الشاهد الثامن والثلاثين بعد المائة (1).
* * * وأنشد بعده، وهو الشاهد السادس والتسعون بعد الخمسمائة (2): (الطويل)
596 - أمن رسم دار مربع ومصيف
لعينيك من ماء الشّؤون وكيف
على أن «رسم دار» مصدر مضاف إلى مفعوله. و «مربع»: فاعله.
و «رسم» هنا: مصدر رسم المطر الدار، أي: صيّرها رسما، بأن عفّاها. ولا يراد بالرّسم هنا ما شخص من آثار الدار، لأنّ ذلك عين لا معنى والذي يعمل معنى لا غير. كذا في «شرح الإيضاح لأبي البقاء العكبري (3)».
وقال شارح أبياته ابن بريّ: ومعنى رسم أثّر، ولم يبق منها إلّا رسوما وآثارا.
وقيل: معناه غيّر أثرها بشدّة الاختلاف عليها، ومنه قيل: رسمت الناقة رسيما، إذا أثّرت في الأرض بشدّة وطئها. وقيل الرّسم بمعنى المرسوم، فعلى هذا يكون اسما لا مصدرا، فلا يجوز أن يعمل.
والتقدير: ألعينيك من ماء الشؤون وكيف من أجل مرسوم دار، هو موضع الحلول في الربيع والصيف. انتهى كلامه.
والبيت مطلع قصيدة للحطيئة عدّتها ثمانية عشر بيتا، مدح بها سعيد بن العاص الأمويّ، لمّا كان واليا بالكوفة لعثمان بن عفان.
__________
(1) الخزانة الجزء الثاني ص 293290.
ويبدو أن البغدادي قدسها فليس في الشاهد الثامن والثلاثين بعد المائة من أبيات المعلقة إلا بيتا واحدا فقط.
وليس هناك شرح عن حرب داحس والغبراء.
(2) البيت للحطيئة في ديوانه ص 81والأغاني 17/ 255وشرح شواهد الإيضاح ص 130ولسان العرب (رسم). وهو بلا نسبة في أمالي المرتضى 2/ 47وشرح عمدة الحافظ ص 700وشرح المفصل 6/ 62.
(3) في جميع طبعات الخزانة: = أبو البقاء الفارسي =. وهو تصحيف. وصوابه: العكبري. وله شرح شواهد الإيضاح.(8/122)
وبعده بيتان (1):
تذكّرت فيها الجهل حتّى تبادرت ... دموعي وأصحابي عليّ وقوف
ومنها (2):
إليك سعيد الخير جبت مهامها ... يقابلني آل بها وتنوف
وقوله: «أمن رسم دار» إلخ، الهمزة للاستفهام التقريري، و «من» تعليلية متعلّقة بو كيف، وهو مصدر وكف البيت بالمطر، والعين بالدّمع، وكفا من باب وعد، ووكوفا ووكيفا: سال شيئا فشيئا.
قال شارح ديوانه: التأويل: أمن أن رسم دارا مربع، أي: أثّر فيها آثارا.
و «الرّسم»: الأثر بلا شخص. و «الشؤون»: مجاري الدّمع من الرأس إلى العين، واحدها شأن.
وقوله: «لعينيك»: جارّ ومجرور متعلق بمحذوف خبر مقدّم على المبتدأ، وهو وكيف، يروى بالتثنية ويروى بالإفراد.
و «مربع»: فاعل المصدر، وهو رسم، وهو على حذف مضاف، والتقدير:
مطره ونحوه. وهو وما بعده اسمان لزمن الرّبيع والصّيف، ويأتيان اسمي مكان أيضا، ومصدرين أيضا.
وهذه الصيغة يشترك فيها هذه المعاني الثلاثة، وهي صيغة قياسية يذكرها الصرفيّون. والمذكور في كتب اللغة، إنما هو المربع بمعنى منزل القوم في الربيع خاصة.
وقد استعمل الحريريّ في المقامة الأولى المربع بمعنى الرّبع، وهو المنزل حيث كان في قوله: «ويسرّب من يتبعه، لكن يجهل مربعه (3)». ولم يصب ابن الخشّاب في
__________
(1) ديوان الحطيئة ص 82والأغاني 17/ 225224. وفي طبعة بولاق: = وبعده بيت =. وهو تصحيف صوابه من النسخة الشنقيطية. وقوله وبعده بيتان: هما:
رشاش كغربي هاجريّ كلاهما ... له داجن بالكرّتين عليف
إذا كرّ غربا بعد غرب أعاده ... على رغمه وافي السّبال عنيف
(2) التنوف: جمع التنوفة، وهي الصحراء لا ماء فيها ولا أنيس.
(3) مقامات الحريري ص 15.(8/123)
تخطئة الحريري «فيما كتبه على المقامات» في قوله: ما أصاب فيه، لأنّ الربع منزل القوم في الرّبيع خاصة، وقد استعمله بمعنى الأول وهو خطأ، لأنه كالمصيف والمشتى، وتلك منازلهم في هذه الأزمنة خاصة.
وقد أجاد ابن بريّ في الردّ عليه، فقال: يقال: ربع بالمكان، أي: أقام به الربيع، ويقال أيضا ربع بالمكان: أقام به حيثما كان. واسم المكان منهما مربع قياسا مطّردا عند النحويين، كالمصنع والمصرع.
والشاهد على قولهم: ربع بالمكان، إذا أقام به حيثما كان، قول الحادرة (1):
(الطويل)
بكرت سميّة غدوة فتمتّع ... وغدت غدوّ مفارق لم يربع
فسّره المفضل في «المفضليات»، فقال: يقال ربع بالمكان إذا أقام به. ولم يشترط ربيعا ولا غيره.
فعلى هذا يصحّ أن يكون المربع لمنزل الإنسان. من بيته وداره ونحو ذلك، وعليه يصحّ قول يزيد بن الصّعق (2): (الطويل)
* يشنّ عليكم بالقنا كلّ مربع *
أي: كلّ مكان تقيمون فيه. وأما قول أهل اللغة إنّ المربع اسم للمنزل في الرّبيع خاصة فإنّما يريدون به الأكثر، وهو الأصل، ثم اتّسع فيه فجعل لكلّ مكان أقام به الرجل.
ألا ترى أنّهم لا يكادون يذكرون المربع في اسم الزمان، وهو أيضا قياس مطّرد مثل اسم المكان.
وشاهده قول الحطيئة:
__________
(1) البيت للحادرة في ديوانه ص 43والأغاني 3/ 268وتاج العروس (حدر) وشرح اختيارات المفضل ص 210والمفضليات ص 43.
(2) عجز بيت ليزيد بن الصعق في تاج العروس (قدد) وتهذيب اللغة 8/ 269ولسان العرب (قدد).
وصدره:
* فرغتم لتمرين السّياط وكنتم *(8/124)
* أمن رسم دار مربع ومصيف *
فالمربع والمصيف على هذا: اسم لزمان الربيع والصّيف، وكذلك قول جرير (1):
(الكامل)
ردّوا الجمال بذي طلوح بعدما ... هاج المصيف وقد تولّى المربع
أي: ردّوا الجمال من موضع رعيها إلى الحيّ حين أرادوا التحمّل، وقد أتى المصيف، وتولّى المربع. وإذا أقبل زمن الصّيف، وتولّى زمن الربيع يبس العشب في الأرض.
وكذلك المربع قد يكون اسما للمصدر في نحو قولهم: ربعت بالمكان مربعا. ولا يكاد يذكرون المربع إلّا في اسم المنزل بالربيع، وإنّما يذكر هذا مبنيّا أهل النحو، ويجعلون له بابا مفردا وقياسا مطّردا. وما خرج عن القياس في بناء ذكروه. انتهى كلامه.
وقوله: «تذكّرت فيها الجهل (2)»، أي: جهل الشباب والصّبا.
وقوله: «إليك سعيد الخير» إلخ، «إليك»: متعلق بجبت، قدّم عليه لإفادة الحصر.
و «جبت»: قطعت، يقال: جاب الوادي يجوبه، إذا قطعه، و «سعيد»:
منادى مضاف إلى الصفة التي اشتهر بها. ويجوز أن يكون أصله خيّر بالتشديد، فخفف. و «المهمه»: القفر. و «الآل»: السراب. و «تنوف»: جمع تنوفة، وهي الفلاة.
روى الأصبهاني في «الأغاني» (3) بسنده إلى خالد بن سعيد، قال: لقيني إياس ابن الحطيئة، فقال لي: يا أبا عثمان، مات أبي، وفي كسر بيته عشرون ألفا أعطاه
__________
(1) البيت لجرير في ديوانه ص 909والنقائض ص 961.
في طبعة بولاق: = توالى =. وهو تصحيف صوابه من المصدرين السابقين والنسخة الشنقيطية.
توالى المربع: أدبر وتولى.
(2) في طبعة بولاق والنسخة الشنقيطية: = تذكر فيها الجهل =. وهو تصحيف صوبناه نقلا عن طبعة هارون 8/ 124.
(3) الأغاني 17/ 226225.(8/125)
إيّاها أبوك، وقال فيه خمس قصائد، فذهب والله ما أعطيتمونا، وبقي ما أعطيناكم! فقلت: صدقت والله.
وروى أيضا بسند متصل إلى خالد بن سعيد، قال: كان سعيد بن العاص بالمدينة زمن معاوية، وكان يعشّي الناس، فإذا فرغ من العشاء قال الآذن (1): ليذهب إلّا من كان من أهل سمره. قال: فدخل الحطيئة فتعشّى مع الناس، ثم لم ينصرف، فلما ألحّ عليه الآذن، قال سعيد: دعه (2) وأخذ في الشعر والحطيئة مطرق لا ينطق، فقال الحطيئة: والله ما أصبتم جيّد الشعر، ولا شاعر الشعراء. قال سعيد: من أشعر العرب يا هذا؟ قال: الذي يقول (3): (الخفيف)
لا أعدّ الإقتار عدما ولكن ... فقد من قد رزئته الإعدام (4)
من رجال من الأقارب بانوا ... من جذام هم الرّؤوس الكرام
سلّط الموت والمنون عليهم ... فلهم في صدى المقابر هام (5)
وكذاكم سبيل كلّ أناس ... سوف حقّا تبليهم الأيّام (6)
__________
(1) في الأغاني 17/ 226: = الآذن: أجيزوا إلا من كان من أهل سمره =.
(2) في الأغاني: = فلما رأى سعيد إباءه قال: دعه، =.
(3) الأبيات لأبي دواد الإيادي في ديوانه ص 339337والأصمعيات ص 187والأغاني 17/ 226وشرح أبيات المغني للبغدادي 3/ 56.
(4) البيت لأبي دؤاد الإيادي في ديوانه ص 338والأصمعيات ص 187والأغاني 17/ 226وتخليص الشواهد ص 431والدرر 2/ 238والشعر والشعراء 1/ 244والمؤتلف والمختلف ص 166والمقاصد النحوية 2/ 391. وهو بلا نسبة في همع الهوامع 1/ 148.
والإقتار: قلة المال وضيق العيش. والعدم والإعدام: الفقر.
(5) البيت لأبي دؤاد في ديوانه ص 339والأصمعيات ص 187والأغاني 17/ 226وتاج العروس (منن) وتهذيب اللغة 3/ 302ولسان العرب (منن، صدى). وهو بلا نسبة في تاج العروس (هيم) ولسان العرب (هوم).
في الأغاني صحح محققها كلمة: = الصدى = واعتبرها تحريفا ب: = الصوى =. وقال: الصوى: القبور وعلاماتها.
وفي الأصمعيات يشرح محققها البيت بقوله: = الهام: جمع هامة، وكانوا يزعمون أن عظام الميت، وقيل روحه، تصير هامة فتطير، ويسمونه الصدى، فنفاه الإسلام ونهاهم عنه =.
(6) البيت لأبي دؤاد الإيادي في الأصمعيات ص 187والأغاني 17/ 226. وهو بلا نسبة في الدرر 3/ 76 وهمع الهوامع 1/ 192.(8/126)
قال: ويحك! من يقول هذا الشعر؟ قال: أبو دواد الإياديّ (1). قال: ومن الثاني؟ قال: الذي يقول (2): (مخلع البسيط)
أفلح بما شئت فقد يبلغ بال ... ضّعف وقد يخدع الأريب
قال: ومن يقول هذا الشعر؟ قال: عبيد. قال (3): ثم من؟ قال: والله لحسبك بي عند رهبة أو رغبة، إذا وضعت إحدى رجليّ على الأخرى، ثم رفعت صوتي بالشعر (4) ثم عويت على إثر القوافي عواء الفصيل الصادر عن الماء!
قال: ومن أنت؟ قال: الحطيئة. قال: ويحك! قد علمت تشوّقنا إلى مجلسك، وأنت تكتمنا نفسك منذ الليلة (5)! فأنشدني.
فأنشده من أبيات (6):
سعيد فلا يغررك قلّة لحمه ... تخدّد عنه اللّحم وهو صليب
إذا غبت عنّا غاب عنّا ربيعنا ... ونسقى الغمام الغرّ حين يؤوب (7)
فنعم الفتى تعشو إلى ضوء ناره ... إذا الرّيح هبّت والمكان جديب
فقال له: أنت لعمر الله أشعر عندي منهم. فأمر له بعشرة آلاف درهم.
__________
(1) بعده في الأغاني 17/ 226: = قال: أو ترويه؟ قال: نعم، قال: فأنشدنيه، فأنشده الشعر كله، =.
(2) في طبعة بولاق: = وقد يخادع الأريب =. وهو تصحيف صوابه من ديوان عبيد وشرح القصائد العشر للتبريزي والنسخة الشنقيطية.
والبيت لعبيد بن الأبرص في ديوانه ص 14وتهذيب اللغة 5/ 72وجمهرة اللغة ص 555وجمهرة أشعار العرب ص 463وشرح القصائد العشر للتبريزي ص 473. وهو بلا نسبة في المخصص 13/ 152.
وفي شرح القصائد العشر ص 474: = ويروى: أفلج بالجيم. وأفلح بالحاء: من الفلاح، وهو البقاء. أي: عش كيف شئت، ولا عليك ألا تبالغ. فقد يدرك الضعيف، بضعفه، ما لا يدرك القوي. وقد يخدع الأريب العاقل، عن عقله. ويروى: = فقد يدرك بالضعف =.
(3) بعده في الأغاني: = أو ترويه؟ قال: نعم، قال: فأنشدنيه، فأنشده، ثم =.
(4) في الأغاني: = ثم رفعت عقيرتي =. والعقيرة: الصوت.
(5) بعده في الأغاني 17/ 227: = قال: نعم، لمكان هذين الكلبين عندك، وكان عنده كعب بن جعيل، وأخوه، وكان عنده سويد بن مشنوء النهدي، حليف بني عدي بن جناب الكلبيين =.
(6) الأبيات من قصيدة يمدح بها سعيد بن العاص في ديوانه ص 8887والأغاني 17/ 227.
(7) البيت للحطيئة في ديوانه ص 88والأغاني 17/ 227وتاج العروس (غمم) ولسان العرب (غمم).(8/127)
ثم عاد فأنشده:
* أمن رسم دار مربع ومصيف *
إلى آخر القصيدة، فأعطاه عشرة آلاف أخرى.
وروي أيضا هذا الخبر عن أبي عبيدة، وقال (1): قال أبو عبيدة في هذا الخبر:
وأخبرني رجل من بني كنانة، قال: أقبل الحطيئة في ركب من بني عبس حتّى قدم المدينة (2)، فقالوا له: إنا قد أرذينا (3) وأخلينا (4) فلو تقدمت إلى رجل شريف من أهل المدينة فقرانا وحملنا.
فأتى خالد بن سعيد بن العاص فسأله، فاعتذر إليه، وقال: ما عندي شيء.
فلم يعد عليه الكلام، وخرج من عنده، فارتاب به خالد فبعث يسأل عنه، فأخبر أنّه الحطيئة، فردّه، واعتذر إليه، فأراد خالد أن يستفتحه الكلام، فقال: من أشعر الناس؟ فقال: الذي يقول (5): (الطويل)
ومن يجعل المعروف من دون عرضه ... يفره ومن لا يتّق الشّتم يشتم
فقال خالد لبعض جلسائه: هذه بعض عقاربه! وأمر له بكسوة وحملان (6)
فخرج بذلك من عنده. اه.
وترجمة الحطيئة قد تقدّمت في الشاهد التاسع والأربعين بعد المائة (7).
* * * __________
(1) الأغاني 17/ 228.
(2) بعده في الأغاني: = فأقام مدة =.
(3) أرذينا: أي صارت ركابنا رذية هزيلة من كثرة السير.
في طبعة بولاق: = أردينا = بالدال المهملة، وهو تصحيف صوبناه.
(4) في طبعة بولاق والنسخة الشنقيطية: = أجلينا =. وهو تصحيف صوابه من الأغاني.
أراد: أنهم قد نفد زادهم، يقال: أخلى عن الطعام، أي: خلا عنه.
(5) أراد زهير بن أبي سلمى، صاحب البيت. والبيت لزهير بن أبي سلمى من معلقته في ديوانه صنعة الأعلم ص 26وديوانه صنعة ثعلب ص 35.
(6) الحملان بالضم: ما يحمل عليه من الدواب، وقيل: في الهبة خاصة.
(7) الخزانة الجزء الثاني ص 359.(8/128)
وأنشد بعده، وهو الشاهد السابع والتسعون بعد الخمسمائة، وهو من شواهد سيبويه (1): (المتقارب)
597 - ضعيف النّكاية أعداءه
يخال الفرار يراخي الأجل
على أن سيبويه والخليل جوّزا إعمال المصدر المعرّف باللام مطلقا كما في البيت.
قال سيبويه: وتقول: عجبت من الضرب زيدا، كما تقول (2): عجبت من الضارب زيدا، يكون الألف واللام بمنزلة التنوين، قال الشاعر:
ضعيف النّكاية أعداءه ... البيت
وقال المرّار:
لقد علمت أولى المغيرة ... البيت
اه.
وقال الأعلم: الشاهد فيه نصب الأعداء بالنّكاية لمنع الألف واللام الإضافة (3)
ومعاقبتهما للتنوين الموجب للنصب.
ومن النحويين من ينكر عمل المصدر وفيه الألف واللام، لخروجه عن شبه الفعل، فينصب ما بعده بإضمار مصدر منكور فيقدّره: ضعيف النّكاية نكاية أعداءه.
وهذا يلزمه مع تنوين المصدر، لأنّ الفعل لا ينوّن، فقد خرج المصدر عن شبه الفعل بالتنوين، فينبغي على مذهبه أن لا يعمل (4).
__________
(1) البيت بلا نسبة في أوضح المسالك 3/ 208والدرر 5/ 252وشرح أبيات سيبويه 1/ 394وشرح الأشموني 1/ 333وشرح التصريح 2/ 63وشرح شذور الذهب ص 496وشرح شواهد الإيضاح ص 136 وشرح ابن عقيل ص 411وشرح المفصل 6/ 59، 64والكتاب 1/ 192والمقرب 1/ 131والمنصف 3/ 71وهمع الهوامع 2/ 93.
(2) في الكتاب لسيبويه: = كما قلت =.
(3) في شرح الأعلم: = من الإضافة =.
(4) في شرح الأعلم: = أن لا يعمل عمله =.(8/129)
يقول: هو ضعيف عن أن ينكي عدوّه وجبان أن يثبت، ولكنه يلتجي إلى الفرار (1) ويخاله مؤخّرا لأجله. اه.
وأراد ببعض النحويين أبا العباس المبرد.
وجعل السيرافي نصب أعداءه على حذف الخافض، أي: ضعيف النكاية في أعدائه.
وقوله: «يخال» بمعنى يظنّ. و «يراخي»: يباعد، وفاعله ضمير الفرار، وفاعل يخال ضمير المهجوّ. وجملة: «يراخي» في موضع المفعول الثاني ليخال. و «ضعيف»:
خبر مبتدأ محذوف، أي: هو ضعيف.
و «النكاية»: مصدر نكيت في العدوّ، إذا أثّرت فيه. وجاء معدّى بنفسه.
قال أبو النجم (2): (الرجز)
* ينكى العدى ويكرم الأضيافا *
وقال عديّ بن زيد (3): (الطويل)
إذا أنت لم تنفع بودك أهله ... ولم تنك بالبؤسى عدوّك فابعد
من بعد، من باب فرح، إذا هلك.
والبيت من أبيات سيبويه الخمسين التي لم يعرف قائلها. والله أعلم.
* * * وأنشد بعده، وهو الشاهد الثامن والتسعون بعد الخمسمائة، وهو من شواهد س (4): (الطويل)
__________
(1) في شرح الأعلم: = هو ضعيف أن ينكي أعداءه وجبان عن أن يثبت لقرنه، ولكنه يلجأ إلى الفرار =.
(2) الرجز لأبي النجم في تاج العروس (نكى) ولسان العرب (نكي).
(3) البيت لعدي بن زيد العبادي في ديوانه ص 105وجمهرة أشعار العرب ص 398.
(4) البيت للمرار بن سعيد الأسدي في ديوانه ص 464وشرح أبيات سيبويه 1/ 60والكتاب 1/ 193(8/130)
598 - لقد علمت أولى المغيرة أنّني
كررت فلم أنكل عن الضّرب مسمعا
لما تقدّم قبله. ويروى: «لحقت فلم أنكل».
قال الأعلم: الشاهد في نصب «مسمع» بالضرب على نحو ما تقدّم. ويجوز أن يكون بلحقت، والأوّل أولى، لقرب الجوار، ولذلك اقتصر عليه سيبويه. يقول:
قد علم أولى من لقيت من المغيرين أنّي صرفتهم عن وجههم هازما لهم، ولحقت سيّدهم (1) مسمعا، فلم أنكل عن ضربه بسيفي. والنّكول: الرجوع عن القرن جبنا.
اه.
وقال ابن خلف: وكان بعض البصريّين المتأخّرين لا ينصب بالمصدر إذا كان فيه الألف واللام، وينصب «مسمعا» بلحقت لا بالضّرب وحجّته أنّ أل تبعد المصدر عن شبه الفعل.
قال أبو الحجّاج (2): ومن أعمل الضرب فيه فهو عندي على قول من أعمل الثاني، وهو أحسن عند أصحابنا.
ألا ترى أنّ المعنى لحقت مسمعا فلم أنكل (3) عن ضربه فحذف المفعول من الأوّل لدلالة الثاني عليه.
ومن أعمل لحقت أراد: لحقت مسمعا فلم أنكل عن الضرب إيّاه، أو عن ضربيه، إلّا أنّه حذف لأنّ المصادر يحذف معها الفاعل والمفعول.
__________
وللمرار الأسدي أو لزغبة بن مالك في شرح شواهد الإيضاح ص 136وشرح المفصل 6/ 64وفرحة الأديب ص 30والمقاصد النحوية 3/ 40، 501ولمالك بن زغبة في الدرر 5/ 255. وهو بلا نسبة في شرح الأشموني 1/ 202وشرح ابن عقيل ص 412واللمع ص 271والمقتضب 1/ 14وهمع الهوامع 2/ 93.
وروايته في المقاصد النحوية:
* لقيت ولم أنكل عن الضرب مسمعا *
(1) في شرح الأعلم: = عميدهم =.
(2) هو أبو الحجاج يوسف بن سليمان الشنتمري نسبة إلى شنتمرية مسقط رأسه. ولد سنة 410هـ، وتوفي سنة 476هـ. هو شارح أبيات سيبويه، وشارح حماسة أبي تمام أيضا. والنص ليس في شرح أبيات سيبويه، ولعله في كتاب آخر.
(3) قوله: = عن ضربه فحذف مسمعا فلم أنكل = ساقط من النسخة الشنقيطية.(8/131)
ولا يجوز على هذا القياس ضربت وشتمت زيدا، حتّى تأتي بعلامة الضمير في شتمت. يعني إذا أعملت ضربت. قال: لأنّ الفعل لا يحذف معه هذا المفعول كما يحذف مع المصدر.
وقد أجاز السّيرافي حذف الضمير في هذا النحو مع الفعل أيضا، لأنّ المفعول كالفضلة المستغنى عنها.
قال أبو علي: ومن أنشد «كررت» كان مسمع مفعول الضرب لا غير، لأن كررت يتعدّى بالحرف وهو على، ولا حرف هاهنا.
فإن جعلت على مرادة كما جاء في قوله (1): {«لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرََاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ»}، وقول الشاعر (2): (الطويل)
تحنّ فتبدي ما بها من صبابة ... وأخفي الذي لولا الأسى لقضاني
فلما حذف أوصلت الفعل (3) فهو وجه. قال أبو الحجّاج: وهذا خلاف لما في «الإيضاح» لأنه قال هنالك: إنّ ذلك لا يعمل عليه ما وجد مندوحة عنه. وليس ينكر على العالم أن يرجع عن قول إلى ما هو خير منه. اه.
قال ابن بريّ في «شرح أبيات الإيضاح»: وأجاز السيرافيّ هذا الذي منعه أبو علي، وكذلك أجاز أبو علي في غير الإيضاح نصب «مسمع». بكررت على
__________
(1) سورة الأعراف: 7/ 16.
(2) هو الإنشاد الواحد والعشرون بعد المائتين في شرح أبيات المغني للبغدادي.
والبيت لعروة بن حزام في الدرر 4/ 136وشرح أبيات المغني للبغدادي 3/ 227وشرح شواهد المغني 1/ 414 والمقاصد النحوية 2/ 552ولرجل من بني حلاف في تخليص الشواهد ص 504وللكلابي في لسان العرب (غرض، قضى). وهو بلا نسبة في الجنى الداني ص 474والدرر 5/ 185وشرح شواهد الإيضاح ص 138 ومغني اللبيب 1/ 142، 2/ 577.
وفي شرح أبيات المغني 3/ 227: = والأسى بضم الهمزة جمع أسوة والأسوة: التأسي والاقتداء بالغير وما يتأسى به الحزين ويتعزى، أي: يتصير =.
(3) في حاشية النسخة الشنقيطية: = هكذا بخط المؤلف أوصلت، والصواب أوصل بحذف التاء =.
في طبعة بولاق والنسخة الشنقيطية: = فلما حذف أوصلت = ولقد أثبتنا تصحيح طبعة هارون 8/ 131.
وفي حاشية طبعة هارون: = وأرى الصواب فيما أثبت. والمراد أنه لما حذف = على = أوصلت الفعل وعديته إلى المفعول =.(8/132)
إسقاط حرف الجر كالآية. اه.
ولو أعمل كررت لكان التقدير: كررت فلم أنكل عن الضرب إيّاه، على مسمع، فحذف على، وأوصل الفعل.
وقال ابن السيرافي: لا يحسن أن ينصب مسمع بكررت على تقدير كررت على مسمع فلم أنكل عن الضرب. وعلى الرواية الثانية ينتصب أيضا بالضرب، إلّا أنه على إعمال الثاني الأقرب إليه.
ولو أعمل الأول لأضمر، وكان التقدير: لحقت مسمعا فلم أنكل عن الضّرب إيّاه مسمعا.
وقد أورده ابن قاسم المراديّ في «باب التنازع من شرح الألفيّة» بلفظ «لقيت ولم أنكل عن الضّرب مسمعا»، شاهدا على التنازع في مسمع.
وأورده ابن الناظم وابن هشام في «شرح الألفية» في باب إعمال المصدر، كالشارح المحقق.
والبيت من قصيدة المالك بن زغبة الباهلي، وبعده (1):
ولو أنّ رمحي لم يخنّي انكساره ... لغادرت طيرا تعتفيه وأضبعا (2)
وفرّ ابن كدراء السّدوسيّ بعدما ... تناول منّي في المكرّة منزعا
[وما كنت إلّا السّيف لاقى ضريبة ... فقطّعها ثمّ انثنى فتقطّعا
وإنّي لأعدي الخيل تعثر بالقنا ... حفاظا على المولى الحريد ليمنعا
__________
(1) الأبيات 53مع البيت الشاهد في ديوان المرار ص 365والمقاصد النحوية 3/ 40. والأبيات 21، 76 لمالك بن زغبة في فرحة الأديب ص 32.
والأبيات 53ساقطة من طبعة بولاق ولقد أثبتناها من النسخة الشنقيطية. ولم يفسر البغدادي منها شيئا وهذا يثبت أنها لم تكن في مخطوطة الأصل، ولقد أضافها الشنقيطي في نسخته.
(2) في طبعة بولاق: = تقنفيه =. وهو تصحيف صوابه من النسخة الشنقيطية ويؤيده شرح البغدادي لاحقا للبيت.
وفي اللسان (عفا): = عفوت الرجل إذا طلبت فضله والعافية والعفاة والعفّى: الأضياف وطلاب المعروف، وقيل: هم الذين يعفونك، أي يأتونك يطلبون ما عندك وفلان تعفوه الأضياف وهو كثير العفاة وكثير العافية =.(8/133)
ونحن جنبنا الخيل من سرو حمير ... إلى أن وطئنا أرض خثعم نزّعا]
أجئتم لكيما تستبيحوا حريمنا ... فصادفتم ضربا وطعنا مجدّعا
فأبتم خزايا صاغرين أذلّة ... شريجة أرماح لأكتافكم معا
قال أبو محمد الأعرابي في «فرحة الأديب» (1): مسمع بن شيبان: أحد بني قيس بن ثعلبة، كان خرج هو وابن كدراء [الذهلي] يطلبان بدماء من قتلته باهلة، من بني بكر بن وائل، يوم قتل أبو الأعشى قيس بن جندل، فبلغ ذلك باهلة، فلقوهم، فقاتلوا قتالا شديدا، فانهزمت بنو قيس، ومن كان معهما (2) من بني ذهل، وضرب مسمع وأفلت جريحا. اه.
وقوله: «لقد علمت أولى المغيرة» إلخ، يعني أوّلها. والمغيرة: الخيل، يريد مقدّمة العسكر.
نقل أبو حيان في «تذكرته» عن ابن خالويه أنه قال: سألت أبا عمر (3) عن قوله:
* لقد علمت أولى المغيرة * البيت
فقال: أولى كلّ شيء: أوّله.
وقال ابن المستوفي: المغيرة يجوز أن تكون وصفا للخيل المحذوفة، وهو أجود لأنّ استعمالها معه (4) أكثر.
ويجوز أن يكون وصفا للجماعة المغيرة أو نحوها. وعلى أيّ الحالين، فهو اسم فاعل، من أغار على العدوّ إغارة. اه.
وذكر ابن السيد في «شرح أبيات الجمل»: أنه يقال: «المغيرة» بضم الميم وكسرها.
وتبعه ابن خلف، وتعقّبه اللخميّ بأنه يقال في اسم الرجل المغيرة، بكسر الميم،
__________
(1) فرحة الأديب ص 32. والزيادات منه.
(2) في فرحة الأديب: = معها =.
(3) هو غلام ثعلب، أبو عمر الزاهد محمد بن عبد الواحد بن أبي هاشم.
(4) في النسخة الشنقيطية: = استعماله معها =.(8/134)
لأنّهم (1) إنّما يغيّرون الأسماء الأعلام، ولا يكادون يغيّرون الصفات الجارية على الأفعال، لئلّا يخرجوها عن الباب.
و «النّكول»: الرجوع جبنا. قال ابن خلف: من ضمّ الكاف في المضارع فتحها في الماضي، ومن كسرها (2) في الأوّل فتحها في الثاني. ومسمع بكسر الميم الأولى وفتح الثانية.
وقوله: «لغادرت طيرا» إلخ. «غادرت»: تركت. وفلان تعتفيه الأضياف، أي: تأتيه.
و «أضبع»: جمع ضبع. يريد أنه لو لم يخنه رمحه، لقتله. وكانت تأتيه الطيور والسباع تأكله.
و «سدوس»، بالفتح: أبو قبيلة. و «المكرة» بالفتح: موضع الحرب.
و «المنزع»، بكسر الميم وسكون النون وفتح الزاي: السّهم.
وقوله: «أجئتم لكيما» الهمزة للاستفهام التوبيخي. و «الاستباحة»: النّهب والأسر.
و «المجدّع»، بكسر الدال المشددة: مبالغة جادع، من جدع أنفه وأذنه وشفته، من باب نفع، إذا قطعها.
وقوله: «فأبتم خزايا» إلخ. أي: رجعتم، من الأوب، وهو الرّجوع.
و «خزايا»: جمع خزيان، وصف من خزي خزيا، من باب علم، أي: ذلّ وهان.
وأخزاه الله: أذلّه وأهانه. وصاغرين، من صغر صغرا، من باب تعب، إذا ذلّ وهان.
و «مالك بن زغبة»، بضم الزاي وسكون الغين المعجمتين بعدها موحدة، شاعر جاهلي.
* * * __________
(1) في طبعة بولاق: = لأنهما =. وهو تصحيف صوابه من النسخة الشنقيطية.
(2) في النسخة الشنقيطية: = ومن كسر في =.(8/135)
وأنشد بعده (1):
* طلب المعقّب حقه المظلوم *
على أنّ المظلوم ارتفع بقوله: حقّه، أي: غلبه المظلوم بالحقّ.
وهذا غير ما وجّهه به في باب المنادى، فإنه قال هناك: إنّ فاعل المصدر، وإن كان مجرورا بإضافة المصدر إليه محلّه الرفع، فالمعقّب فاعل المصدر، وهو طلب، وقد جرّ بإضافته إليه، ومحلّه الرفع بدليل رفع وصفه، وهو المظلوم.
وهذا التخريج هو المشهور.
و «المعقّب»: اسم فاعل من التعقيب، وهو الذي يطلب حقّه مرّة بعد مرة.
يقال: عقّب في الأمر تعقيبا، إذا تردّد في طلبه مجدّا. وطلب بالرفع فاعل لهاجه في المصراع قبله، وهو:
* حتّى تهجّر في الرّواح وهاجه *
أي: حتّى سار الحمار في الهاجرة، وحثّه على المسير طلب، كطلب المعقّب المظلوم حقّه، فحقّه مفعول المصدر.
وما ذكره الشارح هنا هو تخريج ابن جنّي في «المحتسب»، إلّا أنه فسّر حقّه المظلوم بغير هذا، قال: أي عازّه ومنعه المظلوم. فحقّه على هذا فعل، حقّه يحقّه، أي: لواه حقّه. انتهى.
ولم أر في كتب اللغة حقّه يحقّه بهذا المعنى.
ونقل ابن المستوفي عن الخوارزميّ أنه قال: إن رفعت طلب فحقّه حينئذ فعل، يقال: حقّه يحقّه: لواه حقّه وصدّه. والمظلوم نعت المعقّب وفاعل حقّه مضمر. هذا كلامه.
__________
(1) البيت للبيد بن ربيعة في ديوانه ص 128والإنصاف 1/ 232والدرر 6/ 118وشرح التصريح 2/ 65 وشرح شواهد الإيضاح ص 133وشرح المفصل 6/ 66ولسان العرب (عقب) والمقاصد النحوية 3/ 512.
وهو بلا نسبة في أوضح المسالك 3/ 214وجمهرة اللغة ص 364وشرح الأشموني 2/ 337وشرح ابن عقيل ص 417وشرح المفصل 2/ 42، 46وهمع الهوامع 2/ 145.(8/136)
والذي ذكره الأندلسيّ أن حاقّه بمعنى خاصمه وادّعى كلّ واحد منهما الحقّ، فإذا غلبه قيل حقّه. انتهى ما أورده ابن المستوفي.
فظهر من هذا أنّ مأخذ الشارح المحقق كلام الأندلسيّ.
وقد تقدّم الكلام عليه مفصّلا على هذا البيت مع جملة أبيات من القصيدة، وهي للبيد الصحابي، مع ترجمته في الشاهد الثاني والعشرين بعد المائة (1).
* * * وأنشد بعده، وهو الشاهد التاسع والتسعون بعد الخمسمائة (2): (الوافر)
599 - أكفرا بعد ردّ الموت عنّي
وبعد عطائك المائة الرّتاعا
على أنّ «العطاء» هنا بمعنى الإعطاء، ولهذا عمل عمله. والمفعول الثاني محذوف، أي: بعد إعطائك المائة الرّتاع إيّاي. و «ردّ» (3): مصدر مضاف إلى المفعول، وفاعله محذوف، أي: بعد ردّك الموت عني.
وأورده شراح الألفية على أنّ العطاء اسم مصدر.
والبيت من قصيدة للقطاميّ، تقدّم شرح أبيات من أوّلها مع ترجمته في الشاهد الثالث والأربعين بعد المائة (4).
__________
(1) الخزانة الجزء الثاني ص 216.
(2) البيت للقطامي في ديوانه ص 37والأغاني 24/ 40وتذكرة النحاة ص 456والدرر 3/ 62وشرح التصريح 2/ 64وشرح أبيات المغني 6/ 347وشرح شواهد المغني 2/ 849وشرح عمدة الحافظ ص 695 ولسان العرب (رهف، عطا) ومعاهد التنصيص 1/ 179والمقاصد النحوية 3/ 505. وهو بلا نسبة في الأشباه والنظائر 2/ 411وأوضح المسالك 3/ 211والدرر 5/ 262وشرح الأشموني 2/ 336وشرح شذور الذهب ص 528وشرح ابن عقيل ص 414ولسان العرب (سمع، غنا) وهمع الهوامع 1/ 188، 2/ 95.
(3) في طبعة بولاق والنسخة الشنقيطية: = وردك =. وهو تصحيف لا يستقيم معه المعنى. والتصويب من طبعة هارون 8/ 136.
(4) الخزانة الجزء الثاني ص 323.(8/137)
وهذه أبيات منها (1):
ومن يكن استلام إلى ثويّ ... فقد أكرمت يا زفر المتاعا (2)
أكفرا بعد ردّ الموت عنّي ... البيت
فلو بيدي سواك غداة زلّت ... بي القدمان لم أرج اطّلاعا
إذا لهلكت لو كانت صغار ... من الأخلاق تبتدع ابتداعا
فلم أر منعمين أقلّ منّا ... وأكرم عندنا اصطنعوا اصطناعا
من البيض الوجوه بني نفيل ... أبت أخلاقهم إلّا اتّساعا
وهي قصيدة طويلة مدح بها زفر بن الحارث الكلابي، وحضّ قيسا وتغلب على الصلح.
قال ابن قتيبة في «كتاب الشعراء» (3): كان القطاميّ أسره زفر في الحرب التي كانت بين قيس وتغلب، فأرادت قيس قتله، فحال زفر بينهم وبينه، ومنّ عليه، وأعطاه مائة من الإبل وأطلقه (4)، فقال:
* أكفرا بعد ردّ الموت عنّي *
إلى آخر الأبيات التي أوردناها.
قوله: «ومن يكن استلام» إلخ. قال شارح ديوانه: أي من أتى إلى ضيفه ما يلام عليه فأنت أتيت إلى ضيفك أمرا تستوجب فيه الثّناء والمدح، والذّكر الحسن.
والثّويّ: الضيف، وهو فعيل من الثواء، قال: وهو الإقامة. والمتاع: الزّاد.
ومتّعته: زوّدته. أخبر أنه زوّده وأعطاه.
وقوله: «أكفرا بعد ردّ الموت» إلخ، الهمزة للاستفهام الإنكاري، و «كفرا»:
مفعول مطلق عامله محذوف، أي: أأكفر كفرا. و «الرّتاع»: جمع راتعة.
__________
(1) الأبيات من مطولة للقطامي في ديوانه ص 4131والأغاني 24/ 4140.
(2) البيت للقطامي في ديوانه ص 37والأغاني 24/ 40وأساس البلاغة (لوم) وتاج العروس (رتع، لوم) وتهذيب اللغة 15/ 401ولسان العرب (لوم) ومعاهد التنصيص 1/ 179.
(3) الشعر والشعراء ص 609.
(4) في الشعر والشعراء: = ووهب له مائة ناقة، وردّه إلى قومه، فقال =.(8/138)
قال شارح ديوانه: الرّتاع: الراعية. يقول: أخونك بعد هذا وقد مننت عليّ وأطلقتني؟ ويقال: كان زفر اشتراه من قيس بن وهب، ووهب له مائة من الإبل.
وقوله: «فلو بيدي» إلخ، الباء متعلّقة بمحذوف، كما أشار إليه شارح ديوانه بقوله: يقول لو كنت في يدي غيرك، لم أرج اطّلاعا، أي: نجاة، وارتفاعا من صرعتي، ولم أرجع إلى أهلي.
وقوله: «إذن لهلكت» إلخ. قال شارح ديوانه: تبتدع: تستحدث، يقال:
شيء بدع وبديع، إذا كان بديعا، قال: لو ابتدعت صغار (1) لهلكت أنا. انتهى.
وصغار بالرفع، وتبتدع بالبناء للمفعول. قال العيني: معناه لو ابتدعت فيّ أمورا صعابا لهلكت. هذا كلامه.
وقوله: «فلم أر منعمين» إلخ. قال شارح ديوانه: يقول: لم أر مثلهم لا يمنّون بما صنعوا. يريد الذين أنعموا عليه.
وقوله: «من البيض الوجوه». قال شارح ديوانه: نفيل بن عمرو بن كلاب ابن ربيعة بن عامر بن صعصعة، رهط زفر.
* * * وأنشد بعده (2): (الرجز)
* دار لسعدى إذه من هواكا *
على أنّ المصدر يجوز استعماله بمعنى اسم المفعول كما هنا، فإنّ هوى مصدر هويته من باب تعب، إذا أحببته وعلقت به. والمراد به هنا اسم المفعول، أي: من مهويّك.
__________
(1) في طبعة بولاق: = صغارا =. وهو تصحيف صوابه من النسخة الشنقيطية.
(2) الرجز بلا نسبة في أمالي ابن الشجري 2/ 208والإنصاف ص 680وتاج العروس (هوا، ها) والخصائص 1/ 89وشرح شواهد الإيضاح ص 283وشرح شواهد الشافية ص 290وشرح المفصل 3/ 97 والكتاب 1/ 27ولسان العرب (هيا) وهمع الهوامع 1/ 61.(8/139)
وبهذا الوجه أورده سابقا في باب المفعول المطلق في الشاهد الثالث والثمانين (1).
وتقدّم الكلام عليه هناك مفصّلا.
وقوله: «إذه» أصله إذ هي فحذفت الياء ضرورة، وبقيت الهاء من هي.
وبهذا الوجه أورده أيضا في «باب الضمير» بعد الشاهد الثمانين بعد الثلثمائة، وتقدّم الكلام عليه أيضا مستوفى هناك (2).
* * * __________
(1) الخزانة الجزء الثاني ص 4.
(2) الخزانة الجزء الخامس ص 259.(8/140)
اسم الفاعل
أنشد فيه (1):
* ليبك يزيد ضارع لخصومة *
على أن قوله: «ضارع» فاعل لفعل محذوف، أي: يبكيه ضارع.
وهذا على رواية «ليبك» بالبناء للمفعول، و «يزيد» نائب الفاعل.
وقد تقدّم الكلام عليه مفصّلا مشروحا في الشاهد الخامس والأربعين من أوائل الكتاب (2).
* * * وأنشد بعده، وهو الشاهد الموفي للستمائة (3): (البسيط)
600 - فبتّ والهمّ تغشاني طوارقه
من خوف رحلة بين الظّاعنين غدا
__________
(1) هو الإنشاد التاسع والأربعون بعد الثمانمائة في شرح أبيات المغني للبغدادي.
والبيت للحارث بن نهيك في شرح شواهد الإيضاح ص 94وشرح المفصل 1/ 80والكتاب 1/ 288وللبيد ابن ربيعة في ملحق ديوانه ص 362ولضرار بن نهشل في الدرر 2/ 286ومعاهد التنصيص 1/ 202 وللحارث بن ضرار في شرح أبيات سيبويه 1/ 110ولنهشل أو للحارث أو لضرار أو للمزرد بن ضرار أو للمهلهل في المقاصد النحوية 2/ 454. وهو لنهشل بن حري في شرح أبيات المغني للبغدادي 7/ 295.
(2) الخزانة الجزء الأول ص 297.
(3) البيت لجرير في ديوانه ص 394ومعجم ما استعجم ص 1348. وروايته في ديوانه:
باتت همومي تغشاني طوارقها ... من خوف روعة بين الظاعنين غدا(8/141)
على أنّ «غدا» يحتمل أن يكون منصوبا بأحد عوامل ثلاثة، وهي رحلة، وبين، والظاعنين، فلا يتمّ ما ادّعاه المبرد من جواز عمل اسم الفاعل الماضي (1). مع أن الكلام في اسم الفاعل الذي ينصب مفعولا به لا ظرفا.
وأورد أبو علي في «إيضاح الشعر» هذا البيت، وقال: فيه حذف، والتقدير من خوف الارتحال وخوف الفراق. ونسب البيت لجرير.
وقوله: «فبتّ والهمّ» إلخ. «بات» هنا تامّة، قال ابن الأثير في «النهاية»:
كل من أدركه الليل، فقد بات يبيت، نام أو لم ينم. والواو هي واو الحال، و «الهمّ»: مبتدأ، وجملة «تغشاني طوارقه»: خبره، والجملة في محل نصب حال (2)
من التاء في بتّ.
قال ابن الأثير: غشيه يغشاه غشيانا، إذا جاءه. وغشّاه تغشية، إذا غطّاه.
وغشي الشيء، إذا لابسه. والطوارق هنا: الدّواهي.
قال ابن الأثير: كلّ آت بالليل طارق. وقيل أصل الطروق من الطّرق، وهو الدقّ. وسمّي الآتي بالليل طارقا لحاجته إلى دقّ الباب. وجمع الطارقة طوارق. ومنه الحديث: «أعوذ بالله من طوارق الليل إلّا طارقا يطرق بخير». و «من»: متعلقة بقوله: تغشاني، ورحلة مضاف إلى بين، وكذلك بين مضاف إلى ما بعده، فهما مجروران بالكسرة.
و «الرّحلة» بالكسر: اسم مصدر بمعنى الارتحال. و «البين» هنا مصدر بان يبين بينا، أي: فارق وبعد. والظاعنين من ظعن يظعن بفتح عينهما ظعنا، بفتح العين وسكونها، أي: سار وذهب.
وترجمة جرير تقدمت في الشاهد الرابع من أوائل الكتاب (3).
* * * __________
(1) في شرح الرضي 2/ 187: = وجوّز المبرد وغيره عمله بمعنى الماضي والحال والاستقبال، واستدلوا بقوله:
فبت والهم تغشاني طوارقه =.
وفي حاشية طبعة هارون 8/ 139: = والذي قيد عمل اسم الفاعل المحلى بأل بأن يكون ماضيا هو أبو علي في كتاب الشعر، وكذا الرماني =.
(2) في النسخة الشنقيطية: = في محل حال =.
(3) الخزانة الجزء الأول ص 90.(8/142)
وأنشد بعده، وهو الشاهد الواحد بعد الستمائة (1): (الطويل)
601 - فيالرزام رشّحوا بي مقدّما
على الحرب خوّاضا إليها الكرائبا
على أنّ «خوّاضا» صيغة مبالغة، حوّل من اسم الفاعل الثلاثي، وهو خائض.
قال ابن جنّي في «إعراب الحماسة»: في هذا البيت شاهد على جواز إعمال اسم الفاعل. ألا تراه كيف نصب الكرائب بخوّاض (2).
وهو من أبيات تسعة لسعد بن ناشب المازنيّ، أوردها أبو تمام في «أوائل الحماسة»، وهي (3):
سأغسل عنّي العار بالسّيف جالبا ... عليّ قضاء الله ما كان جالبا
وأذهل عن داري وأجعل هدمها ... لعرضي من باقي المذمّة حاجبا
ويصغر في عيني تلادي إذا انثنت ... يميني بإدراك الذي كنت طالبا
فإن تهدموا بالغدر داري فإنّها ... تراث كريم لا يبالي العواقبا
أخو غمرات لا يريد على الذي ... يهمّ به من مفظع الأمر صاحبا
إذا همّ لم تردع عزيمة همّه ... ولم يأت ما يأتي من الأمر هائبا
فيالرزام رشّحوا بي مقدّما ... إلى الموت خوّاضا إليها الكرائبا
إذا همّ ألقى بين عينيه عزمه ... ونكّب عن ذكر العواقب جانبا
__________
(1) البيت من قصيدة لسعد بن ناشب في الحماسة برواية الجواليقي ص 35وشرح الحماسة للأعلم الشنتمري 1/ 114وشرح الحماسة للخطيب التبريزي 1/ 37وشرح الحماسة للإمام المرزوقي ص 72والشعر والشعراء 2/ 585وإعراب الحماسة لابن جني الورقة 20ولسان العرب (كرب) والمقاصد النحوية 1/ 472. وهو بلا نسبة في رصف المباني ص 219.
ورواية العجز في الحماسات والشعراء:
* إلى الموت خوّاضا إليه الكتائبا *
(2) في إعراب الحماسة: = كيف نصب بخواض الكرائبا =.
(3) الأبيات لسعد بن ناشب في الحماسة برواية الجواليقي ص 3534وشرح الحماسة للأعلم 1/ 115113 وشرح الحماسة للتبريزي 1/ 3735وشرح الحماسة للمرزوقي ص 72والشعر والشعراء 2/ 585والمقاصد النحوية 1/ 472.(8/143)
ولم يستشر في أمره غير نفسه ... ولم يرض إلّا قائم السّيف صاحبا
قال شرّاح الحماسة (1): سبب هذه الأبيات أنه كان أصاب دما، فهدم بلال بن أبي بردة داره بالبصرة وحرّقها. وقيل: إنّ الحجّاج هو الذي هدم داره.
وقال ابن هشام في «شرح الشواهد»: ويقال إنه قتل له حميم، وإنّه أوعده بهدم داره إن طالب بثأره.
وقوله: «سأغسل عنّي العار» إلخ. قال التبريزي (2): أصل القضاء الحتم، ثم يتوسّع فيه، فيقال: قضي قضاؤك، أي: فرغ من أمرك. فاستعمل في معنى الفراغ من الشيء.
ويروى: «قضاء الله» بالرفع والنصب. فإذا رفعته يكون فاعلا لجالبا عليّ، وما [كان جالبا] في موضع المفعول، ويكون القضاء بمعنى الحكم.
والتقدير: سأغسل العار عن نفسي باستعمال السيف في الأعداء، في حال جلب حكم الله عليّ الشيء الذي يجلبه. وإذا نصبت القضاء [فإنه] يكون مفعولا [لجالبا] وفاعله ما [كان جالبا]. ويكون القضاء الموت المحتوم، كما يقال [للمصيد الصيد و] للمخلوق الخلق. والمعنى: جالبا الموت عليّ جالبه. وقيل: إن كان في قوله: «ما كان» في معنى صار. انتهى.
وقال ابن جني: أراد جالبه، أي: جالبا إيّاه، فحذف الضمير مع اسم الفاعل كما يحذف مع الفعل نفسه.
ومثله ما أراناه أبو علي من قول الله تعالى (3): {«فَاقْضِ مََا أَنْتَ قََاضٍ»}، أي:
قاضيه، في معنى قاض إيّاه.
وعليه البيت الآخر فيه، وهو:
* بإدراك الذي كنت طالبا *
__________
(1) في الحماسة برواية الجواليقي وشرح الحماسة للتبريزي: = وقال سعد بن، وكان أصاب دما، فهدم بلال داره =.
وفي شرح الحماسة للأعلم: = وكان قد جنى جناية وهرب فهدم والي البصرة داره =.
(2) شرح الحماسة للخطيب التبريزي 1/ 35. والزيادات منه.
(3) سورة طه: 20/ 72.(8/144)
أي: إيّاه، أو طالبه أو طالبا له. وأن يكون المحذوف ضميرا متصلا أولى من أن يكون ضميرا منفصلا.
وقوله: «وأذهل عن داري» إلخ. «الذهول»: ترك الشيء متناسيا له.
يقول: إذا نبا المنزل بي حتّى يصير دار الهوان انتقلت عنه، وأجعل خرابه وقاية لنفسي من العار الباقي.
وهذا قريب من قوله (1): (الكامل)
* وإذا نبا بك منزل فتحوّل *
وقوله: «ويصغر في عيني» إلخ. أراد بقوله: «يصغر» صغر القدر. وخص التلاد، وهو المال القديم، لأنّ النفس به أضنّ.
ونبّه بهذا الكلام على أنه كما يخفّ على قلبه ترك الدار والوطن، خوفا من التزام العار الباقي، كذلك يقلّ في عينه إنفاق المال عند إدراك المطلوب. و «انثنت»:
انعطفت ومالت.
وهذا البيت أورده ابن الناظم في «شرح الألفية» شاهدا على جواز حذف العائد المجرور بالإضافة، إن كان المضاف وصفا بمعنى الحال، أو الاستقبال، فإنّ الأصل كنت طالبه فحذف الضمير.
وقوله: «فإن تهدموا بالغدر» إلخ. «الغدر»: ترك الوفاء. يقول: إن تخربوا داري بالغدر منكم فإنها تراث كريم. يعني نفسه. وسمّى ملكه ميراثا، وهو حيّ باعتبار ما يؤول إليه. و «الكرم»: التنزّه عن الأقذار (2).
وقوله: «أخو غمرات» إلخ، بفتحتين، هي الشدائد. ويروى: «أخو عزمات». و «العزم»: عقد القلب على ما يرى فعله. ومفظع، من أفظع الأمر
__________
(1) عجز بيت لعبد قيس بن خفاف البرجمي وصدره:
* احذر محلّ السّوء لا تحلل به *
والبيت لعبد قيس بن خفاف البرجمي في الأصمعيات ص 229وحماسة البحتري ص 456وشرح أبيات المغني 2/ 223ولسان العرب (كرب). وهو بلا نسبة في أساس البلاغة (نبو) وتاج العروس (نبا) وتهذيب اللغة 15/ 485ولسان العرب (نبا).
(2) في النسخة الشنقيطية: = والكريم: المتنزه عن الأقذار =.(8/145)
إفظاعا. وكذلك فظع فظاعة، أي: عظم. أو من أفظعني الأمر ففظعت به، أي:
أعياني فضقت به ذرعا. يصف نفسه بأنّه صاحب همم وأخو عزمات (1)، مستبدّ برأيه فيها، غير متّخذ رفيقا.
وقوله: «فيالرزام رشّحوا» إلخ. هو فعل أمر من الترشيح، وهو التربية. ومنه رشّحت المرأة ولدها، إذا درّجته في اللبن، ثم قيل: رشّح فلان لكذا توسّعا. أي:
رشّحوا به بترشيحكم إيّاي رجلا، كذا صفته. وأقام الصفة مقام الموصوف.
قال التبريزي (2): قوله: «فيالرزام»، النية بالفاء استئناف ما بعدها وإن نسق بها جملة على جملة. واللام من يالرزام لام الاستغاثة، ورزام مجرور بها، وهو قبيلة، وهم المدعوّون وأصل حركة اللام مع الظاهر الكسر (3)، وفتحت مع المستغاث لكونه في موقع الضمير، ومقدما بكسر الدال بمعنى متقدّما، كما يقال (4) وجّه وتوجّه، ونبّه بمعنى تنبّه، ونكّب بمعنى تنكّب.
و «الكرائب»: جمع كريبة، وهي الشدّة من شدائد الدهر. والأصل في الكرب الغمّ الذي يأخذ بالنّفس. ويروى بدل: «الكتائبا» جمع كتيبة، وهي الجيش.
وقوله: «إذا همّ ألقى» إلخ، أي: جعله بمرأى منه لا يغفل عنه. وقد طابق فيه لمّا قابله بقوله: «ونكّب عن ذكر العواقب جانبا». وسمّى المعزوم عليه عزما.
ونكّب إن كان بمعنى حرّف فجانبا مفعول به له، وإن كان بمعنى انحرف، فجانبا ظرف له.
قال ابن جنّي: لك في جانبا وجهان:
أحدهما: أن يكون مفعولا به، أي: نكّب جانبا منه عن ذكر العواقب.
__________
(1) في النسخة الشنقيطية: = وأخو عمرات =. وهو تصحيف.
(2) شرح الحماسة للتبريزي 1/ 37.
وفي حاشية طبعة بولاق: = قوله النية بالفاء، إلخ هذا ضعيف، أو ممنوع وهو أن الفاء تأتي للاستئناف كما قاله ابن قاسم أظن في حاشيته على مختصر السعد هكذا بهامش الأصل وليحرر =.
(3) بعده في شرح الحماسة للتبريزي 1/ 37: = ولهذا إذا عطف على هذه اللام بلام أخرى كسرت الثانية، تقول:
يا لزيد ولعمرو =.
(4) في طبعة بولاق: = كما يقال له =.(8/146)
والآخر: أن يكون ظرفا (1)، أي: نكّب عن ذكر العواقب في جانب. ويؤكّد هذا رواية من رواه:
* وأعرض عن ذكر العواقب *
وقوله: «ولم يستشر» إلخ، نبّه على الرأي به، وعلى الفعل بقوله: «ولم يرض». وقائم السيف: مقبضه. وانتصب لأنه مستثنى مقدّم.
وقال ابن جنّي: إن شئت نصبت صاحبا على أنّه مفعول به ونصبت قائم السيف على الاستثناء، أي: لم يرض صاحبا إلّا قائم السيف. وإن شئت نصبت قائم السيف نصب المفعول به، وجعلت صاحبا بدلا منه، كقولك: لم أضرب إلا زيدا قائما، أي: لم أضرب أحدا إلّا زيدا في حال قيامه.
ومن نصب زيدا في قولك: ما رأيت أحدا إلّا زيدا على البدل لم ينصب قائم السيف في القول الأوّل إلّا على الاستثناء المقدّم دون البدل، وذلك لتقدّمه على صاحبه، والبدل لا يجوز تقدمه على المبدل منه. انتهى.
وزاد ابن هشام في «شرح الشواهد» بيتين بعد هذه الأبيات وهما:
فلا توعدنّي بالأمير فإنّ لي ... جنانا لأكناف المخاوف راكبا
وقلبا أبيّا لا يروّع جأشه ... إذا الشّرّ أبدى بالنهار كواكبا
و «سعد بن ناشب» شاعر إسلاميّ في الدولة المروانية. قال شراح الحماسة:
هو من بني [مازن بن] مالك (2) بن عمرو بن تميم.
وقال ابن قتيبة في «كتاب الشعراء» (3): هو من [بني] العنبر، وكان أبوه ناشب (4) أعور، وكان من شياطين العرب.
__________
(1) في شرح ابن جني: = أن يكون انتصابه على انتصاب الظرف =.
(2) في طبعة بولاق والنسخة الشنقيطية: = من بني مالك بن مالك =. وهو تصحيف صوابه من شروح الحماسة.
انظر في ترجمته وأخباره الحماسة برواية الجواليقي ص 34وسمط اللآلئ ص 792وشرح الحماسة للأعلم 1/ 113وشرح الحماسة الحماسة للتبريزي 1/ 35.
(3) الشعر والشعراء ص 585.
(4) في طبعة بولاق: = ناشبا =. وهو تصحيف صوابه من النسخة الشنقيطية والشعر والشعراء.(8/147)
وله يوم الوقيط (1) وكان في الإسلام بين تميم وبكر. وكان سعد من مردة العرب.
وفيه يقول الشاعر (2): (الطويل)
وكيف يفيق الدّهر سعد بن ناشب ... وشيطانه عند الأهلّة يصرع
وسعد بفتح السين وسكون العين، و «ناشب» بكسر الشين المعجمة.
* * * وأنشد بعده، وهو الشاهد الثاني بعد الستمائة، وهو من شواهد سيبويه (3):
(الطويل)
602 - ضروب بنصل السّيف سوق سمانها
إذا عدموا زادا فإنّك عاقر
على أنّ «ضروبا» صيغة مبالغة اسم الفاعل، محوّل عن ضارب، ولهذا عمل عمله. و «سوق» نصب به على المفعولية.
ولهذا أورده سيبويه.
والبيت من أبيات لأبي طالب عمّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، رثى بها أبا أميّة
__________
(1) يوم الوقيط هو من أيام بكر على تميم. وانظر في خبر هذا اليوم العقد الفريد 5/ 182والكامل في التاريخ 1/ 383والنقائض ص 305.
(2) البيت لدعلج بن الحكم في الحيوان 6/ 243. وهو بلا نسبة في الشعر والشعراء ص 585.
وزاد صاحب الشعراء بعده: = أو في كعب بن ناشب =.
(3) البيت لأبي طالب بن عبد المطلب في ديوان أبي طالب ص 11والدرر 5/ 271وشرح أبيات سيبويه 1/ 70وشرح التصريح 2/ 68وشرح شذور الذهب ص 505وشرح المفصل 6/ 70والكتاب 1/ 111 والمقاصد النحوية 3/ 539. وهو بلا نسبة في أوضح المسالك 3/ 221وشرح الأشموني 2/ 342وشرح قطر الندى ص 275والمقتضب 2/ 114وهمع الهوامع 2/ 97.
وهذا الشاهد تكراري عددي للشاهد رقم 292فيما سبق من الخزانة 4/ 225. مع أن البغدادي التزم بعدم تكرار العدد، إذا تكرر الاستشهاد.(8/148)
ابن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم (1)، وكان أبو أميّة زوج أخته عاتكة بنت عبد المطلب، فخرج تاجرا إلى الشام فمات بموضع يقال له: سرو سحيم، فقال أبو طالب هذه الأبيات يرثيه:
ألا إنّ زاد الرّكب غير مدافع ... بسرو سحيم غيّبته المقابر (2)
بسرو سحيم عارف ومناكر ... وفارس غارات خطيب وياسر
تنادوا بأن لا سيّد الحيّ فيهم ... وقد فجع الحيّان كعب وعامر
فكان إذا يأتي من الشّام قافلا ... بمقدمه تسعى إلينا البشائر
فيصبح أهل الله بيضا كأنّما ... كستهم حبيرا ريدة ومعافر
ترى داره لا يبرح الدّهر عندها ... مجعجعة كوم سمان وباقر
إذا أكلت يوما أتى الدّهر مثلها ... زواهق زهم أو مخاض بهازر
ضروب بنصل السّيف سوق سماتها ... البيت
وإلّا يكن لحم غريض فإنّه ... تكبّ على أفواههنّ الغرائر
فيا لك من ناع حبيت بألّة ... شراعيّة تصفرّ منها الأظافر
قوله: «ألا إنّ زاد الركب» قال ابن بكّار في «أنساب قريش»: كان أزواد الرّكب من قريش ثلاثة:
الأول: مسافر بن أبي عمرو بن أمية بن عبد شمس.
الثاني: زمعة بن الأسود بن المطّلب بن أسد بن عبد العزّى.
الثالث: أبو أميّة بن المغيرة بن عبد الله بن عمر (3) بن مخزوم. وإنّما قيل لهم أزواد الركب أنهم كانوا إذا سافروا لم يتزوّد معهم أحد (4).
__________
(1) في النسخة الشنقيطية: = ابن عمرو بن مخزوم =. وهو تصحيف صوابه من طبعة بولاق. وانظر لذلك جمهرة أنساب العرب ص 145144.
(2) الأبيات في ديوان أبي طالب بنقص وزيادة وخلاف ترتيب ص 11وما بعدها مخطوطة العلامة الشنقيطي.
والسرو من الجبل: ما ارتفع عن مجرى السيل، وانحدر عن غلظ الجبل.
(3) في النسخة الشنقيطية: = عمرو = وهو تصحيف سبق لنا ذكره وتصويبه.
(4) في الأغاني 9/ 49في ترجمة مسافر بن أبي عمرو بن أمية: = وهو أحد أزواد الركب، وإنما سموا بذلك لأنهم كانوا لا يدعون غريبا ولا مارّ طريق ولا محتاجا يجتاز بهم إلا أنزلوه وتكفلوا به حتى يظعن =.(8/149)
ولم يسمّ بذلك غير هؤلاء الثلاثة.
وكان عند أبي أمية بن المغيرة أربع عواتك: عاتكة بنت عبد المطلب، وهي أمّ زهير وعبد الله، وهو الذي قال للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم (1): {«لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتََّى تَفْجُرَ لَنََا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً»}. وعاتكة بنت جذل الطّعان، وهي أمّ أمّ سلمة والمهاجر. وعاتكة بنت عتبة بن ربيعة. وعاتكة بنت قيس، من بني نهشل بن دارم التميميّة. انتهى.
وقوله: «غير مدافع» بالنصب. وجملة: «غيبته المقابر» خبر إنّ.
والباء من قوله: «بسرو سحيم» متعلق به. و «سحيم» بضم السين وفتح الحاء المهملتين: موضع في طريق الشام من مكّة.
و «سرو» على لفظ الشجر بمعنى أعلى. فسرو سحيم: أعلاه.
وقوله: «بسرو سحيم» تأكيد للأوّل. وقوله: عارف خبر مبتدأ محذوف، أي: هو ذو معرفة بالأمور. ومناكر اسم فاعل، من ناكره بمعنى قاتله.
و «الياسر»: اللاعب بالميسر، وهو قمار العرب بالأزلام، وهو ممّا يفتخر به عندهم، كانوا يقامرون بها في أيام الغلاء والقحط، ويفرّق الغالب لحم الجزور على الفقراء.
وقوله: «تنادوا»، أي: تنادى جماعة الركب. و «أن» مخففة من الثقيلة، وجملة: «لا سيّد الحيّ» فيهم من المبتدأ، والخبر خبر أن المخففة. وفجع بمعنى أصيب بالرزية. و «القافل»: الرّاجع من السفر.
وعنى بأهل الله قريشا. وكانت العرب تسمّيهم أهل الله، لكونهم أرباب مكّة.
و «الحبير»، بفتح الحاء المهملة، وكسر الموحدة: ثياب ناعمة كانت تصنع باليمن.
و «ريدة» بفتح الراء المهملة وسكون المثناة التحتية: بلدة من بلاد اليمن، وأراد أهل ريدة. و «معافر» بفتح الميم بعدها عين مهملة، وكسر الفاء: قبيلة من قبائل اليمن.
__________
(1) سورة الإسراء: 17/ 90.(8/150)
و «مجعجعة»: اسم فاعل من جعجعت الإبل، إذا صوتّت، وإنّما تصوّت لذبح أولادها، وكان في الأصل صفة لكوم، وقد قدّم عليه (1) صار حالا منه.
و «الكوم»: جمع كوماء، وهي الناقة العظيمة السنام. و «الباقر»: اسم جمع بمعنى البقر.
وقوله: «إذا أكلت»، أي: إذا أكلها الأضياف. يريد أنّه يدني (2) من موضعه الذي ينزله قطعة من الإبل للنحر والقرى، فكلّما فنيت قطعة أحضر قطعة أخرى.
و «الزواهق»: جمع زاهقة، وهي السمينة المفرطة السّمن.
و «الزّهم» (3): جمع زهمة بفتح فكسر، وهي الكثيرة الشحم. و «المخاض»:
الحوامل من الإبل، واحدها خلفة من غير لفظها.
و «البهازر»: جمع بهزرة، بتقديم المعجمة، على وزن حيدرة، وهي الناقة الجسيمة.
وقوله: «ضروب بنصل السيف»، أي: هو ضروب. و «نصل السيف»:
شفرته، فلذلك أضافه إلى السيف. وقد يسمّى السيف كلّه نصلا. مدحه بأنه كان يعرقب الإبل للضّيفان عند عدم الأزواد. وكانوا إذا أرادوا نحر الناقة ضربوا ساقها بالسّيف فخرّت، ثم نحروها.
وقوله: «إذا عدموا زادا» إلخ، الجملة الشرطية التفات إلى الخطاب من الغيبة.
و «السّوق»: جمع ساق.
وقوله: «وإلّا يكن لحم غريض»، بفتح الغين المعجمة وكسر الراء وآخره ضاد معجمة، هو الطريّ من اللّحم.
و «تكبّ»: تصبّ. و «الغرائر»: الأعدال، جمع غرارة بالكسر، وهي وعاء يجعل فيه الدّقيق وغير ذلك.
وقوله: «فيا لك من ناع» مجرور من: تمييز للكاف. و «الناعي»: المخبر بموت إنسان دعا عليه، لكونه أخبر بموت المرثيّ. و «حبيت»: خصصت.
__________
(1) في طبعة بولاق: = لما قد قدم عليه =.
(2) في طبعة بولاق: = أنه يرى =. وهو تصحيف صوابه من النسخة الشنقيطية.
(3) في طبعة بولاق: = والزهماء =. وهو تصحيف صوابه من النسخة الشنقيطية مع أثر تصحيح فيها.(8/151)
و «الألّة» بفتح الهمزة وتشديد اللام: الحربة. و «الشّراعية»، بكسر الشين المعجمة: الطويلة، وقيل التي قد أشرعت للطّعن، أي: مدّت نحوه. وصفرة الأظفار كناية عن الموت، فإنّ الميّت تصفرّ أظافره.
وترجمة أبي طالب تقدّمت في الشاهد الواحد والتسعين (1).
* * * وأنشد بعده، وهو الشاهد الثالث بعد الستمائة، وهو من شواهد سيبويه (2):
(البسيط)
603 - شمّ مهاوين أبدان الجزور مخا
ميص العشيّات لا خور ولا قزم
على أن «مهاوين» جمع مهوان من أهان، وبناء مفعال من أفعل قليل نادر، والكثير من فعل.
وقد أورده الزمخشري في «المفصل» على أنّ ما جمع من اسم الفاعل يعمل عمل المفرد.
والأوصاف جميعها مجرورة في البيت، لأنّ قبله (3):
يأوي إلى مجلس باد مكارمهم ... لا مطمعي ظالم فيهم ولا ظلم
والبيت إنّما ورد في «كتاب سيبويه والمفصل وغيرهما» على إعمال مفعال عمل فعله، وليس فيهما ما يدلّ على أنّ الأوصاف مرفوعة أو مجرورة.
__________
(1) الخزانة الجزء الثاني ص 67.
(2) البيت للكميت بن زيد الأسدي في ديوانه 2/ 104وللكميت في شرح المفصل 6/ 74، 76والكتاب 1/ 114ولسان العرب (هون) وللكميت بن معروف في المقاصد النحوية 3/ 569ولابن مقبل في شرح أبيات سيبويه 1/ 215وشرح عمدة الحافظ ص 683وللكميت بن زيد أو للكميت بن معروف في ديوانه ص 199أو لابن مقبل في الدرر 5/ 275. وهو بلا نسبة في أمالي ابن الحاجب 1/ 396وشرح عمدة الحافظ ص 470وهمع الهوامع 2/ 97.
(3) ديوان الكميت بن زيد 2/ 104.(8/152)
ولا وجه لقول ابن خلف: البيت في الكتاب رويّه مرفوع، وهو مخفوض كما يدلّ عليه ما قبله.
وكذا قول ابن المستوفي: قد أنشده سيبويه في كتابه كما أنشده الزمخشري بالرفع، وهو مجرور. انتهى.
ولم يقف ابن الحاجب في «أماليه على المفصل» على البيت الأوّل فظنّه مرفوعا، وقال: شم خبر مبتدأ محذوف، وما بعده أخبار وأوصاف. وكذلك قال العيني.
وقوله: «يأوي إلى مجلس» إلخ، فاعل يأوي ضمير مستتر. يقال: أوى إلى منزله يأوي، من باب ضرب، أويّا على وزن فعول، إذا أقام فيه.
و «المجلس»: موضع الجلوس، وقد أطلق هنا على أهله، تسمية للحال باسم المحلّ، يقال: انفضّ المجلس، بدليل الأوصاف الآتية، ولهذا عاد الضمير إليه من «مكارمهم» بجمع العقلاء، كما يطلق المقامة بالفتح على محلّ القيام، وعلى الجماعة من الناس.
و «باد»: اسم فاعل من بدا يبدو بدوّا، إذا ظهر. و «المكارم»: جمع مكرمة بفتح الميم وضم الراء، قال صاحب المصباح: المكرمة، بضم الراء: اسم من الكرم وفعل الخير مكرمة، أي: سبب للكرم أو التكريم. وباد صفة سببيّة لمجلس.
وقوله: «لا مطمعي ظالم» صفة ثانية لمجلس، وأصله مطمعين، حذفت نونه للإضافة.
وقوله: «ولا ظلم» بضمتين: جمع ظلوم صفة ثالثة لمجلس. يريد إنّ الناس قد عرفوا أنّه من ظلمهم انتصفوا منه، فليس أحد يطمع في ظلمهم، ولا هم يظلمون أحدا.
وقوله: «شمّ» صفة رابعة لمجلس، وهو جمع أشم، وصف من الشّمم، وهو ارتفاع في قصبة الأنف مع استواء أعلاه (1)، فإن كان فيها احديداب فهو القنى، يقال: أقنى الأنف.
جعل الشمم كناية عن العزّة والأنفة. يقال للعزيز شامخ الأنف، وللذليل خاشع الأنف.
__________
(1) في النسخة الشنقيطية: = من استواء أعلاه =. وهو تصحيف صوابه من طبعة بولاق.(8/153)
وقال ابن الحاجب: وصفهم بالارتفاع إمّا في النسب والكرم، أو القدر، أو العزّة (1)، وهو مأخوذ من الشّمم المذكور. وهذا كلامه، ولا حاجة إليه.
وقوله: «مهاوين» صفة خامسة لمجلس، وهو مجرور بالفتحة لأنّه على صيغة منتهى الجموع، وهو جمع مهوان، وهو مبالغة مهين، من أهانه، أي: أذلّه.
قال الأعلم: الشاهد فيه نصب أبدان الجزور بقوله: مهاوين، لأنّه جمع مهوان، ومهوان تكثير مهين، كما كان منحار ومضراب تكثير ناحر وضارب، فعمل الجمع على واحده.
يريد أنّهم يهينون للأضياف والمساكين أبدان الجزور، وهو جمع بدنة، وهي الناقة المتّخذة للنحر المسمّنة. وكذلك الجزور.
هذا كلامه.
وتبعه ابن يعيش، وقال: «الأبدان» جمع بدنة، وهي الناقة المتّخذة للنحر.
يريد أنّهم يسمّنون الإبل فينحرونها للأضياف. وعليه يقتضي أن يكون من إضافة أحد المترادفين إلى الآخر، مع أنه لم يسمع جمع بدنة على أبدان، وإنّما ورد جمعها على بدنات وبدن بضمتين وإسكان الدال تخفيفا.
والصواب أنه جمع بدن، وهو من الجسد ما سوى الرأس واليدين والرّجلين.
وإنّما آثر ذكره على غيره لإفادة زيادة وصفهم بالكرم، فإنّهم إذا فرّقوا أفضل لحم الجزور، فتفريق ما سواه يكون بالطريق الأولى، والإضافة حينئذ من إضافة البعض إلى الكلّ. والبدنة: ناقة أو بقرة، زاد الأزهريّ: أو بعير. قالوا: ولا تقع على الشّاة.
و «الجزور»، بفتح الجيم من الإبل خاصّة، يقع (2) على الذكر والأنثى، والجمع جزر بضمتين، وتجمع أيضا على جزرات (3)، ثم على جزائر. ولفظ الجزور أنثى، فيقال: رعت الجزور. قاله ابن الأنباري.
__________
(1) في طبعة بولاق: = أو عزة =. وهو تصحيف صوابه من النسخة الشنقيطية.
(2) في طبعة بولاق: = تقع = بالتاء. ولقدء أثبتنا رواية النسخة الشنقيطية.
(3) في للسان (جزر): = الجزور: الناقة المجزورة، والجمع جزائر وجزر، وجزرات جمع الجمع، كطرق وطرقات =.(8/154)
وزاد الصّغاني: وقيل الجزور الناقة التي تنحر، وجزرت الجزور وغيرها من باب قتل، إذا نحرتها. كذا في المصباح.
واللام في الجزور لاستغراق الأفراد. وقال ابن خلف: أراد أن يقول الجزر فاكتفى بالواحد عن الجمع.
وروى: «مهاوين أبداء الجزور»، وهو جمع بدء (1) بفتح الموحدة وسكون الدال بعدها همزة، قيل هو بمعنى النصيب، وقيل بمعنى المفصل.
وقال الأعلم: أبداء الجزور أفضل أعضائها، واحدها بدء، ومنه السيد بدء لفضله.
وقوله: «مخاميص العشيّات» صفة سادسة لمجلس، وهو مجرور بالكسرة لأنه مضاف، وهو جمع مخماص مبالغة خميص، من خمص الشخص خمصا فهو خميص، إذا جاع، مثل قرب قربا، فهو قريب. والمخمصة: المجاعة.
وقال بعض فضلاء العجم في «شرح أبيات المفصّل»: هو جمع مخموص، من خمصه الجوع خمصا، أي: جعله ضامر البطن.
و «العشيّات»: جمع عشيّ، والعشيّ والعشاء بالكسر: من صلاة المغرب إلى العتمة. والعشيّ قيل بمعنى العشيّة، وقيل جمعها. ومخاميص العشيّات، كقولهم:
نهاره صائم.
وقال ابن الحاجب: هذه الإضافة اتّساع، والأصل: في العشيات.
قال الأعلم: يريد، أنهم يؤخّرون العشاء لأجل ضيف يطرق، فبطونهم خميصة في عشيّاتهم، لتأخّر الطعام عنهم.
وليس المعنى على قول ابن خلف: المخاميص: الذين ليسوا بعظام البطون. يعني أنّهم لا يأكلون، حتّى تعظم بطونهم، وإنما يكتفون بأخذ ما يحتاجون إليه من الطعام، ليس فيهم نهم.
هذا كلامه، وفيه أنّه يبقي العشيّات لغوا.
__________
(1) قوله: = بفتح الموحدة وسكون الدال أفضل أعضائها واحدها بدء =. ساقط من النسخة الشنقيطية.(8/155)
وقوله: «لا خور» بالجر، صفة سابعة لمجلس، و «الخور»: الضّعفاء عند الشّدّة.
قال صاحب الصحاح: «الخور» بفتحتين: الضّعف، رجل خوّار ورمح خوّار، وأرض خوّارة، والجمع خور بتخفيف الواو. وقال العيني: هو جمع أخور، وهو الضعيف. وقوله هو القياس.
وقوله: «ولا قزم» بالجر صفة ثامنة لمجلس، وهو بفتح القاف والزاي. قال صاحب الصحاح: القزم بالتحريك: الدناءة والقماءة. و «القزم»: رذال الناس وسفلتهم، يقال: رجل قزم، والذكر والأنثى والواحد والجمع فيه سواء، لأنه في الأصل مصدر.
والشعر نسبه سيبويه إلى الكميت بن زيد الأسدي، وتقدّمت ترجمته في الشاهد السادس عشر (1).
وقال ابن المستوفي كابن خلف: رواه سيبويه للكميت. ولم أره في ديوانه.
وأنشده ابن السيرافي لتميم بن أبيّ [بن] مقبل (2)، ولم أره فيما كتبه من شعره.
والله أعلم.
وترجمة تميم بن أبيّ [بن] مقبل تقدّمت أيضا في الشاهد الثاني والثلاثين (3).
وكلاهما شاعر إسلامي.
* * * وأنشد بعده، وهو الشاهد الرابع بعد الستمائة، وهو من شواهد سيبويه (4):
(البسيط)
__________
(1) الخزانة الجزء الأول ص 153.
(2) كذا في طبعة بولاق وفي النسخة الشنقيطية: = تميم بن مقبل =.
وهو تميم بن أبيّ بالتصغير وتشديد الياء بن مقبل بن عوف انظر في صحة اسمه: مقدمة ديوانه ص 5 تحقيق أستاذنا د. عزة حسن.
(3) الخزانة الجزء الأول ص 230.
(4) هو الإنشاد الثمانون بعد الستمائة في شرح أبيات المغني للبغدادي.(8/156)
604 - حتّى شآها كليل موهنا عمل
باتت طرابا وبات اللّيل لم ينم
على أن سيبويه، قال: إذا حوّل فاعل إلى فعيل أو فعل عمل أيضا. وأنشد هذا البيت، فإنّ «كليلا» قد عمل في قوله: «موهنا». وردّ بأنّ موهنا ظرف لشآها، ولو كان لكليل أيضا فلا استدلال فيه، لأنه ظرف يكفيه رائحة الفعل.
واعتذر لسيبويه بأنّ «كليلا» بمعنى مكلّ فموهنا مفعوله على المجاز، كما يقال: أتعبت يومك، ففعيل مبالغة مفعل لا فاعل. وفيه أنّه قليل نادر ولا يصحّ الاستدلال بالمحتمل مع أنّ هذا الاعتذار بعيد. هذا كلامه.
قال التّبريزيّ في «شرح الكافية»: أنشد سيبويه هذا البيت على إعمال فعيل، فإنّ كليلا بمعنى مكلّ، وموهنا منصوب على أنّه مفعول به، أي: يكلّ أوقات الليل من كثرة العمل. وطعنوا في هذا البيت من جهة استشهاده.
وقيل: كليل بمعنى كالّ، من كلّ يكلّ فإنّه لازم، وموهنا منصوب على الظرف. وهذا التأويل ليس بقويّ، لأنّ صدر البيت وعجزه ينافيه، فإنه قال:
«وبات الليل لم ينم» فلا يمكن أن يوصف بأنه قال في بعض أوقات الليل، وقال عمل، وهو يدلّ على كثرة العمل.
وقال ابن مالك: إنّما أنشد سيبويه هذا البيت ليعلم جواز العدول من فاعل إلى فعيل، لأنّ أصله كالّ. ولم يتعرّض للإعمال.
وهذا أيضا ضعيف، بما نقل السيرافي أنه قال سيبويه: كليل في معنى مكلّ، مثل أليم، وداء وجيع، بمعنى مؤلم وموجع. انتهى.
وقال ابن هشام في «المغني» (1): ردّ على سيبويه في استدلاله على إعمال فعيل بهذا البيت.
__________
والبيت لساعدة بن جؤية الهذلي في ديوان الهذليين 1/ 198وشرح أبيات المغني للبغدادي 6/ 324وشرح أشعار الهذليين 3/ 1129وشرح المفصل 6/ 72، 73والكتاب 1/ 114ولسان العرب (عمل، شأى) والمنصف 3/ 76وللهذلي في لسان العرب (طرب، أنق). وهو بلا نسبة في مغني اللبيت 2/ 435والمقتضب 2/ 115والمقرب 1/ 128.
(1) النص في شرح أبيات المغني للبغدادي 6/ 325بتقديم وتأخير.(8/157)
وذلك أنّ موهنا ظرف زمان، والظرف يعمل فيه روائح الفعل، بخلاف المفعول به.
ويوضّح كون الموهن ليس مفعولا به أنّ كليلا من كلّ، وفعله لا يتعدّى.
واعتذر عن سيبويه بأن كليلا بمعنى مكلّ، وكأنّ البرق يكلّ الوقت بدوامه فيه، كما يقال: أتعبت يومك. أو بأنّه إنّما استشهد به على أنّ فاعلا يعدل عنه إلى فعيل للمبالغة، ولم يستدلّ به على الإعمال. وهذا أقرب فإنّ في الأوّل حمل الكلام على المجاز مع إمكان حمله على الحقيقة. اه.
ونحن ننقل لك كلام سيبويه هنا ليظهر لك حقيقة الحال، قال في «باب ما جرى في الاستفهام من أسماء الفاعلين، من أوائل الكتاب»: وأجروا اسم الفاعل إذا أرادوا أن يبالغوا في الأمر مجراه، إذا كان على بناء فاعل، لأنه لا يريد به ما أريد بفاعل من إيقاع الفعل، إلّا أنه يريد (1) أن يحدّث عن المبالغة.
فمّما هو الأصل الذي عليه أكثر هذا المعنى: فعول، وفعّال، ومفعال، وفعل.
وقد جاء فعيل كرحيم، وقدير، وسميع، وبصير، يجوز فيهن ما جاز في فاعل من التقديم والتأخير، والإضمار والإظهار. لو قلت: هذا ضروب رؤوس الرجال وسوق الإبل، على: ضروب (2) سوق الإبل جاز، كما تقول: ضارب زيد وعمرا (3) تضمر: وضارب عمرا.
ومما جاء مقدّما ومؤخّرا على نحو ما جاء في فاعل قول ذي الرمّة (4): (الطويل)
هجوم عليها نفسه غير أنّه ... متى يرم في عينيه بالشّبح ينهض
وقال القلاخ (5): (الطويل)
__________
(1) في الكتاب لسيبويه: = لأنه يريد =.
(2) في الكتاب لسيبويه: = على: وضروب =.
(3) في طبعة بولاق: = ضارب زيد عمرا =. وهو تصحيف صوابه من الكتاب والنسخة الشنقيطية.
(4) البيت لذي الرمة في ديوانه ص 1832والكتاب 1/ 110. وهو بلا نسبة في تاج العروس (هجم) والحيوان 4/ 347ولسان العرب (حجم).
(5) صدر بيت للقلاخ بن حزن وعجزه:
* وليس بولّاج الخوالق أعقلا *
وهو للقلاخ بن حزن في الدرر 5/ 270وشرح أبيات سيبويه 1/ 363وشرح التصريح 2/ 68وشرح(8/158)
* أخا الحرب لبّاسا إليها جلالها *
وقال أبو طالب: (الطويل)
* ضروب بنصل السّيف سوق سمانها *
وقد جاء في فعل وليس في كثرة ذلك، قال (1): (الكامل)
* أو مسحل شنج عضادة سمحج *
ومما جاء في فعل قوله (2): (الكامل)
* حذر أمورا لا تخاف وآمن *
ومن هذا الباب قول رؤبة (3): (الرجز)
* برأس دمّاغ رؤوس العزّ *
ومنه قول ساعدة:
__________
المفصل 6/ 79، 80والكتاب 1/ 111ولسان العرب (ثعل) والمقاصد النحوية 3/ 535. وهو بلا نسبة في أمالي ابن الحاجب 1/ 319وأوضح المسالك 3/ 220وشرح الأشموني 1/ 342وشرح شذور الذهب ص 504وشرح ابن عقيل ص 433والمقتضب 2/ 113وهمع الهوامع 2/ 96.
(1) صدر بيت مختلف في نسبته وعجزه:
* بسراته ندب له وكلوم *
والبيت للبيد بن ربيعة في ديوانه ص 125وشرح أبيات سيبويه 1/ 24وشرح المفصل 6/ 72ولسان العرب (عضد، عمل) والمقاصد النحوية 3/ 513ولعمرو بن أحمر في الكتاب 1/ 112وليس في ديوانه. وهو بلا نسبة في شرح الأشموني 2/ 342.
(2) صدر بيت اختلف في نسبته وعجزه:
* ما ليس منجيه من الأقدار *
البيت لأبي يحيى اللاحقي في المقاصد النحوية 3/ 543. وهو بلا نسبة في شرح أبيات سيبويه 1/ 409وشرح الأشموني 2/ 342وشرح ابن عقيل ص 424وشرح المفصل 6/ 71، 73والكتاب 1/ 113ولسان العرب (حذر) والمقتضب 2/ 116.
(3) الرجز لرؤبة في ديوانه ص 64وشرح أبيات سيبويه 1/ 67والكتاب 1/ 113.(8/159)
حتّى شآها كليل موهنا عمل ... البيت
وقال الكميت:
شمّ مهاوين أبدان الجزور ... البيت
ومنه: قدير، وعليم، ورحيم، لأنه يريد المبالغة وليس بمنزلة قولك حسن وجه الأخ، لأن هذا لا يقلب ولا يضمر، وإنما حدّه أن يتكلّم به في الألف واللام (1) ولا تعني أنّك أوقعت فعلا سلف منك إلى أحد. ولا يحسن أن تفصل بينهما، فتقول:
هو كريم فيها حسب الأب.
هذا نصه بحروفه، مع حذف بعض أمثلة.
قال الأعلم: الشاهد في نصب الموهن بكليل، لأنه مغيّر عن بنائه للتكثير. وقد ردّ هذا التأويل على سيبويه لما قدّمنا: أن فعيلا وفعلا بناءان لما لا يتعدّى في الأصل.
وجعل الراد نصب موهن على الظرف، والمعنى عنده أنّ البرق ضعيف الهبوب كليل في نفسه.
وهذا الردّ غير صحيح، إذ لو كان كليلا، كما قال: لم يقل عمل وهو الكثير العمل، ولا وصفه بقوله: وبات الليل لم ينم.
والمعنى على مذهب سيبويه أنه وصف حمارا وأتنا نظرت إلى برق مستمطر دالّ على الغيث يكلّ الموهن بدؤوبه وتوالي لمعانه، كما يقال أتعبت ليلك، أي: سرت فيه سيرا حثيثا متعبا متواليا.
و «الموهن»: وقت من الليل. فشآها البرق، أي: ساقها وأزعجها إلى مهبّه، فباتت طربة إليه، منتقلة نحوه. وفعيل في معنى مفعل موجود كثير. يقال: بصير في معنى مبصر.
وعذاب أليم بمعنى مؤلم، وسميع بمعنى مسمع. وكذلك كليل في معنى مكلّ.
وإذا كان بمعناه عمل عمله، لأنه مغيّر منه للتكثير كما تقدّم. اه.
وقال ابن خلف أيضا (2): الشاهد نصب موهنا بكليل نصب المفعول به، لأنه
__________
(1) بعده في الكتاب لسيبويه: = أو نكرة =.
(2) نص ابن خلف هذا مسهب هنا ولن ينتهي إلا في الصفحة التالية.(8/160)
بمعنى مكلّ فيعمل عمله.
وقال المبرد: موهنا ظرف وليس بمفعول. ولا حجّة له فيه. وجعل كليلا من كلّ يكلّ، وكلّ لا يتعدّى إلى مفعول به، فكيف يتعدّى كليل.
قال أبو جعفر: لا يجوز عند الجرميّ والمازني والمبرد أن يعملوا فعيلا. قال: وما علمت (1) إلّا أنّ النحويين مجمعون على ذلك. ولا يجيزون هو رحيم زيدا، ولا عليم الفقه.
والعلّة فيه أنّ فعيلا في الأصل من فعل فهو فعيل، وهذا لا ينصب بإجماعهم، وهو معهم على ذلك. وفعيل هذا بمنزلة ذاك، لأنه إنما يخبر به عمّا في الهيئة، فهو ملحق به لا يعمل كما لا يعمل. وفعل عند المبرد بمنزلته. واحتجّ بقولهم: رجل طبّ وطبيب.
قال أبو إسحاق في «الحجة» في إعمال فعيل (2): إن الأصل كان أن لا يعمل إلّا ما جرى على الفعل، فلما أعربوا ضروبا لأنه بمعنى ضارب وجب أن يكون فعيل مثله. قال: ومنه قدير.
وسيبويه أورد هذا على أنه للمبالغة في كالّ، وكالّ يتعدّى إلى مفعول على تقديره. وكأنّ الذي عند سيبويه أنّ كلّلت يتعدّى، ويكون معناه أنّ كلّل الموهن، أي: جعل يبرق فيه برقا ضعيفا. وزعم أنّ كليلا بمعنى مكلّ.
وليس هذا من مذهب سيبويه في شيء، لأنّ سيبويه غرضه ذكر فعيل الذي هو مبالغة فاعل، وما عرض لفعل الذي بمعنى مفعل.
وقد روى أبو الحسن اللّحيانيّ في «نوادره» أنّ بعض العرب يقول في صفة الله عزّ وجلّ: هو سميع قولك وقول غيرك، بتنوين سميع ونصب قولك.
وهذا يشهد لصحّة مذهب سيبويه.
__________
(1) في طبعة بولاق: = وما عملت =. وهو تصحيف صوابه من النسخة الشنقيطية مع أثر تصحيح.
(2) في طبعة بولاق والنسخة الشنقيطية: = ليس في إعمال فعيل =. بإقحام كلمة: = ليس =. وهو تصحيف تم تصويبه.
ولقد وضع محقق طبعة هارون في طبعته كلمة: = في الحجة = بين قوسين ظنا منه بأن الحجة اسم كتاب. لكنه وهم هنا، فالحجة بمعنى الاحتجاج.(8/161)
وقال أبو نصر هارون بن موسى: زعم الرادّ على سيبويه أنّ موهنا ظرف. وهو على ما ذكرنا من فساد المعنى. و «الكليل» هاهنا: البرق. و «الموهن»: وقت من الليل، ولو كان ظرفا لوصف البرق بالضّعف في لمعانه، وإذا كان بهذه الصفة فكيف يسوقها وهو لا يدلّ على المطر؟ ولكنّ البرق إذا تكرر في لمعانه، واشتدّ، ودام دلّ على المطر، وشاق (1)، وأتعب الموهن في ظلمته، لأنه كلّما هبّ ذهبت الظلمة، ثم يرجع إذا فتر البرق، ثم يذهب، إذا لمع. فلذلك عدّى الشاعر الكليل إلى الموهن.
وقوله: «شاها»، أي: شأى الإبل، أي: ساقها. قال الأخفش: تبعها.
يقال: شاءني الأمر وشآني، أي: ساقني. ويقال أيضا شآني: حزنني. و «كليل» أي: برق ضعيف. وإنّما ضعّفه لأنه ظهر من بعيد. و «الموهن» بفتح الميم وكسر الهاء: قطعة من الليل. و «العمل»: الدائب المجتهد في أمره الذي لا يفتر.
و «باتت طرابا» يعني البقر الوحشيّة طرابا إلى السير إلى الموضع الذي فيه البرق، وبات البرق الليل أجمع لا يفتر. فعبّر عن البرق بأنه لم ينم لاتّصاله من أول الليل إلى آخره. انتهى ما أورده ابن خلف.
وقال النحاس: شآها يعني الإبل. وكليل: برق خفي. طرابا: طربت للبرق وشاقها (2). وبات البرق لم ينم لشدّة دوامه.
قال ابن حبيب: طرابا من الطرب تحنّ إلى أولادها. قال الجمحي: تنزع إلى أوطانها.
والصحيح أنه عنى بها البقر، لا الإبل، خلافا للشارح المحقق وغيره. قال السكري في «شرح أشعار الهذليين»: حتى شآها، يعني شأى البقر، يقال: شؤته، فكان ينبغي أن يقول شاءها، فقلب فقدّم الهمزة. ومعنى شؤته شقته (3) وهيّجته وسررته.
__________
(1) في طبعة بولاق: = وساق =. بالسين المهملة، صوابه من النسخة الشنقيطية مع أثر تصحيح فيها.
(2) في طبعة بولاق: = وساقها =. بالسين المهملة، وهو تصحيف صوابه من النسخة الشنقيطية مع أثر تصحيح فيها.
(3) في طبعة بولاق: = سبقته =. صوابه من النسخة الشنقيطية مع أثر تصحيح فيها. وفي ديوان الهذليين 1/ 198 وشرح أشعار الهذليين ص 1129: = شآها: شاقها فاشتاقت =.
وفي لسان العرب (شأي) بعد ذكر البيت الشاهد: = شآها أي شاقها وطرّبها بوزن شعاها.(8/162)
يقول: حتى شاء البقر كليل، وهو البرق الضعيف، موهنا: بعد هدء من الليل. عمل، أي: ذو عمل، لا يفتر البرق.
وباتت طرابا، يعني البقر. وبات الليل، يعني البرق. وعمل: دائب، يقال للرجل إذا دأب: قد عمل يعمل. انتهى.
والبيت من قصيدة طويلة لساعدة بن جؤيّة، رثى بها من أصيب يوم معيط (1)، وهو أرض، منهم سراقة بن جعشم من بني مدلج، كان يرسل إليهم الأخبار. وهذا مطلعها (2): (البسيط)
يا ليت شعري ولا منجى من الهرم ... أم هل على العيش بعد الشّيب من ندم
قال السكري (3):
ويروى:
* يا للرّجال ألا منجى من الهرم *
يقول: هل يندم أحد على أن لا يعيش بعد أن يشيب.
وقوله: «على العيش». أي: على فوت العيش. ومثله (4): «المال يزري بأقوام»
__________
(1) معيط: بالفتح ثم السكون، وفتح الياء، كأنه اسم المكان من عاطت الناقة، إذا ضربها الفحل فلم تحمل
وهو اسم موضع في قول الهذلي ساعدة بن جؤية. (معجم البلدان: معيط).
(2) هو الإنشاد الثاني والستون في شرح أبيات المغني للبغدادي.
والبيت لساعدة بن جؤية الهذلي في ديوان الهذليين 1/ 191والأزهية ص 131والدرر 6/ 115وشرح أشعار الهذليين 3/ 1122وشرح أبيات المغني للبغدادي 1/ 284وشرح الأشموني 2/ 423وشرح شواهد المغني 1/ 151ومغني اللبيب 1/ 48ومعجم البلدان (معيط) وهمع الهوامع 2/ 134. وهو بلا نسبة في شرح عمدة الحافظ ص 315ولسان العرب (أمم).
(3) لم نجد هذا القول في شرح أشعار الهذليين أو في ديوان الهذليين. وهي في شرح أبيات المغني أيضا بنقل عن السكري.
(4) وكذلك في شرح أبيات المغني للبغدادي 1/ 284.
وفي حاشية طبعة هارون 8/ 162: = كذا وردت هذه القطعة للاستشهاد بها، وأنا في ريب من صحتها بدليل اقتضابها المخل. وفي ديوان حسان بن ثابت 327:
الفقر يزري بأقوام ذوي حسب ... ويقتدي بلئام الأصل أنذال =(8/163)
يريد فقد المال. اه.
وهذا البيت أورده ابن هشام في «المغني» على أنّ زيادة «أم» فيه ظاهرة. إلى أن قال (1):
تالله يبقى على الأيام ذو حيد ... أدفى صلود من الأوعال ذو خدم
يريد: تالله لا يبقى، فحذف لا النافية في جواب القسم. وروى: «لله يبقى» واللام للقسم والتعجب معا.
ولأجله استشهد ابن هشام في «المغني» بهذا المصراع. وذو حيد: هو الوعل.
و «الحيد» بكسر ففتح: جمع حيد، بفتح الحاء المهملة وسكون المثناة التحتية، وهي العقد في قرن الوعل.
و «الأدفى» بالقصر: الذي يميل قرنه إلى نحو ذنبه (2). و «صلود»: صفة أدفى. والصّلود: الذي يقرع بظلفه الجبل.
و «الخدم» بفتح الخاء المعجمة والدال: جمع خدمة، وهي الخلخال، ويجمع على خدام أيضا بالكسر. والخدم: خطوط بيض في قوائمه تشبه الخلاخيل.
ثم وصف تحصّنه في رؤوس الجبال في ثمانية أبيات، فلما جاءه أجله لم يسلم من الصيّاد، فهلك على يديه، وقال (3):
فكان حتفا بمقدار وأدركه ... طول النّهار وليل غير منصرم
أراد: أدركه طول النهار وليل غير منقطع. يقول: لم يفلت من طول الأيام والليالي.
__________
(1) البيت لساعدة بن جؤية الهذلي في ديوان الهذليين 1/ 193وتاج العروس (صلد، لوم) وشرح أبيات المغني للبغدادي 1/ 286وشرح أشعار الهذليين ص 1124. وهو بلا نسبة في تهذيب اللغة 12/ 143ولسان العرب (صلد).
(2) في شرح أبيات المغني للبغدادي: = قرنه إلى نحو ظهره =. وفي ديوان الهذليين: = وهو الذي تحنى قرناه إلى ظهره =.
(3) البيت لساعدة بن جؤية الهذلي في ديوان الهذليين 1/ 200وشرح أشعار الهذليين ص 1131وشرح أبيات المغني 5/ 346وللهذلي في تهذيب اللغة 4/ 445.(8/164)
وبعده (1):
ولا صوار مذرّاة مناسجها ... مثل الفريد الذي يجري من النّظم
هذا معطوف على «ذو حيد» في جواب القسم السابق. أي: تالله لا يبقى على الأيام ذو حيد ولا صوار، وهو بكسر الصاد المعجمة: جماعة البقر.
يقال: نعجة مذرّاة، وكبش مذرّى بالذال المعجمة، إذا جزّ وترك بين كتفيه صوف لم يجزّ. فهي الذّروة بكسر الذال وضمها (2).
و «النّظم» بضمتين: جمع نظام، وهو الخيط الذي فيه اللؤلؤ. يقول: الصّوار مثل اللؤلؤ في الحسن والبياض.
ظلّت صوافن بالأرزان صاوية ... في ماحق من نهار الصّيف محتدم (3)
أي: قد رفعن إحدى قوائمهن. و «الصوافن»: التي تفرّج بين رجليها.
و «الأرزان»: جمع رزن، بكسر الراء المهملة وسكون الزاي، وهو الموضع الغليظ الذي فيه الماء.
و «صاوية» بالصاد المهملة: اليابسة من العطش. و «الماحق»: شدّة الحرّ.
و «المحتدم»: المحترق، بالحاء والدال المهملتين. أي: كان ذلك اليوم محترقا من شدة الحر.
__________
(1) البيت لساعدة بن جؤية الهذلي في ديوان الهذليين 1/ 197وتهذيب اللغة 14/ 160، 391، 15/ 8 وشرح أبيات المغني 5/ 346وشرح أشعار الهذليين ص 1128ولسان العرب (ذرا). وهو بلا نسبة في لسان العرب (درى).
في شرح أشعار الهذليين: = ولا صوار مدراة = بالدال المهملة، وقال السكري في تفسيره: = كأن مناسجها دريت بالمدرى، أي ضربتها الريح كما يدرى الشعر بالمدرى =.
وروايته في ديوان الهذليين: = مذراة =. وقال في شرحها: = يقول: كأن مناسجها ذريت بالمذرى، أي ضربتها الريح كما يذرى الشعير بالمذارى =.
(2) في شرح أبيات المغني 5/ 346: = لم يجز، وهو الذرواة، بكسر الذال وضمها =.
(3) البيت لساعدة بن جؤية الهذلي في ديوان الهذليين 1/ 197وأساس البلاغة (محق) وتاج العروس (محق) وتهذيب اللغة 4/ 83، 13/ 189وشرح أبيات المغني 5/ 347وشرح أشعار الهذليين ص 1128. وهو بلا نسبة في تاج العروس (بخن) وجمهرة اللغة ص 505، 560وديوان الأدب 1/ 357وكتاب الجيم 1/ 95 ولسان العرب (بخن) والمخصص 9/ 71.(8/165)
قد أوبيت كلّ ماء فهي صاوية ... مهما تصب أفقا من بارق تشم (1)
حتّى شاها كليل موهنا عمل ... باتت طرابا وبات اللّيل لم ينم (2)
كأنّما يتجلّى عن غواربه ... بعد الرّقاد تمشّي النّار في الضّرم
حيران يركب أعلاه أسافله ... يخفي تراب جديد الأرض منهزم
فأسأدت دلجا تحيي لموقعه ... لم تنتشب بوعوث الأرض والظّلم (3)
حتّى إذا ما تجلّى ليلها فزعت ... من فارس وحليف الغرب ملتئم (4)
فافتنّها في فضاء الأرض يأفرها ... وأصحرت في قفاف ذات معتصم
أنحى عليها شراعيّا فغادرها ... لدى المزاحف تلّى في نضوح دم (5)
وبعد هذا شرع في الرثاء.
قوله: «قد أوبيت كلّ ماء» البيت إلخ، أورده أبو حنيفة في «كتاب النبات» مع أبيات أربعة بعده.
وقال: وصف بها ساعدة بن جؤيّة حميرا. وقال: أوبيت: منعت.
__________
(1) في طبعة بولاق: = صادية =. بالدال المهملة. وهو تصحيف صوابه من شرح أبيات المغني ومن سياق شرح البغدادي اللاحق.
وهو الإنشاد الثامن والثلاثون بعد الخمسمائة في شرح أبيات المغني للبغدادي.
والبيت لساعدة بن جؤية في ديوان الهذليين 1/ 198والدرر 5/ 70وشرح أبيات المغني 5/ 347وشرح أشعار الهذليين 3/ 1128وشرح شواهد الإيضاح ص 150وشرح شواهد المغني 1/ 157، 2/ 743ولسان العرب (أبي، صوي). وهو بلا نسبة في الأشباه والنظائر 7/ 262ومغني اللبيب 1/ 330وهمع الهوامع 2/ 57.
(2) الأبيات في ديوان الهذليين من القصيدة ذاتها 1/ 200191وشرح أبيات المغني 5/ 347وشرح أشعار الهذليين ص 11301126.
(3) في النسخة الشنقيطية: = يحيى =. وهو تصحيف صوابه المصادر السابقة الذكر وطبعة بولاق.
وفي ديوان الهذليين وشرح أشعار الهذليين: = وقوله: تحيى لموقعه، أي: أحيت ليلتها =.
(4) البيت لساعدة بن جؤية في ديوان الهذليين 1/ 199وتاج العروس (حلف) وشرح أبيات المغني للبغدادي 5/ 347وشرح أشعار الهذليين ص 1130.
(5) البيت لساعدة بن جؤية في ديوان الهذليين 1/ 200وتاج العروس (زحف) وشرح أبيات المغني للبغدادي 5/ 347وشرح أشعار الهذليين ص 1130.(8/166)
وقال السكري: يقول: منعت كلّ ماء، أي: قطع عنها، يقال: طعام وشراب لا يؤبى: لا ينقطع. وقال شارح اللباب: أي: جعلت تأبى كلّ ماء وتكرهه. وصاوية بالصاد المهملة. قال أبو حنيفة: الصاوي: اليابس، أي: يبست من العطش.
وقوله: «مهما تصب أفقا» قال السكري، أي: ناحية من بارق، أي: من سحاب فيه برق. و «تشم»: تنظر إليه، والضمير في الجميع ضمير الصّوار.
وهذا البيت أورده ابن هشام في «المغني» على أنّ ابن يسعون استدلّ به على مجيء «مهما» حرف شرط كإن. قال: واستدلّ ابن يسعون تبعا للسّهيلي، على أن «مهما» تأتي حرفا، بقوله: قد أوبيت كل ماء، البيت.
قال: إذ لا تكون مبتدأ لعدم الربط من الخبر، وهو فعل الشرط، ولا مفعولا لاستيفاء فعل الشرط مفعوله، ولا سبيل إلى غيرهما، فتعيّن أنّها لا موضع لها.
والجواب أنها مفعول تصب، وأفقا ظرف، ومن بارق تفسير لمهما أو متعلق بتصب، فمعناها التبعيض.
والمعنى: أي شيء تصب في أفق من البوارق تشم. وقال بعضهم: مهما ظرف زمان، والمعنى أيّ وقت تصب بارقا من أفق. فقلب الكلام. أو في أفق بارقا فزاد من واستعمل أفقا ظرفا. اه.
ثم ذكر أنّها لا تأتي ظرفا، خلافا لابن مالك.
وإلى الظرفية ذهب صاحب اللباب، قال: وقد تستعمل مهما للظرف، نحو:
* مهما تصب أفقا من بارق تشم *
قال شارحه: أي: مهما تصب بارقا في جهة في أفق (1) وناحية من الجهات تشم الناقة ذلك البارق. من شمت البرق، أي: نظرت إلى سحابه أين يمطر. و «البارق»:
السّحاب ذو البرق. و «مهما» في البيت ظرف، لأن الفعل بعده تسلّط على مفعوله، فلا يتسلّط عليه تسلّط المفعول به، لأنه لا يتعدّى إلّا إلى واحد، فهو ظرف، أي: في أيّ جهة تصب. اه.
__________
(1) في النسخة الشنقيطية: = بارقا في أفق جهة =.(8/167)
وقال أبو حيان في «تذكرته»: قال الفارسيّ: هذا على القلب، والمعنى:
مهما تصب بارقا من أفق. فإن جعلت أفقا ظرفا كانت من زائدة لأنها غير واجبة، فهي مثل إن تصب عندي من درهم. فلا قلب.
وأجاز أن تكون من غير زائدة، ومن بارق في موضع نصب بتشم، ومفعول تصب محذوف، وهو ضمير منصوب يعود على أفق أو على بارق. قلت: الذي ذكره الفارسي من إعمال الفعلين، والمعمول متوسّط غريب، قلّما يذكره النحويون.
وقد ذكرنا في باب كونه تقدّم على الفعلين، نحو: أيّ رجل ضربت، أو شتمت ويجب أن يكون الأوّل أولى بالعمل بلا خلاف، كما كان ذلك في قولك:
أيّ رجل ضربت أو شتمت، لأنه في هذه المسألة أقرب.
وفي مسألة أبي علي وإن لم يكن أقرب الفعلين فليس بأبعد الفعلين لأنّ النسبة في التّلاصق واحدة، إلّا أنّ عمل الفعل مقدّما أولى من عمله مؤخّرا بلا خلاف.
وابن يسعون: يجوز أن يقدّر إنارة أفق، فلا قلب. ويحتمل أن يكون مهما مفعولا بتصب، أي: أيّ شيء تجد في أفق من البرق تشم.
وفي رواية الجمحي:
* مهما يصب بارق آفاقها تشم *
وهذا سهل (1) الإعراب ومهما ظرف العامل فيه يصب، ولا يحتاج فيه إلى ضمير.
والظرف في «مهما» قليل، ويتصوّر أن يكون بمعنى إن على ما ذكروا، إلّا أنّ هذا أولى. انتهى ما أورده أبو حيان.
وقوله: «حتى شآها» إلخ، ضمير المؤنث للصّوار، وهي البقر، لا للحمير الوحشية، خلافا لأبي حنيفة، ولا للإبل خلافا للشارح وغيره، ولا للناقة خلافا لشارح اللباب.
__________
(1) في طبعة بولاق والنسخة الشنقيطية: = وهذا أسهل =.(8/168)
قال أبو حنيفة: شآها: شاقها بالشين المعجمة. قال: قدّم همزة شاء، يقال:
شاءني يشوؤني (1) ويشيئني أيضا، أي: شاقني.
قال الشاعر (2): (الكامل)
مرّ الحمول فما شأونك نقرة ... ولقد أراك تشاء بالأظعان
أي: تشاق، فجاء باللغتين. و «الكليل»: البرق الضعيف، وقد يستحبّ أن يكون قليلا. و «العمل»: الدّائب (3) لا يفتر.
و «الطّراب»: التي قد استخفّها الفرح. و «الموهن»: بعد ساعة من نصف الليل، وضمير بات للبرق الكليل.
وقوله: «كأنّما يتجلّى» إلخ، أي: البرق الكليل. و «الغوارب»: أعالي السّحاب. و «الضّرم»: ما دقّ من الحطب، فالنار تسرع فيه.
وقوله: «حيران يركب أعلاه» إلخ، قال السكريّ: يعني هذا السحاب لا يمضي على جهته قد حار، فهو يتردّد.
وقوله: «يخفي تراب الأرض» (4)، أي: يظهره (5)، من خفاه: أظهره، يعني المطر يظهر التراب. وجديد الأرض، بالجيم: أرض صلبة لم تحفر.
وقوله: «منهزم» يقول: هذا السحاب قد انخرق بالماء، يقال: انشقّ سحاب الماء. هذا مثل. ويقال للدابة: انشقّ سقاؤه بالعدو. اه.
وقال أبو حنيفة: قوله: «حيران»، أي: لا جهة له، فهو ماكث.
و «خفاه»: أظهره. يعني: أنّ سيله يشقّ الأرض، فيظهر باطنها. و «منهزم»:
منشقّ بالماء.
__________
(1) في شرح أبيات المغني 5/ 348: = يقال: شاءني يشوءني، أي شاقني =.
(2) البيت للحارث بن خالد المخزومي في ديوانه ص 107وتاج العروس (شأو) وتهذيب اللغة 11/ 447 ولسان العرب (أسا، شأى). وهو بلا نسبة في جمهرة اللغة ص 240، 1099والمخصص 14/ 27.
(3) في طبعة بولاق: = الدائم = ولقد أثبتنا رواية النسخة الشنقيطية وشرح أبيات المغني للبغدادي 5/ 348.
(4) كذا في طبعة بولاق والنسخة الشنقيطية وشرح أبيات المغني للبغدادي. والذي في النص الشعري: = تراب جديد الأرض =.
(5) كذا في النسخة الشنقيطية. وفي طبعة بولاق: = يظهر =. وفي شرح أبيات المغني: = يظهر ترابها =.(8/169)
وقوله: «فأسأدت دلجا» إلخ، قال أبو حنيفة: الإسآد: سير الليل كلّه.
وكذلك الدّلج.
و «تحيي لموقعه» يريد: تحيي الليل لموقع هذا الغيث، تسير إليه. «لم تنتشب»: لم تتحبّس، أي: لم يعقها وعوث الأرض.
وقال السكري: قوله تحيي لموقعه، يعني هذه البقرة تحيي ليلتها جمعاء لموقع ذلك السحاب لتبلغه. و «الوعث»: الليّن وهو يحبس.
وقوله: «حتّى إذا ما تجلّى ليلها» إلخ، قال السكري: يعني بحليف الغرب رمحا حديد السّنان. وغرب كلّ شيء: حدّه. و «ملتئم»: يشبه بعضه بعضا لا يكون كعب منه رقيقا (1) والآخر غليظا. وقيل: يعني بحليف الغرب فرسه، والغرب:
النشاط.
وقوله: «فافتنّها» يريد انشقّ بها في ناحية، من فنن (2)، بالفاء والمثناة فوق والنون. وقيل افتنّها: طرحها. و «يأفرها»: يسوقها من الأفر بالفاء والراء المهملة، وهو عدو فيه قفز.
وقوله: «وأصحرت»، أي: صارت في صحار (3)، وقوله: «في قفاف» القفّ بالضم: ما غلظ من الأرض وارتفع ولم يبلغ أن يكون جبلا. و «المعتصم» بفتح الصاد: الملجأ.
وقوله: «أنحى عليها» إلخ، أي: أهوى إليها الفارس بالرّمح. و «الشّراعي» بضم الشين المعجمة: الرمح الطويل. و «غادرها»: تركها وخلّفها. و «تلّى»:
صرعى (4).
__________
(1) في النسخة الشنقيطية وشرح أبيات المغني: = دقيقا =.
(2) في طبعة بولاق والنسخة الشنقيطية: = فتن = بالتاء. وهو تصحيف صوابه من شرح أبيات المغني للبغدادي 5/ 348.
وفي طبعة هارون 8/ 168: = في النسختين = فتن = بالتاء، انسياقا وراء الضبط التالي، والصواب أن الضبط التالي إنما هو ضبط لافتنها. وأن: = فنن = إنما هو بيان للمادة اللغوية =.
(3) في طبعة بولاق: = صحار =. وفي النسخة الشنقيطية وشرح أبيات المغني: = في صحارى =.
يقال: في جمع الصحراء الصحاري والصحارى، بكسر الراء وفتحها.
(4) في شرح أبيات المغني: = وتلى: جمع تليل، كصرعى: جمع صريع وزنا ومعنى =.(8/170)
و «لدى المزاحف»: جمع مزحف، أي: حيث زاحفها فيه، أي: قاتلها.
و «النضخ»: [بمعجمتين] ما أصاب (1) الشيء على غير عمد، يقال: أصابه نضخ من الدّم والزعفران والبول ما لم تتعمّد به، فإذا أنت تعمدته، قلت: نضحته بالماء، بالحاء المهملة. يقال: نضح ينضح إذا ما رشح.
وترجمة ساعدة بن جؤيّة الهذلي قد تقدّمت في الشاهد التاسع والستين بعد المائة (2).
* * * وأنشد بعده، وهو الشاهد الخامس بعد الستمائة، وهو من شواهد سيبويه (3):
(الكامل)
605 - حذر أمورا لا تخاف وآمن
ما ليس منجيه من الأقدار
على أنّ سيبويه استدلّ به على عمل فعل بهذا البيت، ومنعه غيره، وقال: إنّ البيت مصنوع.
يروى عن اللاحقيّ أن سيبويه سألني عن شاهد في تعدّي فعل، فعملت له هذا البيت.
أقول: إن طعن على سيبويه بهذا البيت، فقد استشهد ببيت آخر لا مطعن عليه
__________
(1) في طبعة بولاق: = ما أصابك الشيء على غير عمد =. وفي النسخة الشنقيطية وطبعة هارون: = ما أصابك من الشيء على غير عمد =. ولقد أثبتنا رواية شرح أبيات المغني للبغدادي فهي أصوب للسياق.
(2) الخزانة الجزء الثالث ص 85.
(3) البيت لأبي يحيى اللاحقي في المقاصد النحوية 3/ 543. وهو بلا نسبة في شرح أبيات سيبويه 1/ 409 وشرح الأشموني 2/ 342وشرح ابن عقيل ص 424وشرح المفصل 6/ 71، 73والكتاب 1/ 113 ولسان العرب (حذر) والمقتضب 2/ 116.
وروايته في بعض هذه المصادر:
حذر أمورا لا تضير وآمن ...(8/171)
فيه، وهو قول لبيد الصحابي (1): (الكامل)
أو مسحل شنج عضادة سمحج ... بسراته ندب لها وكلوم
وقال الأعلم، وتبعه ابن السيد في «شرح أبيات الجمل»: قد وجدنا في شعر زيد الخيل الطائي الصحابي بيتا آخر لا مطعن فيه، وهو (2): (الوافر)
ألم أخبركما خبرا أتاني ... أبو الكسّاح جدّ به الوعيد
أتاني أنّهم مزقون عرضي ... جحاش الكرملين لها فديد (3)
أمّا البيت الأول فقد قال ابن خلف: الشاهد فيه أنه نصب «عضادة» ب «شنج» نصب المفعول به، لأنه تكثير شانج، وشانج في معنى ملازم، وفعله شنجته، كلزمته، على ما حكاه البصريون. وذلك غير مشهور.
قال أبو نصر هارون بن موسى: وردّ عليه هذا القول بعض النحويين وزعم أنّ عضادة ظرف. وهذا من الذين يتهاونون بالخلف، إذا عرفوا الإعراب، وهو إذا جعله ظرفا كان المعنى فاسدا، وذلك أنّ الشاعر شبّه ناقته في نشاطها وصلابتها بحمار وحشيّ ملازم لأتان يضربها.
فلشدّته وصلابته قد لازمها، وقبض الناحية التي بينها وبينه، ولم يحجزه عن ذلك رمحها وعضّها اللذان بسراته منها ندب وكلوم.
ولو كان ظرفا لكان المعنى أنّ المسحل شنج متقبّض في ناحية السّمحج مهين.
قد شعفه عضّها ورمحها، فكيف يشبّه أحد ناقته بمسحل هذه صفته.
__________
(1) البيت للبيد بن ربيعة في ديوانه ص 125وشرح أبيات سيبويه 1/ 24وشرح المفصل 6/ 72ولسان العرب (عضد، عمل) والمقاصد النحوية 3/ 513ولعمرو بن أحمر الباهلي في الكتاب 1/ 112وليس في ديوانه. وهو بلا نسبة في شرح الأشموني 2/ 342.
(2) البيتان لزيد الخيل الطائي في ديوانه ص 161ومعجم البلدان (الكرملين) قالهما يهجو قوما بعد ما بلغه بأنهم يتكلمون في نسبه.
(3) البيت لزيد الخيل في ديوانه ص 161والدرر 5/ 272وشرح التصريح 2/ 68وشذور الذهب ص 507 وشرح عمدة الحافظ ص 680وشرح المفصل 6/ 73والمقاصد النحوية 3/ 545. وهو بلا نسبة في أوضح المسالك 3/ 224وشرح الأشموني 2/ 342وشرح ابن عقيل ص 425وشرح قطر الندى ص 275 والمقرب 1/ 128.(8/172)
والذي يحتجّ لسيبويه أيضا أنّ العضادة ليست من الظروف، لأنّه يريد بالعضادة جنبها وأعضادها.
ألا ترى أنّه لا يجوز أن يقول: هو شنج رجل سمحج، ولا يد سمحج.
ومسحل معطوف على «مسدّم» قبله، وهو (1): (الكامل)
حرف أضرّ بها السّفار كأنّها ... بعد الكلال مسدّم محجوم
وصف لبيد ناقته. و «الحرف»: الضامر (2). وأضرّ بها السّفار: أنضاها وهزلها. و «الكلال»: التعب. و «المسدّم»: الفحل من الإبل الذي قد حبس عن الضّراب.
و «المحجوم»: المشدود الفم. و «المسحل»: حمار الوحش. و «السّمحج»:
الأتان الطويلة. و «سراتها»: أعلاها. و «النّدب»: الأثر. و «الكلوم»:
الجراحات.
يريد أنّ هذه الأتان بها آثار من عضّ الحمار، كأنها جراحات. و «عضادة»:
جنب. والشنج: المتقبّض في الأصل، ويراد به في البيت الملازم، كأنه قال: أو مسحل ملازم جنب أتان لا يفارقها. يقول: كأن هذه الناقة بعد ما كلّت بعير مسدّم، أو مسحل موصوف بما ذكر.
وأمّا البيت الثاني فمزقون: جمع مزق مبالغة مازق، من المزق، وهو شقّ الشيء. وعرض الرجل، بالكسر: جانبه الذي يصونه من نفسه وحسبه.
و «جحاش»، أي: هم جحاش، فهو تشبيه بليغ كما حقّقه السعد، لا استعارة كما زعمه العيني. وهو جمع جحش، وهو ولد الحمار.
و «الكرملين»، بكسر الكاف وفتح اللام (3): اسم ماء في جبل طيّئ.
__________
(1) البيت للبيد بن ربيعة في ديوانه ص 124.
(2) في شرح ديوان لبيد: = الضامرة =.
(3) في معجم البلدان (الكرملين): = كرملين: اسم ماء في جبلي طيئ في قول زيد الخيل، وثناه، ثم أفرده في شعر واحد:
ألم أخبركما خبرا أتاني ... أو الكساح
أتاني أنهم مزقون عرضي ... جحاش الكرملين لها فديد
فسيري يا عدي ولا تراعي ... فحلي بين كرمل فالوحيد =(8/173)
و «الفديد»: الصوت، يريد أنّهم عندي بمنزلة الجحاش التي تنهق عند ذلك الماء، فلا أعبأ بهم. وتخصيص الجحاش مبالغة في التحقير.
والبيت استشهد به شرّاح الألفية.
وأما ما روي عن اللاحقي في البيت الأوّل، فقد حكاه المازني، قال: أخبرني أبو يحيى اللاحقي، قال: سألني سيبويه عن فعل يتعدّى، فوضعت له هذا البيت.
وإذا حكى أبو يحيى مثل هذا عن نفسه، ورضي بأن يخبر أنّه قليل الأمانة، وأنّه ائتمن على الرواية الصحيحة، فخان، لم يكن مثله يقبل قوله، ويعترض به على ما قد أثبته سيبويه.
وهذا الرجل أحبّ أن يتجمّل بأنّ سيبويه سأله عن شيء، فخبّر عن نفسه بأنه فعل ما يبطل الجمال. ومن كانت هذه صفته بعد في النفوس أن يسأله سيبويه عن شيء.
وقال أبو نصر هارون بن موسى: وهذا (1) ضعيف في التأويل، وكيف يصلح أن ينسب اللاحقيّ إلى نفسه ما يضع منه ولا يحلّ، أو كيف يجوز هذا على سيبويه، وهو المشهور في دينه وعلمه وعقله، وأخذه عن الثقات الذين لا اختلاف في علمهم وصحّة نقلهم.
وإنّما أراد اللّاحقيّ بقوله: «فوضعت له هذا البيت»: فرويته. و «الحذر»:
مبالغة حاذر، من الحذر، وهو التحرّز. وجملة: «لا تخاف» بالبناء للمفعول صفة قوله أمورا.
وروى بدله: «لا تضير» بمعنى لا تضرّ، يقال: ضاره يضيره، وضرّه يضرّه بمعنى واحد، كما يقال ذامه يذيمه، وذمّه يذمّه بمعنى.
قال ابن السيد في «شرح أبيات الجمل»: معنى البيت يحتمل أمرين:
أحدهما: أنّه يصف إنسانا بالجهل وقلّة المعرفة، وأنه يضع الأمور في غير موضعها، فيأمن من لا ينبغي أن يؤمن، ويحذر من لا ينبغي أن يحذر.
والوجه الثاني، وهو الأشبه عندي: أن يكون أراد أنّ الإنسان جاهل بعواقب
__________
(1) في طبعة بولاق: = هذا = بغير الواو.(8/174)
الأمور، يدبّر فيخونه القياس والتدبير.
ونحوه قول أبي العتاهية: (الطويل)
وقد يهلك الإنسان من باب أمنه ... وينجو بإذن الله من حيث يحذر
وزعم قوم أنّ البيت لابن المقفّع، لا للّاحقي. انتهى.
وقال ابن هشام اللخميّ: الظاهر من البيت أنه ذمّ. ويحتمل أن يكون مدحا، يمدحه بكثرة الحذر، فيخرج هذا المعنى إنّي (1) لأعدّ للأمر عسى أن لا يكون أبدا.
وحذر وآمن بمعنى الاستقبال، لأنّ الحذر والأمن، إنّما يكونان فيما يأتي، وأمّا ما مضى فقد علم.
والهاء في «منجيه» عائدة على الضمير الذي في ليس. ومنجيه بمعنى المضارع لا الماضي، والدليل عليه وقوعه خبر ليس، والنفي إنّما يقع على الأخبار، وليس إنّما تنفي المضارع. انتهى كلامه.
وقال العيني: إنّ منجيه اسم فاعل مضاف إلى الهاء، والهاء في موضع نصب لأنّ اسم الفاعل إذا كان بمعنى الحال أو الاستقبال وأضيف كانت إضافته غير محضة، وكانت النيّة بها الانفصال. هذا كلامه.
و «اللاحقي» هو أبان بن عبد الحميد اللاحقي (2). هو من شعراء هارون الرشيد.
وهو شاعر مطبوع بصريّ، لكنّه مطعون في دينه.
قال صاحب الأغاني: هو أبان بن عبد الحميد بن لاحق بن عفير (3) مولى [بني] رقاش.
قال أبو عبيدة: بنو رقاش ثلاثة نفر ينسبون إلى أمّهم، [واسمها رقاش] وهم مالك، وزيد مناة، وعامر، بنو شيبان بن ذهل بن ثعلبة بن عكابة بن صعب بن عليّ ابن بكر بن وائل.
__________
(1) في النسخة الشنقيطية: = إلى =.
(2) انظر في ترجمته وأخباره الأغاني 23/ 155وطبقات الشعراء ص 240.
(3) كذا في الأغاني 23/ 155. لكنه ضبط = عفير = بفتح العين المهملة. والزيادات من الأغاني.(8/175)
أخبرني الصّولي (1)، قال: حدثني محمد بن سعيد، قال: حدّثنا يحيى بن إسماعيل (2) قال: جلس أبان بن عبد الحميد ليلة في قوم فثلب أبا عبيدة، فقال: يقدح في الأنساب ولا نسب له!
فبلغ ذلك أبا عبيدة، فقال [في مجلسه]: لقد أغفل السّلطان كلّ شيء، حتى أغفل (3) أخذ الجزية من أبان اللاحقي هو وأهله يهود، وهذه منازلهم فيها أسفار التوارة، وليس فيها مصحف، وأوضح الأدلّة على تهوّدهم (4) أنّ أكثرهم يدّعي حفظ التوارة ولا يحفظ من القرآن ما يصلّى به.
فبلغ ذلك أبانا، فقال (5): (الخفيف)
لا تنمّنّ عن صديق حديثا ... واستعذ من تشرّر النّمّام
واخفض الصّوت إن نطقت بليل ... والتفت بالنّهار قبل الكلام
وكان المعذّل بن غيلان صديقا لأبان (6)، وكانا مع صداقتهما يتعابثان (7) بالهجاء، ويهجوه المعذّل بالكفر وينسبه إلى الثّنوية (8)، ويهجوه أبان بالفساء الذي يهجى به عبد القيس، والقصر وكان المعذّل قصيرا ومن هجوه (9): (الطويل)
رأيت أبانا يوم فطر مصلّيا ... فقسّم فكري واستفزّني الطّرب
وكيف يصلّي مظلم القلب دينه ... على دين ماني إنّ هذا من العجب
وهجاه أبو نواس بقوله (10): (المجتث)
__________
(1) الأغاني 23/ 165.
(2) في الأغاني: = عيسى بن إسماعيل =.
(3) كذا في الأغاني أيضا. ولقد سهى محقق طبعة هارون عندما ذكر رواية أخرى للأغاني.
(4) في الأغاني 23/ 165: = وأوضح الدلالة على يهوديتهم =.
(5) البيتان لأبان اللاحقي في الأغاني 23/ 166.
(6) الأغاني 23/ 157.
(7) في طبعة بولاق: = يتعاقبان =. وفي النسخة الشنقيطية: = يتعاتبان =. ولقد أثبتنا رواية الأغاني فهي أفضل.
(8) في الأغاني: = وينسبه إلى الشؤم =.
(9) البيتان لأبان اللاحقي في الأغاني 23/ 157.
(10) الأبيات لأبي نواس في الأغاني 23/ 156.(8/176)
جالست يوما أبانا ... لا درّ درّ أبان
حتّى إذا ما صلاة ال ... أولى دنت لأوان (1)
فقام ثمّ بها ذو ... فصاحة وبيان
فكلّما قال قلنا ... إلى انقضاء الأذان
فقال كيف شهدتم ... بذا بغير عيان
لا أشهد الدّهر حتّى ... تعاين العينان
فقلت: سبحان ربّي ... فقال: سبحان ماني
وأخبرني الصّولي (2)، قال: حدثنا أبو العيناء، قال: حدثني الحرمازيّ، قال:
خرج أبان بن عبد الحميد اللاحقي من البصرة طالبا للاتّصال بالبرامكة، وكان الفضل ابن يحيى غائبا، فأقام ببابه لمّا قصده [مدة] مديدة لا يصل إليه، فتوسّل بمن أوصل له شعرا إليه.
وقيل إنّه توسّل إلى بعض بني هاشم، ممّن شخص مع الفضل، فقال له (3):
(الخفيف)
يا غزير النّدى ويا جوهر الجو ... هر من آل هاشم بالبطاح
إنّ ظنّي وليس يخلف ظنّي ... بان في حاجتي سبيل النّجاح (4)
إنّ من دونها لمصمت باب ... أنت من دون قفله مفتاحي
تاقت النّفس يا جليل السّماح ... نحو بحر النّدى مجاري الرّياح (5)
ثمّ فكّرت كيف لي واستخرت ال ... لّه عند الإمساء والإصباح
فامتدحت الأمير أصلحه اللّ ... هـ بشعر مشهّر الأوضاح
__________
(1) في طبعة بولاق والنسخة الشنقيطية: = لأذان =. وهو تصحيف صوابه من الأغاني 23/ 156والحيوان 4/ 449.
(2) الأغاني 23/ 160. والزيادات منه.
(3) الأبيات لأبان اللاحقي في الأغاني 23/ 160.
(4) في طبعة بولاق: = أن في =. وفي الأغاني: = بك في حاجتي =.
(5) كذا في الأغاني أيضا. وفي طبعة هارون حاشية تشير إلى أن رواية الأغاني هي: = يا خليل السماح =. ولعله سهو من المحقق أو هناك نسخة أخرى.(8/177)
فقال له: هات مديحك. فأعطاه شعرا في الفضل في هذا الوزن وقافيته (1):
(الخفيف)
أنا من بغية الأمير وكنز ... من كنوز الأمير ذو أرباح
كاتب حاسب خطيب أديب ... ناصح زائد على النّصّاح
شاعر مفلق أخفّ من الرّي ... شة فيما يكون تحت الجناح
وهي طويلة، ومنها (2):
إن دعاني الأمير عاين منّي ... شمّريّا كالبلبل الصّيّاح
قال: فدعا به، ووصله، ثم خصّ بالفضل، وقدّم معه، فقرب من قلب يحيى ابن خالد، وكان صاحب الجماعة وذا أمرهم (3).
أخبرني حبيب بن نصر المهلّبي: قال: حدّثنا علي بن محمد النّوفلي:
أنّ أبان بن عبد الحميد عاتب البرامكة على تركهم إيصاله إلى الرشيد وإيصال مدحه إليه، فقالوا له: وما تريد بذلك؟ فقال: أريد أن أحظى منه بمثل ما حظي به مروان بن أبي حفصة. فقالوا له: إنّ لمروان مذهبا في هجاء آل أبي طالب [وذمّهم] به يحظى، وعليه يعطى، فاسلكه حتّى نفعل! قال: لا أستحلّ ذلك. قالوا: [فما تصنع؟] لا تجيء أمور الدنيا (4) إلّا بفعل ما لا يحلّ.
فقال أبان (5): (الطويل)
نشدت بحقّ الله من كان مسلما ... أعمّ بما قد قلته العجم والعرب
أعمّ رسول الله أقرب زلفة ... لديه أم ابن العمّ في رتبة النّسب
وأيّهما أولى به وبعهده ... ومن ذا له حقّ التّراث بما وجب
فإن كان عبّاس أحقّ بتلكم ... وكان عليّ بعد ذاك على سبب
__________
(1) الأبيات لأبان اللاحقي في الأغاني 23/ 160.
(2) الشمري: الماضي المجرب.
(3) في الأغاني 23/ 161: = صاحب الجماعة وزمام أمرهم =.
(4) في الأغاني: = قالوا: فما تصنع؟ لا يجيء طلب الدنيا إلا بما لا يحل =.
(5) الأبيات لأبان في الأغاني 23/ 161. والزيادات منه.(8/178)
فأبناء عبّاس هم يرثونه ... كما العمّ لابن العمّ في الإرث قد حجب
وهي طويلة قد تركت ذكرها لما فيه [من] تنقيص (1). فقال [له] الفضل: ما يرد على أمير المؤمنين [اليوم] شيء أعجب إليه من أبياتك.
فركب فأنشدها الرشيد، فأمر لأبان بعشرين ألف درهم، ثم اتّصلت بعد ذلك خدمته للرشيد، وخصّ به. انتهى ما نقلته من الأغاني (2).
وأما «ابن المقفّع» فاسمه عبد الله، وهو كاتب بليغ، لكنّه زنديق.
قال السيد المرتضى قدّس سرّه في «أماليه»: قال جعفر بن سليمان: روي عن المهديّ، أنه قال: ما وجدت كتاب زندقة قطّ، إلّا أصله ابن المقفع.
وروى ابن شبّة، قال: حدثني من سمع ابن المقفّع، وقد مرّ ببيت نار المجوس بعد أن أسلم، فلمحه وتمثّل (3): (الكامل)
يا بيت عاتكة الذي أتعزّل ... حذر العدى وبه الفؤاد موكّل (4)
إنّي لأمنحك الصّدود وإنّني ... قسما إليك مع الصّدود لأميل (5)
وكان الخليل بن أحمد يحبّ أن يرى عبد الله بن المقفّع، وكان ابن المقفّع يحبّ (6)
ذلك، فجمعهما عبّاد بن عبّاد المهلبي، فتحادثا ثلاثة أيام ولياليهنّ، فقيل للخليل:
كيف رأيت عبد الله؟
قال: ما رأيت مثله، وعلمه أكثر من عقله، وقيل لابن المقفع: كيف رأيت الخليل؟ قال: ما رأيت مثله، وعقله أكثر من علمه.
__________
(1) زيادة يقتضيها السياق من طبعة هارون 8/ 176.
(2) الأغاني 23/ 161.
(3) البيتان للأحوص الأنصاري ص 166والأغاني 21/ 98وشرح أبيات المغني 6/ 247.
(4) البيت للأحوص في ديوانه ص 166والأغاني 21/ 98وأساس البلاغة (عزل) وتاج العروس (عزل) وديوان الأدب 2/ 459وسمط اللآلئ ص 259ولسان العرب (عزل).
(5) البيت للأحوص في ديوانه ص 166والأغاني 21/ 98والزهرة ص 181وسمط اللآلئ ص 259وشرح أبيات سيبويه 1/ 277وشرح أبيات المغني 6/ 247وشرح المفصل 1/ 116والكتاب 1/ 380. وهو بلا نسبة في أمالي المرتضى 1/ 135والمقتضب 3/ 223، 267والمقرب 1/ 256.
(6) كذا في طبعة بولاق وأمالي المرتضى 1/ 136. وفي النسخة الشنقيطية: = يجب أن يرى ذلك =.(8/179)
قال المغيرة: صدقا (1)، أدّى عقل الخليل إلى أن مات وهو أزهد الناس (2)، وجهل ابن المقفّع أدّاه إلى أن كتب أمانا عن المنصور لعبد الله بن عليّ، فقال فيه:
«ومتى غدر أمير المؤمنين بعمّه عبد الله فنساؤه طوالق، ودوابّه حبس، وعبيده أحرار، والمسلمون في حلّ من بيعته».
فاشتدّ على المنصور جدا، وخاصة أمر البيعة (3)، وكتب إلى سفيان بن معاوية المهلبي، وهو أمير البصرة من قبله، بقتله، فقتله.
وكان ابن المقفّع مع قلّة دينه جيّد الكلام فصيح العبارة له حكم وأمثال.
ثم أورد السيد المرتضى نتفا من حكمه وأمثاله.
قال الصغاني في «العباب»: عبد الله بن المقفّع كان فصيحا بليغا، وكان اسمه روزبة، وكان قبل إسلامه يكتنى بأبي عمر، فلمّا أسلم تسمى بعبد الله، وتكنّى بأبى محمد. والمقفّع اسمه المبارك، ولقّب بالمقفّع لأنّ الحجّاج بن يوسف ضربه ضربا فتقفّعت يده. ورجل مقفّع اليدين، أي: متشنّجهما. انتهى.
وقيل هو المقفّع بكسر الفاء لعمله القفعة، بفتح القاف وسكون الفاء. والقفعة:
شيء شبيه بالزنبيل (4) بلا عروة، وتعمل من خوص، ليست بالكبيرة. وقال الليث:
القفعة تتّخذ من خوص، مستديرة، يجتنى فيها الرّطب ونحوه.
* * * وأنشد بعده، وهو الشاهد السادس بعد الستمائة (5): (الوافر)
__________
(1) في أمالي المرتضى: = فصدقا =.
والمغيرة هذا، هو المغيرة بن محمد المهلبي كما جاء في أمالي المرتضى 1/ 135.
(2) في أمالي المرتضى: = إلى أن مات أزهد الناس =.
(3) في طبعة بولاق والنسخة الشنقيطية: = وخاص أمر البيعة =. وهو تصحيف صوابه من أمالي المرتضى.
(4) في لسان العرب (زبل): = الزّبيل والزنبيل: الجراب، وقيل الوعاء يحمل فيه وقيل: الزنبيل خطأ وإنما هو زبيل والزبيل: القفة، والجمع زبل =.
(5) البيت لعمرو بن معديكرب في ديوانه ص 140والأصمعيات ص 172والأغاني 15/ 225وسمط اللآلئ ص 40 والشعر والشعراء 1/ 379والكامل في اللغة 1/ 117ولسان العرب (سمع). وهو بلا نسبة في لسان العرب (أنق).(8/180)
606 - أمن ريحانة الدّاعي السّميع
يؤرّقني وأصحابي هجوع
على أنّ فعيلا قد جاء لمبالغة مفعل على رأي.
وهو رأي الجمهور، منهم ابن الأعرابي في «نوادره» أنشد لنغبة الغنوي:
(البسيط)
إنّي تودّكم نفسي وأمنحكم ... حبّي وربّ حبيب غير محبوب
حبيب في معنى محبّ، مثل أليم في معنى مؤلم، وسميع في معنى مسمع. وأنشد هذا البيت.
ومنهم أبو العباس المبرّد قال في «الكامل» (1): قيل خصيب وأنت تريد مخصب، وجديب وأنت تريد مجدب (2)، كقولك: عذاب أليم وأنت تريد مؤلم. ويقال:
رجل سميع، أي: مسمع، قال عمرو بن معديكرب:
* أمن ريحانة الدّاعي السّميع * البيت
ومنهم أبو إسحاق الزّجاج قال في «تفسيره» من البقرة، عند قوله تعالى (3):
{«وَلَهُمْ عَذََابٌ أَلِيمٌ»} معنى أليم: موجع يصل وجعه إلى قلوبهم. وتأويل أليم في اللغة مؤلم. قال الشاعر. وأنشد هذا البيت.
ومنهم البيضاويّ، في تفسير قوله تعالى (4): {«بَدِيعُ السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضِ»} قال:
أي مبدعهما.
ونظيره السّميع في قوله:
* أمن ريحانة الدّاعي السّميع *
ويقابل قول الجمهور قول صاحب «الكشاف» عند قوله: «بديع السّموات
__________
(1) الكامل في اللغة 1/ 117.
(2) كذا في طبعة بولاق والكامل في اللغة. وفي النسخة الشنقيطية: = مجدبا = بالنصب.
(3) سورة البقرة: 2/ 10.
(4) سورة البقرة: 2/ 117، وسورة الأنعام: 6/ 101.(8/181)
والأرض»: هو من إضافة الصفة المشبهة إلى فاعلها، أي: بديع سمواته وأرضه.
وقيل البديع بمعنى المبدع، كما أنّ السميع في قول عمرو:
* أمن ريحانة الدّاعي السّميع *
بمعنى المسمع. وفيه نظر. انتهى.
قال السعد في «حاشيته»: اعترض المصنّف بأنه لم يثبت فعيل بمعنى مفعل، ولا استشهاد في البيت، لأنّ داعي الشوق لمّا دعا القائل صار سميعا لدعوته، فتسبّب لكونه سميعا، فأوقع على الداعي اسم السميع لكونه سببا فيه. على أنّ الشاذّ لا يصحّ القياس عليه إن ثبت. انتهى.
وقال السّفاقسيّ في إعرابه بعدما نقل كلام السعد: قال ابن عطية: بديع مصروف من مبدع، كبصير من مبصر، ومثله سميع بمعنى مسمع في البيت.
وعلى هذا يكون من إضافة اسم الفاعل لمفعوله. إلّا أنّ الزمخشري ذكر هذا الوجه، وقال: إنّ فيه نظرا. ولم يبيّنه، فلعلّه يريد أنّ فعيلا بمعنى مفعل لا ينقاس، مع أنّ بيت عمرو محتمل للتأويل. انتهى.
وما تأوّله السّعد يدفعه البيت الذي بعده، وهو (1): (الوافر)
ينادي من براقش أو معين ... فأسمع واتلأبّ بنا مليع
فإنّ (2) فاعل ينادي، وأسمع، وهو فعل ماض: ضمير الداعي، فيكون الداعي مسمعا لا سامعا.
و «براقش ومعين» بفتح أولهما: بلدتان كانتا متقابلتين باليمن. كذا في «معجم ما استعجم».
و «اتلأبّ» بمعنى استقام. و «المليع»، بفتح الميم: الأرض الواسعة.
__________
(1) البيت لعمرو بن معديكرب في ديوانه ص 140والأصمعيات ص 172وتاج العروس (برقش، ملع، معن) والتنبيه والإيضاح 2/ 314وتهذيب اللغة 2/ 325ولسان العرب (عثر، برقش، ملع، معن) ومعجم البلدان (براقش).
(2) في النسخة الشنقيطية: = قال =. وهو تصحيف صوابه من طبعة بولاق.(8/182)
والبيتان أوّلا قصيدة لعمرو بن معديكرب الزّبيديّ الصحابي. قال جامع ديوانه أبو عبد الله بن الأعرابيّ: قالها عمرو في أخته، ريحانة بنت معديكرب (1)، وهي أمّ دريد بن الصّمة، وكان الصّمّة غزا بني زبيد فسباها، فغزا عمرو مرارا، فلم يقدر عليها.
وقوله: «أمن ريحانة» إلخ، الهمزة: للاستفهام، و «من»: للتعليل متعلق بقوله يؤرقني. و «ريحانة»: اسم أخت عمرو. و «الداعي»: مبتدأ بتقدير موصوف، والتقدير: الشوق (2) الداعي.
و «السّميع»: صفة الداعي وجملة «يؤرّقني»: خبر المبتدأ، وجملة:
«وأصحابي هجوع»: حال من الياء. و «هجوع»: جمع هاجع، أي: نائم، كقعود جمع قاعد.
ولصاحب الأغاني في ريحانة روايتان (3):
إحداهما أنّها أخته. قال: إنّ هذه القصيدة قالها عمرو في أخته ريحانة لمّا سباها الصّمّة بن بكر، وكان أغار على بني زبيد في قيس، فاستاق أموالهم وسبى ريحانة، وانهزمت زبيد بين يديه، وتبعه عمرو وأخوه عبد الله ابنا معديكرب، ثم رجع عبد الله واتّبعه عمرو.
فأخبرنا أبو خليفة عن محمد بن سلّام، أنّ عمرا اتّبعه يناشده أن يخلّي عنها، فلم يفعل، فلمّا يئس منه، ولّى، وهي تناديه بأعلى صوتها: يا عمرو! فلم يقدر على انتزاعها، وقال:
* أمن ريحانة الدّاعي السّميع *
وعلى هذه الرواية فالداعي فاعل الظرف، وهو بمعنى الذي يدعو وينادي، لا بمعنى الشوق الداعي، والسميع بمعنى المسمع. أو الداعي مبتدأ والظرف قبله خبره،
__________
(1) في ديوانه ص 140حاشية 1: «هامش الأصمعيات: ريحانة: امرأته المطلقة السميع: المسمع، وهو شاهد لمجيء صيغة (فعيل) لمبالغة (مفعل).
(2) في طبعة بولاق والنسخة الشنقيطية: = والتقدير والشوق =. بإقحام الواو الثانية. وهو تصحيف صوابه من طبعة هارون 8/ 181.
(3) الأغاني 15/ 226225.(8/183)
ومن عليهما للابتداء لا للتعليل، والجملتان في المصراع الثاني حالان متداخلتان.
والرواية الثانية: أنّ ريحانة امرأته المطلّقة، قال: أخبرني الحسين بن يحيى، قال:
[قال (1)] حمّاد: قرأت على أبي:
وأمّا قصة ريحانة فإنّ عمرو بن معديكرب تزوّج امرأة من مراد، وذهب مغيرا قبل أن يدخل بها، فلمّا قدم أخبر أنه قد ظهر بها وضح وهو داء تحذره العرب فطلّقها وتزوّجها رجل آخر من بني مازن بن ربيعة.
وبلغ ذلك عمرا وأنّ الذي قيل فيها باطل، فأخذ يشبّب بها، فقال قصيدته، وهي طويلة:
* أمن ريحانة الدّاعي السّميع *
انتهى.
فإعرابه على هذا هو الإعراب الأوّل. وهذه الرواية هي القريبة إلى الصواب، والقصيدة تدلّ عليها.
وقال الطّيبي (2): ريحانة امرأة، وقيل موضع.
وقد رجعت إلى كتب البلدان والأماكن فلم أجد هذا الاسم فيها.
وقال صاحب «الكشف» (3): علم حبيبة عمرو، وهي أخت دريد بن الصّمّة، تعلّق بها عمرو، وأغار عليها، ثم التمس من دريد أن يتزوّجها فأجاب.
وهذه الرواية لا أصل لها.
ثم نقل صاحب الكشف عن ابن قتيبة أنها أخت عمرو، وكانت تحت الصّمّة فولدت له دريد بن الصّمّة.
__________
(1) زيادة يقتضيها السياق من النسخة الشنقيطية والأغاني.
(2) الطيبي، هو الحسن بن محمد بن عبد الله الطيبي، أحد شراح الكشاف توفي سنة 743هـ (بغية الوعاة ص 228).
(3) هو عمرو بن عبد الرحمن الفارسي القزويني المتوفى سنة 745هـ. وهو صاحب: الكشف عن مشكلات الكشاف.(8/184)
واعترضه بأنّ دريدا قتل يوم هوازن وهو شيخ همّ (1) ينيف على المائة، لا ينتفع إلّا برأيه. وعمرو أسلم في زمن عمر، وهو على جلده. هذا كلامه.
والأوّل حقّ لا شبهة فيه، ولهذا صوّبنا أنها امرأته لا أخته. وأمّا عمرو فقد أسلم على يدي النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، وهو من الصحابة كما يشهد به كتب الصحابة.
(تتمة)
وأما فعيل بمعنى مفعل بالفتح، اسم مفعول ففيه خلاف أيضا. فأخذه من المزيد المتعدّي لم يرتضه الزمخشري.
وقال ابن مالك في «التسهيل»: وربّما استغني عن فاعل بمفعل أو مفعل.
قال ابن عقيل في «شرحه» قالوا: عمّ الرجل بمعروفه، ولمّ متاع البيت، فهو معمّ ومعمّ، وملمّ وملمّ. ولم يقل بهذا المعنى عامّ ولا لامّ، ولا نظير لهما، حكاه ابن سيده.
وقال ابن بريّ في «حاشية صحاح الجوهري»: قد جاء ذلك كثيرا نحو:
مسخن وسخين، ومقعد وقعيد، ومقنع وقنيع، ومحبّ وحبيب، ومطرد وطريد، ومقصى وقصيّ، ومهدى وهديّ، وموصى ووصيّ (2)، ومبرم وبريم، ومحكم وحكيم، ومبدع وبديع، ومفرد وفريد، ومسمع وسميع، ومونق وأنيق، ومؤلم وأليم، في أخوات له. انتهى.
وقصيدة عمرو بن معديكرب عدّتها اثنان وثلاثون بيتا، كلّها تغزّل بالنساء وحماسة.
وبعد البيتين الأوّلين (3):
__________
(1) همّ بالكسر: كذا في طبعة بولاق. وفي النسخة الشنقيطية: = هرم =. بمعناه.
(2) في طبعة بولاق: = ومقص وقصي، ومهد وهدي، وموص ووصي =. وهو تصحيف صوابه من النسخة الشنقيطية.
(3) ديوان عمرو بن معديكرب ص 142141والاختيارين ص 370363والأصمعيات 176172(8/185)
وربّ محرّش في جنب سلمى ... يعلّ بعينها عندي شفيع
كأنّ الإثمد الحاريّ منها ... يسفّ بحيث تبتدر الدّموع (1)
وأبكار لهوت بهنّ حينا ... نواعم في أسرّتها الرّدوع
أمشّي حولها وأطوف فيها ... وتعجبني المحاجر والفروع (2)
إذا يضحكن أو يبسمن يوما ... بدا برد ألحّ به الصّقيع
كأنّ على عوارضهنّ راحا ... يفضّ عليه رمّان ينيع (3)
تراها الدّهر مقترة كباء ... ومقدح صفحة فيها نقيع (4)
وصبغ ثيابها في زعفران ... بجدّتها كما احمرّ النّجيع
وقد عجبت أمامة أن رأتني ... تفرّع لمتي شيب فظيع (5)
وهذا آخر الغزل. ومن أبيات الحماسة (6):
أشاب الرأس أيّام طوال ... وهمّ ما تبلّغه الضّلوع (7)
وزحف كتيبة للقاء أخرى ... كأنّ زهاءها رأس صليع (8)
دنت واستأخر الأوغال عنها ... وخلّى بينهم إلّا الوريع
__________
وقوله: = بعد البيتين الأولين =. في الديوان هناك بيت ثالث بينهما وهو:
وقد جاوزن من غمدان دارا ... لأبوال البغال بها وقيع
(1) في النسخة الشنقيطية: = يبتدر =. ولقد أثبتنا رواية طبعة بولاق والأصمعيات وديوانه.
(2) في النسخة الشنقيطية: = ويعجبني =. ولقد أثبتنا رواية طبعة بولاق وديوانه.
(3) البيت لعمرو بن معديكرب في ديوانه ص 142وأساس البلاغة (ينع) والأصمعيات ص 173وتاج العروس (ينع) ولسان العرب (ينع). وهو بلا نسبة في المخصص 11/ 8.
(4) البيت لعمرو بن معديكرب في ديوانه ص 142والأصمعيات ص 173وتاج العروس (نقع) وكتاب الجيم 3/ 171. وهو بلا نسبة في تاج العروس (قتر) ولسان العرب (قتر).
(5) البيت لعمرو بن معديكرب في ديوانه ص 142والأصمعيات ص 174وتاج العروس (فظع).
(6) ديوانه ص 146144.
(7) في طبعة بولاق: = ما تبلعه = بالعين المهملة. وهو تصحيف صوابه من ديوانه والنسخة الشنقيطية.
(8) البيت لعمرو بن معديكرب الزبيدي في ديوانه ص 144وأساس البلاغة (صلع) والأصمعيات ص 175 وتاج العروس (صلع) وتهذيب اللغة 2/ 33ومقاييس اللغة 3/ 304. وهو بلا نسبة في جمهرة اللغة ص 887.(8/186)
فدى لهم معا أمّي وخالي ... وشرخ شبابهم إن لم يضيعوا
وإسناد الأسنّة نحو نحري ... وهزّ المشرفيّة والوقوع (1)
فإن تنب النّوائب آل عصم ... تجد حكماتهم فيها رفوع (2)
إذا لم تستطع شيئا فدعه ... وجاوزه إلى ما تستطيع (3)
وصله بالزّماع فكلّ شيء ... سمالك أو سموت له ولوع (4)
وكم من غائط من دون سلمى ... قليل الأنس ليس به كتيع
به السّرحان مفترشا يديه ... كأنّ بياض لبّته الصّديع (5)
وقوله: «وربّ محرّش» إلخ. «التحريش»: الإغراء بين القوم. و «يعلّ»:
من العلل مرّة بعد مرّة. و «الحاريّ»: نسبة إلى الحيرة. و «يسفّ»: يذرّ.
و «الأسرة»: جمع سرارة بالكسر، وهو الخطوط في الكفّ. و «الردوع»: جمع ردع، يقال: به ردع من زعفران أو دم، أي: لطخ وأثر. يريد أنّهنّ يصبغن ثيابهنّ بالزّعفران.
وقوله: «أمشّي حولها» هو جواب ربّ المقدرة في وأبكار. و «المحاجر»:
جمع محجر العين كمجلس، وهو ما يبدو من النّقاب. و «الفروع»: جمع فرع، وهو الشعر التام.
و «البرد»، بفتحتين: حبّ الغمام. و «الصّقيع»: الجليد. و «العارض»:
الناب، والضّرس الذي يليه.
__________
(1) كذا في ديوانه والاختيارين والأصمعيات وطبعة بولاق. وفي النسخة الشنقيطية مع أثر تصحيح بها:
= والرفوع =.
(2) كذا في ديوانه والاختيارين والأصمعيات وطبعة بولاق. وفي النسخة الشنقيطية: = فيها رقوع =.
(3) البيت لعمرو بن معديكرب في ديوانه ص 145والاختيارين ص 369والأصمعيات ص 175وتاج العروس (زمع، طوع، ودع).
(4) البيت لعمرو بن معديكرب في ديوانه ص 145والاختيارين ص 370والأصمعيات ص 175وتاج العروس (زمع).
(5) البيت لعمرو بن معديكرب في ديوانه ص 145والاختيارين ص 370والأصمعيات ص 176وتاج العروس (صدع) وجمهرة اللغة ص 512ولسان العرب (صدع). وهو بلا نسبة في تاج العروس (فرش) وتهذيب اللغة 11/ 345وكتاب الجيم 2/ 191وكتاب العين 1/ 292، 6/ 255ولسان العرب (فرش).(8/187)
و «الراح»: الخمر. و «ينيع»: يانع، أي: بالغ. و «مقترة»: اسم فاعل من القتار بضم القاف، وهو هنا الدّخنة. و «الكباء»، بالكسر والمد: العود.
و «المقدح»، بكسر الميم: المغرفة. والنّقيع يبرّد لها فتشربه.
و «النّجيع»: الدم. و «تفرّع»: علا. و «اللّمّة» بالكسر: شعر الرأس الذي يلمّ بالمنكب.
وقوله: «أشاب الرأس» إلخ. وتبلّغه، أي: تسعه.
و «زهاءها»، بالضم والمد، أي: مقدارها. و «الرأس الصليع»: الذي انحسر شعر مقدّمه.
و «الأوغال»: جمع وغل، وهو النّذل من الرجال. و «الوريع»، بالراء المهملة، وكذلك الورع بفتحتين، وهو الصغير الضعيف الذي لا غناء عنده.
والوقوع: المواقعة والقتال.
و «آل عصم» مفعول تنب، أي: [تصب (1)] من النائبة. و «الحكمات»، بالتحريك: جمع حكمة بفتحتين، وهي ما أحاط بالحنك من اللّجام. و «الرّفوع» بالضم: مصدر بمعنى الارتفاع (2).
وقوله: «إذا لم تستطع» إلخ. هذا من شواهد تلخيص المفتاح، فيه الإرصاد.
وقوله: «وصله»، أي: وصل الشيء الذي لم تستطعه. و «الزّماع»، بالفتح: العزم والتصميم. و «الولوع» بالفتح: مصدر ولعت بالشيء، إذا لزمته.
و «الغائط»: المطمئنّ من الأرض الواسع. و «كتيع»، أي: أحد، ملازم للنفي.
و «السّرحان»: الذئب. و «اللّبّة» بالفتح: موضع القلادة من الصّدر.
و «الصّديع» بالدال: الصّبح.
وما أثبتناه هو رواية ابن الأعرابي في «ديوان عمرو بن معديكرب».
__________
(1) زيادة يقتضيها السياق من النسخة الشنقيطية.
(2) في حاشية ديوان عمرو ص 145: = وهذا المصدر ليس في المعاجم. قلت: وآل عصم رهط عمرو =.(8/188)
وروى صاحب الأغاني الشعر على غير ما ذكرنا (1)، وتبعه الناس عليه، وهو:
أمن ريحانة الدّاعي السّميع ... يؤرّقني وأصحابي هجوع
سباها الصّمّة الجشميّ غصبا ... كأنّ بياض غرّتها صديع (2)
وحالت دونها فرسان قيس ... تكشّف عن سواعدها الدّروع
إذا لم تستطع شيئا فدعه ... البيت
وزاد الناس في هذا الشعر وغنّي فيه:
وكيف أحبّ من لا أستطيع ... ومن هو للذي أهوى منوع (3)
ومن قد لا مني فيه صديقي ... وأهلي ثمّ كلّا لا أطيع
ومن لو أظهر البغضاء نحوي ... أتاني قابض الموت السّريع
فدى لهم معا عمّي وخالي ... وشرخ شبابهم إن لم يطيعوا
هذا ما رواه، وليس في الديوان بعض هذه الأبيات (4)، والله أعلم.
وترجمة عمرو بن معديكرب تقدّمت في الشاهد الرابع والخمسين بعد المائة (5).
* * * وأنشد بعده، وهو الشاهد السابع بعد الستمائة، وهو من شواهد سيبويه (6):
(الرمل)
__________
(1) الأغاني 15/ 225.
(2) في طبعة بولاق: = غضبا =. وهو تصحيف صوابه من ديوانه والأغاني والنسخة الشنقيطية.
(3) البيت في ديوان عمرو بن معديكرب ص 148والأغاني 15/ 225وحاشية الاختيارين ص 364.
(4) هي في مجموعة ديوانه ص 148. لكن معظمها لم يرد في الأصمعيات وهي في حاشية الاختيارين ص 364.
(5) الخزانة الجزء الثاني ص 392.
(6) البيت لطرفة بن العبد البكري في ديوانه ص 55والدرر 5/ 274وشرح أبيات سيبويه 1/ 68وشرح التصريح 2/ 69وشرح عمدة الحافظ ص 682وشرح المفصل 6/ 74، 75والكتاب 1/ 113والمقاصد النحوية 3/ 548ونوادر أبي زيد ص 10. وهو بلا نسبة في أمالي ابن الحاجب ص 357وأوضح المسالك 3/ 227وشرح الأشموني 2/ 343وشرح ابن عقيل ص 426وهمع الهوامع 2/ 97.(8/189)
607 - ثمّ زادوا أنّهم في قومهم
غفر ذنبهم غير فخر
على أنّ مثنى المبالغة، ومجموعها يعمل، كما في البيت، فإنّ «ذنبهم» مفعول ل «غفر»، وهو جمع غفور، مبالغة غافر، و «فخر»، بضمتين أيضا: جمع فخور (1).
والبيت من قصيدة طويلة عدّتها أربعة وسبعون (2) بيتا لطرفة بن العبد، وهو شاعر جاهلي تقدّمت ترجمته في الشاهد الثاني والخمسين بعد المائة (3).
وقبله:
ولي الأصل الذي في مثله ... يصلح الآبر زرع المؤتبر (4)
طيّبو الباءة سهل ولهم ... سبل إن شئت في وحش وعر (5)
وهم ما هم إذا ما لبسوا ... نسج داود لبأس محتضر
وتساقى القوم كأسا مرّة ... وعلا الخيل دماء كالشّقر (6)
ثمّ زادوا أنّهم في قومهم ... البيت
قال الأعلم في «شرحه»: وقوله: «ولي الأصل» إلخ، يقول: لي الأصل الذي في مثله يتمّ المعروف والاصطناع.
__________
(1) في حاشية طبعة هارون 8/ 188: = ويروى أيضا: غير فجر. بالجيم كما في سيبويه، وهو جمع فجور، وكذلك الأنثى فجور بغير هاء، كما في اللسان =.
(2) في طبعة بولاق: = أربعة وستون بيتا =. والصواب كما في طبعة بولاق والديوان: = أربعة وسبعون بيتا =.
وهي في ديوان طرفة ص 5950.
(3) الخزانة الجزء الثاني ص 370.
(4) في طبعة بولاق: = ذرع المؤتبر =. وهو تصحيف صوابه من ديوانه والنسخة الشنقيطية.
البيت لطرفة بن العبد في ديوانه ص 54وتاج العروس (أبر) وتهذيب اللغة 15/ 261وديوان الأدب 4/ 233 وكتاب العين 8/ 291ولسان العرب (أبر) ومقاييس اللغة 1/ 35. وهو بلا نسبة في المخصص 11/ 109.
(5) البيت لطرفة بن العبد في ديوانه ص 54وتاج العروس (بوأ) وتهذيب اللغة 15/ 594وكتاب العين 8/ 411ولسان العرب (بوأ) ومقاييس اللغة 1/ 312.
(6) البيت لطرفة بن العبد في ديوانه ص 55وتاج العروس (شقر، سقى، على) وتهذيب اللغة 8/ 314 ولسان العرب (شقر، سقى، علا). وهو بلا نسبة في أساس البلاغة (شقر) وجمهرة اللغة ص 730.(8/190)
و «الآبر»: المصلح للشيء القائم عليه. «المؤتبر»: المستدعي إلى الإصلاح، وأكثر ما يستعمل الإبار في النخل، ثم هو عام في كلّ شيء. وضربه هنا مثلا لإتمام الصنيعة.
و «الباءة»: الساحة والفناء، أي: ساحتهم طيبة سهلة لمن أراد معروفهم، وهي وعرة خشنة لمن أرادهم بسوء. وهذا مثل. والوحش: المتوحش، وهو كناية عن خشونة الجانب وشدّته.
وقوله: «وهم ما هم» إلخ، هذا تفخيم وتعجّب، كأنه قال: أيّ رجال هم! وقوله: «نسج داود» يعني الدّروع. و «النّسج»: عملها وسردها وأوّل من عملها داود عليه السّلام، فلذلك تنسب إليه. و «البأس»: شدّة الأمر.
و «المحتضر»: المحضور المجتمع إليه.
يقول: إذا لبسوا الدّروع وتسلّحوا للقتال، فأيّ رجال هم! ويروى:
«محتضر» بالكسر، أي: حاضر.
وقوله: «تساقى القوم» إلخ، هذا مثل ضربه، أي: سقى بعضهم بعضا كأس الحتوف، أي: قتل بعضهم بعضا.
و «الكأس»: الإناء فيه الشراب، والشّراب في الإناء يقال له: كأس أيضا.
و «الشّقر»: شقائق النّعمان. وقال الأصمعي: هو شجر له ثمر أحمر.
وقوله: «ثم زادوا أنّهم» إلخ، لمّا وصفهم بالإقدام والجرأة والصّبر في الحرب، وغير ذلك من أفعال البرّ، بيّن أنّ لهم مزيدا على ذلك، وهو أخذهم بالعفو، والصّفح عن الذنب وترك الفخر بذلك، لأنّ الفخر إعجاب وخفّة. انتهى.
وقال اللخمي في «شرح أبيات الجمل»: قوله: «ثم زادوا أنّهم»، أراد:
بأنّهم، فحذف الباء.
وقوله: «في قومهم» في بمعنى عند، والظرف متعلق بزادوا، والتقدير: ثم زادوا عند قومهم بأنّهم غفر ذنبهم غير فخر. وغير فخر: خبر بعد خبر.
ويروى: «غير فجر» بالجيم، يعني أنّهم لا يكذبون. والفجور: الكذب.
والمشهور رواية الخاء، وهي أوجه. انتهى.(8/191)
وقال ابن خلف: يريد زادوا على الفضائل التي ذكرها فيهم أنّهم إذا جنى عليهم بعض قومهم، غفروا لهم ذنبهم مع قدرتهم على الانتصاف. وقد يكون زادهم بمعنى شرّفهم ورفعهم، فتكون أن على هذا فاعلة بزاد، أي: زادهم المجد شرفا ورفعة.
هذا كلامه.
وهو سبق قلم منه، فإنّ فاعل زاد هو الواو. وقوله: «والمراد زادوا على الفضائل» إلخ، هو تقدير ابن السيرافي في «شرح أبيات الكتاب».
قال ابن الحاجب في «أماليه على المفصّل»: للفتح في أنّ وجهان:
أحدهما: أن يكون في موضع المفعول، والآخر: أن يكون المعنى، ثم زادوا على ما تقدّم [من الخصال، أو على من تقدّم (1)]، ثم فتح أنّ على معنى اللام، لأنهم على صفة كذا وكذا.
وللكسر وجهان:
أحدهما: التعليل على ما ذكر في الوجه الثاني. والثاني: أن يكون على الحكاية [وهو ضعيف (2)] لأنه ليس موضع الحكاية. اه.
وبعد هذه الأبيات بقليل:
نحن في المشتاة ندعو الجفلى ... لا ترى الآدب فينا ينتقر (3)
حين قال النّاس في مجلسهم ... أقتار ذاك أم ريح قطر (4)
بجفان تعتري نادينا ... من سديف حين هاج الصّنبر (5)
__________
(1) زيادة يقتضيها السياق من النسخة الشنقيطية.
(2) زيادة يقتضيها السياق من النسخة الشنقيطية.
(3) البيت لطرفة بن العبد في ديوانه ص 55وأدب الكاتب ص 163وإصلاح المنطق ص 381وأساس البلاغة (شتو) ولسان العرب (أدب، نقر، جفل) والمراثي ص 153ونوادر أبي زيد ص 84. وهو بلا نسبة في جمهرة اللغة ص 795والمنصف 3/ 110.
(4) البيت لطرفة بن العبد في ديوانه ص 56وتاج العروس (قتر) وتهذيب اللغة 9/ 51ولسان العرب (قتر) ومجمل اللغة 4/ 174ومقاييس اللغة 5/ 55، 106.
(5) البيت لطرفة بن العبد في ديوانه ص 56وتاج العروس (صنبر) وتهذيب اللغة 12/ 271ولسان العرب (صنبر).(8/192)
قال الأعلم: قوله: «نحن في المشتاة» يريد في الشتاء والبرد، وذلك أشدّ الزمان. و «الجفلى»: أن يعمّ بدعوته إلى الطّعام، ولا يخصّ أحدا. و «الآدب»:
الذي يدعو إلى المأدبة، وهي كلّ طعام يدعى إليه. و «الانتقار»: أن يدعو النّقرى، وهو أن يخصّهم ولا يعمّهم.
يقول: لا يخصّون الأغنياء ومن يطعمون (1) في مكافأته، ولكنّهم يعمّون طلبا للحمد، ولاكتساب المجد. والقتار، بالضم: رائحة اللحم إذا شوي.
و «القطر»، بضمتين: العود الذي يتبخّر به. يقول: نحن نطعم في شدّة الزّمان إذا كان ريح القتار عند القوم بمنزلة رائحة العود، لما هم فيه من الجهد والحاجة إلى الطعام.
وقوله: «بجفان تعتري» إلخ، أي: ندعوهم إلى الجفان. ومعنى تعتري: تلمّ به وتأتيه.
و «النادي»: مجلس القوم ومتحدّثهم. و «السّديف»: قطع السّنام.
و «الصّنبر»: أشدّ ما يكون من البرد. اه.
قال صاحب الصحاح: صنابر الشّتاء: شدّة برده، وكذلك الصّنّبر، بتشديد النون وكسر الباء وأنشد البيت، ثم قال: والصّنّبر بتسكين الباء: يوم من أيام العجوز، ويحتمل أن يكونا بمعنى، وإنما حركت الباء للضرورة. انتهى.
وجزم ابن جنّي في «الخصائص» (2) بأنّ الباء ساكنة، وقال: كان حقّ هذا إذا نقلت الحركة أن تكون الباء مضمومة، لأنّ الراء مرفوعة لكنّه قدّر الإضافة إلى الفعل، يعني المصدر. كأنه قال: حين هيج الصّنبر، يعني أنه نقل الكسرة من الراء إلى الباء الساكنة، وسكنت الراء.
وهذا من الغرائب فإنّ الصّنبر فاعل بهاج، لكنه أعربه بالكسر نظرا إلى أنّ الفعل في معنى المصدر المضاف إلى هذا الفاعل ثم نقل الكسر.
__________
(1) في طبعة بولاق: = يطعمون = بتقديم العين على الميم، وهو تصحيف صوابه من النسخة الشنقيطية مع أثر تصحيح فيها.
(2) الخصائص 1/ 281ولسان العرب أيضا (صنبر). وقد تصرف البغدادي بالنص، كما تصرف قبله ابن منظور أيضا.(8/193)
قال الدماميني في الجملة المضاف إليها من «الحاشية الهندية على المغني»: وعلى ذلك يتنزّل اللّغز الذي نظمته قريبا، وهو: (الطويل)
أيا علماء الهند إنّي سائل ... فمنّوا بتحقيق به يظهر السّرّ
أرى فاعلا بالفعل أعرب لفظه ... بجرّ ولا حرف يكون به الجرّ
وليس بمحكيّ ولا بمجاور ... لدى الخفض والإنسان للبحث يضطّرّ
فهل من جواب عندكم نستفيده ... فمن بحركم ما زال يستخرج الدّرّ
قال الشّمنّي: سبقه إلى هذا اللغز أبو سعيد فرج بن قاسم المعروف بابن لبّ النحوي الأندلسي في «منظومته النونيّة في الألغاز النحوية» فقال:
ما فاعل بالفعل لكن جرّه ... مع السّكون فيه ثابتان
وفي شرحها: يعني الصّنبر، من قول طرفة. انتهى.
* * * وأنشد فيه، وهو الشاهد الثامن بعد الستمائة، وهو من شواهد سيبويه (1):
(الكامل)
608 - ممّن حملن به وهنّ عواقد
حبك النّطاق فشبّ غير مهبّل
__________
(1) هو الإنشاد العشرون بعد التسعمائة في شرح أبيات المغني للبغدادي.
والبيت لأبي كبير الهذلي في ديوان الهذليين 2/ 92وأساس البلاغة (هبل) والإنصاف 2/ 489وتاج العروس (هبل) والحماسة برواية الجواليقي ص 37وشرح أبيات المغني 8/ 82وشرح أشعار الهذليين 3/ 1072 وشرح الحماسة للأعلم 1/ 280وشرح الحماسة للتبريزي 1/ 42وشرح الحماسة للمرزوقي ص 85وشرح شواهد المغني 1/ 227، 2/ 963وشرح المفصل 6/ 74والشعر والشعراء 2/ 675والكتاب 1/ 109 ولسان العرب (هبل) والمقاصد النحوية 3/ 558. وهو بلا نسبة في رصف المباني ص 356وشرح الأشموني 2/ 343ومغني اللبيب 2/ 686.
وروايته في ديوان الهذليين وشرح أشعار الهذليين:
* حبك الثّياب فشبّ غير مثقّل *(8/194)
على أنّ «حبك النطاق»: مفعول ل «عواقد». وهو جمع عاقدة (1).
قال سيبويه: وممّا يجري مجرى فاعل من أسماء الفاعلين فواعل، أجروه مجرى فاعلة، حيث كان جمعه، وكسّروه عليه، كما فعلوا ذلك بفاعلين وفاعلات. فمن ذلك قولهم: «هنّ حواجّ بيت الله».
قال أبو كبير:
* ممن حملن به وهنّ عواقد * البيت
قال الأعلم: الشاهد في نصب «حبك النطاق» ب «عواقد» لأنّه جمع عاقدة، وعاقدة تعمل عمل الفعل المضارع لأنّها في معناه، فجرى جمعها في العمل مجراها. ونوّن عواقد للضرورة.
وصف رجلا شهم الفؤاد ماضيا في الرجال، فذكر أنه ممن حملت به النساء مكرهات، فغلب عليه شبه الآباء، وخرج مذكّرا.
وكانت العرب تفعل ذلك: يغضب الرجل منهم امرأته ويعجلها حلّ نطاقها ويقع عليها، فيغلب ماؤه على مائها فينزع الوليد إليه (2) في الشّبه.
و «حبك النطاق»: مشدّه، واحدها حباك، وهو من حبكت الشيء، إذا شددته وأحكمته. و «النطاق»: إزار تحتبك به المرأة في وسطها وترسل أعلاه على أسفله، تقيمه مقام السراويل.
و «المهبّل»: الثقيل، ويقال: هو الذي يدعى عليه بالهبل، فيقال: هبلته أمّه، أي: فقدته. انتهى.
والبيت من قصيدة لأبي كبير الهذليّ، عدّتها سبعة وأربعون بيتا أوردها السكري في «أشعار الهذليين» (3)، واقتصر منها أبو تمام على أبيات أوردها في «أوائل الحماسة» (4).
__________
(1) في النسخة الشنقيطية: = عاقد =. وإنما يقال = عاقد = للأنثى من الإبل التي تعقد بذنبها عند اللقاح.
(2) كذا في طبعة بولاق. وفي النسخة الشنقيطية: = الولد إليه =.
(3) في سبعة وأربعين بيتا في ديوان الهذليين 2/ 89وشرح أشعار الهذليين ص 1073.
(4) الحماسة برواية الجواليقي ص 37وشرح الحماسة للأعلم 1/ 280وشرح الحماسة للتبريزي 1/ 42.(8/195)
وكذلك اقتصر عليها ابن قتيبة في «كتاب الشعراء» (1)، فلنقتصر على ما أورده، وهو (2):
ولقد سريت على الظّلام بمغشم ... جلد من الفتيان غير مثقّل
ممّن حملن به وهنّ عواقد ... حبك النّطاق فشبّ غير مهبّل
حملت به في ليلة مزؤودة ... كرها وعقد نطاقها لم يحلل
فأتت به حوش الفؤاد مبطّنا ... سهدا إذا ما نام ليل الهوجل
ومبرّأ من كلّ غبّر حيضة ... وفساد مرضعة وداء مغيل
وإذا نبذت له الحصاة رأيته ... ينزو لوقعتها طمور الأخيل
وإذا يهبّ من المنام رأيته ... كرتوب كعب الساق ليس بزمّل
ما إن يمسّ الأرض إلّا منكب ... منه وحرف السّاق طيّ المحمل
وإذا رميت به الفجاج رأيته ... يهوي مخارمها هويّ الأجدل
وإذا نظرت إلى أسرّة وجهه ... برقت كبرق العارض المتهلّل
يحمي الصّحاب إذا تكون كريهة ... وإذا هم نزلوا فمأوى العيّل
قال التبريزي في «شرح الحماسة» (3): كان السبب في هذه الأبيات أنّ أبا كبير تزوّج أمّ تأبّط شرا، وكان غلاما صغيرا، فلما رآه يكثر الدخول على أمّه تنكّر له، وعرف ذلك أبو كبير في وجهه إلى أن ترعرع الغلام، فقال أبو كبير لأمّه: ويحك، قد والله رابني أمر هذا الغلام، ولا آمنه، فلا أقربك! قالت: فاحتل عليه حتّى تقتله.
فقال له ذات يوم: هل لك أن تغزو؟ فقال: ذلك من أمري. قال: فامض بنا.
فخرجا غازيين ولا زاد معهما، فسارا ليلتهما ويومهما من الغد، حتّى ظنّ أبو كبير أنّ الغلام قد جاع، فلما أمسى قصد به أبو كبير قوما كانوا له أعداء فلما رأيا
__________
(1) الشعر والشعراء 2/ 562.
(2) الأبيات لأبي كبير في ديوان الهذليين 2/ 89وشرح أشعار الهذليين 3/ 1072والحماسة برواية الجواليقي ص 37وشرح الحماسة للأعلم 1/ 280وشرح الحماسة للتبريزي 1/ 42والشعر والشعراء 2/ 562.
(3) شرح الحماسة للخطيب التبريزي 1/ 4645والزيادات منه.(8/196)
نارهم (1) من بعد، قال له أبو كبير: ويحك قد جعنا، فلو ذهبت إلى تلك النار فالتمست منها لنا شيئا! [قال: ويحك وأي وقت جوع هذا.
قال: أنا قد جعت فاطلب لي] فمضى تأبّط شرا فوجد على النار رجلين من ألصّ من يكون من العرب، وإنّما أرسله إليهما أبو كبير ليقتلاه (2)، فلمّا رأياه قد غشي نارهما وثبا عليه، فرمى أحدهما، وكرّ على الآخر فرماه، فقتلهما (3)، ثم جاء إلى نارهما فأخذ الخبز منها، فجاء به إلى أبي كبير، فقال: كل لا أشبع الله بطنك! ولم يأكل هو، فقال: ويحك أخبرني قصّتك. [قال وما سؤالك عن هذا، كل، ودع المسألة.
فدخلت أبا كبير منه خيفة، وأهمته نفسه، ثم سأله بالصحبة إلا حدثه كيف عمل] فأخبره، فازداد خوفا منه.
ثم مضيا في غزاتهما (4) فأصابا إبلا، وكان يقول له أبو كبير ثلاث ليال: اختر أيّ نصفي اللّيل شئت تحرس فيه، وأنام، وتنام النصف الآخر [وأحرس]. فقال:
ذلك إليك، اختر أيّهما شئت.
فكان أبو كبير ينام إلى نصف الليل ويحرسه تأبّط شرا، فإذا نام تأبّط شرا، نام أبو كبير أيضا، لا يحرس شيئا حتى استوفى الثلاث.
فلمّا كان في الليلة الرابعة ظنّ أنّ النّعاس قد غلب على الغلام، فنام أوّل الليل إلى نصفه وحرسه تأبط شرا، فلما نام الغلام، قال أبو كبير: الآن يستثقل نوما وتمكنني فيه الفرصة.
فلمّا ظنّ أنه قد استثقل (5) أخذ حصاة، فحذف بها، فقام الغلام كأنه كعب،
__________
(1) كذا في طبعة بولاق. وفي النسخة الشنقيطية: = فلما رآهم =. وفي شرح الحماسة للتبريزي: = فلما رأى نارهم =.
(2) في شرح الحماسة للتبريزي: = وإنما أرسله إليهما أبو كبير على معرفة =.
(3) في شرح الحماسة للتبريزي: = وثبا عليه، وأتبعاه، فلما كان أحدهما أقرب إليه من الآخر، عطف عليه فرماه، فقتله، ورجع إلى الآخر فرماه فقتله =.
(4) في طبعة بولاق والنسخة الشنقيطية: = في ليلتهما =. ونظنه تصحيفا ولقد أثبتنا رواية شرح الحماسة للتبريزي.
(5) استثقل بالبناء للمفعول والمستثقل هو الذي أثقله النوم.(8/197)
فقال: ما هذه الوجبة (1)؟ قال: لا أدري. قال: والله صوت سمعته في عرض الإبل.
فقام فعسّ وطاف فلم ير شيئا، فعاد فنام، فلما ظنّ أنه استثقل أخذ حصيّة صغيرة فحذف بها، فقام كقيامه الأوّل، فقال: ما هذا الذي أسمع؟ قال: والله ما أدري، [قد سمعت كما سمعت وما أدري ما هو و] لعلّ بعض الإبل تحرّك. فقام وطاف [وعسّ] فلم ير شيئا، فعاد فنام، فأخذ حصيّة (2) أصغر من تلك فرمى بها فوثب [كما وثب أولا]، فطاف [وعسّ فلم ير شيئا] ورجع إليه، فقال: يا هذا، إنّي قد أنكرت أمرك، والله لئن عدت أسمع شيئا من هذا لأقتلنّك!
قال أبو كبير: فبتّ والله أحرسه خوفا أن يتحرّك شيء من الإبل، فيقتلني.
[قال]: فلمّا رجعا إلى حيّهما، قال أبو كبير: إنّ أمّ هذا الغلام [لامرأة]، لا أقربها أبدا. وقال هذه الأبيات. انتهى.
وزعم بعض الرواة أنّ هذه القصيدة لتأبّط شرا قالها في ابن الزّرقاء.
قال ابن قتيبة في «كتاب الشعراء» (3): وبعض الرّواة ينحل هذا الشعر تأبّط شرا، ويذكر أنّه كان يتبع امرأة من فهم، وكان ابن لها من هذيل، وكان يدخل عليها تأبّط (4)، فلمّا قارب الغلام الحلم، قال لأمّه: من هذا الرجل الداخل عليك؟
قالت: صاحب كان لأبيك. قال: فلا أرينّه عندك (5)!
فلمّا رجع تأبّط أخبرته، وقالت: هذا الغلام مفرّق بيني وبينك فاقتله! قال:
سأفعل ذلك.
فمرّ به وهو يلعب مع الصّبيان، فقال له: هلمّ أهب لك نبلا. فمضى معه، فتذمّم من قتله، ووهب له نبلا، فلمّا رجع تأبّط إلى أمّ الغلام أخبرها، فقالت: إنّه والله شيطان من الشياطين والله ما رأيته مستثقلا نوما قطّ، ولا ممتلئا ضحكا قطّ، ولا همّ بشيء [منذ كان صغيرا] إلّا فعله.
__________
(1) الوجبة: السقطة مع الهدة، أو صوت ما يسقط.
(2) في طبعة بولاق: = حصاة =. ولقد أثبتنا رواية النسخة الشنقيطية وشرح الحماسة للتبريزي.
(3) الشعر والشعراء 2/ 562.
(4) في الشعر والشعراء: = عليها رجلا =.
(5) في الشعر والشعراء: = والله لئن رأيته عندك لأقتلنك =.(8/198)
ولقد حملته فما رأيت عليه دما، حتّى وضعته. ولقد وقع عليّ أبوه في ليلة هرب، وإنّي لمتوسّدة سرجا، وإنّ نطاقي لمشدود، وإنّ على أبيه لدرعا، فاقتله فأنت والله أحبّ إليّ منه.
قال: سأغزو به [فأقتله]. فمرّ، فقال [له]: هل لك في الغزو؟ قال: إذا شئت (1). فخرج به غازيا، فلم يجد منه غرّة، حتّى مرّ في بعض الليالي بنارلابني قترة الفزاريّين، وكانا في نجعة، فلمّا رأى تأبّط (2) النار عرفها وعرف أهلها، فأكبّ على رجله ينادي: نهشت نهشت! أبغني نارا! فخرج الغلام يهوي نحو النار، فصادف عندها الرّجلين (3)، فواثباه، فقتلهما، وأخذ جذوة من النار، واطّرد إبل القوم، وأقبل نحو تأبّط، فلما رأى تأبّط النار تهوي نحوه، ظنّ أنّ الغلام قتل، وأنّه دلّ عليه، فمرّ يسعى.
قال: فما كان إلّا أن أدركني ومعه [جذوة من] النار يطّرد إبل القوم، فلمّا وصل إليّ قال: ويلك لقد أتعبتني! ثم رمى بالرأسين، فقلت: ما هذا؟ قال:
كلبان هارّاني على النار فقتلتهما!
[قال: قلت: إني والله ظننت أنك قد قتلت، قال: بل قتلت الرجلين، عاديت بينهما] فقلت: الهرب الآن، فإنّ الطلب من ورائنا. فأخذت به على غير الطريق، فما سرنا إلّا قليلا حتّى قال: أخطأت والله الطريق، وما تستقيم الريح فيه، فما لبث أن استقبل الطريق، وما كان والله سلكها قطّ.
قال: فسرت به ثلاثا حتّى نظرت إلى عينيه كأنهما خيطان ممدودان، وأدرك الليل، فقلت: أنخ فقد أمنّا (4). فأنخنا، فنام في طرف منها، ونمت في الطّرف الآخر، فما زلت أرمقه حتّى ظننت أنه قد نام، فقمت أريده، فإذا هو قد استوى، وقال: ما شأنك؟ فقلت: سمعت حسّا في الإبل.
فطاف معي بها، فلم ير شيئا، فقال: أتخاف شيئا؟ قلت: لا. قال: فنم ولا
__________
(1) في الشعر والشعراء: = فقال: نعم =.
(2) كذا في طبعة بولاق والشعر والشعراء. وفي النسخة الشنقيطية: = تأبط شرا =.
وفي الشعر والشعراء: = عرف أهلها، فأكب =.
(3) في النسخة الشنقيطية: = عندها رجلين =. وصوابه من طبعة بولاق والنسخة الشنقيطية.
(4) في الشعر والشعراء: = فقلت له: انزل، فقد أمنت =.(8/199)
تعد، فإنّي قد ارتبت بك. فنمت وأمهلته، حتّى لم أشكّ في نومه، فقذفت له بحصاة نحو رأسه فإذا هو قد وثب، وتناومت فأقبل نحوي، حتّى ركضني برجله، وقال: أنائم أنت؟ قلت: نعم. قال: أسمعت ما سمعت؟ قلت: لا.
فطاف في الإبل وطفت معه فلم نر شيئا، فأقبل عليّ تتوقّد عيناه، قال: قد أرى ما تصنع منذ الليلة، والله لئن أنبهني شيء لأقتلنّك! قال: فلبئت والله أكلؤه مخافة أن ينبّهه شيء فيقتلني. فلما أصبح قلت: ألا تنحر جزورا؟ قال: بلى. قال:
فنحرنا ناقة، فأكل. ثم احتلب أخرى، فشرب، ثم خرج يريد المذهب (1) وكان إذا أراد ذلك أبعد وأبطأ عليّ، فاتّبعته فإذا أنا به مضطجعا على مذهبه، وإذا يده داخلة في جحر أفعى فانتزعها، فإذا هو قابض على رأس أفعى، وقد قتلها وقتلته. فذلك قولي:
ولقد غدوت على الظّلام بمغشم ... جلد من الفتيان غير مثقّل
انتهى ما أورده ابن قتيبة (2).
والمشهور: «ولقد سريت على الظلام»، أي: في الظلام. و «المغشم»، بالكسر: الغشوم، من الغشم، وهو الظلم. و «الجلد» بالفتح، وهو من له الجلادة، وهي قوّة القلب.
وقوله: «غير مثقّل» قال التبريزي: أي كان حسن القبول محبّبا إلى القلوب.
وقوله: «ممّن حملن به» النون ضمير النساء ولم يجر لهنّ ذكر، ولمّا كان المراد مفهوما جاز إضمارها. وقال: «به» فردّ الضمير على لفظ من، ولو ردّ على المعنى، لقال بهم (3).
وروى السكري وغيره: «ممّا حملن به» قال التبريزي، تبعا لشارح الهذليّين:
أي هو من الحمل الذي حملن به.
قال ابن الشجري في «أماليه» (4): عدّى حمل في البيت بالباء وحقّه أن يصل إلى
__________
(1) في اللسان (ذهب): = الكسائي: يقال لموضع الغائط: الخلاء، والمذهب، والمرفق، والمرحاض =.
(2) الشعر والشعراء 2/ 565بخلاف يسير في الرواية.
(3) بعده في شرح أبيات المغني: = وعدى حمل الباء، وهو متعد بنفسه، لأنه ضمنه معنى حبلت =.
(4) أمالي ابن الشجري 1/ 148وذكر البيت الثاني الذي يلي الشاهد المذكور آنفا.(8/200)
المفعول بنفسه، كما جاء في التنزيل (1): {«حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً»} ولكنه عدّى بالباء، لأنّه في معنى حبلت.
وأورده ابن هشام في «المغني» وقال: ضمّن حمل في الموضعين معنى علق، ولولا ذلك لعدّي بنفسه.
وقوله (2): «وهنّ عواقد حبك» إلخ، بتنوين عواقد. واستشهد به ابن الأنباري على أنّ الأصل في الأسماء عند البصريين الصرف، وإنّما يمنع بعضها من الصّرف لأسباب عارضة، فإذا اضطرّ الشاعر ردّها إلى الأصل ولم يعتبر تلك الأسباب العارضة، كما صرف عواقد في البيت، وهو جمع عاقدة، وأعمله في حبك حكاية للحال، وإن كان ذلك فيما مضى، كقوله تعالى (3): {«وَكَلْبُهُمْ بََاسِطٌ ذِرََاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ»}.
وحبك بضمتين. قال ابن قتيبة في «أبيات المعاني»، وأورد فيها بعض هذه الأبيات: هو جمع حباك، والحباك بالكسر: ما يشدّ به النّطاق مثل التّكّة.
و «النّطاق»: شقّة تلبسها المرأة، وتشدّ وسطها، ثم ترسل الأعلى على الأسفل إلى الرّكبة، والأسفل ينجرّ على الأرض، ليس له حجزة ولا نيفق ولا ساقان والجمع نطق. و «الحجزة» بالضم: موضع التّكّة. والنّيفق: الموضع المتّسع من السّراويل، والعامة تكسر النون.
وقال ابن خلف: قال أبو جعفر: وسألت عن هذا البيت عليّ بن سليمان، فقال: حملن به من الحبل، أي: إنّهنّ حملن به، وهن يخدمن.
وكانت العرب تستحبّ أن تطأ النساء وهنّ متعبات أو فزعات، ليغلب ماء الرجل فيخرج الولد مذكّرا.
فوصف أنّها حبلت به، وهي عاقدة حبك النّطاق. والحبك: الطرائق، وقيل:
الحبك: الإزار الذي تأتزر به المرأة، وقيل الحبكة: حجزة الإزار. والنّطاق:
المنطقة. انتهى.
__________
(1) سورة الأحقاف: 46/ 15.
(2) شرح أبيات المغني للبغدادي 8/ 84.
(3) سورة الكهف: 18/ 18.(8/201)
وقال ابن المستوفي: الحبك من قولهم: حبك الثوب يحبكه بالكسر حبكا، إذا أجاد نسجه، كأنه جمع المصدر على حباك، وجمع حباكا حبكا. وقيل الحبك: جمع الحبيك والحبيكة، وهو ما تكسّر من ثوب وماء. وقيل جمع الحباك، وهو الإزار.
والأوّل بعيد، لأنّ الحبيكة جمعها حبائك، وإذا صحّ إن الحباك الإزار فهو جمعه، مثل كتاب وكتب. انتهى. وما نقله هو كلام التبريزي.
وروى السّكّري: «حبك الثّياب». وقال شارحه القاري (1): حبك الإزار:
طرائقه. وحبكة الإزار: استدارته وشدّه.
والنّطاق: الإزار يعني حملت به وعليها منطقها، وأراد أنها متحزّمة. يقول: لم تمكن من نفسها. انتهى.
وقال التبريزي، وتبعه العيني: الرواية: «حبك الثّياب» لأنّ النطاق لا يكون له حبك، وهو الطرائق. هذا كلامه.
والمهبّل، قال القاري: المثقل باللّحم، يقال هبّله اللحم: كثر عليه وغلظ.
وكذلك قال أبو جعفر: المهبّل: الكثير اللحم، يقال: هبّلت المرأة وعبّلت.
وفي حديث الإفك حرف ربما صحّفه أصحاب الحديث، وهو: «والنّساء إذ ذاك لم يهبّلن»، أي: لم يحملن الشحم. وقيل المهبّل: الذي يدعى عليه بقولهم:
هبلته أمّه، كما يقال لمن يسترذل، أي: ثكلته.
وقول العيني: أو (2) هو الذي حملت به أمّه، وهي مكرهة، فاسد. فتأمّل.
وقال التبريزي: ذكر بعضهم أنّ المهبّل: المعتوه الذي لا يتماسك. فإن صحّ ذلك فكأنّه من الإسراع، يقال: جمل هبل. ومعنى البيت: إنّه من الفتيان الذين حملتهم أمّهم، وهنّ غير مستعدّات للفراش، فنشأ محمودا مرضيّا لم يدع عليه بالهبل والثّكل.
وحكي عن بعضهم: إذا أردت أن تنجب المرأة، فأغضبها عند الجماع. ولذلك يقال في ولد المذعورة: إنّه لا يطاق.
__________
(1) القاري هذا، هو راوية أشعار الهذليين، وقد رواه عن السكري ولقد سبق لنا أن ترجمنا له.
في طبعة بولاق والنسخة الشنقيطية: = الفارسي =. وهو تصحيف صوبناه.
(2) في طبعة بولاق: = أي =. وهو تصحيف صوابه من النسخة الشنقيطية والمقاصد النحوية 3/ 559.(8/202)
قال (1): (الطويل)
تسنّمتها غضبى فجاء مسهّدا ... وأنفع أولاد الرّجال المسهّد
وقال المبرد في «الكامل» (2): يقال: أنجب الأولاد ولد الفارك، وذلك لأنّها تبغض زوجها، فيسبقها بمائه، فيخرج الشّبه إليه، فيخرج الولد ذكرا.
وقال بعض الحكماء: إذا أردت أن تنجب المرأة فأغضبها، ثم قع عليها، فإنّك تسبقها بالماء. وكذلك ولد الفزعة، كما قال أبو كبير. وأنشد البيتين.
وقوله: «حملت به في ليلة مزؤودة» هي مفعولة من زأدته أزأده زأدا، أي:
أفزعته وزئد فهو مزؤود، أي: مذعور، وهو بالزاي والهمزة والدال.
قال المبرد في «الكامل» (3): مزؤودة ذات زؤد وهو الفزع. فمن نصب مزؤودة، فإنّما أراد المرأة، ومن خفض أراد الليلة. وجعل الليلة ذات فزع، لأنه يفزع فيها قال الله تعالى (4): {«بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهََارِ»}، والمعنى بل مكركم في الليل والنهار.
وقال جرير (5): (الطويل)
* ونمت وما ليل المطيّ بنائم *
وقال آخر (6): (الرجز)
__________
(1) البيت بلا نسبة في شرح أبيات المغني 8/ 84وشرح الحماسة للتبريزي 1/ 42وشرح الحماسة للمرزوقي ص 86والكامل في اللغة 1/ 77.
(2) الكامل في اللغة 1/ 79.
(3) الكامل في اللغة 1/ 79وشرح أبيات المغني 8/ 84.
(4) سورة سبأ: 34/ 33.
(5) عجز بيت لجرير وصدره:
* لقد لمتنا يا أمّ غيلان في السرى *
والبيت لجرير في ديوانه ص 993والكتاب 1/ 160والكامل في اللغة 1/ 79ولسان العرب (ربح). وهو بلا نسبة في الأشباه والنظائر 8/ 60والإنصاف 1/ 243وتخليص الشواهد ص 439والصاحبي في فقه اللغة ص 222والمحتسب 2/ 184والمقتضب 3/ 105، 4/ 331.
(6) الرجز لرؤبة في ديوانه ص 142والمحتسب 2/ 184. وهو بلا نسبة في الكامل في اللغة 1/ 79والمقتضب 3/ 105.(8/203)
* فنام ليلي وتجلّى همّي *
وقال ابن جنّي في «إعراب الحماسة» بعد ما قال مثل كلام المبرد: هذا ونحوه إنّما يتسع فيه بأن يسند الفعل إلى الوقت الذي وقع فيه، ومجيئه مجيء الفاعل.
ألا ترى إلى قوله: «فنام ليلي»، وإلى نفيه، وهو قوله: «وما ليل المطيّ بنائم». وبيت أبي كبير إنّما جعل الوقت الذي هو الليل بلفظ اسم المفعول، وهو قوله: مزؤودة.
فأكثر ما يقولون إذا اتّسعوا في نحو هذا: يوم ضارب، أي: كثر فيه الضرب، ولا يقولون يوم مضروب. غير أنّ مزؤودة إنّما جاز لأنّهم قد ينصبون الظرف نصب المفعول به، نحو قوله (1): (الطويل)
* ويوم شهدناه سليما وعامرا *
فلمّا كانوا يأخذونه في هذا الشقّ (2) جاؤوا به أيضا مسندا إليه الفعل إسناده إلى ما لم يسمّ فاعله. تقول: ربّ يوم مقوم، وربّ ساعة مضروبة، على قولك: قمت يوما، وضربت ساعة، وأنت تنصب اليوم والساعة نصب المفعول به.
فكذلك قوله في ليلة مزؤودة على حدّ قولك: زئدت الليلة، وعلى قولك قبل إسناد الفعل إليها هذه ليلة زئدها زيد، كقولك: هذه جبّة كسيها عمرو، ثم تقول:
__________
(1) صدر بيت لرجل من بني عامر وعجزه:
* قليل سوى الطّعن النّهال نوافله *
وهو الإنشاد الثالث والأربعون بعد السبعمائة في شرح أبيات المغني للبغدادي.
والشعر لرجل من بني عامر في الدرر 3/ 96وشرح أبيات المغني للبغدادي 7/ 84وشرح المفصل 2/ 46. وهو بلا نسبة في الأشباه والنظائر 1/ 38وشرح أبيات المغني للبغدادي 7/ 84وشرح ديوان الحماسة للمرزوقي ص 88ولسان العرب (جزي) ومغني اللبيب 2/ 503والمقتضب 3/ 105والمقرب 1/ 147وهمع الهوامع 1/ 203.
(2) إعراب الحماسة الورقة 24: = في هذا الشق وهذا الغور =.
وفي شرح أبيات المغني 8/ 85: = فلما كانوا قد يأخذونه في هذا الشق =. والنص في شرح أبيات المغني مأخوذ عن إعراب الحماسة أيضا.(8/204)
هذه ليلة مزؤودة، كقولك: جبة مكسوّة. هذا على رواية الجرّ.
وأمّا من نصب فعلى الحال، ومزؤودة للمرأة الحامل. وفائدة ذكر الليلة في هذه الرواية أن تكون بدأت بحمله ليلا، وهو أنجب له، وصاحبه يوصف بالشّجاعة. وقد دعاهم ذلك إلى أن وصلوا أنسابهم بالليل تحقّقا به. قال (1): (الرجز)
أنا ابن عمّ اللّيل وابن خاله ... إذا دجا دخلت في سرباله
* لست كمن يفرق من خياله *
انتهى.
وبه يدفع قول ابن هشام في «المغني»: مزؤودة مذعورة، ويروى بالجرّ صفة لليلة، وبالنصب حالا من المرأة، وليس بقويّ مع أنه الحقيقة، لأنّ ذكر الليل حينئذ لا كبير فائدة فيه. انتهى.
وقال ابن قتيبة في «أبيات المعاني»: مزؤودة: فيها زؤد وذعر، كذلك قال الأصمعي. ويرويه بعضهم بالنصب، ويجعله حالا من المرأة. ويقال: إنّ المرأة إذا حملت، وهي مذعورة، فأذكرت جاءت به لا يطاق. انتهى.
ومثله قول ابن جني: الغرض من ذكر الزّؤد في الروايتين جميعا أنّ المرأة إذا حملت بولدها، وهي مذعورة، كان أنجب له.
ألا ترى إلى قوله:
* فأتت به حوش الجنان مبطّنا * البيت
وقال التبريزي (2): ويجوز أن يكون جرّ مزؤودة على الجوار، وهو في الحقيقة للمرأة، كما قيل: [هذا] جحر ضبّ خرب.
وهذا لميلهم إلى الحمل على الأقرب، ولأمنهم الالتباس. [ومزؤودة بالنصب على الحال من المرأة]، ومزؤودة بالرفع صفة أقيمت مقام الموصوفة. وانتصب كرها على أنّه مصدر في موضع الحال، أي: كارهة.
__________
(1) الرجز للعنبري في المخصص 13/ 201. وبلا نسبة في شرح أبيات المغني للبغدادي 8/ 85.
(2) شرح الحماسة للخطيب التبريزي 1/ 43. والزيادات منه.(8/205)
وكذلك جملة: «وعقد نطاقها لم يحلل» [ابتداء وخبر والواو للحال وأظهر التضعيف في قوله: «لم يحلل» وهو لغة تميم ووجه الكلام لم يحلل]. و «النّطاق»:
ما تنتطق به المرأة تشدّ وسطها للعمل (1). والمنطقة أخذت من هذا. والمعنى أنها أكرهت ولم يحلّ نطاقها.
وقوله: «فأتت به حوش الفؤاد» إلخ، «حوش الفؤاد»: حال من الضمير في به، والإضافة لم تفد شيئا من التعريف.
وبه استشهد ابن هشام في «شرح الألفية» عليه. و [أيضا (2)] استشهد به صاحب الكشاف في سورة المزّمّل، لشيء آخر (3). وكذلك مبطّنا، وسهدا حالان منه.
قال ابن السيد في «شرح الكامل»: حوش الفؤاد، أي: مجتمع الذّهن، جيّد الفهم.
وقال القاري وابن قتيبة: يعني وحشيّ الفؤاد.
وقال التبريزي (4): حوش الفؤاد وحوشيّ الفؤاد: وحشيّه، لحدّته وتوقّده.
ورجل حوشيّ: لا يخالط الناس. وليل حوشيّ: مظلم هائل، كما يقال ليل سخّام وسخاميّ للأسود. وكذلك إبل حوش وحوشيّة، أي: وحشيّة. وقيل: الحوشية بلاد الجنّ.
وفي «الأساس» (5): رجل حوش الفؤاد: ذكيّ كيّس، وأصله من الإبل الحوشية، وهي التي يزعمون أنّ فحول نعم الجنّ قد ضربت فيها. ومبطّنا: ضامر البطن.
و «السّهد» بضمتين: قليل النوم. و «إذا»: ظرف لسهدا. قال التبريزي (6):
__________
(1) بعده في شرح الحماسة للتبريزي: = وذات النطاقين أسماء بنت أبي بكر =.
(2) زيادة يقتضيها السياق من النسخة الشنقيطية.
(3) في حاشية طبعة هارون 8/ 204: = أتى به شاهدا في الآية الأولى من المزمل، على إيقاظ الرسول صلى الله عليه وسلم ليتلقى الأمر الخطير بالقيام بالليل، وترتيل القرآن =.
(4) شرح الحماسة للتبريزي 1/ 44.
(5) أساس البلاغة (حوش).
(6) شرح الحماسة للخطيب التبريزي 1/ 44.(8/206)
قوله: «نام ليل الهوجل»، جعل الفعل للّيل لوقوعه فيه، أي: نام الهوجل في ليله.
و «الهوجل»: الثّقيل الكسلان، وقيل: الأحمق لا مسكة به. وبه سمّيت الفلاة التي لا أعلام بها، ولا يهتدى فيها: الهوجل. أي: أتت الأمّ بهذا الولد ذكيّا حديد الفؤاد، يسهر إذا نام الهوجل.
قال العيني: «ما»: زائدة، وبحتمل أن تكون مصدرية، أي: حين نوم ليل الهوجل. انتهى.
والصواب الأوّل، لأنّ إذا لا تضاف إلى مفرد.
وقوله: «ومبرّأ من كلّ» إلخ، هو معطوف على حوش الفؤاد، وقد وقع في الحماسة قبل البيتين قبله (1).
وقال التبريزي (2): ويروى بالنصب والجر، فالنصب عطف على غير مهبّل، كأنه قال: شبّ في هاتين الحالتين. وإذا جررته كان عطفا على قوله: «جلد من الفتيان».
و «غبّر الحيض»، بضم المعجمة وتشديد الموحدة المفتوحة: بقاياه، وكذلك غبره بسكون الموحدة، وكذلك غبر اللبن: باقيه في الضّرع. و «الحيضة» بالكسر:
الاسم، وبالفتح المرّة.
و «كلّ» للتأكيد كأنه نفى قليل ذلك وكثيره. وأضاف الفساد إلى المرضعة، لأنه أراد الفساد الذي يكون من قبلها. وهم يضيفون الشيء إلى الشيء لأدنى ملابسة.
و «المغيل»، بضم الميم وكسر الياء، من الغيل، وهو أن تغشى المرأة، وهي ترضع، فذلك اللبن الغيل. يقال: أغالت المرأة، إذا أرضعته على حبل.
ويروى بدله: «معضل»، وهو الذي لا دواء له، كأنه أعضل الأطباء وأعياهم. وأصل العضل المنع.
__________
(1) في طبعة بولاق: = على البيتين قبله =. وهو تصحيف صوابه من النسخة الشنقيطية.
والواقع أن البيت الذي أوله: = ومبرّأ = في الحماسة سابق بترتيبه فيها للأول منهما ويليه في ترتيب الحماسة البيت الذي أوله: = حملت به = ثم يأتي البيت الذي مطلعه: = فأتت به حرش الفؤاد =.
(2) شرح الحماسة للتبريزي 1/ 43.(8/207)
يقول: إنّها حملت به، وهي طاهر ليس بها بقيّة حيض، ووضعته ولا داء به استصحبه من بطنها، فلا يقبل علاجا، لأنّ داء البطن لا يفارق. ولم ترضعه أمّه غيلا، وهو أن تسقيه غيلا وهي حبلى بعد ذلك.
وقوله (1): «وإذا نبذت له» إلخ، نبذت الشيء من يدي، إذا طرحته.
وروى السكري: «وإذا قذفت» يعني أنّك إذا رميته بحصاة، وهو نائم وجدته ينتبه انتباه من سمع بوقعتها هدّة عظيمة، فيطمر طمور الأخيل، وهو الشقرّاق.
وانتصاب طمور بما دلّ عليه قوله: «فزعا لوقعتها» كأنه قال: رأيته يطمر طموره، لأنّ الخائف المتيقّظ يفعل ذلك. والطّمور: الوثب.
وقال بعضهم: الأخيل: الشاهين، ومنه قيل تخيّل الرجل، إذا جبن عند القتال، فلم يثبت. والتخيّل: المضيّ والسرعة والتلوّن.
وقوله: «وإذا يهبّ من المنام»، أي: يستيقظ. و «رأيته»، أي: رأيت رتوبه فحذف المضاف. و «رتوب الكعب»: انتصابه وقيامه.
يقول: إذا استيقظ من منامه انتصب انتصاب كعب الساق. وكعب الساق منتصب أبدا في موضعه. والزّمّل بضم الزاي: الضّعيف النؤوم.
وقوله: «ما إن يمسّ الأرض» إلخ. «إن»: زائدة. قال القاري: يقول إذا اضطجع، لم يندلق بطنه، إنّما يمسّ منكبه الأرض، وهو خميص البطن. ولمّا قال لا يمسّ الأرض إلا منكب، علم أنّه خميص البطن، فاكتفى بمعناه عن ذكره.
يقول: من ضمر بطنه وخمصه، إذا اضطجع لا يمسّ الأرض منه شيء إلّا منكبه. ثم جعله لطيفا مثل محمل في طيّه.
وقوله: «طيّ المحمل» يريد حمائل السّيف، بكسر الميم الأولى. أراد أنّه مدمج الخلق كطيّ المحمل، كأنه قال: طوي طيّ المحمل.
وقال التبريزي (2): انتصب على المصدر بما دلّ عليه ما قبله، لأنه لمّا قال: يمسّ الأرض منه إذا نام جانبه، وحرف الساق، علم أنّه مطويّ غير سمين.
__________
(1) شرح الحماسة للتبريزي 1/ 44.
(2) شرح الحماسة للتبريزي 1/ 44.(8/208)
والمعنى إذا نام لا ينبسط على الأرض، ولا يتمكّن منها بأعضائه كلّها، حتّى لا يكاد يتشمّر عند الانتباه بسرعة.
وهذا البيت أورده ابن هشام في «شرح الألفية» على أنّ طيّ المحمل نصب بتقدير: يطوي طيّ المحمل.
وقوله: «وإذا رميت به الفجاج» إلخ. قال القاري: أي حملته عليها.
و «الفجّ»: الطريق الواسع في قبل جبل ونحوه. قال التبريزي (1): الهويّ بضم الهاء هو القصد إلى أعلى، وبفتح الهاء إلى أسفل.
وعلى ذلك قول زهير (2): (الوافر)
* هويّ الدّلو أسلمها الرّشاء *
فلا تختر (3) في رواية البيت على الضم، وإن كان قد قيل غير ذلك. انتهى.
وأورده صاحب الكشاف عند قوله تعالى (4): {«تَهْوِي إِلَيْهِمْ»} من سورة إبراهيم، على أنّ تهوي، بمعنى تسرع إليهم، وتطير شوقا، كما في البيت.
و «المخارم»: جمع مخرم كجعفر، وهو منقطع أنف الجبل. والخرم: أنف الجبل. والأجدل: الصّقر.
وقوله: «وإذا نظرت إلى أسرّة وجهه» قال التبريزي (5): الخطوط التي في الجبهة الأغلب عليها سرار، وتجمع على الأسرّة. والتي في الكفّ الأغلب عليها سرر
__________
(1) شرح الحماسة للتبريزي 1/ 45.
(2) عجز بيت لزهير بن أبي سلمى وصدره:
* فشجّ بها الأماعز وهي تهوي *
والبيت لزهير بن أبي سلمى في ديوانه ص 60وأساس البلاغة (شجج) وتهذيب اللغة 6/ 491، 10/ 446 ولسان العرب (شجج، هوا) ومجمل اللغة 4/ 454ومقاييس اللغة 6/ 16. وهو بلا نسبة في تاج العروس (هوي) ولسان العرب (هوا).
(3) كذا في طبعة بولاق، وشرح الحماسة للتبريزي 1/ 45وفي النسخة الشنقيطية، وطبعة هارون: = فلا تختر =.
(4) سورة إبراهيم: 14/ 137.
(5) شرح الحماسة للتبريزي 1/ 45.(8/209)
وسرّ، وتجمع على الأسرار. وقد قيل الأسرّة الطرائق. والعارض من السحاب: ما يعرض في جانب من السماء (1).
وتهلّل الرجل مرحا واهتلّ، إذا افتّر عن أسنانه في التبسّم. يقول: إذا نظرت في وجهه رأيت أسارير وجهه تشرق إشراق السحاب المتشقّق بالبرق. يصفه بحسن البشر وطلاقة الوجه.
قال السيوطي في «شرح أبيات المغني»: أخرج أبو نعيم في «الدلائل» والخطيب، وابن عساكر، بسند حسن عن عائشة، قالت:
كنت قاعدة أغزل، والنبيّ صلّى الله عليه وسلّم يخصف نعله، فجعل جبينه يعرق، وجعل عرقه يتولّد نورا، فبهتّ، فقال: ما لك بهتّ؟
فقالت: جعل جبينك يعرق، وجعل عرقك يتولّد نورا، ولو رآك أبو كبير الهذليّ، لعلم أنّك أحقّ بشعره حيث يقول:
* ومبرّأ أمن كلّ غبّر حيضة * البيت
* وإذا نظرت إلى أسرّة وجهه * البيت
وقوله: «يحمي الصّحاب» إلخ، العيّل، بضم العين وتشديد المثناة التحتية:
جمع عائل، وهو الفقير.
و «أبو كبير الهذلي»: شاعر صحابي. اشتهر بكنيته. واسمه عامر بن الحليس، أحد بني سهل بن هذيل. كذا قال ابن قتيبة في «كتاب الشعراء» (2) وغيره.
والحليس: مصغر الحلس، بكسر الحاء المهملة وسكون اللام وآخره سين مهملة.
والحلس للبعير: كساء رقيق يكون تحت البرذعة.
وأبو كبير، بفتح الكاف وكسر الموحّدة، على وزن خلاف الصغير.
__________
(1) بعده في شرح الحماسة للتبريزي 1/ 45: = وعلى ذلك العارض في الأسنان ولهذا قيل العارضان لما يبدو من جانبيها =.
(2) الشعر والشعراء 2/ 561. وانظر في ترجمته وأخباره ديوان الهذليين 2/ 88وسمط اللآلئ ص 387والشعر والشعراء 2/ 561والمقاصد النحوية 3/ 54.(8/210)
وقد أورده ابن حجر في «القسم الأول من الإصابة» ولم يذكر اسمه، فقال:
أبو كبير، بالموحّدة، الهذلي، ذكره أبو موسى، وقال: ذكر عن أبي اليقظان أنه أسلم ثم أتى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، فقال له: أحلّ لي الزّنى. فقال: «أتحبّ أن يؤتى إليك مثل ذلك؟» قال: لا. قال: «فارض لأخيك ما ترضى لنفسك».
قال: فادع الله لي أن يذهب عني. انتهى.
* * * وأنشد بعده (1): (المنسرح)
الحافظو عورة العشيرة لا ... يأتيهم من ورائهم وكف
على أنّ الأصل: الحافظون عورة العشيرة، فحذفت النون تخفيفا.
وهذا على رواية نصب عورة. وأمّا على رواية جرّها فالنون حذفت للإضافة.
وقد تقدّم الكلام عليه مفصّلا في الشاهد الثامن والتسعين بعد المائتين (2).
و «الوكف»، بفتح الواو والكاف: العيب والعار.
* * * وأنشد بعده (3): (الكامل)
__________
(1) البيت لعمرو بن امرئ القيس في الدرر 1/ 146وشرح شواهد الإيضاح ص 127ولقيس بن الخطيم في ديوانه ص 115وملحق ديوانه ص 238ولعمرو بن امرئ القيس أو لقيس بن الخطيم في لسان العرب (وكف) ولشريح بن عمران أو لمالك بن العجلان في شرح أبيات سيبويه 1/ 205ولرجل من الأنصار في الكتاب 1/ 186. وهو بلا نسبة في أدب الكاتب ص 324وإصلاح المنطق ص 63وجواهر الأدب ص 155ورصف المباني ص 341وسر صناعة الإعراب 2/ 538والكتاب 1/ 202والمحتسب 2/ 80والمقتضب 4/ 145 والمنصف 1/ 67وهمع الهوامع 1/ 49.
(2) الخزانة الجزء الرابع ص 253.
(3) البيت للأخطل في ديوانه 1/ 108والأزهية ص 296والاشتقاق ص 338وتاج العروس (لذي) والدرر 1/ 145وسر صناعة الإعراب 2/ 536وشرح أبيات المغني 1/ 237وشرح التصريح 1/ 132وشرح(8/211)
أبني كليب إنّ عمّيّ اللّذا ... قتلا الملوك وفكّكا الأغلالا
على أنّ أصله اللذان قتلا الملوك، فحذفت النون من الموصول تخفيفا.
وتقدّم الكلام عليه أيضا في الشاهد الثالث والعشرين بعد الأربعمائة (1).
* * * وأنشد بعده (2): (الطويل)
وإنّ الذي حانت بفلج دماؤهم ... هم القوم كلّ القوم يا أمّ خالد
على أنّ أصله إن الذين حانت، فحذفت النون منه تخفيفا.
وتقدّم الكلام عليه أيضا في الشاهد السادس والعشرين بعد الأربعمائة (3).
و «حانت»: هلكت، من الحين، وهو الهلاك. و «فلج»، بفتح الفاء وسكون اللام وآخره جيم: موضع في طريق البصرة.
* * * __________
المفصل 3/ 154، 155والكتاب 1/ 186ولسان العرب (فلج، حظا، لذي) والمقتضب 4/ 146. وهو بلا نسبة في الأشباه والنظائر 2/ 362وأوضح المسالك 1/ 140ورصف المباني ص 341وشرح الحماسة للمرزوقي ص 79وما ينصرف وما لا ينصرف ص 84والمحتسب 1/ 185والمنصف 1/ 67.
(1) الخزانة الجزء السادس ص 7.
(2) هو الإنشاد الرابع بعد الثلاثمائة في شرح أبيات المغني للبغدادي.
والبيت للأشهب بن رميلة في البيان والتبيين 4/ 55وشرح أبيات المغني 4/ 180وشرح شواهد المغني 2/ 517والكتاب 1/ 187ولسان العرب (فلج) والمؤتلف والمختلف ص 37ومعجم الشعراء ص 33 والمحتسب 1/ 185ومعجم ما استعجم ص 1028والمقاصد النحوية 1/ 482والمقتضب 4/ 146والمنصف 1/ 67وللأشهب أو لحريث بن مخفض في الدرر 1/ 148. وهو بلا نسبة في الأزهية ص 99والدرر 5/ 131 ورصف المباني ص 342وسر صناعة الإعراب 2/ 537وشرح المفصل 3/ 155ومغني اللبيب 1/ 194، 2/ 552.
(3) الخزانة الجزء السادس ص 25.(8/212)
وأنشد بعده، وهو الشاهد التاسع بعد الستمائة، وهو من شواهد سيبويه (1):
(الطويل)
609 - وكرّار خلف المجحرين جواده
إذا لم يحام دون أنثى حليلها
على أنّه قد فصل اسم الفاعل المضاف إلى مفعوله عنه بظرف، والأصل:
«وكرّار جواده خلف المجحرين».
وهذه رواية الفراء، قال في «تفسيره»: إذا اعترضت صفة بين خافض، وما خفض جاز إضافته، مثل قولك: هذا ضارب في الدار أخيه، ولا يجوز إلّا في شعر، مثل قوله (2): (الطويل)
مؤخّر عن أنيابه جلد رأسه ... فهنّ كأشباه الزّجاج خروج
بخفض جلد.
وقال الآخر:
* وكرّار دون المجحرين جواده * البيت
بخفض جواده.
وزعم الكسائي أنهم يؤثرون النصب، إذا حالوا بين الفعل والمضاف بصفة (3)، فيقولون: هو ضارب في غير شيء أخاه، يتوهّمون إذ حالوا بينهما (4) أنّهم نوّنوا.
انتهى.
والصفة عند الكوفيين: الجار والمجرور والظرف.
__________
(1) البيت للأخطل في ديوانه 2/ 620وشرح أبيات سيبويه 1/ 114، 171والكتاب 1/ 177ومعاني القرآن للفراء 2/ 81.
ورواية ديوانه:
وكرار خلف المرهقين جواده ... حفاظا إذا لم يحم أنثى حليلها
(2) البيت بلا نسبة في معاني القرآن للفراء 2/ 81.
(3) في معاني القرآن للفراء: = بين الفعل المضاف بصفة =.
(4) في طبعة بولاق: = إذا حالوا =. ولقد أثبتنا رواية النسخة الشنقيطية ومعاني القرآن.(8/213)
وتقدم نقل كلام الفراء برمّته في الشاهد الحادي والتسعين بعد المائتين (1).
وأما عند سيبويه فهو مضاف إلى خلف، وجواده منصوب. وهذا نصّه:
ولا يجوز: يا سارق اللّيلة أهل الدار إلّا في الشعر، أي: بنصب الليلة وجرّ أهل، كراهية أن يفصلوا بين الجار والمجرور (2). وإذا كان منوّنا، فهو بمنزلة الفعل الناصب، تكون الأسماء فيه منفصلة.
قال الشمّاخ (3): (الرجز)
ربّ ابن عمّ لسليمى مشمعل ... طبّاخ ساعات الكرى زاد الكسل
وقال الأخطل:
* وكرار خلف المجحرين جواده * البيت
قال الأعلم في البيت الأوّل: الشاهد فيه إضافة طبّاخ إلى ساعات ونصب زاد على التعدّي، والتقدير: طبّاخ ساعات الكرى، على تشبيه الساعات بالمفعول به، لا على الظرف.
ولا يجوز الإضافة إليها، وهي مقدّرة على أصلها من الظرف، لأنّ الظرف يقدّر فيه حرف الوعاء، وهو في، والإضافة إلى الحرف غير جائزة، وإنّما يضاف إلى الاسم.
ولمّا أضاف الطباخ إلى الساعات على هذا التأويل اتّساعا ومجازا عدّاه. إلى الزاد، لأنّه المفعول به في الحقيقة. انتهى.
وتقدم شرحه في الشاهد المذكور (4).
__________
(1) الخزانة الجزء الرابع ص 218.
(2) أراد المضاف والمضاف إليه.
(3) الرجز للشماخ في ديوانه ص 389والكتاب 1/ 177ولجبار بن جزء في شرح أبيات سيبويه 1/ 13 وشرح شواهد الإيضاح ص 167. وهو بلا نسبة في تهذيب اللغة 2/ 95وجمهرة اللغة ص 1220وشرح المفصل 2/ 46والكامل في اللغة 1/ 116ولسان العرب (عسل) ومجالس ثعلب 1/ 152والمخصص 3/ 37ومقاييس اللغة 1/ 323.
(4) انظر في ذلك الخزانة الجزء الرابع ص 219218.(8/214)
وقال في البيت الثاني: الشاهد فيه إضافة «كرّار» إلى «خلف» ونصب الجواد، والقول فيه كالبيت الذي قبله، إلّا أنّ الإضافة إلى خلف أضعف، لقلّة تمكّنها في الأسماء. ويجوز فيه من الفصل ما جاز في الأوّل، والأوّل أجود. انتهى.
وقال ابن خلف: الشاهد إضافة كرّار إلى خلف، وهو ظرف، فإذا نصب نصب المفعول به على السّعة، جاز أن يضاف إليه، كما يضاف إلى المفعول به، وهذا هو الوجه.
وقد أنشد (1) بعضهم بجرّ جواده، فهذا مثل التفسير الذي في:
* طباخ ساعات الكرى زاد الكسل *
وهو في كرّار خلف أحسن، لأنّ خلف أقل تمكّنا، وأضعف من ساعات.
انتهى.
و «كرّار» بالرفع معطوف على عروف في بيت قبله كما يأتي. وهو فعّال من كرّ الفارس كرّا من باب قتل، إذا فرّ للجولان ثم عاد للقتال. وضمّنه معنى العطف والدفع، ولهذا تعدّى إلى المفعول.
و «المجحرين» (2) اسم مفعول من أجحره، بتقديم الجيم على الحاء المهملة، أي: ألجأه إلى أن دخل جحره فانجحر، أي: يكرّ كرّا كثيرا جواده خلف المجحرين، وهم الملجؤون المغشيّون، ليحامى عنهم، ويقاتل في أدبارهم.
و «الجواد»: الفرس الكريم. و «لم يحام»: لم يدافع، بإشباع كسرة الميم للوزن. و «دون» بمعنى أمام وقدّام. وأراد بالأنثى أعمّ من الزوجة والبنت والأخت والأمّ.
و «الحليل»: الزوج. والحليلة: الزّوجة، سمّيا بذلك لأنّ كلّ واحد منهما يحلّ للآخر دون غيره، أو لأنه يحلّ من صاحبه محلّا لا يحلّه غيره. وصفه بالشجاعة والإقدام.
يقول: إذا فرّ الرجال عن نسائهم وأسلموهنّ للعدوّ قاتل عنهم وحماهم.
__________
(1) في النسخة الشنقيطية: = أنشده = مع أثر تغيير.
(2) من قوله: = اسم مفعول من أجحره كثيرا جواده خلف = ساقط من النسخة الشنقيطية.(8/215)
ورواية البيت في ديوان الأخطل كذا (1):
وكرّار خلف المرهقين جواده ... حفاظا إذا لم يحم أنثى حليلها
و «المرهق»: اسم مفعول من أرهقته، إذا أعسرته وضيّقت عليه. وقال السكري في «شرح ديوانه» (2): المرهق: الذي قد غشيه السلاح. و «الحفاظ»:
الحماية، علّة لقوله: كرّار. و «إذا»: ظرف لكرّار.
والبيت من قصيدة للأخطل النصرانيّ، مدح بها همّام بن مطرّف التغلبي. وهذه أبيات منها (3):
رأيت قروم ابني نزار كليهما ... إذا خطرت عند الإمام فحولها (4)
يرون لهمّام عليهم فضيلة ... إذا ما قروم النّاس عدّت فضولها
فتى النّاس همّام وموضع بيته ... برابية يعلو الرّوابي طولها (5)
فلو كان همّام من الجنّ أصبحت ... سجودا له جنّ البلاد وغولها
إلى أن قال:
جواد إذا ما أمحل النّاس ممرع ... كريم لجوعات الشّتاء قتولها (6)
إذا نائبات الدّهر شقّت عليهم ... كفاهم أذاها واستخفّ ثقيلها (7)
__________
(1) البيت في ديوانه ص 620. وفي حاشية الديوان كتب د. قباوة: = في الأصل: خلف. وقد حكت الفتحة، وأثبت بقلم آخر كسرة تحت الفاء. ففي رواية الفتح يكون قد فصل بين المضاف والمضاف إليه بقوله: = خلف المرهقين =. وفي رواية الجر يكون كرّار مضمنا معنى عطّاف وناصبا جواده =.
(2) في شرح شعر الأخطل صنعة السكري: = المرهق: الذي قد غشيه السلاح =. ولم نجد بقية الشرح الذي يذكره البغدادي فيه.
(3) الأبيات من مطولة له في ديوانه 2/ 619615.
(4) خطرت: تفاخرت بشرفها وقدرها. والإمام: الخليفة.
(5) برابية، أي: هو في مكان مرتفع، لتراه الأضياف، وترى ناره فتقصدها.
(6) في حاشية طبعة هارون 8/ 214: = في الديوان 244: لجوعات النساء =. ولم نجد هذه الرواية في ديوان الأخطل صنعة السكري فلعل محقق طبعة هارون سهى. والله أعلم.
(7) في حاشية طبعة هارون 8/ 214: = في الديوان: شفت عليهم. يقال شف عليه ثوبه يشف شفوفا =.
وأيضا لم نجد هذه الرواية في ديوانه صنعة السكري. فلعل المحقق سهى أو عاد لنسخة أخرى من ديوانه لم نجدها والله أعلم.(8/216)
عروف لإضعاف المرازئ ماله ... إذا عجّ منحوت الصّفاة بخيلها (1)
وكرار خلف المرهقين جواده ... البيت
«القروم»: الأشراف والسادة. و «ابنا نزار» هما ربيعة ومضر. و «أمحل الناس»: أقحطوا. و «ممرع»: ذو خصب ونعمة.
و «شقّت» من المشقّة. و «العروف»: الصّبور هنا، ومبالغة العارف.
وإضعاف مصدر أضعف يضعف، وهو من الضّعف ضدّ القوّة.
و «المرازئ»: جمع المرزأ، بفتح الميم فيهما، مصدر بمعنى المصيبة، وهو حدوث أمر يذهب به المال.
قال في «المصباح»: «الرزيّة: المصيبة، وأصلها الهمز، يقال: رزأته ترزؤه (2)
مهموز بفتحتين (3)، والاسم الرّزء كقفل. ورزأته أنا، إذا أصبته بمصيبة. وقد يخفّف، فيقال: رزيته أرزاه».
و «ماله» فاعل عروف، أي: هو عروف ماله. و «عجّ»: صاح.
و «الصّفاة»، بالفتح: الصّخرة.
قال السكري: ومنحوت الصّفاة: الذي إذا سئل لم يعط، كما لا يبضّ الحجر إذا نحت.
وقال ابن خلف: المنحوت الذي يؤخذ منه شيء بعد شيء بشدّة. يقول: هذا الرجل، يعطي إذا ضجّ من السؤال الرجل الذي يعطي اليسير بعد شدّة، ويكون ما يؤخذ (4) منه بمنزلة، ما ينحت من الصّخر. وبخيلها: يريد بخيل النفس، فأضمر.
__________
(1) في النسخة الشنقيطية: = لأصناف المرازئ =. وهو تصحيف صوابه من ديوانه ص 619والنسخة الشنقيطية.
وفي حاشية طبعة هارون 8/ 214: = وفي الديوان: لأضعاف = بالهمزة المفتوحة =. وهذا أيضا لم نجده في ديوانه.
ففي شرح ديوانه صنعة السكري، تحقيق د. فخر الدين قباوة: = عروف لإضعاف المرازئ =.
(2) في طبعة بولاق: = ترزأه =. وهو تصحيف صوابه من النسخة الشنقيطية والمصباح. والمراد بقوله هذا: رزأته المصيبة ترزؤه.
(3) يريد بقوله: = بفتحتين = فتح عين الماضي، وفتح عين المضارع.
(4) في طبعة بولاق: = ما يأخذ =. وهو تصحيف صوابه من النسخة الشنقيطية.(8/217)
وترجمة الأخطل تقدّمت في الشاهد الثامن والسبعين (1).
* * * وأنشد بعده، وهو الشاهد العاشر بعد الستمائة، وهو من شواهد سيبويه (2):
(البسيط)
610 - هل أنت باعث دينار لحاجتنا
أو عبد ربّ أخا عون بن مخراق
على أن سيبويه أنشده بنصب «عبد ربّ»، ونصبه بتقدير اسم الفاعل أولى من تقدير الفعل، ليوافق المقدّر الظاهر.
وفيه أنّ الأولى عند سيبويه تقدير الفعل، فإنّه قبل أن قال: وزعم عيسى أنّهم ينشدون هذا البيت بنصب عبد ربّ، قال أبو الحسن: سمعته من عيسى (3)، قال:
وتقول في هذا الباب: هذا ضارب زيد وعمرو، إذا أشركت بين الآخر والأوّل في الجار، لأنّه ليس في العربية شيء يعمل في حرف، فيمتنع أن يشرك بينه وبين مثله.
وإن شئت نصبت على المعنى، تضمر له ناصبا فتقول: هذا ضارب زيد وعمرا، كأنه قال: ويضرب عمرا، أو وضارب عمرا. انتهى.
وقال ابن خلف: الشاهد فيه نصب «عبد ربّ» بإضمار فعل، كأنه قال: أو تبعث عبد ربّ. ولا يجوز أن يضمر إلّا الفعل المستقبل، لأنّه مستفهم عنه، بدليل
__________
(1) الخزانة الجزء الأول ص 436.
(2) البيت لجرير بن عطية بن الخطفى، أو لمجهول، أو هو مصنوع في المقاصد النحوية 3/ 563. وهو بلا نسبة في الأشباه والنظائر 2/ 256والدرر 6/ 192وشرح أبيات سيبويه 1/ 395وشرح الأشموني 2/ 344وشرح ابن عقيل ص 428والكتاب 1/ 171والمقتضب 4/ 151وهمع الهوامع 2/ 145.
(3) قوله: = من عيسى =. ساقط من النسخة الشنقيطية.
وقوله: = قال أبو الحسن: سمعته من عيسى =. ليست في الكتاب لسيبويه. وهي بلا ريب ستكون من تعليقات الأخفش على الكتاب.(8/218)
قوله: «هل». ويجوز أن ينتصب «عبد ربّ» بالعطف على موضع دينار، لأنّه مجرور في اللفظ، منصوب في المعنى. انتهى.
ولم يصب الأعلم في قوله: الشاهد فيه نصب «عبد ربّ» حملا على موضع دينار، لأنّ المعنى هل أنت باعث دينارا، أو عبد ربّ. انتهى.
وإلى تقدير الوصف ذهب ابن السرّاج في «الأصول»، قال: أراد ب «باعث» التنوين، ونصب الثاني لأنّه أعمل فيه الأوّل، كأنه قال: أو باعث عبد ربّ.
ولو جرّه على ما قبله كان عربيا، إلّا أن الثاني كلّما تباعد من الأوّل قوي النصب. انتهى.
وإلى تقدير الفعل لا غير ذهب الزّجاجيّ في «الجمل».
قال ابن هشام اللخمي: الشاهد فيه نصب «عبد ربّ» بفعل مضمر وهو مذهب سيبويه.
وقد خطّأ بعضهم الزجاجيّ في قوله: تنصبه بإضمار فعل، وقال: لا يحتاج هنا إلى الإضمار لأنّ اسم الفاعل بمعنى الاستقبال وموضع «دينار» نصب، فهو معطوف على الموضع، ولا يحتاج إلى تكلّف إضمار، وإنّما يحتاج إلى تكلّف الإضمار إذا كان اسم الفاعل بمعنى المضيّ لأنّ إضافته إضافة محضة لا ينوى بها الانفصال.
والذي قال الزجّاجيّ هو الذي قال سيبويه، وتمثيله يشهد لما قلناه، وإن كان جائزا أن يعطف عبد رب على موضع دينار، ولكنّ ما قدّمنا هو الذي نصّ عليه سيبويه.
والدليل على أنّ المراد ب «باعث» في البيت الاستقبال دخول «هل»، لأنّ الاستفهام أكثر ما يقع عمّا يكون في الاستقبال، وإن كان قد يستفهم عمّا مضى، كقولك: هل قام زيد؟ لكنه لا يكون إلّا بدليل. والأصل ما قدّمنا. انتهى.
وقد نقل العينيّ كلام اللخميّ برمّته ولم يعزه إليه.
والبيت أورده الزّمخشريّ، عند قوله تعالى (1): {«هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ»}، قال:
__________
(1) سورة الشعراء: 26/ 39.(8/219)
هو استبطاء لهم في الاجتماع، وحثّ على مبادرتهم إليه، كما يقول الرجل لغلامه إذا أراد أن يحثّه على الانطلاق: هل أنت منطلق؟ وهل أنت باعث دينارا، أي:
ابعثه سريعا، ولا تبطئ به.
قال ابن خلف: ومعنى باعث موقظ، كأنه قال: أوقظ دينارا (1) أو عبد ربّ.
وهما رجلان.
وقال اللخمي: باعث هنا بمعنى مرسل، كما قال تعالى (2): {«فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هََذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ»}. وقد يكون بمعنى الإيقاظ: كقوله تعالى (3): {«مَنْ بَعَثَنََا مِنْ مَرْقَدِنََا»}.
غير أنّ الأحسن هنا أن يكون بمعنى الإرسال، إذ لا دليل على النّوم في البيت.
قال الأعلم: يحتمل دينار هنا وجهين:
أحدهما: أن يكون أراد أحد الدنانير، وأن يكون أراد رجلا يقال له: دينار.
وكذا قال اللخمي: دينار وعبد ربّ: رجلان، وقيل: أراد بدينار واحد الدّنانير، كما قال بعض الشعراء (4): (المتقارب)
إذا كنت في حاجة مرسلا ... وأنت بها كلف مغرم
فأرسل حكيما ولا توصه ... وذاك الحكيم هو الدّرهم
وقال ابن خلف: عبد ربّ الاسم إنّما هو ربّه، لكنه ترك الإضافة وهو يريدها.
وأخا عون: وصف لعبد رب. ويجوز: أو عبد ربّ أخي، بالجرّ.
__________
(1) كذا في طبعة بولاق والنسخة الشنقيطية والمعروف: = أيقظ = بالياء.
(2) سورة الكهف: 18/ 19.
(3) سورة يس: 36/ 52.
(4) البيتان في الأصل كانا بيتا واحدا وهذه روايته:
إذا كنت في حاجة مرسلا ... فأرسل حكيما ولا توصه
ومنه المثل العربي المشهور: = أرسل حكيما ولا توصه =. لأن الحكيم مستغن بحكمته عن الوصية. والمثل والبيت في تمثال الأمثال 1/ 98وطبقات فحول الشعراء ص 246والعقد الفريد 3/ 127وكتاب الأمثال ص 252 وكتاب الأمثال لمجهول ص 21والمستقصى 1/ 140ومجمع الأمثال 1/ 303. ولم نجد الأبيات كما رواها البغدادي في مصادرنا القديمة.(8/220)
وزعم عيسى بن عمر أنّه سمع العرب تنشده منصوبا.
وقال العيني (1): أخا عون بدل من عبد رب، بدل الشيء من الشيء، وهما لعين واحدة.
وقال خضر الموصليّ: أخا عون، إمّا عطف بيان لعبد ربّه، أو نعت له على رواية النصب، أو منادى عليهما. انتهى.
وعلى النداء يكون أخا عون هو المخاطب في قوله: هل أنت. وكأنّ هذا الوجه لبعض من شرح الكشّاف. ولم أر لخضر الموصليّ في تأليفه بنت فكر. والله أعلم.
و «مخراق»، بكسر الميم وسكون الخاء المعجمة: اسم.
والبيت من أبيات سيبويه الخمسين التي لم يعرف قائلها. وقال ابن خلف: وقيل هو لجابر بن رألان السّنبسي. وسنبس: أبو حي من طيّئ.
ونسبه غير خدمة سيبويه إلى جرير، وإلى تأبّط شرا، وإلى أنّه مصنوع. والله أعلم بالحال.
* * * __________
(1) المقاصد النحوية 3/ 564.(8/221)
اسم المفعول
أنشد فيه (1): (البسيط)
* أدنو فأنظور *
هو قطعة بيت تقدّم شرحه في باب الإعراب من أوّل الكتاب، وهو:
وأنّني حيثما يثني الهوى بصري ... من حيثما سلكوا أدنو فأنظور
* * *
__________
(1) البيت هو الإنشاد الواحد والتسعون بعد الخمسمائة في شرح أبيات المغني للبغدادي.
والبيت لابن هرمة في ملحق ديوانه ص 239. وهو بلا نسبة في أسرار العربية ص 45والأشباه والنظائر 2/ 29 والإنصاف 1/ 24والجنى الداني ص 173والدرر 6/ 204ورصف المباني 13/ 435وسر صناعة الإعراب 1/ 26، 338، 2/ 630وشرح أبيات المغني 6/ 140وشرح شواهد المغني 2/ 785والصاحبي في فقه اللغة ص 50ولسان العرب (شرى، الألف، وا) والمحتسب 1/ 259ومغني اللبيب 2/ 368والممتع في التصريف 1/ 156وهمع الهوامع 2/ 156.(8/222)
الصفة المشبهة
أنشد فيها (1): (الطويل)
أقامت على ربعيهما جارتا صفا ... كميتا الأعالي جونتا مصطلاهما
تقدّم شرحه بما لا مزيد عليه في الشاهد الموفي الثلثمائة (2).
* * * وأنشد بعده (3): (الوافر)
* روانف أليتيك وتستطارا *
هذا عجز، وصدره:
* متى ما تلقني فردين ترجف *
و «الروانف»: جمع رانفة، وهي طرف الألية، فالأليتان لهما رانفتان. وإنّما
__________
(1) البيت للشماخ في ديوانه ص 307والدرر 5/ 281وشرح أبيات سيبويه 1/ 7وشرح المفصل 6/ 83، 86والصاحبي في فقه اللغة ص 210والكتاب 1/ 199والمقاصد النحوية 3/ 587وهمع الهوامع 2/ 99.
وهو بلا نسبة في شرح الأشموني 2/ 359والمقرب 1/ 141.
(2) الخزانة الجزء الرابع ص 272.
(3) البيت لعنترة العبسي في ديوانه ص 234والدرر 5/ 94وشرح التصريح 2/ 94وشرح شواهد الشافية ص 505وشرح عمدة الحافظ ص 460وشرح المفصل 2/ 55ولسان العرب (طير، ألا، خصا) والمقاصد النحوية 3/ 174. وهو بلا نسبة في أسرار العربية ص 191وأمالي ابن الحاجب 1/ 451وشرح الأشموني 3/ 579وشرح شافية ابن الحاجب 3/ 301وشرح المفصل 4/ 116، 6/ 87ولسان العرب (رنف) وهمع الهوامع 2/ 63.(8/223)
قال: روانف، باعتبار ما حول كلّ رانفة، فتكون الألف في «تستطارا» ضمير الرّوانف لأنّها بمعنى رانفتين.
وهذا قول أبي علي في «المسائل البصرية».
وقد تقدّم شرح هذا البيت أيضا متسوفى مفصّلا في الشاهد التاسع والستين بعد الخمسمائة من شواهد باب المثنى (1).
* * * وأنشد بعده، وهو الشاهد الحادي عشر بعد الستمائة (2): (الرجز)
611 - أنعتها إنّي من نعّاتها
كوم الذّرى وادقة سرّاتها
على أنّ «وادقة» صفة مشبّهة، وفاعلها ضمير مستتر فيها. و «سرّاتها»:
منصوب بالكسرة على التشبيه بالمفعول للصفة المشبّهة.
قال أبو علي في «المسائل البصرية»: أنشد الفرّاء عن الكسائي، وقد رويناه عن ثعلب عنه في «نوادر ابن الأعرابي»: (الرجز)
أنعتها إنّي من نعّاتها ... مدارة الأخفاف مجمراتها
غلب الذّفارى وعفرنياتها ... كوم الذّرى وادقة سرّاتها (3)
قال أبو علي: هذا على: هند حسنة وجهها. ففي وادقة ذكر من الإبل وليست للسّرّات. فافهم. انتهى.
__________
(1) الخزانة الجزء السابع ص 478.
(2) الرجز لعمر بن لجأ التيمي في ديوانه ص 153، 155والأصمعيات ص 34والدرر 5/ 289والمقاصد النحوية 3/ 583. وهو بلا نسبة في تاج العروس (نعت، ودق) وشرح المفصل 6/ 83، 88ولسان العرب (نعت، ودق).
(3) الرجز لعمر بن لجأ التيمي في ديوانه ص 155وتاج العروس (عفر) والتنبيه والإيضاح 2/ 171ولسان العرب (عفر). وهو بلا نسبة في تاج العروس (صمم) ولسان العرب (صمم).(8/224)
وعدّ ابن عصفور هذا من ضرورة الشعر، قال في «كتاب الضرائر»: ومنه نصب معمول الصفة المشبهة باسم الفاعل في حال إضافته إلى ضمير موصوفها، نحو قولك: مررت برجل حسن وجهه بنصب الوجه، ولا يجوز ذلك إلّا في ضرورة نحو قوله:
أنعتها إنّي من نعّاتها ... كوم الذّرى وادقة سرّاتها
ألا ترى أنه قد نوّن «وادقة» ونصب معمولها، وهي مضافة إلى ضمير موصوفها، وكان الوجه أن ترفع السّرّات (1)، إلّا أنّه اضطرّ إلى استعمال النصب بدل الرفع، فحمّل الصفة ضميرا مرفوعا عائدا على صاحب الصفة، ونصب معمول الصفة إجراء له في حال إضافته إلى ضمير الموصوف مجراه إذا لم يكن مضافا إليه.
وكذلك أيضا لا يجوز خفض معمولها في حال إضافته إلى ضمير الموصوف إلّا عند الاضطرار لأنّ الخفض لا يكون إلّا من نصب.
ومن ذلك قول الأعشى (2): (المتقارب)
فقلت له هذه هاتها ... إلينا بأدماء مقتادها
ألا ترى أنّه أضاف الصفة، وهي أدماء، إلى معمولها، وهو مقتاد في حال إضافته إلى ضمير موصوفه.
وقول الآخر في الصّحيح من القولين (3):
أقامت على ربعيهما جارتا صفا ... كميتا الأعالي جونتا مصطلاهما
ألا ترى أنه أضاف الصفة، وهي «جونتا» إلى معمولها، وهو «مصطلى» في حال إضافته إلى ضمير موصوفه. انتهى.
ونقل ابن الناظم في «شرح الألفيّة» عن سيبويه أنّ الجرّ في هذا النحو من الضرورات، وأنّ النصب من القسم الضعيف. وأنشد البيت. ولم يصب العينيّ في
__________
(1) في طبعة بولاق: = السراة =. وهو تصحيف صوبناه من النسخة الشنقيطية.
(2) البيت للأعشى ميمون في ديوانه ص 119وأساس البلاغة (قود) وتاج العروس (رمم) وتهذيب اللغة 15/ 192ولسان العرب (رمم) ومقاييس اللغة 2/ 379.
(3) مر الشاهد آنفا.(8/225)
قوله: الاستشهاد عند ابن الناظم في نصب «سرّاتها»، لأنّ فيه شاهدا على جواز زيد حسن وجهه بالنصب. انتهى.
وقال بعض فضلاء العجم في «شرح أبيات المفصل»: قوله وادقة سرّاتها نظير حسن وجهه. وسرّاتها بالكسر في موضع النصب على التمييز. انتهى.
وهذا إنما هو على مذهب الكوفيّين، والبصريون يقولون: منصوب على التشبيه بالمفعول.
ثم نقل عن صاحب المقتبس أنّ عبد القاهر، قال: الأصل وادقة السّرّات (1)، فنابت الإضافة عن اللام، كما تنوب اللام عن الإضافة. انتهى.
ولا يخفى أنّ المعهود عند النحاة هو الثاني، لا الأوّل.
[قال (2)]: والرجز المذكور أنشد ابن الأعرابي في «نوادره» على ذلك الترتيب.
وبعد البيت الشاهد (3):
* حمّلت أثقالي مصمّماتها *
ثم سبعة أبيات أخر لا حاجة لنا بإيرادها. وإنما جمعوا في الاستشهاد بين البيت الأوّل، والبيت الرابع للاختصار، ولظهور المعنى إجمالا.
وقوله: «أنعتها» إلخ، الضمير للإبل، فإنّ النعوت الآتية إنّما هي لها. نعته نعتا من باب نفع: وصفه. و «نعّات» بالضم والتشديد: جمع ناعت.
وقوله: «مدارة الأخفاف» منصوب بتقدير أعني، ونحوه على المدح، وكذا الحال في الأوصاف الآتية.
والمعنى أنّ أخفافها مدوّرة. «مجمراتها»، أي: مجمرات الأخفاف. والمجمر
__________
(1) في طبعة بولاق: = السراة =. وهو تصحيف صوابه من النسخة الشنقيطية.
(2) زيادة يقتضيها السياق من النسخة الشنقيطية.
(3) الرجز لعمر بن لجأ التيمي في ديوانه ص 155وتاج العروس (عفر) والتنبيه والإيضاح 2/ 171ولسان العرب (عفر). وهو بلا نسبة في تاج العروس (صمم) ولسان العرب (صمم).(8/226)
بضم الميم وسكون الجيم وفتح الميم الثانية، قال صاحب الصحاح (1): حافر مجمر، أي: صلب.
وقوله: «غلب» إلخ، «الغلب» بفتح الغين المعجمة واللام: غلظ الرّقبة، والوصف أغلب والجمع غلب.
و «الذّفارى»، بفتح الذال المعجمة بعدها فاء آخره ألف مقصورة: جمع ذفرى بكسر الأوّل وسكون الثاني والقصر، قال صاحب الصحاح: الذّفرى من القفا هو الموضع الذي يعرق من البعير خلف الأذن، والألف للتأنيث وقيل للإلحاق بدرهم.
وأراد بالذّفرى العنق، من قبيل المجاز المرسل. و «عفرنياتها»: جمع عفرناة بفتح العين المهملة والفاء وسكون الراء والنون، والألف للإلحاق بسفرجل، والتاء للتأنيث. قال صاحب الصحاح: وناقة عفرناة، أي: قوية. وأنشد هذا البيت.
وقوله: «كوم الذّرى» منصوب على المدح كالذي قبله كما تقدم. وهو بضمّ الكاف: جمع كوماء بفتحها وبالمدّ، وهي الناقة العظيمة السّنام. و «الذّرى» بضم الذال: جمع ذروة بكسرها (2)، وهي أعلى السنام.
و «وادقة» منصوب أيضا، من ودق، إذا دنا، لأنّها إذا سمنت دنت إلى الأرض من سمنها. يقال: بعير وديق السّرّة، أي: سمينها.
و «وادقة» صفة مشبّهة، لأنّه أريد به ثبات معناه ودوامه، وإن كان بزنة اسم الفاعل الموازن يفعل، لأنّه لا يراد به تجدّد معناه وانقطاعه.
وقال الخوارزمي: ودق: دنا، والمراد به السّمن هاهنا، لأنّها متى سمنت خرجت من السّمن سرّتها ودنت إليك.
و «سرّاتها» بضم السين وتشديد الراء: جمع سرّة، وهي موضع ما تقطعه القابلة من الولد.
قال التبريزي في «شرح الكافية الحاجبيّة» بعد إيراد هذا البيت: ولا يجوز تقديم المنصوب على العامل، لأنه مرفوع في المعنى.
__________
(1) قوله: = حافر مجمر، أي صلب قال صاحب الصحاح =. ساقط من النسخة الشنقيطية.
(2) كذا في الخزانة. والحق أنها بكسر الذال وضمها، كما في المعاجم.(8/227)
ويجوز في هذه المسألة، وفي مررت بزيد الحسن وجهه، بنصب وجهه، أن تثنّى (1) الصفة فيهما وتجمع وتؤنّث وتذكّر، بحسب المعنى. انتهى.
وقوله: «حمّلت» إلخ، هو بتشديد الميم يتعدّى إلى مفعولين، الأوّل أثقالي، وهو جمع ثقل بفتحتين، وهو المتاع، كسبب وأسباب. والثاني: مصمّماتها، جمع مصمّمة، بكسر الميم المشددة، من صمّم الأمر، إذا مضى فيه.
وجميع القوافي ما عدا الأولى منصوبة بالكسرة، لأنّها جمع مؤنث سالم.
والزّمخشري إنما أورد البيت الشاهد. وزعم بعض شرّاح أبياته من فضلاء العجم أنّه عجز، وصدره: (الرجز)
* رعت كما شاءت على غرّاتها *
وقال: الغرّة بالكسر: الغفلة. وكوم الذّرى بالرفع: فاعل رعت. وهذا من عدم تمييزه بين الرجز والشّعر، مع أنّ الذي ضمّه ليس من الرجز (2).
وهذا الرجز لم ينسبه ابن الأعرابي إلى أحد، وإنما قال: هو لبعض الأسديّين يصف إبلا. وقال العيني (3): قائله عمير بن لحا، بالحاء المهملة، التيمي.
ولم أعرف شاعرا كذا، وإنّما المعروف عمر (4) بن لجأ التّيميّ. وعمر (5) مكبّر لا مصغّر. ولجأ بفتح اللام والجيم مهموز الآخر. والله أعلم بحقيقة الأمر.
والبيت الذي أنشده ابن عصفور لأعشى بكر إنّما الرواية فيه (6):
__________
(1) في النسخة الشنقيطية: = يثنى =.
(2) في حاشية طبعة هارون 8/ 225: = يعني بالذي ضمه السبعة الأبيات التي أشار إليها البغدادي في ص 223 بقوله = ثم سبعة أبيات أخر لا حاجة لنا بإيرادها =. وقد ظن مصحح طبعة بولاق أن البغدادي يشير إلى الشطر الأخير هنا وهو = رعت كما شاءت على غراتها =. وقال معترضا = بل هو رجز كما هو ظاهر =. فأخطأ هو في تخطئته للبغدادي =.
(3) المقاصد النحوية 3/ 583.
(4) في طبعة بولاق: = عمرو =. وهو تصحيف صوابه من النسخة الشنقيطية. وقد تقدمت ترجمته في الخزانة الجزء الثاني ص 262.
(5) في طبعة بولاق: = وعمرو =. وهو تصحيف صوابه من النسخة الشنقيطية.
(6) هي رواية ديوان الأعشى ص 119.(8/228)
فقلت له هذه هاتها ... بأدماء في حبل مقتادها
فلا ضرورة فيه.
وقبله (1): (المتقارب)
فقمنا ولمّا يصح ديكنا ... إلى جونة عند حدّادها
ويعني بالحدّاد الخمّار، لأنه يمنع من الخمر ويحفظها. وكلّ من حفظ شيئا، ومنع منه فهو حدّاد. وهذه إشارة إلى الجونة المذكورة، وهي الخابية، جعلها جونة لاسودادها من القار.
والمعنى: هات هذه الخابية وخذ هذه الناقة الأدماء، أي: البيضاء، بحبل قائدها. والأدمة في الإبل: البياض، وفي الناس: السّمرة، وفي الظباء: سمرة في ظهورها وبياض في بطونها. وضمير له للحداد. وبأدماء حال، كأنه قال: مشتراة بأدماء. وفي حبل صفة لأدماء، كأنه قال: بأدماء مشدودة في حبل قائدها، أو خبر لمبتدأ محذوف، أي: وهي في حبل قائدها. والجملة حال. والجونة بفتح الجيم، معناه السوداء.
* * * وأنشد بعده، وهو الشاهد الثاني عشر بعد الستمائة، وهو من شواهد سيبويه (2): (الرجز)
612 - الحزن بابا والعقور كلبا
على أنّه كناية عن البخل، كما أن جبان الكلب كناية عن الجود.
وأنشده سيبويه على أنّ نصب «باب» و «كلب» على حدّ الحسن وجها.
__________
(1) البيت للأعشى في ديوانه ص 119والأزهية ص 197وجمهرة اللغة ص 95ولسان العرب (حدد). وهو بلا نسبة في مجالس ثعلب ص 267.
(2) الرجز لرؤبة بن العجاج في ديوانه ص 15والكتاب 1/ 200والمقاصد النحوية 3/ 617والمقتضب 4/ 162. وهو بلا نسبة في الأشباه والنظائر 3/ 180وشرح أبيات سيبويه 1/ 304ولسان العرب (حزن).(8/229)
والبيت من رجز لرؤبة بن العجاج. وقبله (1):
* فذاك وخم لا يبالي السّبّا *
و «الوخم»: الثقيل. يقول: ذاك من الرجال وخم ثقيل لا يرتاح لفعل المكارم، ولا يهشّ للجود، ولا يبالي أن يسبّ، ويروى المال أحبّ إليه من عرضه.
و «الحزن»، بفتح الحاء المهملة وسكون الزاي: صفة مشبّهة، وهو خلاف السّهل. وكذلك «العقور» صفة مشبهة.
قال الأزهري: الكلب العقور: هو كلّ كلب يعقر، من الأسد والفهد والنّمر والذئب. يقال: عقر الناس عقرا، من باب ضرب، أي: جرحهم، فهو عقور، والجمع عقر مثل رسول ورسل. و «بابا» و «كلبا» تمييزان.
وصف رؤبة رجلا بشدّة الحجاب، ومنع الضّيف، فجعل بابه حزنا وثيقا، لا يستطاع فتحه، وكلبه عقورا لمن حلّ بفنائه طالبا لمعروفه.
يقول: إنّ من أتاه لقي قبل الوصول إليه ما يكره من حاجب أو بوّاب أو صاحب. وجعل له كلبا على طريق الاستعارة، كما يكون في البادية.
وترجمة رؤبة تقدّمت في الشاهد الخامس من أوّل الكتاب (2).
* * * وأنشد بعده (3): (الطويل)
* لحافي لحاف الضّيف والبرد برده *
__________
(1) ديوان رؤبة بن العجاج ص 15.
(2) الخزانة الجزء الأول ص 103.
(3) البيت لطفيل الغنوي ص 103ولعروة بن الورد في ديوانه ص 101ولمسكين الدارمي في ديوانه ص 51 ولعتبة بن مسكين الدارمي في الحماسة البصرية 2/ 247ولعتبة بن بجير في شرح الحماسة للمرزوقي ص 1719.
وهو بلا نسبة في أمالي المرتضى 1/ 475ولسان العرب (بصص).(8/230)
على أنّ اللام في قوله: «والبرد» بدل من الضمير، والتقدير: وبردي برده.
وهذا صدر، وعجزه:
* ولم يلهني عنه غزال مقنّع *
وقد تقدّم شرحه في الشاهد الثالث والتسعين بعد المائتين (1).
* * * وأنشد بعده (2): (الطويل)
* رحيب قطاب الجيب منها *
تمامه:
رفيقة ... بجسّ النّدامى بضّة المتجرّد
على أن «رحيب» مضاف إلى «قطاب»، وقطاب مضاف إلى الجيب.
وتقدّم الكلام عليه في الشاهد الحادي بعد الثلثمائة من باب الإضافة (3).
والرّواية الصحيحة تنوين رحيب ورفع قطاب على الفاعلية. وضمير «منها» لقينة في بيت قبله.
و «الرحيب»: الواسع. و «قطاب الجيب»: مجتمعه حيث قطب، أي:
جمع، وهو مخرج الرأس من الثّوب. وإنّما وصف قطاب جيبها بالسّعة لأنها كانت توسّعه، ليبدو صدرها، فينظر إليه، ويتلذّذ به.
و «رفيقة» بالفاء ثم القاف: الملائمة والليّنة. و «الجسّ» بفتح الجيم: اللمس.
__________
(1) الخزانة الجزء الرابع ص 234.
(2) البيت لطرفة بن العبد في ديوانه ص 230وشرح القصائد العشر للتبريزي ص 129والمحتسب 1/ 183.
وهو بلا نسبة في شرح التصريح 2/ 83.
(3) الخزانة الجزء الرابع ص 281.(8/231)
و «بضّة»: ناعمة رقيقة.
والمراد بالمتجرّد حيث يتجرّد من بدنها، أي: يعرّى من الثوب، وهو الأطراف.
وخصّه بالذكر مبالغة في نعومتها، لأنّه إذا كان ما تصيبه الرّيح والشمس والبرد من اليدين والرجلين بضّا ناعما رقيقا، كان المستتر بالثياب أشدّ بضاضة ونعومة.
وهذا هو المعنى الجيّد بخلاف ما أسلفناه هناك تبعا لشرّاح المعلقات، وهو قولنا المتجرّد: ما ستره الثياب من الجسد، أي: هي بضّة الجسم عند التجريد من ثيابها.
ولا يخفى ضعفه وركاكته. وهذا المعنى لاح لنا ولله الحمد.
والبيت من معلقة طرفة بن العبد، وتقدّمت ترجمته في الشاهد الثاني والخمسين بعد المائة (1).
* * * __________
(1) الخزانة الجزء الثاني ص 370.(8/232)
أفعل التفضيل
أنشد فيه، وهو الشاهد الثالث عشر بعد الستمائة (1): (الرجز)
613 - أبيض من أخت بني أباض
على أنّ الكوفيين أجازوا بناء أفعل التفضيل من لفظي السّواد والبياض كما هنا، وهو شاذّ عند البصريين.
قال شارح اللباب: أجاز الكوفيون التعجّب من السّواد والبياض لأنّهما أصول الألوان.
وأنشدوا (2): (البسيط)
إذا الرّجال شتوا واشتدّ أكلهم ... فأنت أبيضهم سربال طبّاخ
وأنشدوا أيضا:
جارية في درعها الفضفاض ... أبيض من أخت بني أباض
وجاء في شعر المتنبي (3): (البسيط)
__________
(1) الرجز لرؤبة في ملحق ديوانه ص 176وهو بلا نسبة في أمالي المرتضى 1/ 92، 2/ 317والإنصاف 1/ 150وتاج العروس (بيض) وشرح أبيات المغني 8/ 95وشرح المفصل 6/ 93ولسان العرب (بيض).
(2) البيت لطرفة بن العبد البكري، ولصدره روايات مختلفة، وهو في ديوانه ص 18ولسان العرب (بيض) وهو بلا نسبة في الأشباه والنظائر 8/ 139وأمالي المرتضى 1/ 92والإنصاف 1/ 149وشرح المفصل 6/ 93ولسان العرب (بيض، عمى) والمقرب 1/ 73.
(3) عجز بيت لأبي الطيب المتنبي وصدره:
* ابعد بعدت بياضا لا بياض له *
والبيت لأبي الطيب المتنبي في ديوانه 4/ 151وأمالي المرتضى 2/ 317ودرة الغواص ص 18وشرح أبيات المغني للبغدادي 7/ 172ومغني اللبيب ص 543.(8/233)
* لأنت أسود في عيني من الظّلم *
وقالوا: لمّا جاء منهما أفعل التفضيل جاء بناء التعجب. والاستشهادات ضعيفة، لأنّها من ضرورة الشعر لا في سعة الكلام، فيكون نادرا.
وقولهم: إنّهما أصلان للألوان ممنوع، وبعد تسليمه، فدليل المنع قائم فيهما، وإن كانا من أصول الألوان.
وقال أيضا في آخر الكتاب: هذه الأبيات ليست بحجّة للشّذوذ، مع أنّه يحتمل أن يكون أبيض في البيتين أفعل الذي مؤنثه فعلاء، فلا يكون للتفضيل، فكأنه قال:
أنت مبيضّهم. وانتصب سربال على التمييز.
وكذا البيت الآخر لا يكون بالتفضيل (1) أيضا، بل معناه مبيضّة هي من أخت بني أباض. انتهى.
وهذا محصّل كلام ابن الأنباري في «مسائل الخلاف»، وقال: الأبيات ضرورة، أو أبيض فيهما أفعل الذي مؤنثه فعلاء، لا الذي يراد به المفاضلة، فكأنه قيل في الأول: مبيضّهم.
وفي الثاني: جسد مبيضّ من أخت بني أباض، ويكون من أخت في موضع الصفة (2).
وقال ابن يعيش في «باب التعجب»: فإن قيل: لو كان الأمر كما قلتم، لقيل: بيضاء، لأنه من صفة الجارية.
قيل: إنّما قال أبيض لأنّه أراد في درعها الفضفاض جسد أبيض، فارتفاعه بالابتداء، والجار والمجرور قبله الخبر، والجملة من صفة الجارية. انتهى.
وكذا صنيع الشريف المرتضى في «أماليه الغرر والدرر» وزاد في البيت الأوّل أن أبيض، وإن كان في الظاهر عبارة عن اللّون، فهو في المعنى كناية عن اللّؤم والبخل، فحمل لفظ التعجّب على المعنى دون اللفظ.
__________
(1) في النسخة الشنقيطية: = للتفضيل =.
(2) في الإنصاف: = ويكون من أخت هنا في موضع رفع، لأنها صفة لأبيض، كأنه قال: أبيض كائن من أخت، كقولهم: أنت كريم من بني فلان =.(8/234)
ولو أنه أراد بأبيضهم بياض الثّوب ونقاءه على الحقيقة، لما جاز أن يتعجّب بلفظ أفعل. فالذي جوّز تعجّبه بهذه اللفظة ما ذكرناه.
هذا كلامه.
ولا يخفى أنّ البياض لم يستعمل قطّ في اللؤم والبخل، وإنّما استعماله في المدح، وإنّما كان هنا ذمّا بالنسبة إلى الطبّاخ. والكلمة في البيت أفعل تفضيل لا تعجّب.
وهذا ظاهر.
ولما كان الظاهر باقتضاء المعنى أنّ أفعل في الأبيات الثلاثة للتفضيل لم يتعسّف الشارح المحقق في تأويلها بإخراجها عن التفضيل، بل أجاب بأنّها من قبيل الشّذوذ وضرورة الشعر. فلله درّه ما أبعد مرماه، وما أحكم مغزاه!
وأغرب ما رأيته قول بعضهم: شبّه كثرة أولادها لغير رشدة بالبيض. وأبيض بمعنى كثير البيض جائز. هذا كلامه ولا وجه له.
وقال ابن يعيش في «باب أفعل التفضيل»: من اعتلّ بأنّ المانع من التعجّب من الألوان أنّها معان لازمة كالأعضاء الثابتة، نحو اليد والرجل، فهذان البيتان شاذّان قياسا واستعمالا عنده.
ومن علّل بأنّ المانع من التعجّب كون أفعالها زائدة، فهما شاذان عند سيبويه وأصحابه من جهة القياس والاستعمال.
أمّا القياس فإن أفعالها ليست ثلاثيّة على فعل ولا على أفعل، إنّما هو افعلّ وافعالّ. وأما الاستعمال فأمره ظاهر.
وأمّا عند أبي الحسن الأخفش والمبرّد فإنّهما ونحوهما شاذان من جهة الاستعمال، صحيحان من جهة القياس، لأنّ أفعالهما بزيادة، فجاز تقدير حذف الزوائد. انتهى.
قال ابن هشام اللخميّ في «شرح أبيات الجمل»: البيت الشاهد من رجز لرؤبة بن العجّاج.
وقبله (1): (الرجز)
__________
(1) الرجز في ملحقات ديوانه ص 176وشرح أبيات المغني للبغدادي 8/ 94.(8/235)
لقد أتى في رمضان الماضي ... جارية في درعها الفضفاض
تقطّع الحديث بالإيماض ... أبيض من أخت بني أباض
قال: كذا أنشده ابن جني. انتهى.
ولم أره في ديوانه. ورأيت في «نوادر ابن الأعرابي»، ولم ينسبه إلى أحد:
(الرجز)
يا ليتني مثلك في البياض ... أبيض من أخت بني أباض
جارية في رمضان الماضي ... تقطّع الحديث بالإيماض (1)
قال ابن السيد واللخمي:
وزاد غير ابن الأعرابي على هذا (2):
مثل الغزال زين بالخضاض ... قبّاء ذات كفل رضراض
قال ابن الأعرابي بعد الإنشاد (3): إذا أو مضت تركوا حديثهم، ونظروا إليها من حسنها. وقوله: «في رمضان الماضي»، كان الربيع جمعهم في ذلك الوقت.
وأورده الفراء في «كتاب الأيام والليالي» شاهدا على أنه يقال: رمضان بدون شهر، كما يقال معه.
وقال أبو عمر الزاهد المطرّزي، الشهير بغلام ثعلب في «كتاب اليوم والليلة» بعد إنشاد الأبيات عن ابن الأعرابي وعن الفراء، قالا: يقال هذا شهر رمضان، وهذا رمضان، بلا شهر.
وأنشد فيمن قال بلا شهر:
__________
(1) هو الإنشاد السادس والعشرون بعد التسعمائة في شرح أبيات المغني للبغدادي.
والرجز لرؤبة بن العجاج في ملحقات ديوانه ص 176وشرح أبيات المغني للبغدادي 8/ 95وهو بلا نسبة في الأشباه والنظائر 2/ 81والإنصاف 1/ 149وتاج العروس (خضض، رمض) ولسان العرب (رمض) ومغني اللبيب 2/ 691.
(2) الرجز لرؤبة في ملحقات ديوانه ص 176وتاج العروس (نوض) وشرح أبيات المغني 8/ 95ولسان العرب (خضض، عزم) وهو بلا نسبة في تاج العروس (خضض).
(3) النص في شرح أبيات المغني 8/ 95.(8/236)
* جارية في رمضان الماضي *
وأخبرنا ثعلب عن سلمة عن الفراء عن الكسائي، قال: كان الرّؤاسيّ يكره أن يجمع رمضان، ويقول: بلغني أنه اسم من أسماء الله تعالى. انتهى.
وقال اللخميّ: قال أبو عمرو: والعرب تركوا الشّهور كلّها مجرّدة إلا شهر ربيع وشهر رمضان. ويردّ عليه أنّ رؤبة أتى برمضان هنا مجرّدا من الشّهر، وهو من فصحاء العرب.
وجاء في الحديث الصحيح: «من صام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدّم من ذنبه (1)». ولكنّ إثبات الشهر أفصح، كما نطق به القرآن. انتهى.
و «الدّرع»: القميص (2). و «الفضفاض»: الواسع. و «أخت بني أباض»، بفتح الهمزة بعدها موحّدة، قال اللخميّ: معروفة بالبياض.
وقال ابن السيّد (3): وبنو أباض: قوم. و «الخضاض»، بكسر المعجمة (4):
اليسير من الحلي، وقيل هو نوع منه.
قال الشاعر (5): (الطويل)
ولو أشرفت من كفّة السّتر عاطلا ... لقلت: غزال ما عليه خضاض
و «القبّاء»: الضامرة البطن، فعلاء من القبب، وهو دقّة الخصر.
و «الرضراض»، بالفتح: الكثير اللحم.
__________
(1) حديث صحيح وهو في صحيح البخاري بشرح الفتح 4/ 99، وصحيح مسلم برقم 760، وقد رواه أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة انظر في ذلك الجامع الصغير 8775.
(2) في شرح أبيات المغني: = والدرع: قميص المرأة خاصة =. وهو أدق للمعنى.
(3) قاله في شرح الجمل ورقة 23/ ب.
(4) في لسان العرب (خضض): = الخضاض: الشيء اليسير من الحليّ =. وكذلك في القاموس.
(5) البيت للقناني في تاج العروس (خضض، كفف) وهو بلا نسبة في أساس البلاغة (خضض) وتاج العروس (عطل) وتهذيب اللغة 2/ 165، 549وكتاب العين 4/ 134ولسان العرب (خضض، عطل) ومجمل اللغة 2/ 157والمخصص 4/ 50ومقاييس اللغة 2/ 153.
وفي طبعة بولاق: = لو أشرقت =. بالخرم وبالقاف. وهو تصحيف صوابه من المصادر السابقة الذكر والنسخة الشنقيطية.(8/237)
وقوله: «تقطّع الحديث» إلخ، أورده ابن هشام في «المغني» مع قوله:
* جارية في رمضان الماضي *
وقال إنّ تقطّع حكاية للحال الماضية. وقال الفراء: إنّها إذا تبسّمت، وكان الناس على حديث، قطعوا حديثهم، ونظروا إلى حسن ثغرها.
وكذلك قال ابن السيد (1): الإيماض: ما يبدو من بياض أسنانها عند الضّحك والابتسام. وشبّهه بوميض البرق.
وقد بيّن ذلك ذو الرمّة بقوله (2): (الطويل)
وتبسم لمح البرق عن متوضّح ... كلون الأقاحي شاف ألوانه القطر
وقال آخر: (الطويل)
كأنّ وميض البرق بيني وبينها ... إذا حان من بعض البيوت ابتسامها
وقال اللخمي: معنى الإيماض أنهم إذا تحدّثوا فأومضت إليهم، أي: نظرت، شغلهم حسن عينيها، فقطّعوا حديثهم، وقيل: الإيماض هنا التبسّم.
شبّه ابتسامها بوميض البرق في لمعانه، فيكون معناه كمعنى القول الأوّل.
ويحتمل أن تكون هي المحدّثة، وأنّها تقطّع حديثها بالتبسّم. يصفها بطلاقة الوجه، وسماحة الخلق.
كما قال ذو الرمة (3): (الطويل)
يقطّع موضوع الحديث ابتسامها ... تقطّع ماء المزن في نزف الخمر
واقتصر الدّماميني في «الحاشية الهندية» في تفسير الإيماض على قول اللخمي أوّلا،
__________
(1) شرح الجمل ورقة 23/ ب.
(2) البيت لذي الرمة في ديوانه ص 213.
وفي شرح ديوانه: = أراد تبسم كلمح البرق فأسقط الكاف وشافه يشوفه إذا جلاه. والقطر: المطر =.
(3) البيت لذي الرمة في ديوانه ص 264وأساس البلاغة (وضع) وتاج العروس (قطع) وتهذيب اللغة 13/ 226، 366ولسان العرب (قطع، نزف، نطف).(8/238)
ولكنّ قوله: يجوز رفع جارية على أنّها خبر مبتدأ محذوف، أي: محبوبتي جارية، ويجوز جرّها بربّ محذوفة. انتهى غير جيّد.
قال اللخمي: جارية فاعل يأتي الواقع في البيت الذي قبل هذا، والفضفاض نعت للدّرع، وأبيض نعت للجارية. انتهى.
والعجب من غلام ثعلب، حيث قال بعد ما نقل تفسير الفراء للإيماض: هذا خطأ لأنّ الإيماض لا يكون في الفم، إنّما يكون في العينين، وذلك أنّهم كانوا يتحدّثون، فنظرت إليهم واشتغلوا بحسن نظرها عن الحديث ومضت. انتهى.
ويرد عليه ما تقدم، وقول المبرد في «الكامل» عند قول الشاعر (1): (الخفيف)
لا أحبّ النّديم يومض بالعي ... ن إذا ما انتشى لعرس النّديم
قال: الإيماض تفتّح البرق ولمحه، يقال: أو مضت المرأة (2) إذا ابتسمت. وإنّما ذلك تشبيه للمع ثناياها بتبسّم البرق. فأراد أنه فتح عينه، ثم غمّضها بغمز.
انتهى (3).
وأما قوله: «إذا الرّجال شتوا» إلخ، فهو من أبيات لطرفة بن العبد، هجا بها ملك الحيرة عمرو بن هند.
ويروى كذا:
أنت ابن هند فأخبر من أبوك إذن ... لا يصلح الملك إلّا كلّ بذّاخ (4)
إن قلت نصر فنصر كان شرّفني ... قدما وأبيضهم سربال طبّاخ (5)
__________
(1) البيت لأبي عطاء السندي في البيان والتبيين 3/ 347وهو بلا نسبة في الكامل في اللغة 1/ 74والعقد الفريد 6/ 344.
وفي البيان: = وقال بعضهم لزائر له ورآه يومئ إلى امرأته، وهو أبو عطاء السندي =.
(2) في طبعة بولاق: = البرق =. وهو تصحيف صوابه من النسخة الشنقيطية والكامل في اللغة.
(3) انتهى النقل من الكامل في اللغة 1/ 74.
(4) البيت لطرفة بن العبد البكري ص 150طبعة ملكس سلغسون وتاج العروس (بذخ) ولسان العرب (بذخ).
(5) البيت لطرفة بن العبد ولصدره روايات مختلفة في ديوانه ص 18ولسان العرب (بيض) وهو بلا نسبة في الأشباه والنظائر 8/ 139وأمالي المرتضى 1/ 92والإنصاف 1/ 149وشرح المفصل 6/ 93ولسان(8/239)
ما في المعالي لكم ظلّ ولا ورق ... وفي المخازي لكم أسناخ أسناخ
مع أبيات أخر.
قال ابن الكلبي: هذا الشعر منحول (1).
وقوله: «واشتدّ أكلهم» أراد بالأكل القوت، وهو مضموم الهمزة، أي:
غلت أسعارهم.
ومن روى: «أكلهم» بفتح الهمزة، جعل الأكل بمعنى المأكول، وقد يكون معناه أنّهم إذا شتوا لا يجدون الطّعام إلّا بعد جهد وشدّة وجوع، فإذا وجدوه بالغوا في الأكل.
ومن روى: «أكّلهم» بضم الهمزة وتشديد الكاف فهو جمع آكل، وهو راجع إلى المعنى الذي قدّمت آنفا. والسّربال: القميص.
يقول: إذا دخل فصل الشتاء الذي يمنع من التصرّف، وانقطعت الميرة، وغلت الأسعار، واشتدّ القوت فسربال طبّاخك نقيّ للؤمك. ولو كنت كريما لاسودّ لكثرة طبخه، على ما عهد من سربال الطبّاخين.
وهذا ضدّ قول مسكين الدّارمي (2): (الوافر)
كأنّ قدور قومي كلّ يوم ... قباب التّرك ملبسة الجلال
كأنّ الموقدين لها جمال ... طلاها الزّفت والقطران طالي (3)
بأيديهم مغارف من حديد ... أشبّهها مقيّرة الدّوالي (4)
وأنشد ابن السكيت في «أبيات المعاني» بيت طرفة.
ومثله قول الآخر: (المتقارب)
ثياب طهاتك عند الشّتا ... ء بيض تلألأ لا تدنس
__________
العرب (بيض، عمى) والمقرب 1/ 73.
(1) لم نجد إلا البيت الثاني من هذه الأبيات في طبعة ديوانه دار صادر.
(2) الأبيات لمسكين الدارمي في ديوانه ص 66.
(3) البيت لمسكين الدارمي في ديوانه ص 66وتاج العروس (طلي) ولسان العرب (طلي).
(4) البيت لمسكين الدارمي في ديوانه ص 66ولسان العرب (دلب، دلا).(8/240)
وقدرك لم يعرها طارق ... وكلبك منجحر أخرس
قال: كلبه ينجحر، لأنه لا يأتيه طارق، ولا يكون في مكان يأتيه فيه.
* * * وأنشد بعده، وهو الشاهد الرابع عشر بعد الستمائة (1): (البسيط)
614 - لأنت أسود في عيني من الظّلم
لما تقدّم قبله، من أن «أسود» أفعل تفضيل من السّواد، جاء على الشذوذ.
والمعنى عليه، لأنّ الغرض كون بياض الشّيب في نظره أشد من سواد الظلم، مبالغة في كراهة الشيب.
وهو عجز، وصدره:
* ابعد بعدت بياضا لا بياض له *
والبيت ثاني بيت من قصيدة لأبي الطيّب المتنبّي، قالها في صباه. وقبله وهو مطلعها (2):
ضيف ألّم برأسي غير محتشم ... والسّيف أحسن فعلا منه باللّمم
وتقدّم بيت منها في باب الحال.
قال الإمام الواحدي في «شرح ديوان المتنبي»: جميع من فسّر هذا الشعر قال في قوله:
* لأنت أسود في عيني من الظّلم *
__________
(1) هو الإنشاد الرابع والثمانون بعد السبعمائة في شرح أبيات المغني للبغدادي.
والبيت لأبي الطيب المتنبي في ديوانه 4/ 151وأمالي المرتضى 2/ 317ودرة الغواص ص 18وشرح أبيات المغني للبغدادي 7/ 172ومغني اللبيب ص 543.
(2) ديوان المتنبي 4/ 150.(8/241)
إن هذا من الشاذ الذي أجازه الكوفيون، من نحو قوله:
* أبيض من أخت بني أباض *
وسمعت العروضي (1) يقول: أسود هاهنا: واحد السّود. و «الظّلم»: الليالي الثلاث في آخر الشهر، التي يقال لها: «ثلاث ظلم». يقول لبياض شيبه: أنت عندي واحد من تلك الليالي [الظلم].
على أنّ أبا الفتح قد قال ما يقارب هذا. وقد يمكن أن يكون «لأنت أسود في عيني» كلاما تامّا، ثم ابتدأ يصفه، فقال: «من الظلم»، كما يقال هو كريم من أحرار.
وهذا يقارب ما ذكره العروضي، غير أنه لم يجعل الظّلم الليالي في آخر الشهر.
انتهى.
وهذا التأويل محصّل للمبالغة المذكورة بجعل الأسود من أفراد الليالي الحنادس، مع تفصّيه (2) من الشذوذ.
وقد مشى على هذا التأويل جماعة، منهم الشريف المرتضى في «أماليه» (3)، قال: لأنت أسود في عيني كلام تام، ثم قال من الظّلم، أي: من جملة الظّلم، كما يقال حرّ من أحرار، ولئيم من لئام، أي: من جملتهم.
قال الشاعر (4): (الطويل)
وأبيض من ماء الحديد كأنّه ... شهاب بدا واللّيل داج عساكره
كأنه قال: وأبيض كائن من ماء الحديد (5). فقوله: «من ماء الحديد» وصف
__________
(1) هو أحمد بن محمد بن عبد الله بن يوسف بن محمد بن مالك النهشلي، الأديب أبو الفضل العروضي الصفار الشافعي (416334هـ). قال عبد الغافر هو شيخ أهل الأدب في عصره حدّث عن الأصم وأبي منصور الأزهري والطبقة، وتخرج به جماعة من الأئمة منهم الواحدي. بغية الوعاة 1/ 369.
(2) تفصيه: تخلصه.
(3) أمالي المرتضى 2/ 317.
(4) البيت بلا نسبة في أمالي المرتضى 2/ 317والإنصاف 1/ 153والخصائص 3/ 89، 167.
(5) في أمالي المرتضى 2/ 317: = وأبيض كامن من ماء الحديد =.(8/242)
لأبيض، وليس يتّصل به كاتصال من بأفضل في قولك: هو أفضل من زيد، وكذلك من الظلم في بيت المتنبي.
ومنهم الحريري في «درّة الغواص» (1) قال: وقد عيب على المتنبي هذا البيت.
ومن تأوّل له فيه جعل أسود هنا من قبيل الوصف المحض الذي تأنيثه سوداء، وأخرجه عن حيّز أفعل التفضيل (2)، ويكون على هذا [التأويل] قد تمّ الكلام [وكملت الحجة] في قوله: لأنت أسود في عيني، وتكون من [التي (3)] في قوله من الظلم لتبيين جنس السّواد، لأنّها صلة أسود (4).
ومنهم ابن هشام في «المغني»، قال: علّق بعضهم من بأسود، وهذا يقتضي كونه اسم تفضيل، وذلك ممتنع في الألوان. والصحيح أنّ من الظّلم صفة لأسود، أي: أسود كائن من جملة الظّلم.
وكذلك قوله أيضا (5): (الكامل)
يلقاك مرتديا بأحمر من دم ... ذهبت بخضرته الطّلى والأكبد
«من دم» إمّا تعليل، أي: أحمر من أجل التباسه بالدم، أو صفة. كأنّ السيف لكثرة التباسه بالدم صار دما.
وقوله: «ابعد» هو بكسر الهمزة وفتح العين: أمر من بعد يبعد، من باب فرح، بمعنى هلك وذلّ.
قال الواحديّ: وعنى بالبياض الأوّل الشيّب. يقول: يا بياضا ليس له بياض! يعني (6) به معنى قول أبي تمام (7): (الطويل)
__________
(1) درة الغواص ص 31وشرح أبيات المغني 7/ 173172. والزيادة منهما.
(2) بعده في الدرة وشرح أبيات المغني: = والترجيح بين الأشياء =.
(3) زيادة يقتضيها السياق من شرح أبيات المغني والنسخة الشنقيطية. وليست في درة الغواص.
(4) في جميع طبعات الخزانة: = لا أنها صلة الموصول =. وهو تصحيف صوابه من شرح أبيات المغني للبغدادي.
(5) البيت للمتنبي من مطولة يمدح بها شجاع بن محمد الطائي المنبجي في ديوانه 2/ 62.
وبأحمر، أي بدم أحمر. وخضرة السيف: لون فرنده. والطلى: الأعناق. يقول: يلقاك كل منهم متقلدا سيفا قد تلطخ بدم الأعناق والأكباد، فاحمر واستترت خضرته، وذهبت بها الطلى والأكبد.
(6) في شرح أبيات المغني 7/ 173: = يريد معنى قول أبي تمام =.
(7) البيت لأبي تمام في ديوانه 2/ 324وشرح أبيات المغني للبغدادي 7/ 173.(8/243)
له منظر في العين أبيض ناصع ... ولكنّه في القلب أسود أسفع
وقال الشريف المرتضى قدّس سرّه: المعنى ظاهر للناس فيه أنّه أراد لا ضياء له ولا نور ولا إشراق، من حيث كان حلوله محزنا مؤذنا بتقضّي الأجل.
وهذا لعمري معنى ظاهر، إلّا أنه يمكن فيه معنى آخر وهو يريد: إنّك بياض لا لون بعده، لأنّ البياض آخر ألوان الشعر، فجعل قوله: لا بياض له بمنزلة قوله لا لون بعده.
وإنّما سوّغ ذلك له أنّ البياض هو الآتي بعد السّواد، فلمّا نفى أن يكون للشيب بياض كان نفيا لأن يكون بعده لون. انتهى.
و «بياضا»: تمييز محوّل عن الفاعل، والعرب تكني بالبياض عن الحسن، ومنه يد بيضاء. أي: أهلك الله من لا بياض له.
و «الظّلم»: جمع ظلمة، بمعنى الظلام، ويكون اسما لثلاث ليال من آخر الشهر.
وقوله: «ضيف ألّم برأسي» إلخ، قال الواحدي: عنى بالضّيف الشّيب، كما قال الآخر: (السريع)
أهلا وسهلا بمضيف نزل ... أستودع الله أليفا رحل
يريد الشّيب والشباب. و «المحتشم»: المتقبّض والمستحي. يريد أن الشيب ظهر في رأسه شائعا دفعة من غير أن يظهر في تراخ ومهلة. وهذا (1) معنى قوله: «غير محتشم».
ثم فضّل فعل السيف بالشعر على فعل الشّيب لأنّ الشيب يبيّضه، وذاك أقبح ألوان الشعر، ولذلك سنّ تغييره بالحمرة، والسّيف يكسبه حمرة.
على أن ظاهر قوله: «أحسن فعلا منه باللّمم» يوجب أنّ الشعر المقطوع بالسّيف أحسن من الشعر الأبيض بالشّيب، لأنّ السيف إذا صادف الشّيب قطعه، وإنّما يكسبه حمرة إذا قطع اللحم.
وقد قال البحتريّ: (الطويل)
__________
(1) في النسخة الشنقيطية: = هذا = بدون الواو.(8/244)
وددت بياض السّيف يوم لقينني ... مكان بياض الشّيب حلّ بمفرقي
فجعل نزول السيف برأسه، أحبّ إليه من نزول الشيب. انتهى.
وقد ضمّن البوصيريّ، صاحب البردة، مطلع المتنبّي، فقال، وأجاد:
(البسيط)
ولا أعدّت من الفعل الجميل قرى ... ضيف ألمّ برأسي غير محتشم
وقد تقدّمت ترجمة المتنبي في الشاهد الواحد والأربعين بعد المائة (1).
* * * وأنشد بعده، وهو الشاهد الخامس عشر بعد الستمائة (2): (الكامل)
615 - إنّ الذي سمك السّماء بنى لنا
بيتا دعائمه أعزّ وأطول
على أنّه يجوز أن يكون حذف منه المفضول، أي: أعزّ من دعائم كلّ بيت، أو من دعائم بيتك.
وعليه اقتصر صاحب المفصل واللّباب.
وقدّره بعضهم: أعزّ من سائر الدعائم. وقال ابن المستوفي: قالوا أعزّ وأطول من السماء، على مبالغة الشعراء.
ونقل التّبريزي في «شرح الكافية» عن الطّرمّاح أنّه قال للفرزدق: يا أبا فراس، أعزّ ممّ وأطول ممّ؟ فأذّن مؤذّن، وقال: الله أكبر! فقال الفرزدق: يا لكع ألم تسمع ما يقول المؤذّن، أكبر ممّ ذا؟ فقال: من كلّ شيء. فقال: أعزّ من كلّ عزيز، وأطول من كلّ طويل. انتهى.
__________
(1) الخزانة الجزء الثاني ص 307وما بعدها.
(2) البيت للفرزدق في ديوانه ص 714والأشباه والنظائر 6/ 50وتاج العروس (عزز) وشرح المفصل 6/ 97، 99والصاحبي في فقه اللغة ص 257ولسان العرب (كبر، عزز) والمقاصد النحوية 4/ 42. وهو بلا نسبة في تاج العروس (بني) وشرح الأشموني 2/ 388وشرح ابن عقيل ص 467.(8/245)
ويجوز أن يكون المحذوف مضافا إليه، أي: أعزّ دعامة وأطولها.
وبقي احتمال ثالث، وهو أن يكون أفعل فيه بمعنى فاعل. قال المبرد في «الكامل» (1): وجائز أن يكون التقدير: دعائمه عزيزة وطويلة.
وبه أورده ابن الناظم وابن عقيل في «شرح الألفية».
قال العيني (2): الاستشهاد فيه أنهما على وزن أفعل التفضيل، ولكن لم يقصد بهما تفضيل، فإنّهما بمعنى عزيزة وطويلة.
وعمّم الخلخالي في «شرح تلخيص المفتاح»، فقال: أي من كلّ شيء، أو من بيتك يا جرير، أو من السماء، أو عزيز طويل.
ونقل أبو حيان في «تذكرته» عن أبي عبيدة، أنه قال: يكون أفعل بمعنى فعيل وفاعل، غير موجب تفضيل شيء على شيء، كقوله تعالى (3): {«وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ»}، وبقول الأحوص (4): (الكامل)
* قسما إليك مع الصّدود لأميل *
وبقول الفرزدق:
* بيتا دعائمه أعزّ وأطول *
وبقول الآخر (5): (الطويل)
__________
(1) الكامل في اللغة 2/ 16.
(2) المقاصد النحوية 4/ 43.
(3) سورة الروم: 30/ 27.
(4) عجز بيت للأحوص الأنصاري وصدره:
* إنّي لأمنحك الصّدود وإنّني *
والبيت للأحوص الأنصاري في ديوانه ص 166والأغاني 21/ 110والزهرة ص 181وسمط اللآلئ ص 259 وشرح أبيات المغني 6/ 247وشرح أبيات سيبويه 1/ 277وشرح المفصل 1/ 116والكتاب 1/ 380. وهو بلا نسبة في أمالي المرتضى 1/ 135والمقتضب 3/ 233، 267والمقرب 1/ 256.
(5) البيت للإمام الشافعي في ملحق ديوانه ص 159وتاج العروس (وحد) وللإمام علي بن أبي طالب في ديوانه ص 67ولطرفة بن العبد في بهجة المجالس 2/ 746ولمالك بن القين الخزرجي في كتاب الاختيارين ص 161(8/246)
تمنّى رجال أن أموت وإن أمت ... فتلك سبيل لست فيها بأوحد
قال أبو حيان: وزرى النحويّون عليه هذا القول، ولم يسلّموا له هذا الاختيار، وقالوا: لا يخلو أفعل من التفضيل. وعارضوا حججه بالإبطال، وتأوّلوا ما استدلّ به. انتهى.
ونقل الخلاف ابن الأنباري في «الزاهر»، قال: قولهم الله أكبر، سمعت أبا العباس، يقول: اختلف أهل العربية، فقالوا: معناه كبير.
واحتجوا بقول الفرزدق:
* دعائمه أعزّ وأطول *
أراد: دعائمه عزيزة طويلة.
واحتجّوا بقول الآخر:
* لست فيها بأوحد *
وبقول معن (1): (الطويل)
* لعمرك ما أدري وإنّي لأوجل *
أراد: لوجل.
__________
وهو بلا نسبة في أمالي القالي 3/ 218وكتاب العين (وحد).
(1) صدر بيت لمعن بن أوس المزني وعجزه:
* على أيّنا تعدوا المنيّة أوّل *
والبيت لمعن بن أوس المزني في ديوانه ص 39وتاج العروس (وجل) والحماسة برواية الجواليقي ص 326 والحماسة البصرية 6/ 288وشرح التصريح 2/ 51وشرح الحماسة للأعلم 2/ 670وشرح الحماسة للتبريزي 3/ 78وشرح الحماسة للمرزوقي ص 1126ولسان العرب (كبر، وجل) والمقاصد النحوية 3/ 493. وهو بلا نسبة في الأشباه والنظائر 8/ 140وأوضح المسالك 3/ 161وتاج العروس (عنف، هون) وجمهرة اللغة ص 493وشرح الأشموني 2/ 322وشرح شذور الذهب ص 133وشرح قطر الندى ص 23وشرح المفصل 4/ 87، 6/ 98ولسان العرب (عنف، هون) والمقتضب 3/ 246والمنصف 3/ 35.(8/247)
وبقول الأحوص:
* قسما إليك مع الصّدود لأميل *
أراد: المائل. واحتجّوا بقوله تعالى (1): {«وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ»،} قالوا: معناه هيّن عليه. وقال الكسائي والفراء وهشام: الله أكبر معناه أكبر من كلّ شيء، فحذفت من لأنّ أفعل خبر.
واحتجّوا بقول الشاعر (2): (الطويل)
إذا ما ستور البيت أرخين لم يكن ... سراج لنا إلّا ووجهك أنور
أراد: أنور من غيره.
وقال معن (3): (الطويل)
ولا بلغ المهدون نحوك مدحة ... ولو صدقوا إلّا الذي فيك أفضل
أراد: أفضل من قولهم. انتهى.
وقال المبرد في «الكامل» (4) في تفسير قوله تعالى (5): {«يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفى ََ»}
تقديره في العربية: وأخفى منه. والعرب تحذف مثل هذا فيقول القائل: مررت بالفيل أو أعظم (6)، وإنّه كالبقّة أو أصغر. فأمّا قوله تعالى: {«وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ»} ففيه قولان:
أحدهما: وهو المرضيّ عندنا إنما هو: وهو عليه هيّن، لأنّ الله جلّ وعزّ لا يكون شيء أهون عليه من شيء آخر.
__________
(1) سورة الروم: 30/ 27.
(2) البيت بلا نسبة في الأزهية ص 239والدرر 2/ 68وهمع الهوامع 1/ 116.
(3) البيت للخنساء في لسان العرب (كفف). وليس في ديوانها. وليس في ديوان معن بن أوس المزني أيضا.
(4) الكامل في اللغة 2/ 1615.
(5) سورة طه: 20/ 7.
(6) بعده في الكامل في اللغة 2/ 15: = وأنه كالبقة أو أصغر، ولو قال: رأيت زيدا أو شبيها لجاز، لأن في الكلام دليلا. ولو قال: رأيت الجمل أو راكبا وهو يريد عليه، لم يجز، لأنه لا دليل فيه. والأول إنما قرب شيئا من شيء، وهاهنا إنما ذكر شيئا ليس من شكل ما قبله =.(8/248)
وقال معن بن أوس:
* لعمرك ما أدري وإنّي لأوجل *
أراد: وإنّي لوجل. وكذلك يكون (1) ما في الأذان: «الله أكبر، الله أكبر» [أي: الله كبير]، لأنه إنّما يفاضل بين الشيئين إذا كانا من جنس واحد، فيقال:
هذا أكبر من هذا، إذا شاكله في باب.
فأما: الله أجود من فلان والله أعلم بذلك منه، فوجه بيّن (2) لأنّه من طريق العلم والمعرفة، والبذل والإعطاء. وقوم يقولون: الله أكبر من كلّ شيء. وليس يقع هذا على محض الرؤية (3)، لأنّه تبارك وتعالى ليس كمثله شيء.
وكذلك قول الفرزدق:
إنّ الذي سمك السّماء ... البيت
جائز أن يكون (4) قال للذي يخاطبه: من بيتك، فاستغنى عن ذكر ذلك، بما جرى من المخاطبة والمفاخرة.
وجائز أن تكون (5) دعائمه عزيزة طويلة، كما قال الآخر (6): (الرجز)
قبّحتم يا آل زيد نفرا ... ألأم قوم أصغرا وأكبرا
يريد صغارا وكبارا. فأمّا قول مالك بن نويرة في ذؤاب (7) بن ربيّعة (8) حيث قتل
__________
(1) في الكامل في اللغة 2/ 16: = وكذلك يتأول =.
(2) في الكامل في اللغة: = أعلم بذلك منك، فوجه بين =.
وقد أخطأ محقق طبعة هارون في حاشية رقم / 4/ الجزء الثامن ص 245. عندما نقل خطأ عن الكامل في اللغة.
(3) في طبعة بولاق: = الروية =. وهو تصحيف صوابه من النسخة الشنقيطية وفي الكامل في اللغة 2/ 17.
(4) في طبعة بولاق: = يقول =. وهو تصحيف صوابه من النسخة الشنقيطية والكامل في اللغة 2/ 17.
(5) كذا في طبعة بولاق والكامل في اللغة. وفي النسخة الشنقيطية وطبعة هارون: = أن يكون =.
(6) الرجز بلا نسبة في الكامل في اللغة 2/ 16والمقتضب 3/ 247.
(7) في طبعة بولاق: = داود بن ربيعة =. وفي النسخة الشنقيطية: = دؤاد = وكلاهما تصحيف صوابه من الكامل في اللغة وجمهرة أنساب العرب ص 195194.
(8) جاءت روايته في الكامل في اللغة: = ربيعة =. وفي جمهرة أنساب العرب: = ربيعة =. بهيئة التصغير.(8/249)
عتيبة بن الحارث بن شهاب، وفخر ببني أسد بذلك مع كثرة من قتل بنو يربوع منهم (1): (الكامل)
فخرت بنو أسد بمقتل مالك ... صدقت بنو أسد عتيبة أفضل
فإنّما معناه أفضل ممن قتلوا. على ذلك يدلّ الكلام. وقد أبان ما قلنا في بيته الثاني بقوله (2):
فخروا بمقتله ولا يوفي به ... مثنى سراتهم الذين نقتّل
والقول الثاني في الآية: وهو أهون عليه عندكم، لأنّ إعادة الشيء عند الناس، أهون من ابتدائه حتّى يجعل شيء من غير شيء (3). انتهى.
وقوله: «سمك السماء» إلخ، «سمك» بمعنى رفع، وأراد بالبيت بيت العزّ والشرف.
وقال الخلخالي: المراد بالبيت هو الكعبة، وقيل: هو العزّة. وتبعه العيني والعباسي في «المعاهد».
قال ابن يعيش: «وأطول» ها هنا من الطّول بالفتح، الذي هو في الفضل، لا من الطّول بالضم الذي هو ضدّ القصر. ودلّ على إرادة من امتناعه من التصرّف.
وهذا البيت أورده علماء المعاني على أنّ فيه جعل الإيماء إلى وجه الخبر وسيلة إلى التعريض بالتعظيم لشأنه. وذلك في قوله: إن الذي سمك، ففيه إيماء إلى أنّ الخبر المبنيّ عليه أمر من جنس الرّفعة، بخلاف ما لو قيل إنّ الله، ونحوه.
ثم فيه تعريض بتعظيم بنائه، لكونه فعل من رفع السماء، التي لا أرفع من بنائها ولا أعظم. قال الخلخالي: وإدراك مثل ذلك يحتاج إلى لطف طبع.
والبيت مطلع قصيدة عدّتها تسعة وتسعون بيتا للفرزدق (4) يفخر بها على جرير ويهجوه. وبعده:
__________
(1) البيت بلا نسبة في الكامل في اللغة 2/ 16.
(2) الكامل في اللغة 2/ 16.
(3) في الكامل في اللغة 2/ 17: = حتى يجعل شيئا من لا شيء =. وانتهى النقل من الكامل في اللغة.
(4) هي في ديوانه ص 725714وعدتها في الديوان مائة وخمسة أبيات، وليس كما ذكر البغدادي.(8/250)
بيتا بناه لنا المليك وما بنى ... حكم السّماء فإنّه لا ينقل
بيتا زرارة محتب بفنائه ... ومجاشع وأبو الفوارس نهشل (1)
يلجون بيت مجاشع وإذا احتبوا ... برزوا كأنّهم الجبال المثّل
لا يحتبي بفناء بيتك مثلهم ... أبدا إذا عدّ الفعال الأفضل (2)
وتقدّم بعض أبيات منها في باب الظروف في الشاهد السابع والتسعين بعد الأربعمائة (3).
و «بيتا» في البيتين بالتنوين بدل من الأوّل. وزرارة، بالضم هو زرارة بن عدس بالضم أيضا، ابن زيد بن عبد الله بن دارم. ومجاشع: ابن دارم. ونهشل:
ابن دارم. ومحتب: اسم فاعل من الاحتباء.
أراد أنّهم متمكنون في بيت العزّ كتمكّن المحتبي.
روى صاحب الأغاني (4) بسنده عن سلمة بن عيّاش، قال: دخلت على الفرزدق السجن، وهو محبوس فيه، وقد قال قصيدته:
إنّ الذي سمك السّماء بنى لنا ... البيت
وقد أفحم وأجبل، فقلت له: ألا أرفدك؟ فقال: وهل ذلك عندك؟ فقلت:
نعم.
ثمّ قلت:
بيتا زرارة محتب بفنائه ... البيت
فاستجاده، وغاظه قولي، فقال لي: ممن أنت؟ قلت: من بني عامر بن لؤيّ.
فقال: لئام والله، جاورتهم بالمدينة فما أحمدتهم. فقلت: ألأم والله منهم قومك، جاءك رسول مالك بن المنذر، وأنت سيّدهم وشاعرهم، فأخذ بأذنك يقودك حتّى
__________
(1) البيت للفرزدق في ديوانه ص 714وتاج العروس (عني) وتهذيب اللغة 3/ 213.
(2) البيت للفرزدق في ديوانه ص 714وتهذيب اللغة 3/ 213، 214ولسان العرب (عنا). وهو بلا نسبة في لسان العرب (فني).
(3) الخزانة الجزء السادس ص 490486.
(4) الأغاني 21/ 310والرواية بخلاف كبير.(8/251)
حبسك، فما اعترضه أحد ولا نصرك. فقال: قاتلك الله ما أمكرك (1)! وأخذ البيت فأدخله في قصيدته. انتهى.
و «يلجون» من الولوج، وهو الدّخول. و «المثّل»: جمع ماثل، كركّع جمع راكع. و «الفعال»، بالفتح: الجميل.
وقد عارضه جرير بقصيدة مثلها، عدّتها اثنان وستّون بيتا، منها (2): (الكامل)
أخزى الذي سمك السّماء مجاشعا ... وبنى بناءك بالحضيض الأسفل (3)
إلى أن قال (4):
وقضت لنا مضر عليك بفضلنا ... وقضت ربيعة بالقضاء الفيصل
إنّ الذي سمك السّماء بنى لنا ... عزّا علاك فما له من منقل
وترجمة الفرزدق وجرير قد تقدّمت في أوائل الكتاب (5).
* * * وأنشد بعده، وهو الشاهد السادس عشر بعد الستمائة (6): (الوافر)
616 - ستعلم أيّنا للموت أدنى
إذا دانيت لي الأسل الحرارا
على أنّ المفضول محذوف، والتقدير أدنى من صاحبه. ويجوز أن يكون أفعل،
__________
(1) لم نجد في الأغاني طبعة دار الكتب كلمة: = ما أكرمك =. ولعل محقق طبعة هارون جاء بها من طبعة أخرى. كل الذي وجدناه في الأغاني: = قاتلك الله =.
(2) المعارضة، أو المناقضة، المعروف أن تكون مطابقة لأختها وزنا وعروضا وقافية ورويا. وأيضا حركة الروي واحدة. وهنا روي قصيدة جرير جاء مكسور اللام. بينما روي قصيدة الفرزدق كان مرفوع اللام.
(3) البيت لجرير من قصيدة مطولة قالها الفرزدق في ديوانه ص 940.
(4) ديوان جرير ص 943.
(5) ترجمة الفرزدق في الخزانة الجزء الأول ص 218وترجمة جرير في الخزانة الجزء الأول أيضا ص 90.
(6) البيت لعنترة العبسي في ديوانه ص 236وأمالي ابن الشجري 1/ 22.(8/252)
بمعنى اسم الفاعل. أي: قريب. ويجوز أن يكون المحذوف مضافا إليه، والتقدير:
أقربنا، وأدنانا، أو أقرب رجلين منّا.
والبيت من قصيدة لعنترة العبسيّ، خاطب بها عمارة بن زياد العبسيّ (1)، وتقدم شرح أبيات منها قبل البيت في الشاهد التاسع والستين بعد الخمسمائة من باب المثنى (2). وما بعده من الأبيات لا تعلّق لها به (3) فلذا تركناها.
و «أدنى» و «دانيت» فاعلت، كلاهما من الدنوّ، وهو القرب. قال ابن الشجري في «أماليه»: أراد إلى الموت أدنى. وإذا دانيت (4) إليّ الأسل. فوضع اللام في موضع إلى، لأنّ الدنوّ وما تصرّف منه أصله التعدّي بإلى. ومثله في إقامة «اللام» مقام «إلى» قول الله سبحانه (5): {«بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحى ََ لَهََا»}، أي: أوحى إليها. اه.
و «الأسل» بفتحتين: أطراف الرّماح، وقيل: هي الأسنّة، الواحد أسلة بزيادة الهاء. و «الحرار» بكسر المهملة: جمع حرّى، كعطاش جمع عطشى وزنا ومعنى.
يقول لعمارة العبسيّ: ستعلم إذا تقابلنا، ودانيت الرماح بيننا، أيّنا أقرب إلى الموت. أي: إنّك زعمت، أنّك تقتلني، إذا لقيتني، وأنت أقرب إلى الموت عند ذلك منّي.
* * * وأنشد بعده، وهو الشاهد السابع عشر بعد الستمائة (6): (السريع)
__________
(1) في ديوانه ص 233: = يهجو عمارة بن زياد، وكان يحسد عنترة، ويقول لقومه: إنكم أكثرتم ذكره والله لوددت أني لقيته خاليا حتى أعلمكم أنه عبد =.
(2) الخزانة الجزء السابع ص 490478.
(3) في طبعة بولاق: = لنا به =. وهو تصحيف صوابه من النسخة الشنقيطية.
(4) في طبعة بولاق: = إذا = بحذف الواو، ولقد أثبتنا رواية النسخة الشنقيطية وأمالي ابن الشجري.
(5) سورة الزلزلة: 99/ 5.
(6) هو الإنشاد الرابع بعد الثمانمائة في شرح أبيات المغني للبغدادي.(8/253)
617 - ولست بالأكثر منهم حصا
وإنّما العزّة للكاثر
على أنّ «من» فيه ليست تفضيلية، بل للتبعيض، أي: ليست من بينهم بالأكثر حصا، إلى آخر ما ذكره.
والبيت من قصيدة للأعشى ميمون، فضّل فيها عامر بن الطّفيل عدوّ الله على علقمة بن علاثة الصحابي قبل إسلامه.
وتقدّم شرح أوائل هذه القصيدة وسبب تفضيله على علقمة، في الشاهد الخامس والثلاثين بعد المائتين (1).
وهذه أبيات منها (2):
إن ترجع الحقّ إلى أهله ... فلست بالمسدي ولا النّائر
ولست في السّلم بذي نائل ... ولست في الهيجاء بالجاسر
ولست بالأكثر منهم حصا ... وإنّما العزّة للكاثر
ولست في الأثرين من مالك ... ولا أبي بكر أولي النّاصر
هم هامة الحيّ إذا ما دعوا ... ومالك في السّودد القاهر
سدت بني الأحوص لم تعدهم ... وعامر ساد بني عامر
__________
والبيت للأعشى ميمون في ديوانه ص 193والاشتقاق ص 65وأوضح المسالك 3/ 295والخصائص 1/ 185، 3/ 236وشرح أبيات المغني 7/ 199وشرح التصريح 2/ 104وشرح شواهد الإيضاح ص 351وشرح شواهد المغني 2/ 902وشرح المفصل 6/ 100، 103ولسان العرب (كثر، سدف، حصى) ومغني اللبيب 2/ 572والمقاصد النحوية 4/ 38ونوادر أبي زيد ص 25. وهو بلا نسبة في جمهرة اللغة ص 422وشرح الأشموني 2/ 386وشرح ابن عقيل ص 465وشرح المفصل 3/ 6.
وفي شرح أبيات المغني: = صوابه في الرواية: ولست بالأكثر منه حصا =. وروايته في النسخة الشنقيطية: = منه حصا =.
(1) الخزانة الجزء الثالث ص 367.
(2) الأبيات من مطولة للأعشى يهجو فيها علقمة بن علاثة ويمدح عامر بن الطفيل في المنافرة التي جرت بينهما.
وهي في ديوانه ص 197189وشرح أبيات المغني للبغدادي 7/ 202200. ورواية البغدادي هنا فيها تقديم وتأخير عن الديوان.(8/254)
ساد وألفى قومه سادة ... وكابرا سادوك عن كابر (1)
فاصبر على حظّك ممّا ترى ... فإنّما الفلج مع الصّابر
«المسدي»، من السّدى بالفتح والقصر، وهو ما مدّ من الثوب. يقال:
أسدى الثوب، وسدّاه، وتسدّاه.
و «النائر»: اسم فاعل من نرت الثوب نيرا بالفتح، ونيّرته وأنرته: جعلت له نيرا بالكسر، وهو علم للثّوب، وهدبه ولحمته.
وهذا هو المراد هنا. وهذا مثل يضرب في التبرّي من الشيء، كقولهم (2): «لا في العير ولا في النّفير». وهذا خطاب مع علقمة بن علاثة.
و «السّلم، بالكسر: خلاف الحرب. و «النائل» بمعنى النوال، وهو العطاء.
و «الهيجاء»: الحرب.
و «الجاسر»، بالجيم، من الجسارة، وهي الجراءة (3) والشّجاعة.
و «الحصا»: العدد، والمراد به هنا عدد الأعوان والأنصار، وإنّما أطلق الحصا على العدد لأنّ العرب أمّيّون لا يعرفون الحساب بالقلم، وإنّما كانوا يعدّون بالحصا، وبه يحسبون المعدود. واشتقّوا منه فعلا، فقالوا: أحصيت.
و «العزّة»: القوّة والغلبة. قال الدّماميني: بهذا المعنى فسّرها الجوهري في البيت، ولا مانع من جعلها بمعنى خلاف الذّلّة.
أقول: الجوهريّ لم يذكر البيت هنا، والمعنى الذي ذكره لازم للقوّة والغلبة.
و «الكاثر» بمعنى الكثير، كذا في الصحاح.
ويجوز أن يكون اسم فاعل من كثرتهم، إذا غلبتهم في الكثرة. قال صاحب القاموس: وكاثروهم: غالبوهم في الكثرة فغلبوهم.
__________
(1) البيت للأعشى ميمون في ديوانه ص 191ولسان العرب (طبق).
وفي طبعة بولاق: = مكابر =. وهو تصحيف صوابه من الديوان.
(2) المثل في جمهرة الأمثال 2/ 399والفاخر ص 177وكتاب الأمثال لمجهول ص 126ولسان العرب (نفر) والمستقصى 2/ 264ومجمع الأمثال 2/ 221، 234والوسيط في الأمثال ص 193.
(3) في النسخة الشنقيطية: = الجرأة =.(8/255)
وعليه اقتصر بعض شرّاح شواهد المفصل، قال: الكاثر: الغالب، من كاثرته فكثرته.
و «الأثرين» جمع أثرى جمع تصحيح، بمعنى ذي ثروة وذي ثراء، أي: ذي عدد وكثرة مال. قال الأصمعي: ثرا القوم يثرون، إذا كثروا ونموا.
و «مالك»: هو جدّ عامر بن الطفيل بن مالك بن جعفر بن كلاب بن ربيعة ابن عامر بن صعصعة. و «أبو بكر»: عمّ جدّه، واسمه عبيد بالتصغير بن كلاب بن ربيعة المذكور. فأبو بكر أخو جعفر بن كلاب.
و «الأحوص» هو جدّ والد علقمة ابن علاثة، لأنّ علقمة هو علقمة بن عوف ابن الأحوص بن جعفر المذكور. فالأحوص ومالك أخوان، والطفيل وعوف ابنا عمّ.
و «الفلج»، بضم الفاء: اسم من فلج الرجل على خصمه يفلج فلجا، من باب نصر، وهو الظّفر والفوز. وهذا من قبيل التهكّم.
وقوله: «ولست بالأكثر منهم حصا» ظاهره الجمع بين «أل» وبين «من» في أفعل التفضيل، وجوّزه أبو عمر (1) الجرميّ في الشعر.
رأيت في «نوادر أبي زيد» عند الكلام على هذا البيت، قال أبو عمر (2): هذا يجوز في الشعر، يقال: أنت أكثر منه مالا وأنت الأفضل، إذا لم تأت بمن، فإذا اضطرّ الشاعر، قال: أنت الأفضل منهم.
ولا يجوز إلّا في اضطرار. ولو قال: أنت الأكبر من هؤلاء وهو منهم، لكان معناه أنت أكبر منهم. انتهى.
ونسب ابن جنّي جواز الجمع بينهما إلى الجاحظ في «موضعين من الخصائص» قال في أوائله، في باب الردّ على من اعتقد فساد علل النحويّين: يحكى عن الجاحظ أنه قال: قال النّحويّون إنّ أفعل الذي مؤنّثه فعلى لا تجتمع فيه الألف واللام ومن، وإنّما هو بمن، أو بالألف واللام.
__________
(1) في طبعة بولاق والنسخة الشنقيطية: = أبو عمرو =. وهو تصحيف صوبناه من كتب التراجم.
(2) في طبعة بولاق والنسخة الشنقيطية: = أبو عمرو =. وهو تصحيف صوبناه سابقا. والنص لم نجده في نوادر أبي زيد.(8/256)
ثم قال: وقد قال الأعشى:
ولست بالأكثر منهم حصا ... البيت
رحم الله أبا عثمان، أما إنّه لو علم أنّ «من» في هذا البيت ليست التي تصحب أفعل للمبالغة، لضرب عن هذا القول إلى غيره، مما يعلو فيه قوله، ويعنو لسداده وصحّته خصمه.
وكذلك نسب ابن هشام في «المغني» هذا القول إلى الجاحظ ووهّمه. ومنع النحاة الجمع بينهما.
وبيّن ابن جنّي وجه المنع في «أواخر الخصائص» في باب الامتناع من نقض الفرض، ومثّل له أمثلة ثم قال:
ومن ذلك امتناعهم، أي: امتناع العرب، من إلحاق «من» بأفعل إذا عرّفته باللام، نحو الأحسن منه. وذلك أن «من» تكسب ما يتّصل به من أفعل هذا تخصيصا ما.
ألا تراك لو قلت دخلت البصرة فرأيت أفضل من ابن سيرين، لم يسبق الوهم إلّا إلى الحسن. وإذا قلت الأحسن أو الأفضل أو نحو ذلك فقد استوعبت اللام من التعريف أكثر ممّا تفيده من حصّتها من التخصيص.
وكرهوا أن يتراجعوا بعدما حكموا به من قوّة التعريف إلى الاعتراف بضعفه إذا هم أتبعوه «من» الدالّة (1) على حاجته إليها، وإلى قدر ما تفيده من التخصيص المفاد منه.
فأمّا ما ظنّ أبو عثمان الجاحظ من أنّه يدخل على قول أصحابنا في هذا من قول الشاعر:
ولست بالأكثر منهم حصا ... البيت
فساقط. وذلك أنّ من هذه ليست هي التي تصحب أفعل هذا لتخصيصه.
انتهى.
__________
(1) في طبعة بولاق والنسخة الشنقيطية: = الدلالة =. وهو تصحيف صوابه من الخصائص 3/ 234. وهي وصف لمن.(8/257)
ووجّه الشارح المحقق، تبعا لغيره، ما في هذا البيت من ظاهر الإشكال بثلاثة أجوبة:
أحدها: أنّ من فيه ليست تفضيلية، بل للتبعيض، أي: لست من بينهم بالأكثر حصا.
يحتمل من هذا التقرير (1) أن يكون مراده أنّ الظرف حال من التاء في لست، كما قال ابن جنّي في «الموضع الثاني من الخصائص»، وعبارته: ومن إنّما هي حال من تاء لست، كقولك: لست فيهم بالكثير مالا، أي: لست من بينهم، وفي جملتهم بهذه الصفة، كقولك: أنت والله من بين الناس حرّ، وزيد من جملة رهطه كريم. هذا كلامه.
ويحتمل أن يكون متعلّقا بليس كما قال بعضهم، ونقله ابن هشام في «المغني».
ويرد عليه شيئان:
أحدهما: أنّ ليس لا تدلّ على الحدث (2)، فلا تعمل في الظرف.
وثانيهما: لزوم الفصل بين أفعل وتمييزه بالأجنبيّ.
وأجاب ابن هشام في «المغني» عن الأوّل بأنّ الظرف يجوز تعلّقه بما فيه رائحة الفعل، وفي ليس رائحة النفي (3). وعن الثاني بأنّ الفصل قد جاء للضّرورة في قوله (4): (المتقارب)
* ثلاثون للهجر حولا كميلا *
__________
(1) في طبعة بولاق: = التقدير =.
(2) في طبعة بولاق: = الحديث =. وهو تصحيف صوابه من النسخة الشنقيطية.
(3) كذا في طبعتي بولاق وهارون والنسخة الشنقيطية. وفي المغني: = رائحة قولك انتفى =.
(4) عجز بيت للعباس بن مرداس السلمي وصدره:
* على أنّني بعد ما قد مضى *
والبيت هو الإنشاد الخامس بعد الثمانمائة في شرح أبيات المغني للبغدادي.
والبيت للعباس بن مرداس في ديوانه ص 127وأساس البلاغة (كمل) وتهذيب اللغة 10/ 266وشرح شواهد المغني ص 908وكتاب العين 5/ 379. وهو بلا نسبة في تاج العروس (كمل) وشرح أبيات المغني 7/ 203 والكتاب 1/ 292ولسان العرب (كمل) ومجالس ثعلب 2/ 424والمقاصد النحوية 4/ 489والمقتضب 3/ 55.(8/258)
وأفعل أقوى في العمل من ثلاثون. انتهى.
وزاد ابن يعيش في «شرح المفصل»، قال: ويجوز أن يكون متعلّقا بالأكثر على حدّ ما يتعلق به الظّرف، لا على حدّ: هو أفضل من زيد، كأنّه قال: ولست بالأكثر فيهم، لأنّ أفعل بمعنى الفعل، أظهر منه في ليس، يدلّ على ذلك نصب الظّرف في قوله (1): (الطويل)
فإنّا رأينا العرض أحوج ساعة ... إلى الصّون من ريط يمان مسهّم
ألا ترى أنّ الظرف هنا لا يتعلق إلّا بأحوج، وتعليق الظرف بليس ليس بالسّهل، لجريه مجرى الحروف. انتهى.
ولو جعل الظّرف حالا من الضمير في أكثر لاستغنى عن هذا.
والأكثرون على أن «من» هنا للبيان. قال أبو حيان: «من» في البيت للبيان. لا للتفضيل، والمفضّل عليه معلوم من العهد. وبيان ذلك: أنّك تقول لمخاطبك: زيد أفضل من عمرو، ثم تقول له بعد ذلك: زيد الأفضل من تميم، فمن هنا للبيان، أي: إنّ زيدا الذي هو أفضل من عمرو هو من تميم. ولك أن تجمع بينهما، فتقول: زيد أفضل من عمرو من تميم. انتهى.
وعلى هذا فالظرف حال لا غير.
وقال بعضهم: «من» هنا بمعنى «في». ويتعلّق بالأكثر. نقله شارح أبيات الموشح.
وهذا كلّه جواب واحد لإخراج «من» من التفضيل، لا أجوبة متعدّدة كما زعم العيني. غاية ما في الباب الذاهبون إلى إخراجها من التفضيل اختلفوا في معناها.
الجواب الثاني: أنّ اللام زائدة، و «من «تفضيلية. وهذا الجواب لأبي زيد في «نوادره».
__________
(1) البيت لأوس بن حجر في ديوانه ص 121وشرح شواهد الإيضاح ص 167، 353وشرح المفصل 2/ 61ولسان العرب (سهم، صون). وهو بلا نسبة في تذكرة النحاة ص 113وشرح شذور الذهب ص 531وشرح المفصل 6/ 104.(8/259)
الثالث: أنّ «من» تفضيلية، لكنّها متعلقة بأفعل آخر عاريا من اللام، أي:
بالأكثر أكثر منهم. فأكثر المنكّر المحذوف بدل من الأكثر المعرّف المذكور.
وإنّما ضعّفه بقوله: «على ما قيل»، لما ذكره في باب البدل من أنّ النكرة إذا كانت بدل كلّ من معرفة يجب وصفها، وليس هنا وصف.
هذا والرواية الصحيحة في هذا البيت، كما رواه أبو زيد في «نوادره»، وهي ثابتة في ديوانه، ويدلّ عليها سياق الأبيات، إنما هي: «ولست بالأكثر منه»، أي: من عامر.
وعليها فيسقط الجواب الأوّل، ويجاب بأحد الجوابين الأخيرين.
ولما وصلت إلى هنا رأيت شرح المنافرة التي بين علقمة وبين عامر بأبسط مما مرّ، في «أوّل شرح المقامات الحريريّة للشّريشي»، فلا بأس بإيراده، قال:
نافر: حاكم في النّسب. وكانوا في الجاهلية، إذا تنازع الرّجلان في الشرف تنافرا إلى حكمائهم، فيفضّلون الأشرف. وسميت منافرة لأنهم كانوا يقولون عند المفاخرة: أنا أعزّ نفرا.
وأشهر منافرة في الجاهلية (1) منافرة عامر بن الطفيل بن مالك بن جعفر بن كلاب (2) مع علقمة بن علاثة بن عوف بن الأحوص بن جعفر، حين قال له علقمة:
الرّياسة لجدّي الأحوص، وإنّما صارت إلى عمّك أبي براء من أجله، وقد استسنّ عمّك (3) وقعد عنها فأنا أولى بها منك، وإن شئت نافرتك.
فقال له عامر: قد شئت والله، لأنا أشرف منك حسبا، وأثبت نسبا، وأطول قصبا.
فقال علقمة: أنافرك وإنّي لبرّ، وإنّك لفاجر، وإنّي لولود، وإنّك لعاقر (4)، وإنّي لواف، وإنّك لغادر.
__________
(1) خبر هذه المنافرة في مقدمة ديوان عامر بن الطفيل ص 10وديوان لبيد ص 286، 331، 334، 343 والأغاني 16/ 297283وسرح العيون ص 166162ومختارات ابن الشجري ص 548.
(2) في النسخة الشنقيطية: = مالك بن كلاب =. وهو تصحيف صوابه من طبعة بولاق والمصادر الآنفة الذكر.
(3) في شرح المقامات للشريشي 2/ 48: = وقد أسن عمك =.
(4) بعده في شرح المقامات: = وإني لعفّ وإنك لعاهر =.(8/260)
فقال عامر: أنافرك إنّي أسمى منك سمّة (1) وأطول قمّة، وأحسن لمّة، وأجعد جمّة، وأبعد همّة.
فقال علقمة: أنا جميل، وأنت قبيح، ولكن أنافرك، إنّي أولى بالخيرات منك.
فخرجت أمّ عامر، فقالت: نافره أيّكما أولى بالخيرات. ففعلوا على أن جعلوا مائة من الإبل يعطيها الحكم الذي ينفّر عليه صاحبه. فخرج علقمة ببني خالد بن جعفر، وبني الأحوص، ومعهما القباب والجزر والقدور (2)، ينحرون في كلّ منزل ويطعمون.
وخرج عامر ببني مالك، وقال: إنّها المقارعة (3) عن أحسابكم، فاشخصوا بمثل ما شخصوا به. وقال لعمّه أبي براء: أعنّي. فقال: سبّني. فقال: كيف أسبّك وأنت عمّي؟ فقال: وأنا لا أسبّ الأحوص، وهو عمّي! ولم ينهض معه.
فجعلا منافرتهما إلى أبي سفيان بن حرب بن أميّة، ثم إلى أبي جهل بن هشام، فلم يقولا بينهما شيئا.
ثم رجعا إلى هرم بن قطبة بن سيّار (4) الفزاري، فقال: نعم لأحكمنّ بينكما، فأعطياني موثقا أطمئنّ به أن ترضيا بحكمي، وتسلّما لما قضيت بينكما (5).
ففعلا، فأقاما عنده أياما. ثم أرسل إلى عامر، فأتاه سرّا، فقال: قد كنت أحسب
__________
(1) في شرح المقامات: = أسنى مني سنة =. ونظنها تصحيفا، فهي لا تستقيم معنى وسجعا.
والسمة بضم وتشديد الميم: الخاصة من القوم، كالسامة فهي تقابل العامة: = والجزور والقدر =. وهو تصحيف صوابه ما رواه البغدادي هنا.
(2) في شرح المقامات: = والجزور والقدر =. وهو تصحيف صوابه ما رواه البغدادي هنا.
(3) في طبعة بولاق: = لقارعة = باللام. وهو تصحيف صوابه من النسخة الشنقيطية ومن شرح المقامات.
(4) في جميع طبعات الخزانة: = قطبة بن سنان =. وهو تصحيف صوابه من جمهرة أنساب العرب ص 258. ففي الجمهرة: = هرم بن قطبة بن سيار بن عمرو الذي تحاكم إليه علقمة بن علاثة وعامر بن الطفيل =.
وفي حاشية طبعة هارون 8/ 259: = كذا في ط وأصل ش، وفي هامش ش: = بخط المؤلف: سنان، والصواب سيار =. لكني أبقيت ما ثبت أنه بخط المؤلف حفاظا على حقه، مع ظهور الخطأ فيه، فالصواب سيار بالراء، كما في شرح الشريشي. ويؤيده ما في الاشتقاق 283وجمهرة أنساب العرب لابن حزم 258. وسبب الالتباس في هذا مشابهته لهرم بن سنان بن أبي حارثة ممدوح زهير، فهذا بنونين =.
(5) في شرح المقامات: = وتسلما ما قضيت بينكما =.(8/261)
أنّ لك رأيا وأنّ فيك خيرا، وما حبستك (1) هذه المدّة إلا لتنصرف عن صاحبك.
أتنافر رجلا لا تفخر أنت ولا قومك إلّا بآبائه، فما الذي أنت به خير منه؟
فقال عامر: نشدتك الله والرّحم أن لا تفضّل عليّ علقمة، فو الله لئن فعلت لا أفلح بعدها أبدا. هذه ناصيتي فاجززها واحتكم في مالي، فإن كنت لا بدّ فاعلا فسوّ بيني وبينه. فقال: انصرف فسوف أرى من آرائي (2).
فانصرف عامر وهو لا يشكّ أنه ينفّره عليه. ثم أرسل إلى علقمة سرّا فقال له ما قال لعامر، وقال: أتفاخر رجلا هو ابن عمّك في النسب؟ وأبوه أبوك، وهو مع ذلك أعظم منك غناء، وأحمد لقاء، وأسمح سماحا، فما الذي أنت به خير منه؟ فردّ عليه علقمة، ما ردّ به عامر، وانصرف، وهو لا يشكّ أنّه ينفّر عامرا عليه.
فأرسل هرم إلى بنيه وبني أخيه، وقال لهم: إنّي قائل فيهم غدا مقالة، فإذا فرغت فليطّرد بعضكم عشر جزائر فلينحرها عن علقمة، وليطّرد بعضكم مثلها، فلينحرها عن عامر، وفرّقوا بين الناس لا يكونوا بينهم جماعة (3).
ثم أصبح هرم فجلس مجلسه، وأقبل عامر وعلقمة حتّى جلسا، فقال هرم:
«إنّكما يا ابني جعفر قد تحاكمتما عندي، وأنتما كركبتي البعير الآدم الفحل تقعان الأرض (4)، وليس فيكما واحد إلّا وفيه ما ليس في صاحبه، وكلاكما سيّد كريم».
ولم يفضّل واحدا منهما على صاحبه، لكيلا يجلب بذلك شرا بين الحيّين. ونحر الجزر وفرّق الناس (5).
وعاش هرم حتّى أدرك خلافة عمر، فقال: يا هرم، أيّ الرجلين كنت مفضّلا لو فعلت؟ قال: لو قلت ذلك اليوم عادت جذعة، ولبلغت شعفات هجر (6)! فقال
__________
(1) كذا في الأغاني وشرح المقامات. وهو الصواب.
وفي طبعة بولاق والنسخة الشنقيطية: = وما حسبتك =. وهو تصحيف.
(2) في الأغاني وشرح المقامات: = فسوف أرى رأيي =.
(3) في الأغاني: = لا تكون لهم جماعة =. وفي شرح المقامات: = لا تكون بينهم جماعة =.
(4) في الأغاني: = تقعان إلى الأرض معا =. وفي شرح المقامات: = تقعان على الأرض =.
(5) كذا في النسخة الشنقيطية، وهي رواية أصوب. وفي طبعة بولاق وشرح المقامات: = وفرق على الناس =.
وفي الأغاني: = وفرقوا الناس =.
(6) في الأغاني: = شعاف هجر =. وفي اللسان (جذع): = وإذا أطفئت حرب بين قوم فقال بعضهم: إن(8/262)
عمر: نعم مستودع السّرّ أنت يا هرم، مثلك فليستودع العشيرة أسرارهم!
والحكاية طويلة قد اختصرناها (1).
وقال فيه الأعشى (2):
حكّمتموه فقضى بينكم ... أبلج مثل القمر الباهر
لا يأخذ الرّشوة في حكمه ... ولا يبالي غبن الخاسر
انتهى كلام الشريشي.
وقد شرحها بأكثر من هذا مرّتين أو ثلاثا الأصبهانيّ في «الأغاني»، ومن أراد بسط الكلام فلينظره في المجلد الخامس عشر من تجزئة عشرين (3).
* * * وأنشد بعده، وهو الشاهد الثامن عشر بعد الستمائة (4): (الوافر)
618 - ورثت مهلهلا والخير منه
زهيرا نعم ذخر الذّاخرينا
على أنّ اللام في «الخير» زائدة، و «من» في «منه» تفضيلية. ويجوز أن يقدر أفعل آخر عاريا من اللام يتعلّق به منه، والتقدير: والخير خيرا منه.
وقال الإمام البيضاوي في «لبّ اللباب»: ولا يستعمل، أي: اسم التفضيل،
__________
شئتم أعدناها جذعة، أي أول ما يبتدأ فيها =.
والشعفات: جمع شعفة، وهي أعلى الجبل.
(1) في شرح المقامات: = والحكاية طويلة =.
(2) البيتان للأعشى في ديوانه ص 191من قصيدة المنافرة.
(3) هي في الجزء السادس عشر ص 291وما بعدها طبعة دار الكتب المصرية.
(4) البيت لعمرو بن كلثوم التغلبي في ديوانه ص 90وشرح القصائد العشر للخطيب التبريزي ص 349وشرح المعلقات السبع للزوزني ص 215.
وروايته في شرح القصائد العشر:
ورثت مهلهلا والخير منهم ...(8/263)
إلّا بمن، أو اللام، أو الإضافة. و «الخير منه» قليل. وهذه (1) إشارة إلى البيت.
وأجاب شارحه السيّد عبد الله بما أجاب به الشارح المحقق، من التخريجين.
ولم يقل إن «من» ليس فيه تفضيلية، كما قال في البيت الذي قبله، لأنّه لم يتأتّ ذلك هنا.
والبيت من معلقة عمرو بن كلثوم التغلبي، وتقدّم سبب نظمها مع شرح أبيات منها في الشاهد الثامن والثمانين بعد المائة (2)، وبعده (3):
وعتّابا وكلثوما جميعا ... بهم نلنا تراث الأكرمينا
وقوله: «ورثت مهلهلا» إلخ، هو بالتكلّم. و «مهلهل»: اسم جدّ الشاعر من قبل أمّه. وهو أخو كليب بن وائل، وصاحب حرب البسوس أربعين سنة.
وتقدّمت ترجمته مع سبب تسميته بمهلهل في الشاهد العاشر بعد المائة (4).
وقوله: «والخير منه»، أي: ورثت خيرا من مهلهل. و «زهيرا» عطف بيان للخير، وإنّما كان زهير خيرا من مهلهل لأنّه جدّه من قبل أبيه، فإنّ صاحب المعلقة كما تقدّمت ترجمته، هو عمرو بن كلثوم بن عتّاب بن مالك بن ربيعة بن زهير بن جشم بن بكر بن حبيب بن عمرو بن غنم بن تغلب بن وائل.
والمخصوص بالمدح في «نعم ذخر الذاخرينا» زهير على حذف مضاف، يريد (5): ورثت مجد مهلهل ومجد زهير، فنعم ذخر الذاخرين زهير، أي: مجده وشرفه، للافتخار به.
وقوله: «وعتّابا وكلثوما» إلخ، «عتّاب»: جدّ الشاعر. «وكلثوم»:
أبوه.
__________
(1) في طبعة بولاق: = وهذا =.
(2) الخزانة الجزء الثالث ص 176169.
(3) البيت لعمرو بن كلثوم في ديوانه ص 91وشرح القصائد العشر للتبريزي ص 349وشرح المعلقات السبع للزوزني ص 216.
(4) الخزانة الجزء الثاني ص 144وما بعدها.
(5) شرح المعلقات السبع للزوزني ص 215.(8/264)
يقول (1): ورثنا مجد عتّاب وكلثوم، وبهم بلغنا ميراث الأكارم، أي: حزنا مآثرهم ومفاخرهم، فشرفنا بها وكرمنا.
* * * وأنشد بعده، وهو الشاهد التاسع عشر بعد الستمائة، وهو من أبيات الإيضاح للفارسي (2): (الطويل)
619 - فإنّا رأينا العرض أحوج ساعة
إلى الصّون من ريط يمان مسهّم
على أنّه يجب أن يلي أفعل التفضيل إمّا «من» التفضيلية، كما في قولهم: زيد أفضل من عمرو، وإمّا معموله كما في البيت، فإنّ «ساعة» ظرف «لأحوج».
ومثله قوله تعالى (3): {«النَّبِيُّ أَوْلى ََ بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ»}، وقال تعالى (4): {«قََالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمََّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ».}
وقد يفصل بالنداء أيضا. قال جرير (5): (الكامل)
لم ألق أخبث يا فرزدق منكم ... ليلا وأخبث بالنّهار نهارا
قال أبو البقاء في «شرح الإيضاح»: «رأينا» هنا، بمعنى علمنا. و «أحوج» اسم يراد به التفضيل، وهو مفعول ثان لرأينا، و «ساعة» منصوب بأحوج و «إلى
__________
(1) شرح المعلقات السبع للزوزني ص 216.
(2) البيت لأوس بن حجر في ديوانه ص 121وتاج العروس (سهم، صون) ولسان العرب (كثر، سهم، صون) والمخصص 16/ 86والوساطة بين المتنبي وخصومه ص 311.
ورواية ديوانه:
فإنا وجدنا العرض أحوج ساعة ...
(3) سورة الأحزاب: 33/ 6.
(4) سورة يوسف: 12/ 33.
(5) البيت لجرير في ديوانه ص 522وتذكرة النحاة ص 47والدرر 5/ 298وشرح عمدة الحافظ ص 764.
وهو بلا نسبة في همع الهوامع 2/ 104.(8/265)
الصّون» متعلّق به أيضا، وكذلك «من ريط».
وجاز أن يتعلق حرفا الجرّ بأفعل لأنّ معناهما مختلف، و «من» هي التي يقتضيها (1) أفعل.
والأقوى أن يقدّم «من» على «إلى»، لأنّ تعلّق من بأفعل يوجب معنى في أفعل وهو التخصيص، فإذا فصلت بينهما ضعفت علقته به، ومع هذا فهو جائز ورد القرآن به. قال تعالى (2): {«وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ»}. وقال تعالى (3):
{«وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ»}.
وهو أكثر من أن أحصيه. وإنّما ذكره أبو علي ليبيّن لك، أن عمل أحوج في ساعة، ليس على حدّ عمله في «من» التي للمفاضلة، كما أنّ قوله بالأكثر منهم لا يتعلّق من بالأكثر على هذا الحدّ، بل على حدّ تعلّق ساعة بأحوج.
وأما «إلى»، و «من ريط»، فيتعلّقان بأحوج لا محالة. فإن قيل: لم لا تعلّق ساعة برأينا؟ قيل: يمتنع من وجهين:
أحدهما: أنّ المعنى ليس على هذا، بل المعنى على شدّة حاجة العرض إلى الصّون في أيّ ساعة كانت.
والثاني: أنّك لو نصبتها برأينا لفصلت بها بين أحوج، وما يتعلّق به، وهو أجنبيّ، فلم يجز. انتهى كلام أبي البقاء.
والبيت من قصيدة طويلة جدا لأوس بن حجر (4)، وقبله:
ومستعجب ممّا يرى من أناتنا ... ولو زبنته الحرب لم يترمرم (5)
فإنا وجدنا العرض ... البيت
__________
(1) في النسخة الشنقيطية: = تقتضيها =.
(2) سورة ق: 50/ 16.
(3) سورة الواقعة: 56/ 85.
(4) هي في ديوانه ص 124117في ثمانية وأربعين بيتا.
(5) البيت لأوس بن حجر في ديوانه ص 121وأساس البلاغة (زبن، عجب) وتاج العروس (عجب) ولسان العرب (رمم) ومقاييس اللغة 2/ 380، 4/ 644. وهو بلا نسبة في تاج العروس (مصع) وجمهرة اللغة ص 199وكتاب العين 1/ 318، 7/ 374ولسان العرب (عجب) ومجمل اللغة 2/ 363.(8/266)
أرى حرب أقوام تدقّ وحربنا ... تجلّ فنعروري بها كلّ معظم
ترى الأرض منّا بالفضاء مريضة ... معضّلة منّا بجمع عرموم (1)
وقوله: «ومستعجب ممّا»، إلخ (2) الواو واو ربّ، و «مستعجب»: اسم فاعل. قال صاحب العباب: واستعجبت منه: تعجّبت منه. وأنشد هذا البيت.
و «الأناة»، بالفتح: اسم للتأنّي، يقال: تأنّى في الأمر: تمكّث ولم يعجل و «زبنته»: دفعته، يقال زبنت الناقة حالبها زبنا، من باب ضرب: دفعته برجلها، فهي زبون. وحرب زبون أيضا، لأنّها تدفع الأبطال عن الإقدام خوف الموت. ومنه الزّبانية، لأنّهم يدفعون أهل النار إليها.
قال صاحب الصحاح: وترمرم، إذا حرّك فاه للكلام. وأنشد هذا البيت.
وقوله: «فإنّا وجدنا العرض» إلخ، «العرض»، بالكسر، قال الشريف في «أماليه»: هو موضع المدح والذمّ من الإنسان. فإذا قيل ذكر عرض فلان، فمعناه ذكر ما يرتفع به، أو ما يسقط بذكره، ويمدح، أو يذمّ به.
وقد يدخل بذلك ذكر الرجل نفسه، وذكر آبائه وأسلافه لأنّ كلّ ذلك مما يمدح به ويذمّ.
والذي يدل على هذا أنّ أهل اللغة لا يفرقون في قولهم: شتم فلان عرض فلان، بين أن يكون ذكره في نفسه بقبيح، أو شتم سلفه وآباءه.
ويدلّ عليه قول مسكين الدّارميّ (3): (الرمل)
ربّ مهزول سمين عرضه ... وسمين الجسم مهزول الحسب
فلو كان العرض نفس الإنسان، لكان الكلام متناقضا، لأنّ السّمن والهزال،
__________
(1) البيت لأوس بن حجر في ديوانه ص 121وأساس البلاغة (مرض، عضل) وتاج العروس (مرض، عضل) وتهذيب اللغة 1/ 475، 12/ 35وديوان الأدب 2/ 373ولسان العرب (مرض، عضل) ومقاييس اللغة 4/ 346.
(2) في طبعة بولاق والنسخة الشنقيطية: = مستعجب منا =. وهو تصحيف صوابه ما أثبتناه نقلا عن طبعة هارون 8/ 265.
(3) البيت لمسكين الدارمي في ديوانه ص 23وتاج العروس (عرض) ولسان العرب (عرض).(8/267)
يرجعان إلى شيء واحد. إلى آخر ما فصّله (1).
وردّ على ابن قتيبة في زعمه، أنّ العرض هو النّفس، ونقض ما استدلّ به.
وقد أحكم الكلام على معنى العرض ابن السيّد البطليوسيّ أيضا في «أوائل شرح أدب الكاتب لابن قتيبة».
وكذلك حقّق المراد من العرض ابن الأنباري في «كتابه الزاهر»، ولولا خوف الإطالة لأوردت كلامهما.
ويؤيّد كلام الشريف المرتضى قول ابن السكيت في شرح هذا البيت من «شرح ديوان أوس» يقول: العرض يحتاج سويعة إلى أن يصان. فإن سفه الرجل عليه قطع عرضه ومزّقه إن لم يحتمل فيصونه. انتهى.
وقوله: «أحوج» قال ابن جنّي في «إعراب الحماسة»: هذا خلاف القياس، لأنّه أفعل تفضيل من المزيد، قالوا: ما أحوجه إلى كذا، وقياسه: ما أشدّ حاجته، أو ما أشدّ احتياجه. وأنشد هذا البيت.
وفيه نظر، فإنّ الثلاثي المجرّد منقول ثابت. قال صاحب الصحاح وغيره:
وحاج يحوج حوجا، أي: احتاج، قال الكميت (2): (الطويل)
غنيت فلم أرددكم عند بغية ... وحجت فلم أكددكم بالأصابع
وأحوجه إليه غيره. وأحوج أيضا بمعنى احتاج. انتهى.
وروى بدله: «أفقر ساعة» وهذا عند الجوهري شاذّ. قال: وقولهم: فلان ما أفقره وما أغناه، شاذ لأنّه يقال في فعلهما افتقر واستغنى، فلا يصحّ التعجب منه.
انتهى.
وفيه نظر أيضا فإنّ ثلاثيه مسموع أيضا. قال صاحب المصباح: الفقير فعيل
__________
(1) أمالي المرتضى 1/ 633632.
(2) البيت للكميت بن زيد في ديوانه 1/ 251وتاج العروس (حوج، كدد) وكتاب العين 5/ 273ولسان العرب (كدد) ومجمل اللغة 2/ 117، 4/ 192ولكثير في ديوانه ص 123وأساس البلاغة (كدد). وهو بلا نسبة في تهذيب اللغة 5/ 135، 9/ 435ولسان العرب (حوج) والمخصص 12/ 222ومقاييس اللغة 2/ 114، 5/ 126.(8/268)
بمعنى فاعل، يقال: فقر يفقر، من باب تعب، إذا قلّ ماله. قال ابن السرّاج: ولم يقولوا فقر، أي: بالضم، استغنوا عنه بافتقر. انتهى.
وتنوين ساعة للتنكير والتقليل، كما فهم من كلام ابن السكّيت. وقال ابن برّيّ: قال أبو الفتح بن جنّي: قوله ساعة يريد ساعة الغضب، فاستغنى عن الإضافة لدلالة اللفظ عليه. انتهى.
والمعنى أنّ العرض يصان عند ترك السّفه في أقلّ من ساعة، إذا ملك نفسه، فكيف لا يصان إذا داوم عليه. والعرض أكثر احتياجا إلى الصّون من الثياب النفيسة، فإنّ عرض الرجل أحوج إلى الصّيانة عن الدّنس والرّين من الثوب الموشّى المزيّن.
وعنى بالساعة ساعة الغضب والأنفة، فإنّه كثيرا ما أهلك الحلم وأتلفه. وفي المثل السائر (1): «الغضب غول الحلم».
والرّيط واحده ريطة، قال صاحب المصباح: الرّيطة بالفتح: كلّ ملاءة ليست لفقين، أي: قطعتين، والجمع رياط وريط أيضا، مثل تمرة وتمر. وقد يسمّى كلّ ثوب رقيق ريطة. انتهى.
والمعنى الأخير هو المراد هنا. قال ابن السكيت: ومسهّم: فيه وشي مثل أفواق السّهام (2). وقال الجوهري: المسهّم: البرد المخطّط.
وقوله: «أرى حرب أقوام» إلخ. قال صاحب المصباح: الدّقيق: خلاف الجليل. ودقّ يدقّ من باب ضرب دقّة: خلاف غلظ، فهو دقيق.
ودقّ الأمر دقّة أيضا، إذا غمض وخفي معناه، فلا يكاد يفهمه إلّا الأذكياء.
وجلّ الشيء يجلّ بالكسر: عظم فهو جليل.
قال ابن السكيت: يقول: نحن نسرع إلى هذه الحرب، كما يعجل الرجل إلى فرسه فيعروريه، أي: يركبه عريانا. ويقال: قد اعرورى فرسه، إذا ركبه عريا، بالضم. انتهى.
__________
(1) غول الحلم، أي: مهلكه. والمثل يضرب في وجوب كظم الغيظ. وهو في لسان العرب (صرع) والمستقصى 1/ 337ومجمع الأمثال 2/ 61.
(2) في طبعة بولاق: = أفراق =. وهو تصحيف صوابه من النسخة الشنقيطية.
الأفواق: جمع فوق بضم الفاء، وهو مشق رأس السهم حيث يقع الوتر.(8/269)
وقوله: «ترى الأرض منّا» إلخ، في الصحاح: وعضّلت الشاة تعضيلا إذا نشب الولد فلم يسهل مخرجه، وكذلك المرأة، وهي شاة معضّلة ومعضّل أيضا بلا هاء. وعضّلت الأرض بأهلها: غصّت بهم. وأنشد هذا البيت.
والعرمرم: الجيش الكثير. قال ابن السكيت: هذا مثل ضربه، شبّه الأرض بالحبلى التي تتمخّض وقد نشب ولدها في بطنها. فيقول: قد نشبنا بالأرض من كثرتنا.
وأوس بن حجر شاعر جاهلي، تقدّمت ترجمته في الشاهد الرابع عشر بعد الثلثمائة (1).
وحجر، بفتح الحاء والجيم.
* * * وأنشد بعده، وهو الشاهد الموفي للعشرين بعد الستمائة (2): (الرجز)
620 - واستنزل الزّبّاء قسرا وهي من
عقاب لوح الجوّ أعلى منتمى
على أنّ تقدم «من» على أفعل التفضيل، إذا لم يكن مجرورها اسم استفهام خاصّ بالشعر.
وهذا مذهب الجمهور، وهو قليل عند ابن مالك لا ضرورة. وأمّا تقدّمها على المبتدأ، نحو: من زيد أنت أفضل، فضرورة اتفاقا.
وقال ابن هشام اللخميّ في شرح هذا البيت: من عقاب متعلق بأعلى وإنّما قدّمه ضرورة، لأنّ أفعل لا يقوى قوّة الفعل، فيعمل عمله فيما قبله فلا يجوز. من زيد أنت أفضل، فتقدّم الجارّ عليه، لضعفه، إلّا أنّه جاز هنا للضرورة.
__________
(1) الخزانة الجزء الرابع ص 350.
(2) لم نجد له ذكرا فيما عدنا إليه من مصادرنا القديمة.
في حاشية طبعة هارون 8/ 268: = من مقصورة ابن دريد =.(8/270)
كما قال الفرزدق (1): (الطويل)
وقالت لنا أهلا وسهلا وزوّدت ... جنى النّحل أو ما زوّدت منه أطيب
انتهى.
ولا يخفى أنّ المثال مخالف للبيتين، فإنّه مما تقدّمت «من» فيه على المبتدأ والخبر، والبيتان مما تقدّمت «من» فيه على الخبر فقط.
والبيت من مقصورة ابن دريد المشهورة. وقبله:
وقد سما عمرو إلى أوتاره ... فاحتطّ منها كلّ عالي المستمى
سما يسمو سموا: ارتفع. و «الأوتار»: جمع وتر بكسر الواو وفتحها وهو طلب الإنسان بجناية. و «احتطّ»: افتعل من الحطّ بالمهملتين: أنزل.
و «عال»: مرتفع. و «مستمى»: مفتعل من سما يسمو.
و «عمرو» هو عمرو بن عديّ بن نصر بن ربيعة بن عبد الحارث بن معاوية بن مالك بن غنم بن نمارة بن لخم، ملك الحيرة، ملك بعد خاله جذيمة مائة وثماني عشرة (2) سنة. وهو أوّل من ملك من ملوك لخم. وكان مدّة ملك لخم بالحيرة خمسمائة سنة.
وكان من حديث عديّ (3) أنّ جذيمة قال ذات يوم لندمائه: لقد ذكر لي غلام من لخم في أخواله من بني إياد، له ظرف وأدب، فلو بعثت إليه وولّيته كأسي، والقيام على رأسي، لكان الرأي.
فقالوا: الرأي ما رآه الملك فليبعث إليه. ففعل، فلمّا قدم عليه قال: من أنت؟
قال: أنا عديّ بن نصر. فولّاه مجلسه، فعشقته رقاش بنت مالك (4)، أخت جذيمة،
__________
(1) البيت للفرزدق في ديوانه ص 32والدرر 5/ 296وشرح المفصل 2/ 60والمقاصد النحوية 4/ 43وهو بلا نسبة في الأشباه والنظائر 8/ 294، 295وتذكرة النحاة ص 47وشرح الأشموني 2/ 389وشرح ابن عقيل ص 468وشرح عمدة الحافظ ص 766وهمع الهوامع 2/ 104.
(2) في طبعة بولاق: وثمان عشرة =. وهي لغة صحيحة جائزة.
(3) خبر عدي وجذيمة في الأغاني 15/ 312.
(4) في الأغاني 15/ 312: = رقاش ابنة الملك، أخت جذيمة =.(8/271)
فقالت له: يا عديّ إذا سقيت القوم، فامزج لهم، وعرّق للملك (1)، أي: امزج له قليلا كالعرق، فإذا أخذت الخمر منه فاخطبني إليه فإنّه يزوّجك، فأشهد القوم إن (2)
فعل.
ففعل الغلام وخطبها، فزوّجه وأشهد عليه، وانصرف إليها فعرّفها، فقالت:
عرّس بأهلك.
فلمّا أصبح غدا متضمّخا بالخلوق (3)، فقال له جذيمة: ما هذه الآثار يا عديّ؟
قال: آثار العرس. قال: وأيّ عرس؟ قال: عرس رقاش. فنخر وأكبّ على الأرض، ورفع عديّ جراميزه (4) فأسرع جذيمة في طلبه، فلم يجده، وقيل: بل قتله وبعث إليها (5): (الخفيف)
حدّثيني وأنت لا تكذبيني ... أبحرّ زنيت أم بهجين
أم بعبد فأنت أهل لعبد ... أم بدون فأنت أهل لدون
فأجابته رقاش (6): (الخفيف)
أنت زوّجتني وما كنت أدري ... وأتاني النّساء للتّزيين
ذاك من شربك المدامة صرفا ... وتماديك في الصّبا والمجون
فنقلها جذيمة إليه، وحصّنها في قصره، فاشتملت على حمل وولدت غلاما فسمّته عمرا، حتى إذا ترعرع حلّته وعطّرته (7) ثم أزارته خاله فأعجب به، وألقيت عليه محبّة منه.
ثم إنّ جذيمة نزل منزلا وأمر الناس أن يجتنبوا له الكمأة، فكان بعضهم إذا وجد شيئا منها يعجبه آثر به نفسه على جذيمة، وكان عمرو بن عديّ يأتيه بخير ما يجد،
__________
(1) في الأغاني: = واسق الملك صرفا =.
(2) في الأغاني: = إن هو فعل =.
(3) في الأغاني: = غدا مضرجا بالخلوق =.
(4) أي استعد للفرار. والجراميز: اليدان والرجلان.
(5) البيتان وخبرهما في الأغاني 15/ 313وشرح المقامات للشريشي 2/ 4.
(6) البيتان لرقاش في شرح المقامات للشريشي وقد أغفل الأصفهاني ذكرهما في الأغاني.
(7) بعده في الأغاني وشرح المقامات: = وألبسته كسوة مثله =.(8/272)
فعندها يقول عمرو (1): (الرجز)
هذا جناي وخياره فيه ... إذ كلّ جان يده إلى فيه
ثم إنّ الجنّ استهوته فطلبه جذيمة [في آفاق الأرض (2)] فلم يسمع له خبرا، إذ أقبل رجلان من بني القين، يقال لأحدهما مالك، وللآخر عقيل ابنا فالج (3)، ويروى فارج، من الشّام، وهما يريدان الملك بهديّة، فنزلا على ماء ومعهما قينة يقال لها:
أمّ عمرو، فنصبت لهما قدرا وهيّأت لهما طعاما، فبينما هما يأكلان إذ أقبل رجل أشعث الرأس قد طالت أظفاره، وساءت حاله، ومدّ يده فناولته القينة طعاما فأكله، ثم مدّ يده، فقالت القينة (4): «أعطي العبد كراعا فطلب ذراعا»، فأرسلتها مثلا.
ثم ناولت صاحبيها من شرابها، وأوكت سقاءها.
فقال عمرو بن عدي: (الوافر)
صددت الكأس عنّا أمّ عمرو ... وكان الكأس مجراها اليمينا (5)
وما شرّ الثّلاثة أمّ عمرو ... بصاحبك الذي لا تصبحينا (6)
__________
(1) الرجز لعلي بن أبي طالب في ديوانه ص 213ولسان العرب (جني) والمخصص 17/ 33. وهو بلا نسبة في الأغاني 15/ 313وتهذيب اللغة 6/ 59، 11/ 195وديوان الأدب 4/ 89.
(2) زيادة يقتضيها السياق من النسخة الشنقيطية.
وفي الأغاني: = فلم يزل جذيمة يرسل في الآفاق في طلبه =.
(3) في طبعة بولاق: = ابنا فالج، ويروى: فارح =. بالحاء المهملة فيها. وهو تصحيف صوابه من النسخة الشنقيطية والأغاني وشرح المقامات للشريشي.
(4) في الأغاني 15/ 214: = إن يعط العبد كراعا يتسع ذراعا =. والمثل في أمثال العرب ص 149وجمهرة الأمثال 1/ 107وزهر الأكم 2/ 47وفصل المقال ص 397وكتاب الأمثال ص 281، ولسان العرب (كرع).
الكراع: مستدق الساق.
(5) البيت لعمرو بن كلثوم في ديوانه ص 65وشرح شواهد الإيضاح ص 172والكتاب 1/ 405222 ولسان العرب (صبن) ولعمرو بن معديكرب في ملحق ديوانه ص 213ولعمرو بن عدي في الأغاني 15/ 314 ولعمرو بن عدي أو لعمرو بن كلثوم في الدرر 3/ 87. وهو بلا نسبة في شرح شذور الذهب ص 302وهمع الهوامع 1/ 201.
(6) البيت لعمرو بن كلثوم في ديوانه ص 66وبهجة المجالس 1/ 281وجمهرة أشعار العرب 1/ 390وشرح ديوان امرئ القيس ص 321وشرح القصائد العشر ص 323وشرح المعلقات السبع ص 166ولعمرو بن(8/273)
ويروى هذا الشعر لعمرو بن كلثوم التغلبي. ويقال إن عمرو بن كلثوم أدخله في معلقته. والله أعلم.
وهما من شواهد سيبويه. و «مجراها»: بدل من الكأس، و «اليمين»: خبر كان. وإن شئت جعلت مجراها مبتدأ، واليمين: ظرفا، كأنه قال: ناحية اليمين، وهو خبر عن مجراها، والجملة خبر كان.
فقال له الرجلان: من أنت؟ قال: أنا عمرو بن عديّ. فقاما إليه وسلّما عليه، وقلّما أظفاره وقصّرا من شعره، وألبساه من طرائف ثيابهما، وقالا: ما كنّا نهدي إلى الملك هديّة، هي أنفس عنده، ولا هو عليها أحسن عطاء من ابن أخته، قد ردّه الله عليه.
فلمّا وقفا بباب الملك بشّراه فسرّ به، وصرفه إلى أمّه، وقال: لكما حكمكما.
فقالا: حكمنا منادمتك ما بقيت وبقينا. قال: ذلك لكما.
فهما ندمانا جذيمة المعروفان. وإيّاهما عني متمّم بن نويرة بقوله في مرثيته لأخيه مالك بن نويرة: (الطويل)
وكنّا كندماني جذيمة حقبة ... من الدّهر حتّى قيل لن يتصدّعا (1)
فلمّا تفرّقنا كأنّي ومالكا ... لطول اجتماع لم نبت ليلة معا (2)
وقال أبو خراش الهذليّ يرثي أخاه عروة: (الطويل)
__________
عدي في الأغاني 15/ 314. وهو بلا نسبة في الإمتاع والمؤانسة 1/ 143ولسان العرب (وبل).
(1) البيت لمتمم بن نويرة في ديوانه ص 111وتاج العروس (حبر، صدع) وشرح أبيات المغني للبغدادي 4/ 292وشرح اختيارات المفضل ص 1177وشرح المفضليات ص 535والمراثي ص 74والمفضليات ص 267.
(2) هو الإنشاد الثامن والأربعون بعد الثلثمائة في شرح أبيات المغني للبغدادي.
والبيت لمتمم بن نويرة في ديوانه ص 122وتاج العروس (فرق) وأدب الكاتب ص 519والأزهية ص 289 والأغاني 15/ 238وجمهرة اللغة ص 1316والدرر 4/ 166وشرح أبيات المغني 4/ 291وشرح اختيارات المفضل ص 1177وشرح شواهد المغني 2/ 565والشعر والشعراء 1/ 345، والمراثي ص 75 والمفضليات ص 267. وهو بلا نسبة في تاج العروس (لوم) والجنى الداني ص 102ورصف المباني ص 223 وشرح الأشموني 2/ 219وشرح التصريح 2/ 48ولسان العرب (لوم) ومغني اللبيب 1/ 212وهمع الهوامع 2/ 32.(8/274)
ألم تعلمي أن قد تفرّق قبلنا ... نديما صفاء مالك وعقيل (1)
وروى أنّ جذيمة كان لا ينادم أحدا كبرا وزهوا. وكان يقول: أنا أعظم من أن أنادم إلّا الفرقدين. فكان يشرب كأسا، ويصبّ لكلّ واحد منهما كأسا، فلما أتى مالك وعقيل نادماه أربعين سنة، ما أعادا عليه حديثا.
ثم إنّ أمّ عمرو جعلت في عنقه طوقا من ذهب لنذر كان عليها، ثم أمرته بزيارة خاله، فلمّا رأى لحيته والطّوق في عنقه، قال (2): «شبّ عمرو عن الطّوق!».
فذهبت مثلا.
وأقام عمرو مع خاله جذيمة قد حمل عنه عامّة أمره، إلى أن قتل.
وقوله: «فاستنزل الزّبّاء قسرا» البيت، أي: أنزل الزّبّاء. وفاعله ضمير عمرو المذكور في البيت قبله، والزّبّاء مفعوله.
و «الزّبّاء» ملكة اسمها نائلة، وقيل: فارعة، وقيل: ميسون. وكانت زرقاء.
ومن النساء الموصوفات بالزّرق زرقاء اليمامة. وكانت البسوس أيضا زرقاء.
والزّبّاء تمدّ وتقصر. فمن مدّ جعل مذكرها أزبّ، ومن قصر جعل مذكرها زبّان.
وكان لها شعر، وإذا مشت سحبته وراءها، وإذا نشرته جلّلها فسمّيت الزّبّاء.
والأزبّ: الكثير الشعر.
واختلف في نسبها، فقيل كانت روميّة وكانت تتكلّم بالعربيّة، ومدائنها على شاطئ الفرات من الجانب الشرقيّ والغربي.
وقيل: إنّها بنت عمرو بن ظرب بن حسّان، من أهل بيت عاملة من العماليق، ملكت (3) الشام والجزيرة.
__________
(1) البيت لأبي خراش الهذلي في ديوان الهذليين 2/ 116وشرح أشعار الهذليين ص 1190.
(2) المثل في أمثال العرب ص 150، 187وتمثال الأمثال 2/ 503وجمهرة الأمثال 1/ 547وجمهرة اللغة ص 925والحيوان 6/ 209وزهر الأكم 3/ 213والفاخر ص 73، 248وفصل المقال ص 125 والمستقصى 2/ 214ومجمع الأمثال 2/ 137، 397.
(3) في النسخة الشنقيطية: = ملكة =.(8/275)
وقيل إنّ الزّبّاء بنت مليح بن البراء، كان أبوها ملكا على الحضر، وهو الذي ذكره عديّ بن زيد بقوله (1): (الخفيف)
وأخو الحضر إذ بناه وإذ دج ... لة تجبى إليه والخابور
قتله جذيمة وطرد الزّبّاء إلى الشام فلحقت بالروم. وكانت عربيّة اللّسان ما رئي في نساء زمانها أجمل منها. وكانت كبيرة الهمّة، وبلغت من همّتها أن جمعت الرجال، وبذلت الأموال، وعادت إلى مملكة أبيها فأزالت جذيمة عنها، وبنت على الفرات مدينتين متقابلتين، وجعلت بينهما أنفاقا تحت الأرض، وتحصّنت، وهادنت جذيمة مدّة، ثم خطبها فاستدعته وقتلته، كما تقدّم شرحه في الشاهد الرابع والثلاثين بعد الخمسمائة من باب العلم (2).
وقوله: «من عقاب لوح» إلخ، «العقاب»، بالضم: طائر معروف.
و «اللّوح»، بالضم: الهواء، والجوّ ما بين السماء والأرض.
ونظم ابن دريد قول عمرو بن عديّ لقصير: «كيف أقدر على الزّبّاء، وهي أمنع من عقاب لوح الجوّ» كما يأتي.
و «منتمى»: مرتفع، في القاموس: وانتمى البازي: ارتفع من موضعه إلى آخر.
ويروى: «أعلى منتهى»، أي: أعلى ما ينتهى إليه. قيل: قد غلط فيه، لأنّ العرب لا تقف بالتنوين، ومنتمى: هنا منصوب على التمييز، والوقف فيه عند سيبويه على الألف المبدلة من التنوين.
وقد حقّق الشارح المحقق في باب الوقف من «شرح الشافية» أنّ هذا ليس مذهب سيبويه، وأنّ هذه اللام لام الكلمة لا الألف المبدلة من نون التنوين.
و «قسرا»: قهرا، إمّا مفعول مطلق، وإمّا حال. أي: فاستنزل الزباء كارهة.
__________
(1) البيت لعدي بن زيد العبادي في ديوانه ص 88ولسان العرب (كلس) ومجمل اللغة 2/ 79ومقاييس اللغة 2/ 77.
(2) الخزانة الجزء السابع ص 280269.(8/276)
يريد أنّ عمرا أخذ ثأره منها فقتلها، وإنّما قدر عليها بإعانة قصير بن سعد، من أصحاب جذيمة، فإنّه قال لعمرو بن عدي بعد قتل جذيمة: ألا تطلب بثأر خالك؟
فقال: وكيف أقدر على الزّبّاء، وهي أمنع من عقاب لوح الجوّ! فأرسلها مثلا (1).
فقال له قصير: «اطلب الأمر وخلاك ذمّ!»، فذهبت مثلا أيضا (2).
ثم إنّ قصيرا جدع أنفه وقطع أذنه بنفسه، وفيه قيل (3): «لأمر ما جدع قصير أنفه». ثم لحق بالزّبّاء زاعما أنّ عمرو بن عديّ صنع به ذلك، وأنّه لجأ إليها هاربا منه، ولم يزل يتلطّف بها بطريق التجارة وكسب الأموال، إلى أن وثقت به، وعلم خفايا قصرها وأنفاقه.
فلما كان في السّفرة الثالثة، اتّخذ جوالقات كجوالق المال، وجعل ربطها من داخل الجوالق في أسفله، وأدخل فيها الرجال بالأسلحة، وأخذ عمرو بن عديّ معه، وقد كان قصير وصف لعمرو شأن النّفق، ووصف له الزّباء، فلمّا دخلت الجمال المدينة جاء عمرو بن عديّ على فرسه فدخل الحصن بعقب الإبل، وبركت الإبل، وحلّ الرجال الجوالقات ومثلوا بالمدينة، ووقف عمرو على باب النفق، فلما جاءت الزباء هاربة جلّلها بالسّيف واستباح بلادها.
وقد تقدّم شرح هذه القصّة بأبسط من هذا في شرح الشاهد المذكور.
وترجمة ابن دريد تقدمت في الشاهد الثامن والسبعين بعد المائة (4).
* * * وأنشد بعده، وهو الشاهد الواحد والعشرون بعد الستمائة (5): (الرجز)
__________
(1) المثل في أمثال العرب ص 146وثمار القلوب ص 453وجمهرة الأمثال 2/ 293والدرة الفاخرة 2/ 386 والفاخر ص 248وكتاب الأمثال لمجهول ص 17والمستقصى 1/ 369ومجمع الأمثال 1/ 235، 2/ 323.
(2) المثل في كتاب الأمثال لمجهول ص 21والمستقصى 1/ 224.
(3) المثل في أمثال العرب ص 146والدرة الفاخرة 1/ 106وكتاب الأمثال لمجهول ص 97والمستقصى 2/ 240والميداني 2/ 196والوسيط في الأمثال ص 203.
(4) الخزانة الجزء الثالث ص 114.
(5) الرجز بلا نسبة في الكامل في اللغة 2/ 16والمقتضب 3/ 247.(8/277)
621 - قبّحتم يا آل زيد نفرا
ألأم قوم أصغرا وأكبرا
على أنّ أفعل قد يأتي بمعنى اسم الفاعل، أو الصفة المشبهة قياسا عند المبرّد، سماعا عند غيره. وهو الأصحّ كما في البيت، فإنّهما بمعنى صغير وكبير.
وهذا البيت أورده المبرّد في «الكامل» عند شرح قول الفرزدق (1):
إنّ الذي سمك السّماء بنى لنا ... بيتا دعائمه أعزّ وأطول
قال: وجائز أن يكون التقدير: دعائمه عزيزة طويلة، كما قال الآخر:
* قبّحتم يا آل زيد نفرا * البيت
قال: يريد صغارا وكبارا.
وفي «التسهيل وشرحه لابن عقيل»: واستعماله عاريا دون «من» مجرّدا عن معنى التفضيل مؤوّلا باسم الفاعل: {«هُوَ أَعْلَمُ} [2] بِكُمْ»، أي: عالم أو صفة مشبهة: {«وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} [3]»، أي: هيّن مطّرد عند المبرد. وعليه المتأخّرون.
وحكى ابن الأنباري الجواز عن أبي عبيدة، والمنع عن النحويين. والأصحّ قصره على السّماع.
قيل لقلّة ما ورد (4) من ذلك. وفيه نظر ظاهر، ولعلّ وجهه أنّ الوارد قابل للتأويل، إلّا أنّ في بعض التأويل تكلّفا، وموضع التكلّف قليل، ومنه: {«بَنََاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ} [5]»، أي: طاهرات، {«لََا يَصْلََاهََا إِلَّا الْأَشْقَى} [6]»، أي: الشقيّ.
والوجه، أنّ ذلك مطّرد، ولزوم الإفراد والتذكير فيما ورد كذلك أكثر من المطابقة.
__________
(1) هو الشاهد رقم 615من هذا الجزء.
(2) سورة النجم: 53/ 32.
(3) سورة الروم: 30/ 27.
(4) في طبعة بولاق: = أورد =.
(5) سورة هود: 11/ 78.
(6) سورة الليل: 92/ 15.(8/278)
فالإفراد: {«خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا} [1]»، {«نَحْنُ أَعْلَمُ بِمََا يَسْتَمِعُونَ} [2]»
والمطابقة (3): (الطويل)
إذا غاب عنكم أسود العين كنتم ... كراما وأنتم ما أقام ألائم
ف «ألائم» جمع ألأم بمعنى لئيم. وإذا صحّ جمع أفعل العاري المجرد عن معنى التفضيل، إذا جرى على جمع، جاز تأنيثه إذا جرى على مؤنث. وعلى هذا يكون قول الحسن بن هانئ (4): (البسيط)
كأنّ كبرى وصغرى من فقاقعها ... حصباء درّ على أرض من الذّهب
صحيحا، لأنّه تأنيث أصغر وأكبر، بمعنى صغير وكبير، لا بمعنى التفضيل.
انتهى.
وقال الشاطبي عند قول ابن مالك:
وأفعل التّفضيل صله أبدا ... تقديرا أو لفظا بمن إن جرّدا
قوله: «أبدا» فيه تنكيت (5)، وتنبيه على أنّ المجرد لا يأتي بمعنى اسم الفاعل
__________
(1) سورة الفرقان: 25/ 24.
(2) سورة الإسراء: 17/ 47.
(3) هو الإنشاد الثالث عشر بعد الستمائة في شرح أبيات المغني للبغدادي.
والبيت للفرزدق في تاج العروس (عين) وشرح التصريح 2/ 102وشرح أبيات المغني للبغدادي 6/ 178 وشرح شواهد المغني 2/ 799والمقاصد النحوية 4/ 57وليس في ديوانه. وهو بلا نسبة في أمالي القالي 1/ 171، 2/ 47وجمهرة اللغة ص 650وسمط اللآلئ ص 430وشرح الأشموني 2/ 388ولسان العرب (سود، عتم) ومعجم البلدان (أسود العين) ومغني اللبيب 2/ 381.
(4) هو الإنشاد الحادي عشر بعد الستمائة في شرح أبيات المغني للبغدادي.
والبيت لأبي نواس في ديوانه ص 34وشرح قطر الندى ص 316وشرح المفصل 6/ 102. وهو بلا نسبة في شرح الأشموني 2/ 386ومغني اللبيب 2/ 380.
(5) في حاشية طبعة هارون 8/ 278: = المراد بالتنكيت هنا الإشارة. وفي اللسان: ونكت في العلم بموافقة فلان أو مخالفة فلان: أشار. والفعل ثلاثي لا مضعف، ومثله في تاج العروس. والنكتة أصل معناها النقطة، وفي الأساس: ومن المجاز: جاء بنكتة وبنكت في كلامه وقد نكت في قوله، ورجل منكت ونكات. وفي تاج العروس عن الفناري: النكتة هي اللطيفة المؤثرة في القلب من النكت، كالنقطة من النقط، وتطلق على المسائل الحاصلة بالنقل، المؤثرة في القلب، التي يقارنها نكت الأرض غالبا بنحو الإصبع =.(8/279)
مجرّدا من معنى «من» قياسا أصلا، خلافا للمبرد القائل بأنه جائز قياسا، فيجوز عنده أن تقول: زيد أفضل، غير مقصود به التفضيل على شيء، بل بمعنى فاضل.
وزعم أنّ معنى قولهم في الأذان وغيره: الله أكبر: الله الكبير، لأنّ المفاضلة تقتضي المشاركة في المعنى الواقع فيه التفضيل، والمفاضلة في الكبرياء هنا تقتضي المشاركة إن قدّر فيه، من كلّ شيء.
ومشاركة المخلوق للخالق في ذلك أو في غيره من أوصاف الرّبّ محال، بل كلّ كبير بالإضافة إلى كبريائه لا نسبة له، بل هو كلا شيء.
وكذلك قال في قوله (1): {«وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ»} تقديره معنى: وهو هيّن عليه، لأنّ جميع المقدورات متساوية بالنسبة إلى قدرة الله، فلا يصحّ في مقدور مفاضلة الهون فيه على مقدور آخر. ومنه قوله تعالى (2): {«هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ»} إذ لا مشاركة لأحد بين علمه وعلم الله تعالى.
ومن ذلك قول الفرزدق:
إنّ الذي سمك السّماء بنى لنا ... بيتا البيت
أي: عزيزة وطويلة. فهذه مواضع لا يصحّ فيها معنى المفاضلة، فثبت أنّها صفات مجرّدة عن ذلك، مساوية لسائر الصفات. ومثل ذلك كثير.
فقاس المبرّد على ذلك ما في معناه. فالناظم نكّت عليه، وارتضى مذهب سيبويه، ومن وافقه، وأنّ أفعل التفضيل لا يتجرّد من معنى «من» إذا كان مجرّدا أصلا. وما جاء ممّا ظاهره خلاف ذلك فهو راجع إلى تقدير معنى «من»، أو إلى باب آخر.
فأمّا المفاضلة فيما يرجع إلى الله تعالى فهي بالنسبة إلى عادة المخلوقين في التخاطب، وعلى حسب توهّمهم العادي.
فقوله: الله أكبر، معنى ذلك أكبر من كلّ شيء يتوهّم له كبر، أو على حسب ما اعتادوه في المفاضلة بين المخلوقين، وإن كان كبرياء الله تعالى لا نسبة لها إلى كبر المخلوق.
__________
(1) سورة الروم: 30/ 27.
(2) سورة النجم: 53/ 32.(8/280)
وكذلك قوله: «وهو أهون عليه» يريد على ما جرت به عادتكم أنّ إعادة ما تقدّم اختراعه أسهل من اختراعه ابتداء.
وقوله: «هو أعلم بكم»، أي: منكم، حيث تتوهّمون أنّ لكم علما ولله تعالى علما، أو على حدّ ما تقولون: هذا أعلم من هذا.
وهي طريقة العرب في كلامها، وبها نزل القرآن. خوطبوا بمقتضى كلامهم، وبما يعتادون فيما بينهم.
وقد بيّن هذا سيبويه في كتابه حيث احتاج إليه.
ألا ترى أنّه حين تكلّم على لعلّ في قوله تعالى (1): {«لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى ََ»}
صرف مقتضاها من الطّمع إلى المخلوقين، فقال: والعلم قد أتى من وراء ما يكون، ولكن اذهبا على طمعكما ورجائكما ومبلغكما من العلم. قال: وليس لهما إلّا ذاك (2) ما لم يعلما.
وهذا من سيبويه غاية التحقيق. وكثيرا ما يذكر أمثال هذا في كتابه.
وأمّا بيت الفرزدق، فغير خارج عن تقدير «من»، فقد روي عن رؤبة بن العجاج أنّ رجلا قال له: يا أبا الجحّاف، أخبرني عن قول الفرزدق: «أطول»، من كلّ شيء؟ فقال له: رويدا، إن العرب تجتزئ بهذا.
قال: وقال المؤذّن: الله أكبر، فقال رؤبة: أما تسمع إلى قوله: الله أكبر، اجتزأ بها من أن يقول من كلّ شيء. هذا ما قال، وهو ظاهر في صحّة التقدير، وأنه مراد العرب.
ثم إنّ الذي يدلّ على أنّ المراد معنى «من»، أنّ أفعل في هذه المواضع ونحوها لا يثنّى ولا يجمع، ولا يؤنّث، وما ذاك إلّا لمانع تقدير «من»، كقوله تعالى (3):
{«أَصْحََابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا»} وقوله (4): {«نَحْنُ أَعْلَمُ بِمََا يَسْتَمِعُونَ»} ونحو ذلك.
__________
(1) سورة طه: 20/ 44.
(2) في الكتاب لسيبويه 1/ 331: = وليس لهما أكثر من ذا =.
(3) سورة الفرقان: 25/ 24.
(4) سورة الإسراء: 17/ 47.(8/281)
والذي جاء من ذلك على الجمع شاذ، نحو ما أنشده الفارسي من قول الشاعر:
إذا غاب عنكم أسود العين ... البيت
أنشده المؤلف في الشرح على أنّه جمع ألأم مجردا عن تقدير «من». وحمله الفارسي على أنّه جمع لئيم، كقطيع وأقاطيع، وحديث وأحاديث، وحذف الزيادة.
انتهى كلام الشاطبي.
ولم يذكر البيت الذي أنشده الشارح المحقق.
والتفضيل فيه غير مراد، فإنّ «أصغر» حال من الضمير في ألأم، والمعنى نسبتهم إلى أشدّ اللؤم في حال صغرهم، وفي حال كبرهم، والتفضيل لا وجه له إلّا بتكلّف، وهو أن يكون التقدير: أصغر من غيره وأكبر منه. وهذا معنى سخيف.
ويجوز أن يكون أصغر صفة لألأم للتعميم، فيرجع إلى معنى الحالية. ولا وجه لجعله صفة لقوم. فتأمّل.
و «ألأم» منصوب على الذمّ، ويجوز أن يكون صفة لقوله: نفرا، ويجوز أيضا رفعه على أنّه خبر لمبتدأ محذوف، والتقدير: أنتم ألأم قوم، والقطع للذمّ أيضا.
و «اللّؤم» بالهمز: ضد الكرم، يقال: لؤم على وزن كرم، لؤما، فهو لئيم، وهو الشحيح، والدّنيء النّفس، والمهين.
وقوله: «قبّحتم» هو بالبناء للمفعول وتشديد الباء. يقال: قبحه الله يقبحه بفتح الباءين المخفّفتين، أي: نحّاه عن الخير. وفي التنزيل (1): {«هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ»}، أي: المبعدين عن الفوز. وقبّحه الله بتشديد الباء للمبالغة. والجملة دعائية. ويقرأ بضم التاء والميم للوزن.
و «نفرا»: تمييز محوّل عن الفاعل، والتقدير: قبّح نفركم يا آل زيد. والنّفر بفتحتين: جماعة الرجال من ثلاثة إلى عشرة، وقيل إلى سبعة. ولا يقال: نفر فيما زاد على العشرة. قاله صاحب المصباح. وفي ذكر النفر ذمّ أيضا.
والبيت لم أقف له على خبر. والله أعلم.
* * * __________
(1) سورة القصص: 28/ 42.(8/282)
وأنشد بعده، وهو الشاهد الثاني والعشرون بعد الستمائة (1): (الطويل)
622 - ملوك عظام من ملوك أعاظم
على أنّ «أعاظم» بمعنى «عظام»، وهو جمع أعظم بمعنى عظيم، غير مراد به التفضيل. ولو كان مرادا للزم الإفراد والتذكير.
ويأتي فيه ما نقله الشاطبي عن الفارسيّ من أنّه جمع عظيم مع حذف الزيادة (2).
والمصراع من أبيات لأعرابيّ. والرواية كذا:
توسّمته لمّا رأيت مهابة ... عليه وقلت: المرء من آل هاشم (3)
وإلّا فمن آل المرار فإنّهم ... ملوك عظام من كرام أعاظم
فقمت إلى عنز بقيّة أعنز ... لأذبحها فعل امرئ غير نادم
فعوّضني عنها غناي ولم تكن ... تساوي عنزي غير خمس دراهم (4)
فقلت لأهلي في الخلاء وصبيتي ... أحقّا أرى أم تلك أحلام نائم
فقالوا جميعا: لا بل الحقّ هذه ... تخبّ بها الرّكبان وسط المواسم
بخمس مئين من دنانير عوّضت ... من العنز ما جادت به كفّ حاتم
روي أنّ عبيد الله بن العباس، رضي الله عنهما، خرج مرّة من المدينة يريد معاوية في الشام، فأصابته سماء، فنظر إلى نويرة عن يمينه (5)، فقال لغلامه: مل بنا إليها.
فلما أتياها إذا شيخ ذو هيئة رثّة، فقال له: أنخ انزل حييت! ودخل إلى منزله، فقال لامرأته: هيّئي شاتك أقضي بها ذمام هذا الرجل، فقد توسّمت فيه الخير، فإن يكن من مضر فهو من بني عبد المطّلب، وإن يكن من اليمن فهو من بني آكل المرار.
__________
(1) لم نجد له ذكرا فيما عدنا إليه من مصادرنا القديمة.
(2) في حاشية طبعة هارون 8/ 282: = انظر نهاية نص الشاطبي السابق في 281س 2=.
(3) البيت بلا نسبة في أساس البلاغة (وسم).
(4) البيت بلا نسبة في الدرر 1/ 169والمقاصد النحوية 1/ 247وهمع الهوامع 1/ 53.
(5) النويرة: مصغر النار.(8/283)
فقالت له: قد عرفت حال صبيتي، وأنّ معيشهم منها، وأخاف الموت عليهم إن فقدوها. فقال: موتهم أحبّ إليّ من اللؤم.
ثم قبض على الشاة فأخذ الشفرة وأنشد: (الرجز)
قريبتي لا توقظي بنيّه ... إن يوقظوا ينسحبوا عليّه
وينزعوا الشّفرة من يديّه ... أبغض هذا أن يرى لديّه
ثم ذبحها، وكشط جلدها، وقطّعها أرباعا، وقذفها في القدر، حتّى إذا استوت اثّرد في جفنة، فعشّاهم، ثم غدّاهم، فأراد عبيد الله الرحيل، فقال لغلامه:
ارم للشيخ ما معك من نفقة.
فقال: ذبح لك الشاة فكافأته (1) بمثل عشرة أمثالها، وهو لا يعرفك؟ فقال:
ويحك، إنّ هذا لم يكن يملك من الدنيا غير هذه الشاة، فجاد لنا بها، وإن كان لا يعرفنا، فأنا أعرف نفسي، ارم بها إليه. فرماها إليه فكانت خمسمائة دينار.
فارتحل عبيد الله، فأتى معاوية فقضى حاجته، ثم أقبل راجعا إلى المدينة، حتى إذا قرب من ذلك الشيخ، قال لغلامه: مل بنا إليه ننظره في أيّ حالة هو؟ فانتهيا إليه فإذا برجل سريّ عنده دخان عال، ورماد كثير، وإبل وغنم ففرح بذلك، وقال له الشيخ: انزل بالرّحب والسّعة. وقال: أتعرفني؟ فقال: لا والله فمن أنت؟
فقال: أنا نزيلك ليلة كذا وكذا.
فقام إليه فقبّل رأسه ويديه ورجليه، وقال: قد قلت أبياتا أتسمعها منّي؟ فقال:
هات. فأنشد هذه الأبيات، فضحك عبيد الله، وقال: أعطيتنا أكثر ممّا أخذت منّا، يا غلام أعطه مثلها!
فبلغت فعلته معاوية، فقال: لله درّ عبيد الله، من أيّ بيضة خرج، وفي أيّ عشّ درج، وهي لعمري من فعلاته!
وقوله: «توسّمته» بمعنى تفرسته، من التوسّم، يقال: توسّمت فيه الخير، أي: طلبت سمته.
__________
(1) في طبعة بولاق: = فكافئه =. وهو تصحيف. وفي النسخة الشنقيطية: = فكافنه =. وهو تصحيف أيضا.
والتصويب نقلا عن طبعة هارون 8/ 283.(8/284)
وقوله: «وإلّا فمن آل المرار»، أي: إن لم يكن من آل هاشم، فهو من آل المرار، على حذف مضاف، أي: آل آكل المرار، وهم ملوك اليمن.
قال صاحب القاموس:
و «المرار» بالضم: شجر من أفضل العشب وأضخمه، إذا أكلته الإبل، قلصت مشافرها، فبدت أسنانها، ولذلك قيل لجدّ امرئ القيس: «آكل المرار» لكشر كان به.
وقال الشريف الجوّاني: إنّ في آكل المرار خلافا، هل هو الحارث بن عمرو بن حجر بن عمرو بن معاوية بن الحارث بن معاوية بن ثور بن مرتّع (1)؟ أم هو حجر بن عمرو بن معاوية؟
وإنّ الحارث إنّما سمّي آكل المرار لأنّ عمرو بن الهبولة الغسّانيّ أغار عليهم، وكان الحارث غائبا، فغنم وسبى، وكان فيمن سبى أمّ أناس بنت عوف بن محلّم الشّيباني امرأة الحارث، فقالت لعمرو بن الهبولة في مسيره: لكأنّي برجل أدلم أسود، كأنّ مشافره مشافر بعير آكل المرار، قد أخذ برقبتك! تعني الحارث. فسمّي آكل المرار.
والمرار، كغراب: شجر مرّ إذا أكلت منها الإبل تقلّصت مشافرها. ثم تبعه الحارث في بكر بن وائل فلحقه فقتله، واستنقذ امرأته، وما كان أصاب.
وقال ابن دريد في «كتاب الاشتقاق»: إنّ آكل المرار الحارث جدّ امرئ القيس الشاعر ابن حجر.
وقوله: «ملوك عظام» إلخ، بتنوين ملوك، و «عظام»: وصفه، وكذلك ما بعده.
وقوله: «فعوّضني» إلخ، فاعله ضمير المرء من آل هاشم، المراد به عبيد الله ابن عباس.
و «غناي» المفعول الثاني لعوّض. والغنى: ضدّ الفقر، وضمير عنها للعنز.
__________
(1) في شرح القصائد السبع الطوال لابن الأنباري ص 4: = وإنما سمي مرتع، مرتعا لأنه كان من أتاه من قومه أرتعه، أي جعل له مرتعا لما شيته =.(8/285)
وقوله: «تساوي» بضم الياء للضرورة، أورده ابن عصفور في «كتاب الضرائر (1)» وقال: أجرى حرف العلّة مجرى الحرف الصحيح فأظهر الضمّة عليه.
وكذا أورده المراديّ في «شرح الألفية».
وقوله: «فقلت لأهلي» إلخ، «الخلاء» بالفتح والمد: الفضاء. و «صبية»:
جمع صبيّ، أي: قلت لزوجتي وأولادي.
وقوله: «أحقّا (2) أرى» إلخ، يقول: من شدّة سروري بالدنانير دهشت فقلت لهم مستفهما: أما أراه حقا، أم تلك الدنانير أضغاث أحلام؟
وقوله: «تخبّ بها»، أي: بذكرها، أي: بذكر الدنانير. و «تخبّ»، تسرع من الخبب، وهو ضرب من العدو، وفعله من باب نصر، و «ركبان» جمع راكب. و «المواسم»: جمع موسم الحجّ.
وقوله: «بخمس مئين» إلخ، هو بدل من قولها بها. و «مئين» بالكسر والتنوين لغة، أو ضرورة جمع مائة. و «عوّضت»: جعلت عوضا من العنز.
وقوله: «ما جادت» إلخ. «ما»: نافية، أي: لم تجد كفّ حاتم بهذا الجود. ويحتمل أن تكون «ما» موصولة خبر مبتدأ محذوف، أي: هي ما جادت به كفّ حاتم.
المراد به «عبيد الله بن العباس» بالتصغير، وهو أخو عبد الله بن العباس رضي الله عنهم، حبر هذه الأمّة.
والأوّل مشهور بالجود معدود من الأجواد، والثاني مشهور بالعلم، وإن كانا في العلم والجود مشتركين.
وقد أورد ابن عبد ربّه في «العقد الفريد» (3) بعض ما يتعلّق بجود عبيد الله.
__________
(1) كتاب الضرائر ص 46، 273.
(2) في طبعة بولاق: = أحق أرى =. وهو تصحيف صوبناه نقلا عن الخزانة نفسها النص الشعري السابق والنسخة الشنقيطية.
(3) العقد الفريد 1/ 343340.
وفي اللسان (جود): = وأجواد الحجاز: عبد الله بن جعفر بن أبي طالب وعبيد الله بن العباس بن عبد المطلب وهما أجود من أجواد أهل البصرة.(8/286)
منها: أنه أوّل من فطّر جيرانه في رمضان، وأوّل من وضع الموائد على الطّرق، وأوّل من حيّا على طعامه (1)، وأوّل من أنهبه.
ومن جوده: أنّه أتاه رجل وهو بفناء داره، فقام بين يديه، فقال: يا ابن عبّاس، إنّ لي عندك يدا وقد احتجت إليها. فصعّد فيه بصره وصوّبه فلم يعرفه، ثم قال له: ما يدك عندنا؟ قال: رأيتك واقفا بباب زمزم (2) وغلامك يمتح لك من مائها، والشمس قد صهرتك، فظلّلتك بطرف كسائي حتّى شربت. قال: إنّي لأذكر ذلك، وإنّه يتردّد بين خاطري وفكري.
ثم قال لقيّمه: ما عندك؟ قال: مائتا دينار وعشرة آلاف درهم. قال: ادفعها إليه، وما أراها تفي بحقّ يده عندنا.
قال له الرجل: والله لو لم يكن لإسماعيل ولد غيرك لكان فيه ما كفاه، فكيف وقد ولد سيّد الأوّلين والآخرين محمدا صلّى الله عليه وسلّم، ثمّ شفع (3) بأبيك وبك.
ومن جوده أيضا: أنّ معاوية حبس عن الحسين بن عليّ صلاته حتّى ضاقت حاله عليه، فقيل (4): لو وجّهت إلى ابن عمّك عبيد الله، فإنّه قدم بنحو ألف ألف درهم.
فقال الحسين: وأين تقع ألف ألف من عبيد الله، فو الله لهو أجود من الرّيح إذا عصفت، وأسخى من البحر إذا زخر.
ثم وجّه إليه مع رسوله بكتاب ذكر فيه حبس معاوية عنه صلاته وضيق حاله، وأنّه يحتاج إلى مائة ألف دهم.
فلما قرأ عبيد الله كتابه وكان من أرقّ الناس قلبا انهملت عيناه، ثم قال:
ويلك يا معاوية ما اجترحت يداك من الإثم، حين أصبحت ليّن المهاد، رفيع العماد، والحسين يشكو ضيق الحال، وكثرة العيال!
__________
(1) أي قال: حي على الطعام، أي: هلموا إليه وأقبلوا عليه =.
(2) في العقد الفريد: = بزمزم =.
(3) في العقد الفريد: = ثم شفعه =.
(4) في العقد الفريد: = فقيل له =.(8/287)
ثم قال لقهرمانه: احمل إلى الحسين نصف ما أملكه من فضّة وذهب، وثوب ودابّة، وأخبره أنّي شاطرته مالي، فإن أقنعه ذلك، وإلّا فارجع، واحمل إليه الشّطر الآخر.
فقال له القيم: فهذه المؤن التي عليك من أين تقوم بها؟ قال: إذا بلغنا ذلك دللتك على أمر يقيم حالك.
فلما أتى الرسول برسالته إلى الحسين قال: إنّا لله، حملت والله على ابن عمي، وما حسبته يتّسع لنا بهذا كلّه. فأخذ الشّطر من ماله. وهو أوّل من فعل ذلك في الإسلام.
ومن جوده: أنّ معاوية أهدى إليه وهو عنده بالشام من هدايا النّيروز حللا كثيرة، ومسكا، وآنية من ذهب وفضّة، ووجّهها مع حاجبه، فلمّا وضعها بين يديه نظر إلى الحاجب، وهو ينظر إليها، فقال: هل في نفسك منها شيء؟ فقال:
نعم، والله إنّ في نفسي منها ما كان في نفس يعقوب من يوسف عليهما السلام!
فضحك عبيد الله، وقال: فشأنك بها فهي لك. قال: جعلت فداك، أخاف أن يبلغ ذلك معاوية فيجد عليّ. قال: فاختمها بخاتمك، وارفعها إلى الخازن، فإذا حان خروجنا حملها إليك ليلا.
فقال الحاجب: والله لهذه الحيلة في الكرم أكثر من الكرم، ولوددت أنّي لا أموت حتى أراك مكانه، يعني معاوية، فظنّ عبيد الله أنّها مكيدة منه. قال: دع عنك هذا الكلام، فإنّا قوم نفي بما وعدنا، ولا ننقض ما أكّدنا.
ومن جوده أيضا: أنّه أتاه سائل، وهو لا يعرفه، فقال له: تصدّق فإنّي نبّئت أنّ عبيد الله بن العباس أعطى سائلا ألف درهم واعتذر إليه.
فقال له: وأين أنا من عبيد الله؟ قال: أين أنت منه في الحسب أم كثرة المال؟
قال: فيهما. قال: أمّا الحسب في الرجل فمروءته وفعله، وإذا شئت فعلت، وإذا فعلت كنت حسيبا.
فأعطاه ألفي درهم، واعتذر إليه من ضيق الحال، فقال له السائل: إن لم تكن عبيد الله بن عبّاس فأنت خير منه، وإن كنته، فأنت اليوم خير منك أمس! فأعطاه ألفا أخرى، فقال السائل: هذه هزّة كريم حسيب، والله لقد نقرت حبّة قلبي، فأفرغتها في
قلبك، فما أخطأت إلّا باعتراض الشدّ من جوانحي (1).(8/288)
فأعطاه ألفي درهم، واعتذر إليه من ضيق الحال، فقال له السائل: إن لم تكن عبيد الله بن عبّاس فأنت خير منه، وإن كنته، فأنت اليوم خير منك أمس! فأعطاه ألفا أخرى، فقال السائل: هذه هزّة كريم حسيب، والله لقد نقرت حبّة قلبي، فأفرغتها في
قلبك، فما أخطأت إلّا باعتراض الشدّ من جوانحي (1).
ومن جوده أيضا: أنّه جاءه رجل من الأنصار، فقال: يا ابن عمّ رسول الله، ولد لي في هذه الليلة مولود وإنّي سميته باسمك تبرّكا منّي به، وإنّ أمّه ماتت. فقال عبيد الله: بارك الله لك في الهبة، وأجزل لك الأجر على المصيبة. ثم دعا بوكيله، فقال: انطلق الساعة، فاشتر للمولود جارية تحضنه، وادفع إليه مائتي دينار للنفقة على تربيته. ثم قال للأنصاري: عد إلينا بعد أيام، فإنّك جئتنا، وفي العيش يبس، وفي المال قلّة!
قال الأنصاريّ: لو سبقت حاتما بيوم واحد، ما ذكرته العرب أبدا ولكنّه سبقك فصرت له تاليا، وأنا أشهد أنّ عفوك أكثر من مجهوده (2) وطلّ كرمك أكثر من وابله.
هذا ما اخترناه من العقد، وفيه كفاية، وقصدنا بتسطيره الثواب وإن كنّا أطلنا به الكتاب.
* * * وأنشد بعده، وهو الشاهد الثالث والعشرون بعد الستمائة (3): (الطويل)
__________
(1) في العقد الفريد: = إلا باعتراض الشك بين جوانحي =.
(2) العفو: ما كان هنا بغير مسألة.
(3) البيت لمعن بن أوس المزني في ديوانه ص 39وتاج العروس (وجل) والحماسة برواية الجواليقي ص 326 والحماسة البصرية 6/ 288وشرح التصريح 2/ 51وشرح الحماسة للأعلم 2/ 670وشرح الحماسة للتبريزي 3/ 78وشرح الحماسة للمرزوقي ص 1126ولسان العرب (كبر، وجل) والمقاصد النحوية 3/ 493. وهو بلا نسبة في الأشباه والنظائر 8/ 140وأوضح المسالك 3/ 161وتاج العروس (عنف، هون) وجمهرة اللغة ص 493وشرح الأشموني 2/ 322وشرح شذور الذهب ص 133وشرح قطر الندى ص 23وشرح المفصل 4/ 87، 6/ 98ولسان العرب (عنف، هون) والمقتضب 3/ 246والمنصف 3/ 35.
وروايته في شروح الحماسة:
لعمرك ... على أينا تغدو المنية أول
وفي الحماسة برواية الجواليقي جاءت الرواية:
لعمري ... على أينا تغدو المنية أول(8/289)
623 - لعمرك ما أدري وإنّي لأوجل
على أيّنا تعدو المنيّة أوّل
على أنّ «أوّل» بني على الضم لحذف المضاف إليه، ونيّة معناه. والأصل:
أوّل أوقات عدوها.
قال ابن جنّي في «إعراب الحماسة»: إنّما بنيت «أوّل» هنا لأنّ الإضافة مرادة فيها، فلما اقتطعت منها، وهي مرادة فيها، بنيت كقبل وبعد، فكأنّه قال:
تعدو المنيّة أول الوقت.
وأصلها قبل الإضافة أن تكون معها من ليتمّ بها قبل الظرفية صفة، فتكون كقديم وحديث (1) لم تنقل عن الوصف إلّا إلى الظرفيّة (2).
فإذا صحّ فيها مذهب الصّفة فلا بدّ فيها من معنى من قبل الإضافة، فإذا تصوّرت صفة قبل ذلك أمكن، حينئذ نقلها إلى الظرف، كسائر ما نقل إلى الظروف من الصفات، نحو قديم وحديث، ومليّ وطويل. وأوجل ممّا جاء على الصفات على أفعل لا فعلاء له. ألا تراهم لا يقولون وجلاء، استغنوا عنها بوجلة. اه.
وظنّه العينيّ فعلا مضارعا، فقال: قوله: لأوجل، أي: لأخاف، من وجل يوجل.
و «عمرك»، بفتح العين: مبتدأ محذوف الخبر، أي: قسمي، وجملة: «ما أدري» جواب القسم.
والمصراع الثاني في محل نصب على أنّه سادّ مسدّ مفعولي «درى»، معلّق عن العمل في لفظه بسبب الاستفهام، و «على» متعلقة بتعدو.
وأخطأ العيني في قوله: مفعول «أدري» محذوف تقديره: ما أدري ما يفعل بنا أو ما يكون، ونحو ذلك. ولم يتعرّض لجملة «على أيّنا تعدو» إلخ. وهو بالعين المهملة من عدا عليه يعدو عدوا، بمعنى ظلم وتجاوز الحدّ.
__________
(1) في إعراب الحماسة: = كملى وقديم وحديث =.
(2) في إعراب الحماسة: = ثم تنقل عن الوصف إلى الظرفية =. وقد أخطأ محقق طبعة هارون في نقل حاشية إعراب الحماسة.(8/290)
وروي بالغين المعجمة، من غدا غدوا (1)، أي: ذهب غدوة، وهي ما بين صلاة الصّبح وطلوع الشمس. هذا أصله، ثم كثر حتى استعمل في الذهاب والانطلاق أيّ وقت كان.
و «المنيّة»: الموت. و «أوّل»: ظرف مبنيّ، وموضعه النصب ب «تعدو»، وجملة: «وإنّي لأوجل» جملة معترضة بين أدري وبين السادّ عن مفعوليها. وأوجل معناه خائف.
والمعنى: أقسم ببقائك ما أعلم أيّنا يكون المقدّم في عدو الموت عليه. وهذا كما قال الآخر: (الطويل)
فأكرم أخاك الدّهر ما دمتما معا ... كفى بالممات فرقة وتنائيا
والبيت مطلع قصيدة لمعن بن أوس المزنيّ، أورد بعضها أبو تمام في «الحماسة».
ونحن نقتصر عليه.
قال شرّاحها (2): وسبب هذا الشعر أنّه كان لمعن بن أوس صديق، وكان معن متزوّجا بأخته، فاتّفق أنّه طلقها وتزوّج بأخرى، فحلف صديقه أن لا يكلّمه أبدا.
فقال معن هذه القصيدة يستعطف بها قلبه ويسترقّه له. وفيها ما يدلّ على القصّة، وهو قوله (3):
فلا تغضبن أن تستعار ظعينة ... وترسل أخرى كلّ ذلك يفعل
والأبيات التي أوردها أبو تمام بعد المطلع هي هذه (4):
وإنّي أخوك الدّائم العهد لم أحل ... إن ابزاك خصم أو نبا بك منزل
أحارب من حاربت من ذي عداوة ... وأحبس مالي إن غرمت فأعقل
كأنّك تشفي منك داء مساءتي ... وسخطي وما في ريثتي ما تعجّل
__________
(1) في لسان العرب (غدا): = قالوا: غدوت أغدو غدوا وغدوا =.
(2) شرح الحماسة للتبريزي 3/ 78.
(3) البيت في شرح الحماسة للتبريزي 3/ 78.
(4) الأبيات في الحماسة برواية الجواليقي ص 327326وشرح الحماسة للأعلم الشنتمري 2/ 672670 وشرح الحماسة للخطيب التبريزي 3/ 8078.(8/291)
وإن سؤتني يوما صبرت إلى غد ... ليعقب يوما منك آخر مقبل
وإنّي على أشياء منك تريبني ... قديما لذو صفح على ذاك مجمل
ستقطع في الدّنيا إذا ما قطعتني ... يمينك فانظر أيّ كفّ تبدّل
وفي النّاس إن رثّت حبالك واصل ... وفي الأرض عن دار القلى متحوّل
إذا أنت لم تنصف أخاك وجدته ... على طرف الهجران إن كان يعقل
ويركب حدّ السّيف من أن تضيمه ... إذا لم يكن عن شفرة السّيف مزحل
وكنت إذا ما صاحب رام ظنّتي ... وبدّل سوءا بالذي كنت أفعل (1)
قلبت له ظهر المجنّ ولم أدم ... على ذاك إلّا ريثما أتحوّل
إذا انصرفت نفسي عن الشّيء لم تكد ... إليه بوجه آخر الدّهر تقبل
وقوله: «وإنّي أخوك» إلخ. يقول: إنّي أخوك الذي يدوم عهده ولا يزول ولا يحول إن أبزاك خصم، أي: غلبك وقهرك. يقال: بزوت الخصم بزوا، وأبزيته إبزاء، بالباء الموحّدة والزاي.
ويجوز أن يكون أبزاك من بزي يبزى بزى، فهو أبزى، وهو دخول الظهر وخروج البطن.
ويكون المعنى: إن حمّلك خصم من الثقل ما يبزى له ظهرك، فلا تطيق الثّبات تحته والنهوض به.
وقوله: «أحارب من حاربت» إلخ، هذا تفسير دوام عهده، أي: تجدني ذابّا عنك، وإن أصابك غرم، حبست مالي عليك. وأعقل عنك، يقال: عقلت عنه، إذا غرمت ما لزمه في ديته. وعقلته، إذا أعطيت ديته.
ويجوز أن يكون معنى فأعقل: أشدّها بعقلها بفنائك لتدفعها في غرامتك. والمال إذا أطلق، يراد به الإبل.
وقوله: «كأنّك تشفي» إلخ، يريد: إساءتك إليّ وسخطك عليّ، فأضافهما إلى المفعول. والمعنى: إنّك تستمر في إساءتك إليّ حتّى كأنّ بك داء ذاك شفاؤه.
__________
(1) كذا في طبعة بولاق وديوانه وشروح الحماسات.
وفي النسخة الشنقيطية وطبعة هارون: = وبدل سوءى =.(8/292)
و «الرّيثة»: ضدّ العجلة. يقول: ليس في أناتي وتركي مكافأتك ما يجب أن يتعجّل عليّ، بما يسوؤني.
وقوله: «وإن سؤتني يوما» إلخ، أي: إن فعلت ما يسوؤني تجاوزت إلى غد، ليجيء يوم آخر مقبل منك بيوم يسرّني.
وقوله: «ستقطع في الدنيا» إلخ، يقول: أنا لك بمنزلة يدك اليمنى، فإذا قطعتني فإنّما تقطع يمينك.
وقوله: «وفي الناس إن رثّت» إلخ، يقول: إذا انقطعت حبال الودّ بيني وبينك، ورثّت، ففي الناس واصل غيرك. وإذا نبابي جوارك ففي جوانب الأرض متحوّل عن دار البغض.
وقوله: «إذا أنت لم تنصف» إلخ، أي: إذا لم تنصف أخاك، ولم توفّه حقوق إخائه، وجدته هاجرا لك مستبدلا بك إن كان له عقل، ثم لا يبالي أن يركب من الأمور ما يقطّعه تقطيع السيف، ويؤثّر فيه تأثيره، مخافة أن يصيبه ضيم متى لم يجد عن ركوبه معدلا.
وقوله: «من أن»، أي: بدلا من أن. و «شفرة السّيف»، بالفتح: حدّه.
و «مزحل»، بالزاي والحاء المهملة: مصدر زحل عن مكانه، إذا تنحّى عنه وتباعد.
وقوله: «وكنت إذا ما صاحب» إلخ، «رام ظنّتي»، بالكسر: عرّضني لاتّهام عقده والارتياب بودّه، بأن عدّ إحساني إليه إساءة. ومعناه: رام إيقاع التّهمة عليّ.
وقوله: «قلبت له ظهر» إلخ، أي: اتّخذته عدوّا وقلبت له ظهر التّرس متّقيا منه، ولم أدم على الحال المذكورة معه إلّا قدر ما أتحوّل، وبطء ما أتنقّل.
قال المبرّد في «الكامل» (1):
دخل عبد الله بن الزّبير يوما على معاوية، فقال: اسمع أبياتا قلتها. وكان واجدا عليه. فقال معاوية: هات.
__________
(1) الكامل في اللغة 1/ 364.(8/293)
فأنشده (1): (الطويل)
إذا أنت لم تنصف أخاك وجدته ... على طرف الهجران إن كان يعقل
مع البيت الذي بعده. فقال له معاوية: قد شعرت بعدنا يا أبا بكر! ثم لم ينشب معاوية أن دخل عليه معن بن أوس المزنيّ، فقال: أقلت بعدنا شيئا؟ فقال:
نعم.
فأنشده (2):
لعمرك ما أدري وإنّي لأوجل ... على أيّنا تعدو المنيّة أوّل
حتى صار إلى الأبيات التي أنشدها ابن الزّبير، فقال له معاوية: يا أبا بكر، أما ذكرت آنفا أنّ هذا الشعر لك؟ قال أصلحت المعاني، وهو ألّف الشعر، وهو بعد ظئري، فما قال من شيء فهو لي. وكان عبد الله مسترضعا في مزينة. انتهى.
و «الظّئر»، بكسر الظاء المعجمة بعدها همزة ساكنة: المرأة الأجنبية تحضن ولد غيرها. ويقال للرجل الحاضن ظئر أيضا. وهذا هو مراد ابن الزّبير.
وقال الحصريّ في «زهر الآداب» بعد إيراد هذه الحكاية: أراد ابن الزّبير معاتبة معاوية بشعر معن، وليس ادّعاؤه على حقيقة منه.
وهذان البيتان قد أوردهما صاحب تلخيص المفتاح في السرقات الشعرية.
وترجمة معن بن أوس المزنيّ تقدّمت في الشاهد الثلاثين بعد الخمسمائة (3).
* * * وأنشد بعده (4): (الطويل)
__________
(1) البيت لعبد الله بن الزبير في الكامل في اللغة 1/ 364. ومعه بيت آخر هو:
ويركب حدّ السّيف من أن تضيمه ... إذا لم يكن عن شفرة السّيف مزحل
(2) الرواية في الكامل في اللغة: = تغدو المنية أول =.
(3) الخزانة الجزء السابع ص 243.
(4) هو الإنشاد السابع والعشرون بعد السبعمائة في شرح أبيات المغني للبغدادي.(8/294)
* ولا ناعب إلّا ببين غرابها *
هو عجز، وصدره:
* مشائيم ليسوا مصلحين عشيرة *
على أنّ «ناعبا» عطف بالجرّ على «مصلحين» المنصوب على خبر «ليسوا»، لتوهّم الباء، فإنها تزاد في خبر ليس.
وقد تقدّم الكلام على هذا البيت في الشاهد الثامن والسبعين بعد المائتين (1).
و «مشائيم»: جمع مشؤوم، من شئم عليهم بالبناء للمفعول، فهو مشؤوم، إذا صار شؤما.
يقول: لا يصلحون أمر العشيرة إذا فسد ما بينهم، ولا يأتمرون بخير، فغرابهم لا ينعب إلّا بالتشتيت والفراق. وهذا مثل للتطيّر منهم والتشاؤم بهم.
و «النعيب»: صوت الغراب ومدّ عنقه عند ذلك.
* * * وأنشد بعده، وهو الشاهد الرابع والعشرون بعد الستمائة (2): (الرجز)
__________
والبيت للأحوص (الأخوص) الرياحي في الإنصاف ص 193والحيوان 3/ 431وشرح أبيات سيبويه 1/ 74، 2/ 105وشرح أبيات المغني 7/ 56وشرح شواهد الإيضاح ص 589وشرح شواهد المغني ص 871وشرح المفصل 2/ 52والكتاب 1/ 165، 306ولسان العرب (شأم) والمؤتلف والمختلف ص 49وهو للفرزدق في ديوانه ص 123والكتاب 3/ 29وهو بلا نسبة في أسرار العربية ص 155والأشباه والنظائر 2/ 347، 4/ 313والخصائص 2/ 354وشرح الأشموني 2/ 302وشرح المفصل 5/ 68، 7/ 57ومغني اللبيب ص 478والممتع في التصريف ص 50.
(1) الخزانة الجزء الرابع ص 148وما بعدها.
(2) الرجز للعجاج في ديوانه ص 267وشرح شواهد الإيضاح ص 350وشرح المفصل 6/ 100. وهو بلا نسبة في شرح أبيات المغني 6/ 175والمخصص 15/ 193.
وروايته في ديوانه:
* من سعي دنيا طال ما قد مدّت *(8/295)
624 - في سعي دنيا طالما قد مدّت
على أنّ «دنيا» قد جرّدت من اللام والإضافة لكونها بمعنى العاجلة.
يريد أنّ الاسمية غلبت عليها لكثرة استعمالها، ولهذا لم تجر على موصوف غالبا، كما غلبت الاسمية على نحو الأجرع والأبطح.
قال ابن يعيش: القياس في «دنيا» أن يكون بالألف واللام، لأنّه صفة في الأصل على أنه فعلى ومذكره الأدنى، مثل الأكبر والكبرى. وهو من دنوت، فقلبت الواو في الأدنى ألفا لتحرّكها، وانفتاح ما قبلها، وذلك بعد أن قلبت ياء لوقوعها رابعة.
وقد تقدّم أنّ الألف واللام تلزم هذه الصفة، إلّا أنهم استعملوا «دنيا» استعمال الأسماء، فلا يكادون يذكرون معه الموصوف، ولذلك قلبوا اللام منه ياء لضرب من التعادل والعوض (1)، كأنّهم أرادوا بذلك الفرق بين الاسم والصفة (2)، فلمّا غلب عليها حكم الأسماء أجروها مجرى الأسماء. وكانت الألف واللام لا تلزم الأسماء فاستعملوها بغير ألف ولام، كسائر الأسماء. انتهى.
وأورده صاحب الكشاف عند قوله تعالى (3): {«إِنَّمََا صَنَعُوا كَيْدُ سََاحِرٍ»} من سورة طه. قال: إنّ تنكير ساحر مع كونه معلوما معيّنا لأجل تنكير المضاف، وهو كيد، كما نكّر الشاعر دنيا، لأجل تنكير سعي.
والمراد كيد سحريّ وسعي دنيويّ. ولو عرّف السحر والدّنيا، لصار الكيد والسعي معرفتين، والمراد تنكيرهما، إذ الغرض كيد ما، وسعي ما.
وقال أبو حيان: البيت محمول على الضرورة، إذ «دنيا» تأنيث الأدنى، لا يستعمل إلّا بالألف واللام أو بالإضافة.
__________
(1) أي لئلا يجتمع ثقل الضمة في أول الكلمة والواو في آخرها، فقلبت الواو ياء ليتحقق التعادل والخفة.
(2) في حاشية طبعة هارون 8/ 296: = أي إنهم إنما أجروا التعديل في الاسم لأنه أسبق من الصفة وأولى بالتعديل والتخفيف فقلبت واوه ياء في نحو: الدنيا والعليا والقصيا. وأما الصفة التي على فعلى بالضم، فقد بقيت على ثقلها، بضم أولها وبالواو في آخرها، وذلك نحو: الغزوى والقصوى. وانظر شرح الشافية 3: 177 179=.
(3) سورة طه: 20/ 69.(8/296)
وأما قول عمر: «إنّي لأكره أن أرى الرجل فارغا لا في عمل دنيا ولا في عمل آخرة»، فيحتمل أن يكون من تحريف الرّواة. انتهى.
ولا يخفى أنّه ورد في الحديث الصحيح: «فإن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها».
ولم يقل غيره إنّ دنيا ضرورة. نعم تنوينه ضرورة (1)، ذكره ابن عصفور في «كتاب الضرائر».
وقال ابن جنّي في «إعراب الحماسة» عند (2) قول المثلّم بن رياح المرّي (3):
(الكامل)
إنّي مقسّم ما ملكت فجاعل ... أجرا لآخرة ودنيا تنفع
قد استعملت العرب في غير هذا «دنيا» نكرة، كما ترى، قال العجاج:
* في سعي دنيا طالما قد مدّت *
وروى ابن الأعرابي «دنيا» بالصّرف، وقال أيضا في ذلك (4): إنهم شبهوها بفعلل فنوّنوها.
وهذا نادر غريب، ولم نعلم شيئا مما في آخره ألف التأنيث مفردا مصروفا غير هذا الحرف.
ولو قال قائل إن «دنيا» هذه المصروفة تكون ملحقة في قول أبي الحسن بجخدب، وكالألف في بهماة (5) لم أر بأسا.
__________
(1) في هامش طبعة بولاق: = أقول: أي ضرورة تدعو إلى صرف دنيا والوزن مستقيم بالألف كما هو ظاهر فليتأمل ا. هـ =. وفي هامش النسخة السلفية أيضا ذكر ذلك.
(2) في طبعة بولاق: = عن =. وهو تصحيف صوابه من النسخة الشنقيطية.
(3) البيت للمثلم بن رياح في الحماسة برواية الجواليقي ص 543وشرح الحماسة للأعلم الشنتمري 2/ 1007 وشرح الحماسة للخطيب التبريزي 4/ 96وشرح الحماسة للمرزوقي ص 1657والمقاصد النحوية 4/ 376.
وهو بلا نسبة في شرح الأشموني 2/ 542.
(4) في طبعة بولاق: = في غير ذلك =. وهو تصحيف صوابه من النسخة الشنقيطية وإعراب الحماسة الورقة 226.
(5) في طبعة بولاق: = بهمات =. وهو تصحيف صوابه من النسخة الشنقيطية وإعراب الحماسة.
والبهماة: واحدة البهمى بالقصر، وهو ضرب من النبات.(8/297)
فإن قلت: فلو كانت ألف «دنيا» للإلحاق لوجب فيها دنوا. وذلك أنّ اللام في نحو هذا، إذا كانت واوا، فإنّها إنّما تبدل ياء في فعلى التي ألفها للتأنيث.
وجاءت هذه للإلحاق؟ فالجواب: أنّ هذا النحو لمّا غلب عليه مثال فعلى التي ألفها للتأنيث. وجاءت هذه للإلحاق، أجروها على المعتاد من القلب فيها. وأيضا فإنّ ألف الإلحاق قد تجري مجرى ألف التأنيث.
ألا تراها زائدة مثلها، وذات معنى مثلها. نعم، وإذا جعلت ما فيه ألف الإلحاق علما لم ينصرف، لمشابهتها حينئذ ألف التأنيث.
فإن قلت: فأجز أيضا أن يكون «دنيا» فعلل كسودد؟ قيل: يمنع من هذا أنّ حرف الإلحاق من حيث ذكرنا أشبه بحرف التأنيث من لام الفعل، فإذا كان إنّما لتشبيه الملحق بحرف التأنيث على ضعف وضرب من التأوّل لم يتجاوز ذلك إلى تشبيه الأصليّ بحرف التأنيث، لإفراط تباعدهما. فلو كانت «دنيا» على هذا فعللا لكانت دنوا.
ولو قال قائل: إن دنيا فيمن صرف فعيل بمنزلة عليب لكان له وجه من التصريف، ولكنّه يبقى عليه شيئان:
أحدهما: قلّة عليب فلا يقاس عليه. والآخر: أنّ دنيا تأنيث الأدنى. وهذا أشدّ شيء تباينا من (1) حديث فعيل وفعلل، وهو أيضا أحد ما يضعف كونها ألف إلحاق. فاعرف ذلك. انتهى.
والبيت من رجز للعجاج. أوّله (2):
الحمد لله الذي استقلّت ... بإذنه السّماء واطمأنّت (3)
بإذنه الأرض فما تعنّت (4) ... وحى لها القرار فاستقرّت
__________
(1) كذا في طبعة بولاق. وفي النسخة الشنقيطية: = تباينا عن =. وفي إعراب الحماسة: = تباعدا عن = مع إثبات تباينا في هامش المخطوطة تصحيحا لها.
(2) الرجز مطلع أرجوزة للعجاج وهو في ديوانه ص 267266وأخبار أبي القاسم الزجاجي ص 103.
(3) الرجز للعجاج في ديوانه ص 266ومقاييس اللغة 4/ 225.
(4) كذا في جميع أصول الخزانة: = تعنت = بالنون. وفي ديوانه ولسان العرب (عتا): = تعتت =. بالتاء.
ففي شرح ديوانه ص 266: = وعتت عصت. يقال: عتا فلان على فلان، إذا عصى عليه. يقول: ذلت وأطاعت =.(8/298)
وشدّها بالرّاسيات الثّبّت (1) ... والجاعل الغيث غياث المسنت
والجامع النّاس ليوم الموقت ... بعد الممات وهو محيي الموّت
يوم ترى النّفوس ما أعدّت ... من نزل إذا الأمور غبّت
في سعي دنيا طالما قد مدّت ... حتّى انقضى قضاؤها فأدّت
قال أبو القاسم الزجاجي في «أماليه الوسطى والصّغرى» (2): أخبرنا أبو عبد الله محمد بن العباس اليزيدي، قال: أخبرنا أبو الفضل الرياشيّ عن الأصمعي، عن عبد الله بن رؤبة بن العجّاج، عن أبيه عن جدّه، قال: أنشدت أبا هريرة قصيدتي التي أولها:
* الحمد لله الذي استقلّت *
حتى أتيت على آخرها، فقال: أشهد إنّك لمؤمن. انتهى.
وقوله: «استقلّت»، أي: ارتفعت. والسماء فاعله. واطمأنّت، أي: سكنت، والأرض فاعله.
و «تعنّت» بالنون: تعبت. في الصحاح: وعني بالكسر عناء، أي: تعب ونصب، وعنّيته تعنية فتعنّى. والوحي: الإشارة والإلهام.
قال صاحب الصحاح:
والكلام الخفيّ وكلّ ما ألقيته إلى غيرك. يقال: وحيت إليه الكلام وأوحيت، وهو أن تكلمه بكلام تخفيه (3). وأنشد هذا البيت.
و «الراسيات»، هي الجبال الثّوابت، والرّواسخ. و «الثّبّت»: جمع ثابت.
و «الغيث»: المطر. وفي المصباح: أغاثه: أعانه ونصره. وأغاثنا الله بالمطر، والاسم الغياث.
__________
(1) الرجز للعجاج في ديوانه ص 266وتاج العروس (وحي) وتهذيب اللغة 5/ 296، 297وجمهرة اللغة ص 576وكتاب العين 3/ 320ولسان العرب (وحي). وهو بلا نسبة في مجمل اللغة 4/ 512ومقاييس اللغة 6/ 93.
(2) أخبار أبي القاسم الزجاجي ص 103بخلاف في إسناد الرواية.
(3) في النسخة الشنقيطية: = أن يكلمه بكلام يخفيه =. ولقد أثبتنا رواية طبعة بولاق والصحاح.(8/299)
و «المسنت»: اسم فاعل من أسنت القوم، أي: أجدبوا، وأصله من السّنة (1)
وهو القحط.
و «الموّت»: جمع مائت. و «أعدّت»، أي: هيّأت، وجعلته عدّة. و «من نزل» بالضم بيان لما. والنّزل: ما يهيّأ للنزيل، أي: الضيف. و «غبّت» بالغين المعجمة والموحدة، أي: بلغت غبّها وعاقبتها.
وفي الصحاح: وقد غبّت الأمور، إذا صارت إلى أواخرها. و «في سعي» متعلق بغبّت.
و «مدّت» بالبناء للمفعول، أي: امتدت وتطاولت. و «أدّت» بتشديد الدال. يقال: أدّت فلانا داهية تؤدّه أدّا بالفتح، من الإدّ، والإدّة، بكسر أولهما، وهي الداهية، والأمر الفظيع.
وترجمة العجّاج تقدّمت في الشاهد الحادي والعشرين من أوائل الكتاب (2).
* * * وأنشد بعده، وهو الشاهد الخامس والعشرون بعد الستمائة (3): (البسيط)
625 - وإن دعوت إلى جلّى ومكرمة
يوما سراة كرام النّاس فادعينا
على أنّ «الجلّى» قد تجرد من اللام والإضافة لكونها بمعنى الخطّة العظيمة.
__________
(1) في النسخة الشنقيطية: = السنت =. وهو تصحيف صوابه من طبعة بولاق.
(2) الخزانة الجزء الأول ص 170.
(3) البيت لبشامة بن حزن النهشلي في شرح الحماسة للمرزوقي ص 101وعيون الأخبار 1/ 387ولسان العرب (جلل) وله أو لبعض بني قيس بن ثعلبة في شرح الحماسة للأعلم 1/ 367وشرح المفصل 6/ 101 ولبعض بني قيس ثعلبة في الحماسة برواية الجواليقي ص 41وشرح الحماسة للخطيب التبريزي 1/ 51وهو للمرقش الأكبر في المفضليات ص 431. وهو بلا نسبة في المحتسب 2/ 363.
وروايته في شرح الحماسة للأعلم الشنتمري والمفضليات:
... يوما خيار سراة النّاس فادعينا(8/300)
والخطّة بالضم: الشأن والحالة والخصلة، فتكون الجلّى (1) إسما للشأن والحال، كما قال الزمخشري في «المفصل».
وقال ابن يعيش في «شرحه»:
الجيّد أن تكون مصدرا كالرّجعى بمعنى الرّجوع، والبشرى بمعنى البشارة. وليس بتأنيث الأجلّ، على حد الأكبر والكبرى، لأنّه إذا كان مصدرا، جاز تعريفه وتنكيره.
وإلى هذا ذهب الحريري في «درّة الغواص»، قال: وأمّا طوبى في قولهم:
طوبى لك.
وجلّى (2) في قول بشامة النهشليّ:
وإن دعوت إلى جلّى ومكرمة ... البيت
فإنّهما مصدران كالرّجعى، وفعلى المصدريّة لا يلزم تعريفها.
والبيت وقع في شعرين: أحدهما للمرقّش الأكبر رواه المفضل بن محمد الضبي له، وكذلك ابن الأعرابي في «نوادره»، وأبو محمد الأعرابي «فيما كتبه على شرح الحماسة للنمري»، وهو (3):
يا دار أجوارنا قومي فحيّينا ... وإن سقيت كرام النّاس فاسقينا
وإن دعوت إلى جلّى ومكرمة ... يوما سراة خيار النّاس فادعينا
__________
(1) في النسخة الشنقيطية: = الجلة =. وهو تصحيف صوابه من طبعة بولاق.
(2) في طبعة بولاق والنسخة الشنقيطية: = طوبى لك وجلى لك =. وهو تصحيف صوابه من درة الغواص للحريري ص 26.
(3) الأبيات للمرقش الأكبر في المفضليات ص 431ويقول محقق المفضليات: = هي ثابته في نسخة فينا، وفي أولها: ولم يروها المفضل ورواها ابن حبيب =.
والأبيات: 31ضمن مقطوعة رواها أبو تمام في الحماسة (شرح التبريزي 1: 10797). ونسبها لبعض بني قيس بن ثعلبة، وجعل صدر أولها:
* إنا محيوك يا سلمى فحيينا *
وهو خلط أبان صوابه أبو محمد الأعرابي، وذكر الأبيات الأربعة على صحتها، فيما روى عنه التبريزي، وصرح بأنها غيرها وأنها لبشامة بن حزن النهشلي =.(8/301)
شعث مقادمنا نهبى مراجلنا ... نأسو بأموالنا آثار أيدينا (1)
المطعمون إذا هبّت شآمية ... وخير ناد رآه النّاس نادينا
قوله: «يا دار أجوارنا» إلخ، قال في العباب: الجار يجمع على جيران، وجيرة، وأجوار.
وأنشد الليث:
* ورسم دار دارس الأجوار *
وروى (2): «يا ذات أجوارنا».
وقوله: «شعث مقادمنا» إلخ.
روي أيضا:
* بيض مفارقنا تغلي مراجلنا *
قال أبو محمد الأعرابيّ: سألت أبا النّدى عن هذه الرواية، قال: هذه رواية ضعيفة، فإنّ بيض المفارق قرع، ومرجل الحائك يغلي كما يغلي مرجل الملك. قال:
والرّواية الصحيحة الأولى، ومعناها إنّنا أصحاب حروب وقرى. انتهى.
والشعر الثاني لبشامة بن حزن النهشلي، رواه المبرد في «الكامل» وأبو تمام في «الحماسة»، وهو (3):
إنّا محيّوك يا سلمى فحيّينا ... وإن سقيت كرام النّاس فاسقينا
وإن دعوت إلى جلّى ومكرمة ... يوما سراة كرام النّاس فادعينا
__________
(1) البيت لمسكين الدارمي أو لبشامة بن حزن النهشلي أو لبعض بني قيس بن ثعلبة في تاج العروس (بيض) وليس في ديوان مسكين وللمرقش الأكبر في المفضليات ص 431.
في طبعة بولاق: = نهى مراجلنا =. وهو تصحيف صوابه من المصادر السابقة والنسخة الشنقيطية.
(2) هي رواية المفضليات المعروفة.
(3) الأبيات لبشامة بن حزن في الحماسة برواية الجواليقي ص 4140والكامل في اللغة 1/ 66وهي لبعض بني قيس في شرح الحماسة للأعلم 1/ 371367وشرح الحماسة للتبريزي 1/ 5550. وبعضها لبشامة بن حزن النهشلي في المؤتلف والمختلف ص 8887.(8/302)
إنّا بني نهشل لا ندّعي لأب ... عنه ولا هو بالأبناء يشرينا (1)
إن تبتدر غاية يوما لمكرمة ... تلق السّوابق منّا والمصلّينا
وليس يهلك منّا سيّد أبدا ... إلّا افتلينا غلاما سيّدا فينا (2)
نكفيه إن نحن متنا أن يسبّ بنا ... وهو إذا ذكر الآباء يكفينا
إنّا لنرخص يوم الرّوع أنفسنا ... ولو نسام بها في الأمن أغلينا
بيض مفارقنا تغلي مراجلنا ... نأسو بأموالنا آثار أيدينا
إنّا لمن معشر أفنى أوائلهم ... قول الكماة ألا أين المحامونا (3)
لو كان في الألف منّا واحد فدعوا ... من فارس خالهم إيّاه يعنونا
إذا الكماة تنحّوا أن يصيبهم ... حدّ الظّبات وصلناها بأيدينا (4)
ولا تراهم وإن جلّت مصيبتهم ... مع البكاة على من مات يبكونا
ونركب الكره أحيانا فيفرجه ... عنّا الحفاظ وأسياف تواتينا
قوله: «إنّا محيّوك يا سلمى» إلخ، قال التبريزي (5): أي إنّا مسلّمون عليك أيّتها
__________
(1) البيت لبشامة بن حزن النهشلي في الحماسة برواية الجواليقي ص 41وشرح ديوان الحماسة للمرزوقي ص 102وعيون الأخبار 1/ 287والمؤتلف والمختلف 87والمقاصد النحوية 3/ 370ولبعض بني قيس بن ثعلبة في الحماسة برواية الجواليقي ص 41وشرح الحماسة للأعلم 1/ 367وشرح الحماسة للتبريزي 1/ 51 ولنهشل بن حري في الشعر والشعراء 2/ 642. وهو بلا نسبة في شرح شذور الذهب ص 284.
(2) البيت لبشامة بن حزن النهشلي في الكامل في اللغة 1/ 66ولسان العرب (فلا) ومقاييس اللغة 4/ 448 ولبعض بني قيس بن ثعلبة في الحماسة برواية الجواليقي ص 41وشرح الحماسة للأعلم 1/ 368وشرح الحماسة للتبريزي 1/ 53.
(3) البيت لبشامة بن حزن النهشلي في الحماسة برواية الجواليقي ص 41وشرح الحماسة للخطيب التبريزي 1/ 54وشرح الحماسة للمرزوقي ص 107والمؤتلف والمختلف ص 88ولبعض بني قيس بن ثعلبة في شرح الحماسة للأعلم 1/ 369وللحماسي في تاج العروس (كمي).
(4) في طبعة بولاق والنسخة الشنقيطية: = الظباة =. وهو تصحيف صوابه من شروح الحماسة ولسان العرب والكامل في اللغة.
والبيت لبشامة بن حزن النهشلي في تاج العروس (ظبا) والحماسة برواية الجواليقي ص 41وشرح الحماسة للخطيب التبريزي 1/ 54ولسان العرب (ظبا). ولبعض بني قيس بن ثعلبة في شرح الحماسة للأعلم 1/ 370.
(5) شرح الحماسة للخطيب التبريزي 1/ 50والزيادات منه.(8/303)
المرأة، فقابلينا بمثله، وإن سقيت الكرام فأجرينا مجراهم، فإنّا منهم.
والأصل في التحية أن يقال عند اللقاء [حيّاك الله]، ثمّ استعمل في غيره من الدعاء.
وقيل في سقيت، معناه: إن دعوت لأماثل الناس بالسّقيا فادعي لنا أيضا.
والأشهر في الدّعاء أن يقال فيه سقّيت فلانا بالتشديد (1) والحجّة بالتخفيف قول أبي ذؤيب الهذلي (2): (المتقارب)
* سقيت به دارها إذ دنت *
وقوله: «وإن دعوت إلى جلّى» إلخ، «جلّى»: فعلى أجراها مجرى الأسماء ويراد بها جليلة، كما يراد بأفعل فاعل وفعيل.
يقول: إن أشدت بذكر خيار الناس بجليلة نابت، أو مكرمة عرضت، فأشيدي بذكرنا أيضا. ولهذا الكلام ظاهره استعطاف لها، والقصد به التوصّل إلى بيان شرفه واستحقاقه ما يستحقّه الأشراف. ولا سقي، ثمّ ولا تحيّة. قاله التبريزي (3).
و «المكرمة»، بفتح الميم وضم الراء: اسم من الكرم. وفعل الخير مكرمة، أي: سبب للكرم أو التكريم. قاله صاحب المصباح.
و «السّراة» بالفتح: اسم مفرد بمعنى الرئيس، وقيل اسم جمع، وقيل جمع سريّ، وهو الشريف.
وقد تقدّم الكلام عليه مشروحا في الشاهد السبعين بعد الأربعمائة (4).
__________
(1) في شرح الحماسة للتبريزي: = سقيت فلانا مثقل =.
(2) صدر بيت لأبي ذؤيب الهذلي وعجزه:
* وصدّقت الخال فينا الأنوحا *
والبيت لأبي ذؤيب الهذلي في ديوانه ص 29وشرح أشعار الهذليين ص 201وتاج العروس (أنح) وشرح الحماسة للتبريزي 1/ 51ولسان العرب (أنح).
(3) في النسخة الشنقيطية: = قال التبريزي =. وصوابه من طبعة بولاق. وهو في شرح الحماسة للتبريزي 1/ 51.
(4) الخزانة الجزء السادس ص 325.(8/304)
ولم يتكلّم ابن جنّي في «إعراب الحماسة» على هذا البيت إلّا من جهة القافية.
قال: يروى: فادعينا، بإشمام الضم في كسرة العين. ويروى بإخلاص الكسرة.
فأمّا من أخلص الكسرة فلا سؤال في إنشاده من جهة الرّدف. وأمّا من رواه بإشمام الضم ففيه السؤال. وذلك أنّ الحركة قبل الرّدف، وهي التي يقال لها: الحذو، لم تأت عنهم مشمّة ولا مشوبة، وإنّما هي إحدى الحركات مخلصة البتّة.
ولم يذكر الخليل ولا أبو الحسن ولا أبو عمرو، ولا أحد من أصحابنا (1)، حال هذه الحركة المشوبة كيف اجتماعها مع غيرها. فدلّ ذاك على أنّ الحركة في نحو هذا ينبغي أن تكون مخلصة.
ومذهب سيبويه في هذا النحو، [مثل (2)]: ادعي واغزي الإمالة وإشمام الكسرة شيئا من الضمة. ولم يستثن ردفا من غيره. ووجه جواز هذه الحركة المشوبة مع الكسرة والضمة الصّريحتين: أنّ ما فيها من الإشمام لا يعتدّ به، ولا ينظر إلى قدره، وإنّما هو كإمالة الفتحة إلى الكسرة في نحو: سالم وحاتم. وأنت تجيزهما في شعر واحد مع قادم وغانم، ولا تحفل بما بين الحركتين، بل إذا جاز سالم مع قادم، وسلاح مع صباح، وقنا مع فتى، كان اجتماع ادعينا مع يشرينا ونحو ذلك أسهل وأسوغ.
وإنّما كان أسهل من قبل أنّ الفتحة إذا نحي بها قبل الألف نحو الكسرة انتحيت أيضا بالألف بعدها نحو الياء لا بدّ من ذلك، من حيث كانت الألف ناشئة عن الحركة قبلها على احتذاء، وموازنة اتباع (3). فإذا (4) أملت الفتحة والألف فهناك عملان في الحركة والحرف جميعا كما ترى.
وأمّا الياء في ادعينا، وقيل وبيع، فإنّها وإن شيبت الحركة قبلها خالصة البتة، وغير مشوبة شوب ما قبلها، وجاز ذلك فيها من حيث كانت الطاقة حاملة، والقدرة ناهضة بالنّطق بالياء الساكنة، بعد الضمة الناصعة، فكيف بها بعد الكسرة التي إنّما اعتلّت بأن انتحي بها نحو الضمة. والعمل في ذلك خلس خفيّ.
__________
(1) في إعراب الحماسة لابن جني الورقة 26: = ولا واحد من أصحابنا =.
(2) زيادة يقتضيها السياق من إعراب الحماسة لابن جني.
(3) في طبعة بولاق: = موازنة إتباع =. بدون الواو. ولقد أثبتنا ما في النسخة الشنقيطية وإعراب الحماسة.
(4) في النسخة الشنقيطية: = فإن =.(8/305)
وأمّا الألف الخالصة فليس في الطّوق أن ينطق بها بعد غير الفتحة الخالصة، ففي سالم إذن تغييران، وفي قيل وبيع واغزي وادعي تغيير واحد.
فإذا جاز اجتماع ما فيه تغييران نحو سالم وسلاح، مع قادم وصباح، كان اجتماع ما فيه تغيير واحد مع ما لا تغيير فيه نحو: قيل واغزي وادعي، مع قيل وبيع، وحيّينا واسقينا، أحجى بالجواز، فاعرف ذلك.
وإذا جاز اجتماع هذا الخلاف في المجرى، وهو أغلظ حرمة وأمسّ مذمّة من الحذو، أعني اجتماع فتى مع عتا (1) والروي التاء، كان ذلك في الحذو أسهل.
وأخفّ وأدون.
وقد كان يجب أن نودع هذا الموضع كتابنا في تفسير قوافي أبي الحسن لامتزاجه به ومماسّته إيّاه، لكنّه لم يحضرنا حينئذ، والخاطر أجول ممّا نذهب إليه، وأشدّ ارتكاضا وذهابا في جهات النّظر من أن يقف بك على انتهائه، أو يمطيك ذروة أجواله وأقصائه (2). انتهى.
وقوله: «إنّا بني نهشل» إلخ، قال المبرد في «الكامل» (3): من قال: إنّا بنو [نهشل] فقد خبّرك وجعل «بنو» خبر إنّ. ومن قال: «بني» فإنّما جعل الخبر إن تبتدر غاية إلخ. ونصب بني على فعل مضمر للاختصاص، وهو أمدح.
وأكثر العرب ينشد (4): (البسيط)
إنّا بني منقر قوم ذوو حسب ... فينا سراة بني سعد وناديها
وكتب أبو الوليد الوقّشي «فيما كتبه على الكامل» بعد بيت «إنّا بني منقر» إلخ، هذا وإن وافق الأوّل بوجه، فإنّه يخالفه بوجه أخصّ منه وأليق به في قانون النّحو، لأنّ هذا نصب على المدح، والأوّل نصب على الاختصاص، والمسمّى مضارع النداء.
__________
(1) في طبعة بولاق: = غنى =. وهو تصحيف صوابه من النسخة الشنقيطية وإعراب الحماسة.
(2) رسمت الكلمة في إعراب الحماسة بدون نقط للقاف.
(3) النقل من الكامل في اللغة 1/ 6766.
(4) البيت لعمرو بن الأهتم في الدرر 3/ 13وشرح أبيات سيبويه 2/ 20والكتاب 2/ 233والكامل في اللغة 1/ 67. وهو بلا نسبة في همع الهوامع 1/ 171.(8/306)
ألا ترى أنّه يرفع هنا ما يرفع في النداء، كقولهم: اللهمّ اغفر لنا أيّتها العصابة.
اه.
وقال التبريزي (1): «بني» نصب على الاختصاص والمدح، وخبر إنّ لا ندّعي، ولو رفع وقال [أنا] بنو [نهشل على أن يكون] خبرا ولا ندّعي في موضع الحال.
والفرق بين أن يكون اختصاصا وبين أن يكون خبرا صراحا: هو أنّه لو جعله خبرا، لكان قصده إلى تعريف نفسه عند المخاطب، وكان لا يخلو فعله لذلك من خمول فيهم (2) أو جهل بشأنهم (3). فإذا جعل اختصاصا فقد أمن [من] الأمرين جميعا.
وإنّما قلت خبرا صراحا لأنّ لفظ الخبر قد يستعار لمعنى الاختصاص، لكنّه يستدلّ على المراد منه بقرائنه.
وعلى هذا قوله (4): (الرجز)
* أنا أبو النّجم وشعري شعري *
وقوله: «لا ندّعي لأب عنه»، «ندّعي»: نفتعل، وعنه تعلّق به. يقال:
ادّعى فلان في بني فلان، إذا انتسب إليهم. وادّعى عنهم، إذا عدل بنسبه عنهم.
وهذا كقولهم: رغبت في كذا، ورغبت عنه.
وقوله: «لأب»، أي: من أجل أب. ومعناه إنّا لا نرغب عن أبينا فننتسب إلى غيره، وهو لا يرغب عنّا، قد رضي كلّ منّا بصاحبه.
__________
(1) شرح الحماسة للتبريزي 1/ 51. والزيادات منه.
(2) في طبعة بولاق: = من خمول فهم =. وهو تصحيف صوابه من النسخة الشنقيطية وشرح الحماسة للتبريزي.
(3) في شرح الحماسة للخطيب التبريزي: = أو جهل من عند المخاطب بشأنهم =.
(4) هو الإنشاد الخامس والثلاثون بعد الخمسمائة في شرح أبيات المغني للبغدادي.
والرجز لأبي النجم في أمالي المرتضى 1/ 350والخصائص 3/ 337والدرر 1/ 185وشرح أبيات المغني 5/ 340وشرح ديوان الحماسة للتبريزي 1/ 51وشرح ديوان الحماسة للمرزوقي ص 1610وشرح شواهد المغني 2/ 947وشرح المفصل 1/ 98، 9/ 83والمنصف 1/ 10وهمع الهوامع 1/ 60. وهو بلا نسبة في الدرر 5/ 79وشرح ديوان الحماسة للمرزوقي ص 103، 209ومغني اللبيب 1/ 329، 2/ 435، 437 وهمع الهوامع 2/ 59.(8/307)
وقوله: «يشرينا»، قال المبرّد (1): يريد يبيعنا. يقال شراه يشريه، إذا باعه.
فهذه اللغة المعروفة، قال الله عزّ وجل (2): {«وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ»،} ويكون شريت في معنى اشتريت، وهو من الأضداد.
وقوله: «إن تبتدر غاية» إلخ، يقال: بادرت مكان كذا [وكذا] وإلى مكان كذا، وكذلك ابتدرنا (3) الغاية وإلى الغاية.
وقوله: «لمكرمة»، أي: لاكتساب مكرمة. ويجوز أن تكون اللام مضيفة للغاية إلى المكرمة، كأنه يريد تسابقهم إلى أقصاها. وإنما قال المصلّين، ولم يقل المصلّيات مع السوابق، لأنّ قصده إلى الآدميّين، وإن كان استعارهما من صفات الخيل.
ويجوز أن يكون أخرج السابق لانقطاعه عن الموصوف في أكثر الأحوال.
ولنيابته عن المجلّي، وهو اسم الأوّل من خيل الحلبة، إلى باب الأسماء فجمعه على السوابق، كما يقال كاهل وكواهل [وغارب وغوارب].
والمصلّي: الذي يتلو السابق فيكون رأسه عند صلاه. والصّلوان: العظمان الناتئان من جانبي العجز.
وقال ابن دريد: هو العظم الذي فيه مغرز عجب الذّنب. وقال بعض أهل اللغة: هما عرقان في موضع الرّدف.
وأسماء خيل الحلبة عشرة (4)، لأنّهم كانوا يرسلونها عشرة عشرة. وسمّي كلّ واحد منها باسم. فالأوّل (5): المجلّي، والثاني: المصلّي، والثالث: المسلّي، والرابع:
__________
(1) الكامل في اللغة 1/ 67.
(2) سورة يوسف: 12/ 20.
(3) في طبعة بولاق: = يبتدرون =. ولقد أثبتنا رواية شرح الحماسة للتبريزي فالنص مأخوذ منه، والنسخة الشنقيطية.
(4) مازال النقل من شرح الحماسة للتبريزي 1/ 52. والزيادات منه.
(5) تمام النص وجودته في شرح الحماسة للتبريزي، ولهذا نسوقه بتمامه: = فالأول منها السابق، وهو المجلي لأنه كان يجلي عن صاحبه والثاني: المصلي لأنه يضع جحفلته على صلا السابق والثالث: المسلي لأنه يسليه والرابع: التالي والتاسع: اللطيم لأنه يلطم عن الحجرة والعاشر: السكيت لأنه يعلوه تخشع وسكوت =.(8/308)
التالي، والخامس: المرتاح، والسادس: العاطف، والسابع: المؤمّل، والثامن:
الحظيّ، والتاسع: اللّطيم، والعاشر: السّكيت بالتصغير، ويقال: سكّيت بالتشديد.
وقوله: «إلا افتلينا» الافتلاء: الافتطام والأخذ عن الأمّ، ومنه الفلوّ. قال المبرد (1): مأخوذ من [قولهم] فلوت الفلوّ [يا فتى]، إذا أخذته عن أمّه. وأخذ هذا المعنى من قول أبي الطّمحان (2): (الطويل)
* إذا مات منّا سيّد قام صاحبه *
وقوله: «إنا لنرخص» إلخ، قال المبرد (3): أخذه من قول الهمداني، وهو الأجدع، أبو مسروق بن الأجدع الفقيه (4): (الطويل)
لقد علمت نسوان همدان أنّني ... لهنّ غداة الرّوع غير خذول
وأبذل في الهيجاء وجهي وإنّني ... له في سوى الهيجاء غير بذول
ومن القتّال الكلابيّ حيث يقول (5): (الوافر)
أنا ابن الأكرمين بني قشير ... وأخوالي الكرام بنو كلاب
__________
(1) الكامل في اللغة 1/ 67.
(2) عجز بيت مختلف في نسبته وصدره:
* وإنّي من القوم الذين هم هم *
والبيت لأبي الطمحان في الكامل في اللغة 1/ 67وللقيط بن زرارة في الحيوان 3/ 93.
(3) الكامل في اللغة 1/ 68.
(4) البيتان لأبي مسروق بن الأجدع في شرح الحماسة للتبريزي 1/ 53والكامل في اللغة 1/ 68.
ومسروق هذا هو الفقيه مسروق بن الأجدع بن مالك بن أمية بن عبد الله بن مرّ بن معمر بن الحارث بن سعد بن عبد الله بن وداعة الهمداني الكوفي العابد. وكنيته أبو عائشة. كان من كبار التابعين، وروى عن أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وابن مسعود وغيرهم. وروى عنه ابن أخيه محمد بن المنتشر بن الأجدع، وإبراهيم النخعي، وأبو إسحاق السبيعي، وغيرهم توفي سنة 63هـ. وله ثلاث وستون سنة.
وفي طبعة بولاق والنسخة الشنقيطية: = قول الأجدع بن مسروق بن الأجدع =. وهو تصحيف صوابه من الكامل في اللغة 1/ 67.
(5) البيتان للقتال الكلابي في ديوانه ص 37والكامل في اللغة 1/ 68.(8/309)
نعرّض للسّيوف إذا التقينا ... نفوسا لا تعرّض للسّباب
وقوله: «ولو نسام بها»، أي: نحمل على أن نسام بها. ويقال: سام بسلعته كذا، وأسمته أنا، أي: حملته على أن يسام. ويحتمل أن يكون من سمته خسفا. وأغلينا، الألف للإطلاق، والنون ضمير الأنفس، ومعنى أغلين (1) وجدت غالية.
وقوله: «بيض مفارقنا» إلخ، قال التبريزي (2): ويروى: «بيض معارفنا» وهي الوجوه، والمراد به نقاء العرض وانتفاء الذمّ، جمع معرف، بفتح الراء وكسرها، سمّي الوجه به لأنّ معرفة الأجسام وتمييزها به. والأشهر: «مفارقنا».
والمراد (3) ابيضّت مفارقنا من كثرة ما نقاسي الشّدائد، كما يقال أمر يشيب الذّوائب.
وتغلي مراجلنا، أي: حروبنا، كقول الآخر (4): (الطويل)
تفور علينا قدرهم فنديمها ... ونفثؤها عنّا إذا حميها غلا
ويجوز: ابيضّت مفارقنا من كثرة استعمال الطيب، كقول الآخر (5): (الطويل)
* جلا الأذفر الأحوى من المسك فرقه *
__________
(1) في طبعة بولاق: = أغلينا = أثبتنا رواية شرح التبريزي والنسخة الشنقيطية.
(2) شرح الحماسة للتبريزي 1/ 53. والزيادات منه.
(3) في شرح الحماسة للتبريزي: «ويجوز أن يكون المراد =.
(4) البيت للنابغة الجعدي في ديوانه ص 118وتاج العروس (فثأ) والتنبيه والإيضاح 2/ 315وديوان الأدب 4/ 209وكتاب الجيم 1/ 249ولسان العرب (فثأ، جيش) ومجمل اللغة 4/ 79ومقاييس اللغة 2/ 315 4/ 458، 475وللكميت في تهذيب اللغة 15/ 151وليس في ديوانه. وهو بلا نسبة في أساس البلاغة (جيش، فثأ، فور) وتاج العروس (دوم) وتهذيب اللغة 14/ 211وجمهرة اللغة ص 1036، 1102 وشرح الحماسة للتبريزي 1/ 53ولسان العرب (دوم) والمخصص 14/ 134، 15/ 54.
(5) صدر بيت بلا نسبة وعجزه:
* وطيب الدّهان رأسه فهو أنزع *
والبيت بلا نسبة في البيان والتبيين 1/ 396والحيوان 3/ 486والعقد الفريد 5/ 343، 6/ 228والكامل في اللغة 1/ 105.(8/310)
فقوله: «تغلي مراجلنا»، أي: قدورنا للضّيافة. ويجوز أن يريد: مشيبنا مشيب الكرام لا مشيب اللئام، كقوله (1): (الطويل)
وشيب مشيب العبد في نقرة القفا ... وشيب كرام النّاس فوق المفارق
فالمراجل: قدور الضيافة. وقوله: «نأسو بأموالنا»، يريد ترفّعهم عن القود (2)
ودفع أطماع الناس عن مقاصّتهم (3). والأسو: المداواة، أي: نقتل وندي.
وقوله: «لو كان في الألف» إلخ، قال المبرد (4): أخذه من قول طرفة (5):
(الطويل)
إذا القوم قالوا من فتى خلت أنّني ... عنيت فلم أكسل ولم أتبلّد
ومن قول متمّم (6): (الطويل)
إذا القوم قالوا من فتى لعظيمة ... فما كلّهم يدعى ولكنّه الفتى
وقوله: «إذا الكماة تنحّوا» إلخ، قال المبرد (7): الظّبة: الحدّ بعينه، يقال:
أصابته ظبة السيف، وظبة النّصل (8). وأراد بالنّصل هنا موضع الضرب وأخذ هذا من قول كعب بن مالك (9): (الكامل)
__________
(1) البيت بلا نسبة في شرح الحماسة للتبريزي 1/ 54نقلا عن ابن الأعرابي في نوادره.
(2) في طبعة بولاق: = نرفعهم =. وهو تصحيف. وفي النسخة الشنقيطية: = ندفعهم =. وهو تصحيف أيضا والتصويب من شرح الحماسة للتبريزي 1/ 54.
القود بالتحريك: القصاص وقتل القاتل بالقتيل.
(3) في طبعة بولاق وشرح الحماسة للتبريزي: = ورفع أطماع الناس عن مقاصتهم =. وهو تصحيف صوابه من النسخة الشنقيطية.
(4) الكامل في اللغة 1/ 67.
(5) البيت لطرفة بن العبد من معلقته المشهورة في ديوانه ص 29وشرح الحماسة للتبريزي 1/ 54والكامل في اللغة 1/ 67.
(6) البيت لمتمم بن نويرة في شرح الحماسة للتبريزي 1/ 54والكامل في اللغة 1/ 67.
(7) الكامل في اللغة 1/ 68.
(8) بعده في الكامل: = النصل، وجمعه ظبات، وأراد بالظبة هاهنا موضع المضرب من السيف =.
(9) البيت لكعب بن مالك في ديوانه ص 245والبيان والتبيين 3/ 26وشرح أبيات المغني للبغدادي 3/ 28 وشرح الحماسة للتبريزي 1/ 55والكامل في اللغة 1/ 68ولسان العرب (بله).(8/311)
نصل السّيوف إذا قصرن بخطونا ... قدما ونلحقها إذا لم تلحق
وقوله (1): «ولا تراهم وإن جلّت» إلخ، يعني أنّهم لا يموتون إلّا بالقتل فقد صار لهم عادة، وإنّ كلّ من يولد منهم، يكون سيّدا، فلا يجزعون على من مات منهم.
وقوله: «ونركب الكره» إلخ، يفرجه: يكشفه. وقوله: «أسياف تواتينا» يجوز أن يكون كقوله (2): (الطويل)
* فحالفنا السّيوف على الدّهر *
ويجوز أن يكون أراد بالسيوف رجالا كأنّهم السيوف مضاء. والأوّل أولى.
قاله التبريزي.
وهذه الأبيات قد اختلف في قائلها، والصحيح أنّها لبشامة بن حزن النهشلي.
وعليه الآمديّ في «كتابه المؤتلف والمختلف» (3) ونسبها المبرد في «الكامل» (4) لأبي مخزوم النّهشلي.
وقال ابن السيد البطليوسي «فيما كتبه على الكامل»: هذه الأبيات لبشامة بن حزن النهشلي. وقال السكري: هو بشامة بن حرّيّ. والأول قول أبي رياش.
ويقال: بشامة بن جزء.
وقال ابن الأعرابي: هو لحجر بن خالد (5) بن محمود القيسي. وزعم ابن قتيبة
__________
(1) شرح الحماسة للتبريزي 1/ 55.
(2) قطعة من بيت اختلف في نسبته وتمامه:
فلمّا نأت عنّا العشيرة كلّها ... أنخنا فحالفنا السيوف على الدهر
والبيت ليحيى بن منصور الحنفي أو لموسى بن جابر الحنفي في الحماسة برواية الجواليقي ص 102وشرح الحماسة للأعلم 1/ 213وشرح الحماسة للتبريزي 1/ 171.
(3) المؤتلف والمختلف ص 8887.
(4) الكامل في اللغة 1/ 66.
(5) في طبعة بولاق والنسخة الشنقيطية: = لحجي بن خالد =. وهو تصحيف صوابه من شروح الحماسات.
وفي حاشية شرح الحماسة للأعلم الشنتمري 1/ 367366يقول المحقق حول الخلاف حول نسبة هذه الأبيات:
= بعض بني قيس بن ثعلبة، ويقال إنها لبشامة بن ونهشل بن حري شاعر حسن الشعر، مخضرم شاميّ شريف(8/312)
أنّها لابن غلفاء التميمي. انتهى.
أقول: الذي قاله ابن قتيبة في «كتاب الشعراء» (1) أنّ الأبيات لنهشل بن حرّيّ.
وقال النمري: هي لرجل من بني قيس بن ثعلبة.
قال أبو محمد الأعرابي: لم يفرق النّمريّ بين بني نهشل الذين هم مضريّة. وبين بني قيس بن ثعلبة الذين هم ربعيّة، فلزّهما في قرن.
والبيت الذي فيه «إنّا بني نهشل» لبشامة بن حزن النهشلي.
والأبيات الأخر الأربعة للمرقّش الأكبر، وهو عمرو بن سعد بن مالك بن ضبيعة بن قيس بن ثعلبة. انتهى.
وتقدّمت الأبيات الأربعة أوّلا.
قال التبريزي (2): من قال إنّ الشعر للقيسي، روى: «إنا بني مالك».
أما «المرقّش» فهو شاعر جاهلي. قال صاحب الأغاني (3): المرقّش لقب غلب
__________
بقي إلى أيام معاوية، وكان مع علي في حروبه، وقتل أخوه مالك بصفين، وكان أبوه شاعرا وجده هو ضمرة، وحرّي منسوب إلى الحرة.
وبشامة بن حزن النهشلي ذكره الآمدي في مؤتلفه ص 87وأورد له هذه الأبيات. وقد وردت الأبيات 1، 2، 7 ضمن المفضلية 128منسوبة للمرقش الأكبر، وهو ربيعة بن سعد بن مالك، ويقال عمرو أو عوف بن سعد، أحد عشاق العرب المشهورين، وكانت صاحبته تدعى أسماء بنت عوف، وقيل إنه كان أحد من يحسن الكتابة الحميرية، وهو أخ للمرقش الأصغر وقيل عمه، وقد أكلت السباع أنفه أثناء خروجه إلى حبيبته بعد أن زوجها أبوها في غيابه، وهو الأصغر كانا على عهد المهلهل بن ربيعة، وقد شهدا حرب بكر وتغلب.
أما حجر بن خالد بن محمود بن عمرو بن مرثد بن سعد بن مالك بن ضبيعة بن قيس بن ثعلبة فشاعر جاهلي معاصر لعمرو بن كلثوم، كان يتردد على الحيرة ويمدح ملوكها، وقد روي أنه افتخر في شعره مرّة بحضرة ملك منهم فلم يرض ذلك عمرو بن كلثوم فقام إليه ولطمه، فغضب الملك المنذري، فلما كان الليل دخل حجر على عمرو وهو في خبائه فلطمه فاستغاث ببني تغلب فجاءت بخيولها =.
(1) الشعر والشعراء 2/ 533.
(2) شرح الحماسة للتبريزي 1/ 51.
(3) الأغاني 6/ 127.(8/313)
عليه بقوله (1): (السريع)
الدّار وحش والرّسوم كما ... رقّش في ظهر الأديم قلم
وهو أحد من قال شعرا (2)، فلقّب به، واسمه فيما ذكر أبو عمرو الشّيباني عمرو.
وقال غيره: عوف بن سعد بن مالك بن ضبيعة بن قيس بن ثعلبة [الحصن] ابن عكابة بن صعب بن علي بن بكر بن وائل.
وهو أحد المتيّمين، كان يهوى ابنة عمّه أسماء بنت عوف بن مالك بن ضبيعة.
ويقال له المرقّش الأكبر، لأنه عمّ المرقّش الأصغر. والمرقّش الأصغر عمّ طرفة بن العبد.
وكان للمرقّشين معا موقع من بكر بن وائل في حروبها مع بني تغلب، وبأس وشجاعة ونجدة، وتقدّم في الحروب، ونكاية في العدوّ.
وأما «ابن غلفاء» (3)، بالغين المعجمة والفاء، فهو أوس بن غلفاء، من بني الهجيم بن عمرو بن تميم وهو شاعر جاهلي، وهو القائل: (الوافر)
ألا قالت أمامة يوم غول ... تقطّع يا ابن غلفاء الحبال (4)
__________
(1) البيت للمرقش في ديوانه ص 585وأساس البلاغة (رقش) والأغاني 6/ 127وتاج العروس (رقش) والتنبيه والإيضاح 2/ 319وتهذيب اللغة 8/ 322وجمهرة اللغة ص 730ولسان العرب (رقش) ومعجم الشعراء ص 201ومجمل اللغة 2/ 411. وهو بلا نسبة في كتاب العين 5/ 40ومقاييس اللغة 2/ 428.
(2) النص منقول من الأغاني ترجمة المرقش 6/ 127.
وهو أحد عشاق العرب المشهورين. شاعر جاهلي مشهور لقب بالمرقش لأنه كان يزين شعره ويحسنه. انظر في ترجمته وأخباره الأغاني 6/ 127وشرح المفضليات ص 216والشعر والشعراء ص 138ومعجم الشعراء ص 201.
(3) شاعر جاهلي جعله ابن سلام في الطبقة الثامنة من الجاهليين. انظر في ترجمته وأخباره في الشعر والشعراء 2/ 531وطبقات فحول الشعراء ص 159ومعجم الشعراء ص 494.
(4) البيت لابن غلفاء في تاج العروس (صوب، غلف) والشعر والشعراء 2/ 531وطبقات فحول الشعراء ص 167ولسان العرب (صوت، غلف) والمقاصد النحوية 4/ 249ونوادر أبي زيد ص 46. وهو بلا نسبة في جمهرة اللغة ص 351.
يوم غول: من أيامهم. وتقطعت حباله: افتقر ولم يجد ما يستمسك به من أسباب العيش.(8/314)
ذريني إنّما خطإي وصوبي ... عليّ وإنّ ما أنفقت مال (1)
يقول: إن الذي أهلكت مال، ولم أتلف عرضا. والمال يستخلف. كذا في «كتاب الشعراء لابن قتيبة» (2).
وأمّا «بشامة بن حزن النهشلي»، فهو بفتح الموحدة، وتخفيف الشين المعجمة.
قال ابن جني في «المبهج» (3): معناه عود شجر يستاك به.
قال جرير (4): (الوافر)
أتنسى إذ تودّعنا سليمى ... بعود بشامة سقي البشام
و «الحزن»، بفتح الحاء المهملة وسكون الزاي بعدها نون، ومعناه الموضع الغليظ.
وذكره الآمدي في «المؤتلف والمختلف» ولم يزد في نسبه على قوله: بشامة بن حزن النهشلي، نهشل بن دارم.
ولم أر له ترجمة، وليس له ذكر في ترجمة الأنساب، والظاهر أنّه إسلامي.
وكذا أبو مخزوم النّهشلي كما يظهر من شرح المبرد لأبياته.
وذكر الآمدي (5) شاعرا آخر اسمه بشامة. قال: «بشامة بن الغدير»، والغدير اسمه عمرو بن هلال بن سهم بن مرّة بن عوف بن سعد بن ذبيان.
__________
(1) البيت لأوس بن غلفاء في إنباه الرواة 1/ 120والدرر 5/ 56والشعر والشعراء 2/ 531وطبقات فحول الشعراء ص 167ولسان العرب (صوب) والمقاصد النحوية 4/ 249ونوادر أبي زيد ص 46ولابن عنقاء الفزاري في الأشباه والنظائر 6/ 194. وهو بلا نسبة في جمهرة اللغة ص 351، 1311.
الصوب: الصواب.
(2) في الشعر والشعراء 2/ 531: = يريد: إن ما أنفقت مال، والمال يستخلف، ولم أتلف عرضا =.
(3) المبهج في تفسير أسماء شعراء الحماسة ص 80.
(4) البيت لجرير في ديوانه ص 279وأمالي القالي 1/ 120وتاج العروس (عرض، بشم) وتهذيب اللغة 1/ 467، 11/ 384وديوان الأدب 1/ 353ولسان العرب (عرض، بشم) والمبهج ص 80.
(5) المؤتلف والمختلف ص 86.(8/315)
شاعر محسن مقدّم، وهو خال زهير بن أبي سلمى المزني. وله أشعار جياد طوال. انتهى.
* * * وأنشد بعده، وهو الشاهد السادس والعشرون بعد الستمائة (1): (الوافر)
626 - ولا يجزون من حسن بسوءى
ولا يجزون من غلظ بلين
على أن «سوءى» مصدر كالرّجعى، والبشرى، وليس مؤنث أسوأ.
والبيت من أبيات لأبي الغول، مذكورة في أوائل الحماسة، وتقدّم شرحها في الشاهد الثالث والثمانين بعد الأربعمائة (2).
قال شرّاح الحماسة: وقد روى: «سوءى» في البيت روايتين أخريين:
إحداهما: «بسيء» بفتح السين وسكون المثناة التحتية بعدها همزة، وهو مخفّف سيّئ بتشديد الياء، كما يخفف هيّن وليّن فيكون وصفا.
والثانية: «بسيّ» بكسر السين وتشديد الياء بلا همزة. والسّيّ: المثل.
ومعناه أنّهم يزيدون في الجزاء على قدر الابتداء.
قال الطّبرسيّ (3): وهذا ليس بشيء، لأنه إخلال بالمطابقة التي حسن البيت بها، لأنه جعل سيّئا في مقابلة حسن، والليّن في مقابلة الغلظ. وهذا من المطابقة الصحيحة،
__________
(1) البيت لأبي الغول الطهوي في الحماسة برواية الجواليقي ص 31والحيوان 3/ 106وشرح الحماسة للأعلم 1/ 362وشرح الحماسة للتبريزي 1/ 16وشرح الحماسة للمرزوقي ص 40وشرح المفصل 6/ 102 والشعر والشعراء 1/ 342وللطهوي في لسان العرب (سوا).
وروايته في الحماسة وشروحها:
ولا يجزون من حسن بسيء ...
(2) الخزانة الجزء السادس ص 393.
(3) في طبعة بولاق: = الطيبرسي =. وهو تصحيف صوابه من النسخة الشنقيطية.
والطبرسي: نسبة إلى طبرستان.(8/316)
لأنه قابل الاسم بالاسم، والمصدر بالمصدر. انتهى.
وروى شرّاح المفصل رواية أخرى وهي: «بسوء» وهو مصدر أيضا كالرواية الأولى.
قال ابن المستوفي: الذي استشهد به الزمخشري هو بعض الروايات، لكنّه اختاره لمكان حاجته إليه. والمعنى واضح.
وضدّه قول قريط بن أنيف العنبريّ (1): (البسيط)
يجزون من ظلم أهل الظّلم مغفرة ... ومن إساءة أهل السّوء إحسانا
وروى ابن قتيبة في «كتاب الشعراء» البيت هكذا (2):
ولا يجزون من خير بشرّ ... ولا يجزون من غلظ بلين
(تتمة)
خطّأ الزمخشري في «المفصل» أبا نواس في قوله (3): (البسيط)
كأنّ صغرى وكبرى من فقاقعها ... حصباء درّ على أرض من الذّهب
لكونه استعمل صغرى وكبرى نكرة. وهذا الضرب من الصفات لا يستعمل إلّا معرفا، وإنما يجوز التنكير في فعلى التي لا أفعل لها، نحو: حبلى.
قال الأندلسي: لم يقل إنّه ضرورة لأنّ المولّد لا يسوغ له استعمال شيء على خلاف الأصل للضرورة، إلّا أن يرد به سماع، فيتوقّف فيه على محلّ السماع، ولا يقاس عليه. وصغرى ما ورد فيه سماع، وقد حاولوا له أجوبة:
__________
(1) البيت لقريط بن أنيف العنبري في الحماسة برواية الجواليقي ص 29وشرح الحماسة للأعلم 1/ 359وشرح الحماسة للتبريزي 1/ 10وشرح أبيات المغني للبغدادي 2/ 304.
(2) الشعر والشعراء 1/ 342.
(3) هو الإنشاد الحادي عشر بعد الستمائة في شرح أبيات المغني للبغدادي.
والبيت لأبي نواس في ديوانه ص 34وشرح أبيات المغني 6/ 174وشرح قطر الندى ص 316وشرح المفصل 6/ 102. وهو بلا نسبة في شرح الأشموني 2/ 386ومغني اللبيب 2/ 380.(8/317)
أحدها: أن صغرى قد غلبت عليها الاسمية كما تقدم في قوله (1):
* في سعي دنيا طالما قد مدّت *
قال ابن يعيش: والاعتذار عنه: أنه استعمله استعمال الأسماء لكثرة ما يجيء منه بغير موصوف، نحو: صغيرة وكبيرة، فصار كصاحب والأبطح فاستعمله نكرة لذلك.
ثانيها: أنّ فعلى فيه ليست مؤنث أفعل بل بمعنى فاعلة، كأنه قال: صغيرة وكبيرة من فقاقعها، على حدّ قوله تعالى (2): {«وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ»}. قاله (3) ابن يعيش أيضا.
وإليه ذهب ابن هشام في «المغني»، قال فيه: ربّما استعمل أفعل التفضيل الذي لم يرد به المفاضلة مطابقا (4). مع كونه مجرّدا، كقوله (5):
* وأنتم ما أقام ألائم * البيت
أي: لئام. فعلى هذا يخرج بيت أبي نواس، وقول النحويين: جملة صغرى وجملة كبرى، وكذلك قول العروضيين: فاصلة صغرى وفاصلة كبرى. انتهى.
ثالثها: قال الأندلسي (6): قيل إنّ «من» المذكورة زائدة، وكبرى مضافة،
__________
(1) مرّ في الشاهد رقم / 624/ من هذا الجزء من الخزانة.
(2) سورة الروم: 30/ 37.
(3) في طبعة بولاق: = قال =. وهو تصحيف صوابه من النسخة الشنقيطية.
(4) في طبعة بولاق: = مطابقة =. وهو تصحيف صوابه من النسخة الشنقيطية.
(5) قطعة من بيت للفرزدق وتمامه:
إذا غاب عنكم أسود العين كنتم ... كراما وأنتم ما أقام ألائم
والبيت هو الإنشاد الثالث عشر بعد الستمائة في شرح أبيات المغني للبغدادي.
وهو للفرزدق في تاج العروس (عين) وشرح أبيات المغني 6/ 178وشرح التصريح 2/ 102وشرح شواهد المغني 2/ 799والمقاصد النحوية 4/ 57وليس في ديوانه. وهو بلا نسبة في أمالي القالي 1/ 171، 2/ 47 وجمهرة اللغة ص 650وسمط اللآلئ ص 430وشرح الأشموني 2/ 388ولسان العرب (سود، عتم) ومعجم البلدان (أسود العين) ومغني اللبيب 2/ 381.
(6) النص في شرح أبيات المغني للبغدادي 6/ 175.(8/318)
وحذف مضاف الأوّل كما في قوله (1): (البسيط)
* يا تيم تيم عديّ *
لكنّ حذف «من» في الواجب لا يجوز إلّا عند الأخفش. والأجود أن يقال حذف المفضّل الداخل عليه «من»، اكتفاء بذكره مرّة، أي: كأنّ صغرى من فقاقعها (2) وكبرى منها. انتهى.
ولا يخفى أنه كان يجب أن يقول: وزيادة «من» في الواجب لا تجوز إلّا عند الأخفش بدل قوله: «لكنّ حذف من في الواجب» إلخ.
وقد ردّ ابن هشام في «المغني» هذا الجواب، فقال: وقول بعضهم إنّ «من» زائدة وإنّهما متضايفان، يردّه أن الصحيح لا تقحم (3) من في الإيجاب ولا مع تعريف المجرور. انتهى.
والبيت في صفة الخمر. و «الفقاقع»: جمع فقّاعة. ويروى: «من فواقعها» جمع فاقعة، ومعناهما النّفّاخات التي تكون على وجه الماء.
وصف الخمر وما يعلوها من الحباب، فشبّه الحباب بالدّرّ، وهو اللؤلؤ الكبير، والخمر (4) التي تحته بأرض من ذهب.
__________
(1) قطعة من بيت لجرير وتمامه:
يا تيم تيم عدي لا أبا لكم ... لا يلقينكم في سوءة عمر
وهو الإنشاد السابع والتسعون بعد الستمائة في شرح أبيات المغني للبغدادي.
والبيت في ديوانه ص 212والأزهية ص 238والأغاني 21/ 349والخصائص 1/ 345والدرر 6/ 29 وشرح أبيات سيبويه 1/ 142وشرح أبيات المغني 7/ 11وشرح شواهد المغني 2/ 855وشرح المفصل 2/ 10والكتاب 1/ 53، 2/ 205واللامات ص 101ولسان العرب (أبي) والمقاصد النحوية 4/ 240 والمقتضب 4/ 229ونوادر أبي زيد ص 139. وهو بلا نسبة في الأشباه والنظائر 4/ 204وأمالي ابن الحاجب 2/ 725وجواهر الأدب ص 199، 421ورصف المباني ص 245وشرح الأشموني 2/ 454وشرح ابن عقيل ص 522وشرح المفصل 2/ 105، 3/ 21ومغني اللبيب 2/ 457وهمع الهوامع 2/ 122.
(2) في شرح أبيات المغني 6/ 175: = صغرى من فواقعها =.
(3) في النسخة الشنقيطية: = لا يقحم =. وفي المغني: = أن الصحيح أن من لا تقحم في الإيجاب =.
(4) كذا في طبعة بولاق وشرح أبيات المغني. وفي النسخة الشنقيطية: = الخمرة =. ويقال: خمر وخمرة.(8/319)
والبيت أورده صاحب الكشاف عند قوله تعالى (1): {«حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَنْثُوراً»} في ضمن حكاية حكاها عن المأمون، أنه زفّت إليه بوران بنت الحسن بن سهل، وهو (2)
على بساط منسوج من ذهب، وقد نثرت عليه نساء دار الخلافة اللؤلؤ، فنظر إليه منثورا على ذلك البساط فاستحسن النظر إليه، وقال: لله درّ أبي نواس! كأنه أبصر هذا حيث يقول:
كأنّ صغرى وكبرى من فقاقعها ... البيت
وهو من أبيات أولها (3):
ساع بكاس إلى ناس على طرب ... كلاهما عجب في منظر عجب
قامت تريني وستر اللّيل منسدل ... صبحا تولّد بين الماء والعنب
كأنّ صغرى وكبرى من فقاقعها ... حصباء درّ على أرض من الذّهب
كأنّ تركا صفوفا في جوانبها ... تواتر الرّمي بالنّشّاب من كثب
في كفّ ساقية ناهيك ساقية ... في حسن قدّ وفي ظرف وفي أدب
وبعد هذا ستة أبيات في وصفها.
* * * وأنشد بعده، وهو الشاهد السابع والعشرون بعد الستمائة (4): (الطويل)
__________
(1) سورة الإنسان: 76/ 19.
(2) في شرح أبيات المغني 6/ 176: = وهي على بساط =.
(3) الأبيات لأبي نواس في ديوانه ص 40وشرح أبيات المغني 6/ 176.
(4) عجز بيت للعباس بن مرداس وصدره:
* أكرّ وأحمى للحقيقة منهم *
والبيت هو الإنشاد الثامن والأربعون بعد الثمانمائة في شرح أبيات المغني للبغدادي.
والبيت للعباس بن مرداس في ديوانه ص 93والاختيارين ص 736والأصمعيات ص 205والتذكرة السعدية ص 97وحماسة البحتري ص 202وحماسة الخالديين 1/ 153والحماسة برواية الجواليقي ص 132وشرح أبيات المغني 7/ 292وشرح التصريح 1/ 339وشرح الحماسة للأعلم 1/ 428وشرح الحماسة للتبريزي 1/ 228وشرح الحماسة للمرزوقي ص 441، 1700ولسان العرب (قنس) ونوادر أبي زيد ص 59(8/320)
627 - وأضرب منّا بالسّيوف القوانسا
على أنّ «القوانس» منصوب بفعل محذوف لا ب «أضرب».
قال ابن جني في «إعراب الحماسة» (1): القوانس منصوب عندنا بفعل مضمر يدلّ عليه أضرب، أي: ضربنا، أو نضرب القوانس. فلا يجوز أن يتناوله أضرب هذه في البيت، لأنّ أفعل هذه [التي] للمبالغة تجري مجرى فعل التعجّب. وأنت لا تقول: ما أضرب زيدا عمرا، حتى تقول لعمرو، وذلك لضعف هذا الفعل وقلّة تصرفه. فإن تجشّمت ما أضرب زيدا عمرا، فإنّما نصبت عمرا بفعل آخر، على ما تقدّم. انتهى.
وقال ابن الحاجب في «أماليه على المفصل»: القوانس منصوب بفعل مقدّر، كأنه سئل عمّا يضربون، فقال: نضرب القوانس. انتهى.
واستشهد به صاحب الكشاف عند قوله تعالى (2): {«أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصى ََ لِمََا لَبِثُوا أَمَداً»} على أنّ أمدا منصوب بفعل دلّ عليه أحصى الذي هو أفعل تفضيل، كما نصب القوانس بما دلّ عليه أضرب.
وقال بعض من شرح أبيات المفصل: المراد بالبيت أضرب منا بالسّيوف للقوانس، فحذف اللام لضرورة الشعر. فمن لابتداء الغاية متعلّق بأضرب تعلّق الظرف، وبالسّيوف تعلّق الآلة، واللام تعلق المفعول به. وهذا التقدير أولى من الأول لوجهين:
الأوّل أنّ إضمار: نضرب، يفسد معنى البيت، إذ مراد الشاعر أنّهم ضاربون، ونحن أضرب منهم، فيحصل التفضيل. ولو قال: نضرب القوانس لم يكن فيه تفضيل.
والثاني: أنّ أضرب لا ينصب المفعول به، فكيف يدلّ عليه، والدّال على عامل هو الذي يصحّ أن يعمل في معموله. وإذا لم يصحّ عمله فيه لم يدلّ عليه. انتهى.
__________
وهو بلا نسبة في الأشباه والنظائر 1/ 344، 4/ 79وأمالي ابن الحاجب 1/ 460وشرح الأشموني 1/ 291 ومغني اللبيب 2/ 618.
(1) إعراب الحماسة لابن جني ورقة 70/ 2وشرح أبيات المغني للبغدادي 7/ 292. والزيادات منهما.
(2) سورة الكهف: 18/ 12.(8/321)
وقد ردّ عليه الجار برديّ في «رسالة ألّفها على مسألة الكحل»، قال: كلا الوجهين فاسد.
أما الأوّل فلأنّ التفضيل إنّما يفوت لو لزم تقدير فعل ناصب للمفعول، إذ لا يكون لاسم التفضيل تعلّق معنوي بذلك المنصوب، لكنّه ممنوع لجواز أن يكون أضرب متعلقا بالقوانس من حيث المعنى، مع أن يكون انتصابها بفعل مقدّر. وإذن تعلّق به معنى يحصّل مراد الشاعر وهو التفضيل.
وقال المصنف في «أماليه» في قولنا مررت بزيد قائما: إنّ العامل في زيد في اللفظ هو الباء، ومن حيث المعنى هو مررت، وفي قائما بالعكس. يعني أنّ الفاعل فيه من حيث المعنى هو الباء، ومن حيث اللفظ هو مررت. هذا كلامه.
فأقول: لا يبعد فيما نحن فيه أيضا أن يكون نضرب عاملا لفظا في القوانس، ويكون لأضرب تعلّق بها من حيث المعنى، فحينئذ يتم ما ذكرنا.
وأما الوجه الثاني فلأنّ الدالّ على عامل مقدّر لا يلزم أن يكون مما يعمل عمل ذلك العامل.
ألا ترى أنّ الدال على العامل المقدّر في قولنا: زيد مررت به هو مررت، مع أنّه لا ينصب زيدا. ونظائره كثيرة.
فإن قلت: مررت مع الباء يصحّ أن ينصب زيدا، فلذلك يدلّ على الناصب المقدّر. قلت: فكذا أضرب فيما نحن فيه مع اللام المقدّرة يصحّ أن تنصب القوانس، لأنّكم ذهبتم إلى أنّ القوانس تعلّق بأضرب تعلّق المضروب به، وإذا صحّ أن يكون ناصبا لها مع اللام صحّ أن يكون دالا على عاملها.
وإذا ثبت فساد الوجهين فلا يكون التقدير الثاني أولى من التقدير الأوّل، بل الأمر بالعكس لأنّ تقدير الفعل أكثر من تقدير حرف الجر.
وأيضا التفصيل الذي ذكره للخوافض الثلاث مخالف لما يفهم من كلام المحقّقين على ما لا يخفى على الأذكياء. انتهى كلام الجاربردي.
وأقول: لم يبيّن الفساد الذي ادّعاه على وجهين من تقدير اللام، وغاية ما أورده تصحيح تقدير الفعل على زعمه. فتأمل وأنصف. والله تعالى أعلم.(8/322)
والمصراع من قصيدة للعباس بن مرداس الصحابي، قالها في الجاهليّة قبل إسلامه ومطلعها (1):
لأسماء رسم أصبح اليوم دارسا ... وأقفر إلّا رحرحان فراكسا (2)
واختار منها أبو تمام في الحماسة أربعة أبيات، وهي:
فلم أر مثل الحيّ حيّا مصبّحا ... ولا مثلنا يوم التقينا فوارسا
أكرّ وأحمى للحقيقة منهم ... وأضرب منّا بالسّيوف القوانسا
إذا ما حملنا حملة نصبوا لنا ... صدور المذاكي والرّماح المداعسا
إذا الخيل جالت عن صريع نكرّها ... عليهم فما يرجعن إلّا عوابسا
قال أبو عبيدة في «كتاب أيام العرب» (3):
غزت بنو سليم ورئيسهم عبّاس بن مرداس مرادا، فجمع لهم عمرو بن معديكرب، فالتقوا بتثليث من أرض اليمن، بعد تسع وعشرين ليلة، فاقتتلوا قتالا شديدا، فقتل من كبار مراد ستة، وقتل من بني سليم رجلان، وصبر الفريقان حتّى كره كلّ واحد منهما صاحبه، فقال عباس بن مرداس قصيدته التي على السّين، وهي إحدى المنصفات (4). انتهى.
وقوله: «فلم أر مثل الحيّ» إلخ، أراد بالحيّ المصبّح بني زبيد بن مراد. قال
__________
(1) القصيدة في ديوانه ص 9591في ثمانية وعشرين بيتا وكذلك في الأصمعيات ص 207204والمنصفات ص 7261.
والأبيات المذكورة في الحماسة برواية الجواليقي ص 132وشرح أبيات المغني 7/ 293292وشرح الحماسة للأعلم 1/ 428وشرح الحماسة للتبريزي 1/ 229228.
(2) البيت للعباس بن مرداس في ديوانه ص 91والأصمعيات ص 204والأزمنة والأمكنة 2/ 312والأغاني 14/ 292والتنبيه والإيضاح 2/ 328والحماسة برواية الجواليقي ص 132وشرح الحماسة للأعلم 1/ 428 وشرح الحماسة للتبريزي 1/ 228ولسان العرب (وحش) ومعجم البلدان (راكس). وهو بلا نسبة في جمهرة اللغة ص 503، 530.
(3) النص في شرح أبيات المغني للبغدادي 7/ 293.
(4) وفي الخزانة 3/ 520بولاق يعرف الطبرسي المنصفات بقوله: = قال الطبرسي: للعرب قصائد قد أنصف قائلوها أعداءهم، وصدقوا عنهم وعن أنفسهم، فيما اصطلحوه من حر اللقاء، وفيما وصفوه من أحوالهم في إمحاض الإخاء قد سموها المنصفات =.(8/323)
المرزوقي (1): لم أر مغارا عليه كالذين صبّحناهم، ولا مغيرا مثلنا يوم لقيناهم، فقسم الشهادة قسم السّواء بين أصحابه وأصحابهم، وتناول بالمدح كلّ فرقة منهم.
وانتصب حيّا مصبّحا على التمييز، وكذلك فوارسا تمييز وتبيين، ويجوز أن يكونا في موضع الحال.
فإن قيل: لم قال فوارس، والتمييز يؤتى به مفرد اللفظ؟ قلت: إذا لم يتبيّن كثرة العدد، واختلاف الجنس من المميّز، يؤتى بالتمييز مجموع اللفظ، متى أريد التنبيه على ذلك.
وعلى هذا قول الله تعالى (2): {«هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمََالًا»}، كأنه لما كانت أعمالهم مختلفة كثيرة نبّه على ذلك بقوله: «أعمالا». ولو قال عملا، كان السامع لا يبعد في وهمه أنّ خسرهم كان لجنس واحد من أجناس المعصية، أو لعمل واحد من الأعمال الذميمة.
وكذلك قوله: «فوارس»، جمعه حتّى يكون فيه إيذان بالكثرة. انتهى.
وقال ابن الحاجب في «الأمالي»: إن أريد بالرؤية العلم ف «حيّا» منصوب بها مفعول أوّل، ومثل: مفعول ثان. وإن أريد رؤية العين، فيحتمل أن يكون حيّا مصبّحا هو المفعول، ومثل الحيّ صفة قدّمت فانتصب على الحال.
ويجوز أن يكون مثل الحي، هو المفعول، وحيّا مصبحا، إما عطف بيان لقوله مثل الحي، وإمّا حال من الحيّ، كأنه قال: مثل الحيّ مصبّحا، وأتى بحيّ للتوطئة للصفة المعنوية، كقولهم: جاءني الرجل الذي تعلم رجلا صالحا.
وصحّ الحال من المضاف إليه لأنه هنا في معنى المفعول، أي: لم أر مماثلا للحيّ في حال كونهم مصبّحين.
والمضاف إليه إذا كان في معنى فاعل أو مفعول صحّ منه الحال كغيره. ويجوز أن يكون تمييزا، كقولك: عندي مثله تمرا أو قمحا، لما في مثل من إبهام الذات، فصحّ تمييزها كتمييز ما أشبهها، وكلّ ما ذكر في ذلك، فهو جار في قوله: مثلنا فوارسا، ففوارسا مثل قوله مصبّحا، ومثلنا مثل قوله: مثل الحيّ. انتهى كلام ابن الحاجب.
__________
(1) شرح الحماسة للمرزوقي 1/ 441440.
(2) سورة الكهف: 18/ 103.(8/324)
ونقله [الجاربرديّ (1)] في تلك الرسالة، وقال: على تقدير أن يراد بالرّؤية العلم، يجوز أن يجعل مثل الحيّ مفعولا أوّل، وحيّا مصبّحا مفعولا ثانيا. فإن قلت:
لا يجوز أن يكون مثل الحي مفعولا أوّل، لأنه في أفعال القلوب، حكمه حكم المبتدأ، فيجب أن يكون معرفة أو نكرة مخصّصة بوجه ما. وهنا ليس كذلك، لأنّ المثل كما لا يتعرف بالإضافة، فلا يتخصّص أيضا، فلا يصلح لأن يكون مفعولا أوّل.
فالجواب بعد تسليم ذلك أن يقال: المثل هنا إمّا تخصص بالإضافة أو لا، بل بقي على ما كان، يصلح لأن يكون مفعولا أول.
أمّا على التقدير الأوّل فظاهر، وأمّا على التقدير الثاني، فلأنّه إذا كان نكرة، وقد وقع في سياق النفي فيعمّ، ولا شكّ أنه يصح الابتداء به، فيصحّ أن يكون مفعولا أوّل. انتهى.
وقوله: «أكرّ وأحمى» إلخ، قال المرزوقي: المصراع الأوّل ينصرف إلى أعدائه وهم بنو زبيد (2)، والثاني: إلى عشيرته وأصحابه. والمراد لم أر أحسن كرّا وأبلغ حماية للحقائق منهم، ولا أضرب للقوانس بالسيوف منّا. وانتصب القوانس من فعل (3) دلّ عليه قوله: وأضرب منّا.
ولا يجوز أن يكون انتصابه عن أضرب، لأنّ أفعل الذي يتمّ بمن، لا يعمل إلّا في النكرات، كقولك: هو أحسن [منك (4)] وجها. وأفعل هذا يجري مجرى فعل التعجّب، ولذلك تعدّى (5) إلى المفعول الثاني باللام، فقلت: ما أضرب زيدا لعمرو.
قال الدّريديّ: القونس هو أعلى البيضة. وقال غيره: قونس الفرس: ما بين أذنيه إلى الرأس. ومثله قونس البيضة من السّلاح (6). انتهى.
__________
(1) زيادة يقتضيها السياق من النسخة الشنقيطية. أراد رسالته في مسألة الكحل.
(2) في شرح الحماسة للمرزوقي: = بنو أسد =.
(3) كذا في طبعة بولاق وشرح الحماسة للمرزوقي. وفي النسخة الشنقيطية: = عن فعل =.
(4) زيادة يقتضيها السياق من شرح أبيات المغني للبغدادي وشرح الحماسة للمرزوقي.
(5) في النسخة الشنقيطية: = يعدى =. وكذلك في شرح أبيات المغني للبغدادي.
(6) شرح الحماسة للمرزوقي 1/ 441.(8/325)
وقال ابن الحاجب: قوله: «أكرّ وأحمى» إلخ، تبيين لما ادّعاه فيما تقدّم، فيجوز أن ينتصب بفعل مقدّر لا صفة لما تقدّم، لئلا يفصل بين الصفة والموصوف بما هو كالأجنبي إذا جعل تمييزا.
ويجوز أن يكون صفة لما تقدّم، كأنها صفة واحدة. وإذ جعلا غير تمييز كأنّه قال: جاءني زيد وعمرو العاقل والعالم. وذلك جائز. فأكرّ وأحمى صفة لحيّا مصبّحا، وأضرب منّا صفة لفوارسا. انتهى.
ونقله الجاربردي في تلك الرسالة، وقال: كلامه مشعر بأنّه على تقدير كون ما تقدّم على أكرّ وأحمى تمييزا، لو جعل أكرّ وأحمى صفة يلزم الفصل بين الصفة والموصوف بما هو كالأجنبيّ، وأما على تقدير كون المتقدم غير تمييز لو جعل أكرّ وأحمى صفة لا يلزم ذلك. والفرق مشكل جدا. انتهى.
و «أكرّ»: من كرّ عليه، إذا صال عليه. و «أحمى»: من الحماية. وحقيقة الرجل: ما يحقّ عليه حفظه من الأهل والأولاد والجار.
وقوله: «إذا ما حملنا حملة» إلخ، قال المرزوقي (1): يروى: «إذا ما شددنا شدّة».
يقول: إذا حملنا عليهم ثبتوا في وجوهنا، ونصبوا صدور الخيل القرّح، والرّماح المعدّة للدّفع.
و «الدّعس»: الدفع في الأصل، ثم يستعمل في الطّعن، وشدّة الوطء والجماع.
و «الذّكاء»: ضد الفتاء، يقال: فرس مذكّ إذا تمّ سنّه، وكمل قوّته.
وفي المثل (2): «جري المذكّيات غلاب». ويقال: «غلاء». ويقال: فتاء فلان كذكاء فلان وكتذكية فلان، أي: حزامته على نقصان سنّه كحزامة ذاك مع استكماله.
__________
(1) النص في شرح أبيات المغني للبغدادي 7/ 294.
(2) المثل في الألفاظ الكتابية ص 191وأمثال العرب ص 85وجمهرة الأمثال 1/ 299وزهر الأكم 1/ 106، 2/ 44، 3/ 31والعقد الفريد 3/ 91، 5/ 151والفاخر ص 288وفصل المقال ص 127وكتاب الأمثال ص 91، 107وكتاب الأمثال لمجهول ص 54ولسان العرب (ذكا، غلا) والمستقصى 2/ 51ومجمع الأمثال 1/ 158، 2/ 111.(8/326)
قال زهير (1): (الوافر)
يفضّله إذا اجتهدا عليه ... تمام السّنّ منه والذّكاء
انتهى.
وقال بعض شراح الحماسة: المذاكي: المسنّات من الخيل. والمذكي من الخيل بمنزلة المخلف من الإبل.
وقوله: «إذا الخيل جالت»، قال المرزوقي (2): أي إذا الخيل دارت عن مصروع منّا كررنا عليهم لنصرع مثل ما صرعوا منّا.
ويجوز أن يريد: إذا جالت الخيل عن صريع منهم لا يقنعنا ذلك فيهم، بل نكرّها عليهم لمثله وإن كرهت الكرّ لشدّة البأس، فلم ترجع إلّا كوالح. والعامل في إذا [الخيل]: نكرّها، وهو جوابه. وعوابس حال، والخيل فاعل فعل يفسّره ما بعده. انتهى (3).
وقال شارح آخر: جالت: انكشفت. جال القوم جولة: انكشفوا ثم كرّوا.
ولم ترجع الخيل إلّا عابسة لما وجدت من مسّ السّلاح.
وقد ردّ على العباس عمرو بن معديكرب، واعتذر بأنّ خيلهم لم تكن سمانا، وأنه لولا ذلك لم تنالوا الذي نلتم، في قصيدة يقول فيها (4): (الطويل)
أعبّاس لو كانت شيارا جيادنا ... بتثليث ما ناصيت بعدي الأحامسا (5)
__________
(1) البيت لزهير بن أبي سلمى في ديوانه ص 62وأساس البلاغة (ذكى) وتاج العروس (ذكا) وتهذيب اللغة 10/ 338وكتاب العين 5/ 399ولسان العرب (ذكا) ومقاييس اللغة 2/ 358.
الذكاء: حدة القلب. ويقال: الذكاء: السن.
(2) النص في شرح أبيات المغني للبغدادي 7/ 294. والزيادات منه ومن شرح الحماسة للمرزوقي.
(3) شرح الحماسة للمرزوقي 1/ 442.
(4) البيتان لعمرو بن معديكرب من قصيدة يرد فيها على العباس بن مرداس في ديوانه ص 126125.
(5) البيت لعمرو بن معديكرب في ديوانه ص 125وتاج العروس (حمس، نصا) وتهذيب اللغة 4/ 355، 11/ 404وديوان الأدب 3/ 375ولسان العرب (شور، حمس، نصا). وهو بلا نسبة في أساس البلاغة (حمس) ومجمل اللغة 3/ 185.
وشيارا: سمانا مفردها شيّر وقد شار الفرس أي سمن وحسن. وتثليث: واد بنجد، على ثلاث مراحل(8/327)
لدسناكم بالخيل من كلّ جانب ... كما داس طبّاخ القدور الكرادسا
يقال: ناصيت الرجل، إذا أخذت بناصيته.
و «الكردوس»: كلّ ملتقى عظمين، كالمنكبين والرّكبتين والوركين.
ودسناكم: وطئناكم. انتهى.
قال الطّبرسي في «شرحه أبيات العباس من باب المنصفات»: وهو من باب التناصف. وللعرب قصائد قد أنصف قائلوها أعداءهم [فيها (1)] وصدقوا عنهم وعن أنفسهم فيما اصطلوه من حرّ اللقاء، وفيما وصفوه من أحوالهم في إمخاض الإخاء، قد سمّوها المنصفات. ويروى أنّ أوّل من أنصف في شعره مهلهل بن ربيعة حيث قال (2): (الوافر)
كأنّا غدوة وبني أبينا ... بجنب عنيزة رحيا مدير
ومن التناصف في الإخاء قول الفضل بن العباس رضي الله عنهما في أبي لهب:
(البسيط)
لا تطمعوا أن تهينونا ونكرمكم ... وأن نكفّ الأذى عنكم وتؤذونا
انتهى.
والعباس وعمرو بن معديكرب صحابيّان، تقدمت ترجمة الأول في الشاهد السابع عشر (3)، وترجمة الثاني في الشاهد الرابع والخمسين بعد المائة (4).
* * * __________
ونصف من نجران إلى ناحية الشمال. وناصيت: نازعت والأحامس: جمع أحمس وهو المشتدّ الصلب في الدين.
(1) زيادة يقتضيها السياق من النسخة الشنقيطية.
(2) في طبعة بولاق: = فإنا غدوة =. وهو تصحيف صوابه من ديوانه والمصادر الآتية الذكر.
والبيت للمهلهل بن ربيعة التغلبي في ديوانه ص 170وأدب الكاتب ص 257وجمهرة اللغة ص 642وشرح أبيات المغني 5/ 68ولسان العرب (رحا). وهو بلا نسبة في الاشتقاق ص 321وشرح المفصل 4/ 147.
(3) الخزانة الجزء الأول ص 161.
(4) الخزانة الجزء الثاني ص 392.(8/328)
وأنشد بعده، وهو الشاهد الثامن والعشرون بعد الستمائة، وهو من شواهد سيبويه (1): (الطويل)
628 - مررت على وادي السّباع ولا أرى
كوادي السّباع حين يظلم واديا
أقلّ به ركب أتوه تئيّة
وأخوف إلّا ما وقى الله ساريا
على أن أفعل فيه من قبيل: ما رأيت كعين زيد أحسن فيها الكحل.
قال سيبويه: إنّما أراد أقلّ به الرّكب تئية منهم. ولكنه حذف استخفافا، كما تقول: أنت أفضل، ولا تقول من أحد. وتقول: الله أكبر، ومعناه الله أكبر من كل شيء. انتهى.
قال ابن خلف: حذف منهم وبه اختصارا، لعلم السامع. والهاء في «به» الأولى ضمير «واديا»، والهاء في «به» التي بعد منهم ضمير وادي السّباع.
وقال الجاربردي في «رسالة ألّفها لمسألة الكحل» على عبارة الكافية: ولوقوع التغيير الكثير في العبارة الثالثة من الحذف والتقديم والتأخير، ربّما يتوهّم أنّها غير جائزة، فلذلك احتاج إلى إيراد نظير لها جاء في كلام العرب، وقد أنشده سيبويه، وهو قوله:
مررت على وادي السّباع ... البيتين
والاستشهاد إنّما يحصل من البيتين بقوله: «ولا أرى كوادي السباع أقلّ به ركبّ أتوه تئيّة في وادي السباع». فأفعل هاهنا وهو أقلّ، جرى لشيء وهو في المعنى لمسبّب هو الرّكب مفضّل باعتبار من هو له وهو قوله به، على نفسه، باعتبار وادي السباع. انتهى.
وقد شرح الشارح المحقق البيتين بما لم يسبق به.
__________
(1) البيتان لسحيم بن وثيل الرياحي في ديوانه ص 19والأشباه والنظائر 8/ 146، 147والكتاب 2/ 32، 33والمقاصد النحوية 4/ 48ومعجم البلدان (وادي السباع). وهو بلا نسبة في شرح ابن عقيل ص 471 وشرح عمدة الحافظ ص 774، 775.(8/329)
وقوله: «الواو في ولا أرى اعتراضية»، هذا بالنظر إلى ما يأتي بعد البيت الثاني.
وجعل العيني جملة: «ولا أرى» حاليّة.
وقوله: «وهو بمعنى المفعول» يعني أنّ «أخوف» في البيت مأخوذ من الفعل المبنيّ للمجهول، أي: أشدّ مخوفيّة، كما أخذ أشهر وأحمد من المبني للمجهول، أي: أشدّ مشهوريّة ومحموديّة.
وقوله: «وهو منصوب على التمييز من أقلّ»، هذا هو الظاهر وعليه اقتصر شارح اللباب، قال: التئيّة: التوقّف والتثبت. وتئية تمييز، من قوله: أقلّ، أي:
أقلّ توقّفا. فأقلّ: أفعل من القلة منصوب لأنه صفة لمفعول أرى.
وقال الجاربرديّ: تئية إمّا مصدر على أصله، لأنّ الإتيان قد يكون تئيّة، أي:
بتوقّف، وقد يكون بغيره. وإمّا مصدر في تأويل المشتقّ، أي: متوقّفين، فيكون حالا. وأخوف عطف على أقلّ أو على تئيّة إن جعلت حالا. وإلّا ما وقى الله:
استثناء مفرّغ، أي: في كلّ وقت إلّا وقت وقاية الله الساري. انتهى.
ومحصّل المعنى أنّ ثبوت الرّكب في وادي السباع أقلّ من ثبوته في غيره.
والشعر لسحيم بن وثيل، وهو شاعر عصريّ الفرزدق، وقد تقدّمت ترجمته في الشاهد الثامن والثلاثين (1).
و= وادي السّباع =: اسم موضع بطريق البصرة. قال أبو عبيد البكري في «معجم ما استعجم» (2): وادي السباع جمع سبع، بالبصرة معروف، وهو الذي قتل فيه الزّبير بن العوّام، سمّي بذلك لأنّ أسماء بنت عمران بن الحاف بن قضاعة.
وقال الكلبي: هي «أسماء بنت دريم» بن القين بن أهود (3) بن بهراء كانت تنزله. ويقال، لها أمّ الأسبع، لأنّ ولدها أسد، وكلب، والذئب، والدّبّ، والفهد، والسّرحان. وأقبل وائل بن قاسط، فلما نظر إليها رآها امرأة ذات جمال،
__________
(1) الخزانة الجزء الأول ص 261.
(2) معجم ما استعجم، ومعجم البلدان (وادي السباع).
(3) في طبعة بولاق: = أهوذ = بالذال المعجمة. وهو تصحيف صوابه من النسخة الشنقيطية ومعجم ما استعجم ومعجم البلدان والقاموس (هود).(8/330)
فطمع فيها، ففطنت له، فقالت: لو هممت بي لأتاك أسبعي! فقال: ما أرى حولك أسبعا. فدعت بنيها فأتوا بالسّيوف من كلّ ناحية. فقال: والله ما هذا إلّا وادي السباع: فسمّي به. انتهى.
وقال ياقوت في «معجم البلدان» (1): وادي السباع جمع سبع. والسبع، يقال: على ما له ناب ويعدو على الناس والدوابّ فيفترسها، مثل الأسد، والذئب، والنّمر، والفهد. فأمّا الثعلب فإنه وإن كان له ناب فإنّه ليس بسبع لأنّه لا عدوان له. وكذلك الضّبع.
ووادي السّباع هو الذي قتل فيه الزّبير بن العوّام بين البصرة ومكّة، بينه وبين البصرة خمسة أميال (2). كذا ذكره أبو عبيدة.
ووادي السباع من نواحي الكوفة، سمّي بذلك لما أذكره لك، وهو: أنّ أسماء بنت دريم بن القين بن أهود (3) بن بهراء كان يقال لها: أمّ الأسبع.
وولدها بنو وبرة ابن تغلب بن حلوان بن عمران بن الحاف بن قضاعة، يقال لهم السّباع، وهم: كلب، وأسد، والذئب، والفهد، والثعلب، وسرحان. ونزك (4)، بفتح النون وسكون الزاي، وهو الحريش، ويقال له: الكركدن له قرن واحد يحمل الفيل على قرنه على ما قيل. وجعثم (5)، وهو الضبع.
و «الفزر»، وهو الببر (6): نوع من الضّباع دون جرم الفهد إلّا أنّه أشدّ وأجرأ منه. وعنزة وهي دابّة طويلة الخطم يعدّ من رؤوس السّباع، يأتي الناقة فيدخل خطمه في حيائها ويأكل ما في بطنها، ويأتي البعير فيمتلخ عينيه. وهرّ، وضبع.
__________
(1) معجم البلدان (وادي السباع).
(2) في طبعة بولاق والنسخة الشنقيطية: = خمسة أجبل =. وهو تصحيف صوابه من معجم البلدان.
في حاشية الأصل: = قوله بينه وبين البصرة إلخ. المعروف الآن أن قبر الزبير بقرب البصرة، بينهما أربعة أو خمسة أميال، ولا يعرف جبل هناك، فلعل أجبل مصحفة عن أميال =. ولم ترد هذه الحاشية في النسخة الشنقيطية.
(3) في طبعة بولاق: = أهوذ =. بالذال المعجمة، وهو تصحيف سبق لنا أن شرحناه.
(4) في معجم البلدان: = وبرك =.
(5) في معجم البلدان: = وخثعم =.
(6) في معجم البلدان: = وهو اليربوع من السباع دون جرم =.
والفزر: ابن النمر، وقيل: ابن الببر. انظر لسان العرب (فزر).(8/331)
و «السّمع» بالكسر، وهو ولد الذئب من الضّبع. وديسم، وهو الثعلب، وقيل: ولد الذئب (1). ونمس، وهو دويبّة فوق ابن عرس يأكل اللحم، وهو أسود ملمّع ببياض.
والعفر: جنس من الببر. وسيد (2). والدّلدل. والظّربان: دويبّة منتنة الفساء.
ووعوع، وهو ابن آوى الضخم. وكانت تنزل مع أولادها بهذا الوادي فسمّي وادي السباع بأولادها.
قال ابن حبيب (3): مرّ وائل بن قاسط بأسماء هذه أمّ ولد وبرة، وكانت امرأة جميلة، وبنوها يرعون حولها، فهمّ بها، فقالت له: لعلّك أسررت في نفسك منّي شيئا؟ فقال: أجل. فقالت: لئن لم تنته لأستصرخنّ عليك! فقال: والله ما أرى بالوادي أحدا! فقالت: لو دعوت سباعه لمنعتني منك، وأعانتني عليك. فقال: أو تفهم السّباع عنك؟ قالت: نعم.
ثم رفعت صوتها: يا كلب، يا ذئب، يا فهد، يا دبّ، يا سرحان، يا أسد (4). فجاؤوا يتعادون ويقولون: ما خبرك يا أمّاه؟ قالت: ضيفكم هذا أحسنوا قراه. ولم تر أن تفضح نفسها عند بنيها، فذبحوا له وأطعموه، فقال وائل: ما هذا إلّا وادي السّباع فسمي بذلك. انتهى.
* * * __________
(1) بعده في معجم البلدان: = قال الجوهري: قلت لأبي الغوث يقولون إن الديسم ولد الذئب من الكلب، فقال:
ما هو إلا ولد الذئب =.
(2) في النسخة الشنقيطية: = سليع =.
السّيد بالكسر: الذئب.
(3) معجم البلدان (وادي السباع) وما زال البغدادي ينقل من معجم البلدان.
(4) في معجم البلدان: = يا أسد يا سيد =.(8/332)
الفعل الماضي
أنشد فيه، وهو الشاهد التاسع والعشرون بعد الستمائة (1): (البسيط)
629 - والله لا عذّبتهم بعدها سقر
على أنّ الماضي النفي ب «لا» في جواب القسم ينصرف إلى الاستقبال كما في البيت.
وهو عجز، وصدره:
* حسب المحبّين في الدّنيا عذابهم *
والبيت من قصيدة للمؤمّل بن أميل المحاربي، قالها في امرأة كان يهواها من أهل الحيرة، يقال لها: «هند»، وهي قصيدة مشهورة.
ومنها (2):
شفّ المؤمّل يوم الحيرة النّظر ... ليت المؤمّل لم يخلق له بصر
ومنها:
__________
(1) البيت هو الإنشاد التاسع والتسعون بعد اللاثمائة في شرح أبيات المغني للبغدادي.
والبيت لمؤمل بن أميل المحاربي في الأغاني 22/ 251وشرح أبيات المغني للبغدادي 4/ 391. وهو بلا نسبة في مغني اللبيب 1/ 243.
وروايته في الأغاني:
يكفي المحبين في الدنيا عذابهم ... والله
وروايته في شرح أبيات المغني للبغدادي:
... تالله لا عذبتهم بعدها سقر
(2) البيت للمؤمل بن أميل في الأغاني 22/ 251وشرح أبيات المغني 4/ 391ومعجم الشعراء ص 384.(8/333)
قتلت شاعر هذا الحيّ من مضر ... والله يعلم ما ترضى بذا مضر (1)
روى الأصبهاني «بسنده في الأغاني» (2) عن علي بن الحسن الشّيباني، قال:
رأى المؤمّل في نومه قائلا، يقول: أنت المتألّي (3) على الله أنّه لا يعذّب المحبّين، حيث تقول:
يكفي المحبّين في الدّنيا عذابهم ... والله لا عذبتهم بعدها سقر
فقال: نعم. فقال: كذبت يا عدوّ الله! ثم أدخل إصبعيه في عينيه، وقال له:
أنت القائل:
شفّ المؤمّل يوم الحيرة النّظر ... البيت
هذا ما تمنّيت فانتبه فزعا فإذا هو قد عمي (4).
وروي بسنده أيضا عن مصعب الزّبيري أنه قال:
أنشد المهديّ:
قتلت شاعر هذا الحيّ من مضر ... البيت
فضحك، وقال: لو علمنا أنّها فعلت لما رضينا، ولغضبنا له، وأنكرنا.
انتهى (5).
و «شفّه»: بالشين المعجمة والفاء بمعنى أرقّه وأهزله ونقصه. و «المتألّي» بمعنى الحالف: اسم فاعل من تألّى من الأليّة، وهي اليمين. ويقال منها آلى إيلاء، وائتلى أيضا: افتعل من الأليّة.
و «المؤمّل»: ابن أميل بن أسيد المحاربي. والمؤمّل بصيغة اسم المفعول، والثاني: بالتصغير، وكلاهما مأخوذان من الأمل، والثالث: بفتح الهمزة وكسر السين المهملة.
__________
(1) البيت للمؤمل بن أميل في الأغاني 22/ 251وشرح أبيات المغني 4/ 391.
(2) الأغاني 22/ 251وشرح أبيات المغني للبغدادي 4/ 391.
(3) المتألي: الحالف.
(4) وذكر خبر عماه المرزباني في معجم الشعراء ص 384.
(5) الأغاني 22/ 251.(8/334)
وهذه ترجمته من الأغاني، قال (1): هو المؤمّل بن أميل بن أسيد المحاربيّ، [من] محارب بن خصفة بن قيس بن عيلان بن مضر. شاعر كوفيّ من مخضرمي [شعراء] الدولتين الأمويّة والعباسيّة.
وكانت شهرته في العباسيّة أكثر، لأنّه كان من الجند المرتزقة معهم، ومن يخصّهم، ويخدمهم من أوليائهم.
وانقطع إلى المهديّ في حياة أبيه، وبعده. وهو صالح المذهب في شعره، ليس من المبرّزين الفحول، ولا المرذولين. وفي شعره لين (2). وله طبع صالح.
وروي عنه بالسّند أنه قال (3): قدمت على المهديّ وهو بالرّيّ، وهو إذ ذاك وليّ عهد، فامتدحته بأبيات، فأمر لي بعشرين ألف درهم، فكتب بذلك صاحب البريد إلى أبي جعفر المنصور وهو بمدينة السلام، يخبره أنّ الأمير المهديّ أمر لشاعر بعشرين ألف درهم، فكتب إليه يعذله ويلومه، ويقول له: إنّما كان ينبغي [لك (4)] أن تعطيه بعد أن يقيم ببابك [سنة (5)] أربعة ألاف درهم.
وكتب إلى كاتب المهديّ أن يوجّه إليه بالشاعر. فطلب، فلم يقدر عليه، وكتب إلى أبي جعفر: إنه قد توجّه إلى مدينة السلام. فأجلس قائدا من قوّاده على جسر النّهروان وأمره أن يتصفّح الناس رجلا رجلا.
فجعل لا تمرّ به قافلة إلّا تصفّح من فيها حتّى مرّت القافلة التي فيها المؤمّل، فتصفّحهم فلما سأله من أنت؟ قال: أنا المؤمّل بن أميل المحاربي الشاعر، أحد زوّار الأمير المهدي. فقال: إيّاك طلبت. قال المؤمّل: فكاد قلبي ينصدع خوفا من أبي جعفر المنصور.
__________
(1) انظر في ترجمته وأخباره الأغاني 22/ 245وشرح أبيات المغني 4/ 392ومعجم الشعراء ص 384.
والزيادات من الأغاني.
(2) في النسخة الشنقيطية وشرح أبيات المغني للبغدادي: = ولا المرذولين في شعره =.
(3) الأغاني 22/ 245.
(4) زيادة يقتضيها السياق.
وفي طبعة هارون والنسخة الشنقيطية: = له =. ونظنها تصحيفا لا يستقيم به المعنى، ولعله وهم.
وفي الأغاني 22/ 245: = إنما ينبغي أن تعطي لشاعر بعد أن يقيم ببابك سنة أربعة آلاف درهم =.
(5) زيادة يقتضيها السياق من الأغاني 22/ 245.(8/335)
فقبض عليّ، وأسلمني إلى الربيع (1)، فأدخلني إلى أبي جعفر، وقال له: هذا الشاعر الذي أخذ من المهدي عشرين ألف درهم، قد ظفرنا به. فقال: أدخلوه إليّ (2).
فأدخلت عليه فسلّمت تسليم مذعور مروّع فردّ عليّ السلام، وقال: ليس [لك] هاهنا إلّا خير، أنت المؤمّل بن أميل؟ قلت: نعم يا أمير المؤمنين. قال:
أتيت غلاما غرّا [كريما] فخدعته [فانخدع]. قلت: نعم، أصلح الله أمير المؤمنين، أتيت غلاما غرّا كريما فخدعته فانخدع. قال: فكأنّ ذلك أعجبه، فقال:
أنشدني ما قلت له.
فأنشدته (3): (الوافر)
هو المهدي إلّا أنّ فيه ... مشابهة من القمر المنير
تشابه ذا وذا، فهما إذا ما ... أنارا مشكلان على البصير
فهذا في الظّلام سراج ليل ... وهذا في النّهار ضياء نور
ولكن فضّل الرّحمن هذا ... على ذا بالمنابر والسّرير
وبالملك العزيز فذا أمير ... وماذا بالأمير ولا الوزير
وبعض الشّهر ينقص ذا وهذا ... منير عند نقصان الشّهور
فيا ابن خليفة الله المصفّى ... به تعلو مفاخرة الفخور
لئن فتّ الملوك وقد توافوا ... إليك من السّهولة والوعور
لقد سبق الملوك أبوك حتّى ... بقوا من بين كاب أو حسير
وجئت مصلّيا تجري حثيثا ... وما بك حين تجري من فتور
فقال النّاس: ما هذان إلّا ... كما بين الخليق إلى الجدير
لئن سبق الكبير فأهل سبق ... له فضل الكبير على الصّغير
وإن بلغ الصّغير مدى كبير ... فقد خلق الصّغير من الكبير
__________
(1) في النسخة الشنقيطية: = وسلمني من الربيع =. وهو تصحيف ولقد أثبتنا رواية طبعة بولاق والأغاني.
(2) في طبعة بولاق: = قال أدخله إلي =. ولقد أثبتنا رواية النسخة الشنقيطية والأغاني.
(3) الأبيات للمؤمل بن أميل في الأغاني 22/ 247246.(8/336)
فقال: والله لقد أحسنت، ولكن هذا لا يساوي عشرين ألف درهم، فأين المال؟ ها هو هذا. قال: يا ربيع امض معه، فأعطه أربعة آلاف درهم، وخذ منه الباقي.
قال المؤمّل: فخرج معي الربيع فحطّ ثقلي ووزن لي من المال أربعة آلاف درهم، وأخذ الباقي. فلمّا ولي المهديّ الخلافة ولّى [ابن] ثوبان (1) المظالم، فكان يجلس للناس بالرّصافة، فإذا ملأ كساءه رقاعا رفعها إلى المهديّ، فرفعت إليه رقعة فلمّا دخل بها ابن ثوبان جعل المهديّ ينظر في الرّقاع، حتّى إذا وصل إلى رقعتي ضحك.
فقال له ابن ثوبان: أصلح الله أمير المؤمنين ما رأيتك ضحكت من شيء من هذه الرّقاع إلّا من هذه الرقعة. فقال: هذه رقعة أعرف سببها، ردّوا إليه عشرين ألف درهم. فردّوها إليّ وانصرفت.
وروى بسنده أيضا عن أبي محمد اليزيديّ عن المؤمّل بن أميل، قال: صرت إلى المهدي بجرجان، فمدحته بقولي (2): (المتقارب)
تعزّ ودع عنك سلمى وسر ... حثيثا على سائرات البغال
وكلّ جواد له ميعة ... يخبّ بسرجك بعد الكلال (3)
إلى الشّمس شمس بني هاشم ... وما الشّمس كالبدر أو كالهلال
ويضحكه أن يدوم السّؤال ... ويتلف من ضحكه كلّ مال (4)
فاستحسنها المهديّ، وأمر لي بعشرة آلاف درهم.
وشاع الشعر، وكان في عسكره رجل [يعرف بأبي الهوسات] (5) يغنّي، فغنّى
__________
(1) في طبعة بولاق والنسخة الشنقيطية: = أبو ثوبان =. وفي طبعة هارون 8/ 335: = ولى ثوبان =. وهو تصحيف أيضا ولقد أثبتنا ما في الأغاني 22/ 247.
(2) الأبيات للمؤمل بن أميل في الأغاني 22/ 249.
(3) ميعة الفرس: أول جريه.
(4) يذكر محقق طبعة هارون في 8/ 336حاشية ينقلها عن الأغاني: = أن يديم السؤال ويتلف في ضحكه =. وفي الأغاني طبعة دار الكتب وجدنا الرواية ذاتها كما في الخزانة، فلعل المحقق وهم، أو سهى.
(5) زيادة يقتضيها السياق من الأغاني.(8/337)
في الشعر لرفقائه، وبلغ ذلك المهديّ فبعث إليه سرّا، فدخل عليه فغنّاه، فأمر له بخمسة آلاف درهم، وأمر لي بعشرة آلاف درهم أخرى، وكتب بذلك صاحب البريد إلى المنصور.
ثم ذكر باقي الخبر نحو ما تقدّم [قبله]، وزاد فيه أنّ المنصور قال له: جئت إلى غلام غرّ، فخدعته، حتّى أعطاك من مال الله عشرين ألف درهم، لشعر قلته [فيه] غير جيّد، وأعطاك من رقيق المسلمين مالا يملكه، وأعطاك من الكراع والأثاث ما أسرف فيه، يا ربيع خذ منه ثمانية عشر ألف درهم وأعطه ألفين، ولا تعرض لشيء من الأثاث والدواب، والرّقيق، ففي ذلك غناه (1). فأخذت منّي والله بخواتمها.
فلمّا ولي المهديّ دخلت عليه في المتظلّمين، فلما رآني ضحك، وقال: مظلمة أعرفها، ولا أحتاج إلى بيّنة عليها. وجعل يضحك، وأمر بالمال فردّ عليّ بعينه، وزادني فيه عشرة آلاف درهم. انتهى.
ومن شعره (2): (الطويل)
حلمت بكم في نومتي فغضبتم ... ولا ذنب لي إن كنت في النّوم أحلم
سأطرد عنّي النّوم كيلا أراكم ... إذا ما أتاني النّوم والنّاس نوّم
تصارمني والله يعلم أنّني ... أبرّ بها من والديها وأرحم (3)
وقد زعموا لي أنّها نذرت دمي ... وما لي بحمد الله لحم ولا دم
برى حبّها لحمي ولم يبق لي دما ... وإن زعموا أنّي صحيح مسلّم (4)
فلم أر مثل الحبّ صحّ سقيمه ... ولا مثل من لا يعرف الحبّ يسقم
ستقتل جلدا باليا فوق أعظم ... وليس يبالي القتل جلد وأعظم
روى صاحب الأغاني بسنده إلى حذيفة بن محمد الطائي، قال: حدثني أبي قال: رأيت المؤمّل شيخا كبيرا نحيفا (5) أعمى، فقلت له لقد صدقت في قولك:
__________
(1) في الأغاني: = غناؤه =.
(2) الأبيات للمؤمل بن أميل في الأغاني 22/ 250.
(3) الأبيات بعده لا تتصل مباشرة، بل هي صوت خاص من القصيدة كما يذكر ذلك صاحب الأغاني.
(4) في النسخة الشنقيطية: = ولم يبق لي دم =.
(5) في الأغاني 22/ 250: = شيخا مصفرّا نحيفا =. ووهم محقق طبعة هارون بالكلمة فرسمها: = مصغرا = بالغين(8/338)
وقد زعموا لي أنّها نذرت دمي ... البيت
فقال: نعم فديتك لا أقول إلّا حقّا (1)!
* * * __________
المعجمة. وهو خطأ.
(1) في الأغاني: = وما كنت أقول إلا حقا =.(8/339)
الفعل المضارع
أنشد فيه، وهو الشاهد الثلاثون بعد الستمائة (1): (الرجز)
630 - أبيت أسري وتبيتي تدلكي
جلدك بالعنبر والمسك الذّكي
على أنّ النون من الأفعال الخمسة قد يندر حذفها لا للأشياء المذكورة نظما ونثرا. والأصل تبيتين تدلكين.
قال ابن جني في «باب ما يرد عن العربيّ مخالفا لما عليه الجمهور، من كتاب الخصائص»: سألت أبا علي رحمه الله عن قوله:
أبيت أسري وتبيتي تدلكي ... وجهك بالعنبر والمسك الذّكي
فخضنا فيه، واستقرّ الأمر فيه على أنّه حذف النون من «تبيتين»، كما حذف الحركة للضرورة في قوله (2): (السريع)
__________
(1) الرجز بلا نسبة في الأشباه والنظائر 1/ 82، 3/ 95والخصائص 1/ 388والدرر 1/ 160ورصف المباني ص 361وشرح التصريح 1/ 111ولسان العرب (دلك، ردم) والمحتسب 2/ 22وهمع الهوامع 1/ 51.
(2) صدر بيت لامرئ القيس وعجزه:
* إثما من الله ولا واغل *
والبيت لامرئ القيس في ديوانه ص 122وإصلاح المنطق ص 245، 322والأصمعيات ص 130وتاج العروس (وغل) وجمهرة اللغة ص 962وحماسة البحتري ص 151والدرر 1/ 175ورصف المباني ص 327وشرح أبيات المغني 6/ 62وشرح التصريح 1/ 88وشرح ديوان الحماسة للمرزوقي ص 612، 1176وشرح شذور الذهب ص 276وشرح شواهد الإيضاح ص 256وشرح المفصل 1/ 48والشعر والشعراء 1/ 122والكتاب 4/ 204ولسان العرب (حقب، دلك، وغل) والمحتسب 1/ 15، 110. وهو بلا نسبة في الأشباه والنظائر 1/ 66والاشتقاق ص 337والخصائص 1/ 74، 2/ 317، 340، 3/ 96 والمقرب 2/ 205وهمع الهوامع 1/ 54.(8/340)
* فاليوم أشرب غير مستحقب *
كذا وجّهته معه. فقال لي: فكيف تصنع بقوله: «تدلكي»؟ قلت: نجعله بدلا من «تبيتي» أو حالا، فنحذف النون كما حذفها من الأوّل في الموضعين (1).
فاطمأنّ الأمر على هذا.
وقد يجوز أن يكون «تبيتي» في موضع النصب بإضمار «أن» في غير الجواب، كما جاء بيت الأعشى (2): (الطويل)
لنا هضبة لا ينزل الذّلّ وسطها ... ويأوي إليها المستجير فيعصما
انتهى.
وأورده ابن عصفور أيضا في «كتاب الضرائر»، قال: ومنه حذف النون الذي هو علامة للرفع في الفعل المضارع لغير ناصب ولا جازم، تشبيها لها بالضمة، من حيث كانتا علامتي رفع، نحو قول أيمن بن خريم: (المتقارب)
وإذ يغصبوا النّاس أموالهم ... إذا ملكوهم ولم يغصبوا
وقول الآخر:
أبيت أسري ... . البيت
وقول الآخر، أنشده الفارسي (3): (الرجز)
والأرض أورثت بني آداما ... ما يغرسوها شجرا أيّاما
ألا ترى أنّ النون قد حذفت من «يغصبون»، و «تبيتين»، و «تدلكين»، و «يغرسون»، لغير ناصب ولا جازم، كما فعل بالحركة في أشرب من قوله:
* فاليوم أشرب غير مستحقب *
__________
(1) أراد أول الموضعين، وهو قوله: = تبيتي =.
(2) البيت لطرفة بن العبد البكري في ملحق ديوانه ص 159والرد على النحاة ص 126وشرح أبيات المغني للبغدادي 4/ 115والكتاب 3/ 40وللأعشى في الخصائص 1/ 389ولسان العرب (دلك) والمحتسب 1/ 197. وهو بلا نسبة في الجنى الداني ص 123ورصف المباني ص 226، 379والمقتضب 2/ 24.
(3) في طبعة بولاق: = إذا ما =. ولقد أثبتنا رواية النسخة الشنقيطية والضرائر لابن عصفور ص 10.(8/341)
ولا يحفظ شيء من ذلك في الكلام، إلّا ما جاء في حديث خرّجه مسلم (1) في قتلى بدر، حين قام عليهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فناداهم الحديث.
فسمع عمر قول النبي صلّى الله عليه وسلّم، فقال: «يا رسول الله، كيف يسمعوا، وأنّى يجيبوا، وقد جيّفوا (2)!»، فحذف النون من يسمعون ويجيبون.
انتهى.
وهذا البيت لم أقف على قائله:
وقوله: «أبيت أسري» إلخ، «أبيت»: مضارع بات بيتوتة ومبيتا ومباتا، ومعناه اختصاص الفعل بالليل، كما اختص الفعل في ظلّ بالنّهار. فإذا قلت: بات يسري، فمعناه فعل السّرى بالليل، ولا يكون إلّا مع سهر الليل.
و «أسري»: مضارع سريت الليل وسريت به سريا، والاسم السّراية، إذا قطعته بالسّير. وجملة: «أسرى» خبر بات.
و «تدلكي»: دلكت الشيء دلكا من باب قتل، إذا مرسته بيدك. ودلكت النّعل بالأرض: مسحتها بها.
وروى: «وجهك» بدل جلدك. و «الذكيّ»: الشديد الرائحة.
قال أبو القاسم البصري في «كتاب أغلاط الدّينوريّ في كتاب النبات»:
يستعمل الذّكاء أيضا في حدّة الرائحة، فيقال: مسك ذكيّ بيّن الذكاء.
ويستعمل أيضا فيما أنتن، فيقال منهما: رائحة ذكيّة، وقد ذكت الرائحة تذكو ذكوّا وذكاء، وهي في الطّيب أشهر، وهم لها أكثر استعمالا. انتهى.
* * * __________
(1) في حاشية طبعة هارون 8/ 340: = في كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، في باب عرض مقعد الميت من الجنة عليها وإثبات عذاب القبر. ج 8ص 163. وقد أخرجه كذلك النسائي في كتاب الجنائز، كما أخرجه أحمد 1:
472، 3: 104، 172، 220، 262، 6: 170.
(2) في طبعة بولاق: = أحيفوا =. وهو تصحيف صوابه من النسخة الشنقيطية وصحيح مسلم.
وتمام الحديث كما ورد في صحيح مسلم: = قال: والذي نفسي بيده ما أنتم بأسمع لما أقول منهم ولكنهم لا يقدرون أن يجيبوا. ثم أمر بهم فسحبوا فألقوا في قليب بدر =.(8/342)
وأنشد بعده، وهو الشاهد الحادي والثلاثون (1) بعد الستمائة (2): (الكامل)
631 - كجواري يلعبن بالصّحراء
على أنّ ظهور الجرّ والتنوين على الياء ضرورة.
وقال في شرح الشافية: وقوم من العرب يجرون الياء والواو مجرى الحرف الصحيح في الاختيار، فيحرّكون ياء الرامي رفعا وجرّا، وياء يرمي رفعا، وكذا واو يغزو رفعا. وأنشد هذه الأبيات وغيرها. والمشهور ما هنا.
قال ابن عصفور في «كتاب الضرائر»: فيه ضرورتان:
إحداهما: إثبات الياء وتحريكها، وكان حقّه أن يحذفها، فيقول: كجوار.
والثانية: أنّه صرف ما لا ينصرف، وكان الوجه لمّا أثبت الياء إجراء لها مجرى الحرف الصحيح أن يمنع الصرف فيقول كجواري. انتهى.
وهذا المصراع عجز، وصدره:
* ما إن رأيت ولا أرى في مدّتي *
و «إن»: زائدة مؤكّدة لما النافية، وجملة: «ولا أرى في مدّتي»، أي: في عمري، معترضة بين «أرى» البصرية وبين مفعولها، وهو الكاف من قوله:
«كجوار»، فإنها اسميّة ولا يصحّ جعلها حرفية، فإنّ التقدير حينئذ: ما رأيت نساء كجواري.
وحذف الموصوف من مثل هذا لا ينطبق عليه ضابطه، فإنّ الصّفة إذا كانت جارّا ومجرورا، فلا بدّ لجواز حذف الموصوف أن يكون بعضا من مجرور بمن أو في، كما هو المعروف.
__________
(1) كذا في طبعة بولاق وهارون. وفي النسخة الشنقيطية: = الواحد والثلاثون =.
(2) عجز بيت غير منسوب وصدره:
* ما إن رأيت ولا أرى في مدّتي *
والبيت بلا نسبة في أمالي الزجاجي ص 83وشرح شافية ابن الحاجب 3/ 183وشرح شواهدها ص 403 وشرح المفصل 10/ 101.(8/343)
ومفعول «لا أرى» محذوف، أي: مثلهن. و «الجواري»: جمع جارية، وهي الشابة.
قال صاحب المصباح: الجارية السّفينة، سمّيت بذلك لجريها في البحر ومنه قيل للأمة جارية على التشبيه، لجريها مستسخرة في أشغال مواليها. والأصل فيها الشّابة لخفّتها.
ثم توسّعوا حتّى سمّوا كلّ أمة جارية وإن كانت عجوزا لا تقدر على السّعي، تسمية بما كانت عليه. والصحراء: البرّيّة والخلاء.
وقال ابن المستوفي في «شرح أبيات المفصل»: والعامل (1) في «في» و «الكاف» على الاختلاف في توجيه العاملين «رأيت» الواقع، دون «أرى» المتوقّع. وإن جاز إعمال كلّ واحد منهما على الخلاف فيه، لكنّ الأولى ما ذكرته، لوجود الرؤية متحقّقة مع إعمال الأوّل، وعدمها متوهّمة مع إعمال الثاني. ويقوّي ذلك زيادة «إن» مع ما. وموضع الكاف نصب، وكذا موضع «في» أيضا. هذا كلامه.
والبيت مع كثرة تداوله في كتب النحو واللّغة لم أقف على قائله. والله أعلم.
* * * وأنشد بعده، وهو الشاهد الثاني والثلاثون بعد الستمائة (2): (الطويل)
__________
(1) في النسخة الشنقيطية: = العامل = بحذف الواو.
(2) عجز بيت لعامر بن الطفيل العامري وصدره:
* فما سوّدتني عامر عن قرابة *
وهو الإنشاد السابع بعد التسعمائة في شرح أبيات المغني للبغدادي.
والبيت لعامر بن الطفيل في ديوانه ص 30والحيوان 2/ 95وشرح أبيات المغني للبغدادي 8/ 46وشرح شواهد الشافية ص 404وشرح شواهد المغني ص 953وشرح المفصل 10/ 101والشعر والشعراء ص 343 ولسان العرب (كلل) والمقاصد النحوية 1/ 242. وهو بلا نسبة في الأشباه والنظائر 2/ 185والخصائص 2/ 342وشرح الأشموني 1/ 45وشرح شافية ابن الحاجب 3/ 183والمحتسب 1/ 127ومغني اللبيب ص 677.(8/344)
632 - أبى الله أن أسمو بأمّ ولا أب
على أنّ النصب على الواو يقدّر كثيرا لأجل الضرورة.
وأورده أبو الحسن سعيد بن مسعدة المجاشعي الأخفش في «كتاب المعاياة»، وقال: إنّما جاز ذلك للشاعر لأنّ الحركات مستثقلة (1) في حروف المدّ واللين، فلمّا جاز إسكانها في الاسم في موضع الجر والرفع أجري عليه في موضع النصب أيضا، لما أخبرتك به. انتهى.
وأورده ابن عصفور أيضا في «كتاب الضرائر»، وقال: حذف الفتحة من آخر أسمو، إجراء للنصب مجرى الرفع.
والمصراع من أربعة أبيات لعدوّ الله عامر بن الطفيل، على ما في ديوانه.
وكانت كنيته في السّلم أبو علي، وفي الحرب أبو عقيل، وهي (2):
وما سوّدتني عامر عن وراثة ... أبى الله أن أسمو بأمّ ولا أب
ولا شرّفتني كنية عربيّة ... ولا خالفت نفسي مكارم منصبي
ولكنّني أحمي حماها وأتّقي ... أذاها وأرمي من رماها بمنكب
وأتركها تسمو إلى كلّ غاية ... وتفخر حيّي مشرق بعد مغرب
قال جامع ديوانه: أراد تغلب حيّ المشرق، وحيّ المغرب.
وقوله: «وما سوّدتني عامر»، أي: جعلتني سيّد قبيلة بني عامر بالإرث عن آبائهم، بل سدتهم بأفعالي.
وقوله: «أبى الله» إلخ، أبى له معنيان: أحدهما: بمعنى كره، وهو المراد هنا.
والثاني: بمعنى امتنع. و «أن أسمو» مفعوله. والسموّ: العلوّ.
__________
ورواية صدره في بعض المصادر:
* وما سودتني عامر عن وراثة *
(1) في طبعة بولاق: = مستقلة =. وهو تصحيف صوابه من النسخة الشنقيطية.
(2) الأبيات عدا الأخير في ديوانه ص 3130والحماسة الشجرية 1/ 21والحيوان 2/ 268وشرح أبيات المغني 8/ 46والشعر والشعراء 1/ 253والصناعتين ص 392والعقد الفريد 2/ 291وعيون الأخبار 1/ 227والكامل في اللغة 1/ 95وهي بلا نسبة في أمالي القالي 3/ 118.(8/345)
وهذا المصراع أورده ابن هشام في «الباب الثامن من المغني» قال في القاعدة الأولى: قد يعطى الشيء حكم ما أشبهه في معناه أو لفظه أو فيهما. فأمّا الأول فله صور كثيرة.
إلى أن قال منها: العطف ب «ولا» بعد الإيجاب، في نحو قوله:
* أبى الله أن أسمو بأمّ ولا أب *
لمّا كان معناه قال الله لي: لا تسمو بأمّ ولا أب. انتهى.
وقال العيني: الإباء: شدّة الامتناع، وأن أسمو مفعوله، والتقدير: أبى الله سمويّ، وسيادتي بأمّ ولا أب.
وقوله: «ولا أب» عطف على قوله: «بأمّ». وزاد كلمة «لا» تأكيدا للنفي. هذا كلامه فتأمّله.
وأورده جامع ديوانه كذا (1):
* أبى الله أن أسمو بأمّي والأب *
فلا شاهد فيه على ما ذكره ابن هشام. واللام في الأب عوض عن المضاف إليه، أي: بأمّي وأبي.
وأورد المصراع أبو العباس المبرّد في «الكامل» (2) في أبيات ثلاثة كذا:
إنّي وإن كنت ابن فارس عامر ... وفي السّرّ منها والصّريح المهذّب
فما سوّدتني عامر عن وراثة ... أبى الله أن أسمو بأمّ ولا أب
ولكنّني أحمي حماها وأتّقي ... أذاها وأرمي من رماها بمقنب
قال أبو الحسن الأخفش «فيما كتبه على الكامل»: هذه الأبيات الثلاثة أوّلها (3):
__________
(1) لم نجد هذه الرواية في ديوانه المحقق.
(2) الكامل في اللغة والأدب 1/ 95.
(3) الكامل في اللغة والأدب 1/ 95. وهذه الأبيات هي في ذيل ديوانه ص 176174. وليس فيها ما يشير إلى كونهما قصيدة واحدة. والأبيات أيضا في زهر الآداب 1/ 127126.(8/346)
تقول ابنة العمريّ ما لك بعدما ... أراك صحيحا كالسّليم المعذّب
فقلت لها: همّي الذي تعلمينه ... من الثّأر في حيّي زبيد وأرحب
إن اغز زبيدا أغز قوما أعزّة ... مركّبهم في الحيّ خير مركّب
وإن أغز حيّي خثعم فدماؤهم ... شفاء وخير الثأر للمتأوّب
فما أدرك الأوتار مثل محقّق ... بأجرد طاو كالعسيب المشذّب
وأسمر خطّي وأبيض باتر ... وزغف دلاص كالغدير المثوّب
سلاح امرئ قد يعلم النّاس أنّه ... طلوب لثارات الرّجال مطلّب
فإنّي وإن كنت ... إلى آخر الأبيات الثلاثة
قال الأخفش (1): «السّليم»: الملدوغ، وقيل له: سليم تفاؤلا له بالسلامة.
و «زبيد وأرحب»: قبيلتان من اليمن (2). و «الثّأر»: ما يكون لك عند من أصاب حميمك من التّرة.
و «المتأوّب»: الذي يأتيك لطلب ثأره عندك، يقال: آب يؤوب، إذا رجع.
والتأوّب (3) في غير هذا: السّير بالنهار بلا توقّف. والأوتار والأحقاد واحدهما وتر وحقد. و «الأجرد»: الفرس المتحسّر الشعر (4)، والضامر أيضا.
و «العسيب»: السّعفة. و «المشذّب»: الذي قد أخذ ما عليه من العقد والسّلّاء والخوص. ومنه قيل للطويل (5) [المعرق] مشذّب.
و «خطّيّ»: رمح نسب إلى الخطّ، وهي جزيرة بالبحرين، يقال: إنّها تنبت الرماح.
__________
(1) الكامل في اللغة 1/ 95وديوانه ص 174.
(2) في الكامل في اللغة 1/ 95: = حيان من اليمن =.
(3) في الكامل في اللغة: = والتأويب في غير هذا =. وكذلك في اللسان (أوب): = والتأويب في كلام العرب:
سير النهار كله إلى الليل =. ولم نجد في اللسان: التأوب بهذا المعنى، والله أعلم.
(4) في طبعة بولاق والنسخة الشنقيطية: = المنحسر الشعر =. وهو تصحيف صوابه من الكامل في اللغة.
وتحسر الوبر عن البعير، وتحسر الشعر عن الحمار، إذا سقط.
(5) كذا في الكامل في اللغة: = للطويل المعرق: مشذب =. وفي طبعتي بولاق وهارون والسلفية = للطويل مشذب =.(8/347)
وقال الأصمعي: ليست بها رماح، ولكنّ سفينة كانت وقعت إليها فيها رماح، وأرفئت بها في بعض السنين المتقدّمة، فقيل لتلك الرماح الخطّيّة، ثم عمّ كلّ رمح هذا النسب إلى اليوم.
و «الزّغف»: الدّروع الرّقيقة الدقيقة النسج (1). و «المثوّب»: الذي تصفّقه الرياح فيذهب ويجيء. وهو من ثاب يثوب، إذا رجع. وإنّما سمّي الغدير غديرا لأنّ السّيل غادره [أي: تركه]. اه.
وقد أورد العيني رواية الأخفش وفسّر جميع الأبيات، وقال: الأوتار جمع وتر بالكسر: الجناية. و «الطاوي»: ضامر البطن. و «الأسمر»: الرّمح. و «الأبيض»:
السّيف. و «الباتر»: القاطع.
و «الزّغف»، بفتح الزاي وسكون الغين المعجمة: جمع زغف بفتحتين، وهي (2) الدرع الواسعة. و «منكب»، بفتح الميم وكسر الكاف: أعوان العرفان، وقيل: رأس العرفاء من النّكابة، وهي العرافة والنّقابة.
وروى بدله: «بمقنب» بكسر الميم وفتح النون: جماعة الخيل والفرسان.
انتهى المراد منه.
وترجمة عامر بن الطفيل تقدّمت في الشاهد الثامن والستين بعد المائة (3).
* * * وأنشد بعده، وهو الشاهد الثالث والثلاثون بعد الستمائة (4): (الرجز)
__________
(1) في الكامل في اللغة 1/ 96: «والزغف الدرع الرقيقة النسج =. وفي اللسان (زغف): = والزغف والزغفة:
الدرع المحكمة، وقيل: الواسعة الطويلة، تسكن وتحرك، وقيل: الدرع اللينة، والجمع زغف على لفظ الواحد =.
(2) في النسخة الشنقيطية: = وهو =.
(3) الخزانة الجزء الثالث ص 79.
(4) الرجز لرؤبة بن العجاج في ملحق ديوانه ص 179وتاج العروس (زهق، قرق) والدرر 1/ 166وشرح شواهد الشافية ص 405ولسان العرب (زهق). وهو بلا نسبة في الأشباه والنظائر 15/ 107وأمالي المرتضى 1/ 561وتاج العروس (ثمن) وتهذيب اللغة 15/ 107والخصائص 1/ 306وشرح ديوان الحماسة للمرزوقي ص 294، 970، 1032وشرح شافية ابن الحاجب 3/ 184وكتاب العين 5/ 22ولسان(8/348)
633 - كأنّ أيديهنّ بالقاع القرق
أيدي جوار يتعاطين الورق
على أنّ تسكين الياء من «أيديهنّ» ضرورة، والقياس فتحها.
قال ابن جني في «المحتسب» عند قراءة الحسن (1): {«أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي»} ساكنة اللام: وسكون الواو من المضارع في موضع النصب قليل، وسكون الياء فيه أكثر.
وأصل السكون في هذا إنّما هو للألف لأنّها لا تحرّك أبدا، ثم شبهت الياء بالألف لقربها منها، فجاء عنهم مجيئا كالمستمرّ، نحو قوله: (الرجز)
كأنّ أيديهنّ بالموماة ... أيدي جوار بتن ناعمات
وقال الآخر:
* كأنّ أيديهنّ بالقاع القرق *
وقال الآخر (2): (البسيط)
* يا دار هند عفت إلّا أثافيها *
وكان أبو العباس المبرّد يذهب إلى أنّ إسكان هذه الياء في موضع النصب من أحسن الضّرورات، وذلك لأنّ الألف ساكنة في الأحوال كلّها، فكذلك جعلت هذه، ثم شبّهت الواو في ذلك بالياء، فقال الأخطل (3): (الطويل)
__________
العرب (فرق، ثمن) ومجمل اللغة 4/ 156ومقاييس اللغة 5/ 75.
(1) سورة البقرة: 2/ 237.
(2) صدر بيت للحطيئة وعجزه:
* بين الطّويّ فصارات فواديها *
والبيت للحطيئة في ديوانه ص 240وشرح أبيات سيبويه 2/ 319ولبعض السعديين في شرح شواهد الشافية 10/ 100، 102والكتاب 3/ 306. وهو بلا نسبة في الأشباه والنظائر 1/ 268، 6/ 108، 8/ 49 والخصائص 1/ 307، 2/ 341، 364وشرح المفصل 10/ 100، 102ولسان العرب (نقا) والمحتسب 1/ 126، 2/ 343والمنصف 2/ 185، 3/ 82.
(3) البيت للأخطل في ديوانه ص 303والخصائص 2/ 342والمحتسب 1/ 126والممتع في التصريف 2/ 532والمنصف 2/ 115.(8/349)
إذا شئت أن تلهو ببعض حديثها ... رفعن وأنزلن القطين المولّدا
وقال الآخر: (الطويل)
* أبى الله أن أسمو بأمّ ولا أب *
فعلى ذاك ينبغي أن تحمل قراءة الحسن (1): {«أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي»} فقال ابن مجاهد:
وهذا إنّما يكون في الوقف. فأمّا في الوصل فلا يكون. وقد ذكرنا ما فيه. وعلى كلّ حال فالفتح أعرف. اه.
وقال ابن الشجري في «أماليه»: قال المبرد: هذا من أحسن الضرورات لأنّهم ألحقوا حالة بحالتين، يعني أنّهم جعلوا المنصوب كالمجرور والمرفوع، مع أنّ السكون أخفّ الحركات. ولذلك اعترضوا على إسكان الياء في ذوات الياء من المركّبات نحو معديكرب، وقالي قلا. اه.
والبيتان من الرّجز نسبهما ابن رشيق في «العمدة» (2) إلى رؤبة بن العجّاج، ولم أرهما في ديوانه.
وضمير «أيديهنّ» للإبل. والقاع هو المكان المستوي. و «القرق»، بفتح القاف الأولى وكسر الراء: الأملس. و «جوار»، بفتح الجيم: جمع جارية.
و «يتعاطين»، أي: يناول بعضهنّ بعضا. و «الورق»: الدراهم. وفي التنزيل (3): {«فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هََذِهِ»}. كذا في أمالي ابن الشجري.
وقال الشريف المرتضى رحمه الله تعالى في «أماليه»: القرق: الخشن الذي فيه الحصى. وشبّه حذف مناسمهن له بحذف جوار (4) يلعبن بدراهم. وخصّ الجواري لأنّهنّ أخفّ يدا من النساء.
__________
والبيت من قصيدة يمدح بها يزيد بن معاوية. وقطينهن: خدمهن. ورفعن في سيرهن: بالغن فيه. والمولد:
المولود بين العرب من غيرهم. يريد أنهن يسرعن في السير، وينزلن الخدم، لئلا يسمعوا كلامهن.
(1) سورة البقرة: 2/ 237.
(2) العمدة في محاسن الشعر 2/ 249وسبق لنا أن ذكرنا أن البيتين في ملحق ديوان رؤبة ص 179.
(3) سورة الكهف: 18/ 19.
(4) في أمالي المرتضى 1/ 561: = شبه خذف مناسمهن له بخذف جوار =. بالخاء المعجمة في الموضعين، وكلاهما صواب.(8/350)
وقال آخرون: القرق هنا المستوي من الأرض الواسع. وإنّما خصّ بالوصف لأنّ أيدي الإبل، إذا أسرعت في المستوي، فهو أحمد لها، وإذا أبطأت في غيره، فهو أجهد لها (1).
(تتمة)
أورد الشارح المحقق بعد هذا الشعر المثل المشهور (2): «أعط القوس باريها»، وقال: قد يقدر نصب الياء في السّعة أيضا. وذكر المثل، فإنّ باريها مفعول «أعط»، وهو ساكن الياء. وهو في هذا تابع للزمخشري في «المفصل». قال الميداني في «أمثاله»: أي استعن على عملك بأهل المعرفة والحذق فيه.
وينشد (3): (البسيط)
يا باري القوس بريا لست تحسنها ... لا تفسدنها وأعط القوس باريها
قال شارح أبياته ابن المستوفي: قرأته على شيخنا أبي الحرم مكّيّ بن ريّان في «الأمثال لأبي الفضل أحمد بن محمد الميداني»: أعط القوس باريها بفتح، وكان في الأصل: «ليس يحسنه» فأصلحه وجعله «بريا لست تحسنها» وهو كذلك في نسخ كتاب الميداني.
ولعلّ الزمخشري إنّما أراد بالمثل آخر هذا البيت المذكور، فأورده على ما قاله الشاعر، لا على ما ورد من المثل في النثر، فإنّه ليس بمحلّ ضرورة.
ويروى:
__________
(1) في أمالي المرتضى: = فهو أحمد لها =. والأوجه رواية البغدادي.
(2) أعط القوس باريها، أراد استعن في أمورك بأهل الحذق والخبرة والمهارة.
والمثل في جمهرة الأمثال 1/ 76والعقد الفريد 3/ 109والفاخر ص 304وفصل المقال ص 298وكتاب الأمثال ص 204وكتاب الأمثال لمجهول ص 22والمستقصى 1/ 247ومجمع الأمثال 2/ 19والوسيط في الأمثال ص 58.
(3) البيت للحطيئة في شرح شواهد الشافية ص 411وليس في ديوانه. وهو بلا نسبة في جمهرة الأمثال 1/ 76 وفصل المقال ص 299ومجمع الأمثال 2/ 19.(8/351)
يا باري القوس بريا ليس يصلحه ... لا تظلم القوس واعط القوس باريها
والأوّل أصحّ. ويجوز أن يسكن ياء باريها، وإن كان مثلا برأسه، على ما تقدّم تعليله. اه.
والمشهور تسكين يائه.
وقد أورده الزمخشري في «أمثاله»، وقال: قيل إنّ الرواية عن العرب:
«باريها» بسكون الياء لا غير. يضرب في وجوب تفويض الأمر إلى من يحسنه ويتمهّر فيه. انتهى.
* * * وأنشد بعده، وهو الشاهد الرابع والثلاثون بعد الستمائة، وهو من شواهد س (1): (السريع)
634 - فاليوم أشرب غير مستحقب
إثما من الله ولا واغل
على أنّه يقدر في الضرورة رفع الحرف الصحيح، كما في «أشرب» فإنّ الباء حرف صحيح، وقد حذف الضمة منه للضرورة.
قال سيبويه: وقد يسكّن بعضهم في الشعر ويشمّ، وذلك قول امرئ القيس:
فاليوم أشرب غير مستحقب ... البيت
__________
(1) البيت لامرئ القيس في ديوانه ص 258وإصلاح المنطق ص 245، 322والأصمعيات ص 130وتاج العروس (وغل) وجمهرة اللغة ص 962وحماسة البحتري ص 151والدرر 1/ 175ورصف المباني ص 327وشرح أبيات المغني 6/ 62وشرح التصريح 1/ 88وشرح الحماسة للمرزوقي ص 612، 1176 وشرح شذور الذهب ص 276وشرح شواهد الإيضاح ص 256وشرح المفصل 1/ 48والشعر والشعراء 1/ 122والكامل في اللغة 1/ 143والكتاب 4/ 204ولسان العرب (حقب، دلك، وغل) والمحتسب 1/ 15، 110. وهو بلا نسبة في الأشباه والنظائر 1/ 66والاشتقاق ص 337والخصائص 1/ 74، 2/ 317، 340، 3/ 96والمقرب 2/ 205وهمع الهوامع 1/ 54.(8/352)
قال الأعلم: الشاهد فيه تسكين «الباء» من قوله «أشرب» في حال الرفع والوصل. اه.
وقال ابن جني في «المحتسب»: اعتراض أبي العباس المبرّد هنا على الكتاب، إنّما هو على العرب لا على صاحب الكتاب، لأنّه حكاه كما سمعه، ولا يمكن في الوزن أيضا غيره.
وقول أبي العبّاس: إنّما الرواية: فاليوم فاشرب، فكأنّه قال لسيبويه: كذبت على العرب، ولم تسمع ما حكيته عنهم. وإذا بلغ الأمر هذا الحدّ من السّرف فقد سقطت كلفة القول معه.
وكذلك إنكاره عليه أيضا قول الشاعر (1): (السريع)
* وقد بدا هنك من المئزر *
فقال: إنّما الرواية:
* وقد بدا ذاك من المئزر *
و «ما أطيب العرس لولا النّفقة». ولو كان إلى الناس تخيّر ما يحتمله الموضع لكان الرجل أقوم من الجماعة به، وأوصل إلى المراد منه. اه.
ووقع في نسخ الكامل للمبرّد:
* فاليوم أسقى غير مستحقب *
فلا شاهد فيه على هذا. ورواه أبو زيد في «نوادره» كرواية المبرّد: «فاليوم فاشرب»، قال أبو الحسن الأخفش «فيما كتبه على نوادره»: الرواية الجيّدة
__________
(1) عجز بيت للأقيشر الأسدي وصدره:
* رحت وفي رحليك ما فيهما *
والبيت للأقيشر الأسدي في ديوانه ص 43والدرر 1/ 174وشرح أبيات سيبويه 2/ 391والمقاصد النحوية 4/ 516وللفرزدق في الشعر والشعراء 1/ 106. وهو بلا نسبة في الأشباه والنظائر 1/ 65، 2/ 31وتخليص الشواهد ص 63والخصائص 1/ 74، 3/ 95، 317ورصف المباني ص 327وشرح المفصل 1/ 48 والكتاب 4/ 203ولسان العرب (وأل، هنا) وهمع الهوامع 1/ 54.(8/353)
«فاليوم فاشرب» و «اليوم أسقى».
وأما رواية من روى «فاليوم أشرب» فلا يجوز (1) عندنا إلّا على ضرورة قبيحة، وإن كان جماعة من رؤساء النحويّين قد أجازوا. اه.
وهو في هذا تابع للمبرّد.
وأورده ابن عصفور في «كتاب الضرائر» مع أبيات مثله، وقال: ومن الضرورة حذف علامتي الإعراب: الضمة والكسرة، من الحرف الصحيح تخفيفا، إجراء للوصل مجرى الوقف، أو تشبيها للضمة بالضمة من عضد، وللكسرة بالكسرة من فخذ وإبل، نحو قول امرئ القيس في إحدى الروايتين:
* فاليوم أشرب غير مستحقب *
إلى أن قال: وأنكر المبرّد والزجاج (2) التسكين في جميع ذلك، لما فيه من إذهاب حركة الإعراب، وهي لمعنى، ورويا موضع فاليوم أشرب: «فاليوم فاشرب».
والصحيح أن ذلك جائز سماعا وقياسا.
أمّا القياس فإنّ النحويين اتفقوا على جواز ذهاب حركة الإعراب للإدغام، لا يخالف في ذلك أحد منهم.
وقد قرأت القرّاء (3): {«مََا لَكَ لََا تَأْمَنََّا»} بالإدغام، وخطّ في المصحف بنون واحدة فلم ينكر ذلك أحد من النحويّين. فكما جاز ذهابها للإدغام، فكذلك ينبغي أن لا ينكر ذهابها للتخفيف.
وأما السّماع فثبوت التخفيف في الأبيات التي تقدّمت، وروايتهما بعض تلك الأبيات على خلاف التخفيف لا يقدح في رواية غيرهما.
وأيضا فإنّ ابن محارب قرأ (4): {«وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ»} بإسكان التاء. وكذلك
__________
(1) في النسخة الشنقيطية: = فلا تجوز = بالتاء. وكذلك جاءت الرواية في نوادر أبي زيد ص 314.
(2) في طبعتي بولاق وهارون والنسخة الشنقيطية: = الزجاجي =. وهو تصحيف صوابه من الخزانة نفسها.
وانظر ما سيأتي لاحقا بعد قليل من ذكر للزجاج.
(3) سورة يوسف: 12/ 11.
(4) سورة البقرة: 2/ 228.(8/354)
قرأ الحسن (1): {«وَمََا يَعِدُهُمُ الشَّيْطََانُ»} (2) بإسكان الدال. وقرأ أيضا مسلمة ومحارب (3): {«وَإِذْ يَعِدُكُمُ»} بإسكان الدال.
وكأنّ الذي حسّن مجيء هذا التخفيف في حال السّعة شدّة اتصال الضمير بما قبله من حيث كان غير مستقلّ بنفسه، فصار التخفيف لذلك كأنّه قد وقع في كلمة واحدة. والتخفيف الواقع في الكلمة نحو: عضد في عضد سائغ في حال السّعة، لأنّه لغة لقبائل ربيعة، بخلاف ما شبّه به من المنفصل، فإنّه لا يجوز إلّا في الشعر.
فإن كانت الضمة والكسرة اللتان في آخر الكلمة علامتي بناء، اتّفق النحويّون على جواز حذفهما في الشعر تخفيفا. انتهى ما أردنا منه.
وما نقله عن الزجاج مذكور في «تفسيره» عند قوله تعالى (4): {«فَتُوبُوا إِلى ََ بََارِئِكُمْ»} من سورة البقرة، قال: والاختيار ما روي عن أبي عمرو أنّه قرأ: «إلى بارئكم» بإسكان الهمزة.
وهذا رواه سيبويه باختلاس الكسر، وأحسب أنّ الرواية الصحيحة ما روى سيبويه فإنّه أضبط لما روي عن أبي عمرو.
والإعراب أشبه بالرّواية عن أبي عمرو، ولأنّ حذف الكسر في مثل هذا وحذف الضم إنّما يأتي باضطرار من الشعر. وأنشد سيبويه وزعم أنّه مما يجوز في الشعر خاصة (5): (الرجز)
* إذا اعوججن قلت صاحب قوّم *
بإسكان الباء.
__________
(1) في طبعة بولاق: = أبو الحسن =. وهو تصحيف صوابه من النسخة الشنقيطية.
وفي حاشية طبعة هارون 8/ 353: = على أني لم أجد من نسب هذه القراءة إلى الحسن بل هي قراءة الأعمش، في المحتسب 1: 199وشواذ القرآن لابن خالويه 29وتفسير أبي حيان 3: 354وإتحاف فضلاء البشر 194=.
(2) سورة النساء: 4/ 120وسورة الإسراء: 17/ 27.
(3) سورة الأنفال: 8/ 7.
(4) سورة البقرة: 2/ 54.
(5) الرجز لأبي نخيلة في شرح أبيات سيبويه 2/ 398وشرح شواهد الشافية ص 225. وهو بلا نسبة في الكتاب 4/ 203ولسان العرب (عوم).(8/355)
وأنشد أيضا:
* فاليوم أشرب غير مستحقب *
فالكلام الصحيح أن يقول: يا صاحب أقبل، أو يا صاحب أقبل، ولا وجه للإسكان. وكذلك: اليوم أشرب يا هذا.
وروى غير سيبويه هذه الأبيات على الاستقامة، وما ينبغي أن يجوز في الكلام والشعر.
رووا هذا البيت على ضربين:
* فاليوم أسقى غير مستحقب *
ورووا (1):
* إذا اعوججن قلت صاح قوّم *
ولم يكن سيبويه ليروي إلّا ما سمع، إلّا أنّ الذي سمعه هؤلاء هو الثابت في اللغة.
وقد ذكر سيبويه أنّ القياس غير الذي روي. اه.
والبيت من قصيدة لامرئ القيس. قال عبد الرحمن السّعديّ في «كتاب مساوي الخمر» (2):
غزا امرؤ القيس بني أسد ثائرا بأبيه، وقد جمع جموعا من حمير وغيرهم من ذؤبان العرب وصعاليكها، وهرب بنو أسد من بين يديه حتّى أنضوا الإبل، وحسروا الخيل، ولحقهم، فظفر بهم، وقتل بهم مقتلة عظيمة، وأبار (3) حلمة بن أسد (4)، ومثّل في عمرو وكاهل ابني أسد.
__________
(1) في طبعة بولاق والنسخة الشنقيطية: = قومي =. وهو تصحيف صوبناه وانظر الرجز مرّ سابقا.
(2) في حاشية طبعة بولاق: = مطلب غزو امرئ القيس بني أسد بن خزيمة ثائرا بأبيه =.
(3) في النسخة الشنقيطية: = وأباد =. وأبار وأباد بمعنى واحد.
(4) حلمة بضم الحاء هكذا ضبطها ابن حزم في جمهرة أنساب العرب ص 190وابن حبيب في مختلف القبائل ص 24. وابن عبد ربه في العقد الفريد 3/ 340. وهم حلمة بن أسد بن خزيمة.
وفي العقد الفريد: = أفناهم امرؤ القيس بن حجر بأبيه =.(8/356)
وذكر الكلبي عن شيوخ كندة، أنّه جعل يسمل أعينهم، ويحمي الدّروع، فيلبسهم إيّاها.
وروى أبو سعيد السكريّ مثل ذلك، وأنّه ذبحهم على الجبل، ومزج الماء بدمائهم إلى أن بلغ الحضيض، وأصاب قوما من جذام كانوا في بني أسد. وفي ظفره ببني أسد يقول (1): (السريع)
قولا لدودان عبيد العصا ... ما غرّكم بالأسد الباسل (2)
لا تسقينّي الخمر إن لم يروا ... قتلى فئاما بأبي الفاضل
حتّى أبير الحيّ من مالك ... قتلا ومن يشرف من كاهل
ومن بني غنم بن دودان إذ ... يقذف أعلاهم على السّافل
نعلوهم بالبيض مسنونة ... حتّى يروا كالخشب الشّائل (3)
حلّت لي الخمر وكنت امرأ ... من شربها في شغل شاغل
فاليوم أشرب غير مستحقب ... إثما من الله ولا واغل
قوله: «لدودان عبيد العصا»، «دودان» بالضم، هو ابن أسد بن خزيمة، وأراد القبيلة.
وكان أبو امرئ القيس إذا غضب على أحد منهم، ضربوه بالعصا، فسمّوا عبيد العصا (4)، أي: يعطون على الضّرب والهوان. وأراد بالأسد الباسل أباه. و «الفئام»، بكسر الفاء بعدها همزة ممدودة: الجماعة (5).
و «أبير»: أفني. ومالك هو ابن أسد. وأراد بمن يشرف من كاهل علباء بن
__________
(1) الأبيات لامرئ القيس في ديوانه ص 258256.
(2) البيت لامرئ القيس في ديوانه ص 256وتاج العروس (بسل). وهو بلا نسبة في لسان العرب (عصا).
(3) البيت لامرئ القيس في ديوانه ص 258. وهو بلا نسبة في الاشتقاق ص 431وتذكرة النحاة ص 14 وشرح عمدة الحافظ ص 456.
ويبدو أن هذه القصيدة قد اختلطت على بعض الباحثين مع قصيدة أخرى له هي في ديوانه ص 122ففيها بيت الشاهد النحوي وهي على نفس الروي والقافية والوزن العروضي.
(4) في شرح ديوان امرئ القيس ص 256: = وقوله: عبيد العصا، أراد المثل المضروب: العبد يقرع بالعصا =.
(5) هذا الجمع لا واحد له من لفظه.(8/357)
الحارث، من بني كاهل بن أسد.
وقوله: «يقذف»، أي: يرمى بعضهم على بعض إذا قتلوا. و «المسنونة»:
المحدّدة. و «الشائل»: الساقط.
وقوله: «حلّت لي الخمر» إلخ، قال السعدي في «مساوي الخمر». إنّما قال هذا لأنه لم يكن حضر قتل أبيه، وكان أبوه أقصاه، لأنّه كره منه قول الشعر، وإنّما جاءه الأعور العجلي بخبره، وهو يشرب، فقال: «ضيّعني صغيرا، وحمّلني ثقل الثأر كبيرا. اليوم خمر وغدا أمر. لا صحو اليوم ولا سكر غدا».
ثمّ شرب سبعا، ثمّ لمّا صحا حلف أن لا يغسل رأسه، ولا يشرب خمرا، حتّى يدرك ثأره. فذلك قوله: «حلّت لي الخمر». وهذا معنى ما زالت العرب تطرقه.
قال الشنفرى يرثي خاله تأبّط شرّا (1)، ويذكر إدراكه ثأره، من قصيدة له (2):
(المديد)
فادّركنا الثّأر فيهم ولمّا ... ينج من لحيان إلّا الأقلّ
حلّت الخمر وكانت حراما ... وبلأي ما ألمّت تحلّ
وافهم أنّهم إنّما حرموا الخمر على أنفسهم في مدّة طلبهم، لأنّها مشغلة لهم عن كريم الأخلاق، والإقبال على الشهرة (3). اه.
قال إسماعيل بن هبة الله الموصليّ في «كتاب الأوائل» أوّل من اخترع هذا المعنى امرؤ القيس في هذا الشعر.
__________
(1) في شرح الحماسة للتبريزي 2/ 160: = وقال تأبط شرا، وذكر أنه لخلف الأحمر وهو الصحيح، وقيل: قال ابن أخت تأبط شرا =. ولم نجدها في ديوان الشنفرى.
(2) البيتان من قصيدة مطولة لابن أخت تأبط شرا، وذكر أنها لخلف الأحمر في الحماسة برواية الجواليقي ص 235232وشرح الحماسة للأعلم 1/ 543538وشرح الحماسة للتبريزي 2/ 163161وشرح الحماسة للمرزوقي ص 827.
وزاد الأعلم الشنتمري في شرح الحماسة قوله: = ابن تأبط شرا وهو الشنفرى =. ولحيان: قبيلة من هذيل قتلوا تأبط شرا. وقوله: حلت الخمر: كانت العرب إذا طلبت الثأر تحرم الخمر والطيب والنساء حتى تدرك بثأرها، فإذا أدركته أحلت ذلك لأنفسها. واللأي: البطء. وألمت: حلت ونزلت.
(3) في النسخة الشنقيطية: = وإقبال على الشهرة =.(8/358)
وأما قول أبي نواس: (الكامل)
في مجلس ضحك السّرور به ... عن ناجذيه وحلّت الخمر
فكان نذر، لا يشرب، حتى يظفر بمن يهوى، فلما ظفر به، وشرب، قال هذا البيت.
وكذا أيضا قول البحتريّ (1): (البسيط)
حتّى نحلّ وقد حلّ الشّراب لنا ... جنّات عدن على السّاجور ألفافا
فإنه نذر أن لا يشرب خمرا حتى يصير إلى بلده، فلمّا صار إليه حلّ له الشراب.
اه.
وبيت أبي نواس، قبله: (الكامل)
ظلّت حميّا الكاس تبسطنا ... حتّى تهتّك بيننا السّتر
قال السيد المرتضى، قدس الله روحه في «أماليه»: قوله: «وحلّت الخمر (2)» يحتمل أنّ ما وصف به من طيب الموضع (3) وتكامل السّرور به، وحضور المأمول فيه، صار مقتضيا لشرب الخمر، وملجئا إلى تناولها، ورافعا للحرج فيها، على مذهب الشعراء في المبالغة.
وتكون فائدة وصفها بأنّها حلّت، المبالغة في وصف الحال بالحسن والطّيب.
ويحتمل أيضا أن يكون عقد على نفسه، وآلى أن لا يتناول الخمر إلّا بعد الاجتماع مع محبوبه، فكان الاجتماع معه مخرجا عن يمينه، على مذهب العرب في تحريم الخمر على نفوسهم إلى أن يأخذوا بثأرهم.
ويحتمل أيضا أن يريد بحلّت: نزلت وأقامت، من الحلول الذي هو المقام لا من الحلال، فكأنّه وصف [بلوغ (4)] جميع آرابه، وحضور فنون لذّاته، وأنّها تكاملت
__________
(1) البيت للبحتري من قصيدة يمدح بها أبا جعفر الطائي في ديوانه ص 1382.
(2) في طبعة بولاق: = حلت لي الخمر =. وهو تصحيف صوابه من النسخة الشنقيطية لأن الشريف يعلق على بيت أبي نواس وليس بيت امرئ القيس. انظر في ذلك أمالي المرتضى 1/ 280.
(3) في طبعة بولاق: = طيب المواضع =. وهو تصحيف صوابه من النسخة الشنقيطية وأمالي المرتضى.
(4) زيادة يقتضيها السياق من أمالي المرتضى.(8/359)
بحلول الخمر التي فيها جماع اللذّات.
وهذا الوجه وإن لم يشر إليه (1) فالقول يحتمله. ولا مانع من أن يكون مرادا.
وقد قيل إنّه أراد: إذا استحللنا الخمر سكرنا (2)، وفقدنا العقول التي كنا نمتنع لها من الحرام. والوجوه المقتدّمة أشبه وأقرب إلى الصواب. اه.
وقوله: «فاليوم أشرب» إلخ، «غير»: حال من ضمير أشرب.
و «المستحقب»: المكتسب، وأصله من استحقب: أي وضع في الحقيبة، وهي خرج يربط بالسّرج خلف الراكب.
و «إثما»: مفعول مستحقب. كأنّ شربها بعد وفاء النذر لا إثم فيه بزعمه.
و «واغل» معطوف على مستحقب، والواغل: الذي يأتي شراب القوم من غير أن يدعى إليه، وهو مأخوذ من الوغول وهو الدّخول. ومعناه أنّه وغل في القوم، وليس منهم.
وترجمة امرئ القيس تقدّمت في الشاهد التاسع والأربعين (3).
* * * وأنشد بعده، وهو الشاهد الخامس والثلاثون بعد الستمائة (4): (الرجز)
__________
(1) في أمالي المرتضى: = وإن لم يشر إليه أحد ممن تقدم =.
(2) في النسخة الشنقيطية: = إنا استحللنا الخمر =. وهو تصحيف صوابه من طبعة بولاق.
وفي أمالي الشريف المرتضى: = إنه أراد استحللنا الخمر لسكرنا =.
(3) الخزانة الجزء الأول ص 321.
(4) الرجز لرؤبة في ملحق ديوانه ص 179والدرر 1/ 161والمقاصد النحوية 1/ 236. وهو بلا نسبة في الأشباه والنظائر 2/ 129والإنصاف ص 26وتاج العروس (رضي) والخصائص 1/ 307وسر صناعة الإعراب ص 78وشرح أبيات المغني 2/ 355وشرح التصريح 1/ 87وشرح شافية ابن الحاجب 3/ 185 وشرح شواهد الشافية ص 409وشرح المفصل 10/ 106والمخصص 13/ 258، 14/ 9والممتع في التصريف 2/ 538والمنصف 2/ 78، 115وهمع الهوامع 1/ 52.
وروايته في ديوانه:
* ولا تملق *(8/360)
635 - ولا ترضّاها ولا تملّق
على أنّ حرف العلة قد لا يحذف للجازم في الضرورة.
قال أبو علي في «إيضاح الشعر» في باب: ما كان لامه من الأفعال حرف علّة:
قال الشاعر (1): (البسيط)
هجوت زبّان ثمّ جئت معتذرا ... من هجو زبّان لم تهجو ولم تدع
وقال (2):
* ألم يأتيك والأنباء تنمي *
وقال آخر (3): (الكامل)
* ما أنس لا أنساه آخر عيشتي *
هذه الحروف قد تحذف في موضع الجزم في الاختيار، كما تحذف (4) النون في التثنية والجمع، وفعل المؤنّثة المخاطبة. وربّما لم تحذف في الشعر.
فقدّر الشاعر في الواو والياء الحركة كالأبيات التي قدّمناها، فتشبّه الألف بالياء في نحو: لا أنساه في البيت، ونحو قوله (5):
__________
(1) البيت لزبان بن العلاء في معجم الأدباء 11/ 158. وهو بلا نسبة في الإنصاف 1/ 24وتاج العروس (زبب، زبن) والدرر 1/ 162وسر صناعة الإعراب 2/ 630وشرح التصريح 1/ 87وشرح شافية ابن الحاجب 3/ 184وشرح شواهد الشافية ص 406وشرح المفصل 10/ 104ولسان العرب (يا) والمقاصد النحوية 1/ 234والممتع في التصريف 2/ 537والمنصف 2/ 115وهمع الهوامع 1/ 52.
(2) هو الشاهد التالي من شواهد الخزانة، وسوف نخرجه في موضعه.
(3) صدر بيت للحصين بن قعقاع وعجزه:
* ما لاح بالمعزاء ريع سراب *
والبيت للحصين بن قعقاع في شرح شواهد الشافية ص 413. وهو بلا نسبة في شرح المفصل 10/ 104.
(4) في طبعة بولاق: = كما حذفت =. ولقد أثبتنا رواية النسخة الشنقيطية.
(5) هو الشاهد الحالي رقم 635وتخريجهما واحد.(8/361)
إذا العجوز غضبت فطلّق ... ولا ترضّاها ولا تملّق
ويدلّ على تقدير الشاعر الحركة في الياء والواو، وحذفها في الضرورة أنّ سيبويه (1) زعم أنّ أعرابيا أفصح الناس من كليب، أنشد لجرير (2): (الطويل)
فيوما يوافين الهوى غير ماضي ... ويوما ترى منهنّ غولا تغوّل
اه.
وكذا قال ابن جني في «سر الصناعة، وفي الخصائص»، وشرحه شرحا واضحا في «شرح تصريف المازني». وزاد في «سر الصناعة» أنّ بعضهم رواه على الوجه الأعرف:
* ولا ترضّها ولا تملّق *
قال ابن عصفور في «كتاب الضرائر»: ينبغي أن تجعل «لا» في قوله: «ولا ترضّها» نافية، والواو فيه للحال، مثلها في قمت وأصكّ وجهه، فيكون المعنى إذا ذاك: فطلّقها غير مترضّ لها، ويكون قوله: ولا تملّق جملة نهي معطوفة على جملة الأمر التي هي طلّق.
ولا ينبغي أن تجعل «لا» حرف نهي، لأنّها لو كانت للنهي لوجب حذف الألف من ترضّاها. اه.
وينبغي أن يكون على هذا جملة: «لا ترضّاها» خبر مبتدأ محذوف، أي:
وأنت لا تترضّاها.
والبيتان من رجز لرؤبة بن العجّاج.
وبعده:
__________
(1) الكتاب لسيبويه 2/ 59.
(2) البيت لجرير في ديوانه ص 140وتاج العروس (غول، مضى) والخصائص 3/ 159وشرح أبيات المغني 3/ 115، 4/ 386وشرح الأشموني 1/ 44وشرح المفصل 10/ 101والكتاب 3/ 314ولسان العرب (غول، مضى) والمقاصد النحوية 1/ 227والمقتضب 1/ 144والمنصف 2/ 114ونوادر أبي زيد ص 203.
وهو بلا نسبة في شرح المفصل 10/ 104والمقتضب 3/ 354والممتع في التصريف 2/ 556والمنصف 2/ 80.(8/362)
واعمد لأخرى ذات دلّ مونق ... ليّنة المسّ كمسّ الخرنق (1)
هكذا أورده أبو محمد الأعرابي في «ضالّة الأديب».
وقوله: «إذا العجوز غضبت» روى أيضا: «كبرت» بدل غضبت.
والترضّي والاسترضاء بمعنى.
قال الجوهري: يقال تملّقه، وتملّق له تملّقا وتملّاقا، أي: تودّد إليه، وتلطّف له. واعمد بمعنى اقصد. و «الدّلّ» بفتح الدال، بمعنى الدلال والغنج.
و «مونق»: اسم فاعل من أنق الشيء أنقا من باب تعب (2)، أي: راع حسنه وأعجب. و «الخرنق» بكسر الخاء المعجمة والنون وسكون الراء بينهما: ولد الأرنب.
وترجمة رؤبة تقدمت في الشاهد الخامس من أوّل الكتاب (3).
* * * وأنشد بعده، وهو الشاهد السادس والثلاثون بعد الستمائة [وهو من شواهد س (4)]: (الوافر)
__________
(1) الرجز لرؤبة في ديوانه ص 179. وهو بلا نسبة في تهذيب اللغة 7/ 629ولسان العرب (خرنق).
(2) كذا في طبعة بولاق والنسخة الشنقيطية وهذا وهم من البغدادي. والصواب أنه من آنقني الشيء إيناقا، أي:
أعجبني.
(3) الخزانة الجزء الأول ص 103.
(4) زيادة يقتضيها السياق من النسخة الشنقيطية.
وهو صدر بيت لقيس بن زهير وعجزه:
* بما لاقت لبون بني زياد *
والبيت هو الإنشاد الثاني والخمسون بعد المائة في شرح أبيات المغني للبغدادي.
والبيت لقيس بن زهير في الأغاني 17/ 198والدرر 1/ 162وشرح أبيات سيبويه 1/ 340وشرح أبيات المغني 2/ 353وشرح شواهد الشافية ص 408وشرح شواهد المغني ص 328، 808والمقاصد النحوية 1/ 230ولسان العرب (أتى). وهو بلا نسبة في أسرار العربية ص 103والأشباه والنظائر 5/ 280والإنصاف 1/ 30وأوضح المسالك 1/ 6والجنى الداني ص 50وجواهر الأدب ص 50والخصائص 1/ 333، 337(8/363)
636 - ألم يأتيك والأنباء تنمي
لما تقدّم في البيت قبله.
وأورده سيبويه في موضعين من كتابه على أنّه أثبت الياء في حال الجزم ضرورة، لأنّه إذا اضطرّ ضمّها في حال الرفع تشبيها بالصحيح.
قال الأعلم (1): وهي لغة ضعيفة، فاستعملها عند الضرورة. اه.
وهذا قول الزجاجي في «الجمل» (2)، وتبعه الأعلم.
قال ابن السيد في «شرح أبياته»: وقوله: إنّه لغة، خطأ.
ومثله للصّفّار في «شرح الكتاب»، قال: إثبات حرف العلة في المجزوم ضرورة، نحو: ألم يأتيك. وقيل: إنّه لغة، يعرب بحركات مقدّرة.
والصحيح أنّه ليس لغة، ولا أعلم من قاله غير الزجاجي، ولا سند له فيه. وممّا يدلّ على أنّه غير معرب بحركات مقدّرة أنّهم لا يقولون لم أخشى (3) لأنّه لا يظهر فيه حركة بوجه، بخلاف الياء. فإن قلت: إنّه سمع في قوله تعالى (4): {«لََا تَخََافُ دَرَكاً وَلََا تَخْشى ََ»}، وقوله:
إذا العجوز غضبت فطلّق ... البيت
قلت: لا دليل فيه كما زعمت، لأنّ الأول مقطوع، أي: وأنت لا تخشى، أي: في هذه الحال. وكذا ولا ترضّاها، أي: طلقها، وأنت لا تترضّاها، ثم قال:
ولا تملّق، فلا دليل فيه. اه.
__________
ورصف المباني ص 149وسر صناعة الإعراب 1/ 87، 2/ 631وشرح الأشموني 1/ 168وشرح شافية ابن الحاجب 3/ 184وشرح المفصل 8/ 24، 10/ 104والكتاب 3/ 316ولسان العرب (قدر، رضي، شظي، يا) والمحتسب 1/ 67، 215ومغني اللبيب 1/ 108، 2/ 387والمقرب 1/ 50، 203والممتع في التصريف 2/ 537والمنصف 2/ 81، 114، 115وهمع الهوامع 1/ 52.
(1) النص في شرح أبيات المغني للبغدادي 2/ 355.
(2) انظر مخطوطة المكتبة الظاهرية ص 278.
(3) كذا في طبعة بولاق. وفي النسخة الشنقيطية: = لم أتخشى =. وفي شرح أبيات المغني 2/ 355: = لم تخشى =.
(4) سورة طه: 20/ 77. وهذه قراءة حمزة والأعمش وابن أبي ليلى.(8/364)
وقال ابن خلف (1): هذا البيت أنشده سيبويه في باب الضّرورات، وليس يجب أن يكون من باب الضّرورات، لأنّه لو أنشد بحذف الياء لم ينكسر، وإنّما موضع الضرورة ما لا يجد الشاعر منه بدّا في إثباته، ولا يقدر على حذفه (2) لئلّا ينكسر الشعر، وهذا يسمّى في عروض الوافر المنقوص، أعني: إذا حذف الياء من قوله:
«ألم يأتيك».
هذا كلامه.
ولا يخفى أنّ ما فسّر به الضرورة مذهب مرجوح [مردود]. والتحقيق عند المحققين: أنّها ما وقع في الشعر، سواء كان للشاعر عنه مندوحة أم لا.
وقال ابن جنّي في «فصل الهمزة من سرّ الصناعة»:
رواه بعض أصحابنا: «ألم يأتك» على ظاهر الجزم، وأنشده أبو العباس عن أبي عثمان عن الأصمعيّ (3):
* ألا هل اتاك والأنباء تنمي *
اه.
فالأوّل فيه الكفّ، والثاني فيه نقل حركة الهمزة من «أتاك» إلى لام «هل» وحذفها.
ورواه بعضهم:
* ألم يبلغك والأنباء تنمي *
فلا شاهد فيه على الروايات الثلاث (4).
__________
(1) النص في شرح أبيات المغني للبغدادي 2/ 355. والزيادات منه.
(2) في شرح أبيات المغني للبغدادي: = لا يقدر على خلافه =.
(3) هذا النقل في شرح أبيات المغني ولسان العرب (قدر).
(4) قال في اللسان (يا): = التهذيب: وللياءات ألقاب تعرف بها كألقاب الألفات: فمنها ياء التأنيث في مثل اضربي ومنها الياء الساكنة تترك على حالها في موضع الجزم في بعض اللغات وأنشد الفراء:
ألم يأتيك والأنباء البيت. فأثبتت الياء في يأتيك وهي في موضع جزم ومثله قولهم:(8/365)
والبيت أورده ابن هشام في «موضعين من المغني»:
أحدهما: في الباء قال: الباء في قوله: «بما» زائدة في الضرورة. وقال ابن الضائع: الباء متعلقة بتنمي، وإنّ فاعل يأتي مضمر، والمسألة من باب الإعمال (1).
وثانيهما: في الجملة المعترضة من الباب الثاني، قال: جملة والأنباء تنمي معترضة بين الفعل والفاعل، على أنّ الباء زائدة في الفاعل.
ويحتمل أن يأتي وتنمي تنازعا، فأعمل الثاني، وأضمر الفاعل في الأوّل، فلا اعتراض ولا زيادة. ولكن المعنى على الأوّل أوجه، إذ الأنباء من شأنها أن تنمي بهذا وبغيره. اه.
يريد أنّ يأتي وتنمي تنازعا قوله: «بما»، والأول يطلبه للفاعليّة، والثاني يطلبه للمفعوليّة، فأعمل الثاني على المختار، وأضمر الفاعل في الأوّل وهو ضمير «ما لاقت» (2).
وقال الأعلم، وابن الشجري في «أماليه» (3): الباء زائدة بمنزلتها في: «كفى بالله شهيدا (4)». وحسّن دخولها في «ما» أنّها مبهمة مبنيّة كالحرف، فأدخل عليها حرف الجر إشعارا بأنّها اسم، والتقدير: ألم يأتيك ما لاقت.
ويجوز أن تكون متّصلة بيأتيك على إضمار الفاعل، فيكون التقدير: ألم يأتيك النبأ بما لاقت.
ودلّ على النبأ قوله: «والأنباء تنمي»، أي: تشيع. وأصله من نمى الشيء ينمي، إذا ارتفع وزاد. اه.
__________
هزي إليك الجذع يجنيك الجنى
كان الوجه أن يقول: يجنك، بلا ياء، وقد فعلوا مثل ذلك في الواو وأنشد الفراء:
هجوت زبّان ثمّ جئت معتذرا ... من هجو زبّان لم تهجو ولم تدع =
(1) أراد باب التنازع.
(2) بعده في شرح أبيات المغني للبغدادي 2/ 354: = بتقدير مضاف، أي خبر ما لاقت =.
(3) في شرح أبيات المغني للبغدادي 2/ 354: = إن زيادة الباء فيه ليست للضرورة، قالا: إن الباء زائدة بمنزلتها =.
(4) سورة النساء: 4/ 79، 166وسورة الرعد: 13/ 43.(8/366)
وعلى هذا لا تنازع. وفيه الاعتراض بالجملة. وقول ابن هشام إنّ زيادة الباء هنا ضرورة هو قول ابن عصفور، قال في «كتاب الضرائر» (1): ومنها زيادة حرف الجر في المواضع التي لا تزاد فيها في سعة الكلام، نحو:
* ألم يأتيك * البيت
فزاد الباء في فاعل يأتي. وزيادتها لا تنقاس في سعة الكلام إلّا في خبر «ما»، وخبر «ليس»، وفاعل «كفى» ومفعوله، وفاعل «أفعل» بمعنى: ما أفعله.
وما عدا هذه المواضع لا تزاد فيه الباء إلّا في ضرورة، أو شاذّ من الكلام يحفظ ولا يقاس عليه. اه.
وقال ابن جني في «المحتسب»: زاد الباء في «بما لاقت» لمّا كان معناه: ألم تسمع ما لاقت لبونهم.
هذا كلامه.
وكأنه على التضمين. وفيه بعد.
وقال ابن المستوفي، وابن خلف: ويجوز أن يكون «لبون» فاعل يأتي على تقدير مضاف، أي: ألم يأتيك خبر لبونهم، ويكون في لاقت ضمير يعود إلى لبون، ويكون لبون في نيّة التقديم. وعلى هذا تكون الباء متعلّقة بيأتي، وفيه التنازع على إعمال الأوّل على خلاف المختار. وفيه تعسّف لتقدير المضاف في الأوّل وعدمه في الثاني.
والكاف في «يأتيك» لمخاطب غير معيّن، أي: يا من يصلح للخطاب (2).
و «الأنباء»: جمع نبأ، وهو خبر له شأن.
و «اللّبون» قال أبو زيد: هي من الشاء والإبل (3): ذات اللبن، غزيرة كانت أم بكيئة، فإذا قصدوا قصد الغزيرة قالوا: لبنة، وقال ابن السيد، وتبعه ابن خلف:
__________
(1) النص في شرح أبيات المغني 2/ 353نقلا عن ابن عصفور. وفيه: = قال ابن عصفور في كتاب الضرورة =.
(2) في شرح أبيات المغني 2/ 356: = بل لمن يصلح للخطاب =.
(3) كذا في طبعة بولاق. وفي النسخة الشنقيطية وشرح أبيات المغني للبغدادي: = من الإبل والشاء =.(8/367)
اللّبون: الإبل ذوات اللبن، وهو اسم مفرد أراد به الجنس.
و «بنو زياد»: هم الكملة الربيع، وعمارة، وقيس، وأنس، بنو زياد بن سفيان بن عبد الله العبسي. وأمّهم فاطمة بنت الخرشب الأنماريّة. والمراد لبون (1)
الرّبيع بن زياد، فإنّ القصّة معه فقط، كما يأتي بيانها. كما يقال: بنو فلان فعلوا كذا، إذا كان الفاعل بعضهم، وأسند الفعل إلى الجميع لرضاهم بفعل البعض.
ومثل هذا البيت قول عفيف بن المنذر (2): (الوافر)
ألم يأتيك والأنباء تنمي ... بما لاقت سراة بني تميم
تداعى من سراتهم رجال ... وكانوا في النّوائر والصّميم (3)
والبيت أول أبيات لقيس بن زهير بن جذيمة بن رواحة العبسي، وكان سيّد قومه، ونشأت بينه وبين الربيع بن زياد العبسي شحناء في شأن درع ساومه فيها، ولمّا نظر إليها وهو على ظهر فرسه وضعها على القربوس، ثم ركض بها، فلم يردّها عليه، فاعترض قيس بن زهير أمّ الربيع: فاطمة بنت الخرشب المذكورة، في ظعائن من بني عبس، فاقتاد جملها، يريد أن يرتهنها بدرعه.
فقالت له: ما رأيت كاليوم قطّ فعل رجل! أين ضلّ حلمك يا قيس؟! أترجو أن تصطلح أنت وبنو زياد أبدا وقد أخذت أمّهم؟
فذهبت بها يمينا وشمالا! فقال الناس في ذلك ما شاؤوا أن يقولوا (4): «وحسبك من شرّ سماعه!» فأرسلتها مثلا. فعرف قيس ما قالت، فخلّى سبيلها، ثم أطرد إبلا له، وقيل: إبله وإبل إخوته، فقدم بها مكّة، فباعها من عبد الله بن جدعان
__________
(1) في شرح أبيات المغني: = إبل الربيع بن زياد =.
(2) في حاشية طبعة هارون 8/ 365: = أحد بني عمرو بن تميم. ذكره سيف في الفتوح، وأنه شهد مع العلاء بن الحضرمي في قتال الحطم، وأبلى فيه بلاء حسنا. الإصابة 6429. وانظر الطبري 3: 269في خبر بني تميم وأمر سجاح بنت الحارث بن سويد. وكان الحطم بن ضبيعة قد أدرك الإسلام فأسلم ثم ارتد =.
(3) في حاشية طبعة هارون 8/ 365: = الطبري: وكانوا في الذوائب. وهو الوجه =.
والذوائب: الرؤساء، وذؤابة كل شيء أعلاه
(4) أي: اكتف من الشر بسماعه. والمثل في جمهرة الأمثال 1/ 344، 2/ 265وزهر الأكم 2/ 118والعقد الفريد 2/ 12، 333، 3/ 87والفاخر ص 265وكتاب الأمثال ص 72وكتاب الأمثال لمجهول ص 57 ومجمع الأمثال 1/ 194.(8/368)
التيميّ، معاوضة (1) بأدراع وسيوف. ثمّ جاور ربيعة بن قرط بن سلمة بن قشير، وهو ربيعة الخير، ويكنى أبا هلال.
و «فاطمة الأنمارية» هي إحدى المنجبات. وسئلت عن بنيها: أيّهم أفضل؟
فقالت: الربيع، لا بل عمارة، لا بل قيس، لا بل أنس، ثكلتهم إن كنت أدري أيّهم أفضل، هم كالحلقة المفرغة، لا يدرى أين طرفاها!
وكانت امرأة لها ضيافة وسودد. والأبيات هذه بعد الأوّل (2):
ومحبسها على القرشيّ تشرى ... بأدراع وأسياف حداد
كما لاقيت من حمل بن بدر ... وإخوته على ذات الإصاد
هم فخروا عليّ بغير فخر ... وردّوا دون غايته جوادي
وكنت إذا منيت بخصم سوء ... دلفت له بداهية نآد
بداهية تدقّ الصّلب منهم ... بقصم أو تجوب عن الفؤاد (3)
أطوّف ما أطوّف ثمّ آوي ... إلى جار كجار أبي دواد
منيع وسط عكرمة بن قيس ... وهوب للطّريف وللتّلاد
تظلّ جياده يعسلن حولي ... بذات الرّمث كالحدإ العوادي
كفاني ما أخاف أبو هلال ... ربيعة فانتهت عنّي الأعادي
كأنّي إذ أنخت إلى ابن قرط ... أنخت إلى يلملم أو نضاد (4)
وقوله: «ومحبسها» بالرفع، معطوف على فاعل «يأتيك»، وهو ما لاقت، أو لبون، وبالجرّ عطفا على مدخول الباء إن كان الفاعل ضمير النّبأ. و «المحبس»:
مصدر ميميّ.
__________
(1) في شرح أبيات المغني 2/ 357: = معارضة بأدراع =.
(2) الأبيات لقيس بن زهير في الأغاني 17/ 199198وأمالي ابن الشجري 1/ 85وشرح أبيات المغني للبغدادي 2/ 358357والنقائض ص 9190.
(3) كذا في طبعة بولاق والأغاني دار الكتب وشرح أبيات المغني للبغدادي والنقائض.
وفي طبعة هارون والنسخة الشنقيطية: = على الفؤاد =.
(4) البيت لقيس بن زهير في الأغاني 17/ 198وأمالي ابن الشجري 1/ 85وتاج العروس (نضد) وشرح أبيات المغني 2/ 358ومعجم البلدان (نضاد) والنقائض ص 91.(8/369)
و «القرشيّ» هنا هو عبد الله بن جدعان (1)، بضم الجيم، ابن عمرو بن كعب ابن سعد بن تيم بن مرّة القرشي. وعبد الله من أجواد قريش في الجاهليّة.
وشذّ ابن السيد في قوله: إنّ قيسا لمّا قدم مكّة بإبل الربيع باعها لحرب بن أمية، وهشام بن المغيرة، بخيل وسلاح.
و «تشرى»، بالبناء للمفعول الجملة: حال من ضمير المؤنث في محبسها.
وقالوا: هو بمعنى تباع. ويجوز أن يكون المعنى: يشتريها القرشيّ، فالجملة حال من القرشي.
وفي هذا البيت بيان لما لاقته لبون بني زياد، وافتخار وتبجّج بما فعله من أخذ إبله وبيعها بمكّة.
وقوله: «كما لاقيت» قال ابن الشجري: العامل فيه محذوف، تقديره:
لاقيت منهم كما لاقيت من حمل بن بدر.
ومثله في حذف الفعل منه للدّلالة عليه، قول يزيد بن مفرّغ الحميريّ (2):
(الخفيف)
لا ذعرت السّوام في وضح الصّب ... ح مغيرا ولا دعيت يزيدا (3)
يوم أعطى من المخافة ضيما ... والمنايا يرصدنني أن أحيدا (4)
طالعات أخذن كلّ سبيل ... لا شقيّا ولا يدعن سعيدا
أراد: لا يدعن شقيا، فحذف. انتهى.
وذات الإصاد، بكسر الهمزة: موضع.
وهذا البيت وما بعده إشارة إلى حرب «داحس والغبراء»، وهذا إجمالها من
__________
(1) هو أحد أشراف مكة وأجوادها، وأمين القبائل في عكاظ.
(2) الأبيات ليزيد بن مفرغ من قصيدة قالها في السجن وهي في ديوانه ص 104103.
(3) ذعرت: أفزعت وأخفت. والسوام: المال الذي يرسله صاحبه في المرعى. ووضح الصبح: بياضه وحين تنفلق الظلماء عن الضوء، وفيه تشن الغارات غالبا.
(4) في طبعة بولاق: = يوم أعطي من النحافة =. وهو تصحيف صوابه من ديوانه والنسخة الشنقيطية.
أحيد: أي أن لا أحيد. وحاد: عدل ومال. وأعطي: أنقاد. والضيم: الذل.(8/370)
«كتاب الفاخر» للمفضّل بن سلمة (1)، قال: «داحس»: فرس قيس بن زهير العبسي، و «الغبراء»: فرس حذيفة بن بدر الفزاريّ.
وكان من حديثهما أنّ رجلا من بني عبس، يقال له: قرواش بن هنّي، مارى حمل بن بدر أخا حذيفة، في داحس والغبراء، فقال حمل: الغبراء أجود. وقال قرواش: داحس أجود. فتراهنا عليهما عشرة في عشرة (2).
فأتى قرواش إلى قيس بن زهير فأخبره، فقال له قيس: راهن من أحببت وجنّبني بني بدر، فإنّهم يظلمون، لقدرتهم على النّاس في أنفسهم، وأنا نكد أبّاء! فقال قرواش: فإنّي قد أوجبت الرّهان. فقال قيس: ويلك! ما أردت إلى أشأم أهل بيت؟ والله لتنفّلنّ علينا شرّا (3).
ثم إنّ قيسا أتى حمل بن بدر، فقال: إنّي أتيتك لأواضعك الرّهان عن صاحبي.
قال حمل: لا أواضعك أو تجيء بالعشر، فإن أخذتها أخذت سبقي، وإن تركتها، تركت حقا قد عرفته لي، وعرفته لنفسي. فأحفظ قيسا (4)، فقال: هي عشرون.
قال حمل: ثلاثون.
فتزايدا حتّى بلغ به قيس مائة، وجعل الغاية مائة غلوة والغلوة بفتح المعجمة:
مقدار رمية سهم. فضمّروهما أربعين يوما، ثم استقبل الذي ذرع الغاية من ذات الإصاد، وهي ردهة في ديار عبس وسط هضب القليب قال الأصمعيّ: هضب القليب بنجد جبال صغار، والقليب في وسط هذا الموضع، يقال له ذات الإصاد، وهو اسم من أسمائها. والرّدهة: نقيرة في حجر يجتمع فيها الماء فانتهى الذّرع إلى مكان ليس له اسم. فقادوا الفرسين إلى الغاية، وقد عطّشوهما، وجعلوا السابق الذي يرد ذات الإصاد، وهي ملأى من الماء.
ولم يكن ثمّ قصبة (5). ووضع حمل حيسا في دلاء، وجعله في شعب من شعاب هضب القليب على طريق الفرسين، وكمّن معه فتيانا، وأمرهم إن جاء داحس سابقا
__________
(1) انظره بتمامه فيه من ص 235219.
(2) في الفاخر: = عشرا إلى عشر =.
(3) في الفاخر وشرح أبيات المغني للبغدادي 2/ 359: = لتنغلن =. والتنفيل: = الزيادة =.
(4) أي: أغضبه.
(5) في الفاخر: = ولم يكن ثم قصبة، ولا شيء غير هذا =.(8/371)
أن يردّوا وجهه عن الغاية وأرسلوهما من منتهى الذّرع، فلما دنوا وقد برز داحس، وثب الفتيان فلطموا وجه داحس فردّوه عن الغاية. فقال قيس: يا حذيفة أعطني سبقي.
وقال الذي وضع عنده السّبق: إنّ قيسا قد سبق، وإنّما أردت أن يقال: سبق حذيفة، وقد قيل (1)، فأمره أن يدفعه لقيس.
ثم إنّ حذيفة ندّمه الناس فبعث ابنه يأخذ السبق من قيس، فقتله قيس، فاجتمع الناس، فاحتملوا ديته مائة عشراء، فقبضها حذيفة وسكن النّاس. ثم إنّ حذيفة استفرد أخا قيس، وهو مالك بن زهير، فقتله.
وكان الربيع بن زياد يومئذ مجاور بني فزارة عند امرأته، وكان مشاحنا لقيس بن زهير في درعه التي اغتصبها من قيس، كما تقدّم ذكرها، فلما قتل مالك بن زهير، ارتحل الرّبيع بن زياد، ولحق بقومه، وأتاه قيس بن زهير فصالحه، ونزل معه، ثم دسّ قيس أمة له إلى الربيع تنظر ما يعمل، فأتته امرأته تعرّض له، وهي على طهر، فزجرها (2) وقال (3): (الكامل)
منع الرّقاد فما أغمّض حار ... جلل من النّبأ المهمّ السّاري
من كان مسرورا بمقتل مالك ... فليأت نسوتنا بوجه نهار
يجد النّساء حواسرا يندبنه ... يندبن بين عوانس وعذاري
أفبعد مقتل مالك بن زهير ... ترجو النّساء عواقب الأطهار
فأخبرت الأمة قيسا بهذا فأعتقها.
ثم إنّ بني عبس تجمّعوا ورئيسهم الربيع بن زياد (4)، وتجمّع بنو ذبيان ورئيسهم
__________
(1) بعده في الفاخر: = أفأدفع إليه سبقه =.
(2) كذا في طبعتي بولاق وهارون والنسخة الشنقيطية والفاخر. وفي حاشية النسخة الشنقيطية: = كذا بخط المؤلف: فزجرها، والرواية: فدحرها، أي طردها =.
(3) الأبيات للربيع بن زياد في الأغاني 17/ 196والحماسة برواية الجواليقي ص 284283وشرح الحماسة للأعلم 1/ 518وشرح الحماسة للتبريزي 3/ 2524وشرح أبيات المغني للبغدادي 2/ 360والنقائض ص 89.
(4) هو يوم الهباءة.(8/372)
حذيفة بن بدر، وتحاربوا مرارا.
ثم إنّ الربيع بن زياد أظفره الله في جفر الهباءة على حذيفة بن بدر وأخويه:
حمل بن بدر، ومالك بن بدر، فقتلهم، ومثّلوا بحذيفة فقطعوا ذكره فجعلوه في فيه، وجعلوا لسانه في دبره.
وقال الربيع بن زياد يرثي حمل بن بدر (1): (الوافر)
تعلّم أنّ خير النّاس طرّا ... على جفر الهباءة ما يريم
ولولا ظلمه ما زلت أبكي ... عليه الدّهر ما طلع النّجوم
ولكنّ الفتى حمل بن بدر ... بغى والبغي مرتعه وخيم
أظنّ الحلم دلّ عليّ قومي ... وقد يستجهل الرّجل الحليم
ألاقي من رجال منكرات ... فأنكرها وما أنا بالظّلوم (2)
ومارست الرّجال ومارسوني ... فمعوجّ عليّ ومستقيم
ودامت الحرب بينهم أربعين سنة إلى أن ضعف قيس بن زهير، فحالف ربيعة بن قرط بن سلمة بن قشير، وهو ربيعة الخير، ويكنى أبا هلال.
وقيل: هو ربيعة بن قرط بن عبد بن أبي بكر بن كلاب. فنزل قيس مع بني عبس عنده، وقال:
أحاول ما أحاول ثمّ آوي ... إلى جار كجار أبي دواد
إلى آخر الأبيات المذكورة.
وقوله: «وكنت إذا منيت» إلخ، أي: بليت. و «دلفت»: أسرعت. و «النّآد» بهمزة ممدودة، قبلها نون وبعدها دال: الشّديدة من الدّواهي. و «تقصم» (3):
تكسر. «وتجوب»: تشقّ.
وقوله: «كجار أبي دواد» الجار هنا: الناصر والحليف.
__________
(1) الأبيات للربيع بن زياد في الأغاني 17/ 206وشرح أبيات المغني 2/ 361360والنقائض ص 96.
(2) هذا البيت دخله إقواء. والإقواء: اختلاف حركة الروي.
(3) في طبعة بولاق: = وانقصم =. وهو تصحيف صوابه من شرح أبيات المغني والنسخة الشنقيطية.(8/373)
كان أبو دواد الإياديّ في الجاهلية جاور الحارث بن همّام بن مرّة بن ذهل بن شيبان، فخرج صبيان الحيّ يلعبون في غدير، فغمسوا ابن أبي دواد، فقتلوه، فقال الحارث بن همّام: لا يبق في الحيّ صبيّ إلّا غرّق في الغدير! فودي ابن أبي دواد تسع ديات أو عشرا.
و «يعسلن»، من العسلان، وهو اهتزاز الذي يعدو. و «الحدأ»: جمع حدأة، كعنب جمع عنبة: طائر معروف. ويلملم ونضاد (1): جبلان.
وقول الربيع بن زياد:
من كان مسرورا بمقتل مالك ... إلخ
يقول: من شمت من الأعداء بمقتل مالك، فليعلم أنّا قد أدركنا ثأره. وكانت العرب لا تندب قتلاها حتى تدرك ثأرها. وكان قيس قتل ابن حذيفة كما تقدّم، فقتل حذيفة مالكا أخا قيس.
والمراد: فليحضر ساحتنا في أوّل النهار، ليعلم أنّ ما كان محرّما من البكاء قد حلّ، ويجد النساء مكشوفات الرؤوس يندبنه.
وروي:
يجد النّساء حواسرا يندبنه ... يلطمن أوجههنّ بالأسحار
وروي أيضا:
* قد قمن قبل تبلّج الأسحار *
وروي أيضا:
* بالصّبح قبل تبلّج الأسحار *
قال ابن نباتة في «سرح العيون، في شرح رسالة ابن زيدون» (2): لبعض الأدباء
__________
(1) في معجم البلدان (نضاد): = بالفتح، وآخره دال مهملة، من نضدت المتاع إذا رصفته: جبل بالعالية
ويبنى عند أهل الحجاز على الكسر، وعند تميم ينزلونه بمنزلة ما لا ينصرف =.
(2) سرح العيون في شرح رسالة ابن زيدون ص 158وما بعدها.(8/374)
اعتراض في قوله:
* بالصّبح قبل تبلّج الأسحار *
فإنّ الصّبح لا يكون إلّا بعد تبلّج الأسحار.
أجيب بأقوال منها: أنّ الصّبح هنا الحقّ الواضح، من وصفه (1) الذي هو كالصبح، لأنّها تندبه بخلاله الحسنة الواضحة. انتهى.
و «قيس بن زهير»: جاهليّ، وهو صاحب الحروب بين عبس وذبيان بسبب الفرسين: داحس والغبراء كما تقدّم. وكان فارسا شاعرا داهية، يضرب به المثل، فيقال (2): «أدهى من قيس».
ولمّا طال الحرب (3) وملّ، أشار على قومه بالرّجوع إلى قومهم ومصالحتهم، فقالوا: سر نسر معك. فقال: لا والله لا نظرت في وجهي ذبيانيّة قتلت أباها أو أخاها، أو زوجها أو ولدها.
وتقدّم ذكر الصّلح في شرح معلّقة زهير بن أبي سلمى.
ثمّ خرج على وجهه حتّى لحق بالنمر بن قاسط، وتزوّج منهم وأقام عندهم مدّة، ثم رحل إلى عمان، فأقام بها حتّى مات.
وقيل: إنه خرج هو وصاحب له من بني أسد عليهما المسوح يسيحان في الأرض ويتقوّتان مما تنبت، إلى أن دفعا (4) في ليلة باردة إلى أخبية لقوم، وقد اشتدّ بهما الجوع، فوجدا رائحة شواء فسعيا يريدانه، فلمّا قاربا (5) أدركت قيسا شهامة النفس
__________
(1) في سرح العيون: = من وصف القتيل الذي =.
(2) المثل في جمهرة الأمثال 1/ 457والدرة الفاخرة 1/ 201والعقد الفريد 3/ 70والمستقصى 1/ 121 ومجمع الأمثال 1/ 274والوسيط في الأمثال ص 62.
(3) الحرب مؤنثة وقد حكى فيها ابن الأعرابي: التذكير، وأنشد:
وهو إذا الحرب هفا عقابه ... كره اللقاء تلتظي حرابه
قال: والأعرف تأنيثها. انظر اللسان (حرب).
(4) دفع إلى المكان، ودفع أيضا بالبناء للمفعول، كلاهما بمعنى انتهى إليه.
(5) في النسخة الشنقيطية: = قارباه =.(8/375)
والأنفة فرجع، وقال لصاحبه: دونك وما تريد، فإنّ لي لبثا على هذه الأجارع، أترقّب داهية القرون الماضية. فمضى صاحبه ورجع من الغد فوجده قد لجأ إلى شجرة بأسفل واد فنال من ورقها شيئا ثم مات.
* * * وأنشد بعده:
* فأنظور *
هو قطعة من بيت، وهو:
وأنّني حيثما يثني الهوى بصري ... من حوثما سلكوا أدنو فأنظور
أي: فأنظر. وتقدّم الكلام عليه في الشاهد الحادي عشر من أوائل الكتاب (1).
* * * وأنشد بعده:
* ينباع *
وهذا أيضا قطعة من بيت تقدّم في الشاهد الثاني عشر (2) بعد بيت فأنظور، وهو: (الكامل)
ينباع من ذفرى غضوب جسرة ... زيّافة مثل الفنيق المقرم
أي: ينبع. و «الذّفرى»: الموضع الذي يعرق من الإبل خلف الأذن.
و «الغضوب»: الناقة العبوس الصّعبة الشديدة الرأس. و «الجسرة»: الجاسرة في السّير.
__________
(1) الخزانة الجزء الأول ص 140133.
(2) الخزانة الجزء الأول ص 140134.(8/376)
و «الزيّافة»: المتبخترة. و «الفنيق»: الفحل المكرم لا يركب لكرامته عند أهله. و «المقرم»، بضم الميم وفتح الراء: البعير الذي لا يحمل عليه ولا يذلّل، وإنّما هو للفحلة.
وتقدّم الكلام هناك مفصّلا عليه.
* * * وأنشد بعده، وهو الشاهد السابع والثلاثون بعد الستمائة (1): (الطويل)
637 - وما كدت آيبا
هو قطعة من بيت، وهو:
فأبت إلى فهم وما كدت آيبا ... وكم مثلها فارقتها وهي تصفر
على أنّ أصل خبر «كاد» الاسم المفرد كما في البيت.
قال ابن جني في «إعراب الحماسة»: استعمل الاسم الذي هو الأصل المرفوض الاستعمال موضع الفعل الذي هو فرع، وذلك أنّ قولك: كدت أقوم، أصله كدت قائما، ولذلك ارتفع المضارع، أي: لوقوعه موقع الاسم (2)، فأخرجه على أصله المرفوض، كما يضطرّ الشاعر إلى مراجعة الأصول عن مستعمل الفروع، نحو صرف ما لا ينصرف، وإظهار التضعيف، وتصحيح المعتلّ، وما جرى مجرى ذلك.
ونحو من ذلك ما جاء عنهم من استعمال خبر عسى على أصله (3): (الرجز)
__________
(1) البيت لتأبط شرا في ديوانه ص 89والأغاني 21/ 141وتخليص الشواهد ص 309والحماسة برواية الجواليقي ص 36والخصائص 1/ 391والدرر 2/ 150وشرح أبيات المغني 7/ 362وشرح التصريح ص 83وشرح الحماسة للأعلم 1/ 212وشرح الحماسة للتبريزي 1/ 41وشرح الحماسة للمرزوقي 2/ 165 وهو بلا نسبة في الإنصاف 2/ 544وأوضح المسالك 1/ 302ورصف المباني ص 190وشرح ابن عقيل ص 164وشرح عمدة الحافظ ص 822وشرح المفصل 7/ 13وهمع الهوامع 1/ 130.
(2) كلمة: = أي = ساقطة من مخطوطة إعراب الحماسة لابن جني الورقة 22.
(3) البيت هو الإنشاد السابع والأربعون بعد المائتين في شرح أبيات المغني للبغدادي.(8/377)
أكثرت في العذل ملحّا دائما ... لا تكثرن إنّي عسيت صائما
وهذه [هي (1)] الرواية الصحيحة في هذا البيت، أعني قوله «وما كدت آيبا».
وكذلك وجدتها في شعر هذا الرجل بالخطّ القديم، وهو عتيد عندي إلى الآن.
والمعني عليه البتّة.
ألا ترى أنّ معناه فأبت وما كدت أؤوب، كقولك: سلّمت وما كدت أسلّم.
وكذلك كلّ ما يلي هذا الحرف من قبله ومن بعده يدلّ على ما قلنا.
وأكثر الناس يروي: «ولم أك آئبا»، ومنهم من يروي: «وما كنت آئبا».
والصواب الرواية الأولى، إذ لا معنى هنا لقولك: وما كنت، ولا للم أك. وهذا واضح. انتهى.
وقال مثله في «الخصائص في باب امتناع العرب من الكلام بما يجوز في القياس» قال: وإنما يقع ذلك في كلامهم إذا استغنت بلفظ عن لفظ، كاستغنائهم بقولهم: ما أجود جوابه عن قولهم: ما أجوبه. أو لأنّ قياسا آخر، عارضه، فعاق عن استعمالهم إيّاه، كاستغنائهم بكاد زيد يقوم عن قولهم: كاد زيد قائما، أو قياما.
وربّما خرج ذلك في كلامهم.
قال تأبّط شرا:
* فأبت إلى فهم وما كدت آئبا *
هكذا صحّة رواية هذا البيت. وكذلك هو في شعره. فأمّا رواية من لا يضبطه:
«وما كنت آئبا»، و «لم أك آئبا» فلبعده عن ضبطه.
ويؤكّد ما رويناه نحن مع وجوده في الديوان، أنّ المعنى عليه.
__________
والرجز لرؤبة في ملحقات ديوانه ص 185والخصائص 1/ 83والدرر 2/ 149وشرح الحماسة للمرزوقي ص 83والمقاصد النحوية 2/ 161وهو بلا نسبة في الأشباه والنظائر 2/ 175وتخليص الشواهد ص 309 والجنى الداني ص 463وشرح الأشموني 1/ 128وشرح أبيات المغني 3/ 341وشرح شواهد المغني ص 444وشرح ابن عقيل ص 164وشرح عمدة الحافظ ص 822وشرح المفصل 7/ 14ومغني اللبيب 1/ 152والمقرب 1/ 100وهمع الهوامع 1/ 130.
(1) زيادة يقتضيها السياق من النسخة الشنقيطية وإعراب الحماسة.(8/378)
ألا ترى أنّ معناه فأبت وما كدت أؤوب. فأمّا «ما كنت» فلا وجه لها في هذا الموضع. انتهى.
ومراده من هذا التأكيد: الردّ على أبي عبد الله النّمري في «شرح الحماسة»، وهو أوّل شارح لها، وقد تحرّفت عليه هذه الكلمة، وهذه عبارته (1): «أبت»:
رجعت. و «فهم»: قبيلة. والهاء في قوله: «وكم مثلها» راجعة إلى هذيل.
وقوله: «وهي تصفر» قيل معناه، أي: تتأسّف على فوتي. هذا كلامه.
وقد ردّ عليه أبو محمد الأعرابي أيضا فيما كتبه على شرحه قال: سألت أبا الندى عنه قال: معناه كم مثلها فارقتها (2) وهي تتلهّف كيف أفلتّ. قال: والرواية الصحيحة «وما كدت آئبا» (3).
والهاء راجعة في فارقتها إلى فهم. قال: ورواية من روى: «ولم أك آئبا» خطأ. وفهم: ابن عمرو بن قيس عيلان. انتهى كلامه.
قال التبريزي (4): قد تكلّم المرزوقيّ على اختيار ابن جنّي هذه الرواية ردّا عليه ولم ينصفه، وقال: قوله ولم أك آئبا، أي: رجعت إلى قبيلتي فهم، وكدت لا أؤوب لمشارفتي التلف.
ويجوز أن يريد: ولم أك آئبا في تقديرهم وظنّهم. ويروى: «ولم آل أئبا» بمد الهمزة واللام، أي: لم أدع جهدي في الإياب. والأوّل أحسن. انتهى.
وقد أورد ابن عصفور هذا البيت في «كتاب الضرائر»، قال: ومنه وضع الاسم موضع الفعل الواقع في موضع خبر كاد، وموضع أن والفعل الواقع في موضع خير عسى، نحو قول تأبّط شرا:
فأبت إلى فهم وما كدت آئبا ... البيت
وقول الآخر:
__________
(1) انظر في ذلك شرح الحماسة للتبريزي 1/ 41.
(2) قوله: = وهي تتلهف راجعة في فارقتها =. ساقط من النسخة الشنقيطية.
(3) في شروح الحماسة للتبريزي 1/ 41: = وما كدت آيبا =.
(4) النص في شرح الحماسة للتبريزي 1/ 41.(8/379)
* لا تكثرن إنّي عسيت صائما *
كان الوجه أن يقول (1): وما كدت أؤوب وإنّي عسيت أن أصوم، إلّا أنّ الضرورة منعت من ذلك. وقولهم في المثل (2): «عسى الغوير أبؤسا» شاذّ، يحفظ ولا يقاس عليه. انتهى.
وقال ابن المستوفي وغيره: قوله إلى فهم، أي: إلى عقل. وقيل إلى قبيلتي التي هي فهم. وهذا أولى. انتهى.
ورجوع الضمير من مثلها إلى فهم غير مناسب، والمناسب رجوعه إلى لحيان، وهي قبيلة من هذيل، في قوله (3):
أقول للحيان وقد صفرت لهم ... وطابي ويومي ضيّق الحجر معور
ويجوز أن يرجع إلى الحالة التي صدرت منه، حين أحاط به بنو لحيان وأرادوا قتله، فتحيّل، ونجا منهم.
وعبّر عنه ابن المستوفي بقوله: أي: المحنة أو الخطّة أو المنّة. و «كم»: مبتدأ وجملة: «فارقتها» هو الخبر، وجملة: «وهي تصفر» حالية، و «مثلها» بالجر:
مميّزكم الخبرية.
قال ابن المستوفي: قرأت على شيخنا أبي الحرم مكّيّ: «وكم مثلها» بجرّ مثلها ورفعها ونصبها. فالجر على الإخبار. والرفع على معنى كم مرّة وقع مثلها فارقتها.
والنصب على أن تكون (4) كم مبهمة بالاستفهامية، ويكون مثلها: صفة لنكرة محذوفة تقديرها: كم مرّة مثلها فارقتها. هذا كلامه فتأمّله.
__________
(1) في النسخة الشنقيطية: = أن يقال =.
(2) المثل في جمهرة الأمثال 2/ 50وجمهرة اللغة ص 783وزهر الأكم 1/ 210والعقد الفريد 3/ 117 وفصل المقال ص 424وكتاب الأمثال ص 300ولسان العرب (جيأ، غور، بأس، عسا) والمستقصى 2/ 161ومجمع الأمثال 2/ 17.
(3) البيت لتأبط شرا في ديوانه ص 87وتاج العروس (وطب) والتنبيه والإيضاح 1/ 147والحماسة برواية الجواليقي ص 36وشرح الحماسة للأعلم 1/ 210وشرح الحماسة للتبريزي 1/ 39.
(4) في النسخة الشنقيطية: = يكون =.(8/380)
وقد أنّث مثلا لإضافته إلى ضمير المؤنّث، بدليل عود الضمير إليه من فارقتها مؤنّثا.
قال ابن جني: أنّث المثل حملا على المعنى لمّا كان المراد به الحال والصورة التي ذكرها. وقد جاء في التنزيل (1): {«فَلَهُ عَشْرُ أَمْثََالِهََا»} لمّا كان المراد عشر حسنات أمثالها، وتأنيث المذكر أغلط من تذكير المؤنّث، لأنّه مفارقة أصل إلى فرع، وفي ما ورد من تأنيث نحو هذا دليل على قوّة إقامة الصفة مقام الموصوف، حتّى كأنّ الموصوف حاضر.
ولولا أنّ ذلك كذلك لما جاز تأنيث المثل، لكن دلّ جواز تأنيثه على قوة إرادة موصوفه. فاعرف ذلك فإنّه هو غرض هذا الفصل. انتهى.
وقوله: «تصفر» قال ابن هشام في «شرح الشواهد» أراد بالصفير النفخ عند الندم. ونقل ابن المستوفي عن أبي محمد القاسم بن محمد الدّيمرتي (2) أنّ المعنى لمّا أعجزتها جعلت تصفر خجلا. قال: ومن عادة العرب، إذا فاتهم (3) أن يقولوا: هو هو! ثم يصفروا وراءه، يريدون به البعد. انتهى.
والبيت من أبيات لتأبّط شرا، تقدّم شرحها في الشاهد الثامن والستين بعد الخمسمائة (4).
وكان بنو لحيان من هذيل أخذوا عليه طريق جبل وجدوه فيه يشتار عسلا، لم يكن له طريق غيره، وقالوا: استأسر أو نقتلك! فكره أن يستأسر، فصبّ ما معه
__________
(1) سورة الأنعام: 6/ 160.
(2) في معجم البلدان (ديمرت): «ديمرت، بكسر أوله وفتحه، وسكون ثانيه، من نواحي أصبهان ينسب إليها أبو محمد القاسم بن محمد الديمرتي الأديب، روى عنه إبراهيم بن متّونة =. وذكره أيضا في معجم الأدباء 16/ 319.
في حاشية النسخة الشنقيطية: = كذا بخط المؤلف، وصوابه الذيموني بالذال والنون =. وهذه الحاشية لا وجه صحيح لها.
(3) في حاشية طبعة بولاق: = قوله إذا فاتهم، هكذا بالأصل، ولعله إذا فاتهم فارس أو نحو ذلك فليحرر. ا. هـ مصححه =.
وفي حاشية النسخة الشنقيطية: = كذا بخط المؤلف بغير بياض. وفيه حذف لفساد المعنى دونه =.
(4) الخزانة الجزء السابع ص 477470.(8/381)
من العسل على الصّخر، ووضع صدره عليه حتّى انتهى إلى الأرض من غير طريق، فصار بينه وبينهم مسيرة ثلاثة أيام، ونجا منهم. فحكى الحكاية في الأبيات.
وأوّلها (1):
إذا المرء لم يحتل وقد جدّ جدّه ... أضاع وقاسى أمره وهو مدبر
ولكن أخو الحزم الذي ليس نازلا ... به الخطب إلّا وهو للقصد مبصر
فذاك قريع الدّهر ما عاش حوّل ... إذا سدّ منه منخر جاش منخر
قال ابن هشام في «شرح الشواهد»:
ومن محاسن أهل الأدب أنّ محيي الدين ابن قرناس، قال بحضرة شرف الدين الحلّيّ، ملغزا في الشّبّابة (2): (الطويل)
وناطقة خرساء باد شجونها ... تكنّفها عشر ومنهنّ تخبر
يلذّ إلى الأسماع رجع حديثها ... إذا سدّ منها منخر جاش منخر
فأجابه في الحال: (الطويل)
نهاني النّهى والشّيب عن وصل مثلها ... وكم مثلها فارقتها وهي تصفر
وفي الموضعين تضمين.
(تتمة)
ما أورده الشارح المحقق على البصريين في قولهم: رفع المضارع لوقوعه موقع الاسم، قد أجاب عنه صاحب اللباب، قال فيه: وأمّا مرفوع الفعل، فهو المضارع الواقع بحيث يصحّ وقوع الاسم، إمّا مجرّدا أو مع حرف لا يكون عاملا فيه، في نحو:
زيد يضرب، وسيضرب، ويضرب الزيدان.
__________
(1) الأبيات لتأبط شرا في ديوانه ص 9087والأغاني 21/ 141140والحماسة برواية الجواليقي ص 36 وشرح أبيات المغني 7/ 362وشرح الحماسة للأعلم 1/ 212209وشرح الحماسة للتبريزي 1/ 4138 وشرح الحماسة للمرزوقي 1/ 8374.
(2) قال الخفاجي في كتابه شفاء الغليل عن الشبابة ص 112: = بالتشديد: قصبة الزمر المعروفة، مولد =.(8/382)
لأنّ مبدأ الكلام لا يتعيّن للفعل دون الاسم، ونحو: كاد زيد يقوم، الأصل فيه الاسم، وقد عدل إلى لفظ الفعل لزوما لغرض. وقد استعمل الأصل المرفوض، فيمن روى قوله: «وما كدت آئبا». انتهى.
واحترز بقوله لا يكون عاملا عما إذا كان مع حرف عامل، نحو: زيد لم يضرب، أو لن يضرب.
وقوله: لأنّ مبدأ الكلام. إلخ، هذا جواب عن سؤال مقدّر، وهو أنّ يضرب في يضرب الزيدان مرفوع، مع أنّه ليس بواقع موقع الاسم، إذ لا يجوز ابتداء ضارب الزيدان من غير اعتماد على شيء.
فأجاب بأنّ هذا الكلام من حيث هو كلام، لا يتعيّن أن يكون فعلا دون اسم، بل جاز أن يكون ابتداء الكلام اسما على الجملة، فصدق أنّه واقع موقع الاسم على الإطلاق، أي: موقعا كان يصحّ ان يوقع فيه اسم من الأسماء، وإن لم يقع اسم مخصوص.
وقوله: ونحو كاد زيد يقوم إلخ، هذا أيضا إيراد وجواب. أمّا لإيراد فهو أنّ خبر كاد يلزم أن يكون فعلا، وهو أنّ كاد موضوع لمقاربة وقوع فعل، فحقّ خبره أن يكون فعلا مضارعا، فلا يكون خبره اسما، فينبغي أن لا يرتفع، لأنّ ارتفاعه لوقوعه موقع الاسم، والاسم لا يقع خبرا لكاد.
وأجاب بأنّ أصل خبر «كاد» أن يكون اسما كما في خبر كان، ولذلك استعمل ذلك الأصل المرفوض في البيت، فالفعل واقع موقع الاسم نظرا إلى الأصل.
وقد بسط الكلام على مذهب الفريقين ابن الأنباري في «مسائل الخلاف» (1)
فلا بأس بإيراده قال: اختلف مذهب الكوفيّين في رفع المضارع، فذهب الأكثرون إلى أنه يرتفع لتعرّيه من العوامل الناصبة والجازمة.
وذهب الكسائي إلى أنّه يرتفع بالزائد في أوله. وذهب البصريون إلى أنه يرتفع لقيامه مقام الاسم.
واحتجّ الكوفيّون بأنّ المضارع إذا دخل عليه ناصب نصبه، أو جازم جزمه، وإذا خلا منهما ارتفع، فعلمنا أنّه بدخولهما ينصب ويجزم، وبسقوطهما عنه يرفع.
__________
(1) الإنصاف في مسائل الخلاف ص 553وما بعدها.(8/383)
قالوا: ولا يجوز أن يكون مرفوعا لقيامه مقام الاسم، لأنه لو كان كذلك لكان ينبغي أن ينصب إذا كان الاسم منصوبا، نحو: كان زيد يقوم.
ثم كيف يأتيه الرفع لقيامه مقام الاسم، والاسم يكون مرفوعا ومنصوبا ومخفوضا؟ ولو كان كذلك لوجب أن يعرب بإعراب الاسم، ولوجب أن لا يرتفع في: كاد زيد يقوم، لأنّه لا يجوز: كاد زيد قائما.
واحتجّ البصريون بوجهين:
أحدهما: أنّ قيامه مقام الاسم عامل معنويّ يشبه الابتداء، والابتداء يوجب الرفع وكذا ما أشبهه.
وثانيهما: أنّ بقيامه مقام الاسم قد وقع في أقوى أحواله، فوجب أن يعطى أقوى الإعراب، وهو الرفع.
وإنّما لم يرفع الماضي مع جواز قيامه مقام الاسم لأنّه ما استحقّ أن يكون معربا بنوع من الإعراب، فصار قيامه بمنزلة عدمه.
وأمّا قول الكوفيين إنّه يرتفع بالتعرّي من العوامل الناصبة والجازمة فهو فاسد، لأنّه يؤدّي إلى أن يكون الرفع بعد النصب والجزم، ولا خلاف بين النحويّين أنّ الرفع قبلهما، وذلك أنّ الرفع صفة الفاعل، والنصب صفة المفعول، فكما أنّ الفاعل قبل المفعول ينبغي أن يكون الرفع قبل النصب.
وإذا كان الرفع قبل النصب فلأن يكون قبل الجزم من طريق الأولى. وأما قولهم:
لو كان مرفوعا (1) لقيامه مقام الاسم إلخ، فنقول: إنّما لم يكن منصوبا أو مجرورا إذا قام مقام الاسم المنصوب والمجرور، لأنّ عوامل الأسماء لا تعمل في الأفعال.
وأما قولهم: «وجدنا نصبه وجزمه بناصب وجازم، لا يدخلان على الاسم فعلمنا أنّه يرتفع من حيث لا يرتفع الاسم»، قلنا: وكذلك نقول فإنّه يرتفع من حيث لا يرتفع الاسم، لأنّ ارتفاعه لقيامه مقام الاسم، والقيام مقام الاسم ليس بعامل للرّفع في الاسم.
وأمّا قول الكسائي إنّه يرتفع بالزائد في أوّله، فهو فاسد من وجوه:
__________
(1) في طبعة بولاق: = ولا يجوز أن يكون مرفوعا =. ولقد أثبتنا رواية النسخة الشنقيطية والإنصاف.(8/384)
أحدها: أنّه كان ينبغي أن لا يدخل عليه عوامل النصب والجزم (1) لأنّهما لا يدخلان على العوامل.
الثاني: كان ينبغي أن لا ينتصب، ولا يجزم بدخولهما لوجود الزائد في أوله أبدا.
الثالث: أنّ هذه الزوائد بعض الفعل لا تنفصل منه في لفظ، بل هي من تمام معناه فلو عملت لزم أن يعمل الشيء في نفسه.
وأمّا قولهم: «لو كان مرفوعا لقيامه مقام الاسم لكان ينبغي أن لا يرتفع في كاد زيد يقوم» إلخ، قلنا: هذا فاسد، لأنّ الأصل كاد زيد قائما. ولذلك ردّه الشاعر في الضرورة إلى أصله في قوله: «وما كدت آئبا»، إلّا أنه لمّا كانت كاد موضوعة للتقريب من الحال، واسم الفاعل ليس دلالته (2) على الحال بأولى من دلالته على الماضي، عدلوا عنه إلى يفعل لأنه أدلّ على مقتضى كاد، ورفعوه مراعاة للأصل. فدلّ على صحة ما ذهبنا إليه.
انتهى كلامه باختصار. وفيه مواضع تحتمل المناقشة لا تخفى على المتأمّل.
* * * __________
(1) في طبعة بولاق: = أن لا يدخل عليه عامل النصب والجزم =. ولقد أثبتنا رواية النسخة الشنقيطية والإنصاف.
(2) كذا في طبعة بولاق والنسخة الشنقيطية والإنصاف ص 555بترك التأنيث.(8/385)
النواصب
أنشد فيه، وهو الشاهد الثامن والثلاثون بعد الستمائة (1): (الطويل)
638 - وددت وما تغني الودادة أنّني
بما في ضمير الحاجبيّة عالم
على أنّ «أنّ» المفتوحة (2) يجوز أن تقع بعد فعل غير دال على العلم واليقين كما في البيت، خلافا للزمخشري في «مفصّله»، فإنّ «وددت» بمعنى تمنّيت.
قال ابن درستويه في «شرح فصيح ثعلب»: وددته بالكسر أودّه بالفتح. بمعنى ومقته أمقه. وكذلك: وددت أنّه كذا، إذا تمنّيته، لأنّه أيضا من المقة والمحبة.
انتهى.
والزمخشري قاله (3) في الحروف المشبّهة بالفعل، وهذا نصّه:
فصل: والفعل الذي يدخل على المفتوحة مشدّدة أو مخفّفة يجب أن يشاكلها في التحقيق. فإن لم يكن كذلك نحو: أطمع، وأرجو، وأخاف، فليدخل على أن الناصبة للفعل. وما فيه وجهان: كظننت، وحسبت، وخلت فهو داخل عليهما (4)
جميعا. انتهى بحذف الأمثلة.
وقد جاراه ابن يعيش في «شرحه» ولم ينتقده بشيء، قال: قد تقدّم أنّ «أنّ» المفتوحة معمولة لما قبلها، وأنّ معناها التأكيد والتحقيق، مجراها في ذلك مجرى
__________
(1) البيت لكثير عزة في ديوانه ص 199والحماسة برواية الجواليقي ص 389وشرح الحماسة للأعلم الشنتمري 2/ 823وشرح الحماسة للخطيب التبريزي 3/ 140وشرح الحماسة للمرزوقي ص 1287.
(2) في النسخة الشنقيطية: = على أن المفتوحة =.
(3) في طبعة بولاق: = قال =. ولقد أثبتنا رواية النسخة الشنقيطية.
(4) عليهما، أي على أنّ المشددة، وأن المخففة.(8/386)
المكسورة. فيجب لذلك أن يكون الفعل الذي تبنى عليه مطابقا لها في المعنى، بأن يكون من أفعال العلم واليقين ونحوهما بما معناه الثبوت والاستقرار، ليتطابق في المعنى العامل والمعمول ولا يتناقضا (1).
وحكم المخفّفة من الثقيلة في التأكيد والتحقيق حكم الثقيلة، لأنّ الحذف إنّما يكون لضرب من التخفيف، فهي لذلك في حكم الثقيلة، فلذلك لا يدخل عليها من الأفعال إلا ما يدخل على المثقّلة. هذا كلامه.
والبيت أول أبيات أربعة أوردها أبو تمام في «الحماسة» لكثيّر عزّة. وهي بعد الأوّل (2):
فإن كان خيرا سرّني وعلمته ... وإن كان شرّا لم تلمني اللّوائم
وما ذكرتك النّفس إلّا تفرّقت ... فريقين: منها عاذر لي ولائم
فريق أبي أن يقبل الضّيم عنوة ... وآخر منها قابل الضّيم راغم
وقوله: «وما تغني الودادة»، أي: تنفع، جملة معترضة بين وددت وبين معموله وهو أنّني إلخ.
و «الحاجبيّة»: هي عزّة محبوبة كثيّر، واشتهر بالإضافة إليها فيقال كثيّر عزّة، بفتح العين المهملة وتشديد الزاي. والحاجبية: نسبة إلى أحد أجدادها.
قال ابن الكلبي: عزّة بنت حميل، بضم المهملة، ابن حفص، بفتحها، من بني حاجب ابن غفار، بكسر المعجمة. وتقدّم الكلام عليها في الشاهد الثالث والسبعين بعد الثلثمائة (3).
قال الطّبرسيّ (4) في «شرح الحماسة»: يقول: تمنّيت أنّي عالم بما ينطوي عليه
__________
(1) في شرح المفصل 8/ 77: = ليتطابق معنيا العامل والمعمول ولا يتناقضا =.
(2) الأبيات مطلع قصيدة لكثير عزة يمدح بها الخليفة عبد الملك بن مروان، وهي في ديوانه ص 199والحماسة برواية الجواليقي ص 389وشرح الحماسة للأعلم 2/ 823وشرح الحماسة للتبريزي 3/ 141140وشرح الحماسة للمرزوقي ص 1287.
(3) الخزانة الجزء الخامس ص 218.
(4) في طبعة بولاق والنسخة الشنقيطية: = الطيبرسي =. وهو تصحيف صوابه من النسخة الشنقيطية.
والطبرسي هذا هو أمين الدين أبو علي الفضل بن الحسن بن الفضل الطبرسي، مفسّر لغوي من أعيان الشيعة(8/387)
قلب هذه المرأة لي. والودادة بكسر الواو وفتحها (1).
وقوله: «فإن كان خيرا» إلخ، أي: فإن كان ما تضمره لي ودّا صافيا سرّني ذلك، وإن كان ما تضمره إعراضا وجفاء، قتلت نفسي وأرحتها من لوم اللائمات.
أو يريد: سلوت، فاسترحت، ممّا ألام فيه من حبّ من لا يحبّني. وهذا الأخير عن البياريّ (2). وعلمته بمعنى عرفته، ولذلك اكتفى بمفعول واحد.
وقوله: «وما ذكرتك النفس» إلخ، أي: ما ذكرتك إلّا تفرقت نفسي فريقين: ففريق يعذرني، يقول: إنّ مثلها في جمالها وكمالها يحبّ. وفريق يلومني، يقول: لم تحبّ من لا يحبّك، ولا تصل إليه؟
و «الضّيم»: الظّلم. و «العنوة»، بالفتح: القهر. و «راغم»: ذليل ملصق أنفه بالرّغام وهو التّراب.
وترجمة كثيّر قد تقدّمت في الشاهد الثالث والسبعين بعد الثلثمائة (3).
وكان مشوّه الخلق دميما مفرط القصر، كان يقال له: «زبّ الذّباب» وهجاه بعض الشعراء بقوله (4): (الطويل)
__________
الإمامية. توفي سنة 548. انظر في ترجمته إنباه الرواة 3/ 76ومعجم المؤلفين 8/ 66. وشرحه للحماسة هذا موجود في تركيا باسم = الباهر في شرح الحماسة =.
(1) في النسخة الشنقيطية: = بفتح الواو وكسرها =.
(2) في طبعة بولاق والنسخة الشنقيطية: = البياسي =. وهو تصحيف.
وفي حاشية طبعة هارون 8/ 385: = نسبة إلى بيار، بالكسر، وهي مدينة من أعمال قومس. وهو علي بن الحارث البياري الخراساني، ترجم له القفطي في الإنباه 2: 274وذكر من تصانيفه كتاب شرح الحماسة. وانظر دمية القصر 302. وشرحه للحماسة يعد مفقودا وإن كانت قد بقيت منه بقية في نقول أبي الرضا الراوندي، ونقول الطبرسي. انظر تحقيق حماسة أبي تمام للدكتور عبد الله عسيلان =.
(3) الخزانة الجزء الخامس ص 217.
(4) عجز بيت للحزين الكناني وصدره في الأغاني:
* قصير القميص فاحش عند بيته *
وصدره في الحماسة:
* أظن خليلي من تقارب شخصه *
وهو للحزين الكناني يهجو كثيرا في الأغاني 9/ 11والحماسة برواية الجواليقي ص 644وشرح الحماسة للأعلم 2/ 1186وشرح الحماسة للتبريزي 4/ 183.(8/388)
فقال: والله لأنا أثبت فيهم منك في دوس (1). ثم قال: وقل له إن كنت شاعرا فأنا أشعر منك. فقلت: هذا إذا كان الحكم إليك. قال: وإلى من هو؟ ومن أولى به منّي (2)؟
فرجعت إلى القوم فأخبرتهم، فضحكوا ثم نهضوا معي إليه، فدخلنا عليه في خيمة فوجدناه جالسا على جلد كبش فو الله ما أوسع للقرشي، فتحدّثوا مليّا، ثم أفضوا في ذكر الشعر. فأقبل على عمر، فقال له: أنت تبعت امرأة فتنسب بها، ثم تدعها فتنسب بنفسك.
أخبرني عن قولك (3): (المنسرح)
قالت: تصدّي له ليعرفنا ... ثمّ اغمزيه يا أخت في خفر
قالت لها: قد غمزته فأبى ... ثمّ اسبطرّت تشتدّ في أثري
وقولها والدّموع تسبقها ... لنفسدنّ الطّواف في عمر
أتراك لو وصفت بهذا الشعر هرّة أهلك ألم تكن قد قبّحت، وأسأت لها، وقلت الهجر! إنّما توصف الحرّة بالحياء والإباء، والبخل والامتناع، كما قال هذا، وأشار للأحوص (4): (الطويل)
أدور ولولا أن أرى أمّ جعفر ... بأبياتكم ما درت حيث أدور
وما كنت زوّارا ولكنّ ذا الهوى ... إذا لم يزر لا بدّ أن سيزور
لقد منعت معروفها أمّ جعفر ... وإنّي إلى معروفها لفقير
فدخلت الأحوص الأبّهة وعرفت الخيلاء فيه، فلما عرف كثيّر ذلك منه قال له:
أبطل أخزاك الله وأذلّك. أخبرني عن قولك (5): (الوافر)
__________
(1) في الأغاني: = في سدوس =.
(2) بعده في الأغاني: = وبعد هذا يابن ذكوان فاحمد الله على لومك فقد منعك مني اليوم =.
(3) الأبيات وخبرها في الأغاني 12/ 115والكامل في اللغة 1/ 333332والموشح ص 258257.
واسبطرت: أسرعت.
(4) الأبيات للأحوص الأنصاري في ديوانه ص 9897والأغاني 12/ 115وأمالي الزجاجي ص 124 والكامل في اللغة 1/ 333والموشح ص 258.
(5) البيتان في ديوانه ص 169والأغاني 12/ 115والكامل في اللغة 1/ 333والموشح ص 259.(8/390)
فإن تصلي أصلك وإن تبيني ... بصرمك بعد وصلك لا أبالي
ولا ألفى كمن إن سيم خسفا ... تعرّض كي يردّ إلى الوصال
أما والله لو كنت فحلا لباليت، ألّا قلت كما قال هذا الأسود وأشار إلى نصيب (1): (الطويل)
بزينب ألمم قبل أن يرحل الرّكب ... وقل إن تملّينا فما ملّك القلب
فانكسر الأحوص ودخلت نصيبا الأبّهة، فلمّا فهم ذلك منه قال: وأنت يا أسود أخبرنا عن قولك (2): (الطويل)
أهيم بدعد ما حييت وإن أمت ... فواكبدي من ذا يهيم بها بعدي
أهمّك من ينيكها بعدك. فأبلس نصيب. فلمّا سكت كثيّر أقبل عليه عمر، فقال: قد أنصتنا لك فاستمع (3)، أخبرني عن قولك لنفسك وتخيّرك لمن تحبّ حيث تقول (4): (الطويل)
ألا ليتنا يا عزّ من غير ريبة ... بعيران نرعى في الخلا ونعزّب (5)
كلانا به عرّ فمن يرنا يقل ... على حسنها جرباء تعدي وأجرب (6)
إذا ما وردنا منهلا صاح أهله ... علينا فما ننفكّ نرمى ونضرب
وددت وبيت الله أنّك بكرة ... هجان وأنّي مصعب ثمّ نهرب
نكون بعيري ذي غنى فيضيعنا ... فلا هو يرعانا ولا نحن نطلب
__________
(1) البيت لنصيب في الأغاني 12/ 116والكامل في اللغة 1/ 333والمراثي ص 189والموشح ص 259.
(2) البيت والخبر في الأغاني 12/ 116.
(3) بعده في الأغاني: = يا مذبوب إليّ =. والمذبوب: المجنون.
(4) الأبيات لكثير في ديوانه ص 42والأغاني 12/ 116.
(5) في طبعة بولاق: = ونعذب = بالذال المعجمة، وهو تصحيف صوابه من ديوانه والأغاني.
نعزب بالزاي: نبعد في المرعى عن الحي.
(6) في طبعتي بولاق وهارون والنسخة الشنقيطية: = جربى تعدى =. وهو تصحيف لا يستقيم معه الوزن والمعنى.
وفي حاشية النسخة الشنقيطية: = كذا بخط المؤلف وشكله بقلمه جربى بالقصر، وتعدى. وهو خلاف السماع والقياس، والصواب جرباء تعدى، بالمد، وتعدى من أعدى =.(8/391)
والبيت من قصيدة للأعشى ميمون (1)، وقبله (2):
وقد غدوت إلى الحانوت يتبعني ... شاو مشلّ شلول شلشل شول
و «غدوت»: ذهبت غدوة، وهي ما بين صلاة الصّبح، وطلوع الشمس هذا أصله، ثمّ كثر حتّى استعمل في الذّهاب والانطلاق أيّ وقت كان. كذا في المصباح.
و «الحانوت»: بيت الخمّار، يذكّر ويؤنّث. وجملة: «يتبعني» حال من التاء في غدوت. و «الشّاوي»: الذي يشوي اللّحم. و «المشلّ»، بكسر الميم وفتح الشين: المستحثّ والجيّد السّوق، وقيل الذي يشلّ اللحم في السّفّود، من شللت الثوب، إذا خطته خياطة. كذا قال ابن السيرافي.
و «الشّلول»، بفتح الشين، مثل المشلّ، ويروى: «نشول» بفتح النون، وهو الذي يأخذ اللحم من القدر، يقال منه نشل ينشل. و «الشّلشل» بضم الشينين كقنفذ: الخفيف اليد في العمل، والمتحرّك. و «الشّول»، بفتح فكسر، مثل الشّلشل، وقيل هو الذي عادته ذلك.
وقال الخطيب التّبريزي في شرح هذه القصيدة (3): الشّول هو الذي يحمل الشيء، يقال: شلت به وأشلته. وقيل هو من قولهم: فلان يشول في حاجته، أي:
يعنى بها، ويتحرّك فيها. ومن روى: «شول» بضم الشين وفتح الواو فهو بمعناه، إلّا أنّه للتكثير.
وروى بدله: «شمل» أيضا بفتح فكسر، وهو الطيّب النّفس والرائحة (4).
يقول: بكرت إلى بيت الخمّار، ومعي غلام شوّاء طبّاخ، خفيف في الخدمة.
__________
(1) في النسخة الشنقيطية: = لأعشى ميمون =.
(2) البيت للأعشى ميمون في ديوانه ص 109وتاج العروس (حنت، شلل، شول) وتهذيب اللغة 11/ 277، 412وجمهرة اللغة ص 880وشرح القصائد العشر للتبريزي ص 428ولسان العرب (حنت، شلل، شول).
(3) شرح القصائد العشر للخطيب التبريزي ص 428.
(4) في حاشية شرح القصائد العشر للتبريزي ص 429يقول د. قباوة: = وقد أنكر عليه هذا البيت، لأن جماعة من أهل اللغة يذهبون، إلى أن معنى: مشل وشلول وشلشل وشول، معنى واحد، إلا أنه جاز تكريرها، لاختلاف الألفاظ. والأجود ما بدأنا به من التفسير =.(8/394)
قالت هريرة لمّا جئت زائرها ... ويلي عليك وويلي منك يا رجل
وأما الثالث فقوله (1):
قالوا الطّراد فقلنا تلك عادتنا ... أو تنزلون فإنّا معشر نزل
و «الغرّاء» (2): البيضاء الواسعة الجبين. و «الفرعاء»: الطويلة الفرع، أي:
الشعر.
و «العوارض»: الرّباعيات والأنياب. و «الوجي»، بكسر الجيم: الذي يشتكي حافره، ولم يحف. و «الوحل»، بكسر الحاء المهملة: الذي يتوحّل في الطين.
وقوله: «قالوا الطّراد» يقول: إن طاردتم بالرماح فتلك عادتنا، وإن نزلتم، تجالدون بالسّيوف، نزلنا.
وروى صاحب الأغاني (3) بسنده قال: حدّث جرير بن عبد الله البجلي الصحابيّ، قال: سافرت في الجاهلية، فأقبلت ليلة على بعيري، أريد أن أسقيه ماء، فلمّا قرّبته من الماء، تأخّر، فعقلته، ودنوت من الماء، فإذا قوم مشوّهون عند الماء [فقعدت]، فبينا أنا عندهم، إذ أتاهم رجل أشدّ تشويها منهم، فقالوا: هذا شاعر (4). ثم قالوا: يا أبا فلان أنشد هذا، فإنّه ضيف.
فأنشد:
* ودّع هريرة إنّ الرّكب مرتحل *
__________
(1) هو الإنشاد الواحد والثلاثون بعد التسعمائة في شرح أبيات المغني للبغدادي.
والبيت للأعشى ميمون في ديوانه ص 113والأغاني 9/ 112والدرر 5/ 80وشرح أبيات المغني للبغدادي 8/ 103وشرح شواهد المغني 2/ 965وشرح القصائد العشر للتبريزي ص 445والصاحبي في فقه اللغة ص 276والكتاب 3/ 51والمحتسب 1/ 195. وهو بلا نسبة في مغني اللبيب 2/ 683وهمع الهوامع 2/ 60.
(2) الشرح التالي مأخوذ من شرح القصائد العشر للخطيب وفق أرقام صفحات الأبيات المذكورة.
(3) الأغاني 9/ 156. والزيادات منه.
(4) في الأغاني 9/ 156: = هذا شاعرهم =.(8/397)
640 - ولا تدفننّي في الفلاة فإنّني
أخاف إذا ما متّ أن لا أذوقها
على أنّ «أن» مخفّفة لوقوعها بعد الخوف بمعنى العلم واليقين، واسمها ضمير شأن محذوف، أو ضمير متكلّم. وجملة: «لا أذوقها» في محل رفع خبرها (1).
وقبله (2):
إذا متّ فادفنّي إلى جنب كرمة ... تروّي عظامي بعد موتي عروقها
وأصل الخوف الفزع وانقباض النفس عن احتمال ضرر، وإذا اشتدّ الخوف التحق بالمتيقّن كما قال الشارح المحقق (3).
قال ابن خطيب الدّهشة (4) وهو ابن مؤلّف المصباح في «كتاب التقريب (5)، في علم الغريب»: يقال خاف الشيء: علمه وتيقّنه. انتهى.
وذلك لأنّ الإنسان لا يخاف شيئا حتى يعلم أنّه مما يخاف منه، فهو من التعبير بالمسبّب عن السّبب، وليس إطلاقه عليه لأنّه من لوازم اليقين كما قال الشّمنّي (6)، فكم من يقين لا خوف منه.
وقال بعض المحقّقين: الخوف والخشية يستعملان بمعنى العلم، لأنّ الخوف عبارة عن حالة مخصوصة متولّدة من ظنّ مخصوص، وبين الظنّ والعلم مشابهة في أمور كثيرة،
__________
(1) كلمة: = رفع =. ساقطة من النسخة الشنقيطية.
(2) البيت لأبي محجن الثقفي في ديوانه ص 48والأغاني 18/ 374وشرح أبيات المغني للبغدادي 1/ 139 وكتاب العين 5/ 369ولسان العرب (فنع، كرم). وهو بلا نسبة في تاج العروس (فدك).
(3) النص في شرح أبيات المغني 1/ 139138وفيه: = التحقق باليقين كما قاله الرضي =.
(4) هو محمود بن أحمد بن محمد الهمذاني الفيومي الأصل، الحموي، الشافعي، أبو الثناء، نور الدين، المعروف بابن خطيب الدهشة (834750هـ): قاض، عالم بالحديث وغريبه، أبوه صاحب المصباح في اللغة. مولده ووفاته في حماه من كتبه = تهذيب المطالع لترغيب المطالع خ = ستة مجلدات، هذب به مطالع الأنوار لابن قرقول في غريب الحديث، واختصره فسماه = التقريب في علم الغريب خ = جزءان. الأعلام 8/ 37.
(5) في النسخة الشنقيطية: = التعريب =. وهو تصحيف صوابه من طبعة بولاق. وقد ذكره حاجي خليفة في كتابه كشف الظنون وقال: إنه لغة تتعلق بالموطأ والصحيحين.
(6) الشمني: 1/ 65.(8/402)
أذوقها. فالخوف هنا علم ويقين، فهي المخفّفة.
وكذا إن جعل تعليلا للنّهي وحده، لأنّه الذي قارنه في هذا البيت، على معنى فإنّني أخاف الآن أو إذا ما متّ، بتقدير أن تدفنني في الفلاة لا إلى جنبها، أن لا أذوقها. انتهى.
قال ابن الملّا: وها هنا بحث، وهو أنّ الشاعر وإن كان من المغرمين بالصّهباء، المتهتّكين بها، لكنّه من ذوي العقول الكاملة، والأنظار الصائبة، فكيف يظنّ به أنّه غير قاطع، بما يتيقّنه غيره من عدم الذّوق بعد الموت! بل هو أمر مركوز في الأذهاب، غنّي عن البيان.
وإنّما جرى في كلامه هذا على مذهب الشعراء في تخييلاتهم، ورام سلوك جادّة تمويهاتهم، فإنّهم سحرة الكلام، ومخترعو صور الإيهام (1). فأمر أوّلا بدفنه بعد الموت بجانب كرمة، وأبدى عذره في ذلك بوصفها بقوله: (الطويل)
* تروّي عظامي بعد موتي عروقها *
ليستفاد من ذلك علّة الأمر بالدّفن المذكور، إشارة إلى أنّ ما لا يدرك كلّه لا يترك كلّه، وإذا تعذّرت التروية الحقيقيّة فلا أقلّ من حصول التروية المجازيّة.
ثمّ نهى ثانيا تأكيدا للأمر الأول عن دفنه لا بجنب كرمة، وعلّل ذلك بأنه [يتيقن أنه] لا يذوقها إذا مات فلا يتروّى بها حقيقة. فدفنه [لا] إلى جانبها مفوّت للتروية المجازيّة. ولمزيد شغفه بها آثر التعبير عن هذا اليقين بالخوف إيهاما (2) لأنّه مع ذلك لا يقطع بعدم الذّوق.
وجعل رفع الفعل بعد أن معه دليلا على ما قصده معنى. وإنّما قلنا: إنّ تروية العظام مجازيّة لأنّ الرّوى (3) حقيقة لذوات الأكباد عن عطش، وليست العظام منها.
__________
(1) في شرح أبيات المغني للبغدادي 1/ 141: = صور الإبهام = بالباء الموحدة. والزيادات من شرح أبيات المغني للبغدادي.
(2) في شرح أبيات المغني 1/ 141: = إبهاما =.
(3) كذا في طبعتي بولاق وهارون والنسخة الشنقيطية. وفي شرح أبيات المغني: = الري =. وكلاهما صحيح.
وفي النسخة الشنقيطية مع أثر تصحيح: = التروي = ولا نراه صوابا.
وفي اللسان (روي): = روي من الماء بالكسر ومن اللبن يروى ريّا، وروى أيضا مثل رضا =.(8/404)
على أنه لا عطش بعد الموت. أو لما [ليست] له قوّة نامية. ومنه قولهم: روي النبات من الماء. والعظام جماد. انتهى كلامه، ومن خطه نقلت.
ويؤيد هذا رواية ابن السكيت.
ولا تدفننّي في الفلاة فإنّني ... يقينا إذا ما متّ لست أذوقها
وعليها لا شاهد في البيت.
والبيتان أوّلا قصيدة لأبي محجن الثّقفي، رواها ابن الأعرابي وابن السكيت في «ديوانه»، وبعدهما (1):
أباكرها عند الشّروق وتارة ... يعاجلني عند المساء غبوقها
وللكأس والصّهباء حقّ معظّم ... فمن حقّها أن لا تضاع حقوقها
أقوّمها زقّا بحقّ بذاكم ... يساق إلينا فجرها وفسوقها (2)
وعندي على شرب المدام حفيظة ... إذا ما نساء الحيّ ضاقت حلوقها
وأعجلن عن شدّ المآزر ولّها ... مفجّعة الأصواب قد جفّ ريقها
وأمنع جار البيت ممّا ينوبه ... وأكرم أضيافا قراها طروقها
قال ابن السكيت: قوله (3): «إذا متّ فادفنّي» هذا خطاب مع ابنه يأمره بذلك، وفيه مبالغة على حبّه للخمر، وتعطّشه إليها، إذ أظهر الرّغبة إليها، وهو ميّت.
وقوله: «ولا تدفننّي في الفلاة» إلخ، قال ابن السكيت: الفلاة: الأرض المهلكة التي لا علم بها ولا ماء. والمعنى أنّ الفلاة لا يعرش فيها كرم (4) فلا تدفننّي إلّا
__________
(1) الأبيات لأبي محجن الثقفي في ديوانه ص 5049وشرح أبيات المغني للبغدادي 1/ 142141وبعضها في الأغاني 19/ 7.
(2) في طبعة بولاق: = بداكم =. وهو تصحيف صوابه من ديوانه والنسخة الشنقيطية.
في أصول طبعات الخزانة: = فجرها وفسوقها =. ورواية الديوان وهي أوجه للمعنى: = تجرها ونسوقها =.
(3) النص في شرح أبيات المغني للبغدادي 1/ 142.
(4) كذا في طبعة بولاق وشرح أبيات المغني للبغدادي. وفي النسخة الشنقيطية وطبعة هارون: = لا يغرس فيها كرم =.(8/405)
والحقّ بالكسر من الإبل: ابن ثلاث سنين، وكذلك الحقّة، وسمّيا بهذا الاسم لأنّهما استحقّا أن يركبا.
و «فجرها»: فجورها (1). والفاجر: المائل عن الطاعة. والطاعة: الوقوف على الأوامر. والفسوق توسيع ما ضيّقه الله من أمر الدين.
وقوله: «وعندي على شرب» إلخ. قال ابن السكيت: الحفيظة كل شيءّ يغضب لأجله. يعني وإن كنت سكران لا أهمل الحفاظ إذا استغاثت بي نساء الحيّ، وصحن لنازلة نزلت بهنّ.
وقوله: «وأعجلن عن شدّ» إلخ، قال ابن السكيت: أي دهمهنّ من البلاء ما أعجلهنّ عن شد المآزر في أوساطهن. و «ولّها»: مفعول من أجله، أي: للوله الذي نزل بهنّ. والواله: الذّاهب العقل. والمفجّعة: التي نزل بها ما أخافها وأفزعها. وجفّ ريقها، أي: يبس. انتهى.
والصواب أنّ «ولّها» حال لا مفعول من أجله.
وقوله: «وأمنع جار البيت» إلخ. قال ابن السكيت: قراها: أطعمها. يقول:
إذا طرقتنا الضّيفان ليلا أعجلنا لها القرى، فكأنّ طروقها هو الذي قراها. انتهى (2).
و «أبو محجن» شاعر صحابي، له سماع ورواية. كذا في الاستيعاب كما يأتي.
وإنّما أثبت له السّيوطي في «شرح أبيات المغني» رواية، ولم يذكر أنّ له سماعا. ونفاها أيضا الذهبيّ في «تاريخ الإسلام». وقال في «التجريد»: أبو محجن الثقفي (3) عمرو بن حبيب، وقيل: مالك بن حبيب، وقيل: عبد الله. كان فارسا شاعرا من الأبطال، لكن جلده عمر [رضي الله عنه] في الخمر مرّات، ونفاه إلى
__________
(1) في طبعة بولاق: = وفجورها =. بزيادة الواو. والصواب طرحها كما جاء في النسخة الشنقيطية.
(2) شرح أبيات المغني 1/ 143.
(3) في ديوانه ص 15: = قال الشيخ أبو هلال الحسن بن عبد الله: هو أبو محجن بن حبيب بن عمرو بن عمير من بني عقدة بن عنزة بن عوف بن ثقيف. وكان شاعرا شريفا، قد فضلت أبياته القافية على كل شعر قيل في معناها =.
وفي شرح أبيات المغني: = أبو محجن الثقفي: عمر بن حبيب =.(8/407)
جزيرة في البحر، فهرب، ولحق بسعد، وهو يحارب الفرس فحبسه. وله أخبار (1).
روى عنه أبو سعد البقّال. انتهى.
ورواية أبي سعد البقّال عن أبي محجن إنّما هي بتدليس، لأنّه لم يدرك عصره.
وقد ذكروه في الضّعفاء.
وقيل إنّ اسمه أبو محجن، وهي كنيته أيضا. وهو بكسر الميم وسكون الحاء المهملة وفتح الجيم.
وهذه ترجمته من «الاستيعاب، تأليف أبي عمر يوسف الشهير بابن عبد البر» (2)
قال: أبو محجن الثقفي اختلف في اسمه، فقيل: مالك بن حبيب، وقيل: عبد الله ابن حبيب بن (3) عمرو بن عمير بن عوف بن عقدة بن عميرة بن عوف بن قسيّ، وهو ثقيف، الثقفيّ. وقيل اسمه كنيته.
أسلم حين أسلمت ثقيف. وسمع من النبي صلّى الله عليه وسلّم وروى عنه.
حدّث عنه أبو سعد البقّال، قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، يقول:
«أخوف ما أخاف على أمّتي من بعدي ثلاث: إيمان بالنّجوم، وتكذيب بالقدر، وحيف الأئمة».
وكان أبو محجن هذا من الشّجعان الأبطال في الجاهليّة والإسلام، من أولي البأس والنجدة، ومن الفرسان البهم (4). وكان شاعرا مطبوعا كريما، إلّا أنّه كان منهمكا بالشّراب، لا يكاد يقلع عنه (5) ولا يردعه حدّ ولا لوم لائم. وكان أبو بكر الصّدّيق يستعين به.
وجلده عمر بن الخطاب في الخمر مرارا، ونفاه إلى جزيرة في البحر، وبعث معه رجلا فهرب منه، ولحق بسعد بن أبي وقّاص بالقادسيّة، وهو محارب للفرس. وكان قد همّ بقتل الرجل الذي بعثه عمر معه، فأحسّ الرجل بذلك، وخرج فارّا، ولحق
__________
(1) انظر في ذلك الأغاني 19/ 1وتاريخ الطبري 3/ 548، 575والشعر والشعراء 1/ 337336 وطبقات فحول الشعراء 1/ 259.
(2) الاستيعاب 4/ 1746والإصابة 4/ 173.
(3) في النسخة الشنقيطية: = وقيل =. بدل من = بن =.
(4) البهم بضم ففتح: جمع بهمة بضم الباء وهو الشجاع الذي لا يدرى أنّى يؤتى له.
(5) كذا في الاستيعاب أيضا. وفي النسخة الشنقيطية: = يقطع عنه =.(8/408)
ولله عهد لا أخيس بعهده ... لئن فرجت أن لا أزور الحوانيا (1)
فذهبت الأخرى فقالت ذلك لامرأة سعد، فحلّت عنه قيوده، وحمل على فرس كان في الدار، وأعطي سلاحا، ثم خرج يركض حتّى لحق بالقوم، فجعل لا يزال يحمل على رجل فيقتله، ويدقّ صلبه.
فنظر إليه سعد فجعل يتعجّب ويقول: من ذلك الفارس؟ قال: فلم يلبثوا إلّا يسيرا حتّى هزمهم الله، ورجع أبو محجن، وردّ السلاح، وجعل رجليه في القيود كما كان.
فجاء سعد، فقالت له امرأته أو أمّ ولده: كيف كان قتالكم؟ فجعل يخبرها ويقول: لقينا ولقينا، حتى بعث الله رجلا على فرس أبلق، لولا أنّي تركت أبا محجن في القيود، لظننت أنّها بعض شمائل أبي محجن؟ فقالت: والله لأبو محجن كان من أمره كذا وكذا. فقصّت عليه قصّته. فدعا به وحلّ قيوده، وقال: لا نجلدك على الخمر (2) أبدا. قال أبو محجن: وأنا والله لا أشربها أبدا. كنت آنف أن أدعها من أجل جلدكم. قال: فلم يشربها بعد ذلك.
وروى صاحب الاستيعاب بسنده إلى إبراهيم بن محمد بن سعد بن أبي وقّاص عن أبيه، قال:
لمّا كان يوم القادسيّة أتي سعد بأبي محجن، وهو سكران من الخمر، فأمر به إلى القيد، وكان سعد به جراحة، فلم يخرج يومئذ إلى الناس، واستعمل على الخيل خالد بن عرفطة، ورفع سعد فوق العذيب (3) لينظر إلى الناس (4)، فلما التقى الناس قال أبو محجن:
__________
(1) خاس بعهده: نقضه. والحواني: الخمارات.
(2) ويسوق ابن سلام القصة مختصرة في طبقاته 1/ 269268.
وفي حاشية طبقات فحول الشعراء ص 269: = روى الطبري 4: 114، أن سعدا حبس أبا محجن وسواه من الناس وقيدهم في القصر، إذ كانوا قد اختلفوا عليه وشغبوا، فحبسهم. وانظر أيضا الطبري 4: 124123.
وروى ابن عبد البر، أن عمر حدّه في الخمر ثماني مرات، فأبى أن يقلع. فلما كان يوم القادسية وقال له سعد ما قال، قال لسعد: كنت آنف أن أدعها من أجل جلدكم. غفر الله له ورضي عنه كان ما أنبله =.
(3) العذيب بهيئة التصغير: ماء بين القادسية والمغيشه.
(4) في النسخة الشنقيطية: = ينتظر إلى الناس =. وهو تصحيف صوابه من طبعة بولاق والاستيعاب.(8/410)
وقد أجود وما مالي بذي فنع ... وقد أكرّ وراء المجحر البرق (1)
قد يقتر المرء يوما وهو ذو حسب ... وقد يثوب سوام العاجز الحمق (2)
ويكثر المال يوما بعد قلّته ... ويكتسي العود بعد الجدب بالورق
فقال له معاوية: لئن أسأنا [لك] القول، لنجزل [لك] العطيّة (3). ثم أجزل جائزته، وقال: إذا ولدت النساء، فلتلد مثلك!
وزعم الهيثم بن عديّ أنّه أخبره من رأى قبر أبي محجن الثقفي بأذربيجان، أو قال: في نواحي جرجان، وقد نبتت عليه ثلاث أصول كرم وقد طالت وأثمرت، وهي معرّشة على قبره، مكتوب على القبر: «هذا قبر أبي محجن» قال: فجعلت أتعجّب وأذكر قوله:
* إذا متّ فادفنّي إلى جنب كرمة *
هذا ما اخترته من الاستيعاب.
وروى ابن الأعرابي في «شرح ديوان أبي محجن» عن ابن الكلبي أنّه قال:
أخبرنا عوانة قال: دخل عبيد بن أبي محجن على عبد الملك، فقال له عبد الملك:
أبوك الذي يقول من قصيدة:
* إذا متّ فادفّني إلى جنب كرمة *
__________
(1) في طبعة بولاق: = بذي قنع =. بالقاف. وهو تصحيف صوابه من النسخة الشنقيطية والديوان.
والبيت لأبي محجن في ديوانه ص 21ولسان العرب (فنع).
وفي شرح ديوانه ص 21: = ذو فنع: ذو كثرة، وأصل الفنع الحسن والفنع أيضا: الطيب الرائحة، ومنه يقال: مسك ذو فنع. والمجحر: المضيّق عليه في الحرب، وأصله من الجحر، وقد أجحره الشيء ضيّق عليه.
والبرق: الشاخص البصر =.
(2) في شرح ديوانه ص 20: = الإقتار: الإقلال. والحسب: ما يعدّه الإنساب لنفسه من مناقبه ومناقب آبائه، وهو من الحساب. ويثوب: يكثر. ويكون المعنى: أنهم يثوبون إليه في كل سنة، أي يرجعون. والسوام: المال الراعي، وأسمته رعيته، والعاجز الضعيف. والحمق: الأحمق، واصل الحمق اللين، ومنه البقلة الحمقاء، وسميت الخمر حمقاء للينها =.
(3) في الاستيعاب: = لئن كنا أسأنا القول لنحسنن لك الصفد =.(8/413)
فقال: لا يا أمير المؤمنين، ولكن أبي الذي يقول:
لا تسأل القوم عن مالي وكثرته ... إلى آخر الأبيات المذكورة
ونقل ابن حجر في «الإصابة» عن ابن فتحون «فيما كتبه على أوهام الاستيعاب» أنّه عاب أبا عمر على ما ذكر في قصة أبي محجن أنّه كان منهمكا في الشّراب، فقال: كان يكفيه ذكر حدّه عليه، والسكوت عنه أليق.
والأولى في أمره ما أخرجه سيف في «الفتوح»: أنّ امرأة سعد سألته فيما حبس (1)؟ فقال: والله ما حبست على حرام أكلته ولا شربته، ولكنّي كنت صاحب شراب في الجاهلية، فجرى كثيرا على لساني وصفها، فحبسني بذلك، فأعلمت بذلك سعدا، فقال: اذهب، فما أنا بمؤاخذك بشيء تقوله، حتّى تفعله.
قال ابن حجر: وسيف ضعيف، والروايات التي ذكروها أقوى وأشهر. وأنكر ابن فتحون قول من روى أنّ سعدا أبطل عنه الحدّ، وقال: لا يظنّ هذا بسعد! ثم قال: لكن له وجه حسن، ولم يذكروه.
وكأنّه أراد أنّ سعدا أراد بقوله لا يجلده في الخمر (2) بشرط أضمره، وهو إن ثبت عليه أنّه يشربها. فوفّقه الله أن تاب توبة نصوحا فلم يعد إليها، كما في بقية القصّة.
وقوله في القصة: «الضّبر ضبر البلقاء» هو بالضاد المعجمة والباء الموحّدة:
عدو الفرس. ومن قاله بالصاد المهملة فقد صحّف. نبّه عليه ابن فتحون.
(تتمة)
سمّاه الآمديّ في «المؤتلف والمختلف» (3) على خلاف ما تقدّم مع بعض تغيير في أسماء آبائه. قال: هو حبيب بن عمرو بن عمير بن عوف بن عقدة بن غيرة الثقفي.
__________
(1) كذا في طبعة بولاق والإصابة، بإبقاء الألف، وهي لغة قرئ بها: = عما يتساءلون =. وفي النسخة الشنقيطية:
= فيم حبس =.
(2) في طبعة بولاق: = لا تجلده =. وهو تصحيف صوابه من النسخة الشنقيطية والإصابة.
(3) المؤتلف والمختلف ص 133.(8/414)
وقوله: «فلما رأى» فاعله ضمير الحليف. وقوله: «أكبّ» هو جواب لمّا.
يقال: أكبّ على كذا، أي: لازمه. و «يحدّ»: مضارع أحدّه، أي: جعله حديدا قاطعا.
و «الغراب»، بضم المعجمة: رأس الفأس القائم ولها رأسان، فالرأس العريض يقال له: قدوم، والآخر يقال له غراب.
قال صاحب الصحاح: الذّكر من الحديد: خلاف الأنيث. وسيف ذكر ومذكّر، بفتح الكاف المشدودة، أي: ذو ماء.
وقال أبو عبيد: هي سيوف شفراتها حديد ذكر ومتونها أنيث. قال: ويقول الناس إنّها من عمل الجنّ. انتهى.
والذكر هو الفولاذ والصّلب. والأنيث، هو الحديد المعروف. و «المعاول»:
جمع معول بكسر الميم وفتح الواو، وهي الفأس العظيمة التي ينقر بها الصّخر.
و «الباترة»: القاطعة. و «الذّحل»، بفتح الذال المعجمة وسكون الحاء المهملة:
الثّأر والحقد. وكانت، أي: الحيّة.
و «خاس بالعهد» بإعجام الأوّل، وإهمال الآخر، بمعنى غدر به. وأراد بقهرها إيّاه قطع العطيّة من الدّية. أو تنجزي: إلى أن تنجزي.
وقوله: «يمين الله أفعل»، أي: أقسم بمينا بالله لا أفعل، أي: لا أعطي.
كما كنت أعطيك. أو بمعنى لا أقبل عهدك بعد هذا.
و «المسحور»: المخدوع، يقال: سحره، أي: خدعه وعلّله. وأرادت:
إنّك إنسان خادع غدّار. و «فاقرة»: قاطعة، يقال: فقر الحبل أنف البعير، إذا حزّه وأثّر فيه.
وهذه الأبيات موقوفة على سماع حكاية هي من أكاذيب العرب، قال أبو عمرو الشّيباني وابن الأعرابي (1): ذكروا أنّ أخوين كانا فيما مضى في إبل لهما، فأجدبت بلادهما وكان قريبا منهما واد، يقال له: عبيدان فيه حيّة قد أحمته (2) فقال أحدهما
__________
(1) الخبر بتفاصيله في شرح ديوانه صنعة الأعلم الشنتمري ص 155154.
(2) كذا في طبعة بولاق والنسخة الشنقيطية. وفي شرح ديوانه صنعة الأعلم: = قد حمته =.
يقال: أحمى المكان، جعله حمى لا يقرب.(8/419)
لصاحبه (1): هل لك في وادي الحيّة، فإنّه ذو كلإ (2)؟
فقال أخوه: إنّي أخاف عليك الحيّة، ألا ترى أنّ أحدا لم يهبط ذلك الوادي إلّا أهلكته؟ فقال: والله لأفعلنّ! فهبط ذلك الوادي فرعى فيه إبله، فبينا هو ذات يوم في آخر الإبل نائم إذ رفعت الحيّة رأسها فأبصرته، فأتته فقتلته (3)، ثمّ دخلت جحرها، وأبطأت الإبل على أخيه فعرف أنّه قد هلك، فقال: ما في الحياة بعد أخي خير، ولأطلبنّ الحيّة، ولأقتلنّها، أو لأتبعنّ أخي.
فهبط ذلك الوادي فطلب الحيّة، ليقتلها، فقالت له: ألست ترى أنّي قد قتلت أخاك، فهل لك في الصّلح، فأدعك ترعى الوادي فتكون فيه، وأعطيك ما بقيت دينارا يوما ويوما لا؟ قال: أو فاعلة أنت؟ قالت: نعم. قال: فإنّي أقبل. فحلف لها وأعطاها المواثيق لا يضرّها، وجعلت تعطيه ما ضمنت له، فكثر ماله ونبتت إبله، حتّى صار من أحسن الناس حالا.
ثم إنّه ذكر أخاه ذات يوم فدمعت عيناه، وقال: كيف ينفعني العيش، وأنا أنظر إلى قاتل أخي؟ فعمد إلى فأس فأحدّها (4)، ثم قعد، فمرّت به، فتبعها، وضربها فأخطأها، ودخلت جحرها، ووقعت الفأس فوق جحرها فأثّرت فيه، فلمّا رأت ما فعل، قطعت عنه الدّينار الذي كانت تعطيه.
فلمّا رأى ذلك تخوّف شرّها وندم، فقال لها: هل لك أن نتواثق ونعود إلى ما كنّا عليه؟ فقالت (5): «كيف أعاودك وهذا أثر فاسك»، وأنت ترى قبر أخيك، وأنت فاجر لا تبالي بالعهد.
وكان حديث الحيّة والفأس من مشهور أمثال العرب.
قال أبو عبيدة: لمّا حجّ عبد الملك بن مروان أوّل حجّة حجّها في خلافته، قدم المدينة، فخطب، فقال: يا أهل المدينة، والله لا تحبّوننا ولا نحبّكم أبدا، وأنتم
__________
(1) في شرح الديوان: = أحدهما لأخيه =.
(2) في شرح الديوان: = يا فلان لو أتيت هذا الوادي المكلئ فرعيت فيه إبلي فأصلحتها =.
(3) في شرح الديوان: = ثم إن الحية نهشته فقتلته =.
(4) في شرح ديوانه ص 155: = إلى فأس فأخذها =.
(5) هو من مشهور أمثال العرب وهو في أمثال العرب ص 178، 179والدرة الفاخرة 2/ 388ومجمع الأمثال 2/ 145، 326.(8/420)
على «ما» المصدرية أو على المخففة. ولو نصبت لحذفت النون من «تقرآن».
قال ابن جني في «الخصائص» (1): سألت أبا عليّ، رحمه الله [تعالى] عنه، فقال: هي مخفّفة من الثقيلة، كأنه قال: أنّكما تقرآن، إلّا أنه خفّف من غير تعويض.
وحدّثنا أبو بكر محمد بن الحسن عن أحمد بن يحيى (2)، قال: شبّه «أن» بما، فلم يعملها كما لا يعمل ما. انتهى.
وزاد في «سرّ الصناعة»: وهذا مذهب البغداديّين. وفي هذا بعد. وذلك أنّ «أن» لا تقع إذا وصلت حالا أبدا، إنّما هي للمضيّ أو للاستقبال، نحو: سرّني أن قام، ويسرّني أن يقوم [غدا]. ولا تقول: يسرني أن يقوم، وهو في حال القيام.
و «ما»: إذا وصلت بالفعل وكانت مصدرا فهي للحال أبدا، نحو قولك: ما تقوم حسن، أي: قيامك الذي أنت عليه حسن، فيبعد تشبيه واحدة منهما، بالأخرى وكلّ واحدة منهما، لا تقع موقع صاحبتها.
قال أبو علي: وأولي، أن المخففة من الثقيلة، الفعل بلا عوض ضرورة. وهذا على كل حال، وإن كان فيه بعض الضعف، أسهل مما ارتكبه الكوفيّون. انتهى.
وكذلك قال في «شرح تصريف المازني» (3): سألت أبا علي عن إثبات النون في «تقرآن» بعد أن، فقال: «أن» مخففة من الثقيلة، وأولاها الفعل بلا فصل للضرورة. فهذا أيضا من الشاذّ عن القياس والاستعمال جميعا، إلّا أنّ الاستعمال إذا ورد بشيء أخذ به وترك القياس، لأنّ السماع يبطل القياس.
قال أبو علي: لأنّ الغرض فيما ندوّنه من هذه الدواوين، ونقنّنه (4) من هذه القوانين، إنما هو ليلحق من ليس من أهل اللغة بأهلها، ويستوي من ليس بفصيح
__________
(1) الخصائص 1/ 390وشرح أبيات المغني للبغدادي 1/ 135.
(2) زاد في شرح أبيات المغني: = وأحمد بن يحيى هو ثعلب أحد أئمة الكوفيين، والمحدث هو ابن السراج شيخ أبي علي الفارسي =.
(3) المنصف 1/ 278.
(4) في المنصف 1/ 279: = ونثبته =.(8/422)
وصحّة محمل البيت عندهم على أنّها المخفّفة من الثقيلة، أي: أنّكما تقرآن.
وأن وما بعدها، في موضع البدل من قوله: «حاجة»، لأنّ حاجته قراءة السلام عليها.
وقد استبعدوا تشبيه «أن» ب «ما»، لأنّ «ما» مصدر معناه الحال، و «أن» وما بعدها مصدر إمّا ماض وإمّا مستقبل، على حسب الفعل الواقع بعدها، فلذلك لا يصحّ أحدهما بمعنى الآخر (1). انتهى.
ونقل ابن هشام في «المغني» خلاف هذا، قال في بحث أن المخفّفة وقد (2) يرفع الفعل بعدها كقراءة ابن محيصن: «لمن أراد أن يتمّ الرّضاعة».
وكقول الشاعر:
* أن تقرآن على أسماء ويحكما *
وزعم الكوفيون أنّ «أن» هذه هي المخففة من الثقيلة شذّ اتّصالها بالفعل.
والصّواب قول البصريين، أنّها أن الناصبة أهملت حملا على أختها «ما» المصدرية.
هذا كلامه.
وقوله: «أن تحملا حاجة» في موضع نصب بفعل مضمر دلّ عليه ما تضمّنه البيت الأوّل من النداء والدعاء. والمعنى: أسألكما أن تحملا.
وقول ابن جني: التقدير أنّكما تقرآن إشارة إلى أنّ اسم «أن» ضمير محذوف، وهو ضمير التثنية.
وقد ذهب ابن هشام في «موضعين من المغني» كالشارح المحقق. إلى أنّها في البيت هي الخفيفة الناصبة للمضارع، قال في القاعدة الحادية عشرة من الباب الثامن:
من ملح كلامهم تقارض اللفظين في الأحكام، ولذلك أمثله منها إعطاء أن المصدرية حكم «ما» في الإهمال، كقوله:
* أن تقرآن على أسماء ويحكما * البيت
__________
(1) في شرح المفصل 8/ 143: = حمل إحداهما على الأخرى =.
(2) في النسخة الشنقيطية: = قد = بحذف الواو.(8/425)
وأدغمت التاء في الظاء، وحذفت نون الرفع.
وفي الحديث: «لا تدخلوا الجنّة حتّى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتّى تحابّوا»، فحذف النون من الفعلين المنفيّين. فعليه يخرّج «كما تكونوا» إن ثبت. ولا حاجة إلى ارتكاب أمر لم يثبت.
ولم يهتد أبو البقاء لمراد الزمخشريّ في تشبيه أن، بما.
قال تلميذه الإمام الأندلسي في «شرح المفصّل»:
قال أبو البقاء: إن أراد تشبيه أن بما النافية فهو تشبيه بعيد، لأنّ أن تقرآن في الشعر إيجاب فهو ضدّ للنفي. وتشبيه الإثبات بالنفي بعيد خصوصا في باب العمل والإلغاء. وإن أراد بما الزائدة فهو أقرب، ويؤيّد ذلك قراءة ابن مجاهد: «لمن أراد أن يتمّ الرّضاعة (1)».
ثم قال: قلت ما ذكره شيخنا خال عن التحقيق، بل المشبّه بها هاهنا ما المصدرية، في أنّها تطلب [صلة (2)] وتقدّر معها تقدير المفرد، فتقسيم الشيخ ضائع.
ومن أراد إبطال شيء بالتقسيم، فطريقه أن يحصر الأقسام بأسرها، ثم يبطل قسما قسما. والشيخ لم يفعل ذلك.
واستدلاله أيضا بقراءة ابن مجاهد على أنّها زائدة عجيب، والأجود أن يقال:
إنّها في البيت مفسّرة بمعنى أي، وتكون تفسيرا للحاجة المذكورة في البيت المتقدّم.
انتهى كلام الأندلسيّ.
وهذا تخريج ثالث للبيت، تبعه جماعة، فجعلوا أن تقرآن تفسيرا لحاجة.
قال الشارح المحقق في آخر الكتاب أن لا تفسّر إلّا مفعولا مقدّر اللفظ، دالّا على معنى القول مؤدّيا معناه. وقد تفسّر المفعول به الظاهر كقوله تعالى (3): {«إِذْ}
__________
في القراءات الشاذة لابن خالويه ص 113إلى يحيى الذماري. وقال ابن خالويه: = تشديده لحن لأنه فعل ماض، وإنما تشدد في المضارع = ورد عليه أبو حيان بقوله: = وله تخريج في اللسان، وذلك أنه مضارع حذفت منه النون، وقد جاء حذفها في قليل من الكلام وفي الشعر =.
(1) سورة البقرة: 2/ 233.
(2) زيادة يقتضيها السياق من طبعة هارون 8/ 426.
(3) سورة طه: 20/ 39.(8/427)
{أَوْحَيْنََا إِلى ََ أُمِّكَ مََا يُوحى ََ أَنِ اقْذِفِيهِ»}. انتهى.
ولا يخفى أنّ الحمل ليس فيه معنى القول، فلا يجوز جعل أن تفسيرية. فتأمّل.
وقوله: «يا صاحبيّ فدت نفسي» إلخ، الجملة الدعائية وهي فدت نفسي إلخ، والجملة الشرطية المراد بها الدّعاء أيضا وهي المصراع الثاني وقع الاعتراض بهما بين قوله: «يا صاحبي»، وبين قوله: «أن تحملا». وأن تحملا في تأويل مصدر إمّا منصوب بفعل مقدّر هو المقصود بالنداء، تقديره: أسألكما أن تحملا، أي: حمل حاجة لي. وإمّا مجرور بلام محذوفة مع فعل يدلّ على النداء، أي:
أناديكما أو أدعو كما لأن تحملا.
ويجوز أن يكون مفعولا لأجله وعامله محذوف يدلّ عليه الدعاء لهما، وتقديره:
أدعو لكما لأجل حملكما حاجة لي. وعلى هذا لا اعتراض في الكلام، ويكون المقصود بالنداء هو الجملة الدعائية.
و «المحمل»، بفتح الميمين: مصدر ميمي بمعنى الحمل. وعطف اليد على النّعمة تفسيريّ.
وروى شارح اللّباب وغيره:
* تستوجبا منّة عندي بها ويدا *
وهذا يقتضي أن يكون قوله: «أن تحملا» شرطا، و «تستوجبا» جوابه.
فإن على هذا إما مكسورة وإمّا مفتوحة، وهي حرف شرط كالمكسورة، وهو مذهب الكوفيّين، وتبعهم الشارح المحقق وابن هشام في «المغني».
وقوله: «أن تقرآن» هو إمّا بدل من قوله: حاجة، وإمّا خبر مبتدأ محذوف، أي: هي أن تقرآن. والجملة استئناف بيانيّ. كذا في شرح اللباب وغيره.
وقال ابن المستوفي: هو بدل من قوله: أن تحملا. وإن كان «أن» تفسيرية فلا محلّ لما بعدها من الإعراب.
قال الزمخشري في «أساس البلاغة» (1): يقال: اقرأ سلامي على فلان، ولا
__________
(1) أساس البلاغة: (قرأ).(8/428)
وقوله تعالى (1): {«وَكََانُوا فِيهِ مِنَ الزََّاهِدِينَ».}
قال ابن جني عند قول الحماسيّ (2): (الطويل)
ولا يحمل القوم الكرام أخاهم ال ... عتيد السّلاح عنهم أن يمارسا
أراد: في ترك أن يمارس، فحذف «في» أوّلا، ثم «ترك»، ومعناه أن يمارس عنهم. إلّا أنّ إعرابه الآن يمنع من حمله عليه، لما في ذلك من تقديم بعض الصّلة على الموصول. فإذا كان كذلك أضمر لحرف الجرّ ما يتناوله، ودلّ عليه يمارس.
ومثله قول العجاج:
* كان جزائي بالعصا أن أجلدا *
وقال أيضا بعده، عند قول الحماسي من بيت (3): (البسيط)
* والله أعلم بالصّمّان ما جشموا *
المعنى والله أعلم: ما جشموا بالصّمّان. فإن حملته على هذا كان لحنا، لتقديم ما في الصّلة على الموصول. لكن تجعله تبيينا فتعلّقه بمحذوف يدلّ عليه الظاهر. وهو باب فاعرفه.
وقد تكلّم على التبيين بأبسط من هذا في «شرح تصريف المازني»، قال: إن كان على تقدير أن أجلد بالعصا فخطأ، لأنّ الباء في صلة أن، ومحال تقديم شيء من الصلة على الموصول، ولكنّه جعل الباء تبيينا ومثله قوله تعالى (4): {«وَكََانُوا فِيهِ مِنَ الزََّاهِدِينَ»} فلمّا قدّم جعل تبيينا فأخرج عن الصلة.
__________
(1) سورة يوسف: 12/ 20.
(2) البيت لحسيل بن سجيح الضبي في الحماسة برواية الجواليقي ص 161وشرح الحماسة للأعلم 1/ 431 وشرح الحماسة للتبريزي 2/ 65وشرح الحماسة للمرزوقي ص 571.
(3) عجز بيت لمحرز بن المكعبر وصدره:
* حتى أتى علم الدّهنا يواعسه *
والبيت لمحرز بن المكعبر الضبي في الحماسة برواية الجواليقي ص 162وشرح الحماسة للأعلم 1/ 333وشرح الحماسة للتبريزي 2/ 66وشرح الحماسة للمرزوقي ص 573.
(4) سورة يوسف: 12/ 20.(8/431)
644 - وشفاء غيّك خابرا أن تسألي
على أنّ تقدّم «خابرا» على «أن» نادر، أو هو منصوب بفعل يدلّ عليه المذكور، والتقدير: تسألين خابرا.
ولم يذكر التخريج الثاني في البيت الذي قبله لأنّه لا يتأتّى هنا، فإنّ خابرا منصوب.
قال ابن السرّاج في «الأصول»: ولا يجوز عند الفراء إذا قلت أقوم كي تضرب زيدا: أقوم زيدا كي تضرب. والكسائيّ يجيزه، وينشد:
* وشفاء غيّك خابرا أن تسألي *
وقال الفراء: خابرا حال من الغيّ. اه.
ونقله صاحب اللباب، فقال: ولا يجوز: قمت زيدا كي أضرب، كما لا يجوز: أريد زيدا أن أضرب، خلافا للكسائي.
وقوله:
* وشفاء غيّك خابرا أن تسألي *
مما يعضد مذهبه. والفراء يجعل المنصوب حالا من الغي على ما حكاه ابن السّرّاج. اه.
وقول الفراء في البيت لا وجه له، فإنّ «خابرا» اسم فاعل من خبرته أخبره، من باب نصر، خبرا بالضم، إذا علمته. وهو بالخاء المعجمة والباء الموحّدة.
ف «الخابر»: العالم.
و «الغيّ»، بفتح الغين المعجمة: مصدر غوى غيّا، من باب ضرب، أي:
انهمك في الجهل، وهو خلاف الرّشد، والاسم الغواية بالفتح.
والمصراع عجز، وصدره:
هلّا سألت وخبر قوم عندهم ... وشفاء غيّك خابرا أن تسألي
وبعده (1):(8/434)
هلّا سألت وخبر قوم عندهم ... وشفاء غيّك خابرا أن تسألي
وبعده (1):
هل نكرم الأضياف إن نزلوا بنا ... ونسود بالمعروف غير تنحّل
فلا يمكن تخريج البيت إلّا على ما ذكره الشارح المحقق أو الكسائي.
ولا يصحّ جعل خابرا حالا من الغي ولا من الكاف، فإنّ الغيّ لا يتّصف بالخبر، إذ هو ضدّه. وكذلك المخاطبة لا تتّصف به، لأنّها متّصفة بالغي، ولعدم قوله خابرة بالتأنيث.
وقد تصحّف على شارح اللباب لفظتان منه: الأولى: الغيّ تصحّفت عليه بالعين المهملة المكسورة.
والثانية: قوله خابرا، تصحّفت عليه بجابر بالجيم، فإنّه قال بعد عبارة اللباب:
هكذا ذكره المصنّف، وفيه نظر:
أما أوّلا فلأنه يتعلق بالقصّة، فإن كان جابر اسم رجل، فالحقّ ما ذكره الكسائي، وإن لم يكن اسم رجل، جاز أن يكون فاعلا من الجبر، فالحقّ ما ذكره الفراء. وإن كان مجهول الحال، احتمل الوجهين.
وأما ثانيا، فلأنّ وصف الشفاء بالجبر، كان أولى من وصف العيّ به، فإنّ العيّ، والعجز ليس سبب الجبر والصّلاح، بل هو سبب الاختلال، والشفاء والخلاص عن العيّ هو الجابر للاختلال. فلعلّ تأويله أنّ العيّ سبب السؤال، والحامل عليه، والسؤال سبب الشفاء والجبر. فجاز أن يجعل العيّ شافيا، إسنادا للأثر إلى سبب السبب.
هذا كلامه.
وهو في هذا معذور، لأنه لم يقف على أصل الشعر.
وقد أورد البيت بمصراعيه ابن الأنباريّ والقالي في تأليفهما في «المقصور والممدود». شاهدا للممدود المكسور أوّله، وهو الشفاء.
ورأيت في «الحماسة البصرية»: قالت امرأة من بني سليم (2):
__________
(1) البيت لربيعة بن مقروم الضبي في ديوانه ص 273والأغاني 22/ 104.
(2) الحماسة البصرية 2/ 27.(8/435)
أوجيته عنّي فأبصر قصده ... وكويته فوق النّواظر من عل (1)
وأخي محافظة عصى عذّاله ... وأطاع لذّته معمّ مخول
هشّ يراح إلى النّدى نبّهته ... والصّبح ساطع لونه لم ينجل (2)
فأتيت حانوتا به فصبحته ... من عاتق بمزاجها لم تقتل (3)
صهباء صافية القذى أغلى بها ... يسر كريم الخيم غير مبخّل (4)
ولقد أصبت من المعيشة لينها ... وأصابني منه الزّمان بكلكل (5)
فإذا وذاك كأنّه ما لم يكن ... إلّا تذكّره لمن لم يجهل
ولقد أتت مائة عليّ أعدّها ... حولا فحولا لو بلاها مبتلي (6)
فإذا الشّباب كمبذل أنضيته ... والدّهر يبلي كلّ جدّة مبذل (7)
ومن هذه القصيدة في وصف امرأة، روى صاحب الأغاني بسنده إلى الهيثم بن عديّ، عن حمّاد الراوية، قال (8):
دخلت على الوليد بن يزيد وهو مصطبح، وبين يديه معبد، ومالك، وابن عائشة، وأبو كامل، وحكم الواديّ، وعمر الواديّ، يغنّونه، وعلى رأسه وصيفة تسقيه، لم أر مثلها تماما وكمالا وجمالا، فقال لي: يا حمّاد، إني أمرت هؤلاء أن يغنّوا صوتا يوافق صفة هذه الوصيفة، وجعلتها لمن وافق صفتها نحلة (9)، فما أتاني
__________
(1) البيت لربيعة بن مقروم في الحماسة برواية الجواليقي ص 34وشرح أبيات المغني للبغدادي 3/ 359وشرح الحماسة للأعلم 1/ 266وشرح الحماسة للتبريزي 1/ 34.
أوجيته: دفعته. وفوق النواظر: أراد فوق الجبين والنواظر.
(2) الهش: الذي يرتاح للشيء، وأراد للكرم. ويراح: يرتاح أيضا. والندى: الكرم.
(3) العاتق: الجيد المعتق من الخمر.
(4) الصهباء: الخمرة المعصورة من عنب أبيض. وأغلى بها: بالغ وجاوز الحد. واليسر: المقامر. والخيم: الخلق والسجية.
(5) الكلكل لغة: الصدر، واستعاره هنا للهموم والمصائب.
(6) في طبعة بولاق: = لا بلاها =. وهو تصحيف صوابه من النسخة الشنقيطية.
(7) المبذل: الثوب الذي يلبس ويمتهن ولا يصان. وأنضيت الثوب: أخلقته وأبليته.
(8) الأغاني 22/ 101.
(9) النحلة بالكسر: العطاء والهبة.(8/438)
واحد منهم بشيء، فأنشدني أنت ما يوافق صفتها، وهي لك. فأنشدته قول ربيعة ابن مقروم الضّبّيّ (1):
شمّاء واضحة العوارض طفلة ... كالبدر من خلل السّحاب المنجلي (2)
وكأنّ فاها بعد ما طرق الكرى ... كأس تصفّق بالرّحيق السّلسل
لو أنّها عرضت لأشمط راهب ... في رأس مشرفة الذّرى متبتّل (3)
لصبا لبهجتها وطيب حديثها ... ولهمّ من ناموسه بتنزّل (4)
فقال الوليد: أصبت وصفها فاخترها، أو ألف دينار. فاخترت الألف الدّينار (5).
وهذه القصيدة من فاخر الشعر، وجيّده. فمن مختارها ونادرها قوله (6):
بل إن تري شمطا تفرّع لمّتي ... وحنى قناتي وارتقى في مسحلي (7)
ودلفت من كبر كأنّي خاتل ... قنصا ومن يدبب لصيد يختل (8)
ولقد أرى حسن القناة قويمها ... كالنّصل أخلصه جلاء الصّيقل
و «ربيعة» هو ابن مقروم بن قيس بن جابر بن خالد بن عمرو بن غيظ بن السيد
__________
(1) الأبيات لربيعة بن مقروم الضبي في ديوانه ص 267266والأغاني 22/ 102101.
(2) الشمم: ارتفاع قصبة الأنف، وهو كناية عن الكرم والرفعة والعلو. والعوارض: الثنايا، مفرده عارض.
والطفلة: المرأة الرخصة اللينة.
(3) الأشمط: المختلط سواد شعره ببياض. ورأس مشرفة الذرى، أي في رأس قمة عالية، وأراد المتعبد الزاهد في رأس جبل. والمتبتل: المتعبد.
(4) لصبا: جواب = لو = في البيت السابق. والناموس: بيت الراهب.
(5) في طبعة بولاق والنسخة الشنقيطية: = الألف دينار =. وهو تصحيف صوابه من الأغاني 22/ 102. وذلك لعدم جواز إضافة أل إلى ما هو نكرة.
(6) الأبيات في ديوانه ص 268267والأغاني 22/ 102.
(7) في طبعة بولاق: = شمطاء =. وهو تصحيف صوابه من الأغاني والنسخة الشنقيطية.
البيت خطاب للمحبوبة. والشمط: ابيضاض يخالط سواد الشعر. وتفرع لمتي: انتشر وتفشى فيها. وحنا قناتي:
أي قوّس ظهري. والمسحل: جانب اللحية.
(8) الدلف: فوق الدبيب. والختل: الخداع. والقنص: الصيد. شبه مشية الشيخ الوئيد، بمشية من يريد مباغتة الطير ليصيده، فهو يتئد في سيره، حتى لا يحدث حركة.(8/439)
ابن مالك بن بكر بن سعد بن ضبّة بن أدّ بن طابخة بن إلياس بن مضر بن نزار.
وهو شاعر مخضرم أدرك الجاهلية والإسلام (1)، وكان ممّن أصفق عليه كسرى (2)
ثم عاش في الإسلام زمانا (3). كذا في الأغاني.
وزاد على هذا ابن الأنباري في «شرح المفضليات»: وهو مسلم وشهد القادسية (4).
وزاد ابن قتيبة في «كتاب الشعراء» (5): شهد القادسية وجلولاء. وهو من شعراء مضر المعدودين.
وقد ذكره ابن حجر في «قسم المخضرمين من الإصابة» ونقل عن المرزبانيّ (6)
أنه قال: كان ربيعة بن مقروم أحد شعراء مضر في الجاهلية والإسلام، ثم أسلم وشهد القادسية وغيرها من الفتوح، وعاش مائة سنة.
وأما البيتان الأخيران فهما من قصيدة جيّدة أيضا لسعية (7) بن عريض اليهوديّ الخيبريّ، وهو أخو السموءل بن عريض بن عادياء، الذي يضرب به المثل في الوفاء.
وأول القصيدة (8): (السريع)
لباب يا أخت بني مالك ... لا تشتري العاجل بالآجل
__________
(1) انظر في ترجمته وأخباره الأغاني 22/ 97وسمط اللآلئ ص 37وشرح المفضليات ص 355والشعر والشعراء ص 236والمؤتلف والمختلف ص 182.
(2) هذه إشارة إلى يوم الصفقة، وهو اليوم الذي نكّل فيه كسرى ببني تميم، أخذ أموالهم وسبى نساءهم وسبى أولادهم بمدينة هجر من أرض البحرين. وكان بنو تميم أغاروا على لطيمة لكسرى فيها مسك وعنبر وجوهر كثير.
فسميت تلك الوقعة بيوم الصفقة.
(3) في النسخة الشنقيطية: = ثم عاش زمانا =.
(4) الإصابة 2/ 220.
(5) الشعر والشعراء ص 236.
(6) في طبعة بولاق والنسخة الشنقيطية: = المرزبان =. وهو تصحيف.
(7) في طبعة بولاق والنسخة الشنقيطية: = لسعيد =. وهو تصحيف سبق لنا أن صوبناه آنفا.
(8) الأبيات لسعية بن العريض في الأغاني 22/ 123. وبعضها للربيع بن أبي الحقيق في البيان والتبيين 1/ 213 وطبقات فحول الشعراء ص 282281ولباب الآداب ص 358.(8/440)
لباب هل عندك من نائل ... لعاشق ذي حاجة سائل
علّلته منك بما لم ينل ... يا ربّما علّلت بالباطل
لباب داويني ولا تقتلي ... قد فضّل الشّافي على القاتل
إن تسألي بي فاسألي خابرا ... فالعلم قد يلفى لدى السّائل (1)
ينبيك من كان بنا عالما ... عنّا وما العالم كالجاهل
إنّا إذا جارت دواعي الهوى ... وأنصت السّامع للقائل
واعتلج القوم بألبابهم ... في المنطق الفائل والفاصل (2)
لا نجعل الباطل حقّا ولا ... نلطّ دون الحقّ بالباطل (3)
تخاف أن تسفه أحلامنا ... فنخمل الدّهر مع الخامل (4)
روى صاحب الأغاني (5) بسنده إلى العتبي، قال: كان معاوية يتمثّل كثيرا إذا اجتمع الناس في مجلسه بهذا الشعر:
* إنّا إذا مالت دواعي الهوى *
الأبيات الأربعة.
روى أيضا (6) بسنده إلى يوسف بن الماجشون، قال: كان عبد الملك بن مروان إذا جلس للقضاء بين الناس، أقام وصيفا على رأسه ينشده:
إنّا إذا مالت دواعي الهوى ... وأنصت السّامع للقائل
واصطرع القوم بألبابهم ... نقضي بحكم فاصل عادل
__________
(1) الخابر: العالم المتثبت الذي اختبر حقيقة الشيء.
(2) اعتلج القوم: تدافعوا وتصارعوا. والفائل: الخاطئ الضعيف. يقول: إذا غليت الأهواء عند المخاصمة، واصطرعت عقول أهل الجدال والمنازعة، فلسنا بالذي يقبل جورا من عدوه، أو يرضى أن ينزل الجور بعدوه.
(3) لط الشيء: ستره أو كتمه.
(4) سفه حلمه ونفسه ورأيه: استخفه حتى طاش، من السفاهة وهي خفة العقل والجهل. والخامل: الخفي الساقط الذي لا نباهة له ولا ذكر.
(5) الأغاني 22/ 123.
(6) الأغاني 22/ 124.(8/441)
{«وَلَقَدْ مَكَّنََّاهُمْ فِيمََا إِنْ مَكَّنََّاكُمْ فِيهِ»} على أن «إن» في الآية صلة، كما في البيت.
ومثله لابن هشام في «المغني»، قال: وقد تزاد إن بعد «ما» الموصولة الاسميّة. وأنشد البيت.
ولم يذكر الزمخشري في «المفصل» زيادة إن هذه إلّا بعد ما النافية ثم قال:
وقد يقال: انتظرني ما إن جلس القاضي، أي: مدّة جلوسه.
وصرّح ابن الحاجب بقلّتها بعدها.
وهذه الرواية هي رواية أبي زيد وابن الأعرابي في «نوادرهما»، وأنشداه بين بيتين، والأصل (1):
فإن أمسك فإنّ العيش حلو ... إليّ كأنّه عسل مشوب
يرجّي العبد ما أن لا يراه ... وتعرض دون أدناه الخطوب
وما يدري الحريص علام يلقي ... شراشره أيخطئ أم يصيب
قال أبو زيد: قوله: إليّ في معنى عندي. و «الشّراشر»: الثّقل ثقل النفس.
انتهى.
وقال [أبو] الحسن الأخفش في «شرح نوادر أبي زيد»: وروى أبو حاتم:
«ما لا إن يلاقي» بتأخير إن المكسورة الهمزة.
ورواية: «ما إن لا يلاقي» بتقديم «إن» المكسورة غلط، والصواب: «ما أن لا يلاقي»، بفتحها، وهي زائدة، تزاد في الإيجاب مفتوحة، وفي النفي مكسورة (2).
تقول: لمّا أن جاءني زيد أعطيته، قال الله تعالى (3): {«فَلَمََّا أَنْ جََاءَ الْبَشِيرُ»}.
وتقول في النفي: ما زيد منطلقا، فإذا زدت «إن» قلت: ما إن زيد منطلق،
__________
(1) الأبيات في شرح أبيات المغني للبغدادي 1/ 107ولسان العرب (شرر) ونوادر أبي زيد ص 60.
(2) في نوادر أبي زيد ص 60: = وإن زائدة، وهي تزداد في الإيجاب مفتوحة، وفي النفي مكسورة =.
وفي النسخة الشنقيطية كلمة: = تزاد = ساقطة منها.
(3) سورة يوسف: 12/ 96.(8/443)
ف «إن» كافّة ل «ما» عن العمل. ونظير هذا قولك: إنّ زيدا منطلق، ثم تقول:
إنما زيد منطلق، فكفّت ما الزائدة إنّ عن العمل كما كفت إن ما النافية.
وهذا تمثيل الخليل. فلمّا قال: «ما أن لا يلاقي» فنظر إلى «ما»، الذي روى هذه الرواية، ظنّها (1) النافية.
وهذه بمعنى الذي فلا تكون أن بعدها إلّا مفتوحة. ورواية أبي حاتم: «ما لا إن يلاقي» صحيحة، لأنّ لا في النفي بمنزلة ما، وإن كانت إن لا تكاد تزاد بعد لا.
انتهى.
وهذا خلاف ما نقله الشارح المحقق عن الخليل، وهو المخطئ في النّقل والتّخطئة. ودعواه أنّ «إن» المكسورة، لا تزاد بعد ما الموصولة مردودة فإنّها تزاد بعد ما المصدرية وغيرها أيضا.
قال ابن عصفور في «كتاب الضرائر»: ومن زيادة إن المكسورة الهمزة في الضرورة قول الشاعر، أنشده سيبويه (2): (الطويل)
ورجّ الفتى للخير ما إن رأيته ... على السّنّ خيرا لا يزال يزيد
فزاد إن بعد ما المصدرية، وليست بنافية، تشبيها لها بما النافية.
ألا ترى أن المعنى: ورجّ الفتى للخير مدّة رؤيتك إيّاه، لا يزال يزيد خيرا على السّنّ. لكن لمّا كان لفظها كلفظ ما النافية زادها بعدها، كما تزاد بعد ما النافية، في نحو قولك: ما إن قام زيد، وقول الآخر، أنشده أبو زيد:
يرجي المرء ما إن لا يلاقي ... . البيت
__________
(1) في طبعة بولاق: = فظنها =. وهو تصحيف صوابه من النسخة الشنقيطية وشرح أبيات المغني 1/ 108 ونوادر أبي زيد ص 61.
(2) هو الإنشاد السابع والعشرون في شرح أبيات المغني للبغدادي.
والبيت للمعلوط القريعي في شرح أبيات المغني للبغدادي 1/ 111وشرح التصريح 1/ 189وشرح شواهد المغني ص 85، 716ولسان العرب (أنن) والمقاصد النحوية 2/ 22. وهو بلا نسبة في الأزهية ص 52، 96 والأشباه والنظائر 2/ 187وأوضح المسالك 1/ 246والجنى الداني ص 211وجواهر الأدب ص 208 والخصائص 1/ 110والدرر 2/ 110وسر صناعة الإعراب 1/ 378وشرح المفصل 8/ 130والكتاب 4/ 222ومغني اللبيب 1/ 25والمقرب 1/ 97وهمع الهوامع 1/ 125.(8/444)
فزاد إن بعد ما، وهي اسم موصول، لشبهها باللفظ بما النافية، وقول النابغة في إحدى الروايتين (1): (البسيط)
إلّا الأواريّ لا إن ما أبيّنها ... البيت
فزاد إن بعد لا لشبهها بما، من حيث كانتا للنفي. وزعم الفراء أنّ لا، وإن، وما، حروف نفي، وأن النابغة جمع بينها على طريق التأكيد. انتهى.
وقال ابن هشام في «المغني»: وقد تزاد بعد ما الموصولة الاسمية وبعد ما المصدرية، وأورد البيتين المتقدمين، ثم قال:
وبعد ألا الاستفتاحيّة (2): (الطويل)
ألا إن سرى ليلي فبتّ كئيبا ... أحاذر أن تنأى النّوى بغضوبا
وقبل مدّة الإنكار، سمع [سيبويه (3)] رجلا يقال له: أتخرج إن أخصبت البادية؟
فقال: أنا إنيه! منكرا أن يكون رأيه على غير ذلك. انتهى.
وقوله: «فإن أمسك فإنّ العيش حلو» إلخ: «أمسك»: مضارع أمسك.
قال صاحب المصباح: أمسكته بيدي إمساكا: قبضته باليد. وأمسكت عن الأمر:
كففت عنه. وأمسك الله الغيث: حبسه ومنع نزوله. انتهى.
ولم يذكر الشاعر صلة «أمسك»، فمعناه متوقّف على ما قبله. وقوله:
«مشوب»، أي: مخلوط بالماء. قال صاحب المصباح: شابه شوبا: خلطه، مثل
__________
(1) صدر بيت للنابغة الذبياني وعجزه:
* والنؤي كالحوض بالمظلومة الجلد *
والبيت للنابغة الذبياني في ديوانه ص 15والأزهية ص 80وإصلاح المنطق ص 47والأغاني 11/ 27 والإنصاف 1/ 269وجمهرة اللغة ص 934والدرر 3/ 159، 6/ 257وشرح أبيات سيبويه 2/ 54 والكتاب 2/ 321ولسان العرب (جلد، ظلم، بين) والمقاصد النحوية 4/ 315، 578والمقتضب 4/ 414.
وهو بلا نسبة في شرح المفصل 8/ 129.
(2) البيت هو الإنشاد الثامن والعشرون في شرح أبيات المغني للبغدادي.
البيت بلا نسبة في الجنى الداني ص 211وجواهر الأدب ص 209والدرر 2/ 111وشرح أبيات المغني 1/ 114وشرح شواهد المغني 1/ 86ومغني اللبيب ص 25وهمع الهوامع 1/ 125.
(3) زيادة يقتضيها السياق من مغني اللبيب.(8/445)
شوب اللبن بالماء، فهو مشوب. والعرب تسمّي العسل شوبا لأنه عندهم مزاج للأشربة.
وقوله: «يرجّي المرء» إلخ، روى بدل المرء «العبد» وهو عبد الخلقة.
و «يرجّي» بمعنى يأمل، وهو مبالغة رجاه يرجوه رجوّا على فعول، والاسم الرّجاء بالمد. ورجيته أرجيه من باب رمى، لغة. كذا في المصباح.
وقد حذف العائد إلى ما الموصولة من قوله: «لا يلاقي»، والأصل لا يلاقيه، وروى بدله: «لا يراه»، فالهاء هي العائد.
و «تعرض» إمّا من عرضت له بسوء، أي: تعرّضت، من باب ضرب، وباب تعب لغة.
وفي النهي: لا تعرض له بكسر الراء وفتحها، أي: لا تعترض له فتمنعه باعتراضك أن يبلغ مراده لأنّه يقال: سرت فعرض لي في الطريق عارض من جبل ونحوه، أي: مانع يمنع من المضيّ. واعترض لي بمعناه.
ومنه اعتراضات الفقهاء، لأنها تمنع من التسمّك بالدّليل. وإمّا من عرض له أمر، إذا ظهر، من باب ضرب أيضا.
ويحتمل أن تكون «تعرض» بضم الراء، من عرض الشيء بالضم عرضا كعنب وعراضة (1) بالفتح: اتّسع عرضه وتباعد حاشيته، فهو عريض. [ودون هنا: بمعنى أمام].
و «أدناه»: أقربه، أفعل تفضيل من الدنوّ، وهو القرب.
و «الخطوب»: جمع خطب. قال صاحب المصباح: والخطب: الأمر الشديد ينزل، والجمع خطوب، مثل فلس وفلوس. انتهى.
وقيل الخطب هو الشأن والأمر، عظم أو صغر. وقال الدّماميني في «الحاشية الهندية»: هو سبب الأمر، يقال: ما خطبك؟ أي: ما سبب أمرك الذي أنت عليه. وغلب استعمال الخطوب في الأمور الشّاقّة الصّعبة. انتهى.
__________
(1) في طبعة بولاق: = وإعراضه =. وهو تصحيف صوابه من النسخة الشنقيطية وشرح أبيات المغني 1/ 110.
والزيادة منه.(8/446)
وهذه الأبيات الثلاثة نسبها أبو زيد إلى «جابر بن رألان» الطائي، قال: وهو شاعر جاهلي.
وكذا نسبها ابن الأعرابي في «نوادره» ثم قال: ويقال إنّها لإياس ابن الأرتّ.
ورألان بالراء المهملة بعدها همزة ساكنة. وإياس بكسر الهمزة بعدها مثناة تحتية.
والأرتّ بالمثناة، قال صاحب الصحاح: الرّتّة بالضم: العجمة في الكلام. ورجل أرتّ بيّن الرّتت، وفي لسانه رتّة، وأرتّه الله.
* * * وأنشد بعده، وهو الشاهد السادس والأربعون بعد الستمائة (1): (البسيط)
646 - إذن لقام بنصري معشر خشن
على أن «إذن» تدخل في الماضي كما في البيت.
والمصراع من أبيات في أول الحماسة، وقبله (2):
لو كنت من مازن لم تستبح إبلي ... بنو اللّقيطة من ذهل بن شيبانا
إذن لقام بنصري معشر خشن ... عند الحفيظة إن ذو لوثة لانا
قال الشارح المحقق بعد أسطر: إنّ «إذن» متضمنة لمعنى الشرط على ما حقّقه.
وإذا كانت بمعنى الشرط الماضي، جاز إجراؤها مجرى «لو» في إدخال اللام في جوابها كما في البيت. فجملة: «لقام» إلخ، جواب «إذن»، كأنه قيل: ولو
__________
(1) هو الإنشاد العشرون في شرح أبيات المغني للبغدادي.
والبيت لقريط بن أنيف في الحماسة برواية الجواليقي ص 29وشرح أبيات المغني 1/ 83وشرح الحماسة للأعلم 1/ 357وشرح الحماسة للتبريزي 1/ 7وشرح الحماسة للمرزوقي ص 25وشرح شواهد المغني 1/ 68 وللحماسي في مغني اللبيب 1/ 21. وهو بلا نسبة في تاج العروس (خشن) وشرح شواهد المغني 2/ 643 وشرح المفصل 1/ 82، 9/ 13، 96ولسان العرب (خشن) ومجالس ثعلب 2/ 473.
(2) الحماسة برواية الجواليقي ص 29وشرح أبيات المغني 1/ 83وشرح الحماسة للأعلم 1/ 357وشرح الحماسة للتبريزي 1/ 75وشرح الحماسة للمرزوقي ص 25.(8/447)
وقول الحماسي: «لو كنت من مازن» البيتين. فقوله: «إذن لقام» بدل من لم تستبح، وبدل الجواب جواب.
والثاني: [في (1)] نحو أن يقال: آتيك، فتقول: إذن أكرمك، أي: إن أتيتني إذن أكرمك.
وقال تعالى (2): {«مَا اتَّخَذَ اللََّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمََا كََانَ مَعَهُ مِنْ إِلََهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلََهٍ بِمََا خَلَقَ وَلَعَلََا بَعْضُهُمْ عَلى ََ بَعْضٍ».} قال الفراء: حيث جاءت بعدها اللام فقبلها لو مقدّرة، إن لم تكن ظاهرة. انتهى.
وجوّز الإمام المرزوقيّ أن تكون إذن لقام إلخ، جوابا ثانيا للو، لا على البدليّة.
قال: ويجوز أن تكون أيضا إذن لقام جواب لو، كأنّه أجيب بجوابين. وهذا كما تقول: لو كنت حرّا لاستقبحت ما يفعله العبيد، إذن لاستحسنت ما يفعله الأحرار.
انتهى.
وزعم ابن الملّا في «شرح المغني» أنّ هذا عين ما قاله ابن هشام أو قريب منه.
ولا يخفى أنّه قريب منه لا عينه.
وجعل ابن هشام إذن لا أقليها في البيت جوابا لإن الشرطية دون القسم المقدّر مخالف للقاعدة، كما يأتي بيانه قريبا عند إنشاد الشارح البيت.
وإن أراد تقدير إن ولو صناعة يرد عليه أنّه يمتنع النصب في المثال الذي أورده، لوقوعها حشوا، وهو قوله: آتيك، فتقول: إذن أكرمك، أي: إن أتيتني إذا أكرمك.
وما نقله عن الفراء فيه تقصير كما يظهر من نصّ عبارته، قال في «تفسيره» عند قوله تعالى (3): {«أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذاً لََا يُؤْتُونَ النََّاسَ نَقِيراً»}: وإذا رأيت في جواب إذن اللام فقد أضمرت لها لئن أو يمينا، أو لو. من ذلك قوله تعالى (4):
{«مَا اتَّخَذَ اللََّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمََا كََانَ مَعَهُ مِنْ إِلََهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلََهٍ بِمََا خَلَقَ»} والمعنى والله
__________
(1) زيادة يقتضيها السياق من النسخة الشنقيطية.
(2) سورة المؤمنون: 23/ 91.
(3) سورة النساء: 4/ 53. وانظر لذلك معاني القرآن للفراء 1/ 274273.
(4) سورة المؤمنون: 23/ 91.(8/449)
وأنشد فيه بعده (1): (الوافر)
نهيتك عن طلابك أمّ عمرو ... بعاقبة وأنت إذ صحيح
وتقدّم شرحه مفصلا في الشاهد الثامن والتسعين بعد الأربعمائة من باب الظروف (2).
* * * وأنشد بعده، وهو الشاهد السابع والأربعون بعد الستمائة (3): (البسيط)
647 - ما إن أتيت بشيء أنت تكرهه
إذن فلا رفعت سوطي إليّ يدي
إذن فعاقبني ربّي معاقبة
قرّت بها عين من يأتيك بالحسد
على أنّ «إذن» إذا كانت للشرط في المستقبل، جاز دخول الفاء في جزائها،
__________
(1) هو الإنشاد السادس والعشرون بعد المائة في شرح أبيات المغني للبغدادي.
والبيت لأبي ذؤيب في ديوانه ص 24وديوان الهذليين 1/ 68وشرح أبيات المغني 2/ 198وشرح أشعار الهذليين 1/ 171وشرح شواهد المغني ص 260ولسان العرب (أذذ، شلل، إذ). وهو بلا نسبة في الأشباه والنظائر 4/ 301وتذكرة النحاة ص 379والجنى الداني ص 187، 490وجواهر الأدب ص 138 والخصائص 2/ 376ورصف المباني ص 347وسر صناعة الإعراب ص 504، 505وشرح المفصل 3/ 31 ومغني اللبيب ص 86والمقاصد النحوية 2/ 61.
(2) الخزانة الجزء السادس ص 491وما بعدها.
(3) هو الإنشاد الثالث والعشرون في شرح أبيات المغني للبغدادي.
البيت للنابغة الذبياني في ديوانه ص 25والأزهية ص 52وشرح أبيات المغني 1/ 95وشرح شواهد المغني 1/ 75ولسان العرب (ندي). وهو بلا نسبة في مجالس ثعلب ص 366ومغني اللبيب 1/ 25.
ورواية البيت الأول في ديوانه صنعة الأعلم ص 25:
ما قلت من سيئ مما أتيت به ... إذا فلا رفعت سوطي إلي يدي
وروايته في ديوانه صنعة ابن السكيت ص 20:
ما إن نديت بشيء أنت تكرهه ... إذا فلا رفعت سوطي إلي يدي(8/451)
مصاب القلب» [قد] قيل: قد روى البغداديون هذا «مصاب القلب». فذا يدلّك على استكراههم الرفع، لما فيه من الفصل، فعدلوا عنه إلى النصب. ويجوز أن تقول:
إنّ الظرف قد فصل به في أماكن، فيجوز أن يكون هذا مثلها.
وقال في الموضع الثاني: مسألة: «ما كان فيها أحد خير منك»، «فيها» متعلقة بكان إذا نصبت خيرا منك، ومتعلقة بمحذوف إذا كانت مستقرا. ويجوز أن تنصبها ب «خيرا منك» وإن تقدّم عليه، لشبهه بالفعل.
وليس الفصل ب «فيها» إذا علّقتها بخير منك بقبيح (1)، لأنّ أبا الحسن قد أنشد في «المسائل الصغيرة»:
* فإنّ بحبّها أخاك مصاب القلب (2) *
ورواه الكوفيون: «مصاب القلب». وأظنّهم هربوا من الفصل، فنصبوا مخافة أن يجري مجرى: كانت زيدا الحمّى تأخذ. وأتى أبو الحسن بمسائل هناك يفصل فيها بالظرف المتعلّق بالخبر. انتهى.
وقد فصّل ابن السّرّاج في «الأصول» مذهب الكوفيين في هذه المسألة، قال:
إذا كان الظرف غير محلّ للاسم سمّاه الكوفيون الصفة الناقصة، وجعله البصريون لغوا ولم يجز في الخبر إلّا الرفع، وذلك قولك: فيك عبد الله راغب، ومنك أخواك هاربان، وإليك قومك قاصدون، لأنّ منك وفيك وإليك لا تكون محلّا، ولا يتمّ بها الكلام.
وقد أجاز الكوفيون: فيك راغبا عبد الله، شبّهها الفراء بالصفة التامة لتقدّم راغب على عبد الله.
وذهب الكسائي إلى أنّ المعنى: فيك رغبة عبد الله. واستضعفوا أن يقولوا:
فيك عبد الله راغبا، وأنشدوا بيتا جاء فيه مثل هذا منصوبا.
فلا تلحني فيها فإنّ بحبّها ... البيت
__________
(1) في شرح أبيات المغني: = منك يقبح =.
(2) في طبعة بولاق: = مصاب بالقلب =. وهو تصحيف صوابه من النسخة الشنقيطية وشرح أبيات المغني للبغدادي.(8/457)
وأنشد بعده، وهو الشاهد التاسع والأربعون بعد الستمائة (1): (الرجز)
649 - لا تتركنّي فيهم شطيرا
إنّي إذن أهلك أو أطيرا
على أنّ الفعل جاء منصوبا ب «إذن» مع كونه خبرا عمّا قبلها، بتأويل أنّ الخبر هو (2) مجموع إذن أهلك، لا «أهلك» وحده، فتكون إذن مصدّرة.
وقال الأندلسي: يجوز أن يكون خبر «إنّ» محذوفا، أي: إنّي لا أحتمل. ثم ابتدأ، فقال: إذن أهلك. والوجه رفع أهلك وجعل «أو» بمعنى «إلّا».
أمّا التخريج الأول فهو للشارح المحقق. وقد ردّه الدمامينيّ في «الحاشية الهندية» (3) بأنّ مقتضاه جواز قولك: زيد إذن يقوم، بالنصب، على جعل الخبر هو المجموع، إذ الاعتماد المانع منتف، إذ هو ثابت للمجموع، وصريح كلامهم يأباه.
وأجيب عن الرضيّ بأن تخريجه إنّما هو لبيان وجه ارتكاب الشّذوذ في هذا المسموع، فلا يكون مقتضاه جواز النصب في كلّ ما سواه مما لم يتحقّق فيه شذوذ.
هذا كلامه.
ولا يخفى أنّ مراد الرضيّ تخريجه على عملها المألوف قياسا، وهو أن لا يعتمد ما بعدها على ما قبلها، بدليل مقابلته لقول الأندلسيّ.
وأما قول الأندلسي، وعليه اقتصر ابن هشام في «المغني»، فهو تخريج السيرافي.
قال في «شرح الكتاب» (4): هذا البيت شاذ، ولا يحتجّ به، لأنّ قائله مجهول لا يحتجّ بقوله.
__________
(1) هو الإنشاد الواحد والعشرون في شرح أبيات المغني للبغدادي.
والرجز بلا نسبة في أساس البلاغة (شطر) والإنصاف 1/ 177وأوضح المسالك 4/ 166وتاج العروس (شطر) وتهذيب اللغة 11/ 308والجنى الداني ص 362والدرر 4/ 72ورصف المباني ص 66وشرح الأشموني 3/ 554وشرح أبيات المغني 1/ 87وشرح التصريح 2/ 234وشرح شواهد المغني 1/ 70وشرح المفصل 7/ 17ومغني اللبيب 1/ 22والمقاصد النحوية 4/ 383والمقرب 1/ 261وهمع الهوامع 2/ 7.
(2) في النسخة الشنقيطية: = بتأويل الخبر =.
(3) النص في شرح أبيات المغني 1/ 88نقلا عن الحاشية الهندية 1/ 45.
(4) النص في شرح أبيات المغني للبغدادي 1/ 87.(8/459)
فإن صحّ فإمّا أن يقال: إنّه لغة حمل فيها «إذن» على «لن»، وهي لا تلغى بحال. أو نقول: خبر إنّ مقدّر، أي: إنّي لا أقدر على ذلك، وجملة: «إذن أهلك» مستأنفة، وإذن فيها مصدّرة. انتهى.
وفيما قاله تخريجان آخران، فصارت التخاريج أربعة.
وسلك نحوه ابن يعيش في «شرح المفصل»، فقال: البيت شاذ. وإن صحّت الرّواية، فهو محمول على أن يكون الخبر محذوفا. وساغ حذف الخبر لدلالة ما بعده عليه وابتداء إذن بعد تمام المبتدأ بخبره. أو يكون شبّه إذن ها هنا بلن فلم يلغها، لأنّهما جميعا من نواصب الأفعال المستقبلة.
وتشبّه (1) إذن من عوامل الأفعال بأفعال الشك واليقين، لأنّها أيضا تعمل وتلغى، لأنّ أفعال الشك إذا تأخّرت أو توسّطت يجوز أن تعمل.
وإذن إذا توسّطت بين جزأي كلام أحدهما محتاج إلى الآخر لم يجز أن تعمل، لأنّها حرف، والحرف أضعف في العمل من الأفعال. انتهى.
وقد نقل ابن الحاجب تخريجا خامسا في «شرح المفصل» (2)، قال: وقد أوّل:
إنّي إذن أهلك، على معنى: إنّي أقول. والقول يحذف كثيرا.
وقد ناقشه الإمام الحديثي (3) في «شرح الكافية»، بأنه إنما يتخلّص عنه به إذا كان الموضع للحكاية فقط (4). وفيه نظر. وألا يكون حينئذ معتمدا على أقول.
وتوضيحه: أنّ المحكوم عليه بأنه خبر، وأنه في موضع رفع حينئذ إمّا الحكاية فقط، أعني جملة أقول، وبه يتحقق الخلاص عن هذه الورطة. أو الحكاية أو المحكيّ، أعني مجموع أقول إذن أهلك.
لا سبيل إلى الأوّل لاقتضائه قطع كلّ من القول والمقول عن صاحبه، واستئناف ما حقّه أن لا يستأنف. ولا إلى الثاني لبقاء الإشكال لتحقّق النصب مع
__________
(1) في النسخة الشنقيطية: = ويشبه =.
(2) النص في شرح أبيات المغني للبغدادي 1/ 87.
(3) في كتاب كشف الظنون 2/ 254: = ومن شروح الكافية شرح الإمام ركن الدين الحديثي، وهو مثل شرح الرضي بحثا وجمعا، بل أكثر منه =.
(4) من قوله: = وفيه نظر وألا أما الحكاية فقط =. ساقط من النسخة الشنقيطية.(8/460)
الاعتماد، فإنّ «أهلك» معتمد على أقول، لكونه جزء معموله الذي هو إذن أهلك.
وأجاب عنه ابن الحنبلي «فيما كتبه على المغني»، كما نقله عنه تلميذه ابن الملّا، بأنّا لا نسلّم أنّ جزء المعتمد معتمد. ولئن سلّمناه فلا نسلّم أنّ كلّ معمول لشيء يكون معتمدا عليه، فهم قد حصروا صور الاعتماد في ثلاث صور ليس إلّا، بحكم الاستقراء، فدلّ ذلك على أنّ ما عداها لا يتحقّق فيه اعتماد، وإن تحقّقت معموليّته بوجه ما.
ثم قال: ولعلّ ابن الحاجب قدّر أقول ليكون «إذن أهلك أو أطير» مقولا، وقعت فيه «إذن» مصدّرة وإن توهّم أنّها بتقدير أقول غير مصدّرة.
ألا ترى أنّ القائل إذا قاله بعد، كما سبق به الوعد، أظهرت صدارتها فيه.
انتهى.
وهذا بحث جيّد، إلا أنه يرد على تخريجه بإضمار القول ما ورد على تخريج الشارح المحقق وقول الأندلسي: «والوجه رفع أهلك».
وقال الحديثيّ: الحقّ رفع أهلك، وجعل أو بمعنى إلّا أن، كما في قولك:
لألزمنّك أو تقضيني حقّي، أي: إلّا أن تقضيني حقّي. أراد أنّ الرفع فيه وفي مثله هو القياس، جريا على القاعدة.
وتعسّف ابن الملّا في قوله: إن أراد أنّه الوجه والحقّ في مثل هذا التركيب إذا صدر من متكلّم فله وجه، ولكن غير نافع لنا بوجه. وإن أراد أنّه الوجه والحقّ في قول هذا الشاعر فممنوع. فإنه كيف يسلّم لهما ذلك حيث ثبت أنّ الرواية عن القائل بنصب الفعلين. انتهى.
وقال العيني: إعمال إذن في البيت ضرورة، خلافا للفراء. أراد بالضرورة ما هو المذهب الصحيح، وهو ما أتى في النظم دون النثر، سواء كان عنه مندوحة أم لا.
ولم يصب ابن الملّا في قوله: هذا إنّما يتجه بالنسبة إلى نصب أطير دون أهلك، فإنه إن كان ثمّ ضرورة، فهي قصد التوفيق بينه وبين «شطيرا»، حذرا من عيب الإقواء. اللهمّ إلّا أن يدّعي أنّ هذه الضرورة ألجأت إلى نصب أهلك، لئلّا يعطف منصوب على مرفوع.(8/461)
هذا كلامه.
وأيّ مانع من العطف بالنصب بأن، بعد أو التي بمعنى إلّا، كما نقله عن الأندلسيّ والحديثي.
هذا. وقد نقل الفراء عن العرب في «تفسيره» (1) أنّ النصب في مثل البيت لغة، قال عند تفسير قوله تعالى (2): {«أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذاً لََا يُؤْتُونَ النََّاسَ نَقِيراً:»}
إذا وقعت إذن على يفعل وقبله اسم بطلت فلم تنصب، فقلت: أنا إذن أضربك.
وإذا كانت في أوّل الكلام «إنّ» نصبت يفعل ورفعت، فقلت: إني إذن أوذيك.
والرفع جائز.
أنشدني بعض العرب:
لا تتركنّي فيهم شطيرا ... إنّي إذن أهلك أو أطيرا
وقال أيضا في «تفسير سورة الأحزاب» عند قوله تعالى (3): {«وَإِذاً لََا تُمَتَّعُونَ»}:
وقد تنصب العرب ب «إذن» وهي بين الاسم وخبره في «إنّ» وحدها، فيقولون:
إنّي إذن أضربك.
قال الشاعر:
لا تتركنّي فيهم شطيرا ... البيت
والرفع جائز. وإنّما جاز في «إنّ» ولم يجز في المبتدأ بغير إنّ، لأنّ الفعل لا يكون مقدّما في إنّ، وقد يكون مقدّما لو أسقطت (4).
هذا كلامه (5).
وأنت ترى أنّه إمام ثقة، وقد نقل عن أهل اللسان، فينبغي جواز النصب في الفعل الواقع خبرا لاسم إنّ لا غير، حسبما نقل، وحينئذ يسقط ما تكلّفوا من التخريج.
__________
(1) معاني القرآن للفراء 1/ 274.
(2) سورة النساء: 4/ 53.
(3) سورة الأحزاب: 33/ 16.
(4) معاني القرآن للفراء: 2/ 338.
(5) النص في شرح أبيات المغني للبغدادي 1/ 89.(8/462)
وهذا خلاف مذهب البصريّين، وليس عندهم إلّا الجزم.
وقوله: «لا تتركنّي» إلخ، الترك يستعمل بمعنى التّخلية، ويتعدّى لمفعول واحد، وبمعنى التصيير، [فيتعدى لاثنين أصلهما المبتدأ والخبر] (1) وهنا محتمل لكلّ منهما، فشطيرا على الأول حال من الياء، وعلى الثاني هو المفعول الثاني، و «فيهم» عليهما متعلق بالترك، أو هو المفعول الثاني.
و «شطيرا» حال من ضمير الظرف، ويجوز أن يكون مفعولا آخر مكرّرا، كما قيل في قوله تعالى (2): {«وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمََاتٍ لََا يُبْصِرُونَ»} إنّ في ظلمات مفعول ثان، وجملة: «لا يبصرون» مفعول آخر مكرّر.
وقال العيني: فيهم يتعلق بشطيرا، وشطيرا نصب على الحال، والتقدير: لا تتركنّي حال كوني شطيرا كائنا فيهم.
هذا كلامه.
ولا يخفى أنّ ذكر كائنا مع قوله متعلق بشطيرا لا وجه له.
و «الشطير»: الغريب. وأهلك بكسر اللام، والماضي بفتحها. والشعر لم ينسبه أحد إلى قائله. والله أعلم.
* * * وأنشد بعده، وهو الشاهد الخمسون بعد الستمائة، وهو من شواهد س (3):
(البسيط)
__________
(1) النص في شرح أبيات المغني 1/ 89والزيادات منه.
(2) سورة البقرة: 2/ 17.
(3) البيت لعبد الله بن عنمة في الأصمعيات ص 228والحماسة برواية الجواليقي ص 165وشرح أبيات سيبويه 2/ 100وشرح الحماسة للأعلم 1/ 124وشرح الحماسة للتبريزي 2/ 71وشرح الحماسة للمرزوقي ص 586وشرح المفصل 7/ 16والصاحبي في فقه اللغة ص 141والكتاب 3/ 14ولسان العرب (كرب، أذن) والمعاني الكبير ص 793. وهو لسلام بن عوية الضبي في لسان العرب (سوا) وللضبي في المقتضب 2/ 10.
وهو بلا نسبة في جمهرة اللغة ص 328وجواهر الأدب ص 341ورصف المباني ص 63.(8/464)
والثانية ساكنة أيضا للجزم، فالتقى ساكنان فلنا أن تدفع التقاءهما بإحدى الحركات الثلاث (1).
وقوله: «بكونه جوابا للنهي» متعلق بقوله مجزوما.
وقوله: «وعند غيره يردّ منصوب»، أي: عند غير الكسائي يردّ منصوب بإذن، فالفتحة فتحة إعراب وإذن هنا ليست متضمّنة للشرط، وإنّما هي متضمّنة للنهي، وهو لا تزجره.
وعبّر التّبريزي في «شرحه» عن هذا بأنّ إذن هنا على بابها، لأنّها جواب كلام مقدّر لأنه قدّر أنّ المأمور بالردّ، قال: لا أردّ. فأجابه بذلك، وحذفه لفهم المعنى. اه.
وهذا من غير الغالب كما قال الشارح المحقق: الغالب في إذن تضمّن الشّرط.
وهذا الوجه هو مذهب سيبويه، قال في الكتاب: واعلم أنّ إذن إذا كانت بين الفعل وبين شيء الفعل [معتمد] عليه (2) فإنّها ملغاة لا تنصب البتّة، كما لا تنصب أرى إذا كانت بين الفعل والاسم في قولك: كان أرى زيد ذاهبا (3).
فإذن لا تصل في ذا الموضع إلى أن تنصب، كما لا تصل أرى هنا إلى أن تنصب.
فهذا تفسير الخليل. وذلك قولك: أنا إذن آتيك، فهي هنا بمنزلة أرى حيث لا تكون إلّا ملغاة.
ومن ذلك: إن تأتني إذن اتك، لأنّ الفعل ها هنا معتمد على ما قبل إذن.
وليس هذا كقول ابن عنمة الضّبّيّ:
اردد حمارك لا تنزع سويّته ... إذن يردّ وقيد العير مكروب
من قبل أنّ هذا منقطع من الكلام الأوّل وليس معتمدا على ما قبله لأنّ ما قبله مستغن. انتهى.
__________
(1) في طبعة بولاق والنسخة الشنقيطية: = بأحد الحركات الثلاث =.
(2) في طبعة بولاق والنسخة الشنقيطية: = وبين شيء الفعل عليه =. وفي طبعة بولاق هناك بياض بين شيء والفعل =.
(3) بعده في كتاب سيبويه: = وكما لا تعمل في قولك: إني أرى ذاهب =.(8/466)
وهو ابن حصين ابن ضرار بن عمرو بن مالك بن زيد بن كعب بن بجالة. إلى آخر النسب.
* * * وأنشد بعده، وهو الشاهد الحادي والخمسون بعد الستمائة، وهو من شواهد س (1): (الطويل)
651 - لئن عاد لي عبد العزيز بمثلها
وأمكنني منها إذن لا أقيلها
على أنّ «إذن» لا تعمل في المضارع الذي يقع جوابا للقسم الذي قبلها، كما في البيت.
ف «إذن» مهملة لعدم التصدّر، و «لا أقيلها» مرفوع، وهو جواب القسم المذكور في بيت قبله، وهو (2):
حلفت بربّ الرّاقصات إلى منى ... يغول الفيافي نصّها وزميلها
واللام في «لئن» هي اللام المؤذنة، ويقال لها الموطّئة، لأنّها آذنت، أي:
أعلمت ووطّأت أنّ الجواب للقسم المذكور، جريا على المألوف المشهور في اجتماع الشرط والقسم، أن يكون الجواب للسابق منهما، وجواب المؤخر محذوف لسدّ المذكور مسدّه.
قال سيبويه: ومن ذلك: والله إذا لا أفعل، من قبل أنّ أفعل معتمد على اليمين، وإذن لغو.
__________
(1) هو الإنشاد التاسع عشر في شرح أبيات المغني للبغدادي.
والبيت لكثير عزة في ديوانه ص 171والدرر 4/ 71وسر صناعة الإعراب 1/ 397وشرح أبيات سيبويه 2/ 144وشرح أبيات المغني 1/ 78وشرح شواهد المغني ص 63وشرح المفصل 9/ 13، 22والكتاب 3/ 15والمقاصد النحوية 4/ 382. وهو بلا نسبة في أوضح المسالك 4/ 165ورصف المباني ص 66، 243 وشرح الأشموني 2/ 554وشرح شذور الذهب ص 375والعقد الفريد 3/ 8ومغني اللبيب 1/ 21.
(2) البيت لكثير عزة في ديوانه ص 177وشرح أبيات المغني 1/ 78.(8/474)
قوله تعالى (1): {«وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرََاهُ»} بأن قال: إنّ اللام الثانية هي لام القسم في الحقيقة، لأنك إنما حلفت على فعلك لا على فعل غيرك في قولك: والله لئن جئتني لأكرمنّك.
وهذا الذي اعتلّ به فاسد جدا ضعيف، وذلك أنه لو قال: [والله] (2) لئن جئتني ليقومنّ عمرو، لكان الذي يعتمد عليه القسم اللام الثانية مع أنّ الحالف، لم يحلف على فعل نفسه، وإنّما حلف على فعل غيره. فهذا عنديّ بيّن الفساد. ولكن ممّا يدلّ على أنّ الاعتماد عل اللام الثانية، أو ما يقوم مقامها مما يتلقّى به القسم قول كثيّر:
لئن عاد لي عبد العزيز بمثلها ... البيت
فلو كان الاعتماد على اللام في «لئن» دون لا [أقيلها] لوجب أن ينجزم الفعل بعد لا في الجزاء، فلمّا ارتفع الفعل الذي هو لا أقيلها، علمت أنّ معتمد اليمين إنّما هو على اللام الثانية، أو ما أشبه اللام. فمن هنا تعلم أنّ الاعتماد على الثانية لا من حيث ذكر. اه.
والبيت من قصيدة لكثيّر عزّة، يمدح بها عبد العزيز بن مروان ويتّصل به من قبل أبيات، وهي (3):
وإنّ ابن ليلى فاه لي بمقالة ... ولو سرت فيها كنت ممّن ينيلها (4)
عجبت لتركي خطّة الرّشد بعدما ... بدا لي من عبد العزيز قبولها
وأمّي صعبات الأمور أروضها ... وقد أمكنتني يوم ذلّ ذلولها
حلفت بربّ الرّاقصات إلى منى ... يغول البلاد نصّها وزميلها
لئن عاد لي عبد العزيز ... . البيت
__________
(1) سورة البقرة: 2/ 102.
(2) النص في شرح أبيات المغني 1/ 80. والزيادات منه.
(3) الأبيات لكثير عزة في ديوانه ص 171وشرح أبيات المغني 1/ 8179.
(4) ابن ليلى: هو عبد العزيز بن مروان، جاء في الأغاني 1/ 340: = قال إسحاق، فحدثني ابن كناسة قال:
ليلى أم عبد العزيز كلبية. وبلغني عنه أنه قال: لا أعطي شاعرا شيئا حتى يذكرها في مدحي لشرفها، فكان الشعراء يذكرونها باسمها في أشعارهم =.(8/477)
فهل أنت إن راجعتك القول مرّة ... بأحسن منها عائد فمقيلها
قال ابن هشام اللخمي في «شرح أبيات الجمل»: ذكر أهل الأخبار أنّ كثيّرا لمّا دخل على عبد العزيز فأنشده قصيدته التي ألحق فيها البيت المستشهد به مع الأبيات المتقدّمة، أعجب بقوله فيها (1): (الطويل)
إذا ابتدر النّاس المكارم بذّهم ... عراضة أخلاق ابن ليلى وطولها
فقال: حكمك يا أبا صخر. قال: فإنّي أحكم أن أكون مكان ابن رمّانة.
وكان ابن رمّانة كاتب عبد العزيز وصاحب أمره. فقال له عبد العزيز: ترحا لك (2)! ما أردت ويلك، ولا علم لك بخراج ولا كتابة؟ اخرج عنّي! فخرج كثيّر نادما على ما حكم، ثم لم يزل يتلطّف، حتّى دخل عليه، فأنشده:
عجبت لتركي خطّة الرّشد ... الأبيات
فلما أتى إلى قوله:
فهل أنت إن راجعتك القول مرّة ... البيت
قال له عبد العزيز: أمّا الآن فلا، ولكن قد أمرنا لك بعشرين ألف درهم.
فقوله في البيت (3): «لئن عاد لي عبد العزيز بمثلها»، أي: بمقالة مثلها، وهي قول عبد العزيز له: حكمك.
وقوله: «إذن لا أقيلها»، أي: أطلب منه ما لا اعتراض عليّ فيه ولا قدح.
هكذا فسّره العلماء، وهو الصحيح. وما قاله ابن سيده، أنّ عبد العزيز بن مروان كان أعطاه جارية فأبى كثيّر من قبولها، ثم ندم بعد ذلك فيقول: لئن عاد لي بجارية مثلها مرّة أخرى لا أقيلها، غلط. وهو قياس منه، والصّحيح ما تقدّم. اه.
__________
(1) البيت لجرير في ذيل ديوانه ص 1033ولسان العرب (عرض) ومقاييس اللغة 4/ 270ولكثير عزة في ديوانه ص 171وشرح أبيات المغني 1/ 81ولجرير أو لكثير في تاج العروس (عرض). وهو بلا نسبة في مجمل اللغة 3/ 468.
(2) في طبعة بولاق: = ترى حالك =. وهو تصحيف ولقد أثبتنا رواية النسخة الشنقيطية.
وفي شرح أبيات المغني 1/ 81: = فقال عبد العزيز: ما أردت ويلك =.
(3) الشرح بحرفيته في شرح أبيات المغني 1/ 81.(8/478)
وممن حكى هذا ابن السيد في «شرح أبيات الجمل» قال: وقيل بل عرض عليه، أن يهب له جارية، ويترك التغزّل بعزّة، فأبى من ذلك، ثم ندم على ما فعل فقال هذا الشعر. اه.
ولم يذكر الجاحظ في «البيان والتبيين» (1) إلّا الوجه الأول، قال فيه: ومن الحمقى كثيّر عزّة. ومن حمقه أنه دخل على عبد العزيز بن مروان، فمدحه بمديح استجاده، فقال له: سلني حوائجك. قال: تجعلني في مكان ابن رمّانة. قال:
ويلك ذاك رجل كاتب، وأنت شاعر! فلما خرج، ولم ينل شيئا، قال في ذلك:
* عجبت لتركي خطّة الرّشد (2) * الأبيات المتقدمة وقوله: «وإنّ ابن ليلى فاه لي بمقالة» إلخ، قال السّيرافي: أراد بمثل المقالة المذكورة في هذا البيت. والمعنى ممن ينيلهوها (3). والعائد إلى من هو ضمير المذكور المنصوب المحذوف، وضمير المؤنّث للمقالة.
وفي «ينيلها» ضمير فاعل لابن ليلى، والمعنى ينيله ابن ليلى إيّاها، أي: لو سرت في طلبها.
وقال الأندلسي: فإن قلت: كيف ينيله المقالة؟ قلت: يريد المقولة فيه.
قال ابن المستوفي: وهذا قول غير مشكل، لأنّ عبد العزيز حكّمه، ولا نيل أوفى من أن يحكّم المسؤول سائله، أي: لو طلبتها من عبد العزيز لعاد لي بمثلها محكّما، فكنت ممن ينيله عبد العزيز إيّاها، على ما ذكره السيرافي.
وقوله: «ولو سرت فيها»، أي: لو رحلت لأجلها، أي: لطلبها.
وقوله: «عجبت لتركي» إلخ، «الخطّة»، بالضم: الأمر والقصّة. وأراد بخطّة الرّشد تحكيم عبد العزيز إيّاه، فيما يطلب.
وفسّرها العيني وتبعه السّيوطي بخصلة الهداية. وهذا معناها اللغويّ، ولم يذكر المراد منها.
__________
(1) البيان والتبيين 2/ 241وشرح أبيات المغني 1/ 82.
(2) في البيان والتبيين: = لأخذي خطة الغي =. والمعنى واحد.
(3) في طبعة بولاق: = ممن ينيلوها =. وهو تصحيف صوابه من النسخة الشنقيطية.(8/479)
و «عبد العزيز» هو عبد العزيز بن مروان بن الحكم، والد عمر بن عبد العزيز أمير مصر، ووليّ العهد بعد أخيه عبد الملك من أبيهما مروان. وقول الدماميني (1):
[هو] أحد الخلفاء الأمويين، ينبغي حمله على ولاية العهد (2)، وإلّا فهو لم يل الخلافة أصلا.
لكن يبقى عليه أنّ الصّحيح أنّ خلافة مروان غير صحيحة، وأنّه خارج على ابن الزّبير باغ عليه، فلا يصحّ عهده إلى ولديه.
ولمّا ملك مروان الشام سار إلى مصر، وغلب عليها، واستخلف عليها ولده عبد العزيز، فبقي أميرها إلى أن مات سنة خمس وثمانين، عند الأكثر.
حكي عنه أنّ رجلا دخل عليه يشكو صهرا له، فقال: إنّ ختني فعل بي كذا وكذا. فقال له: ومن ختنك؟ وفتح النون. فقال: ختنني الختّان الذي يختن الناس.
فقال عبد العزيز لكاتبه: ما هذا الجواب؟ فقال: إنّ الرجل يعرف النحو، وكان ينبغي أن تقول: من ختنك؟ بضم النون. فقال: والله لا شاهدت الناس حتّى أعرف النحو، وأقام في بيته جمعة لا يظهر، ومعه من يعلّمه العربية، ثم صلّى بالناس الجمعة الأخرى وهو من أفصح الناس.
وقوله: «وأمّي صعبات» إلخ، «الأمّ» بفتح الهمزة وتشديد الميم: القصد، مصدر مضاف إلى فاعله، ومفعوله الصّعبات بسكون العين. و «أروضها»: أذلّلها.
والذّلول، بالفتح: السّهل المنقاد.
وقوله: «حلفت بربّ الراقصات» إلخ، قال ابن السيرافي: الرّقص. ضرب من الخبب في العدو. وحلف بربّ الإبل التي يسار عليها إلى الحجّ. و «تغول البلاد»:
تقطعها. والنّصّ والذّميل: ضربان من العدو.
وقوله: «لئن عاد لي عبد العزيز»، الضمير في قوله بمثلها راجع لمقالة عبد العزيز، وهي: حكمك، أو سلني حوائجك. ويجوز أن يرجع لخطّة الرشد التي هي عبارة عن مقالة عبد العزيز. ولم يذكر غيره العيني.
ويؤيّده قول الزمخشري: منها أي من الخطّة. لا أقيلها، أي: العثرة. اه.
__________
(1) الحاشية الهندية: 1/ 42.
(2) في شرح أبيات المغني 1/ 81: = الأمويين، زلة قلم =.(8/480)
والعثرة غير مذكورة في الكلام، وإنّما أعاد الضمير عليها لفهمها من المقام.
والإقالة: الردّ. وفي الدعاء يقال: لا أقال الله عثرته!
قال ابن المستوفي وبعض فضلاء العجم في «شرح أبيات المفصل»: ويروى:
«لا أفيلها» بالفاء، أي: لا أفيل رأيه فيها، أو في التأخّر عنه والتثبّط عن تنجيز ما وعدني به. يقال: فال يفيل فيلولة، إذا ترك الرّأي الجيّد وفعل ما لا ينبغي للعقلاء أن يفعلوه. فالفيلولة: ضعف الرأي. وهذه الرواية هي المناسبة. والله أعلم.
وترجمة كثيّر عزّة تقدّمت في الشاهد الثالث والسبعين بعد الثلثمائة (1).
* * * وأنشد بعده، وهو الشاهد الثاني والخمسون بعد الستمائة، وهو من شواهد المفصّل (2): (الطويل)
652 - فقالت: أكلّ النّاس أصبحت مانحا
لسانك كيما أن تغرّ وتخدعا
على أنّ «كي» عند الأخفش حرف جرّ دائما، ونصب الفعل بعدها بأن مضمرة، وقد تظهر كما في البيت.
نقل ابن المستوفي عن صاحب المفصل، أنه قال في الحواشي: لمّا دخل عليها حرف الجرّ تعيّنت أنّها حرف ناصب للفعل. فإذا جاءت كي ومعها أن كان شاذا، للجمع بين المنوب والنائب، كالجمع بين العوض والمعوّض عنه. اه.
__________
(1) الخزانة الجزء الخامس ص 217.
(2) هو الإنشاد الثالث بعد الثلاثمائة في شرح أبيات المغني للبغدادي.
والبيت لكثير عزة في ديوانه ص 108والدرر 4/ 67وشرح أبيات المغني للبغدادي 4/ 157وشرح التصريح 2/ 3، 231وشرح المفصل 9/ 14، 16وله أو لحسان بن ثابت في شرح شواهد المغني 1/ 508. وهو بلا نسبة في أوضح المسالك 3/ 11وجواهر الأدب ص 125والجنى الداني ص 262ورصف المباني ص 217 وشرح الأشموني 2/ 283وشرح التصريح 2/ 30وشرح شذور الذهب ص 373وشرح عمدة الحافظ ص 267ومغني اللبيب 1/ 183وهمع الهوامع 2/ 5.(8/481)
وهذا عند ابن عصفور ضرورة، قال في «كتاب الضرائر»: ومنها زيادة أن، كقولك (1): (الطويل)
* أردت لكيما أن تطير بقربتي *
أن فيه زائدة غير عاملة، لأنّ لكيما تنصب الفعل بنفسها، ولا يجوز إدخال ناصب على ناصب.
وأما قول حسان (2): (الطويل)
فقالت أكلّ النّاس أصبحت مانحا ... البيت
فأن فيه ناصبة لا زائدة، أظهرت للضرورة، لأنّ «كيما» إذا لم تدخل عليها اللام، كان الفعل بعدها منتصبا بإضمار أن، ولا يجوز إظهارها في فصيح الكلام.
اه.
ومثله لابن هشام، قال في «المغني»: ولا تظهر أن بعد كي بلا لام إلّا في الضرورة. وأنشد البيت ثم قال: وعن الأخفش أنّ كي جارّة دائما، وأنّ النصب بعدها بأن ظاهرة أو مضمرة. ويردّه نحو (3): {«لِكَيْلََا تَأْسَوْا»}. فإن زعم أنّ كي
__________
(1) صدر بيت غير منسوب وعجزه:
* فتتركها شنّا ببيداء بلقع *
والبيت بلا نسبة في الإنصاف 2/ 580وأوضح المسالك 4/ 154والجنى الداني ص 265وجواهر الأدب ص 232ورصف المباني ص 216، 316وشرح أبيات المغني 4/ 157وشرح الأشموني 3/ 549وشرح التصريح 2/ 231وشرح شواهد المغني 1/ 508وشرح المفصل 7/ 19، 9/ 16ومغني اللبيب 1/ 182 والمقاصد النحوية 4/ 405.
(2) صدر بيت مختلف في نسبته وعجزه:
* لسانك كيما أن تغرّ وتخدعا *
والبيت لجميل بثينة في ديوانه ص 208والدرر 4/ 67وشرح التصريح 2/ 3، 231وشرح المفصل 9/ 14، 16وله أو لحسان بن ثابت في شرح شواهد المغني 1/ 508. وهو بلا نسبة في أوضح المسالك 3/ 11وجواهر الأدب ص 125والجنى الداني ص 262ورصف المباني ص 217وشرح الأشموني 2/ 283وشرح التصريح 2/ 30وشرح شذور الذهب ص 373وشرح عمدة الحافظ ص 267ومغني اللبيب 1/ 183وهمع الهوامع 2/ 5.
(3) سورة الحديد: 57/ 23.(8/482)
معارف للخود التي قلت أجملي ... إلينا فقد أصفيت بالودّ أجمعا
فقالت: أفق ما عندنا لك حاجة ... وقد كنت عنّا ذا عزاء مشيّعا
فقلت لها: لو كنت أعطيت عنكم ... عزاء لأقللت الغداة التّضرّعا
فقالت: أكلّ النّاس أصبحت مانحا ... لسانك هذا كي تغرّ وتخدعا
«المصيف» موضع الإقامة في الصيف. و «المتربّع»: موضع الإقامة في الربيع. وقوله: «كما خطّت» إلخ، حال منهما. أراد أنّ الآثار قد انمحت كالخطّ القديم الذي قد روجع للقراءة فيه مرّات كثيرة (1).
و «المعارف»: الأماكن المعروفة. و «البلقع»: الخالي من الأنيس.
و «الخود»، بالفتح: الجارية الناعمة، والجمع خود بالضم. و «أجملي»: أمر من الإجمال وهو المعاملة بالجميل.
و «أصفيت» مجهول أصفيته الودّ، أي: أخلصته له. و «العزاء»: الصّبر.
و «المشيّع»، بفتح المثناة التحتية المشددة، يقال: قلب مشيّع، أي: مشجّع، أي:
ذو شيعة، وهم الأنصار والأتباع.
وقوله: «فقالت أكلّ الناس» إلخ، الهمزة للاستفهام [التقريري] (2)، و «كلّ»:
مفعول ثان لمانحا (3)، وفيه تقديم مفعول معمول أصبح عليه، لأنّ مانحا خبر أصبح.
و «المنح»: الإعطاء، يتعدّى لمفعولين (4). يقال: منحه كذا بفتح النون في الماضي، وتفتح وتكسر في المستقبل. و «لسانك»: مفعوله الأول. ومنح اللسان عبارة عن التلطّف والتودّد [وغرّه: خدعه].
وقال بعض فضلاء العجم في «شرح أبيات المفصّل»: وروى: «ماتحا» بالمثناة من فوق، من متح الماء من البئر، إذا استقى منها. وجعله هنا بمعنى سقى، فعدّاه إلى مفعولين. ويصح أن يكون لسانك منصوبا بنزع الخافض، أي: بلسانك.
هذا كلامه. وما في كيما زائدة.
__________
(1) في حاشية طبعة هارون 8/ 483: = هذا تفسير ساذج. وإنما المرجع من الكتب التي أعيد عليه السواد مرة بعد مرة. يقال رجع النقش والوشم ترجيعا: ردد خطوطه =. انظر في ذلك اللسان (رجع).
(2) النص في شرح أبيات المغني 4/ 159. والزيادات منه.
(3) في شرح أبيات المغني: = مفعول ثان =.
(4) في شرح أبيات المغني: = يتعدى لمفعولين ثانيهما لسانك =.(8/484)
وزعم العيني أنّها مصدريّة أو كافّة. ولا وجه لهما. فتأمّل.
وغرّته الدنيا غرورا، من باب قعد: خدعته بزينتها. فمفعوله محذوف، أي:
تغرّهم. وكذا ما بعده. وخدعه: مكر به، بفتح الدال في الماضي والمستقبل، والألف للإطلاق.
وترجمة جميل العذريّ تقدّمت في الشاهد الثاني والستين من أوائل الكتاب (1).
* * * وأنشد بعده، وهو الشاهد الثالث والخمسون بعد الستمائة (2): (الطويل)
653 - أردت لكيما أن تطير بقربتي
فتتركها شنّا ببيداء بلقع
لما تقدم قبله.
وقال ابن الأنباري في «مسائل الخلاف»: ذهب الكوفيون إلى أنه يجوز إظهار «أن» بعد كي توكيدا لكي.
وذهب بعضهم إل أن العامل في جئت لكي أن أكرمك، اللام، وكي وأن توكيدان لها. وقالوا: يدلّ على جواز إظهارها النقل، كقوله:
* أردت لكيما أن تطير بقربتي *
والقياس على تأكيد بعض الكلمات لبعض، فقد قالوا: لا، ما، إن (3) رأيت مثل زيد. فجمعوا بين ثلاثة من أحرف الجحد للمبالغة.
__________
(1) الخزانة الجزء الأول ص 380.
(2) البيت بلا نسبة في الإنصاف 2/ 580وأوضح المسالك 4/ 154والجنى الداني ص 265وجواهر الأدب ص 232ورصف المباني ص 216، 316وشرح أبيات المغني 4/ 157وشرح الأشموني 3/ 549وشرح التصريح 2/ 231وشرح شواهد المغني 1/ 508وشرح المفصل 7/ 19، 9/ 16ومغني اللبيب 1/ 182 والمقاصد النحوية 4/ 405.
(3) في طبعة بولاق: = لا ما إن =. ولقد أثبتنا رواية النسخة الشنقيطية والإنصاف لتوافقهما.(8/485)
فكي إمّا تعليلية مؤكّدة للام، أو مصدريّة مؤكّدة بأن. ولا تظهر أن بعد كي إلّا في الضرورة، كقوله:
* كيما أن تغرّ وتخدعا *
وقوله: «أردت لكيما» إلخ، «ما»: صلة وزائدة. والطّيران هنا مستعار للذّهاب السريع. و «القربة»: بكسر القاف معروفة.
و «تتركها»: منصوب بالعطف على تطير. والترك يستعمل بمعنى التخلية، ويتعدّى لمفعول واحد، وبمعنى التصيير ويتعدّى لمفعولين، وهنا محتمل لكلّ منهما.
فشنّا على الأول حال من الهاء، وعلى الثاني هو المفعول الثاني.
و «ببيداء»: عليهما متعلق بالترك أو هو المفعول الثاني، و «شنّا»: حال.
و «بلقع» بالجر صفة «بيداء».
وقال العيني (1): شنّا حال بتأويل متشنّنة، من التّشنّن (2) وهو اليبس في الجلد.
والباء في ببيداء تتعلّق بمحذوف، تقديره شنّا كائنة ببيداء. هذا كلامه.
و «الشّنّ»، بفتح المعجمة وتشديد النون: القربة الخلق. و «البيداء»: الفلاة التي يبيد من يدخلها، أي: يهلك. و «البلقع»: القفر.
وهذا البيت قلّما خلا منه كتاب نحوي، ولم يعرف قائله. والله أعلم.
* * * وأنشد بعده، وهو الشاهد الرابع والخمسون بعد الستمائة (3): (المديد)
__________
(1) المقاصد النحوية 4/ 405.
(2) في طبعة بولاق: = التشنين =. وهو تصحيف صوابه من النسخة الشنقيطية وشرح أبيات المغني والمقاصد النحوية.
(3) البيت لعبد الله بن قيس الرقيات في ديوانه ص 160والدرر 1/ 170وشرح أبيات المغني للبغدادي 4/ 159وشرح التصريح 2/ 231والمقاصد النحوية 4/ 379. وهو بلا نسبة في أوضح المسالك 4/ 151 وشرح الأشموني 3/ 550وهمع الهوامع 1/ 53.(8/489)
654 - كي لتقضيني رقيّة ما
وعدتني البيت
على أنّ الأخفش يعتذر لتقدّم اللام على كي في «لكيما» وتأخّرها عنها في «كي لتقضيني» أنّ المتأخّر بدل من المتقدم.
وهذا يردّ على الكوفيين في زعمهم أنّ كي ناصبة دائما، لأنّ لام الجر لا تفصل بين الفعل وناصبه. كذا قال ابن هشام في «المغني».
وقال الدماميني: هذا الردّ على الكوفيين ظاهر. أما إذا جعل النصب بأن مضمرة كما يقول البصريون، وكي جارّة تعليليّة أكّدت بمرادفها وهي اللام، انتفى هذا المحذور. نعم يلزم الشّذوذ من جهة هذا التأكيد، ولكنّه سمع في كلامهم، بل هو أحقّ، من نحو قوله:
* ولا للما بهم أبدا دواء *
لاختلاف الحرفين لفظا. هذا كلامه.
وهو خلاف ما في «التذكرة» لأبي علي، قال فيها: كي هنا بمعنى أن، ولا تكون الجارّة، لأنّ حرف الجرّ، لا يتعلّق. وإذا كانت الأخرى كانت زائدة، كالتي في قوله (1): (الطويل)
__________
(1) عجز بيت مختلف في نسبته وصدره:
* ويوما توافينا بوجه مقسّم *
والبيت هو الإنشاد الواحد والأربعون في شرح أبيات المغني للبغدادي.
والبيت لعلباء بن أرقم في الأصمعيات ص 157والدرر 2/ 200وشرح أبيات المغني 1/ 158وشرح التصريح 1/ 234والمقاصد النحوية 4/ 384ولأرقم بن علباء في شرح أبيات سيبويه 1/ 525ولزيد بن أرقم في الإنصاف 1/ 202ولكعب بن أرقم في لسان العرب (قسم) ولباغت بن صريم اليشكري في تخليص الشواهد ص 390وشرح المفصل 8/ 83والكتاب 2/ 134وله أو لعلباء بن أرقم في المقاصد النحوية 2/ 301 ولأحدهما أو لأرقم بن علباء في شرح شواهد المغني 1/ 111. وهو بلا نسبة في أوضح المسالك 1/ 377 وجواهر الأدب ص 197والجنى الداني ص 222، 522ورصف المباني ص 117، 211وسر صناعة الإعراب 2/ 683وسمط اللآلئ ص 829وشرح الأشموني 1/ 147وشرح عمدة الحافظ ص 341، 331 وشرح قطر الندى ص 157والكتاب 3/ 165والمحتسب 1/ 308ومغني اللبيب 1/ 33والمقرب 1/ 111، 2/ 204والمنصف 3/ 128وهمع الهوامع 1/ 413.(8/490)
* كأن ظبية تعطو إلى وارق السّلم *
وقال النّيليّ في «شرح الكافية»: ويحتمل أن يكون أراد: لكي تقضيني، فقدّم، وأخّر.
والبيت من أبيات لابن قيس الرّقيّات، محذوف الآخر.
وقبله (1):
ليتني ألقى رقيّة في ... خلوة من غير ما أنس
كي لتقضيني رقيّة ما ... وعدتني غير مختلس (2)
و «رقيّة»: اسم محبوبته. و «الأنس»، بفتحتين، بمعنى الإنس، بكسر الهمزة وسكون النون. و «ما»: زائدة، وفيه مضاف محذوف تقديره من غير حضور أنس.
وقوله: «لتقضيني» علّة لقوله ألقى. و «القضاء»: الأداء، يقال: قضيت الحجّ والدّين، أي: أدّيتهما. فهو متعدّ لمفعول واحد. فما في البيت بدل اشتمال من الياء. وكون ما موصوفة أحسن من كونها موصولة. فتأمّل.
وقال العيني: مفعول ثان لتقضيني، وهي يجوز أن تكون موصولة والعائد محذوف، أي: وعدتني إيّاه. ويجوز أن تكون مصدرية، أي: لتقضيني وعدها لي.
اه.
وهو في هذا محتاج إلى أن يثبت قضى متعدّيا إلى مفعولين، ولا سبيل إليه إلّا بتضمين، وهو غير مقيس.
و «المختلس»، بفتح اللام: مصدر ميمي، يقال: خلست الشيء خلسا، من باب ضرب، واختلسته اختلاسا، أي: اختطفته بسرعة على غفلة. و «غير»:
__________
(1) البيتان لعبيد الله بن الرقيات من مقطوعة في ديوانه ص 160والمقاصد النحوية 4/ 379.
ورواية البيت الأول في ديوانه:
... خلوة من غير ما يئس
(2) في المقاصد النحوية 4/ 379: = وهي من المديد وفيه الخبن والحذف والكف =. والصواب: فيه الخبن والحذف فقط.(8/491)
أراني إذا ما بتّ بتّ على هوى ... فثمّ إذا أصبحت أصبحت غاديا
إلى حفرة أهوي إليها مقيمة ... يحثّ إليها سائق من ورائيا
كأنّي وقد خلّفت تسعين حجّة ... خلعت بها عن منكبيّ ردائيا
بدا لي أنّي عشت تسعين حجّة ... تباعا وعشرا عشتها وثمانيا
بدا لي أنّ الله حقّ فزادني ... من الحقّ تقوى الله ما قد بداليا
بدا لي أنّي لست مدرك ما مضى ... ولا سابقا شيئا إذا كان جائيا (1)
أراني إذا ما شئت لاقيت آية ... تذكّرني بعض الذي كنت ناسيا
وما إن أرى نفسي تقيها كريمتي ... وما إن تقي نفسي كريمة ماليا
ألا لا أرى على الحوادث باقيا ... ولا خالدا إلّا الجبال الرّواسيا (2)
وإلّا السّماء والبلاد وربّنا ... وأيّامنا معدودة واللّياليا
ألم تر أنّ الله أهلك تبّعا ... وأهلك لقمان بن عاد وعاديا (3)
وأهلك ذا القرنين من قبل ما ترى ... وفرعون أردى كيده والنّجاشيا
إذا أعجبتك الدّهر حال من امرئ ... فدعه وواكل حاله واللّياليا (4)
__________
(تلع) ولسان العرب (تلع).
(1) هو الإنشاد الثالث والثلاثون بعد المائة في شرح أبيات المغني للبغدادي.
والبيت لزهير في ديوانه صنعة الأعلم ص 169وديوانه صنعة ثعلب ص 208وتخليص الشواهد ص 512 والدرر 6/ 163وشرح أبيات المغني 2/ 242وشرح شواهد المغني 1/ 282وشرح المفصل 2/ 52، 7/ 56 والكتاب 1/ 165، 3/ 29، 51، 100، 4/ 160ولسان العرب (نمش) ومغني اللبيب 1/ 96والمقاصد النحوية 2/ 267، 3/ 351وهمع الهوامع 2/ 141ولصرمة الأنصاري في شرح أبيات سيبويه 1/ 72 والكتاب 1/ 306ولصرمة أو لزهير في الإنصاف 1/ 191. وهو بلا نسبة في أسرار العربية ص 154والأشباه والنظائر 2/ 347وجواهر الأدب ص 52والخصائص 2/ 353، 424وشرح الأشموني 2/ 432وشرح المفصل 8/ 69والكتاب 2/ 155.
(2) البيت لزهير بن أبي سلمى في ديوانه صنعة الأعلم ص 170وديوانه صنعة ثعلب ص 209وشرح شواهد الإيضاح ص 571.
(3) البيت لزهير بن أبي سلمى في ديوانه صنعة الأعلم ص 171وديوانه صنعة ثعلب ص 209وتاج العروس (عود) وتهذيب اللغة 3/ 131.
(4) البيت لمويلك العبدي في حماسة البحتري ص 778. وهو بلا نسبة في شرح الأشموني 1/ 225والمقاصد النحوية 3/ 99. وليس في ديوان زهير.(8/494)
وقال الأعلم: أي: لي حاجة لا تنقضي أبدا، لأنّ الإنسان ما دام حيّا فلا بدّ من أن يهوى شيئا، ويحتاج إليه.
ولم يتعرّض كلّ منهما إلى قوله فثمّ.
وفي جميع النسخ: «غاديا» بالغين المعجمة. وروى البيت في «مغني اللبيب» كذا:
أراني إذا أصبحت أصبحت ذا هوى ... فثمّ إذا أمسيت أمسيت عاديا
قال ابن الملّا: أراني من أفعال القلوب التي يجوز أن يكون فاعلها ومفعولها الأول ضميرين متّصلين متّحدي المعنى.
و «الهوى»: إرادة النفس، أي: أصبح مريدا لشيء، وأمسي تاركا له، متجاوزا عنه. يقال: عدا فلان الأمر، إذا تجاوزه.
قال الشّمنّيّ: وهذا يدلّ على أنّ عاديا بالعين المهملة. وهو مضبوط في بعض نسخ المغني وغيره بالمعجمة.
قال ابن القطّاع: غدا إلى كذا: أصبح إليه. ورواية الإعجام أنسب بالبيت بعده، إذ يقال غدا إلى كذا بمعنى صار إليه. وإن صحّ أن يقال: المعنى متجاوزا إلى حفرة. ووصف الحفرة بكونها مقيمة إمّا على معتقد الجاهلية من أنّه لا فناء للعالم ولا بعث، أو المقيمة عبارة عن ذات المدّة الطويلة.
و «السائق»: الذي يحثّ على العدو إلى تلك الحفرة، وهو الزمان (1)، فإنّه المفني المبيد عندهم. اه.
وقوله: «كأنّي وقد خلّفت» إلى آخره، قال الأعلم: أي لا أجد مسّ شيء مضى، فكأنما خلعت (2) به ردائي عن منكبي.
وقوله:
* بدا لي أنّي لست مدرك ما مضى *
__________
(1) في النسخة الشنقيطية: = هو الزمان = بحذف الواو.
(2) في النسخة الشنقيطية: = خلفت =. وهو تصحيف صوابه من طبعة بولاق وشرح الأعلم ص 170.(8/497)
لوصف فيه لا لذاته.
وروى: «يراد» بدل «يرجّى».
قال العيني: البيت للنابغة الذّبيانيّ، وقيل للنابغة الجعدي (1). والأصحّ أنّ قائله قيس بن الخطيم. ذكره البحتريّ في «حماسته». اه.
ولم نسمع أنّ للبحتري حماسة (2).
ونسبه الإمام الباقلّانيّ في «كتاب إعجاز القرآن» لقيس بن الخطيم بنصب يضرّ وينفع. والله أعلم.
* * * وأنشد بعده، وهو الشاهد السابع والخمسون بعد الستمائة (3): (الرجز)
657 - لا تظلموا النّاس كما لا تظلموا
على أنّ المبرد والكوفيّين جوّزوا نصب المضارع بعد «كما» على أنّ أصلها كيما، حذفت الياء تخفيفا.
فإنّ «لا تظلموا» منصوب بحذف النون بها، وقيل بل نصبه بما المصدريّة حملا على أن المصدرية، كما أنّ أن تهمل حملا على ما. وهذا من باب التقارض.
__________
(1) المقاصد النحوية 3/ 245وشرح أبيات المغني للبغدادي 4/ 153.
(2) هذا سهو من البغدادي. فهناك حماسة البحتري، وهي في مخطوط محفوظ في مكتبة ليدن بهولندا تحت رقم / 889/. وقد طبعت هذه الحماسة عدة طبعات آخرها طبعة حققناها في جزأين كبيرين هي تحت الطبع، وهي رواية أبي العباس أحمد بن محمد المعروف بابن أبي خالد الأحول عن أبيه عن البحتري.
(3) الرجز لرؤبة في شرح أبيات المغني 4/ 121120.
وفي حاشية طبعة هارون 8/ 500: = أمالي ابن الشجري 1: 186والإنصاف 587، 591والخزانة 4:
276 - بولاق وملحقات ديوان رؤبة 183=.
ويبدو أن هذا الشاهد اختلفت روايته، فهو في ديوان رؤبة على الرواية التالية:
* لا تشتم الناس كما لا تشتم *(8/501)
وقوله: «قلت لشيبان» إلخ، يأمر ابنه شيبان باتّباع ظليم والدنوّ منه، لعلّه يصيده، فيطعم أصحابه من شوائه.
وقال أبو علي في «البغداديات» بعد أن نقل عبارة سيبويه: جعل سيبويه «كما» في هذا البيت كالتي في البيت الأوّل.
وأنشده أبو بكر عن يعقوب أو غيره من أهل الثبت في اللغة: «كيما تغدّي القوم». وقال شيبان: ابنه، أي: قلت له اركب في طلبه، كيما تصيده، فتغدّي القوم به مشويّا. يصف ظليما.
وأقول: إنّ «ما» على هذا الإنشاد تحتمل وجهين: يجوز أن تكون زائدة كالتي في قوله (1) {«فَبِمََا رَحْمَةٍ»} والفعل منصوب. بإضمار أن، إلّا أنّه ترك على الإسكان، وذلك مما يستحسن في الضرورات. ويجوز أن تكون ما بمعنى المصدر، في موضع جرّ بكي، وتغدّي صلته وموضعه رفع. ونظير ذلك قول الآخر، أنشده أبو الحسن:
إذا أنت لم تنفع فضرّ فإنّما ... يرجّى الفتى كيما يضرّ وينفع
كأنه قال: للضّرر والنفع. ويحتمل عندي أن تكون ما كافّة لكي، كما كانت كافّة لربّ. انتهى.
وقال ابن هشام في «المغني»: اختلف في نحو قوله (2): (الطويل)
وطرفك إمّا جئتنا فاحبسنّه ... كما يحسبوا أنّ الهوى حيث تنظر
فقال الفارسي: الأصل كيما، فحذف الياء. وقال ابن مالك (3): هذا تكلّف،
__________
(1) سورة آل عمران: 3/ 159.
(2) هو الإنشاد الواحد والتسعون بعد المائتين في شرح أبيات المغني للبغدادي.
والبيت لعمرو بن أبي ربيعة في ديوانه ص 101والدرر 4/ 70وشرح أبيات المغني للبغدادي 4/ 117ولجميل بثينة في ديوانه ص 90ولعمر أو لجميل في شرح شواهد المغني 1/ 498وللبيد أو لجميل في المقاصد النحوية 4/ 407. وهو بلا نسبة في الإنصاف 2/ 586والجنى الداني ص 483وجواهر الأدب ص 233ورصف المباني ص 214وشرح الأشموني 3/ 550ومجالس ثعلب ص 154ومغني اللبيب 1/ 177وهمع الهوامع 2/ 6.
(3) شرح التسهيل ص 216.(8/503)
658 - ولبس عباءة وتقرّ عيني
هذا صدر، وعجزه:
* أحبّ إليّ من لبس الشّفوف *
على أنّ «تقرّ» منصوب ب «أن» مضمرة بعد الواو (1)، وأنّ «تقرّ» في تأويل مصدر معطوف على مصدر وهو «لبس».
وسيأتي الكلام عليه إن شاء الله فيما بعد [في] الشاهد الثاني والسبعين بعد الستمائة.
والبيت من أبيات لميسون بنت بحدل الكلبيّة، وهي (2):
لبيت تخفق الأرواح فيه ... أحبّ إليّ من قصر منيف (3)
وبكر يتبع الأظعان سقبا ... أحبّ إليّ من بغل زفوف
وكلب ينبح الطّرّاق عنّي ... أحبّ إليّ من قطّ ألوف (4)
ولبس عباءة وتقرّ عيني ... أحبّ إليّ من لبس الشّفوف
وأكل كسيرة في كسر بيتي ... أحبّ إليّ من أكل الرّغيف
وأصوات الرّياح بكلّ فجّ ... أحبّ إليّ من نقر الدّفوف
وخرق من بني عمّي نحيف ... أحبّ إليّ من علج عليف
خشونة عيشتي في البدو أشهى ... إلى نفسي من العيش الطّريف
__________
الحافظ ص 344وشرح قطر الندى ص 65وشرح المفصل 7/ 25والصاحبي في فقه اللغة ص 112، 118والكتاب 3/ 45والمقتضب 2/ 27.
(1) في شرح أبيات المغني: = بعد واو المعية =.
(2) الأبيات لميسون بنت بحدل في شرح أبيات المغني 5/ 6564والمقاصد النحوية 4/ 397.
(3) البيت لميسون بنت بحدل في شرح أبيات المغني 5/ 64وشرح شواهد المغني 2/ 653ولسان العرب (مسن) والمقاصد النحوية 4/ 397.
(4) البيت لميسون بنت بحدل الكلبية في شرح أبيات المغني 5/ 65وشرح شواهد المغني 2/ 653ولسان العرب (مسن) والمقاصد النحوية 4/ 397.(8/505)
قال ابن الكلبي في «الجمهرة»: كان معاوية بن أبي سفيان بعث رسولا إلى بهدلة بن حسان بن عديّ بن جبلة بن سلامة بن عبد الله بن عليم بن جناب يخطب إليه ابنته، فأخطأ الرسول فذهب إلى بحدل بن أنيف، من بني حارثة بن جناب، فزوّجه ابنته ميسون بنت بحدل، فولدت له يزيد. انتهى.
ذكره في جمهرة قضاعة، وهي من قبائل اليمن.
و «ميسون» (1): فيعول، من مسنه (2) بالسوط إذا ضربه، أو فعلون (3) من ماس يميس، إذا تبختر، ولا نظير له إلّا زيتون، استدلّ به بعض النحويّين على زيادة النون بالزّيت المعصور.
وحكي أرض زتنة، إذا كان فيها الزيتون. و «بحدل»، بفتح الموحّدة وسكون الحاء المهملة.
* * * وأنشد بعده (4): (الطويل)
* ألا أيّهذا الزّاجري أحضر الوغى *
على أنّ «أحضر» منصوب بأن مضمرة، بدليل تمامه:
* وأن أشهد اللّذّات هل أنت مخلدي *
__________
(1) في شرح أبيات المغني 5/ 66: = وميسون لا ينصرف للعلمية والتأنيث =.
(2) في طبعة بولاق: = ميسنه =. وهو تصحيف صوابه من شرح أبيات المغني والنسخة الشنقيطية.
(3) في طبعة بولاق: = أو من فعلون =.
(4) هو الإنشاد الخامس عشر بعد الستمائة في شرح أبيات المغني للبغدادي.
والبيت لطرفة بن العبد في ديوانه ص 32والإنصاف 2/ 560والدرر 1/ 74وسر صناعة الإعراب 1/ 285 وشرح أبيات المغني للبغدادي 6/ 181وشرح شواهد المغني 2/ 800والكتاب 3/ 99، 100ولسان العرب (أنن، دنا) والمقاصد النحوية 4/ 402والمقتضب 2/ 85. وهو بلا نسبة في الدرر 3/ 33، 9/ 94ورصف المباني ص 113وشرح شذور الذهب ص 198وشرح ابن عقيل ص 597وشرح المفصل 2/ 7، 4/ 28، 7/ 52ومجالس ثعلب ص 383ومغني اللبيب 2/ 383، 641وهمع الهوامع 2/ 17.(8/508)
متوجّها. انتهى.
وقوله: «بالماء اعتصاري»، قال أبو علي (1): [موضع الجملة] نصب بأنه خبر «كنت»، والعائد إلى الاسم الياء في اعتصاري، و «كالغصّان» في موضع حال، والعامل فيه «كنت»، ولا يكون الخبر، لأنّ الحال إذا تقدّمت لم يعمل فيها معنى الفعل كما يعمل في الظرف إذا تقدّمه.
ولا تكون الباء في قوله بالماء كالجار في قوله (2): {«إِنِّي لَكُمََا لَمِنَ النََّاصِحِينَ»}
ولكنّه يتعلق بمحذوف في موضع خبر المبتدأ.
ألا ترى أنّك لو قلت إنّي من الناصحين لكما، لتعلقت اللام بالناصحين (3). ولو قلت: كنت مروري بزيد لم تتعلّق الباء بالمرور، إنّما تتعلّق بمحذوف. اه.
وقوله: «ولا يكون الخبر»، أي: لا يكون العامل في الحال الخبر، وهو قوله بالماء الواقع خبرا لقوله اعتصاري. والجملة خبر كنت.
وزعم العيني أنّ قوله: «كالغصّان» خبر كنت. ولم يذكر موقع الجملة التي بعده من الإعراب. ويجوز على هذا أن تكون خبرا ثانيا.
وشرق فلان بريقه أو بالماء: إذا غصّ به، ولم يقدر على بلعه، وهو من باب تعب.
و «الغصّان»، من غصّ فلان بالطّعام غصصا من باب تعب، ومن باب قتل لغة، إذا لم يقدر على بلعه. والغصّة، بالضم: ما غصّ به الإنسان من طعام، أو غيظ على التشبيه به، ويتعدّى بالهمزة، نحو: أغصصته به.
قال الجوهري: الاعتصار: أن يغصّ الإنسان بالطعام فيعتصر بالماء، وهو أن يشربه قليلا قليلا ليسيغه. وأنشد هذا البيت.
وتحقيقه أنّ الاعتصار معناه: الالتجاء، كما قاله أبو القاسم عليّ بن حمزة البصري
__________
(1) في جميع طبعات الخزانة: = قال أبو علي: موضعه نصب =. والجملة مبهمة، لذلك أثبتنا رواية شرح أبيات المغني للبغدادي 5/ 82.
(2) سورة الأعراف: 7/ 21.
(3) في النسخة الشنقيطية: = بالنصح =. وهو تصحيف صوابه من طبعة بولاق.(8/512)
فارس يستغيث غير مغاث ... ولقد كان عصرة المنجود (1)
أي: ملجأ المكروب. وتقول: أعصرني فلان، إذا ألجأك إليه. واعتصرت أنا اعتصارا.
قال عديّ بن زيد:
لو بغير الماء حلقي شرق ... . البيت
فمعنى المعصرات المنجيات من البلاء، المعصمات من الجدب بالخصب، لا ما قال أبو حنيفة، ولا ما قال من قال: إنها الرياح ذات الأعاصير. فلا تلتفتنّ إلى القولين معا. انتهى كلامه.
وكذا قال أبو عبيد: الاعتصار: الملجأ. والمعنى: لو شرقت بغير الماء، أسغت شرقي بالماء، فإذا غصصت بالماء، فبم أسيغه؟
وقد صار البيت مثلا للتأذّي ممن يرجى إحسانه. قال ابن عبد ربه في «العقد الفريد»: هذا البيت أوّل ما قيل في معناه.
وقال آخر (2): (الطويل)
إلى الماء يسعى من يغصّ بريقه ... فقل أين يسعى من يغصّ بماء
وقال الأحنف بن قيس (3): «من فسدت بطانته كان كمن غص بالماء». وقال العباس بن أحنف: (السريع)
قلبي إلى ما ضرّني داعي ... يكثر أحزاني وأوجاعي
كيف احتراسي من عدوّي إذا ... كان عدوّي بين أضلاعي
__________
(1) البيت لأبي زبيد الطائي من مرثيته المشهورة في ابن أخته اللجلاج، وهو في ديوانه ص 594وتاج العروس (نجد، عصر) وتهذيب اللغة 2/ 14، 10/ 666وديوان الأدب 1/ 167ولسان العرب (نجد، عصر) والمراثي ص 46. وهو بلا نسبة في تهذيب اللغة 2/ 14، 10/ 166وجمهرة اللغة ص 451وشرح أبيات المغني 5/ 83والمخصص 9/ 96، 12/ 298ومقاييس اللغة 4/ 345، 5/ 391.
(2) البيت بلا نسبة في شرح أبيات المغني للبغدادي 5/ 83والعقد الفريد 1/ 24.
(3) قول الأحنف، مثل مشهور. وهو في جمهرة الأمثال 1/ 494وفصل المقال ص 265وكتاب الأمثال ص 179والمستقصى 2/ 358ومجمع الأمثال 2/ 317والوسيط في الأمثال ص 167.(8/514)
يقولون ليلى أرسلت بشفاعة ... إليّ فهلّا نفس ليلى شفيعها
لما تقدّم في البيت قبله. وفيه التخريجان الآخران أيضا.
وقد تقدّم شرحه في الشاهد الخامس والستين بعد المائة (1).
* * * وأنشد بعده، وهو الشاهد الستون بعد الستمائة (2): (الطويل)
660 - تريدين كيما تجمعيني وخالدا
وهل يجمع السّيفان ويحك في غمد
على أنّ «كي» جاءت من غير سببيّة بعد فعل الإرادة. و «ما» بعدها زائدة، والفعل منصوب بحذف النون، والنون الموجودة للوقاية.
قال التبريزي في «شرح الكافية»: فجوّز الفصل بين كي وبين الفعل بلا النافية بالاتفاق، كقوله تعالى (3): {«كَيْ لََا يَكُونَ دُولَةً»} وبلا الزائدة، كقول قيس بن سعد ابن عبادة (4):
أردت لكيلا يعلم النّاس أنّها ... سراويل قيس والوفود شهود
__________
أو للصمة بن عبد الله في شرح شواهد المغني 1/ 221والمقاصد النحوية 3/ 416وللمجنون أو للصمة القشيري في الدرر 5/ 106وللمجنون أو لغيره في المقاصد النحوية 4/ 457. وهو بلا نسبة في الأغاني 11/ 314وأوضح المسالك 3/ 129وتخليص الشواهد ص 320وجواهر الأدب ص 394والجنى الداني ص 509، 613ورصف المباني ص 408والزهرة ص 193وشرح الأشموني 2/ 316وشرح التصريح 2/ 41وشرح ابن عقيل ص 322ومغني اللبيب 1/ 74وهمع الهوامع 2/ 67.
(1) الخزانة الجزء الثالث ص 59.
(2) البيت مطلع مقطوعة صغيرة قالها لأم عمرو حين أرادت استرضاءه وهو في ديوانه ص 33والدرر 4/ 68 وديوان الهذليين 1/ 159وشرح أشعار الهذليين 1/ 219ولسان العرب (ضمد) وللهذلي في إصلاح المنطق ص 50. وهو بلا نسبة في همع الهوامع 2/ 5.
(3) سورة الحشر: 59/ 7.
(4) البيت لقيس بن سعد بن عبادة في لسان العرب (سرل). وهو بلا نسبة في رصف المباني ص 215.(8/516)
وقد فصل بينهما «بما» الزائدة ولا النافية، كقول الآخر (1):
أرادت لكيما لا تراني عشيرتي ... ومن ذا الذي يعطى الكمال فيكمل
ولا يجوز الفصل بينهما بغير ما ذكر. اه.
والبيت أوّل أبيات خمسة لأبي ذؤيب الهذلي (2).
وبعده:
أخالد ما راعيت من ذي قرابة ... فتحفظني بالغيب أو بعض ما تبدي
دعاك إليها مقلتاها وجيدها ... فملت كما مال المحبّ على عمد
فكنت كرقراق السّراب إذا جرى ... لقوم وقد بات المطيّ بهم تخدي (3)
فآليت لا أنفكّ أحدو قصيدة ... تكون وإيّاها بها مثلا بعدي (4)
وسبب هذه الأبيات أنّ أبا ذؤيب كان يعشق امرأة اسمها أمّ عمرو، وكان رسوله إليها خالدا، وهو ابن أخت له وقيل ابن عمّ له، وكان جميلا، فعشقته أمّ عمرو، فلما أيقن أبو ذؤيب بغدر خالد صرمها، فأرسلت تترضّاه فلم يفعل، وقال هذه الأبيات.
وكان أبو ذؤيب فعل كذلك برجل يقال له مالك بن عويمر، وكان رسوله إليها.
وتقدّم شرح هذه القصّة مبسوطا بأبسط من هذا في الشاهد الثامن والأربعين بعد الثلثمائة (5).
__________
(1) البيت لأبي ثروان العكلي في لسان العرب (أتل) ولعفير بن المتمرس العكلي في تاج العروس (أتل). وهو بلا نسبة في الدرر 4/ 69وهمع الهوامع 2/ 5.
(2) كلمة: = الهذلي =. ساقطة من النسخة الشنقيطية.
الأبيات في ديوان أبي ذؤيب ص 33وديوان الهذليين 1/ 159وشرح أشعار الهذليين 1/ 219.
(3) البيت لأبي ذؤيب في ديوانه ص 33. وهو بلا نسبة في المخصص 10/ 119.
(4) البيت لأبي ذؤيب الهذلي ص 33والأغاني 6/ 258والدرر 1/ 201، 3/ 154وديوان الهذليين 1/ 159وشرح أشعار الهذليين 1/ 219وشرح شواهد الإيضاح ص 180والمقاصد النحوية 1/ 295. وهو بلا نسبة في تذكرة النحاة ص 44وشرح التصريح 1/ 105وهمع الهوامع 1/ 63، 220.
(5) الخزانة الجزء الخامس ص 75وما بعدها.(8/517)
قال السكري: أراد: فتحفظني بالغيب، أو في بعض ما تظهر لي من الإخاء والمودة. و «الغيب»: السّرّ.
وقوله: «فكنت كرقراق» إلخ، قال السكري: يقول (1): ظننت أنّ لك أمانة، فكنت كالسّراب الذي يكذب من رآه، يظنّ أنّه ماء وليس بماء، وكذلك أنت.
وقوله: «فآليت» إلخ، هذا البيت من شواهد النحويين في باب المفعول معه.
و «آليت»: حلفت. و «لا أنفكّ»: لا أزال. وأحذو (2)، رواه السكري بالذّال المعجمة لا غير، بمعنى أطابق.
قال ابن السيد في «شرح أبيات الجمل»: ومعنى أحذو: أصنع وأهيّئ كما تحذى النّعل على المثال، إذا سوّيت عليه. ومن روى: «أحدو» بدال غير معجمة فهو من قولهم: حدوت البعير إذا سقته، وأنت تتغنّى في أثره، لينشط في السير.
ونقل العيني عن ابن يسعون أنه قال على هذه الرواية: عندي في «أحدو» ثلاثة أوجه:
الأول: أن يريد أحدو قصيدة إليك، أي: أسوقها حاديا، كما يفعل الحادي بالإبل عند سوقها، لأنه يتغنّى، وإنما أراد بذلك الشّهرة.
الثاني: أن يريد أحدو غدرتك لي قصيدة أبلغ بتخليدها فيك أملي. فحذف المفعول للحال الدالة عليه، ونصب قصيدة نصب المصدر، أي: حدو قصيدة، فلمّا حذف المضاف، أقام المضاف إليه مقامه.
الثالث: أن يريد: أتحدّى لها، وأتبعها ناظما لها، حتّى كأنه قال: أوالي قصيدة.
__________
(1) القصيدة التي يذكرها البغدادي هنا للعديل في الحماسة برواية الجواليقي ص 209206وشرح الحماسة للأعلم 1/ 194188وشرح الحماسة للتبريزي 2/ 130126. وليست في هذه الحماسيات البيت المذكور.
وفي حاشية الحماسة برواية الجواليقي ص 206: = القصيدة ليست للعديل وإنما لأبي الأخيل العجلي كما في منتهى الطلب، وقد نبه أبو رياش على هذا الوهم =.
يقول أبو رياش: = ليست هذه الأبيات للعديل، وهي قصيدة طويلة لأبي الأخيل العجلي، قالها في آخر أيام بني أمية =.
(2) في النسخة الشنقيطية: = وأحدو =. بالدال المهملة.(8/519)
ثم قال العيني: وقال السكري: أحدو معناه: أغنّي، فعلى هذا ينبغي أن يكون قوله قصيدة مفعولا بإسقاط حرف الجرّ، وهو الباء. اه.
أقول: إنّ السكري لم يرو أحدو، بدال مهملة، فكيف يفسّرها بما ذكر. وإنما أحدو معناه أسوق، فلا حذف (1).
وقوله: «تكون وإيّاها» إلخ، قال ابن السيد: تكون في موضع الصفة لقصيدة، وهي صفة جرت على غير من هي له، ولو جعلتها صفة محضة لبرز الضمير الفاعل المستتر فيها، وكنت تقول: كائنا بها أنت وإيّاها.
والضمير في قوله: «وإيّاها» يعود على المرأة، كأنه قال: حلفت لا أزال أصنع قصيدة تكون مع هذه المرأة مثلا بعدي، أي: إنّها تبقى ما بقي الدهر.
قال العيني: فإن قلت: كيف يكون مثلا خبرا، والتطابق شرط؟ قلت: هو مفرد وقع موقع التثنية، وكذلك قد يقع موقع الجمع لما فيه من العموم المقتضي للكثرة. هذا كلامه. فتأمّله.
قال أبو عليّ: نصب وإيّاها على المفعول معه بتوسّط الواو لمّا لم يمكنه العطف، فيقول: «تكون وهي»، لأمرين:
أحدهما: كسر البيت لو فعل ذلك.
والثاني: قبح العطف على الضمير المرفوع وهو غير مؤكّد.
وقال ابن برّيّ في «شرح أبيات الإيضاح لأبي علي»: لمّا لم يمكنه العطف على الضمير في تكون من غير تأكيد نصب على معنى مع. وكان أبو الحسن يذهب إلى انتصابه على الظرف كما كانت مع، فلما حذفت وقامت الواو مقامها انتصب الاسم على ذلك المعنى، ودخلت مهيّئة لعمل الفعل فيه ونصبه على الظرف.
ومعنى العطف قائم فيها وجائز فيها، ولذلك لم تعمل الجرّ كما لا تعمله حروف العطف، بخلاف واو القسم لأنّ معنى العطف معدوم فيها.
__________
(1) يبدو أن البغدادي سها هنا بقوله هذا. ففي شرح أشعار الهذليين روى السكري: = أحذو = بالذال المعجمة، ثم عند الشرح قال: = من قال: أحذو قال: أقول، ومن قال: أحدو، قال أغني =. وفي ديوان الهذليين 1/ 159: = وسمعت من قال: أحذو، يعني أقول. ومن قال: أحدو، قال: أغني بها =.(8/520)
والصواب مذهب الجمهور لأنّ وجود معنى العطف فيه ينافي الظّرفية، لأنّ العطف في التقدير من جملة أخرى، والظرف من الجملة الأولى، ولأنّ تقديره بفي بعيد، إذ لا يجوز تقديرها قبل الواو لفصلها بين الجارّ والمجرور، ولا بعدها لفصلها بين الفعل، وما تعلّق به. انتهى كلامه.
وقال السكري: روى الباهليّ: «أدعك وإيّاها»، ويروى (1): «أذرك وإيّاها» فجزم لكثرة الحركات.
وروى أيضا (2):
* تكونان فيها للملا مثلا بعدي *
وعلى هذه الروايات الثلاث لا شاهد فيه.
وترجمة أبي ذؤيب، وهو شاعر إسلاميّ، تقدمت في الشاهد السابع والستين (3).
* * * وأنشد بعده، وهو الشاهد الواحد والستون بعد الستمائة (4): (الطويل)
661 - ولا صلح حتّى تضبعون ونضبعا
على أنّ «حتّى» فيه ابتدائية والفعل بعدها مرفوع بثبوت النون، ونصب «نضبع» بالعطف على توهّم نصب ما قبله.
__________
(1) في طبعة بولاق: = ويرى =. وهو تصحيف صوابه من النسخة الشنقيطية.
(2) في شرح أشعار الهذليين للسكري 1/ 219: = ويروى: أذرك وإياها =. وفي ديوان الهذليين 1/ 159:
= أدعك وإياها =.
(3) الخزانة الجزء الأول ص 403.
(4) عجز بيت لعمرو بن شأس وصدره:
* نذود الملوك عنكم وتذودنا *
والبيت لعمرو بن شأس في ديوانه ص 37ولسان العرب (ضبع) والمعاني الكبير ص 840. وهو بلا نسبة في إصلاح المنطق ص 196ومجالس ثعلب ص 50.(8/521)
ومع ذلك فإنّ الإيجاب على غير شرط أصل الكلام، وإزالة اللفظ عن جهته في الفروع أحسن منها في الأصول، لأنها أدلّ على المعاني. انتهى.
ونقل أبو علي هذه العبارة بعينها في «التذكرة».
وأورد ابن عصفور في «كتاب الضرائر» لهذا البيت نظائر ثم قال: لمّا اضطرّ إلى استعمال النصب بدل الرفع، حكم لها حكم الأفعال الواقعة بعد الفاء في الأجوبة الثمانية، فنصب بإضمار أن، وتؤوّلت الأفعال التي قبلها تأويلا يوجب النصب، فحكم لقوله وألحق بالحجاز بحكم: ويكون (1) منّي لحاق بالحجاز فاستراحة، فعطفت بالفاء على المصدر المتوهّم. انتهى.
فقول الدماميني في «الحاشية الهندية»: النصب على حدّ:
* ولبس عباءة وتقرّ عيني *
غير جيّد. وقال أيضا: لقائل أن يقول: لا نسلّم (2) أنّ أستريح منصوب، بل هو مرفوع مؤكّد بالنون الخفيفة، موقوفا عليها بالألف، وتأكيد مثل هذا جائز في الضرورة.
قال سيبويه: يجوز للمضطرّ: أنت تفعلنّ. ولا شكّ أنّ التخريج على هذا متّجه، بخلاف التخريج على النصب مع فقد شرطه.
هذا كلامه.
وهو من باب غسل الدم بالدم، لأنه تفصّى من ضرورة، ولجأ إلى ضرورة، وشرط كلّ من النصب والتأكيد مفقود.
ونقل الدماميني أنّ بعضهم رام تخريجه على النصب في جواب النفي المعنويّ المستفاد من قوله: «سأترك منزلي»، إذ معناه: لا أقيم به. ثم تعقّبه بأنّه غير متّجه، لأنّ جواب النفي منفيّ لا ثابت، نحو: ما جاء زيد فأكرمه، بالنصب، والاستراحة ثابتة لا منفية.
__________
(1) كلمة: = ويكون = ساقطة من النسخة الشنقيطية وشرح أبيات المغني.
(2) كذا في طبعة بولاق وشرح أبيات المغني 4/ 116. وفي النسخة الشنقيطية: = أن يقول لأتم =. وكتب في حاشيتها: = كذا بخطه، والصواب: لا نسلم =.(8/525)
والبيت لم يعزه أحد من خدمة كتاب سيبويه (1) إلى قائل معيّن.
ونسبه العينيّ وتبعه السّيوطيّ في «أبيات المغني» إلى المغيرة بن حبناء بن عمرو بن ربيعة الحنظلي التميمي (2). وقد رجعت إلى ديوانه وهو صغير فلم أجده فيه.
و «المغيرة» شاعر إسلاميّ من شعراء الدولة الأموية، وغالب شعره (3) هجو في أخيه صخر.
وقال صاحب الأغاني (4): وحبناء: لقب على امه غلب على أبيه، واسمه حبين.
هاجى زيادا الأعجم. وحبناء، بفتح المهملة وسكون الموحدة بعدها نون وألف ممدودة. وحبين بضم المهملة وفتح الموحدة.
* * * وأنشد بعده، وهو الشاهد الثالث والستون بعد الستمائة، وهو من شواهد سيبويه (5): (الطويل)
__________
(1) في طبعة بولاق والنسخة الشنقيطية: = أحد من خدمة كلام سيبويه =. وهو تصحيف. وكتب في حواشي النسخة الشنقيطية: = كذا بخطه، والصواب: خدمة كتاب =.
(2) في طبعتي بولاق وهارون والنسخة الشنقيطية: = الحنظلي التيمي =. وهو تصحيف صوابه من شرح أبيات المغني للبغدادي 4/ 116.
(3) في طبعة بولاق: = وقال شعره =. وهو تصحيف صوابه من النسخة الشنقيطية وشرح أبيات المغني للبغدادي.
(4) الأغاني 13/ 84. وفيه: = وحبناء: لقب غلب على أبيه واسمه جبير بن عمرو، ولقب بذلك لحبن كان أصابه =.
انظر في أخباره وترجمته الأغاني 13/ 84وسمط اللآلئ ص 715وشرح أبيات المغني 4/ 116والشعر والشعراء 1/ 319والمؤتلف والمختلف ص 148.
(5) هو الإنشاد الرابع والسبعون بعد المائتين في شرح أبيات المغني للبغدادي.
والبيت لجميل بثينة في ديوانه ص 137والأغاني 8/ 146والدرر 4/ 81وشرح أبيات المغني 4/ 55وشرح أبيات سيبويه 2/ 201وشرح التصريح 2/ 240وشرح شواهد المغني 1/ 474وشرح المفصل 7/ 36، 37 ولسان العرب (سملق) والمقاصد النحوية 4/ 403. وهو بلا نسبة في أوضح المسالك 4/ 185والجنى الداني ص 76والدرر 6/ 86والرد على النحاة ص 127ورصف المباني ص 378، 385وشرح شذور الذهب ص 388والكتاب 3/ 37ولسان العرب (حدب ومغني اللبيب 1/ 168وهمع الهوامع 2/ 11، 131.(8/526)
663 - ألم تسأل الرّبع القواء فينطق
هذا صدر، وعجزه:
* وهل تخبرنك اليوم بيداء سملق
على أن ما بعد «فاء السببية» قد يبقى على رفعه قليلا، وهو مستأنف.
وأنشد سيبويه هذا البيت، وقال: لم يجعل الأول سبب الآخر، ولكنه جعله ينطق على كلّ حال، كأنه قال: وهو ممّا ينطق، كما قال: ائتني وأحدّثك، فجعل نفسه ممن يحدّثه على كلّ حال.
وزعم يونس أنّه سمع هذا البيت بألم. وإنما كتبت ذا لئلّا يقول إنسان فلعلّ الشاعر، قال: ألا. انتهى.
قال أبو جعفر النحاس عن أبي إسحاق، قال: إنه تقرير، معناه: إنّك سألته.
فيقبح النصب لأنّ المعنى يكون: إنك إن تسأله ينطق.
ويمنع سيبويه أن يروى: «ألا تسأل الربع» لأنه لو رواه كذا حسن النصب، لأنّ معناه فإنّك إن تسأله ينطق.
قال أبو الحسن (1): {«أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللََّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمََاءِ مََاءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً».} والقواء: التي لا تنبت. و «السّملق»: الخالية. انتهى.
قال الأعلم: الشاهد فيه رفع ينطق على الاستئناف والقطع، على معنى فهو ينطق، وإيجاب ذلك له. ولو أمكنه النصب على الجواب لكان أحسن. و «الرّبع»:
المنزل. و «القواء»: القفر. وجعله ناطقا للاعتبار بدروسه وتغيّره. ثم حقّق أنه لا يجيب ولا يخبر سائله، لعدم القاطنين به. و «البيداء»: القفر. و «السّملق»: التي لا شي بها. انتهى.
وأورده الفراء عند هذه الآية من «تفسيره» قال: رفعت فتصبح لأنّ المعنى في ألم تر، معناه خبر، كأنك قلت في الكلام: أعلم أن الله ينزل من السماء ماء، فتصبح الأرض.
__________
(1) سورة الحج: 22/ 63.(8/527)
والبيت مطلع قصيدة لجميل بن معمر العذريّ.
وبعده (1):
بمختلف الأرواح بين سويقة ... وأحدب كادت بعد عهدك تخلق (2)
أضرّت بها النّكباء كلّ عشيّة ... ونفح الصّبا والوابل المتبعّق (3)
وقفت بها حتّى تجلّت عمايتي ... وملّ الوقوف الأرحبيّ المنوّق
وقال خليلي إنّ ذا لصبابة ... ألا تزجر القلب اللّجوج فيلحق
تعزّ وإن كانت عليك كريمة ... لعلّك من أسباب بثنة تعتق
فقلت له إنّ البعاد يشوقني ... وبعض بعاد البين والنّأي أشوق
روى صاحب الأغاني (4) عن الهيثم أنّ جميلا طال مقامه بالشام، ثم قدم وبلغ بثينة خبره، فراسلته مع بعض نساء الحيّ، تذكر شوقها إليه، ووجدها به (5)، وواعدته لموضع، يلتقيان فيه، فصار إليها، وحادثها طويلا وأخبرها بحاله بعدها، وقد كان أهلها رصدوها، فلمّا فقدوها، تبعها أبوها وأخوها، حتّى هجما عليها، فوثب جميل، فسلّ سيفه (6)، وشدّ عليهما، فاتّقياه بالهرب، وناشدته بثينة بالانصراف، وقالت له: إن أقمت فضحتني، ولعلّ الحيّ أن يلحقوك!
فأبى وقال: أنا مقيم، وامضي أنت وليصنعوا ما أحبّوا! فلم تزل به تناشده حتّى انصرف. وقال في ذلك وقد هجرته مدّة طويلة ولم تلقه (7)، هذه القصيدة وهي طويلة.
__________
(1) الأبيات في ديوان جميل تحقيق يعقوب ص 138137وديوانه تحقيق نصار ص 145144 والأغاني 8/ 146145وبعضها في المقاصد النحوية 4/ 403.
(2) في معجم البلدان (أحدب): = الأحدب بفتح الدال والباء الموحدة: جبل في ديار بني فزارة، وقيل: هو أحد الأثبرة =.
والبيت لجميل في ديوانه يعقوب ص 137وشرح شواهد المغني 1/ 474ومعاهد التنصيص 4/ 403. وهو بلا نسبة في تاج العروس (حدب) ولسان العرب (حدب).
(3) في طبعة بولاق: = ونفخ =. بالخاء المعجمة وهو تصحيف صوابه من طبعتي ديوانيه والنسخة الشنقيطية.
(4) الأغاني 8/ 145.
(5) بعده في الأغاني: = وطلبها للحيلة في لقائه =.
(6) في الأغاني: = فانتضى سيفه =.
(7) في النسخة الشنقيطية: = فلم تلقه =. وفي الأغاني: = وقد هجرته وانقطع التلاقي بينهما مدة =.(8/529)
قوله: «ألم تسأل الربع» إلخ، قال اللخمي في «شرح أبيات الجمل»، «الرّبع»: الدار بعينها حيثما كانت. والمربع: المنزل في الربيع خاصة. و «القواء»:
القفر. يقال: ربع قواء ودار قواء، أي: خالية.
و «البيداء»: القفر الذي يبيد من سلكه، أي: يهلكه. و «السّملق»:
الأرض التي لا تنبت شيئا، وقيل: هي السّهلة المستوية. ومفعول تسأل الثاني محذوف، والتقدير: ألم تسأل الربع عن أهله فينطق. انتهى.
وقال ابن السيد: ومعنى نطق الربع ما يتبيّن من آثاره. والعرب تسمّي كلّ دليل نطقا وقولا وكلاما. قال الله تعالى (1): {«هََذََا كِتََابُنََا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ».} ومنه قول زهير (2):
* أمن أمّ أوفى دمنة لم تكلّم *
أي: لم يكن بها أثر يستبان لقدم عهدها بالنّزول فيها ونحوه (3). انتهى.
وقوله: «وهل تخبرنك (4) اليوم» إلخ، ردّ على نفسه بأنّ مثله لا ينطق فيجيب. وهذا رجوع إلى الحقيقة بعد المجاز.
ومثله ما أنشده أبو الفرج الأصبهاني في «الأغاني» (5) لمحمد بن عبد الله بن مسلم بن المولى، مولى الأنصار، من مخضرمي الدّولتين، يمدح المهديّ (6): (الطويل)
سلا دار ليلى هل تبين فتنطق ... وأنّى تردّ القول بيداء سملق
__________
(1) سورة الجاثية: 45/ 29.
(2) صدر بيت لزهير وعجزه:
* بحومانة الدراج فالمتثلم *
والبيت لزهير بن أبي سلمى في ديوانه ص 4وتاج العروس (درج، ثلم، حمن) وتهذيب اللغة 5/ 121، 278 وجمهرة اللغة ص 447، 1313ولسان العرب (درج، ثلم، حمن).
(3) سياق الكلام هنا مقطوع. ففي شرح أبيات المغني 4/ 56: = عهدها بالنزول فيها، ونحوه قال الرضي =.
(4) في طبعة بولاق: = وهل يخبرنك =.
(5) الأغاني 3/ 285.
(6) البيتان لابن المولى في الأغاني 3/ 285.(8/530)
وأنّى تردّ القول دار كأنّها ... لطول بلاها والتّقادم مهرق
وقوله: «فينطق» الفاء للاستئناف، وجملة: «ينطق» خبر مبتدأ محذوف، أي: فهو ينطق.
قال صاحب الكشاف (1) عند قوله تعالى (2): {«وَهُوَ اللََّهُ فِي السَّمََاوََاتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ»}: «يعلم» جملة مستأنفة، أي: هو يعلم سرّكم.
قال التفتازاني: جرت عادته في مثل هذا، بتقدير المبتدأ، ولا يظهر له وجه يعتدّ به. وقال في «التلويح» في قوله تعالى (3): {«وَالرََّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنََّا بِهِ».}
هكذا قال جار الله في «الكشّاف والمفصّل»، فيقدّر المبتدأ في جميع ما هو من هذا القبيل. وفيه نظر لأنّ الجملة الفعلية صالحة للابتداء من غير احتياج إلى تقدير مبتدأ.
وفي شرح التسهيل «للدّماميني»: النحويون يقدّرون في الاستئناف مبتدأ، وذلك إمّا لقصد إيضاح الاستئناف، وإمّا لأنه لا يستأنف إلّا على هذا التقدير. وإلّا لزم العطف الذي هو مقتضى الظاهر. انتهى.
قال شيخنا الشهاب الخفاجي في بعض رسائله: حاصله أنّ الجملة المضارعيّة المستأنفة يقتضى كلام المفسرين والنّحاة، أنه لا بدّ فيها من تقدير ضمير مبتدأ.
واستشكله المتأخّرون بأنه لا ضرورة تدعو إليه، فإنه يجوز الاستئناف بدونه. ولم يدفعه أحد، فظنّوا أنه وارد غير مندفع.
ولمّا تأمّلت ما قالوه حقّ التأمّل ظهر لي أنّ الحق ما قالوه، وأنه لا بدّ من هذا التقدير، لأنّك إذا وقفت على قوله: في الأرض من غير تقدير لم يقع موقعه، إذ لم يفد ما يحسن السكوت عليه. والضمير المستتر خفيّ لا يظهر بادي الرأي. فإذا قلت يعلم لم يعلم من العالم. فإذا كان المبتدأ ظاهرا أو [في] (4) حكمه علم المراد.
__________
(1) الكشاف 2/ 4. ولم يرد الكلام بنصه فيه.
(2) سورة الأنعام: 6/ 3.
(3) سورة آل عمران: 3/ 7.
(4) زيادة يقتضيها السياق من طبعة هارون.(8/531)
«غيابتي» بالغين المعجمة (1). و «الغيابة»: الظّلمة، وقعر البئر ونحوها.
و «الأرحبيّ»: الجمل النجيب، منسوب إلى أرحب بالحاء المهملة: قبيلة، وقيل:
فحل، وقيل: موضع.
وروى بدله (2): «العنتريس»، وهو الجمل الشّديد الصلب. و «المنوّق»:
المذلّل كالناقة.
وقوله: «لعلّك من أسباب بثنة» روى بدله: «لعلّك من رقّ لبثنة».
وجميل بن معمر شاعر إسلامي، تقدمت ترجمته في الشاهد الثاني والستين من أوائل الكتاب (3).
* * * وأنشد بعده، وهو الشاهد الرابع والستون بعد الستمائة (4): (الكامل)
664 - لم تدر ما جزع عليك فتجزع
لما تقدّم قبله.
وهو عجز، وصدره:
* ولقد تركت صبيّة مرحومة *
قال ابن هشام في «المغني»: وللاستئناف وجه آخر، وهو أن يكون على معنى
__________
(1) هي رواية المقاصد النحوية 4/ 403.
(2) هي الرواية المشهورة وهي رواية ديوانه.
(3) الخزانة الجزء الأول ص 380.
(4) هو الإنشاد التاسع والعشرون بعد السبعمائة في شرح أبيات المغني للبغدادي.
والبيت لمويلك المزموم من قطعة يرثي بها امرأته أم العلاء وهو في الحماسة برواية الجواليقي ص 255وشرح أبيات المغني 7/ 59وشرح الحماسة للأعلم 1/ 591وشرح الحماسة للتبريزي 2/ 186وشرح الحماسة للمرزوقي ص 903. وهو بلا نسبة في شرح شواهد المغني 2/ 872والمحتسب 1/ 193ومغني اللبيب 2/ 481.(8/533)
و: فما تحلّ على قوم ترتحل، [أي] (1) معتقدة للارتحال، ولم يكن بيننا شرّ نصطلح من أجله (2)، ولم تدر ما جزع عليك جازعة، أي: تركت صبية جازعة، وإن لم تعرف الجزع، أي: صورتها صورة الجازعة.
فإن قلت: فهل هناك أمّ غير باكية، أو أخت غير مفتقدة؟ قيل: ليس نفي الشيء عندنا إثباتا لضدّه. ألا ترى لو قلت (3): إنّ زيدا لم يعزّني (4) لم يكن في هذا دليل على أنه قد أهانك.
وقال أبو الحسن في قوله تعالى (5): {«يََا لَيْتَنََا نُرَدُّ وَلََا نُكَذِّبَ بِآيََاتِ رَبِّنََا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ»}، قال: هو في اللفظ معطوف، وفي المعنى جواب، قال: وذلك أنّهم إذا تمنّوا (6) الردّ ولم يتمنّوا ترك التكذيب ولا الإيمان، بل أوجبوه (7) على أنفسهم عند الردّ، فكان يجب النصب، أي: إن رددنا آمنّا ولم نكذّب.
قال: ولكنه جرى في اللفظ معطوفا، والمعنى معنى الجواب. وشبهه في الحمل على اللفظ والمعنى مخالف لقراءة من قرأ (8): {«وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ»}
__________
الورقة 131وهو:
فلا أم فتبكيه ... ولا أخت فتفتقده
(1) زيادة يقتضيها السياق من النسخة الشنقيطية وإعراب الحماسة.
وفي شرح أبيات المغني للبغدادي 7/ 60جاء النقل مختلفا لذلك وللفائدة نسوقه وهو: = الفاء زائدة، كأنك قلت: لم تدر ما جزع عليك جازعة، أي: تركت صبيّة جازعة وإن لم تعرف الجزع، أي: صورتها صورة الجازعة، وقد يجوز أن يكون قوله: فتجزع مستأنفا، أي: فهي تجزع، أي: مع أنها لا تعرف الجزع جازعة، أي: حالها حال الفاقدة الجازعة =.
(2) هنا إشارة أخرى إلى بيت آخر أنشده ابن جني في إعراب الحماسة الورقة 132وهو للبحتري في ديوانه ص 116من قصيدة يمدح بها الحسن بن مخلد وتمام البيت:
يريغ كاتبه صلحي لينقصني ... ولم يكن بيننا شر فنصطلح
(3) في إعراب الحماسة لابن جني: = ألا تراك إذا قلت =.
(4) في إعراب الحماسة لابن جني: = لم يكرمني =.
(5) سورة الأنعام: 6/ 27.
(6) في إعراب الحماسة: = لما تمنوا =.
(7) في إعراب الحماسة: = بل أوجبوهما =.
(8) سورة المائدة: 5/ 6.
في طبعة بولاق والنسخة الشنقيطية: = فامسحوا = بالفاء وهو تحريف.(8/535)
بالجر، فهذا يقتضي مسح الرجلين. وإنّما المفروض فيهما الغسل (1) ولكنّه جرى في اللفظ على الجرّ، والمعنى معنى النصب.
وهذا لعمري متوجّه في قوله:
* فما تحلّ على قوم فترتحل *
لأنّ هناك مرفوعا قبله. فأما قوله:
* لم تدر ما جزع عليك فتجزع *
فليس في قوله قبله مرفوع فيعطف عليه. وقد يجوز أن يكون أراد فهي تبكيه، وهي تفتقده (2) على أنه وضع الجملة المركبة من المبتدأ والخبر موضع الفعل المنصوب على الجواب.
ومثله قوله تعالى (3): {«هَلْ لَكُمْ مِنْ مََا مَلَكَتْ أَيْمََانُكُمْ مِنْ شُرَكََاءَ فِي مََا رَزَقْنََاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوََاءٌ»}: [أي] (4): فتستووا. ومثله (5): {«أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرى ََ»،}
أي: فيرى. فاعرف تفصيل ذلك.
هذا كلام ابن جني.
وأورده في «المحتسب» أيضا عند قراءة الحسن ويزيد النّحويّ: {«يََا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً} [6]» بالرفع.
__________
وهي قراءة ابن كثير وأبي عمرو وحمزة وأبي بكر وأنس وعكرمة والشعبي والباقر وقتادة وعلقمة والضحاك.
وقرأ الحسن: = وأرجلكم = بالرفع. انظر في ذلك تفسير أبي حيان 3/ 834437وإتحاف فضلاء البشر ص 198.
(1) في طبعة بولاق: = المسح =. وهو تصحيف صوابه من النسخة الشنقيطية وإعراب الحماسة.
(2) في طبعة بولاق: = تفقده =. وفي النسخة الشنقيطية: = مفتقدة =. وكلاهما تصحيف صوابه من إعراب الحماسة لابن جني.
(3) سورة الروم: 30/ 28.
(4) زيادة يقتضيها السياق من إعراب الحماسة.
(5) سورة النجم: 53/ 35.
(6) سورة النساء: 4/ 73.(8/536)
فلقد تركت صغيرة مرحومة ... البيت
فقدت شمائل من لزامك حلوة ... فتبيت تسهر ليلها وتفجّع
فإذا سمعت أنينها في ليلها ... طفقت عليك شؤون عيني تدمع
وزاد الأعلم [في حماسته] (1) بعد هذا ستة أبيات أخر.
وقوله: «امرر على الجدث» إلخ، هو بفتح الجيم: القبر. وروي: «فحيّها» بدل «فنادها». و «هل» بدل «لو».
قال الطّبرسيّ (2) في «شرحه»: يقول: امرر على القبر الذي دفنت فيه، وسلّم عليها، إن كانت تسمع. وهذا توجّع وتلهّف. وروى: «هل تسمع». والفرق أنّ «لو» فائدته الشرط، وهل من حيث كان استفهاما كلام راج لسماعها، فكأنه قال: وانظر هل تسمع.
وقوله: «أنّى حللت» إلخ، قال ابن جني: الهاء في فروقة مع المؤنث مثلها مع المذكّر، لا فرق بينهما في الحال.
وإن المراد فيهما معنى الغاية والمبالغة. وكذلك رجل راوية وامرأة راوية، وكذا علّامة ونسّابة، لم تدخل هذه الهاء على المؤنث، لأنها لو كانت كذلك لما لحقت المذكر. وهذا قاطع. انتهى.
وقوله: «جدّ فروقة»، أي: كنت فروقة جدا لا هزلا، وحقّا لا باطلا.
و «البلد» (3): القطعة من الأرض.
يقول: كيف أقمت في بلد قفر إذا مرّ به الرّجل الشجاع استولى عليه الفزع، وعهدي بك أنّك كنت أشدّ الناس خوفا، وأضعفهم قلبا.
__________
(1) زيادة يقتضيها السياق من شرح أبيات المغني للبغدادي.
(2) في طبعة بولاق والنسخة الشنقيطية: = الطيبرسي =. وهو تصحيف.
وهو أمين الدين أبو علي الفضل بن الحسن بن الفضل الطبرسي، مفسر لغوي من أعيان الشيعة الإمامية. من أشهر كتبه مجمع البيان لعلوم القرآن، ومختصر الكشاف. توفي سنة 548هـ. إنباه الرواة 3/ 76وأعيان الشيعة 42/ 282276ومعجم المؤلفين 8/ 66.
(3) في جميع طبعات الخزانة: = البلدة =. وهو سهو من البغدادي، أو تحريف من الناسخ.
وفي شرح الحماسة للأعلم: = وأراد بالبلد موضع القبر، أي هو موحش =.(8/538)
وقوله: «صلّى عليك الله» إلخ، الصّلاة من الله: الرحمة، ومن العبد:
الدّعاء. و «لا يلائمك»: لا يوافقك. و «البلقع»: الخالي. و «من مفقودة»:
تمييز.
وقوله: «فلقد تركت صغيرة» إلخ، قد تقدّم أنّ ابن جني جوّز وجهين: أن يكون فتجزع صفة لصغيرة، وأن يكون استئنافا. واختار المرزوقيّ الاستئناف، وقال: أراد أنّها من صغرها لا تعرف المصيبة ولا الجزع لها، فهي على حالها تجزع (1)، لأنّ ما تأتيه من الضّجر والبكاء وتتركه من النوم والقرار فعل الجازعين.
وقوله: «فقدت شمائل» إلخ، جمع الشّمال بالكسر، وهي الطبيعة. يقول:
كانت قد اعتادت منك أخلاقا جميلة ففقدتها، فبقيت لا تنام ولا تنيم (2) بل تفجّع وتوجّع، فإذا سمعت شكواها وبكاءها، أقبلت شؤون رأسي، تسحّ بالبكاء ولها عليك.
و «طفقت»: شرعت. و «الشؤون»: جمع شأن، وهو الشعب الذي يجمع بين القبيلتين من قبائل الرأس، وهي القطعة المشعوب بعضها إلى بعض. ويقال: إنّ الدمع يجري من الشّأن.
و «مويلك»: مصغر مالك. و «المزموم»: اسم مفعول من زممت الناقة، أي: وضعت عليها الزمام.
والظاهر أنه شاعر إسلاميّ (3). ولم أقف على نسبه حتّى أكشف عنه في «الجمهرة»، ولا على ترجمته. والله أعلم.
* * * __________
(1) عبارة المرزوقي في شرح الحماسة: = لا تجزع = بزيادة = لا = وهي لا تنسجم مع ما أراد من المعنى.
(2) في النسخة الشنقيطية: = ولا تقيم =. وهو تصحيف صوابه من طبعة بولاق وشرح أبيات المغني للبغدادي 7/ 61.
والمثل جاء بلفظ: = السليم لا ينام ولا ينيم =. وهو في الفاخر ص 202ومجمع الأمثال 2/ 418.
(3) مالك، ويقال مويلك المزموم شاعر ربعيّ ذهلي من شعراء البحرين ويبدو من أبياته أنه من العهد الإسلامي.
شرح أبيات المغني 7/ 61ومعجم الشعراء ص 363.(8/539)
وأنشد بعده، وهو الشاهد الخامس والستون بعد الستمائة، وهو من شواهد س (1): (الخفيف)
665 - غير أنّا لم يأتنا بيقين
فنرجّي ونكثر التّأميلا
على أنّ ما بعد الفاء هنا على القطع والاستئناف، أي: فنحن نرجّي.
قال سيبويه عند توجيه النصب في: ما (2) تأتينا فتحدّثنا: وإن شئت رفعت على وجه آخر، كأنك قلت: فأنت تحدّثنا.
ومثل ذلك قول بعض الحارثيّين:
غير أنّا لم تأتنا بيقين ... البيت
كأنه قال: فنحن نرجّي. فهذا في موضع مبنيّ على المبتدأ. انتهى (3).
فالإتيان منفيّ وحده، والرّجاء مثبت، وهو المراد. ولا يجوز نصب نرجّي، لأنه يقتضي نفيه، إمّا مع نفي الإتيان وإمّا مع إثباته، كما هو مقتضى النصب، وكلاهما عكس المراد.
ويدلّ لهذا قول أبي علي في «التذكرة»: هو بالرفع، وكذلك الصواب، لأنهم إنما رجوا، وأمّلوا ما لم يأتهم بيقين ولو أتاهم بيقين لآل إلى الترجّي والتأميل بيقينه.
ومثله لابن هشام في «المغني»، قال: المعنى أنه لم يأت باليقين، فنحن نرجو خلاف ما أتى به، لانتفاء اليقين عمّا أتى به. ولو جزمه أو نصبه لفسد معناه، لأنه يصير منتفيا على حدته كالأوّل إذا جزم، ومنفيا على الجمع إذا نصب. وإنما المراد إثباته. انتهى.
__________
(1) هو الإنشاد الثامن والعشرون بعد السبعمائة في شرح أبيات المغني للبغدادي.
والبيت لبعض الحارثيين في الرد على النحاة ص 127وشرح أبيات المغني 7/ 59والكتاب 3/ 31، 33 وللعنبري في شرح المفصل 7/ 36. وهو بلا نسبة في شرح شواهد المغني 2/ 872ومغني اللبيب 2/ 480 والمقرب 1/ 265.
(2) في طبعة بولاق والنسخة الشنقيطية: = فيما =. ولقد أثبتنا رواية طبعة هارون.
(3) الكتاب لسيبويه 1/ 419.(8/540)
على أنّ النفي بالمعنى الثاني، وهو أن يرجع النفي لما بعد الفاء، كثير الاستعمال كما في البيت فإنّ النفي منصبّ على ينطق في المعنى، و «قام» مثبت في تأويل المستقبل، لمناسبة المعطوف.
ولهذا قال الشارح المحقق: أي يقوم، ولا يقوم إلّا بالتي هي أعرف. وإنّما جعل النفي هنا بالمعنى الثاني لأجل الاستثناء، فإنّ الاستثناء المفرّغ لا يكون إلّا مع النفي، فلمّا اعتبر في ينطق صحّ التفريغ.
وجوّز صاحب اللباب أن يكون النفي في البيت على ظاهره من القسم الأوّل.
قال في باب الاستثناء: والمفرّغ لا يكون إلّا في الإثبات. إلى أن قال: ويجوز فيما هو جواب النفي. وأنشد هذا البيت.
قال الفالي في «شرحه»: لا يقال ينبغي أن لا يجوز، لأن قولك فينطق مثبت، ولا يصحّ المفرّغ في المثبت، لأنّ قوله: «فينطق» بالنصب بأن مضمرة، والتقدير:
فأن ينطق، وهذا المصدر معطوف على مصدر منتزع من الأوّل، وهو قام، أي: ما يكون قيام فنطق. فحكم النفي منسحب على القيام والنّطق.
فالنطق في المعنى منفيّ فيصحّ الاستثناء المفرّغ فيه. ونظيره: ما تأتينا فتحدّثنا، بالنصب، أي: ما يكون منك إتيان فتحديث على نفي المركّب، أي: ما يكون منك إتيان كثير، ولا تحديث عقيبه. اه.
وهذا نصّ سيبويه في باب الفاء، قال: وتقول ما أتيتنا فتحدّثنا، والنصب فيه كالنصب في الأوّل، وإن شئت رفعت على معنى فأنت تحدّثنا الساعة. والرفع فيه يجوز على ما.
وإنّما اختير النصب لأنّ الوجه هاهنا، وحدّ الكلام أن تقول: ما أتيتنا (1)
فحدّثتنا، فلمّا صرفوه عن هذا الحدّ ضعف أن يضمّوا يفعل إلى فعلت، فحملوه على الاسم، كما لم يجز أن يضمّوا إلى الاسم في قولهم: ما أنت منّا فتنصرنا يعني أنت ونحوه.
وأمّا الذين رفعوه، فحملوه على موضع أتيتنا، لأنّ أتيتنا في موضع فعل مرفوع، وتحدّثنا هاهنا في موضع حدّثتنا. وتقول: ما تأتينا فتكلّم إلّا بالجميل. فالمعنى:
__________
(1) قوله: = فحدثتنا، فلما صرفوه لأن أتيتنا =. ساقط من النسخة الشنقيطية.(8/542)
إنّك لم تأتنا إلّا تكلّمت بجميل. ونصبه على إضمار أن كما كان نصب ما قبله على إضمار أن. وإن شئت رفعت على الشّركة، كأنه قال: وما تكلّم إلّا بالجميل.
ومثل النصب قول الفرزدق:
وما قام منّا قائم في نديّنا ... فينطق إلّا بالتي هي أعرف
وتقول: لا تأتينا فتحدّثنا إلّا ازددنا فيك رغبة، فالنصب ها هنا كالنصب في ما تأتيني فتحدّثني، إذا أردت معنى ما تأتيني محدّثا، وإنّما أراد معنى ما أتيتني محدّثا، إلا ازددت فيك رغبة.
ومثل ذلك قول اللّعين (1): (الطويل)
وما حلّ سعديّ غريبا ببلدة ... فينسب إلّا الزّبرقان له أب
وتقول: لا يسعني شيء فيعجز عنك، أي: لا يسعني شيء فيكون عاجزا عنك، ولا يسعني شيء، إلّا لم يعجز عنك. هذا معنى الكلام. فإن حملته على الأول قبح المعنى، لأنّك لا تريد أن تقول إنّ الأشياء لا تسعني، ولا تعجز عنك.
فهذا لا ينويه أحد. انتهى كلام سيبويه.
ومنه تعرف وجه جعل الشارح المحقق هذا المثال من النّفي بالمعنى الثاني، وأنّ الرواية بنصب فينطق.
قال الأعلم: الشاهد في نصب «ما» بعد الفاء على الجواب مع دخول إلّا بعده للإيجاب، لأنّها عرضت بعد اتّصال الجواب بالنفي. ونصبه على ما يجب له، فلم يغيّره.
و «النديّ»: المجلس، أي: إذا نطق منّا ناطق في مجلس جماعة، عرف صواب قوله، فلم تردّ مقالته. انتهى.
ومثله لابن السراج، قال في «الأصول»: وتقول ما قام زيد فيحسن إلّا حمد، وما قام زيد فيأكل إلّا طعامه بالنصب.
قال الشاعر:
__________
(1) البيت للعين المنقري في الرد على النحاة ص 124والكتاب 3/ 32.(8/543)
وأنشد بعده:
وما حلّ سعديّ غريبا ببلدة ... فينسب إلّا الزّبرقان له أب
لما تقدّم قبله، أي: يحلّ ولا ينسب.
والكلام فيه كما تقدم قبله. قال الأعلم: الشاهد فيه نصب ما بعد الفاء على الجواب. والرفع جائز، والقول فيه كالقول في الذي قبله. يقول: الزبرقان سيّد قومه وأشهرهم، فإذا تغرّب رجل من سعد، وهم رهط الزبرقان، فسئل عن نسبه، انتسب إليه لشرفه وشهرته. انتهى.
وقد تقدّم الكلام على هذا البيت مفصّلا في الشاهد الرابع والتسعين بعد المائة من باب الحال (1).
* * * وأنشد بعده، وهو الشاهد السابع والستون بعد الستمائة، وهو من شواهد س (2): (الطويل)
667 - نحاول ملكا أو نموت
وهو قطعة من بيت، وهو:
فقلت له لا تبك عينك إنّما ... نحاول ملكا أو نموت فنعذرا
على أنّ سيبويه جوّز الرفع في قوله: «نموت» إمّا بالعطف على نحاول، أو على القطع، أي: نحن نموت.
__________
(1) الخزانة الجزء الثالث ص 195.
(2) البيت لامرئ القيس في ديوانه ص 66والأزهية ص 122وشرح أبيات سيبويه 2/ 59وشرح المفصل 7/ 22، 33والصاحبي في فقه اللغة ص 128وكتاب العين 8/ 438والكتاب 3/ 47واللامات ص 68 ولسان العرب (أوا) والمقتضب 2/ 28. وهو بلا نسبة في أمالي ابن الحاجب 1/ 313والجنى الداني ص 231 والخصائص 1/ 263ورصف المباني ص 133وشرح الأشموني 3/ 558وشرح عمدة الحافظ ص 644 واللمع ص 211.(8/545)
وهذا نصّ سيبويه: واعلم أنّ معنى ما انتصب بعد «أو» على إلّا أن، كما كان معنى ما انتصب بعد الفاء. تقول: لألزمنّك، أو تقضيني حقّي، ولأضربنّك أو تسبقني. فالمعنى لألزمنّك إلّا أن تقضيني، ولأضربنّك إلّا أن تسبقني. هذا معنى النصب.
قال امرؤ القيس:
فقلت له لا تبك عينك ... البيت
والقوافي منصوبة، فالتمثيل على ما ذكرت لك، والمعنى على إلّا أن نموت فنعذرا. ولو رفعت لكان عربيا جيدا (1) على وجهين: على أن تشرك بين الأول والآخر، وعلى أن يكون مبتدأ مقطوعا من الأوّل، يعني أو نحن ممّن يموت.
وقال تعالى (2): {«سَتُدْعَوْنَ إِلى ََ قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقََاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ»}، إن شئت كان على الإشراك، وإن شئت كان على: أو وهم يسلمون. انتهى كلامه.
وقال صاحب التكميل: ويحتمل أن يكون أو هنا للغاية، أي: نحاول الملك إلى أن نموت.
وأما نصب قوله: «فنعذرا» فبالعطف على نموت على رواية النصب، وأما على رواية الرفع فخفيّ. ولهذا حذفه الشارح المحقق من المصراع.
ووجّه نصبه الكرمانيّ في «شرح أبيات الموشح» بأنّ الفاء للسببيّة، وبعدها أن مضمرة في جواب النفي الضّمني، بتأويل «نموت» بلا نبقى. فتأمّل.
و «نعذرا» بالبناء للمفعول، وروى: «نعذر» من أعذر الرجل، إذا أتى بعذر.
وقال ابن السيد في «شرح أبيات الجمل»: وروى: فنعذر، بكسر الذال، أي: نبلغ العذر.
والبيت من قصيدة لامرئ القيس مشتملة على جمل من يواقيت الفصاحة، وجواهر البلاغة، قالها لمّا دخل بلاد الروم مستجيرا بقيصر، لأنّ أباه كان قد ولي بني
__________
(1) في الكتاب لسيبويه: = جائزا =.
(2) سورة الفتح: 48/ 16.(8/546)
أسد فظلمهم، فتعاونوا على قتله، كما تقدّم في ترجمته، فخرج امرؤ القيس إلى قيصر يستمدّه.
قال أبو القاسم السّعديّ في «كتاب مساوي الخمر»: وممّن بلغ به إفشاء سرّه حتفه امرؤ القيس بن حجر الكنديّ. وذلك أنّ المنذر بن ماء السماء عند ما ملك على الحيرة عندما ولّاه أنوشروان ذلك بعد مقتل حجر، وزوال ملك بني آكل المرار، أرسل جيشا من بكر وتغلب في طلب بني آكل المرار، فجيء إليه منهم بستّة عشر رجلا، فضرب أعناقهم في بيوت بني مرينا.
وفي ذلك يقول امرؤ القيس (1): (الوافر)
ألا يا عين بكّي لي شنينا ... وبكّي لي الملوك الذّاهبينا
ملوكا من بني حجر بن عمرو ... يساقون العشيّة يقتلونا
فلو في يوم معركة أصيبوا ... ولكن في بيوت بني مرينا (2)
وفي ذلك أيضا يقول عمرو بن كلثوم في معلّقته (3):
فآبوا بالنّهاب مع السّبايا ... وأبنا بالملوك مصفّدينا
فهرب منه امرؤ القيس، قيل: كان معهم فأفلت، وقيل: سمع بخبرهم، فذهب على وجهه يستجير بالعرب، فبعض يقبله، وبعض يردّه. فخرج إلى الحارث بن أبي شمر الغسّاني، المعروف بابن مارية، وحال الحارث يومئذ بالشام كحال المنذر بن ماء السماء بالعراق، فسأله الجوار والنّصرة، وتوسّل إليه بالخؤولة.
__________
(1) الأبيات لامرئ القيس في ديوانه ص 200.
وفي شرح ديوانه: = قوله: شنينا، هو فعيل من الشن، وهو الصب =.
(2) البيت لامرئ القيس في ديوانه ص 200وتاج العروس (مرن) ولسان العرب (مرن). وهو بلا نسبة في جمهرة اللغة ص 802.
وفي شرح ديوانه: = بنو مرينا: قوم من أهل الحيرة بناحية الكوفة =.
(3) في طبعتي بولاق وهارون والنسخة الشنقيطية: = وأبناء الملوك مصفدينا =. وهذه الرواية الغريبة التي وجدناها في النسختين، لم نجدها في أي مصدر من مصادرنا القديمة الكثيرة التي ذكرت المعلقات في ديوانه، وشرح ابن الأنباري، والنحاس، والزوزني، والتبريزي، وجمهرة أشعار العرب. لذلك أثبتنا الرواية المشهورة، فهي أفضل لسياق المعنى.(8/547)
وذلك أنّ مارية ذات القرطين اللذين يضرب العرب بهما المثل هي أخت هند امرأة جحر، والد امرئ القيس. فأكرمه، وسأله النّصرة على المنذر فاعتذر إليه، وقال له: إنّي لست أقدر على المسير إلى العراق في هذا الوقت، ولكنّي أسير معك إلى الملك قيصر فهو أقوى منّي على ما سألت.
وكانت للحارث وفادة على الملك، فأوفده معه. وهذا قبل أن يغزو المنذر بن ماء السماء إلى الحارث بن أبي شمر وقبل أن يقتله.
وقيل إنّ سبب ما هيّج ما بين المنذر والحارث هذا الحرب (1) إنّما هو إجارة الحارث لامرئ القيس، فتوجّه معه امرؤ القيس إلى بلد الرّوم. وفي ذلك قال هذه القصيدة، ذكر فيها استجارته وخلوصه إلى التوجّه إلى بلد الروم (2): (الطويل)
سما لك شوق بعدما كان أقصرا ... وحلّت سليمى بطن ظبي فعرعرا (3)
فدعها وسلّ الهمّ عنها بجسرة ... ذمول إذا صام النّهار وهجّرا (4)
عليها فتى لم تحمل الأرض مثله ... أبرّ بميثاق وأوفى وأصبرا
إذا قلت هذا صاحب قد رضيته ... وقرّت به العينان بدّلت آخرا (5)
كذلك جدّي لا أصاحب صاحبا ... من النّاس إلّا خانني وتغيّرا
تذكّرت أهلي الصّالحين وقد أتت ... على جمل بنا الرّكاب وأعفرا (6)
__________
(1) وردت كلمة: = الحرب = مذكرة هنا، وهي تذكر وتؤنث. وفي النسخة الشنقيطية: = هكذا بخط المؤلف =.
(2) الأبيات من مطولة في ديوان امرئ القيس ص 7156بخلاف في الترتيب والرواية.
(3) البيت لامرئ القيس في ديوانه ص 56وأساس البلاغة (قصر، سمو) وتاج العروس (عرر، قصر، قوا) والتنبيه والإيضاح 2/ 169ولسان العرب (عرر، قوا).
(4) البيت لامرئ القيس في ديوانه ص 63وأساس البلاغة (جسر) وتاج العروس (هجر، صام) وتهذيب اللغة 12/ 259ولسان العرب (هجر، صوم). وهو بلا نسبة في مقاييس اللغة 3/ 323.
(5) البيت لامرئ القيس في ديوانه ص 69وتاج العروس (أخر) ولسان العرب (أخر).
(6) في حاشية طبعة هارون 8/ 547: = في الديوان 61: على حملى خوص الركاب وأوجرا. وفي الشرح: حملى وأوجر: موضعان قبل الشام. ولم يرسم ياقوت لهذين الموضعين، لكن ذكرهما البكري في رسم (أعفر) استطرادا، كما أفرد رسما خاصا للموضع (أوجر) وقال: موضع بأرض بلقين من الشام قد تقدم ذكره في رسم أعفر.
وكلاهما لم يرسم لخملى، وانفرد البكري في (أعفر) بذكر (خملى) =.(8/548)
أو ستّة آلاف من الجند؟ فاختار ستّمائة من أبناء الملوك. وخفّ على قلب قيصر حتّى نادمه، ففي ذلك يقول (1): (المتقارب)
ونادمت قيصر في ملكه ... فأوجهني وركبت البريدا (2)
إذا ما ازدحمنا على سكّة ... سبقت الفرانق سبقا بعيدا
والفرانق بضم الفاء وكسر النون: الذي يدلّ صاحب البريد على الطريق.
والبريد: دابّة الرسول المستعجل
ثمّ إنّ امرأ القيس لطف محلّه من قيصر، فأدخله الحمّام معه، فرأى غلفة قيصر، فقال (3): (البسيط)
لقد حلفت يمينا غير كاذبة ... إنّك أغلف إلّا ما جنى القمر
وختانة القمر مثل تضربه العرب للأغلف، لأنّ القمر لا يختن أحدا وفي مدّة منادمته لقيصر رأته ابنة قيصر، فعشقته، وراسلته، وصار إليها، وفيها يقول من قصيدة (4): (الطويل)
سموت إليها بعدما نام أهلها ... سموّ حباب الماء حالا على حال (5)
فقالت سباك الله إنّك فاضحي ... ألست ترى السّمّار والنّاس أحوالي (6)
فقلت لها بالله أبرح قاعدا ... ولو قطعوا رأسي لديك وأوصالي (7)
__________
(1) البيتان لامرئ القيس في ديوانه ص 252.
(2) البيت لامرئ القيس في ديوانه ص 253وتاج العروس (وجه) ولسان العرب (وجه).
أوجهه: جعل له وجها عند الناس.
(3) البيت لامرئ القيس في ديوانه ص 280ولسان العرب (قلف).
الأغلف والأقلف، الذي لم يختن.
(4) الأبيات من قصيدة في ديوان امرئ القيس ص 3231.
(5) البيت لامرئ القيس في ديوانه ص 31وتاج العروس (حبب). وهو بلا نسبة في تهذيب اللغة 4/ 10 ولسان العرب (حبب).
(6) البيت لامرئ القيس في ديوانه ص 31وتاج العروس (حول) والدرر 3/ 90ولسان العرب (حول).
وهو بلا نسبة في همع الهوامع 1/ 201.
(7) هو الإنشاد الثامن والستون بعد الثمانمائة في شرح أبيات المغني للبغدادي.(8/550)
وترجمة امرئ القيس تقدّمت في الشاهد التاسع والأربعين (1).
* * * وأنشد بعده، وهو الشاهد الثامن والستون بعد الستمائة، وهو من شواهد سيبويه (2): (البسيط)
668 - إن تركبوا فركوب الخيل عادتنا
أو تنزلون فإنّا معشر نزل
على أنّ «تنزلون» عند الخليل معطوف على «إن تركبوا» على المعنى، وهو المسمّى عطف التوهّم. وقال يونس: هو على القطع، أي: بل أنتم نازلون، وأو بمعنى بل.
وكلّ من الخليل ويونس شيخ سيبويه. وهذا نصّه في الكتاب.
وسألت الخليل رحمه الله عن قول الأعشى:
إن تركبوا فركوب الخيل عادتنا ... البيت
فقال: الكلام ها هنا على قوله يكون كذا، أو يكون كذا، لمّا كان موضعه ما لو قال فيه أتركبون لم ينقص المعنى، صار بمنزلة ولا سابق شيئا (3).
وأما يونس، فقال: أرفعه على الابتداء، كأنه قال: أو أنتم نازلون. وقول يونس أسهل.
__________
(1) الخزانة الجزء الأول ص 321.
(2) هو الإنشاد الواحد والثلاثون بعد التسعمائة في شرح أبيات المغني للبغدادي.
والبيت للأعشى ميمون في ديوانه ص 113والأغاني 9/ 112والدرر 5/ 80وشرح أبيات المغني 8/ 103 وشرح شواهد المغني 2/ 965وشرح القصائد العشر للتبريزي ص 445والصاحبي في فقه اللغة ص 276 والكتاب 3/ 51والمحتسب 1/ 195. وهو بلا نسبة في مغني اللبيب 2/ 683وهمع الهوامع 2/ 60.
(3) في حاشية طبعة هارون 8/ 552: = إشارة إلى الشاهد التالي =. والنص في شرح أبيات المغني للبغدادي 8/ 103.(8/553)
وأما قول الخليل فجعله بمنزلة قول زهير (1): (الطويل)
بدا لي أنّي لست مدرك ما مضى ... ولا سابق شيئا إذا كان جائيا
والإشراك على هذا التوهم بعيد كبعد: ولا سابق شيئا. انتهى (2).
قال الأعلم: الشاهد في رفع تنزلون حملا على معنى إن تركبوا، لأنّ معناه ومعنى أتركبون متقارب. وكأنه قال: أتركبون فذلك عادتنا، أو تنزلون في معظم الحرب، فنحن معروفون بذلك. هذا مذهب الخليل وسيبويه.
وحمله يونس على القطع، والتقدير عنده: أو أنتم تنزلون. وهذا أسهل في اللفظ، والأوّل اصحّ في المعنى والنظم، والخليل ممّن يأخذ بصحّة المعاني ولا يبالي باختلال الألفاظ. انتهى (3).
وكذا نقل ابن هشام في «المغني».
فأنت ترى أنهم حملوه على إضمار المبتدأ بالنقل عن يونس، ولم يقل أحد منهم:
إنّ «أو» بمعنى الإضراب، كما قال الشارح المحقق. ولا ضرورة تلجئه إليه.
واقتصر ابن عصفور في «كتاب الضرائر» (4) على مذهب الخليل، وخصّه بالضرورة، قال: ألا ترى أنّ تنزلون حكمه أن تحذف منه النون للجزم، لأنه معطوف على الفعل المجزوم بأداة الشرط، وهو تركبوا، لكنّه اضطرّ إلى رفعه بالنون فاستعمل الرفع بدل الجزم، حملا على أتركبون المضمّن معنى إن تركبوا، لأنّ الفعل المستفهم عنه جائز فيه أن يضمّن معنى الشرط، إلّا أنّ ما حمل عليه رفع تنزلون لا
__________
(1) هو الإنشاد الثالث والثلاثون بعد المائة في شرح أبيات المغني للبغدادي.
والبيت لزهير بن أبي سلمى في ديوانه ص 208وتخليص الشواهد ص 512والدرر 6/ 163وشرح أبيات المغني 2/ 242وشرح شواهد المغني 1/ 282وشرح المفصل 2/ 52، 7/ 56والكتاب 1/ 165، 3/ 29، 51، 100، 4/ 160ولسان العرب (نمش) ومغني اللبيب 1/ 96والمقاصد النحوية 2/ 267، 3/ 351 وهمع الهوامع 2/ 141ولصرمة الأنصاري في شرح أبيات سيبويه 1/ 72والكتاب 1/ 306ولصرمة أو لزهير في الإنصاف 1/ 191. وهو بلا نسبة في أسرار العربية ص 154والأشباه والنظائر 2/ 347وجواهر الأدب ص 52والخصائص 2/ 353، 424وشرح الأشموني 2/ 433وشرح المفصل 8/ 69والكتاب 2/ 155.
(2) الكتاب لسيبويه 1/ 429.
(3) طرة سيبويه 1/ 429، 430.
(4) انظر كتاب الضرائر ص 282.(8/554)
يحوج إلى اللفظ. انتهى.
والبيت من قصيدة الأعشى ميمون، التي أوّلها (1): (البسيط)
ودّع هريرة إنّ الرّكب مرتحل ... وهل تطيق وداعا أيّها الرّجل
وتقدّم شرح أبيات منها. وهذه القصيدة ملحقة بالمعلّقات السبع.
وروي البيت كذا أيضا (2):
قالوا الطّراد فقلنا تلك عادتنا ... أو تنزلون فإنّا معشر نزل
وعليه لا شاهد فيه.
ولم يذكر الخطيب التّبريزي في شرح القصيدة غير هذه الرواية (3)، وقال في شرحه: يقول: إن طاردتم بالرّماح فتلك عادتنا، وإن نزلتم، تجالدون بالسيوف، نزلنا. انتهى.
و «نزل»، بضمتين: جمع نازل. ونزولهم عن الخيل يكون عند ضيق المعركة، ينزلون فيقاتلون على أقدامهم، وفي ذلك الوقت يتداعون: نزال.
وقد تقدّم الكلام على شرح النزول مفصلا في الشاهد الواحد والأربعين بعد الثلثمائة (4).
والأعشى شاعر جاهلي تقدّمت ترجمته في الشاهد الثالث والعشرين من أوائل الكتاب (5).
* * * __________
(1) البيت للأعشى ميمون في ديوانه ص 105وتاج العروس (ودع) وشرح أبيات المغني 8/ 104وشرح القصائد العشر للتبريزي ص 418ولسان العرب (جهنم) ومقاييس اللغة 4/ 126.
(2) هي رواية شرح القصائد العشر للتبريزي ص 445.
(3) هذا سهو من البغدادي، فلقد روى التبريزي رواية أخرى هي: = قالوا الركوب =.
(4) في جميع طبعات الخزانة: = بعد الأربعمائة =. وهو تصحيف صوبناه انظر الخزانة الجزء الخامس ص 41وما بعدها.
(5) الخزانة الجزء الأول ص 181.(8/555)
وأنشد بعده (1): (الطويل)
* ولا ناعب إلّا ببين غرابها *
وهذا عجز، وصدره:
* مشائيم ليسوا مصلحين عشيرة *
على أنّ «ناعب» عطف بالجرّ على «مصلحين» الواقع خبرا ل «ليس» على توهّم الباء فيه، فإنها يجوز زيادتها في خبر ليس.
و «مشائيم»: جمع مشؤوم كمنصور، وهو من به الشّؤم، نسبهم إلى الشّؤم وقلّة الصّلاح والخير. يقول: لا يصلحون أمر العشيرة إذا فسد ما بينهم ولا يأتمرون بخير، فغرابهم لا ينعب إلا بالتشتيت والفراق.
وهذا مثل للتطيّر منهم والتشؤّوم بهم. والعرب تتشاءم بصوت الغراب.
وقد تقدّم شرحه مفصلا في الشاهد الثامن والسبعين بعد المائتين (2).
* * * وأنشد بعده، وهو الشاهد التاسع والستون بعد الستمائة، وهو من شواهد سيبويه (3): (الطويل)
__________
(1) هو الإنشاد السابع والعشرون بعد السبعمائة في شرح أبيات المغني للبغدادي.
والبيت للأخوص (أو الأحوص) الرياحي في الإنصاف ص 193والحيوان 3/ 431وشرح أبيات سيبويه 1/ 74، 2/ 105وشرح أبيات المغني 7/ 56وشرح شواهد الإيضاح ص 589وشرح شواهد المغني ص 871 وشرح المفصل 2/ 52والكتاب 1/ 165، 306ولسان العرب (شأم) والمؤتلف والمختلف ص 49وهو للفرزدق في ديوانه ص 123والكتاب 3/ 29. وهو بلا نسبة في أسرار العربية ص 155والأشباه والنظائر 2/ 347، 4/ 313والخصائص 2/ 354وشرح الأشموني 2/ 302وشرح المفصل 5/ 68، 7/ 57ومغني اللبيب ص 478والممتع في التصريف ص 50.
(2) الخزانة الجزء الرابع ص 148.
(3) هو الإنشاد الثمانون بعد الخمسمائة في شرح أبيات المغني للبغدادي.(8/556)
669 - على الحكم المأتيّ يوما إذا قضى
قضيّته أن لا يجور ويقصد
على أنّ القطع قد يجيء بعد الواو غير الجمعية. وقد شرحه الشارح المحقق.
قال سيبويه: وممّا جاء منقطعا قول الشاعر:
على الحكم المأتيّ ... البيت
كأنّه قال: عليه غير الجور، ولكنّه يقصد أو هو يقصد، أو هو قاصد، فابتدأ ولم يحمل الكلام على أن، كما تقول: عليه أن لا يجور، وينبغي له كذا وكذا، فالابتداء في هذا أسبق، وأعرف. فمن ثمّ لا يكادون يحملونها (1) على «أن».
انتهى.
وقال النحاس في «شرح شواهده»: سألت عنه أبا الحسن، فقال: و «يقصد» مقطوع من الأوّل، وهو في معنى الأمر، وإن كان مضارعا، كما تقول: يقوم زيد، فهو خبر، وفيه معنى الأمر. انتهى (2).
ومثله للأعلم، قال: قطعه لأنّ المعنى: وينبغي له أن «يقصد»، ولم يحمله على أوّل الكلام، لأنّ فيه معنى الأمر، فكأنه قال: وليقصد في حكمه.
ونظيره ممّا جاء على لفظ الخبر ومعناه أمر قوله تعالى (3): {«وَالْوََالِدََاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلََادَهُنَّ»،} أي: ليرضعن أولادهنّ، وينبغي لهنّ أن يرضعنهم. انتهى (4).
__________
والبيت لأبي اللحام التغلبي في شرح أبيات سيبويه 2/ 182وشرح أبيات المغني 6/ 106وشرح المفصل 7/ 38، 39ولعبد الرحمن بن أم الحكم في الكتاب 3/ 56ولأبي اللحام أو لعبد الرحمن في لسان العرب (قصد). وهو بلا نسبة في الأشباه والنظائر 2/ 243وجواهر الأدب ص 169وشرح شواهد المغني 2/ 778 والمحتسب 1/ 149، 2/ 21ومغني اللبيب 2/ 359.
(1) في طبعة بولاق: = يحملون =. ولقد أثبتنا رواية النسخة الشنقيطية وشرح أبيات المغني للبغدادي والكتاب لسيبويه.
(2) أبيات سيبويه للنحاس (ت خطاب) وليس فيه هذا النقل مما يؤكد أن الكتاب ليس صحيح النسبة له، كما سبقت الإشارة إليه أكثر من مرة.
(3) سورة البقرة: 2/ 233.
(4) طرة سيبويه 1/ 431، 432.(8/557)
«عمرت»، أي: عشت عمرا طويلا، من باب فرح، والمصدر العمر بفتح العين وضمها مع سكون الميم فيهما. و «ساءلت»: فاعلت من السؤال، أي:
أكثرت السؤال. و «ينفد»: يفنى.
و «يغشين»: يأتين. والغشيان: الإتيان. وأراد بالعالم (1) نفسه. والفعلان بعده يجوز أن يكونا بالبناء للمعلوم، وبالبناء للمجهول. و «يتعمّد» بمعنى يقصد.
و «جدير»: خبر مبتدأ محذوف، أي: أنا جدير بأن لا أستكين، أي: لا أخضع ولا أذلّ. و «أرى» بالبناء للمفعول.
وروي المصراع الثاني هكذا:
* إذا حلّ أمر ساءني أتبلّد *
أي: أتحيّر (2) كالبليد.
ومن هذه القصيدة:
وليس الفتى كما يقول لسانه ... إذا لم يكن فعل مع القول يوجد
عسى سائل ذو حاجة إن منعته ... من اليوم سؤلا أن يكون له غد
وإنّك لا تدري بإعطاء سائل ... أأنت بما تعطيه أم هو أسعد
و «أبو اللحّام» شاعر جاهلي، اسمه حريث مصغر حارث (3). واللحّام بفتح اللام وتشديد الحاء المهملة.
وهذا شيء من أخباره، أورده أبو عمرو الشيباني، قال:
__________
(1) في طبعة هارون 8/ 558: = بالعلم نفسه =. وهو تصحيف.
(2) في طبعة بولاق والنسخة الشنقيطية: = أتخبر =. وهو تصحيف صوابه من شرح أبيات المغني 6/ 108.
(3) في طبعة بولاق: = حرث =. وهو صحيح أيضا.
وفي حاشية طبعة هارون 8/ 559: = فإن تصغير حارث على حريث، هو تصغير ترخيم كما يقال في حامد وحمدان وحماد ومحمود: حميد. انظر الأشموني 4: 196. وحمله على المألوف في التسمية وهو حارث أولى من حمله على غير المألوف، فإنهم لم يسموا حرثا =.
وانظر ترجمته في شرح أبيات المغني للبغدادي 6/ 108.(8/560)
كان أبو اللحّام خرج في ناس من بني تغلب، فأغار على قرى من قرى السّواد، وأقام يجبيهم (1) ويأخذ منهم، فبعث إليهم كسرى النّخيرجان (2) في خيل من الأساورة، فهزم ذلك الجيش، وأخذ أبا اللّحّام فحمله على بعير، وعدله بفراش وهو مغلول، فقال: انظروا إلى هذا الخبيث الذي جاء يغير على الملك وهو عدل فراش في الخفّة!
ثمّ إنّه نزل في ناحية الفرات على شاطئه الغربي، فبعث خيله إلى العرب فلم يصب أحدا إلّا قتله. وجعل مع أبي اللحّام رجلا من أهل الحيرة عربيّا كان من أعوانه يقال له: بريم، في سلسلة، شمال أبي اللحّام بيمينه، وهو يريد أن يقدم الحيرة، ليصلبه بها، فيراه من يقدم الحيرة من العرب.
فلقي رجلا نبطيّا كان يعرفه في بعض السّواد إلى جنب أجمة، فأخذ منه دراهم فجعل إذا مشى ينطلق ببريم فيسقيه ويدهنه ويطعمه من تلك الدراهم.
فلما كان ذات ليلة أظلمت السماء بغيم ومطر، وجعل يلحّ عليه بالشّراب، ثم جعلا يمشيان في الأجمة فتناول سيف بريم فاستلّه ثم ضرب السلسلة فقطعها، ثم خرج إلى البرّيّة فأتى رجلا من الأعراب من بكر بن وائل فأخبره الخبر، وأخذ منه نجيبة فلحق بالشام.
* * * وأنشد بعده:
* فنرجّي ونكثر التّأميلا *
__________
(1) في طبعة بولاق: = بحيهم =. وهو تصحيف صوابه من النسخة الشنقيطية.
وجباية الخراج: جمعه وتحصيله.
(2) النخيرجان كان عاملا على الحيرة مع إياس بن قبيصة الطائي زمن كسرى بن هرمز أربع عشرة سنة، ولثمانية أشهر من ولاية إياس بعث النبي صلى الله عليه وسلم. وقد استمر النخيرجان واليا إلى زمن الفتح الإسلامي حيث هزم في القادسية، وكان قيما بعدها على كنوز آل كسرى. انظر في أخباره الكامل في التاريخ 1/ 491، 2/ 506، 513، 3/ 14.(8/561)
وإن روي بالرفع فالفاء استئنافية، وجملة البهت خبر مبتدأ محذوف، أي: فأنا أبهت بفتح الهمزة وضم الهاء وفتحها، لأنه جاء من بابي قرب وتعب، بمعنى أدهش وأتحيّر.
وأما أبهت بالبناء للمفعول فغير مراد هنا. يقال: بهته يبهته بفتحتين، فبهت بالبناء للمفعول، فهذا متعدّ وذاك لازم.
و «حتى»: هنا ابتدائية، ومعناها الغاية، و «ما»: نافية. و «أكاد»:
بمعنى أقرب. وجملة: «أجيب» في محل نصب خبرها، ومفعول أجيب محذوف، أي: أجيبها إن كلّمتني.
ومثله قول الآخر: (الطويل)
علامة من كان الهوى في فؤاده ... إذا لقي المحبوب أن يتحيّرا
والبيت من قصيدة لعروة بن حزام العذريّ، تقدّمت مع ترجمته في الشاهد السادس والتسعين بعد المائة (1).
وقبله وهو مطلع القصيدة (2):
وإنّي لتعروني لذكراك روعة ... لها بين جلدي والعظام دبيب
وقد وقع البيت الشاهد مع بيتين آخرين من القصيدة في قصيدة لكثيّر عزّة، أورد ستة أبيات منها في «حماسته» الشريف ضياء الدين هبة الله علي بن محمد بن حمزة الحسيني، وهي (3):
أبى القلب إلّا أمّ عمرو وبغّضت ... إليّ نساء ما لهنّ ذنوب
وليس على شحط النّوى أكثر البكا ... لقد كنت أبكي والمزار قريب
لعمر أبيها إنّ دهرا يردّها ... إليّ على شحط النّوى لطلوب
وما هو إلّا أن أراها ... البيت
وقد وقع البيت الشاهد بقافية رائية في قصيدة لأبي صخر الهذليّ منها (4):
__________
(1) الخزانة الجزء الثالث ص 204203.
(2) البيت لعروة بن حزام في الأغاني 24/ 155والشعر والشعراء ص 520.
(3) الحماسة الشجرية 1/ 528527لكثير بن عبد الرحمن.
(4) الأبيات من مطولة لأبي صخر الهذلي في ديوانه ص 95وأمالي القالي 1/ 149والأغاني 24/ 125124(8/564)
قال سيبويه (1): واعلم أنّ الواو وإن جرت هذا المجرى، فإنّ معناها ومعنى الفاء مختلفان.
ألا ترى الأخطل قال:
لا تنه عن خلق وتأتي مثله ... البيت
فلو دخلت الفاء ها هنا، لأفسدت المعنى. وإنما أراد: لا تجمعنّ النهي، والإتيان، فصار تأتي على إضمار أن. انتهى.
ويجوز رفعه على أنه خبر مبتدأ محذوف، أي: وأنت تأتي. ولا يجوز جزمه، لفساد المعنى. و «عار» خبر مبتدأ محذوف، أي: هو عار. وعظيم صفته. وهذه الجملة دليل جواب إذا. ومعنى البيت من قوله تعالى (2): {«أَتَأْمُرُونَ النََّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ»}
وقال الحاتمي: هذا أشرد بيت قيل في تجنّب إتيان ما نهي عنه (3). والبيت وجد في عدة قصائد. ومنه اختلف في قائله، فنسبه الإمام أبو عبيد القاسم (4) بن سلّام في «أمثاله» إلى المتوكّل [بن عبد الله الليثي] الكناني. وأورده في باب تعيير الإنسان صاحبه بعيب هو فيه.
والمتوكّل [الليثي] من شعراء الإسلام، وهو من أهل الكوفة، وكان في عصر معاوية [وابنه] يزيد، ومدحهما.
ونسبه إليه أيضا الآمدي في «المؤتلف والمختلف» (5)، وقال فيمن يقال له المتوكّل:
__________
وهو تعبير أدق وذلك للفصل بين واو المعية الخاصة بالمفعول معه، والواو التي تضمر بعدها أن.
وفي شرح أبيات المغني 6/ 112: = بأن المضمرة بعد واو العطف =.
(1) الكتاب لسيبويه 1/ 424.
(2) سورة البقرة: 1/ 44.
(3) أشهر بيت: أراد أكثر الأبيات شهرة وذيوعا. من قولهم: قافية شرود: أي عائرة، سائرة في البلاد، تشرد كما يشرد البعير. (اللسان: شرد).
(4) في جميع طبعات الخزانة: = الإمام أبو عبد الله القاسم =. وهو تصحيف واضح. وهو الإمام أبو عبيد القاسم ابن سلام. وكتابه الأمثال طبع في دمشق بتحقيق عبد المجيد قطامش، دار المأمون للتراث. 1980م.
وكذلك جاء في شرح أبيات المغني مصححا. والنص بكامله فيه 6/ 113. والزيادات منه.
(5) المؤتلف والمختلف ص 272.(8/566)
وكذلك نسبه إليه الزمخشري في «المستقصى» قال: هو من قول المتوكّل الكناني (1):
ابدأ بنفسك فانهها عن غيّها ... فإذا انتهت عنه فأنت حكيم
فهناك تعدل إن وعظت ويقتدى ... بالقول منك ويقبل التّعليم
لا تنه عن خلق ... البيت
ونسبه سيبويه للأخطل. ونسبه الحاتمي لسابق البربري. ونقل السّيوطي عن «تاريخ ابن عساكر» أنه للطرماح.
والمشهور أنه من قصيدة لأبي الأسود الدؤلي. قال اللخمي في «شرح أبيات الجمل»: الصحيح أنه لأبي الأسود. فإن صحّ ما ذكر عن المتوكّل (2) فإنّما أخذ البيت من شعر أبي الأسود. والشعراء كثيرا ما تفعل ذلك. وهذه هي قصيدة أبي الأسود، سقناها برمّتها لجودتها (3):
حسدوا الفتى إذ لم ينالوا سعيه ... فالقوم أعداء له وخصوم
كضرائر الحسناء قلن لوجهها ... حسدا وبغيا إنّه لدميم (4)
والوجه يشرق في الظّلام كأنّه ... بدر منير والنّساء نجوم
وترى اللّبيب محسّدا لم يجترم ... شتم الرّجال وعرضه مشتوم (5)
وكذاك من عظمت عليه نعمة ... حسّاده سيف عليه صروم
فاترك محاورة السّفيه فإنّها ... ندم وغبّ بعد ذاك وخيم
__________
(1) البيتان من مطولة لأبي الأسود الدؤلي في ديوانه ص 130.
(2) في شرح أبيات المغني 6/ 113: = فإن صح ما ذكره أنه للمتوكل، فإنما =.
(3) القصيدة في ديوان أبي الأسود الدؤلي ص 132129.
(4) هو الإنشاد الخمسون بعد الثلاثمائة في شرح أبيات المغني للبغدادي.
والبيت لأبي الأسود الدؤلي في ديوانه ص 129والدرر 4/ 170وشرح أبيات المغني 4/ 295وشرح شواهد المغني 2/ 570. وهو بلا نسبة في تخليص الشواهد ص 360والجنى الداني ص 100وشرح الأشموني 2/ 291 ولسان العرب (دمم) ومغني اللبيب 1/ 214وهمع الهوامع 2/ 32.
(5) البيت لأبي الأسود الدؤلي في ديوانه ص 129. وهو بلا نسبة في تاج العروس (حسد، جرم) ولسان العرب (حسد، جرم).(8/568)
وإذا جريت مع السّفيه كما جرى ... فكلا كما في جريه مذموم
وإذا عتبت على السّفيه ولمته ... في مثل ما تأتي فأنت ظلوم (1)
لا تنه عن خلق وتأتي مثله ... عار عليك إذا فعلت عظيم
ابدأ بنفسك وانهها عن غيّها ... فإذا انتهت عنه فأنت حكيم
فهناك يقبل ما وعظت ويقتدى ... بالعلم منك وينفع التّعليم
ويل الخليّ من الشّجيّ فإنّه ... نصب الفؤاد بشجوه مغموم (2)
وترى الخليّ قرير عين لاهيا ... وعلى الشّجيّ كآبة وهموم
ويقول: ما لك لا تقول مقالتي ... ولسان ذا طلق وذا مكظوم
لا تكلمن عرض ابن عمّك ظالما ... فإذا فعلت فعرضك المكلوم
وحريمه أيضا حريمك فاحمه ... كي لا يباع لديك منه حريم
وإذا اقتصصت من ابن عمّك كلمة ... فكلومه لك إن عقلت كلوم (3)
وإذا طلبت إلى كريم حاجة ... فلقاؤه يكفيك والتّسليم
فإذا رآك مسلّما ذكر الذي ... كلّمته فكأنّه ملزوم
ورأى عواقب حمد ذاك وذمّه ... للمرء تبقى والعظام رميم
فارج الكريم وإن رأيت جفاءه ... فالعتب منه والكرام كريم
إن كنت مضطرّا وإلّا فاتّخذ ... نفقا كأنّك خائف مهزوم
واتركه واحذر أن تمرّ ببابه ... دهرا وعرضك إن فعلت سليم
فالناس قد صاروا بهائم كلّهم ... ومن البهائم قائل وزعيم (4)
__________
(1) البيت لأبي الأسود الدؤلي في ديوانه ص 130وسمط اللآلئ ص 606.
(2) في النسخة الشنقيطية بتصحيح الشنقيطي: = ويل الشجي من الخلي =. وهو نص المثل المشهور.
والمثل لأكثم بن صيفي وهو في لسان العرب (شجا، خلا) ومجمع الأمثال 1/ 98والوسيط في الأمثال ص 176.
والبيت لأبي الأسود الدؤلي في ديوانه ص 130ولسان العرب (شجا). وهو بلا نسبة في أساس البلاغة (شجو) ولسان العرب (شجا).
(3) الكلمة بالفتح: المرة من الكلم بالفتح، وهو الجرح، كلمة يكلمه من بابي ضرب وقتل.
(4) في النسخة الشنقيطية: = قابل وزعيم =. القابل: الكفيل.(8/569)
ومن أجاز النصب، فإنّما يجعل يغضب معطوفا على الشيء، وذلك جائز ولكنه بعيد. وإنّما جاز لأنّ الشيء منعوت، فكأن تقديره: وما أنا للشيء الذي هذه حاله ولأن يغضب صاحبي. وهو كلام محمول على معناه، لأنه ليس يقول الغضب.
ومثل هذا تجوّز. تقول: إنما جاء بك طعام زيد. والمعنى: إنما جئت من أجله.
قال أبو إسحاق: النصب بمعنى وغضب، أي: دون غضب صاحبي. والرفع على أن يكون داخلا في صلة الذي، كأنه قال: والذي يغضب منه صاحبي.
وسألت عنه أبا الحسن، فقال: يجوز عندي أن يكون جوابا لما. انتهى.
أي: يكون يغضب منصوبا بعد الواو في جواب النفي الأوّل الذي هو: وما أنا، دون الثاني الذي هو: ليس نافعي. وهو المسمّى في الشرح بالصّرف (1). وهو مختار الشّارح، تبعا لصاحب اللباب.
وفيه ردّ على ابن الحاجب في «أماليه على المفصل» من وجهين:
أحدهما: أنه زعم أنّ الواو في «ويغضب» ليست واو الجمع، وإنّما هي واو العطف. وذكرها الزمخشريّ وإن لم يكن بابها (2) لموافقتها لواو الجمع من وجهين، الرفع والنصب. وكذلك فعل في الفاء.
ثانيهما: في اتّباعه لسيبويه في زعمه أنّ يغضب معطوف على قوله للشيء.
بقي احتمال آخر لعطف يغضب المنصوب، قال ابن الحاجب: ولا يستقيم أن يكون معطوفا على نافعي لأمر معنويّ، وهو أنّه يصير المعنى: لا ينفعني ولا يغضب صاحبي. وليس الغرض كذلك، بل الغرض نفي النفع عنه، وإثبات الغضب للصاحب.
وأورد على مختار الشارح بأنّه يلزم منه تقدّم المعطوف، وهو يغضب، على المعطوف عليه، وهو قؤول. وأجاب بأنّ قوله: «ويغضب» في نية التأخير، إذ التقدير: وما أنا بقؤول للشيء الذي لا ينفعني، ويغضب صاحبي بالنصب، أي: مع
__________
(1) في حاشية طبعة هارون 8/ 570: = في شرح الرضي على الكافية 2: 232: = وإذا نصبته فهو على الصرف =. وتسميته هذه الواو بواو الصرف اصطلاح كوفي، كما في المغني 361عند الكلام على الواو المفردة.
وانظر الصبان 3: 306=.
(2) في طبعة بولاق: = تكن بابها =.(8/571)
غضب صاحبي.
فيغضب وإن كان مقدّما لفظا على قؤول فهو متأخّر معنى، لأنّ بقؤول خبر ما، فهو مقدّم في التقدير. ونظيره تقدّم الفاء في قولك: متى فأكرمك تكرمني.
والتقدير: متى تكرمني فأكرمك.
وقول الشارح المحقق: «وقال أبو علي في كتاب الشعر: بل هو عطف على نافعي»، أراد بكتاب الشعر كتابه المسمى بإيضاح الشعر وإعراب الشعر.
وهذه عبارته فيه: في قولك يغضب ضربان (1): إن جعلتها داخلة في الصلة كانت مرفوعة، لأنه لا شيء يحمل عليه، فينصب، فإذا عطف لم يخرجها من الصلة وحمل الكلام على المعنى، كأنه قال وما أنا للذي لا ينفعني ويغضب منه صاحبي بقؤول.
فإذا دخل يغضب في الصلة عطف المضارع على اسم الفاعل، وكلّ واحد من المضارع، واسم الفاعل يعطف على الآخر لتشابههما. وموضع المضارع الذي هو يغضب نصب للعطف على خبر ليس، والضمير الذي هو منه، يعود على اسم ليس، والمقول حينئذ هو الشيء، والقول يقع عليه لعمومه (2)، واحتماله أن يكون القول وغيره. وليس كالغضب.
فإذا أخرج يغضب من الصلة أضمر أن بعطفه إياها على الشيء، كأنه قال: وما أنا للشيء الذي ليس نافعي ويغضب (3) صاحبي بقؤول.
فالغضب لا يقال، ولكنّ التقدير ولقول غضب صاحبي. فتضيف القول الحادث عنه الغضب إلى الغضب، كما تقول: ضرب التلف، فتضيف الضّرب، إلى ما يحدث عنه. هذا كلامه.
ونظر صاحب اللباب في تقدير القول المضاف، وبيّنه شارحه الفاليّ (4) بأنّ القول
__________
(1) في طبعة بولاق: = ضرباب =. وهو تصحيف صوابه من النسخة الشنقيطية.
(2) أراد عموم الشيء.
(3) في طبعة بولاق: = ولغضب =. وهو تصحيف صوابه من النسخة الشنقيطية.
(4) في طبعة بولاق والنسخة الشنقيطية: = القالي = بالقاف وهو كثيرا ما تكرر في الخزانة. والصواب بالفاء الفالي. نسبة إلى مدينة فالة.(8/572)
المقدّر، إمّا من باب إضافة المصدر إلى المفعول، أو من باب إضافة الشيء للشيء للملابسة. وهما فاسدان.
أما الأول فلأنّه يلزم منه وقوعه على ما هرب منه، إذ يلزم أن يكون الغضب مقولا.
وأما الثاني فلأنّ لفظة منه تدفعه (1)، إذ إضافة الملابسة مغنية عن ذكر منه، إذ قولك قول غضب صاحبي بمعنى الملابسة، معناه قول يصدر، ويتولّد عنه غضب صاحبي. فلا حاجة إلى ذكر منه، كما تقول: رأيتك يوم خرجت، فإنّ الإضافة مصحّحة لكون الخروج في اليوم، فلا حاجة إلى أن تقول يوم خرجت فيه.
والبيت من قصيدة لكعب بن سعد الغنوي، أوردها أبو تمام في «مختار أشعار القبائل» وأورد بعضها القاليّ في «أماليه» (2)، والشريف في «حماسته» (3)، وهي (4):
لقد أنصبتني أمّ عمرو تلومني ... وما لوم مثلي باطلا بجميل
ألم تعلمي أن لا يراخي منيّتي ... قعودي ولا يدني الحمام رحيلي
فإنّك واللّوم الذي ترجعينه ... عليّ وما لوّامة بعقول
كداعي هديل لا يجاب إذا دعا ... ولا هو يسلو عن دعاء هديل (5)
وذي ندب دامي الأظلّ قسمته ... محافظة بيني وبين زميلي
وزاد رفعت الكفّ عنه عفافة ... لأوثر في زادي عليّ أكيلي
ومن لا ينل حتّى يسدّ خلاله ... يجد شهوات النّفس غير قليل (6)
__________
(1) في النسخة الشنقيطية: = يدفعه =.
(2) أمالي القالي 2/ 204.
(3) الحماسة الشجرية 1/ 473472.
(4) الأبيات بكاملها في الأصمعيات ص 7674.
(5) كداعي: خبر فإنك في البيت الذي قبله ومعناه: أنت في دعائك إياي وأنا لا أجيبك كهذا الحمام الذي يدعو ولا يجاب =.
(6) ينل بفتح الياء، وضم النون ثلاثي يقال: نلته العطية ونلته بها ونلت له يريد أن من بخل عن العطاء فأمسك عن إنالة غيره إلا بعد أن يسد حاجات نفسه خدعته بشهواتها، وهي غير قليل، فلا يكاد يعطي.(8/573)
وعوراء قد قيلت فلم ألتفت لها ... وما الكلم العوراء لي بقبول (1)
وما أنا للشيء الذي ليس نافعي ... البيت
ولن يلبث الجهّال أن يتهضّموا ... أخا الحلم ما لم يستعن بجهول
وهذا ما أورده أبو تمام.
و «أنصبه»: أوقعه في النّصب بفتحتين، وهو التعب. و «الحمام»: الموت.
و «الهديل»: فرخ كان على عهد نوح عليه السلام، فصاده جارح من جوارح الطير. قالوا: فليس من حمامة إلّا وتبكي عليه.
قال الكميت (2): (الوافر)
وما من تهتفين به لنصر ... بأقرب جابة لك من هديل
و «النّدب» بفتحتين، قال القالي (3): هو الأثر، وجمعه ندوب وأنداب.
والأظلّ بالمعجمة، قال القالي: هو باطن خفّ البعير. و «الزّميل»: الرفيق. يريد أنه قسم ظهر بعيره بينه وبين رفيقه في الرّكوب، ولم يتركه ماشيا.
و «العفافة»: العفّة. و «الأكيل»: المؤاكل. و «الخلال» بالكسر: جمع خلّة بالفتح: الحاجة والفقر. و «العوراء»: الكلمة القبيحة. وتهضّمه وهضمه، إذا دفعه (4) عن موضعه.
و «كعب بن سعد الغنويّ» (5) هو شاعر إسلامي، وهو أحد بني سالم بن عبيد ابن سعد بن عوف بن كعب بن جلّان، بكسر الجيم وتشديد اللام، ابن غنم
__________
(1) البيت لكعب بن سعد في الأصمعيات ص 75وأساس البلاغة (عور) ولسان العرب (قول). وهو بلا نسبة في تاج العروس (عور) وكتاب العين 2/ 236ولسان العرب (عور) ومقاييس اللغة 4/ 185.
(2) في طبعة بولاق: = جامة =. وهو تصحيف صوابه من النسخة الشنقيطية وديوان الكميت.
والبيت للكميت بن زيد الأسدي في ديوانه 2/ 58وتاج العروس (هدل) ولسان العرب (هدل) ومقاييس اللغة 1/ 492. وهو بلا نسبة في تهذيب اللغة 6/ 199.
(3) أمالي القالي 2/ 204.
(4) في طبعة بولاق: = إذا رفعه =. وهو تصحيف صوابه من النسخة الشنقيطية.
(5) في طبقات فحول الشعراء ص 204: = وكعب بن سعد بن عمرو بن عقبة أو علقمة بن عوف بن رفاعة، أحد بني سالم بن عبيد بن سعد بن جلان بن غنم بن غني بن أعصر =. وهو شاعر إسلامي، سمي كعب الأمثال(8/574)
وقال الأعلم: نصب تقرّ بإضمار أن ليعطف على اللّبس، لأنه اسم وتقرّ فعل، فلم يمكن عطفه عليه، فحمل على إضمار أن لأنّ أن وما بعدها اسم، فعطف اسما على اسم وجعل الخبر عنهما واحدا، وهو أحبّ.
والمعنى: لبس عباءة مع قرّة العين، وصفاء العيش أحبّ إليّ من لبس الشفوف مع سخنة العين ونكد العيش.
و «العباءة»: جبّة الصوف. والشّفوف: ثياب رقاق تصف البدن، واحدها شفّ. انتهى.
فإن قلت: ما الفرق بين واو الجمع، وواو العطف، وهل هما إلا شيء واحد؟
قلت: واو الجمع في الأصل للعطف، لكنّه خصّ ببعض أحواله، وذلك أنّ المعطوف قد يكون قبل المعطوف عليه في الوجود، وقد يكون بعده، وقد يكون معه، نحو:
جاء زيد [وعمرو (1)] قبله أو بعده أو معه.
فخصّ واو الجمع بما يكون بمعنى مع، فهو باعتبار أصل معنى العطف احتاج إلى تقدير مصدر منتزع من الأوّل. وباعتبار اختصاصه العارض بحال المعيّة، صار كأنه قسيم للعطف المطلق الذي لا يتقيّد. فواو الجمع عطف مقيّد بالمعيّة، وواو العطف غير مقيّد بها. فهذا هو الفرق.
وقال اللخمي في «شرح أبيات الجمل»: ولو رفعت وتقرّ لجاز، على أن ينزّل الفعل منزلة المصدر، ونحو قولهم (2): «تسمع بالمعيديّ»، فتسمع منزّل منزلة سماعك. وكقول جرير يعني الفرزدق (3): (المتقارب)
نفاك الأغرّ بن عبد العزيز ... وحقّك تنفى من المسجد
__________
(1) زيادة يقتضيها السياق.
(2) المثل في أمثال العرب ص 55وتمثال الأمثال 1/ 395وجمهرة الأمثال 1/ 266وجمهرة اللغة ص 665 وزهر الأكم 3/ 176والعقد الفريد 2/ 288، 3/ 93والفاخر ص 65وفصل المقال ص 135، 136 وكتاب الأمثال ص 97ولسان العرب (بين، دنا، معد) ومجمع الأمثال 1/ 129والوسيط في الأمثال ص 83.
(3) البيت لجرير من قصيدة يرد فيها على الفرزدق هو في ديوانه ص 842والأغاني 21/ 324والخصائص 2/ 434.
وجرير يشير هنا إلى حادثة نفي عمر بن عبد العزيز الفرزدق عن المدينة إذ أجله ثلاثة أيام ليخرج من المدينة.(8/576)
الحسين الزّوزني (1): يقول: أقضي وطري، ولا أفرّط في طلب بغيتي، ولا أدع ريبة إلّا أن يلومني لائم. وتحرير المعنى: أنه لا يقصّر، لكنّه لا يمكنه الاحتراز عن لوم اللوّام. وأو في قوله: «أو أن يلوم» بمعنى إلّا أن يلوم. ومثله قولهم: لألزمنّه أو يعطيني ديني، معناه إلّا أن يعطيني حقّي. انتهى كلامه.
يقال: قضيت وطري، أي: بلغته ونلته. واللّبانة بضم اللام: الحاجة. ويقال:
فرّطته، أي: تركته وتقدّمته. كذا في الصحاح. وفرّط في الأمر تفريطا: قصّر فيه وضيّعه. و «الرّيبة»: الحاجة، ومثله الرّيب.
قال الشاعر (2): (الوافر)
* قضينا من تهامة كلّ ريب *
هذا المناسب، وهو المفهوم من كلام الزوزني السابق.
وقال أبو جعفر النحوي، والخطيب التبريزي، وأبو الحسن الطوسي في «شروحهم». الرّيب: الشك.
ورووا:
* أقضي اللّبانة أن أفرّط ريبة *
بنصب ريبة، ورفعها. قالوا: فمن رفع جعله خبر ابتداء، والمعنى تفريطي ريبة.
ومن نصب، فالمعنى مخافة أن أفرّط، ثم حذف مخافة. هذا قول البصريين.
وقال الكوفيّون (3): لئلا مضمرة، والمعنى لئلّا أفرّط ريبة. يريد إنّي أتقدّم في قضاء حاجتي، لئلّا أشكّ، وأقول إذا فاتتني: ليتني تقدّمت، أو يلومني لائم على
__________
(1) شرح المعلقات السبع ص 182.
(2) صدر بيت لكعب بن مالك الأنصاري وعجزه:
* وخيبر ثم أجممنا السيوفا *
والبيت لكعب بن مالك الأنصاري في ديوانه ص 234وتاج العروس (ريب) والسيرة النبوية 2/ 479ولسان العرب (ريب). وهو بلا نسبة في مجمل اللغة 2/ 440ومقاييس اللغة 2/ 164.
(3) شرح القصائد العشر للتبريزي ص 239.(8/578)
تقصيري. والمعنى: إني لا أدع ريبة تنفذني (1) حتى أحكمها. والتفريط: الإنفاذ والتقديم.
هذا كلامهم.
وفي حلّهم المعنى قلاقة، وعقادة (2). وليست «أو» على كلامهم بمعنى إلّا.
ومعنى البيت على شرح الزّوزني واضح لا خفاء فيه. واللوّام: مبالغة لائم، فاعل يلوم.
وترجمة لبيد تقدّمت في الشاهد الثاني والعشرين بعد المائة (3).
* * * وأنشد بعده، وهو الشاهد الرابع والسبعون بعد الستمائة (4): (الطويل)
674 - لقد عذلتني أمّ عمرو ولم أكن
مقالتها ما كنت حيّا لأسمعا
على أنّ «مقالتها» مفعول مقدّم «لأسمع» عند الكوفيّين، كما نقله الشارح المحقق وغيره.
وعند البصريين منصوب بفعل (5) محذوف يفسّره المذكور، والتقدير: ما كنت أسمع مقالتها. ثم بيّن ما أضمر بقوله: لأسمعا.
وهذا البيت قد أورده ابن الأنباري في «مسائل الخلاف»، وابن يعيش في «شرح المفصل»، ولم أقف على تتمته ولا على قائله. والله أعلم بذلك.
__________
(1) في طبعة بولاق والنسخة الشنقيطية: = تنقذني =. بالقاف. وهو تصحيف صوابه من شرح القصائد العشر للخطيب التبريزي.
(2) أراد التعقيد. ولم نجد هذا المصدر في المعاجم المتداولة.
(3) الخزانة الجزء الثاني ص 216.
(4) البيت بلا نسبة في الإنصاف 2/ 593وشرح التصريح 2/ 236وشرح المفصل 7/ 29.
(5) في طبعة بولاق: = لفعل =. وهو تصحيف صوابه من النسخة الشنقيطية مع أثر تصحيح.(8/579)
* ألا أيّهذا الزّاجريّ أحضر الوغى *
عند كثير من الناس، لأنه أراد أن أحضر. وأجاز س في قولهم: «مره يحفرها» أن يكون الرفع على قوله: مره أن يحفرها، فلمّا حذفت أن ارتفع الفعل بعدها. انتهى كلامه.
وقال في «الخصائص» عندما أنشد هذا البيت: أي وحقّ لمثلي أن يجزع.
وأجاز هشام: يسرّني تقوم. وينبغي أن يكون ذلك جائزا عنده في الشعر، لا في النثر. انتهى.
وقد عدّ ابن عصفور في «كتاب الضرائر» جميع هذا من الضّرورة. قال: ومنه وضع الفعل موضع المصدر على تقدير حذف أن وإرادة معناها من غير إبقاء عملها، نحو قوله: (الطويل)
وما راعني إلّا يسير بشرطة ... وعهدي به قينا يفشّ بكير (1)
يريد: وما راعني إلّا أن يسير بشرطة. فحذف أن، وأبطل عملها، وهو يريد معناها. والدّليل على أنّ الفعل المضارع يحكم له بحكم ما هو منصوب بأن وإن كان مرفوعا قوله:
ألا أيّهذا الزّاجريّ أحضر الوغى ... وأن أشهد اللّذات هل أنت مخلدي
في رواية من رفع أحضر. ألا ترى أنه عطف أن أشهد على أحضر، فدلّ ذلك على أنّ المراد أن أحضر. ومثله قول أسماء بن خارجة (2): (الكامل)
__________
* وأن أشهد اللذات هل أنت مخلدي *
والبيت هو الإنشاد الخامس عشر بعد الستمائة في شرح أبيات المغني للبغدادي.
والبيت لطرفة بن العبد في ديوانه ص 32والإنصاف 2/ 560والدرر 1/ 74وسر صناعة الإعراب 1/ 285 وشرح أبيات المغني 6/ 181وشرح شواهد المغني 2/ 800والكتاب 3/ 99، 100ولسان العرب (أنن، دنا) والمقاصد النحوية 4/ 402والمقتضب 2/ 85. وهو بلا نسبة في الدرر 3/ 33، 9/ 94ورصف المباني ص 113وشرح شذور الذهب ص 198وشرح ابن عقيل ص 597وشرح المفصل 2/ 7، 4/ 28ومجالس ثعلب ص 383ومغني اللبيب 2/ 383، 641وهمع الهوامع 2/ 17.
(1) سيأتي الحديث لاحقا على هذا الشاهد في التتمة الملحقة بالشاهد رقم / 675/.
(2) البيت لأسماء بن خارجة من أصمعية له، هو في الأصمعيات ص 49.(8/581)
فهرس التراجم
طلحة الطلحات 15
جرير بن عبد الله البجلي 22
الأقرع بن حابس 22
عمرو بن خثارم 23
منافرة جرير البجلي وخالد بن أرطاة 23
سلمي بن ربيعة 49
الصمة القشيري 64
من اسمه الصمة 64
الطرماح بن حكيم 74
سعيد بن قيس الهمداني 80
أبو الطمحان القيني 95
الزبرقان بن بدر 101
مالك بن زغبة الباهلي 135
سعد بن ناشب 147
أبان اللاحقي 175
عبد الله بن المقفع 180
ريحانة بنت معديكرب 183
أبو كبير الهذلي 210(8/587)
منافرة عامر وعلقمة 260
حديث عدي بن نصر 271
الزباء 275
عبيد الله بن العباس 286
المرقش الأكبر 313
المرقش الأصغر 313
بشامة بن حزن النهشلي 315
بشامة بن الغدير 315
أسماء أم الأسبع 330
المؤمل بن أميل المحاربي 334
فاطمة الأنمارية 369
حرب داحس والغبراء 370
قيس بن زهير 375
أبو محجن الثقفي 407
ربيعة بن مقروم الضبي 439
جابر بن رألان 447
عبد الله بن عنمة المزني 472
عبد الله بن عنمة الضبي 473
ميسون بنت بحدل 507
مويلك المزموم 539
أبو اللحام التغلبي 580
المتوكل الليثي 567(8/588)
فهرس الموضوعات
المجموع 3
جمع المؤنث السالم 88
جمع التكسير 107
المصدر 120
اسم الفاعل 141
اسم المفعول 222
الصفة المشبهة 223
أفعل التفضيل 233
الفعل الماضي 333
الفعل المضارع 240
النواصب 386(8/589)
المجلد التاسع
بسم الله الرّحمن الرّحيم
الجوازم
أنشد فيه، وهو الشاهد السادس والسبعون بعد الستمائة (1): (البسيط)
676 - لولا فوارس من ذهل وأسرتهم
يوم الصّليفاء لم يوفون بالجار
على أن «لم» قد جاءت في الشعر غير جازمة.
وكذلك قال ابن عصفور: إنّ رفع المضارع بعد «لم» ضرورة. وأنشد مع هذا البيت قول الشاعر: (المتقارب)
وأمسوا بها ليل لو أقسموا ... على الشّمس حولين لم تطلع
برفع «تطلع». وقال: حكم ل «لم» بدلا من حكمها بحكم ما، لمّا كانت نافية مثلها. فرفع المضارع بعدها كما يرفع بعد ما.
وقال التبريزي في «شرح الكافية»، تبعا لابن جني في «سر الصناعة»: وقد لا تجزم لم، حملا على لا.
وقال ابن مالك: إن رفع المضارع بعدها لغة لا ضرورة. كذا في مغني اللبيب.
__________
(1) هو الإنشاد السادس والأربعون بعد الأربعمائة في شرح أبيات المغني للبغدادي.
والبيت بلا نسبة في الجنى الداني ص 266والدرر 5/ 68وسر صناعة الإعراب 1/ 448وشرح أبيات المغني للبغدادي 5/ 131وشرح الأشموني 3/ 576وشرح شواهد المغني 2/ 674وشرح عمدة الحافظ ص 376 وشرح المفصل 7/ 8ولسان العرب (صلف) والمحتسب 2/ 42ومغني اللبيب 1/ 277، 339والمقاصد النحوية 4/ 446وهمع الهوامع 2/ 56. وروايته في شرح أبيات المغني:
لولا فوارس من نعم(9/3)
فذاك ولم إذا نحن امترينا ... تكن في النّاس يدركك المراء
وقوله:
* فأضحت مغانيها * البيت
وقد يليها الاسم معمولا لفعل يفسّره ما بعده، كقوله (1): (الطويل)
ظننت فقيرا ذا غنى ثمّ نلته ... فلم ذا رجاء ألقه غير واهب
انتهى.
وقوله: «إذا نحن امترينا» (2) متعلق بيدرك، الأصل: ولم تكن في الناس، يدركك المراء، إذا نحن امترينا، و «الامتراء»: الشّكّ. والمراء: الجدال.
وقوله: «ظننت فقيرا» إلخ، هو بالبناء للمجهول والتكلم. و «فقيرا»:
حال من نائب الفاعل، و «ذا غنى»: مفعول ثان لظننت، وضمير «نلته»:
للغنى، و «ذا رجاء»: مفعول لفعل محذوف مفسّر بألقى المذكور.
و «غير واهب»: حال من فاعله، يعني أنه في حال فقره كان متعفّفا، فكنى عن ذلك بظنّه ذا غنى، وأنه حين صار غنيّا، يعطي كلّ راج، لقيه، ما يرجو.
والبيت من قصيدة طويلة لذي الرّمّة.
وقبله (3):
فيا كرم السّكن الذين تحمّلوا ... عن الدّار والمستخلف المتبدّل (4)
وبعده:
كأن لم تحلّ الزّرق ميّ ولم تطأ ... بجرعاء حزوى نير مرط مرحّل
__________
(1) هو الإنشاد الثاني والخمسون بعد الأربعمائة في شرح أبيات المغني للبغدادي.
والبيت بلا نسبة في شرح أبيات المغني للبغدادي 5/ 144ومغني اللبيب 1/ 278.
(2) الشرح بكامله في شرح أبيات المغني للبغدادي 5/ 145.
(3) الأبيات لذي الرمة في ديوانه ص 506.
(4) البيت لذي الرمة في ديوانه ص 506وتاج العروس (سكن) وديوان الأدب 1/ 132ولسان العرب (سكن) ومعجم البلدان (زرق).(9/6)
إلى ملعب بين الحواءين منصف ... قريب المزار طيّب التّرب مسهل
وقوله (1): «فيا كرم السكن» إلخ، هو نداء تعجّبي، أي: يا صاح، انظر كرم السّكن، وهو أهل الدار، جمع ساكن كصحب جمع صاحب. و «تحملوا»:
ارتحلوا.
و «المستخلف»: معطوف على الدار، وهو والمتبدّل، رويا على صيغة اسم الفاعل، واسم المفعول.
يريد: الدار تبدّلت بالسّكن الوحوش والظّباء والبقر. يعني أنّ الدار استخلفت، واستبدلت الوحش.
وبهذا البيت استشهد صاحب «الكشاف» (2) على أن التبدّل في قوله تعالى (3):
«{وَلََا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ}» بمعنى الاستبدال، كالتعجّل والتأخّر، بمعنى الاستعجال والاستئخار.
وقوله (4): «فأضحت مغانيها»، أي: صارت، و «المغاني»: جمع مغنّى، وهو المقام، من غني بالمكان كرضي: إذا أقام فهو غان. و «القفار»: جمع قفر.
في المصباح: القفر: المفازة لا ماء فيها ولا نبات. ودار قفر: خالية من أهلها.
و «الرّسم»: الأثر. و «رسومها»: فاعل قفار.
والمرويّ في ديوانه كذا:
* فأضحت مباديها قفارا بلادها *
قال شارحه: «مباديها»: حيث تبدو في الرّبيع. و «البلاد»: جمع بلدة، وهي القطعة من الأرض. وأهل المكان أهولا من باب قعد: عمر بأهله، فهو آهل، وقرية آهلة. وأهلت بالشيء: أنست به. قال شارح الديوان: توهل: تنزل. يقال:
بلد مأهول: ذو أهل.
__________
(1) الشرح في شرح أبيات المغني للبغدادي 5/ 143.
(2) الكشاف 1/ 358.
(3) سورة النساء: 4/ 2.
(4) الشرح في شرح أبيات المغني للبغدادي 5/ 144.(9/7)
وقال ابن الأنباري في «شرح المفضليات»: أهل هذا المكان. وسمعت، يقال:
مكان آهل، أي: ذو أهل. وأنشد هذا البيت، ثم قال: وبنو عامر يقولون: أهلت به آهل به أهولا، أي: أنست به.
وقوله: «كأن لم تحلّ الزّرق» هو جمع أزرق. قال شارح الديوان: الزّرق:
أكثبة بالدّهناء. والجرعاء من الرمل. وحزوى بضم المهملة: موضع.
و «المرط»، بالكسر: الإزار. و «نيره»: علمه. و «المرحّل» بفتح الحاء المهملة المشددة: الموشّى على لون الرّحال (1).
وقوله: «إلى ملعب»، «الحواءين»، بكسر المهملة: أبيات مجتمعة. يريد:
ملعبا بين الحواءين. و «منصف»، بفتح الميم والصاد، يقول: هو بين الحواءين وسط. و «مسهل»: سهل قد انحدر عن الغلظ.
وترجمة ذي الرمّة تقدمت في الشاهد الثامن من أول الكتاب (2).
* * * وأنشد بعده (3): (الكامل)
أزف التّرحّل غير أنّ ركابنا ... لمّا تزل برحالنا وكأن قد
__________
(1) في ديوان ذي الرمة: = المرجل = بالجيم، وقال شارح ديوانه: = المرجل: المعلّم =.
(2) الخزانة الجزء الأول ص 119.
(3) هو الإنشاد الخامس والثمانون بعد المائتين في شرح أبيات المغني للبغدادي.
والبيت للنابغة الذبياني في ديوانه صنعة الأعلم ص 89وديوانه صنعة ابن السكيت ص 30والأزهية ص 211 والأغاني 11/ 8والجنى الداني ص 146، 260والدرر اللوامع 2/ 202، 5/ 178وشرح أبيات المغني 4/ 91وشرح التصريح 1/ 36وشرح شواهد المغني ص 490، 764وشرح المفصل 8/ 148، 9/ 18، 52ولسان العرب (قدد) ومغني اللبيب ص 171والمقاصد النحوية 1/ 80، 2/ 314وهو بلا نسبة في الأشباه والنظائر 2/ 56، 356وأمالي ابن الحاجب 1/ 455ورصف المباني ص 72، 125، 448وسر صناعة الإعراب ص 334، 490، 777وشرح الأشموني 1/ 12وشرح ابن عقيل ص 18وشرح قطر الندى ص 160وشرح المفصل 10/ 110ومغني اللبيب ص 342والمقتضب 1/ 42وهمع الهوامع 1/ 143، 2/ 80.(9/8)
على أنّ الفعل بعد «قد» محذوف اختيارا، أي: وكأن قد زالت. و «أزف»:
دنا. و «الرّكاب»: الإبل. و «لمّا»: نافية جازمة، و «تزل» مجزوم، وأصله تزول. و «الرّحال»: جمع رحل، وهو ما يستصحبه الإنسان من الأثاث في السفر.
وكأن مخففة.
وتقدّم شرح هذا البيت مفصّلا في الشاهد الخامس والعشرين بعد الخمسمائة (1).
* * * وأنشد بعده، وهو الشاهد الثامن والسبعون بعد الستمائة (2): (الكامل)
678 - احفظ وديعتك التي استودعتها
يوم الأعارب إن وصلت وإن لم
على أنّ حذف مجزوم «لم» ضرورة، والأصل: وإن لم تصل (3).
كذا قدّره أبو حيان، فيكون وصلت مثله بالبناء للمعلوم.
وقدره أبو الفتح البعلي: وإن لم توصل، فيكون إن وصلت مثله بالبناء للمفعول.
وأنشد ابن عصفور في «الضرائر الشعريّة» (4) قول ابن هرمة (5): (الكامل)
__________
(1) الخزانة الجزء السابع ص 183.
(2) هو الإنشاد السادس والخمسون بعد الأربعمائة في شرح أبيات المغني للبغدادي.
والبيت لإبراهيم بن هرمة في ديوانه ص 191والدرر 5/ 66وشرح أبيات المغني 5/ 151وشرح شواهد المغني 2/ 682والمقاصد النحوية 4/ 443وهو بلا نسبة في الأشباه والنظائر 4/ 114وأوضح المسالك 4/ 202 وجواهر الأدب ص 256، 424والجنى الداني ص 269وشرح الأشموني 3/ 576ومغني اللبيب 1/ 280 وهمع الهوامع 2/ 56.
(3) في طبعة بولاق: = والأصل إن لم تصل =. بدون الواو. وهو تصحيف صوابه من شرح أبيات المغني للبغدادي 5/ 151والنسخة الشنقيطية. وزاد بعده في شرح أبيات المغني: = قال أبو حيان في تذكرته: قد حذفوا بعد لم حملا على لمّا =.
(4) انظر الضرائر للألوسي ص 102.
(5) البيت لإبراهيم بن هرمة في ديوانه ص 200والأغاني 11/ 351.(9/9)
وأنشد بعده، وهو الشاهد التاسع والسبعون بعد الستمائة (1): (الوافر)
679 - ألمّا تعرفوا منّا اليقينا
على أنّ الهمزة الداخلة على «لمّا» للاستفهام التقريري، أي: ألم تعرفوا منّا إلى الآن الجدّ في الحرب عرفانا يقينا. أي: قد علمتم ذلك فلم تتعرّضوا لنا.
وهذا عجز، وصدره:
* إليكم يا بني بكر إليكم *
والبيت من معلقة عمرو بن كلثوم التغلبي، يخاطب بني عمّه بكر بن وائل.
وإليكم (2): اسم فعل، أي: ابعدوا، وتنحّوا عنّا إلى أقصى ما يمكن من البعد.
وكرّر إليكم تأكيدا للأولى. وبعده (3):
ألمّا تعلموا منّا ومنكم ... كتائب يطّعنّ ويرتمينا
و «ألمّا» مثل الأولى. و «الكتيبة»: الجماعة من الجيش، سمّيت كتيبة لاجتماع بعضها إلى بعض ومنه كتبت الكتاب، أي: جمعت بعض حروفه إلى بعض. و «يطّعنّ»: يفتعلن من الطّعن، وكذلك يرتمينا (4): يفتعلن من الرّمي، والألف للإطلاق. أراد التّطاعن بالرمح، والترامي بالسّهم منّا ومنكم.
وتقدمت ترجمة عمرو بن كلثوم صاحب المعلقة مع شرح أبيات منها في مواضع في الشاهد الثامن والثمانين بعد المائة (5).
* * * __________
(1) البيت لعمرو بن كلثوم في ديوانه ص 94وشرح شواهد المغني 1/ 119وشرح القصائد العشر للتبريزي ص 354وشرح المعلقات السبع للزوزني ص 218ولسان العرب (إلى).
(2) في طبعة بولاق: = وإليك =. وهو تصحيف صوابه من شرح القصائد العشر للتبريزي والنسخة الشنقيطية.
(3) البيت لعمرو بن كلثوم في ديوانه ص 94وشرح القصائد العشر للتبريزي ص 355وشرح المعلقات للزوزني ص 218.
(4) في النسخة الشنقيطية: = يرتمين =.
(5) في النسخة الشنقيطية: = الثامن والثلاثين بعد المائة =. وهو تصحيف صوابه من طبقة بولاق.
ترجمة عمرو بن كلثوم في الخزانة الجزء الثالث ص 174.(9/11)
وأنشد بعده، وهو الشاهد الثمانون بعد الستمائة، وهو من شواهد سيبويه (1):
(الوافر)
680 - محمّد تفد نفسك كلّ نفس
إذا ما خفت من شيء تبالا
على أنه جاء في ضرورة الشعر، حذف لام الأمر في فعل غير الفاعل المخاطب، والتقدير: يا محمّد لتفد نفسك كلّ نفس.
قال سيبويه: واعلم أنّ هذه اللام قد يجوز حذفها في الشّعر، وتعمل مضمرة، كأنهم شبّهوها «بأن» إذا أعملوها مضمرة.
وقد قال الشاعر:
محمّد تفد نفسك كلّ نفس ... البيت
وإنما أراد: لتفد.
وقال متمّم بن نويرة (2): (الطويل)
على مثل أصحاب البعوضة فاخمشي ... لك الويل حرّ الوجه أو بيك من بكى
أراد: ليبك. انتهى (3).
__________
(1) هو الإنشاد التاسع والستون بعد الثلاثمائة في شرح أبيات المغني للبغدادي.
البيت لأبي طالب في شرح شذور الذهب ص 275وللأعشى أو لحسان أو لمجهول في الدرر 5/ 61، وهو بلا نسبة في أسرار العربية ص 319، 321والإنصاف 2/ 530والجنى الداني ص 113ورصف المباني ص 256 وسر صناعة الإعراب 1/ 391وشرح أبيات المغني 4/ 335وشرح الأشموني 3/ 575وشرح شواهد المغني 1/ 597وشرح المفصل 7/ 35، 60، 62، 9/ 24والكتاب 3/ 8واللامات ص 96ومغني اللبيب 1/ 224والمقاصد النحوية 4/ 418والمقتضب 2/ 132والمقرب 1/ 272وهمع الهوامع 2/ 55.
(2) هو الإنشاد الواحد والسبعون بعد الثلاثمائة في شرح أبيات المغني للبغدادي.
والبيت لمتمم بن نويرة في ديوانه ص 84وشرح أبيات سيبويه 2/ 98وشرح أبيات المغني 4/ 339وشرح شواهد المغني 2/ 599والكتاب 3/ 9ولسان العرب (لوم) ومعجم البلدان (البعوضة) ومعجم ما استعجم ص 261، 1033وهو بلا نسبة في الإنصاف 2/ 532رصف المباني ص 228، وسر صناعة الإعراب 1/ 391وشرح المفصل 7/ 60، 62ولسان العرب (بعض) والمقتضب 2/ 132ومغني اللبيب 1/ 225.
(3) الكتاب لسيبويه 1/ 408بخلاف يسير في العبارة.(9/12)
قال الأعلم: هذا من أقبح الضرورة (1)، لأنّ الجازم أضعف من الجارّ، وحرف الجرّ لا يضمر. وقد قيل: إنّه مرفوع حذفت لامه ضرورة، واكتفي بالكسرة منها.
وهذا أسهل في الضّرورة وأقرب.
وقال النحّاس: سمعت عليّ بن سليمان، يقول: سمعت محمد بن يزيد ينشد هذا البيت، ويلحّن قائله، وقال: أنشده الكوفيّون، ولا يعرف قائله، ولا يحتجّ به، ولا يجوز مثله في شعر ولا غيره (2) لأنّ الجازم لا يضمر ولو جاز هذا، لجاز يقم زيد، بمعنى: ليقم. وحروف الجزم لا تضمر، لأنها أضعف من حروف الخفض، وحرف الخفض لا يضمر.
فبعد أن حكى لنا أبو الحسن هذه الحكاية، وجدت هذا البيت في كتاب سيبويه يقول فيه: وحدّثني أبو الخطّاب أنه سمع هذا البيت ممن قاله.
قال أبو إسحاق الزجّاج احتجاجا لسيبويه: في هذا البيت حذف اللام، أي:
لتفد. قال: وإنّما سماه إضمارا، لأنه بمنزلته.
وأما قوله: «أو يبك من بكى»، فهذا البيت لفصيح، وليس هذا مثل الأوّل، وإن كان سيبويه قد جمع بينهما.
وذلك أنّ المعطوف يعطف على اللفظ وعلى المعنى، فعطف الشاعر على المعنى، لأنّ الأصل في الأمر أن يكون باللام، فحذفت تخفيفا، والأصل: فلتخمشي، فلما اضطرّ الشاعر عطف على المعنى، فكأنه قال: فلتخمشي، ويبك، فيكون (3) الثاني معطوفا على معنى الأول.
والبعوضة: موضع بعينه قتل فيه رجال من قومه، فحضّ على البكاء عليهم.
وحذا ابن هشام في «المغني» هذا الحذو، وقال: وهذا الذي منعه المبرد أجازه الكسائي في الكلام، بشرط تقدّم قل، وجعل منه (4): {«قُلْ لِعِبََادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلََاةَ»}، أي: ليقيموا.
__________
(1) النص في شرح أبيات المغني للبغدادي 4/ 336335.
(2) ما ورد في شرح أبيات سيبويه للنحاس خلاف، انظر ص 268منه.
(3) في النسخة الشنقيطية: = ويكون =.
(4) سورة إبراهيم: 14/ 31.(9/13)
ووافقه ابن مالك في «شرح الكافية» وزاد عليه أنّ ذلك يقع في النثر قليلا بعد القول الخبريّ، كقوله (1): (الرجز)
قلت لبوّاب لديه دارها ... تيذن فإنّي حموها وجارها
أي: لتيذن، فحذف اللام، وكسر حرف المضارعة.
وأمّا ابن عصفور فلم يزد في «كتاب الضرائر» على قوله: إضمار الجازم، وإبقاء عمله أقبح من إضمار الخافض. ثم أنشد خمسة أبيات حذف فيها اللام.
و «محمد»: منادى. و «تفد»: أمر من الفداء. و «كلّ»: فاعله.
و «نفسك»: مفعوله. و «التبال»، بفتح المثناة بعدها موحّدة. قال الأعلم، وتبعه ابن هشام: هو سوء العاقبة، وأصله وبال، فتاؤه مبدلة من الواو.
والبيت لا يعرف قائله، ونسبه الشارح في الباب الذي بعد هذا لحسّان، وليس موجودا في ديوانه.
وقال ابن هشام في «شرح الشذور»: قائله أبو طالب عمّ النبي صلّى الله عليه وسلّم.
وقال بعض فضلاء العجم في «شرح أبيات المفصل»: هو للأعشى. والله أعلم بحقيقة الحال.
* * * وأنشد بعده، وهو الشاهد الحادي والثمانون بعد الستمائة (2): (الخفيف)
__________
(1) هو الإنشاد الثاني والسبعون بعد الثلاثمائة في شرح أبيات المغني للبغدادي.
والرجز لمنظور بن مرثد في تاج العروس (حمأ) والتنبيه والإيضاح 2/ 13والدرر 5/ 62وشرح شواهد المغني 2/ 600والمقاصد النحوية 4/ 444وهو بلا نسبة في إصلاح المنطق ص 340وتاج العروس (بيع، لوم، أذن، حمو، تا) والجنى الداني ص 114وشرح أبيات المغني 4/ 340وشرح الأشموني 3/ 575ولسان العرب (حمأ، لوم، أذن، حما، تا) ومغني اللبيب 1/ 225.
(2) هو الإنشاد الرابع والسبعون بعد الثلاثمائة في شرح أبيات المغني البيب للبغدادي.
والبيت بلا نسبة في الإنصاف 2/ 525وتذكرة النحاة ص 666وشرح أبيات المغني 4/ 344(9/14)
وأمّا «إن» الأولى فإنّما حذف منها جوابها، والتقدير: وإن كان فقيرا أترضين به، لأنّ كان شرطها، واسمها مستتر فيها يعود إلى بعل في بيت مقدّم، وهو (1): (الرجز)
قالت سليمى ليت لى بعلا يمن ... يغسل جلدي وينسّيني الحزن
وحاجة ما إن لها عندي ثمن ... ميسورة قضاؤها منه ومن
قالت بنات العمّ يا سلمى وإن ... كان فقيرا معدما قالت وإن
وهذا الرجز منسوب إلى رؤبة بن العجّاج، و «سليمى»: مصغّر سلمى الآتية.
و «البعل»: الزوج.
و «يمن»: فعل مضارع من المنّة، وخفف النون للضرورة، والمنّة: النعمة، يقال: منّ عليه، أي: أنعم عليه. والمراد هنا: يحصل منه المنّ والإنعام، سواء كان عليها أو على غيرها، فهو مطلق.
وقال العيني (2): هو بتقدير يمنّ عليّ.
وقوله: «يغسل جلدي» إلخ، تفسير لقولها يمنّ. وقولها: «وحاجة»، منصوب بتقدير: ويقضي لي حاجة، وهي قضاء شهوة النوم. وقال العيني: حاجة معطوف على بعلا، و «ما»: نافية، و «إن»: زائدة.
وكون هذه الحاجة لا ثمن لها عندها لغلائها وعزّتها. و «ميسورة»: صفة حاجة. وأرادت: قضاؤها من البعل ومنّي، فحذفت الياء مع نون الوقاية ضرورة.
وروى: «قالت بنات الحيّ» بدل بنات العم. وروى: «وإنن» بزيادة نون في الموضعين، وبها استشهد شرّاح الألفية على أنّ هذه النون هي تنوين الغالي، وبها يخرج الشعر عن الوزن، ولا يستقيم إلّا بحذفها.
ورؤبة تقدّمت ترجمته في الشاهد الخامس من أول الكتاب (3).
* * * __________
(1) أشطر الرجز لرؤبة بن العجاج في ديوانه ص 186وشرح أبيات المغني 8/ 7والمقاصد النحوية 1/ 104.
(2) المقاصد النحوية 1/ 105.
(3) الخزانة الجزء الأول ص 103.(9/16)
684 - مهما لي اللّيلة مهما ليه
أودى بنعليّ وسرباليه
على أنّ «مهما» فيه بمعنى الاستفهام.
قال أبو علي الفارسي في «تذكرته»: هذا عندي مثل قول الخليل في «مهما» في الجزاء: إنه ماما، فقلب الألف هاء. وذلك لأنه يريد: ما لي الليلة. و «ما» تستعمل في الاستفهام على حدّ استعمالها في الجزاء، أي: غير موصولة فيهما. وإنما غيّر كراهية التقاء الأمثال.
ألا ترى أن قوله تعالى (1): {«فِيمََا إِنْ مَكَّنََّاكُمْ فِيهِ»} ولم يقل: ما ما مكّناكم فيه، فعدّل إلى «إن» لئلا تلتقي الأمثال في اللفظ. ومن قال مهما هي «مه ما» غير مغيّرة، فإن كان يريد أنها «مه» التي للأمر، فليس يخلو من أن يجزم بها، أو لا يجزم. فإن كان يجزم، فإنما قال: مه، ثم استأنف، فقال: ما تفعل أفعل، لم يجز.
ألا ترى أنّ قوله (2): (الطويل) * وأنّك مهما تأمري القلب يفعل *
ليس يريد به: وأنّك اكففي، ما تأمري القلب يفعل، وإن كان لا يجزم الفعل بها (3)، كأنّه قال: لتكفف افعل، لم يكن لذكر فعل الشرط وجه. وإن كان لا يريد الأمر بها ولكنّها حرف يوافق التي للأمر في اللّفظ ويخالفه في المعنى، فيكون حرفا للشرط يجزم، بمنزلة إن، جاز ذلك. انتهى.
__________
(1) سورة الأحقاف: 46/ 26.
(2) عجز بيت لامرئ القيس وصدره:
* أغرّك منّي أنّ حبّك قاتلي *
والبيت لامرئ القيس في ديوانه ص 13والدرر 6/ 308وشرح أبيات سيبويه 2/ 338وشرح شواهد المغني 1/ 20وشرح القصائد العشر للتبريزي ص 48وشرح المعلقات السبع للزوزني ص 42وشرح قطر الندى ص 85والكتاب 4/ 215وهو بلا نسبة في الأشباه والنظائر 2/ 56والخصائص 3/ 130وسر صناعة الإعراب 2/ 514وشرح المفصل 7/ 43وهمع الهوامع 2/ 211.
(3) في النسخة الشنقيطية: = وإن كان جزم الفعل بها =. وهو تصحيف صوابه من طبعة بولاق.(9/19)
وقال ابن الحاجب في «أماليه»: إنه يجوز أن يكون مه في «مهما لي الليلة»، اسم فعل بمعنى اسكت، واكفف عما أنت فيه من اللوم، كأنه يخاطب لائما على ما يراه من الوله. ثم قال: ما لي الليلة، تعظيما للحال التي أصابته، والشدّة التي أدركته.
ثم ذكر الأمر الذي يحقّق تعظيم الأمر، فقال: (السريع)
* أودى بنعليّ وسرباليه *
يعني ذهب بنعليّ وسرباليه، كقوله تعالى (1): {«هَلَكَ عَنِّي سُلْطََانِيَهْ»}. وإذا ذهب عنه نعله وسرباله دلّ على أنّ حاله بلغت مبلغا أذهلته عما لا يذهل متيقّظ عن مثله.
وصورة الاستفهام للتعظيم ثم مجيء ما يحقّق ذلك التعظيم بجملة أخرى بعد ذلك، من فصيح كلام العرب وبديعه. قال تعالى (2): {«الْحَاقَّةُ مَا الْحَاقَّةُ وَمََا أَدْرََاكَ مَا الْحَاقَّةُ»} ثم قال (3): {«كَذَّبَتْ ثَمُودُ»}.
ويجوز أن يكون مهما أصله ماما، كرّرت ما الاستفهامية للتأكيد اللفظي، فقلبت الألف الأولى هاء كما قلبت ألف الشرطية في قولهم: مهما. وهي عند الأكثرين: ماما.
وليس ذلك بقياس، وإنما هو حمل لفظ العربيّ على ما يحتمله، ممّا هو من جنس كلامهم، وليس من القياس المختلف فيه في شيء.
ويجوز أن تكون ما الأولى قدّر الوقف عليها، فقلبت ألفها هاء، ثم أجري الوصل مجرى الوقف. والوجه الأول أوجه وأوضح. انتهى.
واختار ابن هشام التوجيه الأول في «المغني» في ردّ ما قاله الشارح المحقق.
قال: ذكر جماعة منهم ابن مالك أنّ مهما تأتي للاستفهام، واستدلّوا بهذا البيت، ولا دليل فيه لاحتمال أنّ التقدير: مه اسم فعل بمعنى: اكفف، ثم استأنف استفهاما بما وحدها. هذا كلامه.
__________
(1) سورة الحاقة: 69/ 29.
(2) سورة الحاقة: 69/ 21.
(3) سورة الحاقة: 69/ 4.(9/20)
قوله (1): «أن تركض العالية»، في تأويل مصدر مرفوع، فاعل يكفيك، أي:
يقيك (2)، وبغي الفتى: مفعوله الثاني، ودرأه: معطوف على بغي. و «البغي»:
التعدّي، و «الدّرء»: العوج. يقال: أقمت درء فلان، أي: اعوجاجه.
وروي بدله: «وشغبه» بالسكون، وهو تهييج الشّرّ. و «العالية»، بالعين المهملة: اسم فرس الشاعر، وهو عمرو بن ملقط، كذا قال أبو زيد.
وزعم ابن الأعرابي: أنه أراد عالية الرمح، وغلّطه أبو محمد الأعرابيّ «فيما كتب على نوادره».
وقد خاطب الشاعر نفسه في هذا البيت. وأراد بالفتى: أوس بن حارثة بن لأم الطائي كما يأتي.
وقوله: «بطعنة» إلخ، متعلق بيكفيك. و «العاند»، بالمهملة والنون:
هو العرق الذي لا يخرج دمه على جهة واحدة. قاله أبو زيد.
و «الغائلة» بالمعجمة: ما غال من الماء وسرق. و «الجابية»، بالجيم:
الحوض. كذا قالهما أبو زيد.
وقوله: «يا أوس» هو أوس المذكور، وهو جاهلي. ورواه ابن الأعرابي:
«يا عمرو» وغلّطه أبو محمد الأعرابي. و «تهوي»: تقع من فوق إلى أسفل.
والهاوية: المهواة.
وقوله: «ألفيتا عيناك» إلخ، «ألفيتا» بالبناء للمفعول، أي: وجدتا.
وهذا على لغة أكلوني البراغيث.
وأورده ابن هشام في «المغني، وفي شرح الألفيّة» على أنّ الألف فيه علامة لاثنين.
وكذا أورده ابن الأعرابي، وقد غلّطه أبو محمد الأعرابي، وقال: إنّما هو:
«أفلتتا عيناك عند القفا». ولم يظهر لي معناه، مع أنه قد وافق أبا زيد في الرّواية.
__________
(1) الشرح كله في شرح أبيات المغني للبغدادي 2/ 364363.
(2) في النسخة الشنقيطية: = أي يكفيك =. وهو تصحيف صوابه من شرح أبيات المغني وطبعة بولاق.
بعده في شرح أبيات المغني: = ويمنعك =.(9/23)
و «الشّقّ» بفتح الشين وكسرها: بمعنى المشقّة، مفعوله الثاني.
و «الاعتساف»: المشي على غير الطريق المسلوكة، وفاعله ضمير الخيل.
والداوية: المفازة، وخفّفت الياء للضرورة.
وقوله: «يأبى لي الثعلبتان» إلخ، يأبى من الإباء، أي: يكره.
و «الثعلبتان»: فاعل يأبى.
قال صاحب الصحاح: الثعلبتان: ثعلبة بن جدعان بن ذهل بن رومان بن جندب بن خارجة بن سعد بن فطرة بن طيئ، وثعلبة بن رومان ابن جندب. وأنشد هذا البيت.
و «الذي»: مفعول يأبى، وقال: صلة الذي، والعائد محذوف: أى: قاله.
و «ضراط»: فاعل قال، وأراد به: أوسا المذكور، سمّاه به استهانة به، وتحقيرا له.
وروي: «خباج» بدل ضراط، بضم الخاء المعجمة بعدها موحدة ثم جيم، وهو بمعنى الضّراط.
وقوله: «ظلت»، أي: استمرت. و «اللّقحة»، بالكسر: الناقة ذات اللبن.
والآنية، قال أبو زيد: هي المبطئة بلبنها. وفسّرها بعضهم على هامش «النوادر» بالمدركة.
وقوله: «تنبذ أحرادها» إلخ، «تنبذ»: تطرح، وفاعله ضمير الأمة.
و «الأحراد»: جمع حرد، بفتح المهملتين، قال أبو زيد: هو الغيظ، والغضب.
ورواه ابن الأعرابي:
* ثمّ غدت تنبض أحرادها *
وقال: «تنبض»: تضطرب، «أحرادها»: أمعاؤها. قال أبو محمد الأعرابي: الصواب «ثم غدت تنبذ أحرادها»، أي: تضرط، يدلّك على هذا قوله سابقا: ضراط الأمة الرّاعية. اه.
وروى العيني: «تحرد أحرادها» وما أدري من أين نقلها.(9/25)
وقوله: «إن متغنّاة» إلخ، قال أبو الحسن في شرحه (1): أراد: متغنّية، يقلبون الياء ألفا. وحادية من حداء الإبل، وهو سوقها بالغناء. وإن هنا للتقسيم، بمعنى: إمّا المكسورة.
قال ابن هشام في «المغني»: إمّا المكسورة المشدّدة مركبة عند سيبويه من إن وما. وقد تحذف ما، كقوله (2): (المتقارب)
سقته الرّواعد من صيّف ... وإن من خريف فلن يعدما
أي: إمّا من خريف، وإمّا من صيّف. ويدلّ لما قلناه رواية الجرميّ وأبي حاتم:
* إمّا مغنّاة وإن حاديه *
و «عمرو بن ملقط الطائي» شاعر جاهليّ (3). وملقط بكسر الميم وسكون اللام وفتح القاف. اه. والله أعلم.
* * * وأنشد بعده، وهو الشاهد الخامس والثمانون بعد الستمائة (4): (المتقارب)
__________
(1) أراد شرح النوادر لأبي زيد. كذا في شرح أبيات المغني للبغدادي 2/ 367.
(2) هو الإنشاد الواحد والثمانون في شرح أبيات المغني للبغدادي.
البيت للنمر بن تولب في ديوانه ص 381والأزهية ص 56وشرح أبيات المغني 1/ 377وشرح شواهد المغني ص 180والكتاب 1/ 267والمعاني الكبير ص 1054والمقاصد النحوية 4/ 151وهو بلا نسبة في الأشباه والنظائر 1/ 227، 236والجنى الداني ص 212، 534والخصائص 2/ 441والدرر 6/ 128وشرح المفصل 8/ 102والكتاب 3/ 141ومغني اللبيب 1/ 59والمنصف 3/ 115.
(3) انظر في ترجمته وأخباره شرح أبيات المغني للبغدادي 2/ 366ومعجم الشعراء ص 235ونوادر أبي زيد ص 62.
(4) عجز بيت للمتنخل الهذلي وصدره:
* إذا سدته سدت مطواعة *
والبيت للمتنخل الهذلي في ديوان الهذليين 2/ 30والأغاني 23/ 265وأمالي المرتضى 1/ 306وتاج العروس (طوع) وشرح أشعار الهذليين 3/ 1277والشعر والشعراء 2/ 664ولسان العرب (طوع) وهو بلا نسبة في شرح المفصل.(9/26)
وأبياتا أخر. قال ابن هشام: ولا دليل في ذلك، لجواز كونها للمصدر بمعنى، أي: إعطاء كثيرا، أو قليلا.
وابن مالك مسبوق بهذا القول. وشدّد الزمخشري الإنكار على من قال بها، فقال: هذه الكلمة في عداد الكلمات التي يحرّفها من لا يد له في علم العربية، فيضعها في غير موضعها، ويظنّها بمعنى: متى.
ويقول: مهما جئتني أعطيتك. وهذا من وضعه، وليس من كلام واضع العربية، ثمّ يذهب فيفسّر بها الآية فيلحد في آيات الله تعالى.
قال ابن هشام: والقول بذلك في الآية ممتنع، لتفسيرها بمن آية، وإن صحّ ثبوته في غيرها كما ذهب بعضهم في: مهما تصب أفقا البيت السابق، قال: مهما فيه ظرف زمان، والمعنى: أيّ وقت تصب بارقا من أفق، فقلب الكلام، أو في أفق بارقا، فزاد من، واستعمل أفقا ظرفا.
والمصراع الشاهد وقع في شعر شاعرين أحدهما المتنخّل الهذلي.
وهو عجز، وصدره:
* إذا سدته سدت مطواعة *
والآخر: ذو الإصبع العدواني، وصدره:
* فإن سسته سست مطواعة *
وتقدّم شعرهما مشروحا في الشاهد السادس والسبعين بعد المائتين (1).
وقوله: «إذا سدته» هو من المساودة التي هي المسارّة، والسّواد كالسّرار بكسرهما لفظا ومعنى. قال: إذا ساررته طاوعك وساعدك.
وقال قوم: هو من السّيادة، فكأنه قال: إذا كنت فوقه سيّدا له أطاعك، ولم يحسدك، وإن وكلت إليه، وفوّضته شيئا كفاك. والمطواع: الكثير الطوع والانقياد، والتاء لتأكيد المبالغة.
__________
(1) الخزانة الجزء الرابع ص 140139.(9/29)
وقوله في الرّواية الأخرى: «إذا سسته» هو من سست الرّاعية (1) سياسة، إذا دبّرتهم وقمت بأمرهم. ووكلت (2) إليه الأمر وكلا من باب وعد، ووكولا: فوّضته إليه، واكتفيت به.
* * * وأنشد بعده، وهو الشاهد السادس والثمانون بعد الستمائة، وهو من شواهد س (3): (الكامل)
686 - إذ ما دخلت على الرّسول فقل له ... حقّا عليك إذا اطمأنّ المجلس
على أنّ سيبويه استشهد به ل «إذما».
وهذا نصّ سيبويه في باب الجزاء: فممّا يجازى به من الأسماء غير الظّروف:
«من» و «ما» و «أيّهم». وما يجازى به (4) من الظّروف: أيّ (5)، حين، ومتى، وأين، وأنّى، وحيثما. ومن غيرهما: إن وإذما.
ولا يكون الجزاء في حيث ولا في إذ حتّى يضمّ إلى كلّ واحدة منهما ما، فيصير إذ مع ما بمنزلة إنّما وكأنّما، وليست ما فيهما بلغو، ولكنّ كلّ واحدة منهما مع ما بمنزلة حرف واحد. فممّا (6) كان من الجزاء ب «إذما» قول العبّاس بن مرداس:
__________
(1) في طبعة بولاق: = الرعية =. وهي هنا بمعنى الدواب التي ترعى.
(2) في طبعة بولاق: = ووكل =. ولقد أثبتنا رواية النسخة الشنقيطية.
(3) البيت للعباس بن مرداس السلمي في ديوانه ص 88والسيرة النبوية 2/ 467وشرح أبيات سيبويه 2/ 93 وشرح المفصل 4/ 97، 7/ 46والكتاب 3/ 57ولسان العرب (أذذ) وهو بلا نسبة في الخصائص 1/ 131 ورصف المباني ص 60والمقتضب 2/ 47.
ورواية البيت في ديوانه والسيرة النبوة:
إمّا أتيت على النّبيّ فقل له ...
(4) في النسخة الشنقيطية: = ومما يجازى به =. وفي الكتاب لسيبويه: = ما يجازى به =.
(5) كلمة: = أي =. ساقطة من طبعة بولاق. وهي في النسخة الشنقيطية والكتاب لسيبويه.
(6) في طبعة بولاق: = فما =. ولقد أثبتنا رواية النسخة الشنقيطية والكتاب.(9/30)
إذ ما أتيت على الرّسول فقل له ... البيت
وقال الآخر، وهو عبد الله بن همّام السّلوليّ (1): (الطويل)
إذما تريني اليوم مزجى ظعينتي ... البيت الآتي سمعناهما ممّن يرويهما عن العرب، والمعنى إمّا. اه.
قال ابن يعيش: إن قيل: إذ ظرف زمان ماض، والشرط لا يكون إلّا بالمستقبل، فكيف يصحّ المجازاة بها؟ فالجواب (2) من وجهين:
أحدهما: أنّ «إذ» هذه التي تستعمل في الجزاء مع ما، ليست الظرفية، وإنّما هي حرف غيرها ضمّت إليها ما، فركّبا دلالة على هذا المعنى كإمّا (3).
والثاني: أنّها الظرفيّة، إلّا أنّها بالتركيب غيّرت ونقلت، وغيّرت عن معناها بلزوم ما إيّاها إلى المستقبل، وخرجت بذلك إلى حيّز الحروف.
ولذلك قال سيبويه: ولا يكون الجزاء في حيث ولا في إذ (4) حتّى يضمّ إلى كلّ واحدة منهما ما، إلخ. اه.
ورواه أهل السّير، منهم ابن هشام (5):
* إمّا أتيت على النّبيّ فقل له *
وعليه لا شاهد فيه، وأصله إن ما، وهي «إن» الشرطية، و «ما» الزائدة.
والبيت من قصيدة للعباس بن مرداس الصّحابي، قالها في غزوة حنين يخاطب بها النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم، ويذكر بلاءه وإقدامه مع قومه في تلك الغزوة وغيرها من الغزوات، وعدّتها ستّة عشر بيتا، وأولها (6):
__________
(1) هو الشاهد التالي، وسوف يتم تخريجه هناك عند ذكره.
(2) في طبعة بولاق والنسخة الشنقيطية: = والجواب =. والوجه السليم ما أثبتناه نقلا عن شرح المفصل 7/ 47.
(3) في شرح المفصل: = كأنما =.
(4) في طبعة بولاق: = إذا =. وهو تصحيف صوابه من النسخة الشنقيطية وشرح المفصل والكتاب.
(5) هي رواية ديوانه والسيرة النبوية.
(6) الأبيات من قصيدة للعباس بن مرداس السلمي يمدح فيها النبي صلى الله عليه وسلم وهي في ديوانه(9/31)
يا أيّها الرّجل الذي تهوي به ... وجناء مجمرة المناسم عرمس
إمّا أتيت على النّبيّ فقل له ... حقّا عليك إذا اطمأنّ المجلس
يا خير من ركب المطيّ ومن مشى ... فوق التّراب إذا تعدّ الأنفس
إنّا وفينا بالذي عاهدتنا ... والخيل تقدع بالكماة وتضرس
قوله: «يا أيّها الرجل» إلخ، «تهوى»، بكسر الواو: تسرع.
و «الوجناء»: الناقة الغليظة الوجنات، قال السّهيلي في «الرّوض الأنف» (1):
وجناء: غليظة الوجنات بارزتها، وذلك يدلّ على غؤور عينها، وهم يصفون الإبل بغؤور العينين عند طول الأسفار. ويقال من الوجنه في الآدميّين: رجل موجّن، وامرأة موجّنة، ولا يقال: وجناء. قاله يعقوب.
و «مجمرة»، بالجيم: اسم مفعول من أجمر البعير، إذا أسرع في سيره.
و «المناسم»: جمع منسم كمجلس، وهو مقدّم طرف خفّ البعير.
قال السّهيلي: مجمرة المناسم، أي: نكبت مناسمها الجمار، وهي الحجارة.
وقد يريد أيضا أنّ مناسمها مجتمعة منضمّة، فذلك أقوى لها. وقد حكي: أجمرت المرأة شعرها، إذا ضفرته.
وأجمر الأمير الجيش، أي: حبسه عن القفول. و «العرمس»، بكسر العين وسكون الراء المهملتين وكسر الميم، قال السّهيلي: هي الصخرة الصلبة، ويشبّه بها (2) الناقة الجلدة.
وقوله: «إذ ما دخلت» إلخ، جملة «دخلت»، وجملة: «أتيت» في الرواية الأخرى في محلّ جزم شرط لإذما أو لإمّا، وجملة: «فقل» كذلك جواب إذ ما وجزاؤه.
وأراد بالرّسول والنبيّ نبيّنا محمّدا صلّى الله عليه وسلّم. وقوله: «حقّا عليك»، قال اللخمي: قيل: إنّه منصوب بقل، والصواب أن يكون منصوبا على المصدر
__________
ص 8887وتاريخ ابن عساكر 7/ 266265والسيرة النبوية 2/ 468467وشرح القصائد السبع الطوال ص 126.
(1) الروض الأنف 2/ 298.
(2) في شرح ديوانه ص 88والروض الأنف 2/ 298: = وتشبه بها =.(9/32)
و «الإزجاء»: السّوق، بالزاء المعجمة والجيم. يقال: أزجيت الإبل، إذا سقتها. و «ظعينتي»: مفعول أزجي. و «الظعينة»: المرأة ما دامت في الهودج.
وروى بدله: «مطيتي». والمطيّة: البعير.
وزعم بعض فضلاء العجم في «شرح أبيات المفصل» أنّ ظعينتي منادى، ومفعول أزجي محذوف تقديره: ركائبي.
وروى سيبويه: «مزجى ظعينتي» بصيغة اسم المفعول، فيكون ظعينتي نائب الفاعل، وذكّر مزجى، والأصل مزجاة بالهاء، قاله ابن المستوفي.
وجملة: «أزجي» حال من الياء من تريني لا مفعول ثان لترى، لأنّها هنا بصريّة. وكذلك مزجى حال.
وجملة: «أصعّد وأفرع» تفسير لأزجي وبيان له. وقال ابن المستوفي: أصعّد موضعه النصب على الحال، ولو جعل بدلا من مزجى على رواية من روى مطيّتي، جاز لأنّ معنى يزجي مطيته معنى يصعّد في البلاد ويفرع.
قال صاحب الصحاح: وأصعد في الوادي، وصعّد في الوادي تصعيدا، أي:
انحدر فيه. وأنشد هذا البيت، فيكون أفرع بفتح الهمزة مقابلا له. قال صاحب الصحاح: وفرعت الجبل: صعدته، وأفرعت في الجبل: انحدرت.
قال رجل من العرب: لقيت فلانا فارعا مفرعا، يقول: أحدنا مصعد والآخر منحدر. وسيرا: مصدر في موضع الحال.
وأنشد الزمخشري في «المفصّل» المصراع الأوّل كذا: «فإنّا تريني اليوم» على أنّ ما تزاد بعد إن للتأكيد.
وقوله: «فإنّي من قوم سواكم».
فإن قيل: كيف قال سواكم، وهو يخاطب امرأة؟ فالجواب أنّه للتعظيم، وربّما خوطبت المرأة الواحدة بخطاب جماعة الذّكور مبالغة في سترها، فيعدل عن الإفراد والتأنيث إلى الجمع والتذكير، فيبعد عن الضمير لها بمرتبتين. ومنه قوله تعالى حكاية عن موسى (1): «{فَقََالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا}».
__________
(1) سورة طه: 20/ 10.(9/35)
وعبد الله هو القائل في عريفهم: (المتقارب)
ولمّا خشيت أظافيره ... نجوت وأرهنته مالكا (1)
عريفا مقيما بدار الهوا ... ن أهون عليّ به هالكا (2)
وهو القائل في الفلافس (3): (الطويل)
أقلّي عليّ اللّوم يا ابنة مالك ... وذمّي زمانا ساد فيه الفلافس (4)
وساع من السّلطان ليس بناصح ... ومحترس من مثله وهو حارس
وكان الفلافس هذا على شرطة الكوفة، من قبل الحارث بن عبد الله بن أبي ربيعة المخزومي، أخي عمر بن أبي ربيعة. وخرج الفلافس مع ابن الأشعث، فقتله الحجّاج.
وعبد الله هو القائل ليزيد بن معاوية [يعزيه عن أبيه] (5): (البسيط)
اصبر يزيد فقد فارقت ذا مقة ... واشكر حباء الذي بالملك ردّاكا (6)
لا رزء أعظم بالأقوام قد علموا ... ممّا رزئت ولا عقبى كعقباكا
أصبحت راعي أهل الدّين كلّهم ... فأنت ترعاهم والله يرعاكا
وفي معاوية الباقي لنا خلف ... إذا نعيت ولا نسمع بمنعاكا
__________
(1) البيت لعبد الله بن همام السلولي في إصلاح المنطق ص 231والدرر 4/ 15وشرح أبيات المغني للبغدادي 7/ 262والشعر والشعراء 2/ 546ولسان العرب (رهن) ومعاهد التنصيص 1/ 285والمقاصد النحوية 3/ 190ولهمام بن مرة في تاج العروس (رهن). وهو بلا نسبة في الجنى الداني ص 164ورصف المباني ص 420وشرح الأشموني 1/ 256وشرح ابن عقيل ص 340والمقرب 1/ 155وهمع الهوامع 1/ 246.
(2) البيت لعبد الله بن همام السلولي في شرح أبيات المغني للبغدادي 7/ 263ولسان العرب (رهن).
(3) البيتان لعبد الله بن همام في الشعر والشعراء 2/ 546وعيون الأخبار 1/ 57.
(4) في الحيوان 1/ 216والشعر والشعراء 2/ 546وعيون الأخبار 1/ 57أن الفلافس هذا كان على شرطة الكوفة من قبل الحارث بن عبد الله بن أبي ربيعة المخزومي أخي عمرو بن عبد الله بن أبي ربيعة.
في النسخة الشنقيطية: = الفلاقس =. بالقاف وهو تصحيف صوابه من طبعة بولاق.
(5) زيادة من الشعر والشعراء. ومنه أخذ البغدادي النص.
والأبيات لعبد الله بن همام السلولي في الشعر والشعراء 2/ 546والكامل في اللغة 2/ 382381.
(6) المقة: المحبة ومقه يمقه.(9/37)
وأنشد بعده (1): (الطويل)
* كبير أناس في بجاد مزمّل *
على أن قوله: «مزمّل» جرّ لمجاورته المجرور، وهو أناس، أو بجاد، ولو لاه لرفع، لأنه صفة لقوله: كبير.
وقد تقدّم شرحه مفصلا مستوفى في الشاهد الخمسين بعد الثلثمائة (2).
وهو عجز، وصدره:
* كأنّ أبانا في عرانين وبله *
والبيت من معلقة امرئ القيس.
* * * وأنشد بعده (3): (الخفيف)
فمتى واغل يزرهم يحيّو ... هـ وتعطف عليه كأس السّاقي
على أنّه فصل اضطرارا بين «متى» ومجزومه فعل الشرط بواغل، ف «واغل»:
فاعل فعل محذوف يفسّره المذكور، أي: متى يزرهم واغل يزرهم. والواغل: الذي يدخل على من يشرب الخمر، ولم يدع إليها، وهو في الشّراب بمنزلة الوارش في الطّعام، وهو الطّفيليّ.
__________
(1) هو الإنشاد السادس والخمسون بعد السبعمائة في شرح أبيات المغني للبغدادي.
والبيت لامرئ القيس في ديوانه ص 25وتاج العروس (خزم) وتذكرة النحاة ص 308، 346وشرح أبيات المغني 7/ 111وشرح شواهد المغني 2/ 883وشرح القصائد العشر للتبريزي ص 89ولسان العرب (عقق، زمل، خزم، أبن) ومغني اللبيب 2/ 515. وهو بلا نسبة في الأشباه والنظائر 2/ 10والمحتسب 2/ 135.
(2) الخزانة الجزء الخامس ص 96.
(3) البيت لعدي بن زيد العبادي في ديوانه ص 156والإنصاف 2/ 617والدرر 5/ 78وشرح أبيات سيبويه 2/ 88وشرح أبيات المغني 6/ 234والكتاب 3/ 113. وهو بلا نسبة في تاج العروس (وغل) وشرح المفصل 9/ 10ولسان العرب (وغل) والمقتضب 2/ 76وهمع الهوامع 2/ 59.(9/38)
وقد تقدّم الكلام على هذا البيت في الشاهد الحادي والستين بعد المائة (1).
* * * وأنشد بعده (2): (الرمل)
* أينما الرّيح تميّلها تمل *
لما تقدّم قبله.
فتكون «الريح» فاعلة لفعل محذوف يفسّره المذكور، أي: أينما تميّلها الريح تميّلها.
وقد تقدّم الكلام على هذا البيت أيضا في الشاهد الثاني والستين بعد المائة (3).
وهو عجز وصدره:
* صعدة نابتة في حائر *
* * * وأنشد بعده، وهو الشاهد الثامن والثمانون بعد الستمائة وهو من شواهد سيبويه (4): (الطويل)
__________
(1) الخزانة الجزء الأول ص 45.
(2) البيت لكعب بن جعيل في تاج العروس (صعد) وشرح أبيات سيبويه 2/ 196وشرح أبيات المغني للبغدادي 6/ 234والمؤتلف والمختلف ص 115وله أو لحسام بن ضرار في المقاصد النحوية 4/ 424. وهو بلا نسبة في الإنصاف 2/ 618وشرح الأشموني 3/ 580وشرح المفصل 9/ 10والكتاب 3/ 113ولسان العرب (حير) والمقتضب 2/ 75وهمع الهوامع 2/ 59.
(3) الخزانة الجزء الثالث ص 47.
(4) صدر بيت لهشام المري وعجزه:
* ومن لا نجره يمس منّا مروّعا *(9/39)
ومثل الأوّل قول هشام المرّيّ: (الطويل)
فمن نحن نؤمنه يبت وهو آمن ... ومن لا نجره يمس منّا مفزّعا
انتهى كلام سيبويه، ولنفاسته سقناه بتمامه.
وقد أورد ابن هشام هذا البيت في «المغني» قال: قولنا الجملة المفسّرة لا محلّ لها، خالف فيه الشّلوبين، فزعم أنّها بحسب ما تفسّره، فهي في نحو: زيدا ضربته لا محلّ لها، وفي نحو (1): «{إِنََّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنََاهُ بِقَدَرٍ}» ونحو زيد الخبز يأكله، بنصب الخبز، في محلّ رفع. ولهذا يظهر الرفع إذا قلت آكله.
قال:
* فمن نحن نؤمنه يبت وهو آمن *
فظهر الجزم. وكانت الجملة المفسّرة عنده عطف بيان، أو بدلا. ولم يثبت الجمهور وقوع البيان والبدل جملة.
وقد بيّنت (2) أنّ جملة الاشتغال ليست من الجمل التي تسمّى في الاصطلاح جملة مفسّرة، وإن حصل فيها تفسير.
ولم يثبت جواز حذف المعطوف عليه عطف البيان، واختلف في المبدل منه.
وفي «البغداديات» لأبي عليّ أنّ الجزم في ذلك بأداة شرط مقدّرة، فإنّه قال ما ملخّصه: أنّ الفعل المحذوف، والفعل المذكور في نحو قوله (3): (الكامل)
__________
(1) سورة القمر: 54/ 49.
(2) في النسخة الشنقيطية: = وقد ثبت =. ولقد أثبتنا رواية طبعة بولاق ومغني اللبيب.
(3) صدر بيت للنمر بن تولب العكلي وعجزه:
* وإذا هلكت فعند ذلك فاجزعي *
وهو الإنشاد الثاني والسبعون بعد المائتين في شرح أبيات المغني للبغدادي.
والبيت للنمر بن تولب في ديوانه ص 357وتخليص الشواهد ص 499وسمط اللآلئ ص 468وشرح أبيات سيبويه 1/ 160وشرح أبيات المغني 4/ 52وشرح شواهد المغني 1/ 472، 2/ 829وشرح المفصل 2/ 38 والكتاب 1/ 134ولسان العرب (نفس، خلل) والمقاصد النحوية 2/ 535. وهو بلا نسبة في الأزهية ص 248 والأشباه والنظائر 2/ 151والجنى الداني ص 72وجواهر الأدب ص 67والرد على النحاة ص 114(9/42)
* لا تجزعي إن منفسا أهلكته *
مجزومان في التقدير، وأنّ انجزام الثاني ليس على البدليّة، إذ لم يثبت حذف المبدل منه، بل على تكرير إن، أي: إن أهلكت منفسا إن أهلكته، وساغ إضمار إن لاتّساعهم فيها. اه.
والبيت لهشام المرّيّ كما قاله سيبويه (1) وغيره، وهو منسوب إلى مرّة بن كعب ابن لؤيّ القرشيّ، وهو شاعر جاهليّ.
* * * وأنشد بعده، وهو الشاهد التاسع والثمانون بعد الستمائة (2): (الكامل)
689 - يثني عليك وأنت أهل ثنائه
ولديك إن هو يستزدك مزيد
على أنّ مجيء الشرط المفصول باسم من أداة الشرط مضارعا شاذّ، وحقّه أن يكون ماضيا، سواء كان لفظا ومعنى، نحو: إن زيد قام قمت، أو معنى فقط نحو قوله (3): (الطويل)
وإن هو لم يحمل على النّفس ضيمها ... فليس إلى حسن الثّناء سبيل
__________
وشرح الأشموني 1/ 188وشرح ابن عقيل ص 264وشرح قطر الندى ص 195ولسان العرب (عمر) ومغني اللبيب 1/ 166، 403والمقتضب 2/ 76.
(1) في النسخة الشنقيطية وشرح أبيات المغني: = كما قال سيبويه =.
(2) البيت لعبد الله بن عنمة في الدرر 5/ 75وشرح ديوان الحماسة للمرزوقي ص 1041وللضبي في شرح الحماسة للأعلم 1/ 503وشرح الحماسة للتبريزي 3/ 44. وهو بلا نسبة في الخصائص 1/ 110وشرح الأشموني 3/ 595وهمع الهوامع 2/ 59.
(3) البيت للسموأل بن عادياء في ديوانه ص 90والدرر 1/ 199وله أو للجلاح الحارثي عبد الملك بن عبد الرحيم في الحماسة برواية الجواليقي ص 42وشرح أبيات المغني 4/ 202وشرح الحماسة للأعلم 1/ 261 وشرح الحماسة للتبريزي 1/ 56وشرح الحماسة للمرزوقي ص 111والمقاصد النحوية 2/ 77. وهو بلا نسبة في همع الهوامع 1/ 63، 2/ 59.(9/43)
وقوله: «تصبح رهين» إلخ، أي: إن خلّيت مكانك، وصرت رهين قبر رتق الجوانب (1) لا ينعش صريعه، ولا يفكّ رهينه، فلربّ مكروب، أي: ربّ مضيّق عليه، تعطّفت عليه، وأنقذته.
وقوله: «أنفا ومحمية»: مفعول لأجله، أي: فعلت ذلك حميّة وأنفة، ولأنّ من سجيّتك الذّياد، أي: المنع، حين لا ذائد، لشدّة الأمر.
و «العاني»: الأسير، من عنا يعنو إذا خضع، أي: وربّ أسير أطلقته من إساره، وربّ سائل أعطيته فأغنيته، فانصرف عنك، وأنت محمود مشكور، وهو يثني عليك، ويشكر نعمتك. ولو عاد إليك لوجد معادا، إذ لا تضجر، ولا تسأم من الإفضال والجود.
وعبد الله بن عنمة شاعر إسلاميّ مخضرم، تقدّمت ترجمته في الشاهد الخمسين بعد الستمائة (2).
* * * وأنشد بعده:
* أينما الرّيح تميّلها تمل *
لما تقدّم قبله. وتقدّم الكلام عليه قريبا وبعيدا (3).
* * * __________
(1) كذا في أصل طبعة بولاق والنسخة الشنقيطية: = رتق الجوانب =. وفي طبعة هارون 9/ 43: = زلج الجوانب =. والروايتان صحيحتان. ولا نعلم السبب الذي جعل محقق طبعة هارون يعتبر رواية = رتق الجوانب = مصحفة مع أن المعنى بها يستقيم.
ففي اللسان (رتق): = وكانت الأرض رتقا ليس فيها صدع والرتق: الظلمة =. وفي كلا المعنيين يستقيم معنى البيت.
(2) الخزانة الجزء الثامن ص 472.
(3) الخزانة الجزء الثالث ص 47.(9/45)
وأنشد بعده:
* إن منفس أهلكته *
هو قطعة من بيت، وهو:
لا تجزعي إن منفس أهلكته ... وإذا هلكت فعند ذلك فاجزعي
وتقدّم الكلام عليه مفصلا في الشاهد السادس والأربعين من أوائل الكتاب (1).
* * * وأنشد بعده، وهو الشاهد التسعون بعد الستمائة (2): (الطويل)
690 - وللخيل أيّام فمن يصطبر لها
ويعرف لها أيّامها الخير تعقب
على أنّ «الخير» مفعول مقدّم لتعقب، وتعقب مجزوم جواب الشرط، وإنما كسرت الباء لأنّ القصيدة مجرورة.
وإنّما جاز الكسر في المجزوم دون المرفوع والمنصوب لوجهين:
أحدهما: أنّ الجزم في الأفعال نظير الجرّ في الأسماء، فلمّا وجب تحريكه للقافية، حرّكوه بحركة النظير.
والثاني: أنّ الرفع والنصب يدخلان هذا الفعل، ولا يدخله الجرّ، فلو حرّكوه بالضم أو الفتح لالتبس (3) حركة الإعراب بحركة البناء، بخلاف الكسر فإنّه ليس فيه لبس.
قال يعقوب بن السكيت في «شرح ديوان طفيل»: أراد تعقبه الخيل الخير فقدّم، وأخّر. اه.
__________
(1) الخزانة الجزء الأول ص 306.
(2) البيت لطفيل الغنوي في ديوانه ص 35والاختيارين ص 44والإنصاف ص 621وكتاب الصناعتين ص 284.
(3) في النسخة الشنقيطية مع أثر تصحيح بها: = لالتبست = وهما سواء في المعنى.(9/46)
غنم بفتح فسكون، ابن غنّي بن أعصر. كذا في الجمهرة (1).
قال الصّوليّ في «كتاب الكتاب (2)» في خلال وصف الحبر: وسمّوا طفيلا الغنويّ محبّرا، لتحسينه شعره.
وقيل سمّي بذلك لقوله يصف بردا (3): (الطويل)
سماوته أسمال برد محبّر ... وسائره من أتحميّ معصّب
و «سماوة البيت»: سقفه. و «الأتحميّ»: ضرب من البرود. اه.
وقال ابن قتبية في «كتاب الشعراء (4)»: كان طفيل الغنويّ من أوصف العرب للخيل (5)، فقال عبد الملك: من أراد ركوب الخيل فليرو شعر طفيل. وقال معاوية:
دعوا لي طفيلا، وسائر الشّعراء لكم. اه.
وقال الأصمعي: كان طفيل أحد نعّات الخيل، وكان أكبر من النابغتين (6)، وليس في قيس فحل أقدم منه، وكان يسمّى طفيل الخيل لكثرة وصفه إيّاها، والمحبّر لحسن وصفه لها.
وقد أورد الآمدي في «المؤتلف والمختلف (7)» أربعة شعراء كلّ منهم اسمه طفيل، أحدهم هذا.
__________
(1) زاد الأخفش في الاختيارين في نسبه: = أعصر بن سعد بن قيس بن عيلان بن مضر. واسم غني: عمرو.
واسم أعصر: منبّه =.
(2) كذا في جميع أصول طبعات الخزانة. وهو تصحيف. وفي حاشية طبعة هارون 9/ 47: = وصوابه أدب الكتاب وهو لأبي بكر محمد بن يحيى الصولي، وقد طبع في المطبعة السلفية 1341بتحقيق محمد بهجة الأثري.
والنص فيه ص 105=.
(3) البيت لطفيل الغنوي في ديوانه ص 19والأغاني 15/ 341والكامل في اللغة 1/ 88ولسان العرب (سما) والمقاصد النحوية 3/ 24. وهو بلا نسبة في تهذيب اللغة 13/ 116وديوان الأدب 3/ 49والمخصص 1/ 52.
(4) الشعر والشعراء 1/ 364.
(5) وبعده في الشعر والشعراء: = وكان يقال له في الجاهلية المحبر لحسن شعره =.
(6) أراد بالنابغتين النابغة الذبياني، والنابغة الجعدي.
والخبر في الأغاني 15/ 350. وفيه: = كان طفيل أكبر من النابغة =. وفي طبعة بولاق والنسخة الشنقيطية:
= من الناعتين =.
(7) المؤتلف والمختلف ص 218217.(9/49)
وأنشد بعده (1): (الرجز)
يا أقرع بن حابس يا أقرع ... إنّك إن يصرع أخوك تصرع
على أنّ الكوفيين استدلّوا به على أنّ رتبة الجزاء التقديم، فرفع «تصرع» مراعاة لأصله، ولو كان رتبته التأخير لجزم.
وأجاب الشارح عنه بأنه ضرورة، كما بيّنه.
وهذا مأخوذ من كلام سيبويه، وهذا نصّه: وقد تقول: إن أتيتني آتيك، أي:
آتيك إن أتيتني.
قال زهير (2): (البسيط)
وإن أتاه خليل يوم مسألة ... يقول لا غائب ما لي ولا حرم
ولا يحسن إن تأتيني آتيك، من قبل أنّ إن هي العاملة. وقد جاء في الشعر، قال جرير بن عبد الله البجليّ:
يا أقرع بن حابس يا أقرع ... إنّك إن يصرع أخوك تصرع
__________
(1) هو الإنشاد التسعون بعد السبعمائة في شرح أبيات المغني للبغدادي.
والرجز لجرير بن عبد الله البجلي في شرح أبيات سيبويه 2/ 121والكتاب 3/ 67ولسان العرب (بجل) وله أو لعمرو بن خثارم العجلي في شرح شواهد المغني 2/ 892والمقاصد النحوية 4/ 430ولعمرو بن خثارم البجلي في الدرر 1/ 277وديوان الأدب 1/ 435وشرح أبيات المغني للبغدادي 7/ 180. وهو بلا نسبة في الإنصاف 2/ 623وجواهر الأدب ص 202ورصف المباني ص 104وشرح الأشموني 3/ 586وشرح التصريح 2/ 249وشرح ابن عقيل ص 587وشرح عمدة الحافظ ص 354وشرح المفصل 8/ 158ومغني اللبيب 2/ 553والمقتضب 2/ 72وهمع الهوامع 2/ 72.
(2) هو الإنشاد الثامن والستون بعد الستمائة في شرح أبيات المغني للبغدادي.
والبيت لزهير بن أبي سلمى في ديوانه ص 153والإنصاف 2/ 625وجمهرة اللغة ص 108والدرر 5/ 82 ورصف المباني ص 104وشرح أبيات سيبويه 2/ 85وشرح أبيات المغني للبغدادي 6/ 290وشرح التصريح 2/ 249وشرح شواهد المغني 2/ 838والكتاب 3/ 66ولسان العرب (خلل، حرم) والمحتسب 2/ 65 ومغني اللبيب 2/ 422والمقاصد النحوية 4/ 429والمقتضب 2/ 70. وهو بلا نسبة في أوضح المسالك 4/ 207وجواهر الأدب ص 203وشرح الأشموني 3/ 585وشرح شذور الذهب ص 451وشرح ابن عقيل ص 586وشرح عمدة الحافظ ص 353وشرح المفصل 8/ 157وهمع الهوامع 2/ 60.(9/50)
ومثله (1):
* إنّك إن يصرع أخوك تصرع *
فهذا على ما ذكرت لك. وكذلك قوله (2):
إنّها ... مطبّعة من يأتها لا يضيرها
أراد: لا يضيرها من يأتها، وإنّك تصرع إن يصرع أخوك، وهو عندنا على إضمار الفاء.
فأما قوله:
* من يفعل الحسنات الله يشكرها *
فعلى إضمار الفاء في كلّ قول. اه.
وسيأتي نقل كلام المبرد في الشاهد السادس والثمانين (3) بأبسط من هذا.
وهذا البيت من قصيدة لذي الرمّة، وهذا مطلعها (4):
لميّة أطلال بحزوى دواثر ... عفتها السّوافي بعدنا والمواطر
كأنّ فؤادي هاض عرفان ربعها ... به وعي ساق أسلمتها الجبائر
عشيّة مسعود يقول وقد جرى ... على لحيتي من عبرة العين قاطر
أفي الدّار تبكي أن تفرّق أهلها ... وأنت امرؤ قد حلّمتك العشائر
فلا ضير أن تستعبر العين إنّني ... على ذاك إلّا جولة الدّمع صابر
__________
(1) هو الشاهد رقم / 581/. وقد مرّ في الخزانة الجزء الثامن.
(2) هو الشاهد رقم / 694/ وسيمر لاحقا.
(3) في طبعة بولاق والنسخة الشنقيطية: = السادس والثلاثين =.
وفي حاشية طبعة بولاق: = قوله في الشاهد السادس والثمانين، وسيأتي يقول وسننقل كلام المبرد في الشاهد الثالث والثمانين هكذا بالأصل في الموضعين وقد راجعت المحلين فلم أجد فيهما كلاما للمبرد مع أن التعبير سيأتي وسننقل يقتضي أن ذلك سيأتي فليحرر ا. هـ =.
(4) الأبيات لذي الرمة في ديوانه ص 241239.(9/55)
والحجّة لسيبويه، أنّه يقدّر الضمير في «يضير» على ما هو عليه في التأخير.
و «من» مبتدأة على أصلها، فلا يلزم أن ترتفع من به، وتبطل من عمل الجزم. هذا كلامه.
وسننقل كلام المبرد في الشاهد الثالث والثمانين (1).
وقد تكلّم أبو علي في «كتاب الشعر» على فاعل يضير على التقديرين، فقال:
من قدّر فيه التقديم كان فاعل لا يضيرها ضير، فأضمر الضّير له لدلالة يضير عليها.
والضّير قد استعمل استعمال الأسماء في نحو لا ضير، كأنه قد صار اسما لما يكره ولا يراد. ومن قدّر الفاء محذوفة أمكن أن يكون الفاعل عندنا أحد شيئين:
أحدهما: الضّير كقول من قدّر التقديم. ويجوز أن يكون فاعل يضير ضميرا من الذي تقدّم ذكره. اه.
أراد بما تقدّم التحمّل فوق الطاقة.
والبيت من قصيدة عدّتها سبعة عشر بيتا لأبي ذؤيب الهذلي (2)، قالها في ابن أخته خالد بن زهير، وكان خاله أبو ذؤيب في صغره رسولا من وهب بن جابر إلى امرأة من هذيل، كان يتعشّقها وهب، وكان أبو ذؤيب جميلا، فرغبت فيه، واطّرحت وهبا، ففشا أمرهما في هذيل، فكان يرسل إليها ابن أخته خالد بن زهير، وعاهده على أن لا يخونه فيها، فلم تلبث أن عشقت خالدا، وتركت أبا ذؤيب.
فجرى بين أبي ذؤيب وبين خالد أشعار كثيرة منها هذه القصيدة، وأجابه خالد بقصيدة على رويّها، منها (3): (الطويل)
فلا تجزعن من سنّة أنت سرتها ... فأوّل راض سنّة من يسيرها
__________
(1) سبق لنا أن نبهنا على هذا الخطأ، ونقلنا في حينها حاشية مصحح طبعة بولاق.
(2) هي في ديوانه ص 31في سبعة عشر بيتا. وقصة إرساله لابن أخته جاءت في مقدمة القصيدة ص 3130.
(3) هو الإنشاد الثامن والستون بعد السبعمائة في شرح أبيات المغني للبغدادي.
والبيت لخالد بن زهير في ديوان أبي ذؤيب ص 32وديوان الهذليين 1/ 157وشرح أبيات المغني للبغدادي 7/ 134وشرح أشعار الهذليين ص 213وجمهرة اللغة ص 725والخصائص 2/ 212ولسان العرب (سير) ولخالد بن عتبة الهذلي في لسان العرب (سنن) ولزهير في الأشباه والنظائر 2/ 399وليس في ديوان زهير بن أبي سلمى. وهو بلا نسبة في مغني اللبيب 2/ 524.(9/61)
وقوله: «أتى قرية» إلخ، فاعل أتى ضمير البختي. والجملة حال من البختي.
وقوله: «كرفغ التّراب»، أي: ككثرة التّراب، وأصل الرّفغ اللّين والسهولة، وهو بالفاء والغين المعجمة.
وقوله: «يميرها» هو على القلب، أي: كلّ شيء تميره هذه القرية، فقلب، فجعل الفاعل وهو ضمير القرية مفعولا، وأسند الفعل إلى ضمير كلّ شيء. والنّكتة فيه أنّ كلّ شيء يعطي هذه القرية الميرة، حتّى اجتمع فيها الطّعام ككثرة التراب.
وقال القاري في «شرحه»: قوله: «يميرها»، يريد يمتار من القرية. قال الباهلي: كلّ شيء يمير لها.
أقول: الوجه الأوّل: معنى الكلام قبل القلب، والثاني: معناه بعد القلب، كما قلنا فيها.
وقوله: «فقلت تحمّل» إلخ، رواية السكري: «فقيل تحمّل» وهي الجيّدة، أي: وقيل للبختي تحمل فوق طاقتك، وقوله: «إنّها»، أي: إن هذه القرية مطبّعة، أي: مختومة بالطّابع.
يعني أنّ هذه القرية مملوءة بالطعام، لأنّ الختم إنّما يكون غالبا بعد الملء. وفيه مبالغة لا تخفى. وجملة: «إنها مطبّعة» استئناف بيانيّ، كأنه سأل البختيّ هل يدعونني أن أتحمّل فوق طاقتي من هذه القرية.
فهو سؤال عن السبب الخاص للحكم، لا عن سبب الحكم مطلقا، فلهذا أكّد بإنّ. والجملة الشرطية خبر ثان لإنّ. وضاره ضيرا، من باب باع: أضرّ به.
وقوله: «بأكثر مما كنت» إلخ، يقول: ما حمّل هذا البختيّ من الطّعام، بأكثر ممّا كنت حمّلت خالدا من الأمانة. و «الغرور»، بالضم: الغفلة، والضمير للرّجال.
وترجمة أبي ذؤيب الهذلي تقدّمت في الشاهد السابع والستين (1).
* * * __________
(1) الخزانة الجزء الأول ص 403.(9/63)
على أنّ جزم أدوات الشرط المضاف إلى جملتها ظرف، خاصّ بالشعر كما في البيت، فإنّه جازى بمن مع إضافة حين إلى جملة الشرط ضرورة، وحكمها أن لا تضاف إلّا إلى جملة خبريّة، لأنّ المبهمات إنّما تفسّر وتوصل بالأخبار، لا بحروف المعاني، وما ضمّنت معناها.
وجاز هذا في الشعر [تشبيها (1)] لجملة الشرط بجملة الابتداء والخبر، والفعل والفاعل.
قال سيبويه: وقد يجوز في الشّعر أن يجازى بعد هذه الحروف، فتقول: أتذكر إذ من يأتنا نأته، فإنّما أجازوه لأنّ إذ (2) لا تغيّر ما دخلت عليه عن حاله (3) قبل أن تجيء بها (4) ولا تغيّر الكلام، كأنّا قلنا: من يأتنا نأته، كما أنّا إذا قلنا: إذ عبد الله منطلق، فكأنّا قلنا: عبد الله منطلق، لأنّ إذ لم تحدث شيئا قبل أن تذكرها.
قال لبيد:
على حين من تلبث عليه ... البيت
ولو اضطرّ شاعر، فقال: أتذكر إذ إن تأتنا نأتك، جاز له كما جاز في من (5).
وتقول: أتذكر إذ نحن من يأتنا نأته، فنحن فصلت (6) بين إذ، ومن.
وتقول: مررت به، فإذا من يأتيه يعطيه، وإن شئت جزمت لأنّ الإضمار يحسن هنا.
ألا ترى أنّك تقول: مررت به فإذا أجمل الناس، ومررنا به، فإذا أيّما رجل.
فإذا أردت الإضمار، فكأنّك قلت: فإذا هو من يأته يعطيه، فإن لم تضمر فهي بمنزلة إذ، لا يجوز فيها الجزم.
والبيت من قصيدة للبيد بن ربيعة الصحابيّ، وكان له في الجاهلية جار من بني
__________
(1) زيادة يقتضيها السياق من النسخة الشنقيطية.
(2) في الكتاب لسيبويه: = لأن إذ وهذه الحروف =.
(3) في طبعة بولاق: = من حالة =. وهو تصحيف صوابه من النسخة الشنقيطية والكتاب لسيبويه.
(4) في النسخة الشنقيطية: = أن يجيء بها =.
(5) في طبعة بولاق: = فيمن =. وهو تصحيف صوابه من النسخة الشنقيطية والكتاب لسيبويه.
(6) في طبعة بولاق: = فصلنا =. وهو تصحيف صوابه من النسخة الشنقيطية والكتاب لسيبويه.(9/65)
القين، قد لجأ إليه، فضربه عمّه عامر بالسّيف، فغضب لذلك لبيد، وقال هذه القصيدة، يعدّد على عمّه بلاءه عنده، وينكر فعله بجاره.
وقد تقدّم شرح أبيات منها في الشاهد الثالث عشر بعد الخمسمائة (1).
وقبل هذا البيت (2):
ودافعت عنك الصّيد من آل دارم ... ومنهم قبيل في السّرادق فاخر (3)
وذدت معدّا والعباد وطيّئا ... وكلبا كما ذيد الخماس البواكر
على حين من تلبث ... البيت
«الصّيد (4)»: الرؤساء المتكبّرون. يقال للسيّد المتعاظم أصيد لميله (5) رأسه من الكبر والعظمة، تشبيها بالجمل الأصيد، وهو الذي به داء يأخذ البعير فيرم أنفه، فيشمخ، ويميل رأسه لذلك الوجع.
و «القبيل»: الجماعة من قوم شتى. و «السّرادق»: ما يدار حول الخيمة من شقق بلا سقف، وقيل: هو الفسطاط، وقيل: هو كلّ بيت من قطن.
و «فاخر (6)»، يريد يفخرون عليك.
وقوله: «وذدت معدّا» إلخ. «الذّود» الطّرد. و «معدّ»: أبو قبيلة، أراد من ينسب إليه من أولاده.
__________
(1) الخزانة الجزء السابع ص 83.
(2) البيتان للبيد بن ربيعة في ديوانه ص 216.
(3) في طبعة بولاق والنسخة الشنقيطية: = آل عامر =. وهو تصحيف صوبناه من ديوانه. ففي الديوان بعد هذا البيت في الديوان:
فقيم وعبد الله في عزّ نهشل ... بثيتل كلّ حاضر متناصر
وفقيم: هم بنو فقيم بن دارم بن مالك. وكذلك نهشل، بنو نهشل بن دارم وعبد الله أيضا، بنو عبد الله بن دارم.
(4) الشرح من شرح ديوان لبيد ص 216.
(5) كذا في طبعة بولاق وهارون وديوانه. وفي حاشية النسخة الشنقيطية: = كذا بخط المؤلف، والصواب لتمييله =.
(6) في شرح ديوانه ص 216: = وفاخر: حافل ممتلئ =.(9/66)
و «العباد»، بالكسر: قبائل شتّى من بطون العرب، اجتمعوا على النّصرانية بالحيرة، والنسبة إليهم عباديّ.
و «طيّئ» بهمزة الآخر على وزن فيعل، هو القبيلة المشهورة بلا همز.
و «كلب» أيضا: قبيلة. و «الخماس»، بالكسر: الإبل التي لا تشرب أربعة أيام.
و «البواكر»: التي تبكر غداة الخمس.
وقوله: «على حين من تلبث»، «على» متعلقة بقوله: «ذدت»، وحين يجوز جرّها بالكسرة، ويجوز بناؤها على الفتحة، لأنّ الظروف المضافة إلى الجمل، يجوز إعرابها وبناؤها على الفتحة. و «اللّبث»: البطء.
و «الذّنوب»، بفتح الذال المعجمة، قال صاحب المصباح (1): هي الدّلو العظيمة.
قالوا: ولا تسمّى ذنوبا حتّى تكون مملوءة ماء. وتذكّر وتؤنث (2). وقال الزجاج: مذكّر لا غير. اه.
ويردّ عليه حصره هذا البيت، فإنّ الضمير في «فقدها» مؤنث، وهو عائد إلى الذّنوب. و «التّدابر»: التقاطع. وأصله أن يولّي كلّ واحد من المتقاطعين صاحبه دبره. يقول لعمّه عند قيامه في مقام النّعمان بن المنذر ملك الحيرة مع خصومه: أنا دافعت عنك بلساني في مجمع.
يقول: قمت بفخرك وأيّامك على حين من لا يقوم بحجّته. وهذا على المثل.
يعني أنّه نصره في وقت إن تبطئ فيه الحجّة عن المحتجّ يهلك، ولا يمكنه أن يتلافى ما فرط منه.
وقوله: «يجد فقدها» معناه يؤلمه فقدها، كما يقال: وجد فلان فقد فلان، إذا انقطع عنه نفعه فأثّر ذلك في حاله.
وروى (3): «تداثر» بالمثلّثة بدل «تدابر» بالموحّدة، وهو التزاحم والتكاثر.
__________
(1) في طبعة بولاق: = الصحاح =. وهو تصحيف صوابه من النسخة الشنقيطية. والمادة موجودة في المصباح المنير.
(2) بعده في المصباح المنير: = فيقال هو الذنوب، وهي الذنوب =.
(3) هي رواية ديوانه ص 217.(9/67)
جعل الجمع الذين عند الملك بمنزلة المزدحمين على الماء ليسقوا إبلهم. وأصل الدّثر المال الكثير. وأراد بالمقام المجلس الذي جمعهم للخصام.
وروي في ديوانه:
* يجد فقدها وفي الذّناب تداثر *
بالمثلثة. و «الذّناب»، بالكسر: جمع ذنوب المذكورة. قال شارح ديوانه:
يقول: ذدت عنك في ذلك الوقت. «تلبث»: تبطئ. و «الذّنوب»: الدلو.
يجد فقدها إذا لم تخرج إليه. وإنما هذا مثل ضربه.
وفي الذّناب تداثر، يقول: وفي ذلك تكاثر. وإنما هذا مثل، أراد الألسن التي كثرت عليه. اه.
وروى سيبويه المصراع الثاني كذا:
* يرث شربه إذ في المقام تدابر *
قال الأعلم: وصف مقاما (1) فاخر فيه غيره، وكثرت (2) المخاصمة والمحاجّة فيه.
وضرب الذّنوب، وهي الدّلو مملوءة ماء، مثلا لما نزل به من الحجّة. والشّرب، بالكسر: الحظّ من الماء. والرّيث: الإبطاء. انتهى.
وترجمة لبيد تقدّمت في الشاهد الثاني والعشرين بعد المائة (3).
* * * وأنشد بعده، وهو الشاهد السادس والتسعون بعد الستمائة (4): (الطويل)
__________
(1) في شرح ديوان لبيد ص 217: = وصف مكانا فاخر =.
(2) في طبعة بولاق وشرح ديوان لبيد: وكثرة =. بالعطف على = مقاما =. أما في النسخة الشنقيطية ونسخة الأعلم على هامش كتاب سيبويه: = وكثرت = عطفا على = فاخر =.
(3) الخزانة الجزء الثاني ص 216.
(4) هو الإنشاد السابع والثلاثون بعد الثمانمائة في شرح أبيات المغني للبغدادي.
والبيت لطرفة بن العبد من معلقته المشهورة في ديوانه ص 29وشرح القصائد العشر للتبريزي ص 125وشرح(9/68)
696 - ولست بحلّال التّلاع مخافة
ولكن متى يسترفد القوم أرفد
على أنّ وقوع الجملة الشرطية بعد «لكن» لكونها لا تغيّر معنى الجملة.
قال سيبويه (1): وتقول: ما أنا ببخيل، ولكن إن تأتني، أعطك. جاز هذا وحسن، لأنّك قد تضمر هاهنا كما تضمر في «إذا».
ألا ترى أنّك تقول: ما رأيتك عاقلا ولكن أحمق. وإن لم تضمر تركت الجزاء كما فعلت ذلك في إذا.
قال طرفة:
ولست بحلّال التّلاع مخافة ... البيت
كأنه قال: أنا. ولا يجوز في متى أن يكون الفعل وصلا لها كما جاز في من.
والذي سمعناهم ينشدون قول العجير السّلولي (2): (الطويل)
وما ذاك أن كان ابن عمّي ولا أخي ... ولكن متى ما أملك الضّرّ أنفع
والقوافي مرفوعة، كأنه قال: ولكن أنفع متى ما أملك الضرّ، ويكون أملك على متى في موضع جزاء، وما لغو. ولم تجد سبيلا إلى أن تكون بمنزلة من فتوصل، ولكنّها كمهما. انتهى كلام سيبويه.
فشرط جواز وقوع أداة الشّرط بعد «لكن» تقدير الضمير بينهما، وحينئذ لا ضرورة فيه، بل هو حسن للفصل، كما قال سيبويه.
ولم يصب الأعلم في قوله: الشاهد في هذا البيت حذف المبتدأ بعد «لكن» ضرورة، والمجازاة بعدها، والتقدير: ولكن أنا متى يسترفد القوم أرفد. اه (3).
__________
المعلقات السبع للزوزني ص 108وشرح أبيات المغني 7/ 270والكتاب 3/ 78والموشح ص 73. وهو بلا نسبة في شرح شذور الذهب ص 435ومغني اللبيب 2/ 606.
(1) النص في شرح أبيات المغني للبغدادي 7/ 270.
(2) هو الشاهد التالي من شواهد الخزانة.
(3) كتاب سيبويه وطرته 1/ 442.(9/69)
وردّه الفارسي بأنّ المشبه للفعل هو «لكنّ» المشددة لا المخفّفة، ولهذا لم تعمل المخفّفة لعدم اختصاصها بالأسماء. وقيل: إنّما يحتاج إلى تقدير إذا دخل عليها الواو، لأنها حينئذ تخلص لمعناها، وتخرج عن العطف. اه.
وهذا كما ترى مخالف لكلام أبي علي من وجوه، ولا أدري من أين نقله.
وقوله: «ولست بحلّال» إلخ، «الحلّال»: مبالغة الحالّ، من الحلول وهو النزول. والأحسن أن يكون فعّال للنسبة، أي: لست بذي حلول. و «التّلاع»:
جمع تلعة، وهو مجرى الماء من رؤوس الجبال إلى الأودية.
قال ابن الأنباري: والتّلعة من الأضداد، تكون ما ارتفع، وما انخفض. والمراد هنا الثاني (1)، وهو سيل ماء عظيم. و «مخافة»: مفعول لأجله. و «أرفد»، بكسر الفاء، لأنه مضارع رفده رفدا من باب ضرب، أي: أعطاه أو أعانه. والرّفد بالكسر اسم منه. وأرفده بالألف مثله. وترافدوا: تعاونوا. واسترفدته: طلبت رفده.
قال الزوزني (2): المعنى إنّي لست ممّن يستتر في التّلاع مخافة الضّيف (3) أو غدر الأعداء إياي، ولكن أظهر وأعين القوم إذا استعانوا بي، إمّا في قرى الضّيف، وإمّا في قتال الأعداء.
وهذا البيت من معلّقة طرفة بن العبد. وقد عابه المرزباني في «كتاب الموشح» (4)، وقال: المصراع الثاني غير مشاكل للأوّل.
وبعده (5):
فإن تبغني في حلقة القوم تلقني ... وإن تقتنصني في الحوانيت تصطد
__________
(1) قاله ابن الأنباري في شرح المفضليات ص 98بعد أن ذكر البيت.
(2) لم نجد هذا الشرح في شرح المعلقات للزوزني. ما في شرح الزوزني: = مخافة حلول الأضياف بي، أو غزو الأعداء إيايّ =.
(3) في طبعة بولاق والنسخة الشنقيطية: = مخافة الضيق =. وهو تصحيف صوبناه.
(4) الموشح ص 73.
(5) البيت لطرفة في ديوانه ص 30وشرح القصائد العشر للتبريزي ص 125وشرح المعلقات السبع للزوزني ص 108. وهو بلا نسبة في تاج العروس (عقب) وتهذيب اللغة 1/ 280ولسان العرب (عقب).(9/71)
و «راعك»: أفزعك. و «انتحى»: اعتمد وقصد. و «الخون»: الخيانة.
وقوله: «إذا متّ كان الناس» إلخ، هو من شواهد سيبويه على أنّ كان فيها ضمير الشأن، وهو اسمها. وجملة «الناس صنفان»: خبرها.
وروى ابن الأعرابي البيت كذا (1):
إذا متّ كان النّاس صنفين شامت ... ومثن بنيري بعض ما كنت أصنع
فكان على أصلها. و «النّيران»: العلمان في الثّوب. وإنما يريد أنه يثنى عليه بحسن فعله، الذي هو في أفعال الناس كالعلم في الثوب.
وخطّأه أبو محمد الأسود، وقال: الصواب الرواية الأولى في المصراع الثاني.
وقوله: «ولكن ستبكيني خطوب»، الخطوب هنا: الأمور العظام. وروى بدله: «خصوم» جمع خصم، وهو معروف. و «الشّعث»: جمع أشعث وشعثاء، وهو المتلبّد الرأس.
وقال أبو محمد الأسود: الصّواب:
* بلى سوف تأتيني خطوب كثيرة *
ولم يظهر لي وجهه. ورويا (2): «أهينوا حضرة الدار»، بدل: «أهينوا في المجالس»، و «حضرة»: ظرف. و «جوّع»: جمع جائع.
وقوله: «ومستلحم قد صكّه» بالرفع معطوف على ما قبله. و «المستلحم» بكسر الحاء (3)، المستلحق في القرابة وفي الجوار، من اللّحمة بالضم، وهي القرابة.
__________
(1) هي رواية الأغاني 13/ 71والكتاب لسيبويه 1/ 36.
(2) في طبعة بولاق والنسخة الشنقيطية: = ورويا =. أراد بهما ابن الأعرابي، وأبا محمد الأسود الأعرابي. وذلك مقابل الرواية الثانية التي أثبتها البغدادي آنفا عن أبي الفرج الأصفهاني في أغانيه.
(3) المستلحم: رواه صاحب اللسان بفح الحاء، وهو الصواب، وشرحه صاحب اللسان أيضا. ويبدو أن البغدادي سها ومعه أيضا محقق طبعة هارون. فالمعنى الذي يقوله البغدادي لم نجده في معاجمنا. ففي اللسان (لحم):
= واستلحم: روهق في القتال. واستلحم الرجل، إذا احتوشه العدوّ في القتال أنشد ابن بري للعجير السلولي = وأنشد البيت بفتح الحاء.
وفي الاختيارين ص 522521: = مستلحم، أي قطع بالسيوف، جعل لحما. ويقال: المدرك الذي غشيه الطلب =.(9/76)
و «الصّكّة»: الضّربة. و «المولى» هنا الناصر والمعين. و «بعيد»: حال من المفعول.
ورويا: «ذليل الموالي» بدل: «بعيد الموالي». وقوله: «نيل»، أي: أخذ منه ما كان يمنعه.
ورويا المصراع الأوّل هكذا:
* ومضطّهد قد صكّه الخصم صكّة *
و «المضطهد» بفتح الهاء: المقهور والمضطرّ.
وقوله: «رددت له ما فرّط القيل»، أي: ما نحّاه القيل. قال في الصحاح:
قال الخليل: فرّط الله عنه ما يكره (1)، أي: نحّاه، وقلّما يستعمل إلّا في الشعر.
و «القيل»، بفتح القاف: الملك.
قال ابن خلف: ويحتمل أن يكون القيل هنا شرب نصف النّهار. و «آبنا»:
رجع إلينا. و «الأضلع»، بالمعجمة: المطيق للشيء القائم به.
وروى ابن الأعرابيّ:
رددت له ما سلّف القوم بالضّحى ... وبالأمس حتّى اقتاله وهو أخضع
وقال: سلّف القوم ذلّا وهو أخضع، أراد أنّ مفعول «سلّف» محذوف، وجملة: «وهو أخضع» حال.
و «اقتاله»، أي: اقتال عليه، أي: تحكّم. قال صاحب الصحاح: واقتال عليه: تحكّم. ومادته القول.
وروى أبو محمد الأسود المصراع الثاني كذا:
* حتّى ناله وهو أضلع *
وقال: أي: أخذ أكثر من حقّه.
__________
(1) في طبعة بولاق والنسخة الشنقيطية: = ما فرط الله عنه ما يكره =. وهو تصحيف صوابه حذف = ما = من قوله: ما فرط كما هو في الصحاح.(9/77)
وأنشد بعده، وهو الشاهد الثامن والتسعون بعد الستمائة (1): (الخفيف)
698 - من يكدني بسيّئ كنت منه
كالشّجا بين حلقه والوريد
على أنّ مجيء الشرط مضارعا مجزوما، والجزاء ماضيا خاصّ بالشعر عند بعضهم.
قال ابن مالك: الصحيح الحكم بجوازه، لثبوته في كلام أفصح الفصحاء، قال صلّى الله عليه وسلم (2): «من يقم ليلة القدر إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدّم من ذنبه».
والبيت من قصيدة لأبي زبيد الطائيّ النّصراني، رثى بها ابن أخته اللّجلاج.
وقبله (3):
كان عنّي يردّ درؤك بعدا ... لله شغب المستصعب المرّيد (4)
من يكدني ... البيت
«الدرء»: الدفع. وفي الحديث (5): «ادرؤوا الحدود بالشّبهات».
و «الشّغب»، بفتح الشين وسكون الغين المعجمتين: تهييج الشر.
__________
(1) البيت لأبي زبيد الطائي من مرثيته المشهورة في ابن أخته اللجلاج، وهو في ديوانه ص 600والاختيارين ص 530وجمهرة أشعار العرب ص 589والمرائي ص 53والمقاصد النحوية 4/ 427. وهو بلا نسبة في رصف المباني ص 105وشرح الأشموني 3/ 585وشرح ابن عقيل ص 585والمقتضب 2/ 59والمقرب 1/ 275ونوادر أبي زيد ص 68.
وروايته في ديوانه:
من يردني بسيئ كنت منه ...
(2) من حديث للصحابي أبي هريرة هو في صحيح مسلم والبخاري، وسنن أبي داود والترمذي والنسائي وابن ماجة. انظر في ذلك الألف المختارة الحديث ص 163.
(3) البيت لأبي زبيد الطائي في ديوانه ص 600والاختيارين ص 530وتاج العروس (شغب) وجمهرة أشعار العرب ص 589ولسان العرب (شغب) والمراثي ص 53. وهو بلا نسبة في جمهرة اللغة ص 640.
(4) في طبعة بولاق: = درأك =. وهو تصحيف صوابه من النسخة الشنقيطية والمصادر الآنفة الذكر.
(5) انظر في الحديث. الجامع الصغير ص 314. وفيه أخرجه ابن عدي في الكامل.(9/79)
وتقدّم شرحه قريبا (1).
* * * وأنشد بعده، وهو الشاهد التاسع والتسعون بعد الستمائة، وهو من شواهد س (2): (الطويل)
699 - أتغضب إن أذنا قتيبة حزّتا
على أنّه قد يستعمل الماضي في الشّرط متحقّق الوقوع، وإن كان بغير لفظ كان، لكنّه قليل. وهو هنا محذوف مفسّر بالفعل المذكور، والتقدير: إن حزّت أذنا قتيبة. فحزّ أذنيه قد وقع فيما مضى من الزمان، وتحقّق معناه.
وقدّر المصنف في «شرح المفصل» بما نقله الشارح عنه، وردّه. ويشهد لما قاله الشارح المحقق ما نقله سيبويه عن الخليل، قال (3): سألت الخليل رحمه الله عن قول الفرزدق:
أتغضب إن أذنا قتيبة حزّتا ... جهارا ولم تغضب لقتل ابن خازم
فقال: لأنّه قبيح أن تفصل بين «أن» والفعل، كما قبح أن تفصل بين «كي» والفعل، فلمّا قبح ذلك، ولم يجز، حملوه على «إن»، لأنّه قد يقدّم فيها الأسماء قبل الأفعال. اه (4).
يريد الخليل أنّ «إن» في البيت لا يصحّ فتح همزتها للقبح المذكور، وإنما هي
__________
(1) هو الشاهد رقم 691وقد مرّ في هذا الجزء.
(2) هو الإنشاد التاسع والعشرون في شرح أبيات المغني للبغدادي.
والبيت للفرزدق في ديوانه ص 855والأزهية ص 73والدرر 4/ 58وشرح أبيات المغني 1/ 117وشرح شواهد المغني 1/ 86والكامل في اللغة 1/ 284والكتاب 3/ 161ومراتب النحويين ص 36. وهو بلا نسبة في أمالي ابن الحاجب 1/ 218والجنى الداني ص 224وجواهر الأدب ص 204ومغني اللبيب 1/ 26وهمع الهوامع 2/ 19.
(3) النص في شرح أبيات المغني للبغدادي 1/ 118.
(4) الكتاب لسيبويه 1/ 479.(9/81)
إن المكسورة الهمزة، لجواز الفصل بينها وبين الفعل باسم على شريطة التفسير، نحو قوله تعالى (1): «{وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجََارَكَ}».
وفي «المسائل القصرية لأبي علي»: اعترض أبو العباس المبرّد على إنشاد هذا البيت بالكسر، فقال: قتل قتيبة قد مضى، وإن للجزاء، والجزاء يكون لما يأتي، فلا يستقيم أن تقول: إن قمت قمت، وقد مضى قيامه.
قال أبو عليّ: إنما يريد: أفتغضب كلما وقع هذا الفعل، أي: مثل هذا الفعل، وإن كان التأويل على هذا صحّ الكسر. اه.
وأراد بتقدير المثل كون الفعل مستقبلا.
وظاهر نقل أبي عليّ أنه لا يجوز الكسر عند المبرد، ولكنّ صريح كلام ابن السيد أنّ المبرّد يجوّزه، قال في «شرح كامل المبرّد»: وأجاز أبو العباس فتح «أن» في هذا البيت، وجعلها أن المخفّفة من الثقيلة، وأضمر اسمها، كأنه قال: أنّه أذنا قتيبة حزّتا.
ومن روى «إن» بكسر الهمزة، وهو رأي سيبويه، فوجهه أنّه وضع السبب [في] (2) موضع المسبّب، كأنه قال: أتغضب إن افتخر مفتخر بحزّه أذني قتيبة، كما قال الآخر (3): (الكامل)
إن يقتلوك فإنّ قتلك لم يكن ... عارا عليك وربّ قتل عار
المعنى: إن افتخروا بقتلك. فذكر القتل الذي هو سبب ذلك. اه.
وقد صرفه ابن هشام في «المغني» إلى المستقبل بتأويلين:
أحدهما: ما ذكره ابن السيد من إقامة السّبب مقام المسبب.
__________
(1) سورة التوبة: 9/ 6.
(2) النص في شرح أبيات المغني للبغدادي 1/ 117. والزيادة منه.
(3) هو الإنشاد الواحد والثلاثون في شرح أبيات المغني للبغدادي.
والبيت لثابت قطنة في ديوانه ص 49والحماسة الشجرية 1/ 330وشرح أبيات المغني 1/ 126وشرح شواهد المغني 1/ 89، 393والشعر والشعراء 2/ 635. وهو بلا نسبة في الأزهية ص 260وتخليص الشواهد ص 160والجني الداني ص 439وجواهر الأدب ص 205، 365وشرح التصريح 2/ 112والمقتضب 3/ 66والمقرب 1/ 220وهمع الهوامع 1/ 97، 2/ 25.(9/82)
والثاني: أنّه على معنى التبيّن، أي: أتغضب إن تبيّن في المستقبل أنّ أذني قتيبة حزّتا فيما مضى.
ثم قوله: وقال الخليل والمبرد: الصواب: «أن أذنا»، بفتح الهمزة، أي: لأن أذنا، هو خلاف ما نقله سيبويه عن الخليل، وخلاف ما نقله ابن السيد عن المبرد.
وذهب الكوفيون إلى أنّ «أن» في هذا البيت ليست للشّرط، لمضيّه، وإنّما هي بمعنى إذ.
قال إمامهم (1) في «سورة الزخرف من تفسيره» عند قوله تعالى (2): «{أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً أَنْ كُنْتُمْ}» قرأ الأعمش بالكسر، وقرأ عاصم والحسن بفتح أن، كأنهم أرادوا شيئا ماضيا.
وأنت تقول في الكلام: أأسبّك أن حرمتني، تريد: إذ حرمتني. وتكسر إذا أردت: أأسبّك (3) إن تحرمني.
ومثله (4): «{لََا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ}» تكسر إن وتفتح. ومثله (5):
«{فَلَعَلَّكَ بََاخِعٌ نَفْسَكَ عَلى ََ آثََارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا}» و «أن لم يؤمنوا».
والعرب تنشد قول الفرزدق:
* أتجزع إن أذنا قتيبة حزّتا *
__________
(1) في شرح أبيات المغني 1/ 120: = إذ قال إمامهم الفراء في تفسيره من سورة الزخرف =.
(2) سورة الزخرف: 43/ 5.
(3) في طبعة بولاق والنسخة الشنقيطية: = لأسبك =. وهو تصحيف صوابه من معاني الفراء 3/ 26وشرح أبيات المغني للبغدادي 1/ 120.
(4) سورة المائدة: 5/ 2.
وقراءة الفتح هي قراءة الجمهور. وقرأ بالكسر ابن كثير وأبو عمرو، ووافقهما ابن محيصن واليزيدي. إتحاف فضلاء البشر ص 198.
(5) سورة الكهف: 18/ 6.
وفي حاشية طبعة هارون 9/ 80: = وقد نص الزمخشري في الكشاف على القراءتين ولم يعين صاحبهما، ونقل عنه ذلك أبو حيان في تفسيره، وجاء فيه النص محرفا على هذه الصورة: = بكسر الميم وفتحها =. والواضح أن قراءة الكسر هي قراءة الجمهور. ووجدت في مختصر شواذ القرآن لابن خالويه ص 78نسبة قراءة الفتح إلى الأعشى عن أبي بكر عن عاصم. وانظر معاني الفراء 2: 134=.(9/83)
وأنشدوني (1): (الطويل)
وتجزع إن بان الخليط المودّع ... وحبل الصّفا من عزّة المتقطّع
وفي كلّ واحد من البيتين ما في صاحبه من الكسر والفتح. انتهى كلامه.
والبيت من قصيدة طويلة للفرزدق (2) مدح بها سليمان بن عبد الملك، وهجا جريرا.
وقبله هذه الأبيات (3):
فإن تك قيس في قتيبة أغضبت ... فلا عطست إلّا بأجدع راغم
وهل كان إلّا باهليّا مجدّعا ... طغى فسقيناه بكأس ابن خازم
لقد شهدت قيس فما كان نصرها ... قتيبة إلّا عضّها بالأباهم
فإن تقعدوا تقعد لئام أذلّة ... وإن عدتم عدنا بأبيض صارم
أتغضب إن أذنا قتيبة ... البيت
فما منهما إلّا بعثنا برأسه ... إلى الشّام فوق الشّاحجات الرّواسم
تذبذب في المخلاة تحت بطونها ... محذفة الأذناب جلح المقادم
ستعلم أيّ الواديين له ثرى ... قديما وأولى بالبحور الخضارم
وما أنت من قيس فتنبح دونها ... ولا من تميم في الرّؤوس الأعاظم
قوله (4): «فإن تك قيس» إلخ، «قيس»: أبو قبيلة، وهو قيس بن عيلان بن مضر.
وقبيلة باهلة: فخذ من قيس بن عيلان. وأراد القبيلة. ولجرير، خؤولة في قيس. وقتيبة: هو ابن مسلم الباهلي، وستأتي حكايته. و «أغضبت»: بالبناء للمفعول.
__________
(1) البيت بلا نسبة في شرح أبيات المغني للبغدادي: 1/ 120.
(2) بلغت عدة أبياتها 158بيتا في ديوانه 2/ 861851ومطلعها:
تحنّ بزوراء المدينة ناقتي ... حنين عجول تبتغي البوّ رائم
(3) الأبيات في ديوانه ص 855854وشرح أبيات المغني للبغدادي 1/ 122.
(4) النص في شرح أبيات المغني للبغدادي 1/ 122.(9/84)
وقوله: «فلا عطست» إلخ، جملة دعائية: وقعت جزاء للشرط، فلذا قرنت بالفاء. و «أجدع»: صفة موصوف محذوف، أي: أنف أجدع، [أي:
مقطوع] (1).
و «الراغم»: الذّليل، أو الكاره (2)، وهو على النسبة، أي: ذي الرّغام، وهو التّراب (3)، يقال: أرغم الله أنفه، أي: ألصقه بالرّغام، وهو التّراب، وهو كناية عن الإذلال.
وقوله: «وهل كان إلّا باهليّا» اسم كان ضمير قتيبة، و «مجدّعا» يدعى عليه بالجدع، وهو قطع الأنف. و «باهلة»: قبيلة منحطة بين العرب.
ولذا قيل (4): (المتقارب)
وما ينفع الأصل من هاشم ... إذا كانت النّفس من باهله
روي أنّ قتيبة هذا مازح أعرابيا جافيا، فقال: أيسرّك أن تكون باهليا؟ فقال:
لا والله. قال: فتكون باهليّا خليفة؟ قال: لا والله، ولو أنّ لي ما طلعت عليه الشّمس، قال: فيسرّك أن تكون باهليّا، وتكون في الجنّة؟ فأطرق، ثم قال:
بشرط أن لا يعلم أهل الجنّة أنّي باهلي! فضحك من قوله.
وقوله: «أتغضب إن أذنا قتيبة» إلخ. فاعل تغضب [ضمير] (5) قيس المتقدم، وأنّث فعله، لأنّه أراد به القبيلة. والاستفهام للتعجّب والتوبيخ. ويجوز أن يكون فاعله مستترا فيه تقديره أنت، وهو خطاب مع جرير، بدليل ما بعده من البيتين.
و «الحزّ»، بالحاء المهملة والزاي المشددة: القطع. وحزّ الأذنين كناية عن القتل، لأنّ القتيل قد تقطع أذنه للتشويه.
__________
(1) زيادة يقتضيها السياق من شرح أبيات المغني للبغدادي.
(2) في طبعة بولاق: = والكاره =.
(3) في طبعة بولاق: = أي ألصقه بالتراب = فقط.
(4) البيت بلا نسبة في شرح أبيات المغني للبغدادي 1/ 122.
زاد بعده البغدادي في شرح أبيات المغني: = والأباهم: جمع إبهام، والأصل أباهيم حذفت ياؤه للضرورة، والعاجز عن الانتقام يعضّ إبهامه من غيظه =.
(5) زيادة يقتضيها السياق من شرح أبيات المغني 1/ 122.(9/85)
و «جهارا»، أي: حزّا جهارا [أو غضبا جهارا] (1). و «ابن خازم»: بالخاء والزاء المعجمتين.
يريد أنّ قيسا غضبت من أمر يسير، ولم تغضب لأمر عظيم. وقد أنكر هذا منها [على سبيل الاستهزاء] (2).
وأمّا قتيبة بالتصغير فهو قتيبة بن مسلم بن عمرو بن حصين بن ربيعة بن خالد ابن أسيد الخير بن كعب بن قضاعيّ بن هلال الباهلي.
نشأ في الدّولة المروانيّة، وترقّى وتولّى الإمارة، وفتح الفتوحات العظيمة، وعبر ما وراء النّهر مرارا، وأبلى في الكفّار. وكان شجاعا جوادا دمث الأخلاق، ذا رأي، افتتح بخارى. وخوارزم، وسمرقند، وفرغانة، والتّرك. وولي خراسان ثلاث عشرة سنة.
وهذا خبر مقتله من «تاريخ النّويري (3)»، قال: قتل قتيبة بن مسلم الباهليّ في سنة ستّ وتسعين في خراسان. وكان سبب ذلك أنّه أجاب الوليد إلى خلع سليمان، فلما أفضت الخلافة إلى سليمان، خشي قتيبة أنّ سليمان يستعمل يزيد بن المهلّب على خراسان، فكتب قتيبة إلى سليمان كتابا يهنّئه بالخلافة، ويذكر بلاءه، وطاعته لعبد الملك والوليد، وأنّه له على مثل ذلك، إن لم يعزله عن خراسان.
وكتب إليه كتابا آخر يعلمه فيه بفتوحه، ونكايته، وعظيم قدره عند ملوك العجم، وهيبته في صدورهم، ويذمّ آل المهلّب، ويحلف بالله: لو استعمل يزيد على خراسان ليخلعنّه.
وكتب كتابا ثالثا فيه خلعه. وبعث الكتب مع رجل من باهلة، وقال له: ادفع الكتاب الأوّل إليه، فإن كان يزيد حاضرا فقرأه ثم ألقاه إليه (4). فادفع إليه الثاني.
فإن قرأه، ودفعه إليه، فادفع إليه الثالث. وإن قرأ الأوّل، ولم يدفعه إلى يزيد فاحبس الكتابين عنه.
__________
(1) زيادة يقتضيها السياق من شرح أبيات المغني 1/ 123.
(2) زيادة يقتضيها السياق من شرح أبيات المغني للبغدادي.
(3) المقصود كتابه: = نهاية الأرب = القسم التاريخي وهو يبدأ من الجزء الثالث عشر. وانظر في مقتله الكامل في التاريخ 5/ 12وما بعدها.
(4) في طبعة بولاق: = ثم دفعه إليه = ولقد أثبتنا رواية النسخة الشنقيطية والكامل في التاريخ 5/ 12.(9/86)
فقدم رسول قتيبة فدخل على سليمان، وعنده يزيد بن المهلّب، فدفع إليه الكتاب الأوّل، فقرأه، وألقاه إلى يزيد، فدفع إليه الثاني، فقرأه، ودفعه إلى يزيد، فأعطاه الثالث فقرأه، وتمعّر لونه وختمه، وأمسكه بيده. فقيل: كان فيه «إن لم تقرّني على ما أنا عليه وتؤمّننّي (1) لأخلعنّك، ولأملأنّها عليك خيلا ورجلا» (2).
ثم أمر سليمان بإنزال رسول قتيبة، وأحضره ليلا (3) وأعطاه دنانير وعهد قتيبة على خراسان، وسيّر معه رسولا. فلما كانا (4) بحلوان، بلغهما خلع قتيبة، فرجع رسول سليمان.
فلمّا خلعه قتيبة، دعا الناس إلى خلعه، فلم يجبه أحد. فغضب وسبّهم طائفة طائفة، وقبيلة قبيلة، فغضب الناس واجتمعوا على خلع قتيبة، وكان أوّل من تكلّم في ذلك الأزد، فأتوا حضين بن المنذر (5)، فقالوا: إنّ هذا قد خلع الخليفة، وفيه فساد الدّين والدنيا، وقد شتمنا فما ترى؟
فأشار أن يأتوا وكيع بن حسّان بن قيس الغداني. وغدانة هو ابن يربوع بن حنظلة بن مالك بن زيد مناة بن تميم.
وكان وكيع مقدّما، لرياسته على بني تميم، وكان قتيبة عزله، فحقد عليه وكيع.
فلما أتوه وسألوه أن يلي أمرهم فعل، فبلغ أمره لقتيبة، فأرسل إليه يدعوه، فلبس وكيع سلاحه، ونادى في الناس فأتوه، وركب فرسه وخرج، وأتاه الناس أرسالا، واجتمع إلى قتيبة أهل بيته، وخواصّ أصحابه، فكبّروا وهاجوا، فقتل عبد الرحمن أخو قتيبة، وجاء الناس حتّى بلغوا فسطاط قتيبة، فقطعوا أطنابه، وجرح قتيبة جراحات كثيرة.
__________
(1) كذا في جميع طبعات الخزانة. وفي حاشية طبعة هارون 9/ 84: = والإتيان بنون التوكيد بعد لم قليل نادر =.
(2) في الكامل في التاريخ 5/ 13: = عليك رجالا وخيلا =.
(3) في النسخة الشنقيطية: = ثم أحضره ليلا =.
(4) في طبعة بولاق: = كان =. وهو تصحيف صوابه من الكامل في التاريخ 5/ 13والنسخة الشنقيطية.
(5) هو الحضين أو الحصين بن المنذر بن الحارث بن وعلة الرقاشي، شاعر فارس. كانت معه راية علي بن أبي طالب يوم صفين، دفعها إليه وهو ابن تسع عشرة سنة. المؤتلف والمختلف ص 121120.(9/87)
فترك بجيرا، وأقبل إلى مرو فاتبعه بجير فلحقه بقرية (1) على ثمانية فراسخ من مرو، فقاتله، فقتل ابن خازم، وكان الذي قتله وكيع بن عمرو القريعي، اعتوره وكيع وبجير بن ورقاء، وعمّار بن عبد العزيز، فطعنوه، فصرعوه، وقعد وكيع على صدره، فقتله، وبعث بشيرا بقتله إلى عبد الملك ولم يبعث برأسه، وأقبل بكير في أهل مرو فوافاهم حين قتل ابن خازم، فأراد أخذ الرأس وإنفاذه إلى عبد الملك، فمنعه بجير (2).
كذا قال النّويري. وهو خلاف قول الفرزدق:
فما منهما إلّا بعثنا برأسه إلى الشّام ... البيت
والله أعلم.
وكان بين قتل ابن خازم، وقتل قتيبة أربع وعشرون سنة (3).
وقوله: «فوق الشاحجات» يعني البغال. والرسيم (4): ضرب من السّير، وإنّما عنى هاهنا بغال البريد بقوله:
* محذّفة الأذناب جلح القوادم *
وترجمة الفرزدق تقدمت في الشاهد الثلاثين (5).
* * * وأنشد بعده (6): (الكامل)
__________
(1) في شرح أبيات المغني: = فلحقه على قرية على =.
(2) في شرح أبيات المغني: = فبعث برأسه إلى عبد الملك، وكان ذلك في سنة اثنتين وسبعين من الهجرة =.
(3) في طبعة بولاق والنسخة الشنقيطية: = أربعة وعشرون سنة =. وهو تصحيف.
(4) في طبعة هارون: = والرسم =. وهو تصحيف صوبناه من طبعة بولاق.
(5) الخزانة الجزء الأول ص 218.
(6) عجز بيت لمويلك المزموم وصدره:
* ولقد تركت صبيّة مرحومة *(9/89)
* لم تدر ما جزع عليك فتجزع *
تقدّم شرحه في هذا الباب قريبا (1).
* * * وأنشد بعده، وهو الشاهد الموفي السبعمائة، وهو من شواهد س (2): (البسيط)
700 - وقال رائدهم أرسوا نزاولها
فكلّ حتف امرئ يجري بمقدار
على أنّ قوله: «نزاولها» استئناف، ولهذا وجب رفعه.
قال سيبويه: وتقول: ائتني آتك، فتجزم على ما وصفنا، وإن شئت رفعت على أن لا تجعله معلّقا بالأوّل، ولكنك تبتدئه، وتجعل الأوّل مستغنيا عنه، كأنه يقول: ائتني أنا آتيك.
ومثل ذلك قول الأخطل:
* وقال رائدهم أرسوا نزاولها * البيت اه.
__________
والبيت هو الإنشاد التاسع والعشرون بعد السبعمائة في شرح أبيات المغني للبغدادي.
والبيت لمويلك المزموم من قطعة يرثي بها امرأته أم العلاء وهو في الحماسة برواية الجواليقي ص 255وشرح أبيات المغني 7/ 59وشرح الحماسة للأعلم 1/ 591وشرح الحماسة للتبريزي 2/ 186وشرح الحماسة للمرزوقي ص 903. وهو بلا نسبة في شرح شواهد المغني 2/ 872والمحتسب 1/ 193ومغني اللبيب 2/ 481.
(1) باب النواصب من الخزانة الجزء الثامن ص 533.
(2) البيت للأخطل في الكتاب 3/ 96ومعاهد التنصيص 1/ 271ولم أقع عليه في ديوانه. وهو بلا نسبة في شرح المفصل 7/ 51.
وروايته في بعض هذه المصادر:
وقال قائدهم ... يمضي لمقدار(9/90)
والثاني: يريد به الممدوح، ووصفه بالإيقاد وإن كان سيّدا لأنه آمر به، فكأنه فاعله. ويريد بقوله: خير موقد، أكرم موقد، وأسخى موقد، وأفضل موقد.
فعلى هذا يكون قد وصفه في هذا البيت بجماع الفضائل (1). وعلى التأويل الأوّل إنّما وصفه بالسّخاء فقط، لكن ذكره أوّلا مفصلا، وهنا مجملا، فاعرف ذلك.
اه.
ويروى أن هذا البيت لما أنشد لعمر بن الخطّاب، قال: كذب، تلك نار موسى صلوات الله عليه وسلامه.
والبيت من قصيدة طويلة للحطيئة مدح بها بغيض بن عامر بن شمّاس بن لأي بن أنف النّاقة التميمي. وهذه أبيات من آخرها، وهو أوّل المديح (2): (الطويل)
فما زالت الوجناء تجري ضفورها ... إليك ابن شمّاس تروح وتغتدي
تزور امرأ يؤتي على الحمد ماله ... ومن يعط أثمان المحامد يحمد (3)
يرى البخل لا يبقي على المرء ماله ... ويعلم أنّ الشّحّ غير مخلّد
كسوب ومتلاف إذا ما سألته ... تهلّل واهتزّ اهتزاز المهنّد
متى تأته تعشو ... البيت
تزور امرأ إن يعطك اليوم نائلا ... بكفّيه لا يمنعك من نائل الغد
هو الواهب الكوم الصّفايا لجاره ... يروّحها العبدان في عازب ندي
وهذا آخر القصيدة.
وقوله: «فما زالت الوجناء» إلخ، «الناقة الوجناء»: الغليظة.
و «ضفورها»: أنساعها، وإنما تجري لأنّها قلقت من الضّمر. و «ابن شماس»:
منادى.
وقوله: «تزور امرأ» إلخ، قال عبد اللطيف البغدادي في «شرح نقد الشعر لقدامة»: فيه صنفان من المدح:
__________
(1) في النسخة الشنقيطية: = بجميع الفضائل =.
(2) الأبيات من مطولة في مدح بغيض بن عامر. وهي في ديوانه ص 5251.
(3) في طبعة بولاق: = يرثي على الحمد =. وهو تصحيف صوابه من ديوانه والنسخة الشنقيطية.(9/97)
و «التأجّج»: توقّد النار. وتأجّجا في البيت ماض، والألف للإطلاق وفاعله ضمير النار.
وقال أبو حنيفة في «كتاب النبات»: النار تذكّر وهو قليل، وأنشد هذا البيت.
ويشهد له قول الشّمرذل (1): (الطويل)
أناخوا فصالوا بالسّيوف وأوقدوا ... بعلياء نار الحرب حتّى تأجّجا
وقال بعضهم: النّار مؤنّثة لا غير، وإنّما ردّ الضمير مذكّرا لأنه أراد بها الشّهاب، وهو مذكّر.
وقيل: لأنّ تأنيث النار غير حقيقي، فيكون على طريقة:
* ولا أرض أبقل (2) *
وقيل: الضمير راجع للحطب، لأنّه أهمّ، إذ النّار إنّما تكون به. وقيل:
ليست الألف للإطلاق، وإنّما هي ضمير الاثنين: الحطب والنار، وإنّما ذكّر الضمير لتغليب الحطب على النار.
__________
(1) كذا في طبعة بولاق والنسخة الشنقيطية بالذال المعجمة والمعروف الشمردل بالدال المهملة والشمردل اسم لعدة شعراء أتي على ذكرهم الآمدي في المؤتلف والمختلف ص 206205. وفي تاج العروس: = الشمرذل بالذال المعجمة أهمله الجوهري وصاحب اللسان، وقال الليث: لغة في الشمردل بالمهملة كما في العباب =.
(2) قطعة من بيت لعامر بن جوين وتمامه:
فلا مزنة ودقت ودقها ... ولا أرض أبقل إبقالها
وهو الإنشاد التسعون بعد الثمانمائة في شرح أبيات المغني للبغدادي.
والبيت من المتقارب لعامر بن جوين في تاج العروس (ودق) وتخليص الشواهد ص 483والدرر 6/ 268 وشرح أبيات المغني للبغدادي 8/ 17وشرح التصريح 1/ 278وشرح شواهد الإيضاح ص 339، 460 وشرح شواهد المغني 2/ 943والكتاب 2/ 46ولسان العرب (أرض، بقل) والمقاصد النحوية 2/ 464.
وهو بلا نسبة في أمالي ابن الحاجب 1/ 352وأوضح المسالك 2/ 108وجواهر الأدب ص 113والخصائص 2/ 411والرد على النحاة ص 91ورصف المباني ص 166وشرح أبيات سيبويه 1/ 557وشرح ابن عقيل ص 244وشرح الأشموني 1/ 174وشرح المفصل 5/ 94ولسان العرب (خضب) والمحتسب 2/ 112 ومغني اللبيب 2/ 656والمقرب 1/ 303وهمع الهوامع 2/ 171.(9/100)
وكذا في قوله:
من يأتنا يوما يقصّ طريقنا ... يجد حطبا جزلا ونارا تأجّجا
قال أبو علي: قال أبو الحسن: يعني النار والحطب.
وقال بعضهم: تأجّجا فعل مضارع محذوف من أوله التاء، والألف مبدلة من نون التوكيد الخفيفة، والأصل تتأجّجن، فالضمير المستتر للنار المؤنثة، ولهذا أنّث الفعل.
والبيت من قصيدة تزيد على ثلاثين بيتا لعبيد الله (1) بن الحرّ، قالها وهو في حبس مصعب بن الزّبير في الكوفة.
وكان ابن الحرّ لشهامته لا يطيع أحدا، فقال الناس لمصعب: إنّ عبيد الله بن الحرّ كان قد أبى على المختار غير مرّة، وخالفه وقاتله، وفعل مثل ذلك بعبيد الله ابن زياد من قبل، فليس لأحد عليه طاعة، ونحن نتخوّف، أن يثور في السّواد فيكسر عليك الخراج كما كان يفعل، وقد أظهر طرفا من الخلاف، فألطف له حتى تحبسه.
فلم يزل مصعب يتلطّف به ويعده يمنّيه الأمانيّ حتّى أتاه، فلمّا أتاه أمر به فحبس، فقال في ذلك قصائد، وقال هذه القصيدة وهو في السّجن لرجل من أصحابه، وكان حبس معه، ويقال له عطيّة بن عمرو البكريّ، وذلك أنّ عطيّة جزع في السّجن.
ومطلعها:
أقول له صبرا عطيّ فإنّما ... هو السّجن حتّى يجعل الله مخرجا
إلى أن قال:
ومنزلة يا ابن الزّبير كريهة ... شددت لها من آخر اللّيل أسرجا
لفتيان صدق فوق جرد كأنّها ... قداح براها الماسخيّ وسحّجا
إذا خرجوا من غمرة رجعوا لها ... بأسيافهم والطّعن حتّى تفرّجا
__________
(1) في طبعة بولاق والنسخة الشنيطية: = لعبد الله بن الحر =. وهو تصحيف سبق لنا أن صوبناه.(9/101)
متى تأتنا تلمم بنا في ديارنا ... البيت
والقصيدة بتمامها في «كتاب اللصوص».
و «عطيّ»: منادى مرخّم عطيّة. والواو في قوله: «ومنزلة» واو ربّ.
وابن الزبير هنا مصعب. و «أسرج»: جمع سرج. و «الجرد»: جمع أجرد، وهو القصير الشعر من الخيل.
و «القداح»: جمع قدح بكسر القاف فيهما، وهو عود السهم قبل أن يجعل له نصل. و «الماسخيّ»، بالخاء المعجمة: الذي يصنع السّهام. و «سحّجا» بتشديد الحاء المهملة وقبلها سين مهملة، أي: نحته وملّسه.
و «الغمرة»، بفتح المعجمة: الشّدّة. والطعن معطوف على الأسياف، وتفرّجا أصله تتفرّجن بنون توكيد خفيفة، فقلبت ألفا، وحذفت التاء من أوله، ومعناه تتكشّف. و «الفرجة»: الثّلمة. وفاعله ضمير الغمرة.
وقوله: «متى تأتنا» فاعله مستتر فيه راجع لفتيان. وكذلك الحال في «تلمم» و «تجد»، وليست التاء فيها للخطاب.
ورواه صاحب كتاب اللصوص:
متى تأتني في منزل قد نزلته ... تجد حطبا جزلا البيت
وترجمة ابن الحرّ تقدّمت مفصّلة في الشاهد التاسع بعد المائة (1).
* * * وأنشد بعده، وهو الشاهد الثالث بعد السبعمائة (2): (مجزوء الكامل)
703 - دعني فأذهب جانبا
يوما وأكفك جانبا
__________
(1) الخزانة الجزء الثاني ص 142138.
(2) البيت لعمرو بن معديكرب في ملحق ديوانه ص 197وشرح المفصل 7/ 56.(9/102)
وأكفك معطوفا على محل الفاء، لأنّها واقعة موقع الجزاء المجزوم. اه.
أحدها: أنّ الآية لا مناسبة لإيرادها هنا.
ثانيها: أنّ بيت زهير لم يقل أحد إنّه من قبيل اللحن. وكيف يسوغ تلحين أهل اللّسان، لا سيّما زهير.
ثالثها: قوله: «هذا إذا ثبت أنّه روي بفتح الباء» إلخ، كأنه لم يثبت عنده فتح الباء، مع أنه ثابت عند جميع الرّواة.
رابعها: قوله: «ولو روى بسكونها» إلخ، يعني: أنه يكون عطف أمر على أمر. وفيه أنّه يخرج حينئذ عن كونه شعرا.
خامسا: قوله: «كان أكفك معطوفا على محلّ الفاء» إلخ، عبارة قلقة، وحقّ التعبير: على توهّم سقوط الفاء، وجزم أذهب، وهو المسمّى عطف التوهّم، والعطف على المعنى.
هذا: وقال ابن الحاجب في «أماليه»: يجوز أن يكون المعنى اتركني أتصرّف فأذهب إلى جهة، فأكفيك جانبا تحتاج إلى كفايته بتصرّفي وذهابي.
ويجوز أن يريد: دعني يوما، وأكفك جانبا يوما، أي: إذا تصرّفت لنفسي يوما كفيتك جهة تخشاها يوما آخر. اه.
وقال بعض فضلاء العجم: انتصب جانبا الأوّل على الظرف، والثاني على أنّه مفعول ثان لأكفك، كأنّه خطاب لمن عذله على السّفر والبعد، أي: اتركني أذهب في جانب من الأرض، وأكفك جانبا من الجوانب التي تتوجّه إليها.
وهذا البيت لم أجده في ديوان عمرو بن معديكرب (1)، فإني تصفّحت ديوانه مرارا، فلم أره فيه، كما أنّ غيري تصفّح ديوانه، فلم يجده فيه. والله أعلم.
* * * __________
(1) هو في ملحق ديوانه كما أشرنا ص 197.(9/104)
وأنشد بعده، وهو الشاهد الرابع بعد السبعمائة، وهو من شواهد س (1):
(الطويل)
704 - بدا لي أنّي لست مدرك ما مضى
ولا سابق شيئا إذا كان جائيا
على أن قوله: «سابق» بالجرّ معطوف على «مدرك» على توهّم الباء فيه، فإنّه يجوز زيادة الباء في خبر ليس، كقوله تعالى (2): «{أَلَيْسَ اللََّهُ بِكََافٍ عَبْدَهُ}».
قال سيبويه في «باب الحروف التي تنزّل بمنزلة الأمر والنهي، لأنّ فيها (3) معنى الأمر والنهي»: وسألت الخليل عن قول الله عزّ وجلّ (4): «{فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ}»، فقال:
هو كقول زهير:
بدا لي أنّي لست مدرك ما مضى ... ولا سابق شيئا إذا كان جائيا
فإنّما جرّوا هذا لأنّ الأول تدخله الباء، فجاؤوا بالثاني، وكأنّهم قد أثبتوا في الأول الباء.
وكذلك هذا لمّا كان الفعل الذي قبله قد يكون جزما، ولا فاء فيه، تكلّموا
__________
(1) هو الإنشاد الثالث والثلاثون بعد المائة في شرح أبيات المغني للبغدادي.
والبيت لزهير بن أبي سلمى في ديوانه ص 208وتخليص الشواهد ص 512والدرر 6/ 163وشرح أبيات المغني 2/ 242وشرح شواهد المغني 1/ 282وشرح المفصل 2/ 52، 7/ 56والكتاب 1/ 165، 3/ 29، 51، 100، 4/ 160ولسان العرب (نمش) ومغني اللبيب 1/ 96والمقاصد النحوية 2/ 267، 3/ 351 وهمع الهوامع 2/ 141ولصرمة الأنصاري في شرح أبيات سيبويه 1/ 72والكتاب 1/ 306ولصرمة أو لزهير في الإنصاف 1/ 191. وهو بلا نسبة في أسرار العربية ص 154والأشباه والنظائر 2/ 347وجواهر الأدب ص 52والخصائص 2/ 353، 424وشرح الأشموني 2/ 432وشرح المفصل 8/ 69والكتاب 2/ 155.
وروايته في ديوانه:
... ولا سابقي شيء إذا كان جائيا
(2) سورة الزمر: 39/ 36.
(3) في طبعة بولاق والنسخة الشنقيطية: = فيه =. وهو تصحيف صوابه من الكتاب لسيبويه.
(4) سورة المنافقون: 63/ 10.(9/105)
بالثاني، وكأنّهم قد جزموا قبله. فعلى ذلك توهّموا هذا. اه.
وهذا كما ترى ليس فيه البيت السابق. وبيان الآية وأوّلها: «ربّ لولا أخّرتني إلى أجل قريب فأصّدّق وأكن من الصّالحين»: أنّ لولا معناها الطلب والتحضيض، فإذا قلت: لولا تعطيني، معناه أعطني، فإذا أتي لها بجواب، كان حكمه حكم جواب الأمر، إذ (1) كان في معناه، وكان مجزوما بتقدير حرف الشرط، فإذا أجبت بالفاء كان منصوبا بتقدير أن، فإذا عطفت عليه فعلا آخر، جاز فيه وجهان:
النصب بالعطف على ما بعد الفاء، والجزم على موضع الفاء لو لم تدخل وتقدير سقوطها.
وقد ذكر سيبويه هذا البيت في ثلاثة مواضع أخر من كتابه (2).
أحدها: في باب الفاء عند ذكر نواصب الفعل، قال فيه بعد أن أنشده: لمّا كان الأوّل يستعمل فيه الباء، ولا تغيّر المعنى، وكانت مما يلزم الأول نووها في الحرف الآخر، حتّى كأنهم قد تكلّموا بها في الأوّل.
ثانيها: قبيل باب يضمرون فيه الفعل لقبح الكلام، أنشده فيه كذلك.
ثالثها: وهو أول موضع وقع في كتابه، أنشده في باب اسم الفاعل يعمل عمل فعله، بنصب سابق، قال: إذا كان اسم الفاعل منوّنا، ينصب المفعول به.
وأنكر المبرد رواية الجرّ، وقال: حروف الخفض لا تضمر وتعمل. والرواية عنده: «ولا سابقا» بالنصب، «ولا سابقي شيء» (3) بالإضافة إلى الياء، ورفع شيء على أنه فاعل سابق.
وروى أيضا: «ولا سابق شيئا» بالرفع على أنه خبر لمبتدأ محذوف، والتقدير:
ولا أنا سابق شيئا.
قال اللخمي في «شرح أبيات الجمل»: وفي هذا البيت شاهد آخر، وهو إضافة اسم الفاعل المعمل، وذلك قوله: «مدرك ما مضى». والدليل على أنّه معمل أنّه خبر ليس، وليس لا تنفي ماضيا، وإنّما تنفي المضارع، وعطف سابق عليه.
__________
(1) في طبعة بولاق: = إذا =. وهو تصحيف صوابه من النسخة الشنقيطية.
(2) هي أكثر من أربعة مواضع انظر الكتاب في تخريج الشاهد.
(3) هي رواية ديوانه صنعة ثعلب ص 208.(9/106)
باب الأمر
أنشد فيه (1): (الخفيف)
* لتقم أنت يا ابن خير قريش *
تقدّم شرحه في الجوازم في الحادي والثمانين بعد الستمائة.
* * * وأنشد بعده (2):
* محمّد تفد نفسك كلّ نفس *
تقدّم شرح هذا أيضا هناك.
* * * __________
(1) هو الشاهد الحادي والثمانين بعد الستمائة من شواهد هذا الجزء.
(2) هو الشاهد الثمانين بعد الستمائة من شواهد هذا الجزء.(9/108)
المتعدي وغير المتعدي
أنشد فيه، وهو الشاهد الخامس بعد السبعمائة (1): (البسيط)
705 - يقرأن بالسّور
هو قطعة من بيت، وهو:
تلك الحرائر لا ربّات أحمرة ... سود المحاجر لا يقرأن بالسّور
على أنّ الباء زائدة في المفعول به.
قال ابن هشام في «المغني»: وقيل ضمّن «يقرأن» معنى يرقين، ويتبرّكن، وأنه يقال: قرأت بالسّورة، على هذا المعنى، ولا يقال قرأت بكتابك، لفوات معنى التبرّك. قاله السهيلي.
وقال أيضا في «أوّل الباب الثامن»: قد يعطى النّفي حكم ما أشبه في معناه، ومنه إدخال الباء في «لا يقرأن بالسّور»، لما دخله من معنى لا يتقرّبن بقراءة السّور.
ولهذا قال السّهيلي: لا يجوز أن تقول: وصل إليّ كتابك فقرأت به، على حدّ
__________
(1) هو الإنشاد الخامس والخمسون بعد المائة في شرح أبيات المغني للبغدادي.
والبيت للراعي النميري في ديوانه ص 122وأدب الكاتب ص 521ولسان العرب (سور) والمعاني الكبير ص 1138وللقتال الكلابي في ديوانه ص 53وللراعي أو للقتال في شرح أبيات المغني 2/ 368. وهو بلا نسبة في الأشباه والنظائر 2/ 183وجمهرة اللغة ص 1236والجنى الداني ص 217وشرح الحماسة للمرزوقي ص 383، 500، 830وشرح شواهد المغني 1/ 91، 336ولسان العرب (قرأ، لحد، قتل، زعم) ومجالس ثعلب ص 365ومغني اللبيب 1/ 29، 109، 2/ 675والمقتضب 3/ 244.
وروايته في ديوانه وشرح أبيات المغني:
هن الحرائر لا ربات أحمرة ...(9/109)
وقوله: «في إثر» متعلّق بيزداد، وأراد بالقرينة: الحبيبة (1)، لأنّها تشبه القمر.
والحدالى، بفتح المهملة والقصر: موضع (2).
و «الجيرة»: جمع جار بالجيم. و «الشّطر»، بضمتين: جمع شطير، وهو البعيد.
و «الحرّة الرّجلاء»: موضع في ديار جذام، الأوّل بالمهملة، والثاني بالجيم.
ويروى: «والحرة السّوداء». و «لجّان»، بفتح اللام وتشديد الجيم: واد قبل حرّة بني سليم.
وقوله: «صلّى على عزّة» إلخ، الصّلاة: الرحمة. وعزّة، بفتح المهملة وتشديد المعجمة: محبوبة كثيّر الشاعر (3).
وقوله: «تلك الحرائر» إلخ، الإشارة بتلك إلى النساء المذكورة. وإيثار اسم الإشارة لتمييزهنّ أكمل تمييز، وكونه بالبعيد للتعظيم.
وروى: «هنّ الحرائر». وتلك مبتدأ، والحرائر خبره، وقال بعض أفاضل العجم: الحرائر صفته.
وقوله: «لا ربّات» هو الخبر. ويبطله رواية هنّ الحرائر، وهو جمع حرّة، ومعناها الكريمة والأصيلة، وضدّ الأمة. والرّبّات: جمع ربّة بمعنى صاحبة. ولا نافية عاطفة على هنّ، أو على تلك.
قال الجواليقي في «شرح أدب الكاتب»: و «الأحمرة»: جمع حمار بالحاء المهملة، جمع قلّة. وخصّ الحمير لأنّها رذال المال وشرّه، يقال: «شرّ المال ما لا يزكّى ولا يذكّى (4)». اه.
وكذا ضبط هذه الكلمة صاحب «كتاب اللصوص» (5) وابن المستوفي. وقد
__________
(1) بعده في شرح أبيات المغني: = وأضافها إلى ضمير الليل لأنها تشبه القمر =.
(2) بعده في شرح أبيات المغني: = قال ياقوت في معجم البلدان: هو موضع بين الشام وبادية بني كلب المعروفة بالسماوة وهي لكلب، وأنشد هذا البيت =.
(3) في شرح أبيات المغني 2/ 370: = اسم امرأة =.
(4) شرح أدب الكاتب للجواليقي ص 378. ويذكى: يذبح.
(5) هو أبو سعيد السكري، صاحب كتاب شرح أشعار اللصوص.(9/111)
صحّف الدّماميني في «الحاشية الهندية» هذه الكلمة بالخاء المعجمة، وقال: والأخمرة:
جمع خمار، وهو ما تستر به المرأة رأسها.
وفي القاموس: «وكلّ ما ستر شيئا فهو خمار». هذا كلامه (1)، وتبعه من بعده.
وقوله: «سود المحاجر» صفة ربّات، لأنّ إضافة ما بمعنى اسم الفاعل المستمرّ تخفيفيّة (2) لا تفيد تعريفا، كقولهم: ناقة عبر الهواجر (3)، أي: عابرة فيها. وكذلك سود المحاجر، أي: مسودّة محاجرها، وهو جمع محجر كمجلس ومنبر.
قال الجواليقي: هو من الوجه حيث يقع عليه النّقاب، وما بدا من النّقاب أيضا.
اه. وأراد بهذا الوصف الإماء السود.
قال «صاحب أشعار اللصوص»: سود المحاجر، من سواد الوجه، وخصّ المحاجر دون الوجه والبدن كلّه لأنّه أوّل ما يرى.
ومن هذا قول النابغة (4): (البسيط)
* ليست من السّود أعقابا إذا انصرفت *
وإنما أراد سواد الجسد كلّه.
وجملة: «لا يقرأن» صفة ثانية لربّات.
__________
(1) في النسخة الشنقيطية: = وهذا كلامه =.
(2) في طبعة بولاق والنسخة الشنقيطية: = تخفيفة =. وهو تصحيف صوابه من شرح أبيات المغني للبغدادي 2/ 371.
(3) في طبعة بولاق والنسخة الشنقيطية: = عبرة =. وهو تصحيف صوابه من شرح أبيات المغني للبغدادي. وفي القاموس (عبر) أنها بلفظ واحد للمذكر والمؤنث والواحد والجمع.
(4) صدر بيت للنابغة الذبياني وعجزه:
* والبائعات بشطّي نخلة البرما *
والبيت للنابغة الذبياني في ديوانه ص 61وشرح أبيات المغني للبغدادي 2/ 371ولسان العرب (برم). وهو بلا نسبة في تهذيب اللغة 15/ 221.
يريد أنها ليست مما تتبذل وتبيع وتشتري لها من يكفيها. وبرم: قدور من برام، أي: حجارة، واحدها: برمة بضم الباء وتسكين الراء.(9/112)
قال الجواليقي: يقول: هنّ خيرات كريمات (1)، يتلون القرآن، ولسن بإماء سود ذوات حمر يسقينها. اه.
وقال بعض فضلاء العجم في «شرح أبيات المفصل»: إنّ تلك الحرائر ليست أرباب أخمرة، ولا يتستّرن بها، سود المحاجر لهزالها، أو لكبر أسنانها، جاهلات لا يقرأن القرآن. هذا كلامه. وهذا لا يقضى منه العجب.
وعنده أنّ أخمرة بالمعجمة، وهو تصحيف كما مرّ.
وترجمة الراعي تقدّمت في الشاهد الثالث والثمانين بعد المائة (2).
وأمّا الشعر الثاني فهو للقتّال الكلابي. قال صاحب «كتاب اللصوص»:
أخبرنا أبو سعيد، حدّثني أبو زيد، حدّثني حميد بن مالك، أنشدني شدّاد بن عقبة، للقتّال في ابنه عبد السلام (3):
عبد السّلام تأمّل هل ترى ظعنا ... إنّي كبرت وأنت اليوم ذو بصر
لا يبعد الله فتيانا أقول لهم ... بالأبرق الفرد لمّا فاتني نظري
يا هل ترون بأعلى عاسم ظعنا ... نكّبن فحلين واستقبلن ذا بقر
صلّى على عمرة الرّحمن وابنتها ... ليلى وصلّى على جاراتها الأخر
هنّ الحرائر ... البيت
و «عبد السلام»: منادى. و «ظعن»: جمع ظعينة، وهي المرأة في الهودج.
و «الأبرق الفرد»: موضع، وكذلك عاسم، بالمهملتين، و «فحلين» بإعراب المثنّى، و «ذو بقر»: أسماء مواضع. وأراد بهذه الظّعن نساءه وحريمه.
قال ياقوت في «معجم البلدان» (4): فحلين بلفظ التثنية: موضع في جبل أحد.
__________
(1) في طبعة بولاق: = هن من خيرات كريمات =. ولقد أثبتنا رواية النسخة الشنقيطية وشرح أبيات المغني، وشرح أدب الكاتب.
(2) الخزانة الجزء الثالث ص 142.
(3) ديوان القتال الكلابي ص 53والأغاني 24/ 176وشرح أبيات المغني للبغدادي 2/ 372ومعجم البلدان (فحلين).
(4) معجم البلدان (فحلين).(9/113)
وقوله: «فلتزعك» بفتح الزاي: أمر من وزعته أزعه وزعا، إذا كففته.
وقد تقدّم شرحه مستوفى في الشاهد الثالث والعشرين بعد المائة (1).
* * * وأنشد بعده، وهو الشاهد السادس بعد السبعمائة (2): (الطويل)
706 - أشارت كليب بالأكفّ الأصابع
على أنّ بقاء عمل حرف الجر بعد حذفه شاذّ. وعند ابن عصفور ضرورة، والتقدير: أشارت إلى كليب، وكان القياس النصب بعد حذف الجار.
وقد رأيته في «ديوانه» وفي «المناقضات» منصوبا. وأنشده أبو علي الفارسي في «التذكرة القصرية» بالرفع. وكذا رأيته في «شرح المناقضات»، قال شارحها:
أراد: أشارت الأصابع: هذه كليب. ويروى: «أشرّت كليبا»، أي: رفعت.
وهذا المصراع عجز، وصدره:
* إذا قيل أيّ النّاس شرّ قبيلة *
والبيت من قصيدة عدّتها خمسة وأربعون بيتا للفرزدق (3)، ناقض بها قصيدة لجرير هجاه بها على هذا الرويّ، وغالب أبياتها في كتب النحو.
__________
(1) الخزانة الجزء الثاني ص 221.
(2) هو الإنشاد الثاني في شرح أبيات المغني للبغدادي.
والبيت للفرزدق في ديوانه ص 520وتخليص الشواهد ص 504والدرر 4/ 191وشرح أبيات المغني 1/ 7 وشرح التصريح 1/ 312وشرح شواهد المغني 1/ 12والمقاصد النحوية 2/ 542والنقائض ص 702. وهو بلا نسبة في أوضح المسالك 2/ 178والدرر 5/ 185وشرح الأشموني 1/ 196وشرح ابن عقيل ص 374 ومغني اللبيب 1/ 61، 2/ 643وهمع الهوامع 2/ 36، 81.
وروايته في ديوانه:
... أشارت كليب بالأكف الأصابع
(3) هي في ديوانه في سبعة وأربعين بيتا ص 524516والنقائض ص 705696.(9/115)
وقوله: «ومنّا الذي أعطى الرّسول» إلخ، هذا يوم بني عمرو بن جندب، حين ردّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سبيهم.
وقال أبو عبيدة (1): كلّم الأقرع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في أصحاب الحجرات، وهم بنو عمرو بن جندب، فردّ سبيهم (2).
وقوله: «ومنّا خطيب» إلخ، الخطيب هو عطارد بن حاجب بن زرارة (3)، حين وفد إلى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم في وفد بني تميم.
والحامل: عبد الله بن حكيم، الذي حمل الحمالات يوم المربد، يوم قتل مسعود بن عمرو العتكيّ (4).
وقوله: «ومنّا الذي أحيا الوئيد» هو جدّه صعصعة بن ناجية، كان يشتري البنت ممن يريد وأدها، فأحيا ستّا وتسعين موؤودة إلى زمن النبي صلّى الله عليه وسلّم.
وقوله: «فيا عجبا حتى كليب» البيت، يأتي شرحه إن شاء الله تعالى في حتّى الجارّة.
وقوله: «إذا قيل أيّ الناس» إلخ، إنّما بنى قيل بالبناء للمفعول لأنّه أراد التعميم، أي: إذا قال قائل. وجملة: «أيّ الناس شرّ قبيلة» من المبتدأ، والخبر نائب الفاعل، ونيابة الجملة المختصّة بالقول، نحو (5): «{ثُمَّ يُقََالُ هََذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ}» لأنّ الجملة التي يراد بها لفظها تنزّل منزلة الأسماء المفردة.
و «شرّ» أفعل تفضيل حذفت منها الهمزة. و «أشارت»: جواب إذا.
وروى أبو علي في «تذكرته»: «أشرّت» بدله، وقال: يريد أشارت إليها بأنّها شرّ الناس، يقال: لا تشرّ فلانا، أي: لا تشر إليه بشرّ. وإنّما قال أشارت
__________
(1) النقائض ص 696.
(2) بعده في النقائض: = وحمل الأقرع الدماء =.
(3) في النقائض: = قوله خطيب، يعني شبة بن عقال بن صعصعة =. والبغدادي ينقل عن النقائض. فلعله سها.
(4) بعده في النقائض: = والأغر من الرجال، المعروف كما يعرف الفرس بغرته في الخيل، يقول: هو معروف في الكرم والجود =.
(5) سورة المطففين: 83/ 17.(9/117)
الأفخاذ، والفخذ يجمع الفصائل. وإنما قيل لها قبيلة أخذا من قبيلة الرأس وقبائله:
القطع المشعوب بعضها إلى بعض، وذلك لتقابلها، وتناظرها في الشّعب، كما قيل له شعب لتشعّب القبائل إليه أو منه.
وكليب، بالتصغير: أبو قبيلة جرير، وهو كليب بن يربوع بن حنظلة.
وردّ عليه جرير في مناقضته بمثل هذا البيت، فقال (1):
إذا قيل أيّ النّاس شرّ قبيلة ... وأعظم عارا قيل: تلك مجاشع
وقبيلة في البيتين بالنصب على التمييز.
وتقدّمت ترجمة الفرزدق في الشاهد الثلاثين (2).
* * * وأنشد بعده، وهو الشاهد السابع بعد السبعمائة (3): (الوافر)
707 - تمرّون الدّيار ولم تعوجوا
على أنّ حذف الجار منه على سبيل الشذوذ، والجارّ المحذوف إمّا الباء، وإمّا على، فإنّ المرور يتعدّى بهما.
__________
(1) البيت لجرير من قصيدة يهجو بها الفرزدق والبعيث وهو في ديوانه ص 925والنقائض ص 695.
والجدير بالذكر أن جريرا هو الذي بدأ بالهجاء، وأن الفرزدق قال نقيضته ردا على هجاء جرير، فلعل البغدادي سهى.
(2) الخزانة الجزء الأول ص 218.
(3) صدر بيت لجرير وعجزه:
* كلامكم عليّ إذن حرام *
والبيت هو الإنشاد الواحد والأربعون بعد المائة في شرح أبيات المغني للبغدادي.
والبيت لجرير في ديوانه ص 278والأغاني 2/ 179وتخليص الشواهد ص 503والدرر 5/ 189وشرح أبيات المغني 2/ 289وشرح شواهد المغني 1/ 311ولسان العرب (مرر) والمقاصد النحوية 2/ 560. وهو بلا نسبة في الأشباه والنظائر 6/ 145، 8/ 252ورصف المباني ص 247وشرح ابن عقيل ص 272وشرح المفصل 8/ 8، 9/ 103ومغني اللبيب 1/ 100، 2/ 473والمقرب 1/ 115وهمع الهوامع 2/ 83.(9/119)
قال ابن هشام في «المغني»: وعن الأخفش في مررت بزيد، أنّ المعنى مررت على زيد، بدليل (1): «{لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ}». وأقول: إنّ كلّا من الإلصاق والاستعلاء إنّما يكون حقيقيّا إذا كان مفضيا إلى نفس المجرور، كأمسكت بزيد، وصعدت على السّطح. فإن أفضى إلى ما يقرب منه، فمجازيّ كمررت بزيد، في تأويل الجماعة، أي: ألصقت مروري بمكان يقرب منه.
وكقوله (2): (الطويل)
* وبات على النّار النّدى والمحلّق *
فإذا استوى التّقديران في المجازيّة فالأكثر استعمالا أولى بالتخريج عليه، كمررت به، ومررت عليه، وإن كان قد جاء كما في (3): «{لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ}»، «{يَمُرُّونَ عَلَيْهََا} (4)».
* ولقد أمرّ على اللّئيم يسبّني (5) *
__________
(1) سورة الصافات: 37/ 137.
(2) عجز بيت للأعشى ميمون وصدره:
* تشبّ لمقرورين يصطليانها *
والبيت هو الإنشاد التاسع والثلاثون بعد المائة في شرح أبيات المغني للبغدادي.
والبيت للأعشى في ديوانه ص 275والأغاني 9/ 111وشرح أبيات المغني للبغدادي 2/ 277وشرح شواهد المغني 1/ 303ولسان العرب (حلق). وهو بلا نسبة في شرح شواهد المغني 1/ 416ومغني اللبيب 1/ 101، 143.
(3) سورة الصافات: 37/ 137.
(4) سورة يوسف: 12/ 105.
(5) صدر بيت مختلف في نسبته وعجزه:
* فمضيت ثمّت قلت لا يعنيني *
والبيت هو الإنشاد الأربعون بعد المائة في شرح أبيات المغني للبغدادي.
والبيت من الكامل وهو لرجل من سلول في الدرر 1/ 78وشرح أبيات المغني للبغدادي 2/ 287وشرح التصريح 2/ 11وشرح شواهد المغني 1/ 310والكتاب 3/ 24والمقاصد النحوية 4/ 58ولشمر بن عمرو الحنفي في الأصمعيات ص 126. وهو بلا نسبة في الأزهية ص 263والأشباه والنظائر 3/ 90والأضداد ص 132وأمالي ابن الحاجب ص 631وأوضح المسالك 3/ 206وجواهر الأدب ص 307والخصائص(9/120)
فإنّما يريد: لقضى عليّ الموت، كما قال الله تعالى (1): «{فَلَمََّا قَضَيْنََا عَلَيْهِ الْمَوْتَ}» فالموت في النية (2)، وهو معلوم بمنزلة ما نطقت به. ومثله (3): «{وَاخْتََارَ مُوسى ََ قَوْمَهُ}»، أي: لقومه.
وكذلك قوله تعالى (4): «{وَإِذََا كََالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ}» والمعنى: إذا كالوا لهم، أو وزنوا لهم، أي: كالوا لهم الشيء، ووزنوه لهم. والمكيل والموزون معلوم بمنزلة ما ذكر في اللفظ.
ولا يجوز مررت زيدا، وأنت تريد بزيد، لأنه لا يتعدّى إلّا بحرف، وذلك أنّه فعل الفاعل في نفسه، وليس فيه دليل على مفعول (5)، وليس هذا بمنزلة ما يتعدّى إلى مفعولين، فيتعدّى إلى أحدهما بحرف الجرّ، وإلى الآخر بنفسه لأنّ قولك: اخترت الرّجال زيدا، قد علم بذكرك زيدا أنّ حرف الجرّ محذوف من الأوّل. فأمّا قول جرير وإنشاد أهل الكوفة له، وهو قوله:
تمرّون الدّيار ولم تعوجوا ... كلامكم عليّ إذا حرام
ورواية بعضهم له (6):
* أتمضون الدّيار ولم تحيّا *
فليستا بشيء، لما ذكرت لك. والسّماع الصحيح والقياس المطّرد لا تعترض عليه الرّواية الشاذة. أخبرنا أبو العباس محمد بن يزيد، قال: قرأت على عمارة بن عقيل بن بلال بن جرير:
* مررتم بالدّيار ولم تعوجوا *
__________
(1) سورة سبأ: 34/ 14.
(2) أي في نية الشاعر.
(3) سورة الأعراف: 7/ 155.
(4) سورة المطففين: 83/ 3.
(5) في الكامل في اللغة 1/ 22: = على المفعول =.
(6) كذا بالتاء في طبعة بولاق والنسخة الشنقيطية. يعود الضمير إلى كلمة: = الديار = وأيضا في شرح أبيات المغني للبغدادي.(9/122)
فهذا يدلّك على أنّ الرواية مغيّرة. اه (1).
والبيت من قصيدة لجرير (2) هجا بها الأخطل النصراني. وهذا مطلعها:
متى كان الخيام بذي طلوح ... سقيت الغيث أيّتها الخيام
تنكّر من معالمها ومالت ... دعائمها وقد بلي الثّمام
أقول لصحبتي لمّا ارتحلنا ... ودمع العين منهمر سجام
تمرّون الدّيار ولم تعوجوا ... كلامكم عليّ إذا حرام
ومنها:
لقد ولد الأخيطل أمّ سوء ... على باب استها صلب وشام
قوله: «متى كان الخيام» إلخ. أورد ابن هشام عجزه في «المغني» على أنه قد تولّدت واو من إشباع ضمة الميم.
والخيمة عند العرب: كلّ بيت يبنى من عيدان الشّجر. وذو طلوح (3) بمهملتين:
مكان. والطّلح: شجر عظيم له شوك.
و «المعالم»: جمع معلم كمقعد: مظنّة الشيء، وما يستدلّ به. والدّعامة بالكسر: عماد البيت. و «الثّمام» بضم المثلثة: نبت ضعيف له خوص ربّما حشي به الوسائد، ويسدّ به خصاص البيوت.
و «المنهمر»: المنكسب. و «السّجام»، بالكسر: مصدر سجم الدمع، إذا سال.
وقوله: «ولم تعوجوا» يقال: عاج رأس البعير، إذا عطفه بالزّمام. و «كلامكم» مبتدأ، وهو مصدر مضاف إلى مفعوله، والفاعل محذوف، أي: كلامي إيّاكم.
و «حرام»: خبره، وعليّ متعلق بالخبر.
وقوله: «لقد ولد الأخيطل» أورده صاحب الكشاف، شاهدا لقراءة إبراهيم
__________
(1) الكامل في اللغة 1/ 22وشرح أبيات المغني للبغدادي 2/ 291290.
(2) ديوان جرير 1/ 283278وشرح أبيات المغني للبغدادي 2/ 292291وبعضها في الأغاني 2/ 212 213.
(3) في طبعة بولاق: = وذي طلوح =.(9/123)
النّخعيّ (1): «ولم يكن له صاحبة» بالمثناة التحتية، على أنّه لم يؤنّث الفعل المسند إلى المؤنث الحقيقي للفصل.
و «الأخيطل»: مصغر الأخطل [صغره تحقيرا له] (2). و «الصّلب»: جمع صليب.
و «شام»: جمع شامة، وهي العلامة. يريد أنّ أمّه فعلت فعل الموشّمات، نقشت صورة الصّليب في ذلك الموضع.
وفي القاموس أنّ الأخطل كان يلقّب بذي صليب.
و «الشام»: النقوش. وفي بعض حواشي المفصل: صلب وشام: نبتان، يصفها بخشونة ذلك الموضع.
وترجمة جرير تقدّمت في الشاهد الرابع من أوّل الكتاب (3).
* * * وأنشد بعده، وهو الشاهد الثامن بعد السبعمائة، وهو من شواهد سيبويه (4):
(الطويل)
708 - ومنّا الذي اختير الرّجال سماحة
على أنّ «الرّجال» منصوب بنزع الخافض، والأصل: من الرجال، وهو المفعول الثاني المقيّد بحرف الجرّ لاختار، فإنّه يتعدّى إلى الأوّل بنفسه، وإلى الثاني
__________
(1) سورة الأنعام: 6/ 101.
(2) زيادة يقتضيها السياق من شرح أبيات المغني للبغدادي 2/ 293والكشاف 2/ 42.
(3) الخزانة الجزء الأول ص 90.
(4) البيت للفرزدق في ديوانه ص 516والأشباه والنظائر 2/ 331والدرر 2/ 291وشرح أبيات سيبويه 1/ 424وشرح أبيات المغني للبغدادي 3/ 122وشرح شواهد المغني 1/ 12والكتاب 1/ 39ولسان العرب (خير). وهو بلا نسبة في شرح المفصل 8/ 51والمقتضب 4/ 330وهمع الهوامع 1/ 162.
وروايته في ديوانه:
منّا الذي اختير الرجال سماحة ... وخيرا إذا هبّ الرّياح الزّعازع(9/124)
* أمرتك الخير فافعل ما أمرت به *
وهذه أفعال توصل بحروف الإضافة، فتقول: اخترت من الرجال، وسميته بفلان، كما تقول: عرفته بهذه العلامة، وأستغفر الله من ذلك. فلمّا حذفوا حرف الجرّ عمل الفعل.
وليس أستغفر الله ذنبا، وأمرتك الخير أكثر في كلامهم جميعا، وإنّما يتكلّم به بعضهم.
فهذه الحروف كان أصلها في الاستعمال أن توصل بحروف الإضافة. ومنه قول الفرزدق:
منّا الذي اختير الرّجال سماحة ... وجودا إذا هبّ الرّياح الزّعازع
اه.
والبيت مطلع قصيدة للفرزدق تقدّم أبيات منها قبل هذا بشاهد. قال صاحب المصباح: سمح بكذا يسمح، بفتحين، سموحا وسماحا وسماحة: جاد وأعطى، أو وافق على ما أريد منه.
و «الجود»: الكرم. وروى بدله: «وخيرا» بكسر المعجمة، وهو الكرم.
و «الزّعازع»: جمع زعزع كجعفر، وهي الريح التي تهبّ بشدة. وعنى بذلك الشّتاء، وفيه تقلّ الألبان، وتعدم الأزواد، ويبخل الجواد.
فيقول: هو جواد في مثل هذا الوقت الذي يقلّ فيه الجود. وسماحة وجودا مصدران منصوبان على المفعول لأجله، كأنه قيل: اختير من الرّجال لسماحته وجوده.
ويجوز أن يكونا تمييزين أو حالين، أي: سمحا وجودا (1). قاله ابن خلف ولم يذكر ابن المستوفي غير الأخيرين.
وقال ابن السيد في «أبيات المعاني»: ونصب سماحة على المصدر ممّا دلّ عليه اختير، لأنه لا يختار إلّا الكرام.
__________
(1) في طبعة بولاق: = جودا =. وهو تصحيف صوابه من النسخة الشنقيطية.(9/126)
بباب حلب كانت إقطاعا للمتنبّي من سيف الدولة.
وإيّاها عنى بقوله:
أسير إلى إقطاعه ... البيت
وأوّله الثابت في جميع نسخ ديوانه، هو كما أنشده ياقوت بلفظ: «أسير».
والأبيات هذه وشرحها للواحديّ:
أيا راميا يصمي فؤاد مرامه ... تربّي عداه ريشها لسهامه
«الإصماء»: إصابة المقتل في الرّمي.
والمعنى أنه إذا طلب شيئا أصاب خالص ما طلبه، كالرامي يصيب فؤاد ما يطلبه برميه.
وقوله: «تربّي عداه»، مثل، وذلك أنّ السّهام إنّما تنفذ بريشها، وأعداؤه يجمعون العدد والأموال له، لأنّه يأخذها، فيتقوّى بها على قتالهم، فكأنهم يربّون الرّيش لسهامه، حيث يجمعون المال له. فالرّيش مثل الأموال، والسّهام مثل له.
* أسير إلى إقطاعه في ثيابه (1) * البيت
يريد أنّ جميع ما يتصرّف فيه من ضروب مملوكاته إنما هو من جهته وإنعامه.
وكأنّ هذا تفصيل ما أجمله النابغة في قوله (2): (الوافر)
وما أغفلت شكري فانتصحني ... وكيف ومن عطائك جلّ مالي
وقد فصّله النابغة أيضا، فقال (3): (الطويل)
__________
(1) يقال: أقطعه أرض كذا: إذا جعل غلتها رزقا والإقطاع: اسم لتلك الأرض، من التسمية بالمصدر.
والطرف: الفرس الكريم. والحسام: السيف القاطع.
(2) هو الإنشاد الحادي عشر بعد التسعمائة في شرح أبيات المغني للبغدادي.
والبيت للنابغة الذبياني في ديوانه ص 151وتذكرة النحاة ص 625وشرح أبيات المغني للبغدادي 8/ 56. وهو بلا نسبة في رصف المباني ص 243وسر صناعة الإعراب 1/ 377، 395وشرح شواهد المغني 2/ 956 ومغني اللبيب 2/ 680.
(3) البيتان للنابغة الذبياني من قصيدة يرثي بها النعمان بن الحارث بن أبي شمر الغساني في ديوانه ص 119.(9/128)
أفعال القلوب
أنشد فيها، وهو الشاهد العاشر بعد السبعمائة (1): (الوافر)
710 - تعلّم أنّ بعد الغيّ رشدا
على أنّ «تعلّم» التي بمعنى اعلم أمرا، لا تنصب المفعولين، بل ترد الاسميّة مصدّرة ب «أنّ» السّادة مع معموليها مسدّ المفعولين. ويقلّ نصبها للمفعولين، كقول زياد بن سيّار الجاهليّ (2): (الطويل)
تعلّم شفاء النّفس قهر عدوّها ... فبالغ بلطف في التّحيّل والمكر
وهذا المصراع من قصيدة طويلة جدا للقطامي.
وقبله (3):
وأمّا يوم قلت لعبد قيس ... كلاما لا أريد به خداعا
تعلّم أنّ بعد الغيّ رشدا ... وأنّ لهذه الغبر انقشاعا
__________
(1) البيت للقطامي في ديوانه ص 35والدرر 1/ 233ولسان العرب (هذا). وهو بلا نسبة في الصاحبي في فقه اللغة ص 223وهمع الهوامع 1/ 75.
وروايته في ديوانه:
... وأن لهذه الغمم انقشاعا
(2) هو الإنشاد الثالث والثلاثون بعد الثمانمائة في شرح أبيات المغني للبغدادي.
والبيت لزبان بن سيار في الدرر 2/ 246وشرح التصريح 1/ 247وشرح شواهد المغني 2/ 923والمقاصد النحوية 2/ 374وللنابغة الذبياني في شرح أبيات المغني للبغدادي 7/ 261. وهو بلا نسبة في أوضح المسالك 2/ 31وشرح الأشموني 1/ 158وشرح شذور الذهب ص 468وشرح ابن عقيل ص 212وهمع الهوامع 1/ 149.
(3) الأبيات للقطامي من قصيدة في ديوانه ص 3534.(9/131)
وقال المثقّب العبديّ: (الرمل)
وكلام سيّئ قد وقرت ... أذني عنه وما بي من صمم (1)
فتصاممت لكي ما لا يرى ... جاهل أنّي كما كان زعم (2)
ويكون بمعنى الظنّ، قال عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود (3):
(الطويل)
فذق هجرها إن كنت تزعم أنّه ... رشاد ألا يا ربّما كذب الزّعم
فهذا البيت لا يحتمل سوى الظّن، وبيت عمر لا يحتمل سوى الضّمان، وبيت أبي زبيد لا يحتمل سوى القول، وما سوى ذلك على ما فسّر.
وبيت النابغة روي لأميّة بن أبي الصلت، وبيت عمرو بن شأس روي لمضرّس.
اه.
وما أورده الشارح قطعة من قوله:
نودي قم واركبن بأهلك إ ... نّ الله إلخ
و «زعم» فيه على ما فسّروه متعدّ إلى مفعول واحد، وهو الضمير المحذوف العائد إلى ما الموصولة.
والبيت من قصيدة للنابغة الجعدي الصّحابي (4)، أولها:
الحمد لله لا شريك له ... من لم يقلها فنفسه ظلما
فالألف في قوله: «زعما» للإطلاق.
قال ابن خالويه في «كتاب ليس»: قال بعض المفسرين: إن الزّعم زاملة
__________
(1) البيت للمثقب العبدي في ديوانه ص 230وشرح اختيارات المفضل ص 1272ولسان العرب (زعم) والمفضليات ص 294. وهو بلا نسبة في أساس البلاغة (وقر) وكتاب العين 5/ 206.
(2) البيت للمثقب العبدي في ديوانه ص 232وشرح اختيارات المفضل ص 1272ولسان العرب (زعم) والفضليات ص 294. وهو بلا نسبة في تاج العروس (خشي) ولسان العرب (خشي).
(3) البيت لعبيد الله بن عبد الله بن عتبة في تاج العروس (زعم) ولسان العرب (زعم).
(4) هي في ديوانه ص 136132في واحد وعشرين بيتا.(9/135)
الكذب (1). وليس في كلام العرب وأشعارهم زعم محمودا إلّا في بيتين، قال أميّة بن أبي الصّلت، وقيل للنابغة الجعدي، في قصيدة أوّلها:
نودي قم واركبن ... . البيت
فهذا على الحقّ. وسمعت الزّاهد (2) يقول: زعم في هذا البيت بمعنى قال، ووعد، كما يقال: زعم الشافعي، أي: قال. اه.
والقصيدة التي هي لأميّة بن أبي الصلت طويلة، ذكر فيها صنع الله وعظم قدرته.
وقبله:
عرفت أن لن يفوت الله ذو قدم ... وأنّه من أمير السّوء ينتقم (3)
المسبح الخشب فوق الماء سخّرها ... خلال جريتها كأنّها عوم
تجري سفينة نوح في جوانبه ... بكلّ موج مع الأرواح تقتحم
نودي قم واركبن بأهلك إ ... نّ الله موف للنّاس ما زعموا (4)
مشحونة ودخان الموج يرفعها ... ملأى وقد صرّعت من حولها الأمم
حتّى تسوّت على الجوديّ راسية ... بكلّ ما استودعت كأنّها أطلم
قال شارح ديوانه: يقال: سبح الرجل وأسبحه الله. و «العوم»: جمع العومة، كأنها حيّة تكون بعمان. والعامة: شبه الطّوف إلّا أنه أصغر منه، يركب فيه البحر.
في جوانبه: جوانب الماء.
و «مشحونة»: مملوءة، يقال: اشحن سفينتك، أي: املأها. والجوديّ فيها
__________
(1) في حاشية طبعة هارون 9/ 134: = أصل الزاملة البعير يستظهر به الرجل، يحمل عليه طعامه ومتاعه. وهذا النص بأكمله ليس موجودا في النسخ المطبوعة من كتاب ابن خالويه =.
(2) هو أبو عمر، محمد بن عبد الواحد بن أبي هاشم المطرز اللغوي الزاهد، غلام ثعلب. ولد سنة 261هـ.
وتوفي 345. (إنباه الرواة 3/ 177171).
(3) أراد بقوله: = ذو قدم =. أنه من عمّر طويلا.
(4) كذا في أصول طبعات الخزانة وديوان أمية بن أبي الصلت. وقد انتبه مصحح طبعة بولاق أن هذا البيت من البحر المنسرح، بينما القصيدة كلها من البحر البسيط فقال في حاشية طبعة بولاق: = قوله: = نودي إلخ من المنسرح وسابقه ولا حقه من البسيط كما لا يخفى اه. مصححه =.(9/136)
سوق يقال له: سوق الثّمانين، لثمانين رجلا كانوا مع نوح في السفينة. و «الأطم» بضمتين: القصر، والجمع آطام.
وترجمة أميّة تقدّمت في الشاهد السادس والثلاثين (1).
قال ابن خالويه: وقصيدة النابغة (2):
يا مالك الأرض والسّماء ومن ... يفرق من الله لا يخف أثما (3)
إنّي امرؤ قد ظلمت نفسي وإ ... لّا تعف عنّي أغلى دما كثما (4)
أطرح بالكافرين في الدّرك ا ... لأسفل يا ربّ أصطلي الضّرما (5)
يا أيّها النّاس هل ترون إلى ... فارس بادت وخرّ من دعما (6)
أمسوا عبيدا يرعون شاءكم ... كأنّما كان ملكهم حلما
أو سبا الحاضرين مأرب إذ ... يبنون من دون سيله العرما (7)
اه.
__________
(1) الخزانة الجزء الأول ص 244.
(2) ديوان النابغة الجعدي ص 136134بخلاف في الترتيب.
(3) أثمه الله يأثمه: عاقبه بالإثم.
(4) كلمة: = عني =. ساقطة من النسخة الشنقيطية.
كثما: يقال: حمأة كاثمة وكثمة: غليظة.
(5) بالكافرين، أي معهم. والدرك الأسفل من النار: أقصى قعرها.
(6) رغم بفتح الغين: ذل. وخرّ: سقط.
(7) في أصول جميع طبعات الخزانة: = رأوا سبا =. وهو تصحيف لا يستقيم معه المعنى وقد أشار إليه محقق ديوانه، والتصويب من الديوان ص 134.
وفي حاشية ديوان النابغة الجعدي: = وقد اختلف في عزو هذا البيت، فبعضهم نسبه إلى النابغة الجعدي، وبعضهم إلى أمية بن أبي الصلت، وهو في ديوان أمية رقم: 51، ونسبه البكري إلى الأعشى =.
ومأرب: ضبطها ياقوت في معجمه، بفتح الميم وسكون الهمزة وكسر الراء. وضبطها البكري في معجم ما استعجم بفتح الميم والهمزة.
وفي معجم البلدان (مأرب): = وهي بلاد الأزد باليمن، قال السهيلي: مأرب اسم قصر كان لهم، وقيل: هو اسم لكل ملك كان يلي سبأ، كما أن تبعا اسم لكل من ولي اليمن والشحر وحضر موت. قال المسعودي: وكان هذا السدّ من بناء سبأ بن يشجب بن يعرب ومات قبل أن يستتمه فأتمته ملوك حمير بعده =.(9/137)
وأنشد بعده (1): (الكامل)
ولقد نزلت فلا تظنّي غيره ... منّي بمنزلة المحبّ المكرم
على أنّ «ظنّ» يقلّ فيها نصب المفعول الواحد، فإنّ معناه هنا لا تظنّي شيئا غير نزولك. وصحّة هذا المعنى لا تقتضي (2) تقدير مفعول آخر.
وفيه ردّ للنحويين، فإنهم قالوا: المفعول الثاني لظنّ محذوف اختصارا لا اقتصارا.
وبه استشهد شرّاح الألفيّة، وقالوا: تقديره: فلا تظنّي غيره واقعا، أو حقّا.
وجملة: «فلا تظنّي غيره» معترضة بين نزلت، وبين متعلّقه، وهو منّي.
وهذا البيت من معلّقة عنترة، وتقدّم شرحه في الشاهد الموفي المائتين (3).
* * * وأنشد بعده، وهو الشاهد الثاني عشر بعد السبعمائة (4): (الطويل)
712 - بأيّ كتاب أم بأيّة سنّة
ترى حبّهم عارا عليّ وتحسب
__________
(1) البيت لعنترة العبسي في ديوانه ص 191وأدب الكاتب ص 613والأشباه والنظائر 2/ 405والاشتقاق ص 38والأغاني 9/ 212وجمهرة اللغة ص 591والخصائص 2/ 216والدرر 2/ 254وشرح شذور الذهب ص 486وشرح شواهد المغني 1/ 480ولسان العرب (حبب) والمقاصد النحوية 2/ 414. وهو بلا نسبة في أوضح المسالك 2/ 70وشرح الأشموني 1/ 164وشرح ابن عقيل ص 225والمقرب 1/ 117 وهمع الهوامع 1/ 152.
(2) في طبعة بولاق: = لا يقتضي =.
(3) الخزانة الجزء الثالث ص 215وما بعدها.
(4) البيت للكميت بن زيد الأسدي من هاشمياته ص 49والدرر 1/ 272، 2/ 253وشرح التصريح 1/ 259وشرح الحماسة للمرزوقي ص 692والمحتسب 1/ 183والمقاصد النحوية 2/ 413، 3/ 112.
وهو بلا نسبة في أوضح المسالك 2/ 69وشرح الأشموني ص 164وشرح ابن عقيل ص 225وهمع الهوامع 1/ 152.(9/138)
على أنه قد حذف مفعولا «تحسب» للقرينة، والتقدير: وتحسب حبّهم عارا عليّ.
قال ابن جنّي في «إعراب الحماسة» عند قول حكيم بن قبيصة (1): (الطويل)
فما جنّة الفردوس هاجرت تبتغي ... ولكن دعاك الخبز أحسب والتّمر (2)
نصب جنّة الفردوس بتبتغي، وهي حال من التاء في هاجرت. وجاز تقديم ما انتصب بتبتغي لجواز تقديم الفعل نفسه، حتّى كأنه قال: فما مبتغيا جنّة الفردوس هاجرت، على حدّ قوله تعالى (3): «{خُشَّعاً أَبْصََارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدََاثِ}» ولم يعمل أحسب على اللفظ، وأراد مفعوليها فحذفهما، كبيت الكميت:
بأيّ كتاب ... البيت
أي: وتحسب ذاك كذلك. ولا يحسن أن تجعلها هنا لغوا، من قبل أنّها لم تقع بين المبتدأ وخبره ولا بعدهما، نحو: زيد قائم أحسب، وإنّما كان اعتبار عملها أو إلغائها هناك، لأنّها لو كانت عاملة لعملت فيهما، وأما هاهنا فلا سبيل إلى الخبز والتّمر ونحوهما. اه.
وقوله: «بأيّ كتاب» متعلق بقوله «ترى».
والبيت من قصيدة طويلة للكميت بن زيد الأسديّ، مدح بها آل النبيّ صلّى الله عليه وسلّم.
وبعده:
إذا الخيل واراها العجاج وتحته ... غبار أثارته السّنابك أصهب (4)
__________
(1) في طبعة بولاق: = قميصة =. وهو تصحيف صوابه من النسخة الشنقيطية.
(2) في طبعة بولاق والنسخة الشنقيطية: = دعاك الخبز والتمر أحسب =. وهو تصحيف صوابه من المصادر التالية.
والبيت لحكيم بن قبيصة الجرمي في الحماسة برواية الجواليقي ص 611وشرح الحماسة للأعلم 2/ 1127 وشرح الحماسة للتبريزي 4/ 158وشرح الحماسة للمرزوقي ص 1825. وهو بلا نسبة في الدرر 2/ 260 وهمع الهوامع 1/ 153.
(3) سورة القمر: 54/ 7.
(4) لم نجد هذا البيت في طبعة الهاشميات التي بين أيدينا، فلعل البغدادي سهى.(9/139)
فما لي إلّا آل أحمد شيعة ... وما لي إلّا مشعب الحقّ مشعب (1)
«واراها»: غطّاها. و «المشعب»: الطريق.
وتقدّمت مع ترجمته في الشاهد الثاني بعد الثلثمائة (2).
* * * وأنشد بعده (3): (الخفيف)
لا تخلنا على غرائك إنّا ... طالما قد وشى بنا الأعداء
على أنّه قد حذف المفعول الثاني من تخلنا، وتقديره كما قال الشارح المحقق: لا تخلنا أذلة على إغرائك الملك بنا.
والبيت من معلّقة ابن حلّزة، تقدّم شرحه مع ترجمته، في الشاهد الثامن والأربعين من أوائل الكتاب (4).
* * * وأنشد بعده، وهو الشاهد الثالث عشر بعد السبعمائة (5): (البسيط)
__________
(1) في شرح الهاشميات ص 50: = أي لا أتولى غيرهم. ومشعب الحق: طريقه، ويقال: شعب، إذا ذهب وأشعب، إذا هلك وشعوب المنية ولا ينون =.
(2) الخزانة الجزء الرابع ص 296285.
(3) البيت للحارث بن حلزة اليشكري في ديوانه ص 24وشرح القصائد السبع ص 454وشرح القصائد العشر للتبريزي ص 381وشرح المعلقات السبع ص 122وشرح المعلقات العشر ص 121ولسان العرب (غرا) والمعاني الكبير 2/ 872. وهو بلا نسبة في تذكرة النحاة ص 586ونوادر أبي زيد ص 198.
(4) الخزانة الجزء الأول ص 316.
(5) البيت لبعض الفزاريين في الدرر 2/ 257. وهو بلا نسبة في الأشباه والنظائر 3/ 133وأوضح المسالك 2/ 65وتخليص الشواهد ص 449وشرح الأشموني 1/ 160وشرح التصريح 1/ 258وشرح ديوان الحماسة للمرزوقي ص 1146وشرح عمدة الحافظ ص 249وشرح ابن عقيل ص 221والمقاصد النحوية 2/ 411، 3/ 89 والمقرب 1/ 117وهمع الهوامع 1/ 153. ولبعض الفزاريين برواية الأدبا في الحماسة برواية الجواليقي(9/140)
ألغي عمل «وجدت» لكون لام الابتداء مقدّرة (1)، والصواب علّق وجدت عن العمل لفظا، لكون لام الابتداء مقدّرة.
ولا يخفى أن هذا التخريج على كلام ابن جنّي يكون من باب غسل الدّم بالدّم.
والصحيح أنّ حذف ضمير الشأن لا يختصّ بالشعر. ومنه الحديث (2): «إنّ من أشدّ النّاس عذابا يوم القيامة المصوّرون»، وحكاية الخليل: إنّ بك زيد مأخوذ.
ولم يورد ابن عصفور هذا في «كتاب الضرائر».
والبيت أورده أبو تمام في «الحماسة (3)» مع بيت قبله، ونسبه إلى بعض الفزاريّين، وهو:
أكنيه حين أناديه لأكرمه ... ولا ألقّبه والسّوءة اللّقب
لكن روايته بنصب القافيتين، ولا تحتاج إلى ما ذكر من التوجيه ويكون اللّقب على روايته مفعول ألقّبه. والسّوءة منصوبة أيضا.
قال ابن جني: نصب السّوءة لأنّه جعلها مفعولا معه، أي: لا ألقّبه مع السوءة اللقبا، مقترنا بالسّوءة (4).
ألا ترى أنّك تجد هذا المعنى في المفعول معه، تقول: قمت وزيدا، فتجد معناه قمت مقترنا بزيد. اه.
قال ابن الناظم تقديم المفعول معه على مصحوبه، [اتفق] الجمهور على منعه، وأجازه أبو الفتح في «الخصائص» واستدلّ بقوله (5): (الطويل)
__________
(1) قوله: = والصواب علق وجدت الابتداء مقدرة = ساقط من النسخة الشنقيطية.
(2) في حاشية طبعة هارون 9/ 140: = أخرجه البخاري في كتاب اللباس من حديث عبد الله، وكذا أخرجه مسلم في اللباس عن ابن عمر، والنسائي في الزينة عن أحمد بن حرب من حديث عبد الله.
وانظر الألف المختارة 756=.
(3) البيت لبعض الفزاريين في الحماسة برواية الجواليقي ص 333وشرح الحماسة للأعلم 2/ 627وشرح الحماسة للتبريزي 3/ 87وشرح الحماسة للمرزوقي ص 1146. لكن القافية في الحماسات منصوبة.
(4) في إعراب الحماسة لابن جني: = أي مقترنا بالسوءة =.
(5) صدر بيت ليزيد بن الحكم وعجزه:
* ثلاث خلال لست عنها بمرعوي *(9/142)
وقال العيني على رواية نصب القافيتين: ويجوز أن يكون انتصاب السوءة على المعنى، يعمل فيه معنى لا ألقّبه، فيكون على هذا من باب: (مجزوء الكامل)
يا ليت بعلك قد غدا ... متقلّدا سيفا ورمحا (1)
وإن رفع فارتفاعه يجوز أن يكون بالابتداء، ويكون الخبر مضمرا، كأنه قال:
والسوءة ذاك. يعني إن لقّبته والفحش فيه.
ويجوز أن يكون مبتدأ، وخبره اللّقبا، يكون مصدرا كالجمزى. ويجوز أن يكون خبر مبتدأ محذوف، كأنه قال: لا ألقّبه اللّقبا، وهو السوءة. اه.
وهذه الاحتمالات لا فائدة فيها سوى تسويد الورق. على أنّ اللّقبا بالألف مقصورا غير موجود.
وقوله: «أكنيه حين أناديه» العرب إذا أرادت تعظيم المخاطب خاطبته بالكنية، وعدلت عن التصريح باسمه. وصف الشاعر نفسه بحسن العشرة مع صاحبه.
وقوله: «كذاك أدّبت (2)» هو بالبناء للمفعول، والكاف هنا اسم مفعول مطلق، أي: أدّبت تأديبا مثل ذلك، والإشارة إلى البيت الأول. وحتّى ابتدائية كقوله تعالى (3): «{حَتََّى عَفَوْا}»، واسم صار الضمير المستتر فيها العائد إلى الأدب المفهوم من أدّبت. «ومن خلقي» خبر صار.
وقوله: «إنّي وجدت» بكسر الهمزة استئناف، أرسله مثلا. وقال العيني:
الكاف للتشبيه، أي: كمثل الأدب المذكور. وحتى للغاية بمعنى إلى. و «من» متعلّق بصار.
وقوله: «أنّي وجدت» بفتح الهمزة فاعل صار. هذا كلامه، وفيه خلل من وجوه.
__________
(1) البيت لعبد الله بن الزبعرى في ديوانه ص 32وشرح أبيات المغني للبغدادي 6/ 92والكامل في اللغة 1/ 196. وهو بلا نسبة في الأشباه والنظائر 2/ 108، 6/ 238وأمالي المرتضى 1/ 54والإنصاف 2/ 612 والخصائص 2/ 431وشرح شواهد الإيضاح ص 182وشرح المفصل 2/ 50ولسان العرب (رغب، زجج، مسح، قلد، جدع، جمع، هدى) والمقتضب 2/ 51.
(2) في طبعة بولاق والنسخة الشنقيطية: = كذلك أدبت =. وهو تصحيف صوابه من طبعة هارون.
(3) سورة الأعراف: 7/ 95.(9/144)
وعلى الثاني تكون عاملة لفظا، ويكون مفعولها ضمير الشأن المحذوف، أي:
ما إخاله، وجملة: «لدينا منك تنويل» في موضع المفعول الثاني.
وقد تقدّم الفرق بين الإلغاء والتعليق. ويظهر كون التعليق هو العمل في محلّ الجملة من عطف شيء على الجملة المعلّقة، فإنّه يعرب بإعرابها المحلّي، كقول كثيّر (1): (الطويل)
وما كنت أدري قبل عزّة ما البكا ... ولا موجعات القلب حتّى تولّت
فعطف «موجعات» بالنصب على محلّ «ما البكا»، وهذا على تقدير اسميّة «ما». فإن كانت حرفا زائدا فأدري بمعنى أعرف، و «البكا»: مفعوله، ولا يكون ممّا نحن فيه.
قال ابن هشام في «المغني»: رأيت بخط الإمام بهاء الدين بن النحّاس: أقمت مدّة أقول: القياس جواز العطف على محلّ الجملة المعلّق عنها بالنصب. ثم رأيته منصوصا. اه.
وممن نصّ عليه ابن مالك، ولا وجه للتوقّف فيه مع قولهم إنّ المعلّق عامل في المحلّ. اه.
وخرّجها ابن إياز على الإعمال من غير تعليق بتكلّف، بجعل ما موصولة اسمية.
حكاه عنه أحمد بن محمد بن الحداد البجلي البغدادي في «شرح قصيدة بانت سعاد»، وكان تاريخ شرحه في بغداد سنة أربع وعشرين وسبعمائة.
قال في شرحه (2): وقال ابن إياز (3) الرّومي: يجوز فيه وجه آخر، وهو أن تكون «ما» موصولة، وموضعها رفع بالابتداء، ومفعول «إخال» الأوّل محذوف،
__________
(1) هو الإنشاد السابع والخمسون بعد الستمائة في شرح أبيات المغني للبغدادي.
والبيت لكثير عزة في ديوانه ص 54وشرح أبيات المغني 6/ 271وشرح التصريح 1/ 257وشرح شذور الذهب ص 475وشرح شواهد المغني ص 813، 824وشرح قطر الندى ص 178ومغني اللبيب ص 419 والمقاصد النحوية 2/ 408. وهو بلا نسبة في أوضح المسالك 2/ 64وشرح الأشموني ص 162.
(2) في طبعة بولاق: = شارحه =. وهو تصحيف صوابه من النسخة الشنقيطية.
(3) هو الحسين بن بدر بن إياز. ولي مشيخة النحو في المستنصرية، قال عنه الشرف الدمياطي: رأيته شابا في زي أولاد الأجناد يقرأ النحو على سعد بن أحمد البيناني. توفي سنة 681. (بغية الوعاة ص 232).(9/146)
أجل الشّروح.
لكنّ شرح البغدادي أكثر استنباطا لمعاني الشعر، وأدقّ تفتيشا للمزايا والنّكت.
وشرح ابن هشام أوعى منه للمسائل النحويّة، وتفسير الألفاظ اللغوية، وكلّ منهما في حجم الآخر، وعصر تأليفهما متقارب (1).
وهذا البيت لم يرد في رواية نفطويه، ورواه أبو العبّاس الأحول كذا (2):
أرجو وآمل أن يعجلن في أبد ... وما لهنّ طوال الدّهر تعجيل
وعليه لا شاهد فيه. قال الأحول: في أبد: في دهر.
ويروى:
* وما لنا عندهنّ اليوم تعجيل *
أي: لا يعجّلن وصلنا في الرواية الأولى. يقول: آمل وأرجو، وما أظنّ ذلك يكون أبدا. انتهى كلامه.
وضبط بخطّه «يعجلن» بفتح الياء والجيم، على أنّه مبني للفاعل. و «طوال» بفتح الطاء على أنه ظرف بمعنى طول الدّهر، ولكن لم يتقدّم لضمير جمع المؤنث مرجع.
فإن قلنا: إنّ المرجع سعاد، وإنّ جمع الضمير للتعظيم، ورد أنّ إرجاع ضمير الجمع إلى الواحد إنّما هو في التكلّم والخطاب، وقد ورد تعظيم الغائب قليلا.
قال البيضاويّ، في تفسير قوله تعالى (3): «{مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِمْ}» من سورة يونس: والضمير لفرعون، وجمعه على ما هو المعتاد في ضمير العظماء. لكن استشكله شرّاحه.
قال سعديّ: أيّ قدر لفرعون عند الله حتّى يعبّر عنه بصيغة التعظيم. نعم لو
__________
(1) يبدو أن شرح السكري لديوان كعب لم يقع البغدادي عليه. وهو النسخة المطبوعة من ديوانه طبعة دار الكتب المصرية.
(2) هي رواية ديوانه ص 9.
(3) سورة يونس: 10/ 83.(9/148)
قال ابن الشجريّ: وأجاب عنه الشيخ أبو منصور موهوب بن أحمد: وأمّا أمل يأمل، فهو آمل، والمفعول مأمول. فلا ريب في جوازه عند العلماء وقد حكاه الثّقات، منهم الخليل وغيره، والشاهد عليه كثير.
قال بعض المعمّرين (1): (مجزوء الكامل)
المرء يأمل أن يعي ... ش وطول عيش قد يضرّه
وقال الآخر (2): (المنسرح)
ها أنا ذا آمل الخلود وقد ... أدرك عقلي ومولدي حجرا
وقال كعب بن زهير:
* والعفو عند رسول الله مأمول *
وقال المتنبي، وهو من العلماء بالعربيّة:
* حرموا الذي أملوا *
كتبه موهوب بن أحمد.
وكتب على هامش الأمالي هنا أبو اليمن الكنديّ البغدادي: قد جاء أمل مخفّفا ماضيا في شعر ذي الرمة، وهو قوله (3): (الطويل)
إذا الصّيف أجلى عن تشاء من النّوى ... أملت اجتماع الحيّ في صيف قابل
ولا غرو أن لا يحضر الشاهد للإنسان وقت طلبه.
__________
(1) البيت للنابغة الجعدي في ديوانه ص 191وأمالي القالي 2/ 8وأمالي المرتضى 1/ 266وحماسة البحتري ص 365والوحشيات ص 155. وهو للنابغة الذبياني في الأضداد ص 196والشعر والشعراء 1/ 94.
(2) البيت للربيع بن ضبع الفزاري في المعمرين ص 9ونوادر أبي زيد ص 159.
(3) البيت لذي الرمة في ديوانه ص 494.
وفي طبعة بولاق: = عن شتاء =. وهو تصحيف. وفي النسخة الشنقيطية: = تناء =. وهو تصحيف أيضا.
والتصويب من ديوان ذي الرمة.
التشائي: التفرق والاختلاف.(9/151)
قال خلف الأحمر: لولا قصائد لزهير ما فضّلته على ابنه كعب. ولكعب ابن شاعر اسمه عقبة ولقبه المضرّب، لأنه شبّب بامرأة، فضربه أخوها بالسّيف ضربات كثيرة، فلم يمت. وله ابن أيضا يقال له العوّام، شاعر.
ومما يستجاد لكعب، قوله (1): (البسيط)
لو كنت أعجب من شيء لأعجبني ... سعي الفتى وهو مخبوء له القدر
يسعى الفتى لأمور ليس يدركها ... فالنّفس واحدة والهمّ منتشر
والمرء ما عاش ممدود له أمل ... لا تنتهي العين حتّى ينتهي الأثر (2)
ومما يستجاد له أيضا (3): (السريع)
إن كنت لا ترهب ذمّي لما ... تعرف من صفحي عن الجاهل
فاخش سكوتي إذ أنا منصت ... فيك لمسموع خنا القائل (4)
والسّامع الذّمّ شريك له ... ومطعم المأكول كالآكل
مقالة السّوء إلى أهلها ... أسرع من منحدر سائل
ومن دعا النّاس إلى ذمّه ... ذمّوه بالحقّ وبالباطل
وسبب إسلام كعب وخبر هذه القصيدة مذكور في كتب السّير والأخبار، لا سيّما في شرحيهما للبغدادي وابن هشام (5).
وملخّصه على ما نقله البغداديّ عن أبي عمرو بن العلاء: أنّ زهيرا، قال لبنيه:
__________
(1) الأبيات لكعب بن زهير في ديوانه ص 229والاستيعاب 1/ 227والشعر والشعراء 1/ 88ومجموعة المعاني ص 35.
(2) البيت لكعب بن زهير في ديوانه ص 229وتاج العروس (أثر) وتهذيب اللغة 15/ 123ولسان العرب (أثر).
يقول: أمله مبسوط له، وإنما يأتيه ما قدر له ومن ورائه الموت.
(3) الأبيات لم ترد في ديوان كعب بن زهير. وقد اختلف في نسبة هذه الأبيات فهي في الأغاني 14/ 166للعتابي أو لابن قنبر وهي لمحمد بن حازم الباهلي في زهر الآداب ص 541. وهي بلا نسبة في الحيوان 1/ 15ولباب الآداب ص 360.
(4) الخنا: الفحش من الكلام.
(5) وقد أوردها محمد بن سلام الجمحي في طبقاته ص 10399والسكري في مقدمة ديوان كعب 53.(9/155)
في «شرح التبريزي» (1): البيتان الأخيران لابن أبي نمير القتّالي، من بني مرّة، جاء بهما أبو تمام ضلّة في هذه الأبيات وليستا منها. وكذا قال أبو عبيد البكري في «اللآلي شرح أمالي القالي (2)» نقلا عن أبي [الفضل (3)] الرياشي.
قوله: «تناهوا واسألوا» إلخ، كلاهما فعل أمر من النّهي والسؤال.
و «الضّبارمة»، بضم المعجمة بعدها موحدة، هو الجريء على الأعداء. ويسمّى الأسد ضبارمة. ويقال: هو الأسد الوثيق الخلق الكثير اللّحم.
و «النّجيد»: ذو النجدة، وهو البأس والشّدّة. وأعتبه بمعنى أرضاه. وليس يريد الرّضا، ولكن يريد: هل جازيته بما فعل لي؟ لأنّه لمّا جنى عليه فكأنّه استدعى شرّه كما يستدعي الرّجل العتبى من صاحبه.
يقول: كفّوا عمّا أنتم عليه من تهييج الشرّ، واسألوا هذا الرجل هل أرضاه الأسد القويّ الشّديد لمّا تحكّك به، وهل وفّاه ما استحقّه عليه، كابن أبي لبيد، كان أجدر منهم بأن ينال البغية منه، لشدّة شكيمته، وقوّته فأخفق. يقول: سلوه عن وتره عنده هل نقضه؟ ثم لينهكم ذلك عن الجراءة على مثلي.
وقوله: «ولستم فاعلين» إلخ، حذف مفعول فاعلين، وهو ما دلّ عليه في البيت قبله «تناهوا» كأنه قال: ولستم فاعلين التّناهي. و «الوقود» بالضم:
إيقاد النار، وبالفتح: الحطب. و «الأقصى»: الأبعد. وهذا مثل تمثّل به في انتهاء الشرّ.
يقول: لستم متناهين عمّا أكرهه منكم، حتى يعمّكم الشرّ، ويبلغ البلاء أقصى المبلغ، فيتعدّى من الأقارب إلى الأباعد، ومن السّقيم إلى البريء. وذكر الحطب والوقود هنا مثلا لتفاقم الشّرّ، واتّساع المكروه.
__________
وشرح الحماسة للأعلم 1/ 198وشرح الحماسة للتبريزي 1/ 210وشرح الحماسة للمرزوقي ص 402.
وهو بلا نسبة في جمهرة اللغة ص 1123والمعاني الكبير ص 1123.
(1) في شرح الحماسة للتبريزي 1/ 211: = قال أبو رياش البيتان الأخيران لابن أبي نمير القتالي من بني مرة =.
(2) سمط اللآلئ ص 185.
(3) زيادة يقتضيها السياق من طبعة هارون 9/ 157.
وهو العباس بن الفرج الرياشي، عالم في اللغة والنحو، تلميذ للمازني في النحو، مات مقتولا سنة 257. (إنباه الرواة 3/ 367، وبغية الوعاة ص 276).(9/158)
ولم يوجد للبيد في ديوانه شعر على هذا [الوزن و] (1) الرّويّ غير المعلّقة. والله أعلم.
* * * وأنشد بعده (2): (الكامل)
وإنّني ... قسما إليك مع الصّدود لأميل
على أنّ «لقد علمت» في البيت السابق منزّل منزلة القسم، فصار كقوله:
«قسما» في هذا البيت، وهو بتقدير أقسم قسما.
وقوله: «لأميل» خبر مبتدأ محذوف، أي: لأنا أميل، والجملة جواب القسم.
وقد تقدّم مشروحا في الشاهد التسعين (3).
وأصله:
إنّي لأمنحك الصّدود وإنّني ... قسما إليك البيت
* * * وأنشد بعده، وهو الشاهد السابع عشر بعد السبعمائة، وهو من شواهد سيبويه (4): (الرجز)
__________
(1) زيادة يقتضيها السياق من شرح أبيات المغني للبغدادي 6/ 233.
(2) قطعة من بيت للأحوص الأنصاري وتمامه:
إني لأمنحك الصدود وإنني
والبيت للأحوص في ديوانه ص 153والأغاني 21/ 98والزهرة ص 181وسمط اللآلئ ص 259وشرح أبيات سيبويه 1/ 277وشرح أبيات المغني 6/ 247وشرح المفصل 1/ 116والكتاب 1/ 380. وهو بلا نسبة في أمالي المرتضى 1/ 135والمقتضب 3/ 233، 267والمقرب 1/ 256.
(3) الخزانة الجزء الثاني ص 44.
(4) الرجز بلا نسبة في شرح أبيات سيبويه 1/ 224وفرحة الأديب ص 52والكتاب 1/ 240والمخصص 7/ 119(9/163)
لقد علمت أيّ حين عقبتي ... هي التي عند الهجير قالت
إذا النّجوم في السّماء ولّت
و «بسيطة»: اسم أرض بين الكوفة وحزن بني يربوع.
قال أبو محمد الأعرابيّ في «فرحة الأديب» (1): وفيها يقول عديّ بن عمرو الطائيّ (2): (البسيط)
لولا توقّد ما ينفيه خطوهما ... على البسيطة لم تدركهما الحدق
وخطّأ ابن السّيرافي (3) في قوله: البسيطة: الأرض المنبسطة الممتدّة.
ثم رأيت ابن خلف أورد هذا الرجز، وقال في مثال سيبويه: أمّا نصبه فعلى قولك: في أيّ الأوقات الاجتماع للصّلاة؟ ورفعه جيّد، كأنه قال: أيّ الأيّام يوم الجمعة، والسبت مثل الجمعة.
وإنّما جاز النصب في ذلك لأنّ الجمعة فيها معنى الاجتماع، والأصل في السّبت الراحة، وهو فعل واقع في اليوم. [ولو قلت: اليوم (4)] الأحد والاثنان، إلى الخميس لم يجز إلّا الرفع. وليس للأحد معنى يقع في اليوم.
ثم قال سيبويه: وبعض يقول: لقد علمت أيّ يوم عقبتي، أنشده نصبا، وهذا البيت من الشعر، وقد خلط بالكلام في الكتاب.
والشاهد فيه نصب أيّ على الظرف. وعقبتي مبتدأ، وأيّ حين: خبره، كأنه قال: أيّ الأحيان اعتقابي، يريد ركوب عقبته. ورفعه جائز على ما قدّمته.
و «البسيطة»: الأرض المنبسطة الممتدة.
__________
بفتح الباء، وهي التي ذكرها الغندجاني واستشهد لها ببيت عدي الطائي =.
(1) فرحة الأديب ص 52.
(2) البيت لعدي بن عمرو الطائي في فرحة الأديب ص 52ومعجم البلدان (البسيطة).
وفي حاشية طبعة هارون 9/ 163: = ولعله في صفة الأتان والعير، أو النعامة والظليم =.
(3) قال أبو محمد الأعرابي في فرحة الأديب ص 52: = غلط ابن السيرافي هاهنا آنفا، لأنه لم يكن يعرف منازل العرب ومحالها، ومن فسّر أيضا مثل هذا الشعر ولم يتقن ثلاثة أنواع من العلم: النسب، وأيام العرب، ومحالها ومنازلها كثرت سقطاته =.
(4) زيادة يقتضيها السياق من النسخة الشنقيطية.(9/165)
«هيّبنيك صحبتي»: هيبوني من ركوبك والسّير فيك. و «الهجير»:
الهاجرة. وولّت النجوم: يعني النجوم التي كانت في أوّل الليل مرتفعة، «ولّت» انحطّت لتغيب.
يريد أنّ له عقبتين: عقبة باللّيل، وعقبة بالنهار. انتهى كلامه.
وذهب بالبسيطة إلى معناها اللغوي. وقد ردّه أبو محمد الأعرابي، وقال: إنّها علم لأرض بعينها، وعلمت بالبناء للمعلوم والتكلّم. والعقبة، بضم العين المهملة وسكون القاف، وهو مضاف إلى الياء.
قال صاحب العباب: العقبة بالضم: النّوبة بالنون. تقول: تمّت عقبتك، أي:
نوبتك.
ولم أقف عليه بأكثر من هذا، والله أعلم.
* * * وأنشد بعده، وهو الشاهد الثامن عشر بعد السبعمائة (1): (الكامل)
718 - غادرته جزر السّباع
وهو قطعة من بيت، وهو:
غادرته جزر السّباع ينشنه ... ما بين قلّة رأسه والمعصم
على أنّ «غادر» ملحق بصير في العمل، والمعنى، إذا كان ثاني المنصوبين معرفة كما في البيت.
والمشهور في روايته: «وتركته جزر السّباع».
__________
(1) البيت لعنترة العبسي في ديوانه ص 210وشرح شواهد المغني 1/ 480وشرح القصائد العشر للتبريزي ص 298وشرح المعلقات السبع للزوزني ص 250. وهو بلا نسبة في تخليص الشواهد ص 445وسر صناعة الإعراب 2/ 694.
وروايته في ديوانه:
وتركته جزر السباع ينشنه ... ما بين(9/166)
وذهب بعضهم إلى جعل الجملة حالا بعد المعرفة، وصفة بعد النكرة. قال القاضي في تفسير (1): «{سَمِعْنََا فَتًى يَذْكُرُهُمْ}»: صفة مصحّحة لأن يتعلّق به السمع، وهو أبلغ في نسبة الذّكر إليه.
ووجه كونه أبلغ إيقاع الفعل على المسموع منه، وجعله بمنزلة المسموع مبالغة في عدم الواسطة بينهما، ليفيد التركيب أنه سمعه منه بالذات. وضمير هو راجع إلى التعلّق.
وهذا معنى قوله في تفسير (2): «{سَمِعْنََا مُنََادِياً يُنََادِي لِلْإِيمََانِ}» حيث قال: أوقع الفعل على المسمع، وحذف المسموع، لدلالة وصفه عليه. وفيه مبالغة ليس في إيقاعه على نفس المسموع (3).
وقال الفاضل في «حواشي الكشاف»: في مثل هذا يجعل ما يسمع صفة للنّكرة، وحالا للمعرفة، فأغنى عن ذكر المسموع. لكن لا يخفى أنّه لا يصحّ إيقاع فعل السّماع على الرجل إلّا بإضمار أو مجاز، أي: سمعت كلامه.
وأنّ الأوفق بالمعنى فيما جعل وصفا أو حالا أن يجعل بدلا بتأويل الفعل، على ما يراه بعض النحاة، لكنه قليل في الاستعمال، فلذا آثر الوصفيّة والحاليّة. اه.
وإنما كان البدل أوفق، لأنّه يستغني عن التجوّز والإضمار، إذ هو حينئذ بدل اشتمال، ولا يلزم فيه قصد تعلّق الفعل بالمبدل منه حتّى يحتاج إلى إضمار أو تجوّز، كما في: سلب زيد ثوبه، إذ ليس زيد مسلوبا. ولم يؤوّله أحد، لأنه غير مقصود بالنسبة، بل توطئة لما بعده.
وإبدال الجملة من المفرد جائز، نحو (4): «{وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هََذََا إِلََّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ}».
وفي شرح المغني: المحقّقون على أنها متعدية إلى مفعول واحد، وأن الجملة الواقعة بعده حال.
__________
(1) سورة الأنبياء: 21/ 60.
(2) سورة آل عمران: 3/ 193.
(3) في النسخة الشنقيطية: = على النفس المسموع =. وهو تصحيف صوابه من طبعة بولاق.
(4) سورة الأنبياء: 21/ 3.(9/172)
وقال التفتازاني: أو بدل، أو بيان بتقدير المصدر. ويلزم عليه حذف أن ورفع الفعل، وجعله بمعنى المصدر بدون سابك، وليس مثله بمقيس. وهذا ليس بوارد لأنه إشارة إلى أنّ بدل الجملة من المفرد باعتبار محصّل المعنى، لأنّه سبك وتقدير.
بقي لسمع استعمالات غير ما تقدّم، وهي ثلاثة:
أحدها: أن تتعدّى إلى مسموع. وقد حقّق السّهيلي أنّ جميع الحواسّ الظاهرة لا تتعدّى إلّا إلى مفعول واحد، نحو: سمعت الخبر، وأبصرت الأثر، ومسست الحجر، وذقت العسل، وشممت الطّيب.
ثانيها: تعديتها بإلى أو اللام، وهي حينئذ بمعنى الإصغاء، والظاهر أنّه حقيقة لا تضمين، قال الزمخشري في تفسير قوله تعالى (1): «{لََا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلى ََ}».
فإن قلت: أيّ فرق بين سمعت فلانا يتحدّث، وسمعت إليه يتحدث، وسمعت حديثه، وإلى حديثه (2)؟ قلت: المعدّى بنفسه يفيد الإدراك، والمعدّى بإلى يفيد الإصغاء مع الإدراك.
قال الجوهريّ: استمعت له، أي: أصغيت، وتسمّعت إليه، وسمعت إليه، وسمعت له.
وأمّا قوله: سمع الله لمن حمده، فإنّه مجاز عن القبول.
ثالثها: تعديتها بالباء، وهو معروف في كلام العرب، ومعناه الإخبار ونقل ذلك إلى السامع. ويدخل حينئذ على غير المسموع، وليست الباء فيه زائدة، تقول:
ما سمعت بأفضل منه.
وفي المثل (3): «تسمع بالمعيديّ خير من أن تراه»، قابله بالرّؤية، لأنه بمعنى الإخبار عنه المتضمّن للغيبة.
__________
(1) سورة الصافات: 37/ 8.
(2) قوله: = وإلى حديثه =. ساقط من النسخة الشنقيطية. وهو في طبعة بولاق وتفسير الزمخشري 2/ 260.
(3) المثل في أمثال العرب ص 55وتمثال الأمثال 1/ 395وجمهرة الأمثال 1/ 266وجمهرة اللغة ص 665 وزهر الأكم 3/ 176والعقد الفريد 2/ 288، 3/ 93والفاخر ص 65وفصل المقال ص 135، 136 وكتاب الأمثال ص 97ولسان العرب (بين، دنا، معد) ومجمع الأمثال 1/ 129والوسيط في الأمثال ص 83.(9/173)
فقال [له] ذو الرمّة: يا أبا عمرو، أنت مفرد في علمك، وأنا في علمي وشعري ذو أشباه. اه.
وقال ابن عبد ربّه في «العقد الفريد»: ولما أنشد هذا الشعر بلالا، قال: يا غلام مر لصيدح بقتّ، وعلف، فإنّما هي انتجعتنا. وهذا من التعنّت الذي لا إنصاف معه، لأنه قوله: انتجعي إنما أراد نفسه. ومثله في كتاب الله تعالى (1):
«{وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنََّا فِيهََا وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنََا فِيهََا}»، وإنما أراد أهل القرية، وأهل العير.
وقوله: «إذا النكباء» إلخ، قال المبرد في «الكامل» (2): «النكباء»: الريح التي تأتي من بين ريحين، فتكون بين الشمال والصّبا، أو الشّمال والدّبور، أو الجنوب والدّبور، أو الجنوب والصّبا.
فإذا كانت النّكباء تناوح الشّمال فهي آية الشتاء. ومعنى تناوح تقابل، يقال:
تناوح الشجر، إذا قابل بعضه بعضا. وزعم الأصمعيّ أنّ النائحة بهذا سمّيت، لأنها تقابل صاحبتها. اه.
يريد ذو الرمّة أنّه يعطي في هذا الوقت الذي هو الجدب والقحط ويبس وجه الأرض.
وقوله: «ندى وتكرّما» تمييز لقوله: خير فتى. وحصّلت بمعنى ميّزت الشّريف من الوضيع.
و «المسافة»: الغاية. و «عال»: غلب. و «ذو الشبهات»: ما اشبته ولا يهتدى له.
وترجمة ذي الرمّة تقدّمت في الشاهد الثامن من أول الكتاب (3).
* * * __________
(1) سورة يوسف: 12/ 82.
(2) الكامل في اللغة 1/ 269.
(3) الخزانة الجزء الأول ص 119.(9/176)
وأنشد بعده، وهو الشاهد العشرون بعد السبعمائة (1): (المتقارب)
720 - إذا أقبلت قلت دبّاءة
على أنّ «دبّاءة» ليست وحدها محكيّة بالقول، بل هي خبر مبتدأ محذوف، أي: هي دبّاءة، والمجموع هو المحكيّ.
وهذا صدر، وعجزه:
* من الخضر مغموسة في الغدر *
والبيت من قصيدة لامرئ القيس في وصف فرس.
وقبله (2):
لها حافر مثل قعب الولي ... د ركّب فيه وظيف عجر (3)
لها ثنن كخوافي العقا ... ب سود يفين إذا تزبئر (4)
لها ذنب مثل ذيل العروس ... تسدّ به فرجها من دبر (5)
لها متنتان خظاتا كما ... أكبّ على ساعديه النّمر (6)
__________
(1) البيت لامرئ القيس في ديوانه ص 166والعمدة في محاسن الشعر 2/ 23والمعاني الكبير ص 60، 167.
وهو بلا نسبة في لسان العرب (دبي).
(2) الأبيات من قصيدة لامرئ القيس في ديوانه ص 166163.
(3) البيت لامرئ القيس في ديوانه ص 163وأساس البلاغة (قعب).
(4) البيت لامرئ القيس في ديوانه ص 163وأساس البلاغة (ثنن) وتاج العروس (زبر، ثنن) وتهذيب اللغة 15/ 65ولسان العرب (زبر، ثنن). وهو بلا نسبة في المخصص 6/ 151.
(5) البيت لامرئ القيس في ديوانه ص 164وتاج العروس (أمع) ولسان العرب (فرج، لون) ومجمل اللغة 4/ 96ومقاييس اللغة 4/ 499. وهو بلا نسبة في تهذيب اللغة 11/ 45.
(6) هو الإنشاد الثالث والعشرون بعد الثلاثمائة في شرح أبيات المغني للبغدادي.
والبيت لامرئ القيس في ديوانه ص 164والأشباه والنظائر 5/ 46وإنباه الرواة 1/ 180والحيوان 1/ 273 وسر صناعة الإعراب 2/ 484وشرح أبيات المغني للبغدادي 4/ 213وشرح اختيارات المفضل 2/ 923 وشرح شواهد الشافية ص 156ولسان العرب (متن، خظا). وهو بلا نسبة في رصف المباني ص 342وشرح الحماسة للمرزوقي ص 80وشرح شافية ابن الحاجب 2/ 230ولسان العرب (الألف) ومغني اللبيب 1/ 197والمقرب 2/ 187، 193والممتع في التصريف 2/ 526.(9/177)
وقوله: «لها ثنن» إلخ، هو جمع ثنّة بضم المثلثة وتشديد النون، وهي الشعرات التي في مؤخر رسغ الدابة. ويفين غير مهموز، أي: يكثرن. يقال: وفى شعره، إذا كثر. يقول: ليست بمنجردة لا شعر عليها. و «تزبئرّ»: تنتفش.
و «الخوافي»: ما دون الرّيشات العشر من مقدّم الجناح.
وقوله: «لها ذنب مثل ذيل» إلخ، دبر كلّ شيء: خلفه، وهو هنا حشو يغني عنه ذكر الفرج.
وقال الآمدي عند قول البحتري (1): (الكامل)
ذنب كما سحب الرّداء يذبّ عن ... عرف وعرف كالقناع المسبل (2)
هذا خطأ من الوصف، لأنّ ذنب الفرس إذا مسّ الأرض، كان عيبا، فكيف إذا سحبه. وإنما الممدوح من الأذناب ما قرب من الأرض، ولم يمسّها، كما قال امرؤ القيس (3): (الطويل)
كميت إذا استدبرته سدّ فرجه ... بضاف فويق الأرض ليس بأعزل
والأعزل من الخيل: الذي يقع ذنبه في جانب، وهو عادة لا خلقة، وقد عيب قول امرئ القيس:
لها ذنب مثل ذيل العروس ... البيت
وما أرى العيب يلحقه، لأنّ العروس، وإن كانت تسحب أذيالها، وكان ذنب الفرس، إذا مسّ الأرض عيبا، فليس بمنكر أن يشبّه به الذّنب، وإن لم يبلغ إلى أن يمسّ الأرض لأنّ الشيء إنّما يشبه الشيء إذا قاربه، فإذا أشبهه في أكثر أحواله، فقد صحّ التشبيه.
وامرؤ القيس لم يقصد أن يشبّه طول الذنب بطول ذيل العروس فقط، وإنّما أراد السّبوغ والكثرة والكثافة.
__________
(1) ديوان البحتري ص 1746والموازنة ص 186.
(2) في طبعة بولاق: = عن عوف =. وهو تصحيف صوابه من المصادر السابقة والنسخة الشنقيطية.
(3) البيت لامرئ القيس في ديوانه ص 23وأساس البلاغة (عزل) وتاج العروس (ضلع) وتهذيب اللغة 2/ 134ولسان العرب (عزل، ضفا). وهو بلا نسبة في تهذيب اللغة 12/ 72ولسان العرب (فرج).(9/179)
وقوله: «كما أكبّ على ساعديه النّمر»، أراد: كأنّ فوق متنها نمرا باركا، لكثرة لحم المتن. اه.
ولا يخفى أنّ هذا لا وجه له، والصّواب ما قاله ثعلب، أي: في صلابة ساعد النّمر، إذا اعتمد على يده.
وقوله: «لها كفل» إلخ، «الصّفاة»، بالفتح: الصّخرة الملساء.
و «المسيل»: مجرى السيل، شبّه كفلها في ملاسته بصفاة في مسيل أبرزها السّيل، وكشف ما كان عليها من التّراب.
و «الجحاف»، بضم الجيم بعدها مهملة: السّيل الشديد. و «المضر»:
الذي يضرّ بكلّ شيء يمرّ عليه، أي: يهدمه، ويقلعه.
وقوله: «لها منخر كوجار» إلخ، «الوجار» بفتح الواو وكسرها بعدها جيم: جحر الضبّ، شبّه [به (1)] منخرها لسعته.
و «تريح»: تستنشق الرّيح تارة وترسلها، من أراح. و «البهر»، بالضم:
ضيق النّفس عند الجري والتّعب.
وقوله: «وعين لها حدرة» إلخ، بفتح الحاء وسكون الدال المهملتين، في الصحاح: و «عين حدرة»، أي: مكتنزة صلبة. و «عين بدرة»، أي: تبدر بالنّظر، ويقال: تامّة كالبدر.
و «أخر»، بضمتين، في الصحاح: وشقّ ثوبه أخرا، ومن أخر، أي: من مؤخّره (2). وأنشد البيت.
وقوله: «إذا أقبلت قلت دبّاءة» هي بضم الدال وتشديد الموحّدة بعدها ألف ممدودة.
قال أبو حنيفة في «كتاب النبات»: الدّبّاء: القرع، واحده دبّاءة وقرعة.
وأنشد البيت، ثم قال: وإنّما شبّهها بالدّبّاءة لدقّة مقدّمها، وفعامة مؤخّرها.
وقيل كذلك خلق الإناث من الخيل. وهذا في الإناث والذكور سواء، يستحبّ
__________
(1) زيادة يقتضيها السياق من النسخة الشنقيطية.
(2) في شرح ديوان امرئ القيس ص 166: = وقوله: من أخر: أي من مآخير العين =.(9/181)
إذا أقبلت قلت دبّاءة ... الأبيات الثلاثة
ولو لم يكن إلّا بنسق هذا الكلام بعضه على بعض، وانقطاع ذلك بعضه من بعض. اه.
وتقدّمت ترجمة امرئ القيس في الشاهد التاسع والأربعين من أوّل الكتاب (1).
* * * وأنشد بعده، وهو الشاهد الحادي والعشرون بعد السبعمائة (2): (مجزوء الوافر)
721 - تنادوا بالرّحيل غدا
وفي ترحالهم نفسي
على أنّ جملة «الرّحيل غدا» من المبتدأ والخبر محكيّة بقول محذوف عند البصريين، والتقدير: تنادوا بقولهم: الرّحيل غدا. وعند الكوفيّين محكيّة بتنادوا، فإنه يجوز عندهم الحكاية بما في معنى القول فإنّ تنادوا معناه نادى كلّ منهم الآخر، ورفع صوته بهذا اللفظ، وهو الرّحيل غدا.
وهذا البيت أنشده ابن جنّي في «سرّ الصناعة»، وقال: أجاز أبو علي في الرحيل ثلاثة أوجه: الجرّ، والرفع والنّصب على الحكاية. فكأنّهم قالوا: الرّحيل غدا، أو نرحل الرحيل غدا، أو نجعل الرّحيل (3) غدا، أو أجمعوا الرّحيل غدا.
فحكى المرفوع والمنصوب. اه.
ونقله القاسم بن علي الحريريّ في «درّة الغواص» عن ابن جنّي، ولم يزده شيئا (4).
__________
(1) الخزانة الجزء الأول ص 321.
(2) البيت بلا نسبة في الأشباه والنظائر 8/ 126ودرة الغواص ص 239وسر صناعة الإعراب ص 232 والمحتسب 2/ 235والمقرب 1/ 293.
(3) في طبعة بولاق والنسخة الشنقيطية: = ترحل الرحيل غدا، أو تجعل الرحيل غدا =. بالتاء في الفعلين المضارعين. وهو التصحيف صوابهما بالنون نقلا عن كتاب سر صناعة الإعراب لابن جني.
(4) في طبعة بولاق: = ولم تزده شيئا =. وهو تصحيف صوابه من النسخة الشنقيطية.(9/184)
والتّرحال: مصدر جاء على التّفعال بالفتح، بمعنى الترحّل. والنّفس بسكون الفاء.
ولم أقف على هذا البيت بأكثر من هذا. والله أعلم.
ومثله ما أنشده الزمخشري في «الكشاف»، قول الشاعر (1): (الرجز)
رجلان من ضبّة أخبرانا ... إنّا رأينا رجلا عريانا
قال: إنّا بالكسر بتقدير القول عندنا، وعندهم يتعلّق بفعل الإخبار (2).
* * * وأنشد بعده (3): (الرجز)
* جاؤوا بمذق هل رأيت الذّئب قط *
على أنّ جملة: «هل رأيت الذئب قط» محكيّة بقول محذوف، تقديره بمذق مقول فيه: هل رأيت إلخ.
__________
(1) هو الإنشاد الواحد والخمسون بعد الستمائة في شرح أبيات المغني للبغدادي.
والرجز بلا نسبة في الخصائص 2/ 338وشرح أبيات المغني للبغدادي 6/ 258وشرح شواهد المغني 2/ 832 والمحتسب 1/ 109، 250ومغني اللبيب 2/ 413.
(2) في شرح أبيات المغني للبغدادي 6/ 258: = روي بكسر همزة إنا لأنه محكي بقول محذوف تقديره:
وقالا: إنا رأينا =.
(3) هو الإنشاد الثالث بعد الأربعمائة في شرح أبيات المغني للبغدادي.
والرجز للعجاج في ملحق ديوانه 2/ 304وتاج العروس (خضر) والدرر 6/ 10وشرح التصريح 2/ 112والمقاصد النحوية 4/ 61. وهو بلا نسبة في أساس البلاغة (ضيح) والإنصاف 1/ 115وأوضح المسالك 3/ 310وتاج العروس (مذق) وشرح الأشموني 2/ 499وشرح أبيات المغني 5/ 5وشرح ابن عقيل ص 477وشرح عمدة الحافظ ص 541وشرح المفصل 3/ 52، 53ولسان العرب (خضر، مذق) والمحتسب 2/ 165والمخصص 13/ 177ومغني اللبيب 1/ 246، 2/ 585وهمع الهوامع 2/ 117.(9/185)
وقد تقدّم شرحه في الشاهد السادس والتسعين من أوائل الكتاب (1).
* * * وأنشد بعده، وهو الشاهد الثاني والعشرون بعد السبعمائة، وهو من شواهد س (2): (الوافر)
722 - أجهّالا تقول بني لؤيّ
لعمر أبيك أم متجاهلينا
على أنّه فصل بالمفعول الثاني بين الهمزة، وبين «تقول».
قال سيبويه: واعلم أنّ قلت، إنّما وقعت في كلام العرب على أن يحكى بها، وإنّما يحكى بعد القول ما كان كلاما لا قولا، نحو: قلت زيد منطلق، لأنّه يحسن أن تقول: زيد منطلق، وتقول: قال زيد إنّ عمرا خير الناس.
وكذلك ما تصرّف من فعله، إلّا تقول في الاستفهام شبّهوها بتظنّ، ولم يجعلوها كيظنّ وأظنّ في الاستفهام، لأنه لا يكاد يستفهم [المخاطب (3)] عن ظنّ غيره، ولا يستفهم هو إلّا عن ظنّه.
فإنّما جعلت كتظنّ كما أنّ «ما» كليس في لغة أهل الحجاز، ما دامت في معناها، فإذا تغيّرت عن ذلك، أو قدّم الخبر رجعت إلى القياس، وصارت اللّغات فيها كلغة بني تميم. ولم تجعل قلت كظننت، لأنّها إنّما أصلها عندهم أن يكون ما بعدها محكيّا، فلم تدخل في باب ظننت بأكثر من هذا. وذلك قولك: متى تقول
__________
(1) الخزانة الجزء الثاني ص 95.
(2) البيت للكميت بن زيد في الدرر 2/ 276وشرح أبيات سيبويه 1/ 132وشرح التصريح 1/ 263 وشرح المفصل 7/ 78، 79والكتاب 1/ 123والمقاصد النحوية 2/ 429وليس في ديوانه. وهو بلا نسبة في أمالي المرتضى 1/ 363وأوضح المسالك 2/ 78وتخليص الشواهد ص 457وشرح الأشموني 1/ 164وشرح شذور الذهب ص 490وشرح ابن عقيل ص 228والمقتضب 2/ 349وهمع الهوامع 1/ 157.
(3) زيادة يقتضيها السياق من الكتاب لسيبويه.(9/186)
زيدا منطلقا، وأتقول (1) عمرا ذاهبا، وأكلّ يوم تقول عمرا منطلقا، لا تفصل بها كما لم تفصل في أكلّ يوم زيدا تضربه.
وتقول: أأنت تقول زيد منطلق، رفعت لأنّه فصل بينه وبين حرف الاستفهام، كما فصل في قولك: أأنت زيدا مررت (2) به، فصارت بمنزلة أخواتها، وصارت على الأصل، كما قال الكميت:
أجهّالا تقول بني لؤيّ ... البيت
وقال عمر بن أبي ربيعة (3): (الكامل)
أمّا الرّحيل فدون بعد غد ... فمتى تقول الدّار تجمعنا
وإن شئت رفعت بما نصبت، فجعلته حكاية. وزعم أبو الخطّاب وسألته عنه غير مرّة. أنّ ناسا يوثق بعربيّتهم، وهم بنو سليم، يجعلون باب قلت أجمع مثل ظننت. انتهى كلام سيبويه.
قال الأعلم: الشاهد فيه على أنه أعمل تقول عمل تظنّ لأنها بمعناها، ولم يرد قول اللّسان، وإنّما أراد الاعتقاد بالقلب.
والتقدير: أتقول بني لؤي جهّالا، أي: أتظنّهم كذلك، وتعتقده فيهم؟
فبني لؤيّ المفعول الأوّل، ومتجاهلينا المفعول الثاني. وأراد ببني لؤيّ جمهور قريش كلّها.
وهذا البيت من قصيدة يفخر فيها على اليمن، ويذكر فضل مضر عليهم، فيقول: أتظنّ قريشا جاهلين، أو متجاهلين حين استعملوا اليمانيّين في ولاياتهم، وآثروهم على المضريّين، مع فضلهم عليهم. والمتجاهل: الذي يستعمل الجهل، وإن
__________
(1) في النسخة الشنقيطية: = وأقول =. وهو تصحيف صوابه من طبعة بولاق.
(2) في الكتاب لسيبويه: = أأنت زيد مررت به = برفع = زيد =. وهي وجهان جائزان. والمرجح عند الفصل هو الرفع.
(3) البيت لعمر بن أبي ربيعة في ديوانه ص 402وشرح أبيات سيبويه 1/ 179وشرح المفصل 7/ 78، 80 والكتاب 1/ 124ولسان العرب (قول) والمقاصد النحوية 2/ 434. وهو بلا نسبة في أوضح المسالك 2/ 74 وتخليص الشواهد ص 457ورصف المباني ص 89وشرح التصريح 1/ 262ولسان العرب (رحل، زعم) والمقتضب 2/ 349.(9/187)
لم يكن من أهله. اه.
وقال ابن المستوفي: أنشده سيبويه للكميت، ولم أره في ديوانه. والذي في ديوان شعره: (الوافر)
أنوّاما تقول بني لؤيّ ... لعمر أبيك أم متناومينا
عن الرّامي الكنانة لم يردها ... ولكن كاد غير مكايدينا
يقول: أتظنّ أنّ قريشا تغفل عن هجاء شعراء نزار، لأنّهم إن هجوا مضر والقبائل التي منها هؤلاء الشعراء، فقد تعرّضوا لسبّ قريش، فهم (1) بمنزلة من رمى رجلا، فقيل: لم رميته؟
فقال: إنّما رميت كنانته، ولم أرمه، وكان غرضه أن يصيب الرّجل. فيقول:
من هجا بني كنانة وبني أسد، ومن قرب نسبه من قريش، فقد تعرّض لسبّ قريش.
يحرّض الخلفاء عليهم والسّلطان. اه.
وقول سيبويه: وإن شئت رفعت بما نصبت فجعلته حكاية، قال المازني: غلط سيبويه فيه، لأنّ الرفع بالحكاية، والنّصب بإعمال الفعل.
وأجيب بأنّ مراده: وإن شئت رفعت في الموضع الذي نصبت، أو أنّ الباء زائدة في المفعول.
وأقول: هذه القصيدة تقدّم أبيات منها في عدّة مواضع، وأوّل ما مرّ في الشاهد السادس عشر من أوائل الكتاب مع ترجمة الكميت (2) وتقدّم هناك سبب نظمها.
وهجا فيها الأعور الكلبيّ، فإنه هجا مضر، ومدح أهل اليمن.
وتقدّم بيت منها في الشاهد الرابع والعشرين (3).
وقوله: «لعمر أبيك» مبتدأ مضاف، وخبره محذوف، أي: قسمي، وجواب القسم محذوف أيضا، والتقدير: أجهّالا تقول بني لؤي، أو متجاهلين، لعمر أبيك لتخبرنّي.
__________
(1) في طبعة بولاق: = فيهم =. وهو تصحيف صوابه من النسخة الشنقيطية.
(2) الخزانة الجزء الأول ص 149.
(3) الخزانة الجزء الأول ص 184.(9/188)
إلّا أنه قدم القسم، واعترض به بين الفعل ومفعوله، وحذف الجواب لدلالة الاستفهام عليه، إذ معلوم أنّ المستفهم يطلب من المستفهم منه أن يخبره عمّا استفهمه [عنه (1)].
* * * __________
(1) زيادة يقتضيها السياق من النسخة الشنقيطية.(9/189)
و «لا محالة»، بفتح الميم: لا تغيير ولا تبديل، وأنّي بفتح الهمزة. و «أيقنت» جواب لمّا في البيت قبله، وهو (1):
في الذّاهبين الأوّلي ... ن من القرون لنا بصائر
لمّا رأيت مواردا ... للموت ليس لها مصادر
ورأيت قومي نحوها ... يمضي الأصاغر والأكابر
لا يرجع الماضي إل ... يّ ولا من الباقين غابر
أيقنت أنّي ... البيت
و «القرون»: جمع قرن بالفتح، قال الزجاج: هو أهل كلّ مدّة كان فيها نبيّ أو طبقة من أهل العلم، سواء قلّت السّنون، أو كثرت. و «الموارد»: جمع مورد، وهو محلّ الورود، أي: الإتيان.
و «المصادر»: جمع مصدر، وهو موضع الصّدور، أي: الانصراف والرّجوع.
و «غابر»، بالمعجمة: اسم فاعل من غبر، بمعنى مكث وبقي، وبمعنى مضى، أيضا فهو ضدّ.
وهذه الأبيات لقسّ بن ساعدة. روى أهل السّير والأخبار، بسند متّصل إلى ابن عبّاس، أنه قال: قدم وفد إياد على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقال: أيّكم يعرف القسّ بن ساعدة الإياديّ؟ قالوا: كلّنا نعرفه يا رسول الله. قال: فما فعل؟
قالوا: هلك.
قال: ما أنساه بعكاظ على جمل أحمر، وهو يقول: أيّها الناس، اجتمعوا واسمعوا وعوا. من عاش مات، ومن مات فات، وكلّ ما هو آت آت. إنّ في السماء لخبرا، وإنّ في الأرض لعبرا. مهاد موضوع، وسقف مرفوع، ونجوم تمور، وبحار لا تغور. أقسم قسّ قسما حتما، لئن كان في الأمر رضا ليكوننّ سخطا. إنّ لله لدينا هو أحبّ إليّ من دينكم الذي أنتم عليه. ما لي أرى الناس يذهبون، ولا يرجعون أرضوا بالمقام، فأقاموا، أم تركوا فناموا!
__________
(1) الأبيات لقس بن ساعدة في الأغاني 15/ 247عدا الرابع والأوائل 1/ 85والبيان والتبيين 1/ 309 وحماسة البحتري ص 378والحماسة البصرية 2/ 406والحماسة المغربية ص 1401والعقد الفريد 4/ 128 ولسان العرب (محل) ومعجم الشعراء ص 338والمعمرين ص 89ومجمع الأمثال 1/ 152.(9/192)
والبيت من القصيدة المشهورة بلاميّة العرب، للشّنفرى، وقد تقدّم شرح أبيات من أوّلها مع ترجمته في باب الاستثناء، وفي باب الجمع.
وقبله (1):
أديم مطال الجوع حتّى أميته ... وأضرب عنه الذّكر صفحا فأذهل
وأستفّ ترب الأرض كي لا يرى له ... عليّ من الطّول امرؤ متطوّل
ولولا اجتناب الذّام لم يلف مشرب ... يعاش به إلّا لديّ ومأكل
ولكنّ نفسا مرّة لا تقيم بي ... على الذّام إلّا ريثما أتحوّل
وأطوي على الخمص الحوايا كما انطوت ... خيوطة ماريّ تغار وتفتل
وأغدو على القوت الزّهيد كما غدا ... أزلّ تهاداه التّنائف أطحل
غدا طاويا ... البيت
قوله: «أديم مطال الجوع» إلخ، «المطال»: مصدر ماطله بمعنى مطله يمطله مطلا، من باب قتل، إذا سوّفه بوعد الوفاء مرّة بعد مرّة. وضرب عن كذا، وأضرب عنه أيضا: أعرض عنه تركا، أو إهمالا. وصفحت عن الأمر: أعرضت عنه وتركته.
وذهل عن الشيء يذهل، بفتحتين، ذهولا بمعنى غفل، وقد يتعدّى بنفسه فيقال: ذهلته، والأكثر أن يتعدّى بالألف، فيقال: أذهلني فلان عن الشيء.
وقال الزمخشري: ذهل عن الأمر: تناساه عمدا وشغل عنه. وفي لغة: ذهل يذهل من باب تعب. وجملة: «أديم» مستأنفة، و «حتّى» بمعنى «إلى» متعلقة بأديم. وأضرب معطوفة على أديم، وأذهل معطوف على أضرب لا على أديم، لأنّ الفاء للترتيب والتعقيب. والذّكر مفعول أضرب وصفحا تمييز، أو مصدر في موضع الحال، أي: معرضا.
يقول: أقوى على ردّ نفسي، عمّا تهوى، وأغلبها، وأذهل عن الجوع حتّى أنساه.
__________
(1) الأبيات للشنفرى في ديوانه ص 6362وشرح لامية العرب للعكبري ص 3531ونوادر القالي ص 204وبعضها في الأشباه والنظائر 2/ 16والصناعتين ص 62ومجموعة المعاني ص 136.(9/194)
وقوله: «وأستفّ ترب» إلخ، يقال: سففت الدواء وغيره من كلّ شيء يابس أسفّه، من باب تعب، سفّا، هو أكله غير ملتوت. وهو سفوف مثل رسول.
واستففت الدواء مثل سففته. والطّول: مصدر طال على القوم يطول من باب قال، إذا أفضل عليهم. وتطوّل: تفضّل.
و «كي» إمّا بمعنى اللام حرف جر وأن مضمرة، أو بمعنى أن واللام مقدرة.
وفاعل يرى امرؤ، وله متعلقة بيرى، ومفعول يرى محذوف، أي: شيئا، ومن الطّول بيان له، وقيل نعت له.
وعند الأخفش المفعول هو الطّول، ومن زائدة، وعليّ متعلق بيرى. ولا يجوز أن يتعلّق بالطّول، لأنّ المصدر لا يتقدّم معموله عليه. ويجوز عند الشارح المحقق تعلّقه به لأنّه ظرف.
وقوله: «ولولا اجتناب الذّام» إلخ، «الذّام»: العيب، يهمز ولا يهمز.
و «يلف»: يوجد، يتعدّى إلى مفعولين أصلهما المبتدأ والخبر. و «مشرب» نائب الفاعل، وهو المفعول الأوّل في الأصل، ويعاش به صفته.
و «لديّ» ظرف بمعنى عندي، وهو متعلق بمحذوف على أنّه المفعول الثاني ووقع الحصر فيه. و «مأكل» معطوف على مشرب، أي: لم يوجد مشرب يعاش به، ومأكل كذلك إلّا حاصلين لديّ.
وأخطأ معرب هذه القصيدة (1) في قوله: «ويعاش به» نعت لمشرب، والتقدير:
إلّا هو لديّ، محذوف المبتدأ للعلم به، ولديّ خبره، ومأكل معطوف على هو.
اه.
__________
(1) أراد به العكبري صاحب شرح لامية العرب ففي شرح لامية العرب ص 34: = ويعاش به: نعت ل مشرب. والتقدير: إلا هو لدي، فحذف المبتدأ للعلم به ولدي: خبره. ومأكل: معطوف على هو =. ولم يتيسر لمحقق طبعة هارون معرفة ذلك.
وفي حاشية شرح لامية العرب ص 34يعلق المرحوم د. محمد خير حلواني المحقق على قول الشارح: = نعت لمشرب =. بقوله: = لا يريد تقدير النعت الذي ذكره، بل تقدير المعنى الذي في لدي وهذا من أسلوبه =.
وفي إعراب مأكل معطوف على هو.
يقول المحقق في الحاشية: = تقديره: لم يلف مشرب إلا هو ومأكل لدي. وعطف النكرة على المعرفة جائز =.
فلعل البغدادي سهى عن ذلك، والله أعلم.(9/195)
وخطؤه من وجهين ظاهرين للمتأمّل.
وقوله: «ولكنّ نفسا» إلخ، «لكنّ» هنا للتأكيد (1)، فإنّ ما بعدها مؤكّد لما قبلها من الصّفات، وخبرها محذوف تقديره لي. ومرّة صفة نفس بمعنى أبيّة كالمرّة، في أنّ كلّا منهما ممتنع على متناوله. وروى: «حرّة» بدل مرّة. وجملة:
«لا تقيم بي» صفة ثانية لنفس، أو استئنافيّة جواب سؤال مقدّر.
وزعم معرب هذه القصيدة أنّ الجملة خبر لكنّ. و «تقيم»، من الإقامة في المكان وهو اللّبث فيه، والباء في «بي» للمصاحبة على أنّها في موضع الحال. وقال معرب هذه القصيدة: بي متعلّق بتقيم، والمعنى تقيمني فهو مفعول به. اه.
وهذا لا وجه له. وعلى متعلّقة بتقيم. والاستعلاء هنا معنويّ، نحو (2): «{لَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ}»، ويجوز أن تكون للمصاحبة. وريث في الأصل مصدر راث، أي:
أبطأ، استعمل هنا للظرف الزّمانيّ، أي: إلّا بمقدار تحوّلي. فما مصدرية، وقيل:
ما زائدة. وقيل: كافّة. وقيل: نصب ريث على الحال.
وقوله: «وأطوي على الخمص» إلخ، «الخمص»، بالضم: مصدر خمص الرجل خمصا فهو خميص، إذا جاع، مثل قرب قربا فهو قريب. كذا في المصباح.
وقيل: الخمص بالضم: الضمر، وبالفتح: الجوع. وعلى هنا للمصاحبة، متعلق بأطوي. والحوايا مفعول أطوي، جمع حويّة، وهي فعيلة بمعنى مفعولة، وهي الأمعاء في الجوف. والخيوطة: جمع خيط، والتاء لكثرة الجمع، نحو: حجار وحجارة.
وقال التبريزي: أتى بالهاء للتأنيث إذ كان بمعنى الجماعة. و «الماريّ»:
الفتّال، وهو الذي يفتل الحبال.
و «تغار»: يحكم فتلها. يقال: أغار الفتل، أي: أبرمه وأحكمه. ومراده تفتل وتغار. ولا يضرّ التأخير، فإنّ الواو لا تدلّ على الترتيب.
__________
(1) في شرح لامية العرب للعكبري ص 34: = ولكن: استدراك، معناه: زيادة صفة على الصفات المتقدمة =.
(2) سورة الشعراء: 26/ 14.(9/196)
وقوله: «كما انطوت» الكاف نعت لمصدر محذوف، وما مصدرية. ومصدر انطوت الانطواء، وليس بمصدر أطوي، وإنما المعنى أطوي الحوايا، فتنطوي كانطواء خيوط الفتّال.
وقوله: «وأغدو على القوت» إلخ. غدا غدوّا من باب قعد: ذهب غدوة، وهي ما بين صلاة الصبح وطلوع الشمس، هذا أصله ثم كثر حتّى استعمل في الذّهاب أيّ وقت كان. كذا في المصباح.
والغداة والغدوة واحد، كما في القاموس. وعلى هنا للتعليل بمعنى اللام، كقوله تعالى (1): «{وَلِتُكَبِّرُوا اللََّهَ عَلى ََ مََا هَدََاكُمْ}». و «الزهيد»: القليل الذي يزهد فيه. والكاف نعت لمصدر محذوف، أي: غدوّا كغدوّ الأزلّ، والأزلّ:
الذّئب الأرسح، بالمهملات، أي: القليل لحم الفخذين. والأزلّ لا ينصرف للوصف ووزن الفعل، وكذلك أطحل. والذئب الأزلّ: الخفيف الوركين، وهذه صفة لازمة له.
قال التبريزي: الأزلّ: الأرسح، وبه يوصف الذئب.
ومن أمثالهم:
* لا أنس في الذّئب الأزلّ الجائع *
وقال بعضهم: قلت لأعرابيّ: ما الأرسح؟ فقال: الذي لا است له. ووصف رجل فارسا، فقال: قاتله الله، أقبل بزبرة الأسد، وأدبر بعجز ذئب.
وذلك أنه يحمد من الفارس أن يكون أشعر الصّدر، وأن يكون ممسوح الاست كالذئب.
و «التنائف»: جمع تنوفة، وهي الفلاة. ومعنى تهاداه: تتّخذه هديّة، كلّما خرج من تنوفة ودخل في أخرى. وهو مضارع محذوف من أوله التاء، وأصله تتهاداه. ويجوز أن يكون ماضيا، وإنما لم يقل تهادته (2) بالتأنيث لأنّ التنائف مؤنّث مجازيّ، وجملة: «تهاداه» صفة أزلّ، وكذلك أطحل. وذئب أطحل، وشاة
__________
(1) سورة البقرة: 2/ 185.
(2) في طبعة بولاق: = تهاديه =. وهو تصحيف صوابه من النسخة الشنقيطية.(9/197)
طحلاء. والطّحلة بالضم: لون بين الغبرة والسّواد ببياض قليل. وقال التبريزي:
الأطحل: الذي لونه لون الطّحال.
وقوله: «غدا طاويا» إلخ، «غدا»: يحتمل أن يكون بمعنى ذهب غدوة، ويحتمل أن يكون بمعنى دخل في الغدوة، ويحتمل أن يكون بمعنى ذهب أيّ وقت كان مجازا، من باب استعمال المقيّد في المطلق. فغدا على هذه الوجوه تكون تامّة، وطاويا يكون حالا من ضمير غدا الراجع إلى أزلّ.
ويحتمل أن يكون بمعنى يكون في الغدوة، فيكون غدا من الإفعال الناقصة، وطاويا يكون خبرها، وغدا مع فاعلها المستتر استئنافية منقطعة عمّا قبلها، ويجوز أن تكون الجملة صفة أخرى لأزلّ، أو حالا منه بتقدير قد. وطاويا يحتمل أن يكون من طوى المتعدية المتقدمة، أي: طاويا أحشاءه على الجوع، فالمفعول محذوف بقرينة ما قبله، يقال: طوى الشيء طيّا فهو طاو.
ويحتمل أن يكون من طوي يطوى طوى من باب فرح، أي: جاع، فهو طاو وطو وطيّان، والأنثى طيّا وطاوية.
وبهذا يضمحل قول المعرب: وليس من قولك طوي يطوى، إذا جاع، لأنّ الاسم منه طو، مثل عم وشج، مع أنه قال قبل هذا: وطاويا يجوز أن يكون من طوى المتعدّية. فنقض بكلامه الأخير ما قدّمه.
وقال التبريزي: يقول غدا طاويا، وطواه من الجوع، كأنّه طوى أمعاءه عليه، يقال: رجل طاو وطيّان، والأنثى طاوية وطيّا (1)، والمصدر الطّوى، وهو خمص البطن من أيّ شيء كان.
هذا كلامه، ولا يخفى أنّه تخليط بين المعنيين.
«ويعارض الريح»، أي: يستقبلها في عرضها، ويصادمها ومنه المعارضة بمعنى المخالفة.
و «هافيا» يحتمل أن يكون من هفا الطائر بجناحه يهفو، أي: خفق وطار.
ويحتمل أن يكون من هفا الظبي يهفو، إذا اشتدّ عدوه، ومصدره الهفوّ على فعول.
__________
(1) في طبعة بولاق: = وطياء =. في هذا الموضع، والموضع الذي يليه وهو تصحيف صوابه من النسخة الشنقيطية.(9/198)
ولا جبّا أكهى مربّ بعرسه ... يطالعها في شأنه كيف يفعل (1)
ولا خرق هيق كأنّ فؤاده ... يظلّ به المكّاء يعلو ويسفل
ولا خالف داريّة متغزّل ... يروح ويغدو داهنا يتكحّل
قوله: «ولست بمهياف» إلخ. قال التبريزي: المهياف الذي يبعد بإبله طلب الرّعي على غير علم، فيعطشها ويسيء بها.
وفي «العباب»: قال الأصمعيّ: رجل مهياف: سريع العطش. وأنشد هذا البيت.
«وفيه أيضا»: وقال الليث: المهياف الذي قد هافت إبله. ويعشّي سوامه:
يطعهما عشاءها، والعشاء: الطّعام بعينه، وهو خلاف الغداء وكلاهما بالفتح والمد. والسّوام: المال الراعي، اسم جمع لسائمة.
ومجدّعة بالجيم والدال المهملة: اسم مفعول من جدّعت الصبيّ تجديعا، إذا أسأت غذاءه. ويقال: جدعته بالتخفيف من باب منع. وفيه لغة أخرى أجدعت الصبيّ إجداعا. وجدع الصبيّ من باب فرح، إذا ساء غذاؤه. وقيل المجدّعة هنا:
المقطّعة أطراف الآذان ليصرف عنها العين.
وقال التبريزي: والمجدّع: السيّئ الغذاء، والأصل فيه، أن يطرح الراعي ولد الناقة على الضّرع، لتدرّ الناقة، فإذا مصّ شيئا، واجتمع اللبن، نحّاه، وحلب اللبن.
والسّقبان، بالكسر: جمع سقب بالفتح. في الصحاح: السّقب: الذكر من ولد الناقة، ولا يقال للأنثى سقبة، ولكن حائل (2). والضمير المؤنث يرجع إلى السّوام.
قال التبريزي: وروى ثعلب: «سقباتها» بجمع المؤنث السالم. والمحفوظ الأوّل.
__________
(1) البيت للشنفرى في ديوانه ص 61والأشباه والنظائر 2/ 17وتاج العروس (كهي) وتهذيب اللغة 6/ 346وذيل أمالي القالي ص 204وشرح لامية العرب ص 27.
(2) كذا في جميع طبعات الخزانة. وفي اللسان (سقب): = السقب: ولد الناقة وجمع السّقب أسقب، وسقوب، وسقاب وسقبات والأنثى سقبة، وأمها مسقب ومسقاب =.(9/202)
و «بهّل»: جمع باهل. في العباب: وناقة باهل: لا صرار عليها. وأنشد هذا البيت. وقال التبريزي: البهّل: جمع باهلة وباهل، وهي المخلّاة لا يتعهّدها راعيها.
ويقال: بهل الرجل، إذا مضى لا قيّم عليه. وأبهلته، إذا تركته مخلّى. والباهلة أيضا: التي لا صرار عليها، لترضعها أولادها فتكون أسمن وأحسن.
والباء في قوله: «بمهياف» زائدة في خبر ليس. ويعشّي صفة له، وسوامه مفعول يعشّي، ومجدّعة: حال سببيّة لسوامه. وسقبانها نائب فاعل مجدّعة، وجملة:
«وهي بهّل» حال من سوامه.
وصف السّنفرى نفسه بالجلادة، وحسن التعهّد لماله، وجودة القيام عليه.
وقوله: «ولا جبّإ أكهى» إلخ، «الجبّأ»، بضم الجيم وفتح الموحدة المشددة بعدها همزة، على وزن سكّر: هو الجبان، والخائف.
والأكهى بالقصر، قال التبريزي: هو الكدر الأخلاق الذي لا خير فيه. وقال ثعلب: هو البليد، مثل الكهام. والمربّ: اسم فاعل من أربّ بالمكان، أي: لزمه، وأقام فيه، والعرس، بالكسر: الزّوجة.
يقول: لست أسيء الرّعية، ولا أجبن، ولا أقيم مع النساء وأشاورهنّ في أموري. وجبّإ بالجر معطوف على مهياف، ولو عطف بالنصب على موضعه لجاز.
وأكهى ومربّ وصفان لجبّإ.
قال المعرب: الباء في بعرسه بمعنى في، أي: مقيم في بيت عرسه. ويجوز أن تكون بمعنى على، أي: مقيم على عرسه. وجملة: «يطالعها» حال من الضمير في مربّ، وفي شأنه متعلّق بيطالعها.
وقوله: «ولا خرق هيق» إلخ، هذا أيضا بالجر معطوف على مهياف.
و «الخرق» بفتح المعجمة وكسر المهملة بعدها قاف، قال الزمخشري: هو المدهوش من الخوف. و «الهيق»، بفتح الهاء وسكون المثناة التحتية، هو الظّليم، أي: النعام في نفاره عند حدوث مروّع. و «المكّاء»، بالضم والتشديد والمد: طائر، أي:
كأنّ فؤاده على جناح طائر. وهذا تحقيق لجبنه وتحيّره.
وقوله: «ولا خالف داريّة»، هذا أيضا بالجرّ للعطف على مهياف. والخالف، بالخاء المعجمة: من لا خير فيه. وداريّة بالجر صفة لخالف، وهو المقيم في داره لا
يفارقه. والتاء زائدة للمبالغة. والداريّ أيضا: العطّار، منسوب إلى دارين: فرضة بالبحرين، فيها سوق كان يحمل إليها مسك من ناحية الهند.(9/203)
وقوله: «ولا خالف داريّة»، هذا أيضا بالجرّ للعطف على مهياف. والخالف، بالخاء المعجمة: من لا خير فيه. وداريّة بالجر صفة لخالف، وهو المقيم في داره لا
يفارقه. والتاء زائدة للمبالغة. والداريّ أيضا: العطّار، منسوب إلى دارين: فرضة بالبحرين، فيها سوق كان يحمل إليها مسك من ناحية الهند.
قال الزمخشري: ويحتملهما كلامه، لأنّ العطّار يكتسب من ريح عطره فيصير بمنزلة المتعطّر، فالمعنى لست ممّن يتشاغل بتطييب بدنه وثوبه، أو يلازم زوجته فيكتسب من طيبها. والمتغزّل: الذي يغازل النّساء.
في الصحاح: مغازلة النساء: محادثتهنّ ومراودتهنّ. تقول: غازلتها وغازلتني، والاسم الغزل. وتغزّل، أي: تكلّف الغزل. وجملة: «يروح» صفة متغزّل أو حال من ضميره.
* * * وأنشد بعده، وهو الشاهد السابع والعشرون بعد السبعمائة (1): (الطويل)
727 - بتيهاء قفر والمطيّ كأنّها
قطا الحزن قد كانت فراخا بيوضها
على أنّ «كان» فيه بمعنى صار.
و «التّيهاء»: المفازة التي لا يهتدى فيها، فعلاء من التّيه، وهو التّحيّر. يقال:
تاه في الأرض يتيه تيها وتيهانا، أي: ذهب متحيّرا.
و «القفر»: المكان الخالي. يصف المطيّ بسرعة السّير، كأنّها (2) بمنزلة قطا تركت بيوضا صارت أفراخا، فهي تمشي بسرعة إلى أفراخها.
ومعنى كانت: صارت، لأنّ البيوض صارت أفراخا، لا أنّها كانت فراخا.
والقطا: طائر سريع الطّيران.
__________
(1) البيت لعمرو بن أحمر الباهلي في ديوانه ص 119والحيوان 5/ 575ولسان العرب (عرض، كون) وله أو لابن كنزة في شرح شواهد الإيضاح ص 525. وهو بلا نسبة في أسرار العربية ص 137وشرح الأشموني 1/ 111وشرح الحماسة للمرزوقي ص 68وشرح المفصل 7/ 102والمعاني الكبير 1/ 313.
(2) في طبعة بولاق: = فإنها =. وهو تصحيف صوابه من النسخة الشنقيطية.(9/204)
والحزن، بفتح المهملة وسكون المعجمة: ما غلظ من الأرض، وهو ضدّ السّهل، وأضاف القطا إليه لأنه يكون قليل الماء، فتكون قطاه أكثر عطشا، فإذا أراد الماء كان سريع الطّيران.
قال الأصمعي، ونقله ابن قتيبة في «كتاب أبيات المعاني»: أراد أنّها شربت من الغدر في الرّبيع، فإذا فرّخت ودخلت في الصّيف، احتاجت إلى طلب الماء على بعد، فيكون أسرع لطيرانها. وإنما تفرّخ بيضها إذا جاء الحرّ. فأراد أن يخبر عن سرعة طيرانها عند حاجتها إلى الماء (1).
ووجب تقدير كان بصار هنا ليصحّ المعنى، ولو قدّر بكان لفسد، لكونه محالا.
ومثله قول شمعلة بن أخضر، من شعراء الحماسة (2): (الوافر)
فخرّ على الألاءة لم يوسّد ... وقد كان الدّماء له خمارا
قال ابن جني في «إعرابه للحماسة»: كان هنا بمنزلة صار. أنشد أبو عليّ:
بتيهاء قفر والمطيّ ... البيت
أي: صارت.
وهذا وجه من وجوه كان خفيّ. اه.
ومثله قول رؤبة (3): (الرجز)
* والرّأس قد كان له قتير *
__________
(1) في حاشية طبعة هارون 9/ 202: = هذا النص مخالف لألفاظه في المعاني الكبير، ولا يعدو أن يكون ترجمة وتعبيرا عن ألفاظ ابن قتيبة =.
(2) البيت لشمعلة بن أخضر في تاج العروس (كون) والحماسة برواية الجواليقي ص 160وشرح الحماسة للأعلم 1/ 239وشرح الحماسة للتبريزي 2/ 64وشرح الحماسة للمرزوقي ص 567ولسان العرب (حسن، كون) والمؤتلف والمختلف ص 208.
(3) الرجز لرؤبة بن العجاج في ملحق ديوانه ص 174برواية شكير وللعجاج في ديوانه 2/ 284وشرح المفصل 7/ 103. وهو بلا نسبة في جمهرة اللغة ص 394، 732.(9/205)
أي: صار.
وبقي وجه آخر، لم يرتضه الشارح المحقق، ولهذا لم يذكره، وهو أن تكون كان على بابها، ويدّعى القلب في الكلام، ويكون الأصل: قد كانت فراخها بيوضا، كقول الآخر (1): (الكامل)
كما ... كان الزّناء فريضة الرّجم
أراد: كما كان الرّجم فريضة الزّنى.
وما اختاره الشارح المحقق هو مذهب ثعلب، وأبي علي، وابن جنّي وهو الجيّد لأنّ القلب لا يصار إليه، إذا وجد وجه آخر.
وأما قوله: «بيوضها» فقد رواه ثعلب بضم الباء. ومشى عليه في «الإيضاح» مستشهدا به على أنّه جمع بيض، كبيت وبيوت، وخالفه في «التذكرة» وجزم بأنّ «بيوضها» بفتح الباء بمعنى ذات البيض، واستبعد رواية الضم، وقال: فإن قلت ما تنكر أن يكون بيوضها بضم الباء؟ فالقول في ذلك أنّه يبعد وإن كانوا قد قالوا التّمور، لاختلاف الجنس، لأنّ البيض هنا ضرب واحد وليس بمختلف، فلا يجوز أن يجمع.
وهذا الاستبعاد مبنيّ على أن يكون جمع بيض، والصّحيح أنه جمع بيضة، كما أنّ مؤونا جمع مأنة، وهي السّرّة وما حولها، لا أنّه جمع بيض لعدم الاختلاف المسوّغ للجمع. وهذا أولى من الطّعن في رواية ثعلب.
ويؤيّد روايته قول بعض بني نمير: (الطويل)
يضلّ القطا الكدريّ فيها بيوضه ... ويعوي بها من خيفة الهلك ذيبها (2)
وقول الجعدي:
__________
(1) قطعة من بيت للنابغة الجعدي وتمامه:
كانت فريضة ما تقول كما ... كان الزناء
والبيت للنابغة الجعدي في ديوانه ص 35وشرح أبيات المغني للبغدادي 2/ 323ولسان العرب (زنى). وهو بلا نسبة في أمالي القالي 1/ 216والإنصاف 1/ 373.
(2) في طبعة بولاق: = ويعدي بها =. وهو تصحيف صوابه من النسخة الشنقيطية.(9/206)
* لهنّ أداحيّ به وبيوض (1) *
فإن قال قائل: هذا جعل بيوضا جمع بيضة، كما جعل سخالا جمع سخلة، ومؤونا جمع مأنة.
فالجواب أن نقول: إنّما جعل سخالا جمع سخلة لا سخل، وإن كان باب كلّ واحد منهما أن لا يكسّر، لأنّ امتناع التكسّر في أسماء الأجناس أقوى.
ألا ترى أنّ أسماء الأجناس كلّها لا يجوز تكسير شيء منها بقياس. وقد نصّ على ذلك سيبويه في باب جمع الجمع. والآحاد المخلوقة كلّها يجوز تكسيرها بقياس، فيما عدا هذا الباب، فكان جعل سخال جمع سخلى أولى من جعلها جمع سخل لذلك.
وأما بيوض فالذي أوجب عليه أن يجعلها جمع بيض لا بيضة أنّه رأى أنّ فعولا في جمع فعل مقيس، نحو: فلس وفلوس وفعول في جمع فعله، نحو: بدرة وبدور، غير مقيس، فيرجح عنده جعل بيوض جمع بيض لذلك. ومن ذلك صخور، وتمور، وأشباهه.
وليس كذلك فعال فإنّه جمع لفعلة وفعل بقياس، نحو: جنان وكلاب. وجعل مؤونا جمع مأنة لمّا لم يسمع مأن.
وأمّا على قول أبي عليّ فلا بدّ من تقدير مضاف، والتقدير: كانت بيوضها ذات أفراخ، ولا قلب في الكلام حينئذ، كما في صورة جعل كان بمعنى صار مع رواية الباء. وإنّما يدّعى القلب في صورة جعل كان على بابها مع رواية ضمّ الباء.
والقطا: ضرب من الطّير، وهو نوعان: كدريّ، وجونيّ. فالكدريّ غبر الألوان، رقش الظّهور والبطون، صفر الحلوق، قصار الأذناب. والجونيّ سود البطون، سود بطون الأجنحة والقوادم، بيض الصّدور، غبر الظّهور، وفي عنق كلّ واحد منها طوقان: أصفر وأسود.
وقوله: «بتيهاء قفر» الجارّ يتعلّق بقوله: «والعيس تجري غروضها» في بيت قبله.
__________
(1) لم نجد هذا البيت في ديوان النابغة الجعدي، أو في أي من مصادرنا القديمة.(9/207)
والبيت من أبيات لابن أحمر، وهي (1):
لعمري لئن حلّت قتيبة بلدة ... شديدا بمال المقحمين عضيضها
فلله عينا أمّ فرع وعبرة ... ترقرقها في عينها أو تفيضها
ألا ليت شعري هل أبيتنّ ليلة ... صحيح السّرى والعيس تجري غروضها
بتيهاء قفر والمطيّ كأنّها ... قطا الحزن قد كانت فراخا بيوضها
وفي شرحها: «قتيبة»: بطن من باهلة. و «المقحمون»: الذين أقحمتهم السّنة، وهي القحمة بالضم، أي: القحط.
و «عضيضها»: عضّها. و «صحيح السّرى»، أي: غير جائر عن القصد، فيكون أسرع لقصده لصحّة سراه. فتمنّى أن يصحّ سراه، ويستقيم ليعجل إلى مقصده.
و «غروضها»: أنساعها. أي: إنّها قد أضمرت حتّى قد كانت، أي: قد صارت. «بيوضها»: جمع البيض. انتهى.
ومعنى البيت أنّ المطيّ براها السّير، وحملها على المتاعب، حتّى صارت كالفراخ في الضّعف والهزال، بعد ما كانت قويّة سمانا كالدّجاج البيوض، بإضافة الفراخ إليها. انتهى.
وهذا كلام من لم يقف على الرواية. والتي في عامة نسخ شعره:
أريهم سهيلا والمطيّ كأنّها ... قطا الحزن إلخ
قال شارحه: قوله «أريهم سهيلا»، يعني أصحابه، وإن لم يجر له ذكر، لدلالة الحال عليه، أي: يريهم مطلعه الذي ببلاد أحبابه (2) التي يقصدها، فهو يتمنّى أن يصحّ سراه إلى مقصده، ليريهم مطلع سهيل ببلاد أحبابه، وتكون (3) المطيّ على الحال التي وصفها من قلق غروضها وأنساعها. لحثّه إيّاها على السّرى الذي أهزلها (4)
__________
(1) الأبيات لعمرو بن أحمر الباهلي في ديوانه ص 119118.
(2) قوله: = أحبابه التي يقصدها ببلاد أحبابه = ساقط من النسخة الشنقيطية.
(3) في النسخة الشنقيطية: = وتقول =. وهو تصحيف صوابه من طبعة بولاق.
(4) في النسخة الشنقيطية: = التي هزلتها =. والسرى تذكر وتؤنث.(9/208)
فقلقت أنساعها (1). وشبّهها بسرعة القطا التي فارقت فراخها لتحمل إليها الماء فتسقيها، فهو أسرع لطيرانها.
ودلّ كلام الشاعر على أنه أراد: يريهم سهيلا من آخر الليل، لأنّ القطا إنّما تصير، كما ذكر في الصّيف. وطلوع سهيل بالحجاز يكون عند فتور الحرّ، في عشري آب (2) من شهور الروم.
وقوله: «والمطيّ كأنّها» حال من فاعل تجري في البيت المتقدّم، على الرواية الأولى، وصاحب الحال في الرواية الثانية ضمير الجمع في أريهم سهيلا. والعامل أرى، كقولك: جئتك والشمس طالعة.
وقوله: «قد كانت» إلخ، حال من القطا، والعامل ما في كان من معنى التّشبيه. و «فراخا» خبر مقدّم لكان، و «بيوضها» اسمها المؤخر.
وابن أحمر شاعر إسلاميّ مخضرم، تقدّمت ترجمته في الشاهد الستين بعد الأربعمائة (3).
* * * وأنشد بعده، وهو الشاهد الثامن والعشرون بعد السبعمائة (4): (الوافر)
728 - سراة بني أبي بكر تسامى
على كان المسوّمة العراب
__________
(1) في طبعة بولاق: = فقلقلت =. وهو تصحيف صوابه من النسخة الشنقيطية.
(2) في طبعة بولاق: = عشر آب =. وهو تصحيف لأن المراد في العشرين من آب.
(3) الخزانة الجزء السادس ص 241.
(4) البيت بلا نسبة في الأزهية ص 187وأسرار العربية ص 136والأشباه والنظائر 4/ 303وأوضح المسالك 1/ 257وتخليص الشواهد ص 252والدرر 2/ 79ورصف المباني ص 140، 141، 217، 255 وشرح أبيات المغني للبغدادي 4/ 131وشرح الأشموني 1/ 118وشرح التصريح 1/ 192وشرح ابن عقيل ص 147وشرح المفصل 7/ 98ولسان العرب (كون) واللمع في العربية ص 122والمقاصد النحوية 2/ 41 وهمع الهوامع 1/ 120.(9/209)
على أن «كان» فيه زائدة بين الجار والمجرور.
وزيادتها عند الشارح قسمان:
أحدهما: زيادة حقيقيّة، تزاد غير مفيدة لشيء إلّا محض التوكيد، يكون وجودها في الكلام، وعدمها سواء، لا تعمل، ولا تدلّ على معنى.
ثانيهما: زيادة مجازيّة، تدلّ على معنى ولا تعمل.
ومثّل للأوّل بهذا البيت وبالآية الشريفة (1)، وبقولهم: لم يوجد كان مثلهم.
ومثّل للثاني بما كان أحسن زيدا، وبقولهم: إنّ من أفضلهم كان زيدا، وبالبيت أيضا، فجعله متردّدا بينهما.
وما ذكره أحد مذاهب ثلاثة:
الأوّل: مذهب ابن السّرّاح، واختاره ابن يعيش، قال: والذي أراه أن تكون زائدة دخولها كخروجها، لا عمل لها في اسم، ولا خبر، ولا هي لوقوع شيء.
وإليه ذهب ابن السرّاج، قال في «أصوله»: وحقّ الزائد أن لا يكون عاملا ولا معمولا، ولا يحدث معنى سوى التأكيد.
ويؤيّد ذلك قوله تعالى: «{كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كََانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا}» أنّ كان في الآية زائدة، وليست الناقصة، إذ لو كانت الناقصة لأفادت الزمان، ولو أفادت الزمان لم يكن لعيسى عليه السلام في ذلك معجزة، لأنّ الناس كلّهم في ذلك سواء، فلو كانت الزائدة تفيد معنى الزّمان لكانت كالناقصة، فلم يكن للعدول إلى جعلها زائدة فائدة.
ومن مواضع زيادتها قولهم: إنّ من أفضلهم كان زيدا، فكان مزيدة لضرب من التأكيد، إذ المعنى أنّه في الحال أفضلهم، وليس المراد أنه كان فيما مضى، إذ لا مدح في ذلك. ولأنّك لو جعلت لها اسما وخبرا لكان التقدير: إن زيدا كان من أفضلهم، وكنت قد قدّمت الخبر على اسم إنّ وليس بظرف، وذلك لا يجوز.
وقول الشاعر:
__________
(1) أراد قوله تعالى في سورة مريم: 19/ 29: = من كان في المهد صبيا =. وانظر لذلك شرح الرضي 2/ 272.
وسيأتي ورود الآية الكريمة في السياق بعد قليل.(9/210)
* على كان المسوّمة العراب * البيت
كان فيه زائدة. وعند هذا القائل دلالتها على الزمان يستدعي كونها ناقصة.
الثاني: مذهب السيرافي، قال: لسنا نعني أن دخولها كخروجها في كلّ معنى، وإنما نعني بذلك أنها ليس لها عمل، ولا هي لوقوع شيء مذكور، ولكنّها دالّة على الزمان الماضي (1) وفاعلها مصدرها، وذلك كقولك: زيد كان قائم، تريد كان ذلك الكون، وقد دلّت على الزمان الماضي، ولو خلا منها الكلام لوجب أن يكون ذلك في الحال.
وقول الشاعر:
* على كان المسوّمة العراب *
كان ذلك الكون. وإذا قدّر هذا التقدير كانت كان واقعة لوقوع شيء مذكور، وهو ذلك الكون.
ثالثها: قال ابن يعيش: ذهب قوم إلى أنّ «كان» زيدت على وجهين:
أحدهما: أن تلغى عن العمل مع بقاء معناها، والآخر: أن تلغى عن العمل والمعنى معا. وإنما تدخل لضرب من التأكيد.
والأول نحو قولهم: ما كان أحسن زيدا، المراد أنّ ذلك كان فيما مضى، مع إلغائها عن العمل، ومعناه ما أحسن زيدا أمس، فهي في ذلك بمنزلة ظننت، إذا ألغيت بطل عملها لا غير، نحو قولك: زيد ظننت منطلق. ألا ترى أنّ المراد: في ظنّي.
وأما الثاني فنحو قوله:
* على كان المسوّمة العراب *
ومنه قوله تعالى (2): «{كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كََانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا}». ولو أريد فيها المضيّ
__________
(1) قوله: = وفاعلها مصدرها على الزمان الماضي =. ساقط من النسخة الشنقيطية.
(2) سورة مريم: 19/ 29.(9/211)
لم يكن لعيسى عليه السلام في ذلك معجزة، لأنه لا اختصاص له بذلك الحكم دون سائر الناس.
وقوله: «سراة بني أبي بكر» إلخ، قيل: هو جمع سريّ، وقيل: اسم جمع له، وهو الشّريف. قيل: ويحتمل أن يكون بالضم، جمع سار كقضاة جمع قاض. و «تسامى» أصله تتسامى بتاءين، من السموّ، وهو العلوّ.
و «المسوّمة»: الخيل التي جعلت عليها سومة بالضم، وهي العلامة، وتركت في المرعى.
و «العراب»: الخيل العربيّة، وهي خلاف البراذين. والمعنى أنّ سادات بني أبي بكر يركبون الخيول العربيّة.
وروى: «المطهّمة» بدل المسوّمة، وهو التامّ الخلقة من كلّ حيوان. وروى:
«جياد بني أبي بكر» إلخ، وهو جمع جواد، وهو الفرس السّريع العدو. والمعنى على هذه الرّواية أنّ خيل هؤلاء تفضل على خيول غيرهم.
وقال ابن هشام في «شرح الشواهد»: السّريّ: ذو السخاء والمروءة، وروى: «جياد» فإن كان جمع جيّد، فهما متقاربان، أو جواد، فالممدوح خيلهم، والمعنى حينئذ: على المسوّمة العراب من جياد غيرهم.
وهذه الرواية وهذا التفسير أظهر، إذ ليس بمعروف تفضيل الناس على الخيل وكأنه فهم أنّ تسامى بمعنى التفاضل، وليس كذلك كما ذكرنا.
ثم قال: وتسامى إمّا مضارع، أو ماض على حدّ: الركب سار. ويؤيّده أنه روى: «تساموا». وروى الفراء: «المطهّمة الصّلاب»، أي: ذوات الصّلابة، أي: الشّدّة.
وهذا البيت مع شهرته وتداوله لم أقف على خبر له. والله أعلم.
تتمة
ذهب ابن عصفور في «كتاب الضرائر» إلى أنّ زيادة كان في الشعر، وأنها تكون دالّة على المضيّ دائما. وكلاهما خلاف المرضيّ. قال: ومنها زيادة كان للدلالة
على الزّمان الماضي، نحو قول الفرزدق (1): (الكامل)(9/212)
ذهب ابن عصفور في «كتاب الضرائر» إلى أنّ زيادة كان في الشعر، وأنها تكون دالّة على المضيّ دائما. وكلاهما خلاف المرضيّ. قال: ومنها زيادة كان للدلالة
على الزّمان الماضي، نحو قول الفرزدق (1): (الكامل)
* في الجاهليّة كان والإسلام *
وقول الآخر، أنشده الفارسيّ (2): (البسيط)
في غرف الجنّة العليا التي وجبت ... لهم هناك بسعي كان مشكور
يريد: بسعي مشكور، وقوله الآخر، أنشده الفراء:
* على كان المسوّمة العراب *
وقول غيلان بن حريث (3): (الرجز)
* إلى كناس كان مستعيده *
يريد: إلى كناس مستعيده. وقول امرئ القيس، في الصحيح من القولين (4):
(الطويل)
أرى أمّ عمرو دمعها قد تحدّرا ... بكاء على عمرو وما كان أصبرا
يريد: وما أصبر، أي: وما أصبرها.
وقد تزاد في سعة الكلام، ومنه قول قيس بن غالب البدريّ (5): «ولدت فاطمة بنت الخرشب الكلمة من عبس، لم يوجد كان مثلهم». إلّا أنّ ذلك لا يحسن إلّا في الشعر.
وإنما أوردت زيادتها في فعل دون زيادة الجملة لأنها في حال زيادتها غير مسندة
__________
(1) هو للفرزدق، وسيمر قريبا، فهو الشاهد رقم / 729/.
(2) البيت للفرزدق في ديوانه ص 265وشرح أبيات المغني 5/ 338وكتاب الضرائر ص 77. وهو بلا نسبة في شرح الأشموني 1/ 117.
(3) في حاشية طبعة هارون 9/ 211: = مجاز القرآن 2: 7. ونسب في مجاز القرآن 2: 140إلى العجاج =.
(4) البيت لامرئ القيس في ديوانه ص 69والمقاصد النحوية 3/ 668. وهو بلا نسبة في شرح ابن عقيل ص 447.
(5) لم نتعرف على صاحب القول هذا، والنص موجود في جمهرة أنساب العرب ص 250بدون سند.(9/213)
إلى شيء. وسبب ذلك أنها لما زيدت للدّلالة على الزمان الماضي أشبهت أمس، فحكم لها بحكم أمس. هذا كلامه.
* * * وأنشد بعده، وهو الشاهد التاسع والعشرون بعد السبعمائة (1): (الكامل)
729 - في لجّة غمرت أباك بحورها
في الجاهليّة كان والإسلام
على أنّ «كان» زائدة بين المتعاطفين لا عمل لها، ولا دلالة على مضيّ.
أما الأوّل فظاهر. وأما الثاني فلأنّ المعنى أنّ الغمر ثابت في زمن الجاهليّة، وفي زمن الإسلام، لا أنّه كان في الجاهلية وانقطع لأنّ المعطوف يأبى هذا المعنى.
وكذا «كان» في قولهم: لم يوجد كان مثلهم، فإنّها لو كانت دالّة على المضيّ، لاقتضى أنه يوجد مثلهم الآن. وهذا خلاف المقصود.
والبيت من قصيدة للفرزدق هجا بها جريرا. وقبله يخاطبه (2):
أشبهت أمّك إذ تعارض دارما ... بأدقّة متقاعسين لئام
وحسبت بحر بني كليب مصدرا ... فغرقت حين وقعت في القمقام
في حومة غمرت أباك بحورها ... إلخ
قوله: «أشبهت أمّك» إلخ، يريد: أشبه عقلك عقل أمّك حين تفاخر بكليب دارما. و «كليب»: رهط جرير، و «دارم»: فخذ شريف من قبيلة تميم.
__________
(1) البيت للفرزدق في ديوانه ص 850وشرح أبيات المغني للبغدادي 5/ 81والنقائض 1/ 264. وهو بلا نسبة في شرح الأشموني 1/ 117وكتاب الضرائر لابن عصفور ص 77.
وروايته في ديوانه:
في حومة غمرت أباك بحورها
(2) البيتان من قصيدة للفرزدق يرد فيها على جرير، وهما في ديوانه ص 849وشرح أبيات المغني للبغدادي 5/ 81والنقائض 1/ 263.(9/214)
و «أدقّة»: جمع دقيق، يريد به الضّعيف الضئيل. و «المتقاعس»: المتأخّر عن المجد والشّرف. و «لئام»: جمع لئيم.
وقوله: «وحسبت بحر» إلخ، ويروى: «وحسبت حبل بني كليب» يقول: ظننت أنّ بني كليب ينجّونك مما قد وقعت فيه حين تعرّضت لي. و «مصدر»:
اسم فاعل من أصدرته، بمعنى رجعته. و «القمقام»: البحر.
وقوله: «في لجّة غمرت» إلخ، «اللّجّة»: معظم الماء. وروى بدله:
«في حومة» بمعناه.
قال شارح المناقضات (1): «حومة الماء: مجتمعه ومعظمه»، وهو بدل من القمقام. و «غمرت»: غطّت. والغمر: الماء الكثير. وقد غمره الماء يغمره، أي:
علاه.
«والبحر»: الماء الكثير، وكلّ نهر عظيم. و «الجاهلية»: الزمان الذي كثر فيه الجهّال، وهي ما قبل الإسلام. وقيل: أيّام الفترة. وقد تطلق على زمن الكفر مطلقا، وعلى ما قبل الفتح.
وترجمة الفرزدق تقدّمت في الشاهد الثلاثين من أوائل الكتاب (2).
* * * وأنشد بعده، وهو الشاهد الثلاثون بعد السبعمائة (3): (الطويل)
730 - بدا لك في تلك القلوص بداء
__________
(1) النقائض 1/ 264. وفيه: = حومة الماء: مجتمعه وكثرته =.
(2) الخزانة الجزء الأول ص 218.
(3) هو الإنشاد الثاني والعشرون بعد الستمائة في شرح أبيات المغني للبغدادي.
والبيت لمحمد بن بشير الخارجي في ديوانه ص 29والأغاني 16/ 77والدرر 4/ 20وشرح أبيات المغني 6/ 193وشرح شواهد المغني ص 810وللشماخ بن ضرار في ملحق ديوانه ص 427ولسان العرب (بدا).
وهو بلا نسبة في الخصائص 1/ 340وسمط اللآلئ ص 705وشرح شذور الذهب ص 218ومغني اللبيب ص 388وهمع الهوامع 1/ 147.(9/215)
على أنّ «بداء» فاعل بدا، وهو مصدر بمعنى اسم الفاعل، والتقدير: بدا لك رأي باد، ولمّا كان ظاهر هذا الشعر على طبق «ثبت الثّبوت» بجعل المصدر فاعلا لفعله، وهو مما لا معنى له، أجاب عنه بما ذكر.
ولا يخفى أنّه تكلّف. والجيّد ما قاله أبو علي في «كتاب الشعر»، قال:
أضمر البداء في قوله تعالى (1): «{ثُمَّ بَدََا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مََا رَأَوُا الْآيََاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ}» لأنّ البداء الذي هو المصدر، قد صار بمنزلة العلم والرأي. ألا ترى أن الشاعر قد أظهره في قوله:
لعلّك والموعود حقّ لقاؤه ... بدا لك في تلك القلوص بداء (2)
وكذلك صنع ابن الشجريّ في الآية والبيت، وقال: ألسن العرب متداولة في قولهم: بدا لي في هذا الأمر بداء، أي: تغيّر رأيي عما كان عليه. ويقال: فلان ذو بدوات، إذا بدا له الرّأي بعد الرأي. انتهى.
وقد وقع هذا التركيب في «سيرة ابن هشام» ونصّه: قال ابن إسحاق: ظنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن قد بدا لعمّه بداء.
قال السهيلي في «الرّوض»: أي: ظهر له رأي، فسمّي بداء، لأنه شيء يبدو بعد ما خفى، والمصدر البدوّ (3)، والاسم البداء. ولا يقال في المصدر: بدا له بدوّ، كما لا يقال: ظهر له ظهور بالرفع، لأنّ الذي يظهر ويبدو هاهنا هو الاسم نحو البداء.
ومن أجل أنّ البدوّ هو الظّهور كان البداء في وصف الباري سبحانه محالا، لأنّه لا يبدو له شيء كان غائبا عنه. والنّسخ للحكم ليس ببدوّ (4) كما توهّمه جماعة من الرافضة واليهود، وإنّما هو تبديل حكم بحكم، بقدر قدّره، وعلم قديم علمه.
__________
(1) سورة يوسف: 12/ 35.
(2) في طبعة بولاق والنسخة الشنقيطية: = حقا لقاؤه =. وهو تصحيف صوابه بالرفع كما في ديوانه ومعظم المراجع التي أتت على ذكره.
(3) في الروض الأنف للسهيلي: = والمصدر البدء والبدو =. والبدو يقال بالفتح، ويقال أيضا بضم الباء والدال مع تشديد الواو.
(4) في طبعة بولاق: = يبدو =. وهو تصحيف صوابه من النسخة الشنقيطية والروض الأنف.(9/216)
وقد يجوز أن يقال: بدا له أن يفعل كذا، ويكون معناه أراد. وهذا من المجاز الذي لا سبيل إلى إطلاقه إلّا بإذن من صاحب الشرع.
وقد صحّ في ذلك ما خرّجه البخاري في حديث الثلاثة: الأعمى، والأقرع، والأبرص (1)، وأنه عليه السلام، قال: «بدا لله أن يبتليهم». فبدا هاهنا بمعنى:
أراد.
وابن أعين ومن اتّبعه يجيزون البداء على الله (2)، ويجعلونه، والنّسخ شيئا واحدا. واليهود لا تجيز النسخ، يحسبونه بداء. ومنهم من أجاز البداء.
وروى الأصبهاني في «الأغاني» (3) أنّ رجلا وعد محمّد بن بشير الخارجيّ بقلوص، وهي الناقة الشابّة، ومطله، فقاله فيه يذمّه، ويمدح زيد بن الحسن بن علي ابن أبي طالب (4): (الطويل)
لعلّك والموعود حقّ لقاؤه ... بدا لك في تلك القلوص بداء
فإنّ الذي ألقى إذا قال قائل ... من النّاس: هل أحسستها لعناء
أقول الذي يبدي الشّمات وإنّها ... عليّ وإشمات العدوّ سواء
دعوت وقد أخلفتني الوعد دعوة ... بزيد فلم يضلل هناك دعاء
__________
(1) الحديث وتخريجه في الألف المختارة من صحيح البخاري، والحديث تحت رقم 465.
(2) في حاشية طبعة هارون 9/ 215214: = الذي في الروض: وذكرنا الرافضة لأن ابن أعين ومن تبعه منهم يجيزون البداء على الله. وابن أعين هذا هو زرارة بن أعين الكوفي، مولى بني أسعد بن همام، وكان رئيس الشميطية أتباع أحمر بن شميط. انظر الحيوان 2: 268/ 7: 122. وكان أحمر بن شميط من أمراء المختار بن أبي عبيد الثقفي الذي كان يقول بالبداء. وعند ما انهزم أصحاب المختار، وقتل أميرهم أحمر بن شميط رجع فلولهم إلى المختار، وقالوا له: ألم تعدنا بالنصر على عدونا؟ فقال: إن الله تعالى كان قد وعدني ذلك لكنه بدا له. الفرق بين الفرق 36. فالقول بالبداء عند هؤلاء الإمامية انتقل من المختار إلى أتباعه وأتباع أتباعه، وفي جمهرة ابن حزم 59أن عبد الله بن محمد بن علي بن الحسين، وهو الملقب بالأفطح، كانت له شيعة تدعي إمامته، منهم زرارة بن أعين الكوفي، محدث ضعيف، فقدم زرارة المدينة فلقي عبد الله فسأله عن مسائل من الفقه فألفاه في غاية الجهل، فرجع عن إمامته، فلما انصرف إلى الكوفة أتاه أصحابه فسألوه عن إمامه وإمامهم، وكان المصحف بين يديه، فأشار لهم إليه وقال لهم: هذا إمامي، لا إمام لي غيره =.
(3) الأغاني 16/ 123وشرح أبيات المغني للبغدادي 6/ 194.
(4) الأبيات لمحمد بن بشير الخارجي في ديوانه ص 29والأغاني 16/ 123وشرح أبيات المغني للبغدادي 6/ 194.(9/217)
بأبيض مثل البدر عظّم حقّه ... رجال من ال المصطفى ونساء (1)
فبلغت هذه الأبيات زيد بن الحسن، فبعث إليه بقلوص من جياد إبله، فقال يمدحه (2): (الطويل)
إذا نزل ابن المصطفى بطن تلعة ... نفى جدبها واخضرّ بالنّبت عودها
وزيد ربيع النّاس في كلّ شتوة ... إذا أخلفت أنواؤها ورعودها
حمول لأشتات الدّيات كأنّه ... سراج الدّجى إذ قارنته سعودها (3)
انتهى.
وقوله: «لعلّك والموعود» إلخ، أورده ابن هشام في «المغني» في الجملة المعترضة من الباب الثاني، على أنّ قوله: «والموعود حقّ لقاؤه» جملة اعتراضية بين ما أصله المبتدأ وبين خبره.
و «أحسستها»: استفدتها. وأحسست الشيء: وجدت حسّه. وقوله:
«لعناء» خبر إنّ الذي ألقى.
يقول: إن قلت للسائل الشامت إنّي أفدتها فقد كذبت، وكذبي، وإشمات العدوّ سواء.
وقوله: «بزيد» الباء زائدة، أي: ناديته مرّة. وجملة: «وقد أخلفتني الوعد» اعتراضية.
وقائل هذه الأبيات «محمد بن بشير» بن عبد الله بن عقيل الخارجيّ (4)، من بني خارجة بن عدوان بن عمرو بن قيس بن عيلان بن مضر، ويكنى أبا سليمان.
وهو شاعر فصيح حجازيّ من شعراء الدولة الأمويّة، وكان منقطعا إلى [أبي (5)]
__________
(1) في حاشية طبعة هارون إشارة لعدم وجود البيت في الأغاني. وهو فيها 16/ 123فلعله سهى.
(2) الأبيات وخبرها في الأغاني 16/ 124وشرح أبيات المغني للبغدادي 6/ 194.
(3) في طبعة بولاق والنسخة الشنقيطية: = إذا قاربته =. وأثبتنا رواية الأغاني 16/ 124وشرح أبيات المغني للبغدادي 6/ 194.
(4) انظر في ترجمته وأخباره الأغاني 16/ 102وما بعدها وشرح أبيات المغني للبغدادي 6/ 195ومعجم الشعراء ص 412.
(5) زيادة يقتضيها السياق من الأغاني 16/ 102.(9/218)
عبيدة بن عبد الله بن ربيعة القرشيّ، أحد بني أسد بن عبد العزّى. وله ترجمة طويلة في الأغاني.
* * * وأنشد بعده، وهو الشاهد الحادي والثلاثون بعد السبعمائة [وهو من شواهد س (1)]: (الوافر)
731 - فكيف إذا مررت بدار قوم
وجيران لنا كانوا كرام
على أنّ «كان» فيه ناقصة كما ذهب إليه المبرّد، الواو اسمها، و «لنا»:
خبرها، وليست زائدة، كما قال سيبويه: وقال الخليل: إنّ من أفضلهم كان زيدا، على إلغاء كان.
وشبّهه بقول الشاعر:
فكيف إذا رأيت ديار قوم ... وجيران لنا كانوا كرام
اه.
قال الأعلم (2): الشاهد فيه إلغاء كان وزيادتها، توكيدا وتبيينا لمعنى المضيّ،
__________
(1) ما بين معكوفين زيادة من النسخة الشنقيطية.
والبيت هو الإنشاد التاسع والستون بعد الأربعمائة في شرح أبيات المغني للبغدادي.
والبيت للفرزدق في ديوانه ص 835والأزهية ص 188وتخليص الشواهد ص 252وشرح أبيات المغني للبغدادي 5/ 168وشرح الأشموني 1/ 117وشرح التصريح 1/ 192وشرح شواهد المغني 2/ 693 والكتاب 2/ 153ولسان العرب (كنن) والمقاصد النحوية 2/ 42والمقتضب 4/ 116. وهو بلا نسبة في أسرار العربية ص 136والأشباه والنظائر 1/ 165وأوضح المسالك 1/ 258وشرح ابن عقيل ص 146 والصاحبي في فقه اللغة ص 161ولسان العرب (كون) ومغني اللبيب 1/ 287.
وروايته في ديوانه:
فكيف إذا رأيت ديار قومي ... وجيران لنا
(2) شرح شواهد سيبويه للأعلم 1/ 290وشرح أبيات المغني للبغدادي 5/ 168.(9/219)
والتقدير: وجيران لنا كرام كانوا كذلك.
وقد ردّ المبرّد هذا التأويل، وجعل قوله: «لنا» خبرا لها، والصحيح ما ذهب إليه الخليل وسيبويه من زيادتها، لأنّ قوله: لنا، من صلة الجيران، ولا يجوز أن تكون خبرا لكان إلّا أن تريد معنى الملك، ولا يصحّ الملك هاهنا، لأنّهم لم يكونوا لهم ملكا، إنّما كانوا لهم جيرة. انتهى.
ولا يخفى أنّ هذا تعسّف منه، ولا فرق بين قولك: جيران لنا وبين كانوا لنا، فإنّ الواو في «كانوا» ضمير الجيران، واللام للاختصاص لا للملك.
وقد نسب الزجّاج في «تفسيره» زيادة «كان» في البيت إلى المبرد، ونقل عنه غلطة لم يغلطها أصاغر الطلبة، قال عند قوله تعالى (1): «{إِنَّهُ كََانَ فََاحِشَةً وَمَقْتاً}»: قال محمد بن يزيد: جائز أن تكون كان زائدة، فالمعنى على هذا إنه فاحشة ومقت.
وأنشد في ذلك قول الشاعر:
فكيف إذا حللت ديار قوم ... وجيران لنا كانوا كرام
وهذا غلط من أبي العبّاس، لأنّ كان لو كانت زائدة لم تنصب خبرها (2).
انتهى.
وهذا نقل شاذّ، وكلّهم أجمعوا على أنّ زيادة كان في البيت إنّما قال به سيبويه.
لكنّ الزجاج تلميذ المبرد، وهو أدرى بمذهب شيخه. والله أعلم.
وتجويز المبرد زيادة كان في الآية مع نصب خبرها خطأ ظاهر (3).
قال ابن السيد في «أبيات المعاني»: وكان أبو العباس محمد بن يزيد المبرّد يمتنع
__________
(1) سورة النساء: 4/ 22.
(2) في حاشية طبعة هارون 9/ 218: = هذا بتحن من الزجاج على المبرد، فإن المبرد إنما حكى قول النحويين، من زيادة كان، ولم يرتضه، بل رد عليه قائلا: وهو عندي على خلاف ما قالوا من إلغاء كان، وذلك أن خبر كان لنا فتقديره: وجيران كرام كانوا لنا. انظر المقتضب 4: 117وما نقله البغدادي فيما سيأتي عن ابن السيد =.
(3) انظر تعليل ذلك في الحاشية السابقة.(9/220)
من زيادة كان في البيت، ويقول: إنما تلغى إذا كانت مجرّدة لا اسم لها ولا خبر، وأما في البيت، فالواو اسمها، ولنا: الخبر، وكرام: صفة لجيران.
وقد ردّ الناس هذا، وقالوا: يجوز أن تكون (1) الواو حرفا دالا على الجمع، يؤكّد به الجيران، كالواو في أكلوني البراغيث. وهذا مذهب كثير من البصريّين، وبعض الكوفيين. ولأنه يقدّر بلنا التأخير، وهو صفة لجيران، وقد حلّ محلّه من حيث تبع الموصوف، ولا حاجة تدعو إلى انتزاعه من موضعه، وتقديره مؤخّرا.
وهذا حجّة أبي علي. انتهى.
أقول: هذا التوجيه ضعيف جدا، فإنّ القول بحرفيّة واو الجمع إنّما هو إذا كان بعدها جمع مرفوع، كما في المثال، وأمّا إذا لم يأت بعدها جمع مرفوع فلم يقل أحد إنّها تأتي حرفا دالّا على الجمع.
والصواب ما وجّه به الشارح المحقق، وهو أنّ «كان» زيدت مع الفاعل، لأنّه كالجزء منها، لأنهم قالوا: والفاعل كالجزء من الفعل.
واستدلّ صاحب اللباب على أنّهما كالكلمة الواحدة باثني عشر وجها، منها زيادة الفعل مع الفاعل في نحو هذا البيت. قال شارحه «الفالي (2)»: تقريره أنّهم حكموا بأنّ «كانوا» زائدة، وإن كان الفعل، وهو «كان» وحده زائدا، ولكن لما كان الفاعل كالجزء لم يفكّوه عن الفعل، فحكموا بزيادتهما جميعا. انتهى.
وأبو علي لم يجعل الواو فاعل كان، وإنّما جعلها ضميرا مؤكّدا للضمير المستتر في الظرف الواقع صفة لجيران، أعني قوله: لنا، قال: لنا في موضع الصّفة لجيران، وفيه ضميرهم مستتر على ما عهد من حكم الجارّ والمجرور إذا وقع صفة، والضمير المتصل بكان تأكيد له، ولم يكن بدّ من اتصاله لأنه لا يقوم ينفسه.
واستدلّ على ذلك بقول الشاعر (3): (المنسرح)
__________
(1) في النسخة الشنقيطية: = أن يكون =.
(2) في طبعة بولاق والنسخة الشنقيطية: = القالي =. وهو تصحيف تكرر وسبق لنا التنبيه عليه في تلك المواضع.
(3) هو الإنشاد الرابع والثمانون بعد الستمائة في شرح أبيات المغني للبغدادي.
والبيت لقيس بن الخطيم في ملحق ديوانه ص 236وشرح أبيات المغني للبغدادي 6/ 335ولسعد القرقرة في فصل المقال ص 210، 211ولسان العرب (سدف) ولسعد أو لقيس بن الخطيم في شرح شواهد المغني 2/ 845والمقاصد النحوية 4/ 55وللأنصاري في لسان العرب (ودي). وهو بلا نسبة في شرح الأشموني 2/ 386.(9/221)
نحن بغرس الوديّ أعلمنا ... منّا بطعن الكماة في السّدف
قال: ف «نا» من أعلمنا لا حاجة إليه، لأنّ أعلم أفعل، وأفعل إمّا أن يضاف، وإمّا أن يتصل بمن ويمنع (1) من إضافته. وإذا كان كذلك فلا بدّ من تخريج، يصحّ عليه الإعراب، وذلك أنّه تأكيد للضمير في منّا.
ولقوّة تناوله، قدّموه، ليدلّوا على شدّة اتصاله. وإذا جاز ذلك في أعلم [مع (2)] ما بعده كان في «كان»، أولى وأحسن.
هذا كلامه، ونقله عنه اللخمي في «شرح أبيات الجمل».
وقد جمع ابن هشام في «شرح الشواهد» جميع ما للعلماء من التخاريج في هذا البيت، قال:
«لنا» قيل: خبر مقدّم، ثم اختلف على قولين:
أحدهما: أنّه خبر مبتدأ، والأصل لنا هم، ثم زيدت كان بينهما فصار لنا كان هم، ثم وصل الضمير إصلاحا للّفظ، لأنه لا يصحّ وقوعه منفصلا إلى جانب فعل غير مشتغل بمعمول.
والثاني: أنه خبر لكان، وأنها ناقصة، وهو قول المبرد وجماعة، وعليه فالجملة صفة لجيران، وتقدّمت على الصفة المفردة، والأكثر في الكلام تقديم المفردة.
وقيل: لنا صفة لجيران، ثم اختلف على قولين أيضا:
أحدهما: أنّ كان تامة، والضمير فاعل، أي: وجد. وردّ بأنّه لا فائدة في الكلام على هذا القول.
والثاني: أنّها زائدة، ثم اختلف في الاعتذار عن الضمير على قولين:
أحدهما: أنّ الزيادة، لا تمنع العمل في الضمير، كما لم يمنع إلغاء ظنّ عملها في الفاعل مطلقا. قاله (3) ابن السيد، وابن مالك. وفيه نظر، لأنّ الفعل الملغى لم ينزّل
__________
(1) في طبعة بولاق والنسخة الشنقيطية: = يمنع =. والوجه الصحيح إثبات الواو قبلها.
(2) زيادة يقتضيها السياق من النسخة الشنقيطية.
(3) في طبعة بولاق: = قال =. وهو تصحيف صوابه من النسخة الشنقيطية.(9/222)
منزلة الحروف حتّى لا يليق الإسناد إلى الفاعل، وإنّما هو فعل صحيح، وضع لقصد الإسناد.
والثاني: أنّ الأصل: كان هم، على أنّ الضمير توكيد للضمير المستتر في لنا، ثم زيدت كان بينهما، ووصل الضمير للإصلاح. انتهى.
وقد لخّصه في «المغني» في بحث لعلّ.
وقوله: على تقدير كونها تامّة مع فاعلها أنه لا فائدة في الكلام (1) ممنوع، فإنّها صفة لجيران بمعنى ثبتوا وحصلوا. وما أورده أوّلا من أنّ الأصل لنا هم، ثم زيدت كان بينهما، فاتّصل بها الضمير، هو قول صاحب الكشاف، قال في قوله تعالى (2):
«{وَإِنْ كََانَتْ لَكَبِيرَةً}»: وقرأ اليزيديّ: «لكبيرة» بالرفع، ووجهها أن تكون كان مزيدة، كما في قوله: «وجيران لنا كانوا كرام» الأصل: وإن هي لكبيرة، كقولك: إنّ زيد لمنطلق، ثم وإن كانت لكبيرة. انتهى.
قال أبو القاسم علي بن حمزة البصري اللغويّ في «كتاب التنبيه على أغلاط أبي زياد (3) الكلابيّ في نوادره»:
روى أبو أحمد عبد العزيز بن يحيى بن أحمد بن عيسى بن يزيد الجلودي، في أخبار الفرزدق، بإسناد متّصل ذكره، أنّ الفرزدق حضر عند الحسن البصريّ، فأنشده:
أقول إذا رأيت ديار قومي ... وجيران لنا كانوا كرام
فقال له الحسن: كراما يا أبا فراس. فقال الفرزدق: ما ولدتني إلّا ميسانية، إن جاز ما تقول يا أبا سعيد، قال: وأمّ الحسن من ميسان. فهذا ردّ الفرزدق عن نفسه. وقد أصاب، وتقدير قوله: وجيران كرام كانوا لنا. انتهى.
__________
(1) سبق الحديث عن ذلك منذ قليل.
(2) سورة البقرة 2/ 143.
(3) في طبعة بولاق: = أبي زيد =. وهو تصحيف صوابه من النسخة الشنقيطية. وهو يزيد بن عبد الله بن الحر ابن همام بن دهن بن ربيعة بن عمرو بن نفاثة. قال ابن النديم في الفهرست ص 67: = قدم بغداد أيام المهدي حين أصابت الناس المجاعة، ونزل قطيعة العباس بن محمد، فأقام بها أربعين سنة، وبها مات. وكان شاعرا من بني كلاب بن عامر.(9/223)
وميسان (1): قرية من قرى العراق. يريد: إنّي لم أكن من العرب العرباء، بل من المولّدين إن صحّ ما لحّنتني فيه.
والبيت من قصيدة للفرزدق، يمدح بها هشام بن عبد الملك ويهجو جريرا، وأوّلها (2):
ألستم عائجين بنا لعنّا ... نرى العرصات أو أثر الخيام (3)
فقالوا إن عرضت فأغن عنّا ... دموعا غير راقئة السّجام
فكيف إذا مررت بدار قوم ... وجيران لنا كانوا كرام
أكفكف عبرة العينين منّي ... وما بعد المدامع من لمام
قوله: «ألستم عائجين» إلخ، الهمزة للاستفهام التقريري، وروى: «هل انتم» بدله.
و «عائجون»: جمع عائج، اسم فاعل من عجت البعير أعوجه عوجا: إذا عطفت رأسه بالزّمام.
والباء في «بنا» بمعنى مع. وروى العيني فقط: «عالجون» باللام، وقال:
أي: داخلون في عالج، وهو اسم موضع. ولم أره لغيره. وليس في الصحاح عالج بمعنى دخل في عالج.
و «لعنّا»، أي: لعلّنا (4). ولعنّ لغة في لعلّ. وعرصة الدار: ساحتها، وهي البقعة الواسعة التي ليس فيها بناء، وسمّيت عرصة لأنّ الصّبيان يعرصون فيها، أي:
يلعبون ويمرحون.
__________
(1) قال ياقوت في معجم البلدان (ميسان): = اسم كورة واسعة كثيرة القرى والنخل بين البصرة وواسط قصبتها ميسان =.
(2) الأبيات للفرزدق من قصيدة يمدح بها هشام بن عبد الملك في ديوانه ص 835وشرح أبيات المغني للبغدادي 5/ 169والنقائض ص 1004.
(3) البيت للفرزدق في ديوانه ص 835وسمط اللآلئ ص 758وشرح شواهد الشافية ص 46واللامات ص 136ولسان العرب (لعن) ولجرير في ملحق ديوانه ص 1039ولسان العرب (أنن). وهو بلا نسبة في الإنصاف ص 251وجواهر الأدب ص 402وشرح التصريح 1/ 192.
(4) الشرح في شرح أبيات المغني للبغدادي 5/ 168. وفيه: = ولعنا: لغة في لعلنا =.(9/224)
وقوله: «إن عرضت» كذا رواه محمد بن المبارك في «منتهى الطلب من أشعار العرب»: قال صاحب الصحاح: وعرض الرجل، إذا أتى العروض، وهي مكّة والمدينة، وما حولهما.
قال (1): (الطويل)
* فيا راكبا إمّا عرضت فبلّغن *
وقول الكميت (2): (الطويل)
* فأبلغ يزيد إن عرضت ومنذرا *
يعني إن مررت به. انتهى.
وما هنا يحتمل كلّا منهما. وروى أيضا: «إن فعلت» بدله، أي: فعلت العوج، وهو عطف رأس الناقة بالزمام.
__________
(1) صدر بيت لشاعرين، أحدهما عبد يغوث بن وقاص الحارثي وعجزه:
* نداماي من نجران أن لا تلاقيا *
والبيت لعبد يغوث في الأشباه والنظائر 6/ 243وشرح اختيارات المفضل ص 767وشرح التصريح 2/ 167 وشرح المفصل 1/ 128والعقد الفريد 5/ 229والكتاب 2/ 200ولسان العرب (عرض) والمقاصد النحوية 4/ 206. وهو بلا نسبة في رصف المباني ص 137وشرح الأشموني 2/ 445وشرح شذور الذهب ص 145 وشرح ابن عقيل ص 515وشرح قطر الندى ص 203والمقتضب 4/ 204.
والثاني لمالك بن الريب وعجزه:
* بني مالك والريب أن لا تلاقيا *
والبيت لمالك بن الريب من مرثيته في نفسه وهي في الاختيارين ص 629620وجمهرة أشعار العرب ص 759 767وذيل الأمالي ص 138135والعقد الفريد 3/ 247245والمراثي ص 119108.
(2) صدر بيت للكميت بن زيد وعجزه:
* وعميهما والمستسرّ المنامسا *
والبيت للكميت بن زيد في ديوانه 1/ 245وتاج العروس (نمس، عرض) ولسان العرب (عرض).
وفي ديوانه 1/ 245: = هكذا وقع: وعميهما على التثنية. والصواب وعمهما على التوحيد. ويزيد هو يزيد بن خالد بن عبد الله. ومنذر هو منذر بن أسد بن عبد الله. وعمهما هو إسماعيل بن عبد الله. والمستسرّ هو خالد ابن عبد الله =.(9/225)
وقوله: «فأغن عنّا» هو أمر من قولهم: أغنيت عنك، أي: أجزأت مجزأة.
يريد أنّ أصحابه لم يوافقوه على عطف الزّمام.
وقوله: «دموعا» أصله بدموع، فلما حذفت الباء نصب. و «راقئة» بالهمز، من رقأ الدمع رقئا ورقوءا: إذا سكن. و «السجام»: مصدر سجم الدمع سجوما وسجاما، أي: سال.
وقوله: «فكيف إذا مررت» إلخ، «كيف»: استفهام، وفيها معنى التعجّب، وهي هنا ظرف، والعامل فيها فعل محذوف دلّ عليه الكلام، وهو أكون، وهو مقدّر بعدها، لأنّ الاستفهام لا يعمل فيه ما قبله.
والتقدير: على أيّ حال أكون، إذا مررت بدار قوم إلخ، وجواب إذا محذوف لدلالة ما تقدّم عليه، وهو العامل فيها. كذا قال اللخمي.
وقال ابن هشام: كيف: ظرف لأكفكف (1). وفيه نظر. والتاء في مررت للمتكلّم، بدليل لنا، وأكفكف. وروى بدله: «رأيت». وقوله: أكفكف:
أحبس.
و «العبرة»، بالفتح: الدّمعة. و «اللّمام» بكسر اللام بعدها ميم. كذا في منتهى الطلب، والمشهور «من ملام».
وترجمة الفرزدق تقدّمت في الشاهد الثلاثين من أوائل الكتاب (2).
* * * وأنشد بعده، وهو الشاهد الثاني والثلاثون بعد السبعمائة، وهو من شواهد س (3): (الوافر)
__________
(1) في النسخة الشنقيطية: = كيف لأكفكف =. وهو تصحيف صوابه من طبعة بولاق.
(2) الخزانة الجزء الأول ص 218.
(3) هو الإنشاد الثاني والتسعون بعد الستمائة في شرح أبيات المغني للبغدادي.
والبيت لحسان بن ثابت في ديوانه ص 71والأشباه والنظائر 2/ 296والدرر 2/ 73وشرح أبيات سيبويه 1/ 50وشرح أبيات المغني للبغدادي 6/ 349وشرح شواهد المغني ص 849وشرح المفصل 7/ 93(9/226)
732 - كأنّ سبيئة من بيت رأس
يكون مزاجها عسل وماء (1)
على أنّ أبا البقاء جوّز زيادة «يكون» بلفظ المضارع، وادّعى أنّها هنا زائدة على رواية رفع «مزاجها» على المبتدأ، و «عسل» خبرها.
وكذلك قال ابن السيد في «أبيات المعاني»: تكون (2) زائدة لا اسم لها ولا خبر، فيكون قوله: «مزاجها عسل» جملة من مبتدأ وخبر. وقد عطف ماء على الخبر فرفع.
وذهب ابن الناظم أيضا في «شرح الألفية» إلى أنّ زيادتها بلفظ المضارع نادر، كقول أمّ عقيل رضي الله عنه (3): (الرجز)
أنت تكون ماجد نبيل ... إذا تهبّ شمأل بليل
وارتضاه ابن هشام في «شرح شواهده»، لكنّه أنكر زيادتها في «المغني»، قال: ويروى برفعهنّ، أي: برفع «مزاجها عسل وماء» على إضمار الشأن. وأمّا قول ابن السيد: إنّ كان زائدة، فخطأ لأنّها لا تزاد بلفظ المضارع بقياس، ولا ضرورة لدعوى ذلك هنا. انتهى.
وهذا التخريج مشهور، وذكره (4) ابن خلف وغيره، فيكون اسمها ضمير الشأن والأمر، وجملة: «مزاجها عسل» من المبتدأ والخبر خبرها. وذكر ابن هشام
__________
والكامل في اللغة 1/ 74والكتاب 1/ 49ولسان العرب (سبأ، رأس، جني) والمحتسب 1/ 279 والمقتضب 4/ 92. وهو بلا نسبة في مغني اللبيب ص 453، 695وهمع الهوامع 1/ 119.
وروايته في الديوان:
كأن خبيئة من بيت رأس
(1) في طبعة بولاق: = كأنه سبيئة =. وهو تصحيف صوابه من المصادر السابقة.
(2) كذا في جميع طبعات الخزانة، وهي رواية صحيحة سيأتي الحديث عنها لاحقا.
(3) الرجز لأم عقيل في أوضح المسالك 1/ 255وتخليص الشواهد ص 252والدرر 2/ 78وشرح أبيات المغني للبغدادي 6/ 349وشرح الأشموني 1/ 118وشرح التصريح 1/ 191وشرح ابن عقيل ص 147 والمقاصد النحوية 2/ 39. وهو بلا نسبة في همع الهوامع 1/ 120.
وأم عقيل بن أبي طالب، هي فاطمة بنت أسد بن هاشم، انظر في ذلك جمهرة أنساب العرب ص 14.
(4) في النسخة الشنقيطية: = ذكره = بحذف الواو.(9/227)
اللّخمي تخريجا آخر بعد ذلك، قال: اسم يكون ضمير سبيئة، وجملة: «مزاجها عسل» في موضع الخبر، أو إنّ (1) خبرها مقدّم عليها، وهو قوله من بيت رأس، وجملة: «تكون من بيت رأس» صفة لسبيئة، وجملة: «مزاجها عسل» صفة ثانية لها.
قال: وعلى هذين القولين، يقال: «تكون» بالتاء. والسابق إلى هذا التخريج ابن السيد في «أبيات المعاني».
ثم قال: والأحسن أن تقول (2) على هذا الوجه: تكون بالتاء لأنّ السّلافة مؤنثة، ولو قلت بالياء جاز، لأنّ التأنيث غير حقيقي، وليس بالجيّد.
أقول: إذا أسند الفعل إلى ضمير المؤنث المجازي فالتأنيث واجب إلّا في الضرورة، وإنّما جواز التأنيث في الإسناد إلى ظاهره.
وأما بيت أمّ عقيل فلم أر من خرّجه. وأقول بعون الله تعالى: إنّ اسم «تكون» ضمير المخاطب المستتر فيها، وخبرها محذوف، و «ماجد»: خبر أنت، والتقدير:
أنت ماجد نبيل تكونه، أو تكون ذاك، والجملة اعتراضية بين المبتدأ والخبر.
وأمّ عقيل هي أمّ علي بن أبي طالب رضي الله عنهما، واسمها فاطمة بنت أسد ابن هاشم بن عبد مناف.
وهذا الرجز، كانت ترقّص به عقيلا لمّا كان طفلا. وقبله: (الرجز)
إنّ عقيلا كاسمه عقيل ... وبيبي الملفّف المحمول
وآخره:
* يعطي رجال الحيّ أو ينيل *
وعقيل كلّ شيء: أفضله. وبيبي: بأبي، أي: يفدّى بأبي أو مفدّى به.
ورواه الأزدي (3) في «كتاب الترقيص»: (الرجز)
__________
(1) في طبعة بولاق: = وإن =. وهو تصحيف صوابه من النسخة الشنقيطية.
(2) في طبعة بولاق: = يقول =. ولقد أثبتنا رواية النسخة الشنقيطية.
(3) الأزدي، هو محمد بن المعلى بن عبد الله الأزدي.(9/228)
أنت تكون السيّد النّبيل ... إذا تهبّ الشّمأل البليل (1)
ورواية سيبويه في البيت المتقدم بنصب «مزاجها»، على أنه خبر مقدم، ورفع «عسل» على أنه اسم مؤخّر. وإن شاء الله يأتي الكلام عليها في آخر الباب.
وروى أيضا برفع مزاجها ونصب عسل على الاسم والخبر، ويكون ارتفاع ماء بفعل محذوف تقديره: ومازجها ماء، لأنّ الشيء إذا خالط شيئا، فقد خالطه ذلك الشيء أيضا. وهذه رواية أبي عثمان المازني ومختاره، نقله عنه ابن السيد وابن خلف وغيرهما.
وخبر كأنّ المشدّدة في بيت يليه، وهو (2): (الوافر)
على أنيابها أو طعم غضّ ... من التّفّاح هصّره اجتناء
فقوله: «على أنيابها» هو الخبر. والأنياب أربعة أسنان: ثنتان من يمين الثنايا:
واحدة من فوق، وواحدة من أسفل، وثنتان من شمالها كذلك. شبّه طعم ريقها بطعم خمر قد مزجت بعسل وماء، أو بطعم تفّاح غضّ قد اجتني. فطعم، بالنصب، معطوف على سبيئة.
و «هصّره»: أماله. و «الاجتناء»: أخذ الثّمر من الشجر. ويروى بدله:
«جناء» بكسر الجيم، وهو الثمر بعينه.
والبيت الثاني ثابت في ديوان حسّان، وهو عندي نسخة قديمة تاريخ كتابته سنة أربع وثلاثين وثلثمائة.
وكذا رواه من تكلّم في شعره. وقد أنكره السّهيليّ في «الروض»، وقال:
قوله: «كأنّ سبيئة» خبر كأنّ في هذا البيت محذوف، تقديره: كأنّ في فيها (3).
ومثله في النكرات حسن (4) كقوله (5): (المنسرح)
__________
(1) في طبعة بولاق: = شمأل بليل =.
(2) البيت لحسان بن ثابت في ديوانه ص 72وتاج العروس (سبأ) وشرح أبيات المغني للبغدادي 6/ 351 ولسان العرب (سبأ، جنى).
(3) في الروض الأنف 2/ 280: = كأن في فيها خبيئة =.
(4) في الروض الأنف: = ومثل هذا المحذوف في النكرات حسن =.
(5) صدر بيت للأعشى وعجزه:(9/229)
* إنّ محلّا وإنّ مرتحلا *
أي: إنّ لنا محلّا.
وكقول الآخر (1):
* ولكنّ زنجيّا طويلا مشافره *
وزعم بعضهم أنّ بعده بيتا فيه الخبر، وهو «على أنيابها» البيت. وهو مصنوع لا يشبه شعر حسان ولا لفظه. انتهى.
و «السبيئة»: فعلية بمعنى مفعولة. وهي الخمر التي تسبأ، أي: تشترى بالهمز.
قال المبرد في «الكامل» (2) وأنشد البيت. يقال: سبأت الخمر سبئا، إذا اشتريتها. والسابيء: الخمّار.
قال ابن السيد: إنّما السابيء مبتاع الخمر، لا بائعها. وهذا منه غلط.
وفي القاموس: سبأ الخمر كجعل، سبئا وسباء ومسبأ: شراها كاستبأها.
وبيّاعها السّبّاء. والسبيئة، ككريمة: الخمر.
ثم قال في المعتلّ: سبى العدوّ: أسره. والخمر سبيا وسباء، ووهم الجوهري:
__________
* وإنّ في السّفر إذ مضوا مهلا *
وهو الإنشاد التاسع عشر بعد المائة في شرح أبيات المغني للبغدادي.
والبيت للأعشى في ديوانه ص 283وتاج العروس (حلل) والخصائص 2/ 373والدرر 2/ 173وسر صناعة الإعراب 2/ 517وشرح أبيات المغني للبغدادي 2/ 161والشعر والشعراء ص 75والكتاب 2/ 141 ولسان العرب (رحل) والمحتسب 1/ 349ومغني اللبيب 1/ 82والمقتضب 4/ 130والمقرب 1/ 109.
وهو بلا نسبة في الأشباه والنظائر 2/ 329وأمالي ابن الحاجب 1/ 345ورصف المباني ص 298وشرح شواهد المغني 1/ 238، 2/ 612وشرح المفصل 8/ 84والصاحبي في فقه اللغة ص 130ولسان العرب (حلل).
(1) عجز بيت للفرزدق وصدره:
* فلو كنت قيسيا إذن ما حبستني *
والبيت للفرزدق في الأغاني 21/ 332وشرح أبيات المغني للبغدادي 5/ 198وليس في ديوانه.
(2) الكامل في اللغة 1/ 74.(9/230)
حملها من بلد إلى بلد. انتهى.
والجوهري قيّد السّبء بشرائها للشّرب. قال: فأمّا إذا اشتريتها لتحملها إلى بلد آخر قلت: سبيت الخمر. فشراؤها للتّجارة يكون عنده بالياء.
وردّ عليه الصفديّ في «نفوذ السهم، فيما وقع للجوهري من الوهم». قال:
هذا تحكّم منه، ودعوى بلا دليل.
وقول ابن هرمة (1): (المنسرح)
خود تعاطيك بعد رقدتها ... إذا تلاها العيون مهدؤها (2)
كأسا بفيها صهباء معرقة ... يغلو بأيدي التّجار مسبؤها (3)
يشهد بخلاف هذا الفرق الذي أبداه (4). ولا يجوز سبيت الخمر بالياء إلّا على قول من يرى تحويل الهمزة. انتهى.
وروى: «كأنّ سلافة»، و «السّلافة»: الخمر، وقيل: خلاصة الخمر، وقيل: ما سال من العنب قبل العصر، وذلك أخلصها. واشقاقها من سلف الشيء، إذا تقدّم.
وروى أيضا (5): «كأنّ خبيئة»، وهي الخمر المخبّأة المصونة المضنون بها.
وقوله: «من بيت رأس» متعلّق بمحذوف على أنّه صفة أولى لسبيئة، وجملة:
«يكون» إلخ، صفة ثانية لها كأنه قال: سبيئة مشتراة من بيت رأس ممزوجة بعسل وماء.
و «بيت رأس»: موضع، قال ابن السيد «فيما كتبه على كامل المبرد»: قال
__________
(1) البيتان لإبراهيم بن هرمة في ديوانه ص 57.
(2) البيت لإبراهيم بن هرمة في ديوانه ص 57وتاج العروس (سبأ) وشرح شواهد المغني 2/ 826ولسان العرب (سبأ).
(3) البيت لإبراهيم بن هرمة في ديوانه ص 57وتاج العروس (سبأ) والتنبيه والإيضاح 1/ 19وشرح شواهد المغني 3/ 826ولسان العرب (سبأ).
(4) في طبعة بولاق والنسخة الشنقيطية: = أبدأه =.
أبدأه: ابتدعه.
(5) هي رواية ديوانه.(9/231)
عبيد الله (1) بن عبد الله بن خرداذبه: بيت رأس: اسم قرية بالشام من ناحية الأردنّ، كانت الخمور تباع فيها، وبه ماتت حبابة (2) جارية يزيد بن عبد الملك، فمات يزيد بعد بضع عشرة جزعا عليها. انتهى.
وقيل: بيت: موضع الخمر، ورأس: اسم للخمّار. وقصد إلى بيت هذا الخمّار لأنّ خمره أطيب الخمر. وقيل: الرأس، هنا بمعنى الرّئيس، أي: من بيت رئيس.
قال اللخمي: وهذا أحسن الأقوال لأنّ الرؤساء إنّما تشرب الخمر ممزوجة.
وإنّما اشترط أن يمزجها لأنّها خمر شاميّة صليبة، فإن لم تمزج قتلت شاربها.
وخصّ العسل والماء، لأنّ العسل أحلى ما يخالطها، وأنه يذهب بمرارتها، وأمّا الماء فيبرّدها ويليّنها.
وقيل: إنّما عنى شراب الرّؤساء والملوك على قول من جعل رأسا: بمعنى رئيس، لأنّها إذا مزجت لا يشربها إلّا الرؤساء، وأشراف الناس، كراهية أن تخرجهم عن عقولهم.
ألا ترى إلى قول عديّ بن زيد (3): (الرمل)
ربّ ركب قد أناخوا حولنا ... يشربون الخمر بالماء الزّلال
وقد عابت على جذيمة الأبرش أخته شرب الخمر صرفا لأمر لحقها من ذلك، فقالت له (4): (الخفيف)
ذاك من شربك المدامة صرفا ... وتماديك في الصّبا والمجون
__________
(1) في النسخة الشنقيطية: = أبو عبيد الله =. وهو تصحيف صوابه من طبعة بولاق.
وهو أبو القاسم عبد الله أو عبيد الله بن عبد الله أو أحمد ابن خرداذبة. وكان خرداذبة مجوسيا أسلم على يد البرامكة، وتولى أبو القاسم البريد والخبر بنواحي الجبل ونادم المعتمد وخصّ به وله كتاب المسالك والممالك. انظر الفهرست ص 165.
(2) حبابة هذه بتخفيف الباء يقول فيها يزيد بن عبد الملك (الأغاني 9/ 274):
ابلغ حبابة أسقى ربعها المطر ... ما للفؤاد سوى ذكراكم وطر
إن سار صحبي لم أملل بذكركم ... أو عرّسوا فهموم النفس والفكر
(3) البيت لعدي بن زيد في ديوانه ص 82والكامل في اللغة 1/ 294.
(4) البيت لأخت جذيمة في شرح أبيات المغني 6/ 350.(9/232)
وقد مدح الله خمر الجنّة لمّا لم يكن الشارب يزوي وجهه لها، فقال عزّ من قائل (1): «{وَأَنْهََارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشََّارِبِينَ}»، أي: إنّ الشارب إذا شربها لم يقطّب وجهه، ولم تخرجه عن عقله.
وبيت حسّان مع ما بعده مأخوذ من قول امرئ القيس، وإن كان في قول امرئ القيس زيادة أحسن فيها ما شاء، وأتبع دلوه في الإجادة الرّشاء، فقال (2):
(المتقارب)
كأنّ المدام وصوب الغمام ... وريح الخزامى ونشر القطر (3)
يعلّ به برد أنيابها ... إذا طرّب الطّائر المستحر (4)
والزيادة التي زادها قوله: «إذا طرّب الطائر المستحر» يعني عند تغيّر الأفواه.
فشبّه حسان ريق هذه المرأة بخمر ممزوجة بعسل وماء، أو بطعم غضّ من التّفّاح.
والبيت من قصيدة لحسان بن ثابت، قالها قبل فتح مكّة، مدح بها النبيّ صلّى الله عليه وسلّم وهجا أبا سفيان، وكان هجا النبي صلّى الله عليه وسلّم قبل إسلامه، وهي هذه (5):
عفت ذات الأصابع فالجواء ... إلى عذراء منزلها خلاء (6)
ديار من بني الحسحاس قفر ... تعفّيها الرّوامس والسّماء
وكانت لا يزال بها أنيس ... خلال مروجها نعم وشاء
__________
(1) سورة محمد: 47/ 15.
(2) البيتان لامرئ القيس في ديوانه ص 158157.
(3) البيت لامرئ القيس في ديوانه ص 157وتاج العروس (سحر، قطر، نشر) والتنبيه والإيضاح 2/ 191 وجمهرة اللغة ص 511، 758ولسان العرب (سحر، قطر، نشر، خزم) وهو للأعشى في تاج العروس (خزم) وليس في ديوانه. وهو بلا نسبة في تهذيب اللغة 11/ 339، 16/ 215.
(4) البيت لامرئ القيس في ديوانه ص 158وتاج العروس (طرب، سحر، قطر) وتهذيب اللغة 13/ 335 وجمهرة اللغة ص 511، 758ولسان العرب (طرب، سحر، قطر).
(5) الأبيات لحسان بن ثابت في ديوانه ص 7771والسيرة النبوية 2/ 424421.
وفي السيرة النبوية: = وكان مما قيل من الشعر في يوم الفتح قول حسان بن ثابت الأنصاري =.
(6) البيت لحسان بن ثابت الأنصاري في ديوانه ص 71وتاج العروس (عذر، ضبع) والسيرة النبوية 2/ 421.(9/233)
فدع هذا ولكن من لطيف ... يؤرّقني إذا ذهب العشاء
لشعثاء التي قد تيّمته ... فليس لقلبه منها شفاء
كأنّ خبيئة من بيت رأس ... يكون مزاجها عسل وماء (1)
إذا ما الأشربات ذكرن يوما ... فهنّ لطيّب الرّاح الفداء (2)
نولّيها الملامة إن ألمنا ... إذا ما كان مغث أو لحاء (3)
ونشربها فتتركنا ملوكا ... وأسدا ما ينهنهنا اللّقاء
عدمنا خيلنا إن لم تروها ... تثير النّقع موعدها كداء (4)
يبارين الأسنّة مصغيات ... على أكتافها الأسل الظّماء (5)
تظلّ جيادنا متمطّرات ... تلطّمهنّ بالخمر النّساء (6)
فإمّا تعرضوا عنّا اعتمرنا ... وكان الفتح وانكشف الغطاء
وإلّا فاصبروا لجلاد يوم ... يعين الله فيه من يشاء
وقال الله: قد يسّرت جندا ... هم الأنصار عرضتها اللّقاء (7)
لنا في كلّ يوم من معدّ ... قتال أو سباب أو هجاء
فنحكم بالقوافي من هجانا ... ونضرب حين تختلط الدّماء
__________
(1) زاد بعده صاحب ديوانه:
على أنيابها أو طعم غضّ ... من التّفاح هصّره الجناء
(2) البيت لحسان بن ثابت في ديوانه ص 72وتذكرة النحاة ص 589والسيرة النبوية 2/ 422.
(3) البيت لحسان بن ثابت في ديوانه ص 72وتهذيب اللغة 5/ 239والسيرة النبوية 2/ 422. وهو بلا نسبة في تاج العروس (مغث) ولسان العرب (مغث، لحا).
(4) البيت لحسان بن ثابت الأنصاري في ديوانه ص 73وتاج العروس (كذا) وجمهرة اللغة ص 1060 والسيرة النبوية 2/ 422ولسان العرب (كذا) ومعجم ما استعجم ص 1117.
(5) البيت لحسان بن ثابت في ديوانه ص 73وتاج العروس (صعد) والسيرة النبوية 2/ 422ولسان العرب (صعد، برى).
(6) البيت لحسان بن ثابت في ديوانه ص 73وتاج العروس (مطر، طلم، لطم) وتهذيب اللغة 13/ 356 وجمهرة اللغة ص 925والسيرة النبوية 2/ 423ولسان العرب (مطر، طلم، لطم).
(7) البيت لحسان بن ثابت في ديوانه ص 74وتاج العروس (عرض) وجمهرة اللغة ص 1320والسيرة النبوية 2/ 423ولسان العرب (عرض) والمعاني الكبير ص 971.(9/234)
وقال الله: قد أرسلت عبدا ... يقول الحقّ إن نفع البلاء
شهدت به وقومي صدّقوه ... فقلتم ما نجيب وما نشاء
وجبريل أمين الله فينا ... وروح القدس ليس له كفاء (1)
ألا أبلغ أبا سفيان عنّي ... مغلغلة فقد برح الخفاء (2)
بأنّ سيوفنا تركتك عبدا ... وعبد الدّار سادتها الإماء
هجوت محمّدا فأجبت عنه ... وعند الله في ذاك الجزاء (3)
أتهجوه ولست له بكفء ... فشرّكما لخير كما الفداء (4)
هجوت مباركا برّا حنيفا ... أمين الله شيمته الوفاء
أمن يهجو رسول الله منكم ... ويمدحه وينصره سواء (5)
فإنّ أبي ووالده وعرضي ... لعرض محمّد منكم وقاء (6)
لساني صارم لا عيب فيه ... وبحري لا تكدّره الدّلاء
وهذه رواية ابن هشام في «السيرة». وفي الديوان ثلاثة أبيات أخر من آخرها زيادة على هذا.
__________
(1) البيت لحسان بن ثابت في ديوانه ص 75وأساس البلاغة (كفأ) وتاج العروس (كفأ، جبر) والتنبيه والإيضاح 2/ 96وتهذيب اللغة 10/ 389والسيرة النبوية 2/ 423وكتاب العين 5/ 414ولسان العرب (كفأ، جبر).
(2) البيت لحسان بن ثابت في ديوانه ص 75وأساس البلاغة (جوف) وتاج العروس (برح، جوف) وتهذيب اللغة 6/ 492، 11/ 209وشرح أبيات المغني 7/ 307وكتاب العين 4/ 104ولسان العرب (جوف، هوا). وهو بلا نسبة في ديوان الأدب 3/ 138والمخصص 15/ 120.
(3) البيت لحسان بن ثابت في ديوانه ص 76والسيرة النبوية 2/ 424وشرح أبيات المغني للبغدادي 7/ 307 ومقاييس اللغة 4/ 273.
(4) البيت لحسان بن ثابت في ديوانه ص 76وشرح أبيات المغني 7/ 307وشرح الأشموني 3/ 388ولسان العرب (ندد، عرش).
(5) البيت لحسان بن ثابت في ديوانه ص 76وتذكرة النحاة ص 70والدرر 1/ 296وشرح أبيات المغني 7/ 307ومغني اللبيب ص 625والمقتضب 2/ 137. وهو بلا نسبة في شرح الأشموني ص 82وهمع الهوامع 1/ 88.
(6) البيت لحسان بن ثابت في ديوانه ص 76وأمالي المرتضى 1/ 632وتاج العروس (عرض) ولسان العرب (عرض).(9/235)
قال ابن هشام: قالها حسّان قبل يوم الفتح. ويروى: «لساني صارم لا عتب فيه» بالتاء. وبلغني عن الزّهريّ أنه قال: لمّا رأى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم النساء يلطّمن الخيل بالخمر، تبسّم إلى أبي بكر. انتهى.
وقوله: «عفت ذات الأصابع» إلخ، «عفت»: بمعنى: درست.
و «ذات الأصابع»: موضع بالشام.
و «الجواء»، بكسر الجيم كذلك. قال السهيلي: وبالجواء كان منزل الحارث ابن أبي شمر. وكان حسّان كثيرا ما يرد على ملوك غسّان بالشام، يمدحهم، فلذلك يذكر هذه المنازل. وعذراء، قال السكري في «شرح ديوانه»: قرية على بريد من دمشق، ويها قتل معاوية حجر بن عديّ وأصحابه.
وقوله: «ديار من بني الحسحاس»، بمهملات، قال السكري: الحسحاس بن مالك بن عديّ بن النجار.
وقال السّهيلي: بنو الحسحاس حيّ من بني أسد. قال السكري: والرّوامس:
الرياح التي ترمس الآثار وتغطّيها.
وقال السهيلي: يعني بالسّماء المطر. والسماء لفظ مشترك يقع على المطر، وعلى السماء التي هي السقف. ولم نعلم ذلك من هذا البيت ونحوه ولا من قوله (1):
(الوافر)
إذا سقط السّماء بأرض قوم ... رعيناه وإن كانوا غضابا
لأنّه يحتمل أن يريد مطر السماء، فحذف المضاف، ولكن إنّما عرفناه من قولهم في جمعه: سميّ وأسمية، وهم يقولون في جمع السّماء سماوات، فعلمنا أنّه اسم مشترك بين شيئين.
وقوله: «وكانت لا يزال بها» إلخ، خلال ظرف بمعنى بين، خبر مقدّم. ونعم:
مبتدأ مؤخّر. قال السّهيليّ: النّعم: الإبل، فإذا قيل: الأنعام دخل فيها البقر والغنم.
__________
(1) البيت لمعاوية بن مالك معود الحكماء في الأصمعيات ص 359ولسان العرب (سما) والمفضليات ص 214وهو للفرزدق في تاج العروس (سما). وهو بلا نسبة في ديوان الأدب 4/ 47والمخصص 7/ 195، 16/ 30ومقاييس اللغة 3/ 98.
وذكر محقق طبعة هارون في حاشية 9/ 233أن البيت لجرير ص 17. ولم نجده في ديوانه فلعله سهى.(9/236)
والشّاء والشّويّ: اسم للجميع كالضّأن والضّئين، والإبل والأبيل، والمعز والمعيز. فأمّا الشاة فليست من لفظ الشاء، لام الفعل منها تاء.
وقوله: «فدع هذا» إلخ، «الطّيف»: الخيال. و «يؤرّقني»:
يسهرني.
فإن قيل: كيف يسهره الطيف والطيف، حلم في المنام؟ فالجواب أنّ الذي يؤرّقه لوعة يجدها عند زواله، كما قال الطائي (1): (البسيط)
ظبي تقنّصته لمّا نصبت له ... من آخر اللّيل أشراكا من الحلم
ثمّ انثنى وبنا من ذكره سقم ... باق وإن كان معسولا من السّقم
وقوله: «لشعثاء التي» إلخ، «شعثاء»: بنت سلّام بن مشكم اليهوديّ.
وبيت:
* على أنيابها أو طعم غضّ *
إلخ، لم يورده ابن هشام في «السيرة»، ولهذا أنكره السهيليّ.
وقوله: «نولّيها الملامة» إلخ، يقال: ألام، إذا أتى بما يلام عليه (2). يعني إن أتينا بما نلام عليه صرفنا اللّوم إلى الخمر، واعتذرنا بالسّكر. والمغث، بفتح الميم، وسكون الغين المعجمة بعدها مثلثة: الضّرب باليد.
و «اللّحاء»: الملاحاة باللسان، يروى أنّ حسان مرّ بفتية يشربون الخمر في الإسلام، فنهاهم، فقالوا: والله لقد هممنا بتركها، فزيّنها لنا قولك:
ونشربها فتتركنا ملوكا ... البيت
فقال: والله لقد قلتها في الجاهلية، وما شربتها منذ أسلمت.
ولذلك قيل: إنّ بعض هذه القصيدة، قالها في الجاهلية، وقال آخرها في الإسلام.
__________
(1) هو أبو تمام الطائي. والبيت من قصيدة في ديوانه ص 268يمدح بها مالك بن طوق التغلبي.
(2) في طبعة بولاق: = بالملام عليه =. ولقد أثبتنا رواية النسخة الشنقيطية.(9/237)
وقوله: «عدمنا خيلنا» إلخ، «النقع»: الغبار. و «كداء»، بالفتح والمد: الثّنيّة التي في أصلها مقبرة مكة، ومنها دخل الزّبير يومئذ، ودخل النبيّ صلّى الله عليه وسلّم من شعب أذاخر.
وقوله: «يبارين الأسنّة» إلخ، مباراتها الأسنّة: أن يضجع الرجل رمحه، فكان الفرس يركض ليسبق السّنان.
و «المصغيات»: الموائل المنحرفات المطّعن. و «الأسل»: الرّماح. ورواية ابن هشام: «ينازعن الأعنّة مصغيات».
وقوله: «تظلّ جيادنا» إلخ، «المتمطّرات»: الخوارج من جمهور الخيل. قال ابن دريد في «الجمهرة»: كان الخليل يروي: «يطلّمهنّ بالخمر النّساء»، وينكر يلطّمهنّ، ويجعله بمعنى ينفضن النساء بخمرهنّ ما عليهنّ من غبار أو نحو ذلك (1). قال: والطّلم: ضربك خبزة الملّة بيدك لتنفض ما عليها من الرّماد.
والطّلمة: الخبزة.
وقوله: «فنحكم بالقوافي»، أحكمه: كفّه ومنعه. ومنه سمّي القاضي حاكما، لأنّه يمنع الناس من الظّلم.
قال جرير (2): (الكامل)
أبني حنيفة أحكموا سفهاءكم ... إنّي أخاف عليكم أن أغضبا
وقوله: «ألا أبلغ أبا سفيان عنّي» إلخ، «المغلغلة»: الرسالة الذاهبة إلى كلّ بلد، من تغلغل، إذ ذهب.
وروى غير ابن هشام مصراعه الثاني كذا:
* فأنت مجوّف نخب هواء *
__________
(1) في حاشية طبعة هارون 9/ 235: = الكلام بعد يلطمهن إلى هنا لم يرد في نسخة الجمهرة المطبوعة. انظر الجمهرة 3: 116. ولكنه في نقل الروض الأنف 2: 281وفيه: ينفض النساء، بدل، ينفضن النساء التي وردت على لغة أكلوني البراغيث =.
(2) البيت لجرير في ديوانه ص 466وأساس البلاغة (حكم) وتاج العروس (حكم) وتهذيب اللغة 4/ 112 ولسان العرب (حكم) ومجمل اللغة 2/ 94ومقاييس اللغة 2/ 91. وهو بلا نسبة في كتاب العين 3/ 67.(9/238)
و «النّخب»، بفتح النون وكسر المعجمة: الجبان
وقوله: «هجوت محمّدا»، قال اللخمي: قال ابن دريد: أخبرنا السّكن بن سعيد، عن عبّاد بن عبّاد، عن أبيه، قال: لما انتهى حسّان إلى هذا البيت قال له النبي صلّى الله عليه وسلّم: «جزاؤك على الله الجنّة يا حسّان».
ولمّا انتهى إلى قوله:
* أتهجوه ولست له بكفء *
قال من حضر: هذا أنصف بيت قالته العرب.
ولمّا انتهى إلى قوله:
* فإنّ أبي ووالده وعرضي *
قال صلّى الله عليه وسلّم: «وقاك الله يا حسّان حرّ النار».
وقوله:
* فشرّكما لخير كما الفداء *
قال السهيلي: في ظاهر هذا اللفظ شناعة (1) لأنّ المعروف أن لا يقال: هو شرّهما إلّا وفي كليهما شرّ (2). وكذلك شرّ منك (3)، ولكنّ سيبويه، قال: تقول:
مررت برجل شرّ منك، إذا نقص عن أن يكون مثله. وهذا يدفع الشّناعة عن الكلام الأوّل.
ونحو منه قوله عليه السلام: «شرّ صفوف الرّجال آخرها»، يريد: نقصان حظّهم عن حظّ الصفّ الأوّل، كما قال سيبويه. ولا يجوز أن يريد التفضيل في الشّرّ. والله أعلم.
* * * __________
(1) في الروض الأنف: = بشاعة =.
(2) في طبعة بولاق والنسخة الشنقيطية: = كلاهما شر =. وما أثبتنا عن الروض الأنف.
(3) في طبعة بولاق والنسخة الشنقيطية: = شر مثله =. وهو تصحيف صوابه من الروض الأنف.(9/239)
وأنشد بعده، وهو الشاهد الثالث والثلاثون بعد السبعمائة (1): (الطويل)
733 - فلا وأبي دهماء زالت عزيزة
على أنّه قد فصل بالجارّ والمجرور، أعني الجملة القسميّة، وهو «وأبي دهماء» بين «لا» النافية، وبين «زالت».
وهذا الفصل شاذّ. وإليه ذهب ابن هشام في «المغني»، إلّا أنه لم يقيّده بالشذوذ ولا بالقلة. وكأنه مطّرد عنده. قال في «بحث الجملة المعترضة»: ويفصل بين حرف النفي، ومنفيّه، كقوله (2): (المنسرح)
* ولا أراها تزال ظالمة *
وقوله:
* فلا وأبي دهماء زالت عزيزة *
قال شارحه ابن الملّا الحلبي: ويجوز أن تكون «لا» ردّا، وحرف النفي محذوفا، ولا اعتراض. انتهى.
__________
(1) صدر بيت مختلف في نسبته وعجزه:
* على قومها ما فتل الزّند قادح *
والبيت هو الإنشاد الثالث والثلاثون بعد الستمائة في شرح أبيات المغني للبغدادي.
والبيت لتميم بن أبي بن مقبل في ملحق ديوانه ص 358. وهو بلا نسبة في تذكرة النحاة ص 287والدرر 6/ 217وشرح أبيات المغني 6/ 223وشرح شواهد المغني ص 820ومغني اللبيب ص 393والمقرب 1/ 94وهمع الهوامع 2/ 156.
وله رواية مشهورة وهي:
لعمر أبي دهماء زالت عزيزة ... على أهلها
(2) صدر بيت لإبراهيم بن هرمة وعجزه:
* تحدث لي قرحة وتنكوها *
والبيت هو الإنشاد الثاني والثلاثون بعد الستمائة في شرح أبيات المغني للبغدادي.
والبيت لابن هرمة في ديوانه ص 56والدرر 2/ 47وشرح أبيات المغني للبغدادي 6/ 221وشرح شواهد المغني ص 820، 826. وهو بلا نسبة في مغني اللبيب ص 393وهمع الهوامع 1/ 111، 248.(9/240)
وقد ردّ الشارح المحقق هذا الجواز، فقال: وليس ممّا حذف منه حرف النفي إلخ.
ومراده الرّدّ على الفراء، فإنّه ذهب في موضعين من «تفسيره» إلى أنّ حرف النفي منه محذوف:
الأوّل في سورة يوسف عند قوله تعالى (1): «{تَاللََّهِ تَفْتَؤُا تَذْكُرُ يُوسُفَ}»، قال:
أي لا تزال تذكر يوسف. ولا قد تضمر مع الأيمان، لأنّها إذا كانت خبرا لا يضمر فيها لا، لم تكن إلّا بلام.
ألا ترى أنّك تقول: والله لآتينّك. ولا يجوز: والله آتيك، إلّا أن تكون تريد لا. فلما تبيّن موضعها، وفارقت الخبر أضمرت.
قال امرؤ القيس (2): (الطويل)
فقلت يمين الله أبرح قاعدا ... البيت
وأنشدني بعضهم:
فلا وأبي دهماء زالت عزيزة ... على قومها ما فتّل الزّند قادح
يريد: لا زالت.
والموضع الثاني في سورة الكهف، عند قوله تعالى (3): «{وَإِذْ قََالَ مُوسى ََ لِفَتََاهُ لََا أَبْرَحُ}».
__________
(1) سورة يوسف: 12/ 85.
(2) قطعة من بيت لامرئ القيس وتمامه:
فقلت يمين الله أبرح قاعدا ... ولو قطعوا رأسي لديك وأوصالي
والبيت هو الإنشاد الثامن والستون بعد الثمانمائة في شرح أبيات المغني للبغدادي.
والبيت لامرئ القيس في ديوانه ص 32والخصائص 2/ 284والدرر 4/ 212وشرح أبيات سيبويه 2/ 220 وشرح أبيات المغني للبغدادي 7/ 332وشرح التصريح 1/ 185وشرح شواهد المغني 1/ 341وشرح المفصل 7/ 110، 8/ 37، 9/ 104والكتاب 3/ 504ولسان العرب (يمن) واللمع ص 259والمقاصد النحوية 2/ 13. وهو بلا نسبة في أوضح المسالك 1/ 232وشرح الأشموني 1/ 110ومغني اللبيب 2/ 637 والمقتضب 2/ 362وهمع الهوامع 2/ 38.
(3) سورة الكهف: 18/ 60.(9/241)
قال: لا يكون (1) تزال، وأبرح، وأفتأ إلّا بجحد ظاهر أو مضمر. فأمّا الظاهر فقد تراه في القرآن (2): «{وَلََا يَزََالُونَ مُخْتَلِفِينَ}». والمضمر فيه الجحد قول الله تعالى:
«{تَفْتَؤُا}» معناه لا تفتؤ.
ومثله قول الشاعر:
فلا وأبي دهماء زالت عزيزة ... البيت
وكذلك قول امرئ القيس:
فقلت يمين الله أبرح قاعدا ... البيت
انتهى.
وقد جعله ابن عصفور من باب حذف النّافي، وهو ما، لكن روى صدره على خلاف هذا، قال: ومنه حذف ما النافية وهو قليل جدا، وهو قوله:
لعمر أبي دهماء زالت عزيزة ... على قومها ما فتّل الزّند قادح
يريد: ما زالت عزيزة. انتهى.
وكذا رواه المراديّ في «شرح التسهيل» وخرّجه. إلّا أنه قال: أي لا زالت عزيزة. انتهى.
وقوله: «فلا وأبي دهماء» إلخ، الفاء في التقدير داخلة على واو القسم، أي: فو أبي دهماء، لا زالت عزيزة.
أقسم الشاعر بوالد هذه المرأة. فأبي مضاف إلى دهماء وهي اسم امرأة، واسم زالت الضمير الراجع إلى دهماء، وعزيزة خبرها، وهي من العزّة بالعين المهملة وبالزاء المعجمة، وجملة: «لا زالت» جواب القسم، وعلى قومها متعلّق بعزيزة، وما مصدريّة ظرفية.
و «فتّل» بالفاء بعدها مثناة فوقية، روى بشدّها وتخفيفها، وهو فعل ماض، والزّند مفعوله، وقادح فاعله.
__________
(1) في النسخة الشنقيطية: = لا تكون =. ولقد أثبتنا رواية طبعة بولاق ومعاني القرآن للفراء.
(2) سورة هود: 11/ 118.(9/242)
وقد ذكر أبو حنيفة الدّينوريّ في «كتاب النبات» صفة الزّند والزّندة، وكيفيّة الفتل، فلا بأس بإيراده هنا، قال:
أفضل ما اتّخذت منه الزّناد شجرتا المرخ والعفاء، بفتح العين المهملة بعدها فاء، فتكون الأنثى، وهي الزّندة السّفلى مرخا، ويكون الذّكر وهو الزّند الأعلى عفارا.
أخبرني بعض علماء الأعراب أنّ العفار شجر، يشبه صغار شجر الغبيراء، منظره من بعيد كمنظره.
وأمّا المرخ فقد رأيته ينبت قضبانا سمحة طوالا لا ورق لها. ولفضل هاتين الشجرتين في سرعة الوري، وكثرة النار، سار قول العرب فيهما مثلا، فقالوا (1):
«في كلّ الشّجر نار، واستمجد المرخ والعفار»، أي: ذهبا بالمجد فكان الفضل لهما.
ولذلك قال الأعشى (2): (المتقارب)
زنادك خير زناد الملو ... ك خالط فيهنّ مرخ عفارا
ويختار أن تكون الزّندة من المرخ، والزّند من العفار.
ومن فضيلة المرخ في كثرة النار، وسرعة الوري، ما ذكر أبو زياد الكلابيّ فإنّه قال: ليس في الشجر كلّه أورى زنادا من المرخ، قال: وربّما كان المرخ مجتمعا ملتفّا، وهبّت الريح، فحكّ بعضه بعضا، فأورى، فاحترق الوادي كلّه. ولم نر ذلك في شيء من الشجر.
ثم بعد أن ذكر الأشجار التي تتّخذ منها الزّناد، قال: وصفة الزّندة: عود مربّع في طول الشّبر أو أكثر، وفي عرض إصبع أو أشفّ، وفي صفحاتها فرض، وهي
__________
(1) في كل شجر استمجد: استكثر. شبه المرخ والعفار وهما ضربان من الشجر بمن يكثر العطاء طلبا للمجد، لأنهما يسرعان الوري.
والمثل في جمهرة الأمثال 1/ 173، 2/ 92والحيوان 4/ 466والعقد الفريد 3/ 100وفصل المقال ص 202 وكتاب الأمثال ص 136وكتاب الأمثال لمجهول ص 80ولسان العرب (مرخ، مجد، عفر) والمستقصى 2/ 183ومجمع الأمثال 2/ 74.
(2) البيت للأعشى في ديوانه ص 103وأمالي القالي 1/ 66وتاج العروس (مرخ) وجمهرة اللغة ص 593 والمخصص 3/ 5، 11/ 37ومقاييس اللغة 4/ 64.(9/243)
نقر، الواحدة منها فرضة، وتجمع فراضا أيضا. والزّند الأعلى نحوها، غير أنه مستدير، وطرفه أدقّ من سائره.
فأمّا وصف الاقتداح بها، فإنّ المقتدح إذا أراد أن يقتدح بالزّناد، وضع الزندة ذات الفراض بالأرض، ووضع رجليه على طرفيها، ثم وضع طرف الزّند الأعلى في فرضة من فراض الزّندة، وقد تقدّم فهيّأ في الفرضة مجرى للنار إلى جهة الأرض يحزّ، وقد حزّه بالسّكّين في جانب الفرضة، ثم فتل الزّند بكفّه كما يفتل المثقب، وقد ألقى في الفرضة شيئا من التّراب يسيرا يبتغي بذلك الخشنة (1)، ليكون الزّند أعمل في الزّندة، وقد جعل إلى جانب الفرضة عند مفضى الحزّ، ريّة (2) تأخذ فيها النّار، فإذا فتل الزّند، لم يلبث الدّخان أن يظهر، ثم تتبعه النار (3) فتنحدر في الحزّ، وتأخذ في الرّيّة. وتلك النار هي السّقط. انتهى كلامه باختصار كثير.
وقد صحّف بعضهم قوله: «ما فتّل الزّند قادح» وروى: «ما قيل للزّند قادح»، على أنه فعل [ماض] مجهول من القول. وجرّ الزند باللام.
وهذا البيت لم أقف له على تتمة، ولا قائل. والله أعلم.
* * * وأنشد بعده، وهو الشاهد الرابع والثلاثون بعد السبعمائة (4): (مجزوء الكامل)
__________
(1) الخشنة بالضم: الخشونة. يقال: خشن خشنة وخشانة وخشونة ومخشنة.
(2) في طبعة بولاق والنسخة الشنقيطية رسمت الكلمتان: الحزرية =. فبدتا وكأنهما كلمة واحدة.
وفي طبعة هارون 9/ 241: = رية =. بتخفيف الياء. وهو تصحيف.
والريّة: ما يورى به النار. انظر في ذلك لسان العرب (روى).
(3) في النسخة الشنقيطية رسمت كلمة: = تتبعه =. بنقطتين فوق التاء الأولى، وتحتها وضعت تقطتين إشارة لجواز القراءة على الوجهين.
وفي شرح أبيات المغني للبغدادي 6/ 225: = يتبعه =.
(4) البيت لخليفة بن براز في الدرر 2/ 45والمقاصد النحوية 2/ 75. وهو بلا نسبة في الإنصاف 2/ 824 وتخليص الشواهد ص 233وشرح عمدة الحافظ ص 198وشرح أبيات المغني 7/ 338وشرح المفصل 7/ 109وهمع الهوامع 1/ 111.(9/244)
734 - تنفكّ تسمع ما حيي
ت بهالك حتّى تكونه
على أنّ حرف النفي محذوف، والتقدير: لا تنفك.
وظاهره أنّ حذف النافي أيّ حرف نفي كان، يجوز حذفه من هذه الأفعال، سواء وقعت جواب قسم كالآية والبيت الذي بعده (1)، أم لا كهذا البيت، فإنه لم يتقدّمه شيء. وهو الظاهر أيضا من كلام الزمخشري في «المفصّل»، ومن كلام ابن هشام في «شرح الشواهد».
لكنّ ابن يعيش قيّد حرف النفي بكونه لا، وأنه لا يحذف من هذه الأفعال إلّا إذا وقعت جواب قسم. قال: إنّ حرف النفي قد يحذف في بعض المواضع، وإنّما يسوغ حذفه إذا وقع في جواب القسم، وذلك لأمن اللّبس، كقوله (2):
تزال حبال مبرمات أعدّها ... البيت
ولا يجوز أن يحذف من هذه الحروف غير لا، لأنّه لا يجوز حذف لم وما، لأنّ «لم» عاملة فيما بعدها، ولا يجوز أن تحذف، وتعمل، وكذلك «ما» قد تكون عاملة في لغة أهل الحجاز. انتهى.
ويؤخذ منه أنّه لا يجوز حذف إن أيضا لأنها قد تعمل عمل ليس.
وفي كلامه نظر: أمّا أوّلا: فلأنّه قد مثّل بهذا البيت تبعا لصاحب المفصّل، وتنفكّ فيه ليس جواب قسم.
وأما ثانيا: فلأنّ الكلام في حروف النفي الدّاخلة على الأفعال، وما الحجازية داخلة على المبتدأ والخبر، فأين هذا من ذاك؟ وهل هو إلّا اشتباه.
وقد تبعه المرادي في «شرح التسهيل» في الثاني، قال: وينقاس الحذف في المضارع جواب قسم، وشذّ في الماضي جواب قسم، كقوله:
* لعمر أبي دهماء زالت عزيزة *
__________
(1) أراد الشاهد الذي بعده وهو رقم / 735/.
(2) هو الشاهد التالي رقم / 735/.(9/245)
أي: لا زالت. وشذّ في المضارع غير جواب، كقوله (1): (الوافر)
وأبرح ما أدام الله قومي ... بحمد الله منتطقا مجيدا
أي: لا أبرح، وقيل: لا حذف.
والمعنى: أزول عن أن أكون منتطقا مجيدا، أي: صاحب نطاق وجواد، ما أدام الله قومي، فإنّهم يكفونني ذلك. انتهى.
ودعوى عدم الحذف تعسّف وقع في أشدّ ممّا فرّ منه (2).
وأغرب من قول المراديّ ما ذهب إليه ابن عصفور، من أنه ضرورة، قال: ومنه إضمار لا النافية في غير جواب القسم، كقوله:
تنفكّ تسمع ما حييت ... البيت
انتهى.
فلله درّ الشارح المحقق ما أجود اختياره، وما أرصن سبكه.
وقوله: «تنفكّ تسمع» إلخ، جملة: «تسمع» مع فاعله الضمير خبر لا تنفكّ، وما: مصدرية ظرفية.
و «حييت» بالخطاب، أي: مدّة حياتك. ولا وجه لقول بعض أفاضل العجم في «شرح أبيات المفصل»: وقوله: «ما حييت» بيان لقوله: تنفكّ تسمع، وتأكيد له. انتهى.
و «بهالك» متعلق بتسمع على تقدير مضاف، أي: بخبر هالك. وسمع هنا ليست مما يتعدّى لمفعولين، وتعدّيها بالباء أحد استعمالاتها كما تقدّم، كقولهم:
«تسمع بالمعيديّ».
ويجوز أن تكون الباء زائدة فتكون متعدّية إلى مفعول واحد، كقولك: سمعت
__________
(1) البيت لخداش بن زهير في ديوانه ص 42وشرح أبيات المغني 7/ 339ولسان العرب (نطق) والمقاصد النحوية 2/ 64. وهو بلا نسبة في تذكرة النحاة ص 619وجمهرة اللغة ص 275والدرر 2/ 46وشرح الأشموني 1/ 110وشرح ابن عقيل ص 135والمقرب 1/ 94وهمع الهوامع 1/ 111.
(2) في طبعة بولاق والنسخة الشنقيطية: = في أشد ما فرّ منه =. والوجه الصحيح ما أثبتناه نقلا عن طبعة هارون 9/ 243.(9/246)
الخبر. وهذا أيضا أحد استعمالاتها.
و «حتّى» حرف جرّ بمعنى إلى، والهاء في «تكونه» ضمير الهالك. والأكثر في خبر كان، إذا كان ضميرا أن يكون منفصلا. وهذا من القليل.
وقد استشهد صاحب اللباب لقلّته بهذا البيت.
قال ابن هشام: أي لا تزال تسمع: مات فلان، حتّى تكون الهالك. والخطاب لغير معيّن، مثله في (1): «بشّر مال البخيل بحادث أو وارث». وتسمع خبر، والباء [وحتّى (2)] متعلقان به، وما ظرف له، والهاء من «تكونه» راجعة للهالك باعتبار لفظه دون معناه، لأنّ السامع غير المسموع.
ومثله مسألة التنازع: ظنّني وظننت زيدا قائما إيّاه. وقد غمض هذا المعنى على ابن الطّراوة فمنع المسألة، وخالف الأئمة.
وبعده:
والمرء قد يرجو الرّجا ... ء مؤمّلا والموت دونه
وكان أبو بكر الصديق رضي الله عنه كثيرا ما يتمثّل بهما. انتهى.
وكذا رواه العيني.
والذي رواه ابن المستوفي وغيره:
* والمرء قد يرجو الحياة *
ومؤمّلا: حال من ضمير يرجو. وقال العيني: مؤمّل إن كان اسم فاعل فهو حال من المرء، وإن كان اسم مفعول، فهو مفعول ليرجو. هذا كلامه. فتأمّله.
ودون هنا بمعنى أمام أو خلف، لأنه من الأضداد. وجملة: «والموت دونه» حال إمّا من ضمير مؤمّل، أو من ضمير يرجو.
والبيتان نسبهما أبو عبيد القاسم بن سلّام في «كتاب الأمثال» لخليفة بن
__________
(1) هذا المثل يضرب لتجنب البخل، وهو في مجمع الأمثال 1/ 120.
(2) زيادة يقتضيها السياق من النسخة الشنقيطية.(9/247)
براز (1)، وهو جاهلي. وقد أخذ البيت بعضهم، فقال: (الطويل)
يقال فلان مات في كلّ ساعة ... ويوشك يوما أن تكون فلانا
* * * وأنشد بعده، وهو الشاهد الخامس والثلاثون بعد السبعمائة (2): (الطويل)
735 - تزال حبال مبرمات أعدّها
لها ما مشى يوما على خفّه جمل
على أنّ «تزال» جواب قسم، وحذف منه حرف النفي، أي: لا تزال.
والقسم في بيت قبله، وهو (3):
حلفت يمينا يا ابن قحفان بالذي ... تكفّل بالأرزاق في السّهل والجبل
تزال حبال مبرمات ... البيت
فأعط ولا تبخل إذا جاء سائل ... فعندي لها عقل وقد زاحت العلل
وروى أيضا:
* وتقسم ليلى يا ابن قحفان بالذي *
إلخ. فجملة: «لا تزال» بتقدير لا، جواب القسم الذي هو تقسم ليلى.
و «مبرمات»: محكمات. و «أعدّها»: أهيّئها. وضمير لها للإبل في شعر قبل هذا يأتي آنفا.
__________
(1) في حاشية طبعة هارون 9/ 245: = انظر فصل المقال 64حيث أنشد البيت الشاهد منسوبا إليه برواية: ولا تزال تسمع. وفي القاموس (برز): وكسحاب: اسم =.
(2) البيت لامرأة سالم بن قحفان في الحماسة برواية الجواليقي ص 515وسمط اللآلئ ص 631وشرح الحماسة للأعلم 2/ 982وشرح الحماسة للتبريزي 4/ 67وشرح الحماسة للمرزوقي ص 1727. وهو بلا نسبة في شرح المفصل 7/ 109.
(3) الأبيات لامرأة سالم بن قحفان في الحماسة برواية الجواليقي ص 515وشرح الحماسة للأعلم 2/ 982 وشرح الحماسة للتبريزي 4/ 67وشرح الحماسة للمرزوقي ص 1727.(9/248)
و «ما» مصدرية ظرفية. و «جمل» فاعل مشى، وسكّن للقافية. و «عقل»:
جمع عقال، وهو ما يربط به ركبة البعير. و «زاحت»، بإعجام الأول، بمعنى زالت.
وكان من حديث هذه الأبيات ما رواه أبو تمام في «الحماسة» (1): أنّ سالم بن قحفان جاء إليه أخو امرأته زائرا، فأعطاه بعيرا من إبله، وقال لامرأته: هاتي حبلا يقرن به ما أعطيناه إلى بعير. ثم أعطاه بعيرا آخر، وقال: مثل ذلك، ثم أعطاه مثل ذلك، فقالت: ما بقي عندي حبل! فقال: «عليّ الجمال وعليك الحبال».
وأنشأ يقول (2):
لقد بكرت أمّ الوليد تلومني ... ولم أجترم جرما فقلت لها مهلا
فلا تعذليني بالعطاء ويسّري ... لكلّ بعير جاء طالبه حبلا
فإنّي لا تبكي عليّ إفالها ... إذا شبعت من روض أوطانها بقلا
فلم أر مثل الإبل مالا لمقتن ... ولا مثل أيّام الحقوق لها سبلا
فرمت إليه خمارها، وقالت: صيّره حبلا لبعضها. وأنشأت تقول:
حلفت يمينا يا ابن قحفان ... الأبيات الثلاثة
انتهى.
ولم يتكلم الخطيب التبريزي بشيء في «شرحه» على هذه الأبيات.
والإفال: أولاد الإبل. قال ابن المستوفي في قوله:
* فإنّي لا تبكي عليّ إفالها *
قولين: أحدهما: أنّ الإبل بهائم، لا تهتمّ بي إذا متّ، بل تربع وتشبع.
والثاني: موتي عندها، وأنا أنحرها أحبّ إليها، فلعلّه يأخذها من لا ينحرها، ولا
__________
(1) الخبر بخلاف يسير في الرواية في الحماسة برواية الجواليقي ص 514وشرح الحماسة للأعلم 2/ 981وشرح الحماسة للتبريزي 4/ 67.
(2) الأبيات لسالم بن قحفان في الحماسة برواية الجواليقي ص 515514والأبيات عدا الأول في شرح الحماسة للأعلم 2/ 981وشرح الحماسة للتبريزي 2/ 67وشرح الحماسة للمرزوقي ص 1726.(9/249)
يغمّهما موتي لأنّي جواد. انتهى.
وقال أبو عبيد البكري فيما كتبه على «أمالي القالي»: إنّ هذا مأخوذ من قول ضمرة بن ضمرة (1): (الكامل)
أرأيت إن صرخت بليل هامتي ... وخرجت منها باليا أثوابي
هل تخمشن إبلي عليّ وجوهها ... وتعصّبنّ رؤوسها بسلاب
«والسّلاب»: عصائب سود. يقال: امرأة مسلّبة، إذا لبست السّواد حدادا.
و «سالم بن قحفان» بضم القاف وسكون المهملة بعدها فاء، لم أقف له على خبر، ولا على زوجته ليلى. والله أعلم.
* * * وأنشد بعده، وهو الشاهد السادس والثلاثون بعد السبعمائة، وهو من شواهد سيبويه (2): (الطويل)
736 - حراجيج ما تنفكّ إلّا مناخة
على الخسف أو نرمي بها بلدا قفرا
على أنه خطّئ ذو الرمّة فيه، لأنّ «ما تنفكّ» وأخواته بمعنى الإيجاب من حيث المعنى، لا يتّصل الاستثناء بخبرها، كما بيّنه الشارح المحقق.
وذكر عنه جوابين:
__________
(1) البيتان لضمرة بن ضمرة في أمالي القالي 2/ 279وسمط اللآلئ ص 631، 661.
في طبعة بولاق: = إن سرحت بليل همتي =. وهو تصحيف صوابه من أمالي القالي وسمط اللآلئ.
وفي النسخة الشنقيطية مع أثر تصحيح بها: = إن سرحت =.
(2) البيت هو الإنشاد السادس بعد المائة في شرح أبيات المغني للبغدادي.
والبيت لذي الرمة في ديوانه ص 173وتخليص الشواهد ص 270وشرح أبيات المغني للبغدادي 2/ 109 وشرح شواهد المغني 1/ 219والكتاب 3/ 48ولسان العرب (فكك) والمحتسب 1/ 329وهمع الهوامع 1/ 120. وهو بلا نسبة في أسرار العربية ص 142والأشباه والنظائر 5/ 173والإنصاف 1/ 156والجنى الداني ص 521وشرح الأشموني 1/ 121ومغني اللبيب 1/ 73وهمع الهوامع 1/ 230.(9/250)
أحدهما: أنّ تنفك تامّة، ومناخة حال، وعلى الخسف متعلق بمناخة، ونرمي معطوف على مناخة.
وثانيهما: أنّها ناقصة، وعلى الخسف: خبرها، ومناخة حال. وذكر ما ورد على هذا الجواب.
والمخطئ هو أبو عمرو بن العلاء (1).
قال المرزباني في «كتاب الموشح» (2): أخبرني محمد بن يحيى، حدثنا الفضل ابن الحباب، حدّثنا بكر بن محمد المازني، حدّثنا الأصمعي، سمعت أبا عمرو بن العلاء، يقول:
أخطأ ذو الرمّة في قوله:
حراجيج ما تنفكّ إلّا مناخة ... البيت
في إدخاله «إلّا» بعد قوله: «ما تنفكّ» قال الصّولي (3): وحدّثنا محمد بن سعيد الأصمّ، وأحمد بن يزيد (4)، قالا: حدّثنا يزيد المهلبيّ عن إسحاق الموصليّ، أنه كان ينشد هذا البيت لذي الرمة:
* حراجيج ما تنفكّ آلا مناخة *
و «الآل»: الشّخص. ويحتجّ ببيته الذي ذكر فيه الآل في غير هذه القصيدة، وهو قوله (5): (الوافر)
فلم نهبط على سفوان حتّى ... طرحن سخالهنّ وصرن آلا
وعلى هذا يكون «آلا»: خبر تنفكّ، ومناخة: صفته، وأنّث الصّفة لأنّ الشخص ممّا يؤنّث ويذكّر. فرواية: «إلّا» بالتشديد غلط من الرّاوي، لا من القائل.
__________
(1) قوله: = قال المرزباني في كتاب عمرو بن = ساقط من النسخة الشنقيطية.
(2) الموشح ص 286.
(3) الموشح ص 287.
(4) في الموشح ص 287: = وأحمد يزيد =.
(5) البيت لذي الرمة في ديوانه ص 439والموشح ص 387.(9/251)
ويرد عليه أنّ ذا الرمّة لما قرأ البيت عند ابن العلاء (1) غلّطه فيه بما ذكره النحويّون.
وقال ابن عصفور في «كتاب الضرائر»: إنّ ذا الرمّة لمّا عيب عليه قوله ما تنفكّ إلّا مناخة، فطن له، فقال: إنّما قلت: «آلا مناخة»، أي: شخصا.
وكذا قال ابن هشام في «شرح الشواهد»، قال ابن الأنباري في «الإنصاف»:
ألال: الشّخص. يقال: هذا آل قد بدا، أي: شخص. وبه سمّي الآل لأنه يرفع الشخوص أوّل النهار وآخره.
وبه يضمحلّ توقّف ابن الملّا الحلبي في «شرح المغني»، في قوله بقي شيء، وهو أن صاحب القاموس على تبحّره لم يذكر مجيء الآل بمعنى الشّخص (2). انتهى.
وخرّجه المازني «كما قال ابن يعيش» على زيادة إلّا، وتبعه أبو على في «القصريّات»، وقال: إلّا ها هنا زائدة، لولا ذلك لم يجز هذا البيت، لأنّ تنفكّ في معنى تزال، ولا يزال (3) لا يتكلّم به إلّا منفيّا عنها. انتهى.
ونسب ابن هشام في «المغني» هذا التخريج إلى الأصمعي وابن جني، قال:
وحمل عليه ابن مالك قوله (4): (الطويل)
* أرى الدّهر إلّا منجنونا بأهله *
__________
(1) في طبعتي بولاق وهارون والنسخة الشنقيطية: = عند أبي العلاء =. وهو تصحيف صوابه من شرح أبيات المغني للبغدادي 2/ 110والموشح.
(2) قول البغدادي غير صحيح. فلقد ذكر صاحب القاموس، هذا المعنى في مادة (أول). ويبدو أن البغدادي سهى.
(3) في النسخة الشنقيطية: = ولا تزال = بالتاء.
(4) صدر بيت لأحد بني سعد وعجزه:
* وما صاحب الحاجات إلا معذّبا *
والبيت هو الإنشاد السابع بعد المائة في شرح أبيات المغني للبغدادي.
والبيت لأحد بني سعد في شرح أبيات المغني للبغدادي 2/ 116وشرح شواهد المغني ص 219. وهو بلا نسبة في أوضح المسالك 1/ 276وتخليص الشواهد ص 271والجنى الداني ص 325والدرر 2/ 98، 3/ 171 ورصف المباني ص 311وشرح الأشموني 1/ 121وشرح التصريح 1/ 197وشرح المفصل 8/ 75ومغني اللبيب ص 73والمقاصد النحوية 2/ 92وهمع الهوامع 1/ 123، 230.(9/252)
وإنما المحفوظ: «وما الدّهر إلّا». ثمّ إن ثبتت روايته فتتخرّج على أنّ أرى جواب لقسم مقدّر، وحذفت لا كحذفها في (1): «{تَاللََّهِ تَفْتَؤُا}» ودلّ على ذلك الاستثناء المفرّغ. انتهى.
ولم يذكر ابن عصفور غيره، وغير احتمال التّمام، لكنّه جعله من الضرائر.
قال: ومنها زيادة إلّا في قوله:
أرى الدّهر إلّا منجنونا ... البيت
هكذا رواه المازني (2)، يريد: أرى الدهر منجونا. وكذلك جعلها في قول الآخر (3): (البسيط)
ما زال مذ وجفت في كلّ هاجرة ... بالأشعث الورد إلّا وهو مهموم
يريد: هو مهموم، فزاد «إلّا» و «الواو» في خبر زال.
وفي قول الآخر (4): (الطويل)
وكلّهم حاشاك إلّا وجدته ... كعين الكذوب جحدها واحتفالها
يريد: وكلّهم حاشاك وجدته.
وفي قول ذي الرّمة:
حراجيج ما تنفكّ إلّا مناخة ... البيت
يريد: ما تنفكّ مناخة.
__________
(1) سورة يوسف: 12/ 85.
(2) هو بكر بن محمد بن حبيب بن بقية، أبو عثمان المازني، من مازن شيبان (249هـ). أحد أئمة النحو، من أهل البصرة، ووفاته فيها له تصانيف كثيرة، منها: ما تلحن فيه العامة، والألف واللام، والتصويف، والعروض، والديياج. انظر في ترجمته مراتب النحويين ص 129126.
(3) البيت لذي الرمة في ديوانه ص 584وتاج العروس (شعث) وتهذيب اللغة 1/ 407وشرح أبيات المغني 2/ 117ولسان العرب (شعث).
في شرح ديوان ذي الرمة ص 584: = يقول: ما ظلّ الحمار مذ وجفت، أي: أسرعت يعني الرياح والظاهرة ما ارتفع من الأرض مهموم بورود الماء، وجفت الريح بالأشعث، أي: جرت أذيالها عليه =.
(4) البيت بلا نسبة في شرح أبيات المغني للبغدادي 2/ 117ومعاني القرآن للفراء 1/ 140.(9/253)
ويحتمل أن يجعل زال وتنفكّ تامّتين، وتكون «إلّا» داخلة على الحال.
وكذلك تجعل إلّا في قوله:
* وكلّهم حاشاك إلّا وجدته *
إيجابا للنفي الذي يعطيه معنى الكلام، أي: ما منهم أحد حاشاك إلّا وجدته.
وعليه حمله الفراء. وأمّا «أرى الدّهر إلّا منجنونا» فلا تكون إلّا فيه إلّا زائدة.
انتهى.
وقد رأيت تخريج ابن هشام بيت المنجنون.
وأوّل من ذهب إلى أنّ تنفكّ في بيت ذي الرمّة تامّة هو الفراء في «تفسيره»، عند قوله (1): «{لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتََابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتََّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ}»: قد يكون الانفكاك على جهة يزال، ويكون على الانفكاك الذي تعرفه.
فإذا كانت على جهة يزال، فلا بدّ لها من فعل، وأن يكون معها جحد، فتقول: ما انفككت أذكرك، تريد: ما زلت أذكرك. فإذا كانت على غير معنى يزال، قلت: قد انفككت منك، وانفكّ الشيء من الشيء، فيكون بلا جحد، وبلا فعل.
وقد قال ذو الرمّة:
قلائص لا تنفكّ إلّا مناخة ... البيت
فلم يدخل فيها «إلّا» إلّا وهو ينوي بها التّمام، وخلاف يزال، لأنّك لا تقول: ما زلت إلّا قائما. انتهى كلامه.
ونسبه ابن الأنباري في «الإنصاف» إلى الكسائيّ، قال: وهذا الوجه رواه هشام عن الكسائي.
وبما ذكرنا يعلم أنّ قول المرادي في «شرح التسهيل»: وخرّجه قوم منهم على أنّها ناقصة، خلاف الواقع. وتنفكّ على هذا مطاوع فكّه، إذا خلّصه أو فصله.
__________
(1) سورة البينة: 98/ 1.(9/254)
قال الزمخشري في «حواشي المفصل»: وفي تصحيح البيت وجيه، وهو أن يريد لا تنفكّ عن أوطانها، أي: لا تنفصل عنها، إلّا ولها بعد الانفصال هاتان الحالتان: إمّا الإناخة على الخسف في المراحل، أو السّير في البلد القفر. انتهى.
وبهذا يظهر قول الشارح المحقق: مناخة حال، ونرمي معطوف عليه.
وقال ابن عقيل والمرادي في «شرحيهما للتسهيل»: كأنه قال: ما تتخلّص، أو ما تنفصل عن السّير، إلّا في حال إناختها على الخسف، وهو حبسها على غير علف.
يريد أنّها تناخ معدّة للسيّر عليها، فلا ترسل من أجل ذلك في المرعى. و «أو» بمعنى «إلى»، وسكّن الياء للضرورة. انتهى.
والوجه الأول أوجه. و «الخسف»، بفتح المعجمة: النّقيصة، يقال: رضي بالخسف، أي: بالنّقيصة. وبات على الخسف، أي: جائعا. وربطت الدّابة على الخسف، أي: على غير علف. و «على» بمعنى مع.
وقال الشارح المحقق: جعل الخسف كالأرض التي يناخ عليها، كقوله (1):
* تحيّة بينهم ضرب وجيع *
يريد أنّ الإناخة إنّما تكون على العلف، فجعل الخسف بدلا منه، كما جعل الضرب الوجيع بدلا من التحية. و «نرمي» بالنون مع البناء للمعلوم، ويروى:
«يرمى» بالمثناة التحتية مع البناء للمفعول.
و «بها»: نائب الفاعل، و «بلدا» ظرف للرّمي، وهو بمعنى المكان والأرض، لا بمعنى المدينة. و «الحرجوج» كعصفور: الناقة الضامر (2)، قاله أبو زيد. وقد روى «مناخة» بالرفع أيضا.
قال ابن المستوفي: قال أبو البقاء: روي مناخة بالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف، وموضع الجملة حال وبالنصب على الحال، وتكون تنفكّ تامة.
__________
(1) البيت لعمرو بن معديكرب الزبيدي، وهو الشاهد التالي رقم / 737/ وسيتم تخريجه في مكانه.
(2) كذا في جميع طبعات الخزانة. وفي اللسان (ضمر): = الضمر الهزال ولحاق البطن وجمل ضامر، وناقة ضامر، بغير هاء أيضا، ذهبوا إلى النسب =.(9/255)
وكذا رواه ابن الأنباري في «الإنصاف».
وأمّا التخريج الثاني من التخريجين اللذين ذكرهما الشارح المحقق فهو للأخفش أبي الحسن سعيد بن مسعدة المجاشعي، قال في «كتاب المعاياة»:
أراد: لا تنفكّ على الخسف، أو نرمي بها بلدا قفرا، إلّا وهي مناخة لأنه لا يجوز لا تنفكّ إلّا مناخة، كما لا تقول: لا تزال (1) إلّا مناخة. انتهى.
وقد تبعه على هذا جماعة منهم الزّجاج. قال ابن جنّي في بعض أجزائه: وقد قال فيه بعض أصحابنا قولا، أراه أبا إسحاق، ورأيت أبا عليّ قد أخذ به، وهو أن يجعل خبر ما تنفكّ الظّرف، كأنه قال: ما تنفكّ على الخسف، ونصب [مناخة (2)] على الحال، وقدّم إلّا عن موضعها. وقد جاء في القرآن والشّعر نقل إلّا عن موضعها. انتهى.
ومنهم أبو البقاء، قال: يجوز أن تكون تنفكّ الناقصة، ويكون على الخسف الخبر، أي: ما تنفكّ على الخسف، إلّا إذا أنيخت. وعليه المعنى. انتهى.
وقد ردّه جماعة منهم صاحب «اللّباب»، وهو محمد بن محمد بن أحمد الأسفرايني المعروف بالفاضل، قال فيه:
وخطّئ ذو الرمّة في قوله: حراجيج لا تنفكّ إلّا مناخة، والاعتذار بجعله حالا، وعلى الخسف خبرا ضعيف، لما أنّ الاستثناء المفرّغ قلّما يجيء في الإثبات، ويقدّر المستثنى منه بعده. وتقدير التمام في تنفك أحسن منه. والله أعلم. انتهى.
قال شارحه الفالي (3): معناه أنّ الاستثناء المفرّغ في الإثبات قليل. وبعد تسليمه إنّما يأتي إذا قدّر المستثنى منه قبله لفظا، وها هنا يقدّر بعده لأنّ قوله إلّا مناخة مستثنى من (4) أحوال الضمير المستتر في على الخسف، أي: ما تنفكّ مهانة مظلومة في جميع الأحوال، إلّا في حال الإناخة.
__________
(1) في طبعة بولاق: = لا تزول =. وهو تصحيف صوابه من النسخة الشنقيطية.
(2) زيادة يقتضيها السياق من طبعة هارون 9/ 253.
(3) الفالي بالفاء وفي طبعة بولاق والنسخة الشنقيطية: = القالي =. وهو تصحيف مرّ كثيرا، ونبهنا عليه في موضعه.
(4) في طبعة بولاق: = عن =. وهو تصحيف صوابه من النسخة الشنقيطية مع أثر تصحيح.(9/256)
وذلك غير معهود في الاستثناء المفرّغ، فإنّ أعمّ العامّ في الاستثناء المفرّغ يقدّر قبله لا بعده، فإنّك إذا قلت: ما ضربت إلّا راكبا، فالتقدير: ما ضربت في حال من الأحوال إلّا في حال الرّكوب.
ولذا جاز في الإثبات، نحو: قرأت إلّا يوم كذا، التقدير: قرأت في جميع الأيام إلّا يوم كذا. فالمستثنى منه يقدّر قبل الاستثناء لا بعده. انتهى.
ومنهم الشارح المحقق كما حرّره.
ومنهم ابن هشام في «المغني» قال فيه: قال جماعة كثيرة: هي ناقصة، والخبر على الخسف، ومناخة: حال. وهذا فاسد لبقاء الإشكال، إذ لا يقال: جاء زيد إلّا راكبا. انتهى.
وقول أبي البقاء: «وعليه المعنى» مردود فإنّ الحالية سواء نصبت مناخة، أو رفعتها كما روي، بتقدير مبتدأ محذوف، والجملة حال، يكون التقدير فيها: هي مستمرّة على الخسف في كلّ حال إلّا حال الإناخة، فإنّها تكون حينئذ ذات راحة.
وهذا غير مراد الشاعر، إذ مراده وصف هذه الإبل بأنّها لا تتخلص من تعب إلّا إلى مثله، فليس لها حال راحة أصلا.
وسيبويه قد أورد هذا البيت في باب أو التي ينتصب بعدها المضارع بإضمار أن، قال: ولو رفعت لكان عربيّا جائزا على وجهين: على أن تشرك بين الأوّل والآخر، وعلى أن يكون مقطوعا من الأوّل. قال تعالى (1): «{سَتُدْعَوْنَ إِلى ََ قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقََاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ}» إن شئت كان على الإشراك، وإن شئت كان على:
أو وهم يسلمون.
وقال ذو الرمّة:
حراجيج لا تنفكّ إلّا مناخة ... البيت
فإن شئت كان على لا تنفكّ نرمي، أو على الابتداء. انتهى.
يريد بالأوّل العطف على خبر تنفكّ، وبالثاني القطع.
قال النحّاس: سألت عنه عليّا، يعني الأخفش الصغير، فقال: لك أن تجعل
__________
(1) سورة الفتح: 48/ 16.(9/257)
نرمي معطوفا، ولك أن تقطعه، ولك أن تقدّر، أو بمعنى إلى أن، وتسكّن الياء في موضع نصب.
والبيت من قصيدة طويلة لذي الرّمّة، يقال لها: أحجيّة العرب. وأوّلها (1):
لقد جشأت نفسي عشيّة مشرف ... ويوم لوى حزوى فقلت لها: صبرا
تحنّ إلى ميّ كما حنّ نازع ... دعاه الهوى فارتاد من قيده قصرا
«جشأت»: نهضت. و «مشرف وحزوى»: موضعان. و «اللّوى»:
منقطع الرّمل. و «صبرا»: اصبري (2).
و «النازع»: البعير يحنّ إلى وطنه. فارتاد من قيده قصرا، أي: طلب السّعة، فوجده مقصورا. ويقال: ارتاد جدبا، وارتاد خيرا، أي: طلب الخصب، فوقع على جدب. إلى أن قال (3):
فياميّ ما أدراك أين مناخنا ... معرّقة الألحي يمانيّة سجرا
قد اكتفلت بالحزن واعوجّ دونها ... ضوارب من خفّان مجتابة سدرا (4)
حراجيج ما تنفكّ إلّا مناخة ... البيت
أنخن لتعريس قليل فصارف ... يغنّي بنابيه مطلّحة صعرا
«معرّقة الألحي»: قليلة لحم الألحي، جمع لحي. وإذا كثر لحم لحيها فهو عيب. يقال: ناقة سجراء: تضرب إلى الحمرة.
وقوله: «قد اكتفلت بالحزن»، أي: صيّرت الناقة الحزن خلفها، كالرّجل الذي يركب الكفل، فإنّما يركب على أقصى الكفل كما تقول: اكتفلت الناقة، أي: ركبت موضع الكفل من النّاقة.
و «الحزن»: ما غلظ من الأرض. و «الضّارب»: منخفض كالوادي. و «خفّان»:
__________
(1) البيتان في ديوان ذي الرمة ص 170169وشرح أبيات المغني للبغدادي 2/ 115.
(2) في النسخة الشنقيطية: = واصبري صبرا =.
(3) الأبيات لذي الرمة في ديوانه ص 173172وشرح أبيات المغني للبغدادي 2/ 116115.
(4) البيت لذي الرمة في ديوانه ص 172وأساس البلاغة (كفل) وتاج العروس (ضرب) وتهذيب اللغة 10/ 252ولسان العرب (ضرب). وهو بلا نسبة في لسان العرب (كفل).(9/258)
موضع. و «مجتابة سدرا»، أي: لابسة سدرا (1). و «اعوجّ»، يعني: الضّوارب ليست على جهة الناقة.
و «الحراجيج»: الضّمّر. و «الخسف»: الجوع، وهو أن تبيت على غير علف، و «التّعريس»: النزول في آخر الليل. و «صارف»، أي: فبعضها صارف يصرف بنابيه من الضّجر والجهد. و «مطلّحة»: معيية. و «صعر»: فيها ميل من الجهد والهزال.
وهذا نقلته من شرح ديوانه.
وترجمته تقدّمت في الشاهد الثامن من أوّل الكتاب (2).
* * * وأنشد بعده، وهو الشاهد السابع والثلاثون بعد السبعمائة، وهو من شواهد سيبويه (3): (الوافر)
737 - تحيّة بينهم ضرب وجيع
على أنه جعل «الضرب الوجيع» ك «التحيّة»، كما جعل الخسف كالأرض التي يناخ عليها.
يريد أنّ الخسف جعل بدلا من الأرض، كما أنّ الضرب جعل بدلا من التحية،
__________
(1) في شرح ديوان ذي الرمة أن: = سدرا: مكان =. وفي بعض نسخ الديوان أن المراد بالسدر هنا هو شجر النبق.
(2) الخزانة الجزء الأول ص 119.
(3) عجز بيت لعمرو بن معديكرب الزبيدي وصدره:
* وخيل قد دلفت لها بخيل *
والبيت لعمرو بن معديكرب الزبيدي في ديوانه ص 149وشرح أبيات سيبويه 2/ 200وشرح أبيات المغني للبغدادي 2/ 115والعمدة 2/ 292والكتاب 3/ 50ونوادر أبي زيد ص 150. وهو بلا نسبة في أمالي ابن الحاجب 1/ 345والخصائص 1/ 368وشرح المفصل 2/ 80والكتاب 2/ 323والمقتضب 2/ 20، 4/ 413.(9/259)
ولا يريد أنّهما من باب التشبيه، فإنّه غير صحيح فيهما فإنّ الأوّل ليس فيه من أركان التشبيه غير الخسف، ولا يقال لمثله إلّا استعارة، وإن كان أصله التشبيه. فإن كان المشبه به مذكورا، والمشبه غير مذكور، فهو استعارة تصريحيّة، وإن كان بالعكس، فهو استعارة بالكناية.
والخسف وإن أمكن أن يجعل من الاستعارة بالكناية، لكنّه لمّا شبّه بما بعده علم أنّ مراده أنّه من باب التنويع، كما يأتي بيانه.
وأمّا الثاني فهو ليس من التشبيه قطعا، إذ المعهود في مثله أن يشبّه الأوّل بالثاني لا العكس، إذ لا يقال في زيد أسد: إنّ أسدا مشبّه بزيد. ولم يجيزوا أيضا أن تشبّه التحيّة بالضرب، لأنه من باب التنويع، وهو من خلاف مقتضى الظاهر، وهو ادّعاء أنّ مسمّى اللفظ نوعان: متعارف، وغير متعارف. على طريق التخييل، بأن ينزّل ما يقع في موقع شيء بدلا عنه. منزلته بدون تشبيه، ولا استعارة، سواء كان بطريق الحمل، كقوله:
* تحيّة بينهم ضرب وجيع *
أو في الاستثناء المنقطع، كقوله (1): (الرجز)
وبلدة ليس بها أنيس ... إلّا اليعافير وإلّا العيس
على معنى أنيسها اليعافير. أي: إن كان يعدّ أنيسا فلا أنيس إلّا هو. أو بدونهما، كقوله (2): (الكامل)
__________
(1) الرجز لجران العود في ديوانه ص 97والدرر 3/ 162وشرح أبيات سيبويه 2/ 140وشرح التصريح 1/ 353وشرح المفصل 2/ 117، 3/ 27، 7/ 21والمقاصد النحوية 3/ 107. وهو بلا نسبة في الأشباه والنظائر 2/ 91والإنصاف 1/ 271وأوضح المسالك 2/ 261وتاج العروس (كنس، ألا، الواو) وتهذيب اللغة 15/ 426والجنى الداني ص 164وجواهر الأدب ص 165ورصف المباني ص 417وشرح الأشموني 1/ 229وشرح أبيات المغني 6/ 236وشرح شذور الذهب ص 344وشرح المفصل 2/ 80 والصاحبي في فقه اللغة ص 136والكتاب 1/ 263، 2/ 322ولسان العرب (كنس، ألا) ومجالس ثعلب ص 452والمقتضب 2/ 319، 347، 414وهمع الهوامع 1/ 225.
(2) في طبعة بولاق والنسخة الشنقيطية: = عامرا = بالنصب وهو تصحيف صوابه من ديوانه.
والبيت لبشر بن أبي خازم الأسدي في ديوانه ص 180وتاج العروس (عتب، صلم) وتهذيب اللغة 2/ 278،(9/260)
غضبت حنيفة أن تقتّل عامر ... يوم النّسار فأعقبوا بالصّيلم
أي: إنّهم لمّا طلبوا إلينا العتبى، وضعنا لهم السّلاح مكانها. وهذا تهكّم.
و «الصيّلم»: الدّاهية (1).
وحيث أطلق التنويع فالمراد به [هذا (2)]، كما تراهم يقولون: من باب:
* تحيّة بينهم ضرب وجيع *
فيجعلون المثال أساسا وقاعدة، وليس من المجاز في شيء لأنّ طرفيه مستعملان في حقيقتهما ولا تشبيها كما صرّحوا به، بل التّشبيه يعكس معناه، ويفسده.
قال الشيخ في «دلائل الإعجاز»: اعلم أنّه لا يجوز أن يكون سبيل قوله (3):
(الطويل)
* لعاب الأفاعي القاتلات لعابه *
سبيل قولهم: «عتابه السّيف». وذلك لأنّ المعنى في بيت أبي تمام على أنّك تشبّه شيئا بشيء، لجامع بينهما في وصف. وليس المعنى في عتابك السّيف على أنّك، تشبّه عتابه بالسّيف، بدلا من العتاب.
ألا ترى أنّه يصحّ أن تقول: مداد قلمه قاتل كسمّ الأفاعي، ولا يصحّ أن تقول:
عتابك كالسّيف، اللهمّ إلّا أن تخرج إلى باب آخر، وشيء ليس هو غرضهم بهذا الكلام، فتريد أنّه قد عاتب عتابا خشنا مؤلما.
ثم إنّك إذا قلت السّيف عتابك، خرجت به إلى معنى ثالث (4)، وهو أن تزعم
__________
12/ 199وسمط اللالئ ص 503والعقد الفريد 5/ 248ولسان العرب (عتب، صلم).
(1) في حاشية ديوانه ص 180يقول د. عزة حسن: = يومئ بشر بقوله هذا إلى يوم الجفار الذي قتلت فيه بنو تميم =.
(2) زيادة يقتضيها السياق من النسخة الشنقيطية.
(3) صدر بيت لأبي تمام وعجزه:
* وأري الجنى اشتارته أيد عواسل *
والبيت لأبي تمام الطائي في ديوانه ص 257ودلائل الإعجاز ص 238.
(4) في طبعة بولاق والنسخة الشنقيطية: = حادث =. وهو تصحيف صوابه من دلائل الإعجاز.(9/261)
أنّ عتابه قد بلغ في إيلامه، وشدّة تأثيره مبلغا، صار له السيف، كأنه ليس بسيف.
انتهى.
وليس هذا من قبيل التشبيه الذي ذكر معه ما يحيل دخول أداة التشبيه، كقوله:
(الكامل)
* أسد دم الأسد الهزبر خضابه *
فإنّه لا سبيل إلى التصريح بأداة التشبيه، لدلالة التشبيه على أنّه دون الأسد، ودلالة الوصف على أنّه فوقه. فالوصف مانع. وأمّا هنا فالتشبيه يعكس المعنى المراد. وأيضا فإنّ المقصود نفي ما صدّر به، يعني لا تحيّة بينهم. والتشبيه لا يفيد هذا المعنى.
وليس الشيخ أبا عذرة هذا، بل صرّح به النحاة، منهم سيبويه، وقد فصله في باب الاستثناء من كتابه، ونقله ابن عصفور، وابن الطراوة، قالوا: إذا كان المبتدأ والخبر معرفتين، إمّا أن تكون إحداهما قائمة مقام الأخرى، أو مشبّهة بها، أو هي نفسها.
فإن كانت قائمة مقامها كان الخبر ما تريد إثباته، نحو قول عبد الملك بن مروان: «كان عقوبتك عزلك»، وكان زيد زهيرا. فالعزل ثابت لا العقوبة.
والتشبيه بزهير ثابت.
ولو قلت: كان عزلك عقوبتك، كان معاقبا لا معزولا، ولو قلت: كان زهير زيدا، أثبتّ التشبيه لزهير بزيد.
قال ابن الطّراوة: وقد (1) غلط في هذا أجلّة من الشّعراء، منهم المتنبّي في قوله (2)
(الطويل):
__________
(1) في طبعة بولاق: = قد غلط = بحذف الواو.
(2) البيت مطلع قصيدة للمتنبي في ديوانه 4/ 303.
وفيه: = وقال يمدحه، وقد أهدى له ثياب ديباج، ورمحا، وفرسا معها مهرها، وكان المهر أحسن =.
وفي حاشية ديوانه 4/ 303: = ثياب بالرفع على أنه مبتدأ محذوف الخبر، أو فاعل لفعل محذوف: أي عندي ثياب كريم. أو أتتني ثياب كريم. والصوان: التخت، وهو ما يصون الثياب ويحفظها. يقول: أتتني ثياب من كريم لا يصون الثياب الحسنة، إنما يهبها، فليس لها صوان غير الهبات: أي: أنه لا يصونها في الصوان وإنما(9/262)
ثياب كريم ما يصون حسانها ... إذا نشرت كان الهبات صوانها
فذمّه، وهو يرى أنّه مدحه. ألا ترى أنّه أثبت الصّون، ونفى الهبات، كأنه قال: الذي يقوم لها مقام الهبات أن تصان. وقد أجيب عن المتنبي.
فإذا لم يكن في شيء من أطرافه تجوّز، ولم يقصد التشبيه، فهو حقيقة، بجعل بدل الشيء القائم مقامه فردا منه ادّعاء. فالتصرّف في النسبة.
ألا ترى لو قلت إن كان الضرب تحيّة، فهو تحيّتهم، كان حقيقة قطعا. فجعل الغرض المقدّر كالظاهر، وهو نوع على حدة، من خلاف مقتضى الظاهر.
وأمّا وجه بلاغته وعلى ماذا يدلّ، فقد حقّقه صاحب «الكشّاف» في مواضع:
منها أنّه قال في تفسير قوله تعالى (1): «{يَوْمَ لََا يَنْفَعُ مََالٌ وَلََا بَنُونَ}» الآية: هو من باب:
* تحيّة بينهم ضرب وجيع *
وما ثوابه إلّا السيف. وبيانه أن يقال: هل لزيد مال وبنون، فتقول: ماله وبنوه سلامة قلبه. تريد نفي المال والبنين عنه، وإثبات سلامة القلب له بدلا عن ذلك.
وقال في موضع آخر: إنّه يدلّ على إثبات النفي (2) فمعنى: «ليس بها أنيس إلّا اليعافير»، أي: إنّه لا أنيس بها قطعا. لأنّه جعل أنيسها اليعافير دون غيرها.
وهي ليست بأنيس قطعا. فدلّ على أنّه لا أنيس بها.
وهو قريب مما لو قلت: إن كانت اليعافير أنيسا فإنّها أنيس. ووجه دلالته على إثبات النفي (3) أنّه استعملته العرب مرادا به الحصر، فإنّ الكلام قد يدلّ عليه، نحو:
الجواد زيد، والكرم في العرب، وشرّ أهرّ ذا ناب. ولذا ذكره النّحاة في باب الاستثناء. والحصر الملاحظ فيه جار على نهج الاستثناء المنقطع، لأنه من التنويع عند
__________
يهبها، ويجوز أن يريد بقوله = كان الهبات صوانها = أن ما يصونها من لفاف ومنديل كان هبة أيضا =.
(1) سورة الشعراء: 26/ 88.
(2) في طبعة بولاق: = ثبات النفي =.
(3) في طبعة بولاق: = ثبات النفي =.(9/263)
الخليل. فعلى هذا وضح إفادته ثبات النفي وظهر عدم التجوّز في مفرداته، وأنه لا يتصوّر فيه التشبيه.
وأمّا قوله في المائدة في تفسير (1): «{بِشَرٍّ مِنْ ذََلِكَ مَثُوبَةً}» فإن قلت: المثوبة مختصّة بالإحسان، فكيف جاءت في الإساءة، قلت: وضعت المثوبة موضع العقوبة على طريقة قوله:
* تحيّة بينهم ضرب وجيع *
ومنه (2): {«فَبَشِّرْهُمْ بِعَذََابٍ أَلِيمٍ»}. انتهى.
فمراده أنّ الآية من باب الإيجاز، وأنّ في الكلام تنويعا مقدّرا. وهذا تفريع مبنيّ عليه.
والتقدير: إن نقمتم منهم، وادّعيتم لهم العقوبة، فعقوبتهم المثوبة. وقد صرّح في سورة مريم، وهذا دأبه، يجمل في محلّ، ويفصّل في آخر.
وقال في تفسير قوله تعالى (3): «{وَالْبََاقِيََاتُ الصََّالِحََاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوََاباً}»، فإن قلت (4): كيف قيل خير ثوابا، كأنّ لمفاخراتهم ثوابا حتّى يجعل ثواب الصالحات خيرا منه؟ قلت: كأنّه قيل: ثوابهم النار، على طريقة قوله:
* فأعتبوا بالصّيلم *
وقوله:
* تحيّة بينهم ضرب وجيع *
ثم بني عليه خير ثوابا. وفيه ضرب من التهكّم الذي هو أغيظ للمتهدّد من أن يقال له: عقابك النار. انتهى.
__________
(1) سورة المائدة: 5/ 60.
(2) سورة آل عمران: 3/ 21وسورة التوبة: 9/ 24وسورة الانشقاق: 84/ 24.
(3) سورة الكهف: 18/ 46وسورة مريم: 19/ 76.
(4) قوله: = كيف قيل خير خيرا منه قلت =. ساقط من النسخة الشنقيطية.(9/264)
والمراد أنّ بعض التّنويع، قد يستعمل في مقام التهكّم. وقد صرّح به ابن فارس في «فقه اللغة للصاحبي (1)» في باب ما يجري مجرى التهكّم والهزء، فقال: ومن هذا الباب أتاني فقريته جفاء، وأعطيته حرمانا.
وقول الفرزدق (2):
* قريناهم المأثورة البيض *
انتهى.
وقد يستعمل بدونه كما في قوله (3): «{يَوْمَ لََا يَنْفَعُ مََالٌ وَلََا بَنُونَ}» الآية. وفي الحديث: «من كان له إمام فقراءة الإمام قراءة له» وقد فسّر بهذا المعنى، ولا يمكن فيه التهكّم.
وهذا المصراع عجز، وصدره:
وخيل قد دلفت لها بخيل ... تحيّة بينهم ضرب وجيع
و «الخيل»: اسم جمع الفرس، لا واحد له من لفظه، والمراد به الفرسان، كما في قوله صلّى الله عليه وسلّم: «يا خيل الله اركبي». وأراد بالخيل الأوّل خيل الأعداء، وبالثاني خيله، والضمير في «بينهم» للخيلين.
و «دلفت»: دنوت وزحفت، من دلف الشيخ من باب ضرب، إذا مشى مشيا ليّنا. والباء للتعدية، أي: جعلتها دالفة إليها. فاللام بمعنى إلى. وتحيّة مضاف،
__________
(1) كذا في جميع طبعات الخزانة. والمعروف أن الكتاب اسمه: = الصاحبي في فقه اللغة =.
(2) قطعة من بيت للفرزدق وتمامه:
قريناهم المأثورة البيض قبلها ... يثجّ العروق الأزأنيّ المثقّف
والبيت للفرزدق في ديوانه ص 562ولسان العرب (يزن) والنقائض ص 565.
يثج: يسيل. والأزأني: الرماح. ورواه ابن منظور: = الأيزني =. وهو سيف منسوب إلى ذي يزن أحد الأذواء من ملوك اليمن. والمثقف: المقوم بالثقاف، وهو خشبة تسوى بها الرماح، حتى يستوي عوجها، ويستقيم.
والمأثورة: السيوف التي صقلت حتى ظهر أثرها، أي: فرندها وحسنها الذي تراه في السيف كأنه أرجل نمل.
وقد جعل هذين مكان الرفد والعطاء، أي: جعلنا لهم بدل القرى السيوف والأسنة، وطاعناهم، ثم صرنا إلى التضارب بالبيض.
(3) سورة الشعراء: 26/ 88.(9/265)
وبينهم مضاف إليه مجرور بكسر النون، لأنّه ظرف متصرّف، ولو فتح كان مبنيّا لإضافته للمبنيّ.
وزعم مير باد شاه في «حاشية البيضاوي» أنّ معناه إنّ ضربهم الوجيع كتحيّة بينهم، على التشبيه البليغ المقلوب. وقد بيّنّا بطلانه.
ووصف الضّرب بالوجيع مجازا. ويجوز أن يكون وجيع بمعنى موجع، والمعنى ربّ خيل للأعداء، أقبلت عليهم بخيل أخرى كان التحيّة بينهم ضربا وجيعا، أي:
كان مكان التحيّة هذا النّوع من الضرب.
وقد أورده (1) سيبويه في باب الاستثناء، وقال: جعلوا الضّرب تحية كما جعلوا اتّباع الظّنّ علمهم.
وأورده ثانيا في باب «أو»، وقال: العرب تقول: تحيّتك الضّرب، وعتابك السّيف، وكلامك القتل (2).
قال الأعلم: الشاهد فيه جعل الضّرب تحيّة على الاتّساع المقدّم ذكره. وإنّما ذكر هذا تقوية لجواز البدل فيما لم يكن من جنس الأوّل. يقول: إذا تلاقوا في الحرب جعلوا بدلا من تحيّة بعضهم لبعض الضرب الوجيع.
وهذا البيت نسبه شرّاح أبيات الكتاب وغيرهم، إلى عمرو بن معديكرب الصّحابي، ولم أره في شعره.
والعجب من شيخنا الشّهاب الخفاجيّ أنّه نسبه إليه في «حاشية البيضاوي»، وقال: هو من قصيدة مسطورة له في المفضليات، مع أنه غير موجود شعره في المفضليات لا من كثيره، ولا من قليله.
قال ابن رشيق في «العمدة»، في «باب السرقات الشعرية (3)»: ومما يعدّ سرقا، وليس بسرق اشتراك اللفظ المتعارف، كقول عنترة (4): (الوافر)
وخيل قد دلفت لها بخيل ... عليها الأسد تهتصر اهتصارا
__________
(1) في طبعة بولاق: = أورد =. وهو تصحيف صوابه من النسخة الشنقيطية.
(2) سيبويه: 2/ 429.
(3) العمدة 2/ 292.
(4) البيت لعنترة العبسي في ديوانه ص 239. وهو بلا نسبة في لسان العرب (هصر) وتاج العروس (هصر).(9/266)
وقول عمرو بن معديكرب: (الوافر)
وخيل قد دلفت لها بخيل ... تحيّة بينهم ضرب وجيع
وقول الخنساء ترثي أخاها صخرا (1): (الوافر)
وخيل قد دلفت لها بخيل ... فدارت بين كبشيها رحاها
وقول الأعرابي (2): (الوافر)
وخيل قد دلفت لها بخيل ... ترى فرسانها مثل الأسود
وأمثال هذا كثير. انتهى (3).
وإن يكن البيت لعمرو بن معديكرب فقد تقدّمت ترجمته في الشاهد الرابع والخمسين بعد المائة (4).
* * * وأنشد بعده (5): (الرجز)
__________
(1) البيت للخنساء في ديوانه ص 140والعمدة 2/ 292.
(2) في العمدة: = ومثله =.
(3) كذا في طبعة بولاق والعمدة، وفي حاشية طبعة هارون 9/ 265: = وردت هذه الأبيات في العمدة على النسق الذي أثبته من ط. وقد سقط البيت الثاني من ش وقدم فيها البيت الأخير على الذي قبله. وورد البيت الأول لعنترة مشوها إذ جعل عجزه تكرارا سابقا لعجز بيت الخنساء =.
(4) الخزانة الجزء الثاني ص 392.
(5) هو الإنشاد الثاني والثمانون بعد المائتين في شرح أبيات المغني للبغدادي.
والرجز لرؤبة بن العجاج في ملحق ديوانه ص 175وتاج العروس (طيس) وتهذيب اللغة 13/ 28، 74 والدرر 1/ 204وشرح أبيات المغني للبغدادي 4/ 85وشرح التصريح 1/ 110وشرح شواهد المغني 2/ 488، 769وكتاب العين 7/ 280ولسان العرب (طيس). وهو بلا نسبة في أساس البلاغة (ليس) وأوضح المسالك 1/ 108وتخليص الشواهد ص 99وجمهرة اللغة ص 839، 861والجنى الداني ص 150 وجواهر الأدب ص 15وسر صناعة الإعراب 2/ 32وشرح الأشموني 1/ 55وشرح ابن عقيل ص 60 وشرح المفصل 3/ 108ولسان العرب (ليس) ومغني اللبيب 1/ 171، 2/ 344ومقاييس اللغة 3/ 436 وهمع الهوامع 1/ 64، 233.(9/267)
* إذ ذهب القوم الكرام ليسي *
على أنّ «ليس» لنقصان فعليّتها جاز ترك نون الوقاية معها.
وصدره:
* عددت قومي كعديد الطّيس *
وتقدّم شرحه في الشاهد الثاني والتسعين بعد الثلثمائة (1).
* * * وأنشد بعده (2): (الطويل)
* فأنت طلاق والطّلاق أليّة *
وهذا صدر، وعجزه:
* ثلاثا ومن يخرق أعقّ وأظلم *
على أنّ جملة: «والطّلاق أليّة» من المبتدأ والخبر اعتراضية.
وتقدّم شرحه مفصّلا في الشاهد الخامس والأربعين بعد المائتين (3).
* * * وأنشد بعده، وهو الشاهد الثامن والثلاثون بعد السبعمائة (4): (الوافر)
__________
(1) الخزانة الجزء الخامس ص 317.
(2) هو الإنشاد الثاني والسبعون في شرح أبيات المغني للبغدادي.
والبيت بلا نسبة في شرح أبيات المغني 1/ 324وشرح شواهد المغني 1/ 168وشرح المفصل 1/ 12ومغني اللبيب 1/ 53، 54.
(3) الخزانة الجزء الثالث ص 424.
(4) هو الإنشاد الثامن عشر بعد الثمانمائة في شرح أبيات المغني للبغدادي.(9/268)
738 - وكوني بالمكارم ذكّريني
على أنه جاء خبر كان جملة طلبيّة. وهذا مختصّ بالشعر.
والمعنى: كوني مذكّرة بالمكارم، وليس يريد كوني بالمكارم. يقوّي ذلك قوله قبله:
ألا يا أمّ فارع لا تلومي ... على شيء رفعت به سماعي (1)
وكوني بالمكارم ذكّريني ... ودلّي دلّ ماجدة صناع
فالمعنى: لا تلوميني على شيء رفعت به صيتي، وذكري، وذكّريني به (2).
والبيتان أوردهما أبو زيد في «نوادره»، ونسبهما إلى بعض بني نهشل، وقائلهما جاهليّ.
قال ابن عصفور في «كتاب الضرورة»: جعل «ذكّريني» في موضع مذكّرة، وهو قبيح، لأنّ فعل الأمر لا يقوم مقام الخبر في باب كان، وإنما فعل ذلك لأنّ كوني أمر في اللفظ، ومحصول الأمر منه لها إنّما وقع على التذكير، فلمّا كان في المعنى أمرا لها بتذكيره استعمل فيه لفظ الأمر. انتهى.
وقال السكري «فيما كتب على نوادر أبي زيد» (3): المعنى: وصيري مذكّرة لي بالمكارم. وتقديره في العربية رديء، لو قلت: [يا فلان] كن بغلام بشّرني، لم يجز. وهو يريد يا أمّ فارعة، فحذف [الهاء استخفافا]، وذلك شاذّ لأنه ليس بمنادى، إنّما المنادى الأمّ.
و «الصّناع»، بفتح الصاد: الرفيقة الكفّ (4). و «الماجدة»: الكريمة. يقول:
__________
والبيت لبعض بني نهشل في نوادر أبي زيد ص 30، 58. وهو بلا نسبة في الأشباه والنظائر 3/ 236والدرر 2/ 54وسر صناعة الإعراب 1/ 389وشرح أبيات المغني 7/ 227وشرح الحماسة للمرزوقي 2/ 657 وشرح شواهد المغني 2/ 914ومغني اللبيب 2/ 584وهمع الهوامع 1/ 113.
(1) البيت لبعض بني نهشل في نوادر أبي زيد ص 30وهو بلا نسبة في شرح أبيات المغني للبغدادي 7/ 227 ولسان العرب (سمع) وتاج العروس (سمع).
(2) كلمة: = به =. ساقطة من النسخة الشنقيطية.
(3) النوادر ص 3130. والزيادات منه.
(4) كذا في طبعة بولاق والنسخة الشنقيطية. وفي شرح أبيات المغني: = الرفيعة الكف =. وفي النوادر: = الرقيقة =.(9/269)
اضبطي دلالك (1) بمنفعة وصنعة، ولا تكوني خرقاء لا تنفع أهلها. انتهى.
وقال أبو زيد: قوله: سماعي، أي ذكري، وحسن الثّناء عليّ. و «دلّي» بفتح الدال، من دلّت تدلّ، ودللت أنا أدلّ، مثل خجلت أخجل. انتهى.
قال ابن عقيل: الدّلّ قريب المعنى من الهدي، وهما من السّكينة والوقار في الهيئة والمنظر (2) والشمائل وغير ذلك. قاله أبو عبيدة. والصّناع: الماهرة الحاذقة بعمل اليدين.
وقال الأخفش في «حواشيه على النوادر»: قوله: كوني بالمكارم ذكّريني، تقديره: كوني ممّن أقول له ذكّرني (3) إذا سهوت، فجرى هذا على الحكاية، كما قال (4):
* سمعت النّاس ينتجعون غيثا *
أراد: سمعت قائلا يقول: الناس ينتجعون [غيثا]، فحكى. هذا كلامه.
وقال ابن هشام في «المغني»: جملة: «ذكّريني» مؤوّلة بالجملة الخبرية، أي:
وكوني تذكّرينني (5). انتهى.
وإنّما أوّله لما عرف من أنّ شرط خبر كان، إذا كانت جملة أن تكون خبرية.
وقال السّخاوي: يجوز أن يكون الخبر محذوفا، وذكريني أمرا مستأنفا، أي: كوني بالمكارم مذكّرة ذكّريني.
* * * وأنشد بعده، وهو الشاهد التاسع والثلاثون بعد السبعمائة (6): (الطويل)
__________
(1) في النوادر: = اخلطي ذلك =.
(2) في طبعة بولاق والنسخة الشنقيطية: = النظر =. وما أثبتناه أصح نقلا عن طبعة هارون 9/ 268.
(3) في طبعة بولاق والنسخة الشنقيطية: = ذكريني =. وهو تصحيف صوابه من نوادر أبي زيد ص 32.
(4) بعده في النوادر: = قال ذو الرمة =.
(5) في طبعة بولاق والنسخة الشنقيطية: = تذكريني =. وهو تصحيف صوابه من المغني.
(6) هو الإنشاد الأربعون بعد الثمانمائة في شرح أبيات المغني للبغدادي.(9/270)
739 - قنافذ هدّاجون حول بيوتهم
بما كان إيّاهم عطيّة عوّدا
على أنّ «كان» في البيت عند البصريين (1) إمّا شأنيّة، وإمّا زائدة، فيكون «عطيّة» في الأوّل: مبتدأ، و «عوّدا»: فعل ماض، وألفه للإطلاق، وفاعله ضمير عطيّة، ومفعوله إيّاهم المتقدم على المبتدأ والأصل عوّدهم، فلمّا تقدّم انفصل، وجملة: «عوّدهم» خبر المبتدأ، والجملة الكبرى، أعني عطيّة عوّدهم، في محل نصب خبر كان، واسمها ضمير الشأن.
قال ابن هشام في «شرح الشواهد»: ويجوز أن يكون اسم كان ضميرا مستترا فيها عائدا على ما الموصولة، أي: بسبب الأمر الذي كان هو عطيّة عوّدهم إيّاه، وجملة: عطيّة عوّدهم خبر كان وحذف العائد، لأنّه ضمير منصوب.
ويجوز أيضا أن يكون عطيّة اسم كان، وتقديم معمول الخبر للضرورة. وهذا الجواب عندي أولى لاطّراده في نحو [قوله] (2): (البسيط)
باتت فؤادي ذات الخال سالبة ... فالعيش إن حمّ لي عيش من العجب
إذ الأصل: باتت ذات الخال سالبة فؤادي. ولا يجوز تقدير ذات مبتدأ، لنصب سالبة. واعترض على هذه الأوجه بأنّ الخبر الفعليّ لا يسبق المبتدأ، فكذا معموله.
والجواب: أنّ المانع من تقديم الفعل خشية التباس الاسميّة بالفعلية، وذلك مأمون مع تقدّم المعمول. انتهى.
وأوضحه في «المغني» بقوله: ولانتفاء الأمرين، وهما تهيئة العامل للعمل مع قطعه، وإعمال الضّعيف مع إمكان القويّ، جاز عند البصريّين، وهشام تقديم معمول
__________
البيت للفرزدق في ديوانه ص 214وتخليص الشواهد ص 245والدرر 2/ 71وشرح أبيات المغني للبغدادي 7/ 278وشرح التصريح 1/ 190والمقاصد النحوية 2/ 24والمقتضب 4/ 101والنقائض ص 493. وهو بلا نسبة في أوضح المسالك 1/ 248وشرح ابن عقيل ص 144ومغني اللبيب 2/ 610وهمع الهوامع 1/ 118.
(1) النص في شرح أبيات المغني للبغدادي 7/ 278.
(2) البيت بلا نسبة في أوضح المسالك 1/ 251وتخليص الشواهد ص 248وشرح أبيات المغني 7/ 278 وشرح الأشموني 1/ 116وشرح التصريح 1/ 190والمقاصد النحوية 2/ 28.(9/271)
الخبر على المبتدأ في نحو: زيد ضرب عمرا، وإن لم يجز تقديم الخبر.
وقال البصريون في نحو قوله:
* بما كان إيّاهم عطيّة عوّدا *
إنّ «عطيّة» مبتدأ، و «إيّاهم» مفعول عوّد، والجملة خبر كان، واسمها ضمير الشأن.
وقد خفيت هذه النكتة على ابن عصفور، فقال: هربوا من محذور، وهو أن يفصلوا بين كان واسمها بمعمول خبرها، فوقعوا في محذور آخر، وهو تقديم معمول الخبر حيث لا يتقدّم الخبر. وقد بيّنّا أنّ امتناع تقدّم الخبر في ذلك لمعنى مفقود في تقدّم معموله (1). انتهى.
وبهذه الأجوبة يردّ على الكوفيّين قولهم: يجوز أن يلي كان، أو إحدى أخواتها معمول خبرها غير الظّرف. واحتجّوا بهذين البيتين. قال ابن النّاظم، وبقوله (2):
(البسيط)
فأصبحوا والنّوى عالي معرّسهم ... وليس كلّ النّوى يلقي المساكين
وقد خطّأه ابن هشام فيه، بأنّه لو كان المساكين [اسما (3)] لكان يجب أن يقال:
يلقون أو تلقي (4)، وإنّما كان فيه عند الفريقين مسندة إلى ضمير الشّأن.
والبيت من قصيدة للفرزدق «مذكورة في النّقائض» (5)، هجا بها جريرا.
__________
(1) في النسخة الشنقيطية: = تقديم معموله =.
(2) البيت لحميد بن ثور في الأزمنة والأمكنة 3/ 317والأشباه والنظائر 6/ 78وأمالي ابن الحاجب ص 656 وتخليص الشواهد ص 187والكتاب 1/ 70، 147والمقاصد النحوية 2/ 82وليس في ديوانه. وهو بلا نسبة في الأشباه والنظائر 7/ 179وشرح أبيات سيبويه 1/ 175وشرح الأشموني 1/ 117وشرح ابن عقيل ص 145وشرح المفصل 7/ 104والمقتضب 4/ 100.
(3) زيادة يقتضيها السياق من طبعة هارون 9/ 270.
وفي حاشية طبعة هارون: = والمعنى أن تكون المساكين اسما لليس ويلقى خبرا لها وفصل معمولها وهو كل بينها وبين اسمها =.
(4) في النسخة الشنقيطية: = أو متلقي =. وهو تصحيف صوابه من طبعة بولاق.
(5) ديوان الفرزدق ص 214وشرح أبيات المغني 7/ 279والنقائض 1/ 493.(9/272)
وقوله: «قنافذ هدّاجون» (1): جمع قنفذ بالذال المعجمة والمهملة، وهو حيوان معروف، يضرب به المثل في سرى اللّيل، يقال (2): «أسرى من قنفذ». وهو خبر مبتدأ محذوف، أي: هم قنافذ. وهذا تشبيه بليغ كما حقّقه السّعد التفتازاني، لا استعارة بالكناية كما توهّم العيني، مع اعتراضه بأنه خبر مبتدأ كما ذكرنا.
و «هدّاجون»: فعّالون من الهدج، بالإسكان، والهدجان بالتحريك، وهو السّير السريع (3). وفعله كضرب. ويروى: «درّاجون» من درج الصبيّ والشيخ، وفعله كدخل، ومعناه تقارب الخطو بمنزلة مشي الصبيّ (4).
و «عطيّة»: أبو جرير. يقول: إنّ رهط جرير كالقنافذ، لمشيهم في اللّيل للسّرقة والفجور، وإنّ أبا جرير هو الذي عوّدهم ذلك.
وقد هجاه الأخطل بمثل هذا أيضا، قال من قصيدة (5): (البسيط)
أمّا كليب بن يربوع فليس لها ... عند التّفاخر إيراد ولا صدر (6)
مخلّفون ويقضي النّاس أمرهم ... وهم بغيب وفي عمياء ما شعروا (7)
مثل القنافذ هدّاجون قد بلغت ... نجران أو بلغت سوءاتهم هجر (8)
__________
وفي شرح أبيات المغني للبغدادي: = للفرزدق هجا بها جريرا، ويخاطب عمر بن لجأ التيمي =.
(1) بعده في شرح أبيات المغني: = وهو تشبيه بليغ لا استعارة بالكناية كما توهم العيني، وهو جمع قنفذ =.
(2) المثل في زهر الأكم 3/ 167وشرح أبيات المغني 7/ 280وكتاب الأمثال لمجهول ص 10والمستقصى 1/ 168.
(3) في شرح أبيات المغني 7/ 280: = والهدجان: مشية الشيخ، وقد هدج يهدج من باب ضرب =.
(4) بعده في شرح أبيات المغني 7/ 280: = وروي أيضا: = درامون =. من درم يدرم: إذا مشى مشي المثقل بسرعة =.
(5) الأبيات للأخطل في ديوانه ص 209208وشرح أبيات المغني 8/ 125.
(6) كليب بن يربوع: رهط جرير.
(7) الغيب: ما غاب من الأرض وتطامن. والعمياء: الجهالة.
(8) هو الإنشاد الخامس والأربعون بعد التسعمائة في شرح أبيات المغني للبغدادي.
والبيت للأخطل في ديوانه ص 209وتخليص الشواهد ص 247والدرر 3/ 5وشرح أبيات المغني 8/ 125 وشرح شواهد المغني 2/ 972ولسان العرب (نجر). وهو بلا نسبة في الأشباه والنظائر 1/ 337وأمالي المرتضى 1/ 466ورصف المباني ص 390وشرح الأشموني 1/ 176والمحتسب 2/ 118ومغني اللبيب 2/ 699 وهمع الهوامع 1/ 165.(9/273)
وترجمة الفرزدق قد تقدّمت في الشاهد الثلاثين من أوائل الكتاب (1).
* * * وأنشد بعده، وهو الشاهد الأربعون بعد السبعمائة، وهو من شواهد سيبويه (2):
(الرجز)
740 - ما دام فيهنّ فصيل حيّا
على أنّه يجوز في باب «كان» الإخبار عن النّكرة المحضة إذا حصلت الفائدة كما هنا، فإنّ قوله: «فصيل» اسم دام. و «حيّا» خبرها، وحصلت الفائدة من تقديم فيهنّ، وهو متعلّق بالخبر، ولو حذفت فيهنّ انقلب المعنى، لأنّك إذا قلت:
ما دام فصيل حيّا، فالمراد أبدا، كما تقول: ما طلعت شمس، وما ناح قمريّ. فلمّا لم تتمّ الفائدة إلّا به حسن تقديمه، لمضارعته الخبر في الفائدة.
ومثله قوله تعالى (3): «{وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ}» فإنّ قوله: له، وإن لم يكن خبرا، فإنّه به يتمّ المعنى، لأنّ سقوطها يبطل معنى الكلام لأنّك لو قلت: لم يكن كفوا أحد، لم يكن له معنى، فلمّا أحوج الكلام إلى ذكر «له» صار بمنزلة الخبر الذي لا يستغنى عنه، وإن لم يكن خبرا.
ولم يكن بمنزلة قوله: ما كان فيها أحد خيرا منك، لأنّك لو حذفت فيها كان كلاما صحيحا.
وهذا البيت أورده سيبويه في باب الإخبار عن النكرة بالنكرة، وأمثلته في كان
__________
نجران: اسم موضع باليمن. وسوءاتهم: فضائحهم. وهجر: موضع في البحرين.
(1) الخزانة الجزء الأول ص 218.
(2) الرجز لابن ميادة في ديوانه ص 237والتنبيه والإيضاح 2/ 67وشرح أبيات سيبويه 1/ 266وشرح المفصل 4/ 33ولسان العرب (جلذ، هيا). وهو بلا نسبة في تاج العروس (جلذ، هيا) وسمط اللآلئ ص 501وشرح أبيات سيبويه 1/ 277وشرح المفصل 7/ 96، 115والكتاب 1/ 56ولسان العرب (دوم، هيا) والمقتضب 4/ 91ومجمل اللغة 1/ 472ومقاييس اللغة 1/ 452ونوادر أبي زيد ص 194.
(3) سورة الإخلاص: 112/ 4.(9/274)
وأخواتها قال فيه: وتقول: ما كان فيها أحد خيرا منك، وما كان أحد مثلك فيها، وليس أحد فيها خير منك، إذا جعلت فيها مستقرّا، ولم تجعله على قولك:
فيها زيد قائم، أجريت الصّفة على الاسم.
فإن جعلته على قولك: فيها زيد قائم، نصبتها، تقول: ما كان فيها أحد خيرا منك، وما كان أحد خيرا منك فيها، إلّا أنّك إذا أردت الإلغاء فكلّما أخّرت الذي تلغيه كان أحسن.
وإذا أردت أن يكون مستقرّا مكتفى [به (1)] فكلّما قدّمته، كان أحسن، لأنّه إذا كان عاملا في شيء قدّمته، كما تقدّم أظنّ وأحسب. وإذا ألغيته أخّرته، كما تؤخّرهما، لأنّهما ليسا يعملان شيئا. والتقديم هاهنا والتأخير، والإلغاء والاستقرار، عربيّ جيّد كثير. فمن ذلك قوله عزّ وجلّ (2): «{وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ}».
وأهل الجفاء يقولون: ولم يكن كفؤا له أحد كأنهم أخّروها حيث كانت غير مستقرّة.
قال الشاعر (3): (الرجز)
لتقربنّ قربا جلذيّا ... ما دام فيهنّ فصيل حيّا
وقد دجا اللّيل فهيّا هيّا
انتهى كلام سيبويه.
قال ابن يعيش: سيبويه يسمّي الظرف الواقع خبرا: مستقرّا، لأنه يقدّر باستقرّ، وإن لم يكن خبرا سمّاه لغوا. وتقديم الظرف وتأخيره إذا كان مستقرّا جائز عنده، وإنّما يختار تقديمه.
فإن قيل: فما تصنع بقوله سبحانه: «{وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ}» قدّم الظرف
__________
(1) زيادة يقتضيها السياق من النسخة الشنقيطية.
في الكتاب لسيبويه: = تكتفي به =.
(2) سورة الإخلاص: 112/ 4.
(3) الرجز لابن ميادة في ديوانه ص 237واللسان (جلذ). وتم تخريجه في هذا الشاهد.(9/275)
مع أنّه لغو؟ قيل: لمّا كانت الحاجة ماسّة، والكلام غير مستغن عنه، كأنه خبر مقدّم لذلك.
ألا ترى أنّ قوله تعالى (1): {«اللََّهُ الصَّمَدُ}» مبتدأ وخبر. وقوله: «{وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ}» معطوف عليه، وما عطف على الخبر كان في حكم الخبر، فلذلك لم يكن من العائد في قوله: له بدّ، لأنّ الجملة إذا وقعت خبرا افتقرت إلى العائد.
قال: وأهل الجفاء يقولون: ولم يكن كفؤا له أحد (2). أراد بأهل الجفاء الأعراب الذين لم يبالوا بخطّ المصحف، ولم يعلموا كيف هو.
فأمّا قوله:
* ما دام فيهنّ فصيل حيّا *
فإنّه قدّم الظرف هاهنا، وإن لم يكن مستقرّا، فإنّه متعلّق بالخبر، وذلك لجواز التقديم عنده (3) مع أنّه قد تدعو الحاجة إليه، ولا يسوغ حذفه، إذ حذفه يغيّر المعنى (4)، ويصير بمعنى الأبد، كقولك: ما طلعت الشمس. فلما كان المعنى متعلّقا به صار كالمستقرّ فقدّمه لذلك. انتهى.
وقد أورد الشارح المحقّق هذا الكلام في آخر البحث في «الحروف المشبهة بالفعل»، وقال: يجوز الإخبار عن النكرة في باب إنّ، وفي باب كان، بالنكرة والمعرفة.
وجوّزه أبو حيّان في الأوّل دون الثاني، قال في «تذكرته»: نصب إنّ وأخواتها للنّكرات لا ينحصر، وقد أخبر بالمعرفة، وهذا غريب، ولا يجوز في الابتداء ولا في كان. حكى سيبويه: إنّ قريبا منك زيد، وإنّ بعيدا منك زيد.
__________
(1) سورة الإخلاص: 112/ 2.
(2) في طبعة بولاق: = ولم يكن له كفوا أحد =. وهو تصحيف صوابه من النسخة الشنقيطية وشرح المفصل لابن يعيش. وهذه ليست سورة الإخلاص.
وبعده في شرح المفصل: = فيؤخرون الجار والمجرور لقوة التأخير في الملغى عندهم =.
(3) في طبعة بولاق: = وذلك يجوز التقديم عنه =. وفي النسخة الشنقيطية: = وذلك يجوز التقديم عنده =. ولقد أثبتنا رواية شرح المفصل لابن يعيش 7/ 115فهي أصوب.
(4) في شرح المفصل: = إذ لو حذف تغير المعنى =.(9/276)
وأنشد سيبويه (1): (الطويل)
* وإنّ شفاء عبرة مهراقة *
وحكى: إنّ ألفا في دراهمك بيض، وإنّ بالطريق أسدا رابض.
وجاز عندي أن يكون المعرفة خبرا عن النكرة هنا لمّا كان المعنى واحدا، وأنّه لما كان فضلة، فكأنّه غير مسند إليه، فجاز تنكيره، ولمّا كان الخبر مرفوعا، صار كأنه مسند إليه فكان معرفة.
وذكر الجرميّ هذه المسألة في «الفرخ»، وقال: إنّه يبتدأ بالنكرة، ويخبر بالمعرفة عنها في هذا الباب. وقال: جائز ذلك، لأنهم لا يقدّمون خبر إنّ، كما يتّسعون في ذلك، فأعطوا إنّ ما منعوا في كان. وقد منعوا خبر كان، ومنعوا أن يكون خبرها معرفة، واسمها نكرة، فأعطوا كلّ واحد منهما ما منعه صاحبه.
انتهى.
والشارح تابع في ذلك لابن مالك. وكثرة السّماع يشهد لصحّة قولهما.
وهذه الأبيات الثلاثة نسبها ابن السّيرافي وابن خلف لابن ميّادة. وتقدّمت ترجمته في الشاهد التاسع عشر من أوائل الكتاب (2).
وقوله: «لتقربنّ»، قال ابن السيرافي: هو جواب قسم محذوف، وهو بضم الراء وكسر الباء.
قال الجوهري: قربت أقرب قرابة، مثل كتبت أكتب كتابة، إذا سرت إلى الماء وبينك وبينه ليلة. والاسم القرب بفتحتين.
وقال الأصمعي: قلت لأعرابيّ: ما القرب؟ قال: سير الليل لورد الغد. قلت:
ما الطّلق؟ قال: سير اللّيل لورد الغبّ. وقال: أقرب القوم فهم قاربون، ولا يقال:
مقربون. قال أبو عبيد: هذا الحرف شاذّ.
أقول: قد سمع ثلاثيّة فلا شذوذ. وقال أبو الحسن الأخفش: لتقربنّ: لتردنّ.
وليلة القرب: ليلة الورد. وهذا خطاب لناقته.
__________
(1) هو لامرئ القيس في معلقته. وهو الشاهد التالي، وسيتم تخريجه في مكانه.
(2) الخزانة الجزء الأول ص 168.(9/277)
يقول: لتسيرنّ إلى الماء سيرا حثيثا (1). والجلذيّ بضم الجيم وسكون اللام بعدها ذال معجمة، ومعناه السريع الشديد، فهو وصف القرب. وقيل: منادى مرخّم.
جلذيّة: اسم ناقته. والضمير في فيهنّ عائد على الإبل، ودلّ عليه سياق الكلام، وذكر النّاقة، فأضمر وإن لم يجر لها ذكر.
والفصيل: ولد الناقة، وإنّما ذكره لأنّه ناقته من جملة الإبل يسوقها إلى الماء سوقا حثيثا. فيقول: لا أعذرك ما دام فيهنّ فصيل يطيق السّير. ودجا الليل: أظلم.
وهيّا هيّا زجر لها، وتصويت حتّى تسير، أي: مبادرة. وليس منه فعل، وهي مكسورة الأوّل. وقد حكيت بالفتح. قاله ابن خلف.
[وقوله (2)]: وليس منه فعل، يناقضه قول الجواليقي في «شرح أدب الكاتب (3)»: يقال: هوى يهوي هيّا وهويّا وهويانا، إذا سقط. وأنشد هذا الرجز، ثم قال: يريد: اهوي واعجلي. انتهى.
ومقتضاه أنّه بالفتح لا بالكسر، وأنه مصدر لا اسم فعل، إلّا أن يكون هذا هو الأصل ثم نقل إلى اسم الفعل.
* * * وأنشد بعده، وهو الشاهد الحادي والأربعون بعد السبعمائة، وهو من شواهد سيبويه (4): (الطويل)
__________
(1) في طبعة بولاق: حبيبا =. وهو تصحيف صوابه من النسخة الشنقيطية.
(2) زيادة يقتضيها السياق.
(3) شرح أدب الكاتب ص 65.
(4) هو الإنشاد الثامن والستون بعد الخمسمائة في شرح أبيات المغني للبغدادي.
والبيت لامرئ القيس في ديوانه ص 9والدرر 5/ 139وسر صناعة الإعراب 1/ 257، 260وشرح أبيات سيبويه 1/ 449وشرح أبيات المغني 6/ 66وشرح شواهد المغني 2/ 772والكتاب 2/ 142ولسان العرب (عول، هلل) والمنصف 3/ 40. وهو بلا نسبة في الدرر 6/ 154وشرح الأشموني 2/ 434وشرح شواهد المغني 2/ 872ومغني اللبيب 2/ 350وهمع الهوامع 2/ 77، 140.
وروايته في الديوان:
وإن شفائي عبرة إن سفحتها ... وهل عند رسم(9/278)
741 - وإنّ شفاء عبرة مهراقة
على أنّه يجوز أن يخبر في باب إنّ أيضا عن النكرة كما هنا، فإنّ «شفاء» وقع اسم إنّ منكّرا، وأخبر عنه ب «عبرة».
قال الشارح المحقق: وكذا أنشده سيبويه.
أقول: هذا نصّه في «باب ما يحسن عليه السّكوت في هذه الأحرف الخمسة إنّ وأخواتها»، قال: وتقول: إنّ قريبا منك زيدا، إذا جعلت قريبا منك موضعا.
وإن جعلت الأوّل هو الآخر، قلت: إنّ قريبا منك زيد، وتقول: إنّ بعيدا منك زيد. والوجه إذا أردت هذا أن تقول: إنّ زيدا قريب أو بعيد منك، لأنّه اجتمع معرفة ونكرة.
وقال امرؤ القيس:
وإنّ شفاء عبرة مهراقة ... فهل عند رسم دارس من معوّل
فهذا أحسن لأنّه نكرة. وإن شئت قلت: إنّ بعيدا منك زيدا. وقلّما يكون «بعيدا منك» ظرفا، لأنّك لا تقول: إنّ بعدك، وتقول: إنّ قربك (1) فالدّنوّ أشدّ تمكينا في الظرف من البعد. انتهى كلامه.
والرواية المشهورة في البيت: «وإنّ شفائي» (2)، بالإضافة إلى ياء المتكلّم.
وهذا هو المشهور المعروف.
والبيت من أوّل معلّقة امرئ القيس، ولم يذكر شرّاحها تلك الرواية، إلّا أنّ الخطيب التّبريزيّ، قال (3): روى سيبويه هذا البيت «وإنّ شفاء عبرة»، واحتجّ فيه بأنّ النّكرة يخبر عنها بالنكرة.
ويروى:
* وإنّ شفائي عبرة لو سفحتها *
__________
(1) في الكتاب لسيبويه: = لأنك لا تقول إن بعدك زيدا، وتقول إن قربك زيدا =.
(2) هي رواية ديوانه ص 9.
(3) شرح القصائد العشر للخطيب التبريزي ص 28.(9/279)
أي: صببتها. و «لو»: للتمنّي لا جواب لها. و «العبرة»، بالفتح: الدّمعة، وجمعها عبر، كبدرة وبدر. و «مهراقة»، بفتح الهاء، أي: مصبوبة.
قال ابن السيد في «شرح أدب الكاتب»: قد ذكر ابن قتيبة في باب فعلت، وأفعلت هرقت الماء وأهرقته. وقد قال مثله بعض اللغويّين ممّن لا يحسن التصريف، وتوهّم أنّ هذه الهاء في هذه الكلمة أصل. وهو غلط، والصّحيح أنّ هرقت، وأهرقت فعلان رباعيّان معتلّان، أصلهما أرقت (1).
فمن قال: هرقت فالهاء عنده بدل من همزة أفعلت، كما قالوا: أرحت الماشية وهرحتها، وأنرت الثوب وهنرته.
ومن قال: أهرقت فالهاء عنده عوض من ذهاب حركة عين الفعل عنها، ونقلها إلى الفاء لأنّ الأصل أريقت أو أروقت، بالياء أو بالواو، على الاختلاف في ذلك، ثم نقلت حركة الواو أو الياء إلى الراء، فانقلب حرف العلّة ألفا لانفتاح ما قبلها ثم حذف لسكونه وسكون القاف (2).
والساقط من أرقت يحتمل أن يكون واوا، فيكون مشتقا من راق الشيء يروق، ويحتمل أن يكون ياء، لأنّ الكسائيّ حكى: راق الماء يريق، إذا انصبّ.
والدّليل على أنّ الهاء في هرقت، وأهرقت ليست فاء الفعل على ما توهّم من ظنّها كذلك، أنّها لو كانت كذلك للزم أن يجرى هرقت في تصريفه مجرى ضربت، فيقال: هرقت أهرق هرقا، كما تقول: ضربت أضرب ضربا، أو مجرى غيره من الأفعال الثلاثية، التي يجيء مضارعها بضمّ العين، وتجيء مصادرها مختلفة.
وكان يلزم أن يجرى أهرقت في تصريفه مجرى أكرمت ونحوه من الأفعال الرباعية المصحّحة، فيقال: أهرقت أهرق إهراقا، كما تقول: أكرمت أكرم إكراما.
__________
(1) في طبعة بولاق: = أريقت =. وهو تصحيف صوابه من النسخة الشنقيطية، وشرح القصائد العشر للتبريزي ص 28.
زاد بعده التبريزي: = من هرقت الماء فأنا أهريقه، بمعنى: أرقت. ووزن أرقت: أفلت. وعين الكلمة محذوفة.
كان أصلها: أريقت، على وزن: أفعلت، وهو فعل معتل العين =.
(2) في النسخة الشنقيطية: = الفاء =. وهو تصحيف صوابه من طبعة بولاق.(9/280)
ولم تقل العرب شيئا من ذلك، وإنّما يقولون في تصريف هرقت أهريق، يفتحون الهاء، وكذلك يفتحونها في اسم الفاعل، فيقولون: مهريق، وفي اسم المفعول مهراق، لأنّها بدل من همزة لو ثبتت في تصريف الفعل لكانت مفتوحة.
ألا ترى أنّك لو صرّفت أرقت على ما ينبغي من التصريف، ولم تحذف الهمزة منه لقلت في مضارعه يؤريق، وفي اسم فاعله مؤريق، وفي اسم مفعوله مؤريق.
وقالوا في المصدر: هراقة كما قالوا إراقة.
وإذا صرّفوا أهرقت، قالوا في المضارع أهريق، وفي المصدر إهراقة، وفي اسم الفاعل مهريق، وفي اسم المفعول مهراق، فأسكنوا الهاء في جميع تصريف الكلمة.
فهذا يدلّ على أنّه رباعيّ معتلّ وليس بفعل صحيح، وأنّ الهاء فيه بدل من همزة.
أرقت أو عوض كما قلنا.
قال العديل بن الفرخ (1): (الطويل)
فكنت كمهريق الذي في سقائه ... لرقراق آل فوق رابية صلد
وقال ذو الرمّة (2): (الطويل)
* فلمّا دنت إهراقة الماء أنصتت *
وقال الأعشى في أراك (3): (الخفيف)
__________
(1) البيت للعديل بن الفرخ في الاقتضاب ص 227ولسان العرب (هرق). وهو بلا نسبة في رصف المباني ص 401.
(2) صدر بيت لذي الرمة وعجزه:
* لأعزلة عنها وفي النفس أن أثني *
البيت لذي الرمة في ديوانه ص 645وسر صناعة الإعراب 1/ 202ولسان العرب (روق، رهق). وهو بلا نسبة في تذكرة النحاة ص 694ورصف المباني ص 401.
والبيت ثالث ثلاثة هم لغز في بكرة البئر، وقبله:
وجارية ليس من الإنس تستحي ... ولا الجن قد لاعبتها ومعي ذهني
فأدخلت فيها قيد شبر موفّر ... فصاحت ولا والله ما وجدت تزني
(3) البيت للأعشى ميمون في ديوانه ص 259.
الأراك: شجر تستعمل قضبانه في السواك. وهراق الماء وأراقه: صبّه.(9/281)
في أراك مرد يكاد إذا ما ... ذرّت الشّمس ساعة يهراق
انتهى كلامه، ولجودته سقناه بتمامه.
وقوله: «فهل عند رسم» إلخ، «الرّسم»: الأثر. و «الدّارس»:
المنطمس. والفاء في جواب شرط مقدّر، قال ابن جنّي في «سرّ الصناعة»: ومن ذلك قول امرئ القيس:
وإنّ شفائي عبرة ... البيت
ففي قوله معوّل، مذهبان (1):
أحدهما: أنّه مصدر عوّلت بمعنى: أعولت، أي: بكيت. أي: فهل عند رسم دارس من إعوال وبكاء.
والآخر: أنّه مصدر عوّلت على كذا، أي: اعتمدت عليه، كقولهم: إنّما عليك معوّلي، أي: اتّكالي.
وعلى أيّ الأمرين حملت المعوّل فدخول الفاء على: فهل عند رسم، حسن جميل، أمّا على الأوّل فكأنه قال: إنّ شفائي أن أسفح عبرتي. ثم خاطب نفسه أو صاحبيه (2)، فقال: إذا كان الأمر على ما قدّمت من أنّ في البكاء شفاء وجدي، فهل من بكاء أشفي به غليلي؟
فهذا ظاهره استفهام لنفسه، ومعناه التّحضيض لها على البكاء، كما تقول: قد أحسنت إليّ فهل أشكرك؟ أي: فلأشكرنّك. وقد زرتني فهل أكافئك؟ أي:
فلأكافئنّك.
وإذا خاطب صاحبيه، فكأنه قال: قد عرّفتكما سبب شفائي، وهو البكاء والإعوال، فهل تعولان وتبكيان معي لأشفي وجدي ببكائكما. فهذا التفسير على قول من قال: إنّ معوّلي بمنزلة إعوالي.
والفاء عقدت آخر الكلام بأوّله، لأنّه كأنه قال: إن كنتما قد عرفتما ما أوثره من البكاء فابكيا معي.
__________
(1) النص في شرح أبيات المغني للبغدادي 6/ 66. وفيه: = في معول روايتان =.
(2) في شرح أبيات المغني: = نفسه أو صاحبه فقال =.(9/282)
كما أنّه إذا استفهم نفسه فكأنه قال: إذا كنت قد علمت أنّ في الإعوال راحة لي، فلا عذر لي في ترك البكاء.
وأمّا من جعل معوّلي بمعنى تعويلي على كذا، أي: اعتمادي واتّكالي عليه، فوجه دخول الفاء على «فهل» في قوله: أنّه لما قال: إن شفائي عبرة مهراقة، فكأنه قال: إنّما راحتي في البكاء، فما معنى اتّكالي في شفاء غليلي على رسم دارس لا غناء عنده عنّي. فسبيلي أن أقبل على بكائي (1)، ولا أعوّل في برد غليلي (2) على ما لا غناء عنده.
وهذا أيضا معنى يحتاج معه إلى الفاء لتربط آخر الكلام بأوّله، فكأنّه قال: إذا كان شفائي إنما هو في فيض دمعي، فسبيلي أن لا أعوّل على رسم دارس في دفع حزني، وينبغي أن أجدّ في البكاء، الذي هو سبب الشفاء. انتهى كلامه.
ووقع في رواية ابن هشام «وهل» بالواو، قال في «المغني، في بحث هل، وفي عطف الإنشاء على الخبر من الباب الرابع»: إنّ هل فيه للنفي، ولذا صحّ العطف، إذ لا يعطف الإنشاء على الخبر.
وقد تقدّم في الشاهد التاسع والتسعين بعد المائة عن الباقلّاني في «إعجاز القرآن» أنّ هذا البيت مناقض لما قبله، فراجعه (3).
وترجمة امرئ القيس تقدّمت في الشاهد التاسع والأربعين (4).
* * * وأنشد بعده (5): (الوافر)
__________
(1) في شرح أبيات المغني للبغدادي: = فسبيلي أن أقبل على الدعاء والبكاء =.
(2) رسمت الكلمة في طبعة بولاق: = غلى لي =. وهو تصحيف صوابه من النسخة الشنقيطية.
(3) الخزانة الجزء الثالث ص 213.
(4) الخزانة الجزء الأول ص 321.
(5) عجز بيت لحسان بن ثابت وصدره:
* كأنّ سبيئة من بيت رأس *
وهو الإنشاد الثاني والتسعون بعد الستمائة في شرح أبيات المغني للبغدادي.(9/283)
* يكون مزاجها عسل وماء *
على أنّه يجوز أن يخبر في بابي «كان» و «إنّ» بمعرفة عن نكرة في الاختيار كما هنا، فإنّ مزاجها روي بالنصب على أنّه خبر مقدّم وهو معرفة، وعسل اسم كان مؤخّر، وهو نكرة.
وقال الزّمخشري: لا يجوز هذا إلّا في ضرورة الشعر.
وهذا مذهب ابن جنّي، قال في «المحتسب»: روي عن عاصم أنّه قرأ (1):
«{وَمََا كََانَ صَلََاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ}» نصبا «إلّا مكاء وتصدية» رفعا. ولحّنه الأعمش.
وقد روي هذا الحرف أيضا عن أبان بن تغلب أنّه قرأه كذلك (2).
ولسنا ندفع أنّ جعل اسم كان نكرة وخبرها معرفة قبيح، فإنما جاءت منه أبيات شاذّة، وهو في ضرورة الشعر أعذر (3)، والوجه اختيار الأفصح الأعرب، ولكنّ وراء ذلك ما أذكره. اعلم أنّ نكرة الجنس تفيد مفاد معرفته.
ألا ترى أنّك تقول: خرجت فإذا أسد بالباب، فتجد معناه معنى قولك:
خرجت فإذا الأسد بالباب، لا فرق بينهما. وذلك أنّك في الموضعين لا تريد أسدا واحدا معيّنا، وإنّما تريد خرجت فإذا بالباب واحد من هذا الجنس.
وإذا كان كذلك جاز هنا الرفع في «مكاء وتصدية» جوازا قريبا، حتّى كأنه قال: وما كان صلاتهم عند البيت إلّا المكاء والتّصدية، أي: إلّا هذا الجنس من الفعل.
وإذا كان كذلك لم يجر هذا مجرى قولك: كان قائم أخاك، وكان جالس أباك، لأنه ليس في جالس وقائم من معنى الجنسيّة التي تلاقي معنيا نكرتها ومعرفتها (4).
__________
والبيت لحسان بن ثابت في ديوانه ص 71والأشباه والنظائر 2/ 296والدرر 2/ 73وشرح أبيات سيبويه 1/ 50وشرح أبيات المغني 6/ 349وشرح شواهد المغني ص 849وشرح المفصل 7/ 93والكامل في اللغة 1/ 74والكتاب 1/ 49ولسان العرب (سبأ، رأس، جني) والمحتسب 1/ 279والمقتضب 4/ 92. وهو بلا نسبة في مغني اللبيب ص 453، 695وهمع الهوامع 1/ 119.
(1) سورة الأنفال: 8/ 35. وانظر المحتسب 1/ 279.
(2) في طبعة بولاق: = أنه قراءة كذلك = وهو تصحيف صوابه من النسخة الشنقيطية والمحتسب.
(3) في طبعة بولاق والنسخة الشنقيطية: = عذر =، ولقد أثبتنا ما في المحتسب.
(4) جاء بعده في المحتسب: = على ما ذكرنا وقدمنا =.(9/284)
وأيضا فإنّه يجوز مع النفي من جعل اسم كان وأخواتها نكرة ما لا يجوز مع الإيجاب (1)، فكذلك هذه القراءة، لمّا دخلها النفي قوي، وحسن جعل اسم كان نكرة. هذا إلى ما ذكرنا من مشابهة نكرة اسم الجنس لمعرفته.
ولهذا ذهب بعضهم في قول حسّان:
كأنّ سبيئة من بيت رأس ... يكون مزاجها عسل وماء
أنّه إنّما جاز ذلك من حيث كان عسل ومكاء جنسين، فكأنه قال: يكون مزاجها العسل والماء. فبهذا تسهل هذه القراءة، ولا تكون من القبح واللّحن [الذي (2)] ذهب إليه الأعمش. انتهى.
وإليه أيضا ذهب ابن السيد في «أبيات المعاني»، قال: هذا لا يجوز إلّا في ضرورة الشعر، فأمّا في الكلام فلا يجوز.
وقال اللخمي: حسّن ذلك أنّ مزاجا مضاف إلى ضمير نكرة. قال السّيرافي عندما أنشد سيبويه (3): (الوافر)
* أظبي كان أمّك أم حمار *
إنّ ضمير النكرة لا تستفيد منه إلّا نكرة. ألا ترى إذا قلت: مررت برجل فكلّمته، لم تكن الهاء بموجبة تعريفا لشخص بعينه، وإن كانت معرفة من حيث علم المخاطب أنّها ترجع إلى ذلك المنكور. انتهى.
وقال ابن خلف: في هذا أربعة أقوال: قيل هو على وجه الضرورة، وقيل: أراد
__________
(1) جاء بعده في المحتسب: = ألا تراك تقول: ما كان إنسان خيرا منك، ولا تجيز: كان إنسانا خيرا منك =.
(2) زيادة يقتضيها السياق من المحتسب.
(3) عجز بيت اختلف في نسبته وصدره:
* فإنك لا يضرّك بعد حول *
وهو الإنشاد الخامس والعشرون بعد الثمانمائة في شرح أبيات المغني للبغدادي.
والبيت لخداش بن زهير في ديوانه ص 66وتخليص الشواهد ص 272وشرح أبيات المغني للبغدادي 7/ 241 وشرح شواهد المغني 2/ 918وعيون الأخبار 2/ 3والكتاب 1/ 48والمقتضب 4/ 94ولثروان بن فزارة في حماسة البحتري ص 758. وهو بلا نسبة في شرح المفصل 7/ 94ومغني اللبيب 2/ 590.(9/285)
مزاجا لها فنوى بالإضافة الانفصال فأخبر بنكرة عن نكرة.
وقال أبو علي: نصب مزاجها على الظّرف السادّ مسدّ الخبر، كأنه قال:
يكون مستقرّا في مزاجها. فإذا كان ظرفا تعلّق بمحذوف يكون الناصب له، وقدّم على عسل وماء كعادتهم في الظروف إذا وقعت أخبارا عن النّكرات، لئلّا تلتبس بالصفات (1).
ثم نقل توجيه ابن جنّي. وكذا نقل اللخميّ عنه، قال: وعن أبي عليّ أنّ مزاجها ينتصب على الظرف، تقديره على المعنى: يكون مكان مزاجها عسل وماء.
قال ابن هشام في «المغني»: وتأوّله الفارسيّ على أنّ انتصاب المزاج على الظرفية المجازيّة.
وزعم شارحه ابن الملّا أنّ كان على تأويل أبي عليّ تكون تامّة.
وذهب الزمخشري في «المفصّل» إلى أنّ هذا ونحوه من القلب الذي شجّع عليه أمن الإلباس.
وإليه جنح ابن هشام في «المغني»، قال في الباب الثامن: من فنون كلامهم القلب، وأكثر وقوعه في الشعر. وأنشد البيت. وقال في الباب الرابع منه: إنّه ضرورة. ولم يذكر القلب.
وروي في البيت رفع مزاجها، ونصب عسل، ورفع ماء، وبرفع الجميع.
وقد تقدّم كلّه مشروحا مع القصيدة في الشاهد الثاني والثلاثين بعد السبعمائة (2).
* * * وأنشد بعده (3): (الوافر)
__________
(1) في طبعة بولاق: = يلتبس بالصفات =، وهو تصحيف صوابه من النسخة الشنقيطية.
(2) من هذا الجزء.
(3) عجز بيت للقطامي وصدره:
* قفي قبل التّفرّق يا ضباعا *
وهو الإنشاد الواحد والتسعون بعد الستمائة في شرح أبيات المغني للبغدادي.(9/286)
* ولا يك موقف منك الوداعا *
لما تقدّم قبله، من أنّه يجوز في الاختيار أن يخبر عن نكرة بمعرفة في ذينك البابين.
قال ابن مالك في «التسهيل»: وقد يخبر هنا وفي باب إنّ بمعرفة عن نكرة اختيارا.
وقال في «شرحه»: لمّا كان المرفوع هنا مشبّها بالفاعل، والمنصوب مشبّها بالمفعول، جاز أن يغني هنا تعريف المنصوب عن تعريف المرفوع، كما جاز في باب الفاعل، لكن بشرط الفائدة، وكون النكرة غير محضة.
من ذلك قول حسان:
* يكون مزاجها عسل وماء *
وليس بمضطرّ، إذ يمكنه أن يقول: مزاجها بالرفع فيجعل اسم يكون ضمير الشأن.
وقول القطاميّ:
* ولا يك موقف منك الوداعا *
وليس بمضطرّ، إذ له أن يقول: ولا يك موقفي. والمحسّن لهذا شبه المرفوع بالفاعل، والمنصوب بالمفعول. وقد حمل هذا الشّبه في باب إنّ، كقول الفرزدق (1):
(الطويل)
وإنّ حراما أن أسبّ مجاشعا ... بآبائي الشّمّ الكرام الخضارم
__________
والبيت للقطامي في ديوانه ص 31والدرر 3/ 57وشرح أبيات سيبويه 1/ 444وشرح أبيات المغني 6/ 345وشرح شواهد المغني 2/ 849والكتاب 2/ 243ولسان العرب (ضبع، ودع) واللمع ص 120 والمقاصد النحوية 4/ 295والمقتضب 4/ 94. وهو بلا نسبة في الدرر 2/ 73وشرح الأشموني 2/ 468 وشرح المفصل 7/ 91ومغني اللبيب 2/ 452.
(1) البيت للفرزدق في ديوانه ص 844والدرر 2/ 74وشرح أبيات سيبويه 1/ 191والمقتضب 4/ 74.
وهو بلا نسبة في شرح أبيات سيبويه 1/ 46وهمع الهوامع 1/ 119.(9/287)
انتهى.
وهذا مبنيّ على تفسير الضرورة بما لا مندوحة للشاعر عنه. وهذا فاسد من وجوه تقدّم بيانها في شرح أوّل شاهد. وعند الجمهور هو من الضّرورة، ومعناها ما وقع في الشعر، سواء كان عنه مندوحة أو لا.
قال اللخمي: جعل موقفا، وهو نكرة، اسم يك، والوداع وهو معرفة الخبر، ضرورة لإقامة الوزن. وحسّن الضرورة فيه ثلاثة أوجه:
أحدها: أنّ النكرة (1) قد قربت من المعرفة بالصّفة.
والثاني: أنّ المصدر جنس، فمفاد نكرته، ومعرفته واحد.
والثالث: أنّ الخبر هو المبتدأ في المعنى.
وقال صاحب اللباب: وهما، أي: المرفوع والمنصوب بكان، على شرائطهما في باب الابتداء. وزعم بعض المنتمين إلى هذه الصّنعة أن بناء الكلام على بعضهما (2)
من غير تقدير دخول على المبتدأ والخبر سائغ، بدليل قوله:
* ولا يك موقف منك الوداعا *
وليس بمحمول على الضرورة، إذ لا يتمّ المعنى المقصود إلا هكذا، إذ لو عرّفهما لم يؤدّ أنّه لم يرخّص أن يكون ما سوى ذلك من المواقف وداعا. ولو نكّرهما لم يؤدّ أنّ الوداع، قد كرّه إليه حتّى صار نصب عينيه. ولو عرّف الأول ونكّر الثاني لجمع بين الهجنتين.
والجواب بعد تسليم جميع ما ذكره أنّه لو أراد إيراد هذا المعنى بطريق النفي دون النهي، لا بدّ أن يقول: ما موقف منك الوداع، بعين ما ذكره. على أنّ المقصود أن لا يكون الوداع موقفا منها (3) فيكون من باب القلب، مثل ما في قول الآخر:
* يكون مزاجها عسل وماء *
__________
(1) في طبعة بولاق: = النكرات =. ولقد أثبتنا رواية النسخة الشنقيطية.
(2) في حاشية طبعة هارون 9/ 286: = أي بعض النكرات والمعارف دون تقيد بالنوع =.
(3) في النسخة الشنقيطية: = على أن المقصود لا يكون الوداع منها =.(9/288)
انتهى.
أراد بالهجنتين ترخيص كون ما سوى هذا الموقف المعيّن موقف وداع، وفوات النّكتة المستفادة من تعريف الوداع. وحاصله أنّه لما اختار أنّ وجود شرائط المبتدأ والخبر في هذه الأفعال لازم، ذهب إلى أنّ البيت محمول على الضّرورة، لأنّها دعت إلى القلب.
وأجاب عن استدلال المخالف بوجهين:
الأوّل: أن يقال: لا نسلّم أنّهما إن كانا معرفتين، يلزم قبح، لأنّ مبناه أنّ اللام في الموقف للعهد، وهو ممنوع لجواز أن تكون للجنس، أي: لا يك جنس الموقف الوداع.
وفيه عموم سلّمناه، لكن لا نسلّم أنّهما إن كانا منكّرين يلزم قبح، لأنّه مبنيّ على أنّ اللام في الوداع للعهد إلى الشيء المكرّه عنده، وهو ممنوع لجواز كونه للجنس.
سلّمناه لكنّه منقوض بنقض إجمالي، وتوجيهه لو صحّ ما ذكرت لكان الواجب أن يقال عند إرادة هذا المعنى بطريق النفي دون النهي: ما موقف منك الوداع بعين ما ذكرت. لكنّ التالي باطل، لأنّ تنكير المبتدأ، وتعريف الخبر بعد النفي ليس حدّ الكلام الذي يجب أن يكون عليه الاتفاق (1).
الثاني: أنّ مقصود الشاعر أن لا يكون موقف الوداع موقفا من مواقفها بأن لا يكون وداع أصلا.
وعلى هذا كان الوداع اسم كان، والموقف خبره، فقلب بأن جعل الاسم خبرا والخبر اسما، والقلب ممّا (2) يشجّع عليه عند أمن الالتباس.
وهذا المصراع عجز، وصدره:
* قفي قبل التّفرّق يا ضباعا *
__________
(1) في طبعة بولاق: = بالاتفاق =.
(2) في طبعة بولاق: = ما =. وأثبتنا ما في النسخة الشنقيطية.(9/289)
والبيت مطلع قصيدة للقطامي تقدم الكلام عليه في الشاهد الثالث والأربعين بعد المائة (1).
* * * وأنشد بعده، وهو الشاهد الثاني والأربعون بعد السبعمائة، وهو من شواهد س (2): (الطويل)
742 - أسكران كان ابن المراغة إذ هجا
تميما بجوف الشّام أم متساكر
على أن سيبويه مثّل به للإخبار عن النكرة بالمعرفة.
وهذا نصّه: اعلم أنه إذا وقع في الباب نكرة ومعرفة، فالذي تشغل به «كان» المعرفة لأنّه حدّ الكلام، ولأنّهما شيء واحد (3)، وليس بمنزلة قولك: ضرب رجل زيدا، لأنّهما شيئان مختلفان، وهما في كان بمنزلتهما في الابتداء.
فإذا قلت: كان زيد فقد ابتدأت بما هو معروف عنده مثله عندك، وإنّما ينتظر الخبر. فإذا قلت: حليما فقد أعلمته مثل ما علمت. فإذا قلت: كان حليما فإنّما ينتظر أن تعرّفه صاحب الصّفة، فهو مبدوء به في الفعل، وإن كان مؤخّرا في اللفظ.
فإن قلت: كان حليم، أو رجل، فقد بدأت بنكرة، فلا يستقيم أن تخبر المخاطب عن المنكور. ولا يبدأ بما فيه يكون اللّبس، وهو النكرة.
ألا ترى أنّك لو قلت: كان حليما، أو كان رجل منطلقا، كنت تلبس، لأنّه لا يستنكر أن يكون إنسان هكذا. فكرهوا أن يبدؤوا باللّبس، ويجعلوا المعرفة خبرا
__________
(1) الخزانة الجزء الثاني ص 323.
(2) هو الإنشاد الرابع والثلاثون بعد السبعمائة في شرح أبيات المغني للبغدادي.
والبيت للفرزدق في ديوانه ص 481وشرح أبيات المغني للبغدادي 7/ 69والكتاب 1/ 49ولسان العرب (سكر) والمقتضب 4/ 93. وهو بلا نسبة في الخصائص 2/ 375وشرح شواهد المغني 2/ 874ومغني اللبيب 2/ 490.
(3) في الكتاب لسيبويه: = لأنهما شيء واحد =. بحذف الواو.(9/290)
لما يكون في هذا اللّبس.
وقد يجوز في الشعر في ضعف من الكلام. حملهم على ذلك أنه فعل بمنزلة ضرب، وأنّه قد يعلم إذا ذكرت زيدا، وجعلته خبرا أنّه صاحب الصّفة، على ضعف من الكلام.
وذلك قول خداش بن زهير: (الوافر)
فإنّك لا تبالي بعد حول ... أظبي كان أمّك أم حمار
وقال حسّان: (الوافر)
كأنّ سبيئة من بيت رأس ... يكون مزاجها عسل وماء
وقال أبو قيس بن الأسلت الأنصاريّ (1): (الوافر)
ألا من مبلغ حسّان عنّي ... أسحر كان طبّك أم جنون
وقال الفرزدق:
أسكران كان ابن المراغة إذ هجا ... تميما بجوف الشّام أم متساكر
فهذا إنشاد بعضهم.
وأكثرهم ينصب السّكران، ويرفع الآخر على قطع وابتداء. انتهى كلام سيبويه.
وقوله: «وأكثرهم ينصب السكران»، أي: ويرفع ابن المراغة على أنّه اسم كان، ويكون الخبر مقدّما، وهو سكران. وعلى هذا لا قبح.
وقوله: «ويرفع الآخر» هو متساكر، ويكون رفعه على القطع بجعله خبر مبتدأ محذوف، أي: أم هو متساكر، فتكون أم منقطعة.
وإذا رفع سكران، ونصب ابن المراغة، وهذه مسألتنا، ففيه قبح لضرورة الشعر، لأنه جعل اسم كان ضمير سكران وهو نكرة، ويكون ابن المراغة خبر كان، فيكون قد أخبر بمعرفة عن نكرة، ويرتفع سكران حينئذ بكان محذوفة كما يأتي بيانه،
__________
(1) هو الشاهد رقم / 743/ وسيتم تخريجه وقتها.(9/291)
ويكون متساكر معطوفا عليه، وعلى هذا أم متّصلة، ويكون العطف من عطف مفرد على مفرد، والجملة واحدة. وعلى الأوّل جملتان.
وإنّما قال الشارح المحقق: «وأورد (1) سيبويه للتمثيل بالإخبار عن النكرة بالمعرفة»، ولم يقل: استشهد للإخبار، لأنّ سيبويه لم يذهب إلى أنّ هذا جائز في الاختيار حتّى يستشهد له، وإنّما هو قبيح خاصّ بالشعر لم يرتضه في الكلام. فأورد هذه الأبيات أمثلة لما استقبحه في الشعر.
وقد روي رفع ابن المراغة مع رفع سكران، فيكون المعرّف على هذا مبتدأ، والمنكّر خبرا، وكان زائدة.
وجوّز ابن خلف أن يضمر في كان ضمير الشأن. وهذا خطأ تبع فيه يوسف بن السيرافي في «شرحه لشواهد سيبويه».
قال ابن هشام: وضمير الشأن يعود على ما بعده لزوما، ولا يجوز للجملة المفسّرة له أن تتقدّم هي، ولا شيء منها عليه.
وقد غلط يوسف بن السيرافي، إذ قال في قوله:
* أسكران كان ابن المراغة إذ هجا * البيت
فيمن رفع سكران وابن المراغة: إنّ (2) كان شأنية، وابن المراغة وسكران مبتدأ وخبره، والجملة خبر كان. والصّواب أنّ كان زائدة.
والأشهر في إنشاده نصب سكران، ورفع ابن المراغة، فارتفاع متساكر على أنه خبر لهو محذوفا. ويروى بالعكس فاسم كان مستتر فيها. انتهى.
وقال أبو علي في «المسائل العسكرية»:
قوله: أسكران رفع بفعل مضمر تكون كان تفسيرا له، ودليلا عليه. وحسن الرفع في هذا الموضع لأنّ التقدير: أكان سكران ابن المراغة؟ فاستفهم عن سكره لا عنه في نفسه. وإذا كان كذلك كان الأولى أن يرفع، لأنّ النكرة لما دخلها هذا
__________
(1) في النسخة الشنقيطية: = وأورده =. وهو تصحيف صوابه من طبعة بولاق.
(2) في طبعة بولاق: = وإن =. وهو تصحيف صوابه من النسخة الشنقيطية.(9/292)
المعنى من أنّ القصد إنما وقع إليها، وجب أن يكون الرفع، فترفع بكان. وكذلك قول الآخر:
* أظبي كان أمّك أم حمار *
انتهى.
ومثله لابن جني في «الخصائص» (1)، قال: وقد حذف خبر كان في قوله:
* أسكران كان ابن المراغة * البيت
ألا ترى أنّ تقديره: أكان سكران ابن المراغة، فلمّا حذف الفعل فسّره بالثاني، وابن المراغة المذكور خبر كان الظاهرة، وخبر كان المضمرة محذوف معها، لأنّ كان الثانية دلّت على الأولى. وكذلك الخبر الثاني الظاهر، دلّ على الخبر الأول المحذوف.
انتهى.
وزعم ابن الملّا الحلبي في «شرح المغني» أنّ سكران مبتدأ. قال: وصحّت ابتدائيّته مع نكارته (2) لوقوعه في حيّز الاستفهام، وأنّ جملة كان ابن المراغة خبره.
هذا كلامه.
والبيت من قصيدة للفرزدق (3) هجا بها جريرا. وأراد بابن المراغة جريرا، وكان الفرزدق قد لقّب أمّه بالمراغة، ونسبها إلى أنّها راعية حمير. والمراغة: الأتان التي لا تمتنع من الفحول (4). وإذ: ظرف يتعلّق بكان، وفاعل هجا ضمير ابن المراغة.
وأراد بتميم هاهنا: بني دارم بن مالك بن حنظلة، وهم رهط الفرزدق، وجرير من رهط كليب بن يربوع بن حنظلة.
__________
(1) الخصائص 2/ 375بتصرف يسير وشرح أبيات المغني للبغدادي 7/ 70.
(2) في اللسان (نكر): = والمنكر من الأمر: خلاف المعروف =.
(3) القصيدة ليست في ديوانه. وإنما هو بيت يتيم ذكر جامع ديوانه الصاوي، نقلا عن الكتاب لسيبويه، فلعل البغدادي سهى. والنص في شرح أبيات المغني للبغدادي 7/ 71.
(4) بعده في شرح أبيات المغني: = وقال الجوهري: لقبها به الأخطل، أي يتمرغ عليها الرجال، لأن المراغة موضع التمرغ: وهو التمعك =.(9/293)
فلم يعتدّ الفرزدق برهط جرير في تميم، احتقارا لهم. وأراد بجوف الشام:
داخلها.
وروى أبو علي وابن جنّي وغيرهما: «ببطن الشّام» وهو بمعناه. وروي:
«بجوّ الشام»، وهذا تحريف (1).
وترجمة الفرزدق تقدّمت في الشاهد الثلاثين من أوائل الكتاب (2).
* * * وأنشد بعده (3): (الوافر)
فإنّك لا تبالي بعد حول ... أظبي كان أمّك أم حمار
لما تقدّم قبله.
فاسم «كان» ضمير «ظبي»، وهو نكرة، و «أمّك» بالنصب خبرها، وهو معرفة. و «ظبي» اسم لكان المضمرة المدلول عليها بكان المذكورة، وهو نكرة أيضا، وخبر المحذوفة محذوف أيضا مدلول عليه بخبر المذكورة، كما تقدّم عن ابن جني.
وقيل: «ظبي» مبتدأ، وجملة: «كان أمّك» خبره.
قال ابن هشام في «المغني» الأوّل أولى، لأنّ همزة الاستفهام بالجمل الفعلية أولى منها بالاسمية. وعليهما فاسم كان ضمير راجع إليه.
وقول سيبويه إنّه أخبر عن النكرة بالمعرفة واضح على الأوّل، لأنّ ظبيا المذكور
__________
(1) هذا من العجب، فرواية البيت في شرح أبيات المغني للبغدادي نفسه 7/ 69: = بجوّ الشام =. فكيف يعتبر البغدادي الرواية تحريفا، وهو قد رواها في كتاب آخر له.
(2) الخزانة الجزء الأول ص 218.
(3) هو الإنشاد الخامس والعشرون بعد الثمانمائة في شرح أبيات المغني للبغدادي.
والبيت لخداش بن زهير في ديوانه ص 66وتخليص الشواهد ص 272وشرح أبيات المغني 7/ 241وشرح شواهد المغني 2/ 918وعيون الأخبار 2/ 3والكتاب 1/ 48والمقتضب 4/ 94ولثروان بن فزارة في حماسة البحتري ص 758. وهو بلا نسبة في شرح المفصل 7/ 94ومغني اللبيب 2/ 590.(9/294)
اسم كان، وخبره أمّك، وأمّا على الثاني فخبر ظبي إنّما هو الجملة، والجمل نكرات، ولكن يكون محلّ الاستشهاد قوله: كان أمّك على أنّ ضمير النكرة عنده نكرة (1). انتهى.
وذهب صاحب «المفتاح» إلى أنّ تنكير المسند إليه غير موجود بالاستقراء.
وأما هذا البيت ونحوه فتنكير المسند إليه، إنما هو في ظبي إذا ارتفع بالمضمر، لا في ضمير كان العائد عليه. وهو وارد على القلب، والأصل:
* أظبيا كان أمّك، أم حمارا *
قال: إنّ كون المسند إليه نكرة، والمسند معرفة، سواء قلنا: يمتنع عقلا، أو يصحّ عقلا، ليس في كلام العرب، وأمّا ما جاء من نحو قوله:
* ولا يك موقف منك الوداعا (2) *
وقوله:
* يكون مزاجها عسل وماء (3) *
وبيت الكتاب:
* أظبي كان أمّك أم حمار *
فمحمول على منوال (4): عرضت الناقة على الحوض. وأصل الاستعمال: ولا يك موقفا منك الوداع، ويكون مزاجها عسلا وماء، وأظبيا كان أمّك أم حمارا.
ولا تظّننّ بيت الكتاب خارجا عما نحن فيه، ذهابا إلى أنّ اسم كان هو الضمير، والضمير معرفة، فليس المراد كان أمّك، وإنّما المراد ظبي، بناء على أنّ ارتفاعه
__________
(1) في طبعة بولاق والنسخة الشنقيطية: = أعيدت نكرة =. وهو تصحيف صوابه من مغني اللبيب ص 590.
وبعده في المغني: = لا على أن الاسم مقدم =.
(2) هو الشاهد رقم 143من شواهد الجزء الثاني من الخزانة.
(3) هو الشاهد رقم 732من شواهد هذا الجزء التاسع.
(4) في شرح أبيات المغني للبغدادي 7/ 242: = فمحول على منوال =.(9/295)
بالفعل المفسّر لا بالابتداء. ولذلك قدّرنا الأصل على ما ترى. انتهى.
واختار السعد في «المطوّل» هذا الأخير، فليس فيه قلب لفظي (1)، وإنما يكون فيه قلب معنوي.
قال: قيل: إنّه قلب من جهة اللّفظ، بناء على أنّ ظبي مرفوع بكان المقدّرة لا بالابتداء، فصار الاسم نكرة والخبر معرفة.
والحقّ أنّ ظبي مبتدأ، وكان أمّك خبره، فحينئذ (2) لا قلب فيه من جهة اللّفظ، لأنّ اسم كان ضمير، والضمير معرفة. نعم فيه قلب من جهة المعنى لأنّ المخبر عنه في الأصل هو الأمّ. انتهى.
ويشهد للقلب ما رواه ابن خلف [في شرح شواهد سيبويه] (3)، قال: وقد ينشد:
* أظبيا كأن أمّك أم حمار *
على أنّه جعل اسم كان معرفة، وخبرها نكرة. فهذا جيّد، إلّا أنه كان يجب أن ينصب «حمار»، لأنه معطوف على ظبي. فيجوز رفعه على إضمار مبتدأ.
قال المبرد في «كتابه الجامع»: والأجود في هذه الأبيات نصب الأخبار المقدّمة، ورفع المعارف، ورفع القوافي (4) على قطع وابتداء. انتهى.
والبيت من أبيات لثروان بن فزارة العامري الصحابي، وقد تقدّم الكلام عليها مفصّلا في الشاهد الرابع والعشرين بعد الخمسمائة (5).
* * * __________
(1) في شرح أبيات المغني للبغدادي 7/ 242: = الأخير، قال: قيل: إنه قلب من جهة اللفظ بناء على أن ظبي مرفوع بكان المقدرة =.
(2) في النسخة الشنقيطية: = فح = بدل = فحينئذ =. وهي كتابة اختزالية.
(3) زيادة يقتضيها السياق من شرح أبيات المغني للبغدادي.
(4) في شرح أبيات المغني للبغدادي: = وقطع القوافي على قطع وابتداء =.
(5) الخزانة الجزء السابع ص 181.(9/296)
وأنشد بعده، وهو الشاهد الثالث والأربعون بعد السبعمائة، وهو من شواهد س (1): (الوافر)
743 - ألا من مبلغ حسّان عنّي
أطبّ كان سحرك أم جنون
لما تقدّم قبله، والكلام فيه كما تقدّم.
و «الطّبّ» بالكسر، قال الأعلم: هو هنا العلّة والسّبب، أي: أسحرت فكان ذلك سبب هجائك أم جننت. وسحر هنا مصدر سحر المبني للمفعول، وهو مضاف للمفعول.
والبيت لأبي قيس بن الأسلت الأنصاري. وقد اختلف في إسلامه. وحسّان هو ابن ثابت شاعر النبيّ صلّى الله عليه وسلّم. وكان أبو قيس من الأوس، وحسّان من الخزرج، وكانا يتهاجيان، فقال أبو قيس لحسان: أذهب عنك عقلك بسحر، حتّى اجترأت على هجائي، أم أصابك جنون، فلم تدر ما صنعت. يعظم في نفس حسّان، ما يأتي من هجاء الأوس وشعرائها، ويتوعّده بالمقارضة.
ورواه ابن دريد في «الجمهرة» كذا (2):
* أطبّ كان داءك أم جنون *
وقال: الطّبّ هنا: السّحر.
وروي أيضا:
* أطبّ كان شأنك أم جنون *
__________
(1) البيت لأبي قيس بن الأسلت في ديوانه ص 91وتاج العروس (طبب) وجمهرة اللغة ص 73والكتاب 1/ 49ولسان العرب (طبب).
وروايته في الديوان:
... أطبّ كان داؤك أم جنون
(2) هي رواية جامع ديوانه ص 91.(9/297)
وهما أحسن من الرّواية الأولى.
وبعده:
فلست بزائل أبدا تمنّى ... بصدرك من وحاوحه فنون (1)
والوحاوح بواوين ومهملتين: الحزازات.
وأبو قيس تقدّمت ترجمته في الشاهد السابع والثلاثين بعد المائتين (2).
* * * وأنشد بعده، وهو الشاهد الرابع والأربعون بعد السبعمائة، وهو من شواهد س (3): (الرمل)
744 - إنّما يجزي الفتى ليس الجمل
هذا عجز، وصدره:
* وإذا أقرضت قرضا فاجزه *
على أنّ «ليس» يجوز حذف خبرها كثيرا كهذا البيت، أي: ليس الجمل جازيا، أو يجزي. وقيل: إنّ الجمل هو الخبر، وسكّن للقافية، واسمها ضمير اسم الفاعل المفهوم من يجزي، أي: ليس الجازي الجمل، فلا حذف فيه. وقيل: إنّ
__________
(1) في النسخة الشنقيطية: = لصدرك =.
والبيت ليس في ديوانه. فالبيت الشاهد هو بيت يتيم في ديوانه المجموع.
(2) الخزانة الجزء الثالث ص 378.
(3) البيت للبيد بن ربيعة في ديوانه ص 179والأزهية ص 182، 196وأساس البلاغة (جزي) وتاج العروس (قرض) وتهذيب اللغة 8/ 34، 13/ 72، 73وجمهرة الأمثال 1/ 57وشرح أبيات سيبويه 2/ 40 وشرح التصريح 2/ 135والكتاب 2/ 323ولسان العرب (ليس، قرض، إما، لا) ومجالس ثعلب ص 169، 515والمقاصد النحوية 4/ 176. وهو بلا نسبة في أوضح المسالك 3/ 354والمقتضب 4/ 410.
وروايته في ديوانه:
فإذا جوزيت قرضا فاجزه ... إنما يجزى(9/298)
ليس فيه عاطفة، وقد ذكره الشارح في لا العاطفة، وسيأتي الكلام عليه هناك إن شاء الله.
هذا ورواية البيت عند سيبويه:
* إنّما يجزي الفتى غير الجمل *
وكذا رواه الطوسي في شرح ديوان لبيد.
وأنشده سيبويه على أنّ الفتى، وهو معرفة، قد نعت بغير، وهي نكرة، والذي سوّغه أنّ التعريف باللام يكون للجنس، ولا يخصّ واحدا بعينه، فهو مقارب للنكرة وأنّ غيرا مضاف إلى معرفة، فقاربت المعارف لذلك.
وكذا أورده ابن السّرّاج في «الأصول»، قال: إنّ غيرا لا تدخل في الاستثناء إلّا في الموضع الذي ضارعت فيه إلّا.
ألا ترى أنّك تقول: مررت برجل غيرك، ولا تقع إلّا في مكانها، لا يجوز أن تقول: جاءني رجل إلّا زيد، تريد غير زيد على الوصف. فالاستثناء هنا محال.
ولكن تقول: ما يحسن بالرجل إلّا زيد أن يفعل كذا، لأنّ الرجل جنس، ومعناه: بالرجل الذي هو غير زيد، كما قال:
* إنّما يجزي الفتى غير الجمل *
انتهى.
وهذا البيت من قصيدة طويلة للبيد بن ربيعة الصّحابي، وقد تقدّم بعضها في الشاهد الثامن والعشرين بعد المائتين (1). وهذه أبيات منها (2): (الرمل)
اعقلي إن كنت لمّا تعقلي ... ولقد أفلح من كان عقل
إن تري رأسي أمسى واضحا ... سلّط الشّيب عليه فاشتعل (3)
__________
(1) الخزانة الجزء الثالث ص 343342.
(2) الأبيات للبيد بن ربيعة في ديوانه ص 180177.
(3) البيت للبيد بن ربيعة في ديوانه ص 177وأساس البلاغة (شعل) وتاج العروس (عوص).(9/299)
فلقد أعوص بالخصم وقد ... أملأ الجفنة من شحم القلل (1)
ولقد تحمد لمّا فارقت ... جارتي والحمد من خير الخول (2)
وغلام أرسلته أمّه ... بألوك فبذلنا ما سأل (3)
أو نهته فأتاه رزقه ... فاشتوى ليلة ريح واجتمل (4)
من شواء ليس من عارضة ... بيدي كلّ هضوم ذي نزل
فإذا جوزيت قرضا فاجزه ... إنّما يجزي الفتى ليس الجمل
أعمل العيس على علّاتها ... إنّما ينجح أصحاب العمل (5)
وإذا رمت رحيلا فارتحل ... واعص ما يأمر توصيم الكسل (6)
واكذب النّفس إذا حدّثتها ... إنّ صدق النّفس يزري بالأمل (7)
غير أن لا تكذبنها في التّقى ... واخزها بالبرّ لله الأجل (8)
__________
(1) البيت للبيد بن ربيعة في ديوانه ص 177وأساس البلاغة (عوص) وتاج العروس (عوص) وتهذيب اللغة 3/ 80وكتاب العين 2/ 198وكتاب الجيم 2/ 338ولسان العرب (عوص). وهو بلا نسبة في المخصص 12/ 212.
(2) البيت للبيد بن ربيعة في ديوانه ص 177وتاج العروس (خول).
(3) البيت للبيد بن ربيعة في ديوانه ص 178وتاج العروس (ألك، جمل) وشرح أبيات المغني 6/ 282ولسان العرب (ألك، شوا).
(4) البيت للبيد بن ربيعة في ديوانه ص 178وتاج العروس (جمل) وتهذيب اللغة 11/ 110ولسان العرب (جمل، شوا). وهو بلا نسبة في مجمل اللغة 3/ 183ومقاييس اللغة 4/ 225.
(5) البيت للبيد في ديوانه ص 179ولسان العرب (أخا).
(6) البيت للبيد بن ربيعة في ديوانه ص 179وأساس البلاغة (وصم) وتاج العروس (وصم) وتهذيب اللغة 12/ 261ولسان العرب (وصم) ونهاية الأرب 3/ 73. وهو بلا نسبة في مجمل اللغة 4/ 531ومقاييس اللغة 6/ 116.
(7) البيت للبيد في ديوانه ص 180وتاج العروس (كذب، خزا) وجمهرة الأمثال 1/ 51وجمهرة اللغة ص 596وفصل المقال ص 173وكتاب الأمثال ص 116وكتاب الأمثال لمجهول ص 22ولسان العرب (كذب، خزا) ومجمع الأمثال 2/ 139والمستقصى 1/ 289.
(8) البيت للبيد في ديوانه ص 180وأساس البلاغة (خزي) وتاج العروس (جلل، خزا) وتهذيب اللغة 7/ 492وجمهرة اللغة ص 596وكتاب العين 4/ 291ولسان العرب (كذب، جلل، خزا) ومجمل اللغة 2/ 183ومقاييس اللغة 2/ 179. وهو بلا نسبة في المخصص 13/ 55.(9/300)
قوله (1): «اعقلي إن كنت» إلخ، يخاطب عاذلته، وقيل: نفسه. وعقلت الشيء عقلا، من باب ضرب، إذا تدبّرته. ولمّا نافية.
وقوله: «إن تري رأسي» إلخ، وضح الشيء وضوحا، إذا برق بياضه.
وشبّه انتشار الشّيب باشتعال النار، في سرعة الالتهاب.
وقوله: «فلقد أعوص» إلخ، أعوص بالخصم، إذا لوى عليه أمره.
وقال الطوسي: أعوص: أركب به الأمر العويص، أي: الشديد. ويقال:
أعوص به، أي: آتيه بالعويص (2). ويقال: أعوص [به (3)]، أي: أحمله على العوصاء، وهي الشّدّة. و «الجفنة»، بفتح الجيم: القصعة.
وأراد بالقلل الأسنمة: جمع سنام، والواحد قلّة. وقلّة كلّ شيء: أعلاه وأرفعه. يقول: إنّي وإن شبت فإنّي أنفع وأضرّ.
وقوله: «ولقد تحمد» إلخ، جارتي فاعل تحمد. و «الخول»، بفتح الخاء المعجمة: العطيّة.
وقوله: «وغلام أرسلته» إلخ، الواو واو ربّ. و «الألوك»، بفتح الهمزة: الرسالة، ومنه ألكني السّلام إلى فلان، أي: أبلغ عنّي السّلام.
وقوله: «أو نهته فأتاه» إلخ، معطوف على أرسلته، أي: ربّ غلام نهته أمّه عن السؤال منّا حياء أو قنوعا، فبعثنا إليه بما اشتوى واجتمل.
يريد: إنّنا ننعم على الفقير على كلّ حال، سواء جاء يطلب، أو منع من الطلب.
يقال: شويت اللحم، واشتويته. وإذا شويته، فنضج، قلت: قد انشوى بالنون لا غير.
و «اجتمل»: اتّخذ الجميل، بفتح الجيم، وهو الشّحم المذاب. يقال: اجتمل،
__________
(1) الشرح من شرح ديوان لبيد بشرح الطوسي ص 177وما بعدها.
(2) كذا في طبعة بولاق وشرح ديوانه. وفي النسخة الشنقيطية وطبعة هارون: = أي: ائته بالعويص. على أنه تفسير للأمر.
(3) زيادة يقتضيها السياق.(9/301)
أي: أذاب الشّحم. وفي الحديث (1): «لعن الله اليهود حرّمت عليهم الشّحوم فجملوها فباعوها».
وقال الطّوسي: ويقال: اجتمل اللحم، أي: طبخه بالشّحم ليس معه ماء، وذلك إذا قلاه به.
وقوله: «ليلة ريح»، أي: ليلة برد من الشّتاء. وهذا غاية الكرم، فإنّ شدّة العرب، وبؤسهم في الشتاء، لعدم النبات.
وهذا البيت استشهد به صاحب الكشاف عند قوله تعالى (2): «{وَلَهُمْ مََا يَدَّعُونَ}» على أنّ يدّعون افتعال من الدّعاء، أي: يدعون لأنفسهم، كما في اشتوى، واجتمل، أي: شوى لنفسه، وجمل لنفسه. ومثله في «الصحاح»، قال:
اشتويت: اتّخذت شواء. وأنشد هذا البيت.
وقوله: «من شواء» إلخ، «من» متعلقة باشتوى في البيت المتقدّم. قال صاحب الصحاح: شويت اللحم شيّا، والاسم الشّواء. و «العارضة»: الناقة التي أصابها كسر، أو عرض فنحرت. و «الهضوم»، بفتح الهاء وضم المعجمة: الفتى الذي يهتضم ماله يقطع منه ويكسر (3). و «النّزل»، بفتح النون والزاي: المعروف والخير.
وقوله: «فإذا أقرضت (4)» إلخ، بالبناء للمفعول، يقال: أقرضني فلان، أي: أعطاني قرضا. والقرض: ما تعطيه من المال لتقضاه (5). والقرض هنا: ما سلف من إحسان أو إساءة.
قال أميّة بن أبي الصّلت (6): (البسيط)
__________
(1) انظر الحديث رقم 638من الألف المختارة. وهو من حديث جابر بن عبد الله عند البخاري المغازي والتفسير ونصه في الألف المختارة: = قاتل الله اليهود، لما حرّم عليهم شحومها، جملوها ثم باعوها فأكلوها =.
(2) سورة يس: 36/ 57.
(3) في شرح ديوان لبيد ص 178: = يقتطع منه =.
(4) هذه رواية البغدادي وهي غير رواية ديوانه.
(5) في طبعة بولاق: = لتقضاه =. وهو تصحيف صوابه من النسخة الشنقيطية.
(6) البيتان لأمية بن أبي الصلت في ديوانه ص 63.(9/302)
لا تخلطنّ خبيثات بطيّبة ... واخلع ثيابك منها وانج عريانا
كلّ امرئ سوف يجزى قرضه حسنا ... أو سيّئا ومدينا كالذي دانا
وزعم العيني أنّ قرضا هنا مفعول مطلق.
وقال الزجاج عند تفسير قوله تعالى (1): «{مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللََّهَ قَرْضاً حَسَناً}»:
معنى القرض في اللّغة: البلاء السّيّئ، والبلاء الحسن. العرب تقول: لك عندي قرض حسن، وقرض سيّئ. وأصل القرض ما يعطيه الرجل ليجازى عليه. وأنشد بيت لبيد وبيت أميّة.
وقوله: «فاجزه» أمر من الجزاء. قال صاحب المصباح: جزى يجزي، مثل قضى يقضي وزنا ومعنى. وفي الدعاء: جزاه الله خيرا، أي: قضاه له، وأثابه عليه، وجزيت الدّين: قضيته.
وروي:
* فإذا جوزيت قرضا فاجزه *
قال العيني: هما بمعنى واحد. وليس كذلك، لأنّ الجزاء لا يكون إلا بعد الإقراض، لا على الجزاء.
وقوله: «إنّما يجزي الفتى» إلخ، بالبناء للمعلوم، والفتى فاعله. وزعم العيني أنّه بالبناء للمجهول، والفتى نائب الفاعل. وكأنّه لم يتصوّر المعنى. ومعناه أنّ الذي يجزي بما يعامل به، من حسن أو قبيح هو الإنسان لا البهيمة.
قال الزمخشري في «المستقصى»، وقيل: الفتى السيّد اللبيب. والعرب تقول للجاهل: يا جمل. أي: إنّما يجزي اللبيب من الناس لا الجاهل. يضرب في الحثّ على مجازاة الخير والشرّ. انتهى.
وعلى هذا فيكون للجمل هنا موقع، لا أنّه جاء للقافية فقط كما زعم الطوسي.
والجمل كنيته عند العرب أبو أيّوب. قال ابن الأثير في «المرصّع» (2) كنّي الجمل به
__________
(1) سورة البقرة: 2/ 245وسورة الحديد: 57/ 11.
(2) المرصع لابن الأثير ص 57. وفيه: لشبهه بصبر أيوب عليه السلام =.(9/303)
لصبره على المسير والأحمال، تشبيها بصبر أيّوب عليه السلام.
وإلى هذا لمّح عليّ بن العباس، الشهير بابن الرّومي، في شعر لبيد، وقد ضمّنه في شعره هاجيا به وزير المعتضد، أبا أيّوب سليمان بن عبد الله، فقال (1): (الرمل)
يا أبا أيّوب هذي كنية ... من كنى الأنعام قدما لم تزل
ولقد وفّق من كنّاكها ... وأصاب الحقّ فيها وعدل
أنت شبه للذي تكنى به ... ولبعض الخلق من بعض مثل (2)
لست ألحاك على ما سمتني ... من قبيح الرّدّ أو منع النّفل (3)
قد قضى قول لبيد بيننا ... إنّما يجزي الفتى ليس الجمل
كم حدوناك لترقى في العلا ... وأبى الله فلا تعل هبل (4)
ولم أر ذكر أيّوب واشتقاقه في كتب اللغو المدوّنة، كالقاموس، والعباب، والصّحاح، مع كثرة دورانه في الألسنة، ولا في مفردات القرآن، مع أنّه مذكور فيه.
وفي المعرّبات للجواليقي:
قال أبو علي: وقياس همزة أيّوب أن تكون أصلا غير زائدة، لأنه لا يخلو أن يكون فيعولا أو فعلولا. فإن جعلته فيعولا كان قياسه لو كان عربيّا أن يكون من الأوب مثل قيّوم، ويمكن أن يكون فعّولا مثل سفّود وكلّوب، وإن لم يعلم في الأمثلة هذا، لأنّه لا ينكر أن يجيء العجميّ على مثال (5) لا يكون في العربي. ولا يكون من
__________
(1) الأبيات لابن الرومي في ديوانه ص 1902.
(2) في طبعة بولاق: = من بعض بطل =. وهو تصحيف صوابه من النسخة الشنقيطية وديوان ابن الرومي.
(3) النّفل: العطية والجزاء والهبة، ومثله النافلة والنوفل. والنوفل: الكثير العطاء.
(4) قوله: = فلا تعل هبل =. إشارة إلى قول أبي سفيان يوم أحد: أعل هبل. وفي السيرة النبوية 1/ 147:
= وهبل: صنم في جوف الكعبة، وهو أعظم أصنامهم، وهو الذي يعني أبو سفيان ابن حرب يوم أحد حين قال:
أعل هبل: أي: أظهر دينك =.
وفي الروض الأنف 2/ 143: = معناه زد علوا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الله أعلى وأجل =. وانظر في ذلك الحديث رقم 522من الألف المختارة.
(5) في طبعة بولاق: = على لسان =. ولقد أثبتنا رواية النسخة الشنقيطية والمعرب للجواليقي ص 15.(9/304)
الأوب، وقد قلبت الواو فيه إلى الياء، لأنّ من يقول: صيّم في صوّم، لا يقلب إذا تباعدت من الطّرف، فلا يقول إلّا صوّام. وكذلك هذه العين إذا تباعدت من الطّرف، وحجز الواو بينه وبين الآخر، لم يجز فيه القلب (1). انتهى
فأجاز أن يكون من مادة «أوب» ومن مادة «أيب»، والمادتان مذكورتان في القاموس، وفي غيره الأولى فقط.
وقوله: «أعمل العيس» إلخ، «أعمل»: أمر من الإعمال، وهو الإشغال.
و «العيس»: الإبل البيض. وروى: «العنس» بالنون، وهي الناقة الشديدة.
و «العلّات»، بالكسر: الحالات، جمع علّة بمعنى الحالة.
وقوله: «وإذا رمت رحيلا» إلخ، «توصيم»: فاعل يأمر، والمفعول محذوف، أي: يأمره. والتوصيم، بالصاد المهملة، هو في الجسد كالتكسير والفترة ووصّمته الحمّى بالتشديد، إذا أحدثت فيه فترة وتكسيرا. وهو من الوصم، وهو الصّدع في العود من غير بينونة. والوصم أيضا: العيب والعار.
وقوله: «واكذب النّفس» إلخ، «اكذب» فعل أمر، والنفس مفعوله، وحدّثتها بالبناء للفاعل.
قال الزمخشري في «المستقصى»: هذا المصراع مثل يضرب في الحثّ على الجسارة أي: حدّثها بالظّفر، وبلوغ الأمل إذا هممت بأمر، لتنشّطها للإقدام ولا تنازعها (2) بالخيبة فتثبّطها. انتهى.
وقوله: «إنّ صدق» إلخ، يعني إذا حدّثت نفسك بالموت، لم تعمّر شيئا، ولم تؤثّل مالا، وفسد عليك عيشك، فأزرى ذلك بأملك. والإزراء بتقديم المعجمة على المهملة: النقص.
__________
(1) في طبعة بولاق والنسخة الشنقيطية: = فيه إلا القلب =. وهو عكس المطلوب. وصوابه من المعرب للجواليقي ص 15.
وفي حاشية طبعة بولاق: = قوله: لم يجز فيه إلا القلب. لعله: لم يجز فيه القلب أهـ. مصححه =.
(2) كذا في طبعة بولاق والنسخة الشنقيطية وشرح ديوان لبيد. وفي طبعة هارون 9/ 303: = ولا تناغها =. نقلا عن المستقصى 1/ 289.(9/305)
قال بعضهم: (الكامل)
وإذا صدقت النّفس لم تترك لها ... أملا ويأمل ما اشتهى المكذوب
وأورد هذا البيت صاحب الكشاف عند قوله تعالى (1): «{وَنَعْلَمُ مََا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ}» على أنّ ما مصدرية، فإنّه يقال: حدّث نفسه بكذا، كما يقولون: حدثته به نفسه (2).
وقوله: «غير أن لا تكذبنها»، هو استثناء من قوله: اكذب النفس. واخزها بالمعجمتين: أمر من خزاه يخزوه خزوا، إذا ساسه وقهره. والباء متعلقة به، ولله متعلق بالبرّ. والأجلّ: أفعل تفضيل.
وترجمة لبيد تقدّمت في الشاهد الثاني والعشرين بعد المائة (3).
* * * وأنشد بعده، وهو الشاهد الخامس والأربعون بعد السبعمائة (4): (الرمل)
745 - لم يك الحقّ على أن هاجه
رسم دار قد تعفّى بالسّرر
على أنّ حذف نون «يكن» المجزوم الملاقى للسّاكن، جائز عند يونس. وقال السيرافي: هذا شاذّ.
والبيت أنشده أبو زيد في «نوادره» (5) مع بيت آخر بعده، وهو:
__________
(1) سورة ق: 50/ 16.
(2) في النسخة الشنقيطية: = فإنه يقال حدّث به نفسه =.
(3) الخزانة الجزء الثاني ص 216.
(4) البيت لحسين أو الحسن أو حسيل ابن عر فطة في الدرر 2/ 94ولسان العرب (كون) ونوادر أبي زيد ص 77. وهو بلا نسبة في تخليص الشواهد ص 268والخصائص 1/ 90والدرر 6/ 217وسر صناعة الإعراب 2/ 440، 540والمنصف 2/ 228وهمع الهوامع 1/ 122، 156.
(5) نوادر أبي زيد ص 77. وفيه: = الخرق: القطع من الريح، واحدتها خرقة. وطوفان المطر: كثرته. وروى الأصمعي: خرق =.(9/306)
غيّر الجدّة من عرفانه ... خرق الرّيح وطوفان المطر
وقال بعدهما: لا أعرف بيتا حذفت منه النون من يكن مع الألف واللام غير هذا البيت.
وهذا الحصر غير صحيح، فقد سمع في غيره، قال ابن صخر الأسدي (1):
(الطويل)
فإن لا تك المرآة أبدت وسامة ... فقد أبدت المرآة جبهة ضيغم
قال ابن السّرّاج في «الأصول»: قالوا: لم يكن الرّجل، لأن هذا موضع تحرّك فيه النون، والنون إذا وليها الألف واللام للتعريف لم تحذف إلّا أن يضطرّ إليه شاعر، فيجوز ذلك على قبح واضطرار. وأنشد هذين البيتين.
وكذلك ذهب إلى أنّه ضرورة أبو علي في «كتاب الشعر»، وابن عصفور في «الضرائر».
وقال ابن جني في «سرّ الصناعة»: أنشد قطرب وقرأناه على بعض أصحابنا يرفعه إليه:
* لم يك الحقّ سوى أن هاجه * البيت
أي: لم يكن الحقّ. وكان حكمه إذا وقعت النون موقعا تحرّك فيه فتقوى بالحركة أن لا يحذفها، لأنّها بحركتها قد فارقت شبه حروف اللّين، إذ كنّ لا يكنّ إلّا سواكن.
وحذف النون من يكن أقبح من حذف التنوين ونون التثنية والجمع، لأن النون في يكن أصل، وهي لام الفعل، والتنوين والنون زائدتان (2)، فالحذف فيهما أسهل منه في لام الفعل. وحذف النون من يكن أيضا أقبح من حذف نون من في قوله:
(المنسرح)
__________
(1) البيت للخنجر بن صخر الأسدي في الدرر 2/ 96وسر صناعة الإعراب 2/ 542وشرح التصريح 1/ 196ولسان العرب (كون) والمقاصد النحوية 2/ 63. وهو بلا نسبة في أوضح المسالك 1/ 269وتخليص الشواهد ص 268وشرح الأشموني 1/ 120.
(2) كذا في النسخة الشنقيطية، وهو الصواب. وفي طبعة بولاق: = الزائدتان = بلام التعريف.(9/307)
* غير الذي قد يقال م الكذب (1) *
أي: من الكذب، لأنّ يكن أصله يكون، حذفت منه الواو لالتقاء الساكنين، فإذا حذفت منه النون أيضا لالتقاء الساكنين، أجحفت به لتوالي الحذفين، لا سيّما من وجه واحد عليه. هذا قول أصحابنا في هذا البيت.
وأرى أنا شيئا آخر غير ذلك، وهو أن يكون جاء بالحقّ بعد ما حذف النون من يكن، فصار يك، مثل قوله (2): «{وَلَمْ تَكُ شَيْئاً}» فلمّا قدّره يك، جاء بالحق بعد ما جاز الحذف في النون وهي ساكنة تخفيفا، فبقي محذوفا بحاله، فقال: لم يك الحقّ. ولو كان قدّره يكن ثم جاء بالحق، لوجب أن يكسر نونه لالتقاء الساكنين.
هذا كلامه.
ولا يخفى أنّ تعليله يقتضي قياس هذا الحذف. وهذا الذي ادّعاه لنفسه هو لشيخه أبي علي في «المسائل العسكريّة» قال في آخرها، بعد إنشاد البيت: إن قلت فيه إنّ الجزم لحقه قبل لحاق السّاكن، واجتماعه معه، فكأنّ السّاكن الثاني قد مضى في الحرف.
ونظير هذا إنشاد من أنشد (3): (الوافر)
* فغضّ الطّرف إنّك من نمير *
__________
(1) عجز بيت للقيط بن زرارة وصدره:
* أبلغ أبا دختنوس مألكة *
والبيت للقيط بن زرارة في شرح شواهد الإيضاح ص 288. وهو بلا نسبة في الأشباه والنظائر 2/ 133 والخصائص 1/ 311ورصف المباني ص 325وسر صناعة الإعراب ص 539، 540وشرح المفصل 8/ 35، 9/ 10، 116ولسان العرب (ألك، لكن، منن).
(2) سورة مريم: 19/ 9.
(3) صدر بيت لجرير وعجزه:
* فلا كعبا بلغت ولا كلابا *
والبيت لجرير في ديوانه ص 821وجمهرة اللغة ص 1096والدرر 6/ 322وشرح المفصل 9/ 128ولسان العرب (حدد). وهو بلا نسبة في أوضح المسالك 4/ 411وشرح الأشموني 3/ 897وشرح شافية ابن الحاجب ص 244والكتاب 3/ 533والمقتضب 1/ 185.(9/308)
حرّك السّاكن الأوّل، فلحق الساكن الثاني، وقد مضى الحذف (1) بالفتح للسّاكن الأول، فكذلك لحق الساكن وقد مضى الحذف في الحرف. وإن شئت قلت: إنّ الحركة هنا كانت لالتقاء الساكنين لم يعتدّ بها، وكان الحرف في نيّة سكون، فكما كان يحذفها ساكنة كذلك يحذفها إذا كانت في نيّة السكون. انتهى كلامه.
وقوله: «على أن هاجه» ظرف مستقرّ في موضع الخبر لكان. و «الحق» يطلق على معان منها، وهو المراد هنا: الموجود بحسب مقتضى الحكمة، أي: ليس بلائق بالعاشق أن يهيج حزنه الرسم الدّاثر.
وهاج هنا متعدّ بمعنى أثار، والهاء: مفعول مقدّم ضمير العاشق في بيت قبله، وهو على حذف مضاف، أي: هاج حزنه ووجده. ورسم: فاعل هاج، وهو أثر الدار، وجملة: «قد تعفّى» في موضع الصّفة لرسم. و «تعفّى»: مبالغة عفا الرّسم، أي: دثر ودرس.
وقوله: «بالسّرر» ظرف مستقرّ في موضع الصّفة لدار، فقد وصف المضاف والمضاف إليه. والسّرر هنا ضبطه أبو حاتم بفتح السين والراء المهملتين (2) وقد يكسر الأوّل (3) وكلّ منهما اسم موضع.
قال ياقوت في «معجم البلدان» (4): قال نصر: «السّرر بالتحريك: واد يدفع من اليمامة إلى أرض حضرموت». والسّرر بكسر أوله، قال السّكّري في قول أبي ذؤيب (5): (المتقارب)
بآية ما وقفت والرّكا ... ب بين الحجون وبين السّرر
هو موضع على أربعة أميال من مكّة حرسها الله تعالى، عن يمين الجبل بطريق منى.
__________
(1) في طبعة بولاق والنسخة الشنقيطية: = الحرف =. والتصويب من طبعة هارون.
(2) انظر نوادر أبي زيد ص 77.
(3) في طبعة بولاق: = وقيده بكسر الأول =. وهو تصحيف صوابه من النسخة الشنقيطية.
(4) معجم البلدان (سرر).
(5) البيت لأبي ذؤيب الهذلي في ديوانه ص 14وتهذيب اللغة 12/ 288وديوان الهذليين 1/ 147وشرح أشعار الهذليين ص 113ولسان العرب (سرر).(9/309)
وكان عبد الصّمد بن علي اتّخذ عنده مسجدا كان به شجرة، ذكر أنه سرّ تحتها سبعون نبيّا، أي: قطعت سررهم. انتهى.
وكذا قال ياقوت ناقلا عن الأزهري: عن ابن عمر أنّه سرّ تحتها سبعون نبيّا، سمّي سررا لذلك.
ثم قال ياقوت (1): «وروى المغاربة: «السّرر»: واد على أربعة أميال من مكّة عن يمين الجبل، قالوا: هو بضم السين وفتح الراء الأولى، قالوا: كذا رواه المحدّثون بلا خلاف».
قال الرياشيّ: المحدّثون يضمّونه، وهو إنما هو السّرر بالفتح. وهذا الوادي هو الذي سرّ فيه سبعون نبيّا، أي: قطعت سررهم بالكسر وهو الأصحّ. انتهى.
وروى: «ودثر» بدل قوله: «بالسّرر»، أي: درس، ولم يبق منه شيء.
وعلى هذا يكون معطوفا على تعفّى، فيكون صفة لرسم أيضا.
وقوله: «غيّر الجدّة» إلخ، هذه الجملة صفة لرسم أيضا. و «الجدّة» بكسر الجيم: مصدر جدّ الشيء يجدّ بالكسر جدّة، هو خلاف القديم. و «العرفان» بالكسر: مصدر عرفته عرفة بالكسر وعرفانا، إذا علمته بحاسّة من الحواسّ الخمس، فهو مصدر مضاف لمفعوله، والهاء ضمير الرسم، وفاعله محذوف. وخرق: فاعل غيّر، وهو بكسر الخاء المعجمة وفتح الراء المهملة، أي: القطع من الرّيح، جمع خرقة.
وروى الأصمعي (2): «خرق» بضمتين جمع خريق، وهي الريح التي تتخرّق في الجبال وغيرها.
و «طوفان المطر»: كثرته. كذا قال أبو حاتم فيما كتبه على النوادر. يقول:
غيّرت كثرة الرّيح والأمطار ما استجددناه من معرفتنا لهذا الرسم.
والبيتان نسبهما أبو زيد «لحسيل بن عرفطة»، قال: وهو شاعر جاهلي.
وحسيل: مصغر حسل، بكسر الحاء وسكون السين المهملة بعدهما لام، وهو ولد الضّبّ.
__________
(1) معجم البلدان: = السّرر =.
(2) رواية الأصمعي هذه هي في نوادر أبي زيد ص 77.(9/310)
قال أبو العبّاس (1): هو حسيل بفتح الحاء وكسر السين. وقال أبو حاتم:
وحسين: مصغر حسن بالنون. وغلّطه الأخفش فيه. والله أعلم.
* * * __________
(1) أبو العباس، محمد بن يزيد الأزدي، المبرد، أحد شيوخ الكوفة، وإمام من أئمة النحو.(9/311)
أفعال المقاربة
أنشد فيه، وهو الشاهد السادس والأربعون بعد السبعمائة (1): (الطويل)
746 - إذا غيّر النّأي المحبّين لم يكد
رسيس الهوى من حبّ ميّة يبرح
على أن بعضهم، قال: إنّ النفي إذا دخل على «كاد» تكون في الماضي للإثبات، وفي المستقبل كالأفعال، مستمسكا بالآية، وهذا البيت.
وهذا الفصل في «كاد» هنا هو بعينه عبارة اللّباب بتغيير كلمه. قال «صاحب اللباب»: وإذا دخل النّفي على «كاد»، فهو كسائر الأفعال على الصحيح، وقيل: يكون للإثبات، وقيل: يكون في الماضي دون المستقبل، تمسّكا بقوله تعالى (2): «{وَمََا كََادُوا يَفْعَلُونَ}»، وبقول ذي الرّمّة:
* إذا غيّر الهجر المحبّين لم يكد * إلخ
والجواب أنه لنفي مقاربة الذّبح، وحصول الذّبح بعد لا ينافيها، ولم يؤخذ من لفظ: وما كادوا، بل من لفظ: فذبحوها. انتهى.
قال شارحه الفالي: قوله: «وإذا دخل النفي» إلخ، معناه نفي ما دخل عليه، إدراجا له في الأمر العامّ المعلوم من اللغة، وهو أنّه إذا دخل النفي على فعل، أفاد نفي مضمونه.
وقيل: يكون للإثبات، أي: لإثبات الفعل الذي دخل عليه كاد في الماضي، وفي المستقبل.
__________
(1) البيت لذي الرمة في ديوانه ص 86وشرح أبيات المغني للبغدادي 8/ 29وشرح الأشموني 1/ 134وشرح المفصل 7/ 124ولسان العرب (رسس) ومجموعة المعاني ص 510والموشح ص 283.
(2) سورة البقرة: 2/ 71.(9/312)
أما في الماضي، فلقوله تعالى (1): «{وَمََا كََادُوا يَفْعَلُونَ}»، والمراد أنّهم قد فعلوا الذّبح. وأما في المضارع، فلأنّ الشعراء خطّؤوا ذا الرّمّة في قوله:
لم يكد ... رسيس الهوى من حبّ ميّة يبرح
وهو أنّه يؤدّي إلى أنّ المعنى: إنّ رسيس الهوى يبرح، ويزول، وإن كان بعد طول عهد. فلولا أنّهم فهموا في اللغة أنّ النفي إذا دخل على المضارع من كاد أفاد إثبات الفعل الواقع بعده، لم يكن لتخطئتهم وجه.
وقيل: يكون في الماضي للإثبات دون المستقبل، تمسّكا بقوله تعالى: «{وَمََا كََادُوا يَفْعَلُونَ}» إذ المعنى قد فعلوا كما ذكرنا.
وبقول ذي الرمّة:
* إذا غيّر الهجر * البيت
إذ المعنى: وما برح حبّها من قلبي.
فهذا القائل تمسّك بقول ذي الرمة، والقائل الأول تمسّك بتخطئة الشعراء ذا الرمّة. والجواب أنّه لنفي مقاربة الذّبح، وحصول الذّبح بعد، أي: بعد أن نفى مقاربة الذّبح، لا ينافيها. ولم يؤخذ من لفظ: كادوا، بل من لفظ: فذبحوها.
وهذا جواب عن القولين المذكورين، فإنّا (2) لا نسلّم أنّ النّفي الداخل على كاد يفيد الإثبات، لا في الماضي، ولا في المستقبل، بل هو باق على وضعه (3)، وهو نفي المقاربة. وليس ما تمسّكوا به بشيء أما في الآية، فهو أنّ معناه أنّ بني إسرائيل ما قاربوا أن يفعلوا للإطناب في السّؤالات، ولما سبق في قولهم (4): «{أَتَتَّخِذُنََا هُزُواً}» وهذا التعنّت دليل على أنهم كانوا لا يقاربون فعله فضلا عن نفس الفعل.
ونفي المقاربة قد يترتّب عليه الفعل، وقد لا يترتّب، وهو قوله: «وحصول الذّبح بعد لا ينافيها». وأمّا إثبات الذّبح فمأخوذ من الخارج، وهو قوله:
__________
(1) سورة البقرة: 2/ 71.
(2) في طبعة بولاق: = بأنا =. وهو تصحيف صوابه من النسخة الشنقيطية.
(3) في النسخة الشنقيطية: = وصفه =.
(4) سورة البقرة: 2/ 67.(9/313)
«فذبحوها» وأمّا البيت فكذلك معناه، لأنّ حبّها لم يقارب أن يزول فضلا عن أن يزول. وهو مبالغة في نفي الزوال فإنّك إذا قلت: ما كاد زيد يسافر، فمعناه أبلغ من: ما يسافر زيد، أي: لم يسافر، ولم يقرب من أن يسافر أيضا. فالبيت مستقيم، ولا وجه لتخطئة الشعراء إيّاه. انتهى.
وقد بيّن الشارح المحقق فساد هذين القولين في آخر الباب. وقوله كغيره: «إنّ الشعراء خطّؤوا ذا الرمّة» المخطئ إنّما هو عبد الله بن شبرمة.
قال المرزباني في «الموشح» (1): حدّثني أحمد بن محمد الجوهريّ، وأحمد بن إبراهيم الجمّال، قالا: حدّثنا الحسن بن عليل العنزي، قال: حدّثنا يزيد بن محمد بن المهلّب بن المغيرة بن حبيب [بن المهلب] بن أبي صفرة، قال: حدّثنا عبد الصّمد [ابن] المعذّل، عن أبيه، عن جدّه غيلان بن الحكم، قال:
قدم علينا ذو الرّمّة الكوفة فوقف على راحلته بالكناسة، ينشدنا قصيدته الحائيّة، فلمّا بلغ إلى هذا البيت:
إذا غيّر النّأي المحبّين ... إلخ
فقال له (2) ابن شبرمة: يا ذا الرمّة، أراه قد برح. ففكّر ساعة، ثم قال:
إذا غيّر النّأي المحبّين لم أجد (3) ... رسيس الهوى إلخ
قال: فرجعت إلى أبي الحكم بن البختريّ بن المختار، فأخبرته الخبر، فقال:
أخطأ ابن شبرمة حيث أنكر عليه، وأخطأ ذو الرمّة حيث رجع إلى قوله. إنّما هذا كقول الله عزّ وجلّ (4): «{إِذََا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرََاهََا}»، أي: لم يرها، ولم يكد.
انتهى.
وقال السيد المرتضى في «أماليه» (5): روى عبد الصمد بن المعذّل عن غيلان
__________
(1) الموشح ص 283. والزيادات منه.
(2) وكذا هي في جميع طبعات الخزانة والموشح بزيادة الفاء.
(3) قوله: = رسيس إلخ، قال: فرجعت إلى أبي الحكم ففكر ساعة ثم قال: إذا غير النأي المحبين لم أجد = ساقط من النسخة الشنقيطية وهو ما يقارب 10أسطر.
(4) سورة النور: 24/ 40.
(5) أمالي المرتضى 1/ 332.(9/314)
عن أبيه عن جدّه غيلان، قال: قدم علينا ذو الرمّة الكوفة فأنشدنا بالكناسة، وهو على راحلته، قصيدته الحائيّة التي يقول فيها:
* إذا غيّر النّأي المحبّين * إلخ فقال له عبد الله بن شبرمة: قد برح يا ذا الرّمّة. ففكّر ساعة، ثم قال:
* إذا غيّر النّأي المحبّين لم أجد * إلخ قال: فأخبرت أبي بما كان من قول ذي الرمّة، واعتراض ابن شبرمة عليه، فقال: أخطأ ذو الرمّة في رجوعه عن قوله الأوّل، وأخطأ ابن شبرمة في اعتراضه عليه. وهذا كقول الله تعالى: «{إِذََا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرََاهََا}». انتهى.
وهذا البيت من قصيدة لذي الرمّة، مطلعها (1):
أمنزلتي ميّ سلام عليكما ... على النّأي والنّائي يودّ وينصح
وبعده (2):
فلا القرب يبدي من هواها ملالة ... ولا حبّها إن تنزح الدّار ينزح
أتقرح أكباد المحبّين كلّهم ... كما كبدي من ذكر ميّة تقرح (3)
وقوله: «إذا غيّر النأي» إلخ، «النأي» فاعل غيّر، ومعناه البعد.
و «رسيس الهوى»: مسّه. و «يبرح»: يزول، وهو فعل تامّ لازم. و «ميّة»:
اسم معشوقته.
يقول: إنّ العشاق إذا بعدوا عمّن يحبّون دبّ السّلوّ إليهم، وزال عنهم ما كانوا يقاسون، وأمّا أنا فلم يقرب زوال حبّها عنّي، فكيف يمكن أن يزول.
__________
(1) ديوان ذي الرمة ص 77.
(2) في طبعة بولاق: = من هواها ملامة =. وهو تصحيف صوابه من ديوانه والنسخة الشنقيطية.
والبيت لذي الرمة ص 78ومجموعة المعاني ص 510.
(3) هو الإنشاد السابع والثمانون بعد السبعمائة في شرح أبيات المغني للبغدادي.
والبيت لذي الرمة في شرح أبيات المغني للبغدادي 7/ 175ولم يرد البيت في ديوانه. وهو لجميل بثينة في ديوانه ص 46وشرح شواهد المغني ص 896. وهو بلا نسبة في الأشباه والنظائر 1/ 338ومغني اللبيب 2/ 547.(9/315)
وزاد على هذا المعنى قوله في هذه القصيدة (1):
أرى الحبّ بالهجران يمحى فينمحي ... وحبّك ميّا يستجدّ ويربح
أي: يزيد الحبّ، كما يزيد الرّبح.
وقوله: «فلا القرب يبدي» إلخ، نزحت الدار: بعدت. يقول: حبّها إن بعدت الدار لم يتغيّر، هو لازم ثابت.
وقوله: «أتقرح»، القرح: الجرح.
وترجمة ذي الرمّة تقدّمت في الشاهد الثامن من أوّل الكتاب (2).
* * * وأنشد بعده، وهو الشاهد السابع والأربعون بعد السبعمائة (3): (الكامل)
747 - ظنّي بهم كعسى وهم بتنوفة
يتنازعون جوائز الأمثال
على أنّ أبا عبيدة، قال: إنّ «عسى» تأتي بمعنى اليقين كما في البيت.
ونقله عنه عبد الواحد أبو الطّيّب اللغوي في «كتاب الأضداد» قال فيه: قال أبو حاتم وقطرب: عسى تكون شكّا مرّة، ويقينا أخرى، كما قال تعالى (4):
«{عَسى ََ رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ}» وعسى في القرآن واجبة.
قال ابن عبّاس رضي الله عنهما: هي واجبة من الله. وكل ما في القرآن من ذلك فهو واجب من الله.
__________
(1) ديوان ذي الرمة ص 76.
(2) الخزانة الجزء الأول ص 119.
(3) البيت لتميم بن أبي بن مقبل في ديوانه ص 261والأضداد ص 188وتاج العروس (جوب، جوز، عسى) ولسان العرب (جوز). وهو بلا نسبة في تاج العروس (جوب، ظنن) وجمهرة اللغة ص 287، 845 وشرح المفصل 7/ 120وكتاب العين 6/ 193ولسان العرب (جوب، ظنن، عسا).
(4) سورة الإسراء: 17/ 8.(9/316)
قال أبو عبيدة (1): ومنه قول ابن مقبل: «ظنّي بهم كعسى»، البيت، أي:
ظنّي بهم كيقين. انتهى.
واعترض عليه الشارح المحقق بأنه لا يعرف «عسى» في غير كلام الله لليقين، ويجوز أن يكون معنى: «ظنّي بهم كعسى»، أي: رجاء مع طمع.
ويؤيّد توقّفه ما ذهب إليه ابن السّكّيت في «كتاب الأضداد»، قال فيه: الظّنّ يقين، والظّنّ شكّ ومن اليقين قول ابن مقبل:
ظنّ بهم كعسى وهم بتنوفة ... يتنازعون جوائز الأمثال (2)
ويروى: «جوائب»، أي: تجوب البلاد. يقول: اليقين منهم كعسى، وعسى شك. انتهى.
فجعل اليقين للظّنّ (3) وعسى للشكّ على أصلها. والرواية عنده: «ظنّ بهم كعسى»، بتنوين ظنّ من غير إضافة إلى الياء. والباء متعلقة بمحذوف على أنه صفة لظنّ، وهو مبتدأ، وخبره «كعسى»، أو خبره محذوف، أي: للناس ظنّ بهم، فالباء متعلقة بظنّ، والكاف اسم صفة لظنّ، وجملة: «وهم بتنوفة» حاليّة، وجملة: «يتنازعون» حال من ضمير الظّرف المستقرّ.
و «التّنوفة»: الفلاة. و «يتنازعون»: يتجاذبون. و «جوائز الأمثال»، أي: الأمثال السّائرة في البلاد.
وبمعناه «جوائب الأمثال» من جاب الوادي أو المكان يجوبه جوبا، إذا سلكه وقطعه. وأمّا على رواية «ظنّي» بالإضافة فهو مبتدأ وخبره كعسى، أي: يقيني بهم كشكّ في حال كونهم في الفلاة، إذ لست أعلم الغيب.
يريد أنه لا يقين له بهم. وبهذه الرواية فسّر أبو حاتم الظنّ في البيت باليقين، نقله عنه عبد الواحد المذكور، قال في «كتابه الأضداد»: قال أبو حاتم: وأما قوله تعالى (4): «{وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرََاقُ}» فأظنّه يستيقن.
__________
(1) انظر اللسان (عسا) وفيه أقوال مختلفة حول = عسى =.
(2) في النسخة الشنقيطية: = ظني بهم =. وهو تصحيف صوابه من طبعة بولاق والأضداد لابن الأنباري.
(3) في طبعة بولاق: = معنى الظن =. ولقد أثبتنا رواية النسخة الشنقيطية.
(4) سورة القيامة: 75/ 28.(9/317)
قال الشاعر في الظّن بمعنى اليقين:
* ظنّي بهم كعسى * البيت
والجوائز: التي تجوز البلاد، أي: تقطعها. يقول: يقيني بهم كعسى. انتهى.
ولم أقف على تتمة هذا البيت، وهو لابن مقبل (1)، وهو شاعر إسلاميّ تقدّمت ترجمته في الشاهد الثاني والثلاثين (2).
ثم رأيت في «كتاب الأضداد (3) لأبي بكر محمد بن القاسم بن بشّار الأنباري»، قال: عسى لها معنيان متضادّان: أحدهما: الشّكّ والطّمع، والآخر: اليقين. قال تعالى (4): «{وَعَسى ََ أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ}» معناه ويقين أنّ ذاك يكون.
وقال بعض المفسّرين: عسى في جميع كتاب الله واجبة. وقال غيره: عسى في القرآن واجبة إلّا في موضعين في سورة بني إسرائيل (5): «{عَسى ََ رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ}» يعني بني النّضير، فما رحمهم ربّهم، بل قاتلهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وأوقع العقوبة بهم.
وفي سورة التحريم (6): «{عَسى ََ رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوََاجاً}» فما أبدله الله بهنّ أزواجا، ولا بنّ منه (7) [حتى قبض عليه السلام]. وقال تميم بن أبيّ [بن (8)] مقبل في كون عسى إيجابا:
__________
(1) في طبعة بولاق: = لابن أبي مقبل =. وهو تصحيف وصوابه من ديوانه: = لابن أبيّ بن مقبل =. وأبي بالتصغير وتشديد الباء.
والبيت من قصيدة لابن مقبل ص 264255من ديوانه.
(2) الخزانة الجزء الأول ص 230.
(3) كتاب الأضداد 2322والزيادات منه.
(4) سورة البقرة 2/ 216.
(5) سورة الإسراء: 17/ 8.
(6) سورة التحريم: 66/ 5.
(7) من البينونة، وأراد الطلاق.
(8) زيادة يقتضيها السياق من النسخة الشنقيطية. وفي الأضداد لابن الأنباري: = وقال تميم بن أبيّ في كون عسى =.(9/318)
ظنّ بهم كعسى وهم بتنوفة ... يتنازعون جوائز الأمثال
أراد: ظنّ بهم كيقين. ويروى: «سوائر الأمثال (1)». ويروى: «جوائب الأمثال».
وأنشدنا أبو العباس (2): (الوافر)
* عسى الكرب الذي أمسيت فيه * البيت
فعسى في هذا الباب على معنى الشكّ. انتهى كلامه.
* * * وأنشد بعده، وهو الشاهد الثامن والأربعون بعد السبعمائة (3): (الرجز)
__________
(1) في طبعة بولاق: = سرائر الأمثال =. وهو تصحيف صوابه من الأضداد لابن الأنباري والنسخة الشنقيطية.
(2) صدر بيت لهدبة الخشرم وعجزه:
* يكون وراءه فرج قريب *
والبيت هو الإنشاد السادس والأربعون بعد المائتين في شرح أبيات المغني للبغدادي.
والبيت لهدبة بن الخشرم في ديوانه ص 54والأضداد لابن الأنباري ص 23وأمالي القالي 1/ 72والحماسة البصرية 1/ 44والحماسة الشجرية 1/ 228وحماسة البحتري ص 810والدرر 2/ 145وشرح أبيات سيبويه 1/ 142وشرح أبيات المغني 3/ 338وشرح التصريح 1/ 206وشرح شواهد الإيضاح ص 97 وشرح شواهد المغني ص 443والكتاب 3/ 159واللمع ص 225والمقاصد النحوية 2/ 184. وهو بلا نسبة في أسرار العربية ص 128وأوضح المسالك 1/ 312وتخليص الشواهد ص 326والجنى الداني ص 462 وشرح ابن عقيل ص 165وشرح عمدة الحافظ ص 816والمقرب 1/ 98وشرح المفصل 7/ 117، 121 ومغني اللبيب ص 152والمقتضب 3/ 70وهمع الهوامع 1/ 130.
(3) الرجز هو الإنشاد السابع والأربعون بعد المائتين في شرح أبيات المغني للبغدادي.
والرجز لرؤبة في ملحق ديوانه ص 185والخصائص 1/ 83والدرر 2/ 149وديوان الحماسة للمرزوقي ص 83والمقاصد النحوية 2/ 161. وهو بلا نسبة في الأشباه والنظائر 2/ 175وتخليص الشواهد ص 309 والجنى الداني ص 463وشرح أبيات المغني 3/ 341وشرح الأشموني 1/ 128وشرح الحماسة للتبريزي 1/ 41وشرح شواهد المغني ص 444وشرح ابن عقيل ص 164وشرح عمدة الحافظ ص 822وشرح المفصل 7/ 14ومغني اللبيب 1/ 152والمقرب 1/ 100وهمع الهوامع 1/ 130. وروايته في ديوانه:
* لا تكثرن إني عسيت صائما *(9/319)
748 - لا تلحني إنّي عسيت صائما
على أنّ المتأخّرين استدلّوا بهذا، وبالمثل، وهو (1): «عسى الغوير أبؤسا» بوقوع المفرد منصوبا بعد مرفوع، على أنّ «أن» والفعل في قولهم: عسى زيد أن يفعل، في موضع نصب على أنه خبر لعسى، وهي تعمل عمل كان.
قال ابن هشام في «شرح أبيات الناظم» (2): طعن في هذا البيت عبد الواحد الطّرّاح في كتابه «بغية الآمل، ومنية السائل» (3) فقال: هو بيت مجهول، لم ينسبه الشّرّاح إلى أحد، فسقط الاحتجاج به. ولو صحّ ما قاله لسقط الاحتجاج بخمسين بيتا من كتاب سيبويه، فإنّ فيه ألف بيت قد عرف قائلوها، وخمسين بيتا مجهولة القائلين. انتهى.
أقول: الشاهد الذي جهل قائله إن أنشده ثقة كسيبويه، وابن السّرّاج والمبرّد ونحوهم، فهو مقبول يعتمد عليه، ولا يضرّ جهل قائله، فإنّ الثقة لو لم يعلم أنّه من شعر من يصحّ الاستدلال بكلامه لما أنشده (4).
ومراد عبد الواحد أنّه لم ينسبه الشرّاح إلى أحد ممن أنشده من الثّقات أو إلى قائل معيّن يحتجّ بكلامه.
ثم قال ابن هشام: وقد حرّف ابن الشجري هذا الرجز، فأنشده (5): (الرجز)
قم قائما قم قائما ... إنّي عسيت صائما
__________
(1) المثل في جمهرة الأمثال 2/ 50وجمهرة اللغة ص 783وزهر الأكم 1/ 210والعقد الفريد 3/ 117 وفصل المقال ص 424وكتاب الأمثال ص 300واللسان (جيا، غور، بأس، عسا) والمستقصى 2/ 161 والميداني 2/ 17.
(2) النص في شرح أبيات المغني للبغدادي 3/ 343341.
(3) ذكره صاحب كشف الظنون 1/ 199. وجاء لقب المؤلف عنده: = الطواخ = بدل = الطراح =.
(4) في شرح أبيات المغني 3/ 341: = من يصح الاستدلال به ما أنشده =.
(5) أمالي ابن الشجري 1/ 347. وشطر الرجز الثاني فيه: = لاقيت عبدا نائما =. وشرح أبيات المغني للبغدادي 3/ 342.
والرجز لامرأة من العرب في المقاصد النحوية 3/ 184. وهو بلا نسبة في الدرر 6/ 49والصاحبي في فقه اللغة ص 237وهمع الهوامع 2/ 125.(9/320)
وإنّما قم [قائما] صدر رجز آخر، يأتي في باب الحال، ولا يتركّب قوله:
إنّي عسيت صائما، عليه بل أصله:
أكثرت في العذل ملّحا دائما ... لا تكثرن إنّي عسيت صائما
فإنّ معناه: أيّها العاذل الملحّ في عذله، إنّه لا يمكن مقابلة كلامك بما يناسبه من السّبّ، فإنّني صائم. وهو مقتبس من الحديث (1): «فليقل إنّي صائم». ويروى:
«لا تلحني» مكان «لا تكثرن»، وهو بفتح التاء. يقال: لحيته ألحاه لحيا، إذا لمته.
والشاهد في قوله: «صائما»، فإنّه اسم مفرد جيء به خبرا ل «عسى».
كذا قالوا، والحقّ خلافه، وإنّ «عسى» هنا فعل تامّ خبريّ، لا فعل ناقص إنشائيّ. يدلّك على أنه خبريّ وقوعه خبرا «لإنّ»، ولا يجوز بالاتّفاق: إنّ زيدا هل قام؟ وأنّ هذا الكلام يقبل التّصديق والتكذيب!
وعلى هذا فالمعنى: إنّي رجوت أن أكون صائما. فصائما (2) خبر «لكان»، وأن والفعل مفعول «لعسى». وسيبويه يجيز حذف أن والفعل إذا قويت الدّلالة على المحذوف.
ألا ترى أنّه قدّر في قوله (3):
* من لد شولا *
من لد أن كانت شولا.
__________
(1) قطعة من حديث أخرجه البخاري بشرح الفتح في = كتاب الصوم = 4/ 88باب: فضل الصوم، ومسلم في = كتاب الصيام = 2/ 806باب: حفظ اللسان للصائم. وتمام الحديث: = إذا دعي أحدكم إلى طعام وهو صائم، فليقل إني صائم =. وانظر الجامع الصغير أيضا ص 608.
(2) في طبعة بولاق: = وصائما =. ولقد أثبتنا رواية النسخة الشنقيطية وشرح أبيات المغني.
(3) قطعة من رجز وتمامه:
* من لد شولا فإلى إتلائها *
والرجز هو الإنشاد الخامس والستون بعد الستمائة في شرح أبيات المغني للبغدادي.
والرجز بلا نسبة في شرح أبيات المغني للبغدادي 6/ 287وشرح المفصل 4/ 101، 8/ 35والكتاب 1/ 264 ولسان العرب (لدن) ومغني اللبيب 2/ 422والمقاصد النحوية 2/ 51وهمع الهوامع 1/ 122.(9/321)
ومن وقوع «عسى» فعلا خبريّا قوله تعالى (1): «{قََالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتََالُ أَلََّا تُقََاتِلُوا}» ألا ترى أنّ الاستفهام طلب، فلا يدخل على الجملة الإنشائيّة، وأنّ المعنى قد طمعتم أن لا تقاتلوا إن كتب عليكم القتال.
وممّا يحتاج إلى النظر قول القائل: عسى زيد أن يقوم، فإنّك إن قدّرت عسى فيه فعلا إنشائيّا، كما قاله النحويّون أشكل، إذ لا يسند فعل الإنشاء إلّا إلى منشئه، وهو المتكلّم، كبعت، واشتريت، وأقسمت، وقبلت، وحرّرتك. وأيضا فمن المعلوم أنّ زيدا لم يترجّ، وإنّما المترجّي المتكلّم.
وإن قدّرته خبرا، كما في البيت والآية، فليس المعنى على الإخبار، ولهذا لا يصحّ تصديق قائله ولا تكذيبه.
فإن قلت: يخلص (2) من هذا الإشكال، أنّهم نصّوا على أنّ «كان» وما أشبهها أفعال جارية مجرى الأدوات، فلا يلزم فيها حكم سائر الأفعال.
قلت: قد اعترفوا مع ذلك بأنّها مسندة، إذ لا ينفكّ الفعل المركّب عن الإسناد إلّا إن كان زائدا أو مؤكّدا، على خلاف في هذين أيضا. وقالوا: إنّ «كان» مسندة إلى مضمون الجملة.
وقد بيّنّا أنّ الفعل الإنشائيّ لا يمكن إسناده لغير المتكلّم. وإنّما الذي يخلّص من الإشكال أن يدّعى أنّها هنا حرف بمنزلة لعلّ، كما قال سيبويه والسّيرافيّ بحرفيّتها في نحو: عسى وعساك وعساه (3).
وقد ذهب أبو بكر وجماعة إلى أنّها حرف دائما. وإذا حملناها على الحرفيّة زال الإشكال، إذ الجملة الإنشائيّة حينئذ اسميّة لا فعلية، كما تقول: لعلّ زيدا يقوم.
فاعرف الحقّ، ودع التقليد، واستفت نفسك، وإن أفتاك الناس.
هذا كلام ابن هشام، وهو خلاف مسلك الشارح المحقق.
وقال ابن هشام في شرح المثل: إنّ عسى للإشفاق، و «الغوير»: ماء لكلب
__________
(1) سورة البقرة: 2/ 246.
(2) في شرح أبيات المغني: = نخلص من هذا =.
(3) كذا في النسخة الشنقيطية وشرح أبيات المغني للبغدادي 3/ 343. وفي طبعة بولاق وطبعة هارون: = عسى، أي وعساك وعساه =.(9/322)
معروف. قال ابن الكلبي. وهو في الأصل مصغّر غور أو غار. و «الأبؤس»: جمع بؤس، وهو الشدّة.
وأصل المثل أنّ الزّبّاء لمّا قتلت جذيمة جاء قصير إلى عمرو بن عديّ، فقال: ألا تأخذ ثأر خالك؟ فقال: كيف السّبيل إلى ذلك.
فعمد قصير إلى أنفه فجدعها، فقيل: «لأمر ما جدع قصير أنفه» وأتى الزبّاء، وزعم أنه فرّ إليها، وأنّهم آذوه بسببها، وأقام في خدمتها مدّة يتّجر لها، ثم إنّه أبطأ عنها في السّفر، فسألت عنه، فقيل: أخذ في طريق الغوير، فقالت: «عسى الغوير أبؤسا».
ثم لم يلبث أن جاء بالجمال عليها صناديق، في جوفها الرّجال، فلمّا دخلوا البلد خرجوا من الصّناديق، وانضاف إليهم الرّجال الموكّلون بالصّناديق فقتلوا في الناس قتلا ذريعا، وقتلوا أهل الزبّاء، وأسروها، وفقؤوا عينيها، وأتوا بها عمرا فقتلها.
وقيل: إنّها امتصّت خاتما كان معها مسموما. ومعنى المثل: لعلّ الشرّ يأتي من قبل الغوير. يضرب للرّجل يتوقّع الشرّ من جهة بعينها.
وجاء رجل إلى عمر رضي الله عنه يحمل لقيطا، فقال له عمر: «عسى الغوير أبؤسا». قال ابن الأعرابي: عرّض به، أي: لعلّك صاحب اللّقيط.
ووهم ابن الخبّاز في أصل المثل، فقال: قالته الزّبّاء حين ألجأها قصير إلى غارها.
انتهى.
وفي الصحاح (1): «قال الأصمعي: أصله أنّه كان غار فيه ناس، فانهار عليهم، أو أتاهم فيه عدوّ فقتلهم (2)، فصار مثلا لكلّ شيء يخاف أن يأتي منه شرّ».
قلت: وتكون الزّباء تكلّمت به تمثّلا. وهذا حسن لأنّ الزبّاء، فيما زعموا روميّة، فكيف يحتجّ بكلامها، وقد يقال: وجه الحجّة أنّ العرب تمثّلت به بعدها.
واختلف في ناصب أبؤسا، فعند سيبويه وأبي علي أنّه «عسى»، وأنّ ذلك من مراجعة الأصول.
__________
(1) في الصحاح (غور).
(2) في الصحاح: = فقتلوهم =.(9/323)
وقال ابن الأعرابي: «يصير» محذوفة. وقال الكوفيون: التقدير: أن يكون أبؤسا، كقوله (1): (الوافر)
* لعمر أبيك إلّا الفرقدان *
ومنع سيبويه أن يكون إضمار فيه لأنّ فيه إضمار الموصول، وقدّر إلّا صفة.
وقيل التقدير: يكون أبؤسا، وفيه مجيء الفعل بعد عسى بغير أن، وإضمار كان غير واقعة بعد أداة تطلب الفعل. وقيل التقدير: عسى الغوير يأتي بأبؤس، وفيه ترك أن وإسقاط الجارّ توسّعا.
ولكن يشهد له قول الكميت (2): (البسيط)
قالوا أساء بنو بكر فقلت لهم ... عسى الغوير بإبآس وإغوار
وتلخّص: أنّ أبؤسا خبر لعسى، أو لكان، أو لصار، أو مفعول به. وأحسن من ذلك كلّه أن يقدّر يبأس أبؤسا، فيكون مفعولا مطلقا، ويكون مثل قوله تعالى (3):
«{فَطَفِقَ مَسْحاً}»، أي: يمسح مسحا، وقول أبي دهبل الجمحيّ (4): (الطويل)
__________
(1) عجز بيت لعمرو بن معديكرب وصدره:
* وكلّ أخ مفارقه أخوه *
والبيت هو الإنشاد الخامس بعد المائة في شرح أبيات المغني للبغدادي.
والبيت لعمرو بن معديكرب في ديوانه ص 178والكتاب 2/ 334ولسان العرب (ألا) والممتع في التصريف 1/ 51ولحضرمي بن عامر في تذكرة النحاة ص 90وحماسة البحتري ص 570والحماسة البصرية 2/ 418 وشرح أبيات سيبويه 2/ 46والمؤتلف والمختلف ص 85ولعمرو أو لحضرمي في الدرر 3/ 170وشرح أبيات المغني 2/ 105وشرح شواهد المغني 1/ 216. وهو بلا نسبة في الأشباه والنظائر 8/ 180وأمالي المرتضى 2/ 88والإنصاف 1/ 268والجنى الداني ص 519ورصف المباني ص 92وشرح الأشموني 1/ 234 وشرح المفصل 2/ 89والعقد الفريد 3/ 107، 133وفصل المقال ص 257ومغني اللبيب 1/ 72 والمقتضب 4/ 409وهمع الهوامع 1/ 229.
(2) البيت للكميت في ديوانه ص 186وتخليص الشواهد ص 312ولسان العرب (غور، بأس) والمستقصى 2/ 161.
(3) سورة ص: 38/ 33.
(4) البيت لأبي دهبل الجمحي في ديوانه ص 55والأغاني 7/ 118وتخليص الشواهد ص 312والشعر والشعراء ص 621.(9/324)
لأوشك صرف الدّهر تفريق بيننا ... ولا يستقيم الدّهر والدّهر أعوج
أي: لأوشك يفرّق بيننا تفريقا، ثم حذف الفعل، وأقيم المصدر مقامه، وأضيف إلى ظرفه.
انتهى كلام ابن هشام، وهذا خلاف ما اختاره في «المغني»، قال فيه:
الصواب أنّهما، أي: البيت والمثل ممّا حذف فيه الخبر، أي: يكون أبؤسا، وأكون صائما، لأن في ذلك إبقاء لهما على الاستعمال الأصلي، ولأنّ المرجوّ كونه صائما لا نفس الصائم. انتهى.
واعترض عليه بأنه إنّما يكون ذلك إبقاء على الاستعمال الأصلي أن لو جعل التقدير أن يكون، وأن أكون، لأنّ الأصل في خبر عسى أن يكون بأن، وعدمها قليل كما نصّ هو عليه.
وقد ذكر جميع أوجه عسى في الاستعمال، ومذاهب النحويين فيها في «مغني اللبيب».
وقول الشاعر: «أكثرت في العذل» إلخ، يجوز أن يكون بيتا مصرّعا من تامّ الرجز (1) من ضربه الأوّل، وأن يكون بيتين من مشطوره. وقد نسب إلى رؤبة بن العجّاج، ولم أجده في ديوان رجزه. والله أعلم به.
* * * وأنشد بعده:
* لعمر أبيك إلّا الفرقدان *
هذا عجز، وصدره:
* وكلّ أخ مفارقه أخوه *
__________
(1) في طبعة بولاق: = من تمام الرجز =. وهو تصحيف صوابه من النسخة الشنقيطية.(9/325)
وتقدّم شرحه مفصّلا في الشاهد الأربعين بعد المائتين (1).
* * * وأنشد بعده، وهو الشاهد التاسع والأربعون بعد السبعمائة (2): (الطويل)
749 - هممت ولم أفعل وكدت وليتني
تركت على عثمان تبكي حلائله
على أنّ خبر «كدت» فيه محذوف، والتقدير: وكدت أفعل.
كذا قدّره أبو علي في «كتاب الشّعر» وأورد له نظيرا. والمراد: هممت بقتله، ولم أفعله، وكدت أقتله.
وأورده صاحب الكشاف عند قوله تعالى (3): «{وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهََا}» على أنّ الهمّ القصد، من همّ بالأمر: قصده، وعزم عليه، كما في البيت. ومنه الهمام للملك، لأنه إذا قصد شيئا أمضاه.
و «الحلائل»: جمع حليلة، وهي الزوجة. والمعنى: قصدت قتل عثمان بن عفّان رضي الله عنه، ولم أفعل ما قصدته، وقاربته، وليتني تركت زوجاته يبكين عليه.
والبيت من أبيات سبعة لضابئ البرجميّ، قالها في الحبس (4) ومات فيه، أوردها أبو تمام في «كتاب مختار أشعار القبائل»، وهي:
__________
(1) الخزانة الجزء الثالث ص 390.
(2) البيت لضابئ البرجمي في الأضداد لابن الأنباري ص 97وتاريخ الطبري 2/ 511وحماسة البحتري 1/ 48 والحماسة البصرية 1/ 100والشعر والشعراء 1/ 268وشرح أبيات المغني 7/ 45وطبقات فحول الشعراء 1/ 174والكامل في التاريخ 3/ 183والكامل في اللغة 1/ 229ولسان العرب (قير) ومعاهد التنصيص 1/ 187.
(3) سورة يوسف: 12/ 24.
(4) الخبر والشعر في أنساب الأشراف 5/ 8584وتاريخ الطبري 5/ 137وطبقات فحول الشعراء 1/ 173 174والكامل في اللغة 1/ 229228والكامل في التاريخ 3/ 183182والنقائض ص 221.(9/326)
من قافل أدنى الإله ركابه ... يبلّغ عنّي الشّعر إذ مات قائله
فلا يقبلن بعدي امرؤ سيم خطّة ... حذار لقاء الموت والموت نائله
ولا تتبعيني إن هلكت ملامة ... فليس بعار قتل من لا تقاتله
فإنّي وإيّاكم وشوقا إليكم ... كقابض ماء لم تطعه أنامله (1)
هممت ولم أفعل وكدت وليتني ... تركت على عثمان تبكي حلائله
وقائلة لا يبعدن ذلك الفتى ... إذا احمرّ من برد الشّتاء أصائله
وقائلة لا يبعد الله ضابئا ... إذا الكبش لم يوجد له من ينازله
وقوله: «من قافل» استفهام، أي: من راجع، وجملة: «أدنى الإله ركابه» دعائيّة، أي: قرّب الله إبله إلى وطنه.
وقوله: «سيم خطّة»، أي: كلّف أمرا. ومفعول يقبلن محذوف.
وقوله: «ولا تتبعيني» خطاب لامرأته. وقوله: «فليس بعار» إلخ، أي:
قتل من لا تقدر على مقاتلته، لأنه مات في حبس الإمام.
وقوله: «وقائلة»، أي: ربّ قائلة. ولا يبعدن، أي: لا يهلكن، من بعد من باب فرح، إذا هلك.
وقوله: «إذا احمرّ من برد» إلخ، يريد أنّه مضياف في الشتاء، وهو زمن القحط عند العرب، لعدم نبات الأرض.
وقوله: «لا يبعد الله» من أبعده، أي: أهلكه. وضابئ آخره همزة بعد موحّدة وأوله ضاد معجمة، وهو قائل الشعر. والكبش: السيّد الشجاع.
و «ضابئ» (2) هذا هو ضابئ بن الحارث بن أرطاة، من بني غالب بن حنظلة التميمي البرجميّ، بضم الموحدة وسكون المهملة وضم الجيم، نسبة إلى البراجم،
__________
(1) البيت لضابئ بن الحارث البرجمي في تاج العروس (وسق) ولسان العرب (وسق) ومقاييس اللغة 6/ 109.
وهو بلا نسبة في أساس البلاغة (وسق) وتهذيب اللغة 9/ 236.
(2) شاعر مخضرم فحل، أدرك النبي صلى الله عليه وسلم، وكان كثير الشر، جنى جناية في زمن عثمان رضي الله عنه فحبسه، فجاء ابنه عمير فأراد الفتك بعثمان ثم جبن عنه، جعله ابن سلام في الطبقة التاسعة من الجاهليين. (شرح أبيات المغني 7/ 44والشعر والشعراء 1/ 267وطبقات فحول الشعراء 1/ 172).(9/327)
وهم (1) ستّ بطون من أولاد حنظلة بن مالك بن زيد مناة بن تميم، وهم: قيس، وعمرو، وغالب، وكلفة، والظّليم، ومكاشر (2)، لقّبوا بالبراجم لأنّ رجلا منهم اسمه حارثة بن عامر، قال لهم: تعالوا فلنجتمع (3) مثل براجم يدي هذه! ففعلوا فسمّوا بالبراجم، وهي عقد الأصابع. وفي كلّ إصبع ثلاث براجم.
وضابئ أدرك النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، وكان يقنص الوحش، فاستعار من بعض بني جرول بن نهشل كلبا اسمه قرحان، بضم القاف وسكون المهملة بعدها حاء مهملة، وكان يصيد به البقر والظّباء والضباع، فطال مكثه عنده، فطلبوه فامتنع، فركبوا يطلبون كلبهم، فقال لامرأته: اخلطي لهم في قدرك من لحوم البقر، والظّباء، والضّباع، فإن عافوا بعضا، وأكلوا بعضا تركوا كلبك لك، وإن هم لم يفرقوا فلا كلب لك.
فلمّا أطعمهم أكلوه، ثم أخذوا كلبهم، فغضب ضابئ، ورمى أمّهم بالكلب، وقال (4): (الطويل)
تجشّم نحوي وفد قرحان سربخا ... تظلّ به الوجناء وهي حسير
فأردفتهم كلبا فراحوا كأنّما ... حباهم بتاج الهرمزان أمير
وقلّدتهم ما لو رميت متالعا ... به وهو مغبرّ لكاد يطير
فيا راكبا إمّا عرضت فبلّغن ... أمامة منّي والأمور تدور (5)
فأمّكم لا تتركوها وكلبكم ... فإنّ عقوق الوالدات كبير
__________
(1) كذا في النسخة الشنقيطية. وفي طبعة بولاق: = وهي =.
(2) في الاشتقاق ص 218: = أنهم خمسة، بإسقاط، مكاشر. وكذلك في اللسان (برجم) والمعارف لابن قتيبة ص 35.
وفي العمدة 2/ 195: = البراجم: خمسة بطون من بني حنظلة: قيس، وغالب، وعمرو، وكلفة، والظليم، وهو مرة تبرجموا على إخوتهم يربوع وربيعة ومالك وكلهم أبوهم حنظلة بن مالك بن زيد مناة بن تميم بن مرة =.
(3) في طبعة بولاق: = فلنتجمع =. ولقد أثبتنا رواية النسخة الشنقيطية.
(4) الأبيات لضابئ البرجمي في أنساب الأشراف 5/ 84وتاريخ الطبري 5/ 137والحيوان 1/ 370369 والشعر والشعراء 1/ 268267وطبقات فحول الشعراء 1/ 173والنقائض ص 219.
(5) البيت لضابئ بن الحارث في تاج العروس (عرض).(9/328)
فإنّك كلب قد ضريت بما ترى ... سميع بما فوق الفراش بصير
إذا عثّنت من آخر اللّيل دخنة ... يبيت له فوق الفراش هرير
فلما بلغهم الشعر وأنه رمى أمّهم بالكلب، استعدوا عليه عثمان بن عفّان رضي الله عنه، وكان يحبس على الهجاء، فأرسل إليه، فأنشده الشعر.
فقال له عثمان رضي الله عنه: ما أعرف في العرب أفحش، ولا ألأم منك، فإنّي ما رأيت أحدا رمى أحدا بكلب غيرك، وإنّي لأظنّك لو كنت في زمن النبي صلّى الله عليه وسلّم، لنزل فيك وحي، فحبسه في السّجن، فقال في الحبس أبياتا منها (1): (الطويل)
ومن يك أمسى بالمدينة رحله ... فإنّي وقيّار بها لغريب
وسيأتي إن شاء الله مع الأبيات في إنّ المشددة.
فلمّا سمعها أخرجه من الحبس، فأخذ سكّينا فجعلها في أسفل نعله ليفتك بعثمان، فأعلم بذلك فضربه، وردّه إلى الحبس إلى أن مات فيه. وفي ذلك قال الأبيات التي منها:
هممت ولم أفعل وكدت وليتني ... البيت
ولم يزل في الحبس حتّى أصابته الدّبيلة (2) فأنتن، فمات في الحبس. ولمّا قتل عثمان جاء عمير بن ضابئ فرفسه برجله، فكسر ضلعين من أضلاعه، وقال:
حبست أبي حتى مات!
ولمّا كان زمن الحجّاج، واستعرض أهل الكوفة ليوجّههم إلى المهلّب، عرض عليه فيهم عمير بن ضابئ، وهو شيخ كبير يرعش كبرا، فقال: أيّها الأمير، إنّي من الضّعف على ما ترى، ولي ابن أقوى على الأسفار منّي، أفتقبله بديلا؟ قال: نعم.
فلما ولّى قال قائل (3): أتدري من هذا أيها الأمير؟ قال: لا، قال: هذا عمير بن
__________
(1) هو الإنشاد الواحد والعشرون بعد السبعمائة في شرح أبيات المغني للبغدادي.
والبيت لضابئ في الأصمعيات ص 184والشعر والشعراء 1/ 268وشرح أبيات المغني 7/ 43والكامل في اللغة 1/ 188واللسان (قير) والنقائض 220ونوادر أبي زيد ص 20.
(2) الدبيلة بالتصغير: دار يجتمع في الجوف، وهو خراج ودمل كبير، تقتل صاحبها غالبا.
(3) في طبقات فحول الشعراء ص 176: = فقال له عنبسة بن سعيد بن العاص: أيها الأمير. هذا عمير، صاحب(9/329)
ضابئ البرجمي الذي يقول أبوه:
هممت ولم أفعل ... البيت
وحكى القصّة، فقال الحجاج: ردّوه عليّ. فلما ردّ قال: أيّها الشيخ، هلّا بعثت إلى عثمان بديلا يوم الدار، إنّ في قتلك لصلاحا للمسلمين، يا حرسيّ اضرب عنقه!
وسمع ضوضاة (1)، فقال: ما هذا؟ قالوا: البراجم جاءت لتنصر عميرا. قال:
أتحفوهم برأسه! فولّوا هاربين.
* * * وأنشد بعده، وهو الشاهد الخمسون بعد السبعمائة، وهو من شواهد سيبويه (2): (الوافر)
750 - عسى الكرب الذي أمسيت فيه
يكون وراءه فرج قريب
على أنه حذف «أن» من خبر «عسى»، وهو قليل، والتقدير: أن يكون وراءه إلخ.
__________
أمير المؤمنين عثمان =.
(1) في النسخة الشنقيطية: = ضوضاء = بالهمز.
الضوضاة والضوضاء: أصوات الناس وجلبتهم.
(2) البيت هو الإنشاد السادس والأربعون بعد المائتين في شرح أبيات المغني للبغدادي.
والبيت لهدبة بن الخشرم في ديوانه ص 54والأضداد لابن الأنباري ص 23وأمالي القالي 1/ 72والحماسة البصرية 1/ 44والحماسة الشجرية 1/ 228وحماسة البحتري ص 810والدرر 2/ 145وشرح أبيات سيبويه 1/ 142وشرح أبيات المغني 3/ 338وشرح التصريح 1/ 206وشرح شواهد الإيضاح ص 97 وشرح شواهد المغني ص 423والكتاب 3/ 159واللمع ص 225والمقاصد النحوية 2/ 184. وهو بلا نسبة في أسرار العربية ص 128وأوضح المسالك 1/ 312وتخليص الشواهد ص 326والجنى الداني ص 462 وشرح ابن عقيل ص 165وشرح عمدة الحافظ ص 816والمقرب 1/ 98وشرح المفصل 7/ 117، 121 ومغني اللبيب ص 152والمقتضب 3/ 70وهمع الهوامع 1/ 130.(9/330)
وكذا قال ابن هشام في «المغني»، وهو ظاهر كلام سيبويه، قال سيبويه:
واعلم أنّ من العرب من يقول: «عسى» يفعل يشبّهها بكاد يفعل، فيفعل حينئذ في موضع الاسم المنصوب في قوله (1): «عسى الغوير أبؤسا». فهذا مثل من أمثال العرب، أجروا فيه عسى مجرى كان.
قال هدبة:
عسى الكرب الذي أمسيت فيه ... يكون وراءه فرج قريب
وقال (2): (الطويل)
عسى الله يغني عن بلاد ابن قادر ... بمنهمر جون الرّباب سكوب
وقال (3): (الوافر)
فأمّا كيّس فنجا ولكن ... عسى يغترّ بي حمق لئيم
اه.
قال الأعلم: الشاهد في هذه الأبيات إسقاط «أن» ضرورة، ورفع الفعل.
والمستعمل في الكلام أن يكون كما قال تعالى (4): «{عَسى ََ أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ}» و «{فَعَسَى اللََّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ}» (5).
و «المنهمر»: السائل. و «الجون»: الأسود. و «الرّباب»: السّحاب.
و «الحمق»، بكسر الميم: الأحمق.
__________
(1) سبق لنا تخريج المثل منذ صفحات قليلة.
(2) البيت لهدبة بن الخشرم في ديوانه ص 76وشرح أبيات المغني للبغدادي 3/ 338والكتاب 3/ 159، 4/ 139ولسماعة النعامي في شرح أبيات سيبويه 2/ 141وشرح التصريح 2/ 351ولسان العرب (عسا) ولسماعة أو لرجل من باهلة في شرح شواهد الإيضاح ص 620. وهو بلا نسبة في أوضح المسالك 4/ 358 وشرح الأشموني 3/ 771وشرح ديوان الحماسة للمرزوقي ص 678وشرح المفصل 7/ 117، 9/ 92 واللمع ص 333والمقتضب 3/ 48، 69.
(3) البيت للمرار بن سعيد الأسدي في شرح أبيات سيبويه 2/ 63. وهو بلا نسبة في الكتاب 3/ 159والمحتسب 1/ 119.
(4) سورة الإسراء: 17/ 79.
(5) سورة المائدة: 5/ 52.(9/331)
وكذا قال ابن عصفور في «كتاب الضرائر» (1)، وبعد أن أورد هذه الأبيات وغيرها، قال: وما ذكرته من أنّ استعمال الفعل الواقع في موضع خبر «عسى» بغير «أن» ضرورة هو مذهب الفارسيّ، وجمهور البصريّين.
وظاهر كلام سيبويه يعطي أنه جائز في الكلام، لأنّه قال: «واعلم أنّ من العرب من يقول: عسى يفعل، تشبيها بكاد (2)». فأطلق القول، ولم يقيّد ذلك بالشعر. إلّا أنه ينبغي أن لا يحمل كلامه على عمومه، لما ذكره أبو عليّ من أنّها لا تكاد تجيء بغير أن إلّا في ضرورة.
وأيضا فإنّ القياس يقتضي أن لا يجوز ذلك إلّا في الشعر، ولأنّ استعمالها بغير «أن» إنّما هو بالحمل على كاد، لشبهها بها من حيث جمعتهما المقاربة.
وكاد محمولة في استعمالها بغير «أن» على الأفعال التي هي للأخذ (3) في الشروع، من جهة أنّها لمقاربة ذات الفعل، فقربت لذلك من الأفعال التي هي للأخذ في الفعل وليست عسى كذلك لأن فيها تراخيا.
ألا ترى أنّك تقول: عسى زيد أن يحجّ العام؟ وإنّما عدّت في أفعال المقاربة مع ما فيها من التّراخي، من جهة أنّها تدخل على الفعل المرجوّ، والفعل المرجوّ قريب بالنظر إلى ما ليس بمرجوّ. فلما كانت محمولة في استعمالها بغير «أن» على ما هو محمول على غيره، ضعف الحمل، فلم تجيء إلّا في الضرورة. انتهى.
والبيت من قصيدة لهدبة بن خشرم، قالها في الحبس، وهي (4):
طربت وأنت أحيانا طروب ... وكيف وقد تعلّاك المشيب
يجدّ النّأي ذكرك في فؤادي ... إذا ذهلت على النّأي القلوب
يؤرّقني اكتئاب أبي نمير ... فقلبي من كآبته كئيب
__________
(1) النص في شرح أبيات المغني 3/ 339.
(2) كذا في جميع طبعات الخزانة وشرح أبيات المغني. وفي الضرائر وسيبويه: = يشبهها بكاد =.
(3) قوله: = في الشروع، من جهة التي هي للأخذ =. ساقط من النسخة الشنقيطية.
(4) الأبيات لهدبة بن الخشرم من قصيدة مطولة في ديوانه ص 5852وأمالي القالي 1/ 7271والحماسة الشجرية 1/ 231227ورغبة الأمل 2/ 243وشرح أبيات المغني للبغدادي 3/ 340وشرح شواهد المغني ص 444443والمقاصد النحوية 2/ 185184.(9/332)
فقلت له: هداك الله مهلا ... وخير القول ذو اللّبّ المصيب
عسى الكرب الذي أمسيت فيه ... يكون وراءه فرج قريب
فيأمن خائف ويفكّ عان ... ويأتي أهله الرّجل الغريب
ألا ليت الرّياح مسخّرات ... بحاجتنا تباكر أو تؤوب
فتخبرنا الشّمال إذا أتتنا ... وتخبر أهلنا عنّا الجنوب
فإنّا قد حللنا دار بلوى ... فتخطئنا المنايا أو تصيب
فإن يك صدر هذا اليوم ولّى ... فإنّ غدا لناظره قريب
وقد علمت سليمى أنّ عودي ... على الحدثان ذو أيد صليب
وأنّ خليقتي كرم وأنّي ... إذا أبدت نواجذها الحروب
أعين على مكارمها وأغشى ... مكارهها إذا كعّ الهيوب
وقد أبقى الحوادث منك ركنا ... صليبا ما تؤيّسه الخطوب
على أنّ المنيّة قد توافي ... لوقت والنّوائب قد تنوب
هذا ما أورده القالي في «أماليه»، وزاد بعده الشريف الحسينيّ في «حماسته»:
(الوافر)
وإنّي في العظائم ذو غناء ... وأدعى للفعال فأستجيب
وإنّي لا يخاف الغدر جاري ... ولا يخشى غوائلي القريب
وكم من صاحب قد بان عنّي ... رميت بفقده وهو الحبيب
فلم أبد الذي تحنو ضلوعي ... عليه وإنّني لأنا الكئيب
مخافة أن يراني مستكينا ... عدوّ أو يساء به قريب
ويشمت كاشح ويظنّ أنّي ... جزوع عند نائبة تنوب
فبعدك سدّت الأعداء طرقا ... إليّ ورابني دهر يريب
وأنكرت الزّمان وكلّ أهلي ... وهرّتني لغيبتك الكليب
وكنت تقطّع الأبصار دوني ... وإن وغرت من الغيظ القلوب
«الطرب»: خفّة تصيب الإنسان لفرح، أو حزن. و «النّأي»: البعد. و «يؤرّقني»:(9/333)
يسهرني. و «الاكتئاب»: افتعال من الكآبة، وهي الحزن. و «أبو نمير»، قال اللخمي: هو ابن عمّه، وكان مسجونا معه.
وقال ابن هشام في «شرح شواهده»: هو رجل كان مسجونا معه، فجالسه يوما، وأظهر له التألّم.
وقال العيني: هو رجل من قرابته، زار هدبة أيّام حبسه، فأظهر الحزن والكآبة.
وقوله: «وخير القول ذو اللّبّ»، أي: قول ذي اللّبّ.
ورواه ابن المستوفي:
* وخير القول ذو العيج المصيب *
بالمثنّاة التحتية والجيم، وقال: وهو مأخوذ من قولهم: ما عجت به، أي: لم أرض به.
وإن روى: «العنج» بالنون فهو الاسم من عنجت البعير أعنجه عنجا، وهو أن يجذب الراكب خطامه، فيردّه على رجليه، ضرب من رياضة البعير.
قال ابن السيرافي: والعيج من القول: ما ينتفع به، وهو مأخوذ من قولهم: ما عجت بكلامه، أي: ما انتفعت. كذا وجدته: العيج بفتح العين والياء.
وقوله: «عسى الكرب الذي أمسيت فيه» إلخ، «الكرب»: الهمّ.
قال ابن المستوفي: روي بفتح التاء وضمّها من «أمسيت». والنحويون إنما يروونه بالضم، والفتح عندي أولى، لأنه يخاطب ابن عمّه أبا نمير، وكان معه في السّجن.
وقوله هذا لابن عمّه ليسلّيه به، لما رآه من خوفه، أجود من أن يكون يريد به نفسه، لأنّ في قوله لابن عمه زجرا له: مهلا، أي: امهل، يدلّ على ما ذكرته.
ولا يجوز أن يقال: إنّ اكتئاب ابن عمّه إنّما كان حذرا على هدبة، لأنه لو كان كذلك لما قال له: مهلا، ولأنّ الإنسان أكثر عناية بنفسه من عنايته بغيره.
ولا يمتنع ضمّ التاء على أن يريد به: لا يضق صدرك بشيء، فإنّ الكرب الذي أمسيت فيه يكون له فرج قريب، فيزول ما عندك. انتهى.(9/334)
وعيّن اللّخميّ فتح التاء، قال: الرواية عن أبي القاسم الزجاجي ضمّ التاء، وإنّما هي تاء المخاطب، لأنّ ما قبل البيت يدلّ عليها، لأنه يخاطب أبا نمير، وهو ابن عمّه، وكان مسجونا معه.
وقوله: «يكون وراءه» اسم يكون ضمير الكرب، وخبره الظرف، وفرج:
فاعل الظرف.
وقال ابن هشام: وراء ظرف مؤنّث تصغيره على وريئة، وظهور الهمزة في تصغيره دليل على أنه ليس من واريت، كما قال بعضهم. والأظهر أنه بمعنى أمام كقوله تعالى (1): «{مِنْ وَرََائِهِ جَهَنَّمُ}»، «{وَكََانَ وَرََاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً}» (2).
والفرج: انكشاف الهمّ. وفي يكون ضمير الكرب، ويجوز أن تكون ناقصة وتامّة، وعلى الأوّل يكون فرج: مبتدأ، وقريب: صفته، والظرف: خبر، والجملة الاسمية خبر يكون. وعلى الثاني تكون الجملة حالا.
ويجوز على الوجهين أن يكون فرج فاعلا بالظرف على أنّه خبر الناقصة، وحال من فاعل التامّة. وهذا أرجح من تقديره مبتدأ. وإنما لم أقدّر فرج اسم يكون على أنها الناقصة ووراءه الخبر، أو فاعلا ليكون على أنها التامة ووراءه متعلق بيكون كما فعل بعضهم، لأنّ فاعل الفعل الواقع في باب كاد لا يكون إلّا ضميرا راجعا للاسم السابق، فلا يجوز كاد زيد يموت أبوه.
وما خرج عن ذلك نادر، فلا يحمل عليه مع وجود مندوحة عنه. وكذلك لا يكون اسم يكون ضمير الشأن كما قدّره جماعة، لما ذكرنا. انتهى كلامه.
و «عان»: أسير. وأراد بدار بلوى: السّجن. و «الناظر» هنا: المنتظر.
و «الأيد»: القوّة. و «كعّ»: جبن وخاف. و «ما تؤيّسه»: ما تذلّله وما تؤثّر به، بالموحدة بعد الهمزة. وباقي ألفاظ القصيدة ظاهرة.
وهدبة هو «هدبة بن خشرم» (3) بن كرز بن أبي حيّة بن الكاهن، وهو سلمة،
__________
(1) سورة إبراهيم: 14/ 16.
(2) سورة الكهف: 18/ 79.
(3) هو هدبة بن الخشرم بن كرز بن أبي حية، وهو سلمة بن أسحم بن عامر العذري. شاعر إسلامي فصيح(9/335)
ابن أسحم بن عامر بن ثعلبة بن عبد الله بن ذبيان بن الحارث بن سعد بن هذيم، وسعد: ابن أسلم بن الحاف بن قضاعة، ويقال: بل هو سعد بن أسلم بن هذيم، وهذيم عبد لأبيه ربّاه، فقيل: سعد بن هذيم، يعني سعدا هذا.
وهدبة شاعر فصيح متقدّم من بادية الحجاز، وكان شاعرا رواية، وكان يروي للحطيئة، والحطيئة يروي لكعب بن زهير. وكان جميل راوية هدبة، وكثيّر رواية جميل.
وكان لهدبة ثلاثة أخوة كلّهم شاعر، وأمّه كانت شاعرة أيضا. كذا في الأغاني.
وهدبة، بضم الهاء وسكون الدال بعدها موحدة. وخشرم، بفتح الخاء وسكون الشين المعجمتين. وكرز، بضم الكاف وسكون المهملة. وأبو حيّة، بفتح المهملة وتشديد المثناة التحتية.
وسبب حبسه على ما رواه الأصبهاني بسنده في الأغاني (1): أنّ هدبة بن خشرم وزيادة بن زيد بن مالك بن عامر بن قرّة بن حنيش (2) بن عمرو بن ثعلبة بن عبد الله ابن ذبيان بن الحارث بن سعد بن هذيم المذكور (3) اصطحبا، وهما مقبلان من الشام، في ركب من قومهما، فكانا يتعاقبان السّوق بالإبل، و [كان] مع هدبة أخته فاطمة، فنزل زيادة فارتجز، فقال (4): (الرجز)
عوجي علينا واربعي يا فاطما ... ما بين أن يرى البعير قائما
__________
متقدم من بادية الحجاز. كان رواية للحطيئة، قتل شابا بعد قتله لابن عم له. فحبسه والي سعيد بن العاص، فقتله أولياء القتيل، فكان أول مصبور بالمدينة بعد موت الرسول صلوات الله عليه. الأغاني 21/ 245وشرح أبيات المغني 2/ 233والشعر والشعراء 2/ 581ومعجم الشعراء ص 483.
(1) الأغاني 21/ 258256.
(2) = بن حنيش = كذا في طبعة بولاق والنسخة الشنقيطية. وفي معجم الشعراء ص 483: = حنبش =. وهو تصحيف لحنيش في اعتقادنا. وفي جمهرة أنساب العرب ص 448: = وزيادة بن زيد بن مالك بن ثعلبة بن الكاهن ابن عبد الله بن ذبيان بن الحارث بن سعد بن هذيم =.
ولم نجد في نسبه كلمة: = حنيش = أو = حنبش = والله أعلم.
(3) في طبعة بولاق: = هذيم بن المذكور =. وهو تصحيف صوابه من النسخة الشنقيطية.
(4) الرجز لزيادة بن زيد في الأغاني 21/ 257256.(9/336)
ألا ترين الدّمع منّي ساجما ... حذار دار منك أن تلائما (1)
فعرّجت مطّردا عراهما ... فعما يبذّ القطف الرّواسما
كأنّ في المثناة منه عائما ... إنّك والله لأن تباغما
خودا كأنّ البوص والمآكما ... منها نقا مخالط صرائما
خير من استقبالك السّمائما ... ومن مناد يبتغي معاكما (2)
وقوله (3): «ما بين أن يرى البعير»، أي: ما بين مناخ البعير إلى قيامه.
و «مطّرد»: متتابع السّير، و «عراهم»: شديد.
و «فعم»: ضخم. و «الرّسيم»: سير فوق العنق. و «الرّواسم»: الإبل التي تسير هذا السّير.
و «المثناة» الزّمام، و «عائم»: سابح (4). و «تباغم»: تكلّم. و «البوص»:
العجز. و «المأكمتان»: ما عن يمين العجز وشماله.
و «النّقا»: ما عظم من الرمل. والصرائم: دونه. و «معاكما»، أي:
يعينك على عكمك حتى تشدّه.
فغضب هدبة حين سمع زيادة يرجز (5) بأخته، فنزل فرجز بأخت زيادة، وكانت تدعى أمّ خازم (6)، وقيل: أمّ قاسم، فقال (7): (الرجز)
لقد أراني والغلام الحازما ... نزجي المطيّ ضمّرا سواهما (8)
__________
(1) يريد: حذار أن تنزلي دارا بعيدة غير ملائمة.
(2) في طبعة بولاق والنسخة الشنقيطية: = مناد تبتغي =. وهو تصحيف صوابه من الأغاني.
(3) الشرح من الأغاني.
(4) في الأغاني: = سائح =.
(5) في الأغاني: = يرتجز =.
(6) في الأغاني: = أم حازم =. وبعدها في الأغاني: = وقال الآخرون: أم القاسم، فقال هدبة =.
(7) الرجز في ديوان هدبة بن الخشرم ص 133130والأغاني 21/ 258257وشرح الحماسة للتبريزي 2/ 1413. وبعضها في تاج العروس (فغم) وشرح شواهد المغني 2/ 428427والشعر والشعراء ص 582581ولسان العرب (فغم).
(8) نزجي المطي: نسوق الإبل. والضمر: جمع ضامر، وهو المهزول من كثرة الأسفار. والسواهم: المتغيرة من التعب والسفر.(9/337)
متى تقول القلص الرّواسما ... والجلّة النّاجية العياهما (1)
يبلغن أمّ خازم وخازما ... إذا هبطن مستحيرا قاتما (2)
ورفّع الحادي لها الهماهما ... ألا ترين الحزن منّي دائما (3)
حذار دار منك أن تلائما ... والله لا يشفي الفؤاد الهائما (4)
تمساحك اللّبات والمآكما ... ولا اللّمام دون أن تلازما (5)
ولا اللّثام قبل أن تفاقما ... وتعلو القوائم القوائما (6)
وقوله: «تقول القلص» إلخ، أورده النحويون شاهدا على إعمال القول إعمال الظنّ. و «العياهم»: الشّداد.
قال (7): فشتمه زيادة، وشتمه هدبة، وتسابّا طويلا، فصاح بهما القوم: اركبا لا حملكما الله، فإنّا قوم حجّاج. وخشوا أن يقع بينهما شرّ، فوعظوهما، حتّى
__________
(1) القلص: جمع القلوص، وهي الفتية من الإبل. والرواسم: التي تمشي الرسيم، وهو نوع خفيف من السير.
والجلة: جمع الجليل، وهي الناقة السريعة. والناجية: السريعة تنجو بمن يركبها من المهالك. والعياهم: جمع عيهم، وهو الشديد أو السريع والحسن الخلق.
(2) الرجز لهدبة بن الخشرم في ديوانه ص 130وتاج العروس (قول، فغم) وتخليص الشواهد ص 456 والدرر 2/ 273والشعر والشعراء 2/ 695ولسان العرب (قول، فغم) والمقاصد النحوية 2/ 427. وهو بلا نسبة في شرح الأشموني 1/ 164وشرح شذور الذهب ص 488وشرح ابن عقيل ص 227وهمع الهوامع 1/ 157.
المستحير: الطريق في المفازة لا يعرف أين ينتهي. والقاتم: الكثير القتام، وهو الغبار.
(3) الحادي: الذي يسوق الإبل، وقيل ويغني لها. والهماهم: جمع همهمة، وهو الصوت تنوم المرأة به طفلها، استعاره هنا لحداء الإبل. والخطاب في قوله: ألا ترين لأم خازم.
(4) الرجز لهدبة بن الخشرم في ديوانه ص 122وتاج العروس (فغم) ولسان العرب (فغم).
(5) الرجز لهدبة بن الخشرم في ديوانه ص 132وتاج العروس (فغم) وتهذيب اللغة 8/ 151ولسان العرب (فغم).
التمساح: المسح. واللبات: جمع لبة، وهي موضع القلادة من الصدر. والمآكم: جمع مأكم ومأكمة، وهي اللحمة التي على رأس الورك، أو اللحمتان اللتان تصلان بين العجز والمتنين.
(6) اللثام: اللثم والتقبيل. والتفاقم: من الفقام، وهو الجماع. أراد ليس يشفيه التقبيل دون الجماع ولا الجماع دون التقبيل.
(7) النقل من الأغاني 21/ 258. والزيادات منه.(9/338)
أمسك كلّ واحد منهما على ما في نفسه، وهدبة أشدّهما حنقا، لأنّه رأى أن زيادة قد ضامه، إذ رجز بأخته وهي تسمع قوله [ورجز هو بأخته،]، وكانت أخت زيادة غائبة [لا تسمع قوله]، فمضيا ولم يتحاورا بكلمة، حتى قضيا حجّهما، ورجعا إلى عشائرهما (1).
وجعل هدبة (2) وزيادة يتهاديان الأشعار. ولم يزل هدبة يطلب غرّة زيادة حتّى أصابها، فقتله وهرب، وعلى المدينة (3) يومئذ سعيد بن العاص، فأرسل إلى عمّ هدبة وأهله فحبسهم بالمدينة، فلما بلغ هدبة ذلك أقبل حتّى أمكن من نفسه، وتخلّص عمّه وأهله، فلم يزل محبوسا حتّى شخص عبد الرحمن [بن زيد] أخو زيادة إلى معاوية، فأورد كتابه إلى سعيد بأن يقيده منه، إذا قامت البيّنة.
فكره سعيد الحكم بينهما، فحملهما إلى معاوية، فلما صاروا بين يديه (4) قال له معاوية: قل يا هدبة.
فقال: [إن هذا الرجل سجّاعة،] فإن شئت أن أقصّ عليك قصّتنا كلاما أو شعرا فعلت. قال: بل شعرا.
فقال هدبة [هذه القصيدة] ارتجالا (5): (الطويل)
ألا يا لقومي للنّوائب والدّهر ... وللمرء يردي نفسه وهو لا يدري (6)
وللأرض كم من صالح قد تأكّمت ... عليه فوارته بلمّاعة قفر (7)
__________
(1) في الأغاني: = إلى عشيرتيهما =.
(2) النقل من الأغاني 21/ 259، 262. والزيادات منه.
(3) في الأغاني: = فبيته فقتله، وتنحى مخافة السلطان».
(4) بعده في الأغاني: = قال عبد الرحمن أخو زيادة له: يا أمير المؤمنين أشكو إليك مظلمتي، وما دفعت إليه، وجرى عليّ وعلى أهلي وقرباي، وقتل أخي زيادة، وترويع نسوتي =.
(5) الأبيات من قصيدة في ديوانه ص 9895والأغاني 21/ 264وشرح أبيات المغني 5/ 236235 وشرح شواهد المغني ص 276.
(6) البيت لهدبة بن الخشرم في ديوانه ص 95وتاج العروس (قدر) والتنبيه والإيضاح 2/ 184ولسان العرب (قدر).
(7) البيت لهدبة بن الخشرم في ديوانه ص 96وتاج العروس (لمأ) ولسان العرب (لمأ، ودأ، قدر). وهو بلا نسبة في تاج العروس (ودأ) وجمهرة اللغة ص 1094وكتاب العين 8/ 96، 345.
وتأكمت: صارت عليه كالأكمة، أراد الحجارة. واللماعة: الفلاة يلمع فيها السراب.(9/339)
فلا تتّقي ذا هيبة لجلاله ... ولا ذا ضياع هنّ يتركن للفقر (1)
حتى قال:
رمينا فرامينا فصادف رمينا ... منايا رجال في كتاب وفي قدر
وأنت أمير المؤمنين فما لنا ... وراءك من معدى ولا عنك من قصر (2)
فإن تك في أموالنا لم نضق بها ... ذراعا وإن صبر فنصبر للصّبر (3)
وهذا البيت الأخير من شواهد النحويّين. و «تأكّمت»: صارت أكمة.
وروى بدله: «قد توأدت»، «قد تلمّأت» و «تلأمت»، أي: وارته.
فقال له معاوية: أراك يا هدبة قد أقررت بقتل صاحبهم. ثم قال لعبد الرحمن:
هل لزيادة ولد؟ فقال: نعم، المسور، وهو غلام [صغير] لم يبلغ، وأنا عمّه ووليّ دم أبيه.
فقال: إنّك لا تؤمن على أخذ الدية أو قتل الرجل بغير حقّ، والمسور أحقّ بدم أبيه. فردّه إلى المدينة، فحبس ثلاث سنين، حتّى بلغ المسور.
وذهب عبد الرحمن بالمسور، وقد بلغ إلى والي المدينة، وهو سعيد بن العاص، وقيل: مروان بن الحكم، فأخرج هدبة، فلما مضي به من السجن للقتل، التفت فرأى امرأته، وكانت من أجمل النساء، فقال (4): (الطويل)
أقلّي عليّ اللّوم يا أمّ بوزعا ... ولا تعجبي ممّا أصاب فأوجعا
ولا تنكحي إن فرّق الدّهر بيننا ... أغمّ القفا والوجه ليس بأنزعا (5)
__________
(1) البيت لهدبة بن الخشرم في ديوانه ص 97وشرح أبيات سيبويه 1/ 81والكتاب 1/ 145ولسان العرب (قدر). وهو بلا نسبة في الرد على النحاة ص 113وشرح المفصل 2/ 37.
(2) من معدى: أي: من متجاوز إلى غيرك. ولا عنك من قصر: أي لا منع في أمري عنك.
(3) هو الإنشاد الخمسمائة في شرح أبيات المغني للبغدادي.
والبيت لهدبة بن الخشرم في ديوانه ص 98وشرح شواهد المغني 1/ 276، 279، 2/ 715والكتاب 1/ 259.
وهو بلا نسبة في مغني اللبيب 1/ 302.
(4) الأبيات لهدبة بن الخشرم في ديوانه ص 107104والأغاني 21/ 269ورغبة الأمل 3/ 188.
(5) البيت لهدبة بن الخشرم في ديوانه ص 105والأغاني 21/ 269وتاج العروس (بلتع، نزع، غمم) وتهذيب اللغة 2/ 141، 16/ 119وجمهرة اللغة ص 160ولسان العرب (بلتع، نزع، غمم). وهو بلا نسبة(9/340)
كليلا سوى ما كان من حدّ ضرسه ... أعيبد مبطان العشيّات أروعا (1)
ضروبا بلحييه على عظم زوره ... إذا النّاس هشّوا للفعال تقنّعا (2)
وحلّي بذي أكرومة وحميّة ... وصبر إذا ما الدّهر عضّ فأسرعا
فمالت زوجته إلى جزّار (3) وأخذت شفرته فجدعت به أنفها، وجاءته تدمى مجدوعة، فقالت: أتخاف أن يكون بعد هذا نكاح؟ قال: فرسف في قيوده، وقال:
الآن طاب الموت؟ فإذا هو بأبويه يتوقّعان الثّكل، فهما بسوء حال، فأقبل عليهما، وقال (4): (الرمل)
أبلياني اليوم صبرا منكما ... إنّ حزنا إن بدا بادئ شر
لا أراني اليوم إلّا ميتا ... إنّ بعد الموت دار المستقر
اصبرا اليوم فإنّي صابر ... كلّ حيّ لقضاء وقدر
قال النّوفلي (5): حدثني أبي عن رجل من عذرة عن أبيه، قال: إنّي لفي بلادنا يوما في بعض المياه، فإذا أنا بامرأة تمشي أمامي، وهي مدبرة، ولها خلق عجيب من عجز وهيئة، وتمام جسم، وتمام قامة، وإذا صبيّان قد اكتنفاها يمشيان، [قد ترعرعا] فتقدّمتها، والتفتّ إليها، وإذا [هي] أقبح منظر، وإذ هي مجدوعة
__________
في أساس البلاغة (غمم) وكتاب العين 4/ 351ومقاييس اللغة 4/ 378.
(1) في طبعة بولاق والنسخة الشنقيطية: = من جد ضربه =. وهو تصحيف صوابه من ديوانه ص 106والأغاني 21/ 269.
= أعيبد = كذا في طبعة بولاق والنسخة الشنقيطية. وفي حاشية النسخة الشنقيطية تعليقا عليها: = كذا بخط المؤلف، والصواب: أكيبد =.
والأكيبد: تصغير أكبد، وهو من يشكو كبده، من كثرة الأكل. والأروع: الذي يسرع إليه الارتياع والخوف، أي: الجبان كثير الارتياع. ومبطان العشيات: أي يعجل بالعشاء ولا ينتظر الضيفان، وذلك وقت مجيئهم.
وخصّ العشيات لأنه وقت الأضياف.
(2) البيت لهدبة بن الخشرم في ديوانه ص 106وتاج العروس (بلتع، قنع، فعل) ولسان العرب (قنع، فعل).
وهو بلا نسبة في أساس البلاغة (ضرب).
(3) الأغاني 21/ 270.
(4) الأبيات لهدبة بن الخشرم في ديوانه ص 100والأغاني 21/ 270وأسماء المغتالين ص 261وتزيين الأسواق ص 187ونزهة الأبصار 1/ 323.
(5) الخبر في الأغاني 21/ 270. والزيادات منه.(9/341)
الأنف، مقطوعة الشّفتين، فسألت عنها فقيل لي: هذه امرأة هدبة، تزوّجت بعده رجلا، أولدها هذين الصبيّين.
قال ابن قتيبة [في حديثه]:
فسأل سعيد بن العاص أخا زيادة أن يقبل [الدية] عنه (1)، فقال: أعطيك ما لم يعطه أحد من العرب: [أعطك] مائة ناقة حمراء، ليس فيها ذات داء (2). فقال له:
والله لو نقبت لي قبّتك هذه، ثم ملأتها لي ذهبا ما رضيت (3) بها.
ولم يزل سعيد يسأله، حتّى عرض عليه ستّ ديات فأبى، فدفعه إليه حينئذ لقتله بأخيه، فاستأذن هدبة في أن يصلي ركعتين، فأذن له، فصلّاهما وخفّف، ثم التفت إلى من حضر، فقال: لولا أن يظنّ بي الجزع لأطلتهما، فقد كنت محتاجا إلى إطالتهما.
ثم قال لأهله: إنّه بلغني أنّ القتيل يعقل ساعة بعد سقوط رأسه، فإن عقلت فإنّي قابض رجلي وباسطها ثلاثا. ففعل ذلك حين قتل.
وقال قبل أن يقتل (4): (الطويل)
إن تقتلوني في الحديد فإنّني ... قتلت أخاكم مطلقا لم يقيّد
فقال [عبد الرحمن] أخو زيادة: والله لا قتلته (5) إلّا مطلقا من وثاقه. فأطلق له، وتولّى قتله ابنه المسور، دفع إليه عمّه السيف، وقال: قم فاقتل قاتل أبيك. فقام فضربه ضربتين قتله فيهما.
وهدبة أول من سنّ ركعتين عند القتل (6). هذا ما اختصرته من الأغاني.
__________
(1) في النسخة الشنقيطية: = فسأل سعيد بن العاص أخا زيادة عنه =.
(2) في الأغاني: = ليس فيها جداء، ولا ذات داء =.
والجداء: المقطوعة الأذن من الغنم والإبل وقيل: القليلة اللبن من مرض أصابها.
(3) في الأغاني: = ما رضيت بها من دم هذا الأجدع =.
(4) البيت لهدبة بن الخشرم في ديوانه ص 84والأغاني 21/ 272وأسماء المغتالين ص 262والشعر والشعراء 2/ 583وشرح شواهد المغني ص 278.
(5) في طبعة بولاق والنسخة الشنقيطية: = والله لا أقتلنه =. وهو تصحيف صوابه من الأغاني.
(6) في حاشية النسخة الشنقيطية بخط الناسخ: = أول من سن ركعتين عند القتل خبيب لا هدبة =.(9/342)
وأنشد بعده، وهو الشاهد الحادي والخمسون بعد السبعمائة (1): (الطويل)
751 - عسى طيّئ من طيّئ بعد هذه
ستطفئ غلّات الكلى والجوانح
على أنّ السين في قوله: «ستطفئ» قائمة عند المتأخّرين مقام أن، لكونهما للاستقبال.
قال الزمخشري في «المفصل»: ولمّا انحرف الشاعر في هذا البيت عمّا عليه الاستعمال جاء بالسين التي هي نظيرة أن، يعني لمّا لم يأت الشاعر بما حقّه أن يجيء به مع عسى في الخبر، وهو أن، أتى بما يقوم مقامه في الدلالة على الاستقبال، وهو السين. على أنّ ذلك شاذّ.
وكما دخل «أن» في خبر لعلّ حملا على عسى، دخل السّين في خبر عسى حملا على لعلّ.
والبيت آخر أبيات أربعة، أوردها أبو تمام في «باب المراثي من الحماسة» (2)، وعزاها لقسام بن رواحة السّنبسي. وقبله:
__________
وفي الأوائل للعسكري 1/ 301: = أول من سنّ صلاة الركعتين عند القتل خبيب بن عدي =. وفيه 1/ 303 عند قتله: = ثم ركع ركعتين وقال: والله لولا أن تحسبوا أني أجزع من القتل لزدت، وهو أول من فعل ذلك فقال:
فلست أبالي حين أقتل مسلما ... على أيّ جنب كان في الله مصرعي
وذلك في ذات الإله وإن يشأ ... يبارك على أعضاء شلو موزع
وانظر تفاصيل مقتله في الأوائل 1/ 303301.
(1) هو الإنشاد الثامن والأربعون بعد المائتين في شرح أبيات المغني للبغدادي.
والبيت لقسام بن رواحة في الحماسة برواية الجواليقي ص 273والدرر 2/ 148وشرح أبيات المغني للبغدادي 3/ 344وشرح الحماسة للأعلم 1/ 479وشرح الحماسة للتبريزي 3/ 12وشرح الحماسة للمرزوقي ص 960وشرح شواهد المغني ص 445والمؤتلف والمختلف ص 185ومعجم الشعراء ص 340. وهو بلا نسبة في الجنى الداني ص 460وحاشية يس على شرح التصريح 1/ 206وشرح المفصل 8/ 148ومغني اللبيب ص 153وهمع الهوامع 1/ 130.
(2) الأبيات في باب المراثي لقسام بن رواحة السنبسي في الحماسة برواية الجواليقي ص 273وشرح أبيات المغني 3/ 346وشرح الحماسة للأعلم 1/ 479وشرح الحماسة للتبريزي 3/ 1211وشرح الحماسة للمرزوقي ص 958ومعجم الشعراء ص 340والمؤتلف والمختلف ص 185.(9/343)
لبئس نصيب القوم من أخويهم ... طراد الحواشي واستراق النّواضح
وما زال من قتلى رزاح بعالج ... دم ناقع أو جاسد غير ماصح
دعا الطّير حتّى أقبلت من ضريّة ... دواعي دم مهراقه غير بارح
عسى طيّئ من طيّئ ... البيت
يريد بأخويهم (1): صاحبيهم، يقال: يا أخا بكر، يراد: يا واحدا منهم.
والحاشية: صغار الإبل ورذالها. والنواضح: جمع ناضح، [وهي] الإبل التي يستسقى عليها الماء، جعلت كأنّها تنضح الزرع والنخل. وطراد وما عطف عليه بدل من نصيب، يقول: إنّهم لا يقدمون على القوم، ويغيرون (2) على حواشيها دون جلّتها، لأنّ الصّبيان يرعونها.
يعني: بلغ من جبنهم أن لا يتعرّضوا للرّعاة، إلّا سرقة، يسرقون النّواضح، ويطردون الحواشي، فيرضون بذلك من طلب الثّأر، فبئس العوض ذلك من دم أخويهم! يهزأ بهم.
وهذا تعريض بمن (3) وجب عليه طلب الدّم، فاقتصر على الغارة، وسرقة الإبل.
وفيه بعث على طلب الدم. وأكّد ذلك بقوله: «وما زال من قتلى رزاح» إلخ، وهو براء مفتوحة، وزاي و [حاء] مهملة: قبيلة من خولان. و «قتلى»: جمع قتيل.
و «عالج» بالجيم: موضع بالبادية فيه رمل. و «الدّم الناقع»، بالنون والقاف، قيل: الثابت، وقيل: الطريّ. و «الدّم الجاسد»، بالجيم، قيل: القديم، وقيل:
اليابس. و «الماصح»، بالصاد المهملة، من مصح كمنع مصوحا: ذهب وانقطع.
يقول: لا يزال من مقتولي هذه القبيلة بهذا المكان دم طريّ ويابس غير زائل.
يعني: أنّ دماءهم باقية بحالها ما لم يثأروا بها، لأنّ غسل تلك الدماء إنّما يكون بما يصبّ من دماء أعدائهم. ولم يكتف بهذا الإغراء حتى قال: «دعا الطير» إلخ،
__________
(1) الشرح في شرح أبيات المغني للبغدادي 3/ 346والزيادات منه.
(2) في شرح أبيات المغني: = ويغزون على حواشيها =.
(3) في طبعة بولاق: = ممن =. وهو تصحيف صوابه من شرح أبيات المغني والنسخة الشنقيطية.(9/344)
يقول: دعا دواعي دمائهم طيور الأماكن البعيدة، والجبال المطلّة، حتى أتت سباعها وطيورها، وقعت عليها تأكل منها.
و «مهراقه»: الهاء ضمير الدم، يعني: أنه مصبوب في موضعه، لم يزل، ولم يحل. قال الطّبرسي: ويجوز أن يريد بالمهراق الموضع المصبوب فيه الدم. وفيه حثّ على طلب الثأر.
و «ضريّة»: اسم بلاد تشتمل على بلاد سميت باسم ضريّة بنت ربيعة بن نزار، كما قيل للماء الذي بين البصرة ومكة الحوءب كجعفر بالحاء المهملة، سمّي (1)
بالحوءب بنت كلب بن وبرة.
وقوله: «عسى طيّئ» إلخ، قال المرزوقي (2): عسى لفظة وضعت للتّرجي والتأميل، إلّا أنها تؤذن بأنّ الفعل مستقبل مطموع فيه. ووضع السين بدل أن في خبر عسى لاشتراكهما في الدّلالة على الاستقبال، مع أنّ السين أشهر فيها.
ومعنى «عسى طيّئ»: لعلّ البطن المغلوب من هذه القبيلة في القتال ينتصف من البطن الغالب منها فيه.
وقوله: «بعد هذه» إشارة إلى الحالة الحاضرة بالتذكير، الجامعة لكلّ ما ذكره.
و «الغلّات»: جمع غلّة بالضم: حرارة الجوف. والمعنى: المرجوّ من أولياء الدم أن يطلبوا الثأر في المستقبل وإن كانوا أخّروه إلى هذه الغاية، فتسكن نفوس وتبرد قلوب (3).
وكانت القبيلتان معا من طيّئ، لأنّ طيّئا قبائل يكون أبدا بينهم قتال. وطيّئ بالهمزة على وزن السّيّد، وقد تحذف الهمزة فيبقى كحيّ.
و «الكلى»: جمع كلية أو كلوة. و «الجوانح»: الضلوع، جمع جانحة. قال بعضهم: الغلّة إنّما تكون في القلب، ولكنّه أراد المبالغة، أي: تجاوز القلب والكبد إلى الكلية.
__________
(1) في النسخة الشنقيطية: = سميت =.
(2) شرح الحماسة للمرزوقي ص 960باختصار يسير.
(3) في النسخة الشنقيطية: = وتدبر قلوب =. وهو تصحيف صوابه من طبعة بولاق وشرح المرزوقي.(9/345)
وقال الخوارزمي: إن سئل أيّ غلّة للكلى حتّى أضيفت إليها؟ أجيب بأنّ المزاج عند ورود الهموم والأحزان عليه، ممّا ينفعل ويسخن، فإذا سخن المزاج حمي البول واحتدّ، والبول ممرّه على الكلى، فكأنه قال: ستطفئ الغلل التي يظهر أثرها في البول. هذا كلامه.
وقائل هذه الأبيات شاعر جاهليّ وهو في «بعض نسخ الحماسة» (1): قسام بن رواحة، وفي بعض آخر منها: قسامة بن رواحة، بزيادة الهاء. وهو بفتح القاف وتخفيف السين المهملة. وفي كلّ منهما روي ابن رواحة السّنبسي والعنبسي.
وقد أورده الآمدي في «المؤتلف والمختلف» (2) فيمن يقال له ابن رواحة، قال:
ومنهم قسام بن رواحة العنبسي، ليس له عندي في شعراء طيّئ ذكر. وأنشد له الطائي في «الحماسة»: لبئس نصيب القوم، الأبيات الأربعة. هذا ما ذكره، ولم يرفع نسبه (3).
وهذا نسبه من «جمهرة الأنساب»، قال: قسامة الشاعر ابن رواحة بن جلّ بضم الجيم وتشديد اللام، ابن حقّ، بكسر الحاء المهملة وتشديد القاف، ابن ربيعة ابن عبد رضى، بضم الراء المهملة وفتح الضاد المعجمة بعدها ألف مقصورة، ابن ودّ بفتح الواو وتشديد الدال، ابن ودّ بضبط ما قبله أيضا، ابن معن بن عتود، بفتح المهملة بعدها مثناة فوقيّة مضمومة، ابن عنين (4) بضم المهملة وبين النونين مثنّاة تحتية، ابن سلامان، ابن ثعل، بضم المثلثة وفتح العين المهملة، ابن عمرو بن الغوث بن طيّئ بن أدد بن زيد بن يشجب بن عريب بن زيد بن كهلان بن سبأ.
ولم أر في نسبه لا سنبسا ولا عنبسا، والله أعلم.
* * * __________
(1) هو قسام بن رواحة في الحماسة برواية الجواليقي وشرح الحماسة للأعلم وشرح الحماسة للتبريزي.
(2) المؤتلف والمختلف ص 185.
(3) وانظر أيضا معجم الشعراء للمرزباني ص 340.
(4) في النسخة الشنقيطية: = حنين =. وهو تصحيف صوابه من طبعة بولاق وجمهرة أنساب العرب ص 401.
وفي الاشتقاق ص 387: = عنين: فعيل، من عنّ يعن، إذا اعترض =.(9/346)
وأنشد بعده، وهو الشاهد الثاني والخمسون بعد السبعمائة (1): (الوافر)
752 - فعادى بين هاديتين منها
وأولى أن يزيد على الثّلاث
على أنّ «أولى» من مرادفات كاد ولا تستعمل إلّا مع «أن».
كذا قال ابن مالك في «التسهيل» ومثّل له شرّاحه بهذا البيت.
قال ابن عقيل: عادى من العداء، بكسر العين، وهو الموالاة بين الصّيدين بصرع أحدهما، على أثر الآخر في طلق واحد، ومنه قول امرئ القيس (2): (الطويل)
فعادى عداء بين ثور ونعجة ... دراكا ولم ينضح بماء فيغسل
والهادية: أوّل الوحش، ومنه قول امرئ القيس (3):
كأنّ دماء الهاديات بنحره ... عصارة حنّاء بشيب مرجّل
وقال صاحب الصحاح: أنشد الأصمعي هذا البيت، وقال: أي قارب أن يزيد. قال ثعلب: ولم يقل أحد في «أولى» أحسن ممّا قال الأصمعي (4). اه.
واستظهر الشارح المحقق أن يكون «أولى» المستعمل مع أن فعلا تامّا متعدّيا، و «أن» مع منصوبه مفعولا لأولى، فإنّه بمعنى قارب وهو فعل متعدّ. وإنّما استظهره للزوم أن مع الفعل، وهذا خلاف شأن أفعال المقاربة.
وأما أولى المستعمل مع اللام في قولهم: أولى لك، وأولى له، وأولى لي، فهو اسم للوعيد غير منصرف للعلميّة ووزن الفعل (5). لا أفعل تفضيل لأفعل، بدليل
__________
(1) البيت بلا نسبة في الدرر 2/ 131ولسان العرب (لبث، ولي) وهمع الهوامع 1/ 128.
(2) البيت لامرئ القيس في ديوانه ص 22وتاج العروس (غسل، عدا) وشرح القصائد العشر للتبريزي ص 81وشرح المعلقات السبع للزوزني ص 72ولسان العرب (غسل، عدا).
(3) البيت لامرئ القيس في ديوانه ص 23وتاج العروس (رجل، هدي) وشرح القصائد العشر للتبريزي ص 79وشرح المعلقات السبع للزوزني ص 70ومقاييس اللغة 4/ 82. وهو بلا نسبة في تهذيب اللغة 15/ 233.
(4) الصحاح واللسان (ولي).
(5) في طبعة بولاق: = للوعيد لا أفعل تفضيل غير منصرف للعلمية ووزن الفعل =. وهو تصحيف صوابه من النسخة الشنقيطية.(9/347)
قولهم: أولاة الآن (1). وهو من الولي، وهو القرب. قال المبرد في «الكامل» (2)
عند إنشاد قول الخنساء (3): (المتقارب)
هممت بنفسي كلّ الهموم ... فأولى لنفسي أولى لها
يقول الرجل، إذا حاول شيئا فأفلته من بعد ما كاد يصيبه: أولى له. وإذا أفلت من عظيمة (4)، قال: أولى لي.
ويروى عن ابن الحنفيّة رحمة الله عليه أنه كان يقول: إذا مات ميّت في جواره أو في داره: أولى لي، كدت أكون السواد المخترم (5). وأنشد لرجل يقتنص الصيد، فإذا أفلته الصّيد، قال: أولى لك.
فكثر ذلك منه فقال (6): (الطويل)
فلو كان أولى يطعم القوم صدتهم ... ولكنّ أولى يترك القوم جوّعا
اه.
وقال الفارسي في «كتاب الشعر»: أولى: اسم مبتدأ، ولك: الخبر. ولا يجوز أن يكون أفعل من كذا، لأنّ أبا زيد حكى أنهم يقولون: أولاة الآن، إذا أوعدوا.
فدخول علامة التأنيث على أفعل، يدلّك على أنّه ليس بأفعل من كذا، وأنه مثل أرملة وأضحاة، في أنه على أفعل، لا يراد به اتصال الجارّ به، إلّا أنّهم جعلوا المؤنّث فيه أيضا معرفة، كما جعلوا المذكّر كذلك، فصار بمنزلة شيء سمّي بأضحاة فلم ينصرف.
__________
(1) جاء في اللسان (ولي): = وحكى ابن جني: أولاة الآن، فأنث أولى. قال: وهذا يدل على أنه اسم لا فعل =.
(2) الكامل في اللغة 2/ 338.
(3) البيت للخنساء في ديوانها ص 121والكامل في اللغة 2/ 338.
وفي طبعة بولاق: = وأولى لها =. بزيادة الواو. ولقد أثبتنا رواية ديوانها والكامل في اللغة.
(4) في طبعة بولاق: = عظمة =. وهو تصحيف صوابه من الكامل في اللغة والنسخة الشنقيطية.
(5) في الكامل في اللغة 2/ 339: = كدت والله أكون السواد المخترم =.
السواد: الشخص. والمخترم: الذي اخترمته المنية من بين أصحابه، أي: أخذته.
(6) البيت بلا نسبة في تاج العروس (ولي) والكامل في اللغة 2/ 339ولسان العرب (ولي).(9/348)
فأمّا في قوله: «أولى فأولى يا امرأ القيس» فالخبر منه محذوف للعلم به. ألا ترى أنّ الكلمة استعملت كثيرا في الوعيد، حتّى صارت علما له، فحذف الخبر لذلك.
فإن قلت: أيجوز أن يكون أولى اسما للفعل، وفيه ضمير المخاطب كأفّ ووشكان، ويكون «لك» في أولى لك، لا يكون الخبر، ولكنّه بمنزلة قولهم «لك» في: هلم لك، للتبيين، وفي سقيا لك، ونحو ذلك، ويكون امتناع التنوين من الدخول عليه، كامتناعه على وشكان ونحوه، لا كما امتنع من الدخول على غير المنصرف؟
فالجواب ما قدّمناه، من أنّ موضع أولى رفع بالابتداء. ويدلّ على صحّة ذلك أنّ أبا زيد حكى أنهم يقولون: أولاة الآن بالرفع، وهذا تأنيث أولى، ولو كان اسما للفعل لم يرفع.
ألا ترى أنك لا تجد فيما سمّي به الفعل شيئا مرفوعا، فيجعل أولى مثله. والآن في قولهم: أولاة الآن متعلّق بمحذوف، كما تقول: الوعيد الآن. انتهى كلامه.
* * * وأنشد بعده (1): (الطويل)
* وما كدت آيبا *
على أنه استعمل «كاد» في الضرورة مثل كان، فجاء خبرها مفردا في قوله:
«وما كدت آيبا»، كما يجيء خبر كان مفردا.
وهذا قطعة من بيت، وهو:
__________
(1) البيت لتأبط شرا في ديوانه ص 89والأغاني 21/ 141وتخليص الشواهد ص 309والحماسة برواية الجواليقي ص 36والخصائص 1/ 391والدرر 2/ 150وشرح أبيات المغني 7/ 362وشرح التصريح 1/ 203وشرح الحماسة للأعلم 1/ 212وشرح الحماسة للتبريزي 1/ 41وشرح الحماسة للمرزوقي ص 83. وهو بلا نسبة في الإنصاف 2/ 544وأوضح المسالك 1/ 302ورصف المباني ص 190وشرح ابن عقيل ص 164وشرح عمدة الحافظ ص 822وشرح المفصل 7/ 13وهمع الهوامع 1/ 130.(9/349)
فأبت إلى فهم وما كدت آيبا ... وكم مثلها فارقتها وهي تصفر
وتقدّم الكلام عليه مشروحا في الشاهد السابع والثلاثين بعد الستمائة (1).
* * * وأنشد بعده، وهو الشاهد الثالث والخمسون بعد السبعمائة، وهو من شواهد س (2): (الرجز)
753 - قد كاد من طول البلى أن يمصحا
على أنّه جاز اقتران خبر «كاد» ب «أن» لما ذكره.
قال سيبويه: وقد جاء في الشعر «كاد» أن يفعل، شبّهوه بعسى.
قال رؤبة:
* قد كاد من طول البلى أن يمصحا *
وقد يجوز في الشعر أيضا لعلّي أن أفعل، بمنزلة عسيت أن أفعل. اه.
ومثله لابن عصفور في «الضرائر»، قال: ومن ذلك عند بعض النحويّين دخول أن في خبر كاد، نحو قول رؤبة:
* قد كاد من طول البلى أن يمصحا *
وقول الآخر (3): (الخفيف)
__________
(1) الخزانة الجزء الثامن ص 377.
(2) الرجز لرؤبة بن العجاج في ملحق ديوانه ص 172وتاج العروس (كود) والدرر 2/ 142وشرح شواهد الإيضاح ص 99وشرح المفصل 7/ 121والكتاب 3/ 160ولسان العرب (كود) والمقاصد النحوية 2/ 215. وهو بلا نسبة في أدب الكاتب ص 419وأسرار العربية ص 5وتخليص الشواهد ص 329وديوان الأدب 2/ 198ولسان العرب (مصح) والمقتضب 3/ 7وهمع الهوامع 1/ 130.
(3) هو الإنشاد الخامس والتسعون في شرح أبيات المغني للبغدادي.(9/350)
كادت النّفس أن تفيظ عليه ... إذ ثوى حشو ريطة وبرود
والصحيح أنّ دخولها في خبر كاد ضرورة، إلّا أنها ليست مع ذلك بزائدة، لعملها النصب، والزائدة لا تعمل، بل هي مع الفعل الذي نصبته بتأويل مصدر، وذلك المصدر في موضع خبر كاد، على حدّ قولهم: زيد إقبال وإدبار. اه.
قال علي بن حمزة البصري فيما كتبه على «نوادر أبي عمرو الشيباني» وكان أبو عمرو والأصمعيّ يقولان: لا يقول عربيّ: كاد أن، وإنّما يقولون: كاد يفعل.
وهذا مذهب جماعة النحويّين، والجماعة مخطؤون، وقد جاء في الشعر الفصيح منه، ما في بعضه مقنع.
فمن ذلك ما أنشده ابن الأعرابيّ (1): (الرجز)
* يكاد لولا سيره أن يملصا *
وأنشد هو وغيره: (الرجز)
__________
والبيت لأبي زيد الطائي في الاقتضاب ص 389وشرح أبيات المغني للبغدادي 8/ 26. وهو بلا نسبة في أدب الكاتب ص 406وأوضح المسالك 1/ 351وشرح الأشموني 1/ 129وشرح شواهد المغني 2م 948وشرح شذور الذهب ص 354وشرح ابن عقيل ص 167ولسان العرب (نفس، فيظ) ومغني اللبيب 2/ 662.
ولقد انفرد ابن السيد في الاقتضاب والبغدادي في شرح أبيات المغني للبغدادي بنسبة هذا البيت إلى أبي زبيد الطائي حرملة بن المنذر في رثاء ابن أخته اللجلاج، وكان قد مات عطشا في طريق مكة.
وقصيدة الرثاء هذه من عيون المراثي وهي في ديوان أبي زبيد ص 605592والاختيارين ص 535518 وجمهرة أشعار العرب ص 593581والمراثي ص 5745والقصيدة في تسعة وخمسين بيتا لم نجد هذا البيت المذكور فيها.
وفي حاشية طبعة هارون 9/ 348: = ووجدت في هامش شرح شواهد المغني للسيوطي 231أن البيت لمحمد ابن مناذر شاعر البصرة. وأجدر به أن يكون لأبي زبيد الطائي المخضرم الذي يكثر الاستشهاد بشعره، وقد جاء على لغة طيئ الذين ينطقون فاضت بالظاء المعجمة كما في اللسان (فيظ). وسبب اللبس أن لمحمد بن مناذر قصيدة أخرى طويلة جدا يعارض بها قصيدة أبي زبيد ويرثي بها عبد المجيد بن عبد الوهاب الثقفي، وكان قد علق به حتى انتهك ستره، كما ذكر ابن المعتز في الطبقات 126119. وانظر الأغاني 17: 309ومعجم الأدباء 19:
6055=.
(1) الرجز بلا نسبة في تاج العروس (حصص، كصص) ولسان العرب (حصص، كصص) ومقاييس اللغة 2/ 251.(9/351)
حتّى تراه وبه إكداره ... يكاد أن ينطحه إمجاره
لو لم ينفّس كربه هراره
وأنشد أبو زيد وغيره في صفة كلب (1): (الرجز)
يرثم أنف الأرض في ذهابه ... يكاد أن ينسلّ من إهابه
وقال بعض الرّجّاز:
* يكاد من طول البلى أن يمصحا *
وقال ذو الرّمّة (2): (الطويل)
وجدت فؤادي كاد أن يستخفّه ... رجيع الهوى من بعض ما يتذكّر
اه.
أقول: مرادهما بقولهما: «لا يقول عربيّ كاد أن»: أنه لا يقول ذلك في الكلام، وأمّا الشعر فهو محلّ الضرورة. فلا خطأ في قولهما.
وأمّا ما ورد في صحيح البخاري: «وكاد أميّة بن أبي الصّلت أن يسلم»، وجاء في الحديث أيضا: «كاد الفقر أن يكون كفرا»، فنادر.
وهذا الرجز نسب إلى رؤبة.
وقبله (3):
* ربع عفا من بعد ما قد انمحى *
وأنشده ابن يعيش:
__________
(1) الرجز من أرجوزة لأبي نواس في ديوانه ص 211210وأساس البلاغة (أهب).
يرثم: يكسر. عنى أن الكلب من شدة عدوه يقشر وجه الأرض.
(2) البيت لذي الرمة في ديوانه ص 224ودرة الغواص ص 133. وهو بلا نسبة في تهذيب اللغة 12/ 290 وكتاب العين 7/ 191ولسان العرب (رسس).
(3) ديوان رؤبة بن العجاج ص 172.(9/352)
* ربع عفاه الدّهر طولا فامّحى *
ورواه اللّخميّ:
* ربع عفاه الدّهر دأبا وامتحى *
ولم أر هذا الرجز في ديوان رؤبة.
وكذلك قال ابن السيد في «شرح أبيات أدب الكاتب (1)»، واللخميّ في «شرح أبيات الجمل» بأنّهما لم يرياه في ديوانه.
و «الرّبع»: المنزل حيث كان. وروى بدله: «رسم». والرّسم: أثر الدار.
وعفا يكون لازما كالرواية الأولى، يقال: عفا المنزل يعفو عفوا، وعفوّا، وعفاء، بالفتح والمدّ، أي: درس.
ويكون متعدّيا كالرواية الثانية. يقال: عفته الرّيح، أي: محته، وامّحى أصله انمحى، مطاوع محوته محوا، أي: أزلته، فامّحى، أي: زال، وذهب أثره.
ويقال: محيته محيا بالياء، من باب نفع.
وزعم العيني أنّ «من» في قوله: «من بعد» زائدة، وما مصدرية، واسم كاد ضمير راجع إلى ربع. ومن تعليليّة متعلّقة بكاد لا بيمصح، لأنّه صلة أن.
و «البلى» بالكسر والقصر: مصدر بلي الثّوب يبلى، إذا أخلق. وبلي المنزل، إذا درس. فإن فتحت الباء مددته.
و «يمصح» بفتح الياء والصاد: مضارع مصح، بفتح الصاد أيضا. قال الجوهري: مصح الشيء مصوحا: ذهب وانقطع. قال: ومصح الثّوب: أخلق.
ولله درّ القائل: (الكامل)
يا بدر إنّك قد كسيت مشابها ... من وجه أمّ محمّد ابنة صالح
وأراك تمصح في المحاق وحسنها ... باق على الأيّام ليس بماصح
وهو في الأشهر فعل لازم، ولم يذكروه متعدّيا. وفي كثير من كتب اللّغة ما يخالفه. فقد ذكره الهرويّ، وابن شميل، والصاغاني، متعدّيا. وفي القاموس:
__________
(1) الاقتضاب ص 396.(9/353)
مصح الله مرضك، أي: أذهبه، كمسحه. وفي «الذيل والصلة للصاغاني»:
يقال للمريض: مصح الله ما بك، ومسح، والصاد أعلى.
وقال ابن بريّ فيما كتبه على «درّة الغوّاص»: هذا غلط لأنّ مسح لا يتعدّى إلّا بالباء، يقال: مسحت بالشيء، أي: ذهبت به. فلو كان بالصاد قيل: مصح الله بما بك، أي: أذهبه، فتعدّيه بالباء أو بالهمزة، فيقال: أمصح الله ما بك، إذ لا يقال مصحه بدون باء. اه.
وهذا مأخوذ من الجواليقي، قال في «تكملة إصلاح المنطق»: ما تغلط فيه العامّة. ويقولون في الدعاء للمريض: مسح الله ما بك. وكان النّضر بن شميل، يقول: مصح الله ما بك، أي: أذهبه، وغيره يجيز: مسح الله ما بك. اه.
وقال اللخمي في «شرح أبيات الجمل»: سئل أبو بكر الزّبيديّ عن قول القائل: مصح الله عنك بيمينه الشافية، أبالسّين يكتب أم بالصاد؟ فقال: الذي أقوله، وأعتقده، وأرويه أنّه بالسين لا بالصاد فإنّ من كتبه بالصاد، فإنّما ذهب إلى قولهم: مصح الظلّ، إذا ذهب. وهو قول النّضر بن شميل. ولا يلتفت إليه، لأنّ الصاد إنّما استعملت في الظّلّ خاصّة.
* * * وأنشد بعده، وهو الشاهد الرابع والخمسون بعد السبعمائة (1): (الوافر)
754 - وقد جعلت قلوص ابني زياد
من الأكوار مرتعها قريب
__________
(1) هو الإنشاد الثالث والثمانون بعد الثلاثمائة في شرح أبيات المغني للبغدادي.
والبيت بلا نسبة في تخليص الشواهد ص 320والحماسة برواية الجواليقي ص 97والدرر 2/ 152وشرح أبيات المغني للبغدادي 4/ 361وشرح الأشموني 1/ 128وشرح التصريح 1/ 204وشرح الحماسة للأعلم 1/ 145وشرح الحماسة للتبريزي 1/ 163وشرح الحماسة للمرزوقي ص 310وشرح شواهد المغني ص 606ومغني اللبيب ص 235والمقاصد النحوية 2/ 170وهمع الهوامع 1/ 130.
وروايته المشهورة:
وقد جعلت قلوص ابني سهيل(9/354)
على أنّه قد جاء نادرا خبر جعل جملة اسمية، وهو قوله: «مرتعها قريب».
قال ابن جني في «إعراب الحماسة»: أوقع الجملة من المبتدأ والخبر موقع الجملة من الفعل والفاعل، أراد: وقد جعلت قلوص ابني سهيل (1) يقرب مرتعها من الأكوار، كما قال (2): (الطويل)
فقد جعلت نفسي على النّأي تنطوي ... وعيني على فقد الحبيّب تنام
اه.
أقول: الصواب في التقدير: تقرب من المرتع، بإسناد الفعل إلى ضمير القلوص، فإنّ جميع أفعال المقاربة لا يكون فاعل خبرها الفعليّ إلّا ضمير اسمها، كما نصّ عليه الشارح المحقق.
وقال الخطيب التّبريزيّ في «شرح الحماسة» (3): وقد جعلت قلوص ابني سهيل يقرب مرتعها من الأكوار، أي: لم تتباعد في الرّعي لمّا حطّ رحلها، لما بها من الإعياء، فبركت مكانها.
وجعلت هاهنا بمعنى طفقت وأقبلت، ولذلك لا يتعدّى. و «مرتعها قريب» في موضع الحال. أي: أقبلت قلوص هذين الرّجلين قريبة المرتع من رحالهم.
وهذه غفلة من الخطيب، فإنّه بعد أن قال: إن جعلت بمعنى طفقت، كيف يسوغ له أن يجعل الجملة حالية.
وسبقه إلى جعل الجملة حاليّة الإمام المرزوقيّ، وتبعهما خضر الموصليّ في «شرح شواهد التفسيرين».
ثم قال الخطيب (4): قال أبو العلاء: ويروى: «فقد جعلت قلوص ابني سهيل» بنصب قلوص وكثير من الناس يرفع القلوص، وهو وجه رديء، لأنّ القائل
__________
(1) إعراب الحماسة ورقة 61/ 1. وهذا على رواية: = ابني سهيل =. وهي رواية أغلب المصادر السابقة الذكر ومنها الحماسات.
(2) البيت لمؤرج في لسان العرب (نوي).
(3) شرح الحماسة للخطيب التبريزي 1/ 163. والزيادات منه.
(4) شرح الحماسة للخطيب التبريزي 1/ 163.(9/355)
إذا قال: جعلت، وهو يريد المقاربة، لم يكن بدّ من إتيانه بالفعل، كما قال (1):
(الطويل)
جعلت وما بي من جفاء ولا قلى ... أزوركم يوما وأهجركم شهرا
وعلى ذلك جميع ما يرد، فإذا قال القائل: جعل زيد فعله جميل، ولم يأت بلفظ الفعل، فإنّما يحمله على المعنى، كأنه قال: جعل زيد يجمل.
وأحسن من هذه الرواية (2) أن تنصب قلوصا، ويكون في جعلت ضمير يعود على [المرأة] المذكورة، وليست جعلت في هذا القول (3) في معنى المقاربة، وإنّما هي [بمعنى] صيّرت، فلا تفتقر إلى فعل، ويكون قوله: «مرتعها قريب» [جملة] في موضع المفعول الثاني، كما يقال: جعلت أخاك ماله كثير. اه.
وذكر الشّلوبين فيما كتب على «الحماسة» أنّ بعض الناس أجاز أن يكون «جعل» بمعنى «صيّر» وحذف من جعلت ضمير الشأن، والتقدير: وقد جعلته، أي: جعلت الأمر والشأن (4) مرتعها قريب من الأكوار. وأنّ آخر (5) أجاز أن يكون على إلغاء جعلت مع تقدّمها، على حدّ إجازة أبي الحسن: ظننت عبد الله منطلق.
اه.
فإن أراد ببعض الناس أبا العلاء، فلا يصحّ نسبة حذف ضمير الشأن إليه، فإنّه روى بنصب القلوص على أنه مفعول أوّل لجعل بمعنى صيّر، والفاعل ضمير المرأة.
ويرد على القول الآخر أنّ الإلغاء لا يكون في أفعال التصيير، وإنّما يجوز في أفعال القلوب.
وقد أخطأ العيني في هذه الكلمة من وجهين:
الأوّل: أنّه قال: «جعل» هنا من أفعال المقاربة، وإنّما هي من أفعال الشروع.
__________
(1) البيت بلا نسبة في شرح الحماسة للتبريزي 1/ 163.
(2) في شرح الحماسة للتبريزي 1/ 163: = وأحسن من هذا الوجه =.
(3) في شرح الحماسة للتبريزي 1/ 163: = في هذا الوجه =.
(4) في النسخة الشنقيطية: = وقد جعلت الأمر والشأن =. ولقد أثبتنا رواية طبعة بولاق.
(5) في طبعة بولاق والنسخة الشنقيطية: = آخرا =. والوجه ما أثبتناه عن طبعة هارون.(9/356)
والثاني: أنّه قال: وجعلت هنا على صيغة المجهول، أسندت إلى قلوص. وإنّما جعلت بالبناء للمعلوم وقلوص اسمها، وجملة: «مرتعها قريب من الأكوار» في محل نصب على أنه خبرها. و «القلوص»: الناقة الشّابّة.
ويروى (1): «ابني سهيل» بدل «ابني زياد». و «الأكوار»: جمع كور بالضم، وهو الرّحل بأداته.
و «المرتع»: موضع الرتوع، وهو أكل الماشية ما شاءت. تقول: رتعت الماشية رتوعا.
وهذا البيت أحد أبيات ثلاثة في الحماسة، تقدّمت مشروحة في الشاهد الثاني والخمسين بعد الثلثمائة (2).
* * * وأنشد بعده، وهو الشاهد الخامس والخمسون بعد السبعمائة (3): (البسيط)
755 - وقد جعلت إذا ما قمت يثقلني
ثوبي فأنهض نهض الشّارب الثّمل
على أنه قد يجيء خبر «جعل» جملة شرطيّة مصدّرة بإذا. فجملة: «إذا ما قمت يثقلني ثوبي» في محلّ نصب، على أنه خبر جعل.
__________
(1) هي الرواية المشهورة وهي رواية الحماسات.
(2) الخزانة الجزء الخامس ص 120117.
(3) هو الإنشاد الحادي عشر بعد الثمانمائة في شرح أبيات المغني للبغدادي.
والبيت برواية الشارب السكر لعمرو بن أحمر في ديوانه ص 182والموشح ص 118ولأبي حية النميري في ملحق ديوانه ص 186والحيوان 6/ 483وشرح التصريح 1/ 204وشرح شواهد الإيضاح ص 74 والمقاصد النحوية 2/ 173ولابن أحمر أو لأبي حية النميري في الدرر 2/ 133ولأبي حية أو للحكم بن عبدل في شرح شواهد المغني 2/ 911. وهو بلا نسبة في أوضح المسالك 1/ 305وتاج العروس (جعل) وشرح الأشموني 1/ 130وشرح التصريح 1/ 206ومغني اللبيب 2/ 579والمقرب 1/ 101.
وهو برواية الشارب الثمل في الخزانة هذا الجزء وشرح أبيات المغني للبغدادي 7/ 213.(9/357)
وهذا كقول همّام الرّقاشي (1): (البسيط)
وقد جعلت إذا ما حاجة عرضت ... بباب دارك أدلوها بأقوام
أي: أوصلها إليك بأقوام. وكقول عبد الله بن عباس رضي الله عنهما:
«فجعل الرجل إذا لم يستطع أن يخرج أرسل رسولا (2)».
وعلى هذا يكون «ثوبي» فاعل يثقلني، ويكون وقوع الجملة الشرطيّة خبرا لجعل موقع الفعل المضارع نادرا.
وقد تبع الشارح المحقق في هذا ابن مالك في «التسهيل» (3)، قال فيه: وربّما جاء خبر جعل جملة اسميّة وفعليّة، مصدّرة بإذا (4). ولا يخفى أنّه إذا جاز تخريجها على ما ثبت لها، لا ينبغي العدول عنه إلى ادّعاء النّدرة، فإنه لا مانع من جعل «يثقلني» خبرا لها، ويكون «ثوبي» بدل اشتمال من التاء في جعلت، وذلك بتقدير «إذا» ظرفية لا شرطيّة.
وكذا الحال في البيت الثاني وفي الأثر، ولكن فيه شذوذ وهو مجيء الماضي خبرا، فلا يخرج هذا عن قوله سابقا: «ويتعيّن في جميع أخبار أفعال المقاربة أن يكون فاعل أخبارها ضميرا عائدا إلى اسمها».
وإليه ذهب ابن هشام في «المغني»، قال: اشترطوا الإضمار في بعض المعمولات. ومن ذلك مرفوع خبر كاد وأخواتها إلّا عسى. ومن الوهم قول جماعة في قول هدبة (5):
__________
(1) البيت لعصام بن عبيد الزماني في الحماسة برواية الجواليقي ص 325وشرح الحماسة للأعلم 2/ 695 وشرح الحماسة للتبريزي 3/ 77ولبعض المتقدمين في المراثي ص 313ولهمام الرقاشي في البيان والتبيين 2/ 316ولأبي القمقام في عيون الأخبار 1/ 9291ولهشام الرقاشي في العقد الفريد 1/ 69. وهو بلا نسبة في أساس البلاغة (دلي).
(2) في طبعة هارون 9/ 356: = أخرجه البخاري في كتاب التفسير في سورة الشعراء. قال ابن عباس: لما نزلت:
وأنذر عشيرتك الأقربين، صعد النبي صلى الله عليه وسلم على الصفا فجعل ينادي: يا بني فهر، يا بني عدي، يا بطون قريش. حتى اجتمعوا فجعل الرجل إذا لم يستطع أن يخرج أرسل رسولا لينظر ما هو =.
(3) التسهيل لابن مالك ص 6059.
(4) في التسهيل: = مصدرة بإذا أو كلما =.
(5) هو الشاهد رقم / 750/ من شواهد هذا الجزء من الخزانة.(9/358)
عسى الكرب الذي أمسيت فيه ... البيت
إنّ فرج قريب اسم يكون. والصواب أنه مبتدأ، خبره الظرف، والجملة خبر يكون (1) واسمها ضمير الكرب، وأما قوله:
وقد جعلت إذا ما قمت يثقلني ... ثوبي البيت
فثوبي بدل اشتمال من تاء جعلت لا فاعل يثقلني. اه.
إلّا أنّ ما استثناه ابن هشام في «عسى» لم يذكره الشارح المحقق. قال ابن هشام: تقول: كاد زيد يموت، ولا تقول: يموت أبوه. ويجوز عسى زيد أن يقوم أبوه، فترفع السببيّ. ولا يجوز رفعها الأجنبيّ، نحو: عسى زيد أن يقوم عمرو عنده. اه.
وما استثناه الشارح المحقق في كاد، نحو: كاد زيد تخرج نفسه لم يذكره ابن هشام. فأفاد كلّ منهما فائدة، ليست عند الآخر.
ولقد صدق القائل في قوله:
ما حوى العلم جميعا أحد ... لا ولو مارسه ألف سنه
لكنّ ابن مالك جوّز بقلّة في خبر جميع هذه الأفعال أن يرفع غير ضمير الاسم، قال في «التسهيل»: ويتعيّن عود الضمير من الخبر إلى الاسم. وكون الفاعل غيره قليل. اه.
تتمة
وقع في بعض نسخ التسهيل: وربّما جاء خبر جعل جملة اسمية وفعلية، مصدّرة بإذا أو كلّما، وندر إسنادها إلى ضمير الشّأن، ودخول النفي عليها. اه.
قال شارحه المرادي: ولم يتعرّض المصنّف (2) لهذه الزيادة في شرحه. ومثال تصدّره بكلّما: جعل زيد كلّما جاء عمرو ضربه. ويحتاج إلى سماع، إلّا أنّ في صحيح
__________
(1) في النسخة الشنقيطية: = كان =. وهو تصحيف صوابه من طبعة بولاق.
(2) في النسخة الشنقيطية: = المص =. وهذا اختصار من الشنقيطية لكلمة: = المصنف =.(9/359)
البخاري: «فجعل كلّما جاء ليخرج رمى في فيه بحجر (1)».
ويمكن تمثيل المسألة الثانية بما حكاه الزاهد غلام ثعلب: أنّه يقال: عسى زيد قائم، برفع المبتدأ والخبر بعد عسى. فيتخرّج (2) على أنّ في عسى ضمير الشأن. هذا إن جعلنا الضمير في إسنادها إلى أفعال الباب. وإن جعلناه عائدا إلى جعل احتاج إلى سماع.
ومثال المسألة الثالثة: ما جعل زيد يتكلّم، وقول أنس: «فما جعل يشير بيده إلى ناحية من السماء إلّا انفرجت (3)». ولا ينبغي أن يعود الضمير إلى أفعال الباب، إذ لم يندر دخول النفي عليها. اه.
والبيت من أبيات خمسة لعمرو بن أحمر الباهلي، إلّا أنّ قافيتها رائيّة، لا لاميّة كما وقع في إنشاد النحويّين.
والأبيات رواها لعمرو المذكور المرزباني في «الموشح (4)»، ورأيتها كذلك بخط ابن نباتة السعديّ البغدادي صاحب «الخطب النباتية»، كتبها في آخر ديوان محمد ابن بشير الخارجي، ورواها عن أبي سعيد [السكري]، عن ابن حبيب، عن ابن الأعرابي، وقد أقوى في بيتين منها، نصّ عليهما المرزباني، وهي (5): (البسيط)
ما للكواعب يا عيساء قد جعلت ... تزورّ عنّي وتطوى دوني الحجر (6)
قد كنت فرّاج أبواب مغلّقة ... ذبّ الرّياد إذا ما خولس النّظر (7)
__________
(1) هو حديث طويل عن الصحابي سمرة بن جندب. أخرجه البخاري في كتاب الجنائز باب ما قيل في أولاد المشركين.
(2) في النسخة الشنقيطية: = فيخرج =.
(3) أخرجه البخاري في كتاب الاستسقاء باب من تمطر في المطر حتى يتحادر على لحيته.
(4) الموشح ص 118.
(5) الأبيات لعمرو بن أحمر الباهلي في ديوانه ص 182181وشرح أبيات المغني للبغدادي 7/ 214والموشح ص 118. والأبيات لم ترد في متن ديوان عمرو بن أحمر، إنما وردت في ملحق ديوانه.
(6) البيت لعمرو بن أحمر في ديوانه ص 181وشرح أبيات المغني للبغدادي 7/ 214والموشح ص 118. وهو بلا نسبة في تاج العروس (ذبب) وتهذيب اللغة 14/ 414ولسان العرب (ذبب).
(7) البيت لعمرو بن أحمر في ديوانه ص 181وشرح أبيات المغني 7/ 214. وهو بلا نسبة في أساس البلاغة (ذبب) وتاج العروس (ذبب) وتهذيب اللغة 14/ 414ولسان العرب (ذبب).(9/360)
فقد جعلت أرى الشّخصين أربعة ... والواحد اثنين ممّا بورك النّظر
وكنت أمشي على رجلين معتدلا ... فصرت أمشي على رجل من الشّجر
وقد جعلت إذا ما قمت يثقلني ... ثوبي فأنهض نهض الشّارب السّكر
قوله: «ما للكواعب» استفهام إنكاريّ، أنكر إعراض الكواعب عنه، وهي جمع كاعب، وهي الشابّة التي نتأ ثديها وظهر. و «عيساء»: اسم امرأة. وازورّ عن الشيء، وتزاور عنه: مال عنه.
و «تطوى» بالبناء للمفعول. و «دوني»: أمامي. «والحجر»، بضم ففتح: جمع حجرة. يريد أنهنّ لا يقبلن عليّ، ويسددن أبواب الحجر أمامي.
و «فرّاج»: مبالغة فارج، من فرجت الباب من باب ضرب، إذا فتحته.
وذبّ الرّياد، بالنصب: خبر آخر لكان، وهو بالذال المعجمة، أي: كثير الحركة والدخول والخروج. يقال: فلان ذبّ الرّياد: إذا كان لا يستقرّ في موضع.
و «الرّياد»: مصدر راود يراود.
و «خولس»: مجهول، خالس الشيء: فاعل من خلست الشيء، إذا اختطفته بسرعة على غفلة.
يريد أنّ النساء كنّ (1) يتسارقن النّظر إليّ لحسني وشبابي، عندما كنت خفيف الحركة. وجعلت من أفعال الشروع. وإنّما رأى الشخصين أربعة لضعف بصره من شيخوخته وسنّه.
وقوله: «ممّا بورك النّظر» تهكّم واستهزاء ببصره، جعل ضعف بصره بركة (2)، لأنه يريه الشيء مضاعفا.
وقوله: «على رجل من الشجر» أراد العصا، فإنّ الشيوخ يعتمدون عليها في المشي.
ويروى: «على أخرى من الشجر»، أي: على رجل أخرى من الشجر.
__________
(1) في طبعة بولاق: = كانوا =. وهو تصحيف. وفي النسخة الشنقيطية: = كانوا، كن =. ووضع خط فوق كلمة: = كانوا = إشارة إلى خطأ الكلمة.
(2) بعده في شرح أبيات المغني: = أي: زيادة =.(9/361)
وقوله: «إذا ما قمت»، «ما»: زائدة، وزيادتها بعد أداة الشرط جازما أو غير جازم مطّردة، حتى نظمها بعضهم بقوله:
خذ لك ذي الفائده ... «ما» بعد إذا زائده
وزعم العيني أنّ «ما» مصدرية، وأنّ التقدير حين قيامي. وقوله: «يثقلني» من أثقله الشيء: [إذا] أجهده وأتبعه بجعله ثقيلا.
وقوله: «فأنهض» معطوف على يثقلني، فهو خبر بعد خبر، لا على جعلت كما زعم العيني، لوجهين:
أحدهما: أنّ النهوض على هذا الوجه مسبّب عن إثقاله الثّوب، لا عن الشّروع في القيام.
وثانيهما: تناسب المتعاطفين في المضارعيّة (1) وفي السببيّة: فإنّ كلّا منهما سبب للآخر.
وزعم العيني أنّ التحقيق فيه أنه أقام السبب، وهو الإثقال، مقام المسبّب، وهو النهوض نهض الشّارب. هذا كلامه.
و «أنهض»: أقوم، وله مصدران أحدهما ما في البيت. والثاني النهوض.
ونهض الشارب: صفة مفعول مطلق نائب عنه، أي: فأنهض نهضا كنهض الشارب.
وقال العيني: نهض الشارب منصوب على الإطلاق وهذا لا معنى له، وكأنه يريد على المفعول المطلق. و «السّكر»، بكسر الكاف: صفة مشبّهة من السّكر.
وكذلك الثّمل بكسر الميم صفة مشبّهة، وهو الذي أخذ منه الشراب قواه.
وقافية هذا البيت والذي قبله فيهما إقواء، بخلاف ما قبلهما، فإنّ قافيته مرفوعة.
وعمرو بن أحمر الباهليّ شاعر إسلاميّ تقدّمت ترجمته في الشاهد الستين بعد الأربعمائة (2).
__________
(1) في النسخة الشنقيطية: = في المضارعة =. ولقد أثبتنا رواية طبعة بولاق وشرح أبيات المغني.
(2) الخزانة الجزء السادس ص 241.(9/362)
وقال العيني: قائل البيت الشاهد أبو حيّة النّميري. وقد نسب للحكم بن عبدل الأعرج الأسديّ. وليس بصحيح لأنّه لا يوجد في ديوانه (1).
ويروى الشطر الثاني:
* فقمت قيام الشّارب السّكر *
وممن رواه هكذا الجاحظ في «باب العرجان من كتاب الحيوان له (2)»، ونسبه لأبي حيّة النّميري (3) هكذا:
وقد جعلت إذا ما قمت يوجعني ... ظهري فقمت قيام الشّارب
السّكر
وكنت أمشي على رجليّ معتدلا ... فصرت أمشي على أخرى من الشّجر
* * *
__________
(1) المقاصد النحوية 2/ 174173.
(2) كتاب الحيوان 6/ 484483.
سقطت كلمة: = له = من طبعة بولاق وقد أثبتناها نقلا عن النسخة الشنقيطية.
(3) في طبعتي بولاق وهارون: = لأبي حية النمري =. وهو تصحيف صوبناه من شرح أبيات المغني والنسخة الشنقيطية.(9/363)
فعل التعجب
أنشد فيه (1): (البسيط)
* يا ما أميلح غزلانا شدنّ لنا *
تمامه:
* من هؤليّائكنّ الضّال والسّمر *
وتقدّم الكلام عليه في خواصّ الاسم من أول الكتاب (2).
قيل إنّ هذا البيت من أبيات لعليّ بن محمد المغربي (3). وهو متأخّر، له قصيدة في مدح علي بن عيسى وزير المقتدر (4). وقتل المقتدر في شوّال سنة عشرين وثلثمائة.
وإنّما أراد التشبّه بكلام العرب. فلا يصحّ الاحتجاج به.
* * * __________
(1) هو الإنشاد السادس عشر بعد التسعمائة في شرح أبيات المغني للبغدادي.
والبيت في ديوان المجنون ص 130وله أو للعرجي أو لبدوي اسمه كامل الثقفي في الدرر 1/ 234وشرح أبيات المغني للبغدادي 8/ 71وشرح شواهد المغني 2/ 962ولكامل الثقفي أو للعرجي في شرح شواهد المغني 2/ 962وللعرجي في المقاصد النحوية 1/ 416، 3/ 643وصدره لعلي بن أحمد العريني في لسان العرب (شدن). وهو بلا نسبة في أسرار العربية ص 115والإنصاف 1/ 127وشرح الأشموني 2/ 366وشرح شافية ابن الحاجب 1/ 190وشرح المفصل 5/ 135ولسان العرب (ملح) ومعاهد التنصيص 3/ 167 ومغني اللبيب 2/ 682وهمع الهوامع 1/ 76، 2/ 191.
(2) الخزانة الجزء الأول ص 107أقسام التنوين.
(3) الخزانة الجزء الأول ص 111.
(4) في طبعة بولاق: = ابن المقتدر =. وهو تصحيف صوابه من النسخة الشنقيطية.(9/364)
وأنشد بعده، وهو الشاهد السادس والخمسون بعد السبعمائة (1): (الوافر)
756 - ونأخذ بعده بذناب عيش
أجبّ الظّهر ليس له سنام
على أنّ نصب «الظهر» على التشبيه بالمفعول به.
أقول: روى ابن الناظم وغيره «الظهر» في هذا البيت على ثلاثة أوجه:
الأوّل: بالنّصب، وهو ضعيف كما قال الشارح المحقق.
وقال ابن الجاجب في «أماليه»: ونصب الظهر كنصب الوجه في: مررت برجل حسن الوجه، وهي لغة فصيحة على التشبيه بالمفعول. ومنهم من جعله نصبا على التمييز، ولا حاجة إليه لكونه معرفة، والتمييز المنصوب إنّما يكون بالنكرة.
وفيه ردّ على من قال إنه تمييز، كالبيضاوي، فإنه استشهد به عند قوله تعالى (2):
«{إِلََّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ}»، قال: نفسه منصوب على التمييز، كالظهر في البيت.
الثاني: رفع الظهر على الفاعليّة.
الثالث: خفضه بإضافة أجبّ إليه.
وأما «أجبّ» فهو مجرور لا غير. قال ابن الجاجب: وأجبّ مخفوض علامة خفضة الفتحة، صفة لذناب أو عيش. والفتح إنما هو على رفع الظهر ونصبه، وأما على جرّه فأجبّ مجرور بالكسرة للإضافة.
وأمّا قطعه إلى الرفع على أنه خبر لمبتدأ محذوف، أو إلى النصب بتقدير: أعني،
__________
(1) البيت للنابغة الذبياني في ديوانه ص 106والأغاني 11/ 29وشرح أبيات سيبويه 1/ 28وشرح المفصل 6/ 83، 85والكتاب 1/ 196والمقاصد النحوية 3/ 579، 4/ 434. وهو بلا نسبة في أسرار العربية ص 200والأشباه والنظائر 6/ 11والاشتقاق ص 105وأمالي ابن الحاجب 1/ 458والإنصاف 1/ 134 وشرح الأشموني 3/ 591وشرح ابن عقيل ص 589وشرح عمدة الحافظ ص 358ولسان العرب (جبب، ذنب) والمقتضب 2/ 179.
وروايته في ديوانه:
وتمسك بعده بذباب عيش
(2) سورة البقرة: 2/ 130.(9/365)
فلا يجوز، لأن قطع النّكرة غير الموصوفة نادر.
وقد خلط العينيّ (1) ونسب إلى ابن الناظم ما لم يقله. قال: الاستشهاد في قوله:
«أجبّ الظهر» فإنه يجوز فيه ثلاثة أوجه:
الأوّل: أجبّ الظهر برفع أجب ونصب الظهر. وهذا من أقسام الضعيف، وهو على تقدير: هو أجبّ.
الثاني: نصب أجبّ على الحالية، ورفع الظهر.
والثالث: جرّ أجبّ على الصفة لعيش، وجرّ الظهر على الإضافة.
هذا كلامه.
وتبعه على هذا خضر الموصليّ في «شرح أبيات التفسيرين».
وأنشده سيبويه بنصب الظهر ب «أجب» على أنّ في «أجبّ» تنوينا مقدّرا ولم يظهر، لأنّه لا ينصرف.
والبيت من أبيات للنابغة الذبياني، وهي (2):
ألم أقسم عليك لتخبرنّي ... أمحمول على النّعش الهمام (3)
فإنّي لا ألومك في دخول ... ولكن ما وراءك يا عصام
فإن يهلك أبو قابوس يهلك ... ربيع النّاس والشّهر الحرام
ونأخذ بعده بذناب عيش ... أجبّ الظّهر ليس له سنام
ومن حديث هذه الأبيات أنّ النابغة كان عند النعمان ملك العرب بالحيرة، كبيرا عنده، خاصّا به، وكان من ندمائه، وأهل أنسه، فحسد على منزلته منه، فاتّهموه بأمر ذكرناه في مواضع من هذا الكتاب (4)، فغضب عليه النعمان وأراد البطش به.
__________
(1) المقاصد النحوية: 3/ 579.
(2) الأبيات في ديوان النابغة الذبياني صنعة الأعلم ص 106105وديوانه صنعة ابن السكيت ص 232231 وأخبار الزجاجي ص 31والأغاني 11/ 29والمقاصد النحوية 3/ 579.
(3) البيت للنابغة الذبياني في ديوانه صنعة الأعلم ص 105وديوانه صنعة ابن السكيت ص 231والأغاني 11/ 29وكتاب العين 1/ 258.
(4) الخزانة الجزء الثاني ص 120119. الشاهد رقم / 104/.(9/366)
وكان للنعمان بوّاب يقال له: عصام بن شهبر الجرمي، قال للنابغة: إنّ النّعمان موقع بك فانطلق! فهرب النابغة إلى ملوك غسّان ملوك الشام، فكان يمدحهم، وترك النّعمان، فاشتدّ ذلك عليه، وعرف أنّ الذي بلغه كذب. فبعث إليه: إنّك لم تعتذر من سخطة إن كانت بلغتك، ولكنّا تغيّرنا لك عن شيء ممّا كنّا لك عليه، ولقد كان في قومك ممتنع وحصن، فتركته ثم انطلقت إلى قوم قتلوا جدّي، وبيني وبينهم ما قد علمت.
وكان النّعمان (1) وأبوه وجدّه قد أكرموا النابغة وشرّفوه وأعطوه مالا عظيما.
وبلغ النابغة أنّ النّعمان ثقيل من مرض أصابه حتّى أشفق عليه منه، فأتاه النابغة فألفاه محمولا على رجلين ينقل ما بين الغمر وقصوره التي بين الحيرة، فقال لبوّابه عصام:
ألم أقسم عليك لتخبرنّي ... الأبيات المذكورة
قال أبو عبيدة: كانت ملوك العرب إذا مرض أحدهم حملته الرجال على أكتافها، يتعاقبونه، لأنه عندهم أوطأ من الأرض. فعافاه الله، وعفا عن النابغة.
قال حسان بن ثابت: وفدت إلى النّعمان، فحسدت النابغة على ثلاث لا أدري على أيّتهنّ كنت أحسد: أعلى إدناء النّعمان له بعد المباعدة ومسايرته له، وإصغائه إليه (2)، أو على جودة شعره، أو على مائة بعير من عصافيره أمر له بها؟
قال أبو عبيدة: قيل لأبي عمرو: أمن مخافته امتدحه، وأتاه بعد هربه منه، أم لغير ذلك؟ قال: لا لعمر الله، ما لمخافته فعل، إن كان إلّا آمنا من أن يوجّه إليه النعمان جيشا. وما كان النابغة يأكل ويشرب إلّا في آنية الذهب والفضّة، من عطايا النّعمان وأبيه وجدّه، ولا يستعمل غير ذلك.
وقوله: «ألم أقسم عليك (3)» إلخ، هو استفهام تقريريّ، وقوله:
«لتخبرنّي» جواب القسم.
وقوله: «أمحمول» إلخ، خبر مقدّم، والهمام مبتدأ مؤخّر، والجملة في موضع المفعول لتخبرنّي. والتحقيق أنّ الواقع مفعولا محذوف مضاف إلى هذا
__________
(1) ديوان النابغة الذبياني صنعة ابن السكيت ص 231.
(2) في النسخة الشنقيطية: = وإصغاؤه =. وهو تصحيف صوابه من طبعة بولاق.
(3) في طبعة بولاق والنسخة الشنقيطية: = ألم أخبرك =. وهو تصحيف صوابه ما أثبتناه من متن الأبيات.(9/367)
الاستفهام، والتقدير: جواب هذا الاستفهام. والنعش: السّرير: كان الرّجال يحملونه على سريره في مرضه.
وقال العيني: وقيل معنى أمحمول على النعش، أي: هل مات فحمل على النّعش أم لا؟ انتهى.
«أقول»: هذا كلام من لم يصل إلى العنقود.
والهمام: الملك العظيم الهمّة.
وقوله: «فإنّي لا ألومك» إلخ، لا ألومك في تركك الإذن لي في الانتهاء إلى الملك، ولكن أخبرني بكنه أمره.
ورواه العيني (1):
* فإنّي لا ألام على دخول *
وقال: أي لا ألام على ترك الدخول عليه، لأنّي محجوب لا أصل إليه لغضبه عليّ. وهذا خلاف ما رواه الناس.
وقوله: «ما وراءك يا عصام»، صار مثلا عند العرب، وأورده الزمخشري في «أمثاله (2)» قال فيه: هو من قول النابغة، يضرب في الاستخبار عن الشيء، وهو عصام بن شهبر الباهليّ حاجب النّعمان.
ومن شعر عصام هذا: (الرجز)
نفس عصام سوّدت عصاما ... وعلّمته الكرّ والإقداما
وجعلته ملكا هماما
والبيت الأوّل من هذا مثل أيضا، يضرب لمن شرف بنفسه، لا بآبائه (3).
__________
(1) المقاصد النحوية 3/ 579.
(2) المثل في جمهرة الأمثال 1/ 570، 2/ 255والعقد الفريد 3/ 109، 6/ 110والفاخر ص 184وكتاب الأمثال ص 205وكتاب الأمثال لمجهول ص 102ولسان العرب (عصم) والمستقصى 2/ 334ومجمع الأمثال 2/ 262، 332والوسيط في الأمثال ص 158.
(3) الرجز والمثل في أمثال العرب ص 167، 187وثمار القلوب ص 136وجمهرة الأمثال 2/ 312والفاخر(9/368)
وفي الأمثال أيضا (1): «كن عصاميّا ولا تكن عظاميّا»، أي: افتخر بنفسك، لا بعظام آبائك البالية.
قال الزمخشري: وهو عصام الخارجي، وإنّما سمته العرب خارجيّا، لأنه خرج عن غير أوّلية كانت له.
ويحكى أنّ الحجّاج ذكر عنده رجل بالجهل، فأراد اختباره، فقال: أعظاميّ أم عصاميّ؟ أراد: أشرفت بآبائك الذين صاروا عظاما، أم بنفسك؟ فقال الرجل: أنا عصاميّ عظاميّ.
فقال الحجاج: هذا أفضل الناس، فقضى حوائجه، ومكث عنده، ثم فتّشه فوجده أجهل الناس، فقال له: تصدقني أو لأقتلنّك، كيف أجبتني بما أجبتني حين سألتك عما سألتك؟
قال: لم أعلم أعصاميّ خير أم عظاميّ، فخشيت أن أقول أحدهما، فقلت:
كليهما، فإن ضرّني أحدهما نفعني الآخر. فقال الحجاج عند ذلك: «المقادير تصيّر العييّ خطيبا (2)».
وقوله: «فأن يهلك أبو قابوس» إلخ، هو كنية النعمان، و «قابوس»:
معرّب كاووس، كطاووس، اسم أحد ملوك الفرس.
وقوله: «ربيع الناس» إلخ، يريد أنه كان كالربيع في الخصب لمجتديه، وكالشهر الحرام لجاره، أي: لا يوصل إلى من أجاره، كما لا يوصل في الشهر الحرام إلى أحد.
والمعنى: إن يمت النّعمان يذهب خير الدّنيا عنها، كانت تعمر به، وبجوده وعدله، ونفعه للنّاس. ومن كان في ذمّته وسلطانه فهو آمن على نفسه محقون الدم، كما يأمن الناس في الشهر الحرام على دمائهم وأموالهم.
وروى بدله: «والنّعم الرّكام» بالضم، أي: المتراكمة.
__________
ص 177وفصل المقال ص 137وكتاب الأمثال ص 98وكتاب الأمثال لمجهول ص 114ولسان العرب (عصم) والمستقصى 2/ 369ومجمع الأمثال 2/ 331والوسيط في الأمثال ص 172.
(1) المثل في لسان العرب (عصم) ومجمع الأمثال 2/ 331.
(2) المثل في مجمع الأمثال 2/ 332.(9/369)
وقوله: «ونأخذ بعده» إلخ، الذّناب والذّنابة بكسرهما، والذّنابى بالضم والقصر: الذّنب.
قال الشنتمري (1): المستعمل للبعير ونحوه الذّنب، وللطّائر الذّنابى، وللعين ونحوها الذّنابة ولما لا خير فيه. والأجبّ بالجيم: الجمل المقطوع السّنام، والسّنام:
حدبة البعير.
يقول: إن مات بقينا في طرف عيش قد مضى صدره ومعظمه وخيره، وقد بقي منه ذنبه، ويكون العيش كبعير قد جبّ سنامه.
يريد: صار الناس بعده في أسوإ حال، وأضيق عيش وذلّ، وتمسّكوا منه بمثل ذنب بعير أجبّ الظّهر. والسّنام يستعار كثيرا للعزّ، حتّى كأنّه غلب فيه.
وقد أورد أبو القاسم الزجّاجيّ هذه الأبيات الثلاثة في «أماليه الصّغرى والوسطى (2)» وقال فيهما: أمّا عصام فحاجب النعمان.
يقول: لا ألومك إن منعتني من الوصول إليه، ولكن عرّفني خبره. وكان الملك إذا مرض يجعل في سرير، ويحمل على أكتاف الرجال، يعلّل بذلك (3)، ويقولون:
هو أرفه له.
وأمّا قوله: ونأخذ بعده، فيجوز فيه الرفع والنصب والجزم. أمّا الجزم فعلى العطف على قوله: يهلك ربيع الناس. والرفع على القطع والابتداء، والنصب بالصرف على إضمار أن. وكذلك كلّ معطوف بعد جواب الجزاء من الأفعال المستقبلة، تجوز فيه هذه الأوجه الثلاثة.
وقوله: «أجبّ الظهر» يعني مقطوع الظهر. وهذا تمثيل [و] تشبيه.
ويروى: «أجبّ الظّهر» بخفضهما جميعا على إضافة أجبّ إلى الظّهر، ويروى:
«أجبّ الظّهر» بفتح أجبّ ونصب الظهر على أن يكون موضع أجبّ خفضا ولكنّه لا ينصرف، وبنصب الظّهر على التشبيه بالمفعول به، ويضمر في أجبّ الفاعل، كأنه قال: أجبّ الظّهر بالتنوين، ثم منعه من التنوين لأنه لا ينصرف، وهو في تقدير
__________
(1) لم نجد هذه الرواية والشرح في ديوان النابغة صنعة الأعلم الشنتمري، فلعل البغدادي أراد كتابا آخر.
(2) أخبار أبي القاسم الزجاجي ص 31وأمالي الزجاجي ص 223.
(3) التعليل: الترفيه والتلهية.(9/370)
قولك: مررت برجل حسن الوجه، وكثير المال، وطيّب العيش.
ويروى: «أجبّ الظّهر» على أنه في موضع خفض، ورفع الظهر به، كأنه قال: أجبّ ظهره، فأهل الكوفة يجعلون الألف واللام عقيب الإضافة، وأهل البصرة يضمرون ما يعلّق الذكر بالأوّل، وتقديره عندهم: أجبّ الظهر منه. انتهى.
وتقدّمت ترجمة النابغة الذبياني في الشاهد الرابع بعد المائة (1).
* * * وأنشد بعده، وهو الشاهد السابع والخمسون بعد السبعمائة، وهو من شواهد س (2): (الطويل)
757 - ولله عينا حبتر أيّما فتى
على أنّه قد يستفاد من الاستفهام معنى التعجّب كما هنا، فإنّ فيه معنى التعجّب من الفتوّة كما تقول: أي رجل زيد؟ وقد تضمّنت «أيّ» معنى المدح والتعجب الذي تضمّنته نعم وحبّذا.
و «أيّ»: إذا أضيفت إلى مشتقّ من صفة يمكن المدح بها كانت للمدح بالوصف الذي اشتقّ منه الاسم الذي أضيفت إليه. فإذا قلت: مررت بفارس، أيّ فارس، فقد أثنيت عليه بالفروسيّة خاصّة (3).
وإن أضيفت إلى غير مشتقّ فهي للثناء عليه بكلّ صفة يمكن أن يثنى عليه بها (4)،
__________
(1) الخزانة الجزء الثاني ص 118.
(2) البيت للراعي النميري في ديوانه ص 3وتذكرة النحاة ص 617والحماسة برواية الجواليقي ص 482 والدرر 1/ 307وشرح أبيات سيبويه 1/ 442وشرح الحماسة للأعلم 2/ 1022وشرح الحماسة للتبريزي 4/ 36والكامل في اللغة 2/ 333والكتاب 2/ 180ولسان العرب (ثوب، حبتر، أيا) والمقاصد النحوية 3/ 423. وهو بلا نسبة في شرح الأشموني 1/ 78، 2/ 318وشرح ابن عقيل ص 391.
(3) في طبعة بولاق: = الخاصة =.
(4) في طبعة بولاق: = يثنى عليها =.(9/371)
فإذا قلت: مررت برجل، أيّ رجل، فقد أثنيت عليه ثناء عامّا في كلّ ما يمدح به الرّجل.
قال سيبويه: وسألته يعني الخليل عن قوله:
فأومأت إيماء خفيّا لحبتر ... ولله عينا حبتر أيّما فتى
فقال: أيّما تكون صفة للنكرة، وحالا للمعرفة، وتكون استفهاما مبنيّا عليها، ومبنيّة على غيرها، ولا تكون لتبيين العدد، ولا في الاستثناء نحو قولك: أتوني إلّا زيدا.
ألا ترى أنك لا تقول له: عشرون أيّما رجل ولا أتوني إلّا أيّما رجل. والنصب في مثله رجلا كالنّصب في عشرين رجلا. فأيّما لا تكون في الاستثناء، ولا يختصّ بها نوع من الأنواع، ولا يفسّر بها عدد. وأيّما فتى استفهام.
ألا ترى أنّك تقول: سبحان الله من هو وما هو؟ فهذا استفهام فيه معنى التعجّب. ولو كان خبرا لم يجز ذلك، لأنه لا يجوز في الخبر أن تقول: من هو، وتسكت. انتهى.
قال النحاس: قد فسّر الخليل أيّما بقوله تكون صفة للنكرة، كقولك: مررت برجل أيّما رجل، وحالا للمعرفة، أي: إن شئت، رويت:
* فلله عينا حبتر أيّما فتى *
بالنصب، أي: كاملا (1)، ومبنيّا عليها، كقولك: أيّما رجل، ومبنيّة على غيرها، نحو: زيد أيّما رجل، ولا تكون لتبيين العدد، ولا في الاستثناء، لأنّها لم تقو في الصفات. على أنّ الأخفش قد أجاز ذلك. انتهى.
وقال الأعلم: رفع «أيّما» بالابتداء والخبر محذوف، والتقدير: أيّ فتى هو، وما زائدة مؤكّدة. وفي أيّ معنى المدح والتعجّب. وصف أنّه أمر ابن أخت له يقال له: حبتر، بنحر ناقة من أصحابه، لأنه كان في غير محلّه، ليخلفها عليه إذا لحق بأهله. وأومأ إليه بذلك حتّى لا يشعر به أحد، ففهم عنه وعرف إشارته لذكائه، وحدّة بصره. والإيماء: الإشارة بعين أو يد. انتهى.
__________
(1) أراد فتى كاملا.(9/372)
وروى المبرد في «الكامل» (1) الرفع والنصب في أيّما فتى في البيت، قال عند الكلام على قول ليلى الأخيليّة: (الطويل)
نظرت وركن من بوانة دوننا ... وأركان حسمى أيّ نظرة ناظر
قولها: «أيّ نظرة ناظر» يصلح فيه الرفع والنصب على قوله: نظرت أيّ نظرة، وأيّة نظرة، وأيّتما نظرة وأيّما نظرة، كما تقول: مررت برجل أيّما رجل.
وتأويله: برجل كامل. فأيّما في موضع: كامل.
وتقول: مررت بزيد أيّما رجل على الحال. ومن قال أيّ نظرة هي (2) فعلى القطع والابتداء، والمخرج مخرج استفهام، وتقديره أيّ نظرة [هي]؟ كما تقول:
سبحان الله أيّ رجل زيد.
وهذا البيت ينشد على وجهين:
فأومأت إيماء خفيّا لحبتر ... ولله عينا حبتر أيّما فتى
و «أيّما» إن شئت على ما فسّرنا. انتهى كلامه.
وقد أنشده ابن مالك في باب الموصول من «شرح التسهيل» بنصب أيّما على أنّه حال من حبتر.
وأنكره أبو حيان في «شرحه»، وقال: أصحابنا أنشدوه بالرفع على أنّه مبتدأ، أو خبر مبتدأ، وقدّروه: أيّ فتى. ولم يذكر أصحابنا كون أيّ تقع حالا، وإنّما ذكروا لها خمسة أقسام: موصولة، وشرطيّة، واستفهامية، وصفة لنكرة، ومنادى.
هذا كلامه على ما ذكره العيني، وما نقلناه من كلام الأئمة يردّ عليه.
وقول المرادي في «شرحه» تبعا لأوّل كلام أبي حيّان: أنشده المصنف بنصب أيّ على الحال، وأنشده غيره بالرفع، يردّه رواية المبرّد وغيره.
ولا أكاد أقضي العجب من قول العيني: الاستشهاد فيه أنّ أيّا فيه صفة، وقد علم
__________
(1) الكامل في اللغة 2/ 333.
(2) في الكامل في اللغة: = أي نظرة ناظر =.(9/373)
أنّه صفة لمعرفة وحال من نكرة (1)، ولا يضاف إلّا إلى نكرة. انتهى.
وهذا من نمط اختراع الخراع (2) الذي صنعه الصفدي (3) وقصد به التحميض.
والبيت من قصيدة للراعي النميري، وأورد منها أبو تمام في «الحماسة» (4) ثلاثة عشر بيتا، وكان نزل بالرّاعي رجل من بني كلاب في ركب معه ليلا في سنة مجدبة، وقد عزبت عن الراعي إبله، فأشار إلى حبتر بخفية، فنحر لهم ناقة وأحلّهم، وصبّحت الراعي إبله فأعطى ربّ الناقة ناقة مثلها، وزاده ناقة ثنيّة، فقال هذه القصيدة في هذه القضيّة.
وهجاه بعضهم في نحر ناقة ضيفه بأبيات، وأجاب عنها الراعي بقصيدة، والجميع مذكور في باب الهجاء من الحماسة.
قال الطّبرسي في «شرح الحماسة»: حبتر بفتح الحاء المهملة وسكون الموحدة وفتح المثناة من فوق هو ابن أخي الراعي، ومعناه في اللغة القصير من الناس، وإنّما رسم له عرقبتها في السّرّ بعد أن اختارها، مخافة أن يمتنع صاحبها بما همّ به فيها.
وقوله: «ولله عينا حبتر»، اعتراض. وإذا عظّموا الشيء نسبوا ملكه إلى الله تعالى.
وأيّما فتى ينشد بالرفع والنصب، فالرفع على تقدير أيّما فتى هو، والنصب على الحال. انتهى.
وترجمة الراعي تقدّمت في الشاهد الثالث والثمانين بعد المائة (5).
* * * __________
(1) في طبعة بولاق والنسخة الشنقيطية: عن نكرة =. ولقد أثبتنا رواية المقاصد النحوية.
(2) كذا في طبعة بولاق والنسخة الشنقيطية.
(3) في النسخة الشنقيطية: = الصغدي = بالغين المعجمة، وهو تصحيف صوابه من طبعة بولاق.
(4) هي في الحماسة باب الهجاء برواية الجواليقي ص 483481وشرح الحماسة للأعلم 2/ 1021 1023وشرح الحماسة للتبريزي 4/ 3735.
(5) الخزانة الجزء الثالث ص 142.(9/374)
وأنشد بعده، وهو الشاهد الثامن والخمسون بعد السبعمائة (1): (البسيط)
758 - وقد وجدت مكان القول ذا سعة
فإن وجدت لسانا قائلا فقل
لما ذكره من معنى أحسن، أي: صفه بالحسن، كيف شئت. فإنّ فيه منه كلّ ما يمكن أن يكون في شخص، كالبيت فإنّ معناه وجدت مكانا للقول بكثرة ما فيه من المناقب، فإن كان لك لسان قائل فقل ما شئت، أي: فلست تحتاج في شيء غائب إلى مدحه.
والبيت من قصيدة للمتنبّي مدح بها سيف الدولة.
وقبله (2):
والمدح لابن أبي الهيجاء تنجده ... بالجاهليّة عين العيّ والخطل
«تنجده» تعينه. و «الخطل»: اضطراب القول. وهذا تعريض بأبي العباس النّامي (3)، فإنّه مدح سيف الدولة بقصيدة ذكر فيها آباءه الذين كانوا في الجاهلية.
يقول: إذا مدحته وأعنته بذكر آبائه الجاهليّين كان ذلك عين العيّ، ثم وضّح (4) هذا المعنى وتمّمه بقوله (5):
__________
(1) البيت لأبي الطيب المتنبي في ديوانه وضع البرقوقي 3/ 205.
(2) البيت في ديوان المتنبي 3/ 205.
وأبو الهيجاء: كنية والد سيف الدولة. والعيّ: العجز عن الكلام.
وفي حاشية ديوانه: = قال الواحدي: هذا تعريض بأبي العباس النامي الشاعر، فإنه مدح سيف الدولة بقصيدة ذكر فيها آباءه الذين كانوا في الجاهلية. يقول: إن مدحته بذكر آبائه الجاهليين كان ذلك عين العي، ثم أكد هذا المعنى وتممه في الأبيات التالية =.
(3) أبو العباس أحمد بن محمد الدارمي المصّيصي المعروف بالنامي الشاعر المشهور كان من الشعراء المقلين، ومن فحولة شعراء عصره، وخواص مدّاح سيف الدولة بن حمدان، وكان عنده تلو أبي الطيب المتنبي في المنزلة والرتبة، كان فاضلا أديبا بارعا عارفا باللغة والأدب وله مع المتنبي وقائع ومعارضات في الأناشيد. وفيات الأعيان 1/ 127125.
(4) كلمة: = وضح = ساقطة من النسخة الشنقيطية. وكتب الشنقيطي في هامش نسخته بدلا منها كلمة: = أكد = مع وضع علامة إلحاق عليها.
(5) ديوان المتنبي 3/ 205.(9/375)
ليت المدائح تستوفي مناقبه ... فما كليب وأهل الأعصر الأول
أي: ليت ما مدح به من الشعر استوفى ذكر مناقبه، ومتى يتفرّغ الشعر لذكر كليب، وأهل الدّهور السابقة (1).
خذ ما تراه ودع شيئا سمعت به ... في طلعة الشّمس ما يغنيك عن زحل (2)
يقول: امدحه بما تشاهده، واترك ما سمعت، فإنّ الشمس تغنيك عن زحل.
وجعله كالشمس وآباءه كزحل.
والمعنى: فيما (3) قرب منك عوض عمّا بعد عنك، لا سيّما إذا كان القريب أفضل من البعيد.
وقد وجدت مكان القول ذا سعة ... البيت
وترجمة المتنبي تقدّمت في الشاهد الحادي والأربعين بعد المائة (4). وهذا البيت إنّما أورده لتنظير معنى بمعنى.
* * * __________
(1) في حاشية ديوانه 3/ 205: = قوله: فما كليب: أدخل ما على من يعقل، لأنه أراد السؤال عن صفته مع الاحتقار لشأنه. وكليب: هو كليب بن ربيعة رئيس بني تغلب في الجاهلية =. وفي كليب المثل العربي القديم:
= أغر من كليب =.
(2) ديوان المتنبي 3/ 205.
(3) في طبعة بولاق والنسخة الشنقيطية: = فما =. وهو تصحيف ولقد أثبتنا رواية شرح ديوانه.
(4) الخزانة الجزء الثاني ص 306وما بعدها.
في النسخة الشنقيطية: = الواحد والأربعين بعد المائة =.(9/376)
أفعال المدح والذم
أنشد فيه، وهو الشاهد التاسع والخمسون بعد السبعمائة (1): (الرمل)
759 - نعم السّاعون في الأمر المبر
على أنّ طرفة استعمل «نعم» على الأصل، بفتح النون وكسر العين.
قال ابن جني في «المحتسب» عند قراءة يحيى بن وثّاب (2): «{فَنِعْمَ عُقْبَى الدََّارِ}»: أصل قولنا: نعم الرجل زيد: «نعم» كعلم. وكلّ ما كان على فعل وثانيه حرف حلقي، فلهم فيه أربع لغات، وذلك نحو: فخذ ونغر (3) بفتح الأول وكسر الثاني على الأصل.
وإن شئت أسكنت الثاني، وأقررت الأوّل على فتحه. وإن شئت أسكنت ونقلت الكسرة إلى الأوّل. وإن شئت أتبعت الكسر الكسر. وكذلك الفعل، نحو:
ضحك، وإن شئت ضحك، وإن شئت ضحك، وإن شئت ضحك.
فعلى هذا القول نعم الرجل، وإن شئت نعم، وإن شئت نعم، وإن شئت نعم.
فعليه جاء: «فنعم عقبى الدار»، وأنشدنا أبو عليّ لطرفة (4):
__________
(1) البيت لطرفة بن العبد في ديوانه ص 58مع اختلاف كبير في الرواية والإنصاف 1/ 122والدرر 5/ 196ولسان العرب (نعم) والمحتسب 1/ 342، 357وهمع الهوامع 2/ 84. وهو بلا نسبة في الخصائص 2/ 228والمقتضب 2/ 140.
وروايته في ديوانه:
خالتي والنّفس قدما إنّهم ... نعم السّاعون في القوم الشّطر
(2) سورة الرعد: 13/ 24.
(3) في طبعة بولاق والنسخة الشنقيطية: = ومعز =. وهو تصحيف.
ففي المحتسب: = نحو فخذ ومحك ونغر =. والنغر: الغضبان، وهو من نغرت القدر تنغر، إذا غلت.
(4) البيتان في ديوان طرفة بن العبد 54، 56بخلاف في الرواية.(9/377)
ففداء لبني قيس على ... ما أصاب النّاس من سرّ وضر
ما أقلّت قدمي إنّهم ... نعم السّاعون في الأمر المبر
وروينا عن قطرب: نعيم الرجل زيد، بإشباع كسرة العين وإنشاء ياء بعدها، المطافيل والمساجيد (1). ولا بدّ من أن يكون الأمر على ما ذكرنا لأنّه ليس في أمثلة الأفعال «فعيل» البتّة. انتهى.
وقد بسط القول على «نعم» و «بئس» ابن الأنباري في «مسائل الخلاف»، وابن الشجري في «المجلس الستين من أماليه»، وقيّد قراءة يحيى بن وثّاب بفتح الفاء وسكون العين.
وقوله: «ففداء لبني قيس» إلخ، قال شرّاح أبيات المفصل وغيره: أي:
أنا فداء لهذه القبيلة. والسّرّ والضّرّ بضمهما: السّرّاء والضّرّاء. و «ما»: دواميّة.
و «الإقلال»: الرّفع. و «قدمي»: فاعل أقلّت.
وروي: «قدماي» بالتثنية. وعليهما فمفعول أقلّت محذوف، التقدير: أقلّتني.
و «إنّهم» تعليل لقوله ففداء.
وروي أيضا:
* ما أقلّت قدم ناعلها *
والناعل: لابس النعل، أي: ساتر القدم بالنّعل.
وروي أيضا:
* ثمّ نادوا أنّهم في قومهم *
أي قالوا: هؤلاء القوم هم الذين قال الناس في حقّهم: نعم الساعون هم في الأمر المبرّ. فالمخصوص بالمدح محذوف. والمبرّ: اسم فاعل من أبرّ فلان على أصحابه، أي: غلبهم. أي: هم نعم السّاعون في الأمر الغالب الذي عجز الناس عن دفعه.
__________
(1) في طبعة بولاق والنسخة الشنقيطية: = والمساعيد =. وهو تصحيف صوابه من المحتسب.(9/378)
هذا ما قالوا، والمرويّ في ديوان طرفة في عدّة نسخ البيت الأوّل كما رواه ابن جنّي.
والبيت الثاني كذا (1):
خالتي والنّفس قدما إنّهم ... نعم السّاعون في القوم الشّطر
قال شارح ديوانه الأعلم الشنتمري:
يقول: نفسي فداء لبني قيس على ما أصاب الناس من أمر يسرّهم، أو يضرّهم.
و «السّرّ والضّرّ»: السّرّاء والضّرّاء.
وقوله: «في القوم الشّطر» يعني البعداء من الناس الغرباء. وواحد الشّطر شطير. وأصل الشّطير: الناحية (2). وكلّ من بعد عن أهله فقد أخذ في ناحية من الأرض. يقول: سعيهم في الغرباء أحسن سعي. انتهى.
وفهم من كلامه أنّ قوله: «خالتي» مبتدأ، و «النفس» معطوف عليه.
وقوله: «فداء» خبر لهما مقدّم. لكن ينظر: ما وجه ذكر الخالة هاهنا (3)؟
و «قدما» بالكسر: ظرف متعلّق بنعم، ولا يمنع منه ذكر إنّ المكسورة، لأنه ظرف اغتفر فيه التقديم.
وقيس: أبو قبيلة الشاعر، وإنما جعل نفسه فداء لبنيه لأنهم يتبادرون في إغاثة الملهوف.
وهذا نسب طرفة الشاعر: طرفة بن العبد بن سفيان بن سعد بن مالك بن ضبيعة ابن قيس بن ثعلبة بن عكابة بن صعب بن عليّ بن بكر بن وائل.
والبيتان من قصيدة طويلة لطرفة تقدّم بعض أبيات منها في باب اسم الفاعل في
__________
(1) ديوان طرفة ص 58.
(2) كذا في طبعة بولاق والنسخة الشنقيطية. وفي اللسان (شطر): = ونية شطور، أي: بعيدة. ومنزل شطير وبلد شطير وحيّ شطير: بعيد، والجمع شطر =.
وفي حاشية طبعة هارون 9/ 378ذكر قولا عجيبا، فقال: = والمعروف في المعاجم هو الشطر، بالفتح للناحية، وأما الشطير، فهو الغريب =. فلعله سهى، والله أعلم.
(3) في حاشية طبعة هارون 9/ 378: = أقول: أنزل الخالة منزل الأم لأمر ما. وهم مما يفدون بآبائهم وأمهاتهم =.(9/379)
الشاهد السابع بعد الستمائة (1). وهذه أبيات قبل البيت الشاهد:
نحن في المشتاة ندعو الجفلى ... لا ترى الآدب فينا ينتقر (2)
حين قال النّاس في مجلسهم ... أقتار ذاك أم ريح قطر (3)
بجفان تعتري نادينا ... من سديف حين هاج الصّنّبر (4)
كالجوابي لا تني مترعة ... لقرى الأضياف أو للمحتضر
ولقد تعلم بكر أنّنا ... آفة الجزر مساميح يسر
ولقد تعلم بكر أنّنا ... فاضلو الرّأي وفي الرّوع وقر
يكشفون الضّرّ عن ذي ضرّهم ... ويبرّون على الآبي المبر (5)
فضل أحلامهم عن جارهم ... رحب الأذرع بالخير أمر
ذلق في غارة مسفوحة ... ولدى البأس حماة ما نفر (6)
نمسك الخيل على مكروهها ... حين لا يمسكها إلّا الصّبر
حين نادى الحيّ لمّا فزّعوا ... ودعا الدّاعي وقد لجّ الذّعر
أيّها الفتيان في مجلسنا ... جرّدوا منها ورادا وشقر (7)
__________
(1) في طبعة بولاق: = الشاهد السادس بعد الستمائة =. وفي حاشية طبعة بولاق: = بهامش الأصل السادس صوابه السابع اه =. وانظر في ذلك الخزانة الجزء الثامن ص 190وما بعدها.
(2) في طبعة بولاق: = لا نرى الآداب =. وهو تصحيف صوابه من ديوانه والنسخة الشنقيطية.
والبيت لطرفة بن العبد في ديوانه ص 55وأدب الكاتب ص 163وإصلاح المنطق ص 381وأساس البلاغة (شتو) ولسان العرب (أدب، نقر، جفل) والمراثي ص 153ونوادر أبي زيد ص 84. وهو بلا نسبة في جمهرة اللغة ص 795والمنصف 3/ 110.
(3) البيت لطرفة بن العبد في ديوانه ص 56وتاج العروس (قتر) وتهذيب اللغة 9/ 51ولسان العرب (قتر) ومجمل اللغة 4/ 174ومقاييس اللغة 5/ 55، 106.
(4) البيت لطرفة بن العبد في ديوانه ص 56وتاج العروس (صنبر) وتهذيب اللغة 12/ 271ولسان العرب (صنبر).
(5) البيت لطرفة بن العبد في ديوانه ص 56ولسان العرب (برر).
(6) البيت لطرفة بن العبد في ديوانه ص 57ولسان العرب (رطل).
(7) البيت لطرفة بن العبد في ديوانه ص 57والخصائص 2/ 335وشرح شواهد الإيضاح ص 581وشرح المفصل 5/ 60والمحتسب 1/ 162. وهو بلا نسبة في لسان العرب (غلف).(9/380)
ثم وصف الخيل بأبيات تسعة، وقال:
ففداء لبني قيس على ... ما أصاب النّاس من سرّ وضر
خالتي والنّفس قدما إنّهم ... نعم السّاعون في القوم الشّطر
قوله: «نحن في المشتاة» إلخ، قال شارحه الأعلم الشنتمريّ: يريد زمن الشتاء والبرد، وذلك أشدّ الزمان.
و «الجفلى»: أن يعمّ بدعوته إلى الطعام، ولا يخصّ واحدا دون آخر.
و «الآدب»: الذي يدعو إلى المأدبة، وهي كلّ طعام يدعى إليه.
و «الانتقار»: أن يدعو النّقرى، وهو أن يخصّهم ولا يعمّهم. يقول: لا يخصّ الأغنياء، ومن يطمعون في مكافاته، ولكنّهم يعمّون، طلبا للحمد ولاكتساب المجد.
وقوله: «حين قال الناس» إلخ، «القتار» بالضم: رائحة اللحم إذا شوي.
و «القطر»، بضمتين: العود الذي يتبخّر به. يقول: نحن نطعم في شدّة الزمان إذا كان ريح القتار عند القوم بمنزلة رائحة العود، لما فيه (1) من الجهد والحاجة إلى الطعام.
وقوله: «بجفان تعتري» إلخ، أي: ندعوهم إلى الجفان. ومعنى تعتري:
تلمّ به وتأتيه.
و «النادي»: مجلس القوم ومتحدّثهم. و «السّديف»: قطع السنام. والصّنّبر أشدّ ما يكون من البرد.
قال ابن جني في «الخصائص» الصّنّبر بنون مشددة وباء ساكنة. وكان حقّه إذا نقلت الحركة أن تكون الباء مضمومة، لأنّ الراء مرفوعة، ولكنّه قدّر الإضافة إلى الفعل، يعني المصدر، كأنه قال: حين هيج الصّنّبر. يعني: أنّه نقل الكسرة في الوقف إلى الباء الساكنة وسكنت الراء (2).
__________
(1) أي وقت الشتاء وشدة الزمان.
(2) الخصائص 1/ 281بتصرف من البغدادي في النقل.(9/381)
قال الدماميني في «الحاشية الهندية» بعد أن نقل الكلام: وهذا من الغرائب فإنّ الصّنّبر لا شكّ في كونه فاعلا بهاج، لكنّه أعربه بالكسرة نظرا إلى أنّ الفعل في معنى المصدر المضاف إلى هذا الفاعل، ثم نقل الكسرة. وقد نظمته لغزا فقلت:
(الطويل)
أيا علماء الهند إنّي سائل ... فمنّوا بتحقيق به يظهر السّرّ
أرى فاعلا بالفعل أعرب لفظه ... بجرّ ولا حرف يكون به الجرّ
وليس بمحكيّ ولا بمجاور ... لذي الخفض والإنسان للبحث يضطرّ
فهل من جواب منكم أستفيده ... فمن بحركم ما زال يستخرج الدّرّ
وقد استشهد الجوهري ببيت طرفة على أنّ الصنّبر بكسر الباء: شدّة البرد، فجعل الكسرة أصليّة، وجوّز أن تكون الباء ساكنة في الأصل، ولكن حرّكت بالكسر للضرورة. وعلى هذا لا يلغز. انتهى كلامه.
قال الشّمنّي: وقد سبق الدّمامينيّ إلى اللغز في ذلك بأبي سعيد فرج، المعروف بابن لبّ النحوي الأندلسي في «منظومته النّونية، في الألغاز النحوية»، فقال:
ما فاعل بالفعل لكن جرّه ... مع السّكون فيه ثابتان
وفي شرحها: يعني الصّنبر من قول طرفة. اه.
وقوله: «كالجوابي لاتني» إلخ، «الجوابي»: جمع جابية، وهو الحوض العظيم يجبى فيه الماء، أي: يجمع. شبّه الجفان بها في سعتها وعظمها.
و «المترعة»: المملوءة.
قوله: «لاتني» أي: لا تفتر ولا تزال. و «القرى»: القيام بالضّيف.
و «المحتضر»: النّازل على الماء، اسم فاعل من احتضر. والمحاضر: المياه، واحدها محضر كجعفر.
يقول: لا تزال جفاننا مترعة لمن جاءنا ضيفا، أو لمن كان حاضرا معنا نازلا على مائنا.
وقوله: «ولقد تعلم بكر» إلخ، «الجزر»: جمع جزور. و «المساميح»:
الأسخياء.(9/382)
و «اليسر»: الداخلون في اليسر. يريد: تفضل آراؤنا وسياستنا رأي غيرنا، ولا نخفّ عند الرّوع بل نثبت ونتوقّر.
وقوله: «ويبرّون»، أي: يغلبون ويظهرون. «على الآبي»، أي: الممتنع.
أي: نحن نغلب الآبي الغالب.
وقوله: «فضل أحلامهم»، يقول: إن جهل جارهم حلموا عنه حلما فاضلا، ولم يكافئوه على جهله.
وقوله: «رحب الأذرع»، أي: واسعو الصدر (1) بالمعروف. و «أمر»:
جمع أمور، وهو الكثير الأمر.
وقوله: «ذلق في غارة»، أي: مسرعون إلى الغارة متقدّمون فيها. وأصله من ذلق السيف، إذا كان يخرج من غمده.
و «المسفوحة»: المصبوبة، ويقال: هي الكثيرة. و «الحماة»: جمع حام، وهو الذي يحمي حريمه وعشيرته.
وقوله: «نمسك الخيل»، يقول: نصبر على ارتباط الخيل والقيام عليها.
وقوله: «على مكروهها»، أي: نمسكها على شدّة الزمان، وجوع الناس، ونؤثرها على أنفسنا. ويحتمل أن يريد نمسك الخيل على ما نلقاه من شدّة الحرب وجهدها، ولا ننهزم.
وإنما ذكر مكروه الخيل، لأنّها إذا أصابها مكروه في الحرب فهم أجدر أن يصيبهم. والبيت الذي بعده يدلّ على هذا التفسير الثاني.
وقوله: «وقد لجّ الذّعر»، أي: دام الذّعر في القلب واشتدّ. و «الذّعر»:
الفزع، وحرّك العين إتباعا لحركة الذال.
وقوله: «أيّها الفتيان» إلخ، جرّدوا منها ورادا، أي: ألقوا عنها جلالها وأسرجوها للّقاء. وقيل (2): الجريدة من الخيل، وهي التي تختار فتجرّد، أي:
تكمش في مهمّ الأمور.
__________
(1) في النسخة الشنقيطية: = الصدور =.
(2) في النسخة الشنقيطية: = وهي =.(9/383)
و «الوراد»: جمع ورد. و «شقر»: جمع أشقر، وحرّك الثاني إتباعا للأوّل.
وتقدّمت ترجمة طرفة بن العبد في الشاهد الثاني والخمسين بعد المائة (1).
* * * وأنشد بعده (2): (الكامل)
* العاطفون تحين ما من عاطف *
تقدّم شرحه مستوفى عليه الكلام، في الشاهد الحادي والثمانين بعد المائتين (3).
* * * وأنشد بعده (4): (الكامل)
__________
(1) الخزانة الجزء الثاني ص 370.
(2) صدر بيت لأبي وجزة السعدي وعجزه:
* والمطعمون زمان أين المطعم *
والبيت لأبي وجزة السعدي في الأزهية ص 264والإنصاف 1/ 108والدرر 2/ 115، 116ولسان العرب (ليت، عطف، أين، حين، ما). وهو بلا نسبة في الجنى الداني ص 487والدرر 2/ 122ورصف المباني ص 163، 173وسر صناعة الإعراب 1/ 163وشرح الأشموني 3/ 882ومجالس ثعلب 1/ 270والممتع في التصريف 1/ 273وهمع الهوامع 1/ 126.
(3) الخزانة الجزء الرابع ص 164.
(4) هو الإنشاد الأربعون بعد المائة في شرح أبيات المغني للبغدادي.
والبيت لرجل من سلول في الدرر 1/ 78وشرح أبيات المغني 2/ 287وشرح التصريح 2/ 11وشرح شواهد المغني 1/ 310والكتاب 3/ 24والمقاصد النحوية 4/ 58ولشمر بن عمرو الحنفي في الأصمعيات ص 126 ولعميرة بن جابر الحنفي في حماسة البحتري ص 171. وهو بلا نسبة في الأزهية ص 263والأشباه والنظائر 3/ 90والأضداد ص 132وأمالي ابن الحاجب ص 631وأوضح المسالك 3/ 206وجواهر الأدب ص 307والخصائص 2/ 338، 3/ 330والدرر 6/ 154وشرح شواهد الإيضاح ص 221وشرح شواهد المغني 2/ 841وشرح ابن عقيل ص 475والصاحبي في فقه اللغة ص 219ولسان العرب (ثمم، في) ومغني اللبيب 1/ 102، 2/ 429، 645وهمع الهوامع 1/ 9، 2/ 140.(9/384)
* فمضيت ثمّت قلت لا يعنيني *
على أنّ «ثمّ» إذا لحقتها التاء اختصّت بعطف قصّة على قصّة.
تقدّم هذا من الشارح المحقق في باب المذكر والمؤنث أيضا، وهو المشهور. وقد وقع في شعر رؤبة عطف المفرد بها، قال: (الرجز)
فإن تكن سوائق الحمام (1) ... ساقتهم للبلد الشّآم
فبالسّلام ثمّت السّلام
وقول الشارح المحقق: وقد جوّزه ابن الأنباري، ولا أدري ما صحته، أقول:
تجويزه مأخوذ من شعر رؤبة. وحينئذ صحّته واضحة.
والمذكور عجز، وصدره:
* ولقد أمرّ على اللّئيم يسبّني *
وتقدّم الكلام عليه مرارا، وأوّل ما ذكر في الشاهد الخامس والخمسين (2).
* * * وأنشد بعده، وهو الشاهد الستّون بعد السبعمائة (3): (السريع)
760 - ماويّ يا ربّتما غارة
شعواء كاللّذعة بالميسم
على أنّ التاء لحقت «ربّ» للإيذان بأنّ مجرورها مؤنّث، وما زائدة بين «ربّ» ومجرورها، كما قاله الشارح المحقق في «ربّ» من حروف الجر.
__________
(1) في طبعة بولاق: = فإن يكن =. وهو تصحيف صوابه من ديوانه.
(2) الخزانة الجزء الأول ص 347.
(3) البيت لضمرة بن ضمرة في الأزهية ص 262والدرر 4/ 208والمقاصد النحوية 3/ 330ونوادر أبي زيد ص 55. وهو بلا نسبة في الأشباه والنظائر 3/ 186والإنصاف 1/ 105وشرح ابن عقيل ص 371وشرح المفصل 8/ 31ولسان العرب (ربب، هيه، شعا، موا، ما) وهمع الهوامع 2/ 38.(9/385)
والبيت أوّل أبيات أربعة لضمرة بن ضمرة النّهشليّ، أوردها أبو زيد في «نوادره».
وبعده:
ناهبتها الغنم على طيّع ... أجرد كالقدح من السّاسم (1)
ماويّ بل لست برعديدة ... أبلخ وجّاد على المعدم
لا وألت نفسك خلّيتها ... للعامريّين ولم تكلم (2)
و «ماويّ»: منادى مرخّم ماوية، اسم امرأة. و «يا» في قوله: «يا ربّتما» للتنبيه لا للنداء.
وفي رواية أبي زيد: «ماويّ بل ربّتما»، قال أبو زيد (3): الشّعواء: الغارة المنتشرة، وهي بالعين المهملة. واللّذعة، بالذال المعجمة والعين المهملة، من لذعته النار، إذا أحرقته.
هذا ما رواه أبو زيد، قال العيني: وإنما اللّدغة بالدال المهملة والغين المعجمة:
المكوى. اه.
وهذا معارضة النقل بالرأي. قال أبو زيد (4): و «الميسم»: ما يوسم به البعير بالنّار.
وقوله: «ناهبتها» جواب ربّ، أي: نهبت بالغارة الغنم بالضم، وهي الغنيمة. و «الغارة»: اسم من أغار القوم إغارة، أي: أسرعوا في السّير.
وقوله: «على طيّع»، أي: فرس طيّع، وهو فيعل من الطّوع، وهو الانقياد.
__________
(1) البيت لضمرة بن ضمرة في تهذيب اللغة 12/ 325ونوادر أبي زيد ص 55ولأبي موسى الحامض في تاج العروس (صنتع). وهو بلا نسبة في لسان العرب (صنتع).
(2) البيت لضمرة بن ضمرة في نوادر أبي زيد ص 55. وهو بلا نسبة في تاج العروس (وأل) وتهذيب اللغة 15/ 442ولسان العرب (وأل). وفي النوادر ضبط أبو زيد كاف: = نفسك = بالكسر، وكأن خطاب ضمرة إلى ماوية المتقدمة الذكر. لكن البغدادي ضبطها في شرحه بالفتح.
(3) نوادر أبي زيد ص 55.
(4) نوادر أبي زيد ص 56.(9/386)
قال أبو زيد (1): طيّع: فرس ليّن العنان طوع. و «أجرد»، بالجيم والراء، قال أبو زيد: هو قصير الشّعر (2). وهو صلب كأنّه قدح من خشب السّاسم الآبنوس (3)، وهو السّاسم.
و «القدح»، بكسر القاف: السّهم قبل أن يراش وينصل. والسّاسم، بسينين مهملتين مفتوحتين، قال أبو الحسن الأخفش «فيما كتبه هنا»: وأنشدت عن ابن الأعرابيّ: «ناهبتها الغنم على صنتع»، وزعم أنه الصّلب الشديد، وهو بضم الصاد المهملة وسكون النون، وضم المثناة من فوق، بعدها عين مهملة.
قال أبو زيد: رجل رعديد ورعديدة، إذا كان يرعد [عند (4)] القتال.
و «الأبلخ»، بالموحدة والخاء المعجمة، صفة رعديدة، قال أبو زيد: المتكبّر الفخور.
ووجّاد بتشديد الجيم، صفة ثانية لرعديدة.
قال أبو زيد: وجّاد: كثير الغضب، وهو مبالغة فاعل من الوجد، وهو الغضب. ويقال: الموجدة أيضا. والمعدم: الفقير، وهو اسم فاعل من أعدم فلان، إذا افتقر.
وقوله: «لا وألت نفسك» إلخ، هذا دعاء على رجل استأسر لأعدائه دون أن يجرح. قال أبو زيد: وألت: نجت. والموئل: المنجى. وتكلم: تجرح، بالبناء للمفعول، من الكلم وهو الجرح.
وضمرة بن ضمرة شاعر جاهليّ، تقدّمت ترجمته في الشاهد الثامن والثمانين (5).
* * * __________
(1) نوادر أبي زيد ص 56.
(2) في النوادر: = قصير الشعرة =.
وفي اللسان (شعر): = الشّعر والشّعر مذكران: نبتة الجسم والشعرة الواحدة من الشعر، وقد يكنى بالشعرة عن الجمع، كما يكنى بالشّيبة عن الجنس =.
(3) الآبنوس بكسر الباء كما في تاج العروس. وفي نوادر أبي زيد بضم الباء وهي كلمة دخيلة.
(4) زيادة يقتضيها السياق من نوادر أبي زيد والنسخة الشنقيطية.
(5) الخزانة الجزء الثاني ص 35.(9/387)
وأنشد بعده (1): (الرجز)
يا صاحبا ربّت إنسان حسن ... يسأل عنك اليوم أو يسأل عن
على أنه جاء مجرور «ربّت» مذكّرا على خلاف القياس.
وقد تقدّم الكلام عليه، في باب المذكر والمؤنث، في الشاهد [الواحد و (2)] الخمسين بعد الخمسمائة.
* * * وأنشد بعده (3): (البسيط)
* والمؤمن العائذات الطّير *
على أنّ «العائذات» كان في الأصل صفة للطّير فقدّم عليه وصار الطّير بدلا من العائذات. والعائذات مفعول به للمؤمن، والمؤمن معطوف على مقسم به متقدّم.
وقد تقدّم الكلام عليه في الشاهد السابع والأربعين بعد الثلثمائة (4).
* * * وأنشد بعده، وهو الشاهد الحادي والستون بعد السبعمائة (5): (الطويل)
__________
(1) الرجز بلا نسبة في شرح المفصل 8/ 32ونوادر أبي زيد ص 103.
(2) الخزانة الجزء السابع ص 393.
(3) البيت للنابغة الذبياني في ديوانه رواية الأصمعي ص 25وديوانه صنعة ابن السكيت ص 20. وهو بلا نسبة في شرح المفصل 3/ 11.
(4) الخزانة الجزء الخامس ص 71.
(5) البيت لزهير بن أبي سلمى في ديوانه شرح الأعلم ص 15وديوانه شرح ثعلب ص 23والبيت له في الأشباه والنظائر 8/ 210وجمهرة اللغة ص 534والدرر 4/ 227وشرح عمدة الحافظ ص 792وشرح القصائد العشر للخطيب التبريزي ص 174وشرح المعلقات السبع للزوزني ص 140وهمع الهوامع 2/ 42.(9/388)
761 - لنعم السّيّدان وجدتما
هو قطعة من بيت، وهو:
يمينا لنعم السّيّدان وجدتما ... على كلّ حال من سحيل ومبرم
على أنه قد يدخل الفعل الناسخ على المخصوص بالمدح أو الذم، سواء تقدّم المخصوص كما في المثال، أو تأخّر كما في هذا البيت. وأصله لنعم السيدان أنتما، فدخل عليه الناسخ فصار وجدتما، فضمير التثنية نائب الفاعل لوجد، وهو المفعول الأوّل له.
وقوله: «لنعم السّيّدان» جواب القسم، والقسم وجوابه في موضع المفعول الثاني لوجد.
وكذا إعرابه على مقتضى مختار الشارح المحقق في جعل المخصوص مبتدأ وجملة المدح أو الذمّ خبره.
و «السّحيل» بالمهملتين: الخيط الذي لم يحكم فتله. و «المبرم»: الخيط الذي أحكم فتله. وأراد بالأوّل: الأمر السّهل، وبالثاني: الأمر الشديد.
والبيت من معلّقة زهير بن أبي سلمى، وقد شرحناه مع أبيات منها في الشاهد السادس والخمسين بعد المائة من باب الاشتغال (1).
وقوله: «فيدخله عوامل المبتدأ» يشمل باب كان، وظنّ، وإنّ وأخواتها.
والأوّلان جائزان، والثالث لا يجوز، فإنه لا يقال: نعم الرجل إنّ زيدا، فكان ينبغي أن يقول كما قال ابن مالك في «التسهيل (2)» في صورة تأخير المخصوص: «أو أوّل معمولي فعل ناسخ» ليحترز عن إنّ وأخواتها.
ومثال الأوّل قوله (3): (الطويل)
لعمري لئن أنزفتم أو صحوتم ... لبئس النّدامى كنتم آل أبجرا
__________
(1) الخزانة الجزء الثالث ص 213.
(2) التسهيل ص 127.
(3) البيت للأبيرد الرياحي في ديوانه ص 273والأغاني 13/ 133ولسان العرب (نزف). وهو بلا نسبة في جمهرة اللغة ص 821والدرر 5/ 215وشرح عمدة الحافظ ص 793والمحتسب 2/ 308.(9/389)
وتعميم النواسخ إنّما هو في صورة تقديم المخصوص، كقوله (1): (مجزوء الكامل)
إنّ ابن عبد الله نع ... م أخو النّدى وابن العشيره
وقول الآخر (2): (الطويل)
إذا أرسلوني عند تعذير حاجة ... أمارس فيها كنت نعم الممارس
ومثال ظنّ نحو: ظننت زيدا نعم الرّجل.
* * * وأنشد بعده، وهو الشاهد الثاني والستون بعد السبعمائة (3): (الرجز)
762 - والله ما ليلي بنام صاحبه
على أنّ حرف الجر داخل على محذوف، أي: بمقول فيه: «نام صاحبه»،
__________
(1) البيت لأبي دهبل الجمحي في ديوانه ص 96والدرر 5/ 217والمقاصد النحوية 4/ 35ونسب قريش ص 234. وهو بلا نسبة في الأشباه والنظائر 8/ 209وشرح الأشموني 2/ 379وشرح عمدة الحافظ ص 793وهمع الهوامع 2/ 87.
وابن عبد الله هو المغيرة بن عبد الله بن خالد. نسب قريش ص 234.
(2) البيت ليزيد بن الطثرية في ديوانه ص 84والحماسة برواية الجواليقي ص 568والدرر 5/ 218وشرح الحماسة للأعلم 2/ 950وشرح الحماسة للتبريزي 4/ 122وشرح الحماسة للمرزوقي ص 1725ومعجم الأدباء 20/ 49والمقاصد النحوية 4/ 34ووفيات الأعيان 5/ 413. وهو بلا نسبة في الأشباه والنظائر 8/ 209وشرح أبيات سيبويه 2/ 379وهمع الهوامع 2/ 87.
(3) الرجز للقناني في شرح أبيات سيبويه 2/ 416. وهو بلا نسبة في أسرار العربية ص 99، 100والإنصاف 1/ 112والخصائص 2/ 366والدرر 1/ 76، 6/ 24وشرح الأشموني 2/ 371وشرح عمدة الحافظ ص 549وشرح المفصل 3/ 62وشرح قطر الندى ص 29ولسان العرب (نوم) والمقاصد النحوية 4/ 3 وهمع الهوامع 1/ 6، 2/ 120.
وروايته في بعض هذه المصادر:
* تا لله ما زيد بنام صاحبه *(9/390)
فحذف القول وبقي المحكيّ به.
وذهب صاحب اللباب إلى أنّه من باب حذف الموصوف غير القول، قال:
تقديره: بليل نام صاحبه فيه، فالجرّ دخل في الحقيقة على الموصوف المقدّر لا على الصفة.
وأقول: لا فرق بينهما، فإنّ كلّا منهما ضرورة يختصّ بالشعر. إلّا أنّ ما ذهب إليه الشارح المحقق أقرب إلى القياس، وهو قول أبي علي في «التذكرة»، قال فيها:
ومن زعم أنّ نعم اسم لدخول حرف الجرّ عليه في قول حسّان (1): (الطويل)
ألست بنعم الجار يؤلف بيته ... أخا ثلّة أو معدم المال مصرما
فلا حجّة له فيه، لأنّه يقدّر فيه الحكاية، ويلزمه على هذا أن يكون نام اسما، كقوله (2):
والله ما زيد بنام صاحبه ... ولا مخالط اللّيان جانبه
اه.
وكذا قال ابن الأنباريّ وابن الشجري، إلّا أنّ روايتهما: «ما ليلي بنام صاحبه».
ونقل العينيّ عن ابن سيده في «المحكم» أنّ روايته كرواية أبي علي. وقال: إنّه قال: قيل إنّ نام صاحبه علم رجل. وإذا كان كذلك جرى مجرى شاب قرناها. ثم قال: فإن قلت: إنّ قوله ولا مخالط اللّيان جانبه ليس علما، وإنّما هو صفة، وهو معطوف على نام صاحبه، فيجب أن يكون قوله: «نام صاحبه» أيضا صفة. قيل:
قد يكون في الجمل إذا سمّي بها معاني الأفعال.
ألا ترى أنّ شاب قرناها اسم علم، وفيه مع ذلك معنى الذّمّ. وإذا كان كذلك جاز أن يكون قوله: «ولا مخالط اللّيان جانبه» معطوفا على ما في قوله نام صاحبه من معنى الفعل. هذا كلامه.
__________
(1) البيت لحسان بن ثابت في ديوانه ص 128والإنصاف 1/ 97وشرح المفصل 7/ 127. وهو بلا نسبة في أسرار العربية ص 97.
(2) تمّ تخريجه مع الشاهد.(9/391)
قال شارح اللباب: اللّيان بالكسر: الملاينة. وبالفتح: مصدر لان بمعنى اللّين.
يقال: هو في ليان من العيش، أي: في نعيم وخفض. اه.
وروى صدره:
* عمرك ما ليلي * إلخ
فيكون عمرك مبتدأ خبره محذوف، أي: قسمي. وجملة: «ما ليلي» إلخ، جواب القسم، وزيدت الباء في خبر ما.
والبيت مع كثرة دورانه في كتب النحو غير معلوم قائله. والله أعلم به.
* * * وأنشد بعده:
يمينا لنعم السّيّدان وجدتما ... على كلّ حال من سحيل ومبرم
تقدّم شرحه قريبا (1).
* * * وأنشد بعده، وهو الشاهد الثالث والستون بعد السبعمائة (2): (الوافر)
763 - أبو موسى فجدّك نعم جدّا
وشيخ الحيّ خالك نعم خالا
على أنه قد يكون فاعل «نعم» ضميرا مفسّرا بنكرة، مع تقدّم المخصوص بالمدح،
__________
(1) هو الشاهد / 761/ ورد في هذا الجزء.
(2) البيت لذي الرمة في ديوانه ص 443.
وروايته في الديوان:
أبو موسى فحسبك نعم جدّا ... وشيخ الرّكب خالك نعم خالا(9/392)
كما هنا. فإنّ «أبو موسى» هو المخصوص، وفاعل «نعم» ضمير فسّره بقوله:
جدّا. وكذا المصراع الثاني، فإنّ قوله: «شيخ الحيّ» هو المخصوص، و «خالك» بدل منه، وفاعل نعم ضمير مفسّر بقوله: خالا.
وأما قوله: «فجدّك»، تحريف (1) وقع في نسخ هذا الشرح، ولم يتنبّه له أحد، ولا فتّش ديوان قائله حتّى يؤخذ الماء من مجاريه.
وقد تمحّل لإعرابه المولى حسن الفناريّ في «حاشية المطوّل»، وهو معذور.
قال: قوله: فجدّك بدل من «أبو موسى»، والأقرب أنّ أبو موسى مبتدأ فجدّك خبره، والفاء زائدة في الخبر على ما جوّزه الأخفش. أمّا زيادتها في البدل فلم أظفر به، والمخصوص بالمدح محذوف على قياس، نعم العبد. وهذا أولى لشيوعه.
هذا غاية ما تكلّف به، وصوابه: «فحسبك»، كما هو مسطور في عدّة نسخ (2) ديوان ذي الرمّة.
والبيت من قصيدة طويلة عدّتها مائة بيت، مدح بها بلال بن أبي بردة بن أبي موسى الأشعريّ.
وليس البيت للأخطل كما زعم الشارح، فإنّ الأخطل هلك قبل ظهور بلال، فإنّ الأخطل كان من شعراء معاوية بن أبي سفيان، وبلال كان في زمن عمر بن عبد العزيز.
والبيت موجود في قصيدة من شعر ذي الرّمّة. وغالب شعر ذي الرّمّة في مدح بلال.
وقبله (3):
بنى لك أهل بيتك يا ابن قيس ... وأنت تزيدهم شرفا جلالا
مكارم ليس يحصيهنّ مدح ... ولا كذبا أقول ولا انتحالا
أبو موسى فحسبك نعم جدّا ... وشيخ الرّكب خالك نعم خالا
__________
(1) في طبعة بولاق والنسخة الشنقيطية وردت: = فجدك =. بإهمال فاء الجواب.
(2) كذا في طبعة بولاق والنسخة الشنقيطية بالإضافة.
(3) الأبيات لذي الرمة في ديوانه ص 444443.(9/393)
كأنّ النّاس حين تمرّ حتّى ... عواتق لم تكن تدع الحجالا
قياما ينظرون إلى بلال ... رفاق الحجّ أبصرت الهلالا (1)
فقد رفع الإله بكلّ أفق ... لضوئك يا بلال سنا طوالا
كضوء الشّمس ليس به خفاء ... وأعطيت المهابة والجمالا
و «الجلال»، بضم الجيم: الجليل. و «مكارم»: مفعول بنى لك.
وقوله: «أبو موسى فحسبك» إلخ، هو أبو موسى الأشعريّ الصحابي.
وقوله: «فحسبك» الفاء في فحسب زائدة لازمة. و «حسب»: اسم بمعنى ليكف، كما قال الشارح المحقق في باب الإضافة، مرفوع بالابتداء، وخبره محذوف تقديره: هذا النسب، أو هذا المدح. والجملة اعتراضيّة بين المبتدأ والخبر.
وقوله: «وشيخ الركب»، أي: القافلة. وروى بدله: «وزاد الركب»، ومعناه أنّه لا يدع أحدا من الرّكب يحمل زاد السّفرة (2)، بل هو يجري النّفقات على جميع من صحبه في السّفر.
ومدحه في هذا البيت بشرف النّسبين: نسب الأب، ونسب الأمّ.
وقوله: «كأنّ النّاس» إلخ، خبر كأنّ قوله: «رفاق الحجّ» في البيت بعده. وحتى: حرف جرّ غاية للنّاس، وما بعدها داخل في المغيّا. وعواتق مجرور بالفتحة، جمع عاتق، وهي البنت التي أدركت في بيت أبويها ولم تكن متزوّجة.
و «الحجال»: جمع حجلة بالتحريك، وهو بيتها الذي تلازمه، ولا تخرج منه.
وقياما منصوب على الحال.
أراد: كأنّ الناس في حال قيامهم حين يمرّ بلال، رفاق الحجّ إذا نظروا إلى الهلال. و «السّنا»، بالقصر: الضوء. و «الطّوال»: مبالغة الطويل.
وفي هذه القصيدة أبيات أخر شواهد، منها: (الوافر)
__________
(1) البيت لذي الرمة في ديوانه ص 443وتاج العروس (رفق) وثمار القلوب ص 648ولسان العرب (رفق).
(2) كذا في طبعة بولاق والنسخة الشنقيطية. والسفرة بالضم هي طعام المسافر، وأكثر ما يحمل في جلد مستدير، فنقل اسم الطعام إلى هذا الجلد الذي يبسط ويؤكل عليه.(9/394)
وميّة أحسن الثّقلين جيدا ... وسالفة وأحسنهم قذالا (1)
و «القذال»: ما بين الأذن والنّقرة، وهما قذالان. ومنها:
سمعت النّاس ينتجعون غيثا ... فقلت لصيدح انتجعي بلالا
وتقدّم شرحه في أفعال القلوب (2).
وقد تقدّمت ترجمة بلال هذا في الشاهد الستين بعد المائة (3). وترجمة ذي الرمّة في الشاهد الثامن من أول الكتاب (4).
* * * وأنشد بعده (5):
* ويلمّها روحة *
هو قطعة من بيت، وهو (6): (البسيط)
ويلمّها روحة والرّيح معصفة ... والغيث مرتجز واللّيل مقترب
وتقدّم شرحه في الشاهد الحادي عشر بعد المائتين (7).
* * * __________
(1) البيت لذي الرمة في ديوانه ص 436والأشباه والنظائر 2/ 106والخصائص 2/ 419والدرر 1/ 183 وشرح المفصل 6/ 96ولسان العرب (ثقل). وهو بلا نسبة في أمالي ابن الحاجب 1/ 349ورصف المباني ص 168وشرح شذور الذهب ص 536وهمع الهوامع 1/ 59.
(2) هو الشاهد رقم / 719/ من هذا الجزء التاسع.
(3) الخزانة الجزء الثالث ص 35.
(4) الخزانة الجزء الأول ص 119.
(5) في طبعة بولاق: = دوحة =. وهو تصحيف صوابه من النسخة الشنقيطية مع أثر تصحيح فيها.
(6) في طبعة بولاق: = ويلمها دوحة =. وهو تصحيف صوابه من النسخة الشنقيطية.
(7) الخزانة الجزء الثالث ص 258.(9/395)
وأنشد بعده:
* فيا لك من ليل *
هذا أيضا قطعة من بيت، وهو (1): (الطويل)
فيا لك من ليل كأنّ نجومه ... بكلّ مغار الفتل شدّت بيذبل
وتقدّم أيضا شرحه في الشاهد العاشر بعد المائتين (2).
* * * وأنشد بعده، وهو الشاهد الرابع والستون بعد السبعمائة (3): (الوافر)
764 - تزوّد مثل زاد أبيك فينا
فنعم الزّاد زاد أبيك زادا
على أنّه قد يجيء بعد الفاعل الظاهر تمييز للتّوكيد.
قال ابن يعيش (4): اختلف الأئمة في هذه المسألة، فمنع سيبويه [من ذلك وأنه
__________
(1) هو الإنشاد الرابع والخمسون بعد الثلاثمائة في شرح أبيات المغني للبغدادي.
والبيت لامرئ القيس من معلقته وهو في ديوانه ص 19وتاج العروس (ذبل) والدرر 4/ 166وشرح أبيات المغني 4/ 301وشرح شواهد المغني 2/ 574وشرح عمدة الحافظ ص 303وشرح القصائد العشر للتبريزي ص 68والمقاصد النحوية 4/ 269. وهو بلا نسبة في رصف المباني ص 220وشرح الأشموني 2/ 291 ومغني اللبيب 1/ 215وهمع الهوامع 2/ 32.
(2) الخزانة الجزء الثالث ص 254.
(3) هو الإنشاد الثامن بعد السبعمائة في شرح أبيات المغني للبغدادي.
والبيت لجرير في ديوانه جمع الصاوي ص 135والخصائص 1/ 83، 396والدرر 5/ 210وشرح أبيات المغني 7/ 27وشرح شواهد الإيضاح ص 109وشرح شواهد المغني ص 57وشرح المفصل 7/ 132 ولسان العرب (زود) والمقاصد النحوية 4/ 30. وهو بلا نسبة في شرح الأشموني 1/ 267وشرح شواهد المغني ص 862وشرح ابن عقيل ص 456ومغني اللبيب ص 462والمقتضب 2/ 150.
(4) شرح المفصل 7/ 132، 133مختصرا ومع تصرف يسير في العبارة والزيادات منه، والنص في شرح أبيات المغني للبغدادي 7/ 28.(9/396)
لا يقال: نعم الرجل رجلا زيد]، و [كذلك] السّيرافي، وابن السّرّاج، وأجازه المبرّد، وأبو علي.
واحتجّ [في ذلك] سيبويه بأنّ المقصود من المرفوع والمنصوب الدّلالة على الجنس، وأحدهما كاف عن الآخر. وأيضا فإنّ ذلك ربّما أوهم بأنّ الفعل الواحد له فاعلان، وذلك إن رفعت اسم الجنس بأنه فاعل.
وإذا نصبت النكرة بعد ذلك آذنت بأنّ الفعل فيه ضمير فاعل، لأنّ النكرة المنصوبة لا تأتي إلّا كذلك.
وحجّة المبرّد في الجواز الغلوّ في البيان والتأكيد، والأوّل أظهر.
وأمّا بيت جرير، وهو:
تزوّد مثل زاد أبيك ... إلخ
فإنّ المبرد أنشده شاهدا على ما ادّعى من جواز ذلك. فإن رفع الزاد المعرّف باللام بأنه فاعل نعم، وزاد أبيك هو المخصوص بالمدح، وزادا تمييز وتفسير، فالقول عليه أنّا لا نسلّم أنّ زادا منصوب بنعم، وإنما هو مفعول به بتزوّد، والتقدير: تزوّد زادا مثل زاد أبيك فينا، فلمّا قدّم صفته عليه نصبها على الحال.
ويجوز أن يكون مصدرا مؤكّدا محذوف الزوائد، والتقدير: تزوّد مثل زاد أبيك فينا تزوّدا. ويجوز أن يكون تمييزا لمثل، كما يقال: ما رأيت مثله رجلا. وعلى تقدير أن يكون العامل فيه «نعم»، فإنّ ذلك من ضرورة الشعر، ولا يجعل قياسا (1).
ومثله قول الآخر (2): (الوافر)
ذريني أصطبح يا بكر إنّي ... رأيت الموت نقّب عن هشام (3)
تخيّره ولم يعدل سواه ... ونعم المرء من رجل تهامي
__________
(1) إلى هنا ينتهي النقل من شرح المفصل.
(2) هو بجير بن عبد الله القشيري كما جاء في الاشتقاق ص 101.
(3) البيت لأبي بكر بن الأسود الليثي ابن شعوب في تاج العروس (تهم) ولسان العرب (تهم) وهو بلا نسبة في الكامل في اللغة 2/ 325.(9/397)
فقوله: «من رجل» كقوله رجلا، لأنّ «من» تدخل على التمييز. وذلك كلّه من ضرورة الشعر.
وقال ابن جنّي في «الخصائص»: إنّ الرجل من [نحو] (1) قولهم: نعم الرجل زيد، غير المضمر في نعم إذا قلت: نعم رجلا زيد (2) لأنّ المضمر على شريطة التفسير لا يظهر ولا يستعمل ملفوظا به.
ولذلك قال سيبويه هذا باب ما لا يعمل في المعروف (3) إلّا مضمرا، أي: إذا فسّر بالنكرة، نحو: نعم رجلا زيد، فإنّه لا يظهر أبدا. وإذا كان كذلك علمت زيادة الزّاد في قول جرير:
تزوّد مثل زاد أبيك فينا ... البيت
وذلك أنّ فاعل نعم مظهر فلا حاجة به إلى أن يفسّر. فهذا يسقط اعتراض المبرد على صاحب الكتاب في هذا الموضع. اه.
وهذا جواب خامس.
وقال المراديّ في «شرح التسهيل»: منع سيبويه الجمع بين التمييز والفاعل الظاهر، وأجاز ذلك المبرّد والفارسيّ. قال المصنف: وهو الصحيح. اه.
وبالجواز قال ابن السّرّاج. وفصّل بعضهم، فقال: إن أفاد التمييز معنى لا يفيده الفاعل جاز، نحو: نعم الرجل رجلا فارسا زيد، وإلّا فلا.
قال المصنّف: والحامل لسيبويه على المنع كون التمييز في الأصل مسوقا لدفع الإبهام، والإبهام إذا ظهر الفاعل زائل، فلا حاجة إلى التمييز. وهذا الاعتبار يلزم منه منع التمييز في كلّ ما لا إبهام فيه كقولك: عندي من الدراهم عشرون درهما.
ومثل هذا جائز بلا خلاف. اه.
وما ذكره من أنّ الحامل لسيبويه ما ذكر ليس هو في كتابه. وفرق بين نعم رجل رجلا زيد، وبين: له من الدراهم عشرون درهما ونحوه، بأنّ عشرين وأمثالها
__________
(1) كلمة: = نحو = ساقطة من طبعة بولاق. وهي في النسخة الشنقيطية والخصائص 1/ 395.
(2) كلمة: = زيد = ساقطة من النسخة الشنقيطية، وهي في طبعة بولاق والخصائص.
(3) في طبعة بولاق والنسخة الشنقيطية: = المعرف =. وهو تصحيف صوابه من الخصائص.(9/398)
محتاجة إلى التمييز في الأصل، بخلاف نعم الرجل زيد. والتمييز مبناه على التّبيين، ثم يعرض له في بعض المواضع أن يقترن بالكلام ما يغني عنه، فيصير مؤكّدا.
وقد تأوّل الفارسيّ كلام سيبويه على أنّ معناه لا يكون الفاعل ظاهرا حيث يلزم التمييز، بل الفاعل في حال لزوم التمييز مضمر لا غير، وأما مع الظاهر فلا يكون لازما. وفيه بعد. واستدلّ المصنّف على الجواز بالقياس والسماع.
أمّا القياس فقال بعد التمثيل ب «له من الدراهم عشرون درهما» وبقوله تعالى (1): «{إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللََّهِ اثْنََا عَشَرَ شَهْراً}» وقوله تعالى (2): «{وَاخْتََارَ مُوسى ََ قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا}» وقوله تعالى (3): «{فَتَمَّ مِيقََاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً}» وقوله تعالى (4): «{فَهِيَ كَالْحِجََارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً}».
فكما حكم بالجواز في مثل هذا، وجعل سبب الجواز التوكيد، لا رفع الإبهام، فكذلك يفعل في نحو: نعم الرجل رجلا. ولا يمنع، لأنّ تخصيصه بالمنع كحكم بلا دليل. هذا لو لم نستعمله العرب، فكيف وقد استعملته. اه.
وقد تقدّم ما فرّق به بين ما ذكرته من التمثيل، وبين نعم الرجل. قال: ومن ورود التمييز للتوكيد لا لرفع الإبهام قول أبي طالب (5): (الكامل)
ولقد علمت بأنّ دين محمّد ... من خير أديان البريّة دينا
وقول الآخر (6): (المتقارب)
فأمّا التي خيرها يرتجى ... فأجود جودا من اللّافظه
__________
(1) سورة الأعراف: 7/ 55.
(2) سورة الأعراف: 7/ 155.
(3) سورة الأعراف: 7/ 142.
(4) سورة البقرة: 2/ 74.
(5) البيت لأبي طالب في ديوانه ص 91وشرح التصريح 2/ 96وشرح شواهد المغني 2/ 687وشرح عمدة الحافظ ص 788وشرح قطر الندى ص 242ولسان العرب (كفر) والمقاصد النحوية 4/ 8. وهو بلا نسبة في شرح الأشموني 2/ 376.
(6) البيت لطرفة بن العبد في ديوانه نشرة مكس سلفسون ص 155والمقاصد النحوية 1/ 572وللخليل في تاج العروس (لفظ). وهو بلا نسبة في تاج العروس (فيظ) ولسان العرب (فيظ) ومقاييس اللغة 5/ 259.(9/399)
اه.
ولا يتأتّى ذلك الفرق هنا. وأما السماع فقول جرير (1): (البسيط)
والتّغلبيّون بئس الفحل فحلهم ... فحلا وأمّهم زلّاء منطيق
وقول جرير أيضا:
تزوّد مثل زاد أبيك ... البيت
وأنشد غير المصنّف (2): (البسيط)
نعم الفتاة فتاة هند لو بذلت ... ردّ التّحيّة نطقا أو بإيماء
وحكي من كلام العرب: «نعم القتيل قتيلا أصلح بين بكر وتغلب (3)». وهذا وارد في الاختيار.
وقد تأوّل المانعون السّماع. أمّا فحلا وفتاة فعلى الحال المؤكّدة. وأمّا زادا فعلى أنّه مصدر محذوف الزوائد منصوب بتزوّد. وقد حكى الفرّاء استعماله مصدرا. أو على أنه مفعول به، ومثل منصوب على الحال، لأنّه لو تأخّر لكان صفة.
وقال أبو حيّان: وعندي تأويل غير ما ذكروه، وهو أقرب. وذلك أن يدّعى أنّ في «نعم» و «بئس» ضميرا، وفحلا وفتاة وزادا تمييز لذلك الضّمير، وتأخّر عن المخصوص على جهة النّدور. فالفحل والفتاة والزاد هي المخصوصة، وفحلهم
__________
(1) في النسخة الشنقيطية: = نعم الفحل فحلهم =. وفي حاشية النسخة الشنقيطية: = كذا بخط المؤلف، والصواب: بئس =.
والبيت لجرير في ديوانه ص 192وتاج العروس (نطق) والدرر 5/ 208وشرح التصريح 2/ 96وشرح عمدة الحافظ ص 787ولسان العرب (نطق) والمقاصد النحوية 4/ 7. وهو بلا نسبة في شرح الأشموني 2/ 386وشرح ابن عقيل ص 455وهمع الهوامع 2/ 86.
(2) هو الإنشاد التاسع بعد السبعمائة في شرح أبيات المغني للبغدادي.
والبيت بلا نسبة في أوضح المسالك 3/ 277والدرر 5/ 209وشرح أبيات المغني 7/ 29وشرح الأشموني 1/ 267وشرح التصريح 2/ 95وشرح شواهد المغني ص 862ومغني اللبيب ص 464والمقاصد النحوية 4/ 32وهمع الهوامع 2/ 86.
(3) هو قول للحارث بن عباد في حرب البسوس وكان الحارث قد اعتزل حرب بكر وتغلب حتى قتل ابنه أو ابن أخيه بجير، وقال قولته هذه. وخبر بجير هذا مفصل في التعازي والمراثي للمبرد ص 298.(9/400)
وزاد أبيك أبدال من المرفوع قبلها.
هذا ما أورده المراديّ، ولفوائده سقناه برمّته.
والبيت من قصيدة لجرير مدح بها عمر بن عبد العزيز، منها (1):
وسدت النّاس قبل سنين عشر ... كذاك أبوك قبل العشر سادا
وثبّتّ الفروع فهنّ خضر ... ولو لم تحي أصلهم لبادا
تزوّد مثل زاد أبيك فينا ... البيت
فما كعب بن مامة وابن سعدى ... بأجود منك يا عمر الجوادا (2)
وتبني المجد يا عمر بن ليلى ... وتكفي الممحل السّنة الجمادا (3)
يعود الحلم منك على قريش ... وتفرج عنهم الكرب الشّدادا (4)
وتدعو الله مجتهدا ليرضى ... وتذكر في رعيّتك المعادا
و «باد»: هلك. وأتبع الجواد لموضع عمر، وهو من شواهد المنادى.
و «كعب» هو ابن مامة الإياديّ، أحد أجواد العرب.
قال الواحدي في «أمثاله» (5): كان كعب فيما يقال، أجود من حاتم الطائيّ.
حكي أنّه خرج في ركب، وفيهم رجل من النّمر بن قاسط، في القيظ، فضلّوا،
__________
(1) الأبيات عدا الأول والثاني من قصيدة لجرير يمدح بها عمر بن عبد العزيز الخليفة الأموي. وهي في ديوانه ص 136135وشرح أبيات المغني للبغدادي 1/ 63.
(2) البيت لجرير في ديوانه الصاوي ص 135والدرر 3/ 34وشرح التصريح 2/ 169وشرح شواهد المغني ص 56والمقاصد النحوية 4/ 254واللمع ص 194والمقتضب 4/ 208. وهو بلا نسبة في أوضح المسالك 4/ 23وشرح الأشموني 2/ 447وشرح قطر الندى ص 210ومغني اللبيب ص 19وهمع الهوامع 1/ 176.
(3) في شرح أبيات المغني 1/ 63: = ليلى: جدة عمر أم أبيه عبد العزيز بنت الأصبغ بن زبان الكلبي، وأم عمر أم عاصم بنت عاصم بن عمر بن الخطاب =.
(4) هو الإنشاد السادس عشر في شرح أبيات المغني للبغدادي.
والبيت لجرير في ديوانه ص 136الصاوي وأمالي ابن الشجري 1/ 703والدرر 1/ 153وشرح أبيات المغني 1/ 63والمقاصد النحوية 4/ 254وهمع الهوامع 1/ 176.
(5) كتاب الواحدي هو: = الوسيط في الأمثال =. والنص في شرح أبيات المغني للبغدادي 1/ 64. والزيادات منه.(9/401)
فتصافنوا الماء بالمقلة، فقعد أصحاب كعب لشرب الماء (1)، فلما دار القعب إلى كعب أبصر النّمريّ يحدّد (2) النظر إليه، فآثره كعب بمائه، وقال للساقي (3): «اسق أخاك النّمريّ يصطبح» فذهبت مثلا.
فشرب النّمريّ نصيب كعب ذلك اليوم، ثم نزلوا من الغد منزلا آخر، فتصافنوا بقيّة مائهم، فنظر النّمريّ إلى كعب كنظره بالأمس، ففعل كعب فعلته بالأمس، وارتحل القوم، وقالوا: يا كعب ارتحل. فلم يكن به قوّة النّهوض، وكانوا قد قربوا من الماء، فقيل: رد كعب إنّك ورّاد. فعجز عن الإجابة (4)، فلمّا يئسوا منه، خيّلوا عليه بثوب يمنعه من السّباع، وتركوه [مكانه] فمات، فقال أبوه يبكيه (5): (البسيط)
أوفى على الماء كعب ثمّ قيل له ... رد كعب إنّك ورّاد فما وردا
قال: وكان من جوده أنّه إذا مات جار [له] أدى ديته إلى أهله، وإن هلك لجاره بعير، أو شاة أخلفه عليه (6)، فجاوره أبو دواد الإياديّ فعامله بذلك، فصارت العرب إذا حمدت مستجارا به لحسن جواره، قالوا: «كجار أبي دواد». ومنه قول قيس بن زهير (7): (الوافر)
__________
(1) في طبعة بولاق: = ليشرب الماء =. وهو تصحيف صوابه من شرح أبيات المغني للبغدادي والنسخة الشنقيطية.
(2) في طبعة بولاق: = يحرد النظر =. وهو تصحيف صوابه من النسخة الشنقيطية وفي شرح أبيات المغني: = يجرد النظر =.
(3) المثل في أمثال العرب ص 138وتمثال الأمثال 1/ 183وجمهرة الأمثال 1/ 94والدرة الفاخرة 1/ 129 وزهر الأكم 3/ 170، 180وفصل المقال ص 350وكتاب الأمثال ص 242وكتاب الأمثال لمجهول ص 22والمستقصى 1/ 170ومجمع الأمثال 1/ 333والوسيط في الأمثال ص 65.
(4) في طبعتي بولاق وهارون والنسخة الشنقيطية: = عجز عن الإصابة =. وهو تصحيف صوابه لا يستقيم معه المعنى. والتصويب من شرح أبيات المغني للبغدادي.
(5) الخبر والبيت في شرح أبيات المغني للبغدادي 1/ 64وشروح سقط الزند 18221821627نقلا عن التبريزي بخلاف يسير.
(6) في طبعة بولاق: = أخلفهما عليه =.
(7) الخبر والبيت في شرح أبيات المغني للبغدادي 1/ 6665والكامل في اللغة 1/ 136ومجمع الأمثال 1/ 163.(9/402)
سأفعل ما بدا لي ثمّ آوي ... إلى جار كجار أبي دواد
اه.
قال المبرد في «الكامل» (1): والتصافن: أن يطرح في الإناء حجر ثم يصبّ فيه من الماء ما يغمره لئلّا يتغابنوا (2). والمقلة: اسم ذلك الحجر.
وابن سعدى هو «كما في كامل المبرد» (3): «أوس بن حارثة» بن لأم الطائي. وكان سيّدا مقدّما، فوفد هو وحاتم بن عبد الله الطائيّ على عمرو بن هند، وأبوه المنذر بن المنذر بن ماء السماء، فدعا أوسا، فقال: أنت أفضل أم حاتم (4)؟
فقال: أبيت اللّعن، لو ملكني حاتم وولدي ولحمتي لوهبنا في غداة واحدة! ثم دعا حاتما، فقال: أنت أفضل أم أوس؟ فقال: أبيت اللّعن، إنّما ذكرت بأوس، ولأحد ولده أفضل منّي!
وكان النّعمان بن المنذر دعا بحلّة وعنده وفود العرب من كلّ حيّ، فقال:
احضروا في غد، فإنّي ملبس هذه الحلّة أكرمكم. فحضر القوم جميعا إلّا أوسا، فقيل له: لم تتخلّف (5)؟ فقال: إن كان المراد غيري فأجمل الأشياء أن لا أكون حاضرا، وإن كنت المراد فسأطلب ويعرف مكاني.
فلمّا جلس النّعمان لم ير أوسا، فقال: اذهبوا إلى أوس، فقولوا له: احضر آمنا ممّا خفت. فحضر فألبسه الحلّة، فحسده قوم من أهله، فقالوا للحطيئة: اهجه ولك ثلثمائة ناقة، فقال الحطيئة: كيف أهجو رجلا لا أرى في بيتي أثاثا ولا مالا إلّا من عنده؟! ثم قال (6): (البسيط)
كيف الهجاء وما تنفكّ صالحة ... من آل لأم بظهر الغيب تأتيني
__________
(1) الكامل في اللغة 1/ 136وشرح أبيات المغني 1/ 65.
(2) يتغابنوا: من الغبن، وأصله في البيع أن يغلبه أو ينقصه. وبعده في الكامل في اللغة وشرح أبيات المغني:
= وكذلك كل شيء وقف على كيله أو وزنه =.
(3) الكامل في اللغة 1/ 136.
(4) في شرح أبيات المغني والكامل في اللغة: = أأنت أفضل =.
(5) في شرح أبيات المغني 1/ 66: = لم تخلف =. وفي الكامل في اللغة 1/ 137: = لم تخلّفت =.
(6) البيت للحطيئة في ديوانه ص 174وأساس البلاغة (صلح) وشرح أبيات المغني 1/ 66والكامل في اللغة 1/ 137.(9/403)
فقال لهم بشر بن أبي خازم، أحد بني أسد بن خزيمة: أنا أهجوه لكم. فأخذ الإبل وفعل، فأغار أوس عليها فاكتسحها، فجعل لا يستجير حيّا إلّا قال: قد أجرتك إلّا من أوس.
وكان في هجائه قد ذكر أمّه، فأتي به، فدخل أوس على أمّه، فقال: قد أتينا ببشر الهاجي لك ولي. قالت: أو تطيعني؟ قال: نعم. قالت: أرى أن تردّ عليه ماله، وتعفو عنه، وتحبوه، وأفعل مثل ذلك، فإنّه لا يغسل هجاءه إلّا مدحه.
فخرج، فقال: إنّ أمّي سعدى التي كنت تهجوها قد أمرت فيك بكذا وكذا! فقال: لا جرم، والله لا مدحت حتّى أموت أحدا غيرك. ففيه يقول (1): (الوافر)
إلى أوس بن حارثة بن لأم ... ليقضي حاجتي فيمن قضاها (2)
فما وطئ الثّرى مثل ابن سعدى ... ولا لبس النّعال ولا احتذاها (3)
* * * وأنشد بعده (4): (الوافر)
__________
(1) البيتان لبشر بن أبي خازم الأسدي في ديوانه ص 222وشرح أبيات المغني للبغدادي 1/ 67والكامل في اللغة 1/ 137.
(2) البيت لبشر في ديوانه ص 222وتاج العروس (لأم) وشرح أبيات المغني 1/ 67والكامل في اللغة 1/ 137. وهو بلا نسبة في لسان العرب (لأم).
(3) البيت لبشر بن أبي خازم الأسدي في ديوانه ص 222وتاج العروس (لأم) وشرح أبيات المغني 1/ 67 والكامل في اللغة 1/ 137وهو بلا نسبة في لسان العرب (لأم).
(4) هو الإنشاد الثاني والستون بعد المائتين في شرح أبيات المغني للبغدادي.
والبيت من مقطوعة لسحيم بن وثيل الرياحي. وهو في الاشتقاق ص 224والأصمعيات ص 17وأمالي القالي 1/ 246وكتاب الأوائل 2/ 69والبيان والتبيين 2/ 308وجمهرة اللغة ص 495، 1044والحماسة البصرية 1/ 102وحماسة البحتري 1/ 55والدرر 1/ 99وشرح أبيات المغني للبغدادي 4/ 6وشرح شواهد المغني 1/ 459وشرح المفصل 3/ 62والشعر والشعراء 2/ 647وطبقات فحول الشعراء 2/ 579والكتاب 3/ 207والمقاصد النحوية 4/ 356وهو بلا نسبة في الاشتقاق ص 314وأمالي ابن الحاجب ص 456 وأوضح المسالك 4/ 127وشرح الأشموني 2/ 531وشرح شواهد المغني 2/ 749وشرح قطر الندى ص 86 وشرح المفصل 1/ 61، 4/ 105ولسان العرب (ثنى، جلا) وما ينصرف وما لا ينصرف ص 20ومجالس(9/404)
* أنا ابن جلا وطلّاع الثّنايا *
على أن الموصوف محذوف وصفته جملة فعلية، وهي «جلا» على أنه فعل ماض، وفاعله ضمير مستتر فيه، والتقدير: أنا ابن رجل جلا الأمور وكشفها.
وهذا أحد التخريجين في البيت، وقد ذكرناهما مشروحين فيما لا ينصرف (1)، وفي النعت.
* * * وأنشد بعده، وهو الشاهد الخامس والستون بعد السبعمائة (2): (الكامل)
765 - نعم الفتى فجعت به إخوانه
يوم البقيع حوادث الأيّام
على أنّ المخصوص بالمدح محذوف، وهو موصوف بجملة أقيمت مقامه، تقديره: نعم الفتى فتى فجعت به إلخ.
قال ابن جنّي في «إعراب الحماسة (3)»: الهاء في «به» عائدة على موصوف محذوف، أي: نعم الفتى فتى، فجعت به حوادث الأيام.
و «يوم البقيع» ظرف، ويجوز أن تنصبه على أنّه في المعنى مفعول به، لأنّ الفعل في هذا النحو يسند إلى ظرف الزمان، نحو قولك: شفّني يوم كذا، وسرّني وقت كذا، فتنسب الفعل إلى ذلك اليوم والوقت. اه.
__________
ثعلب 1/ 212ومغني اللبيب 1/ 160والمقرب 1/ 283وهمع الهوامع 1/ 30.
(1) الخزانة الجزء الأول ص 262252.
(2) البيت لإبراهيم بن هرمة في ملحق ديوانه ص 241والعقد الفريد 2/ 315وهو لمحمد بن بشير الخارجي في الحماسة برواية الجواليقي ص 227وشرح الحماسة للأعلم 1/ 568وشرح الحماسة للتبريزي 2/ 155وشرح الحماسة للمرزوقي ص 808ومعجم الشعراء ص 412ولمحمد بن بشير أو لأبي البلهاء عمير بن عامر في الحماسة البصرية 1/ 244ومعجم الشعراء ص 245.
وروايته في ديوانه ابن هرمة:
لله درك من فتى فجعت به ... يوم
(3) إعراب الحماسة الورقة 115.(9/405)
وقال الطبرسيّ في «شرح الحماسة»: جملة «فجعت به» إلخ، صفة فتى محذوف، وهو المخصوص بالمدح، خصّصته حتّى صار كالمعرفة. والحذف في مثل هذا إنّما يصلح إذا كان الممدوح مشهور البيان. ويوم البقيع ظرف منصوب.
وحوادث الأيّام فاعل فجعت. والفجيعة (1): الرزيّة. وفجعه فجعا من باب نفع، فهو مفجوع، في ماله وأهله.
والبيت أوّل أبيات ثلاثة لمحمد بن بشير الخارجي، أوردها أبو تمام في «باب المراثي من الحماسة»، وبعده (2):
سهل الفناء إذا حللت ببابه ... طلق اليدين مؤدّب الخدّام
وإذا رأيت صديقه وشقيقه ... لم تدر أيّهما أخو الأرحام
وقال الطبرسي: «سهل الفناء»: خبر مبتدأ محذوف، وجعل فناءه سهلا للزّوّار والعفاة، وذلك مثل (3)، لكثرة إحسانه إليهم.
وقوله: «مؤدّب الخدّام» تنبيه على اقتدائهم بمولاهم في تفقّد الورّاد وإكرامهم، والسّعي في أمورهم. والشقيق من إخوان الولادة. والصديق من إخوان المودّة.
يقول: لا يتميّز صديقه عن شقيقه في شمول تفقّده لهما، وتساويهما في المجد عنده. وهذا هو الغاية في الكرم.
ومحمد بن بشير الخارجي: شاعر إسلاميّ تقدّمت ترجمته في الشاهد الثلاثين بعد السبعمائة (4)، وهو من خارجة عدوان: قبيلة. وليس من الخوارج.
ونقل ابن خلّكان في ترجمة يزيد بن مزيد الشّيباني أنّ المرزبانيّ ذكر في «كتاب معجم الشعراء» أنّ هذه الأبيات لعمير بن عامر (5)، مولى يزيد بن مزيد الشّيباني،
__________
(1) في طبعة بولاق: = والفجعة =. وهو تصحيف صوابه من النسخة الشنقيطية.
(2) الحماسة برواية الجواليقي ص 228227وشرح الحماسة للأعلم 1/ 568وشرح الحماسة للتبريزي 2/ 155.
(3) في طبعة بولاق: = ميل =. وهو تصحيف صوابه من النسخة الشنقيطية.
(4) في طبعة بولاق: = الشاهد السابع والعشرين بعد السبعمائة =. وهو تحريف صوابه من النسخة الشنقيطية.
انظر هذا الجزء التاسع من الخزانة الشاهد رقم / 730/.
(5) انظر معجم الشعراء ص 245في ترجمة عمير بن عامر مولى يزيد بن مزيد الشيباني.(9/406)
رثى بها سيّده.
ورأيت أنا في «العقد الفريد لابن عبد ربّه» هذه الأبيات منسوبة لإبراهيم بن هرمة (1). والله أعلم.
* * * وأنشد بعده، وهو الشاهد السادس والستون بعد السبعمائة (2): (الكامل)
766 - نعم الفتى المرّيّ أنت
هو قطعة من بيت، وهو:
نعم الفتى المرّيّ أنت إذا هم ... حضروا لدى الحجرات نار الموقد
على أنه يجوز وصف فاعل «نعم»، فإنّ «المرّيّ» صفة «الفتى» لا بدل منه، خلافا لابن السّرّاج، كما بيّنه الشارح المحقق.
وهذه عبارة أبي بكر بن السّرّاج في «الأصول»: ولا يجوز توكيد المرفوع بنعم. قالوا: وقد جاء في الشعر منعوتا.
وأنشدوا:
نعم الفتى المرّيّ أنت ... البيت
وهذا يجوز أن يكون بدلا غير نعت، فكأنه قال: نعم المريّ أنت. اه.
وقد نقله أبو علي عنه في «تذكرته» وأقرّه، قال: قرئ على أبي بكر من الأصول: «نعم الفتى المريّ أنت» البيت، قال أبو بكر: حمله قوم على الصّفة،
__________
(1) العقد الفريد 2/ 315.
(2) هو الإنشاد الثالث والعشرون بعد الثمانمائة في شرح أبيات المغني للبغدادي.
والبيت لزهير بن أبي سلمى في ديوانه ص 198وشرح أبيات المغني 7/ 235وشرح شواهد المغني 2/ 915 والمقاصد النحوية 4/ 21. وهو بلا نسبة في الأشباه والنظائر 5/ 71وشرح الأشموني 2/ 373ومغني اللبيب 2/ 587.(9/407)
وهو عندنا على البدل، لأنّ وصفه قبيح.
قال أبو علي: لأنّ فاعل نعم، إذا كان ظاهرا، فالمقصود به الجنس، وليس بعد الجنس شيء، يلبس فيفصل بينهما. هذا كلامه.
وردّ عليهما الشارح المحقق بأنّ هذا المنع ليس بشيء، لأنّ الإبهام مع مثل هذا التخصيص باق. وهو في مثل هذا الردّ والتوجيه تابع لابن جني، فإنّه قال في بيت الحماسة، ليزيد بن قنافة (1): (الطويل)
لعمري وما عمري عليّ بهين ... لبئس الفتى المدعوّ باللّيل حاتم
قال أصحابنا في قول الشاعر: «نعم الفتى المريّ أنت» إنّ المرّيّ بدل من الفتى، قالوا: وذاك أنّ فاعل نعم وبئس لا يجوز وصفه، من حيث كان واقعا على الجنس، والجنس أبعد شيء عن الوصف لفساد معناه، فلمّا كان كذلك عدلوا به عن الوصف إلى البدل.
فقياس هذا أن يكون المدعوّ بدلا من الفتى. وأمّا أنا فأجيزه (2). وذلك أن يكون المدح والتّفضيل إنّما وقع على أن يفضّل حاتم على الفتيان المدعوّين بالليل (3)، أي:
فاق حاتم جميع الفتيان المدعوّين بالليل، ولم يرد أن يفضّله على جميع الفتيان عموما (4).
ولو أراد ذلك لما جازت الصفة، ولكنّه وصف الفتى، وفضّل حاتما على جميع الفتيان المدعوّين بالليل.
وكذلك تقول: نعم الرجل الطّويل زيد، أي: فاق زيد في الرّجال الطّوال خاصّة.
__________
(1) البيت ليزيد بن قنافة في الحماسة برواية الجواليقي ص 467والدرر 5/ 203وشرح الحماسة للأعلم 2/ 1079وشرح الحماسة للتبريزي 4/ 19وشرح الحماسة للمرزوقي ص 1464والمقاصد النحوية 4/ 9.
وهو بلا نسبة في شرح الأشموني 2/ 373وهمع الهوامع 2/ 85.
(2) في إعراب الحماسة الورقة 207: = فأجيز جوازا حسنا أن يكون المدعو وصفا للمعنى =.
(3) في إعراب الحماسة: = وذلك أن يكون الذم إنما وقع على أن يحط حاتم عن الفتيان المدعوين بالليل =.
وبعده في إعراب الحماسة: = أي انحط حاتم عن جميع الفتيان عموما =.
(4) من الملاحظ أن نسخة البغدادي من إعراب الحماسة ناقصة، أو أن هناك سببا آخر جعل النقص واضحا في نقله في الخزانة.(9/408)