المقدمة
بسم الله الرّحمن الرّحيم قال إبراهيم بن علي بن محمد المعروف: بابن أبي الفرج الأردستاني رحمه الله:
هذه المسائل بيان الآيات المتشابهة لفظا بأعلام نصبت عليها من المعنى، أملاها أبو عبد الله محمد بن عبد الله الخطيب رحمه الله تعالى في القلعة الفخرية، إملاء لمّا خلا فيها، ولم يحضره غيري ممن يسوغ له حمل ما يكتب فيه ويكتب به، فكتبت عن لفظه المسائل والأجوبة، وسألته أن يصدرها بخطبة، فارتجلها كارتجاله سائر الكلام بعدها والله أعان ويسر وله الحمد.
الحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم (أما بعد): فاعلموا حملة الكتاب المتين الحكيم، وحفظة القرآن المبين الكريم وفقكم الله تعالى لحق علمه بعد حق تلاوته، وأذاقكم من لذة قراءته وبرد شراب معرفته ما يشغف قلوبكم بحلاوته، أني مذ خصني الله بإكرامه وعنايته، وشرفني بإقراء كلامه ودرايته، تدعوني دواع قوية يبعثها نظر ورويّة في الآيات المتكررة بالكلمات المتفقة والمختلفة، وحروفها المتشابهة المنغلقة والمنحرفة، تطلبا لعلامات ترفع لبس إشكالها، وتختص الكلمة بآيتها دون أشكالها، فعزمت عليها بعد أن تأملت أكثر كتب المتقدمين والمتأخرين، وفتشت عن أسرارها معاني المتأولين المحققين المتبحرين، فما وجدت أحدا من أهلها بلغ غاية كنهها، كيف ولم يقرع بابها ولم يفترّ لهم عن نابها، ولم يسفر عن وجهها! ففتقت من أكمام المعاني ما أوقع فرقانا، وصار المبهم المتشابه وتكرار المتكرر تبيانا، ولطعن الجاحدين ردا، ولمسلك الملحدين سدا، وسميته: (درة التنزيل، وغرة التأويل) وليس لله بمنكر مستبدع أن يعثر خاطر عبد ربيء على كنز حكمة في القرآن خبيء، أو يبلغه في لطيف من لطائف كلامه حدا لا يبلغه أحدا وإن كان أوحدا، فإذا عرفتم ما نحونا إليه من سنن الآثار أمنتم عند القراءة مخوف العثار، ثم تطلعون بعده على علوم تبدو للنفس وتحتقرون معها بيان اللبس، وترون ممالك لم يملكها قبلكم أمة، ومسالك لم يجل في مدارجها همة، فتعلمون أن كلام الله جل ذكره وعلا شأنه وأمره بحر لا تستنفذ جواهره، وذو عجائب لا تستدرك بواطنه وظواهره، وذو عمق لا يبلغ آخره، وذو طول وعرض لا تقطع مزاخره،
وهو الغنم الذي من حازه ظفرت يداه، ولم يجزع لفوت ما عداه، فالدنيا قد تبرج بزخارفها، وتخدع نفس عارفها، إلا نفسا غلب نور قلبها ضياء بصرها وتصور العواقب من ثمرها، لا البوادي من زهرها، وساءه ما تناضر منها بالفكر في قوله تعالى: {قُلْ بِفَضْلِ اللََّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذََلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمََّا يَجْمَعُونَ} (1) فلا تحزن إن أجدبت مراعيها المنجعة، ولا إن زويت عنه عواريها المرتجعة، فحق من دلكم عليه أن تدعوا له بالمغفرة والرحمة، والمعونة على شكر ما أولى من النعمة، وتبلغه من حسن الجزاء غاية، بأن يقرأ له في كل يوم آية يفيء أجرها ولا يبخسك، ويزيده ثوابها فلا ينقصك. شغلنا الله بالحق عما يلهى من أحوال العاجلة، وبالعمل على ما يهون أهوال الآجلة إنه لطيف قريب سميع مجيب.(1/5)
الحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم (أما بعد): فاعلموا حملة الكتاب المتين الحكيم، وحفظة القرآن المبين الكريم وفقكم الله تعالى لحق علمه بعد حق تلاوته، وأذاقكم من لذة قراءته وبرد شراب معرفته ما يشغف قلوبكم بحلاوته، أني مذ خصني الله بإكرامه وعنايته، وشرفني بإقراء كلامه ودرايته، تدعوني دواع قوية يبعثها نظر ورويّة في الآيات المتكررة بالكلمات المتفقة والمختلفة، وحروفها المتشابهة المنغلقة والمنحرفة، تطلبا لعلامات ترفع لبس إشكالها، وتختص الكلمة بآيتها دون أشكالها، فعزمت عليها بعد أن تأملت أكثر كتب المتقدمين والمتأخرين، وفتشت عن أسرارها معاني المتأولين المحققين المتبحرين، فما وجدت أحدا من أهلها بلغ غاية كنهها، كيف ولم يقرع بابها ولم يفترّ لهم عن نابها، ولم يسفر عن وجهها! ففتقت من أكمام المعاني ما أوقع فرقانا، وصار المبهم المتشابه وتكرار المتكرر تبيانا، ولطعن الجاحدين ردا، ولمسلك الملحدين سدا، وسميته: (درة التنزيل، وغرة التأويل) وليس لله بمنكر مستبدع أن يعثر خاطر عبد ربيء على كنز حكمة في القرآن خبيء، أو يبلغه في لطيف من لطائف كلامه حدا لا يبلغه أحدا وإن كان أوحدا، فإذا عرفتم ما نحونا إليه من سنن الآثار أمنتم عند القراءة مخوف العثار، ثم تطلعون بعده على علوم تبدو للنفس وتحتقرون معها بيان اللبس، وترون ممالك لم يملكها قبلكم أمة، ومسالك لم يجل في مدارجها همة، فتعلمون أن كلام الله جل ذكره وعلا شأنه وأمره بحر لا تستنفذ جواهره، وذو عجائب لا تستدرك بواطنه وظواهره، وذو عمق لا يبلغ آخره، وذو طول وعرض لا تقطع مزاخره،
وهو الغنم الذي من حازه ظفرت يداه، ولم يجزع لفوت ما عداه، فالدنيا قد تبرج بزخارفها، وتخدع نفس عارفها، إلا نفسا غلب نور قلبها ضياء بصرها وتصور العواقب من ثمرها، لا البوادي من زهرها، وساءه ما تناضر منها بالفكر في قوله تعالى: {قُلْ بِفَضْلِ اللََّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذََلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمََّا يَجْمَعُونَ} (1) فلا تحزن إن أجدبت مراعيها المنجعة، ولا إن زويت عنه عواريها المرتجعة، فحق من دلكم عليه أن تدعوا له بالمغفرة والرحمة، والمعونة على شكر ما أولى من النعمة، وتبلغه من حسن الجزاء غاية، بأن يقرأ له في كل يوم آية يفيء أجرها ولا يبخسك، ويزيده ثوابها فلا ينقصك. شغلنا الله بالحق عما يلهى من أحوال العاجلة، وبالعمل على ما يهون أهوال الآجلة إنه لطيف قريب سميع مجيب.
ومن الآن أبين الطريق الذي سلكته، وأفضى به إلى علم ما عرفته، وأذكر ما نبهني على ما ادعيته لأريكم مثل ما رأيته، وبالله أستعين وهو حسبي ونعم المعين.
ثم اعلموا أن الأحسن والأولى أن تكون المسألة الأولى من هذا الكتاب مسألة من الحروف المقطعة لأن الأسئلة عليها متفرعة مفرعة، لكني قد أفردت لها كتابا مفردا، جردت لحرف إشكالها مبردا، والأسئلة عليها تربو على مائة، والأجوبة عنها تغني عن فئة، فأردت أن تكون مميزة عن أخواتها، مخلصة من الآفة تخليص التمرة عن نواتها، وسترونها بعد إن شاء الله ولا قوة إلا بالله.
__________
(1) سورة: يونس، الآية: 58.(1/6)
2 - سورة البقرة ثلاث وعشرون آية
الآية الأولى منها
فأول آية ابتدأت بها قوله تعالى: {وَقُلْنََا يََا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلََا مِنْهََا رَغَداً حَيْثُ شِئْتُمََا وَلََا تَقْرَبََا هََذِهِ الشَّجَرَةَ} (1) وقال في سورة الأعراف (2): {وَيََا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلََا مِنْ حَيْثُ شِئْتُمََا وَلََا تَقْرَبََا هََذِهِ الشَّجَرَةَ} فعطف «كلا» على قوله {اسْكُنْ} بالفاء في هذه السورة، وعطفها عليه في سورة البقرة بالواو، والأصل في ذلك أن كل فعل عطف عليه ما يتعلق به تعلق الجواب بالابتداء، وكان الأول مع الثاني بمعنى الشرط والجزاء، فالأصل فيه عطف الثاني على الأول بالفاء دون الواو، كقوله تعالى: {وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هََذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهََا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً} (3) فعطف «كلوا» على «ادخلوا» بالفاء، لما كان وجود الأكل منها متعلقا بدخولها، فكأنه قال: إن دخلتموها أكلتم منها، فالدخول موصل إلى الأكل، والأكل متعلق وجوده بوجوده: يبين ذلك قوله تعالى في مثل هذه الآية من سورة الأعراف (4): {وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُوا هََذِهِ الْقَرْيَةَ وَكُلُوا مِنْهََا حَيْثُ شِئْتُمْ وَقُولُوا حِطَّةٌ} فعطف {كُلُوا} على قوله: {اسْكُنُوا}
بالواو دون الفاء لأن «اسكنوا» من السكنى، وهي المقام مع طول لبث، والأكل لا يختص وجوده بوجوده لأن من يدخل بستانا قد يأكل منه، وإن كان مجتازا، فلما لم يتعلق الثاني بالأول تعلق الجواب بالابتداء، وجب العطف بالواو دون الفاء، وعلى هذا قوله تعالى في الآية التي بدأت بذكرها: {وَقُلْنََا يََا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلََا}
وبقي أن نبين المراد بالفاء في قوله تعالى: {فَكُلََا مِنْ حَيْثُ شِئْتُمََا} من سورة الأعراف مع عطفه على قوله: {اسْكُنْ} وهو أن السكن يقال لمن دخل مكانا، ويراد به: الزم المكان الذي دخلته ولا تنتقل عنه، ويقال أيضا لمن لم يدخله اسكن هذا المكان يعني: ادخله
__________
(1) سورة: البقرة، الآية: 35.
(3) سورة: البقرة، الآية: 58.
(2) الآية: 19.
(4) الآية: 161.(1/7)
واسكنه كما تقوله لمن تعرض عليه دارا ينزلها سكنى، فتقول: اسكن هذه الدار، واصنع ما شئت فيها من الصناعات، معناه: ادخلها ساكنا لها، فافعل فيها كذا وكذا، فعلى هذا الوجه قوله تعالى في سورة الأعراف: {وَيََا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلََا} بالفاء الحمل على هذا المعنى في هذه الآية أولى لأنه عز من قائل لما قال لإبليس: {اخْرُجْ مِنْهََا مَذْؤُماً مَدْحُوراً} (1) فكأنه قال لآدم: {اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ} فقال: {اسْكُنْ}
يعني: ادخل ساكنا ليوافق الدخول الخروج، ويكون أحد الخطابين لهما قبل الدخول، والآخر بعده، مبالغة في الإعذار وتوكيدا للإنذار، وتحقيقا لمعنى قوله عز وجل: {وَلََا تَقْرَبََا هََذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونََا مِنَ الظََّالِمِينَ}.
الآية الثانية
قوله تعالى: {وَاتَّقُوا يَوْماً لََا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلََا يُقْبَلُ مِنْهََا شَفََاعَةٌ وَلََا يُؤْخَذُ مِنْهََا عَدْلٌ وَلََا هُمْ يُنْصَرُونَ} (2) وقال في هذه السورة بعد العشرين والمائة: {وَاتَّقُوا يَوْماً لََا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلََا يُقْبَلُ مِنْهََا عَدْلٌ وَلََا تَنْفَعُهََا شَفََاعَةٌ وَلََا هُمْ يُنْصَرُونَ} (3) فقدم في الأول قبول الشفاعة على أخذ الفدية، وفي الثاني قبول الفدية على نفع الشفاعة، والوجه في الأول أنه لما قال: {لََا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً} بمعنى: لا يغني أحد عن أحد شيئا فيما يلزمه من العقاب، ولا يكفر سيئاته ماله من الثواب، وهو كقوله عز من قائل: {وَاخْشَوْا يَوْماً لََا يَجْزِي وََالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلََا مَوْلُودٌ هُوَ جََازٍ عَنْ وََالِدِهِ شَيْئاً} (4) فهذه الأشياء التي ذكر في الآية امتناع وقوعها في الآخرة أربعة أنواع يتلقى بها المكاره، ويداوي بها الشدائد، ألا ترى العرب إذا دفع أحدهم إلى كريهة، وارتهنت نفسه بعظيمة، وحاولت أعزته دفاع ذلك عنه وتخليصه منه بذلت ما في نفوسها الأبية من مقتضى الحمية، فذبت عنه كما يذب الوالد عن ولده بغاية قوته وجلده، فإن رأى من لا قبل له بممانعته، ولا بدّ له من مدافعته، عاد بوجوه الضراعة وصنوف المسألة والشفاعة، فحاول بالملاينة ما قصر عنه بالمخاشنة، فإن لم تغن عنه الحالتان، ولم تنجه الخلتان من الخشونة والليان، لم يبق بعدهما إلا فداء الشيء بمثله، وفكه من الأسر بعد له إما بمال وإما غيره، فإن لم تغن هذه الثلاثة في العاجلة تعلل بما يرجوه من نصر في
__________
(1) سورة: الأعراف، الآية: 18.
(3) سورة: البقرة، الآية: 123.
(2) سورة: البقرة، الآية: 48.
(4) سورة: لقمان، الآية: 33.(1/8)
الآجلة ودالة في الخاتمة كما قال تعالى: {ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللََّهُ} (1) وقال تعالى: {فَلََا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كََانَ مَنْصُوراً} (2) على أحد وجوه التفسير فأخبر الله تعالى: أن ما يغني في هذه الدنيا عن المجرمين، وترتب هذه المراتب بين العالمين، لا يغني شيء منه في الآخرة عن الظالمين. والفائدة في قوله تعالى في الآية الثانية، وتقديم قبول الفدية على نفع الشفاعة هي أنه لما قال: {وَاتَّقُوا يَوْماً لََا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً} ومعناه ما ذكرنا عقبه بنفي الفداء لأن النفس لا تجزي عن النفس بفداء موقت يرتهن عنها مدة معلومة، ويكون بعد ذلك فداء يفك الرهن ويخلصه من التبعات، فيكون معنى {لََا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً}: لا تغني عنها بفداء محصور بوقت، ولا بفداء يخلصه على وجه الرهن ويكون بعد ذلك، {وَلََا تَنْفَعُهََا شَفََاعَةٌ} معناه: ولا تخفف مسألة من عذابها، ولا ينقص شفيع من عقابها، {وَلََا هُمْ يُنْصَرُونَ}، وهو الوجه الرابع الذي ذكرناه أخيرا في شرح الآية المتقدمة.
الآية الثالثة
قوله تعالى: {وَإِذْ نَجَّيْنََاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذََابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنََاءَكُمْ} (3) وقوله عز من قائل في سورة إبراهيم (4) عليه السّلام: {وَإِذْ قََالَ مُوسى ََ لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللََّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجََاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذََابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْنََاءَكُمْ} فأدخل الواو في قوله: {وَيُذَبِّحُونَ أَبْنََاءَكُمْ} في سورة إبراهيم، وحذفها منه في سورة البقرة، وجعل {يُذَبِّحُونَ} بدلا من قوله: {يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذََابِ}
فالقول في ذلك: أنه إذا جعل {يُذَبِّحُونَ} بدلا من قوله: {يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذََابِ} لم يحتج إلى الواو، وإذا جعل {يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذََابِ} عبارة عن ضروب من المكروه هي غير ذبح الأبناء، لم يكن الثاني إلا بالواو، وفي الموضعين يحتمل الوجهين، إلا أن الفائدة التي يجوز أن تكون خصصت لها الآية في سورة إبراهيم بالعطف بالواو هي أنها وقعت هنا في خبر قد ضمن خبرا متعلقا به لأنه قال قبله: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنََا مُوسى ََ بِآيََاتِنََا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمََاتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيََّامِ اللََّهِ إِنَّ فِي ذََلِكَ لَآيََاتٍ لِكُلِّ صَبََّارٍ شَكُورٍ} (5) ثم قال: {وَإِذْ قََالَ مُوسى ََ لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللََّهِ عَلَيْكُمْ}
__________
(1) سورة: الحج، الآية: 60.
(4) الآية: 6.
(2) سورة: الإسراء، الآية: 33.
(5) سورة: إبراهيم، الآية: 5.
(3) سورة: البقرة، الآية: 49.(1/9)
فضمن إخباره عن إرسال موسى بآياته إخباره عن تنبيهه قومه على نعمة الله ودعائهم إلى شكرها. فكان قوله: {وَيُذَبِّحُونَ} في هذه السورة في قصة مضمنة قصة يتعلق بها هي قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنََا مُوسى ََ بِآيََاتِنََا} والقصة المعطوفة على مثلها تقوي معنى العطف فيها، فنختار فيما كان يجوز فيه العطف فيه على سبيل الإيثار، لا على سبيل الجواز، وليس كذلك موقع «يذبحون» في الآية التي في سورة البقرة لأنه تعالى أخبر عن نفسه بإنجائه بني إسرائيل، وهناك أخبر عن موسى عليه السّلام أنه قال لقومه كذا بعد أن أخبر عنه أنه أرسله إليهم بآياته فافترق الموضعان من هذا الوجه.
الآية الرابعة
قوله تعالى: {وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هََذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهََا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً وَادْخُلُوا الْبََابَ سُجَّداً وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطََايََاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا} (1) ففي هذه الآية ست مسائل، إذا قوبلت بالآية التي تشابهها من سورة الأعراف (2) وهي قوله تعالى: {وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُوا هََذِهِ الْقَرْيَةَ وَكُلُوا مِنْهََا حَيْثُ شِئْتُمْ وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبََابَ سُجَّداً نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئََاتِكُمْ سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلًا}
المسألة الأولى: عطفه {كُلُوا} على ما قبله بالفاء في سورة البقرة وبالواو في سورة الأعراف في قوله تعالى: {وَيََا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ} وهذه قد مر الكلام فيها مستقصى.
وأما المسألة الثانية: فجمعه للخطيئة على الخطايا في سورة البقرة، وعلى الخطيئات في سورة الأعراف على قول أكثر القراء
وأما المسألة الثالثة: فزيادته {رَغَداً} في سورة البقرة وحذفه له في سورة الأعراف
وأما المسألة الرابعة: فتقديم قوله: {حِطَّةٌ} في سورة الأعراف وتأخيره له في سورة البقرة
__________
(1) سورة: البقرة، الآيتان: 58، 59
(2) الآية: 161.(1/10)
والمسألة الخامسة: إدخاله الواو على {سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ} في هذه السورة، وإسقاطها منها في سورة الأعراف.
وأما المسألة السادسة: فزيادة «منهم» في الأعراف في قوله: {فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} وسقوطه في سورة البقرة منها، فأما الكلام في الخطايا واختيارها في سورة البقرة، فلأنها بناء موضوع للجمع الأكثر والخطيئات جمع السلامة وهي الأقل (والدليل) على ذلك إنك إذا صغرت الدراهم قلت: دريهمات فتردها إلى الواحد وتصغره ثم تجمعه على لفظ القليل الملائم للتصغير، وكذلك الخطايا لو صغرتها لقلت: خطيات فرددتها إلى خطية، ثم صغرتها على خطية، ثم جمعتها جمع السلامة الذي هو على حد التثنية المنبئ عن العدد الأقل من الجمع، فإذا ظهر الفرق بين الخطايا والخطيئات، وكان هذا الجمع المكسر موضوعه للكثير، والمسلم موضوعه للقليل استعمل لفظ الكثير في الموضع الذي جعل الإخبار فيه عن نفسه بقوله: {وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا} وشرط لمن قام بهذه الطاعة ما يشرطه الكريم إذا وعد من مغفرة الخطايا كلها، وقرن إلى الإخبار عن نفسه جل ذكره ما يليق بجوده وكرمه، وأتى باللفظ الموضوع للشمول، فيصير كالتوكيد بالعموم كما لو قال:
{نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئََاتِكُمْ} كلها أجمع، ولما لم يسند الفعل في سورة الأعراف إلى نفسه عز اسمه، وإنما قال: {وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُوا هََذِهِ الْقَرْيَةَ} فلم يسم الفاعل أتى بلفظ الخطيئات وإن كان المراد بها: الكثرة كالمراد: بالخطايا إلا أنه أتى في الأول لما ذكر الفاعل بما هو لائق بضمانة من اللفظ، ولما لم يسم الفاعل في الثاني في سورة الأعراف وضع اللفظ غير موضعه للفرقان بين ما يؤتى به على الأصل، وبين ما يعدل عنه إلى الفرع.
وأما الثالثة: ففي الإتيان بقوله: {رَغَداً} في هذه السورة وحذفها في سورة الأعراف.
الجواب عنها كالجواب في الخطايا والخطيئات لأنه لما أسند الفعل إلى نفسه تعالى كان اللفظ الأشرف للأكرم فذكر معه الإنعام الأجسم، وهو أن يأكلوا رغدا، ولما لم يسند الفعل في سورة الأعراف إلى نفسه لم يكن مثل الفعل الذي في سورة البقرة، فلم يذكر معه ما ذكر فيها من الإكرام الأوفر، وإذ تقدم اسم المنعم الكريم اقتضى ذكر نعمته الكريمة.
والمسألة الرابعة: في هذه الآية تقديم قوله عز من قائل: {وَقُولُوا حِطَّةٌ} في
سورة الأعراف، وتأخيره في سورة البقرة عن قوله: {وَادْخُلُوا الْبََابَ سُجَّداً}.(1/11)
والمسألة الرابعة: في هذه الآية تقديم قوله عز من قائل: {وَقُولُوا حِطَّةٌ} في
سورة الأعراف، وتأخيره في سورة البقرة عن قوله: {وَادْخُلُوا الْبََابَ سُجَّداً}.
الجواب: عن ذلك مما يحتاج إليه في مواضع من القرآن في هذه الآية التي قصدنا الفرق بين مختلفاتها، وهو أن ما أخبر الله تعالى به من قصة موسى عليه السّلام وبني إسرائيل، وسائر الأنبياء صلوات الله عليهم وسلامه، وما حكاه من قولهم قوله عز وجل لهم لم يقصد إلى حكاية الألفاظ بأعيانها، وإنما قصد إلى اقتصاص معانيها، وكيف لا يكون كذلك واللغة التي خوطبوا بها غير العربية، فإذا حكاية اللفظ زائلة وتبقى حكاية المعنى، ومن قصد حكاية المعنى كان مخيرا بأن يؤديه بأي لفظ أراد، وكيف شاء من تقديم وتأخير، بحرف لا يدل على ترتيب كالواو، ولو قصد حكاية اللفظ، ثم وقع في المحكي اختلاف لم يجز، فلو قال قائل حاكيا عن غيره: قال فلان: زيد وعمرو ذهبا وكان هذا لفظا محكيا ثم قال ثانيا قاصدا إلى حكاية هذه اللفظة من كلامه: عمرو وزيد ذهبا لم يجز له ذلك لأنه غير قوله وأخر ما قدمه، وإن قصد حكاية المعنى كان ذلك مرخصا له.
والمسألة الخامسة: في هذه الآية إثبات الواو في قوله: {وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ}
في هذه السورة، وحذفها في سورة الأعراف منها، والفرق بين الموضعين المؤثر في الموضع الذي قصد الفرق فيه دقيق، وهو أن قوله: {وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هََذِهِ الْقَرْيَةَ} ادخلوا في موضع المفعول من «قلنا» والمفعول يكون مفردا، ويكون مكانه جملة، والفاعل عند البصريين لا يكون إلا مفردا، ولا تصح الجملة مكانه، ولذلك يقولون في قوله تعالى:
{ثُمَّ بَدََا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مََا رَأَوُا الْآيََاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ} (1) إن فاعل «بدا» هو البداء الذي دل عليه الفعل لأن الفعل دال على مصدر وكذلك قوله: {أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنََا} (2) فاعل «يهد» عندنا مفرد محذوف، وعند الكوفيين تصح الجملة أن تقوم مقام الفاعل فعلى مذهبنا {وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُوا} الذي أقيم مقام فاعل «قيل» مفرد لا يصح أن يكون جملة، ولا يجوز أن يكون {اسْكُنُوا} مكان الفاعل كما كانت مكان المفعول في قوله: {وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا} فعلى هذا التقدير يكون للقائم مقام الفاعل لفظا مفردا هو القول كما كان البداء فاعل قوله: {ثُمَّ بَدََا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مََا رَأَوُا الْآيََاتِ}، وإذا خرج قوله: {اسْكُنُوا} عن أن يكون فاعلا، وكان لفظه في موضع الفاعل، ولم يتعلق بالفعل الذي قبله تعلق الفاعل بفعله، ولا تعلق المفعول بفعله الواقع به في قوله تعالى: {وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا}
__________
(1) سورة: يوسف، الآية: 35.
(2) سورة: السجدة، الآية: 26.(1/12)
صار كأنه منفصل عن الفعل في الحكم وإن كان متصلا به في اللفظ، وجواب الأمر الذي هو قوله: {اسْكُنُوا} قوله: {نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئََاتِكُمْ}.
الجواب: في حكم الابتداء ينفصل كما ينفصل، ولا دليل في اللفظ على انفصاله إلا بفصل ما أصله أن يكون متعلقا به بحرف عطف، وهو {سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ}، وبحذف الواو منه، واستئنافه خبرا مفردا، وهذه المسألة هي التي غلط فيها أبو سعيد السيرافي في أول ما شرحه من ترجمة الكتاب، وهو قوله: هذا باب علم ما الكلم من العربية، وعده للوجوه التي تحتملها هذه اللفظة، وذكر في جملتها: هذا باب أن يعلم ما الكلم من العربية فجعل ما الكلم من العربية، وهي جملة في موضع الفاعل من يعلم وهذا ما يأباه مذهبه ومذهب أهل البصرة، وقد أومأت إلى غرضي فيما يجوز أن تكون الواو له محذوفة من قوله: {سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ} في سورة الأعراف، وثابتة فيه في سورة البقرة فتأمله فإنه مسألة مشكلة في النحو تفهمه إن شاء الله تعالى.
المسألة السادسة: في هذه الآية قوله تعالى في هذه السورة: {فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ} (1) وفي سورة الأعراف (2) في هذه القصة: {فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ}.
للسائل أن يسأل فيقول: هل في زيادة «منهم» في هذه الآية في سورة الأعراف حكمة وفائدة يقتضيانها ليستا في سورة البقرة؟
الجواب أن يقال: إن قوله: {فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا} وإن لم يذكر فيه «منهم» معلوم أن المراد بالظالمين: الذين ظلموا من المخاطبين بقوله: {ادْخُلُوا هََذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا} {وَقُولُوا حِطَّةٌ} فالذين ظلموا من هؤلاء هم الموصوفون بالتبديل والمغيرون لما قدم إليهم من القول، إلا أن في سورة الأعراف معنى يقتضي زيادة «منهم» هناك، ولا يقتضيها هنا وهو أن أول القصة في الأعراف مبني على التخصيص والتمييز بدليل لفظة «من» لأنه تعالى قال: {وَمِنْ قَوْمِ مُوسى ََ أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ} (3) فذكر أن منهم من يفعل ذلك، ثم عدد صنوف إنعامه عليهم، وأوامره لهم، فلما انتهت قال:
{فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلًا} فأتى في آخر ما حكى عنهم من مقابلة نعمة الله
__________
(1) سورة: البقرة، الآية: 59.
(2) الآية: 162.
(3) سورة: الأعراف، الآية: 159.(1/13)
عليهم بتبديلهم ما قدم به القول إليهم بلفظ «من» التي هي للتخصيص والتمييز بناء على أول القصة التي هي، {وَمِنْ قَوْمِ مُوسى ََ} ليكون آخر الكلام لأوله مساوقا وعجزه لصدره مطابقا، فيكون الظالمون من قوم موسى بإزاء الهادين منهم، فهناك ذكر أمة عادلة هادية، وهنا ذكر أمة جائرة عادية، وكلتاهما من قوم موسى، فاقتضت التسوية في المقابلة ذكر منهم في سورة الأعراف، وأما في سورة البقرة فإنه لم تبن الآيات التي قبل قوله: {فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا} على تخصيص وتبعيض، فتحمل الآية الأخيرة على مثل حالها، ألا ترى أنه قال: {يََا بَنِي إِسْرََائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ} (1) ثم كرر الخطاب لهم إلى أن انتهى إلى قوله: {وَظَلَّلْنََا عَلَيْكُمُ الْغَمََامَ وَأَنْزَلْنََا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى ََ} (2)
وقوله: {وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هََذِهِ الْقَرْيَةَ} وتعقبه بقوله: {فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا} فلم يحتج إلى «منهم» لأنه لم يتقدمه ما تقدم في سورة الأعراف مما يقتضيها.
الآية الخامسة
قوله تعالى: في سورة البقرة (3): {ذََلِكَ بِأَنَّهُمْ كََانُوا يَكْفُرُونَ بِآيََاتِ اللََّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ} بالألف واللام، وقال في سورة آل عمران (4): {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيََاتِ اللََّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ} نكرة غير معرفة، وكذلك في هذه السورة {وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِيََاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذََلِكَ بِمََا عَصَوْا وَكََانُوا يَعْتَدُونَ لَيْسُوا سَوََاءً} (5).
الجواب عن ذلك: أن الآية الأولى في سورة البقرة خبر عن قوم عرفوا وعرفت أفعالهم، ومضت أزمنتهم وأحوالهم، فلما شهروا وشهر فعلهم بوقوعه منهم وقيل الحق ما قاله الله تعالى: {وَلََا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللََّهُ إِلََّا بِالْحَقِّ} (6) والحق هو: أن يكون قتل نفسا مؤمنة يجب عليها القتل، والقاتل مكلف أو أن يرتد أو يزني وهو محصن، فهذا معلوم يخبر عنه بلفظ المعرفة، والقتل وقع منهم من غير أن كان على الأوجه الثلاثة المعلومة على أن هذه الآية يسأل فيها، فيقال: قد كان في قوله:
{وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ} كفاية لأنه لا يقتل نبي لأنه لا يرتكب واحدا من الأوجه الثلاثة التي توجب القتل، وعن هذا أجوبة منها ما ذكرنا، والآخر أن يقال المعنى: أنهم كانوا يقتلونهم من غير أن وقع منهم ما يوجب عليه القتل عندهم وفي دينهم، وليس هذا موضع
__________
(1) سورة: البقرة، الآيات: 40، 47، 122.
(4) الآية: 21.
(2) سورة: البقرة، الآية: 57.
(5) سورة: آل عمران، الآيتان: 112، 113.
(3) الآية: 61.
(6) سورة: الأنعام، الآية: 151.(1/14)
ذكر هذه الوجوه، وإنما القصد في هذا المكان التفرقة بين لفظ النكرة والمعرفة في الآيتين، والموضع الثاني الذي ذكر فيه حق هو خبر عن قوم يرون ذلك ويعتقدونه ويدينون به، ألا تراه قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيََاتِ اللََّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النََّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذََابٍ أَلِيمٍ} (1) هؤلاء قوم لم يمضوا، ولم ينقرضوا، فلذلك قال: {فَبَشِّرْهُمْ بِعَذََابٍ أَلِيمٍ} وقال في أول الآية: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ} ولم يقل: إن الذين كفروا فلما لم تكن هذه الحال واقعة منهم كانت مخالفة للحال الواقعة التي جعلت خبرا عن قوم مضوا على هذه الأفعال فقال فيهم: {ذََلِكَ بِمََا عَصَوْا وَكََانُوا يَعْتَدُونَ} (2) وأما قوله تعالى: {ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مََا ثُقِفُوا إِلََّا بِحَبْلٍ مِنَ اللََّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النََّاسِ وَبََاؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللََّهِ} (3) فهو خبر عن قوم كانوا في عصر النبي صلى الله عليه وسلم فقال: {وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذََلِكَ بِأَنَّهُمْ كََانُوا يَكْفُرُونَ بِآيََاتِ اللََّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِيََاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ} (3) فكان خبرا عن اعتقادهم لأنه لا يجوز أن يعاقبوا وتضرب عليهم الذلة والمسكنة بذنوب وقعت من آبائهم لا منهم، فيصيرون مثل الأولين الذين أخبر عنهم بقوله: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيََاتِ اللََّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ} في تمييزه عن القوم الذين كانوا في عصر موسى صلى الله عليه وسلم فقال لهم: {اهْبِطُوا مِصْراً فَإِنَّ لَكُمْ مََا سَأَلْتُمْ} (5) فاختير لفظ المعرفة في القصة التي وقعت ووقع الإخبار عنها، ولفظ النكرة في القصة التي وقع التهديد مقارنا لها ليمنع من وقوعها، وما كان في حيز ما لم يقع فالذنب في حيز المذكور، والعقاب عليه مثله كالمنكور.
الآية السادسة
قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هََادُوا وَالنَّصََارى ََ وَالصََّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللََّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صََالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ} (6) وقال في سورة المائدة (7):
{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هََادُوا وَالصََّابِئُونَ وَالنَّصََارى ََ مَنْ آمَنَ بِاللََّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صََالِحاً فَلََا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ} وقال في سورة الحج (8): {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هََادُوا وَالصََّابِئِينَ وَالنَّصََارى ََ وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللََّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيََامَةِ}.
__________
(1) سورة: آل عمران، الآية: 21.
(6) سورة: البقرة، الآية: 62.
(2) سورة: البقرة، الآية: 61.
(7) الآية: 69.
(3) سورة: آل عمران، الآية: 112.
(8) الآية: 17.
(5) سورة: البقرة، الآية: 61.(1/15)
للسائل أن يسأل فيقول: هل في اختلاف هذه الآيات بتقديم الفرق وتأخيرها ورفع «الصابئين» في آية ونصبها في أخرى غرض يقتضي ذلك؟
الجواب أن يقال: إذا أورد الحكيم تقدست أسماؤه آية على لفظة مخصوصة، ثم أعادها في موضع آخر من القرآن، وقد غير فيها لفظة كما كانت عليه في الأولى فلا بد من حكمة هناك تطلب، فإذا أدركتموها قد ظفرتم، وإن لم تدركوها فليس لأنه لا حكمة هناك بل جهلتم. فأما الآية الأولى في هذه السورة، فإن فيها مسائل ليس هذا المكان مكانها لأنه يقال: كيف قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا} {مَنْ آمَنَ بِاللََّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} أي: من آمن منهم بالله واليوم الآخر، وإذا وصفوا بأنهم آمنوا، فقد ذكر أنهم آمنوا بالله واليوم الآخر، إلا أن الذي نذكره في هذا المكان هو أن المعنى: إن الذين آمنوا بكتب الله المتقدمة مثل صحف إبراهيم، والذين آمنوا بما نطقت به التوراة وهم اليهود، والذين آمنوا بما أتى به الإنجيل وهم النصارى، فهذا ترتيب على حسب ما ترتب تنزيل الله كتبه، فصحف إبراهيم عليه السّلام قبل التوراة المنزلة على موسى عليه السّلام، والتوراة قبل الإنجيل المنزل على عيسى عليه السّلام، فرتبهم عز وجل في هذه الآية على ما رتبهم عليه في بعثة الرسالة، ثم أتى بذكر «الصابئين» وهم الذين لا يثبتون على دين، وينتقلون من ملة إلى ملة، ولا كتاب لهم، كما للطائفتين اللتين ذكرهما الله تعالى في قوله: {أَنْ تَقُولُوا إِنَّمََا أُنْزِلَ الْكِتََابُ عَلى ََ طََائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنََا} (1) فوجب أن يكونوا متأخرين عن أهل الكتاب، وأما بعد هذا الترتيب فترتيبهم في سورة المائدة وتقديم الصابئين على النصارى ورفعه هنا ونصبه هناك ترتيب ثان، فالأول على ترتيب الكتب، والثاني على ترتيب الأزمنة لأن الصابئين وإن كانوا متأخرين عن النصارى بأنهم لا كتاب لهم، فإنهم متقدمون عليهم بكونهم قبلهم لأنهم كانوا قبل عيسى عليه السّلام، فرفع: «الصابئون» ونوى به التأخير عن مكانه كأنه قال بعد ما أتى بخبر: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هََادُوا} {مَنْ آمَنَ بِاللََّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صََالِحاً فَلََا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلََا هُمْ يَحْزَنُونَ} والصابئون هذا حالهم أيضا، وهذا مذهب سيبويه لأنه لا يجوز عنده، ولا عند البصريين وكثير من الكوفيين: إن زيدا وعمرو قائمان، والفراء يجيز هذا على شريطة أن يكون الاسم الأول المنصوب بأن لا إعراب فيه، نحو: إن هذا وزيد قائمان، وهذه من كبار المسائل ذوات الشعب، ويتعلق بالخلاف بين البصريين والكوفيين في أن لها عملين النصب والرفع على مذهب البصريين، وأن لها
__________
(1) سورة: الأنعام، الآية: 156.(1/16)
عملا واحدا عند الكوفيين وهو النصب، إلا أن المذهب الصحيح ما ذهب إليه سيبويه، وهذه الآية تدل عليه لأنه قدم فيها الصابئون، والنية بها التأخير على مذهب سيبويه، وإنما قدّم في اللفظ وأخر في النية لأن التقديم الحقيقي التقديم بكتبه المنزلة على أنبيائه عليهم السّلام، فلذا فعل ذلك في الآية الأولى، وكان هاهنا تقديم آخر بتقديم الزمان، وجاءت آية أخرى قدم فيها هذا الاسم على ما أخر عنه في الآية التي قبل، ثم أقيمت في لفظه أمارة تدل على تأخره عن مكانه كان ذلك دليلا على أن هذا الترتيب ترتيب بالأزمنة، وأن النية به التأخير والترتيب بالكتب المنزلة، وأما الترتيب الثالث في سورة الحج: فترتيب الأزمنة التي لا نية للتأخير معه لأنه لم يقصد في هذا المكان أهل الكتب إذ كان أكثر من ذكر ممن لا كتب لهم وهم: الصابئون والمجوس والذين أشركوا عبدة الأوثان، فهذه ثلاث طوائف، وأهل الكتاب طائفتان، فلما لم يكن القصد في الأغلب الأكثر من المذكورين ترتيبهم بالكتب رتبوا بالأزمنة، وأخر الذين أشركوا لأنهم وإن تقدمت لهم أزمنة، وكانوا في عهد أكثر الأنبياء الذين تقدمت بعثتهم صلوات الله عليهم، فإنهم كانوا أكثر من مني رسول الله صلى الله عليه وسلم بهم وصلي بجهادهم، وكأنهم لما كانوا موجودين في عصر النبي صلى الله عليه وسلم كانوا أهل زمانه، وهذا الزمان متأخر عن أزمنة الفرق الذين قدم ذكرهم.
الآية السابعة
قوله تعالى في هذه السورة: {وَقََالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النََّارُ إِلََّا أَيََّاماً مَعْدُودَةً} (1)
وفي سورة آل عمران (2): {قََالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النََّارُ إِلََّا أَيََّاماً مَعْدُودََاتٍ}.
للسائل أن يقول: ما الفرق بين اللفظتين ولم كانت الأولى «معدودة»، والثانية «معدودات»، والموصوف في المكانين موصوف واحد، وهو قوله: «أياما»؟
الجواب عنه أن يقال: إن الجمع بالألف والتاء أصله للمؤنث نحو: مسلمة ومسلمات وصفحة وصفحات ومكسورة ومكسورات، ولا يكاد يجيء الجمع الذي واحده مذكر هذا المجيء إلا ألفاظا معدودة نحو: حمام وحمامات، وجمل سبطر وجمالات سبطرات، وأسد سبطر وأسود سبطرات، أي: تسبطر عند الوثبة، وأما قولهم: كوز مكسور
__________
(1) سورة: البقرة، الآية: 80
(2) الآية: 24.(1/17)
وجرة مكسورة فإن ما فيه هاء التأنيث يجمع على مكسورات فيقال: جرار مكسورات وكيزان مكسورة وليس قولك: كيزان مكسورات بأصل بل المستعمل المستمر في ذلك أن يقال: كيزان مكسورة، وثياب مقطوعة، وسرر مرفوعة، وأكواب موضوعة ونمارق مصفوفة، فالصفة الجارية على جمع مذكر الواحد يستمر فيها التأنيث على الحد الذي بينته وعلامة الجمع المؤنث الواحدة الألف والتاء في الأصل، فلما كان معدودة من المطرد المستمر استعمل لفظها في الأول، ولما كان الجمع بالألف والتاء في الأصل قد يكون فيما واحده مذكرا وإن قل، وكان على سبيل من سبيل المجاز استعمل ذلك فيه كقوله تعالى:
{وَاذْكُرُوا اللََّهَ فِي أَيََّامٍ مَعْدُودََاتٍ} (1) وقال: {فِي أَيََّامٍ مَعْلُومََاتٍ} (2) والأيام جمع يوم وهو مذكر، فيكون هذا على أحد الوجهين: إما أن يكون المراد: اذكروا الله في ساعات أيام معلومات معدودات لأن المراد من {اذْكُرُوا اللََّهَ} أن يكبروا في اليوم الواحد في أدبار الصلوات الخمس المعدودة، فحذفت الساعات، وأقيم المضاف إليها مقامها، وإما أن يكون ألحق بما في واحده علامة التأنيث، لاستوائهما في الجمع، ودخولهما في الفرعية التي يكتسبان لها لفظ المؤنث، فكما قيل: جرار مكسورة والجرة مؤنثة جاز أيضا كيزان مكسورات حملا على الجمع الذي يساويه في التأنيث الذي ليس بحقيقي، وإن كان ذلك لذلك فمعدودة المذكورة في الآية التي في هذه السورة مستمرة في بابها وباب غيرها، والجمع بالألف والتاء ليس بمستمر، وإنما هو على ضرب من التشبيه بما أصله الألف والتاء، فكان استعمالها أولا أولى، ولجواز الألف والتاء على غير طريق الاستمرار استعمل في الثاني ليشمل الأصل والجائز بالاستعمال. فأما المعنى في القلة فسواء في قوله:
{مَعْدُودَةً} و {مَعْدُودََاتٍ} وقد يقال أيضا: أيام معلومات على أن الأيام المعلومة في الأصل تسعة، فكل ثلاثة أيام منها معلومة، فتجمع هذه الثلاثات على الأيام المعلومات لأن الواحد أيام معلومة والمعلومة تجمع على المعلومات.
الآية الثامنة
قوله تعالى: {فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صََادِقِينَ وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِمََا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ} (3) وقال الله عز وجل في سورة الجمعة (4): {فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صََادِقِينَ وَلََا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَداً بِمََا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ}.
__________
(1) سورة: البقرة، الآية: 203.
(3) سورة: البقرة، الآيتان: 94، 95.
(2) سورة: الحج، الآية: 28.
(4) الآيتان: 6، 7.(1/18)
للسائل أن يقول: هل في الآية الأولى ما يقتضي «لن» الناصبة، وفي الثانية ما يوجب الاقتصار على «لا» ورفع الفعل بعدها؟
الجواب أن يقال: إن الآية الأولى لما كانت مفتتحة بشرط علقت صحته بتمني الموت، ووقع هذا الشرط غاية ما يطلبه المطيع، ولا مطلوب وراءه ما ادعوه لأنفسهم، وهو أن لهم الدار الآخرة خالصة من دون غيرهم، ووجب أن يكون ما يبطل تمني الموت المؤدي إلى بطلان شرطهم أقوى ما يستعمل في بابه وأبلغه في معنى ما ينتفي شرطهم به، وكان ذلك بلفظة «لن» التي هي للقطع والبتات، ثم أكد بقوله: {أَبَداً}
ليبطل تمني الموت الذي يبطل دعواهم بغاية ما يبطل به مثله. ألا ترى أنه ليس بعد حصول الدار الآخرة خالصة لأمة من الأمم مقترح لمقترح ولا مطلب لمطلب وليس كذلك الشرط الذي علق به تمني الموت في سورة الجمعة (1)، لأنه قال: {قُلْ يََا أَيُّهَا الَّذِينَ هََادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيََاءُ لِلََّهِ مِنْ دُونِ النََّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ} وليس زعمهم أنهم أولياء لله من دون الناس المطلوب الذي لا مطلوب وراءه لأنهم يطلبون بعد ذلك إذا صح لهم هذا الوصف دار الثواب، فلما كان الشرط في هذا المكان قاصرا عن الشرط في المكان الأول، ولم تكن الدعوى دعوى غاية المطلوب لم يحتج في نفيه وإبطاله إلى ما هو غاية في بابه، فوقع الاقتصار على «لا يتمنونه» وليس في لفظه معنى التأبيد وإنما حصل ذلك فيه بما قارنه من قوله: {أَبَداً} فكان الأول أوكد وأبلغ لأن لفظ الاسم والفعل للتأبيد فافترق الموضعان.
الآية التاسعة
قوله تعالى: {قُلْ إِنَّ هُدَى اللََّهِ هُوَ الْهُدى ََ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوََاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جََاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مََا لَكَ مِنَ اللََّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلََا نَصِيرٍ} (2) وقال في هذه السورة أيضا: {وَمََا أَنْتَ بِتََابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمََا بَعْضُهُمْ بِتََابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوََاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مََا جََاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذاً لَمِنَ الظََّالِمِينَ} (3) وقال في سورة الرعد (4): {وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوََاءَهُمْ بَعْدَ مََا جََاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مََا لَكَ مِنَ اللََّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلََا وََاقٍ}.
__________
(1) الآية: 6.
(2) سورة: البقرة، الآية: 120
(3) سورة: البقرة، الآية: 145.
(4) الآية: 37.(1/19)
للسائل أن يسأل فيقول: «ما» في هذه المواضع بمعنى «الذي» فما الفائدة في إخراج بعضها على لفظ «الذي»، وإيقاع الأخرى على لفظ «ما»، وإدخال «من» على «بعد» في قوله: {مََا جََاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ} وهل بين قولك: {مِنْ بَعْدِ مََا جََاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ} وقولك: {بَعْدِ مََا جََاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ} فرق وهل بين «الذي» وبين «ما» فرق؟
الجواب عن ذلك أن يقال تبين أولا: الفرق بين «الذي» وبين «ما» ليصح الفصل، ويظهر موضع كل واحد منهما والمعنى الذي يليق بهما: اعلم أن «ما» إذا كانت بمعنى:
«الذي» فإنها توافقها بأنها تبين بصلتها، وتخالفها بأشياء كثيرة، فتصير «الذي» متضمنة من البيان ما لا تتضمنه «ما». فمن ذلك إنك تدخل على «الذي» أسماء الإشارة، فتكون «الذي» صفة لها كقوله تعالى: {أَمَّنْ هََذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ} (1) وقوله: {أَمَّنْ هََذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ} (2) فيكتنف «الذي» بيانان أحدهما: الإشارة قبلها والآخر: الصلة بعدها ولا يكون ذلك في «ما» لأنها لا يوصف بها كما يوصف «بالذي»، لا تقول: أمن هذا ما هو جند لكم؟.
والثاني: أن «ما» تنكر فيجري ما كان صلة لها صفة تبينها، وليس ذلك في «الذي» وهو كقوله في الشعر:
ربما تكره النفوس من الأم ... ر له فرجة كحل العقال
والثالث: أن «الذي» تثنى وتجمع وتؤنث، فتلحقها هذه العلامات بيانا لهذه المعاني و «ما» لا يلحقها ذاك، بل هي على لفظة واحدة في التثنية والجمع والتأنيث.
والرابع: أن «الذي» قد لزمتها أمارة التعريف وهي: الألف واللام ولا شيء مما ذكرناه في «ما»، ولشدة إبهامها خص التعجب بها لأن سبب التعجب إذا استبهم كان أبلغ في معناه، فإذا تبينت أن «الذي» و «ما» التي بمعناها: اسمان مبهمان ناقصان، و «الذي» تزيد على «ما» في وجوه البيان الذي ذكرنا رجعنا إلى الآيات الثلاث، وبينا ما يليق من الاسمين بكل آية فقلنا قوله تعالى: {وَلَنْ تَرْضى ََ عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصََارى ََ حَتََّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} (3) أي:
لن ترضى عنك اليهود حتى تتبع ملتها، ولن ترضى عنك النصارى حتى تتبع ملتها، واتباع
__________
(1) سورة: الملك، الآية: 20.
(2) سورة: الملك، الآية: 21.
(3) سورة: البقرة، الآية: 120.(1/20)
الملتين في عصر النبي صلى الله عليه وسلم كفر، ولذلك قال الله تعالى: {قُلْ إِنَّ هُدَى اللََّهِ هُوَ الْهُدى ََ} أي: الإيمان الذي بعثتك به هو الطريق المؤدي إلى رضى الله وإلى ثوابه. ثم قال: {وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوََاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جََاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مََا لَكَ مِنَ اللََّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلََا نَصِيرٍ} فمنعه من اتباع الفرقتين بالعلم الذي حصل له بصحة الإيمان وبطلان الكفر، «والذي» في هذا المكان واقعة على العلم الذي ثبت به الإسلام وصح الإيمان، وكما أن هذا العلم مانع من الكفر الذي هو أكبر الذنوب، فالعلم الذي يمنع منه أفضل العلوم، فإذا عبر عنه بأحد هذين الاسمين المبهمين وجب أن يخص منهما بالأشهر، إذ كان للعلم المحيط بالأكثر وهو جملة الدين فأما الموضعان الآخران فليس القصد فيما عبر بلفظة «ما» عنه فيهما مثل القصد في الآية الأولى وذلك أن قوله: {مِنْ بَعْدِ مََا جََاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ} جاء بعد خبر الله تعالى عن مخالفة أهل الكتاب للنبي صلى الله عليه وسلم في القبلة لأنه قال عز اسمه: {وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتََابَ بِكُلِّ آيَةٍ مََا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ} إلى قوله: {مِنْ بَعْدِ مََا جََاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذاً لَمِنَ الظََّالِمِينَ} (1) فمنع عز وجل عن اتباع أهوائهم في أمر القبلة، وهو بعض الشرع بما حصل له من العلم بأن القبلة هي التي أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالتوجه إليها، فإذا كان ذلك بعض الشرع كان العلم بصحته بعض علم الشرع، ولم يكن كالعلم في الآية الأولى الذي هو محيط بالشرع وكل الإيمان، فلما كان واقعا على بعض ما وقع عليه الأول لم يشهر شهرته، فعبر عنه باللفظ الأقصر لما خص الأول باللفظ الأشهر، وكذلك قوله تعالى في سورة الرعد (2): {وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوََاءَهُمْ بَعْدَ مََا جََاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مََا لَكَ مِنَ اللََّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلََا وََاقٍ} إنما جاء بعد قوله: {وَالَّذِينَ آتَيْنََاهُمُ الْكِتََابَ يَفْرَحُونَ بِمََا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمِنَ الْأَحْزََابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ} (3) فنهى الله تعالى عن اتباع أهوائهم في البعض بما أنزل الله عز وجل إليه، وهو الذي ينكره الأحزاب بما ثبت له من العلم بصحة هذا البعض الذي ينكرونه كما ثبت له بباقيه، فلما كان هذا العلم بعض العلم الذي عبر عنه بلفظة «الذي» صار كالشائع في أبعاض هي مجموعة في الأول الذي عبر عنه باللفظ الأشهر، فكان العلم المانع من اتباع أهوائهم فيه مثل العلم المانع من اتباع أهوائهم في أمر القبلة، فعبر عنه بمثل ما عبر به عن ذلك. فإن قال قائل: فكيف خص ما في القبلة بلفظة «من»؟ فقال: {مِنْ بَعْدِ مََا جََاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ} ولم يكن ذلك في
__________
(1) سورة: البقرة، الآية: 145.
(2) الآية: 37.
(3) سورة: الرعد، الآية: 36.(1/21)
قوله: {بَعْدَ الَّذِي} ولا في قوله في سورة الرعد: {وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوََاءَهُمْ بَعْدَ مََا جََاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ} وهل لاختصاص هذا المكان فائدة دون المكانين الآخرين؟ قلت: هنا فائدة تقتضي «من» وليست في الآيتين الأخريين، وهي أن أمر القبلة مخصوص بفرائض مضيقة وأوقات مخصوصة لها في اليوم والليلة مؤقتة، فخص ب «من» التي هي لابتداء الغاية، والقبلة شرع كان يجوز نسخه كما نسخ ما هو مثله، فكأنه قال هناك: {وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوََاءَهُمْ} من الوقت الذي جاءك العلم فيه بالقبلة التي وليتها وأمرت بالتوجه نحوها صرت من الظالمين، فلما تخصص بوقت مضيق محدود، لم يكن بد في المعنى من العلم بالوقت الذي نقل فيه عن القبلة الأولى إلى غيرها، وليس كذلك ما بعد قوله: {قُلْ إِنَّ هُدَى اللََّهِ هُوَ الْهُدى ََ} لأن العلم الذي وقع التوعد معه على اتباع أهواء أهل الكتاب لم يتخصص وجوب العلم به بوقت دون وقت، إذ كان واجبا في الأوقات كلها، ولم يكن مما يجوز أن ينسخ لأنه علم بالإيمان وصحة الإسلام، وبطلان الشرك والكفر، فلما لم يتخصص وجوبه بوقت دون آخر لم يحتج معه إلى لفظة «من» التي هي للحد وابتداء الغاية. وكذلك الآية التي في سورة الرعد لما كان العلم المانع من اتباع أهوائهم علما بأن جميع ما أنزل الله حق، وأن قول الأحزاب الذين ينكرون بعضه باطل كان هذا أيضا من العلوم التي لا يتخصص الغرض فيها بوقت يجب حده بمن، بل هو واجب في الأوقات كلها، فلم يكن لدخول «من» في الآيتين مقتض كما كان له في الآية المتوسطة. ومما يبين لك الأغراض التي أشرنا إليها في الآيات الثلاث، وأنها يجوز أن تكون مقصودة والله أعلم ما اقترن من الوعيد بكل واحدة منها، فالموضع الذي منعه بعلمه عن اتباع أهوائهم في قوله: {وَلَنْ تَرْضى ََ عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصََارى ََ حَتََّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} هو منع عن الأعظم الذي هو الكفر، فكان الوعيد عليه أغلظ، وهو قوله: {مََا لَكَ مِنَ اللََّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلََا نَصِيرٍ}
والآية الأخيرة أيضا لما كان العلم بها مانعا من العلم بشطر من الدين، وترك شطر منه كان مثل الأول في استحقاق الوعيد، وكان مثله في الغلظة وهو قوله: {مََا لَكَ مِنَ اللََّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلََا وََاقٍ} وأما اتباع أهوائهم في أمر القبلة فلأنه مما يجوز نسخه، فكان الوعيد عليه أخف من الوعيد على ما هو الدين كله أو بعضه مما لا يصح تبديله وتغييره، فصار الوعيد المقارن له دون الوعيد المقرون بالموضعين الآخرين، وهو قوله تعالى: {وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوََاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مََا جََاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذاً لَمِنَ الظََّالِمِينَ} أي إن فعلت ذلك وضعت الشيء في غير موضعه ونقصت الدين حقه، فهذا الكلام في الفرق بين المواضع الثلاثة.(1/22)
قوله: {بَعْدَ الَّذِي} ولا في قوله في سورة الرعد: {وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوََاءَهُمْ بَعْدَ مََا جََاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ} وهل لاختصاص هذا المكان فائدة دون المكانين الآخرين؟ قلت: هنا فائدة تقتضي «من» وليست في الآيتين الأخريين، وهي أن أمر القبلة مخصوص بفرائض مضيقة وأوقات مخصوصة لها في اليوم والليلة مؤقتة، فخص ب «من» التي هي لابتداء الغاية، والقبلة شرع كان يجوز نسخه كما نسخ ما هو مثله، فكأنه قال هناك: {وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوََاءَهُمْ} من الوقت الذي جاءك العلم فيه بالقبلة التي وليتها وأمرت بالتوجه نحوها صرت من الظالمين، فلما تخصص بوقت مضيق محدود، لم يكن بد في المعنى من العلم بالوقت الذي نقل فيه عن القبلة الأولى إلى غيرها، وليس كذلك ما بعد قوله: {قُلْ إِنَّ هُدَى اللََّهِ هُوَ الْهُدى ََ} لأن العلم الذي وقع التوعد معه على اتباع أهواء أهل الكتاب لم يتخصص وجوب العلم به بوقت دون وقت، إذ كان واجبا في الأوقات كلها، ولم يكن مما يجوز أن ينسخ لأنه علم بالإيمان وصحة الإسلام، وبطلان الشرك والكفر، فلما لم يتخصص وجوبه بوقت دون آخر لم يحتج معه إلى لفظة «من» التي هي للحد وابتداء الغاية. وكذلك الآية التي في سورة الرعد لما كان العلم المانع من اتباع أهوائهم علما بأن جميع ما أنزل الله حق، وأن قول الأحزاب الذين ينكرون بعضه باطل كان هذا أيضا من العلوم التي لا يتخصص الغرض فيها بوقت يجب حده بمن، بل هو واجب في الأوقات كلها، فلم يكن لدخول «من» في الآيتين مقتض كما كان له في الآية المتوسطة. ومما يبين لك الأغراض التي أشرنا إليها في الآيات الثلاث، وأنها يجوز أن تكون مقصودة والله أعلم ما اقترن من الوعيد بكل واحدة منها، فالموضع الذي منعه بعلمه عن اتباع أهوائهم في قوله: {وَلَنْ تَرْضى ََ عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصََارى ََ حَتََّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} هو منع عن الأعظم الذي هو الكفر، فكان الوعيد عليه أغلظ، وهو قوله: {مََا لَكَ مِنَ اللََّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلََا نَصِيرٍ}
والآية الأخيرة أيضا لما كان العلم بها مانعا من العلم بشطر من الدين، وترك شطر منه كان مثل الأول في استحقاق الوعيد، وكان مثله في الغلظة وهو قوله: {مََا لَكَ مِنَ اللََّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلََا وََاقٍ} وأما اتباع أهوائهم في أمر القبلة فلأنه مما يجوز نسخه، فكان الوعيد عليه أخف من الوعيد على ما هو الدين كله أو بعضه مما لا يصح تبديله وتغييره، فصار الوعيد المقارن له دون الوعيد المقرون بالموضعين الآخرين، وهو قوله تعالى: {وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوََاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مََا جََاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذاً لَمِنَ الظََّالِمِينَ} أي إن فعلت ذلك وضعت الشيء في غير موضعه ونقصت الدين حقه، فهذا الكلام في الفرق بين المواضع الثلاثة.
الآية العاشرة
قوله تعالى: {وَإِذْ قََالَ إِبْرََاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هََذََا بَلَداً آمِناً} (1) وفي سورة إبراهيم (2):
{وَإِذْ قََالَ إِبْرََاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً}.
للسائل أن يسأل فيقول: لم كان في هذه السورة بلد نكرة، وفي سورة إبراهيم معرفة؟
الجواب: عن ذلك من وجهين:
أحدهما: أن يقال: الدعوة الأولى وقعت ولم يكن المكان قد جعل بلدا فكأنه قال: {اجْعَلْ هَذَا} الوادي {هَذَا الْبَلَدَ آمِناً} لأن الله تعالى حكى عنه أنه قال: {رَبَّنََا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوََادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ} (3) بعد قوله: {اجْعَلْ هَذَا}
الوادي {بَلَداً} ووجه الكلام فيه تنكير «بلد» الذي هو مفعول ثان، وهذا مفعول أول
والدعوة الثانية وقعت وقد جعلت بلدا فكأنه قال: اجعل هذا المكان الذي صيرته كما أردت، ومصرته كما سألت ذا أمن على من أوى إليه، فيكون: {الْبَلَدَ} على هذا عطف بيان على مذهب سيبويه وصفة على مذهب أبي العباس المبرد، و {آمِناً} مفعولا ثانيا، فعرّف حين عرف بالبلدية، ونكر حيث كان مكانا من الأمكنة غير مشهور بالتمييز عنها بخصوصية من عمارة وسكنى الناس.
الجواب الثاني: أن تكون الدعوتان واقعتين بعد ما صار المكان بلدا وإنما طلب من الله أن يجعله {آمِناً} والقائل يقول: اجعل ولدك هذا ولدا أديبا، وهو ليس بأمره بأن يجعله ولدا لأن ذلك ليس إليه، وإنما يأمره بتأديبه، فكأنه قال: اجعله بهذه الصفة وهذا كما يقول: كن رجلا موصوفا بالسخاء وليس يأمره أن يكون رجلا، وإنما يأمره بما جعله وصفا له من السخاء، فذكر الموصوف، وأتبعه الصفة، وهو كما تقول: كان اليوم يوما حارا، فتجعل يوما: خبر كان وحارا: صفة له، ولم تقصد أن تخبر عن اليوم بأنه كان يوما لأنه يصير خبرا غير مفيد، وإنما القصد أن تخبر عن اليوم بالحر، فكان الأصل أن تقول: كان اليوم حارا وأعدت لفظ يوم لتجمع بين الصفة والموصوف، فكأنك قلت: كان
__________
(1) سورة: البقرة، الآية: 126.
(2) الآية: 35.
(3) سورة: إبراهيم، الآية: 37.(1/23)
هذا اليوم من الأيام الحارة، وكذلك تقول: كانت الليلة ليلة باردة، فتنصب ليلة على أنها خبر كان، وحكم الخبر أن يتم به الكلام، ولو قلت: كانت الليلة ليلة لم يكن الكلام تاما لأن القصد إلى الصفة دون الموصوف، فكذلك قوله: {رَبِّ اجْعَلْ هََذََا بَلَداً آمِناً}
يجوز أن يكون المراد: {اجْعَلْ هَذَا} البلد {بَلَداً آمِناً} فتدعو له بالأمن بعد ما قد صار بلدا على ما مثلنا، ويكون مثل قوله: {اجْعَلْ هََذََا بَلَداً آمِناً} وتكون الدعوة واحدة قد أخبر الله عنها في الموضعين. فأما قول من يقول: إنه جعل الأول نكرة، فلما أعيد ذكرها أعيد بلفظ المعرفة كما تقول: رأيت رجلا فأكرمت الرجل فليس بشيء، وليس ما ذكره مثلا لهذا، ولا هذا المكان مكانه.
الآية الحادية عشرة
من هذه السورة مفارقة الآي التي شرطنا الفرق بينها، فيما خالفها بلفظ يسير من الآية التي بإزائها غير أنها مثلها في التكرير والحاجة إلى ذكر الفائدة في إعادتها وهي قوله تعالى: {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهََا مََا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مََا كَسَبْتُمْ وَلََا تُسْئَلُونَ عَمََّا كََانُوا يَعْمَلُونَ} (1).
للسائل في ذلك سؤالان:
أحدهما: أن تقول: ما فائدة الآية وهي خبر يعلمه المخاطب قبل أن يخبر به، فلا يستفيد بذكره ما لم يكن علمه قبل لأنه يعلم أن الأمة التي وصاها يعقوب عليه السّلام قد مضت وانقضت ولها ما كسبت من أجر، وعليها ما اكتسبت من إثم، وأن المخاطبين يؤاخذون بعملهم لا بعمل غيرهم، ولا يسألون عما عمله من تقدمهم. وإذا كان معنى الآية هذا فهو معلوم لكل مميز لا يحتاج إلى استفادته بإخبار مخبر.
والسؤال الثاني: هو عن تكرار هذه الآية لأنها ذكرت في صدر العشر المفتتحة بقوله تعالى: {إِذْ قََالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ} (2) ثم أعيدت في خاتمة هذه العشر التي تنقطع إلى قوله: {سَيَقُولُ السُّفَهََاءُ مِنَ النََّاسِ مََا وَلََّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كََانُوا عَلَيْهََا} (3).
__________
(1) سورة: البقرة، الآيتان: 134، 141.
(2) سورة: البقرة، الآية: 131.
(3) سورة: البقرة، الآية: 142.(1/24)
الجواب: عن السؤال الأول وذكر فائدة الآية مع وضوح معناها لكل ذي معرفة فمن وجهين:
أحدهما: أن يكون مثل هذا الكلام يقال: وإن كان معلوما للإنسان على سبيل التنبيه على العصيان، والبراءة إليه من فعله، وأنه هو المؤاخذ به من دون غيره فيخرج الكلام على حد من المعدلة والنصفة لا مذهب لأحد عنه، ويكون هذا أدعى له إلى التأمل والتدبر وأقرب إليه من التبصر كما قال تعالى لنبيه عليه السّلام: {وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمََّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمََّا تَعْمَلُونَ} (1) فهذا أيضا معلوم إلا أنه على سبيل تخليتهم مع النظر لأنفسهم، والتبرّي مما يعود بسوء العاقبة عليهم. وعلى هذا الحد لكم دينكم ولي دين وهذا كثير والقصد به مفيد كما بينا.
والوجه الثاني: من الجواب عن السؤال الأول أن يقال: إن هذه الآية تبكيت للمعاندين من أهل الكتاب الذين ادعوا أن لزوم دينهم وشريعتهم مما أوجبه الأنبياء صلوات الله عليهم وسلامه على سلفهم وخلفهم، فاحتج عليهم بأن ما يدّعونه لا يقدرون فيه على أن يقولوا أنهم سمعوا ذلك منهم مشاهدة لقوله تعالى: {أَمْ كُنْتُمْ شُهَدََاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قََالَ لِبَنِيهِ مََا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي} (2) على معنى: لم يكونوا شهداء، فإذا لم يثبت ذلك عندهم بمشاهدة ينقطع العذر وتلزم الحجة لأن تلك الأمة قد خلت وانقضت وأدّت عن الله ما تحملت، وهو أن تكون التوراة قد أخبرت بمجيء عيسى عليه السّلام ومجيء النبي صلى الله عليه وسلم من بعده، فلها الأجر في صحة أدائها وإظهارها ما أخذ الله به الميثاق عليها في قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللََّهُ مِيثََاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتََابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنََّاسِ وَلََا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرََاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلًا فَبِئْسَ مََا يَشْتَرُونَ} (3) ومعنى قوله: {وَلَكُمْ مََا كَسَبْتُمْ} إثم ما كسبتم لما نبذتم ذلك وراء ظهوركم واشتريتم به ثمنا قليلا فهذا معنى قوله: {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهََا مََا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مََا كَسَبْتُمْ} فتبين لك أنهم إذا لم يعلموا ما يدّعونه من طريق المشاهدة، لم يبق إلا أن يعلموه بخبر مخبر، والمخبر الذي بينهم وبين تلك الأمة ممن يجوز عليه الكذب، وهذا خبر الله تعالى وهو الخبر الذي لا يكذب نبيه على ذلك بقوله عند الانتهاء:
__________
(1) سورة: يونس، الآية: 41.
(2) سورة: البقرة، الآية: 133.
(3) سورة: آل عمران، الآية: 187.(1/25)
{أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرََاهِيمَ وَإِسْمََاعِيلَ وَإِسْحََاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبََاطَ كََانُوا هُوداً أَوْ نَصََارى ََ قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللََّهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهََادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللََّهِ} (1) أي إذا لم تعلموا ذلك من طريق مشاهدة لانقضاء تلك الأمة، فالله تعالى أعلم منكم، وقيله أصدق من قيلكم، وأنتم تعلمون فتكتمون ما عندكم من الشهادة حسدا وبغيا وطلبا للرئاسة، والله تعالى قد أثبت ببعثة محمد صلى الله عليه وسلم أنه رسوله وأن هذا القرآن تنزيله بحجج لائحة وبراهين واضحة، وهو عز من قائل يخبر خبرا حقا وقولا صدقا: أن الذي يدعون نقله عنهم ليس بحق، فإذا بطل علم ذلك من طريق المشاهدة ومن طريق الخبر لم يثبت لكم من الحجة ما يثبت عليكم، ويكون معنى قوله: {وَلََا تُسْئَلُونَ عَمََّا كََانُوا يَعْمَلُونَ} لا تسألون عن عملهم لأنه لا حجة لكم فيه بل الحجة عليكم به لأن عملهم إبلاغهم الرسالة، وفيها ما هو حجة عليكم، وقد قاموا به حق القيام، وثبت لهم صدق هذا المقام، فلا تسألون عن عملهم الذي هو صفتهم ولا يقال لكم: هل أدوا ذلك إليكم؟ لوضوح الحجة به عليكم. ويجوز أن يكون في ضمن هذه الآية: وهم مسئولون عن عملكم تبكيتا لكم وتثبيتا لحجتهم عليكم، فذكر أحد الضدين، واكتفى به عن الضد الذي ينافيه كما قال الله تعالى: {وَجَعَلَ لَكُمْ سَرََابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ} (2) ومعناه: تقيكم الحر والبرد فكذلك قوله: {وَلََا تُسْئَلُونَ عَمََّا كََانُوا يَعْمَلُونَ} وهم مسئولون عن عملكم لقوله تعالى: {وَإِذْ قََالَ اللََّهُ يََا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنََّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلََهَيْنِ مِنْ دُونِ اللََّهِ} (3) فأخبر عز اسمه أنه يسأل عيسى عليه السّلام عن عمل القوم بعده، وادعائهم عليه ما لم يقله تبكيتا للقوم، وتثبيتا للحجة عليهم، فكذلك معنى المحذوف من الآية بإزاء المثبت فيها اكتفاء بذكره عنها. وبقي الجواب عن فائدة تكرار الآية في أول هذه العشر وفي آخرها وفي أنها ذكرت بعد الأول في قوله تعالى: {أَمْ كُنْتُمْ شُهَدََاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قََالَ لِبَنِيهِ مََا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قََالُوا نَعْبُدُ إِلََهَكَ وَإِلََهَ آبََائِكَ إِبْرََاهِيمَ وَإِسْمََاعِيلَ وَإِسْحََاقَ إِلََهاً وََاحِداً وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهََا مََا كَسَبَتْ} ومعناه: أن إسرائيل عليه السّلام قرر بنيه على عبادتهم التي ثبتت عندهم، ووصاهم بها فقال تعالى لهؤلاء: أتنفون ما ثبت من وصية يعقوب عليه السّلام بنيه وتقريره إياهم وإقرارهم به والأمة قد انقضت وحالها في عبادتها قد ثبتت، ومن نفى ما ثبت من الدين فقد دخل في الكفر، فهذه الآية الأولى عقب ما
__________
(1) سورة: البقرة، الآية: 140.
(2) سورة: النحل، الآية: 81.
(3) سورة: المائدة، الآية: 116.(1/26)
ثبت من تقرير يعقوب عليه السّلام لبنيه وإقرارهم له، وهذه الآية كررت بعينها بعد قوله تعالى:
{أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرََاهِيمَ وَإِسْمََاعِيلَ وَإِسْحََاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبََاطَ} الآية: أم أنتم مثبتون ما هو منتف؟ ومن أثبت في الدين ما ليس فيه من هذا البهتان العظيم فهو في الإثم، كمن نفى عنه ما هو منه، ففي الأول: نفي ما هو ثابت من إقرار بني إسرائيل، وفي الثاني:
إثبات ما هو منفي من كون إبراهيم وإسماعيل هودا أو نصارى، وكل واحد من هذين يوجب من البراءة ويستحق به من غلظ الوعيد، والتخويف بالعقاب، والتنبيه على الكبيرة التي تحبط الحسنات مثل ما يوجبه الآخر، فلذلك أعيد في الدعوى الثانية الباطلة ما قدم في الدعوى الأولى الكاذبة، فكما استحقت تلك براءة الذمة من قائلها وتنبيهه على فساد قوله كذلك استحقت هذه فصارت الثانية في مكانها، وحقها كما وقعت الأولى في محلها ومستحقها، فلم يكن ذلك تكرارا بل كان وعيدا عقب كبيرة، كما كان الأول وعيدا عقب كبيرة أخرى غير الثانية.
الآية الثانية عشرة
قوله تعالى في هذه السورة: {قُولُوا آمَنََّا بِاللََّهِ وَمََا أُنْزِلَ إِلَيْنََا وَمََا أُنْزِلَ إِلى ََ إِبْرََاهِيمَ وَإِسْمََاعِيلَ وَإِسْحََاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبََاطِ وَمََا أُوتِيَ مُوسى ََ وَعِيسى ََ وَمََا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لََا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} (1) وقال تعالى شبيها لهذه الآية في سورة آل عمران (2): {قُلْ آمَنََّا بِاللََّهِ وَمََا أُنْزِلَ عَلَيْنََا وَمََا أُنْزِلَ عَلى ََ إِبْرََاهِيمَ وَإِسْمََاعِيلَ وَإِسْحََاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبََاطِ وَمََا أُوتِيَ مُوسى ََ وَعِيسى ََ وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لََا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ}.
للسائل أن يسأل: عن موضعين من هاتين الآيتين.
أحدهما قوله: {أُنْزِلَ إِلَيْنََا} في الأولى و {عَلَيْنََا} في الثانية.
والموضع الثاني: تكرار {أُوتِيَ} في الأولى، وتركه في الثانية فنقول: هل لاختيار: {إِلى ََ} مع قوله: {أُنْزِلَ} في هذه السورة فائدة يوجب اختصاصها؟ وهل لاختيار: {عَلى ََ} مع: {أُنْزِلَ} في سورة آل عمران معنى يقتضيها؟ ولم كرر {أُوتِيَ} هنا ولم يكررها هناك؟.
__________
(1) سورة: البقرة، الآية: 136.
(2) الآية: 84.(1/27)
الجواب: المختصر المشار به إلى الفرق بين الموضعين في: {عَلى ََ} و {إِلى ََ} أن أول الآية التي اختصت بها على {قُلْ آمَنََّا بِاللََّهِ} وأول الآية التي اختصت بها إلى {قُولُوا آمَنََّا بِاللََّهِ} وشرح ذلك أن «على» موضوعة لكون الشيء فوق الشيء ومجيئه من علو، فهو مختص من الجهات الست كلها بجهة واحدة، و «إلى» للمنتهى، ويكون المنتهى من الجهات الست كلها، فإن توجه نحو الشيء شيء من عن يمينه أو عن شماله أو قدامه أو من ورائه أو من فوقه أو من تحته، فإنه إذا بلغه يقال فيه: انتهى إليه فلا يتخصص «إلى» بجهة واحدة كما يتخصص «على»، فقوله تعالى: {قُولُوا آمَنََّا بِاللََّهِ} اختيرت فيها «إلى» لأنها مصدرة بخطاب المسلمين، فوجب أن يختار له «إلى»، ثم جعل ما عطف عليه على لفظه بحق الاتباع، وإن صح فيه معنى الانتهاء فالمؤمنون لم ينزل الوحي في الحقيقة عليهم من السماء، وإنما أنزل على الأنبياء، ثم انتهى من عندهم إليهم، فلما كان {قُولُوا} خطابا لغير الأنبياء، وكان لأممهم كان اختيار {إِلى ََ} أولى من اختيار {عَلى ََ}
ولما كانت في سورة آل عمران قد صدرت الآية بما هو خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم وهو قوله: {قُلْ آمَنََّا بِاللََّهِ وَمََا أُنْزِلَ عَلَيْنََا} كانت {عَلى ََ} أحق بهذا المكان لأن الوحي أنزل عليه، وفي لفظ {أُنْزِلَ} دلالة على انفصال الشيء من فوق ثم انتهى من عندهم إليهم أسفل وأن يقرب إليه ما يشاء كله فيما يستحقه من المعنى أولى، وإن كان القرآن قد نطق بجميع ذلك في الأنبياء وفي غيرهم كقوله عز وجلّ: {نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتََابَ} (1) و {أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتََابَ} (2)
وقال في موضع آخر: {وَأَنْزَلْنََا إِلَيْكَ الْكِتََابَ بِالْحَقِّ} (3) فالمنزل على الأنبياء منته إليهم، فلذلك صحت «إلى»، إلا أن على أصلها إذا قصد الإيضاح بالمعنى أن تستعمل فيمن نزل الوحي عليه، وشركة الأمة في اللفظ مجاز لا حقيقة، و «إلى» في ذكر الإنزال المتعلق بأمم الأنبياء صلوات الله عليهم وسلامه أشبه بحقيقة معناها «من على»، فلذلك خصنا في الموضعين باللفظين المختلفين، وجعل ما بعدهما يجري مجراهما كما يجب في حكم الاتباع. وأما الموضع الثاني الذي أعيد فيه لفظة {أُوتِيَ} من سورة البقرة، ولم يعد فيما بإزائها من سورة آل عمران.
الجواب عنه أن يقال: إنما اختص هناك لأن العشر التي فيها مصدرة بقوله:
{وَإِذْ أَخَذَ اللََّهُ مِيثََاقَ النَّبِيِّينَ لَمََا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتََابٍ وَحِكْمَةٍ} (4) فقدم ذكر إيتاء الكتاب واكتفى به عن التكرير في الموضع الذي كرر فيه من سورة البقرة على سبيل
__________
(1) سورة: آل عمران، الآية: 3.
(3) سورة: المائدة، الآية: 48.
(2) سورة: آل عمران، الآية: 7.
(4) سورة: آل عمران، الآية: 81.(1/28)
التوكيد. وبيان ذلك أن هذه العشر مبنية على ذكر عهد الله إلى الأنبياء صلوات الله عليهم وسلامه وما أخذ عليهم من المواثيق في تبيين ما أنزله إليهم للناس فقوله: {وَمََا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ} هو قوله: {وَإِذْ أَخَذَ اللََّهُ مِيثََاقَ النَّبِيِّينَ لَمََا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتََابٍ وَحِكْمَةٍ} في المعنى فلما تقدم هذا الذكر وجاء: {وَمََا أُوتِيَ مُوسى ََ وَعِيسى ََ} اكتفى عن إعادة {وَمََا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ} بالذكر المتقدم، ولما لم يتقدم في سورة البقرة ذكر إيتاء النبيين ما أوتوا من الكتب في هذه العشر لم يكن فيه ما يغني عن التوكيد بإعادة اللفظ.
هذا الفرق بين الموضعين والله أعلم.
الآية الثالثة عشرة
قوله تعالى: {قَدْ نَرى ََ تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمََاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضََاهََا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرََامِ وَحَيْثُ مََا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} (1) وقال بعده في هذه العشر: {وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرََامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَمَا اللََّهُ بِغََافِلٍ عَمََّا تَعْمَلُونَ وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرََامِ وَحَيْثُ مََا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} (2).
للسائل: أن يسأل عن الفائدة لتكرار هذه الآية في هذه العشر مع أن في كل واحدة كفاية.
الجواب عنه أن يقال: إن قوله: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ} هو الأمر الأول بالتوجه نحو القبلة التي هي الكعبة، واللفظ للنبي صلّى الله عليه وسلم وما بعده هو خطاب له ولأمته وهو قوله: {وَحَيْثُ مََا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} وأما الآية الثانية وهي قوله: {وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرََامِ} فالخروج خروجان. أحدهما:
خروج المصلي من مكان إلى مكان يرى فيه الكعبة، وهو: المسجد الحرام، فكأنه قال:
ومن أي باب من أبواب المسجد خرجت فتوخّ استقبال الكعبة بالصلاة. والخروج الثاني:
خروج من البلد الذي فيه المسجد الحرام وهو: الحرم فكأنه قال: وإن خرجت من البلد من أي باب خرجت فاجعل الكعبة قبلة تتوجه نحوها بصلاتك، فعلى هذا يكون لكل آية فائدة، فالأولى ليس فيها خروج، والثانية هي خروج من أقرب الأماكن إلى الكعبة، والثالثة خروج مما عدا ذلك عام في البلاد، وقد كان يتوهم أن للقرب حرمة لا يثبت مثلها
__________
(1) سورة: البقرة، الآية: 144.
(2) سورة: البقرة، الآيتان: 149، 150.(1/29)
للبعد، فوقعت مظاهرة بالأمر بتولي القبلة في القرب والبعد، ولفظة {خَرَجْتَ} لفظة الماضي وهي في موضع المستقبل لأن المعنى معنى الشرط والجزاء، «وحيث» وحدها وإن تضمنت معنى الشرط فإنه لا يجزم بها الفعل المستقبل بل تقول: من حيث تخرج، فترفع الفعل، فإن أردت: من أي موضع يخرج، فأي موضع يجزم الفعل، «وحيث» لا تجزمه إلا إذا قارنتها «ما»، فتقول: حيثما تنزل أنزل، فإن قلت: حيث تنزل أنزل، بطل الجزم ووجب الرفع، فقوله تعالى: {وَحَيْثُ مََا كُنْتُمْ}. كنتم في هذا المكان في موضع فعل مجزوم، فكأنه قال: {وَحَيْثُ مََا} تكونوا {فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} وليس كذلك {وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ}، إلا أنه لا يخرج عن تضمن معنى الشرط. يبين ذلك دخول الفاء في الجواب ولولا هذا المعنى ما احتيج إليها، فلهذا قلنا إن الماضي بعدها بمنزلة المستقبل، كما يكون في قولك: إن خرجت خرجت، إلا أن الماضي لا يجزم كما لا يجزم الفعل في صلة «الذي» وإن دخله معنى الشرط، إذا قلت: الذي يزورني فله درهم فأوجبت الدرهم بالزيارة، «وحيث» في هذا الموضع على غير ما هي عليه في قولك: قعدت اليوم حيث قعدت أمس لأن تلك شائعة كشياع الأسماء التي تقع بمعنى الشرط ومجازاتها.
الآية الرابعة عشرة
قوله تعالى: {وَإِذََا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مََا أَنْزَلَ اللََّهُ قََالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مََا أَلْفَيْنََا عَلَيْهِ آبََاءَنََا أَوَلَوْ كََانَ آبََاؤُهُمْ لََا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلََا يَهْتَدُونَ} (1) وفي هذه الآية موضعان يشابهان موضعين من آيتين أخريين. الأول قوله: {مََا أَلْفَيْنََا عَلَيْهِ آبََاءَنََا} وبإزائه في سورة لقمان (2): {وَإِذََا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مََا أَنْزَلَ اللََّهُ قََالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مََا وَجَدْنََا عَلَيْهِ آبََاءَنََا}. والموضع الثاني قوله في سورة المائدة (3): {أَوَلَوْ كََانَ آبََاؤُهُمْ لََا يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلََا يَهْتَدُونَ}.
للسائل أن يسأل، فيقول: هل لتخصيص الموضع الذي في البقرة بقوله {أَلْفَيْنََا}
دون {وَجَدْنََا} فائدة تخصه؟ وهل لتخصيص الموضع الثاني بقوله: {لََا يَعْقِلُونَ شَيْئاً}
دون قوله {لََا يَعْلَمُونَ شَيْئاً} فائدة؟ وهل لتخصيص {لََا يَعْلَمُونَ} في موضعه دون قوله: {لََا يَعْقِلُونَ} في موضعه فائدة؟
__________
(1) سورة: البقرة، الآية: 170.
(2) الآية: 21.
(3) الآية: 104.(1/30)
الجواب عن الموضع الأول وهو قوله: {أَلْفَيْنََا} أن «ألفينا» يقصد بها بعض الوجوه التي يستعمل عليه «وجدنا» لأنه يقال: وجدت الشيء، فلا يحتاج إلى مفعول ثان إذا وجدته عن عدم، ولوجدان الضالة تقول: وجدت الضالة وتقول: وجدت زيدا عاقلا، فيكون الوجود متعلقا بالخبر الذي هو المفعول الثاني، ولا بدّ له في هذا الوجه منه، ولا يكتفي بالمفعول الأول، وأما قولهم «ألفيت» فإنها مخصوصة بهذا الوجه من وجوه «وجدت»، لا يقال: ألفيت درهما بمعنى: وجدت درهما، ولا: ألفيت الضالة بمعنى: وجدتها، وإنما يقال: ألفيت زيدا عاقلا، وألفيته على الهدى وعلى الضلالة، فكان في الموضع الأول استعمال اللفظ الأخص أولى، وتأخير اللفظ المشترك إلى المكان الثاني أولى.
الجواب عن المسألة الثانية من هذه الآية في قوله عز وجل: {لََا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلََا يَهْتَدُونَ} مع ما في سورة المائدة من قوله: {أَوَلَوْ كََانَ آبََاؤُهُمْ لََا يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلََا يَهْتَدُونَ} أن يقال: إن لقوله: {لََا يَعْلَمُونَ} رتبة ليست لقوله: {يَعْقِلُونَ}، وإذا وقفت على ما بينهما سهلت عليك معرفة ما أوجب تخصيص كل مكان باللفظ المخصوص به، فقول القائل يعلم معناه يدرك الشيء على ما هو به مع سكون إليه، وقوله يعقل معناه:
يحصره بإدراك له عما لا يدركه، لذلك جاز أن يقول: يعلم الله كذا، ولا يجوز أن يقول يعقل الله كذا لأن العقل يشد، والعاقل الذي يحبس نفسه عما تدعو إليه الشهوات، ولا شهوة لله تعالى فيحتبس عنها، فلذلك لا يقال لله عاقل، فيقال: عقل فلان الشيء وهو يعقله بمعنى: حصره بإدراكه له عما لا يدركه ويفيده تمييزه له عن غيره مما لم يدركه، وهذا لا يصح في حق الله تعالى، فإذا كانت رتبة {يَعْلَمُونَ} زائدة على رتبة {يَعْقِلُونَ}، وأخبر الله عن الكفار في سورة المائدة (1)، فقال: {وَإِذََا قِيلَ لَهُمْ تَعََالَوْا إِلى ََ مََا أَنْزَلَ اللََّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قََالُوا حَسْبُنََا مََا وَجَدْنََا عَلَيْهِ آبََاءَنََا أَوَلَوْ كََانَ آبََاؤُهُمْ لََا يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلََا يَهْتَدُونَ} فبين أنهم ادعوا رتبة العلم بصحة ما كان آباؤهم عليه لأنهم قالوا: {حَسْبُنََا مََا وَجَدْنََا عَلَيْهِ آبََاءَنََا} ولفظة «حسبنا» تستعمل فيما يكفي في بابه ويغني عن غيره، فالمدرك للشيء إذا أدركه على ما هو به وسكنت نفسه إليه فذاك حسبه، فاستعمل لفظة {يَعْلَمُونَ} ونفى عنهم النهاية لأنهم ادعوها بقولهم {حَسْبُنََا}، فكأنهم قالوا: معنا علم تسكن نفوسنا إليه مما وجدنا عليه آباءنا من الدين، فنفى ما ادعوه بعينه هو والعلم. والموضع الأول الذي في سورة البقرة لم يحك عنهم فيه أنهم ادعوا تناهيهم في معرفة ما اتبعوا فيه آباءهم، بل كان قوله تعالى:
__________
(1) الآية: 104.(1/31)
{وَإِذََا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مََا أَنْزَلَ اللََّهُ قََالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مََا أَلْفَيْنََا عَلَيْهِ آبََاءَنََا} ولم يدعوا أن ما ألفوا عليه آباءهم كان كافيهم وحسبهم، فاكتفى بنفي أدنى منازل العلم لتكون كل دعوى مقابلة بما هو بإزائها مما يبطلها والسلام.
الآية الخامسة عشرة
قوله تعالى في هذه السورة: {يََا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبََاتِ مََا رَزَقْنََاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلََّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيََّاهُ تَعْبُدُونَ إِنَّمََا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمََا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللََّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بََاغٍ وَلََا عََادٍ فَلََا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللََّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (1) وجاء في ثلاثة مواضع بعده {وَمََا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللََّهِ} أولها في سورة المائدة (2): {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمََا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللََّهِ بِهِ} وفي آخر سورة الأنعام (3): {قُلْ لََا أَجِدُ فِي مََا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى ََ طََاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلََّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللََّهِ بِهِ} وفي سورة النحل (4): {فَكُلُوا مِمََّا رَزَقَكُمُ اللََّهُ حَلََالًا طَيِّباً وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللََّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيََّاهُ تَعْبُدُونَ إِنَّمََا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمََا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللََّهِ بِهِ} فجاء في المواضع الثلاثة به مؤخرا، عن قوله: {لِغَيْرِ اللََّهِ}، وفي الموضع الأول من سورة البقرة مقدما على قوله: {لِغَيْرِ اللََّهِ}.
للسائل أن يسأل فيقول: لماذا اختلف الموضع الأول مع المواضع التي بعده؟
الجواب أن يقال: أما الموضع الأول، فإنه جاء على الأصل الذي يقتضيه حكم اللفظ لأن الباء التي يتعدى بها الفعل في هذا المكان من جملة الباءات التي تجيء كحرف من نفس الفعل تقول: ذهبت بزيد، ثم تقول: أذهبت زيدا، فتصير الباء كالهمزة المزيدة في بنية الفعل، فيجب لذلك أن تكون أحق بالتقديم، وما يتعدى إليه الفعل باللام لا يترك، لأنه بمنزلة الحرف من نفس الفعل فصار قوله: {أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللََّهِ} بمنزلة ذبح لغير الله مسمى عليه اسم بعض الآلهة، فلما كان هذا الأصل في الأول جرت الآية الأولى عليه، ولما كان الإهلال بالمذبوح لا يستنكر إلا إذا كان لغير الله كان ما عدا الأصل بتقديم المستنكر أحق وأولى، ألا ترى أنهم يقدمون المفعول إذا كانوا ببيانه أعنى،
__________
(1) سورة: البقرة، الآيتان: 172، 173.
(3) الآية: 145.
(2) الآية: 3.
(4) الآيتان: 114، 115.(1/32)
فيقولون: ضرب زيدا عمرو، فيقدمون المفعول على الفاعل لأن الاهتمام بأمره أتم لأن هذا ينفي منه ما فيه وهم متوهم، أو قول قائل: ضرب محمد زيدا، فيقع الخلاف في المفعول لا في الفاعل، فيقول المنكر لذلك المثبت صحة ما عنده: ضرب عمرا زيد لا محمدا، فإن ترك قوله: لا محمدا كان مكتفيا عنه بتقديم المفعول، وكذلك ما ينكره من الفضلات كالظرفين والحال، فقال المخاطب إذ توهم: ضرب زيد عمرا اليوم، فقال المنكر: ضرب أمس زيد عمرا، فقدم أمس على الفاعل والمفعول به لأنه هو الذي ينكره ويمنع أن يكون على ما توهمه، والباقي من الكلام ليس فيه ما يستنكره، فالعناية بتقديم ما يزيل الشك عنه أتم، وهو بالتقديم أحق فذلك قوله تعالى: {وَمََا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللََّهِ}
مع قوله: {وَمََا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللََّهِ بِهِ} في الآي الثلاث.
الآية السادسة عشرة
قوله عز وجل: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بََاغٍ وَلََا عََادٍ فَلََا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللََّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (1) وقال في سورة الأنعام (2): {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بََاغٍ وَلََا عََادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} وقال في سورة النحل (3): {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بََاغٍ وَلََا عََادٍ فَإِنَّ اللََّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}.
للسائل أن يسأل فيقول: هل لاختلاف الألفاظ التي اتبعت قوله: {اضْطُرَّ غَيْرَ بََاغٍ وَلََا عََادٍ} معنى يخصص كل مكان باللفظ الذي اختص به؟.
الجواب أن يقال: قصد الله تعالى في المواضع الثلاثة أن يبين للمضطر ما له أن يتناول من المحرم الذي يمسك به رمقه (4)، فذكر في الموضعين الآخرين {فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} و {فَإِنَّ اللََّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} فكان تعريضا بمغفرته لمن اضطر إلى تناول المحرم في حالته، فالموضع الأول بدأ فيه بصريح اللفظ بإسقاط الإثم، فقال: {فَلََا إِثْمَ عَلَيْهِ} ثم عقبه بما اتصف به من المغفرة والرحمة، وفي هذه الآي الثلاث سؤال آخر وهو أنه قال في الأولى: {إِنَّ اللََّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} وفي الثانية {فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} وفي الثالثة {فَإِنَّ اللََّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} فهل لاختصاص الأول والأخير بذكر الله تعالى فائدة،
__________
(1) سورة: البقرة، الآية: 173.
(3) الآية: 115.
(2) الآية: 145.
(4) الرمق: بقية الروح.(1/33)
ولاختصاصه في الآية الثانية بقوله: {فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} وعدوله عن ذكر الله إلى ذكر ربك فائدة مخصصة بمكانه.
الجواب عن ذلك أن يقال: لكل موضع معنى يوجب اختصاص اللفظ الذي ذكر فيه، فأما الأول فلأنه لما قال: {يََا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبََاتِ مََا رَزَقْنََاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلََّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيََّاهُ تَعْبُدُونَ} (1) وختم بقوله: {إِنَّمََا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ} (2) كذا كان بما قدمه مثبتا عليهم إلهيته لأن الإله هو الذي يحق له العبادة بما له من النعمة، فلما قدم ذكر ما رزقهم منها وطالبهم بشكرها أتبعه بقوله: {إِنْ كُنْتُمْ إِيََّاهُ تَعْبُدُونَ}
وختم الآية بأن قال: {فَإِنَّ اللََّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} أي: من أنعم عليكم غاية النعمة واستحق بها غاية التعبد والتذلل هو الذي يغفر لكم عند الضرورة تناول ما حرمه عليكم في حال الاختيار رحيم بكم، وكذلك الآية الثالثة مبنية على مثل هذا لأن أولها {فَكُلُوا مِمََّا رَزَقَكُمُ اللََّهُ حَلََالًا طَيِّباً وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللََّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيََّاهُ تَعْبُدُونَ} (3) فكان مشبها لما قدمنا ذكره، فقال: {فَإِنَّ اللََّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} وأما الثانية فلأنه قدم عليها ذكر أصناف ما خلقه الله لتربية الأجسام فقال: {وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنََّاتٍ مَعْرُوشََاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشََاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ} (4) فذكر الثمار والحب، وأتبعه بذكر الحيوان من الإبل والبقر والغنم، خص هذا الموضع بذكر الرب لأن الرب هو القائم بمصالح المربوب، فكان هذا أليق بهذا المكان والله أعلم.
الآية السابعة عشرة
قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مََا أَنْزَلَ اللََّهُ مِنَ الْكِتََابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلًا أُولََئِكَ مََا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النََّارَ وَلََا يُكَلِّمُهُمُ اللََّهُ يَوْمَ الْقِيََامَةِ وَلََا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذََابٌ أَلِيمٌ} (5) وفي سورة آل عمران (6): {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللََّهِ وَأَيْمََانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلًا أُولََئِكَ لََا خَلََاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلََا يُكَلِّمُهُمُ اللََّهُ وَلََا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيََامَةِ وَلََا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذََابٌ أَلِيمٌ}.
للسائل أن يسأل فيقول: الإخبار في الموضعين عن أهل الكتاب الذين كتموا ذكر
__________
(1) سورة: البقرة، الآية: 172.
(4) سورة: الأنعام، الآية: 141.
(2) سورة: البقرة، الآية: 173.
(5) سورة: البقرة، الآية: 174.
(3) سورة: النحل، الآية: 114.
(6) الآية: 77.(1/34)
بعث النبي صلّى الله عليه وسلم من كتابهم المنزل عليهم من التوراة والإنجيل والتوعد في الموضعين مختلف والكبيرة واحدة، فهل هناك معنى يوجب اختلاف الوعيد في المكانين؟.
الجواب أن يقال: الوعيد في مكان من المكانين على حسب ما ذكر من عظم الذنب وكبر الجرم، فقال في سورة البقرة: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مََا أَنْزَلَ اللََّهُ مِنَ الْكِتََابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلًا} فوصفهم بأنهم خالفوا الله في أمره ونقضوا ما قدم من عهده إليهم، حيث قال: {وَإِذْ أَخَذَ اللََّهُ مِيثََاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتََابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنََّاسِ وَلََا تَكْتُمُونَهُ} (1) فهؤلاء لم يبينوا وكتموا، فخالفوا بارتكاب ما نهى الله عن ارتكابه وترك ما أمر الله بإتيانه، ثم قال: {وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلًا} أي: نصيبا يسيرا من الدنيا، فجاء على هذا غلظ الوعيد، وهو قوله: {أُولََئِكَ مََا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النََّارَ} أي: هذا الحظ اليسير الذي نالوه من الدنيا بمطعم ومشرب إنما هو نار في أجوافهم، ثم قال:
{وَلََا يُكَلِّمُهُمُ اللََّهُ يَوْمَ الْقِيََامَةِ} أي: ليسوا ممن ترجى نجاتهم فيجيئهم من قبل الله كلام أو سلام، كما قال في أوليائه: {تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلََامٌ} (2) ثم قال: {وَلََا يُزَكِّيهِمْ} أي: لا يطهرهم من ذنب الكفر بالعفو عنهم {وَلَهُمْ عَذََابٌ أَلِيمٌ} ثم قال:
{أُولََئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلََالَةَ بِالْهُدى ََ} (3) فكرر ذكر سوء اشترائهم ووعيدهم وأنهم باعوا الإسلام بالكفر، واشتروا عذاب الله بالغفران، واقتحموا عذاب النار فعل من يعجب من صبره عليها، فهذه أنواع كثيرة من التوعد اقترنت بما حصل من الذنب العظيم في كتمان ما لم يجب كتمانه، والإعراض عن تبيين ما وجب تبيانه، والآية التي في سورة آل عمران لم يذكر في أولها من الذنوب التي ارتكبوها مثل ما ذكر في أول هذه الآية، قال:
{إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللََّهِ وَأَيْمََانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلًا} فكان هاهنا ذكر بعض ما ذكر في الآية الأولى وهو {وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلًا} فقرن به من الوعيد أقل مما قرن بالآية الأولى، وهو أن قال: {لََا خَلََاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ} أي: لا نصيب لهم من الخير {وَلََا يُكَلِّمُهُمُ اللََّهُ} كما يكلم أولياءه {وَلََا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ} نظر رحمة {وَلََا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذََابٌ أَلِيمٌ}.
الآية الثامنة عشرة
قوله تعالى:
__________
(1) سورة: آل عمران، الآية: 187.
(3) سورة: البقرة، الآية: 175.
(2) سورة: الأحزاب، الآية: 44.(1/35)
{وَلََا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عََاكِفُونَ فِي الْمَسََاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللََّهِ فَلََا تَقْرَبُوهََا} (1) وقال في آخر هذه السورة: {تِلْكَ حُدُودُ اللََّهِ فَلََا تَعْتَدُوهََا} (2).
للسائل أن يسأل فيقول: كيف اختص الموضع الأول بقوله: {فَلََا تَقْرَبُوهََا}
والموضع الثاني بقوله: {فَلََا تَعْتَدُوهََا}؟.
الجواب أن يقال: الأول خرج على أغلظ الوعيد، كما قال: {وَلََا تَقْرَبََا هََذِهِ الشَّجَرَةَ} (3) وإنما كان نهى عن أكلها لا الدنو منها، فخرج مخرج قول القائل إذا نهى عن الشيء وشدد الأمر فيه: لا تقرب هذا الشيء، وما أحسن ما قال النبي صلّى الله عليه وسلم في المنع من مقاربة الحرام: «من رتع حول الحمى يوشك أن يقع فيه»، وكما يروى عن بعض الصالحين إني لأحب أن يكثف الحاجز بيني وبين ما حرم الله، فلما كانت حالة هذه الموضع الأول نهيا: عن مواقعة النساء في حالة الاعتكاف في المساجد صار فيه تحذير من دواعي المواقعة، فاقتضى من المبالغة ما لم يقتضه قوله: {فَلََا جُنََاحَ عَلَيْهِمََا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللََّهِ فَلََا تَعْتَدُوهََا} فكأنه قال لا تتجاوزوها يعني: المرأة إذا افتدت لمهرها وخالعت زوجها لم يكن عليها إثم، وهذه حدود نهى عن تعديتها، والحدود ضربان: حد هو منع من ارتكاب المحظور، وحد هو فاصل بين الحلال والحرام، فالأول ينهى عن مقاربته، والثاني ينهى عن مجاوزته، وهما المذكوران في هذه السورة وحد النهي عنهما والسلام.
الآية التاسعة عشرة
قوله تعالى: {وَقََاتِلُوهُمْ حَتََّى لََا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلََّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلََا عُدْوََانَ إِلََّا عَلَى الظََّالِمِينَ} (4) وقال في سورة الأنفال (5): {وَقََاتِلُوهُمْ حَتََّى لََا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلََّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللََّهَ بِمََا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}.
للسائل أن يسأل فيقول: لأي فائدة قال في هذه السورة: {وَيَكُونَ الدِّينُ لِلََّهِ} ولم يؤكد وعقبه بقوله: {فَلََا عُدْوََانَ إِلََّا عَلَى الظََّالِمِينَ} وفي سورة الأنفال: {وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلََّهِ} فوكده وأتبعه قوله: {فَإِنَّ اللََّهَ بِمََا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}.
__________
(1) سورة: البقرة، الآية: 187.
(4) سورة: البقرة، الآية: 193.
(2) سورة: البقرة، الآية: 229.
(5) الآية: 39.
(3) سورة: البقرة، الآية: 35.(1/36)
الجواب عن ذلك أن يقال: الآية الأولى في هذه السورة جاءت في قتال أهل مكة ألا ترى ما قبلها {وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ} (1) ثم قال: {وَلََا تُقََاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرََامِ} (1) وهذا مختص بقتال قوم مخصوصين من أهل الشرك وهم نازلة الحرم، فاقتصر على «الدين» من غير توكيد على معنى: حتى يكون الدّين حيث هؤلاء لا في كل مكان لأنه لا يحصل بقتل مشركي مكة الدّين في كل البلاد، وقوله:
{فَإِنِ انْتَهَوْا فَلََا عُدْوََانَ إِلََّا عَلَى الظََّالِمِينَ} أي: إن انتهوا عن كفرهم فلا عدوان عليهم، إنما العدوان على من أقام على الضلالة وظلم نفسه بلزوم الجهالة، وأما ما في سورة الأنفال فالأمر ورد عاما في قتال كل الكافرين، ألا ترى أن قبل الآية: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مََا قَدْ سَلَفَ} (3) وليس هذا في طائفة من الكفار دون طائفة فإذا كان ذلك كذلك، وقال بعده: {وَقََاتِلُوهُمْ حَتََّى لََا تَكُونَ فِتْنَةٌ} أي: لا يكون شرك وكفر اقتضى هذا أن يكون بعده {وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلََّهِ} فأمر بإبطال كل كفر قدروا عليه، وأتبعه قوله: {فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللََّهَ بِمََا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} أي:
إن انتهوا وانتقلوا إلى الإيمان وكفوكم بما يظهرون من الإسلام عن قتالهم، فالله يعلم عملكم وعملهم على القراءتين جميعا، فيكون الخطاب للمقاتلين ولفظ المعاتبة للمقاتلين، ويمكن أن يقال: إن الخطاب في «يعملون» يشمل الكل لأنه قال: {حَتََّى لََا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلََّهِ} فكلهم قد صاروا مؤمنين، فلا جرم أن ضمهم خطاب واحد، وأعلمهم أنه مجاز لهم على عملهم مطلع على سرائرهم يعرف من كان انتهاؤه عن الكفر لرغبة من رغائب الدنيا، ومن كان انتهاؤه عنه للتبصر، فسوّى بين السر والجهر، واللفظة في ضمنها إذا وردت من القادر الحكيم غاية التخويف والوعيد في العقاب الأليم، وغاية الترغيب في الثواب العظيم لفرقتي الطاعة والعصيان، فهذا فرق والسلام.
الآية العشرون
قوله تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمََّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسََاءُ وَالضَّرََّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتََّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتى ََ نَصْرُ اللََّهِ أَلََا إِنَّ نَصْرَ اللََّهِ قَرِيبٌ} (4) وقال في سورة آل عمران (5):
__________
(1) سورة: البقرة، الآية: 191.
(4) سورة: البقرة، الآية: 214.
(3) سورة: الأنفال، الآية: 38.
(5) الآية: 142.(1/37)
{أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمََّا يَعْلَمِ اللََّهُ الَّذِينَ جََاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصََّابِرِينَ} وقال في سورة التوبة (1):
{أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمََّا يَعْلَمِ اللََّهُ الَّذِينَ جََاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللََّهِ وَلََا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللََّهُ خَبِيرٌ بِمََا تَعْمَلُونَ}.
للسائل أن يسأل فيقول: كيف اختلف اللفظ في الثلاثة المواضع وهي فيها كلها نعت على الجهاد، وهل صلح ما هو في الأول للآخر أم اقتضاه مكانه بعينه دون غيره؟.
الجواب أن يقال: بل لكل معنى يقتضي اللفظ الذي خص به، فالآية الأولى من هذه السورة وردت عقيب قوله: {كََانَ النََّاسُ أُمَّةً وََاحِدَةً فَبَعَثَ اللََّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ} (2) ثم قال: {وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ} (2) يعني: الكتاب {مِنْ بَعْدِ مََا جََاءَتْهُمُ الْبَيِّنََاتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ} (2) فكانت هذه الحالة التي أخبر الله تعالى عنها مشبهة حال النبي صلّى الله عليه وسلم والمؤمنين معه فيما دفعوا إليه من بغي المشركين ومقاتلتهم لهم مجاهدين، فقال:
أم حسبتم أن تشتروا الجنة لتسكنوها خالدين فيها ولم تفعلوا أفعال الأمم الماضية فيما دفعت إليه هي وأنبياؤها صلوات الله عليهم وسلامه من قتال الكفار من الشدة والمضرة والانزعاج عن المواطن، حتى استعجلوا النصر لما استنفدوا الصبر، أعلمهم الله أن نصره قريب من أوليائه غير بعيد عن حزبه، فكذلك حالكم إذا عرفتم حالهم وعاقبة أمرهم وما لهم، ومعنى قوله: {تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ} وما يليه في قوله: {إِنَّ اللََّهَ اشْتَرى ََ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوََالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقََاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللََّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ} (5) فكان في ذكر ذلك شحذا لبصائرهم في الجهاد وحملهم على الاقتداء بفرق الصلاح وأمم الأنبياء قبلهم، وتأنيس لهم بالصبر على ما حل بهم، حتى حمدوا عاقبة أمرهم. وأما الآية الثانية في سورة آل عمران وهي: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمََّا يَعْلَمِ اللََّهُ الَّذِينَ جََاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصََّابِرِينَ} فهي خطاب للمسلمين الذين نالهم من قتال المشركين جراحات، قال فيها: {إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ} (6) فقال: أم حسبتم أن تنالوا الجنة ولما تجاهدوا الأعداء من الكفار، فيعلم الله ذلك منكم، ولما تصبروا صبرا زائدا على صبرهم فيرى ذلك من فضلكم عليهم، فإن الجنة لمن فعل ما أمر الله به في الوقت من قتال أهل الكفر وتوطينهم النفس فيه على الصبر، فيخف عليه ما يجد من الألم بما تحقق من الفوز في الآجلة والعاجلة، والحالة
__________
(1) الآية: 16.
(5) سورة: التوبة، الآية: 111.
(2) سورة: البقرة، الآية: 213.
(6) سورة: آل عمران، الآية: 140.(1/38)
التي رد فيها هذه الآية، اقتضت البعث على التشمير للقتال والصبر بعد صبر الأعداء، وقد قيل لبعض العرب: ما كان سبب كثرة ظفركم بأعدائكم؟ فقال: كنا نصبر بعد صبرهم ساعة فيكون ذلك سبب الظفر. وأما الآية الثالثة في سورة براءة وهي: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمََّا يَعْلَمِ اللََّهُ الَّذِينَ جََاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللََّهِ وَلََا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللََّهُ خَبِيرٌ بِمََا تَعْمَلُونَ} فإنها خطاب للمجاهدين من المؤمنين، وتوعدا لمن كان منهم يبقي على أقارب له عند الظفر بهم. لقوله بعده: {يََا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لََا تَتَّخِذُوا آبََاءَكُمْ وَإِخْوََانَكُمْ أَوْلِيََاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمََانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولََئِكَ هُمُ الظََّالِمُونَ قُلْ إِنْ كََانَ آبََاؤُكُمْ} (1) الآية فحذر المنافقين الذين ضاموا المؤمنين في قتال المشركين أن يعلم الله مجاهدتهم أعداءهم، وقد اتخذوا معها وليجة بينهم وبين المشركين «فالوليجة» هي المدخل الذي ذكره الله في الآية بعدها عند وصف المنافقين، فقال: {وَيَحْلِفُونَ بِاللََّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَمََا هُمْ مِنْكُمْ وَلََكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغََارََاتٍ أَوْ مُدَّخَلًا لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ} (2)
فقولك ولج بمعنى: دخل «فالوليجة» المدخل وهي الوسيلة التي يدخل بها الإنسان حريم الإنسان كالباب المفتوح له يفعل فعله، فكأنه كان التوعد يقتضي أن يقال لهم: أظننتم أن تتركوا وما تظهرون من مجاهدتكم أعداءكم، ولم يكن منكم جهاد خالص لله لا تمالئون فيه أبا ولا ابنا، ولا ترعون فيه حميما ولا قريبا، ولا تبقون على ذي معرفة إبقاء تتقربون به رجاء أن يجازوكم عليه، فإن قدرتم أن تتركوا مضامة المسلمين في القتال من غير أن يعلم منكم باطنا عاريا من هذه الحال، فقد أخطأ ظنكم، وأخلف تقديركم، فإنكم مطالبون بالتوفقة بين سركم وجهركم.
الآية الحادية والعشرون
قوله تعالى: {ذََلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كََانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللََّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذََلِكُمْ أَزْكى ََ لَكُمْ وَأَطْهَرُ} (3) وقال في سورة الطلاق (4): {ذََلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كََانَ يُؤْمِنُ بِاللََّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَتَّقِ اللََّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً}.
للسائل أن يسأل فيقول: إذا كان الكاف في ذلك للمخاطب، فيجمع إذا كثروا،
__________
(1) سورة: التوبة، الآيتان: 23، 24.
(3) سورة: البقرة، الآية: 232.
(2) سورة: التوبة، الآيتان: 56، 57.
(4) الآية: 2.(1/39)
ويقال: ذلكم كما قال في الآية الأخيرة من الآيتين، وكما قال: {ذََلِكُمْ أَزْكى ََ لَكُمْ وَأَطْهَرُ} وكما قال في مخاطبة الاثنين: {ذََلِكُمََا مِمََّا عَلَّمَنِي رَبِّي} (1) وكما قال في مخاطبة النساء: {فَذََلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ} (2) فيثنى ويجمع على حسب المخاطب، كما يذكر ويؤنث وينكر كقوله: {قََالَ كَذََلِكَ قََالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ} (3) فما بال قوله تعالى:
{ذََلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كََانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللََّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} في سورة البقرة فوحد الكاف من ذلك مع جمعها في نظيرها في سورة الطلاق؟
الجواب عن ذلك أن يقال: إن الكاف تجيء في الكلام اسما للمخاطب وموضعها نصب، كقولك: رأيتك، وجر كما في غلامك، وتجيء متصلة بالأسماء المبهمة التي للإشارة، وليست باسم، ولكنها للخطاب، ويقاربها معنى آخر وهو تبعيد المشار إليه نحو ذاك وذلك وأولئك، والدليل على أنها ليست اسما، قوله: {فَذََانِكَ بُرْهََانََانِ مِنْ رَبِّكَ} (4) ولو كان اسما مجرورا لما اجتمعت مع نون التثنية كما لا تجتمع معها في قولك: غلاماك، فلا تقول: غلامانك، ولا يجوز أن تكون الكاف بعد المبهمة اسما منصوبا لأنه ناصب، وشيء آخر وهو أن هذه المبهمة معارف ولا تصح إضافتها، والكاف بعدها ليست باسم مضاف إليه، فإذا عريت من الاسمية لم تعر من معنى الخطاب، والمعنى الذي يقاربها مع الخطاب في المبهم أنك تقول: ذا فيكون إشارة إلى قريب، فإذا قلت ذاك صار بالكاف إشارة إلى بعيد، فلما عريت الكاف من الاسمية قصد بها إلى أحد المعنيين اللذين وضعت لهما، كذلك في الأسماء المبهمة، لما قصد بها معنيان الخطاب والتبعيد جاز أن يعرى من أحدهما، وهو الخطاب، ويقتصر بها على معنى التبعيد حسب على حسب قصد القاصد، وإذا جاءت مثناة اللفظ، أو مجموعة على حسب حال المخاطبين، فهي على المعنيين، وتبيين الموضع الذي يقصد فيه التبعيد وحده لغرض من الأغراض، دون الخطاب والتبعيد معا يمكن باستقراء كل لفظ من القرآن جاءت فيه ذلك، والمخاطبون عدة، وتأمل موضعها من تأمل المواضع الأخر التي ثبتت فيها وجمعت، واستنباط حكمه يقتضي في ذلك الموضع استعمالها للتبعيد وحده دون الخطاب، وسنتأمل هذا على استكمال في كل مكان إن شاء الله تعالى.
وجواب آخر عن المسألة: وهو أن كل موضع أفردت فيه الكاف والخطاب
__________
(1) سورة: يوسف، الآية: 37.
(3) سورة: مريم، الآية: 9.
(2) سورة: يوسف، الآية: 32.
(4) سورة: القصص، الآية: 32.(1/40)
لجماعة، فإنما قصد بالكاف المفردة مخاطبة النبي صلّى الله عليه وسلم، ثم العدول عنها إلى مخاطبة أمته، كقوله عز من قائل: {يََا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذََا طَلَّقْتُمُ النِّسََاءَ} (1) فلم يمنعه قوله: {إِذََا طَلَّقْتُمُ}
وهو خطاب الجماعة عن أن يفرد للنبي صلّى الله عليه وسلم خطابا مخصوصا موحدا، وهو قوله: {يََا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذََا طَلَّقْتُمُ النِّسََاءَ} فكذلك قوله: {ذََلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كََانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللََّهِ}
تكون الكاف في ذلك لخطاب النبي صلّى الله عليه وسلم، والكاف في منكم لخطاب لأمته، وكذلك كل موضع جاءت الكاف فيه هذا المجيء.
الآية الثانية والعشرون
قوله تعالى: {فَلََا جُنََاحَ عَلَيْكُمْ فِيمََا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللََّهُ بِمََا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} (2) وقال في آخر هذه العشر: {فَإِنْ خَرَجْنَ فَلََا جُنََاحَ عَلَيْكُمْ فِي مََا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ وَاللََّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (3).
للسائل أن يسأل فيقول: ما الفائدة التي أوجبت اختصاص المكان الأول بالتعريف والباء، فقال: بالمعروف، والمكان الثاني بالتنكير ولفظة «من».
الجواب عن ذلك أن يقال: إن الأول تعلق بقوله: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوََاجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً فَإِذََا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلََا جُنََاحَ عَلَيْكُمْ فِيمََا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} أي: لا جناح عليكم في أن يفعلن في أنفسهن بأمر الله، وهو ما أباحه لهن من التزوج بعد انقضاء العدة، فالمعروف هاهنا أمر الله المشهور، وهو فعله وشرعه الذي شرعه وحث عليه عباده، والثاني المراد به {فَلََا جُنََاحَ عَلَيْكُمْ فِيمََا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ} من جملة الأفعال التي لهن أن يفعلن من تزوج أو قعود، فالمعروف هاهنا فعل من أفعالهن يعرف في الدين جوازه وهو بعض ما لهن أن يفعلنه، ولهذا المعنى خص بلفظة «من» ونكر، فجاء المعروف في الأول معرف اللفظ لما أشرت إليه، وهو أن يفعلن في أنفسهن بالوجه المعروف المشهور الذي أباح الشرع من ذلك، وهو الوجه الذي دل الله عليه وأبانه، فعرف إذ كان معرفة مقصودا نحوه، وكذلك خص بالباء وهي للإلصاق، والثاني كان وجها من الوجوه التي لهن أن يأتينه فأخرج مخرج النكرة لذلك.
__________
(1) سورة: الطلاق، الآية: 1.
(2) سورة: البقرة، الآية: 234.
(3) سورة: البقرة، الآية: 240.(1/41)
الآية الثالثة والعشرون
قوله تعالى: {يَمْحَقُ اللََّهُ الرِّبََا وَيُرْبِي الصَّدَقََاتِ وَاللََّهُ لََا يُحِبُّ كُلَّ كَفََّارٍ أَثِيمٍ} (1)
وقال في سورة النساء (2) في الموضع الأول: {إِنَّ اللََّهَ لََا يُحِبُّ مَنْ كََانَ مُخْتََالًا فَخُوراً الَّذِينَ يَبْخَلُونَ} وفي الموضع الثاني: {وَلََا تُجََادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتََانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللََّهَ لََا يُحِبُّ مَنْ كََانَ خَوََّاناً أَثِيماً} (3) وقال في سورة الحديد (4): {وَاللََّهُ لََا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتََالٍ فَخُورٍ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ}.
للسائل أن يسأل عن المواضع الأربعة، عن اختلاف اللفظين في الموضعين، واتفاقهما في الموضعين، واختصاص الموضعين بالواو، واختصاص الموضعين الآخرين بأن، وأن يسأل فيقول: ذكر في الآية الأولى: «الكفار الأثيم» وفي الآية الثانية: «الخوان الأثيم» وفي الثالثة: «المختال الفخور» فهل في كل مكان معنى يوجب اختصاصه باللفظ المستعمل فيه وما ذلك المعنى؟.
الجواب أن يقال: إن الآية الأولى في الكفار الذين استحلوا ما حرم الله، وعارضوا ما أنزل الله فقالوا: {إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبََا} (5) حتى قال: {فَأُولََئِكَ أَصْحََابُ النََّارِ هُمْ فِيهََا خََالِدُونَ} (5) فعظم كفرهم وسمي كل واحد منهم كفارا على لفظ المبالغة لأن كفارا بعد كافر لمن هو مقيم على الكفر، والكفر عادته كضارب وضراب وخائط وخياط، ثم اتبعه بقوله: {أَثِيمٍ} أي: مبالغ في اكتساب الإثم، وأثيم أبلغ من آثم، فإذا كفر كفرا بعد كفر وأقام عليه، وهو وصف من أخبر عنه بالاستحلال للربا سماه كفارا، فصار أثيما بذلك، وسائر أبنية الأفعال التي تلحقها بالكفر، وأما الوضع الثاني وهو الأول من سورة النساء، فإنه أمرهم بالعبادة وترك الشرك فقال: {وَاعْبُدُوا اللََّهَ وَلََا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً} (7)
أخبرهم بأنهم عبيد والعبد لا يحسن منه الاختيال والفخر لأن الرق والذل يخالفانه، فلذلك عقبه بقوله: {إِنَّ اللََّهَ لََا يُحِبُّ مَنْ كََانَ مُخْتََالًا فَخُوراً} وعقبهما ب {الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النََّاسَ بِالْبُخْلِ} لأنه بعد العبادة أمرهم بالإحسان إلى الوالدين وإعطاء ذي القربى واليتامى والمساكين، فقال: إن الله لا يحب العبد المختال الفخور البخيل، وأما الموضع الثالث وهو الثاني من سورة النساء: {إِنَّ اللََّهَ لََا يُحِبُّ مَنْ كََانَ خَوََّاناً أَثِيماً}
__________
(1) سورة: البقرة، الآية: 276.
(4) الآيتان: 23و 24.
(2) الآيتان: 36و 37.
(5) سورة: البقرة، الآية: 275.
(3) سورة: النساء، الآية: 107.
(7) سورة: النساء، الآية: 36.(1/42)
فلأنه ذكر قبله {وَلََا تُجََادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتََانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللََّهَ لََا يُحِبُّ مَنْ كََانَ خَوََّاناً أَثِيماً} فأخبر عن حالهم فاقتضى تقدم الذكر هذا الوصف.
والموضع الرابع: {وَاللََّهُ لََا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتََالٍ فَخُورٍ} في سورة الحديد جاء بعد نهيه عن تمكين الحزن والأسى من النفس على ما يفوت من أحوال الدنيا، ويفجع به الإنسان من مستفاد النعمى للعلم السابق بأنها عوار مرتجعة، فكذلك إذا خول منه الكثير لا يمرح بحبه ولا يبطر فيه، كما قال: {وَلََا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً} (1) أي: فعل المختال فذم الإفراط في الجزع عند المصيبة والفجيعة والغلو في الفرح والمرح عند العطية وكثرة الشبعة، حتى يخرج عن التواضع مما يحول إلى الكبرياء، فيبطر ويمرح ويفتخر، فعقبه بقوله: {وَاللََّهُ لََا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتََالٍ فَخُورٍ} وإنما عقبهم ب {الَّذِينَ يَبْخَلُونَ} لأن المتقدم عليه {إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقََاتِ وَأَقْرَضُوا اللََّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضََاعَفُ لَهُمْ} (2) فكأنه حثهم على الصدقة وإقراض الله، فإن من لم يفعل ذلك يكون بخيلا، والله لا يحب البخيل، وأما الفرق بين (الواو) و (إن)، فإن الواو في أكثر الأحوال لا تكون أجنبية مما قبلها بخلاف «إن»، فإنها كلمة أجنبية من الكلمتين وضعت لابتداء الكلام، ففي سورة البقرة وسورة الحديد الكلام متصل بعضه ببعض، فذكره بواو حيث قال: {يَمْحَقُ اللََّهُ الرِّبََا وَيُرْبِي الصَّدَقََاتِ وَاللََّهُ لََا يُحِبُّ} فوصلهما بالواو، وكذلك في الحديد {وَلََا تَفْرَحُوا بِمََا آتََاكُمْ وَاللََّهُ لََا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتََالٍ فَخُورٍ} والاختيال والفخر إنما يكون من الفرح، فجمع بينهما بواو، وأما الموضعان الآخران في سورة النساء فقد تم الكلام فيهما لأنه في الأول أمرهم بالعبادة وترك الشرك والإحسان بالوالدين وذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والجار وملك اليمين، وقد تمت هذه الأوامر، ثم ابتدأ بقوله: {إِنَّ اللََّهَ لََا يُحِبُّ مَنْ كََانَ}
كذا وكذا، وكذلك الموضع الثاني لأنه نهى النبي صلّى الله عليه وسلم عن المجادلة عن الذين يختانون أنفسهم فأتم الكلام، ثم قال: {إِنَّ اللََّهَ لََا يُحِبُّ مَنْ كََانَ خَوََّاناً أَثِيماً} فاختص كل مكان بالوصف الذي لاق به والسلام.
مضى الكلام فيما شابه من سورة البقرة مكانا آخر منها أو من غيرها عن اثنين وثلاثين موضعا وقع فيها السؤال.
__________
(1) سورة: الإسراء، الآية: 37.
(2) سورة: الحديد، الآية: 18.(1/43)
3 - سورة آل عمران سبع آيات
الآية الأولى منها
قوله تعالى: {كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآيََاتِنََا فَأَخَذَهُمُ اللََّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللََّهُ شَدِيدُ الْعِقََابِ} (1) وقال في سورة الأنفال (2): {كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَفَرُوا بِآيََاتِ اللََّهِ فَأَخَذَهُمُ اللََّهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللََّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقََابِ}
وبعدها بآية {كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآيََاتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْنََاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنََا آلَ فِرْعَوْنَ وَكُلٌّ كََانُوا ظََالِمِينَ} (3).
للسائل أن يسأل في هذه الآي عن مسائل، أما في الآية الأولى، فعن قوله:
{كَذَّبُوا بِآيََاتِنََا} والعدول بعده عن الإخبار عن النفس بالاسم المضمر إلى الاسم المظهر، وهو قوله: {فَأَخَذَهُمُ اللََّهُ بِذُنُوبِهِمْ} ولم يقل فأخذناهم، وهل هاهنا فائدة توجب العدول عن إجراء الكلام الثاني مجرى الكلام الأول في إسناد الفعل إلى ما أسند إليه فيما قبل؟
والمسألة الثانية: أن يسأل عن الكاف في {كَدَأْبِ} ووجه اتصالها بما قبلها وموضعها من الإعراب لأنها بمعنى «مثل»، والكاف التي يصح مكانها «مثل» محكوم على موضعها برفع أو نصب أو جر.
والمسألة الثالثة: في الآية الثانية ومخالفتها للآية الأولى في إجراء الخبر كله على لفظة واحدة وهي لفظة «الله» لأنه قال تعالى: {كَفَرُوا بِآيََاتِ اللََّهِ فَأَخَذَهُمُ اللََّهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللََّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقََابِ} ولم يقل: كفروا بآياتنا كما قال في الأولى.
__________
(1) سورة: آل عمران، الآية: 11.
(2) الآية: 52.
(3) سورة: الأنفال، الآية: 54.(1/44)
والمسألة الرابعة: في الآية الثالثة وهي أنه قال: {كَذَّبُوا بِآيََاتِ رَبِّهِمْ} ولم يقل:
{بِآيََاتِنََا} كما قال في الأولى، ولا {بِآيََاتِ اللََّهِ} كما قال: في الثانية بل أتى بصفة من صفات الله عز وجل وهي الرب.
والمسألة الخامسة: فعن فائدة التكرار في سورة الأنفال في موضع لا يحجز بينهما إلا آية واحدة.
أما المسألة الأولى فقوله: {كَذَّبُوا بِآيََاتِنََا} وقع الإخبار عن النفس كما يجب في مثله إذا أخبر المتكلم عن نفسه بفعل فعله فأتى بلفظ المضمر دون المظهر، ثم خالف ذلك اللفظ إلى غيره، فقال: {فَأَخَذَهُمُ اللََّهُ}.
الجواب عن هذا أن يقال: العدول عن المنهج الأول المستمر في الإخبار عن النفس إلى لفظ ظاهر هو لفائدة تضمنتها هذه اللفظة من الاحتجاج، وليست هذه الفائدة في لفظة الإضمار، وكانت الآية التي قبلها قد وقع فيها مثل هذا العدول إلى هذه اللفظة للاحتجاج الذي من أجله وقع العدول في هذا المكان إليه، وهو قوله تعالى: {رَبَّنََا إِنَّكَ جََامِعُ النََّاسِ لِيَوْمٍ لََا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللََّهَ لََا يُخْلِفُ الْمِيعََادَ} (1) فقوله: {رَبَّنََا}
يقتضي أن يكون بعده: إنك لا تخلف الميعاد، كما قال: {رَبَّنََا وَآتِنََا مََا وَعَدْتَنََا عَلى ََ رُسُلِكَ وَلََا تُخْزِنََا يَوْمَ الْقِيََامَةِ إِنَّكَ لََا تُخْلِفُ الْمِيعََادَ} (2) فلما قال تعالى في هذا الموضع:
{رَبَّنََا إِنَّكَ جََامِعُ النََّاسِ لِيَوْمٍ لََا رَيْبَ فِيهِ} فكان المعنى: إنك خلقت الدار الأولى للتكليف، ومكنت العباد فيها من الطاعة والعصيان، ورغبت المطيع في الثواب، وخوفت العاصي من العقاب، فوقع منك وعد ووعيد، فرغبت من الوفاء بهما بأنك تجمع الخلائق ليوم الجزاء لأن من خلق وأنعم نعمة حقت بها العبادة، ولزمت من أجلها الطاعة، وهو معنى قولنا: إن الله إذا وعد صدق، فلا خلف في قوله ولا تبديل لكلماته، فلما كان معنى قولنا «الله» معنى الإله، والإله مشتق من أله يأله إلاهة أي: عبد يعبد عبادة، فالإله هو الذي حقت عبادته لما عظمت نعمته، كان العدول إلى هذه اللفظة للاحتجاج بمعناها فائدة لم تكن لتحصل لو قال: {إِنَّكَ لََا تُخْلِفُ الْمِيعََادَ} فلما تقدمت هذه الآية التي وقع العدول فيها عن لفظ إلى لفظ لما قصد من الاحتجاج بمعناه، فكذلك بنيت هذه الآية التي تليها عليها في مثل هذا الحكم، لما ثبت من مثل هذا المعنى، فقال تعالى:
__________
(1) سورة: آل عمران، الآية: 9.
(2) سورة: آل عمران، الآية: 194.(1/45)
{كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآيََاتِ رَبِّهِمْ} فأتى بالضمير الفاعل، وكان يعقل من قوله:
{كَذَّبُوا بِآيََاتِنََا} أي: إنا عرضناهم للإيمان، ومكناهم من الإسلام، وأزحنا العلة، ونصبنا الأدلة، فكذبوا بها، فالذي حقت له العبادة، وعظمت منه النعمة أخذهم بذنوبهم، والله يعاقب الكفار عقوبة تشتد عليهم، ولا تخفف عنهم لما قدموا من العصيان ما استمر مثله، ولم ينقل عنه قدم ولا عقبه بعد الإصرار عليه ندم. فهذه فائدة العدول إلى لفظة «الله» في قوله تعالى: {فَأَخَذَهُمُ اللََّهُ بِذُنُوبِهِمْ} دون قوله: فأخذناهم.
المسألة الثانية أن يسأل عن الكاف في {كَدَأْبِ} ووجه اتصالها بما قبلها وموضعها من الإعراب، لأنها بمعنى «مثل»، والكاف التي يصح مكانها «مثل» محكوم على موضعها برفع، أو نصب، أو جر.
الجواب عنها أن يقال: يجوز أن تكون الكاف متعلقة بقوله: {لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوََالُهُمْ وَلََا أَوْلََادُهُمْ} (1) فيكون موضع الكاف نصبا على معنى المصدر كأنه قال: {لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوََالُهُمْ وَلََا أَوْلََادُهُمْ} مثل ما لم تغن عن آل فرعون أي: إذا جاء عقاب الله لم يدفعه المال والولد، كما لم يدفع ذلك عن آل فرعون والدأب أصله الهمز وهو العادة وما جرى عليه قوم في معاملة، ويجوز أن تكون الكاف متعلقة بمعنى قوله: {وَقُودُ النََّارِ} (1) كأنه قال: وأولئك يصلون النار كما أجرى الله حكمه عادة لآل فرعون، وفيه وجه ثالث، وهو أن يكون موضع الكاف رفعا على أنه خبر ابتداء، كأنه قال: حال هؤلاء مثل حال آل فرعون ودأبهم كدأبهم.
المسألة الثالثة في الآية الثانية هي مخالفتها للآية الأولى في إجراء الخبر كله على لفظة واحدة، وهي لفظة «الله» لأنه قال تعالى: {كَفَرُوا بِآيََاتِ اللََّهِ فَأَخَذَهُمُ اللََّهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللََّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقََابِ} ولم يقل: كفروا بآياتنا كما قال في الأولى.
الجواب عن ذلك أن يقال: إن الآية التي تقدمت هذه هي قوله: {إِذْ يَقُولُ الْمُنََافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هََؤُلََاءِ دِينُهُمْ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللََّهِ فَإِنَّ اللََّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (3) فجرى الخبر في هذه الآية على اللفظ الظاهر وهو {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللََّهِ فَإِنَّ اللََّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} ثم جاء بعدها:
__________
(1) سورة: آل عمران، الآية: 10.
(3) سورة: الأنفال، الآية: 49.(1/46)
{وَلَوْ تَرى ََ إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلََائِكَةُ} (1) ولم يكن فيها خبر عن الله تعالى، وجاءت الآية التي هي {كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ} وفيها إخبار عن الله، فكان بناؤها على الآية التي قبلها أولى، كما كان في الآية التي في سورة آل عمران يقتضي بناؤها على الآية التي قبلها العدول عن لفظ الإضمار إلى لفظ الإظهار، ثم كان لفظ الصريح في معناه احتجاجا عليهم، كما كان في اللفظ الذي عدل إليه في الآيتين المتقدمتين من قوله: {إِنَّ اللََّهَ لََا يُخْلِفُ الْمِيعََادَ}
وقوله: {فَأَخَذَهُمُ اللََّهُ بِذُنُوبِهِمْ}.
المسألة الرابعة في الآية الثالثة هي أنه قال: {كَذَّبُوا بِآيََاتِ رَبِّهِمْ} ولم يقل بآيتنا كما قال في الأولى، ولا بايت الله كما قال في الثانية.
الجواب أن يقال: لما أخبر عن نعمته على عباده، وأن منهم من يغيرها بعصيانه، فيستحق بذلك تغيير النعمة عليه، وهو معنى قوله: {ذََلِكَ بِأَنَّ اللََّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَهََا عَلى ََ قَوْمٍ حَتََّى يُغَيِّرُوا مََا بِأَنْفُسِهِمْ} (2) والمنعم على عباده ربهم لأنهم مربون بنعمه، كان القصد في هذه الآية إلى ذكر تنعيمهم في الدنيا، وتغيير النعمة عليهم فيها، إذ لم يقوموا بحقها بعقاب من عقاب الدنيا مثله بما يفعله بعض الناس ببعض، فكذلك قال:
{فَأَهْلَكْنََاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنََا آلَ فِرْعَوْنَ} فكأنه قال: كذبوا بآيات من أقام نفوسهم شواهد لربوبيته بتربيته إياهم بصنوف نعمته، ونقل الوليد عن أولى حاليه إلى غيرها مما يبلغ به غاية قوته، وسأشرح ذلك في جواب.
المسألة الخامسة: وهي السؤال عن فائدة التكرار في سورة الأنفال في موضعين لا يحجز بينهما إلا آية واحدة، وهذه المسألة قد أجاب عنها بعض أهل النظر بأن قال:
أخبر الله تعالى عن إجراء العادة فيهم بنوعين من العذاب مختلفين، وإذا كان كذلك لم يكن تكرارا لأنه ذكر في الآية الأولى عقوبته إياهم عند الموت في البشارة التي أتتهم بعذاب الحريق، وأنه فعل بهم ذلك كما فعله بآل فرعون، ومن كان قبلهم من الكفار، ثم ذكر في الثانية ما يفعله بهم من شدة عقابه بعد الموت كما فعله بآل فرعون، ومن كان قبلهم من الكفار، وما أجرى عليه العادة في تعذيبه إياهم بعد الموت في القبور وفي غيرها.
الجواب عندي أنه أخبر في الأولى عما عاقبهم به من العذاب الذي لم يملك
__________
(1) سورة: الأنفال، الآية: 50.
(2) سورة: الأنفال، الآية: 53.(1/47)
الناس إيقاعه، ولم يمكن بعضهم من أن يفعل ببعض مثله، وهو ضرب الملائكة وجوههم وأدبارهم عند نزع أرواحهم، وإخبارهم إياهم بمصيرهم إلى عذاب يحرقهم، وفي الثانية أخبر عما أنزله بهم من العذاب الذي مكن الناس من فعل مثله، وهو الإهلاك والإغراق، لأن ذلك مما أقدر الله العباد عليه، فالنوعان هما: العذاب الأول من أحكام الآخرة بعد ظهور أشراط الساعة، والعذاب الثاني من أحكام عذاب الدنيا، والذي يبين ذلك أنه قال في الأولى: {كَفَرُوا بِآيََاتِ اللََّهِ} فأخبر عن أعظم ما ارتكبوه وهو الكفر، وذكر آيات الله وهو الاسم الذي يفيد استحقاق العبادة التي هي مضادة للكفر، كما قال في سورة آل عمران: {كَذَّبُوا بِآيََاتِنََا فَأَخَذَهُمُ اللََّهُ بِذُنُوبِهِمْ} أي: أخذهم من أنعم عليهم ليشكروا لما عصوا وكفروا بذنوبهم التي ارتكبوها، ثم قال: {وَاللََّهُ شَدِيدُ الْعِقََابِ} والمراد به عقاب الآخرة، كما قال تعالى: {وَلَعَذََابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ} (1) ويشهد لذلك قوله في الثانية:
{كَذَّبُوا بِآيََاتِ رَبِّهِمْ} فذكر هذا الاسم دون غيره لأن فيه معنى أنه نعمهم وثبتهم ورباهم وقام بمصالحهم، حتى بلغوا حد التكليف المبلغ الذي قدروا فيه على أداء حق الإنعام، فلما غيروا ما أنعم الله به عليهم من جهته، وصرفوه إلى معصيته وتقووا بنعمته على مخالفته، سلبهم ذلك في الدنيا بأن عجل هلاكهم فأغرقهم، والعقاب المؤخر ذكره في هذه الآية الأخيرة مما يفعله أهل الدنيا بعضهم ببعض، فذكره عقيب إنعامه عليهم، وتغييرهم له بوضع الكفر موضع الشكر، فغير الله سابق الأنعام بيد الانتقام. وكما غيروا غير عليهم، فالعقاب الأول أولى أن يكون المراد به عقاب الآخرة لأن فيه الإخبار بالاحتراق، والثاني هو العذاب بالإغراق. مثل قوله: {ذُوقُوا عَذََابَ الْحَرِيقِ} (2)
وتعقيبه بقوله: {كَفَرُوا بِآيََاتِ اللََّهِ فَأَخَذَهُمُ اللََّهُ بِذُنُوبِهِمْ} وقوله في سورة آل عمران:
{وَأُولََئِكَ هُمْ وَقُودُ النََّارِ كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآيََاتِنََا فَأَخَذَهُمُ اللََّهُ بِذُنُوبِهِمْ} فذكر أنهم وقود النار وذلك في الآخرة، ثم قال: {فَأَخَذَهُمُ اللََّهُ بِذُنُوبِهِمْ}
فذكر الاسم الذي يفيد ما هو حجة عليهم، كما ذكرنا قبل.
وجواب آخر وهو: أنه يجوز أن يكون الأول خبرا عن عادتهم في الأشر والبطر والطغيان عند الاستغناء، والمعنى: جرت عادتهم بمقابلة الإحسان بقبيح العصيان، ويكون الأخير بعد ذكر الله معاقبتهم على فعلهم خبرا عما أجرى الله به العادة في عقاب مثلهم.
وكان معنى الأول: عودوا من أنفسهم عادة، ومعنى الثاني: عودوا إذا فعلوا ذلك عادة،
__________
(1) سورة: طه، الآية: 127.
(2) سورة: الأنفال، الآية: 50.(1/48)
وهي سلب نعمة الدنيا، والنقل إلى عذاب الأخرى والله أعلم بالمراد.
الآية الثانية
منها قوله تعالى: {وَيُعَلِّمُهُ الْكِتََابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرََاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَرَسُولًا إِلى ََ بَنِي إِسْرََائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللََّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتى ََ بِإِذْنِ اللََّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمََا تَأْكُلُونَ وَمََا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ} (1) وقال في سورة المائدة (2): {وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهََا فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي}.
للسائل أن يسأل: فيقول: إذا كان المذكور في الموضعين {كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ}
وصلح أن يعود الضمير إلى مذكر وإلى مؤنث، فيراد: مثل هيئة الطير وهو مذكر، أو يراد: هيئة كهيئة الطير وهي مؤنثة، فما بال ما في آل عمران خص بالتذكير وما في سورة المائدة خص بالتأنيث؟.
الجواب أن يقال: إن الأول الذي ذكر الضمير فيه إنما هو في إخبار الله عز وجلّ به عن عيسى عليه السّلام وقوله لبني إسرائيل: {أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ} وعدد الآيات كلها عليهم منها: أني آخذ من الطين ما أصور منه صورة على هيئة الطير في تركيبه، فأنفخ فيه فينقلب حيوانا لحما قد ركب فيه عظم، وخالط دما، واكتسى ريشا وجناحا كالطائر الحي، والقصد في هذا المكان إلى ذكر ما تقوم به حجته عليهم، وذا أول ما يصور من الطين على هيئة الطير ويكون واحدا يلزم به الحجة، فالتذكير أولى به، والتي في سورة المائدة المخصوصة بتأنيث الضمير العائد إلى ما يلحقه هي في ذكر ما عدد الله من النعم على عيسى عليه السّلام، وما أصحبه إياه من المعجزات، وما أظهر على يده من الآيات وابتداؤها {إِذْ قََالَ اللََّهُ يََا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى ََ وََالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النََّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتََابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرََاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهََا فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي} والإشارة في هذه الآية ليست إلى أول ما يبديه لبني إسرائيل من ذلك محتجا به عليهم، وإنما هي إلى جميع
__________
(1) سورة: آل عمران، الآيتان: 48، 49.
(2) الآية: 110.(1/49)
ما أذن الله تعالى في كونه دلالة على صدقه من قلب الصور التي يصورها من الطين على هيئة الطير، وذلك جمع، والتأنيث به أولى.
مسألة في ذلك: قال بعض أهل النظر في هذه الآية إنما قال: فيصير طائرا بإذن الله وأبرئ الأكمه والأبرص وأحيي الموتى بإذن الله، فذكر «إذن الله» في هذين الموضعين، ولم يذكر: «إذن الله» في قوله: {أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ} ولا في قوله: {فَأَنْفُخُ فِيهِ} ولا في قوله: {وَأُنَبِّئُكُمْ بِمََا تَأْكُلُونَ وَمََا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ} لأن ما وصفه من هذه الأفعال إنما هي أفعاله، ولم تكن أفعالا لله تعالى، فلهذا لم يذكر أن ذلك كان {بِإِذْنِ اللََّهِ} كما ذكر الإذن فيما وصفه من قبل مما فعله الله عز وجلّ دونه، وذلك أنه لم يعن بالإذن أمره له بأن يطيعه في ذلك، وإنما عنى به أن الله تعالى هو الذي فعله، فلهذا جعل ذكر الإذن فصلا بين فعله وفعل الله عز وجلّ انتهى كلامه.
قلت: ذلك سهو منه لأن الذي ذكر أنه لم يذكر معه إذن الله لأنه من فعل عيسى عليه السّلام، فقد نطقت سورة المائدة بخلافه وهو قوله: {وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهََا فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي} فسوى بين الفعلين اللذين ذكر من حكيت كلامه أنهما مختلفان، وأن أحدهما فعل عيسى، والآخر غير فعله، فلهذا لم يذكر معه الإذن، ثم قال تعالى: {وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتى ََ بِإِذْنِي} (1) فذكر الإذن في أربعة مواضع لأفعال دل من ذهب إليه من ذكرت كلامه بذكر الإذن في فعلين من سورة آل عمران على أنهما فعل الله، وما لم يذكر معه الإذن فعل عيسى، وقد رأيت ما اعتد الله سبحانه وتعالى به عليه في سورة المائدة، ينطق أن ما ذكر أنه بغير إذنه هو بإذنه، وإذا كان كذلك وجب أن يكون المعنى في الآية من سورة آل عمران: {أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ} أقلبه بعد التركيب على مثال الطائر لحما ودما وعظما، ثم بالنفخ فيه أجعله حيوانا، وكل ذلك {بِإِذْنِ اللََّهِ} ويكون معنى قوله: {فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللََّهِ} راجعا إلى كل ما ذكر أنه يفعله من مبتدإ قوله: {أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ} فجميع تلك الأفعال واقعة {بِإِذْنِ اللََّهِ} وإذن الله عبارة عن إرادته وخلقه على يده، فسهّل ذلك على عيسى عليه السّلام عند الاحتجاج به وإبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى ثلاثة أفعال لا تكون إلا {بِإِذْنِ اللََّهِ} عز وجلّ، وقوله: {وَأُنَبِّئُكُمْ بِمََا تَأْكُلُونَ وَمََا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ} هذا وإن كان إخبارا من عيسى وفعلا من أفعاله، فإنه لا
__________
(1) سورة: المائدة، الآية: 110.(1/50)
يصح أن يكون إلا {بِإِذْنِ اللََّهِ} وإلا فما يعلم ما يفعلونه في بيوتهم مما غيب عنه إلا {بِإِذْنِ اللََّهِ} عز وعلا للملائكة في اطلاعه عليه وبالله التوفيق.
الآية الثالثة منها
قوله تعالى: {إِنَّ اللََّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هََذََا صِرََاطٌ مُسْتَقِيمٌ} (1) وقال:
في سورة مريم (2) مثله وقال في سورة حم الزخرف (3) حكاية عمن حكى عنه في السورتين: {إِنَّ اللََّهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هََذََا صِرََاطٌ مُسْتَقِيمٌ} فزاد هو في هذه الآية من هذه السورة.
للسائل أن يسأل عما أوجب اختصاصها بهذا التوكيد دون الموضعين الأولين، وهي كلها فيما أخبر الله تعالى به عن عيسى عليه السّلام.
الجواب أن يقال: إنما لم يجب في الأوليين من التوكيد ما أوجبه اختيار الكلام في الموضع الثالث لأن قوله عز وجلّ: {إِنَّ اللََّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ} حكاية عن عيسى بعد ما مضت آيات كثيرة في ذكره وابتداء أمره من مبتدإ الآية التي نزلت في شأن مريم وهي: {وَإِذْ قََالَتِ الْمَلََائِكَةُ يََا مَرْيَمُ إِنَّ اللََّهَ اصْطَفََاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفََاكِ عَلى ََ نِسََاءِ الْعََالَمِينَ} (4) إلى آخر هذا العشر. فلما تناصرت هذه الآيات المتقدمة في ذكره، ودلت على إحداثه وخلقه كانت فيها دلالة على أنه مربوب مصنوع بكثرة الأفعال التي أسندت إليه وجعلت آيات له، وأنه عبد من عبيده، والله ربه ومالكه والقائم بمصالحه، وأنه أصحبه معجزات تدل على صدقه في نبوته، وكذب من قال ببنوته، فصرفتهم تلك الأفعال التي تقدم ذكرها إلى العلم بأنه تعالى ربه، وكذلك في سورة مريم جاء قوله: {وَإِنَّ اللََّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ} بعد ما مضت آيات كثيرة ابتداؤها {وَاذْكُرْ فِي الْكِتََابِ مَرْيَمَ} (5) وبعد عشرين آية مرت في قصتها قال: {وَإِنَّ اللََّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ} فكانت تلك الآية العشرون ناطقة بأن الله ربه، فاكتفى بما طال من الكلام المؤكد لحاله على حقيقتها عن التوكيد الذي جاء في سورة الزخرف، لأنه لم يذكر هذه الآية إلا بعد قوله: {وَلَمََّا جََاءَ عِيسى ََ بِالْبَيِّنََاتِ قََالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُوا اللََّهَ وَأَطِيعُونِ إِنَّ اللََّهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ} (6) فالموضع الذي
__________
(1) سورة: آل عمران، الآية: 51.
(4) سورة: آل عمران، الآية: 42.
(2) الآية: 36.
(5) سورة: مريم، الآية: 16.
(3) الآية: 64.
(6) سورة: الزخرف، الآيتان: 63و 64.(1/51)
خلا من الآيات الكثيرة الدالة على أن الله تعالى ربه وهو عبده لا ابنه، حسن تأكيد الكلام فيه صرفا للناس عما ادعوه من أنه ابن الله إلى أنه عبده، ألا ترى إلى قوله في سورة مريم (1): {مََا كََانَ لِلََّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحََانَهُ إِذََا قَضى ََ أَمْراً فَإِنَّمََا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ وَإِنَّ اللََّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ} واعلم أن التوكيد بقولك هو في مثل هذا الموضع يكون لأحد وجهين، إما أن يريد أنه على الصفة التي جعلها خبرا عنه لا على غيرها، وإما أن يريد أن صاحب هذه الصفة التي جعلت خبرا عنه إنما هو فلان لا غيره، إذا قال القائل:
إن زيدا هو أخوك أي: هو صديقك لا عدوك، أو يريد أن يقول: إنه أخوك لا عمرو، فكذلك قوله تعالى: {إِنَّ اللََّهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ} يحتمل التوكيدين إن يريد أنه هو خالقي والقائم بمصالحي لا غيره من الآلهة التي ترون عبادتها، وإن يريد أنه هو ربي لا أبي كما زعمت النصارى، تعالى الله عن أن يكون له ولد.
الآية الرابعة منها
قوله تعالى: {فَلَمََّا أَحَسَّ عِيسى ََ مِنْهُمُ الْكُفْرَ قََالَ مَنْ أَنْصََارِي إِلَى اللََّهِ قََالَ الْحَوََارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصََارُ اللََّهِ آمَنََّا بِاللََّهِ وَاشْهَدْ بِأَنََّا مُسْلِمُونَ} (2) فحذف النون من «أنا» وقال في سورة المائدة (3): {وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوََارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قََالُوا آمَنََّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنََا مُسْلِمُونَ} بإثبات النونات الثلاث.
للسائل أن يسأل فيقول: لم خص ما في سورة آل عمران «بأنا» وما في سورة المائدة «بأننا؟» والحرفان سواء والتخفيف جائز في الموضعين كما يجوز الإتيان به على الأصل فيهما.
الجواب أن يقال: إن الذي في سورة المائدة جاء على الأصل غير مخفف بالحذف لأنه جاء أول كلام الحواريين في هذا المعنى، ألا تراه خبرا عن الله تعالى أنه قال: {وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوََارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قََالُوا آمَنََّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنََا مُسْلِمُونَ} والذي هو في سورة آل عمران هو حكاية عن عيسى عليه السّلام أنه سألهم عما أقروا به لله تعالى، فقال: {مَنْ أَنْصََارِي إِلَى اللََّهِ قََالَ الْحَوََارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصََارُ اللََّهِ آمَنََّا بِاللََّهِ وَاشْهَدْ بِأَنََّا مُسْلِمُونَ}
__________
(1) الآيتان: 35و 36.
(2) سورة: آل عمران، الآية: 52.
(3) الآية: 111.(1/52)
فكان ذلك منهم إقرارا ثانيا لرسوله عليه السّلام مثل ما أقروا به لله تعالى، والثاني يختار فيه من التخفيف ما لا يختار في الأول لأن الأول قد وفّى العبارة حقها، والثانية معتمدة على ما قبلها وهي مكررة، والعرب تستثقل المعاد ما لا تستثقل غيره، فاختير في سورة آل عمران ما لم يختر في سورة المائدة لذلك. ثم أذكر فصلا في هذه النون (مسألة) اعلم أن النون التي حذفت من «أنا» غير النون التي حذفت من «إني»، وقد جاء القرآن بهما جميعا، قوله تعالى: {إِنِّي آنَسْتُ نََاراً} (1) و {إِنِّي أَنَا رَبُّكَ} (2)
وجاء على الأصل بعده: {فَاسْتَمِعْ لِمََا يُوحى ََ إِنَّنِي أَنَا اللََّهُ لََا إِلََهَ إِلََّا أَنَا فَاعْبُدْنِي} (3)
وقال {إِنََّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ} (4) {وَإِنََّا لَفََاعِلُونَ} (5) وقال: {وَإِنَّنََا لَفِي شَكٍّ مِمََّا تَدْعُونََا إِلَيْهِ مُرِيبٍ} (6) في قصة صالح عليه السّلام، ومن لم يرتض بهذا العلم يتوهم أن النون التي خفف بحذفها «إني» هي التي خفف بحذفها «أنا» وليس الأمر كذلك لأن التي حذفت من «إني» هي نون العماد اللاحقة مع الياء بدلالة حذفها من نظائرها إذا قلت: لعلي في لعلّني، وأما النون التي في «أنا» من قولك: أننا فإنها مع الألف اسم المخبرين عن أنفسهم، فلا تسقط سقوط التي تجيء مع الياء، فإذا قلت: «أنا»، فالنون الساقطة هي الأخيرة من «أن» دون النون اللاحقة مع الضمير بها، فاعرفه إن شاء الله تعالى.
الآية الخامسة منها
قوله تعالى: {وَمََا جَعَلَهُ اللََّهُ إِلََّا بُشْرى ََ لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلََّا مِنْ عِنْدِ اللََّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} (7) وقال في سورة الأنفال (8): {وَمََا جَعَلَهُ اللََّهُ إِلََّا بُشْرى ََ وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلََّا مِنْ عِنْدِ اللََّهِ إِنَّ اللََّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}.
للسائل أن يسأل فيقول: ما في الآية الأولى مما يوجب أن يأتي فيها بقوله:
{لَكُمْ} وليس في الآية الثانية؟ وما بال قوله: {بِهِ} قد أخر في الآية الأولى عن قوله {قُلُوبُكُمْ} وقدم في الآية الأخرى عليه؟.
الجواب أن يقال: أما قوله: {لَكُمْ} في هذه الآية وحذفه من الثانية مع العلم بأن
__________
(1) سورة: طه، الآية: 10.
(5) سورة: يوسف، الآية: 61.
(2) سورة: طه، الآية: 12.
(6) سورة: هود، الآية: 62.
(3) سورة: طه، الآيتان: 13و 14.
(7) سورة: آل عمران، الآية: 126.
(4) سورة: القصص، الآية: 7.
(8) الآية: 10.(1/53)
الله تعالى جعل إخباره بإنزال الملائكة لنصرهم بشارة لهم، وأن (لكم) مضمرة في سورة الأنفال كما هي مظهرة في هذه السورة، فلأن الأولى جاءت على الأصل، والثانية قد تقدمتها {لَكُمْ} فأغنت عن إعادتها بلفظها ومعناها، وهي في قوله: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجََابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلََائِكَةِ مُرْدِفِينَ} (1) فلما قال: {فَاسْتَجََابَ لَكُمْ} علم أنه جعل بشرى لهم فأغنت {لَكُمْ} الأولى بلفظها ومعناها عن الثانية، وفي الآية الأولى لم يتقدم ما يقوم هذا المقام، فأتى بقوله: {لَكُمْ} على الأصل. وأما تأخير {بِهِ} بعد قوله: {قُلُوبُكُمْ} فلأنه لما أخر الجار والمجرور في الكلام الأول، وهو قوله:
{وَمََا جَعَلَهُ اللََّهُ إِلََّا بُشْرى ََ لَكُمْ} وعطف الكلام الثاني عليه، وقد وقع فيه جار ومجرور، وجب تأخيرها في اختيار الكلام ليكون الثاني كالأول في تقديم ما الكلام أحوج إليه وتأخير ما قد يستغنى عنه، وأما تقديم {بِهِ} في الآية الثانية، فلأن الأصل في كل خبر يصدر بفعل أن يكون الفاعل بعده، ثم المفعول والجار والمجرور، وقد يقدم المفعول على الفاعل إذا كان اللبس واقعا فيه وأريد إزالته عنه كما تقول: ضرب عمرا زيد لا محمدا لأن المخاطب عنده أن المضروب محمد، ولا خلاف بين المتخاطبين في أن الضارب زيد، فهو يبدأ بما هو أهم، وعنايته ببيانه أتم، وكذلك الجار والمجرور بمنزلة المفعول به في التقديم والتأخير وشبههما، وفي هذا الموضع إذ لم يعرض في اللفظ من التوفقة ما يوجب إجراء الكلام على الأصل، كما كان في سورة آل عمران، فإن المعتمد بتحقيقه عند المخاطبين إنما هو الإمداد بالملائكة، وهو الذي أخبر الله تعالى عنه أنه لم يجعله {إِلََّا بُشْرى ََ} فوجب أن يقدم في الكلام الثاني، وهو المضمر بعد الباء في قوله تعالى: {بِهِ}
على الفاعل فقال تعالى: {وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ} وفي هذه الآية مسألة أخرى وهي أن يقال: كيف اختلف الإخبار عن الله تعالى بالعز والحكمة في الآيتين؟ فجاء في سورة آل عمران مجيء الصفة، فقال تعالى: {وَمَا النَّصْرُ إِلََّا مِنْ عِنْدِ اللََّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} وجاء في سورة الأنفال بلفظ خبر ثان مستأنف فقال: {وَمَا النَّصْرُ إِلََّا مِنْ عِنْدِ اللََّهِ إِنَّ اللََّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}.
الجواب أن يقال: القصد إعلام المخاطبين أن النصر ليس من قبل الملائكة، ولا من جهة العدد والعدة وفضل القوة، ولكنه من عند القادر الذي لا يغلب ولا يمنع عما يريد فعله، والحكيم الذي يضع النصر موضعه، والآية التي في سورة الأنفال إنما هي في
__________
(1) سورة: الأنفال، الآية: 9.(1/54)
قصة يوم بدر وبيّن الله ذلك فيه بلفظ جعله كالعلة لكون النصر بيده، فكأنه قال في المعنى: النصر ليس {إِلََّا مِنْ عِنْدِ اللََّهِ الْعَزِيزِ} الذي لا يمنع عما يريد فعله، و {الْحَكِيمِ} الذي يضع النصر في موضعه، ففصل ذلك في خبرين على الأصل الواجب في توفية كل معنى حقه من البيان، والآية التي في سورة آل عمران هي في قصة يوم أحد وهو بعد يوم بدر، وكان هذا البيان قد حصل فيما جعل خبرا عن النصر في اليوم الأول، فاقتصر من ذكر مثله في اليوم الثاني على خبر واحد يجري عليه معنى الخبر الثاني مجرى الوصف لاختصار المعنى عن البسط اعتمادا على ما فصل في الخبر عن الأول، فكان الاختصار بالثاني أليق وكان الثاني له أجمل فخص كل موضع بما رأيت لما ذكرت والله أعلم.
الآية السادسة منها
قوله تعالى: {أُولََئِكَ جَزََاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنََّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهََارُ خََالِدِينَ فِيهََا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعََامِلِينَ} (1) وقال في سورة العنكبوت (2): {خََالِدِينَ فِيهََا نِعْمَ أَجْرُ الْعََامِلِينَ}.
للسائل أن يسأل عن اختصاص ما في هذه السورة بالواو من قوله: {وَنِعْمَ}
وإخلائها في سورة العنكبوت منها.
الجواب إن الآية من هذه السورة مبنية على تداخل الأخبار لأن أولها: {أُولََئِكَ جَزََاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنََّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهََارُ خََالِدِينَ فِيهََا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعََامِلِينَ} ف. «أولئك» مبتدأ و «جزاؤهم» مبتدأ ثان و «مغفرة» خبر المبتدأ الثاني، وهو مع خبره خبر عن المبتدأ الأول، والجزاء هو الأجر فكأنه قال: أولئك أجزيهم على أعمالهم محو ذنوبهم وإدامة نعمهم وهذا الأجر مفضل على كل أجر يعطاه عامل على عمله، فنسقت الأخبار بعضها على بعض للتنبيه على النعم التي هديت لرجاء الراجين وأكملت بها منية المتمنين، والخبر إذا جاء بعد خبر في مثل هذا المكان الذي تفضل فيه المواهب المرغب فيها فحقه أن يعطف على ما قبلها بالواو، كقولك: هذا جزاء كذا وكذا، أي: هو ترك المؤاخذة بالذنب والتنعيم في جنة الخلد وتفضيله على كل جزاء جوزي به عامل وذلك تشريف وكرامة.
وأما الجواب عن الآية التي في سورة العنكبوت: فإن ما قبلها مبني على أن يدرج
__________
(1) سورة: آل عمران، الآية: 136.
(2) الآية: 58.(1/55)
الكلام فيه على جملة واحدة وهي: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصََّالِحََاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفاً} (1) فقوله: {وَالَّذِينَ آمَنُوا} مبتدأ وقوله: {لَنُبَوِّئَنَّهُمْ} في موضع خبره وهذا الخبر يتصل به مفعولان الأول «هم» والثاني «غرفا»، وغرفا نكرة موصوفة بقوله: {تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهََارُ} وقوله: {خََالِدِينَ فِيهََا} حال من التبوئة، فلما جعلت هذه الأشياء كلها في درج كلام واحد وهي جملة ابتداء وخبر واحتمل {نِعْمَ أَجْرُ الْعََامِلِينَ} أن يجيء بالواو وأن يجيء من دونها اختير مجيئها بغير واو لتشبه ما تقدم من صفة بخبر لا على سبيل عطف ونسق بها، ويحتمل أن يكون في موضع خبر مبتدأ، كأنه قال: ذلك {نِعْمَ أَجْرُ الْعََامِلِينَ} ويكون قوله «ذلك» إشارة إلى ذكر الله سبحانه وتعالى ومن إسكانهم الجنة فتجري بلا واو مجرى ما هو من تمام الكلام الأول كقوله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصََّالِحََاتِ فِي رَوْضََاتِ الْجَنََّاتِ لَهُمْ مََا يَشََاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذََلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ ذََلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللََّهُ عِبََادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصََّالِحََاتِ} (2) فقوله «ذلك» وإن انقطع عن الأول في اللفظ فإنه متصل به من طريق المعنى وكأنه قال: لهم ما يشاءون عند ربهم مشار إليه بأنه الفضل الكبير. وقوله: {نِعْمَ أَجْرُ الْعََامِلِينَ} أي: ذاك نعم أجر العاملين، والمعنى المشار إليه يتفضل على أجور العاملين، وإذا كان الأمر على ما ذكرت في الآيتين لم يلق بكل واحدة منهما إلا ما جاءت به فاعرفه.
الآية السابعة منها
قوله تعالى: {فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جََاؤُ بِالْبَيِّنََاتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتََابِ الْمُنِيرِ} (3) وقال في سورة الملائكة: {وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ جََاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنََاتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتََابِ الْمُنِيرِ} (4).
للسائل أن يسأل عن اختلاف الآيتين في إدخال الباء في قوله: {وَبِالزُّبُرِ} في موضع وحذفها منها في موضع في قراءة الأكثرين.
الجواب أن يقال: إن الزبر والكتاب في سورة آل عمران وقعا في كلام بني على الاختصار والاكتفاء فيه بالقليل عن الكثير مع وضوح المعنى، فكان أول ذلك قوله: {فَإِنْ كَذَّبُوكَ} والتقدير: وإن يكذبوك، فوضع الماضي الذي هو أخف موضع المستقبل الذي
__________
(1) سورة: العنكبوت، الآية: 58.
(3) سورة: آل عمران، الآية: 184.
(2) سورة: الشورى، الآيتان: 22و 23.
(4) سورة: فاطر، الآية: 25.(1/56)
هو أثقل بدلالة «إن» التي للشرط وحصول الخفة في اللفظ، ثم إن الفعل الذي جاء في جواب الشرط بني للمفعول ولم يسم فاعله، فكان الاختيار أن يجعل آخر الكلام كأوله بالاكتفاء بما قل عما كثر منه مع وضوح المعنى، والآية التي في سورة الملائكة صدرت بما يخالف ذلك في الموضعين لأن الشرط جاء فيها على الأصل بلفظ المستقبل وهو {وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ} وجاء الجزاء أيضا مبنيا للفاعل ولم يحذف منه ما حذف من الأول، فلما قصد توفية اللفظ حقه أتبع آخر الكلام أوله في توفية كل معمول فيه عامله وهي حروف الجر التي استوفتها المجرورات، فلذلك اختلفت الآيتان والله أعلم.
مضت سورة آل عمران عن سبع آيات وثلاث عشرة مسألة.(1/57)
مضت سورة آل عمران عن سبع آيات وثلاث عشرة مسألة.
4 - سورة النساء
الآية الأولى منها
قوله تعالى: {إِنَّ اللََّهَ لََا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مََا دُونَ ذََلِكَ لِمَنْ يَشََاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللََّهِ فَقَدِ افْتَرى ََ إِثْماً عَظِيماً} (1) وقال في هذه السورة: {إِنَّ اللََّهَ لََا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مََا دُونَ ذََلِكَ لِمَنْ يَشََاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللََّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلََالًا بَعِيداً} (2).
للسائل أن يسأل عن فائدة تكرار هذه الآية، وله أن يسأل فيقول: لم كان جواب من يشرك بالله في الآية الأولى: {فَقَدِ افْتَرى ََ إِثْماً عَظِيماً} وجوابه في الآية الثانية {فَقَدْ ضَلَّ ضَلََالًا بَعِيداً}؟
الجواب عن التكرار فلأن هذه الصورة لما اشتمل صدرها على ذكر الأحكام وانتهى إلى ذكر التيمم ثم انقطع ذلك بقوله: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتََابِ} (3)
وهم اليهود الذين أوتوا التوراة فحرفوا ما فيه دلالة على صحة نبوة محمد صلّى الله عليه وسلم إلى ما يدعو إلى ترك الإيمان به، ثم توعدهم إن أقاموا على الكفر بقوله: {يََا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتََابَ آمِنُوا بِمََا نَزَّلْنََا مُصَدِّقاً لِمََا مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً} (4) أتبع ذلك ما دل به على عظم الكفر الذي هو شرك وذلك في أمر اليهود، ويحتمل أن يقال: إنما سماهم مشركين لما قالوا {عُزَيْرٌ ابْنُ اللََّهِ} (5) ومن ادعى لله ابنا فهو مشرك، والموضع الثاني تقدمت فيه آية هي قوله: {وَمَنْ يُشََاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مََا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى ََ وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مََا تَوَلََّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسََاءَتْ مَصِيراً} (6) ومعناه: من عادى الرسول بعد ما ظهرت آياته وتظاهرت دلالاته واتبع سبيل الكفار فإن الله يوليه ما تولى من
__________
(1) سورة: النساء، الآية: 48.
(4) سورة: النساء، الآية: 47.
(2) سورة: النساء، الآية: 116.
(5) سورة: التوبة، الآية: 30.
(3) سورة: النساء، الآية: 44.
(6) سورة: النساء، الآية: 115.(1/58)
الأصنام التي عبدها بأن يكله إليها ليستنصر بها ولا نصر عندها، وهؤلاء مشركو العرب، فدل على أن من تقدم ذكرهم وإن كانوا أوتوا الكتاب كهؤلاء المشركين الذين لا كتاب لهم كفرهم ككفرهم وسبيلهم كسبيلهم، فأعاد ذكر عظم الشرك توعدا لصنف آخر من الكفار لم يدخلوا في جملة من تقدم ذكرهم ليعلم أنهم وإن خالفوهم دينا فقد وافقوهم كفرا، فهذه فائدة التكرار، فأما إتباع الأول {فَقَدِ افْتَرى ََ إِثْماً عَظِيماً} فلأن من أريد بالآية الأولى قوم عرفوا صحة نبوة النبي صلّى الله عليه وسلم من الكتاب الذي هو معهم فكذبوا وافتروا ما لم يكن عندهم، فكان كفرهم من هذا الوجه الذي أضلوا به أتباعهم، وأما إتباع الثاني {فَقَدْ ضَلَّ ضَلََالًا بَعِيداً} فلأن من أريد به مشركو العرب وهم لم يتعلقوا بما يهديهم ولا كتاب في أيديهم فيرجعوا إليه فيما يتشككوا فيه، فقد بعدوا عن الرشد وضلوا أتم الضلال، فاقتضى المعنيون بالأول ما ذكره الله تعالى والمعنيون بالثاني ما أتبعه إياه وإن كان الفريقان مقترفين {إِثْماً عَظِيماً} وضالين {ضَلََالًا بَعِيداً} والله أعلم.
الآية الثانية منها
قوله تعالى: {وَإِنِ امْرَأَةٌ خََافَتْ مِنْ بَعْلِهََا نُشُوزاً أَوْ إِعْرََاضاً فَلََا جُنََاحَ عَلَيْهِمََا أَنْ يُصْلِحََا بَيْنَهُمََا صُلْحاً وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللََّهَ كََانَ بِمََا تَعْمَلُونَ خَبِيراً} (1) وقال بعده: {وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسََاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلََا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهََا كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللََّهَ كََانَ غَفُوراً رَحِيماً} (2).
للسائل أن يسأل عن مسألتين في ذلك. إحداهما في الآية الأولى: {وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا} وفي الثانية: {وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا} والثانية عن ختم الآية الأولى بقوله: {فَإِنَّ اللََّهَ كََانَ بِمََا تَعْمَلُونَ خَبِيراً} والثانية بقوله: {فَإِنَّ اللََّهَ كََانَ غَفُوراً رَحِيماً}.
الجواب عن الأولى أن معناها: إن خافت امرأة من زوجها ترفعا ونبوّا لملل أو إعراضا لموجدة أو بذل فلا إثم في أن يتصالحا على أن تترك له من مهرها أو بعض أثاثها ما يتراضيان به، {وَالصُّلْحُ خَيْرٌ} من أن يقيما على التباعد أو يصيرا إلى القطيعة ونفس
__________
(1) سورة: النساء، الآية: 128.
(2) سورة: النساء، الآية: 129.(1/59)
كل واحد منهما تشح بما لها قبل صاحبها، وقيل: المراد شحّهنّ على النقصان من أموالهن وأنصبائهن من أزواجهن، وهذا يقتضي مخاطبة الأزواج بمجانبة القبيح وإيثار الحسنى في معاملتهن، فبعث الله تعالى في هذا المكان على فعل الإحسان، فأما الآية الثانية فإنه جاء بعد قوله: {وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسََاءِ} في محبتهن والشهوة لهن لأن ذلك ليس إليكم وإن حرصتم على التسوية بينهن {فَلََا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ} بأن تجعلوا كل مبيتكم وخلوتكم وجميل عشرتكم وسعة نفقتكم عند التي تشتهونها دون الأخرى فتبقى تلك معلقة لا ذات زوج ولا مطلقة، فاقتضى هذا الموضع أن يحث الأزواج على إصلاح ما كان بينهم من الانصباب إلى الواحدة دون ضرّاتها بالتوبة مما سلف واستئناف ما يقدرون عليه من التسوية ويملكونه من الخلوة وسعة النفقة وحسن العشرة فقال: {وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا}.
جواب المسألة الثانية: فقد بان ووضح بما ذكرت وبينت أنه لما قال: إن جافيتم القبيح وآثرتم الإحسان فالله به عالم وعليه مجاز وهذا قوله: {فَإِنَّ اللََّهَ كََانَ بِمََا تَعْمَلُونَ خَبِيراً} ولما عذر الأزواج في بعض الميل، وهو الذي لا يملكون خلافه حثهم على ما يطيقون فعله بما ذكرت وعلى إصلاح ما سلف منهم بما بينته، فإن الله يغفر لمن يقلع منهم عن قبائحه ويؤثر بعدها الحسنى من أفعاله وهذا قوله: {فَإِنَّ اللََّهَ كََانَ غَفُوراً رَحِيماً}.
الآية الثالثة منها
قوله تعالى: {وَإِنْ يَتَفَرَّقََا يُغْنِ اللََّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ وَكََانَ اللََّهُ وََاسِعاً حَكِيماً وَلِلََّهِ مََا فِي السَّمََاوََاتِ وَمََا فِي الْأَرْضِ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتََابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيََّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللََّهَ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلََّهِ مََا فِي السَّمََاوََاتِ وَمََا فِي الْأَرْضِ وَكََانَ اللََّهُ غَنِيًّا حَمِيداً وَلِلََّهِ مََا فِي السَّمََاوََاتِ وَمََا فِي الْأَرْضِ وَكَفى ََ بِاللََّهِ وَكِيلًا} (1).
للسائل أن يسأل في هذه الآيات عن مسألتين:
إحداهما عن تكرار قوله: {وَلِلََّهِ مََا فِي السَّمََاوََاتِ وَمََا فِي الْأَرْضِ} ثلاث مرات.
__________
(1) سورة: النساء، الآيات: 132130.(1/60)
والثانية: عما يتبع المكرر في قوله في آية: {وَكََانَ اللََّهُ غَنِيًّا حَمِيداً} وفي أخرى {وَكَفى ََ بِاللََّهِ وَكِيلًا} والأولى لم يتبعها مثل ما أتبع الوسطى والأخيرة.
الجواب عن المسألة الأولى وهي التكرار أنه إذا أعيد الكلام لأسباب مختلفة لم يسم تكرارا، فالأول بعد الأذن للرجل والمرأة في أن يتفرقا بطلاق وتسليتهما على الوصلة بأنه هو الذي يغني المحتاج منهما، وإن كان قبل ذلك أغنى كل واحد منهما بصاحبه، فإنهما بعد الفرقة يرجوان الغنى من عنده لأنه واسع الرزق وواسع المقدرة {فَإِنَّ لِلََّهِ مََا فِي السَّمََاوََاتِ وَمََا فِي الْأَرْضِ} وأرزاق العباد من جملتها.
وأما الثاني فإنه بعد قوله: {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتََابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيََّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللََّهَ} أي: اتقوه فإنه واسع النعمة والفضل والرحمة وقد أوسعكم منها ووصاكم ومن قبلكم بتقواه والاستجارة بطاعته من عقوبته، فإنكم إن عصيتم وكفرتم لم يكن بالله حاجة إلى طاعتكم، وإنما أنتم تحتاجون إليها والله غني حميد، فوجب عليهم طاعته لأن له ما في السموات وما في الأرض وهو غني بنفسه حميد لأنه جاد بما استحمد به إلى خلقه من الإحسان إليهم والإنعام عليهم فالمقتضى لذكره (له ما فى السماوات وما فى الأرض) في الثاني غير المقتضى له في الأول.
وأما الثالث فلأنه لما ذكر أنه أوجب طاعته على من قبلهم وعليهم لأنه ملك ما في السموات وما في الأرض، وأنعم عليهم من ذاك ما حقت به العبادة اقتضى ذاك أن يخبرهم عن دوام هذه القدرة له فكأنه قال: وله ذلك دائما وكفى به له حافظا، أي: لا زيادة على كفايته في حفظ ما هو موكول إلى تدبيره، والوكيل القيم بمصالح الشيء وقيل:
هو الحافظ وما قام الله بمصالحه فهو حافظه فقد بان أن ذلك ليس بتكرار.
الجواب عن المسألة الثانية من اتباعه قوله: {وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلََّهِ مََا فِي السَّمََاوََاتِ وَمََا فِي الْأَرْضِ وَكََانَ اللََّهُ غَنِيًّا حَمِيداً} فقد تضمنه الجواب عما ذكرت من التكرار وهو كقوله: {إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللََّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ} (1) أي: أنتم محتاجون إلى طاعته ولم يقتض ما تقدم غير هذا الوصف، ولما اتصف تعالى بالغنى وكان الغني إذا لم يجد من غناه مذموما والله تعالى قد عم بعطائه المستحق وغيره من الكفار كان الغني الحميد وأما قوله بعد الثالث: {وَكَفى ََ بِاللََّهِ وَكِيلًا} فإنه لما كان المعنى أنه دائم القدرة أخبر أن ما يحفظه مما في السموات وما في الأرض من يكتفي به حافظا إذ ملكه عليه دائم وتدبيره فيه قائم.
__________
(1) سورة: الزمر، الآية: 7.(1/61)
الآية الرابعة منها
قوله تعالى: {يََا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوََّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدََاءَ لِلََّهِ وَلَوْ عَلى ََ أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوََالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً فَاللََّهُ أَوْلى ََ بِهِمََا فَلََا تَتَّبِعُوا الْهَوى ََ أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللََّهَ كََانَ بِمََا تَعْمَلُونَ خَبِيراً} (1)
وقال في سورة المائدة (2): {يََا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوََّامِينَ لِلََّهِ شُهَدََاءَ بِالْقِسْطِ وَلََا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلى ََ أَلََّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى ََ وَاتَّقُوا اللََّهَ إِنَّ اللََّهَ خَبِيرٌ بِمََا تَعْمَلُونَ}.
للسائل أن يسأل فيقول ما الفائدة في تقديم قوله: {بِالْقِسْطِ} على قوله:
{شُهَدََاءَ لِلََّهِ} في الآية الأولى وتأخيره عنه في الآية الثانية؟.
الجواب أن يقال: إن الآية الأولى في الشهادة أمر عز وجلّ من عنده شهادة أن يقوم بالحق فيها ويشهد لله على كل من عنده حق لغيره يمنعه إياه حتى يصل إليه فقال: قوموا بالقسط، أي: بالعدل في حال شهادتكم لله على كل ظالم حتى يؤخذ الحق منه، فقدم القسط لأنه من تمام «قوّامين» إذ فعله يتعدى إلى مفعوله بالباء وأما «شهداء» فإنها إذا كانت حالا من الضمير في «قوامين» فإن حقها أن تجيء بعد تمام «قوّامين»، وكذلك إن كانت خبرا ثانيا وإن كانت صفة لقوامين فإن حقها أن تجيء بعده. وأما قوله: {لِلََّهِ} بعد {شُهَدََاءَ} فلتعلقه بالشهادة كأنه قال: كونوا شهداء لله لا للهوى والميل إلى ذوي القربى، والدليل على ذلك أنه قال: {وَلَوْ عَلى ََ أَنْفُسِكُمْ} وشهادة الإنسان على نفسه أن يقر بالحق لخصمه، أي: افعلوا ذلك لله وإن كان عليكم أو على الوالدين وذوي القربى منكم
وقوله عز وجلّ: {إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً} أي: إن يكن من عليه الحق على أحد هذين الوصفين فانتهوا في أمره إلى ما أمر الله عز وجلّ به ولا يحملنكم الإشفاق من فقره على محاباته ولا يدعونكم غنى الغني إلى مداراته فإن الله أولى بالنظر لهما ولجميع عباده منهم لأنفسهم ولغيرهم وقوله: {فَلََا تَتَّبِعُوا الْهَوى ََ أَنْ تَعْدِلُوا} أي: كراهة أن تعدلوا، وإن تلووا ألسنتكم بالشهادة ولم تفصحوا بها ولم تقوموا بما يجب عليكم فيها أو تتركوا ما يلزمكم منها فإن الله عليم بعملكم وهو مجازيكم على فعلكم وقيل: {تَلْوُوا} بمعنى تمطلوا من لويت الغريم: إذا دفعته، كأنه قال: إن تدفعوا الشهادة ولم تؤدوها وقت الحاجة إليها،
__________
(1) سورة: النساء، الآية: 135.
(2) الآية: 8.(1/62)
ومن قرأ «تلوا» بضم اللام وواو واحدة، فالمعنى: أن تلوا أمر الناس من الولاية أو تتركوه، ويجوز أيضا أن يكون الأصل «تلووا»، فأبدلت من الواو المضمومة همزة ثم خففت بإلقاء حركتها على اللام وحذفها، وإن كان هذا مستضعفا في الهمزة العارضة
وأما الآية التي في سورة المائدة فإن فحواها يدل على أنها للولاة، فقال: {كُونُوا قَوََّامِينَ لِلََّهِ} لا لنفع ويكون {بِالْقِسْطِ} متعلقا بقوامين أي: كونوا قوامين لأجل طاعة الله بالعدل والحكم فيه في حال كونكم شهداء أي: وسائط بين الخالق والخلق، أو بين النبي صلّى الله عليه وسلم وأمته كما قال: {وَكَذََلِكَ جَعَلْنََاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدََاءَ عَلَى النََّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً} (1) فالقائم بتنفيذ أحكام الله بين خلقه إذا وفى بما عليه من حقه فهو شهيد على من وليه والرسول صلّى الله عليه وسلم شهيد عليه بما نقله إليه، والدليل على أن الخطاب لولاة الأحكام قوله بعده: {وَلََا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلى ََ أَلََّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى ََ} وذلك عام في المخالفين من أهل الأديان والموافقين ممن حصلت لهم بغضة وعداوة، أي: اعدلوا على الولي والعدو عدلا واحدا، وقيل في هذه الآية إنها أيضا في الشهادة بالحقوق وقيل في الشهادة لأمر الله بأنه حق وقيل معناه: قوموا في كل ما يلزمكم القيام به من الأمر بالمعروف والعمل به والنهي عن المنكر وتجنبه.
الآية الخامسة منها
قوله تعالى: {إِنْ تُبْدُوا خَيْراً أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللََّهَ كََانَ عَفُوًّا قَدِيراً} (2) وقال في سورة الأحزاب (3): {إِنْ تُبْدُوا شَيْئاً أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللََّهَ كََانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً}.
للسائل أن يسأل عن الآية الأولى: لم خص فيها «خير» ولم عم في الثانية بلفظ «شيء»؟.
الجواب أن يقال: إنما خص في هذا الموضع الخير بالابتداء لأنه بإزاء السوء الذي قال فيه: {لََا يُحِبُّ اللََّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلََّا مَنْ ظُلِمَ} (4) والمعنى: لا يحب الله أن يجهر بالقول السّيّئ غير المظلوم وهو أن يدعو على من ظلمه أو أن يخبر بظلمه له أو أن ينتصر منه بسوء مقاله فيه، فقال: إن أبديتم ثناء وذكرا جميلا لمن يستحقهما أو
__________
(1) سورة: البقرة، الآية: 143.
(3) الآية: 54.
(2) سورة: النساء، الآية: 149.
(4) سورة: النساء، الآية: 148.(1/63)
أخفيتموهما أو سكتّم عمن أساء إليكم بالعفو عنه، فإن الله مع قدرته كثير العفو عن خليقته، فاقتضت في هذا المكان المقابلة أن يجعل بإزاء السوء الخير. وأما في الآية الثانية التي في سورة الأحزاب فلأن قبلها تحذيرا من إضمار ما لا يحسن إضماره في قوله عز وجلّ:
{وَاللََّهُ يَعْلَمُ مََا فِي قُلُوبِكُمْ} (1) وقوله: {وَإِذََا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتََاعاً فَسْئَلُوهُنَّ مِنْ وَرََاءِ حِجََابٍ ذََلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ} (2) فاقتضى هذا المكان العموم فقال تعالى: {إِنْ تُبْدُوا} مما حذرتكم {شَيْئاً أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللََّهَ كََانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً} ولم يزل عليما بما يكون كعلمه بما كان.
انقضت سورة النساء عن خمس آيات وسبع مسائل.
__________
(1) سورة: الأحزاب، الآية: 51.
(2) سورة: الأحزاب، الآية: 53.(1/64)
5 - سورة المائدة
الآية الأولى منها
قوله تعالى: {وَعَدَ اللََّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصََّالِحََاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ} (1) وقال في آخر سورة الفتح (2): {وَعَدَ اللََّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصََّالِحََاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً}.
للسائل أن يسأل فيقول: لم رفع {مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ} في الآية الأولى ونصبها في الثانية؟.
الجواب أن يقال: لقوله: {لَهُمْ} في الأولى و {مِنْهُمْ} في الثانية فائدة، وذلك أنه لما قال في الأولى: {وَعَدَ اللََّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصََّالِحََاتِ} علم أنهم وعدوا بما هو حق لهم فعدل عن ذكر المفعول إلى جملة تضمنت معناه: والجملة ابتداء وخبر، وهي في موضع مفرد منصوب كأنه قال: وعد الله الذين آمنوا مغفرة، ومثله قول الشاعر:
وجدنا الصالحين لهم جزاء ... وجنات وعينا سلسبيلا
كأنه قال: وجدنا للصالحين جزاء، وعطف على موضع وجنات وعينا، فاللام في «لهم» داخلة على ضمير الصالحين فكأنها داخلة عليهم، وكأنه قال: وجدنا للصالحين جزاء، وعطف على موضع الجملة التي هي لهم جزاء منصوبا إذ كان موضع الجملة موضع نصب وأما الآية الأخرى فإن منهم فيها متعلقة ب {الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصََّالِحََاتِ} وهي من تمامها ولم يكن هناك ما ترتفع به {مَغْفِرَةٌ} فتعدى إليها الفعل الذي هو وعد فجرى على الأصل في نصب المفعول به فإن قال: كيف يحتمل أن يبعض
__________
(1) سورة: المائدة، الآية: 9.
(2) الآية: 29.(1/65)
والقوم الذين أخبر الله عنهم بقوله: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللََّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدََّاءُ عَلَى الْكُفََّارِ رُحَمََاءُ} (1) مع سائر ما وصفهم الله به فأثنى عليهم بذكره كلهم وعدا {مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً}.
الجواب: عن ذلك من وجهين. أحدهما أن يقال: إن «من» في هذا المكان ليست للتبعيض، إنما هي لتبيين الجنس، كأنه قال: {وَعَدَ اللََّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصََّالِحََاتِ}. الذين هم هؤلاء كما قال: {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثََانِ} (2) أي:
الرجس الذي هو الأوثان.
الجواب الثاني أن يكون التقييد للتحذير لأنهم وإن علم الله منهم الثبات على ما هم عليه من العمل الصالح، فإنه لا يخليهم من الأمر والنهي والوعد والوعيد على معنى:
دوموا على ما أنتم عليه، فإن من دام منكم عليه فقد وعده الله {مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً}.
فإن قال قائل: فلماذا خصت الآية الأولى بأن جعل مفعولها الثاني جملة والآية الثانية مفعولها مفردا؟. قلت: لأن الأولى خطاب لقوم حثهم على توخي العدل فيما يحكمون به، وهو أعم من حث الصحابة الذين ذكرهم في آخر سورة الفتح وأثنى عليهم بالشدة على الكفار والرحمة للمؤمنين وملازمة الركوع والسجود وابتغاء رضوان الله تعالى، وإن مثلهم {كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ} (3) إلى آخر الآية، فخص هؤلاء بصريح المغفرة، وذكر أنه وعدهم ذلك وقال في الآية الأولى: {وَعَدَ اللََّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصََّالِحََاتِ}
فكان إخبارا عن وعده إياهم فقط، ثم أتى بخبر ثان فقال: {لَهُمْ مَغْفِرَةٌ} على معنى:
إن قاموا بذلك ولم يحبطوه بالسيئات فجوز منهم هذا، ولم يعلق المغفرة بوعد فيعزيه إليها، وفي الآية الثانية حقق المغفرة لهم وعدى الفعل إليها، وكان كالحكم بأنهم يوافون الآخرة بأعمالهم الصالحة، وقد وعدهم الله تعالى عنها المغفرة والأجر العظيم، فلاق بكل آية ما خصت به فاعرفه إن شاء الله.
الآية الثانية منها
قوله تعالى: {فَبِمََا نَقْضِهِمْ مِيثََاقَهُمْ لَعَنََّاهُمْ وَجَعَلْنََا قُلُوبَهُمْ قََاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوََاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمََّا ذُكِّرُوا بِهِ} (4) وقال تعالى بعده
__________
(1) سورة: الفتح، الآية: 29.
(3) سورة: الفتح، الآية: 29.
(2) سورة: الحج، الآية: 30.
(4) سورة: المائدة، الآية: 13.(1/66)
في هذه السورة: {سَمََّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمََّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوََاضِعِهِ} (1).
للسائل أن يسأل فيقول: لم قال في الأولى {يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوََاضِعِهِ} وفي الثانية {مِنْ بَعْدِ مَوََاضِعِهِ}؟ وما الفرق بين اللفظين وبين الموضعين حتى اختص كل واحد منهما باللفظ الذي خصه.
الجواب أن يقال: إن الآية الأولى في اليهود الذي حرفوا ما أنزل الله من كلامه عما علموه تأويلا له فيكون هذا تحريفا من جهة التأويل، وحرفوا أيضا من جهة التنزيل، كما قال: {وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتََابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتََابِ وَمََا هُوَ مِنَ الْكِتََابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللََّهِ وَمََا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللََّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللََّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} (2). فقولك «عن» في كلام العرب موضوع لما عدا الشيء يقول:
أطعمه عن جوع وكساه عن عري، وكانوا يعدلون بالكلم تأويله الذي له، وتنزيله الذي جاء عليه إلى غيره مما هو باطل، و «عن» في هذا الموضع تقرب من معنى «بعد» لأنك تقول أطعمه بعد جوع وكساه بعد عري، إلا أن الأصل في هذا المكان أن يستعمل «عن» لأن «بعد» قد تكون لما تأخر زمانه عن زمانه بأزمنة كثيرة وبزمن واحد، و «عن» لما جاوز الشيء إلى غيره ملاصقا زمنه لزمنه والمراد إذا قال: أطعمه عن جوع وسقاه عن عطش ليس يراد به إلا أنه لما عطش سقاه ولما جاع أطعمه. وأما الآية الثانية فهي في قوم من اليهود أخبر الله تعالى عنهم بأنهم {سَمََّاعُونَ} لما تقوله ليكذبوا عليك ويخبروا بخلاف ما تقوله عنك وينقلوا كلامك إلى قوم آخرين لم يأتوك ومعنى {يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوََاضِعِهِ} يحتمل أن يكون المراد من بعد موت النبي صلّى الله عليه وسلم ليجعلوه على خلاف ما سمعوه منه وهذا موضع بعد لا موضع عن لأنه ليس يعدوه إلى المحرف إليه فينفصل عما جاء عليه إلى الكذب مقارنا له، وإنما ذلك بعده بأزمنة كثيرة يتوقعون مضيها ليسهل كذبهم بعدها ويكون التقدير {سَمََّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوََاضِعِهِ} أي: ناوون تحريفه من بعد وقوعه مواقعه وحصوله مواضعه، فمحرفين بمعنى: ناوين التحريف كقوله:
{وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً} (3) أي: ناوين السجود، وكذلك {فَادْخُلُوهََا خََالِدِينَ} (4) أي: ناوين الخلود ومقدرين له، وهذا ظاهر في هذا الموضع لا يصلح فيه إلا ما نطق القرآن به.
__________
(1) سورة: المائدة، الآية: 41.
(3) سورة: يوسف، الآية: 100.
(2) سورة: آل عمران، الآية: 78.
(4) سورة: الزمر، الآية: 73.(1/67)
ويحتمل أن يكون المراد ما ذهب إليه أكثر أهل التفسير، وهو أن قوما أرسلوا هؤلاء إلى النبي صلّى الله عليه وسلم في قصة زان محصن، فقالوا لهم: إن أفتاكم محمد بالجلد فحدوه وإن أفتاكم بالرجم فلا تقتلوه، وقال قتادة: كان هذا في قتيل منهم، فقالوا: إن أفتاكم محمد بالدية فاقبلوه، وإن أفتاكم بالقود فاحذروه، وكانوا حرفوا في القولين حكم الله تعالى الذي في التوراة من بعد أن عمل به في مواضعه، ولم يحرفوه ساعة نزوله ووجوب العمل به، وهذا معنى قوله عز وجلّ: {يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هََذََا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا} (1) وقيل:
إن هذا إشارة إلى دين اليهود أي: إن جاءكم محمد صلّى الله عليه وسلم بدينكم فاقبلوه، وإن لم يأتكم به فاحذروه، فقد بان الفرق بين الموضعين بما بيناه والله أعلم.
الآية الثالثة منها
قوله عز وجلّ: {يََا أَهْلَ الْكِتََابِ قَدْ جََاءَكُمْ رَسُولُنََا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمََّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتََابِ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ} (2) وقال بعده: {يََا أَهْلَ الْكِتََابِ قَدْ جََاءَكُمْ رَسُولُنََا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلى ََ فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا مََا جََاءَنََا مِنْ بَشِيرٍ وَلََا نَذِيرٍ فَقَدْ جََاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ} (3).
للسائل أن يسأل فيقول: نبه أهل الكتاب بمجيء الرسول في الآية الأولى، وأخبر أنه يبين لهم كثيرا مما يخفون من الكتاب ويعفو عن كثير، وقال في الآية الثانية: إنه قد جاء {يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلى ََ فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا مََا جََاءَنََا مِنْ بَشِيرٍ وَلََا نَذِيرٍ فَقَدْ جََاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ} فهل ما ذكر من التبيين في الثانية كان يجوز أن يقترن بالتنبيه الأول أم وجب لكل ما تبعه من الكلام؟.
الجواب أن قوله تعالى في الآية الأولى {يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمََّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ} معناه: يبين لكم كثيرا مما في التوراة والإنجيل من وصف الرسول صلّى الله عليه وسلم، وسائر ما يدعو إلى الدخول في الإسلام ويترك كثيرا مما حرفتموه فلا يبينه لأنه ليس في ذكره ما يلزمكم حجته ويجدد لكم ملة، فهذا التبيين حقه التقديم للاحتجاج به، ولذلك ردفه قوله: {قَدْ جََاءَكُمْ مِنَ اللََّهِ نُورٌ} (4) يعني النبي: أي: يهديكم إلى منافع دينكم كما تهتدون بالنور إلى منافع دنياكم، وأما الآية الثانية التي بعد فمعناها {جََاءَكُمْ رَسُولُنََا يُبَيِّنُ لَكُمْ}
__________
(1) سورة: المائدة، الآية: 41.
(3) سورة: المائدة، الآية: 19.
(2) سورة: المائدة، الآية: 15.
(4) سورة: المائدة، الآية: 15.(1/68)
على حين دروس مما كان الرسل أتوا به مما يلزمكم في دينكم احتجاجا عليكم وقطعا لعذركم، لئلا تحتجوا بأنه لم يجئكم من يبشركم بالثواب ويخوفكم من العقاب، فالأول احتجاج لنبوة النبي صلّى الله عليه وسلم وبعد تثبيته يبين الداعي إلى بعثته وهو ما ذكر في الآية الثانية.
الآية الرابعة منها
قوله تعالى: {قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللََّهِ شَيْئاً إِنْ أَرََادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَلِلََّهِ مُلْكُ السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضِ وَمََا بَيْنَهُمََا يَخْلُقُ مََا يَشََاءُ وَاللََّهُ عَلى ََ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (1) وقال بعدها:
{وَقََالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصََارى ََ نَحْنُ أَبْنََاءُ اللََّهِ وَأَحِبََّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشََاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشََاءُ وَلِلََّهِ مُلْكُ السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضِ وَمََا بَيْنَهُمََا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ} (2).
للسائل أن يسأل عن شيئين في هاتين الآيتين المتصلة إحداهما بالأخرى، أحدهما عن تكرار قوله: {وَلِلََّهِ مُلْكُ السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضِ وَمََا بَيْنَهُمََا}. والثاني صلة الأول بقوله: {يَخْلُقُ مََا يَشََاءُ وَاللََّهُ عَلى ََ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} وصلة الثاني بقوله: {وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ} وله أن يسأل عن قوله: {قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ} في سورة الفتح (3) زيادة «لكم» هناك وحذفها هنا.
الجواب أن يقال: إن هذه الآية في سورة الفتح نزلت في قوم تخلفوا عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم من غير عذر وتأخروا عن الجهاد وقالوا: شغلتنا أموالنا وأهلونا، ثم سألوه صلّى الله عليه وسلم أن يستغفر لهم يكتمون بذلك نفاقهم ويظهرون وفاقهم وقصدهم استمالته كيلا تضرهم عداوته فقال عز وجلّ: {قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللََّهِ شَيْئاً إِنْ أَرََادَ بِكُمْ ضَرًّا} (4)
ومن يملك لكم ضرا إن {أَرََادَ بِكُمْ نَفْعاً} (4) فلما كان في قوم مخصوصين احتيج إلى «لكم» للتبيين، فأما في هذه السورة فإنها لم تنزل لفريق مخصوص دون فريق بل عم بها دليله {إِنْ أَرََادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً} فلما سيقت الآية إلى العموم لم يحتج إلى «لكم» التي للخصوص.
__________
(1) سورة: المائدة، الآية: 17.
(3) الآية: 11.
(2) سورة: المائدة، الآية: 18.
(4) سورة: الفتح، الآية: 11.(1/69)
الجواب عن التكرار أن يقال: إن الآية الأولى في النصارى خاصة، وهم الذين لما قالوا في عيسى إنه إله والإله واحد صاروا كأنهم قالوا: الله هو المسيح ابن مريم، فرد الله ذلك عليهم بما دل به على أن عيسى عبد مخلوق مملوك لله ليس هو بابن له ولا بإله لأن أحدا لا يملك أن يدفع عن المسيح وأمه وسائر من في الأرض من الخلق ما يريد الله إيقاعه بهم من موت أو هلاك، ولا المسيح يملك ذلك، فدل هذا على أنه مخلوق وأن الله له {مُلْكُ السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضِ وَمََا بَيْنَهُمََا} والمسيح من جملته مملوك مدبر، ولو كان إلها لكان شريكا لله ولم يكن لله {مُلْكُ السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضِ} فالقصد بذكر {مُلْكُ السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضِ وَمََا بَيْنَهُمََا} في الآية الأولى أن يبين أن المسيح مخلوق ومملوك ليس بإله ولا بابن لله، إذ لو كان إلها كما زعموا لم يكن الله مالكا لجميع {السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضِ وَمََا بَيْنَهُمََا} ولما تهيأ إهلاك المسيح، وكان هذا احتجاجا عليهم خاصة بأنه مملوك مخلوق وأن الله يخلق ما يشاء من أمثاله بدلالة أنه قادر على إهلاكه، وفي ذلك جواب عن المسألة الثانية وهي صلة الأولى بقوله: {يَخْلُقُ مََا يَشََاءُ} وأما الآية الثانية وهي قوله: {وَقََالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصََارى ََ نَحْنُ أَبْنََاءُ اللََّهِ وَأَحِبََّاؤُهُ} فروي عن ابن عباس رضى الله عنه أن جماعة من اليهود حين حذرهم النبي صلّى الله عليه وسلم نقمات الله وعقوباته قالوا: لا تخوفنا فإننا {أَبْنََاءُ اللََّهِ وَأَحِبََّاؤُهُ} وقيل: إن اليهود تزعم أن الله أوحى إلى إسرائيل: إن ولدك بكري من الولد، وقال الحسن: إنما قالوا ذلك على معنى قرب الولد من الوالد والنصارى تأولوا ما في الإنجيل من قوله: أذهب إلى أبي وأبيكم، وقيل: بل لما قالوا المسيح ابن الله أجرى على القائلين بذلك مثل ما تجري العرب على الواحد من هذيل إذا قالوا: نحن الشعراء والمراد منا، وكما يجري رهط مسيلمة هذا الإطلاق عن قبيلتهم فيقولون: نحن الأنبياء لما قال واحد منهم ذلك وتابعه الباقون عليه، فلما كان هذا مقال الفرقتين رد الله عليهم قولهم مع اعترافهم بأنهم يعذبون بذنوبهم، إذ لو لم يقولوا ذلك لأباحوا ارتكاب الفواحش فقال: {فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ} والأب المشفق على ولده لا يعذبه، وكذلك الحبيب لا يعذب من يحبه، فكان هذا احتجاجا عليهم بما يعتقدون صحته من عذاب الآخرة والله تعالى يقول: إنكم لستم بأبنائي ولا أحبائي ثم قال: وهو المنفرد بملك السموات والأرض وما بينهما وأنه لا ولد له ولا نظير ولا شريك، له إذ لو ثبت ذلك تعالى الله عنه لما كان مالكا لجميعه، فلما احتج على إبطال قولهم بما يعتقدون صحته من عذاب المذنب منهم وذلك من أحوال الآخرة، ثم احتج ب {مُلْكُ السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضِ} على ذلك قرن إليه قوله: {وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ} أي: مآل الخلق إلى أن لا يملك أحد لهم نفعا ولا ضرا غيره تعالى، وفي هذا جواب المسألة الثانية
من اقتران ما اقترن بذكره {مُلْكُ السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضِ وَمََا بَيْنَهُمََا} في الآيتين.(1/70)
الجواب عن التكرار أن يقال: إن الآية الأولى في النصارى خاصة، وهم الذين لما قالوا في عيسى إنه إله والإله واحد صاروا كأنهم قالوا: الله هو المسيح ابن مريم، فرد الله ذلك عليهم بما دل به على أن عيسى عبد مخلوق مملوك لله ليس هو بابن له ولا بإله لأن أحدا لا يملك أن يدفع عن المسيح وأمه وسائر من في الأرض من الخلق ما يريد الله إيقاعه بهم من موت أو هلاك، ولا المسيح يملك ذلك، فدل هذا على أنه مخلوق وأن الله له {مُلْكُ السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضِ وَمََا بَيْنَهُمََا} والمسيح من جملته مملوك مدبر، ولو كان إلها لكان شريكا لله ولم يكن لله {مُلْكُ السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضِ} فالقصد بذكر {مُلْكُ السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضِ وَمََا بَيْنَهُمََا} في الآية الأولى أن يبين أن المسيح مخلوق ومملوك ليس بإله ولا بابن لله، إذ لو كان إلها كما زعموا لم يكن الله مالكا لجميع {السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضِ وَمََا بَيْنَهُمََا} ولما تهيأ إهلاك المسيح، وكان هذا احتجاجا عليهم خاصة بأنه مملوك مخلوق وأن الله يخلق ما يشاء من أمثاله بدلالة أنه قادر على إهلاكه، وفي ذلك جواب عن المسألة الثانية وهي صلة الأولى بقوله: {يَخْلُقُ مََا يَشََاءُ} وأما الآية الثانية وهي قوله: {وَقََالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصََارى ََ نَحْنُ أَبْنََاءُ اللََّهِ وَأَحِبََّاؤُهُ} فروي عن ابن عباس رضى الله عنه أن جماعة من اليهود حين حذرهم النبي صلّى الله عليه وسلم نقمات الله وعقوباته قالوا: لا تخوفنا فإننا {أَبْنََاءُ اللََّهِ وَأَحِبََّاؤُهُ} وقيل: إن اليهود تزعم أن الله أوحى إلى إسرائيل: إن ولدك بكري من الولد، وقال الحسن: إنما قالوا ذلك على معنى قرب الولد من الوالد والنصارى تأولوا ما في الإنجيل من قوله: أذهب إلى أبي وأبيكم، وقيل: بل لما قالوا المسيح ابن الله أجرى على القائلين بذلك مثل ما تجري العرب على الواحد من هذيل إذا قالوا: نحن الشعراء والمراد منا، وكما يجري رهط مسيلمة هذا الإطلاق عن قبيلتهم فيقولون: نحن الأنبياء لما قال واحد منهم ذلك وتابعه الباقون عليه، فلما كان هذا مقال الفرقتين رد الله عليهم قولهم مع اعترافهم بأنهم يعذبون بذنوبهم، إذ لو لم يقولوا ذلك لأباحوا ارتكاب الفواحش فقال: {فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ} والأب المشفق على ولده لا يعذبه، وكذلك الحبيب لا يعذب من يحبه، فكان هذا احتجاجا عليهم بما يعتقدون صحته من عذاب الآخرة والله تعالى يقول: إنكم لستم بأبنائي ولا أحبائي ثم قال: وهو المنفرد بملك السموات والأرض وما بينهما وأنه لا ولد له ولا نظير ولا شريك، له إذ لو ثبت ذلك تعالى الله عنه لما كان مالكا لجميعه، فلما احتج على إبطال قولهم بما يعتقدون صحته من عذاب المذنب منهم وذلك من أحوال الآخرة، ثم احتج ب {مُلْكُ السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضِ} على ذلك قرن إليه قوله: {وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ} أي: مآل الخلق إلى أن لا يملك أحد لهم نفعا ولا ضرا غيره تعالى، وفي هذا جواب المسألة الثانية
من اقتران ما اقترن بذكره {مُلْكُ السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضِ وَمََا بَيْنَهُمََا} في الآيتين.
الآية الخامسة منها
قوله تعالى: {وَإِذْ قََالَ مُوسى ََ لِقَوْمِهِ يََا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللََّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيََاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً وَآتََاكُمْ مََا لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنَ الْعََالَمِينَ} (1) وقال في سورة إبراهيم (2): {وَإِذْ قََالَ مُوسى ََ لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللََّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجََاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ}.
للسائل أن يسأل عن هذا التنبيه في الآية التي في سورة المائدة بقوله: {يََا قَوْمِ}
هل له فائدة لم يكن مثلها في الخطاب الواقع من سورة إبراهيم مع تركه؟
الجواب أن يقال: إن تسمية المخاطب بندائه مع الإقبال عليه يفيد مبالغة في التنبيه له فإذا قال القائل: افعل كذا يا فلان فكأنه قال: أعنيك بخطابي لا غيرك ممن يصح أن ينصرف الخطاب إليه، ألا ترى أنه إذا عري من النداء صلح لكل مخاطب فإذا قارن النداء الأمر كان مقصورا على صاحب الاسم الذي دخله حرف النداء، والمبالغة في التنبيه حقها أن تكون في الأهم الأعم نفعا وقوله تعالى: {وَإِذْ قََالَ مُوسى ََ لِقَوْمِهِ يََا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللََّهِ عَلَيْكُمْ} يصح أن يجاب عنه بجوابين:
أحدهما أن يقال: لما نبههم على ما خصهم به من الإكرام ليشكروه على هذه النعم العظام بأن جعل فيهم أنبياء مقيمين بين ظهرانيهم يدعونهم إلى طاعة ربهم ويثنون أعنتهم عن المحظور من شهواتهم، وأن جعلهم ملوكا حيث أغناهم بما أنزله عليهم من المنّ والسلوى عن الحاجة إلى الناس في التماس الرزق من أمثالهم وتكليف خدمتهم وأعمالهم وما ملكهم من المال والعبيد والإماء الذين كانوا يخدمونهم ويكفونهم ما يحتاجون إلى مباشرته بأنفسهم، والمنة عليهم في هذا المكان أشرف ما يخوله الإنسان من النبوة التي لها أشرف منازل الثواب والملك الذي هو غاية ما تسمو إليه الهمم في دار التكليف، فنبهوا بأبلغ الألفاظ ليقوموا بشكر ما عليهم من الإنعام، والآية التي في سورة إبراهيم عليه السّلام تنبيه على ما صرف عنهم من البلاء، وليس هو كالتنبيه على تخويل أشرف العطاء من صرف البلاء.
__________
(1) سورة: المائدة، الآية: 20.
(2) الآية: 6.(1/71)
جواب ثان: وهو أن {الْمَنَّ وَالسَّلْوى ََ} (1) مما لم ينعم به على أحد قبلهم ولا بعدهم، فلذلك قال: {وَآتََاكُمْ مََا لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنَ الْعََالَمِينَ} فلما نبهوا على شكر نعمة خصوا بها دون الناس كلهم كانت المبالغة في ذاك أولى.
جواب ثالث وهو أن يقال: لما جعل الخطاب بعد قوله: {يََا أَهْلَ الْكِتََابِ} (2) في آيتين وصدر المخاطبات نبه فيها المخاطبين بمناداتهم فيما حكى من أقوالهم كقوله تعالى بعده: {يََا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللََّهُ لَكُمْ} (3) وقوله: {قََالُوا يََا مُوسى ََ إِنَّ فِيهََا قَوْماً جَبََّارِينَ} (4) وبعده قالوا: {يََا مُوسى ََ إِنََّا لَنْ نَدْخُلَهََا أَبَداً مََا دََامُوا فِيهََا} (5)
وبعده قوله: {رَبِّ إِنِّي لََا أَمْلِكُ إِلََّا نَفْسِي وَأَخِي} (6) كان الاختيار أن يجري مجرى نظائره المتقدمة والمتأخرة، ولم يكن شيء من ذلك في الآية التي في سورة إبراهيم عليه السّلام فلم يذكر هناك «يا قوم» لهذا وقد اختلف الناس فيمن يسمى ملكا، فقال عبد الله بن عمرو بن العاص وزيد بن أسلم والحسن: أقل الحال التي إذا كانت كان الإنسان بها ملكا الدار والمرأة والخادم، وقال غيرهم: الملك الذي له ما يستغني به عن تكلف الأعمال وتحمل المشاق للمعاش، وبنو إسرائيل سموا ملوكا لما منّ الله عليهم به من المن والسلوى والحجر والعصا والغمام، عن ابن عباس وغيره، وقال الحسن: لأنهم ملكوا أنفسهم بالتخلص من القبط الذين كانوا يستعبدونهم، وقال السدي: ملك كل واحد منهم نفسه وأهله وماله، وقال قتادة: كانوا أول من ملك الخدم فأما قوله: {وَآتََاكُمْ مََا لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنَ الْعََالَمِينَ} فيحتمل وجهين أحدهما: أن يريد من عالمي زمانكم كما قال: {وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعََالَمِينَ} (7) أي: على عالمي زمانكم، ويجوز أن يراد هاهنا:
آتاكم {الْمَنَّ وَالسَّلْوى ََ} وهما {مََا لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنَ الْعََالَمِينَ} وقد ذكرته قبل.
الآية السادسة منها
قوله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمََا أَنْزَلَ اللََّهُ فَأُولََئِكَ هُمُ الْكََافِرُونَ} (8) وبعده:
{فَأُولََئِكَ هُمُ الظََّالِمُونَ} (9) وبعده {فَأُولََئِكَ هُمُ الْفََاسِقُونَ} (10).
__________
(1) سورة: البقرة، الآية: 57.
(6) سورة: المائدة، الآية: 25.
(2) سورة: المائدة، الآيتان: 15، 19.
(7) سورة: البقرة، الآيتان: 47، 122.
(3) سورة: المائدة، الآية: 21.
(8) سورة: المائدة، الآية: 44.
(4) سورة: المائدة، الآية: 22.
(9) سورة: المائدة، الآية: 45.
(5) سورة: المائدة، الآية: 24.
(10) سورة: المائدة، الآية: 47.(1/72)
للسائل أن يسأل فيقول: الموضع الذي وصف فيه من لم يحكم بكتاب الله بالكفر هل باين الموضع الذي وصف فيه تارك حكم الله بالظلم والفسق؟
الجواب أن يقال إن الآية الأولى قوله: {إِنََّا أَنْزَلْنَا التَّوْرََاةَ فِيهََا هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هََادُوا وَالرَّبََّانِيُّونَ وَالْأَحْبََارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتََابِ اللََّهِ وَكََانُوا عَلَيْهِ شُهَدََاءَ فَلََا تَخْشَوُا النََّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلََا تَشْتَرُوا بِآيََاتِي ثَمَناً قَلِيلًا وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمََا أَنْزَلَ اللََّهُ فَأُولََئِكَ هُمُ الْكََافِرُونَ} (1) قال فيها بعض أهل النظر: إن من فيها ليست كمن في المجازاة، وإنما هي بمعنى «الذين»، ويصح دخول الفاء في جوابها كما تدخل في جواب الشرط لتضمنها ذلك المعنى، وإن كان لا يجازى بها وهو كقوله: الذي يزورني فله درهم، فقد أوجب له بالزيارة الدرهم وإن لم يرد: من يزرني فله درهم، فقوله: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمََا أَنْزَلَ اللََّهُ} في هذه الآية المراد به اليهود الذين كانوا يبيعون حكم الله بما يشترونه من ثمن قليل يرتشونه فيبدلون حكم الله باليسير الذي يأخذونه فهم يكفرون بذلك، فأما أن يكون الحكم بخلاف ما أنزل الله كفرا فهو مذهب الخوارج يذهبون بمن هنا إلى الشياع الذي يراد في المجازاة، وهذا مخصوص به اليهود الذين تقدم ذكرهم وتبديلهم حكم الله ليكذبوا رسول الله صلّى الله عليه وسلم وذلك كفر وأما الآية الثانية فهي فيهم أيضا لقوله: {وَكَتَبْنََا عَلَيْهِمْ فِيهََا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} (2) ومعناه:
كتبنا على هؤلاء في التوراة، فرد الذكر إلى الذين هادوا وهم الذين كفرهم لتركهم دين الله والحكم بما أنزله، ثم وصفهم بعد خروجهم عن حكم الله في القصاص بين عباده في قتل النفس وقطع أعضائها بأنهم مع كفرهم الذي تقدم ذكره ظالمون، وكل كافر ظالم لنفسه، إلا أنه قد يكون كافرا غير ظالم لغيره، فكأنه وصف في هذه الآية بصفة زائدة على صفة الكفر بالله وهي ظلمه لعباد الله بخروجه في القصاص عن حكم الله، {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ}
في هذه الآية المراد بها: الذين لا يحكمون من اليهود وأما الآية الثالثة فإنه بعد قوله:
{وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِمََا أَنْزَلَ اللََّهُ فِيهِ} (3) ومعناه: قيل لهم في ذلك الزمان، وأمروا أن يحكموا به {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمََا أَنْزَلَ اللََّهُ} فيه قال فيه من حكيت عنه من المتقدمين أنه بمعنى «الذي»، والذي أذهب إليه أنا أن «من» هاهنا بمعنى المجازاة لا بمعنى الذي كما تقول فيمن لم يحكم بما أنزل الله منا أنه لا يبلغ منزلة الكفر، وإنما يوصف بالفسق، فلذلك قال: {فَأُولََئِكَ هُمُ الْفََاسِقُونَ} فقد بان لك أن كل موضع من
__________
(1) سورة: المائدة، الآية: 44.
(3) سورة: المائدة، الآية: 47.
(2) سورة: المائدة، الآية: 45.(1/73)
الآيات الثلاث أخبر فيه عن المذكورين قبل بالكفر والظلم والفسق إنما وجب فيه ذلك ولم يحسن فيه غيره هناك فاعلمه.
الآية السابعة منها
قوله تعالى: {قََالَ اللََّهُ هََذََا يَوْمُ يَنْفَعُ الصََّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنََّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهََارُ خََالِدِينَ فِيهََا أَبَداً رَضِيَ اللََّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذََلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} (1) وقال في سورة براءة (2): {لََكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جََاهَدُوا بِأَمْوََالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَأُولََئِكَ لَهُمُ الْخَيْرََاتُ وَأُولََئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ أَعَدَّ اللََّهُ لَهُمْ جَنََّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهََارُ خََالِدِينَ فِيهََا ذََلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} وقال بعده: {وَالسََّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهََاجِرِينَ وَالْأَنْصََارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسََانٍ رَضِيَ اللََّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنََّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهََارُ خََالِدِينَ فِيهََا أَبَداً ذََلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} (3) وقال في سورة النساء (4): {وَمَنْ يُطِعِ اللََّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنََّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهََارُ خََالِدِينَ فِيهََا وَذََلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} وكان حقها أن تذكر في موضعها لكن لم تحضرني هناك فذكرتها مع أخواتها وإن كان ذكرها متقدما في القرآن، وقال في سورة الحديد (5): {بُشْرََاكُمُ الْيَوْمَ جَنََّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهََارُ خََالِدِينَ فِيهََا ذََلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} وفي المجادلة (6): {أُولََئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمََانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنََّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهََارُ خََالِدِينَ فِيهََا رَضِيَ اللََّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولََئِكَ حِزْبُ اللََّهِ أَلََا إِنَّ حِزْبَ اللََّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} وقال في سورة الطلاق (7):
{وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللََّهِ وَيَعْمَلْ صََالِحاً يُدْخِلْهُ جَنََّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهََارُ خََالِدِينَ فِيهََا أَبَداً}.
للسائل أن يسأل عن مسائل فيقول: لم لم يذكر في سورة براءة في الآية الثانية في قوله: {تَحْتِهَا الْأَنْهََارُ} لفظة «من» في قراءة الأكثرين وقد ذكر في الآي الأخر
والثاني: لم حذف {أَبَداً} في بعض المواضع ولم يحذف في بعضها عنها والثالث: لم
__________
(1) سورة: المائدة، الآية: 119.
(5) الآية: 12.
(2) الآيتان: 88، 89.
(6) الآية: 22.
(3) سورة: التوبة، الآية: 100.
(7) الآية: 11.
(4) الآية: 13.(1/74)
ذكر في سورة النساء: {وَذََلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} وفي سورة الحديد: {ذََلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} وفي غيرها {ذََلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}؟
الجواب عنه أن يقال: إن الآية الأولى وهي قوله: {يَوْمُ يَنْفَعُ الصََّادِقِينَ صِدْقُهُمْ}
وإن كانت عامة في كل صادق مؤمن فإنها خرجت على ما يبكت الله به النصارى من دعاويهم الباطلة ومقالاتهم الكاذبة منسوبة إلى عيسى عليه السّلام في قوله: {وَإِذْ قََالَ اللََّهُ يََا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنََّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلََهَيْنِ مِنْ دُونِ اللََّهِ} (1) فانكشف هذا عن صدقه عليه السّلام وكذب القوم لما أجاب وقال: {مََا قُلْتُ لَهُمْ إِلََّا مََا أَمَرْتَنِي بِهِ} (2) فلفظة الصادقين في قوله: {هََذََا يَوْمُ يَنْفَعُ الصََّادِقِينَ صِدْقُهُمْ} والصادقون يجوز أن يكون منصرفا إلى عيسى وأمثاله من الأنبياء صلوات الله عليهم الذين صدقوا في الدنيا فنفعهم صدقهم لقوله عز وجلّ: {بَلْ جََاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ} (3) أي: قال هم صادقون فتكون الإشارة بالألف واللام إليهم صلوات الله عليهم، وإن كان كل صادق داخلا في حكمهم من الانتفاع بصدقهم، وكذلك الآية التي في آخر المجادلة خرجت على ذكر الرسل لقوله تعالى: {كَتَبَ اللََّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللََّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} (4) ثم قال: {أُولََئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمََانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنََّاتٍ تَجْرِي} (5) ثم قال:
{أُولََئِكَ حِزْبُ اللََّهِ أَلََا إِنَّ حِزْبَ اللََّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (5) فكان الذي أخبر عنهم بأن لهم {جَنََّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهََارُ} الأنبياء وغيرهم صلوات الله عليهم و «من» لابتداء الغاية، والأنهار أشرف مباديها، والجنات التي مباديها الأنهار من تحت أشجارها أشرف من غيرها فكل موضع ذكر فيه «من تحتها» إنما هو لقوم عام فيهم الأنبياء، والموضع الذي لم يذكر فيه «من» إنما هو لقوم مخصوصين ليس فيهم الأنبياء، ألا ترى إلى قوله في سورة براءة: {وَالسََّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهََاجِرِينَ وَالْأَنْصََارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسََانٍ رَضِيَ اللََّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنََّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهََارُ خََالِدِينَ فِيهََا أَبَداً}
فجعل مبادئ الأنهار تحت جنات أخبر أنها للصادقين والمؤمنين والذين عملوا الصالحات ومنهم الأنبياء عليهم الصلاة والسّلام، لا بل هم أولهم، فالمعتاد أنها أشرف الأنهار، والآية التي في سورة براءة قد خرج الأنبياء عنها لأن اللفظ يشتمل عليهم فلم يخبر عن جناتهم بأن أشرف الأنهار على مجرى العادة في الدنيا تحت أشجارها، كما أخبر به عن الجنات التي جعلها الله لجماعة خيارهم الأنبياء عليهم السّلام، إذ لا موضع في القرآن ذكرت
__________
(1) سورة: المائدة، الآية: 116.
(4) سورة: المجادلة، الآية: 21.
(2) سورة: المائدة، الآية: 117.
(5) سورة: المجادلة، الآية: 22.
(3) سورة: الصافات، الآية: 37.(1/75)
فيه الجنات وجري الأنهار تحتها إلا وقد دخلتها من سوى الموضع الذي لم ينطق ذكر الموعودين فيه على الأنبياء عليهم السّلام، فهذا الكلام فيمن تحتها اعتبروا بما ذكرت ما في جميع القرآن.
أما الجواب عن حذف {أَبَداً} في بعضها والإتيان بها في بعضها: أنها إنما حذفت من أول الآيتين اللتين في براءة وآخر آية في سورة المجادلة لأنه ذكر قبل الآية التي في سورة براءة {وَأُولََئِكَ لَهُمُ الْخَيْرََاتُ وَأُولََئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} وبعد الآية التي في آخر المجادلة {رَضِيَ اللََّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولََئِكَ حِزْبُ اللََّهِ أَلََا إِنَّ حِزْبَ اللََّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} فلأن في «خالدين» ما يدل على التأبيد، ثم قد نزل منزلته أخبار هي في مدحهم وهي قوله: {رَضِيَ اللََّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} فلما تظاهرت هذه الأخبار التي هي ثناء من الله جل ذكره عليهم ومدح لهم وطال الكلام بها فاستغنى بذكر {خََالِدِينَ} عن ذكر قوله:
{أَبَداً} وحسن حذفه، ولم يحسن في المواضع الأخر التي لم يتظاهر فيها مثل عدة هذه الأخبار الموجبة لهم دار الخلد ودوام النعيم، وأما في سورة النساء إنما لم يذكر أبدا لأنه ذكر بعده في مقابله {خََالِدِينَ} و {خََالِداً فِيهََا} (1) ولم يقل: أبدا فلو ذكر فيهما «أبدا» لطال الكلام، فاستغنى بقوله: {خََالِدِينَ} و {خََالِداً فِيهََا} عن أبدا وأما في سورة الحديد (2): لأنه ذكر قبله: {يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنََاتِ يَسْعى ََ نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمََانِهِمْ بُشْرََاكُمُ الْيَوْمَ جَنََّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهََارُ خََالِدِينَ فِيهََا ذََلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} فلما طال الكلام في مدحهم ذكر بعد ذلك تأكيدا بقوله «هو» استغنى بقوله:
{خََالِدِينَ} عن أبدا وهذا الجواب عن إدخال «هو» بعد «ذلك» لأنه ذكر «ذلك» بدلا وتأكيدا عن «أبدا» وليس كذلك في المواضع الأخر، وأما إدخال الواو في قوله:
{وَذََلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} في سورة النساء المحذوف أبدا عنه فلإدخال الواو في قرينة الكافر {وَلَهُ عَذََابٌ مُهِينٌ} (1)، فأدخل الواو فيه أي: وذلك لهم {الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} وليس كذلك في المواضع الأخر إذا قرأت ما قبلها وما بعدها تبين لك ما قلت فاعرفه.
__________
(1) سورة: النساء، الآية: 14.
(2) الآية: 12.(1/76)
6 - سورة الأنعام
الآية الأولى منها
قوله تعالى: {فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمََّا جََاءَهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْبََاءُ مََا كََانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ} (1) وقال في سورة الشعراء: (2) {فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبََؤُا مََا كََانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ}.
للسائل أن يسأل فيقول: قد ذكر في إحدى الآيتين «فسوف» و «بالحق»، وفي الآية الأخرى لم يذكر ما كذبوا به وجعل بدل «سوف» السين فهل كان يجوز أحدهما مكان الآخر؟
الجواب أن يقال: إن الآية الأولى قد وفى المعنى فيها حقه من اللفظ لأنها سابقة للثانية، وإن كانتا مكيتين فأشبعت الألفاظ الأولى مستوفية لمعناها، وفي الآية الثانية اعتمد على الاختصار لما سبق في الأولى من البيان واقتصر على «كذبوا»، وهذا اللفظ إذ أطلق كان لمن كذب بالحق، ألا ترى إلى قوله عز وجلّ: {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ} (3) وإذا قيد جاز أن يقول: كذب الكذب وكذب الصدق وكذب مسيلمة وكذب النبي صلّى الله عليه وسلم، إلا أنه إذا عري من التقييد لم يصح إلا لمن كذب بالحق، فصار قوله تعالى في الشعراء من هذا القبيل بعد البيان الذي سبق في سورة الأنعام، ولما بنيت هذه الثانية على الاختصار والاكتفاء بالقليل من الكثير جعل فيها بدل «سوف» السين وحدها وهي مؤدية معناها، ومن النحويين من ذهب إلى أنها مأخوذة من «سوف» وإن كان ذلك عندنا غير صحيح.
الآية الثانية منها
قوله تعالى:
__________
(1) سورة: الأنعام، الآية: 5.
(3) سورة: المرسلات، الآية: 15.
(2) الآية: 6.(1/77)
{أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنََا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنََّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مََا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ} (1) وقال في سورة الشعراء (2): {أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنََا فِيهََا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ}.
للسائل أن يسأل فيقول: ما بال الألف في الآية الأولى دخلت على «لم»، وفي الثانية دخلت على «ولم»؟ فكان بين الألف و «لم» واو عطف ولم يكن في هذه السورة، وما يفصل بين «ألم» «وأولم» وهل صلح ما في الشعراء مكان ما في سورة الأنعام أم لا؟
الجواب أن يقال: إن الألف تدخل على واو العطف في الاستخبار والإنكار والتقريع على تقدير أن تكون الجملة التي فيها معطوفة على كلام قبلها يقتضيها، وذلك كقولك للقائل يقول: هل رأيت زيدا ثمة أو زيد؟ مما يكون «ثمة» تصوره بصورة من ثبت ذلك عنده أو قاله فاستفهمته، وعطفت على ما توهمت أنه في علمه أو وهمه، وكل موضع فيه بعد ألف الإنكار واو ففيه تنكيب على ما يسهل الطريق إلى ما بعد الواو، فالاعتبار لكثرة أمثاله كقوله: {أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنََا فِيهََا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ} كأن قائلا قال: كذبوا الرسل وغفلوا عن الفكر والتدبر فقال: فعلوا ذلك ولم ينظروا إلى المشاهدات التي تنبه الفكر فيها من الغفلة، وكذلك قوله تعالى: {وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَكَيْفَ كََانَ نَكِيرِ أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صََافََّاتٍ} (3) كأنه قال: كذبوا ولم ينظروا إلى ما يردع عن الغفلة من الفكر في المشاهدات، وكذلك قوله: {أَوَلَمْ يَرَوْا إِلى ََ مََا خَلَقَ اللََّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّؤُا ظِلََالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمََائِلِ سُجَّداً لِلََّهِ} (4) لأن ذلك مشاهد وكل ما فيه واو مثل {أَوَلَمْ يَرَوْا} فهو تنبيه على ما تقدمه في التقدير أمثال له منبهة لكثرتها، فالتبكيت فيه أعظم فهذا كله في المشاهد وما في حكمه، وما ليس فيه واو مثل {أَلَمْ يَرَوْا} فهو ما لم يقدر قبله ما يعطف عليه ما بعده لأنه من باب ما لا يكثر مثله وذلك مما يؤدي إلى علمه الاستدلالات كقوله في سورة الأنعام (5): {أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنََا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنََّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مََا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمََاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرََاراً} إلى قوله: {فَأَهْلَكْنََاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ} وهذا ما لم يشاهدوه ولكن علموه وكذلك قوله: {أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنََا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لََا يَرْجِعُونَ} (6) هو مما الطريق إلى العلم به الاستدلال لا المشاهدة، فهذا ونحوه مما لم يكثر في معلومهم أشباهه فهم ينبهون عليه
__________
(1) سورة: الأنعام، الآية: 6.
(4) سورة: النحل، الآية: 48.
(2) الآية: 7.
(5) الآية: 6.
(3) سورة: الملك، الآيتان: 18، 19.
(6) سورة: يس، الآية: 31.(1/78)
ابتداء من غير تقديم تنبيه على شيء مثله مما قبله. فإن عارض معارض بقوله تعالى:
{أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّرََاتٍ فِي جَوِّ السَّمََاءِ} (1) وقال: هذا من القسم الذي يشاهد وحقه أن يكون كقوله: {أَوَلَمْ} كما كان {أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صََافََّاتٍ}
وهما في شيء واحد فما بالهما اختلفا من حيث وجب أن يتفقا؟ والانفصال أن يقال:
إنا عللنا موضع {أَلَمْ} بما يوجب أن يكون هذا الموضع من أماكنها، ألا ترى أنا قلنا:
هو كل موضع ينبهون عليه ابتداء من غير تنبيه على شيء مثله مما قبله فعللنا المشاهدات بما يخرج هذا عنها لأن قبل هذه الآية: {وَاللََّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهََاتِكُمْ لََا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصََارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّرََاتٍ} (2) فبنيت هذه الآية على الآية التي أخبر الله فيها عن أول أحوال الإنسان، وأنه أخرجهم أطفالا صغارا من بطون أمهاتهم لا يعلمون منافعهم فيقصدوها ولا مضارهم فيجتنبوها، ثم بصرهم حتى عرفوا ونبههم على ما يشاهده كل حي من تصرف الطير في الهواء وعجزه عن مثل ذلك، وكان هذا مقرونا بأولى الأحوال ولم يتقدمه أمثال له يقع التنبيه عليها قبله، فيكون في حكم ما يعطف على ما تقدمه، فإن عارض بقوله عز وجلّ:
{وَإِذََا أَذَقْنَا النََّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِهََا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمََا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذََا هُمْ يَقْنَطُونَ أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللََّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشََاءُ وَيَقْدِرُ} (3) وقال: إن ذلك مما يعلم ولا يشاهد وحكمه أن يكون ب «ألم» قيل له: التوسعة في الرزق والتقتير فيه لما كانت لهما أمارات ترى وتشاهد من أحوال الغني والفقير صار أمرهما كالمشاهدات، فكانا مما شوهدت أمثالهما فعطف عليها فإن سأل سائل عما جاء بالفاء في قوله: {أَفَلَمْ يَرَوْا إِلى ََ مََا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمََا خَلْفَهُمْ مِنَ السَّمََاءِ وَالْأَرْضِ} (4) وقال: ما الفرق بين هذا المكان الذي جاءت فيه الفاء وبين الأماكن التي جاءت فيها الواو؟ وهل كان يصح في اختيار الكلام الواو مكان الفاء هاهنا؟.
الجواب أن يقال: الفاء هاهنا أولى لأن قبلها {وَقََالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلى ََ رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذََا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أَفْتَرى ََ عَلَى اللََّهِ كَذِباً أَمْ بِهِ جِنَّةٌ بَلِ الَّذِينَ لََا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذََابِ وَالضَّلََالِ الْبَعِيدِ أَفَلَمْ يَرَوْا إِلى ََ مََا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمََا خَلْفَهُمْ} (5) فكأنه قيل فيهم أنهم كذبوا الله ورسوله بما أنكروه من البعث فلم يفكروا
__________
(1) سورة: النحل، الآية: 79.
(4) سورة: سبأ، الآية: 9.
(2) سورة: النحل، الآيتان: 78، 79.
(5) سورة: سبأ، الآيات: 987.
(3) سورة: الروم، الآيتان: 36، 37.(1/79)
ولم يخشوا عاقبة هذا المقال نقمة تنزل بهم، فقيل: لم يتفكروا ولم يخشوا {أَفَلَمْ يَرَوْا إِلى ََ مََا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمََا خَلْفَهُمْ مِنَ السَّمََاءِ وَالْأَرْضِ} أي: هم لا ينفكون من أرض تقلهم وسماء تظلهم، والذي جعلها تحتهم وفوقهم قادر على أن يخسف الأرض بهم أو يسقط السماء عليهم، فهذا موضع الفاء لا موضع غيرها لما بينا والسّلام.
الآية الثالثة منها
قوله تعالى: {قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كََانَ عََاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} (1)
وقال في سورة النمل (2): {قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كََانَ عََاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ}
وقال في سورة العنكبوت (3): {قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ}
وقال في سورة الروم (4): {قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كََانَ عََاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ كََانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ}.
للسائل أن يسأل فيقول: التي في سورة الأنعام جعل ما بين السير والنظر فيها مهلة متراخية عبّر عنها بثم، وسائر الآي جعلت المهلة بينهما أقل فعبر عنها بالفاء فما الذي خصص الأولى بثم والباقية بالفاء؟.
الجواب عن ذلك أن يقال: إن قوله: {سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا} يدل على أن السير يؤدي إلى النظر فيقع بوقوعه وليس كذلك، ثم ألا ترى أن الفاء وقعت في الجزاء ولم تقع فيه «ثم» فقوله في سورة الأنعام: {قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا} لم يجعل النظر فيه واقعا عقيب السير متعلقا وجوده بوجوده لأنه بعث على سير بعد سير لما تقدم من الآية التي تدل على أنه تعالى حداهم على استقراء البلاد ومنازل أهل الفساد وأن يستكثروا من ذلك ليروا أثرا بعد أثرا بعد أثر في ديار قد عم أهلها بدمار لقوله تعالى:
{أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنََا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنََّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مََا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ} (5) ثم قال: {فَأَهْلَكْنََاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنََا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ} ثم ذكر في قوله: {كَمْ أَهْلَكْنََا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ} يعني: قرونا كثيرة قبلهم أهلكناهم، ثم قال: {وَأَنْشَأْنََا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ} فدعا إلى العلم بذلك بالسير في البلاد ومشاهدة هذه الآثار، وفي ذلك ذهاب
__________
(1) سورة: الأنعام، الآية: 11.
(4) الآية: 42.
(2) الآية: 69.
(5) سورة: الأنعام، الآية: 6.
(3) الآية: 20.(1/80)
أزمنة كثيرة ومدد طويلة تمنع النظر من ملاصقة السير، كما قال في المواضع الأخر التي دخلتها الفاء لما قصد من معنى التعقيب واتصال النظر بالسير، إذ ليس في شيء من الأماكن التي استعملت فيها الفاء ما في هذا المكان من البعث على استقراء الديار وتأمل الآثار، فجعل السير في الأرض في هذا الموضع مأمورا به على حدة والنظر بعده مأمورا به على حدة، وسائر الأماكن التي دخلتها الفاء علق فيها وقوع النظر بوقوع السير، لأنه لم يتقدم الآية ما يحدو على السير الذي حدا عليه فيما قبل هذه الآية، فلذلك خصت بثم التي تفيد تراخي المهلة بين الفعلين والله أعلم.
الآية الرابعة منها
قوله تعالى: {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللََّهُ بِضُرٍّ فَلََا كََاشِفَ لَهُ إِلََّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلى ََ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (1) وقال في سورة يونس (2): {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللََّهُ بِضُرٍّ فَلََا كََاشِفَ لَهُ إِلََّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلََا رَادَّ لِفَضْلِهِ}.
للسائل أن يسأل فيقول: ما الذي أوجب أن يقرن إلى جملتي الشرط والجزاء في الآية الأولى: {وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ} ويجعل جواب الشرط الثاني: {فَهُوَ عَلى ََ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} ثم قرن في الآية الثانية إلى جملتي الشرط والجزاء {وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ} وجعل جوابه {فَلََا رَادَّ لِفَضْلِهِ} فخالف الأولى.
الجواب أن يقال: إن السورتين اللتين وقعت فيهما الآيتان مكيتان والأولى منهما قبل الثانية، فأما التي في سورة الأنعام وهي: {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللََّهُ بِضُرٍّ فَلََا كََاشِفَ لَهُ إِلََّا هُوَ} فمعناها: إن يمسك الله ضرا وهو سوء الحال فلا مزيل له غير الله، ولا يملك ما يعبد من دونه كشفه ومعنى يمسسك: ينيلك لأن المماسة في الأعراض مجاز وتوسع في اللغة، فمعنى مسه الله بضرّ: أناله ضرا وأوصله إليه وقوله: {وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلى ََ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} أي: ينلك خيرا يرج لأكثر منه، فإنه قادر عليه وعلى أمثاله، والدليل على أن المعنى هذا أن الجزاء إذا كان جملة ابتداء وخبر فإن معنى الخبر يكون جزاؤه مقدرا في مكان الفاء كقولك: إن زرتني فأنا مكرم لك، وإن أحسنت إليّ فأنا قادر على مقابلتك، التقدير: إن زرتني أكرمك وإن أحسنت إليّ قدرت على مقابلتك، وفي قولك: قدرت على
__________
(1) سورة: الأنعام، الآية: 17.
(2) الآية: 107.(1/81)
مقابلتك ضمان المقابلة، وأنت إذا قدرت قوله تعالى: {وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلى ََ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} أن ينلك خيرا يقدر عليه لم يستقم الكلام لأن الجزاء حقه أن يكون بعد الشرط، والقدرة على الفعل لا تكون بعده، والمعنى: أن ينلك خيرا يرج لأمثاله لأنه قادر عليه و {عَلى ََ كُلِّ شَيْءٍ} وكونه تعالى قادرا من صفات النفس وإنالة الخير فعل من أفعاله، فلا يصح أن يكون كونه قادرا متأخرا عنها فالمعنى: أن نقلك إلى سوء حال لم يملك كشفه عنك غيره، وذلك كشدائد الدنيا من الأمراض والآلام والنقصان في الأموال، وإن نقلك إلى حسن حال كان بعده قادرا على أمثاله ومالكا لأضعافه لأنه قادر على كل ما يصح أن يكون مقدورا عليه له، فلهذا وصفه بالقدرة على النفع والضر. وأما الآية الثانية ففيها نفي أن يغالبه مغالب، ويمنعه عما يريد فعله مانع لأن معناها: إذا أنزل بك مكروها لم يقدر أحد على دفع ما يريد إيقاعه بك، وإن أراد إحلال خير بك لم يرده أحد عنك، وهو معنى:
«لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت» ورتبة هذا الوصف بعد رتبة الوصف الأول لأنه يوصف الفاعل أولا بقدرته على الضدين، وليس كل من كان كذلك كان ممتنعا عن أن يقهره قاهر فيحول بينه وبين ما يريد فعله، فإذا وصفه بأنه قادر كان وصفه بأنه قادر غالب للقادرين لا يدفعه عن مراده دافع وصفا ثانيا، فلاق بكل موضع ما ورد فيه ونطق القرآن به، فالذي اقتضى هذا الوصف في الآيتين قوله قبل الأولى: {قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلََا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} (1) أي: إني لا أعبد إلها معه فأشرك به وقوله قبل الآية الثانية: {وَلََا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللََّهِ مََا لََا يَنْفَعُكَ وَلََا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظََّالِمِينَ} (2) ومثلهما قوله: {قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مََا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللََّهِ إِنْ أَرََادَنِيَ اللََّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كََاشِفََاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرََادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكََاتُ رَحْمَتِهِ} (3).
الآية الخامسة منها
قوله تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى ََ عَلَى اللََّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآيََاتِهِ إِنَّهُ لََا يُفْلِحُ الظََّالِمُونَ} (4) وقال تعالى في سورة يونس (5): {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى ََ عَلَى اللََّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآيََاتِهِ إِنَّهُ لََا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ}.
__________
(1) سورة: الأنعام، الآية: 14.
(4) سورة: الأنعام، الآية: 21.
(2) سورة: يونس، الآية: 106.
(5) الآية: 17.
(3) سورة: الزمر، الآية: 38.(1/82)
للسائل أن يسأل عن موضعين في الآيتين: أحدهما عن الواو في أول الآية الأولى، والفاء في أول الآية الثانية. والثاني عن اختصاص آخر الآية الأولى بقوله: {الظََّالِمُونَ}
واختصاص آخر الآية الأخرى بقوله: {الْمُجْرِمُونَ}.
الجواب عن الأول وعطفه بالواو، فإن ما تقدم من قوله: {قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهََادَةً} إلى قوله: {وَمَنْ أَظْلَمُ} (1) جمل عطف صدور بعضها على بعض بالواو، ولم تعلق الثانية بالأولى تعليق ما هو من سببها، فأجرى قوله: {وَمَنْ أَظْلَمُ} مجراها وعطف بالواو عليها، ألا ترى قوله: {وَأُوحِيَ إِلَيَّ هََذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} (2) وبعده:
{وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمََّا تُشْرِكُونَ} (2) الآية، وأما الثانية فإن ما قبلها عطف بعضها على بعض بالفاء، كقوله: {قُلْ لَوْ شََاءَ اللََّهُ مََا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلََا أَدْرََاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ أَفَلََا تَعْقِلُونَ} (4) فتعلق كل ما بعد الفاء بما قبله تعلق المسبب بسببه لأن المعنى: لو أراد الله أن لا يوحي إلي هذا القرآن لما تلوته عليكم ولا عرفتكم إياه في هذا الوقت الذي أخبرتكم أن الله بعثني به إليكم، وهذا يؤديكم إلى أن تعلموا أني ثويت فيكم قبل هذا كثيرا من أيام عمري، ولم يتهيأ لي ذلك ولا تلوت عليكم شيئا مما تلوته الآن، فيؤديكم هذا إلى أن تعرفوا صحة ما أقول أنه من عند الله لا من فعلي وقولي، فعطف بعض هذا الكلام على بعض بالفاء وقوله بعده {فَمَنْ أَظْلَمُ}
أي: إذا عرفتم أنه ليس من قولي لظهوره مني بعد ما لم يكن فيما مضى من عمري، فليس أحد أشد إضرارا بنفسه منكم في قولكم على الله ما لم يقله. فهذا موضع الفاء وكل موضع في القرآن يكون بعد هاتين الآيتين بالواو وبالفاء، فاعتبره بما بينته لك، وفي الأعراف (5) أيضا {فَمَنْ أَظْلَمُ} بالفاء فالجواب عنه مثل ما مضى والجواب عن السؤال الثاني أنه لما قال في الآية الأولى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى ََ عَلَى اللََّهِ كَذِباً} وكان المعنى أنه لا أحد أظلم لنفسه ممن وصف الله تعالى بخلاف وصفه فأوردها العذاب الدائم كان قوله: {إِنَّهُ لََا يُفْلِحُ} عائدا إلى من فعل هذا الفعل أي: لا يظفر برحمة الله، ولا يفوز بنجاة نفسه من كان ما ذكر من فعله، فبناء الآخر على الأول اقتضى أن يكون {إِنَّهُ لََا يُفْلِحُ الظََّالِمُونَ} وأما الآية الثانية في سورة يونس وتعقيبها بقوله: {إِنَّهُ لََا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ} دون قوله: {لََا يُفْلِحُ الظََّالِمُونَ} وإن كان الوصفان لفريق واحد فلأنه تقدمتها
__________
(1) سورة: الأنعام، الآيات: 2119.
(4) سورة: يونس، الآية: 16.
(2) سورة: الأنعام، الآية: 19.
(5) الآية: 37.(1/83)
الآية التي تضمنت وصف هؤلاء القوم بما عاقبهم به فقال: {وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمََّا ظَلَمُوا وَجََاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنََاتِ وَمََا كََانُوا لِيُؤْمِنُوا كَذََلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ} (1) فوصفهم بأنهم مجرمون عند تعليق الجزاء بهم، وقال بعده: {ثُمَّ جَعَلْنََاكُمْ خَلََائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ وَإِذََا تُتْلى ََ عَلَيْهِمْ آيََاتُنََا بَيِّنََاتٍ} (2)
إلى الموضع الذي أبطل فيه حجتهم، ودفع سؤالهم وهو: {ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هََذََا أَوْ بَدِّلْهُ} (3) فقال تعالى: {إِنَّهُ لََا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ} (4) ليعلم أن هؤلاء سبيلهم في الضلال سبيل القوم الذين أخبر عن إهلاكهم، وقال: {وَكَذََلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ} (5) ليوقع التسوية بينهم في الوصف كما أوقع التسوية بينهم في الوعيد.
الآية السادسة منها
قوله تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنََا عَلى ََ قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذََانِهِمْ وَقْراً وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لََا يُؤْمِنُوا بِهََا حَتََّى إِذََا جََاؤُكَ يُجََادِلُونَكَ} (6) وقال في سورة يونس (7): {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كََانُوا لََا يَعْقِلُونَ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كََانُوا لََا يُبْصِرُونَ}.
للسائل أن يسأل عن قوله: {مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ} في الآية الأولى وتوحيد الضمير العائد إلى «من» حملا على لفظها وعن قوله: {مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ} في الآية الثانية وجمع الضمير العائد إلى «من» حملا على معناها. ولماذا خص الأول بالتوحيد، والثاني بالجمع؟
وهل كان يجوز في الاختيار عكس ذلك في المكانين؟
الجواب أن يقال: لكل من الموضعين ما يوجب اختصاصه باللفظ الذي جاء فيه
فأما قوله: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنََا عَلى ََ قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذََانِهِمْ وَقْراً}
فقد قيل فيه أنه في قوم من الكفار كانوا يستمعون إلى النبي صلّى الله عليه وسلم، وإلى قرآنه بالليل فإذا عرفوا بها مكانه رجموه وآذوه ومنعوه من الصلاة خوفا من أن يسمعه منهم من تدعوه دواعي الحق فيسلم، وهذا في قوم قليلي العدد يرصدونه عليه السّلام بالليل، وكان الله يمنعهم عنه بنوم يلقيه عليهم وحجاب يحجبه به عنهم لقوله تعالى:
__________
(1) سورة: يونس، الآية: 13.
(5) سورة: الأعراف، الآية: 40.
(2) سورة: يونس، الآيتان: 14، 15.
(6) سورة: الأنعام، الآية: 25.
(3) سورة: يونس، الآية: 15.
(7) الآيتان: 42، 43.
(4) سورة: يونس، الآية: 17.(1/84)
{وَإِذََا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنََا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لََا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجََاباً مَسْتُوراً} (1) فصار ذلك كالكتاب على قلوبهم وكالصمم في آذانهم وأما قوله في الآية التي في سورة يونس وهي: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كََانُوا لََا يَعْقِلُونَ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كََانُوا لََا يُبْصِرُونَ} فهو في كل الكفار الذين يسمعون مسموعا هو حجة عليهم وهو القرآن ولا ينتفعون بسماعه، فكأنهم صم عنه، فلما كانت «من» تصلح للواحد فما فوقه ويجوز أن يعود الضمير إلى لفظه، وهو لفظ الواحد وإلى معناه وهو ما يراد به من واحد أو اثنين أو ثلاثة، واختلف هذان المكانان في القلة والكثرة حملت في موضع القلة على حكم اللفظ، وعاد الضمير إليها بلفظ الواحد فقال: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ} وفي موضع الكثرة على حكم المعنى وعاد الضمير إليها بلفظ الجمع، فقال:
{وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ} ليفاد بالاختلاف هذا المعنى فلم يصح في كل مكان إلا اللفظ الذي خصه مع القصد الذي ذكرت فإن قال قائل: فعلى هذا وجب في الاختيار:
ومنهم من ينظرون إليك لأنهم هم الأكثرون كالمستمعين قلت: إن المستمعين لما كانوا محجوجين بما يستمعونه من القرآن كانوا الأكثرين في الحجاج، وليس كذلك المنظور إليه لأن الآيات التي رئيت بالعين لم تكثر كثرة آيات القرآن التي سمعت بالآذان، فباين السامعون الناظرين في الكثرة عند الحجاج، فلذلك عاد الضمير إليهم بلفظ الواحد.
الآية السابعة منها
قوله تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتََاكُمْ عَذََابُ اللََّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السََّاعَةُ أَغَيْرَ اللََّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صََادِقِينَ} (2) وقال بعدها: {قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتََاكُمْ عَذََابُ اللََّهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الظََّالِمُونَ} (3) فقال في هذين الموضعين {أَرَأَيْتَكُمْ}
وقال في هذه السورة: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللََّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصََارَكُمْ وَخَتَمَ عَلى ََ قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلََهٌ غَيْرُ اللََّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ} (4) وقال في سورة يونس (5): {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتََاكُمْ عَذََابُهُ بَيََاتاً أَوْ نَهََاراً مََا ذََا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ}.
للسائل أن يسأل فيقول: لأي معنى قال في الموضعين اللذين قدمنا ذكرهما
__________
(1) سورة: الإسراء، الآية: 45.
(4) سورة: الأنعام، الآية: 46.
(2) سورة: الأنعام، الآية: 40.
(5) الآية: 50.
(3) سورة: الأنعام، الآية: 47.(1/85)
{أَرَأَيْتَكُمْ} وفي الموضعين الآخرين {أَرَأَيْتُمْ} وهل كان في الاختيار أن يكون أحدهما مكان الآخر أم لا؟.
الجواب أن يقال: إن النحويين في قوله: {أَرَأَيْتَكُمْ} على مذهبين، أحدهما:
مذهب أهل البصرة، وهو أن الكاف في: أرأيتك زيدا عاقلا للخطاب كالكاف في ذلك، وليست باسم، ويقولون للاثنين: أرأيتكما زيدا عاقلا. وللجماعة: أرأيتكم زيدا عاقلا، بمعنى: أعلمته عاقلا، والتاء لا تتغير عن الفتح وهو علامة الضمير دون الكاف، واكتفى بتثنية الكاف وجمعها عن تثنية التاء. ومن مذهب أهل الكوفة في الاثنين أن التاء اسم، والكاف اسم مضمر والتقدير: أرأيتم أنفسكم إن أتاكم عذاب الله فالتاء موحدة اللفظ مع الكاف التي تختلف باختلاف المخاطبين اكتفاء باختلافها عن اختلاف التاء، ولا اختلاف في ترادف الخطابين التاء والكاف على المذهبين، ولا يترادفان إلا عند المبالغة في التنبيه، والمبالغة فيه هو أن يعلم المخاطب أن لا تنبيه بعده وما يتصل بقوله: {أَرَأَيْتَكُمْ} في الموضعين كلام يدل على ما إذا وقع لم ينفع عنده الزجر والتنبيه ألا تراه يقول: {أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتََاكُمْ عَذََابُ اللََّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السََّاعَةُ أَغَيْرَ اللََّهِ تَدْعُونَ} وعند إتيان العذاب وقيام الساعة لا ينفع الانتباه، ولا ينفع التنبيه، و «أرأيتكم» فعل متعد إلى مفعولين والجملة التي هي إن أتاكم عذاب الله مضمنة مفعولية، وكذلك قوله: {قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتََاكُمْ عَذََابُ اللََّهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الظََّالِمُونَ} معناه: أعلمتم إن أتاكم العذاب مفاجأة من حيث لا يعلم أو عيانا من حيث يشاهد {هَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الظََّالِمُونَ}
وهم المخاطبون أي {هَلْ يُهْلَكُ} غيركم فإذا علق ب {أَرَأَيْتَكُمْ} جملة تتضمن مفعوليها ومعنى الجملة تناهى الأمر في تخويفهم بالخشونة إلى حيث ينقطع التنبيه عندها كان هذا الموضع أحق المواضع بالمبالغة فيه بمرادفة التنبيه، فلذلك أتى بالتاء والكاف اللتين لا تخلوان من الخطاب على المذهبين، على أن مذهب الكوفيين في الآيتين صحيح محتمل، فالآية الأولى تقديرها أرأيتم أنفسكم داعية غير الله {إِنْ أَتََاكُمْ} عذاب الله، والآية الثانية تقديرها أرأيتم أنفسكم غير هالكة إن أتاكم عذاب الله بغتة أو جهرة، وأ رأيتم أنفسكم {هَلْ يُهْلَكُ} غيرها لأنهم هم الظالمون فأما الآيتان الأخريان اللتان اقتصر فيهما على {أَرَأَيْتُمْ} ولم يترادف في كل واحد منهما الخطابان الدالان على أن التناهي في التنبيه إلى حيث لا تنبيه بعده بذكر غاية ما يفزعون به وينذرون قرب حلوله، فلأن الجملتين بعدهما لم يتضمنا من المبالغة فيما يحذرون ما ينقطع التنبيه عنده، أما الأولى فقوله: {أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللََّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصََارَكُمْ وَخَتَمَ عَلى ََ قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلََهٌ غَيْرُ اللََّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ} أي: أعلمتم
إن سلبكم الله صحة ما تحسون به المشاهدات وتعلمون به المغيبات إلها غير الله يردها عليكم، وليس هذا استئصالا كما في الآيتين المتقدمتين فأما قوله: {أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتََاكُمْ عَذََابُهُ بَيََاتاً أَوْ نَهََاراً مََا ذََا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ} فلأن قبله {وَيَقُولُونَ مَتى ََ هََذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صََادِقِينَ} (1) مخبرا أنهم استعجلوا العذاب وقيام الساعة، فنزلوا منزلة من لا يخافون ما أوعدوا به، وكذلك قال: {مََا ذََا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ} فلم يكن فيه صريح الاستئصال والإفصاح بالهلاك، فكان كأن لم يبلغ حدا لا مزيد للتنبيه فيه، بل هم في ذلك الحال أحوج ما كانوا إلى الزجر إذ لم يبلغ منتهاه كما بلغ في الآيتين الأخريين، وصار التقدير: أعلمتم أي شيء يستعجل المجرمون من عذاب الله أي: هم يستعجلون هلاكهم ولا يعلمون، ومعناه: أعلموهم طالبين هلاك أنفسهم بما يستعجلونه من نزول عذاب الله بهم، فقد بان لك الفرق بين الآيات وما ترادفت فيه علامتا الخطاب دون غيره مما جرى على أصل الكلام والعلم عند الله.(1/86)
مذهب أهل البصرة، وهو أن الكاف في: أرأيتك زيدا عاقلا للخطاب كالكاف في ذلك، وليست باسم، ويقولون للاثنين: أرأيتكما زيدا عاقلا. وللجماعة: أرأيتكم زيدا عاقلا، بمعنى: أعلمته عاقلا، والتاء لا تتغير عن الفتح وهو علامة الضمير دون الكاف، واكتفى بتثنية الكاف وجمعها عن تثنية التاء. ومن مذهب أهل الكوفة في الاثنين أن التاء اسم، والكاف اسم مضمر والتقدير: أرأيتم أنفسكم إن أتاكم عذاب الله فالتاء موحدة اللفظ مع الكاف التي تختلف باختلاف المخاطبين اكتفاء باختلافها عن اختلاف التاء، ولا اختلاف في ترادف الخطابين التاء والكاف على المذهبين، ولا يترادفان إلا عند المبالغة في التنبيه، والمبالغة فيه هو أن يعلم المخاطب أن لا تنبيه بعده وما يتصل بقوله: {أَرَأَيْتَكُمْ} في الموضعين كلام يدل على ما إذا وقع لم ينفع عنده الزجر والتنبيه ألا تراه يقول: {أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتََاكُمْ عَذََابُ اللََّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السََّاعَةُ أَغَيْرَ اللََّهِ تَدْعُونَ} وعند إتيان العذاب وقيام الساعة لا ينفع الانتباه، ولا ينفع التنبيه، و «أرأيتكم» فعل متعد إلى مفعولين والجملة التي هي إن أتاكم عذاب الله مضمنة مفعولية، وكذلك قوله: {قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتََاكُمْ عَذََابُ اللََّهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الظََّالِمُونَ} معناه: أعلمتم إن أتاكم العذاب مفاجأة من حيث لا يعلم أو عيانا من حيث يشاهد {هَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الظََّالِمُونَ}
وهم المخاطبون أي {هَلْ يُهْلَكُ} غيركم فإذا علق ب {أَرَأَيْتَكُمْ} جملة تتضمن مفعوليها ومعنى الجملة تناهى الأمر في تخويفهم بالخشونة إلى حيث ينقطع التنبيه عندها كان هذا الموضع أحق المواضع بالمبالغة فيه بمرادفة التنبيه، فلذلك أتى بالتاء والكاف اللتين لا تخلوان من الخطاب على المذهبين، على أن مذهب الكوفيين في الآيتين صحيح محتمل، فالآية الأولى تقديرها أرأيتم أنفسكم داعية غير الله {إِنْ أَتََاكُمْ} عذاب الله، والآية الثانية تقديرها أرأيتم أنفسكم غير هالكة إن أتاكم عذاب الله بغتة أو جهرة، وأ رأيتم أنفسكم {هَلْ يُهْلَكُ} غيرها لأنهم هم الظالمون فأما الآيتان الأخريان اللتان اقتصر فيهما على {أَرَأَيْتُمْ} ولم يترادف في كل واحد منهما الخطابان الدالان على أن التناهي في التنبيه إلى حيث لا تنبيه بعده بذكر غاية ما يفزعون به وينذرون قرب حلوله، فلأن الجملتين بعدهما لم يتضمنا من المبالغة فيما يحذرون ما ينقطع التنبيه عنده، أما الأولى فقوله: {أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللََّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصََارَكُمْ وَخَتَمَ عَلى ََ قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلََهٌ غَيْرُ اللََّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ} أي: أعلمتم
إن سلبكم الله صحة ما تحسون به المشاهدات وتعلمون به المغيبات إلها غير الله يردها عليكم، وليس هذا استئصالا كما في الآيتين المتقدمتين فأما قوله: {أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتََاكُمْ عَذََابُهُ بَيََاتاً أَوْ نَهََاراً مََا ذََا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ} فلأن قبله {وَيَقُولُونَ مَتى ََ هََذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صََادِقِينَ} (1) مخبرا أنهم استعجلوا العذاب وقيام الساعة، فنزلوا منزلة من لا يخافون ما أوعدوا به، وكذلك قال: {مََا ذََا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ} فلم يكن فيه صريح الاستئصال والإفصاح بالهلاك، فكان كأن لم يبلغ حدا لا مزيد للتنبيه فيه، بل هم في ذلك الحال أحوج ما كانوا إلى الزجر إذ لم يبلغ منتهاه كما بلغ في الآيتين الأخريين، وصار التقدير: أعلمتم أي شيء يستعجل المجرمون من عذاب الله أي: هم يستعجلون هلاكهم ولا يعلمون، ومعناه: أعلموهم طالبين هلاك أنفسهم بما يستعجلونه من نزول عذاب الله بهم، فقد بان لك الفرق بين الآيات وما ترادفت فيه علامتا الخطاب دون غيره مما جرى على أصل الكلام والعلم عند الله.
الآية الثامنة منها
قوله تعالى: {وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً وَغَرَّتْهُمُ الْحَيََاةُ الدُّنْيََا وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمََا كَسَبَتْ} (2) وقال في سورة الأعراف (3): {قََالُوا إِنَّ اللََّهَ حَرَّمَهُمََا عَلَى الْكََافِرِينَ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْواً وَلَعِباً وَغَرَّتْهُمُ الْحَيََاةُ الدُّنْيََا} وقال في سورة العنكبوت (4): {وَمََا هََذِهِ الْحَيََاةُ الدُّنْيََا إِلََّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ} فقدم اللهو على اللعب في هاتين الآيتين، وجاء في سورة الحديد (5): {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيََاةُ الدُّنْيََا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ} فقدم اللعب على اللهو كما قدمه في سورة الأنعام.
للسائل: أن يسأل فيقول: إذا كانت الواو للجمع بين الشيئين والأشياء بلا ترتيب فهل لتقديم أحد الاسمين على الآخر في موضع دون موضع، وتقديم الآخر عليه في غير ذلك الموضع فائدة تختصه، أم كان جائز في كل مكان تقديم أيهما شاء المتكلم لا لغرض يختصه؟
الجواب: أن يقال: أما الآية الأولى التي في هذه السورة فإنها في قوم من الكفار
__________
(1) سورة: يونس، الآية: 48.
(4) الآية: 64.
(2) سورة: الأنعام، الآية: 70.
(5) الآية: 20.
(3) الآيتان: 50، 51.(1/87)
كانوا إذا سمعوا آيات الله هزلوا عندها، واستهزءوا بها، فهذا اتخاذهم دين الله {لَعِباً وَلَهْواً} وهو كما قال في آية أخرى: {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتََابِ أَنْ إِذََا سَمِعْتُمْ آيََاتِ اللََّهِ يُكْفَرُ بِهََا وَيُسْتَهْزَأُ بِهََا فَلََا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتََّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ} (1) فقوله عز وجلّ: {وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً} كقوله: {فَلََا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ} فهؤلاء قوم حضروا النبي صلّى الله عليه وسلم وسمعوا القرآن وعبثوا عند سماعه وتلاعبوا بآياته، وأجروها مجرى أفعال يستروح إليها ولا نفع في عقباها، ثم شغلوا بدنياهم عن تدبرها وألهتهم بحلاوتها عن الفكر في صحتها، فأول أفعالهم لعب وثانيها لهو، واللعب فعل في طاعة الجهل تتعجل منه مسرة، واللهو قال فيه صاحب العين: ما شغل الإنسان من هوى وطرب، فهؤلاء لما فعلوا عند سماع القرآن من الاستهزاء والعبث أطلق على فعلهم اسم اللعب، ثم لما شغلوا عنه باستحلاء الدنيا كان هذا لهوا منهم بعد اللعب، وكان أول دينهم لعبا وما بعده لهوا، فلذلك قدم «لعب» على «لهو» في هذه الآية وأما قوله تعالى في سورة الأعراف (2): {وَنََادى ََ أَصْحََابُ النََّارِ أَصْحََابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنََا مِنَ الْمََاءِ أَوْ مِمََّا رَزَقَكُمُ اللََّهُ قََالُوا إِنَّ اللََّهَ حَرَّمَهُمََا عَلَى الْكََافِرِينَ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْواً وَلَعِباً وَغَرَّتْهُمُ الْحَيََاةُ الدُّنْيََا} وتقديم اللهو على اللعب في هذه الآية فلأن الكافرين هنا لعامة الكفار غير مختص بمن سمع الآيات، فقدم فعل أكثرهم على فعل أقلهم، وهم الذين شغلتهم الدنيا وحلاوتها والولادة وعادتها واستحلاء ما مرت عليه طباعها، وهذا هو اللهو، ثم كانت أفعالهم التي اقتدوا فيها بآبائهم لما طابت لهم ولم يجدوا في العاقبة نفعا عليهم كاللعب الذي ينطوي على أفعال تبطل في الآجل وإن سرت في العاجل، وهذا بعد الأول، وأكثر الكفار داؤهم اللهو وإن شغلهم الحال التي استصحبوها عن الكفر فيما يطرأ عليها. فوجب هنا تقديم ذكر اللهو لوجهين: لتقدمه على ما هو كاللعب، ولأنه فعل أكثرهم. واللعب الذي أريد في الآية الأولى فعل أقلهم وهو هناك أول وهو ما ردّ به ما جاء به الرسول صلّى الله عليه وسلم وأما قوله تعالى في سورة الحديد:
{اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيََاةُ الدُّنْيََا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفََاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكََاثُرٌ فِي الْأَمْوََالِ وَالْأَوْلََادِ}
وتقديم اللعب فيه على اللهو، فلأن معناه: الحياة الدنيا لمن اشتغل بها ولم يتعب لغيرها من أعمال الآخرة مقسومة من الصبا، وهو وقت اللعب وبعده لهو وهو الترويح عن النفس بملاعبة النساء، ويتبع ذلك أخذ الزينة لهن وتبرجهن ومن أجل الزينة نشأت مباهاة الأكفاء
__________
(1) سورة: النساء، الآية: 140.
(2) الآيتان: 50، 51.(1/88)
ومفاخرة الأشكال والنظر، ثم بعده المكاثرة بالأموال والأولاد، فترتبت الحياة على هذه الأحوال فوجب تقديم حال اللعب على حال اللهو، واللهو إذا أطلق في كلامهم: هو اجتلاب المسرة بمخالطة النساء ولذلك قال امرؤ القيس:
ألا زعمت بسباسة اليوم أنني ... كبرت وأن لا يحسن اللهو أمثالي
وقال آخر:
لهونا بمنجول البراقع حقبة ... فما بال دهر لزّنا بالوصاوص
وقيل في قوله تعالى: {وَمََا خَلَقْنَا السَّمََاءَ وَالْأَرْضَ وَمََا بَيْنَهُمََا لََاعِبِينَ لَوْ أَرَدْنََا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً لَاتَّخَذْنََاهُ مِنْ لَدُنََّا إِنْ كُنََّا فََاعِلِينَ} (1) قيل في تفسير اللهو: المرأة، وقال قتادة: اللهو بلغة اليمن المرأة، أي: لفعلناه من حيث يختص بعلمنا فلا يطلع غيرنا عليه، تعالى الله عن الصاحبة والولد، فعلى هذا سميت المرأة لهوا باسم الفعل لكثرة ما يقع ذلك بها. أما قوله تعالى في سورة العنكبوت: {وَمََا هََذِهِ الْحَيََاةُ الدُّنْيََا إِلََّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدََّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوََانُ لَوْ كََانُوا يَعْلَمُونَ} فليس المراد به أن الحياة الدنيا كلها لهو ولعب، وليست شيئا غيرهما كقوله: ما هي إلا همّا لأنه لو كان المراد هذا لكان للقائل أن يقول: ما هذه الحياة الدنيا إلا خوف وحزن فالخوف: ألم القلب لتوقع مكروه، والحزن: ألمه لفقد محبوب، ثم إن هذه الحياة الدنيا تنطوي على أنواع عبادة الله وعلى تلاوة كتابه وعلى ما يكسب رضى الله عز وجلّ ويوجب ثوابه الدائم، فكيف يقال فيما يتضمن كل هذه الخيرات: ليس هو إلا لهوا ولعبا؟ بل المراد المبالغة في وصف قصر مدة الدنيا بالإضافة إلى مدة الأخرى، فكأنه قال: ما أمد الحياة الدنيا إلا كأمد أزمنة اللهو واللعب، وهي أزمنة تستقصر لشغل النفس بحلاوة ما يستعجل كما قال القائل:
شهور ينقضين وما شعرنا ... بإنصاف لهنّ ولا سرار
وقال المتأخر:
وليلة إحدى الليالي الزهر ... لم تك غير شفق وفجر
والدليل على أن المراد هذا ما ذكرت قبل ما ذكره الله بعد من قوله عز وجلّ: {وَإِنَّ الدََّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوََانُ} أي: إن حياتها تبقى أبدا ولا تعرف أمدا وإنما قدم
__________
(1) سورة: الأنبياء، الآيتان: 16، 17.(1/89)
اللهو هنا على اللعب لأن الأزمنة التي يقصرها اللعب لأن التشاغل به أكثر، فلما كانت معظم ما يستقصر وجب تقديم ما يكثر على ما هو دونه في الكثرة لأن ذلك آخذ بالشبه وأبلغ في وصف المشبه، ولا خلاف أن الناس أزمنتهم المشغولة باللهو أكثر من أزمنتهم المشغولة باللعب، وأن طيبها لهم يخيل قصرها إليهم، ويتفاوت طيبها على حسب تفاوت ميل النفس إلى محبوبها، فمعظم ما ترى الزمان الطويل قصير زمان اللهو بالنساء، وهو الذي نشأت منه فتنة الرجال وهلاك أهل الحب فهذا الكلام في هذه الآي والسلام.
الآية التاسعة منها
قوله تعالى: {إِنَّ اللََّهَ فََالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوى ََ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ} (1) وقال في سورة أخرى قبلها وبعدها: {يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ} (2).
للسائل أن يسأل فيقول: لم عطف الاسم على لفظ الفعل ولم يعطف عليه لفظ الفعل كما في السور الأخر، وإذا عطف عليه بلفظ الاسم وهو «مخرج الميت» هلا ذكر اللفظ الأول بالاسم فيقول: «مخرج الحي من الميت» فما الفائدة في ذلك وما الفرق بينها وبين الآخر؟
الجواب: أن يقال: إن أول هذه الآية ذكر بلفظ الاسم، وهو {فََالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوى ََ} فكان اللائق به أن يقال: ومخرج الحي من الميت، ولكنه لما اجتمع ثلاثة حروف من حروف الصلة دفعة واحدة وهي: الواو من «والنوى»، والياء من «النوى، والواو من «ومخرج» واو العطف، نقل عن لفظ الاسم إلى لفظ الفعل لما كان يخرج ومخرج بمعنى واحد فقيل {يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ} فجعل الجملة وهي: مخرج الحي من الميت خبر الابتداء كما يقول: إن زيدا ضارب عمرو ومكرم بكرا ومكرم جعفرا، فهذا أفصح من أن يقول: أن زيدا ضارب عمرو مكرم بكرا ومكرم جعفرا هذا أفصح من أن تقول: أن زيدا ضارب عمرو ومكرم بكر ومكرم جعفرا، فلهذا المعنى قال: {يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ} فلما انتهى إلى العاطف من قرينته، ولم يكن فيه تلك
__________
(1) سورة: الأنعام، الآية: 95.
(2) سورة: يونس، الآية: 31.(1/90)
العلة التي كان في المعطوف عليه، فأجرى على ما أجرى عليه أول الآية: وهو {فََالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوى ََ} وما بعده {فََالِقُ الْإِصْبََاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً} (1) وعاد إلى لفظ الاسم وهو {وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ} وعطفه على {فََالِقُ الْحَبِّ} وليس في الآي الأخر ما في هذه الآية قبلها وبعدها من الاسمية فذكر فيها على لفظ الفعل عاطفها ومعطوفها، فبان الفرق بينهما على ما بينت والسلام.
الآية العاشرة منها
قوله تعالى: {قَدْ فَصَّلْنَا الْآيََاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} (2) والآية الثانية بعدها: {قَدْ فَصَّلْنَا الْآيََاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ} (3) والآية الثالثة: {إِنَّ فِي ذََلِكُمْ لَآيََاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} (4).
للسائل أن يسأل فيقول: ما الذي أوجب في اختيار الكلام أن يقال في الآية الأولى: {قَدْ فَصَّلْنَا الْآيََاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} وفي الثانية: {لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ} وفي الثالثة:
{لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} وهل صلح بعض ذلك مكان بعض أم في كل موضع معنى يخص اللفظ الذي جاء عليه؟
الجواب أن يقال: إن قوله: {قَدْ فَصَّلْنَا الْآيََاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} جاء بعد آيات نبهت على معرفة الله تعالى وهي من قوله: {إِنَّ اللََّهَ فََالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوى ََ} (5) إلى قوله:
{وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهََا فِي ظُلُمََاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} (6) فكان جميع ذلك دالا على العلم بالله وبوحدانيته، وهو أشرف معلوم، ولا لفظ من ألفاظ «يعقلون» و «يفقهون» و «يشعرون، إلا ولفظة «يعلمون» أعلى منه ولذلك صحت في الخبر عن الله تعالى ولم يصح فيه غيرها من الألفاظ التي ذكرت، فلما كان المعلوم أشرف المعلومات عبر عن الآيات التي نصبت للدلالة عليه باللفظ الأشرف. وأما ما استعمل فيه «يفقهون» فهو بعد قوله: {وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وََاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ} (7) فأخبر عن ابتدائه الإنسان وإنشائه إياه نبه بما أراه من تنقله من حال إلى حال: من عدم إلى وجود، ومن مكان إلى مكان: من صلب إلى رحم، ومن بطن أم إلى وجه الأرض، ومن وجه
__________
(1) سورة: الأنعام، الآية: 96.
(5) سورة: الأنعام، الآية: 95.
(2) سورة: الأنعام، الآية: 97.
(6) سورة: الأنعام، الآية: 97.
(3) سورة: الأنعام، الآية: 98.
(7) سورة: الأنعام، الآية: 98.
(4) سورة: الأنعام، الآية: 99.(1/91)
الأرض إلى بطنها على أنه كما نقل من موت إلى حياة، ومن حياة إلى موت كذلك ينقل من الموت إلى الحياة، ومن القبر إلى المحشر ومنه إلى إحدى الدارين لأن الاستيداع في الدنيا والمستقر في العقبى كما نقل في التفاسير، فنطقت تلك الأحوال الحادثة لمن يفهمها ويفطن لها ويستدل بشاهدها على مغيبها أن بعد الموت بعثا وحشرا وثوابا وعقابا، وهذا مما يفطن له ف «يفقهون» أولى به. وأما قوله تعالى: {إِنَّ فِي ذََلِكُمْ لَآيََاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ}
بعد ما عدد نعمه على خلقه وما وسعه من رزقه من الحب المعد للأقوات ومن ضروب الأشجار وصنوف الثمار، وكان هذا مستدعيا للإيمان به المشتمل على شكر نعمته والقيام بما فرض من طاعته وأوجب من عبادته كانت الآيات في ذلك معرضة لمن آمن بالله، فلذلك قال في الأخير: {إِنَّ فِي ذََلِكُمْ لَآيََاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ}.
الآية الحادية عشرة منها
قوله تعالى: {ذََلِكُمُ اللََّهُ رَبُّكُمْ لََا إِلََهَ إِلََّا هُوَ خََالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلى ََ كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ} (1) وقال في سورة غافر (2): {ذََلِكُمُ اللََّهُ رَبُّكُمْ خََالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لََا إِلََهَ إِلََّا هُوَ فَأَنََّى تُؤْفَكُونَ}.
للسائل أن يسأل فيقول: لماذا قدم في سورة الأنعام: {لََا إِلََهَ إِلََّا هُوَ} على قوله: {خََالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} وقدم في سورة غافر: {خََالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} على قوله: {لََا إِلََهَ إِلََّا هُوَ}؟.
الجواب: أن يقال: لأن ما في هذه السورة جاء بعد قوله تعالى: {وَجَعَلُوا لِلََّهِ شُرَكََاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنََاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ} (3) فلما قال: {ذََلِكُمُ اللََّهُ رَبُّكُمْ} أتى بعده بما يدفع قول من جعل له شريكا فقال: {لََا إِلََهَ إِلََّا هُوَ} ثم قال:
{خََالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} وفي سورة المؤمن جاء هذا بعد قوله: {لَخَلْقُ السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النََّاسِ وَلََكِنَّ أَكْثَرَ النََّاسِ لََا يَعْلَمُونَ} (4) فكان الكلام على تثبيت خلق الإنسان لا على نفي الشريك عنه كما كان في الآية الأولى، فكان تقديم خالق كل شيء هاهنا أولى والله أعلم.
__________
(1) سورة: الأنعام، الآية: 102.
(3) سورة: الأنعام، الآية: 100.
(2) الآية: 62.
(4) سورة: غافر، الآية: 57.(1/92)
الآية الثانية عشرة منها
قوله تعالى: {وَلَوْ شََاءَ رَبُّكَ مََا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمََا يَفْتَرُونَ} (1) وقال بعده:
{وَلَوْ شََاءَ اللََّهُ مََا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمََا يَفْتَرُونَ} (2).
للسائل أن يسأل فيقول: كيف قال: {وَلَوْ شََاءَ رَبُّكَ} في الآية الأولى وفي الثانية: {وَلَوْ شََاءَ اللََّهُ} وهل في المكانين ما يوجب اختلاف الاسمين؟
الجواب: أن يقال: إن الأولى قبلها {وَكَذََلِكَ جَعَلْنََا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيََاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى ََ بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً} (3) أي: كان للأنبياء قبلك أذى من قبل العدو من الإنس والجن، ولو شاء من ربّاك وقام بمصالحك لألجأهم إلى موافقتك وترك مخالفتك وإن كان من يقوم بربابتك يحجزهم عن مضرتك وأن يظفروا بمرادهم من عداوتك، فقد تضمن قوله «ربك» هذا المعنى وقوله في الآية الأخرى:
{وَلَوْ شََاءَ اللََّهُ} جاء بعد قوله: {وَجَعَلُوا لِلََّهِ مِمََّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعََامِ نَصِيباً} (4) فأخبر أنهم أقاموا لله الذي يحق إفراده بالعبادة شريكا، {وَلَوْ شََاءَ اللََّهُ}
أي: ولو شاء من نعمته عليهم نعمة توجب التأله له أن لا يعبدوا سواه ما تمكنوا من فعله، فهذا موضع لم يلق به إلا الاسم الذي يفيد معنى فيه حجة عليهم دون غيره من الأسماء، فأفاد كل اسم من الاسمين في مكانه ما لم يكن ليستفاد بغيره، والله أعلم.
الآية الثالثة عشرة منها
قوله تعالى: {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} (5)
وفي سورة ن القلم (6): {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ}.
للسائل أن يسأل عن الفرق بين اللفظين وحذف الباء وإثباتها، وهل كان يصح اللفظ الذي هاهنا هناك والذي هناك هنا؟.
الجواب: أن يقال: إن مكان كل واحد يقتضي ما وقع فيه، وبين اللفظين فرق في
__________
(1) سورة: الأنعام، الآية: 112.
(4) سورة: الأنعام، الآية: 136.
(2) سورة: الأنعام، الآية: 137.
(5) سورة: الأنعام، الآية: 117.
(3) سورة: الأنعام، الآية: 112.
(6) الآية: 7.(1/93)
المعنى يوجب اختصاص اللفظ الذي جاء له فقوله: {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ} معناه: الله يعلم أي المأمورين يضل عن سبيله: أزيد أم عمرو، وهذا المعنى يقتضيه ما تقدم هذه الآية، وما جاء بعدها مما تعلق بها فالذي قبلها {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللََّهِ} (1) أي: إن تطع الكفار يضلوك عن طاعة الله وعبادته.
ثم إنه أخبر أنه يعلم من الذين يغوونه ويضلونه ومن الذين لا يتمكنون من إضلاله، وبعد هذه الآية: {وَإِنَّ كَثِيراً لَيُضِلُّونَ بِأَهْوََائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ} (2).
وأما قوله: {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ} فمعناه عنى معنى ما في الآية الأولى. أي: الله أعلم بأحوال من ضل كيف كان ابتداء ضلاله، وما يكون من مآله أيصرّ على باطله أم يرجع عنه إلى حقه؟ وقبلها {فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ} (3) من جعل المفتون بمعنى: الفتون كالمفعول بمعنى الفعل، كان معناه: ستعلم ويعلمون بك أو بهم المفتون وخبال الرأي وفساد العقل، ومن جعل المفتون للمبتلى بفساد التمييز وهو حكاية معنى قولهم: أنه صلّى الله عليه وسلم مجنون كان كما يقال: في أي الفرقتين المجنون، أي: في فرقة الإسلام، أو في فرقة الكفر، والباء تقارب معنى «في» كما قال: فيه عيب وبه عيب، فينوب كل واحد من الحرفين مناب الآخر في أداء المعنى ويجوز أن تكون الباء معناها على ما يقال: فلان بالله وبك، أي: ثباته به وبك، معناه أي: سيعلم بأي الطائفتين ثبات الجنون ودوام الفتون وإذا كان مدار الكلام على أنه سيبصر بأيكم الخبال والجنون كان قوله تعالى: {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ} أي: الله أعلم بي وبكم المخبل المجنون مني أو منكم وإذا قال: {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ}
أي: هو أعلم بابتداء ضلاله وانتهاء أمره وهل يقيم على كفره أم يقلع عن غيه لرشده، فقد بان لك أن كل موضع أتى فيه بما اقتضاه المعنى من اللفظ.
الآية الرابعة عشرة منها
قوله تعالى: {كَذََلِكَ زُيِّنَ لِلْكََافِرِينَ مََا كََانُوا يَعْمَلُونَ} (4) وقال في سورة يونس (5): {كَذََلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مََا كََانُوا يَعْمَلُونَ}.
للسائل أن يسأل فيقول: ما فائدة اختصاص المكان الأول بالكافرين، والثاني بالمسرفين؟
__________
(1) سورة: الأنعام، الآية: 116.
(4) سورة: الأنعام، الآية: 122.
(2) سورة: الأنعام، الآية: 119.
(5) الآية: 12.
(3) سورة: القلم، الآيتان: 5، 6.(1/94)
الجواب: أن يقال إن الأول قبله: {أَوَمَنْ كََانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنََاهُ وَجَعَلْنََا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النََّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمََاتِ لَيْسَ بِخََارِجٍ مِنْهََا كَذََلِكَ زُيِّنَ لِلْكََافِرِينَ مََا كََانُوا يَعْمَلُونَ} والمراد بالميت هاهنا: الكافر، والنور: الإيمان، وحياته به، ومن في الظلمات: من استمر به الكفر ولم ينتقل عنه، فكان ذكر الكافرين بعده أولى. وأما المكان الثاني فإن قبله: {إِنَّ الَّذِينَ لََا يَرْجُونَ لِقََاءَنََا وَرَضُوا بِالْحَيََاةِ الدُّنْيََا وَاطْمَأَنُّوا بِهََا} (1) وهذا صفة الكفار نعموا أبدانهم ونسوا أديانهم، واقتصروا على عمارة الحياة الدنيا ولم يتعبوا بطلب الأخرى وهم المسرفون الذين قال الله تعالى فيهم: {وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحََابُ النََّارِ} (2) لأنهم غلوا في إيثار الدنيا وتعجل نعيمها وتجاوزوا الحد في عمارتها والإعراض عما هو أهم منها ويجوز أن يكون الكفار سموا المسرفين لمجاوزتهم الحد في العصيان إذ يقال لمن أفرط في ظلم: أسرف، فالذين رضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها وغفلوا عن تدبر آيات الله يقال لهم مسرفون على وجهين، أحدهما:
المبالغة في تنعيم النفوس وجعلهم الدنيا حظهم بما عرضوا له من النعم والثاني:
مجاوزتهم الحد في معصية الله. فلما قال: {فَنَذَرُ الَّذِينَ لََا يَرْجُونَ لِقََاءَنََا فِي طُغْيََانِهِمْ يَعْمَهُونَ} (3) وأشار إلى من تقدم ذكرهم في قوله: {إِنَّ الَّذِينَ لََا يَرْجُونَ لِقََاءَنََا وَرَضُوا بِالْحَيََاةِ الدُّنْيََا وَاطْمَأَنُّوا بِهََا} ثم وصف حال الإنسان في الشدة والرخاء، وانقطاعه في الشدة إلى الدعاء ونسيانه له في الرخاء فسمى الذين هذه صفتهم مسرفين على أحد الوجهين اللذين ذكرنا لإسرافهم في الحالين.
الآية الخامسة عشرة منها
قوله تعالى: {ذََلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى ََ بِظُلْمٍ وَأَهْلُهََا غََافِلُونَ} (4)
وقال في سورة هود (5): {وَمََا كََانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرى ََ بِظُلْمٍ وَأَهْلُهََا مُصْلِحُونَ}.
للسائل أن يسأل فيقول: لم قال في الأولى {غََافِلُونَ} وفي الآخرة {مُصْلِحُونَ}؟
الجواب: إن ذلك إشارة إلى ما تقدم ذكره من العقاب في قوله: {قََالَ النََّارُ مَثْوََاكُمْ خََالِدِينَ فِيهََا} (6) وبعده:
__________
(1) سورة: يونس، الآية: 7.
(4) سورة: الأنعام، الآية: 131.
(2) سورة: غافر، الآية: 43.
(5) الآية: 117.
(3) سورة: يونس، الآية: 11.
(6) سورة: الأنعام، الآية: 128.(1/95)
{يََا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيََاتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقََاءَ يَوْمِكُمْ هََذََا} (1) يعني: العقاب في يوم القيامة لأنه لم يكن ربك ليفعله من قبل أن يحتج عليهم برسل يهدونهم وينذرونهم ما وراءهم من محذورهم ولا يتركونهم في غفلة من أمورهم، فاقتضى هذا المكان أن يقال: لم يؤخذوا وهم غافلون بل كانوا منبهين بالأعذار والإنذار على ألسنة الرسل عليهم الصلاة والسلام
وأما الموضع الثاني الذي ذكر فيه: {وَأَهْلُهََا مُصْلِحُونَ} فللبناء على ما تقدم وهو قوله تعالى: {فَلَوْلََا كََانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسََادِ فِي الْأَرْضِ إِلََّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنََا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مََا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكََانُوا مُجْرِمِينَ} (2) فدل على أن القوم كانوا مفسدين حتى نهاهم {أُولُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسََادِ فِي الْأَرْضِ} وكان نقيض الفساد في الأرض الصلاح فقال: {لَمْ يَكُنْ} الله ليهلكهم وهم {مُصْلِحُونَ} فاقتضى ما تقدم في كل آية ما أتبعت من الغافلين والمصلحين.
الآية السادسة عشرة منها
قوله تعالى: {قُلْ يََا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى ََ مَكََانَتِكُمْ إِنِّي عََامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} (3)
وقال في سورة هود (4) في قصة شعيب: {وَيََا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى ََ مَكََانَتِكُمْ إِنِّي عََامِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ} وقال في سورة الزمر (5): {قُلْ يََا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى ََ مَكََانَتِكُمْ إِنِّي عََامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ}.
للسائل أن يسأل عن الآية التي في سورة هود لم جاءت بحذف الفاء من «سوف» وجاءت الآيتان الآخرتان بإثباتها فقال: {فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} وهل يصلح ما فيه الفاء مكان ما لا فاء فيه؟
الجواب أن يقال: أمر الله نبيه صلّى الله عليه وسلم في سورة الأنعام بأن يخاطب الكفار على سبيل الوعيد: {اعْمَلُوا عَلى ََ} طريقتكم وجهتكم أو على تمكنكم {فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} أنكم أسأتم إلى أنفسكم. والعمل سبب للجزاء الذي عبر عنه بقوله: {فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ}
فالفاء متعلقة بقوله: {اعْمَلُوا} أو التقدير: اعملوا، فسوف تعلمون
__________
(1) سورة: الأنعام، الآية: 130.
(4) الآية: 93.
(2) سورة: هود، الآية: 116.
(5) الآية: 39.
(3) سورة: الأنعام، الآية: 135.(1/96)
{إِنِّي عََامِلٌ} فسوف أعلم، فحذف للعلم به، وكذلك ما في سورة الزمر من خطاب من الله تعالى للنبي صلّى الله عليه وسلم على هذا الوجه، وأما في سورة هود فإنه حكاية عن شعيب عليه السّلام لما تجاهل قومه عليه فقالوا له: {يََا شُعَيْبُ مََا نَفْقَهُ كَثِيراً مِمََّا تَقُولُ وَإِنََّا لَنَرََاكَ فِينََا ضَعِيفاً وَلَوْلََا رَهْطُكَ لَرَجَمْنََاكَ وَمََا أَنْتَ عَلَيْنََا بِعَزِيزٍ} (1) فقال لهم: {اعْمَلُوا عَلى ََ مَكََانَتِكُمْ إِنِّي عََامِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ} وتعرفون عملي وإن قلتم إنا لا نفقه أكثر ما تقوله، فجعل {سَوْفَ تَعْلَمُونَ} مكان الوصف لقوله: عامل، فلم يصح على هذا المعنى دخول الفاء، وقصد هذا المعنى لما أظهروا من جهلهم به وأنهم لا يعرفون ما يقوله لهم فقال لهم: {إِنِّي عََامِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ} عملي وتعرفونه بعد ما أنكرتموه.
الآية السابعة عشرة منها
قوله تعالى: {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شََاءَ اللََّهُ مََا أَشْرَكْنََا وَلََا آبََاؤُنََا وَلََا حَرَّمْنََا مِنْ شَيْءٍ كَذََلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} (2) وقال في سورة النحل (3):
{وَقََالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شََاءَ اللََّهُ مََا عَبَدْنََا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلََا آبََاؤُنََا وَلََا حَرَّمْنََا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذََلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ}.
للسائل أن يسأل هنا عن مسألتين:
إحداهما: أنه ذكر في الثانية {مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ} ولم يذكر في الأولى، وهل كان يجوز لو وصلت إحداهما بما وصلت به الأخرى؟
والثانية: توكيد الضمير في سورة النحل، ثم العطف عليه، وفي سورة الأنعام لم يؤكد وعطف عليه {وَلََا آبََاؤُنََا} والفصل الذي يقوم مقام التوكيد في المكانين حاصل.
الجواب أن يقال: قوله: {مََا أَشْرَكْنََا} مستغن عن ذكر المفعول به وإن كان في الأصل متعديا إليه لقوله: أن تشركوا به شيئا، وإنما لم يحتج إلى ذكر المفعول به كما احتاج إليه {عَبَدْنََا} لأن الإشراك يدل على إثبات شريك لا يجوز إثباته والعبادة لا تدل على إثبات معبود لا يجوز إثباته لأنها تدل على معبود هو مثبت لا يصح نفيه فقوله: {مََا عَبَدْنََا} غير مستنكر أن يبدو، وإنما المستنكر أن يعبدوا غير الله شيئا، فكان تمام المعنى بذكر قوله: {مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ} وكذلك: {وَلََا حَرَّمْنََا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ} لا بدّ
__________
(1) سورة: هود، الآية: 92.
(3) الآية: 35.
(2) سورة: الأنعام، الآية: 148.(1/97)
مع {حَرَّمْنََا} من قوله: {مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ} لم يحتج إليه بعد قوله: {مََا أَشْرَكْنََا} لأن الإشراك دال على أن صاحبه يحرم شيئا من دون الله ولا يدل {عَبَدْنََا}
على ذلك فوفّى اللفظان في سورة النحل حقهما من التمام.
الجواب عن السؤال الثاني: وهو: توكيد علامة الضمير في سورة النحل بنحن، وترك ذلك في سورة الأنعام مع أن بعد واو العطف «لا» في الموضعين: هو أن كل ما أكد معنى الفعل الذي ضمير الفاعل كالجزء منه إذا وليه، ولم تكثر الحواجز بينهما قام مقام التوكيد بعلامة الإضمار مثل أنا ونحن، فقوله: {مََا أَشْرَكْنََا وَلََا آبََاؤُنََا} أشركنا منه منفي بما و «لا» بعد الواو مؤكد معنى «ما» الداخلة على الفعل، فكأنها مؤكدة للفعل، وإذا أكدت الفعل وعلامة الإضمار جزء منه فكأنها أكدتها ومثله: {فَاسْتَقِمْ كَمََا أُمِرْتَ وَمَنْ تََابَ مَعَكَ} (1) {وَمَنْ تََابَ} عطف على المضمر لقوله: {فَاسْتَقِمْ} وصح لأن قوله: {كَمََا أُمِرْتَ} بمعنى استقامة مثل ما أمرت به، ف {كَمََا أُمِرْتَ} في موضع المصدر، والمصدر توكيد للفعل نفسه، فصار مثل توكيد ما هو كجزء منه فكان هذا المؤكد للفعل يليه في هذا المكان وفي قوله: {مََا أَشْرَكْنََا وَلََا آبََاؤُنََا} فأما قوله:
{مََا عَبَدْنََا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ} لم يكن الفعل مؤكدا لنفس الفعل كما كان المصدر في قوله: {فَاسْتَقِمْ} وكما كانت «لا» بعد واو العطف في قوله: {وَلََا آبََاؤُنََا} مؤكدة معنى «ما» التي تنفي الفعل فتصير كأنها مؤكدة ما هو كبعض الفعل لأن الفصل هاهنا بالمفعول به وهو {مِنْ شَيْءٍ} وبقوله: {مِنْ دُونِهِ} ومعناه: ما عبدنا غيره شيئا، فيكون بمعنى الاستثناء وليس شيء من هذين مؤكدا لنفس الفعل، فلما لم يؤكداها وجاءت {وَلََا آبََاؤُنََا} وكانت «لا» مؤكدة إلا أنها لم تل علامة الضمير المعطوف عليها لحجزة بينهما بقوله: {مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ} والحواجز إذا كثرت وبعدت ما بين الكلمتين اختير إعادة العامل مع أن في المتقدم كفاية كقوله عز وجلّ: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصََّالِحََاتِ إِنََّا لََا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا} (2) وكقوله: {أَإِذََا كُنََّا تُرََاباً وَآبََاؤُنََا أَإِنََّا لَمُخْرَجُونَ} (3)
وكقوله: {أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذََا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُرََاباً وَعِظََاماً أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ} (4) فلما بعد الخبر وهو {مُخْرَجُونَ} من {أَنَّكُمْ} الأولى أعيدت، وإذا كان الاختيار ما ذكرنا فيما طال الفصل به وكان الفصل في قوله: {مََا عَبَدْنََا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ} قد طال بجارين ومجرورين بين علامة الضمير في «عبدنا» وبين «لا» المؤكدة التي تنفي الفعل الذي علامة الضمير في تضاعيفه كجزء من أجزائه وكحرف من حروفه احتاج الضمير في العطف عليه إلى ما
__________
(1) سورة: هود، الآية: 112.
(3) سورة: النمل، الآية: 67.
(2) سورة: الكهف، الآية: 30.
(4) سورة: المؤمنون، الآية: 35.(1/98)
يؤكده، فلذلك أدخل «نحن» هنا ولم يدخل هناك في قوله: {مََا أَشْرَكْنََا وَلََا آبََاؤُنََا} فافهمه فإنه من دقيق النحو وفقنا الله وإياكم لمعرفته والسلام.
الآية الثامنة عشرة منها
قوله تعالى: {قُلْ تَعََالَوْا أَتْلُ مََا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلََّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوََالِدَيْنِ إِحْسََاناً وَلََا تَقْتُلُوا أَوْلََادَكُمْ مِنْ إِمْلََاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيََّاهُمْ} (1) وقال في سورة بني إسرائيل: {وَلََا تَقْتُلُوا أَوْلََادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلََاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيََّاكُمْ} (2).
للسائل أن يسأل فيقول قوله عز وجلّ: {نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيََّاهُمْ} هو ما عليه الاختيار في كلام العرب من تقديم ضمير المخاطب على ضمير الغائب بناء على قولك:
أعطيتكه، والآية في سورة بني إسرائيل قدم فيها ضمير الغائب على ضمير المخاطب، فكأنها بنيت على قولك: أعطيتهوك، وهذا ليس بمختار، فما الذي أوجب اختصاص الأول بتقديم ضمير المخاطب، وأوجب اختصاص الثاني بتقديم ضمير الغائب؟
الجواب أن يقال: أولا ليس الضميران إذا اتصلا بالفعل كالضميرين إذا انفصل أحدهما وعطف على الآخر لأن قولهم: أكرمته وإياك، مثل قولهم: أكرمتك وإياه في أن كل واحد منهما مختار في مكانه الذي يوجب تقديم ما قدم وتأخير ما أخر، بخلاف ما يختار إذا اتصلا بالفعل في مثل: ما أعطيتكه. فأما قوله في سورة الأنعام: {نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيََّاهُمْ} فلأن قبله: {وَلََا تَقْتُلُوا أَوْلََادَكُمْ مِنْ إِمْلََاقٍ} أي: من أجل إملاق وانقطاع مال وزاد وهذا نهي عن قتلهم مع فقرهم وخوفهم على أنفسهم إذا لزمتهم مؤنة غيرهم، فكأنه قال: الذي يدعوكم إليه من حالكم في أنفسكم ثم في غيركم لا يجب أن تشفقوا منه فإني أرزقكم وإياهم. وأما الآية الثانية فإنه قال فيها: {خَشْيَةَ إِمْلََاقٍ}
والإملاق غير واقع فكأنه قال: خوف الفقر على الأولاد، وكان عقيب هذا إزالة الخوف عنهم، ثم عن القاتلين أي: لا تقتلوهم لما تخشون عليهم من الفقر فالله يرزقكم وإياهم، فقدم في كل موضع من الموضعين ما اقتضى تقديمه وأخر ما اقتضى الموضع تأخيره.
__________
(1) سورة: الأنعام، الآية: 151.
(2) سورة: الإسراء، الآية: 31.(1/99)
الآية التاسعة عشرة منها
قوله تعالى في الوصية الأولى من هذه السورة: {ذََلِكُمْ وَصََّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} (1) وفي الثانية: {ذََلِكُمْ وَصََّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} (2) وفي الثالثة:
{ذََلِكُمْ وَصََّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (3).
للسائل أن يسأل فيقول: ما الذي اقتضى في الأولى: {تَعْقِلُونَ} وفي الثانية:
{تَذَكَّرُونَ} وفي الثالثة: {تَتَّقُونَ} وهل صلحت الثانية مكان الأولى في اختيار الكلام؟
الجواب أن يقال: قدم الله تعالى الوصية بالأشرف الأعظم وهو الإيمان بدل الشرك وفيه أداء حق أكبر المنعمين، ثم الإحسان إلى الوالدين ونعمتهما على الولد أكبر النعم بعد نعمة الله فحقهما يتلو حقه، ثم الإحسان إلى الأولاد بتربيتهم وترك ما كانت عليه العرب في جاهليتها من وأد البنات للفقر والإملاق، ثم أن لا يقربوا ما لعله أن يكون سبب ولد لا يصح نسبه وهذا في النهي عن سبب الإحداث، كالأول في النهي عن سبب الإهلاك، ثم أن يحقنوا الدماء ولا يسفكوها إلا بحقها وهو أن يقتلوها للقصاص والزنا بعد الإحصان والكفر بعد الإيمان. فهذه خمسة تتعلق بأكبر الحقوق وأوكد الأصول، والشرك اعتقاد مذهب باطل بهوى، وترك الإحسان إلى الوالدين يكون إما لمحبة مال لا يسمح به لهما، أو اتباع هوى يدعو إلى مخالفتهما، ووأد البنات لخوف الفقر والعار والزنا وما يقبح جدا من المعاصي تحمل عليه الشهوة، وقتل النفس بغير حق يدعو إليه شفاء غيظ النفس الأمارة بالسوء. وكل ذلك قبيح في العقول محتاج في ذمّ النفس عنها إلى زاجر من عقل يدفع الهوى فلهذا قال: {لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} أي: تستعملون العقل الذي يحبس نفوسكم عن قبيح الإرادات وفواحش الشهوات، وبعد هذه الخمسة خمسة أخرى هي متعلقة بالحقوق في الأموال دون النفوس، فأولها: حفظ مال اليتيم عليه لأنه لا يقوى على حفظه والأطماع تمتد إلى ماله وذو الولد يفكر في حاله وما يكرهه لولده فلا يستجيزه لولد غيره، وبعده التعديل في الكيل وإيفاء الكيل والوزن بالقسط، وهو الذي توعد الله عليه في قوله: {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ الَّذِينَ إِذَا اكْتََالُوا عَلَى النََّاسِ يَسْتَوْفُونَ وَإِذََا كََالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ} (4) ومعنى قوله: {لََا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلََّا وُسْعَهََا} (5) أي: إذا اجتهدت في التحري وتوخي القسط
__________
(1) سورة: الأنعام، الآية: 151.
(4) سورة: المطففين، الآيات: 1، 2، 3.
(2) سورة: الأنعام، الآية: 152.
(5) سورة: الأنعام، الآية: 152.
(3) سورة: الأنعام، الآية: 153.(1/100)
فقد أسقط عنها ما يتعذر تجنبه من أقل القليل فيما يكال ويوزن، والرابع: القول بالعدل وهو في الحكم والشهادة، والخامس: الوفاء بعهد الله وهو أن يحلف بالله في غير معصية، وكل هذه قد دعي فيه الإنسان إلى تذكر حاله ورضاه في نفسه لو كان هو المعامل بما يعامل هو به غيره، أي: لو كان ولده اليتيم أو كان الذي يكال له ويوزن أو كان الذي يحكم عليه أو تقام الشهادة بما لا يلزمه أو يحلف بالله على إذهاب حق له أو يحلف له بما يلزم الوفاء به، فلا يرضين من ذلك لغيره إلا ما يرضاه لنفسه، فذكرهم حالا مرت لهم أو يخافون مرورها عليهم، فلذلك قال: {لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}. وأما الآية الأخيرة وهي:
{وَأَنَّ هََذََا صِرََاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلََا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذََلِكُمْ وَصََّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} أي: الشرع الذي شرعته لكم هو طريقي أشرعته إلى نعيمكم الدائم فاسلكوه، ولا تتبعوا الديانات المخالفة له فتبعدكم عن سبيله المؤدي إلى نعيمه لعلكم تتجنبون بلزومه معصيته وتتقون بطاعته عقوبته، فأتبع كل صنف من الوصية ما اقتضاه معناها وبالله التوفيق.(1/101)
{وَأَنَّ هََذََا صِرََاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلََا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذََلِكُمْ وَصََّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} أي: الشرع الذي شرعته لكم هو طريقي أشرعته إلى نعيمكم الدائم فاسلكوه، ولا تتبعوا الديانات المخالفة له فتبعدكم عن سبيله المؤدي إلى نعيمه لعلكم تتجنبون بلزومه معصيته وتتقون بطاعته عقوبته، فأتبع كل صنف من الوصية ما اقتضاه معناها وبالله التوفيق.
7 - سورة الأعراف
الآية الأولى منها
قوله تعالى: {قََالَ مََا مَنَعَكَ أَلََّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قََالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نََارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ قََالَ فَاهْبِطْ مِنْهََا فَمََا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهََا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصََّاغِرِينَ} (1)
وقال في سورة الحجر (2): {قََالَ يََا إِبْلِيسُ مََا لَكَ أَلََّا تَكُونَ مَعَ السََّاجِدِينَ قََالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصََالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ قََالَ فَاخْرُجْ مِنْهََا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ}.
للسائل أن يسأل فيقول: إذا كان هذا في قصة واحدة ووقع في كلام الله حكاية عما قال إبليس وعما قيل له عند ما كان يظهر من عصيانه فلماذا اختلفت الحكايتان والمحكي شيء واحد؟.
الجواب ما قلته فيما قبله وأقوله فيما بعده: من أن اقتصاص ما مضى إذا لم يقصد به أداء الألفاظ بأعيانها، وإنما المقصود ذكر المعاني، فإن الألفاظ إذا اختلفت وأفادت المعنى المقصود كان اختلافها واتفاقها سواء. فقوله عز وجلّ هنا: {مََا مَنَعَكَ أَلََّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ} وقوله في الحجر: {يََا إِبْلِيسُ مََا لَكَ أَلََّا تَكُونَ مَعَ السََّاجِدِينَ} وقوله في سورة ص (3): {يََا إِبْلِيسُ مََا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمََا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعََالِينَ}
أقوال ثلاثة في بعض ألفاظها اختلاف، وفي المعنى اتفاق، وهي: {مََا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ}
و {مََا مَنَعَكَ أَلََّا تَسْجُدَ} و {مََا لَكَ أَلََّا تَكُونَ مَعَ السََّاجِدِينَ} وأما قوله: {لِمََا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعََالِينَ} ففيه زيادة إخبار عن حال لم تكن في الآيتين المتقدمتين، ولم يقل عندهما أنه لم يكن هناك خطاب إلا ما حكيناه فيهما، فتكون الزيادة
__________
(1) سورة: الأعراف، الآيتان: 12و 13.
(2) الآيات: 3432.
(3) الآية: 75.(1/102)
معدودة في الاختلاف وأما قوله وهو حكاية ما كان من جواب إبليس في سورة الأعراف وفي سورة ص: {أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نََارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} وفي سورة الحجر: {لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصََالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ} وفي سورة بني إسرائيل: {قََالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً} (1) فإنه يحصل للسامع من الآيات الأربع معنى واحد وهو ذكر ما حمله على ترك السجود لآدم عليه السّلام لما كان مخلوقا من النار وآدم مخلوقا من الطين. ورأى أصله أشرف من أصله، وإن كان في إحداهما ذكر بعض ما دعاه إلى ما فعل، وفي الآخرتين ذكر كله من مقابلة أصله بأصله وتوهمه أنه أشرف، وأن سجود الأشرف لما دونه لا يجوز وكذلك ما حكاه الله تعالى من قوله في سورة الأعراف قال: {فَاهْبِطْ مِنْهََا فَمََا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهََا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصََّاغِرِينَ} لا يخالف قوله في سورة الحجر (2): {قََالَ فَاخْرُجْ مِنْهََا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلى ََ يَوْمِ الدِّينِ}
ولا يخالف أيضا قوله في سورة ص (3): {قََالَ فَاخْرُجْ مِنْهََا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلى ََ يَوْمِ الدِّينِ} لأنه إذا أمره بالخروج من الجنة أو من السماء فقد أمره بالهبوط إلى الأرض وقوله: {وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ} و {لَعْنَتِي} واحد لأن اللعنة في الحقيقة إبعاد الله من يعصيه عن الخير، ثم لعن الملائكة والناس من التبع للعنة نعوذ بالله منه.
الآية الثانية منها
قوله تعالى: {قََالَ أَنْظِرْنِي إِلى ََ يَوْمِ يُبْعَثُونَ قََالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ} (4) وقال في سورة الحجر وسورة ص: {قََالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلى ََ يَوْمِ يُبْعَثُونَ قََالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ إِلى ََ يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ} (5).
للسائل أن يسأل عن إدخال الفاء في قوله: {رَبِّ فَأَنْظِرْنِي} في سورتي الحجر وص وحذفها منه في سورة الأعراف.
الجواب أن يقال: إن قوله: {فَأَنْظِرْنِي إِلى ََ يَوْمِ يُبْعَثُونَ} في سورة الأعراف وقع مستأنفا غير مقصود به عطف على ما يقع به هذا السؤال عقيبه فلم يحتج إلى الفاء.
الجواب: أيضا: لما لم يكن إجابة له إلى ما طلب لم يكن أيضا معطوفا عليه
__________
(1) سورة: الإسراء، الآية: 61.
(4) سورة: الأعراف، الآيتان: 14، 15.
(2) الآيات: 34و 35.
(5) سورة: الحجر، الآيات: 36، 37، 38.
(3) الآيات: 77، 78. وسورة: ص، الآيات: 79، 80و 81.(1/103)
بالفاء، وإنما سأل تأخير أجله فقال: إنك في حكمي ممن أخر أجله لا لأجل مسألتك
وأما في الآيتين في سورتي الحجر وص فإنه قال عز من قائل: {قََالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي} وجاء بعد إخبار الله بلعنه له وكأنه قال: يا رب إذ لعنتني وآيستني من الخير فأخرّ أجلي {إِلى ََ يَوْمِ يُبْعَثُونَ} وهو يوم القيامة، وليس يوم الإماتة إنما هو يوم البعث والإحياء فلم تقع الإجابة إلى ما طلب، لأنه قال عز من قائل: {فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ إِلى ََ يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ} أي: إلى الوقت الذي هو آخر أوقات الإحياء، فاقتضى إضمار: «إذ لعنتني يا رب» أن يأتي بالفاء، فيقول: {فَأَنْظِرْنِي} ويأتي في جوابه بها وهو: {فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ} لأن التقدير: إن طلبت تقدير الأجل وتنفيس المهل من أجل أن لعنت فإنك مؤخر الموت بما حكمت به لك لا لإجابتك إلى مسألتك، فهو معطوف على السؤال عطف الكلام على الكلام الذي يقتضيه لا عطف الإيجاب على السؤال لأن الله تعالى لن يجيب عاصيا مثله إلى ما يسأله، فدخول الفاء في الموضعين لتقدم ذكر اللعن وإن المعنى:
إن آيستني من رحمتك فأخر أجلي لأنال من عدوي الذي كان سبب ذلك ما أقدر عليه من الإغواء له ولمن يكون من نسله، وأستشفي بذلك لجهله، نعوذ بالله من طاعة الهوى المؤدي إلى سبيل الردى.
الآية الثالثة منها
قوله تعالى: {قََالَ فَبِمََا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرََاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمََانِهِمْ وَعَنْ شَمََائِلِهِمْ وَلََا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شََاكِرِينَ} (1) وقال في سورة الحجر (2): {قََالَ رَبِّ بِمََا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلََّا عِبََادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ}.
للسائل أن يسأل في هذه الآية عن شيئين، أحدهما: اختلاف المحكيات، ففي موضع {فَبِمََا أَغْوَيْتَنِي} وفي آخر {فَبِعِزَّتِكَ} (3). والثاني: حذف الفاء في سورة الحجر من قوله: {رَبِّ بِمََا أَغْوَيْتَنِي} وإثباتها في الآيتين الآخرتين.
الجواب: عن اختلاف الألفاظ المحكية أن يقال: متى حملت الباء على القسم في قوله: {بِمََا أَغْوَيْتَنِي} في الآيتين بشهادة الآية الثالثة، وهي: {فَبِعِزَّتِكَ} لم يكن هناك
__________
(1) سورة: الأعراف، الآيتان: 16، 17.
(2) الآيتان: 39، 40.
(3) سورة: ص، الآية: 82.(1/104)
اختلاف في المعنى لأن المراد في قوله: بإغوائك إياي وهو يحتمل وجوها من المعنى أحدها: أن يكون المراد: بتخييبك إياي لأجتهدن في تخييبهم، وهذا ظاهر الكلام لأن القسم متلقى باللام، ولأن قوله: {فَبِعِزَّتِكَ} في مقابلتهما من الآية الأخرى وتخييب الله إياه هو بعزته ومنه قول الشاعر:
ومن يغو لا يعدم على الغي لائما أي: من يخب لم ينل خيرا. يشهد لذلك صدر البيت وهو:
فمن يلق خيرا يحمد الناس أمره والثاني: أن يكون المراد بإهلاكك إياي بأن لعنتني وهذا الفعل أيضا عزة من الله، وكذلك إن حمل على معنى الحكم بغوايته، فهو عزة من الله تعالى وإذا كان كذلك تساوت في المعنى وكلّ قسم، والإغواء الذي هو التخييب أو الإهلاك أو الحكم بالغواية كل ذلك عزة من الله تعالى فالقسم به كالقسم بعزته.
الجواب: عن السؤال الثاني: وهو حذف الفاء من قوله: {رَبِّ بِمََا أَغْوَيْتَنِي} فلأن الدعاء في المصدر يستأنف بعده الكلام والقصة غير مقتضاة لما قبلها كما اقتضاها قوله:
{رَبِّ فَأَنْظِرْنِي} والفاء توجب اتصال ما بعدها بما قبلها، والنداء أولا يوجب القطع واستئناف الكلام سيما في قصة لا يقتضيها ما قبلها فلم تحسن الفاء مع قوله: {رَبِّ بِمََا أَغْوَيْتَنِي} والموضعان الآخران لم يدخل الكلام فيهما نداء يوجب استئناف ما بعده، فلذلك وصل القسم فيهما بالأول بدخول الفاء.
الآية الرابعة منها
قوله تعالى: {فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللََّهِ عَلَى الظََّالِمِينَ الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللََّهِ وَيَبْغُونَهََا عِوَجاً وَهُمْ بِالْآخِرَةِ كََافِرُونَ} (1) وقال في سورة هود (2): {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى ََ عَلَى اللََّهِ كَذِباً أُولََئِكَ يُعْرَضُونَ عَلى ََ رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الْأَشْهََادُ هََؤُلََاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلى ََ رَبِّهِمْ أَلََا لَعْنَةُ اللََّهِ عَلَى الظََّالِمِينَ الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللََّهِ وَيَبْغُونَهََا عِوَجاً وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كََافِرُونَ}.
__________
(1) سورة: الأعراف، الآيتان: 4544.
(2) الآيتان: 18، 19.(1/105)
للسائل أن يسأل: عن إعادة «هم» في سورة هود وترك ذلك في هذه السورة.
الجواب أن يقال: إن الذي في سورة الأعراف جاء على أصله غير مزيد فيه ما يجري مجرى التوكيد، والذي في سورة هود جاء بعد قوله: {وَيَقُولُ الْأَشْهََادُ هََؤُلََاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلى ََ رَبِّهِمْ} فأشير إليهم ثم قال: {أَلََا لَعْنَةُ اللََّهِ عَلَى الظََّالِمِينَ}
فأظهر ذكر الظالمين في موضع الإضمار، ولو أجرى على الحكم في إضمار الاسم عقيب الذكر لكان {أَلََا لَعْنَةُ اللََّهِ} عليهم لأن المراد بالظالمين هم المشار إليهم بقوله:
{هََؤُلََاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلى ََ رَبِّهِمْ} فلما أظهر مكان الإضمار تضمن معنى قوله:
وهم، أي: الظالمون هم {الَّذِينَ كَذَبُوا عَلى ََ رَبِّهِمْ} وأشير بالكلام المتقدم إليهم، فلما استمر الكلام على الإضمار بعد ذكر الظالمين صار الظاهر كأنهم غير المشار إليهم بقوله: {هََؤُلََاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلى ََ رَبِّهِمْ} فأعيد «هم» في قوله: {هُمْ كََافِرُونَ}
لتحقق الكفر عليهم بنسبة الأوصاف المتقدمة إليهم: وأولها كذبهم على ربهم، ثم ظلمهم لأنفسهم، وصدهم عن سبيل الله ووصفهم لها بدل الاستقامة بالاعوجاج، فكفرهم في هذه الأحوال بالله واستحقاقهم به عقوبة الله في الآية، فلما لم يصرف الخبر الثاني في سورة الأعراف مصرف ما ليس هو بالأول لم يحتج إلى توكيده، ولما عدل في سورة هود عن إعادة الضمير إلى الأول ووضع مكانه ظاهرا يحتمل أن يكون غير الأول وعنى به أنهم {هُمْ} كان الموضع موضع توكيد لتحقيق الخبر عنهم بالكفر وتثبيته عليهم بأوكد لفظ، لأنا لما قلنا: {هُمْ} هم فهو المعاد في قوله: {وَهُمْ بِالْآخِرَةِ} هم {كََافِرُونَ} إلا أن يتبين بذلك أن المكان مكان توكيد ليفرق بينه وبين الأول.
الآية الخامسة منها
قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيََاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتََّى إِذََا أَقَلَّتْ سَحََاباً ثِقََالًا سُقْنََاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنََا بِهِ الْمََاءَ} (1) وقال في سورة الفرقان (2):
{وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيََاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنْزَلْنََا مِنَ السَّمََاءِ مََاءً طَهُوراً لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً وَنُسْقِيَهُ مِمََّا خَلَقْنََا أَنْعََاماً وَأَنََاسِيَّ كَثِيراً} وقال في سورة الروم (3): {اللََّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيََاحَ فَتُثِيرُ سَحََاباً فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمََاءِ كَيْفَ يَشََاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلََالِهِ فَإِذََا أَصََابَ بِهِ مَنْ يَشََاءُ مِنْ عِبََادِهِ إِذََا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ}
__________
(1) سورة: الأعراف، الآية: 57.
(2) الآيتان: 48، 49.
(3) الآية: 48.(1/106)
وقال في سورة فاطر (1): {وَاللََّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيََاحَ فَتُثِيرُ سَحََاباً فَسُقْنََاهُ إِلى ََ بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنََا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهََا كَذََلِكَ النُّشُورُ}.
للسائل أن يسأل فيقول: هذه الآي الأربع قد خصت اثنان منها بقوله: {يُرْسِلُ}
على لفظ المستقبل، واثنان بقوله: {أَرْسَلَ} على لفظ الماضي، فهل في كل مكان ما يقتضي اللفظ الذي خصه أم كل جائز لو جاء عليه؟
الجواب: أن يقال: بل كل ما يوجب في الاختيار اللفظ الذي جاء عليه، وإن كان الله وصفه بأنه {أَرْسَلَ الرِّيََاحَ} فبسط بها السحاب فساقه فأنزل منه الأمطار فأحيا بها البلاد كوصفه بأنه يفعل ذلك في المستقبل، لأنه قادر كما كان، وقد عود فعل ذلك وأعلمناه مشاهدة، إلا أن الآية التي في هذه السورة جاء فيها {يُرْسِلُ} بلفظ المستقبل لأن قبلها {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لََا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ وَلََا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلََاحِهََا وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً إِنَّ رَحْمَتَ اللََّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} (2) فكان في ذلك بعث على الدعاء والتضرع وتعليق الخوف والطمع بما يكون منه من الرحمة وصنوف ما رزق الله الخلق من النعمة، فكان لفظ المستقبل أشبه بموضع الخوف والطمع للداعين وأدعى لهم إلى الدعاء، وأما في سورة الفرقان (3) ومجيء هذا اللفظ فيها بلفظ الماضي فلأن قبل الآية: {أَلَمْ تَرَ إِلى ََ رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شََاءَ لَجَعَلَهُ سََاكِناً ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا ثُمَّ قَبَضْنََاهُ إِلَيْنََا قَبْضاً يَسِيراً وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبََاساً وَالنَّوْمَ سُبََاتاً وَجَعَلَ النَّهََارَ نُشُوراً وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيََاحَ} فلما عدد أنواع ما أنعم به وكان إرسال الرياح في جملته عده بعد ما تقدمه وأخبر منه عما فعله وأوجده وأما في سورة الروم (4) فلأن قبل الآية: {وَمِنْ آيََاتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّيََاحَ مُبَشِّرََاتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ} فبنى قوله: {اللََّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيََاحَ} على البناء الذي جعل عليه ما هو من آياته فحث على الاعتبار بما يعتاد من فعله تبارك الله سبحانه وأما في سورة الملائكة واختيار اللفظ الماضي فيها على المستقبل فلأن أولها: {الْحَمْدُ لِلََّهِ فََاطِرِ السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضِ جََاعِلِ الْمَلََائِكَةِ رُسُلًا} (5) بمعنى: فطر وجعل، وخاتمة هذه العشر من مبتدأ
__________
(1) الآية: 9.
(4) الآية: 46.
(2) سورة: الأعراف، الآيتان: 5655.
(5) سورة: فاطر، الآية: 1.
(3) الآيات: 45، 46، 47، 48.(1/107)
السورة {اللََّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيََاحَ} فلما افتتح العشر من أول السورة بالتمدح بما صنع أتبعه ما كان من جنسه مما فعل فكان الاختيار لفظ الماضي هاهنا كذلك، فافهمه فإنه يفتح عليك ما يشتبه إن شاء الله تعالى.
الآية السادسة منها
قوله عز وجلّ: {لَقَدْ أَرْسَلْنََا نُوحاً إِلى ََ قَوْمِهِ} (1) وقال في سورة هود (2): {وَلَقَدْ أَرْسَلْنََا نُوحاً إِلى ََ قَوْمِهِ} وقال في سورة المؤمنين (3): {وَلَقَدْ أَرْسَلْنََا نُوحاً إِلى ََ قَوْمِهِ}.
للسائل أن يسأل: عن حذف الواو من {وَلَقَدْ أَرْسَلْنََا} في هذه السورة والإتيان بها في سورتي هود والمؤمنين.
الجواب أن يقال: إن الآيات التي تقدمت قوله: {لَقَدْ أَرْسَلْنََا نُوحاً} في هذه السورة إلى أن اتصلت به في وصف ما اختص الله به من إحداث خلقه والبدائع من فعله من حيث قال: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللََّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيََّامٍ} (4) إلى أن ذكر الشمس والقمر والرياح والنبات والأمطار والسهل من الأرض الطيب والحزن منها الصلد، ولم يكن فيها ذكر بعثة نبي ومخالفة من كان له من عدو، فصار كالأجنبي من الأول فلم يعطف عليه واستؤنف ابتداء كلام ليدل على أنه في حكم المنقطع من الأول، وليس كذلك الآية في سورة هود لأن أولها افتتح إلى قصة نوح بما هو احتجاج على الكفار بآيات الله التي أظهرها على أيدي أنبيائه وألسنتهم صلوات الله على جماعتهم وتوعد لهم على كفرهم، وذكر قصة من قصص من تقدمهم من الأنبياء الذين جحد آياتهم أممهم فعطف هذه الآية على ما قبلها إذ كانت مثلها، ألا ترى أن أول السورة: {الر كِتََابٌ أُحْكِمَتْ آيََاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ أَلََّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللََّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ} (5) وبعد العشر منها: {فَلَعَلَّكَ تََارِكٌ بَعْضَ مََا يُوحى ََ إِلَيْكَ وَضََائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْلََا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ} إلى قوله: {فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيََاتٍ} (6) ثم وصف حال من آمن بالله ورسله وأخبت إلى ربه وحال من افترى على ربه وحصل على
__________
(1) سورة: الأعراف، الآية: 59.
(4) سورة: الأعراف، الآية: 54.
(2) الآية: 25.
(5) سورة: هود، الآيتان: 1، 2.
(3) الآية: 23.
(6) سورة: هود، الآيتان: 12، 13.(1/108)
خسران نفسه وشبههما في قوله بحال من انطوى على ذكره: {مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمى ََ وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيََانِ مَثَلًا} (1) فاقتضى تشابه القصتين عطف الثانية على الأولى وأما في سورة المؤمنين (2) فإن قبل هذه الآية منها: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسََانَ مِنْ سُلََالَةٍ مِنْ طِينٍ} ثم قوله: {وَلَقَدْ خَلَقْنََا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرََائِقَ وَمََا كُنََّا عَنِ الْخَلْقِ غََافِلِينَ} (3) ثم انقطعت الآي إلى قوله تعالى: {وَعَلَيْهََا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ} (4) فكان ما تقدم في هذا المكان مثل ما تقدم الآية في سورة الأعراف إلا أنه باينه بأن كان فيه: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسََانَ} وقوله: {وَلَقَدْ خَلَقْنََا فَوْقَكُمْ} ثم انقطعت إلى قوله: {وَعَلَيْهََا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ} والفلك التي يحمل عليها مما اتخذه نوح عليه السّلام فدخل واو العطف في قصة نوح عليه السّلام للفظتين المتقدمتين وهما: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسََانَ} برءوس الآيتين وللمعنى المقتضي من ذكر الفلك الذي نجى الله عليه من جعله أصل الخلق وبذر هذا النسل.
الآية السابعة من هذه السورة
قوله تعالى متصلا بقوله: {لَقَدْ أَرْسَلْنََا نُوحاً إِلى ََ قَوْمِهِ فَقََالَ يََا قَوْمِ اعْبُدُوا اللََّهَ مََا لَكُمْ مِنْ إِلََهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخََافُ عَلَيْكُمْ عَذََابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} (5) وقال في سورة هود (6):
{وَلَقَدْ أَرْسَلْنََا نُوحاً إِلى ََ قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ أَنْ لََا تَعْبُدُوا إِلَّا اللََّهَ إِنِّي أَخََافُ عَلَيْكُمْ عَذََابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ} وقال في سورة المؤمنين (7): {وَلَقَدْ أَرْسَلْنََا نُوحاً إِلى ََ قَوْمِهِ فَقََالَ يََا قَوْمِ اعْبُدُوا اللََّهَ مََا لَكُمْ مِنْ إِلََهٍ غَيْرُهُ أَفَلََا تَتَّقُونَ}.
للسائل أن يسأل عن اختلاف المحكيات كقوله بعد: {مََا لَكُمْ مِنْ إِلََهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخََافُ عَلَيْكُمْ عَذََابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} و {إِنِّي أَخََافُ عَلَيْكُمْ عَذََابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ} وفي المؤمنين {مََا لَكُمْ مِنْ إِلََهٍ غَيْرُهُ أَفَلََا تَتَّقُونَ} والقصة قصة واحدة.
الجواب أن يقال: للأنبياء مقامات مع أممهم يكون فيها الإعذار والإنذار ويرجع فيها عودا على بدء الوعد والوعيد، ولا يكون دعاؤهم إلى الإيمان بالله ورفض عبادة ما سوى الله في موقف واحد بلفظ واحد لا يتغير عن حاله، بل الواعظ يفتن في مقاله
__________
(1) سورة: هود، الآية: 24.
(5) سورة: الأعراف، الآية: 59.
(2) الآية: 12.
(6) الآيتان: 25، 26.
(3) سورة: المؤمنون، الآية: 17.
(7) الآية: 23.
(4) سورة: المؤمنون، الآية: 22.(1/109)
والجاحد المنكر تختلف أجوبته في مواقفه، فإذا جاءت المحكيات على اختلافها لم يطالب، وقد اختلف في الأصل باتفاقها، لأنه قال لهم مرة باللفظ الذي حكى، ومرة بلفظ آخر في معناه كما ذكر، وكذلك الجواب يرد من أقوام يكثر عددهم ويختلف كلامهم ومقصدهم وصدق الخبر يتناول الشيء على ما كان عليه فلا وجه إذا للاعتراض بهذا ونحوه.
الآية الثامنة متصلة بهذه الآية من سورة الأعراف
قوله تعالى: {قََالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ إِنََّا لَنَرََاكَ فِي ضَلََالٍ مُبِينٍ قََالَ يََا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلََالَةٌ وَلََكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعََالَمِينَ} (1) وقال في سورة هود (2): {فَقََالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مََا نَرََاكَ إِلََّا بَشَراً مِثْلَنََا وَمََا نَرََاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرََاذِلُنََا} وقال في سورة المؤمنين (3): {فَقََالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مََا هََذََا إِلََّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ}.
للسائل أن يسأل فيقول: لأي معنى خلت في سورة الأعراف من الفاء، وقد جاء مثلها في السورتين بالفاء وهو {فَقََالَ}؟
الجواب أن يقال: إن الموضعين اللذين دخلتهما الفاء ما بعدهما مما اقتضاه كلام النبي عليه الصلاة والسلام مما رواه الكفار جوابا له، فكان بناء الجواب على الابتداء يوجب دخول الفاء، وليس كذلك الآية في سورة الأعراف لأنّهم في جوابهم صاروا كالمبتدءين له بالخطاب غير سالكين طريق الجواب لأنهم قالوا: {إِنََّا لَنَرََاكَ فِي ضَلََالٍ مُبِينٍ قََالَ يََا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلََالَةٌ} فكان كلامهم له كالكلام الذي يبتدئ به الإنسان صاحبه، فلذلك جاء بغير فاء مخالفا طريقة ما الكلام بعده مبني بناء الجواب. ومما أخرج من الأجوبة مخرج الابتداء بالكلام وإن كان في ضمنه الجواب مثل قوله تعالى: {وَلَمََّا جََاءَتْ رُسُلُنََا إِبْرََاهِيمَ بِالْبُشْرى ََ قََالُوا إِنََّا مُهْلِكُوا أَهْلِ هََذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَهََا كََانُوا ظََالِمِينَ قََالَ إِنَّ فِيهََا لُوطاً قََالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيهََا لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كََانَتْ مِنَ الْغََابِرِينَ} (4) فلم يأت بالفاء في اللفظين اللذين كان ما بعد كل واحد منهما كالجواب لما قبله ومما يؤكد صحة هذا القول قوله تعالى فيما كان من جواب عاد لهود: {وَإِلى ََ عََادٍ أَخََاهُمْ هُوداً قََالَ يََا قَوْمِ اعْبُدُوا اللََّهَ مََا لَكُمْ مِنْ إِلََهٍ غَيْرُهُ أَفَلََا تَتَّقُونَ}
__________
(1) سورة: الأعراف، الآية: 60.
(3) الآية: 24.
(2) الآية: 27.
(4) سورة: العنكبوت، الآية: 31.(1/110)
{قال الملأ الذين كفروا من قومه إنا لنرئك فى سفاهة وإنا لنظنك من الكذبين} (1) ولم يقل: فقال الملأ لأن ما بعد «قال» هنا مسلوك به طريق الابتداء بالخطاب إذ رمي بالسفاهة كما رمي نوح عليه السّلام بالضلالة فلم يدخل على واحد منهما الفاء التي تجعل الثاني متعلقا بالأول تعلق الجواب بالابتداء.
الآية التاسعة من سورة الأعراف
قوله تعالى: {أُبَلِّغُكُمْ رِسََالََاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللََّهِ مََا لََا تَعْلَمُونَ} (2) وقال في قصة هود: {أُبَلِّغُكُمْ رِسََالََاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ نََاصِحٌ أَمِينٌ} (3).
للسائل أن يسأل عن الفرق بين قوله: {وَأَنْصَحُ لَكُمْ} وبين قوله: {وَأَنَا لَكُمْ نََاصِحٌ أَمِينٌ} وما الذي اقتضى الاسم في الآخر والفعل في الأول وهل كان يصح أحدهما مكان صاحبه؟.
الجواب عن ذلك من وجهين، أحدهما: أن يقال إن معنى كلام نوح عليه السّلام ما نطق به القرآن ومعنى كلام هود عليه السّلام ما ذكره الله تعالى حاكيا عنه، وليس لقائل أن يقول: إذا كان القولان صحيحين في موضعهما فهلا قال أحدهما قول الآخر. والوجه الثاني: أن يقال إن قول نوح عليه السّلام جواب من ضلل لأنه قيل له: {إِنََّا لَنَرََاكَ فِي ضَلََالٍ مُبِينٍ}
وهود عليه السّلام قيل له: {إِنََّا لَنَرََاكَ فِي سَفََاهَةٍ} والضلال من صفات الفعل تقول: ضلّ فهو ضالّ، والسفاهة من صفات النفس وهي ضد الحلم، وهو معنى ثابت يولد الخفة والعجلة المذمومتين، والحلم معنى ثابت يولد الأناة المحمودة، فكان جواب من عيّب بفعل مذموم نفيه بفعل محمود لا بل بأفعال تنفي ما ادعوه عليه وهي أن قال: لست ضالا ولكني رسول من رب العالمين أؤدي إليكم ما تحملت من أوامره وأدعوكم بإخلاص إلى صلاح أمركم وأعلم من سوء عاقبة ما أنتم عليه ما لا تعلمون، فنفى الضلال بهذه الأفعال، وهود عليه السّلام لما رمي بالسفاهة وهي من الخصال المذمومة البطيئة وليست من الأفعال التي ينتقل الإنسان عنها إلى أضدادها في الزمن القصير مرارا كثيرة فكان نفيها بصفات ثابتة تبطلها أولى كما كان نفي الفعل المذموم بالفعل المحمود أولى فقوله ناصح أي: أنا
__________
(1) سورة: الأعراف، الآيتان: 66، 67.
(2) سورة: الأعراف، الآية: 62.
(3) سورة: الأعراف، الآية: 68.(1/111)
ثابت لكم على النصح صفة في النفس لا تنتقل لكم عن النصح إلى الغش ولا تتبدل خيانة بالأمانة وكان جواب كل من الكلامين ما لاق به واقتضاه.
الآية العاشرة من سورة الأعراف
قوله تعالى: {فَكَذَّبُوهُ فَأَنْجَيْنََاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيََاتِنََا إِنَّهُمْ كََانُوا قَوْماً عَمِينَ} (1) وقال في سورة يونس (2): {فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْنََاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَجَعَلْنََاهُمْ خَلََائِفَ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيََاتِنََا فَانْظُرْ كَيْفَ كََانَ عََاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ}.
للسائل أن يسأل فيقول: لم اختصت الآية الأولى بقوله: {فَأَنْجَيْنََاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ}
والثانية بقوله: {فَنَجَّيْنََاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ} وزاد فيها {وَجَعَلْنََاهُمْ خَلََائِفَ}.
الجواب أن يقال: السورتان مكيتان جميعا والآية في سورة الأعراف وقوله:
{فَأَنْجَيْنََاهُ} أصل في هذا الباب لأن أفعلت في باب النقل أصل لفعلت، وهو أكثر تقول: نجا وأنجيته، كما تقول: ذهب وأذهبته ودخل وأدخلته وخرج وأخرجته، فأما فعّلته فمن القلة بحيث يمكن عده نحو: فزع وفزّعته وخاف وخوّفته، وقد يجاء معه بالهمزة فيقال: أفزعته وأخفته ولا يجاء مع تشديد العين بالهمزة لا تقول: ذهّبته ولا دخلته في أذهبته وأدخلته، فالآية الأولى جاءت على الأصل الأكثر ولهذا أكثر ما جاء في القرآن جاء على أنجينا كقوله: {فَأَنْجَيْنََاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنََّا} (3) وكقوله: {وَأَنْجَيْنََا مُوسى ََ وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ} (4) وقوله: {فَأَنْجََاهُ اللََّهُ مِنَ النََّارِ} (5) وليست الجيم المزيدة في «نجّيناه» للكثرة، وإنما هي المعاقبة للهمزة بدلالة قوله في ذي النون: {فَاسْتَجَبْنََا لَهُ وَنَجَّيْنََاهُ مِنَ الْغَمِّ} (6) ولا كثرة هناك. وأما قوله: {وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ} فهو الأصل «ومن» تجيء بمعناها وتكونان مشتركتين في معان، و «الذين» خالصة للخبر مخصوصة بالصلة فاستعمل الأصل في اللفظتين «أنجينا» و «الذين» ولما كرر هذا الذكر كان العدول إلى اللفظين الآخرين اللذين هما بمعناهما وهما «نجينا» «ومن» أشبه بطريقة الفصحاء وعادة البلغاء. فأما قوله: {وَجَعَلْنََاهُمْ خَلََائِفَ} في الآية الثانية فإنه زيادة في الخبر عن الخوالف الذين نجوا
__________
(1) سورة: الأعراف، الآية: 64.
(4) سورة: الشعراء، الآية: 65.
(2) الآية: 73.
(5) سورة: العنكبوت، الآية: 24.
(3) سورة: الأعراف، الآية: 72.
(6) سورة: الأنبياء، الآية: 88.(1/112)
من الغرق فصاروا خلفاء للهالكين وقيل: كانوا ثمانين نفسا وهلك سائر أهل الأرض. فإن قال: فالإغراق قبل أن جعلوا خلائف فكيف قدم عليه. قيل: يجوز أن يكون معنى:
{وَجَعَلْنََاهُمْ خَلََائِفَ} إنما قدم لأنه من صفة أنجيناهم، فلما أخبر عنهم بذلك ضم إليه الخبر الثاني ويجوز أن يكون معنى: {وَجَعَلْنََاهُمْ خَلََائِفَ} أي: حكمنا لهم بذلك، ثم كان الإغراق بعده على أن الواو لا ترتيب فيها ولا يمتنع أن يكون المذكور بعدها مقدما على ما قبلها.
الآية الحادية عشرة من سورة الأعراف
قوله تعالى في قصة صالح: {قَدْ جََاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هََذِهِ نََاقَةُ اللََّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهََا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللََّهِ وَلََا تَمَسُّوهََا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذََابٌ أَلِيمٌ} (1) وقال في سورة هود (2): {وَيََا قَوْمِ هََذِهِ نََاقَةُ اللََّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهََا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللََّهِ وَلََا تَمَسُّوهََا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذََابٌ قَرِيبٌ} وقال في سورة الشعراء (3): {قََالَ هََذِهِ نََاقَةٌ لَهََا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ وَلََا تَمَسُّوهََا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذََابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ}.
للسائل أن يسأل: عن اختلاف الخبر الواحد في الأماكن الثلاثة وهو حكاية ما قاله صالح عليه السّلام لقومه لما حذرهم التعرض للناقة.
الجواب أن يقال: إن هؤلاء سألوا أن يخرج لهم من هضبة ملساء ناقة فسأل الله تعالى صالح ذلك، وفي خبر آخر أنه بدرهم بهذه الآية لا عن مسألة كانت منهم فانفرجت عن ناقة بعد ما تمخضت تمخض المرأة، والناقة عشراء، فنتجت بعد ذلك فصيلا فكانت ترد ماء لهم بين جبلين يوما فتشربه كله وتسقيهم اللبن بدله وللقوم شرب يوم يخصهم، فثقل عليهم أمر شربها وانقطاع الماء يوما عن مواشيهم بسببها، وحذرهم صالح عليه السّلام التعرض لها إلى أن عقرها أحمر ثمود فصار سبب هلاكهم، فالآية الأولى من سورة الأعراف عامة في جمل ما كان من وعظه لهم لأنه قال: {قَدْ جََاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ}
أي: آية تشهد بصحتها نفوسكم أنها من قدرة الله المختصة بفعله لا بفعل غيره، ثم قال: {هََذِهِ نََاقَةُ اللََّهِ لَكُمْ آيَةً} أي: هي ناقة ليست ملك أحد منكم، وإنما هي لله استخرجها
__________
(1) سورة: الأعراف، الآية: 73.
(3) الآيتان: 155، 156.
(2) الآية: 64.(1/113)
من الصخرة أو الهضبة إمارة لصدق نبيه عليه السّلام لتؤمنوا عندها، فاتركوها ترع في الصحارى التي هي أرض الله من الكلأ الذي هو من نعمة الله، ولا تتعرضوا لها بسوء فيأخذكم عذاب ينال منكم ويؤلمكم، وهذه المعاني المجملة في الآية الأولى زيدت بيانا في الآيتين. فالآية الأولى: تحذير للقوم على طريق العموم. فأما قوله في الثانية: {فَيَأْخُذَكُمْ عَذََابٌ قَرِيبٌ} بعد ما قال في الأولى: {أَلِيمٌ}، فإنه اختص هذا المكان بقريب لما بعده من قوله: {فَعَقَرُوهََا فَقََالَ تَمَتَّعُوا فِي دََارِكُمْ ثَلََاثَةَ أَيََّامٍ} (1) فذكر المدة التي بينهم وبين هلاكهم وقرب ما توعدهم به من عذاب الله لهم، والقريب لا ينافي الأليم بل هو أشد ألما إذ لم يكن بعد مهل، فاختصاص الآية الثانية بقريب دون {أَلِيمٌ} لما ذكرنا من قرب الميعاد المقرون ذكره إلى ذكره. وأما الآية الثالثة، واختصاصها بقوله: {فَيَأْخُذَكُمْ عَذََابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ} (2) فلأن قبلها ذكر اليومين المقسومين بين الناقة وبينهم، كأنه قال لهم: إن منعتموها يومها بعقر تنزلونه بها أخذكم عذاب يوم عظيم، فيوم تؤلمونها فيه فيكون به يوم يؤلمكم الله فيه بعذاب الاستئصال وهو يوم عظيم عليكم، وكل ذلك بمعنى واحد، وهو أنهم إن عقروها عوقبوا، فالألفاظ المختلفة دائرة على هذا المعنى واختلافها لاختلاف مواضعها المقتضية تغيير الألفاظ فيها.
الآية الثانية عشرة منها
قوله تعالى في قصة صالح عليه الصلاة والسّلام: {فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دََارِهِمْ جََاثِمِينَ} (3) وقال فيهم في سورة هود (4): {فَعَقَرُوهََا فَقََالَ تَمَتَّعُوا فِي دََارِكُمْ ثَلََاثَةَ أَيََّامٍ} وقال في قصة شعيب عليه الصلاة والسّلام في سورة الأعراف (5):
{فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دََارِهِمْ جََاثِمِينَ الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا} وقال في هذه القصة في سورة هود (6): {وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيََارِهِمْ جََاثِمِينَ كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهََا أَلََا بُعْداً لِمَدْيَنَ كَمََا بَعِدَتْ ثَمُودُ}.
للسائل أن يسأل عن قوله تعالى: {فَأَصْبَحُوا فِي دََارِهِمْ} وتوحيد الدار في موضع، وجمعها في موضع وهل هناك فرقان بين موضع الواحد وموضع الجمع؟.
__________
(1) سورة: هود، الآية: 65.
(4) الآية: 65.
(2) سورة: الشعراء، الآية: 156.
(5) الآيتان: 90، 91.
(3) سورة: الأعراف، الآية: 78.
(6) الآيتان: 94، 95.(1/114)
الجواب أن يقال: إذا كان الجمع والتوحيد جائزين كان وجه التوحيد على طريقين، أحدهما: أن يراد بدارهم: بلدهم فيوحد ذهابا إلى معنى الدار وهو موحدا ويذهب به مذهب الجنس كما تقول: دينارهم شر من درهمهم كما قال:
دينار آل سليمان ودرهمهم ... كنائلين حفّا بالعراقيب
بنى الكلام في اختصاص موضع بالتوحيد، وموضع بالجمع وأن يقال هل ذلك لفائدة تخصصه به؟ فيقال: إن الله تعالى وحد في كل مكان ذكر في ابتدائه وإلى {وَإِلى ََ ثَمُودَ أَخََاهُمْ صََالِحاً}. {وَإِلى ََ مَدْيَنَ أَخََاهُمْ شُعَيْباً}. ولم يذكر إخراج النبي ومن آمن معه من بينهم، فجعلهم بني أب واحد وجعلهم كذلك أهل دار واحدة ورجا أيضا أن يصيروا بالإيمان فرقة واحدة، وكل موضع أخبر عن تفريقه بينهم وإخراج النبي ومن آمن منهم معه أخبر عنهم الإخبار الدال على تفرق شملهم وتشتت أمرهم وذهاب المعنى الذي كان يجمعهم لأب واحد ودار واحدة وأن يصيروا مع المؤمنين فرقة واحدة فقال: {فَلَمََّا جََاءَ أَمْرُنََا نَجَّيْنََا صََالِحاً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنََّا} {وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيََارِهِمْ جََاثِمِينَ} (1) وقال: {وَلَمََّا جََاءَ أَمْرُنََا نَجَّيْنََا شُعَيْباً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنََّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيََارِهِمْ جََاثِمِينَ} (2)
فإن قال: فقد قال في قصة شعيب عليه الصلاة والسّلام في سورة الأعراف (3): {فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دََارِهِمْ جََاثِمِينَ الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا} فوحد الدار، وقد خرج شعيب عليه الصلاة والسّلام من بين أظهرهم ووقع الحكم بتفرق شملهم، فكان ما ذهب إليه يقتضي أن يجمع الدار فيقال: ديارهم في هذا المكان.
الجواب أن يقال: إنه لم يتقدم في هذا الموضع ذكر إخراجه من بينهم مع الذين آمنوا معه كما ذكر في الموضعين الآخرين في قصته عليه الصلاة والسّلام في سورة هود وفي قصة شعيب عليه السّلام فيها، ألا ترى أنه قال في قصة صالح عليه الصلاة والسّلام في سورة الأعراف، وسورة هود قبل أن أخبر أنه نجاه ومن آمن معه منهم «لما جاء أمره» مرتين، فوحد الدار فيهما، وفي الموضع الذي ذكره بقصته مع المؤمنين منهم جمع الدار فيهما وكذلك جاء في قصة شعيب في موضعين، أحدهما جمع فيه، وفي الآخر وحده، والجمع حيث ذكر إخراجه منهم مع المؤمنين معه فتدبره إن شاء الله تعالى.
__________
(1) سورة: هود، الآية: 66.
(3) الآيتان: 91، 92.
(2) سورة: هود، الآية: 94.(1/115)
الآية الثالثة عشرة من سورة الأعراف
قوله تعالى في قصة صالح: {فَتَوَلََّى عَنْهُمْ وَقََالَ يََا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسََالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلََكِنْ لََا تُحِبُّونَ النََّاصِحِينَ} (1) وقال في قصة شعيب: {الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كََانُوا هُمُ الْخََاسِرِينَ فَتَوَلََّى عَنْهُمْ وَقََالَ يََا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسََالََاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آسى ََ عَلى ََ قَوْمٍ كََافِرِينَ} (2).
للسائل أن يسأل: عن إفراد الرسالة في قصة صالح وجمعها في قصة شعيب وما الفائدة المخصصة لكل واحد من اللفظتين بمكانها؟.
الجواب عن ذلك أن يقال: إن الذي نطق به القرآن من تحذير صالح عليه السّلام قومه بعد أن أمرهم باتقاء الله تعالى وطاعته هو أمر الناقة والمنع من التعرض لها، فجعل «الرسالة» جملة لما لم يفصل ما أتى به شعيب حين نهاهم عن عبادة الأوثان بدلالة قوله: {قََالُوا يََا شُعَيْبُ أَصَلََاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مََا يَعْبُدُ آبََاؤُنََا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوََالِنََا مََا نَشََؤُا إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ} (3) ثم قال: {إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ فَاتَّقُوا اللََّهَ وَأَطِيعُونِ} (4) ثم قال: {أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلََا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ وَزِنُوا بِالْقِسْطََاسِ الْمُسْتَقِيمِ وَلََا تَبْخَسُوا النََّاسَ أَشْيََاءَهُمْ وَلََا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ} (5) وقال: {وَلََا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرََاطٍ تُوعِدُونَ} (6). قيل في التفسير: هم العشارون: عن قتادة والسدى، وقيل: كانوا يقعدون على طريق من قصد شعيبا يتوعدونه ويصدونه عن دين الله، فهذه التي أمر شعيب بها قومه أشياء كثيرة ليس ما أمر به صالح قومه مثلها كثرة، فلهذا جمع الرسالة فقال: {رِسََالََاتِ رَبِّي}، وقال في قصة صالح عليه السّلام: {رِسََالَةَ رَبِّي}.
وجواب ثان وهو ما يروى: أن أصحاب الأيكة غير مدين، وأن شعيبا بعث إلى أمتين وهذا عن قتادة، وقيل: الأيكة: الغيضة الملتفة، وأصحاب الأيكة هم أهل مدين، فإذا حمل على الأول كان إلى كل واحد من أمته رسالة، فجمع لاختلاف قومه وتخصيص كل منهم برسالة من الله فإن قال قائل: فبأي عذاب الله أهلكوا وقد نطق القرآن بالرجفة في أمرهم ونطق بالصيحة التي خروا لها وماتوا ونطق بعذاب يوم الظلة، وهي:
__________
(1) سورة: الأعراف، الآية: 79.
(4) سورة: الشعراء، الآيتان: 125، 126.
(2) سورة: الأعراف، الآيتان: 92، 93.
(5) سورة: الشعراء، الآيات: 183181.
(3) سورة: هود، الآية: 87.
(6) سورة: الأعراف، الآية: 86.(1/116)
سحابة أظلتهم فأحرقهم الحر تحتها، وهذه أنواع من العذاب مختلفة وفي كل واحد ما يغني عن الآخر في الإهلاك، فإذا أهلكوا بأحدها اكتفى به عن غيرها.
الجواب أن يقال: في التفسير عن محمد بن كعب، قال: عذب قوم شعيب بثلاثة أصناف من العذاب أصابتهم الرجفة فخرجوا من ديارهم، ثم أصابهم حر شديد ففرقوا من أن يدخلوا البيوت خوف الزلزلة فبعث الله عليهم الظلة، وهي: سحابة أنشئت لهم فصاح رجل منهم: هل لكم في الظلة هل لكم في الظلة؟ وفي رواية: عليكم بالظلة فما رأيت كاليوم من ظل أطيب ولا أبرد، فلجئوا إليها هربا من الحر الذي أصابهم، فلما اجتمعوا تحتها أمطرتهم نارا فأحرقتهم، وقيل: صيح بهم صيحة واحدة فماتوا منها، فعلى هذا سلطت عليهم الأنواع الثلاثة من العذاب عذاب الاستئصال.
الآية الرابعة عشرة من سورة الأعراف
قوله تعالى: {وَلُوطاً إِذْ قََالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفََاحِشَةَ مََا سَبَقَكُمْ بِهََا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعََالَمِينَ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجََالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسََاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ وَمََا كََانَ جَوََابَ قَوْمِهِ إِلََّا أَنْ قََالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنََاسٌ يَتَطَهَّرُونَ فَأَنْجَيْنََاهُ وَأَهْلَهُ} (1) الآية وقال في سورة النمل (2): {وَلُوطاً إِذْ قََالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفََاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجََالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسََاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ فَمََا كََانَ جَوََابَ قَوْمِهِ إِلََّا أَنْ قََالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنََاسٌ يَتَطَهَّرُونَ فَأَنْجَيْنََاهُ وَأَهْلَهُ إِلََّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنََاهََا مِنَ الْغََابِرِينَ وَأَمْطَرْنََا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَسََاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ} وقال في سورة العنكبوت (3): {وَلُوطاً إِذْ قََالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفََاحِشَةَ مََا سَبَقَكُمْ بِهََا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعََالَمِينَ أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجََالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نََادِيكُمُ الْمُنْكَرَ فَمََا كََانَ جَوََابَ قَوْمِهِ إِلََّا أَنْ قََالُوا ائْتِنََا بِعَذََابِ اللََّهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصََّادِقِينَ قََالَ رَبِّ انْصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ}.
__________
(1) سورة: الأعراف، الآيات: 8380.
(2) الآيات: 5854.
(3) الآيات: 3028.(1/117)
للسائل أن يسأل في هذه الآي: عن مواضع:
فالأول: قوله في سورة الأعراف: {شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسََاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ} وقال فيما وقع موقعه من سورة النمل: {شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسََاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ}.
والثاني: قوله بعد ذلك {وَمََا كََانَ جَوََابَ قَوْمِهِ} في سورة الأعراف بالواو وقال فيما أشبهه من سورة النمل {فَمََا كََانَ جَوََابَ قَوْمِهِ}. فما كان جواب قومه بالفاء وهل صلح أحدهما مكان الآخر في الاختيار؟
والثالث: قوله في سورة الأعراف: {إِلََّا أَنْ قََالُوا أَخْرِجُوهُمْ} وقال في سورة النمل: {إِلََّا أَنْ قََالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ} فأضمر في الأول، وأظهر في الثاني.
والرابع: قوله في سورة الأعراف: {إِلَّا امْرَأَتَهُ كََانَتْ مِنَ الْغََابِرِينَ} وفي سورة النمل: {إِلََّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنََاهََا مِنَ الْغََابِرِينَ}.
والخامس: قوله في الأعراف: {أَتَأْتُونَ الْفََاحِشَةَ مََا سَبَقَكُمْ بِهََا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعََالَمِينَ} وقال في سورة النمل: {أَتَأْتُونَ الْفََاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ}.
والسادس: اختلاف المحكيات فإن في سورتي الأعراف والنمل: {وَمََا كََانَ جَوََابَ قَوْمِهِ إِلََّا أَنْ قََالُوا أَخْرِجُوهُمْ} و {أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ}. وقال في سورة العنكبوت:
{فَمََا كََانَ جَوََابَ قَوْمِهِ إِلََّا أَنْ قََالُوا ائْتِنََا بِعَذََابِ اللََّهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصََّادِقِينَ}.
فأما المسألة الأولى: وهو مجيء {بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ} في الأعراف و {بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} في النمل فالمسرف يجهل بإسرافه والجاهل مسرف في أفعاله، إذ الإسراف مجاوزة الحد الواجب إلى الفساد، فيجوز أن يكون لوط عليه السّلام لما كانت له مع قومه مقامات قال في بعضها هذا اللفظ، وقال في المقام الآخر اللفظ الثاني ولم يناف أحدهما صاحبه، ثم اختصاص «مسرفين» بسورة الأعراف فلأن الآيات التي قبلها فواصلها أسماء جمعت هذا الجمع من حيث قال: {وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفََاءَ مِنْ بَعْدِ عََادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ} (1) فكانت فاصلة هذه الآية {الْمُفْسِدِينَ} وفاصلة ما بعدها
__________
(1) سورة: الأعراف، الآية: 74.(1/118)
{مُؤْمِنُونَ} وما بعدها {كََافِرُونَ} وبعدها {الْمُرْسَلِينَ} وبعدها {جََاثِمِينَ} وبعدها {النََّاصِحِينَ}، وبعد ذلك إذا انتهى إلى هذه الآية {الْعََالَمِينَ} فكان الاسم أحق بالوضع في هذا المكان لتتساوى الفواصل، وفي سورة النمل تقدم الآية التي فاصلتها {بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} (1) {فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خََاوِيَةً بِمََا ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذََلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ وَأَنْجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكََانُوا يَتَّقُونَ وَلُوطاً إِذْ قََالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفََاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ} (2) فلما تناسبت هذه الأفعال في هذه الفواصل التي قبل هذه الفاصلة كان بناؤها على ما قبلها على لفظ الفعل أولى بها، فجاء {تَجْهَلُونَ} في هذا الموضع و {مُسْرِفُونَ} في الأول لهذا القصد والله أعلم.
وأما المسألة الثانية: في اختصاص الواو في سورة الأعراف في قوله: {وَمََا كََانَ جَوََابَ قَوْمِهِ} والفاء في سورة النمل {فَمََا كََانَ جَوََابَ قَوْمِهِ} فلأن قبلها «مسرفون» وهو اسم وإن أدى معنى الفعل و «تجهلون» صريح لفظ الفعل والأجوبة التي تتعلق بالأول المبتدإ به إنما أصلها في الأفعال التي تقع وتوجد لوجود غيرها، والواو والفاء جائزتان في الموضعين إلا أنه يختار حيث جاء الأصل الذي وضعت الفاء فيه لتوجب ما بعدها لوجود ما قبلها وهو الفعل، واختيرت الواو حيث كان الملفوظ به الاسم لتفرق بين الموضعين فتختار لكل ما هو به أليق، إذ ليس الاسم أصلا فيما جعلت الفاء الجواب فيه.
وأما المسألة الثالثة وهي إضمار آل لوط في الأعراف حيث قال: {إِلََّا أَنْ قََالُوا أَخْرِجُوهُمْ} وإظهاره في سورة النمل لما قال: {أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ}.
الجواب عنه أن يقال: إن السورتين مكيتان وموجب هذا الإضمار والإظهار أن يكون ما جاء فيه الإظهار نازلا قبل ما جاء فيه الإضمار، فلما أظهر في الآية المنزلة قبل اعتمد في القصة التي هي عند ذكرهم على الإضمار الذي أصله أن يكون بعد تقدم الذكر.
وأما المسألة الرابعة: وهي {إِلَّا امْرَأَتَهُ كََانَتْ مِنَ الْغََابِرِينَ} في سورة الأعراف وفي سورة النمل: {إِلََّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنََاهََا مِنَ الْغََابِرِينَ}.
الجواب عنه: ما يدل عليه الجواب على المسألة الثالثة وهو أن هذه القصة في سورة النمل نازلة قبل القصة في سورة الأعراف، بدليل الإضمار والإظهار وإذا بنينا على هذا فإن قوله: {إِلََّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنََاهََا مِنَ الْغََابِرِينَ} أي: كتبنا عليها أن تكون من الباقين في القرية الهالكين مع أهلها، فلما ذكر في الآية المنزلة أولا أحال في الثانية على
__________
(1) سورة: النمل، الآية: 55.
(2) سورة: النمل، الآيات: 52، 53، 54.(1/119)
الأولى في البيان فقال: {كََانَتْ مِنَ الْغََابِرِينَ} أي: في تقدير الله الذي قدره لها وأخبر فيما قبل عن حكمه عليها.
وأما المسألة الخامسة فعن قوله في سورة الأعراف: {أَتَأْتُونَ الْفََاحِشَةَ مََا سَبَقَكُمْ بِهََا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعََالَمِينَ} وقال في سورة النمل: {أَتَأْتُونَ الْفََاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ}.
الجواب عنها: ما بينا وهو أن ذكر قصة لوط وقومه نزل القرآن به قبل ذكره في سورة الأعراف، وتبكيتهم على الفاحشة وتعظيم أمرها وفحشهم فيها قبل الإخبار عن سبقهم إليها فكان قوله: {وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ} أي: لا تتكاتمون بها لأنهم كانوا في مجالسهم لا يتحاشون عنها، وقيل: وأنتم تبصرون فحشها وشناعة قبحها، وهذه صفة ترجع إلى الفعلة نفسها، ثم إنهم لم يسبقوا إليها كما قيل في الخبر، ما رؤي ذكر على ذكر حتى كان قوم لوط، وهذا وصف حقه أن يجيء بعد توفية الفاحشة حق وصفها في نفسها فأخر ذكره إلى الحكاية الثانية لهذه القصة، وقد خاطبهم لوط عليه السّلام بذلك وبأكثر منه في مقامات إنكاره عليهم ودعائه لهم.
وأما المسألة السادسة فعن اختلاف المحكيات: إذ كان في سورة الأعراف والنمل: فما كان جواب قومه إلا أن قالوا: {أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ} و {أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ} وقال في سورة العنكبوت: {فَمََا كََانَ جَوََابَ قَوْمِهِ إِلََّا أَنْ قََالُوا ائْتِنََا بِعَذََابِ اللََّهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصََّادِقِينَ}.
الجواب عن ذلك: إن هؤلاء لما كرر عليهم لوط عليه السّلام الإنكار وأعاد إليهم الإعذار والإنذار قال في موقف ما حكاه الله تعالى، فكان جوابهم له في ذلك الموقف ما ذكره الله تعالى، والجواب الثاني وإن خالف الجواب الأول فهو من جهتهم، وإذا خالفوا بين الأجوبة تناولت الحكاية مختلفها على أنه لو كان كل ذلك في موقف واحد لكان جائزا أن يكون جواب طائفة منهم ما ذكر أولا وجواب طائفة أخرى ما ذكر ثانيا وكل من الطائفتين قومه.
فإذا قيل ما كان جواب قومه أي: بعض قومه، فإذا قاله بعض ورضي به الآخرون فكلهم قائلون أو في حكم القائلين فلا يقدح ما جاء من اختلاف أجوبتهم في الآيات التي نزلت في هذه القصة على ما يظنه المعترض، وإنما يتعلق بمثله من جهل للأنبياء عليهم السّلام مواقفها ولم يعرف اللغات ومصارفها، وهذا كثير في قصة موسى عليه السّلام مع فرعون وحكايتها في هذه السورة وغيرها مما تقف عليه إن شاء الله تعالى.(1/120)
فإذا قيل ما كان جواب قومه أي: بعض قومه، فإذا قاله بعض ورضي به الآخرون فكلهم قائلون أو في حكم القائلين فلا يقدح ما جاء من اختلاف أجوبتهم في الآيات التي نزلت في هذه القصة على ما يظنه المعترض، وإنما يتعلق بمثله من جهل للأنبياء عليهم السّلام مواقفها ولم يعرف اللغات ومصارفها، وهذا كثير في قصة موسى عليه السّلام مع فرعون وحكايتها في هذه السورة وغيرها مما تقف عليه إن شاء الله تعالى.
الآية الخامسة عشرة من سورة الأعراف تشتمل على ثلاثة مسائل
قوله تعالى: {تِلْكَ الْقُرى ََ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبََائِهََا وَلَقَدْ جََاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنََاتِ فَمََا كََانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمََا كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ كَذََلِكَ يَطْبَعُ اللََّهُ عَلى ََ قُلُوبِ الْكََافِرِينَ} (1)
وقال في سورة يونس (2): {ثُمَّ بَعَثْنََا مِنْ بَعْدِهِ رُسُلًا إِلى ََ قَوْمِهِمْ فَجََاؤُهُمْ بِالْبَيِّنََاتِ فَمََا كََانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمََا كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ كَذََلِكَ نَطْبَعُ عَلى ََ قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ}.
للسائل أن يسأل: عن اختلاف ما اختلف من الآيتين المتشابهتين واختصاص ما في سورة الأعراف بسقوط «به» من قوله تعالى: {فَمََا كََانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمََا كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ}
ثم قال: {كَذََلِكَ يَطْبَعُ اللََّهُ عَلى ََ قُلُوبِ الْكََافِرِينَ} وأثبت «به» في سورة يونس وهو:
{بِمََا كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ كَذََلِكَ نَطْبَعُ عَلى ََ قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ}.
الجواب عن ذلك: أن سقوط «به» من قوله: «كذبوا» هو للبناء على ما جعل صدرا لهذه الآيات التي نزلت في الترغيب والترهيب وهو {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى ََ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنََا عَلَيْهِمْ بَرَكََاتٍ مِنَ السَّمََاءِ وَالْأَرْضِ وَلََكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنََاهُمْ بِمََا كََانُوا يَكْسِبُونَ} (3) فقوله: ولكن كذبوا لم يذكر له مفعول وانساقت الآيات بعد التحذير المتوالي بقوله: {أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى ََ أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنََا} (4) ثم ختمت بقوله: {تِلْكَ الْقُرى ََ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبََائِهََا وَلَقَدْ جََاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنََاتِ فَمََا كََانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمََا كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ} فالمكذبون هنا هم المكذبون في قوله: {وَلََكِنْ كَذَّبُوا} (3) ولكن كذبوا يدل على ذلك بأن أجرى مجراه في حذف ما يتعدى إليه، وما يتعدى إليه كذب إذا كان غير مميز يتعدى إليه بالباء كقوله: {كَذَّبُوا بِآيََاتِنََا} وإذا كان من المميزين فإنه يتعدى إليه بغير حرف إضافة نحو كذبه كقوله تعالى: {فَكَذَّبُوا رُسُلِي} (6) فالمحذوف في هذا المكان هو المفعول به وهو الذي يتعدى إليه الفعل بالباء وأما قوله في سورة يونس (7): {فَمََا كََانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمََا كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ} وإثبات المفعول به هنا فلأن قبله قصة نوح، وهي:
{وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قََالَ لِقَوْمِهِ يََا قَوْمِ إِنْ كََانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقََامِي} ثم بعده {فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْنََاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ} ثم بعد: {وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيََاتِنََا} (8) فجاء
__________
(1) سورة: الأعراف، الآية: 101.
(6) سورة: سبأ، الآية: 45.
(2) الآية: 74.
(7) الآية: 74.
(3) سورة: الأعراف، الآية: 96.
(8) سورة: يونس، الآيات: 71، 73.
(4) سورة: الأعراف، الآية: 97.(1/121)
«كذب» أمام القصة المبنية على القصة التي قبلها متعدية إلى ما وجب لها في موضعها ونوعي تعديها، فلما وقعت الإشارة في قوله: {ثُمَّ بَعَثْنََا مِنْ بَعْدِهِ رُسُلًا إِلى ََ قَوْمِهِمْ فَجََاؤُهُمْ بِالْبَيِّنََاتِ فَمََا كََانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمََا كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ} (1) إلى تكذيب من كذب من قوم نوح اختير تعدية الفعل المكرر على الفعل الأول ليعلم أن هذا الفعل معنيّ به ما تقدم، فلما جاء ذاك متعديا جاء هذا مثله، وكما لم يجيء في الآية التي في سورة الأعراف متعديا لم يجيء فيما بني عليه إلا محذوف الفعل.
وأما الجواب عن اختلاف قوله: {كَذََلِكَ يَطْبَعُ اللََّهُ} (2) و {كَذََلِكَ نَطْبَعُ عَلى ََ قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ} (1) فلأن الآية في سورة الأعراف مبنية على ما تقدمها من الآيات وهي تنتقل من الإضمار إلى الإظهار ومن الإظهار إلى الإضمار أعني في إخبار الله عز وجلّ عن نفسه كقوله: {أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى ََ أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنََا بَيََاتاً} (4) أو {أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنََا ضُحًى} (5) وقوله بعده: {أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللََّهِ} (6) فأظهر ولم يقل أفأمنوا مكرنا فلما وقع هذا الإخبار في هذا المكان ثم جاء بعده {أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِهََا أَنْ لَوْ نَشََاءُ أَصَبْنََاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلى ََ قُلُوبِهِمْ} (7)، فأجرى الفعل على إضمار فاعله، ثم عاد إلى ذكر الطبع في الآية الأخرى كان إجراؤه على إظهار الفاعل أشبه بما بنيت عليه الآيات المتقدمة من الانتقال من الإضمار إلى الإظهار المختار استعماله في هذا المكان وأما الآية التي في سورة يونس وهي: {كَذََلِكَ نَطْبَعُ عَلى ََ قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ} فلأن ما قبلها جار على حد واحد وسنن لاحب وهو إضمار الفاعل من حيث أخبر في قصة نوح قبله وهي من مبتدأ العشر: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ} إلى أن قال:
{فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْنََاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَجَعَلْنََاهُمْ خَلََائِفَ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيََاتِنََا فَانْظُرْ كَيْفَ كََانَ عََاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ ثُمَّ بَعَثْنََا مِنْ بَعْدِهِ رُسُلًا إِلى ََ قَوْمِهِمْ} (8) فقال بعده:
{كَذََلِكَ يَطْبَعُ اللََّهُ} ولم يتقدمه ما يخالف هذا المنهج ولم يبن على الطريقين فاتبع الأول وحمل عليه في إضمار الفاعل فيه.
والمسألة الثالثة في هذه الآية قوله في سورة الأعراف: {عَلى ََ قُلُوبِ الْكََافِرِينَ} (9)
وفي يونس: {عَلى ََ قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ}.
الجواب عنها: أن الآيات التي قد تقدمت في سورة الأعراف تضمنت وصف
__________
(1) سورة: يونس، الآية: 74.
(6) سورة: الأعراف، الآية: 99.
(2) سورة: الأعراف، الآية: 101.
(7) سورة: الأعراف، الآية: 100.
(4) سورة: الأعراف، الآية: 97.
(8) سورة: يونس، الآيتان: 73و 74.
(5) سورة: الأعراف، الآية: 98.
(9) سورة: الأعراف، الآية: 101.(1/122)
الكفار لأنه لا يحذر عذاب الله ومجيئه بياتا أو ضحى إلا الكفار، ثم إطلاق «الخاسرين» لا يكون إلا في «الكافرين»، فلما وقع التصريح بصفات الكفر صرح به عند ذكر الطبع، ولما كانت الآية في سورة يونس قد تقدمها في وصف الكفار ما كان كالكناية عنهم، وقال: {فَانْظُرْ كَيْفَ كََانَ عََاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ} وما كل منذر كافر، كنى عن الكفار بعده عند ذكر الطبع بالمعتدين، وما كل معتد كافر، فمخالفة كل واحدة من الآيتين للأخرى إنما هي لموافقة ما قبل كل واحدة منهما من طرح الكلام وقصد الالتئام.
الآية السادسة عشرة من سورة الأعراف
قوله تعالى في قصة موسى:
{إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِهََا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصََّادِقِينَ فَأَلْقى ََ عَصََاهُ فَإِذََا هِيَ ثُعْبََانٌ مُبِينٌ وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذََا هِيَ بَيْضََاءُ لِلنََّاظِرِينَ قََالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هََذََا لَسََاحِرٌ عَلِيمٌ يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ فَمََا ذََا تَأْمُرُونَ قََالُوا أَرْجِهْ وَأَخََاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدََائِنِ حََاشِرِينَ يَأْتُوكَ بِكُلِّ سََاحِرٍ عَلِيمٍ وَجََاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قََالُوا إِنَّ لَنََا لَأَجْراً إِنْ كُنََّا نَحْنُ الْغََالِبِينَ قََالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ قََالُوا يََا مُوسى ََ إِمََّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمََّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ} (1) وقال في سورة الشعراء (2) مكان قوله: {قََالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هََذََا لَسََاحِرٌ عَلِيمٌ يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَمََا ذََا تَأْمُرُونَ قََالُوا أَرْجِهْ وَأَخََاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدََائِنِ حََاشِرِينَ يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحََّارٍ عَلِيمٍ فَجُمِعَ السَّحَرَةُ}.
للسائل أن يسأل في هذه القصة عن مسائل.
أولها: قوله في سورة الأعراف: {قََالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هََذََا لَسََاحِرٌ عَلِيمٌ يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ}.
ثم قال في سورة الشعراء: {قََالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هََذََا لَسََاحِرٌ عَلِيمٌ} فأخبر في الأولى: أن قائل ذلك الملأ من قومه، وفي الثانية: أن فرعون هو القائل ذلك لملئه، وهذا اختلاف ظاهر في الخبرين.
الجواب أن يقال: إن قول الملأ فيما حكاه الله تعالى في سورة الأعراف قول فرعون ورؤساء قومه أدوا عنه ما كان من قوله إلى عامة أصحابه، والدليل على أن ذلك
__________
(1) سورة: الأعراف، الآيات: 115106.
(2) الآيات: 3834.(1/123)
قوله: وأنهم فيه مؤدو رسالة عنه قول العامة في جوابه «أرجه وأخاه» فكان هذا خطابا لفرعون ولم يكن للملإ، إذ لو كان لهم لقيل: أرجوه وأخاه وإذا كان كذلك لم يخالف ما قاله في الشعراء من أنه قال للملإ حوله بل يكون هو البادي بذلك لمن حوله ليؤدوا إلى من بعد عنه قوله فإن قال: فكيف اختصت سورة الأعراف بحكاية ما قال الملأ وسورة الشعراء بما قال فرعون قيل: إن أول من رد قول موسى عليه السّلام فرعون ثم مالأه عليه ملأه وهو ما حكاه الله تعالى في سورة الشعراء فاقتضى حاله حيث أخبر عنه بما قاله: {أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينََا وَلِيداً وَلَبِثْتَ فِينََا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ} (1) إلى أن انتهت الآيات إلى القصة المودعة ذكر السحرة فقال فرعون للملإ حوله ما أدوه عنه إلى غيرهم، وسورة الشعراء مكية كسورة الأعراف وترتيب الاقتصاص يقتضي أن يكون قبلها، وفي السورة الثانية أخبر عما أداه ملأه إلى الناس الذين أجابوه بأن أرجه وأخاه فكان قول فرعون للملإ حوله سابقا قول الملأ الذين أدوا إلى غيرهم فذكر حيث قوله قصد اختصاص أول ما دعاه موسى عليه السّلام إلى طاعة الله عز وجلّ.
الآية السابعة عشرة من سورة الأعراف
قوله تعالى: {يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ فَمََا ذََا تَأْمُرُونَ} (2) وقال في سورة الشعراء (3): {يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَمََا ذََا تَأْمُرُونَ}.
للسائل أن يسأل فيقول ذكر في الأولى أنه قال: «يريد أن يخرجكم من أرضكم» فحسب، وذكر في الثانية أنه قال: «يريد أن يخرجكم من أرضكم بسحره»، والقول واحد فلماذا اختلف؟.
الجواب أن يقال: لما أسند الفعل في الأولى إلى فرعون وحكى ما قاله وأنه قال للملإ من قومه: {إِنَّ هََذََا لَسََاحِرٌ عَلِيمٌ} وكان أشدهم تمردا وأولهم تجبرا وأبلغهم فيما يرد به الحق كان في قوله: {يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ} ذكر السبب الذي به يصل إلى الإخراج وهو بسحره فأشبع المقال بعد قوله: {إِنَّ هََذََا لَسََاحِرٌ عَلِيمٌ} بأن ذكر أنه يريد إخراجكم بسحره، وأما الموضع الذي لم يذكر فيه بسحره فهو ما حكى من قول الملأ في سورة الأعراف حيث قال: {قََالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هََذََا لَسََاحِرٌ عَلِيمٌ يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ فَمََا ذََا تَأْمُرُونَ} والملأ لم يبلغوا مبلغ فرعون في إبطال ما أورده موسى عليه السّلام ولم يجفوا في الخطاب جفاه فتناولت الحكاية ما قاله فرعون على جهته بتكرير
__________
(1) سورة: الشعراء، الآية: 18.
(3) الآية: 35.
(2) سورة: الأعراف، الآية: 110.(1/124)
لفظ السحر من لفظه بعد ما أخرجه في صفته حيث قال: {إِنَّ هََذََا لَسََاحِرٌ عَلِيمٌ}. فإن قال قائل: فقد ذكر الله في سورة طه (1) عن الملأ أنهم قالوا: {إِنْ هََذََانِ لَسََاحِرََانِ يُرِيدََانِ أَنْ يُخْرِجََاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمََا وَيَذْهَبََا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلى ََ} قيل له قوله: {فَتَنََازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوى ََ قََالُوا إِنْ هََذََانِ لَسََاحِرََانِ} (2) خبر عن فرعون وملئه فلما كان في جملتهم غلب أمره على أمرهم ألا ترى أن ابتداء ذلك: {وَلَقَدْ أَرَيْنََاهُ آيََاتِنََا كُلَّهََا فَكَذَّبَ وَأَبى ََ} (3) وهذا خبر عن فرعون ثم قال بعده: {أَجِئْتَنََا لِتُخْرِجَنََا مِنْ أَرْضِنََا بِسِحْرِكَ يََا مُوسى ََ فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنََا وَبَيْنَكَ مَوْعِداً لََا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلََا أَنْتَ مَكََاناً سُوىً قََالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ} (4) وهو خطاب لفرعون ومن تبعه، ويجوز أن يكون له وحده على ما يخاطب به الملوك من لفظ الجمع كما يخبرون بمثله عن أنفسهم، فذكر قوله «بسحره» فيما حكاه من كلام فرعون، فلذلك خلا منه الموضع الذي كان الخبر فيه عن الملأ من قومه فاعلمه إن شاء الله تعالى.
الآية الثامنة عشرة من سورة الأعراف
قوله تعالى: {قََالُوا أَرْجِهْ وَأَخََاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدََائِنِ حََاشِرِينَ} (5) وقال في سورة الشعراء (6): {قََالُوا أَرْجِهْ وَأَخََاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدََائِنِ حََاشِرِينَ}.
للسائل أن يسأل فيقول: لأي معنى اختلف اللفظان في الآيتين، فكان في الأولى «أرسل» وفي الثانية «وابعث» وهل جاز أحدهما مكان الآخر؟
الجواب: أن يقال: اللفظتان نظيرتان تستعمل إحداهما مكان الأخرى، وقد جاء:
بعث الرسول وأرسله معا، إلا أن أرسل يختص بما لا يختص به بعث لأن البعث لا يتضمن ترتيبا والإرسال أصله تنفيذ من فوق إلى أسفل، وأرسل في سورة الأعراف حكاية قول العامة للملإ المؤدين كلام فرعون إليهم، فلما تعالى عليهم ولم يخاطبهم بنفسه كان قولهم في جواب ما استأمرهم فيه واستشارهم في فعله على الترتيب الذي رتب لهم في الخطاب، فكانت الحكاية باللفظ الذي يفخم به المخاطب كما فخم في تحميله ملأه أن يؤدوا كلامه إلى من دونهم، ولما تناولت الحكاية في سورة الشعراء ما تولاه فرعون بنفسه
__________
(1) الآية: 63.
(4) سورة: طه، الآية: 57.
(2) سورة: طه، الآية: 62.
(5) سورة: الأعراف، الآية: 111.
(3) سورة: طه، الآية: 56.
(6) الآية: 36.(1/125)
من مخاطبة قومه بإسقاط الحجاب بينهم وبينه وتسوية قدرهم بقدره لقوله: {قََالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ} (1) كان هذا الموضع مخالفا للموضع الأول في مقتضى الحال من التفخيم فخص باللفظ الذي ليس فيه ما في الأول من التعظيم وهو قوله ابعث.
الآية التاسعة عشرة من الأعراف
قوله تعالى بعد ما قال {يَأْتُوكَ بِكُلِّ سََاحِرٍ عَلِيمٍ} {وَجََاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قََالُوا إِنَّ لَنََا لَأَجْراً} (2) وقال في سورة الشعراء (3) بعد {سَحََّارٍ عَلِيمٍ}: {فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقََاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ وَقِيلَ لِلنََّاسِ هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ لَعَلَّنََا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كََانُوا هُمُ الْغََالِبِينَ فَلَمََّا جََاءَ السَّحَرَةُ قََالُوا لِفِرْعَوْنَ أَإِنَّ لَنََا لَأَجْراً}.
للسائل أن يسأل فيقول: المحكي في الشعراء أكثر من المحكي في سورة الأعراف بعد قوله: {يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحََّارٍ عَلِيمٍ} إلى أن انتهى قوله تعالى إلى ما هو خبر عن السحرة من قولهم لفرعون: {أَإِنَّ لَنََا لَأَجْراً}.
الجواب: ما دللنا عليه من أن ما في سورة الشعراء أشد اقتصاصا للأحوال التي كانت بين موسى وبين عدوه فرعون لاشتماله على ذكر ابتداء مبعثه إليه حيث قال: {وَإِذْ نََادى ََ رَبُّكَ مُوسى ََ أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظََّالِمِينَ قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلََا يَتَّقُونَ} (4) فجاء في هذه الآيات التي في ذكر السحرة من بيان ما جرى ما لم يجيء في سورة الأعراف فمنه قوله: {فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقََاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ} (5) كما قال تعالى في سورة طه (6): {قََالَ أَجِئْتَنََا لِتُخْرِجَنََا مِنْ أَرْضِنََا بِسِحْرِكَ يََا مُوسى ََ فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنََا وَبَيْنَكَ مَوْعِداً لََا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلََا أَنْتَ مَكََاناً سُوىً قََالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النََّاسُ ضُحًى} فهذا قوله:
{فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقََاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ} وفي سورة الأعراف لما لم يبدأ القصة فيها بذكر مبعثه عليه السّلام وابتداء أمره لم تكن مبنية على ما بينا عليه من اقتصاص معظم حاله وأول ما كان من مبعثه حيث يقول: {اذْهَبْ إِلى ََ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى ََ قََالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي} (7)
فلما كان القصد في سورة الأعراف ذكر الجمل من بعض ما كان ذكر تفصيله كان الاقتصار بعد ذكر إرسال الحاشرين إلى السحرة ومجيئهم يغني عن تواعدهم ليوم يظهرون فيه حيلهم
__________
(1) سورة: الشعراء، الآية: 34.
(5) سورة: الشعراء، الآية: 38.
(2) سورة: الأعراف، الآية: 113.
(6) الآيات: 5957.
(3) الآيات: 4138.
(7) سورة: طه، الآيتان: 24و 25.
(4) سورة: الشعراء، الآيتان: 10، 11.(1/126)
وتمويهاتهم، إذ معلوم أن مثل ذلك الخطب العظيم وحشر العدد الكثير ينتهي إلى يوم يتواعد إليه مشهود وعلى هذا بني الكلام في أكثر متشابه هذه القصة.
الآية العشرون من سورة الأعراف
قوله تعالى في الآية التي قبل: {وَجََاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قََالُوا إِنَّ لَنََا لَأَجْراً إِنْ كُنََّا نَحْنُ الْغََالِبِينَ} (1) وقال في سورة الشعراء (2): {فَلَمََّا جََاءَ السَّحَرَةُ قََالُوا لِفِرْعَوْنَ أَإِنَّ لَنََا لَأَجْراً إِنْ كُنََّا نَحْنُ الْغََالِبِينَ}.
للسائل أن يسأل فيقول: كيف اختلفت الآيتان وكيف جاز: {وَجََاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قََالُوا}؟ وحق الكلام أن يكون في «قالوا» واو أو فاء نحو: جاء السحرة فرعون فقالوا: أئن لنا لأجرا أو: وقالوا.
الجواب أن يقال: لما تقدم في سورة الشعراء ما شرحه أكثر وما في سورة الأعراف أوجز وأخصر كان قوله في الأعراف: {وَجََاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ} بمعنى ما كان بإزائه في سورة الشعراء {فَلَمََّا جََاءَ السَّحَرَةُ} فلم يحتج في جواب «لما» إلى فاء ولا واو، وكذلك هنا في سورة الأعراف لما قصد هذا المعنى دل بحذف العاطف على هذا القصد، فكأنه قال: فلما جآء السحرة قالوا إن لنا لأجرا.
الآية الحادية والعشرون
قوله تعالى في سورة الأعراف (3): {قََالُوا إِنَّ لَنََا لَأَجْراً إِنْ كُنََّا نَحْنُ الْغََالِبِينَ قََالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ} وقال في سورة الشعراء (4): {قََالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذاً لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ}.
للسائل أن يسأل: عن زيادة «إذا» في سورة الشعراء وخلو سورة الأعراف منها.
والجواب: أن معنى قوله: {إِذاً} جواب وجزاء، وكان من قول فرعون لهم: إن غلبتم فجزاي أن أجازيكم بإعلاء رتبتكم وتقريب منزلتكم فلأجل ذلك أفعل هذا بكم، فاختصت سورة الشعراء بهذا دون غيرها لأنها موضع بني على فضل اقتصاص لما جرى لم يبن غيرها عليه من نحو ما تقدم وما يجيء بعد.
__________
(1) سورة: الأعراف، الآية: 113.
(3) الآيتان: 113، 114.
(2) الآية: 41.
(4) الآية: 42.(1/127)
الآية الثانية والعشرون من الأعراف
قوله تعالى: {قََالُوا يََا مُوسى ََ إِمََّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمََّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ} (1) وقال في سورة طه (2): {قََالُوا يََا مُوسى ََ إِمََّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمََّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقى ََ}.
للسائل أن يسأل: عن اختلاف المحكي في الموضعين مع أن ذلك في شيء واحد.
الجواب: أن المقصود معنى واحد واختير في سورة الأعراف: {وَإِمََّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ} لأن الفواصل قبله على هذا الوزن واختير في سورة طه: {وَإِمََّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقى ََ}، ومثله قوله: {فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سََاجِدِينَ} (3) في سورة الأعراف وسورة الشعراء لتكون الفاصلة فيها مساوية للفواصل قبلها وبإزاء {سََاجِدِينَ} قوله: {فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّداً} (4) في سورة طه كذلك ومثله قوله: {قََالُوا آمَنََّا بِرَبِّ الْعََالَمِينَ رَبِّ مُوسى ََ وَهََارُونَ} (5) في السورتين للفواصل التي حملت هذه عليها وقال في سورة طه: {قََالُوا آمَنََّا بِرَبِّ هََارُونَ وَمُوسى ََ} (6) فقدم «هارون» ليكون «موسى» فاصلة مثل الفواصل المتقدمة، فهذا ونحوه مما يراعى في الفواصل، ألا ترى إلى قوله تعالى: {وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا} (7) {فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا} (8) فزيدت الألف لا للبدل من التنوين إذ لا تنوين مع الألف واللام، وإنما ذلك للتوفقة بينهما وبين الفواصل التي قبلهما وبعدهما نحو: تقتيلا وتبديلا وقريبا وسعيرا وبصيرا وبعدهما: كبيرا ووجيها وسديدا وعظيما.
الآية الثالثة والعشرون من الأعراف
قوله تعالى: {قََالُوا آمَنََّا بِرَبِّ الْعََالَمِينَ رَبِّ مُوسى ََ وَهََارُونَ} (5) وقال في سورة الشعراء مثله وقال في سورة طه: {قََالُوا آمَنََّا بِرَبِّ هََارُونَ وَمُوسى ََ} (6).
للسائل أن يسأل فيقول: لم كررت «رب» في السورتين، ولم تكرر في سورة طه إنما قال: {قََالُوا آمَنََّا بِرَبِّ هََارُونَ وَمُوسى ََ}؟
__________
(1) سورة: الأعراف، الآية: 115.
(5) سورة: الشعراء، الآيتان: 47و 48.
(2) الآية: 65.
(6) سورة: طه، الآية: 70.
(3) سورة: الشعراء، الآية: 46.
(7) سورة: الأحزاب، الآية: 66.
(4) سورة: طه، الآية: 70.
(8) سورة: الأحزاب، الآية: 67.(1/128)
الجواب أن يقال: إذا قيل: {بِرَبِّ الْعََالَمِينَ} فقد دخل فيهم موسى وهارون وهما دعوا إلى رب العالمين لما قالا: {إِنََّا رَسُولُ رَبِّ الْعََالَمِينَ} (1) إلا أنه ذكر في السورتين {رَبِّ مُوسى ََ وَهََارُونَ} ليدل بتخصيصهما بعد العموم على تصديقهما بما جاءا به عليهما الصلاة والسّلام عن الله تعالى، فكأنه قيل: {آمَنََّا بِرَبِّ الْعََالَمِينَ} وهو الذي يدعو إليه موسى وهارون، وأما في سورة طه فلم يذكر: {بِرَبِّ الْعََالَمِينَ} لأنه ما كان الكلام يتم به آية كما تم في السورتين فيكون مقطع الآية فاصلة مخالفة للفواصل التي بنيت عليها فواصل سورة طه فقال تعالى: {آمَنََّا بِرَبِّ هََارُونَ وَمُوسى ََ} وربهما هو رب العالمين، وكان القصد حكاية المعنى لا أداء اللفظ على جهته بما دللنا عليه قبل.
الآية الرابعة والعشرون من سورة الأعراف
قوله تعالى: {قََالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ} (2) وقال في سورة طه (3)
والشعراء (4): {قََالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ}.
للسائل أن يسأل عن موضعين من هذه الآية:
أحدهما: إظهاره اسم فرعون لعنه الله في سورة الأعراف في هذا اللفظ وإضماره له في مثله من سورتي طه والشعراء.
والثاني: قوله {آمَنْتُمْ بِهِ} وقال في الموضعين الآخرين: {آمَنْتُمْ لَهُ}. ووجه اختلافهما.
الجواب عن الموضع الأول: وهو إظهار الاسم في سورة الأعراف وإضماره فيما سواها: أن الذكر العائد إلى فرعون بعد في سورة الأعراف لأنه جاء في الآية العاشرة من الآية التي أضمر فيها ذكره وهي قوله: {قََالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ} (5) وجاء في الآية العاشرة من هذه السورة {قََالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ بِهِ} ولم يبعد هذا الذكر في الآيتين اللتين في سورة طه والشعراء لأن فرعون مذكور في سورة طه في جملة قومه الذين أخبر عنهم بقوله: {قََالَ أَجِئْتَنََا لِتُخْرِجَنََا مِنْ أَرْضِنََا بِسِحْرِكَ يََا مُوسى ََ} (6)
__________
(1) سورة: الشعراء، الآية: 16.
(4) الآية: 49.
(2) سورة: الأعراف، الآية: 123.
(5) سورة: الأعراف، الآية: 114.
(3) الآية: 71.
(6) سورة: طه، الآية: 57.(1/129)
{فَتَوَلََّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتى ََ قََالَ لَهُمْ مُوسى ََ وَيْلَكُمْ لََا تَفْتَرُوا عَلَى اللََّهِ كَذِباً فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذََابٍ وَقَدْ خََابَ مَنِ افْتَرى ََ} (1) وهذا خطابه لفرعون وقومه وضميرهم منطو على ضميره إلى قوله: {فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا} (2) بذكر في قوله: {قََالَ آمَنْتُمْ لَهُ} إنما هو في السابع من الآي التي جرى ذكره فيها وكذلك في سورة الشعراء لم يبعد الذكر بعده في سورة الأعراف، ألا ترى أن آخر ما ذكر فيما اتصل بهذه الآية قوله تعالى: {قََالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذاً لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ} (3) وذكره بعد ذلك في الآية الثامنة من الآية التي جرى ذكره فيها، فلما بعد الذكر في سورة الأعراف خلاف بعده في السورتين إذ كان في إحداهما في السابعة وفي الأخرى في الثامنة وهي في الأعراف في العاشرة أعيد ذكره الظاهر لذلك.
الجواب عن السؤال الثاني وهو قوله: {آمَنْتُمْ بِهِ} في سورة الأعراف و {آمَنْتُمْ لَهُ} في السورتين الأخريين: هو أن الهاء في {آمَنْتُمْ بِهِ} غير الهاء في {آمَنْتُمْ لَهُ}
وكل واحدة تعود إلى غير ما تعود إليه الأخرى فالتي في {آمَنْتُمْ بِهِ} لرب العالمين لأنه تعالى حكى عنهم {قََالُوا آمَنََّا بِرَبِّ الْعََالَمِينَ} (4) وهو الذي دعا إليه موسى عليه السّلام.
وأما الهاء في {آمَنْتُمْ لَهُ} فلموسى عليه السّلام والدليل على ذلك أنها جاءت في السورتين وبعدها في كل واحدة منهما: {إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ} (5) فالهاء في «إنه» هي التي في {آمَنْتُمْ لَهُ} ولا خلاف أن هذه لموسى عليه السّلام والذي جاء بعد قوله:
{آمَنْتُمْ بِهِ} قوله: {إِنَّ هََذََا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ} (6) أي: إظهاركم ما أظهرتم من الإيمان برب العالمين وقع على تواطؤ منكم أخفيتموه لتستولوا على العباد والبلاد، ويجوز أن يكون الهاء في {آمَنْتُمْ بِهِ} ضمير موسى عليه السّلام لأنه يجوز أن يقال: آمن بالرسول أي: أظهرتم تصديقه وأقدمتم على خلافي قبل أن آذنت لكم فيه وهذا لمكر مكرتموه وسر أسررتموه لتقلبوا الناس عليّ، فاقتضى هذا الموضع الذي ذكر فيه المكر إنكار الإيمان به، فأما الإيمان له في الموضعين الآخرين فاللام تفيد معنى الإيمان من أجله ومن أجل ما أتى به من الآيات، فكأنه قال: آمنتم برب العالمين لأجل ما ظهر لكم على يدي موسى عليه السّلام من آياته، وفي الموضع الذي ذكر فيه من أجله وعبر عنه باللام هو الموضع الذي قصد فيه إلى الإخبار بأنه كبيركم الذي علمكم السحر، فلذلك خص باللام والأول خص بالباء، وقد تدل اللام على الإتباع فيكون المعنى: اتبعتموه لأنه كبيركم في عمل السحر وقد يؤمن بالخبر من لا يعمل عليه ولا يتبع الداعي إليه.
__________
(1) سورة: طه، الآيتان: 6160.
(4) سورة: الشعراء، الآية: 47.
(2) سورة: طه، الآية: 64.
(5) سورة: طه، الآية: 71.
(3) سورة: الشعراء، الآية: 42.
(6) سورة: الأعراف، الآية: 123.(1/130)
الآية الخامسة والعشرون من سورة الأعراف
قوله تعالى: {فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} (1) وقال في سورة طه (2): {إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ} وقال في سورة الشعراء (3): {إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ}.
للسائل أن يسأل فيقول: قال في الأعراف: {فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} ولم يقل في طه، ولم أدخل الفاء في قوله: {فَلَأُقَطِّعَنَّ} وأما في سورة الشعراء فإنه أتى بسوف تعلمون مع اللام فقال: {فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} فما وجه اختلاف هذه واختصاص بعض بمكان دون غيره؟
الجواب أن يقال: إن قوله تعالى: {فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} من الوعيد المبهم المعرض به أي: فعلت بجهل ما تعرف من بعد نتيجته وطرحت بذر شر عند حصده تعلم نهايته، وهذا النوع من الوعيد أبلغ من الإفصاح بعذره على أنه قد قرن إليه بيانه وهو {لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ} الآية فنطق القرآن بحكاية التعريض بالوعيد والإفصاح بالتهديد معا
فأما اختصاص سورة الشعراء بقوله: «فلسوف» وزيادة اللام فلتقريب ما خوفهم به من اطلاعه عليهم وقربه منهم حتى كأنه في الحال موجودا، واللام للحال والجمع بينها وبين «سوف» التي للاستقبال، إنما هو لتحقيق الفعل وإدنائه من الوقوع كما قال تعالى: {وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيََامَةِ} (4) فجمع بين اللام وبين يوم القيامة كما جمع بينها وبين «سوف» على ما قاله تعالى: {وَمََا أَمْرُ السََّاعَةِ إِلََّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ} (5) وقد بينا أن سورة الشعراء أكثر اقتصاصا لأحوال موسى عليه السّلام في بعثه وابتداء أمره وانتهاء حاله مع عدوه، فجمعت لفظ الوعيد المبهم مع اللفظ المقرب له المحقق وقوعه إلى اللفظ المفصح بمعناه، ثم وقع الاقتصار في السورة التي لم يقصد فيها من اقتصاص الحال ما قصد في سورة الشعراء على ذكر نقص ما في موضع البسط والشرح وهو التعريض بالوعيد مع الإفصاح به فأما في سورة طه فإنه اقتصر فيها على التصريح بما أوعدهم به وترك {فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} وقال: {فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ} إلا أنه جاء بدل هذه الكلمة ما يعادلها ويقارب ما جاء في سورة الشعراء التي هي مثلها في اقتصاص أحواله من ابتدائها إلى حين انتهائها وهو قوله بعده: {وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنََا أَشَدُّ عَذََاباً وَأَبْقى ََ} (6) فاللام والنون في «لتعلمن» للقسم وهما لتحقيق الفعل وتوكيده
__________
(1) سورة: الأعراف، الآية: 123.
(4) سورة: النحل، الآية: 124.
(2) الآية: 71.
(5) سورة: النحل، الآية: 77.
(3) الآية: 49.
(6) سورة: طه، الآية: 71.(1/131)
كما أتى باللام في قوله: {فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} لإدناء الفعل وتقريبه فقد تجاوز ما في السورتين المقصود فيهما إلى اقتصاص الحالين من إعلاء الحق وإزهاق الباطل.
الآية السادسة والعشرون من سورة الأعراف
قوله تعالى: {ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ} (1) وقال في السورتين طه (2) والشعراء (3):
{وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ} بالواو.
للسائل أن يسأل: عن اختصاص ما في سورة الأعراف بثم والأخريين بالواو.
الجواب أن يقال: إن السورتين اللتين جاءت الواو فيهما بهذا اللفظ منهما هما المبنيتان على الاقتصاص الأكثر والبسط الأوسع والواو أشبه بهذا المعنى لأنه يجوز أن يكون ما بعدها ملاصقا لما قبلها كالتعقيب الذي يفاد بالفاء، ويجوز أن يكون متراخيا عنه كالمهلة التي يفاد بثم، لا بل يجوز أن يكون ما بعدها مقدما على ما قبلها ومجامعا لها إذ هي موضوعة للجمع ولا ترتيب فيها فكانت الواو أشبه بهذين المكانين، «وثم» تختص بأحد المواضع التي يصلح الواو لجميعها فلما كانت مقتصرا بها على بعض ما وضعت له الواو واستعملت حيث اختصرت الحال فاقترن بكل من المكانين ما كان أليق بالمقصود فيه، فلذلك خصت «ثم» في سورة الأعراف والواو في السورتين الأخريين والله أعلم.
الآية السابعة والعشرون من سورة الأعراف
قوله تعالى: {قََالُوا إِنََّا إِلى ََ رَبِّنََا مُنْقَلِبُونَ} (4) وقال في سورة الشعراء (5): {قََالُوا لََا ضَيْرَ إِنََّا إِلى ََ رَبِّنََا مُنْقَلِبُونَ}.
للسائل أن يسأل: عن زيادة قوله {لََا ضَيْرَ} على ما ذكر في سورة الأعراف واختصاص تلك بها دون هذه.
الجواب أن يقال: إنهم قابلوا وعيده بما يهونه ويزيل ألمه من انتقالهم إلى ثواب
__________
(1) سورة: الأعراف، الآية: 124.
(4) سورة: الأعراف، الآية: 125.
(2) الآية: 71.
(5) الآية: 50.
(3) الآية: 49.(1/132)
ربهم مع المتحقق من منقلب معذبهم، فجاء في سورة الشعراء وهي التي قصد بها الاقتصاص الأكبر {لََا ضَيْرَ} أي: لا ضرر علينا فإن منقلبنا إلى جزاء ربنا فننعم أبدا وتعذب أنت أبدا، فالضرر الذي تحاول إنزاله بنا يكون بك نازلا وعليك مقيما ونحن نألم ساعة لا يعتد بها مع دوام النعيم بعدها فكأنه لم يلحقنا ضرر، وفي سورة الأعراف وقع الاقتصار على قوله: {إِنََّا إِلى ََ رَبِّنََا مُنْقَلِبُونَ} وفيه كفاية وإبانة عن هذا المعنى ودلالة نبأ على ما قصد فيها مما بين وشرح فيما سواها.
الآية الثامنة والعشرون من سورة الأعراف
قوله تعالى: {قُلْ إِنَّمََا عِلْمُهََا عِنْدَ اللََّهِ وَلََكِنَّ أَكْثَرَ النََّاسِ لََا يَعْلَمُونَ قُلْ لََا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلََا ضَرًّا إِلََّا مََا شََاءَ اللََّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ} (1)
وقال في سورة يونس (2): {وَيَقُولُونَ مَتى ََ هََذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صََادِقِينَ قُلْ لََا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلََا نَفْعاً إِلََّا مََا شََاءَ اللََّهُ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذََا جََاءَ أَجَلُهُمْ فَلََا يَسْتَأْخِرُونَ سََاعَةً وَلََا يَسْتَقْدِمُونَ}.
للسائل أن يسأل عن الآيتين وتقديم النفع على الضرر في الأولى وتأخيره عنه في الأخرى، وهل ذلك لفائدة أوجبت في الاختيار تقديم المقدم وتأخير المؤخر؟.
الجواب أن يقال: إن الأولى بعد قوله: {يَسْئَلُونَكَ عَنِ السََّاعَةِ أَيََّانَ مُرْسََاهََا قُلْ إِنَّمََا عِلْمُهََا عِنْدَ رَبِّي} (3) وبعده: {قُلْ إِنَّمََا عِلْمُهََا عِنْدَ اللََّهِ وَلََكِنَّ أَكْثَرَ النََّاسِ لََا يَعْلَمُونَ} (3)
فكان معنى قوله: {قُلْ لََا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلََا ضَرًّا} (5): لا أملك تعجيل ثواب ولا عقاب لها إلا ما ملكنيه الله فلا أملك إلا ما ملكت، ولا أعلم إلا ما علمت، والذي تسألون عنه أخفى الغيوب وأنا لا أعلم منها ما هو أقرب إلى رجم الظنون فكيف ما يخص به علام الغيوب؟ ولو علمت الغيب لاستكثرت في السنة المخصبة ما يدفع كلب المجدبة وقيل: لاستكثرت من العمل الصالح الذي أتحقق أنه أرفع الأعمال عند الله تعالى درجة لأن من علم الغيب وعرف الأفضل عند الله لم يتركه إلى ما هو دونه وقوله: {وَمََا مَسَّنِيَ السُّوءُ} (5) أي: ما بي من جنون كما زعم المشركون وقيل: الفقر لاستكثاري من الخير الذي يتدارك به الفقر عند شدة الزمان، وأما الآية في سورة يونس فإنها فيما كان يستعجله
__________
(1) سورة: الأعراف، الآيتان: 188187.
(3) سورة: الأعراف، الآية: 187.
(2) الآيتان: 48، 49.
(5) سورة: الأعراف، الآية: 188.(1/133)
الكفار من عذاب الله تعالى وقبلها: {وَإِمََّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنََا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللََّهُ شَهِيدٌ عَلى ََ مََا يَفْعَلُونَ} (1) أي: إن أريناك بعض ما نتوعد به هؤلاء الكفار من العذاب في عاجل الدنيا حتى تراه نازلا بهم في حياتك أو أخرنا ذلك عنهم إلى بعد وفاتك ووفاتهم فإن ذلك لا يفوتهم لأن مرجعهم إلى حيث يجازي فيه العباد، ولا يملك بعضهم أمر بعض، ويقول الكفار: {مَتى ََ هََذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صََادِقِينَ قُلْ لََا أَمْلِكُ لِنَفْسِي} ما وعدكم الله من هذا العذاب ولا أن أدفع عنكم سوء العقاب كما {لََا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلََا نَفْعاً} إلا ما شاء الله أن يملكنيه منهما، فتقديم «ضر» على «نفع» في هذه الآية بخروجها على ذكر العذاب الذي قال الله تعالى فيه بعدها: {أَثُمَّ إِذََا مََا وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ آلْآنَ وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ} (2) إن اللفظة التي تزاوج لفظة الضر هي لفظة النفع ومعناها في أنه لا يملك إلا ما يملك الله منه عباده واحد، فلذلك أتبع ذكره ذكره.
الآية التاسعة والعشرون من سورة الأعراف
قوله تعالى: {وَإِمََّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطََانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللََّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} (3) وقال في سورة حم السجدة (4): {وَإِمََّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطََانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللََّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}.
للسائل أن يسأل فيقول: لأي معنى جاء في الآية من سورة الأعراف {سَمِيعٌ عَلِيمٌ} على لفظ النكرة، وفي سورة حم السجدة معرفتين بالألف واللام مؤكدتين بهو؟
الجواب أن يقال: إن الأول وقع في فاصلة ما قبلها من الفواصل أفعال جماعة أو أسماء مأخوذة من الأفعال من نحو قوله: {فَتَعََالَى اللََّهُ عَمََّا يُشْرِكُونَ} (5) وبعده يخلقون وينصرون ويبصرون والجاهلين، فأخرجت هذه الفاصلة بأقرب ألفاظ الأسماء المؤدية معنى الفعل أعني النكرة وكان المعنى: استعذ بالله إنه يسمع استعاذتك ويعلم استخارتك، والتي في سورة حم السجدة قبلها فواصل يسلك بها طريق الأسماء وهي ما في قوله تعالى:
{ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدََاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ وَمََا يُلَقََّاهََا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمََا يُلَقََّاهََا إِلََّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} (6) فقوله: {وَلِيٌّ حَمِيمٌ} ليس من
__________
(1) سورة: يونس، الآية: 46.
(4) الآية: 36.
(2) سورة: يونس، الآية: 51.
(5) سورة: الأعراف، الآية: 190.
(3) سورة: الأعراف، الآية: 200.
(6) سورة: فصلت، الآيتان: 34، 35.(1/134)
الأسماء التي يراد بها الأفعال، وكذلك قوله: {إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} (1) ليس في الحظ معنى فعل فأخرج {سَمِيعٌ عَلِيمٌ} بعد الفواصل التي هي على سنن الأسماء على لفظ يبعد عن اللفظ الذي يؤدي معنى الفعل، فكأنه قال: إنه هو الذي لا يخفى عليه مسموع ولا معلوم فليس القصد الإخبار عن الفعل كما كان في الأولى: إنه يسمع الدعاء ويعلم الإخلاص فهذا فرق ما بين المكانين.
انقضت سورة الأعراف عن تسع وعشرين آية فيها ثمان وثلاثون مسألة.
__________
(1) سورة: القصص، الآية: 79.(1/135)
8 - سورة الأنفال
قد مر في سورة البقرة وآل عمران من الآيات التي تشبه الآيات التي من هذه السورة، وهي الآية التي نذكرها فيها قد سبقت نظيرتها في سورة الأعراف فذكرناها في هذا المكان وكرهنا إخلاء هذه السورة من تخصيصها بما خصصنا به أمثالها.
الآية الأولى منها
قوله تعالى: {فَذُوقُوا الْعَذََابَ بِمََا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ} (1) وقال في سورة الأعراف (2):
{فَذُوقُوا الْعَذََابَ بِمََا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ}.
للسائل أن يسأل فيقول: إن الخبر في الموضعين عن الكفار فما بال أحدهما اختص بقوله: {بِمََا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ} والآخر اختص بقوله: {بِمََا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ}؟
الجواب أن يقال: إن التي في سورة الأعراف خبر عن قوم ذكروا قبل هذه الآية في قوله: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى ََ عَلَى اللََّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآيََاتِهِ أُولََئِكَ يَنََالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتََابِ} (3) أي: حظهم من العذاب المكتوب عليهم بقدر ما كسبوه من سيئات الأعمال حتى إذا جاءتهم رسلنا يتوفونهم أي: يستوفونهم من بين غيرهم ليسوقوهم إلى النار، وهذا عن الحسن، وبين ذلك بعده بقوله: {قََالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي النََّارِ كُلَّمََا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهََا حَتََّى إِذَا ادََّارَكُوا فِيهََا جَمِيعاً قََالَتْ أُخْرََاهُمْ لِأُولََاهُمْ رَبَّنََا هََؤُلََاءِ أَضَلُّونََا فَآتِهِمْ عَذََاباً ضِعْفاً مِنَ النََّارِ قََالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلََكِنْ لََا تَعْلَمُونَ} (4) فأخبر أن أخراهم تسأل الله أن يضعف العذاب على أولاهم لأنهم ضلوا وأضلوا فيستحقون العقاب على قدر الاكتساب، فلذلك طلبوا أن يكون عذابهم ضعف عذاب هؤلاء لإثمهم فيما كسبوا بضلالهم في أنفسهم وإثمهم فيما اكتسبوا من
__________
(1) سورة: الأنفال، الآية: 35.
(3) سورة: الأعراف، الآية: 37.
(2) الآية: 39.
(4) سورة: الأعراف، الآية: 38.(1/136)
إضلال غيرهم، وقالت أولاهم لأخراهم: فما كان لكم علينا من فضل، أي: أنتم مثلنا في الضلال لم يكن لكم علينا فضل في تركه أو التقلل منه: {فَذُوقُوا الْعَذََابَ بِمََا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ} أي: يقول الله تعالى ذلك: فذوقوا العذاب بقدر ما كنتم تكسبون، فهذا موضع يقتضي ذكر الاكتساب وما يجب على قدره من العقاب وأما قوله في هذه السورة في ذكر الكفار الذين قال الله تعالى فيهم: {وَمََا كََانَ صَلََاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلََّا مُكََاءً وَتَصْدِيَةً} (1) أي: صفيرا وتصفيقا لم تكن صلاتهم تسبيحا وتمجيدا وخضوعا لله تعالى كما يفعل المؤمنون فيقال لهم في الآخرة: ذوقوا العذاب بكفركم، ولم تتقدم هذه الآية ما يوجب قدرا من العذاب دون قدر حتى يقال: ذوقوا من العذاب بقدر كسبكم له كما كان في الآية الأولى وإنما ذكر كفرهم من حيث قال: {وَمََا كََانَ اللََّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمََا كََانَ اللََّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ وَمََا لَهُمْ أَلََّا يُعَذِّبَهُمُ اللََّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرََامِ} (2) وذلك كله في كفار قريش، فلذلك جاء فيه: {فَذُوقُوا الْعَذََابَ بِمََا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ} دون {بِمََا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ}.
الآية الثانية من هذه السورة
قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهََاجَرُوا وَجََاهَدُوا بِأَمْوََالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللََّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولََئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيََاءُ بَعْضٍ} (3) وقال في سورة براءة (4): {الَّذِينَ آمَنُوا وَهََاجَرُوا وَجََاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللََّهِ بِأَمْوََالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللََّهِ}.
للسائل أن يسأل فيقول: ما الذي قدم له في الآية الأولى ذكر «أموالهم وأنفسهم» على قوله: {فِي سَبِيلِ اللََّهِ} ثم ماله قدم ذكر {فِي سَبِيلِ اللََّهِ} في سورة براءة على ذكر «أموالهم وأنفسهم»؟
الجواب أن يقال: إن الآية الأولى في سورة الأنفال عقيب ما أنكره الله تعالى على من قال لهم: {تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيََا وَاللََّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللََّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (5) وهم أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلم لما أسروا المشركين ولم يقتلوهم طمعا في الفداء فقال الله تعالى:
{لَوْلََا كِتََابٌ مِنَ اللََّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمََا أَخَذْتُمْ عَذََابٌ عَظِيمٌ} (6) أي: فيما أخذتم من
__________
(1) سورة: الأنفال، الآية: 35.
(4) الآية: 20.
(2) سورة: الأنفال، الآيتان: 33و 34.
(5) سورة: الأنفال، الآية: 67.
(3) سورة: الأنفال، الآية: 72.
(6) سورة: الأنفال، الآية: 68.(1/137)
هؤلاء الأسرى من الفداء، ثم قال الله تعالى لما غفر لهم ما كان منهم من ترك القتل إلى الأسر {فَكُلُوا مِمََّا غَنِمْتُمْ حَلََالًا طَيِّباً} (1). أي: استمتعوا بما نلتم من أموال المشركين وبما أخذتم من فدائهم، فعقب ذلك بهذه الآية التي مدح فيها من أنفق أمواله في سبيل الله لا من يجاهد طلبا للنفع العاجل فقال: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهََاجَرُوا وَجََاهَدُوا بِأَمْوََالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللََّهِ} فقدم {بِأَمْوََالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ} على قوله: {فِي سَبِيلِ اللََّهِ} ليعلموا أن ذلك يجب أن يكون أهم لهم وأولى بتقديمه عندهم صرفا لهم عما حرصوا عليه من فائدة الفداء، ولم تكن كذلك الآية التي في سورة براءة لأنها بعد ما يوجب تقديم قوله في سبيل الله على ذكر المال لأنه قال تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمََّا يَعْلَمِ اللََّهُ الَّذِينَ جََاهَدُوا مِنْكُمْ} (2) ثم قال في إبطال ما أتى به المشركون من عمارة المسجد الحرام وسقاية الحاج مع المقام على الكفر {أَجَعَلْتُمْ سِقََايَةَ الْحََاجِّ وَعِمََارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرََامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللََّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجََاهَدَ فِي سَبِيلِ اللََّهِ لََا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللََّهِ} (3) فكان المندوب إليه في هذه الآية بعد الإيمان بالله الجهاد في سبيله فقال بعده مادحا لمن تلقى بالطاعة أمره {الَّذِينَ آمَنُوا وَهََاجَرُوا وَجََاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللََّهِ} (4) ثم ذكر بأموالهم وأنفسهم لما قدم ذكر ما اقتضى الموضع تقديمه وأن يجعل أهم إليهم من غيره، فخالف هذا المكان قوله في سورة الأنفال فقدم فيه ما أخر هناك فاعلمه وبالله التوفيق.
انقضت سورة الأنفال عن آيتين ومسألتين.
__________
(1) سورة: الأنفال، الآية: 69.
(3) سورة: التوبة، الآية: 19.
(2) سورة: التوبة، الآية: 16.
(4) سورة: التوبة، الآية: 20.(1/138)
9 - سورة التوبة
الآية الأولى منها
قوله عز وجلّ: {وَاللََّهُ لََا يَهْدِي الْقَوْمَ الظََّالِمِينَ} (1) بعد قوله: {أَجَعَلْتُمْ سِقََايَةَ الْحََاجِّ وَعِمََارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرََامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللََّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجََاهَدَ فِي سَبِيلِ اللََّهِ لََا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللََّهِ} وقال بعده: {وَاللََّهُ لََا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفََاسِقِينَ} بعد قوله: {قُلْ إِنْ كََانَ آبََاؤُكُمْ وَأَبْنََاؤُكُمْ وَإِخْوََانُكُمْ} (2) الآية وقال في هذه السورة: {وَاللََّهُ لََا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكََافِرِينَ}
موصولا بقوله: {إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيََادَةٌ فِي الْكُفْرِ} (3).
للسائل أن يسأل: عن تخصيص بعض هذه المواضع ب «الظالمين» وبعضها ب «الفاسقين» وبعضها ب «الكافرين» وهل ذاك لمعنى يخصه؟
الجواب: أن يقال: «الظالمون» في الآية الأولى المراد بهم: مشركو العرب الذين قاموا بسقاية الحاج وأنفقوا على المسجد الحرام رجاء الثواب مع المقام على الكفر والعصيان فهم لأنفسهم بالكفر ظالمون وبعملهم الذي يؤملون الانتفاع به مع مصامّة الكفر واضعون الشيء غير موضعه، فلما فعل هؤلاء المشركون ذلك وكان كل مشرك ظالما وكل من وضع شيئا في غير موضعه ظالما، وإنما يكون غير ظالم إذا أنفق في حال الإسلام على المسلمين من الحجاج دون الذين كانت صلاتهم عند البيت مكاء وتصدية، عبر عنهم بالظالمين لانطواء هذه الصفة على الكفر وعلى المعنى الزائد بتضييع المال في حال الشرك والمعنى: لا يهديهم إلى نيل الثواب الذي له ينفقون وبسببه يعمرون ولا يدلهم على ثمرة ما يؤملون وأما الموضع الثاني وهو: {وَاللََّهُ لََا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفََاسِقِينَ} فإنه تحذير لمن
__________
(1) سورة: التوبة، الآية: 19.
(2) سورة: التوبة، الآية: 24.
(3) سورة: التوبة، الآية: 37.(1/139)
قال فيهم من المسلمين: {قُلْ إِنْ كََانَ آبََاؤُكُمْ وَأَبْنََاؤُكُمْ وَإِخْوََانُكُمْ وَأَزْوََاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوََالٌ اقْتَرَفْتُمُوهََا وَتِجََارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسََادَهََا وَمَسََاكِنُ تَرْضَوْنَهََا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللََّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهََادٍ فِي سَبِيلِهِ} (1) فعرفهم أن من آثر مراعاة هذه الأبواب التي عدها على طاعة الله التي أوجبها من الجهاد في سبيله فليتربص نازل عقاب الله به، وأنه بفعله ذلك من جملة الفاسقين وأن حكمه حكمهم والله لا يهديهم إلى ما أعده للمؤمنين من الثواب لتعرضهم بمخالفة أمر الله تعالى للعقاب، فكان ذكر الفاسقين أليق بهذا المكان وأما الموضع الثالث وهو: {وَاللََّهُ لََا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكََافِرِينَ} فإنه بعد قوله في وصف الكفار:
{إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيََادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عََاماً وَيُحَرِّمُونَهُ عََاماً} (2) وهو ما كان بعض العرب يأتيه من تحليل بعض الأشهر الحرم وتحريم بدله من الشهر الذي ليس بمحرم ليوفي عدة الأربعة فيكون في ذلك تحريم ما حلله الله وتحليل ما حرمه، فأخبر الله تعالى أن ذلك زيادة في كفرهم ثم عقبه بوصفهم بأنه لا يهديهم فكان أحق الأوصاف في هذا المكان لفظة «الكافرين» التي اقتضاها المعنى والذكر المتقدم في مكانين من الآية والله أعلم.
الآية الثانية من سورة التوبة
قوله تعالى: {يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللََّهِ بِأَفْوََاهِهِمْ وَيَأْبَى اللََّهُ إِلََّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكََافِرُونَ} (3) وقال في سورة الصف (4): {يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا نُورَ اللََّهِ بِأَفْوََاهِهِمْ وَاللََّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكََافِرُونَ}.
للسائل أن يسأل فيقول: قال الله تعالى في الآية الأولى: {يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللََّهِ} وقال في الثانية: {لِيُطْفِؤُا} فما الذي أوجب اختصاص الأولى بما اختصت به والثانية باللام دون أن تكون مثل الأولى بأن وهي الأصل في تعدي الإرادة إليه؟
الجواب أن يقال: إن الإرادة في الآية الأولى تعلقت بإطفاء نور الله بأفواههم، وإطفاء نور الله إنما هو بما حاولوه من دفع الحق بالباطل والحق يسمى: نور الله لأن حججه وبراهينه تضيء لطالبه فيهتدي بها إليه والباطل هو قولهم بأفواههم وهو ما أخبر الله تعالى به قبل عن اليهود والنصارى
__________
(1) سورة: التوبة، الآية: 24.
(3) سورة: التوبة، الآية: 32.
(2) سورة: التوبة، الآية: 37.
(4) الآية: 8.(1/140)
{وَقََالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللََّهِ وَقََالَتِ النَّصََارى ََ الْمَسِيحُ ابْنُ اللََّهِ ذََلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوََاهِهِمْ} (1) أي: هو قول لا حقيقة له ولا محصول وبمثله لا يدفع الحق وبالأفواه لا يطفأ هذا النور كما يطفأ السراج لأن هذا النور وإن أشبهه في أنه يهدي ويبين الحق من الباطل فهو بخلافه في الامتناع من الإطفاء كما يتهيأ ذلك في السراج، والنور يجوز أن تكون الآية المنيرة والحجة الساطعة ويجوز أن يكون المراد به القرآن ويجوز أن يكون المراد به النبي صلّى الله عليه وسلم كما قال: {إِنََّا أَرْسَلْنََاكَ شََاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً وَدََاعِياً إِلَى اللََّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرََاجاً مُنِيراً} (2) فالسراج المنير يسمى:
نورا وكل واحد من الثلاثة إذا دفعوه جاز أن يقال: حاولوا إطفاءه والخبر عن اليهود والنصارى الذين قال تعالى فيهم: {ذََلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوََاهِهِمْ يُضََاهِؤُنَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا} (3) من قبل أن يشاكلوا بإثباتهم لله ابنا وشريكا قول من أثبت مع الله آلهة {وَمََا أُمِرُوا إِلََّا لِيَعْبُدُوا إِلََهاً وََاحِداً لََا إِلََهَ إِلََّا هُوَ سُبْحََانَهُ عَمََّا يُشْرِكُونَ} (4) وهذا واضح وتعدي الإرادة إلى هذا المراد ظاهر وهو وجه الكلام والأصل.
فأما الآية في سورة الصف وتعليق الإرادة فيها بالإطفاء مع زيادة الكفر فإن للنحويين في ذلك مذهبين أحدهما: أن اللام توضع موضع «إن» لكثرة ما يقال: زرتك لتكرمني فاللام لما شهرت بنيابتها عن «أن» وقيامها مقامها في الموقع كان تعدي الفعل إليها مع ما بعدها من الفعل كتعديه إلى «أن» وما يتضمنه من المستقبل فيقال: قصدت أن تفرح، وقصدت لتفرح وهذا لا يكون إلا على سبيل التوسع دون الحقيقة، فأما المذهب الآخر فللمحققين وهو أن الفعل تعدى إلى مفعول محذوف واللام الداخلة على الفعل المنصوب تكون مبينة عن العلة التي لها أنشئ الفعل واللام في الآية على هذا التحقيق، وهو أن المراد: يريدون أن يكذبوا ليطفئوا نور الله بأفواههم، لأن قبلها {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى ََ عَلَى اللََّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعى ََ إِلَى الْإِسْلََامِ} (5) فقوله: {يُرِيدُونَ} لم يذكر مفعول ما يريدونه اعتمادا على ما نبه عليه بقوله: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى ََ عَلَى اللََّهِ الْكَذِبَ} فكأنه قيل: يريدون افتراء الكذب ليطفئوا نور الله وعلى هذا قوله:
أردت لكيما يعلم الناس أنها ... سراويل عاديّ نمته ثمود
أي: أردت أن أنزع سراويلي ليعلم الناس إذا رأوا طولها أنها على عادي القامة
__________
(1) سورة: التوبة، الآية: 30.
(4) سورة: التوبة، الآية: 31.
(2) سورة: الأحزاب، الآيتان: 45، 46.
(5) سورة: الصف، الآية: 7.
(3) سورة: التوبة، الآية: 30.(1/141)
ثمودي الخلقة، فلهذا خصت الآية الثانية بدخول اللام على «يطفئوا» ولما كان المراد في الآية الأولى الإطفاء بالأفواه لما دل عليه مفتتح العشر وهو: {وَقََالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللََّهِ وَقََالَتِ النَّصََارى ََ الْمَسِيحُ ابْنُ اللََّهِ ذََلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوََاهِهِمْ} كانت الإرادة معداة إلى إطفاء نور الله بأفواههم وهو ما حكى الله تعالى عنهم أنه قولهم بأفواههم أي:
يريدون أن يدفعوا الحق بالباطل من أفواههم وهذا واضح.
الآية الثالثة من سورة التوبة
قوله تعالى: {وَمََا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقََاتُهُمْ إِلََّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللََّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلََا يَأْتُونَ الصَّلََاةَ إِلََّا وَهُمْ كُسََالى ََ وَلََا يُنْفِقُونَ إِلََّا وَهُمْ كََارِهُونَ} (1)
وقال في موضعين آخرين من هذه السورة: {ذََلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللََّهِ وَرَسُولِهِ وَاللََّهُ لََا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفََاسِقِينَ} (2) وبعدها: {وَلََا تَقُمْ عَلى ََ قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللََّهِ وَرَسُولِهِ وَمََاتُوا وَهُمْ فََاسِقُونَ} (3).
للسائل أن يسأل: عن الفرق بين هذه الأماكن حتى أعيد في الأول حرف الجر مع المعطوف ولم يعد في المكانين الآخرين.
الجواب أن يقال: لما كان الأول فيه إيجاب بعد نفي صار الخبر أوكد وإلى إمارة التوكيد أحوج ألا ترى أن قوله: ما زيد إلا فاضل أوكد من قولك: زيد فاضل، وكذلك:
ما زيد إلا قائم أوكد من قولك: زيد قائم، فلما كان كذلك احتاج في المعطوف على قوله «بالله» إلى توكيد لم يحتج إليه في قوله: {ذََلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللََّهِ وَرَسُولِهِ} إذ ليس واحد من الموضعين الآخرين متضمنا إيجابا بعد نفي كما تضمنه قوله: {وَمََا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقََاتُهُمْ إِلََّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللََّهِ وَبِرَسُولِهِ}.
الآية الرابعة منها
قوله تعالى: {وَلََا يُنْفِقُونَ إِلََّا وَهُمْ كََارِهُونَ فَلََا تُعْجِبْكَ أَمْوََالُهُمْ وَلََا أَوْلََادُهُمْ إِنَّمََا يُرِيدُ اللََّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهََا فِي الْحَيََاةِ الدُّنْيََا} (4) الآية وقال بعده:
__________
(1) سورة: التوبة، الآية: 54.
(3) سورة: التوبة، الآية: 84.
(2) سورة: التوبة، الآية: 80.
(4) سورة: التوبة، الآيتان: 54، 55.(1/142)
{وَلََا تُعْجِبْكَ أَمْوََالُهُمْ وَأَوْلََادُهُمْ إِنَّمََا يُرِيدُ اللََّهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِهََا فِي الدُّنْيََا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كََافِرُونَ} (1).
للسائل أن يسأل في الآيتين عن أربع مسائل:
أولها: قوله: {فَلََا تُعْجِبْكَ أَمْوََالُهُمْ} بالفاء في الآية الأولى وقوله: {وَلََا تُعْجِبْكَ أَمْوََالُهُمْ} في الآية الثانية.
والمسألة الثانية: تكرار «لا» في قوله: {وَلََا أَوْلََادُهُمْ} وتركه في قوله: {وَلََا تُعْجِبْكَ أَمْوََالُهُمْ وَأَوْلََادُهُمْ}.
الثالثة: قوله: {إِنَّمََا يُرِيدُ اللََّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ} باللام وقال في الآية الأخرى: {إِنَّمََا يُرِيدُ اللََّهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ}.
المسألة الرابعة: قوله: {فِي الْحَيََاةِ الدُّنْيََا} في الآية الأولى وفي الآخرة {فِي الدُّنْيََا} من غير ذكر الحياة الموصوفة بها.
الجواب: عن المسألة الأولى في الفاء والواو ومجيء أول الآية على {فَلََا تُعْجِبْكَ}
والآخر على {وَلََا تُعْجِبْكَ} وهو أن قبل الفاء قوله تعالى: {وَلََا يَأْتُونَ الصَّلََاةَ إِلََّا وَهُمْ كُسََالى ََ وَلََا يُنْفِقُونَ إِلََّا وَهُمْ كََارِهُونَ} (2) فأخبر عن المنافقين بما يقصدونه بأفعالهم التي يوقعونها في حالهم واستقبالهم على معنى: أن يكسلوك عن الصلاة وتتكرهوا الصدقات فإن الله ليس يجازيهم بما يسرهم من أموالهم وأولادهم، بل يعجل ذلك عذابا لهم مدة بقائهم بما ينالهم من النقص في الأموال مما أباح منه للمسلمين بالقتال، وما يصيبهم في الأولاد من السبي والاستعباد، ثم عند الفراق يكون الألم على قدر محبة الأحباب، هذا سوى سوء الانقلاب وما أعد لهم من العذاب ليوم المآب، فلما كان الفعل الذي قبل الفاء بمعنى الشرط صار ما بعدها في موضع الجزاء فخصت بالفاء لذلك، أما الآية التي دخلتها الواو فإن قبلها أفعالا ماضية كقوله: {إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللََّهِ وَرَسُولِهِ وَمََاتُوا وَهُمْ فََاسِقُونَ} (3) وهذه الأفعال بمضيها وانقطاعها لا تكون شرطا فتعقب بالفاء التي تدل على الجزاء، فعطفت الآية بعدها على ما قبلها بالواو لبطلان المعنى الذي يقتضي الفاء، ألا ترى أنه قال: {وَمََاتُوا وَهُمْ فََاسِقُونَ} ولا يشترط فعل من قد مات فيعقب بذكر الجزاء، فلذلك اختلفا في الواو والفاء.
__________
(1) سورة: التوبة، الآية: 85.
(3) سورة: التوبة، الآية: 84.
(2) سورة: التوبة، الآية: 54.(1/143)
الجواب عن المسألة الثانية: وهي توكيد قوله: {فَلََا تُعْجِبْكَ أَمْوََالُهُمْ وَلََا أَوْلََادُهُمْ} بلا في قوله: {فَلََا تُعْجِبْكَ أَمْوََالُهُمْ وَلََا أَوْلََادُهُمْ} وتعرية الثانية منها حيث قال: {وَلََا تُعْجِبْكَ أَمْوََالُهُمْ وَأَوْلََادُهُمْ} هو أن الذي أنبأ عن معنى الشرط في الفعل الأول وهو: {وَلََا يَأْتُونَ الصَّلََاةَ إِلََّا وَهُمْ كُسََالى ََ وَلََا يُنْفِقُونَ إِلََّا وَهُمْ كََارِهُونَ} بنى على أوكد ما تبنى عليه الأخبار من الإيجاب بعد النفي، فلما علقت الجملة الثانية به تعليق الجزاء بالشرط اقتضت من التوكيد ما قصد به مثله في الأول فكان ذاك أن وكد معنى النهي بتكرير «لا» في قوله: {فَلََا تُعْجِبْكَ أَمْوََالُهُمْ وَلََا أَوْلََادُهُمْ} وأما الآية الثانية فهي مخالفة للأولى في هذا المعنى لأنه لا شرط ينطوي عليه الفعل الذي قبلها كما انطوى عليه الفعل الذي قبل الفاء ولم يتضمن أيضا من التوكيد المقتضي بناء ما يتعلق به عليه فخلا من الدواعي إلى التوكيد فلم يكرر فيه «لا» لذلك.
الجواب عن المسألة الثالثة: وهي وصل الإرادة باللام في الأول حيث قال:
{لِيُعَذِّبَهُمْ بِهََا} ووصلها بأن في الثانية حيث قال: {أَنْ يُعَذِّبَهُمْ} هو أن الأولى معناها:
إنما يريد الله أن يزيد في نعمائهم بالأموال والأولاد ليعذبهم بها في الحياة الدنيا، فمفعول الإرادة محذوف واللام لام الصيرورة، والآية الأخيرة مخالفة للأولى في ذلك لأنها في الإخبار عن قوم قد ماتوا وانقرضوا على النفاق، فلم تتضمن الآية مفعولا وهو أن يزيد في نعمائهم لانقطاع الزيادة بالموت عنهم، فعديت الإرادة إلى ما آل إليه حالهم من تعذيبهم فصار المعنى: إنما يريد الله في حال إنعامه عليهم تعذيبهم به في الدنيا، ففرق بين الخبرين إذ كان أحدهما خبرا عن قوم معرضين لزيادة إنعام الله عليهم والآخر خبرا عمن انقطعت أعمالهم وبلغت نعمة الله عليهم غاية لا مزيد فيها لهم والله يريد تعذيبهم بذلك بعد كفرهم ومقامهم على نفاقهم.
الجواب عن المسألة الرابعة وهي: قوله في الأولى {فِي الْحَيََاةِ الدُّنْيََا} فجعل الدنيا صفة للحياة وقوله في الأخيرة {فِي الدُّنْيََا} فأغنى بذكر الصفة عن ذكر الموصوف:
هو أن الثانية لما كانت بعد الأولى وقد نبه فيها على الموصوف كان في ذكره هناك غنى عن ذكره في هذا المكان لا سيما والدنيا كاسم علم للحياة الأولى والدار الدنيا فأغنى كل ذلك عن ذكر الحياة والإتيان بالموصوف وهذه حال الصفة.(1/144)
هو أن الثانية لما كانت بعد الأولى وقد نبه فيها على الموصوف كان في ذكره هناك غنى عن ذكره في هذا المكان لا سيما والدنيا كاسم علم للحياة الأولى والدار الدنيا فأغنى كل ذلك عن ذكر الحياة والإتيان بالموصوف وهذه حال الصفة.
الآية الخامسة منها
قوله تعالى: {اسْتَأْذَنَكَ أُولُوا الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقََالُوا ذَرْنََا نَكُنْ مَعَ الْقََاعِدِينَ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوََالِفِ وَطُبِعَ عَلى ََ قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لََا يَفْقَهُونَ} (1) وقال بعد العشر الذي يلي هذه العشر: {إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيََاءُ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوََالِفِ وَطَبَعَ اللََّهُ عَلى ََ قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لََا يَعْلَمُونَ} (2).
للسائل أن يسأل هنا عن مسألتين:
إحداهما: قوله في الأولى {وَطُبِعَ} بفعل ما لم يسم فاعله وفي الثانية سمى فاعله بقوله: {وَطَبَعَ اللََّهُ}.
والمسألة الثانية: قوله في الأولى: {فَهُمْ لََا يَفْقَهُونَ} وفي الأخرى:
{فَهُمْ لََا يَعْلَمُونَ}.
الجواب عن المسألة الأولى أن قوله: {وَطُبِعَ} في آخر آية افتتحت بقوله:
{وَإِذََا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ} (3) والمعنى: وإذا أنزل الله سورة، فلما صدرت الآية في فعل علم أن فاعله الله فيما لا يقتضي ذكر الفاعل بل يقام المفعول به مقامه كان مثل هذا الفعل في منتهى الآية محمولا عليه لأنه معلوم أن الله يطبع كما علم أن الله ينزل السورة فكان التوفقة في ذلك بين آخر الآية وأولها الإخبار، والآية الأخرى وقعت هذه اللفظة منها في موضع إشباع وتأكيد ألا تراها في قوله: {إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيََاءُ} فجاءت «إنما» بعد نفي مكرر في قوله: {لَيْسَ عَلَى الضُّعَفََاءِ وَلََا عَلَى الْمَرْضى ََ وَلََا عَلَى الَّذِينَ لََا يَجِدُونَ مََا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذََا نَصَحُوا لِلََّهِ وَرَسُولِهِ مََا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللََّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ وَلََا عَلَى الَّذِينَ إِذََا مََا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لََا أَجِدُ مََا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ} (4) فنفى الحرج عمن قعد عن الجهاد لإحدى المعاذير التي ذكرها، ثم ألزم الحرج القوم الذين حالهم مضادة لأحوال أولئك فقال:
{إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيََاءُ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوََالِفِ}
أي: الإثم يتوجه على من يستأذن في المقام وهو قادر على الجهاد بالغنى واليسار وصحة الأبدان، رضوا بأن يكونوا مع النساء والزمنى والضعفاء والله طبع على قلوبهم فهم لا
__________
(1) سورة: التوبة، الآيتان: 86، 87.
(3) سورة: التوبة، الآية: 86.
(2) سورة: التوبة، الآية: 93.
(4) سورة: التوبة، الآيتان: 91و 92.(1/145)
يعلمون، فلما كان هذا الموضع موضعا يتبين فيه مضادة حالهم لأحوال غيرهم لتخالف بين أحوالهم وأحوال من فسح في القعود لهم كان موضع تنبيه وتأكيد وتخويف، وتحذير فسمى الفاعل وهو الله تعالى ليليق الفعل إذا جاء هذا المجيء بمكانه.
الجواب عن المسألة الثانية هو: إن الذين ذكروا بالطول وهو الفضل في النفس والمال والقدرة على الجهاد إنما مالوا إلى الدعة وأخلدوا إلى الراحة وأشفقوا من الحر ولم يفطنوا أن الراحة في تحمل التعب مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وأن الدعة توجد بتحمل المشقة معه فطلبوا ما كان مطلوبهم ضده لو فقهوا له وفطنوا فكان هنا موضع {يَفْقَهُونَ} وأما الآية الأخرى وهي: {إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيََاءُ} أي العقاب متوجه على هؤلاء وهم لا يعلمون بما أعد الله لكل ذي عمل محق عمله ما يعلمه المؤمنون الذين يستجيبون للخروج والذين تفيض مدامعهم إذا لم يعنهم بالركوب، فلما كان بإزائهم في الآيتين اللتين قبل ذكر من تحقق بالدين وعلم الثواب والعقاب علم اليقين وخالفهم هؤلاء نفى عنهم ما أثبته لأولاء وهو العلم، فلذلك جاء في هذا المكان: {فَهُمْ لََا يَعْلَمُونَ}.
الآية السادسة من سورة التوبة
قوله تعالى: {قُلْ لََا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللََّهُ مِنْ أَخْبََارِكُمْ وَسَيَرَى اللََّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلى ََ عََالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهََادَةِ} (1) وقال بعده: {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللََّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلى ََ عََالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهََادَةِ} (2).
للسائل أن يسأل عن شيئين في هذا المكان:
أحدهما: ذكره المؤمنين في الآية الأخرى وتركه في الأولى؟
والسؤال الثاني قوله في الآية الأولى: {ثُمَّ تُرَدُّونَ} وفي الآية الثانية:
{وَسَتُرَدُّونَ} وهل لاختلافهما معنى يوجبه ويخصصه بالمكان الذي يختصه؟
الجواب عن الأول: أن يقال: إن المخاطبين في الآية الأولى هم: المنافقون والمخاطبون في الثانية: هم المؤمنون لأنه قال في الأولى: {يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذََا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُلْ لََا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللََّهُ مِنْ أَخْبََارِكُمْ} والثانية:
__________
(1) سورة: التوبة، الآية: 94.
(2) سورة: التوبة، الآية: 105.(1/146)
{خُذْ مِنْ أَمْوََالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهََا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلََاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ} (1)
وبعده {أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللََّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبََادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقََاتِ} (2) ثم قال:
{وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللََّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ}. وإذا اختلف المخاطبون بما بينا في الآيتين كان قوله: {وَسَيَرَى اللََّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ} بعد قوله: {قَدْ نَبَّأَنَا اللََّهُ مِنْ أَخْبََارِكُمْ} معناه أن الله قد أخبرنا بأخباركم التي تخفونها في أنفسكم وتجاهرون بها من كان من المنافقين مثلكم والله يرى ما سيكون منكم بعد ويرى رسوله باطلاع الله له عليه، وأعمالهم التي لأجلها يحكم عليهم بالنفاق يراها الله تعالى ويطلع عليها رسوله صلّى الله عليه وسلم وما كل مؤمن يعلمها، فلذلك لم يقل في هذا المكان {وَالْمُؤْمِنُونَ} بعد قوله: {وَسَيَرَى اللََّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ}.
وأما الآية الثانية فإنها فيمن أمر الله تعالى نبيه صلّى الله عليه وسلم وهو الذي أوجب عليهم الصدقات بأن يقول لهم: اعملوا ما أمركم الله به من الطاعات كالصلوات والصدقات فإن الله ورسوله والمؤمنين يرون ذلك، وهذه الأعمال مما ترى بالعين خلاف أعمال المنافقين التي تقتضي لهم النفاق لإضمارهم خلاف إظهارهم وهو مما لا يرى بالعين، وإنما يعلمه عالم الغيب، فلذلك لم يذكر المؤمنون في الأولى وذكروا في الثانية.
الجواب عن المسألة الثانية: إن معنى قوله للمنافقين: {قَدْ نَبَّأَنَا اللََّهُ مِنْ أَخْبََارِكُمْ وَسَيَرَى اللََّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ} أي: سيعلم الله حقيقة عملكم وأنه عن غير صحة اعتقاد منكم وأن اعتذاركم قول بلسانكم لا يطابقه منطوى ضميركم، وهذا ظاهر بكون الجزاء عليه خلافه، ففصل بينه وبين ردهم إلى الله تعالى للجزاء عليه بقوله: {ثُمَّ تُرَدُّونَ} أي: عملكم يعلم الله من باطنه خلاف ظاهره، وقد أمرنا بالرضاء به وحقن دمائكم له، ثم إن الحكم إذا رددتم إلى الله تعالى في الآخرة بخلافه، فلبعد ما بين الظاهر من عملهم وما يجازون به دخلت «ثم» وليست كذلك الآية الأخيرة لأن قبلها بعثا على عمل الخير لقوله: {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللََّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ} وهذا وعد والأول وعيد وبعده «ستردون» لأنه وعد مما يشاكل أفعالهم ويطابق أعمالهم من حسن الثواب وجميل الجزاء، ولم يبعد عنها كبعد جزاء المنافقين عما هو ظاهر من أعمالهم التي يراءون بها ويعلم الله تعالى خلافها منهم، فجرى الكلام على نسق واحد فقال: فسيرى الله عملكم وستردون، ولم يدخل «ثم» التي هي للتراخي والتباعد، فاختصاص كل موضع بما اختص به من اللفظ لما ذكرنا.
__________
(1) سورة: التوبة، الآية: 103.
(2) سورة: التوبة، الآية: 104.(1/147)
الآية السابعة من سورة التوبة
قوله تعالى: {ذََلِكَ بِأَنَّهُمْ لََا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلََا نَصَبٌ وَلََا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللََّهِ وَلََا يَطَؤُنَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الْكُفََّارَ وَلََا يَنََالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلََّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صََالِحٌ إِنَّ اللََّهَ لََا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} (1) وقال بعده:
{وَلََا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلََا كَبِيرَةً وَلََا يَقْطَعُونَ وََادِياً إِلََّا كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللََّهُ أَحْسَنَ مََا كََانُوا يَعْمَلُونَ} (2).
للسائل أن يسأل في ذلك عن مسألتين.
إحداهما: قوله تعالى في الآية الأولى: {إِلََّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صََالِحٌ}
وقوله في الثانية: {إِلََّا كُتِبَ لَهُمْ} فحسب ولم يذكر عمل صالح كما ذكر في الأولى.
والمسألة الثانية: تعقيبه الأولى بقوله: {إِنَّ اللََّهَ لََا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ}
وتعقيبه الثانية بقوله: {لِيَجْزِيَهُمُ اللََّهُ أَحْسَنَ مََا كََانُوا يَعْمَلُونَ} ووجه الاختلاف في هاتين الآيتين.
الجواب عن المسألة الأولى: هو أن في جملة ما ذكره تعالى مما أوجب لهم الأجر أشياء ليست من أعمالهم لأن الظمأ ليس هو فعل الإنسان والنصب والمخمصة كذلك، فلما تضمن ما نسق بعضه على بعض ما ليس بعمل لهم وما هو عمل لهم بقوله:
{وَلََا يَطَؤُنَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الْكُفََّارَ وَلََا يَنََالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا} (3) ألحق أجر ما ليس بعمل لهم بما هو عمل لهم فقال: {إِلََّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صََالِحٌ} (4) أي:
أجر عمل صالح، وما ذكر في الثانية كله من أعمالهم وهو قوله: {وَلََا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلََا كَبِيرَةً وَلََا يَقْطَعُونَ وََادِياً إِلََّا كُتِبَ لَهُمْ} أي: لا يخرجون من أموالهم ما دقّ أو جلّ ولا يقطعون في مسيرهم إلى أعدائهم واديا إلا كان ذلك محفوظا لهم معلوما مكتوبا أو كالمكتوب عند الله ليجزيهم عليه الله أحسن الجزاء، فلما كان ما في الثانية عملهم كتب على جهته لم يحتج إلى أن يكتب به عمل صالح لأنه هو والأول كان فيه ما ليس بعملهم فكتب به أجر مثل عملهم، فلذلك كانت الزيادة في الأولى ولم تحتج إليها الأخرى.
__________
(1) سورة: التوبة، الآية: 120.
(3) سورة: التوبة، الآية: 120.
(2) سورة: التوبة، الآية: 121.
(4) سورة: التوبة، الآية: 120.(1/148)
الجواب عن المسألة الثانية وهي تعقيب الأولى بقوله: {إِنَّ اللََّهَ لََا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} هو أن من أخبر عنه بأنه أصابه ظمأ ونصب وجوع فقد أخبر عنه بفعل غيره به ولم يخبر عنه بفعل فعله هو إلا أنه يجب له بما وصل إليه من ألم العطش والجوع والتعب والنصب الأجر، فلذلك عقبه بقوله: {إِنَّ اللََّهَ لََا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} أي: من أحسن طاعة الله وتعرض منها لما يلحقه فيه هذه الشدائد. وأما الآية الثانية وتعقيبها بقوله: {لِيَجْزِيَهُمُ اللََّهُ أَحْسَنَ مََا كََانُوا يَعْمَلُونَ} فلأن جميع ما ذكر كان عملا لهم فوعدهم حسن الجزاء على عملهم، وذلك ظاهر والله أعلم.
انقضت سورة براءة عن سبع مواضع فيها ثلاث عشرة مسألة.(1/149)
انقضت سورة براءة عن سبع مواضع فيها ثلاث عشرة مسألة.
10 - سورة يونس عليه السّلام
الآية الأولى منها
قوله تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللََّهِ مََا لََا يَضُرُّهُمْ وَلََا يَنْفَعُهُمْ} (1) وقال في سورة الفرقان (2): {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللََّهِ مََا لََا يَنْفَعُهُمْ وَلََا يَضُرُّهُمْ}.
للسائل أن يسأل عن تقديم: {يَضُرُّهُمْ} على: {يَنْفَعُهُمْ} في الآية الأولى وتقديم {يَنْفَعُهُمْ} على {يَضُرُّهُمْ} في الآية الثانية وهل صلح أحدهما مكان الآخر؟.
الجواب أن يقال: إنما قدم {يَضُرُّهُمْ} على {يَنْفَعُهُمْ} في الآية الأولى لأن العبادة تقام للمعبود خوفا من العقاب أولا ثم رجاء للثواب ثانيا وقد تقدم في هذا المكان ما أوجب تقديم {يَضُرُّهُمْ} على {يَنْفَعُهُمْ} في الآية الأولى وهو قوله: {إِنِّي أَخََافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذََابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} (3) فكأنه قال: ويعبدون من دون الله ما لا يخافون ضررا في معصيته ولا يرجون نفعا في عبادته، وقدم {مََا لََا يَضُرُّهُمْ} على ما {لََا يَنْفَعُهُمْ} في هذا المكان لهذا المعنى ولهذا اللفظ المتقدم وأما في سورة الفرقان فقد تقدمت قبلها آيات قدم فيها الأفضل على الأدون كقوله عز وجلّ: {وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هََذََا عَذْبٌ فُرََاتٌ وَهََذََا مِلْحٌ أُجََاجٌ} (4) وقوله بعده: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمََاءِ بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً وَكََانَ رَبُّكَ قَدِيراً} (5) وصلة النسب أفضل من صلة المصاهرة كما أن العذب من الماء أفضل من الملح، وقال بعده {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللََّهِ مََا لََا يَنْفَعُهُمْ وَلََا يَضُرُّهُمْ} أي: يتكلفون المشقة بعبادة ما لا يرجونه لنفع ولا يخشونه لضر، فقدم الأفضل على الأدون لهذا المعنى وللبناء على ما تقدم من الآيات فجاء في كل موضع على ما اقتضاه ما تقدمه وصح في المعنى الذي اعتمد له.
__________
(1) سورة: يونس، الآية: 18.
(4) سورة: الفرقان، الآية: 53.
(2) الآية: 55.
(5) سورة: الفرقان، الآية: 54.
(3) سورة: يونس، الآية: 15.(1/150)
الآية الثانية من سورة يونس
قوله تعالى: {فَمََا ذََا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلََالُ فَأَنََّى تُصْرَفُونَ كَذََلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لََا يُؤْمِنُونَ} (1) وقال في سورة المؤمن (2): {وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجََادَلُوا بِالْبََاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كََانَ عِقََابِ وَكَذََلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحََابُ النََّارِ}.
للسائل أن يسأل في هاتين الآيتين عن ثلاث مسائل:
إحداها: دخول الواو على {كَذََلِكَ} في سورة المؤمن وخلوها منها في سورة يونس.
والثانية قوله في الأولى: {عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا} وفي الثانية: {عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا}.
والثالثة قوله في الأولى: {أَنَّهُمْ لََا يُؤْمِنُونَ} وفي الثانية {أَنَّهُمْ أَصْحََابُ النََّارِ}
وعن الوجه في اختلاف ذلك.
الجواب عن المسألة الأولى وهي: ترك الواو في هذا الموضع وإثباتها في سورة المؤمن أن القصة بعد «كذلك» هي التي قبلها فهي مرتبطة بها بعودها إليها وبكاف التشبيه، فاستغنت بهذين الرباطين عن حرف العطف فهؤلاء الذين حقت عليهم كلمة ربك أنهم لا يؤمنون هم الذين خوطبوا بقوله: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمََاءِ وَالْأَرْضِ} (3) وليس كذلك ما في سورة المؤمن لأنه وإن تعلق به وبكاف التشبيه فإنه ينقطع عنه بأن المذكورين بعد كذلك غير المذكورين قبلها، ألا ترى قوله: {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزََابُ مِنْ بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجََادَلُوا بِالْبََاطِلِ} (4) خبرا عن الذين كانوا قبل النبي صلّى الله عليه وسلم، وما بعد قوله: {وَكَذََلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحََابُ النََّارِ} (5) إنما هو وعيده من في عصره عليه الصلاة والسّلام، فلما انقطع ما بعد «كذلك» هنا عما قبلها احتاج إلى الواو ما لم يحتج إليها ما في سورة يونس (6) عليه السّلام.
الجواب عن اختصاصه بقوله: {عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا} في سورة يونس واختصاص
__________
(1) سورة: يونس، الآيتان: 32، 33.
(4) سورة: غافر، الآية: 5.
(2) الآيتان: 5، 6.
(5) سورة: غافر، الآية: 6.
(3) سورة: يونس، الآية: 31.
(6) الآية: 33.(1/151)
ما في سورة المؤمن (1) بقوله: {عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا} فلأن الأولى في ذكر قوم أخبر عنهم بقوله: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمََاءِ وَالْأَرْضِ} فأخذ إقرارهم بأن الله تعالى هو الذي يرزقهم من مطر السماء ونبات الأرض وهو الذي يملك أسماعهم وأبصارهم، فإن أحب سمعوا وأبصروا، وإن لم يرد ذلك صموا وعموا، وهو الذي يخرج الحي من الميت كالفرخ من البيضة ويخرج الميت من الحي كالبيضة من الدجاجة، وإنه هو الذي يدبر أمور الخلق من ابتداء أحوالهم إلى انتهائها وكانوا ممن أخبر عنهم بقوله: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيََاءَ مََا نَعْبُدُهُمْ إِلََّا لِيُقَرِّبُونََا إِلَى اللََّهِ زُلْفى ََ} (2) فباينوا بإثبات الصانع وما زعموه من معرفة الخالق من أنكره وجحد بآياته، وفسقوا بأن عبدوا معه غيره ولم يثبتوا النبي صلّى الله عليه وسلم ونبوته الفسق الذي هو كفر لا ينتفع معه بالإقرار الأول فقال تعالى: هؤلاء الذين أقروا بالصانع وصفات فعلهم هم خرجوا عما دخلوا فيه بإنكار نبوة النبي صلّى الله عليه وسلم وبعبادة آلهة مع الله تعالى كان ذلك فسقا لخروجهم عن حكم من يقر بما أقروا به والفسق فسقان أحدهما: هو الكفر وتسميته به لهذا الوجه الذي قلناه وهو كقوله تعالى: {وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوََاهُمُ النََّارُ} (3) والثاني: فسق ليس بكفر كقوله تعالى: {وَلََا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهََادَةً أَبَداً وَأُولََئِكَ هُمُ الْفََاسِقُونَ} (4) ليس المراد بهم الكافرين، فأخبر عن هؤلاء بالذين فسقوا في سورة يونس كذلك وأما في سورة المؤمن فإنه لم يتقدمه مثل ما تقدم هنا بل قال تعالى قبله: {مََا يُجََادِلُ فِي آيََاتِ اللََّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَلََا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلََادِ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ} (5) فأخبر عن الكفار الذين في عصرهم بأنهم كفروا بمجادلتهم في آيات الله فشبههم بالقوم الذين مضوا قبلهم حيث قال: {وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجََادَلُوا بِالْبََاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ} ثم قال تعالى: {وَكَذََلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحََابُ النََّارِ} فلما أراد الذين قدم ذكرهم في أول القصة وهم الذين أخبر عنهم بقوله: {مََا يُجََادِلُ فِي آيََاتِ اللََّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَلََا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلََادِ} (5) كان أن يصفهم بما وصفهم به قبل من الكفر أولى وأدل على أن المعنيين بوجوب النار لهم هم الذين قدم ذكرهم.
الجواب عن المسألة الثانية وهي قوله: {كَذََلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لََا يُؤْمِنُونَ} (7) وقوله في سورة المؤمن {أَنَّهُمْ أَصْحََابُ النََّارِ} فلأنه
__________
(1) الآية: 6.
(4) سورة: النور، الآية: 4.
(2) سورة: الزمر، الآية: 3.
(5) سورة: غافر، الآيتان: 4، 5.
(3) سورة: السجدة، الآية: 20.
(7) سورة: يونس، الآية: 33.(1/152)
تعالى أراد أن يبين أنهم وإن أقروا بالله تعالى وأثبتوه خالقا قادرا صانعا غير مؤمنين، وما داموا يعبدون غيره لا يؤمنون، فالقصد إلى إبطال ما بذلوه بألسنتهم من الإقرار بخالقهم، والقصد في الآية التي في سورة المؤمن توعدهم على كفرهم بالنار إذ لم يتقدم ذكر إقرار يشبه إقرار المؤمنين فيبطل بتركهم سائر ما أمر الله تعالى به.
الآية الثالثة من سورة يونس
قوله تعالى: {أَلََا إِنَّ لِلََّهِ مََا فِي السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضِ أَلََا إِنَّ وَعْدَ اللََّهِ حَقٌّ وَلََكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لََا يَعْلَمُونَ} (1) وقال بعده في العشر التي تلي هذه العشر: {أَلََا إِنَّ لِلََّهِ مَنْ فِي السَّمََاوََاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَمََا يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللََّهِ شُرَكََاءَ} (2) وقال بعده في هذه العشر: {قََالُوا اتَّخَذَ اللََّهُ وَلَداً سُبْحََانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ مََا فِي السَّمََاوََاتِ وَمََا فِي الْأَرْضِ إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطََانٍ بِهََذََا} (3).
للسائل أن يسأل في ذلك عن مسائل:
إحداها: لماذا كان في الآية الأولى «ما في السموات والأرض» وفي الثانية «من في السموات ومن في الأرض»؟ وهل صلح «من» في الآية الأولى «وما» في الثانية.
والمسألة الثانية: ما الذي دعا إلى التوكيد في «من» حتى أعيدت في قوله:
{وَمَنْ فِي الْأَرْضِ} ولم تعد «ما» في الآية الأولى عند ذكر الأرض؟
والمسألة الثالثة: عما دعا إلى تكرير «ما» في قوله: {لَهُ مََا فِي السَّمََاوََاتِ وَمََا فِي الْأَرْضِ} ولم يكررها في الآية الأولى في قوله: {أَلََا إِنَّ لِلََّهِ مََا فِي السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضِ}
ولم يقل: وما فى الأرض.
الجواب عن المسألة الأولى: واختصاص «ما» حيث اختصت واختصاص «من» حيث اختصت هو أن الأولى جاءت بعد قوله: {وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ مََا فِي الْأَرْضِ لَافْتَدَتْ بِهِ} (4) فكان المعنى: أن النفس الظالمة إذا رأت عذاب الله لو ملكت جميع ما في الأرض لبذلته فداء نفسها، وهي تحرص على اليسير من حطامها في ظلم أهلها، فكرر
__________
(1) سورة: يونس، الآية: 55.
(3) سورة: يونس، الآية: 68.
(2) سورة: يونس، الآية: 66.
(4) سورة: يونس، الآية: 54.(1/153)
على ذلك بقوله: {أَلََا إِنَّ لِلََّهِ مََا فِي السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضِ} أي: النفس الظالمة لا تملك ما في الأرض فتفتدي به ولو ملكته لما قبل في فدائها وكيف يكون لها ذلك والله مالك ما في السموات والأرض وليس للعبد ذلك ولا محله هنالك، فوجب لهذا المكان ما لقوله:
{مََا فِي السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضِ} والمراد تقايس ما في الأرض مما ملكه الله العباد. وأما الموضع الذي ذكر فيه من فلم يصح فيه غيرها لأن قبله {وَلََا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلََّهِ جَمِيعاً هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ أَلََا إِنَّ لِلََّهِ مَنْ فِي السَّمََاوََاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ} (1) والمعنى: لا يحزنك ما يتوعدك به الكفار من القتل وأنواع المكروه فإن القدرة لله تعالى وهو لا يمنح الكفار قدرة على ما يريدونه منك بل يعطيك العزة عليهم والغلبة لهم فإنه يملك من في السموات ومن في الأرض ولا قوة لهم إلا به ولا قدرة لهم إلا من عنده فاقتضى هذا المكان «من» كما رأيت.
الجواب عن المسألة الثانية والسبب في إعادة «من» فيها وترك إعادة «ما» في الآية الأولى فقال: {وَمَنْ فِي الْأَرْضِ} وقال هناك: {أَلََا إِنَّ لِلََّهِ مََا فِي السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضِ} ولم يقل: وما في الأرض فهو لأن المقصود بالذكر هو أنه قادر على أن يكفي النبي صلّى الله عليه وسلم أمره هو ومن في الأرض من الكفار الذين بعث إليهم وخوفوه أذاهم، فقرن إلى ذكرهم ذكر من في السموات وهم أكبر شأنا وأعظم أمرا، فإذا ملكوا كان من دونهم أدون، فإعادة «من» مع ذكر الأرض للتوكيد الذي اقتضاه القصد إلى ذكرهم، وأما حذف «ما» في الآية الأولى عند ذكر الأرض فلأن ذكره قد تقدم وهو {وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ مََا فِي الْأَرْضِ} (2)، فلما قال: {أَلََا إِنَّ لِلََّهِ مََا فِي السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضِ} كان ذكر ما في الأرض هناك ورجوع هذا إلى ذلك المعنى مثل ذكره في هذا الموضع فأغنى ذلك عن التكرير.
الجواب عن المسألة الثالثة وهي تكرير ما في قوله: {لَهُ مََا فِي السَّمََاوََاتِ وَمََا فِي الْأَرْضِ} مع حذفها من الآية الأولى هو أن قبله {قََالُوا اتَّخَذَ اللََّهُ وَلَداً سُبْحََانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ مََا فِي السَّمََاوََاتِ وَمََا فِي الْأَرْضِ}. فنزه نفسه عن الولد، وأخبر أنه غني عما يجتلب باتخاذه ويستفاد بمكانه إذ كان مالكا لكل ما في السموات وما في الأرض، فكان الموضع موضع تأكيد، فكأنه قال: إذا كان له كل ما في السموات وكل ما في الأرض فلماذا يتخذ الولد؟ ولا يجوز عليه اجتلاب مسرة وانتفاع به لأنه الغني بنفسه تعالى، فإعادة «ما» في هذا المكان لهذا الضرب من التوكيد أي: هو غني لا يحتاج إلى
__________
(1) سورة: يونس، الآيتان: 65و 66.
(2) سورة: يونس، الآية: 54.(1/154)
ولد يعينه على شيء في السموات وهو مالك له كله، ولا أن يعينه في شيء ما في الأرض وهو مالك له بأسره، فلما توكد الكلام في مثل هذا المكان جاءت «ما» معادة لهذا الشأن والله سبحانه وتعالى أعلم.
الآية الرابعة منها
قوله تعالى: {وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} (1) وقال في سورة النمل (2) في آخرها: {وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ}.
للسائل أن يسأل: عن اختصاص هذا المكان «بالمؤمنين» واختصاص آخر سورة النمل «بالمسلمين».
الجواب: إن قبل هذه الآية في سورة يونس قوله تعالى: {ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنََا وَالَّذِينَ آمَنُوا كَذََلِكَ حَقًّا عَلَيْنََا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ} (3) فقال بعده: وأمرت أن أكون منهم، أما في سورة النمل (4) فإن قبل هذه الآية منها {وَمََا أَنْتَ بِهََادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلََالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلََّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآيََاتِنََا فَهُمْ مُسْلِمُونَ} فكأنه قال: أمرت أن أكون ممن إذا سمع بآياته آمن بها وكان من المسلمين الذين مدحوا بأن النبي صلّى الله عليه وسلم يسمعهم، أي: ينتفعون بما يستمعونه منه، فلما تقاربت اللفظتان وكانتا تستعملان لمعنى واحد حملت كل واحدة منهما على اللفظ الذي تقدمها ولائمها.
الآية الخامسة منها
قوله تعالى: {فَمَنِ اهْتَدى ََ فَإِنَّمََا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمََا يَضِلُّ عَلَيْهََا وَمََا أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ} (5) وقال في سورة النمل (6): {فَمَنِ اهْتَدى ََ فَإِنَّمََا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّمََا أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ}.
للسائل أن يسأل: عن اختلاف الموضعين وقوله في الأولى: {وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمََا يَضِلُّ عَلَيْهََا}
__________
(1) سورة: يونس، الآية: 104.
(4) الآية: 81.
(2) الآية: 91.
(5) سورة: يونس، الآية: 108.
(3) سورة: يونس، الآية: 103.
(6) الآية: 92.(1/155)
وفي الثانية: {وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّمََا أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ}.
الجواب أن يقال: أما الآية الأولى فإنه لما قال فيها: {فَمَنِ اهْتَدى ََ فَإِنَّمََا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ} أي: منفعة اهتدائه له وهي دوام النعمة والخلود في الجنة واقتضى هذا في الضلال ضده فقال: ومن ضل فإنما ضرر ضلاله عليه وهو دوام العقاب بأليم العذاب، وما أنا عليكم بوكيل وما يلزمني أن أقيكم ما لا تقونه أنفسكم، كالوكيل الذي يلزمه حفظ ما وكل به مما يضره، وأما الآية التي في آخر سورة النمل فإنها عدل بها عند ذكر الضلال عما حملت عليه في الآية التي في آخر سورة يونس لتحمل على الفواصل التي قبلها وهي مختومة بالواو والنون أو الياء والنون فقال تعالى: {وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّمََا أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ} أي: ممن يعلمكم ما يلزمكم أن تحذروه ويخوفكم ما يجب عليكم أن تجتنبوه، فاشتمل هذا على معنى: «ومن ضل فإنما يضل عليها وما أنا عليكم بوكيل» لأن في قوله تعالى: {فَإِنَّمََا يَضِلُّ عَلَيْهََا} تخويفا وإنذارا وفيه إذا قال: إنما أنا ممن ينذر أي: لست ممن يكره على ما يحميكم من النار ويقيكم حر العقاب كالوكيل الذي يحامي على ما وكل به أن يناله ضرر مثل: {وَمََا أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ} فجاء على لفظ {إِنَّمََا أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ} لتكون الفاصلة مشاكلة للفواصل قبلها مع تأدية مثل المعنى الذي أدته الآية التي شابهتها.
انقضت سورة يونس عن خمس آيات فيها تسع مسائل، فذلك إلى هذه الغاية مائة وآيتان تشتمل على مائة وتسعة وثلاثين مسألة والله سبحانه وتعالى الموفق.(1/156)
انقضت سورة يونس عن خمس آيات فيها تسع مسائل، فذلك إلى هذه الغاية مائة وآيتان تشتمل على مائة وتسعة وثلاثين مسألة والله سبحانه وتعالى الموفق.
11 - سورة هود عليه السّلام
الآية الأولى منها
قوله تعالى: {لََا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ} (1) وقال في سورة النحل (2): {لََا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْخََاسِرُونَ}.
للسائل أن يسأل: عما خصص كل واحد من اللفظين بمكانه دون الآخر.
الجواب أن يقال: الآية التي في سورة هود قد تقدمها قوله: {وَمََا كََانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللََّهِ مِنْ أَوْلِيََاءَ يُضََاعَفُ لَهُمُ الْعَذََابُ مََا كََانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمََا كََانُوا يُبْصِرُونَ} (3) وإنما قال: يضاعف لهم العذاب لأنه خبر عن قوم أخبر عنهم بالفعل الذي استحقوا به مضاعفة العذاب في قوله تعالى: {الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللََّهِ وَيَبْغُونَهََا عِوَجاً وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كََافِرُونَ} (4) فإذا صدورهم عن الدين صدودا وصدوا غيرهم عنه صدا استحقوا تضعيف العذاب لأنهم ضلوا وأضلوا فهذا موجب الأخسرين دون الخاسرين من طريق المعنى، وهاهنا ما يضاهيه من طريق اللفظ وهو أن ما قبله من الفواصل {يُبْصِرُونَ} (3) {وَضَلَّ عَنْهُمْ مََا كََانُوا يَفْتَرُونَ} (6) فما قبل الواو والنون متحركان لا يعتمدان على ألف قبلهما، و «الخاسرون» ليس قبل نونه وواوه متحركان مستندان إلى مدة قبلهما فاجتماع المعنى الذي ذكرنا والتوفقة بين الفواصل التي بينا أوجبا اختيار «الأخسرين» في هذا الموضع على «الخاسرين». وأما التي في سورة النحل فإنها في آية لم يخبر فيها عن الكفار بأنهم مع ضلالهم أضلوا من سواهم وإنما قال فيهم: {ذََلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيََاةَ الدُّنْيََا عَلَى الْآخِرَةِ وَأَنَّ اللََّهَ لََا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكََافِرِينَ} (7) فلم
__________
(1) سورة: هود، الآية: 22.
(4) سورة: هود، الآية: 19.
(2) الآية: 109.
(6) سورة: هود، الآية: 21.
(3) سورة: هود، الآية: 20.
(7) سورة: النحل، الآية: 107.(1/157)
يذكر ما يوجب مضاعفة العذاب، ثم كانت الفواصل التي حملت هذه عليها على وزن «الكافرين» و «الغافلين» فاقتضى هذان الشيئان أن يقال: «هم الخاسرون» كما اقتضى الشيئان في الأولى المخالفان للشيئين هنا أن يقال: «الأخسرون».
الآية الثانية من سورة هود
قوله تعالى في قصة نوح: {قََالَ يََا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى ََ بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتََانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ} (1) وقال في قصة صالح عليه السّلام في هذه السورة: {قََالَ يََا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى ََ بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتََانِي مِنْهُ رَحْمَةً} (2).
للسائل أن يسأل: عن مخاطبة النبيين نوح وصالح عليهم السّلام قوميهما باللفظين اللذين تساويا إلا فيما اختلفا فيه من تقديم المفعول الثاني في الآية الأولى على الجار والمجرور وتأخيره عنهما في الآية الثانية.
الجواب أن يقال: إن المعنيين واحد في الموضعين وقولاهما سواء للأمتين، وإنما اختلفا باختيار الله في موضع خبرا قدم فيه المفعول الثاني على الجار والمجرور لإجراء هذا الفعل ومفعوليه على ما جرى عليه الفعل الذي قبله وهو {مََا نَرََاكَ إِلََّا بَشَراً مِثْلَنََا} (3)
ف «بشرا» مفعول ثان من «نراك» وقوله: {وَمََا نَرََاكَ اتَّبَعَكَ} (3) في موضع المفعول الثاني من نراك ثم بعده {بَلْ نَظُنُّكُمْ كََاذِبِينَ} (5) فلما تقدمت أفعال ثلاثة كل واحد منها يتعدى إلى مفعولين والمفعول الثاني منها لا يحجزه عن الأول معمول فيه، كان إجراء هذا الفعل الذي هو {وَآتََانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ} مجرى تلك الأفعال التي وقعت «آتاني» في جوابها وجاءت من كلام نوح عليه السّلام في مقابلتها أولى، وأما في قصة صالح عليه السّلام فإنه بإزاء قول قومه له {يََا صََالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينََا مَرْجُوًّا قَبْلَ هََذََا} (6) فوقع خبر كان الذي هو كالمفعول لكان، وقد تقدمه الجار والمجرور فجرى جواب صالح عليه السّلام فيما صار عبارة عنه من العربية مجرى الابتداء في هذا المعنى، فترجح في هذا المكان تقديم الجار والمجرور في قوله: {وَآتََانِي مِنْهُ رَحْمَةً} على المفعول الثاني كما ترجح هناك تقديم المفعول الثاني على الجار والمجرور وكل جائز إلا أن كلامنا في الترجيح في الموضعين وفي هذا القدر كفاية.
__________
(1) سورة: هود، الآية: 28.
(5) سورة: هود، الآية: 27.
(2) سورة: هود، الآية: 63.
(6) سورة: هود، الآية: 62.
(3) سورة: هود، الآية: 27.(1/158)
الآية الثالثة منها
قوله تعالى في قصة هود عليه السّلام وذكر قومه: {وَأُتْبِعُوا فِي هََذِهِ الدُّنْيََا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيََامَةِ أَلََا إِنَّ عََاداً كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلََا بُعْداً لِعََادٍ قَوْمِ هُودٍ} (1) وقال في قصة موسى عليه السّلام في هذه السورة وإرساله إلى فرعون وملئه: {وَأُتْبِعُوا فِي هََذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيََامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ} (2).
للسائل أن يسأل: عن حذف «الدنيا» من الآية الثانية وإثباتها في الأولى وهل كان يجوز في الاختيار عكس ذلك؟
الجواب: أن الأولى أتى فيها بالموصوف والصفة جميعا وهو الأصل الأول، ثم الاكتفاء بالصفة عن الموصوف بعده لقيام الدلالة على الموصوف، فيجوز لذلك حذفه وإقامة الصفة مقامه، ولما جاءت الآيتان في سورة واحدة وفيت الأولى ما هو أولى بها من الإجراء على الأصل والإتيان بالموصوف والوصف فقال تعالى في هذه «الدنيا» واكتفى في الثانية لما قامت الدلالة على الموصوف بالصفة وحدها فقال: {وَأُتْبِعُوا فِي هََذِهِ لَعْنَةً}.
الآية الرابعة من سورة هود
قوله تعالى في قصة صالح عليه السّلام: {قََالُوا يََا صََالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينََا مَرْجُوًّا قَبْلَ هََذََا أَتَنْهََانََا أَنْ نَعْبُدَ مََا يَعْبُدُ آبََاؤُنََا وَإِنَّنََا لَفِي شَكٍّ مِمََّا تَدْعُونََا إِلَيْهِ مُرِيبٍ} (3) وقال في سورة إبراهيم (4) عليه السّلام: {وَقََالُوا إِنََّا كَفَرْنََا بِمََا أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنََّا لَفِي شَكٍّ مِمََّا تَدْعُونَنََا إِلَيْهِ مُرِيبٍ}.
للسائل أن يسأل فيقول: لم قال في الأولى: {وَإِنَّنََا لَفِي شَكٍّ} على الأصل {مِمََّا تَدْعُونََا} بنون واحدة، وقال في الثانية: {وَإِنََّا لَفِي شَكٍّ} على التخفيف فحذف إحدى النونات وهي المتوسطة، ثم جاء بعده {تَدْعُونَنََا} بنونين؟
الجواب أن يقال: أما «تدعونا» في الأولى «وتدعوننا» في الثانية فلا يصح مكانهما
__________
(1) سورة: هود، الآية: 60.
(3) سورة: هود، الآية: 62.
(2) سورة: هود، الآية: 99.
(4) الآية: 9.(1/159)
غيرهما، فلا يجوز في الأولى إلا نون واحدة ولا يجوز في الثانية إلا نونان اثنتان لأن الأولى خطاب لصالح عليه السّلام والنون مع الألف ضمير المتكلم، وتدعو فعل واحد لا نون فيه، وليس كذلك «تدعوننا» في الثانية لأنه خطاب للرسل وهم جماعة، ولا يقال لهم في حال الجمع إلا «تدعوننا» عند الرفع ولا تسقط النون إلا لناصب أو جازم نحو: لن تدعونا أو لم تدعونا، فأما إذا وقعت خطاب الجماعة لم تكن إلا «تدعوننا» وهذا من مبادئ هذا العلم وأما «إننا» في الأولى «وإنا» في الثانية مع جواز اللفظتين في كل مكان فلأن الضمير الذي دخلت عليه «إن» في هذا المكان هو على لفظ ضمير المنصوب المتصل بالفعل في قوله: {أَتَنْهََانََا أَنْ نَعْبُدَ} وضمير المنصوب إذا اتصل بالفعل لم يغير له آخره كما يغير إذا اتصل به ضمير المرفوع نحو: ضربنا تسكن الباء لاتصال ضمير الفاعلين بها ولا تسكنها لاتصال ضمير المفعولين بها إذا قلت: ضربنا، فلما أشبه المنصوب بأن المنصوب في ضربنا ولم ينازعه شبه الفاعل سلم لفظ «إن» عند اتصالها به ولم يلحقه حذف، ولما كانت «إنا» في سورة إبراهيم وإن كانت منصوبة مشبهة للفظ الفاعل إذا قلت: ضربنا بكونها على لفظها وبوقوعها موقع المرفوع المبتدأ وبأن هذا اللفظ المتقدم عليها في الآية التي قبلها هو ضمير المرفوع خلاف ما تقدم الآية في سورة هود وهو قوله: {كَفَرْنََا بِمََا أُرْسِلْتُمْ بِهِ} وقبل ذلك ضمير مرفوع على غير هذا اللفظ للذين لهم هذا اللفظ وهو الواو في قوله تعالى: {فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوََاهِهِمْ وَقََالُوا إِنََّا كَفَرْنََا بِمََا أُرْسِلْتُمْ بِهِ} (1) ثم قوله تعالى: {إِنََّا كَفَرْنََا} حذفت منه النون تشبيها للضمير بعدها بالضمير المرفوع بعد الفعل، فكما أن الفعل يلحقه حذف حركة عند اتصال هذا الضمير به وكان الضمير الذي يحذف من «أن» النون حذفت ليقتضي لفظها عند اتصاله بما هو كالضمير المرفوع لفظا ومعنى وموقعا حملا على ما تقدم، كما يكون عليه إذا لم يواصله وجاءت «تدعوننا» على مقتضى الإعراب الواجب لها بنونين، فهذا فرق ما بين الموضعين.
الآية الخامسة من سورة هود
قوله تعالى في قصة صالح عليه السّلام: {وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيََارِهِمْ جََاثِمِينَ} (2) وقال في هذه السورة في قصة شعيب عليه السّلام:
__________
(1) سورة: إبراهيم، الآية: 9.
(2) سورة: هود، الآية: 67.(1/160)
{وَلَمََّا جََاءَ أَمْرُنََا نَجَّيْنََا شُعَيْباً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنََّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيََارِهِمْ جََاثِمِينَ} (1).
للسائل أن يسأل عن اختلاف الفعلين في اتصال علامة التأنيث بأحدهما وسقوطها من الآخر مع أن الفاعل في الموضعين شيء واحد وهو «الصيحة» مع أن الحاجز بين الفعل والفاعل في المكانين حاجز واحد وهو «الذين ظلموا».
الجواب أن يقال: إن مثل هذا إذا جاء في كلام العرب سهل الكلام فيه لأنه يقال: حمل على المعنى، والصيحة بمعنى الصياح كما أن قول الشاعر:
يا أيها الراكب المزجي مطيته ... سائل بني أسد ما هذه الصوت
حمل على المعنى، إذ الصوت بمعنى الصيحة، غير أن السؤال الذي بنيت عليه الآيات لازم، وهو أن يقال: فهل كان يجوز مكان «أخذت» «أخذ» في القرآن؟ وهل لتخصيص قصة شعيب ب «أخذت» فائدة ليست لها في قصة صالح عليه السّلام؟
الجواب عن هذا الموضع هو أن يقال: إن الله تعالى أخبر عن العذاب الذي أهلك به قوم شعيب عليه السّلام بثلاثة ألفاظ منها الرجفة في سورة الأعراف (2) في قوله: {وَقََالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْباً إِنَّكُمْ إِذاً لَخََاسِرُونَ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دََارِهِمْ جََاثِمِينَ الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا} وذكر ذلك قبله في مكان آخر ومنها الصيحة في سورة هود (3) في قوله تعالى: {وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيََارِهِمْ جََاثِمِينَ كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهََا أَلََا بُعْداً لِمَدْيَنَ كَمََا بَعِدَتْ ثَمُودُ} ومنها الظلة في سورة الشعراء (4) في قوله تعالى: {فَأَخَذَهُمْ عَذََابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ} وفي التفسير أن هذه الثلاث جمعت لهم لإهلاكهم واحدة بعد أخرى لأن الرجفة بدأت بهم فانزعجوا لها عن الكن إلى البراح، فلما أصحروا نال منهم حر الشمس وظهرت لهم ظلة تبادروا إليها، وهي سحابة سكنوا إلى روح تحت ظلها، فجاءتهم الصيحة فهمدوا لها، فلما اجتمعت ثلاث أشياء مؤنثة الألفاظ في العبارة عن العذاب الذي أهلكوا به غلب التأنيث في هذا المكان على المكان الذي لم تتوال فيه هذه المؤنثات، فلذلك جاء في قصة شعيب {وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ}.
__________
(1) سورة: هود، الآية: 94.
(3) الآيتان: 94و 95.
(2) الآيات: 9290.
(4) الآية: 189.(1/161)
الآية السادسة من سورة هود
قوله تعالى: {أَلََا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلََا بُعْداً لِثَمُودَ} (1).
للسائل أن يسأل عن صرف ثمود في قوله تعالى: {أَلََا إِنَّ ثَمُودَ} ومنعه الصرف بعد قوله تعالى: {أَلََا بُعْداً لِثَمُودَ} وهل كان يجوز أن يمنع الصرف اللفظ الأول ويصرف اللفظ الثاني؟
الجواب أن يقال: الأول بالصرف أولى والثاني الامتناع منه أحق لأنه في الأول ينحى به نحو الأب والأقربين من أولاده إذ كان أولهم في الكفر، وإذا قصد هذا القصد انصرف الاسم، وفي الثاني قصد ذكر الإهلاك وكان للقبيلة بأسرها لما أصرت عليه من كفرها فنحى نحو القبيلة منع الصرف للتعريف والتأنيث الحاصلين فيما خرج عن أخف الأصول، ألا ترى إلى قوله تعالى: {أَلََا بُعْداً لِمَدْيَنَ كَمََا بَعِدَتْ ثَمُودُ} (2) فالكفر من أولهم والإهلاك قصد به ذكر كلهم فكان معنى القبيلة به أولى وبالله تعالى التوفيق.
الآية السابعة منها
قوله تعالى: {قََالُوا يََا لُوطُ إِنََّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلََا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهََا مََا أَصََابَهُمْ} (3) وقال في سورة الحجر (4): {فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَاتَّبِعْ أَدْبََارَهُمْ وَلََا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ}.
للسائل أن يسأل عن شيئين في هذا المكان أحدهما: أن يقول أنه استثنى في سورة هود من قوله تعالى: {فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ} قوله تعالى: {إِلَّا امْرَأَتَكَ} ولم يستثن ذلك في سورة الحجر والثاني قوله تعالى في سورة الحجر: {وَاتَّبِعْ أَدْبََارَهُمْ}
وتركه في سورة هود.
الجواب عن المسألة الأولى: أن الاستثناء في سورة الحجر أغنى عنه قوله تعالى فيما حكى عن الرسل: {إِنََّا أُرْسِلْنََا إِلى ََ قَوْمٍ مُجْرِمِينَ إِلََّا آلَ لُوطٍ إِنََّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ}
__________
(1) الآية: 68.
(3) سورة: هود، الآية: 81.
(2) سورة: هود، الآية: 95.
(4) الآية: 65.(1/162)
{إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنََا إِنَّهََا لَمِنَ الْغََابِرِينَ} (1) فهذا الاستثناء الذي لم يقع مثله في سورة هود أغنى عن الاستثناء من قوله: {فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلََا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ}.
والجواب عن المسألة الثانية أن يقال: إنه لما اقتص في هذه السورة بعض ما اقتص في الأخرى فذكر أن الرسل قالوا له: {إِنََّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ} والمعنى:
لن يصلوا إليك وإلى المؤمنين من أهلك قيد ذلك من قوله: {فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلََا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ} بأن أمروه بإخراج أهله من بين أظهرهم ليلا من غير أن يعرج أحد منهم على شيء خلفه يعوقه عن المضي إلى حيث ما أمر به، ولما قال في سورة الحجر: {إِنََّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا امْرَأَتَهُ} إخبارا عن الرسل أنهم خاطبوا إبراهيم عليه السّلام به، ثم أخبر عن مخاطبتهم لوطا في هذه السورة بما يضاهي قولهم لإبراهيم عليه السّلام أردفوا قولهم له {فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ} بقولهم: {وَاتَّبِعْ أَدْبََارَهُمْ} لأنه إذا ساقهم وكان من ورائهم كان تحقيقا لخبرهم أنهم منجوهم أجمعين فزيد {وَاتَّبِعْ أَدْبََارَهُمْ}
لتجاوب مخاطبتهم لإبراهيم عليه السّلام بسببه.
الآية الثامنة من سورة هود
حكم هذه الآية أن يكون ذكرها في سورة الأعراف ثم لما تأخرت وجب أن تذكر في سورة العنكبوت، إلا أنا رأيناها تتعلق بهذه السورة فذكرناها فيها وهي قوله تعالى:
{وَإِلى ََ مَدْيَنَ أَخََاهُمْ شُعَيْباً قََالَ يََا قَوْمِ اعْبُدُوا اللََّهَ} (2) وكذلك قال تعالى في سورة الأعراف (3): {وَإِلى ََ مَدْيَنَ أَخََاهُمْ شُعَيْباً قََالَ يََا قَوْمِ اعْبُدُوا اللََّهَ} ومثله في سورة العنكبوت (4) يخالفه بزيادة الفاء وهي قوله: {وَإِلى ََ مَدْيَنَ أَخََاهُمْ شُعَيْباً قََالَ يََا قَوْمِ اعْبُدُوا اللََّهَ} ففي كل القرآن {وَإِلى ََ مَدْيَنَ أَخََاهُمْ شُعَيْباً قََالَ يََا قَوْمِ اعْبُدُوا اللََّهَ}
وفي سورة العنكبوت خصوصا {فَقََالَ}.
للسائل أن يسأل: عن اختصاص هذا المكان بالفاء وخلو المكانين قبله منها.
الجواب أن يقال: إن مفتتح قصص الأنبياء عليهم السّلام في سورة الأعراف قوله:
__________
(1) سورة: الحجر، الآيات: 6058.
(3) سورة: الأعراف، الآية: 85.
(2) سورة: هود، الآية: 84.
(4) سورة: العنكبوت، الآية: 36.(1/163)
{لَقَدْ أَرْسَلْنََا نُوحاً إِلى ََ قَوْمِهِ} (1) وبعده: {وَإِلى ََ عََادٍ أَخََاهُمْ هُوداً} (2) وبعده: {وَإِلى ََ ثَمُودَ أَخََاهُمْ صََالِحاً} (3) وبعده: {وَإِلى ََ مَدْيَنَ أَخََاهُمْ شُعَيْباً} وكذلك في سورة هود على هذا النسق إلا أن قصة نوح مفتتحة بالواو: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنََا نُوحاً إِلى ََ قَوْمِهِ} (4) وهي في سورة الأعراف بلا واو، وقد ذكرنا السبب في ذلك، فلما تساوت هذه المعطوفات مع المعطوف عليها الأول فكان الفعل المضمر للمعطوف مثل المظهر أولا في التعلق بالمرسل والمرسل إليهم كعاد المرسل إليهم هود، وكثمود المرسل إليهم صالح، وكمدين المرسل إليهم شعيب عليه السّلام، جرى الجميع مجرى واحدا فكان التقدير: ولقد أرسلنا إلى عاد أخاهم هودا، وأرسلنا إلى ثمود أخاهم صالحا، وأرسلنا إلى مدين أخاهم شعيبا، ولم يعترض بين القصص ما أضمر فيه خلاف ما أظهر قبل وهو: {لَقَدْ أَرْسَلْنََا نُوحاً إِلى ََ قَوْمِهِ} وكان الأمر في ذلك في سورة العنكبوت مخالفا له بعض المخالفة لأنه افتتحت القصة بقوله:
{وَلَقَدْ أَرْسَلْنََا نُوحاً إِلى ََ قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلََّا خَمْسِينَ عََاماً} (5)، وجاءت بعدها قصة إبراهيم ولوط عليهم السّلام فلم يجريا على الفعل الأول في التعلق بالمرسل والمرسل إليهم كما كان ذلك في قصة هود وصالح عليهما السّلام في السورتين بل جاء بعد قوله: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنََا نُوحاً إِلى ََ قَوْمِهِ} قوله: {وَإِبْرََاهِيمَ إِذْ قََالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللََّهَ وَاتَّقُوهُ} (6) وقوله:
{وَلُوطاً إِذْ قََالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفََاحِشَةَ مََا سَبَقَكُمْ بِهََا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعََالَمِينَ} (7)، ولم يكن المعطوف على قصة نوح عليه السّلام في هذه السورة مثل المعطوف عليها فيما تقدم من سورة الأعراف وهود، ولم يتعد الفعل المضمر تعدي الفعل المظهر، وكان جائزا أن يكون المعنى: واذكر إبراهيم إذ قال لقومه، واذكر: لوطا إذ قال لقومه، ثم جاءت قصة شعيب فأجريت مجرى القصة الأولى التي هي قصة نوح عليه السّلام في تعدي الفعل فيها إلى المرسل وإلى المرسل إليهم، وقد تخلل ذلك ما ليس مثله من الأفعال المضمرة، فجاء {وَإِلى ََ مَدْيَنَ أَخََاهُمْ شُعَيْباً} فأقيمت فيها دلالة على أن هذه القصة مجراة مجرى القصة البعيدة عنها دون القريبة منها، وكانت الأولى يتساوى عطفها على ما قرب منها وبعد عنها لاستواء الفعل المظهر والمضمر، فكانت تلك الدلالة التي تدل على أنها مردودة على القصة الأولى أن تتلقى بما تلقيت به تلك من الفاء مع صحة المعنى، فلما كان {وَلَقَدْ أَرْسَلْنََا نُوحاً إِلى ََ قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ} (5) قبل:
__________
(1) سورة: الأعراف، الآية: 59.
(5) سورة: العنكبوت، الآية: 14.
(2) سورة: الأعراف، الآية: 65.
(6) سورة: العنكبوت، الآية: 16.
(3) سورة: الأعراف، الآية: 73.
(7) سورة: الأعراف، الآية: 80.
(4) سورة: هود، الآية: 25.(1/164)
{وَإِلى ََ مَدْيَنَ أَخََاهُمْ شُعَيْباً فَقََالَ يََا قَوْمِ اعْبُدُوا اللََّهَ} (1) تعلق ما بعدها بها بالفاء كما كانت الفاء في قوله {فَلَبِثَ فِيهِمْ} لما ذكرناه.
الآية التاسعة منها
قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنََا مُوسى ََ بِآيََاتِنََا وَسُلْطََانٍ مُبِينٍ إِلى ََ فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ} (2) وقال في سورة حم المؤمن (3): {وَلَقَدْ أَرْسَلْنََا مُوسى ََ بِآيََاتِنََا وَسُلْطََانٍ مُبِينٍ إِلى ََ فِرْعَوْنَ وَهََامََانَ وَقََارُونَ فَقََالُوا سََاحِرٌ كَذََّابٌ} وقال في سورة الزخرف (4): {وَلَقَدْ أَرْسَلْنََا مُوسى ََ بِآيََاتِنََا إِلى ََ فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ فَقََالَ إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعََالَمِينَ}.
للسائل أن يسأل: فيقول: «السلطان المبين» من آيات الله فلم جاء في الآيتين المتقدمتين مع ذكر الآيات ذكر السلطان المبين ولم يجيء في الآية الأخيرة إلا الآيات وحدها؟.
الجواب أن يقال: الآيات: الإمارات التي يكتفي بها في صدق الرسول عليه السّلام ويقوم الحجة على من يبعث إليهم، والسلطان المبين: هي الحجج القاهرة التي تقهر القوم كأنواع العذاب التي أنزلت على قوم موسى عليه السّلام وكانت عند قوله فلما كان القصد في الآيتين المتقدمتين ذكر جملة أمرهم إلى منتهى حالهم من هلاك الأبد، انطوت تلك الجملة على جميع ما احتج به عليهم إلى أن زال التكليف عنهم وأخبر عن مستقرهم من العقاب الدائم عليهم، ألا ترى الكلام في الآية الأولى في سورة هود ينساق إلى قوله: {وَمََا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيََامَةِ} (5) وكذلك في الآية الثانية ينساق الكلام فيها إلى قوله: {وَحََاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذََابِ النََّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهََا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السََّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ} {النََّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهََا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السََّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذََابِ} (6) فذكر في الآيتين جميع ما احتج به عليهم من الآيات التي سخروا بها عند رؤيتها والآيات التي فزعوا إلى مسألته عند مشاهدتها في كشفها لقوله: {وَلَمََّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قََالُوا يََا مُوسَى ادْعُ لَنََا رَبَّكَ بِمََا عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ} (7) وأما الآية الثالثة التي اقتصر فيها على ذكر «آياتنا» دون «سلطان مبين» وهي التي في سورة الزخرف: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنََا مُوسى ََ بِآيََاتِنََا إِلى ََ فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ فَقََالَ إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعََالَمِينَ فَلَمََّا جََاءَهُمْ بِآيََاتِنََا إِذََا هُمْ مِنْهََا} (8)
__________
(1) سورة: العنكبوت، الآية: 36.
(5) سورة: هود، الآيتان: 97، 98.
(2) سورة: هود، الآية: 96.
(6) سورة: غافر، الآيتان: 45، 46.
(3) الآيتان: 23، 24.
(7) سورة: الأعراف، الآية: 134.
(4) الآية: 46.
(8) سورة: الزخرف، الآيتان: 46، 47.(1/165)
عذاب الأخرى بل كان بعده: {وَمََا نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلََّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهََا وَأَخَذْنََاهُمْ بِالْعَذََابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} (1) فاقتص ما عوملوا به حالا بعد حال إلى أن هلكوا في الدنيا حيث قال: {فَأَغْرَقْنََاهُمْ أَجْمَعِينَ فَجَعَلْنََاهُمْ سَلَفاً وَمَثَلًا لِلْآخِرِينَ} (2) فإن قال فقد قال تعالى: {ثُمَّ أَرْسَلْنََا مُوسى ََ وَأَخََاهُ هََارُونَ بِآيََاتِنََا وَسُلْطََانٍ مُبِينٍ إِلى ََ فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ فَاسْتَكْبَرُوا وَكََانُوا قَوْماً عََالِينَ} (3). ولم يذكر في هذه القصة أحوالهم المنتهية بهم إلى عقاب الأبد. قلت أولا: ليست الآية على سنن الآي التي ذكرنا مما افتح بقوله: {ثُمَّ أَرْسَلْنََا مُوسى ََ وَأَخََاهُ هََارُونَ} فإنها مثل الآيتين المتقدمتين في تضمنها ذكر الجملة من ابتداء أحوالهم إلى ما كان من هلاكهم لقوله: {فَكَذَّبُوهُمََا فَكََانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ} (4)
والمهلكون في الحقيقة هم المعاقبون بالنار والخلود فيها نعوذ بالله منها فقد صار كل ما ذكر فيه مع «آياتنا وسلطان مبين» هو ما اشتمل على جملة ما عوملوا به إلى أن استقر مقرهم من عذاب الله الدائم عليهم، وحقيقة السلطان من السليط: وهو الزيت الذي يضيء به السراج والسلطان الحجة لأنها تضيء فتبين الحق من الباطل، والسلطان الذي يملك الناس ضياء يدفع ظلام الظلمة عنهم إذ كانوا لولا هو لصاروا من التغاور والتناهب في ظلام يتزايد ولا يتناقص، كأنه ضياء يجلو ظلام الدنيا، والآيات التي جاءت بعد التوراة والعصى واليد جاءت وقد أنارت وأوضحت عندهم الحق حتى سألوا أن يمهلوا ليؤمنوا إذ كشف عنهم ما أظلهم وإن عادوا بعد كشفه جللهم.
الآية العاشرة من سورة هود
قوله عز وجلّ: {وَمََا كََانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرى ََ بِظُلْمٍ وَأَهْلُهََا مُصْلِحُونَ} (5) وقال في سورة القصص (6): {وَمََا كََانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى ََ حَتََّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهََا رَسُولًا يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيََاتِنََا وَمََا كُنََّا مُهْلِكِي الْقُرى ََ إِلََّا وَأَهْلُهََا ظََالِمُونَ}.
للسائل أن يسأل عن الفرق بين {وَمََا كََانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرى ََ} وبين قوله:
{وَمََا كُنََّا مُهْلِكِي الْقُرى ََ} وكيف اختصت الآية في سورة هود بلفظ الفعل في خبر كان والأخريان بالاسم وهو «مهلك»؟
__________
(1) سورة: الزخرف، الآية: 48.
(4) سورة: المؤمنون، الآية: 48.
(2) سورة: الزخرف، الآيتان: 55، 56.
(5) سورة: هود، الآية: 117.
(3) سورة: المؤمنون، الآيتان: 45، 46.
(6) الآية: 59.(1/166)
الجواب عن ذلك أن يقال: إن هذه اللام تسمى لام الجحود ولا تخلو منه وهي تخالف لام كي بأشياء منها: أن لام كي يصح إظهار «أن» بعدها إذا قلت: جئت لتكرمني، وهذه لا يصح فيها ذلك، لا تقول: ما كنت لأن أفعل، ومنها «أن» المصدر الواقع موقعه أن مع الفعل يصح اللفظ به فتقول: جئت للإكرام، ولا يصح: ما كنت للإكرام، ومنها أن اللام يصح حذفها والإتيان بأن مكانها، فتقول: جئت أن تكرمني ولا يجوز ذلك في لام الجحود، والسبب في ذلك أن لام كي تدخل على ما هو عذر في إنشاء الفعل، ويصح أن يقصد به الماضي فحسب، فتقول: جئتك أمس لتكرمني فلم تفعل، فهذا وإن كان لفظه لفظ المستقبل، فإنه بمقارنة كان صار بمعنى الماضي كما تقول: كان زيد يركب على حكاية الحال التي يستأنف فيها الركوب، ويقول القائل: جئتك اليوم لتكرمني غدا، فمتى علق بزمان لم يصح فيه الزمان الآخر، وكذلك إن كان زيد فاعلا يصلح للماضي والحال، وعلى معنى أنه كان على أن يفعل في أقرب الأوقات التي يستقبلها وليس كذلك معنى «ما كنت لأفعل» لأنه مبالغة في نفي هذا الفعل في الأزمنة كلها، والمعنى: كون هذا الفعل مناف لكوني، فإذا جعل السبب في نفي هذا الحدث كون المحدث والمحدث كونه فيما مضى كونه فيما يستقبل، وفيما هو للحال، فالمعنى لم يكن فيما مضى يقع مني هذا الفعل، ولا يقع فيما يستقبل، ولا في الحال لسبب ينافي وجوده، وهو كون الفاعل، ولذلك لا يصح من الأفعال في هذا المكان غير ما يتصرف لفظه من كان، وإذا كان كذلك، وكان هذا نهاية فيما يخاطب به العرب في نفي الفعل، وامتناع وقوعه خصه الله تعالى بالمكان الذي لا يقع منه ذلك أبدا ولم يقع منه قط، وهو أنه لم يكن فيما مضى يهلك القرى ظالما لها مع صلاح أهلها، ولا يفعله ولا يليق بعدله، وهو يتنزه عنه تعالى الله عن ذلك. وأما قوله: {وَمََا كََانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى ََ حَتََّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهََا رَسُولًا يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيََاتِنََا وَمََا كُنََّا مُهْلِكِي الْقُرى ََ إِلََّا وَأَهْلُهََا ظََالِمُونَ} (1) فإنه لم يكن فيها صريح ظلم ينسب إليه، ولم يكن ملفوظا به فيؤتى باللفظ الأبلغ في نفيه كما كان في قوله: {وَمََا كََانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرى ََ بِظُلْمٍ} (2) فإن قال: فلم ادعيت أن هذا أبلغ في الانتفاء من الظلم. قلت: أول ما يستدل به أن من عرف كلام العرب يعقل من قول القائل: ما كنت لأظلمك وما كنت لأشتمك وما كنت لأوذيك ما لا يعقله من قوله:
ما كنت ظالما لك، وما كنت شاتما لك، وما كنت مؤذيا لك لأن ذلك نفي الظلم والشتم في وقت دون وقت، وإذا قال: ما كنت لأشتمك، فكأنه قال: ما كنت بضام
__________
(1) سورة: القصص، الآية: 59.
(2) سورة: هود، الآية: 117.(1/167)
كوني شتيمة لك. فيجعل كونه منافيا لشتمه فإن قال: فلم ذا؟ ألزم لفظة الاستقبال والنصب قلت: لأن التقدير: ما كنت في شيء من الأوقات بمستقبل شتمك، وما كان كوني بضام شتمك، وهذا مستمر أبدا بيني وبينك، فكما لم أشتمك لكوني كذلك لا أشتمك لكوني فإن قال: فلأي معنى لم يجز إظهار «إن» كما جاز في لام كي. قلت:
لأنها لو ظهرت لوجب أن يصح الاسم مكانها، فلما ألزمت لفظة كنت وأكون وجب أن يكون النفي الداخل عليها خبرا أن كوني ينافي أن أفعل كذا وإني كما لم أحصل في حال وجودي على استئناف شتمك، كذلك لا أحصل على هذه الصفة وهي الشروع في شتمك إذ كان وجودي هو الذي ينافيه وجب أن يحفظ لفظ المستقبل المنصوب، فلم يكن بد من إضمار «أن» فإن قال: فهلا جوزت حذف اللام كما كان ذلك في لام كي قلت:
لأن اللام شأنها يسد عن الفعل المنصوب طرق العوامل، فكأنها أقيمت مقام «أن» لأن اللام لا تدخل إلا على الاسم في المعنى وهذا موضع خبر كان فحفظ لفظ الفعل لما ذكرنا وألزم الحذف المختص بالاسم ليدل به على أن الموضع موضع الاسم فافهمه فإن قال: فهذا الفعل الذي حفظت له لفظ الاستقبال والنصب كيف جاز أن يراد به الأزمنة كلها وهو مختص بزمان واحد؟. قلت: هذا اللفظ يصحب «كان» في الحال، وفي الاستقبال تقول: قصدت فلانا فكان يصلي تريد به الحال، وتقول: قصدته فكان قد ركب تريد به المستقبل، ولو قلت: فكان ركب لم يحسن حسنه مع «قد» التي تقرب من معنى المستقبل، وعى هذا حمل قوله تعالى: {أَوْ جََاؤُكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ} (1) في بعض الأقاويل فكان ذلك عائدا إلى لفظ الاستقبال وما يجوز لقربه منه في المعنى، فلذلك صلح النفي في الأول واستمراره في المستقبل.
الآية الحادية عشرة من سورة هود
قد تأخرت عن مكانها من السورة لأنها سئل عنها بعد ما أملينا ما تقدم منها فذكرناها في آخرها، لئلا تغير تراجم السائل وترتيب الآي فيها، فإن قال قائل في قوله تعالى في سورة هود (2): {وَلَمََّا جََاءَ أَمْرُنََا نَجَّيْنََا هُوداً} وفي آخر السورة في قصّة شعيب:
{وَلَمََّا جََاءَ أَمْرُنََا نَجَّيْنََا شُعَيْباً} (3) فعطف «لمّا» على ما قبلها بالواو، وقال في قصتي صالح ولوط: {فَلَمََّا جََاءَ أَمْرُنََا نَجَّيْنََا صََالِحاً} (4) وقال:
__________
(1) سورة: النساء، الآية: 90.
(3) سورة: هود، الآية: 94.
(2) الآية: 58.
(4) سورة: هود، الآية: 66.(1/168)
{فَلَمََّا جََاءَ أَمْرُنََا جَعَلْنََا عََالِيَهََا سََافِلَهََا} (1) فعطف «لما» بالفاء دون الواو، وما الفرق الذي أوجب اختلاف حرفي العطف في المواضع الأربعة من هذه السورة.
الجواب أن يقال: إن هذا الحرف في قصة هود بعد خروج من خبر عنه حكاية لقوله إلى ما هو إخبار من الله عما كان من فعله، ألا تراه قال تعالى: {إِنِّي أُشْهِدُ اللََّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ} (2) إلى قوله: {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ مََا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلََا تَضُرُّونَهُ شَيْئاً} (3) أن يهلككم ويقيم غيركم مقامكم فينزل بكم أكبر الضرر، ولا تضرونه شيئا بعبادتكم غيره، ثم قال: {وَلَمََّا جََاءَ أَمْرُنََا نَجَّيْنََا هُوداً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنََّا وَنَجَّيْنََاهُمْ مِنْ عَذََابٍ غَلِيظٍ} (4) فلم يتقدم تخويف يقرب ما أوعدوا به ليدل على اتصال الثاني بالأول، واقتضاء العطف بالفاء، فكان الموضع موضع الواو لأن المراد الجمع بين الخبرين من دون ذكر ما يقلل الزمان بين الفعلين، وكذلك قصة شعيب لم يدل فيها على أنهم أوعدوا بعذاب قد أظلهم وقرب منهم، وإنما أخبر عز وجلّ عن شعيب عليه السّلام أنه قال لهم: {اعْمَلُوا عَلى ََ مَكََانَتِكُمْ إِنِّي عََامِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذََابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كََاذِبٌ وَارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ} (5) فلم يتوعدهم بالاقتراب بل دعاهم إلى الارتقاب فالتخويف قارنه التسويف لقوله تعالى: {سَوْفَ تَعْلَمُونَ} فكان الموضع موضع الواو لخروج ما قبله عما يقتضي اتصال الثاني به، وليس كذلك الموضعان اللذان نسقا على الأول بالفاء وهما قوله تعالى في قصة صالح: {فَقََالَ تَمَتَّعُوا فِي دََارِكُمْ ثَلََاثَةَ أَيََّامٍ ذََلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ فَلَمََّا جََاءَ أَمْرُنََا نَجَّيْنََا صََالِحاً} (6) وقوله في قصة لوط: {فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلََا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهََا مََا أَصََابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ فَلَمََّا جََاءَ أَمْرُنََا جَعَلْنََا عََالِيَهََا سََافِلَهََا} (7) فكان ذلك بعقبه غير متراخ عنه فاقتضى الفاء التي تدل على التعقب، واتصال ما بعدها بما قبلها من غير مهلة بينهما، وكذلك جاء في سورة العنكبوت في قصة لوط في موضعين بالواو، وهما على هذه السبيل، فالأول قوله بعد قصة لوط وقوله {لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفََاحِشَةَ} (8) إلى قوله:
__________
(1) سورة: هود، الآية: 82.
(5) سورة: هود، الآية: 93.
(2) سورة: هود، الآية: 54.
(6) سورة: هود، الآيتان: 65، 66.
(3) سورة: هود، الآية: 57.
(7) سورة: هود، الآيتان: 81، 82.
(4) سورة: هود، الآية: 58.
(8) سورة: العنكبوت، الآية: 28.(1/169)
{رَبِّ انْصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ} (1) فاستنصر الله عليهم، ولم يتوعدهم بقرب عذاب منهم، وجاء بعده، {وَلَمََّا جََاءَتْ رُسُلُنََا إِبْرََاهِيمَ بِالْبُشْرى ََ} (2)، فخرج عما كان بين لوط وبين قومه إلى قصة هي بين إبراهيم والملائكة صلوات الله عليهم لما أتوه بالبشرى، وبإهلاك من في قرية لوط، فنزل لوط فيما كان من محاورتهم لإبراهيم منزلة الغائب عنهم، وكان الموضع موضع الواو لاختلاف القصتين، وخلو الأولى عما يقتضي قرب ما بين الحالين، وكذلك قوله بعده: {وَلَمََّا أَنْ جََاءَتْ رُسُلُنََا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ وَضََاقَ بِهِمْ ذَرْعاً} (3) خبر عن مجيء رسل الله عز وجلّ من الملائكة إلى لوط وارتياعه لهم، وفزعه لمجيئهم، وكان مجيئهم إلى إبراهيم عليه السّلام مجيء المبشرين لما قالوا: {سَلََاماً قََالَ سَلََامٌ} (4) فعطفت هذه القصة على الأولى بالواو لاختلاف مورديهما، وأنه لم يكن في الأولى منهما ما يقتضي التصاق الثانية بها، فتعطف بالفاء عليها.
انقضت سورة هود عن إحدى عشرة آية، واثنتي عشرة مسألة، فكملت مائة وإحدى وخمسين مسألة والله ولي التوفيق.
__________
(1) سورة: العنكبوت، الآية: 30.
(3) سورة: العنكبوت، الآية: 33.
(2) سورة: العنكبوت، الآية: 31.
(4) سورة: الذاريات، الآية: 25.(1/170)
12 - سورة يوسف عليه السّلام
الآية الأولى منها
قوله تعالى: {وَلَمََّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنََاهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذََلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} (1)
وقال في سورة القصص (2) في ذكر موسى عليه السّلام: {وَلَمََّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوى ََ آتَيْنََاهُ حُكْماً وَعِلْماً}.
للسائل أن يسأل عن الفائدة في تخصيص موسى بذكر بلوغ الأشد والاستواء، وإخلاء يوسف من ذلك، وهل كان يصلح أحدهما مكان الآخر أم قصد الحكمة يمنع منه؟.
الجواب: أن يقال إن بلوغ الأشد مختلف فيه قيل: هو أن يبلغ ثلاثا وثلاثين سنة وقيل: خمسا وعشرين سنة وقيل: من عشرين سنة وإحدى وعشرين لأنه يقال: إن الصبي يثغر لسبع سنين ويبلغ لسبع بعدها، ويتناهى طوله لسبع بعدها، وحجة من قال ذلك أنه قال: {آتَيْنََاهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذََلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} (3) فإيتاء الحكم والعلم مجازاة على إحسان كان منه، وذلك بعد البلوغ، وقيل: إن بلوغ الأشد هو أن يحتلم، والأشد جمع شد وهو قوي من العقل يحتمل التكليف، ويجوز أن يكون البلوغ سمي الأشد لأن الغلام إذا بلغ شدت أعماله، وكتبت حسناته وسيئاته بعد أن كانت محلولة عنه غير مشدودة عليه، وقد يأتي قبل البلوغ بحسنات يجازيه الله عليها وقيل في قوله: {بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوى ََ} (4) أي: أدرك واستوت لحيته، وقيل الاستواء: أن يبلغ أربعين سنة، وهو معنى بيّن في الآية الأخرى {حَتََّى إِذََا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً} (5) والذي يفرق بين
__________
(1) سورة: يوسف، الآية: 22.
(4) سورة: القصص، الآية: 14.
(2) الآية: 14.
(5) سورة: الأحقاف، الآية: 15.
(3) سورة: القصص، الآية: 14.(1/171)
المكانين، حتى لم ينتظر بيوسف عليه السّلام الاستواء بعد بلوغ الأشد هو أن يوسف عليه السّلام أخبر الله تعالى عنه أنه أوحى إليه لما طرحه إخوته في الجب حيث قال: {وَأَوْحَيْنََا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هََذََا وَهُمْ لََا يَشْعُرُونَ} (1) وأراه عز ذكره الرؤيا التي قصها على أبيه، وموسى عليه السّلام لم يفعل به شيء من ذلك إلى أن بلغ الأشد واستوى لأنه لم يعلم ما أريد به إلا بعد أن استأجره شعيب عليه السّلام، ومضت سنون إجارته وسار بأهله، فهناك أتاه ما أتاه من كرامة الله تعالى، وقيل: إنه بعد الأربعين فلم ينتظر بيوسف في إيتاء الحكم والعلم والتشريف بالوحي ما انتظر به في موسى، والحكم هو الفصل بين المتحاكمين المبني على العلم لأنه يكون بحسب ما يدعو إليه، وقيل معنى استوى: كمل جسده وتمّ طوله وعرضه، وخرج عن جملة الأحداث.
الآية الثانية من سورة يوسف
قوله تعالى: {وَمََا أَرْسَلْنََا مِنْ قَبْلِكَ إِلََّا رِجََالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرى ََ} (2) وقال في سورة النحل (3): {وَمََا أَرْسَلْنََا مِنْ قَبْلِكَ إِلََّا رِجََالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لََا تَعْلَمُونَ بِالْبَيِّنََاتِ وَالزُّبُرِ} وقال تعالى في سورة الأنبياء (4): {وَمََا أَرْسَلْنََا قَبْلَكَ إِلََّا رِجََالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لََا تَعْلَمُونَ وَمََا جَعَلْنََاهُمْ جَسَداً لََا يَأْكُلُونَ الطَّعََامَ وَمََا كََانُوا خََالِدِينَ}.
للسائل أن يسأل فيقول: هل بين قوله: {وَمََا أَرْسَلْنََا مِنْ قَبْلِكَ} وقوله: {وَمََا أَرْسَلْنََا قَبْلَكَ} فرق ولأي معنى خص موضع بحذف من، وموضع بإثباتها.
الجواب: أن يقال إن «من» لابتداء الغاية، «وقبلك» اسم للزمان الذي تقدم زمانك، فإذا قال: {وَمََا أَرْسَلْنََا مِنْ قَبْلِكَ} فكأنه قال: {وَمََا أَرْسَلْنََا} من ابتداء الزمان الذي تقدم زمانك فيخص الزمان الذي يقع عليه قبل تحديه، ويستوعب بذكر طرفيه ابتدائه وانتهائه، وإذا قال: {وَمََا أَرْسَلْنََا قَبْلَكَ} فمعناه: ما فعلنا في الزمان الذي تقدم زمانك فهو في الاستيعاب كالأول، إلا أن الأول أوكد للحصر بين الحدين، وضبطه بذكر الطرفين والزمان المتقدم قد يقع على بعض ما تقدم فيستعمل فيه اتساعا، فأكثر ما في
__________
(1) سورة: يوسف، الآية: 15.
(3) الآية: 43.
(2) سورة: يوسف، الآية: 109.
(4) الآيتان: 7و 8.(1/172)
القرآن: «وما أرسلنا من قبلك»، ولم يجيء بحذف «من» إلا في موضعين أحدهما هذا والآخر {وَمََا أَرْسَلْنََا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلََّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعََامَ} (1) فأما الأول فإنه حذفت منه «من» بناء على الآية المتقدمة وهي: {مََا آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنََاهََا أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ} (2) فلما كان الزمان الذي تقدمهم هو الزمان الذي تقدم النبي صلّى الله عليه وسلم المذكور في قوله: {وَمََا أَرْسَلْنََا قَبْلَكَ} وكانت قبل إذا عريت من «من» موضوعة للزمان المتقدم كله صار بناؤه على «قبل» مذكورا كالتوكيد الواقع بمن في سائر المواضع فأما قوله: {وَمََا أَرْسَلْنََا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ} فإنما لم يؤكد بمن لأن المعتمد بالخبر إنما هو الحال التي للمرسلين، وهي أنهم يأكلون الطعام، وليسوا من الملائكة الذين طلب الكفار أن يبعثوا إليهم، وأخبر الله تعالى به عنهم في قوله: {وَقََالَ الَّذِينَ لََا يَرْجُونَ لِقََاءَنََا لَوْلََا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلََائِكَةُ أَوْ نَرى ََ رَبَّنََا} (3) فإن قال فقد جاء قوله: {وَمََا أَرْسَلْنََا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلََا نَبِيٍّ إِلََّا إِذََا تَمَنََّى أَلْقَى الشَّيْطََانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ} (4) والقصد ذكر حال الرسول والنبي، وهو المعتمد بالخبر فأكد مع ذلك «قبلك» بمن قلت: القصد ب «من» في هذا الموضع توكيد ذكر الرسول وذكر حاله، ألا تراه قال: {مِنْ رَسُولٍ وَلََا نَبِيٍّ} فجمعهما في نفي ما نفى عنهما إلا ما أثبته لهما بعد قوله: {إِلََّا إِذََا تَمَنََّى أَلْقَى الشَّيْطََانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ} فلما كان المكانان معتمدين بالخبر صح التوكيد، وكان المقصود.
الآية الثالثة من سورة يوسف
قوله عز وجلّ: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كََانَ عََاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَدََارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا} (5) وقال في سورة الروم (6): {أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كََانَ عََاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كََانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثََارُوا الْأَرْضَ}.
للسائل أن يسأل عما جاء من هذا في القرآن بالفاء، وما منه جاء بالواو والمعنى المقتضي لكل واحد من الحرفين.
الجواب: أن يقال: كل موضع تقدم قوله: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ} فإنه في
__________
(1) سورة: الفرقان، الآية: 20.
(4) سورة: الحج، الآية: 52.
(2) سورة: الأنبياء، الآية: 6.
(5) سورة: يوسف، الآية: 109.
(3) سورة: الفرقان، الآية: 21.
(6) الآية: 9.(1/173)
موضع يقتضي الأول وقوع ما بعده بالفاء، وكل موضع تقدم {أَوَلَمْ يَسِيرُوا} فإنه في المواضع التي لا تقتضي الدعاء إلى السير والبعث على الاعتبار فيكون ذاك مؤديا إليه، وإنما يكون بالواو عطف جملة على جملة، وإن كانت الثانية أجنبية من الأولى فقوله في سورة يوسف: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا} قبله {وَمََا أَرْسَلْنََا مِنْ قَبْلِكَ إِلََّا رِجََالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرى ََ} (1) معناه: كان الرسل من القرى التي بعثوا إليها، فلما طغوا نزل بهم من العذاب ما بقي أثره في ديارهم من الخسف والانقلاب، فصار معنى قوله: {وَمََا أَرْسَلْنََا مِنْ قَبْلِكَ إِلََّا رِجََالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرى ََ} أي: لم يكونوا إلا رجالا أرسلوا إليهم فخالفوهم، فاعتبروا أنتم بآثارهم ومشاهدة ديارهم لتجتنبوا ما يجلب عليكم مثل حالهم، وكذلك قوله تعالى في سورة الحج (2): {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهََا} هو بعد قوله: {فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنََاهََا وَهِيَ ظََالِمَةٌ فَهِيَ خََاوِيَةٌ عَلى ََ عُرُوشِهََا وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ} (3) فكأنه قال: إذا كان كذا فسيروا في الأرض واعتبروا فأما قوله في الروم: {أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كََانَ عََاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كََانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثََارُوا الْأَرْضَ} فإنه لم يتقدمه ما يصير هذا كالجواب عنه، إذ لم يجر ذكر حال أمة من الأمم خالفت نبيها فعوقبت على فعلها، بل الآية التي قبلها قوله: {أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ مََا خَلَقَ اللََّهُ السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضَ وَمََا بَيْنَهُمََا إِلََّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النََّاسِ بِلِقََاءِ رَبِّهِمْ لَكََافِرُونَ} (4) فكان الموضع موضع الواو، وهذا مع أنه معطوف على قوله: {أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا} وهو بالواو فكان حمله على ذلك مع اقتضاء المعنى للواو، وهو الواجب، وقوله في سورة الملائكة (5):
{أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كََانَ عََاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَكََانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَمََا كََانَ اللََّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ} لم يتقدمه ما يكون هذا كالجواب عنه، فلم يحسن إلا الواو، ولأن الآية التي قبله ليست في وصف قوم عوقبوا على مخالفة نبيهم وبقيت آثار ما نزل بهم من العذاب في منازلهم وديارهم. وكذلك قوله في سورة المؤمن (6): {وَاللََّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لََا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ إِنَّ اللََّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كََانَ عََاقِبَةُ الَّذِينَ كََانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كََانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثََاراً فِي الْأَرْضِ} فالآيات التي تقدمت هذا ليس فيها ما يقتضي أن يكون
__________
(1) سورة: يوسف، الآية: 109.
(4) سورة: الروم، الآية: 8.
(2) الآية: 46.
(5) الآية: 44.
(3) سورة: الحج، الآية: 45.
(6) الآيتان: 2120.(1/174)
هذا كالجواب له، فلذلك جاء بالواو، فأما الآية التي في آخر هذه السورة وهي: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ} (1) فإن ما قبلها يقتضي الفاء ألا ترى قوله: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنََا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنََا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ وَمََا كََانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلََّا بِإِذْنِ اللََّهِ فَإِذََا جََاءَ أَمْرُ اللََّهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنََالِكَ الْمُبْطِلُونَ} (2) فإنه في وصف من بعث من الأنبياء ومجيء أمر الله فيمن خالفهم، وكيف خسر مبطلهم فإن قال: فقوله في سورة محمد (3) صلّى الله عليه وسلم: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كََانَ عََاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللََّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكََافِرِينَ أَمْثََالُهََا} لم يتقدمه ما يقتضي الفاء
قلت قوله: {يََا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللََّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدََامَكُمْ وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْساً لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمََالَهُمْ ذََلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مََا أَنْزَلَ اللََّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمََالَهُمْ} (4) معناه: أن أولياء الله منصورون، وأن الكفار مخذولون، فليعتبروا بمن تقدمهم في الكفر ليعلموا أنهم صائرون إلى مثل حالهم.
الآية الرابعة من سورة يوسف
قوله تعالى: {وَلَدََارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلََا تَعْقِلُونَ} (5) وقال تعالى في سورة الأعراف (6): {وَالدََّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلََا تَعْقِلُونَ} وكان حق هذه الآية أن تذكر هناك إلا أنا ذكرناها لما انتهينا إلى هذا المكان وقد تقدمت نظيرتها، وهي قوله: {وَلَلدََّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلََا تَعْقِلُونَ} (7).
للسائل أن يسأل في الآيتين عن موضعين أحدهما: قوله تعالى في سورة الأعراف:
{وَالدََّارُ الْآخِرَةُ} بوصف الدار: بالآخرة، وفي الآية التي في سورة يوسف أضاف الدار إلى الآخرة. والثاني قوله: {لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ} هناك وفي هذا المكان: {خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلََا تَعْقِلُونَ}.
الجواب عن الأول أن قبله {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتََابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هََذَا الْأَدْنى ََ} (8) فقوله: هذا الأدنى إنما يعني: هذا المنزل الأدنى، وهو والدار الدنيا بمعنى
__________
(1) سورة: غافر، الآية: 82.
(5) سورة: يوسف، الآية: 109.
(2) سورة: غافر، الآية: 78.
(6) الآية: 169.
(3) الآية: 10.
(7) سورة: الأنعام، الآية: 32.
(4) سورة: محمد، الآيات: 97.
(8) سورة: الأعراف، الآية: 169.(1/175)
واحد. فلما جعل الأدنى وصفا للمنزل ذكر الدار الآخرة بعده، فجعل الدار موصوفة والآخرة صفة لها، وكل يؤدي معنى واحدا إلا أنه يختص ببعض اللفظ دون بعض لمشاكلة ما قبله وموافقته له. فأما قوله: {وَلَدََارُ الْآخِرَةِ} في يوسف فإن قبله {أَفَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ غََاشِيَةٌ مِنْ عَذََابِ اللََّهِ أَوْ تَأْتِيَهُمُ السََّاعَةُ بَغْتَةً} (1) والساعة هي الساعة الآخرة وهي:
القيامة، فلما ذكرت الدار أضيفت إليها، فكأنه قال: ولدار الساعة الآخرة خير، فتقدم كل آية ما كان المذكور بعده أليق به.
الجواب عن المسألة الثانية وهي قوله: {لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ} في سورة الأعراف وقوله: {لِلَّذِينَ اتَّقَوْا} في سورة يوسف: هو أن القوم دعوا إلى الاعتبار بأحوال الأمم الذين أهلكوا في أزمنة أنبيائهم بالنظر إلى منازلهم وهي خاوية على عروشها، ليعلموا أن دار الآخرة خير لمن اتقى منهم، وقوله في سورة الأعراف ترهيب لليهود الذين في عصر النبي صلّى الله عليه وسلم، وارتشائهم على كتمان أمر النبي صلّى الله عليه وسلم، وترغيب لهم فيما عند الله إذا صدقوا عما في كتاب الله عز وجلّ، والترغيب والترهيب لا يتعلقان إلا بالآنف المستقبل، فلذلك قال للذين يتقون: {أَفَلََا تَعْقِلُونَ} وفي هاتين الآيتين مسألة ثالثة وهي إدخال اللام على «دار الآخرة» في سورة يوسف، وإخلاؤها منها في سورة الأعراف في قوله: {وَالدََّارُ الْآخِرَةُ}.
الجواب عن ذلك أن قوله: {وَلَدََارُ الْآخِرَةِ} جاء بعد قوله: {فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كََانَ عََاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} ومعناه: فيعلموا كيف حال من قبلهم، وأن الدار الآخرة خير لهم. فاللام هي التي تدخل على المبتدأ فتعلق الفعل، والفعل هو: فيعلموا لدار الآخرة خير. كما تقول: علمت لزيد أفضل من عمرو، وأما قوله: {وَالدََّارُ الْآخِرَةُ} في سورة الأعراف، فلم يتقدمه ما يقتضي اللام بل قوله: {أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثََاقُ الْكِتََابِ أَنْ لََا يَقُولُوا عَلَى اللََّهِ إِلَّا الْحَقَّ وَدَرَسُوا مََا فِيهِ وَالدََّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ} (2) من غير أن يتقدمه ما يجري مجرى التوكيد، والقسم الذي يتلقى باللام.
انقضت سورة يوسف عليه السّلام، عن أربع آيات وخمس مسائل.
__________
(1) سورة: يوسف، الآية: 107.
(2) سورة: الأعراف، الآية: 169.(1/176)
13 - سورة الرعد
الآية الأولى منها
قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهََا رَوََاسِيَ وَأَنْهََاراً} (1) إلى قوله: {إِنَّ فِي ذََلِكَ لَآيََاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} (1) وقال بعده: {وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجََاوِرََاتٌ وَجَنََّاتٌ مِنْ أَعْنََابٍ} (3) إلى قوله: {إِنَّ فِي ذََلِكَ لَآيََاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} (3).
للسائل أن يسأل عن قوله: {يَتَفَكَّرُونَ} وقوله في الآية التي بعدها:
{يَعْقِلُونَ} هل كان يصح أحدهما مكان الآخر؟
الجواب: أن يقال: أن التفكر هو المؤدي إلى معرفة الشيء والعلم بالآيات التي تدل على توحيد الله تعالى، وهو قبل فإذا استعمل على وجهه عقل ما جعلت هذه الأشياء أمارة له ودلالة عليه، فبدأ في الأول بما يحتاج إليه أولا من التفكر والتدبر المفضيين بصاحبهما إلى إدراك المطلوب، وخص الآخر بما يستقر عليه آخر التفكر من إدراك سكون النفس إلى عرفان ما دلت الآيات عليه، فكان في تقديم ما قدم وتأخير ما أخر إشارة إليه.
__________
(1) سورة: الرعد، الآية: 3.
(3) سورة: الرعد، الآية: 4.(1/177)
14 - سورة إبراهيم
الآية الأولى منها
قوله تعالى: {اللََّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمََاءِ مََاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرََاتِ رِزْقاً لَكُمْ} (1) وقال في سورة النمل (2): {أَمَّنْ خَلَقَ السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمََاءِ مََاءً فَأَنْبَتْنََا بِهِ حَدََائِقَ ذََاتَ بَهْجَةٍ مََا كََانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهََا}.
للسائل أن يسأل فيقول: قال في هذه الآية الأولى: {وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمََاءِ مََاءً}
وقال في الثانية: {وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمََاءِ مََاءً} فما الذي أوجب ذكر «لكم» في الثانية، ولم يوجبها في الأولى؟
الجواب: أن «لكم» في آخر الآية الأولى مذكورة لأنه قال: {فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرََاتِ رِزْقاً لَكُمْ} فأغنى ذكرها هناك عن ذكرها أولا، والآية الثانية لما لم يكن في آخرها ذكر أنه فعل ذلك لهم ذكر في أولها «لكم» لأن بعدها {فَأَنْبَتْنََا بِهِ حَدََائِقَ ذََاتَ بَهْجَةٍ}، وليست «لكم» في قوله: {مََا كََانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهََا}
يكفي من ذكرها في أولها لأنها في معنى غير معنى: خلق لكم أصناف النعم.
__________
(1) سورة: إبراهيم، الآية: 32.
(2) الآية: 60.(1/178)
15 - سورة الحجر
الآية الأولى منها
قوله تعالى: {فَاخْرُجْ مِنْهََا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلى ََ يَوْمِ الدِّينِ} (1)
وقال في سورة ص (2): {وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلى ََ يَوْمِ الدِّينِ}.
للسائل أن يسأل فيقول: إذا كان المراد باللعنة وبلعنتي شيئا واحدا، فما بال اللفظين اختلفا، فجاء في سورة الحجر بالألف واللام، وفي سورة ص مضافا، وهل يصح في الاختيار أحدهما مكان الآخر؟.
الجواب: أن يقال: إن القصة في سورة الحجر ابتدئت في المعتمد بالذكر، وهو خلق الإنسان والجن باسم الجنس المعرف بالألف واللام بقوله: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسََانَ مِنْ صَلْصََالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ} (3) ثم قال: {مََا لَكَ أَلََّا تَكُونَ مَعَ السََّاجِدِينَ} (4)، وكان ما استحقه إبليس بترك السجود من الجزاء ما أطلق عليه اللفظ الذي ابتدئت بمثله القصة، وهو اسم الجنس المعرف بالألف باللام، وكان الأمر في سورة ص بخلاف ذلك لأن أول الآية: {إِذْ قََالَ رَبُّكَ لِلْمَلََائِكَةِ إِنِّي خََالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ فَإِذََا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سََاجِدِينَ فَسَجَدَ الْمَلََائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ إِلََّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكََانَ مِنَ الْكََافِرِينَ قََالَ يََا إِبْلِيسُ مََا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمََا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعََالِينَ} (5) فلم تفتتح الآية بذكر الصنفين من الجن والإنس باللفظ المعرف بالألف واللام كما كان في سورة الحجر، ولما كان موضع {مََا لَكَ أَلََّا تَكُونَ مَعَ السََّاجِدِينَ} جاء بدله {مََا مَنَعَكَ أَلََّا تَسْجُدَ}، ثم قال: {لِمََا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ} فجعل بدل الساجدين «أن تسجد»، ثم قال: {لِمََا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} فخصصه بالإضافة إليه دون واسطة يأمره بفعله،
__________
(1) سورة: الحجر، الآيتان: 34، 35.
(4) سورة: الحجر، الآية: 32.
(2) الآية: 78.
(5) سورة: ص، الآيات: 7571.
(3) سورة: الحجر، الآية: 26.(1/179)
أجرى لفظ ما استحقه من العقاب، على لفظ الإضافة كما قال: {بِيَدَيَّ} فقال: {وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي} فكان الاختيار في التوفقة بين الألفاظ الذي افتتحت بها الآية، واستمرت إلى آخرها هذا.
الآية الثانية منها
قوله تعالى: {إِنَّ فِي ذََلِكَ لَآيََاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ وَإِنَّهََا لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ إِنَّ فِي ذََلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ} (1).
للسائل أن يسأل فيقول: لأي معنى جمع «الآية» في القصة التي وحدها فيها بعد فقال: {لَآيََاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ} ثم قال: {لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ} وهل كانت «الآيات» لو ذكرت في الثانية «والآية» لو ذكرت في الأولى مما يكون في اختيار الكلام؟
الجواب: أن يقال ذلك في قوله: {إِنَّ فِي ذََلِكَ لَآيََاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ} إشارة إلى ما قص من حديث لوط، وضيف إبراهيم، وتعرض قوم لوط لهم طمعا فيهم، وما كان من أمرهم آخرا من إهلاك الكفار، وقلب المدينة على من فيها وإمطار الحجارة على من غاب عنها، وهذه أشياء كثيرة في كل واحد منها آية، وفي جميعها آيات لمن يتوسم أي: لمن يتدبر السمة وهي: ما وسم الله تعالى به العاصين من عباده، ليستدلوا بها على حال من عند عن عبادته فتجنبها، وكان ذكر الآيات هاهنا أولى، وأشبه بالمعنى. وأما قوله:
{وَإِنَّهََا لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ إِنَّ فِي ذََلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ} أي: تلك المدينة المقلوبة ثابتة الآثار مقيمة للنظار، فكأنها بمرأى العيون لبقاء آثارها، وهذه واحدة من تلك الآيات، فلذلك جاء عقبها {إِنَّ فِي ذََلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ}.
__________
(1) سورة: الحجر، الآيات: 7775.(1/180)
16 - سورة النحل
الآية الأولى منها
قوله تعالى: {يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنََابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرََاتِ إِنَّ فِي ذََلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهََارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرََاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذََلِكَ لَآيََاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ وَمََا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفاً أَلْوََانُهُ إِنَّ فِي ذََلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ} (1).
للسائل أن يسأل عن توحيد «الآية» أولا وآخرا وعن جمعها في المتوسطة، ولم كان ذلك الاختيار وفي كل ذلك آيات كثيرة، ولم عبر عنها بآية واحدة لدلالتها بمجموعها على واحد؟
الجواب أن يقال: إنما وحد في الأول لأن جميع ما أخبر عنه أنه خلقه إنما هو في جنس من صنعه، ونوع من خلقه، وهو كل ما نجم من الأرض مما فيه قوت الخلق، والذي ذكر فيه الآيات الليل والنهار وهو إظلام الجو لغروب الشمس إلى طلوع الفجر، وبدو الضياء مقدمة طلوع الشمس إلى غروبها، والشمس والقمر النيّران اللذان في كل واحد منهما آيات كثيرة، ثم النجوم السيارة، وغيرها على ما جعل الله تعالى لكل واحد منها من مسير في فلك، ثم ما أجرى العادة به من إحداث ريح أو مطر عند انتهاء أحدها إلى بعض المجاري، فكان ذكر الآيات هنا أولى، وذكر الآية في الأولى أحق لأن الأولى فيما يطلع من الأرض بالماء، وكأنه جمع وجميعها شيء واحد والثانية بخلافها، ولذلك اختلفا. وأما الثالثة: فهي {وَمََا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفاً أَلْوََانُهُ} المعنى والله أعلم: جميع جواهر الأرض كالذهب والفضة والحديد وغيرها من الفكر، والتنبيه على ما جعل فيها من المنافع للخلائق، وهي كلها كالشيء الواحد في أنها عروق جارية مختلفة في
__________
(1) سورة: النحل، الآيات: 1311.(1/181)
شيء واحد هو أمها، وهي الأرض، ولذلك قدم الإنعام بالزرع والثمار لعلم الخاصة والعامة بما فيها من قرب النفع وامتساك الخلق، ثم عقب ذلك بما هو أصله من الهواء، وماء السماء والكواكب التي جعلها قواما لتربية ما به ثبات البرية، فلما صرف العقول إلى ما نصب من الأمارات في أصناف ما بثه في البر أتبعه بما سخر له من البحر.
مسألة ثانية في هذه الآيات فإن قال قائل: فلم قال في الأولى: {إِنَّ فِي ذََلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} وقال في الثانية: {لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} وفي الثالثة: {لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ}.
الجواب: أن التفكر أعمال النظر لتطلب فائدة، وهذه المخلوقات التي تنجم من الأرض إذا فكر فيها علم أن معظمها ليس إلا للأكل، وإن الأكل به قوام ذي الروح، وإن المنعم عليه يحتاج أن يعرف المنعم به ليقصده بشكر إحسانه، فهذا موضع تفكر بعث الناس عليه ليفضي بهم إلى المطلوب منهم، وأما تعقيب ذكر الليل والنهار وما سخر في الهواء من الأنواء بقوله: {لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} فلأن متدبر ذلك أعلى رتبة من متدبر ما تقدم إذ كانت المنافع المجعولة فيها أخفى وأغمض، فمن استدرك الآيات فيها استحق الوصف بما هو أعلى من رتبة المتفكر المتدبر لأنه المنزلة الثانية التي تؤدي إليها الفكرة، وهو أن يعقل مطلوبه منها ويدرك فائدته منها وأما الآية الثالثة وهي: {لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ}
فلأنه لما نبه في الأوليين على إثبات الصانع نبه في الثالثة على أنه لا شبه له مما صنع لأن من رأى المخلوقات أصنافا مزدوجة مؤتلفة أو مختلفة نفى عنه صفاتها، وعلم أن خالقها يخالفها، لا يشبهها ولا تشبهه، وقال في سورة ق (1): {وَالْأَرْضَ مَدَدْنََاهََا وَأَلْقَيْنََا فِيهََا رَوََاسِيَ وَأَنْبَتْنََا فِيهََا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ تَبْصِرَةً وَذِكْرى ََ لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ} أي: فعلنا ذلك لنبصركم ولنريكم آياتنا ولنذكركم بازدواجها مخالفة صانعها كما قال: {وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنََا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} (2) فيعلم بعد العلم بما تقدم أنه لا صاحبة له ولا ولد ولا شبه له فيما أنشأ وبرأ إذا تذكر حاله فيما اتفق فيه واختلف.
الآية الثانية من سورة النحل
قوله تعالى:
__________
(1) الآيتان: 87.
(2) سورة: الذاريات، الآية: 49.(1/182)
{وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْماً طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهََا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوََاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (1) وقال في سورة الملائكة (2): {وَمََا يَسْتَوِي الْبَحْرََانِ هََذََا عَذْبٌ فُرََاتٌ سََائِغٌ شَرََابُهُ وَهََذََا مِلْحٌ أُجََاجٌ وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهََا وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوََاخِرَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}.
للسائل أن يسأل: فيقول: أية فائدة خصت في الآية الأولى أن تقدم فيها:
{مَوََاخِرَ} على قوله: {فِيهِ} وأن تدخل فيه الواو على: {وَلِتَبْتَغُوا} وأية فائدة خصت في الآية الثانية من سورة الملائكة أن يقدم فيها قوله: {فِيهِ} على:
{مَوََاخِرَ}، وأن تحذف الواو من قوله: {لِتَبْتَغُوا}.
الجواب أن يقال: لما ذكر الله تعالى في سورة النحل النعم التي سخر البحر من أجلها فقال: {وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ} لكذا وكذا فعد جملا ثلاثا من نيل سمكه، واستخراج حليه وطلب فضله بركوبه. كان وجه الكلام: أن يعطف الثالثة على ما قبلها بالواو، ولأن نعمة التسخير نظمها مع ما تقدمها والمشتركات في فعل حقها أن يعطف بعضها على بعض لتستوي في تعلقها به، واجتماعها فيه، فلما ذكر النعمتين في قوله:
{لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْماً طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهََا} احتاج ذكر النعمة الثالثة في عطفها على ما تقدم إلى وصف ما عليه البحر مما وطأه الله منه ليتمكن منه من الثالثة، وهي ما يطلب من فضل الله تعالى بأنواع التجارات في البحر، ونقل الأمتعة فيه من مصر إلى مصر إلى سائر ما علق به مصالح الخلق من الأودية المفترقة على وجه الأرض فقال:
{وَتَرَى الْفُلْكَ مَوََاخِرَ فِيهِ} لأن الابتغاء من فضل الله بتسهيل السير فيه ولا سبيل إليه إلا بالفلك وسيرها بشق الماء يمينا وشمالا لتجري إلى الجهة المقصودة، وليس قوله: {وَتَرَى الْفُلْكَ} عطفا على «تستخرجون منه» لأنه خطاب واحد وما قبله وما بعده خطاب جمع فهو مباين لهما في ذلك وفي العامل والإعراب، ولهذه اللفظة اختصاص إذا استعملت يقصد بها كون الشيء على تلك الصفة التي إذا استعمله طالب رآه عليها، وليس الضمير لواحد مخصوص معين دون غيره لكنه كقوله: يا أيها الرجل وكلكم ذلك الرجل، وكما ترى العراقي أرق طبعا من الجبلي وترى البصري أفصح من الواسطي وكما قال الشاعر:
ترى الرجل النحيف فتزدريه ... وفي أثوابه أسد هصور
__________
(1) سورة: النحل، الآية: 14.
(2) الآية: 12.(1/183)
وعلى هذا الوجه قوله تعالى: {تَرَى الظََّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمََّا كَسَبُوا وَهُوَ وََاقِعٌ بِهِمْ} (1) وكقوله: {وَتَرَى الظََّالِمِينَ لَمََّا رَأَوُا الْعَذََابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلى ََ مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ وَتَرََاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهََا خََاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ} (2) وقوله تعالى:
{وَتَرى ََ كُلَّ أُمَّةٍ جََاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعى ََ إِلى ََ كِتََابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ} (3) وكقوله تعالى: {كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفََّارَ نَبََاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرََاهُ مُصْفَرًّا} (4) في سورتي الزمر والحديد وكقوله:
{وَتَرَى الْمَلََائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ} (5) والدليل على ما ذكرنا من الآية أن قبل قوله: {وَتَرَى الْفُلْكَ} فعل جماعة وهو: {لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْماً طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهََا} وبعدها أيضا فعل جماعة وهو: {وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ}
والمعنى في كل ذلك: أنه على هذا الوصف فمن رآه رآه عليه، وإذا كان الأمر في موقع هذه الجملة من الجملتين المتقدمة والمتأخرة على ما بينا صار ما بعدها محمولا على ما قبلها، فوجب عطف الثالثة عليه بالواو، ولأن حجزها لا يعتد به ولأن الفعل الذي هو:
{سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ} يقتضي إشراكه فيما دخل فيه ما قبله، ولأن {مَوََاخِرَ} قد فصل قوله: {فِيهِ} بينها وبين قوله: {وَلِتَبْتَغُوا} فاجتماع هذه الأسباب أوجب اختيار الواو في هذا المكان في قوله: {وَلِتَبْتَغُوا} وأما تقديم: {مَوََاخِرَ} في هذا المكان على قوله: {فِيهِ} فلقوة حكم الفعل الذي اعتد الله بذكره على عباده في هذه الآية لأنها مصدرة بقوله: {وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ} وإذا قوي حكم الفعل في مكان وجب أن يرتب ما يتعدى إليه على ما يقتضيه في الأصل وهو أن يقدم في الفعل المتعدي إلى مفعولين مفعوله الأول: الذي أصله أن يكون معرفة، ثم مفعوله الثاني: الذي أصله أن يكون نكرة، ثم الظرف الذي هو كالفضلة، فجاء على هذا الأصل. فأما تقديم {فِيهِ}
في الآية الأخرى على {مَوََاخِرَ} فلأن الفعل الذي قدم فيها وعطف هذا عليه بولغ في تقديم الجار والمجرور فيه مبالغة لا مدى وراءها ولا زيادة عليها، ألا تراهما قدما على الفعل نفسه وهو {وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيًّا} فلما عرض قوله: {وَتَرَى الْفُلْكَ} بعد فعل هذه صفته وقد حصل فيه مفعولان وجار ومجرور قوي تقديم الجار والمجرور فيه على أحد مفعوليه، ليعلم أنه من جملة كلام بنى الفعل فيه على تقديم الجار والمجرور عليه وأما حذف الواو من قوله: {لِتَبْتَغُوا} فلأنه لم تبن الآية على فعل يقتضي استيعاب ينسق به كما كان في قوله: {وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ} لكذا وكذا
__________
(1) سورة: الشورى، الآية: 22.
(4) سورة: الحديد، الآية: 20.
(2) سورة: الشورى، الآيتان: 44، 45.
(5) سورة: الزمر، الآية: 75.
(3) سورة: الجاثية، الآية: 28.(1/184)
وذكر بعضه إثر بعض ثم صارت {مَوََاخِرَ} تلي قوله: {لِتَبْتَغُوا} وصح تعلق الكلام بمعنى المواخر لأن معناها: التي تشق الماء وتسير بأهلها، والله سخرها على هذه الصفة لتبتغوا من فضله فيما جعل الطريق إليه من المنافع التي لا تنال إلا بها، وقد ذكرنا نبذا منها فلما اتصلت {مَوََاخِرَ} بقوله: {لِتَبْتَغُوا} ولم يحجز بينهما ظرف استغنى عن الواو لذلك، ولأنه لم يتقدم فعل بنيت عليه الآية دال على تعلقه بنعم يجب أن ينسق بعضها على بعض، كما كان في قوله: {وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ} إذ أول هذه الآية: {وَمََا يَسْتَوِي الْبَحْرََانِ هََذََا عَذْبٌ فُرََاتٌ سََائِغٌ شَرََابُهُ وَهََذََا مِلْحٌ أُجََاجٌ} فبان الفرق بين الموضعين فيما يختار له إثبات الواو وتركها.
الآية الثالثة منها
قوله تعالى: {فَادْخُلُوا أَبْوََابَ جَهَنَّمَ خََالِدِينَ فِيهََا فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ} (1)
وقال في سورة الزمر (2): {قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوََابَ جَهَنَّمَ خََالِدِينَ فِيهََا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ} وقال في سورة المؤمن (3): {ادْخُلُوا أَبْوََابَ جَهَنَّمَ خََالِدِينَ فِيهََا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ}.
للسائل أن يسأل: فيقول: ما بال الآية في سورة النحل خصت وحدها بدخول اللام على قوله: لبئس فيها وإخلاء الآيتين من السورتين مما فيما قبلهما؟
الجواب أن يقال: إن الآية من هذه السورة في ذكر قوم قد ضلوا في أنفسهم وأضلوا غيرهم، وهم الذين أخبر الله تعالى عن أتباعهم أنهم سألوهم عن القرآن فقالوا:
ليس من عند الله وإنما هو أساطير الأولين، قال تبارك وتعالى: {وَإِذََا قِيلَ لَهُمْ مََا ذََا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قََالُوا أَسََاطِيرُ الْأَوَّلِينَ لِيَحْمِلُوا أَوْزََارَهُمْ كََامِلَةً يَوْمَ الْقِيََامَةِ وَمِنْ أَوْزََارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلََا سََاءَ مََا يَزِرُونَ} (4) وهؤلاء أكثر الناس آثاما وأشدهم عقابا ومن هذه صفته اختير عند تغليظ العقاب له إلى المبالغة في تأكيد لفظه، فاختيرت اللام هنا لذلك ولأن بعدها في ذكر أهل الجنة قوله: {وَلَدََارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دََارُ الْمُتَّقِينَ} (5) فاللام في «لنعم» بإزاء اللام في «لبئس»، وليس كذلك الآيتان في سورة الزمر
__________
(1) سورة: النحل، الآية: 29.
(4) سورة: النحل، الآيتان: 24، 25.
(2) الآية: 72.
(5) سورة: النحل، الآية: 30.
(3) الآية: 76.(1/185)
والمؤمن لأنهما في ذكر جملة الكفار قال الله عز من قائل: {وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى ََ جَهَنَّمَ زُمَراً} (1) وقال في سورة المؤمن: {الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتََابِ وَبِمََا أَرْسَلْنََا بِهِ رُسُلَنََا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} إلى قوله: {ادْخُلُوا} (2) فلما كان المذكورون في سورة النحل فيمن لزمهم وزران عن ذنوبهم التي أتوها، وعن ذنوب غيرهم التي حملوا عليها، ولم يذكر من سواهم في الآيتين الأخيرتين يحمل أثقالا مع أثقالهم حسن التوكيد هناك فضل حسن، فلذلك خص باللام.
الآية الرابعة من سورة النحل
قوله تعالى: {وَمََا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللََّهِ ثُمَّ إِذََا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْئَرُونَ ثُمَّ إِذََا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذََا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ لِيَكْفُرُوا بِمََا آتَيْنََاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} (3) وقال في سورة الروم (4): {وَإِذََا مَسَّ النََّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذََا أَذََاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذََا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ لِيَكْفُرُوا بِمََا آتَيْنََاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} وقال قبلها في سورة العنكبوت (5): {فَإِذََا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللََّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمََّا نَجََّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذََا هُمْ يُشْرِكُونَ لِيَكْفُرُوا بِمََا آتَيْنََاهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ}.
للسائل أن يسأل: فيقول: ما بال الآية في العنكبوت وحدها خصت بقوله:
{وَلِيَتَمَتَّعُوا} وجاءت الآيتان الأخريان بلفظ الأمر على معنى التهديد، وهو: {فَتَمَتَّعُوا}؟
الجواب أن يقال: إن الآية الأولى افتتحت بخطاب الشاهد، فأجرى قوله:
{فَتَمَتَّعُوا} على هذا اللفظ، والآية الأخيرة افتتحت بالإخبار عن الغائب، وهو: {فَإِذََا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللََّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} ومر سائر الأفعال في هذه الآية على ذلك، ولم يكن لها نظيرة في لفظها ترد إليها، فأجرى قوله: {وَلِيَتَمَتَّعُوا} عليه، والآية التي في سورة الروم وإن افتتحت بلفظ الإخبار عن الغائب، فإن لها في لفظها نظيرة ردت إليها، وصارت كالفرع عليها وهي قوله: {وَإِذََا مَسَّ الْإِنْسََانَ ضُرٌّ دَعََا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ ثُمَّ إِذََا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مََا كََانَ يَدْعُوا إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلََّهِ أَنْدََاداً لِيُضِلَّ عَنْ}
__________
(1) سورة: الزمر، الآية: 71.
(4) الآيتان: 33، 34.
(2) سورة: غافر، الآيات: 7670.
(5) الآيتان: 65، 66.
(3) سورة: النحل، الآيات: 5553.(1/186)
{سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا إِنَّكَ مِنْ أَصْحََابِ النََّارِ} (1) فهذه الآية مفتتحة بمثل ما افتتحت به تلك، إلا أن هذه الآية لواحد من الناس، وتلك للجمع فصارت كالفرع على الأولى، فكان حملها في هذه اللفظة عليها أولى والسلام.
الآية الخامسة من سورة النحل
قوله تعالى: {وَلَوْ يُؤََاخِذُ اللََّهُ النََّاسَ بِظُلْمِهِمْ مََا تَرَكَ عَلَيْهََا مِنْ دَابَّةٍ وَلََكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى ََ أَجَلٍ مُسَمًّى} (2) وقال في سورة الملائكة (3): {وَلَوْ يُؤََاخِذُ اللََّهُ النََّاسَ بِمََا كَسَبُوا مََا تَرَكَ عَلى ََ ظَهْرِهََا مِنْ دَابَّةٍ وَلََكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى ََ أَجَلٍ مُسَمًّى}.
للسائل أن يسأل عن قوله في الأولى: {بِظُلْمِهِمْ} وقوله: {مََا تَرَكَ عَلَيْهََا} وعن قوله في الثانية: {بِمََا كَسَبُوا مََا تَرَكَ عَلى ََ ظَهْرِهََا}.
الجواب أن يقال: قد تقدم في العشر التي تليها {وَلَوْ يُؤََاخِذُ اللََّهُ النََّاسَ بِظُلْمِهِمْ}
الخبر عن الذين نهوا أن يتخذوا إلهين اثنين، وأن يشركوا الأصنام في عبادته، وأن يجعلوا لها نصيبا من مالهم، ويدعوا الملائكة بنات ربهم، وأن يئدوا بناتهم خوف إملاقهم، وكل ذلك من أفعالهم ظلم منهم لأنفسهم مع ظلمهم لغيرهم، فقال تعالى: ولو يؤاخذهم الله بما ظلموا به غيرهم وأنفسهم وأجرى حكمه على معاجلة المذنبين بعقوباتهم، لأتى ذلك على نفس كل إنسان، إذ لا أحد يعد آباءه إلا ويجد فيهم من عصى ربه، فلو اخترم من عند خطيئته لا نقطع نسله ولا طريق إلى ولد لا يصح أصله، فذكر في هذه الآية التابعة لما أخبر به عن الظالمين أنواع الظلم التي نسقها في العشر التي تقدمها، ثم قال: {مََا تَرَكَ عَلَيْهََا مِنْ دَابَّةٍ} يريد على الأرض وذلك من الإيجاز الذي يقوم مقام الإكثار والإظهار، تقول العرب: ما فوقها أصدق من فلان، ولا تحتها أكذب من فلان، يعنون: فوق الأرض وتحت السماء. وقوي إضمار هذا الاسم لشهرة الاستعمال فيه، ولأن المذكور مشاهد لكل متكلم يقدر على الإشارة إليه يجري مجرى «أنا» «وأنت» في صحة العلم به والأمن من لبسه بغيره. فأما قوله في السورة الأخرى {وَلَوْ يُؤََاخِذُ اللََّهُ النََّاسَ بِمََا كَسَبُوا}
والمراد: ما كسبوا من الآثام، وإن كان «كسب» يستعمل في الخير والشر كقوله تعالى:
__________
(1) سورة: الزمر، الآية: 8.
(2) سورة: النحل، الآية: 61.
(3) الآية: 45.(1/187)
{لَهََا مََا كَسَبَتْ وَعَلَيْهََا مَا اكْتَسَبَتْ} (1) فلما حذر الإنسان بهذه اللفظة ما تجنيه يداه، ويكون هو المؤاخذ به دون من عداه، وجاء بعده {مََا تَرَكَ عَلى ََ ظَهْرِهََا} والمراد ظهر الأرض ولم يذكر الظهر في الآية الأولى لتقدم الظاء في المبتدأ بعد «لو»، والظاء تعز في كلام العرب، ألا ترى أنها ليست لأمة من الأمم سوى العرب، فلما اختصت بلغتها وتجنبت إلا فيها استعملت في الآية الأولى في المبتدأ، واستعملت في الآية الثانية في جواب ما بعد لو لهذا، ولم تجىء في هذه السورة إلا في سبعة أحرف تكررت نحو:
الظلم والنظر والظل وظل وجهه والظفر والعظيم والوعظ، وأجريت مجرى ما استعمل من الحروف، فلم يجمع بينهما في جملتين معقودتين عقد كلام واحد، وهما ما بعد «لو» وجوابها، وحسن التأليف وقصد الحروف مراعى في الفصاحة لا يخفى على أهل البلاغة.
الآية السادسة منها
قوله تعالى: {وَاللََّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّمََاءِ مََاءً فَأَحْيََا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهََا إِنَّ فِي ذََلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعََامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمََّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَناً خََالِصاً سََائِغاً لِلشََّارِبِينَ وَمِنْ ثَمَرََاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنََابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً إِنَّ فِي ذََلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ وَأَوْحى ََ رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبََالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمََّا يَعْرِشُونَ ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرََاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهََا شَرََابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوََانُهُ فِيهِ شِفََاءٌ لِلنََّاسِ إِنَّ فِي ذََلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} (2).
للسائل أن يسأل في هذه الآي عن ثلاث مسائل:
إحداها: عن توحيد الآية في جميعها ومنها ما فيه آيات.
والثانية: عن قوله: {يَسْمَعُونَ} في الأولى و {يَعْقِلُونَ} في الثانية و {يَتَفَكَّرُونَ} في الثالثة.
والثالثة: عن قوله: {وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعََامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمََّا فِي بُطُونِهِ} وقال في سورة المؤمنين (3): {وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعََامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمََّا فِي بُطُونِهََا} فأعاد في أحد الموضعين ذكر المذكر، وفي الآخر ذكر المؤنث واللفظان سواء، فهل كان يجوز أن يكون
__________
(1) سورة: البقرة، الآية: 286.
(2) سورة: النحل، الآيات: 6965.
(3) الآية: 21.(1/188)
حيث أعاد الذكر مذكرا يعود مؤنثا، وحيث عاد مؤنثا يعود مذكرا؟.
المسألة الأولى يجاب عنها فيقال: لما كان المذكور في كل آية صنفا واحدا جعل ما دل منه على الصانع آية واحدة فإن قال: فإن في الأنعام وثمرات النخيل والأعناب قد جمعت وليس جميعها صنفا واحدا، وكان على نظر قضيتك يجب في الاختيار أن يقال هنا: إن في ذلك لآيات قيل له إن قوله: {إِنَّ فِي ذََلِكَ} إشارة إلى ثمرات النخيل والأعناب دون الأنعام، وذلك صنف واحد فلذلك قال: {لَآيَةً} وأما الأنعام فقد أسند بذكر الآية فيها قوله في ابتداء آيتها {وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعََامِ لَعِبْرَةً} فكأنه قال: لكم فيها آية إذ الاعتبار يؤدي إليها فخلصت «إن» في ذلك للصنف الواحد من ثمر الشجر.
وأما الثالثة: فمقصود بها النخل خاصة فلذلك قال: {إِنَّ فِي ذََلِكَ لَآيَةً}.
والمسألة الثانية: يجاب عنها فيقال: إنما ذكر يسمعون في الأولى توبيخا لمن أنكر البعث واستبعد الحياة الثانية، فكأنه قيل له: إن ذلك قبل التدبر مقرر في أول العقل، حتى إن من يسمعه يعترف به، وهو أن الأرض الميتة يسقيها الله بماء السماء، فتعود حية بنباتها، فكذلك لا يستنكر أن يحيي الخليقة بعد موتها، وأما اختصاص الثانية بقوله:
{يَعْقِلُونَ} فلأنه قال: نسقيكم {مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَناً خََالِصاً سََائِغاً لِلشََّارِبِينَ} وقد علمنا أن الفرث لا ينعصر منه ما يسوغ للشارب، وأن الدم أحمر، فيحول بقدرة الله لبنا أبيض طيبا بعد بعده مما استحال عنه في اللون والطيب، ففيه عبرة لمن اعتبر، ولما قرن إليه ثمرات النخيل والأعناب وما يتحول من عصيرهما إلى ما يستلذ، ويجلب ما يسر سوى طيب رطبها ويابسها، احتاج ذلك إلى تدبر يعقل به صنع صانع لا يقدر غيره عليه، فلذلك قال في الثانية {يَعْقِلُونَ}. وأما اختصاص الثالثة بقوله: {يَتَفَكَّرُونَ} فلأن التفكر استعمال الفكر حالا بعد حال، وفي النحل عجائب من صنع الله تتبع كل أعجوبة أعجوبة من طاعتها لرئيسها، ثم أشكال ما تبني من بيوتها التي لو حاول الإنسان مثلها بأمثلة يحتذيها، وتقديرات يقدمها لتعذر عليه، ثم إنها تجني من أزاهير النبات والأشجار ما هداها إليه إلهام الله لها وأرشدها إليه، ثم تقلس ما يجتمع في جوفها عسلا، فهذه أشياء تقتضي فكرا بعد فكر، ونظرا بعد نظر، فلذلك عقبت بقوله: {يَتَفَكَّرُونَ}
والمسألة الثالثة: يجاب عنها بأن يقال: إن الأنعام في سورة النحل وإن أطلق لفظ جمعها فإن المراد به بعضها، ألا ترى أن الدر لا يكون لجميعها، وأن اللبن لبعض إناثها، فكأنه قال: وإن لكم في بعض الأنعام لعبرة نسقيكم مما في بطونه ولهذا ذهب من ذهب إلى أنه رد إلى النعم لأنه يؤدي ما تؤديه الأنعام من المعنى، والمراد والله أعلم ما
ذكرنا بالدلالة التي بينا وليس كذلك ذكرها في سورة المؤمنين (1) لأنه قال: {نُسْقِيكُمْ مِمََّا فِي بُطُونِهََا وَلَكُمْ فِيهََا مَنََافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهََا تَأْكُلُونَ وَعَلَيْهََا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ} فأخبر عن النّعم التي في أصناف النّعم إناثها وذكورها، فلم يحتمل أن يراد بها البعض كما كان في الأول ذلك.(1/189)
والمسألة الثالثة: يجاب عنها بأن يقال: إن الأنعام في سورة النحل وإن أطلق لفظ جمعها فإن المراد به بعضها، ألا ترى أن الدر لا يكون لجميعها، وأن اللبن لبعض إناثها، فكأنه قال: وإن لكم في بعض الأنعام لعبرة نسقيكم مما في بطونه ولهذا ذهب من ذهب إلى أنه رد إلى النعم لأنه يؤدي ما تؤديه الأنعام من المعنى، والمراد والله أعلم ما
ذكرنا بالدلالة التي بينا وليس كذلك ذكرها في سورة المؤمنين (1) لأنه قال: {نُسْقِيكُمْ مِمََّا فِي بُطُونِهََا وَلَكُمْ فِيهََا مَنََافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهََا تَأْكُلُونَ وَعَلَيْهََا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ} فأخبر عن النّعم التي في أصناف النّعم إناثها وذكورها، فلم يحتمل أن يراد بها البعض كما كان في الأول ذلك.
الآية السابعة من سورة النحل
قوله تعالى: {وَاللََّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفََّاكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى ََ أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لََا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً إِنَّ اللََّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ} (2) وقال في سورة الحج (3): {ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفََّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى ََ أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلََا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً وَتَرَى الْأَرْضَ هََامِدَةً}.
للسائل أن يسأل فيقول: ما الفرق بين قوله: {لِكَيْ لََا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً} إذا لم يكن فيه «من»، وبين قوله: {لِكَيْلََا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً} ولأي معنى اختصت الآية من سورة الحج بمن، وخلت منها الآية في سورة النحل؟
الجواب: أن يقال: ذكر في سورة النحل الجملة التي فصلت في سورة الحج، وكانت لفظة «بعد» لجملة الزمان المتأخر عن الشيء قال: {وَاللََّهُ خَلَقَكُمْ} فأجمل ما فصل في السورة الأخرى وبعده {ثُمَّ يَتَوَفََّاكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى ََ أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لََا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً} أي: يعزب عنه في حال الهرم ما كان يعلمه قبل من الحكم، ويستدركه من الآراء المصيبة ويرتكبه من المذاهب القويمة كان هذا موضع جمل لا تفصيل معها ولا تحديد، ولم يكن كذلك الأمر في سورة الحج (4) لأنه قال: {يََا أَيُّهَا النََّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنََّا خَلَقْنََاكُمْ مِنْ تُرََابٍ} يعني: أصلكم وهو آدم عليه السّلام {ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ} أولاده {ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ} فذكر تفصيل الأحوال ومباديها فقال من كذا ومن كذا الابتداء، كل حال ينتقل منه إلى غيره، فبنى ذكر الحال التي ينتقل فيها من العلم إلى فقده على الأحوال التي تقدم ذكرها، فكما حدد أوائلها ب «من» كذلك حدد الحال الأخيرة المنتقلة عما قبلها ب «من» فقال: {مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ} أي: فقد العلم من بعد أن كان عالما، فباين الموضع الأول لذلك.
__________
(1) الآيتان: 21، 22.
(3) الآية: 5.
(2) سورة: النحل، الآية: 70.
(4) الآية: 5.(1/190)
الآية الثامنة منها
قوله تعالى: {أَفَبِالْبََاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللََّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ} (1) وقال في سورة العنكبوت (2): {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنََّا جَعَلْنََا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النََّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْبََاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللََّهِ يَكْفُرُونَ}.
للسائل أن يسأل فيقول: ما بال الآية من سورة النحل زيد فيها هم، وخلت منها الآية من سورة العنكبوت؟
الجواب: أن يقال: إن الكلام في سورة النحل قد نقل عن الخطاب الذي يصلح لغير الكفار إلى الإخبار عنهم وهو قوله: {وَاللََّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوََاجاً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوََاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبََاتِ} (3) ثم انتقل الكلام عن الخطاب العام إلى الإخبار الخاص فقال: {أَفَبِالْبََاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللََّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ} فأكد الكلام بقوله: {هُمْ} لئلا يتوهم أن هذا الإخبار خطاب وهو بالتاء دون الياء إذ لا فرق في الخط بينهما، ولم يكن كذلك الأمر في سورة العنكبوت لأن الإخبار المستمر في الآية التي قبل هذه أغنى عما يحصره للخبر دون غيره وهو قوله: {فَإِذََا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللََّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمََّا نَجََّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذََا هُمْ يُشْرِكُونَ لِيَكْفُرُوا بِمََا آتَيْنََاهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ أَوَلَمْ يَرَوْا أَنََّا جَعَلْنََا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النََّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْبََاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللََّهِ يَكْفُرُونَ} (4) فترادف الإخبار عن الغيب أغنى عن توكيده بما يحصره على الخبر، وذلك واضح لمن تدبره.
انقضت سورة النحل عن ثمان آيات وإحدى عشرة مسألة، والله الموفق للصواب.
__________
(1) سورة: النحل، الآية: 72.
(3) سورة: النحل، الآية: 72.
(2) الآية: 67.
(4) سورة: العنكبوت، الآيات: 6765.(1/191)
17 - سورة الإسراء
الآية الأولى منها
قوله تعالى: {وَلَقَدْ صَرَّفْنََا فِي هََذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا وَمََا يَزِيدُهُمْ إِلََّا نُفُوراً} (1) وقال في هذه السورة: {وَلَقَدْ صَرَّفْنََا لِلنََّاسِ فِي هََذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبى ََ أَكْثَرُ النََّاسِ إِلََّا كُفُوراً} (2) وقال في سورة الكهف (3): {وَلَقَدْ صَرَّفْنََا فِي هََذَا الْقُرْآنِ لِلنََّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكََانَ الْإِنْسََانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا}.
للسائل أن يسأل: عن اختلاف هذه الآيات في قلة لفظ الأولى والتقديم والتأخير في الثانية والثالثة.
الجواب: أن يقال: إن الأولى جاءت بعد إخبار عن المتمردين من الكفار، وعما آل إليه أمرهم من الزمان من مبتدأ السورة، ثم عما أقامه من الدلائل النيرة، والآيات البينة، وما علقه من الحساب بالأهلة وآية النهار المبصرة، إلى ما حذر من حال الآخرة، واشتمال الكتاب على ما قدم من الحسنة والسيئة وما بعد ذلك من الأوامر والنواهي، فجاء بعد ذلك كله قوله تعالى: {وَلَقَدْ صَرَّفْنََا فِي هََذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا} فأبهم القول ليحيط بأنواع تصاريف الكلام من الخبر والعبر وضرب المثل، والأمر والنهي، والوعظ والزجر، إذ كان فيما قبله كل ذلك.
وأما الآية الثانية فإنها جاءت بعد الأولى وبعد أمثال ضربت نحو: {وَمَنْ كََانَ فِي هََذِهِ أَعْمى ََ فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى ََ وَأَضَلُّ سَبِيلًا} (4) وبعد تخويف النبي صلّى الله عليه وسلم وتحذيره
__________
(1) سورة: الإسراء، الآية: 41.
(2) سورة: الإسراء، الآية: 89.
(3) الآية: 54.
(4) سورة: الإسراء، الآية: 72.(1/192)
كتحذير الناس كلهم إذ يقول: {وَإِنْ كََادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنََا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنََا غَيْرَهُ} (1) إلى قوله: {إِذاً لَأَذَقْنََاكَ ضِعْفَ الْحَيََاةِ وَضِعْفَ الْمَمََاتِ ثُمَّ لََا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنََا نَصِيراً} (2) فقال بعده وقدم الناس: {وَلَقَدْ صَرَّفْنََا لِلنََّاسِ فِي هََذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ} تنبيها للناس وليهتموا بتفهمه، ويعنوا بتدبره، ويقفوا عند أوامره، وينتهوا عن زواجره، فكان موضع الآية يقتضي تقديم الناس على عادة العرب في تقديم ما عنايتهم بذكره أتم وأما الثالثة: فإنها وقعت في السورة التي تقدم فيها ذكر أصحاب الكهف، وما سأل النبي صلّى الله عليه وسلم عن الإخبار به مما لم يقدر عليه إلا بأن يوحى إليه، وكان جميع ذلك من خبر موسى عليه السّلام مع من وعد لقاءه، وقصة ذي القرنين بعدهما مما أودع القرآن، وتضمنه الكتاب فقال في هذا المكان: {وَلَقَدْ صَرَّفْنََا لِلنََّاسِ فِي هََذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ} للدلالة على ما طلبوه من النبي صلّى الله عليه وسلم وما قد أوحى الله به إليه في كتابه، فكان تقديم ذلك في هذا المكان أولى والله أعلم.
الآية الثانية منها
قوله تعالى: {أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جََانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حََاصِباً ثُمَّ لََا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلًا أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تََارَةً أُخْرى ََ فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قََاصِفاً مِنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُمْ بِمََا كَفَرْتُمْ ثُمَّ لََا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنََا بِهِ تَبِيعاً} (3) وقال بعد ذلك بآيات:
{إِذاً لَأَذَقْنََاكَ ضِعْفَ الْحَيََاةِ وَضِعْفَ الْمَمََاتِ ثُمَّ لََا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنََا نَصِيراً} (4) ثم قال: {ثُمَّ لََا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنََا وَكِيلًا} (5).
للسائل أن يسأل عن اختصاص خواتم هذه الآي الأربع {ثُمَّ لََا تَجِدُوا}، و {ثُمَّ لََا تَجِدُ} بما خصت به وهل كان يجوز أن تكون هذه مكان تلك وتلك مكان هذه؟.
الجواب: أن يقال إن الأولى بعد قوله: {أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جََانِبَ الْبَرِّ}
وهو خطاب لمن ينجيهم من ضر البحر ويسلمهم إلى البر، فيعرضون عن ذكر ما كانوا فيه من المخافة عند الأمن، ويكفرون ما أنعم به عليهم من النجاة، فقال: الذي خفتموه من عذاب الله في البحر لا تأمنونه في البر لأن الغرق الذي خفتموه هناك بإزائه الخسف، وإرسال الرياح الحاملة للحصباء، فلا يعجزه الآن ما أمكنه إذ ذاك ثم لا تجدوا من يقوم
__________
(1) سورة: الإسراء، الآية: 73.
(4) سورة: الإسراء، الآية: 75.
(2) سورة: الإسراء، الآية: 75.
(5) سورة: الإسراء، الآية: 86.
(3) سورة: الإسراء، الآيتان: 68و 69.(1/193)
مقامكم ويعصمكم مما يريد إنزاله بكم، وهذا أول ما يطلبه من أشرف على هلكة لينقله إلى نجاة، وأما قوله: {أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تََارَةً أُخْرى ََ} يعني: في البحر فيغرقكم بما كفرتم، ثم لا تجدوا من يتبعنا إذا أهلكناكم بمطالبة بدمائكم، أو بإنكار ما أنزلناه بكم، فالذي يلجأ إليه إذا لم يغن الوكيل في دفع الضرر ووقوع الهلكة من يتبع ذلك بإنكار وانتصار وهذا أيضا مما لا تجدونه، وأما قوله للنبي صلّى الله عليه وسلم: {إِذاً لَأَذَقْنََاكَ ضِعْفَ الْحَيََاةِ وَضِعْفَ الْمَمََاتِ} أي: لأنزلنا بك عند قليل الركون إلى الكفار ضعف عذاب الدنيا وضعف عذاب الآخرة، ثم لا تجد لك عزا تمتنع به مما نريد إحلاله بك وهذا هو النصير وكذلك قوله: {وَلَئِنْ شِئْنََا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنََا إِلَيْكَ} (1): لأنسيناكه ولمحونا من القلوب والكتب ذكره ثم لا تجد من يتوكل لك برد شيء منه إليك، لكني دبرتك بالرحمة لك فأوليتك من النعم والألطاف ما ثبت به على الإيمان، وسلمت به من الركون إلى ما دعاك إليه أهل الشرك، وكانوا قالوا له: لا نتركك تستلم الحجر حتى تلم بآلهتنا فقال في نفسه: ما علي أن أفعل ذلك والله يعلم ما في نفسي فأتمكن من استلام الحجر، وقيل: إنهم قالوا له: اطرد عنك سقاط الناس ومواليهم والذين رائحتهم رائحة الضأن لأنهم كانوا يلبسون الصوف إن كنت قد أرسلت إلينا لتجلس معنا ونسمع منك، فهمّ أن يفعل ما يستدعي به إسلامهم، فنزل هذا الوعيد لأن الله أمره بغير ذلك في قوله:
{وَلََا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدََاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} (2) وقال: {وَلََا تَدْعُ مَعَ اللََّهِ إِلََهاً آخَرَ} (3) ولذلك قال: {وَإِنْ كََادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنََا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنََا غَيْرَهُ} (4) وهذان البابان اللذان همّ بأحدهما من غير عزم منه عليه، هما غير ما أوحى الله إليه، فقد تبين أن خاتمة كل آية واقعة موقعها، لا يصلح سواها مكانها والله أعلم.
__________
(1) سورة: الإسراء، الآية: 86.
(3) سورة: القصص، الآية: 88.
(2) سورة: الأنعام، الآية: 52.
(4) سورة: الإسراء، الآية: 73.(1/194)
18 - سورة الكهف
الآية الأولى منها
قوله تعالى: {سَيَقُولُونَ ثَلََاثَةٌ رََابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سََادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْماً بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثََامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ} (1) بالواو.
للسائل أن يسأل عن الفرق بين قوله: {ثَلََاثَةٌ رََابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ} بلا واو وبين قوله: {سَبْعَةٌ وَثََامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ} بالواو وقد سوى النحويون بين الجملة التي تجري صفة للنكرة أو حالا للمعرفة إذا كان فيها ذكر الأول في أن دخول الواو عليها، وحذفها منها جائزان، قال الزجاج: دخول الواو هاهنا، وإخراجها من الأول واحد. فإن قال السائل: هل في اختصاص سبعة وعطف الجملة عليها فائدة تختصها ليست فيما قبلها؟.
الجواب: عن ذلك من وجهين:
أحدهما: أن يقال: إن الفرقة التي قالت: كانوا ثلاثة كانت بعدها فرقتان أخريان، وكذلك الثانية: التي قالت: {خَمْسَةٌ سََادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ} وأما السبعة فانتهت عندها العدة وانقطعت بها القصة ولم يكن هناك فرقة رابعة تذكر قولا رابعا، والشيء إذا تم وانتهى، وكانت الجملة فيما لم ينته يتصل بالأول اتصال الشيء منه كانت الواو فيها دليلا على انقضائها، والآخر في كلام العرب في حكم المنقطع منها في اللفظ، وإن كان اتصالها بها في المعنى كاتصال الأولين.
والثاني: أن السبعة لما كانت أصلا للنهاية في تركيب العدد لأن أصل الجمع واحد، والواحد فرد والتركيب بعده بأن تضم فردا إلى فرد، فيصيران زوجا فيحصل بضمهما إلى الواحد السابق ثلاثة، فرد لم يضم إليه شيء وفرد ضم إليه فرد، ثم ضما إلى
__________
(1) سورة: الكهف، الآية: 22.(1/195)
فرد، فحصل به ضم زوج إلى فرد، وبلغت عدة المركبات ثلاثة وبقي أن يضم زوج إلى زوج، وهو اثنان يضمان إلى اثنين فتصير أربعة فإذا ضمت الأربعة إلى الثلاثة تكاملت التركيبات، فلا ترى بعدها تركيبا خارجا عن ذلك، فصارت السبعة أصلا للمبالغة في العدد، ولهذا خصت السموات بسبع من العدد والأرضون مثلها والكواكب والأسبوع وقال:
{اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لََا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللََّهُ لَهُمْ} (1)
وقال: {فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهََا سَبْعُونَ ذِرََاعاً فَاسْلُكُوهُ} (2) وللمفسرين في ذلك جواب ثالث وهو أن العرب تقول: واحد اثنان ثلاثة أربعة خمسة ستة سبعة وثمانية فإذا بلغت الثمانية لم تجرها مجرى الأخوات التي لا يعطف بعضها على بعض كما يقال في الحروف المقطعة:
ألف با تا ثا واحتجوا بآيات من القرآن كقوله: {التََّائِبُونَ الْعََابِدُونَ الْحََامِدُونَ السََّائِحُونَ الرََّاكِعُونَ السََّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنََّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ} (3) فعطف الناهين على ما قبله ولم تدخل واو العطف على غيره وكذلك قالوا في قوله: {حَتََّى إِذََا جََاؤُهََا فُتِحَتْ أَبْوََابُهََا} (4) لأن أبواب جهنم سبعة وقال: {حَتََّى إِذََا جََاؤُهََا وَفُتِحَتْ أَبْوََابُهََا} (5) في أبواب الجنة لأن أبوابها ثمانية، وقالوا مثل ذلك في قوله: {مُسْلِمََاتٍ مُؤْمِنََاتٍ قََانِتََاتٍ تََائِبََاتٍ عََابِدََاتٍ سََائِحََاتٍ ثَيِّبََاتٍ وَأَبْكََاراً} (6) وإن كان هذا مخالفا لما تقدم إذ الثيبات لا توصف بالإبكار، وكانت الواو هنا من جهة أخرى لا يجوز تركها قلت:
ويمكن أن ينصر هذا القول ويعضد بطريق من القياس يختص بثمانية وهو أن الياء في ثمانية وثماني ياء النسب التي في قولك: يمان وشآم وتهام ورباع في الفرس الرباعي وكان الأصل ثماني وشآمي وتهامي ورباعي وثماني، فقلبت إحدى الياءين ألفا وقدمت على لام الاسم وبقيت الياء الأخيرة ساكنة، وياء النسب من خصائص الأسماء التي لا تكون في غيرها، وهي إذا دخلت على ما خرج من الاسم عن بابه كمدين وطلحة إلى باب ما لا ينصرف إعادته إلى باب الاسم، وأبطلت عنه شبه غيره الموجب لمنع الصرف، فتقول:
مداني وطلحي فتصرفه، وإن صار بالياء أثقل مما كان، فلما دخل على ثمانية ما يخصصها بباب الاسم أجريت على حكم الاسم، وأزيل عنها حكم الحروف، فعطفت على ما قبلها بالواو فإن قال: إن هذا يلزمك في ثلاثة لأن التأنيث من خصائص الاسم قلت:
هذه العلامة أعني أمارة التأنيث تتصل بالفعل في نحو: قامت وقعدت وتتصل بالحرف
__________
(1) سورة: التوبة، الآية: 80.
(4) سورة: الزمر، الآية: 71.
(2) سورة: الحاقة، الآية: 32.
(5) سورة: الزمر، الآية: 73.
(3) سورة: التوبة، الآية: 112.
(6) سورة: التحريم، الآية: 5.(1/196)
في نحو: ربة وثمة، فيزول عنها الاختصاص فإن قال: فالتثنية ليس إلا في الاسم، فوجب في قولك اثنان أن يقول: واحد واثنان قيل: لا يختلف البصريون في أن الكاف من ذلك ليست اسما وهي تثنى وتجمع في قولك: ذاكما و {ذََلِكُمََا مِمََّا عَلَّمَنِي رَبِّي} (1) و {ذََلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ} (2)، فيزول بما ذكرناه اختصاص ما عارض به في المختص بالاسم دون غيره.
الآية الثانية من الكهف
قوله تعالى: {قََالَ مََا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هََذِهِ أَبَداً وَمََا أَظُنُّ السََّاعَةَ قََائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلى ََ رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْهََا مُنْقَلَباً} (3) وقال في سورة حم (4) السجدة: {وَلَئِنْ أَذَقْنََاهُ رَحْمَةً مِنََّا مِنْ بَعْدِ ضَرََّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هََذََا لِي وَمََا أَظُنُّ السََّاعَةَ قََائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلى ََ رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى ََ}.
للسائل أن يسأل عن قوله في الأولى: {رُدِدْتُ} وقوله في الثانية: {رُجِعْتُ}، وهل كان يجوز إحدى اللفظتين مكان الأخرى في الاختيار؟
الجواب أن يقال: إن الأولى بقوله: {رُدِدْتُ إِلى ََ رَبِّي} أولى، وذلك لما تقدم من وصف الجنتين اللتين حوتا مراده واشتملتا على ما أراده وتقديره فيهما أنهما يدومان له، والرد عن الشيء يتضمن معنى كراهية للمردود تقول: قصد فلان فلانا فرد عنه، وقصد فلانا فرجع عنه، فلما كان الأول ينقل عن جنته، وهو خلاف محبته كان استعمال اللفظ الذي يدل على الكراهة فيه أولى، والثانية لم يتقدمها مثل ما تقدم هذه لأن قبلها {لََا يَسْأَمُ الْإِنْسََانُ مِنْ دُعََاءِ الْخَيْرِ وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَؤُسٌ قَنُوطٌ وَلَئِنْ أَذَقْنََاهُ رَحْمَةً مِنََّا مِنْ بَعْدِ ضَرََّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هََذََا لِي وَمََا أَظُنُّ السََّاعَةَ قََائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلى ََ رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى ََ} (5) وليس في «رجع» ما في «رد» من كراهة، وهو أن يلحقان المردود، ولا يلحقان المرجوع فافترقا لذلك.
__________
(1) سورة: يوسف، الآية: 37.
(2) سورة: الطلاق، الآية: 2.
(3) سورة: الكهف، الآيتان: 35، 36.
(4) سورة: فصلت، الآية: 50.
(5) سورة: فصلت، الآيتان: 49و 50.(1/197)
الآية الثالثة من سورة الكهف
قوله تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيََاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهََا وَنَسِيَ مََا قَدَّمَتْ يَدََاهُ} (1) وقال في سورة السجدة (2): {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيََاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهََا إِنََّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ}.
للسائل أن يسأل: عن استعمال الفاء في سورة الكهف في قوله: {فَأَعْرَضَ عَنْهََا}
واستعمال: {ثُمَّ} في سورة السجدة.
الجواب أن يقال: إن الفاء «وثم» مشتركان في أن ما بعدهما في اللفظ متأخر عما قبلهما في المعنى، ومختلفان في أن الفاء قرب ما بعدها مما قبلها، وفي «ثم» تراخيا عنه وبعدا، فكان استعمال الفاء في سورة الكهف أولى واستعمال «ثم» هناك أحق وأحرى، وذلك أن ما في سورة الكهف في ذكر قوم يستدعون إلى الإيمان، ولم تختم أعمالهم بالكفر لقوله تعالى: {وَيُجََادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبََاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ وَاتَّخَذُوا آيََاتِي وَمََا أُنْذِرُوا هُزُواً} (3) فكأنهم عقبوا التذكير بآيات الله الإعراض وقبولهم للدين وإقبالهم عليه مرجوان منهم، وليس كذلك قوله: {ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهََا} الآية في وصف الكفار بعد موافاتهم القيامة لقوله: {وَلَوْ تَرى ََ إِذِ الْمُجْرِمُونَ نََاكِسُوا رُؤُسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ} (4) إلى قوله:
{وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذََابِ الْأَدْنى ََ دُونَ الْعَذََابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيََاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهََا} (5) أي: ذكر مدة عمره بآيات ربه، وتطاول الأمر بزجره ووعظه، ثم ختم ذلك بترك القبول، وبالإعراض، فكان هذا قولا يقال فيهم عند الانتقام منهم كما حكى في قولهم: {رَبَّنََا أَبْصَرْنََا وَسَمِعْنََا فَارْجِعْنََا نَعْمَلْ صََالِحاً إِنََّا مُوقِنُونَ} (6) وقد بان بما ذكرنا أن «ثم» هنا مكانها، والفاء هناك مكانها.
الآية الرابعة من سورة الكهف
قوله تعالى في الحكاية عن موسى عليه السّلام لما خرق الخضر عليه السّلام السفينة: {لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً} (7) ولما قتل الغلام {لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً} (8).
__________
(1) سورة: الكهف، الآية: 57.
(5) سورة: السجدة، الآيتان: 21و 22.
(2) سورة: السجدة، الآية: 22.
(6) سورة: السجدة، الآية: 12.
(3) سورة: الكهف، الآية: 56.
(7) سورة: الكهف، الآية: 71.
(4) سورة: السجدة، الآية: 12.
(8) سورة: الكهف، الآية: 74.(1/198)
للسائل أن يسأل: عن الأمر والنكر، وهل كان يصلح أحدهما في موضع الآخر أم لكل واحد معنى يخصصه بمكانه؟.
الجواب أن يقال: قيل في الأمر: إنه الداهية وقيل: إنه العجب، والنكر: ما تنكره العقول ولا تعرفه ولا تجوزه، وروي عن قتادة أنه قال: النكر أعظم من الأمر لأن الأمر إن حمل على الداهية، فهي التي تدهى الإنسان مما لم يخشه، فيحترز من وقوعه، والعجب قد يكون غير منكر، والنكر لا يستعمل إلا في المذموم الذي يخرج عن المعروف في العقل أو الدين، فاختص الأول بالأمر لأن خرق السفينة التي لم يغرق فيها أحد أهون من قتل الغلام الذي قد هلك، وقيل: الأمر أعظم من النكر لأن تغريق عدد من في السفينة أنكر من قتل نفس واحدة، وليس كذلك لأن الغرق لم يقع والقتل قد حصل.
الآية الخامسة من سورة الكهف
قوله تعالى في الحكاية عن الخضر عليه السّلام بعد قوله: {لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً} {أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً} (1) وبعد قوله: {لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً} {أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً} (2).
للسائل أن يسأل عن زيادة لك في الثانية وإخلاء الأولى منها.
الجواب أن يقال: إنه في الأولى لما قرر موسى صلّى الله عليه وسلم، وذكره ما كان قد قدم القول فيه: من أن الصبر على ما يشاهده منه يثقل عليه فقال: {أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً} وهذا معناه في غالب ظني: أنك تعجز عن احتمال ما ترى، حتى تبادر إلى الإنكار، فلما رأى قتل الغلام، وعاد إلى الإنكار أكد التقرير الثاني بقوله: {لَكَ} كما يقول القائل: لك أقول وإياك أعني فيقدم لك وإياك، ولو قال: أقول لك وأعنيك بكلامي لاستويا في المعنى إلا في تأكيد الخطاب بالتقديم، فكأنه قال: ألم يكن خطابي لك دون من سواك؟ وهذا وجب في الثاني لا في الأول الذي لم تتأكد حجة الخضر فيه عليه السّلام كتأكدها في الثانية.
الآية السادسة من سورة الكهف
قوله تعالى: {فَمَا اسْطََاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطََاعُوا لَهُ نَقْباً} (3).
__________
(1) سورة: الكهف، الآية: 72.
(3) سورة: الكهف، الآية: 97.
(2) سورة: الكهف، الآية: 75.(1/199)
للسائل أن يسأل عن: «اسطاعوا» في الأول لم خصت بحذف التاء دون الثانية في جل القرآن.
الجواب: أن يقال: الثانية تعدت إلى اسم، وهو قوله: نقبا فخفف متعلقها فاحتملت أن يتم لفظها، فأما الأولى فإنها تعلق مكان مفعولها بأن والفعل بعدها وهي أربعة أشياء: أن والفعل والفاعل والمفعول الذي هو الهاء، فثقل لفظ استطاعوا، وكان يجوز تخفيفه حيث لا يقارنه ما يزيده ثقلا، فلما اجتمع الثقيلان، واحتملت الأولى التخفيف ألزم في الأول دون الثاني الذي خف متعلقه واحتمل.
انقضت سورة الكهف عن ست آيات، وست مسائل.(1/200)
انقضت سورة الكهف عن ست آيات، وست مسائل.
19 - سورة مريم عليها السلام
الآية الأولى منها
قوله تعالى: {فَاخْتَلَفَ الْأَحْزََابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ} (1)
وقال في سورة الزخرف (2): {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذََابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ}.
للسائل أن يسأل فيقول: هل في اختلاف لفظي كفروا وظلموا من الآيتين ما يخص أحدهما بمكانه؟ والآخر بالموضع الذي جاء فيه.
الجواب: أن يقال: كلتا الآيتين في قصة عيسى عليه السّلام، وتوعد من أثبته لله تعالى ولدا لقوله تعالى في سورة مريم: {مََا كََانَ لِلََّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحََانَهُ إِذََا قَضى ََ أَمْراً فَإِنَّمََا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} (3) وقال في سورة الزخرف (4): {وَلَمََّا جََاءَ عِيسى ََ بِالْبَيِّنََاتِ قََالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ} إلى قوله: {فَاخْتَلَفَ الْأَحْزََابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا} (5) والكفر أعظم من الظلم، وإن كان كل كافر ظالما لنفسه، فلما قالوا في عيسى عليه السّلام أنه ابن الله وكفروا بذلك، وظلموا أنفسهم أخبر الله تعالى عنهم في القصة التي شرح فيها ابتداء أمره بالوصف الذي يتضمن لفظ أكبر الذنوب، وهو الكفر، ولما أجمل في السورة الثانية ما فصله في الأولى، وصفهم بالوصف الذي يدل على أنهم حرموا أنفسهم ما عرضوا له من الثواب، وأوجبوا عليها أليم العقاب، فبذلك ظلموها أعني بالكفر الذي كان منهم، لما دعوا للرحمن ولدا تقدس الله عنه.
الآية الثانية منها
قوله تعالى:
__________
(1) سورة: مريم، الآية: 37.
(4) الآية: 63.
(2) الآية: 65.
(5) سورة: الزخرف، الآية: 65.
(3) سورة: مريم، الآية: 35.(1/201)
{فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا إِلََّا مَنْ تََابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صََالِحاً فَأُولََئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلََا يُظْلَمُونَ شَيْئاً} (1) وقال في سورة الفرقان (2): {وَمَنْ يَفْعَلْ ذََلِكَ يَلْقَ أَثََاماً يُضََاعَفْ لَهُ الْعَذََابُ يَوْمَ الْقِيََامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهََاناً إِلََّا مَنْ تََابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صََالِحاً فَأُوْلََئِكَ يُبَدِّلُ اللََّهُ سَيِّئََاتِهِمْ حَسَنََاتٍ}.
للسائل أن يسأل فيقول: ما بال الفعل في الآية الأخيرة أكد بذكر المصدر معه من دون الفعل في الآية الأولى؟
الجواب: أن يقال: أما الأول فإنه بعد قوله: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضََاعُوا الصَّلََاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوََاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا إِلََّا مَنْ تََابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صََالِحاً} (3) فكان موضع إيجاز لذكر المعاصي فبنى الكلام عند ذكر التوبة على ما بنى عليه عند ذكر المعصية، ولم يكن كذلك الموضع الثاني لأنه بدئ بقوله: {وَالَّذِينَ لََا يَدْعُونَ مَعَ اللََّهِ إِلََهاً آخَرَ وَلََا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللََّهُ إِلََّا بِالْحَقِّ وَلََا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذََلِكَ يَلْقَ أَثََاماً يُضََاعَفْ لَهُ الْعَذََابُ يَوْمَ الْقِيََامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهََاناً إِلََّا مَنْ تََابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صََالِحاً} (4) فلما ذكر الكبائر وأن أولياء الله يجتنبونها، وأن من أتاها ضوعف له العذاب إلا أن يتوب ويعمل عملا صالحا كان الموضع موضع توكيد لأنه لم يعمل العمل الصالح بعد ارتكاب الكبائر التي عدها، فلما أكد الكلام هناك وجب تأكيده هنا أعني عند محو السيئات المتقدمة بالحسنات المستأنفة، فاختلاف الآيتين في التوكيد، والله أعلم لما ذكرنا.
__________
(1) سورة: مريم، الآيتان: 59و 60.
(3) سورة: مريم، الآيتان: 59و 60.
(2) الآيات: 68و 69و 70.
(4) سورة: الفرقان، الآيات: 68و 69و 70.(1/202)
20 - سورة طه عليه السّلام
الآية الأولى منها
قوله تعالى: {وَهَلْ أَتََاكَ حَدِيثُ مُوسى ََ إِذْ رَأى ََ نََاراً فَقََالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نََاراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهََا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النََّارِ هُدىً فَلَمََّا أَتََاهََا نُودِيَ يََا مُوسى ََ إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوََادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمََا يُوحى ََ إِنَّنِي أَنَا اللََّهُ لََا إِلََهَ إِلََّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلََاةَ لِذِكْرِي} (1) إلى قوله: {وَمََا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يََا مُوسى ََ قََالَ هِيَ عَصََايَ} (2) وقال في سورة النمل (3): {إِذْ قََالَ مُوسى ََ لِأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ نََاراً سَآتِيكُمْ مِنْهََا بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُمْ بِشِهََابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ فَلَمََّا جََاءَهََا نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النََّارِ وَمَنْ حَوْلَهََا وَسُبْحََانَ اللََّهِ رَبِّ الْعََالَمِينَ يََا مُوسى ََ إِنَّهُ أَنَا اللََّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ وَأَلْقِ عَصََاكَ}.
للسائل أن يسأل فيقول: قال الله تعالى: {وَلَوْ كََانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللََّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلََافاً كَثِيراً} (4) وهل الاختلاف إلا هذا الذي جاء في سورة في الأخبار عن قصة واحدة مرة أنه قال لأهله: {لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهََا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النََّارِ هُدىً} وفي الآية الأخرى {سَآتِيكُمْ مِنْهََا بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُمْ بِشِهََابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ} وقال في سورة القصص (5): {لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهََا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النََّارِ} ثم قوله: {فَلَمََّا أَتََاهََا نُودِيَ يََا مُوسى ََ إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوََادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً} (6) إلى قوله:
{وَمََا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يََا مُوسى ََ} فأخبر عن أشياء قيلت لموسى عليه السّلام ثم جاء إلى ذكر العصا فقال: {وَمََا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يََا مُوسى ََ} وفي السورة الثانية:
__________
(1) سورة: طه، الآيات: 149.
(4) سورة: النساء، الآية: 82.
(2) سورة: طه، الآيتان: 17، 18.
(5) الآية: 29.
(3) الآيات: 107.
(6) سورة: طه، الآيتان: 11، 12.(1/203)
{فَلَمََّا جََاءَهََا نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النََّارِ وَمَنْ حَوْلَهََا وَسُبْحََانَ اللََّهِ رَبِّ الْعََالَمِينَ يََا مُوسى ََ إِنَّهُ أَنَا اللََّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ وَأَلْقِ عَصََاكَ} (1) وكذلك جاء في سورة القصص (2): {فَلَمََّا أَتََاهََا نُودِيَ مِنْ شََاطِئِ الْوََادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبََارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يََا مُوسى ََ إِنِّي أَنَا اللََّهُ رَبُّ الْعََالَمِينَ وَأَنْ أَلْقِ عَصََاكَ فَلَمََّا رَآهََا تَهْتَزُّ}.
الجواب: أن يقال: إن الله تعالى لم يخبر أنه خوطب موسى عليه السّلام باللغة العربية بألفاظ إذا عدل عنها إلى غيرها مما يخالف معناها كان اختلافا في القرآن قادحا فيه، بل معلوم أن الخطاب كان بغير هذه اللغة، وأنه تعالى أخبر في بعض السور ببعض ما جرى، وفي أخرى بأكثر مما أخبر به في التي قبلها، وليس يدفع بعضها بعضا، فأما قوله تعالى:
{لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهََا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النََّارِ هُدىً} فهو معنى قوله: {سَآتِيكُمْ مِنْهََا بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُمْ بِشِهََابٍ قَبَسٍ} لأن الخبر الذي يأتيهم به هو أن يجد على النار ما يهديه، وبخبره أن الطريق هو ما عليه أو غيره، ووجود الهدى وأن يخبر بخبر اهتدائه في طريقه أو غيره شيء واحد لا اختلاف فيه. فأما قوله: {فَلَمََّا أَتََاهََا نُودِيَ يََا مُوسى ََ إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ} فهو مما جرى ولم يخبر الله تعالى به في سائر السور وأخبر به في هذه، وكذلك القول في العصا وسؤاله وتقريره على ما وصف من حالها حيث يقول: {وَمََا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يََا مُوسى ََ قََالَ هِيَ عَصََايَ أَتَوَكَّؤُا عَلَيْهََا} إلى قوله: {سَنُعِيدُهََا سِيرَتَهَا الْأُولى ََ} هو من ذلك.
الآية الثانية من سورة طه
قوله تعالى: {اذْهَبْ إِلى ََ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى ََ قََالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسََانِي يَفْقَهُوا قَوْلِي وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي هََارُونَ أَخِي اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي} (3) إلى قوله: {قََالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يََا مُوسى ََ} (4) وقال في سورة الشعراء (5): {وَإِذْ نََادى ََ رَبُّكَ مُوسى ََ أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظََّالِمِينَ قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلََا يَتَّقُونَ قََالَ رَبِّ إِنِّي أَخََافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلََا يَنْطَلِقُ لِسََانِي فَأَرْسِلْ إِلى ََ هََارُونَ وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخََافُ أَنْ يَقْتُلُونِ} وقال في سورة القصص (6):
__________
(1) سورة: النمل، الآيات: 108.
(4) سورة: طه، الآيات: 3624.
(2) الآيتان: 30، 31.
(5) الآيات: 1410.
(3) سورة: طه، الآيات: 3224.
(6) الآيات: 3532.(1/204)
{اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضََاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنََاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ فَذََانِكَ بُرْهََانََانِ مِنْ رَبِّكَ إِلى ََ فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ إِنَّهُمْ كََانُوا قَوْماً فََاسِقِينَ قََالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً فَأَخََافُ أَنْ يَقْتُلُونِ وَأَخِي هََارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسََاناً فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدْءاً يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخََافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ قََالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمََا سُلْطََاناً فَلََا يَصِلُونَ إِلَيْكُمََا بِآيََاتِنََا أَنْتُمََا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغََالِبُونَ}.
للسائل: أن يسأل عما حكى الله تعالى من قول موسى صلّى الله عليه وسلم لما بعثه إلى فرعون، واختلافه في السور الثلاث لأن ما في سورة طه سوى ما في سورة الشعراء وما في سورة القصص.
الجواب: عن ذلك أن قوله: {رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي} طلب أمان له من أن يقتل بمن قتله وهذا معنى قوله: {أَخََافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ وَيَضِيقُ صَدْرِي} لأنهم لو صدقوه ما خاف أن يقتلوه، وكذلك قوله في السورة الثالثة: {قََالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً فَأَخََافُ أَنْ يَقْتُلُونِ} وقوله: {وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي} أي: سهله حتى أؤدي رسالتك، وإذا أمن من القتل فقد فعل ما طلبه، وأما قوله: {وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسََانِي يَفْقَهُوا قَوْلِي} فهو معنى قوله: {وَلََا يَنْطَلِقُ لِسََانِي فَأَرْسِلْ إِلى ََ هََارُونَ} وكذلك في سورة القصص: {وَأَخِي هََارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسََاناً فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدْءاً يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخََافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ}
فطلب أن يحل عقدة من عقد لسانه وأن يؤيد بأخيه فأجيب إليهما، ولم يطلب حل كل عقد لسانه لما حكاه الله تعالى من قول فرعون {أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هََذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلََا يَكََادُ يُبِينُ} (1) وسائر ما ذكره في سورة ولم يذكر في الأخرى ليس من الاختلاف الذي يعاب وأما قوله: {اذْهَبْ إِلى ََ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى ََ} وقوله في الشعراء (2): {أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظََّالِمِينَ قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلََا يَتَّقُونَ} وقوله في القصص (3): {إِلى ََ فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ إِنَّهُمْ كََانُوا قَوْماً فََاسِقِينَ} ففي الآية الأولى: ذكر فرعون وحده لأن قومه تبع له، وكأنهم مذكورون معه، وفي الآية الثانية: ذكر قوم فرعون من دونه ومعلوم أنه منهم، ومخاطب بمثل خطابهم، فإذا اتقوا وآمنوا كان فرعون وحده لا يقدر على مخالفتهم، فترك ذكره لأنه في هذه الحالة في حكم التابع لهم، وخطابهم خطابه وأما الموضع الثالث: فإن الحكاية أتت على فرعون وملائه فبينت ما انطوت عليه الآيات قبل من ذكر بعض والاكتفاء
__________
(1) سورة: الزخرف، الآية: 52.
(3) الآية: 32.
(2) الآيتان: 1110.(1/205)
به عن بعض، وهذا كما قال في موضع لموسى وحده: {اذْهَبْ إِلى ََ فِرْعَوْنَ} وفي موضع آخر: {أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظََّالِمِينَ} لأن هارون تابع له وداخل في حكمه وأبان ذلك في موضع فقال: {فَأْتِيََا فِرْعَوْنَ فَقُولََا إِنََّا رَسُولُ رَبِّ الْعََالَمِينَ} (1) وقال بعده: {فَأْتِيََاهُ فَقُولََا إِنََّا رَسُولََا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنََا بَنِي إِسْرََائِيلَ} (2).
الآية الثالثة منها
قوله تعالى: {أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنََا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسََاكِنِهِمْ} (3)
وقال في سورة السجدة (4): {أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنََا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ}.
للسائل أن يسأل في هذه الآية عن موضعين:
أحدهما اختصاص الأولى بالفاء، والثانية بالواو.
والثاني: أنه قال في السجدة: {أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنََا مِنْ قَبْلِهِمْ}.
فأدخل «من» على «قبلهم» هنا، ولم يدخلها هناك مع تساوي المعنيين والمكانين فقال للسائل عن ذلك: لما كانت هذه الآية مفتتحة بقوله: {أَفَلَمْ} وتلك مفتتحة بقوله: {أَوَلَمْ} اختلفتا من هذه الجهة فكان ما دخلته الفاء لأنه يتعلق بما قبله تعلق الجواب بالمبتدإ والجزاء بالشرط، فتكون جملة تمامها بجملة قبلها يثقل يختار فيه التخفيف، وما دخلته الواو لا يقتضي ما تقتضيه الفاء بنفسها، بل حقه الانقطاع عما قبله، ولذلك يجوز أن يكون المؤخر بعدها في اللفظ مقدما في المعنى. وأما دخول {مِنْ} وحذفها فقد بيّناه في قوله: {وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوََاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ} (5) وفي موضع آخر {بَعْدَ مََا جََاءَكَ} (6)، وهو أن القائل إذا قال: {كَمْ أَهْلَكْنََا قَبْلَهُمْ} فكأنه قال: في الزمن المتقدم على زمانهم، وإذا قال:
{مِنْ قَبْلِهِمْ}، فكأنه قال: من مبتدأ الزمان الذي قبل زمانهم، والزمان من أوله لآخره ظرف للإهلاك، لا يختصّ به بعضه دون بعض. فإن قال: فلم جاء في سورة طه:
{أَفَلَمْ يَهْدِ} بالفاء قلت: لأنه تقدم قوله: {قََالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمى ََ وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً قََالَ كَذََلِكَ أَتَتْكَ آيََاتُنََا فَنَسِيتَهََا} (7)، ومعناه: فتركت الاهتداء بها، ثم قررهم على
__________
(1) سورة: الشعراء، الآية: 16.
(5) سورة: البقرة، الآية: 145.
(2) سورة: طه، الآية: 47.
(6) سورة: الرعد، الآية: 37.
(3) سورة: طه، الآية: 128.
(7) سورة: طه، الآيتان: 125، 126.
(4) الآية: 26.(1/206)
ما نصبه لهدايتهم، واحتجّ عليهم بتركهم الاهتداء به فقال: {أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ} والتقدير: من تأته آياتنا فعليه الاهتداء بها وأنتم أتتكم آياتنا فلم توفوها حقها فهل فعلتم ما لزمكم فيها، فالذي أوجب الفاء في هذا المكان هذا المعنى، ولم يكن مثله في سورة السجدة من تعلق ما بعد {أَوَلَمْ} بما قبله تعلق هذه الآية بما تقدمها لأن هناك {وَلَقَدْ آتَيْنََا مُوسَى الْكِتََابَ فَلََا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقََائِهِ وَجَعَلْنََاهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرََائِيلَ وَجَعَلْنََا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنََا لَمََّا صَبَرُوا وَكََانُوا بِآيََاتِنََا يُوقِنُونَ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيََامَةِ فِيمََا كََانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ} (1) فلما انفصل جاء بالواو، ولما جاء بالواو ولم يكن من شرطها تركيب جملتين يكونان كلاما واحدا فخف، وأدخل عليه «من» التي حذفت من الآية الأولى لتحد ابتداء الزمان فيكون أبلغ في الاستيعاب.
__________
(1) سورة: السجدة، الآيات: 2623.(1/207)
21 - سورة الأنبياء عليهم السلام
الآية الأولى منها
قوله تعالى: {وَإِذََا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلََّا هُزُواً أَهََذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمََنِ هُمْ كََافِرُونَ} (1) وقال في سورة الفرقان (2): {وَإِذََا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلََّا هُزُواً أَهََذَا الَّذِي بَعَثَ اللََّهُ رَسُولًا}.
للسائل أن يسأل عن: إظهار الفاعلين في {رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا} من سورة الأنبياء وإضمارهم في سورة الفرقان.
الجواب أن يقال: إن ما قبل الآية في سورة الأنبياء (3): {كُلُّ نَفْسٍ ذََائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنََا تُرْجَعُونَ} فلم يجر للكفار ذكر في الآية التي قبل هذه، فكان الاختيار الإظهار، وأما في سورة الفرقان فإن قبل الآية: {أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَهََا بَلْ كََانُوا لََا يَرْجُونَ نُشُوراً} (4) أي: ألم ير الكفار في زمانك القرية التي أمطرت مطر السوء فيحذروا، فلما كان الذكر متقدما في أقرب الكلام إليها كان الاختيار الإضمار.
الآية الثانية منها
قوله تعالى: {إِذْ قََالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مََا هََذِهِ التَّمََاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهََا عََاكِفُونَ قََالُوا وَجَدْنََا آبََاءَنََا لَهََا عََابِدِينَ} (5) وقال في سورة الشعراء (6): {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرََاهِيمَ إِذْ قََالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مََا تَعْبُدُونَ قََالُوا نَعْبُدُ أَصْنََاماً فَنَظَلُّ لَهََا عََاكِفِينَ قََالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ قََالُوا بَلْ وَجَدْنََا آبََاءَنََا كَذََلِكَ يَفْعَلُونَ}.
__________
(1) سورة: الأنبياء، الآية: 36.
(4) سورة: الفرقان، الآية: 40.
(2) سورة: الفرقان، الآية: 41.
(5) سورة: الأنبياء، الآيتان: 52، 53.
(3) الآية: 35.
(6) الآيات: 7469.(1/208)
للسائل: أن يسأل عن اختصاص هذا المكان بقوله: {بَلْ وَجَدْنََا} وخلو المكان الأول منها.
الجواب: أن يقال: إن الآية الأولى وقع السؤال فيها على وجه لا يقتضي بل في الجواب لأنه قال: ما هذه الأصنام التي نحتموها تماثيل وعكفتم عليها فكأنه سفه آراءهم وقال لهم: لم تفعلون ذلك وتعبدون ما تنحتون؟ فقالوا: {وَجَدْنََا آبََاءَنََا لَهََا عََابِدِينَ} فاقتدينا بهم، وفي سورة الشعراء تقدم سؤال أضربوا عنه ونفوا ما تضمنه لأنه قال: {هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ} (1) فقالوا مضربين عن هذه الأشياء التي وبخوا عليها من عبادتهم ما لا يسمع ولا ينفع ولا يضر، وما يعلمون أنه جماد لا حياة فيه، ولا نفع ولا ضرر عنده، فكأنهم قالوا: {بَلْ وَجَدْنََا آبََاءَنََا كَذََلِكَ يَفْعَلُونَ} فلأن السؤال هنا يقتضي في جوابهم أن ينفوا ما نفاه صلّى الله عليه وسلم أضربوا عنه إضراب من ينفي الأول ويثبت الثاني، فاختصاص المكان ب «بل» لهذا.
الآية الثالثة منها
قوله تعالى: {وَأَرََادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْنََاهُمُ الْأَخْسَرِينَ} (2) وقال في سورة الصافات (3): {فَأَرََادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْنََاهُمُ الْأَسْفَلِينَ}.
للسائل أن يسأل فيقول: هذا في قصة واحدة جاء في موضع {الْأَخْسَرِينَ}، وفي موضع {الْأَسْفَلِينَ} فهل في كلّ من المكانين ما يختص باللفظ الذي خص به؟.
الجواب أن يقال: ما في سورة الأنبياء فإن الله تعالى أخبر فيها عن إبراهيم عليه السّلام أنه قال: {وَتَاللََّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنََامَكُمْ} (4)، ثم أخبر عن الكفار لما ألقوه في النار وأرادوا به كيدا {فَجَعَلْنََاهُمُ الْأَخْسَرِينَ} والكيد: سعي في مضرة ليورد على غفلة، فذكر مكايدة بينهم وبين إبراهيم عليه السّلام فكادهم ولم يكيدوه فخسرت تجارتهم، وعادت عليهم مكايدتهم لأنه كسر أصنامهم ولم يبلغوا من إحراقه مرادهم فذكر: {الْأَخْسَرِينَ} لأنهم خسروا فيما عاملهم به وعاملوه من المكايدة التي أضيفت إليهما. وأما التي في سورة الصافات، فإن الله تعالى أخبر عن الكفار فيها بما اقتضى من {الْأَسْفَلِينَ} وهو أنه قال:
__________
(1) سورة: الشعراء، الآيتان: 72، 73.
(3) الآية: 98.
(2) سورة: الأنبياء، الآية: 70.
(4) سورة: الأنبياء، الآية: 57.(1/209)
{قََالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيََاناً فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ} (1) فبنوا له بناء عاليا ورفعوه فوقه ليرموا به من هناك إلى النار التي أجّجوها، فلما علوا ذلك البناء وحطّوه منه إلى أسفل عادوا هم الأسفلين لأنهم أهلكوا في الدنيا وسفل أمرهم في الآخرة والله تعالى نجى نبيه وأعلاه عليهم، فانقلب عالي أمرهم في صعود البناء وسافل أمر إبراهيم عليه السّلام لما حط إلى النار أن صار ذاك سافلا وأمر النبي صلّى الله عليه وسلم عاليا فلذلك اختصت هذه الآية بقوله: {فَجَعَلْنََاهُمُ الْأَسْفَلِينَ}.
الآية الرابعة منها
قوله تعالى: {وَأَيُّوبَ إِذْ نََادى ََ رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرََّاحِمِينَ فَاسْتَجَبْنََا لَهُ فَكَشَفْنََا مََا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنََاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنََا وَذِكْرى ََ لِلْعََابِدِينَ} (2). وقال في سورة ص (3): {وَاذْكُرْ عَبْدَنََا أَيُّوبَ إِذْ نََادى ََ رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطََانُ بِنُصْبٍ وَعَذََابٍ ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هََذََا مُغْتَسَلٌ بََارِدٌ وَشَرََابٌ وَوَهَبْنََا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنََّا وَذِكْرى ََ لِأُولِي الْأَلْبََابِ}.
للسائل: أن يسأل عن الفرق بين موضعي قوله: {رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنََا} و {رَحْمَةً مِنََّا} وقوله: {وَذِكْرى ََ لِلْعََابِدِينَ} {وَذِكْرى ََ لِأُولِي الْأَلْبََابِ} وهل في كل مكان من المكانين ما يختص ذلك دون غيره؟
الجواب: أن يقال: أخبر الله تعالى في سورة الأنبياء عن أيوب عليه السّلام بأنه نادى ربه وشكا إليه ما مسه من الضر وسوء الحال بالمرض الذي طالت به أيامه، حتى تآكل جسمه، وتساقط لحمه، ثم بالفقر الذي ناله واجتاح ماله، وكان الله تعالى ابتلاه بجميع ذلك، وأحدث فيه المرض الذي أضعفه عن تعهد حاله حتى زال جميع ماله ليعطيه على صبره الثواب العظيم الجزيل، وليعوضه من نعيم الجنة ما هو خير له مما سلبه من ماله وصحة بدنه، وكأنه لما قال: {مَسَّنِيَ الضُّرُّ} قال: مسني من عندك يا رب ما تعلم وأنت الأكرم الأرحم فقال: {وَآتَيْنََاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنََا}، أي:
كما كان الضر من عندنا كان كشفه والرحمة مكانه من عندنا، ومعنى: من عندنا، أي: من حيث لا تناله قدر العباد، وكل مكان اختص بقدرة الله وحده يطلق عليه عند الله وأما
__________
(1) سورة: الصافات، الآية: 97.
(2) سورة: الأنبياء، الآيتان: 83، 84.
(3) الآيات: 4341.(1/210)
قوله: {وَذِكْرى ََ لِلْعََابِدِينَ} فالمعنى: فعلنا به ما فعلنا رحمة له منا، وتذكرة لمن عبد الله وحده بإخلاص منه، فلا يحول عن حمده وطاعته مع ما تصرف عليه من شدائد الدنيا ومصائبها التي ينزلها الله به بل يثبت معها على إدامة العبادة وإمدادها بالزيادة كما فعله أيوب عليه السّلام.
وأما في سورة ص فإن الله تعالى لما أخبر فيها عنه بأنه قال: {وَاذْكُرْ عَبْدَنََا أَيُّوبَ إِذْ نََادى ََ رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطََانُ بِنُصْبٍ وَعَذََابٍ} وشكايته إلى الله تعالى ما يلحقه من أذى الشيطان بوسوسته إليه، وفنون احتياله عليه، ليضيق صدره وينقص حمده وشكره، فهان عليه المرض الذي ينقص من الأبدان في جنب ما يؤثر في الأديان ويخل بالطاعات، ويشغل من الزمان بمدافعة الوسواس، فلما كان هذا له أهم، وخاف من جهته الضرر الأشد أعانه الله برحمة منه مضافة إليه مختصة بإرادته، إذ كانت أفعال الله تعالى منها ما يختص به ويضيفها إلى نفسه كقوله تعالى: {أَنْ تَسْجُدَ لِمََا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ} (1)
ومنها ما يأمر به بعض ملائكته وإن أخبر أنه من فعله ومختص به كقوله تعالى: {فَنَفَخْنََا فِيهََا مِنْ رُوحِنََا} (2) يقال أنه أمر جبريل عليه السّلام فنفخ الروح في فرجها، وخلق الله عيسى عليه السّلام في رحمها، فلما كانت شكوى أيوب عليه السّلام فيما أخبر الله تعالى به في سورة ص أعظم، والبلوى به أكبر، أخبر أنه رحمه رحمة وأنعم عليه نعمة لا يجري أمثالها على أيدي خلقه بل هي مما يختص بفعله، ولا يوليه مقربا من ملائكته، وإن كان ما يقدرهم عليه من مثل ذلك مضافا إلى قدرة الله تعالى، فهذا فرق ما بين قوله: {رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنََا} و {رَحْمَةً مِنََّا}. وأما قوله: {وَذِكْرى ََ لِأُولِي الْأَلْبََابِ} فلأن أولي الألباب أعم من العابدين، واستدفاع وساوس الشيطان أعم من الاستشفاء للأبدان، فخصّ بكل آية ما اقتضاه صدر الكلام، وتعرض أيوب عليه السّلام بالسؤال.
الآية الخامسة من سورة الأنبياء
قوله تعالى: {وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهََا فَنَفَخْنََا فِيهََا مِنْ رُوحِنََا} (3) وقال في سورة التحريم (4): {وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرََانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهََا فَنَفَخْنََا فِيهِ مِنْ رُوحِنََا}.
__________
(1) سورة: ص، الآية: 75.
(3) سورة: الأنبياء، الآية: 91.
(2) سورة: الأنبياء، الآية: 91.
(4) الآية: 12.(1/211)
للسائل أن يسأل فيقول: هل كان مختارا أن يعود ضمير المذكور في الآية من سورة الأنبياء فيجيء {فَنَفَخْنََا فِيهِ} كما جاء في الآية الأخيرة أم لكل مكان ما يختص اللفظ الذي جاء عليه؟.
الجواب: أن يقال: لما كان القصد في سورة الأنبياء إلى الإخبار عن حال مريم وابنها وأنهما جعلا آية للناس، وكان النفخ فيها مما جعلها حاملا، والحامل: صفة الجملة، فكأنه قال: والتي أحصنت فرجها فصيّرها النفخ حاملا حتى ولدت، والعادة جارية أن لا تحمل المرأة إلا من فحل ولا يولد الولد من غير أب، فلما كان القصد التعجب من حالتها، وأنها بالنفخ صارت حاملا ردّ الضمير إلى جملتها إذ كان النفخ في فرجها نفخا فيها أوجب القصد إلى وصفها بعد النفخ بصفة ترجع إلى جملتها دون بعضها كان قوله:
{فَنَفَخْنََا فِيهََا} أولى من قوله: {فَنَفَخْنََا فِيهِ} وأما قوله في سورة التحريم:
{وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرََانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهََا فَنَفَخْنََا فِيهِ مِنْ رُوحِنََا} فلما لم يكن القصد فيه إلى التعجب من حالها بالحمل عن النفخ وولادتها لا عن ضراب الفحل لم يكن ثم من القصد إلى وصف جملتها بغير الصفة التي كانت عليه قبلها ما كان في الآية الأولى، فجاء اللفظ على أصله، والمعنى: فنفخنا في فرجها، ولم يسق الكلام إلى ما سيق إليه في سورة الأنبياء من وصف حالها بعد النفخ، فاختلفا لذلك.
الآية السادسة من سورة الأنبياء
قوله تعالى: {إِنَّ هََذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وََاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ كُلٌّ إِلَيْنََا رََاجِعُونَ} (1) وقال في سورة المؤمنين (2): {وَإِنَّ هََذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وََاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُراً كُلُّ حِزْبٍ بِمََا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ}.
للسائل أن يسأل عن اختلاف {فَاعْبُدُونِ} وقوله: {فَاتَّقُونِ} في الآيتين وعن الواو والفاء في قوله: {فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ}.
الجواب أن يقال في قوله تعالى: {وَإِنَّ هََذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وََاحِدَةً} ثلاثة أقوال:
أحدها: أن تكون الإشارة بهذه إلى أمم الأنبياء صلوات الله عليهم وسلامه،
__________
(1) سورة: الأنبياء، الآيتان: 93، 94.
(2) الآيتان: 52، 53.(1/212)
ويكون المعنى أنهم أمتكم في حال كونهم جماعة واحدة وعلى دين واحد في أصول الشرع، كالتوحيد وصفات الله تعالى، وإثبات النبوات، والمقام على طاعة الله، فمتى تفرقوا في طرق الباطل لم يكن بينكم وبينهم نسبة.
والثاني: أن يكون المعنى: وأن هذه أمتكم مقصودا بها دين واحد والأمة كل جماعة يسلك بها مقصد واحد من أم إذا قصد أي: أممكم وإن تفرقت أزمنتها فإنها يقصد بها دين واحد فهي أمتكم مقصود بها التوحيد، وهو إفراد الله تعالى بالعبادة، والإخلاص له فيها.
والثالث: أن تكون الأمة: الملة وهي: الدين أي: هذه ملتكم ملة واحدة لأنها الإسلام وقوله: {وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ} أي: وربكم القائم بمصالحكم من ابتداء كونكم إلى انتهاء أحوالكم هو أنا فأخلصوا إلي العبادة وحدي.
وقوله: {وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ} جاء بالواو لأنه لم يكن ما بعد الواو كالجواب لما قبلها كما كان ذلك في الفاء لأنه يجوز أن يكون تقطعهم أمرهم قبل أن خوطبوا بقوله:
{فَاعْبُدُونِ} فلا تصلح الفاء، ألا ترى أن تفرقهم فرقا وتقطعهم أمرهم قطعا فصار بعضهم يعبد الله وحده، وبعضهم يعبد معه غيره، وبعضهم لا يعبده كان قبل إخبار الله جميع الأنبياء صلوات الله عليهم وسلامه أن هذه الأمم أممهم جماعة واحدة غير جماعة متفرقة، وهو الذي دعا إلى أن نبههم فقال: خالقكم واحد والذي يربكم هو، فاقصدوه بالعبادة دون من سواه، وإذا كان كذلك كان قوله: {وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ} أي:
تقطعوا أمر دينهم قطعا، وافترقوا فيه فرقا خبرا غير متعلق بما قبله تعلق الجواب بالابتداء بل ذلك هو ما بعد الفاء في عقيب هذه الآية {فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصََّالِحََاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلََا كُفْرََانَ لِسَعْيِهِ} (1) أي: تفرقوا فرقا فمن كان من فرقهم يعمل الصالحات وهو مؤمن فإن سعيه مقبول، وهو على عمله مثاب، ومن عمل صالحا ولا إيمان معه مثل معونة الضعيف، وإغاثة اللهيف، وصلة الرحم، وإفاضة النعم والكف عن الظلم لم يقبل سعيه، وهو في ضمن قوله: {وَحَرََامٌ عَلى ََ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنََاهََا} (2) وأما قوله في الآية الأولى: {وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ} واختصاصها بها دون قوله: {فَاتَّقُونِ} فلأنه خطاب للفرق التي تفرقت في طرق الباطل ولم تخلص العبادة لله فنبأهم إلى أن يعبدوه، والتي في
__________
(1) سورة: الأنبياء، الآية: 95
(2) سورة: الأنبياء، الآية: 94.(1/213)
سورة المؤمنين إنما هو خطاب للرسل لقوله تعالى: {يََا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبََاتِ وَاعْمَلُوا صََالِحاً إِنِّي بِمََا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ وَإِنَّ هََذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وََاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ} (1)
وقد جاء في خطاب الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم والمؤمنين والصالحين بعد: ثم اتقوا الله، قال الله تعالى: {يََا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللََّهَ} (2) وقال: {يََا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللََّهَ وَكُونُوا مَعَ الصََّادِقِينَ} (3) وقال: {يََا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللََّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مََا قَدَّمَتْ لِغَدٍ} (4) فلما كان أكثر من خوطب في السورة الأخيرة الأنبياء والمؤمنين وهم يعبدون الله جل ذكره وضم إليهم غيرهم من الفرق وغلبوا عليهم، فخوطبوا بما يخاطب به المؤمنون، وهو: اتقوا الله إذ كان أكثرهم له عابدين، ومعنى اتقوه: احترزوا بطاعته مما أعده لأهل معصيته، وامتنعوا بموجبات الثواب عن موجبات العقاب، فكان هذا موضع {فَاتَّقُونِ}، وفي الأولى موضع {فَاعْبُدُونِ} وأما الفاء في سورة المؤمنين في قوله:
{فَتَقَطَّعُوا} فلأنه ذكر الذين صار قوله {فَتَقَطَّعُوا} كالجواب لما قبله لأنهم قطعوا أمر دينهم كتبا منزلة من الله عز اسمه، فمنهم من دان بالتوراة وكفر بما سواها من الإنجيل والقرآن، ومنهم من دان بالإنجيل وكفر بالتوراة والقرآن، فلما كان ما قبل الفاء خطابا للرسل وأممهم، وقال: كونوا جماعة واحدة ذات دين واحد صار كأنه قال: أمرتهم بالائتلاف والاتفاق في الدين فتقطعوا أمرهم فيه قطعا، وافترقوا فيه فرقا، وكل يقدر أنه على الصواب ومتمسك بما في الكتاب فهو فرح بما لديه، ومعوّل عليه، فكان ما بعد الفاء هنا في تعلقه بالأول تعلق الجواب بالمبتدإ كما بعد الفاء في قوله في الآية الأولى، وهو:
{فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصََّالِحََاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ} (5) في أنه متعلق بما قبله تعلق الجواب دون قوله: {وَتَقَطَّعُوا} والله أعلم.
__________
(1) سورة: المؤمنون، الآيتان: 51، 52.
(4) سورة: الحشر، الآية: 18.
(2) سورة: الأحزاب، الآية: 1.
(5) سورة: الأنبياء، الآية: 94.
(3) سورة: التوبة، الآية: 119.(1/214)
22 - سورة الحج
الآية الأولى منها
قوله تعالى: {كُلَّمََا أَرََادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهََا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهََا وَذُوقُوا عَذََابَ الْحَرِيقِ} (1) وقال في سورة السجدة (2): {كُلَّمََا أَرََادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهََا أُعِيدُوا فِيهََا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذََابَ النََّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ}.
للسائل أن يسأل عن قوله: {مِنْ غَمٍّ} في سورة الحج وخلو الآية التي في سورة السجدة منه.
الجواب أن يقال: أنه تعالى لما وصف من أحوال أهل النار في هذه السورة في الآية المتضمنة لهذه اللفظة بقوله: {فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيََابٌ مِنْ نََارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُسِهِمُ الْحَمِيمُ يُصْهَرُ بِهِ مََا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ وَلَهُمْ مَقََامِعُ مِنْ حَدِيدٍ} (3)
فأخبر أن النار تشتمل عليهم من جوانبهم كاشتمال الثياب. وقيل: ثياب نحاس من النار، وهي النهاية في الإحماء والإحراق، ثم خصص الرءوس بصب الماء المغلي عليها، وقيل في التفسير: إنه ينفذ إلى أجوافهم فيسلت ما فيها ويذوب ما في بطونهم من الشحوم، ويتساقط ما عليهم من الجلود مع زبانية بأيديهم عمد من حديد يضربون بها رءوسهم إذا حاولوا الخروج من النار، فلما وصفهم بأن العذاب من جميع الجوانب اكتنفهم صاروا بإحاطة ذلك بهم وسد أنفاسهم عليهم بمنزلة البعير المغموم بالغمامة التي تسد منفسه، فلا يجد فرجة، والطبق المغموم المستور، وقال القطامي:
إذا رأس رأيت به طماحا ... شددت له الغمائم والصقاعا
__________
(1) الآية: 22.
(2) الآية: 20.
(3) سورة: الحج، الآيات: 2119.(1/215)
وليس الغم هاهنا الحزن، وإن كان أصله من ذلك لكنه تغطيتهم بالعذاب والأخذ بكظمهم، فلما تقدمه وصف ما أحاط بهم ذكر هذا الغم أي: كلما أرادوا من الكرب الذي أخذ بكظمهم أن يخرجوا من النار التي جلبت عليهم كل ذلك أقبلت الزبانية نحوهم بما يدق رءوسهم والآية التي في سورة السجدة لم تشتمل من إحاطة العذاب بهم من ذكر الثياب من النار وصب الحميم وإذابة الشحوم ما ذكر في هذه الآية قال: {وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوََاهُمُ النََّارُ كُلَّمََا أَرََادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهََا أُعِيدُوا فِيهََا} (1) فلما لم يتقدم ذكر ما يطيف بهم ويغمهم ويصير كما يسد مخارج أنفاسهم لم يذكر أنهم يحاولون الخروج من أجل الغم الذي اقتضت الآية في الحج ذكره، ولم يقع مثله في سورة السجدة من مقتض، فلم يقع المقتضي لذلك.
الآية الثانية منها
قوله تعالى: {فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنََاهََا وَهِيَ ظََالِمَةٌ فَهِيَ خََاوِيَةٌ عَلى ََ عُرُوشِهََا} (2) وقال بعده بآيات: {وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهََا وَهِيَ ظََالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهََا وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ} (3).
للسائل أن يسأل عن قوله في الأولى: {أَهْلَكْنََاهََا} وقوله في الثانية: {أَمْلَيْتُ لَهََا} وهل لكل واحد ما يوجب اختصاصه بمكانه دون الآخر؟
الجواب أن يقال: إن قوله: {فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنََاهََا} جاء بعد قوله:
{وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ} (4) إلى قوله: {وَكُذِّبَ مُوسى ََ فَأَمْلَيْتُ لِلْكََافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كََانَ نَكِيرِ} (5) فلما جاء عقيب ما وصف من إهلاكهم وصفهم بذلك والثانية بعد قوله: {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذََابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللََّهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمََّا تَعُدُّونَ وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهََا} (6) فذكر عقيب استعجالهم العذاب والله يريد غيره من الإملاء لهم، وتأكيد الحجة عليهم، فكل لفظة في مكانها الذي تليق به.
__________
(1) سورة: السجدة، الآية: 20.
(4) سورة: الحج، الآية: 42.
(2) سورة: الحج، الآية: 45.
(5) سورة: الحج، الآية: 44.
(3) سورة: الحج، الآية: 48.
(6) سورة: الحج، الآيتان: 47و 48.(1/216)
الآية الثالثة من سورة الحج
قوله تعالى: {فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصََّالِحََاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} (1)
وقال بعده بآيات: {الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلََّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصََّالِحََاتِ فِي جَنََّاتِ النَّعِيمِ} (2).
للسائل أن يسأل فيقول: هل كان يجوز في الأولى في جنات النعيم؟ وفي الثانية:
لهم مغفرة ورزق كريم، وما المعنى الذي خصص كلّا من اللفظين بمكانه؟
الجواب: أن الأول خبر عن حال القوم في الدنيا لقوله: {قُلْ يََا أَيُّهَا النََّاسُ إِنَّمََا أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ} (3). ثم قال: فالذين آمنوا وعدوا الغفران والرزق الكريم، ولم يجز هنا أن يقال: هم في جنات النعيم إلا على ضرب من المجاز أنهم مستحقون لها فكأنهم فيها، وليس كذلك الآية الأخيرة لأنها خبر عن الحال في الآخرة لقوله: {الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلََّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصََّالِحََاتِ فِي جَنََّاتِ النَّعِيمِ} (4)
أي: يوم القيامة يكونون في دار الثواب، فلما اختلف المقتضيان فذكر كل واحد في المكان الذي لاق به.
الآية الرابعة من سورة الحج
قوله تعالى: {ذََلِكَ بِأَنَّ اللََّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مََا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبََاطِلُ وَأَنَّ اللََّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} (5) وقال في سورة لقمان (6): {ذََلِكَ بِأَنَّ اللََّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مََا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْبََاطِلُ وَأَنَّ اللََّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ}.
للسائل أن يسأل عن تخصيص الآية من سورة الحج بالتوكيد في قوله: {وَأَنَّ مََا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبََاطِلُ} وإخلائه منه في سورة لقمان.
والجواب: أن الأولى وقعت في مكان تقدمت فيه توكيدات مترادفة في ستة مواضع وهي قوله:
__________
(1) سورة: الحج، الآية: 50.
(4) سورة: الحج، الآية: 56.
(2) سورة: الحج، الآية: 56.
(5) سورة: الحج، الآية: 62.
(3) سورة: الحج، الآية: 49.
(6) الآية: 30.(1/217)
{وَالَّذِينَ هََاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللََّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مََاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللََّهُ رِزْقاً حَسَناً} (1) فاللام والنون مؤكدتان، وبعده: {وَإِنَّ اللََّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرََّازِقِينَ} (2)
واللام مع هو مؤكدان، وبعده {لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلًا يَرْضَوْنَهُ} (3) واللام والنون سبيلهما تلك السبيل، وبعده {وَإِنَّ اللََّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ} (4) اللام التي في خبر «إن» كذلك، وبعده {لَيَنْصُرَنَّهُ اللََّهُ إِنَّ اللََّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ} (5) فلما ترادفت التوكيدات، وجاء في هذا الموضع، وجاء بعده خبر بين خبرين أكد وهو {ذََلِكَ بِأَنَّ اللََّهَ هُوَ الْحَقُّ}، وقوله:
{وَأَنَّ اللََّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} (6) اقتضت أشباهه مثله، فجاء الخبر الثاني الواقع بين الخبرين، وبعد الأخبار المؤكدة مؤكدا بقوله «هو» فقال: {وَأَنَّ مََا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبََاطِلُ} وليس كذلك ما جاء في سورة لقمان لأنه لم تتقدمه التوكيدات التي تستتبع أمثالها كما تقدمت في الأولى.
الآية الخامسة منها
قوله تعالى: {لَهُ مََا فِي السَّمََاوََاتِ وَمََا فِي الْأَرْضِ وَإِنَّ اللََّهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} (7) وقال في سورة لقمان (8) عليه السّلام: {لِلََّهِ مََا فِي السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّ اللََّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ}.
للسائل أن يسأل عن إعادة ما في الآية الأولى في قوله: {لَهُ مََا فِي السَّمََاوََاتِ وَمََا فِي الْأَرْضِ} وإخلاء الثانية منها وهو قوله تعالى: {لِلََّهِ مََا فِي السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضِ} وعن قوله في الأولى: {وَإِنَّ اللََّهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} فأدخل اللام على «هو» ولم يدخلها في سورة لقمان.
الجواب عن ذلك نحو الجواب الأول وهو شاهد يحقق ما أجبنا به من اختيار التوكيد حيث يقصد بناؤه على الكلام المتقدم له لأن هذه الآية تالية لتلك، لا يحجزها عنها إلا قوله: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللََّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمََاءِ مََاءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللََّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ} (9) فحملت على نظائرها المذكورة قبلها، وخالفت التي في سورة لقمان تلك لموقعها، فلم تؤكد كما وكدت الأولى كذلك.
__________
(1) سورة: الحج، الآية: 58.
(6) سورة: الحج، الآية: 62.
(2) سورة: الحج، الآية: 58.
(7) سورة: الحج، الآية: 64.
(3) سورة: الحج، الآية: 59.
(8) الآية: 26.
(4) سورة: الحج، الآية: 59.
(9) سورة: الحج، الآية: 63.
(5) سورة: الحج، الآية: 60.(1/218)
23 - سورة المؤمنون
الآية الأولى منها
قوله تعالى في قصة نوح عليه السّلام: {فَقََالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مََا هََذََا إِلََّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ} (1) وقال بعد هذه القصة: {وَقََالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقََاءِ الْآخِرَةِ وَأَتْرَفْنََاهُمْ فِي الْحَيََاةِ الدُّنْيََا مََا هََذََا إِلََّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ} (2).
للسائل أن يسأل: عن تقديم «من قومه» في الآية الأخيرة، وتأخيره في الآية الأولى، وهل كان يصلح أحدهما مكان الآخر.
الجواب أن يقال: لما انقطعت صفة الملإ في الآية الأولى إلى المحكي من قولهم، قرن الوصف ب «الذين» إلى الموصوف، ثم جيء بالجار والمجرور، فكان منتهى بيان فاعل قال، ولم يكن كذلك القصد في الآية الآخرة لأنه عددت أفعال عطفت على الفعل الذي هو صلة «الذي»، فقدم الجار والمجرور، لئلا يحال بين الصفة وما عطف عليها، فقال: {وَقََالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقََاءِ الْآخِرَةِ وَأَتْرَفْنََاهُمْ فِي الْحَيََاةِ الدُّنْيََا}، فكان كل ذلك مما أتبع قوله: {كَفَرُوا} ولو قال وقال الملأ: الذين كفروا من قومه وكذبوا بلقاء الآخرة لم يكن على النظم المرتضى فيما يستفصح من الكلام، وإن كان جائزا فلذلك قدّم الجار والمجرور في الأخيرة وأخّر في الأولى.
الآية الثانية من سورة المؤمنين
قوله تعالى: {فَإِذََا جََاءَ أَمْرُنََا وَفََارَ التَّنُّورُ فَاسْلُكْ فِيهََا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ} (3) وقال في سورة هود (4)، وكان حق ذلك أن يذكر هناك:
__________
(1) سورة: المؤمنون، الآية: 24.
(3) سورة: المؤمنون، الآية: 27.
(2) سورة: المؤمنون، الآية: 33.
(4) الآية: 40.(1/219)
{حَتََّى إِذََا جََاءَ أَمْرُنََا وَفََارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهََا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ}.
للسائل أن يسأل فيقول: لم اختلف في الآيتين قوله: {قُلْنَا احْمِلْ فِيهََا} وقوله:
{فَاسْلُكْ فِيهََا} وهل كان يصلح كل واحد منهما مكان الآخر أو هناك معنى يخصص كلا بمكانه؟
الجواب أن يقال قوله: {قُلْنَا احْمِلْ} إخبار عما كان من الله تعالى إلى نوح عليه السّلام من الأمر بحمل ما يحمله في السفينة ومن يحمله من المؤمنين، وتقدم إليه بإعدادهم للركوب معه، ومنع من حظر عليه استصحابه، ثم بعد ذلك أمره بقوله: {ارْكَبُوا فِيهََا} (1) فالأول: أمر بتهيئة ما يستبقى من الحيوان، وما يستبقى من المكلفين، والثاني:
أمر بركوب السفينة، والثالث: أمر بالهبوط منها بقوله: {قِيلَ يََا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلََامٍ مِنََّا وَبَرَكََاتٍ عَلَيْكَ} (2) فالذي جاء في سورة هود جاء على مقتضى أوامر الله المفصلة إعداد من يركب معه ومن الركوب ومن النزول. وأما قوله في سورة المؤمنين: {فَاسْلُكْ فِيهََا} فإنه مجمل على ما فصل في الآية الأولى إذ كان الشرح والبيان مقصورين عليها، وكانت الثانية مشتملة على بعض ما اشتملت عليه الأولى، وهو قوله: {فَاسْلُكْ} ما يتضمن احمل واركب واعبر، ومن ذلك سمي الطريق: مسلكا، وسلكه ينابيع في الأرض أي:
أجراه، وسلك الطريق أي: نفذ فيه، فكان موضع الاختصار أولى بالمجمل من الكلام، وموضع البيان أولى بالبسط، فقصة نوح في سورة هود قد شغلت بها خمس وعشرون آية، وهي في سورة المؤمنين واقعة في ثمان آيات، فاقترن بكل من المكانين ما اقتضاه القصد من زيادة بيان، أو اختصار كلام.
الآية الثالثة من سورة المؤمنين
قوله تعالى: {فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ فَجَعَلْنََاهُمْ غُثََاءً فَبُعْداً لِلْقَوْمِ الظََّالِمِينَ} (3)
وقال بعده في ذكر القرون: {فَأَتْبَعْنََا بَعْضَهُمْ بَعْضاً وَجَعَلْنََاهُمْ أَحََادِيثَ فَبُعْداً لِقَوْمٍ لََا يُؤْمِنُونَ} (4).
للسائل أن يسأل: ما الذي أوجب في الأولى: {لِلْقَوْمِ الظََّالِمِينَ}، وفي الثانية:
{لِقَوْمٍ لََا يُؤْمِنُونَ}؟
__________
(1) سورة: هود، الآية: 41.
(3) سورة: المؤمنون، الآية: 41.
(2) سورة: هود، الآية: 48.
(4) سورة: المؤمنون، الآية: 44.(1/220)
الجواب أن يقال: إن القصة الأولى وإن خرجت عن لفظ التنكير فقال: {ثُمَّ أَنْشَأْنََا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ فَأَرْسَلْنََا فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ} (1) فإنه معلوم من المراد بالرسول وبالمرسل عليهم، فدل على ذلك بأن قال: أهلكتهم الصيحة، وهم قوم صالح عليه الصلاة والسّلام، فلما كان في أقوام معلومين أتى بذكرهم معرفة فقيل: {بُعْداً لِلْقَوْمِ الظََّالِمِينَ} وخص وصفهم بالظلم لأنه شيء عاملوا به غيرهم، وعاملوا به أنفسهم لتكذيبهم الرسل، وظلمهم لهم بنسبتهم إلى ما هم منزهون عنه، ثم هم ظالمون لأنفسهم إن منعوها ما عرضوا له من نعيم الأبد والثواب السرمدي. وأما قوله: {فَبُعْداً لِقَوْمٍ لََا يُؤْمِنُونَ} فإنه جاء بعد خاتمة قوله تعالى: {ثُمَّ أَنْشَأْنََا مِنْ بَعْدِهِمْ قُرُوناً آخَرِينَ} (2) فلم يبين بالمعنى من المراد كما بين في الأولى، وكانوا منكورين للمسلمين، فلما أمرهم بلفظ الدعاء عليهم استعمل فيهم ما استعمل فيمن لم يتعين ولم يشتهر فنكر اللفظ، فقال: لقوم لا يؤمنون أي: أهلك الله كل قوم لا يؤمنون عند ظهور آيات الله لهم، ووجوب حجة الله تعالى عليهم، والمعنى: بعدا لكل قوم أليق بقوله: {كُلَّ مََا جََاءَ أُمَّةً رَسُولُهََا كَذَّبُوهُ} (3)
فأخبر خبرا عاما وأمر أن يدعى عليهم دعاء عاما، فوجب في كل موضع ما جاء فيه دون الآخر.
الآية الرابعة منها
قوله تعالى (4): {بَلْ قََالُوا مِثْلَ مََا قََالَ الْأَوَّلُونَ قََالُوا أَإِذََا مِتْنََا وَكُنََّا تُرََاباً وَعِظََاماً أَإِنََّا لَمَبْعُوثُونَ لَقَدْ وُعِدْنََا نَحْنُ وَآبََاؤُنََا هََذََا مِنْ قَبْلُ إِنْ هََذََا إِلََّا أَسََاطِيرُ الْأَوَّلِينَ}
وقال في سورة النمل (5): {وَقََالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَإِذََا كُنََّا تُرََاباً وَآبََاؤُنََا أَإِنََّا لَمُخْرَجُونَ لَقَدْ وُعِدْنََا هََذََا نَحْنُ وَآبََاؤُنََا مِنْ قَبْلُ إِنْ هََذََا إِلََّا أَسََاطِيرُ الْأَوَّلِينَ}.
للسائل أن يسأل عن تقديم توكيد المضمر المرفوع بقوله: «نحن» وتأخير المفعول وهو «هذا» في الآية الأولى، وعكس ذلك في الآية الثانية، وهل لذلك فائدة تقتضي لكل مكان ما خص به؟.
الجواب أن يقال: لما كان الأول في حكاية تظاهرت فيها أفعال أسندت إلى فاعليها
__________
(1) سورة: المؤمنون، الآيتان: 31، 32.
(4) سورة: المؤمنون، الآية: 8381.
(2) سورة: المؤمنون، الآية: 42.
(5) الآيتان: 67، 68.
(3) سورة: المؤمنون، الآية: 44.(1/221)
متصلة بها، وهي: {بَلْ قََالُوا مِثْلَ مََا قََالَ الْأَوَّلُونَ} فهذان فعلان تعلق بهما هذا المحكي، وكل واحد منهما جاء بعده فاعله مواصلا له غير منفصل عنه، ثم بعده قالوا:
{أَإِذََا مِتْنََا} فكل هذه الأفعال قصد بها حكاية ما جاء بعدها، فلما قال: {لَقَدْ وُعِدْنََا}
وجب في البناء على الأفعال المتقدمة أن يتمم حكم الفاعل، وهو توكيده والعطف عليه، فقدم «نحن وآباؤنا» على المفعول الثاني وهو «هذا»، لذلك ولأن الأصل إذا جرى عليه الشيء أولى من غيره وأما الآية الثانية: من سورة النمل فإن الذي تقدمها {وَقََالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَإِذََا كُنََّا تُرََاباً وَآبََاؤُنََا} فأخر المعطوف على اسم كان الذي هو كالفاعل لها وهو قوله: {وَآبََاؤُنََا} عن المنصوب الذي هو كالمفعول لها وهو قوله: {تُرََاباً} فصار ما هو كالمفعول مقدما على ما هو معطوف على الفاعل، فاقتضى البناء عليه تقديم المفعول، ثم العطف على الفاعل المضمر، فجاء {لَقَدْ وُعِدْنََا نَحْنُ وَآبََاؤُنََا هََذََا مِنْ قَبْلُ} لذلك.
الآية الخامسة منها
قوله تعالى: {قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهََا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلََّهِ قُلْ أَفَلََا تَذَكَّرُونَ قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمََاوََاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ سَيَقُولُونَ لِلََّهِ قُلْ أَفَلََا تَتَّقُونَ قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلََا يُجََارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلََّهِ قُلْ فَأَنََّى تُسْحَرُونَ} (1).
للسائل أن يسأل: عن خاتمة الآية الأولى بقوله: {أَفَلََا تَذَكَّرُونَ} وخاتمة الآية الثانية بقوله: {أَفَلََا تَتَّقُونَ} وخاتمة الآية الثالثة بقوله: {فَأَنََّى تُسْحَرُونَ} وما الذي خص كلا بمكانه؟
الجواب أن يقال: إن هذه الآي جاءت بعد ما أخبر الله عن الكفار من إنكار البعث، وهي في الآية التي تكلمنا فيها واتصلت هذه بها، فأمر نبيه صلّى الله عليه وسلم بأن يسألهم لمن الأرض ومن فيها أي: من يملكها ويملك الناس الذين فيها، فإنهم يقرون أن جميع ذلك لخالقها، وهو الله تعالى، وإذا أقروا بذلك فقل لهم: {أَفَلََا تَذَكَّرُونَ} إذا قلنا لكم إنه ينشئ نشأة ثانية ما كان من النشأة الأولى كما قال: {وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} (2) أي: عندكم وفي تقديركم الفاعلين منكم، فخصت بالتذكرة لأنهم إذا
__________
(1) سورة: المؤمنون، الآيات: 8984.
(2) سورة: الروم، الآية: 27.(1/222)
أثبتوا الخلق الأول لزمهم الخلق الثاني وأما قوله تعالى: {قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمََاوََاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} (1) فإنما معناه: من الذي به قوام السموات السبع والعرش العظيم، ولا يستغنى عنه وهذه الأشياء من أكبر ما يرى من خلق الله تعالى، وما ثبت بالصدق من الخبر عندنا فمن كان مالك السموات والأرض والعرش العظيم وأقررتم له بذلك، فلم لا تجتنبون معصيته ولا تتقون عقوبته؟ إذا كانت هذه الأجرام العظيمة لا تستغني عنه ساعة، فأنتم في ضعفكم أحوج إلى أن يربكم، وأن تقوموا بحق ربانيته لكم، فتمتنعوا بطاعته من موجب عقابه، فهذه لائقة بمكانها حالّة في موضعها وأما الثالثة:
وهي: {فَأَنََّى تُسْحَرُونَ} فإنها جاءت بعد تقرير ثالث وهو: {قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلََا يُجََارُ عَلَيْهِ} (2) أي: من الذي ملكه على الأشياء أتمّ ملك، وهو يمنع ولا يمتنع منه؟ أي: يمنع من المكروه من شاء، ولا يملك أحد منع من أراده بسوء، وهذا أعظم ملك وأبلغه، فإذا أقروا بذلك فقل لهم: كيف تخدعون عن عقولكم حتى تتخذوا الأوثان والأصنام آلهة وهي لا تسمع ولا تبصر مع القادر العليم الذي قد أقررتم له بأتم الملك وبكل الخلق الذي يشهدكم والذي يغيب عنكم وقوله: {فَأَنََّى تُسْحَرُونَ} أي: من أين يأتيكم ما يغلب على عقولكم، فيخيل الباطل إليها حقا والقبيح عندها حسنا، أمّن علمكم بأن الله مالك الأرض ومن فيها، أم من علمكم بأنه رب السموات السبع ورب العرش العظيم، أم من علمكم بأن له الملك الأغلب والعز الأغلب وأنه يمنع ولا يمنع منه ويحمي من عقابه ولا يحمى منه وليس في شيء من ذلك ما يرى الفاسد صحيحا والمعوج قويما، فهذا الذي ختم به الثالثة ناظم معناه بخواتيم ما قبله، وكل في مكانه اللائق به، والله أعلم بالصواب.
__________
(1) سورة: المؤمنون، الآية: 86.
(2) سورة: المؤمنون، الآية: 88.(1/223)
24 - سورة النور
الآية الأولى منها
قوله تعالى في آخر العشر من أول السورة: {وَلَوْلََا فَضْلُ اللََّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللََّهَ تَوََّابٌ حَكِيمٌ} (1) وقال في آخر العشرين من السورة: {وَلَوْلََا فَضْلُ اللََّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللََّهَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ} (2).
للسائل أن يسأل: عن خاتمة العشرين واختلافهما بقوله في الأولى: {تَوََّابٌ حَكِيمٌ} وفي الثانية: {رَؤُفٌ رَحِيمٌ} مع حذف جواب لولا في الآيتين.
الجواب: أن يقال: لما ذكر في أول السورة حد الزنا والقذف، وختم ذلك بقذف الرجل امرأته والحكم فيه، اعتد عليهم بأن أمهلهم ليتوبوا، ولم يعاجلهم بالعقوبة على ما قارفوا فقال: {وَلَوْلََا فَضْلُ اللََّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ} وأنه يرجع إلى من رجع إليه، وأن من تاب تاب الله عليه لعجل إهلاككم، ورمى بكم إلى العقاب الدائم، والعذاب الواصب، وهذا الجواب المحذوف قد ذكر في الآية التي في أهل الإفك وهي: {وَلَوْلََا فَضْلُ اللََّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيََا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِيمََا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذََابٌ عَظِيمٌ} (3) فهذا معنى:
{وَلَوْلََا فَضْلُ اللََّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللََّهَ تَوََّابٌ حَكِيمٌ} ومعنى حكيم: أن أفعاله مبنية على الحكمة، ومن الحكمة إن لم يعاجل كل مذنب بعقوبته عند وقوع خطيئته وأما خاتمة العشرين بقوله: {وَلَوْلََا فَضْلُ اللََّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ} فإن معناه: لولا أن الله أنعم عليكم ورحمكم، وقد أجرى حكمه بأن يرحم أمثالكم ويرأف بكم لما بقّاكم عند هذا الذنب الكبير والإفك العظيم، فهذا موضع ذكر الرحمة لما تخولهم بالعظة فقال: {يَعِظُكُمُ اللََّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} (4) والأول مطلق غير محصور على قوم
__________
(1) سورة: النور، الآية: 10.
(3) سورة: النور، الآية: 14.
(2) سورة: النور، الآية: 20.
(4) سورة: النور، الآية: 17.(1/224)
بأعيانهم، وإنما المراد: من فعل منكم ذلك فحدّه كذا وحدّه كذا في الدنيا وعذاب دائم في الآخرة، ومخاطبة أهل الإفك لأقوام معينين أكبر لعظم ذنبهم، وأنهم لم يهلكوا لرأفته بهم، فكان كل موضع من الموضعين مقتضيا لما اختص به من الآيتين.
الآية الثانية منها
قوله تعالى: {كَذََلِكَ يُبَيِّنُ اللََّهُ لَكُمُ الْآيََاتِ وَاللََّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ وَإِذََا بَلَغَ الْأَطْفََالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذََلِكَ يُبَيِّنُ اللََّهُ لَكُمْ آيََاتِهِ وَاللََّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} (1).
للسائل أن يسأل فيقول: لم قال في الأولى: {كَذََلِكَ يُبَيِّنُ اللََّهُ لَكُمُ الْآيََاتِ}
وقال في الثانية: {كَذََلِكَ يُبَيِّنُ اللََّهُ لَكُمْ آيََاتِهِ}؟
الجواب: أن في الأولى إشارة إلى ما تقدم ذكره فيما أوله: {يََا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمََانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ} إلى قوله: {ثَلََاثُ عَوْرََاتٍ} (2)
وجعل الأوقات الثلاثة آيات لهم، وعلامات للمنع من دخول المماليك والأطفال على النساء، وجوازه فيما سواها، وعبّر عنها بالآيات لما لم يكن تبيين الأوقات من الأفعال التي تتخصّص بقدرته، ولما كان بلوغ الحلم مما يختص بفعله، ولم يقدر فاعل على مثله إضافة إلى نفسه فقال: {كَذََلِكَ يُبَيِّنُ اللََّهُ لَكُمْ آيََاتِهِ} ويبين ذلك قوله في العشر الأخير بعد قوله: {لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى ََ حَرَجٌ} (3) إلى قوله: {أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ} (4)
بعد القربات التي أجاز تناول طعامها {كَذََلِكَ يُبَيِّنُ اللََّهُ لَكُمُ الْآيََاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} (5) فلم يضفها إلى نفسه لأنها آيات مثل الأول التي تقدمت في أنها لا تتخصص بقدرته أي: يبين لكم العلامات التي ينصبها على ما يبيح وما يحظر وما يضيق فيه وما يوسع ومثله قوله تعالى: {يَعِظُكُمُ اللََّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَيُبَيِّنُ اللََّهُ لَكُمُ الْآيََاتِ وَاللََّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} (6) لما أشار إلى حد الزاني والقاذف والفرق بين المكانين واضح، فاعرفه إن شاء الله.
__________
(1) سورة: النور، الآيتان: 58، 59.
(4) سورة: النور، الآية: 61.
(2) سورة: النور، الآية: 58.
(5) سورة: النور، الآية: 61.
(3) سورة: النور، الآية: 61.
(6) سورة: النور، الآيتان: 17، 18.(1/225)
25 - سورة الفرقان
الآية الأولى منها
قوله تعالى: {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لََا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلََا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلََا نَفْعاً وَلََا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلََا حَيََاةً وَلََا نُشُوراً} (1) وقال قبله في سورة الرعد، وكان حكم هذه الآية أن تذكر هناك: {قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللََّهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيََاءَ لََا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعاً وَلََا ضَرًّا قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى ََ وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمََاتُ وَالنُّورُ} (2).
للسائل أن يسأل: عن تقديم «نفع» على «ضر» في سورة الرعد، وعكس ذلك في سورة الفرقان، وما الذي أوجب هذا الاختلاف؟.
الجواب: أن يقال: أما في سورة الرعد، فإنه قدم فيه الأفضل على الأنقص لأن اجتلاب النفع أشرف من استدفاع الضر، وهو رتبة فوقه فمن فاته كمال ذلك طلب دفع الضرر فهو على وجهه في الترتيب، وأما في سورة الفرقان فإنه بنى على ما قبله، وهو {لََا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ} وقوله: {لََا يَخْلُقُونَ} نفي {وَهُمْ يُخْلَقُونَ} إثبات فقدم النفي على الإثبات، وكان الضر نفيا والنفع إثباتا أي: النفع إثبات المصالح وإيجادها والضر نفيها، فكما قدم فيما قبله ما نفى على ما أثبت حمل المعطوف عليه، ليكون مشاكلا له.
الآية الثانية منها
قوله تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللََّهِ مََا لََا يَنْفَعُهُمْ وَلََا يَضُرُّهُمْ وَكََانَ الْكََافِرُ عَلى ََ رَبِّهِ ظَهِيراً} (3) وكذلك في سورة يونس، وكان هناك يجب أن تذكر الآيتان:
__________
(1) سورة: الفرقان، الآية: 3.
(3) سورة: الفرقان، الآية: 55.
(2) سورة: الرعد، الآية: 16.(1/226)
{وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللََّهِ مََا لََا يَضُرُّهُمْ وَلََا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هََؤُلََاءِ شُفَعََاؤُنََا عِنْدَ اللََّهِ} (1).
للسائل: أن يسأل في هاتين الآيتين عن مثل ما سأل في الأوليين.
الجواب أن يقال: أما في سورة يونس، فإنه بدأ بما هو أبلغ إذا ابتدئ به لأن امتلاك الضر أسهل من امتلاك النفع، فالواحد منا يقدر لغيره من الضر على ما لا يقدر عليه من نفعه، ويتسهل عليه ضره ما لا يتسهل على الفاعلين فكيف ما يتعذر، ثم ذكر بعده، {وَلََا يَنْفَعُهُمْ} لاستيعاب ما في الباب.
وأما في سورة الفرقان، فإنه تبع لما قدم فيه الأفضل على الأنقص لقوله تعالى:
{وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هََذََا عَذْبٌ فُرََاتٌ وَهََذََا مِلْحٌ أُجََاجٌ} (2) وقوله بعده: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمََاءِ بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً} (3) فقدم خلطة النسب على خلطة السبب، وهي: المصاهرة، ثم جاء بعد ذلك {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللََّهِ مََا لََا يَنْفَعُهُمْ وَلََا يَضُرُّهُمْ}، فقدم النفع على الضر اتباعا لما تقدم.
__________
(1) سورة: يونس، الآية: 81.
(2) سورة: الفرقان، الآية: 53.
(3) سورة: الفرقان، الآية: 54.(1/227)
26 - سورة الشعراء
الآية الأولى منها
قوله تعالى: {وَمََا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمََنِ مُحْدَثٍ إِلََّا كََانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ} (1) وقال في سورة الأنبياء (2) وهو ما وجب ذكره هناك: {مََا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ}.
للسائل أن يسأل: ما الذي خصص ذكر «الرحمن» بسورة الشعراء، وذكر «ربهم» بسورة الأنبياء؟
الجواب: أنه إنما خص هذين الوصفين من صفات الله تعالى في هذين الموضعين لأن الرب هو القائم بمصالح الخلق من ابتداء التربية إلى آخر العمر، والرحمن هو المنعم عليهم في الدنيا بما خلق فيها، والمعرض للنعيم الدائم بعدها، وإيتائهم بالذكر من عنده وهو القرآن العظيم مما يصلحهم فوق ما تصلحهم الأغذية المخلوقة لهم، فذكر أن الرب الذي أصلح بأنواع ما خلق أجسادهم أصلح بما صرفهم عليه من طاعته أديانهم، فهو ما يقتضيه الوصف بالرب والوصف بالرحمن وأما اختصاص سورة الشعراء بالرحمن، فلأن السورة مقصود بها ذكر الأمم الذين بعث إليهم الأنبياء عليهم السّلام، وختم على كل قصة من قصصهم بقوله: {إِنَّ فِي ذََلِكَ لَآيَةً وَمََا كََانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} وأولها قصة موسى عليه السّلام، {وَإِذْ نََادى ََ رَبُّكَ مُوسى ََ} (3)، فاتّصف تعالى بالعزيز الرحيم لما يوجبانه من الخوف والرجاء اللذين بهما لزوم الطاعات، والرغبة فيما علا من الدرجات، وأراد بالرحمة: أن هذه الأمة أمهلت لتقلع عن تمردها، وتعود إلى ربها وتتوب
__________
(1) سورة: الشعراء، الآية: 5.
(2) الآية: 2.
(3) سورة: الشعراء، الآية: 10.(1/228)
من ذنبها، فلما لم تفعل، عوقبت في الدنيا سوى ما أعدّ لها في الآخرة. وقال في أول هذه السورة: {إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمََاءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنََاقُهُمْ لَهََا خََاضِعِينَ} (1) إلا أنه أراد أن لا يكونوا كالملجئين في دينهم إلى اعتقاد ما يعتقدونه، وأمهلهم رحمة منه بهم، فقال: {وَمََا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمََنِ}، فاختص هذا الوصف هنا لذلك وأما قوله في سورة الأنبياء: {مََا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ}، فلأنه عدّ إصلاح أديانهم من جملة إصلاح أبدانهم، والرب القائم بما يصلح العبد، والدين أبلغ في إصلاحه مما يغذوه من طعامه، وخص هذا الموضع بذكر ربهم لأنه قال: {اقْتَرَبَ لِلنََّاسِ حِسََابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ} (2)، ولا يغفلون إلا إذا كانوا في رغد من عيشهم، ولا سبيل إليه إلا بمظاهرة النعمة من الله تعالى، وفعله هذا بهم، يقتضي وصفه بربهم.
الآية الثانية منها
قوله تعالى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرََاهِيمَ إِذْ قََالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مََا تَعْبُدُونَ قََالُوا نَعْبُدُ أَصْنََاماً فَنَظَلُّ لَهََا عََاكِفِينَ} (3) وقال في سورة الصافات (4): {وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْرََاهِيمَ إِذْ جََاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ إِذْ قََالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مََا ذََا تَعْبُدُونَ أَإِفْكاً آلِهَةً دُونَ اللََّهِ تُرِيدُونَ فَمََا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعََالَمِينَ}.
للسائل أن يسأل: عن زيادة ذا في قوله في الصافات: {مََا ذََا تَعْبُدُونَ}، وإخلاء ما في الشعراء منها.
الجواب أن يقال: إن قوله: ما تعبدون معناه: أي شيء تعبدون، وقوله «ماذا» في كلام العرب على وجهين: أحدهما: أن تكون «ما» وحدها اسما، و «ذا» بمعنى: الذي، والمعنى: ما الذي تعبدون، وتعبدون صلة لها. والآخر: أن تكون «ما» مع «ذا» اسما واحدا بمعنى: أي شيء، وهو في الحالين أبلغ من «ما» وحدها إذا قيل: ما تفعل، فما تعبدون في سورة الشعراء إخبار عن تنبيهه لهم لأنهم أجروا مقاله مجرى مقال المستفهم، فأجابوه وقالوا: {نَعْبُدُ أَصْنََاماً فَنَظَلُّ لَهََا عََاكِفِينَ}، فنبه ثانيا بقوله: {هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ}، وأما {مََا ذََا تَعْبُدُونَ} في سورة الصافات، فإنها تقريع، وهو حال بعد التنبيه، ولعلمهم بأنه يقصد توبيخهم وتبكيتهم لم يجيبوا كإجابتهم في الأول ثم أضاف تبكيتا إلى تبكيت، ولم يستدع منه جوابا فقال: {أَإِفْكاً آلِهَةً دُونَ اللََّهِ تُرِيدُونَ فَمََا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعََالَمِينَ}، فلما قصد في الأول التنبيه كانت «ما» كافية، ولما بالغ وقرع استعمل اللفظ
__________
(1) سورة: الشعراء، الآية: 4.
(3) سورة: الشعراء، الآيات: 7169.
(2) سورة: الأنبياء، الآية: 1.
(4) الآيات: 8783.(1/229)
الأبلغ، وهو «ماذا» التي إن جعلت «ذا» منها بمعنى: «الذي» فهو أبلغ من «ما» وحدها، وإن جعلا اسما كان أيضا أبلغ، وأوكد مما إذا خلت من «ذا».
الآية الثالثة من سورة الشعراء
قوله تعالى: {الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ وَإِذََا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ} (1).
للسائل أن يسأل فيقول: ما الذي أوجب إدخال {هُوَ} في قوله: {وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ}، وقوله: {فَهُوَ يَشْفِينِ}، وإخلاء قوله: {وَالَّذِي يُمِيتُنِي} منها، ولم يقل: والذي هو يميتني كما قال: {وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي}؟
الجواب: أن يقال: لو جاء: والذي يطعمني ويسقين وإذا مرضت فهو يشفين، لكان معلوما أن مراده هو الله تعالى، وذكر «هو» توكيدا لمعنى الكلام، وتخصيصا للفعل به دون غيره، واحتاج ذكر الإطعام والشفاء إلى هذا التوكيد لأنهما مما يدعي الخلق فعله، فيقال: فلان يطعم فلانا والطبيب يداوي ويسبب الشفاء، فكان إضافة هذين الفعلين إلى الله تعالى محتاجة إلى لفظ التوكيد، لما يتوهم من تضيفه إلى المخلوق إلى ما لا يحتاج إليه إضافة الموت والحياة لأن أحدا لا يدعي فعلهما كما كان يدعي الأولين، فافترقا لهذا الشأن.
الآية الرابعة منها
قوله تعالى في قصة صالح عليه السّلام: {قََالُوا إِنَّمََا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ مََا أَنْتَ إِلََّا بَشَرٌ مِثْلُنََا فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصََّادِقِينَ} (2) وقال في قصة شعيب عليه السّلام: {وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ قََالُوا إِنَّمََا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ وَمََا أَنْتَ إِلََّا بَشَرٌ مِثْلُنََا وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكََاذِبِينَ} (3).
للسائل أن يسأل: عن الواو في قصة شعيب في قوله: {وَمََا أَنْتَ إِلََّا بَشَرٌ مِثْلُنََا}، وحذفها من مثله في قصة صالح عليه السّلام.
__________
(1) سورة: الشعراء، الآية: 8178.
(3) سورة: الشعراء، الآيات: 186184.
(2) سورة: الشعراء، الآيتان: 153، 154.(1/230)
الجواب أن يقال: إن قوم صالح في حال هذا الخطاب، لم يدفعوا أمره كما دفع أمر شعيب قومه، فيما حكى الله تعالى من قولهم لصالح عليه السّلام، {إِنَّمََا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ مََا أَنْتَ إِلََّا بَشَرٌ مِثْلُنََا}، ثم لم يطلبوا منه ما ليس لهم طلبه لأنهم قالوا: {فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصََّادِقِينَ}، وهذا لا شطط فيه، ولا في قولهم: {أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ}، وقولهم: {مََا أَنْتَ إِلََّا بَشَرٌ مِثْلُنََا} لأن الله تعالى يقول لنبيه صلّى الله عليه وسلم: {قُلْ إِنَّمََا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى ََ إِلَيَّ} (1)، والمسحرون فيه أقوال أحدها: الذين لهم سحر وروية وقيل:
المعللون بالطعام والشراب كما قال امرؤ القيس:
أرانا موضعين لحتم غيب ... ونسحر بالطعام وبالشراب
وقال لبيد:
فإن تسألينا فيم نحن فإننا ... عصافير من هذا الأنام المسحر
وقيل: المسحرون: المسحورون، كأنه سحر مرارا حتى خبل وفسد عقله واضطرب رأيه، عن مجاهد وقتادة، وقيل: المسحرون: المخلوقون عن ابن عباس، فالموضع الذي لا واو فيه هو بدل من الجملة التي قبله، ثم قال: {فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصََّادِقِينَ}، ولهم أن يقولوا ذلك، وأما قوم شعيب فإنهم في خطابهم المحكي عنهم مشطون ومبالغون في رده وتكذيبه فقالوا: {إِنَّمََا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ مََا أَنْتَ إِلََّا بَشَرٌ مِثْلُنََا}، على خبرين عطف أحدهما على الآخر، وقالوا بعده: {وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكََاذِبِينَ} على معنى: وإنا لنظنك كاذبا أي: الغالب في أمرك عندنا أنك كاذب، فلم يجعلوا الخبرين خبرا واحدا، بل جعلوها أخبارا ثلاثة قولهم: {إِنَّمََا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ}
أي: لست من الملائكة الذين هم رسل الله إلى خلقه، فلا يطعمون ولا يشربون، بل أنت من المغتذين بالطعام والشراب، وقولهم: {وَمََا أَنْتَ إِلََّا بَشَرٌ مِثْلُنََا} أي: لا فضل لك علينا، فهو خبر ثان، وقوله: {وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكََاذِبِينَ} خبر ثالث، ثم طلبهم إسقاط كسف من السماء تكون أمارة لصدقه خلاف ما طلبته ثمود حين قالت: {فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصََّادِقِينَ}، ولم تقترح بالحالة التي كانت فيها عند مخاطبة نبيها لها، ولم يقارنها من التمرد ما قارن حال قوم شعيب حين ردوا عليه في خبر بعد خبر، فكان موضع الواو في قصتهم لذلك، ولم يكن لها موضع في الأول لما بينا من إبدالهم الجملة الثانية من الأولى، واقتصارهم على بعض ما انبسط فيه غيرهم.
__________
(1) سورة: الكهف، الآية: 110.(1/231)
27 - سورة النمل
الآية الأولى منها
قوله تعالى: {وَلََّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ يََا مُوسى ََ لََا تَخَفْ إِنِّي لََا يَخََافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ إِلََّا مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ} (1) وقال في سورة القصص (2): {فَلَمََّا رَآهََا تَهْتَزُّ كَأَنَّهََا جَانٌّ وَلََّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ يََا مُوسى ََ أَقْبِلْ وَلََا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضََاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ}.
للسائل أن يسأل فيقول: في سورة النمل ما ليس في سورة القصص، والمحكي شيء واحد، والزيادة قوله: {إِلََّا مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ}، وفي سورة القصص {أَقْبِلْ وَلََا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضََاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ}.
الجواب أن يقال: الحكايات ليس يشترط فيها إذا أديت معانيها دون ألفاظها استيعاب جميعها في مكان واحد بل يجوز أن تفرق في أماكن كثيرة، فهذا وجه، ويكون معنى {إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ} أي: من المرسلين الذين لا يخافون، ويجوز أن يكون {إِلََّا مَنْ ظَلَمَ} خارجا عن الحكاية، ويكون خبرا من الله تعالى يخبر به نبينا عليه السّلام، فيعترض بين جمل ما يحكي كما قال الله عز وجلّ فيما حكى من كلام صاحبة سبأ: {إِنَّ الْمُلُوكَ إِذََا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهََا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهََا أَذِلَّةً وَكَذََلِكَ يَفْعَلُونَ} (3) فيكون {وَكَذََلِكَ يَفْعَلُونَ} غير محكي، وإنما يكون خبرا من الله تعالى معترضا بين ما حكى تصديقا لها ثم قال عائدا إلى حكاية قولها: {وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ} (4)، ويجوز في هذا المكان
__________
(1) سورة: النمل، الآيتان: 10، 11.
(2) الآيتان: 31، 32.
(3) سورة: النمل، الآية: 34.
(4) سورة: النمل، الآية: 35.(1/232)
معنى: {وَكَذََلِكَ يَفْعَلُونَ} من الحكاية على معنى أن الملوك تأثيرهم في القرى التي يدخلونها تخريبها وكذلك يفعل هؤلاء يعني: سليمان عليه السّلام وخيله، ومعنى قوله في الآية {إِلََّا مَنْ ظَلَمَ} محمول على وجهين:
أحدهما: أن يكون استثناء من متصل لا من منقطع، فيكون مستثنى مما يدل عليه {لََا يَخََافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ}، وهذا يدل على أن غيرهم يخافون، فترك ذكرهم لقوة الدلالة عليه كما قال: {وَجَعَلَ لَكُمْ سَرََابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ} (1)، فحذف البرد لعلم المخاطبين به، وإذا كان «لكن غير المرسلين يخافون» مقدرا إثباته كان الاستثناء منهم أي: أنهم يخافون إلا من محى ظلمه بتوبة.
والوجه الثاني: أن يكون استثناء منقطعا تقديره: لكن من ظلم من غير المرسلين، ثم بدل سيئة بحسنة، ومحى خطيئته بتوبة، فالله غفور رحيم.
الآية الثانية منها
قوله تعالى: {قُلِ الْحَمْدُ لِلََّهِ وَسَلََامٌ عَلى ََ عِبََادِهِ الَّذِينَ اصْطَفى ََ آللََّهُ خَيْرٌ أَمََّا يُشْرِكُونَ أَمَّنْ خَلَقَ السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمََاءِ مََاءً فَأَنْبَتْنََا بِهِ حَدََائِقَ ذََاتَ بَهْجَةٍ مََا كََانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهََا أَإِلََهٌ مَعَ اللََّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرََاراً وَجَعَلَ خِلََالَهََا أَنْهََاراً وَجَعَلَ لَهََا رَوََاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حََاجِزاً أَإِلََهٌ مَعَ اللََّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لََا يَعْلَمُونَ أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذََا دَعََاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفََاءَ الْأَرْضِ أَإِلََهٌ مَعَ اللََّهِ قَلِيلًا مََا تَذَكَّرُونَ أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمََاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيََاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلََهٌ مَعَ اللََّهِ تَعََالَى اللََّهُ عَمََّا يُشْرِكُونَ أَمَّنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمََاءِ وَالْأَرْضِ أَإِلََهٌ مَعَ اللََّهِ قُلْ هََاتُوا بُرْهََانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صََادِقِينَ} (2).
للسائل أن يسأل عما ختمت به هذه الآيات بعد قوله: {أَإِلََهٌ مَعَ اللََّهِ} وهل تقدم ما يوجب اختصاص ذلك به دون غيره؟
الجواب: أن يقال قوله تعالى: {خَيْرٌ أَمََّا يُشْرِكُونَ} بنيت عليه هذه الآيات
__________
(1) سورة: النحل، الآية: 81.
(2) سورة: النمل، الآيات: 6459.(1/233)
وتكلم أهل النظر في قولك: هذا أفضل من هذا، وهذا خير من هذا، فقال بعضهم يقال في الخير الذي لا شر فيه والشر الذي لا خير فيه إذا كان يتوهم بعض الجهال الأمر على خلاف ما هو به هذا الخير: خير من الشر، وأنكر على من خالف هذا وعلم ذلك عند أهل الأعراب، وهو: أن الأصل في باب أفعل من كذا للتفضيل، فإذا قيل: هذه الأسطوانة أطول من تلك، فقد وصفها بالطول، إلا أنه يزيد في طول إحداهما على طول الأخرى، وألزم أفعل من ابتداء الغاية، كأن المعنى ابتداء زيادة طولها منتهى الأسطوانة الأخرى، فلا يقال: أفعل من كذا إلا والمفضل عليه فيه ذلك المعنى الذي زاد به المفضل عليه فأما قوله تعالى بعد وصف النار: {إِذََا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكََانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهََا تَغَيُّظاً وَزَفِيراً} (1) إلى قوله: {وَادْعُوا ثُبُوراً كَثِيراً} (2) {قُلْ أَذََلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ} (3)، ولا خير في الأول فإنما المعنى أن هؤلاء الكفار يحرصون على ما يكسبهم النار كأنهم يرونها خيرا لهم، ثم وصف ما يختارونه بصفته، وأتبعه الخير الذي لا شر فيه، فقال: فعلكم فعل من يرى النار خيرا له من الجنة فانظروا هل هي كذلك أم لا؟ وكذلك قوله: {فَمََا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النََّارِ} (4) أي: يتعرضون لها، ويكتسبونها، ففعلهم فعل من يصبر عليها، وكذلك قوله: {آللََّهُ خَيْرٌ أَمََّا يُشْرِكُونَ}، أي: هم مشغولون بعبادة الأوثان عن عبادة الرحمن، وفعلهم ينبئ أنها تنفعهم فوق ما ينفعهم خالقهم، فكأنهم قالوا: إن تلك أنفع لهم منه تبارك وتعالى، ثم قررهم فقال: آلله أنفع لكم أم الأوثان؟ وفصل عظم المنافع التي أنعم الله بها ولم يشاركه غيره فيها فقال:
{أَمَّنْ خَلَقَ السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمََاءِ مََاءً} أي: إذا اعترفتم بأن الله سنى لكم المصالح، ويسر لكم المنافع، وخلق السموات والأرض اللتين بهما أمسك الخلق، وأنزل المطر من فوق، وأنبت به قوام الناس من تحت من بساتين ذوات المناظر الحسنة سوى المآكل الطيبة، ثم قال: {أَإِلََهٌ مَعَ اللََّهِ} أي: أيحتاج من يفعل هذا إلى عضد ومعين؟ بل الكفار قوم يعدلون عن الحق، وقيل: يعدلون بمن يفعل هذا غيره، تعالى الله عن ذلك، فهذا موضع، {بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ} لأن أول الذنوب: العدول عن الحق وقبوله وأن يثبت إلها مع الله، تعالى الله، فيعدله به، وقوله: {أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرََاراً} (5) وصف ما أظهره الله من قدرته في البر والبحر مما به إمساك الأرض، ثم قال: {أَإِلََهٌ مَعَ اللََّهِ} أي: أمع الله من يفعل مثل فعله، بل أكثرهم لا يعلمون ما لهم
__________
(1) سورة: الفرقان، الآية: 12.
(4) سورة: البقرة، الآية: 175.
(2) سورة: الفرقان، الآية: 14.
(5) سورة: النمل، الآية: 61.
(3) سورة: الفرقان، الآية: 15.(1/234)
في عبادة الله تعالى وإخلاصها، وما عليهم في إشراك غيره فيها أي: لو علموا ما تنتهي إليه عواقب هذين لما عدلوا عما هو لهم أنفع إلى ما هو لهم، أضر وهذا مكانه بعد قوله: {بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ}، وقوله بعد ذلك: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذََا دَعََاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفََاءَ الْأَرْضِ أَإِلََهٌ مَعَ اللََّهِ قَلِيلًا مََا تَذَكَّرُونَ} (1)
ذكرهم بما لا يكاد يخلو منه أحد إذا دفع إلى شدة واضطر إلى الانقطاع إلى الله تعالى فدعاه وكشف شدته، وقوله: {وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفََاءَ الْأَرْضِ} أي: يقيم المظلوم مقام الظالم في أرضه، ويجعل من في العصر الثاني خلفا ممن في العصر من قبله، وهذا موضع ينسى فيه الإنسان سالف شدته براهن نعمته فقال: قليلا تذكركم ما مر في ذكركم من بلائكم وشركم، وهذا موضع يليق به ما جاء فيه وهو {قَلِيلًا مََا تَذَكَّرُونَ}، وقوله: {أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمََاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيََاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلََهٌ مَعَ اللََّهِ تَعََالَى اللََّهُ عَمََّا يُشْرِكُونَ} (2) قوله: {يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمََاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} معناه: ينجيكم منها بهدايته، وما نصب لكم من آياته بالنجوم التي تعولون عليها في الماء وفي البر إذا لم تهتدوا في الظلمات وهو مثل قوله: {قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمََاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجََانََا مِنْ هََذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشََّاكِرِينَ قُلِ اللََّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهََا وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ} (3) فلما كانت هدايته في البر وتسييره جواري الفلك بالريح ضم إليه الريح الأخرى المبشرة بالقطر، فلما ختم الآية التي هي في معناها بقوله:
{ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ} ختم هذه بقوله: {تَعََالَى اللََّهُ عَمََّا يُشْرِكُونَ} لأن المذكورين في هذه الآية هم المذكورون في تلك وأما قوله: {أَمَّنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمََاءِ وَالْأَرْضِ أَإِلََهٌ مَعَ اللََّهِ قُلْ هََاتُوا بُرْهََانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صََادِقِينَ} (4) أي: من لابتداء كونكم وهو خلقكم ومن لانتهائه وهو بعثكم لمجازاتكم «ومن» للحال المتوسطة بين هذين، وهو حفظ حياتكم بأقواتكم وأرزاقكم من السماء والأرض أإله مع الله هاهنا من يعدل رب العالمين، هلموا برهانكم وما يظهر في النفوس أن ما تقولونه حق وأن ما عداه باطل، فإنكم لا تقدرون إلا على ضده مما يدل على أن ما تقولونه باطل وما عداه مما تخالفونه حق، فقد بان ووضح أن كل خاتمة لائقة بمكانها والسّلام.
__________
(1) سورة: النمل، الآية: 62.
(3) سورة: الأنعام، الآيتان: 63، 64.
(2) سورة: النمل، الآية: 63.
(4) سورة: النمل، الآية: 64.(1/235)
28 - سورة القصص
الآية الأولى منها
قوله تعالى: {وَمََا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتََاعُ الْحَيََاةِ الدُّنْيََا وَزِينَتُهََا وَمََا عِنْدَ اللََّهِ خَيْرٌ وَأَبْقى ََ أَفَلََا تَعْقِلُونَ} (1) وقال في حم عسق: {فَمََا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتََاعُ الْحَيََاةِ الدُّنْيََا وَمََا عِنْدَ اللََّهِ خَيْرٌ وَأَبْقى ََ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى ََ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} (2).
للسائل أن يسأل في هذا المكان عن مسألتين.
إحداهما: {وَمََا أُوتِيتُمْ} في الأولى بالواو، وفي الثانية بالفاء، وما الذي خصص كل مكان بما جاء فيه.
والثانية: قوله تعالى في الأولى: {فَمَتََاعُ الْحَيََاةِ الدُّنْيََا وَزِينَتُهََا}، فذكر الزينة في الأولى، ولم يذكرها في الأخرى.
الجواب عن ذلك أن يقال: هذه الآية جاءت بعد قوله: {وَمََا كُنََّا مُهْلِكِي الْقُرى ََ إِلََّا وَأَهْلُهََا ظََالِمُونَ} (3)، ثم خاطب الذين أوعدهم بمثل ما أهلك به من قبلهم، وأنه ليس لكم فيما تؤتونه في الدنيا عوض مما يفوتكم في الأخرى لأن جميع ذلك لا ينفك مما تنتفعون به انتفاعا منقطعا، وإن تطاول أمده، أو تتزينون به، فجميع أغراض الدنيا مستوعب بهذين اللفظين، إما ما لا يستغني عنه الحي من مأكول ومشروب وملبوس ومنكوح، ويرى العاقل المتعة بها قليلة وإن كانت طويلة لانقطاعها بالموت وانتهائها إلى حسرة الفوت، وإما ما لا حاجة به إليه من فضول العيش مما يتزين به من الملابس الفاخرة، والآلات الحسنة، والدور المزوقة المنجدة والخيل والبغال والحمير، ما ركب منها للحاجة إليها، وما
__________
(1) سورة: القصص، الآية: 60.
(2) سورة: الشورى، الآية: 36.
(3) سورة: القصص، الآية: 59.(1/236)
اتخذ زينة يتجمل عند الأكفاء بها، فما كان محتاجا إليه فهو متاع أيام قليلة، وما فضل عن ذلك فهو ما يقتنى لعدة وزينة، والدليل على أن الخطاب خارج على هؤلاء وإن صلح عظة لجميع الناس التفصيل الذي جاء بعده في قوله: {أَفَمَنْ وَعَدْنََاهُ وَعْداً حَسَناً فَهُوَ لََاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْنََاهُ مَتََاعَ الْحَيََاةِ الدُّنْيََا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيََامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ} (1). أي: يحضرون العقاب لتقدم ذكر من يعطي الثواب، فلم يكن لعطف هذه الجملة على الجملة المتقدمة غير الواو، إذ لا معنى هاهنا من معاني الفاء وأما ذكر زينتها فلاستيعاب جميع ما بسط فيه الرزق للكفار والآية الثانية قبلها: {وَمََا أَصََابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمََا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ} (2) ولفظ ذلك عام، ومعناه خاص إذ كانت المصائب تصيب من لم يذنب ولا عقاب عليه، فالمراد به: بعض المصابين وبعض المصائب ثم تبعه قوله: {وَمِنْ آيََاتِهِ الْجَوََارِ فِي الْبَحْرِ} (3) إن يشأ يفعل، أو لا يفعل أي: إن شاء أنجى أهلها، وإن شاء أهلكهم بذنوبهم، وقد لا يهلكهم فيعفو عمن يستحق العفو، ويمهل من علم منه الصلاح {الَّذِينَ يُجََادِلُونَ فِي آيََاتِنََا} (4) وهم الكفار، يعلمون وهم في السفن أنهم لا منجى لهم إلا بالله ولطفه ثم خاطبهم، فقال: وإن أوتيتم السلامة ورزقتم بعدها العافية، فذلك قليل البقاء، وإن امتد أياما، فليس القصد في هذا المكان استيعاب جميع ما يتوهم في دنياهم، بل هو مطلوبهم في تلك الحال من النجاة والأمن في الحياة، فلم يحتج إلى ذكر الزينة ولم يكن إلا موضع الفاء لأن تعلق ما بعدها بقوله: {وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجََادِلُونَ فِي آيََاتِنََا مََا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ} (5) أي: يغلب على ظنونهم ذلك، فإن أنجاهم الله وأعطاهم مرادهم في تلك الحال، فإن ذلك سريع الزوال عنهم قليل البقاء معهم، والذي أعده الله تعالى للمؤمنين خير وأبقى، ثم وصف المؤمنين بصفات ترغبهم في الكون عليها في قوله:
{وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبََائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوََاحِشَ} (6) إلى آخر القصة، كما زهدهم في التمسك بالدنيا الفانية، فالمراد بما يؤتونه إنما هو مطلوبهم من السلامة والنجاة من تلك الهلكة، والأمن من أمثالها من الورطات، وذلك عقيب ما أشرفوا عليه من الغرق، ولا موضع لهذا الكلام يحسن غير العطف على ما قبله بالفاء لأنه عقب ما نالهم من المخافة بما أوتوه من الأمنة وحال السلامة إلى سائر ما لله من النعمة، فقد تضمن ما ذكرنا الجواب عن المسألتين.
__________
(1) سورة: القصص، الآية: 61.
(4) سورة: الشورى، الآية: 35.
(2) سورة: الشورى، الآية: 30.
(5) سورة: الشورى، الآية: 35.
(3) سورة: الشورى، الآية: 32.
(6) سورة: الشورى، الآية: 37.(1/237)
الآية الثانية منها
قوله تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللََّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً إِلى ََ يَوْمِ الْقِيََامَةِ مَنْ إِلََهٌ غَيْرُ اللََّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيََاءٍ أَفَلََا تَسْمَعُونَ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللََّهُ عَلَيْكُمُ النَّهََارَ سَرْمَداً إِلى ََ يَوْمِ الْقِيََامَةِ مَنْ إِلََهٌ غَيْرُ اللََّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلََا تُبْصِرُونَ} (1).
للسائل أن يسأل: عن تقديم الليل على النهار، وأنه لو قدم النهار هل كان على مقتضى الحكمة؟ وقوله عقيب هذا {أَفَلََا تَسْمَعُونَ} وعقيب الآخر {أَفَلََا تُبْصِرُونَ}؟
الجواب عن ذلك أن يقال: إن نسخ الليل بالنهار الأعظم أبلغ في المنافع بما ضمن من المصالح من نسخ النهار بالليل، ألا ترى أن الجنة نهارها دائم لا ليل معه لأن الليل في دار التكليف للاستراحة والاستعانة بالجمام والراحة على ما يلزم من الكلف المتعبة، والمشاق المنصبة، ودار النعيم يستغنى فيها عن ذلك لأنها مقصورة على نيل المشتهى، وعلى ما تلتذ به النفس وتهوى. فتقديم ذكر الليل لانكشافه عن النهار الذي يمكّن من التصرف في المعايش والسعي في المصالح إلى ما لا يحصى كثرة من المنافع المتعلقة بالشمس أحق وأولى وقوله: {أَفَلََا تَسْمَعُونَ} أي: أفلا تسمعون سماع من يتدبر المسموع ليستدرك منه قصد القائل، ويحيط بأكثر ما جعل الله في النهار من المنافع، أم أنتم صمّ عن سماع ما ينفعكم، وقوله: {يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلََا تُبْصِرُونَ}
أي: أفلا تستدركون من ذلك ما يجب استدراكه، فإن عقيب السماع استدراك المراد بالمسموع إذا كان هناك تدبر له وتفكر فيه ولم يجعله السامع دبر أذنه.
__________
(1) سورة: القصص، الآيتان: 71، 72.(1/238)
29 - سورة العنكبوت
الآية الأولى منها
قوله تعالى: {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسََانَ بِوََالِدَيْهِ حُسْناً وَإِنْ جََاهَدََاكَ لِتُشْرِكَ بِي مََا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلََا تُطِعْهُمََا إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمََا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} (1) وقال في سورة لقمان (2): {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسََانَ بِوََالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلى ََ وَهْنٍ وَفِصََالُهُ فِي عََامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوََالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ وَإِنْ جََاهَدََاكَ عَلى ََ أَنْ تُشْرِكَ بِي مََا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلََا تُطِعْهُمََا وَصََاحِبْهُمََا فِي الدُّنْيََا مَعْرُوفاً وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنََابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمََا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} وقال في سورة الأحقاف (3): {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسََانَ بِوََالِدَيْهِ إِحْسََاناً حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً وَحَمْلُهُ وَفِصََالُهُ ثَلََاثُونَ شَهْراً حَتََّى إِذََا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قََالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى ََ وََالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صََالِحاً تَرْضََاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ}.
للسائل أن يسأل عن اختلاف هذه الآيات الواردة في الوصاة بالإحسان إلى الوالدين والبر بهما إلا إذا دعوا إلى الشرك وبعثا على الكفر، وعن موقعها، وهل كان يصلح إحداها مكان الأخرى؟
الجواب أن يقال: أما موقع هذه الآية من سورة العنكبوت، فمشبه مواقع الآيات التي قبلها والتي بعدها، وذلك أنه أجمل فيها الإحسان لقوله: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصََّالِحََاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئََاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كََانُوا يَعْمَلُونَ} (4) اشتمل هذا على جميع معاملة المؤمنين في الدنيا والآخرة وهي في الدنيا إيمانهم وصالحات أعمالهم التي يكفر بها السيئات، فلا يؤاخذ بها من ضمن جزائه على أحسن عمله، وهو طاعة الله
__________
(1) سورة: العنكبوت، الآية: 8.
(3) الآية: 15.
(2) الآيتان: 14، 15.
(4) سورة: العنكبوت، الآية: 7.(1/239)
تعالى التي أخلصها له، ولم يقصد أن يعملها خلقه ثم قال: {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسََانَ بِوََالِدَيْهِ حُسْناً} (1) أي: ألزمناه حسنا في أمر والديه وقياما بحقوقهما عليه، ثم قال: وإن أراداك على الشرك فلا طاعة عليك لهما، فهذه جملة لم تتضمن ذكر السبب الذي أكد الحق بل اقتصر فيها على ما لا غنى عن علمه، ولا يعذر أحد في جهله، وأما الآية في سورة لقمان فإنها ذكرت بعد ما حكى الله تعالى عن لقمان من وصية ابنه إذ يقول: {يََا بُنَيَّ لََا تُشْرِكْ بِاللََّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} (2)، فذكر الله تعالى عقيب ذلك وصية الإنسان بهما ونبّه على السبب الذي له عظم حقهما فقال: {حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلى ََ وَهْنٍ} أي:
ضعف حمل مضافا إلى ضعف المرأة، وقيل: ضعفا يتزايد على ضعف كما يتزايد ثقل الجنين، وأرضعته عامين، وهذان وإن انفردت بهما الأم فإن الأب يتحمل الشدائد في القيام بأمر الأم والولد حتى يقدر على تربيته، وربما ضيّق على نفسه فيما يصرف إليهما من نفقته، فقال: {أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوََالِدَيْكَ}، والمعنى: ووصيناه بأن اشكر لي ولوالديك، وأن بمعنى «أي» وهو تفسير الوصية والتنبيه على عظم النعمة، ووجوب شكر الله على قدر ما أولاه، إذ كان هو خلقه وسوى أعضاءه، ونفخ الروح فيه، وأنعم عليه قبل استحقاقه، ثم عرضه النعمة الشريفة والدرجة العلية، وشكر بعض ذلك يستغرق الجهد ويفني الطوق، فأما شكر الوالدين، فهو أن يحسن إليهما ويبرهما ويكرمهما ويطيعهما، إلا إذا أمراه بمعصية الله تعالى، فتسقط عنه طاعتهما لأنه مع إسقاط حق الخالق لا يثبت حق الوالدين لأن الله تعالى عقد شكرهما بشكره، فإذا دعواه إلى معصيته، فقد أبطلا به شكره، فانحل شكرهما المعقود معه، وقيل: إن هذه الآية نزلت في سعد بن مالك وهو سعد بن أبي وقاص، وروي عنه أنه قال: «كنت برا بأمي، فلما أسلمت قالت لي: يا سعد ما هذا الدين الذي أراك قد أحدثت، والله لا آكل ولا أشرب، حتى أموت فتعير بي فيقال: قاتل أمه، فلم تأكل ولم تشرب يوما وليلة فأصبحت وقد جهدت، فلما كانت القابلة لم تأكل ولم تشرب فأصبحت وقد اشتد جهدها، فقلت لها: يا أمه تعلمين والله لو كان لك سبعون نفسا، فخرجت نفسا نفسا ما تركت ديني هذا لشيء، فلما رأت ذلك أكلت وشربت، فأنزل الله هذه الآية فيّ»، فهذه الآية قد تضمنت من البيان والتفصيل ما لم تتضمنه الأولى لأن تلك مذكورة مع الحمل، وهذه مذكورة لقصة مشروحة فيما بين آيات تضمنت الواجبات والمستحسنات فيما حكى الله عز اسمه في وصية لقمان لابنه، ثم كان في ذكر
__________
(1) سورة: العنكبوت، الآية: 8.
(2) سورة: لقمان، الآية: 13.(1/240)
أب وصى ابنه بمجانبة الشرك، وقرن إليه ما كان من خلاف ابن لأم بعثته جهدها على الكفر، ومما روي عن لقمان في معنى الوصية أنه قال: يا بني إن الله رضيني لك، فلم يوصني بك، ولم يرضك لي فأوصاك بي، وهذا كلام شريف له وقع كبير ذكرناه ليتدبر معناه.
وأما الآية الثالثة: فإنها وردت فيمن أوصي بوالديه وهما مؤمنان لا يمنعانه عن الإيمان، وهو من طاب نفسا وأصلا ورغب إلى الله أن يطيب فرعا لأنه قال تعالى حكاية عنه: {رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى ََ وََالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صََالِحاً تَرْضََاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي} (1) وبعد هذه الآية ذكر ولد كافر استغاث الله والداه لإصراره على كفره ولما أعياهما من مداراة أمره فأما قوله: {وَحَمْلُهُ وَفِصََالُهُ ثَلََاثُونَ شَهْراً} (2) فالمراد: أقل حمله وهو ستة أشهر.
ويروى أن عثمان بن عفان رضى الله عنه أتي بامرأة ولدت لستة أشهر، فشاور الناس في رجمها فقال ابن عباس رضى الله عنه: إن خاصمتكم إلى كتاب الله خصمتكم، قال الله تعالى:
{وَالْوََالِدََاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلََادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كََامِلَيْنِ}، وقال: {وَحَمْلُهُ وَفِصََالُهُ ثَلََاثُونَ شَهْراً}، فالحمل ستة أشهر، والفصال عامان، فخلى سبيلها وأما معنى قوله: {وَفِصََالُهُ فِي عََامَيْنِ}
أي: في انقضاء عامين لأن الفصال هو الفطام: إذا فصل الولد عن الأم، فكانت الوصية الأولى في سورة العنكبوت وصية مجملة عامة للناس، والثانية فيمن منعه أحد والديه عن الإيمان، والثالثة فيمن آمن وآمن أبواه، وسأل الله أن يصلح أولاده، وكان هذا مذكورا مع آية في ذكر ولد كافر يجتهد والداه في دعائه إلى الإيمان، والثالث في مؤمن أبواه مؤمنان، والثاني في مؤمن أحد أبويه يمنعه من الإيمان، فالأول عام كما ترى، وقد استوعبت القصة ما يحتاج إلى ذكره في دعاء من يدعو ولده إلى كفره.
الآية الثانية من سورة العنكبوت
قوله تعالى: {وَمََا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلََا فِي السَّمََاءِ وَمََا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللََّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلََا نَصِيرٍ} (3) وقال في سورة حم عسق (4):
__________
(1) سورة: الأحقاف، الآية: 15.
(3) سورة: العنكبوت، الآية: 22.
(2) سورة: الأحقاف، الآية: 15.
(4) الآيتان: 31، 32.(1/241)
{وَمََا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمََا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللََّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلََا نَصِيرٍ وَمِنْ آيََاتِهِ الْجَوََارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلََامِ}.
للسائل أن يسأل عن فائدة قوله: {وَلََا فِي السَّمََاءِ} في سورة العنكبوت والاقتصار على ذكر الأرض في هذه، وهل كان يصلح أحدهما مكان الآخر؟
الجواب أن يقال: إن الآية التي في سورة العنكبوت تحكي قول إبراهيم عليه السّلام لكفار قومه وفيهم نمرود بن كنعان الذي حاجّه، وفي كثير من الأخبار أنه رام الصعود إلى الجو يوهم أنه يحاول السماء كما قال فرعون لهامان في بناء الصرح ما حكاه الله تعالى في كتابه في موضعين، فقال لهم إبراهيم عليه السّلام: لا تفوتون الله في الأرض كنتم أو في السماء، ولا سبيل لكم إليها كما قال الله تعالى: {يََا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطََارِ السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لََا تَنْفُذُونَ إِلََّا بِسُلْطََانٍ} (1). وأما الآية في سورة حم عسق (2) فإنها بعد قوله: {وَمََا أَصََابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمََا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ} وهذا عام في المصائب والمراد به الخصوص لأنه ليس مصيبة مستحقة باجترام إذ قد يصاب من لا جرم له، ومن لم يبلغ حد التكليف، فيجب عقابه على ذنب يكون منه، والمخاطبون مخصوصون بالمعنى وإن عموا باللفظ، وقوله: {وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ} أي:
عن ذنوب يتجاوز عنها ولا يؤاخذ بها، ولا يكون ذلك للكفار لأن العفو مبذول لمستحقه، وإذا صح أن هذا الخطاب متوجه على المسلمين وتبعه قوله: {وَمََا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمََا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللََّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلََا نَصِيرٍ} (3) علم أنه وعيد لهم، وليسوا من القوم الذين يخاطبون بقوله: {وَلََا فِي السَّمََاءِ}، ومعناه: لا تسلكون مسلكا تلتجئون إليه من عقاب الله إذا وجب عليكم، وقد جاء هذا بغير لفظ الأرض والسماء وهو قوله: {وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هََؤُلََاءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئََاتُ مََا كَسَبُوا وَمََا هُمْ بِمُعْجِزِينَ} (4)
فيكون هذا مطلقا في كل ملجأ ومهرب. وقد قيل في قوله: {وَمََا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلََا فِي السَّمََاءِ} أي: لا تفوتون من في الأرض من الإنس والجن ولا من في السماء يعني: من الملائكة، وهم خلق الله، فكيف تعجزون الخالق تعالى عن ذلك
وقول ثالث وهو أن يكون المراد: لا تفوتون أنفسكم ما يحق من عقاب الله عليكم إن هربتم في الأرض كل مهرب، وإن صعدتم في السماء كل مصعد لو استطعتموه كما قال:
__________
(1) سورة: الرحمن، الآية: 33.
(3) سورة: الشورى، الآية: 31.
(2) الآية: 30.
(4) سورة: الزمر، الآية: 51.(1/242)
{فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّماً فِي السَّمََاءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ} (1) أي:
لا يكون ذلك أبدا، وفي الجواب الأول كفاية في الفرق بين الموضعين، وما يختار لكل واحد منهما.
الآية الثالثة منها
قوله تعالى: {فَمََا كََانَ جَوََابَ قَوْمِهِ إِلََّا أَنْ قََالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنْجََاهُ اللََّهُ مِنَ النََّارِ إِنَّ فِي ذََلِكَ لَآيََاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} (2) وقال بعده: {خَلَقَ اللََّهُ السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنَّ فِي ذََلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ} (3).
للسائل أن يسأل فيقول: قال في إنجاء إبراهيم عليه السّلام من النار: {إِنَّ فِي ذََلِكَ لَآيََاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ}، وقال في خلق السموات والأرض: {إِنَّ فِي ذََلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ} فوحّد الآية هنا وجمعها هناك. والآيات في خلق السموات والأرض أكثر منها في تخليص إبراهيم عليه السّلام من النار.
الجواب أن يقال: إذا أخبر الله تعالى عن المؤمنين في كتابه فهو متناول من كان في عصر النبي صلّى الله عليه وسلم وهم محدودون، وإذا قال: {إِنَّ فِي ذََلِكَ لَآيََاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ}، فهو لأقوام لم يتناهوا، فكل من يؤمن إلى يوم القيامة منهم وداخل فيهم، ولكل دلالة وأمارة بينة فجمعت لعدتهم التي لم تتناه، ولما قال في خلق السموات والأرض آية للمؤمنين وهم جماعة واحدة محصور عددهم والآية الواحدة تجمعهم باين الخبر عنهم الخبر عمن وجد وعمن لم يوجد أكثرهم، فاختلفت بهم الدلالات وجمعت لهم الآيات لانتشار أعدادهم وتباين أمدادهم، فاختلف الموضعان لذلك.
الآية الرابعة منها
قوله تعالى: {وَمََا يَجْحَدُ بِآيََاتِنََا إِلَّا الْكََافِرُونَ وَمََا كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتََابٍ وَلََا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لَارْتََابَ الْمُبْطِلُونَ بَلْ هُوَ آيََاتٌ بَيِّنََاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمََا يَجْحَدُ بِآيََاتِنََا إِلَّا الظََّالِمُونَ} (4).
__________
(1) سورة: الأنعام، الآية: 35.
(3) سورة: العنكبوت، الآية: 44.
(2) سورة: العنكبوت، الآية: 24.
(4) سورة: العنكبوت، الآيات: 4947.(1/243)
للسائل أن يسأل: عن تسمية الجاحدين في الآية الأولى بالكافرين، وفي الثانية بالظالمين، وأولئك ظالمون كما أن هؤلاء كافرون فلماذا اختصاص الأولى بتلك الصفة والثانية بهذه الصفة؟
الجواب: أن من جحد آيات الله فقد كفر نعمته وهذا أول ما يفعله لأن ذلك متعلق بما قبله ممن تولى خلقه وأنعم عليه بما استوجب به شكره، فأول فعله كفر نعم الله، ثم إنه مسيء إلى نفسه ظالم بأن أبدلها من النعيم الذي عرض له عذابا لا يطيقه، فكفره أول في الذكر، وظلمه ثان لأنه فوت نفسه عظيم الأجر آخرا في العمل، فقدم الكافرين على الظالمين لذلك.
الآية الخامسة منها
قوله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصََّالِحََاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفاً تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهََارُ خََالِدِينَ فِيهََا نِعْمَ أَجْرُ الْعََامِلِينَ الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلى ََ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} (1)
وقال في سورة آل عمران (2): {أُولََئِكَ جَزََاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنََّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهََارُ خََالِدِينَ فِيهََا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعََامِلِينَ}.
للسائل أن يسأل عن اختصاص ما في سورة آل عمران بالواو في قوله: {وَنِعْمَ}
وإخلائها في سورة العنكبوت منها.
الجواب أن يقال: إن الآية من سورة آل عمران مبنية على تداخل الأخبار لأن أولها: {أُولََئِكَ جَزََاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنََّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهََارُ خََالِدِينَ فِيهََا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعََامِلِينَ}، ف «أولئك» مبتدأ «وجزاؤهم» مبتدأ ثان، «ومغفرة» خبر المبتدأ الثاني، وهو مع خبره خبر المبتدأ الأول، والجزاء: هو الأجر فكأنه قال: أولئك أجرهم على أعمالهم محو ذنوبهم وإدامة نعيمهم، وهذا الأجل مفضل على كل أجر يعطاه عامل على عمله، فنسقت الأخبار بعضها على بعض للتنبيه على النعم التي هدفت لرجاء الراجين، وأكملت بها منية المتمنين، والخبر إذا جاء بعد خبر في مثل هذا المكان الذي تفضل فيه المواهب المرغب فيها، فحقه أن يعطف على ما قبله بالواو، وكقولك: هذا الجزاء كذا وكذا أي: هو ترك المؤاخذة بالذنب، والتنعيم في جنة الخلد، وتفضيله على
__________
(1) سورة: العنكبوت، الآيتان: 58، 59.
(2) الآية: 136.(1/244)
كل جزاء جوزي به عامل، وذلك تشريف وكرامة وأما الآية التي في سورة العنكبوت فإن ما قبلها مبني على أن يدرج الكلام فيه على جملة واحدة وهي: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصََّالِحََاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفاً} فقوله: {الَّذِينَ آمَنُوا} مبتدأ وقوله:
{لَنُبَوِّئَنَّهُمْ} في موضع خبره فهذا الخبر يتصل به مفعولان الأول: هم، والثاني قوله:
غرفا، وغرفا نكرة موصوفة بقوله: {تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهََارُ} وقوله: {خََالِدِينَ فِيهََا}
حال من التبوء، فلما جعلت هذه الأشياء كلها في درج كلام واحد وهو جملة ابتداء، وخبر، واحتمل قوله: {نِعْمَ أَجْرُ الْعََامِلِينَ} أن يجيء بالواو وأن يجيء من دونها اختير مجيئها بغير واو ليشبه ما تقدم من عقد بخبر لا على سبيل عطف ونسق، ويحتمل أن يكون في موضع خبر مبتدأ، فكأنه قال: ذلك نعم أجر العاملين، ويكون قوله «ذلك» إشارة إلى ما ذكر الله تعالى من إسكانهم الجنة، فيجري بلا واو مجرى ما هو من تمام الكلام الأول كقوله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصََّالِحََاتِ فِي رَوْضََاتِ الْجَنََّاتِ لَهُمْ مََا يَشََاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذََلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ ذََلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللََّهُ عِبََادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصََّالِحََاتِ} (1) فقوله: {ذََلِكَ} وإن انقطع عن الأول في اللفظ فإنه متصل به من طريق المعنى، وكأنه قال: لهم ما يشاءون عند ربهم مشار إليه بأنه الفضل الكبير وقوله:
{نِعْمَ أَجْرُ الْعََامِلِينَ} أي: ذلك نعم أجر العاملين مشار إليه بالتفضيل على أجور العاملين، وإذا كان الأمر على ما ذكرنا في الآيتين لم يلق بكل واحدة منهما إلا ما جاءت به فاعرفه.
الآية السادسة من سورة العنكبوت
قوله تعالى: {اللََّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشََاءُ مِنْ عِبََادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللََّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (2) وقال في سورة القصص (3): {وَيْكَأَنَّ اللََّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشََاءُ مِنْ عِبََادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلََا أَنْ مَنَّ اللََّهُ عَلَيْنََا} وقال في سورة حم عسق: {لَهُ مَقََالِيدُ السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشََاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (4) وكذلك في سورة الرعد (5): {اللََّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشََاءُ وَيَقْدِرُ وَفَرِحُوا بِالْحَيََاةِ الدُّنْيََا}.
للسائل أن يسأل عن الآية الأولى، وتخصيصها بالذكر بقوله: {مِنْ عِبََادِهِ وَيَقْدِرُ}
من دون قوله: «له» عن الأخريين ومجيئهما من اللفظتين عاريتين، وهما «من عباده» «وله».
__________
(1) سورة: الشورى، الآيتان: 22، 23.
(4) سورة: الشورى، الآية: 12.
(2) سورة: العنكبوت، الآية: 62.
(5) الآية: 26.
(3) سورة: القصص، الآية: 82.(1/245)
الجواب عن ذلك أن يقال: أما الأولى في سورة العنكبوت فإنها جاءت بعد قوله:
{وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لََا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللََّهُ يَرْزُقُهََا وَإِيََّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} (1) فلما ذكر: أن الله تعالى هو رازق جميع الحيوانات ما ادخر منها كالنمل، وما لم يدخر كالطير تغدو خماصا وتروح بطانا، فبيّن الله أنه كما كان في غيرنا من الحيوان ما هو موسع عليه، وما هو مضيق عليه كذلك الأمر فينا ثم قال: {اللََّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشََاءُ مِنْ عِبََادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ} وكان بعد القسمة الأولى من يبسط له الرزق في حال، ويضيق عليه في أخرى فقال: {اللََّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشََاءُ مِنْ عِبََادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ} فالهاء في «له» ترجع إلى ما شاء من عباده، ومن يشاء مفعول ببسط، فكان من يقدر له هو من يبسط له في وقتين مختلفين، فاقتضى هذا المكان اللفظ الذي جاء فيه بالمعنى الذي هو غير الأول من جمع البسط والقبض لواحد في حالين، وكذلك قوله: {قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشََاءُ مِنْ عِبََادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَمََا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ} (2)، وأما قوله في سورة القصص (3): {وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكََانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللََّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشََاءُ مِنْ عِبََادِهِ وَيَقْدِرُ} والمعنى: انتبهوا لأن الله يوسع الرزق لمن يشاء لا لكرامته كما وسع على قارون، ويضيقه على من يشاء لا لهوانه كما ضيق على كثير ممن آمن به، ثم قال تعالى حكاية عنهم: {لَوْلََا أَنْ مَنَّ اللََّهُ عَلَيْنََا لَخَسَفَ بِنََا} (3) أي: لولا منّ الله علينا بأن صرف عنا الغنى الذي يقع الكفر معه لكفرنا نحن مثل كفره، ولخسف بنا كما خسف به فقوله: {لِمَنْ يَشََاءُ مِنْ عِبََادِهِ وَيَقْدِرُ} أي: يبسط الرزق لمن يشاء بسطه له، ويقدر لمن يشاء قدره عليه، فأضمر الفعل الثاني مثل ما تعدى إليه الفعل الأول وهو «من يشاء» لعلم المخاطب به، وأنه في المعنى غير الأول وإن كان في اللفظ مثله وأما الآيتان في سورة حم عسق وسورة الرعد، فإنهما مقصورتان على ذكر البسط والقبض فحسب، والتي في الرعد (5) جاءت مع قوله: {وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللََّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثََاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مََا أَمَرَ اللََّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولََئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدََّارِ اللََّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشََاءُ وَيَقْدِرُ وَفَرِحُوا بِالْحَيََاةِ الدُّنْيََا} وفيه دليل على أنهم موسع عليهم في الرزق لقوله: {وَفَرِحُوا بِالْحَيََاةِ الدُّنْيََا} ولما قال لهم {سُوءُ الدََّارِ} أي: وسع عليهم في الدنيا ليس لكرامتهم، وأن من ضيق عليه فيها ليس ذاك لهوانه، فاقتضى المكان هذا لأجل المعنى، ووقع اختصار في اللفظ في الفصل الثاني لأن ما تعدى إليه مثل ما
__________
(1) سورة: العنكبوت، الآية: 60.
(3) الآية: 82.
(2) سورة: سبأ، الآية: 39.
(5) الآيتان: 25و 26.(1/246)
تعدى إليه المفعول الأول من المذكور بعده وكذلك قوله في سورة حم عسق: {لَهُ مَقََالِيدُ السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشََاءُ وَيَقْدِرُ} أجمل القول في التوسعة والتضييق، لما أخبر أنه خلق لنا من أنفسنا أزواجا أي: من أجناسنا أشكالا ذكورا وإناثا ومن الأنعام مثلها، فإنه ينشئنا في هذا الخلق، فلا يزال الآخر مخلوقا في الأول في ظهور الآباء وبطون الأمهات إلى الوقت المعلوم، وهو يملك أرزاق هذا الجمع من السماء بالمطر والنبت «فواد خطا وواد مطر» على ما يشاء رب العالمين، فتبارك الله أحسن الخالقين.
الآية السابعة من سورة العنكبوت
قوله تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمََاءِ مََاءً فَأَحْيََا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهََا لَيَقُولُنَّ اللََّهُ} (1). وقال في سورة الجاثية (2): {وَاخْتِلََافِ اللَّيْلِ وَالنَّهََارِ وَمََا أَنْزَلَ اللََّهُ مِنَ السَّمََاءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيََا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهََا} وقوله في سورة البقرة (3): {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلََافِ اللَّيْلِ وَالنَّهََارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمََا يَنْفَعُ النََّاسَ وَمََا أَنْزَلَ اللََّهُ مِنَ السَّمََاءِ مِنْ مََاءٍ فَأَحْيََا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهََا}.
للسائل أن يسأل عن الآية من سورة العنكبوت لماذا خصت ب «من» في قوله:
{مِنْ بَعْدِ مَوْتِهََا} وأخلى الموضعان الآخران منها؟
الجواب أن يقال: إن التقرير يؤثر فيه من تحقيق الكلام ما لا يؤثر في غيره، والظروف إذا حدت حققت، تقول: سرت اليوم فإن قلت: من أوله إلى آخره كان الحد تحقيقا لأنه قد يطلق لفظ اليوم وإن ذهبت ساعة أو ساعتان من أوله، وإن بقيت ساعة أو ساعتان من آخره، فإذا وقع الحد زال هذا الوهم، فقوله: {مِنْ بَعْدِ مَوْتِهََا} تحقيق لأنه محدود بمن، وخص به التقرير لأنه من أماكنه، وقوله تعالى في الآيتين الأخيرتين:
{فَأَحْيََا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهََا} ليس فيه تقرير كما كانت الأولى وإن كان يؤدي معنى المحدود إلا أنه ليس له لفظه فاختلف الموضعان بما ذكرت.
الآية الثامنة من سورة العنكبوت
قوله تعالى:
__________
(1) سورة: العنكبوت، الآية: 63.
(3) الآية: 164.
(2) الآية: 5.(1/247)
{وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمََاءِ مََاءً فَأَحْيََا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهََا لَيَقُولُنَّ اللََّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلََّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لََا يَعْقِلُونَ} (1) وقال في سورة لقمان (2):
{وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللََّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلََّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لََا يَعْلَمُونَ}.
للسائل أن يسأل: عن اختصاص الأولى بقوله: {لََا يَعْقِلُونَ} والثانية بقوله:
{لََا يَعْلَمُونَ}.
الجواب أن يقال: إن الأولى في التنبيه على البعث والإحياء بعد الموت، فاستعمل فيه {لََا يَعْقِلُونَ} أي: لا يفهمون عن هذا الفعل مثله وفي مثل هذا يقال: عقلت من كلامه كذا أي: استدركت وفهمت، ومن تنبه على الشيء علمه بعد أن لم يكن منتبها عليه يستعمل فيه مثل فطرته وعقله وإدراكه وشعوره، وإن صحب كل ذلك العلم إلا أنه علم على وصف، وكذلك لما فصل الآيات التي أقامها في السماء والأرض، وفي أصناف الخلق ذكرها في سورة الروم، وعقب بعضها بقوله: {إِنَّ فِي ذََلِكَ لَآيََاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} (3) و {إِنَّ فِي ذََلِكَ لَآيََاتٍ لِلْعََالِمِينَ} (3) و {إِنَّ فِي ذََلِكَ لَآيََاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ} (3) وقال فيما معناه ما ذكرنا: {وَمِنْ آيََاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمََاءِ مََاءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهََا إِنَّ فِي ذََلِكَ لَآيََاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} (6) فخص ذلك بقوله: {يَعْقِلُونَ} دون ما تقدم من الآيات المختومة بغيره من الألفاظ، وليس كذلك الآية من سورة لقمان لأن الكفار فيها مقرّون بأن الله وحده خالق السموات والأرض وهم يعلمون ذلك ويثبتون معه آلهة فكأنهم لا يعلمون، فلذلك قال:
{وَلََكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لََا يَعْلَمُونَ} فإذا عبدوا الأصنام العبادة التي تحق لمن خلق السموات والأرض بإقرارهم، فكأنهم لم يعلموا ما أقروا به وثبت معلوما لهم.
الآية التاسعة منها
إنه حضر ذكرها في سورة العنكبوت بعد الفراغ مما جاء فيها فذكرناها آخرها قوله تعالى في سورة العنكبوت (7): {وَلَمََّا أَنْ جََاءَتْ رُسُلُنََا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ وَضََاقَ بِهِمْ ذَرْعاً وَقََالُوا لََا تَخَفْ وَلََا تَحْزَنْ} فأكد «لما» بأن قرن إليها «أن» وهي في سورة هود (8):
__________
(1) سورة: العنكبوت، الآية: 63.
(6) سورة: الروم، الآية: 24.
(2) الآية: 25.
(7) الآية: 33.
(3) سورة: الروم، الآيات: 2321.
(8) الآية: 77.(1/248)
{وَلَمََّا جََاءَتْ رُسُلُنََا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ وَضََاقَ بِهِمْ ذَرْعاً وَقََالَ هََذََا يَوْمٌ عَصِيبٌ} فلم يؤكد «لما» فيها ب «أن» توكيدها في سورة العنكبوت، وما الفرق بينها وبين ذكرها في سائر القرآن خالية من التوكيد بأن؟
الجواب أن يقال: اقتران «أن» بها في سورة العنكبوت تكملة لمعناها في نفسها ليدل بذلك على أنه قد قارن جوابها متصلا به ما يكمله، ويخلصه لتحقيق أو بطلان، فالتي في سورة العنكبوت قد اتصل بجوابها، {سِيءَ بِهِمْ وَضََاقَ بِهِمْ ذَرْعاً} ما يكمله ويخلصه لبطلان الذرع السابق إليه، ومثله: {فَلَمََّا أَنْ جََاءَ الْبَشِيرُ أَلْقََاهُ عَلى ََ وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيراً} (1) فقوله: {فَأَلْقِهْ} جواب: لما، وقوله متصلا به: {فَارْتَدَّ بَصِيراً} تكملة للجواب وكذلك قول الشاعر:
ولما أن رأيت بني سميط وجوابه في البيت الثاني:
تجللت العصا وتكملته قوله متصلا به:
وعلمت أني رهين مجلس أن يدركوني وكذلك قوله:
فلما أن تنشي قام خرق فهذا جواب «لما»، وبعده ما يدل على أنه عرقب ناقة سمينة له، فكان تكملة لجواب «لما» وهي في قوله في سورة هود لم يتصل بجوابها ما يخلصه لتحقيق أو بطلان إلا في الآية الخامسة عند قوله: {قََالُوا يََا لُوطُ إِنََّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ} (2) فبعد هذا عن الجواب ولم يتصل به ما يكون من تمامه.
__________
(1) سورة: يوسف، الآية: 96.
(2) سورة: هود، الآية: 81.(1/249)
30 - سورة الروم
الآية الأولى منها
قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كََانَ عََاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كََانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثََارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهََا أَكْثَرَ مِمََّا عَمَرُوهََا} (1) وقال في سورة فاطر (2): {أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كََانَ عََاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَكََانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَمََا كََانَ اللََّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمََاوََاتِ وَلََا فِي الْأَرْضِ}.
وقال في سورة المؤمن (3): {أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كََانَ عََاقِبَةُ الَّذِينَ كََانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كََانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثََاراً فِي الْأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللََّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَمََا كََانَ لَهُمْ مِنَ اللََّهِ مِنْ وََاقٍ}. وقال في آخر هذه السورة: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كََانَ عََاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كََانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثََاراً فِي الْأَرْضِ فَمََا أَغْنى ََ عَنْهُمْ مََا كََانُوا يَكْسِبُونَ} (4).
للسائل أن يسأل: عن اختلاف ألفاظ هذه الآيات، واختصاص كل ما خالف منها الآخر بمكانه.
الجواب عن ذلك: أن يقال: أما التي في سورة الروم فإنها وقعت في سورة أجملت فيها القصص في ذكر الآيات، والمواعظ والفرائض، فبنيت هذه الآية على ذلك ألا ترى أن قبلها {أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ مََا خَلَقَ اللََّهُ السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضَ وَمََا بَيْنَهُمََا إِلََّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النََّاسِ بِلِقََاءِ رَبِّهِمْ لَكََافِرُونَ} (5) وقال:
__________
(1) سورة: الروم، الآية: 9.
(4) سورة: غافر، الآية: 82.
(2) الآية: 44.
(5) سورة: الروم، الآية: 8.
(3) الآية: 21.(1/250)
{أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ} إلى قوله: {ثُمَّ كََانَ عََاقِبَةَ الَّذِينَ أَسََاؤُا السُّواى ََ أَنْ كَذَّبُوا بِآيََاتِ اللََّهِ} (1) وقال في تنزيه الله سبحانه وتعالى وتسبيحه في الصلوات: {فَسُبْحََانَ اللََّهِ حِينَ تُمْسُونَ} للصلاتين إذا أمسى {وَحِينَ تُصْبِحُونَ} لصلاة الفجر، {وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا} لصلاة العصر {وَحِينَ تُظْهِرُونَ} (2) لصلاة الظهر، فأجمل القول فيما فسره على لسان الرسول صلّى الله عليه وسلم، فلما كان الموضع موضعا قصد فيه ذكر الجمل قال: {أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كََانَ عََاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} ومعنى «من قبلهم» «وقبلهم» واحد والعامل في الظرف كون محذوف لأن الكون المذكور هو لكيفية العاقبة وهذا لكونهم قبلهم، وقد أظهر في سورة المؤمن حيث قال: {كَيْفَ كََانَ عََاقِبَةُ الَّذِينَ كََانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ} ثم استأنف الإخبار عنهم بأفعال فعلوها قدم ذكر أحدها، ونسق الباقي عليه فقال: {كََانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثََارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهََا أَكْثَرَ مِمََّا عَمَرُوهََا}
إلى آخر أمرهم، فكان حذف الواو الاختيار في هذا المكان لأن التقدير لما قال: {كَيْفَ كََانَ عََاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} صار كأن سائلا سأل فقال: كيف كانوا؟ وبماذا عوملوا؟
فجاء {كََانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً} مجيء الجواب المتضمن لأفعالهم ثم ذكر بعده ما تضمن الجزاء على أعمالهم، وإذا كان كذلك لم يحتج إلى الواو كما احتاج إليها ما في سورة الملائكة لأن تلك تضم ما بعدها إلى ما قبلها، كأنه قال: انظروا كيف أذلوا وكانوا أعز منكم عزة؟ وكيف أضعفوا وكانوا أشد منكم قوة؟ أي: لحقهم ذلك في حال متناهية بهم من أحوال الدنيا فأبدلوا بأحوال غيرها وقبل ذلك {فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلََّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللََّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللََّهِ تَحْوِيلًا} (3) أي ليس الكفار ينتظرون إلا الهلاك المستأصل لهم كما حكم الله به على الأمم قبلهم، والله سنّ ذلك في أمة كل نبي بعده نبي آخر وحكم في هذه الأمة بأن لا تستأصل كما استؤصل غيرها، فلا الأمة التي حكم عليها بالهلاك يبدل حكمه فيها ويجعل مكان الاستئصال الاستبقاء، ولا التي حكم عليها بغير الاجتياح تجتاح فيحول إليها الحكم الذي سنه في غيرها، وهؤلاء الذين بعث على تدبر حالهم هم الذين أهينوا بعد عزة، وأضعفوا بعد قوة فبدلت حالهم، فكأنه قال:
أضعفوا وكانوا أشد منكم قوة، فكان وجه الكلام هنا الواو إذ لم يكن في ابتداء خبر ينسق عليه إخبار يخبر بها عن الكفار كما كان في الآية الأولى.
وأما التي في سورة المؤمنون أولا: فإنها في موضع بسط وشرح، ألا ترى أنها
__________
(1) سورة: الروم، الآية: 10.
(3) سورة: فاطر، الآية: 43.
(2) سورة: الروم، الآيتان: 17، 18.(1/251)
افتتاح قصة موسى عليه السّلام مع فرعون، وفيها نحو ثلاثين آية فاقتضى ذلك في هذه الآية الشرح الذي لم يكن في غيرها فقال: {أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كََانَ عََاقِبَةُ الَّذِينَ كََانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ} فأظهر الكون الذي صار من قبلهم ظرفا له ثم قال: {كََانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً} «وهم» للفصل توكيد للخبر، فاختصّ التوكيد والشرح بموضعهما
وأما التي في آخر هذه السورة، وهي: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ} فقد تكلمنا في الفاء مكان الواو في «أولم» وهي: أنها في موضع جمل كالآية في سورة الروم لأن قبلها {وَلَقَدْ أَرْسَلْنََا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنََا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ وَمََا كََانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلََّا بِإِذْنِ اللََّهِ فَإِذََا جََاءَ أَمْرُ اللََّهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنََالِكَ الْمُبْطِلُونَ} (1) فبنيت الآية على الإيجاز الذي بنيت عليه تلك فقال:
{أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كََانَ عََاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كََانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً} فحذفت الواو من كانوا لأنها استئناف أخبار، كأنه قال: كانوا أكثر منهم وكانوا أشد قوة وكانوا أكثر آثارا في الأرض، ومثله مما أجمل فيه القول:
{أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كََانَ عََاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللََّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكََافِرِينَ أَمْثََالُهََا} (2) وقوله: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهََا أَوْ آذََانٌ يَسْمَعُونَ بِهََا} (3) وكانت لقريش رحل إلى الشام يجوزون فيها بديار عاد وثمود فيرون آثارهم ويشاهدون ديارهم، فاستدعت هذه الآيات اعتبارهم فما اعتبروا وحاق بهم ما كانوا به يستهزءون.
الآية الثانية من سورة الروم
قوله تعالى: {وَمِنْ آيََاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوََاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهََا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذََلِكَ لَآيََاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ وَمِنْ آيََاتِهِ خَلْقُ السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلََافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوََانِكُمْ إِنَّ فِي ذََلِكَ لَآيََاتٍ لِلْعََالِمِينَ وَمِنْ آيََاتِهِ مَنََامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهََارِ وَابْتِغََاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذََلِكَ لَآيََاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ وَمِنْ آيََاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمََاءِ مََاءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهََا إِنَّ فِي ذََلِكَ لَآيََاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} (4).
للسائل أن يسأل: عما ختمت به هذه الآيات، فجاء في الأولى:
__________
(1) سورة: غافر، الآية: 78.
(3) سورة: الحج، الآية: 46.
(2) سورة: محمد، الآية: 10.
(4) سورة: الروم، الآيات: 2421.(1/252)
{إِنَّ فِي ذََلِكَ لَآيََاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ}. وفي الثانية: {إِنَّ فِي ذََلِكَ لَآيََاتٍ لِلْعََالِمِينَ}. وفي الثالثة:
{لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ}. وفي الرابعة: {لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ}.
الجواب أن يقال: أما اختصاص الأولى بقوله: {يَتَفَكَّرُونَ} فإن الاختصاص بما ذكر قبله يؤدي الفكر فيه إلى معناه، وهو قوله: {وَمِنْ آيََاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوََاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهََا} أي: خلق لكم من جنسكم وشكلكم نساء، وهذا أدعى إلى الألفة والمحبة لوجود المشاكلة، وقوله: {لِتَسْكُنُوا إِلَيْهََا} أي: جعلها على حال تعظم المسرة بها، ويطمئن القلب إليها، فإذا فكر الإنسان في خلقها ونعمة الله على الرجال بها سوى أنهن أوعية الأولاد الذين إذا بروا فمن أكبر نعم الله على العباد فالفكر في ذلك وفي المعاني التي لها خلقن يؤدي إلى العلم بقادر عليم، وصانع حكيم، وواحد قديم لا يقدر أحد كقدرته ولا يعرف حكيم حدا لحكمته، فحثنا بالتفكر على العلم بهذا كله وقوله: {وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً} أي: ميل نفس بالمجانسة ورقة قلب تبعث على التعاطف، ليتكامل سرور كل منهما بصاحبه، وذلك من فضل الله تعالى ونظره لخلقه
وأما قوله: {إِنَّ فِي ذََلِكَ لَآيََاتٍ لِلْعََالِمِينَ} فلأنه جاء بعد قوله: {وَمِنْ آيََاتِهِ خَلْقُ السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلََافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوََانِكُمْ} (1) ولا أحد إلا والسماء تظله والأرض تقله فلا ينفك منهما ولا يخلو من كونه بينهما يعلم ذلك باضطرار، وأما اختلاف الألسنة فالمراد: أن آلات الكلام متقاربة وأجناس الأصوات والنغم مختلفة، حتى يرى كل واحد من الناطقين مختصا بلطيفة من الله في صوته وفي جرس لسانه لا يخفى بها على من عرفه إذا سمع كلامه، والمستمع يميز بينه وبين من سواه قبل أن يراه ويعلم هذا كله من نفسه وممن يحاوره ويعاشره ويناطقه، حتى لا يكاد يرى اثنين في الدهر العظيم والعدد الكثير يتشابه صوتاهما، ويلتبس كلامهما، وهذه اللطيفة لا سبيل إلى وصفها، حتى يتهيأ وصف كل صوت بما يحصره على صاحبه، ويخصه بناطقه تبارك الله أحسن الخالقين، وكذلك قوله: {وَأَلْوََانِكُمْ} ليس المراد بها: السواد والبياض والسمرة والحمرة والأدمة والصفرة، وإنما المعنى اختصاص كل واحد من الناس بخلقة، وانفراده بصورة يقارنها لفظ تدبير من الله تعالى يجعله على لون ونوع من التصوير يتميز به عن سائر أمثاله، حتى لا يلتبس بواحد من أشكاله، فلا تكاد تجد في بلد تحوي من لا يحصر بعدد اثنين يتشابهان
__________
(1) سورة: الروم، الآية: 22.(1/253)
تشابه لبس، بل كلّ مخصوص بخصوصية في وجهه يعرف بها من غيره، وهو أيضا مما يعجز عنه بالنعت، ولا يمكن إبانة واحد من الآخر بالوصف، حتى يستغنى به عن المشاهدة، ويقوم من جهة الواصف له مقام الرؤية، فهذه آيات يشترك في معرفتها الناس كلهم، وإن استمرت الغفلة بهم، ووقع على تأمله سهو منهم فلذلك قال: {إِنَّ فِي ذََلِكَ لَآيََاتٍ لِلْعََالِمِينَ} أي: لجماعات الناس وكل جماعة منهم عالم.
وأما قوله: {وَمِنْ آيََاتِهِ مَنََامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهََارِ وَابْتِغََاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ} (1) فهو من باب لف الخبرين المعنى: {مَنََامُكُمْ بِاللَّيْلِ} بالسكون {وَابْتِغََاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ} بالنهار كما قال قبله: {وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهََارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ} (2)
أي: لتسكنوا في الليل، ولتبتغوا من فضله بالنهار، وكل من سمع هذا علم أن النوم عجيبة من فعل الله تعالى لا يقدر الإنسان اجتلابه إذا امتنع ولا على دفاعه إذا ورد، ثم إنه بالنهار لا بدّ له من تصرف لمعاش وطلب قوت وطعام به قوام الأجساد، فلذلك قال:
{يَسْمَعُونَ} وقيل معنى قوله: {يَسْمَعُونَ} يستجيبون لما تدعوهم إليه الآيات ويصرفون أفكارهم إليها.
وأما قوله: {يَعْقِلُونَ} فقد ذكرناه في سورة العنكبوت حيث قال تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمََاءِ مََاءً فَأَحْيََا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهََا لَيَقُولُنَّ اللََّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلََّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لََا يَعْقِلُونَ} (3).
الآية الثالثة من سورة الروم
قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللََّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشََاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذََلِكَ لَآيََاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} (4) وقال في سورة الزمر (5): {أَوَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللََّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشََاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذََلِكَ لَآيََاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ}.
للسائل أن يسأل: عن الموضع الذي ذكر فيه: {أَوَلَمْ يَعْلَمُوا} والموضع الذي ذكر فيه: {أَوَلَمْ يَرَوْا} وما الذي أوجب اختصاص كل واحد من المكانين باللفظ الذي خص به.
__________
(1) سورة: الروم، الآية: 23.
(4) سورة: الروم، الآية: 37.
(2) سورة: القصص، الآية: 73.
(5) الآية: 52.
(3) سورة: العنكبوت، الآية: 63.(1/254)
الجواب أن يقال: قوله تعالى في سورة الروم: {أَوَلَمْ يَرَوْا} جاء عقيب قوله:
{وَإِذََا أَذَقْنَا النََّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِهََا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمََا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذََا هُمْ يَقْنَطُونَ} (1). والمعنى: إذا أنعمنا عليهم نعمة ترى عليهم، وتملأ مسارحهم ومراحهم، وتعمر أفنيتهم وآنيتهم ملكهم الفرح واستولى عليهم البطر، وإن أصابتهم عقوبة على ما قدموا من معصيته، ونالتهم شديدة من جدب وقحط يصفر لها الإناء ويفرغ منهما الفناء، حتى لا ترى لهم ثاغية ولا راغية لم يعتبروا، ولم يقلعوا عما أتوا مما جر عليهم تلك الشديدة، وفعلوا فعل من ييأس من أن يأتيه الله بعد ذلك بنعمة إن تدارك سيئة بتوبة، فكان الأليق بهذا المكان: أولم يروا أموال من بسط الله له الرزق فيعلموا أنه يوسع لمن يشاء ويضيق على من يشاء، وكلتا الحالتين مرئيتان عندهم مشاهدتان لديهم، فإن من بسط له الرزق رؤي ماله، ولم يخف على المشاهد حاله، ومن انقلب أمره وانقطع خيره أدركت العين منه خلاف ما كان قبل، فلما جاءت هذه الآية بعد ذكر النعمة إذا وهبت وحال الإنسان فيها إذا سلبت والنعمة مرئية لاق بهذا المكان {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللََّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشََاءُ وَيَقْدِرُ}.
وأما الآية في سورة الزمر فإن قبلها (2): {فَإِذََا مَسَّ الْإِنْسََانَ ضُرٌّ دَعََانََا ثُمَّ إِذََا خَوَّلْنََاهُ نِعْمَةً مِنََّا قََالَ إِنَّمََا أُوتِيتُهُ عَلى ََ عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلََكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لََا يَعْلَمُونَ قَدْ قََالَهَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَمََا أَغْنى ََ عَنْهُمْ مََا كََانُوا يَكْسِبُونَ فَأَصََابَهُمْ سَيِّئََاتُ مََا كَسَبُوا وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هََؤُلََاءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئََاتُ مََا كَسَبُوا وَمََا هُمْ بِمُعْجِزِينَ أَوَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللََّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ} فقوله: {فَإِذََا مَسَّ الْإِنْسََانَ ضُرٌّ دَعََانََا} والضر: سوء الحال من مرض في النفس، ونقص في المال، وهو الذي شكاه أيوب عليه السّلام بقوله: {مَسَّنِيَ الضُّرُّ} (3) وقوله: {ثُمَّ إِذََا خَوَّلْنََاهُ نِعْمَةً مِنََّا} أي: إذا أعطيناه بعد العلة صحة وبعد القلة ثروة ادعى أنه أوتي ما أوتي بعلمه، وأنه جلب العافية لنفسه بظنه، وأنه لم تعاوده الصحة من قبل ربه، ويقول فيما يحسن من حاله: إني افتقرت قبل لأني قصرت، والآن علمت كيف التأتي للاكتساب واستعادة الغنى بعد الافتقار، وتلك النعمة من الله وهي فتنة له أي: تشديد في التكليف عليه لأنه مطالب بمعرفتها التي ذهب عنها وعن حكمها، وغفل عن شكر واهبها، وألهاه الانغماس في لذتها عن حمد من تفضل بها، وأكثر الناس يعلم بموجبها وكأنه لا يعلمه فهذا معنى: ولكن أكثر الناس لا يعلمون، ثم قال:
__________
(1) الآية: 36.
(3) سورة: الأنبياء، الآية: 83.
(2) الآيات: 5249.(1/255)
{قَدْ قََالَهَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَمََا أَغْنى ََ عَنْهُمْ مََا كََانُوا يَكْسِبُونَ} أي: قد كفر مثل كفرهم من كان من قبلهم فلما نزل عذاب الله بهم لم يملكوا دفعه بعلمهم ولا بمالهم، ولكن أصابتهم عقوبات ما ساء من أعمالهم، والظالمون في عصرك يا محمد سيصيبهم عقوبة ما عملوا، ثم قال: أولم يعلموا أن الله يوسع على الفقير حتى يستغني ويفتح له أبواب الرزق حتى يثرى، وأنه يضيق على من يشاء أن يضيق عليه، ويسقم من شاء إسقامه، ويصح من شاء صحته، فقابل ما ادعوه من العلم لما قال كافرهم: {إِنَّمََا أُوتِيتُهُ عَلى ََ عِلْمٍ} فرد عليهم بأن قال: هلا علمتم ما هو واضح من أحوالكم فتعلموا أن الخصب والجدب ليسا بأيديكم، وكذلك المرض والشفاء ليسا إليكم وإنما ذلك مما تعلمونه من بسط الله الرزق إذا أرسل السماء عليكم مدرارا وما تتألمون منه إذا ضن السحاب بقطره وابتلى أحدكم بفقره، فكان {أَوَلَمْ يَعْلَمُوا} أولى بهذا المكان من قوله: {أَوَلَمْ يَرَوْا} كما كانت {أَوَلَمْ يَرَوْا} في سورة الروم أولى، والله أعلم.
الآية الرابعة من سورة الروم
قوله تعالى: {وَمِنْ آيََاتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّيََاحَ مُبَشِّرََاتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (1) وقال في سورة الجاثية (2): {اللََّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}.
فإن سأل سائل عن زيادة قوله: {فِيهِ} في سورة الجاثية وتركها في سورة الروم.
كان الجواب قريبا على من له أدنى معرفة، وهو أن الهاء في قوله: {فِيهِ}
عائدة إلى البحر وقد ذكر في سورة الجاثية، فعاد إليه الضمير وهو قوله: {اللََّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ} ولم يتقدم للبحر ذكر في الآية التي ذكر فيها جري الفلك في سورة الروم، وإنما نبه على النعمة بالرياح وإظهار آياته فيها فقال: {وَمِنْ آيََاتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّيََاحَ مُبَشِّرََاتٍ} أي: باجتلاب السحاب واعتصاره للأمطار، وهو الذي يذيقنا من رحمته مع ما يلقح منه الأشجار في وقته لوقته، وقال: {وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ} أي:
بالرياح إذا أذن الله تعالى لها، وهذا مما لا إشكال فيه.
__________
(1) سورة: الروم، الآية: 46.
(2) الآية: 12.(1/256)
31 - سورة لقمان
الآية الأولى منها
قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللََّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهََارِ وَيُولِجُ النَّهََارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلى ََ أَجَلٍ مُسَمًّى وَأَنَّ اللََّهَ بِمََا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} (1)
وقال في سورة الزمر (2): {يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهََارِ وَيُكَوِّرُ النَّهََارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى}.
للسائل: أن يسأل عن اختصاص ما في سورة لقمان بقوله: {يَجْرِي إِلى ََ أَجَلٍ مُسَمًّى} وما سواه إنما هو {يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى}.
الجواب أن يقال: إن معنى قوله: {يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى} يجري لبلوغ أجل مسمى، وقوله: {يَجْرِي إِلى ََ أَجَلٍ} معناه: لا يزال جاريا حتى ينتهي إلى آخر وقت جريه المسمى له، وإنما خص ما في سورة لقمان بإلى التي للانتهاء واللام تؤدي نحو معناها لأنها تدل على أن جريها لبلوغ الأجل المسمى لأن الآيات التي تكتنفها آيات منبهة على النهاية والحشر والإعادة فقبلها: {مََا خَلْقُكُمْ وَلََا بَعْثُكُمْ إِلََّا كَنَفْسٍ وََاحِدَةٍ} (3)
وبعدها: {يََا أَيُّهَا النََّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْماً لََا يَجْزِي وََالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ} (4) فكان المعنى: كل يجري إلى ذلك الوقت، وهو الوقت الذي تكور فيه الشمس وتنكدر فيه النجوم كما أخبر الله تعالى، وسائر المواضع التي ذكرت فيها اللام إنما هي في الإخبار عن ابتداء الخلق وهو قوله: {خَلَقَ السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهََارِ وَيُكَوِّرُ النَّهََارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى أَلََا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفََّارُ}
__________
(1) سورة: لقمان، الآية: 29.
(3) سورة: لقمان، الآية: 28.
(2) الآية: 5.
(4) سورة: لقمان، الآية: 33.(1/257)
{خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وََاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهََا زَوْجَهََا} (1) فالآيات التي تكتنفها في ذكر ابتداء خلق السموات والأرض وابتداء جري الكواكب، وهي إذ ذاك تجري لبلوغ الغاية، وكذلك قوله في سورة الملائكة إنما هو في ذكر النعم التي بدأ بها في البر والبحر إذ يقول: {وَمََا يَسْتَوِي الْبَحْرََانِ} إلى قوله: {وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهََارِ وَيُولِجُ النَّهََارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى ذََلِكُمُ اللََّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مََا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ} (2) فاختص ما عند ذكر النهاية بحرفها، واختص ما عند الابتداء بالحرف الدال على العلة التي يقع الفعل من أجلها.
__________
(1) سورة: الزمر، الآيتان: 5و 6.
(2) سورة: فاطر، الآيتان: 12و 13.(1/258)
32 - سورة السجدة
الآية الأولى منها
قوله تعالى: {يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمََاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كََانَ مِقْدََارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمََّا تَعُدُّونَ} (1) وقال في سورة سأل سائل: {تَعْرُجُ الْمَلََائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كََانَ مِقْدََارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} (2).
للسائل أن يسأل فيقول: هذا اليوم جعل مقداره في السورة الأولى ألف سنة، وجعله في السورة الثانية خمسين ألف سنة، وقد قدره بألف سنة في موضع آخر من سورة الحج (3)، فقال: {وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمََّا تَعُدُّونَ} فكيف يجمع بين هذه الأخبار!.
الجواب عن ذلك من وجوه:
أحدها: أن يكون المعنى: أن الله يدبر أمر أهل الأرض في السماء من دعائهم إلى الطاعات وتكليفهم أنواع العبادات، فينزل به من يأمره من ملائكته ليبعث بذلك رسله، ويضم إليه آياته وكتبه، ثم يصعد الملك الذي جاء به إلى المكان الذي نزل منه في يوم من أيام الدنيا، وهذه المسافة التي قطعها الملك في النزول والصعود مقدارها مسيرة ألف سنة من غيره لأن ما بين السماء إلى الأرض مسيرة خمسمائة عام، فيقع النزول والصعود في يوم تستغرق أوقاته سير ألف سنة من السنين التي يعدها أهل الأرض في الدنيا، وهذا التدبير الذي يدبر في السماء لأهل الأرض هو ما يكلفون من العبادات، وما يقدر من مدد أعمارهم، وما يحدث في اللوح المحفوظ مما يدل الملائكة على أنهم مأمورون بأن ينزلوا به إلى المصطفين من عباده بالرسالة، ثم يعودون إلى أماكنهم في يوم
__________
(1) سورة: السجدة، الآية: 5.
(3) الآية: 47.
(2) سورة: المعارج، الآية: 4.(1/259)
بقدر ألف سنة من أيام الدنيا.
وأما قوله في سورة الحج: {وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمََّا تَعُدُّونَ} أي: يقع في يوم تنعيم المطيعين وتعذيب العاصين قدر ما يناله المنعم في ألف سنة من أيام الدنيا، ويعذب العصاة في يوم مقدار ما يعذب به الإنسان في ألف سنة لو بقي فيها، فعذابه في يوم واحد عذاب ألف سنة، وذلك لما يتضاعف عليهما من الآلام والملاذ، ويصل إليهما من الغموم والسرور، والدليل على أن المراد في هذه الآية ذلك:
قوله قبله: {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذََابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللََّهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمََّا تَعُدُّونَ} فجهلهم باستعجالهم العذاب الذي هذا وصفه.
وأما قوله في سورة سأل سائل: {تَعْرُجُ الْمَلََائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كََانَ مِقْدََارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} أي: تصعد الملائكة وجبريل عليهم السّلام إلى حيث يعطي الله فيه الثواب أهل طاعته، ويحل فيه العقاب بأهل معصيته، وإن ذلك في يوم هو يوم القيامة، ويفعل الله تعالى فيه من محاسبة عباده وتبليغ كل منهم حقه ما لا يكون مثله في الدنيا إلا في خمسين ألف سنة.
وجواب ثان وهو: أنه يجوز أن يكون يوم القيامة يوما بلا آخر، وفيه أوقات مختلفة طولا وقصرا، كما كان في أيام الدنيا، كان الوقت بين صلاة الفجر وصلاة الظهر أطول مما بين الظهر وبين العصر، وكما كان ذلك بين صلاة العشاء الأولى وعشاء الآخرة، فبعضها ألف سنة، وبعضها خمسون ألف سنة.
وجواب ثالث وهو: أن يكون اليوم الذي أخبر الله تعالى عنه في السجدة والذي في الحج هما من الأيام التي عند الله، وهي التي خلق فيها السموات والأرض، وكل يوم منها ألف سنة من سني الدنيا.
وأما في سورة سأل سائل فإن المراد به أن لثقله على الكافرين، واستطالتهم له وصعوبته وهو له عليهم يصير بخمسين ألف سنة، وفي كل واحد من الأجوبة التي ذكرنا ما يكفي في جواب السائل.
الآية الثانية من سورة السجدة
قوله تعالى: {وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوََاهُمُ النََّارُ كُلَّمََا أَرََادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهََا أُعِيدُوا
فِيهََا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذََابَ النََّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ} (1) وقال في سورة سبأ (2): {فَالْيَوْمَ لََا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعاً وَلََا ضَرًّا وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذََابَ النََّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِهََا تُكَذِّبُونَ}.(1/260)
قوله تعالى: {وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوََاهُمُ النََّارُ كُلَّمََا أَرََادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهََا أُعِيدُوا
فِيهََا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذََابَ النََّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ} (1) وقال في سورة سبأ (2): {فَالْيَوْمَ لََا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعاً وَلََا ضَرًّا وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذََابَ النََّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِهََا تُكَذِّبُونَ}.
للسائل أن يسأل فيقول: ما الذي أوجب في سورة السجدة أن يعود الوصف ب {الَّذِي} إلى العذاب الذي هو مذكر، ويعود مثله في سورة سبأ إلى النار {الَّتِي} هي مؤنثة وهل كان اختيارا لو جاء هذا على العكس، وكان ما في سورة السجدة يرجع الوصف فيه إلى النار، وما في الأخرى يرجع الوصف فيه إلى العذاب؟.
الجواب أن يقال: إن {النََّارِ}. في قوله في سورة السجدة ظاهر موضع المضمر لتقدم ذكره في قوله: {وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوََاهُمُ النََّارُ كُلَّمََا أَرََادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهََا}
فأضمرت {أُعِيدُوا فِيهََا} وأظهرت {وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذََابَ النََّارِ} أي: عذابها، فوقعت مظهرة مكان المضمر، والتي في سورة سبأ لم تجىء هذا المجيء لأنها في مكانها مظهرة، فلما كان المضمر لا يوصف بعد عن الوصف ما حل محله لأنه سد مسده، فوصف ما أضيف إليه وهو العذاب، فجاء {عَذََابَ النََّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ} ولما لم يتقدم ما في سورة سبأ ما منزلته منزلة المضمر، صح الوصف له، فأجري عليه، وجاء {عَذََابَ النََّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِهََا تُكَذِّبُونَ} ألا ترى أن أوله، {وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذََابَ النََّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِهََا تُكَذِّبُونَ}.
الآية الثالثة من سورة السجدة
قوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنََا مُوسَى الْكِتََابَ فَلََا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقََائِهِ} (3) فأتى بالنون في: {تَكُنْ} وقال تعالى في سورة هود في موضعين: {فَلََا تَكُ} وكان حق ذلك أن يذكر هناك بغير نون، وهو قوله: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزََابِ فَالنََّارُ مَوْعِدُهُ فَلََا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَلََكِنَّ أَكْثَرَ النََّاسِ لََا يُؤْمِنُونَ} (4) وقال
__________
(1) سورة: السجدة، الآية: 20.
(2) الآية: 42.
(3) سورة: السجدة، الآية: 23.
(4) سورة: هود، الآية: 17.(1/261)
في آخرها: {إِلََّا مََا شََاءَ رَبُّكَ عَطََاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ فَلََا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمََّا يَعْبُدُ هََؤُلََاءِ مََا يَعْبُدُونَ إِلََّا كَمََا يَعْبُدُ آبََاؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ} (1).
للسائل أن يسأل: عن حذف النون حيث حذفت، وإثباتها حيث أثبتت، وما الذي خصص كلا بمكانه؟
الجواب أن يقال: إن هذه النون في قوله: {فَلََا تَكُنْ} لما أشبهت بسكونها حروف المد واللين ثم كثرت استجيز حذفها للسببين جميعا، فإن تحركت خرجت عن شبهها، نحو: لم يكن الرجل منطلقا، لا يجوز: لم يك الرجل منطلقا، فأما إذا سكنت وتحرك ما بعدها، فلك أن تأتي بها، ولك أن تحذفها كما جاء في الموضعين، ثم إنه يختار فيها الحذف إذا تحرك ما بعدها متى تعلقت بالجمل الكثيرة، ويختار إثباتها إذا تعلقت بالقليلة لأن الكثرة أحد سببي جواز حذفها، وهذه الكثرة أعني أنها في أم الأفعال التي هي كان، ويعبر بها عن كل فعل، ألا ترى أنه لا يجوز: لم يه زيد، ولم يص زيد في «لم يهن» «ولم يصن»، وكثرة الجمل هي التي تثقلها تعلقت بها من قبلها أو من بعدها، فقوله في سورة هود: {فَلََا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ} جاء بعد أن تعلق بآيات ذوات جمل تقدمته، وهي: {أَفَمَنْ كََانَ عَلى ََ بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شََاهِدٌ مِنْهُ وَمِنْ قَبْلِهِ كِتََابُ مُوسى ََ إِمََاماً وَرَحْمَةً أُولََئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزََابِ فَالنََّارُ مَوْعِدُهُ فَلََا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ} (2) فقد تقدمته جمل جاء عقيبها متعلقا بها، فثقل من أجلها، فاختير تخفيفها بحذف نونها، وكذلك قوله:
{وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً} (3) جاء بعد قوله: {قََالَ رَبِّ أَنََّى يَكُونُ لِي غُلََامٌ وَكََانَتِ امْرَأَتِي عََاقِراً وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا قََالَ كَذََلِكَ قََالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً} (4) وقع في جواب الله تعالى له، بعد الكلام الذي كان منه لما بشر بالولد، فطال الكلام جدا، وخفف بالحذف في موضعه اختيارا. وكذلك قوله تعالى: {أَوَلََا يَذْكُرُ الْإِنْسََانُ أَنََّا خَلَقْنََاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً} (5) تعلق هذا بقوله: {وَيَقُولُ الْإِنْسََانُ أَإِذََا مََا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا أَوَلََا يَذْكُرُ الْإِنْسََانُ أَنََّا خَلَقْنََاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً} (6) فأما قوله:
__________
(1) سورة: هود، الآيتان: 108و 109.
(4) سورة: مريم، الآيتان: 8و 9.
(2) سورة: هود، الآية: 17.
(5) سورة: مريم، الآية: 67.
(3) سورة: مريم، الآية: 9.
(6) سورة: مريم، الآيتان: 66و 67.(1/262)
{قََالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً وَلَمْ أَكُنْ بِدُعََائِكَ رَبِّ شَقِيًّا} (1) فإنه قلت الجمل قبله، ولم يتعلق بما تقدمه تعلق ما ذكرنا به، فلم يثقل، فاختير الإتمام على الأصل، وكذلك قوله: {وَلَقَدْ آتَيْنََا مُوسَى الْكِتََابَ فَلََا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقََائِهِ} لم يتقدمه ما يثقله من الجمل ما تقدم غيره مما ذكرنا، وهذه النون حذفها في حال سكونها لشبهها بحروف المد واللين، إذ كانت صوتا جاريا في هواء الأنف، كما أن تلك أصوات تجري في هواء الفم، ثم انضاف إلى هذا السبب كثرتها في الكلام، وهي: أنها تدخل على كل فعل، فيقال: كان زيد فاعلا، ولم يك زيد فاعلا، فلما كانت الكثرة أحد سببي حذف النون في الأصل، صارت كثرة المتعلقات أحد سببي اختيار حذفها، فإن سأل عن قوله:
{فَلََا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمََّا يَعْبُدُ هََؤُلََاءِ} (2) وقبله {عَطََاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ} (3) وقد انقطع الكلام، ولا تعلق لقوله: {فَلََا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمََّا يَعْبُدُ هََؤُلََاءِ} بما قبله.
قلت: لم يثقل بمتعلقات الجمل التي فيها تكن بما قبلها دون ما بعدها، وهذه وإن لم تثقل بتعلقها بما قبلها، فإنها ثقلت بتعلقها بما بعدها، لقوله: {فَلََا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمََّا يَعْبُدُ هََؤُلََاءِ مََا يَعْبُدُونَ إِلََّا كَمََا يَعْبُدُ آبََاؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِنََّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ} (2) أي: لا تشك فيما يعبد هؤلاء الكفار من الأصنام، إنهم يعبدونها بحجة، فإنهم لا يعبدونها إلا تقليدا لآبائهم الذين كانوا يعبدونها من قبل، وكل يجزى بمستحقه، وهو خطاب للنبي صلّى الله عليه وسلم، والمراد به هو ومن آمن به، فقد تعلقت {فَلََا تَكُ فِي مِرْيَةٍ} بهذا الكلام كله.
33 - سورة الأحزاب
ليس فيها شيء من ذلك.
__________
(1) سورة: مريم، الآية: 4.
(2) سورة: هود، الآية: 109.
(3) سورة: هود، الآية: 108.(1/263)
34 - سورة سبأ
الآية الأولى منها
قوله تعالى: {عََالِمِ الْغَيْبِ لََا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقََالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمََاوََاتِ وَلََا فِي الْأَرْضِ وَلََا أَصْغَرُ مِنْ ذََلِكَ وَلََا أَكْبَرُ إِلََّا فِي كِتََابٍ مُبِينٍ} (1) وقال بعده في هذه السورة: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللََّهِ لََا يَمْلِكُونَ مِثْقََالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمََاوََاتِ وَلََا فِي الْأَرْضِ وَمََا لَهُمْ فِيهِمََا مِنْ شِرْكٍ وَمََا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ} (2) وقال في سورة يونس (3): {إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمََا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقََالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلََا فِي السَّمََاءِ وَلََا أَصْغَرَ مِنْ ذََلِكَ وَلََا أَكْبَرَ إِلََّا فِي كِتََابٍ مُبِينٍ}.
للسائل أن يسأل عن تقديم السموات على الأرض في الموضعين من سورة سبأ، وعن تقديم الأرض على السماء في سورة يونس، وكان موضع ذكر هذه الآية هناك، إلا أنها تأخرت إلى هذا المكان.
الجواب عنه أن يقال: إنما قدم ذكر السموات على الأرض في سورة سبأ لأن هذه الآية مبنية على مفتتح السورة، وهو: {الْحَمْدُ لِلََّهِ الَّذِي لَهُ مََا فِي السَّمََاوََاتِ وَمََا فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ} (4) فقدم ذكر السموات لأن ملكها أعظم شأنا وأكبر سلطانا، وكذلك الآية التي بعدها في سورتها.
وأما التي في سورة يونس، فإنها جاءت عقيب قوله: {وَمََا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمََا تَتْلُوا مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلََا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلََّا كُنََّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمََا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقََالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلََا فِي السَّمََاءِ} فكان القصد إلى ذكر علمه بما يتصرف فيه العباد من خير أو شر، وذلك في الأرض، فأتمه بقوله:
__________
(1) سورة: سبأ، الآية: 3.
(3) الآية: 61.
(2) سورة: سبأ، الآية: 22.
(4) سورة: سبأ، الآية: 1.(1/264)
{وَمََا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقََالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ} واستوعب جميع ما في الأرض، ثم أتبعه ذكر السماء لأن الابتداء وقع بما يتعلق بها وما يعمل العباد فيها، فلذلك قدمت الأرض عليها.
الآية الثانية منها
قوله تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللََّهِ لََا يَمْلِكُونَ مِثْقََالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمََاوََاتِ وَلََا فِي الْأَرْضِ} (1) وقال في سورة بني إسرائيل (2): {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلََا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلََا تَحْوِيلًا}.
للسائل أن يسأل: عن إظهار اسم الله تعالى في سورة سبأ في قوله: {مِنْ دُونِ اللََّهِ} وإضماره في سورة بني إسرائيل في قوله: {مِنْ دُونِهِ} وقد جرى الذكر قبل في الموضعين لأن قبل هذه الآية: {وَمََا كََانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطََانٍ إِلََّا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهََا فِي شَكٍّ وَرَبُّكَ عَلى ََ كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ} (3) وهناك: {وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضِ وَلَقَدْ فَضَّلْنََا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلى ََ بَعْضٍ وَآتَيْنََا دََاوُدَ زَبُوراً قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ} (4).
الجواب أن يقال: إنما اختير الإضمار في سورة بني إسرائيل لقوة الذكر قبل، ألا ترى أنه يكون في عشرة مواضع مضمرا ومظهرا لقوله: {رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ} (5) فربكم واحد، وفي: {أَعْلَمُ} ضميره، وقوله: {أَوْ إِنْ يَشَأْ} فيه ضمير فاعل {وَمََا أَرْسَلْنََاكَ} النون والألف ذكر له تعالى، {وَرَبُّكَ أَعْلَمُ}
اسمان، {وَلَقَدْ فَضَّلْنََا} قوله: نا: اسمه، وكذلك {وَآتَيْنََا دََاوُدَ زَبُوراً} فكان الإضمار تلو الإضمارات أولى بهذا المكان، فلذلك قال: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ}.
وأما في سورة سبأ، فإن الذي تقدمه: {وَمََا كََانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطََانٍ إِلََّا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهََا فِي شَكٍّ وَرَبُّكَ عَلى ََ كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ} (6)
فالذكر تقدم في ثلاثة مواضع، وهناك في أكثر من عشرة مواضع، فحسن الإظهار هنا، وقوي الإضمار هناك، فلذلك اختلفا.
__________
(1) سورة: سبأ، الآية: 22.
(4) سورة: الإسراء، الآيتان: 55، 56.
(2) سورة: الإسراء، الآية: 56.
(5) سورة: الإسراء، الآية: 54.
(3) سورة: سبأ، الآية: 21.
(6) سورة: سبأ، الآية: 21.(1/265)
35 - سورة فاطر
الآية الأولى منها
قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلََائِفَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ} (1)
وقال في سورة الأنعام (2)، وكان حكم هذه الآية أن تذكر هناك: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلََائِفَ الْأَرْضِ} فأضاف {خَلََائِفَ} إلى {الْأَرْضِ} بغير واسطة في، وهناك نكرها وأضافها ب {فِي}.
للسائل أن يسأل عن التعريف أولا، والتنكير ثانيا وعما خصص كل مكان بما اختص به.
والجواب: أن الذي في سورة الأنعام أجري مجرى المعرفة لأنه بعد ذكر متكرر، وخطاب متردد، مبتدأ من مبتدأ قوله: {قُلْ تَعََالَوْا أَتْلُ مََا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ} (3) فلما خوطبوا بألفاظ المعارف، أتبع ما في هذه الآية من ذكرهم في موضع النكرة، وهو المفعول الثاني من {جَعَلَكُمْ} ذكر المعرفة، فكسى لفظها، فصار التقدير:
وهو الذي جعل كل واحد منكم الخليفة في الأرض التي ورثها عمن تقدمه، فمنكم الأعلى، ومنكم الأوسط، ومنكم الأسفل، وليس كذلك الأمر في سورة الملائكة لأن ما تقدم هذه الآية منها ذكر أهل النار من مبتدأ قوله: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نََارُ جَهَنَّمَ لََا يُقْضى ََ عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلََا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ} إلى قوله: {فَذُوقُوا فَمََا لِلظََّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ إِنَّ اللََّهَ عََالِمُ غَيْبِ السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذََاتِ الصُّدُورِ} (4) ثم قال:
{هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلََائِفَ فِي الْأَرْضِ} فأخرج لفظ: {خَلََائِفَ} مخرج النكرة، كأنه قال:
__________
(1) سورة: فاطر، الآية: 39.
(3) سورة: الأنعام، الآية: 151.
(2) الآية: 165.
(4) سورة: فاطر، الآيات: 36، 37، 38.(1/266)
جعلكم خلفا لمن تقدمكم غير معلوم، إلا عند الله ما يكون من أمركم، فأنتم مجهولون عند أشباهكم وأمثالكم، فمن كفر منكم فضرر كفره راجع عليه، فكان التنكير أولى بهذا المكان لأنه لم يتقدمه من الأسماء المضمرة التي للخطاب المعرفة بحكم الإضمار ما تقدم في سورة الأنعام، ثم نزلهم منزلة قوم مجهولين لا يتوقع ما يكون من أمرهم من إيمانهم أو كفرهم، فلم يجعلوا في حكم الخطاب الأول في قوم بأعيانهم للانقسام الواقع عليهم، فهذا فرق ما بين المكانين.(1/267)
جعلكم خلفا لمن تقدمكم غير معلوم، إلا عند الله ما يكون من أمركم، فأنتم مجهولون عند أشباهكم وأمثالكم، فمن كفر منكم فضرر كفره راجع عليه، فكان التنكير أولى بهذا المكان لأنه لم يتقدمه من الأسماء المضمرة التي للخطاب المعرفة بحكم الإضمار ما تقدم في سورة الأنعام، ثم نزلهم منزلة قوم مجهولين لا يتوقع ما يكون من أمرهم من إيمانهم أو كفرهم، فلم يجعلوا في حكم الخطاب الأول في قوم بأعيانهم للانقسام الواقع عليهم، فهذا فرق ما بين المكانين.
36 - سورة يس
الآية الأولى منها
قوله تعالى: {وَجََاءَ مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعى ََ قََالَ يََا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ} (1) وقال في سورة القصص (2): {وَجََاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعى ََ قََالَ يََا مُوسى ََ إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ}.
للسائل أن يسأل عن تقديم قوله: {مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ} على {رَجُلٌ} الذي هو الفاعل في سورة يس، وتأخيره في السورة التي قبلها.
والجواب أن يقال: إن الفاعل في الموضعين لما كان نكرة، والمعنى: جاء جاء، وقد دل الفعل على جاء، ولا يكون الجائي من أقصى المدينة في الأعم الأغلب إلا رجلا، وكان الذي يفاد المخاطب أن يعرف أنه جاء من مكان بعيد إلى مجتمع الناس في القرية، وحيث لا يقرب من مجاري القصة، ولا يحضر موضع الدعوة ومشهد المعجزة، فقدم ما تبكيت القوم به أعظم، والتعجب منه أكثر، فقال: {وَجََاءَ مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ رَجُلٌ} ينصح لهم ما لا ينصحون مثله لأنفسهم، ولا ينصح لهم أقربوهم، مع أنه لم يحضر جميع ما يحضرونه، ولم يشهد من كلام الأنبياء ما يشهدونه، فبعثهم على اتباع الرسل المبعوثين إليهم، وقبول ما يأتون به من عند مرسلهم.
وأما الآية الأولى من سورة القصص، فإن المراد: جاء من لا يعرفه موسى من مكان لم يكن مجاورا لمكانه، فأعلمه ما فيه الكفار من ائتمارهم به، فاستوى حكم الفاعل والمكان الذي جاء منه، فقدم ما أصله التقديم، وهو الفاعل إذ لم يكن هنا تبكيت للقوم بكونه {مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ} كما كان ذلك في الآية المتقدمة.
__________
(1) سورة: يس، الآية: 20.
(2) الآية: 20.(1/268)
الآية الثانية منها
قوله تعالى: {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللََّهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ} (1) وقال في سورة الفرقان (2): {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لََا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ}.
للسائل أن يسأل: عن إظهار اسم الله تعالى في سورة يس وسورة مريم (3) في قوله: {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللََّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا} وإضماره في سورة الفرقان حيث قال: {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً}.
الجواب عن ذلك أن يقال: أنه لما قال في سورة الفرقان فأخبر عن نفسه، لا كإخبار المتكلم بلفظ التاء والنون والألف في مثل فعلت وفعلنا، بل كما يخبر المخبر عن غيره، فقال: {تَبََارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقََانَ عَلى ََ عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعََالَمِينَ نَذِيراً} إلى قوله:
{وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً} (4) كان ذكر الله تعالى قد تقدم في الآيتين، فأجرى ذكره في الثالثة مجراه في الأوليين، على مقتضى كلام العرب في الإضمار بعد الذكر، ولم يكن كذلك الأمر في الآيتين في سورتي يس ومريم لأن الذكر المتقدم إنما هو على لفظ المخبر عن نفسه لقوله: {كَلََّا سَنَكْتُبُ مََا يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذََابِ مَدًّا وَنَرِثُهُ مََا يَقُولُ وَيَأْتِينََا فَرْداً} (5) ثم قال: {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللََّهِ آلِهَةً} أي: اتخذوا من دون من تحق له العبادة أصناما يعبدونها ولا تحق عبادتها، فأظهر اسمه تعالى إذ كان لم يتقدم ظاهر يقع الإضمار بعده، وجهلوا بأن أشركوا بالله ما ليس بإله، فقابلوا الحق بباطلهم، وأروا أن هذا الفعل من فاعلهم، وكذلك كان الأمر في سورة يس، حيث قال: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنََّا خَلَقْنََا لَهُمْ مِمََّا عَمِلَتْ أَيْدِينََا أَنْعََاماً فَهُمْ لَهََا مََالِكُونَ} إلى قوله: {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللََّهِ آلِهَةً} (6).
__________
(1) سورة: يس، الآية: 74.
(4) سورة: الفرقان، الآيتان: 1و 2.
(2) الآية: 3.
(5) سورة: مريم، الآيتان: 79، 80.
(3) الآية: 81.
(6) سورة: يس، الآيات: 7471.(1/269)
37 - سورة الصافات
الآية الأولى منها
قوله تعالى: {وَقََالُوا إِنْ هََذََا إِلََّا سِحْرٌ مُبِينٌ أَإِذََا مِتْنََا وَكُنََّا تُرََاباً وَعِظََاماً أَإِنََّا لَمَبْعُوثُونَ} (1) وقال في هذه السورة: {قََالَ قََائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كََانَ لِي قَرِينٌ يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ أَإِذََا مِتْنََا وَكُنََّا تُرََاباً وَعِظََاماً أَإِنََّا لَمَدِينُونَ} (2).
للسائل أن يسأل: عن قوله: {لَمَبْعُوثُونَ} أولا، وفيما بعده: {لَمَدِينُونَ}، ولماذا اختلفا في المكانين؟ وإن كانا فيما يراد من تحقيق الإحياء بعد الموت سواء.
الجواب أن يقال: الأول حكاية ما قاله الكفار من إنكار البعث، والمبعوث: هو الذي يبعث من قبره ويحيا بعد موته، والمدين: هو المجازى بما كان من كسبه، والبعث قبل الجزاء، وهو يفعل من أجله، وحكاية الآخر الذي قال: {أَإِنََّا لَمَدِينُونَ} إنما هي عند حصوله في النار، وهو الجزاء الذي أنكره لقوله تعالى: {قََالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوََاءِ الْجَحِيمِ} (3) فهذا المؤمن الذي حكى الله تعالى عنه قوله، وأنه أخبر عن قرينه في الدنيا بأنه كان ينكر أن يحيا ويدان بما صنع، هو الذي رآه {فِي سَوََاءِ الْجَحِيمِ قََالَ تَاللََّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ وَلَوْلََا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ} (4) فالتفريع على ما أنكر يقع إذا تحقق وحصل فيه من كفر، نعوذ بالله من عقابه.
الآية الثانية من سورة الصافات
قوله تعالى في أواخر قصص الأنبياء عليهم الصلاة والسلام:
__________
(1) سورة: الصافات، الآيتان: 15، 16.
(3) سورة: الصافات، الآيتان: 54، 55.
(2) سورة: الصافات، الآيات: 5351.
(4) سورة: الصافات، الآيات: 55، 56، 57.(1/270)
{سَلََامٌ عَلى ََ نُوحٍ فِي الْعََالَمِينَ إِنََّا كَذََلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} (1) وقال فيما بعدها في قصة موسى وهارون: {وَتَرَكْنََا عَلَيْهِمََا فِي الْآخِرِينَ سَلََامٌ عَلى ََ مُوسى ََ وَهََارُونَ إِنََّا كَذََلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ إِنَّهُمََا مِنْ عِبََادِنَا الْمُؤْمِنِينَ} (2) وبعدها في قصة إلياس: {وَتَرَكْنََا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ سَلََامٌ عَلى ََ إِلْ يََاسِينَ إِنََّا كَذََلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ إِنَّهُ مِنْ عِبََادِنَا الْمُؤْمِنِينَ} (3) فكل ذلك ختم بقوله: {إِنََّا كَذََلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} إلى قوله: {وَفَدَيْنََاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ وَتَرَكْنََا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ سَلََامٌ عَلى ََ إِبْرََاهِيمَ كَذََلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ إِنَّهُ مِنْ عِبََادِنَا الْمُؤْمِنِينَ} (4) فجاء {كَذََلِكَ} من دون {إِنََّا}
في هذا الموضع وحده.
للسائل أن يسأل: عما أوجب اختصاص هذا المكان بسقوط {إِنََّا} منه، وإثباتها فيما سواه من الآيات التي أنهيت بها قصص الأنبياء عليهم السّلام.
الجواب عن ذلك أن يقال: إن قوله: {إِنََّا كَذََلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} لما جعل أمارة لانتهاء كل قصة، وكانت قصة إبراهيم عليه السّلام متضمنة ذكره وذكر ولده الذي رأى في المنام ذبحه، فقيل له بعد ما: {تَلَّهُ لِلْجَبِينِ} {قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيََا إِنََّا كَذََلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ}
فجاء: {إِنََّا كَذََلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} (5) في هذا المكان، وقد بقيت من القصة آيات، وهي: {إِنَّ هََذََا لَهُوَ الْبَلََاءُ الْمُبِينُ وَفَدَيْنََاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ} (6) ثم جاء ما جعل خبرا في آخر كل قصة من قصصهم {وَتَرَكْنََا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ سَلََامٌ عَلى ََ إِبْرََاهِيمَ كَذََلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} فلم يذكر (إنا) هنا لشيئين: أحدهما: تقدم ذكرها في هذه القصة، حيث قال: {قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيََا إِنََّا كَذََلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} والآخر: أن يخالف بين منتهى هذه الآية لأنها من القصة الأولى التي ختمت ب {إِنََّا كَذََلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ}، وبين منتهى قصة يس لأن ما قبلها منها فكأن: {إِنََّا كَذََلِكَ} لما ذكرت في هذه القصة مرة اكتفى بها، ولم يكن منقطعا لها، فخالفت ما تقدمها وما تأخر عنها لذلك.
__________
(1) سورة: الصافات، الآيتان: 79و 80.
(2) سورة: الصافات، الآيات: 122119.
(3) سورة: الصافات، الآيات: 132129.
(4) سورة: الصافات، الآيات: 111107.
(5) سورة: الصافات، الآية: 105.
(6) سورة: الصافات، الآيتان: 106، 107.(1/271)
الآية الثالثة منها
قوله تعالى: {وَأَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ} (1) وقال بعده: {وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ} (2).
للسائل أن يسأل: عن تعدية الفعل الأول وهو: {وَأَبْصِرْهُمْ} وحذف ما تعدى إليه {وَأَبْصِرْ} في الثانية، ثم عن تكرير {وَأَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ}.
الجواب أن يقال: إن هذا بعد ما بشر الله به عباده، حيث قال: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنََا لِعِبََادِنَا الْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ وَإِنَّ جُنْدَنََا لَهُمُ الْغََالِبُونَ} (3) ومعناه أن المرسلين ومن تبعهم من المؤمنين إذا حاربوا أعداء الله بأمر الله، فإن الله قد حكم لهم بالظفر والنصر في عاقبة أمورهم، وإن كان بعد مدة، فقوله: {فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتََّى حِينٍ} (4) أي:
أعرض عن محاربتهم إلى الحين الذي يعلم الله أنه يظفرك بهم، وأبصرهم في الوقت الذي تنصر فيه عليهم {فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ} قهركم لهم وذلهم، فأما حذف «هم» من «أبصر» في الثانية، فلذكرها في الأولى، ولأن هناك معاني أخر تنضم إلى ذكرهم، فيترك ذكر المفعول ليشرع الفعل إلى تلك المعاني كلها، ويبين ذلك في الجواب عن فائدة تكرار العامل وهي أن قوله: {فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتََّى حِينٍ} إنما يراد به: الحين في الدنيا، وهو: الوقت الذي ينصر فيه المسلمون عليهم، ويقهرون بأيديهم، وقوله ثانيا: {وَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتََّى حِينٍ وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ} أي: بعد أن تنصر عليهم فيهلكوا في الدنيا، توقع ما يحل بهم في الأخرى، {وَأَبْصِرْهُمْ} هناك، وأنواع العذاب التي تصب عليهم، وعمل النار فيهم، ثم ما لهم فيها من البقاء والخلود مع تبديل الجلود، وسائر ما أعد الله من عذاب النار، فقوله: {وَأَبْصِرْ}
مودع كل ذلك {فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ} تهدد لهم أي: سوف يلقون ما أوعد الله به أهل معصيته من أليم عقوبته.
__________
(1) سورة: الصافات، الآية: 175.
(2) سورة: الصافات، الآية: 179.
(3) سورة: الصافات، الآيات: 173171.
(4) سورة: الصافات، الآية: 174.(1/272)
38 - سورة ص
الآية الأولى منها
قوله تعالى: {وَعَجِبُوا أَنْ جََاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقََالَ الْكََافِرُونَ هََذََا سََاحِرٌ كَذََّابٌ} (1)
وقال في سورة ق (2): {بَلْ عَجِبُوا أَنْ جََاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقََالَ الْكََافِرُونَ هََذََا شَيْءٌ عَجِيبٌ}.
للسائل أن يسأل: عن اختصاص {وَقََالَ الْكََافِرُونَ هََذََا سََاحِرٌ كَذََّابٌ} بالواو في سورة ص، واختصاصها بالفاء في سورة ق.
الجواب أن يقال: إن التي في سورة ق خبر عن عجبهم في أنفسهم، واتصال قولهم به، فقال: {بَلْ عَجِبُوا أَنْ جََاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقََالَ الْكََافِرُونَ هََذََا شَيْءٌ عَجِيبٌ} فكان آخر الكلام راجعا إلى أوله الذي هو خبر عن ضميرهم من حصول العجب فيه، وقولهم عقيبه: {هََذََا شَيْءٌ عَجِيبٌ} وليس كذلك ما في سورة ص لأن قوله هنا: {وَعَجِبُوا أَنْ جََاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ} خبر عن عجبهم قولا وفعلا، وقولهم بعد ذلك ليس هو راجعا إلى قوله: {وَعَجِبُوا} رجوع ما في سورة ق إليه لأنه أخبر عنهم أنهم قالوا: {هََذََا سََاحِرٌ كَذََّابٌ}، فلم يرجع {سََاحِرٌ كَذََّابٌ} إلى قوله: {وَعَجِبُوا} رجوع قولهم إليه: {هََذََا شَيْءٌ عَجِيبٌ} فيقع عقيبه، ويقتضي إلغاء اقتضاءه إذ لم يكن قولهم: {هََذََا سََاحِرٌ كَذََّابٌ}
من مقتضى {عَجِبُوا} كما كان قولهم: {هََذََا شَيْءٌ عَجِيبٌ} منه.
الآية الثانية من سورة ص
قوله تعالى: {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعََادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتََادِ وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحََابُ الْأَيْكَةِ أُولََئِكَ الْأَحْزََابُ}
__________
(1) سورة: ص، الآية: 4.
(2) الآية: 2.(1/273)
{إِنْ كُلٌّ إِلََّا كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقََابِ} (1) وقال في سورة ق (2): {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحََابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ وَعََادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوََانُ لُوطٍ وَأَصْحََابُ الْأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ}.
للسائل أن يسأل عن اختلاف الترتيب في هاتين الآيتين، وعن قوله في خاتمتهما:
{فَحَقَّ عِقََابِ} في سورة ص، وقوله: {فَحَقَّ وَعِيدِ} في آخر سورة ق.
الجواب أن يقال: إن سورة ق مبنية فواصلها على أن يردف آخر حرف منها بالياء أو بالواو، وعلى ذلك جميع آياتها، وسورة ص بنيت فواصلها على أن تردف أواخرها بالألف، فكانت الآية التي من هذه العشر مختومة الفاصلة بوصف {فِرْعَوْنُ} بذي {الْأَوْتََادِ} وبعدها {أُولََئِكَ الْأَحْزََابُ} {فَحَقَّ عِقََابِ} وجاء بإزاء ذلك في سورة ق {وَأَصْحََابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ} ومكان: {فَحَقَّ عِقََابِ} {فَحَقَّ وَعِيدِ} وكذلك في هذه السورة:
{وَعِنْدَهُمْ قََاصِرََاتُ الطَّرْفِ أَتْرََابٌ} (3) وفي سورة والصافات (4): {وَعِنْدَهُمْ قََاصِرََاتُ الطَّرْفِ عِينٌ كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ} لأن فواصل الآيات التي من سورة والصافات مردفة أواخرها بالياء أو بالواو، والقصد: التوفقة بين الألفاظ مع صحة المعاني، كما قالوا: {آمَنََّا بِرَبِّ الْعََالَمِينَ رَبِّ مُوسى ََ وَهََارُونَ} في الشعراء (5)، وفي سورة طه (6): {بِرَبِّ هََارُونَ وَمُوسى ََ}
فاعرف ذلك، فإنه مما يكثر إن شاء الله تعالى.
__________
(1) سورة: ص، الآيات: 1412.
(4) الآيتان: 48، 49.
(2) الآيات: 1412.
(5) الآيتان: 47، 48.
(3) سورة: ص، الآية: 52.
(6) الآية: 70.(1/274)
39 - سورة الزمر
الآية الأولى منها
قوله تعالى: {إِنََّا أَنْزَلْنََا إِلَيْكَ الْكِتََابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللََّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ أَلََا لِلََّهِ الدِّينُ الْخََالِصُ} (1) وقال أيضا في هذه السورة: {إِنََّا أَنْزَلْنََا عَلَيْكَ الْكِتََابَ لِلنََّاسِ بِالْحَقِّ فَمَنِ اهْتَدى ََ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمََا يَضِلُّ عَلَيْهََا وَمََا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ} (2).
للسائل أن يسأل عن المكان الذي خص بقوله: {إِنََّا أَنْزَلْنََا إِلَيْكَ الْكِتََابَ} دون قوله: {إِنََّا أَنْزَلْنََا عَلَيْكَ}. وما الفائدة المخصصة كل واحد من اللفظين بمكانها التي استعملت فيه؟.
الجواب أن يقال: قد تقدم قولنا في الفرق بين {أَنْزَلْنََا إِلَيْكَ} و {أَنْزَلْنََا عَلَيْكَ}، وأن «على» يتضمن معنى فوق، وأن يكون الوحي جاءه من تلك الجهة، وأن «إلى» للنهاية، فلا تختص بجهة دون جهة، وكذلك كان أكثر المواضع الذي ذكر فيها إنزال القرآن على النبي صلّى الله عليه وسلم عدّي بعلى، كقوله تعالى: {الْحَمْدُ لِلََّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى ََ عَبْدِهِ الْكِتََابَ} (3) وكقوله تعالى: {يُنَزِّلُ الْمَلََائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلى ََ مَنْ يَشََاءُ مِنْ عِبََادِهِ} (4) وقال: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلى ََ قَلْبِكَ} (5) وقال: {وَنَزَّلْنََا عَلَيْكَ الْكِتََابَ تِبْيََاناً لِكُلِّ شَيْءٍ} (6) وأكثر ما جاء ذكر إنزاله على الناس جاء معدى بإلى، كقوله:
{يََا أَيُّهَا النََّاسُ قَدْ جََاءَكُمْ بُرْهََانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنََا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً} (7) ثم كل موضع قيل فيه: {أَنْزَلْنََا إِلَيْكَ} فقد شدد فيه التكليف عليه، ونزل منزلة أمته فيما يجب على
__________
(1) سورة: الزمر، الآيتان: 2، 3.
(5) سورة: الشعراء، الآيتان: 193، 194.
(2) سورة: الزمر، الآية: 41.
(6) سورة: النحل، الآية: 89.
(3) سورة: الكهف، الآية: 1.
(7) سورة: النساء، الآية: 174.
(4) سورة: النحل، الآية: 2.(1/275)
عالمهم تبيينه لمتعلمهم، كقوله في أول هذه السورة: {إِنََّا أَنْزَلْنََا إِلَيْكَ الْكِتََابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللََّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ} فقد أمر بإخلاص العبادة، والمراد: هو وأمته، وكقوله:
{وَأَنْزَلْنََا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنََّاسِ مََا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} (1) فكان المراد في المواضع التي استعملت فيها «إلى» أنه تناهى إلى حيث لا متعدي وراءه من عالم سنة مقصورة عليه، فكل موضع عدي فيه الإنزال بعلى، فإن المراد به: أنه شرفك وأعلى بذلك ذكرك لتؤدي ما عليك، فتنذر وتبشر فمن قبل فحظه أصاب، ومن أعرض فنفسه أوبق، ويكون فيه تهديد لمن ترك القبول، لقوله تعالى: {الْحَمْدُ لِلََّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى ََ عَبْدِهِ الْكِتََابَ} ثم قال:
{لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ} (2) وكما قال في هذه السورة: {إِنََّا أَنْزَلْنََا عَلَيْكَ الْكِتََابَ لِلنََّاسِ بِالْحَقِّ فَمَنِ اهْتَدى ََ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمََا يَضِلُّ عَلَيْهََا وَمََا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ} فقد أسقط عنه في ظاهر اللفظ القصد إلى الوعيد، ما ألزمه عند قوله في الآية التي في سورة النساء (3): {إِنََّا أَنْزَلْنََا إِلَيْكَ الْكِتََابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النََّاسِ بِمََا أَرََاكَ اللََّهُ وَلََا تَكُنْ لِلْخََائِنِينَ خَصِيماً} فمن عرف حقيقة اللفظين وتخصيص كل مكان بواحد منهما، علم أن ما جاء عليه في أول هذه السورة هو مميز عما جاء عليه في وسطها، ولم يخف عليه الفرقان بينهما والسلام.
الآية الثانية من سورة الزمر
قوله تعالى: {قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللََّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ} (4).
للسائل أن يسأل فيقول: لأي معنى عدى {وَأُمِرْتُ} الأولى إلى قوله: {أَنْ أَعْبُدَ اللََّهَ} ى دعو {وَأُمِرْتُ} الثانية باللام، فقال: {وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ}؟ وما فائدة اللام؟ ولو قال: {وَأُمِرْتُ} أن {أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ} لكان الكلام مستغنيا عن اللام.
الجواب أن يقال: إن القصد في الأمر الثاني غير القصد في الأمر الأول، وذلك أن الأمر الأول يتعدى إلى العبادة، والثاني معناه: وأمرت أن أعبد الله {لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ} أي: إنما أمرت بإخلاص العبادة لله، وبعثت رسولا لأن أكون أول من يبدأ بطاعة الله وعبادته على الإخلاص المطلوب، فاللام ليست مقحمة على ما ذهب إليه كثير
__________
(1) سورة: النحل، الآية: 44.
(3) سورة: النساء، الآية: 105.
(2) سورة: الكهف، الآية: 3.
(4) سورة: الزمر، الآيتان: 11، 12.(1/276)
من النحويين، وإنما معناه ما ذكرنا من الأمر بالعبادة لأجل أن يفعل أولا ما أمر به، ثم يحمل الناس على مثله، وهذا واضح، فاعرفه إن شاء الله تعالى.
الآية الثالثة من سورة الزمر
قوله تعالى: {لِيُكَفِّرَ اللََّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كََانُوا يَعْمَلُونَ} (1) وقال في سورة النحل (2): {مََا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمََا عِنْدَ اللََّهِ بََاقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مََا كََانُوا يَعْمَلُونَ مَنْ عَمِلَ صََالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى ََ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيََاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مََا كََانُوا يَعْمَلُونَ}.
للسائل أن يسأل عن الموضع الذي استعمل فيه {الَّذِي} في قوله: {أَحْسَنَ الَّذِي كََانُوا يَعْمَلُونَ} وما في قوله: {بِأَحْسَنِ مََا كََانُوا يَعْمَلُونَ}.
الجواب أن يقال: إن كل واحدة من الآيتين تقدم فيها ما اقتضى حمل هذين المختلفين عليه، أعني: «الذي» و «ما»، وهما إذا كانتا موصولتين بمعنى، إلا في تصور «ما» عما يتبع له «الذي» لأنك إذا قلت: رأيت ما عندك، لم يدخل تحتها المميزون، وإذا قلت: رأيت الذي عندك، دخل، فإنه يصلح للمميزين والبهائم والجماد، ثم إنه يحسن حذف المبتدأ من صلة «الذي» إذا كان ضميرها، كقوله في قراءة من قرأ: {ثُمَّ آتَيْنََا مُوسَى الْكِتََابَ تَمََاماً عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ} (3) والمعنى: على الذي هو أحسن، وكما جاء: ما أنا بالذي قائل لك شيئا، ولا يحسن ذلك في «ما»، ولا في «من» لو قلت:
رأيت ما عامر، تريد: ما هو عامر، ورأيت من هو عاقل، تريد: من هو عاقل، لم يحسن كحسنه في صلة «الذي»، لمزية «الذي» على «من» و «ما» في اللفظ والتصرف، ولوقوعها على الجنس، كقوله تعالى: {وَالَّذِي جََاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولََئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} (4) وقوله في سورة الزمر (5): {أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا} و {بِأَحْسَنِ الَّذِي كََانُوا يَعْمَلُونَ}
__________
(1) سورة: الزمر، الآية: 35.
(2) الآيتان: 96، 97.
(3) سورة: الأنعام، الآية: 154.
(4) سورة: الزمر، الآية: 33.
(5) الآية: 35.(1/277)
إنما هو للبناء على ما تقدم وهو قوله: {وَالَّذِي جََاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولََئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} فافتتحت الآية التي قبلها بالذي، ووصلت بفعل تعلق به قوله: {لِيُكَفِّرَ اللََّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا} وقصد جنس عملهم السيئ وجنس عملهم الحسن، فكان استعمال «الذي» في هذا المكان أولى، ليلتئم اللفظان المتعلق أحدهما بالآخر كما التأم معناهما.
وأما الآية التي في سورة النحل، فإن الأمر فيها على مثل ما في سورة الزمر من حمل اللفظ على نظيره مع مطابقة المعنى له، وذلك أن أول الآية هناك: {وَلََا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللََّهِ ثَمَناً قَلِيلًا إِنَّمََا عِنْدَ اللََّهِ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ مََا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمََا عِنْدَ اللََّهِ بََاقٍ} (1) فقال في الذي عند الله: {مََا عِنْدَ اللََّهِ} ثم قال: {مََا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ}
والمعنى: الذي عندكم، فاستعمل «ما» في قوله: {وَمََا عِنْدَ اللََّهِ بََاقٍ} فلما جاء ذكر الجزاء وهو ما عند الله، كان استعمال اللفظ الذي يرجع إلى ما تقدم أولى من استعمال غيره، فقال: {وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مََا كََانُوا يَعْمَلُونَ} وأحسن {مََا كََانُوا يَعْمَلُونَ} هو ما عند الله مما أعد الأجر له، ثم قال بعده: {مَنْ عَمِلَ صََالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى ََ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيََاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مََا كََانُوا يَعْمَلُونَ} فاستعمل «من» وهي للمميزين عامة فيهم وبإزائها في غيرهم «ما»، فلما استعملت «من» هنا شرطا، كان استعمال «ما» التي هي قرينتها فيما يتعلق بجزاء شرطها أولى مما لا يلائمها، فلما كانت {الَّذِي} في سورة الزمر أحق بمكانها، كانت {مََا} في سورة النحل أحق بموضعها، والسبب واحد فيهما.
الآية الرابعة من سورة الزمر
قوله تعالى: {وَبَدََا لَهُمْ سَيِّئََاتُ مََا كَسَبُوا وَحََاقَ بِهِمْ مََا كََانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ} (2) وقال في سورة الجاثية (3): {وَبَدََا لَهُمْ سَيِّئََاتُ مََا عَمِلُوا وَحََاقَ بِهِمْ مََا كََانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ}.
للسائل أن يسأل عن اختصاص سورة الزمر بقوله: {كَسَبُوا} وسورة الجاثية بقوله: {عَمِلُوا} وعن الفائدة في ذلك؟.
__________
(1) سورة: النحل، الآيتان: 95، 96.
(2) سورة: الزمر، الآية: 48.
(3) الآية: 33.(1/278)
الجواب أن يقال: إنما جاء قوله: {كَسَبُوا} في هذه السورة بناء على ما وقع الخبر به عن الظالمين في الآية التي قبل هذه، حيث يقول: {أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذََابِ يَوْمَ الْقِيََامَةِ وَقِيلَ لِلظََّالِمِينَ ذُوقُوا مََا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} (1) ثم اعترضت آيات تؤكد ما على الظالمين من الوعيد وتقوي ما للمصدقين من الوعد إلى أن انتهت إلى ذكر هؤلاء الظالمين الذين قيل لهم: {ذُوقُوا مََا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ}
فقال تعالى: {وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مََا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذََابِ يَوْمَ الْقِيََامَةِ وَبَدََا لَهُمْ مِنَ اللََّهِ مََا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ وَبَدََا لَهُمْ سَيِّئََاتُ مََا كَسَبُوا وَحََاقَ بِهِمْ مََا كََانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ} (2) فكان المعنى: {وَلَوْ أَنَّ} للظالمين الذين تقدم ذكرهم {مََا فِي الْأَرْضِ} {وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذََابِ} ثم قال:
{وَبَدََا لَهُمْ سَيِّئََاتُ مََا كَسَبُوا} أي: الجزاء على ما كسبوا من سيئاتهم كما قيل لهم:
{ذُوقُوا مََا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ} أي: جزاؤه، ثم أتبعه ذكر الكسب في الآيات التي بعدها في قوله: {قَدْ قََالَهَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَمََا أَغْنى ََ عَنْهُمْ مََا كََانُوا يَكْسِبُونَ فَأَصََابَهُمْ سَيِّئََاتُ مََا كَسَبُوا وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هََؤُلََاءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئََاتُ مََا كَسَبُوا وَمََا هُمْ بِمُعْجِزِينَ} (3)
وأما الآية في سورة الجاثية، فالطريق في اختيار: {عَمِلُوا} فيها كالطريق في اختيار:
{كَسَبُوا} في سورة الزمر لأن قبلها قوله تعالى: {وَتَرى ََ كُلَّ أُمَّةٍ جََاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعى ََ إِلى ََ كِتََابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مََا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} (4) وبعده: {إِنََّا كُنََّا نَسْتَنْسِخُ مََا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصََّالِحََاتِ} (5) وتبع ذلك قوله: {وَبَدََا لَهُمْ سَيِّئََاتُ مََا عَمِلُوا وَحََاقَ بِهِمْ مََا كََانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ} (6) {عَمِلُوا} فبني على ما سبق كما بني هناك {كَسَبُوا}
على ما تقدمه، فاعرفه إن شاء الله تعالى.
الآية الخامسة منها
قوله تعالى في حال أهل النار: {حَتََّى إِذََا جََاؤُهََا فُتِحَتْ أَبْوََابُهََا وَقََالَ لَهُمْ خَزَنَتُهََا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ} (7) وقال في أهل الجنة: {حَتََّى إِذََا جََاؤُهََا وَفُتِحَتْ أَبْوََابُهََا وَقََالَ لَهُمْ خَزَنَتُهََا سَلََامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهََا خََالِدِينَ} (8)
__________
(1) سورة: الزمر، الآيتان: 24، 25.
(5) سورة: الجاثية، الآيتان: 29، 30
(2) سورة: الزمر، الآيتان: 47، 48
(6) سورة: الزمر، الآية: 48
(3) سورة: الزمر، الآيتان: 50، 51
(7) سورة: الزمر، الآية: 71
(4) سورة: الجاثية، الآية: 28
(8) سورة: الزمر، الآية: 73(1/279)
للسائل أن يسأل: عن الواو في قوله: {وَفُتِحَتْ} وتركها في الأول وهل كان يجوز حذفها من الثاني وإثباتها في الأول؟.
الجواب عن ذلك: ما ذهب إليه بعض المفسرين أن في ذلك دلالة على أن أبواب جهنم كانت مغلقة ففتحت لما جاءوها، وأن أبواب الجنة كانت مفتوحة قبل مجيء المؤمنين إليها، وهذا محتاج إلى بيان، وهو أن قوله: {وَفُتِحَتْ أَبْوََابُهََا} جواب لقوله:
{حَتََّى إِذََا جََاؤُهََا} لأن في {إِذََا} معنى الشرط، وفي جوابها معنى الجزاء، ولا بد لها منه، وأنت تقول إذا جئت زيدا: فتح لي الباب، أردت: أن الباب كان مغلقا ففتح لمجيئك، وتقول: إذا جئت زيدا: وفتح لي الباب، أردت: أن الباب كان مغلقا، فإن ما بعد الواو لا يقوم مقام الجزاء، والمخاطب متوقع عند سماع ذلك ما يتم به الكلام، فإن أراد المتكلم إضمار الجزاء واكتفى بدلالة الشرط عليه وذلك إذا كان لفظاهما واحد جاز حذفه وعطف ما بعده، فيكون المعنى: {حَتََّى إِذََا جََاؤُهََا وَفُتِحَتْ أَبْوََابُهََا} فيحذف جاءوها الثانية لدلالة الأولى عليها، وعلى هذا قول امرئ القيس:
فلما أجزنا ساحة الحي وانتحى ... بنا بطن حقف ذي ركام عقنقل
معناه: فلما أجرنا ساحة الحي أجزناها وانتحى بنا. فإن قال: وهل يختلف المعنيان إذا حذفت الواو وإذا أثبتت؟ قلت: يختلفان بأن الفتح يقع عند مجيء أهل النار لأن قوله: {فُتِحَتْ} جزاء للشرط، وحقه إذا كان فعلا أن لا يدخله واو ولا فاء ويكون عقيب الشرط، وإذا حذف الجزاء وعطف فعل عليه فقيل: {حَتََّى إِذََا جََاؤُهََا وَفُتِحَتْ}
والتقدير: حتى إذا جاءوها وأبوابها مفتحة، وهذا حكم اللفظ فأما حكم المعنى، فإن جهنم لما كانت أشد المحابس، من عادة الناس إذا شددوا أمرها أن لا يفتحوا أبوابها إلا لداخل وخارج، وكانت جهنم أهولها أمرا وأبلغها عقابا أخبر عنها الأخبار عما شوهد من أحوال الحبوس التي تضيق على محبوسها، فوقع الفتح عقيب مجيئهم ليتطابق لذلك اللفظ والمعنى ولم يكن هناك حذف، وأما الجنة فلأن من فيها يتشوقون للقاء أهلها ومن رسم المنازل إذا بشر من فيها بإتيان أربابها إليها أن تفتح أبوابها استبشارا بهم وتطلعا إليهم، ويكون ذلك قبل مجيئهم، فأخبر عن المؤمنين وحالهم على ما جرت به عادة الدنيا في أمثالهم، فيكون حذف الجزاء وإدخال الواو على الفعل المعطوف عليه لذلك، فاعرفه.(1/280)
فلما أجزنا ساحة الحي وانتحى ... بنا بطن حقف ذي ركام عقنقل
معناه: فلما أجرنا ساحة الحي أجزناها وانتحى بنا. فإن قال: وهل يختلف المعنيان إذا حذفت الواو وإذا أثبتت؟ قلت: يختلفان بأن الفتح يقع عند مجيء أهل النار لأن قوله: {فُتِحَتْ} جزاء للشرط، وحقه إذا كان فعلا أن لا يدخله واو ولا فاء ويكون عقيب الشرط، وإذا حذف الجزاء وعطف فعل عليه فقيل: {حَتََّى إِذََا جََاؤُهََا وَفُتِحَتْ}
والتقدير: حتى إذا جاءوها وأبوابها مفتحة، وهذا حكم اللفظ فأما حكم المعنى، فإن جهنم لما كانت أشد المحابس، من عادة الناس إذا شددوا أمرها أن لا يفتحوا أبوابها إلا لداخل وخارج، وكانت جهنم أهولها أمرا وأبلغها عقابا أخبر عنها الأخبار عما شوهد من أحوال الحبوس التي تضيق على محبوسها، فوقع الفتح عقيب مجيئهم ليتطابق لذلك اللفظ والمعنى ولم يكن هناك حذف، وأما الجنة فلأن من فيها يتشوقون للقاء أهلها ومن رسم المنازل إذا بشر من فيها بإتيان أربابها إليها أن تفتح أبوابها استبشارا بهم وتطلعا إليهم، ويكون ذلك قبل مجيئهم، فأخبر عن المؤمنين وحالهم على ما جرت به عادة الدنيا في أمثالهم، فيكون حذف الجزاء وإدخال الواو على الفعل المعطوف عليه لذلك، فاعرفه.
40 - سورة غافر
الآية الأولى منها
قوله تعالى: {إِنَّ السََّاعَةَ لَآتِيَةٌ لََا رَيْبَ فِيهََا وَلََكِنَّ أَكْثَرَ النََّاسِ لََا يُؤْمِنُونَ} (1) وقال في سورة طه (2): {إِنَّ السََّاعَةَ آتِيَةٌ أَكََادُ أُخْفِيهََا}.
للسائل أن يسأل عن اللام الداخلة على: {لَآتِيَةٌ} في سورة المؤمن، وخلوها منها في سورة طه عليه الصلاة والسلام.
الجواب أن يقال: إن اللام التي تقع في خبر إن أو اسمها إذا حلّت محل الخبر تؤكد الكلام، والعرب تحرض على التوكيد في موضعه، وتركه في غير موضعه، قال الله تعالى: {وَمََا خَلَقْنَا السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضَ وَمََا بَيْنَهُمََا إِلََّا بِالْحَقِّ وَإِنَّ السََّاعَةَ لَآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلََّاقُ الْعَلِيمُ} (3) وقال قبل الآية في سورة غافر: {لَخَلْقُ السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النََّاسِ وَلََكِنَّ أَكْثَرَ النََّاسِ لََا يَعْلَمُونَ} (4)
والمعنى: أن القادر على خلق السموات والأرض قادر على خلق الناس، ومن قدر على خلق الناس أولا قادر على خلقهم ثانيا، وهذان من مواضع التوكيد، وتحقيق الخبر أن الساعة حق وأنها آتية لا ريب فيها، والخطاب لقوم كفار ينكرونها، والتي في سورة طه (5)
خطاب لموسى عليه السّلام، وهي في ضمن كلام الله تعالى: {إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ}
وقال: {وَأَقِمِ الصَّلََاةَ لِذِكْرِي إِنَّ السََّاعَةَ آتِيَةٌ أَكََادُ أُخْفِيهََا} (6) ولم يكن موسى عليه السّلام ممن ينكر ذلك، فيؤكد الكلام عليه توكيده على منكريه والجاحدين له على أنه تحميل له ليعلم قومه وهو: {فَلََا يَصُدَّنَّكَ عَنْهََا مَنْ لََا يُؤْمِنُ بِهََا وَاتَّبَعَ هَوََاهُ فَتَرْدى ََ} (7) فإذا كان
__________
(1) سورة: غافر، الآية: 59.
(5) الآية: 12.
(2) الآية: 15.
(6) سورة: طه، الآيتان: 14، 15.
(3) سورة: الحجر، الآيتان: 85، 86.
(7) سورة: طه، الآية: 16.
(4) سورة: غافر، الآية: 57.(1/281)
الأمر على ما بينا، وضح الفرق بين الموضعين بالذي ذكرناه.
الآية الثانية منها
قوله تعالى: {إِنَّ اللََّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النََّاسِ وَلََكِنَّ أَكْثَرَ النََّاسِ لََا يَشْكُرُونَ} (1) وقال في سورة يونس (2): {إِنَّ اللََّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النََّاسِ وَلََكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لََا يَشْكُرُونَ وَمََا تَكُونُ فِي شَأْنٍ} الآية.
للسائل أن يسأل فيقول: كيف أظهر {النََّاسِ} في موضع الإضمار في سورة المؤمن، وقد أضمر في موضع الإظهار في سورة يونس؟ وهل كان جائزا وقوع هذا موقع ذاك؟.
الجواب أن يقال: إن كل موضع يحتمل الإضمار لقرب الذكر، ويحتمل الإظهار لتعظيم الأمر وذكر أخص الأسماء المقصود بالتقريع والتفنيد، فإنه يحمل على ما يلائم الآيات المتقدمة له ليكون قد جمع إلى صحة المعنى واللفظ مشاكلة ما قبله من الآي
فأما قوله في سورة المؤمن: {وَلََكِنَّ أَكْثَرَ النََّاسِ لََا يَشْكُرُونَ} بعد قوله: {إِنَّ اللََّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النََّاسِ} ولو قال: ولكن أكثرهم لا يشكرون لقرب الذكر لكان من الجائز الحسن، فإنه محمول على الآيات التي قبله، وهي قوله: {لَخَلْقُ السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النََّاسِ وَلََكِنَّ أَكْثَرَ النََّاسِ لََا يَعْلَمُونَ} (3) وقال بعده: {إِنَّ السََّاعَةَ لَآتِيَةٌ لََا رَيْبَ فِيهََا وَلََكِنَّ أَكْثَرَ النََّاسِ لََا يُؤْمِنُونَ} (4) ثم جاء: {إِنَّ اللََّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النََّاسِ وَلََكِنَّ أَكْثَرَ النََّاسِ لََا يَشْكُرُونَ} فأظهر ذكر الناس كما أظهر في الآيتين قبلها للمشاكلة والملائمة، وليس كذلك الأمر في سورة يونس عليه السّلام لأن الكلام هناك بني على الإضمار في الآية المتقدمة، ألا ترى أنه قال تعالى مخبرا عمن يدخل من الظالمين النار: {ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذََابَ الْخُلْدِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلََّا بِمََا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ} (5) فانقضى هذا الكلام واستؤنف خبر عن القوم الذين بعث الله رسوله صلّى الله عليه وسلم إليهم، وقال: {وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَمََا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ} (6) فأضمر ذكره في قوله: {وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ} ثم قال بعده:
__________
(1) سورة: غافر، الآية: 61.
(4) سورة: غافر، الآية: 59.
(2) الآيتان: 60، 61.
(5) سورة: يونس، الآية: 52.
(3) سورة: غافر، الآية: 57.
(6) سورة: يونس، الآية: 53.(1/282)
{أَلََا إِنَّ وَعْدَ اللََّهِ حَقٌّ وَلََكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لََا يَعْلَمُونَ} (1) فأضمر ما أضاف إليه أكثر، ثم انتهى إلى قوله بعده:
{إِنَّ اللََّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النََّاسِ وَلََكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لََا يَشْكُرُونَ} فاقتضى ما بني عليه الكلام في هذه الآي أن يكون ما بعد الشرط بلفظ الإضمار كما كان ما تقدمه، فاختلاف الموضعين في الإظهار والإضمار لما ذكرنا.
الآية الثالثة من سورة غافر
قوله تعالى: {لَخَلْقُ السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النََّاسِ وَلََكِنَّ أَكْثَرَ النََّاسِ لََا يَعْلَمُونَ وَمََا يَسْتَوِي الْأَعْمى ََ وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصََّالِحََاتِ وَلَا الْمُسِيءُ قَلِيلًا مََا تَتَذَكَّرُونَ إِنَّ السََّاعَةَ لَآتِيَةٌ لََا رَيْبَ فِيهََا وَلََكِنَّ أَكْثَرَ النََّاسِ لََا يُؤْمِنُونَ وَقََالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبََادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دََاخِرِينَ اللََّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهََارَ مُبْصِراً إِنَّ اللََّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النََّاسِ وَلََكِنَّ أَكْثَرَ النََّاسِ لََا يَشْكُرُونَ} (2).
للسائل أن يسأل: عن المواضع الثلاثة التي جاء فيها {لََا يَعْلَمُونَ} وجاء فيها:
{لََا يُؤْمِنُونَ} وجاء فيها: {لََا يَشْكُرُونَ}؟ وعما يخص كلا بمكانه، وهل كان يجوز وضع أحدها موضع قرينه؟ أم كل آية اقتضت ما ختمت به؟.
الجواب أن يقال: من أقر بخلق السموات والأرض وأنكر الإعادة والبعث، ثم نبه على أن يعلم أن من قدر على الأكبر قادر على الأصغر، وهذا موضع يفتقر إلى العلم الذي نفاه عمن لم يقر به، فقال: {وَلََكِنَّ أَكْثَرَ النََّاسِ لََا يَعْلَمُونَ} فاختصّ هذا الموضع بنفي العلم، والعلم هو المحتاج إليه والمبعوث عليه، وقوله: {إِنَّ السََّاعَةَ لَآتِيَةٌ لََا رَيْبَ فِيهََا وَلََكِنَّ أَكْثَرَ النََّاسِ لََا يُؤْمِنُونَ} فمن أنكر البعث محتاج إلى الإيمان به بعد علمه بأن القادر على خلق السموات والأرض قادر على أن يخلق مثلهم، أما الآية الأخيرة فقوله: {إِنَّ اللََّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النََّاسِ وَلََكِنَّ أَكْثَرَ النََّاسِ لََا يَشْكُرُونَ} ومن كان له فضل عليه فهو محتاج إلى أن يؤدي حقه بالشكر، فقال تعالى:
{وَلََكِنَّ أَكْثَرَ النََّاسِ لََا يَشْكُرُونَ} أي: لا يقابلون نعمة الله عليهم بما يستديمها لهم من الشكر الذي يربطها لديهم، فقد بان أن كل ما ختمت به آية هو في مكانه اللائق به ولا يقتضي سواه، وبالله التوفيق.
__________
(1) سورة: يونس، الآية: 55.
(2) سورة: غافر، الآيات: 6157.(1/283)
41 - سورة فصلت
الآية الأولى منها
قوله تعالى: {قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدََاداً ذََلِكَ رَبُّ الْعََالَمِينَ وَجَعَلَ فِيهََا رَوََاسِيَ مِنْ فَوْقِهََا وَبََارَكَ فِيهََا وَقَدَّرَ فِيهََا أَقْوََاتَهََا فِي أَرْبَعَةِ أَيََّامٍ سَوََاءً لِلسََّائِلِينَ ثُمَّ اسْتَوى ََ إِلَى السَّمََاءِ وَهِيَ دُخََانٌ فَقََالَ لَهََا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيََا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قََالَتََا أَتَيْنََا طََائِعِينَ فَقَضََاهُنَّ سَبْعَ سَمََاوََاتٍ فِي يَوْمَيْنِ} (1).
للسائل أن يسأل فيقول: ذكر في هذه الآية أنه خلق الأرض في يومين، ثم قال:
{وَجَعَلَ فِيهََا رَوََاسِيَ} يعني: الجبال مع سائر ما ذكر في أربعة أيام، وقضى السموات السبع في يومين، فهذه ثمانية أيام، وقد قال {خَلَقَ السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضَ وَمََا بَيْنَهُمََا فِي سِتَّةِ أَيََّامٍ} (2).
وما أجاب به المفسرون هو أن معنى قوله: {فِي أَرْبَعَةِ أَيََّامٍ} أي: في تتمة أربعة أيام، ويكون لخلق الأرض يومان، ولخلق ما فيها من الجبال والأقوات والشجر وغيرها من عامر وغامر يومان، فتكون الأربعة أيام المذكورة معها يوما خلق الأرض، قالوا: وهذا كما يقول: سرت من البصرة إلى بغداد في عشرة أيام، وسرت إلى الكوفة في خمسة عشر يوما، وهو يعني: خمسة عشر مع العشرة التي سار فيها من البصرة إلى بغداد، فيخبر عن جملة الأيام التي وقع السير فيها، وكذلك أخبر الله تعالى عند ذكر ما خلقه في الأرض عن جملة الأيام التي وقع فيها خلق الأرض وما اتصل بها، وإنما ضم اليومين إلى اليومين المتقدمين، لاتصال خلق ما في الأرض بخلق الأرض، هذا ما أجاب به أهل النظر وأولو المعرفة بكلام العرب، وبقي سؤال يحتاج إلى جواب، وهو: أن يقال: ما الذي أوجب في العربية أن يضم اليومان اللذان أرسيت فيهما الجبال وأخرجت فيهما من الأرض المياه إلى اليومين اللذين وقع فيهما خلق الأرض؟ وهلا ذكر يوما ذلك مفردين على اليومين
__________
(1) سورة: فصلت، الآيات: 129.
(2) سورة: الفرقان، الآية: 59.(1/284)
المتقدمين ليزول الإشكال ولا يقع الاعتراض؟.
الجواب عن ذلك: سوى ما يقول النظار من رد المتشابه إلى المحكم وبنائه عليه بموجب النظر ليتبين مزية أهل العلم وما خصوا به من الفضل ووعدوه من جزيل الأجر، هو أن يقال: إن في الكلام ما أوجب ضم اليومين إلى اليومين الأولين، فذكر أربعة أيام في هذا المكان وهو من دقيق الكلام في الإعراب، وذلك أنه قال تعالى: {قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ} فتمت «الذي» بصلتها وصلتها خلق الأرض، وانقطعت الصلة بقوله: {وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدََاداً ذََلِكَ رَبُّ الْعََالَمِينَ} لأن: {وَتَجْعَلُونَ}
معطوف على قوله: {لَتَكْفُرُونَ} فانقطعت الصلة بالعطف على ما قبل الموصول والصلة، وقوله بعد ذلك: {وَجَعَلَ فِيهََا رَوََاسِيَ مِنْ فَوْقِهََا} عطف على قوله: {خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ} ولا يصح العطف على فعل هو صلة «الذي»، وقد حجز بينهما كلام أجنبي عنهما، فلو قلت: الذي خرج محمد وركب، لم يجز لأن قولك ركب: معطوف على خرج، وخرج: صلة «الذي»، وقد انقطعت بقولك: محمد، فلا يصح العطف على الصلة مع حجزه، ولو قلت: الذي خرج وركب محمد صلح، وإذا كان كذلك وجاء قوله:
{وَجَعَلَ فِيهََا رَوََاسِيَ} معطوفا على: {خَلَقَ الْأَرْضَ} وامتنع هذا العطف لما ذكرت لم يكن بدّ من أحد أمرين: إما أن تنوي بهذه الجملة المعطوفة التقديم حتى تعطف على خلق الأرض وتنوي بقوله: {وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدََاداً} التأخير، وهذا مما يجوز في ضرورات الشعر، وهو قبيح فيها أيضا، وإما أن يعطف على فعل مثل ما وقع في الصلة بدلالة الأول عليه، فيضمر خلق الإنسان وهو مما دل عليه الأول، ثم يعطف: {وَجَعَلَ فِيهََا رَوََاسِيَ}
عليها، فيصير كأنه قال: {أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ} {وَجَعَلَ فِيهََا رَوََاسِيَ مِنْ فَوْقِهََا وَبََارَكَ فِيهََا وَقَدَّرَ فِيهََا أَقْوََاتَهََا فِي أَرْبَعَةِ أَيََّامٍ} فيضم اليومان اللذان يقتضيهما خلق الأرض إلى اليومين اللذين هما لخلق ما فيها للمعنى الداعي إلى إضمار قوله: {خَلَقَ الْأَرْضَ} بعد قوله: {ذََلِكَ رَبُّ الْعََالَمِينَ} فهذا الذي أوجب من طريق اللفظ، والمعنى:
أن يتناول الخبر الثاني في المعطوف على الأول جملة الأيام التي وقع فيها خلق الأرض وما اتصل بها، وهو بين لمن تنبه إليه مفسر، فاعرفه.
الآية الثانية من سورة فصلت
قوله تعالى: {حَتََّى إِذََا مََا جََاؤُهََا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصََارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمََا كََانُوا
يَعْمَلُونَ} (1) وقال في سورة الزخرف (2): {حَتََّى إِذََا جََاءَنََا قََالَ يََا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ} وقال قبله: {حَتََّى إِذََا جََاؤُهََا فُتِحَتْ أَبْوََابُهََا} (3) يعني: أبواب جهنم، وقال بعدها: {حَتََّى إِذََا جََاؤُهََا وَفُتِحَتْ أَبْوََابُهََا} (4) يعني: أبواب الجنة.(1/285)
قوله تعالى: {حَتََّى إِذََا مََا جََاؤُهََا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصََارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمََا كََانُوا
يَعْمَلُونَ} (1) وقال في سورة الزخرف (2): {حَتََّى إِذََا جََاءَنََا قََالَ يََا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ} وقال قبله: {حَتََّى إِذََا جََاؤُهََا فُتِحَتْ أَبْوََابُهََا} (3) يعني: أبواب جهنم، وقال بعدها: {حَتََّى إِذََا جََاؤُهََا وَفُتِحَتْ أَبْوََابُهََا} (4) يعني: أبواب الجنة.
للسائل أن يسأل عن زيادة «ما» بعد «إذا» في سورة السجدة، وحذفها من الموضع الآخر.
الجواب أن يقال: إنه إذ قصد توكيد معنى الشرط الذي تضمنه «إذا» لقوة معنى الجزاء استعملت ما بعدها، وإذا لم يقصد ذلك لقرب معنى الجزاء من الشرط لم يستعمل «ما» بعدها، فقوله تعالى: {حَتََّى إِذََا مََا جََاؤُهََا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصََارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ}
شهادة السمع وسائر الجوارح من المعاني القوية التي لا يقتضيها الشرط الذي هو المجيء، ألا ترى استنكارهم لها حتى: {قََالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنََا} فأجابوا بأن: {قََالُوا أَنْطَقَنَا اللََّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ} (5) وليس كذلك: {حَتََّى إِذََا جََاؤُهََا فُتِحَتْ أَبْوََابُهََا} لأن المجيء يقتضي فتح الأبواب، وإن أضمر في الثاني الجزاء على معنى:
{حَتََّى إِذََا جََاؤُهََا} نالوا المنى عندها وأدركوا مطلوبهم ومرغوبهم فيها، فقد صار المكان مكان اختصار وحذف لما لا بد للكلام منه، فكيف يزاد فيه ما يستغنى عنه، وكذلك:
{حَتََّى إِذََا جََاءَنََا قََالَ يََا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ}: أي: قال الآدمي لقرينه من الجن اللذين اشتركا في الدنيا في معصية الله، ثم اشتركا في العذاب في الآخرة: ليتني لم أتبعك، وكان بعد ما بين المشرقين بيني وبينك، وهذا أيضا مما يتوقع كونه منهما ثم يتبرى بعض من بعض، فليس في الجزاء ما يوجب قوة الشرط من المعنى الذي لا يتوقع ولا يستفاد إلا به ومنه، ولا يكون في الشرط تنبيه عليه وإشارة اليد، فيترك التوكيد حيث لا يدعو داع إلى الإتيان به أحسن، وإذا دعى الداعي إليه، فالإتيان به أحرى وأقمن.
الآية الثالثة من سورة فصلت
قوله تعالى: {وَإِمََّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطََانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللََّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} (6) وقال في سورة الأعراف (7): {وَإِمََّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطََانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللََّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}
__________
(1) سورة: فصلت، الآية: 20.
(5) سورة: فصلت، الآية: 21.
(2) الآية: 38.
(6) سورة: فصلت، الآية: 36.
(3) سورة: الزمر، الآية: 71.
(7) الآية: 200.
(4) سورة: الزمر، الآية: 73.(1/286)
للسائل أن يسأل: عن التوكيد في سورة حم السجدة في قوله: {إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} وتعريفه الصفتين بالألف واللام، وترك التوكيد بقوله: {هُوَ} وترك التعريف في:
{سَمِيعٌ عَلِيمٌ} من الأعراف؟.
الجواب أن يقال: إن الذي في سورة السجدة لما كان بعد دعاء إلى ما يشق على الإنسان فعله، وهو أن يدفع السيئة بالحسنة، ويقابل غلظة عدوه بالملاينة استكفافا لشره وأذاه، حتى يعود إلى اللطف في المقال والجميل من الفعل، فيصير وإن كان عدوا كأنه صديق قريب القربى، ثم قال: {وَمََا يُلَقََّاهََا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمََا يُلَقََّاهََا إِلََّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} (1) أي: ما يوفق لذلك إلا من ملك أمر نفسه وصبر على احتمال الأذى من عدوه، ولا يوفق لذلك إلا من له نصيب وافر من الدين وحظ جزيل من الإسلام، وهذا الذي بعث الله تعالى نبيه صلّى الله عليه وسلم وسائر المؤمنين عليه، ما ينتهز الشيطان الفرصة عليه عنده ويبعث على عداوته من تجلب عداوته ضره ويوسوس إلى العصيان بالحمية والأنفة، فإذا كان الإنسان ثابت القدم ومالكا لنفسه عند الغضب فجاءه من قبل الشيطان مثل ما ذكرت مما يحمل على خلاف ما رغب الله تعالى فيه، ويدعو إلى معصية الله تعالى، ووجد في نفسه فسادا يتزين له من جهة شيطانه، وهو مأمور عند ذلك بالاستعاذة بالله من الشيطان ومن ضرر ما يحمل عليه ليعيذه الله تعالى منه، فلما كان الأمر الذي بعث الله تعالى عليه أولياءه شاقا عظيما، حتى قال: {وَمََا يُلَقََّاهََا إِلََّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} كانت وسوسة الشيطان في مثله أعظم، والمؤمن لها أيقظ، ومن قبولها أبعد، وكان الترغيب في مدافعته أبلغ، وتقدير علم الله تعالى بما يلاقي من ذلك أوكد، فجاء قوله: {إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} أي: لا سميعا عليما قديما إلا هو، فهو لم يزل يعلم ما يكون قبل أن يكون، فكيف ما يتكلف به من المشاق فيما دعاك إليه؟ فهذا وجه التوكيد والتعريف في هذه الآية، وأما الآية التي في سورة الأعراف، فإن قبلها: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجََاهِلِينَ} (2) ولم تعظم فيها الأفعال التي دعا إليها كما عظمت في سورة السجدة بل كان ما هناك بعثا على أحسن الأخلاق، ولم يخص نوعا من المشاق كما خص في سورة السجدة، فلم تقع المبالغة في اللفظ، واقتصر في الخبر على الأصل، وهو:
__________
(1) سورة: فصلت، الآية: 35.
(2) سورة: الأعراف، الآية: 199.(1/287)
{إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} أي: يسمع ما يكون منك، ويعلمه مع كل مسموع ومعلوم، فجعل اسم إن معرفة، وخبرها نكرة، وذلك الأصل قبل تأكيد الألفاظ لتأكد المعاني، فاعرفه إن شاء الله تعالى.
الآية الرابعة من سورة فصلت
قوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنََا مُوسَى الْكِتََابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلََا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ} (1) وقال في سورة حم عسق:
{وَلَوْلََا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلى ََ أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتََابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ} (2).
للسائل أن يسأل: عن خلو هذه الآية من ذكر النهاية المذكورة في الأخيرة، وهو قوله: {إِلى ََ أَجَلٍ مُسَمًّى}.
الجواب: أن خبر الله تعالى عما آتاه الله لموسى عليه السّلام من التوراة، يدل على أن أولئك القوم اختلفوا فيه كاختلاف من في عصر النبي صلّى الله عليه وسلم في القرآن الذي أنزل عليه، ثم قال: {وَلَوْلََا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ} أي: لولا أن الله تعالى قال: إني أوفي كلا من المطيع والعاصي حقه من الثواب والعقاب في الآخرة لأنزل بكل ما يجب له وعليه عند فعله في الدنيا، فأخبر أن سبيلهم في الإمهال سبيلهم لما سبق من حكم الله تعالى، وقوله في تأخير المستحق من الثواب والعقاب إلى الآخرة، فأما اختصاص ما في سورة حم عسق بذكر النهاية في قوله: {إِلى ََ أَجَلٍ مُسَمًّى}، فلأن قبله: {وَمََا تَفَرَّقُوا إِلََّا مِنْ بَعْدِ مََا جََاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ} فأخبر بمبتدإ كفرهم، وهو: إنكارهم بعد مجيء العلم أي: القرآن والآيات التي أوقعت العلم بصحة ما جاء به النبي صلّى الله عليه وسلم، فلما قال: {إِلََّا مِنْ بَعْدِ} ومن لابتداء الغاية، وكان ذلك ابتداء كفرهم، ذكرت النهاية التي أمهلوا إليها ليكون ابتداء عقابهم فيكون الحد مذكورا مع الحد، ولأنه جرى ذلك محدودا من الطرفين، قال بعده: {وَلَوْلََا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ} (3) أي: لولا قوله:
إني أفصل في الآخرة لأفصل في الدنيا، وهذا بيّن واضح فاعرفه.
__________
(1) سورة: فصلت، الآية: 45.
(3) سورة: الشورى، الآية: 21.
(2) سورة: الشورى، الآية: 14.(1/288)
الآية الخامسة منها
قوله تعالى: {وَلَئِنْ أَذَقْنََاهُ رَحْمَةً مِنََّا مِنْ بَعْدِ ضَرََّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هََذََا لِي} (1)
وقال في سورة هود (2): {وَلَئِنْ أَذَقْنََاهُ نَعْمََاءَ بَعْدَ ضَرََّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئََاتُ عَنِّي}.
للسائل أن يسأل فيقول: عن قوله في السجدة: {وَلَئِنْ أَذَقْنََاهُ رَحْمَةً مِنََّا مِنْ بَعْدِ ضَرََّاءَ مَسَّتْهُ} ولم يكن في سورة هود عليه السّلام: {مِنََّا} ولا: {مِنْ}؟.
الجواب أن يقال: إن قوله: {مِنََّا} مما بالكلام إلى ذكره حاجة، وقد استغنى عنها في سورة هود عليه السّلام، لتقدم ذكرها في الآية التي قبلها وهي: {وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسََانَ مِنََّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنََاهََا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَؤُسٌ كَفُورٌ} (3). وأما قوله: {مِنْ بَعْدِ ضَرََّاءَ مَسَّتْهُ} فلأنه لما حد الرحمة والجهة الواقعة منها حد الطرف الذي بعدها ليتشاكل المقترنان في التحقيق، لما لم يكن ذلك في الآية من سورة هود عليه السّلام من حد في الأول، لم يحتج إليه في الثاني.
الآية السادسة من سورة فصلت
قوله تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كََانَ مِنْ عِنْدِ اللََّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقََاقٍ بَعِيدٍ} (4) وقال في سورة الأحقاف (5): {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كََانَ مِنْ عِنْدِ اللََّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شََاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرََائِيلَ عَلى ََ مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللََّهَ لََا يَهْدِي الْقَوْمَ الظََّالِمِينَ}.
للسائل أن يسأل: عن قوله: {ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ} في الأول، وقوله: {وَكَفَرْتُمْ بِهِ} بالثاني، وهل يصلح كل واحد منهما مكان الآخر؟.
الجواب أن يقال: إن معنى قوله: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كََانَ مِنْ عِنْدِ اللََّهِ}
أرأيتم إن كان ما أتيتكم به من كلامه وسائر ما أديته إليكم من أمور دينه، وكان قصاراكم
__________
(1) سورة: فصلت، الآية: 50.
(4) سورة: فصلت، الآية: 52.
(2) الآية: 10.
(5) الآية: 10.
(3) سورة: هود، الآية: 9.(1/289)
وآخر أمركم الكفر به، فهل ترون أضل منكم عن الصواب، فإن لم تحققوه فلا بد من أن تتأملوا فيه فتعلموا بعدكم عن الهدى وإيغالكم في الضلال، فذكر فعلين: أحدهما: إن كان من عند الله وختمه بقوله: {ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ} على معنى: إنكم بعد إمهالي لكم لتدبره، وحثّي إياكم على تأمله، كان عاقبة أمركم الكفر به، فلم يحسن في المعنى إلا «ثم» للمهلة بين الاستدعاء إلى الحق، وخاتمة أفعالهم بالكفر وهو من مواضع «ثم». وأما في سورة الأحقاف فإن قوله: {وَكَفَرْتُمْ بِهِ} لم يجعله آخر ما أخبر به في القصة، وخاتمة أمره معهم في الدعوة، بل ذكر: {وَكَفَرْتُمْ بِهِ} وعطف عليها أفعالا بعدها، وهي:
{وَشَهِدَ شََاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرََائِيلَ عَلى ََ مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ} فكأنه قال: قابلتم بالكفر ما أتيت به واحتج عليكم من بني إسرائيل من قرأ الكتب وعرف ما أتيت به من الصدق فآمن وتكبرتم عما التزم من التذلل في طاعة الله ألا تكونون ظالمين بذلك والله لا يهدي القوم الظالمين إلى ما يهدي إليه المؤمنين، فلما لم يجعل قوله: {وَكَفَرْتُمْ بِهِ} الكفر الذي يوافي به الآخرة لما ذكر بعده من الاحتجاج عليهم، وتوقع من إيمانهم، وشهادة من كان على دينهم وإيمانه واستكبارهم، خالف المكان الذي ختمت أفعالهم بالكفر فيه فاستعملت الواو بدل استعمال «ثم» هناك، والسلام، والله الموفق.(1/290)
{وَشَهِدَ شََاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرََائِيلَ عَلى ََ مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ} فكأنه قال: قابلتم بالكفر ما أتيت به واحتج عليكم من بني إسرائيل من قرأ الكتب وعرف ما أتيت به من الصدق فآمن وتكبرتم عما التزم من التذلل في طاعة الله ألا تكونون ظالمين بذلك والله لا يهدي القوم الظالمين إلى ما يهدي إليه المؤمنين، فلما لم يجعل قوله: {وَكَفَرْتُمْ بِهِ} الكفر الذي يوافي به الآخرة لما ذكر بعده من الاحتجاج عليهم، وتوقع من إيمانهم، وشهادة من كان على دينهم وإيمانه واستكبارهم، خالف المكان الذي ختمت أفعالهم بالكفر فيه فاستعملت الواو بدل استعمال «ثم» هناك، والسلام، والله الموفق.
42 - سورة الشورى
قد مرت منها آيات شابهت الآيات التي في السورة قبلها، ومما لم يمر به:
الآية الأولى منها
قوله تعالى: {وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذََلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} (1) وقال قبله في سورة لقمان (2): {يََا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلََاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلى ََ مََا أَصََابَكَ إِنَّ ذََلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ}.
للسائل أن يسأل: عما اقتضى توكيد الخبر باللام في سورة حم عسق في قوله:
{لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} وتركه في سورة لقمان.
الجواب أن يقال: إن ما رغب الله تعالى فيه عبده من الصبر على ما آلم قلبه من جناية جان عليه حتى يغفر لمن ظلمه، ويهب له من القصاص حقه ترغيب فيما يشق على الإنسان فعله، إلا أن الله تعالى حسنه بما وعد من عفا عما يجب له من الأجر الذي ضمنه، ففيه مع جزيل الثواب إصلاح ما بين عشيرته وعشيرة الجاني عليه بإطفاء الثائرة عنهما، وإذا كان هذا من أصعب ما يتحمله الإنسان، وجب من توكيد الكلام فيه ما لا يجب في غيره، فأدخلت اللام على: {مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} على معنى أنه من الأمور التي تحتاج إلى توطين النفس عليها، وتخير أرفعها وأعلاها، وليس كذلك ما في سورة لقمان لأنه قال: {وَاصْبِرْ عَلى ََ مََا أَصََابَكَ} وليس يختص صبرا على ظلم يلحقه فيرغب في العفو عن الظالم، بل تكون شدائد لا يهيج النفوس الانتصار فيها، ولا تدعو دواعي إلى الانتقام لها من الرزايا في الأنفس والأموال، وما يكون من قبل الله تعالى مما تعبدنا فيه بالصبر وليس لنا غيره فأما الموضع الذي أبيح فيه الانتصاف، فالصبر فيه أحق، وكظم
__________
(1) سورة: الشورى، الآية: 43.
(2) الآية: 17.(1/291)
الغيظ معه أشد، والكلام فيه إلى التوكيد أحوج، ألا ترى أن صبر من قتل بعض أعزته رغبة فيما وعده الله من مثوبته، ليس كصبر من مات له بعض أحبته، فافتقر المكان الأول من تقوية الكلام فيما ينبه على الأصل إلى ما لم يحتج إليه المكان الآخر.
الآية الثانية منها
قوله تعالى: {وَمَنْ يُضْلِلِ اللََّهُ فَمََا لَهُ مِنْ سَبِيلٍ اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لََا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللََّهِ مََا لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ وَمََا لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ} (1) وقال في سورة الروم (2): {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لََا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللََّهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ}.
للسائل أن يسأل: عن اختلاف ما انقطع إليه قوله: {يَوْمٌ لََا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللََّهِ}
فجاء في هذه السورة: {مََا لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ} وفي سورة الروم: {يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ}.
الجواب أن يقال: إن قوله: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ} معناه: استقم أنت ومن معك من المؤمنين على الدين المستقيم من قبل أن يجيء يوم لا ينفع فيه الإيمان، فكأنه خاطب الناس بالاجتماع على الإيمان والتآلف على الإسلام قبل يوم القيامة الذي تتفرق فيه الجموع، ففريق في الجنة وفريق في السعير، {يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النََّاسُ أَشْتََاتاً لِيُرَوْا أَعْمََالَهُمْ} (3)، فلما كان قوله: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ} أمرا للنّاس كلهم بالاجتماع على الحق ورفض الباطل، حذّرهم من التفرق في الآخرة ومصير المطيع إلى دار الثواب والعاصي إلى دار العقاب، فكان هذا ملائما لما قبله والآية التي في سورة حم عسق جاءت بعد قوله: {أَلََا إِنَّ الظََّالِمِينَ فِي عَذََابٍ مُقِيمٍ وَمََا كََانَ لَهُمْ مِنْ أَوْلِيََاءَ يَنْصُرُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللََّهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللََّهُ فَمََا لَهُ مِنْ سَبِيلٍ اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لََا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللََّهِ مََا لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ وَمََا لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ} (1)
فلما قال: إن الظالمين لا وليّ لهم ينصرهم من دون الله قال عند ذكر اليوم الذي لا مرد له: {مََا لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ}، أي: لا معقل لكم تعتصمون به من عذاب الله، ولا
__________
(1) سورة: الشورى، الآيتان: 46، 47.
(3) سورة: الزلزلة، الآية: 6.
(2) الآية: 43.(1/292)
يمكنكم إنكار ما يحل بكم بدفعه عن أنفسكم بنصرة ناصر لكم، فاقتضى ما تقدم من ذكر أن لا ناصر لهم يدفع عذاب الله تعالى عنهم، سد طرق النجاة دونهم بأنه لا ملجأ لهم ولا ذابّ عنه، ومن دهمه الخطب العظيم الذي لا يطيق احتماله فلم يجد مهربا ولا ناصرا لم يبق له إلا الاستسلام، والسلام.
الآية الثالثة منها
قوله تعالى: {يَخْلُقُ مََا يَشََاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشََاءُ إِنََاثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشََاءُ الذُّكُورَ أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرََاناً وَإِنََاثاً وَيَجْعَلُ مَنْ يَشََاءُ عَقِيماً إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ} (1) وقال بعده: {وَمََا كََانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللََّهُ إِلََّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَرََاءِ حِجََابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مََا يَشََاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ} (2).
للسائل أن يسأل: عن مجيء: {عَلِيمٌ قَدِيرٌ} بعد ذكر الذكران والإناث من الأولاد والنعمة بهما على العباد، ومجيء: {عَلِيٌّ حَكِيمٌ} بعد ذكر الجهة التي منها يرد أمر الله لعباده بطاعته، ونهيه لهم عن معصيته، واختلاف أحوال الرسل في خطابه لهم، وأمره إياهم، وهل للصفتين الأولتين اختصاص بالآية التي ختمت بهما، وللصفتين الآخرتين اختصاص بما جاء بعده؟
الجواب أن يقال: لما نبه الله العباد على ما يشاهدون من خلقه لهم من أولادهم ذكورهم وإناثهم، وأنه يختص من يشاء بالإناث ويختص من يشاء بالذكور، أو يؤلفهم ببنات وبنين فيجمعهما للواحد، ومن أراد أن يعقم من الوالدين حتى لا يكون له نسل حرمه الولد، والناس في الأولاد لا ينفكون عن الأحوال الثلاث، قال عقيبه: {إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ} أي: يعلم الغيب ويطّلع على العواقب، فيفعل ما يصلح دون ما لا يصلح، وهو قادر لا قدرة كقدرته، فاختلاف الأحوال التي ذكرها هو لعلمه بما يصلح منها، وقدرته على إيجادها، فاقتضى الفعل المتقدم هذين الوصفين وأما قوله: {إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ} فالعلي: القادر على الشيء القاهر له، وكذلك قال الشاعر:
اعمد لما تعلو فما لك بالذي ... لا تستطيع من الأمور يدان
__________
(1) سورة: الشورى، الآيتان: 49، 50.
(2) سورة: الشورى، الآية: 51.(1/293)
فجعل بإزاء تعلو: لا تستطيع، فالقادر على الشيء أتمّ قدرة يكون عالما به قاهرا له، فذكر هذا الوصف يعد الأشرف من الأفعال من بعثة الرسل على اختلاف السبل، وأنه قاهر لما أراد فعله من ذلك، إنما أراد فعلا على وجه من الصواب لا مزيد عليه، وهو الذي تقتضيه الحكمة.
وجواب ثان في قوله: {عَلِيٌّ حَكِيمٌ} أنه يتعالى عن أن يكون كلامه لمن يكلم، ككلام غيره ممن يشاهد المكلم به المكلم له مشاهدة رؤية، فهو: {عَلِيٌّ} عن ذلك، و {حَكِيمٌ} في إبلاغهم كلامه من الوجه الذي ذكره، والقسم الذي قسمه، فقد ثبت أن كل آية اتبعت ما اقتضته وقد ذهب بعض أهل النظر إلى أن معنى قوله: {أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرََاناً وَإِنََاثاً} أنه يزوج ذكران عبيده بإناثهم، وهذا لا يكون ب «أو» لأنه لا يهب الإناث ولا الذكور إلا أن يزوج ذكرانهم بإناثهم، فليس هو قسما ثالثا تدخله، أو حتى يقال فيه: هذا أو هذا، وإنما وجه الكلام ما ذكرنا، والقسمة التي لا مزيد عليها ما قسمنا فاعرفه.(1/294)
وجواب ثان في قوله: {عَلِيٌّ حَكِيمٌ} أنه يتعالى عن أن يكون كلامه لمن يكلم، ككلام غيره ممن يشاهد المكلم به المكلم له مشاهدة رؤية، فهو: {عَلِيٌّ} عن ذلك، و {حَكِيمٌ} في إبلاغهم كلامه من الوجه الذي ذكره، والقسم الذي قسمه، فقد ثبت أن كل آية اتبعت ما اقتضته وقد ذهب بعض أهل النظر إلى أن معنى قوله: {أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرََاناً وَإِنََاثاً} أنه يزوج ذكران عبيده بإناثهم، وهذا لا يكون ب «أو» لأنه لا يهب الإناث ولا الذكور إلا أن يزوج ذكرانهم بإناثهم، فليس هو قسما ثالثا تدخله، أو حتى يقال فيه: هذا أو هذا، وإنما وجه الكلام ما ذكرنا، والقسمة التي لا مزيد عليها ما قسمنا فاعرفه.
43 - سورة الزخرف
الآية الأولى منها
قوله تعالى: {وَتَقُولُوا سُبْحََانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنََا هََذََا وَمََا كُنََّا لَهُ مُقْرِنِينَ وَإِنََّا إِلى ََ رَبِّنََا لَمُنْقَلِبُونَ} (1) وقال في سورة الشعراء (2): {قََالُوا لََا ضَيْرَ إِنََّا إِلى ََ رَبِّنََا مُنْقَلِبُونَ}.
للسائل أن يسأل: عما أوجب التوكيد في قوله هنا: {لَمُنْقَلِبُونَ} ولم يوجبه في سورة الشعراء حتى لم تدخل اللام على خبر أن دخولها في الأول.
الجواب أن يقال: إن معنى قوله: {وَتَقُولُوا سُبْحََانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنََا هََذََا} إلى آخر الآية: لتذكروا إنعام الله عليكم وتشكروه وتخالفوا الكفار بأن تقروا بما أنكروه، فتؤمنوا بالبعث والحياة بعد الموت، وهذا خطاب لكل من كان في ذلك العصر، ومن يكون بعدهم إلى انقضاء الدهر، فالتوكيد لمثله لازم، وفي الكلام الذي للتأييد واجب، والذي في سورة الشعراء إنما هو خبر عن السحرة لما آمنوا ووصفوا حالهم واستهانتهم بما خوفوا أن ينالهم من عقوبة فرعون، إذ كان منقلبهم إلى ربهم وكانوا مجازين على إيمانهم وصدقهم وصبرهم، فلم يحتج من التوكيد إلى ما احتاج إليه ما هو على التأييد.
الآية الثانية منها
قوله تعالى: {وَقََالُوا لَوْ شََاءَ الرَّحْمََنُ مََا عَبَدْنََاهُمْ مََا لَهُمْ بِذََلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلََّا يَخْرُصُونَ} (3) وقال في سورة الجاثية (4): {وَقََالُوا مََا هِيَ إِلََّا حَيََاتُنَا الدُّنْيََا نَمُوتُ وَنَحْيََا وَمََا يُهْلِكُنََا إِلَّا الدَّهْرُ وَمََا لَهُمْ بِذََلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلََّا يَظُنُّونَ}.
__________
(1) سورة: الزخرف، الآيتان: 13، 14.
(3) سورة: الزخرف، الآية: 20.
(2) الآية: 50.
(4) الآية: 24.(1/295)
للسائل أن يسأل: عما بعد قوله: {مََا لَهُمْ بِذََلِكَ مِنْ عِلْمٍ} في سورة الزخرف:
{إِنْ هُمْ إِلََّا يَخْرُصُونَ} وما بعده من سورة الجاثية: {إِنْ هُمْ إِلََّا يَظُنُّونَ} وهل لاختصاص كل باللفظة التي تقارنها فائدة تقتضيها؟
الجواب أن يقال: إن قبل الآية من سورة الزخرف: {وَجَعَلُوا الْمَلََائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبََادُ الرَّحْمََنِ إِنََاثاً أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهََادَتُهُمْ وَيُسْئَلُونَ وَقََالُوا لَوْ شََاءَ الرَّحْمََنُ مََا عَبَدْنََاهُمْ مََا لَهُمْ بِذََلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلََّا يَخْرُصُونَ} (1) فأخبر عنهم أنهم قالوا:
الملائكة بنات الله تعالى، وأن الله تعالى أراد أن يعبدوهم {وَقََالُوا لَوْ شََاءَ الرَّحْمََنُ مََا عَبَدْنََاهُمْ} وليس ذلك عن علم، بل هم كاذبون فيما يدعونه ويخبرون به، فأبطل خبرهم بالتكذيب لهم، وهو الذي يليق بالموضع والذي في سورة الجاثية خبر عن الكفار الذين دعاهم النبي صلّى الله عليه وسلم إلى الإسلام بأنهم قالوا: لا بعث لنا، وإنما هو أن تموت الأسلاف وتحيى الأخلاف، فكلما هدم الدهر قوما فأفناهم، نشأ فيه آخرون فأحياهم، وهؤلاء لم يقولوا ما قالوا بمعرفة بل قالوه على سبيل الظن، فكان: {إِنْ هُمْ إِلََّا يَظُنُّونَ} لائقا بهذا المكان كما لاق بالأول: {إِنْ هُمْ إِلََّا يَخْرُصُونَ}.
الآية الثالثة منها
قوله تعالى: {بَلْ قََالُوا إِنََّا وَجَدْنََا آبََاءَنََا عَلى ََ أُمَّةٍ وَإِنََّا عَلى ََ آثََارِهِمْ مُهْتَدُونَ} (2) ثم قال بعده: {وَكَذََلِكَ مََا أَرْسَلْنََا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلََّا قََالَ مُتْرَفُوهََا إِنََّا وَجَدْنََا آبََاءَنََا عَلى ََ أُمَّةٍ وَإِنََّا عَلى ََ آثََارِهِمْ مُقْتَدُونَ} (3).
للسائل أن يسأل عن قوله: {مُهْتَدُونَ} في فاصلة الآية الأولى، و {مُقْتَدُونَ}
في فاصلة الآية الثانية، وهل كانت تصلح هذه مكان تلك؟ أم هناك معنى يخصصها بمكانها؟.
الجواب أن يقال: إن الأولى حكاية قول الكفار الذين حاجّوا النبي صلّى الله عليه وسلم، فقال مخبرا عنهم: {أَمْ آتَيْنََاهُمْ كِتََاباً مِنْ قَبْلِهِ} (4) أي: من قبل القرآن:
__________
(1) سورة: الزخرف، الآيتان: 19، 20.
(2) سورة: الزخرف، الآية: 22.
(3) سورة: الزخرف، الآية: 23.
(4) سورة: الزخرف، الآية: 21.(1/296)
{فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ} (1) أي: كتابا فيه حجة بصحة دعواهم فهم متعلقون به، فأعرض عن ذلك، وقال تعالى: لا حجة لهم، لكنهم قالوا: وجدنا آباءنا على ملة وطريقة في الدين مقصودة، ونحن في اتباع آثارهم على هداية، فادعوا الاهتداء بسلوكهم سبيل آباءهم وأما الآية الثانية فإنها خبر عن الأمم الكافرة بأنبيائها، قال: {مََا أَرْسَلْنََا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ} إلا قال ذووا النعم والأموال من أهلها قريبا من قول هؤلاء الذين في عصرك، فكان أقصى ما احتجوا به أن: {قََالُوا إِنََّا وَجَدْنََا آبََاءَنََا عَلى ََ أُمَّةٍ} فاقتدينا بهم ولم يؤكّد الخبر عنهم بدعواهم الاهتداء كما أكده عمن كان في عصره ممن يدعيه، لبطلان قول الجميع وزوال الماضين عن احتجاجهم وثبات هؤلاء في حجاجهم وقوله: {قََالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدى ََ مِمََّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبََاءَكُمْ} (2) خطاب لمن قال: {إِنََّا وَجَدْنََا آبََاءَنََا عَلى ََ أُمَّةٍ وَإِنََّا عَلى ََ آثََارِهِمْ مُهْتَدُونَ} دون الذين قالوا: {مُقْتَدُونَ}.
44 - سورة الدخان
ليس فيها من ذلك شيء.
__________
(1) سورة: الزخرف، الآية: 21.
(2) سورة: الزخرف، الآية: 24.(1/297)
45 - سورة الجاثية
الآية الأولى منها
قوله تعالى: {إِنَّ فِي السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضِ لَآيََاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ وَفِي خَلْقِكُمْ وَمََا يَبُثُّ مِنْ دََابَّةٍ آيََاتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ وَاخْتِلََافِ اللَّيْلِ وَالنَّهََارِ وَمََا أَنْزَلَ اللََّهُ مِنَ السَّمََاءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيََا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهََا وَتَصْرِيفِ الرِّيََاحِ آيََاتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} (1).
للسائل أن يسأل: عما ختمت به الآية الأولى وهو: {لَآيََاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ} وما ختمت به الثانية وهو: {آيََاتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} وما ختمت به الثالثة وهي: {آيََاتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ}؟
وعن الفائدة في اختصاص هذه بهذه دون تلك.
الجواب أن يقال: لما قال الله تعالى قبل خلق السموات والأرض بالحق إن في ذلك {لَآيََاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ} وقال في سورة ص (2): {وَمََا خَلَقْنَا السَّمََاءَ وَالْأَرْضَ وَمََا بَيْنَهُمََا بََاطِلًا ذََلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النََّارِ} فأخبر أن في خلقهما بالحق آية للمؤمنين، وأن خلقهما باطلا لا ليعبد فيهما ويطاع ظن الكافرين، كانت الآية الأولى من سورة الجاثية محمولة على ما تقدم من إثبات الآيات فيها للمؤمنين، ومن تلك الآيات أنه لا شيء أعظم في الموجودات منها، ثم اتّساق النجوم فيها وتسخيرها على انتظام مما يدل على مدبرها، ثم وقوفها مع عظمها وثقل جرمها بغير دعامة من تحتها، ولا علاقة من فوقها تدل على قدرة قادر لا يشبهه قادر، فمن وفى النظر في ذلك وفي سائر ما فيها من الآيات الأخر حقه أداه إلى الإيمان بالله تعالى، فلذلك قال: {لَآيََاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ} فخصّهم لانتفاعهم بها، وإن كانت الآيات منصوبة لهم ولغيرهم، إلا أنهم لما لم ينتفعوا بها صارت كأنها لم تكن لهم آيات، وأما قوله: {وَفِي خَلْقِكُمْ وَمََا يَبُثُّ مِنْ دََابَّةٍ آيََاتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} فإن
__________
(1) سورة: الجاثية، الآيات: 53.
(2) الآية: 27.(1/298)
العجائب في خلق الحيوان وما له من الأعضاء والحواس التي بها يدرك المحسوسات، ثم في باطنه من جواذب المواد التي بها قوام الحياة، ثم الروح التي بها ثبات الأجساد، أكثر من أن تحصى وتعدّ، فإن عرضت شبهة لملحد بأن كون الولد بإحبال الوالد أمه، ومن نطفته يأخذ شبهه، فإنه يطرح ذاك ويرتاح بالآيات التي ليس إلى الوالد فعلها، ولا جارحة من جوارحه يحيط علمه بنشأتها، والحكمة في تركيبها، فكيف أن يكون فاعلها تبارك وتعالى من صنعها وزينها بالعقل الذي هو أكبر نعمة، فهذا هو للمتفكر في ذلك ينتقل من ظن إلى علم وتيقن بعد شك، واليقين علم يحصل بعد تشكك، ولذلك لا يوصف الله تعالى بأنه موقن، ويوصف بأنه عالم، فلهذا قال: {آيََاتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ}. وأما الآية الأخيرة وهي: {وَاخْتِلََافِ اللَّيْلِ وَالنَّهََارِ وَمََا أَنْزَلَ اللََّهُ مِنَ السَّمََاءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيََا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهََا وَتَصْرِيفِ الرِّيََاحِ آيََاتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} فقد تقدم من قولنا في الفرق بين: {يَعْقِلُونَ}
و (يعلمون) ما يبين الجواب عن الفائدة في اختصاص هذه الآية بقوله: {يَعْقِلُونَ} كما قال تعالى في سورة البقرة (1): {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلََافِ اللَّيْلِ وَالنَّهََارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمََا يَنْفَعُ النََّاسَ وَمََا أَنْزَلَ اللََّهُ مِنَ السَّمََاءِ مِنْ مََاءٍ فَأَحْيََا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهََا وَبَثَّ فِيهََا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيََاحِ وَالسَّحََابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمََاءِ وَالْأَرْضِ لَآيََاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} فخص هذا المكان أيضا بقوله:
{يَعْقِلُونَ} لأن المعنى أنهم يفطنون بمعلوم آخر، فيعقلون من إحياء الله الأرض بالمطر حتى تكتسي بالنبات والشجر أنه يحيى العظام وهي رميم، وهذا موضع يقال فيه: عقل من كذا كذا أي: استدركه بالعلم بعد أن لم يكن مستدركا له، فكأنه في معنى: يفطنون، ويدرون، ويشعرون، كما أن أصل الوصف بالعاقل موضوع لحالة ثانية ومعرفة طارئة، فلذلك خصّت الآية الثالثة بهذه اللفظة.
الآية الثانية من سورة الجاثية
قوله تعالى: {وَيْلٌ لِكُلِّ أَفََّاكٍ أَثِيمٍ يَسْمَعُ آيََاتِ اللََّهِ تُتْلى ََ عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهََا فَبَشِّرْهُ بِعَذََابٍ أَلِيمٍ} (2) وقال في سورة لقمان (3): {وَإِذََا تُتْلى ََ عَلَيْهِ آيََاتُنََا وَلََّى مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهََا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً فَبَشِّرْهُ بِعَذََابٍ أَلِيمٍ}.
__________
(1) الآية: 164.
(2) سورة: الجاثية، الآيتان: 7، 8.
(3) الآية: 7.(1/299)
للسائل أن يسأل: عن فائدة قوله: {كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً} واستغناء الكلام عنه في سورة الجاثية، مع أن القصتين مشتبهتان؟.
الجواب: أن هذا الكافر لما أخبر الله عنه في سورة لقمان بأنه يعرض عن القرآن إذا سمعه غير منتفع به، حتى كأنه لم يسمعه، ويستمر به هذا الحال كما يستمر بمن به صمم، وقوله في الجاثية: {ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهََا} يدل على ما دل عليه:
{كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً} لأن الإصرار عزم لا يتهم معه بإقلاع، فإذا أصر على التصامّ، فهو كمن في أذنيه وقر، فصار أحد اللفظين يغني عن الآخر، ويقوم مقامه، ويؤدي من المعنى أداءه، فلذلك لم يجمع بينهما، وكان الموضع الذي ذكر فيه: {وَلََّى مُسْتَكْبِراً}
أحق بقوله: {كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً} والموضع الذي ذكر فيه الإصرار على ترك الاستماع أغنى عن ذكر: {كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً}.
الآية الثالثة من سورة الجاثية
قوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنََا بَنِي إِسْرََائِيلَ الْكِتََابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْنََاهُمْ مِنَ الطَّيِّبََاتِ وَفَضَّلْنََاهُمْ عَلَى الْعََالَمِينَ وَآتَيْنََاهُمْ بَيِّنََاتٍ مِنَ الْأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلََّا مِنْ بَعْدِ مََا جََاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيََامَةِ فِيمََا كََانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} (1) وقال في سورة يونس (2): {وَلَقَدْ بَوَّأْنََا بَنِي إِسْرََائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ وَرَزَقْنََاهُمْ مِنَ الطَّيِّبََاتِ فَمَا اخْتَلَفُوا حَتََّى جََاءَهُمُ الْعِلْمُ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيََامَةِ فِيمََا كََانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ}.
للسائل أن يسأل عن اختلاف ما اختلف من الآيتين، وزيادة ألفاظ في سورة الجاثية على ما في سورة يونس عليه السّلام وإبدال ألفاظ مكان ألفاظ.
الجواب أن يقال: إن سورة الجاثية لم يذكر فيها من قصة بني إسرائيل غير هاتين الآيتين، والتي في سورة يونس عليه السّلام إنما هي بعد سبع عشرة آية قصرت على ذكر موسى عليه السّلام وما دار بينه وبين فرعون، من حيث قال: {ثُمَّ بَعَثْنََا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسى ََ وَهََارُونَ إِلى ََ فِرْعَوْنَ} (3) إلى الآية التي ذكر فيها غرق فرعون المختومة بقوله: {فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً} (4) وكانت هذه السبع عشرة آية قد اختصر فيها جميع ما بسط في الآيات الكثيرة من سورة طه عليه الصلاة والسلام ومن سورة الشعراء،
__________
(1) سورة: الجاثية، الآيتان: 16، 17.
(3) سورة: يونس، الآية: 75.
(2) الآية: 93.
(4) سورة: يونس، الآية: 92.(1/300)
فكان الموضع موضع اختصار، فاختصر قوله: {وَلَقَدْ بَوَّأْنََا بَنِي إِسْرََائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ} عما شرح في الآيتين اللتين في سورة الجاثية، فأودعت آية واحدة من سورة يونس عليه السّلام ما أودع في آيتين من سورة الجاثية فقوله: {وَلَقَدْ بَوَّأْنََا بَنِي إِسْرََائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ} أي: أنزلناهم منزل اختيار ورفعة وجلالة وتفضيل وكرامة، ولا منزلة في الدنيا أعلى مما تجمع النبوة والكتاب والحكومة بين الناس لفضل العلم، فقوله: {مُبَوَّأَ صِدْقٍ} مشتمل على كل ذلك، وقوله: {وَرَزَقْنََاهُمْ مِنَ الطَّيِّبََاتِ} في الآيتين سواء، وقوله: {فَمَا اخْتَلَفُوا} من تمام الآية من سورة يونس، وهو في آية مفردة من سورة الجاثية أولها: {وَآتَيْنََاهُمْ بَيِّنََاتٍ مِنَ الْأَمْرِ} يعني أمر الدين {فَمَا اخْتَلَفُوا إِلََّا مِنْ بَعْدِ مََا جََاءَهُمُ الْعِلْمُ} تضمّنت أربعة ألفاظ منها وهي الأمر بعد ما تضمنه لفظ واحد من الآية في سورة يونس عليه السّلام، وهي:
{حَتََّى} وذلك أن {حَتََّى} للنهاية، أي: لم يختلفوا، وكانوا متفقين إلى أن جاءهم العلم وهو كتاب الله تعالى، فحتى لمنتهى الاتفاق، وقد دخلت على {جََاءَهُمُ الْعِلْمُ} فمجيء العلم منتهى ما تقدم، ومبتدأ الاختلاف الذي لم يكن إلا بعد وجوده، فاحتمل الآيتان من سورة واحدة في قصة واحدة من بسط الألفاظ، وشرح المعاني ما اختير اختصاره حيث شغلت بتلك القصة آيات كثيرة، وهي مع كثرتها مبنية على الإيجاز، فكان من البسط قوله: {إِلََّا مِنْ بَعْدِ مََا} بدل قوله: {حَتََّى} وقوله: {بَغْياً بَيْنَهُمْ} بيان ما دعاهم إلى الاختلاف، وهو البغي والحسد عداوة بعضهم لبعض، وقوله: {إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيََامَةِ} في المكانين واحد، والله أعلم.
46 - سورة الأحقاف
ما فيها قد تقدم ذكره في غيرها.
47 - سورة محمد صلّى الله عليه وسلم
ليس فيها شيء من ذلك.(1/301)
ليس فيها شيء من ذلك.
48 - سورة الفتح
الآية الأولى منها
قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدََادُوا إِيمََاناً مَعَ إِيمََانِهِمْ وَلِلََّهِ جُنُودُ السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضِ وَكََانَ اللََّهُ عَلِيماً حَكِيماً} (1) وقال بعد: {وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسََاءَتْ مَصِيراً وَلِلََّهِ جُنُودُ السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضِ وَكََانَ اللََّهُ عَزِيزاً حَكِيماً} (2).
للسائل: أن يسأل: عن قوله في الأولى: {وَكََانَ اللََّهُ عَلِيماً حَكِيماً} وقوله في الثانية: {وَكََانَ اللََّهُ عَزِيزاً حَكِيماً}.
الجواب أن يقال: إن قوله: {إِنََّا فَتَحْنََا لَكَ فَتْحاً} (3) قد فسر على وجهين:
أحدهما: أنها نزلت عليه مرجعه من عام الحديبية، مبشّرة بما يكون من الفتح في قابل، ومعناه: إنا قضينا بفتح مكة عن محاربة منك لأهلها، ومغالبتهم على دخولها ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخّر، ويتم نعمته عليك بما يملكك بعده جميع أرض العرب، وقد علم الله ما يكون قبل كونه، وقرن الحكمة بصنعه، وهو مبشر لكم بما لم يعجله في وقته لما اقتضت الحكمة من تأخيره، فهذا معنى: {وَكََانَ اللََّهُ عَلِيماً حَكِيماً}.
والوجه الآخر: أن تكون قد نزلت لما فتح الله له مكة، وكان وعد الله قد سبق بها وبغيرها من البلدان، فلما فتحت مكة ازداد المؤمنون بصيرة إلى بصيرتهم لما صدق الله من وعدهم، فوثقوا أتم ثقة باعتلاء أمرهم، وقوله: {وَكََانَ اللََّهُ عَلِيماً} أي: بما يكون
__________
(1) سورة: الفتح، الآية: 4.
(2) سورة: الفتح، الآيتان: 6و 7.
(3) سورة: الفتح، الآية: 1.(1/302)
مما أخبركم به وبسائر المعلومات، {حَكِيماً} في أفعاله المخصوصة بالأوقات، فيقدّم ويؤخر على مقتضى الحكمة، لا على مقتضى إرادة الخليقة.
وأما قوله: {وَلِلََّهِ جُنُودُ السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضِ} أي: يملك من فيهما من الملائكة والإنس، فإذا أراد تسليطهم على كفار عباده لينتقم منهم فعل، وقيل: {لِلََّهِ} أي: هم عبيد له، وقيل: لطاعة الله {جُنُودُ السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضِ} أي: خلقوا لذلك ومنها نصرة دينه وأما قوله بعد: {وَكََانَ اللََّهُ عَزِيزاً حَكِيماً} فإنما جاء بعد قوله: {وَيُعَذِّبَ الْمُنََافِقِينَ وَالْمُنََافِقََاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكََاتِ} (1) فذكر قدرته على عقابهم وقهره لهم بعذابهم، فلما عذبهم بأن أذلهم وأباح للمؤمنين قتلهم وغنمهم أموالهم، كان هذا المكان مقتضيا أن يتصف الله تعالى بالقهر والعزة والحكمة فيما يظهر من القدرة، فصار كل من خاتمتي الآيتين في موضعه، وهذا كما قال في هذه السورة في أهل البيعة تحت الشجرة: {وَأَثََابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً وَمَغََانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهََا وَكََانَ اللََّهُ عَزِيزاً حَكِيماً} (2) فاتّصف بالعز والحكمة لما كان في موضع القهر والغلبة.
الآية الثانية من سورة الفتح
قوله تعالى: {قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللََّهِ شَيْئاً إِنْ أَرََادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرََادَ بِكُمْ نَفْعاً} (3)، وقال في سورة المائدة (4): {قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللََّهِ شَيْئاً إِنْ أَرََادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً}.
للسائل أن يسأل عن زيادة لكم في قوله: {فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ} في هذه السورة، وحذفها في سورة المائدة.
الجواب أن يقال: إن هذه الآية في قوم تخلفوا عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم من غير عذر، وتأخّروا عن الجهاد معه والغزو، وقالوا: شغلتنا أموالنا وأهلونا، ثم سألوه صلّى الله عليه وسلم أن يستغفر لهم، يكتمون بذلك نفاقهم، ويظهرون وفاقهم، وأنهم محتاجون إلى استغفاره لهم وقصد استمالته، وأن لا تضرهم عداوته، ثم قال: {قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللََّهِ شَيْئاً} أي:
من يملك لكم نفعا {إِنْ أَرََادَ بِكُمْ ضَرًّا} ومن يملك لكم ضرا إن {أَرََادَ بِكُمْ نَفْعاً}
__________
(1) سورة: الفتح، الآية: 6.
(3) سورة: الفتح، الآية: 11.
(2) سورة: الفتح، الآيتان: 18و 19.
(4) الآية: 17.(1/303)
ومعناه: إن أراد إنزال العذاب بكم لم يكن لكم من يدفعه عنكم، كما أنه إن أراد الإنعام عليكم لم تضركم إساءة المسيء إليكم، فلما كان في قوم مخصوصين، احتيج إلى قوله:
{لَكُمْ} ليتبين فأما الآية التي في سورة المائدة، فإنها لم تخرج عن أن تكون مخصوصة في فريق دون فريق، بل عمّ بها أي: لا يملك أحد دون الله شيئا فيما يريده من خير وشر في عباده، ويدل عليه قوله: {إِنْ أَرََادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً} فلما سيقت الآية إلى العموم لم يحتج إلى:
{لَكُمْ} التي للخصوص.
الآية الثالثة من سورة الفتح
قوله تعالى: {إِنْ أَرََادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرََادَ بِكُمْ نَفْعاً بَلْ كََانَ اللََّهُ بِمََا تَعْمَلُونَ خَبِيراً} (1) وقال بعده: {وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكََانَ اللََّهُ بِمََا تَعْمَلُونَ بَصِيراً} (2).
للسائل أن يسأل: عن الأولى لماذا ختمت بقوله: {خَبِيراً}؟ وعن الثانية لماذا ختمت بقوله: {بَصِيراً}؟.
الجواب أن يقال: لأن الأولى في ذكر ما أسرّه المنافقون من نفاقهم لأنهم أضمروا خلاف ما أظهروا وطلبوا الاستغفار لهم، ولا إرادة فيه منهم، فكأنه قال: بل كان الله يخبر باطنكم، والآية الثانية بعد قوله: {كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ} أي: بما قذف في قلوبهم من الرعب، {وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ} بأن أمركم أن لا تحاربوهم، فيفعل كل ما أراده الله منهم، والله أبصر فعلكم، وهذا ظاهر يوصف بأن الله تعالى يراه، والذي في الأولى باطن يوصف بأن الله تعالى يخبره، فلذلك خصت الأولى بخبير، والثانية ببصير.
49 - سورة الحجرات
ليس فيها شيء من ذلك.
__________
(1) سورة: الفتح، الآية: 11.
(2) سورة: الفتح، الآية: 24.(1/304)
50 - سورة ق
الآية الأولى منها
قوله تعالى: {فَكَشَفْنََا عَنْكَ غِطََاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ وَقََالَ قَرِينُهُ هََذََا مََا لَدَيَّ عَتِيدٌ} (1) وقال بعدها: {الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللََّهِ إِلََهاً آخَرَ فَأَلْقِيََاهُ فِي الْعَذََابِ الشَّدِيدِ قََالَ قَرِينُهُ رَبَّنََا مََا أَطْغَيْتُهُ وَلََكِنْ كََانَ فِي ضَلََالٍ بَعِيدٍ} (2).
للسائل: أن يسأل: عن إدخال الواو في قوله: {وَقََالَ قَرِينُهُ هََذََا مََا لَدَيَّ عَتِيدٌ}
وحذفها من الثاني حيث قال: {قََالَ قَرِينُهُ رَبَّنََا مََا أَطْغَيْتُهُ وَلََكِنْ كََانَ فِي ضَلََالٍ بَعِيدٍ}؟.
الجواب أن يقال: إن القرين الأول فيه وجهان: أحدهما: أن يراد به الملك الشهيد عليه، وهو الشاهد لما يعمله الإنسان، فيكتبه عليه فيقول له يوم القيامة: {هََذََا مََا لَدَيَّ عَتِيدٌ} محفوظ عليك والوجه الآخر: أن يقول قرينه من الشياطين كان في الدنيا: هذا ما عندي من العذاب الحاضر المعد لي ولك، وعلى الوجهين هو خطاب للإنسان من قرينه.
وأما الآية الثانية، فإنها منفصلة لأن القول هناك ليس للإنسان، ولا ما بعده خطابا له، فلما لم يكن القائل ولا المقول انقطع واستؤنف، ألا ترى أنه للقرين وأنه يخاطب الله تعالى بقوله: {رَبَّنََا مََا أَطْغَيْتُهُ} فلما لم يكن القائل المخاطب ولا المقول له المخاطب، صار كأنه مستأنف، فالآيات التي أجريت هذا المجرى بعده، وهي: {قََالَ لََا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ} (3) وكقوله: {مََا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ} (4) فلما لم يكن في واحد منهما واو عاطفة، كانت الأخرى كذلك.
__________
(1) سورة: ق، الآيتان: 22و 23.
(2) سورة: ق، الآيتان: 26و 27.
(3) سورة: ق، الآية: 28.
(4) سورة: ق، الآية: 29.(1/305)
الآية الثانية من سورة ق
قوله تعالى: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ} (1) وقال في سورة طه (2): {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهََا}.
للسائل أن يسأل: عن الموضعين، وأن يقول: لم قال في سورة طه عليه الصلاة والسلام: {وَقَبْلَ غُرُوبِهََا} وفي هذه: {وَقَبْلَ الْغُرُوبِ}؟.
الجواب قريب، وهو: أن فواصل أكثر الآيات في سورة طه أواخرها ألف، فعدل إلى: {غُرُوبِهََا} وهو الأصل لأن الطلوع مضاف إلى الشمس، وحق الغروب أن يكون مضافا إلى ضميرها، وضميرها هاء بعدها ألف.
وأما سورة ق، فواصلها مردوفة بواو أو ياء، كالسجود والجلود والقعيد والعتيد والمريج والغروب، متى ذكر علم أنه أريد به غروبها، فكان ذلك أشبه بالفواصل التي تقدمتها في المكانين، فلذلك اختلفا.
__________
(1) سورة: ق، الآية: 39.
(2) الآية: 130.(1/306)
51 - سورة الذاريات
الآية الأولى منها
قوله تعالى: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنََّاتٍ وَعُيُونٍ آخِذِينَ مََا آتََاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كََانُوا قَبْلَ ذََلِكَ مُحْسِنِينَ} (1) إلى قوله: {إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مََا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ} (1) وقال في سورة الطور (3): {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنََّاتٍ وَنَعِيمٍ فََاكِهِينَ بِمََا آتََاهُمْ رَبُّهُمْ وَوَقََاهُمْ رَبُّهُمْ عَذََابَ الْجَحِيمِ كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِمََا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}.
للسائل أن يسأل: عن اختلاف ما اختلف من الأخبار عن أهل الجنة في هاتين السورتين.
الجواب أن يقال: إنه تعالى أخبر عنهم في الذاريات أنهم صاروا إلى الجنة بأعمال عدّدها، ودعا العباد إليها ليفعلوا فعلهم لها فقال: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنََّاتٍ} والمراد بالجنات: ما ذكره في سورة الرحمن، حيث قال: {وَلِمَنْ خََافَ مَقََامَ رَبِّهِ جَنَّتََانِ} (4)
وبعده: {وَمِنْ دُونِهِمََا جَنَّتََانِ} (5) ثم قال: {وَعُيُونٍ} لما كان المعنى بالجنات: البساتين التي لها ظلال، والظل والماء مطلوبان للعرب، ولكل ما ذرأ الله من النسم، قرن إلى الجنات العيون، كما قال: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلََالٍ وَعُيُونٍ} (6) وجعل ذلك بإزاء ما يعذب به أهل النار، حيث يقول: {يَوْمَ هُمْ عَلَى النََّارِ يُفْتَنُونَ ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ} (7) أي: يحرقون ليزال عنهم الخبث، وكلهم خبث لا يخلص منهم ما يستغني عن الإحراق، ثم قال:
__________
(1) سورة: الذاريات، الآيات: 2315.
(3) الآيات: 1917.
(4) سورة: الرحمن، الآية: 46.
(5) سورة: الرحمن، الآية: 62.
(6) سورة: المرسلات، الآية: 41.
(7) سورة: الذاريات، الآيتان: 13، 14.(1/307)
{آخِذِينَ مََا آتََاهُمْ رَبُّهُمْ} أي: متقبّلين عطية ربهم لأنهم أحسنوا في هذه الدنيا في فعلهم، فاقتدوا بهم لتكونوا كمثلهم، وأقلّوا الهجوع بالليل لتنالوا مثل نيلهم، واستغفروا لتفوزوا كما فازوا باستغفارهم، وأخرجوا فضلات أموالكم لمن يسأل من الفقراء ومن يحرم نفسه بترك السؤال كما أخرجوها فغنموا بها، واعتبروا بالآيات التي نصبها الله في الأرض، كالراسيات والعيون الجاريات، وما يطلع منها من نام وغير نام من جواهر المعادن، فإنهم به اعتبروا وبه وصلوا إلى ما وصلوا، وهذه الآية تدلّ على أنّ وصف أهل الجنة في هذه السورة بالأعمال التي قدموها تتضمن أمر المكلفين بمثل ما جعل خبرا عنهم أنهم فعلوه لأن طريق قوله: {وَفِي أَمْوََالِهِمْ حَقٌّ لِلسََّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} (1) غير طريق {وَفِي الْأَرْضِ آيََاتٌ لِلْمُوقِنِينَ} (2) إذا لم يحمل على ما ذكرنا، فلما كان القصد في هذه السورة الحثّ على أفعال أهل الجنة بالآيات المتعلقة بوصفهم، المخلصة بخطاب من يدعى إلى مثل فعلهم، استمر الكلام على هذا النظم إلى أن انتهى إلى ذكر الأنبياء عليهم السّلام وأممهم الكافرة، وما أنزله من العذاب بأمة أمة منهم، وأما الآية التي في سورة الطور فإنه وصف تعالى نعيمهم في الجنة وأصناف ما حصلوا فيه من اللذة، فقال: {فََاكِهِينَ بِمََا آتََاهُمْ رَبُّهُمْ وَوَقََاهُمْ رَبُّهُمْ عَذََابَ الْجَحِيمِ} إلى قوله: {هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ} (3) لأنه إذا ذكرت الأفعال التي تستوجب بها الجنة، ذكر من الجزاء فيها ما تنتهي إليه اللذة وتقترحه الشهوة، وهو ما فصّله الله تعالى في سورة الطور، ثم ختم الآيات بقوله: {فَذَكِّرْ فَمََا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكََاهِنٍ وَلََا مَجْنُونٍ} (4) فاختلاف الآيات في السورتين لما ذكرنا، والله أعلم.
الآية الثانية من سورة الذاريات
قوله تعالى: {فَفِرُّوا إِلَى اللََّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ وَلََا تَجْعَلُوا مَعَ اللََّهِ إِلََهاً آخَرَ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ} (5).
للسائل أن يسأل: عن تكرار قوله: {إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ} وعن موضع الإنذار مرة بعد أخرى في آيتين متواليتين؟.
__________
(1) سورة: الذاريات، الآية: 19.
(2) سورة: الذاريات، الآية: 20.
(3) سورة: الطور، الآيات: 2818.
(4) سورة: الطور، الآية: 29.
(5) سورة: الذاريات، الآيتان: 50، 51.(1/308)
الجواب أن يقال قوله قبل هاتين الآيتين: {وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنََا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} (1) ومعناه: خلقنا من الحيوانات ذكرا وأنثى ومن غيرها الشيء وما يزاوجه بما يماثله أو يضاده، فيقابله: لتذكروا أن خالقكم بعيد عن شبهكم، وأنه وحده لا نظير له يشاكله، ولا ضد له يناصبه ويقابله لأن الخالق بخلاف خلقه لا يجوز ما ذكرنا في نعته:
{فَفِرُّوا إِلَى اللََّهِ} عما حذركم من معصيته إلى ما حثّكم عليه من طاعته، فإني أنذركم ما تواعدكم به من عقوبته، وهذا تحذير من المعاصي كلها، وبعث على الطاعات جميعها، ثم خص ما هو أعظم، فقال: {وَلََا تَجْعَلُوا مَعَ اللََّهِ إِلََهاً آخَرَ} أي: لا تتخذوا الأصنام آلهة تعبدونها مع عبادة الله تعالى، فإني أحذركم أن تجعلوا له مثلا، فالنذارة الأولى متعلقة بترك الطاعة إلى المعصية، والثانية متعلقة بالشرك الذي هو أعظم المعاصي، وإذا كانت متعلقة بغير ما تعلقت به الأولى لم يكن ذلك تكرارا.
__________
(1) سورة: الذاريات، الآية: 49.(1/309)
52 - سورة الطور
آية واحدة
وهي قوله تعالى: {أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ} (1) وقال في سورة القلم (2): {فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهََذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لََا يَعْلَمُونَ وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلََا تَكُنْ كَصََاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نََادى ََ وَهُوَ مَكْظُومٌ}.
للسائل أن يسأل عمّا انقطع إليه: {أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ} في السورتين، فكانت في سورة الطور تنقطع إلى قوله: {أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ} وفي سورة القلم تنقطع إلى قوله: {فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ}.
الجواب أن يقال: إن عبدة الأوثان من قريش مع ادّعائهم أنهم أهل الحجى وأولو النهى، ألزموا في سورة الطور إلزامات يستنكرونها ولا يقولون بها إذا صدقوا عقولهم عنها، وهي خمسة عشر إلزاما: أولها: {أَمْ يَقُولُونَ شََاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ} (3) بعد قوله: {فَذَكِّرْ فَمََا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكََاهِنٍ وَلََا مَجْنُونٍ} (4) والقوم عرفوا الشعر وطريقه وهذا الكلام وأسلوبه، ولو تدبّروه علموا أنه ليس بشعر، وأن النبي صلّى الله عليه وسلم ليس بشاعر.
والثاني: {أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلََامُهُمْ بِهََذََا} (5) أي: تدعوهم عقولهم إلى عبادة من هم فوقه لأنهم أحياء وتلك أموات وهم يعقلون وتلك لا تعقل، وهذا على سبيل الإنكار،
__________
(1) سورة: الطور، الآيات: 4240.
(4) سورة: الطور، الآية: 29.
(2) الآيات: 4844.
(5) سورة: الطور، الآية: 32.
(3) سورة: الطور، الآية: 30.(1/310)
وما بعده على سبيل الإيجاب، وهو: {أَمْ هُمْ قَوْمٌ طََاغُونَ} (1) أي طالبون اعتلاء بالباطل والظلم، وهذا ثالث.
والرابع: {أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ} (2) أي: اختلق القرآن فإن كان عندهم كما زعموا فليأتوا بمثله وهو الذي عجزوا عنه فلزمتهم الحجة فيه وهذا رابع.
والخامس: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ} (3) أي: أم خلقوا من غير خالق ولا يقولون به.
والسابع: {أَمْ هُمُ الْخََالِقُونَ} (3) فلا أمر عليهم ولا نهي، وهذا أيضا سادس. لا يقولونه: {أَمْ خَلَقُوا السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لََا يُوقِنُونَ} (5) وهذا أيضا سابع لا يدعونه، وهو: أن السموات والأرض ليس لهما خالق قديم لا يشبه المخلوقين وهم خلقوها بل لا يسلكون طريق الفكر في ذلك ليؤديهم إلى برد اليقين.
والثامن: {أَمْ عِنْدَهُمْ خَزََائِنُ رَبِّكَ} (6) أي: أم يملكون ما يخلقه الله لعباده من الأرزاق وما في علمه أن ينعم به عليهم، فإذا علموا من أنفسهم عجزهم عنه، وجب أن يعلموا أن الله هو المالك لجميع ذلك فيفردوه بالعبادة. والتاسع: {أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ} (6)
أي: المسلطون على الناس والمقومون لهم وليس لهم ذلك.
والعاشر: {أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ بِسُلْطََانٍ مُبِينٍ} (8) أي: أم لهم ما يتسببون به إلى السماء وسماع كلام الملائكة وما يتذاكرونه من أخبار ما يجريه الله في الأرض، فيعلمون بذلك أنهم على الحق، ومن يدعوهم إلى الدين على الباطل، فإن كان كذلك، فليأت مستمعهم بحجة قاهرة، وهي: أخبار عن غيوب تصح، وليس لهم ذلك.
والحادي عشر: تعجب الخلق مما ادعوه من أن الملائكة بنات الله تعالى، فقال:
يرزقكم البنين ويجعل لنفسه البنات، وصاحب البنين أعلى كلمة من صاحب البنات.
والثاني عشر: {أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ} (9) أي: أم ثقل عليهم
__________
(1) سورة: الطور، الآية: 32.
(6) سورة: الطور، الآية: 37.
(2) سورة: الطور، الآية: 33.
(8) سورة: الطور، الآية: 38.
(3) سورة: الطور، الآية: 35.
(9) سورة: الطور، الآية: 40.
(5) سورة: الطور، الآية: 36.(1/311)
تصديقك لأنك ألزمتهم مالا يغرمونه لك أجرا على ما هديتهم له، ولا عذر لهم في ذلك لأنك لم تفعله.
والثالث عشر: {أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ} (1) أي: أم يدّعون علم الغيب وما يكون في مستقبل الدهر، فيتصور لهم أن أمرك لا يثبت، وأنه يضمحل عن قريب، خلاف ما وعد الله تعالى في قوله: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى ََ وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ} (2) وقيل: أم يعلمون الغيب بوحي من السماء فيكتبونه ويلقونه إلى الناس كما تفعله الأنبياء عليهم السّلام.
والرابع عشر: {أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ} (3) أي: أم يريدون بالممانعة والمدافعة والانقياد للمتابعة احتيالا عليك لإبادة أصحابك وقتلك، وتدبير ذلك سرا منك، والكفار هم الذين ينقلب عليهم ما يدبرونه على المؤمنين، فيكونون هم المقهورون المغلوبون، والهالكون المقتولون، فانقطعت الآية الثالثة عشر عن الاحتجاجات إلى المطالبات بالمماكرات لاستيعاب أكثر ما في الباب، وختمت هذه.
الخامس عشر وهي: {أَمْ لَهُمْ إِلََهٌ غَيْرُ اللََّهِ} (4) أي: خالق يحق عليكم عبادته غير الله الذي خلق السموات والأرض، وذلك يجب أن يكون على صفة الله تعالى من القدرة والعلم والإنعام بما يحق له العبادة. سبحان الله عن ذلك.
وأما الآية التي في سورة ن والقلم، فإنها الخامسة من إلزامات الكفار الذين دلت أفعالهم على أن المسلمين عندهم كالمجرمين، فأنكره الله تعالى وقال: {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ} (5) ثم احتج لبطلان دعواهم، أنزل عليكم كتابا تعتمدونه وتتركون له ما دونه، ولا تلتفتون معه إلى ما يخالفه، وقد قامت الحجة به لكم فتمسكتم له بدعواكم، وأن لكم في الدنيا والآخرة اختياركم. وقد علمتم أن هذا ليس منكم. والثاني: أم لكم أن تحجوننا بأيمان بالله حلفناها لكم بأنا لا نخالفكم فيما تحكمون به من اتخاذ الآلهة وإقامة العبادة لغير الله، فتلزموننا تصديق أيماننا لكم، وهل أقمنا كفيلا تدلون عليه بضمان ذلك لكم؟
والثالث: أم تنسبون صحة ما تلزمونه إلى الآلهة التي جعلتموها شركاء لله وهم يتبرءون منكم إذا جمعكم وإياهم يوم يكشف عن ساق، ويشتد الأمر ويستدعي منكم السجود الذي ترتفع فيه أستاهكم على رءوسكم، وهو ما أنفتم منه في دنياكم، فتبكتون وتقرعون بذلك،
__________
(1) سورة: الطور، الآية: 41.
(4) سورة: الطور، الآية: 43.
(2) سورة: التوبة، الآية: 33.
(5) سورة: القلم، الآية: 35.
(3) سورة: الطور، الآية: 42.(1/312)
فلا تقدرون عليه فتخسرون به، وتعرفون أنكم تركتموه حيث ينفعكم حتى فاتكم. ثم الرابع والخامس: مانع دنيا لغرامة تثقل عليكم بأجر النبي المبعوث إليكم، أم نزول كتاب عليكم بأن الحق فيما لديكم وكل ذلك لا حجة فيه لكم، فلما بان من هذه الأوجه أن المحق ليس كالمبطل، وأن المسلم ليس كالمجرم، دعا الله نبيه صلّى الله عليه وسلم إلى لزوم الصبر، وتوقع نزول النصر، وترك العجلة في الأمر، ومباينة صاحب الحوت في التضجر بالكفر، فانقطعت الآي هنا إلى ذكره ووصف جمل أمره، بعد شرح كثير من حاله في السورة المتضمنة له.(1/313)
فلا تقدرون عليه فتخسرون به، وتعرفون أنكم تركتموه حيث ينفعكم حتى فاتكم. ثم الرابع والخامس: مانع دنيا لغرامة تثقل عليكم بأجر النبي المبعوث إليكم، أم نزول كتاب عليكم بأن الحق فيما لديكم وكل ذلك لا حجة فيه لكم، فلما بان من هذه الأوجه أن المحق ليس كالمبطل، وأن المسلم ليس كالمجرم، دعا الله نبيه صلّى الله عليه وسلم إلى لزوم الصبر، وتوقع نزول النصر، وترك العجلة في الأمر، ومباينة صاحب الحوت في التضجر بالكفر، فانقطعت الآي هنا إلى ذكره ووصف جمل أمره، بعد شرح كثير من حاله في السورة المتضمنة له.
53 - سورة النجم
آية واحدة
وهي قوله تعالى: {تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى ََ إِنْ هِيَ إِلََّا أَسْمََاءٌ سَمَّيْتُمُوهََا أَنْتُمْ وَآبََاؤُكُمْ مََا أَنْزَلَ اللََّهُ بِهََا مِنْ سُلْطََانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمََا تَهْوَى الْأَنْفُسُ} (1).
وقال بعده: {إِنَّ الَّذِينَ لََا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلََائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثى ََ وَمََا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لََا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً} (2).
للسائل أن يسأل: عما انقطعت إليه: {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ} في الآيتين، واختلافه والفائدة في تقديم ما تقدم، وتأخير ما تأخّر، وهل كان يجوز عكس ذلك؟.
الجواب أن يقال: لما قال قبل الأولى: {أَفَرَأَيْتُمُ اللََّاتَ وَالْعُزََّى وَمَنََاةَ الثََّالِثَةَ الْأُخْرى ََ أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى ََ} (3) ثم قال: {إِنْ هِيَ إِلََّا أَسْمََاءٌ سَمَّيْتُمُوهََا أَنْتُمْ} أي:
سميتم هذه الأصنام آلهة، والملائكة بنات الله، تسمية باطلة لا حجة لكم بها، فلم يحصل لكم إلا ألفاظها، فأما المعاني فإنكم تتبعون فيها الظن وهوى النفس، وما في الطبع من حب الإلف، وقد أتاكم من ربكم ما يثنيكم عنه إلى الرشاد، ومن جاءه من الله الهدى فتركه لاتباع الهوى فقد ضل وهوى، فلما كان الذي يجذبهم إلى مقالتهم شيئان: ظن وهوى، ذكرا معا ليتبين صارفهم عن الحق، ثم قال: {إِنَّ الَّذِينَ لََا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلََائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثى ََ وَمََا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لََا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً} فخص الذين يقولون الملائكة بنات الله بالذكر، توكيدا لإلزامهم الحجة عليهم، وأنهم يتبعون الظن في مقالتهم، والظن لا يقوم مقام العلم ولا يغني غناه، والمراد
__________
(1) سورة: النجم، الآيتان: 22و 23.
(2) سورة: النجم، الآيتان: 27و 28.
(3) سورة: النجم، الآيات: 2119.(1/314)
بالحق هاهنا هو: العلم، فوصف أن الذي يعتمدونه لا يجوز أن يعتمد لأنه ظن وبإزائه علم يبطله، وهدى من الله تعالى يدفعه ويصرف عنه إلى الحق الذي لا مهرب منه، ومن لم يقبله بعد وضوح الحجة له، فأعرض عنه، وهو قوله: {فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلََّى عَنْ ذِكْرِنََا} (1) ففي الآية الأولى: ذكر صارفهم عن الحق وداعيهم إلى الباطل، فبين ما هو، وفي الثانية: طعن على هذا الصارف والداعي إلى الباطل، وإثبات الشيء أولى في العقل، ووصفه بأنه صحيح أو سقيم ثان في الرتبة، فلذلك اختصت الأولى بما اختصت به، والثانية بما تبعها.
__________
(1) سورة: النجم، الآية: 29.(1/315)
54 - سورة القمر
آية واحدة
وهي قوله تعالى: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ كَذَّبَتْ عََادٌ فَكَيْفَ كََانَ عَذََابِي وَنُذُرِ إِنََّا أَرْسَلْنََا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ تَنْزِعُ النََّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجََازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ فَكَيْفَ كََانَ عَذََابِي وَنُذُرِ وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} (1).
للسائل أن يسأل: عن قوله: {فَكَيْفَ كََانَ عَذََابِي وَنُذُرِ} في ابتداء قصة عاد، وتكريره في آخرها؟ وقد سأل عن ذلك بعض أهل النظر، فأجاب: بأن الأول ليس هو تحقيقا لعاد، وأن الثاني لها، فلا يكون تكريرا إذ جعل كل واحد من الخبرين خبرا عن غير ما أخبر في الآخر، وهذا الذي ذهب إليه لا وجه له لأنه قال: {كَذَّبَتْ عََادٌ فَكَيْفَ كََانَ عَذََابِي وَنُذُرِ إِنََّا أَرْسَلْنََا عَلَيْهِمْ} فلا يصلح أن تدخل الفاء في قوله، فكان عقيب إخباره عن عاد بأنها كذبت، ثم يصرف عن أن تتعلق به تعلق الجزاء بالشرط هذا، ولم يتقدم في السورة سوى قصة نوح وقومه، وقد عقب بقوله {وَلَقَدْ تَرَكْنََاهََا آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} {فَكَيْفَ كََانَ عَذََابِي وَنُذُرِ وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} وهذا الذي ذهب إليه من ذكرنا قوله: لا يصح إلا أن يراد: {كَذَّبَتْ عََادٌ} فلم يعتبر: {فَكَيْفَ كََانَ عَذََابِي وَنُذُرِ} ولمن كذب قبلهم من قوم نوح، ويكون ذهابا عن الظاهر إلى إضمار لا دلالة عليه.
الجواب عن ذلك من وجهين:
أحدهما: أن يقال: إن عادا اختصّ ما نزل فيها من كتاب الله بذكر عذابين لها، قال الله تعالى: {لِنُذِيقَهُمْ عَذََابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيََاةِ الدُّنْيََا وَلَعَذََابُ الْآخِرَةِ أَخْزى ََ وَهُمْ لََا يُنْصَرُونَ} (2) ف «كيف» الأول لعذاب الدنيا والثاني لعذاب الآخرة.
__________
(1) سورة: القمر، الآيات: 2217.
(2) سورة: فصلت، الآية: 16.(1/316)
ويكون قوله في الثاني {فَكَيْفَ كََانَ} يحتمل وجهين:
أحدهما: أن تجري مجرى: {وَنََادى ََ أَصْحََابُ الْأَعْرََافِ} (1) هو أن ما حق من وعيد الله هو كالكائن الواقع لصحته، فيخبر عن مستقبله كالإخبار عن ماضيه لاستوائهما في زوال المزية عن وجودها.
والثاني: أن يكون المعنى في الأول: فكيف كان ما قدمت إليها من الوعيد الذي صح شطره، وهو وعيد الدنيا، ودل على وقوع ما في الأخرى كما وقع في الأولى.
والجواب الثاني: أن يكون المعنى في الأول: فكيف كان وعيد عذابي ونذر لما حذرناهم قبل أن أوقعنا بهم، ويكون الثاني بعد إرسال الرياح عليهم وإيقاع العذاب بهم، والمعنى: {فَكَيْفَ كََانَ عَذََابِي} محققا، ونذيري مصدقا، ويسلم من التكرار.
__________
(1) سورة: الأعراف، الآية: 48.(1/317)
55 - سورة الرحمن آيتان
الآية الأولى منها
قوله تعالى: {وَالسَّمََاءَ رَفَعَهََا وَوَضَعَ الْمِيزََانَ أَلََّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزََانِ وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلََا تُخْسِرُوا الْمِيزََانَ} (1).
للسائل أن يسأل: عن إعادة ذكر الميزان ثلاث مرات في أواخر هذه الآي، وقد كان حقها الإضمار، وهل في اختيار الكلام أن يتكرر في موضع السجع في النثر والقافية في النظم مثله؟ أو في ثلاثة أسجاع متوالية أو ثلاث قواف متواطئة حتى يرتضي في ثلاث فواصل مترادفة؟.
والذي أجاب به عن ذلك أهل النظر: أنه أعيد ذكر الميزان لأن هذه الآيات لم تنزل معا في وقت واحد، ولو نزلت معا لأضمر ذكر الميزان، ولكن لما نزلت متفرقة لم يجز إلا إظهار ذكر الميزان لأنه لم يجر له ذكر في كل وقت أنزلت فيه إحدى هذه الآيات، وهذا إن تأتى في الميزان الثالث، فإنه لا يتأتى فيما قبله لأن الثاني تفسير الأول، إن كانت «أن» بمعنى: أي، أو علة إذا كانت «أن» مقدرة معها اللام، أي: لئلا تطغوا، وكان ذلك لا يجوز مع انقطاع الثاني عن الأول، ولا الأول عن الثاني.
وقد أجيب عن ذلك بجواب آخر وهو: أن يكون أعيد ذكر الميزان لتكون كل آية مستقلة بنفسها غير مفتقرة إلى غيرها، إذ الإضمار تضمن الثاني الأول، فلا يقوم الثاني بنفسه ولا الثالث لو أضمر فيهما ذكر ما في الأول.
الجواب الذي يعتمد: هو أن يجعل لكل واحد معنى غير معنى الآخر، يريد:
والسماء رفعها ووضع البنية المعدلة، وهي: بنية الإنسان الذي خلق من أمشاج ومن
__________
(1) سورة: الرحمن، الآيات: 97.(1/318)
تأليفات مختلفات على اعتدال من حرارة وبرودة ورطوبة ويبوسة، ومعنى رفع السماء ووضع بنية الاعتدال ما ذكره في قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضَ كََانَتََا رَتْقاً فَفَتَقْنََاهُمََا} (1)، أي: رفعنا السماء على الأرض، وخلقنا الهواء بينهما، ولم يكن للحي الذي أراد خلقه بد من هواء تخترقه الروح وتنساب فيه، فخلق عز وجلّ آدم أبا البشر عليه السّلام من طين، وفيه مسارب للهواء، فجعل فيه الطين الأرضي والماء الذي قال الله تعالى فيه: {وَجَعَلْنََا مِنَ الْمََاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ} (2) والهواء الذي تجتذب منه الأنفاس من خارج ما برد، وتخرج منه من باطن ما حم، والنار التي إذا فقدها الحي خمد وبطل، فلما دبر الله تعالى خلقه على الاعتدال من هذه الأصول، كان هذا الذي جمع ما ذكرنا مركبا من الأشياء التي وصفنا لكل معتدل عنده قبول، وله عن كل خارج عن حد الاعتدال نفار ونبوّ، حتى إن رأى مربعا مستوي التربيع، وآخر مختلفا خارجا عن الاعتدال في الأبنية وغيرها، يقبل الأول ويتأبى عن الثاني، وكما في الطبع قبول البيت من الشعر إذا اعتدلت أجزاؤه واتزنت أفعاله التي وضع عليها، ورده للمتكسر الذي فقد التعديل في البناء، وهذا مما يضطر الإنسان إلى علمه كما يضطر في الأول إلى كراهة المعوجات وقبول المستويات، فقال تعالى: رفع السماء وركب بنية الإنسان المعتدلة، وكان معنى ذلك: أن لا يجاوزوا في حكم المقابلة حد المعادلة، والميزان الثاني: الأحكام التي حكم فيها على اعتدال وقدر في الطبائع كراهية ما خرج منها على اعتداء، كقتل نفسين بنفس والجانية إحداهما، وقطع أذنين بأذن، وأنفين بأنف، وفقا عينين بعين، وأخذ أموال بمال، ودواب بدابة، إلى غير ذلك من مجاوزة الحد في القصاص والأرش بما يثبت به حكم الطبع قبل حكم السمع، وكأن المعنى: عدل خلقة الإنسان ليتوخى المعدلة في الأحكام، والميزان الأول: بنية الاعتدال، وهي: بنية الإنسان على الوصف الذي ذكرنا، والميزان الثاني: الحكم بالعدل، والثالث: آلة التعديل، وهي: التي يقع بها الأخذ والعطاء، فتبين بها مقادير الحقوق ليقتصر كل ذي حق على قدر ما يجب له منها، فلا يأخذ أكثر من ما له، ولا يعطى أقل من ما يجب عليه، وهو القسط الذي أمر الله تعالى به المتبايعين لا رجحان ولا نقصان، وإذا كان كذلك لم يكن في إعادة لفظ الميزان تكرار، إذا كان الأول لمعنى غير معنى الثاني، والثاني لمعنى غير معنى الثالث، كما تخرج القوافي عن الإيطاء، إذا اتفقت ألفاظا واختلفت معاني.
__________
(1) سورة: الأنبياء، الآية: 30.
(2) سورة: الأنبياء، الآية: 30.(1/319)
الآية الثانية من سورة الرحمن
قوله تعالى: {فَبِأَيِّ آلََاءِ رَبِّكُمََا تُكَذِّبََانِ} (1) وتكريره إحدى وثلاثين مرة.
للسائل أن يسأل: عن العدة التي جاءت عليها هذه الآية متكررة، وعن فائدتها.
الجواب أن يقال: نبه الله تعالى على ما خلق من نعم الدنيا المختلفة في سبع منها، وأفرد سبعا للترهيب والإنذار والتخويف بالنار، وفصل بين السبع الأول والسبع الأخر بواحدة ثلاث آيات، سوّى فيها بين الناس كلهم فيما كتب الله من الفناء عليهم، حيث يقول: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهََا فََانٍ} (2) أي: من على الأرض، وهذه الفاصلة للتسوية بين الملائكة وبين الإنس والجن في الافتقار إلى الله تعالى، وإلى المسألة والإشفاق من خشية الله، وهي قوله: {يَسْئَلُهُ مَنْ فِي السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} (3) وإنما كانت الأول سبعا لأن أمهات النعم خلقها الله سبعا سبعا، كالسماوات والأرضين ومعظم الكواكب، وكانت الثانية سبعا لأنها على قسمة أبواب جهنم لما كانت في ذكرها، وبعد هذه السبع ثمانية في وصف الجنان وأهلها على قسمة أبوابها، وثمانية أخرى بعدها للجنتين اللتين دون الجنتين الأولتين لأنه قال تعالى في مفتتح الثمانية المتقدمة: {وَلِمَنْ خََافَ مَقََامَ رَبِّهِ جَنَّتََانِ} (4) فلما استكملت هذه الآية ثماني مرار قال: {وَمِنْ دُونِهِمََا جَنَّتََانِ} (5)
فمضت ثمانية في وصف الجنتين وأهلهما، وثمانية في وصف جنتين دونهما للثمانية المتقدمة إليه، فكان الجميع: إحدى وثلاثين مرة.
فإن قال قائل: فقد سوّى بين الجنة والنار في الاعتدال بالإنعام على الثقلين بوصفهما، وإنما النعمة إحداهما دون الأخرى.
الجواب أن يقال: إن الله تعالى منعم على عباده نعمتين: نعمة الدنيا، ونعمة الدين، وأعظمهما الأخرى، واجتهاد الإنسان ورهبته مما يؤلمه أكثر من اجتهاده ورغبته فيما ينعمه، فالترهيب زجر على المعاصي وبعث على الطاعات، وهو سبب النفع الدائم، فأية نعمة أكبر إذا من التخويف بالضرر المؤدي إلى أشرف النعم، فلما جاز عند ذكر ما أنعم به علينا في الدنيا وعند ذكر ما أعده للمطيعين في الأخرى أن يقول: {فَبِأَيِّ آلََاءِ رَبِّكُمََا تُكَذِّبََانِ}
__________
(1) سورة: الرحمن، الآية: 13، وتكررت الآية في
(3) سورة: الرحمن، الآية: 29.
السورة عدة مرات.
(4) سورة: الرحمن، الآية: 46.
(2) سورة: الرحمن، الآية: 26.
(5) سورة: الرحمن، الآية: 62.(1/320)
جاز أن يقول عند ذكر ما يخوفنا به مما يصرفنا عن معصيته إلى طاعته التي تكسبنا نعيم جنته كذلك لأن هذا أشوق إلى تلك الكرامة من وصف ما أعد فيهما من النعمة.
فإن قال: إن السبع الأول قد عرفت من ست منها نعمة الله علينا في البر والبحر، والسابعة هي كل من عليها فان، وأية نعمة في ذلك حتى تعد من نعمة الدنيا؟
الجواب أن يقال: فيه التسوية بين الصغير والكبير، والأمير والمأمور، والمالك والمملوك، والظالم والمظلوم، في الفناء المؤدي إلى دار البقاء، ومجازاة المحسن والمسيء بحقه من الجزاء، فالمظلوم يؤخذ حقه، والظالم يقرع فيترك الظلم له، وسبب الفناء يعلمه الإنسان باضطرار، فلا نعمة إذا أكبر من هذه.
فإن قال: ذكر بعد قوله: {وَلِمَنْ خََافَ مَقََامَ رَبِّهِ جَنَّتََانِ} ثماني مرات: {فَبِأَيِّ آلََاءِ رَبِّكُمََا تُكَذِّبََانِ} إلى أن انتهى إلى قوله: {وَمِنْ دُونِهِمََا جَنَّتََانِ} وجاءت بعده ثماني مرات قوله: {فَبِأَيِّ آلََاءِ رَبِّكُمََا تُكَذِّبََانِ} كما جاءت بعد الجنتين الأولتين في أثناء الثمانية الأخر من معاني الجنتين ما في أثناء الثمانية الأول، فما الجنتان الأوليان؟ وما الجنتان الأخريان حتى يبعث على طلب هاتين كما بعث على طلب تينك؟ ويجاب عن ذلك أجوبة:
أولها: أن يقال: بأن التثنية هاهنا في الجنتين لاتصال الجنان أي: كلما كان الولي في جنة وصلت بأخرى، فلا تنقطع غرائب الجنان عنه أبدا، كما كان «حنانيك» دعاء وطلبا لرحمة متصلة، معناه: تحنن بنعمة لا تنقطع إذا كان كذلك، وكقولهم: لبيك وسعديك، وسائر ما جاء مثنى يراد به هذا المعنى، فإن قال قائل: فما معنى الجنتين الأخريتين وفي الأوليتين كفاية إذا قصد المعنى الذي ذكرت؟ قلت: المراد بالجنتين الأوليتين: جنتان خارج قصره، والمعنى: كلما كان في جنة وصلت بثانية غريبة مستطرفة، ثم إذا كان في الثانية كانت حالها في اتصال أخرى بها كحال الأولى، وعلى ذلك أبدا، فكأنه قال: {وَلِمَنْ خََافَ مَقََامَ رَبِّهِ جَنَّتََانِ} خارج قصره متتابعتان لا تنقطعان، وأما: {وَمِنْ دُونِهِمََا جَنَّتََانِ} فإن المراد بهما على هذا الوجه: إلى أقرب من هاتين الجنتين جنات داخل قصره، وهما في أن الجنة منهما متصلة بأخرى بعدها، فلا يزال المكرم فيها ينتقل من واحدة إلى أخرى مثلها.
وجواب ثان وهو أن تكون الجنان الأربع في الجهات الأربع: بين يديه وخلفه، ويمينه وشماله، وأقربها ما كان نصب عينيه ومرمى طرفه، فلا يحتاج أن يلتفت إلى خلفه.(1/321)
أولها: أن يقال: بأن التثنية هاهنا في الجنتين لاتصال الجنان أي: كلما كان الولي في جنة وصلت بأخرى، فلا تنقطع غرائب الجنان عنه أبدا، كما كان «حنانيك» دعاء وطلبا لرحمة متصلة، معناه: تحنن بنعمة لا تنقطع إذا كان كذلك، وكقولهم: لبيك وسعديك، وسائر ما جاء مثنى يراد به هذا المعنى، فإن قال قائل: فما معنى الجنتين الأخريتين وفي الأوليتين كفاية إذا قصد المعنى الذي ذكرت؟ قلت: المراد بالجنتين الأوليتين: جنتان خارج قصره، والمعنى: كلما كان في جنة وصلت بثانية غريبة مستطرفة، ثم إذا كان في الثانية كانت حالها في اتصال أخرى بها كحال الأولى، وعلى ذلك أبدا، فكأنه قال: {وَلِمَنْ خََافَ مَقََامَ رَبِّهِ جَنَّتََانِ} خارج قصره متتابعتان لا تنقطعان، وأما: {وَمِنْ دُونِهِمََا جَنَّتََانِ} فإن المراد بهما على هذا الوجه: إلى أقرب من هاتين الجنتين جنات داخل قصره، وهما في أن الجنة منهما متصلة بأخرى بعدها، فلا يزال المكرم فيها ينتقل من واحدة إلى أخرى مثلها.
وجواب ثان وهو أن تكون الجنان الأربع في الجهات الأربع: بين يديه وخلفه، ويمينه وشماله، وأقربها ما كان نصب عينيه ومرمى طرفه، فلا يحتاج أن يلتفت إلى خلفه.
وجواب ثالث وهو ما ذهب إليه الحسن من أن الجنتين الأوليتين للسابقين، وهم:
الذين سبقوا إلى اتباع الأنبياء صلوات الله عليهم، ووهبوا لطاعة الله حرمة الآباء والأبناء، وجاهدوا معه في توطئة الإسلام، وبذلوا أرواحهم في قتال الكفار، أولئك أعظم درجة وأعلى رتبة، ومن دون جنتيهم جنتان للتابعين، ثم على ذلك، كما قال الله تعالى: {انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنََا بَعْضَهُمْ عَلى ََ بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجََاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا} (1).
__________
(1) سورة: الإسراء، الآية: 21.(1/322)
56 - سورة الواقعة
آية واحدة
وهي قوله تعالى: {أَفَرَأَيْتُمْ مََا تُمْنُونَ أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ} (1) الآية وبعده: {أَفَرَأَيْتُمْ مََا تَحْرُثُونَ} (2) الآية وبعده: {أَفَرَأَيْتُمُ الْمََاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ} (3) الآية وبعده: {أَفَرَأَيْتُمُ النََّارَ الَّتِي تُورُونَ} (4).
للسائل أن يسأل: عن ترتيب هذه الأشياء التي تختص بقدرة الله تعالى وتقديم بعضها على بعض، وهل كان يجوز تقديم ذكر النار على ذكر الماء؟.
الجواب أن يقال: الأول هو خلق الإنسان من نطفة، والنعمة في ذلك قبل النعمة في الثلاثة الأخر التي بعده، فوجب تقديمه ثم بعده ما به قوام الإنسان من فائدة الحرث، وهي الطعام الذي لا يستغني عنه الجسد الحي، وذلك الحب الذي يختبز، فيحتاج بعد حصوله إلى حصول ما يعجن به، وهو: الماء، ثم إلى النار التي تعيده خبزا، فالترتيب على حسب الحاجة، والنعمة الثانية بعد الأولى، فإن قال: فقد قال في الأول: {فَلَوْلََا تَذَكَّرُونَ} (5) وقال في الماء: {فَلَوْلََا تَشْكُرُونَ} (6) فهل كان يجوز أن يكون أحدهما مكان الآخر؟ قلت: الأولى تنبيه على البعث والإعادة، وهي النشأة الثانية كالنشأة الأولى، وحمل على أن يتذكر الأول الذي هو الأصل، ليثبت به الثاني الذي هو فرع، على أن القادر كما كان لم يتغير. وأما قوله: {فَلَوْلََا تَشْكُرُونَ} فإنه بعد قوله: {لَوْ نَشََاءُ جَعَلْنََاهُ أُجََاجاً} (6) أي: شديد الملوحة كماء البحر، كما قال: {وَهََذََا مِلْحٌ أُجََاجٌ} (8) فهلا تشكرون أن جعله عذبا؟ فكل مكان لاق به ما ذكر فيه.
__________
(1) سورة: الواقعة، الآيتان: 58و 59.
(5) سورة: الواقعة، الآية: 62.
(2) سورة: الواقعة، الآية: 63.
(6) سورة: الواقعة، الآية: 70.
(3) سورة: الواقعة، الآية: 68.
(8) سورة: فاطر، الآية: 12.
(4) سورة: الواقعة، الآية: 71.(1/323)
57 - سورة الحديد ثلاث آيات
الآية الأولى منها
قوله تعالى: {سَبَّحَ لِلََّهِ مََا فِي السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} (1) وقال في سورة الحشر: (2) {سَبَّحَ لِلََّهِ مََا فِي السَّمََاوََاتِ وَمََا فِي الْأَرْضِ} وقال في سورة الصف (3): {سَبَّحَ لِلََّهِ مََا فِي السَّمََاوََاتِ وَمََا فِي الْأَرْضِ} وقال في سورة الجمعة (4):
{يُسَبِّحُ لِلََّهِ مََا فِي السَّمََاوََاتِ وَمََا فِي الْأَرْضِ} وقال في سورة التغابن (5): {يُسَبِّحُ لِلََّهِ مََا فِي السَّمََاوََاتِ وَمََا فِي الْأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلى ََ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}.
للسائل أن يسأل: عما أوجب اختصاص فاتحة سورة الحديد بقوله: {سَبَّحَ لِلََّهِ مََا فِي السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضِ} من غير إعادة: {مََا} وقد أعيدت في فواتح السور الأخر؟.
الجواب أن يقال: لما كان هذا الكلام مستوفى إلى كلمات ثلاث، عقدت في كل واحدة منها السموات والأرض في عقدة واحدة، جمع المخلوق فيها تحت لفظة واحدة، فكان معنى قوله: {سَبَّحَ لِلََّهِ مََا فِي السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضِ} سبح لله الخلق في المكانين، فلفظة {مََا} في هذا المكان عامة شاملة للخلق فيهما، فإذا أعيدت: {مََا} في قوله: {فِي الْأَرْضِ} كانت الأولى خاصة للخلق في السموات دون الأرض، والكلمات الثلاث التي عقدت السموات والأرض في كل واحدة منها عقدة واحدة قوله: {لَهُ مُلْكُ السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضِ} (6) وقوله بعده: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيََّامٍ} (7) وقوله بعده: {لَهُ مُلْكُ السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللََّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ} (8) فلما كان افتتاح السورة ينتهي
__________
(1) سورة: الحديد، الآية: 1.
(5) الآية: 1.
(2) الآية: 1.
(6) سورة: الحديد، الآية: 2.
(3) الآية: 1.
(7) سورة: الحديد، الآية: 4.
(4) الآية: 1.
(8) سورة: الحديد، الآية: 5.(1/324)
إلى هذه الآيات بعدها، وهي تنظم المكانين نظما واحدا، اختير أن يجعل الخلق فيهما خلقا واحدا، فلا يفصل بينهما بخلقهما، والقصد جمعهما في نظام واحد، ولم يكن هذا المعنى موجودا في سائر السور، فكان الأصل فيه أولى، وهو إعادة: (ما) والدليل على ذلك قوله في آخر سورة الحشر (1): {يُسَبِّحُ لَهُ مََا فِي السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}
لأنه قال قبله: {هُوَ اللََّهُ الْخََالِقُ الْبََارِئُ الْمُصَوِّرُ} (2) فنظم تحت هذه الصفات مخلوقات السموات والأرض، وكذلك قبله: {الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ} (3) كذلك نظم المخلوق في المكانين فيما يكون من تسبيحهم وتقديسهم، حملا على الأول الذي هو الأصل.
الآية الثانية منها
قوله تعالى: {لَهُ مُلْكُ السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلى ََ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (4) وقال بعده بآيتين: {لَهُ مُلْكُ السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللََّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ} (5).
للسائل أن يسأل: عن إعادة هذه اللفظة في المكان القريب من الأول، وصلتها في الأولى بقوله: {يُحْيِي وَيُمِيتُ} ثم صلتها في الأخرى بقوله: {وَإِلَى اللََّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ}؟.
الجواب أن يقال: إن المعنى: له الملك أولا وآخرا، فالأول في الدنيا، وهو:
وقت الإحياء والإماتة، والآخر في الآخرة حين ترجع الأمور إليه، ولا يملك أحد سواه لا ملكا ولا ملكا، فقرن بالأول يحيي ويميت لأنهما من أمارة الملك، وقرن بالآخر ما يكون في الآخرة من مرجع الخلق وجزائهم بالثواب والعقاب إليه، فجاء في كل مكان ما اقتضاه وما شاكل معناه.
الآية الثالثة منها
قوله تعالى: {كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفََّارَ نَبََاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرََاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطََاماً} (6) وقال فيما تقدم من سورة الزمر (7): {ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطََاماً}.
__________
(1) الآية: 24.
(5) سورة: الحديد، الآية: 5.
(2) سورة: الحشر، الآية: 24.
(6) سورة: الحديد، الآية: 20.
(3) سورة: الحشر، الآية: 23.
(7) الآية: 21.
(4) سورة: الحديد، الآية: 2.(1/325)
للسائل أن يسأل: عن قوله في سورة الحديد: {ثُمَّ يَكُونُ حُطََاماً} وقوله في سورة الزمر: {ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطََاماً} وهل كان وجه الكلام أن لو جاء أحدهما مكان الآخر؟.
الجواب أن يقال: إن الأفعال التي نسق هذا الفعل عليها في سورة الزمر، هي أفعال الله تعالى لأنه قال: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللََّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمََاءِ مََاءً فَسَلَكَهُ يَنََابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً مُخْتَلِفاً أَلْوََانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرََاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطََاماً} فهو معطوف على قوله: {ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً} والذي في سورة الحديد لم يسند الفعل المتقدم فيه إلى الله، فيستند إليه ما بعده، وإنما هو {كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفََّارَ نَبََاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرََاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطََاماً}، فلم يصلح في كل مكان إلا ما جاء فيه من اختيار الكلام.(1/326)
الجواب أن يقال: إن الأفعال التي نسق هذا الفعل عليها في سورة الزمر، هي أفعال الله تعالى لأنه قال: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللََّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمََاءِ مََاءً فَسَلَكَهُ يَنََابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً مُخْتَلِفاً أَلْوََانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرََاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطََاماً} فهو معطوف على قوله: {ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً} والذي في سورة الحديد لم يسند الفعل المتقدم فيه إلى الله، فيستند إليه ما بعده، وإنما هو {كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفََّارَ نَبََاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرََاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطََاماً}، فلم يصلح في كل مكان إلا ما جاء فيه من اختيار الكلام.
58 - سورة المجادلة
آية واحدة
وهي قوله تعالى: {وَتِلْكَ حُدُودُ اللََّهِ وَلِلْكََافِرِينَ عَذََابٌ أَلِيمٌ} (1) وقال: {إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللََّهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَمََا كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَقَدْ أَنْزَلْنََا آيََاتٍ بَيِّنََاتٍ وَلِلْكََافِرِينَ عَذََابٌ مُهِينٌ} (2).
للسائل أن يسأل: عن خاتمتي الآيتين وهما: {عَذََابٌ أَلِيمٌ} و {عَذََابٌ مُهِينٌ}؟
وعما أوجب اختصاص كل واحدة منهما بما ذكر فيها؟.
الجواب أن يقال: لما قال في الأولى: {ذََلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللََّهِ وَرَسُولِهِ} (3) أي:
يتبين ذلك لتؤمنوا بالله ورسوله والحدود التي حدها لعباده، ثم سمى من لم يؤمن كافرا باسمه، وتوعده بالعذاب الموجع المبالغ فيه، وهو ما يخوف الله به عباده نعوذ بالله منه، وأما قوله: {عَذََابٌ مُهِينٌ}، فلأن قبله {إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللََّهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا} فضمن معنى الفعلين الشرط والجزاء، فجعل الكبت جزاء من آثر حزبا غير حزب الله ورسوله، وحدا غير حدهما، والكبت: الإذلال، وقيل: الغلب والقهر والتخييب، وكل ذلك متقارب، فلما أخبر الله تعالى بالكبت عمن حاد الله ورسوله وجانبهما، وصار في حد غير حدهما، وصف العذاب الذي ينزل به الإذلال والإهانة، وإن كان كل مؤلم مهينا وكل مهين مؤلما، ومما يشهد لذلك قوله تعالى في آخر السورة: {إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللََّهَ وَرَسُولَهُ أُولََئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ} (4) فقوله هنا: {أُولََئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ} كقوله في الأول: {إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللََّهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا} فهذا في الكفار، وقد توعد المنافقين الذين تولوهم بمثله في هذه السورة، وهو قوله: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللََّهُ عَلَيْهِمْ مََا هُمْ مِنْكُمْ وَلََا مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ}
__________
(1) سورة: المجادلة، الآية: 4.
(3) سورة: المجادلة، الآية: 4.
(2) سورة: المجادلة، الآية: 5.
(4) سورة: المجادلة، الآية: 20.(1/327)
{أَعَدَّ اللََّهُ لَهُمْ عَذََاباً شَدِيداً إِنَّهُمْ سََاءَ مََا كََانُوا يَعْمَلُونَ اتَّخَذُوا أَيْمََانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللََّهِ فَلَهُمْ عَذََابٌ مُهِينٌ} (1)، أي: إنهم لما أظهروا الإيمان وأبطنوا النفاق، وضعوا في أنفسهم أنه إن اطلع على حالهم حلفوا للنبي صلّى الله عليه وسلم بالله أن الأمر بخلافه، فيكلهم إلى أيمانهم، فهم يخرجون بهذا الظاهر في الحكم عن دلالة الكفر، ولهم عذاب يسلبهم هذا العز، ويبدلهم منه الهوان والذل، والله تعالى أعلم.
__________
(1) سورة: المجادلة، الآيات: 1614.(1/328)
59 - سورة الحشر آيتان
الآية الأولى منها
قوله تعالى: {ذََلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللََّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِّ اللََّهَ فَإِنَّ اللََّهَ شَدِيدُ الْعِقََابِ} (1) وقال قبله في سورة الأنفال (2): {وَمَنْ يُشََاقِقِ اللََّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللََّهَ شَدِيدُ الْعِقََابِ} وقال قبله في سورة النساء (3): {وَمَنْ يُشََاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مََا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى ََ وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مََا تَوَلََّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسََاءَتْ مَصِيراً}.
للسائل أن يسأل عن الإدغام في قوله: {وَمَنْ يُشَاقِّ اللََّهَ} في سورة الحشر وعن تركه في سورتي الأنفال والنساء؟ مع أن مثله في لغة العرب يصح إدغامه وإظهاره، كقوله تعالى: {يََا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ} (4) {وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ} (5).
الجواب أن يقال: إن الأصل في ذلك إذا قويت الحركة في القاف أن تدغم، ألا ترى أن من جوز: اردد مكان ردّ، وكانت لغته الإظهار متى حرك الدال الأخيرة في قوله للاثنين: ردا، وقوله للجمع: ردوا لم يبق إلا الإدغام، ولم يجز: ارددا ولا ارددوا ولا ارددي، فقوله تعالى: {وَمَنْ يُشَاقِّ اللََّهَ} فقد قويت الحركة منه في القاف الأخيرة لأنها لاقت كلمة قد لزم أولها السكون، وهي اللام الأولى من «الله»، وكانت تحرك لملاقاة الساكن بعدها في مثل: اعبد الله، حيث لا تضعيف يهرب من ثقله إلى تخفيف يرفع اللسان عن الحرفين دفعة واحدة، فقوله: {وَمَنْ يُشَاقِّ اللََّهَ} لا يلاقي القاف هنا بها بالتعليق إلا ساكنا قد لزم الكلمة، فقويت الحركة في القاف التي تلاقي هذا الساكن لأنها
__________
(1) سورة: الحشر، الآية: 4.
(4) سورة: المائدة، الآية: 54.
(2) الآية: 13.
(5) سورة: البقرة، الآية: 217.
(3) الآية: 115.(1/329)
لا تلاقي سواه مما علق الفعل به، وليس كذلك {وَمَنْ يُشََاقِقِ اللََّهَ وَرَسُولَهُ} لأن القاف قد تلاقي ما يتعلق بها متحركا، وهو: {وَرَسُولَهُ} لأن التقدير: ومن يشاقق رسول الله، فلم يخلص القاف فيما يتعلق بها للحركة كما خلصت له في الأول، وأما قوله: {وَمَنْ يُشََاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مََا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى ََ} فليس الساكن من «الرسول» الذي يلاقيه القاف كالساكن من لفظة الله تعالى لأنه قد يحذف فيصح لملاقاة القاف متحركا منه، نحو: ومن يشاقق رسول الله، فالذي أوجب في سورة الحشر إدغام: {وَمَنْ يُشَاقِّ اللََّهَ}
هو: قوة الحركة في القاف، وقوتها أنه لا يصح أن تلاقي الاسم الذي بعدها إلا ساكنا لا يقوم مقامه متحرك في حال، وما سواه من المواضع ليس على هذا الوصف، فبان الفرقان، والله أعلم.
الآية الثانية منها
قوله تعالى: {لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللََّهِ ذََلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لََا يَفْقَهُونَ} (1) وقال بعده: {تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتََّى ذََلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لََا يَعْقِلُونَ} (2).
للسائل أن يسأل: عن اختصاص خاتمة الآية الأولى بقوله: {لََا يَفْقَهُونَ}
واختصاص الثانية بقوله: {لََا يَعْقِلُونَ}؟.
الجواب أن يقال: لما قال: {لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللََّهِ}، أي:
خوفهم منكم أشد من خوفهم من الله، إنهم يعلمون ظاهرا ولا يعرفون ما استتر عنهم منه، والفقيه من يستدرك من الكلام ظاهره الجلي وغامضه الخفي بسرعة فطنته وجودة قريحته، فلما رهبوا النبي صلّى الله عليه وسلم وسننه ما لم يرهبوا الله عز وجلّ، صاروا كمن يعرف ما يشهده ويجهل ما يغيب عنه، ولو فقهوا لعلموا أن لما ظهر من الرسول صلّى الله عليه وسلم باطنا خفي عنهم من أمر الله تعالى، فلذلك وصفهم: {بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لََا يَفْقَهُونَ}. وقيل: {لََا يَفْقَهُونَ}: لا يستدركون عظمة الله، ويشهدون جلالة المؤمنين بالنبي صلّى الله عليه وسلم، ولا يعلمون أن ذلك بالله تعالى، وقيل: {لََا يَفْقَهُونَ} من معنى المرسل، والرسول معنى المرسل وعظمته، فيتقون الله حق تقاته، أما قوله: {ذََلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لََا يَعْقِلُونَ} فإنه جاء بعد قوله:
__________
(1) سورة: الحشر، الآية: 13.
(2) سورة: الحشر، الآية: 14.(1/330)
{بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتََّى} ومعناه: ليس يجمعهم الحق على طريقة واحدة، بل هم أتباع أهوائهم، فهم مختلفون باختلاف آرائهم، ولو عقلوا الرشد من الغي لاجتمعوا على الحق، فاختلافهم لأنهم لا يعقلون ما يدعو إلى طاعة الله ويهدي إلى ما قال الله: {وَأَنَّ هََذََا صِرََاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلََا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} (1) فالحق سبيل واحد مستقيم، والباطل سبل كثيرة تحمل عليها أهواء متشعبة، فقد بان لك أن كلا من الخاتمتين ختم بما يقتضيه، والله أعلم.
__________
(1) سورة: الأنعام، الآية: 153.(1/331)
60 - سورة الممتحنة آية واحدة
وهي قوله تعالى: {قَدْ كََانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرََاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قََالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنََّا بُرَآؤُا مِنْكُمْ وَمِمََّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللََّهِ كَفَرْنََا بِكُمْ} (1) وقال بعده: {لَقَدْ كََانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كََانَ يَرْجُوا اللََّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللََّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} (2).
للسائل أن يسأل عن المعنى الذي أعيد له: {قَدْ كََانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ}؟ وعن متعلق كل واحد من اللفظين؟ وهل يصلح الأول مكان الثاني أو الثاني مكان الأول؟.
الجواب أن يقال: إن الإسلام بني أوله على التبري من الآلهة ومن عبدها ومن الأصنام وعبادتها، ألا ترى قول من يشهد بالتوحيد أنه ينفي الآلهة أولا بقوله: لا إله، ويثبت ثانيا بقوله: إلا الله الواحد الذي تحق له العبادة، فقال في الآية الأولى المتعلقة بالبراءة من الكفار ومن فعلهم: {إِنََّا بُرَآؤُا مِنْكُمْ وَمِمََّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللََّهِ} وأنهم يعادونهم، إلا أن يؤمنوا، فهذه الأسوة تفصل المؤمن من الكافر ليتميز عنه في الظاهر، ويتبرأ من صداقته، ويتحقق بعداوته، والثانية معناها: بهم ائتسّوا لتنالوا مثل ثوابهم وتنقلبوا إلى الآخرة كانقلابهم، مبشرين بالجنة غير خائفين من العقوبة.
__________
(1) سورة: الممتحنة، الآية: 4.
(2) سورة: الممتحنة، الآية: 6.(1/332)
61 - سورة الصف آية واحدة
وهي قوله تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى ََ عَلَى اللََّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعى ََ إِلَى الْإِسْلََامِ} (1). وقال قبله في سورة الأنعام (2): {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى ََ عَلَى اللََّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآيََاتِهِ إِنَّهُ لََا يُفْلِحُ الظََّالِمُونَ} وقال فيها: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى ََ عَلَى اللََّهِ كَذِباً أَوْ قََالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ} (3)، وقال في آخر سورة العنكبوت (4): {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى ََ عَلَى اللََّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمََّا جََاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكََافِرِينَ} وقال في سورة الأعراف (5): {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى ََ عَلَى اللََّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآيََاتِهِ أُولََئِكَ يَنََالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتََابِ} وقال في سورة يونس (6): {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى ََ عَلَى اللََّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآيََاتِهِ إِنَّهُ لََا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ}.
للسائل أن يسأل: عن هذا الموضع واختصاصه بلفظ التعريف في الكذب، مع أن نظائره في الآي التي ذكرنا بلفظ التنكير؟.
الجواب أن يقال: إن الكذب مصدر يسمى به الكلام المكذوب فيه، وهو في قوله تعالى: {افْتَرى ََ عَلَى اللََّهِ كَذِباً} على أصله مصدر غير منقول، والمصدر إذا عرف قصد به الجنس، والفرق بين معرفته ونكرته إذا قال القائل: قلت كذبا أي: قلت نوعا من أنواع الكذب التي هي كثيرة، وإذا قال: قلت الكذب، فكأنه قال: قلت القول الذي يشهد بالكذب ويشار إليه به، وليس يراد به الجنس كله، كما لا يراد إذا قال: شربت الماء، كل الماء، وإنما يراد بعضه بدلالة العرف، وإنما يختار التنكير إذا قارنه لفظ يقتضيه أو كلام متقدم عليه يوجب له ذلك، ومما قارنه لفظ يقتضي له التنكير كل موضع جاء فيه: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى ََ عَلَى اللََّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ} فقوله: {أَوْ كَذَّبَ} يقتضي أحد كذبين،
__________
(1) سورة: الصف، الآية: 7.
(4) الآية: 68.
(2) الآية: 21.
(5) الآية: 37.
(3) سورة: الأنعام، الآية: 93.
(6) الآية: 17.(1/333)
وإذا ضم إلى الكذب الأول كذبا ثانيا يثنى به الأول المذكور، وما يكون له أمثال يتنكر بعضها ببعض كما كان ذلك فيما يقع على واحد من أمة شائع فيها، فيكون فيها نكرة، فإذا جاءت بعد: {كَذَّبَ} قرينة تقتضي له التنكير، فأكثر ما جاء منكرا معها وهو: {أَوْ كَذَّبَ بِآيََاتِهِ إِنَّهُ لََا يُفْلِحُ الظََّالِمُونَ} أو: {قََالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ} أو:
{كَذَّبَ بِآيََاتِهِ إِنَّهُ لََا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ} أو: {كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمََّا جََاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكََافِرِينَ} أو: {كَذَّبَ بِآيََاتِهِ أُولََئِكَ يَنََالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتََابِ} فهذه خمسة مواضع تقدمها قوله: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى ََ عَلَى اللََّهِ كَذِباً} وكانت مقارنة تقتضي التنكير في لفظها وأما قوله في سورة الأنعام (1): {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى ََ عَلَى اللََّهِ كَذِباً لِيُضِلَّ النََّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ} فإنما معناه: ومن أظلم لنفسه ممن يختلق كذبا يقصد به الضلال للناس، فكل من ضل منهم يكذبه فقد أضله كذب أخلقه، ففيه دليل أمثال له يقتضي تنكيره، وكذلك قوله تعالى في سورة هود (2): {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى ََ عَلَى اللََّهِ كَذِباً أُولََئِكَ يُعْرَضُونَ عَلى ََ رَبِّهِمْ} فكانت لفظة من: {مِمَّنِ افْتَرى ََ عَلَى اللََّهِ كَذِباً} لفظة واحدة، والمعنى: كل كاذب كذبا فمضامه أنواع الكذب لمضامه الكاذبين لهم يقتضي تنكير لفظه إذ صاروا واحدا من جماعة شائعا فيها، وأما تعريفه في سورة الصف فلأن القصد:
الإشارة إلى ذلك الكذب، وهو: تكذيب اليهود بآيات الله والرسول صلّى الله عليه وسلم، وتكذيب النصارى بها، وقد تقدمت قصتهما في قوله: {وَإِذْ قََالَ مُوسى ََ لِقَوْمِهِ يََا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي} (3) وبعده: {وَإِذْ قََالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يََا بَنِي إِسْرََائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللََّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِمََا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرََاةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمََّا جََاءَهُمْ بِالْبَيِّنََاتِ قََالُوا هََذََا سِحْرٌ مُبِينٌ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى ََ عَلَى اللََّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعى ََ إِلَى الْإِسْلََامِ} (4) أي: ومن أظلم ممن يكذب الكذب الذي تشير إليه الأمم من المسلمين والنصارى واليهود على اختلاف اعتقاداتهم، فقد صح أنه الكذب المعروف عند المسلمين وعند علماء الطائفتين من أهل الكتاب، فالتعريف في هذا المكان فائدته التي تخصه ما ذكرنا، كما أن ما جاء منه منكرا اقتضاه مكانه على ما بينا.
62 - سورة الجمعة
ما فيها قد تقدم ذكره في سورة البقرة.
__________
(1) الآية: 144.
(3) سورة: الصف، الآية: 5.
(2) الآية: 18.
(4) سورة: الصف، الآيتان: 6و 7.(1/334)
63 - سورة المنافقون آية واحدة
وهي قوله تعالى: {هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لََا تُنْفِقُوا عَلى ََ مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللََّهِ حَتََّى يَنْفَضُّوا وَلِلََّهِ خَزََائِنُ السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضِ وَلََكِنَّ الْمُنََافِقِينَ لََا يَفْقَهُونَ يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنََا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلََّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلََكِنَّ الْمُنََافِقِينَ لََا يَعْلَمُونَ} (1).
للسائل أن يسأل: عن قوله في آخر الآية الأولى: {وَلََكِنَّ الْمُنََافِقِينَ لََا يَفْقَهُونَ}
وعن قوله: {وَلََكِنَّ الْمُنََافِقِينَ لََا يَعْلَمُونَ} في آخر الثانية، وما أوجب اختصاص كل واحد بما اختص به من قوله: {لََا يَفْقَهُونَ} وقوله: {لََا يَعْلَمُونَ}؟.
الجواب أن يقال: إن معنى قوله: {هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لََا تُنْفِقُوا عَلى ََ مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللََّهِ} أي: يأمرونهم بالإضرار بهم وحبس النفقات عنهم ولا يفطنون لأنهم إذا فعلوا ذلك أضروا بأنفسهم دون من عند رسول الله لأن الله لا يحبس ما قدر من أرزاقهم، فلا يضرهم إذا حبسوا إنفاقهم فهم لا يفقهون ذلك، ولا يفطنون له، وقوله في الثاني: {لََا يَعْلَمُونَ} بعد قوله: {يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنََا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ} عندهم لأن {الْأَعَزُّ}: من له القوة والغلبة على ما كانوا عليه في الجاهلية، ولا يعلمون أن هذه القدرة التي يفضل بها الإنسان غيره إنما هي من الله، فهي لله ولمن يخصه بها من عباده، والمنافقون لا يعلمون أن الذلة لمن يقدرون فيه العزة، وأن الله معز أولياءه بطاعتهم له، ومذل أعدائه لمخالفتهم أمره، فقد اختصت كل آية بما اقتضاه معناها.
__________
(1) سورة: المنافقون، الآيتان: 7و 8.(1/335)
64 - سورة التغابن آيتان
الآية الأولى
قوله تعالى: {يُسَبِّحُ لِلََّهِ مََا فِي السَّمََاوََاتِ وَمََا فِي الْأَرْضِ} (1) وقال بعده: {يَعْلَمُ مََا فِي السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مََا تُسِرُّونَ وَمََا تُعْلِنُونَ وَاللََّهُ عَلِيمٌ بِذََاتِ الصُّدُورِ} (2).
للسائل أن يسأل: عن تكرير «ما» في افتتاح السورة في: {يُسَبِّحُ لِلََّهِ مََا فِي السَّمََاوََاتِ وَمََا فِي الْأَرْضِ} وترك ذلك في قوله: {يَعْلَمُ مََا فِي السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضِ}
ثم تكرير «ما» في قوله: {وَيَعْلَمُ مََا تُسِرُّونَ وَمََا تُعْلِنُونَ}؟ وهل كانت الفائدة تحصل بعكس ذلك، وتكرير «ما» حيث لم تكرر، وحذفها حيث لم تحذف؟.
الجواب أن يقال: لما كان تسبيح ما في السموات على خلاف تسبيح ما في الأرض كثرة وقلة وخلوصا من غير مقارنة المعاصي واختلاطها بها، أعيدت لفظة: {مََا}
للاختلاف، ولم يكن الأمر في قوله: (ما) كذلك لأن علمه نظم: (ما) فيهما نظما واحدا على حد واحد، فصار علمه بما تحت الأرضين كعلمه بما فوقها، وعلمه بما في السموات كعلمه بما في غيرها، كما كان علمه بما يكون كعلمه بما كان لا يختلف، فلم يتباين فتعاد للمخالفة لفظة: (ما) للتمييز بها عما خالفها، وأما {مََا يُسِرُّونَ} فإنه مخالف ل {وَمََا يُعْلِنُونَ} غاية المخالفة، فلم يصح إلا بإعادة: (ما) فقد بان ووضح الفرق بين المواضع الثلاثة.
الآية الثانية منها
قوله تعالى:
__________
(1) سورة: التغابن، الآية: 1.
(2) سورة: التغابن، الآية: 4.(1/336)
{وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللََّهِ وَيَعْمَلْ صََالِحاً يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئََاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنََّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهََارُ خََالِدِينَ فِيهََا أَبَداً ذََلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} (1) وقال بعده في سورة الطلاق (2): {وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللََّهِ وَيَعْمَلْ صََالِحاً يُدْخِلْهُ جَنََّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهََارُ خََالِدِينَ فِيهََا أَبَداً قَدْ أَحْسَنَ اللََّهُ لَهُ رِزْقاً}.
للسائل أن يسأل: عما خصص الآية الأولى بقوله: {يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئََاتِهِ} وإخلاء الآية الثانية منه.
الجواب: أن الأولى جاءت بعد قوله مخبرا عن الكفار: {فَقََالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنََا فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللََّهُ وَاللََّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلى ََ وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمََا عَمِلْتُمْ وَذََلِكَ عَلَى اللََّهِ يَسِيرٌ} (3) فهذه سيئات تحتاج إلى تكفير إذا آمن بالله بعدها فقال: {وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللََّهِ وَيَعْمَلْ صََالِحاً} في مستقبل عمره يمسح عنه ما سبق من كفره ثم يوجب له جنات، والآية الثانية لم يتقدمها خبر عن كفار بسيئات، فيوعدوا بتكفيرها إذا أقلعوا عنها وتابوا عنها وعملوا الصالحات مكانها، وكان مضمونا تكفير السيئات عند الإيمان وعمل الصالحات، فلم يحتج إلى ذكره كما كان الأمر في غيره، والله أعلم.
__________
(1) سورة: التغابن، الآية: 9.
(2) الآية: 11.
(3) سورة: التغابن، الآيتان: 6، 7.(1/337)
65 - سورة الطلاق آية واحدة
وهي قوله تعالى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللََّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لََا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللََّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللََّهَ بََالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللََّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً} (1)
وقال بعده: {وَأُولََاتُ الْأَحْمََالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ وَمَنْ يَتَّقِ اللََّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً ذََلِكَ أَمْرُ اللََّهِ أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ} (2) وقال بعده: {وَمَنْ يَتَّقِ اللََّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئََاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً} (3).
للسائل أن يسأل: عن قوله في خلال ذكر الطلاق والعدد: {وَمَنْ يَتَّقِ اللََّهَ}
ثلاث مرات يفعل به كذا، واختصاص كل جزاء بمكان، فأوله: {يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لََا يَحْتَسِبُ} والثاني: {يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً} والثالث: {يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئََاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً}.
الجواب أن يقال: إنما اقترن بالطلاق والعدد هذا الوعظ لأن الطلاق رفض حال متمهدة وقطع آمال متأكدة، والعدد باستيفائها يخلص النسب ويصح للزوج الثاني الولد، ولو لم يكن هذا الحد الذي حده الله تعالى، لكان الفساد متصلا إلى انقضاء الدنيا، فهو أحق الأشياء بالمراعاة وتأكيد المقال فيه والوصاة، قال الله عز وجلّ بعد ذكر الطلاق: {وَمَنْ يَتَّقِ اللََّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لََا يَحْتَسِبُ}، أي: من تمسّك بتقوى الله فيما يحل ويعقد ويصدر ويورد، فإن الله يلقيه في شدته فرجا، ويجعل له مما يكرهه مخرجا، ويتيح له محبوبه من حيث لا يقدر، ويوجه له رزقه من حيث لا يحتسب، وفي ضمنه أنه إذا طلق لكراهة أحد القرينين لصاحبه وقارن ذلك تقوى الله، فإن الله يسبب له القرينة الصالحة ولها القرين الصالح، ويرزق أحدهما على يد الآخر من حيث لا يبلغه تقديره ولا
__________
(1) سورة: الطلاق، الآيتان: 2و 3.
(2) سورة: الطلاق، الآيتان: 4و 5.
(3) سورة: الطلاق، الآية: 5.(1/338)
يدركه حسابه، وهذا وعد منه في الدنيا، ويصح له مثله في الآخرة لأنه يجعل للمتقين منجى من عذابه وأمنا من مخافته، فيخرجهم من الغم إلى السرور، ومن الفزع إلى الأمن، ويعدلهم من كرامته وثوابه ونعمته ما يكتفون به ولا يحتاجون معه إلى غيره، ويكون قوله: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللََّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} مرادا به: حال الآخرة، إذ المتوكل على الله قد يضام في الدنيا وقد يقتل أيضا، هذا قول بعض أهل النظر ويجوز أيضا أن يراد بالتوكل: أن يكل أمره إليه، فيتبعه راضيا بما يصرفه إليه، كالدابة المواكل التي تسير بسير غيرها، منقاد لحكمه وسيره، فإذا كان المتوكل على الله من هذه صفته، فالله حسبه حافظا له ممن يحاول ظلمه، أو ينتقم منه إن رأى ذلك أنفع له، فهو يبلغ مراده في الوقت الذي قدره، إذ كان قد جعل لكل شيء حينا يقع عنده، لا يتعجل قبله ولا يتباطأ بعده وأما قوله بعد ذكر عدة الحامل: {وَمَنْ يَتَّقِ اللََّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً} أي: من لزم التقى سهل الله عليه الصعب من أمره، كما يجعل أمر الولادة سهلا إذا قامت الأم عن ولدها سرحا، ثم عقب حال الدنيا بذكر ما يفعله في الآخرة من تكفير سيئاته وإعظام أجره، فكل شرط من تقى الله عز وجلّ قرن إليه من الجزاء ما لاق بمكانه الذي ذكر فيه، والأخير لما كان مقدما على أحوال، احتاجت إلى غاية الترغيب، وإلى المبالغة في الترهيب، وعد عليه أفضل الجزاء، وهو ما يكون في الآخرة من النعماء، فتدبره تجده على ما ذكرت.
66 - سورة التحريم
ما فيها قد مرّ في سورة الأنبياء عليهم السّلام(1/339)
ما فيها قد مرّ في سورة الأنبياء عليهم السّلام
67 - سورة الملك آية واحدة
وهي قوله تعالى: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمََاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذََا هِيَ تَمُورُ أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمََاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حََاصِباً فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ} (1).
للسائل أن يسأل: عن تقديم التوعد بالخسف على التوعد بالحاصب؟ وهل كان يختار التوعد بتقديم الحاصب على الخسف؟ أم لم يجز في الاختيار إلا ما جاء عليه الوعيد في الآيتين؟.
الجواب أن يقال: لما كانت الأرض التي خلقها الله لهم ومهدها لاستقرارهم، يعبدون عليها غير خالقها ويعظمون عليها الأصنام التي هي من شجرها أو حجرها، خوفهم بما هو أقرب إليهم من الأشياء التي أهلك بها من كان قبلهم، والآية الثانية تخويف بالحاصب من السماء، وهي التي لا يصعد إليها الطيب من كلامهم، ولا الحسن من عملهم، إلا سيئات أفعالهم، ونتائج ما كتب عليهم، وتلك حال ثانية، فذكر في الثانية.
__________
(1) سورة: الملك، الآيتان: 16و 17.(1/340)
68 - سورة القلم آية واحدة
وهي قوله تعالى: {وَلََا تُطِعْ كُلَّ حَلََّافٍ مَهِينٍ هَمََّازٍ مَشََّاءٍ بِنَمِيمٍ مَنََّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ عُتُلٍّ بَعْدَ ذََلِكَ زَنِيمٍ أَنْ كََانَ ذََا مََالٍ وَبَنِينَ إِذََا تُتْلى ََ عَلَيْهِ آيََاتُنََا قََالَ أَسََاطِيرُ الْأَوَّلِينَ سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ إِنََّا بَلَوْنََاهُمْ كَمََا بَلَوْنََا أَصْحََابَ الْجَنَّةِ} (1) وقال في سورة المطففين (2): {الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ وَمََا يُكَذِّبُ بِهِ إِلََّا كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ إِذََا تُتْلى ََ عَلَيْهِ آيََاتُنََا قََالَ أَسََاطِيرُ الْأَوَّلِينَ كَلََّا بَلْ رََانَ عَلى ََ قُلُوبِهِمْ مََا كََانُوا يَكْسِبُونَ}.
للسائل أن يسأل: عما انقطعت إليه الآية الأولى من الجزاء في الدنيا والآية الثانية من الجزاء في الآخرة؟.
الجواب أن يقال: إن الموصوف في الآية الأولى موصوف بجامعة لخصال الذم فاضحة، وهي: الحلف بالكذب الذي يورث الضعة والمهانة والوقيعة في الناس بما ليس فيهم، وهو يورث العداوة والنميمة، وهي: نقل الكلام للتعريف الذي يجلب الضغينة، والبخل الذي لا يدع خيره ينفع غيره، والاعتداء، وهو: تجاوز الحق في المعاملة، وجفاء الطبع والخليقة وغلظهما، والدعوة التي تلصقه بقبيلة ليس منها، فيكون كالزنمة المتدلية من حلق الجدي.
فلما وصفه بهذه الأشياء الظاهرة القبح، جعل في مقابلتها نكالا ظاهرا بينا على الوجه، فقال: {سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ} أي: نشهره بعلامة تنبئ عن قبائحه وفضائحه، وأما الآية الأخيرة في المطففين، فإن قبلها: {الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ وَمََا يُكَذِّبُ بِهِ إِلََّا كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ إِذََا تُتْلى ََ عَلَيْهِ آيََاتُنََا قََالَ أَسََاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} فأخبر عنهم أنهم لا يؤمنون بالبعث، وأن الذنوب الذي قارفوها غلبت على قلوبهم حتى كأنها تنكرت لها، ولذلك قال الحسن: الرين: الذنب على الذنب حتى يسود القلب، فلما لم ينعتهم إلا بالكفر أخبر عن
__________
(1) سورة: القلم، الآيات: 1710.
(2) الآيات: 1411.(1/341)
جزائهم في الآخرة، وهو أن يحجبوا عما لا يحجب عنه المؤمنون من ثواب الله يوم القيامة، وأن يصلوا نار جهنم يلزمونها عقابا لهم على المعصية، فأتبع كلا من المكانين ما لاق به وصلح في مقابله ما تقدم عليه.(1/342)
جزائهم في الآخرة، وهو أن يحجبوا عما لا يحجب عنه المؤمنون من ثواب الله يوم القيامة، وأن يصلوا نار جهنم يلزمونها عقابا لهم على المعصية، فأتبع كلا من المكانين ما لاق به وصلح في مقابله ما تقدم عليه.
69 - سورة الحاقة آية واحدة
وهي قوله تعالى: {وَمََا هُوَ بِقَوْلِ شََاعِرٍ قَلِيلًا مََا تُؤْمِنُونَ وَلََا بِقَوْلِ كََاهِنٍ قَلِيلًا مََا تَذَكَّرُونَ} (1).
للسائل أن يسأل: عن قوله: {مََا تُؤْمِنُونَ} عقيب {شََاعِرٍ} وقوله: {قَلِيلًا مََا تَذَكَّرُونَ} عقيب: {كََاهِنٍ}؟.
الجواب أن يقال: من نسب النبي صلّى الله عليه وسلم إلى أنه شاعر وأن ما أتى به شعر، فهو جاحد كافر، ولأنه يعلم أن القرآن ليس بشعر لا في أوزان آياته ولا في تشاكل مقاطعه، إذ منه آية طويلة وأخرى إلى جنبها قصيرة، كآية الدين في طولها، والآية التي قبلها في قصرها، وهي: {وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللََّهِ ثُمَّ تُوَفََّى كُلُّ نَفْسٍ مََا كَسَبَتْ وَهُمْ لََا يُظْلَمُونَ} (2)، وأما اختلاف المقاطع، فإنه ينبئ أيضا العرب شاعرها ومفحمها أنه ليس بشعر، فمن نسبه إلى أنه شاعر، فهو لقلة إيمانه، وأما من قال: إنه كاهن، فلأن كلام الكهنة نثر غير نظم وفيه سجع، وهو مخالف للشعر أيضا، فمن قال: إنه ككلام الكهان، فإنه ذاهل عن تذكر ما بني عليه كلامهم من السجع الذي يتبعون به معاني ألفاظهم، وحق اللفظ في البلاغة أن يكون تابعا للمعنى وهو ما عليه القرآن، كقوله عز وجلّ:
{أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرََاراً وَجَعَلَ خِلََالَهََا أَنْهََاراً وَجَعَلَ لَهََا رَوََاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حََاجِزاً} (3) فلو تذكر قائل هذا القول أن هذا النثر مخالف لكلام الكهنة فيما ذكرنا، لما قال: إنه قول كاهن، فلذلك عقبه بقوله: {قَلِيلًا مََا تَذَكَّرُونَ}.
__________
(1) سورة: الحاقة، الآيتان: 41و 42.
(2) سورة: البقرة، الآية: 281.
(3) سورة: النمل، الآية: 61.(1/343)
70 - سورة المعارج آية واحدة
وهي قوله: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حََافِظُونَ إِلََّا عَلى ََ أَزْوََاجِهِمْ أَوْ مََا مَلَكَتْ أَيْمََانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ فَمَنِ ابْتَغى ََ وَرََاءَ ذََلِكَ فَأُولََئِكَ هُمُ العََادُونَ وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمََانََاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رََاعُونَ وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهََادََاتِهِمْ قََائِمُونَ وَالَّذِينَ هُمْ عَلى ََ صَلََاتِهِمْ يُحََافِظُونَ أُولََئِكَ فِي جَنََّاتٍ مُكْرَمُونَ} (1) وقال قبله في سورة المؤمنين (2): {وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكََاةِ فََاعِلُونَ وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حََافِظُونَ إِلََّا عَلى ََ أَزْوََاجِهِمْ أَوْ مََا مَلَكَتْ أَيْمََانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ فَمَنِ ابْتَغى ََ وَرََاءَ ذََلِكَ فَأُولََئِكَ هُمُ العََادُونَ وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمََانََاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رََاعُونَ وَالَّذِينَ هُمْ عَلى ََ صَلَوََاتِهِمْ يُحََافِظُونَ أُولََئِكَ هُمُ الْوََارِثُونَ الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهََا خََالِدُونَ}.
للسائل أن يسأل: عن الآيات المتجاوبة في السورتين لفظا ومعنى؟ وعن اختصاص سورة سأل سائل بقوله: {وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهََادََاتِهِمْ قََائِمُونَ} وحذفه من سورة المؤمنين؟.
الجواب فيه عن ذلك أن يقال: لما أخبر الله تعالى في هذه السورة عن طبائع البشر، فقال: {إِنَّ الْإِنْسََانَ خُلِقَ هَلُوعاً إِذََا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً وَإِذََا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً} (3)
وكان معناه: إنه خلق متسرعا إلى ما يلتذه، غير متماسك عما يشتهيه وإن كان مكروهه، وكان مفرطا في ذلك، فإن مسه شر اشتد له قلقه، وإن مسه خير شحت به نفسه، ثم استثنى من هؤلاء بعد أن وصفهم بحال مذمومة مفرطة في معانيها من يفرط فيما يضادها، ويبالغ من طاعة الله فيما يخالفها، فقال: {إِلَّا الْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَلى ََ صَلََاتِهِمْ دََائِمُونَ} (4)، أي: إلا الذين يؤدون الصلاة ويقيمونها ويديمونها، ثم أكد ذلك في آخر هذه الآيات كرا عليها بقوله: {وَالَّذِينَ هُمْ عَلى ََ صَلََاتِهِمْ يُحََافِظُونَ} (5) ومحافظتهم عليها مراعاتهم لأوقاتها،
__________
(1) سورة: المعارج، الآيات: 3529.
(4) سورة: المعارج، الآيتان: 22و 23.
(2) الآيات: 114.
(5) سورة: المعارج، الآية: 34.
(3) سورة: المعارج، الآيات: 2119.(1/344)
وقيامهم بحقوقها المفروضة قبلها، والمفروضة عند افتتاحها، والمفروضة عند جملة حدودها إلى حين اختتامها، فهذا في وصف المصلين، وبعدهم المزكون والذين في أموالهم حق معلوم للسائل والمحروم، يعطون ما يجب عليهم من زكوات أموالهم من يسألهم، ومن يترك المسألة فيحرم مثل ما يعطاه السائل، وهذا أيضا مبالغة في وصف من يستشف أحوال الفقراء، فيعطيهم لما يعلمه من حاجتهم لا لما يشاهد من إلحاحهم في مسألتهم، وبعده: {وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ} (1) أي: يؤمنون بالبعث والحساب والجزاء، ثم أتبع ذلك التوكيد قوله: {وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذََابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ} (2) ومن صدق بيوم الدين أشفق من عذاب الله له على سيئات أعماله، فأراد أنهم يصدقون بيوم الدين، ويرهبون عذاب الله، فيعملون الصالحات طلبا للنجاة منه، وبعده: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حََافِظُونَ إِلََّا عَلى ََ أَزْوََاجِهِمْ أَوْ مََا مَلَكَتْ أَيْمََانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ} أي: لا يطلقون فروجهم على معاصي الله، إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم، ثم بالغ في تحذيرهم بأن قال: {فَمَنِ ابْتَغى ََ وَرََاءَ ذََلِكَ فَأُولََئِكَ هُمُ العََادُونَ} أي: من خرج عن هذا الحد إلى ما وراءه، وذلك شامل للجهات كلها، فأولئك خارجون عن الحق إلى الظلم، وهذه الآية جاءت في سورة المؤمنين، وبعدها في السورتين: {وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمََانََاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رََاعُونَ} فوصفهم بأنهم يرعون أمانة الله عندهم، وأمانات الناس لديهم، وعهودهم قبلهم، ثم خص الآية في سورة سأل سائل بما أجرى عليه الآيات التي قبلها من المبالغة في الطاعات التي تضمنت ذكرها، فقال: {وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهََادََاتِهِمْ قََائِمُونَ} أي: يؤدون بعد الأمانات التي في رقابهم وذممهم الأمانات التي في ذمم غيرهم وثباتها بشهاداتهم، فوصف من يؤدي الأمانات التي في رقابهم وذممهم إلى الأمانات التي يثبت بها حقوق تخصه إلى مستودعيها على غيرهم، فكان من المبالغة التي تقتضيها الآيات المتقدمة ذكر الشهادات عقيب أداء الأمانات، وقوله إخبارا {وَالَّذِينَ هُمْ عَلى ََ صَلََاتِهِمْ يُحََافِظُونَ} مردود إلى الآيات الأول وقد بينا ذلك أولا.
فإن قال قائل: كيف يصح أن يقال: خلق الإنسان هلوعا جزوعا منوعا؟ وهذا يوجب أن يكون الهلع والجزع والمنع موجودة فيه في حال خلق الله له، وليس هو كذلك لأنه لا يشعر بهذا للطفولية؟
قلت: أجيب عن ذلك بأن جعل معناه: خلق حيوانا ضعيفا لا يصبر على الشدائد إذا دامت عليه، وإجراؤه الصفة عليه في حال الخلق توسع ومجاز.
__________
(1) سورة: المعارج، الآية: 26.
(2) سورة: المعارج، الآية: 27.(1/345)
الجواب الذي أذهب إليه: أن الهلع: التسرع والقلق نحو الشيء، فالحريص يهلع أي: يتسرع إلى تمكين الحزن من نفسه وإدخال ألمه على قلبه، والحريص يتسرع إلى مشتهاه اتباعا لهواه وإن كان فيه رداه، والإنسان في حال صغره مطبوع على هذه الخلال لأنه يتسرّع إلى الثدي ويحرص على الرضاع، وإن مسه ألم جزع وبكى، وإن تمسك بثدي فزوحم عليه منع بما في قدرته من اضطراب وبكاء، فلا يزال يفعل ذلك حتى يرد إليه الحيز الذي كان له، ثم هو على ذلك إلى آخر عمره، والهلع في كلام العرب أصله:
القلق والتسرع في الحرص والجزع، يقال: ناقة هلواع أي: مسرعة، وظلمان هوالع أي:
مسرعات، وإذا كان كذلك لم يكن الهلوع والجزوع والمنوع مجازا، فتبين بالمبالغات التي في الخصال المذمومة وإردافها بالمبالغات في الطاعة المحمودة الآيات التي في هذه السورة من الآيات التي في سورة المؤمنين التي لم يتقدمها مبالغات في مساوي الأخلاق، فإن قال: ما الحكمة في خلق الإنسان على مساوي الأخلاق؟ قلت: الحكمة في خلق شهوة القبيح، ليمانع نفسه إذا نازعته نحوه، ويحارب شيطانه عند تزيينه معصيته، فيستحق من الله عقوبته، ويستوجب عليه جنته، وهذا واضح لمن تدبره، فاعرفه تصب إن شاء الله تعالى.(1/346)
مسرعات، وإذا كان كذلك لم يكن الهلوع والجزوع والمنوع مجازا، فتبين بالمبالغات التي في الخصال المذمومة وإردافها بالمبالغات في الطاعة المحمودة الآيات التي في هذه السورة من الآيات التي في سورة المؤمنين التي لم يتقدمها مبالغات في مساوي الأخلاق، فإن قال: ما الحكمة في خلق الإنسان على مساوي الأخلاق؟ قلت: الحكمة في خلق شهوة القبيح، ليمانع نفسه إذا نازعته نحوه، ويحارب شيطانه عند تزيينه معصيته، فيستحق من الله عقوبته، ويستوجب عليه جنته، وهذا واضح لمن تدبره، فاعرفه تصب إن شاء الله تعالى.
71 - سورة نوح عليه السّلام آية واحدة
وهي قوله تعالى: {وَلََا تَزِدِ الظََّالِمِينَ إِلََّا ضَلََالًا} (1) وقال في آخر السورة: {وَلََا تَزِدِ الظََّالِمِينَ إِلََّا تَبََاراً} (2).
للسائل أن يسأل: عن الأول واختصاصه بالإضلال، وعن الثاني واختصاصه بالإهلاك الذي هو التبار؟.
الجواب أن الأول جاء بعد قوله: {وَلََا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيراً} (3)
أي: لما قالوا: لا تذرن آلهتكم، ولا تذرن ودا ولا سواعا، فأمروا أتباعهم بالتمسك بعبادة هذه الأصنام، وأضلوهم عن طريق الرشاد، دعا عليهم نوح عليه السّلام بأن يضلهم التواب بعد استحقاق العقاب ليجاوب قوله: {وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيراً} وأما الآخر، فإن معناه: زدهم هلاكا على هلاك، وعذابا فوق عذاب بما وافوا عليه القيامة من كفر وضلال وذلك عند دخول النار، فاقتضى كل من المكانين ما جاء فيه.
72 - سورة الجن
ليس فيها شيء من ذلك.
73 - سورة المزمل عليه الصلاة والسلام
ليس فيها شيء من ذلك.
__________
(1) سورة: نوح، الآية: 24.
(3) سورة: نوح، الآيتان: 23و 24.
(2) سورة: نوح، الآية: 28.(1/347)
74 - سورة المدثر عليه الصلاة والسلام آيتان
الآية الأولى منها
قوله تعالى: {إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ثُمَّ نَظَرَ} (1).
للسائل أن يسأل: عما تكرر من قوله: (قدر) في ثلاثة مواضع، وعن الفائدة فيها.
الجواب أن يقال: كان الوليد بن المغيرة لما سأل عن النبي صلّى الله عليه وسلم قدر ما أتى به من القرآن، فقال: إن قلنا شاعر كذبتنا العرب إذا قدرت ما أتى به على الشعر ولم يكن إياه، وكان يقصد في هذا التقدير: تكذيب الرسول عليه الصلاة والسلام بضرب من الاحتيال يمكنه تجويزه على العقلاء، فلذلك كان كل تقدير مستحقا لعقوبة من الله تعالى هي كالقتل إهلاكا له، فهذا معنى: {فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ} أي: هلك هلاك المقتول كيف قد رأى هو في تقديره ونظره غير طالب لحق، بل هو مثبت باطلا، وإن كان القرآن ليس بشعر ولا يجوز مثله على من عرف النثر والنظم، فهو بالصدق في ذلك قاصد إلى تكذيب النبي عليه الصلاة والسلام بوجه آخر يدّعيه على ما أتى به، وقوله: {ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ}، أي: إنه قال: وليس ما أتى به من كلام الكهنة، فإن ادعينا ذلك عليه كذبتنا العرب إذا رأوا هذا الكلام مخالفا لكلام الكهان، فهو في تقديره له على كلام الكهنة مستحق من العقوبة لما هو كالقتل إهلاكا له، فهو في نفيه عن القرآن الأقسام الفاسدة قاصد إلى إبطاله وإلى إثبات قسم لا يصح إثباته، وهو قول الله تعالى حاكيا عنه، فقال: {إِنْ هََذََا إِلََّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ إِنْ هََذََا إِلََّا قَوْلُ الْبَشَرِ} (2) وإذا كان كذلك لم يكن في إعادة «قدّر» تكرار بل المعنى ما ذكرناه من تعلق كل تقدير بمقدر غير الأول لفائدة تخصه جديدة.
__________
(1) سورة: المدثر، الآيات: 2118.
(2) سورة: المدثر، الآيتان: 24و 25.(1/348)
الآية الثانية منها
قوله تعالى: {كَلََّا بَلْ لََا يَخََافُونَ الْآخِرَةَ كَلََّا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شََاءَ ذَكَرَهُ وَمََا يَذْكُرُونَ إِلََّا أَنْ يَشََاءَ اللََّهُ} (1) وقال في سورة الإنسان (2): {إِنَّ هََذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شََاءَ اتَّخَذَ إِلى ََ رَبِّهِ سَبِيلًا وَمََا تَشََاؤُنَ إِلََّا أَنْ يَشََاءَ اللََّهُ إِنَّ اللََّهَ كََانَ عَلِيماً حَكِيماً}.
للسائل أن يسأل: عن اختلاف المكانين وقوله: {فَمَنْ شََاءَ اتَّخَذَ إِلى ََ رَبِّهِ سَبِيلًا} وقوله: {فَمَنْ شََاءَ ذَكَرَهُ} والهاء ضمير مذكر والعائد يعود على مؤنث؟.
الجواب أن يقال: التذكرة مصدر من: ذكرت أذكر تذكيرا وتذكرة، كما يقال:
قدمت تقديما وتقدمة، وكرمت تكريما وتكرمة، فلما كانت الآيات المتقدمة فواصلها في الوقف هاء، كقوله: {حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ} (3) و {صُحُفاً مُنَشَّرَةً كَلََّا بَلْ لََا يَخََافُونَ الْآخِرَةَ كَلََّا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شََاءَ ذَكَرَهُ} عادت الهاء إلى مذكر دلت التذكرة عليه وهو بمعناها، وهو: التذكرة والتذكر لتتعادل الفواصل. معنى: {فَمَنْ شََاءَ ذَكَرَهُ} أي: من شاء انتفع فيكون ذاكرا له، وإذا لم ينتفع به فيكون كالناسي له، وأما قوله: {فَمَنْ شََاءَ اتَّخَذَ إِلى ََ رَبِّهِ سَبِيلًا} فهو بمعنى: {فَمَنْ شََاءَ ذَكَرَهُ} لأن من انتفع بالذكر، سلك سبيل الطاعات التي تؤدي إلى ثواب الله، فعدل إلى قوله: {اتَّخَذَ إِلى ََ رَبِّهِ سَبِيلًا} للتوفقة بين الفواصل من هذه السورة، إذ كانت مردفة بياء أو واو، ومنقطعة بالألف، فحصل بالمكانين المعنيان متفقين مع ملائمة الفواصل في الموضعين.
__________
(1) سورة: المدثر، الآيات: 53، 56.
(3) سورة: المدثر، الآيتان: 50، 51.
(2) الآيتان: 29، 30.(1/349)
75 - سورة القيامة آيتان
الآية الأولى منها
قوله تعالى: {فَإِذََا بَرِقَ الْبَصَرُ وَخَسَفَ الْقَمَرُ وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ} (1).
للسائل أن يسأل: عما أعيد من لفظ القمر في الفاصلتين المتواصلتين.
الجواب أن يقال: لما قال: {بَرِقَ الْبَصَرُ} أي: تلألأ ولمع لهول ما شاهد، وهذا يلحق العيون عند شدة الأمر، والقمر يجوز أن يراد به: بياض العين، وخسوفه: غيبته، والبياض الذي فوق الحدقة يغيب إذا انقلبت العين، حتى يتعلق البياض الذي تحت السواد، ويكون قوله: {وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ} يجوز أن يكون المعنى: جمعا من مكان يقرب من المكان الذي فيه الناس، ويجوز أن يكون المراد: جمعا في سلب الضياء وفقد النور، فعلى هذا لا يكون القمر مكررا إذا أريد بالثاني غير الأول، ولا يكون معيبا إذا أريد به الأول أيضا لأنه أخبر عنه بغير الخبر الأول، والأشياء التي ليس خيالها أمثالها يجوز أن تقام ظاهرها مقام مضمرها، كقوله:
لا أرى الموت يسبق الموت شيء ... نغص الموت ذا الغنى والفقيرا
فهذا في كلام واحد في البيت، والأول في كلامين وهو أحسن، ومثله: {وَلِلََّهِ مََا فِي السَّمََاوََاتِ وَمََا فِي الْأَرْضِ وَإِلَى اللََّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ} (2).
الآية الثانية منها
قوله تعالى: {أَوْلى ََ لَكَ فَأَوْلى ََ ثُمَّ أَوْلى ََ لَكَ فَأَوْلى ََ} (3).
__________
(1) سورة: القيامة، الآيات: 97.
(2) سورة: آل عمران، الآية: 109.
(3) سورة: القيامة، الآيتان: 34و 35.(1/350)
للسائل أن يسأل: عن تكرير ذلك وعن الفائدة فيه وعن حقيقة اللفظ واشتقاقه.
الجواب أن يقال: اللفظة مشتقة من ولي يلي، إذا قرب منه قرب مجاورة، فكأنه قال: الهلاك قريب منك قرب مجاور لك، بل هو أولى وأقرب، وأما التكرير لفظا، فهو غير معيب إذا لم يتكرر لمعنى، فالأول يراد به الهلاك في الدنيا، والثاني بعده يراد به الهلاك في الآخرة، وعلى هذا يخرج عن التكريرات المعيبة فاعرفه.(1/351)
الجواب أن يقال: اللفظة مشتقة من ولي يلي، إذا قرب منه قرب مجاورة، فكأنه قال: الهلاك قريب منك قرب مجاور لك، بل هو أولى وأقرب، وأما التكرير لفظا، فهو غير معيب إذا لم يتكرر لمعنى، فالأول يراد به الهلاك في الدنيا، والثاني بعده يراد به الهلاك في الآخرة، وعلى هذا يخرج عن التكريرات المعيبة فاعرفه.
76 - سورة الإنسان آية واحدة
وهي قوله تعالى: {وَيُطََافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوََابٍ كََانَتْ قَوََارِيرَا قَوََارِيرَا مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوهََا تَقْدِيراً} (1) وقال بعده: {وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدََانٌ مُخَلَّدُونَ إِذََا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَنْثُوراً} (2).
للسائل: أن يسأل: عن قوله: {وَيُطََافُ عَلَيْهِمْ} وهو فعل ما لم يسم فاعله، وبعده {وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ} وهو فعل سمي فاعله، وعن اختصاص كل من المكانين بواحد منهما وعن الفائدة فيه.
الجواب أن يقال: إن القصد في الأولى إلى وصف ما يطاف به من الأواني دون وصف الطائفين، فلما كان المعتمد بالإفادة ذاك بني الفعل مقصودا به ذكر المفعول لا الفاعل، فقال الله تعالى: {بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوََابٍ كََانَتْ قَوََارِيرَا قَوََارِيرَا مِنْ فِضَّةٍ} أي: آلات من فضة صفاؤها كصفاء القوارير، لا تمنع أن يرى ما وراءها، وقد قدرت على صفة فجاءت على ما قدرت وفقا لمنية المتمني، وقيل: قدرت تقدير ما يسع الريّ، وقيل:
قدرت على ما يريد الشارب أن يكون عليه لا زيادة ولا نقصان، ثم قال تعالى: {وَيُسْقَوْنَ فِيهََا} (3) فوصف بعد الإناء الذي تسبق العين إليه ما يحويه من مشروب وطيبه، فلذلك لم يسم فاعله: {وَيُطََافُ} ولأنه جاء بعد قوله: {وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهََا تَذْلِيلًا} (4)، وأما الموضع الثاني الذي سمي فيه الفاعل، وهو قوله: {وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدََانٌ مُخَلَّدُونَ} فإن القصد فيه إلى وصف الفاعلين الذين يطوفون بهذه الآنية، فوجب ذكرهم لتعلق الصفة بهم، فقال تعالى:
{وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدََانٌ مُخَلَّدُونَ} وفي {مُخَلَّدُونَ} ثلاثة أقوال: باقون أبدا، دائمون لا يموتون، وقيل: يبقون على هيئة الوصفاء فلا يشيبون، وقيل: مخلدون محلون، والخلدة: القرط،
__________
(1) سورة: الإنسان، الآيتان: 15و 16.
(2) سورة: الإنسان، الآية: 19.
(3) سورة: الإنسان، الآية: 17.
(4) سورة: الإنسان، الآية: 14.(1/352)
وقوله: {إِذََا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَنْثُوراً} في صفاء ألوانهم، وضياء وجوههم، وحسنهم، وإشراقهم، وماء النعيم المترقرق فيهم، وإذا كان كذلك، أوجب ما بني عليه الكلام أن لا يسمى الفاعل في الأول، ويسمى في الثاني كما جاءت عليه الآيتان.(1/353)
وقوله: {إِذََا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَنْثُوراً} في صفاء ألوانهم، وضياء وجوههم، وحسنهم، وإشراقهم، وماء النعيم المترقرق فيهم، وإذا كان كذلك، أوجب ما بني عليه الكلام أن لا يسمى الفاعل في الأول، ويسمى في الثاني كما جاءت عليه الآيتان.
77 - سورة المرسلات آية واحدة
وهي قوله تعالى: {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ} (1).
للسائل أن يسأل: عن هذه الآية لما كررت عشر مرات، وتخصيص ما بعد كل منها بما قرن إليها، والفائدة في تقديم ما بعد الأولى على ما بعد الثانية؟ ثم السؤال في الجميع على هذه الطريقة؟.
الجواب أن يقال: إن هذه السورة مقصورة على إثبات ما أنكره الكفار من البعث، والإحياء بعد الموت، والحساب، والثواب، والعقاب، وتخويف المكذبين به ليرجعوا عنه ويتمسكوا بالحق دونه، فأقسم في أول السورة بما أقسم {إِنَّمََا تُوعَدُونَ لَوََاقِعٌ} في يوم الفصل بين المحسن والمسيء، والعاصي والمطيع، واحتج على المكذبين فيما بين ثلاثة من المتكررات بما يحجهم بعد قوله: {وَمََا أَدْرََاكَ مََا يَوْمُ الْفَصْلِ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ} (2)، أي: ويل لمن كذب بيوم القيامة، وهو اليوم الذي يفصل فيه بين المحسن والمسيء بأعظم المثوبة وأشد العقوبة، وبدأ بعد إيجاب الويل في الآخرة لمن كذب بها بذكر من أهلك من أمم الأنبياء الأولين، كقوم نوح وعاد وثمود، ثم أتبعهم الآخرين الذين أهلكوا من بعدهم قوم إبراهيم وقوم لوط وأصحاب مدين وآل فرعون وملئه، ثم توعد المجرمين من أمة محمد صلّى الله عليه وسلم وأنهم يلحقون بأمثالهم إذا استمروا في التكذيب على مثالهم، فكان ذلك زجرا بالغا بما صح عندهم من أخبارهم، كما قال تعالى: {أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعََادٍ وَثَمُودَ} (3) فحذرهم نكالا يقع بهم كما يقع بمن عمل مثل أعمالهم، فقال بعد ذلك: {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ} لمن كذب بالآخرة بعد أن احتج عليه من هذه الآية بإهلاك الأمة بعد الأمة، وأنهم على إثرهم في الهلاك إن أقاموا على الإشراك، ثم احتج عليهم في الثانية بقوله: {أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مََاءٍ مَهِينٍ} (4)، أي:
__________
(1) سورة: المرسلات، الآيات: 15، 19، 24، 28، 34، 37، 40، 45، 47، 49.
(3) سورة: التوبة، الآية: 70.
(4) سورة: المرسلات، الآية: 20.
(2) سورة: المرسلات، الآيتان: 14و 15.(1/354)
جعلنا أشرف ما تشاهدون من أقل ما تعرفون، وهو النطفة التي أقرها في الرحم، ونقلها حالا بعد حال حتى بلغ حد التمام والكمال، استواء جوارح ووصل مفاصل وأجرى هذا التقدير في جميع ما يولد من الحيوان، وخلق فيهم مجاري أغذيتهم ومشارب القوة المستفادة من أكلهم، فدل بما نبه عليه من النشأة في الابتداء على النشأة الثانية للانتهاء، فقال: ويل لمن كذب به بعد لزوم الحجة له، ثم احتج عليهم في الثالثة بقوله: {أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفََاتاً} (1) أي: جعلناها تضم أحياءهم وموتاهم بما تخرج من أقواتها، كما قال: {مِنْهََا خَلَقْنََاكُمْ وَفِيهََا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهََا نُخْرِجُكُمْ تََارَةً أُخْرى ََ} (2) هذا مع ما أقام فيها من الجبال الثوابت الرفيعة التي هي أوتاد الأرض، وما أجرى فيها للحيوان من الماء العذب، وفي كل ذلك دليل على أنه قادر عليم وصانع حكيم، لم يخلق الناس عبثا، ولم يتركهم سدى، وهو كما يبدي يعيد ليحق منه الوعد والوعيد، ثم قصرت ثلاثة على ما يكون من تبكيتهم على ما كذبوا به عند مشاهدتهم له، وهي: {انْطَلِقُوا إِلى ََ مََا كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ} (3)، أي: يقال لهم يوم القيامة ذلك، والثاني من هذه الثلاثة: {هََذََا يَوْمُ لََا يَنْطِقُونَ} (4) والثالث: {هََذََا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْنََاكُمْ وَالْأَوَّلِينَ} (5) فأمروا أولا بالانطلاق إلى ما كذبوا به، وفي الثاني معناه: امضوا إليها فلا عذر لكم ولا حجة، فقد أعذر إليكم في الدار الأولى من مكثكم، وفي الثالث {هََذََا يَوْمُ الْفَصْلِ} ومعناه معنى قوله: {وَامْتََازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ} (6) لأنكم جمعتم في يوم يفصل فيه بين المطيع والعاصي، والمحق والمبطل، ومعنى قوله: {فَإِنْ كََانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ} (7)، أي: إن كنتم تغتاظون وتسخطون لمخالفة ما أمركم به، واليوم قد عجزتم عن أنفسكم فإن قدرتم على ما كنتم تفعلونه قبل ما فعلوا، كما قال: {وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلََا يَسْتَطِيعُونَ} (8) وبقيت أربعة بعد أولها: وصف أهل الجنة أنهم يجازون بأعمالهم ويصيروا إلى ثمرات أفعالهم، وبعد الثاني: خطاب لمن في عصر النبي صلّى الله عليه وسلم ومبالغة في زجرهم، وأنهم في إيثارهم العاجلة الفانية على الآجلة الباقية من جملة المجرمين، الذين قال فيهم عند مفتتح هذه الآية:
{كَذََلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ} (9) فرجع عجز الكلام إلى صدره، كقوله:
__________
(1) سورة: المرسلات، الآية: 25.
(6) سورة: يس، الآية: 59.
(2) سورة: طه، الآية: 55.
(7) سورة: المرسلات، الآية: 39.
(3) سورة: المرسلات، الآية: 29.
(8) سورة: القلم، الآية: 42.
(4) سورة: المرسلات، الآية: 35.
(9) سورة: المرسلات، الآية: 18.
(5) سورة: المرسلات، الآية: 38.(1/355)
{كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلًا إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ} (1) وبعد الثالث: خبر عنه بأنهم مكرهون التجبية، كما يحكى عن هند بنت عتبة لما قال لها رسول الله صلّى الله عليه وسلم يوم الفتح: «يا هند كيف ترين الإسلام»، قالت: بأبي وأمي ما أحسنه، لولا ثلاث خصال، فقال: «وما هن»، قالت: التجبية، والخمار، ورقي هذا العبد الأسود فوق الكعبة، قال صلّى الله عليه وسلم: «أما التجبية فإنه لا صلاة إلا بركوع، وأما قولك الخمار، فلا شيء أحسن ولا أستر من الخمار وأما قولك ورقي هذا العبد الأسود فوق الكعبة فنعم عبد الله هو». يقال: جبى الرجل يجبي تجبية، إذا ركع، ومنه قوله:
كأن خصييه إذا ما جبا ... دجاجتان يلقطان حبا
فكراهتهم للتجبية من أجل ما يحكى عن أحدهم أنه قال: أكره أن تعلوني استي، ومعنى: {وَإِذََا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لََا يَرْكَعُونَ} (2) إذا دعوا إلى الصلاة لم يصلوها لا بحجة ولا بشبهة، ولكن بباطل نحو ما حكيناه، وقيل: لم يصلوا لجهلهم بما في الصلاة من المنافع لصاحبها، وقيل: لم يصلوا لتكذيبهم بوجوبها، وبعد الرابع قوله تعالى: {فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ} (3) أي: إذا كذبوا بالقرآن المتضمن لوجوب الصلاة، وبذل غاية الخضوع بالسجود والركوع لمن له غايات الإحسان، فلم يصدقوا أنه من عند الله مع ما قارنه من واضح البرهان، فبأي كلام يسمحون بعده بالإيمان، ومعنى قوله: {ارْكَعُوا}، أي: صلوا، ومنه قوله تعالى: {وَيُؤْتُونَ الزَّكََاةَ وَهُمْ رََاكِعُونَ} (4)، أي: مصلون، وإذا كان قوله: {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ} ردف كلام يدل على ما يجب تصديقه وترك التكذيب به، وكانت المعاني مختلفة، سلم من التكرار وعلى الترتيب الذي بينا يتبين ما يختص بالتقديم مما يختص بالتأخير.
__________
(1) سورة: المرسلات، الآية: 46.
(2) سورة: المرسلات، الآية: 48.
(3) سورة: المرسلات، الآية: 50.
(4) سورة: المائدة، الآية: 55.(1/356)
78 - سورة النبأ آيتان
الآية الأولى منها
قوله تعالى: {كَلََّا سَيَعْلَمُونَ ثُمَّ كَلََّا سَيَعْلَمُونَ} (1).
للسائل أن يسأل عن تكرار ذلك وفائدته.
الجواب أن يقال: إن الأول: وعيد بما يرونه في الدنيا عند فراقها من مقرهم، والثاني: وعيد بما يلقونه في الآخرة من عذاب ربهم، وإذا لم يرد بالثاني ما أريد بالأول، لم يكن تكرارا، وقيل: الأول توعد بالقيامة وهولها، والآخر توعد بما بعدها من النار وحرها.
الآية الثانية منها
قوله تعالى: {إِلََّا حَمِيماً وَغَسََّاقاً جَزََاءً وِفََاقاً} (2) وقال في وصف أهل الجنة:
{وَكَأْساً دِهََاقاً لََا يَسْمَعُونَ فِيهََا لَغْواً وَلََا كِذََّاباً جَزََاءً مِنْ رَبِّكَ عَطََاءً حِسََاباً} (3).
للسائل أن يسأل: عن الجزاءين؟ ووصف الأول منهما بالوفاق ووصف الثاني بأنه حساب؟ وهل كان يصح أن يقال في العطاء: وفاقا، وفي العقاب: حسابا؟.
الجواب أن يقال: إن الله تعالى قال: {مَنْ جََاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثََالِهََا} (4)
وقال: {مَنْ جََاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهََا} (5) {وَمَنْ جََاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلََا يُجْزى ََ إِلََّا مِثْلَهََا} (6)
__________
(1) سورة: النبأ، الآيتان: 4و 5.
(2) سورة: النبأ، الآيتان: 25و 26.
(3) سورة: النبأ، الآيات: 3634.
(4) سورة: الأنعام، الآية: 160.
(5) سورة: القصص، الآية: 84.
(6) سورة: الأنعام، الآية: 160.(1/357)
فلما كانت الحسنة بأضعافها والسيئة بمثلها، استعمل في جزاء السيئة أنه وفاق لها غير زائد عليها ولا قاصر عنها، ولما كانت الحسنة بأضعافها، استعمل في جزائها أنه عطاء يكفي معطاه ويبلغ من مطلوبه منتهاه، فقال: عطاء بحسبه، أي: يكفيه مما يريد ويشتهيه، ويغنيه عن طلب زيادة إليه، وإذا كان كذلك لم يصلح لكل مكان إلا ما استعمل فيه.(1/358)
فلما كانت الحسنة بأضعافها والسيئة بمثلها، استعمل في جزاء السيئة أنه وفاق لها غير زائد عليها ولا قاصر عنها، ولما كانت الحسنة بأضعافها، استعمل في جزائها أنه عطاء يكفي معطاه ويبلغ من مطلوبه منتهاه، فقال: عطاء بحسبه، أي: يكفيه مما يريد ويشتهيه، ويغنيه عن طلب زيادة إليه، وإذا كان كذلك لم يصلح لكل مكان إلا ما استعمل فيه.
79 - سورة النازعات
آية واحدة
وهي قوله تعالى: {فَإِذََا جََاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرى ََ يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسََانُ مََا سَعى ََ} (1) وقال في سورة عبس (2): {فَإِذََا جََاءَتِ الصَّاخَّةُ}.
للسائل أن يسأل: عما سماه: {الطَّامَّةُ الْكُبْرى ََ} وعما سماه: {الصَّاخَّةُ}؟ وهل صلح أن تستعمل الأولى مكان الثانية، والثانية مكان الأولى؟.
الجواب أن يقال: إن {الطَّامَّةُ} تستعمل في الشديدة التي تنسى عندها الشدائد، فتطم على ما تقدمها، أي: تستره وتغطيه، ومنه يقال: طمّ البئر إذا كبسها، والطم:
الكبس، والقيامة: الطامة الكبرى لأنها تنسي شدتها ما تقدم من شدائد الدنيا حتى يصير الناس فيها كما قال الله تعالى: {كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهََا لَمْ يَلْبَثُوا إِلََّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحََاهََا} (3) أي:
تصير شدائد الدنيا عندها محتقرة بمنزلة ما لم يروه إلا ساعة كعشية أو ضحاها، وإنما استعملت: {الطَّامَّةُ الْكُبْرى ََ} في هذه السورة لأن فيها ذكر ما أوتي به فرعون من {الطَّامَّةُ الْكُبْرى ََ} في الكفر، حيث قال: {أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى ََ} (4) فهذه في الكبائر كشديدة الآخرة في الشدائد، فكأنه قرن إلى ذكر الكبيرة الموفية على أمثالها ذكر {الطَّامَّةُ الْكُبْرى ََ}
وأهوالها.
وأما: {الصَّاخَّةُ} فهي صيحة تطعن الآذان فتصمها، يقال: صخ الغراب بمنقاره في دبر البعير، أي: طعن، فالصاخة صيحة شديدة لشدة صوتها تحيى لها الناس كالصيحة الشديدة التي يتنبه لها النوام، فلما تقدم في هذه السورة من حالة الإنسان ما نطق به قوله:
__________
(1) سورة: النازعات، الآيتان: 34و 35.
(2) الآية: 33.
(3) سورة: النازعات، الآية: 46.
(4) سورة: النازعات، الآية: 24.(1/359)
{ثُمَّ أَمََاتَهُ فَأَقْبَرَهُ ثُمَّ إِذََا شََاءَ أَنْشَرَهُ} (1) كان الإنشار بالصاخة التي تطعن الآذان، فيقضي الله عندها إحياء الموتى، فقارن الآيات التي في السورة الأولى ما شاكلها، والآيات في الآخرة ما شابهها، والسلام.
80 - سورة عبس
مرّ ما فيها فيما قبلها.
__________
(1) سورة: عبس، الآيتان: 21، 22.(1/360)
81 - سورة التكوير آيتان
الآية الأولى منها
قوله تعالى: {وَإِذَا الْبِحََارُ سُجِّرَتْ وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ} (1) وقال في سورة انفطرت (2): {وَإِذَا الْبِحََارُ فُجِّرَتْ وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ}.
للسائل أن يسأل: عن اختصاص الأولى بقوله: {سُجِّرَتْ} واختصاص الثانية بقوله: {فُجِّرَتْ}؟.
الجواب أن يقال: إن الأفعال التي جاءت بعد: (إذا) في السورة الأولى في جملتها: {وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ} (3) {وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ} (4) ولم يكن ذلك في السورة الثانية، ومعنى: سجّرت البحار: أوقدت، فصارت نارا كما يسجر التنور، وقيل: المراد بها: بحار في جهنم تملأ حميما ليعذب بها أهل النار، فكان ذكر هذا المعنى حيث وقع التوعد بتسعير الجحيم أشبه وأولى.
وأما قوله: {وَإِذَا الْبِحََارُ فُجِّرَتْ} فإنما معناه: سيب ماؤها فأسيح، حتى فاضت على وجه الأرض، فتساوى بالماء ولجج البحار شعف الجبال، فكان هذا أولى بهن بهذا المكان لأن قبلها خبرا عن الأشياء التي يحكم الله تعالى بمزايلتها أماكنها، كقوله: {إِذَا السَّمََاءُ انْفَطَرَتْ} ومعناه: انشقت، كما قال: {فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّمََاءُ فَكََانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهََانِ} (5) وبعده: {وَإِذَا الْكَوََاكِبُ انْتَثَرَتْ} (6) وبعده: {وَإِذَا الْبِحََارُ فُجِّرَتْ} فبإزاء انتثار الكواكب انفجار البحار، فكان الإخبار عنها بهذا المعنى أولى بهذا المكان، لتقدم ما يشبهها من التغيير، ومجيء ما هو تزييل عن مكانه من بعثرة القبور.
__________
(1) سورة: التكوير، الآيتان: 6، 7.
(4) سورة: التكوير، الآية: 13.
(2) الآيتان: 3، 4.
(5) سورة: الرحمن، الآية: 37.
(3) سورة: التكوير، الآية: 12.
(6) سورة: الانفطار، الآية: 2.(1/361)
الآية الثانية من سورة التكوير
قوله تعالى: {عَلِمَتْ نَفْسٌ مََا أَحْضَرَتْ} (1) وقال بعدها في سورة انفطرت: {عَلِمَتْ نَفْسٌ مََا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ} (2).
للسائل أن يسأل فيقول: قال الله تعالى: لما كانت القيامة وغيّر الله ما به قوام الدنيا لما يريد من إبطالها وتجديد أمر الآخرة، حينئذ علمت نفس ما أحضرت، وقال في السورة الأخرى: {عَلِمَتْ نَفْسٌ مََا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ} فهل يصح مكان: {مََا أَحْضَرَتْ} {مََا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ} فيجاب في سورة التكوير بما أجيب به في سورة الانفطار، أم خصوص الفائدة توجب تخصيص اللفظة؟.
الجواب أن يقال: إن الأول لما جاء بعد ذكر النار والجنة وهو قوله: {وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ عَلِمَتْ نَفْسٌ مََا أَحْضَرَتْ} (3)، أي: علمت عملا تستحق به الجنة أحضرت أم عملا تستحق به النار؟، وكذلك إذا نولت الكتاب ورأت الثواب والعقاب، وأما الثاني، فإنه بعد قوله: {وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ} (4)، أي: قلب ترابها وجعل أسفلها أعلاها بإخراج موتاها، فلما كان آخر شرط، انقطع إلى ذكر الجزاء لفظا ذا نقيض، وهو:
البعثرة التي تجعل أسفل الشيء أعلاه، كان أن يجعل الجزاء ما يتضمن لفظا ذا نقيض أولى من غيره، وهو: {عَلِمَتْ نَفْسٌ مََا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ}، وقيل: معناه: ما أقامت من طاعة الله وما تركت، وقيل: علمت نفس جميع ما عملته مدة عمرها في الدنيا، وما فعلته في أول شبابها، وما فعلته آخر أيامها، وقيل: معناه: ما قدمت من عملها الذي انقطع بانقطاع حياتها، وما أخرت من سنة سنتها، فعمل بها بعده، وإذا كان كذلك، فقد قرن إلى كل شيء شرط جوابه الذي هو أشبه بما قاربه، وأولى لما قارنه.
82 - سورة الانفطار
مرّ ما فيها في السورة التي قبلها.
__________
(1) سورة: التكوير، الآية: 14.
(3) سورة: التكوير، الآيات: 1412.
(2) سورة: الانفطار، الآية: 5.
(4) سورة: الانفطار، الآية: 4.(1/362)
83 - سورة المطففين آيتان
الآية الأولى منها
قوله تعالى: {كَلََّا إِنَّ كِتََابَ الفُجََّارِ لَفِي سِجِّينٍ وَمََا أَدْرََاكَ مََا سِجِّينٌ كِتََابٌ مَرْقُومٌ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ} (1) وقال تعالى في كتاب الأبرار: {كَلََّا إِنَّ كِتََابَ الْأَبْرََارِ لَفِي عِلِّيِّينَ وَمََا أَدْرََاكَ مََا عِلِّيُّونَ كِتََابٌ مَرْقُومٌ يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ} (2).
للسائل أن يسأل: عن قوله: {كِتََابٌ مَرْقُومٌ} وانقطاع إلى قوله: {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ}، وانقطاعه الثاني إلى قوله: {يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ}؟.
الجواب أن يقال: قوله في: {سِجِّينٍ} فسر على وجوه، قال أبو عبيدة: {سِجِّينٍ}
شديد، ومنه قول ابن مقبل: ضربا تواصوا به الأبطال سجينا، أي: شديد، وهذا يحمل على وجهين في حبس شديد كشدة السجن، ليدل به على خساسة منزلتهم، وقيل: سجين أي: أمر عظيم شديد عذابه وغمه، وقيل في سجين: في الأرض السابعة، وقيل في سجين أي: في سجن، والياء للمبالغة، أي: كتاب سيئاتهم فوجب تخليد حبسهم، وقيل:
كتابهم لما دام التقريع به دام عقابهم له، ومعنى قوله: {وَمََا أَدْرََاكَ مََا سِجِّينٌ}، أي: ليس هذا مما كنت تعلمه أنت ولا قومك لولا ما أتاك به الوحي من عندنا، ثم فسّر فقال:
{كِتََابٌ مَرْقُومٌ} أي: كتاب معلم بعلامات تدل على دوام خزيهم واتصال عذابهم بما فيه من سيئاتهم، ثم قال: ويل لهم لأنهم كذبوا رسل الله، وأما قوله: {كَلََّا إِنَّ كِتََابَ الْأَبْرََارِ لَفِي عِلِّيِّينَ}، أي: في مراتب عالية مكنوفة بجلالة، فلما فضلت الرتب، دلت على عظم شأنها بجمعها بالواو والنون، تشبيها بما يميز ويخاطب، وقيل: علّيون: السماء السابعة وفيها أرواح المؤمنين، وقيل علّيون: غرف الجنة، وقيل: سدرة المنتهى، وهي
__________
(1) سورة: المطففين، الآيات: 107.
(2) سورة: المطففين، الآيات: 2118.(1/363)
التي ينتهي إليها كل شيء من أمر الله، وهي في السماء السابعة، وقيل: عليون: علو على علو مضاعف، والواحد علّيّ كشرّيب وسكّير وخمّير، فكأنه لأعلى الأمكنة، ثم جمع بالواو والنون لتفخيم شأنه، وقيل: هذا جمع لما لا يحد واحده كثلاثين وأربعين، فثلاثون كأن لفظه لفظ جمع ثلاث، قال الزجاج، وهو كما قال الشاعر:
فكان دهيدهين وابيكرين فكان دهيدهين وهي: حاشية الإبل وصغارها، وابيكرين: جمع ليس واحده معلوم العدد، وقوله في كتاب الأبرار: {كِتََابٌ مَرْقُومٌ يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ}، أي: كتاب معلم بعلامات تدل على ما يقرّ أعينهم ويوجب دوام سرورهم، لما أودع من حسناتهم المفضية بهم إلى جناتهم، فكان رقم كتاب الفجار ما يوجب المصير إلى النار، فانقطع إلى ما يوجب الويل لهم، ورقم كتاب الأبرار ما يوجب المصير إلى غرف الجنان، ورضى الرحمن، فانقطع إلى ذكر مشاهدة المقربين وتبشيره بدوام نعيم صاحبه.
الآية الثانية من سورة المطففين
قوله تعالى: {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ} (1).
للسائل أن يسأل: عن إفراد هذا في هذه السورة، مع تكراره في سورة المرسلات عشر مرات؟.
الجواب أن يقال: إن قوله: (ويل) لهم كلمة تقال في كل من وقع في هلكة لا يرجى خلاصه منها، وهي في سورة والمرسلات قد بينا وجه الفائدة فيما أعيد منها، وهي في هذه السورة مذكورة مرة واحدة لأنها مقصورة على الترهيب من النار ووصفها، ومعاقبة أهلها، وعلى الترغيب في الجنة، ونعيم أهلها، ليس في السورة غير هذين المعنيين، فلما جردت لهما ذكرت الكلمة عند ذكر ما كتب على المكذبين، وأعلم به كتابهم بما يكون إليه مآلهم، ثم شرع في وصف كتاب الأبرار ومحله، وتبعيد ما بين جزائهم وجزاء غيرهم، فاكتفى بذكر الكلمة مرة لما بنى على اختصار السورة، والله أعلم.
__________
(1) سورة: المطففين، الآيتان: 10و 11.(1/364)
84 - سورة الانشقاق آيتان
الآية الأولى منها
قوله تعالى: {إِذَا السَّمََاءُ انْشَقَّتْ وَأَذِنَتْ لِرَبِّهََا وَحُقَّتْ وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ وَأَلْقَتْ مََا فِيهََا وَتَخَلَّتْ وَأَذِنَتْ لِرَبِّهََا وَحُقَّتْ} (1).
للسائل أن يسأل: عن تكرير قوله: {وَأَذِنَتْ لِرَبِّهََا وَحُقَّتْ}.
الجواب أن يقال: إن الأول للسماء، والثاني للأرض، أمرت بالانصداع، فسمعت وانقادت لأمر الله تعالى وانصدعت وحق لها أن تسمع وتطيع، ومعنى أذنت: سمعت، لا أنها سمعت بإذن، قال عدي:
في سماع يأذن الشيخ له ... وحديث مثل ما ذي مشار
وقوله: {وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ}، أي: بسطت بانتساف جبالها وتطأطؤ آكامها وتلالها، وألقت ما حوته من الموتى والمعادن والكنوز، وتخلت منها كما تتخلى المرأة الحاملة من حملها إذا ألقت ما في بطنها، وسمعت وأطاعت وحق لها ذلك، يقال: حقت فهي محقوقة وحقيق بكذا، ويقال لها أيضا: حق لها ذلك، فالأول لغير ما له الثاني فلا يكون تكرارا.
الآية الثانية منها
قوله تعالى: {بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ وَاللََّهُ أَعْلَمُ بِمََا يُوعُونَ} (2) وقال في سورة البروج: (3) {بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ وَاللََّهُ مِنْ وَرََائِهِمْ مُحِيطٌ}.
__________
(1) سورة: الانشقاق، الآيات: 41.
(2) سورة: الانشقاق، الآيتان: 22و 23.
(3) سورة: البروج، الآيتان: 19، 20.(1/365)
للسائل أن يسأل: عن اختصاص الأولى بقوله: {يُكَذِّبُونَ} والثانية بقوله: {فِي تَكْذِيبٍ}؟.
الجواب أن يقال: معنى قوله: {يُكَذِّبُونَ} وهم: {فِي تَكْذِيبٍ} واحد، واختلف اللفظان لاختلاف الفواصل في السورتين، ألا ترى أن قبل الأولى: {فَمََا لَهُمْ لََا يُؤْمِنُونَ وَإِذََا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لََا يَسْجُدُونَ بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ} (1) فكانت {يََا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} الفواصل التي تقدمتها على يفعلون، فجعلت هذه تابعة لها مع صحة المعنى واللفظ، والثانية في فواصل مردفة بياء أو واو، وهي قوله: {هَلْ أَتََاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ وَاللََّهُ مِنْ وَرََائِهِمْ مُحِيطٌ} (2) صحة اللفظ والمعنى.
85 - سورة البروج
ليس فيها إلا ما ذكرناه.
8986 - من سورة الطارق إلى البلد
ليس فيهن شيء من ذلك.
__________
(1) سورة: الانشقاق، الآيات: 2220.
(2) سورة: البروج، الآيات: 2017.(1/366)
90 - سورة البلد آيتان
الآية الأولى منها
قوله تعالى: {لََا أُقْسِمُ بِهََذَا الْبَلَدِ وَأَنْتَ حِلٌّ بِهََذَا الْبَلَدِ} (1).
للسائل أن يسأل: عن تكرير: (البلد) وجعله فاصلة بين الآيتين، وهل ذلك مما يرتضى في البلاغة ويعد من جملة الفصاحة؟.
الجواب أن يقال: إذا عني بالثاني غير المقصود بالأول من وصف، يوجب له حكما غير حكم الأول، كان من مختار الكلام، فالبلد الأول قصد به وصف لم يحصل في الثاني، وهو: مكة لأن معنى: أقسم بالبلد المحرم الذي جبلت على تعظيمه قلوب العرب، فلا يحل فيه لأحد ما أحل للنبي صلّى الله عليه وسلم، فقوله: {وَأَنْتَ حِلٌّ}، أي: محل أحل لك منه ما حرم على غيرك، فصار المعنى: أقسم بالبلد المحرم تعظيما له، وهو مع أنه محرم على غيرك محل لك إكراما لمنزلتك، فالبلد في الأول محرم، وفي الثاني محلل، وكان النبي عليه الصلاة والسلام أحل له قتل من رأى قتله حين أذن في قتال المشركين، فأمر بقتل ابن خطل صبرا، وهو متعلق بأستار الكعبة، ولم يحل لأحد قبله ولا يحل لأحد بعده ما أحل له، وإذا كان كذلك صار الثاني معنيا به غير ما عني بالأول، فكأنه ذكر وصفا غير وصفه المتقدم، فجمع فوائد من تعظيم البلد وتعظيم النبي صلّى الله عليه وسلم حين أبيح له ما حظر منه على سواه، وقيل: أحلّت له ساعة من نهار ولم تحل لغيره.
والآية الثانية منها
قوله تعالى: {وَوََالِدٍ وَمََا وَلَدَ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسََانَ فِي كَبَدٍ} (2) وقال بعده في
__________
(1) سورة: البلد، الآيتان: 1و 2.
(2) سورة: البلد، الآيتان: 3و 4.(1/367)
والتين (1): {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسََانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ}.
للسائل أن يسأل: عن اختلاف ما بعد {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسََانَ} في الموضعين؟
وصلة الأول بقوله: {فِي كَبَدٍ} والثاني بقوله: {فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ}؟.
الجواب أن يقال: قوله: {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسََانَ فِي كَبَدٍ} أقوال، أولها: في شدة ونصب يكابد أمر الدنيا وأمر الآخرة، والثاني: في انتصاب قامته، وسائر الحيوان كالمنكب على وجهه غير منتصب، والثالث: هو مخلوق في شدة أمر تكوّنه، أولا في الرحم في ظلمات ثلاث، ثم ينتقل إلى القماط والرباط، ثم عند البلوغ على الخطر العظيم مما يقوده إليه عمله من جنة أو نار، فالدنيا له دار كد ومشقة، والآخرة له دار راحة ونعمة إن وافاها بما كلف من طاعته، والرابع: أنه خلق في بطن أمه ورأسه قبل رأسها منتصبا كانتصابها، فإذا أرادت الولادة، انقلب الرأس إلى أسفل فيخرج رأسه قبل رجليه، وقد تخرج رجلاه قبل رأسه، وذلك نادر، والأول عام شائع، فهذه الأوجه الأربعة تعمّ جميع الناس لا يستثنى أحد منهم، ثم خص بعض الكفار بالذكر عن هذا العموم، فقال: {أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ} (2) فلما تقدم القسم بوالد وما ولد، وفيه قولان: أحدهما: آدم وولده، والقول الثاني: كل والد وكل مولود، قرن إلى القسم العام بما يشبهه من الجواب العام، وأما قوله: {وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ} (3) فقد قيل فيهما: إن التين: دمشق، والزيتون: بيت المقدس، وقيل: جبل عليه دمشق، وجبل عليه بيت المقدس، وقيل: مسجدان، فالتين:
مسجد نوح عليه السّلام، والزيتون: مسجد دمشق، وقيل: التين: الذي يؤكل، والزيتون: الذي يعصر، فالقسم واقع بأشياء مخصوصة من بقاع أو غيرها، فعلق بجواب وقع فيه تخصيص بالاستثناء، وهو: {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسََانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ثُمَّ رَدَدْنََاهُ أَسْفَلَ سََافِلِينَ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصََّالِحََاتِ} (4) أي: خلقناه في أحسن صورة ثم رددناه، يعني: الكافر إلى أقبح صورة، حين حط من الخلق الأول إلى المحط الأسفل، فصار في أوحش منظر بعد أن كان في أحسن صورة، وقيل: {فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ}، أي: في خلقة قويمة، ودلالة على طريقة مستقيمة {ثُمَّ رَدَدْنََاهُ أَسْفَلَ سََافِلِينَ} إلى أرذل العمر، وهو: الضعف الذي يفقد معه العلم، ولا يملك فيه إقامة الطاعات والثبات على العبادات إلا المؤمنين، فإنهم يوفون أوقات العبادات التي كانوا يقيمونها إذا لم يقدروا مع الضعف الذي نقلهم الله إليه أجرهم، يدل على ذلك قوله: {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصََّالِحََاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ} وإذا كان
__________
(1) سورة: التين، الآية: 4.
(3) سورة: التين، الآية: 1.
(2) سورة: البلد، الآية: 5.
(4) سورة: التين، الآيات: 64.(1/368)
معنى الآيتين ما ذكرنا، لاق بكلّ من القسمين الجواب الذي جاء له، ويمكن أن يجاب عن الفرق بين الموضعين بالفواصل لأن القسم في سورة البلد بهذا اللفظ، وهو قوله:
{وَوََالِدٍ وَمََا وَلَدَ} (1).
ليس في الشمس والليل والضحى
شيء من ذلك.
__________
(1) سورة: البلد، الآية: 30.(1/369)
94 - سورة الشرح
آية واحدة
وهي قوله تعالى: {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً} (1).
للسائل أن يسأل: عن فائدة تكراره.
والجواب: أن الله تعالى وعد في عسر أن يعقبه بيسرين، وأن من كان في شدة، قطعها عنه إلى نعمة بعد نعمة، ولهذا قال عليه الصلاة والسلام: «لن يغلب عسر يسرين» لأن العسر لما أعيد لفظه معرفا كالأول لم يكن إلا إياه، ويسر لما أعيد لفظه نكرة كان غير الأول، وإذا لم يكن ذاك لم يكن تكرارا.
95 - سورة التين
قد تقدم ما فيها.
__________
(1) سورة: الشرح، الآيتان: 5و 6.(1/370)
96 - سورة العلق آية واحدة
وهي قوله تعالى: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الْإِنْسََانَ مِنْ عَلَقٍ} (1).
للسائل أن يسأل: عن تكرير (خلق).
الجواب أن يقال: قوله: (خلق) بعد (الذى) عام في المخلوقات كلها سمائها وأرضها، ثم استأنف التنبيه على خلق المخاطبين أنفسهم، فقال: {خَلَقَ الْإِنْسََانَ مِنْ عَلَقٍ}
أي: اعرف انقلابه من حال الدم إلى ما يشاهد، لتعرف حاله الثانية التي ليست بأبعد في نفسك من هذه الناشئة، وإن كان كذلك سلم من التكرار، والله أعلم.
ليس في القدر ولم يكن إلى التكاثر
شيء من ذلك.
__________
(1) سورة: العلق، الآيتان: 1و 2.(1/371)
102 - سورة التكاثر آية واحدة
وهي قوله تعالى: {كَلََّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ ثُمَّ كَلََّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ} (1).
للسائل أن يسأل: عن تكرير اللفظين.
الجواب: أن أحدهما توعد غير ما توعد به الآخر، فالأول: توعد بما ينالهم في الدنيا، والثاني: توعد بما أعد لهم في الأخرى، وقيل: الأول: ما يلقونه عند الفراق إذا بشروا بالمصير إلى النار، والثاني: ما يرونه من عذاب القبر، فكلاهما عذاب في الدنيا، إلا أن أحدهما غير الآخر، وهو مثله في الشدة، فذلك أعيد بتلك اللفظة، وإذا حمل على عذاب الدنيا وعذاب الآخرة لم يكن تكرارا.
ليس في العصر إلى الكافرين
شيء من ذلك.
__________
(1) سورة: التكاثر، الآيتان: 4و 5.(1/372)
109 - سورة الكافرون
إن سأل سائل عن التكرار في هذه السورة.
الجواب: أن واحدا في هذا الموضع، وهو أن يقال: معناه: لا أعبد الأصنام لعلمي بفساد ذلك، ولا أنتم تعبدون الله لجهلكم ما يوجب عليكم، ولا أعبد آلهتكم لتعبدوا الله مناوبة بيننا، ولا أنتم تعبدون الله من أجل أن يكون سبقت مني عبادة آلهتكم، وذلك أن المشركين قالوا له عليه الصلاة والسلام: اعبد سنة ما نعبد، ونعبد سنة ما تعبد، ونشترك نحن وأنت في أمرنا كله، فقال في الأول: لا يكون مني عبادة الأصنام لعلمي ببطلانها، ولا تكون منكم عبادة الله لجهلكم بأنه وحده هو الذي تحق له العبادة، وقال في الثاني ما نفى العبادة التي دعوا إليها مناوبة منهم، فلم يقع تكرارا على هذا الوجه ولا على الوجه الآخر التي ذكرنا في جامع التفسير.
ليس فيما بعدها إلى سورة الناس
شيء من ذلك.(1/373)
شيء من ذلك.
114 - سورة الناس
للسائل أن يسأل: عن تكرير: (الناس) في قوله في فواصل هذه السورة في خمسة مواضع، وهي ست آيات قد ختمت أواخر خمس منها بالناس، وواحدة بالخنّاس.
الجواب عن ذلك: أن يقال: إنما اتّصف الله تعالى أولا: {بِرَبِّ النََّاسِ} (1) ثم:
ب {مَلِكِ النََّاسِ} (2)، ثم: ب {إِلََهِ النََّاسِ} (3)، لحكمة دعت إلى ذلك، أوجبت تقديم الأول وتعقيبه بالثاني والثالث على الترتيب الذي جاء لأن رب الشيء هو القائم بإصلاحه وتدبير أمره، فنبّه بتقديمه على ما ترتّب من نعمه على الإنسان لما أنشأه ورباه، وهذه أولى أحواله، والثانية: إنعامه عليه بالعقل الذي ثبتت عليه ملكته له، فعلم أنه عبد مملوك، وأن الذي بلغ به تلك الحال من حد الطفولية هو الذي يملكه وأمثاله، فجعل الوصف الثاني: {مَلِكِ النََّاسِ} ولما كان بعد ذلك تكليف العبادات التي هي حق الله تعالى على من عرّفه نفسه أنه عبد مملوك، وعرفه أنه عز وجلّ خالقه، وتلزمه طاعته ليلتزم غاية التذلل لمن له أكبر الإنعام والتطوّل جعل الوصف الثالث: {إِلََهِ النََّاسِ} فصار:
(الناس) الذين أضيف إليهم: (رب) كأنهم غير: (الناس) الذين أضيف إليهم:
(ملك) والذين أضيف إليهم (ملك) غير الذين أضيف إليهم (إله) وإذا أريد بالثاني غير الأول، لم يكن تكرارا بل يكون كأنه قال: قل أعوذ برب الأجنة والأطفال، الذين ربهم ورباهم وقت الإنشاء والتربية، وحين لم يقدر آباؤهم لهم على التغذية، وبمن بلغ بالوالدين حدا عرفوه فيه بالملكة وأنفسهم بالعبودية، ثم إله المكلفين المعرضين لأكبر النعم، وهم الذين بلغوا وقاموا بأداء ما كلفوا، فترتيب الصفات تنبيه على أن المراد بالناس ذوو الأحوال المختلفة في الصغر والترعرع والبلوغ، فسلم على ذلك من التكرار، ويتضمن هذا المعنى اللطيف الذي دل عليه ترتيب الصفات تعالى الله وكلامه عن المعاب، وقوله:
{الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النََّاسِ} (4) فالمراد بالناس الأول: الأبرار، وبالناس
__________
(1) سورة: الناس، الآية: 1.
(3) سورة: الناس، الآية: 3.
(2) سورة: الناس، الآية: 2.
(4) سورة: الناس، الآية: 5.(1/374)
الثاني: الأشرار، فكان المعنى: {الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النََّاسِ} الأخيار من الجن، وأشرار الناس، فقد صار المعني بكل واحد على صفة غير الصفة المعني بالآخر، فكأنه غيره، وإن كان الجنس قد جمع هذا كله.
هذا آخر ما تكلمنا عليه من الآيات التي يقصد الملحدون التطرّق منها إلى عيبها، والحمد لله وحده، وصلوات الله وسلامه على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.(1/375)