هذي عموم يعم الكون أجمعه ... ولا يخصّ به نفلا ولا فرضا
لا يعرف الذوق في ضيق وفي سعة ... إلا الذي يقرض الله به قرضا
لذاك يسكن في طول الجنان به ... منه ومن نفسه قد يسكن العرضا
لا يبلغ المجد في دنيا وآخرة ... من صير الماء نارا والهوا أرضا
وقال أيضا:
إني لأهوى الهدى والهدى يهواني ... فما أرى من هدى إلا تمناني
اللطف من كرمي والعطف من شيمي ... والمنع منعي كما الإحسان إحساني
وما منعت الذي منعت من بخل ... منعي عطاء فمنعي جود محسان
والله لو بسطت أرزاقه لبغت ... طوائف وعلى ذا قام بنياني
وزني صحيح فإني عادل حكم ... بالله وزني لهذا صح ميزاني
إني لمن أصل أجواد ذوي حسب ... العمّ من طيء والخال خولاني (1)
وإنّ لي نسب التقوى يحققه ... إحسان عقدي بإسلامي وإيماني
كذاك لي نسب بالله متصل ... يقول أهل النهى به علا شاني (2)
وقال أيضا من المفارد:
وإنما الله بالفراق قضى ... ليمضي ما شاءه بنا فمضى
وقال أيضا في درج الكلام:
ما انبعثت همتي إليها ... ولم أعرّج يوما عليها
__________
(1) يشير إلى نسبه فهو من طيء وأخواله من خولان ويفاخر بذلك.
(2) أهل النهى: العقلاء. ويشير إلى تقواه.(1/234)
من علم النفس علم كشف ... لم يلق ما عنده إليها (1)
بما له خصّها اعتناء ... فكلّ ما عنده لديها
فليس في الكون ما تراه ... سواه فالأمر في يديها
وقال أيضا:
إن الإله الذي قد ... علا وجلّ سموّا
هو الذي قلت عنه ... يريد مني دنوّا
فلم يزل بي شفعا ... ولم يزل فيّ توّا
لما نفى المثل عني ... لذاك لم أك كفوا
لم أتخذ قول ربي ... عند التلاوة هزوا
سبحانه وتعالى ... عن الشبيه علوّا
ومع هذا التعالي ... قد قال يعمر حوّا
قد حرت فيّ وفيه ... فلو أراد البنوّا
لم يستحل ذاك منه ... يا ربّ غفرا وعفوا
أنت القدير عليه ... فكن بعقدي عفوّا
وقال أيضا:
نعت المهيمن بالإطلاق تقييد ... وكلّ ما قيل فيه فهو تحديد
وإن سكت على عجز أفوز به ... فذلك العجز أيضا فيه تقييد
فليس يخرج في ظني ومعرفتي ... شيء عن القيد لا شرك وتوحيد
تنزيهك الحق حدّ أنت تعلمه ... إن النزيه بنفي الحدّ محدود
إن قلت ليس كذا أثبته بكذا ... وذا لباس نزيه فيه تجريد
سلب التحير عنه لا يشرفه ... وكيف يشرف بالتنزيه معبود
لو لم يكن في كذا الزال عنه كذا ... وزال عنه به حمد وتمجيد
أسماؤه تطلب الأكوان أجمعها ... فنعتها بالغنى المعلوم مفقود
لولا القبول الذي منا لما ظهرت ... آثارها فلنا من ذلك الجود
إن الوجود الذي أثبته نسب ... فلا وجود فما في العين موجود
بذا المحال الذي ترمي به فطر ... وكيف يقبله والكون مشهود
أثبت عينك عند النفي نافية ... فمن نفيت وباب النفي مسدود
وكيف تنفي وجودا أنت تثبته ... عقلا وعينا وحوض العقل مورود
__________
(1) الكشف: الاطلاع على ما وراء الحجاب من المعاني الغيبة والأمور الحقيقية.(1/235)
وقال أيضا لزومية:
أرسلتني لوجود الحق أبغيه ... فكنت أثبته وقتا وأنفيه
عقل ينزهه شرع يصوّره ... فلست أدري بأيّ الحكم أبغيه
إن قلت بالشرع قال العقل يجهله ... أو قلت بالعقل قال الشرع يطغيه
تفنى رغاوة صابون إذا وسخ ... يقوم بالثوب والإنقاء يرغيه
والله أثبت ما الأفكار تنفيه ... وقام بالحكم للإيمان يصفيه
الشرع أدناه حتى قلت إني أنا ... عين الإله وجاء العقل يقصيه
إن كنت تحصي إلهي ما تجود به ... على العبيد فإني لست أحصيه
فقلت للنفس هذا النص جاء به ... فلتقبلي وعلى الألباب قصيه
نصيه لفظا ولا تعدل به أحدا ... على لبيب قليل الفكر نصيه
فإن أتتك عقول تبتغي أثرا ... بقصه فاحذري ولا تقصيه
خصيه في نفسه بما أتاك به ... ولا تزيدي على ما قال خصيه
وقال أيضا:
معرفتي بالإله معرفتي ... بي فاطلبوا الأمر في حقائقها
إن رسول الإله قال لنا ... العلم بالنفس علم خالقها
ما عرفوا قدر ما أتيت به ... من حكمة الله في طرائقها
لو علموا ذاك لم يقم حرج ... في نفس من يهتدي بطارقها
قلت لها الرقيب يعجلني ... من أنت قالت نواة فالقها
أولدني العلم بالوجود فما ... تنفك ذاتي عن ذات فاتقها
الرتق أصل لها به فلذا ... لم يأت لفظ لنا براتقها
مثل الذي قد أتاك في رحم ... فإنها شجنة لرازقها (1)
فبينها في وجودنا نسب ... وبينه ثابت لعاشقها
لطيف هذا البخار صيرها ... نافجة عرفت لناشقها
ما بين هاد لها يبين لها ... طريقها نحوه وسائقها
تتيه عجبا وتنثني طربا ... وذلك التيه من عوائقها
تشرق شمس النهار إن طلعت ... واحدة العين من مفارقها
لا بدّ للاشتراك من حكم ... تاتي إليها لها بفارقها
وقال أيضا:
الله يجعلني عبدا ويعصمني ... من السيادة حالا إنها شوم
__________
(1) الشجن: الحزن والهم.(1/236)
ما دمت في حال تكاليف وفي حجب ... والنور منكشف والسرّ مكتوم (1)
أقصى السيادة إني منه صورته ... وإنني حاكم والخلق محكوم
وكون خلقا هو المطلوب من خلقي ... والحق خالقه والأمر مفهوم
إن قمت قام به أو كنت كنت له ... هذا المراد الذي في الشرع معلوم
فالله يرزقني مما يليق به ... من المعارف مما فيه تقسيم
قد قلت حقا ولا أدري طريقته ... وهو القؤول وإني فيه موهوم
بالوهم كان لنا ما قلت كان له ... فيه لناظره أمر وتحكيم
الحكم حكم صلاتي لو تحققه ... بيني وبين الإله الحق مقسوم
فمن يكون مليكا في تصرّفه ... فذلك الشخص بين الناس محروم
أعمى جهول ضعيف الرأي مختبط ... وهو الظلوم وفي التحقيق مظلوم
ومن يكون عبيدا في تقلبه ... فذلك الشخص مشكور ومرحوم
هذا المقام الذي أبغيه فزت به ... وإنني فيه محفوظ ومعصوم
وقال أيضا:
لا تعوّل عليّ في كلّ حال ... إنني عبد سيّد متعالي
حكمه الحكم ليس لي حكم نفسي ... إن عين المحال في عين حالي (2)
كلما قلت قد مضى حكم وقت ... جاءني مثله يريد اغتيالي (3)
فإذا ما بحثت عنه بعقلي ... لم يكن غيره فزاد خبالي
قلت للدهر أنت جامع أوقا ... ت شؤوني فعين فصلي اتصالي (4)
لست أبغي عنه انفصالا لأني ... لابس من هداه عين الضلال
إن هذا هو الضلال فحقّق ... عين ما قد سمعته من مقالي
وقال أيضا:
ما ثم أشباه ولا أمثال ... الكل في تحصيله محال
حبي الذي نسب الوجود بعينه ... للعقل في تعيينه إشكال
إن نزهته عقولهم يرمي به ... تشبيه قول كله إضلال
حتى يعمّ وجوده إقرارهم ... فلذاك قلت بإنه يحتال
__________
(1) الحال: ما يرد على القلب من طرب أو حزن أو بسط أو قبض. التكليف: من الكلف أي المشقة.
السر: يريد ما يختص بكل شيء من جانب الحق عند التوجه.
(2) العين: إشارة إلى ذات الشيء الذي تبدو منه الأشياء.
(3) الاغتيال: القتل وأخذ المقتول من حيث لا يدري.
(4) الاتصال هو الانقطاع عما سوى الحق. والفصل عكسه.(1/237)
فتقابلت أقواله عن نفسه ... نصّا وهذا كله إخلال
في العقل والإيمان ثبت عينه ... متناقضا ولذاك لا يغتال
فالمؤمن المعصوم من تأويله ... عند الإله فنعته الإجلال
أمّا المؤوّل فهو يعبد عقله ... مع وهمه والأمر لا ينقال
وقال أيضا:
سبق السيف العذل ... هكذا جاء المثل (1)
ليس للقول بدل ... قوله عزّ وجل
ما يقول غير ما ... وهب الله المحل
فيه يقضى له ... وعليه المتكل
وبنا يعلمنا ... في غيابات الأزل (2)
وكذا أخبرنا ... في الهدى حين نزل
فالذي يفهمه ... يدر قولي ويجل
وقال أيضا:
تبارك ربّ لم يزل عالي الجدّ ... نزيها عن الفصل المقوم والحدّ (3)
تعالى فلا كون يقاوم كونه ... يعبر عنه الكشف بالعلم الفرد
تميز في خلق جديد مميز ... بأسمائه الحسنى وبالأخذ للعهد
فقلت له من أنت يا من جهلته ... فقال المنادي ذو الثناء وذو المجد
كمثل الصدى كان الحديث فمن يقل ... خلاف الذي قد قلته خاب في القصد
فمن يدر سرّ الفرد لم يجهل الذي ... يجىء به الفرد الوحيد من العدّ
وليس سواه والعيون كثيرة ... وتختلف الألقاب فيه مع الفقد
وقال أيضا:
للحقّ في الأكوان حدّ يعلم ... وهو الذي يدريه من لا يعلم
خلقته أفكار لنا بقلوبنا ... أين الإله من الحدوث الأقدم
وتنوّع التفصيل فيه لعزة ... لعقولنا والأمر ما لا يفهم
لو أنهم سكتوا وقالوا لم نجد ... حدّا به يقضى عليه ويحكم
غير استناد وجودنا لوجوده ... جاؤوا بما عنه الوجود يترجم
__________
(1) المثل في جمهرة الأمثال 1/ 417ونصه: سبق السيف العذل.
(2) الأزل: القدم. والله تعالى وحده الأزلي أي لا بدية لوجوده.
(3) الجد: العظمة.(1/238)
لا تعتقد غير الذي تتلوه في ... النص الذي نطق الكتاب المحكم
وعليه فاعتمدوا وقولوا مثل ما ... قد قاله عن نفسه واستلزموا
واعبد إله الشرع لا تعبد إله ... العقل وانقادوا إليه وسلّموا (1)
فالناس مختلفون في معبودهم ... فمنزه معبودهم ومجسّم
وبذا أتت أقواله عن نفسه ... فتراه ما يبنى يعود فيهدم
والحقّ حقّ والتناقض حاصل ... في نفسه وهو السبيل الأقوم
قد قاله الخراز عنه مصرحا ... واحتج بالآي التي لا تكتم (2)
فالق الإله بكل عقد لا تقف ... مع واحد فيفوت عنك فتندم
كيف السبيل لنيل ما قلنا وقد ... مجته ألباب وصموا ما عموا (3)
لم يستند أحد إلى عدم وما ... عرف الوجود وحكمه مستلزم
ماذا يروم العهد لم يظفر به ... فهو الغني به الفقير المعدم
وقال أيضا العبد يطعي لضعفه ويعطي لقوته:
فهو القوي إذا قضى ... وهو القوي إذا منح
فالحمد لله الذي ... بهما على قلبي فتح
إني رأيت الحقّ وال ... ميزان في يده رجح
فسألته ما يبتغي ... فأجاب ما يدري فصح
قول الخلائق كلهم ... إن الكريم له المنح
ما زلت أعبده له ... والمؤمنين ومن صلح
من ليس يعبده كذا ... بين الخلائق يفتضح
وإذا فهمت مقالتي ... زند المشاهد ينقدح (4)
فترى الذي قد قلته ... من نور زندك قد وضح
فاقدح زناد وجوده ... فالكشف فيه لمن قدح (5)
إني نصحتكم وقد ... أدّى الأمانة من نصح
__________
(1) يريد أن العقل وحده غير قادر أن يدرك كل شيء مما جاء به الأنبياء عن الخالق والآخرة والثواب والعقاب وغير ذلك من الأمور الغيبية. فعليه أن يسلم تسليما.
(2) الخرّاز: أبو سعيد، يقال له لسان التصوف، من أهل بغداد، صحب ذا النون المصري وسريا السقطي وبشر بن الحارث، وتوفي سنة 279هـ.
(3) مجته: قذفته.
(4) المشاهدة: تعني المحاضرة والمداناة، وقيل هي رؤية الحق ببصر القلب من غير شبهة.
(5) الكشف: الاطلاع على ما وراء الحجاب من المعاني الغيبية والأمور الحقيقية، وجودا وشهودا.(1/239)
وقال أيضا:
إنّ الإله له تجلّ في الصور ... عند الشهود لمن تحقق بالنظر (1)
بتحوّل وتبدّل يقضي به ... عين الشهود لنا وينفيه النظر
الفكر فيه محرّم في شرعنا ... فاحذره والزم إن تقدمت النظر
من ينتظر نفحاته منه يصب ... هذا ضمنت لمن يلازمه النظر
إني مع الرحمن إن حققت ما ... جئنا به عند التحقق في نظر
أين العزيز ومن له في نفسه ... صفة الغنى ممن يذل ويفتقر
وقال أيضا:
الشيء مختلف الأحكام والنسب ... والعين واحدة فانظر إلى السبب
واحكم عليه به إن كنت ذا نصف ... فإنما العلم والتحقيق في النسب
ألا ترى الله لا شيء يماثله ... وقد تنزل للمخلوق بالنسب
فقال إن له في خلقه نسبا ... وهو التقي فأنا في الكدّ والنّصب
عسى أفوز به حتى يورثني ... أسماءه كلها الحسنى بلا تعب
فلا يرى الحق عينا في مشاهدة ... من لا يرى الحقّ في الأزلام والنصب (2)
فما رأيت مسمى في الوجود سوى ... ربّ البرية بالحاجات والطلب
وكلما قلت خلق قال خالقه ... ما ثمّ إلا أنا فاحذر من الرّهب
الخلق حقّ وعين الخلق خالقه ... فاثبت ولا تهرب إنّ الجهل في الهرب
وقال أيضا:
هذا الغليل الذي عندي من القلق ... وما أبثّ من الأشواق والحرق
لا تحسبوه لمخلوق فإن لنا ... مجلى المهيمن في المخلوق والخلق
فما أرى أحدا إلا تقوم به ... عين الحبيب وإني منه في نفق
وما أرى غير أنواع منوّعة ... إذا بدا طبق افنيت عن طبق (3)
فكلّ ما كان منه أو يكون له ... من المكاره محمول على الحدق (4)
__________
(1) الشهود: أن يرى حظوظ نفسه، وتقابلة الغيبة وهي أن يغيب عن حظوظ نفسه فلا يراها.
(2) الحق: اسم من أسماء الله تعالى، وقال ابن عربي: الحق كل ما فرضه الله على العبد وكل ما أوجبه الله على نفسه. والمشاهدة: رؤية الحق ببصر القلب من غير شبهة.
الأزلام: أقداح كانوا يستقسمون بها في الجاهلية. والأنصاب: حجارة كانت حول الكعبة تنصب فيهل عليها ويذبح لغير الله تعالى.
(3) الطبق: الغطاء.
(4) الحدق: جمع الحدقة: سواد العين ويريد العين.(1/240)
القلب يعرفه مني وتجهله ... نفسي لما عندها من كثرة العلق
وذاك منه فإن الله قال لنا ... بأنه خلق الإنسان من علق (1)
من كان من علق فليس ينكر ما ... يكون من علق فيه على نسق
لي الثبات بأصل لا يزايلني ... وحكمه في الذي عندي من القلق
وما أرى لي من شيء أبث به ... إليه إلا الذي عندي من الملق
وقد قرأت على نفسي مخافة أن ... تصيبني العين فيه سورة الفلق
وقال أيضا:
العين واحدة والأمر واحدة ... والكثر ما قام إلا بالذي أمرا
والواحد الفرد قد قامت به نسب ... فصار من قيل فرد فيه قد كبرا
لما تعددت الأسماء قيل لنا ... أين التوحّد والتكثير قد شهرا
وهذه نسب ولا وجود لها ... والحكم ليس لمعدوم وقد ظهرا
وقال أيضا: رأيت في الواقعة عز الدين بن عبد السلام (2) الفقيه الشافعي
، وهو على مصطبة كالمدرسة يعلم الناس المذهب فقعدت إلى جانبه فرأيت إنسانا قد أتى إليه يسأله عن كرم الله تعالى، فكان ينشده بيتا في عموم كرم الله تعالى بعباده، فكنت أقول له: إنّ لي في هذا المعنى بيتا من قصيدة فكلما جهدت أن أتذكره لم أتذكره في ذلك الوقت فكنت أقول له: إن الله تعالى قد أجرى على لساني في هذا الوقت في هذا المعنى ما أقوله فقال لي: قل وهو يبتسم، فينطقني الله تعالى بأبيات لم تطرق سمعي قبل ذلك، وهي:
الله أكرم أن يحظى بنعمته ... الطائعون ويشقى المجرم العاصي
وإن شقى فكآلام يصيب بها ... المؤمنين فمن دان ومن قاصي
ولكنهم عالم بالله مستند ... إليه مفلسهم ورب أوقاص (3)
فكان يبتسم فبينما نحن كذلك، إذ مر القاضي شمس الدين الشيرازي (4) رضي الله تعالى عنه، فلما أبصرني نزل عن بغلته وجاء فقعد إلى جانب العز بن عبد السلام، ثم أقبل
__________
(1) العلق: الدم.
(2) هو عبد العزيز بن عبد السلام بن أبي القاسم بن الحسن السلمي الدمشقي فقيه شافعي ولد في دمشق ومات بالقاهرة سنة 660هـ.
(3) الأوقاص: الزعانف من الناس.
(4) الشيرازي: شمس الدين أبو نصر محمد بن هبة الله بن محمد بن هبة الله بن يحيى بن بندار بن محيل الشيرازي ثم الدمشقي الشافعي، أحد قضاة الشام، وكان وقورا وأمضى وقته في التدريس والرواية.
توفي سنة 635هـ.(1/241)
عليّ وقال لي: أريد أن تقبلني في فمي فضمني وقبلته في فمه، فقال العز بن عبد السلام:
ما هذا؟ فقلت له: أنا في رؤيا والتقبيل قبول يطلبه مني فإنه شخص قد حسن الظنّ بي وقد خطر له قصر أمله وقبيح عمله واقتراب أجله، ثم قمت فعضدته حتى ركب وانصرف. ثم قال لي العز بالإيماء والتلويح لا بالتصريح: كيف حالك مع أهلك؟ فكنت أنشده بيتين ما طرقا سمعي قبل ذلك، بل كان الله ينطقني في ذلك الوقت بهما وهما:
إذا رأى أهل بيتي الكيس ممتلئا ... تبسمت ودنت مني تمازحني
وإن رأته خليا من دراهمه ... تكرّهت وانثنت عني تقابحني
فكان يقول لي في إشارته: كلنا مع الأهل ذلك الرجل والله لقد صدقت. وههنا انتهت المبشرة والله الواقي.
وقال أيضا يشير إلى شخص معين:
والله لا ناله مما أنا سبد ... من المعارف والزّلفى ولا لبد (1)
ولا تعين في شيء يكون لنا ... ولو يعيش الذي قد عاشه لبد (2)
لله قوم لهم علم ومعرفة ... وهم عليه إذا يدعوهم لبد
عمي وأبصارهم بالنور ناظرة ... لو يشهدون الذي شهدته شهدوا
لا يشهدون وإن قامت حقائقهم ... بهم معاينة من ربهم شهدوا
إن العبيد الذين الحق عينهم ... لنفسه واصطفاهم كلهم عبدوا
جلاله واستمروا في عبادته ... ولو تجلى لهم في عينهم عبدوا
ولا تردّد فيه من تردّده ... إلا رجال به من نفسهم عبدوا
لذاك أنزلهم في الخلق منزلة ... بها على كل حال في الورى عبدوا
لنا حبيب نزيه الذات في خلدي ... وما تضمنه روح ولا جسد
من أجله قام بي ما يشهدون به ... المسك والندّ والتخليق والجسد
وإنني لتجليه إذا نظرت ... عين المحقق في ذاتي له جسد
لما تعين مني ما اتصفت به ... لذاك قام بمن يدري به الحسد
دنوا من الحضرة العلياء حين بدت ... أعلام صدقهم منهم وما بعدوا
إن أسلدت حجب الأغيار ودونهم ... أبقاهم وبرفع الستر قد بعدوا
لله قوم غزاة ما لهم عدد ... وإن أسماءه الحسنى هي العدد
مقدّم العسكر الجرّار سيدهم ... وهم كثيرون لا يحصى لهم عدد
__________
(1) ما له سبد ولا كبد: أي ما له قليل أو كثير. والزّلف: القربة.
(2) لبد: هو واحد من سبعة نسور اختارها لقمان، وكان لبد أطولها عمرا.(1/242)
إن ينصروا الله ينصرهم بهمته ... ومن خواطرهم يأتيهم المدد
تاه الزمان فلم يظفر بحصرهم ... وما حواهم فلم تقطعهم المدد
لما تعرّض لي من كنت أحسبه ... معي ومستندي لم يبق لي سند
من كان أسماؤه الحسنى له سندا ... معنعنا في ترقيه علا السند
وقال أيضا:
أقنع بما قد جرى به تسلمي ... فإنه ما استقرّ بي قدمي
وإنني جامع كما جمعت ... أسرار كوني جوامع الكلم
فبان لي أنني وإن حدثت ... ذاتي على ما ترى علا قدمي
لكن على حالة الثبوت وإن ... أوجدني ما برحت في العدم
وكلّ ما قد قلت أخبرني ... به إلهي في اللوح والقلم
فما أبالي بما يفوت إذا ... كان الذي قد ذكرته حكمي
وإنه كل ما أفوه به ... من التفاصيل فيه من حكم
ما هي شيء سواه فاعتبروا ... في نسخه النور من دجى الظلم
فتلك غيب وذا شهادته ... قامت له في الشهود كالعلم
وقال أيضا:
من لي بمن أرتضيه ... في كلّ ما أمضيه
مما أراه سدادا ... والحبّ لا يقتضيه
فشأنه الأمر فينا ... وحبّنا يمضيه
سبحانه وتعالى ... في كلّ ما يقضيه
فكلّ ما جاء منه ... هو الذي أرتضيه
وقال أيضا:
ما كلّ ما أنا منه ... وكلّ ما أنا فيه
يرضى به غير عبد ... لسرّه يصطفيه
إذا تألم منه ... حبا به يشفيه
لذا تعوّذ منه ... به عسى يكفيه
هذا الذي قلت عنه ... سمعته من فيه
في حالة النوم عني ... به وعن معتقيه
سبحانه وتعالى ... بنا عن التنزيه
فالحدّ في التنزيه ... كالحدّ في التشبيه
فحدّه كل حدّ ... للخلق إذ هو فيه
بل عينه ولهذا ... تراه يستوفيه
وقال أيضا:(1/243)
ما كلّ ما أنا منه ... وكلّ ما أنا فيه
يرضى به غير عبد ... لسرّه يصطفيه
إذا تألم منه ... حبا به يشفيه
لذا تعوّذ منه ... به عسى يكفيه
هذا الذي قلت عنه ... سمعته من فيه
في حالة النوم عني ... به وعن معتقيه
سبحانه وتعالى ... بنا عن التنزيه
فالحدّ في التنزيه ... كالحدّ في التشبيه
فحدّه كل حدّ ... للخلق إذ هو فيه
بل عينه ولهذا ... تراه يستوفيه
وقال أيضا:
لم يأت غيري بمثل قولي ... فكلّ ما قلت عنه قلته
لا بل هو العين من وجودي ... فحيث ما كان ثم كنته
حقا فما في الوجود غير ... تراه عيني إذا شهدته
والله لولا وجود لولا ... ما جهل الخلق ما أردته
وقال أيضا:
إني أقمت لدين الله أنصره ... والنصر منه كما قد جاء في الكتب
لأنني حاتميّ الأصل ذو كرم ... من طيء عربيّ عن أب فأب
ورتبتي في الإلاهيات يعلمها ... ما نالها أحد قبلي من العرب
إلا النبيّ رسول الله سيدنا ... وراثة للذي عندي من الأدب
وإنني خاتم الأتباع أجمعهم ... أتباعه رتبة تسمو على الرتب (1)
من جملة القوم عيسى وهو خاتم من ... قد كان من قبله حيا بلا كذب
وفي شريعتنا كانت ولايته ... دون الرسالة لما جاء في العقب
فنحن من كونه في الأمر تابعه ... بمنزل العالم العلويّ كالشّهب
وقال أيضا:
إذا حسنت ظنك بالرجال ... علوت به وربات الحجال (2)
وإن ساءت ظنونك يا حبيبي ... فأنت لسوء ظنك في سفال
وميزان الشريعة لا تزنه ... بميزان التفكر والخيال (3)
وإنك إن أصبت به لوقت ... غلطت به فتلحق بالضلال
تميزت الخلائق في سناها ... فأين الواجبات من المحال
إذا عاينت ما لا يرتضيه ... إلهك قد حلالي عين حالي
بمرآه الذي عاينت منه ... وفيه ما يذم من الفعال
أتتك وصيتي تسمو اعتلاء ... على ما كان من كرم الخلال (4)
__________
(1) إشارة إلى أنه يسير على السنة النبوية كالتابعين.
(2) ربّات الحجال: يعني النساء.
(3) يريد أن الشرع لا يكون بالأهواء بل يؤخذ كما جاءنا به الكتاب والسنة.
(4) الخلال: جمع الخلة أي الخصلة.(1/244)
فسوء الظنّ يحرم منك شرعا ... وحسن الظنّ يلحق بالحلال
وإن كنت الإمام تقيم حدّا ... أقمه كما أمرت ولا تبال
ولا تتبعه سوء الظنّ فيه ... به تأمن عليك من السؤال
فإنّ الله سائل من أتاه ... به يوم القطيعة والوصالي (1)
وعبد الله ليس بحكم ماض ... ولا آت ولكن حكم حال
وقال أيضا:
ارتباط السقم بالعرض ... كارتباط الجسم بالعرض (2)
فإذا نيلت فعافية ... وانتفى ما كان من مرض
فانظروا فيما ذكرت لكم ... تسلموا من علة الغرض
فوجوب الزهد فيه لذي ... نظر وجوب مفترض
والذي تخفى مقاصده ... إنه يصبر على مضض
ويعزي نفسه في الذي ... فاته بقوله لو قضي
وتمجّ النفس حكمته ... فتراه دائم الحرض (3)
تارة يموت من شرق ... تارة يموت من جرض (4)
وإذا ما مات من غصص ... ربما يظنّ فيه رضى
والذي تفوته حكمي ... ما لها والله من عوض
هي كالمصباح نيّرة ... مدّه زيت يكاد يضي
ما لهه ميل إلى جهة ... لوجود الاعتدال مضى
وقال أيضا:
إنّ لي معنى أعيش به ... هو مني مثل نا وأنا
فيقول الشرع أنت هنا ... ويقول الكشف لست هنا (5)
كلّ من تعدوه حكمته ... فهو في تعمي بها وهنا
وجميع الخلق ليس لهم ... من غذاء غيرهم فبنا
فبنا كانت عوارضنا ... وبه كنا له سكنا
__________
(1) الوصال، قالوا هو الانقطاع عما سوى الحق.
(2) العرض: باصطلاح المتكلمين والمتصوفين العرض ما يقوم بغيره، واسم لما لا دوام له.
(3) تمج: تقذف. الحرض: الفساد في البدن والمذهب والعقل.
(4) الجرض: الرّيق.
(5) الكشف: الاطلاع على ما وراء الحجاب من المعاني الغيبية والأمور الحقيقية.(1/245)
ويقول العقل فيه كما ... قاله مدبّر الزمنا
وهو لا يدري زمانتهم ... فتراه يعبد البدنا (1)
والذي أحواله هكذا ... هو إلا عابد وثنا
فإذا قامت شواهده ... عنده مضى لها وثنا (2)
عطفه عنها وغادرها ... عدما واستلزم السننا
وأتى لكل خافية ... فأتى بها لهم علنا
وأزال الابتداع ولم ... ير إلا الفرض والسننا
كلّ ما في العلم يشهده ... ليس شيء عنده بطنا
فمتى ما قال قائلهم ... حكمة الإخفاء عنه بنا
قل له جهلت صورته ... فانظروا ما ضمن اللسنا
من يقل نحن به وله ... فليقل أيضا بنا ولنا
وقال أيضا:
ولست لمن أجالده بغير ... جزاء إذ أجالده كفاحا (3)
ولكني أجالد فيه نفسي ... وأبغي الفوز فيه والنجاحا
وقال أيضا:
يا من يحيرني في ذاته أبدا ... تنزيهه والذي قد جاء في الشبه
إن قلت ليس كذا قالت شريعته ... صدّق بتنزيهه العالي وبالشّبه
للحالتين معا الذات قابلة ... فأنت لا أنت إذ يدعوك بالشّبه
وقد رأى كلّ ذي فكر وذي بصر ... الفرق بين وجود التبر والشبه (4)
وقال أيضا:
إني وليت أمور الخلق أجمعها ... شرقا وغربا وإني بيضة البلد (5)
وما أنفّذ أمرا في الوجود فما ... يبدو مقامي فما يدريه من أحد
وما أغالط نفسي حين أسمع ما ... أدعى به من أمام سيّد سند
__________
(1) الزمانة: العاهة.
(2) الشواهد: شواهد الأشياء هي اختلاف الأكوان بالأحوال والأوصاف والأفعال.
وشواهد الحق هي حقائق الأكوان فإنها تشهد بالمكون.
(3) المجالدة: المضاربة.
(4) التبر: الذهب، والفضة.
(5) بيضة البلد: كناية عن الأفضل والأحسن، وبذلك هو يفضل نفسه.(1/246)
أتابع الحقّ فيما شاءه وقضى ... قبل الوقوع عن اذن السيّد الصمد
فينفذ الأمر بي في كلّ آونة ... ولا ترى الخلق إلا صورة الجسد
عجزا وفقرا وكتما لا يزايلني ... وإنني أحديّ الذات بالأحد (1)
وعين ذكر مقامي ستره ولذا ... صرّحت إذ قبل الأقوام مستندي
فقال قائلهم دعواه قد عريت ... عن الدليل وهذا عين معتقدي
وقال أيضا:
سبحان من كوّن السماء ... والأرض والماء والهواء
وكوّن النار اسطقا ... فاكتملت أربعا وفاء
صعد ما شاءه نجارا ... وحلل المعصرات ماء (2)
ولم يكن ذاك عن هواها ... لكنه كان حين شاء
وإنما قلت حين شاء ... من أجل من شرّع الثناء
مع القبول الذي لديها ... فميّز الداء والدواء
منازل الممكنات ليست ... في كلّ ما تقتضي سواء
فالأمر دور لذاك كانت ... في الشكل كالأكرة ابتداء
تحرّكت للكمال شوقا ... تطلب في ذلك اعتلاء (3)
والأمر لا يقتضيه هذا ... بل يقتضي أمرها انتماء
لولا وجود الذي تراه ... ما أوجد الصبح والمساء
والحكم بي ما استقلّ حتى ... أوجد في عينها ذكاء (4)
من ضدّه كان كل ضدّ ... فلم يكن ذلك اعتداء
أضحكني بسطه ولما ... أضحكني قبضه تناءى
من كونه مانعا بخلنا ... والمعطي أعطى لنا السخاء
فلو علمت الذي علمنا ... رأيته كله عطاء
صيرني للذي تراه ... على عيون النّهى غطاء (5)
وأنبت الحكم ما تراه ... من خير أو ضدّه جزاء
وهو صحيح بكلّ وجه ... أثبته الشارع ابتلاء
فقال هذا بذا ففكّر ... إذ تسمع القول والنداء
__________
(1) الأحد: هو اسم الذات مع اعتبار تعدد الصفات. والأحدية عندهم، اسم لصرافة الذات المجردة عن الاعتبارات الحقية والخلقية.
(2) المعصرات: السحاب الممطر.
(3) الكمال: التنزيه عن الصفات وآثارها.
(4) ذكاء: الشمس.
(5) النّهى: العقل.(1/247)
والجود ما زال مستمرّا ... أودعه الأرض والسماء
قد جعل الله ما تراه ... منها ومن أرضها ابتناء
فقال إني جعلت أرضي ... فراشها والسما بناء
فالأمر أنثى تمدّ أنثى ... لكنه رجح الخفاء
من غيرة كان ما تراه ... مما به خاطب النساء (1)
فذكر البعل وهو أنثى ... وعند ذاك استوى استواء
من يعرف السر فيه يعثر ... على الذي قلته ابتداء
وقال أيضا:
إني العماء ولا عماء لذاتي ... وأنا الذي أتى ولست بآتي (2)
إن كان من نبغيه عين وجودنا ... فلمن أنا أو من يكون الآتي (3)
ما في الوجود سوى الوجود وإنه ... عين ترى في النفي والإثبات
ما تبصر الأشياء إلا عينها ... فبها تراها وهي عين الذات
عين الجهول هو العليم وإنّ ذا ... علم قريب عند كلّ موات
عين التولّد النكاح محقّق ... فالأمر بين أبوّة وبنات
والأمر كالأعداد ينشىء عينها ... الواحد المعقول في الآيات
تعطيه ألقابا ويعطيها به ... أكوانها بشهادة الاثبات
هو واحد ما لم يحدّ بسيره ... فإذا يسافر فهو في الأموات
لولا التنقّل لم نكن ندري به ... ألقاب أعداد وعين ثبات
هو عينها لا غيرها فتكثّرت ... بوجوده فيها وذكر سمات
البنت يغشاها ابوها وهي قد ... ولدته ذا من أعجب الآيات
سند الوجود معنعن ما فيه من ... خرم ولا قطع ولا آفات
وقال أيضا:
لولا قبولي ما رأيت وجودي ... وبه مننت عليّ حال شهودي (4)
إياي فانظر في معالم حكمتي ... يدري بها من كان أصل وجودي
وبها تميز من كتابي كونه ... ولما قضى في علمه بمزيد
__________
(1) الغيرة: من قولك غار على امرأته.
(2) العماء: قالوا: ذات محض لا تتصف بالحقية ولا بالخلقية.
(3) العين: إشارة إلى ذات الشيء الذي تبدو منه الأشياء.
(4) الشهود: أن يرى حظوظ نفسه وتقابله الغيبة وهي أن يغيب عن حظوظ نفسه فلا يراها.(1/248)
وهو الغنيّ ولست أعرف ذاته ... إلا به وتجلّ عن تحديدي
لما علمنا جوده بوجوده ... بالافتراق خرجت عن توحيدي
الله يعلم أنني ما كنته ... أو كانني إلا بخطّ جدودي
جرّدت عن أسمائه وصفاته ... ووجوده ووجوهه بحدودي
لولا اعترافي بالذي هو نشأتي ... ما قلت بالتثليث والتفريد
وقال أيضا:
إذا ذكرت الذي بالذكر يحجبني ... عنه ويحصره ذكراه في خلدي
الذكر باللفظ عين الذكر منه بنا ... فنحن نذكره في حالة الرصد (1)
لولا تحوّله في العين في صور ... ما صحّ ذكر على الوجهين من أحد
والذكر بالقلب ذكر لا حروف له ... لأنه واحد من ساكني البلد
إني أرى نشأة الديهور قائمة ... وهي التي خلقت بالطبع في كبد (2)
هو النزيه الذي لا شيء يشبهه ... وإن تقيّد لي بالجسم والجسد
هو المقيد في الإطلاق صورته ... فهو الكثير بكثر ليس عن عدد
لكنها نسب والعين واحدة ... هوية دعيت بالواحد الصمد (3)
ألفيت أسماءه الحسنى بحضرتنا ... تسعا وتسعين لم تنقص ولم تزد
فكملت مائة فيها حقائقنا ... وغبت فيه مغيب الشفع في الأحد
وقال أيضا:
الحقّ توحيد ولكنه ... كثره في بصري عينة
وعلة التكثير أحكامها ... لأعيننا فكوننا كونه
لا كون للأعيان في ذاتها ... وإنما الكون له بينه
وقال أيضا:
الله أكبر ما بالدار من أحد ... وما خلت وهي عندي عين مستندي
دار الوجود تسمى وهو مظهرها ... وما الوجود سواها عندها وقد
ما إن ذكرتك باسم لست أعرفه ... إلا ويوجد لي معناه في خلدي (4)
وكان فيّ ولم أشعر بموضعه ... كموضع الروح لا يدري به جسدي
__________
(1) الذكر: هو الخروج من ميدان الغفلة إلى فضاء المشاهدة على غلبة الخوف أو لكثرة الحب.
(2) الكبد: المشقة.
(3) الصّمد: من صفات الله تعالى ويعني: إن المخلوقات تحتاج إلى الله تعالى وهو لا يحتاج إليها.
(4) الخلد: الذهن.(1/249)
شواهد الحال في الأشياء تعلمني ... بها فأصبح في معلومة جدد (1)
يمسي عليها رجال ما لهم عدد ... يغني الأمان الذي فيها عن العدد
هي السبيل إليها فهي غايتها ... مثل الترادف في الأسماء بالعدد
علمت منها علوما لم يكن أحد ... يدري بها غير أهل العلم بالرصد (2)
لهم رقيب عليهم من نفوسهم ... لا يعلمون به يهدي إلى الرّشد
ضخم الدسيعة وهّاب أخو كرم ... ربّ الجزور وربّ الوهب والرفد (3)
إذا تحرّكه الأنواء تحسبه ... كأنه البحر يرمي السيف بالزبد (4)
إن كان ينصره من كان يخذله ... فلا تناقض بين الفرد والأحد
أنهى إليكم كتابا فيه ذكركم ... لتعقلوا عنه ما يلقى بلا سند
من الأوقاول من فقر ومن بخل ... من أجل قرض وإمساك عن المدد
وقال أيضا:
ما قدر الله حقّ قدره ... إلا الذي كان عين أمره
وكان حقا بلا خلاف ... في بطنه دائما وظهره
وكان عين الكلام منه ... بسرّه كان أو بجهره
فهو الإمام الذي يرجى ... وما يرجيه عين ستره
أخره حكمة وعلما ... بأنه عارف بقدره
وقال أيضا:
الحمد لله حمدا لله بالله ... وليس من حيث ما تدعوه باللاهي
فلا يقيده وسم ولا صفة ... بنعت سلب ولا بنعت أشباه
سبحانه لا بتسبيح هويته ... ذات المسبح لكن لا تقل ما هي
هوية ما لها في العين من خبر ... ولا تنال بأموال ولا جاه
هي الغنية ما تنفك طالبة ... قرضا من الخلق من لاه ومن ساه
انظر بإيمان عقل بل بفطرته ... فجملة الأمر أنّ السرّ في الباه (5)
هذا تولد عن هذا فوالده ... هذا فيا حيرة المفتون في الله
__________
(1) الشواهد: شواهد الأشياء: اختلاف الأكوان بالأحوال والأوصاف والأفعال.
(2) الرصد: الترقّب.
(3) الدسيعة: الجفنة. وضخم الدسيعة: كناية عن الكرم. الرفد: العطاء.
(4) الأنواء: جمع النوء: النجم مال إلى الغروب.
(5) الباه: النكاح.(1/250)
إني لأبصره في عين سادنه ... وهو المليك به الآمر الناهي (1)
وقال أيضا:
ما دمية أنشأها قالبي ... في قلبه يعبدها عذلي
فيها وفيهم مثلها غير أن ... قد جهلوا ما هو معلوم لي
إن أنصف العقل رآها وقد ... ألحقت المدبر بالمقبل
في كل حال عندها صورة ... يشهدها العالي إذا يعتلى
كاملة في ذاتها مثل ما ... يشهدها السافل في الأسفل
وقال أيضا:
نزلت على حصن منيع مشيد ... وقد حال عما أبتغي منه حائل
لقد جدت يوما بالقرونة منعما ... على السيف والأرماح والقرب نائل
تراني إذا دارت رحى الحرب ضاحكا ... وغيري إذا دارت رحى الحرب باسل
وقال أيضا لزومية:
ما ان ذكرتك في سرّ وفي علن ... إلا وذكرك يسليني ويطربني
وليس يحجبني بالبعد عنه بلى ... القرب منه على التحقيق يحجبني
القرب منه بكوني عينه فإذا ... ما كنته فهو بالتكليف يكذبني
ذكري به ليس ذكري فهو ذاكره ... بنا ومن بعد ذا بالذكر يطلبني
قد حرت فيه كما قد حرت فيّ وما ... أعاتب النفس إلا ظلّ يعتبني
فما عرفت سوى نفس وما عرفت ... ربي ومن لي بها والعجز يصحبني
والله ما نظرت عيني إلى أحد ... إلا رأيتك تبكيني وتندبني
خوفا على الملك أن يحظى به أحد ... سواك غيرة سلطان يكبكبني
تولد الأمر ما بيني على سخط ... وبينه ولذا أضحى يقربني
فلو تولد عن قرب تخيله ... وهمي لأصبح بالبلوى يعذبني
فما ابتليت ولكني أراه إذا ... رأيت رأيا على كره يصوّبني
وقال أيضا:
أجوع مع الوجدان من أجل جائع ... مخافة أن أنساه والله سائلي
وأطلب قرضا اقتداء بخالقي ... وأرهن فيه للتأسي غلائلي (2)
واحفظ خلق الله دوني فإنني ... على خلق الرحمن جمّ الفضائل
__________
(1) السادن: خادم الكعبة، أو خادم بيت الصنم.
(2) الغلائل: الدروع، أو بطائن تلبس تحتها.(1/251)
وقال لنا من كان يعرف أصلنا ... على ذا جرت أسلافكم في الأوائل
فأخوالنا خولان والعمّ طيء ... بناة العلى في كل عال وسافل
يجودون إنعاما على كلّ نائل ... وما الناس إلا بين معط ونائل
بحور ذوو بأس صدور أئمة ... فلا ما در فيهم ولا عيّ باقل (1)
يرون لمن يولونه يد نعمة ... عليهم هم أهل الندى والوسائل
وقال أيضا:
روح يذكر والأنثى طبيعته ... فكل عين فمن أنثى ومن ذكر
هذا فراش وذا سقف يظلله ... والأمر بينهما يجري على قدر
لله حكم اقتدار لا يزايله ... كما القبول لنا فاسلك على أثري
والكون عن أصل شفع لا وجود له ... في الوتر فاعلم وكن منه على حذر
والرابط الفرد لا ينفك بينهما ... لولاه ما كان ما شاهدت من صور
عقلا وشرعا وتنزيها لمعرفة ... وليس في العلم إن أنصفت من خطر
وقال أيضا:
من طلب الدين بالكلام ... زندقه الشرع والسلام (2)
فاعدل إلى الشرع لا تزده ... فإنه كله حرام
فإنّ علم الكلام جهل ... يرمى به الحال والمقام (3)
ما الدين إلا ما قال ربي ... أو قاله السيّد الإمام
رسوله المصطفى المرجّى ... عليه من ربّه السّلام
وقال أيضا:
أرى المطلوب يكبر أن يصانا ... ويعظم أن يقاوم أو يدانى
عجبت لقربه الأدنى بذات ... منزهة تعالت أن تهانا
تجلّت والضياء لها حجاب ... وجلّت أن نراها كما ترانا
فلا يحظى بها إلا حريص ... وأما من تكاسل أو توانى
فينساها وتنساه وهذا ... جزاء قد تلوناه قرانا
فمن يقريه لم يطعم سواها ... وقد حاز المكانة والمكانا
__________
(1) باقل: رجل يضرب به المثل بالعي. فيقال: «أعيا من باقل».
(2) الزندقة: أبطان الكفر وإظهار الإيمان.
(3) الحال: ما يرد على القلب من طرب أو حزن أو بسط أو قبض. وفي البيت إشارة إلى موقف ابن عربي من علم الكلام ويؤكد ذلك في البيت التالي فالدين برأيه يؤخذ كما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم.(1/252)
كما أنّ العليل إذا أتاها ... يخصّ به الزمانة والزمانا
ظلام كيف يحجبه ونور ... ونحن نراه دونهما عيانا
فما أرجو سواه لكلّ أمر ... مهمّ ليس يعرفه سوانا
وقال أيضا:
أحبّ إذا أحببت من يدري ما ... جئت به من شرف الحب
ولا تضيع حقه إنه ... في غاية البعد مع القرب
واحن عليه كالضلوع التي ... قد انحنت خوفا على القلب
عاصمته من كلّ سوء كما ... قد عصم الساعد بالقلب
وقال أيضا:
اعجبوا من الهنا ... مثلا جئتكم به
ما لمن أوجد الورى ... في وجودي من مشبه (1)
إنه ثابت بنا ... وأنا زائل به
وقال أيضا:
إنما قلت لشيء كن فكان ... بكلام الحقّ لا قول فلان
مهد العذر لنا صاحبه ... بإشارات ورمز في بيان
إنما كان عن أذني لا تقل ... إنه كان عن إذن لكيان
يتعالى الله في إيجاده ... ما تراه من جميع الحدثان (2)
عن شريك غير ما أثبته ... حكم إمكان لشخص ذي جنان
نظر الله إليه نظرة ... إذ أتاه في غمام لا عيان
ما حديثي لم يكن عن لم يكن ... إنما أورده عن كان وكان
بلسان ومقال واضح ... ورقوم بيراع وبنان (3)
وكذا أورده الله لنا ... في كتاب بلسان الترجمان
وقال أيضا:
إذا كان كلّ اسم يسمّى وينعت ... بأسمائه الحسنى التي تتفاضل
فلا فضل في الأسماء إن كنت ذا حجى ... وإن كان منها ذو علوّ وسافل (4)
فما العال منها في الترقي برتق ... وما سافل الأسماء في الحكم نازل
__________
(1) الورى: الخلق.
(2) الحدثان من الدهر: نوائبه.
(3) اليراع: القلم. الرقوم: جمع الرّقم: الكتاب.
(4) ذو حجى: عاقل.(1/253)
فمن فهم الأمر الذي قد ذكرته ... فذاك إمام في الحكومة عادل
يسمى بقطب الدين فالعدل نعته ... وليس أخو علم كمن هو جاهل (1)
فإنّ ذمه ذو النقص فهي شهادة ... بأن الذي قد ذم في الفضل كامل (2)
وقال أيضا:
الله أكبر لكن لا بأفعل من ... إلا إذا كان عين الخلق كلهم
وقد يكون ولكن عند طائفة ... ما قال أهل النّهى فيهم بفضلهم (3)
هم الأكابر لا تدري مقاصدهم ... ولا يعاين منهم غير ظلّهم
أفناهم الحقّ عنه عند ما فنيت ... به النفوس فعز وأبعد ذلهم
لو أنهم نظروا بعينه عبدوا ... منهم لكنهم في غير شكلهم
ما يعبد القوم نفسا غير واحدة ... تنزهت أن يراها غير مثلهم
وقال أيضا:
الأمر لله والمأمور في عدم ... فإن أضيف له التكوين يكذبه
بل كن لربك والتكوين ليس له ... وإنما هو للمأمور يصحبه
كذا أتاك به نص الكتاب وما ... أتى له ناسخ في الحال يعقبه
سبحانه من غنيّ لا افتقار له ... لعالم الكون والأسماء تطلبه
وهو المسمى بها والعين واحدة ... ولو يصح افتقار صحّ مطلبه
ما عند ربك عين غير واحدة ... وليس تدركه إذ عز مطلبه
وقال أيضا:
سبحان من هو نائب في خاتمه ... عنهم وهم نوابه في خلقه
فالفعل مشترك بظاهر حكمه ... حسّا وإيمانا بموجب حقّه
فالحسّ يشهد أنه من خلقه ... والكشف يشهد أنه من حقه (4)
وكلاهما عدل وصدق مرتضى ... فيما يقول بحاله وبنطقه
جاء الكتاب به فأيد قولنا ... وهو الدليل لنا عليه لصدقه
__________
(1) القطب: عبارة عن رجل واحد هو موضع نظر الله تعالى من العالم في كل زمان.
(2) البيت صدى لبيت المتنبي الذي يقول فيه:
وإذا أتتك مذمتي من ناقص ... فهي الشهادة لي بأني كامل
(3) أهل النهى: أهل العقل والنظر.
(4) الكشف: الاطلاع على ما وراء الحجاب من المعاني الغيبية والأمور الحقيقية.(1/254)
الله يخلقنا ويخلق فعلنا ... والأمر مستور بما في حقه (1)
الأمر بالتدبير يجري حكمه ... ويقول ذو الأوفاق ذاك بوفقه
الاتفاق بجهلنا بحصول ما ... في علمه سبحانه في خلقه
وقال أيضا:
تبارك الله الذي لم يزل ... بما به متصفا في الأزل (2)
سبحانه من واحد ما له ... قد عز في سلطانه ثم جل
أنكرت الألباب بعض الذي ... جاءت به آياته والرسل
وسلمته بعد ما أوّلت ... ظاهره من خبر أو مثل
إن الذي أعطاه برهانها ... لما بها من زيغ أو من علل
في قلبها كذا أتى وحيه ... في ذكره من كلّ خطب جلل
ما استغنت الذات التي برهنت ... عن عرض قام بها أو محل (3)
إلا عن العالم من كونه ... دليل كون حكمه لم يزل
وإنه إن لم يكن قائلا ... لم يكن الكون به واضمحل
فالأمر لا شكّ على ما ترى ... في عينه حكمة أهل الدول
وقال أيضا:
الحمد لله حمدا لا يقاومه ... تحميد حمد ولا تحميد حماد
لا حمد يعلو كحمد الحمد فاحظ به ... إن كنت تحمده فصدقه باد
فهو الثناء الذي لا مين يصحبه ... ولا يجوز عليه خرق معتاد (4)
وقال أيضا:
تعالى الله لم يدركه عقل ... ولم تدرك سواه إذا شهدتا (5)
فإن تطلب على ما قلت فيه ... إذا أنصفتني فيه وجدتا
جماع الأمر إن الأمر فرد ... إذا ركبت فيه عليك جدتا
وأدركت المعارف موضحات ... ونال به دليلك ما أردتا
__________
(1) في البيت ردّ على المعتزلة، وتأكيد على أن الله خالق كل شيء.
(2) الأزل: القدم. والأزلي هو الله تعالى وحده.
(3) الذات: مطلقا، هي الأمر الذي تستند إليه الأسماء والصفات في عينها لا في وجودها.
والعرض: ما يقوم بغيره، في اصطلاح المتكلمين.
(4) المين: الكذب.
(5) يتوافق البيت مع مقالات المتكلمين وخصوصا في قولهم: العجز عن درك الإدراك إدراك.(1/255)
وساويت المنيب بكلّ وجه ... رآه دليله وعليه زدتا
أقمت به وجودك مستفيدا ... فلما أن حبيت به أفدتا
وكنت به إماما ذا نوال ... يجود به نداك إذا قصدتا
ومهما كان نجد اللوم تبدو ... معالمه لعينك عنه حدتا
فأوفى بالعهود إليه حتى ... يكون لك الإله كما عهدتا
ولازم بابه بالباء واعبد ... بحرف اللام يوما إن عبدتا
ولا تنسى نصيبك من وجود ... تحققه لديك إذا عبدتا
وحاذر سطوة المغرور يوما ... بقلبك في السجود إذا سجدتا (1)
ندبت لغاية سبقت إليها ... جياد العزم ثم لها أعدتا
إذا ما راية نشرت لمجد ... يمينك نحوها شوقا مددتا
وقال أيضا:
إذا ما المرء غاب عن الوجود ... بما يلقاه من غط الشهود (2)
إذا نزل الأمين عليه يلقي ... إليه الوحي من عين المزيد
فيفنيه الفناء عن الوجود ... وما يفنيه إلا بالوجود (3)
ففيه به فناء العين منه ... وإن يقصد يستر بالجحود
رأيت أهلة طلعت بدورا ... مكملة بمنزلة السعود (4)
وقال أيضا:
إذا النظر الفكريّ كان سميري ... وكان وجود الحقّ فيه سجيري (5)
وعز لوجدان الحقيقة مطلبي ... وكان ورودي في عمى وصدور
تيقنت أني إن تأملت خاطري ... وجدت الذي أبغيه عين ضميري
دعاني إليه الشوق من كلّ جانب ... فكان بشيري بالهوى ونذيري
نفوس عقيفات أتين يعدنني ... وقد ضربوا ما بينهن بسور
شهدن علينا إذ شهدن بما لنا ... وحرمة حبي ما شهدن بزور
لقد ذهبت في حسن ذاتي طوائف ... ذهاب خبير بالأمور بصير
__________
(1) يحذر من وساوس الشيطان.
(2) الشهود: أن يرى حظوظ نفسه، وتقابله الغيبة.
(3) الفناء: سقوط الأوصاف المذمومة. وقيل هو الغيبة عن الأشياء.
(4) سعود النجوم: عشرة سعود منها سعد بلع، سعد الأخبية، وهما من منازل القمر وكذلك سعد الذابح وسعد السعود.
(5) السجير: الخليل الصفي.(1/256)
أضلّوا على علم فضلوا وضللوا ... فيا ليت شعري من يكون عذيري (1)
وقال أيضا:
استغفر الله إن الله يغفر لي ... ما كان مني من ذنب ومن زلل
لقد حباني بخير لست أعرفه ... ما خاب فيه وفي إحسانه أملي
إني اعتمدت عليه في تصرفنا ... ما كان من خلقي فيه ومن عملي
ما كان لله من سكم ومن حكم ... فإنّ تكوينه عند الحقيقة لي (2)
لله سرّ ومن أسمائه ظهرت ... أحكامه ليس من شمس ولا زحل
وعند ما اتصلت أنواره وبدت ... أنوارها في على الأكوان والسفل
ترتب الحكم منها في العماء وفي ... عرش استواء وفي الأفلاك والدول (3)
منها بروج أبانتها منازلها ... مع الدراري التي تجري إلى أجل (4)
أعطت لكل مقام منه مدّته ... منها سريع وما يمشي على مهل
لذاك قيل بأن الدهر يحكمنا ... عن إذن خالقه في عالم المثل
وجلّ قدرا فلم يضرب له مثل ... وليس يعرفه عقل بلا مثل (5)
أعطتك أدواره علما بسيرته ... في خلقه وبما قد كان في الأزل (6)
به تسمى الذي قام الوجود به ... سبحانه جلّ عن فكر وعن ملل
لا يرتضى من وجود الخلق غير فتى ... يأتي إليه مع الأملاك في ظلل
لكونه باسمه الله يزينه ... علامه بالذي فيه من الحلل
مسارعا سابقا والأصل يعضده ... بقوله: خلق الإنسان من عجل (7)
يقول: ما منتهى الآمال يا أملي ... ما لي بكم أمل في غير ذي أمل
أمّا المسيح الذي يفني دجاجلكم ... وهم ثلاثون لم تبرح ولم تزل (8)
__________
(1) إشارة إلى بعض الذين أساؤوا فهمه فضلوا وضللوا. العذير: العاذر.
(2) السّكم: مقاربة الخطو في ضعف.
(3) العماء: قالوا: هي ذات محض لا تتصف بالحقية ولا بالخلقية ولا تضاف إلى مرتبة لا حقية ولا خلقية. والعرش: أعظم مخلوقات الله تعالى.
(4) الدراري: جمع درّة: لؤلؤة. ومنها قوله تعالى: {كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ} أي مضيء. وأراد الشاعر الكواكب كما في الآية 35من سورة النور.
(5) المثل: الشبه.
(6) الأزل: القدم: والله تعالى هو الأزلي وحده.
(7) صدى لقوله تعالى: {خُلِقَ الْإِنْسََانُ مِنْ عَجَلٍ} سورة الأنبياء، آية: 35.
(8) يشير إلى نزول المسيح عيسى ابن مريم عليه السلام في آخر الزمان وقتله الدجال وأتباعه من الكفار،(1/257)
حتى ظهرت فذابوا كالرصاص يرى ... تذيبه النار بالأبصار والمقل
مشت على السنة البيضاء سنتنا ... مشي النبيين والأملاك والرسل
وما أنا بنبيّ لا ولا ملك ... ولا رسول وأرجو أن أرى بولي
إني لمن أهل من يعلو السبيل به ... كما علوت بها من سائر السبل
سبيل أحمد خير الناس كلهم ... من ساد مجدا على حاف ومنتعل
ذاك الإمام الذي صحّت سيادته ... على الجميع بيوم الحادث الجلل
أنت المعين لي في كلّ قافية ... من المعارف في مدح وفي غزل
والله ما نظرت عيني إلى أحد ... إلا رأيتك فيه واضعا حيلي
وقبله ومع المنظور في قرن ... وبعده لست أبغي عنه من حول
أقول بالشرط فيه لا أقول كما ... قالت أوائلنا يا علة العلل (1)
الله أعظم أن يعطي هويته ... بالذات معلولها والذات لم تزل
لكنّ أسماءه الحسنى حقائقها ... هي التي طلبته وهي من قبلي
هذا الذي قلته الشرع جاء به ... كذا رويناه عن أسلافنا الأول
وقال أيضا وكتبه في دائر قاعة سكناه:
يا منزلا ما له نظير ... لم يبق سكناك في الصدور
هما فتم بذاك قدرا ... على المقاصير والقصور
ولم يزل من تكون مأوى ... له على أكمل السرور
في غبطة وانتظام أمر ... فيك إلى آخر الدهور
وقال أيضا:
إنما الماء من الماء روى ... والذي مذهبه ذا ما روي
قد روت ناسخة عائشة ... عند قوم جهلوا ما قد روي
إنما زادت بما قد ذكرت ... عين حكم وهو برهان قوي
غرضي والله يوما أن أرى ... الذي بي من جواه يرتوي
وإذا أبصرته لم أره ... وهو ذو شوق عليه يحتوي
ما أنا في ظاهر الحرف به ... بل أنا عين الوجود المعنوي (2)
__________
لقوله صلى الله عليه وسلم: «كيف أنتم إذا نزل فيكم عيسى ابن مريم» رواه البخاري: أنبياء 49، ومسلم: إيمان 244، وابن حنبل 20، 77.
(1) العلّة: يريدون: تنبيه الحق لعبده بسبب أو بغير سبب. وقيل: العلة كناية عن بعض ما لم يكن فكان.
(2) الوجود: يريدون به: فقدان العبد بمحاق أوصاف البشرية ووجود الحق.(1/258)
ما يرى ما قام بي من كلف ... غير شخص عربيّ نبوي
هو رمز فارسيّ غامض ... وهو نصّ عند شخص علوي
وقال أيضا:
إن الزمان الذي ما زلت أحصيه ... لقد تقضّى وما حصلته فيه
لقد صبرت عليه إذ يعاندني ... وقد درى بالذي فيه أقاسيه
من فقد كون أمور كنت اطلبها ... منه ليوفي بعهد كان يوفيه
وقد أتى زمن التقريب يطلبني ... بالشكر إذ جادلي بالوصل من فيه
فقلت يا زمني إني به زمن ... وأنت والله لا تدري وأدريه
وقال أيضا:
بالشرع أعلم ما البرهان ينكره ... والشرع أولى بما أولى وأقصده
الأين والكيف والأعضاء أجمعها ... مع القوى وبها أثني وأحمده
له كما جاء في الشّرع المطهر من ... زيغ العقول ومن وهم يحدده
لذاك جاء بإيمان يصدّقه ... وحرم الفكر في ذات يعبده
أهل العقول عصوه فهي زيّهم ... بما تولّده والكشف يفسده (1)
فظنها أنها في كلّ ما نظرت ... أصابت الحقّ والبرهان يعضده
وقال أيضا:
تباركت أنت الله جلّ جلاله ... وعزّ فلم يظفر به علم عالم
تعالى فلم تدركه أفكار خلقه ... وردّ بما أوحى به كلّ حاكم (2)
ولكن مع الردّ الذي وردت به ... نصوص الهدى أثني بأرحم راحم
على نفسه وحيا ليعلم سابق ... ومقتصد من ذاك حكمة ظالم
فلا سابق يزهو لتاخير ذكره ... لإلحاقه فيه باهل المظالم
فجاء بتنزيه بشورى وغيرها ... وجاء بتشبيه لسان التراجم
وكلّ له وجه صحيح ومقصد ... فعم بما أوحى جميع المعالم
وقال: أنا عند الظنون وحكمها ... وذلك عين العلم بي في التراجم
وفيها ترى يوم القيامة عند ما ... يقرّبه بعد الجحود الملازم
لما عقدوا فينا ببرهان عقلهم ... وإن فضلتهم في العلوم بهائمي
__________
(1) الكشف: الاطلاع على ما وراء الحجاب من المعاني الغيبية والأمور الحقيقية.
(2) في البيتين تنزيه لله سبحانه، وإشارة إلى عجز العقول البشرية عن إدراكه.(1/259)
كما جاء عنا في صريح كلامنا ... على ألسن الأرسال من كلّ حاكم
يريد قوله تعالى: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلََّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ} (1).
وقال أيضا:
هذي أتتك بها رسل الهدى سحرا ... فبالهدى أنت مهديّ وهاديكا
ربّ حباك به حبّا وتكرمة ... فاصغ إليه جزاء إذ يناديكا
فأنت أكرم من نرجو عواطفه ... ولا يغرنك ما تأتي أعاديكا
بهم إليك فهم أعداء ما جهلوا ... واجعل له منزل التنزيل ناديكا
وقل له بالهدى يا منتهى أملي ... إني وحقك ما أعصى مناديكا
محمدا خير مبعوث يقول إذا ... يرمي لصاحبه إني أفاديكا
يريد قوله صلى الله عليه وسلم لسعد بن أبي وقاص: «إرم فداك أبي وأمي» (2)، وهو أوّل من رمى بسهم في سبيل الله تعالى.
وقال أيضا:
إني أفاديك يا من عزّ مطلبه ... بالنفس والمال والأهلين والولد
قل المساعد إذ عزّت مطالبكم ... على الشهود وما بالربع من أحد (3)
سواك فانظر فما أبصرت من أحد ... إلا وأنت له ظلّ بلا جد
وقال أيضا:
الناس كلهمو أعداء ما جهلوا ... في مذهب الأشعريين بضدّهم (4)
فيه بما ذكروه في حدودهم ... لهم وغيرهم يأتي بضدهم
وهو الصحيح الذي اختاروه فاعتمدوا ... عليه وانظر إلى عقدي وعقدهم
وقال أيضا في دور السنة:
أتاك الشتاء عقيب الخريف ... وجاء الربيع يليه المصيف
ودار الزمان بأبنائه ... فمن دوره كان دور الرغيف
سرى في الجسوم بأحكامه ... تغذى اللطيف به والكثيف
__________
(1) سورة الإسراء، آية: 44.
(2) رواه البخاري: جهاد: 80. ومسلم: فضائل الصحابة 41، 42. الترمذي: مناقب 26. وآخرون.
(3) الشهود: أن يرى حظوظ نفسه.
(4) قوله: الناس أعداء ما جهلوا، دعوة إلى التعلم. ومذهب الأشعريين يقوم على مبدأ التوحيد والتنزيه والرد على المبتدعة وأهل الأهواء.(1/260)
عجبت لهم جهلوا قدرهم ... ويسعى القويّ له والضعيف
فأصبح كالماء في قدره ... لديهم وفي الماء سرّ لطيف
يعني مهتضما وسرّه اللطيف قوله تعالى: {وَجَعَلْنََا مِنَ الْمََاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ} (1)، وقوله تعالى: {وَكََانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمََاءِ} (2).
وقال أيضا:
لا إله إلا الله ... قول عارف أوّاه (3)
أظهرت شهادته ... حكم كلّ من ناداه
إن دعاه موجده ... فالذي دعا لباه
من وجودنا فلذا ... قلت إنني إيّاه
وقال: رأيت ليلة الجمعة سابع وعشري صفر سنة إحدى وثلاثين وستمائة في النوم، كأني واقف على قبر داثر وورقة في جدار، كان للقبر فيها مكتوب على لسان صاحب القبر، بكتابة إلهية بيتان من قصيدة كنت أحفظها لبعضهم.
وهما:
حاسبونا فدققوا ... قيّدونا فأوثقوا
نظروا في صنيعنا ... ثم منوا فأعتقوا
والناس وقوف على القبر يبكون بكاء فرح بالله لما منّ به على صاحب ذلك القبر، فكنت أقول: لو قال هذا الشاعر مثل ما وقع لي الآن:
حاسبونا ما دقّقوا ... قيّدونا ما أوثقوا
نظروا في ذنوبنا ... ثم منّوا فأطلقوا
إن ظني وخاطري ... في إلهي محقق
إن من مات محسنا ... ليس بالنار يحرق
فاستيقظت فما فرحت بشيء فرحي بهذه المبشرة.
وقال أيضا:
الحمد لله بأسمائه ... الظاهر الباطن عن خلقه (4)
__________
(1) سورة الأنبياء، آية: 30.
(2) سورة هود، آية: 7.
(3) العارف: قال ابن عربي: العارف من أشهده الرب عليه فظهرت الأحوال عن نفسه والمعرفة حاله.
(4) الظاهر: الذي يدل عليه كل شيء. والباطن: لا تدركه الأبصار ولا الحواس.(1/261)
في خلقه فكلهم عينه ... لذاك أجراه على وفقه
نحيى به أعضاء إنسانها ... وهو لنا كالمسك في حقه
تشبيهه الرؤية لا عينه ... كالشمس أو كالبدر في أفقه
من فهم الأمر الذي قلته ... صير عين الغرب في شرقه
وقال أيضا:
تبارك الله لا أبغي به عوضا ... ولست أبرم ما قد حل أو نقضا
إني عجبت لمن بالجهل أعرفه ... والعجز غاية من في ذاته نهضا
قد حجر الشرع فكري أن يصرفه ... في ذاته فأبى العقل الذي فرضا
ما إن رأيت له مثلا يعارضه ... وهو المريد وما أدري له غرضا (1)
لما تألفت الأشياء في عدم ... قام الوجود به لعارض عرضا (2)
وهو الوجود كما قامت بأنفسها ... لذاك ما أبتغي بربنا عوضا
فما ترى جوهرا في الكون منفردا ... على اختلاف ولا جسما ولا عرضا (3)
إلا وذاك الذي عاينت صورته ... فمن به مرض قد زدته مرضا
كذا أتت في كتاب الله آيته ... فلم تقل غير ما قد قاله ومضى
فليس يظهره في عين مبصره ... إلا الغمام إذا برق به ومضا
بذا أتى نصه إن كنت ذا نظر ... والكشف أعطى الذي قد قلته وقضى (4)
طه ويس لا تعربهما فهما ... من الذي أبهم النبراس حين أضا (5)
يا عابد الفكر لا تسلك طريقتنا ... هذي بحور بلا سيف لها واضى (6)
إنّ القرآن لنور يستضاء به ... وزاد رجسا قليب زاده مضضا (7)
قوله كذا أتت في كتاب الله آيته يريد قوله تعالى: {وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزََادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ} (8). وقوله: بذا أتى نصه، يريد قوله تعالى: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلََّا}
__________
(1) المريد: من انقطع إلى الله عن نظر واستبصار وتجرد عن إرادته.
(2) العارض: ما يعرض للقلوب والأسرار من القاء العدو والنفس والهوى.
(3) العرض: في اصطلاح المتكلمين: ما يقوم بغيره. والجوهر: ماهية إذا وجدت في الأعيان كانت لا في موضوع.
(4) الكشف: الاطلاع على ما وراء الحجاب من المعاني، الغيبية والأمور الحقيقية.
(5) النبراس: السراج.
(6) بحر بلا سيف: يعني الحال الذي خصه به الله من التعظيم لله لا نهاية له ولا انقطاع.
(7) القليب: البئر.
(8) سورة التوبة، آية: 125.(1/262)
{أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللََّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمََامِ} (1) وقوله: أبهم النبراس يريد قوله تعالى: {كَمِشْكََاةٍ فِيهََا مِصْبََاحٌ} (2)، وآخر الأبيات يريد به قوله تعالى: {يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً} (3).
وقال أيضا:
نهضت إلى نفسي لأعرف خالقي ... كما جاء في التنزيل والسنة المثلى
فلم أر إلا العجز لم أر غيره ... فأعرضت عنه وارتحلت إلى المجلى
على رفرف الياقوت والدر قاصدا ... وذلك عند العقل غايتنا السّفلى
فلما بدت للعين سبحة ذاته ... سجدت لها ذلا فقالت لنا أهلا
وشالت ستور الحجب عن عين عقلنا ... فشاهدت مرئيا بلا مقلة نجلا
وقلت لها من أنت قالت وجودكم ... فكنت لها أهلا وكانت لنا بعلا
فأولدني من كلّ ستر محجب ... وأوردني من ذلك المورد الأجلى
لذاك أحب المصطفى سيّد الورى ... كما جاء بالحلواء والعسل الأحلى (4)
وقال أيضا:
إذا قلت يا الله لبى من الحشى ... فأصغيت نحو الصوت والعين في غشا (5)
وقال شهودي إن تأملت شاهدي ... إذا طلع الليل الإلهيّ في العشا (6)
لأني وتر لم تشفعه ذاتكم ... لأنك من أهل العزاء مع العشا
وإن شئت قلت العين مني عينه ... وإن مدمنه نحو أعياننا الرشا (7)
وجاء بنعت فيه عيني وعينه ... لذا يقبل القرض الذي حرّم الرشى
ومن كان هذا حاله فهو شاهد ... عليه بأن العقل في الفكر في غشا
فما ثم إلا الكشف ما ثم غيره ... له ترفع الأستار في الحال إن يشا (8)
وما ثم ستر غير أني فرضته ... ومن يقبل النقصان قد يقبل المشا
هو القمر الوضّاح فيها كمثل ما ... هو الشمس والروض المنمنم والرشا
وقال أيضا:
إني أرى صورا فيما يرى البصر ... في كلّ جسم صقيل ما به صور
ولست أنكر ما أبصرت من صور ... والجسم خال كذا أعطاني النظر
__________
(1) سورة البقرة، آية: 210.
(2) سورة النور، آية: 35.
(3) سورة البقرة، آية: 26.
(4) سيّد الورى: سيد الخلق ويريد النبي محمدا صلى الله عليه وسلم.
(5) الحشى: ظاهر البطن.
(6) الشهود: أن يرى حظوظ نفسه، وتقابله الغيبة.
(7) العين: إشارة إلى ذات الشيء الذي تبدو منه الأشياء. الرشا: الحبل.
(8) الكشف: الاطلاع على ما وراء الحجاب من المعاني الغيبية والأمور الحقيقية.(1/263)
فما محل الذي أدركت من صور ... إلا الخيال ومن أزماننا السحر
وانظر بخاتمة الحشر التي وردت ... أسماؤه فزهت بذكرها السور (1)
قال عليه الصلاة والسلام: «الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا». وقال (2): «المؤمن مرآة أخيه». وقال تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} (3).
وقال أيضا، وقد رأى ليلة القدر، ليلة الجمعة التاسع عشر من شهر ربيع الأوّل، سنة إحدى وثلاثين وستماية وهي تنتقل في السنة كما يراه الإمام أبو حنيفة (4):
ما ليلة القدر ألا ذات رائيها ... وهي الدليل على الخير الذي فيها
تحوي على كلّ خير قيّدته لنا ... بألف شهر وذاك القدر يكفيها
ولم يقيد بشيء ما يزيد على ... ما قيدته لنا حتى يوفيها
فليس يحصر غير الذات في عدد ... لأنه خير ربّ مودع فيها
وخيره سرمديّ لا انقضاء له ... فالله يحرسها والله يكفيها (5)
من كلّ عين تؤدّيها إلى عطب ... ولو قد سعينا في تلافيها
وقال أيضا:
تعالى وجود الذات عن نيل ناظر ... فإنّ وجود الذات لله عينها
وذاك اختصاص بالإله ولا تقل ... بأنّ ذوات الخلق كالحق كونها
تغيرت الأحكام لما تغايرت ... بألفاظه الأنساب فالبين بينها
فمن شاء فليقطع ومن شاء فليصل ... فذلك ستر فيه للذات صونها
وقال أيضا:
الذات تشهد في المجلى وليس لنا ... حكم عليها بنعت لم يزل فيه (6)
إلا تحوّلها إلا تبدّلها ... في كلّ مجلى وهذا فيه ما فيه
في العقل لا في نصوص الشرع فالتزموا ... قول المشرّع إذ كان الهدى فيه
فليس من صور أدنى ولا صور ... عليا تشاهد إلا حكمها فيه
فإن رأت حجرا وإن رأت شجرا ... وإن رأت حيوانا كلها فيه
__________
(1) ورد في خاتمة سورة الحشر صفات لله تعالى هي: الخالق، البارىء، المصوّر، العزيز، الحكيم.
(2) رواه الترمذي: بر 18برواية: إنّ أحدكم مرآة أخيه فإن رأى به أذى
(3) سورة الشورى، آية: 11.
(4) أبو حنيفة: النعمان بن ثابت، الفقيه المجتهد المحقق أحد الأئمة الأربعة. توفي سنة 150هـ.
(5) سرمدي: دائم.
(6) الذات، مطلقا يريدون بها الأمر الذي تستند إليه الأسماء والصفات في عينها لا في وجودها.(1/264)
هو الوجود ولكن ما حكمت به ... فإنه عين أعيان بدت فيه (1)
وقال أيضا:
عز المساعد إذ عز الذي قصدوا ... علما به وهو المشهود لو علموا
هم الحيارى وعين العلم عندهم ... فنعم ما شهدوا وبئس ما حكموا
العقل خوّفهم والشرع آمنهم ... إنّ النجاة لهم إن شرعهم لزموا (2)
هم الحيارى السكارى في معارفهم ... ومنا لهم خبر بأنهم قدموا
عليه من غير علم قام عندهم ... به ولو علموا بعلمهم ندموا
عجبت للجهل في علم أحققه ... لديهم وهم الجهلا كما زعموا
وقال أيضا:
ألا إنه الفرقان عين وجودي ... وإن كان قرآنا فذاك شهودي
زبور وتوراة وإنجيل مهتد ... مسيح وقرآن صريح وجودي
تعاليت أنت الله في كل صورة ... تجلّت بلا ستر لعين مريد (3)
وقد شهدت عندي بذاك مسامعي ... من ألفاظ معصوم بحبل وريد
فما العالم المنعوت بالنقص كائن ... ولكنه نقص بغير مزيد
فما نظرت عيني مليكا مسوّدا ... تجلى لمملوك بنعت مسود
سواه ولكن فيه للقلب نظرة ... إذا هو حلاه بنعت عبيد
فأخبرت عن قرب بما أنا شاهد ... وإن كنت فيما قلته ببعيد
فبعدي به قرب إليه وقربنا ... هو البعد إذ كان الوجود شهيدي (4)
وما أنا معصوم ولست بعاصم ... إذا طلعت شمسي بنجم سعودي (5)
ولو كنت معصوما لما كنت عارفا ... وإني لعلّام به وبجودي (6)
كما جاءنا نصّ الكتاب مخبرا ... بغفران ذنب المصطفى بقيود
يريد قوله (7) تعالى: {لِيَغْفِرَ لَكَ اللََّهُ مََا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمََا تَأَخَّرَ} فأضاف الذنب
__________
(1) العين: إشارة إلى ذات الشيء الذي تبدو منه الأشياء.
(2) يريد أن اتباع الشرع هو طريق الفوز وليس اتباع الأهواء.
(3) المريد: من انقطع إلى الله عن نظر واستبصار وتجرد عن إرادته. الستر: ما يسترك عما يغنيك.
(4) الوجود: يريد فقدان العبد بمحاق أوصاف البشرية ووجود الحق، لأنه لا بقاء للبشرية عند ظهور سلطان الحقيقة.
(5) شمس: هي النور، وهي أصل بزعمهم لسائر المخلوقات العنصرية.
(6) العارف: من أشهده الرب عليه فظهرت الأحوال عن نفسه، والمعرفة حاله.
(7) سورة الفتح، آية: 2.(1/265)
إليه، فعلمنا العصمة فيم كانت. وقوله (1) صلى الله عليه وسلم: «إنه ليغان على قلبي فاستغفر الله في اليوم سبعين مرّة أو مائة مرّة». قال الله تعالى: {وَعَصى ََ آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى ََ} (2) فاعلم.
وقال أيضا:
يقولون أنت الحقّ بل أنا خلقه ... ولو كنت حقا لم يكن ببعيد
فإني مشهود وحكمي قاصر ... وإن كان عين الحقّ عين وجودي (3)
وحكمي عليه نافذ غير قاصر ... وعين وجود الحقّ عين شهودي
ولست بخلّاق ولست بفاجر ... إذا كان لي كن واستمر قصودي (4)
ومهما يفو سمعي فإني سامع ... لما أوردوه فالورود ورودي
وما أنا علّام ولست بجاهل ... إذا كان مشهودي بحيث شهودي
وما أنا حيّ لا ولا أنا ميّت ... وإن ألحقوني عندهم بلحودي
ولست بأعمى لا ولا أنا مبصر ... إذا كان قربي منه قرب وريدي
ولست بذي نطق وإن كنت مفصحا ... بأخبار ما عاينت دون مزيد
فذاتي ذات الحق إذ هي عيننا ... كما جاء في الشّرع المبين فعودي
إلى الحقّ يا نفسي ولا تجزعي لما ... أتيت بما أودعته بقصيدي
يريد قوله تعالى: = كنت سمعه وبصره ولسانه ويده ورجله = في الحديث (5) الصحيح وقيد.
وقال أيضا في فتية أهل الكهف:
وإخوان صدق جمل الله ذكرهم ... معلمهم كلب وهم يزجرونه
يعرفهم بالحال والفعل قدرهم ... فيعرفهم عينا وهم يجهلونه
يلازم باب القوم يحمي ذمارهم ... ويحفظهم طبعا ولا يحفظونه
يقول لهم بالحال إني منكم ... وعلمي بكم علم بما تعلمونه
فلم يفهموا ما قاله وتواطئوا ... على مسكه حفظا بما ينظرونه
وقال أيضا:
إنّ المهيمن وصّى الجار بالجار ... والكلّ جار لربّ الناس والدار
__________
(1) رواه ابن حنبل 4، 211، 260.
(2) سورة طه، آية: 121.
(3) المشهود: هو الكون. العين: إشارة إلى ذات الشيء الذي تبدو منه الأشياء والوجود: فقدان العبد بمحاق أوصاف البشرية ووجود الحق.
(4) القصود: يعني الإرادات والنيات الصادقة المقرونة بالنهوض إليه.
(5) رواه البخاري: رقاق 38.(1/266)
فإن تعدّى عليه جاره فله ... العفو والأخذ آثارا بآثار
إن شاء عاقبه أو يعف عن كرم ... والعفو شيمة من يصغي إلى القاري
وقال في الطبيعة:
بلغوا عني أم الأربعه ... أنني فيما تريد امعه
نظرت عيني إليها نظرة ... ملأت قلبي نورا وسعه
فإذا شتت أمري قدر ... جاء منها ما إليها جمعه
لم أسميها لأني خفت أن ... يطلق الجار عليها الأربعه
علموا أهل ودادي أنه ... فاز قلبي بالذي قد وسعه
باتباع المصطفى حصله ... وحبيب الله من قد تعبه
أصبحت فيهم بهم حاكمة ... وهم بين يديها وزعه
فبهم يحكم فيهم ولهم ... وعليهم حكم من قد شرعه
قال لي الحق وقد سرّحني ... من قيود الطبع لما منعه
مع من أنت عبيدي في الهوى ... قلت ربي أنا والله معه
وقال أيضا في السحاب وما يمنح:
عيون الزهر يبدو من خباها ... لناظر مقلتي الزهر الأنيق
إذا ما ساعدتها الشمس فيه ... تراه بعد نومته يفيق
أفاقت لأمر فيه سرّ ... فؤاد الطالبين له مشوق
يروم المجنون له حصولا ... إذا تزجى الزّعازع أو تسوق (1)
إذا النجم الرجيم رمى نهارا ... فذاك النجم ليس له حريق
فإن الشمس أقوى منه فعلا ... ودمع الزمهرير له طليق (2)
فيطفئه ويسلم منه ريح ... ويحكم أنه فيه غريق
وذاك الانقضاض لنا شهيد ... على ما قلته برّ صدوق
رأيت الريح تأخذ منه سغلا ... حذار منيّة ولها شهيق
وقال أيضا:
إن الوجود وجود ربك لا تقل ... فيما تراه من الوجود برمته
خلقا فذاك الخلق في أعيانها ... واقسمه فالعلم الصحيح بقسمته (3)
__________
(1) الزّعازع: الشدائد من الدهر.
(2) الزّمهرير: شدة البرد، والقمر.
(3) الأعيان الثابتة هي حقائق الممكنات في علم الحق تعالى. والعين إشارة إلى ذات الشيء.(1/267)
هبت عليك إذا قسمت وجوده ... قسما صحيحا نفحته من قسمته
أنا لا فضل أمّة خرجت لنا ... من أجل شخص إنني من أمّته
لما تقسمت المراتب كلها ... أبدى لك التحقيق صحة قسمته
سلخ النهار لعين كلّ محقق ... سلخا يشعشع نوره من ظلمته
أبداه للأبصار بعد حجابه ... والليل مستور بخالص حكمته
من ضمه أعطاه كلّ مكتم ... من علمه كشفا له في ضمته (1)
ظن اللعين فصدّقوا ما ظنه ... فيهم فقابله الرحيم برحمته
إلا القليل فإنهم عضموا بما ... شكروا لما أولاهم من نعمته
فلذاك زادهم الإله أياديا ... واختص من كفر النعيم بنقمته
فإذا وفي العبد المطيع بعهده ... لله قام له الإله بحرمته
لولا الكذوب لما علمت محققا ... شرف الذي خص الإله بعصمته
كالأنبياء ومن جرى مجراهم ... من وارث أمنوا بها من فصمته
يغتم من يدري الذي قد قلته ... لمقالتي ونجاته في غمته
ويهمّ بي فيردّه تنينه ... عني فيرجع همه عن همته
الكون كور عمامة عمّت به ... رأس الوجود ونحن داخل عمته
فانظر تر ما نحن فيه فإنه ... علم يعزّ فحصلّوه لبهمته
نهم يحصله ويعلم أنه ... مع أنه قد حازه في نهمته
لا يرتوي ظمئان فاه فاغر ... ريان لا يشكو الجواد لحشمته
إن الوجود لمن تحقق علمه ... ذوق ترى أشياخه في علمته
صحّ المزاج فصحّ منه قبولهم ... علما بقدر إمامه وبقيمته
وقال أيضا:
الحمد لله الذي ... أذهب عنا الحزنا
ولم نزل نعبده ... لما عبدنا الوثنا
فامتنّ إحسانا ومن ... نفوسنا مكننا
وكثر الخير لدي ... نا جوده والمننا
لما أتانا منكر ... وكان عبدا لنا
ولم يكن بي راحما ... ولم يكن بي محسنا
قلت لعقلي واعتبر ... حتى ترى من أحسنا
ما ثمّ إلا الله بال ... برهان صحابينا
__________
(1) الكشف: الاطلاع على ما وراء الحجاب من المعاني الغيبية والأمور الحقيقية.(1/268)
فقهقر الملعون يع ... دو معلما بي معلنا
هذا عبيد جئته ... بفتنة ما افتتنا
وجدته ذا حذر ... فما التوى ولا ونى
قلبته لعلني ... أضله فقل أنا
فقال لي اكسر ولا ... تقل أنا بل قل أنا
لكلّ خير قابل ... وحامل فاعلنا
فلم أجد فيه مسا ... غا للذي قام بنا
من سلبه عن دينه ... فعاد رشدا غيّنا
قلت بماذا قد عصم ... ت يا فتى من شرّنا
فقال لي عاصمه: ... به المهيمن اعتنى
لما اصطفاه سيّدا ... ذا حجة مبرهنا
دلّى إليه رفرفا ... من درّة لما دنا (1)
وقال لي اخسأ يا لعي ... ن إنه عبد لنا
جاءت إليه رحمة ... علومنا من عندنا
وقال أيضا:
نظرت إلى عين الوجود فلم أر ... قديما ولكني رأيت حديثا
أظنّ الذي قد كان بيني وبينه ... بيانا يسمى للحجاب كلوثا
فشبهت نفسي في طلاب حقيقتي ... بليل أتى يبغي النهار حثيثا
ليأخذ منه تارة فيردّه ... إلى الغيب حتى لا يرى مبثوثا
وهل يعدم العلات إلا قديمها ... ولكن نراه في العيان حدوثا
فمدّ بنا حبلا من العلوّ نازلا ... ولم يك في نعت الحبال رثيثا (2)
له قوّة تغشى النعاس عيوننا ... لها ألسن فينا وكم وكميثا
ويعطى قليلا من وجودي لأنني ... قليل ويعطينا الوجود أثيثا (3)
أضاحك في يوم السرور كرائما ... وأقبل في اليوم العبوس ليوثا
سمعنا حديثا بالرصافة طيّبا ... وعند مسيئي لو سمع خبيثا (4)
وقال أيضا:
في سورة الأعرف مذكورة ... ثلاث آيات تسمّى الحرس
__________
(1) الرّفرف الأعلى: عبارة عن المكانة الإلهية من الموجودات.
(2) الرثيث: البالي.
(3) الأثيث: الكثير العظيم.
(4) الرّصافة: موضع بالشام.(1/269)
لما اعتنى الرحمن بالمصطفى ... في كربه جادت له بالنفس
إذا تلوناها لخوف بنا ... بحكم إيمان تكن كالعس (1)
ما مثلها من آية آمنت ... نفوسنا إلا التي في عبس
قد جاءت الصّاخّة فاسمع لها ... فإنها عين غنى المبتئس (2)
قد أظهرت أحكامها عندنا ... في دارنا الدنيا فلم تبتئس
وليس كلّ الناس يدري بها ... إلا السليم العين غير الرئس
وقال أيضا:
إذا ما ذكرت الله في السرّ والجهر ... ليذكرني ربي بما كان من ذكري
لأنا نقلناه حديثا معنعنا ... وما زال ذاك النقل عنه على ذكري
فمن كونه كوني ومن عينه عيني ... ومن سرّه سرّي ومن جهره جهري (3)
ولست بغير لا ولا أنا عينه ... فمن أنا عرفني فإني لا أدري
فلو كنته عينا لما كنت جاهلا ... ولو لم أكنه لم يكن أمره أمري
فميزه عني الذي فيه من غنى ... وميزني عنه الذي بي من الفقر
وقال أيضا:
قد كنت عبدا والهوى حاكمي ... فاليوم أولى أن أسمى به
لأنني عبد لربّ يرى ... وما له في الخلق من مشبه
أصبحت منه فلكا حاويا ... يدور بالحكم على قطبه (4)
لأنه قال لنا مخبرا ... بأنه في العبد في قلبه
فمن يرد يشهد خلاقه ... شهوده المربوب من ربه (5)
فليقلب العين الذي قد بدا ... فإنه المشهود في قلبه (6)
سبحانه عزّ وعزت به ... أنفسنا والكلّ منه به
هو الذي يعبد في عرشه ... كمثل ما يعبد في تربه
يريد قوله (7) تعالى: {وَهُوَ اللََّهُ فِي السَّمََاوََاتِ وَفِي الْأَرْضِ}، وقوله (8) تعالى: {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمََاءِ إِلََهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلََهٌ}.
__________
(1) العس: الذكر.
(2) الصاخّة: القيامة.
(3) الكون: عبارة عن وجود العالم من حيث هو عالم.
(4) قطب: عبارة عن رجل واحد هو موضع نظر الله تعالى من العالم في كل زمان.
(5) الشهود: أن يرى حظوظ نفسه، وتقابله الغيبة.
(6) المشهود: هو الكون.
(7) سورة الأنعام، آية: 3.
(8) سورة الزخرف، آية: 84.(1/270)
أشهدنا من ذاتنا ذاته ... وذاك في موقفنا الأنبه
لو أنه يدركه خلقه ... لكان مخلوقا وأعزز به
مذهبنا مذهب أمّ لنا ... مذهب ابن العم اذهب به
يريد بالأم عايشة رضي الله عنها، وإن خالفها في مدلول هذه الآية لأنه إنما يوافقها في حقيقة الإدراك لا في الرؤية.
وقال أيضا:
الله أعظم أن يدرى فيعتقدا ... مقيدا وهو بالإطلاق معروف
وهو الذي تدرك الأبصار في صور ... مشهودة فهو للأبصار مكشوف
فهو المقيّد والمحدود من صور ... وهو الذي هو بالتنزيه موصوف
لذاك نعلمه لذاك نجهله ... فالعجز في علمه عليه موقوف
إن قلت ذا قال حكم العقل ليس كذا ... فلا تقل ليس إن الأمر مصروف
وقل بليس فإنّ الله قال بها ... في آية وهو قول فيه تعريف
وقل بليس ولكن في أماكنها ... على الذي قاله ما فيه تحريف
في عين تنزيهه عين مسهبة ... والكل حقّ فإن الأمر تصريف
ما الحق خلق فيدريه خليقته ... ولا الخلائق حقّ فيه تكييف
إني وزنت لكم أعلام خالقكم ... وزنا وما فيه خسران وتطفيف (1)
إني نظمته لكم ما قال خالقكم ... والنظم تدريه موزون ومرصوف
وقال أيضا:
جلّ الإله فما تحصى معارفه ... ولا عوارفه ولا مواهبه
ولن يصاحبه من خلقه أحد ... لكنه الله في المشروع صاحبه
ومن يكون بهذا الوصف فارض به ... ربا فإنك بالبرهان كاسبه
واعلم بأنك مجبور على خطر ... في خرج ما أنت بالرحمن واهبه
فمن يوافقكم فأنت شاكره ... ومن يخالفكم فما تطالبه
لعلمكم أنه ما عنده خبر ... فالله طالبه ما أنت طالبه
لولا الوجود ولولا سرّ حكمته ... ما كان لي أمل فيمن أصاحبه
إني خصيص لما أوليه من كرم ... إني خسيس لجان إذ أعاقبه
العفو أولى بنا إن كنت ذا كرم ... فإنني عارف بمن أراقبه
الخلق من خلق أشفت مكانته ... ولا يجانبني إذا أجانبه
__________
(1) التطفيف: التنقيص.(1/271)
لعلة ولجهل قام بي فأنا ... للجهل في المنع أنسى إذ أعاتبه
فالله يغفر لي ما قد جنته يدي ... مما يكون له مما أقاربه
فالجهل غالبته والجهل من شيمي ... وما يغالبني إذا أغالبه
إني عجبت لمن قد قال من عجب ... الله من كثرت فينا أعاجبه
وقال أيضا:
كبّر إلهك فالإله كبير ... والخلق إن حقرته فكبير
ولذاك جاء بوزن أفعل فاعتبر ... في لفظ أكبر فالمقام خطير
لا تحقرنّ الخلق إن مقامه الت ... عظيم والتعزير والتوقير
فهو الدليل على مكوّن ذاته ... فله التصوّر ما له التصوير
فإذا ذكرت الله وحّد ذاته ... فمقامها التوحيد لا التكثير
ولتكثير النّسب التي ثبتت له ... فهو الوحيد وإنه لكثير
فهو المريد وجودنا من عينه ... وإذا أراد وجودنا فقدير
وهو المكلم والمناجي عبده ... بالطور في النيران وهو النور (1)
وهو السميع هو البصير بخلقه ... وهو العليم بما عملت خبير
إني رأيت قصيدتي ديباجة ... فيها نضار رقمها وحرير (2)
أوّلتها أسماءه ونعوته ... فلها على كلّ الوجوه ظهور
وقال أيضا:
أقول لما أن بدا ... للعين ما أشهدنا
الحمد لله الذي ... بجوده أوجدنا
من عينه فكان لي ... من ذاك ربّا محسنا
أثنى عليه مفصحا ... به سرّا معلنا
وقال أيضا في أقسام أحكام الشرع في العلم الإلهي:
كلّ فعل كان مني حكمه ... بين ندب ووجوب ومباح
ثم مكروه وخطر فانظروا ... كلّ هذا عينه عين الصّلاح
علم ذات نعته تنزيه لها ... ثم أسماء معان تستباح
وصفات الفعل فرض فعلها ... ثم إدراك به كان الفلاح
__________
(1) الطور: جبل قرب أيلة يضاف إلى سينين أو سيناء، وفي هذا الجبل كان تكليم الله تعالى لموسى عليه السلام. وقد يكون الطور بمعنى النفس.
(2) النّضار: الجوهر الخالص من التبر.(1/272)
فانظروا ما قلت في خالقنا ... والزموا الباب وقولوا لا براح (1)
فجميع الناس قد أسعدهم ... بين تقييد وقول بالسراح
فالذي أطلق منهم علمه ... ربّ حرب ونزاع وكفاح
إنما العلم الذي أطلبه ... بإلهي هو بالشرع الصراح
مسكن الشخص الذي يحظى به ... بيته المعلوم فينا بالضّراح (2)
وقال أيضا:
يساعد تعظيم الإزار ردائي ... بتكبيره فالقول قول إمائي
كنفسي وما لي من صفات تنزّهت ... عن الكيف والتشبيه فهو مرائي
يرى ناظري فيها الوجود بأسره ... وذلك عند الكشف كشف غطائي (3)
فقلت ومن قد جاد لي بعطائه ... فقال لي المطلوب ذاك عطائي
فخفت على نفسي لسبحة وجهه ... فجاد على نفسي بأخصر ماء (4)
من العلم ما يحيى به ما أماته ... يفكر جهلي إذ وفى لوفائي
أنا عبده ما بين عال وسافل ... كما هو في أرض له وسماء (5)
فيوقفني ما بين نور وظلمة ... بما كان عندي من سنا وسناء (6)
ويشهدني حبا لنا وعناية ... بما أنا فيه من حيا وحياء
فنوري كنور الزبرقان إذا بدا ... ملاء بما يعطيه نور ذكاء (7)
فأصبحت في عيش هنيء وغبطة ... يقلبني فيه رخاء رخائي
فيخدمني من كان إذ كنت في الثرى ... بجانب ذاتي خدمة لثرائي
ألا ليت شعري هل أرى رسم دار من ... يرى ذا هوى فيه صريع هواء
من أجل سلام ساقه في هبوبه ... من الملأ الأعلى من النجباء
وقال أيضا:
إذا نزل الأمر العزيز من السما ... ويعرج فيها معجم الحرف مبهما
ويولج في الأرض الغذاء لترتوي ... فيخرج منها الزهر وشيا منمنما
__________
(1) قوله: لا براح. بمنزلة قوله: لا ريب.
(2) الضّراح: البيت المعمور في السماء الرابعة.
(3) إشارة إلى قوله تعالى: {لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هََذََا فَكَشَفْنََا عَنْكَ غِطََاءَكَ} سورة ق، آية: 22.
(4) ماء خصير: أي: ماء بارد.
(5) يريد أن الله تعالى إله يعبد في السماء كما يعبد في الأرض.
(6) السنا: ضوء البرق.
(7) ذكاء: الشمس. والزّبرقان: القمر.(1/273)
مصابيح أنوار الكواكب زينة ... لها ورجوما للشياطين كلما (1)
أرادوا استراق السمع من كلّ جانب ... فيحرقهم منها شهاب تبسّما
ويجعل ما يعلو على الأرض زينة ... لها فالذي يبدو إلى العين منه ما
يغذي به الرحمن جسما مروحنا ... كما قد يغذي منه روحا مجسّما
فقلت ومن غذاها من سمائه ... فقيل لنا عيسى المسيح بن مريما
له الامتزاج الصرف من روح كاتب ... بديوانه لما تحلّى بآدما
فروحن أجساما وجسم أنفسا ... وكان له التحكيم أيان يمما
فلم أرسبطا كان يشبه جدّه ... سواه كما قال المهيمن معلما (2)
يريد قوله تعالى: {إِنَّ مَثَلَ عِيسى ََ عِنْدَ اللََّهِ كَمَثَلِ آدَمَ}.
وقال أيضا:
إذا ما ذكرت الله في غسق الدجى ... دجى الجسم لو عند الصباح إذا بدا (3)
صباح الذي يحيى به الجسم عند ما ... هو الروح لكن بالمزاج تبلّدا
فلا يأخذ الأشياء من غير نفسه ... ولكن بآلات بها سرّه اهتدى
فأمسى فقيرا بعد أن كان ذا غنى ... وأصبح عبدا بعد أن كان سيّدا
لقد خلته روحا كريما منزها ... فأصبح ريحا عنصريا مجسّدا
وكان جليسا للخضارمة العلى ... بمقعد صدق للنفوس مؤيدا (4)
لقد كان فيهم ذا وقار وهيبة ... فلما ارتدى الجسم الترابيّ ألحدا
وأجرى له نهرا من الخمر سائغا ... فلما تحسي شربة منه عربدا
وكان له فوق السموات مشهد ... فلما رأى الأرض الأريضة أخلدا (5)
وكان لما يلقاه بالذات قائلا ... وكان إذا ما جاءه الوحي أسجدا
وقد كان موصوفا فأصبح واصفا ... كما كان ذا قصد فأصبح مقصدا
كما كان فيما نال منه موعدا ... فأصبح فيما نيل منه موحدا
وفي عالم البعد الذي قد رأيته ... رأيت له في حضرة القرب مقعدا
ولما تجلّى من تجلى بنعتهم ... رأيتهم خرّوا بكيا وسجّدا
وأصعقهم وحي من الله جاءهم ... فلما أفاقوا قلت: ماذا فقال: دا
__________
(1) صدى لقوله تعالى: {وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمََاءَ الدُّنْيََا بِمَصََابِيحَ وَجَعَلْنََاهََا رُجُوماً لِلشَّيََاطِينِ} سورة الملك، آية:
5.
(2) السّبط: الحفيد.
(3) غسق الدجى: ظلمة الليل.
(4) الخضارمة: جمع الخضرم: السيد الحمول.
(5) أرض أريضة: أرض زكية معجبة للعين.(1/274)
أصابهم في حال نشأة ذاتهم ... ولن يصلح العطار ما الدهر أفسدا
فقلت: وهل ميزتني في رعيلهم ... فقال: وهل عبد يصير مسوّدا (1)
جعلتكم في أرض كوني خليفة ... وأبلست من ناداك فيها وفندا (2)
وأسجدت أملاكي وكانوا أئمة ... لرتبتك العليا فأمسيت معبدا
نهيتك عن أمر فقاربته ولم ... نجد لك عزما إذ نرى منك ما بدا
وقمت لكم فيه بعذر مبين ... بوّئت دارا خالدا ومخلدا
كما قال من أغواكم غير عالم ... بما قاله إذ قال قولا مسدّدا
وحار بخسران إلى أصل خلقه ... كنور سراج في ظلام توقّدا
يضيء لإبصار ويحرق ذاته ... عن أمر إلهي أتاه فما اعتدى
يريد قوله تعالى آمرا: {وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشََارِكْهُمْ فِي الْأَمْوََالِ وَالْأَوْلََادِ وَعِدْهُمْ} (3).
فيا ليت شعري هل يرى الناس ما أرى ... من العلم في القرآن والنور والهدى
لقد جمع الله الكريم بفضله ... ورحمته بين الأودّاء والعدى
وما كلّ قرب كائن عن قرابة ... كمثلي وإنّ الحقّ بالكامل ارتدى
وكان كمالي فيه بالصورة التي ... خصصت بها فانظره في باطن الردا
وفي سورة الشورى إبان وجودها ... بديّ لمن قد فاز فيها إذا ابتدا
وأنزلنا في عالم الخلق قدوة ... أئمتها وأسوة لمن اقتدى
فلله ما يبقى ولله ما مضى ... فلم يوجد الأشياء خلاقها سدى
وإني لعلّام بما جئتكم به ... وما أنا ممن حار فيه وقلّدا
وإنّ لنا في كلّ حال مواقفا ... ومقعد صدق في الغيوب ومشهدا
وإني ممن أسلم الأمر فيكم ... إليه وممن بالإمامة قلّدا
أنا خاتم للأولياء كما أتى ... بأنّ ختام الأنبياء محمدا
ختام خصوص لا ختام ولاية ... تعم فإنّ الختم عيسى المؤيّدا
لقد منح الله العبيد قصيدة ... يقوم بها يوم القيامة منشدا
على رأس مبعوث إلى خير أمّة ... لقد طاب أصلاها شميا ومولدا
وقال أيضا:
أنا في الأمر مثلكم ... ترجمان على الولد
__________
(1) الرعيل: يريد الجماعة.
(2) أبلس: تحيّر. فنده: كذّبه.
(3) سورة الإسراء، آية: 64.(1/275)
فليكن خير ملجأ ... أنكم خير مستند
إن خير الأنام من ... عجّل الخير إن قصد
فإنا منكم كما ... أنتم بيضة البلد (1)
أنت عزّ لدين من ... شرع الخير واجتهد
النبيّ الذي بهم ... ته حلّت العقد
كيف تحصى مآثر ... ما لها عندنا عدد
فاحمد الله يا أخي ... فالسعيد الذي حمد
فبه دهره نجا ... وبه اليوم قد سعد
وقال في حصر ما يختص بالنطق:
مقولات أهل العلم محصورة الكمّ ... بجوهر أعراض مع الكيف والكم (2)
وتتلو إضافات ووضع محقق ... ولفظ متى والأين منها لذي أم
وفاعل أشياء ومنفعل له ... وما ثم إلا ما ذكرت من الحكم
وقد قسموا لفظي فلفظ محقق ... يدل على معنى كما جاء في العلم
وإن قدّموا المعنى عليه فإنه ... يدل عليه أيّ لفظ لذي فهم
وقد حصروا في المفردات حقائقا ... كجنس ونوع ثم فصل بلا قسم
ويتلوه ما يختصّ منه بذاته ... وعارض أمر لم أقل ذاك عن وهم
فتقتص الأفراد بالحدّ والذي ... تركّب منها بالبراهين في علمي
فبرهان تحقيق وبرهان رافع ... وبرهان إفصاح وسفسطة الخصم
وما ثم إلا ما ذكرت فحققوا ... ولا تك من أهل التحكم والظلم
فإني أتيت الأمر في ذاك قاصدا ... فقل وتنزه عن ملامي وعن ذمي
وهذي علوم إن تأملتها بدا ... لعين سناها في الإضاءة كالنجم
وما لفظه إلا مثال محقق ... لها فانظروه بالتقاسيم في القسم
وقال أيضا ملغزا:
عجبت لموجود حوى كلّ صورة ... من الملأ العلويّ والجنّ والبشر
ومن عالم أدنى ومن عالم علا ... ومن حيوان كان أو نبت أو حجر
وليست سواه لا ولا هي عينه ... وفي كلّ شي شاء من صورة ظهر
__________
(1) بيضة البلد: واحده الذي يجتمع إليه، ويقبل قوله، ضد.
(2) الجوهر: ماهية إذا وجدت في الأعيان كانت لا في موضوع، والعرض: ما يقوم بغيره في اصطلاح المتكلمين.(1/276)
ويبدو إلى الأبصار من حيث ذاته ... ويخفى على الألباب ذاك ولستتر
فتجهله الألباب من حكم فكرها ... وتظهره الأوهام للسمع والبصر
هو الحيّ لكن لا حياة بذاته ... تقوم كما قامت بها سائر الصور
فمن هو خبرني الذي قد ذكرته ... بما قد وصفناه وترمي به الفكر
فها هو مخفيّ وليس بغائب ... وها هو منظور ويخفى على النظر
فيا ليت شعري هل سمعتم بمثله ... ألا فاخبروني أنّ هذا هو العبر
ولم يدر ما جئنا به غير واحد ... هو الله لا تدري به سائر الفطر
وما مثله إلا شخيص وإنني ... عجبت له من كامل وهو مختصر
وقال أيضا:
إني بليت بأمر لست أعرفه ... ولست أنكره والحكم لله
جهلي به عين علمي والنعيم به ... مثل العذاب به كالمال والجاه
إن قلت هو قال عين الكشف ليس بهو ... أو قلت ذا لم يوافقني سوى الله
فهذه حكم يدري بها حكم ... من أهملها مثل أهل الشرع في الباه
فمن يوافقني فيها أوافقه ... ومن يواقف قل يا سيدي ما هي
فيعتريه إذا ما قلت ذا خرس ... وهو الدليل عليه أنه ساهي
فكل من في وجود الحقّ يعرفه ... إلا الذي هو في مقصودنا لا هي
وقال أيضا:
ما إن علمت بأمر فيه من عدد ... إلا وقامت به حقيقة الأحد (1)
عين توحد والأسماء تكثرها ... والكثر لا ينتهي فيها إلى أمد
لما علمت بهذا واتصفت به ... علمت أن وجود الفرد في العدد
فخبروني عن أمر لا شبيه له ... وما هو الله ذو الآلاء والرفد
إن الغنيّ الذي غناه عن عرض ... هو الفقير إلى الآلات والعدد
وليس في الكون إلا من تكون له ... هذي الصفات فما في الكون من أحد
يقال فيه غنيّ لا افتقار له ... وذلك الحكم في الأدنى وفي البعد
وذلك الحكم ساري إن علمت به ... في كل ذي روح أو في كل ذي جسد
إن الوجود الذي تدري به بلد ... وإنه واحد من ساكني البلد
أقول فيه مقالا لا أقول به ... حتى أعاينه في كلّ مستند
هو الوجود الذي الأعيان صورته ... وإنّ صاحبه مشارك النكد (2)
__________
(1) الأحد: هو رسم الذات مع اعتبار تعدد الصفات.
(2) الأعيان الثابتة: هي حقائق الممكنات في علم الحق تعالى.(1/277)
لولا الوجود ولولا حسن صورته ... ما كان لي أمل في كلّ ذي حيد
عن من إلى من وفي من فاستعدّ له ... إن الإمام الذي يهدي إلى الرشد
إنّ الإله دعانا أن نلاقيه ... بالموت عند فراق الروح للجسد
لذاك أسرعت الأرواح طائرة ... ولم تعرّج على أهل ولا ولد
ليس التعجب من تعجيل رحلتها ... إن التعجب من نوح ومن لبد (1)
وقال أيضا:
عجبت لمن دعا ولمن أجابا ... وما علم الدعاء ولا الجوابا
فلما ان تحققّ من دعاه ... وحقق ما دعاه به أنابا
ولكن بالإباية عن قبول ... لدعوته فأخطأ ما أصابا
وأما العارفون به فقاموا ... عن الكشف الذي يهدي الصوابا (2)
وقرر شرعه تقرير حبر ... وأنزله على شخص كتابا
وفاز المؤمنون به ونالوا ... من الله السعادة والثوابا
ونال المذنبون كثير عفو ... وفي الدنيا فما أمنوا العقابا
إقامة حدّه المشروع فيهم ... يقام به وقد قبل المتابا
ولا ينجيه منه قبول توب ... إذا علم الإمام وقد أنابا
ويدنيه الإمام ويصطفيه ... ويوليه العقوبة والعقابا
وما حكم القيامة فيه هذا ... وإن وفاه خالقه الحسابا
يراه الأشعريّ بغير حدّ ... ويثبت منكروه له الحجابا (3)
ومن شهد الأمور بلا غطاء ... تراه وما تراه إذا يحابى
ويشهده العليم بكلّ وجه ... ويعلم أنه إن خاب خابا
ولولا كونه ما كان كون ... وبالإتيان أشهدنا السحابا (4)
أتاك بها الحكم الفصل فينا ... ويفتح ظلة فيه وبابا (5)
وقال أيضا:
ذكرى إلهي ليس عن نسيان ... لكن عبادة منعم محسان
__________
(1) نوح أي النبي نوح عليه السلام. لبد: آخر نسور لقمان. وقد ذكرهما الشاعر لطول عمر كل منهما.
(2) الكشف: الاطلاع على ما وراء الحجاب من المعاني الغيبية والأمور الحقيقية.
(3) الأشعري: أبو الحسن، علي بن إسماعيل بن إسحاق، إمام مجتهد متكلم توفي سنة 324هـ.
الحجاب: ما يحول بين الشيء المطلوب المقصود وبين طالبه وقاصده.
(4) الكون: عبارة عن وجود العالم من حيث هو عالم، لا من حيث هو حق.
(5) الظّلة: ما يستظل به.(1/278)
إني على نفسي مننت بذكره ... وكذاك فعل محقق إنسان
إن الرجال لهم شباب زمانة ... كالشمس في حمل وفي نيسان
الله قوّاهم على تكليفه ... إياهم في دولة الميزان
بعناية النبي الكريم المصطفى ... خير الخلائق من بني عدنان
لما سمعت به سلكت سبيله ... وكفرت بالطاغوت والطّغيان (1)
عقدا وإيمانا فإنّ وجوده ... في عينها بشهادة الإحسان
وبذا قضى أن لا تكون عبادة ... الإله في محكم القرآن
فورثته قولا وعلما والذي ... كلفت من عمل ومن إيمان
حفظ المهيمن دينه بقواعد ... خمس لما فيه من السّلطان
يريد قوله (2) عليه الصلاة والسلام: «بني الإسلام على خمس شهادة أن لا إله إلا الله وأنّ محمدا رسول الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصيام رمضان وحج البيت من استطاع إليه سبيلا». وليس في العدد من يحفظ نفسه وغيره إلا الخمسة.
لما تعدّى حفظه أعيانها ... حفظا إلهيا إلى الجيران
فبنيت إسلامي عليها محكما ... أركانه فيحل من بنياني
الله كرّمنا بدولة أحمد ... كرما يعم شرائع الإحسان
شهدت بذلك نيتي وطويتي ... وإن امترى في ذلك الثّقلان (3)
لما سرى سرّ الوجود بجوده ... في عالم الأرواح والأبدان
شهدت حقائقه بأنّ وجوده ... قد عمنا في الحكم والأعيان (4)
لما التفت بناظري لم أطلع ... إلا إليه فإنه بعياني
لو كان ثم سواه كنت مقسما ... بين الإله وعالم الأكوان
فانظر لما تحوي عليه قصيدتي ... من كل علم قام عن برهان
لو أن رسطاليس أو أفلاطنا ... في عصرنا لأقرّ بالحرمان (5)
__________
(1) الطاغوت: اللات والعزّى، والكاهن، والشيطان، وكل رأس ضلال والأصنام، وكل ما عبد من دون الله تعالى. الطّغيان: مجاوزة القدر، والمغالاة في الكفر، والإسراف في المعاصي والظلم.
(2) رواه البخاري: إيمان 1، 2ومسلم: إيمان 19، 22، والترمذي إيمان 3، والنسائي إيمان 13.
(3) الطوية: الضمير والنية. الثقلان: الإنس والجن.
(4) قيل: الحقيقة هي اسم الصفات، فإذا دخل المريد عالم الإحسان، بعد ترك الدنيا وتجاوزه حدود النفس والهوى فيقولون دخل عالم الحقيقة ووصل إلى مقام الحقائق. الأعيان: إشارة إلى ذات الشيء الذي تبدو منه الأشياء.
(5) أرسطو وأفلاطون: فيلسوفان يونانيان.(1/279)
من عدّل الميزان يعرف قولنا ... ويقرّ بالنقصان والخسران
لا تخسروا الميزان إنّ عقولكم ... دون الذي أعنيه في الرجحان
اقرأ كتاب الله فاتحة الهدى ... فجميع ما يحويه في العنوان
إنّ الإله الحقّ أعلم كونها ... عين الصلاة وإنها قسمان
لما قرأت كتابه في خلوة ... معصومة من خاطر الشيطان
عاينت فيه معالما بدلائل ... لا يمتري في صدقها اثنان
لو أنّ عبد الفكر يشهد قوانا ... لم ينتطح في سرّنا عنزان
لكنهم لما تعبد فكرهم ... ألبابهم بعدوا عن الفرقان
إن تتق الله الذي يجعل لك ... الفرقان بين الحقّ والبهتان
لو وفقوا ما لفقوا أقوال من ... لعبوا بهم كتلاعب الولدان
والكلّ في التحقيق أمر واحد ... في أصله بالنص والبرهان
نطقت بذلك ألسن معلومة ... بإصابة التحقيق في التبيان (1)
لو أنهم شهدوا الذي أشهدته ... ما قام في ألبابهم حكمان
لعبت بهم أهواؤهم فهم لها ... عند اللبيب كسائر الحيوان
إنّ النجاة لمن يقلّد ربّه ... فيما أتاه به وهم صنفان
صنف يراه شهود عين دائما ... أو في حجاب عنه وهو الثاني (2)
يريد بقوله: وبذا قضى، قوله تعالى: {وَقَضى ََ رَبُّكَ أَلََّا تَعْبُدُوا إِلََّا إِيََّاهُ} (3) وقوله:
عين الصلاة، يريد قوله تعالى: = قسمت الصلاة بيني وبين عبدي = (4) وذكر الفاتحة، ويريد بقوله: أمر واحد، قوله تعالى: {قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللََّهِ} (5) وقوله: ألسن معلومة، يريد السنة الشرائع، ويريد بقوله كسائر الحيوان قوله تعالى: {إِنْ هُمْ إِلََّا كَالْأَنْعََامِ} (6).
وقال أيضا:
لولا شهودي ما عرفت وجودي ... فامنن عليّ به فأنت شهيدي (7)
وعلامتي اني جهلت وجودكم ... من حيث ما هو بغير مزيد
__________
(1) التحقيق: يريد تكلف العبد لاستدعاء الحقيقة جهده.
(2) الشهود: أن يرى حظوظ نفسه، وتقابله الغيبة. الحجاب: حائل يحول بين الشيء المقصود وبين طالبه.
(3) سورة الإسراء، آية: 23.
(4) رواه مسلم: صلاة 40، والنسائي: افتتاح 23، والموطأ: نداء 39، وابن حنبل 2، 285، 460.
(5) سورة النساء، آية: 78.
(6) سورة الفرقان، آية: 44.
(7) وجود: فقدان العبد بمحاق أوصاف البشرية ووجود الحق، لأنه لا بقاء برأيهم للبشرية عند ظهور سلطان الحقيقة، وهو يدم بدوام الشهود.(1/280)
ودليل ما قد قلته من جهلنا ... من ذاتكم أني جهلت وجودي
وقال أيضا:
إنّ لله بالحجاز يمينا ... ومقاما مؤمنا وأمينا
يريد قوله عليه الصلاة والسلام: «الحجر يمين الله» ويريد قوله (1) تعالى: {مَقََامُ إِبْرََاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كََانَ آمِناً} ويريد قوله (2) تعالى: {وَهََذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ} حين أقسم به.
بايعوها فإن فيها نجاة ... واجعلوه لكم مصلى ودينا
يريد قوله تعالى: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقََامِ إِبْرََاهِيمَ مُصَلًّى} (3).
ولتقوموا إذا وصلتم إليه ... ونزلتم به عليه سنينا
فجوار الإله خير جوار ... تعلموه يوم الورود يقينا
وادخلوه إذا أتيتم إليه ... دون هدى بعمرة محرمينا
فهو الشرع لا تحيدون عنه ... وهو نصّ الرسول فيهم وفينا
مع هذا فقلت عبد نقي ... وسع الحقّ بالنصوص المتينا
حين ضاقت عنه سماء وأرض ... نصّ فيه الرسول حيّا مبينا
فثقلنا كما ثقلنا بقول ... حين كنا بما أتى مؤمنينا
لم نكن بالذي سمعناه منه ... وتلوناه بالهدى كافرينا
لم نكن في الذي ذكرناه عنه ... ونسبنا لذاته مفترينا
فاحمدوا الله إنني لنبيّ ... لم يكن مثله نبيّ يقينا
من عذاب الحجاب في دار بعد ... حصل الغير فيه حزنا وهونا
ما مقامي بأرض شرق وغرب ... وشمال إلا خسارا مبينا
فاعملوا نحوه مطيّ الأماني ... لتكونوا لحكمه مسلمينا
إنما أنتم عبيد دعاة ... لتكونوا بذلكم آمنينا
واتقوا الله في الدعاء إليه ... فبتقوى إلهكم تعملونا
كلّ فرق يكون ما بين هدى ... وضلال به يكون مصونا
من أذى باطل وعصمة حق ... ولأشبال أسده فعرينا
من يكن هكذا يغز بمقام ... حازه من أتاه من طور سينا (4)
لم يكن قصده فكان امتنانا ... وجزاء لسعيه ليبينا
عندنا جوده فنعلم حقا ... أنه لم يكن بذاك ضنينا
__________
(1) سورة آل عمران، آية: 97.
(2) سورة التين، آية: 3.
(3) سورة البقرة، آية: 125.
(4) الطور: جبل السيناء.(1/281)
ولهذا الفقير يطمع فيه ... وإليه شدّ الحريص الوضينا
يبتغي الجود والوجود جميعا ... لتكونوا لديه حينا فحينا
إنه ذو جدى وربّ وفاء ... بعيد أضحى لديه مكينا
فإذا ما ابتغاه جاء إليه ... ومن أسمائه أراه كمينا (1)
فيه حتى تراه عينا بعين ... شافيا علة وداء وفينا
إنه الداء والدواء جميعا ... لتقوموا بحقّه أجمعينا
واطلبوا العدل حيث كنتم لديه ... واسكنوا من أماكنيه عرينا
مثل زيتونة تمد بدهن ... نور مصباحنا به لترينا
ما أتانا به لضرب مثال ... نعلم الحقّ منه حقا يقينا
وقال أيضا:
قل للذي اعتبر الوجود مثالا ... هل نال منه العارفون منالا (2)
لا والذي خضع الوجود لعزّه ... ما زادهم إلا عمى وضلالا
فإذا عجزت عن المنال علمته ... بالعجز ليس بما اعتبرت مثالا
قد حاز من جعل المثال دليله ... للعلم بالله العظيم خبالا
فيراه تاجا في الرؤوس مكللا ... ويراه في رجل الرجال نعالا
ورأيته عند اللجين مخلصا ... للناظرين وفي النضار ذبالا (3)
لا تقطعن بما ترى من صورة ... فالشمس وقتا قد تكون هلالا
ما سمى البدر المنير هلاله ... إلا إذا كبرته إهلالا
حلاك تعظيم التشهّد ذاته ... من خلقه سبحانه وتعالى
وتحوز منه مكانة علوية ... بعلومها ومراتبا وكمالا
دارت رحى الألباب في طلب الذي ... ما زال في أرحى العقول ثفالا (4)
فيرى مطيهم لذاك من الوجى ... تشكو عياء عنده وكلالا (5)
__________
(1) كمين: مستتر.
(2) الوجود: فقدان العبد بمحاق أوصاف البشرية ووجود الحق. والعازمون: كما يرى ابن عربي هم الذين أشهدهم الرب عليه.
(3) اللجين: الفضّة، ويريد القمر. النّضار: الذهب والفضة ويريد الشمس الذّبالة: الفتيلة.
(4) الثّفال: ما وقيت به الرحمن من الأرض. والرحى واحدة من رحوين وهي حجران كانا يستخدمان لطحن الحبوب. والرحى: الصدر.
(5) الوجى: الحفا. الكلال: الضعف.(1/282)
في مهمه قطع السّرى أنياطها ... قطعا وزادهم العيان مضلالا (1)
فإذا ظفرت به فلست بظافر ... وتقول فيما تدعيه محالا
من يدّعي علم الصفات فإنه ... لا يعرف الإدبار والإقبالا (2)
من يدّعي التصريف في أحكامه ... قد ظنّ ظنا أنّ فيه محالا
هيهات كيف ومن يكيف ذاته ... فهو الذي يغتال اين اغتالا
لما رأيت وجوده من خلقه ... نورا وأنصبه الكيان ظلالا
أيقنت أن الأمر فيه تحيّر ... عند اللبيب يهيج البلبالا (3)
ويقول أهل الكشف فيه بأنه ... تفصيله لا يقبل الإجمالا (4)
ولذاك أنزلهم وهم في ملكه ... دون الملوك أئمة أقيالا (5)
يدعون في لحن الشريعة والهدى ... بالوارثين الكل الأرسالا
فهم بأرجاء الوجود مذانب ... وجعافر قد أرسلوا إرسالا (6)
ولو أنهم في كلّ علم جامع ... قد جرروا عجبا به أذيالا
الله كرّمهم بعلم وجوده ... وسقاهم كاس العلوم زلالا
وقال أيضا:
هنا يشاهد ما الألباب تنكره ... لأنه بدليل الكشف ليس سواك
وما له مثل يعطيك صورته ... إلا الصلاة إذا صليتها بسواك
إني غلطت بقولي إنها بسواك ... والحق عند الذي صلى بغير سواك
فانظر ترى العلم فيما قد أتيت به ... في قولنا بدليل الكشف ليس سواك
وقال أيضا:
إنّ الحجاب علينا عين صورتنا ... فإذ ولا بدّ فاحجبني بصورته (7)
__________
(1) المهمه: المفازة البعيدة. السّرى: السير ليلا. الأنياط من المفازة: بعد طريقها.
(2) الصفات: صفات الله تعالى، هو بها موصوف، وهي ليست بأجسام ولا أعراض ولا جواهر، فهو سميع بصير على الحقيقة ليست كالأسماع والأبصار وهي صفات الله ليست بجوارح ولا أعضاء ولا أجزاء.
(3) البلبال: الوسواس.
(4) الكشف: الاطلاع على ما وراء الحجاب من المعاني الغيبية والأمور الحقيقية.
(5) أقيال: جمع قيل: ملك.
(6) مذانب: جمع مذنب: مسيل الماء إلى الأرض. جعافر: جمع جعفر: نهر صغير.
(7) الحجاب: حائل يحول بين الشيء المطلوب المقصود وبين طالبه وقاصده.
والعين: إشارة إلى ذات الشيء الذي تبدو منه الأشياء.(1/283)
ولا تنزلن فيما لا أسرّ به ... من بعد ما نلت منه عين سورته (1)
إن كنت مجتمعا بالحقّ في بصر ... فالعبد يمتاز عنه في بصيرته
لو كان يحجبه كما تشاء به ... فالحقّ يطلبه بحسن سيرته
وقال أيضا:
إني رأيت بظني ... من كان كلبا ظبيا
وكان شخصا كريما ... من الأناسي سويا
ولم أجىء بالذي قل ... ت فيه شيا فريّا
ولا تقل فيه مسخ ... تكن فتى عربيا
وقال أيضا:
ضاق النطاق وضاق الشّبر والباع ... عن التجلّي وأبصار وأسماع (2)
فما يرى نفسه إلا به فله ... في كلّ ذات تراكيب وأطباع
وقال أيضا:
العلم أولى ما اتبع ... والعبد عبد ما اتبع
هذا هو الحقّ بدا ... فخذ بقولي أو فدع
من وسع الحق فما ... يعجز عن شي يسع
ما أشرف العبد الذي ... لكلّ شي قد وضع
من نازل وصاعد ... وخافض ومرتفع
ميزانه في يده ... كالحقّ يعلي ويضع
إن قال قولا هائلا ... فما يقول من جزع
لأنه يعلم أنّ ... القول بالحقّ صدع
عباده فاعتبروا ... في هول يوم المطلع
إذا أتى العبد به ... إلى الجحيم فاطّلع
لكي يرى صاحبه ... عنه الأمان قد نزع
فقال: تالله لقد ... كدت لتردين ومع
هذا فإني شافع ... فيك إن الله شفع
فالحمد لله الذي ... خلصني مما وقع
فه الجهول إذ أتا ... هـ رادع فما ارتدع
__________
(1) سورة من السلطان: سطوته. وسورة من المجد: أثره وارتفاعه.
(2) الباع: قدر مد اليدين.(1/284)
في سورة الصفّ أتت ... آيته لو اطّلع
على المعاني نلتها ... نيل الذي بها انتفع
في منزل الدنيا الذي ... لكلّ خير قد جمع
والشكر لله الذي ... منّ عليّ ودفع
عني ما احذره ... يوم النشور والفزع
وجاء في توقيعه ... هذا جزاء من تبع
بعقده وفعله ... رسولنا فيما شرع
وكلّ ما جاء به ... إليه من شرع نزع
وما توانى ساعة ... وما افترى وما ابتدع
فوجهه النور إذا ... ما النور في الحشر سطع
فالحمد لله الذي ... يحمد أعطى أو منع
بذا أتانا وحيه ... فألسن الخلق تبع
بأنه قال على ... لسانه ما قد شرع
له بما يقوله ... على مصلّ متبع
إمام قوم مقيّد ... ليس بشخص مبتدع
وأيّ مجد مثل ذا ... وأيّ فخر قد سمع
أصبح عبدا تائبا ... عني إذا قال سمع
الله والله لمن ... حمده كذا وقع
وقال أيضا:
من كان تكمل ذاته بسواها ... فهو الذي بالمحدثات يضاهى (1)
الحقّ أعظم أن يكون كمثل ما ... قد قال بعض الناس فيه فضاهى
أكوانه بصفاته وتباهى ... في ذاك إعجابا بها وتناهى
من يقبل الأغيار كان سواها ... وهي التي ثبتت لمن سوّاها
عند المنازع للمحقق والذي ... ما زال ينكر كونها أشباها
فانظر إلى هذي العقول من الذي ... قد كان أثبتها فما أعماها
وقال أيضا:
الحمد لله الذي ... بفضله فضلنا
بواحد صيرنا ... إلى نعيم من هنا
__________
(1) الذات مطلقا: الأمر الذي تستند إليه الأسماء والصفات في عينها لا في وجودها.(1/285)
بجنة عالية ... لها التداني للجنى
وسقفها العرش كما ... أرض لها كرسيّنا
إن كنت عبدا مذنبا ... كان الإله محسنا
أو كنت عبدا محسنا ... كان الإله مؤمنا
أقول قولا ثالثا ... فإنه أولى بنا
الحمد لله الذي ... أذهب عنا الحزنا
ولا أقول مثل ما ... يقول فيه الزمنا
أقدامنا أقدامنا ... لصدقها فالأمنا
قالوا كمثل قولنا ... قولا صحيحا بيّنا
ينوب عنا مثل ما ... ننوب عنه نبنا
قام الوجود كله ... ما بين ذمّ وثنا
فالحمد في الكون له ... والذمّ في الكون لنا
فما لنا فهو له ... وما له ليس لنا
إلا الذي اختص بنا ... كفقرنا وذلّنا
كذا حكاه شيخنا ... في حاله بسطامنا (1)
عن الإله قاله ... في قربه لما دنا
له الوجود كله ... والحكم فيه حكمنا
فما رأيناه سوى ... وما بدا إلا بنا
ومثل ذا إن كان ذا ... قد حار فيه عقلنا
فكن به أو لا تكن ... فإنه يعيننا
العلم ما أنزله ... إليّ وحيا بينا
وليس ما ننظره ... في ذاته بفكرنا
فما أتى من خطأ ... فإنه من وهمنا
لا تفكروا في ذاته ... بذا أتاكم شرعنا
وإنما حجره ... إضافة الفكر لنا
من عاين الحقّ كذا ... لم يعبد إلا الوثنا
توحيدكم إلهكم ... فذاك عين شركنا
وإنما توحيده ... ان لا تراه أعينا
كما أتانا عنهم ... فالسبل فيه سبلنا
__________
(1) بسطام: هو أبو يزيد طيفور البسطامي توفي سنة 261هـ وكان زاهدا رفيع الحال.(1/286)
وقال أيضا:
الكبرياء رداء من سجدت له ... كلّ الجباه وسخّر الأقيالا (1)
أنت الردآء وعلمكم بمن ارتدى ... علم لذا لا يقبل الإشكالا
وصف النفوس جزاؤها وهذا أتى ... نصّ الكتاب ففصّلوا الإجمالا
ولتتخذ إن كنت تعقل قولنا ... وصف الإله لما يرون مجالا
إن البيان لذي عمى في نفسه ... ما زاده إلّا عمى وضلالا
لو يدري ذو السمع السليم مقالتي ... ونصيحتي عن حكمها ما زالا
وبدت له كالشمس تشرق بالضحى ... ورأى عليه نورها يتلالا
ما يصدق الكنز الذي يجدونه ... العارفون يرون ذاك محالا (2)
ختم الإله على قلوب عباده ... إن لا يكونوا كبرا ضلالا
وإن أظهروا إضلالهم وتكبروا ... فالعالمون يرون ذاك خيالا
فلذاك يظهر ذله في موقف ... ويذله ربّ الورى إذلالا
كالذر ينشره الإله بموقف ... ليذوق فيه خزيه ونكالا
لما تكبّر بدره في ذاته ... لحق الصّغار به فعاد هلالا
لا بل أزال الحقّ عنه ضياءه ... محقا فكان المحق فيه وبالا
لو يشهدون كما شهدت مقامه ... رفعوا له أصواتهم إهلالا
وأفادهم ما قد رأوه شهادة ... وترية في قلبه ونوالا
لا يشهد البدر المنير هلالا ... إلا عيون أبصرته كمالا
لما بدا للعين خلف حجابه ... كنت الحجاب له فكنت حجالا (3)
ورأى الذي عاينته من حكمة ... في ستره عمن يريد فشالا
لنراه حتى لا نشك بأنه ... هو عينه فأتى الحجاب زوالا
فعلمت أنّ الأمر لا ينفك عن ... ستر عليه وكان ذاك ظلالا
العرش ظلّ الله في ملكوته ... وبذا أتت أرساله أرسالا (4)
تاه الذين تحيّروا في ذاته ... عجبا بذاك وجرّروا الأذيالا
وتقدّسوا لما تقدس عندهم ... وأنالهم تقديسهم إجلالا
ما عظم الأقوام غير نفوسهم ... في عينه سبحانه وتعالى
لما علمت بأنني متحيّر ... فينا وفيه ما رددت مقالا
__________
(1) الأقيال: جمع القيل: الملك.
(2) العارفون: قال ابن عربي: العارف من أشهده الرب عليه فظهرت الأحوال عن نفسه، والمعرفة حاله.
(3) الحجاب: حاجز يحول بين الشيء المطلوب المقصود وبين طالبه وقاصده.
(4) العرش: أعظم مخلوقات الله تعالى، وأكبر الأجرام السماوية.(1/287)
وعلمت أن العجز غاية علمنا ... بوجوده سبحانه وتعالى
فموحد ومشرك ومعطّل ... ومشبّه ومنزّه يتغالى
حتى يكذب ما يقول بنفسه ... عن نفسه ويردّه إضلالا
قد كنت أحسب أنّ في أفكارنا ... عين النجاة لمن أراد وصالا
حتى قرأت كتابه وحديثه ... عن نفسه في ضربه الأمثالا
فعلمت أن الحقّ في الإيمان لا ... في العقل بل عاينت ذاك عقالا
في آية الشورى تحار عقولنا ... وتواصل الأسحار والآصالا
إن كنت مشغوفا برؤية ذاته ... فاقطع إليه سباسبا ورمالا (1)
حتى تراه وما تراه بعينه ... إن النزيه يباعد الأشكالا
مثل الذي جاء الكتاب بنصه ... في رميه بتلاوتي الأنفالا
إن اللبيب يحاز في تكييف من ... هو مثله وينازل الأبطالا
لله بيت بالحجاز محرّم ... لا يدخل الإنسان فيه حلالا
ما إن رأيت له إذا حققته ... حقا يقينا في البيوت مثالا
قد أذن الرحمن فيه بحجه ... فاتوه ركبانا به ورجالا
بيت رفيع بالمكانة سابق ... أضحى له البيت الضراح سفالا (2)
هو للدخول وذا يطاف بذاته ... كالعرش أصبح قدره يتعالى
والقلب أشرف منه في ملكوته ... ملك الوجود وحازه أفضالا
لولا اتساع القلب ما وسع الذي ... ضاق السما عنه فأصبح آلا (3)
بالقيعة المثلى من أرض وجودنا ... ولذا كنى عنه بلا وبلالا (4)
لا شيء يشبهه لذاك وجدته ... في الفقد منصوبا لكم تمثالا
وفاكم الرحمن فيه حسابكم ... قولا وعقدا منة وفعالا
لا يلتفت من قال فيه إنه ... يفري الكلى ويقطع الأوصالا
بالحفظ كان وجوده لمكانه ... ولذاك يحمل عنكم الأثقالا
لولا وجودي ما عرفت وجوده ... ولذاك كنت لكونه مغتالا (5)
من بحثه كان اغتيالي كننه ... فالبحث لي وله علوّ حالا
أمسيت فيه لكونه ذا عزة ... دون الأنام مخادعا محتالا
لما رأيت الأمر يعظم قدره ... ورأيته يزهو بنا مختالا
__________
(1) السباسب: جمع السّبسب: الصحراء.
(2) الضّراح: البيت المعمور في السماء الرابعة.
(3) الآل: السراب.
(4) القيعة: جمع القاع: الأرض السهلة المطمئنة.
(5) الوجود: فقدان العبد بمحاق أوصاف البشرية ووجود الحق.(1/288)
حصلت أسباب الخداع بذلة ... وتمسكن فيه فزدت دلالا
إذلاله إذلاله لوجودنا ... فلذاك لم تظفر به إذلالا
لولا وجود صفاته في غيره ... مشهودة ببراعة ما نالا
إن الإله يغار أن يلقى به ... ولذا أذلّ عباده إذلالا (1)
في موطن التحقيق لا تبدوا به ... فبكفركم قال الذي قد قالا
لما تأهل بالذي ما زلته ... أصبحت للأمر العظيم عيالا
وأتى الحديث بنثرة وبنظمه ... فشربت ماء كالحياة زلالا
الله أعظم أن يحيط بوصفه ... خلق ولو بلغ السماء ونالا
ما ناله أهل الوجود بأسرهم ... من نعته سبحانه وتعالى
العجز يكفيهم وقد بلغوا المنى ... والجاهل المغرور من يتغالى
لا تغل في دين الشريعة إنه ... قد جاء فيه نهيه وتوالى
منه خطاب النهى في أسماعنا ... حتى رأينا نوره يتلالا
لا تغل في دين الحقيقة والنقل ... في الله ما قال الإله تعالى
فهو اعتقاد المؤمنين فلا تزد ... إذ بلغوا في ذلك الآمالا
وقال أيضا:
ألا إنني العبد المليك السميدع ... ولي منزل من رحمة الله أوسع (2)
ومن رحمة الله العظيم وجوده ... وهذا غريب في العلوم فاجمعوا
له كلّ برهان عسى تدركونه ... وليس له في عالم الفكر موضع
لقد وسع الحقّ المبين بصورة ... إلى مجدها تعنو الوجوه وتخضع (3)
أنا الأزليّ العين والمحدث الذي ... له في قلوب الكون حظّ وموقع (4)
أنا فيضه السامي أنا عرش ذاته ... أنا العالم العلويّ بل أنا أرفع (5)
أنا العربيّ الحاتميّ أخو الندى ... إلى حضرتي تغدو المطيّ وترجع
ثقالا وقد كانت بهم في وروده ... خفافا فتعدو للنوال وتوضع
لنا في زمان الخصب ملهى وملعب ... وفي وقت جدب الأرض مرعى ومرتع
أنا عدله الساري أنا سرّ كونه ... أنا فضله الماضي الذي ليس يرجع (6)
__________
(1) قوله: الإله يغار يعني أنه لا يرضى بمشاركة الغير معه فيما هو حق له من طاعة عبده.
(2) السّميدع: السيد الكريم الشريف.
(3) تعنو: تخضع.
(4) الأزلي: الذي لا بداية لوجوده أي الله.
(5) عرش الذات: يريد مظهر العظمة ومكانة التجلي وخصوصية الذات.
(6) كون: عبارة عن وجود العالم من حيث عالم، لا من حيث هو حق.(1/289)
أنا المسجد الأقصى أنا الحرم الذي ... إلى بيته تعدو النياق وتسرع
إلى مهبط الأسماء تقنع أرؤسا ... ونحو استواء الأرض تسمو وترفع
وقال أيضا:
إذا حرنا وحار الناس فينا ... وأسكناهم البلد الأمينا
عرفنا الحقّ حقا فاتبعنا ... فكنا في القيامة آمنينا
ولولا ذاك ما كنا عبيدا ... بما قال المهيمن غالبينا
ويشهدنا الأمور كما علمنا ... فنقطع نجدها حينا فحينا
رأيت أئمة كبّار قوم ... أضلّوا بعد ما ضلّوا يقينا
فإن عزموا على إبطال حقّ ... وكانوا في الشريعة ممترينا
فإنّ الله يهلكهم ذهابا ... ويأتيكم بقوم آخرينا
ويخزيهم وينصركم عليهم ... ويشفي صدور قوم مؤمنينا
أقول لهم وقد كفروا بقولي ... كفرتم بئس عقبى الكافرينا
أنا الشخص الذي ما زال قولي ... يراه ذو النّهى الحق المبينا (1)
وقال أيضا، وقد رأى رؤيا نظمها كما ذكره في نظمه قال وأكثر هذه القصيدة وقع مني في النوم وأتممتها في اليقظة:
قد صحّ عندي خبر ... وجلّ عندي من خبر
ليس لنا إعادة ... فيما انقضى وما غبر
من صور معلومة ... محسوسة من البشر
لأنها على مزا ... ج كله مزاج شر
وإنما إعادتي ... في مثلها من الصور
على مزاج صالح ... ما فيه شيء من ضرر
من صور مشهودة ... فيهن نحيى ونسر (2)
في فرش مرفوعة ... منضودة وفي سرر
ملكا إماما سيّدا ... مدبرا لمن نظر
وهي الذوات عينها ... المودعات في الحفر
لم تلحق الذات إذا ... نظرت فيها من غير
وإنما مزاجها ... من يعتبره لم يحر
لله في هذا الذي ... أقوله معنى وسر
__________
(1) ذو النّهى: العاقل.
(2) المشهود: الكون، وما يشهده الشاهد.(1/290)
يفرق منه ذو حجى ... إذا به الحق ظهر (1)
فالحمد لله الذي ... أشهدني هذا الخبر
في نومنا وعندنا ... محمدا سفندير
وامرأة مؤمنة ... الوجه منها كالقمر
يا حسنها من غادة ... فتانة لمن نظر
فديتها معشوقة ... بالسمع مني والبصر
في صورة الحقّ أتت ... مع الدلال والخفر
يستصرخ الشخص الذي ... أراد أن يعطى الوطر
منها فلم يحفل به ... ولا على النّيل قدر
ما يفعل المسكين إذ ... لم ينجه منها الحذر
قالت له انزل إلى ... من قد نهانا وأمر
إلى هنا كان الذي ... أريته حتى السحر
وقال أيضا:
رأيت جارية في النوم عاطلة ... حسناء ليس لها أخت من البشر (2)
ترنو إليّ بعين كلها حور ... فمتّ وجدا بها من ذلك الحور (3)
لما نظرت إليها وهي تنظرني ... فنيت حبالها من لذة النظر (4)
وقلت للنفس يا نفس انظري عجبا ... هذا الخيال فكيف الحس يا بصري
انظر إلى لطفه وحسن صورته ... بالفاء لأبالي من حضرة الفكر
ولتعتبره وجودا لم يقم عدم ... به ولا ندم من صورة البشر
فإنها جنّة المأوى لساكنها ... وجنة الخلد لا من جنة النظر
وتلك جنة عدن والكثيب بها ... مع الذي يحتوي عليه من صور (5)
هذي المعالي التي الأفكار تطلبها ... وهي التي نال أهل الكشف بالنظر (6)
فأين غايتهم فيما ذكرت لكم ... هذي الروائح من مسك لهم عطر
وقال أيضا:
لما شهدت الذي سوّى حقيقته ... في ذات أكمل مخلوق من البشر (7)
__________
(1) ذو حجى: عاقل حكيم.
(2) العاطلة من النساء: المرأة لا حلي لها.
(3) ترنو: تحدّق: الحور: أن يشتد بياض بياض العين وسواد سوادها.
(4) الفناء: سقوط الأوصاف المذمومة.
(5) الكثيب: عالم القدس ومجلاه.
(6) الكشف: الاطلاع على ما وراء الحجاب من المعاني الغيبية والأمور الحقيقية.
(7) حقيقة: يريدون بها إقامة العبد في محل الوصال إلى الله، ووقوف سره على محل التنزيه.(1/291)
يخصه اسم وما الأسماء تحصره ... وليس شيئا له نعت بمنحصر (1)
لأنه قائم بكلّ ما وصفت ... به الذوات من التنزيه والغير
سبحان من أوجد الأشياء من عدم ... ومن ثبوت وجود غير مختصر
في عينه أو عيون الخلق يظهره ... أحكامها بالذي فيها من الصور
وكله خارج عن عين صورته ... بما له في وجود العين من سور
الحقّ أوجده والكون عينه ... بما لديه من الآيات والسور
في كلّ آية تنزيه له علم ... به يشبهه من كان ذا نظر
فالحكم يشفعه والعين توتره ... والعقل ينكر ما يتلوه من خبر (2)
جل الإله فما تحصى مشاهده ... قد حار فيه وجود العقل والبصر
لأنه يتعالى في نزاهته ... عن العقول وعما كان في الفطر
لذا يقول رسول الله نحن به ... كما يكون له فانهض على قدر
لو كان لي ما له لكنته وأنا ... إن كنته فأنا منه على خطر
لكن أقول أنا إن قلته بأنا ... عين الوجود الذي في الحق من يسر
فالصور ليس له والعين ليس لنا ... وباجتماعهما لي ينقضي وطري
وقال أيضا:
عن العدل لا تعدل فأنت المعدل ... وإنّ قيام الفضل بالحرّ أجمل
فلو عامل الله العباد بعدله ... لأهلكهم والله من ذاك أفضل
يجود ويثري بالجميل عليهم ... وليس له عما اقتضى الجود معدل
تبارك جلّ الله في ملكوته ... كمالا وإن الله في الملك أكمل
فإن الذي في الملك صورة عينه ... وفي ملكوت الله جزؤ مفصل (3)
وليس لهذا اللفظ عند اصطلاحنا ... مبالغة فانظر على ما أعوّل
إذا كنت في قوم تعرف بلحنهم ... وحينئذ يجمل به ويفصل
إذا كنت في قوم تكلم بلحنهم ... لتفهمهم لا تلجىء الشخص يسأل
لو أنّ الذي بالعجز يعرف قدره ... لكنت كريم الوقت يسدي ويفضل
وكانت لك العليا وكنت لك المدى ... وأنت بها العالي وما ثم أسفل
__________
(1) اسم: أي حروف جعلت لاستدلال المسمّى بالتسمية على إثبات المسمى، وقيل: إذا سقطت الحروف فإن معناه لا ينفصل عن المسمّى. وتنقسم الأسماء باعتبار الذات والصفات والأفعال إلى الذاتية كالله، والصفاتية كالعليم والفعلية كالخالق.
(2) الشفع يعني الزوج والوتر: الواحد.
(3) الملك: عالم الأجسام والأعراض. والملكوت: عالم الغيب المختص بالأرواح والنفوس.(1/292)
ومن أين جاءت ليت شعري ففرّعوا ... كلامي الذي قد قلت فيه وفصّلوا
علمت الذي أودعته في مقالتي ... وجملة أمري أنني لست أجهل
لأني به قلت الذي جئتكم به ... ومن كان قول الحق قل كيف يجهل
أنا كلمات الله فالقول قولنا ... لأني مجموع وغيري مفصّل
كعيسى الذي يحيى وينشىء طائرا ... فيحيى بإذن الله والحقّ فيصل (1)
فمن كان مثلي فليقل مثل قولنا ... وإلا فإن الصمت بالعبد أجمل
وقال أيضا:
إني سألتك أسماء وحصرتها ... تسع وتسعون لم تنقص ولم تزد (2)
بأن يكون لنا في كلّ حادثة ... عين استناد وأنتم خير مستندي
جاء الجواب لنا من فوق أرقعة ... سبع من الدّخ قامت لا على عمد (3)
يرونها وأنا عين العماد لها ... لذا تزول إذا زلنا من البلد
فإنها لي ولولا عيني ما ببينت ... والحقّ يبعد عن مراتب العدد
لذا يكفر بالتثليث قائله ... أين الثلاث من المنعوت بالأحد
الله أعظم أن يلقاه من أحد ... في عين كثرته فاعمل به وقد
ينجو إذا صاحب الأعداد يهلك في ... تعداده وهو الحيران في كبد
وكلّ عين من الأعداد تطلبه ... ولا سبيل إلى فوز بلا سند
قل للذي رام أن يحظى بموجده ... هيهات هيهات لا تعدل عن الرشد
فليس يحظى به من ليس يشبهه ... وليس يشبهه في العين من أحد
إذا تجلى لكم في عين وحدته ... لن تدركوه لأنّ الروح ذو جسد
والعين ذو جسد فأين وحدته ... فارجع وراك ولا تكرع ولا ترد (4)
إنّ المهيمن بالأسماء نعرفه ... والاسم يظهره لصاحب الرصد
لذاك قال لهم سموهم فإذا ... سموهم بان من أسمائهم رشدي
فواحد العين مجهول بلا صفة ... فاعمل عليه فإنّ الناس في حيد
عن الذي رمت منه إن تحصله ... لو لم يكن فيه إلا الوصف بالجسد
لذاك يطلبه حتى يكون كهو ... ولا يكن فاقتصر عليك لا تزد
لو أنّ إبليس علام بخالقه ... كان الإله له من أعظم العدد
__________
(1) إشارة إلى معجزة عيسى ابن مريم عليه السلام في إحياء الموتى وإبراء المرضى بإذن الله.
(2) إشارة إلى الأسماء الحسنى وعددها.
(3) أرقعة: سماوات، والواحدة رقعاء. الدّخ: الدخان.
(4) العين: إشارة إلى ذات الشيء الذي تبدو منه الأشياء.(1/293)
لو أنّ آدم لم يخذل طبيعته ... ما كان في الملأ الذريّ من لدد (1)
يريد قوله عليه الصلاة والسلام في الحديث الغريب: «فنسي آدم فنسيت ذريته وجحد آدم فجحدت ذريته» (2).
وقال أيضا في أسماء سور القرآن لاعتبار ظهر له في ذكرها:
مفاتح الغيب في أمّ الكتاب فمن ... يقرأ بها في صلاة فهي تكفيه (3)
النصف منها له والنصف منها لنا ... على اشتراك وإفراد بتنزيه
وفي التي قد تليها من برازخنا ... علم صحيح وذاك العلم أدريه (4)
أتى بها الله للأسماع في بقر ... يحيى بها ميتا حياته فيه
وآل عمران توحيد بلا صفة ... من الصفات التي أتت بتشبيه
إلى النساء جنحنا في تلاوتنا ... فهنّ فرع لنا بكلّ توجيه
وفي العقود لنا عقد عقدت به ... ما بيننا ليوفى إذ نوفيه
إنّ السكينة للأنعام قد نزلت ... لما تلاها شخيص جلّ من فيه
السور من سورة الأعراف منشأه ... بين الجنان وبين النار تبديه
أنفالنا قد أحلّت للذي جمعت ... له العلوم وهذا القدر يكفيه
وتوبة ما لديها اليوم بسملة ... والاسم فيها وإنّ الله يخفيه
وإنّ في يونس من ربنا قدما ... لنا بصدق إذا ما كنت أعنيه
وإنّ هودا له من يوسف خبر ... من قبل تكوينه ما زال يدريه
والرعد تسبيحه حمد يقول به ... خليله وهو إبراهيم يحويه
بالحجر حجر وحي النحل حين سرى ... بفتية الكهف في قرب من التيه (5)
ومريم ثم طه فلتقل بهما ... في الأنبياء بما أسمعتكم فيه
وإنّ زلزلة الإصعاق قال بها ... المؤمنون لسرّ فيه يوحيه
النور فرقان من أفنته ظلمته ... والنمل في قصص لها تجافيد
والعنكبوت بنت بيتا لتسكنه ... والروم تهدمه وقتا وتبنيه
وجاء لقمان يتلو بيننا حكما ... بسجدة لترى الأحزاب تأتيه
وفي سبا فطروا ياسين واعتمدوا ... على الصفوف لصاد شربه فيه
__________
(1) اللدد: الخصومة.
(2) رواه الترمذي: تفسير سورة 37، 2. وابن حنبل 1، 251، 299، 271.
(3) أم الكتاب: سورة الفاتحة.
(4) البرزخ: الحاجز بين الشيئين، ومن وقت الموت إلى القيامة.
(5) سرى: سار ليلا.(1/294)
لما أتت نحونا أملاكه زمرا ... بمؤمن فصلت بما يلاقيه
نعم وفي سورة الشورى لنا مثل ... من الإله بتنزيه وتشبيه
وزخرف القول أبدته دجاجلة ... بسورة الدّخ صاف قد جثا فيه (1)
أحقافه أوقعت فيها القتال وما ... فتح لحجر بقاف إذ تقفيه
والذاريات التي في الطور مسكنها ... هي الدواء لمن قد جاء يبغيه
النجم والقمر العالي يسقفه ال ... رحمن عينا وفي الآفاق يبديه
وكلّ نازلة في الكون واقعة ... من الحديد الذي بأساؤه فيه
فإن أتت نحونا عين تجادلنا ... فالحشر يجمعنا وفيه ما فيه
ولتمتحن نسوة في الدين هنّ له ... مهاجرات بلا عجب ولا تيه
والصفّ للجمعات سنة ثبتت ... ما للمنافق حظ فيه يشفيه
إنّ التغابن إن طلقت سابقة ... فلا تحرّم له ملكا توافيه
رأيت بالقلم الأعلى محققه ... عند المعارج إذ نوح يواليه
والجنّ يعضده التزميل حين أتى ... مد ثريده منه إلى فيه (2)
وفي القيامة إنسان بها لسن ... بالمرسلات وعم النور يأتيه
بالنازعات والأعمى كوّرت شمس ... والانفطار مع التطفيف يحميه
والانشقاق إذا عاينت صورته ... عند البروج تجده طارقا فيه
سبح إلهكم الأعلى بغاشية ... بالفجر في بلد الشمس تبديه
والليل عند الضحى يأتيه شارحه ... بالتين في علق وقدره فيه
ولم يكن زلزلوا بالعاديات إذا ... ما القارعات أتت بالقبر تلهيه
والعصر يهمز فيلا بالحجارة إذ ... جاءت قريش بدين الحوض تنشيه
وكافر قد أبى نصرا فكان له ... التبّ من سورة الإخلاص يأتيه
وسورة الفلق النوريّ جاء بها ... للناس والله من ضرّ يعافيه
فهذه سور القرآن أجمعها ... جمعت أسماءها لرغبتي فيه
وقال أيضا:
الصوم لله العظيم بشرعه ... وإذا أضيف إليّ كان محالا
الصوم لله الكريم وليس لي ... لكن إذا ما صمته وتعالى
عن صومنا فيكون ذاك الصوم لي ... نقصا وفي حقّ الإله كمالا
إنّ الصيام له العلوّ جلالة ... صام النهار إذا النهار تعالى
وعلوّ قدر العبد فيه خضوعه ... حتى يكون من الخضوع سفالا
__________
(1) الدّخ: الدخان. دجاجلة: جمع دجّال: كذّاب.
(2) يريد سورة الجن وسورة المزمل.(1/295)
والفطر لي بالكسر وهو حقيقتي ... فإذا فتحت جعلته المحلالا
الأمر في الثقل الحقير كمثل ما ... هو في العظيم فدبّر الأثقالا
لا ترض بالأعلى إذا لم ترتقي ... فيه من الأدنى وكن جوّالا
نال المدبر رتبة علوية ... عند الإله بحمله الأثقالا
من كان بدرا كاملا في ذاته ... علما يصيّره المحاق هلالا
عند المحقق في المحاق كماله ... في ذاته فكماله ما زالا
الشمس تظهر حكمها في عنصر ... ظلماته من نورها تتلالا
من بعد ما ألقت عليه سماؤها ... ماء له سرّ الحياة زلالا (1)
وقال أيضا:
مطوت متون الصافنات جيادي ... بقبة أجياد ومهبط واد (2)
أزاحم فيه كلّ ملك متوّج ... وأنفق فيه طارفي وتلادي (3)
وأظهر فيه كلّ يوم بصورة ... إلى أن نزلت الأرض أرض إياد
فعاينت قسّا في عكاظ وعنده ... بمجلسه المهديّ وهو ينادي (4)
أظلكم وقت عليه مهابة ... بإظهار مهدي شريعة هاد
وقال أيضا:
إني أغار على المولى وصاحبه ... من الحديث بشيء لا أسرّ به
وما يليق بحرّ أن يبلغه ... فإنّ تبليغه يزري بمنصبه
ونائب الله يرمي بالسهام فلا ... يقف له غرض في صدر مذهبه
وليس يدري الذي بالقلب من صور ... إلا لبيب يراه في تقلبه
وقال أيضا:
العلم أشرف ما يقنى ويكتسب ... بصالح العمل المرضيّ في خلق
والوهب في العلم أمر لا يصح لما ... عندي له من الاستعداد والطرق
فإن ترد صفة عليا مقدّسة ... مثل التبشش للورّاد والملق (5)
__________
(1) يشير إلى قوله تعالى: {وَجَعَلْنََا مِنَ الْمََاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ} سورة الأنبياء، آية: 30.
(2) الصافنات من قولك صفن الفرس إذا قام على ثلاث قوائم وطرف حافر الرابعة، ويريد الخيل. أجياد:
موضع بمكة المكرمة.
(3) الطارف: المال المستحدث. التلاد: المال القديم الموروث.
(4) قس: هو قس بن ساعدة الإيادي خطيب العرب في الجاهلية.
(5) الملق: الود واللطف، وأن تعطي باللسان، ما ليس بالقلب.(1/296)
ولست أقصد للوارد ما زعموا ... غير الأسامي التي تأتي على نسق
كمثل أسمائه الحسنى التي علمت ... تخلقا طبقا منها على طبق
أعوذ منها بها بقول عالمها ... كما تعوّذ في ناس وفي فلق (1)
ومن جهالة من تردى جهالته ... ومن دخيل أتى يبغيك في الغسق (2)
إذا رأيت وليا يستريح إلى ... ذي لوعة دائم الأشواق والحرق
بادر إليه عسى تحظى برؤيته ... فإنّ تحصيلها في النص والعنق
فإنه من شهود الذات في دعة ... وإنه من حجاب العين في قلق (3)
تجري بخاطره في كل آونة ... مع الملائكة العالين في طلق
جرت على السنة البيضاء سيرته ... وليس يقطعه قواطع العلق
وكل ما جاء مما لا يسرّ به ... من الإله فمحمول على الحدق
ولو يكون له الإنسان في كبد ... والنفس في تلف والحلق في شرق (4)
فحاصل القول في الألوان إن كثرت ... في أسود حالك وأبيض يقق (5)
ولا تخادع إله الخلق في أحد ... فإنّ تقليده المعلوم في العنق
وقال أيضا في الحروف المرقومة:
إنّ الحروف التي في الرقم تشهدها ... لها معان وأسرار لمن نظرا
فأول الأمر في مرقومنا ألف ... واللفظ ينكره حرفا على ما ترى (6)
قال ابن حبان فيه في طريقته ... بأنه نصف حرف هكذا ذكرا
ونصفه همزة في عين كاتبها ... كذا رأيت له نصا وأين يرى
كمثله في علوم أصل مأخذها ... من جعفر وبهذا الفن قد شهرا
واللفظ ينكر ما قد قال في ألف ... وما ابتغى جدلا ولا رآه مرا
وإنه مذهبي إن كنت تتبعني ... لكنه ثبتها في الاعتبار قرا
فيه جميع الذي قد صاد صائدكم ... من الحروف لمن أعلمته قدرا
فهمزة تقطع العشّاق إن هجرت ... وإنّ في وصل من تهوى لها خبرا
والباء تعمل في عقد النكاح إذا ... خطت على صفة قد ألبست حبرا
والتاء تجمع شملا بالحبيب إذا ... محبوبه بان عنه أو نوى سفرا
__________
(1) يريد سورتي الناس والفلق.
(2) الغسق: ظلمة أول الليل.
(3) الشهود: أن يرى حظوظ نفسه وتقابله الغيبة. والحجاب: حائل يحول بين الشيء المطلوب المقصود وبين طالبه وقاصده.
(4) الشّرق: الغصة.
(5) أبيض يقق: شديد البياض.
(6) المرقوم: المخطط.(1/297)
والثاء تثبت أحوال الرقيب إذا ... جاء الحبيب إليه بعد ما هجرا
والجيم تعمل في أحوال منشئه ... حتما فتفرده إذا القضاء جرى
والحاء تطلب بالتنزيه كاتبها ... يوما إذا صار تشبيه به وطرا
والخاء تعلو به في كلّ منزلة ... حتى يقضي منها الكاتب الوطرا (1)
والدال في كل ما ينويه فاعلة ... له المضاء وجلّ الأمر أو صغرا
والذال في حضرة الزلفى له قدم ... فكلما رام تقديما يرى لورا (2)
والراء توصله وقتا وتفرحه ... بكل ما يبتغي فزاحم القدرا
والزاي تجمع أحوالا مفرّقة ... كذا رأيناه في أعمالنا ظهرا
والطاء تطلب تنفيذ الأمور له ... فانظر ترى عجبا إن كنت معتبرا
والظاء تعطى حصول العبد في رتب ... تعنو الوجوه له والشمس والقمرا (3)
والكاف فيه لمهموم إذا كتبت ... تفريج كرب له في كلّ ما أمرا
واللام درع له فيه يحصنه ... من كلّ سوء ومكروه من الأمرا
والميم يروى به من كان ذا عطش ... من العلوم بهذا القدر قد فخرا
والنون تجري مع الأفلاك صورته ... لنيل صورة أنثى تشتهي ذكرا
والصاد نور قويّ في تشعشعه ... بما له منه في أحواله السرا (4)
والضاد كالصاد إلا أنّ منزله ... أدنى فتلحقه برتبة الوزرا
والعين كالجيم إلا أنّ صورته ... في الفعل أقوى ظهورا هكذا اعتبرا
والغين كالعين إلا أن يقوم به ... عين السحاب الذي لا يحمل المطرا
والفاء كالباء في التصريف وهي به ... أتم فعلا فقد جلّت عن النظرا
والقاف تعمل في الضدين إن كتبت ... غربا وشرقا فكن للحال مدّكرا
والسين تعصم من سوء تخيّله ... نفس الضعيف إذا شخص بذاك زرى
والشين كالتاء إلا أن فيه أذى ... يدري به من له التحكيم والعبرا
والهاء تفعل أسبابا منوّعة ... وإن فيها لمن قد حازها أثرا
والواو تخرج ما الألباب تستره ... وما رأيت له في ستره خبرا
والياء جلّت فلا شيء يماثلها ... إلا الذي سطر الآيات والسورا
وإنّ لاما إذا ما جاورت ألفا ... جاءت إليك بأعيان الورى زمرا (5)
علم الحروف شريف لا يقاس به ... علم الكيان لمن قد جدّ أو سخرا
__________
(1) الوطر: الغرض.
(2) الزلفى: القربى.
(3) تعنو: تخضع.
(4) تشعشعه: تفرقه.
(5) الأعيان الثابتة هي حقائق الممكنات في علم الحق تعالى.(1/298)
نبيله قيل هذا عالم ندس ... ولا يخص بوصف فهو ما انحصرا (1)
لولا العهود التي عليّ قد أخذت ... أظهرت منها علوما تبهر البشرا
من الخصائص لكن قد أبيح لنا ... ما يجري منها اعتبارا يذهل الفكرا
فمن أراد يرى أسرارها فيرى ... في الاعتبار لها إن صوّرت صورا
وما رأيت لمن قد حازهنّ أخا ... إلا ابن منصور الحلّاج فاشتهرا (2)
عنه بتأليفه في ذلكم خبر ... قد طال فيه كلام الناس ما قصرا
وقال أيضا:
أرى نشأة الدنيا تشير إلى البلى ... بما حملته من سرور ومن أذى
إذا ما رأيت الله أنشأ خلقه ... من أعماله فرّقت ما بين ذا وذا
وتعلم عند الفرق أنك واحد ... ولا تعتبر من قال فشرا ومن هذى
وكن بكتاب الله معتصما ولا ... تحرّف كلام الله عن نصّه إذا
أتتك به الأرسال تترى وكن به ... على كلّ حال تتقيه معوّذا
تكن عند أهل العلم شخصا مقدّسا ... وعند أولي الألباب حبرا وجهبذا (3)
وقال أيضا:
لما قرأت كتابا ليس في سيرك ... علمت أني جهلت الأمر من خبرك
إن كان جودك قد عمّ الوجود فما ... في الكون حرف تراه ليس في سيرك
أنت الوجود فما في الكون غيركم ... أما وجودك أو ما كان من أثرك
فالكلّ أنت ومنك الأمر أجمعه ... إليك مرجعه في الآي من سورك
إن كنت عينكم ولم أكن فأنا ... بكلّ حال لنا ما حلت عن نظرك
بنا وصفت كما بكم وصفت أنا ... فقل بلى أو نعم الكل من قدرك
سبحان من مجده تعنو الوجوه له ... والكل هو فلمن تعنو على نظرك (4)
عجبت من سبحات الوجه يمنعها ... سدل الستور عن الإحراق من بصرك (5)
وليس يحرقها أنوار وجهكم ... كذاك ترجم ما أودعت في زبرك (6)
__________
(1) الرجل النّدس: الفهم.
(2) الحلّاج: الحسين بن منصور، من أهل بيضاء فارس ونشأ بواسط بالعراق. صحب الجنيد، والنوري والمكي. وقد اختلفوا في أمره فردّه أكثرهم وأبوا أن يكون له قدم في التصوف، وقبله بعضهم، وقتل سنة 309هـ ببغداد لاعتقاده بالحلول.
(3) الحبر: العالم. الجهبذ: النقّاد الخبير.
(4) تعنو: تخضع.
(5) السبحة: الهباء، وهو الظلمة التي خلق الله فيها الخلق كما زعموا.
(6) الزّبر: الكتب والواحد زبور.(1/299)
قل للذي أنت في الأكوان تطلبه ... قد خبت والله يا مغرور في سفرك
يا ربّ هذا الذي ذكرت قصته ... بأنّ نعمتكم نجته في سحرك
ولم أنل حكمة غرّاء في سمر ... مثل التي نلتها في الليل من سمرك
فاحفظ عليّ علوما أنت غايتها ... واعصم عبيدك يا الله من غيرك
فقال لي من وجودي خيركم بيدي ... وكل ضر تراه فهو من ضررك
والسرّ ليس إليكم هكذا نطقت ... به النصوص وما أدريه من فطرك
وقال أيضا:
إنّ لي ربّا كريما أجده ... كالذي نعلم أو نعتقده
هو مني وأنا منه به ... ولذا في كلّ حال أجده
كلّ من نال الذي قد نلته ... من وجود قد تعالى مشهده
إن أستاذي الذي أدّبني ... هو شخص في وجودي يشهده (1)
هو مني والد معتبر ... وأنا منه كهو أو ولده
لا أسميه لأني عالم ... أنه يكره ذا بل يعبده
ولذا قلت بشخص للذي ... قد روى من قد تعالى سنده
ما قصدنا لنوال غيره ... هو رفدي فأنا أسترفده
إنه النائب عن خالقنا ... برضانا ولذا نعتمده
من يكن يعرفه جهلا به ... أن يرى في كل حال نعبده
وبهذا الأمر قد كلفنا ... وعلمنا أنّ هذا مقصده
فليكن عندك من ذا خبر ... منصف تعرفه لا تجحده
وقال أيضا:
أحببت شخصا جميع الناس تعرفه ... من كان في بدوه أو كان في حضره
الشمس من نوره فالقلب منزله ... والمسك من ريحه والشهد من أثره
إذا أعاينه تسري الحياة به ... في خدّه فيذوب القلب من خفره
لما بحثت عليه لا أراه سوى ... ما قام بالنفس منه فهو من أثره
فما يهيم قلبا في الهوى أبدا ... إلا تخيله لا غير من نظره
فبالخيال نعيم الناس أجمعهم ... كما به الألم الآتي على قدره
إذا علمت بهذا قد نعمت بما ... تشكو نواه إذا ما غاب في سفره
__________
(1) وجود: فقدان العبد بمحاق أوصاف البشرية ووجود الحق.(1/300)
وقال أيضا:
ما لقوم إذا تفكرت فيهم ... لا يكادون يفقهون حديثا
هم بعين القديم في كلّ حال ... يطلبون الوجود منه حثيثا
فيبثّون علمه لشخوص ... ما لديهم علم بذاك نثيثا (1)
قلت للعيسويّ فيك انتباه ... للذي قلته فقال كميثا
وقال أيضا:
تنازعني الأقدار فيما أرومه ... وإنّ نزاعي فيه أيضا من القدر
فحكمي عليها إن تأملته بها ... فمنها أمان الخائفين مع الحذر
تقابلت الأضداد منها كمثل ما ... تقابلت الأسماء بالنفع والضرر
فكل الذي في الكون من متقابل ... من العلم بالله العظيم لمن نظر
فسلّم وفوّض واتّكل واعتمد فقد ... يجيئك ما ترضاه يمشي على قدر
وقال رضي الله عنه: رأيت الحق في النوم ليلة الإثنين الثامن والعشرين من شهر ربيع الآخر سنة إحدى وثلاثين وستمائة وهو ينهاني عن مجالسة ثلاثة:
المطاطين والسقاطين وأنسيت الثالثة، فكنت أقول له: يا رب وما المطّاطون؟ فقال: الذين يمدّون العالم إلى غير نهاية في الابتداء، وإني ابتدأت العالم بالخلق، قلت: وما السقاطون؟ فقال تعالى: الذين يأتون يسقط الكلام ليضحكوا به الناس وهي من سخط الله، فإن الرجل ليتكلم بالكلمة من سخط الله ما يظنّ أن تبلغ ما بلغت فيهوي بها في النار سبعين خريفا (2).
فقلت في ذلك في النوم وقد أنسيت الثالثة:
نهاني الحق في الغطط ... عن المطّاط والسقط
وإني لا أجالس من ... يكون بمثل ذا النّمط
وأفهمني بأن أحظى ... به في العالم الوسط
قال (3) تعالى: {وَكَذََلِكَ جَعَلْنََاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً} أي خيارا. ووقع لي في النوم في الغطط إنه صوت النائم ولذلك جئت به، فإن الغطيط الصوت كما قيل: يغط غطيط البكر شدّ خناقه. وفي الحديث (4) في نوم النبي صلى الله عليه وسلم: «أن له غطيطا».
__________
(1) علم نثيث: علم منتشر.
(2) ويوافق ذلك مضمون الحديث: «إن العبد ليتلكم بالكلمة ما يتبين فيها يهوي بها في النار سبعين خريفا» رواه البخاري: رقاق 23ومسلم: زهد 50والترمذي زهد 10.
(3) سورة البقرة، آية: 143.
(4) رواه ابن حنبل 6، 141برواية: «سمعت غطيط رسول الله صلى الله عليه وسلم في نومه».(1/301)
وقال أيضا لزومية:
قل للشخيص الذي بالحقّ يعرفني ... من كان يعرفني بالحقّ ينصفني
ولست فيه بمعصوم وإن غلطت ... ألفاظنا فعلى التحقيق يوقفني
فصاحبي من أراه في تقلبه ... في كلّ حال من الأحوال ينصحني
في خلوة إن نصح الشخص في ملأ ... فضيحة وخليلي ليس يفضحني
فالله يمنح ما أملت منه وما ... يعطيني إلا الذي في الوقت يصلحني
نعم ويصلح بي فالنفس واثقة ... به على كلّ ما يرضى وينفعني
فإن الله جلّ الله ذو كرم ... المنع منه عطاء حين يمنعني
المنع منه عطاء فيه منفعة ... للعبد من حيث لا يدري ويحجبني
عنه واعلم قطعا أنه ملك ... وإنني نائب عنه فيكرمني
برفع غاشية يقول مطّرقا ... هذا خليفتنا في السرّ والعلن
بروحه القدسيّ العال أيدني ... وبالظلال التي في الحر ظللني (1)
وجاءنا منه توقيع بأنّ لنا ... ختم الولاية والختمان في قرن
روح لروح وتيجان مكللة ... من النضار الذي الرحمن يزجرني (2)
عنها وعن حلل الديباج فاعتبروا ... فيما أتاكم به ذو المنطق الحسن
الواهب الألف والآلاف جائزة ... لكلّ طالب رفد أو لذي لسن (3)
شبهت نفسي في عصري وحالتها ... بعصر سيدنا سيف بن ذي يزن (4)
لا علم لي بالذي في الغيب من عجب ... ولست أدري بنعمان ولا المزني
حتى رأيت الذي بالعلم بشرني ... والملك وهو مع الأنفاس يطلبني
إنّ الذي قد دعاني في بشائره ... فلا يزال مع الأحيان يخطبني
فقلت يا ربّ أمّا العلم أقبله ... والملك لست أراه فهو يخدعني
إن كان عرضا فما لي فيه من أرب ... أو كان أمرا فإن الأمر يطمعني (5)
في عصمة عصم الله الحفيظ بها ... نفسي فأعلم أنّ الله يحفظني
إذا سمعت كلاما لا يوافقني ... منه أسلمه وليس يحفظني
له التصرف في مولاه كيف يرى ... مولاه فهو له من أعصم الجنن
أجسام كلّ رسول مصطفى ندس ... له المكانة والزّلفى بلا محن (6)
__________
(1) الروح القدس: يريد الروح المشرفة عند الله تعالى والذي نفخ منه في آدم.
(2) النّضار: الذهب.
(3) الرّفد: العطاء.
(4) سيف بن ذي يزن: ملك من ملوك حمير باليمن.
(5) العرض، باصطلاح المتكلمين: ما يقوم بغيره.
(6) النّدس: العالم. الزلفى: القربى.(1/302)
أتى بمألكة من عند مرسله ... مبلغا بلسان القوم واللحن (1)
قد طهرّ الله نفسا منه زاكية ... من كلّ سوء كمثل الحقد والإحن
وقال أيضا:
إن الطبيعة أعطت في عناصرها ... أحكامها بالذي فيها من أسماء
يبس التراب إلى برد المياه إلى ... تسخين نار إلى ترطيب أهواء
لأجل ذا كان خلق الناس من حمأ ... ومن هواء ومن نار ومن ماء (2)
فتلك أربعة أعطتك أربعة ... دما وبلغم في صفرا وسوداء
أعوانهم مثلهم جذب ودفع أذى ... عنا وهضم وإمساك لأدواء
وقال أيضا:
ما جنة الخلد غير قلبي ... لأنه بيت من يدوم
قمت له بالهوى ويدري ... من قام فيه ممن يقوم
عنه إلى غيره فترمي ... إليه أنوارها الرجوم (3)
لو أن قلبي يراه قلبي ... قلت أنا الرائح المقيم
إنّ العذاب الذي تراه ... منه بنا ذلك النعيم
قال لي الحق من وجودي ... وقوله الصادق القويم (4)
نبىء عبادي عني بأني ... أنا هو الغافر الرحيم
وإن أيضا عذاب حجبى ... عذابنا المؤلم الأليم
قلت وأيّ الكلام أولى ... أذكر والذاكرون هيم
فقال لي من صفا فؤادي ... كلامه الحادث القديم
قلت له من يقول هذا ... فقال لي: ربّك العليم
قلت لعلي أقتصر فقل لي ... أولى بنا أيّها الحكيم
فإنه ذو المعالي فينا ... وإنه المحسن الكريم
فسلّم الأمر لا تبالي ... فالقول ما قاله القيم
فعلمه في الوجود سار ... ما دام كوني به يقيم
وقال أيضا:
النور ستر الذي الأظلام تحجبه ... عنا وترفعه مفاتح الكرم
__________
(1) المألكة: الرسالة.
(2) الحمأة: الطين الأسود المنتن.
(3) الرجوم: ما يرجم به أي يقذف. ولعله أراد النجوم.
(4) الوجود: فقدان العبد بمحاق أوصاف البشرية ووجود الحق.(1/303)
وقل به كرما إن كنت ذا كرم ... فإنما الكشف بين النور والظلم (1)
ما أسدل الستر إلا أن يصون به ... وجه الكيان من الإحراق والعدم
إذا أردت ترى ما لا تراه فكن ... به على قدم علياء من قدم
له الإحاطة ليست لي فأطلبها ... فإنها قد تؤديني إلى الندم
لا شيء أعلم بعد الله منه سوى ... نون الدواة فرأس السيد القلم
هو المفصل ما في النون أجمله ... ربّ العباد بمنشور ومنتظم
فهذه حكم جاءتك من حكم ... له التحكم في الألباب بالحكم
فالعلم في عالم الأنوار والظلم ... أقوى ظهورا من العرفان في الكلم
وقال أيضا، وقد سمع سائلا في السوق يكدّي الناس، وهو يقول في جناب الحقّ تعالى: يا من هو الكلّ والكل إليه. فطاب على قوله وأنشد مرتجلا:
سمعت من ليس يدري ما يقول به ... قد قال في الله إنّ الكل هو وإليه (2)
إن الإله بعين الحقّ أنطقه ... بما هو الأمر فيما قال فيه عليه
وقال أيضا:
نزيه الجناب العال كيف تنزهت ... به مقل الأبصار بالمنظر الأزهى
وكيف تراه العين وهو منزه ... بكرسيه العالي المنزه والأبهى (3)
إذا سمعت أذناي شرح كلامه ... تحققت قطعا بيننا من هو الأشهى
تعالى جلال الله عن كلّ مدرك ... ولله حال ما ألذّ وما أشهى
فأنهيت أمري طالبا حقّ خالقي ... إلا أنّ عبد الله من كان قد أنهى
فإن كان حقا ما يقال فإنه ... يقرّره حالا وإلا فقد ينهى
ومثلي من يسهو عن الحقّ عند ما ... يقرّره أمرا ومثلي من ينهى
دهاني بأمر كنت قبل جهلته ... فما أمكن المملوك ردّ فما أدهى
وهي جانب البيت العتيق لعزة ... فلم أر أهوى منه بيتا ولا أدهى
ولم يلهني عنه حميم وصاحب ... فإن لم يكن بالقول بالحال قد ألهى
فلا تحجبني عنك ربيّ بصورة ... فإني لها أسعى كما أنني منها
حديثي الذي عند السماع أبثه ... فما هو إلا من روايتنا عنها
وما علمت نفسي مثالا مطابقا ... كما تزعم الألباب كنت لها شبها
__________
(1) الكشف: الاطلاع على ما وراء الحجاب من المعاني الغيبية والأمور الحقيقية.
(2) الكل: الواحد المطلق.
(3) الكرسي: السرير، وهو جرم من الأجرام، وهو عند الصوفيين مظهر الاقتدار الإلهي، ومحل نفوذ الأمر والنهي والإيجاد والإعدام. والكرسي وغيره من الأجرام، مخلوق لله تعالى.(1/304)
إذا طمعت نفسي بإدراك ذاتها ... فتلك التي تدعى بجاهلة بلها
تخص إذا خصت نفوس شريفة ... منزهة الأوصاف بالصورة الشوهى
وقال أيضا:
عجبت من ستور ... ترخى وتسدل (1)
فس سدلها نعيم ... يعطيه مفضل
إن قلت يا فلان ... رخم وقل فل
قد جاءنا كتاب ... للحقّ فيصل
لباسه حروف ... فيهن يرفل
يقول فيه قولا ... عليه عوّلوا
إنّ الكلام سهل ... والصمت أسهل
عليه فليعوّل ... فهو المعوّل
ففي الكلام ما لا ... يدرى ويجهل
والصمت لبس فيه ... هذا مفصل
إنّ الكلام فيه ... أعلى وأنزل
والصمت ليس فيه ... ذا الحكم فاعدلوا
فكلّه نجاة ... وعنه نسأل
كما يقول أيضا ... ما فيه فيصل
إنّ الكلام منّا ... وحي منزل
فكلّه عليّ ... ما فيه أنزل
وكله صحيح ... لكن يعلل
فمنه ما يردّ ... شرعا ويقبل
يقضى به جنوب ... فينا وشمأل
للشرع منه فينا ... تاج مكلّل
قول عليه نور ... ما عنه معدل
وللعقول منه ... ظلّ مظلل
ضرب المثال حقّ ... يدريه أمثل
إنّ الحكيم يسدي ... به ويفضل
فما جهلت منه ... عن ذاك تسأل
__________
(1) الستور: تخفى بالهياكل البدنية الإنسانية المرخاة بين عالم الغيب والشهادة.(1/305)
ما في الوجود شيء ... سدى فيهمل (1)
بل كله اعتبار ... إن كنت تعقل
قدّر نهى وفكرا ... عليه يعمل
ستارة الغيوب ... قامت لتسألوا
من فوقها شخوص ... تعلو وتسفل
فما تراه منها ... يأتي ويقبل
ويبدو في عيان ... وقتا ويأفل (2)
الفعل ليس منها ... والأمر مشكل
وإنّ ما تراه ... نطق مخيّل
ولا تقل خيال ... ما ذاك يجمل
ما لعبة تراها ... إلا تؤوّل
لحكمة يراها ... من كان من عل
وكلنا خيال ... وهو المخيل
والعالمون منا ... عليه عوّلوا
فأجملوا كلامي ... فيه وفصّلوا
أقوالنا نصوص ... فلا تؤوّلوا (3)
فما أرى سواه ... للأمر يشمل
ما في الوجود إلا ... أمر ينزل
في أرض أو سماء ... إذ هنّ منزل
فاعقل كلام ربي ... إن كنت تعقل
فالقول قول ربي ... فلا تقوّلوا
وما رملت عندي ... إذ أنت ترمل (4)
فإن أتيت تسعى ... أنا أهرول
الحكم حكم دور ... ما فيه أوّل
إلا بحكم فرض ... فالله أوّل (5)
هذا من ابتداعي ... هذا المنزل
فالخوض فيه أولى ... بنا وأجمل
__________
(1) سدى: ضائع عبثا.
(2) يأفل: يغيب.
(3) التأويل: التفسير.
(4) الرّمل: الهرولة والإسراع في المشي.
(5) الأول: الله تعالى هو الأول بلا بداية.(1/306)
وقال أيضا:
لما رأيت وجودي ما رأيت عمى ... ولم أزل في عمى منه إلى الأبد
إذا يحددني في كلّ آونة ... فلا أزال مع الأنفاس في كبد (1)
كذا أتتنا به الآيات ناطقة ... بقاف وأنزلها في سورة البلد
من فوق سبع سموات منزلة ... على حقيقة ذي روح وذي جسد
أتى بها تبلغ الأسماع دعوته ... عن اذن منزلها ألواحد الصمد (2)
فعند ما سمعت أذني تلاوته ... بالوهم في قبة قامت على عمد
مربع الشّكل والأملاك تحرسه ... من كل ذي حسد والكلّ ذو حسد
من جنسه فجميع الخلق تحسده ... من الملائكة العالين بالسّند
إن الذي تحت أرض الأرض منزله ... لمحرقون بنور النجم للرصد
لأنه نسخة من كلهم فله ... هذا السفوف فقل خيرا ولا تزد
لما رأيت له حكما على جسدي ... علمت منه الذي ألقاه في خلدي (3)
لولا تطابق ألفاظ الكتاب على ... عين المعاني لكان الخلق في حيد (4)
فليس إعجازه إلا نزاهته ... عن الأباطل هذا سرّه وقد
وما سواه فأقوال مزخرفة ... ليست من الخلق في شيء فلا تعد
إن القرآن لنور يستضاء به ... يهدي مع السنة المثلى إلى الرشد
فخذ به صعدا إن كنت في سفل ... وخذ به سفلا إن كنت في صعد
وقال أيضا:
من قال في الله بتوحيده ... قد قال ما قال به المشرك
وإن يقل أكثر من واحد ... فهو الذي بربه يشرك
قد حار فيه أهل توحيده ... ثم مع الحيرة لا يترك
فاحفظ جميع القول فيه تكن ... في ذاك من غيركم أدرك
فإنه يقبل أقوالكم ... في ذاته إذ كان لا يدرك
وخلقه الأشياء ما بيننا ... محقق يدري به المدرك
فالكلّ لله على ما ترى ... عين الذي قيل هو المدرك
وكلّ شيء نحن فيه به ... فذلك الشيء لنا مدرك
__________
(1) الكبد: يعني: المشقة.
(2) الواحد الصمد: الله سبحانه، والصّمد أي الذي تفتقر إليه الملخوقات وتحتاج، وهي غني عن العالمين.
(3) الخلد: الذهن.
(4) الحيد: يريد الحيرة والاضطراب.(1/307)
وقال أيضا:
علمت ربي لما ... علمت علمي بنفسي
إذ كان عين وجودي ... وروحي عقلا وحسي
قد بعت نفسي منه ... لما اشتراها ببخس
ولم أبع منه نفسي ... إلا لجهلي بأسي
فلو علمت به ما ... ذكرت بيعا لأنسي
فإن أكن عنه غيرا ... فالحقّ جنّة أنسي
ما لي وإيّاه شبه ... إلا كيومي بأمس
الفرق فيه عسير ... لأنه أصل لبسي
فما بدا كون عيني ... إلا ببعل وعرس (1)
من الطبيعة بنا ... ما بين عقل ونفس
فيها بعقد نكاح ... أعلى بحضرة قدس
فنحن أهل المعالي ... ونحن أهل التأسّي
لكن بأسماء ربي ... ما بين عرش وكرسي (2)
لو قلت ما قلت يأتي ... إليّ فيه بعكس
وإن أعجل تراه ... بصورة الحال ينسي
تعجيله فيه ذكرى ... تأخيره الأمر ينسي
سرّ الشريعة خاف ... ما بين عرب وفرس
وليس يظهر إلا ... إلى شهيد بحسّ (3)
فلا تمت حتف أنف ... فلست فيها بنكس (4)
نطق الشهادة حال ... ما بين جهر وهمس
لله قوم تراهم ... بحال ذلّ ونكس
وهم لديه كرام ... لا يشترون بفلس
عجبت مني وممن ... قد بنت عنه بجنسي
إطلاق سرّي دليل ... أني بأضيق حبس
وإنني في مقالي ... لست بصاحب حدس
__________
(1) الكون: عبارة عن وجود العالم من حيث هو عالم.
(2) العرش: أعظم مخلوقات الله تعالى، والكرسي: جرم أيضا: وهو مظهر الاقتدار كما العرش مظهر العظمة.
(3) الشهيد: الذي يرى حظوظ نفسه.
(4) النّكس: الضعيف.(1/308)
بل ذاك نور مبين ... كنور بدر وشمس
أفصحت فيه لساني ... لأنني بين خرس
وقال أيضا:
سأصرف عن آيات كلّ محقق ... رجالا أبوا إلا التبجح بالهزل
ولم أر في الآيات مثل كلامه ... يلازمه قلبي ملازمة الظل
ولم أشهد الأقوام لكن رأيتهم ... سكارى حيارى يطلبون على مثلي
فلما رأوني لم يروا ما تخيّلوا ... لأنّ شهود العين ستر على إلّي (1)
ولما رأوني لم يروا ما تحققوا ... لأنهم في النشىء ليسوا على شكلي
مزاجهم غير الذي قد مزجته ... وإنّ مزاجي لم يكن فيه من قبلي
فإني وحيد العصر شهم مقيد ... بشرع وتحقيق وذا غاية الفضل
سألت اجتماعا بين عيني وشاهدي ... ومن لي بهذا الجمع من لي به من لي
لقد جدت يوما بالقرونة مثلما ... تجود به الأمطار في الزمن المحل
أقول بعين الجمع في عين مفرد ... تعجبت من جزء له حكمة الكل
كآدم لما أن علمت بذاته ... وقد جاء في الأخرى على صورة الإل
وصورة ما في الكون من عالم علا ... ومن أنزل فيه إلى غاية السفل
علمت بحالي إن تحققت نشأتي ... إذا كان مرآتي بأني من الأهل
فقال لي المطلوب أنت حقيقتي ... فأنت من إلى لست والله من أهلي (2)
فقلت له قل لي الذي قد علمته ... من أحوال قلبي في جنابكم قل لي
فقد كان طيفور يقول هوى لكم ... وأتبعه فيه أبو بكر الشبلي (3)
خلعت عليه من صفاتي ملابسا ... ليخلفني فارتاع من ذلك الفضل
ونادى بترجيع وقول مفصل ... إلهي ماذا بعد أن جدت بالوصل (4)
يكلفني ما لا أطيق احتماله ... ولم يدر أني في الأطايب والثقل
وإني من أعطى الوجود كماله ... كما أنه أعطى الكثير من القل
وجاد على قوم بريّا ممسك ... وجاد على قوم برائحة الزبل
وكلّ له فيه نعيم ورغبة ... فما في عطاء الله شيء من البخل
__________
(1) ستر: كل ما يسترك عما يغنيك. وقيل هو غطاء الكون. والإل: اسم لله تعالى.
(2) الحقيقة: يعني إقامة العبد في محل الوصال إلى الله. والحقيقة: التوحيد.
(3) طيفور: هو طيفور بن عيسى البطامي وطريقته طريقة الغلبة والسكر. والشبلي: هو أبو بكر الشبلي بغدادي المولد والمنشأ، شيخ وقته حالا وعلما وقد صحب الجنيد ومات سنة 334هـ.
(4) الوصل والوصال: الانقطاع عما سوى الحق.(1/309)
وقال أيضا:
قد جرى في مثلنا مثل ... علم في رأسه نار
بيتنا وبين كن نسب ... فلنا في الكون آثار (1)
إنه لمن تحققه ... نقص حظ فيه أضرار
فرددناه لصاحبه ... ما أنا في الردّ مختار
إنما الدنيا له ولنا ... في التي تليها أخبار
إنما يدري بصحة ذا ... من له في العلم مقدار
والذي يلهو بعبرته ... ما له في القلب أبصار
هذه الدنيا لهم تعب ... ولنا عون وأنصار
للذي أرجوه من منح ... جلها أني لها جار
هكذا قال الجليل لنا ... وأتى في ذاك أخبار
يشير إلى قول آسية امرأة فرعون: {رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ} (2)، قدمت الجار على الدار.
وقال أيضا:
نوقف فإن العلم ذاك الذي يجري ... وتعلم بأن الحكم منا ولا تدري
وما قلت إلا ما تحققه به ... كذا قرّر الله المهيمن في صدري
أنا في عباد الله روح مقدّس ... كمثل الليالي روحها ليلة القدر
تقدّست عن وتر بشفع لأنني ... غريب بما عندي عن الشفع والوتر
ولما أتاني الحقّ ليلا مبشّرا ... بأني ختام الأمر في غرّة الشهر
وقال لمن قد كان في الوقت حاضرا ... من الملأ الأعلى ومن عالم الأمر
ألا فانظروا فيه فإنّ علامتي ... على ختمه في موضع الضرب في الظهر
وأخفيته عن أعين الخلق رحمة ... بهم للذي يعطى الجحود من الكفر
عرضت عليه الملك عرضا محققا ... فقال لي الأمر المعظم في الستر (3)
لأنك غيب والسعيد من اقتدى ... بسيّده في حالة العسر واليسر
فنحمد في السرّاء حمدا مخصصا ... ونحمد حمدا ساريا حالة الضرّ
ظهورك في الأخرى فثم ظهورنا ... لذا جئتني في العرب إذ جئت بالشكر
فإنّ وجود الشكر يبغي زيادة ... من الله في النعماء فانهض على اثري
__________
(1) الكون: عبارة عن وجود العالم من حيث هو عالم.
(2) سورة التحريم، آية: 11.
(3) الستر: كل ما يسترك عما يغنيك.(1/310)
لو أنك يا مسكين تعرف سرّه ... لكنت بما تدري به أوحد العصر
غريبا وحيدا حائرا ومحيرا ... وكنت على علم تصان عن الذكر
خفيّ على الألباب من أجل فكرها ... وإن كان أعلى في الوضوح من البدر
أنا وارث لا شكّ علم محمد ... وحالته في السرّ مني وفي الجهر
ولست بمعصوم ولكن شهودنا ... هو العصمة الغرّاء في الأنجم الزهر (1)
ولست بمخلوف لعصمة خالفي ... من الناس فيما شاء منه على غمر (2)
علمت الذي قلنا ببلدة تونس ... بأمر إلهي أتاني في الذكر
أتاني به في عام تسعين شربنا ... بمنزل تقديس من الوهم والفكر
ولم أدر أني خاتم ومعين ... إلى أربع منها بفاس وفي بدر (3)
أقام لي الحقّ المبين يمينه ... بركبته والساق من حضرة الأمر
وبايعته عند اليمين بمكة ... وكان معي قوم وليسوا على ذكري
وأقسم بالحجر المعظم قدره ... وفي ذلك الايلا يمين لذي حجر (4)
لئن كان هذا الأمر في فرع هاشم ... لقد جاء بالميراث في طيء نشري
وأين بلال من أبي طالب لقد ... تشرّف بالتقوى المحقر في القدر (5)
سألتك ربي أن تجود لعبدكم ... بأن يك مستورا إلى آخر الدهر
كمثل ابن جعدون وقد كان سيّدا ... إماما فلم يبرح من الله في ستر
سألتك ربي عصمة الستر إنه ... على سنة الحناوي سنتنا تجري
لقد عاينت عيني رجالا تبرزوا ... خضارمة عليا وما عندهم سرّي (6)
وأقسمت بالشمس المنيرة والضحى ... وزمزم والأركان والبيت والحجر
لئن كان عبد الله يملك أمره ... فما مثله عبد السميع أو البرّ
فإنّ لكلّ اسم تعيّن ذكره ... سوى الذات مدلولا له حكمة الظهر
فمن يشتهي الياقوت من كسب كدّه ... يقاسي الذي يلقاه من غمة البحر
أنا صهر مختار أنا الختن الذي ... أتاني به الفاروق عند أبي بكر
فلم أستطع عني دفاعا ولم أكن ... بما جاءني فيه مبشره أدري
بحجرته الغرّا بمسجد يثرب ... بحضرة عبد الله ذي النائل الغمر (7)
__________
(1) الشهود: أن يرى حظوظ نفسه.
(2) الغمر: الماء الكثير.
(3) فاس: مدينة بالمغرب.
(4) الحجر: يريد الحجر الأسود.
(5) بلال: هو بلال بن رباح، الصحابي. وأبو طالب: ثم النبي صلى الله عليه وسلم.
وقد أراد الشاعر أن التقوى هي المعيار وليس النسب.
(6) خضارمة: جمع خضرم: الجواد الكريم. والسيّد الحمول.
(7) النائل: العطاء.(1/311)
وما زلت من وقت الغروب بمشهد ... أشاهده فيه إلى مطلع الفجر
ومصباح مشكاة المشيئة في يدي ... أنوّر بيت الله عن وارد الأمر
لأسرح منه والصلاة تلزّني ... على ما أراه ما يزيد على العشر (1)
لباسي الذي قد كان في اللون أخضرا ... وإني من ذاك اللباس لفي أمر
غنيت بتصديقي رسالة أحمد ... عن الكشف والذوق المحقق والخبر (2)
وهذا عزيز في الوجود مناله ... ولو لم يكن هذا لأصبحت في خسر
ولي في كتاب الله من كل سورة ... نصيب وجلّ الخير من سورة العصر
تواصوا بحق الله في كلّ حالة ... كما أنهم أيضا تواصوا على الصبر
أحبّ بقائي ههنا لزيادة ... وأفزع إيمانا إلى سورة النصر
إذا لم أكن موسى وعيسى ومثلهم ... فلست أبالي أنني جامع الأمر
فإني ختم الأولياء محمد ... ختام اختصاص في البداوة والحضر
شهدت له بالملك قبل وجودنا ... على ما تراه العين في قبضه الذرّ (3)
شهود اختصاص أعقل الآن كونه ... ولم أك في حال الشهادة في ذعر
لقد كنت مبسوطا طليقا مسرّحا ... ولم أك كالمحبوس في قبضة الأسر
ظهرت إلى ذاتي بذاتي فلم أجد ... سواي فقال الكل أنت ولا تدري
فإن أشركت نفسي فلم يك غيرها ... وإن وحدت كانت على مركب وعر
إذا قلت بالتوحيد فاعلم طريقه ... فما ثم توحيد سوى واحد الكثر
ولا بد أن تمتاز فالوتر حاصل ... ولكن في الايجاد لا بد من نزر (4)
لقد حارت الحيرات في كلّ حائر ... وحاصل هذا الأمر في القول بالنكر
فإن شهدت ألفاظنا بوجودنا ... تقول المعاني إنني منك في خسر
إذا ذكروا جسمي حننت لشامنا ... وإن ذكروا روحي حننت إلى مصر
وما الفخر إلا في الجسوم وكونها ... مولدة الأرواح ناهيك من فخر
ألا إن طيب الفرع من طيب أصله ... وكيف يطيب الفرع من مخبث النجر (5)
يعز علينا أن تردّ سيوفنا ... مفللة من ضرب هام ومن كسر
صريرا من أقلام سمعت أصمني ... وما علمت نفسي بصم من الصر (6)
حياة فؤادي من علوم طبيعتي ... كإحياء ماء قد تفجر من صخر
__________
(1) تلزني: تشدني.
(2) الكشف: الاطلاع على ما وراء الحجاب من المعاني الغيبية والأمور الحقيقية.
(3) الذر: النشر.
(4) النزر: القليل.
(5) النجر: الأصل.
(6) الصرير: صوت القلم.(1/312)
بلادا مواتا لا نبات بأرضها ... فأضحت لمحياها تبسم بالزهر
تتيه به عجبا وزهوا ونحوه ... حدائق أزهار معطرة النثر
نراها مع الأرواح تثنى غصونها ... حنوّا على العشاق دائمة البشر
فيا حسنه علما يقوم بذاتنا ... جمعنا به بين الذراع مع الشبر
وما بين سعي الساع والباع والذي ... يهرول بالتقسيم فيه وبالشبر
فيحظى بمجلاه وبالصورة التي ... لها سورة فوق الطبيعة والفقر
سريت إليه صحبة الروح قاصدا ... إلى بيته المعمور في رفرف الدّر (1)
فكن في عداد القوم واصحب خيارهم ... ولا تك في قوم أسافلة غمر
ولا تتركنهم وانظر الحق فيهم ... كما تشهد الأبصار منزلة الغضر
ولا تتخذ نجما دليلا عليهم ... فسكناهم المعروف بالبلد القفر
وعاشر إذا عاشرت قوما تبرقعوا ... أشدّاء مأمونين من عالم القهر
علوم عباد الله في كل موقف ... وغير عباد الله في موقف النشر
ترى عابد الرحمن في كل حالة ... تميل به الأرواح كالغصن النضر
بقاء وجودي في الوجود منعما ... بما أنعم الله عليّ من السحر
يسوق لي الأرواح من كل جانب ... فما معجزات بالخيال ولا السحر
كما جاد لي بالحل من كل حرمة ... صبيحة يوم الرمي من ليلة النحر
ويمم لي المطلوب من كل منسك ... تجلى لنا فيه إلى حالة النفر
سباني وأبلاني بكل مقرطق ... وما نظم الرحمن من لؤلؤ التعر (2)
نزين به إكليل تاج وساعد ... وسلك يدليه على لبّة النحر
لقد أنشأ الله العلوم لناظري ... على صور شتى من البيض والسمر
ترفلن في أثواب حسن مهيم ... منوّعة الألوان من حمر أو صفر
فمتكىء منهم على فرش ألبها ... ومتكىء منهم على رفرف خضر
وبيض كريمات عقائل خرّد ... يجرّرن أذايل البها أيما جرّ (3)
لقد جمع الله الجمال لأحمد ... وغير رسول الله منه على الشطر
فمن كان يدري ما أقول ويرتقي ... إلى عرشه العلويّ من شاطىء النهر
فذاك الذي حاز الكمال وجوده ... وزاد على الأملاك علما بما يجري
__________
(1) سرى: سار ليلا. الروح: أي جبريل عليه السلام: الرفرف: عبارة عن المكانة الإلهية.
(2) المقرطق من القرطق: ضرب من اللبس، وهو معرّب كرته.
(3) بيض كريمات عقائد خرّد. أي النساء الحسناوات. والخرّد: جمع الخريدة وهي البكر لم تمسس أو الخفرة الطويلة السكوت.(1/313)
إذا جاء خير الله يصبح نادما ... بما فرط المسكين في زمن البذر
علوم أتت نصا جليا تقدّست ... عن الظنّ والتخمين والحدس والحزر
تجيء وما ينفك عنها مجيئها ... ولكنها تأتيك بالمدّ والجزر
ألا كلّ خلق كان مني تخلقا ... بخلق إلهيّ كريم سوى النذر
فيا شؤمه خلقا فإنّ أداءه ... كمثل أداء الفرض في القسر والجبر
لقد طلعت يوما عليّ غمامة ... تكون لما فيها من الصون كالخدر
فقلت تجلى في غمام علمته ... أتاني به الرحمن في محكم الذكر
فجادت على أركان كوني بأربع ... معارف ألبان وماء ومن خمر
وما أخرجت نحل لنا من بطونها ... مصفّى لنا فيه الشفاء من الضرّ
علوم يقوم الحبر منا بفضلها ... فما هي من زيد يمرّ على عمر (1)
تعالت فلا شخص يفوز بنيلها ... ولا سيما إن كان في ظلمة الحشر
بها ميز الرحمن بين عباده ... غداة غد في موقف البعث والنشر
كما ميز الرحمن بين عباده ... إذا دفنوا في الأرض من ضغطة القبر
فضم لتعذيب وضم تعشق ... فلا بد منه فاعلموا ذاك من شعري
قد اشتركا في الضم من كان ذا وفا ... لما كان في عهد ومن كان ذا غدر
يجيء بأعذار ليقبل عذره ... وليس له يوم القيامة من عذر
ويقبل منه صدقه في حديثه ... ولو جاء يوم العرض بالعمل النزر
لقد عمّ بالطبع العزيز قلوبنا ... فلا يدخلن القلب شيء من النكر
جهلت علوما في حداثة سننا ... وما نلت هذا العلم إلا على كبر
وما خفت من شيء أتاني بغتة ... كخوفي إذا خفنا من النظر الشزر (2)
جرينا به في حلبة الكشف والحجى ... على الصافنات الغر والسبق الضمر (3)
فلما أتينا الصور قال لنا فتى ... ألا إنه الناقور فافزع إلى النقر (4)
فملت إليه في رجال ذوي نهى ... بمحو وإثبات من الصحو والسكر (5)
أهدى كما قال الجنيد بحامل ... فقلت له: أين القعود من البكر (6)
__________
(1) الحبر: العالم الحاذق.
(2) الشّزر: النظر بمؤخر العين، نظر فيه إعراض.
(3) الكشف: الاطلاع على ما وراء الحجاب من المعاني الغيبية والأمور الحقيقية.
الصافنات: كناية عن الخيل، ويقال: صفن الفرس إذا قام على ثلاث قوائم وطرف حافر الرابعة.
(4) الناقور: أي الصّور كما في الآية 8من سورة المدثر: {فَإِذََا نُقِرَ فِي النََّاقُورِ}.
(5) ذوو نهى: عقلاء. السّكر: دهش يلحق سر المحب في مشاهدة جمال المحبوب فجأة.
(6) الجنيد: أبو القاسم الجنيد سيد الصوفية، كان فقيها على مذهب أبي ثور وصحب خاله السري السقطي(1/314)
فأنزلني منه بأكرم منزل ... علوت به فوق السماكين والنّسر (1)
وفرّق حالي بين هذا وهذه ... وأين زمان الرطب من زمن البسر (2)
إذا كان لي كنت الغنيّ بكونه ... وأصبحت ذا جاه وأمسيت ذا وفر
دعاني إلهي للحديث مسامرا ... ولي أذن صماء من كثرة الوقر
وحملني ما لا أطيق احتماله ... وأطّت ضلوعي من ملابسة الوقر
وخفت على نفسي كما خاف صالح ... على قومه خوف المقيمين في الحجر (3)
إذا قلت يا الله لبى لدعوتي ... ولم يقصني عنه الذي كان من وزري
وقال أيضا:
إذا كنت تطلب ما تركب ... وكان لكم كونه المذهب
وقمت به حين قامت بكم ... صفات تعار ولا تكسب
فمنه إليه يكون الذي ... تسمونه الملجأ المهرب
أتاكم بجبريله منزلا ... بوحي على قلبكم يكتب
وما هو جبريل إرساله ... ولكنه مثل يضرب
فلست نبيا ولا مرسلا ... وإني له وارث أحجب
وإن جمعت بيننا حضرة ... فإني أنا الحاجب الأقرب
لأني خديم له تابع ... أوامره سيّد منجب
يقول لي الله من عرشه: ... وليّ أنا ذلك المطلب (4)
ظهرت بصورة ارسالنا ... إليكم وإياكم أطلب
فأنت الوليّ لنا المجتبى ... لك الوهب والأخذ والمنصب
نصبت من أسمائنا مسلما ... لكم فاعرجوا فيه لا ترهبوا
ولا ترغبوا عن وجودي إذا ... وصلتم وفيه ألا فارغبوا
وكم قلت فيكم ولم تسمعوا ... قواكم أنا فافرحوا واطربوا
إذا ما سعيت لأمر أنا ... لك الرّجل في سعيها فاعجبوا
تعاليت عن ذا وعن ذا فما ... أنا مثلكم فكلوا واشربوا
__________
والحارث المحاسبي ومحمد بن القصاب، وتقوم طريقته على مراقبة الباطن وتصفية القلب وتزكية النفس، ويسمونها طريقة الصحو وهي نقيض طريقة السّكر.
(1) السّماكان: نجمان نيّران هما الأعزل والرامح. النّسر: كوكبان.
(2) البسر: الماء البارد. والبسر: الغض من كل شيء.
(3) صالح: النبي صالح، وحجر: ديار ثمود قوم صالح عليه السلام.
(4) العرش: أعظم مخلوقات الله تعالى.(1/315)
هنيئا مريئا ولكن بنا ... فنحن لك المأكل المشرب
فإني القويّ وعين القوي ... وإني المقوّى الذي يطلب
فجولوا بميدان أسمائنا ... فميدان أسمائنا ملعب
أفسر قولي بما أشتهي ... لتضمينه كل ما يرغب
فسبحان من كلنا عينه ... ولسنا وليس وما نكذب
وقال أيضا يمدح الأنصار رضي الله عنهم:
وسبب ذلك أن بعض إخوانه كتب إليه أنه رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم بجامع دمشق، في رؤيا طويلة، فسأله رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل تعرفني؟ فقال: نعم. ثم ذكر له رسول الله صلى الله عليه وسلم كلاما طويلا يأمره فيه أن يبلغه إليّ، وفي آخره يقول له: قد أمرناه أن يمتدح الأنصار بنصرهم لي وصحبتهم وليخص منهم سعد بن عبادة ويذكره في شعره وليكن ذلك عن عجل فإذا مدحهم اكتبه في ورقة بخط بيّن وادفعه عند قبر لرجل أسمر اللون اسمه حامد بجدّة عند قبره ليلة الخميس. قال الراوي: فقلت:
نعم يا رسول الله، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أين حسان بن ثابت؟ فقال حسان: ها أنا ذا يا رسول الله صلى الله عليك، فقال: اذكر له بيتا يبني عليه فقال: نعم.
وقال:
شغف السهاد بمقلتي ومزاري ... فعلى الدموع معوّلي ومشاري
قال صاحب الرؤيا: ثم قال لي: وعيت ما قلنا لك؟ قلت: نعم يا رسول الله صلى الله عليك. فقال: انهض واكتم هذا الحال وقل له يكتمه أيضا، يعني الكلام الذي أمر أن يبلغه إليه وادفع المدح لمن أمرت حيث أمرت ليلة الخميس قال ثم استيقظت. فلما وقف على ما كتب به إليه صاحب الرؤيا قال يمتثل أمر النبيّ صلى الله عليه وسلم فيما أمره به من مدح الأنصار وما قال إلا ما أملى عليه في خاطره ولم يستعمل في ذلك روية كما جرت عادته في نظمه ونثره وجميع ما يسطره:
قال ابن ثابت الذي فخرت به ... فقر الكلام ونشأة الأشعار
شغف السهاد بمقلتي ومزاري ... فعلى الدموع معوّلي ومشاري
فلذا جعلت رويه الراء التي ... هي من حروف الردّ والتكرار
فأقول مبتدئا لطاعة أحمد ... في مدح قوم سادة أخيار
إني امرؤ من جملة الأنصار ... فإذا مدحتهم مدحت نجاري
لسيوفهم قام الهدى وعلت بهم ... أنواره في رأس كلّ منار
فاموا بنصر الهاشميّ محمد ... ألمصطفى المختار من مختار
صحبوا النبيّ بنية وعزائم ... فازوا بهنّ حميدة الآثار
باعوا نفوسهم لنصرة دينه ... ولذاك ما صحبوه بالإيثار
لهم كنى المختار بالنفس الذي ... يأتيه من يمن مع الأقدار
سعد سليل عبادة فخرت به ... يوم السقيفة جملة الأنصار (1)
لله آساد لكلّ كريهة ... نزلت بدين الله والأبرار
عزوا بدين الله في إعزازهم ... دين الهدى بالعسكر الجرّار
فيهم علا يوم القيامة مشهدي ... وبهم يرى عند الورود فخاري
لو أنني صغت الكلام قلائدا ... في مدحهم ما كنت بالمكثار
كرش النبي وعيبة لرسوله ... لحقت به أعداؤه بتبار (2)
رهبان ليل يقرأون كلامه ... آساد غاب في الوغى بنهار(1/316)
قال ابن ثابت الذي فخرت به ... فقر الكلام ونشأة الأشعار
شغف السهاد بمقلتي ومزاري ... فعلى الدموع معوّلي ومشاري
فلذا جعلت رويه الراء التي ... هي من حروف الردّ والتكرار
فأقول مبتدئا لطاعة أحمد ... في مدح قوم سادة أخيار
إني امرؤ من جملة الأنصار ... فإذا مدحتهم مدحت نجاري
لسيوفهم قام الهدى وعلت بهم ... أنواره في رأس كلّ منار
فاموا بنصر الهاشميّ محمد ... ألمصطفى المختار من مختار
صحبوا النبيّ بنية وعزائم ... فازوا بهنّ حميدة الآثار
باعوا نفوسهم لنصرة دينه ... ولذاك ما صحبوه بالإيثار
لهم كنى المختار بالنفس الذي ... يأتيه من يمن مع الأقدار
سعد سليل عبادة فخرت به ... يوم السقيفة جملة الأنصار (1)
لله آساد لكلّ كريهة ... نزلت بدين الله والأبرار
عزوا بدين الله في إعزازهم ... دين الهدى بالعسكر الجرّار
فيهم علا يوم القيامة مشهدي ... وبهم يرى عند الورود فخاري
لو أنني صغت الكلام قلائدا ... في مدحهم ما كنت بالمكثار
كرش النبي وعيبة لرسوله ... لحقت به أعداؤه بتبار (2)
رهبان ليل يقرأون كلامه ... آساد غاب في الوغى بنهار
وقال أيضا في الطبيعة والأخلاط والأركان:
قل لأم الأربع ... أنت في الخير معي
لولا عيني لم يكن ... لك عين فاسمعي
إنما نحن لها ... في الوجود فدعي
ولها الحكم بنا ... في الجهات الأربع
فإذا علمت ذا ... فلكوني فارجعي
رجعة مرضية ... لرياضي وارتعي
أنا فيما قلته ... من حديث مدّعي
ودليلي واضح ... مثل لمع اليرمع (3)
في سراب فترى ... ماء مزان فاكرعي (4)
فإذا ما جئته ... لم تجد شيئا معي
كلّ ما جئت به ... عن خطيب مصقع
وحديثي إنما ... هو مني ومعي
وقال أيضا قصيدة جلها في المنام لحقيقة إلهية تجلت له في نومه وكانت له بنت ماتت فأنزلها بيده في لحدها فسئل في النوم عن ذلك. فقال:
لحدت بنتي بيدي ... لأنها ذو جسدي
أنا على حكم النوى ... فليس شيء بيدي
مقيد في وقتنا ... ما بين أمس وغد
__________
(1) سعد يعني سعد بن عبادة.
(2) تبار: هلاك.
(3) اليرمع: الخذروف يلعب به الصبيان.
(4) المزن: السحاب، القطعة: مر(1/317)
جسمي لجين خالص ... حقيقتي من عسجد (1)
كالقوس نشئي ولذا ... عين قوامي حيدي
يقول ربي إنه ... خلقني في كبد (2)
فكيف أرجو راحة ... ما دمت في ذا البلد
لولاه ما كنت أنا ... ذا والد وولد
ولم يكن لي كفؤا ... كخالقي من أحد
فالنعت نعت واحد ... في عين ذات العدد
وإنني لخالقي ... في خلقنا كالعدد
فحل إلهي بيننا ... في الكون لا المعتقد
بنشأة ثابتة ... يصحّ منها سندي
في أنني مثلكم ... وأنت لي مستندي
بالفرض لا إني أنا ... مثل وهذا رشدي
نفيت عني المثل في ... شورى وذا معتقدي
وجنتي عالية ... مع الحسان الخرّد (3)
وإنما قال به ... كما لنا في المقصد
طبيعة الكون له ... أهل وعين الأحد
بعل لها فاجتمعا ... على وجودي وقد
ما قلت ذا عن نظر ... قد قام بي في خلدي
وإنما قرّره ... عندي رسول الصمد
فكان يملي وأنا ... أكتب عنه بيدي
وهكذا الأمر ولا ... يعرفه من أحد
غير إمام سابق ... بالخير أو مقتصد
والغير لا يعرفه ... في الحال بل في الأبد
وكلّ فرع راجع ... لأصله لم يزد
وقال أيضا مجبورا:
الحمد لله الذي أنعما ... بما ترى ولم يزل منعما
فما ترى شيئا من أفعاله ... ألا تراه متقنا محكما
__________
(1) اللجين: الفضة. العسجد: الذهب.
(2) إشارة إلى قوله تعالى: {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسََانَ فِي كَبَدٍ} سورة البلد، آية: 4.
(3) الخرّد: جمع الخريدة وهي الفتاة الخفرة الشديدة الحياء.(1/318)
يضرب أخماسا بأسداسها ... لما يرى من فعله مبهما
إن يفرد الوتر له فعله ... يقول عين الشفع بل منهما
لنا قبول ولنا قدرة ... لذاك قال الشفع بل منهما
من نعمة الله على عبده ... أن جعل العلم له مغنما
وفجر النور بأرجائه ... وليله من جسمه أعتما
ما النور والظلمة في حقه ... ستر له يحجبه كلما (1)
أراده بالجهل حساده ... يصمه الستر فما أعصما
ما استكبر المحروم في خلقه ... لو أنّ إبليس يرى آدما
لو أنه يكمل في خلقه ... لما أبى واستعظم الأعظما
في الجرم والمعنى لهم واحد ... بينهما الرحمن قد قسما
أرواحه العالون تعنو له ... لصورة أعطاه من أنعما (2)
بها عليه دون أملاكه ... حاز بها الأسماء لما سما
فهو مع الله بأسمائه ... كما هو الله به أينما
أنزله الحقّ إلى عرشه ... وكان محكوما له بالعما (3)
أنزله الإلطاف من عرشه ... إلى الذي يقربنا من سما
في ثلث الليل لنا رحمة ... بنا لكي يتلو أو يعلما
اشهدني منه بأسمائه ... وجوده والمحضر المعلما
وقال أيضا:
ما في الوجود الذي تدريه من أحد ... إلا له في الذي يدريه ميزان
يقضي به والذي بالعقل حصله ... شخص يقال له بالحدّ إنسان
له الكمال كما في الكون صورته ... ولي عليه من التشريع برهان
فالوزن لا بدّ فيه إن وزنت له ... ما كان من عمل نقص ورجحان
فاعكف عليه ولا تفرح بصورته ... فقد تملكه جحد ونسيان
يبدو إذا قسم التكليف بينهما ... نهي وأمر وإنسان وشيطان
فمن كمال وجودي أن يكون لنا ... من كلّ نعت نصيب فيه تبيان
على الذي حزته من الكمال فلا ... تقل بأنّ وجود الجحد نقصان
لم ينقص النقص من عين الوجود لما ... كان الوجود كمالا وهو خسران
الأمر أعظم أن يحظى به أحد ... إلا الذي هو علّام وديّان (4)
__________
(1) الستر: كل ما يسترك عما يغنيك.
(2) تعنو: تخضع.
(3) العرش: أعظم مخلوقات الله تعالى.
(4) العلّام والديّان: من صفات الله تعالى.(1/319)
لما أراد كمال الحكم منه أتى ... في شرع جبريل إسلام وإيمان
فعمّ ظاهره الأعلى وباطنه الأ ... دنى وتممه بالكاف إحسان
فثلث الأمر والتربيع نشأته ... لذا أتاك به من بعد محسان
فقال إن لم يكن كون به نزه ... فاثبت على النفي ما في الكون أعيان (1)
هو الوجود فما في الكون من عدد ... والقول بالكثر في الأكوان بهتان
فانظر إلى حكمة عرّا أتيت بها ... بيضاء مثلي فقال: الناس عميان
يا ليت شعري فما في الكون من بصر ... يراه ناظره المدعوّ إنسان
إن تتق الله كان النور يعضدكم ... يتلوه فيكم هدي منه وفرقان
ما حكمة الله في الأشياء بادية ... إلا لمن هو في التحقيق إنسان
فليس كونك إنسانا بصورتك الد ... نيا إذا لم تكن بالحق تزدان
وقال أيضا:
لما رأيت وجود الحق من قبلي ... علمت أنّ وجود النور من عملي
إني وصلت إليه بالعناية لم ... أصل إليه بما عندي من الحيل
ولست ممن يقول العلم في قمر ... يسري إلى غاية أو شمس أو زحل
بل العلوم من الله العليم إلى ... قلبي ولكنها تأتي على مهل
إني عجلت إلى ربي لأرضيه ... فإنه خلق الإنسان من عجل (2)
إذ كنت موسى فلما أن ورثت به ... مقام أحمد خير الناس والرسل
أعطان ربي لكي أرضى معارفه ... فلتحمد الله يا عبدي فإنك لي
وعجّلت إليك ربّ لترضى موسى
ولسوف يعطيك ربك فترضى محمد
وقال أيضا:
ألا إنّ الوجود وجود ربي ... وما يبدو من الأحكام حكمي
فلا عين تراه علا فاعلم ... كذا يقضي به نظري وعلمي
وعلمي بالذي يقضي صحيح ... ولكني أرجح فيه كتمي
وكون الحقّ عينا عين حكمي ... فمن قبل الإله ولا إسمي (3)
__________
(1) الكون: عبارة عن وجود العالم من حيث هو عالم. الأعيان الثابتة: حقائق الممكنات في علم الحق تعالى.
(2) صدى لقوله تعالى: {خُلِقَ الْإِنْسََانُ مِنْ عَجَلٍ} سورة الأنبياء، آية: 37.
(3) العين: إشارة إلى ذات الشيء الذي تبدو منه الأشياء.(1/320)
فذات الحقّ إدراكات ذاتي ... وذاتي ظله في حكم زعمي
ألا تنظر لمدّ الظلّ منه ... بنور الشمس ابقاء لرسمي
فلولا أن أكون كهو وجودا ... بحذف الكاف في مدّي وضمي
إليه بعد مدّي وانبساطي ... يسيرا إذ أساميه من اسمي
ولما كانت الأسماء باسمي ... كذاك له السمات من أصل وسمي (1)
فنعتي نعته من كلّ وجه ... ولكني أغطيه لا عمي
ولولا أن يقول به أناس ... لقلت به كما يعطيه فهمي
ووهمي في العلوم له احتكام ... وما وهم النفوس كمثل وهمي
فإن الوهم عين وجود حقي ... كمثل قواي في قول المسمّي
له عندي مقام ليس يدري ... وهمّ الخلق فيه غير همي
حكمت به عليه وليس كوني ... به حكمي بعدل أو بظلم
لقد كان الوجود بلا زمان ... ولا أين ولا كيف وكمّ
ولا عرض ولا وضع بلحن ... ولا فعل ومنفعل وجسم
ولا نسب يضاف إلى وجودي ... وبعد الكون حققهن أمي
مقولات أتين على اتساق ... يترجمها إلى الأفهام نظمي
له عشر وللأكوان عشر ... كذا زعموا وهذا ليس زعمي
فإن قلنا به جهلوا مقالي ... وإن جهلوا يزيد عليّ غمي
مدحت المصطفى فمدحت نفسي ... ولي قسم وما جاوزت قسمي
فأعمالي تردّ عليّ منه ... ولو أرمي فعيني منه أرمي
فإن عصم الإله به وجودي ... فإن أرمي فنصل ليس يصمي (2)
وهذي رحمة منه تواليت ... لديّ بها يعود عليّ سهمي
وظني لم يزل ظنا جميلا ... فإنّ الظنّ مني عين علمي
إلى معناي فانظر يا خليلي ... ولا تنظر بطرفك نحو جسمي
فقفلي ما قفلت به وجودي ... عن الإدراك بي والختم ختمي
فلا تفتح فخلف الباب ريح ... إذا هبّت عليّ تهين عظمي
تميزني الصلاة ويرتدي بي ... إذا صليتها بأب وأمّ
ولو أنّ الدليل يدل حقا ... عليه لكان يولده لتمّ
ولم يولد فلم يدركه عقل ... فإن ظفروا به فبحكم وهم
وإن حكموا عليه بمثل هذا ... فقد حكموا عليه بغير علم
__________
(1) السمات: جمع السّمة: العلامة والرسم.
(2) يصمي: يقتل.(1/321)
تعالى الله عن قدم بكوني ... كما قد جلّ عن حدث بكمّ
وقال أيضا:
أقول بالله لا بكوني ... فإنه بالدليل عيني
إن الحدوث الذي لكوني ... قد حال ما بينه وبيني
في نظر العقل لا بكشفي ... فالبين بيني والبين بيني (1)
إن دلّ أني له بغير ... فذاك لي إذ سألت عوني
أو قلت إني له بعين ... أكذبني صوته وصوني
فالأمر بيني وبين حبي ... عليه نبني إن كنت تبني
أثنيت يوما عليّ جهلا ... فقال: أثني عليّ تثني
فنيت عني به إليه ... وذاك ما لم يقم بظني (2)
وما جهلت الرويّ فيما ... نظمته فانظروه مني
فما تراه من نظم قولي ... فليس شعرا خذوه عني
بل هو ما قال فيه ربي ... من ذكر جمع ببين كوني
فكلّ ما في الوجود نظم ... وليس شعرا والوزن وزني
ليس الفراهيد لي إمام ... أنا إمام له فإني (3)
في كلّ ما قلت من روي ... علام وقتي فلا تثني
في آل عمران إن نظرتم ... بيت وفي توبة وثني
بالحجر واعلم بأنّ قولي ... في كلّ ما قلت عنه يغني
فالرقم مني والحقّ يملي ... فكلّ ما خط ليس مني (4)
وقال أيضا:
ما نظرت عيني إلى ... شيء تراه فأرى
إلا الذي قال لنا ... بأنه الخلق برى
قلت فمن قيل لنا ... من المياه والثرى
فليس في الكون الذي ... تراه من غير يرى
سواه فانظر عجبا ... يدري به من قد درى
__________
(1) الكشف: الاطلاع على ما وراء الحجاب من المعاني الغيبية والأمور الحقيقية.
(2) الفناء: سقوط الأوصاف المذمومة.
(3) الفراهيد: أي الخليل بن أحمد الفراهيدي اللغوي النحوي، مؤسس علم العروض توفي سنة 170هـ.
(4) الرّقم: الكتابة.(1/322)
إنّ الوجود واحد ... في عينه دون امترا (1)
وكلّ من قال به ... في حقه فما افترى
فنحن فيه كلنا ... كأصيد في جوف الفرا (2)
والجوف منه فارغ ... والحقّ ما فيه مرا
قد قلن ماذا بشرا ... بل ملكا فيما نرى
ولم يكن بملك ... ما كان إلا بشرا
فهكذا أمر الإل ... هـ في الوجود والورى (3)
وقال أيضا:
إذا طلع البدر المنير عشاء ... رأيت له في المحدثات ضياء
وليس له نور إذا الشمس أشرقت ... وقد كان ذاك النور منه عشاء
فما النور إلا من ذكاء لذاك لم ... يكن يغلب البدر المنير ذكاء (4)
فإن لها محلين في ذاتها وفي ... صقالة جسم غدوة ومساء
ألم تر أنّ البدر يكسف ذاتها ... إذا كان محقا غيرة ووفاء (5)
ولكن عن الأبصار والشمس نورها ... بها لم يزل يعطي العيون جلاء
وإدراكي المرئي بيني وبينها ... وقد جعل الله عليه غطاء
وهذا من العلم الغريب الذي أتى ... إليكم به الكشف الأتمّ نداء (6)
وكلّ دليل جاءكم في معاند ... يخالف قولي فاجعلوه هباء
خصصت بهذا العلم وحدي فلم أجد ... له ذائقا حتى نكون سواء
وبالبلد الجدب أطعمت مذاقه ... لذا لم أجد عن ذا المذاق غناء
أتاني به أحوى ولم يأتني به ... إذا سال واد بالعلوم غثاء
فزدت به لطفا وعلما ولم أزد ... به في وجودي غلظة وجفاء
واعلمني فيه بأنّ مهيمني ... معي مثله فابنوا عليه بناء
عليا رفيعا ذا عماد وقوّة ... بلا عمد حتى يكون سماء
مزينة بالأنجم الزهر واجعلوا ... قلوبكم فرشا لها وغطاء
فيغشاكم حتى إذا ما حملتم ... بدت زينة تعطي العيون رواء (7)
__________
(1) العين: إشارة إلى ذات الشيء الذي تبدو منه الأشياء. الامتراء: الجحد.
(2) أصيد: مائل العنق. والفرا: الدهش والتحير.
(3) الورى: الخلق.
(4) ذكاء: الشمس.
(5) محاق الهلال: محوه.
(6) الكشف: الاطلاع على ما وراء الحجاب من المعاني الغيبية والأمور الحقيقية.
(7) الرواء: الحسن.(1/323)
معطرة الأعراف معلولة للحمى ... يمد بها كوني سنا وسناء (1)
ليعجز عن إدراكه كلّ ذي حجى ... ويقبله منه حيا وحياء (2)
سينصرنا هذا الذي قد سردته ... إذا كشف الرحمن عنك غطاء
وقال أيضا:
إذا كان من ترجونه تحذرونه ... فكيف لكم بالأمن والخوف حاصل
وكيف لكم بالخوف والأمن مانع ... فقل لي ما المعمول فالعبد قابل
وإنّ اعتدال الأمر ليس بواقع ... ولا نافع فاعلم فما فيه طائل
فلا بدّ من ترجيح أمر فإنه ... هو الغرض المطلوب فالأصل مائل
فلولا وجود الميل لم تك عيننا ... ولا ينكر العالين إلا الأسافل
لقد قال لي شخص أمين بمكة ... عن السيّد المختار ما أنا قائل
سألت رسول الله في الأمر قال لي ... ألا إنّ قولي ما يقول الأوائل
وقلت لكم عني خذوه فإنه ... هو الحقّ لا عنهم وهنّ الفواضل
نفوس كريمات أتين بكلّ ما ... أتتكم به الأرسال والحقّ فاصل
فمن شاء فليرحل ومن شاء فليقم ... فإني إلى الله المهيمن راحل
فقلت له: نامت جفونك إنها ... لبشرى فقل ما شئت إنك فاضل
وبشرّني أيضا بأنّ نصيبنا ... من البيت ركن قبلته الأفاضل
ولازمني حتى أتته بمكة ... منيته فاغتمّ عال وسافل
أتاني رسول بالوراثة فاضل ... بإشبيلة الغرّاء في العلم كامل
فقال لنا علم الحروف دليلنا ... على أنك الندب الإمام الحلاحل (3)
فلست ترى في الرّقم حرفا مسطرا ... تعين الا وهو للكلّ شامل (4)
وفي كلّ حرف اختصاص مبين ... يراه على التعيين من هو عامل
بما في حروف الرقم واللفظ عالم ... يذبّ به عن نفسه ويناضل
عن أمر إلهيّ يكون مقدّرا ... بتقدير من ترجى لديه الوسائل
يحل به في كلّ رحب ومارق ... إذا هي حلّت بالنفوس النوازل (5)
وقال أيضا:
إذا قلت: يا الله قال: أنا انتا ... فلا تدعني إلا بما منك عيّنتا
__________
(1) الأعراف: الروائح. اللحى: سواد بباطن الشفة. السناء: الضياء.
(2) ذو حجى: عاقل.
(3) النّدب: الظّريف النجيب. الحلاحل: السيد الشجاع.
(4) يقال: رقم الكتاب، أي أعجمه وبيّنه.
(5) المارق: الخارج.(1/324)
وخصص بأسماء لنا ما تريده ... بحالك أو باللفظ إن أنت مكنتا
فإن كان عن حال أجاب ملبيا ... وإن كان بالألفاظ أنت إذا أنتا (1)
ولكن بشرط الامتثال لأمرنا ... وإن لم يكن هذا فما كنت إذ كنتا
أسرّ إذا أسررت والقول قولنا ... وأعلنه أيضا إذا أنت أعلنتا
ذكرتك في جمع كرام أئمة ... ملائكة إذ كنت بالذكر أضننتا
وهان على الأكوان أمر وجودكم ... لجهلهم بل هانوا عندي وما هنتا
فلا تدعني إلا إذا كنت قاطعا ... فإني مجيب ما دعوت وإن خنتا
تكلفني وقتا جزاء لما أتى ... إليك من التكليف مني وإن بنتا
رأيتك تعصيني وعيني عينكم ... فيأتي منكم من يعينني عنتا
أقوم لكم فيما تقومون لي به ... فدنا بما قد كنت أنت به دنتا
ألنت لكم ما اشتدّ من ركن قوّتي ... لأنك في وقت التكاليف لي لنتا
أصون لكم عرضي وأحفظ ذاتكم ... فإنك لما أن سبيت بكم صنتا
وقال أيضا:
إذا أنت لم تعرف إلهك فاعتكف ... عليه بما تدري ولا تتخذ خدنا (2)
فإني لكل الاعتقادات قابل ... وإني منكم مثل ما انتم منا
مننت عليكم بالذي جئتكم به ... على ألسن الأرسال حبالكم منا
بعثت إليكم واحدا واصطفيته ... لنا ولكم منكم فبنتم وما بنا
وحلتم عن العهد الذي كان بيننا ... بمشهد قبض الذرّ فيه وما حلنا (3)
أجازيك لي بالصوم إذ كان لي بكم ... فيا ليت شعري هل تدين كما دنا
وزلتم بلا أمر ولا عين مبصر ... عن العين بي دون الأنام وما زلنا
وكنا على أمر به قد عرفتم ... ونحن عليه ما نزال وما زلنا
ونعلم أنا إذ تجولون في بنا ... بميدان أشهاد جحا جحة جلنا (4)
فإن قمت لي فيما أمرتك طائعا ... بأمرك يا عبدي إذا قمت لي قمنا
معارف أثبات اخال وجودها ... وفي النفي عرفاني فنحن كما كنا
فما تبتغي نفسي سراحا لذاتها ... فقد ألفت من ذاتها القيد والسجنا
وهذا مجال فكها وسراحها ... ولم ندر هذا الأمر إلا إذا صمنا
ولكن بإذن الشرع لا بعقولنا ... ولو قال عقلي ما أعرت له أذنا
__________
(1) الحال: ما يرد على القلب من طرب أو حزن أو بسط أو قبض.
(2) الخدن: الصاحب.
(3) الذّر: صغار النمل.
(4) الجحاجحة: جمع الجحجاح: السيد.(1/325)
خلاف الذي قال الحكيم بفكره ... من الحكم بالتسريح كهلا بما فهنا (1)
فنحن على ما قد علمتم كذاته ... إذا فارقت معنى يقيدها معنى
فإطلاقه إن أنت أنصفت قيده ... فلا تنتظر فيه خطابا ولا إذنا
فلم نخل عن مجلى يكون له بنا ... ولم يخل سرّ يرتقى نحوه منا (2)
رقيّ معان لا رقيّ مسافة ... على صور شتّى تكون بنا عنا
إذا كان هذا الأمر بيني وبينه ... فقد نال أيضا مثل ما نحن قد نلنا
قد انبهم الأمر الذي كان واضحا ... لعقلي بشرعي فالأمور كما قلنا
فقال لي: المطلوب لست بغيركم ... إذا فزدتم فزنا وإن عدتم عدنا
كما جاء في الشرع المطهر أنه ... يمل إذا مل العبيد فما فزنا
بشيء لنا نمتاز عنه به ولم ... يحز دوننا أمرا لديه ولا حزنا
لقد جزت فيما قلته حدّ نشأتي ... فيا ليت شعري هل يجوز كما جزنا
وهذا غريب إن يقع فهو مطلبي ... عليه رجال الله إن ساألوا حلنا
وما أحد منا إذا جاز حدّه ... إلى ضدّه يلتذ فيه فإن امنا
فذلك أقصى ما يكون من المدى ... وقائله دون الأنام قد استغنى
ومنه يقول الحقّ عني بالغني ... وفي عبده في نجم قرآنه أغنى
وبالكسب نال العبد هذا الذي أتى ... إلى قوله أغنى قنى ما به أقنى
تقرّب بما نادى الذبيح إلهه ... طواعية منكم ولا تقرب البدنا (3)
وجلّ بمفازات المعارف تائها ... تزاد بلا زاد ولا تدخل المدنا
فإنّ عوام الناس قد ينكرونه ... إذا جاءكم فليتخذ بعدهم جنا
فإن اتخاذ الستر فرض معيّن ... كذا جاءنا فيما به الله قد دنا (4)
ولو لم يكن هذا لكانت دماؤنا ... تباح فيا أهل الوجود قد أعلمنا
نصحناكم عن إذن ربي وما بقى ... سوى أن تعوا ما قلته حين أفهمنا
أتينا بها بيضاء مثلي نقية ... عن الغرض النفسي حقا وبينا
وما أبتغي في ذاك أجرا ولا أرى ... عليه جزاء إن تزيدوا إذا زدنا
وراثة علم من شرائع رسله ... لنرجع فيه للإله إذا أبنا
فمن كان ذا علم وكشف محقّق ... إذا كان يدعو فليتب مثل ما تبنا (5)
__________
(1) الحكيم: صاحب الحكمة، وهي عندهم تعني معرفة الخالق تعالى بما له من صفات الكمال، ويرى أهل التصوف أن الطريق إلى المعرفة تكون بالرياضة التي توافق الشريعة.
(2) المجلى: واحد المجالي وهي مظاهر مفاتيح الغيوب.
(3) الذبيح: يعني إسماعيل النبي صلى الله عليه وسلم.
(4) الستر: كل ما يسترك عما يغنيك.
(5) الكشف: الاطلاع على ما وراء الحجاب من المعاني الغيبية والأمور الحقيقية.(1/326)
عليه مدار الأمر في كلّ مرسل ... فقلت لهم فابنوا على مثل ذا يبنى
لقد صدقت نفسي لكم في مقالها ... وو الله، خاضت ونحن فما خضنا
عليك بصدق القول في كل حالة ... ولا تتأوّل واتخذه لكم حصنا
ولا تعجز الحق الذي هو قادر ... وكن كالذي قال الإله لهم عنا
فقد بان في شخص جليل مقامه ... وأثر فيه بالذي كان أعلمنا
حياء وتعظيما له وترفقا ... وعاد علينا قوله فتضرّرنا
عليه صلاة الله ما ذرّ شارق ... وما ناح للشرب الحمام وما غنى
وقال أيضا:
سبحان من صار لنا مطلبا ... أطلبه شرّق أم غرّبا
فباطني صيّره مشرقا ... وظاهري صيره مغربا
وقال لي الكل أنا فاطلبوا ... على الذي صيّره مطلبا
فاهتم قلبي للذي قال لي ... فأنشأ الحقّ لنا مركبا
ركبت فيه هربا أبتغي ... نجاتنا فلم أجد مهربا
أطلبه بالكشف من ذاتنا ... وذاتنا أطلبها مطنبا
فكشفنا قوّض بنيانه ... والفكر في أنفسنا طنبا
أخبرني أحمد عن كشفه ... في أول الحال زمان الصبى
بأنه أبصر في نومه ... أملاك عيسى مثل رجل الدبى
يوم خروجي طالبا مكة ... ويثربا ومسجدا في قبا
قالوا نزلنا رسلا حفظا ... ختم النبي المصطفى المجتبى
محمد فليقصد واقصده ... فسيفه في صدقه ما نبا (1)
وسهمه فيما رمى نافذ ... وطرفه في شأوه ما كبا (2)
قد عرض الحقّ عليه الذي ... في ملكه ولاية فأبى
إلا خمول الذكر حتى يرى ... كأنه المختار في المحتبى
ونحن أنصار له إن بدا ... يحارب الأقرب فالأقربا
كذلك الريح له سخرت ... ريح جنوب بعد ريح الصّبا (3)
وراثة علوية نالها ... من أحمد خير الورى منصبا (4)
__________
(1) نبا السيف: كلّ.
(2) الشأو: المسافة والسّبق. كبا: وقع.
(3) الصّبا: ريح مهبها من مطلع الثريا إلى بنات نعش.
(4) خير الورى: خير الخلق أي النبي صلى الله عليه وسلم.(1/327)
وهذه البشرى أتانا بها ... مجرب في الصدق لن يكذبا
وقال أيضا:
إنّ الذي هيمني حسنه ... من الذي هام ولا تدري
في سورة الأعلى وأمثالها ... كالفجر والليل إذا يسري
سبحان من جل فما مثله ... من أحد إلا الذي أدرى
في سورة الشورى أتى ذكره ... وإنه الآن على ذكرى
قد جاء حقا بالصفات التي ... تزيد في العدّ عن العشر
تحمل عرش الذات من ذاتها ... وما لها عين سوى سرّي (1)
بها وجودي وبها كنته ... لذاك تجري بي عن أمري
لا تنظروني غيره إنني ... هوية الحقّ بلا ستر (2)
فليس في العالم من مفصل ... إلا وفيه علم الذكر
فتصب يعرفه من له ... في ذاته منزلة الشكر
له مزيد العلم من شكره ... يستره ما فيه من كفر
وليس بالكفر الذي ذقته ... من قرّر الإنسان في خسر
بأصله ثم أتى شارحا ... مفرعا بالحقّ والصبر
بذا أتى النص الذي قاله ... لخلقه في محكم الذكر
فمن يرد يمتاز في أهله ... فليمش بالحال على أثري
فإنه الحقّ الذي قال لي ... انصح عبادي وامتثل أمري
بمكة في حالة تقتضي ... في وقتها القبض من العفر
وفي دمشق قال لي مثله ... في مرة أخرى على سرّي
فقلت يا رب أعني على ... ما قلت لي فقال بالنصر
فلم يزل في نصرتي قائما ... في كلّ حال دائم البشر
وقال تمم ما بدأتم به ... من الفتوحات على قدر
على لسان المصطفى أحمد ... ولم ينب عني في العذر
فإن فيها سببا مقلقا ... يضيق من إيراده صدري
فقال لي لا تلتفت إنني ... مزيل ما تخشى من الضرّ
__________
(1) العرش: جرم سماوي وهو أعظم مخلوقات الله تعالى، ويرون فيه مظهر العظمة ومكانة التجلي، وهو الفلك المحيط بجميع الأفلاك المعنوية والصورية. السر: يريد النور الروحاني، وهو آلة النفس ومحل المشاهدة.
(2) الستر: كل ما يسترك عما يغنيك، وقيل غطاء الكون.(1/328)
أيّدك الله فكن آمنا ... ولا يكن قلبك في ذعر
فقمت بالعلم لهم مفصحا ... مبينا في السرّ والجهر
أورده من غير كيل له ... كأنما آخذ من بحر
لو أنه ينظر في قوله ... إنّ إليه مرجع الأمر
رأى وجود الحق عين الذي ... يطلبه في وحدة الكثر
لو أنه يعرف أحواله ... ما ميّز الخير من الشرّ
ليس له الشرّ فإنّ الذي ... سمي شرّا عدم فادر
بيده الخير فقل كالذي ... يقول فيه صاحب السبر
فإنه الخير كما قال لي ... من قال بالباع وبالشبر
فاعبد إله السرّ مستسلما ... ولا تكفر صاحب الفكر
وقال أيضا:
أقول بأني واحد بوجودي ... وإني كثير في الوجود بجودي
لنا ألسن بالجود والكرم الذي ... ورثناه من آبائنا وجدودي
تميز ربي عن وجودي بحدّنا ... وجد إلهي إن نظرت جدودي
ولا حدّ لله العظيم فإنه ... نزيه وتنزيه الإله حدودي
وإني في خلق جديد بصورتي ... ولست بخلق للحديث جديد
تفكرت في قول جديد فلم أجد ... سواه وإنّ الله غير جديد
وأعلم أني في مزيد بجوده ... لأني شكور لا بشكر مزيد
ولولا امتثال الأمر ما قلت هكذا ... فعين دعائي للوفا بعهودي
عقدت مع الله الكريم بأنه ... هو الربّ لي في غيبتي وشهودي (1)
وما زال هذا حالتي وعقيدتي ... فميزني فيمن وفي بعهودي
لساني كلام الحقّ فالقول قوله ... أنوب به عن أمره وشهيدي
عليه كلام جاء من عنده بنا ... أنا قائم في قومتي وسجودي
تنزهت أن أحظى ويحظى بنا وقد ... علمت بأني عنه غير بعيد
تمنيت من ربي وجودا مكملا ... فقال: وجود الكون عين وجودي (2)
أقسم ما بين المراد حقيقته ... لمن ليس يدريها وبين مريد
وما وقع التقسيم فيها وإنه ... لمعنى يراه الناظرون سديد
__________
(1) الشهود: أن يرى حظوظ نفسه، وتقابله الغيبة.
(2) العين: إشارة إلى ذات الشيء الذي تبدو منه الأشياء.(1/329)
كما قسّم الله الصلاة بحكمة ... لنا بين سادات وبين عبيد
وقال أيضا:
إليك أبيت اللعن قطع المناهل ... على الناقة الكوماء من أرض بابل (1)
فمن كره الأشجار يكره أرضها ... وليس بغير الحقّ كوني بقابل
وما جبت إلا عن أوامر صادق ... يقول لي ارحل عن مكان الأباطل
فأنت لنا ركن شديد مشيّد ... إليك استناد الخلق عند النوازل
لقد قال فيك الحاسدون مقالة ... ولم يخل منها قائلوها بطائل
لكم سجدت تيجان كلّ مملك ... ومن دونهم من سادة وأقاول
لقد جئت للإسلام بشرى ورحمة ... وللعالم الأدنى وراثة كامل
بكم نال أهل الفضل كلّ فضيلة ... وإن جهلوا فالحقّ ليس بجاهل
تحلى بها من كان بالحقّ مؤمنا ... وما الناس إلا بين حال وعاطل
وقال أيضا:
منازل القرآن لا تعلم ... إلا من الله الذي يعلم
منازل ترجمها قوله ... لسمع فهمي ولذا افهم
فإن وعاها سمع أذني فلا ... أفهم ما قال ولا أعلم
كأنما أذني وسمعي إذا ... شبهت شمس الصحو والأزمم (2)
وإن تعاليت له فليقل ... شمس الضحى تشرق والأنجم
لو أنّ غير الحقّ يأتي بها ... ما علم القوم ولا استفهموا
وإنما جاء بها مرسل ... كأنه هو والورى نوّم (3)
سبحان من يعلم ما عنده ... وعندكم وكله منكم
إلا الذي يختص من ذاته ... لذاته فما لنا نحلم
عليه فيه إنه واحد ... لا نسب فيه فلا يقسم
وإنما كلامنا في الذي ... منه إلينا وله منهم
من نسب تظهر آثارها ... يقبلها الطائع والمجرم
وليس يأتي الأمر من فصه ... إلا الشخيص الحادث الأقدم
الكامل القرآن وهو الذي ... مقامه في الناس لا يعلم
__________
(1) الناقة الكوماء: الناقة العظيمة السّنام. بابل: موضع بالعراق.
(2) الشمس: يعني النور. والصحو: يعني رجوع العارف إلى الإحساس بعد غيبته وزوال إحساسه.
(3) الورى: الخلق.(1/330)
الكامل القرآن فاحكم له ... بكلّ علم ما هو الأعلم
وإنما الأعلم من سرّه ... يبدو إلى الناس ولا يكتم
يدور في أعلامه عرشه ... على ثمان سرّها مبهم (1)
حمالة للعرش تدرونها ... وبعدها عشرون لا تعلم
إلا إذا تضربها أربعا ... في سبعة هناك يستلزم
خارجها وإن تشأ أربعا ... في خمسة وهو الذي ارسم
أقول تعظيما لإجلاله ... سبحان من يعلم إذ نعلم
الحمد الله الذي قالها ... معلما عباده يمموا
إذا بدأتم فبها فابدأوا ... ثم بها من بعد ذا فاختموا
فإنها تملأ ميزانكم ... بذا أتى نصّ الذي يعلم
وهكذا يعطى مقاما وفي ... صحيحه جاء بها مسلم
تعبد الناس لما عندهم ... من فقر الدينار والدرهم
هما التواقيع التي أبرزت ... من حضرة الحقّ فلا تندموا
من أجل ذا خرّ لها ساجدا ... من يتقي الله ومن يظلم
يعذب الله بها عبده ... إذا يشاء وبها يرحم
درى بهذا السامري الذي ... صيّره عجلا لهم منهم (2)
حتى إذا ما جاء موسى انتفى ... في نفسه مما أتى عنهم
وجاء عيسى للذي قاله ... مصدّقا تعضده مريم
جلّ إله الخلق عن خلقه ... وهو بهم كان وقد جمجموا (3)
قلت لهم بالله لا تفضحوا ... ولتعربوا الأمر ولا تعجبوا
هي الإضافات فلا تكفروا ... بها وقولوا الحقّ واستعصموا
فإنها الحقّ ولكنه ... ما كلّ شخص سرّها يفهم
تصامم الناس لشخص أتى ... مقرّرا أسرارها يفهم
لو بادر الناس إليه لقد ... أحياهم فإنه أعلم
__________
(1) صدى لقوله تعالى: {وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمََانِيَةٌ} سورة الحاقة آية: 17. ويريد حملة العرش من الملائكة.
(2) السامري: الذي عبد العجل، وكان عظيما من بني إسرائيل.
(3) جمجم: لم يبيّن كلامه.(1/331)
وقال أيضا:
الحمد لله جلّ الله من خالق ... وهو العليم بنا ألفاتق الراتق (1)
قد ضمّ شملي به إذ كنت في عدم ... لا علم عندي بمخلوق ولا خالق
حتى إذا برزت بالكون أعيننا ... علمت بالكون قطعا أنه الخالق
وإنه واحد ولا شريك له ... إلا القبول فأنى فيه بالصادق
والله لو علموا ما قلته سجدوا ... لكلّ ذي نظر في علمه فائق
سراب مجلاه في إنسان ناظرهم ... ماء يموّجه أنواره غارق
سراب أحبابه على اختلافهم ... في الحب فيه شراب صفوه رائق
شرب إذا نادموه في مجالسهم ... بما تلاه عليهم كلهم ناطق
لا ينظرون إلى غير فيحجبهم ... ويحذرون لديه فجأة الغاسق
وكلهم في جمال الله حين بدا ... للناظرين إليه الهائم العاشق (2)
لو حققوا ما رأوه لم يروه سوى ... لهم ولكنهم أعماهم الطارق
وكادهم فنفوا عنه نفوسهم ... وهكذا جاءهم في سورة الطارق
إنّ الذي فلق الإصباح قال لنا ... بأنه للنوى والحبّ بالفالق (3)
أين الصباح وأين الحب فاعتبروا ... فشمس إعلامه في شرقه شارق
إنّ الصباح من أجل العين أبرزه ... والحبّ للروح فانظر حالة الفارق
فالحبّ أشرف من عين الصباح فكن ... بما أتيت به لفهمك الواثق
لذاك قدّمه على الصباح فإن ... تعدل به فلقا فلست بالصادق
إنّ الصباح قديم للنوى وكذا ... للحبّ وهو لهذا الهائم الرامق (4)
روح تولّد عن حبّ تولّد عن ... نور تولّد عن عناية الرازق
الله يخلفه والله يخلفه ... لذا هو الدهر من أسمائه الفائق
لقد ضممت إلى حسن العبارة من ... حسن المعاني علوم المصطفى السابق
إن لم أكن سابقا في كلّ ما نطقت ... به التراجم كنت المقتفي اللاحق
إني لأقذف بالحقّ المبين على ... ما كان من باطل ليمسي الزاهق
وقال أيضا:
ليس لعين الحقّ في خلقه ... إذا بدا بي مثل يضرب
__________
(1) الفتق: الشق. والرتق: ضد الفتق.
(2) العشق: أقصى درجات المحبة.
(3) صدى لقوله تعالى: {إِنَّ اللََّهَ فََالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوى ََ} سورة الأنعام، آية: 95.
(4) النوى: البعد. رمقه: لحظه.(1/332)
فإن بالغير يكون الذي ... يضربه الأقرب فالأقرب
والغير ما ثم فلا تضربن ... فإنه الضارب والمضرب
وقد أتى عنه الذي قاله ال ... أمثال لله فلا تضربوا
فإنه يعلم والخلق لا ... تعلم ما ثم وذا أعجب
لو أنه يدركه خلقه ... لم يك بالربّ الذي يطلب
إذا علمتم أنه هكذا ... فقصّروا في ذاك أو طنّبوا
ما عندنا منه سوى ذاتنا ... وذاتنا تكفي فلا ترغبوا
عنها وجولوا في ميادينها ... فإنها الميدان والملعب
مأدبة الحقّ لنا كوننا ... فكوننا المأكل والمشرب
كما هو الطالب والمطلب ... كذا هو الذاهب والمذهب
وقال أيضا:
إذا أنت أبصرت الوجود مثالا ... تصرّفت فيه يمنة وشمالا
فأنزلته بالعلم أرضا أريضة ... وأطلعته بدرا وكان هلالا
وأعليته في الرأس تاجا مكلالا ... وقد كان في رجل الزمان نعالا
وحزت به الأكوان شرقا ومغربا ... وما بينهن قبلة وشمالا
وكم قد رأينا فيه نقصا محققا ... فلما أتيناه رأيت كمالا
وكم قد سألت الله فيه إجابة ... وكم قد أجبت الله فيه سؤالا
لقد طلعت شمسي عليه وعندها ... مددت له في العالمين ظلالا (1)
وقال أيضا:
إذا وصف الشرع المبين إلها ... فذاك الإله الحقّ ليس يضاهى
ودع عنك أفكارا تنازع حكمة ... فآلهة الأفكار لا تتناهى (2)
وقد بلغت نفسي إذا هي أنصفت ... وقالت بقول الشرع فيه مناها
فيا قارىء القرآن شرعك فالتزم ... فما آية إلا يزيد رضاها
وما طعمة الأفكار إلا تغصص ... إذا هي لم تبلغ لديه أناها
وقال أيضا:
يا قرّة العين يا مدى أملي ... لا أوحش الله من محياكا
أقول من بعد ذا لمجدكم ... حياك ربّ الورى وبيّاكا
__________
(1) الشمس: أي النور، وهي نقطة الأسرار ودائرة الأنوار.
(2) آلهة الأفكار: يعني حيرتها.(1/333)
فما يسرّ الجميع من كلم ... إلا إذا يسروا بمحياكا
أقول في النجم والظهير لكم ... أبقاك ربي لنا وأحياكا
وقال أيضا:
يدل الجزؤ من مضمون كوني ... على ما دلّ كلّي من وجوده
فيشهدني وأشهده بنفسي ... فأفنى عن وجودي من شهوده (1)
ولولا أن يقال صبا لأمر ... لقلت صدورنا من عين جوده (2)
يراه العارف الخرّيت ليلا ... بأجواز المفازة عين بيده (3)
يراه النائم اليقظان كشفا ... كرؤية ذي التهجد في هجوده (4)
يراه الحائرون بلا دليل ... كرؤية ذي المقاصد في قصوده
يراه ناظم المرجان فيه ... من أسماء له سلكا بجيده
يراه ناظم الألفاظ بيتا ... هو الروح المؤيد في قصيده
يراه ناظم الأحجار عقدا ... وذاك العقد من اسنى عقوده
قرأت بعقده أجياد دهر ... به أخذ الشهادة في عقوده
له التسبيح والفرقان فيه ... يميزه ركوعك مع سجوده
وحاذر أن تمازج بين ربّ ... وبين من اصطفاهم من عبيده
يراه مطلقا من كان أعمى ... كرؤية ذي البصيرة في قيوده
فذاك الفيلسوف بغير حدّ ... وهذا الأشعريّ على حدوده (5)
وكلهم رهين الحبس فيه ... بجعل العقل ذلك من صيوده
على الإنصاف آمنهم شخيص ... طليق ليس يرسف في قيوده (6)
وهم أجناده وظهور ملك ... مطاع إنما هو من جنوده
بذا سعدوا وحازوا الأمن منه ... وإن تعبوا المآل إلى سعوده
لذا سبقت إلى الغايات رحمتي ... وحازتها بمنزلتي سعوده
__________
(1) الشهود: أن يرى حظوظ نفسه، وتقابله الغيبة. الفناء: سقوط الأوصاف المذمومة، وقيل غير ذلك.
(2) صبا: رغب ومال إلى. العين: إشارة إلى ذات الشيء الذي تبدو منه الأشياء.
(3) العارف: قيل: هو من أشهده الرب عليه فظهرت الأحوال عن نفسه والمعرفة حاله. الخرّيت: الدليل الحاذق. المفازة: الفلاة.
(4) الكشف: الاطلاع على ما وراء الحجاب من المعاني الغيبية والأمور الحقيقية. الهجود: النوم.
(5) الفيلسوف: هو من يزعم بأنه يعبد الله من حيث أسماؤه ومن حيث كان حقيقة الوجود. الأشعري: أبو الحسن الأشعري المتكلم الذي رد مقالات الفلاسفة في قدم العالم والقول بخلق الأفعال.
(6) يرسف: يمشي متثاقلا بقيوده.(1/334)
فحلت في الجنان وفي جحيم ... وإن كانا لنا داري خلوده
فاخبئه ليستر في جحيم ... من الآلام أنسى من جحوده
فلو لزموا الحقائق لم يكونوا ... كمنكر ما رآه لذي وروده
تجلّى للبصائر من بعيد ... تجليه كمن هو في وريده
وأطلعه على ما كان منه ... من الشكر العميم على مزيده
تراه عند وصل العين منه ... بذاتك مثل فصلك في شروده
فلا تطلب من الرحمن عهدا ... فيسألك المهيمن عن عهوده
وسالمه تكن عبدا سؤوسا ... وتظفر بالزيادة في شهوده (1)
وقال أيضا:
ورثت محمدا فورثت كلا ... ولو غيرا ورثت ورثت جزءا
حصلت على معارف مفردات ... ولم أر لي بعلم الله كفؤا (2)
لذلك ما اتخذت كلام ربي ... ولا آياته إذ جئن هزؤا
فاقبلت النفوس إليّ عددا ... وقد أنشأتها للعين نشأ
لقد أخرجت من فلك وأرض ... من العلم الإلهي لهنّ خبأ
ولولانا لكان الخلق عميا ... وبكما دائما عودا وبدءا
بنا فتح الإله عيون قوم ... قربن ومن نأى منهنّ ينأى
وورثناهم بالعلم فضلا ... فكانوا زينة خلقا ومرأى
وكنا في المصيف لهم نسيما ... كما كنا لهم في البرد دفأ
وضعنا عن ظهور القوم إصرا ... وما حملت ظهور القوم عبأ (3)
لاني رحمة نزلت عليهم ... كآنية بماء الغيث ملأى
فأروينا نفوسا عاطشات ... فلم تر بعد هذا الشرب ظمأى
وقال أيضا:
ألا الغم صباحا أيها الوارد الذي ... أتانا فحيانا من الحضرة الزّلفى (4)
فقلت له أهلا وسهلا ومرحبا ... بوارد بشرى جاء من مورد أصفى
فقال: سلام عندنا وتحية ... عليكم وتسليم من الغادة الهيفا
__________
(1) الشهود: أن يرى حظوظ نفسه.
(2) المعارف: صفة من عرف الحق سبحانه بأسمائه وصفاته.
(3) الإصر: الثقل.
(4) الزّلفى: القربة.(1/335)
من اللاء لم يحجبن إلا بقيته ... فقلت له القنوى فقال هي الذلفا (1)
لقد طلعت في العين بدرا مكملا ... وفي جيدنا عقدا وفي ساعدي وقفا (2)
فقلت لها: من أنت؟ قالت: جهلتني ... أنا نفسك الغرّا تجلّت لكم لطفا (3)
فاعرضت عنها كي أفوز بقربها ... وطأطأت رأسي ما رفعت لها طرفا
وقد شغفت حبا بذاتي وما درت ... وقد ملئت تيها وقد حشيت ظرفا
وثارت جياد الريح جودا وهمة ... وما سبقت ريحا تهبّ ولا طرفا
وجاء الإله الحقّ للفصل والقضا ... على الكشف والأملاك صفا له صفا
عن الحكم عن أعياننا وهو علمه ... وما غادروا مما علمت به حرفا (4)
لذلك كانت حجة الله تعتلي ... على الخصم شرعا أو مشاهدة كشفا (5)
وهبّ نسيم القرب من جانب الحمى ... فأهدى لنا من نشر عنبره عرفا (6)
حبست على من كان مني كأنه ... فؤادي وأعضائي لشغلي به وقفا
وما برحت أرساله في وجودنا ... على حضرتي تترى بما أرسلت عرفا
وأرواحه تزجي سحائب علمه ... إلى خلدي قصدا فيعصفها عصفا
يشف لها برق بإنسان ناظري ... وميض سناه كاد يخطفه خطفا (7)
ويعقبه صوت الرعود مسبحا ... ليزجرها رحمي فيقصفها قصفا
يخرج ودق الغيث من خلل بها ... فتصبح أرض الله كالروضة الأنفا (8)
شممت لها ريحا بأعلام راية ... كريّا حمياها إذا شربت صرفا
ولما تدانت للقطاف غصونها ... تناولت منها كالنبيّ لهم قطفا
ولما تذكرت الرسول وفعله ... على مثل هذا لم أزل أطلب الحلفا
وراثة من أحيى به الله قلبه ... ولو كنت كنت الوارث الخلف الخلفا
ألا إنني أرجو زوال غوايتي ... وأرجو من الله الهداية والعطفا
إذا ما بدا لي الوجه في عين حيرتي ... قررت بها عينا وكنت بها الأحفى
__________
(1) الذّلفاء: صغيرة الأنف. القنواء: من كان في أنفها ارتفاع في أعلاه واحد يداب في وسطه.
(2) العقد: عقد السر، وهو ما يعتقد العبد بقلبه بينه وبين الله تعالى أن يفعل كذا أو لا يفعل كذا.
(3) لطف: يريد تأييد الحق ببقاء السرور ودوام المشاهدة واستقراء الحال في درجة الاستقامة.
(4) الأعيان الثابتة: حقائق الممكنات في علم الحق تعالى.
(5) الكشف: الاطلاع على ما وراء الحجاب من المعاني الغيبية والأمور الحقيقية المشاهدة: تعني المحاضرة والمداناة. وقيل: هي رؤية الحق ببصر القلب من غير شبهة.
(6) العرف: الرائحة العطرة.
(7) السّنا: الضوء.
(8) الودق: المطر. الروضة الأنف: التي لم ترع.(1/336)
تبين علامات لها عند ذي حجى ... وأعلامها بين المقامات لا تخفى (1)
وقال أيضا لسبب خفي:
لكلّ شخص منزل يمتاز به ... فلا تبال فالأمور تشتبه
أنت بما ترمى به نفوسنا ... من الذي تدري به يصاب به
فإنه لا فعل للعبد الذي ... أثبتة عين الوجود المشتبه (2)
وليس يدري علم ما جئت به ... إلا خبير ذو مذاق منتبه
فقيل له في ذلك ما قيل فأجاب فقال: فإذا كنت معي أنت معي ... وإذا ما لم تكن لست معي
فلتع الأمر الذي جئت به ... يا حبيب القلب حقا فلتع
أنا إلّا واحد العصر به ... ما أنا فيه شخيص مدّعي
فخذ الأمر الذي تعرفه ... من وجودي ثم إن شئت دع
ما أنا غير ولا أعرفه ... للذي قلت له أنت معي
قلت للنفس وقد قيل لها ... مثل ما قيل من ألعب وأرتع
ما سمعتم ما جرى من خبر ... منهم بالله يا نفس اسمعي
واحذر المنكر الذي تعرفه ... إذ تحليت به لا تخدع
لست أبكي لفراق أبدا ... لشهودي حالة من موضعي
فحبيبي نصب عيني أبدا ... فسواء غاب أو كان معي
جل أمري أنّ عيني معه ... أينما كان فطب واستمع
ومن هذا السرّ أيضا نبوى:
فكم دعوتك يا عيني ولم تجب ... خابت سهام دعائي فيك لم تصب
شغلت عني بأمر أنت تعرفه ... ولا تظنّ بنا شيئا من الريب
رميت حب قبول في حبالتكم ... فصدت والله يا عيني ولم تخب
فاهنأ فديتك صيادا أظفرت بما ... تريده من فتى من سادة نجب
ومن ذلك لزومية نبويّة:
ليس التعجب من شخص وعى فدعا ... إنّ التعجب من شخص وعى فسمع
__________
(1) ذو الحجى: العاقل.
(2) العين: إشارة إلى ذات الشيء الذي تبدو منه الأشياء الوجود: فقدان العبد بمحاق أوصاف البشرية ووجود الحق.(1/337)
إذا أجاب علمنا أنه رجل ... لما دعا ضامنا لمن دعاه طمع
فقل له ما الذي سمعت منه يقل ... ما قلته إنه برق لديه لمع
ومن ذلك نبويّة:
لبيك لبيك من واع ومن داع ... لبرء ما بي من أمراض وأوجاع
دعوتني بلسان الحقّ تطلبني ... إني لما قد دعوت السامع الواعي
دعوتني وضمنتم ما أسرّ به ... إذا أجبت فما خيبت أطماعي
لا تفرحنّ بشيء لست تعرفه ... إنّ الهوية في المدعوّ والداعي
به سمعت كما به نطقت لذا ... قد قام فينا مقام الحافظ الراعي
أنا له تابع ما دام يطلبني ... كما أكون إذا أدعو من أتباعي
وليس من شيعي حتى أفوز به ... وإنه حين أدعوه من أشياعي
لذا ينزل في ألطاف حكمته ... من الذراع على التقريب والباع (1)
فقد تقدّر والمقدار ليس له ... وهو الصدوق فقد حيرت أسماعي
أين العماء ومن حبل الوريد أتى ... في قربه وإذا ما كنت بالساعي (2)
يأتي إليّ كما قد قال هرولة ... والفرق يعلم بين المدّ والصاع (3)
إنّ التنزه والتشبيه ملحمة ... وتلك خيري الذي أدري وأقطاعي
ما قلت إلا الذي قال الإله لنا ... في نعته من مقالات وأوضاع
لما أتيت به سوق الكلام أبى ... وقال ليس بضاعاتي وأمتاعي
إلا المحدّث والصوفيّ فاجتمعا ... والمؤمون وهذا علم اجماعي
إن العقول لها حدّ يصرّفها ... وليس يعرف منه علم إبداع
إني أذعت لك العلم الغريب وما ... أنا بصاحب إفشاء وإيذاع
إني وجدت الذي بالسير أطلبه ... سير الحقائق في سبتي وإيضاعي
وقال أيضا:
تجمل لمن قال الرسول بأنه ... يحبّ الجمال الكل فهو جميل
فذلكم الله النزيه جماله ... عن الغرض النفسيّ فهو جليل
تعالى جمال الله عن كلّ ناظر ... إليه فطرف المحدثات كليل (4)
__________
(1) الباع: قدر مد اليدين.
(2) العماء: قيل: هو ذات محض لا تتصف بالحقية ولا بالخلقية.
(3) الصاع: مكيال. والمد: مكيال، ويعدل الصاع أربعة أمداد.
(4) كليل: ضعيف.(1/338)
فليس له من كلّ وجه مماثل ... وليس له في المحدثات عديل
سوى من بدا بالكاف في قوله لنا ... بترجمة الشورى فليس يزول
لقد جهدت نفسي بأنك عينه ... فتسرح في أرض الهوى وتجول
يطالبني الأنت الذي عين الأنا ... وما لي سوى هذا عليه دليل
تجول براهين النهى في مجالها ... وأوّل شخص جال فيه جليل (1)
علمت بأنّ الأمر بيني وبينه ... وإن الذي يدري به لقليل
وإن كان لي وجه يكون هويتي ... به عينه جاء المحال يقول
تثبت فليس الأمر فيه كما ترى ... فعما قليل ينقضي ويحول
فقلت له مهلا عليّ فإنني ... علمت به والعارفون نزول (2)
عليه من الأكوان في كلّ جحفل ... له في مجرّات الشهود ذيول (3)
وقال أيضا:
إليك أتيت يا مولاي قصدا ... على شدنيّة سبتا ووجدا (4)
وفيك تركت ما لا كنت فيه ... أصرّفه وأحبابا وولدا
تميزت الأمور إذا ابينت ... لذي عينين برهانا وحدّا
إذا ما البعد آل إلى اقتراب ... فبعد الحدّ ما ينفك بعدا (5)
نظمت قوافي الألفاظ لما ... أردت مديحكم عقدا فعقدا
فقامت نشأة حسنا لعين ... وزهرا في الرياض شذا وملدا (6)
وقال أيضا:
النقص في العبد ذاتيّ وإنّ له ... وقتا كمالا ولكن فيه بالغرض
العبد لابدّ منه فهو يطلبه ... وإنه صاحب الآفات والمرض
اعراضه بوجود النقص شاهدة ... وما نرى أحدا ينفك عن عرض
وقد ينال الذي يهوى ويحرمه ... وقتا فيبصره يصبر على مضض
__________
(1) النّهى: العقل. المجالي: هي مظاهر مفاتيح الغيوب التي انفتحت بها مغالق الأبواب المسدودة بين ظاهر الوجود وباطنه.
(2) العارف: قيل هو من أشهده الرب عليه فظهرت الأحوال عن نفسه.
(3) الشهود: أن يرى حظوظ نفسه. والجحفل: الجيش الجرار.
(4) الشدنية من الإبل: منسوبة إلى اليمن أو إلى فحل. السبت: الراحة.
الوجد: خشوع الروح عند مطالعة سر الحق.
(5) آل: صار إلى.
(6) الشذا: الرائحة العطرة. الملد: الناعم الليّن من الناس والغصون.(1/339)
فقل لعقلك قد أفهمت صورته ... فقم على قدم التحقيق وانتهض
إلى لمقام الذي ما عنده عرض ... أيضا ويعصمه من علة الحرض (1)
فإن تيسّر مطلوبي ظفرت به ... وإن تعذر تعلم أنّ ذاك قضي
فالعبد عبد متى أعطاه سرّ به ... ما كان يسأله وإن أبى فرضي
ولا يغرّنك أحوال فحالتها ... كالبرق يظلم جوّ كان منه يضي
قد يعلم العبد من حال القبول إذا ... رآه أنّ وجود الفعل منه رضي
السقم للعبد حكم لا يزايله ... فلا يزال مع الأنفاس ذا مرض
وقال أيضا:
لولا لبانة موسى النور ما انقلبا ... نارا وما أحرقت نبتا وما التهبا
فاحذر فديتك إنّ الأمر ذو خدع ... يريك مضطجعا من كان منتصبا
لقد تحوّل للرائين في صور ... شتى وما صدق الرائي وما كذبا
كقوله ما رمى من قد رمى ومضى ... في أفقه طالعا لقطا وما غربا
وظلّ يطلبه في كلّ شارقة ... بيضاء من حرق عليه ملتهبا
ليس التعجب من خير نعمت به ... لكنه من عذاب فيه قد عذبا
إنّ المعارف أنوار مخبرة ... من عنده تخرق الأستار والحجبا (2)
إنّ اللبيب كذي القرنين شيمته ... ما ينقضي سبب إلا ابتغى سببا (3)
إذا انتهى حكمه في نفس صاحبه ... يريك في كونه من أمره عجبا
فتبصر الفضة البيضاء خالصة ... عادت بصنعة المثلى لنا ذهبا
كما يصيرّ عين الشمس في نظري ... من أيمن الطور في واد به لهبا (4)
لقد تحوّل لي من عين صورته ... بغير صورته فيما به ذهبا (5)
__________
(1) الحرض: الفساد في البدن وفي المذهب وفي العقل.
(2) المعرفة: صفة من عرف الحق سبحانه بأسمائه وصفاته. الحجاب: حائل يحول بين الشيء المطلوب المقصود وبين طالبه وقاصده.
(3) ذو القرنين: رجل صالح طوى له الله الأرض فبلغ قطريها، وسمي بذي القرنين كذلك، أو لضفيرتين كانتا له. وقد قال تعالى: {إِنََّا مَكَّنََّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْنََاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً} سورة الكهف، آية: 84.
(4) الطور: جبل قرب أيلة يضاف إلى سيناء وسينين.
(5) الصورة: قيل: الصورة في طور الحقيق الكشفي علوية وسفلية، والعلوية حقيقية وإضافية، والحقيقية هي صور الأسماء الربوبية والحقائق الوجوبية والإضافية هي حقائق الأرواح العقلية المهيمنية والنفسية.
أما السفلية فمنها صور عالم الأجسام غير العنصرية كالعرش والكرسي. ومنها صور العناصر والعنصريات كالصور الهوائية والنارية، ومنها الصور السفلية الحقيقية وهي ثلاث: صور معدنية وصور نباتية وصور حيوانية.(1/340)
فكنت أطلبه والعين تشهده ... ولست أعرفه لما به احتجبا
فقلت هذا أنا فقال ها أنا ذا ... فقلت من قال لي لا تترك الطبا
والله لو نظرت عيناك من نظرت ... لما رأت غيرنا فلتلزم الأدبا
ولست تنظره إلا بنا فعسى ... تقول حال عليه النوم قد غلبا
حديث نفسي بنفسي والحديث أنا ... كالفرد يضربه فيه الذي ضربا
فلا تضاعفه ولا تعدّده ... لأنه عينه أكرم به نسبا
وقال أيضا:
لبيك لبيك من داع بإجماع ... والكلّ أنت فأنت السامع الداعي
فلم يلبك مني غير كونكم ... أنت اللسان بلا خلف باجماع
قد صحّ عنك من الأخبار ما نطقت ... به التراجم عند الحافظ الواعي
ما إن ذكرتك في نفسي وفي ملأ ... إلا وكان شفاء لي من أوجاعي
لم يقص عنك الذي قد صحّ من خبر ... رويته من حديث الشبر والباع (1)
لقد تحققته ذوقا ومعرفة ... من غير شكّ ولا قول بإقناع
درّت لبون مواشيه على جلدي ... بكلّ مرعى وإنّ الرعي للراعي
ولو طمعت بكوني فيّ دونكم ... خابت لديّ على التحقيق أطماعي (2)
أنت اللسان وأنت الرّجل أسعى بها ... ولا أقول بأنّ الناطق الساعي
وأنت لي بصر إذ أبصرت به ... وأنت سمعي فخذ فضلا بأسماعي
نطقا يحققني بمنا يوفقني ... وليس يلحقني في الفهم اتباعي
بشرى أسرّ بها إني من أهم ملكم ... ولا يطمنه زجري وإرداعي
إني لأشهدكم وأنت تشهد لي ... بذاك في الجبل الراسي وفي القاع (3)
أنت العليم الذي قسمت اقفزة ... حبّ العقول فمن مدّ ومن صاع (4)
أمري ظفرت بها في وقت قسمتها ... وما جعلت لها حظا من اقطاعي
أقطاعنا هي أسماء الإله بها ... عين النجاة لأبصاري وأسماعي
ولا خطوت إلى ما ليس لي قدما ... في حال وتر ولا في حال إشفاع
لذاك ما وردت في حقنا كتب ... منه تؤدّي إلى ردع واقماع
__________
(1) الباع: قدر مد اليدين.
(2) التحقيق: ظهور الحق في صور الأسماء الإلهية، وقيل: هو تكلف العبد لاستدعاء الحقيقة جهده.
(3) القاع: أرض سهلة مطمئنة.
(4) المد: مكيال. الصاع: مكيال. والصاع: أربعة أمداد.(1/341)
أنصفته في الذي قد جاء يطلبنا ... بما تقرّر من سبق بإسراع
وقال أيضا:
إذا تحققت شيئا أنت تعلمه ... ساويت فيه جميع العالمين به
أقول هذا لأمر قد سمعت به ... عن واحد فطن للعلم منتبه
فقال ليس كما قالوه واعتقدوا ... فما لعالمنا العلّام من شبه
وذا لجهل بما قلناه قام به ... فليس في قولنا المذكور من شبه
هل نسبة الذهب الإبريز في شبه ... ما صاغه الصائغ العلّام من شبه
وقال أيضا يخاطب سرّه الوجودي:
عقلي به فوق عقل الناس كلهم ... فلست أفكر في شيء أقضيه
تصرّفي ليس عن فكر ولا نظر ... لكن عن الله يوحيه فأمضيه
الأمر بيني وبين السرّ منقسم ... بحاله فهو يرضيني وأرضيه (1)
فما يكون له من حادث قبلي ... يبغي تكوّنه إلا وأقضيه
فليس يمكنه إلا سياستنا ... وليس يمكننا إلا ترضيه
فكل ما هو فيه من مكانتنا ... وكلّ ما نحن فيه من مراضيه
وقال أيضا:
إله تعالى أن يرى ببصيرة ... ولا بصر والنص جاء بإبصار
وليس يرى شيء سواه وإنه ... على كلّ حال عين ذاتي ومقداري (2)
لذاك يسمى ظاهرا باطنا لنا ... لأثبت أو أنفي فالأسماء أبصاري (3)
فلا تجزعن فالأمر والشان واحد ... ولا تلتفت إلى يساري وإعساري
فإني عين الأمر إن كنت موسرا ... ولست له عينا بعسري وإقتاري
ألا إن عيني شاهد وشهادتي ... كذلك فيما صحّ فيه من أخباري
لقد أثبت الأرحام بيني وبينه ... وإنّ أولي الأرحام أوّلى بأقداري
أنا سجنه منه إذا كنت رحمة ... وإن لم تكن رحمتي فقد بعدت داري
ألا إنني جار لمن هو صورتي ... وقد جاء حقّ الجار فرض على الجار
فقد أثبت المثل الذي قد نفاه لي ... بليس وقد حارت لذلك أفكاري
__________
(1) السّر: لطيفة مودعة في القلب كالروح في البدن، ونور روحاني هو آلة النفس، وهو محل المشاهدة.
(2) العين: إشارة إلى ذات الشيء الذي تبدو منه الأشياء. ومطلق الذات: الأمر الذي تستند إليه الأسماء والصفات في عينها لا في وجودها.
(3) الظاهر: ظاهر العلم عبارة عن أعيان الممكنات. وظاهر الوجود عبارة عن تجليات الأسماء.(1/342)
إذا قلت: مثل قال: لا فأقول لا ... وإن قلت لا: أبقى رهينا بأوزاري
فما هو لي بعض ولا أنا كله ... وما ثم كلّ غير ما برأ الباري
ولما بدا خلقي بعيني رأيتني ... بأسمائه الحسنى وسبعة أسوار
وما أنا إلا جوده وجوده ... وإنّ الذي يبدو لعينك آثاري
تعالى بأن يحظى بغير وجوده ... وأين مع التحقيق عين لأغياري (1)
إذا قمت أثني والثناء كلامه ... فما أنا فيما قد حمدت بمكثار
إذا أبصرت عيني جمال وجوده ... أكون به في الحال صاحب أنوار
وإن لم أكن أبصر سواي فإنني ... لعالم وقتي بي وصاحب أسرار
ولكن متى ان دام بي ما ذكرته ... وذلك في التحقيق يثبت أضراري
وقال أيضا:
الشكر لله لا أبغي به عوضا ... بل شكرنا امتثال للذي فرضا
خلي لي الأمر في الأكوان أجمعها ... وغادر القلب مشغوفا به ومضى
فما رأيت بريقا في جوانبها ... إلا وكان هو البرق الذي ومضا
وآض عني الذي قد كان يحجبني ... لما رأى النور في آفاقهنّ أضا
لما سلكت سبيل الواصلين إلى ... بحر العماء رأيت الزاخرات أضا (2)
فقلت هل ثمّ بحر لا يكون له ... سيف فقالوا نعم هذا الذي اعترضا (3)
ما بيننا وهو من وجه يخيط بنا ... وما له غاية ولا عليه فضا
ونحن فيه كغرقى يسبحون به ... ولا يقاسون همّا لا ولا مضضا
بحر الثبوت الذي أبدى جزائره ... فيه ومنه بما قد شاءه وقضى
والناس سفر ولكن من جزائره ... إلى جزائره في شقوة ورضى
الاسم يوجدنا والذات تعدمنا ... فما ترى صحة إلا ترى مرضا (4)
إساتنا لم تكن إلا إساءتنا ... وهي الغذاء لمن قد صحّ أو مرضا
__________
(1) التحقيق: ظهور الحق في صور الأسماء الإلهية، وقيل هو تكلف العبد لاستدعاء الحقيقة جهده.
(2) الوصل والاتصال: قيل هو الانقطاع عما سوى الحق، وليس المقصود اتصال الذات بالذات. العماء:
قيل هو ذات محض لا تتصف بالحقية ولا بالخلقية.
(3) بحر بلا سيف أي: الحال الذي يختص الله به عبده، من التعظيم وخالص الذكر له والانقطاع إليه لا نهاية لها ولا انقطاع.
(4) الاسم: عبارة عن حروف جعلت لاستدلال المسمّى بالتسمية على إثبات المسمّى. الذات مطلقا: الأمر الذي تستند إليه الأسماء والصفات في عينها لا في وجودها. وذات الباري موجود محض، وذات المخلوقات موجود ملحق بالعدم، هكذا قالوا.(1/343)
بها بدا عفوه عنا ورحمته ... ومن يقوم به إحسانه نهضا
إلى الوجود الذي ما عنده عدم ... وهو الذي حصّل المأمول والغرضا
شخصا سويا وقد سماه لي بشرا ... من المباشرة الزّلفى التي انتهضا (1)
بها فأبصره في عين صورته ... مثلا فأنشأه حتى يرى عوضا
فلم يكن غيره إلا بجنته ... فزال عن نفسه المثل الذي افترضا
وقال أيضا:
إذا ما نعتّ الحقّ يوما فقيّد ... ولا تطلقنّ النعت إن كنت تهتدي
إذا أنت أرسلت النعوت ولم تكن ... تقيدها فيه فما أنت مهتدي
إذا كنت علّاما بما أنت ظاهر ... علمت بأنّ السرّ بالعبد مرتدي (2)
وإن كنت لا تدري ولست بطالب ... ولا باحث فاعلم بأنك معتدي
إذا لم يقع نفع لنفسك ههنا ... فأنت إذا بعثرت اخسر في غد
لو أنك مطلوب بكل جريمة ... ومتّ على التوحيد علما كان قد
ولست بأهل للخلود بناره ... ولست بمجروم ولست بمفسد (3)
كذا أنت عند الله في عين علمه ... بقبضة اليمنى تروح وتعتدي
دليلي عليه ذو السجلات فاعلموا ... وذلك عين الحكم في غير مشهد
وإن كنت سبّاقا لكل فضيلة ... تفوز إذا جاؤوا بأصدق مقعد
وقال أيضا:
ما كلّ من أفهمته يفهم ... ويفهم الشخص ولا بفهم
ما قلت للقوم الذي قلته ... إلا كما أخذته عنهم
إذا رأيت المرء في حالة ... موفقا فذلك الملهم
تنفذ في الأنفس أحكامه ... على الذي قال لي الملهم
فيبهم الأمر الذي أوضحوا ... ويوضح الأمر الذي أبهموا
وكلّ نصّ بيّن جاءهم ... عند الذي ذكرته مبهم
إني رأيت الناس في غفلة ... وإنها مني لا منهم
وقال أيضا منها:
يا لائمي إن لم تكن عيننا ... ذواتهم يا لائمي كن هم
__________
(1) الزّلفى: القربة.
(2) السر: لطيفة مودعة في القلب كالروح في البدن، ونور روحاني هو آلة النفس وهو محل المشاهدة.
(3) يريد أن المؤمن العاصي لا يخلّد في النار.(1/344)
ما كلّ من حرّر أنفاسه ... لكلّ ما جئت به يلهم
إنّ الفتى الناصح هذا الذي ... يوضح ما قال ولا يبهم
إنّ الذي جاءهم نصحا ... مبلغا ومشفقا إن هم
كانوا لما قد سمعوا أهله ... وعندنا السامع من يفهم
ألزمته الهاء إلى ميمها ... وحكم ذا في الشّعر لا يلزم
وقال أيضا:
إذا رأيت وجودا ما له حدّ ... أقبلت أعدو إليه وهو بي يعدو (1)
فقال لي وهو من ذاتي يخاطبني ... إنّ الوجود الذي رأيته فقد
فقلت: أنت معي فقال: أنت معي ... كالفرد يضرب فيه عندنا الفرد
لما رأيت وجودي لا يزايلني ... علمت أنّ وجود السيّد العبد
بذا أتت في كتاب الله صورته ... الأمر لله من قبل ومن بعد
الحقّ عندي معي بي وهو معتمدي ... في كلّ حال إذا أروح أو أغدو
الجود يبغي وجودي فهو لي سند ... وما لنا منه في أعياننا بدّ (2)
كمثل أسمائه الحسنى التي ثبتت ... بالنصّ يطلبها التقييد والعدّ
إن العقول لتحصيها مفصلة ... فيها الخلاف وفيها المثل والضدّ
كذلك الحكم في كوني فأما أنا ... أثبتها فلها الإثبات والوجد (3)
والحلم فينا الذي يعطي حقائقنا ... الحلّ والعقد والتليين والشدّ (4)
هو الذي لم يزل يخفي حقيقته ... بما هي اليوم في أبصارنا تبدو
منه الأمور التي تشقى وتسعدنا ... أخرى ويشهد ذا ألغيّ والرشد
وقال أيضا:
أرسلت ما أرسلت من أدمعي ... تذكرة مني له إن يعي
فلم يعرّج والتوى هاربا ... وقال لا تسأل فهذا معي
وإنما أطلب لي معرضا ... قد اختفى عني في المخدع (5)
__________
(1) الوجود: فقدان العبد بمحاق أوصاف البشرية ووجود الحق.
(2) الأعيان الثابتة: هي حقائق الممكنات في علم الحق تعالى. والعين إشارة إلى ذات الشيء.
(3) الإثبات: ضد المحو وهو إقامة أحكام العبادة. الوجد: خشوع الروح عند مطالعة سر الحق. وقال الجنيد: الوجد انقطاع الأوصاف عند سمة الذات بالسرور.
(4) الحقيقة: هي إقامة العبد في محل الوصال إلى الله. عقد السر: هو ما يعتقد العبد بقلبه بينه وبين الله تعالى أن يفعل كذا أو لا يفعل كذا.
(5) المخدع: موضع ستر القطب عن الأفراد الواصلين.(1/345)
إنا دعوناهم عسى يرجعوا ... والخائب المحروم لم يسمع
وما به من طرش حاكم ... لكنه استحيى فلم يرجع
أتبعه أذكره نعمتي ... وما برحت اليوم من موضعي
فقال لي تهزأ بي سيدي ... وأنت تدري أنني مدّعي
بالحال لا بالقول في حبكم ... لأننى أخشى إذا ادّعي
يقول لي قل ما الدليل على ... صحة ما أنت به تدعي
لا تطلب البرهان من ناطق ... إلا إذا سمعته يدّعي
وكان من كان وأنت الذي ... تفهم قولي فيه لا تجزع
وقال أيضا:
الحمد لله الذي أفضلا ... بما به أنعم في خلقه
فالجود والأفضال منه على ... عباده العاصين من خلقه
يعلمه العالم من أوجه ... معرفة العارف من أفقه (1)
وكلّ من يهبط في علمه ... به يرى ذلك من حقّه
وجامع الكلّ حضيض به ... أدرجه الرحمن في حقّه
فكلّ ما يجري من أحكامه ... فإنها تجري على وفقه
قد جمع العالم في حشره ... ليسأل الصادق عن صدقه
فإن أعادوه عليه فهم ... ممن يري الإشراق من شرقه
أو ادّعوا فيه لأعيانهم ... والمدّعي يصدق في نطقه
وكلهم يصدق في حاله ... وكلهم من رزقه
ما حاز منهم أحد كله ... بل كلهم منه على شقّه
الجنس في البدر وفي شمسه ... ونجمه والفصل في برقه (2)
ما يعرف الحقّ سوى شارب ... يراه في الصفو وفي رتقه (3)
يعرفه العالم في حشرهم ... يوم وقوف الناس من رفقه
يبتدر الناس إلى حوضه ... وبعضهم يرويه من ودقه (4)
هذي علوم إن تناولتها ... كنت بها الواحد في خلقه
فقل لمن يخلق أنفاسه ... الخلق قبل الخلق في خلقه
__________
(1) العارف: قال ابن عربي: العارف من أشهده الرب عليه فظهرت الأحوال عن نفسه والمعرفة حاله.
(2) الشمس: أي النور مظهر الألوهية.
(3) الصفاء: ما خلص من ممازجة الطبع ورؤية الفعل من الحقائق في الحين.
(4) الودق: المطر.(1/346)
وقال أيضا:
إذا كان ما للعقل تأتي به النمل ... وما لعباد الله تأخذه النحل
فأين الذي قد قيل في الناس إنهم ... لهم شرق يعنو له المجد والفضل (1)
وما هو إلا بالعلوم وعندهم ... من العلم ما قد قلته فاستوى الكل
فما لعباد الله جور محقق ... ولكنه الإنسان شيمته العدل
فما ثم إلا الميل ما ثم غيره ... ولو لم يكن ميل لما كوّن الأصل
فروعا له في كلّ شرق ومغرب ... وزال الذي قد قيل فيه هو الظل
فإن خصه الرحمن منه بصورة ... إلهية في الكون قيل هي المثل
وإن كان مثلا لا يكون مماثلا ... له قله المنع المحقق والبذل
وتخدمه الأرواح للعلم سجّدا ... وتأتي إليه من مهيمنه الرسل
وينجده التأييد معنى وصورة ... إذا كان منعوتا وتتضح السبل
وقال أيضا عزيزية:
خلق السموات والأرض التي ... منها أنا أكبر من خلقي
لمن درى أني منها أنا ... كما أنا أيضا من الخلق
بوجهي الخاص الذي لاح لي ... وحزته في قدم الصدق
حزت به بل كلّ من ناله ... وجود ذوق قصب السبق
أشبه من أوجدني جوده ... في النعت والأسماء والخلق (2)
سبحان من يعلم أني به ... في بيضة التكوين في حق
أشاهد الإنشاء فيّ كما ... شاهده المذكور في النطق
لم يتغير صفو مشروبه ... للأمد الأبعد بالرّتق (3)
شاهد لحما قبله أعظما ... تربط بالأعصاب والعرق
وهو الذي مرّ على قرية ... معترفا بالملك والمرق
خاوية ليس بها عامر ... قد غاب بالرتق عن الفتق
شكرا لمن أنشأه بعد ما ... أماته بالقصد لا الوفق
__________
(1) يعنو: يخضع.
(2) النعت: يريد اخبار الناعتين عن أفعال المنعوت وأحكامه وأخلاقه، الاسم: حروف جعلت لاستدلال المسمّى بالتسمية على إثبات المسمى.
(3) الرّتق: ضد الشّق.(1/347)
وقال أيضا:
قد يخلق المخلوق في الخالق ... ما يخلق الخالق في خلقه (1)
وينسب الأمر إليه كما ... ينسبه العبد إلى حقّه
وقال أيضا:
الناس أولاد حوّاء سواي أنا ... فإنني ولد للوالد الذكر (2)
إن الأنوثة من نعت الرجال لذا ... تراهم يحملون العلم في الصور
فيصبحون حبالى حاملين به ... حمل السحاب لما فيها من المطر
يحيى به كلّ ميت لا حراك به ... فيشكر الحيّ شكر الزّهر للزهر
فالزهر أسماؤه الحسنى بجملتها ... والزهر ما أعطت الأسماء من أثر
يا رحمة الله قد حزت الوجود فما ... في الكون مقلة عين تخلو من نظر
به يرون وجود الكون فيه كما ... يرون فيه وجود الحقّ في البشر
ما بين ضمّ وفتح قد بدت عبر ... لكلّ قلب سليم فيه معتبر
تربى على قوّة الأرواح قوّته ... فليس يحرقه الإدراك بالبصر
لأنه سبحات الوجه فاعتبروا ... في النور والظلمة العمياء والغير
هما الحجاب لها ولم يقم بهما ... إحراقها لا ولا ما فيه من ضرر (3)
والحجب ليس سوانا وهو خالقنا ... ونحن مجلى له بالسمع والبصر (4)
كذا رأيناه ذوقا في مشاربنا ... كما رويناه فيما صح من خبر
هو القوي حين ما تعطي جوارحنا ... من النتائج فانظر فيه وادّكر
لولاه ما نظرت عين ولا سمعت ... أذن لما قد تلاه الحقّ في السور
الله يخلقنا والله يخلفنا ... على الدوام كما قد جاء في الزبر (5)
وما له خبر فينا يخبرنا ... سوى الذي نحن فيه اليوم من سير
وما تكوّن عنه من تقابلنا ... في جنة الخلد والمأوى على سرر
ومن يكون على ضدّ النعيم بما ... يلقاه من ألم الضرّاء في سقر
ليس التعجب من هذا وما عجبي ... إلا بأني مع الأنفاس في سفر
__________
(1) ليعلم أن الإنسان مخلوق والله تعالى هو الخالق ولا خالق غيره وهو المنزه عن صفات عباده ليس كمثله شيء.
(2) الولد: من سلك طريق الشيخ واهتدى بهديه.
(3) الحجاب: حائل يحول بين الشيء المطلوب المقصود وبين طالبه وقاصده.
(4) الحجب، عند أهل الحق: انطباع الصور الكونية في القلب المانعة لقبول تجلي الحق.
(5) الزّبر: جمع الزّبور: الكتاب.(1/348)
دنيا وآخرة فانظر ترى عجبا ... في حالنا واعتبره صنع مقتدر
والجوهر الأصل باق لا زوال له ... هو المحل لما يبديه من صور (1)
الله جلى لنا ما قد جلاه لنا ... على صفاء بلا شوب ولا كدر
لذا أرى زمرا تأتي على زمر ... كما أتت في كتاب الله في الزمر
إنّ المياه على مقدار أعينها ... فمنه منهمر وغير منهمر
إنّ السحاب بخار الأرض أنشأه ... ماء يحلله للنجم والشجر
شيئا فشيأ ويبقى بعضها لندى ... أو تستحيل هواء في ذرى الأكر
لذا رأيت خروج الودق من خلل ... فيه ليبرز ما في الروض من ثمر (2)
وقال أيضا:
ما أحسن العلم لمن يعمل ... وأقبح الجهل بمن يجهل
إنّ الإله الحقّ في فعله ... قد يمهل العبد ولا يهمل
ويحرص العبد على فعل ما ... ينفعه وقتا وقد يكل
لأنه ينصر في فعله ... ثم يرى في تركه يخذل
يا ليت شعري هل أرى من فتى ... يبحث عما فيه أو يسأل
حتى يرى من نفسه ربه ... سبحانه يفعل ما يفعل
ويبصر الأكوان هل هي هو ... لمثل هذا إخوتي فاغملوا
لأنه المطلوب منكم فلا ... تفرطوا فيه ولا تهملوا
سألت قوما أهملوا أمرنا ... فقال لي خاذلهم امهلوا
لا ينسب الفعل لغير الذي ... قيل لكم فإنه أجمل
كما أتى فيمن نسى آية ... بأنه نسي ولا يعقل
إذا دنت للوقت ريحانة ... يشمها الأمثل فالأمثل
ولا يحصل الشخص على حكمه ... فيه به علما وقد يحصل
مثلي فإني عالم أمره ... فيّ وفي غيري فلا أجهل
من صانه يجهل أسراره ... فلا تصونوه فما يجهل
الأمر مكشوف لعين الذي ... يعرفه لكنه يسدل
عليه سترا لصور من غيرة ... فلا تقل بأنه يبخل
حاشاهم من بخل ينسب ... إليهم فإنهم كمل
آثارهم في الكون محجوبة ... عنهم وهذا حدّه الفيصل
__________
(1) الجوهر: من الشيء: ما وضعت عليه جبلته، وماهية إذا وجدت في الأعيان كانت لا في موضوع.
(2) الودق: المطر.(1/349)
ما بينهم وبين معبودهم ... يدري به الأعلم والأفضل
فهم كمن تظهر أفعاله ... بخاصة منه ولا يعقل
وقال أيضا:
إذا تلوت كتاب الله أنت به ... تال ولست لقول الله بالتالي
القول أنزه أن يتلى فيقدم من ... يتلوه فانظر إلى أعلام إقبالي
يخلى ويملى الذي يتلى وليس له ... بذا المقام فلا تخطره بالبال
إن كان أين أنا فقد يشبهه ... بما بذاتي من أعراض وأحوال (1)
وهو الصحيح الذي ما فيه مغلطة ... بالماضي والزمن الآتي وبالحال
لذا يسمى بدهر لا انقضاء له ... يفنى وليس بفان إذ هو الوالي
إني رسول كريم لا ينهنهني ... حبّ الرسالة فالوالي من أرسالي
ولست أعني بها ما الشرع محبره ... فبابها مطلق شرعا عن أمثالي
القول طوع يميني إذ تصرّفه ... في كلّ نثر وأشعار وأمثال
وقال أيضا:
إنما الله إله واحد ... ما له حكمان فانهض لا تقف
وله حكمان فاعمل بهما ... عن شهود لهما لا تنصرف (2)
ليس للأقوام رأي في الذي ... شربوا منه قليلا فاغترف
إنما الأمر مذاق كله ... فإذا ما ذقته لا تنحرف
وقال أيضا:
أقول وقد بانت شواهد علتي ... بأني محبوب لموجد علتي (3)
فمن هو نفسي أو مغاير عينها ... ومن هو اجزائي ومن هو جملتي
إذا عاينت عيني سبيل وجودها ... بفكري وذاتا لم تكن غير نشأتي
أقول لها من أنت قالت مكلمي ... فقلت أرى ثنتين من خلف كلتي
فقالت وكثر ما تشاء فإنني ... وإن كنت فردا أنتم أصل كثرتي
فيا من هو المقصود في كلّ وجهة ... بوجهي إذا ما كنت لي عين قبلتي
فما عاينت عيناي فردا مقسما ... إلى عدد إلا الذي هو علتي
__________
(1) العرض: ما يقوم بغيره في اصطلاح المتكلمين. الحال: هو ما يرد على القلب من طرب أو حزن أو بسط أو قبض.
(2) الشهود: أن يرى حظوظ نفسه.
(3) العلة، قيل: هي كناية عن بعض ما لم يكن فكان.(1/350)
هو الكل والأجزاء عين وجوده ... فيا مثبتي بي لست غير مثبتي (1)
لقد حرت في أمر تقسم واحدا ... فأين وجودي قل لي أم أين وحدتي
فيا من يرى عقدي وحيرة خاطري ... ويسرع بالتقريب في حلّ عقدتي (2)
علمت بأني عبده وهو سيدي ... وسلم لي علمي وأنشأ حيرتي
وأعلم أني حائر وهو فارغ ... كما هو في شغل فيا حسرتي التي
تباعدني في عين قربي شهودها ... فما حسن أفعالي وما سوء فعلتي
لقد علمت نفسي وجودا محققا ... وغابت به عني فلم تدر حكمتي
وقال أيضا:
إني نظرت إلى نفسي بعين رضى ... فقهقهت عجبا مني لجهلي بها
وأقبلت نحو عقلي كي تعاتبه ... أعاقلا نفسه يرضى بمذهبها
كيف الرضى وهو ذو مكر وذو خدع ... دليلنا ما بدا لي من تعجبا
وقال أيضا:
أصرّفه في كلّ وقت تصرّفا ... لأني سمعت الله قال سنفرغ
وما ثمّ إلا قائم متحير ... بأعراضه فانظر لعلك تبلغ (3)
إلى حدّه الأقصى فيأتي دليلكم ... إلى شبهة جاءته بالقذف تدمع
فقل لإمام الوقت أنت مقلد ... وقل للرعايا إنني سأبلغ
إليه الذي أنتم عليه وإنه ... عليم بكم لكنه قال بلغوا
فيا من هو الملآن بالكون كله ... ويا من هو الخالي الذي يتفرّغ
لقد حار قولي فيه إذ حار قوله ... إلى خلقه إني إليكم سنفرغ
فمن من إلى من أو إلى أيّ حالة ... يكون تجلّيه إذا قال فرّغوا
ألا إنني منه لأرزاق خلقه ... وآجالهم والخلق والخلق أفرغ
وقال أيضا:
إني رأيت وجودا لا يقيده ... نعت ولا هو محدود فينحصر (4)
في الحدّ وهو الذي في الحدّ يعرفه ... وما له في الذي يدري به خبر
__________
(1) العين: إشارة إلى ذات الشيء الذي تبدو منه الأشياء. الوجود: فقدان العبد بمحاق أوصاف البشرية ووجود الحق.
(2) العقد: عقد السر هو ما يعتقده العبد بقلبه بينه وبين الله تعالى أن يفعل كذا أو لا يفعل كذا.
(3) الأعراض: الواحد عرض وهو ما يقوم بغيره باصطلاح المتكلمين.
(4) الوجود: فقدان العبد بمحاق أوصاف البشرية ووجود الحق.(1/351)
تنزهت ذات من قد حار طالبها ... سبحانه جل أن تحظى به الفكر
أقامني مثلا مثلا ونزهتي ... عن كلّ شيء فلم يظفر بي النظر
هو الوجود الذي في كونه سند ... لخلقه وله سمع هو البصر
إني لعبد لمن كانت هويته ... عيني وما أنا عين الحقّ فاعتبروا
لو كنته لم أكن بالعجز متّصفا ... عن كون ما تظهر الأسباب والقدر
ولم يكن حاكما على تصرّفنا ... سرّ يقال له في علمنا القدر
إني عبيد فقير في تقلبه ... هذي نعوتي وأما اسمي هو البشر
ووالدي آدم والكلّ متّصف ... بعجزه للذي إليه يفتقر
فغايتي الفقر والتنزيه غايته ... عن غايتي والغنى عني هو الوزر (1)
أعطيته الوصف من ذاتي فلي شرف ... به تنزلت الآيات والسور
لولاي ما ظهرت في الصور نفخته ... فالروح من نفس الرحمن فادّكروا (2)
هذا الذي قلته ألوحي يعضدني ... فيه فقد جاءكم ما فيه معتبر
لو كنت ذا بصر لكنت معتبرا ... كذا يقول الإله الحقّ فافتكروا
وقال أيضا:
الأمر أسماء له نعوت ... وصفات معنى ما لهنّ ثبوت (3)
ظهرت بآثار لها في خلقه ... وعلى التحققّ أنهنّ نعوت
وردت بها الآيات في تنزيله ... فنعيش في وقت بها ونموت
حتى يقول بأنه عين الأنا ... ويقول وقتا ليسنى فيفوت
إني لأطلب رزقه في أرضه ... لما علمت بأنه سيفوت
ولذلك اسم الحقّ بين عباده ... معط ووهّاب اتى ومقيت (4)
والله ما نطقت به آياته ... إلا بجمع ما له تشتيت
ما أثبت التشريك في اسمائه ... إلا جهول بالأمور مقيت
جلّ الإله الحقّ عن إدراك من ... قام الدليل بأنه مبهوت
فتراه مشغولا به عن نفسه ... وهو الذي هو عندهم ممقوت
__________
(1) الفقر: مقام شريف، وسمي الصوفية فقراء لتخليهم عن الأملاك، وحقيقته أن لا يستغني العبد إلا بالله.
(2) الروح: شيء استأثر الله بعلمه. الصّور: القرن ينفخ فيه. وفي التنزيل: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْنََاهُمْ جَمْعاً} سورة الكهف، آية: 99.
(3) الاسم: حروف جعلت لاستدلال المسمّى بالتسمية على إثبات المسمى. والصفة: ما لا ينفصل عن الموصوف، ويقولون: لا يقال هو الموصوف ولا غير الموصوف.
(4) المقيت: الحافظ، والمقتدر.(1/352)
ومن ادّعى أنّ الإله جليه ... بالذكر فهو لديهم المبخوت
ما عاينت عيني عقائد خلقه ... إلا رأيت بأنه منحوت
والله قد ذمّ الذي نحت الذي ... هو عابد إياه وهو صموت
عبدوا عقولهم فلم يظفر به ... إلّا عبيد ما له تثبيت
فأنا به المنعوت بين عباده ... وهو الذي بعباده منعوت
لم أنس يوما إذ تكلم ناطق ... في مجلس حاو ونحن سكوت
فأفادنا ما لم يكن نعثا لنا ... فلذاك أصبحنا ونحن خفوت
نضحي ونمسي عندنا ما عندنا ... ويقيل فينا سرّه ويبيت (1)
فإذا نقول نقول منه بقوله ... وإذا اسكتنا يعلم المسكوت
عنه بأنا قد عجزنا وانقضت ... آياته وأنابه الكبريت
ولنا به الذكر الجميل ونوره ... ولنا به العلياء ثم الصيت
وسكينتي في القلب عند ذوي الحجى ... لم يحوها صور ولا تابوت (2)
قد أخليت لقدوم من يدري به ... لما اتاني أربع وبيوت
لما تحقق وصله قلنا لمن ... لم يعرف الأمر هو اللاهوت (3)
وبه إذا اتحدت حقيقة ذاته ... وبدت عليه تدرّع الناسوت (4)
لما تغيّر بالعطاس جماله ... شرعا له التحميد والتشميت
من أرض بابل قد أتاك معلما ... سحرا بسحر كلامه هاروت (5)
إنّ الدليل على مقام عبيده ... لنجيه طول المدى والحوت
وطلبت منه الحدّ فيه فقال لي ... ما فيه تحديد ولا توقيت
وقال أيضا:
لله قوم بقعر البحر منزلهم ... فمن يراهم يقول الشخص مكبوت
وإنه في نعيم لا يزايله ... لأنه عابد بالأصل مسبوت
رآه شيخ صدوق من مشايخنا ... فقال مسكنكم فقال تكريت (6)
__________
(1) السر: نور روحاني هو آلة النفس ومحل المشاهدة.
(2) ذوو الحجى: العقلاء. الصّور: القرن ينفخ فيه.
(3) يقولون: لله لاهوت، وهي مشتقة من لاه بمعنى تستّر وعلا.
(4) الناسوت: ما كانت له طبيعة إنسانية.
(5) بابل: موضع بالعراق. وهاروت: أحد الملكين اللذين جاءا يعلمان الناس السحر ببابل.
(6) تكريت: موضع بشمالي العراق.(1/353)
وقال أيضا:
إنّ لله عبادا كلما ... ذكروا الله فنوا في ذكره (1)
وإلى هذا فهم ما أمنوا ... حال ذكراهم به من مكره
يبتغون الفضل منه عند ما ... شكروا المنعم حقّ شكره
زهد العارف منهم في الذي ... أثبت العقل له من فكره (2)
من إله قرّر الكشف له ... إنه المعبود حال نكره (3)
يظهر الحقّ له في صحوه ... عين ما أثبته في سكره (4)
وقال أيضا:
إنّ سري هو روح كلّ شي ... وهو الظاهر في ميت وحي (5)
فإذا قام بحيّ فأب ... وإذا قام بميت فبني
إنه جلّ عن إدراك الذي ... قال فيه إنه في كلّ شي
إنما هو عينه فاعتبروا ... تجدوا ما قلت في نشر وطي (6)
ما تغالي كونه عن حالة ... ظهرت في مدّ ظلّ ثم في
إنما الأمر الذي يسعدكم ... أو نقيض السعد في رشد وغي
إنما خص بقوم للذي ... كان فيهم من ذكاء ثم عيّ (7)
قد أكلناه طبيخا ولقد ... جاءني لحما طريا وهوني
فأبينا أكله حين بدت ... صورة الإيمان فيه من قصي
يا أخي فاعلم الأمر الذي ... قلته فيه بحقّ يا أخي
فخذوه أسدا أو حملا ... واتركوا السنبل يرعاه الجدي
إنما الأمر عظيم قدره ... جلّ عندي حين جلاه إلي
قلت ضمني ذاتي وأنا ... أوصل المقدار مني وعلى
قال لا يمكن إلا هكذا ... هو فعل الشيخ لا فعل صبي
__________
(1) الفناء: سقوط الأوصاف المذمومة.
(2) العارف: هو من أشهده الرب عليه فظهرت الأحوال عن نفسه.
(3) الكشف: الاطلاع على ما وراء الحجاب من المعاني الغيبية والأمور الحقيقية.
(4) الصحو: رجوع العارف إلى الإحساس بعد غيبته وزوال إحساسه. والسكر عكسه.
(5) السر: نور روحاني وهو آلة النفس، وهو محل المشاهدة، وبدون السر تعجز، برأيهم، النفس عن العمل. وقيل: السر هو الروح.
(6) العين: إشارة إلى ذات الشيء الذي تبدو منه الأشياء.
(7) ذكاء: الشمس.(1/354)
لو أراد الأمر أن يخرجه ... لم يكن يمكن هذا من يدي
لي منه الشرب ما دام وما ... دمت ما عندي لشربي منه ري
لست أدري إننى عبد هوى ... إذ تجلى لي في شكل رشي
فتغزلت وما أضمره ... وبدا يغشى سناه ناظري (1)
وقال أيضا:
إذا ما ذكرت الله بالذكر نفسه ... فما هو مذكور ولا أنا ذاكر (2)
وذاك أتمّ الذكر في كلّ ذاكر ... إذا أنت لم تعلمه ما أنت خابر
فكن عين ذكر الذكر لا تك ذاكرا ... بوجه سوى هذا فإنك ظاهر (3)
وكن واحدا من كلّ وجه تفز به ... وتجهلك الأعداد واللثر حاضر
فمن شاء فليثبت ومن شاء فليزل ... فهذا الذي ساقت إليه المقادر
إذا أنت لم تدر الذي أنا قائل ... به في جناب الحقّ ما أنت تاجر
لو أنك بالنعت الذي قلته تكن ... عليه لما دارت عليك الدوائر
فبرّك لم يتفق ومالك راسخ ... وريحك لم يحصل وحدّك غامر
خليلي ما للريح يأتي جنوبها ... قبولا ويقصيني الحدود العواثر
وإني من أهل البيت ما أنا بائن ... ولا أنا حدّاد ولا أنا زافر
فلست أبالي من رياح تقلبت ... عليّ مجاريها فإني آمر
عن الأمر بالأمر الذي لا بضدّه ... سهام الأعادي يوم تبلى السرائر (4)
تبارك من شخص عن الحقّ ثابت ... ومالك من أيد ومالك ناصر (5)
وما علمت منك الأقارب والعدى ... إذا كنت صبارا بمن أنت صابر
يقولون إن الصدع للرجع لازم ... وقد صدعوا لكنهم لم يثابروا (6)
على ما لنور الشمس في ذاك من جدى ... ولولاه ما جاءتك سحب مواطر
وقال أيضا:
تبارك الله ما في اليأس من باس ... والناس ليس لهم فضل على الناس
__________
(1) السنا: النور.
(2) الذّكر: هو الخروج من ميدان الغفلة إلى فضاء المشاهدة على غلبة الخوف أو لكثرة الحب.
(3) ظاهر العلم: عبارة عن أعيان الممكنات.
(4) إشارة إلى قوله تعالى: {يَوْمَ تُبْلَى السَّرََائِرُ} سورة الطارق، آية: 9، والمراد يوم البعث، وتبلى السرائر أي تخرج مخباتها وتظهر وهو كل ما استسره الإنسان من خير أو شر وأضمره من إيمان أو كفر.
(5) الأيد: القوة.
(6) الرّجع: المطر بعد المطر، ونبات الربيع. الصّدع: الشّق، ونبات الأرض.(1/355)
من حيث ما هو ناس إنه ولد ... لآدم وهو المنعوت بالناسي
معرّف بالذي في الطبع من صفة ... وأين نور الهدى من نور نبراس
لقد أتاني كلام كله حكم ... مني بصورة الهام ووسواس
فقال لي وهو صدق في مقالته ... اشرب بكاسي وإني الماء في الكاس
كما جعلت لموسى النار حاجبة ... حتى أكلمه من ذات مقباس
ليعلم العبد أني كل من وقعت ... عين عليه من أنواع وأجناس
فليس في الكون غيري والخلائق لي ... فلي الغنى ولهم فقر بإفلاس
إني ظهرت بأديان مفصّلة ... على لسان فقيه بي وشماس (1)
وقمت في كلّ حال توصفون به ... وصرت أظهر في العاري وفي الكاسي
وما تجلّيت إلا لي فأدركني ... عيني وأسمعت سمعي كلّ وسواس
وما تحليت إلا بي لا ظهر لي ... فقمت لي أدبا حبا على الراس
لما ابتغاني الذي يدري معاملتي ... حجبته معلما بالشامخ الراسي
ولم يكن غير عيني الشامخ الراسي ... قلم تقع وحشة إلا بإيناس
تنازعت فيّ أضداد فقلت لها ... إنّ الحياة لفي طاعون عمواس
أحياهم الله في موت مشاهدة ... ما في الحياة التي في الموت من باس
وقال أيضا:
يعرج العبد لاكتساب علوم ... ولتبليغها يرى في انتكاس
ثم عين النزول أيضا عروج ... لشهود ما فيه من التباس
ثم نبغي بزهدنا ما زهدنا ... عين زهدي في ذاك عين التماسي
هو لي بالنهار عين معاشي ... وهو في الليل بالظلام لباسي
جعل النوم لي سباتا لأمر ... يجعل الحقّ بالشهود نواسي (2)
فأراه في النوم حقّا يقينا ... رؤية في دارك الاحساس
مثل ما يشرب النديم شربنا ... بارك الله سيّدي في نعاسي
مذ بناني الإله قصرا مشيّدا ... ذا سقوف علية وأساس
علمت نفسي أنّ سكناه ذاتي ... ولريم الفلاة عين الكناس (3)
وقال أيضا:
عفا رسم من أهوى وليس سوانا ... وكنا له عند النزول مكانا
__________
(1) الشمّاس: من رؤوس النصارى.
(2) الشهود: رؤية خطوط النفس.
(3) الرّيم: الظبي الخالص البياض. الفلاة: المفازة. الكناس: بيت الظبي.(1/356)
لقد ضاق عنه أرضه وسماؤه ... وبالسّعة المثلى لديه حبانا
وما وسع الرحمن إلا وجودنا ... كأنا على العرش العظيم بنانا
ولما وسعنا الحقّ جل جلاله ... نعمنا به علما به وعيانا
ولم نتخذ غير المهيمن ساكنا ... ولم يتخذ بيتا يكون سوانا (1)
لقد جاد لي ربي بكل فضيلة ... وآتان منه بسطة وبيانا
إذا نحن جئناه على كلّ حالة ... بضعف الذي جئنا إليه أتانا
إذا نحن أثنينا عليه بذاتنا ... وكان لنا منك الشهود أمانا
على كلّ ما قلناه فيك وعصمة ... فما ثم عين في الوجود ترانا
وقال أيضا:
من طهر الله لم يلحق به دنس ... وهو المقدّس لا بل عينه القدس
كأهل بيت رسول الله سيّدنا ... وهو الإمام الكريم السيّد الندس (2)
جاء البشير بما الآذان قد سمعت ... ألقى قليلا وجلّ القوم قد نعسوا
ناموا عن الحقّ لا بل عن نفوسهم ... عند المواهب والأقوام ما بخسوا
لما تحقق أنّ النوم حاكمهم ... من أجل ذا جعل الحفاظ والحرس
من أجل ذا كانت البشرى وكان لهم ... من أجل نومهم حفظا لهم مس
فعندما عصموا من كلّ حادثة ... تصيب أمثالهم قاموا وما جلسوا
بحقّ سيدهم في كلّ آونة ... على الصفاء وما خانوا وما لبسوا (3)
على نفوسهم علما بحالهم ... لذاك عن مشهد التحقيق ما اختلسوا
إنّ الوجود الذي قد عز مطلبه ... فيه وفي مثله الأرواح تفترس
أغارت الخيل ليلا في عساكرهم ... فقيل قد قتلوا إذ قيل قد كبسوا
لو أنهم علموا الأمر الذي جهلوا ... على رؤوسهم والله ما نكسوا
أقول قولا وما في القول من حرج ... ينفي عن النفس ما أغمها النفس
ما نال موسى بما يبغيه من قبس ... إلا الذي ناله من أجله القبس
لو أن أهل وجود الجود نالهم ... ما نال موسى من الرحمن ما بئسوا
لكنهم بئسوا من ذاك واعتمدوا ... على ظنونهم بالجود إذ يئسوا
إني رأيت فتى أعطى الفتوح له ... بأرض أندلس الماء والبلس
__________
(1) فليعلم القارىء أن الله منزّه عن المكان، فظاهر الكلام يوهم ذلك.
(2) النّدس: الرجل الفهم.
(3) الصفاء: ما خلص من ممازجة الطبع ورؤية الفعل من الحقائق في الحين.(1/357)
ولم يكن عنده نطق يقوم به ... وقد تحكم فيه الصمت والخرس
كمثل مريم قد كانت سجيته ... في رزقه فهو في الراحات يلتمس
وذاك من أعجب الأحوال إنّ له ... حال الغنى وهو بين الناس مبتئس
أحوال شخص لأمر الله ممتثل ... للحكم مقتنص للنور مقتبس
إنّ الإمام الذي تجري الأمور به ... في كلّ نهر من الأحوال ينغمس
والسرّ يحكمه لا بل يحكمه ... في نفسه وبه السادات قد أنسوا (1)
فما لهم قدم في غير حضرته ... وما لجانبه منهم فمندرس
هم الحيارى السكارى في محارتهم ... وما لهم في جناب الحقّ ملتمس (2)
الحال أفناهم عنهم وما عرفوا ... من هم لذلك قيل اليوم قد نفسوا (3)
لو أنهم مزقوا منهم وما لهم ... لديه من كلّ خير فيه ما انتكسوا
الذات تبهم ما الأسماء توضحه ... والقوم ما قرأوا علما وما درسوا (4)
كانت عليهم من أثواب العلى حلل ... فبئس ما خلعوا ونعم ما لبسوا
دخلت جنة عدن كي أرى أثرا ... فقيل ليس جناهم غير ما غرسوا
وقال أيضا:
إني رأيت وجودا لا أسميه ... فكلّ شيء تراه فهو يحويه (5)
له الإحاطة بالأشياء أجمعها ... فكلّ عين تراها أنها فيه
حصلت من فكرتي فيه على تعب ... ولم أجد حجة تبدو فأبديه
حصلت منه على عمياء مجهلة ... بهماء خالية في مهمه التيه (6)
أرنو إليه ولا أدريه فانبهمت ... عليّ حالته وكلها هو هي
به خلوت وما بالدار من أحد ... إذ الوجود الذي ما زلت أبغيه
إني أنا وصفه النفسيّ فاعتبروا ... إن زلت زال بهذا النعت أدريه
__________
(1) السر: لطيفة مودعة في القلب كالروح في البدن، ونور روحاني هو آلة النفس.
(2) السكر: دهش يلحق سر المحب في مشاهدة جمال المحبوب فجأة. والحيرة: بديهة ترد على قلوب العارفين عند تأملهم وحضورهم وتفكرهم.
(3) الحال: ما يرد على القلب من طرب أو حزن أو بسط أو قبض. الفناء: سقوط الأوصاف المذمومة.
(4) الذات مطلقا: الأمر الذي تستند إليه الأسماء والصفات في عينها لا في وجودها.
الاسم: حروف جعلت لاستدلال المسمى بالتسمية على إثبات المسمى.
(5) الوجود: فقدان العبد بمحاق أوصاف البشرية ووجود الحق.
(6) عميد مجهلة بهماء مهمه: من أسماء الفلاة القفر.(1/358)
كظلّ جسمي متى أن كنت ذا نظرا ... في نشأتي وهو مجلى من مجاليه (1)
وقال أيضا:
إني أفيق وفي أرضي لها فيق ... تبكي السماء لها لينفق السوق (2)
وإنني ضابط فيما يصرّفني ... وليس فيما أتاني منه تعويق
الحقّ يعجب من حالي ومن قلقي ... مع الأحبة والأحوال تلفيق
لم ينتشر خبر لي أنني رجل ... أهوى الأمور ولي بحث وتحقيق
إنّ الموافقة الكبرى بدايتها ... عند الرجال عنايات وتوفيق
ما ينفق الذهب المصنوع عندهم ... إلا إذا جاءه سبك وتعليق
فإن تسامح فيه بالحمى صنع ... فإنّ ذلك تمويه وتزويق
وليس يعلم ما قلناه فيه سوى ... مجرّب فيه إيمان وتصديق
الله يعلم أني فيه ذو عمه ... وإنني مؤمن به وصدّيق (3)
لا يعتريني هوى فيما علمت به ... وليس عندي تزيين وتنميق
الصدق حليتنا والحقّ حلتنا ... فمن يخالف حالي فهو زنديق (4)
والله لو عرفت نفسي بمن كلفت ... لم يلهها زجل عنه وتصفيق
لما علمت بأنّ الأمر ذو صور ... فلو يخاطبني حبر وبطريق (5)
لم أنكر الأمر إنّ الأمر فيه كما ... ذكرته فهو خلّاق ومخلوق
إن النياق تجاري نحو كعبته ... وإنها هم يدعونها النوق (6)
وقال أيضا:
الحمد لله لا أشرك به أحدا ... إذ لم يجد أحد سواه ملتحدا
لم يتخذ كفؤا من خلقه سندا ... ولم يلده أب حقا ولا ولدا
جل الإله فما تحصى عوارفه ... الواهب الأكرم المحسان والصمدا (7)
الحق مفتقر إليه أنّ له ... نعت الغنى وبهذا كله انفردا
والعبد مفتقر إليه متكل ... عليه مستند لذاته أبدا
__________
(1) مجلى: واحد المجالي وهي مظاهر مفاتيح الغيوب التي انفتحت بها مغالق الأبواب المسدودة بين ظاهر الوجود وباطنه.
(2) الفيق: الجبل المحيط بالدنيا.
(3) العمه: التحيّر.
(4) الزنديق: من لا يؤمن بالآخرة وبالربوبية، أو من يبطن الكفر ويظهر الإيمان.
(5) الحبر: العالم العظيم. البطريق: من رؤوس النصارى، والقائد من قواد الروم.
(6) الكعبة: عبارة عن الذات.
(7) الصّمد: أي الذي يحتاج الخلق إليه، وهو لا يحتاج إلى أحد، أعني الله.(1/359)
إنّ افتقاري ذات لي إلى عدم ... وليس يعرفه إلا الذي وردا
من عنده بالذي أعطاه من حكم ... بأنّ معبوده من ذاته عبدا
وإنّ أعمالنا عن أمره ظهرت ... وإنّ عابده لذاته عبدا
أقرّ لله بالتوحيد في ملأ ... من غير جبر ولا كره وما عبدا
بل كان متصفا بالعجز معترفا ... بأنه ربه حقّا وما عبدا
بل كان مفتخرا إليه مفتقرا ... لذاته وبهذا الأمر قد سعدا
وقال أيضا:
قد صح أنّ الغنى لله والكرما ... فما أبالي إذا ما حل بي عدم
ليس التعجب من تأثير قدرته ... عجبت إذ أثّرت في جوده الهمم
ليس الكريم الذي من نعته كرم ... إنّ الكريم الذي من ذاته الكرم
ليس الكريم الذي يعطيك عن قدر ... إنّ الكريم الذي يعطي ويتهم
ليس الكريم الذي يعطي بحكمته ... إنّ الكريم الذي تعطى به الحكم
إن الكريم الذي يعطي ويغتنم ... عين القبول ولا يعطى ويحتكم
من يطلب الشكر بالإنعام ليس له ... ذاك التكرم فابحث أيها العلم
غير الإله الذي أولى بنعمته ... وكلّ من نعته الإيجاد والعدم
إني ضربت حجابا ليس يرفعه ... سواه أو من به الألباب تعتصم
هذا الذي قلته الألباب تجهله ... وليس تثبته الأعراب والعجم
به خصصت على كشف ومعرفة ... ولم يكن فيه لي من قبل ذا قدم (1)
قد يلحق الناس في أقوالهم ندم ... وليس عندي فيما قلته ندم
لأنه المنطق الأعلى فكان له ... عني التلفظ والتعريف والكلم
والعبد في عزلة عن كلّ ما كتبت ... كفّ له أو همت من كفه ديم
ما في الوجود سواه فالوجود له ... لذاته وأنا الظلّ الذي علموا
لولاه ما نظرت عيني ولا سمعت ... أذن لنا وبنا عليه قد حكموا
وقال أيضا:
إني أرى إبلا يقتادها رجل ... من أمر خالقه يعتاده ذاتي
أسماؤه ظهرت من سيد عصمت ... أقواله قد أتت نحوي بإثبات (2)
__________
(1) الكشف: الاطلاع على ما وراء الحجاب من المعاني الغيبية والأمور الحقيقية وجودا وشهودا.
والمعرفة: صفة من عرف الحق سبحانه بأسمائه وصفاته.
(2) اسم: حروف جعلت لاستدلال المسمى بالتسمية على إثبات المسمى.(1/360)
لقد رآني وجود الحقّ من قبلي ... وقال لي إن ذا من الكرامات (1)
كأنه هو في المعنى وصورته ... ولم أجد فارقا بين العلامات
فعين الله لي من جوده كرما ... روحا تنزّه عن علم الإشارات (2)
أفادني منه أسرارا مخبأة ... معصومة الحال من علم الخفيات
فعندما حصلت في القلب عشت بها ... وصرت حيا ولكن بين أموات (3)
فلم أجد كرسول الله من بشر ... أو وارثيه وهم أهل الحميات
لهم حبالات صيد من ذواتهم ... وهم ظهور فمن أهل الخيالات
والطير صيد ولكن أين قانصه ... صيد يصيد قويّ في الدلالات
من فاز بالنظر العلويّ فاز بما ... في الغيب من فرح فيه ولذات
وقال أيضا في رؤيا رأى فيها الحقّ تعالى وقد أعطاه كتابه بيمينه
، ورآه من الوجه الذي يعرف الحق، ومن الوجه الذي لا يعلم فرآه من الاسم الظاهر والباطن معا في صورتين مختلفتين، وأراد أن يسأله في مسألة وهي هذا المعنى الذي تضمنته هذه الأبيات:
حقيقتي أن أكون عبدا ... وحقّه أن يكون ربا (4)
إن كان لي في الشهود مثلا ... كنت له في المثال قلبا (5)
ما زال إذ زدت منه بعدا ... بالوجد يوليني منه قربا (6)
أو كنت ذا لوعة معنى ... يكون لي الصادق المحبا
وقال أيضا:
للحقّ فينا تصاريف وأشياء ... ولا دواء إذا ما استحكم الداء (7)
الداء داء عضال ليس يذهبه ... إلا عبيد له في الطبّ أنباء
عن الإله كعيسى في نبوته ... ومن أتته من الرحمن أنباء
__________
(1) الحق: اسم من أسماء الله تعالى. وقيل: الحق هو كل ما فرضه الله على العبد، وما أوجبه الله على نفسه. الكرامة: أمر حادث مغاير للعادة يؤتيه الله لعباده الصالحين.
(2) إشارة: إخبار من غير الاستعانة إلى التعبير باللسان. وقيل: ما يخفى عن المتكلم كشفه بالعبارة للطافة معناه.
(3) قلب: هو ذلك العضو اللحمي الصنوبري. وهو أيضا لطيفة روحانية لها تعلق بالقلب الجسماني كتعلق الأعراف بالأجسام وهي حقيقة الإنسان.
الموت: قيل يعني قمع هو النفس.
(4) الحقيقة: يعني إقامة العبد في محل الوصال إلى الله. وقيل: الحق هو الذات والحقيقة اسم الصفات.
(5) الشهود: أن يرى حظوظ نفسه.
(6) الوجد: خشوع الروح عند مطالعة سر الحق.
(7) الحق: يريد الله تعالى.(1/361)
لا يدفع القدر المحتوم دافعه ... إلا به ودليلي فيه الاسماء
إنا لنعلم أنواء محققة ... وقد يكفر من تسقيه أنواء (1)
العلم يطلب معلوما يحيط به ... إن لم يحط فإشارات وإيماء (2)
ليس المراد من الكشف الصحيح سوى ... علم يحصلّه وهم وآراء (3)
إن الذين لهم علم ومعرفته ... قتلى وهم عند أهل الكشف أحياء (4)
وقال أيضا:
إني رأيت وما رأيت وجودي ... ورأيته ذخري ليوم شهودي (5)
عطفت عليّ صفات من أنا ذاته ... فرأيته مني كحبل وريدي
وقال أيضا:
إن المجاهد في نار وفي نور ... كأنه ذهب في حقّ بلّور (6)
ما إن رأيت له مثلا يعادله ... فيما يحاول من كدّ وتشمير
وقال أيضا:
عجبت لمن قد كان عين هويتي ... ويشهد لي بالنقص عين مزيدي
فما أدري ما هذا ولست بجاهل ... وقد عرفتني بالأمور حدودي
وقال أيضا:
ولولا حدود الشيء ما امتاز عينه ... ولولا حدودي ما عرفت حدودي (7)
لقد عشت أيّاما بغير منازع ... ولم أك محسودا لغير حسود
وقال أيضا يخاطب بعض إخوانه في كتاب كتب إليه وهو بديار مصر، وقد مشى إلى دمشق عن ضيق صدر:
إنّ دارا لست فيها تعزى ... وديارا أنت فيها تهنى
__________
(1) النّوء: النجم مال للغروب. وجمعه أنواء. والنّوء: الجهد والمشقة.
(2) الإشارة: ما يخفى عن المتكلم كشفه بالعبارة للطافة معناه.
(3) الكشف: الاطلاع على ما وراء الحجاب من المعاني الغيبية والأمور الحقيقية وجودا وشهودا.
(4) المعرفة: صفة من عرف الحق سبحانه بأسمائه وصفاته.
(5) الوجود: فقدان العبد بمحاق أوصاف البشرية ووجود الحق. الشهود: أن يرى حظوظ نفسه.
(6) الحق: الوعاء. المجاهدة: صدق الافتقار إلى الله تعالى بالانقطاع عن كل ما سواه، وقيل: بذل النفس في رضاء الحق.
(7) الحد: الفصل.(1/362)
فاحمد الله على كلّ حال ... واتخذ ربّك ركنا وحصنا
وقال أيضا:
قالت لنا سفري إن كنت في سفري ... ما كان في سكر أحلى من السكر (1)
فقل إلى سمر شوقي إلى السمر ... فإنّ في عمري خيرا إلى عمري
وقال أيضا:
إنما الإنسان أنفاسه ... وهو للحقّ جلاسه
فإذا ما ينقضي نفس ... أخليت في الحين أكياسه
فإذا لم يبق من نفس ... ينقضي ما فيه إفلاسه
والذي يدري إشارتنا ... أنهم للدهر أكياسه
وقال أيضا من نظم التوشيح:
مطلع تدرع لاهوتي بناسوتي ... وحصل موسى اليم تابوتي (2)
دور فمن قال عني إنني العبد
وقد صحّ أني الملك الفرد
فربّ عليم غرّه الجحد
فانظر عزتي فيك وتثبيتي ... على عرش تنزيهي عن القوت (3)
دور ولو كنت خلقا كنت محصورا
ولو كنت عبدا كنت مقهورا
وكنت على الإيمان مفطورا
فجسمي فيكم جسم مكبوت ... وروحي فيه روح مبخوت
دور ألا فاكتمي يا نفس أو بوحي
__________
(1) السفر: يعني توجه القلب إلى الحق. السكر: دهش يلحق سر المحب في مشاهدة جمال المحبوب فجأة.
(2) اللاهوت: من قولك لاه أي تستّر وعلا، ويقولون: لله لاهوت وللإنسان ناسوت.
(3) العرش: أعظم مخلوقات الله تعالى.
فقد ثبت الجسم مع الروح
عيانا ثبوت الرقم في اللوح (1)
فإن حكم الله بتشتيتي ... هنالك يبدو عجز لاهوتي (2)
دور فإن قال غيري إنني مثلك
وإن كنت عرشا فأنا ظلك (3)
أو ديمة قطر فأنا وبلك (4)
أقول لنفسي هات أو هيتي ... فعيشي على ذلك أو موتي
ألم تعلمي إذ بنى البيت
ما أسرع ما يهدمه الموت
ويبقى عليه حزنه الفوت
فكم بين ملحوظ وممقوت ... وكم بين ذي التابوت والحوت (5)
دور فلو زال تزنيد وتبريح (6)
في القول وفي القلب تجريح
لفتح في سرّك تفتيح
ولا حظت ما لاحظ من أوتي ... معاينة القرب وما أوتي
وقال أيضا من نظم التوشيح:(1/363)
__________
(3) العرش: أعظم مخلوقات الله تعالى.
فقد ثبت الجسم مع الروح
عيانا ثبوت الرقم في اللوح (1)
فإن حكم الله بتشتيتي ... هنالك يبدو عجز لاهوتي (2)
دور فإن قال غيري إنني مثلك
وإن كنت عرشا فأنا ظلك (3)
أو ديمة قطر فأنا وبلك (4)
أقول لنفسي هات أو هيتي ... فعيشي على ذلك أو موتي
ألم تعلمي إذ بنى البيت
ما أسرع ما يهدمه الموت
ويبقى عليه حزنه الفوت
فكم بين ملحوظ وممقوت ... وكم بين ذي التابوت والحوت (5)
دور فلو زال تزنيد وتبريح (6)
في القول وفي القلب تجريح
لفتح في سرّك تفتيح
ولا حظت ما لاحظ من أوتي ... معاينة القرب وما أوتي
وقال أيضا من نظم التوشيح:
مطلع بالمتعالي عبده يصول ... وكلّ عارف يدري ما أقول (7)
دور عين الوجود ... حكمه سرى
بكلّ جود ... ليلة السّرى
(1) الرقم: الكتابة، اللوح: الكتاب المبين محل التدوين والتسطير المؤجل إلى حد معلوم.
(2) اللاهوت: يقال: لله لاهوت ولعلهم يريدون الصفات الإلهية.
(3) العرش: جرم سماوي، أعظم مخلوقات الله تعالى.
(4) الدّيمة: المطر الذي يدوم في سكون دون برق أو رعد. الوبل: المطر الشديد.
(5) ذو التابوت: يعني موسى عليه السلام.
(6) التبريح: الشدّة والشر. والتزنيد: الزيادة.
(7) العارف: هو من أشهده الرب عليه فظهرت الأحوال عن نفسه.(1/364)
وفي الشهود ... صبحه انبرى (1)
يا ذا الجلال هل لنا سبيل ... إلى مواقف خطبها جليل
دور لله عبد ... لم يرد سوى
أتاه عهد ... يحمل اللوى
وصحّ ودّ ... يشمر النوى (2)
يا للوصال فارس يصول ... على المخالف بالذي يقول (3)
دور قلب سقيم ... دائم الغليل
دمع سجوم ... صيب همول
وما تدوم ... علة العليل
بيت الموالي رسمه محيل ... ومن يخالف ما له دليل
دور حلّ البعاد ... فانتفى البشر
والكل بادوا ... ما لهم خبر
ليس المراد ... غير ما ظهر
قل للموالي عند ما تميل ... ما كلّ خائف قلبه ذليل
دور يا من يعانق ... كلّ ما حواه
ليس المفارق ... عاشقا سواه (4)
وكلّ عاشق ... منشدا أخاه
ملّت وصالي والمليح ملول ... ومن يصادف عائقا يصول
وقال أيضا من نظم التوشيح:
مطلع عند ما لاح لعيني المتكا ... ذبت شوقا للذي كان معي
__________
(1) الشهود: أن يرى حظوظ نفسه.
(2) النوى: البعد.
(3) الوصال: هو الانقطاع عما سوى الحق، وليس المراد به اتصال الذات بالذات.
(4) العشق: أقصى درجات المحبّة.(1/365)
دور أيّها البيت العتيق المشرف (1)
جاءك العبد الضعيف المسرف
عينه بالدمع شوقا تذرف
غربة منه ومكرا فالبكا ... ليس محمودا إذا لم ينفع
دور كلما عدّدت فيه قال لي
ليس هذا فيّ بل في ايلي
سأرى حكم قليب قد بلي
بهواها مستغيثا قد شكا ... وأنا أعلم شكوى الجزع
دور أشرقت شمس له ما شرقت
فرأيناها بها إذ شرقت
أرعدت سحب لها ما أبرقت
فعلمنا أنه حين بكى ... ما بكى إلا لأمر موجع
دور مرّ بي في ليلة ليس لها
آخر والصّبح قد جللها
والذي حرّمها حللها
وانتدى يطلب وصلّى واتكى ... ومضى إذ ومضا لم يرجع
دور أيّها الساقي اسقني لا تأتل
فلقد أتعب فكري عذلي
ولقد أنشده ما قيل لي
أيّها الساقي إليك المشتكى ... ضاعت الشكوى إذا لم تنفع
وقال أيضا:
إذا ما دعا داع تلبي من الحشى ... هويته فهو المجيب لمن دعا
__________
(1) البيت العتيق: يعني الكعبة المشرّفة.(1/366)
فما أنا إلا عينه ليس غيره ... ولست بذي مزج ولا أنا بالوعا (1)
فمن قال إن القول بالحدّ واحد ... فذلك قول ليس يدريه من وعى
من العلم إلا رسمه لا وجوده ... وإن مصيب الحقّ من قال أجمعا (2)
إذا عاينت عين لعين كلامه ... على ألسن الأرسال بالحسّ مصرعا
فلا بدّ من صوت يعين حرفه ... ولا بدّ من حرف فقد ثبتا معا (3)
فيا منكر التركيب في كلّ ناطق ... وفي نطقه لو كنت بالحق مولعا
رأيت وجود الحقّ عين كوائن ... أمنت لها من غير أن تتصدّعا
إذا كان نظمي عين نثري فمن هما ... فقل لهما يا صاح للحقّ وارجعا
رعى الله عبدا منصفا ذا حقيقة ... كما أنه بالحقّ للحقّ قد رعى (4)
وقال أيضا لزومية:
ألا إن كشفي مثبت كلّ معتقد ... إذا كان إثباتا ولست بمنتقد (5)
فمن كان ينوي الخير فالخير حاصل ... ومن كان ينوي الشرّ فالشرّ قد فقد
ولو كان عقد الأمر عقدا معينا ... لضاق نطاق الأمر فاقدح عسى تقد (6)
فقد وسم الحق اعتقادات خلقه ... وحسبك ما قد قلت في حقه وقد
ويأبى جناب الحقّ إلا اتساعه ... لتشهده الأبصار في كلّ معتقد
وما تدرك الأبصار منه سوى الذي ... تراه وما يخفى عن العين يعتقد
وإنّ اللبيب الحبر يصمت عندما ... يرى شاهد التحويل في الحقّ قد وجد (7)
وقال أيضا:
جمعت همي عليّا ... فما برحت لديّا
إليّ يا من تعالى ... عن الكيان النيّا
فلم أجد غير ذاتي ... لما بسطت يديّا
فأسفل الكون يعلو ... وقتا بربي عليّا
انظر حديث هبوط ... تجده فيه جليّا
__________
(1) العين: إشارة إلى ذات الشيء الذي تبدو منه الأشياء.
(2) الرسم: هو الخلق وصفاته لأن الرسوم هي الآثار. والوجود: فقدان العبد بمحاق أوصاف البشرية ووجود الحق.
(3) الحرف: يعني اللغة.
(4) الحقيقة: اسم الصفات، والحقّ: الذات.
(5) الكشف: الاطلاع على ما وراء الحجاب من المعاني الغيبية والأمور الحقيقية وجودا وشهودا.
(6) العقد: عقد السر هو ما يعتقده العبد بقلبه بينه وبين الله تعالى أن يفعل كذا أو لا يفعل كذا.
(7) الحبر: العالم أو الصالح.(1/367)
ما جئت شيئا بقولي ... عن الإله فريّا
هذا حديث رسول ... قد اصطفاه نبيّا
ولم أكن عند قولي ... إني بربي نسيّا
لما سريت إليه ... خرت المكان العليّا
ناديت مولى الموالي ... ربي نداء خفيّا
إني ضعفت إلهي ... وصرت شيخا عتيّا
فلم أكن بدعائي ... إيّاك ربّ شقيّا (1)
أنت الوليّ الذي قد ... صيرت قلبي وليّا
فاجعلن ربي إماما ... واجعلن ربي رضيا
فقد ضعفت لما بي ... وذبت شيّا فشيا
سألت ربي أن لا ... يجعل لذاتي سميّا
قد كنت عبدا مطيعا ... إذ كنت ملكا سريّا
أجرى لي الله جودا ... من تحت عرشي سريّا
وأسقط الجذع قوتا ... عليّ رطبا جنيّا (2)
فكان منه غذائي ... وعشت عيشا هنيّا
وكان بي لطف ربي ... لذاك برّا حفيّا
فهل رأيتم إلها ... يقوم شخصا سويّا
هذا محال ولكن ... شاهدت أمرا نديّا
رأيته عين نفسي ... من حيث كنت صبيا
ولم أقل بحلول ... بل كنت منه بريّا (3)
بل لم أجد منه بدّا ... لما هجرت مليّا
وخرّ جمعي إليه ... عند الشهود بكيّا (4)
فكنت أولى بنار ... للشوق فيها صليّا
إني خلصت إليه ... لما اقتربت نجيّا
__________
(1) صدى لقوله تعالى: {وَلَمْ أَكُنْ بِدُعََائِكَ رَبِّ شَقِيًّا} سورة مريم، آية: 4.
(2) صدى لقوله تعالى: {وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسََاقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيًّا} سورة مريم، آية: 25، والخطاب في الآية لمريم بنت عمران.
(3) يتبّرأ ابن عربي من الاعتقاد بالحلول.
(4) الشهود: أن يرى حظوظ نفسه.(1/368)
وقال أيضا:
إذا كنت بالأمر الذي أنت عالم ... به جاهلا فاعلم بأنك عارف (1)
إذا أنت أعطيت العبارة عنهم ... بما هم عليه فاعلم أنك واصف
فإن الذي قد ذقته ليس ينحكي ... ولا يصرف الإنسان عن ذاك صارف
وقل ربّ زدني من علوم تقيدت ... علوم مذاق أنهن عوارف
إذا نلتها كنت العليم بحقها ... وإن كانت الأخرى فتلك المعارف
فمعرفتي بالعين ما ثم غيرها ... وعلمي بحال واحد وهو عاطف
عليها وذاك الأمر ما فيه مدخل ... ألا كلّ ذي ذوق هنالك واقف
وما جهل الأقوام إلا عبارتي ... وما أنا باللفظ المركّب كاشف
وما ثم تصريح لذاك عيوننا ... إذا ما عجزنا بالدموع ذوارف
فإن نحن عبرنا فإن كبيرنا ... لحنظلة التشبيه باللفظ ناقف (2)
تمعر منه الوجه والعجز قائم ... به ويراه اليثربي المكاشف
ولو كان غير اليثربيّ لما درى ... وهل يجهل العلام إلا المخالف
نفى عنهم القرآن فيه مقامهم ... وإني بالله العظيم لحالف
لقد سمعت أذناي ما لا أبثّه ... وقد جافى الأمر الذي لا يخالف
فقلت له سمعا إلهي وطاعة ... وقد كان لي فيما ذكرت مواقف
وما كنت ذا فكر ولا قائلا به ... وقد بينت لي في الطريق المصارف
وما صرفتنا عن تحقق ذاتنا ... بما في طريق السالكين الصوارف
وما ثم إلا سالك ومسلك ... بذا قالت الأسلاف منا السوالف
مشينا على آثارهم عن بصيرة ... وتقليد إيمان فنحن الخوالف
وما حيرتنا في الطريق مجاهل ... وما حكمت بالتيه فينا التنائف (3)
فإن كنت ذا حسّ فنحن الكثائف ... وإن كنت ذا علم فنحن اللطائف (4)
__________
(1) العارف: هو من أشهده الرب عليه فظهرت الأحوال عن نفسه.
(2) التشبيه: يرى المتصوفة أن التشبيه الإلهي عبارة عن صورة الجمال، لأن الجمال الإلهي له معان وهي الأسماء والأوصاف الإلهية وله صور. وهي تجليات تلك المعاني فيما يقع عليه من المحسوس أو المعقول، فالمحسوس كما في قولهم: رأيت ربي في صورة شاب أمرد، والمعقول لقوله: أنا عند ظن عبدي بي فليظن بي ما شاء. وهذه الصورة هي المراد بالتشبيه. ومهما كان من قولهم فإن الله تعالى منزّه عن الشبيه والمثل.
(3) التنائف: المفاوز والفلوات، الواحد التنوفة، التيه: الضياع.
(4) اللطائف: جمع اللطيفة: إشارة إلى القلب عن دقائق الحال.(1/369)
لقد جهلت ما قلته وأبنته ... من أهل الوجود الحقّ منا طوائف (1)
لقد قالت الأعراب: الحرب خدعة ... وإني خبير بالحروب مشاقف
ألا فاعذروا من كان لي ذا جناية ... ويقديه مني تالد ثم طارف (2)
ويشتد خوفي من شهودي لموجدي ... ولما رمت بي نحو ذاك المخاوف (3)
علمت بأني ذو إنكسار وذلة ... وأني مما يأمن القلب خائف
وأصبحت لا أرجو أمانا وإنني ... على باب كوني للشهادة واقف
شهيد لنفسي لا عليها لأنني ... عليم تهادى للعمى متجانف (4)
وإني أناديني إذا ما دعوتني ... وقد هتفت بي في الخطوب الهواتف
وقال أيضا:
لله قوم لهم في كلّ حادثة ... شان وصورتهم من لا له شان
فإن نظرت إليهم في تصرفهم ... تقول ما هم كما قالوا وما كانوا
يعم علمهم أحوال كونهم ... الماض وآلات بالتصريف والآن
سبحان من خصّهم منه بصورته ... هم المقيمون في الوقت الذي بانوا
مسافرون ولم تفقد ذواتهم ... من المجالس والأعيان أعيان (5)
أجسامهم هي أجساد ممثلة ... للناظرين وهم في العين إنسان
بهم نراهم كما قلنا ويشهد لي ... من رؤية الله عرفان ونكران
أنت اعترفت بمن أنكرت صورته ... الأمر سوق فأرباح وخسران
وهم ذوو بصر لما يرون وهم ... عند الأكابر منا فيه عميان
لا يهتدون لما تعطى نواظرهم ... وما لهم في الذي يرون برهان
وكلّ ما انكروا منه أو اعترفوا ... به فذلك عند القوم عرفان
هم في الكتاب الذي اخفته غيرته ... منهم ومن غيرهم في الصدر عنوان
ما في الوجود سوى جود خزائنه ... لها إذا نزلت بالخلق ميزان
لكنه عنده لا عندهم ولذا ... يخيب في نظر الإنصاف أوزان
وما يخيب ولكن هكذا اعتبرت ... بما يفصله حقّ وبهتان
لذاك أوجدهم طبعا وكلفهم ... شرعا فوزنهم نقص ورجحان
ووزن ربّك عدل جلّ عن غرض ... يقيم ميزانه برّ ومحسان
__________
(1) الوجود: فقدان العبد بمحاق أوصاف البشرية ووجود الحق.
(2) الطارف: المال القديم الموروث. التالد: المال المستحدث.
(3) الشهود: أن يرى حظوظ نفسه وتقابله الغيبة.
(4) التجانف: الميل والجور.
(5) الأعيان الثابتة: هي حقائق الممكنات في علم الحق تعالى.(1/370)
مع العليم بما تحويه جنته ... دون اشتراك ومن تحويه نيران
بالاشتراك ومن يخلص لمقعده ... في النار ليس له في الحشر ميزان
بذا أتى خبر الأرسال قاطبة ... وقد أتى بالذي ذكرت قرآن
وقال أيضا:
إن المحامد أنواع منوّعة ... تبيينها لك حمد الحامدين بها
وما لها صور في غير حالهم ... فكن بذا عالما إن كنت منتبها
عم الحلال إذا أكلت عن ضرر ... فإن جهلت فكل ما كان مشتبها
وما يعم حرام وهو حجتنا ... إنّ المآل إلى الرحمن انتبها (1)
إنّ النجوم لتجري في مطالعها ... بما يشاء من أمر نحو مغربها
وذلك الأمر أخفاه وأودعه ... ربّ السموات في تسيير كوكبها
فقائل إنّ هذا الحكم ليس لها ... وقائل حكم هذا من كوكبها
يسري فيحدث في أعياننا عجبا ... وما لها مذهب في أصل مذهبها
وما لها خبر مما يقوم بنا ... بل ذلك الأمر فينا من مرتبها
تقلب الليل عنها والنهار معا ... وما التقلب إلا من مقلبها
سبحانه وتعالى أن يحاط بما ... يحويه علما لدينا في تقلبها
وقال أيضا:
عليك بحفظ النفس فالأمر بيّن ... فإنّ وجود القشر للبّ صائن
يصون بحكم الحال لا علم عنده ... فما يدري ما تحوي عليه المصاون
وإنّ وجودي صائن من علمته ... وبيني وبين الحقّ فيه تباين (2)
فيحفظني وقتا ووقتا أصونه ... ويدري الذي قد قلته من يعاين
فما ثمّ إلا الكشف ما ثم غيره ... وما بعد علم العين علم يوازن (3)
إذا كان مخدومي الذي قد تركته ... ببسطام خلفي قل لمن أنا سادن (4)
إذا كان مطلوبي ومن هو غايتي ... وبدئي فما في العالمين تغابن
أرى فتية عمياء جاءت لنصرتي ... تقول لنا بالحال أنت المفاتن
__________
(1) المآل: المرجع.
(2) الحق: من أسماء الله تعالى. وقال ابن عربي: الحق كل ما فرض على العبد، وكل ما أوجبه الله على نفسه.
(3) الكشف: الاطلاع على ما وراء الحجاب من المعاني الغيبية والأمور الحقيقية وجودا وشهودا.
(4) يشير إلى أبي يزيد طيفور البسطامي الصوفي الزاهد المتوفى سنة 261هـ.
والسادن: خادم الكعبة، والحاجب.(1/371)
فحصّلت منها كلّ خير وإنني ... أسايف أوقاتا ووقتا أطاعن (1)
وما أنت فيها ذو نواء نويته ... ولا أنا عنها بالجماعة ظاعن
فمن شاء فليرحل ومن شاء فليقم ... فما الأمر إلا كائن وهو بائن
وقال أيضا:
تراءيت لي في كلّ شيء فكنته ... ولو لم تكن عيني لما كنت مدركا
فأين أنا والكلّ مني أنتم ... ولم أدر من هذا الذي كان أدركا
فقل لي وعرّفني فإني حائر ... ولو كنته ما حرت العلم أنكا
إلهي فإن العبد عين حقيقتي ... فنحن بنا عقلا وفي كشفنا بكا (2)
فإن قلت إني لستكم كنت صادقا ... وإن قلت إني أنتم فأنا لكا
لك الحكم فينا كيف شئت تأدّبا ... لسرّ بدا لي كان للأمر أملكا
أنا كلّ شي إن تأملت صورتي ... فإني إنسان وإن كنت مألكا (3)
تمثّل جبريل لمريم صورة ... من الإنس لم يأت بمثل ولا بكا
لنعلم أنّ الأمر عين الذي ترى ... وقد صار ما عاينته فيه مهلكا
فإن شئت سلطانا وإن شئت سوقة ... وإن شئت ذا نسك وإن شئت منسكا
وقال أيضا:
من سأل الله في أمور ... عن أمره لم يخب سؤاله
وجاءه في الجواب منه ... ما فيه أن حققوا كماله
إن الذي تنتهي المعالي ... في كلّ شيء له مآله
وليس بعد الكمال نقص ... إن أنت أنصفتني مثاله
عبد وربّ هل ثم غير ... قد انتهى عينه وحاله
لله قوم لما ذكرنا ... تحققوا فيه هم رجاله
في كلّ حال لهم وجود ... فهم لما قلته عياله
عار عليهم فما حواهم ... في ذكره غيره مقاله
وكلّ شخص على انفراد ... من مثله قد حماه ماله
بالمال مال الورى إليه ... لذاك يرجوهم نواله (4)
وما لهم في الرجاء عين ... ومن له لم يزل وباله
__________
(1) أسايف: أبارز بالسيف. أطاعن: أقاتل وأرمي بالرمح.
(2) الحقيقة: يعني إقامة العبد في محل الوصال إلى الله تعالى.
(3) مألك: يعني الملك.
(4) الورى: الخلق: النوال: العطاء.(1/372)
وليس ذاك الشخيص منهم ... وهو الذي لم يخب سؤاله
لم يفتقر في الورى إليهم ... لأنه لم يقم جماله
بهم فلم يعرفوا كراما ... فحاله بينهم خلاله
فما لهم في الوجود قدر ... لو ذكروا قيل هم سفاله
دارت رحى كونهم عليهم ... فهم إلى طحنه ثفاله (1)
يجهلهم كلّ من يراهم ... وهم على خلقه ظلاله
رحمتهم قط ما يراها ... من ضاق في علمه مجاله
لو أنّ شخصا يريد سوءا ... به لما ردّه محاله
وقال أيضا:
إذا كنت إنسانا فكن خير إنسان ... فإنّ بخيل القوم ليس بمحسان
ولا تظهرن إن كنت تملك سترة ... إلى كلّ ذي عين بصورة عريان (2)
وحقّق إذا ما قلت قولا ولا تكن ... تخلط صدق القول منك ببهتان
ولا تسرعن إن جاء يسأل سائل ... ولا تبذر السمراء في أرض عميان (3)
وكن ذا لسان واحد وهو عينه ... ولا تك من قوم بفهيم لسانان
لسان بخلق وهو عضو معين ... وليس يرى ذا العضو إلا لتبيان
ونطق بحقّ فهو بالصدق ناطق ... تقسم قرآنا بتقسيم فرقان
فيبدو لذاك القسم من كلّ وجهة ... من العالم الأدنى إليك طريقان
طريق شكور أو كفور وما هما ... فريقان بل هم بالتقاسيم فرقان
فإن كنت عند القسم بالأمر عالما ... فما ثم فرقان بوجه ولا ثان
فما أنت بالتوحيد متحد به ... فربحك خسران ونقصك رجحاني
ولا تدخلن إن كنت طالب حكمة ... حقيقة ما تبغيه كفّة ميزان
فما وضع الميزان إلا بأرضه ... هنا وبأرض الحشر والشان كالشان
وما هو مطلوبي فذلك خارج ... عن الحدّ والتقسيم فيه ببرهان
فليس وجود الخلق إلا بجوده ... وجود الإله الحقّ ليس بميزان
يفيض الإله الحقّ عين عطائه ... وتقبله الأعيان من غير نقصان
فما ثم إلا كامل في طريقه ... من أصحاب أفلاك وأصحاب أركان
__________
(1) الرّحى: الطاحونة. الثّفال: الحجر الأسفل من الرحى.
(2) السّتر: كل ما يسترك عما يغنيك، وقيل: غطاء الكون.
(3) السّمراء: الحنطة.(1/373)
بهذا قد أعطى كلّ من كان خلقه ... كما قاله الرحمن في نصّ قرآن
وقال أيضا:
إذا كنت بالحقّ المهيمن ناطقا ... فكن ناطقا في كلّ شي بحقّه
ولا تأخذ الأشياء من غير وجهها ... فإنّ وجود العدل في غير خلقه
فكن بالإله الحقّ في كلّ حالة ... ولا تجر في الأشياء إلا بوفقه
وخذ سرّ هذا الأمر من عين غربه ... وخذ نوره للكشف من عين شرقه (1)
فيا نائبا عن ربّه في صلاته ... إذا قام بين الآيتين من أفقه
ومن حاز شيئا من وجود إلهه ... فما حازه إلا بأفضل خلقه
أنا حقّ أسماء الإله بأسرها ... وهل تخزن الأعلاف إلا بحقّه
ألا إنني العبد الذي ليس يرتجى ... خروجا بعتق من حقيقة رقّه
وإن كان عبد الله حقا بذاته ... فإني ممن لا أقول بعتقه
وقال أيضا:
ما رأينا من عنايته ... يأخذ الأموال والولدا
غير ربّ لم يزل أبدا ... بكمال الوصف منفردا
أبصر المغرور جنته ... ثم لم يدر الذي شهدا
قال ما أظن في خلدي ... أن تبيد هذه أبدّا (2)
لم تكن كما تخيله ... أنها تبقى له أمدا
وهي عند الله باقية ... للذي قد كان معتقدا
فأراه الظن خيبته ... وأرى العلم الذي انتقدا
فأراه ما توعّده ... وأراه ما به وعدا
لم يزل في قدس جنته ... طالع العلى منتقدا
حامدا لله خالقه ... حيث لم يترك له سندا
كلّ من طابت سريته ... بالذي في سرّه اتحدا (3)
لم يجد من دون خالقه ... أحدا يكون ملتحدا
إنّ لي مولى اسرّ به ... ما يرى شيئا يكون سدى
عين كون الشيء حكمته ... ما لها حكم عليه بدا
__________
(1) الكشف: الاطلاع على ما وراء الحجاب من المعاني الغيبية والأمور الحقيقية وجودا وشهودا.
(2) الخلد: الذّهن.
(3) السر: لطيفة مودعة في القلب كالروح في البدن. والسريرة بمعنى السر، أي ما يكتم.(1/374)
الذي ترجى عوارفه ... كان لي ركنا ومستندا
عز لم يعرف وما عرفوا ... غير من أضلهم بهدى
فهو المعلوم عندهم ... والذي لا يعلمن أبدا
وقال أيضا:
إذا الأمر لم يكن فكنه فإنه ... قصارى حديثي أن أكون كأنه
بذا جاء نصّ الشرع في غير موضع ... فمن لم يصدقني فيعلم أنه
عن الحقّ مصروف إلى غير وجهه ... وعن مشهد التحقيق ربي أكنه (1)
وأعلم ما المعنى الذي قام واستوى ... على عرشه العلويّ حين اجنّه (2)
وما هو إلا قربه ليس غيره ... ولو كان ذا بعد لأسمع أذنه
خطابا بليغا يخرق السمع صوته ... ويودع فيه من تكلم أذنه
وديعة حقّ لا وديعة حيلة ... فيضحى لما قد فات يقرع منه
كما صنع الرامي الذي جاز سهمه ... فريسته فاستلزم القلب حزنه
فوسع مكان الضيق منك تخلقا ... فمن وسع الرحمن سهل حزنه
ولا شطر الأشياء الا بعينها ... فقد يقلب الفرار وقتا مجنه
إذا كنت ذا خبر لما أنت صانع ... له فعلمنا أن ستدرك حسنه
تأمل إذا ما قرّب الشخص بيضة ... هي الكل من شخص يقرّب بدنه
ويفضل عنها مثلها وزيادة ... وهذا دليل إن تحققت عينه
فخذ بالوجود الحقّ ما دمت ههنا ... ولا تبق شيئا خلفكم لتجنه (3)
فمن سنّ خيرا حاز من كل معتد ... به خيره بالفعل إذ كان سنه
وقال أيضا:
أنا آدم الأسماء لا آدم النشء ... فلي في السما والأرض ما كان من خبء
ولكنه من حيث أسماء كونه ... وما لي فيه إن تحققت من كفؤ
أنا خاتم الأمر الأعمّ وجوده ... لذاك تحملت الذي فيه من عبء
فإن كنت ذا علم بقولي ومقصدي ... وأحكام ما في الكلّ من حكمة الجزء
فلا تأخذ الأقوال من كلّ قائل ... وإن كان لا يدري الذي قال من هزء
__________
(1) التحقيق: ظهور الحق في صور الأسماء الإلهية، وقيل: هو تكلف العبد لاستدعاء الحقيقة جهده.
(2) أجنّه: ستره. وفي البيت إشارة إلى قوله تعالى: {الرَّحْمََنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى ََ} سورة طه، آية: 5.
وقد أوّلوه على أنه استواء بمعنى القهر والاستيلاء، ولا يفهم منه في أي حال معنى يوهم التجسيم والتشبيه.
(3) الوجود: فقدان العبد بمحاق أوصاف البشرية ووجود الحق.(1/375)
فإنّ الكلام الحقّ ذلك فاعتمد ... عليه ولا تهمله وافزع إلى البدء
لقد مدّني ظلا وإن كنت نوره ... فإن لم أكن في الظل إني لفي الفيء (1)
لقد عظّم الرحمن نشئي لمن درى ... وأعظم قدر الشخص ما كان في النشء
وما أنا من هلك فما أنا هالك ... وما أنا ممن يدرأ الدرء بالدرء
ولكنني ردء لمن جاء يبتغي ... معونته مني فآمن بالردء (2)
وإني إذا ما ضمني برد عفوه ... إليه بجرمي أنني منه في دفء
وأعجب من كوني دليلا بنشأتي ... ولا أرتجي برءا وأجنح للبرء
وما ذاك إلا حكم غفلتي التي ... خصصت بها وهي التي لم تزل تشئى
وقال أيضا:
ولولا وجود الربّ لم تكن عيننا ... ولولا وجود العبد ما عرف الرب
فوقتا يكون الجسم والقلب انتم ... ووقتا يكون الجسم والسيّد القلب
فمجموعنا شخص لذاك أتى به ... وسمّاه شخصا مرسلا من له القرب
أنا صورة من صورة لم تقم بنا ... ولو أنها قامت لأدركني العجب
أنا سرّه الفاني وسرّ بقائه ... كما هو لي تاج وفي ساعدي قلب
كلفت بمن يدريه إذ كان عاشقي ... وأظهر عشقي شهرة الحبّ لا الحب
كذا قال شيخي لي شفاها وزادني ... بأني بها المقتول والواله الصّبّ (3)
وقال أيضا:
ما لقومي عن حديثي في عمى ... ما أظنّ القوم إلا قدما
أخذوا العلم عن الفكر وعن ... كلّ روح ما له علم بما
عندنا من جهة العلم به ... جلّ أن يفهم أو أن يفهما
هكذا قالوا وما عندهم ... خبر الذوق بعلم العلما
فأنا أطلبه منه وهم ... يطلبون العلم منهم أينما
فعلوم القوم من أنفسهم ... وعلومي من إله حكما
إنه يعطي الذي يعلمه ... لعبيد لم يزالوا رحما
بينهم تبصرهم قد وقفوا ... في المحاريب وصفوا القدما (4)
بقلوب علمت أنّ لها ... عند ربّ الصّدق حقا قدما
__________
(1) الظل: هو الوجود الإضافي الظاهر بتعينات الأعيان الممكنة.
(2) الرّدء: العون.
(3) الواله: المفرط في الحب.
(4) المحاريب: الواحد محراب: مكان الإمام في الصلاة، وصدر المجلس.(1/376)
وعيون واكفات أرسلت ... من بكاء بدل الدمع دما (1)
ينظرون الأمر من سيدهم ... لخيال عندهم قد نجما
فلهذا جاءهم ما ردهم ... يحملون الكلّ عنا حكما
لعلوم لم ينلها دنس ... من عبارات فما حلّت فما
وقال أيضا:
يس على الجزم مبني فليس له ... في العقل كون ولا طبع فيسرقه
فذاته القلب فالتقليب شيمته ... لكنه رحوىّ فيه مشرقه
فما له من سكون فهو في فرح ... وما له حركات عنه تقلقه
له الشؤون وفوق العرش مسكنه ... عند الإله الذي به تحققه
وبالذي عنده منه تعلقه ... كما بأسمائه الحسنى تخلقه
هو الوجود فما تنفك صورته ... مع الجمال الذي به تعشقه
فالوجد يسكنه والشوق يقلقه ... وللذي يدعيه الأمر يسبقه (2)
خلاف طه فإن الفتح يلزمه ... لذاك جاء ليشقى وهو يخلقه (3)
هو الجديد الذي الايجاد عينه ... في كلّ آن مع الأنفاس يخلقه
بالجود أوجده بالكون حدّده ... وبالتجلي يغذيه ويرزقه (4)
أعطاه سورته فحاز سورته ... به يقيده عنه ويطلقه
به يحققه منه يخلقه ... فيه يعشقه له يشوقه
إنّ الوجود له حدّ ومستند ... في الكائنات وأحوالي تصدّقه
ون وق مع ص وسائط ظهرت ... تعطي الغنى وهي بالأسما تغرقه (5)
وإذ بدت سبحات الوجه واتصلت ... بالكون أضواؤها في الحال تحرقه (6)
من أعجب الأمر أنّ الستر منسدل ... والنور من خلفه وليس يخرقه
وكلّ ستر فمجموع ويشهد لي ... أجزاؤه ثم لا تأتي تمزقه
__________
(1) واكفة: قاطرة. وكف: قطر.
(2) الوجد: خشوع الروح عند مطالعة سر الحق.
(3) صدى لقوله تعالى: {طه مََا أَنْزَلْنََا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى ََ} سورة طه، آية: 2.
(4) التجلي: إشراق أنوار إقبال الحق على قلوب المقبلين عليه، وقيل: ما ينكشف للقلوب من أنوار الغيوب.
(5) الاسم: حروف جعلت لاستدلال المسمى بالتسمية على إثبات المسمى.
(6) السبحة: الهباء فإنه ظلمة خلق الله فيها الخلق. وقيل: هي الهباء المسماة بالهيولى لكونها غير واضحة ولا موجودة إلا بالصدر لا بنفسها.(1/377)
وقال أيضا:
إذا نطق الكتاب بما حواه ... من العلم المفصل نطق حال (1)
علمت بأنه علم صحيح ... أتاك به المثل في المثال
إذا جهل السؤال فإن فيما ... تراه إجابة علم السؤال
أذود عن القرابة كلّ سوء ... بأرماح مثقّفة طوال (2)
من ألسنة حداد لا تبارى ... أتتك بهنّ أفواه الرجال
رأيتهم وهم قدما صفوفا ... عبيد مهيمن ولنا الموالي
فإنّ الله أرسلهم رجالا ... لإلحاق الأسافل بالأعالي
وإلحام الأباعد بالأداني ... وقالوا: النقص من شرط الكمال
ولكن في الوجود وكلّ شيء ... يكون كماله نقص الكمال
ولولا الانحراف لما وجدنا ... فلا تطلب وجود الاعتدال
بأنّ الله لا يعطيه خلقا ... فإنّ وجوده عين المحال
ولا تسأل قرار الحال فينا ... فإنّ الحكم فينا للزوال
مع الأنفاس والأمثال تبدو ... هي الخلق الجديد فلا تبال
وليس شؤون ربي غير هذا ... وهذا الحقّ ليس من الخيال
رأيت عمى تكوّن عن عماء ... وأين هدى البيان من الضلال (3)
فلا يحوي المعارف غير قلب ... فإنّ الحكم من حكم العقال (4)
إذا عاينت ذا سير حثيث ... فذاك السير في طلب النوال (5)
إذا وفى حقيقته عبيد ... له حكم التفيؤ كالظلال (6)
ألا إنّ الكمال لمن تردّى ... بأردية الجلال مع الجمال
فيفهم ما يكون بغير قول ... ويعجز فهمه نطق المقال
لو أنّ الأمر تضبطه عقول ... لأصبح في إسار غير وال
وقيّده اللبيب وقيدته ... صروف الحادثات مع الليالي (7)
__________
(1) الحال: هو ما يرد على القلب من طرب أو حزن أو بسط أو قبض.
(2) أذود: أدافع. أرماح مثقفة: أي الرماح التي سوّيت.
(3) العماء، قيل: العماء ذات محض لا تتصف بالحقية ولا بالخلقية ولا تضاف إلى مرتبة لا حقية ولا خلقية، فلا تقتضي لعدم الإضافة وصفا ولا اسما.
(4) المعرفة: صفة من عرف الحق سبحانه بأسمائه وصفاته.
(5) النوال: العطاء.
(6) الظل: هو بسط الوجود الإضافي على الممكنات.
(7) الصروف: حوادث الدهر.(1/378)
وإنّ الأمر تقييد بوجه ... وإطلاق بوجه باعتلال
إذا كان القويّ على وجوه ... محققة تؤول إلى انفصال
فأقواها الذي قد قلت فيه ... يكون لعينه عين المحال
وقال أيضا:
الحمد للأوّل والآخر ... الأحد الباطن والظاهر (1)
بوحدة الكبر عرفت الذي ... قرّره الرحمن في خاطري
إنّ الغنى وصف له ثابت ... عند اللبيب العاقل الناظر
والنقل قد أثبت أسماءه ... لحكمته الخابر والحائر
والكشف قد قال بهذا وذا ... لأنه في الموقف الباهر (2)
يبهر أرباب الحجى بالغنى ... ويبهر الناقل بالحابر (3)
وهو على ما هو في نفسه ... يحكم للأوّل والآخر
وقال أيضا:
القى الهوى في القلب ما ألقى ... فلا تسل عن كنه ما ألقى (4)
لقيت منه الجهد في لذة ... لأنني عبد له حقا
أضلنا الله على علمنا ... به فما أعذب ما نلقى
تعبّد القلب هواه فما ... ينفكّ قلبي للهوى رقا
رقيت للحبّ إلى راحة ... ملذوذة غيري بها يشقى
لما درى بأنني عبده ... قضى بضربي الغرب والشرقا
قد دبّت فيما حاز من رقّة ... ومن جمال والهوى عشقا (5)
والله لو أنّ الذي عندنا ... منه بأقوى جبل شقا
قد رقّ لي الشامت مما يرى ... وحسبكم من شامت رقا
ما إن رأينا في الهوى عاذلا ... إلا ولا بدّ له يلقى
مثل الذي يلقاه ذو لوعة ... وهو الذي سمّي بالأشقى
كما الذي قد اتقى نفسه ... وربّه سماه بالأتقى
فاشربه مرّا ولذيذا فما ... بكاس غير الحبّ ما تسقى
__________
(1) يريد: الله سبحانه وتعالى.
(2) الكشف: الاطلاع على ما وراء الحجاب من المعاني الغيبية والأمور الحقيقية.
(3) أرباب الحجى: العقلاء.
(4) الكنه: هو الشيء وغايته.
(5) العشق: أقصى درجات المحبة.(1/379)
ألا ترى موسى وما موله ... أعطاه ما أمل والصّعقا
فكان موسى صادقا في الذي ... قد جاء يبغيه به صدقا
فعند ما ردّ إلى حسه ... تاب ووفى العهد واستبقى
وكلما كان له بعد ذا ... مما رأى من ربه وفقا
أثمر فيه ذاك من ربه ... في ليلة الإسرا بنا رفقا
وعاين الروح وقد جاءه ... إذ سدّ بالأجنحة الأفقا (1)
يخبره أن السماء التي ... ترى وأرضا كانتا رتقا (2)
فحكم الفصل بها والقضا ... فصيراها حكمة فتقا
لا يشرب الخالص عبد هنا ... من كلّ ما يشرب إذ يسقى
من كان أمشاجا من أخلاطه ... فكيف لا يشربه ريقا (3)
من يبتغي العصمة في حالة ... دائمة يستلزم الصدقا
والصدق لا شكّ على ما ترى ... أنزله الله لنا رزقا
فيأخذ العبد على قدره ... منه كمثل الرزق لا فرقا
ما أن رأينا في الهوى حاكما ... أبقى ولا أتقى ولا أنقى
مثل الذي يعرف مقداره ... فإنه قد حازه سبقا
العلم يستعمل أصحابه ... لا بد منه فالزم الحقا
فإنّ قوما لم يقولوا بذا ... لجهلهم بالعلم أو فسقا
وقال أيضا نصيحة:
أمّنك الله وسلطانه ... على الذي أنت به قائم
فاحكم بما تعلمه لا تن ... فإنك المسؤول يا حاكم
يحكم عدل الله فيكم كما ... أنت به في خلقه حاكم
وانتم أهل لما نلتم ... في ظننا وربّنا العالم
وحرّر الميزان يا سيدي ... فإنه العادل والقاسم
وقد علمتم أنني ناصح ... ومشفق وما أنا زاعم
__________
(1) الروح، يعني: جبريل عليه السلام.
(2) صدى لقوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضَ كََانَتََا رَتْقاً فَفَتَقْنََاهُمََا} الأنبياء، آية:
21. والرّتق ضد الفتق، وقد يطلق الرتق على نسب الحضرة الواحدية باعتبار لا ظهورها.
(3) إشارة إلى مضمون قوله تعالى: {إِنََّا خَلَقْنَا الْإِنْسََانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشََاجٍ}. سورة الإنسان، آية: 2.
ونطفة أمشاج يعني مختلطة بماء المرأة ودمها.(1/380)
فلتعتصم بحبله إنه ... كما علمت الحافظ العاصم
واحذر من المكر فقد يختفي ... فإنه القاهر والقاصم
وقال أيضا:
يا لائمي في مقالي ... لا بد فيه تلقى
إن كنت ثوبا عليه ... فانني منك أنقى
أو كنت عبدا لديه ... فإنني فيه أبقا
أو كنته في يديه ... فإنني منه أبقى
قد حزت كلّ مقام ... لله ملكا ورقّا
وإنني في أموري ... إذا نظرت موقى
فاحمد إلهك تحمد ... خلقا وخلقا وخلقا
وكن به من لدنه ... تحوز علما ورزقا
وقال أيضا:
الهوى حيّرني ... في الذي تعلمه
فإذا قلت أنا ... قال لا أعلمه
وإذا قلت بلى ... قال ذا أفهمه
ما أنا غير الهوى ... ولذا أحكمه
والهوى يعرب ما ... لم أزل أعجمه (1)
ولنا من كل ما ... قال لي محكمه
هكذا عرفني ... سيدي محكمه
فبه أظهره ... وله أكتمه
وأنا العبد الذي ... قد هوت أنجمه
يطلب الأمر الذي ... في الثّرى معلمه
ولذا أعدل في ... كلّ ما أظلمه
عين ما أوضحه ... عين ما أبهمه (2)
فإذا أمدحه ... فأنا أكلمه
والذي ينقض لي ... فأنا أبرمه (3)
__________
(1) الهوى: الحب. يعرب: يبيّن. يعجم: ضد يعرب.
(2) العين: إشارة إلى ذات الشيء الذي تبدو منه الأشياء.
(3) يبرم الأحمر: يحكمه، والنقض ضده.(1/381)
ولذا يبصرني ... أبدا أبرمه
وقال أيضا:
اقتلوني يا عداتي ... بوفائي بعداتي
إنني أحيى بهذا ... فحياتي في مماتي
ينقل الشخص اختصاصا ... من هنا لا عن ممات
ويراه الحسّ في صو ... رة أقوام موات
وبعين الكشف يعلم ... أنّ ذا غير مواتي (1)
بل حياة استمرت ... في فتى أو فتيات
أنا أبصرت علوما ... كالجور الزاخرات
في فؤادي وعيونا ... من سحاب معصرات (2)
ينتهي من غير حدّ ... نظر لا بأدات
فأنا فرد وحيد ... وأنا الكلّ بذاتي (3)
عين إفرادي صحيح ... إنه عين ثباتي
كم دعوت الله فيهم ... بزوال في ثبات
ما أرى غير وجودي ... في اجتماعي وشتاتي
كلما قلت أتاني ... قيل لي اسكن فسياتي
كمّل الله وجودي ... بأب ثم بنات
فأنا ابن وأنا أي ... ضا أب في المحدثات (4)
ما لنا منه سوى ما ... قد علمتم من سمات (5)
ونعوت أظهرتها ... محدثات وصفات
لم أجد عين غناه ... دون ذكري حين ياتي
فغناه عن وجودي ... وأنا فيه بذاتي
ليت شعري كيف هذا ... وبقائي في وفاتي
وأنا غير فقيد ... ناظرا حال حياتي
قد تحيّرت وما لي ... مخرج من غمراتي
إنني عبد ذليل ... لرفيع الدرجات
__________
(1) الكشف: الإطلاع على ما وراء الحجاب من المعاني الغيبية والأمور الحقيقية، وجودا وشهودا.
(2) المعصرات: السحاب الممطر.
(3) الفرد: عبارة عن الرجل الخارج عن نظر القطب.
(4) المحدثات: المخلوقات.
(5) السّمات: العلامات.(1/382)
أرى كثرا في وحيد ... يا لها من خطرات
كلما رمت انفكاكا ... لم أزل في عثراتي
فتراني الدهر أبكي ... لدوام الحسرات
ثم ناجاني بأمر ... فيه ذكر الحسنات
إن سمعنا وأطعنا ... ثم ذكر السيئات
إن سمعنا وعصينا ... ما أتى في الكلمات
بين إلقاء صريح ... بيّن أو نفثات
ثم ما لي غير سكني ... درج أو دركات
في شهود أو حجاب ... عن نعيم اللحظات (1)
وقال أيضا في الوارد بعينه نهذا لسانه:
ما رأينا من وجود ... مثل جوده الأتمّ
مثل جود الله فينا ... في عموم وأعمّ
ورأينا من تعالى ... فوق عرشه الأطمّ (2)
قد طما سيل جداه ... منه عن أمر مهمّ
فشهدنا كلّ شي ... كان من وصف أو اسم
وسألت الله أن يض ... رب لي فيهم بسهم
قال لي ليس لذاتي ... ما بدا مني لكمّ
بل لك الكل جميعا ... هكذا أعطاه علمي
لم يكن ظنّا ولا ما ... ينسب الوهم لفهمي
هكذا الأمر فقسم ... ثم خذ منه بقسم
ما يعمّ الشرب خلقا ... أبدا ولا بوهم
هو همي في سروري ... وفي أفراحي وغمي
ولذا جاء يردني ... أبدا في كلّ حكم
باسمكم سميت نفسي ... مثل ما سميت باسمي
ما أنا غير المسمى ... لا ولا غير المسمي
__________
(1) الشهود: أن يرى حظوظ نفسه، وتقابله الغيبة. والحجاب: حائل يحول بين الشيء المطلوب المقصود وبين طالبه وقاصده.
(2) فليعلم أن علو الله هو علو مكانة وليس علو مكان، فالله قد خلق العرش إظهارا لقدرته ولم يتخذه مكانا له، سبحانه، والأطم: كل حصن مبني بحجارة، والقصر.(1/383)
كلّ شيء فيّ بالفع ... لكذا أعطاه زعمي
قلت للظاهر مني ... في وجودي أين عمي
أنا مشتاق إليه ... قال عند الشرب يصمي (1)
فإذا جئت إليه ... عدّ عنه ثم عمّ
أمره عنهم وصرّح ... بمديحي وبذمي
ولتقم فيه خطيبا ... بالذي فيهم وسمي
ولتعين كلّ شخص ... بالذي فيهم من إثم
من عناق في حرام ... وارتشاف عند لثم (2)
وستور مسدلات ... وجماع عند ضم
وقال أيضا في الفرق بين الوارث الموسوي والوارث المحمدي:
إذا النور من فار أو من طور سيناء ... أتى عاد نارا للكليم كما شاء (3)
فكلمه منه وكان لحاجته ... رأها به فاسترسل الحال أشياء
وإن شاء ربّ الوقت من حال من سعى ... على أهله من خالص الصدق انشاء
وأما أنا من أجل أحمد لم أر ... سوى بلة من قدر راحتنا ماء
فلم يك ذاك القول إلا ببقعة ... من الواد سماها لنا طور سيناء
واسمعني منها كلاما مقدّسا ... صريحا فصحّ القول لم يك إيماء
ولم يحكم التكليف فينا بحالة ... وجاء به الله المهيمن أنباء
فالقيت كلّ اسم لكوني وكونه ... إذا انصف الرائي يفصل اسماء
وكان الى جنبي جلوسا ذوو احجى ... فلم يفشه من أجلهم لي إفشاء (4)
وما ثم أقوال تعاد بعينها ... إلا كلّ ما في الكون لله له بداء (5)
إذا ماتت الألباب من طول فكرها ... أتى الكشف يحيها من الحقّ إحياء (6)
وقد كان أخفاها من أجل عشرتي ... لنكر بهم قد قام إذ قال إخفاء
خفاها فلم تظهر دعاها فلم تجب ... وكان الدعا ليلا فأحدث إسراء
ليظهر آيات ويبدي عجائبا ... لناظره حتى إذا ما انتهى فاء
إلى أهله من كلّ حسّ وقوّة ... فقرّب أحبابا وأهلك أعداء
وأرسل أملاكا بكل حقيقته ... إليه على حبّ وألف اجزاء
__________
(1) يصمي: يقال: صمى الصّيد يصمي: مات مكانه.
(2) ارتشاف: امتصاص.
(3) ذو حجي: عاقل.
(4) طور سيناء: جبل بسيناء.
(5) يقال: بدا له في الأمر بدوا: نشأ له فيه رأى.
(6) الكشف: الاطلاع على ما وراء الحجاب من المعاني الغيبية والأمور الحقيقية وجودا وشهودا.(1/384)
وأبدى رسوما داثرات من البلى ... فابرز أمواتا وأقبر أحياء
وأظهر بالكاف التي عميت بها ... عقول عن إدراك التكافؤ أكفاء
وما كانت الأمثال إلا بنوره ... فكانت له ظلا وفي العلم أفياء (1)
وارسل سحبا معصرات فامطرت ... لترتيب أنواء وحرّم أنواء (2)
فروضك مطلول بكلّ خميلة ... إذا طله أوحى من الليل أنداء (3)
فعطر أعرافا لها فتعطرت ... أزاح بها عن روضه اليانع الداء (4)
وصيرّها للداء عنها مزيلة ... فكانت شفاء للمسام وأدواء
وأطلع فيها الزهر من كلّ جانب ... نجوما تعالت في الغصون وأضواء
وقد كانت الأرجاء منها على رجى ... فأوصلها خيرا وأكبر نعماء
فهذي علوم القوم إن كنت طالبا ... ودع عنك أغراضا تصدّ وأهواء
فدونك والزم شرع أحمد وحده ... فإنّ له في شرعة الكلّ سيساء (5)
وقال أيضا:
لي الملك لا بل نحن للملك آلة ... فإن كنت ذا علم بما قلت فاهتدي
تخيل لي السلطان ان كنت حاكما ... بصورة مهديّ وسنة مهتدي
فإنّ بالاستحقاق قد نال ملكه ... ويغفل عما في الرداء لمرتد
وليس بالاستحقاق ما نال آية ... ليسأل عنه في القيامة في غد
يقابل من يلقى بدرع حصينة ... ويقتل أعداء بكلّ مهند (6)
وقال أيضا في نظم التوشيح:
مطلع ألا بأبي من ضمّه صدري ... وأدريه قطعا وهو لا يدري
دور لقد أقسم الحقّ بما أقسم (7)
__________
(1) المثل: يعني الإنسان، وهي الصورة التي يظهر عليها.
(2) المعصرات: السحب الماطرة. النّوء: النجم مال إلى الغروب.
(3) مطلول: أصابه الطّل أي الندى. الخميلة: الرملة تنبت الشجر.
(4) الأعراف: الروائح العطرة.
(5) السّيساء: يقال: حمله على سيساء الحق أي على حده.
(6) المهند: السيف.
(7) الحق: يعني الله تعالى.
وعلمنا ما لم نكن نعلم
وأوضح لي ما كان قد أبهم
فاقسم بالشفع وبالوتر ... فاثبت عيني عند ذي حجر (1)
دور لقد صحّ لي من كنت أبغيه
وأثبته وقتا وأنفيه
وقلت لمن قد جاء يطغيه
لقد مر بي الليل إذا يسري ... بحالة عسر الكون في يسر (2)
دور نظرت إليه نظر العين
بأكمل وصف يقتضى كوني
وفي كشفه أردية الصون (3)
وقد خط بالأمر الذي تدري ... من قدر الذي في سورة القدر
دور وليلة قدر ما لها صبح (4)
ينزل فيها النصر والفتح
على قلب عبد نعته الشرح
ينزل فيها عالم الأمر ... والروح إلى مطلع الفجر (5)
دور لو أن الذي أشهدت في الجهر
وأعطيته في الشأن والأمر
يلوح لذي الطّور من الستر (6)(1/385)
__________
(7) الحق: يعني الله تعالى.
وعلمنا ما لم نكن نعلم
وأوضح لي ما كان قد أبهم
فاقسم بالشفع وبالوتر ... فاثبت عيني عند ذي حجر (1)
دور لقد صحّ لي من كنت أبغيه
وأثبته وقتا وأنفيه
وقلت لمن قد جاء يطغيه
لقد مر بي الليل إذا يسري ... بحالة عسر الكون في يسر (2)
دور نظرت إليه نظر العين
بأكمل وصف يقتضى كوني
وفي كشفه أردية الصون (3)
وقد خط بالأمر الذي تدري ... من قدر الذي في سورة القدر
دور وليلة قدر ما لها صبح (4)
ينزل فيها النصر والفتح
على قلب عبد نعته الشرح
ينزل فيها عالم الأمر ... والروح إلى مطلع الفجر (5)
دور لو أن الذي أشهدت في الجهر
وأعطيته في الشأن والأمر
يلوح لذي الطّور من الستر (6)
(1) إشارة إلى قوله تعالى: {وَالْفَجْرِ. وَلَيََالٍ عَشْرٍ. وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ. وَاللَّيْلِ إِذََا يَسْرِ}. سورة الفجر، آية: 1 4.
(2) نفس الرجع السابق.
(3) الكشف: الإطلاع على ما وراء الحجاب من المعاني الغيبية والأمور الحقيقية.
(4) ليلة القدر: يختص فيها السالك بتجل خاص يعرف به قدره ورتبته بالنسبة إلى محبوبه.
(5) صدى لقوله تعالى: {تَنَزَّلُ الْمَلََائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهََا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ سَلََامٌ هِيَ حَتََّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ}.
(6) الطور: جبل، وهو الجبل الذي كان يتجلى فيه موسى عليه السلام. والمراد بالطور: نفسك. السّتر: كل ما يسترك عما يغنيك.(1/386)
أكلم في النار الذي تدري ... وصيره في قبضة الأسر
دور وجارية باتت تغنيه
وتومي إلى الغير وتعنيه
وما تبتغي إلا تعنيه
أجرّ ذيلي أيما جرّ ... فأوصل منك السكر بالشكر (1)
وقال أيضا:
لم ينل من وجودنا ... الذي أنت نلته
غاية الأمر أن يكو ... ن الذي أنت كنته
فإذا ما رأيته ... مقبلا قلت أنت هو
وإذا ما رأيته ... مدبرا قلت لست هو
إن فيكم علامة ... من تفته قد فته
ما لمجنون عامر ... غير ما قد سمعته (2)
من هوى بنت عمه ... وهي من قد علمته
لم يكن غير سيّدي ... في شخيص نصبته
فبه قد أنته ... وبه قد سترته
فإذا ما جهلته ... فاعلم أن قد علمته
وقال أيضا:
إن دارا أنت فيها تهنّى ... وديارا لست فيها تعزّى
فاشكر الله على كلّ حال ... واتخذ ربّك ركنا وحرزا
وقال أيضا:
حمدت إلهي والمحامد جمّته ... على كلّ حال اقتداء بمن بلى
لقد رمت تحميد المسرّة مثلما ... أتى عنه في الوحي الصريح المنزل
فقام بحمد جاء من عند منعم ... كذا صحّ عنه ثم جاء بمفصل
وحمدي حمد الضرّ لم أر غيره ... وأعظمه في الدين فاصبر وأجمل
وصورته حمدي على كلّ صورة ... تكون من الله العظيم المفضل
__________
(1) السكر: دهش يلحق سر المحب في مشاهدة جمال المحبوب فجأة.
(2) مجنون عامر: قيس بن الملوح مجنون ليلى.(1/387)
ولولا حديث صح عن خير مرسل ... لقلت: لحى دهرا إلهي وموئلي
ولكن تسمى باسمه فاحترمته ... على كلّ إقبال بادبار مقبل
رمتني الرزايا منه حين توسلي ... إليه به إذ صادف الرمي مقتلي (1)
فلو كان لي خبر بريب صروفه ... لما كان مني ما بدا من توسلي
توليت إذ وليت قوما أمورنا ... من السنّة المثلى وأكرم مرسل
وحكمتهم فينا فعاثوا وأفسدوا ... فإن ذكروا جاؤوا بعذر معلل
وقالوا لنا صبرا على ما رأيتهم ... فإنّ هدى التوفيق عنا بمعزل
فانشدت لما أن سمعت كلامهم ... قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل (2)
حبيبي رسول الله لم أنو غيره ... ومنزلنا الشرع الذي أمرنا ولي
ألا إن سيل الجور في الأرض قد طما ... فيا زمن المهدي أسرع وأقبل (3)
وقال أيضا:
علمي بربي عزيز ليس يعرفه ... إلا الذي ذاقه من خلقه أحد
وهم رجال ذوو علم ومعرفة ... لأنهم وجدوا عين الذي أجد (4)
مضى بكلّ الذي في النفس من جلد ... لم يبق لي سبد منه ولا لبد (5)
وليس علمي بشيء غاب عن بصري ... لأنني عينه والأمر متّحد
فلست أجهلني ولا أكيفه ... لو أنني عشت ما قد عاشه لبد (6)
ما زال يطلبني من كنت أطلبه ... وليس يثبت من قولي هنا عدد
لانها نسب والعين واحدة ... ما بيننا وبهذا العلم انفرد
إني رويت علوما عن مهيمنها ... وما لنا غير أسماء لها سند
هم الشيوخ لنا إن كنت تعرف ما ... ذكرته وهم السادات والعدد
بهم يدافعهم وليس غيرهم ... هناك فاعلم بأنّ الساكن البلد
__________
(1) الرزايا: البلايا.
(2) إشارة إلى مطلع معلّقة امرىء القيس حيث يقول:
قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل ... بسقط اللوى بين الدّخول وحومل
(3) يشير إلى كثرة الفتن في زمانه، وانتشار الظلم ويبشر بظهور المهدي ويطلبه لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «يكون في أمتي المهدي، إن قصر فسبع وإلا فتسع فتنعم فيه أمتي نعمة لم ينعموا مثلها قط، توتى أكلها، ولا تدخّر منهم شيئا، والمال يومئذ كدوس فيقوم الرجل فيقول: يا مهدي أعطني. فيقول: أعطني. فيقول:
خذ» رواه ابن ماجة: فتن 34.
(4) العين: إشارة إلى ذات الشيء الذي تبدو مه الأشياء.
(5) ماله سبد ولا كبد: أي لا قليل ولا كثير.
(6) لبد: آخر نسور لقمان السبعة، وقد عمّر طويلا.(1/388)
لولا تحكمهم لم ندر أنهم ... هم وعين حجاب الناظر الجسد
لذاك يحسدنا من ليس يعرفنا ... وليس ثم فلا عين ولا حسد
وقال أيضا:
شغلي بمن شرّع لي الش ... غل به فحيرا
خاطبني بأنني ... عبد له وما نرى
لعينه من شاهد ... إلا العمى والأثرا
وقال لي إن الذي ... تراه قد ظهرا
لولاك يا ربّ الورى ... ما كنت إلا الورى (1)
مثل الذي قال لنا ... من صحة قد انبرى
ميراثنا من أحمد ... خير الأنام والورى
خير إمام طاهر ... سليل أعراف الثرى (2)
صلى عليه الله من ... خليفة قد ظهرا
بكلّ ما أمله ... من ربه ما افتخرا
لأنه عبد وما ... للعبد ان يفتخرا
إلا بمن كوّنه ... عبدا له فاشتهرا
أنا الذي قلت أنا ... لذا يقينا خبرا
لو أنني قلت أنا ... به رأينا عبرا
فاحمد وزد في شكره ... يزدكم ما ذكرا
في محكم الذكر لنا ... لشاكر إن شكرا
وقال أيضا:
علمي بالرحمن لا يثبت ... لوصفه بالغضب القاصم
في حق من أهله للشقا ... وسخطه الدائم واللازم
إذا أتى الأمر بإنفاذه ... فما له في الأمر من عاصم
لو لم يكن يغضب قلنا له ... بذا أتت ترجمة الحاكم
من يتجلى حكمه في الورى ... بصورة المظلوم والظالم (3)
__________
(1) الورى: الخلق.
(2) أعراف: يعني المطلع، وهو مقام شهود الحق في كل شيء متجليا بصفاته التي ذلك، الشيء مظهرها، وهو مقام الإشراف على الأطراف.
(3) الورى: الخلق.(1/389)
عنه فلا يأمن من مكره ... غير ظلوم نفسه غاشم
وعينه كونها فانظروا ... فإنه القاسم في القاسم
كيف لنا بالأمن من مكر من ... صيرني في حلقة الخاتم
من يعرف الأمر بفرقانه ... من عرضه يوصف بالعالم
لو لم يكلف عبده شرعه ... لم يتصف بالأحد الراحم
ما حير العالم إلا الذي ... قد ضرب العالم بالعالم
إذا درى الشخص بعلم الذي ... حيرّه لم يك بالقادم
إلا إذا أبصر معلومه ... أزال عنه حيرة الهائم (1)
ويحذر الأمر ويخشى الذي ... يقوده للوصف بالنادم
لو أنه يعرف أحواله ... لم يتصف للدين بالعازم
وكان ذا رأي وذا فطنة ... فعل اللبيب الحذر الحازم
وقال أيضا:
الحمد لله حمد من لم ... يجد جزاء ولا شكورا
وإنما العبد قيل له قل ... فقال ما قاله خبيرا
بانه فيه عبد قن ... ممتثلا امره الكثيرا (2)
لم يتخذ دونه وليا ... في حمده لا ولا نصيرا
من علم الحقّ علم ذوق ... يعلمه ناقدا بصيرا
من حكم العلم في هواه ... كان على نفسه قديرا
يعرفه كلّ من رآه ... بنعته سيّدا حصورا
وقال أيضا:
كم رأيناك ولم تشعر بنا ... إذ أنا انت وما أنت أنا (3)
يعلم الله باني عبد من ... كلما قال أنا كان أنا
تاه فيه الفكر من عزته ... ليرى ما لا يرى إلا بنا
فإذا ما قلت هب لي نظرة ... قال لا أفعل ما دمت هنا
__________
(1) الحيرة: بديهة ترد على قلوب العارفين عند تأملهم وحضورهم وتفكرهم تحجبهم على التأمل والفكرة.
(2) عبد قن: عبد ملك هو وأبواه.
(3) قوله أنا أنت، فمعناه معنى الإشارة إلى ما أشار إليه الشبلي حيث قال: يا قوم، هذا مجنون بني عامر كان إذا سئل عن ليلى يقول: أنا ليلى فكان يغيب بليلى عن ليلى حتى يبقى بمشهد ليلى، ويغيبه عن كل معنى سوى ليلى، ويشهد الأشياء كلها بليلى.(1/390)
زل ترى ذاك الذي تطلبه ... من وجودي بك مرأى حسنا
إنّ قلبي عين قلبي فانظروا ... تبصروا ما قلت صبحا بينا
لست ممن شرب العلم به ... عسلا بل كان ورشا لبنا
فإذا أسند لي ما يدّعي ... من نصوص الوحي فيه عنعنا
حدث القلب عن الروح كما ... حدث القلب عن الله لنا (1)
إنني عينك فانظر ما ترى ... فأتى بالنص فيه ما كنى
وقال أيضا:
حدّث الشيخ أبونا ... عن أبيه عن قتاده
عن عطاء بن يسار ... عن سعيد بن عباده
إنّ من مات محبّا ... فله أجر الشهاده (2)
ثم قد جاء بأخرى ... مثل هذا وزياده
عن فضيل بن عياض ... وهو من أهل الزياده (3)
إن من مات خليّا ... كانت النار مهاده (4)
وقال أيضا:
قد عظم الله ما أقول ... في حكمة ما لها دليل
أظهرها للأنام طرّا ... في جمل كلها فصول
قيل لنا إنها رموز ... قلت لهم هذه السبيل
أوضح مني على وجودي ... تقصر عن فهمها العقول (5)
ما إن رأينا ولا سمعنا ... بأنّ أذهاننا تجول
فيها لبعد بغير قرب ... يحار في حكمها النبيل
وقال أيضا:
إلهي وفقني إلى كلّ ما يرضي ... ورضى فؤادي بالذي أنت لي تقضي
فإن كان سرّاء حمدتك منعما ... وإن كان ضراء نظرت إلى المقضي
__________
(1) القلب: له معنيان: الأول إنه لحم صنو بري الشكل في الجانب الأيسر من الصدر والثاني إنه لطيفة روحانية لها تطلق بالقب الجسماني وهي حقيقة الإنسان.
(2) المحب: يعني المؤمن الصالح.
(3) الفضيل بن عياض فمحدّث، جاور الحرم ومات سنة 187هـ.
(4) الخلي: يعني الفاسق الفاجر.
(5) الوجود: فقدان العبدان بمحاق أوصاف البشرية ووجود الحق.(1/391)
فأنظر فيه بالذي قد ذكرته ... فإن كان لا يرضى عدلت إلى المرضي
وإن كان كلي مستقيما سررت بي ... وإن كان بعضي هم بكيت على بعضي
إلهي أرجو من عنايتكم بنا ... إذا زلت عن ندب أسير إلى فرض
وإن كنت في رفع بربي محققا ... فلا تحجبني عن عبودية الخفض
وإن أنت من أهل القراض جعلتني ... إلهي فوفقني إلى أحسن القرض
فنصف لكم مثل الصلاة معيّن ... ونصف لنا من غير نكث ولا نقض
أفوض أحوالي إليك مسلما ... لأكتب فيمن أمره للرضى يفضي
وأسأل ربي أن يمن بعصمتي ... هنا ثم في يوم القيامة والعرض
ويجعلني ممن سما واعتلى به ... إليه إذا كان الخروج من الأرض
ويوصل لي بشراه بالخير منعما ... إذا حل تركيبي وأسرع في نقضي
وأفرض لي قاضي السماء معيشتي ... عليه وهل تبقى فضول مع الغرض
ومهما دعاني نحوه جئت مسرعا ... على الناقة الكوماء بالعدو والركض (1)
وقال أيضا:
شكرت نعمة ربي حين أظهر لي ... وجه القبول وجازاني بإحسان
لما تكلم فيه لم يجىء أحد ... بمثل ما قلته فيه ببهتان
عند المخالف إلا رسله ولنا ... عن الكتاب وعن كشف وإيمان (2)
الله يعلم أنى ما ذكرت لكم ... إلا الذي نصه عنه بقرآن
فعم عقد جميع الخلق كلهم ... ما قاله وهو عقدي وهو برهاني (3)
إلا الشريك الذي بالجهل أثبته ... من كان مسكنه بدار نيران
ناداني الحق لما أن علمت به ... خير الموازين بالبرهان ميزاني
فزن به وهو قرآني وما نطقت ... به التراجم عني فهو تبياني
فزن به لا تزن بالعقل إنّ له ... في الوزن تطفيفا أو نقصا بخسران
وقال أيضا في مبشرة رآها فعمل أول بيت من هذه القصيدة في النوم ولما استيقظ وجد لسانه ينطق بالأبيات كلها:
بنفسي الذي يلقى المحق وما لقى ... ولم يبق منه في الشهود وما بقى (4)
__________
(1) الناقة الكوماء: أي الشديدة الصلبة.
(2) الكشف: الإطلاع على ما وراء الحجاب من المعاني الغيبية والأمور الحقيقية وجودا وشهودا.
(3) عقد السر: هو ما يعتقد العبد بقلبه بينه وبين الله تعالى أن يفعل كذا أو لا يفعل كذا.
(4) الشهود: أن يرى حظوظ نفسه.(1/392)
لو أنّ الذي عندي يكون بخلقه ... من العلم بي لم يبق في الملك من بقى
لقد نظرت عيني إليه وإنه ... ليلقى الذي قد قيل لي إنه لقى
ألا ليت شعري هل أرى اليوم من فتى ... صحيح الدعاوى بالصواب منطق
رحيم رؤوف عاطف متعطّف ... ولوع بذكراه على الخلق مشفق
بلفظ تراه في الحقيقة معجزا ... لزور الذي يأتي به الخصم مزهق
يناضل عن أصل الوجود بنفسه ... يباري رياح الجود جودا ويتقى
حذارا عليه أن يحوز مقامه ... سواه بتأييد وغيرة مشفق
لقد جهل الأقوام قولي ومقصدي ... ولم يدر ما قلناه غير محقق
عساه يرى في جوّه من فريسة ... فليس يرى التقييد إلا بمطلق
لقد رام أمرا ليس في الكون عينه ... بنقض وتقريب كسير المحقق (1)
ولما رأى أن لا وصول لما ابتغى ... وأنّ الذي قد رام غير محقق
أتى لفظ لا أحصى يجرّ ذيوله ... بقوّة قهّار بعجز مصدّق
لقد صار ذا علم لما كان جاهلا ... به وهو نفي العلم فانظر وحقّق
وقال أيضا:
إذا تخلقت بالأسماء أجمعها ... أسماء ربي في خلق وفي خلق
علمت أنّ مع الأمر الذي هو لي ... مني وإيّاه فيما كان من نسق
لقد أتيت على خوف بلا وجل ... مني ومنه وعهد الأمر في عنقي
لعهده فجرينا نبتغي عوضا ... على التساوي مع الأسماء في طلق
إني تخلقت في أسماء صورته ... بخلق من خلق الإنسان من علق
لولا يهيمني حتى يعجزني ... فيما ادّعيت فأمسى منه ذا ملق
إني لأشكو أليم الوجد والحرق ... لذا تراني ذا شوق وذا قلق
لا أبتغي حولا عنه ولا عوضا ... فإن بدا طبق رحلت عن طبق
دخلت منه إليه فيه عن نظر ... فوافق الكشف في صبح وفي غسق (2)
وقال أيضا:
وسارع إلى الخيرات سبقا فإن من ... يسارع إلى الخيرات يحمد سعيه
ونافس كما قد نافس الناس وارتق ... رقيّ الذي ما زال يعصم وعيه
__________
(1) التحقيق: تكلف العبد لاستدعاء الحقيقة جهده.
(2) الغسق: أول الليل.(1/393)
وقال أيضا:
ناداني الحقّ من عقلي ومن ذاتي ... فالسلب للعقل والإثبات للذات (1)
كآية الشورى سلب وهي مثبتة ... ما قد نفته من إدراك بآلات
إني عميت على تحصيل شاهده ... حتى شهدت لما أضمرت آياتي (2)
فلم أعرّج على أهل ولا ولد ... ولا على أحد من البريات
إلا به فرأيت الكل صورته ... فكنت حيّا به ما بين أموات
وعند ما شهدت عيني منائحه ... ذوقا علمت به علم الخفيات
فكنت أشهده في كلّ حادثة ... شهود من قد رآه في الحميات
فسلم الأمر في بعد وفي كثب ... وجاد جودا بإيجاد على آلات
بقاب قوسين أو أدنى علمت به ... علمي به في الثرى والسمهريات (3)
إنّ الخلاف وفاق ليس يعلمه ... إلا الذي ذاقه عند الزيارات
كمثل أسمائه الحسنى لمعتبر ... والعين واحدة والكل للذات
مع الخلاف الذي فيها لناظرها ... عند التقابل من أقوى الدلالات
على الذي قلته إن كنت ذا نظر ... وكنت فيه من أرباب الكرامات (4)
الحقّ يعلم ما وهم يصوّره ... فإنه الحقّ في درك النبوّات
من قال إنّ وجود الحقّ في صور ... ورآها فهو جهل بالمقامات
لو قال مع قال علما لا خفاء به ... والنقض يصحبه مع العلامات
لو قال مع كان أولى وهو مجهلة ... أيضا ولو قال إنّ العين في اللاتي
أصاب في كلّ وجه من مقالته ... شرعا وعقلا وفيه نفي آفات
وقال أيضا:
ما والدي إلا الذي يحكم ... وليس أمي غير من تعلم
أصدقها الاسماء من جوده ... وهو الصداق الأشهر المعلم
كوّننا من نفس أنزه ... بجوده رحماننا الأكرم
فمن هنا كان لنا حكمة ... بالصورة المثلى التي تعلم
جاد بها جودا على كوننا ... الهنا المفضل المنعم
__________
(1) الحق: قال ابن عربي: الحق كل ما فرض على العبد، وكل ما أوجبه الله على نفسه.
الذات مطلقا: هو الأمر الذي تستند إليه الأسماء والصفات في عينها لا في وجودها.
(2) الشاهد: الحاضر.
(3) السمهريات: الرّماح الصّلبة المنسوبة إلى سمهر زوج ردينة.
(4) الكرامة: أمر مخالف للعادة يؤتيه الله تعالى أحد عباده الصالحين.(1/394)
صيره خاتم أرساله ... حمدا على الخير لمن يفهم
ولم يكن في الصبر تحميده ... متقيدا باسم لمن يعلم
تأسيا بالوالد المرتضى ... فهو الذي ناداك يا مسلم
لو أنه ناداك يا مجرم ... ما كنت من خذلانه تعصم
به وقاك الشرّ فاشكر له ... فالشمس والأزمم والأنجم
فشكره عند إله السما ... شكر به ظهر العدى يقصم
لأنه عرّفها قدرها ... إذ جابها عابدها المحرم
إن عرى غير الهدى تفصم ... وعروة الإسلام لا تفصم
لأنها مذ كوّنت عروة ... وغيرها يجمع إذ ينظم
فتقبل التحليل من ذاتها ... ردّا إلى الأصل ولو يحكم
يعرف قدر النور ذو فطنة ... إذا أتاه ليله المظلم
وقال أيضا:
الحمد لله حمدا ... يربى على كل حمد
بأنه يتعالى ... حال النزول لوعد
نزول ربي علو ... منه إلى كلّ عبد (1)
وإنما جاء عندي ... لما تقدم عهدي
وفيت لله عهدا ... لذاك وفى بعهدي
حدّ الإله تعالى ... مجدا على كلّ حدّ
وكلّ حدّ فمنه ... فلست في ذاك وحدي
لما أتيت إليه ... سعيا لصدر وورد
أتى بضعف مجيئي ... إليه من غير حدّ
سبحانه وتعالى ... عن كل معنى مؤدّي
إلى حدوث وحدّ ... وذاك علمي وعقدي (2)
إنّ الحدود التي في ... كلامه المتعدّي
بكل نفع إلينا ... فإن ذلك عندي
وقال أيضا:
العلم بالرحمن لا يجهل ... وهو على الجهل به يحمل
__________
(1) ليس المقصود نزولا مكانيا.
(2) الحد: الفصل. والعقد: ما يعتقده العبد بقلبه بينه وبين الله تعالى.(1/395)
فالجهل بالرحمن علم به ... عليه أرباب النهى عوّلوا (1)
قد قال لا أحصي الذي قال لي ... لأنه من عنده مرسل
وقال صديق به عجزه ... درك له كذا روى الأوّل
وقال بسطامينا إنه ... دعا عباد الله أن ينزلوا (2)
إليه من حضرة أكوانهم ... فأعرضوا عنه ولم يقبلوا
فعندما جاء إلى ربه ... الفاهم ضمهم المنزل
من حارب الألباب في وصفه ... فإنها عن دركه تسفل
الله لا يعرفه غيره ... وما هنا غير فلا تغفلوا
فكلّ عقد فيه من خلقه ... فثابت فيه ولو زلزلوا
فإنه أوسع من علمهم ... بعلمه فيه فلم يحصلوا
إلا على القدر الذي هم به ... فاجمل الأمر الذي فصّلوا
فلا يحيطون به قال لي ... علما سوى القدر الذي حصلوا
وهو على التحقيق علم به ... لكنه عن علمه أنزل (3)
لذاك قلنا عند علمي به ... سبحان من يعلم إذ يجهل
ما علم الخلق سوى ربهم ... ومنهم المدبر والمقبل
إنعامه عمّ فلم يقتصر ... لأنه المنعم والمفضل
ولا تقل كقولهم في الذي ... يشقى فإنّ القوم قد عجّلوا
لو نظروا بربهم أنصفوا ... وتابعوا الحق فلم يعدلوا
وقال أيضا لزومية:
إذا كنت المسيح وكنت عبدا ... إليّ بقول خالقنا رفعتا
وإن كنت المسيح وكنت تحيي ... مواتا قد بلين لهم رفعتا
إذا ما كنت للرحمن جارا ... وفت العالمين ندى دفعتا
فلا تغتر بالتقريب منه ... فإنّ الله ينظر ما صنعتا
ويقسمه على قسمين علما ... لينظر في الذي فيه ابتدعتا
فيفصله التعرف منه حالا ... يعرفكم بما فيه اتبعتا
لتبصر ما فضلت به اتباعا ... على الأمر الذي فيه اخترعتا
__________
(1) النهي: العقد. يريد أن العجز عن إدراك الخالق إدراك.
(2) بسطام: أبو يزيد طيفور البسطامي، كان زاهدا متصوفا رفيع الحال. توفي سنة 261هـ.
(3) التحقيق: تكلف العبد لاستدعاء الحقيقة جهده.(1/396)
وقال أيضا:
الحمد لله حقّ حمده ... حمدا يوافيه دون وعده
عينا فلا يعتريه نقص ... يجيئه من وراء حدّه
الحد أمر يعم حتى ... يسال فيه عن حد عدّه
ولم أقل فيه ذاك إلا ... من أجل من لم ينل بضده
وقال أيضا:
ألا فارجع إلى أصل الوجود ... لما تدريه من كرم وجود
لقد منّ الإله على فؤادي ... بما أعطاه في حال السجود
سجود القلب إن فكّرت فيه ... على التحقيق يوذن بالشهود (1)
إلى الأبد الذي ما فيه حد ... تعالى عن مصاحبة الحدود
جهلت وما جحدت سبيل كوني ... فإنّ الأصل فيّ من الصعيد
صعدت به إلى شرف المعالي ... فانزلني إلى سعد السعود (2)
وناداني وقد خلفت قومي ... ورآئي بالمقرّب والبعيد
وآثرت الجناب جناب ربي ... فالحقني بمنزلة العبيد
وملكني الصفات فكنت مثلا ... ونزهه عن المثل الوجودي
وأيّ فضيلة أسنى وأعلى ... يقاومها بجنات الخلود
فضلت بها على الآباء حقّا ... يقينا صادقا وعلى الجدود
وأعلمني المهيمن أن جدي ... من أكرم ما يكون من الجدود
سوى جد الإله فقد تعالى ... عن الكفوء المصاحب والوليد
وقال أيضا لزومية:
أعرض عن الخير ما استطعتا ... فالخير يأتيك إن أطعتا
لبّاك ربّ العباد لما ... دعوت بالصدق لو سمعتا
وقال يا عبد كن حفيظا ... لكلّ ما أنت قد جمعتا
واصدع بأمر الإله تبصر ... نتيجة الصدق إن صدعتا
وانزع له رتبة المعالي ... يحمد مسعاك إن نزعتا
واكرع إذا ما وردت حوضا ... فالريّ مضمون إن كرعتا
لا تطمعن إن رأيت ربحا ... فالخسر يأتيك إن طمعتا
إن قلت في حكمة بأمر ... مستحسن أنت قد شرعتا
__________
(1) الشهود: أن يرى حظوظ نفسه.
(2) سعد السعود: منزلة من منازل القمر.(1/397)
فلا تكن ذا هوى ورأي ... ولا تقس جهد ما استطعتا (1)
ولا تقلّد ولا تعلل ... إن أنت من أرسل ابتعتا
إن كنت عيسى وكنت تشفى ... إليه من فوركم رفعتا
أو كنت عيسى وكنت تحيي ... ميت أجداثه وضعتا (2)
أو كنت عينا لكلّ كون ... وفته رحمته برعتا (3)
قد كنت للطبع في سفال ... تحصد فيه الذي زرعتا
حتى إذا ما انتهيت فيه ... رفعك الله فارتفعتا
تحشر في عين كلّ كون ... تنظر فيه الذي صنعتا
من كلّ خير وكلّ شرّ ... علمت فيه لما جمعتا
لله حبل فصله تصعد ... فإن تكن حبله قطعتا
شقيت فانظر بأي أرض ... يكون مثواك إن وقعتا
إنّ لك الخير منه حتما ... إن أنت في حقه انتجعتا
أو كنت ذا فتنة بولد ... أصبحت فيه وقد فجعتا
أو ظمئت نفسكم نهارا ... بالصوم أو كنت فيه جعتا
أصبت خيرا بكلّ وجه ... وتهت تيها به وضعتا (4)
ما كلّ وقت يكون فردا ... يخلع عنك الذي خلعتا
أو يمنع الله عنك أمرا ... قد كنت من قبله منعتا
ما الشان أن تشتري نفوس ... بيع فضول فما انتزعتا
من ملكه ما شريت منه ... حتى اشتراه وما ارتجعتا
ضاقت سماء الإله عنه ... وأنت ربّ العلى وسعتا
من غير كيف ولا احتيال ... لو لم ير ذاك ما اتسعتا
وسعتنا رحمة وعلما ... إذ لك يا ربنا اصطنعتا
يستفهم الله كلّ عبد ... في علمه منه هل شبعتا؟
فقل له: ربّ إنّ جوعي ... ما ينقضي للذي شرعتا
من كنت فيه أو كنت منه ... أو كنته عنك ما رجعتا
فلا تقل للذي أتاني ... من عندكم رحمة قنعتا
__________
(1) يريد أن الدين ليس باتباع الأهواء أو إعمال الرأي، إنما باتباع النبي صلى الله عليه وسلم.
(2) إشارة إلى معجزة عيسى ابن مريم عليه السلام في إحياء الموتى بإذن الله.
(3) العين: إشارة إلى ذات الشيء الذي تبدو منه الأشياء.
(4) التّيه: الصّلعف والكبر.(1/398)
إن غبت في الغرب عنه شمسا ... عليه من شرقه طلعتا
إن أنت جاهدت لا تبالي ... بأيّ جنب فيه صرعتا
قد كنت عبدا فصرت ملكا ... لذاك والله ما انتفعتا
إن كان هو أنت لا تكنه ... واحذر من القرع إن قرعتا
فإن دعاك الرسول يوما ... فافزع إليه إذا فزعتا
وحاذر الأمر من قريب ... تسعد فيه إذا جزعتا
يعلو بك النهر في انحدار ... لو جرعة منه قد جرعتا
وإن دعا للوصال يوما ... فأنت والله ما انقطعتا (1)
المكر من شيمة الموالي ... لا تنخدع فيه إن خدعتا
تقبض عند الرحيل حتما ... على الذي فيه قد طبعتا
من أعجب الأمر أنّ قولا ... تجاب فيه وما سمعتا
لأنه لم يكن كلام ... عنك ولا عنهم انقطعتا
انظر إلى قوله تعالى ... في أهل كهف لو اطلعتا
ملئت رعبا فازددت بعدا ... ومع هذا فما اندفعتا
يا أشجع الناس في نزال ... أنت بتثبيته شجعتا
قد جعل الله يا حبيبي ... بيدك الخير إن قنعتا
وقال أيضا:
خليلي لا تعجلا واكتما ... حديثي حذارا على مهجتي (2)
فإني اتحدث بمن قام لي ... إذا ما توجهت في قبلتي (3)
ففي كلّ شيء له صورة ... إذا ما بدت فلها وجهتي
وذاك الذي كنت أملته ... فما كان بعضي سوى جملتي
تملكني وتملكته ... فلي عزه وله ذلتي
وإن أنت تعكس ما قلته ... يصح فجمعي في وحدتي
وفي حال حبي أنا كاره ... له ولحبي فيا حيرتي (4)
__________
(1) الوصال: قالوا: هو الانقطاع عما سوى الحق، وليس المراد اتصال الذات بالذات.
(2) المهجة: الدم أو دم القلب، أو الروح.
(3) الاتحاد: قالوا هو شهود الوجود الحق الواحد المطلق الذي لكل موجود بالحق، فيتحد به الكل من حيث كون كل شيء موجودا به معدوما بنفسه، لا من حيث أن له وجودا خاصا اتحد به فإنه محال.
(4) حيرة: بديهة ترد على قلوب العارفين عند تأملهم وحضورهم وتفكرهم تحجبهم عن التأمل والفكرة.(1/399)
أتاني ليلا على غفلة ... فثبت إتيانه حجتي
لو أنّ الذي همت فيه هوى ... يكون على ديني أو ملتي
لما كنت أشكو الجوى والنوى ... ولكنه ليس من عترتي
يخالفني ووفاقي له ... لذاك توقفت في وقفتي
هويت السمان ومن لي بهم ... وحبي لعينهم نحلتي
وما سمن القوم إلا الذي ... يبلغني منهم منيتي
يقيني بهم مشحم ملحم ... يقيني من الأخذ في عثرتي
وقال أيضا:
سرائر سرّ لا تصان ولا تفشى ... وأبكارها لا تستباح ولا تغشى (1)
فمطعمها للحسّ شهد لذائق ... وملمسها للعقل كالحية الرقشا
تولد للأفكار في كلّ ساعة ... من اليوم والليل البهيم إذا يغشى
إناثا وذكرانا لمعنى بصورة ... بها قيدته مثل ما قيد الأعشى (2)
فقال بأنّ الضوء ممتزج وما ... نوى بالذي قد قال سوءا ولا غشا
وقال الذي لم يعرف الحكم إنه ... نوى بالذي قد قاله للورى غشا
فلو يدري أنّ النور يستر ليله ... وأنّ وجود السلخ صيّره نشّا
لقال بأنّ الأمر نور وظلمته ... وذلك حقّ ما به بان أن يغشى
فمن سبر الأمر الذي قد سبرته ... يكون إماما لا يخاف ولا يخشى (3)
وقال أيضا:
إذا ما الشخص أظهر ما يراه ... وما سبر الفهوم ولا الزمانا
فإنّ اللوم يلحقه عليه ... ويسلب من إذاعته الأمانا
فمن شرط الأمانة أن يراه ... بخيلا في أمانته عيانا
فإنّ لها إذا فكرت أهلا ... وإنّ لها المكانة والزمانا
لقد جاء الرسول به صريحا ... وقد كنا تلوناه قرانا
وإن الذوق من هذا وهذا ... إذا كنا بحضرته قرانا
أراه مع الزمان بكلّ وقت ... يدور بحكمة وكذا يرانا
فنزه عن معارضة الليالي ... كلامك إن حكم الدهر بانا
به ربّ البريّة قد تسمى ... لذلك قد علا مجدا وشانا
__________
(1) السر: لطيفة مودعة في القلب كالروح في البدىء، ونور روحاني هو آلة النفس.
(2) الأعشى: الذي لا يبصر.
(3) سبر الأمر: امتحن غوره.(1/400)
لقد جاد الإله عليّ إذ لم ... أكن من أهله كرما ودانا
وقال أيضا:
ما لي من العلم إلا ما نطقت به ... وهو الصحيح الذي لا شرع ينكره
يقول من ليس يدريه استسرّ به ... وكيف أستره والحق يظهره
الله ما زال للأسماع يسمعه ... بما يقرّره شرعا ويذكره
وليس شخص من أهل العلم ينكره ... إلا تراه لدى الإنصاف يضمره
الفكر ينفيه والإيمان يثبته ... وكم شخيص قد أرداه تفكره
إنّ السعادة بالإيمان قد قرنت ... والسعد يسعد ما وهمي يصوّره
والله أقرب من حبل الوريد وما ... تراه حسا ولا الأعيان تبصره
يكفيك منه الذي الرحمن صوّره ... في شرعه فكفور من يكفره
النص عزّ لأنّ الله ذو كرم ... بخلقه فلهذا لا يصدّره
لو جاء بالنصّ لم يقبله ذو نظر ... إلا بإيمانه لذاك يستره
وقال أيضا:
تعظيم ربّك في تعظيم ما شرعا ... فاصدع فإنّ سعيد القوم من صدعا
لكن بأمر الذي جاءتك شرعته ... تسعى على قدم فاشكره حين سعى
فكن مع الله في ترتيب حكمته ... إنّ الذي مع ربي لا يكون معا
افهم كلامي فإنّ الفهم اسعدكم ... ولا تحد عنه إنّ العلم قد جمعا
هو الدليل عليه لا تذره سدى ... فالهلك في ترك ما الرحمن قد شرعا
العلم نصفان: نصف ليس يبلغه ... فكر لذلك حكم الفكر قد منعا
ونصفه فصحيح الفكر يبلغه ... وليس منزله مثل الذي سمعا
والكلّ حقّ وما أنصفت فيه وما ... لذاك ردّ فمن يدريه قد جمعا
له الكمال فما شخص يقاومه ... صنع الإله فكشر الله بي صنعا
والله لو علمت نفسي بمن علمت ... لضاق عنها وجود الخلق ما اتسعا
القلب يعرف ربي من تقلبه ... مثل الشؤون له إن سار أو رجعا
والنفس تجهله من أجل شهوتها ... وعينها لفراق الحقّ ما دمعا
لما تعزز عنه بات يطلبه ... ولو تداني له إليه ما ارتجعا
وقد جرى مثل يدري وصورته ... أحبّ شيء إلى الإنسان ما منعا
وقال أيضا:
إني وسعت الكيان طرّا ... لما وسعت الذي براني
فكنت بيتا له مسوّى ... مهيئا للذي بناني
له فلم يرتضي سواي ... أراه مثل الذي يراني
مذ وسع الحقّ قلب كوني ... ما زلت في لذة العيان (1)
أشهده فيه كلّ حين ... ذا كرم مطلق العنان
في كلّ وصف تراه عيني ... على الذي وحيه أراني
ما علم الله غير عبد ... أضحى من السرّ في أمان
ليس لنا مشهد سواه ... أراه فيه ولا أراني
أرنو إليه بقدر علمي ... من غير أين ولا زمان (2)
ولا ترى عينه سواي ... إلا إذا كان في الجنان
أو صار في حلبة المنايا ... قد سبق القوم للرهان
وقال أيضا:(1/401)
إني وسعت الكيان طرّا ... لما وسعت الذي براني
فكنت بيتا له مسوّى ... مهيئا للذي بناني
له فلم يرتضي سواي ... أراه مثل الذي يراني
مذ وسع الحقّ قلب كوني ... ما زلت في لذة العيان (1)
أشهده فيه كلّ حين ... ذا كرم مطلق العنان
في كلّ وصف تراه عيني ... على الذي وحيه أراني
ما علم الله غير عبد ... أضحى من السرّ في أمان
ليس لنا مشهد سواه ... أراه فيه ولا أراني
أرنو إليه بقدر علمي ... من غير أين ولا زمان (2)
ولا ترى عينه سواي ... إلا إذا كان في الجنان
أو صار في حلبة المنايا ... قد سبق القوم للرهان
وقال أيضا:
إنّ الخيال هو الذي يتحكم ... في أصله وهو المزاج الأقدم
فتراه يحكم في المزاج وفي النهى ... من نفسه فهو الإمام الأعظم (3)
يقضي على سرّ الوجود بحاله ... من جسم المعنى فذاك الأحكم
ويحدّ من لا يعتريه تحير ... بتحيّر وتيقن يتوهم
ويقسم الأمر الذي ما فيه تق ... سيم ويمضي ما يشاء ويحكم
وقال أيضا:
العلم بالله لا ينال ... لكن بتوحيده ينال
فما ترى فيه من كلام ... مبرهن كلّه مقال
فليس للعقل يا خليلي ... بالفكر في ذاته مجال
لأنه واحد تعالى ... ليس له في النهى مثال
قد حرم الفكر فيه شرعا ... فالفكر في ذاته محال (4)
غايته العجز إن تناهى ... فعجزه ذلك الكمال
فما ترى فيه من جدال ... فإنه كله ضلال
__________
(1) القلب: يريد تلك اللطيفة الروحانية التي تتعلق بالقلب الجسماني كتعلق الأعراض بالأجسام والأوصاف بالموصوفات وهي حقيقة الإنسان.
(2) الرّنو: إدامة النظر بسكون طرف. الأين: التعب.
(3) النّهى: العقل والمزاح من البدن: ما ركّب عليه من الطبائع.
(4) يريد أن ينهى عن التفكير في ذات الله تعالى.(1/402)
وقال أيضا:
سبحان من لا أرى سواه ... في كلّ شيء تراه عيني
وذاك فرق يراه عقلي ... ما بين معبوده وبيني
فكلما قلت أنت ربي ... لبست بالسلب ثوب صوفي (1)
تنزيهه جدّه تعالى ... تشبيهه كونه بكوني
طلبت بالشرع منه عونا ... يا مدعي لا يكون عوني
إلا لعبد له مجال ... ولا مجال إلا لأيني (2)
وفي استوائي العقول تاهت ... إذ حال ما بينها وبيني
قد جاءنا الحقّ في التلقي ... بكلّ هين وكلّ لين
يا مرسلا إنني سميع ... إن قمت لي فيه باثنتين
ذات تعالت لها صفات ... من كلّ حسن وكلّ زين
إن رام تحصيلهن فكري ... بنيت بيتي بتبنتين
وقال أيضا:
خاب ظني إن لم تكن عند ظني ... قل فمن لي يا منية المتمني
والذي فات لا تعده علينا ... ومن الآن فلتكن عند ظني
وقال أيضا:
العلم بالله والعرفان لي ولقد ... جمعت بينهما شرعا وما جمعا
فالعلم يجمع ما العرفان يفرده ... في الحد يجتمعان إن نظرت معا
ولا يقال بأنّ الحقّ يعرفنا ... وهو العليم بنا وهكذا شرعا
لا تعلمونهم ألله يعلمهم ... هذي النيابة مهما كنت مستمعا
ولم يقل فيه إن الله يعرفهم ... فقل به إن تكن للحقّ متبعا
إنّ الأديب الذي يمشي على قدر ... يوافق الحقّ إن أعطى وإن منعا
قد اقتفى أثرا ما عنده خبر ... بمن تفرّد في التعبير فاخترعا
الله كرّمه إذ كان فضله ... على سواه فلم يسنن ولا ابتدعا
وإن تضاعف فيه الأجر فاستمعوا ... ما يستوي مقتد فيه بمن شرعا
لولا الشريعة كان الشخص في عمه ... إذا أراد اقترابا بالذي صنعا (3)
__________
(1) الصوفي: قال الجنيد: الصوفية هم القائمون مع الله تعالى بحيث لا يعلم قيامهم إلا الله، وقيل: سموا صوفية للبسهم الصوف.
(2) الأين: التعب.
(3) العمه: الحيرة.(1/403)
فبين الحقّ ما الألباب تجهله ... فمقبل قابل لكلّ ما سمعا
ومعرض عنه في خسر وفي حيد ... عن الصواب الذي عنه قد امتنعا
وقال في نيابة النون عن العين:
النون كالعين في أنطى وأعطاه ... لحن أتاه به شرع فأعطاه
الحرف يبدل من حرف يماثله ... في قرب مخرجه لذاك ساواه
وذا بعيد فكيف الأمر فيه فقل ... بأنه بعض عين حين سمّاه
فقال والعين أيضا مثله وكذا ... سين وشين لماذا العين حلاه
العين عمّ نفوس الكون أجمعها ... جدّا وحققها فذاك معناه
وما سواه فليس الأمر فيه كذا ... لسرّ ذلك ربّ اللحن جلاه
فقد تبين أنّ العين سارية ... في كلّ شيء لهذا السرّ أدناه
قربا فأبدله نونا مسامحة ... في كلّ كون يريد الحقّ أبداه
وقال أيضا:
لقد حار الذي سبر الوجودا ... ليسلك فيه مسلكه البعيدا (1)
فما وفى بذاك فحاد عنه ... إلى علم يورثه السفودا
عن الكشف الأتم فكان فيه ... إذا أنصفته فردا وحيدا (2)
فلا تنو الصعيد إذا عدمتم ... طهورا للصلاة تكن سعيدا (3)
فإنّ اسم الصعيد يريك علوّا ... لهذا الحقّ أودعك اللحودا
ويمم ترب من جعلت ذلولا ... تحز خيرا تكون به رشيدا
وتعطيك الأمانة مستواها ... وتحذوك المشاهد والشهودا
وتحميك العناية في حماها ... وتكسي ثوبك الغضّ الجديدا
وتأتيك العوارف مسرعات ... على ترتيبها بيضا وسودا
فتأكلها به لحما طرّيا ... إذا ما المدّعي أكل القديدا
إذا ما خضت في الآيات تشقى ... وتحرم أن تكون لها شهيدا
إذا جد العلي اسمي اعتلاء ... على العظماء أورثهم حدودا
سمعت له وقد أصغى إليه ... لما قالوه بينهم فديدا
رأيتهم وقد خرّوا إليه ... وبين يديه من أدب سجودا
__________
(1) سبر الأمر: امتحن غوره.
(2) الكشف: الإطلاع على ما وراء الحجاب من المعاني الغيبية والأمور الحقيقية وجودا وشهودا.
(3) الصّعيد: التراب ويريد التيمم.(1/404)
ولنت لصونه المخزون لما ... ألان به الجلامد والحديدا (1)
وقد وافى على قوم قيام ... فصيّرهم بهمته قعودا
وقال أيضا:
حكم الطبيعة في الأجسام معتبر ... لأنها أصلها والأصل يعتبر
فانظر إليها إذا طال الزمان بها ... تبدّد الشمل لا تبقي ولا تذر
في النار ينضجها وفي الجنان لها ... حكم علينا كما تدرون فادّكروا
إن العذاب لها مثل النعيم بها ... وذنبها عند أهل الكشف مغتفر
الله حكّمها فينا وأحكمها ... فما لها عن نفوذ حكمه وزر
بها يعذبنا بها ينعمنا ... وليس يخلص من أحكامها بشر
سبحان من أوسع الأشياء رحمته ... في الخير والشر علما هكذا الخبر
جل الإله فما تحصى عوارفه ... فالكلّ منه كما قد شاءه القدر
وقال أيضا:
الحمد لله جلّ الله من واق ... الكلّ يفنى ووجه الواحد الباقي (2)
يقال عند فراق النفس من راق ... يا ليت شعري وهل في الكون من راق
الله يعلم هذا لا يكون ومن ... يردّ كاس المنايا أو هو الساقي
هو المنجي إذا ما الساق تبصرها ... يوم القيام له تلتف بالساق (3)
إنّ المكارم من خلقي ومن شيمي ... فقد وسعت الورى جودا بأخلاقي
لو أنّ لي كلّ ما تحوي خزائنه ... لما وفت بالذي عندي من أرزاق
إني فطرت على أخلاق خالقنا ... والأمر ما بين مرزوق ورزّاق
فالرزق يطلبنا ما نحن نطلبه ... وذا دليل على طيب بأعراق
ما كنت أحسب أنّ الأمر منه كذا ... حتى علمت بذاتي أنني الواقي
فليس يحكم فينا غير أنفسنا ... عدلا وجورا فدائي عين درياقي
تدبير علم بتفصيل لنشأتنا ... فكم نرى ذاك عن حكم بأوفاق
إني حننت إلى ذاتي لأبصرها ... من أجل صورته حنين مشتاق
هبت عليّ رياح القرب من كثب ... شممت من عرفها أنفاس عشّاق (4)
__________
(1) الجلامد: الصخور.
(2) الفناء: سقوط الأوصاف المذمومة. وقيل: هو الانقطاع عن الخلق وعن التردد إليهم.
(3) إشارة إلى قوله تعالى: {وَالْتَفَّتِ السََّاقُ بِالسََّاقِ: إِلى ََ رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسََاقُ} سورة القيامة، آية: 29.
(4) العرف: الرائحة. العشق: أقصى درجات المحبة. وأولى الدرجات الغزام ثم الافتتان ثم الوله ثم الدهش وأخيرا العراق.(1/405)
أوحي إليّ بها ما كنت أجهله ... بأنه نائب جوّاب آفاق
إني لعبد ذليل بات يخضع لي ... عند المناجاة ذي وجد وأشواق (1)
فلا تراه لكوني فيه مفتخرا ... بأنه ربّ تيجان وأطواق
له علوم بذاتي ليس يعلمها ... إلا الذي هو ذو شرب وأذواق
يرنو إليّ إذا الأعيان تجهلني ... عينا بعين نهى عن غير أحداق (2)
تراه يرحم من ناداه من كرم ... من غير جبر ولا حكم لإشفاق
إنّ الشفيق له حكم يخالفه ... حكم الرحيم لما فيه من إطلاق
فما يقيّده نعت ولا صفة ... وليس يدخل في عقد وميثاق
وقال أيضا:
تبارك الله هل بالدار من أحد ... غير الذي هو مجهول ومعقول
الله يعلم أنّ الدار خالية ... والزهر مبتسم والروض مطلول (3)
والغيث منسكب والسرّ مرتقب ... إلى الذي هو بالبرهان معلول (4)
والله ما نزلت نفس بساحتها ... إلا الذي هو للألباب مدلول
غيري وغير الذي ما زال يتبعني ... فالكشف لي وهو للأتباع منقول (5)
الوصل منفصل والضد متصل ... وفي المعارف تحيير وتضليل (6)
ما كنت مبتدئا فيه ومبتدعا ... بل جاء فيه من الرحمن تنزيل
قوّى به خبرا يحوي على صور ... للحقّ ليس لها بالشرع تفصيل
فما أبتغي حولا عنها ولا بدلا ... وحير العقل تبديل وتحويل
العقل قيد بالإطلاق حاكمه ... والشرع سرّحه وفيه تعليل
لولا تحوله لم تدر صورته ... وكيف يدرك أمر فيه تبديل
__________
(1) الوجد: خشوع الروح عند مطالعة سر الحق. وقيل: الوجد هو عجز الروح من احتمال غلبة الشوق عند وجود حلاوة الذكر.
(2) يرنو: يديم النظر بسكون طرف. عين نهى: عين عقل.
(3) مطلول: أصابه الطّل وهو المطر الضعيف.
(4) السر: لطيفة مودعة في القلب كالروح في البدند ونور روحاني هو آلة النفس وهو محل المشاهدة كما أن الروح محل المحبة والقلب محل المعرفة.
(5) الكشف: الاطلاع على ما وراء الحجاب من المعاني الغيبية.
(6) الوصل والاتصال: الانقطاع عما سوى الحق وليس المراد به اتصال الذات بالذات والمعرفة: صفة من عرف الحق سبحانه بأسمائه وصفاته، ثم صدق الله في معاملاته ثم تنقى عن أخلاقه الرديئة، ثم طال بالباب وقوفه ودام بالقلب اعتكافه.(1/406)
وقال أيضا:
القلب منزل من سواه واتخذه ... بيتا يكون به جودا وما نبذه
وكيف ينبذه والحق يسكنه ... إذا قلوب لأهل الزور منتبذه
إنّ القلوب التي بالعلم زينها ... هي القلوب التي للحق متخذه
فكلّ قلب تعالى عن أكنته ... وقفله فهو قلب للهوى اتخذه
قد اصطفاه لما قلناه عامره ... وعن سواه من أحوال العمى انتبذه
فلو رماه بسهم من رمايته ... رام العمى وأصاب العين ما نقذه
وقال أيضا:
العبد سيّده عليه ثناؤه ... وثناؤه أيضا على أستاذه
أستاذه الحقّ المبين لأنه ... عين التجاء عبيده وملاذه
يأتيه منه عوارف معروفة ... ما بين هطّال وبين رذاذه
متقلبا في كلّ خير شامل ... من الإله عليه في إنقاذه
وقال أيضا:
من قالت الأملاك فيه ماذا ... الحكم فيه أن يكون ملاذا
لا بل يكون لمن تعوّذ باسمه ... من كلّ ما تخشى النفوس معاذا
أقوى الورى واشدّهم في عقده ... من صيّر الأصنام فيه جذاذا (1)
لم يتخذ غير الإله مهيمنا ... إذ قيل أنت فقال: لا بل هذا
من غيرة قامت به في ربه ... فأتته سحا انعم ورذاذا
فلذاك ولاه الأمانة ربّه ... وأقامه في خلقه أستاذا
يدعو إلى الإسلام لا يلوي على ... من قال فيمن قد دعاه ماذا
هجر الورى متفرّدا مع ربه ... لم يتخذ إلا الإله عياذا (2)
فأتوا زرافات إليه إجابة ... لما دعاهم ما أتوا أفذاذا (3)
فتنزل الخير الكثير عناية ... من ربّهم بقلوبهم أفلاذا
وقال أيضا:
شذّ الذين تفرّدوا عنهم بمن ... قد قال فيهم إنه هو عينهم (4)
__________
(1) الورى: الخلق. العقد: هو ما يعتقده العبد بقلبه بينه وبين الله تعالى. الجذاذ: الكسر.
(2) العياذ: الالتجاء.
(3) زرافات: جماعات. الزّرافة: الجماعة من الناس.
(4) العين: إشارة إلى ذات الشيء الذي تبدو منه الأشياء.(1/407)
أفناهم عنهم به في نعتهم ... فبدا لهم لما دعاهم كونهم (1)
فتحققوا إن الأمور خلّابة ... لما تقطع إذ دعاهم بينهم
وأتاهم عند الصلاة بقولهم ... إيّاك نعبد بالعبادة عونهم
فتنبّهوا وتثبّتوا وتحقّقوا ... إنّ المراد من العبادة بينهم
وتشهدوا إذ شهدوا بشهادة ... قد بان منها في القيامة بونهم
ومحقق المطلوب لما جاءهم ... في صدقهم عند التلاوة بينهم
إنّ الذين رأوه منه عناية ... بهم تحقق بالعناية صونهم
قد حكموه على نفوسهم عسى ... يقضي به يوم التقاضي دينهم
وقال أيضا:
أصبحت مثل بني يعقوب إذ دخلوا ... على العزيز فقالوا مسّنا الضرر
وأهلنا معنا قد مسّ أكثرهم ... مثل الذي مسّنا منه ولا وزر
إنّ الذي بجميل الصنع عوّدنا ... هو الإله الذي تعنو له البشر (2)
إنّ الخلائق إن عزّوا وإن كثرت ... أموالهم هم على الحاجات قد فطروا
فلا غنىّ سوى الرحمن فارض به ... ربّا كريما هو المقصود فادّكروا
قضى بذلك عند الناس كلهم ... شرع الإله وما أعطاهم النظر
إنا جمعنا على توحيد رازقنا ... بلا خلاف على ما أعطت الفكر
وجاء في الوحي منه ما يصدقنا ... فصحّ في العقل ما قد صحح الخبر
وقال أيضا:
شمّر فإن صفات القوم تشمير ... ولا لقول على ما فيه تشطير
ولتأت بالكل إنّ الكل مطلب من ... أوحى إليك به فالأمر تشمير
من يأت بالنص والإجمال يطلبه ... قد جاء بالنصّ لكن فيه تقصير
إذا أتيتم بما يرضي نفوسكم ... دون الإله به فأنت مغرور
ما بين عدل وفصل حكم خالقنا ... فينا وللفصل دون العدل تقدير
كذا أتتنا نصوص العدل مخبرة ... من الإله بما فيه التباشير
وقال أيضا:
عبدت الله لم أعبد سواه ... فما معبودنا إلا الإله
__________
(1) الفناء: قيل: هو الانقطاع عن الخلق أو هو سقوط الأوصاف المذمومة.
(2) تعنو: تخضع.(1/408)
سرى توحيده في كلّ عين ... فما شيء يسبّحه سواه
ولكن ليس نفقه علم هذا ... وإن كان المسبح قد دعاه
لقد حجب العباد بما أراهم ... من أنفسهم فلا عين تراه (1)
ولا عقل يراه بعين فكر ... وبرهان ولم يبعد مداه
قريب بالشريعة حين قالت ... بأنّ القلب صيّره حماه
بعيد بالأدلة عن عقول ... لقد عزّ الذي يحمي ذراه
وقال أيضا:
ذنبي عظيم وذنبي لا يزايلني ... وليس ذنبي سوى حبي لمولايا
لولاي ما كنت في سرّ أسرّ به ... عن الحبيب الذي يدرون لولايا
هو النعيم لقلبي والعذاب له ... إذا تجلّى لنا بدار دنيايا
وهو النعيم الذي لا صد يعقبه ... إذا بدا لي في موتي وأحيايا
وفي الكثيب وفي عدن وقد علمت ... نفسي بأنّ كثيب الزور مثوايا (2)
إذا تحققت بالمعنى وكان لنا ... ملكا نصرّفه فالحقّ معنايا
به أكون عميدا خاضعا وبه ... أكون صاحب تمليك بعقبايا
والله لو نظرت عيناي من أحد ... سواه ما برحت تبكيه عينايا
إنا إلى الله بدءا عند نشأتنا ... وفي البرازخ مشهودا بأخرايا (3)
وقال أيضا:
لا ذنب أعظم من ذنب يقاوم عف ... والله عند الذي يأتيه معتقدا
وكلّ ذنب بجنب العفو محتقر ... عفو الإله ولا يخصص به أحدا
ورحمة الله خلق وهي قد وسعت ... من أوجد الله من خلق وإن جحدا
وكيف لا تسع الأكوان رحمته ... وهو الذي وسع الأكوان وانفردا (4)
عن الكيان به فلم يجد أحد ... من دون خالقه مولى وملتحدا
هو الوجود الذي بالجود تعرفه ... نفوسنا ولهذا الأمر قد عبدا
فلو عرضت على من كان يجهله ... عبادة الله في الأشياء ما عبدا
كما هو الأمر لكنّ فيه ملحمة ... بين العقول فكن بالشرع متحدا
__________
(1) الحجب: عند أهل الحق: انطباع الصور الكونية في القلب المانعة لقبول تجلي الحق.
(2) الكثيب: عالم القدس ومثواه.
(3) البرزخ: العالم المشهود بين عالمي المعاني والأجسام، أي بين الدنيا والآخرة.
(4) إشارة لقوله تعالى: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهََا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكََاةَ} سورة الأعراف، آية: 156.(1/409)
قد أخبر الله عن سلطان رحمته ... بأنه مثل علم الله واعتقدا
وقال أيضا:
لتندمنّ على ما كان من عمل ... تبغي به عوضا من عند مخلوق
وتسخط الله فيه وهو رازقكم ... وما لكم عوض عنه بتحقيق
إن الذي يعبد الرحمن تبصره ... كمصحف ضائع في بيت زنديق (1)
إنّ الفتى من رأى الأفراس توصله ... به فيمسح بالأعناق والسوق
حبالها عند ما كانت أدلته ... عليه لم يرها جاءت لتشقيق
وكيف جاءت لتشقيق وإنّ لها ... تسبيح خالقها حقّا بتصديق
الله كرمها جودا وأهلها ... لكلّ صالحة تأهيل معشوق
لله نفس براها الله من عرق ... الأفراس في حلبة الأفراس والنوق (2)
وقال أيضا:
لله نفس وللرحمن أنفاس ... وللمنازع فيما قلت إبلاس (3)
وللموافق فيما قلته طرب ... وفرحة وسرور فيه إيناس
من آنس النور نارا عند حاجته ... بالواد بالطور لم يأتيه إقباس (4)
فآض وهو كليم الله ليس له ... سوى غنى ليس فيه الدهر إفلاس (5)
أغناه عن طلب المطلوب في قبس ... ولم يكن ثم إلا الشرب والكاس
نديمه عين ساقيه فليس له ... في غيره غرض فناسه الناس
إني سمعت كلام الله من أذني ... من بلة قدر كفي ما بها باس
وقال أيضا:
إنّ الذي فرض القرآن يرجعكم ... إلى معاد وفيه العيش والفرح
ياتي إليك به من كلّ ناحية ... عوارف الخير والآلاء والمنح
وحار منها رجال سادة صبروا ... عن بابه الدهر ما زالوا وما برحوا
إنّ الذين بسهم الحبّ قد قتلوا ... وددت لو أنهم ماتوا وما جرحوا
لله قوم إذا ما أصلحوا فسدوا ... وثم قوم إذا ما أفسدوا صلحوا
وقال أيضا:
قسما بسورة العصر ... إنه الإنسان في خسر
__________
(1) الزّنديق: هو من يبطن الكفر ويظهر الإيمان، أو القائل بالنور والظلمة.
(2) براها: خلقها.
(3) الإبلاس: الشر.
(4) الطور: الجبل.
(5) آض: صار.(1/410)
غير من أوصوا نفوسهم ... بينهم بالحقّ والصبر
فهم القوم الذين نجوا ... من عذاب الله في القبر
ثم في يوم النشور إذا ... جمعوا للعرش في الحشر
وقال أيضا:
مني بواحدة إن كنت واحدتي ... وإن شفعت فإنّ الشفع يشفع لي
لو أنّ لي كلّ ما في الكون من ذهب ... أصبحت ذا فاقة للجود غير ملي
وإنّ ذلك من خلقي ومن شيمي ... ليس التكرّم من شأني ومن عملي
لو كان لي أمل في كلّ ما ملكت ... يدي لما خانني في جمعه أملي
إني لمن خير آباء لنا سلفوا ... لم يعرفوا قطّ بالإمساك والبخل
إنى ورثت الذي في النفس من كرم ... عن الجدود وعن أسلافنا الأول
وقال أيضا:
ما لي وإياك غير الله من سند ... وفاز من يتخذ ربّ الورى سندا
هو المهيمن فوق العرش مسكنه ... كما يليق به دينا ومعتقدا (1)
يأتي وينزل والألباب تطلبه ... كما روينا على المعنى الذي قصدا
ومن يكون على ما قلت فيه فقد ... وفى بما كلف الإنسان واقتصدا
ودع مقالة قوم قال عالمهم ... بأنه بالإله الواحد اتّحدا
الاتحاد محال لا يقول به ... إلا جهول به عن عقله شردا
وعن حقيقته وعن شريعته ... فاعبد إلهك لا تشرك به أحدا
وانهض إلى واهب الأسرار تحظ به ... ولتتخذ عنده قبل القدوم يدا
عليه من دارك الدنيا ومن فكر ... تظن من أجلها في حيرة أبدا
وكن إماما ولا تسعى لمفسدة ... بكلّ وجه وكن في الحكم مجتهدا
ولا تغالط بتعطيل وأقيسة ... وكن عن الرأي والتقليد منفردا
إني نصحتك والرحمن يشهد لي ... كما أمرت وهذا كله وردا
وقال أيضا:
إنّ التكاليف مجراها إلى أمد ... والعلم بالله لا يجري إلى الأمد
في كلّ حين يزيد المرء معرفة ... بربه وبأحوال إلى الأبد (2)
__________
(1) العرش: أعظم مخلوقات الله تعالى، وقد خلقه الله إظهارا لقدرته ولم يتخذه مكانا، تعالى الله علوا كبيرا وتنزّه عن المكان.
(2) الحال: هو ما يرى على القب من طرب أو حزن أو بسط أو قبض. والمعرفة: صفة من عرف الحق سبحانه بأسمائه وصفاته ثم صدق الله تعالى في معاملاته.(1/411)
فما يمرّ عليه اليوم من نفس ... إلا ويأتي بعلم لم يزل يرد
فإذ ولا بد من علم فأحسنه ... العلم بالله لا بالكون فاستزد
كما أتاك به أمر المهيمن في ... طه وفي خبر فاعمل به تزد
العلم بالله في علمي بأنفسنا ... ذا أحال عليه المصطفى وقد
والله ليس بمعلوم فليس لنا ... علم بنا فاعتبر ما قلته تجد
العجز غايتنا فيه فحاصله ... لا علم بي وبه يدور في خلدي (1)
فراقب الله يا هذا على حذر ... والعلم بالله عين العلم بالرصد
في سورة الفجر قال الله يعلمنا ... بأنّ ربّك بالمرصاد فاعتمد (2)
عليه إنّ له علما يجدّده ... فإنه لكثير الخير والرفد
يعطي العطاء وما يعطيه عن كرم ... لأنه الكرم المعلوم فانتقد
لو كان ذا كرم لكان علته ... وليس ذا علة تهدي إلى الرشد
لما انفردت مع المعلوم في خلدي ... سألت من ذا فقالوا بيضة البلد (3)
فقلت لما رأيت الأمر فيّ كما ... ذكرت بالحكم في الأدنى وفي البعد
وقال لي خاطري ما أنت واحده ... الكلّ مثلك فاسمع هدى منتقد
إني حكمت له فيما نطقت به ... من المعارف فيه حكم مجتهد
فإن أصبت فذاك الظنّ بي وبه ... أو لم أصب فهو مني لا من الأحد
ولم أقل ذاك عن سوء يخالجني ... بل قلته أدبا مع سيّد صمد
ظننت بالله خيرا إذا حكمت به ... من ظنّ بالله سوءا كان في حيد
عن الصواب الذي ما زال يطلبه ... مني فإن لم يكن أصبحت ذا فند (4)
أخذت عن واحد جلّت عوارفه ... هذي المعارف لم آخذ عن العدد
حصلت عنه علوما في مشاهدة ... ما لا يحصله النظار في مدد (5)
بل لا تحصله النظار عن مدد ... أخرى الليالي ولا من قال بالسند
العلم ذوق ضروريّ لذائقه ... فاعمل عليه فما في الربع من أحد
وقال أيضا:
إنّ المقرّب من يستعبد الدولا ... ليس المقرّب من تزهو له الدول
__________
(1) الخلد: الذهن.
(2) إشارة إلى قوله تعالى: {إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصََادِ} سورة الفجر، آية: 14.
(3) بيضة البلد: كناية عن الرجل الذي يجتمع إليه ويقبل قوله، ضد.
(4) الفند: الخطأ في القول والرأي.
(5) المشاهدة: تعني المحاضرة والمداناة. وقيل هي رؤية الحق ببصر القب من غير شبهة.(1/412)
إنّ المقرّب من يعطيه مشهده ... ما كان من بخل فيها ومن مدد
وليس يدركه فيما يريد بها ... مما يريد إذا ما شاء من ملل
عن ربه لا عن أسباب له نصبت ... كناظري في مسير الشمس أو زحل
بما قد أودع فيها الله من حكم ... لكنها تنتهي فيه إلى أجل
والأمر لا يتناهى حكمه أبدا ... دنيا وآخرة فكن على وجل
فإنّ في علمه ما ليس يعرفه ... وليس يدريه ذو فكر وذو حيل
واعمل عليه تصب دنيا وآخرة ... وإنما الفوز في العقبى مع العمل
إنّ المفرّط في أخراه في نكد ... وصاحب الحزم في نعمى وفي جذل
وكلّ من يدرك الأشياء عن نظر ... فلست أخليه عن دخل وعن ملل
لما تنزّل نور الله خالقنا ... إلى الزجاجة والمصباح في المثل
نادى بنا ربنا من فوق أرقعة ... سبع يعرّفني بأنّ ذلك لي (1)
لما ابتغى رؤية منه الكليم وما ... زال الشهود له عينا ولم يزل (2)
أجابه بشروط ليس يعرفها ... إلا الذي عن وجود الحقّ لم يزل
ما خرّ موسى لدكّ قام بالجبل ... بل خرّ مما تجلّى منه للجبل (3)
ولم تكن صعقته إلا لتخبره ... بما به اختصه الرحمن في الأزل (4)
إنّ الحياة التي في الحس ليس لها ... هذا المقام لما فيها من الخلل
فإن يمنّ بنور العين تبصره ... لذاك أصعقه ما كان من زلل
إني نظرت بعيني وهي تشهد لي ... برؤية الجبل الراسي على الجبل
موسى الذي ثبتت عندي أخوّته ... من الذي قد كساه أفضل الحلل
بذاك أخبرنا عنه ائمتنا ... ولم أعرّج على التمثيل والبدل
وثم أسرى به جسما ليبصر من ... آياته عجبا وجاء عن عجل
النصّ جاء من البيت الحرام إلى الأق ... صى وما زاد فالأخبار تشهد لي
فصح أنّ له الأمرين قد جمعا ... لأنه أكرم الأشخاص والرسل
والورث منه الذي لا شك يلحقنا ... إسراء روح ولكن ليس عن كسل
إني شغلت به النفس الضعيفة إذ ... أصحاب جنته الأعلون في شغل
__________
(1) الأرقعة: السماوات.
(2) إشارة إلى قوله تعالى: {قََالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قََالَ لَنْ تَرََانِي وَلََكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكََانَهُ فَسَوْفَ تَرََانِي} سورة الأعراف، آية: 143.
(3) يشير إلى قوله تعالى: {فَلَمََّا تَجَلََّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسى ََ صَعِقاً} سورة الأعراف، آية:
143.
(4) الأزل: القدم. ولا يوصف بالأزلية غير الله تعالى.(1/413)
والله كان مع الأعلون في درج ... ترقى بهم عن حضيض الطبع والسّفل
الله أوجدنا جودا ليشهدنا ... كمال صورته فينا على مهل
فكان لي اذنا وكان لي بصرا ... وكان ما عندنا من القوى وسل
عن الذي قلته أحبار امّتنا ... أئمة الدين والهادين للسبل
يخبرّوك بأن الأمر فيه كما ... ذكرته لا بتحريف ولا مثل
وإن رقيت إلى عين الشهود ترى ... ما كنت قلدت فيه مذهب الأول (1)
والحمد لله حمدا لا نفاد له ... حمدا يجمع شمل العلم والعمل
فهو المراد لأهل العلم أجمعهم ... الجامع الشمل بين الفعل والأمل
بالذوق خصصنا بالشرب كرّمنا ... بالريّ قال لنا الكل من قبلي
ومن أحال وجود الريّ فهو فتى ... قد جاءه الأمر في الأذواق من قبل
به يقول ابن طيفور وإنّ له ... وجها صحيحا لمن يدريه بالمثل (2)
عين صحيح جلّى ما به رمد ... فالله يعصمه من علة السّبل
الكحل إن كان محتاجا إلى المقل ... فالعين محتاجة للكحل والكحل
إني أشرت إلى علم ومعرفة ... فيما أتيت وما يدريه من رجل
غيري وغير إمام سيّد ندس ... لكننا في الذي قلنا على وجل (3)
وقال أيضا:
إني رأيت براهين العقول على ... نفي التحيز لا تقوى دلالتها
إن البدور بعين الحس تشهدها ... وقد أحاطت بها في الجوّ هالتها
ولم تكن غير أنوار بها انبعثت ... منها إلى غاية فيها حبالتها
على السواء فدارت كي يحيط بها ... وما أحاط بها غير فآلتها
منها فنطقها بالمحال موجدها ... حقا وقد حققت فيها مقالتها
واعلم بانّ صفات الحقّ ليس لها ... حدّ ينال فقد عالت فريضتها (4)
وقال أيضا:
إني سمعت كلاما ليس يدريه ... إلا الذي سمع القرآن من فيه
هو الرسول الذي من جاء يطلبه ... بعقله فبهذا القدر أكفيه
__________
(1) الشهود: أن يرى حظوظ نفسه.
(2) ابن طيفور: يا يزيد طيفور بن عيسى البسطامي، وطريقته طريقة الغلبة والسكر.
(3) النّدس: الرجل الفهم.
(4) الصفات: هي صفات الله تعالى التي هي قديمة وليست كصفات الحوادث.(1/414)
إني رأيت له نورا يضيء به ... أهل السماء إذا عين توفيه
من الضياء الذي فيها حقيقته ... وحقه وسوى هذا يعفيه
من كان أمرضه فكر فإنّ له ... ربّا يعافيه إيمانا ويشفيه
ما كان أثبته الإيمان من شبه ... بالله جاء دليل الشرع ينفيه
والعقل أيضا له ردء يصدقه ... في قوله فهو برّ في تحفيه (1)
الله يشقي فؤادي إذ رأى جسدي ... عين الصّدى وهو يبكي في تشفيه
لصحبة سلفت ما بين قالبه ... وبينه وهو أمر فيه ما فيه
لقد تنازع فيه الحاكمان معا ... فالشرع يظهره والطبع يخفيه
وقال أيضا:
زوّجت الأنفس أبدانها ... إذ أظهر الإنسان أعيانها (2)
وأحكم الطبع بها شهوة ... إذ أحكم الصانع بنيانها
أسكنه الرحمن في جنة ... يلاعب الحور وولدانها
أطاف بالكاس وإبريقه ... رحمانه عليه غلمانها
لما أتى عند كثيب الحمى ... يطلب للأبصار رحمانها (3)
أنفسنا لو عرفت ذاتها ... لأقرأت بالجمع قرآنها
سبحان من حيرّها حكمة ... فيها فلا تعرف قرقانها
وقال أيضا في نظم التوشيح:
مطلع ترجمان الأشواق ... عرّفني بالكريم الخلّاق
دور للإله الحقّ
همتي في السّبق
بخيول الصدق
لم تنل باستحقاق ... هذا الذي أودعت في الأوراق
__________
(1) الرّده: العون.
(2) الأعيان: إشارة إلى ذوات الأشياء التي تبد منها الأشياء.
(3) الكثيب: عالم القدس ومجلاه.(1/415)
دور من حلوم جلّت
في قلوب صلّت
عن هواها ولّت
لم تنل بالإملاق ... إلا الذي عندها من إشفاق
دور هو فضل منه
قد أخذنا عنه
إن يكن هو كره
واعتمد في الأرزاق ... على الإله الكريم الخلاق
دور يا إله الخلق
إن عدلت استبق
فأنا في المحق
فلتجد بالإنفاق ... بقدر ما عندنا من إملاق
دور حكمته الديهور
ظهرت من طور (1)
عند فقد النور
لولا حكم الإشفاق ... ما ظهرت حكمة للاشراق
وقال أيضا:
إنّ لله في الوجود عبيدا ... لم ينالوا الصعود إلا سعودا
لم يزالوا بباب من كان منهم ... عينهم عاكفين فيه قعودا
يطلبون الوصال منه ابتداء ... منة ثم يطلبون الصدودا (2)
ليروا حكمة التقابل منه ... فيهم ثم يطلبون الشهودا (3)
__________
(1) الطور: الجبل، ويريد هنا النفس.
(2) الوصال: قالوا: هو الانقطاع عما سوى الحق وليس المراد به اتصال الذات بالذات.
(3) السّهود: أن يرى حظوظ نفسه، وتقابله الغيبة.(1/416)
ما سمعنا منهم حنين اشتياق ... حين حلّوا ولا سمعنا فديدا
ليت شعري كيف الوصول إليهم ... حين خرّوا عند التجلّي سجودا
بعدوا بالسجود عنه اقترابا ... لا اغترابا إذ كان عنهم بغيدا
إنّ تسبيحهم يدل عليه ... ولذا يسألون منه حدودا
طلبوا منه ما يعود عليهم ... حكمه فاستفاد وأمنه الحدودا
وقال أيضا:
إنّ الذي خلق الإنسان من علق ... أبداه في طبق في الحال عن طبق
لا يعرف الحقّ إلا القائلون به ... الخارجون عن التقريب بالملق
فما يقوم بهم مما يكون له ... من المكاره محمول على الحدق
ما أوجد الله إنسانا من العلق ... إلا ليعلم ما فيه من العلق
لذاك عشقه بكلّ نازلة ... والعشق لفظة اشتقت من العشق (1)
ليس الحجاب الذي يعمي بصيرته ... إلا الذي هو فيه من عمى الغسق (2)
والعين من فالق الإصباح تبصره ... بما لديها من الأنوار للفلق
ما كلّ من ذاق طعما نال لذته ... من لم يذق طعم حبّ الله لم يذق
إنّ الذي هو في عمياء مظلمة ... من نفسه لا يزال الدهر في فرق (3)
فإن بدا علم منه يدل على ... تعيينه زال عنه حاكم الفلق
فليسكن القلب في توحيد مشهده ... ويذهب العين عنه لاعج الحرق
وقال أيضا من نظم التوشيح:
مطلع واردات الأفراح ... إن وردت ذهبت بالأتراح (4)
دور سائلي عن نفسي
هل لها من أنس
إن روح القدس (5)
__________
(1) العشق: أقصى درجات المحبة.
(2) الحجاب: حائل يحول بين الشيء المطلوب المقصود وبين طالبه وقاصده.
الغسق: ظلمة أول الليل. والبصيرة: قوة للقلب منورة. بنور القدس، منكشف حجابها بهداية الحق ترى بها حقائق الأشياء وبواطنها.
(3) الفرق: الخوف.
(4) الأتراح: الأحزان.
(5) روح القدس: جبريل عليه السلام.(1/417)
نافث في الأرواح ... ما عنده من علوم الأرواح
دور قل لربّ القلب
عن قناة القلب
إنّ لي في قلبي
خمرة في أقداح ... أنوارها من زناد القدّاح
دور يا حبيبي قل لي
إن هجرتم من لي
فلتقل من أجلي
أنت نور المصباح ... مشكاته ما ترى من أشباح
دور بالإله الفرد
من لكم من بعدي
إنّ قربي بعدي
النفوس ترتاح ... من أثر شربته في الراح (1)
دور سائلاتي عني
أين لحظي مني
بلّغوه عني
الشجاع الجحجاح ... يفني العدوّ بطويل الأرماح (2)
وقال أيضا:
والليل ليل الهوى والطبع إذ يغشى ... ثم النهار نهار العقل والافشا
إذا ذكرت ثيابا كنت لابسها ... للدين ذكرني ذكرى بها الهرشا (3)
ولست أعمى فإني ذو سنا وحجى ... ولست أبصر لكني أنا الأعشى (4)
__________
(1) الراح: الخمرة.
(2) الجحجاح: السيّد.
(3) الدهر هرش: اشتد.
(4) السّنا: النور. الحجى: العقل. الأعشى: الذي لا يبصر.(1/418)
فالطبع يأنف أن يفضى عليه به ... والشرع يحكم أني أغرم الأرشا (1)
فالحكم مني عليّ لا على أحد ... فلست أرجو سواي لا ولا أخشى
فإن تجس ترى لينا وداخله ... سمّ قتول كأني الحية الرقشا
هذا خصصت به وحدي وأعن به ... نوع الأناسيّ حال البدء والإنشا
قامت على صورة الأسماء نشأتنا ... فكلّ ما نحن فيه ربنا أنشا
وما اسرّته في تبليغنا رسل ... لأنّ مرسلهم هو الذي أفشى
ولو أسرّ لكان الحال يشهد لي ... بأنه هكذا سبحانه قد شا
وقال أيضا:
إذا يضيق بنا أمر ليزعجنا ... نصبر فإنّ انتهاء الضيق ينفرج
بذاك خالقنا الرحمن عوّدنا ... في كلّ ضيق له قد شاءه فرج
ألا ترى الأرض عن أزهارها انفرجت ... كما السماء لها في ذاتها فرج
والكون علو وسفل ليس غيرهما ... والأمر بينهما بالنص مندرج
وكلّ شيء من الأكوان نعلمه ... موحدا هو في القرآن مزدوج
حتى الوجود الذي إليه مرجعنا ... بما له من صفات الكون يزدوج
فليس يوجد فرد ليس يشفعه ... شيء سوى من له التقسيم والدرج
ذاك الإله الذي لا شيء يشبهه ... من خلقه فبه الإصباح تتبلج
وهو العزيز فلا مثل يعادله ... وإنما بمتاب العبد يبتهج
فكيف من هو محتاج ومفتقر ... إلى أمور بنا إن لم يكن حرج
فلا يصح على الإطلاق أنّ لنا ... حكم الغنى ولهذا فيه يندرج
الحبّ شاهد عدل في قضيتنا ... إذا الخلائق فيما قلته مرجوا
هم المصابيح في الظلماء إن ولجوا ... كما هم العمى إن زالوا وإن خرجوا
سبحانه وتعالى أن يحيط به ... علما عقول لمّا في ذاته دلجوا (2)
أما تراها على الأعقاب ناكصة ... لما رأت فنيت في ذلك المهج (3)
فليس يدرك مجهول حقيقته ... وفيه خلف لأقوام لهم حجج
لو أنهم نظروا في حسن صورته ... قالوا به قرن قالوا به فلج (4)
قالوا بعينيه في إبصاره وطف ... قالوا به كحل قالوا به دعج (5)
__________
(1) الأرش: الدية.
(2) دلج: سار من أول الليل.
(3) نكص: أحجم. المهمة: الدم، أو الروح. الفناء: سقوط الأوصاف المذمومة.
(4) فلج: شقّ.
(5) الوطف: كثرة شعر الحاجبين والعينين. الدّعج: سواد العين مع سعتها.(1/419)
فما أقاموا على حال وما جمعوا ... عليه في علمهم فيه وما درجوا
هذا مع الخلق كيف الحقّ فاعتبروا ... ما في بيوتهم من نوره سرج
وقال أيضا:
حسّ يفرّق والأرواح تتحد ... أنا الفقير وأنت السيد الصمد
أنت الذي بجمال الكون ينفرد ... وأنت أيضا بذات العين تتحد
فليس يبقى لعين الاتحاد بنا ... في كوننا كثرة تبدو ولا عدد
العلم يشهد أنّ الأمر واحدة ... كما أتتك به الآيات فاتئدوا
لو كلف الخلق ما عاشوا عبادته ... من غير حدّ لما ملوا وما عبدوا
تغلى من أجلي أجفاني لنار هوى ... بالقلب من داخل الأحشاء تتقد
لله قوم بترك الاقتداء شقوا ... وآخرون بترك الاقتدا سعدوا
الحقّ أبلج ما يخفى على أحد ... وقد تنازع فيه النسر والأسد (1)
عليه أجمع أهل الأرض كلهم ... عقلا وشرعا فما يرمى به أحد
من أعجب الأمر فيهم ما أفوه به ... هم المقرّون بالأمر الذي جحدوا
وإنما اختلفت فيه مقاصدهم ... فنعم ما قصدوا وبئس ما وجدوا
ألا إمام بعين الشرع أدركه ... له الإصابة نعم الركن والسند
هو الكريم فما تحصى مواهبه ... من العطايا ومنه الجود والرفد
لما توهم أن الأمر مغلطة ... عقل المنازع تاه العقل فاستندوا
إلى الشريعة لا تلوي علي نظر ... من العيون التي أصابها الرمد
لو أنها شفيت مما بها نظرت ... يعطى العلوم بسير الكوكب الرصد
وإنّ ربك بالمرصاد فازدجروا ... يدري بذلك سبّاق ومقتصد
ترنو إليك عيون ما لها بصر ... لما تمكن منها الغل والحسد (2)
وذاك حين رأت كشفا قد اختلفت ... عليه عند ذوي ألبابه الجدد
فقال شخص بما الثاني يقابله ... وكلهم ناظر في الله مجتهد
منوّع في التجلي حكمه أبدا ... ما ثم روح تراه ما له جسد
فلو تجلى إلى الاسرار كان له ... حكم يخالف هذا ما له أمد
وإنما يتجلى في بصائرنا ... فيحكم الوهم فيه بالذي يجد
وقتا ينزهه وقتا يشبهه ... وقتا يمثله جسما ويعتقد
__________
(1) أبلج الصبح: أضاء وأشرق. النسر: كوكبان. الأسد: من الأبراج.
(2) الرّنو: إدامة النظر بسكون الطرف.(1/420)
إن الحديث على ما قد تخيله ... وقد تحكم فيه الغيّ والرشد
سبحانه وتعالى أن تراه على ... ما قد رأى نفسه فإنه الأحد
والواحد الحقّ لا غير يشفعه ... والغير ما ثم فاستره إذا يرد
لو كان لي نظر في ما نظرت ... عيني إليه به ما ضمني البلد
هو الأمين الذي آلى به قسما ... في حق من لم يكن لكونه أمد
لو انتفى الأزل المعلوم عنه كما ... عنه انتفى إذ نفاه الحال والبلد (1)
وقال أيضا من نظم التوشيح:
مطلع إنّ الذي سمت به الأرواح ... إلى الحقّ راح
دور ما زلت أشتكي ألم الصدّ
إن متّ من يكون له بعدي
وعندي منه ذاك الذي عندي
بالله جد يا فالق الإصباح ... إذا الشوق باح
دور من ذبت فيه من شدة الوجد
لقد قررت عينا به وحدي
وبحت بالغرام عسى يجدي
عند الذي يجود بالأفراح ... من أهل السماح
دور إن الذي لديّ من الكرب
وما ألاقى من ألم الحبّ
لقد قضيت من حبه نحبي
يا صاح هل رأيت من ارتاح ... من غير ارتياح
دور لما ورثت في حاله موسى
__________
(1) الأزل: القدام. ولا يوصف بالأزلية غير الله تعالى.
وجاء بعده المهتدي عيسى
فقال هل عليل هنا يوسى
بنفخنا أنارت الأشباح ... من قيد السراح
دور لما رأيت مالك تعذيبي
سالت منه عن مالك الذيب
سؤال ناقص الحظ مكروب
صل يا منى المتيم من راح ... مقصوص الجناح
وقال أيضا:(1/421)
__________
(1) الأزل: القدام. ولا يوصف بالأزلية غير الله تعالى.
وجاء بعده المهتدي عيسى
فقال هل عليل هنا يوسى
بنفخنا أنارت الأشباح ... من قيد السراح
دور لما رأيت مالك تعذيبي
سالت منه عن مالك الذيب
سؤال ناقص الحظ مكروب
صل يا منى المتيم من راح ... مقصوص الجناح
وقال أيضا:
رأيت البدر في فلك المعالي ... يشير إليّ حالا بعد حال
ويطلبني ليسلبني فؤادي ... فيحوجني إلى ذلّ السؤال
دعاني بالغداة دعاء بلوى ... إلى وقت الظهيرة والزوال
فلما لم يجبه دعاه حبا ... ووجدا دائما أخرى الليالي
فلم يكن غير قلبي من دعاه ... فما ظفرت يداي من النوال (1)
بشي غير نفسي إذ أجابت ... فحرت إلى الوصال من الوصال (2)
وقولي من إلى لا علم فيه ... وفيه علمه عند الرجال
رجال الله لا أعني سواهم ... فضوء البدر ليس سنا الهلال (3)
ومن وجه يكون سناه أيضا ... كما أن الهدى عين الضلال
يميزه المحل وليس غير ... وهذا ليس من غير المحال
كاسماء الإله لها مجال ... وإنّ مجالها من ذا المجال
وليس يخالها منه بوجه ... ولم يكثر بها فاعلم مقالي
دعاني في المودّة والوصال ... بألسنة العداوة والتقالي
إذا كان الإمام يؤم قوما ... هم الأعلون آل إلى سفال
وجيد عاطل لا شك فيه ... يميز قدره عن جيد حال (4)
فآل المعتلى بأبي قبيس ... إذا شاء الصلاة إلى سفال (5)
(1) النّوال: العطاء.
(2) الوصال: قالوا هو الانقطاع عما سوى الحق وليس المراد به اتصال الذات بالذات.
(3) السّنا: الضوء.
(4) الجيد العاطل: لا حلي عليه.
(5) أبو قبيس: جبل بمكة.(1/422)
كظهر البيت منزله سواء ... يؤدّي من علاه إلى اعتلال
ولكن في صلاتك ليس إلا ... فحاذر ما يخونك في المثال
فإنّ العبد عبد الله ما لم ... تراه دريئة بين العوالي (1)
لذلك إن أقيم على يقين ... إشارة أسهم عند النضال
ومن بعض الزجاج هوى وعجبا ... يطيع العاليات من الطوال (2)
ألا إنّ الطبيعة خير أمّ ... وفيها الكون من حكم البغال
ألا إنّ الطبيعة أمّ عقم ... إذا كان البغال من البغال
ستور في ظهور الخيل مهما ... رأيت الخيل ترمى بالمخالي
إذا إنسان شخص من فيال ... تعينت اليمين من الشمال
فقوّ شماله ليعود طلقا ... فهذا حكمه يوم النزال
وكن في القلب منه تكن إماما ... إذا تدعو جحاجحة النزال (3)
مقارعة الكتائب ليس يدرى ال ... ذي تحويه ربات الحجال (4)
ففي الدنيا بدت أسماء ربي ... فعاينت النقائص في الكمال
وفي الأخرى إذا حققت أمري ... أكون بها كأفياء الظلال
كمال الأمر في الدنيا لكوني ... ظهرنا بالجلال وبالجمال
وفي الأخرى يريك كمال ربي ... فنائي عند ذلك أو زوالي (5)
كمال الحق في الأخرى يراه ... كمالي في الجنان بما يرى لي
كمالي أن أكون هناك عبدا ... فمالي والسيادة قل فمالي
وكن من أعظم الخدماء عندي ... بها صححت في الأخرى كمالي
إذا كان التكوّن بانحراف ... فعين النقص عين الاعتدال
سبقت القوم جدّا واجتهاد ... على كوماء مشرفة القذال (6)
أصابت عين من تهوى مناصي ... فقام بساقها داء العقال
وكنت أخاف من حدّي وعدوي ... أصاب بنظرة الداء العضال
وكنت من السباق على يقين ... فأخرني القضاء عن النوال
بأعمالي فبتّ لها كثيبا ... اردّد زفرتي من شغل بالي
ولكني سبقت القوم علما ... ومعرفة إليه فما أبالي
__________
(1) الدريئة: كل ما استتر به من الصيد ليختل. العوالي: الرماح.
(2) الزّج واحد الزّجاج: الحديدة في أسفل الرمح.
(3) الجحاجحة: جمع الجحجاح: السيّد.
(4) ربّات الحجال: كناية عن النساء.
(5) الفناء: سقوط الأوصاف المذمومة.
(6) الكوماء: الناقة الشديدة الصلبة. القذال: جماع مؤخر الرأس.(1/423)
فإنّ الله ينزلني إليه ... بعلمي بالكثيب مع الموالي (1)
وهذا العلم كنت به كريما ... أردّ به السفال إلى الأعالي
من العمال قد عصموا وفازوا ... فأجني منهم ثمر الفعال
نفخت بعلمنا روحا كريما ... بأجسام من أعمال الرجال
فإني قد سبقتهم اعتناء ... بتعليمي إلى دار الجلال
وقال أيضا:
كلّ ما يحويه ميزان ... فيه نقصان ورجحان
ودليلي قوله ثقلت ... ثم خفت وهو برهان
والذي من أجله وضعت ... فاعتدالات وأوزان
وإذا أعماله عرضت ... بان أرباح وخسران
من يزن أعماله ههنا ... ما له في الحشر ميزان
يرجح الوزن الخفيف إذا ... حلّ بالميزان كيوان (2)
وقال أيضا:
هيهات هيهات لا مال ولا ولد ... نعم ولا سبد يبقى ولا لبد (3)
وليس ينفعني إذا وردت على ... ربّ السموات إلا الواحد الصمد (4)
سبحانه وتعالى أن يكيفه ... عقل وأن يمتري في كونه أحد
هو المهيمن فوق العرش أعمده ... بنصبه ما له في فعله مرد
المال عندي وحال الفقر يحجبني ... عنه فعين افتقاري ذلك السند
إلى غنيّ مليّ لا افتقار له ... إلى الأمور التي إليه تستند
إذا يحكمني فيما يملكني ... في الحال أحجره فكيف اعتمد
عليه فيه وعندي الضعف يمنعني ... عن التصرّف فيه هكذا أجد
وقوّة الحال عين العلم أذهبها ... بالأصل صبرا ولا صبر ولا جلد
لو كنت أصبر أو أقوى على جلد ... ما ضمني للذي قد عالني بلد
وما أنا الغوث أحمى الخلق منه ولا ... أنا له بدل ولا أنا وتد (5)
__________
(1) الكثيب: عالم القدس ومجلاه.
(2) كيوان: زحل.
(3) ماله سبد ولا لبد: أي لا قليل ولا كثير.
(4) الواحد الصّمد: يعني الله الذي تحتاج إليه كل المخلوقات ولا يحتاج إلى أحد.
(5) الوتد: هم أربعة رجال، كل منهم وتد الذين على منازلهم الجهات الأربع من العالم، بهم يحفظ الله تلك الجهات كما يقولون. الغوث: هو القطب حين يلتجأ إليه، ولا يسمى في غير ذلك الوقت غوثا.(1/424)
لكنني خاتم بالعلم منفرد ... لله مرتقب بالسرّ متحد
لا يعتريني لما قد قلت عني أذى ... ولا ينهنهني عن بغيتي الأسد (1)
وقال أيضا:
هيهات هيهات لما توعدون ... من قيل فيهم في لظى مبلسون (2)
حال إله الخلق ما بينهم ... وبينه شرعا فلا يرحمون
إنّ على أبصارهم غشوة ... من ظلمة الجهل فلا يبصرون
ناداهم الحقّ ألا فاسمعوا ... فلم يجيبوا وأبوا يسمعون
فلتأتهم ساعتهم بغتة ... من عنده بكلّ ما يكرهون
تأخذهم منه على غفلة ... في حال تفريط ولا يشعرون
قد علموا الأمر فأنساهم ... أنفسهم سكرا ولا يعلمون (3)
لا يسأل الله عن أفعاله ... بهم كما جاء وهم يسألون
قد قيل فيهم وقفوهم يروا ... هذا الذي كانوا به يفتنون
قد فصّل الله لهم مالهم ... وما عليهم في الذي يقرأون
جاءت به الأرسال من عنده ... مبشرين وبه منذرون
قال لهم خيالهم حكمنا ... اللغو فيه فعسى تغلبون
عاد عليهم حسرة لغوهم ... فيه فكانوا في الورى خاسرين (4)
فأعرض الله وأرساله ... لما تولوا عنهم معرضين
وقال أيضا:
تبارك الله لا أبغي به بدلا ... ولا أراه سوى في الأهل والولد
عجبت من غفلتي عنه به وأنا ... منه كما قد علمتم بيضة البلد (5)
اعلم بأنّ الذي بالعقل أطلبه ... لو فات عن بصري ما فات عن خلدي
قد صحّ بالنقل أنّ العين واحدة ... مني ومنه فلا يحجبك بالجسد
فإنه عين كلي هكذا وردت ... ظهرا وبطنا وما بالربع من أحد
غيري وصورته في الحس صورتنا ... بكلّ وجه وانّ الأمر في حيد
__________
أما الأبدال فسبعون رجلا صالحا، أربعون بينهم بالشام، ويقيم الله بهم الأرض، وثلاثون منهم في سائر الأرض. ولا يموت أحد هؤلاء إلا يقوم مكانه آخر من سائر الناس.
(1) ينهنهن: يمنعني.
(2) مبلسون: متحيرون.
(3) السكر: دهش يلحق سر المحب في مشاهدة جمال المحبوب فجأة.
(4) الورى: الخلق.
(5) بيضة البلد: كناية عن الرجل الذي يجتمع إليه ويقبل قوله، ضد.(1/425)
قد قال عني أمورا لست أعرفها ... فيه فما جاء من غيّ ومن رشد
وقتا يميزني عنه ويجمعني ... وقتا عليه به لا بدّ من عدد
قد حرت فيه فلا أدري أيثبت لي ... عين افتقاري أو استغناي في الأبد
من أعجب الأمر أني حادث وأنا ... عين القديم بما قد جاء بالسند
بأنه فيّ عين السمع والبصر ... وأنه عين ما أسعى به ويدي
إن قمت قام لما أبغيه من عمل ... به ويكسبه لي وهو ليس يدي
لأنه صح أنّ العين حادثة ... مني وكيف يكون الأمر يا سندي
تقابل الأمر فينا والوجود لنا ... حقا يقينا بلا ريب ولا فند
إن كنته فلماذا قلت فيه بأن ... الحق سبحانه ركني ومعتمدي
لولا أنا لم بليس النفي تتبعه ... ولا بنفي أب عنه ولا ولد
والكاف عيني بلا شك وزائدة ... في قول أكثرهم فاقرأ ولا تزد
في اللحن يثبت ما قلناه من شبه ... ولم يكن كفء الله من أحد
لذا أتت سورة الإخلاص عن سبب ... من يهتدي فيه بالهدي الصحيح هدي
إني أنزهك عن تنزيه أكثرهم ... بما أتت فيه أرسال لكم وقد
كما فديتك من تقديس عالمهم ... في زعمه وهو في التقديس ذو عند
كيف الفداء وما شيء يعادله ... لو افتدى أحد بما فديت فدي
وقال أيضا:
إني بنيت على علمي بأسلافي ... ومن صحبت من أشياخي وآلافي
فما أصلّي بهم إلا قرأت لهم ... من القرآن لما فيه لأيلاف
فالا فانّ الذي في العبد من صفة ... عين الحبيب فهذا عين إنصاف
نفسي تنازعني إذا أطهرها ... والخف في قدمي من نزع أخفافي
وكيف أنزعها وقد لبستهما ... على طهارة أقدامي بأوصافي
إن اتصافي بنعت الحقّ بعدني ... منه وقربني بنعت أسلافي (1)
عجز وفقر إلى ربي ومسكنة ... إلى سؤال بإلحاح وإلحاف
إلى رفيق لطيف مشفق حذر ... وما أنا بالعتلّ الجعمص الجافي (2)
إذا ذكرت الذي عليه معتمدي ... سبحانه كنت فيه المثبت النافي
فالنفي تنزيهه عن كلّ حادثة ... من الصفات التي فيهنّ إتلافي
ولست أثبت للرحمن من صفة ... إلا التي قالها في قوله الكافي
__________
(1) الحق: يعني الله تعالى.
(2) العتلّ: الجافي الغليظ.(1/426)
لله ميزان عدل في خليقته ... فإن وزنت فإني الرجح الوافي
أنا مريض ودائي ليس يعرفه ... إلا العليم بحالي الراحم الشافي
إن التستر بالعادات من خلقي ... فما أنا علم كبشر الحافي (1)
إنّ التخلق بالأسماء يظهر ما ... يكون حليته بالمشهد الخافي
العبد يرسب يبغي أصل نشأته ... والغير متصف بالمدعي الطافي
ثوبي قصير كما جاء الخطاب به ... وثوب ديني ثوب ذيله ضافي
مياه أهل الدعاوى غير رائقة ... وماء مثلي ذاك الرائق الصافي
ديار أهل القوى في الخلق عامرة ... ودار أهل المعالي رسمها عافي (2)
يجود عند سؤالي كل مكرمة ... ربي عليّ بإنعام وإسعاف
لقد علمت بأنّ الله ذو كرم ... وأن فينا له خفيّ ألطاف
أثنيت بالجود عن فقر وعن ضرر ... على الإله فجازاني بإسعافي
كماء ورد إذا الداريّ يمرجه ... بما يطيبه من ماء خلاف
فبالأكفّ جياد الخيل إن سبقت ... نمس منها بأجياد وأعراف (3)
لا تفرحن باستواء الكفتين إذا ... أعمالكم وزنت من أجل أعراف
وأكثر الذكر للرحمن في ملأ ... من الملائك سادات وأشراف
واحذر قبولك رفدا قد أتيت به ... عن التشوّق منكم أو عن إسراف
إن الغريب مصون في تقلبه ... كلؤلؤ صين في أجواف أصداف
إنّ الكريم تولاه بجائزة ... تترى عليه وإنعام وإرداف
لو جاء من أسهم البلوى على حذر ... من المصاب لجاءته بآلاف
إنّ العبيد أولي الألباب قد نصبوا ... لرمي أسهم بلواه كاهداف
الله عاصمهم من كلّ نازلة ... بما يجن من ألطاف وأعطاف
من عند ربّ حفيّ بي ومكتنف ... وعاصم بالذي يسدي وعطاف
من الجميل الذي ما زال يرفده ... بمثله ليعمّ الخير أكنافي (4)
وقال أيضا:
حسنت ظني بربي ... فاعقب الظنّ خيرا
__________
(1) بشر الحافي، أصله من مرو، وسكن بغداد ومات بها سنة 227هـ.
(2) رسمها عاف: أي ممحو.
(3) أعراف: يعني المطلع، وهو مقام شهود الحق في كل شيء متجليا بصفاته التي ذلك الشيء مظهرها، وهو مقام الأشراف على الأطراف.
أجياد: جبل بمكة المكرمة.
(4) يقال: أنت في كنف الله تعالى: أي في حوزه وستره.(1/427)
أعطاني الظنّ فيه ... يخرا كثيرا ومميرا
به تعوّدت شرعا ... من ردّه الكور حورا
فأسرع الخير نحوي ... سيرا حثيثا فسيرا
وقال أيضا:
ليس يدري ما هو الأمر سوى ... من هو الآن على صورته
فإذا تبصره تعلمه ... للذي يعلم من صورته
إنما يبصره في ملكه ... مثله يمشي على سيرته
وقال أيضا:
لله فينا ما سكن ... وما توارى واستكن
فإنه سبحانه ... لقلبنا نعم السكن
فلا تقولوا ما له ... فإنما القلب سكن
ولا تكونوا كالذي ... غلا لجهل فامتحن
غلوّ اهل الرفض في ... أمر الحسين والحسن (1)
الشكر لله الذي ... أسمعني كلّ حسن
في كلّ بشرى قال لي ... إنك عبد مؤتمن
على الذي أعطيته ... من كلّ سرّ في السنن
فقل كما قال الذي ... يقوله من قد أمن
الحمد لله الذي ... أذهب عن قلبي الحزن
وقال أيضا:
إذا نظرت عيني فأنت الذي ترى ... وإن سمعت أذني فلست سوى سمعي
وإنّ قوايا كلها ومحلها ... وجودك يا سرّي كما جاء في الشرع (2)
ولا حكم من طبع إذا ما تكونه ... فإن كنته كان التحكم للطبع
إذا كنت عيني حين أبصركم بكم ... فقد أمنت عيناي من علة الصدع
إذا فرّقت اسماؤه عين صورتي ... على صورتي فيه أحن إلى الجمع
فاحمده حمد المحامد كلها ... وأشكره في حالة الضرّ والنفع
وارقب أحوالي إذا كان عينها ... واشهده في صورة الوهب والمنع
__________
(1) يعني الشيعة الغالية الذين بالغوا في أمر الحسن والحسين ابن الإمام علي، فخرجوا عن حد الاعتدال.
(2) السر: لطيفة مودعة في القلب كالروح في البدن، ونور روحاني هو آلة النفس.(1/428)
لقد أثرت لما أغارت جياده ... بميدانه شحبا كثيرا من النّقع (1)
فما قرع باب الله والباب انتم ... كما أنت ذاتي حين أشرع في القرع
واشهده عند اللوى وانعطافه ... وإن كمال الحق في مشهد الجزع
وصورته في الدرّ أكمل صورة ... وصورة عين الكون أكمل في الجزع
أما وجلال النازعات وغرقها ... لقد شهدت عيني الطوالع في النزع
إذا لم يكن فرع لأصل وجودنا ... وهل ثمر تجنيه إلا من الفرع
وصقع وجود الحقّ في دار غربتي ... فلا صقع أعلى في المنازل من صقعي
ألا إنه يخفي مع الوتر عينه ... ويظهرها للعين في حضرة الشفع
ألا كلّ ما قد خامر العقل خمرة ... وإن كان في مزر وإن كان في تبع (2)
لقد رفعت للعين أعلام هديه ... وضمن كيد الحقّ في ذلك الرفع
ولولا دفاع الله هدّت صوامع ... لرهبان دير فالسلامة في الدفع (3)
لقد سحت في شرق البلاد وغربها ... وما حفيت نعلي ولا انقطعت شسعي (4)
وفي عرفات ما عرفت حقيقتي ... ولا عرفت حتى أتيت إلى جمع (5)
ولما شهدناها وجئت إلى منى ... بذلت له بالنحر ما كان في وسعي
حصبت ندوّى جمرة بعد جمرة ... ببضع من الأحجار بورك من بضع
ولما أتيت البيت طفت زيارة ... حنينا بها من فوق أرقعة سبع (6)
عناية ربي أدركت كلّ كائن ... من الناس في ختم القلوب وفي الطبع
ومن أجل ذا لم يدخل الكبر قلبهم ... على موجد الصنع الذي جل من صنع
ولولا وجود السمع في الناس ما اهتدوا ... وليس سوى علم الشريعة والوضع
فكم بين أهل النقل والعقل يا فتى ... وهل تبلغ الألباب منزلة السمع
وقال أيضا لزومية:
من لم يزل بامتثال الشرع يطلبني ... ما زلت أطلبه شرعا وأبغيه
حتى رأيت الذي طلبت منه على ... ترتيب ما لم أطق بالعقل ألغيه
العبد لولا تجلّي الحق في صور ... شتى لكان دليل العقل يطغيه
لأنه بدليل العقل يطلبه ... والشرع ينقض ما الأفكار تبنيه
__________
(1) النّقع: رفع الصوت، وشق الجيب والقتل.
(2) المزر: الحسو للذّوق.
(3) صدى لقوله تعالى: {وَلَوْلََا دَفْعُ اللََّهِ النََّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوََامِعُ وَبِيَعٌ} سورة الحج، آية:
40.
(4) الشّسع: قبال النعل.
(5) عرفات: عبارة عن مقام المعرفة بالله.
(6) البيت: يعني القلب. الأرقعة: السماوات.(1/429)
فكلّ عين بعلم الحق تعبده ... فإنّ ذلك فيهم من تحليه
وقال أيضا:
لما رأيت وجودي في تجليه ... رأيت ما كنت أبغيه وأنفيه
فما رأيت وجودا كنت أظهره ... إلا رأيت وجودا منه أخفيه
إذا علمت بهذا واتصفت به ... علمت أن له عهدا يوفيه
وقال أيضا في نعت القوم:
إنهم كانوا إذا ... قيل لهم قولوا كذا
من أمور ليس في ... قولها شرعا أذى
بادروا من فورهم: ... أمر من قال بذا
ولقدر نتجوا ... للمعالي ولذا
أصغر القوم الذي ... عن هواه انتبذا
فتراه علما ... ذا علوم جهبذا (1)
لهداه صاحبا ... للهوى منتبذا
كلّ من ساعده الس ... عد فيه اتخذا
عزمه ناصره ... وعليه استحوذا
ما يصيخون لمن ... قال فشرا وهذى
وبذا قد عرفوا ... فاستخصوا وبذا
وكبير القوم في ... حظره قد أخذا
فلذا تبصره ... أبدا متخذا
هكذا شأن الذي ... عينوه هكذا
وقال أيضا:
سما فاعتلى في كلّ حال مقام من ... إذا قيل أنت الرب قال أنا العبد
على الكلّ عهد قد عرفت مقامه ... فمن لا يفي بالعهد ليس له عهد
كذا نصه في الوحي عبد مقرّب ... محمد المختار والعلم الفرد
وجاء به نص الكتاب مؤيّدا ... كلام رسول صادق وعده الوعد
فلله ما يخفى ولله ما يبدو ... ولله فيه الأمر قبل ومن بعد
ولم يدر هذا الأمر إلا أولوا النهى ... من السادة الغرّ الذين هم قصد (2)
__________
(1) الجهبذ: النقّاد الخبير.
(2) أولو النّهى: العقلاء.(1/430)
قويم إذا حادت مقاصد مثله ... عن المرتبة العليا فخانهم الحدّ (1)
أقاموا براهين العدالة عنده ... فقولهم قول وحدهم حدّ
وحال لهم في كل غيب ومشهد ... مذاق عزيز طعمه العسل الشهد
وذلك عن وحي من الله واصل ... إلى النحل فانظر فيه يا أيها العبد
فإن كان إلهاما من الله إنه ... هو الغاية القصوى إلى نيلها تعدو
فما فيه من ترك استناد معنعن ... ومن كان هذا علمه جاءه السعد
فليس له إلا الغيوب شهادة ... ومن كان هذا حاله ما له حد
تجنب براهين النهى إنها عمى ... إلى جنب ما قلنا فقربكم البعد
لو أنّ الذي قلناه يقدر قدره ... لنوديت بين الناس يا سعد يا سعد
كما جاء من أسرى إليه به على ... براق الهدى نحو الذي قلت يشتدّ (2)
ومنه أخذنا علمه بشهادة ... من الذوق ذقناها وشاهدنا الوجد
إلى كل خير سابقا ومسارحا ... وقد جاء في القرآن أنوارها تبدو
أروح عليها بكرة وعشية ... بشوق إلى تحصيلها وكذا أغدو
ألا إنّ بذل الوسع في الله واجب ... ودار الذي ما من صداقته بدّ
وليس سوى النفس التي عابد لها ... وكلنت من الأعدا لمن حاله الرشد
تعبدت يا هذا بكل فضيلة ... وأنت لها أهل إذا حصل الجهد
وساعدك التقوى فنلت بها المنى ... ولكن إذا أعطاك من ذاته الجدّ
إذا جاءك الوفد الكريم مغلسا ... وساعده من عند مرسله الرفد (3)
فذلك بشرى منه إنك مجتبى ... وإن لك الزّلفى كما أخبر الوفد (4)
وما الوفد إلا رسله وكتابه ... وليس لما جاءت به رسله ضدّ
يقاومه فاعلم بأنك واصل ... إليه ولا هجر هناك ولا صد
فواصل ذوي الأرحام مما منحته ... وإن أنت لم تفعل فذلكم الطرد
وحاذر من الجود الإلهيّ إنه ... له المكر في تلك المنائح والردّ
فلو كان عن ربّ لكان مخلصا ... كما يحلم الشطرنج أن يحكم النرد
ألا إنها الأفلاك في حكمها بها ... قد أودع فيها الله من علمه تعدو
على كل مخلوق وإن قضاءه ... عليه به فاحمد فمن شانك الحمد
__________
(1) الحد: أي الفصل بينك وبينه.
(2) البراق: الدابة التي حملت النبي صلى الله عليه وسلم من البيت الحرام إلى بيت المقدس، ليلة الإسراء والمعراج.
(3) الرّفد: العطاء.
(4) الزّلفى: القربة.(1/431)
فحقق تنقل إن كنت بالحقّ حقه ... ولا تعتمد إلا على من له المجد (1)
وذلك من يدري إذا كنت عالما ... وقد أثبت التحقيق من حاله الجحد
ولا تجحدن إلا كفورا لعلمه ... لذلك لم يخلد وإن ذكر الخلد
فما الخلد إلا للذي ظل مشركا ... يروح ويغدو دائما فيه لا يعدو
وقال أيضا:
ليس يدري الغير ما طعم الهوى ... إنما يدريه من ذاق الهوى
والهوى لولا الهوى ما هويت ... نفس من ذاق الهوى غير الهوى
ما هوى نجم إذا النجم هوى ... في هوى إلا من آثار الهوى
أوّل الحبّ هوى نعلمه ... عندنا فالعشق من حكم الهوى (2)
لا تذمنّ الهوى يا عاذلي ... إنما للمرء فيه ما نوى
فبه كوّن كوني فبدا ... وبه قد فلق الحبّ النوى
فيرى صاحبه في موصل ... ويرى عائده في نينوى
فيرى الصاحب في وصلته ... ويرى العائد يشكو بالنوى
وقف الحبّ على القلب إذا ... ذاقه عند مقامات السوى
وإذا خاطبه من ذاته ... ما يرى خاطبه منه سوى
ليس للقلب اهتمام بالذي ... ناله عند المناجاة سوى
قول من قال له في حكمه ... أنا في الحكم وإيّاك سوا
ما له من خبر في علمه ... غير ما قد قاله ثم لوى
عنه وجها لم يزل وجهته ... يطلب الوجه بها وأدى اللوى
وقال أيضا:
إنّ الفروع لها أصل يولدها ... وهي الأصول لمن أيضا تولده
الحقّ أصل وجودي ثم معرفتي ... أصل لعلمي به إن كنت تشهده (3)
به أتانا رسول الله في خبر ... عكس الذي قال من بالفكر يجحده
الله أنزه أن تدرى حقيقته ... وأن يولده من كان يعبده (4)
__________
(1) التحقيق: قيل: التحقيق هو تكلّف العبد لاستدعاء الحقيقة جهده.
(2) العشق: أقصى درجات المحبة.
(3) الحق: قال ابن عربي: الحق كل ما فرض على العبد وكل ما أوجبه الله على نفسه.
(4) حقيقة: قيل: هي إقامة العبد في محل الوصال إلى الله، ووقوف سره على محل التنزيه. وقيل: الحقيقة هي اسم الصفات، والحق هو الذات.(1/432)
وإنما قلت ذا مما لنا وردت ... به النصوص التي للشرع تعضده
إن تنصروا الله ينصركم ويشهدكم ... إصلاح من أنت تبغيه فتفسده (1)
وقال أيضا:
إني رأيت وجودا لست أعرفه ... وكيف أعلم من بالعلم أجهله
لولا الوجود الذي منا يصرّفه ... فيها لما كان لي قلب يفصله (2)
إلى وجود إلى ذات إلى صفة ... إلى نعوت له جاءت تكمله (3)
إن النفوس بأوهام تخيله ... وبالتوهم نفس ما تحصله
إذا يفصله علمي يحدّده ... وهمي وما يقبل التفصيل يجمله
إنّ الجمال لمن يهوى الجميل به ... والناس أعلمهم به تجمله
فيحمل الكلّ عن أهل الكلال فتى ... يدري بأنّ انبساط الحقّ يحمله
أخوك يا ابنة عمران شبيهك في ... كفالة المجتبى والله يكفله (4)
له عليك كما قد جاءنا درج ... لذاك فاز بما منه يؤمّله
عمدا يراه إذا ما الكون يفصله ... عن الإله ترى الرحمن يوصله
وتلك منزلة عظمى يعينها ... له من الله بالزلفى منزله (5)
إذا عبيد تراه في مخالفة ... لله جود الإله الحقّ يمهله
وليس تهمله إلا عنايته ... به فيمهله وليس يهمله
وتلك منزلة جاءت بها كتب ... ما كان يحظى بها لولا تنزله
وقال أيضا:
هذا الذي عنت له الأوجه ... ليس له من خلقه مشبه
ولو بدا للعين في صورتي ... له المقام الأفخم الأنزه
قد استوى فيه وفي نفسه ... العالم الهمهم والأبله (6)
__________
(1) صدى لقوله تعالى: {إِنْ تَنْصُرُوا اللََّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدََامَكُمْ} سورة محمد، آية: 7.
(2) القلب: قالوا: للقلب معنيان أحدهما اللحم الصنوبري الشكل، والثاني لطيفة روحانية لها تعلق بالقلب الجسمان.
(3) الوجود: فقدان العبد بمحاق أوصاف البشرية ووجود الحق. الذات، مطلقا: هو الأمر الذي تستند إليه الأسماء والصفات في عينها لا في وجودها. الصفة: قالوا: الصفة ما لا ينفصل عن الموصوف.
والبغت قد يكون بمعنى الصفة: إلا أن الوصف يكون مجملا والنعت يكون مبسوطا فإذا وصف جمع، وإذا نعت فرّق.
(4) ابنة عمران: يريد مريم بنت عمران.
(5) الزلفى: القربة.
(6) الهمهام: السيد السخي، وعظيم الهمة.(1/433)
ما يعرف الحقّ سوى نفسهم ... إن عرفوا وكلّ ذا كنهه
فإن تجلّى لعيون الورى ... رأوه منهم ولذا نزهوا
أنفسهم في بعض أقوالهم ... قال به أربابه الوله (1)
تنزيههم عاد عليهم كما ... جاء به النص الذي نزهوا
وفيه قال العبد سبحانه ... عليه أهل الله قد نبهوا
فإنه ليس بأنفاسهم ... ما اعتقد الناس وما شبهوا
وقال أيضا:
هذا الوجود ومن به يتجمل ... إن الحديث كما يقول الأوّل
دلّ الدليل على حدوث واقع ... عن محدث هو بالدلالة أكمل
إذ كان والأشياء لم يك عينها ... فحدوثها فرق جليّ فيصل
عند الذي سبر الدليل بفكره ... لكن متى في مثل ذا لا يعقل (2)
إنّ الزمان من الحوادث عينه ... ومتى محال في الزمان فأجملوا
لو يعلمون كما علمت مكانه ... ما كنت عنه بمثل هذا تسأل
لحدوثنا إذ لم نكن وظهورنا ... في عيننا وكذا المكان ففصلوا
لو أنّ رسطاليس يسمع قولنا ... ورجاله نظرا عليه عوّلوا (3)
أنصفت في التحقيق مذ بينت ما ... دلّوا عليه بالدليل وأصّلوا (4)
والأشعريّ يقول مثل مقالتي ... وإن أنصفوا وكذا الرجال الأوّل (5)
والله ما زلت بهم أقدامهم ... لكن لفهم السامعين تزلزلوا
قد فرّقوا بين الوجوب لذاته ... ولغيره فافهم لعلك تعقل (6)
هذا هو الإمكان عند جميعهم ... فعن الحقيقة عندنا لم يعدلوا
لكنهم ما أنصفوا إذ نوظروا ... في البحث بالسرّ الذي لا يجهل
لو أنهم سبروا أدلة عقلهم ... وتوغلوا في قولهم وتأمّلوا
رأوا اتساع الحقّ من انصافهم ... وقبوله للقول فيه فاقبلوا
إخوان صدق لا عداوة بينهم ... فله العلوّ نزاهة والأسفل (7)
__________
(1) الوله: إفراط الوجد.
(2) سبر الأمر: امتحن غوره.
(3) أرسطو طاليس: أبو الفلسفة اليونانية.
(4) التحقيق: تكلف العبد لاستدعاء الحقيقة جهده.
(5) الأشعري: يريد أبا الحسن الأشعري المتكلم المتوفى سنة 324هـ.
(6) الواجب الوجود: ما لا يتصور عدمه وهو الله تعالى وصفاته.
(7) العلو: من صفات الله تعالى، وهو أي العلو علو مكانة.(1/434)
الله أوسع أن يقيده لنا ... عقد فكلّ عقيدة لا تبطل (1)
لكن لها وجه إليه محقق ... يدري به الحبر اللبيب الأكمل (2)
جاء المحقق في التجلي بالذي ... وقع النكير به وما هو أنزل (3)
فله التجلي في العقائد كلها ... وأتى بذاك تبدّل وتحوّل
لو لم يكن هذا تقيد وانتفى ... إطلاقه عنه لضاق المنزل
تدري الخلائق في الشعور نزوله ... يوم القيامة وهو يوم أهول
عمت سعادته الخلائق كلهم ... جاء الرسول به ونص المرسل
وسع المهيمن كلّ شيء رحمة ... فاعلم فليس على المكان معوّل
إنّ الإله حكى لنا ما قاله ... أهل العدالة والصدور العدّل
وهم الدعاة لنا وقد نطقوا بما ... جاء الكتاب به إلينا المنزل
فينا من التجريح وهو حقيقته ... من غيرة قامت بهم لا تجهل
لله قاموا غيرة لم يقصدوا ... ردّا عليه لما رأوه فاوّلوا
وقال أيضا:
ليس في الوجود ... من يقول ربي
غيره تعالى ... إذ أقول ربي
ما أرى محبا ... في هوى محب
إنما هواه ... أن يكون حبي
في هواه يجري ... إذ دعا يلبي
ما أرى حبيبا ... من أحب حبي
إنما حبيبي ... من أحب حبي
في هوى حبيبي ... قد قضيت نحبي
ليس لي حبيب ... يرتضيه قلبي
كيف يرتضيه ... من يقول حسبي
وقال أيضا:
إني إناء ملآن ليس يشرب ما ... فيه من اللبن الممزوج بالعسل
__________
(1) العقد: عقد السر هو ما يعتقد العبد بقلبه بينه وبين الله تعالى أن يفعل كذا أو لا يفعل كذا. وقيل لبعض الصوفية: بما عرضت الله؟ فقال: بحل العقود وفسخ العزائم.
(2) الحبر: العالم العظيم.
(3) التجلي: قيل: إشراق أنوار إقبالا حلق على قلوب المقبلين عليه. وقيل: ما ينكشف للقلوب من أنوار الغيوب.(1/435)
غير الذي بفنون العلم خصصنا ... محمد خير مبعوث من الرسل
أتى بإعجاز قول لا خفاء به ... أعجازه انعطفت منه على الأول
حوى على كلّ لفظ معجز ولذا ... حوى على كلّ علم جاء من مثل
أتى به الناطق المعصوم معجزة ... إلى الذي كان في الدنيا من الملل
فما يعارضه جنّ ولا بشر ... بسورة مثله في غابر الدول
ولو يعارضه ما كان معجزة ... فليس إعجازه يجري إلى أجل
رأيت ربي في نومي فقلت له: ... ما صورة الصرف في القرآن حين تلي؟
فقال لي اصدق فإن الصدق معجزة ... ولا تزوّر أمورا إن أردت تلي
لكن كلامك إن تفعله معجزة ... فقلت يا ربّ غفرا ليس ذلك لي
هذا دليل بأنّ القول قولكم ... لا قوله وهو عندي أوضح السبل
أتى به روحه من فوق أرقعة ... سبع إلى قلبه والقلب في شغل (1)
أتى على سبعة من أحرف نزلت ... ميسر الذكر يتلوه على عجل (2)
إذا تكرّر فيه قصة ذكرت ... تكون أقوى على الإعجاز بالبدل
والكلّ حقّ ولكن ليس يعرفه ... إلا الذي بدليل العقل فيه بلي
هذا هو الحقّ لا تضرب له مثلا ... فإنه من صفات الحقّ في الأزل (3)
لا يحجبنك ما تتلوه من سور ... بأحرف وبأصوات على مهل (4)
فكله قوله إن كنت ذا نظر ... فيه على حدّ إنصاف بلا ملل
إنّ الوجود إذا أبصرته عجب ... فكله كلمات الله من قبلي
أنا محصله أنا مفصله ... بنا تلاوته فينا على وجل
قد أودع الله فيه كلّ مرتبة ... تحوي على حزن تحوي على جذل
فيحزن القلب أحيانا ويفرحه ... بما يقرّره في كافر وولي
من الصفات التي جاءت مرتبة ... على الحقائق في حاف ومنتعل
يعلو به واحد لله منزله ... وآخر نازل منه إلى السفل
وقال أيضا في أمثلة أوزان جمع القلة، والبيت الأوّل منها تقدّم لغيره:
بأفعل وبأفعال وأفعلة ... وفعلة تجمع الأدنى من العدد
__________
(1) الأرقعة: السماوات.
(2) يريد بالأحرف القراءات السبع.
(3) الأزل: القدم. ولا أزلي إلا الله تعالى. وصفاته أزلية غير حادثة.
(4) الحجب: يريد انطباع الصور الكونية في القلب المانعة لقبول تجلي الحق.(1/436)
فتمم على هذا بالأمثلة:
كمثل قولك أنعام وأرقعة ... بنى الإله لنا قامت بلا عمد (1)
وأكلت لم يسدّ الخبز جوعهم ... وفتية نبغت يقضون بالرصد
وقال أيضا:
إنّ الحبيب هو الوجود المجمل ... وشخوص أعيان الكيان تفصل
ما منهم أحدّ يحبّ حبيبه ... إلا وللمحبوب عين تعقل
في عين من هو ذاتنا وصفاتنا ... ووجودنا وهو الحبيب الأكمل
وقف الهوى بي حيث كان وجوده ... في موقف عنه الطواغيت تسفل (2)
طرف الذي يهوى سماك رامح ... وفؤاد من يهوى سماك أعزل (3)
ما إن يرى من عارف الإله ... بين المنازل في المجرّة منزل (4)
لمقام من يرجى العلو لذاته ... ومقام من يرجو المقام الأنزل
من كان لا يبني لذلك عندنا ... هذا هو العلم الذي لا يجهل
والله لو ترك العباد نفوسهم ... لرأيتهم وهم الرجال الكمل
نصر الإله فريضته مكتوبة ... فانصر فإنك بعده لا تخذل
نص الرسول على الذي قد قلته ... وبذاك قد جاء الكتاب المنزل
جاء الكتاب مصدّقا لمقاله ... وعليه أهل الله فيه عوّلوا
ما من كتاب قد أضيف منزل ... لله إلا والقرآن الأفضل
والفضل فيه بأنه يجري على ... ما ليس يحويه الكتاب الأوّل
كره النبيّ الفعل من عبد أتى ... بصحيفة فيها دعاء ينقل
من نص توراة وقال له اقتصر ... فيما أتيت به الغنى والموئل
عصم الإله كتابنا من كلّ تح ... ريف وما عصمت فمالك يأفل (5)
فاستغفر الله العظيم لما أتى ... واستغفر الله لهذا المرسل
فنجا من الأمر الذي قد ضرّه ... عما أتاه به النبيّ الأعدل
__________
(1) الأنعام: الإبل والشاء. والواحد: النّعم. الأرقعة: السماوات.
والواحد: رقعاء.
(2) الطواغيت: جمع الطاغوت: لكل ما عبد من دون الله.
(3) السّماك ما سمك به الشيء، ونجمان نيّران هما الأعزل والرامح.
(4) العارف: قال ابن عربي: العارف من أشهده الرب عليه فظهرت الأحوال عن نفسه.
(5) يريد قوله تعالى: {لََا يَأْتِيهِ الْبََاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلََا مِنْ خَلْفِهِ} سورة فصلت، آية: 42.(1/437)
وكذاك ختم الأولياء كلامه ... في الأولياء معظم متقبل (1)
من ذاق طعم كلامه لم يسترب ... في قولنا فهو الكلام الفيصل
من كان يعرف حاله ومقامه ... عن بابه وركابه لا يعدل
من عظّم الشرع المطهر قلبه ... تعظيمه فهو الإمام الجوّل
صفة المهيمن ههنا قامت به ... والناس فيها يشهدون العقل
وقال أيضا مسمط:
قد طهر الله الإمام الرضى ... من كلّ سوء يقتضيه الأذى
فإنه سبحانه قد قضى ... أن لا يكون الأمر إلا كذا
ولم يواخذه بما قد مضى ... إذا يتوب العبد عنه إذا
وجاء بالفعل الذي يرتضى ... ومثل هذا العبد لن ينبذا
ووجهه من نوره ما أضا ... لأنه حذو الإله حذا
ليس تراه عين من غمضا ... عينا إذا أنزله بالحذا
فأشبهت صورته فالقضا ... مطلوبه فلم يكن غير ذا
وقال أيضا:
هذا الذي قلته في الله من صفة ... الله جاء به في الذكر مسطورا
على لسان رسول سيّد ندس ... إذ طهر الله أهل البيت تطهيرا (2)
فلم ينلهم لذا في عرضهم دنس ... إذ شمروا ذيلهم للنصر تشميرا
وقال أيضا:
الحمد لله في سرّ وفي علن ... حمدا يوفيه نفس الحمد واللسن
بألسن ما لها حصر ولا عدد ... من كلّ عضو حوته نشأة البدن
أعنى بذا بدن الأكوان أجمعها ... كالعرش والفلك الكرسّني ذي المنن (3)
لأنه الشرع والأقوام تعضده ... بما حواه من الأحكام والسنن
__________
(1) الولي: من يتولى الله سبحانه أمره فلا يكله إلى نفسه لحظة، ومن يتولى عبادة الله تعالى وطاعته، فعبادته تجري في التوالي من غير أن يتخللها عصيان.
(2) السّندس: الفهم. ويريد الإشارة إلى قوله تعالى: {إِنَّمََا يُرِيدُ اللََّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً} سورة الأحزاب، آية: 33.
(3) العرش: أعظم مخلوقات الله تعالى، وهو جرم فوق السماء السابعة.
والكرسي: السرير، وهو محل مظهر جميع الصفات الفعلية والوجودي العيني. وقيل: هو مظهر الاقتدار الإلهي ومحل نفوذ الأمر والنهي والإيجاد والإعدام. الفلك: مدار النجوم.(1/438)
تقسمت كلمات الله فانفصلت ... أعيانها بعضها عن بعضها الحسن (1)
وليس يدري الذي قلناه من حكم ... إلا الذي هو ذو لب وذو فطن
تمشي على السنة المثلي طريقته ... فعينه عين ما قلناه في السّنن
هو المحجة لا أكنى وسالكها ... من يعرفون من أهل الشام واليمن
جسما وروحا وما في الكون غيرهما ... إلا الخيال الذي يأتيك بالفتن
تراه في سنة الأنعام ذا نعم ... نعم وفي سنة الأجداب ذا محن
وليس يدرك في نوم ولا سنة ... سواه إن كنت ذا فهم وفي الحين
هذي حقيقته فالزم طريقته ... ولا تخالفه في سرّ ولا علن
ولو تخالفه به تخالفه ... لولاه ما عبد الرحمن في وثن
بالعقل تثبته كونا وتثبته ... بالشرع حكما فعمّ الأمر يا سكني
له التحكم في الألباب أجمعها ... بالصور وهو له من أعظم الجبن
ذل العزيز به عز الذليل به ... فالحكم لله إذ لو شاء لم يكن
من أعجب الأمر أن الأمر يحكمه ... والحكم في فرح منه وفي حزن
لولا تحكمه فينا وقوّته ... ما كان يأتيك بالأفراح والحزن
قد يحكم الأمر في أمر فيبطله ... بالوهم فهو مع الألباب في قرن
لولا الشريعة قد كنا على فلت ... منه فيحكم في الفتيان بالفتن
الشرع جاء به قربى لخالقنا ... منا ليسعد عبد المؤمن الفطن
فاعبد إلهك ربّ العرش في جهة ... كأنبياء به في شرعه الحسن
بين الرسول وبين الروح قد ظهرت ... هذي الأمور لتعليم لنا حسن (2)
لولا تحكمه ما كنت أحكمه ... فينا ومن أجل هذا نحن في غبن
إنا لنعلم أنّ الحقّ قال لنا ... الحقّ للساع رجل ليس للرسن
لولا الخبال وإيمان رميت بها ... عقلا لما فيه من ضعف ومن منن (3)
وقال أيضا في النوّاب:
من وافق الحقّ في حكم وفي عمل ... فإنه عمر الفاروق في الزمن
يا نائب الحقّ إنّ الحقّ أهلكم ... لما أقامك في ذا المنصب الحسن
فإن عدلت وقاك الله فتنته ... وإن عدلت ابتلاك الله بالمحن
قرينة الحال تعطى ما أردت بما ... ضربته مثلا للهمهم الفطن (4)
__________
(1) الكلمات: عبارة عن تعينات واقعة على النفس.
(2) الروح: أي: جبريل عليه السلام.
(3) الخبال: النقصان والهلاك.
(4) الهمهم: السيّد السخي عظيم الهمة.(1/439)
إني لسان صغار لي وعائلة ... وترجمانهم في السرّ والعلن
قد اصبحوا ما لهم ثوب يردّ به ... برد الهواء ولا فلس من الثمن
وما التمست سوى مرسوم سيدهم ... فإن منعتم فلا ثوب سوى الكفن
وإنّ ظني بكم في حقهم حسن ... ولم يخب أحد في ظنه الحسن
إن أجدب الوقت فاستسقاء صاحبه ... يزيله بانسكاب الوابل الهمتن (1)
فإنه ربّ إحسان ومأثرة ... على المقلين بالآلاء والمنن
وقال أيضا:
إني جعلت رسول الله خير شفيع ... فكن له يا وليّ اليوم خير سميع
وما التمست سوى مرسوم صاحبه ... السيد الطائع المحفوظ خير مطيع
وقد رأيت الذي خطت أنامله ... من كلّ معنى جليل قدره وبديع
والأمر لله فيه ثم صاحبه ... إن الجناب الذي ذكرته لرفيع
وقال أيضا:
إني اتخذت إلى ذي العرش معراجا ... فإن لي شرعة منه ومنهاجا
على لسان رسول منه ألبسني ... به المهيمن في إسرائه تاجا
إذا رأيت وفود الله قد وصلوا ... يأتون دين الإله الحقّ أفواجا
فاستغفر الله واطلب عفوه كرما ... وكن فقيرا إلى الرحمن محتاجا
معاشر الناس إنّ الله أنبتكم ... من أرضه نطفا في النشىء أمشاجا (2)
وثم أولجكم لما أماتكم ... فيها لأمر أراد الحقّ إيلاجا
وقد علمت بأنّ الله يخرجكم ... بعد الممات من الأجداث إخراجا
من بعد إنزاله من أجل نشأتكم ... ماء كمثل منيّ الناس ثجّاجا (3)
وصيّر الناس أقساما منوّعة ... ثلاثة في كتاب الله أزواجا
لو أنّ ما عندنا من علم صانعنا ... يكون في رهج الأسواق ما راجا
وقال أيضا:
كل من رام في الوجود اتصالا ... بوجودي قد رام أمرا محالا
قد قطعنا لرؤية السرّ شوقا ... واشتياقا فيافيا ورمالا (4)
__________
(1) الوابل: المطر الشديد.
(2) الأمشاج: ما يجتمع في السّرّة. وفي قوله تعالى: {إِنََّا خَلَقْنَا الْإِنْسََانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشََاجٍ} سورة الإنسان، آية: 2. وفي الآية بمعنى: مختلطة بها المرأة ودمها.
(3) ثجّاج: سائل.
(4) الفيافي: جمع الفيفاء: المفازة لا ماء فيها.(1/440)
ثم إني لما وصلت إليه ... لم أجد غيرنا فزدت نكالا (1)
قلت ربي فقال لبيك عبدي ... لم أجد غير حيرة لي ضلالا
قال لي هكذا هو الأمر فاعلم ... لم يزد طالبوه إلا خبالا (2)
كلّ قلب يبغي الوصول إليه ... معلم بالفراق منه تعالى
وكذا من يقول ربي بقلبي ... جدّ والجدّ لم ينله فنالا
حيرة مثله فقال شخيص ... غاطس في السراب ماء زلالا
ثم لما أتاه لم يلف إلا ... عدما حاصلا وقد كان آلا
يثبت الجهل ههنا ثم أيضا ... ههنا والجهول نال الوبالا (3)
وجد الله عنده فكفاه ... صاحب الآل كان أحسن آلا (4)
إخوتي هل رأيتهم أو سمعتم ... أن شخصا أتى إليه فمالا
عنه عن غير حاصل مستلذ ... لا وحقّ الإله جلّ جلالا
ما رأيناه في سوى الحق عينا ... وقصاراه أن يكون خيالا
وهو شرع مقرّر مستفاد ... جاء بالكاف نوره يتلالا
لقلوب دنت إليه اشتياقا ... فكساها مهابة وجمالا
لا وحقّ الهوى ومتبعيه ... ما رأينا في الهجر إلا الوصالا (5)
لم ينل كلّ طالب مستفيد ... عين كون الحبيب إلا كلالا (6)
فاطلب الأمر بالوجود تجده ... عند حبل الوريد يشكو المطالا
قلت مذ أنت ههنا قال دهري ... إنّ ربي أتيت عنه مثالا
وأنا ما أريد إلا إلهي ... حبه الدهر لا أريد اتصالا
بسوى الله قال عين وجودي ... حقق الأمر يا فتى استقلالا
يدرى قطعا من أبصر البدر تما ... إنه كان في العيان هلالا
ثم لما تزايد الأمر فينا ... عاد في نقصه يريد الكمالا
كلّ نقص تراه فهو كمال ... للذي جاء فيه أنّ المثالا
يستر الشيء خلفه وهو كشف ... عند من يعرف الحلال حلالا (7)
__________
(1) النّكال: ما نكلت به غيرك. نكّل به: صنع به صنيعا يحذّر غيره.
(2) الخبال: النقصان والهلاك.
(3) الوبال: الشّدة.
(4) الآل: السراب، والشخص.
(5) الوصال: قالوا: هو الانقطاع عما سوى الحق وليس المراد به اتصال الذات بالذات.
(6) الكلال: الإعياء، والثقل.
(7) الكشف: الإطلاع على ما وراء الحجاب من المعاني الغيبية والأمور الحقيقية وجودا وشهودا.(1/441)
حكم العلم أنّ ما كان رجما ... إنه كان في الهواء اشتعالا
وهو نجم كما تراه ولكن ... جعل الجوّ للرجوم مجالا
هو نار وفي الحقيقة نور ... فيه شغل لمن يريد اشتغالا
وأتى الربّ للحرارة فيها ... رحمة للورى فمدّ الظلالا (1)
فنعمنا بها فعشنا ملوكا ... ليس نبغي ضدّا فنبغي قتالا
في نعيم به وظل ظليل ... مستريحين لا نقط ذبالا
إن ترد أن تكون فيه مكانا ... أكثر الصوم ههنا والوصالا
كلّ من مال عنك فيما تراه ... لا تقل عنه إنه عنك مالا
فتغيظ العدوّ قولا وفعلا ... وتسرّ الوليّ فعلا وحالا
سمى المال في العموم لميل ... فيك والعبد مال عنه ممالا
وقال أيضا:
إنّ الذي بوجودي اليوم أعرفه ... هو الذي في غد بذاك أنكره
إن كان أخفاه في عيني تقلبه ... فإنّ قلبي في التقليب يبصره
من أعجب الأمر أني حين أذكره ... أغيب عنه ويدنيني تذكره
رأيته ذاكرا لي حين أذكره ... في كلّ حال وتخفيني فأظهره
إيّاه أسأل عنه حين يسألني ... عني وينسى إذا أنسى فأذكره
لو أنه في وجودي حين يشهدني ... ما كنت أشهده ما كنت أبصره (2)
وبهذا تم الديوان الكبير للشيخ الأكبر والكبريت الأحمر والخرّيت الأخبر أبى عبد الله الملقب بمحي الدين بن علي بن محمد العربيّ الحاتميّ الطائيّ الأندلسي لا زالت شآبيب الرحمة منهلة على جدثه وجسده وأعاد الله علينا وعلى المسلمين من بركاته ومدده
__________
(1) الورى: الخلق.
(2) الوجود: فقدان العبد بمحاق أوصاف البشرية ووجود الحق، لأنه لا بقاء للبشرية عند ظهور سلطان الحقيقة. الشهود: أن يرى حظوظ نفسه، وتقابله الغيبة.(1/442)
الفهرس
مقدمة شارح الديوان 3
ابن عربي 4
مؤلفاته 5
وفاته 6
أولاده 6
قال في باب البحر المسجور 7
قال في روح السماء الدنيا 7
قال في باب روح الكاتب العيسوي 8
قال في الروح الإدريسي 8
قال في روح القاضي الموسوي 9
قال في قوله: {سُبْحََانَ الَّذِي أَسْرى ََ بِعَبْدِهِ} 9
قال في أرواح الورثة الصادقين المحمديين 11
قال في حالة موسوية 12
قال في باب الفخر بالله 12
قال في أحوال منها خلع النعل ولباسهما 12
قال في باب المقام البكري الصديقي 14
قال في موافقة النجم الهلال 14
قال في باب الكور والدور 15
قال في حكمة ظهور البدر والشمس معا في النهار 15
قال في تأخّر الأنوار عن النور 15
قال في باب النور القمري 16
قال في باب النور البدري 16
قال في باب النور الكوكبي 16
قال في باب النور الناري 17
قال في باب النور السراجي 17
قال في باب النور البرقي 17
قال في باب هلالين اثنين (الإمام والقطب) 17
قال في باب ارتباط الحقيقتين البسيط والمركب 18
قال في باب البصر المكلّف 18
قال في باب السمع المكلف 18
قال في باب اللسان المكلف 18
قال في باب اليد المكلفة 18(1/443)
قال في باب المبايعة 19
قال في باب البطن المكلف 20
قال في باب الفرج المكلّف 21
قال في باب الرجل المكلّف 21
قال في باب القلب المكلف 21
قال في مطلع من مطالع أهلة المعارف 21
قال في وصف حال إلهي 23
قال في باب الغنى والاستغناء 24
قال في باب الطمأنينة 25
قال في باب الخشية 25
قال في باب التوبة 25
قال في باب الإنابة 25
قال في باب الأوبة 26
قال في باب الهمة 26
قال في باب الظنون 26
قال في باب المشيئة 26
قال في المراد والمريد 26
قال في المتقي 26
قال في باب إهلاك الشرع والحقيقة 27
قال في إنكار الخلاف في الطريق 27
قال في باب الحال الموسوي 28
قال في باب الوعاء المختوم على السرّ المكتوم 29
قال في إيضاح حجه ومفتاح محجه 30
قال في باب حكمة تعليم من عالم حكيم 32
قال في باب صدور الأحرار قبور الأسرار 33
قال في باب نكاح عقده وعرس شهده 33
قال في باب المواقف الأدبية 34
قال في نكتة الشرف في غرف من فوقها غرف 34
قال في باب الإمامة والخلافة 36
قال في باب الاتحاد بل الأحد 36
قال على لسان الإنسان الكامل لا الإنسان الحيواني 39
قال في هذا الباب على لسان النفس الناطقة 39
قال في هذا الباب على لسان العقل الأول 40
قال في هذا الباب على لسان الجسم الكل 41
قال في تخصيص التسديس دون التثليث والتربيع 42
قال في العلم الإلهي من طريق الصنعة 42(1/444)
قال في باب الرجوم 42
قال في قوله تعالى: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلََّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللََّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمََامِ} 43
قال في باب السبحات الوجهية 43
قال في باب التلوين في الدور الفلكي 43
قال في الطالع الإلهي والغارب بأسماء المنازل 44
قال في باب شرف الوحدة 45
قال يخاطب النور بن الرشيد حين بشّره بفتح إنطاكية 45
قال أيضا في باب تيه الذاكرين الله تعالى 45
قال في باب قوله: «أنا سيد الناس يوم القيامة ولا فخر» 46
قال في باب الفخر ولا فخر بالراء والزاي معا 46
قال في باب العلم بالله تعالى 46
قال في باب رضي الله بسخطه ما سواه 46
قال في العلم الخاص واللوم والقلم 47
قال في باب المقام المجهول المذكور 47
قال في واعظ ظريف اسمه عيسى 47
قال حجيبا الشيخ عبد الله الغزال 47
قال في باب الحماسة 48
قال في باب التبري من التقليد 48
قال في باب ليلة قدر العارف 49
قال في باب ما يخف على النفوس من الأوامر 49
قال في باب الفخر بالعلم بالله المشكور 49
قال في المفارد 50
قال في باب الأركان الأربعة 51
قال في باب عموم الوحي الإلهي 51
قال في باب تحرّك عن ضجر 51
قال في خاتم النبوّة والولاية 52
قال في باب شرف المصطفى وطيبه 52
قال في شرف أبي قبيس وهو الجبل الأمين 52
قال ما قال ابن عمر في طائف معرض عن البيت 53
قال في طوافه وهاتف يجيبه 53
قال في لباس أخته 55
قال لبسته نوم عند الحجر في حضرة الكعبة 56
قال ما وقع في النوم 57
قال في كون القلب خرقة لما وسع الحق 59
قال في كمية الأحكام الشرعية 61
قال في أركان الإسلام 61(1/445)
قال في أسرار الطهارة 61
قال في المسح على الخفين والجبائر 62
قال في المقصورة في التيمم 62
قال في الغسل من الجنابة 62
قال في الصلاة 63
قال في أنواع الصلاة وأحوال المصلي 63
قال في صلاة المسافر 63
قال في صلاة الوتر 63
قال في الصلاة في الجماعة 63
قال في صلاة العيد 63
قال في صلاة الجمعة 64
قال في صلاة الاستسقاء 64
قال في صلاة الاستخارة 64
قال في الزكاة 64
قال في صوم رمضان 64
قال في الحج 64
قال في كوائن 65
قال في لزوميته 71
قال في لزومية التفصيل 75
قال في نظرة الصعق المكي والموسوي 78
قال في الباب السابع لأبواب الفتوحات 79
من نظمه في التوشيح الأقرع 81
من نظمه في التوشيح المضفّر الأقرع 83
في نظم التوشيح ذي المنقال وهو مضفّر 84
من نظمه في التوشيح المضفّر ذي المنقال 85
من نظمه في التوشيح وله منقال 87
في النظم التوشيحي 88
قال رأيت في المنام شمس الدين إسماعيل بن سودكين النوري 90
ينظر إلى الأول قول المتنبي 90
قال يفرّق بين الأسماء الإلهية 102
قال في نظم التوشيح المضفّر 105
قال في نظم التوشيح 106
قال في نظم التوشيح الأقرع المضفر المحيّر الممتزج 110
قال في الإنسان الكامل 113
قال في حروف أوائل السور المسماة 126
قال في النوم مرتجلا وقد رأى شخصا ثبت له حق على ميت من أصحابه 127(1/446)
قال في حروف: لو ولولا وإن 127
قال وما ألقي إليه إلّا بإقوائه على غير شعور منه 128
قال في أرواح السور 131
قال في مرضه 170
قال يخاطب وليه إسماعيل بن سودكين 172
قال يخاطب صاحبا له في حالة تخصّه في العلم الإلهي 172
قال في سير الجواري 174
قال يذكر الحروف الصغار وهي الحركات 176
قال في نظم التوشيح المرؤس 186
قال يذكر ما صح من الأسماء التسعة والتسعين 194
قال في حال يخاطب فيه الحق في تجلّ قلبي لسبب 198
قال في حرف الألف 205
قال في حرف الباء 206
قال في حرف التاء 206
قال في حرف الثاء 207
قال في حرف الجيم 207
قال في حرف الحاء 208
قال في حرف الخاء 208
قال في حرف الدال 209
قال في حرف الذال 209
قال في حرف الراء 210
قال في حرف الزاء 210
قال في حرف السين 211
قال في حرف الشين 211
قال في حرف الصاد 211
قال في حرف الضاد 212
قال في حرف الطاء 212
قال في حرف الظاء 213
قال في حرف العين 213
قال في حرف الغين 214
قال في حرف الفاء 214
قال في حرف القاف 215
قال في حرف الكاف 215
قال في حرف اللام 216
قال في حرف الميم 216
قال في حرف النون 217(1/447)
قال في حرف الهاء 217
قال في حرف الواو 218
قال في حرف اللام ألف 218
قال في حرف الياء 218
قال في مبشرة في حق بعد إخوانه 219
قال في زلزلة رآها في النوم 224
قال في العبد يطعي لضعفه ويعطي لقوته 239
قال رأيت في الواقعة عز الدين بن عبد السلام 241
قال وكتبه في دائر قاعة سكناه 258
قال في دور السنة 260
قال في فتية أهل الكهف 266
قال في الطبيعة 267
قال في السحاب وما يمنح 267
قال في أقسام أحكام الشرع في العلم الإلهي 272
قال في حصر ما يختص بالنطق 276
قال في أسماء سور القرآن لاعتبار ظهر له في ذكرها 294
قال في الحروف المرقومة 297
قال يمدح الأنصار رضي الله عنهم 316
قال في الطبيعة والأخلاط والأركان 317
قال لسبب خفي 337
قال يخاطب سرّه الوجودي 342
قال نصيحة 380
قال في الوارد بعينه نهذا لسانه 383
قال في الفرق بين الوارث الموسوي والوارث المحمدي 384
قال في مبشره رآها ولما استيقظ وجد لسانه ينطق بالأبيات كلها 392
قال في نيابة النون عن العين 404
قال في نعت القوم 430
قال في النوّاب 439
الفهرس 443(1/448)