|
المجلد السابع
بسم الله الرّحمن الرّحيم
الظروف
وأنشد بعده، وهو الشاهد الحادي بعد الخمسمائة (1): (الرجز)
501 - أما ترى حيث سهيل طالعا
وبعده:
* نجما يضيء كالشّهاب ساطعا *
على أنّ «حيث» مضافة إلى مفرد بندرة، و «سهيل» مجرور بإضافة حيث إليه. وفي هذه الصورة يجوز بناء «حيث» وإعرابها.
وروي: برفع «سهيل» على أنّه مبتدأ محذوف الخبر، أي: موجود، فتكون «حيث» مبنيّة مضافة إلى الجملة، وهي هنا على كلّ تقدير وقعت مفعولا (2) لترى، لا ظرفا له. هذا محصّل كلام الشارح المحقق.
قال أبو علي في «إيضاح الشعر»: هذا البيت أنشده الكسائيّ وجعل «حيث» اسما ولم يعربه، لأنّ كونه اسما لا يخرجه عن البناء، كقوله تعالى (3): {«مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ»}. يريد أنّ موضع حيث النصب بترى، فإن قلت: إنّ حيث إنّما جاء
__________
(1) هو الإنشاد الثاني بعد المائتين في شرح أبيات المغني للبغدادي.
الرجز بلا نسبة في تاج العروس (حيث) وتهذيب اللغة 5/ 211والدرر 3/ 124وشرح أبيات المغني للبغدادي 3/ 151وشرح شذور الذهب ص 168وشرح شواهد المغني 1/ 390وشرح المفصل 4/ 90 وشرح ابن عقيل ص 385ومغني اللبيب 1/ 133والمقاصد النحوية 3/ 384وهمع الهوامع 1/ 212.
(2) في النسخة الشنقيطية: = مفعولة =. وهو تصحيف.
(3) سورة هود: 11/ 1.
وفي النسخة الشنقيطية جاءت رواية الآية: = حكيم عليم = وهي: سورة النمل: 27/ 6.
(7/3)
اسما في الشعر، وقد يجوز أن تجعل الظروف أسماء (1) في الشعر. فالجواب أنّ ذلك قد جاء اسما في غير الشعر.
وقد حكى أحمد بن يحيى عن بعض أصحابه أنهم قالوا: هي أحسن الناس حيث نظر ناظر، يعني الوجه. فهذا قد جاء في الكلام. وممّا جاء مفعولا به قوله تعالى (2):
{«اللََّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسََالَتَهُ»} كما تقدم. اه.
وقال أبو حيان في «الارتشاف»: مذهب البصريّين أنه لا يجوز إضافتها إلى المفرد، وما سمع من ذلك نحو (3): (الطويل)
* حيث ليّ العمائم *
نادر. وأجاز الكسائي الإضافة إلى المفرد قياسا على ما سمع [من] إضافتها إلى المفرد. اه.
ولا يخفى أنّ إعراب هذا الشعر مشكل. والذي أراه أنّ الرؤية بصرية، وأنّ حيث: مفعول به لترى، وسهيل: مجرور بإضافة حيث إليه، وطالعا: حال من سهيل. ومجيء الحال من المضاف إليه، وإن كان قليلا، فقد ورد منه كثير في الشعر.
قال تأبّط شرّا (4): (الطويل)
سلبت سلاحي بائسا وشتمتني ... فيا خير مسلوب ويا شرّ سالب
__________
(1) في طبعة بولاق: = اسما =. وهو تصحيف صوابه من النسخة الشنقيطية.
(2) سورة الأنعام: 6/ 124.
هذه القراءة هي قراءة الجمهور. وقرأ ابن كثير وحفص: = رسالته = بالإفراد، ووافقهما ابن محيصن. اتحاف فضلاء البشر.
(3) قطعة من بيت للفرزدق وتمامه:
ونطعنهم تحت الحبى بعد ضربهم ... ببيض المواضي حيث لي العمائم
والبيت هو الإنشاد الموفي المائتين في شرح أبيات المغني للبغدادي.
والبيت للفرزدق في شرح أبيات المغني للبغدادي 3/ 140وشرح شواهد المغني 1/ 389والمقاصد النحوية 3/ 387وليس في ديوانه. وهو بلا نسبة في أوضح المسالك 3/ 125والدرر 3/ 123وشرح الأشموني 2/ 314وشرح التصريح 2/ 39وشرح المفصل 4/ 92ومغني اللبيب 1/ 132وهمع الهوامع 1/ 212.
والبيت هو الشاهد رقم / 500/ من شواهد الخزانة، انظر في ذلك الجزء السادس ص 504.
(4) البيت لتأبط شرا في ديوانه ص 77وديوان الصعاليك ص 119والأغاني 21/ 152.
(7/4)
فبائسا: حال من الياء.
قال (1) أبو علي في «المسائل الشّيرازيات»: قد جاء الحال من المضاف إليه في نحو ما أنشده أبو زيد (2): (الكامل)
عوذ وبهثة حاشدون عليهم ... حلق الحديد مضاعفا يتلهّب
ومضاعفا: حال من الحديد. اه.
وقال الشاطبي في «شرح الألفية»: مثل هذا إنما يكون على توهّم إسقاط المضاف، اعتبارا بصحّة الكلام دونه. ومن هنا أجاز الفارسيّ في قول الشاعر (3):
(الطويل)
أرى رجلا منهم أسيفا كأنّما ... يضمّ إلى كشحيه كفّا مخضّبا
أن يكون «مخضبا» حالا من الهاء في كشحيه، وهو مضاف، ولكنّه في تقدير:
يضمّ إليه، لأنّه إذا ضمّه إلى كشحيه فقد ضمّه إليه، فكأنه قال: يضمّ إليه، فهو في التقدير حال من المجرور بحرف، وهو جائز كما تقدّم. وكذلك جعل مضاعفا من قوله: «حلق الحديد مضاعفا يتلهّب» حالا من الحديد. اه.
وكذلك المعنى هنا، فجاء طالعا حالا من سهيل على توهّم أنه مفعول وسقوط حيث، فيكون نجما على هذا بيانا لسهيل أو بدلا منه. ويجوز أن يكون منصوبا على المدح.
ونقل الدماميني في «الحاشية الهندية» عن شارح اللباب أنّ طالعا: مفعول ثان لترى، أو حال من سهيل، إن جعلت حيث صلة، بمنزلة مقام في قوله (4): (الوافر)
__________
(1) في النسخة الشنقيطية: = وقال =. بزيادة الواو.
(2) البيت لزيد الفوارس في أمالي ابن الشجري 1/ 167، 2/ 327والدرر 4/ 7ونوادر أبي زيد ص 113 وهو بلا نسبة في تذكرة النحاة ص 518وهمع الهوامع 1/ 240.
(3) البيت للأعشى ميمون في ديوانه ص 165وجمهرة اللغة ص 291وشرح شواهد الإيضاح ص 458 والكامل في اللغة 1/ 16ولسان العرب (خضب، أسف، كفف، بكى). وهو بلا نسبة في الأشباه والنظائر 5/ 235والإنصاف ص 776ومجالس ثعلب ص 47.
(4) قطعة من بيت للشماخ وتمامه:
ذعرت به القطا ونفيت عنه ... مقام الذئب كالرجل اللعين
(7/5)
* نفيت عنه مقام الذّئب *
وإن لم يجعل (1) صلة يكون حالا، والعامل معنى الإضافة، أي: مكانا مختصا بسهيل حال كونه طالعا. ويجوز أن يكون «حيث» في البيت باقيا على الظرفية، وحذف مفعول ترى نسيا (2) كأنه قيل: أما تحدث الرؤية في مكان سهيل طالعا. اه.
قلت: جعل العامل معنى الإضافة غير مرضيّ عندهم، وكذا القول بزيادة حيث، والأولى أن تجعل الحال من ضمير يعود إلى سهيل، حذف هو وعامله للدلالة عليه، أي: تراه طالعا. هذا كلام الدماميني.
وقال اللّبليّ (3) في «شرح أدب الكاتب» (4): من جرّ سهيل نصب طالعا حالا من حيث، لأنّ الحال من المضاف إليه ضعيفة.
والتقدير: حيث سهيل طالعا فيه، وحيث مفعول [ترى]. وإن جعلت (5) ترى بمعنى تعلم، كان طالبا (6) مفعولا ثانيا. ولا يجوز أن يكون حيث ظرفا لفساد المعنى.
اه.
وقال العيني: حيث معرب إمّا منصوب على الظرفية أو على المفعولية، ويكون ترى علمية مفعوله الأول حيث، ومفعوله الثاني طالعا، أو تكون ترى بصرية،
__________
والبيت للشماخ بن ضرار في ديوانه ص 321وجمهرة اللغة ص 949وشرح المفصل 3/ 13ولسان العرب (لعن) والمراثي ص 165والمعاني الكبير 1/ 194والمنصف 1/ 109وهو بلا نسبة في مجالس ثعلب 2/ 543والمحتسب 1/ 327.
(1) في النسخة الشنقيطية: = تجعل =.
(2) النسي بالكسر والفتح معا: النسيان، ويأتي أيضا بمعنى الترك.
(3) في طبعة بولاق وشرح أبيات المغني للبغدادي: = النيلي = وهو تصحيف. وفي النسخة الشنقيطية: = النسفي =.
وهو تصحيف أيضا. والوجه ما أثبتناه.
(4) في طبعة بولاق والنسخة الشنقيطية: = هذا الكتاب =. وهو تصحيف صوبناه. كما مرّ الحديث عن ذلك في الجزء السادس من الخزانة.
ويقول محقق طبعة هارون 7/ 6: = ومن المعروف أن أدب الكاتب لابن قتيبة يسمى أيضا أدب الكتاب، وعلى ذلك ألف ابن السيد كتابه: = الاقتضاب في شرح أدب الكتاب =.
(5) قوله: = وإن جعلت =. ساقط من النسخة الشنقيطية.
(6) في طبعتي بولاق وهارون والنسخة الشنقيطية: = طالبا =. وهو تصحيف صوبناه من الشاهد وشرح أبيات المغني للبغدادي.
(7/6)
فتكون حيث: مفعولا به، وطالعا: حالا من حيث، لا من سهيل [لأن الحال من المضاف إليه ضعيفة] (1). هذا كلامه.
وأمّا إن رفع سهيل (2) فطالعا حال من ضمير خبر سهيل، ونجما منصوب على المدح. وسهيل: نجم عند طلوعه تنضج الفواكه، وينقضي القيظ. والشّهاب:
شعلة من نار ساطعة، أي: مرتفعة، فيكون ساطعا: حالا مؤكّدة. والهمزة في أما للاستفهام. وهذا الشعر لم أعرف قائله، والله سبحانه أعلم.
وقال التبريزي في «شرح الكافية الحاجبية»: وأمّا قوله (3): (البسيط)
وأنّني حيث ما يدني الهوى بصري ... من حيث ما سلكوا أدنو فأنظور
فمن جوّز إضافته إلى المفرد فما: مصدرية، أي: من حيث السلوك. ومن لا يجوّز يجعله (4) في محل المبتدأ وخبره محذوف، فيكون مضافا إلى الجملة، أو ما زائدة.
اه.
وقال أبو حيان في «الارتشاف»: والجملة التي تضاف إليها «حيث» شرطها أن تكون خبرية اسمية، أو فعلية، مثبتة، مصدّرة بماض، أو مضارع مثبتين، أو منفيّين بلم، أو لا. فأمّا قوله من حيث ما سلكوا فما زائدة.
* * * وأنشد بعده، وهو الشاهد الثاني بعد الخمسمائة (5): (الطويل)
__________
(1) زيادة يقتضيها السياق من شرح أبيات المغني للبغدادي 3/ 153.
(2) في النسخة الشنقيطية: = وإن رفع سهيل =.
(3) هو الإنشاد الواحد والتسعون بعد الخمسمائة في شرح أبيات المغني للبغدادي.
والبيت مع آخر بلا نسبة في شرح أبيات المغني للبغدادي 6/ 140، وهو لابن هرمة في ملحق ديوانه ص 239 وهو بلا نسبة في أسرار العربية ص 45والأشباه والنظائر 2/ 29والإنصاف 1/ 24والجنى الداني ص 173 والدرر 6/ 204ورصف المباني 13/ 435وسر صناعة الإعراب 1/ 26، 338، 2/ 630وشرح شواهد المغني 2/ 785والصاحبي في فقه اللغة ص 50ولسان العرب (شرى، الألف، وا) والمحتسب 1/ 259 ومغني اللبيب 2/ 368والممتع في التصريف 1/ 156وهمع الهوامع 2/ 156.
(4) في النسخة الشنقيطية: = لا يجعله =.
(5) هو الإنشاد الثامن والتسعون بعد المائة في شرح أبيات المغني للبغدادي.
(7/7)
502 - لدى حيث ألقت رحلها أمّ قشعم
هذا صدر، وعجزه:
* فشدّ ولم تفزع بيوت كثيرة *
على أنّ «حيث» المضافة إلى الجملة والمفرد، قد تفارق الظرفية، فتجرّ، كما في البيت، فإنّها في موضع جرّ بإضافة لدى إليها، وقد تنصب على المفعولية كما في قوله تعالى (1): {«اللََّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسََالَتَهُ»}. وقد تنصب على التمييز كما في:
هي أحسن الناس حيث نظر ناظر، يعني وجها.
قال ابن هشام في «المغني»: والغالب كونها في محل نصب على الظرفية، أو خفض بمن، وقد تخفض بغيرها كقوله:
* لدى حيث ألقت رحلها أمّ قشعم *
وقد تقع مفعولا به وفاقا للفارسي، وحمل عليه: {«اللََّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسََالَتَهُ»}، إذ المعنى أنه تعالى يعلم نفس المكان المستحقّ لوضع الرسالة فيه لا شيئا في المكان. وناصبها يعلم محذوفا مدلولا عليه بأعلم لا بأعلم نفسه، لأنّ أفعل التفضيل لا ينصب المفعول به. فإن أوّلته بعالم جاز أن ينصبه في رأي بعضهم. ولم تقع اسما لإنّ، خلافا لابن مالك، ولا دليل له في قوله (2): (الخفيف)
إنّ حيث استقرّ من أنت راعي ... هـ حمى فيه عزّة وأمان
لجواز تقدير حيث خبرا، وحمى اسما. فإن قيل: يؤدّي إلى جعل المكان حالا في
__________
والبيت لزهير بن أبي سلمى في ديوانه صنعة الأعلم الشنتمري ص 21وديوانه صنعة ثعلب ص 29والدرر 3/ 127وشرح أبيات المغني 3/ 133وشرح شواهد المغني 1/ 384ولسان العرب (قشعم) وهو بلا نسبة في مغني اللبيب 1/ 131وهمع الهوامع 1/ 212.
وروايته في ديوانه صنعة ثعلب:
* فشدّ ولم يفزع بيوتا كثيرة *
(1) سورة الأنعام: 6/ 124.
(2) هو الإنشاد التاسع والتسعون بعد المائة في شرح أبيات المغني للبغدادي.
والبيت بلا نسبة في الدرر 3/ 129وشرح أبيات المغني 3/ 139ومغني اللبيب 1/ 132وهمع الهوامع 1/ 212.
(7/8)
المكان. قلنا: هو نظير قولك: إنّ في مكة دار زيد. ونظيره في الزمان: إن في يوم الجمعة ساعة الإجابة. اه.
وقوله: «والغالب كونها في محل نصب على الظرفية أو خفض بمن»، بقي عليه خفضها بالباء وبغيرها. قال أبو حيان في «الارتشاف»: إنها جرّت بمن كثيرا، وبفي شاذّا، نحو (1): (الطويل)
* فأصبح في حيث التقينا شريدهم *
وب «على». قال: (الطويل)
* سلام بني عمرو على حيث هامكم *
وب «الباء»، نحو (2): (الخفيف)
* كان منّا بحيث يعكى الإزار *
وب «إلى»، نحو:
* إلى حيث ألقت رحلها أمّ قشعم *
وأضيفت لدى إليها في قوله: «لدى حيث ألقت رحلها». وتمام الدليل في الآية أن يقال: لا يجوز أن تكون حيث، ظرفا، لأن علم الله لا يختصّ بمكان دون مكان. ولا يجوز أن تكون مجرورة بإضافة أعلم إليها، لأنّها ليست بصفة، وهي شرط في إضافة أفعل التفضيل. ولا يجوز أن تكون منصوبة به، لأنّ أفعل التفضيل لا يعمل النصب في الظاهر. وإذا بطل ذلك تعيّن أن يكون منصوبا على المفعول به، بفعل مقدّر، دلّ عليه أعلم، أي: الله أعلم يعلم حيث يجعل، كقوله (3): (الطويل)
__________
(1) صدر بيت للفرزدق وعجزه:
* طليق ومكتوف اليدين ومزعف *
والبيت للفرزدق في ديوانه ص 562وجمهرة أشعار العرب ص 888والكتاب 2/ 10.
(2) في طبعة بولاق: = يعلى الإزار =. وهو تصحيف صوابه من النسخة الشنقيطية والدرر اللوامع 1/ 171.
يعكى: يشد البطن.
(3) عجز بيت للعباس بن مرداس وصدره:
* أكرّ وأحمى للحقيقة منهم *
والبيت هو الإنشاد الثامن والأربعون بعد الثمانمائة في شرح أبيات المغني للبغدادي.
(7/9)
* وأضرب منّا بالسّيوف القوانسا *
أي: أضرب منّا يضرب القوانس بالسّيوف.
وجوز السفاقسي أن تكون باقية على الظرفيّة، قال: فإنّه لا مانع من عمل أعلم في الظرف. والذي يظهر لي أنّه باق على ظرفيته، والإشكال إنما يرد من حيث مفهوم الظرف، وكم موضع ترك فيه المفهوم لقيام الدليل على تركه. وقد قام الدليل القاطع في هذا الموضع. اه.
وقوله: لا دليل له في قوله إنّ حيث استقر إلخ، يريد أنّ حيث فيه: ظرف، وهو خبر مقدم، وحمى: اسم إنّ مؤخّر كقولهم: إن عندك زيدا. ويرد عليه أنّ هذا الحمل غير مراد، وإنما المعنى: إنّ مكانا استقر فيه جماعة أنت راعيهم وحافظهم، هو حمى فيه العزّة والأمان. فتأمّل. والحمى: المكان المحميّ من المكروه.
وقد ذكر أبو حيان في «تذكرته» أن حيث: تقع اسما لكأنّ، وتقع مبتدأ، وأورد مسائل تمرين لحيث، فلا بأس بإيرادها هنا، قال:
إذا قيل: حيث نلتقي طيّب حكم على حيث بالرفع، لأنّه اسم المكان الذي خبره طيّب، وهو نائب عن موضعين أسبقهما محدود، خبره طيّب، وآخرهما مجهول ناصبه نلتقي، تلخيصه: الموضع الذي نلتقي فيه طيّب. وقال الشاعر (1):
(الرجز)
__________
والبيت للعباس بن مرداس في ديوانه ص 93، والاختيارين ص 736والأصمعيات ص 205والتذكرة السعدية ص 97وحماسة البحتري ص 202وحماسة الخالديين 1/ 154، وشرح أبيات المغني للبغدادي 7/ 292وشرح التصريح 1/ 339وشرح الحماسة للمرزوقي ص 441ولسان العرب (قنس) ونوادر أبي زيد ص 59وهو بلا نسبة في الأشباه والنظائر 1/ 344وأمالي ابن الحاجب 1/ 460وشرح الأشموني 1/ 291ومغني اللبيب 2/ 618.
(1) الرجز لابن ميادة في ديوانه ص 218ولسان العرب (رفل) وهو بلا نسبة في تاج العروس (محل) وشرح أبيات المغني 3/ 134وكتاب الجيم 2/ 310ولسان العرب (عتل، محل). في أصول طبعات الخزانة: = كان = مخففة، وبها لا يستقيم الوزن الشعري. والتصويب من المصادر السابقة. وفي تاج العروس ولسان العرب (محل):
= المحالة: الفقرة من فقار البعير، وجمعه محال، وجمع المحال محل، أنشد ابن الأعربي: كأن حيث من قطريه وعلان =. أراد: قرون وعلين ووعل، شبه ضلوعه في اشتباكها بقرون الأوعال. وفي اللسان (عتل): جبل عتل:
صلب شديد، وأنشد البيت الأخير.
(7/10)
كأنّ حيث نلتقي منه المحل ... من جانبيه وعلان ووعل
* ثلاثة أشرفن في طود عتل *
أنشد هذا الشعر هشام، وقال: ثلاثة خبر كأن.
وإذا قيل: إنّ حيث زيد ضربت عمرا، ففيها وجهان: رفع زيد ونصب عمرو، ونصب زيد وعمرو. فعلى الأوّل أبطل إنّ في ظاهر الكلام، ونصب عمرا بضربت، ورفع زيدا بحيث لنيابة زيد عن محلّين أسبقهما يطلبه الضرب وآخرهما يرفع زيدا، وتقديرها: إنّ في المكان الذي فيه زيد ضربت زيدا.
والكسائي يقول: ليس لإنّ اسم، ولا خبر. لأنّها مبطلة عن ضربت، إذ لم تكن من عوامل الأفعال. والبصريون يضمرون الهاء مع إنّ، ويجعلون الجملة الخبر.
والفراء يقول: ضربت، سدّ مسدّ ضاربا أنا.
وقال هشام: يقال: حيث زيد عمرو، بفتح الثاء ورفع زيد وعمرو، وحيث زيد عمرو بفتح الثاء وخفض زيد. وأما الفتح مع رفع زيد فمفارق للقياس، يجري مجرى قول من يقول: حيث زيد عمرو، فيضمّ الثاء ويخفض بها زيدا، قال:
* أما ترى حيث سهيل طالعا *
وقد حكوا عن العرب حيث سهيل بضم الثاء وخفض سهيل، وهو فاسد العلّة، لأن ضمّ الثاء يوجب رفع سهيل، كما أن فتح الثاء يوجب به خفض سهيل. ولا ينبغي أن يبنى إلّا على الأكثر، والأعرف والأصحّ علة.
وإذا قيل: إنّ حيث أبوك كان أخوك، رفع الأخ بكان وحيث خبر كان، والأب رفع بحيث لنيابتها عن محلّين أحدهما خبر كان، والآخر رافع الأب، وإنّ مبطلة عن كان، والتقدير: إنّ في المكان الذي فيه أبوك كان أخوك.
ويجوز إنّ حيث أبوك كان أخاك، فأخاك اسم إنّ وحيث خبر إنّ، وأبوك رفع بالراجع من كان، وحيث خبر كان، والتقدير: إنّ أخاك في المكان الذي كان فيه أبوك.
وإذا قيل: إنّ حيث أبوك قائم أخاك جالس، نصب الأخ بإنّ وجالس خبر إنّ، ورفع قائم بالأب، وحيث نائبة عن محلين: أحدهما: صلة الجالس وهو الأسبق، وآخرهما صلة قائم.
(7/11)
ويجوز: إنّ حيث أبوك قائما أخاك جالس، الأخ وجالس على ما كانا عليه (1)
والجواب الأول، وقائما نصب على الحال من أبيك، وحيث متضمنة لمحلّين أوّلهما صلة الجالس (2) وآخرهما رفع للأب.
ويجوز: إنّ حيث أبوك قائما أخاك جالسا، أخاك: اسم إنّ وحيث خبر إن، وهي رافع الأب. وقائما: حال الأب، وجالسا: حال الأخ.
ويجوز: إنّ حيث أبوك قائم أخاك جالسا، أخاك: اسم إنّ، وحيث متضمّن محلين أولهما خبر إنّ وآخرهما صلة قائم، وقائم رفع بأبيك، وجالسا نصب على الحال من أخيك. وإن فتحت ثاء حيث وأضيفت، قيل: إن حيث أبيك قائما أخاك جالس وجالسا، على التفسير المتقدم. انتهى ما أورده أبو حيان.
وقال في «الارتشاف»: لم يجىء فاعلا، ولا مفعولا به، ولا مبتدأ. وقد فرّع الكوفيون صورا على حيث، منها: حيث نلتقي طيّب.
ثم ذكر بعض ما أورده في التذكرة.
والبيت من معلقة زهير بن أبي سلمى، ولا بدّ من إيراد شيء ممّا قبله ليتّضح معناه وهذه أبيات مما قبله ومما بعده (3):
لعمري لنعم الحيّ جرّ عليهم ... بما لا يواتيهم حصين بن ضمضم
وكان طوى كشحا على مستكنّة ... فلا هو أبداها ولم يتقدّم (4)
وقال: سأقضي حاجتي ثمّ أتّقي ... عدوّي بألف من ورائي ملجم
فشدّ ولم تفزع بيوت كثيرة ... لدى حيث ألقت رحلها أمّ قشعم
لدى أسد شاكي السّلاح مقذّف ... له لبد أظفاره لم تقلّم (5)
__________
(1) في النسخة الشنقيطية: = كان عليه =. وهو تصحيف صوابه من طبعة بولاق.
(2) في طبعة بولاق: = أولهما صفة جالس =. وقد أثبتنا رواية النسخة الشنقيطية.
(3) الأبيات في ديوانه صنعة الأعلم ص 2120وديوانه صنعة ثعلب ص 3029، وشرح أبيات المغني 3/ 135، وشرح القصائد العشر للتبريزي ص 190187.
(4) البيت لزهير بن أبي سلمى في الأزهية ص 158ولسان العرب (طوى).
(5) البيت لزهير بن أبي سلمى في تاج العروس (قذف) وتهذيب اللغة 9/ 76وجمهرة اللغة ص 974 ولسان العرب (قذف، مكن).
(7/12)
جريء متى يظلم يعاقب بظلمه ... سريعا وإلّا يبد بالظّلم يظلم (1)
أراد بالحي حيّ مرّة من بني ذبيان. و «جرّ»: [فعل] ماض من الجريرة، وهي الجناية. و «يواتيهم»: يوافقهم. و «حصين بن ضمضم»: هو ابن عمّ النابغة الذّبياني، وكانت جنايته أنه لما اصطلحت قبيلة زبيان مع قبيلة عبس، امتنع حصين هذا من الصّلح، واستتر من القبيلتين، لأنّ ورد بن حابس العبسيّ كان قتل هرم بن ضمضم، وهو أخو حصين، فحلف حصين لا يغسل رأسه حتّى يقتل وردا أو رجلا منهم.
ثم أقبل رجل من بني عبس، فنزل بحصين بن ضمضم، فلمّا علم أنّه عبسيّ قتله، فكاد الصّلح ينتقض، فسعى بالصلح، وتحمّل الدية الحارث بن عوف وهرم بن سنان [المريين] (2). ولهذا مدحهم زهير بقوله: لنعم الحيّ.
وقد تقدم الكلام على هذه القصيدة وعلى سببها مفصلا في الشاهد السادس والخمسين بعد المائة (3).
وقوله: «وكان طوى كشحا» إلخ، اسم كان ضمير حصين. و «الكشح»:
الخاصرة، يقال: طوى كشحه على كذا، أي: أضمره في نفسه. و «المستكنّة»:
المستترة. أي: أضمر على غدرة مستترة. وقوله: «فلا هو أبداها»، أي: ما أظهر الغدرة المستكنّة، ولا تقدّم فيها قبل الصّلح.
وروى: «ولم يتجمجم»: بجيمين، أي: لم يتنهنه عما أراد مما كتم. وقال الأعلم: أي: لم يدع التقدّم فيما أضمر، ولم يتردّد في إنفاذه.
وشرح هذين البيتين تقدّم في الشاهد السادس والأربعين بعد المائتين (4).
وقوله: «وقال سأقضي حاجتي» إلخ، فاعل قال: ضمير حصين. و «حاجته»:
__________
(1) البيت لزهير بن أبي سلمى في الدرر 1/ 165وسر صناعة الإعراب 2/ 739، وشرح شواهد الشافية ص 10وشرح شواهد المغني 1/ 385والممتع في التصريف 1/ 381، 2/ 428وهو بلا نسبة في شرح شافية ابن الحاجب 1/ 26والمقرب 1/ 50وهمع الهوامع 1/ 52.
(2) زيادة يقتضيها السياق من شرح أبيات المغني 3/ 136. قطع الصفة عن الموصوف فنصب المريين ولم يرفعه.
(3) الخزانة الجزء الثالث ص 3.
(4) الخزانة الجزء الرابع ص 3.
(7/13)
ما كان أضمره في نفسه من قتل عبسيّ، وورائي، أي: أمامي كقوله تعالى (1):
{«وَكََانَ وَرََاءَهُمْ مَلِكٌ»}، وقوله (2): {«وَمِنْ وَرََائِهِ عَذََابٌ»}. و «ملجم»: يروى بكسر الجيم، أي: بألف فارس ملجم فرسه. ويروى بفتح الجيم، أي: بألف فرس ملجم، وأراد بها فرسانها.
قال الأعلم: أي سأدرك ثأري، ثم ألقى عدوّي بألف [فارس] (3)، أي:
أجعلهم بيني وبين عدوّي. يقال: اتّقاه بحقّه، أي: جعله بينه وبينه. وجعل ملجما على لفظ ألف فذكّره، ولو كان في غير الشعر لجاز تأنيثه على المعنى. اه. وذلك لأنّ فرسا ممّا يذكر ويؤنث.
وقوله: «فشدّ» إلخ، أي: حمل حصين على ذلك الرجل العبسيّ فقتله، ولم تفزع بيوت كثيرة، أي: لم يعلم أكثر قومه بفعله، وأراد بالبيوت أحياء وقبائل.
يقول: لو علموا بفعله لفزعوا، أي: لأغاثوا الرجل العبسي ولم يدعوا حصينا [يقتله]. وإنما أراد [زهير] بقوله هذا أن لا يفسدوا صلحهم بفعله.
وقوله: «حيث ألقت رحلها»، أي: حيث كان شدّة الأمر، يعني موضع الحرب. و «أمّ قشعم»: كنية الحرب، ويقال: كنية المنيّة.
والمعنى: أنّ حصينا شدّ على الرجل العبسيّ فقتله بعد الصّلح، وحين حطّت رحلها الحرب ووضعت أوزارها وسكنت. ويقال: هو دعاء على حصين، أي:
عدا على الرجل العبسيّ بعد الصلح، وخالف الجماعة، فصيّره الله إلى هذه الشدة! ويكون معنى ألقت رحلها على هذا: ثبتت وتمكّنت.
هذا كلام الأعلم في «شرح الأشعار الستة». وتفزع على روايته بالبناء للفاعل.
وقال التبريزي [في شرح المعلقة] (4): معناه شدّ على عدوّه وحده فقتله، ولم تفزع العامّة بطلب واحد وإنّما قصد الثأر، أي: لم يستعن على قتله بأحد.
__________
(1) سورة الكهف: 18/ 79.
(2) سورة إبراهيم: 14/ 17.
(3) زيادة يقتضيها السياق من شرح أبيات المغني.
في شرح أبيات المغني، وشرح ديوانيه: = أتقي عدوي =.
(4) شرح القصائد العشر للخطيب التبريزي ص 189.
(7/14)
ونقل صعوداء (1) في «شرح ديوان زهير» عن قوم: أنّ أمّ قشعم على هذه الرواية هي أمّ حصين، أي: فلم تفزع البيوت التي بحضرة بيت أمّه، لأنّه أخذ ثأره.
ف «لدى» على قول الأعلم ظرف متعلق بشدّ، وعلى قول صعوداء يكون لدى متعلقا بمحذوف على أنّه صفة ثانية لبيوت، أو حال منه.
وروى الزوزني (2): «ولم يفزع بيوتا»، على أن فاعله ضمير حصين، وقال:
أي: لم يتعرض لغيره عند ملقى رحل المنيّة. وملقى الرّحال: المنزل، لأنّ المسافر يلقي به رحله، أي: أثاثه ومتاعه. أراد: عند منزل المنيّة. وجعله منزل المنيّة لحلولها فيه. فعلى هذا يكون لدى متعلقا ب «تفزع» مضارع أفزعه، أي: أخافه، بخلاف الأول فإنه مضارع بمعنى أغاث أو علم.
والمشهور رواية «فشدّ ولم ينظر بيوتا كثيرة» (3) فيكون فاعل ينظر أيضا ضمير حصين، ثمّ اختلفوا، فرواه صعوداء (4) بفتح أوّله، وقال: لم ينظر، أي: لم ينتظر، يقال: نظرت الرجل، أي: انتظرته. وعلى هذا يكون المعنى: لم ينتظر حصين أن ينصره قومه على أخذ ثأره.
وروى أبو جعفر: «ولم ينظر»، بضم أوله وكسر ثالثه، وقال: معناه: لم يؤخّر حصين أهل بيت قاتل أخيه في قتله، لكنه عجل فقتله. فيكون ينظر مضارع أنظره، بمعنى أمهله وأخّره.
وعلى هذين الوجهين يكون لدى متعلقا بشدّ، وكذلك على قول من فسّر أم قشعم بالعنكبوت، وهو أبو عبيدة، أو بالضبع، كما نقله صعوداء.
ويكون المعنى: فشدّ على صاحب ثأره بمضيعة من الأرض. قال صعوداء: أمّ قشعم عند الأصمعي: الحرب الشديدة. ومن جعلها العنكبوت أو الضبع فمعناه وجده بمضيعة فقتله.
__________
(1) في النسخة الشنقيطية: = صاعوراء =. وهو تصحيف. وصعوداء، هو محرز بن هبيرة الأسدي، أبو سعيد النحوي الكوفي، أستاذ الشاعر الخليفة عبد الله بن المعتز. انظر في ذلك إنباه الرواة 2/ 85ومعجم الأدباء 19/ 105.
(2) شرح المعلقات السبع ط بيروت ص 147وشرح أبيات المغني للبغدادي 3/ 137.
(3) هي رواية ديوانه صنعة أبي العباس ثعلب ص 29.
(4) في النسخة الشنقيطية: = صاعودا =. وهو تصحيف صوبناه.
(7/15)
وقال ابن الأثير في «المرصّع»: أمّ قشعم هي المنية، والداهية، والحرب، والنّسر، والعنكبوت، والضبع، والذئب، واللبؤة، وفسّر بأحد هذه الأشياء. قال زهير:
* لدى حيث ألقت رحلها أمّ قشعم *
هذا كلامه.
و «قشعم»: فعلم من قشعت الريح التراب فانقشع، وأقشع القوم عن الشيء، وتقشّعوا، إذا تفرّقوا عنه وتركوه.
وقوله: «لدى أسد شاكي السلاح» إلخ، هذا البيت في الظاهر غير مرتبط بما قبله، ولا يعرف متعلق لدى أسد. وقد فحصت عنه فلم أجد من ربطه [بما قبله] مع أنّه من أبيات علم المعاني، أورد شاهدا لجواز الجمع بين التجريد والترشيح.
وقد رجعت إلى «معاهد التنصيص» للعباسي، فلم أر فيه غير هذه الأبيات، ولم يتكلم عليها بشيء، ففزعت إلى قريحتي، وأعملت الفكرة، فأرشدني الله إلى وجهه، وهو أنّ لدى أسد متعلق بألقت رحلها أمّ قشعم، على تفسير أمّ قشعم بالحرب، ومعنى ألقت رحلها: حطّت رحلها الحرب ووضعت أوزارها وسكنت، فيكون الإلقاء عبارة عن السّكون والهدوء، كما قال الشاعر (1): (الطويل)
فألقت عصاها واستقرّ بها النّوى ... كما قرّ عينا بالإياب المسافر
ويكون المراد من الأسد الحارث بن عوف المرّي، فإنه هو الذي أطفأ نار الحرب بين عبس وذبيان، بعد ما جرى بينهما في يوم داحس، وسعى في الصّلح بينهما بتحمّل الديات مع [ابن] (2) عمّه هرم بن سنان المري. وعلى هذا يتّضح الإرتباط، ويضمحل ما فسّر به أمّ قشعم من سائر المعاني، ولله الحمد والمنّة.
وقال الزوزني: البيت كلّه من صفة حصين بن ضمضم.
__________
(1) البيت لمعقر بن أوس بن حمار في الاشتقاق ص 481والأغاني 8/ 346ولسان العرب (نوى) والمؤتلف والمختلف ص 128وله أو لعبد ربّه السلمي أو لسليم بن ثمامة الحنفي في لسان العرب (عصا) وهو بلا نسبة في البيان والتبيين 3/ 40ورصف المباني ص 48وشرح أبيات المغني 3/ 138.
(2) في أصول طبعات الخزانة: = مع عمه هرم بن سنان =. وهو تحريف صوبناه من شرح أبيات المغني للبغدادي 3/ 139.
(7/16)
وقال الأعلم والتبريزي (1) أراد بقوله: لدى أسد: الجيش. وحمل لفظ البيت على الأسد.
ولا يخفى أنه لا يصحّ الارتباط بكلّ من هذين القولين.
وقوله: «شاكي السلاح» وهو مقلوب شائك كما بيّن في الصّرف، أي:
سلاحه شائكة حديدة ذات شوكة.
و «المقذّف»، بصيغة اسم المفعول، قال الأعلم وأبو جعفر: هو الغليظ الكثير اللحم، فيكون ترشيحا. كقوله: «له لبد» إلخ.
وقال الزوزني: أي: يقذف به كثيرا إلى الوقائع والحروب فعلى هذا يكون تجريدا كشاكي السلاح. وروى صعوداء والتبريزي: «مقاذف» بكسر الذال وفسّراه: بمرام (2)، أي: يرامى بنفسه في الحروب. وهذا تجريد أيضا.
وقوله: «له لبد»، هو بكسر اللام وفتح الموحّدة، جمع لبدة. قال الأعلم:
اللّبدة: زبرة الأسد. والزّبرة: شعر متراكب متلبّد بين كتفي الأسد إذا أسنّ. وأراد بالأظفار السّلاح. يقول: سلاحه تامّ حديد. وأوّل من كنى بالأظفار عن السلاح أوس بن حجر في قوله (3): (الطويل)
لعمرك إنّا والأحاليف هؤلا ... لفي حقبة أظفارها لم تقلّم
ثم تبعه زهير، والنابغة في قوله (4): (الكامل)
* آتوك غير مقلّمي الأظفار *
اه.
__________
(1) ديوان زهير بن أبي سلمى صنعة الأعلم الشنتمري ص 22، وشرح القصائد العشر للخطيب التبريزي ص 190.
(2) في أصول طبعات الخزانة: = وفسراه بمرامي =. وهو تصحيف صوابه من شرح القصائد العشر للخطيب التبريزي ص 190.
(3) البيت لأوس بن حجر في ديوانه ص 120وديوان زهير صنعة الأعلم ص 22وديوانه صنعة ثعلب ص 30.
(4) عجز بيت للنابغة الذبياني وصدره:
* وبنو قعين لا محالة أنهم *
والبيت للنابغة الذبياني في ديوانه ص 56وأساس البلاغة (قلم) وجمهرة اللغة ص 974وديوان زهير بن أبي سلمى صنعة الأعلم ص 22وديوان زهير صنعة ثعلب ص 31.
(7/17)
وقوله: «جريء» هو وصف أسد، ويظلم الأوّل ويبد كلاهما بالبناء للمفعول، ويعاقب ويظلم الثاني بالبناء للفاعل.
قال الأعلم (1): قوله وإلا يبد بالظلم إلخ. يقول: إن لم يظلم بدأهم [بالظلم]، لعزّة نفسه وجراءته. و «متى» جازم لفعلين. و «سريعا» إمّا حال من ضمير يعاقب، وإمّا مفعول مطلق، أي: عقابا سريعا. و «يبد» أصله يبدأ بالهمزة، فأبدلها ألفا ثم حذفت الألف للجازم.
وقد أورده الشارح المحقق في «أول شرح الشافية» لما ذكرنا.
وترجمة زهير بن أبي سلمى تقدّمت في الشاهد الثامن والثلاثين بعد المائة (2).
* * * وأنشد بعده، وهو الشاهد الثالث بعد الخمسمائة (3): (المديد)
503 - للفتى عقل يعيش به
حيث تهدي ساقه قدمه
على أنّ الأخفش قال: إن «حيث» قد تأتي بمعنى الحين، أي: ظرف زمان، كما في هذا البيت. قال أبو علي في «إيضاح الشعر»: زعم أبو الحسن أنّ «حيث» قد يكون اسما للزمان، وأنشد:
للفتى عقل يعيش به ... البيت
فجعل «حيث» فيه حينا.
فإن قلت: فهل يجوز على هذا أن يكون موضع الجملة بعد حيث جرّا، لإضافة حيث إليه، كما تضاف أسماء الزمان إلى الجمل، فالجواب: أنّ ذلك لا يمتنع فيه إذا كان زمانا. اه.
__________
(1) ديوان زهير صنعة الأعلم الشنتمري ص 22. والزيادة منه.
(2) الخزانة الجزء الثاني ص 293.
(3) البيت لطرفة بن العبد في ديوانه ص 86والدرر 3/ 125وسمط اللآلئ ص 319ولسان العرب (سوق، هدى) وهو بلا نسبة في شرح أبيات المغني للبغدادي 3/ 146وشرح المفصل 4/ 92ومجالس ثعلب ص 238وهمع الهوامع 1/ 212.
(7/18)
وقال ابن مالك: لا حجّة للأخفش فيه، لجواز إرادة المكان على ما هو أصله.
ويدلّ لما قاله أنّ المعنى على الظرفية المكانية، إذ المعنى: أين مشى، لا حين مشى.
وقال ابن هشام في «المغني»: وإذا اتصل بحيث ما الكافّة ضمّنت معنى الشرط، وجزمت الفعلين، كقوله (1): (الخفيف)
حيثما تستقم يقدّر لك اللّ ... هـ نجاحا في غابر الأزمان
وهذا البيت دليل عندي على مجيئها للزمان. قال الدماميني في «[الحاشية] الهندية»: كأنّ ذلك جاء من قبل قوله: في غابر الأزمان، فصرّح بالزمان. وليس بقاطع، فإنّ الظرف المذكور إمّا لغو متعلّق بيقدّر، وإما مستقرّ صفة لنجاحا.
وذلك لا يوجب أن يكون المراد بحيث الزمان، لاحتمال أن يكون المراد: أينما تستقم يقدّر لك النجاح في الزمان المستقبل.
وقوله: «حيث تهدي» قال في الصحاح: «وهداه، أي: تقدّمه». وأنشد البيت. و «ساقه»: مفعول مقدّم، وقدمه: فاعل مؤخر.
والبيت آخر قصيدة عدّتها ثلاثة وعشرون بيتا لطرفة بن العبد.
وأورد أبو عبيد في «الغريب المصنف» البيت الذي قبل هذا، فلنقتصر عليه، وهو (2):
الهبيت لا فؤاد له ... والثّبيت ثبته فهمه
قال أبو عبيد: «الهبيت»: الذاهب العقل. وقال شارح أبياته ابن السّيرافي:
المعنى أنّ الجبان يذهب عقله ويطير قلبه من الفزع، فلا يهتدي للصّواب، والثابت القلب يعرف وجه الرّأي فيأتيه. وقوله: «للفتى عقل»، أي: للفتى العاقل عقل يعيش به، أين توجّه انتفع به. اه.
__________
(1) هو الإنشاد الثالث بعد المائتين في شرح أبيات المغني للبغدادي.
والبيت بلا نسبة في تذكرة النحاة ص 736وشرح أبيات المغني 3/ 153وشرح الأشموني 3/ 510وشرح شذور الذهب ص 437وشرح شواهد المغني 1/ 391وشرح ابن عقيل ص 583وشرح عمدة الحافظ ص 365وشرح قطر الندى ص 89ومغني اللبيب 1/ 133والمقاصد النحوية 4/ 426.
(2) ديوان طرفة بن العبد ص 86.
(7/19)
وقال ابن السكيت في «شرح ديوانه»: الهبيت: الذي فيه هبية، أي: ضربة بالعصا. وقال أبو عمرو: الهبيت المبهوت جبنا. ويروى: «والثّبيت قلبه قيمه»، أي: قوامه. وقوله: «حيث تهدي» إلخ، أي: عقل حيثما مشى. اه.
وقال الأعلم في «شرح الأشعار الستة»: الهبيت: المبهوت، يقال: رجل هبيت ومهبوت ومبهوت بمعنى، وهو الجبان المخلوع الفؤاد. وقوله: «والثّبيت ثبته فهمه»، أي: من كان ثابت القلب ففهمه يثبّت عقله. وهذا مثل ضربه لشدّة الحرب. وقوله: «للفتى عقل» يقول من كان عاقلا وفتى متصرّفا عاش، حيثما نقلته قدمه، وذهبت به من أرض غربة وغيرها. اه.
وكلّهم حملوا حيث على أصلها كما هو ظاهر من كلامهم.
وترجمة طرفة تقدّمت في الشاهد الثاني والخمسين بعد المائة (1).
* * * وأنشد بعده، وهو الشاهد الرابع بعد الخمسمائة، وهو من شواهد س (2):
(البسيط)
504 - ترفع لي خندف والله يرفع لي
نارا إذا خمدت نيرانهم تقد
على أنّ «إذا» قد تجزم في الشعر فعلين كما هنا، فإنّ جملة «خمدت» في محلّ جزم شرط «إذا»، و «تقد» جوابها، وهو مجزوم وكسرة الدال للرّويّ.
قال سيبويه: وقد جازوا بها، أي: بإذا، في الشعر مضطرين، شبّهوها بإن حيث رأوها لما يستقبل، وأنّها لابدّ لها من جواب. وقال قيس بن الخطيم (3):
(الطويل)
__________
(1) الخزانة الجزء الثاني ص 370.
(2) البيت للفرزدق في ديوانه ص 216والأزمنة والأمكنة 1/ 241وشرح المفصل 7/ 47والكتاب 3/ 62 وهو بلا نسبة في شرح الأشموني 3/ 583والمقتضب 2/ 56.
(3) البيت لقيس بن الخطيم في ديوانه ص 88وشرح أبيات سيبويه 2/ 137وشرح المفصل 7/ 47والشعر والشعراء ص 327والكتاب 3/ 61وللأخنس بن شهاب في شرح اختيارات المفضل ص 937وهو لكعب
(7/20)
إذا قصرت أسيافنا كان وصلها ... خطانا إلى أعدائنا فنضارب
وقال الفرزدق:
ترفع لي خندف والله يرفع لي ... البيت
وقال بعض السّلوليّين (1): (الطويل)
إذا لم تزل في كلّ دار عرفتها ... لها واكف من دمع عينيك يسجم
فهذا اضطرار، وهو في الكلام خطأ، ولكن الجيّد قول كعب بن زهير (2): (الخفيف)
وإذا ما تشاء تبعث منها ... مغرب الشّمس ناشطا مذعورا
اه.
وقوله: «إذا قصرت أسيافنا» إلخ، يأتي شرحه إن شاء الله بعد بيت الفرزدق.
وقوله: «ترفع لي خندف» إلخ، قال الأعلم: الشاهد فيه جزم تقد على جواب إذا لأنه قدّرها عاملة عمل إن ضرورة. يقول: ترفع لي قبيلتي من الشّرف ما هو في الشّهرة كالنار الموقدة إذا قعدت بغيري قبيلته. و «خندف»: أمّ مدركة وطابخة ابني إلياس، فلذلك فخر بخندف على قيس عيلان بن مضر.
وقوله: «إذا لم تزل في كلّ دار» إلخ، قال الأعلم: الشاهد في جزم تسجم على جواب إذا كما تقدّم. وتقدير لفظ البيت: إذا لم تزل في كلّ دار عرفتها من ديار الأحبّة يسجم لها واكف من دمع عينيك. ومعنى يسجم ينصبّ (3). و «الواكف»:
القاطر. ورفعه بإضمار فعل دلّ عليه يسجم. ويجوز أن يكون مرتفعا به على التقديم
__________
ابن مالك في فصل المقال ص 442وليس في ديوانه ولشهم بن مرة في الحماسة الشجرية 1/ 186ولعمران ابن حطان في شعر الخوارج ص 46وهو بلا نسبة في شرح المفصل 4/ 97والمقتضب 2/ 57.
(1) في طبعة بولاق والنسخة الشنقيطية: = تسجم =. والوجه ما أثبتناه عن كتاب سيبويه.
والبيت لبعض السلوليين في شرح أبيات سيبويه 2/ 131والكتاب 3/ 62.
(2) البيت لكعب بن زهير في ديوانه ص 29وشرح أبيات سيبويه 2/ 118وشرح المفصل 8/ 134والكتاب 3/ 62والمقتضب 2/ 57.
(3) في طبعة بولاق والنسخة الشنقيطية: = ومعنى تسجم تنصب =.
(7/21)
والتأخير ضرورة. ويروى: «يسكب».
والبيت لجرير في قصيدة بائية (1)، ونسب إلى غيره في الكتاب، وغيّرت قافيته غلطا. ويحتمل أن يكون لغيره، من قصيدة ميمية.
وقوله: «وإذا ما تشاء تبعث» إلخ، قال الأعلم: الشاهد فيه رفع ما بعد إذا على ما يجب فيها. وصف ناقته بالنشاط والسّرعة بعد سير النهار كلّه، فشبّهها في انبعاثها (2) مسرعة بناشط قد ذعر من صائد أو سبع. والناشط: الثور يخرج من بلد إلى بلد، فذلك أوحش له وأذعر. انتهى.
وروى بيت الفرزدق (3) «إذا ما خبت نيرانهم تقد». وعليه فلا ضرورة فيه.
ووقع بهذه الرواية في «بعض نسخ اللّباب» وقال: إنه قليل.
قال شارحه الفالي (4): هذا البيت لم يوجد مذكورا في نسخة مقابلة بنسخه المصنّف، والظاهر أنّه إلحاق، والصواب إذا خمدت، لأنّ إذا بدون ما هو المبحث، وأما مع ما فتجويز الجزم به قد لا يستبعد، لأنّ إذ مع «ما» جوّز الجزم بها، فإذا مع «ما» أجدر. انتهى.
ولم يرتض الشارح المحقق الجزم بإذا ما أيضا كما سيأتي في آخر الكلام على إذا وإذ.
وقوله: «ترفع لي خندف» بكسر الخاء المعجمة والدال، قال ابن هشام في «السيرة» (5): قال ابن إسحاق: ولد إلياس بن مضر ثلاثة نفر: مدركة بن إلياس، وطابخة بن إلياس، وقمّعة بن إلياس، بكسر القاف وتشديد الميم المفتوحة (6)، وأمهم خندف: امرأة من اليمن، وهي خندف بنت الحاف بن قضاعة. انتهى.
__________
(1) ديوان جرير 1/ 304ورواية العجز فيه:
* لها ذارف من دمع عينيك يذهب *
(2) في طبعة بولاق والنسخة الشنقيطية: = بانبعاثها =. وصوابه من شرح الأعلم للكتاب.
(3) هي رواية ديوانه ص 216.
(4) في طبعة بولاق والنسخة الشنقيطية: = القالي =. وهو تصحيف تكرر كثيرا في الخزانة. وسبق لنا أن أشرنا إليه.
(5) السيرة النبوية لابن هشام 1/ 74.
(6) الذي في السيرة النبوية: = وقمعة بن إلياس =. بفتحتين وبدون تشديد. وكذلك في التهذيب والقاموس المحيط
(7/22)
والخندفة: مشية كالهرولة، ومنه سمّيت خندف، واسمها ليلى، نسب ولد إلياس إليها وهي أمّهم. وإنّما افتخر بها الفرزدق لأنه تميمي، ونسب تميم ينتمي إليها.
وتنوين خندف للضرورة.
وقوله: «والله يرفع لي»، أي: إنّ الرافع في الحقيقة هو الله. وخمدت النار خمودا من باب قعد: ماتت فلم يبق منها شيء، وقيل: سكن لهبها، وبقي جمرها.
وأما خبت النار خبوّا من باب قعد أيضا (1) فمعناه خمد لهبها. و «تقد» مضارع وقدت النار وقدا من باب وعد، ووقودا، أي: اشتعلت.
وترجمة الفرزدق تقدّمت في الشاهد الثلاثين من أوائل الكتاب (2).
* * * وأنشد بعده، وهو الشاهد الخامس بعد الخمسمائة، وهو من شواهد سيبويه (3):
(الطويل)
__________
ولسان العرب. وجاء في التهذيب 1/ 293: = يقال إنه لقب بقمعة لأنه انقمع في ثوب حين خرج أخوه مدركة بن إلياس في بغاء إبل له، وقعد الأخ الثالث يطبخ القدر، فسمي باغي الإبل مدركة وسمي طابخ القدر طابخة، وسمي المنقمع في ثوبه قمعة =.
(1) في حاشية طبعة هارون 7/ 25: = وتقال من باب نصر أيضا، والمصدر خبوا كنصرا =.
(2) الخزانة الجزء الأول ص 218.
(3) البيت لقيس بن الخطيم في ديوانه ص 88وشرح أبيات سيبويه 2/ 137وشرح المفصل 7/ 47والكتاب 3/ 61ولربيعة بن مقروم الضبي في الشعر والشعراء ص 237وهو للأخنس بن شهاب في الحماسة برواية الجواليقي ص 206وشرح الحماسة للأعلم 1/ 152وشرح الحماسة للتبريزي 2/ 126وشرح أبيات المغني 3/ 31وشرح اختيارات المفضل ص 937والمفضليات ص 207ولكعب بن مالك في فصل المقال ص 442 وليس في ديوانه ولشهم بن مرة في الحماسة الشجرية 1/ 186ولعمران بن حطان في شعر الخوارج ص 46 وهو بلا نسبة في شرح المفصل 4/ 97والمقتضب 2/ 57.
واختلفت روايته في جميع هذه المصادر بين الروي المرفوع = فنضارب =. وبين الروي المجرور = فنضارب =.
وفي حاشية المفضليات ص 207يقول المحقق: = قال ثعلب تتنازعه الأنصار وقريش وتغلب، وزعمت علماء الحجاز أنه لضرار بن الخطاب الفهري أحد بني محارب من قريش. وقال الأنباري في ترجمة الأخنس: = وهو أول العرب وصل قصر السيوف بالخطى =. ثم ذكر البيت، وقال: = ومنه استرق كعب بن مالك الأنصاري صلة السيوف فقال:
نصل السيوف إذا قصرن بخطونا ... قدما ونلحقها إذا لم تلحق
(7/23)
505 - إذا قصرت أسيافنا كان وصلها
خطانا إلى أعدائنا فنضارب
على أنّ «إذا» جازمة للشرط والجزاء في ضرورة الشعر، بدليل جزم نضارب بالعطف على موضع جملة كان وصلها إلخ، الواقعة جوابا ل «إذا».
ولولا أنّ جملة الجواب في موضع جزم لما عطف عليه نضارب مجزوما. وأما كسرة الباء فهي للرويّ.
والبيت الذي قبل هذا ظهر أثر الجزم فيه على نفس الجواب، بخلاف هذا البيت فإنّه ظهر أثره في تابعه، ولهذا قدّمه على هذا البيت. وقد تقدّم نقل كلام سيبويه.
و «إلى»: متعلّقة بوصلها. ويجوز أن يكون متعلّقا بالخطا. والمعنى: فنخطو إلى أعدائنا. كذا قال اللّخميّ.
وفيه على الأوّل الفصل بين المصدر ومعموله بمعمول غيره، لأنّ خطانا خبر كان، والعامل في إذا شرطها، لأنها ليست حينئذ مضافة إليه.
قال اللّخمي: ويجوز أن يكون العامل كان.
وقال الأعلم: يقول: إذا قصرت أسيافنا في اللقاء عن الوصول إلى الأقران وصلناها بخطانا مقدمين عليهم حتّى ننالهم.
وقال اللّخمي في «شرح أبيات الجمل»: معنى البيت: إذا ضاقت الحرب عن مجال الخيل واستعمال الرماح، نزلنا للمضاربة بالسّيوف، فإن قصرت عن إدراك الأقران، خطونا إليهم إقداما عليهم فألحقناها بهم. انتهى.
قال ابن الشجري في «أماليه» (1): وإنما لم يجزموا بإذا في حال السّعة، كما
__________
والأخنس قبل الإسلام بدهر =. نقول: وأخذه قيس بن الخطيم بلفظه تقريبا فقال:
إذا قصرت أسيافنا كان وصلها ... خطانا إلى أعدائنا فنضارب
وأما البيت الذي نسبه الأنباري لكعب بن مالك فقد نسبه ابن قتيبة في الشعراء لربيعة بن مقروم الضبي، وذكر أنه أخذه من قول قيس بن الخطيم أو أن قيسا أخذه منه. وربيعة وقيس متأخران، أدركا الجاهلية وصدر الإسلام، والأخنس أقدم منهما = =.
(1) أمالي ابن الشجري 1/ 333.
(7/24)
جزموا بمتى، لأنّه خالف إن، من حيث شرطوا به فيما لابدّ من كونه، كقولك:
إذا جاء الصيف سافرت، وإذا انصرم الشتاء قفلت. ولا تقول: إن جاء الصيف ولا إن انصرم الشتاء، لأنّ الصّيف لابدّ من مجيئه والشّتاء لابدّ من انصرامه.
وكذا لا تقول: إن جاء شعبان كما تقول إذا جاء شعبان. وتقول: إن جاء زيد لقيته، فلا تقطع بمجيئه. فإن قلت إذا جاء، قطعت بمجيئه. فلمّا خالفت إذا إن، فيما تقتضيه إن من الإبهام، لم يجزموا بها في سعة الكلام. انتهى.
والبيت من قصيدة بائية مجرورة لقيس بن الخطيم، ووقع أيضا في شعر رويّه مرفوع.
أما القصيدة المجرورة فعدّتها ثمانية وثلاثون بيتا، أوردها محمد بن المبارك بن محمد ابن ميمون في «منتهى الطلب، من أشعار العرب» (1)، ذكر فيها يوم بعاث، وكان قبل الإسلام بقريب.
ومطلعها (2):
أتعرف رسما كالطّراز المذهّب ... لعمرة وحشا غير موقف راكب (3)
ديار التي كادت ونحن على منى ... تحلّ بنا لولا نجاء الرّكائب
تبدّت لنا كالشّمس تحت غمامة ... بدا حاجب منها وضنّت بحاجب (4)
إلى أن قال:
إذ ما فررنا كان أسوا فرارنا ... صدود الخدود وازورار المناكب
صدود الخدود والقنا متشاجر ... ولا تبرح الأقدام عند التّضارب
إذا قصرت أسيافنا كان وصلها ... البيت
__________
(1) منتهى الطلب من أشعار العرب مخطوط الجزء الثالث ص 406404.
(2) القصيدة لقيس بن الخطيم في ديوانه ص 8876وجمهرة أشعار العرب ص 512507. قالها في حرب حاطب.
(3) المذاهب: جلود كانت تذهب، واحدها مذهب، تجعل فيه خطوط مذهبة، فيرى بعضها في أثر بعض، فكأنها متتابعة. وعمرة: هي عمرة بنت رواحة أخت عبد الله بن رواحة الشاعر.
(4) البيت لقيس بن الخطيم في ديوان المعاني 1/ 229. وهو بلا نسبة في أساس البلاغة (حجب) والاشتقاق ص 235وتاج العروس (حجب) وجمهرة اللغة ص 263ولسان العرب (حجب).
(7/25)
قال ابن السيّد: وروي (1): «إلى أعدائنا للتقارب»، فلا شاهد فيه. وروي أيضا: «وإن قصرت أسيافنا، فنضارب» بالرفع على الإقواء. و «أسوا» أصله مهموز فأبدل الهمزة ألفا، بمعنى أقبح.
يقول: لا نفرّ في الحرب أبدا وإنما نصدّ بوجوهنا ونميل مناكبنا عند اشتجار القنا، أي: تداخل بعضها في بعض. وهذا لا يسمّى فرارا، وإنما يسمّى اتّقاء.
وهذا ممدوح في الشّجعان، أي: فإن كان يقع منّا فرار في الحرب، فهو هذا لا غير.
وأما الذي رويّه مرفوع، فقد وقع في شعرين أحدهما في قصيدة للأخنس بن شهاب التغلبيّ (2)، أوّلها (3):
لابنة حطّان بن عوف منازل ... كما رقّش العنوان في الرّقّ كاتب (4)
ثم ذكر بعض قبائل العرب، ومدح قبيلته، فقال:
فوارسها من تغلب ابنة وائل ... حماة كماة ليس فيها أشائب
وإن قصرت أسيافنا كان وصلها ... البيت
هكذا رواه المفضّل بإن بدل «إذا»، ولكن روى المصراع الثاني كذا:
* خطانا إلى القوم الذين نضارب *
ورواه أبو تمام أيضا ب «إن»، إلا أنه رواه «إلى أعدائنا فنضارب» فيكون نضارب خبر مبتدأ محذوف، أي: فنحن نضارب.
__________
(1) في طبعة بولاق: = روى =.
(2) أبيات الأخنس بن شهاب = مرفوعة الروي =، في الحماسة برواية الجواليقي ص 206204وشرح الحماسة للأعلم 1/ 152148وشرح الحماسة للتبريزي 2/ 126123وشرح اختيارات المفضل ص 939921
والمفضليات ص 208204.
(3) أولها في شرح اختيارات المفضل والمفضليات فقط. أما في الحماسة وشروحها فمطلعها:
فمن يك أمسى في بلاد مقامه ... يسائل أطلالا لها لا تجاوب
(4) البيت للأخنس بن شهاب في تاج العروس (حطط) والحماسة برواية الجواليقي ص 204وشرح الحماسة للأعلم 1/ 148وشرح الحماسة للتبريزي 2/ 123وشرح اختيارات المفضل 2/ 931والمفضليات ص 204.
(7/26)
والقصيدة في رواية المفضّل الضبي في «المفضليات» (1) سبعة وعشرون بيتا، وشرحها ابن الأنباري.
ورواها أبو عمرو الشّيباني في «أشعار تغلب» ثلاثين بيتا. وأوردها أبو تمام في «الحماسة» ثلاثة وعشرين بيتا. ونقلها الأعلم الشنتمريّ في «حماسته». وهذا مطلعها عنده (2):
فمن يك أمسى في بلاد مقامه ... يسائل أطلالا بها ما تجاوب
فلابنة حطّان بن عوف منازل ... البيت
وأورد منها في «مختار أشعار القبائل» سبعة أبيات لا غير.
وأما الشعر الثاني فهو من قصيدة عدّتها أربعة وعشرون بيتا لرقيم أخي بني الصّاردة (3). وأوردها أبو عمرو الشيباني في «أشعار قبيلة محارب بن خصفة بن قيس عيلان»، وهي عندي في نسخة قديمة تاريخ كتابتها في صفر سنة إحدى وتسعين ومائتين، وكاتبها أبو عبد الله الحسين بن أحمد الفزاري، قال: نقلتها من نسخة أبي الحسن الطّوسي (4) وقد عرضت على ابن الأعرابي.
وهذا أولها: (الطويل)
عفت ذروة من آل ليلى فعازب ... فميث النّقا من أهله فالذّنائب (5)
وهذه أسماء أماكن أربعة. إلى أن قال:
وقد علمت قيس بن عيلان أنّنا ... لنا في محلّيها الذّرى والذّوائب
__________
(1) المفضليات ص 207وشرح اختيارات المفضل ص 937.
(2) الحماسة برواية الجواليقي ص 204وشرح الحماسة للأعلم 1/ 148وشرح الحماسة للتبريزي 2/ 123.
(3) في طبعة بولاق والنسخة الشنقيطية: = الصادرة = بتقديم الدال على الراء. وهو تصحيف صوابه من الخزانة نفسها طبعة بولاق ص: 304فقد جاء في الخزانة: = بني صاردة بتقديم الراء على الدال، وهم فخذ من فزارة =.
(4) أبو الحسن، علي بن عبد الله بن سنان.
(5) ذورة بفتح الذال، وسكون الواو: موضع وقيل: جبل بناحية حرة بني سليم. وعازب: جبل من وراء اليمامة بالقرب.
والذنائب: ثلاث هضبات عن يسار فلجة. والميث: بكسر الميم وسكون الواو، وهو اسم موضع.
(7/27)
وإنّا لنقري الضّيف من قمع الذّرا ... إذا أخلفت أنواءهنّ الكواكب
ونحن بنو الحرب العوان نشبّها ... وبالحرب سمّينا فنحن محارب
إذا قصرت أسيافنا كان وصلها ... خطانا إلى أعدائنا فنضارب
فذلك أفنانا وأبقى قبائلا ... توقّوا بنا إذ قارعتنا الكتائب
نقلّب بيضا بالأكفّ صوارما ... فهنّ لهامات الرّجال عصائب
ثم ذكر حروبهم وغلبتهم فيها، وختم القصيدة بقوله:
فتلك مساعينا لمن رام حربنا ... إذا ما التقت عند الحفاظ الكتائب
وأورد أبو محمد الأعرابيّ الأسود في «كتاب ضالّة الأديب» أربعة أبيات من هذه القصيدة، ولم يصرّح باسم قائلها، وهي: (الطويل)
تمنّى دريد أن يلاقي ثلّة ... فقارعه من دون ذاك الكتائب
فنحن قتلنا بكره وابن أمّه ... ونحن طعنّا في استه وهو هارب
ونحن بنو الحرب العوان نشبّها ... البيت
إذا قصرت أسيافنا كان وصلها ... البيت
والبيتان الأولان غير مذكورين في رواية أبي عمرو الشّيباني (1)، والظاهر أنّهما من قصيدة لآخر، لأنّ رقيما قال في قصيدته:
ويوم دريد قد تركناه ثاويا ... به داميات في المكرّ جوالب
وقال أبو محمد الأعرابي: سبب هذا الشعر أنّ دريد بن الصمّة هجا زيد بن سهل المحاربي في قصيدة قالها دريد، حين غزا غطفان غزوة ثانية، فأغار على بني ثعلبة بن سعد بن ذبيان، فهرب عياض بن ناشب الثعلبي، ثم غزاهم، فأغار على أشجع، فلم يصبهم، فقال دريد في ذلك (2):
قتلنا بعبد الله خير لداته ... ذؤاب بن أسماء بن زيد بن قارب
وهي ثمانية عشر بيتا، ومنها:
__________
(1) كلمة: = الشيباني =. ساقطة من النسخة الشنقيطية.
(2) البيت لدريد بن الصمة الجشمي في ديوانه ص 27والاشتقاق ص 178والأصمعيات ص 111والأغاني 10/ 13والحماسة الشجرية 1/ 45والشعر والشعراء ص 638. وهو بلا نسبة في السمط ص 690.
(7/28)
تمنّيتني زيد بن سهل سفاهة ... وأنت امرؤ لا تحتويك مقانب (1)
وأنت امرؤ جعد القفا متعكّس ... من الأقط الحوليّ شبعان كانب (2)
وهذان البيتان بالرفع على الإقواء. و «المتعكّس»: المتثنّي غضون القفا.
و «الكانب»، بالنون: الممتلئ الغليظ. وآخرها: (الطويل)
فليت قبورا بالمراضين حدّثت ... بشدّتنا في الحيّ حيّ محارب (3)
قال أبو محمد: ولمّا ذكر دريد محاربا قال بعضهم يردّ عليه. وذكر الأبيات الأربعة.
وقد أورد الشريف الحسيني هبة الله في «حماسته» (4) البيت الشاهد مع بيتين آخرين من القصيدة التي رواها أبو عمرو الشّيباني، ونسبها لسهم بن مرّة المحاربي، وهي:
إذا قصرت أسيافنا كان وصلها ... البيت
ونحن بنو الحرب العوان نشبّها ... البيت
فذلك أفنانا وأبقى قبائلا ... البيت
والله أعلم بحقيقة الحال.
فظهر ممّا ذكرنا أنّ البيت من ثلاث قصائد.
قال ثعلب: هذا البيت يتنازعه الأنصار، وقريش، وتغلب. وزعمت علماء الحجاز أنّه لضرار بن الخطّاب الفهري، أحد بني محارب من قريش.
__________
(1) البيت لدريد بن الصمة في ديوانه ص 30والحيوان 6/ 304ومقاييس اللغة 4/ 108.
(2) البيت لدريد بن الصمة في ديوانه ص 30والأصمعيات ص 113وتاج العروس (كنب) وتهذيب اللغة 10/ 283ولسان العرب (كنب). وهو بلا نسبة في تاج العروس (عكس) وجمهرة اللغة ص 377وكتاب الجيم 2/ 318، 3/ 159ولسان العرب (عكس).
(3) في معجم البلدان (المراضان): = المراضان: تثنية المريض، بلفظ جمع مريض ثني بعد أن سمي قال أبو منصور: قال الليث المراضان واديان ملتقاهما واحد. قال المراضان والمرايض: مواضع في ديار تميم بين كاظمة والنقيرة فيها أحساء ليست من باب المرض، والميم فيها ميم مفعل من استراض الوادي إذا استنقع فيه الماء ويقال أرض مريضة إذا ضاقت بأهلها =.
(4) الحماسة الشجرية 1/ 45.
(7/29)
وقال ابن الأنباري في «شرح المفضليات»: هو للأخنس بن شهاب. قال:
هو أوّل العرب وصل قصر السيوف بالخطى في قوله:
وإن قصرت أسيافنا ... البيت
ومنه استرق كعب بن مالك الأنصاريّ صلة السّيوف، فقال:
نصل السّيوف إذا قصرن بخطونا ... قدما ونلحقها إذا لم تلحق
انتهى.
وهذا هو الصحيح لأنه قاله قبل أن يخلق هؤلاء بدهر، كما سيأتي. ومنه تعلم خطأ جماعة اعترضوا على سيبويه في روايته البيت بالكسر، منهم ابن هشام اللخمي، قال في «شرح أبيات الجمل»: روى سيبويه هذا البيت بكسر الباء من نضارب على أن يكون معطوفا على موضع كان، والبيت من شعر كلّه مرفوع.
وكذلك أدخله أبو تمام في «حماسته» فيحتمل أن يكون سيبويه رواه مقوى لقيس بن الخطيم، والصّحيح أنه للأخنس بن شهاب. هذا كلامه.
واعلم أنّ جماعة من الشّعراء تداولوا هذا المعنى، وقد أوردنا جملة ممّا قالوه في الشاهد السادس والخمسين بعد الأربعمائة، عند بيت كعب بن مالك الأنصاري (1).
وزعم المبرّد في «الكامل» (2) أنّ قول أبي مخزوم النهشلي: (البسيط)
إذا الكماة تنحّوا أن ينالهم ... حدّ الظّبات وصلناها بأيدينا (3)
مأخوذ من بيت كعب بن مالك. وليس كما زعم، كما بيّنّا.
وممن تبع الأخنس بن شهاب في المعنى حناك بن سنّة العبسيّ الجاهلي وهو بكسر المهملة وتخفيف النون وآخره كاف، وسنّة بفتح السين المهملة وتشديد النون قال (4): (الكامل)
__________
(1) الخزانة الجزء السادس ص 210204.
(2) الكامل في اللغة 1/ 66.
وهو بشامة بن حزن النهشلي.
(3) في طبعة بولاق والنسخة الشنقيطية: = تنالهم =. ولقد أثبتنا رواية الكامل في اللغة.
(4) البيتان لحناك بن سنة في المؤتلف والمختلف ص 117.
(7/30)
أبني جذيمة نحن أهل لوائكم ... وأقلّكم يوم الطّعان جبانا
كانت لنا كرم المواطن عادة ... نصل السّيوف إذا قصرن خطانا
أوردهما الآمدي في «المؤتلف والمختلف».
ومنهم: أبو قيس بن الأسلت الأنصاري، قال (1): (السريع)
والسّيف إن قصّره صانع ... طوّله يوم الوغى باعي
ومنهم: ودّاك بن ثميل المازني، قال: (الطويل)
مقاديم وصّالون في الرّوع خطوهم ... بكلّ رقيق الشّفرتين يماني
ومنهم: نهشل بن حرّيّ، قال: (الطويل)
فتى كان للرّمح الأصمّ محطّما ... طعانا وللسّيف القصير مطيلا (2)
ومنهم: عبيد الله بن الحرّ الجعفيّ، قال: (الطويل)
إذا أخذت كفّي بقائم مرهف ... وكان قصيرا عاد وهو طويل
ومنهم: نابغة بني الحارث بن كعب، واسمه يزيد بن أبان، قال (3): (الكامل) وإذا السّيوف قصرن بلّغها لنا ... حتّى تناول ما تريد خطانا
ومنه قول عبد الرحمن بن سلامة الحاجب: (الوافر)
ويوم تقصر الآجال فيه ... نطاوله بأرماح قصار
وقال آخر: (الطويل)
تطيل السّيوف المرهفات لدى الوغى ... خطانا إذا ارتدّت خطى وسيوف
وقد أخذه مسلم بن الوليد وزاد فيه وأجاد: (البسيط)
__________
(1) البيت لأبي قيس بن الأسلت في ديوانه ص 81وتاج العروس (بوع) وشرح اختيارات المفضل ص 1242 والمفضليات ص 286.
ورواية البيت في جميع هذه المصادر مختلفة عن رواية البغدادي.
(2) في طبعة بولاق: = للرمح الأسن =. وهو تصحيف صوابه من النسخة الشنقيطية.
(3) البيت لنابغة بني الديان في المؤتلف والمختلف ص 294.
(7/31)
إن قصّر السيف لم يمش الخطى عددا ... [أو عرّد السّيف لم يهمم بتعريد] (1)
قال ابن الأثير: في «المثل السائر، في السرقات الشعرية»:
الضرب السادس: السّلخ، وهو أن يؤخذ المعنى فيزاد عليه معنى آخر. فممّا جاء منه قول الأخنس بن شهاب، وأخذه مسلم بن الوليد فزاد عليه. وأنشد البيتين.
وأخطأ الخالديّان في «شرح ديوان مسلم»، في زعمهما أنّ مسلما أخذه من قيس بن الخطيم.
وروى أبو إسحاق إبراهيم بن عليّ الحصري في «كتاب الجواهر، في الملح والنوادر» أنّ بعض الأمراء أعطى سيفا لرجل، فقال: هو قصير. قال: صله بخطوتك. قال: الصّين أقرب من تلك الخطوة!
ومثله ما رواه الخالديّان قالا: روي أنّ المهلّب نظر إلى سيف مع بعض ولده، فقال له: إنّ سيفك لقصير. قال: ليس بقصير من يصله بخطوه. فقال بعض من حضر المجلس: تلك الخطوة أصعب من المشرق إلى المغرب.
وروي أنّ الحجّاج سأل المهلّب أن يريه سيفه، فلما نظر إليه، قال: يا أبا سعد، إنّ سيفك لقصير. قال: إذا كان في يدي فلا.
وأما «قيس بن الخطيم»
فهو شاعر فارس أنصاريّ، مات كافرا.
قال ابن حجر في «الإصابة»: قيس بن الخطيم الأنصاري، ذكره علي بن سعد العسكري (2) في الصّحابة، وهو وهم فقد ذكر أهل المغازي أنّه قدم مكّة فدعاه النبيّ صلّى الله عليه وسلّم إلى الإسلام، وتلا عليه القرآن، فقال: إنّي لأسمع كلاما عجيبا، فدعني أنظر في أمري هذه السنة، ثم أعود إليك. فمات قبل الحول. وهذا
__________
(1) في طبعة بولاق والنسخة الشنقيطية روي الشطر الأول فقط مكسور الوزن الشعري وروايته:
* إن قصر السيف الخطا عددا *
وتصوييه من ديوان مسلم بن الوليد ص 159.
وجاء شرحه: = يقول: إن قصر الرمح عن إدراك من أراد أن يطعنه به لم يمش الخطا تباطؤا كمثل من يعد خطاه، بل يسرع هو عند ذلك =.
(2) في الإصابة: = علي بن سعيد =.
(7/32)
هو الشاعر المشهور، وهو من الأوس، وله في وقعة بعاث التي كانت بين الأوس والخزرج قبل الهجرة أشعار كثيرة. انتهى.
والخطيم، بفتح الخاء المعجمة وكسر الطاء المهملة.
وهذه نسبته: قيس (1) بن الخطيم بن عدّي بن عمرو بن سواد بن ظفر وظفر هو كعب ابن الخزرج بن عمرو بن مالك بن أوس بن حارثة بن ثعلبة العنقاء بن عمرو بن عامر وهو ماء السماء بن حارثة الغطريف.
وقيس شاعر الأوس، وهو القائل (2): (الطويل)
طعنت ابن عبد القيس طعنة ثائر ... لها نفذ لولا الشّعاع أضاءها (3)
ملكت بها كفّي فأنهرت فتقها ... يرى قائم من دونها ما وراءها (4)
وكنت امرأ لا أسمع الدّهر سبّة ... أسبّ بها إلّا كشفت غطاءها (5)
وإنّي في الحرب الضّروس موكّل ... بإقدام نفس لا أريد بقاءها
إذا سقمت نفسي إلى ذي عداوة ... فإنّي بنصل السّيف باغ دواءها
__________
(1) شاعر مخضرم جعله ابن سلام في طبقة شعراء القرى العربية. انظر في أخباره وترجمته الأغاني 3/ 1وطبقات فحول الشعراء ص 228والمؤتلف والمختلف ص 112ومعجم الشعراء ص 321.
(2) الأبيات من قصيدة لقيس بن الخطيم قالها حين أصاب بثأره من قاتلي أبيه وجده، فقتلهما.
وهي في ديوانه ص 5141والحماسة برواية الجواليقي ص 5958وشرح الحماسة للأعلم 1/ 105102 وشرح الحماسة للتبريزي 1/ 9795وشرح الحماسة للمرزوقي ص 188183والمقاصد النحوية 3/ 222 223.
(3) البيت لقيس بن الخطيم في ديوانه ص 46والأغاني 4/ 5وتاج العروس (نفذ) والتنبيه والإيضاح 2/ 73 وتهذيب اللغة 14/ 436والحماسة البصرية 1/ 12وكتاب العين 8/ 189ولسان العرب (نفذ، شعع، دمي) ومجمل اللغة 3/ 146ومقاييس اللغة 3/ 167. وهو بلا نسبة في تاج العروس (ثأر) وديوان الأدب 1/ 210وتهذيب اللغة 1/ 73، 15/ 113ولسان العرب (ثأر).
(4) البيت لقيس بن الخطيم في الأغاني 3/ 5وتاج العروس (نهر، ملك) وتهذيب اللغة 6/ 277، 10/ 271 وديوان الأدب 2/ 301ولباب الآداب ص 184ولسان العرب (نهر، ملك) والمعاني الكبير ص 978، 983، 1062، 1080. وهو بلا نسبة في المخصص 3/ 133، 4/ 19، 6/ 89، 10/ 30، 17/ 157.
(5) البيت لقيس بن الخطيم في حماسة الخالديين 1/ 22وشرح الحماسة للمرزوقي ص 186ولسان العرب (كون) والمقاصد النحوية 3/ 223.
(7/33)
متى يأت هذا الموت لم تبق حاجة ... لنفسي إلّا قد قضيت قضاءها (1)
و «قائم» فاعل يرى. و «دون» و «وراء» من الأضداد، فإن كان الأوّل بمعنى قدّام كان الآخر بمعنى خلف، وإن كان الأوّل بمعنى خلف كان الثاني بمعنى قدّام.
وملكت بمعنى شددت وضبطت. و «أنهرت»: أوسعت. وقد ضمّن المصراع الصفيّ الحلّيّ في قوله: (الطويل)
تزوّج جاري وهو شيخ صبيّة ... فلم يستطع غشيانها حين جاءها
ولو أنّني بادرتها لتركتها ... يرى قائم من دونها ما وراءها
وابن عبد القيس الذي قتله هو رجل من قبيلة عبد القيس. كان قتل أباه الخطيم فأخذ ثأره منه.
ومن شعر قيس (2): (الوافر)
وما بعض الإقامة في ديار ... يهان بها الفتى إلّا عياء
يريد المرء أن يعطى مناه ... ويأبى الله إلّا ما يشاء
وكلّ شديدة نزلت بقوم ... سيأتي بعد شدّتها رخاء
ولا يعطى الحريص غنى بحرص ... وقد ينمي على الجود الثّراء (3)
__________
(1) البيت لقيس بن الخطيم في حماسة الخالديين 1/ 22وشرح الحماسة للمرزوقي 1/ 186والمقاصد النحوية 3/ 222. وهو بلا نسبة في شرح الأشموني ص 259.
(2) الأبيات في ديوان قيس بن الخطيم ضمن القصيدتين 11، 12. ويقول محقق ديوانه حول ذلك ص 151:
= اضطرب الرواة والعلماء اضطرابا شديدا في رواية أبيات هذه القصيدة والقصيدة التي تليها من وجوه: فقد وردت القصيدتان منفصلتين حينا، وتداخلت أبياتهما في قصيدة واحدة حينا آخر، وأضيفت إليهما أبيات أخرى حينا ثالثا. وبعض هذه الأبيات تنسب إلى قيس بن الخطيم، وبعضها للربيع بن أبي الحقيق اليهودي، وبعضها إلى نابغة بني شيبان، وبعضها إلى عمرو بن الإطنابة. ومن أجل ذلك عاقبنا بين القصيدتين بعد أن كان بينهما في الأصل قصائد أخر =.
والأبيات في ديوانه ص 158153، باختلاف في الترتيب.
(3) البيت لقيس بن الخطيم في ديوانه ص 157والحماسة البصرية 2/ 9وشرح الحماسة للتبريزي 3/ 104 وشرح الحماسة للمرزوقي ص 1188ولسان العرب (نوك) ومعاهد التنصيص 1/ 193. وهو للنابغة الشيباني في ديوانه ص 111والأغاني 7/ 123وللربيع بن أبي الحقيق في تاج العروس (نوك).
(7/34)
غناء النّفس ما عمرت غناء ... وفقر النّفس ما عمرت شقاء (1)
وليس بنافع ذا البخل مال ... ولا مزر بصاحبه السّخاء
وبعض الدّاء ملتمس شفاه ... وداء النّوك ليس له شفاء (2)
قال صاحب الأغاني (3): قيس بن الخطيم هذا هو صاحب المنافسات مع حسان ابن ثابت. وذلك أن حسّانا كان يذكر ليلى بنت الخطيم أخت قيس في شعره، وكان قيس يذكر في شعره امرأته عمرة، كما ذكرها في مطلع قصيدة البيت الشاهد.
وحكى المفضل، قال: لما هدأت حرب الأوس والخزرج تذكّرت الخزرج قيس ابن الخطيم ونكايته (4) فيهم، فتواعدوا إلى قتله، فخرج عشيّة من منزله يريد مالا له [الشوط] (5)، حتّى مرّ بأطم (6) بني حارثة، فرمي منهم بثلاثة أسهم، [فوقع] أحدها في صدره، فصاح صيحة سمعها رهطه، فجاؤوه وحملوه إلى منزله فلم يروا له كفئا إلّا أبا صعصعة بن زيد بن عوف، من بني النجّار.
فاندسّ إليه رجل حتّى اغتاله في منزله فضرب عنقه واشتمل [على] رأسه، وأتى به قيسا وهو بآخر رمق فألقاه بين يديه، وقال: يا قيس، قد أدركت بثأرك.
فقال: عضضت بأير أبيك إن كان غير أبي صعصعة! فقال: هو أبو صعصعة.
وأراه الرأس، فلم يلبث أن مات على كفره قبل قدوم النبيّ صلّى الله عليه وسلّم المدينة.
وأما «الأخنس بن شهاب»
فقد قال ابن الأنباري في «شرح المفضليات»:
هو الأخنس بن شهاب بن ثمامة بن أرقم بن حزابة بن الحارث بن نمير بن أسامة بن
__________
(1) البيت لقيس بن الخطيم في ديوانه ص 158وشرح الحماسة للتبريزي 3/ 104وشرح الحماسة للمرزوقي ص 1189ولسان العرب (نوك) ومعاهد التنصيص 1/ 194وله أو للربيع بن أبي الحقيق في تاج العروس (نوك).
(2) النوك: الحمق.
(3) الأغاني 3/ 11.
(4) في طبعة بولاق: = نكائته =. وهو تصحيف صوابه من النسخة الشنقيطية مع أثر تصحيح.
(5) زيادة من الأغاني. والشوط: بستان بالمدينة ذكره ياقوت في معجمه.
(6) الأطم: الحصن.
(7/35)
بكر بن معاوية بن غنم بن تغلب. والأخنس شاعر جاهليّ قبل الإسلام بدهر.
انتهى.
وأما رقيم أخو بني الصّاردة المحاربي فالظاهر أنّه شاعر إسلامي لأن أبا عمرو الشيباني، قال بعد تلك القصيدة: وقال رقيم أيضا، وكان سعد بن معاذ الأنصاري خاله: (الرجز)
اهتزّ عرش الله ذي الجلال ... لموت خالي يوم مات خالي
ورقيم «بضم الراء وفتح القاف». والصاردة اسمه سعد بن بذاوة بن ذهل بن خلف بن محارب. كذا في «جمهرة الأنساب».
ولم يذكره ابن حجر في «الإصابة». فإذا لم يكن صحابيا، ولا مخضرما، يكون تابعيّا، ويكون سعد بن معاذ، خال أبيه، أو خال إحدى أمهاته. والله أعلم.
وقد أورد ابن حجر من اسمه رقيم من الصّحابة (1) لكنّه أنصاري لا محاربي. قال:
أبو ثابت، رقيم بن ثابت بن ثعلبة الأنصاري الأوسيّ، استشهد بالطائف.
* * * وأنشد بعده (2): (الطويل)
* إذا الخصم أبزى مائل الرّأس أنكب *
على أنّ وقوع الجملة الاسمية بعد «إذا» شاذّ.
وتقدّم ما يتعلّق به في الشاهد التاسع والخمسين بعد المائة (3). وهذا عجز، وصدره:
__________
(1) في النسخة الشنقيطية: = في الصحابة =.
(2) البيت لبعض بني فقعس في شرح الحماسة للمرزوقي ص 214. وهو بلا نسبة في لسان العرب (نكب، تيز).
(3) الخزانة الجزء الثالث ص 29.
(7/36)
* فهلّا أعدّوني لمثلي تفاقدوا *
وهو من أبيات مذكورة في «الحماسة» وقد شرحناها هناك.
و «إذا»: ظرف لأعدّوني. وجملة: «تفاقدوا» اعتراض بينهما. يقول: هلّا جعلوني عدّة لرجل مثلي، فقد بعضهم بعضا، وهلّا ادّخروني ليوم الحاجة إذا كان الخصم هكذا متأخّر العجز مائل الرأس منحرفا.
وهذا تصوير لحال المقاتل إذا انتصب في وجه مقصوده. ورجل أبزى بالزاء المعجمة: يخرج صدره ويدخل ظهره. وأبزى هنا مثل، ومعناه الراصد المخاتل، لأنّ المخاتل ربّما انثنى فيخرج عجزه.
وفسّره أبو رياش بقوله: تحامل على خصمه ليظلمه. فجعل أبزى فعلا ماضيا، وإنّما المعروف بزوت الرجل، ومنه اشتقاق البازي. وعليه فالخصم مرفوع بفعل يفسّره أبزى، فلا شذوذ حينئذ.
قال في القاموس: وبزى فلانا: قهره وبطش به (1) كأبزى به. ويرفع مائل الرأس على أنّه بدل من الخصم. و «الأنكب»: المائل، وأصله الذي يشتكي منكبيه، فهو يمشي في شقّ. ومائل الرأس، أي: مصعّر من الكبر.
* * * وأنشد بعده، وهو الشاهد السادس بعد الخمسمائة (2): (البسيط)
506 - حتّى إذا أسلكوهم في قتائدة
شلّا كما تطرد الجمّالة الشّردا
__________
(1) في طبعة بولاق: = وتطيش به =. وهو تصحيف صوابه من النسخة الشنقيطية والقاموس المحيط.
(2) البيت لعبد مناف بن ربع الهذلي في ديوان الهذليين 2/ 42والأزهية ص 203، 250والإنصاف 2/ 461 وجمهرة اللغة ص 854والدرر 3/ 104وشرح أشعار الهذليين 2/ 675وشرح شواهد الإيضاح ص 431 ولسان العرب (شرد، قتد، سلك، إذا) ومراتب النحويين ص 85ولعمرو بن أحمر في ملحق ديوانه ص 179 ولسان العرب (حمر). وهو بلا نسبة في أدب الكاتب ص 434والأشباه والنظائر 5/ 25وأمالي المرتضى 1/ 3 وجمهرة اللغة ص 390، 491والصاحبي في فقه اللغة ص 139وهمع الهوامع 1/ 207.
(7/37)
على أنّ جواب «إذا» عند الشارح المحقق محذوف لتفخيم الأمر، والتقدير:
بلغوا أملهم، أو أدركوا ما أحبّوا، ونحو ذلك.
وهذا هو الصواب من أقوال ثلاثة في إذا.
قال ابن السيّد في «شرح أبيات أدب الكاتب»: هذا مذهب الأصمعيّ، ومثله يقول الراجز (1): (الرجز)
لو قد حداهنّ أبو الجوديّ ... بزجر مسحنفر الرّويّ
مستويات كنوى البرنيّ
أراد: لأسرعن.
وذهب جماعة إلى أنّ «شلّا» أثر الجواب، إذ التقدير: شلّوهم شلّا، فاستغنى بذكر المصدر عن ذكر الفعل لدلالته عليه. منهم أبو علي في «التذكرة»، قال:
شلّا منتصب بجواب «إذا».
ومنهم: ابن الشجري في «أماليه» قال: البيت آخر القصيدة، فلا يجوز أن تنصب شلّا بأسلكوهم، لئلّا يبقى إذا بغير جواب ظاهر، ولا مقدّر، ولكن تنصبه بفعل تضمره فيكون جواب إذا، فكأنّك قلت: حتّى إذا أسلكوهم شلّوهم شلّا.
ومنهم: ابن الأنباري في «مسائل الخلاف» قال: لم يأت بالجواب، لأنّ هذا البيت آخر القصيدة، والتقدير فيه: حتّى إذا أسلكوهم شلّوا شلّا، فحذف للعلم به توخّيا للإيجاز.
وهذا المذهب غير سديد في المعنى، لأنّ الشلّ، أي: الطّرد إنّما كان قبل إسلاكهم في قتائدة، أي: إدخالهم فيها، وكلامهم يقتضي أن يكون بعد ذلك، وهو فاسد، وإنّما شلّا حال من الواو، أي: شالّين، أو من هم، أي: مشلولين.
والأقيس لقوله كما تطرد الجمالة، فشبّه الشلّ بشلّ الجمّالة، وهم الطاردون. وإذا كان حالا من ضمير المفعول، وجب أن يقول: كما تطرد الجمال الشّرد، وهو مع
__________
(1) الرجز لأبي الجودي في ديوان الهذليين 2/ 43ومراتب النحويين ص 86. وهو بلا نسبة في تاج العروس (جود، جوذ) وسر صناعة الإعراب 2/ 648ولسان العرب (جود، جوذ، بذل، روي) والمقتضب 2/ 81.
(7/38)
ذلك جائز لأنّ العرب قد توقع التشبيه على شيء والمراد غيره. والكاف في كما في موضع الصّفة لشلّا، و «ما» مصدرية، كأنه قال: شلّا كطرد.
و «الشّرد» بضمّتين: جمع شرود: وهي من الإبل التي تفرّ من الشيء إذا رأته، فإذا طردت، كان أشدّ لفرارها، فلذلك خصّها بالذكر.
قال ابن السيّد: وقال أبو عبيدة: «إذا» زائدة، فلذلك لم يؤت لها بجواب.
فالميدانيّ مسبوق بأبي عبيدة في هذا، لا أنّه قوله كما هو صريح كلام الشارح المحقق.
ويؤيّده ما روى أبو عبد الله محمد بن الحسين اليمني في «ترجمة أبي عبيدة من طبقات النحويّين» (1) قال: حدّثونا عن رجل عن أبي حاتم قال: أملى علينا أبو عبيدة بيت عبد مناف بن ربع الهذلي:
حتّى إذا أسلكوهم في قتائدة ... البيت
قال: هذا كلام لم يجئ له خبر (2).
وهذا البيت آخر القصيدة. قال: ومثله قول الله جلّ ثناؤه (3): «ولو أنّ قرآنا سيّرت به الجبال أو قطّعت به الأرض» إلى قوله: «بل الله الأمر جميعا».
قال: فجئت إلى الأصمعيّ فأخبرته بذلك، فقال: أخطأ ابن الحائك، إنّما الخبر في قوله: «شلّا»، كأنه قال: شلّوهم شلّا. قال: فجعلت أكتب ما يقول، ففكّر ساعة ثم قال لي: اصبر فإنّي أظنّه كما قال لأنّ أبا الجوديّ الراجز أنشدني:
(الرجز)
لو قد حداهنّ أبو الجوديّ ... بزجر مسحنفر الرّويّ
مستويات كنوى البرنيّ
فهذا كلام لم يجئ له خبر. انتهى (4).
__________
(1) مراتب النحويين ص 85. وفيه: = أخبرونا عن أبي حاتم، قال: =.
(2) أراد بالخبر هنا الجواب.
(3) سورة الرعد: 13/ 31.
(4) إلى هنا ينتهي النقل من مراتب النحويين ص 86.
(7/39)
وهذا النقل يخالف ما قاله ابن السيّد، وكذلك يخالفه قول شارح أشعار هذيل السّكّريّ (1)، وهو غير أشعار الهذليين، في شرح هذا الشعر، قال الأصمعي: هذا ليس له جواب، وقد سمعت خلفا ينشد (2) عن أبي الجوديّ:
لو قد حداهنّ أبو الجوديّ ... (الأبيات)
لم يجعل له جوابا. وقال: قد يقال: إنّ قوله شلّا جواب، كأنه قال: حتّى إذا أسلكوهم شلّوهم شلّا. انتهى.
فالنقل عن الأصمعيّ مضطرب كما ترى.
وقال في الصحاح: «إذا» زائدة، أو يكون قد كفّ عن خبره لعلم السامع.
انتهى.
ولا ينبغي القول بزيادة إذا لأنّها اسم، والاسم لا يكون لغوا. وعلى تقدير القول يكون شلّا حالا أيضا كما قلنا.
وقوله: «أسلكوهم» أسلك لغة في سلك، يقال: أسلكت الشّيء في الشيء مثل سلكته فيه، بمعنى أدخلته فيه، ولهذا أنشد صاحب الكشاف هذا البيت عند قوله تعالى (3): {«فَاسْلُكْ فِيهََا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ»}.
و «قتائدة» بضم القاف بعدها مثنّاة فوقيه وبعد الألف همزة: بعدها دال مهملة. قال ابن السيّد: هي ثنيّة ضيّقة.
وقال الأصمعيّ: كلّ ثنيّة قتائدة. وقال في الصحاح: قتائدة: اسم عقبة.
وأنشد البيت، وقال: أي: أسلكوهم في طريق قتائدة.
وقال البكري في «معجم ما استعجم»: قال اليزيدي عن ابن حبيب: هي جبل بين المنصرف والرّوحاء. وعلى قول الأصمعي لا يكون صرفها للضرورة.
قال أبو الفتح: همزة قتائدة أصل لأنّها حشو ولم يدلّ (4) على زيادتها دليل.
__________
(1) في طبعة بولاق: = للسكري =. وهو تصحيف صوابه من النسخة الشنقيطية.
(2) في النسخة الشنقيطية: = ينشدهن عن أبي الجودي =.
(3) سورة المؤمنون: 23/ 27.
(4) في طبعة بولاق: = ولم يدخل =. وهو تصحيف صوابه من النسخة الشنقيطية. وقد تنبه لهذا الخطأ مصحح
(7/40)
قال: ولا تحملها على حطائط وجرائض (1) لقلّتهما. انتهى.
ونقل ياقوت في «معجم البلدان» عن الأزهري أنّها جبل. وأنشد البيت.
و «الشّلّ»: الطّرد. و «الجمّالة»: فاعل تطرد. قال ابن السيّد: والجمّالة:
أصحاب الجمال، كما يقال الحمّارة لأصحاب الحمير، والبغّالة لأصحاب البغال.
ولم يقولوا فرّاسة ولا خيّالة. انتهى.
وقال ابن الشجريّ في «معاني التاء»: الضرب الرابع أن يدلّ لحاق التاء على الجمع، كقولهم: رجل جمّال ورجال جمّالة، وبغّال وبغّالة، وحمّار وحمّارة، وسيّار وسيّارة. وأنشد البيت.
و «الشّرد» بضمتين كما تقدّم، قال في الصحاح، ويروى البيت بفتحتين أيضا على أنّه جمع شارد، كخدم جمع خادم. وقد وصف في هذا البيت قوم هزموا حتّى ألجئوا إلى الدخول في قتائدة.
وقد استشهد أبو علي به على أن تاء التأنيث قد تجيء دالّة على عكس دلالتها في باب تمرة وتمر. قال أحد شرّاح أبيات الإيضاح: ألا ترى أنّ جمّالة واقع على الجمع، فإن أردت الواحد أسقطت التاء، فقلت: جمّال. وتمرة واقعة على المفرد، فإن أردت الجمع أسقطت التاء، فقلت: تمر.
فإن قال قائل: لعل التاء لم تلحق جمالة وأمثاله، لما ذكرتم من التّفرقة بين الجمع والمفرد، ولحقته (2) من حيث كان صفة الجمع.
ألا ترى أنّ الأصل كما تطرد الرّجال الجمالة الشّرد. والجمع وإن كان لمذكر قد تعامله العرب معاملة الواحدة من المؤنث، ومن ذلك قولهم: «الرجال وأعضادها، والنساء وأعجازها».
قيل له: الدليل على أنّ التاء في جمّالة دخلت لما ذكر من الفرق، أنها من الصفات التي أتت على معنى النّسب كدارع ولابن.
__________
طبعة بولاق، فقال: = لعله لم يدل =.
(1) في طبعة بولاق والنسخة الشنقيطية: = وجرائد =. وهو تصحيف صوابه من طبعة هارون 7/ 43.
(2) في طبعة بولاق: = ولخفته =. وهو تصحيف صوابه من النسخة الشنقيطية.
(7/41)
ألا ترى أنها غير مأخوذة من فعل، كما أنّ دارعا ولابنا كذلك. وقياس الصّفات التي تأتي على معنى النسب التي لا تلحقها التاء وإن جرت على مؤنث نحو:
حائض وطامث، فكان ينبغي على هذا أن لا تلحق التاء، لولا ما أريد من التفرقة بين المفرد والجمع.
وإنّما أدخلوها حين أرادوا التفرقة في صفة الجماعة ولم يدخلوها في صفة المفرد، لأنّ جمع التكسير وإن كان لمن يعقل قد يعامل معاملة الواحدة من المؤنث كما تقدّم، فكانت بذلك (1) أحقّ بالتاء. إلى هنا كلامه.
والبيت آخر قصيدة عدّتها اثنا عشر بيتا لعبد مناف بن ربع الجربيّ (2). وهي (3):
(البسيط)
ماذا يغير ابنتي ربع عويلهما ... لا ترقدان ولا بؤسى لمن رقدا (4)
كلتاهما أبطنت أحشاؤها قصبا ... من بطن حلية لا رطبا ولا نقدا
إذا تجرّد نوح قامتا معه ... ضربا أليما بسبت يلعج الجلدا (5)
من الأسى أهل أنف يوم جاءهم ... جيش الحمار فجاؤوا عارضا بردا (6)
لنعم ما أحسن الأبيات نهنهة ... أولى العديّ وبعد أحسنوا الطّردا (7)
إذ قدّموا مائة واستأخرت مائة ... وفيا وزادوا على كلتيهما عددا (8)
صابوا بستة أبيات وأربعة ... حتّى كأنّ عليهم جابئا لبدا (9)
__________
(1) في النسخة الشنقيطية: = لذلك =.
(2) في ديوان الهذليين 2/ 38: = وقال عبد مناف بن ربع الجربيّ يذكر يوم أنف عاذ =.
(3) الأبيات لعبد مناف بن ربع في ديوان الهذليين 2/ 4338وشرح أبيات الهذليين ص 674671.
(4) البيت لعبد مناف الهذلي في تاج العروس (لعج، غير) ولسان العرب (لعج، غير).
(5) البيت لعبد مناف الهذلي في جمهرة اللغة ص 483والدرر 6/ 232ولسان العرب (لعج، جلد، عجل) ونوادر أبي زيد ص 30. وهو بلا نسبة في الخصائص 2/ 333والمنصف 2/ 308.
(6) البيت لعبد مناف الهذلي في لسان العرب (أنف) ومعجم البلدان (أنف) ومعجم ما استعجم ص 201.
(7) البيت بلا نسبة في المخصص 12/ 102.
(8) البيت للهذلي في تاج العروس (وفى) ولسان العرب (وفى).
(9) في النسخة الشنقيطية: = صعلبوا =. وهو تصحيف.
وفي طبعة بولاق والنسخة الشنقيطية: = حابئا =. بالمهملة، وهو تصحيف صوابه من ديوان الهذليين وشرح أشعار
(7/42)
شدّوا على القوم فاعتطّوا أوائلهم ... جيش الحمار ولاقوا عارضا بردا
فالطّعن شغشغة والضّرب هيقعة ... ضرب المعوّل تحت الدّيمة العضدا (1)
وللقسيّ أزاميل وغمغمة ... حسّ الجنوب تسوق الماء والبردا (2)
كأنّهم تحت صيفيّ له نحم ... مصرّح طحرت أسناؤه القردا
حتّى إذا أسلكوهم في قتائدة ... (البيت)
قوله: «ماذا يغير ابنتي ربع» إلخ، قال شارح القصيدة: غار أهله: مارهم.
وابنتا ربع هما أختا الشاعر. و «العويل»: رفع الصوت بالبكاء. «لا ترقدان»:
لا تنامان، ومن نام فلا بؤسى له، فإنّ الذي ينام مستريح بخير في راحة، قرير العين، وإنّما البؤس على من حزن لسهر أو مرض. و «البؤس»: الضّيق والشدة.
وقوله: «كلتاهما» إلى آخره، هذا مثل، أي: كأنّ في صدورها مزامير من البكاء والحنين. «ومن بطن حلية»، أي: هذا القصب الذي يزمر به أخذ من بطن حلية، بفتح المهملة وسكون اللام بعدها مثناة تحتية: اسم واد. و «النّقد» بفتح فكسر: المتأكّل.
وقوله: «إذا تجرّد نوح» إلخ، جمع نائحة، أي: إذا تهيأ نساء للنّوح.
و «ضربا»، أي: وضربنا ضربا. «بسبت» (3) بالكسر، وهو الجلد المدبوغ. كان النساء يلطمن خدودهنّ بجلدة. و «يلعج»: يحرق، يقال: وجد لاعج الحزن، أي: حرقته، و «الجلد» بكسر اللام لغة في سكونها، أراد جلد وجهها.
__________
الهذليين. والبيت لعبد مناف الهذلي في تاج العروس (جبى) ولسان العرب (جبي، جدا) وللهذلي في تاج العروس (جبأ، صوب، جدى) وتهذيب اللغة 11/ 214ولسان العرب (جبأ، صوب).
(1) في طبعة بولاق: = فالطعن شفشفة =. وهو تصحيف صوابه من ديوان الهذليين وشرح أشعار الهذليين.
والبيت لعبد مناف الهذلي في تاج العروس (هقع، شغغ، غول) والتنبيه والإيضاح 2/ 39وجمهرة اللغة ص 945، 1172وديوان الأدب 3/ 434وكتاب الجيم 2/ 272ولسان العرب (عضد، هقع، شغغ، عول) وللهذلي في تهذيب اللغة 1/ 127، 3/ 198، 16/ 32. وهو بلا نسبة في جمهرة اللغة ص 206 ومقاييس اللغة 3/ 169، 4/ 350والمخصص 5/ 135، 6/ 90.
(2) البيت لعبد مناف الهذلي في تاج العروس (حسس، غمم) ولسان العرب (حسس). وهو بلا نسبة في تاج العروس (زمل) ولسان العرب (زمل) والمخصص 2/ 145.
(3) في النسخة الشنقيطية: = بالسبت =.
(7/43)
وقوله: «من الأسى» إلخ، «الأسى»: الحزن. و «أنف»: بلد به قتلوا يومئذ.
وقوله: «جيش الحمار» كانوا غزوا ومعهم حمار يحملون عليه زادهم.
و «العارض»: الجيش، شبّهه لكثرته بالعارض من السّحاب الممتلئ ماء. و «البرد»، بكسر الراء: الذي فيه البرد بفتحتين.
وقوله: «لنعم ما أحسن» إلخ.
وروي:
عمري لقد أحسن الأبيات نهنهة ... أولى الخميس
و «النّهنهة»: الرّدّ. و «أولى العديّ»: العادية، وهي الحاملة (1).
و «الأبيات»: قوم أغير عليهم. وأحسنوا الطّرد، أي: أحسنوا طرادهم.
و «أولى» مفعول لنهنهة. والمعنى: نعم ما أحسنوا ردّ العدي، وأحسنوا مطاردتهم بعد.
وقوله: «إذ قدّموا مائة» إلخ، وروى أبو عبد الله (2): (البسيط)
فقدّموا مائة وأخّروا مائة ... كلتاهما قد وفت وازدادتا عددا
وقوله: «صابوا بستّة» إلخ، «صابوا»: وقعوا. وصاب المطر: وقع.
و «الجابئ» (3) بموحّدة فهمزة: الجراد. و «اللّبد»، بفتح فكسر: المتراكب بعضه على بعض. واللّبد بضم ففتح: الكثير. يقول: من كثرة ما وقع عليهم الناس كأنّ عليهم جرادا منقضّا.
وقوله: «شدّوا على القوم فاعتطّوا»: شقّوا أوائل القوم. وجيش الحمار بالجرّ بدل من ضمير الجمع المضاف، وبالنصب بدل من أوائل. وقيل له: جيش الحمار
__________
(1) في اللسان (عدا): = العدى أول من يحمل من الرجالة وذلك لأنهم يسرعون العدو ويقال: رأيت عدى القوم مقبلا، أي من حمل من الرجالة دون الفرسان =.
(2) البيت بلا نسبة في ديوان الهذليين 2/ 40.
(3) في طبعة بولاق والنسخة الشنقيطية: = الحابئ =. بالحاء المهملة. وهو تصحيف صوابه من ديوان الهذليين وشرح أشعار الهذليين واللسان (جبأ).
(7/44)
لأنه كان في الجيش حمار جاؤوا عليه. ويقال: إنما كان معهم حمار يحمل بعض متاعهم. يقول: لاقوا جيشا مثل العارض الذي فيه برد.
وقوله: «فالطّعن شغشغة» (1) إلخ، «الشغشغة» بمعجمتين: حكاية صوت الطّعن في الأجواف والأكفال. و «الهيقعة»: حكاية صوت الضرب بالسيوف (2).
و «المعوّل» بكسر الواو المشددة: الذي يبني عالة. و «العالة»: شجر يقطعه الرامي فيستظلّ به من الطر. و «العضد» بفتحتين: ما قطع من الشجر، والمضارع بكسر الضاد، يقال: عضد يعضد عضدا، إذا قطع. وجعله تحت الدّيمة لأنه أسمع لصوته إذا ابتلّ.
وقوله: «وللقسيّ أزاميل»: جمع أزمل، والياء من إشباع الكسرة. وأزمل كلّ شيء: صوته. يريد أنّ لها أصواتا تختلط فتصير واحدا. و «الغمغمة»: صوت لا يفهم. و «الحسّ»: الصوت. و «الجنوب»: الرّيح. أي: لها صوت كدويّ الريح الجنوب.
وقوله: «كأنّهم تحت صيفيّ» إلخ، أي: سحاب. «له نحم» بفتح النون والحاء المهملة، أي: صوت ينتحم (3) مثل نحيم الدابة. «مصرّح»: صرّح بالماء:
صبّه وانكشف فصار غيما خالصا، ونفى عنه القرد بفتح القاف والراء المهملة، وهو من السحاب: الصّغار المتلبّد المتراكب بعضه على بعض.
و «طحرت»: دفعت. و «الأسناء»: جمع سنا وهو الضوء. يقول:
كأنّهم تحت مطر صيفيّ مما يقع بهم، له نحم، أي: صوت رعد. ويروى: «لهم نحم».
عبد مناف بن ربع
و «عبد مناف»: شاعر جاهلي من شعراء هذيل، وهو ابن ربع الجربي، بكسر الراء وسكون الموحّدة. والجربي، بضم الجيم وفتح الراء المهملة: نسبة إلى جريب كقريش، وهو بطن من هذيل، وهو جريب بن سعد بن هذيل. وهذه
__________
(1) في طبعة بولاق: = شفشفة =. وهو تصحيف سبق أن نبهنا عنه وصوابه من ديوان الهذليين وشرح أشعار الهذليين.
(2) في النسخة الشنقيطية: = الضرب بسيف =.
(3) وكذا في ديوان الهذليين وشرح أشعار الهذليين. وفي طبعة بولاق: = ينحم =. ولقد أثبتنا رواية الهذليين.
وفي القاموس: = والانتحام: الاعتزام، وقد انتحمت على كذا وكذا =.
(7/45)
الوقعة، يقال لها: «يوم أنف» بفتح الألف وسكون النون، وهو بلد يلي ديار بني سليم من ديار هذيل.
وقال السكّري: أنف: داران، إحداهما فوق الأخرى بينهما قريب من ميل.
ويقال: أنف عاذ فيضاف، بالعين المهملة والذال المعجمة، كذا قال السكري.
وبدال مهملة رواها أبو عمرو.
وكانت بنو ظفر من بني سليم حربا لهذيل، فخرج المعترض بن حنواء الظّفري يغزو بني قرد من هذيل (1)، وفي بني سليم رجل من أنفسهم كان دليل القوم على أخواله من هذيل، وأمّه امرأة من بني جريب بن سعد، واسمه دبيّة، فدلّهم فوجد بني قرد بأنف، وبنو سليم يومئذ مائتا رجل، وزاملتهم حمار.
فلمّا جاء دبيّة بني قرد، قالوا له: أي ابن أختنا، أتخشى علينا من قومك مخشى؟ قال: معاذ الله. فصدّقوه وأطعموه، وتحدّثوا معه ساعة من الليل.
ثم قام كلّ واحد منهم إلى بيته، ورمقه رجل من القوم، وأوجس منه خيفة، حتّى إذا هدأ أهل الدار فلم يسمع ركز أحد ولا حسّه، لم ير إلّا إيّاه قد انسلّ من تحت لحاف أصحابه. فحذّر بني قرد لذلك، فقعد كلّ رجل منهم في جوف بيته آخذا بقائم سيفه، أو عجس قوسه ومعه نبله.
وحدّث دبيّة أصحابه بمكان الدارين (2)، فقدموا مائة نحو الدار العليا، وتواعدوا طلوع القمر، وهي ليلة خمسة وعشرين من الشهر، والدار في سفح الجبل، فبدا القمر للأسفلين قبل الأعلين، فأغار الذين بدا لهم القمر فقتلوا رجلا من بني قرد، فخرجوا من بيوتهم فشدّوا عليهم فهزموهم، فلم يرع الأعلين إلّا بنو قرد يطردون أصحابهم بالسّيوف، فزعموا أنّهم لم ينج منهم ليلتئذ إلّا ستون رجلا من المائتين،
__________
(1) في النسخة الشنقيطية: = قرد بن هذيل =. وهو تصحيف صوابه من طبعة بولاق ومعجم البلدان (أنف) ومعجم ما استعجم (أنف).
وفي جمهرة أنساب العرب ص 198: = وقرد بن معاوية بن تميم بن سعد بن هذيل، الذي يقال فيه: = أزنى من قرد =. والمثل المشهور في قرد في الألفاظ الكتابية ص 283وجمهرة الأمثال 1/ 506والدرة الفاخرة 1/ 213 وزهر الأكم 3/ 144وكتاب الأمثال ص 374وكتاب الأمثال لمجهول ص 10والمستقصى 1/ 149ومجمع الأمثال 1/ 326.
(2) ذكره ياقوت في معجمه (أنف) نقلا عن السكري، فقال: = أنف: داران، إحداهما فوق الأخرى =.
(7/46)
وقتل دبيّة، وأدرك المعترض فقتل أيضا.
وقال عبد مناف بن ربع هذه القصيدة، وذكر فيها هذا اليوم.
وقد أطلت الكلام هنا لأنّي لم أر من شرح البيت الشاهد كما ينبغي، ولم يذكر أحد القصيدة ولا اليوم كان سببا لها.
* * * وأنشد بعده، وهو الشاهد السابع بعد الخمسمائة (1): (الطويل)
507 - فأضحى ولو كانت خراسان دونه
رآها مكان السّوق أو هي أقربا
لما ذكره، قال أبو علي في «التذكرة القصرية»: «هي» لا تدخل فصلا في قول أصحابنا قبل نكرة، فإذا كانت أقرب بمنزلة قريب لم تكن «هي» فصلا، وإذا لم تكن فصلا، كان «أو» عطفا على عاملين. انتهى.
وفيه مسامحة، إذ مراده على معمولي عاملين، فهي معطوف على مفعول ترى، وأقرب معطوف على مكان.
وقال في «إيضاح الشعر»: لا تخلو «هي» من أن تكون مبتدأ، أو وصفا، أو فصلا. فلا تكون مبتدأ لانتصاب ما بعده، فبقي أن تكون وصفا أو فصلا.
وذلك أن قوله: «رآها مكان السّوق» دالّ على: أو رآها، فحذفها من اللفظ لدلالة ما تقدّم عليها، فصار التقدير: أو رآها أقرب، أي: أو رآها أقرب من السوق، فصارت هي فصلا بين الهاء، والخبر المنتصب.
وقد يجوز أن تجعل هي وصفا للهاء التي هي المفعول الأوّل، كما جاز ذلك في (2): {«تَجِدُوهُ عِنْدَ اللََّهِ هُوَ خَيْراً»}. والأوّل أوجه، لأنّ المحذوف لحذفه يستغني عن وصفه.
__________
(1) البيت لعبد الله بن الزبير من أبيات قالها بعد قتل الحجاج بن يوسف لعمير بن ضابئ البرجمي. وهو في ديوانه ص 55والأغاني 14/ 245والكامل في اللغة 1/ 226.
(2) سورة المزمل: 73/ 20.
(7/47)
ويجوز أن يكون أقرب ظرفا. فإذا جعلته ظرفا، ولم تجعله وصفا كان مبتدأ، وأقرب الخبر، والتقدير: أو هي أقرب من السّوق. ومثله (1): {«وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ»}. انتهى.
وهذا الأخير هو مراد الشارح المحقق. وأراد بالوصف التّوكيد، وهو تعبير سيبويه.
وقال أبو حيان في «تذكرته»: قال الفراء: إذا قيل منزلك بالحيرة، أو أقرب منها، ففي «أقرب» الرّفع والنصب، أي: أو منزلك أقرب من الحيرة أو مكانا أقرب منها، أو يكون موضع أقرب خفضا بالنسق على الحيرة، معناه، أو بأقرب منها. وأنشد الفراء:
فأضحى ولو كانت خراسان دونه ... رآها مكان السّوق أو هي أقربا
فنصب الأقرب على المحلّ، وتأويله: أو هي مكانا أقرب من خراسان. على أنّ قد جوّز مجوّز نصب أقرب في البيت على خبر رأى المضمرة، وقدّره: أو رآها هي أقرب. انتهى.
وقوله: أقرب من خراسان سهو، وصوابه أقرب من السّوق.
ثم قال أبو حبان: وقد قال الفراء: العرب تؤثر الرفع مع أو. واحتجّ بقول الله تعالى (2): {«فَهِيَ كَالْحِجََارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً»}. رفعت القراء أشدّ ولم تحمله على العطف، وبنته على: أو هي أشدّ قسوة.
على أنّه يجوز في النّحو أو أشدّ قسوة بنصب أشدّ، وموضعه خفض بالنسق على الحجارة، أي: كالحجارة أو كأشدّ قسوة.
فإنّما أوثر الرفع مع «أو» لأنها تأتي بمعنى الإباحة: إن شبّهتم قلوب هؤلاء بالحجارة أصبتم، أو بما هو أشدّ قسوة من الحجارة أصبتم، وإن شبّهتم قلوبهم بالحجارة وما هو أشدّ قسوة منها لم تخطئوا، كما يقال: جالس الحسن أو ابن سيرين.
__________
(1) سورة الأنفال: 8/ 42.
(2) سورة البقرة: 2/ 74.
(7/48)
يعني قد أبحت إفراد أحدهما بالمجالسة، والجمع بينهما في ذلك. فلما أتت «أو» بهذا المعنى اختاروا أن لا يعربوا ما بعدها بإعراب الذي قبلها إذا أمكن الاستئناف، ليدلّ بذلك على استواء الجملتين اللتين إحداهما قبلها، والأخرى بعدها. ولو لم يكن استئناف اختلط الذي بعدها بالذي قبلها، وسقط معنى الاختصاص بالإباحة.
انتهى.
وهذا يؤيّد كون أقرب ظرفا خبرا لهي.
والبيت آخر أبيات خمسة لعبد الله بن الزّبير الأسديّ، رواها المبرد في «الكامل» وغيره، وهي (1): (الطويل)
أقول لعبد الله يوم لقيته ... أرى الأمر أمسى منصبا متشعّبا
تجهّز فإمّا أن تزور ابن ضابئ ... عميرا وإمّا أن تزور المهلّبا
هما خطّتا خسف نجاؤك منهما ... ركوبك حوليّا من الثّلج أشهبا
فما إن أرى الحجّاج يغمد سيفه ... يد الدّهر حتّى يترك الطّفل أشيبا (2)
فأضحى ولو كانت خراسان دونه ... رآها مكان السّوق أو هي أقربا
قوله: «أقول لعبد الله» روى صاحب الأغاني (3) «أقول لإبراهيم». وأورد منشأ هذه الأبيات مختصرا، فقال:
لمّا قدم الحجّاج الكوفة [واليا] صعد المنبر، وأوعد أهلها، وهدّدهم، ثم حثّهم على اللّحاق بالمهلّب بن أبي صفرة، وأقسم إن وجد منهم أحدا اسمه في جريدة المهلّب بعد ثالثة بالكوفة قتله.
فجاءه عمير بن ضابئ البرجميّ، فقال: أيّها الأمير: إنّي شيخ لا فضل فيّ، ولي
__________
(1) الأبيات لعبد الله بن الزبير في ديوانه ص 55والأغاني 14/ 246245والكامل في اللغة 1/ 226.
والبيتان 32في طبقات فحول الشعراء ص 176.
(2) في طبعة بولاق: = يدي الدهر =. وهو تصحيف. وفي النسخة الشنقيطية: = يدا الدهر =. وهو تصحيف أيضا. والصواب ما أثبته محقق طبعة هارون 7/ 53.
وفي لسان العرب: = يد الدهر =، أي: الدهر. هذا قول أبي عبيد، وقال ابن الأعرابي: معناه لا آتيه الدهر كله.
(3) الأغاني 14/ 245.
(7/49)
ابن شابّ جلد، فاقبله بدلا مني. فقال (1) عنبسة بن سعيد بن العاص: أيّها الأمير، هذا جاء إلى عثمان، وهو مقتول، فرفسه وكسر ضلعين من أضلاعه! فقال له الحجاج: فهلّا يومئذ بعثت بدلا؟ يا حرسيّ اضرب عنقه (2) فسمع الحجاج ضوضاة، فقال: ما هذا؟ فقيل: هذه البراجم جاءت لتنصر عميرا. فقال:
أتحفوهم برأسه! فولّوا هاربين، فازدحم الناس على الجسر للعبور للمهلّب حتّى غرق بعضهم (3)، فقال عبد الله بن الزّبير الأسديّ:
أقول لإبراهيم لمّا لقيته ... (الأبيات المذكورة)
و «المنصب»: اسم فاعل من أنصبه، أي: أتعبه. و «المتشعّب» أيضا: اسم فاعل من تشعّب، أي: تفرّق.
وقوله: «تجهّز فإمّا» إلخ، أي: تهيّأ لأحد هذين الأمرين: إمّا يقتلك الحجّاج كما قتل عميرا وإمّا تلحق المهلّب.
وقوله: «هما خطّتا خسف» إلخ، «الخطّة» بالضم: الحالة. و «الخسف» بفتح المعجمة: الذّلّ. و «نجاؤك»، أي: خلاصك. و «الحوليّ»، هو من كلّ ذي حافر ما استكمل سنة، ودخل في الثانية. والأنثى حوليّة، وأراد به هنا المهر.
والأشهب من الخيل وغيره: ما غلب بياضه على سواده.
و «من الثّلج» صفة أولى لحوليّ، وهو بالضم جمع أثلج، وهو الفرحان النشيط. ومراده بهذا الفرار، كما فرّ سوّار بن المضرّب السّعدي من الحجاج يومئذ، وقال (4): (الطويل)
أقاتلي الحجّاج إن لم أزر له ... دراب وأترك عند هند فؤاديا (5)
__________
(1) في أصول طبعات الخزانة: = فقال أبو عنبسة =. وهو تصحيف، صوابه من نسب قريش للمصعب ص 180 181والأغاني 14/ 244.
(2) وكذا في الأغاني. وفي حاشية طبعة هارون 7/ 54: = ويروى: اضربا عنقه على إرادة نون التوكيد الخفيفة التي تقلب ألفا في الوقف، ثم يجرى الوصل مجرى الوقف =.
(3) وذكر صاحب الكامل في اللغة رواية أخرى مشابهة 1/ 225.
(4) الأبيات لسوار بن المضرب في الحماسة الشجرية 1/ 208والكامل في اللغة 1/ 301300والنوادر في اللغة ص 45.
(5) البيت لسوار بن المضرب في الدرر 3/ 53ومعجم ما استعجم ص 549والمقاصد النحوية 2/ 451.
(7/50)
فإن كان لا يرضيك حتّى تردّني ... إلى قطريّ ما إخالك راضيا (1)
إذا جاوزت درب المجيرين ناقتي ... فباست أبي الحجّاج لمّا ثنانيا
أيرجو بنو مروان سمعي وطاعتي ... وقومي تميم والفلاة ورائيا (2)
وممّن هرب منه: مالك بن الرّيب المازني، وقال (3): (الطويل)
فإن تنصفونا يال مروان نقترب ... إليكم وإلّا فأدنوا ببعاد
ففي الأرض عن دار المذلّة مذهب ... وكلّ بلاد أوطنت كبلاد
فماذا ترى الحجّاج يبلغ جهده ... إذا نحن جاوزنا خفير زياد (4)
فلولا بنو مروان كان ابن يوسف ... كما كان عبدا من عبيد إياد
وقوله: «فما إن أرى» إلخ، «إن» زائدة، و «الحجّاج» مفعول أوّل لأرى، وجملة: «يغمد سيفه» في موضع المفعول الثاني. وأغمد سيفه: أدخله في
__________
وفي النوادر ص 46: = قوله: دراب، يريد دراب جرد. وقطري صاحب الخوارج. وأراد بورائي: بين يدي، أي: قدامي =.
وفي الحماسة الشجرية 1/ 208: = أراد دراب جرد: بلد من فارس =.
(1) البيت لسوار بن المضرب في شرح التصريح 1/ 272والمقاصد النحوية 2/ 451. وهو بلا نسبة في أوضح المسالك 2/ 90والخصائص 2/ 433وشرح الأشموني 1/ 169وشرح المفصل 1/ 80والمحتسب 2/ 192.
(2) البيت لسوار بن المضرب في تاج العروس (وري) ولسان العرب (وري) وللفرزدق في جمهرة اللغة ص 1318وليس في ديوانه. وهو بلا نسبة في جمهرة اللغة ص 236، 1070.
(3) الأبيات للفرزدق في ديوانه 1/ 190والحماسة برواية الجواليقي ص 191وشرح الحماسة للأعلم 1/ 205 206وشرح الحماسة للتبريزي 2/ 109ولمالك بن الريب في ملحق ديوانه ص 51والشعر والشعراء ص 271والكامل في اللغة 1/ 302301ومعجم البلدان (حفير زياد).
قالها مالك يهجو فيها الحجاج وكان الحجاج قد ألزمه البعث إلى المهلب لقتال الأزارقة، فهرب إلى الشام وقال (الأبيات).
وفي حاشية ديوان الفرزدق 1/ 190: = قال ابن حبيب: هذه القصيدة يروها المفضل =.
(4) البيت للفرزدق في ديوانه 1/ 190والدرر 2/ 154وشرح التصريح 1/ 205وشرح الحماسة للمرزوقي ص 677ومعجم ما استعجم ص 459والمقاصد النحوية 2/ 180وهو لمالك بن الريب في ملحق ديوانه ص 51والشعر والشعراء ص 271. وهو بلا نسبة في أوضح المسالك 1/ 308وشرح الأشموني 1/ 130 وهمع الهوامع 1/ 131.
(7/51)
غمده بالكسر، أي: قرابه. و «يد الدهر» (1)، بفتح المثناة التحتية بمعنى مدى الدهر، بالميم بدلها. وقوله: «حتّى يترك» حتّى: بمعنى إلّا.
وقوله: «فأضحى ولو كانت خراسان» الفاء سببيّة تسبّب ما بعدها عن قوله:
تجهّز فإما أن تزور البيت. وأضحى من الأفعال الناقصة واسمها ضمير عبد الله وإبراهيم، وجملة «رآها» خبرها. وقد مرّ أنّ الشارح المحقق استشهد بقوله (2):
(الطويل)
* وكان طوى كشحا على مستكنّة *
على وقوع الماضي خبرا للأفعال الناقصة، وعلى هذا تكون «لو» وصليّة لا جواب لها، وعليه المعنى، فإنه يريد أنّ عبد الله صار كأنّه رأى خراسان مكان السّوق قريبة منه، أو هي أقرب من السوق، فذهب إليها من غير تأهّب واستعداد، لشدّة خوفه من الحجاج، وإن كانت خراسان في نفس الأمر دونه بمراحل.
وزعم أبو علي في «إيضاح الشعر» أنّ خبر أضحى محذوف، فتكون «لو» شرطيّة، و «رآها» جوابها. ولا يخفى ركاكة الشرطيّة. وهذه عبارته:
«فأمّا خبر أضحى فمحذوف تقديره: فأضحى مشمّرا أو مجدّا أو نحو ذلك، ممّا يدلّ عليه ما تقدّم». انتهى.
و «خراسان»: ولاية واسعة تشتمل على امّهات من البلاد، منها نيسابور، وهراة، ومرو، وبلخ، واختلف في تسميتها بذلك، فقال دغفل النسّابة (3): خرج خراسان وهيطل ابنا عابر (4) بن سام بن نوح عليه السلام، لمّا تبلبلت الألسن ببابل،
__________
(1) في طبعة بولاق والنسخة الشنقيطية: = يدي الدهر =. وهو تصحيف سبق لنا أن صوبناه سابقا.
(2) صدر بيت لزهير بن أبي سلمى من معلقته المشهورة وعجزه:
* فلا هو أبداها ولم يتقدم *
والبيت لزهير في ديوانه صنعة الأعلم ص 20وديوانه صنعة ثعلب ص 29والأزهية ص 158وشرح أبيات المغني 3/ 135وشرح القصائد العشر للخطيب ص 187ولسان العرب (طوى). وهو الشاهد رقم / 246/ من شواهد الخزانة. انظر الجزء الرابع ص 3.
(3) معجم البلدان (خراسان).
(4) في النسخة الشنقيطية: = عالم بن سام =. وهو تصحيف. وفي القاموس (عبر): = وعابر كهاجر: ابن
(7/52)
فنزل كلّ واحد منهم في البلد المنسوب إليه.
يريد أنّ هيطل نزل في البلد المعروف بالهياطلة، وهو ماوراء نهر جيحون.
ونزل خراسان في البلاد المذكورة، فسمّي [ت] كلّ بقعة بالذي نزل بها.
ونقل أبو عبيد البكري في «المعجم» عن الجرجاني، أنه قال: معنى خر:
كل، وآسان معناه: سهل، أي: كل بلا تعب. وقال غيره: معنى خراسان بالفارسية مطلع الشمس. انتهى.
وقوله: «دونه»، أي: دون عبد الله. و «دون» بمعنى أمام. وزعم المبرد في «الكامل» أنّ الضمير للسّفر المفهوم من المقام. وقال: يعني دون السفر. رآها مكان السوق للخوف والطاعة. وهذا كلامه (1) ولم يفسّر من هذا الشعر غير هذا.
و «مكان»: ظرف، و «السّوق» مؤنّث سماعيّ، وتذكّر، وهو محل البيع والشراء، و «هي» ضمير خراسان، و «أقرب» أفعل تفضيل منصوب على الظرفية، وهو وعامله خبر هي، والألف للإطلاق.
روى صاحب الأغاني (2) أنّ ناظم هذه الأبيات لما قفل من حرب الأزارقة جاء يوما إلى الحجّاج، وهو بقنطرة الكوفة يعرض عليه الجيش، وجعل يسأل عن رجل رجل، فمرّ به ابن الزّبير فسأله من هو، فأخبره، فقال: أأنت الذي تقول:
تخيّر فإمّا أن تزور ابن ضابئ ... عميرا وإمّا أن تزور المهلّبا
قال: بلى. فقال الحجاج: فامض إلى بعثك. فمضى فمات بالرّيّ.
وتقدّمت ترجمته في الشاهد الرابع والعشرين بعد المائة (3).
وهذه الوقعة وقعة الخوارج، وكان أميرهم قطريّ بن الفجاءة، وكان تغلّب على شيراز وكازرون وما يليها، في زمن عبد الملك بن مروان، وكان عبد الملك أمر
__________
أرفخشذ بن سام بن نوح عليه السلام =.
وفي السيرة النبوية 1/ 7: = وثمود وجديس ابنا عابر بن إرم بن سام بن نوح =.
(1) في النسخة الشنقيطية: = هذا كلامه =.
(2) الأغاني 14/ 248. والخبر هنا مختصر جدا.
(3) الخزانة الجزء الثاني ص 232.
(7/53)
أمير الكوفة أخاه، وهو بشر بن مروان، أن يولّي المهلب بن أبي صفرة لقتال الخوارج، فولّاه وأمدّه بجيش من الكوفة كبيرهم عبد الرحمن بن مخنف، وكانوا ثمانية آلاف رجل ولحقوا بالمهلّب. وبعد شهر (1) مات بشر، فلما تسامعوا بموته تسلّلوا من عند المهلّب وجاؤوا إلى الكوفة.
ثم إنّ عبد الملك بن مروان ولّى الحجاج موضع أخيه، وأمره أن يمدّ المهلّب، فلما جاء الحجّاج إلى الكوفة صعد المنبر وحثّ أهل الكوفة باللّحاق إلى المهلّب، وهدّدهم وأعطاهم أرزاقهم، وحلف إن وجد أحدا منهم بعد ثلاثة أيام ليضربنّ عنقه. فهابه الناس وتسارعوا في السّفر.
وقد فصّل المبرد في «الكامل» (2) هذه الأخبار والحروب وما قيل فيها من الأشعار، وشرحها.
وللحجاج خطبة بليغة قالها على المنبر حين دخوله الكوفة أميرا عليها، ستأتي إن شاء الله مشروحة في أفعال المقاربة عند شعر عمير بن ضابئ.
* * * وأنشد بعده، وهو الشاهد الثامن بعد الخمسمائة (3): (الطويل)
508 - فبينا نسوس النّاس والأمر أمرنا
إذا نحن فيهم سوقة نتنصّف
__________
(1) في النسخة الشنقيطية: = أشهر =. وما أثبتناه هنا من الكامل في اللغة 2/ 262وما بعدها.
(2) الكامل في اللغة 2/ 121: = باب من أخبار الخوارج =.
(3) هو الإنشاد السادس عشر بعد الخمسمائة في شرح أبيات المغني للبغدادي.
والبيت لحرقة بنت النعمان في الجنى الداني ص 376والدرر 3/ 119والحماسة برواية الجواليقي ص 358 وشرح الحماسة للأعلم 2/ 721وشرح الحماسة للتبريزي 3/ 109وشرح الحماسة للمرزوقي ص 1203 وشرح أبيات المغني 5/ 273وشرح شواهد المغني ص 723ولسان العرب (نصف، سوق، بين) والمؤتلف والمختلف ص 103. وهو بلا نسبة في تاج العروس (إذا) ولسان العرب (إذا) ومغني اللبيب ص 311، 371 وهمع الهوامع 1/ 311.
وروايته في بعض هذه المصادر:
بينا ... إذا نحن فيهم سوقه ليس ننصف
(7/54)
على أنّ الأغلب مجيء «إذا» الفجائية في جواب بينا، كما في البيت.
وقد تقترن الفاء الزائدة ب «إذا»، كما قال ابن عبدل، وهو من شعراء الحماسة (1): (الكامل)
بيناهم بالظّهر قد جلسوا ... يوما بحيث تنزّع الذّبح (2)
فإذا ابن هند في مواكبه ... تهدي به خطّارة سرح (3)
قال ابن جني في «إعراب الحماسة»: يوما منصوب لأنه بدل من بينا، ألا ترى أنّ معناه بين أوقات هم قد جلسوا، وذلك البين هو اليوم الذي أبدله منه (4). وليس يعني باليوم المقدار المعروف من طلوع الشمس إلى غروبها، وإنما يريد الوقت مبهما لا يخصّ به مقدارا من الزمان. وقد يكون برهة من الدهر تشتمل على الأيّام واللّيالي.
وزاد الفاء في قوله: «فإذا»، وإنما أراد: بيناهم كذلك إذا ابن هند قد فعل كذا.
انتهى.
ويؤخذ منه أنّ «بينا» يجوز اقتران جوابها بإذا، وإن أبدل منها ظرف زمان آخر.
وقول الشارح المحقق: «ولا يجيء بعد إذا المفاجأة إلّا الفعل الماضي»، أراد:
مع بينا وبينما، وهو الظاهر كقوله (5): (البسيط)
__________
(1) البيتان للحكم بن عبدل الأسدي في الحماسة برواية الجواليقي ص 593وشرح الحماسة للأعلم 2/ 886 وشرح الحماسة للتبريزي 4/ 145وشرح الحماسة للمرزوقي ص 1783.
(2) في شرح الحماسة للأعلم 2/ 886: = الظهر هنا موضع. والذبح: نبت أحمر، يريد موضعا يكون به.
والخطارة: المختالة في سيرها. والسرح: السهلة المرّ =.
(3) جميع روايات الحماسة جاءت: = تهوي به خطارة =. وتهدي هنا بمعنى تتقدم. وقد انفرد برواية الدال ابن جني في التنبيه على الحماسة الورقة 241.
(4) وكذا في التنبيه على الحماسة. وفي النسخة الشنقيطية: = أبدل منه =.
(5) عجز بيت وصدره:
* استقدر الله خيرا وارضينّ به *
وهو الإنشاد العشرون بعد المائة في شرح أبيات المغني للبغدادي.
والبيت لحريث بن جبلة أو لعثير بن لبيد في الدرر 3/ 100، 118وشرح أبيات المغني 2/ 168وشرح شواهد المغني 1/ 244وكتاب المعمرين ص 52ولسان العرب (دهز). وهو بلا نسبة في جواهر الأدب ص 294
(7/55)
* فبينما العسر إذ دارت مياسير *
وأمّا مع غيرهما فلا تأتي المفاجأة. قال أبو حيان في «الارتشاف» وتأتي «إذ» للمفاجأة. قال سيبويه: بينا كذا إذ جاء زيد. فهذا لما يوافقه ويهجم عليه. انتهى.
ولا تكون للمفاجأة إلّا بعد بينا وبينما. انتهى.
وكذلك قال ابن هشام في «المغني»: تكون «إذ» للمفاجأة، نصّ عليه سيبويه، وهي الواقعة بعد بينا وبينما.
وأجاز الرضيّ مجيئها لها في غير جوابهما، فيما يأتي قبل إيراد قوله: «بينا تعنّقه الكماة» البيت الآتي، فقال: وقد تجيء «إذ» للمفاجأة في غير جواب بينا وبينما، كما في قولك: كنت واقفا إذ جاءني عمرو.
هذا كلامه.
وهذا يحتاج إلى إثباته بكلام من يوثق به. قال ابن جني في «إعراب الحماسة»:
قوله: بينا نسوس الناس إلخ، أراد بين فأشبع الفتحة فأنشأ عنها ألفا. قال أبو علي:
أصله بين أوقات نسوس الناس، والعامل في بينا ما دلّ عليه قوله:
* إذا نحن فيهم سوقة نتنصّف *
ألا ترى أنّ معناه بين هذه الأوقات خدمنا الناس وذللنا، كما أنّ قوله تعالى (1):
{«وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمََا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذََا هُمْ يَقْنَطُونَ»} تأويله: قنطوا. فوقوع إذا هذه المكانيّة جوابا للشرط من أقوى دليل على قوّة شبهها بالفعل. وإذا هذه منصوبة بالفعل بعدها، وليست مضافة إليه. وكذلك «إذ» التي للمفاجأة في نحو قوله (2):
(الرمل)
بينما النّاس على عليائها ... إذ هووا في هوّة منها فغاروا
__________
ودرة الغواص ص 73ورصف المباني ص 338وسر صناعة الإعراب 1/ 255وشرح شذور الذهب ص 164والكتاب 3/ 528ولسان العرب (قدر) واللمع ص 274ومجالس ثعلب 1/ 265ومغني اللبيب 1/ 83وهمع الهوامع 1/ 211.
(1) سورة الروم: 30/ 36.
(2) البيت للأفوه الأودي في ديوانه ص 11وتاج العروس (إذا) ولسان العرب (إذا).
(7/56)
«إذ» منصوبة الموضع بهووا (1).
وقال أيضا في «سرّ الصناعة»: أشبع الفتحة في بينا فحدث بعدها ألف. فإن قيل: فإلام أضاف بين وقد علمنا أنّ هذا الظرف، لا يضاف من الأسماء إلّا إلى ما يدلّ على أكثر من الواحد، وما عكف عليه غيره بالواو، نحو المال بين زيد وعمرو، وقوله: نسوس الناس جملة، والجملة لا مذهب لها بعد هذا الظرف؟ فالجواب: أنّ ها هنا واسطة محذوفة، والتقدير: بين أوقات نسوس الناس خدمنا، أي: خدمنا بين أوقات سياستنا الناس، والجمل مما يضاف إليها أسماء الزمان، نحو أتيتك زمن الحجّاج أمير.
ثم إنه حذف المضاف الذي هو أوقات، وأولى الظرف الذي كان مضافا إلى المحذوف الجملة التي أقيمت مقام المضاف إليها، كقوله عزّ وجل (2): «واسئل القرية»، أي: أهلها. هكذا علّقت عن أبي علي في تفسير هذه اللفظة وقت القراءة عليه، وقلّ من يضبط ذلك، إلا من كان متقنا أصيلا في هذه الصناعة. انتهى.
وهكذا كلّ من شرح بينا، قال: الألف نشأت عن إشباع الفتحة. وزعم الفراء أنّ أصل بينا بينما فحذفت الميم.
قال أبو علي: هذا لا يعرف إلّا بوحي، أو خبر نبيّ. كذا نقل ابن جنّي في شرح هذا البيت.
وقال زين العرب (3) في «أوّل شرح المصابيح»: وقول الجوهري نشأت الألف من إشباع الفتحة ففيه نظر، وهو أنّ الألف إنّما تتولد من الفتحة في القافية. والحقّ أن بينا أصله بينا بالتنوين، والتنوين فيه للعوض عن المضاف إليه المحذوف. وهو الأوقات، ثمّ أبدل الألف من التنوين في الوصل إجراء للوصل مجرى الوقف، فثبتت الألف ثبوتها في الوقف بدل التنوين. وأمّا بينما فما فيه بمعنى الزمان فلا حذف فيه، أو ما فيه زائدة بين المضاف (4) والمضاف إليه. انتهى.
__________
(1) بعده في إعراب الحماسة 172: = وليست كإذ الزمانية في نحو قولك: إذ قمت =.
(2) سورة يوسف: 12/ 82.
(3) واسمه علي بن عبد الله بن أحمد. قال عنه في كشف الظنون: = والذي في شرح علي القاري أنه مصري =.
والمصابيح التالية الذكر هي مصابيح السنة للبغوي المتوفى سنة 516هـ.
(4) قوله: = بين المضاف =. ساقطة من طبعة بولاق.
(7/57)
وعلى هذا فألف بينا عوض العوض. ومثله غير معروف. ويقتضي أيضا أن يكون بينا غير مضاف إلى الجملة.
وقول الشارح المحقق: «لمّا قصد إلى إضافة بين إلى جملة زادوا عليه ما الكافّة، أو أشبعوا الفتحة (1)». يريد أنّ ما والألف كفّتا «بين» عن الإضافة إلى المفرد، وهيّآها للإضافة إلى جملة. وهذا شيء غريب، والمشهور أنّ الألف من إشباع الفتحة، وبين مضافة إلى الجملة من غير تعرّض لكفّ وتهيئة.
وذهب بعضهم إلى أنّ الألف زائدة من غير إشباع، وهي كافّة لبين عن الإضافة. كذا نقل ابن هشام في الألف الليّنة من «المغني».
وقال أيضا في بحث «ما» الكافّة للظروف عن الإضافة: إنّ «ما» تكون كافّة لبين عن الإضافة، كقوله (2): (الخفيف)
بينما نحن بالأراك معا ... إذ أتى راكب على جمله
وقيل: «ما» زائدة، و «بين» مضافة إلى الجملة، وقيل: زائدة و «بين» مضافة إلى زمن محذوف مضاف إلى الجملة، أي: بين أوقات نحن بالأراك، والأقوال الثلاثة في بين مع الألف في نحو قوله: فبينا نسوس الناس، البيت. انتهى.
أقول: صاحب القول الثاني لابدّ له من تقدير الأوقات، فلا يباين القول الثالث. ولم يتنبه له شرّاحه.
وقوله: «والأقوال الثلاثة في بين مع الألف». فالأول: تكون الألف كافّة عن الإضافة. والثاني: أنّها زائدة وبين مضافة إلى الجملة. والثالث: أنّها زائدة وبين مضافة إلى الزمن المذكور.
ويرد على هذا أيضا ما ذكرنا، والصواب أن القولين الأخيرين فيهما قول واحد.
__________
(1) في حاشية طبعة هارون 7/ 62: = هذه العبارة إيجاز شديد لما ورد في شرح الرضي 2: 106=.
(2) هو الإنشاد الخامس عشر بعد الخمسمائة في شرح أبيات المغني للبغدادي.
والبيت لجميل بثينة في ديوانه ص 188وشرح أبيات المغني 5/ 272وشرح شواهد المغني 1/ 366، 2/ 722 والمقاصد النحوية 3/ 339. وهو بلا نسبة في تاج العروس (ما) وشرح ديوان الحماسة للمرزوقي ص 1784 ومغني اللبيب 1/ 311.
(7/58)
وقال زين العرب: هذه الألف عوض عن الأوقات المحذوفة، وكذلك ما عوض عنها.
وهذا غير قوله الأول الذي جعله الحقّ عنده.
والحاصل أنّ في ألف بينا خمسة أقوال:
أحدها: إشباع لتهيئة بين للإضافة.
وثانيها: أنّها مجتلبة للكفّ عن الإضافة.
وثالثها: أنّها للعوض عن الأوقات المحذوفة.
ورابعها: أنّها بدل من تنوين العوض.
وخامسها: أنّها بقيّة ما. وهو أبعد الأقوال.
والجيّد ما ذهب إليه الشارح المحقق.
والبيت أوّل بيتين لحرقة بنت النعمان بن المنذر، أوردهما أبو تمام في «الحماسة»، والرواية: «بينا نسوس» بإسقاط الفاء على الخرم. والثاني (1):
فأفّ لدنيا لا يدوم نعيمها ... تقلّب تارات بنا وتصرّف
تقول: بينا نستخدم الناس وندبّر أمورهم، وطاعتنا واجبة عليهم، وأحكامنا نافذة، تقلّبت الأمور، واتّضعت الأحوال، وصرنا سوقة تخدم الناس.
و «نسوس» من ساس زيد الأمر يسوسه سياسة: دبّره وقام بأمره. والسياسة لفظة عربية خالصة، زعم بعضهم أنّها معرّب سه يسا، وهي لفظة مركّبة من كلمتين، أولاهما أعجمية، والأخرى تركية. فسه بالفارسة ثلاثة، ويسا بالمغليّة الترتيب، فكأنه قال: التراتيب الثلاثة.
قال: وسببه «على ما في النجوم الزاهرة» (2) أنّ جنكز خان الملعون، ملك المغل،
__________
(1) البيت لحرقة بنت النعمان في تاج العروس (نصف) والحماسة برواية الجواليقي ص 358وشرح أبيات المغني 5/ 273وشرح الحماسة للأعلم 2/ 721وشرح الحماسة للتبريزي 3/ 109وشرح الحماسة للمرزوقي ص 1203ولسان العرب (نصف).
(2) في النسخة الشنقيطية: = ما هو في النجوم الزاهرة =. والنص التالي في النجوم الزاهرة 6/ 268في حوادث سنة 624هـ.
(7/59)
قسّم ممالكه بين أولاده وأوصاهم بوصايا أن لا يخرجوا عنها، فجعلوها قانونا فسمّوها بذلك. ثم غيّروها (1) فقالوا: سياسة.
وهذا شيء لا أصل له فإنها لفظة عربيّة متصرّفة تكلّمت بها العرب قبل أن يخلق جنكز خان، فإنه كان في تاريخ السّتّمائة، وصاحبة هذا البيت قبله بأربعمائة سنة. نعم لو قيل أفريدون بدل جنكز خان لكان له وجه، فإنه قسّم مملكته بين أولاده الثّلاث: سلم، وتور، وإيرج (2)، ورتّب لهم قوانين ثلاثة.
وقولها: «والأمر أمرنا» فيه قصر إفراد، تريد: لا أحد يشاركنا في السّلطنة ولا يد فوق أيدينا.
و «السّوقة» بالضم، قال الحريري في «درّة الغوّاص»: ومنه أيضا توهّمهم أنّ السّوقة اسم لأهل السّوق. وليس كذلك، بل السّوقة الرعيّة. سمّوا بذلك لأنّ الملك يسوقهم إلى إرادته.
ويستوي لفظ الواحد والجماعة فيه، فيقال: رجل سوقة وقوم سوقة، كما قالت الحرقة بنت النعمان: فبينا نسوق الناس البيت.
فأمّا أهل السّوق فهم السّوقيون، واحدهم سوقيّ، والسّوق في كلام العرب تذكّر وتؤنث. انتهى.
والمشهور في رواية البيت: «بينا نسوس» بدل «نسوق».
ومثله في «لحن العامة للجواليقي» قال: يذهب عوامّ الناس إلى أنّ السّوقة أهل السوق، وذلك خطأ، إنّما السّوقة من ليس يملك، تاجرا كان أو غير تاجر، بمنزلة الرعية. وسمّوا سوقة لأنّ الملك يسوقهم فينساقون له، ويصرّفهم على مراده. يقال للواحد: سوقة وللاثنين: سوقة. وربّما جمع سوقا.
قال زهير (3): (البسيط)
__________
(1) في النجوم الزاهرة: = وانتشر ذلك في سائر الممالك حتى ممالك مصر والشام، وصاروا يقولون: سي يسا، فثقلت عليهم فقالوا سياسة، على تحاريف أولاد العرب في اللغات الأعجمية =.
(2) في تاريخ الطبري 1/ 212: = أنه كان له ثلاثة بنين، اسم الأكبر سلم، والثاني طوج، والثالث أيرج =.
(3) البيت لزهير بن أبي سلمى في ديوانه صنعة ثعلب ص 48وتاج العروس (سوق) ولسان العرب (سوق).
وفي طبعة بولاق: = وهذا بذة السوقا =. وهو تصحيف صوابه من المصادر السابقة الذكر والنسخة الشنقيطية.
(7/60)
يطلب شأو امرأين قدّما حسنا ... نالا الملوك وبذّا هذه السّوقا
وأمّا أهل السوق فالواحد سوقيّ، والجماعة سوقيّون. انتهى.
ونقل الصاغاني في «العباب» هذه العبارة، وزاد: «ويستوي فيه المذكر والمؤنث».
و «نتنصّف» بالبناء للفاعل، أي: نخدم. قال ابن السكيت: نصفهم ينصفهم وينصفهم بضم الصاد وكسرها نصافا ونصافة بكسرهما، أي: خدمهم. وكذلك تنصّف. والناصف: الخادم، والجمع نصف بفتحتين، وكذلك المنصف بفتح الميم وكسرها: الخادم، والجمع مناصف.
وظاهر تفسير ابن الشجري إيّاه، بقوله: «أي نستخدم»، أنه بالبناء للمفعول.
ووقع في بعض نسخ مغني اللبيب «ليس ننصف» بدل نتنصّف، أي: نعامل بالإنصاف. ولم أر من روى كذا.
وقولها: «فأفّ لدنيا» إلخ، أي: تحقيرا لدنيا نعيمها يزول، وجمالها لا يدوم، بل تتحوّل وتتقلّب بأهلها. وتقلّب وتصرّف كلاهما مضارع والأصل: تتقلّب وتتصرّف، أي: تتغير. و «أفّ» بكسر الفاء وفتحها وضمها. وفيها لغات شرحها ابن جني في «إعراب الحماسة».
حرقة بنت النعمان
و «حرقة»، بضم الحاء وفتح الراء المهملتين بعدها قاف، وهي بنت النعمان ابن المنذر اللخمي، ملك الحيرة بظهر الكوفة. وهي امرأة شريفة شاعرة. كذا ذكرها الآمدي في «المؤتلف والمختلف» (1). وأنشد لها هذين البيتين.
ولحرقة هذه أخ اسمه «حريق» مصغّر اسمها. قال هانئ بن قبيصة يوم ذي قار:
(المنسرح)
أقسم بالله نسلم الحلقه ... ولا حريقا وأخته حرقه (2)
__________
(1) المؤتلف والمختلف ص 144.
(2) البيت لهانئ بن قبيصة في تاج العروس (حرق) وكتاب التصحيف ص 382. وهو بلا نسبة في أساس البلاغة (حلق) وتاج العروس (حلق) وجمهرة اللغة ص 519، 558ولسان العرب (حرق، حلق).
(7/61)
حتّى يظلّ الرّئيس منجدلا ... ويقرع السّهم طرّة الدّرقه (1)
كذا ذكرها العسكري في «كتاب التصحيف» وأنشد لها البيتين وقال: ولها خبر مع سعد بن أبي وقّاص.
وذكرها الجاحظ في «كتاب المحاسن والمساوي» قال: زعموا أنّ زياد بن أبيه مرّ بالحيرة فنظر إلى دير هناك، فقال لخادمه: لمن هذا؟ قال: دير حرقة بنت النعمان ابن المنذر. فقال: ميلوا بنا لنسمع كلامها. فجاءت إلى وراء الباب فكلّمها الخادم، فقال لها: كلّمي الأمير. قالت: أوجز، أم أطيل؟ قال: بل أوجزي. قالت: كنّا أهل بيت طلعت الشمس علينا، وما على الأرض أحد أعزّ منّا، فما غابت تلك الشمس حتّى رحمنا عدوّنا. قال: فأمر لها بأوساق من شعير، فقالت: أطعمتك يد شبعي جاعت، ولا أطعمتك يد جوعى شبعت.
فسرّ زياد بكلامها فقال لشاعر معه: قيّد هذا الكلام لا يدرس. فقال (2):
(الطويل)
سل الخير أهل الخير قدما ولا تسل ... فتى ذاق طعم الخير منذ قريب
ويقال: إنّ فروة بن إياس بن قبيصة انتهى إلى دير حرقة بنت النعمان، فألفاها وهي تبكي، فقال لها: ما يبكيك؟ قالت: ما من دار امتلأت سرورا، إلّا امتلأت بعد ذلك ثبورا! ثم قالت:
فبينا نسوس النّاس والأمر أمرنا ... البيتين
قال: وقالت حرقة بنت النعمان لسعد بن أبي وقّاص: لا جعل الله لك إلى لئيم حاجة، ولا زالت لكريم إليك حاجة، وعقد لك المنن في أعناق الكرام، ولا أزال بك عن كريم نعمة، ولا أزالها عنه بغيرك إلّا جعلك سببا لردّها عليه. انتهى.
وأورد خبر سعد بن أبي وقّاص معها بأتمّ من هذا المعافى بن زكريّا في «كتاب الجليس» بسنده إلى حسّان بن أبان، قال: لمّا قدم سعد بن أبي وقّاص القادسيّة أميرا
__________
(1) في طبعة بولاق: = يظل الريس =. وهو تصحيف صوابه من النسخة الشنقيطية وكتاب التصحيف للعسكري ص 382.
(2) البيت لامرأة من ولد حسان بن ثابت في عيون الأخبار 3/ 150. وهو بلا نسبة في شرح عمدة الحافظ ص 265.
(7/62)
أتته حرقة بنت النّعمان بن المنذر، في جوار كلّهن مثل زيّها، يطلبن صلته. فلمّا وقفن بين يديه، قال: أيّتكنّ حرقة؟ قلن: هذه. قال لها: أنت حرقة؟ قالت:
نعم، فما تكرارك استفهامي (1)؟ إنّ الدنيا دار زوال، وإنها لا تدوم على حال، إنّا كنا ملوك هذا المصر قبلك، يجبى إلينا خراجه (2)، ويطيعنا أهله زمان الدّولة، فلما أدبر الأمر وانقضى، صاح بنا صائح الدهر فصدع عصانا، وشتّت ملأنا. وكذلك الدهر يا سعد، إنه ليس من قوم بسرور وحبرة إلّا والدهر معقبهم حسرة! ثم أنشأت تقول:
فبينا نسوس النّاس والأمر أمرنا ... البيتين
فقال سعد: قاتل الله عديّ بن زيد، كأنه ينظر إليها (3) حيث يقول (4):
إنّ للدّهر صولة فأحذرنها ... لا تبيتنّ قد أمنت السّرورا
قد يبيت الفتى معافى فيرزا ... ولقد كان آمنا مسرورا
وأكرمها سعد وأحسن جائزتها، فلما أرادت فراقه، قالت له: حتّى أحيّيك بتحية أملاكنا بعضهم بعضا: لا جعل الله لك إلى لئيم حاجة، ولا زال الكريم عندك حاجة، ولا نزع من عبد صالح نعمة إلّا جعلك سببا لردّها عليه! فلما خرجت من عنده تلقّاها نساء المصر، فقلن لها: ما صنع بك الأكير؟ قالت (5): (الخفيف)
حاط لي ذمّتي وأكرم وجهي ... إنّما يكرم الكريم الكريم
انتهى نقله من شرح أبيات المغني للسيوطي (6).
ونسب ابن الشجري في «أماليه» هذين البيتين إلى هند بنت النعمان بن المنذر.
__________
(1) أرادت معنى سؤاله عنها مرتين.
(2) في النسخة الشنقيطية: = يجيء إلينا خراجه =.
(3) في شرح شواهد المغني ص 246: = كأنه كان ينظر إليها =.
(4) البيتان لعدي بن زيد العبادي في ديوانه ص 64، من قصيدة قالها في سجنه، يذكر فيها النعمان بأنه سجين.
(5) ورد هذا البيت في طبعة بولاق والنسخة الشنقيطية منثورا. وهو من بحر الخفيف. ولقد أشار محقق طبعة هارون لذلك في حاشيته 7/ 69.
(6) شرح شواهد المغني للسيوطي ص 247246.
(7/63)
ولعلّ حرقة يكون لقبا لهند أو أختا لها. قال: هند بنت النّعمان، لها دير بظاهر الكوفة باق إلى اليوم. ولمّا كان المغيرة بن شعبة الثقفيّ واليا بالكوفة من قبل معاوية وكان أحد دهاة العرب أرسل إلى هند بنت النعمان يخطبها، وكانت قد عميت، فأبت وقالت: والصليب ما فيّ رغبة لجمال، ولا لكثرة مال، وأيّ رغبة لشيخ أعور في عجوز عمياء! ولكن أردت أن تفخر بنكاحي، فتقول: تزوّجت بنت النّعمان بن المنذر! فقال: صدقت والله. وأنشأ يقول (1): (الكامل)
أدركت ما منّيت نفسي خاليا ... لله درّك يا ابنة النّعمان
فلقد رددت على المغيرة ذهنه ... إنّ الملوك ذكيّة الأذهان
إنّي لحلفك بالصّليب مصدّق ... والصّلب أصدق حلفة الرّهبان
وكانت بعد ذلك تدخل عليه فيكرمها ويبرّها. وسألها يوما عن حالها فأنشدت:
بينا نسوس النّاس والأمر أمرنا ... البيتين
وروي أنّ المغيرة هذا أدمى ثمانين بكرا، ومات بالكوفة وهو أميرها، بالطّاعون سنة خمسين. انتهى.
وأورد هندا هذه إسماعيل الموصلي في «كتاب الأوائل» قال: أوّل امرأة أحبّت امرأة في العرب هند بنت النّعمان بن المنذر، كانت تهوى زرقاء اليمامة، فلما قتلت الزرقاء ترهّبت هند ولبست المسوح، وبنت لها ديرا يعرف بدير هند إلى الآن، وأقامت به حتى ماتت.
كذا ذكر أبو الفرج الأصبهاني في «كتاب الأغاني الكبير» (2). وفيه نظر، فإنّ هند بنت النعمان ماتت في ولاية المغيرة بن شعبة على الكوفة، وزرقاء اليمامة من جديس، ولهم خبر مع طسم، وكانوا في زمن ملوك الطوائف، وبينهما زمان طويل.
فما أعلم من أين وقع لأبي الفرج هذا. انتهى.
* * * __________
(1) الخبر في الأغاني 16/ 85. والأبيات فيه 16/ 78.
(2) الأغاني 2/ 132131.
(7/64)
وأنشد بعده:
* حتى إذا أسلكوهم في قتائدة *
تمامه:
* شلّا كما يطرد الجمّالة الشّردا *
على أن «إذا» فيه زائدة. وقد تقدّم الكلام عليه مفصلا قريبا (1).
* * * وأنشد بعده، وهو الشاهد التاسع بعد الخمسمائة (2): (الكامل)
509 - بينا تعنّقه الكماة وروغه
يوما أتيح له جريّ سلفع
على أنّه يجوز إضافة «بينا» دون «بينما» إلى المصدر، كما في البيت.
والأعرف الرفع على أنّه مبتدأ محذوف الخبر، أي: تعنّقه حاصل.
أقول: الأولى أن يقول: حاصلان، لأنّ قوله: وروغه معطوف على تعنّقه.
وقوله: يجوز إضافة «بينا» إلى المصدر، يعني إلى الأسماء المفردة إذا كان فيها معنى الفعل، حملا على معنى حين، كقولك: بينا قيام زيد أقبل عمرو، أي: حين قيام هذا أقبل ذاك. فإن وقع بعدها اسم جوهر لم يكن إلّا رفعا، نحو: بينا زيد في
__________
(1) هو الشاهد رقم 506من هذا الجزء.
(2) هو الإنشاد الواحد بعد الستمائة في شرح أبيات المغني للبغدادي.
والبيت لأبي ذؤيب في ديوانه ص 4والأشباه والنظائر 2/ 48والدرر 3/ 120وديوان الهذليين 1/ 18وسر صناعة الإعراب 1/ 25، 2/ 710وشرح أبيات المغني 6/ 156وشرح أشعار الهذليين 1/ 37وشرح شواهد المغني 1/ 263، 2/ 79وشرح المفصل 4/ 34ولسان العرب (بين). وهو بلا نسبة في الخصائص 3/ 122 ورصف المباني ص 11وشرح المفصل 4/ 99ومغني اللبيب 1/ 370وهمع الهوامع 1/ 211. وروايته في ديوانه:
بينا تعانقه الكماة وروغه ...
(7/65)
الدار أقبل عمرو، لأنها ظرف زمان، فلا تضاف إلى جثة، كما لا تكون خبرا عنها.
والبيت لأبي ذؤيب الهذلي، من قصيدته المشهورة التي رثى بها أولاده، وكانوا خمسة، وهلكوا في عام واحد، أصابهم الطاعون، وكانوا فيمن هاجر إلى مصر.
وقد تقدّم شرح بعض منها في الشاهد السابع والستين (1).
قال الإمام المرزوقي في شرح هذه القصيدة: روى الأصمعيّ: «بينا تعنّقه وروغه» مجرورا. وكان يقول: بينا يضاف إلى المصادر خاصة. والنحويّون يخالفونه ويقولون: بينا وبينما عبارتان للحين، وهما مبهمتان لا تضافان إلّا إلى الجمل التي تبيّنها. فإذا قلت: بينا أنا جالس طلع زيد، فالمعنى: حين أنا جالس، أو وقت أنا جالس طلع زيد. وذكر سيبويه خاصّة أنّ «إذ» تقع بعدهما للمفاجأة تقول: بينما نحن نسير إذ أقبل زيد.
وكثير من النحويّين والأصمعي ينكرون هذا ويقولون: لا حاجة إلى إذ، ألا ترى أنك تقول: حين زيد جالس قام عمرو. و «بينما» بمنزلة حين. قالوا:
وأشعارهم وردت بلا إذ. وممّا استشهدوا به بيت أبي ذؤيب هذا وغيره. ومما يستشهد به لسيبويه قوله (2): (الخفيف)
بينما نحن بالكثيب ضحى ... إذ أتى راكب على جمله
فأمّا الخلاف الأوّل فمن شرط الأزمنة أن تضاف إلى الجمل وتشرح بها. ورواية النحويين والناس: «بينا تعنّقه الكماة» فيرتفع تعنّقه بالابتداء، ويكون خبره مضمرا، كأنه قال: بينا تعنّقه الأبطال حاصل معهود، ومعتمد مألوف، أتيح له يوما رجل جريء. انتهى.
وقال أبو علي في «إيضاح الشعر»: أنشد ثعلب أحمد بن يحيى قول الشاعر (3):
(الكامل)
__________
(1) الخزانة الجزء الأول ص 400.
(2) سبق لنا تخريج هذا البيت وهو لجميل بثينة.
(3) البيت لابن ميادة من قصيدة يمدح بها أبا جعفر المنصور وهو في ديوانه ص 99والأغاني 2/ 284والحماسة البصرية 2/ 110والدرر 3/ 121والكامل في اللغة 1/ 29وكتاب الجيم 2/ 87. وهو بلا نسبة في همع الهوامع 1/ 212.
(7/66)
بينا كذاك رأيتني متلفّعا ... بالبرد فوق جلالة سرداح
أضاف «بينا» إلى الكاف كما يضاف (1) إلى المصدر في قوله:
بينا تعنّقه الكماة وروغه ... البيت
وكما أضيفت مثل إليها في قوله (2): (الرجز)
* فصيّروا مثل كعصف مأكول *
ولا يكون «الكاف» حرفا لأنّ الاسم لا يضاف إلى الحرف، وينبغي أن يجعل الكاف بمنزلة مثل في أنها تدل على أكثر من واحد، كما أنّ مثلا كذلك في نحو قوله عزّ وجل (3): «إنّكم إذا مثلهم» لأنّ «بين» تضاف إلى أكثر من واحد، ويجوز أن تكون الكاف زائدة كزيادتها في قوله عز وجل (4): «ليس كمثله شيء» وذاك منجرّة، والمعنى الإضافة إلى ذاك (5). وقد أضيفت بين إلى المبهم المفرد في نحو قوله سبحانه (6): «عوان بين ذلك».
فإن قدّرت الإضافة إلى الفعل الذي هو رأيتني كما أضافه الآخر إليه في قوله:
(البسيط)
بينا أنازعهم ثوبي وأجذبهم ... إذا بنو صحف بالحقّ قد وردوا
وكما أضيف إلى الجملة الاسمية في قوله: (الوافر)
__________
(1) في النسخة الشنقيطية: = كما تضاف =.
(2) هو الإنشاد الرابع والتسعون بعد المائتين في شرح أبيات المغني للبغدادي.
والرجز لرؤبة في ملحق ديوانه ص 181وشرح أبيات المغني 4/ 129وشرح التصريح 1/ 252وشرح شواهد المغني 1/ 53والمقاصد النحوية 2/ 402. ولحميد الأرقط في الدرر 2/ 250والكتاب 1/ 408. وهو بلا نسبة في أوضح المسالك 2/ 52وتاج العروس (عصف) والجنى الداني ص 90ورصف المباني ص 201وسر صناعة الإعراب ص 296وشرح الأشموني 1/ 158ولسان العرب (عصف) ومغني اللبيب 1/ 180 والمقتضب 4/ 141، 350وهمع الهوامع 1/ 150.
(3) سورة النساء: 4/ 140.
(4) سورة الشورى: 42/ 11.
(5) الحديث عن بيت ابن ميادة وقوله: = بينا كذاك =.
(6) سورة البقرة: 2/ 68.
(7/67)
بينا نحن نطلبه أتانا ... البيت (1)
وفصلت بين المضاف والمضاف إليه بالظّرف، فهو وجه. انتهى.
وهذه القصيدة أوردها المفضّل في «آخر المفضّليات» (2). قال ابن الأنباري في «شرحها»:
وروى أبو عبيدة:
* فيما تعنّقه الكماة وروغه *
جعل «ما» زائدة صلة في الكلام، أي: بينا يقتل ويراوغ إذ قتل. وعلى هذا لا شاهد في البيت، ويكون تعنّقه مجرورا بفي. وضمير تعنّقه راجع للمستشعر في بيت قبل هذا بستّة أبيات، وهو (3):
والدّهر لا يبقى على حدثانه ... مستشعر حلق الحديد مقنّع
والدهر مبتدأ، وجملة «لا يبقى» إلخ، خبر المبتدأ. و «على» بمعنى مع، و «الحدثان»، بالتحريك: مصدر بمعنى الحدث والحادثة، و «مستشعر» فاعل يبقى، أي: فارس مستشعر، وهو اسم فاعل من استشعر الثّوب والدّرع، إذا لبسه شعارا. و «الشّعار»، بالكسر: الملبوس الذي يلي شعر الجسد.
__________
(1) صدر بيت وعجزه:
* معلّق وفضة وزناد راع *
والبيت هو الإنشاد العاشر بعد الستمائة في شرح أبيات المغني للبغدادي.
والبيت لنصيب في ديوانه ص 104ولرجل من قيس عيلان في شرح أبيات المغني 6/ 172وشرح شواهد المغني 2/ 798والكتاب 1/ 171. وهو بلا نسبة في الأشباه والنظائر 3/ 36وأمالي ابن الحاجب 1/ 342 وتاج العروس (بين) والجنى الداني ص 176والدرر 3/ 118ورصف المباني ص 11وسر صناعة الإعراب 1/ 23، 2/ 719وشرح أبيات سيبويه 1/ 405وشرح المفصل 4/ 97، 6/ 11والصاحبي في فقه اللغة ص 147ولسان العرب (بين) والمحتسب 2/ 78ومغني اللبيب 1/ 376وهمع الهوامع 1/ 211.
(2) المفضليات ص 428وشرح اختيارات المفضل ص 1721.
(3) البيت لأبي ذؤيب الهذلي في ديوانه ص 4وديوان الهذليين 1/ 15وشرح اختيارات المفضل ص 1717 وشرح أبيات المغني 6/ 157.
(7/68)
وروى: «متسربل»، أي: يتّخذه سربالا. و «حلق الحديد»: مفعول مستشعر، وأراد به الدرع. و «المقنّع»، بفتح النون المشددة: الذي على رأسه المغفر أو بيضة الحديد، قاله المرزوقي.
وقال ابن الأنباري (1): المقنّع: اللابس المغفر. و «المغفر»: ثوب تغطّى به البيضة. و «المقنّع»: الشاك السلاح التامّه. و «حلق الحديد»: حلق الدّرع.
ويروى: «سميدع»، وهو السيّد. انتهى.
وقوله: «بينا تعنّقه» كذا في جميع الرّوايات (2)، ووقع في الشرح وفي جمل الزجّاجي (3) وغيرهما: «تعانقه» بالألف.
قال ابن السيّد واللخميّ: هو خطأ، والصواب تعنّقه، لأنّ تعانق لا يتعدّى إلى مفعول، إنّما يقال تعانق الرجلان، والمعانقة والاعتناق. والتعنّق هي المتعدّية، ومعنى الجميع الأخذ بالعنق. والاعتناق: آخر مراتب الحرب لأنّ أوّل الحرب الترامي بالسّهام، ثم المطاعنة بالرماح، ثم المجالدة بالسيوف، ثم الاعتناق وهو أن يتخاطف الفارسان فيتساقطا (4) إلى الأرض معا. وقد ذكر ذلك زهير بن أبي سلمى في قوله (5): (البسيط)
يطعنهم ما ارتموا حتّى إذا اطّعنوا ... ضارب حتّى إذا ما ضاربوا اعتنقا
أراد: أنه يزيد على ما يفعلون.
و «الكماة» بالنصب مفعول تعنّقه، جمع كميّ، وهو الشجاع الذي ستر درعه بثوبه. قال أبو زيد في «نوادره»: الكميّ: الشديد الشجاع من كلّ دابّة.
وقوله: «وروغه»: معطوف على «تعنّقه» إن جرّا وإن رفعا، وهو بالغين المعجمة، وهو حيدته عن الأقران يمينا وشمالا للتحفّظ.
__________
(1) شرح المفضليات للأنباري ص 876.
(2) رواية ديوانه ص 4: = بينا تعانقه =. وقد ذكرنا ذلك سابقا.
(3) في طبعة بولاق: = الزجاج =. وهو تصحيف صوابه من النسخة الشنقيطية وشرح أبيات المغني للبغدادي 6/ 156. وقد طبع الكتاب بتحقيق ابن أبي شنب بباريس عام 1957للمرة الثانية.
(4) في النسخة الشنقيطية: = فيتساقطان =. وفي شرح أبيات المغني 6/ 157: = فيسقطان إلى الأرض =.
(5) البيت لزهير بن أبي سلمى في ديوانه ص 51وتاج العروس (رنق) وتهذيب اللغة 9/ 96، 15/ 371 وشرح أبيات المغني للبغدادي 6/ 157ولسان العرب (رنق، لين). وهو بلا نسبة في كتاب العين 5/ 144.
(7/69)
قال اللخمي: ومن روى بالعين المهملة فمعناه الفزع.
وقوله: «يوما» هو بدل من «بينا»، كما قاله ابن جني في قوله (1):
بينا هم بالظّهر قد جلسوا ... يوما بحيث تنزّع الذّبح
وقد تقدّم بيانه قريبا في شرح البيت الذي قبل هذا. وقال اللخمي: العامل في يوم تعنّقه، ويحتمل أن يكون الروغ، ويحتمل أن يكون أتيح، والأول أقوى لترك تكلف التقديم. هذا كلامه.
وقوله: «أتيح»: هو جواب بينا، وهو العامل فيه، بمعنى قدّر، مجهول أتاح الله له الشيء، أي: قدّره له، وهو بالحاء المهملة. و «جريء»، بالهمز: فعيل من الجراءة. و «السّلفع» كجعفر: الجريء الواسع الصّدر. ويقال: للمرأة إذا كانت جريئة سلفع.
وقال المرزوقي: وأكثر من يوصف به النّساء، ويستعمل فيهن بغير هاء، والمعنى: أنّ هذا المستشعر الدّرع حزما، وقت معانقته للأبطال ومراوغته للشّجعان، قدّر له رجل هكذا، وقيّض له فارس شجاع مثله، فاقتتلا حتّى قتل كلّ واحد منهما صاحبه. ومراده أنّ الشجاع لا تعصمه جراءته من الهلاك، وأنّ كلّ مخلوق فالفناء غايته.
وأبو ذؤيب، شاعر إسلامي مخضرم، تقدّمت ترجمته في الشاهد السابع والستين (2).
* * * وأنشد بعده، وهو الشاهد العاشر بعد الخمسمائة (3): (الطويل)
__________
(1) انظر البيت وتخريجه في الشاهد رقم / 508/ من هذا الجزء من الخزانة.
(2) الخزانة الجزء الأول ص 403.
(3) عجز بيت للفرزدق وصدره:
* فقام أبو ليلى إليه ابن ظالم *
والبيت للفرزدق في ديوانه ص 22والأغاني 11/ 105وحماسة البحتري 1/ 536والدرة الفاخرة ص 338 وشرح المفصل 8/ 134.
(7/70)
510 - وكان إذا ما يسلل السّيف يضرب
على أنّ بعضهم قال: يجازي ب «إذا ما»، فيجزم الشرط والجزاء، كما جزم يسلل، وكسرة اللام لدفع التقاء الساكنين، وجزم يضرب، وكسرة الباء للرويّ.
والرواية: «متى ما».
قال شارح اللباب: قد نقل عن بعضهم أنّه جوّز الجزم ب «إذا» مكفوفة بما، وأنشد للفرزدق:
* وكان إذا ما يسلل السّيف يضرب *
ومن منعه، قال: الرواية: «متى ما يسلل». انتهى.
ورواية «متى ما»، هي رواية حمزة الأصبهاني في «أمثاله».
وذهب ابن يعيش في «شرح المفصل» إلى أنّ الجزم بها في الشعر قليل. وأنشد هذا الشعر.
وقال أبو علي: كان القياس أن تكفّ ما إذا عن الإضافة، كما كفّت «حيث» و «إذ» لمّا جوزي بهما، إلّا أنّ الشاعر إذا ارتكب الضرورة استجاز كثيرا مما لا يجوز في الكلام.
وإنّما جاز المجازاة بإذا ما في الشعر لأنها قد ساوقت إن في الاستفهام، إذ كان وقتها غير معلوم، فأشبهت بجهالة وقتها ما لا يدرى أن يكون، أم لا يكون.
فاعرفه. انتهى.
ونقل أبو حيان في «تذكرته» أنّ الصّيمريّ ذهب إلى أنّها تكفّ بما مثل إذ فتجزم، كبيت الفرزدق. قال: وقد جاء بعدها ولم تجزم، قال (1): (الخفيف)
__________
وروايته في الأغاني وحماسة البحتري:
* وكان متى ما يسلل السيف يضرب *
(1) صدر بيت لكعب بن زهير وعجزه:
* مغرب الشّمس ناشطا مذعورا *
والبيت لكعب بن زهير في ديوانه ص 29وشرح أبيات سيبويه 2/ 118وشرح المفصل 8/ 134والكتاب 3/ 62والمقتضب 2/ 57.
(7/71)
* وإذا ما تشاء تبعث منها *
ويجوز دخول الفاء على جوابها، قال الفرزدق (1): (الوافر)
إذا ما قيل يا لحماة قوم ... فنحن بدعوة الدّاعي دعينا
وذهب أبو علي في مثل هذا إلى أنّ إذا غير معمولة، لأنه لما جاءت الفاء في جوابها صارت بمنزلة إن، وتلك لا يعمل فيها الفعل. انتهى.
وهذا المصراع من قصيدة للفرزدق. وهذه أبيات منها (2):
لعمري لقد أوفى وزاد وفاؤه ... على كلّ جار جار آل المهلّب
كما كان أوفى إذ ينادي ابن ديهث ... وصرمته كالمغنم المتنهّب
فقام أبو ليلى إليه ابن ظالم ... وكان إذا ما يسلل السّيف يضرب
وما كان جار غير دلو تعلّقت ... بحبلين في مستحصد القدّ مكرب (3)
روى الأصبهاني بسنده في «الأغاني» أن الحارث بن ظالم المريّ لما كان نزيلا عند النعمان بن المنذر أخذ مصدّق للنعمان إبلا لامرأة من بني مرّة، يقال لها: ديهث، فأتت الحارث فعلّقت دلوها بدلوه، ومعها بنيّ لها، فقالت: يا أبا ليلى، إني أتيتك مضافة (4)! فقال: إذا أورد القوم النّعم فنادي بأعلى صوتك (5): (الرجز)
__________
(1) لم نجد البيت في طبعة ديوانه.
(2) الأبيات للفرزدق من قصيدة في ديوانه ص 2217والأغاني 11/ 105وحماسة البحتري ص 534 536.
(3) في الديوان جاءت رواية البيت:
وما كان جارا غير دلو تعلقت ... مستحصد الحبل مكرب
وفي الأغاني والحماسة:
وما كان جارا غير حبل ...
ورواية الرفع: = جار =. يبدو أن البغدادي قد انفرد بها، حتى أنه قيدها في التفسير التالي بأنها اسم كان.
(4) في جميع طبعات الخزانة: = مضامة =. وهو تصحيف لا يناسب سياق الخبر. وفي الأغاني 11/ 105:
= مضافة =. لكن الشرح الثاني بجعلها صحيحة في سياق خبر البغدادي.
والمضافة: الملجأة.
(5) الرجز للحارث بن ظالم في الأغاني 11/ 105.
(7/72)
دعوت بالله ولم تراعي ... ذلك راعيك فنعم الرّاعي (1)
وتلك ذود الحارث الكسّاع (2) ... يمشي لها بصارم قطّاع
* يشفي به مجامع الصّداع (3) *
وخرج الحارث بن ظالم في إثرها، وهو يقول (4): (الرجز)
أنا أبو ليلى وسيفي المعلوب (5) ... كم قد أجرنا من حريب محروب
وكم رددنا من سليب مسلوب ... وطعنة طعنتها بالمضبوب
* ذاك جهيز الموت عند المكروب (6) *
ثم قال: لا يردّن عليك ناقة ولا بعير تعرفينه إلّا أخذته! ففعلت، ورأت لقوحا لها يحلبها حبشيّ، فقالت: يا أبا ليلى، هذه لي. قال الحبشيّ: كذبت. فقال الحارث بن ظالم: أرسلها ويلك (7)! فضرط الحبشيّ، فقال الحارث: «است الحالب أعلم» (8) فصارت مثلا.
__________
(1) في طبعة بولاق: = ذلك داعبك =. وهو تصحيف صوابه من الأغاني والنسخة الشنقيطية مع أثر تصحيح بها.
وفي طبعة بولاق والنسخة الشنقيطية: = فنعم الداعي =. وهو تصحيف أيضا صوابه من الأغاني.
(2) في طبعة بولاق والنسخة الشنقيطية: = الكساعي =. وهو تصحيف صوابه من الأغاني.
والكسع: الضرب على الدبر يقال: ولى القوم فكسعهم بالسيف، إذا أتبع أدبارهم فضربهم به.
(3) مجامع الصداع، أراد بها الرأس. وشفاؤه: قطعه.
(4) الرجز بتمامه في الأغاني 11/ 105مع الخبر للحارث بن ظالم وبعضه للحارث في تاج العروس (أشب) وتهذيب اللغة 2/ 407وجمهرة اللغة ص 367. وهو بلا نسبة في لسان العرب (شذب، علب).
(5) المعلوب: اسم سيفه. وفي اللسان (علب): = والمعلوب: اسم سيف الحارث بن ظالم المري، صفة لازمة.
فإما أن يكون من العلب الذي هو الشد، وإما أن يكون من التثلم، كأنه علب قال الكميت:
وسيف الحارث المعلوب أردى ... حصينا في الجبابرة الرّدينا
ويقال: إنما سماه معلوبا لآثار كانت في متنه وقيل: لأنه كان انحنى من كثرة ما ضرب به =.
(6) في النسخة الشنقيطية: = جهاز =. وهو تصحيف صوابه من الأغاني والنسخة الشنقيطية.
والجهيز: السريع.
(7) في الأغاني: = أرسلها لا أم لك =.
(8) المثل في أمثال العرب ص 120وتمثال الأمثال 1/ 176وجمهرة الأمثال 1/ 138، 142، 2/ 367 والدرة الفاخرة 1/ 338وكتاب الأمثال للسدوسي ص 87وكتاب الأمثال لمجهول ص 35ولسان العرب
(7/73)
قال أبو عبيدة: ففي ذلك يقول الفرزدق. وأنشد الأبيات. انتهى.
وقوله: «لعمري لقد أوفى» هو لغة في: وفى بالعهد، كوعى، وفاء: ضدّ غدر. و «الجار»: المجير، والمستجير، والمجاور الذي أجرته من أن يظلم فهو ضدّ.
والمراد هنا الأوّل.
وفاعل أوفى الأوّل ضمير سليمان بن عبد الملك، فإنه أجار يزيد بن المهلب من الحجّاج لما هرب من حبسه، وجاء إليه، فأرسله مع ابنه أيوب إلى أخيه الوليد بن عبد الملك، وكتب إليه يشفع فيه، فقبل شفاعته.
وفاعل «أوفى» الثاني: ضمير أبي ليلى، تنازعه هو وقام. و «ابن ديهث»:
فاعل ينادي. و «صرمته»: مبتدأ، و «كالمغنم»: خبره، و «المتنهّب»: صفته، حال من ابن.
و «الصّرمة»، بالكسر: القطعة من الإبل ما بين العشرين إلى الثلاثين أو إلى الخمسين، وقيل غير ذلك. والمغنم: الغنيمة. والمتنهّب: اسم مفعول.
«وأبو ليلى»: كنية الحارث بن ظالم، وهو جاهليّ. والقيام هنا هو العزم على الشيء والإتيان به على أكمل هيئاته.
والمعنى: قام لينصره ويأخذ بساعده. وجملة: «وكان إذا ما يسلل» إلخ، معطوفة على قام، أو إنّها اعتراضية أفاد بها أنّ شأنه كان كذا. واسم كان ضمير أبو ليلى، والجملة الشرطية خبر كان.
وجملة: «وما كان جار» إلخ، حال من «أبو ليلى». والجار هنا المستجير، وهو اسم كان، وغير دلو خبرها. و «القدّ» بالكسر: السّير يقدّ من جلد غير مدبوغ. والمستحصد اسم مفعول (1) من استحصد الحبل إذا استحكم فتله أو ربطه.
و «المكرب»: اسم مفعول، من أكرب الدلو، إذا شدّها بالكرب، بفتحتين، وهو حبل يشدّ في وسط عرقوة الدّلو ليلي الماء فلا يعفن الحبل الكبير. ويقال أيضا:
كربها وكرّبها، كما يقال: أكربها.
__________
(بين، سته) ومجمع الأمثال 1/ 322، 405، 2/ 89.
(1) كذا في جميع طبعات الخزانة. وفي حاشية طبعة هارون 7/ 81: = كذا. والمعروف في المعاجم أنه بزنة اسم الفاعل =.
(7/74)
و «المصدّق» كمحدّث: آخذ الصدقات. و «مضامة»: اسم مفعول من الضّيم (1) وهو الجور. ومجامع الصّداع هو الرأس، لأنه محل الصّداع. و «المعلوب» بالعين المهملة: اسم سيفه.
الحارث بن ظالم المريّ
و «الحارث بن ظالم المريّ» جاهلي، ضرب المثل بفتكه، فقيل (2): «أفتك من الحارث بن ظالم».
فمن خبر فتكه ما رواه حمزة الأصبهاني والزمخشري في أمثالهما، أنّ الحارث بن ظالم قتل خالد بن جعفر بن كلاب، وكان جارا للأسود بن المنذر، أخي النعمان بن المنذر وهرب، فقيل له: لن تصيبه بشيء كسبي جارات له من بليّ (3)، وهو حيّ من قضاعة!
ففعل فسمع ذلك الحارث فكرّ راجعا من مهربه، وأتى مرعى إبلهم إذا ناقة لهنّ تدعى «اللّفاع» تحلب، فقال يخاطب الإبل (4): (الرجز)
إذا سمعت حنّة اللّفاع ... فادعي أبا ليلى ولا ترتاعي
* ذلك راعيك فنعم الرّاعي *
فعرفه البائن فحبق خوفا، وأنكره المستعلي، فقال الحارث: «است البائن أعلم» (5) ثم استنقذهنّ وأموالهنّ، وأتى أخته سلمى، وقد تبنّت شرحبيل بن الأسود الملك، فمكر بها وأخذه منها وقتله، فضرب به المثل في الفتك.
__________
(1) كذا في جميع طبعات الخزانة. وهو خطأ. وفي حاشية طبعة هارون 7/ 81: = هذا سهو من البغدادي، إذ أن اسم المفعول من الضيم = مضيم =. ولو قد أراد أن يجعله اسم مفعول من أضامه كان مخطئا أيضا، فليس في لغتهم أضامه مزيدا بالهمزة، بل يقال: ضامه من الثلاثي فحسب =.
(2) المثل في تمثال الأمثال 1/ 180وثمار القلوب ص 128وجمهرة الأمثال 2/ 112والدرة الفاخرة 1/ 337 والمستقصى 1/ 226ومجمع الأمثال 2/ 89.
وهو أحد فتاك العرب المشهورين. انظر أخباره في الأغاني 11/ 94وما بعدها في خبر مقتل خالد بن جعفر بن كلاب.
(3) الخبر في الأغاني 11/ 107. بخلاف وتوسع.
(4) الرجز في الأغاني 11/ 107للحارث بن ظالم.
والحنة من الحنين، وهو صوت الناقة إذا اشتاقت إلى ولدها.
(5) ويروى المثل: = است الضارط أعلم =.
(7/75)
والبائن: الذي يكون عند يمين الحلوبة. والمستعلي على يسارها. قال الزمخشري: قولهم: «است البائن أعلم»، مثل يضرب لمن ولي أمرا، وصلي به، فهو أعلم به من غيره. وقيل يضرب لكلّ ما ينكر، وشاهده حاضر.
وترجمة الفرزدق قد تقدّمت في الشاهد الثلاثين (1).
* * * وأنشد بعده، وهو الشاهد الحادي عشر بعد الخمسمائة (2): (الرجز)
511 - من أين عشرون لها من أنّى
على أنّ «أنّى» تجرّ بمن ظاهرة، كما في البيت، ومقدّرة كما قدّره الشارح المحقق.
وهذا البيت من أرجوزة رواها أبو الحسن الأخفش في «شرح نوادر أبي زيد» (3)
عن ثعلب، وهي (4): (الرجز)
لأجعلن لابنة عثم فنّا ... من أين عشرون لها من أنّى
حتّى يصير مهرها دهدنّا ... يا كروانا صكّ فاكبأنّا
فشنّ بالسّلح فلمّا شنّا ... بلّ الذّنابى عبسا مبنّا
أإبلي تأخذها مصنّا ... خافض سنّ ومشيلا سنّا (5)
وروى أبو زيد في «نوادره» (6) البيت الأول والثالث فقط، وروى: «زيد»
__________
(1) الخزانة الجزء الأول ص 218.
(2) الرجز بلا نسبة في لسان العرب (خفض) ونوادر أبي زيد ص 50.
(3) في طبعة بولاق والنسخة الشنقيطية: = ديوان أبي زيد =. وهو سهو من البغدادي. وكتب الشنقيطي في هامش أصل نسخته: = فالصواب شرح نوادر أبي زيد =.
(4) الرجز بلا نسبة في إصلاح المنطق ص 83ونوادر أبي زيد ص 50.
(5) في طبعة هارون جاء شطر الرجز مصحفا كالتالي:
* أإبلي إبلي تأخذها مصنّا *
(6) يبدو أن البغدادي سها ثانية. فلقد أورد أبو زيد الرجز بكامله في نوادره. ولم يرد = زيد = بدل = عثم =.
(7/76)
بدل عثم، وقال: الدّهدنّ: الباطل. والفنّ: العناء. يقال: فننت الرجل، إذا عنّيته، أفنّه فنا. انتهى.
فالدّهدنّ بضم الدالين. والفن فعله من باب نصر. قال الأخفش: روى المبرد وثعلب:
* لأجعلن لابنة عثم فنّا *
قالا (1): أراد عثمان، وهذا يدلك على أنّ الألف والنون في عثمان زائدتان، فحذفهما لما اضطرّ، وفتح أوله ليدلّ على ما حذف. وقال ثعلب: يريد بقوله: فنّا، ضربا من الخصومة.
وقوله: «يا كروانا» قال الأخفش: ترك مخاطبتها ثم أقبل على وليّها، كأنه قال: يا رجلا كروانا، أي: يا مثل الكروان بضعفه (2)، إنّما يدفع عن نفسه بسلحه إذا صكّ، أي: ضرب. والاكبئنان: التقبّض. و «شنّ»: صبّ، و «العبس»:
ما تعلّق بذنبه، وما يليه من سلحه. و «المبنّ»: المقيم، يقال: أبنّ بالمكان، إذا أقام به. و «المصنّ»: المتكبّر.
وقوله: «خافض سنّ ومشيلا»، أخبرني أبو العباس ثعلب عن الباهليّ عن الأصمعيّ أنه قال: تأويله أنّه إذا أعطاه حقّا طلب منه جذعا، وإذا أعطاه سديسا طلب منه بازلا.
وحكي لي من (3) ناحية أخرى عن الأصمعي، أنه قال: إذا أخذ وليّها ما يدّعي كثر ماله، واستغنى، فأكل بنهم وشره، فذلك قوله: خافض سن ومشيلا سنا (4).
ويقال: شال الشيء، إذا ارتفع، وأشلته وشلت به، إذا رفعته.
وحدثنا أبو العباس ثعلب قال: حدثني ابن الأعرابي أنه شاهد أبا عبيدة مرّة واحدة، فأخطأ في ثلاثة أحرف، هذا منها. وذلك أنّه قال: شلت الحجر، والعرب
__________
كما ذكر البغدادي. ولم يشر محقق طبعة هارون لهذا السهو.
(1) النقل من النوادر ص 50.
(2) في نوادر أبي زيد: = في ضعفه =.
(3) في طبعة بولاق: = عن =. ورواية النسخة الشنقيطية توافق رواية النوادر.
(4) كلمة: = سنا =. ساقطة من النسخة الشنقيطية.
(7/77)
لا تقول إلّا: أشلته وشلت به. قال الأخفش: وقد يكون شلت به: ارتفعت به.
انتهى (1).
وقد أورد ابن السكيت في «إصلاح المنطق» الأبيات الخمسة الأخيرة من قوله:
«يا كروانا صكّ» إلخ، وقال: هي في مصدّق هجي بها، أي: في عامل الزكاة، ثم قال: قوله: «خافض سنّ ومشيلا سنّا»، أي: تأخذ بنت لبون فتقول (2): هذه بنت مخاض، فقد خفضها عن سنّها التي هي فيها.
وقوله: «ومشيلا سنّا» يقول: تكون له بنت مخاض فيقول: لي بنت لبون:
فقد رفع السنّ التي هي له إلى سنّ أخرى أعلى منها. وتكون له ابنة لبون فأخذ حقّة.
انتهى.
وأورد ابن السيرافي في «شرح أبياته» الأبيات الثلاثة المتقدّمة أيضا وقال:
الرجز لمدرك بن حصين، وقال: قوله: فنّا، أي: أمرا عجبا. وقوله: «من أين عشرون لها»، أي: من الإبل. و «الدّهدنّ»: الباطل، وكذلك الدّهدرّ.
وقوله: «يا كروانا» شبّهه بالكروان. و «اكبأنّ»: تقبّض واجتمع وسلح من خوفه.
و «شنّ»: فرّق سلحه. و «المبنّ»: الذي لصق بالذّنابى ويبس عليها.
و «المصنّ»: المتكبّر والمنتن أيضا، واللازم للشيء لا يفارقه أيضا. و «المشيل»:
الرافع، يقال: أشال يشيل إشالة، إذا رفع. انتهى.
* * * وأنشد بعده، وهو الشاهد الثاني عشر بعد الخمسمائة (3): (الطويل)
__________
(1) نوادر أبي زيد ص 51.
(2) في إصلاح المنطق ص 83: = أي: يأخذ ابنه اللبون فيقول =.
(3) هو الإنشاد الثامن والخمسون بعد المائتين في شرح أبيات المغني للبغدادي.
والبيت للقطامي في ديوانه ص 44والدرر 3/ 137وزهر الآداب 4/ 1067وسمط اللآلئ ص 132وشرح أبيات المغني للبغدادي 3/ 391وشرح التصريح 2/ 46وشرح شواهد المغني ص 455ومعاهد التنصيص 1/ 181والمقاصد النحوية 3/ 427. وهو بلا نسبة في الأشباه والنظائر 4/ 47وأوضح المسالك 3/ 145 وتخليص الشواهد ص 263وشرح الأشموني 2/ 318ومغني اللبيب ص 157وهمع الهوامع 1/ 215.
(7/78)
512 - صريع غوان راقهنّ ورقنه
لدن شبّ حتّى شاب سود الذّوائب
على أنّ «لدن» مجرورة بمن مضمرة، أي: من لدن شبّ. وأورده في لدن أيضا على أنّها إن أضيفت إلى الجملة تمحّضت للزمان.
والبيت من قصيدة للقطاميّ، وتقدّمت ترجمته في الشاهد الثالث والأربعين بعد المائة (1). وهذه أبيات من أوّلها (2):
نأتك بليلى نيّة لم تقارب ... وما حبّ ليلى من فؤادي بذاهب
منعّمة تجلو بعود أراكة ... ذرى برد عذب شتيت المناصب (3)
كأنّ فضيضا من غريض غمامة ... على ظمأ جادت به أمّ غالب
لمستهلك قد كاد من شدّة الهوى ... يموت ومن طول العدات الكواذب
صريع غوان راقهنّ ورقنه ... لدن شبّ حتّى شاب سود الذّوائب
قديديمة التّجريب والحلم إنّني ... أرى غفلات العيش قبل التّجارب (4)
قوله (5): «نأتك بليلى نيّة» إلخ، قال شارح ديوانه: أي بعدت عنك.
و «النيّة» فاعل نأت، وهي الوجه الذي ينويه الإنسان، والمراد السّفرة. ومثلها النّوى.
وقوله: «منعّمة تجلو» إلخ، روى الأصمعي: «مناعمة»، أي: غذيت غذاء ناعما. وتجلو، أراد تستاك. و «الذّرى»: الأعالي. و «البرد»: [بفتحتين] حبّ الغمام.
__________
(1) الخزانة الجزء الثاني ص 326.
(2) ديوان القطامي ص 4443.
(3) في حاشية طبعة هارون 7/ 86: = ورد رسم ذرى والذرى في ط بالألف في جميع المواضع. وهما مذهبان صحيحان. وكتابة الألف مذهب البصريين. أما الكوفيون فيستثنون ما كان على فعل بضم ففتح أو على فعل بكسر ففتح، يكتبونه بالياء واويا كان أو يائيا =.
(4) البيت للقطامي في ديوانه ص 44واللمع في العربية ص 303ولسان العرب (قدم) والمقتضب 2/ 273.
وهو بلا نسبة في شرح المفصل 5/ 128وما ينصرف وما لا ينصرف ص 70والمقتضب 4/ 41.
(5) النص في شرح أبيات المغني للبغدادي 3/ 392391. والزيادات منه.
(7/79)
شبّه أسنانها في شدّة بياضها بالبرد. وإنّما خصّ الذّرى لأنّها صحاح لم تتكسّر.
و «شتيت»: متفرّق. أراد أنّ في أسنانها فلجا. و «المناصب»: حيث ركّبت الأسنان.
وقوله: «كأنّ فضيضا» إلخ، فضيض السحابة: ماؤها إذا انفضّ منها. شبّه عذوبة ريقها بماء سحابة. و «الغريض»: الطريّ. وقوله: «لمستهلك» إلخ، اللام متعلقة بجادت، وأراد بالمستهلك نفسه لأنه هالك من حبّها ومعرّضها للهلاك.
وقوله: «صريع غوان» بالجرّ: بدل من مستهلك، ويجوز رفعه على إضمار مبتدأ ضمير المستهلك. و «الصّريع»: المصروع، وهو المطروح على الأرض: يريد أنّه قد أصيب من حبّهنّ حتى لا حراك به. و «الغواني»: جمع غانية، وهي التي استغنت بجمالها عن الزّينة، وقيل: هي التي غنيت بزوجها عن غيره، وقيل: هي التي غنيت في بيت أبويها ولم تتزوّج، أي: أقامت. وأنشد أبو عبيدة للقول الثاني (1):
(البسيط)
أزمان ليلى كعاب غير غانية ... وأنت أمرد معروف لك الغزل
وراق بمعنى أعجب، أي: أعجبهنّ لجماله وشبابه، وأعجبنه لحسنهنّ.
وقوله: «لدن شبّ» إلخ، أي: من عند وقت شبابه إلى وقت شيبه، فدلّ على إضمار «من» بدليل حتّى، لأنها بمعنى إلى. و «الذّوائب»: الضفائر من الشعر، جمع ذؤابة.
وقد لقّب القطاميّ صريع الغواني بهذا البيت، وهو أوّل من لقّب به، وقد ذكر في الأوليّات، ثم لقّب به مسلم بن الوليد. قال صاحب زهر الآداب (2): لقّب مسلم صريع الغواني بقوله: (الطويل)
هل العيش إلّا أن تروح مع الصّبا ... صريع حميّا الكأس والأعين النّجل
انتهى.
__________
(1) البيت لنصيب في ديوانه ص 116ولسان العرب (وحم، غنا، لها). وهو بلا نسبة في تهذيب اللغة 8/ 202والمذكر والمؤنث للأنباري ص 144.
(2) زهر الآداب 4/ 1067.
(7/80)
قال صاحب الأغاني: الذي لقّب مسلما بهذا اللقب هارون الرّشيد، لهذا البيت (1).
وقوله: «قديديمة التجريب» إلخ، هو من أبيات سيبويه، وجمل الزجاجي (2)، استشهد به على تصغير قدّام قديديمة بالهاء. ومثلها وريّئة. وإنّما أدخلوا الهاء في تصغير وراء وقدّام، وإن كانتا قد جاوزتا ثلاثة أحرف، لأنّ باب الظروف التذكير، فلما شذّتا في بابهما فرقوا بينهما وبين غيرهما، فأدخلوا فيهما علامة التأنيث. قاله اللّخمي.
و «قديديمة»: منصوبة على الظرف، والعامل فيها: راقهنّ ورقنه، أي:
أعجبهنّ وأعجبنه. قديديمة التجريب والحلم، أي: أمام التجريب والحلم.
ثم قال: أرى غفلات العيش قبل التجارب، يقال: إنّما يستلذّ بالعيش أيام الغفلة وفي أيام الشباب قبل التجارب، والتجارب إنّما هي في الكبر، وهو وقت أن يزهد فيهنّ لسنّه وتجريبه، وأن يزهدن فيه لشيبه.
وقد يحتمل أن يكون العامل في قديديمة محذوفا دلّ عليه سياق الكلام، كأنه أراد: تظنّ طيب العيش ولذّته قدّام التجربة والحلم، أي: أمام ذلك، ليس الأمر كذلك، إنّما يطيب العيش ويحسن قبل التجارب، وفي عنفوان الشباب، وحين الغفلة، وأما بعد ذلك فلا. فيكون العامل فيها تظنّ المقدّر. قاله اللخميّ أيضا.
وقوله: «إنّني» قال ابن السيّد: يروى بكسر الهمزة على الاستئناف، وبفتحها، وهو مفعول من أجله. وقد تكون إنّ مكسورة وفيها معنى المفعول من أجله، كقوله عزّ وجل (3): {«وَيَصْلى ََ سَعِيراً إِنَّهُ كََانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُوراً»}.
وجاز ذلك لأنّ «إنّ» داخلة على الجمل، والجملة قد يكون فيها معنى العلّة
__________
(1) لم نجد هذا النقل في ترجمة مسلم بن الوليد في الأغاني 19/ 31وما بعدها.
(2) لم نجده في أبيات سيبويه. وهو من شواهد ابن يعيش في شرح المفصل 5/ 128وما ينصرف وما لا ينصرف ص 70والمقتضب 4/ 41وجمل الزجاجي ص 251.
(3) سورة الانشقاق: 84/ 1312.
وقد ضبطت: = يصلى =. في النسخة الشنقيطية بقلم ناسخها بضم الياء وتشديد اللام المفتوحة، وهي قراءة نافع وابن كثير وابن عامر والكسائي، ووافقهم ابن محيصن والحسن، وقرأ الباقون بفتح الياء وسكون الصاد وتخفيف اللام. إتحاف فضلاء البشر ص 436.
(7/81)
والسبب موجودا. كما قال تعالى (1): {«وَإِنَّ هََذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وََاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ»}. ألا ترى أنّ المعنى: ولأنّ هذه أمّتكم ولكوني ربّكم فاتّقون. انتهى.
وهذه القصيدة هجو امرأة من بني محارب. حكى أبو عمرو الشيباني أنّ القطامي نزل في بعض أسفاره بامرأة من محارب بن قيس فاستقراها، فقالت: أنا من قوم يشتوون القدّ من الجوع. قال: ومن هؤلاء ويحك؟ قالت: محارب. ولم تقره، فبات عندها بأشرّ ليلة (2)، فقال هذه القصيدة، ومنها (3): (الطويل)
وإنّي وإن كان المسافر نازلا ... وإن كان ذا حقّ على النّاس واجب
فلا بدّ أنّ الضّيف مخبر ما رأى ... مخبّر أهل أو مخبّر صاحب
لمخبرك الأنباء عن أمّ منزل ... تضيّفتها بين العذيب فراسب (4)
تلفّعت في طلّ وريح تلفّني ... وفي طرمساء غير ذات كواكب (5)
إلى حيزبون توقد النّار بعد ما ... تلفّعت الظّلماء من كلّ جانب
فما راعها إلّا بغام مطيّتي ... تريح بمحسور من الصّوت لاغب
تقول وقد قرّبت كوري وناقتي: ... إليك فلا تذعر عليّ ركائبي
وجنّت جنونا من دلاث مناخة ... ومن رجل عاري الأشاجع شاحب (6)
فسلّمت والتّسليم ليس يسرّها ... ولكنّه حقّ على كلّ جانب
فردّت سلاما كارها ثمّ أعرضت ... كما انحازت الأفعى مخافة ضارب
فقلت لها: لا تفعلي ذا براكب ... أتاك مصيب ما أصاب فذاهب
فلمّا تنازعنا الحديث سألتها ... من الحيّ قالت: معشر من محارب
من المشتوين القدّ ممّا تراهم ... جياعا وريف النّاس ليس بناضب
__________
(1) سورة المؤمنون: 23/ 52.
(2) أراد بشرّ ليلة.
(3) الأبيات من مطولة للقطامي في ديوانه 45والأغاني 24/ 1918والشعر والشعراء 2/ 611610.
(4) العذيب: تصغير العذب، وهو الماء الطيب، وهو ماء بين القادسية والمغيثة. وراسب: قرية بين مكة والطائف.
(5) الطرمساء: الظلمة الشديدة وقد يوصف بها، فيقال: ليلة طرمساء، وليال طرمساء: شديدة الظلمة.
(6) دلاث: إبل سريعة. والأشاجع: مفاصل الأصابع.
(7/82)
فلمّا بدا حرمانها الضّيف لم يكن ... عليّ مناخ السّوء ضربة لازب
وقمت إلى مهريّة قد تعوّدت ... يداها ورجلاها خبيب المواكب
ثم وصف ناقته بأبيات، وقال:
ألا إنّما نيران قيس إذا شتوا ... لطارق ليل مثل نار الحباحب
و «العذيب»: ماء أسفل الرّحبة. و «راسب»: قريب منه.
و «الطّل»: الندى. و «الطّرمساء»، بالكسر: الظّلمة.
و «الحيزبون»: العجوز. و «البغام»، بالضم: صوت تختلسه الناقة ولا تتمّه.
و «المحسور»: صوت ضعيف.
و «تريح»، بالضم: تستريح. و «الكور»، بالضم: الرحل بأداته.
و «الدّلاث»: بالكسر: الناقة. و «الأشاجع»: عروق ظاهر الكفّ.
و «الجانب»: الغريب.
و «الناضب»، بالضاد المعجمة (1): البعيد. وممّا تراهم، أي: كثيرا ممّا تراهم.
و «نار الحباحب»، بالضم: النار التي تظهر من قرع الحوافر. أراد أنها ضعيفة لا يشعلونها خوفا من الضّيف.
* * * وأنشد بعده، وهو الشاهد الثالث عشر بعد الخمسمائة، وهو من شواهد سيبويه (2): (الطويل)
513 - فأصبحت أنّى تأتها تبتئس بها
كلا مركبيها تحت رجليك شاجر
__________
(1) في طبعة بولاق: = بالضاد المعجم =. وهو تصحيف صوابه من النسخة الشنقيطية.
(2) البيت للبيد بن ربيعة في ديوانه ص 220وشرح أبيات سيبويه 2/ 43وشرح المفصل 4/ 110والكتاب 3/ 58ولسان العرب (فجر) والمعاني الكبير ص 871. وهو بلا نسبة في شرح عمدة الحافظ ص 364وشرح قطر الندى ص 90وشرح المفصل 7/ 45والمقتضب 2/ 48.
(7/83)
على أنّ «أنّى» فيه شرطية مجرورة بمن مضمرة، أي: من أنّى تأتها.
قال سيبويه: وممّا جاء بأنّى من الجزاء قول لبيد:
فأصبحت أنّى تأتها ... البيت
قال الأعلم: الشاهد فيه جزم تأتها ب «أنّى» لأنّ معناها معنى أين ومتى، وكلاهما للجزاء. وتبتئس جزم على جوابها.
قال أبو الحسن الطوسيّ في «شرح ديوان لبيد» (1) قال الأصمعي: لم أسمع أحدا يجازى بأنّى، وأظنّه أراد أيّا تأتها، يريد أيّ جانبي هذه الناقة أتيته وجدت مركبه تحت رجلك شاجرا، أي: ينحّيك ويدفعك، لا يطمئنّ تحت رجلك.
وقال أبو عبيدة: أنّى تأتها مجازاة، يقول: من أيّ جانب أتيت هذه الناقة وجدت كلا مركبيها شاجرا دافعا لك. و «تبتئس»: يصبك منها بؤس. يقول:
كيفما ركبت منها التبس عليك الأمر.
و «شاجر»: ملتبس. يقال: شاجر ما بين القوم (2): إذا اختلفوا. ويقال:
شجره بالرّمح، إذا دفعه به وطعنه.
وقال أبو عمرو: الشاجر: المفرّق بين رجليه، وقد شجر بين رجليه، إذا فرّق بينهما إذا ركب. انتهى.
وهذا مبنيّ على إرجاع الضمائر المؤنثة إلى الناقة المفهومة من المقام.
وكذلك قال ابن سيده في «شرح أبيات الجمل». ولم يرتضه اللّخمي في شرحها. قال: قد غلط ابن سيده شارح الأبيات في البيت، وزعم أنه يصف ناقة، وإنما يصف داهية. ولو علم ما قبله علم الموصوف ما هو. قال لبيد يصف حاله مع عمّه، ويعتب عليه، ويذكر قبيح ما أسداه إليه (3):
لي النّصر منكم والولاء عليكم ... وما كنت فقعا أنبتته القراقر
وأنت فقير لم تبدّل خليفة ... سواي ولم يلحق بنوك أصاغر
__________
(1) شرح ديوان لبيد للطوسي ص 220.
(2) كذا في طبعة بولاق وشرح ديوان لبيد ص 221. وفي النسخة الشنقيطية: = تشاجر ما بين القوم =.
(3) الأبيات للبيد في ديوانه ص 222219.
(7/84)
فقلت ازدجر أحناء طيرك واعلمن ... بأنّك إن قدّمت رجلك عاثر (1)
وإنّ هوان الجار للجار مؤلم ... وفاقرة تأوي إليها الفواقر
فأصبحت أنّى تأتها ... البيت
فإن تتقدّم تغش منها مقدّما ... غليظا وإن أخّرت فالكفل فاجر (2)
و «الفاقرة»: الداهية التي تكسر فقار الظّهر، وهي التي يصف في البيت.
شبّهها بالدابة الشّموس التي إذا ركبها رمته عن ظهرها. انتهى.
أقول: البيت الذي فيه الفاقرة غير ثابت في رواية الطوسيّ (3)، فيجوز أن يكون ابن سيده تبعه. على أنّ هذا لا يسمّى غلطا فإنّه تمثيل، سواء قيل داهية (4) أو ناقة أو مركب.
قال ابن السيّد في «شرحه»: العرب تشبّه التنشّب في العظائم بالرّكوب على المراكب الصّعبة، فيقولون: ركبت منّي أمرا عظيما، ولقد ركبت مركبا صعبا، وفلان ركّاب العظائم.
ونحوه قول الشاعر (5): (الطويل)
لئن جدّ أسباب التّقاطع بيننا ... لترتحلن منّي على ظهر شيهم
انتهى.
وروى: «تشتجر» بدل «تبتئس»، قال ابن السيّد: معناه تشتبك، ويروى:
__________
(1) البيت للبيد بن ربيعة في تاج العروس (حنا) ولسان العرب (فجر، حنا).
(2) البيت للبيد بن ربيعة في تهذيب اللغة 11/ 50ولسان العرب (فجر، كفل) ومجمل اللغة 4/ 79 ومقاييس اللغة 4/ 475.
(3) البيت في ديوان لبيد بن ربيعة ص 220وقد وضع البيت بين معقوفين وهذا دليل زيادته، أي لم يكن في مخطوطة الأصل. وهذا يؤيد رأي البغدادي.
(4) في النسخة الشنقيطية: = دابة =. وهو تصحيف صوابه من طبعة بولاق وديوان لبيد ص 221.
(5) البيت للأعشى ميمون في ديوانه ص 175وتاج العروس (شهم) وجمهرة اللغة ص 1173وديوان الأدب 2/ 42وديوان لبيد ص 221ولسان العرب (شهم) ومجمل اللغة 3/ 183والمخصص 6/ 112. وهو بلا نسبة في تهذيب اللغة 6/ 94وجمهرة اللغة ص 882ومقاييس اللغة 3/ 223.
والشيهم: القنفذ وجلده مكسو بالشوك ولذلك يصعب القبض عليه هذا فضلا عن ركوبه.
(7/85)
«تلتبس»، ومعناه كمعنى تشتجر. و «شاجر»: مشتبك. وقال اللخمي:
تشتجر مأخوذ من شجر الراكب، إذا خالف بين رجليه، فرفع رجلا ووضع أخرى، وهي ركبة متهيّئة للسّقوط. ويروى: «تبتئس» من بؤس الحال.
ويروى أيضا: «تلتبس». و «مركبيها»: ناحيتيها اللتين ترام منهما.
و «شاجر»: مضطرب.
يقول: من ركبها فرّقت بين رجليه فهوت به. ويروى: «شاغر» (1)، والمعنى واحد.
يعتب عمّه عامر بن مالك ملاعب الأسنّة، وكان قد ضرب جارا للبيد بالسّيف، فغضب لبيد لذلك، فقال الشعر الذي تقدّم، يعدّد بلاءه عنده. وفي الشعر ما يدلّ على ذلك، وهو:
من يك عنّي جاهلا أو مغمّرا ... فما كان بدعا من بلائي عامر (2)
وفي كلّ يوم ذي حفاظ بلوتني ... فقمت مقاما لم يقمه العواور (3)
و «كلا» مبتدأ، والخبر شاجر. و «تحت رجليك» متعلق بشاجر. و «كلا» عند سيبويه اسم مفرد. انتهى.
وقوله: «رجليك» بالتثنية، وروي بالإفراد. قال ابن السيد: ويروى:
«رحلك»، والرحل للناقة مثل السّرج للفرس.
و «الكفل» بالكسر: كساء يكون وراء الرّحل، فيركب عليه الرّديف. يقال:
رحلت البعير واكتفلته، أي: جعلت عليه رحلا (4) وكفلا، وهما المركبان اللذان ذكرهما.
ومعنى الشعر أنّه يقول لعمّه: إنّك ركبت أمرا لا خلاص لك منه، فأنت بمنزلة من ركب ناقة صعبة لا يقدر على النّزول عنها سالما، لأنّ رجليه قد اشتبكتا
__________
(1) في جميع طبعات الخزانة: = شاعر =. بالعين المهملة، ونظنه تصحيفا. وفي شرح ديوان لبيد: = شاغر =.
بالغين المعجمة. لأن شاجر وشاغر بمعنى واحد.
(2) البيت مطلع قصيدته في ديوانه ص 215.
(3) البيت للبيد في ديوانه ص 219وتاج العروس (عور) ولسان العرب (عور).
(4) في طبعة بولاق: = رجلا =. بالجيم وهو تصحيف صوابه من النسخة الشنقيطية.
(7/86)
بركابيها (1)، وكلا مركبيها لا يستقرّ عليه، إن ركب على مركبها المقدّم، وهو الرحل، وجده مركبا صعبا، وإن ركب على مركبها المؤخّر، وهو الكفل، مال به وصرعه.
والفاجر: المائل غير المستقيم.
وكان للبيد جار من بني القين قد لجأ إليه واعتصم به، فضربه عمّه بالسيف، فغضب لذلك لبيد، وقال يعدّد على عمّه بلاءه عنده وينكر فعله بجاره. وأنشد الأبيات السابقة.
وقال ابن المستوفي في «شرح أبيات المفصل»: قوله فأصبحت أنّى تأتها، أي:
متى أتيت هذه التي وقعت فيها تلتبس بها، أي: تلتبس بمكروهها وشرّها.
ويروى: «تبتئس»، أي: لا يقربك الناس من أجلها. وكلا مركبي الخطّة إن تقدّمت، أو تأخّرت شاجر، أي: مختلف متفرّق. والشاجر: الذي قد دخل بعضه في بعض وتغيّر نظامه. وأراد بالمركبين قادمة الرحل وآخرته. وعلى هذا طريق المثل (2).
يقول: لا تجد في الأمر الذي تريد أن تعمله مركبا وطيئا، ولا رأيا صحيحا، أي: موضعك إن ركبت منه آذاك، وفرّق بين رجليك ولم تثبت عليه، ولم تطمئنّ.
هذا كلامه. وهذا بحروفه هو كلام بعض فضلاء العجم «على أبيات المفصل».
ولم يورد أبو الحسن الطوسيّ سبب هذه القصيدة، وعدّتها عنده ثلاثة وعشرون بيتا (3).
ولنذكر ما شرح به الأبيات السابقة: قوله: «من يك عنّي جاهلا»، رواه الطوسيّ (4): «من كان منّي جاهلا». وهذا أوّل القصيدة. يقول: من كان يجهلني فإنّ عمّي عامرا يعرف بلائي. وبلاؤه: صنيعه وعمله. وعامر هو ملاعب الأسنّة.
__________
(1) في طبعة بولاق: = بركائبها =. وهو تصحيف صوابه من النسخة الشنقيطية.
(2) كذا في طبعة بولاق والنسخة الشنقيطية وشرح ديوان لبيد للطوسي. وفي طبعة هارون 7/ 95: = هذا على طريق المثل =.
(3) عدتها في ديوانه أربعة وعشرون. بعد أن زاد محقق الديوان بيتا، سبق لنا أن أشرنا إليه.
(4) ديوان لبيد ص 215. والزيادة منه.
(7/87)
والمغمّر: المنسوب إلى الغمر، بالضم [وهو] الجهل. والبدع، بالكسر: كلّ حديث أحدث، أي: ليس عامر ببدع من بلائي، أي: بأوّل ما عرف ذلك.
وقوله: «وفي كلّ يوم» إلخ، هو البيت الرابع عشر من القصيدة. و «العواور»:
الجبناء والضّعفاء، جمع عوّار بالضم والتشديد.
وبعده قوله: «لي النصر منكم» إلخ، والرواية عند الطوسي (1): «لي النصر منهم والولاء عليكم» بالغيبة في الأوّل، والخطاب في الثاني، وقال: منهم، أي:
من هؤلاء الملوك وأردافهم الذين ذكروا. والولاء عليكم، يقول: يوالوني عليكم (2).
و «الفقع»: ضرب من الكمأة، وهو شرّها. و «القرقر» كجعفر: الأرض المستوية. وفي المثل (3): «أذلّ من فقع بقرقر». يقول: لم أكن ذليلا.
وقوله: «وأنت فقير»، أي: محتاج إليّ. والخليفة هنا: خلف يخلفه. يقول:
أنا خلفك. ولم يلحق بنوك، أي: لم يكبروا له.
وقوله: «فقلت ازدجر» إلخ، «الأحناء»: جمع حنو بالكسر، وهي الجوانب (4). وقولهم: «ازدجر أحناء طيرك»، أي: نواحيه يمينا وشمالا، وأماما وخلفا. ويريد بالطّير الخفّة. قاله الجوهري، وأنشد البيت. وقالوا: أراد بذلك انظر فيما تعمله، أمخطئ أنت فيه أم مصيب؟
وقال الطوسيّ: ازدجر: ازجر، أحناء قولك، إنّما هذا مثل، يقول: ازدجر:
ازجر أحناء قولك، أي: عن يمين وشمال، وعلى أيّ حال شئت. يقول: إن ركبت هذا الأمر الذي قلت لك فيه ازدجر عثرت، أو معناه انظر ما عاقبته (5).
__________
(1) ديوان لبيد ص 219.
(2) في حاشية طبعة هارون 7/ 96: = هذا من التخفيف بحذف إحدى النونين نون الرفع أو نون الوقاية =.
(3) المثل في ثمار القلوب ص 594وجمهرة الأمثال 1/ 469والدرة الفاخرة 1/ 204وزهر الأكم 3/ 15 وكتاب الأمثال ص 367وكتاب الأمثال لمجهول ص 9ولسان العرب (فقع) والمستقصى 1/ 134ومجمع الميداني 1/ 284.
(4) في طبعة بولاق: = وهو الجوانب =. وهو تصحيف صوابه من النسخة الشنقيطية وشرح ديوان لبيد ص 220.
(5) في طبعة بولاق وشرح ديوان لبيد: = انظر ما عقبته =. وفي النسخة الشنقيطية وطبعة هارون:
= ما عاقبته =.
(7/88)
وقوله: «فإن تتقدّم» إلخ، قال الطوسيّ: منها، أي: من هذه التي ذكر، يقول: إن تقدّمت تقدمت على غلظ وأمر صعب ليس يسهل عليك، وإن أخّرت، يقول: إن رجعت. والكفل بالكسر: كساء يضعه الرجل على ظهر البعير ثم يركبه يتوقّى العرق.
وقال ابن الأعرابي: هو كساء يركب به، يدار حول سنام البعير ثم يعقد عقدا من خلفه يكتفل به الرجل فيمسكه، ويجعل العقد من خلف السّنام، وفاجر: مائل، وقيل: فاتح لرجليك يفرج ما بينهما.
يقول: فكيف ركبت لم تجدها كما تريد. وإنّما يريد نفسه، أي: إنّك إن فقدتني، لم تجد مثلي. وهذا مثل. انتهى.
وترجمة لبيد تقدّمت في الشاهد الثاني والعشرين بعد المائة (1).
* * * وأنشد بعده، وهو الشاهد الرابع عشر بعد الخمسمائة (2): (الطويل)
514 - شربن بماء البحر ثمّ ترفّعت
متى لجج خضر لهنّ نئيج
على أن «متى» عند هذيل حرف جر بمعنى من أو في، أو اسم بمعنى وسط.
__________
(1) الخزانة الجزء الثاني ص 216.
(2) هو الإنشاد السادس والأربعون بعد المائة في شرح أبيات المغني للبغدادي.
والبيت لأبي ذؤيب الهذلي في ديوانه ص 17والأزهية ص 201والأشباه والنظائر 4/ 287وجواهر الأدب ص 99والخصائص 2/ 85والدرر 4/ 179وديوان الهذليين 1/ 51وسر صناعة الإعراب ص 135، 424 وشرح أشعار الهذليين 1/ 129وشرح أبيات المغني 2/ 309وشرح شواهد المغني ص 218ولسان العرب (شرب، مخر، متى) والمحتسب 2/ 114والمقاصد النحوية 3/ 249. وهو بلا نسبة في أدب الكاتب ص 515والأزهية ص 284وأوضح المسالك 3/ 6والجنى الداني ص 43، 505وجواهر الأدب ص 47، 378ورصف المباني ص 151وشرح الأشموني ص 284وشرح ابن عقيل ص 352وشرح عمدة الحافظ ص 268وشرح قطر الندى ص 250والصاحبي في فقه اللغة ص 175ومغني اللبيب ص 105وهمع الهوامع 2/ 34.
(7/89)
قال ابن السيّد في «شرح أبيات أدب الكاتب»: في قوله «متى لجج» قولان:
قيل: أراد من لجج، كما قال صخر الغيّ (1): (الوافر)
* متى أقطارها علق نفيث *
أراد: من أقطارها. وقيل: متى بمعنى وسط. وحكى أبو معاذ الهراء، وهو من شيوخ الكوفيّين: جعلته في متى كمّي. انتهى.
و «متى» هنا فيما نقله أبو معاذ لا تحتمل غير معنى وسط، بخلاف ما نقله الشارح المحقق عن أبي زيد، فإنه يحتمله، ويحتمل معنى في، كما قال الشارح.
وقال ابن هشام في «المغني»: إن «متى» عند هذيل اسم مرادف للوسط، وحرف بمعنى «من» أو «في».
يقولون: أخرجها متى كمّه، أي: منه. واختلف في قول بعضهم: وضعته متى كمّي، فقال ابن سيده: بمعنى في، وقال غيره: بمعنى وسط. وكذلك اختلفوا في قول أبي ذؤيب الهذليّ، يصف السحاب:
شربن بماء البحر ثمّ ترفّعت ... البيت
فقيل بمعنى من، وقال ابن سيده: بمعنى وسط. انتهى.
والباء في قوله: «بماء البحر» قيل على بابها، وشربن مضمّن معنى روين.
وقال جماعة: هي للتبعيض، منهم الأصمعي، وابن قتيبة في «أدب الكاتب» وأبو علي وغيره.
وقال ابن جني في «المحتسب»: الباء زائدة، أي: شربن ماء البحر وإن كان قد قيل إنّ الباء هنا بمعنى في، والمفعول محذوف، معناه شربن الماء في جملة ماء البحر.
وفي هذا التأويل ضرب من الإطالة والبعد.
وقال في «سر الصناعة أيضا»: الباء فيه زائدة، إنما معناه شربن ماء البحر. هذا
__________
(1) عجز بيت اختلف في نسبته وصدره:
* متى ما تنكروها تعرفوها *
والبيت لأبي المثلم الهذلي في ديوان الهذليين 2/ 224وشرح أشعار الهذليين ص 264والأزهية ص 276 ولصخر الغي في لسان العرب (نفث).
(7/90)
هو الظاهر من الحال، والعدول عنه تعسّف. وقال بعضهم: معناه شربن من ماء البحر، فأوقع الباء موقع من (1). انتهى.
وسبقه الفراء في «تفسيره» عند قوله تعالى (2): {«يَشْرَبُ بِهََا»}، من سورة الدهر، قال: يشرب بها ويشربها سواء في المعنى، وكأنّ يشرب بها يروى بها وينقع. وأمّا يشربونها (3) فبيّن.
وقد أنشدني بعضهم:
شربن بماء البحر ثمّ ترفّعت ... البيت
ومثله: إنّه ليتكلّم بكلام حسن (4)، ويتكلّم كلاما حسنا. انتهى.
والحاصل أنّ في هذه الباء أربعة أقوال:
أحدها: أنّها للتعدية. ثانيها: أنّها للتبعيض بمعنى من. ثالثها: أنها بمعنى في.
رابعها: أنّها زائدة.
وهذا على ما في كتب المؤلفين. وأما الثابت في شعر أبي ذؤيب من رواية أبي بكر القارئ (5) وغيره فهو:
تروّت بماء البحر ثمّ تنصّبت ... على حبشيّات لهنّ نئيج (6)
قال القارئ: «تروّت»: يعني الحناتم. و «تنصّبت»: ارتفعت. و «على حبشيات»: على سحائب سود. و «نئيج»: مرّ سريع.
وعلى هذه الرواية لا شاهد في الموضعين.
__________
(1) سر الصناعة ص 152وشرح أبيات المغني 2/ 309.
(2) سورة الدهر أو الإنسان: 76/ 6. ومعاني الفراء 3/ 215.
(3) كذا في النسخة الشنقيطية وشرح أبيات المغني 2/ 309ومعاني الفراء 3/ 215. أما في طبعة بولاق: = وأما يشربها =.
(4) في شرح أبيات المغني: = ومثله: إنه يتكلم حسن، =.
(5) هو أحمد بن محمد الحلواني ابن عاصم، أبو بكر القارئ المتوفى سنة 333هـ. كان قريبا لأبي سعيد السكري، وروى عنه كتبه، وأخذ عنه الأدب ترجمته في مقدمة ديوان الهذليين ص 8وتاريخ بغداد 5/ 76ومعجم الأدباء 4/ 187.
(6) هي رواية ديوان الهذليين 1/ 51.
(7/91)
والبيت بعد مطلع قصيدة لأبي ذؤيب الهذلي، عدّتها تسعة وعشرون بيتا (1)، وهذا مطلعها عند أبي بكر القارئ وأبي حنيفة الدينوري في «كتاب النبات»:
سقى أمّ عمرو كلّ آخر ليلة ... حناتم سود ماؤهنّ ثجيج
قال القارئ: الحناتم: السّحاب في سواده. والحنتمة: الجرّة الخضراء، شبّه السحاب بها. و «الحناتم»: الجرار الخضر. و «ثجيج»: سائل. انتهى.
وقال الدّينوري: الحنتم من السحاب: الأخضر، وهو الأسود. وثجيج:
متدفّق.
وقال ابن السيّد: الحناتم: سحاب سود، واحدها حنتم، وأصل الحناتم جرار خضر ولكنّ العرب تجعل كلّ أخضر أسود، وإنّما يفعلون ذلك لأنّ الخضرة إذا اشتدّت صارت سوادا، ولذلك قالوا للّيل: أخضر.
قال ذو الرمّة (2): (البسيط)
* في ظلّ أخضر يدعو هامه البوم *
وأمّ عمرو مفعول مقدّم، وحناتم فاعل مؤخّر، وكلّ آخر ليلة ظرف. قال الأصمعي: يريد أبدا. ومثله: لا أكلّمك آخر الليالي، أي: لا أكلّمك ما بقي عليّ من الزمن ليلة.
والثّج والثّجيج: السيل الشديد، فيجوز أن يكون [معنى] ثجيج بمعنى ثاجّ، ويجوز أن يكون أراد ذو ثجيج، فحذف المضاف، ويجوز أن يكون أوقع المصدر
__________
(1) هي في ديوان الهذليين 1/ 50وشرح أشعار الهذليين 1/ 128وعدتها 35بيتا. ومطلع القصيدة في ديوان الهذليين:
صبا صبوة بل لج وهو لجوج ... وزالت لها بالأنعمين حدوج
والبيت الشاهد رقمه في القصيدة السابع.
(2) عجز بيت لذي الرمة وصدره:
* قد أعسف النّازح المجهول معسفه *
والبيت لذي الرمة في ديوانه ص 401وأساس البلاغة (عسف) وتاج العروس (خضر، عسف، غضف، ظلل، هيم) وكتاب العين 1/ 339، 4/ 368ولسان العرب (خضر، عسف، هوم). وهو بلا نسبة في لسان العرب (غضف) ومقاييس اللغة 1/ 322، 3/ 461، 4/ 311، 426.
(7/92)
موقع اسم الفاعل مبالغة في المعنى. قاله ابن السيّد (1).
وجعل العينيّ وتبعه السيوطيّ في «شرح أبيات المغني» هذا البيت بعد البيت الشاهد، وقال:
أوّل القصيدة (2):
صحا قلبه بل لجّ وهو لجوج ... وزالت به بالأنعمين حدوج
وهذا البيت غير موجود في القصيدة. ورواه العيني (3):
* صبا صبوة بل لجّ وهو لجوج *
وأورد بعده أربعة أبيات أخر إلى قوله: سقى أمّ عمرو، البيت الذي ذكرناه مطلعا. وليست هذه الأبيات في تلك القصيدة، ولا هي من نسجها، وما أدري من أين أتى بها. والله أعلم.
وقوله: «شربن بماء البحر»، النون ضمير الحناتم.
وقال العيني: ضمير السّحب. مع أنه لم يتقدّم للسّحب ذكر، ولا في الأبيات التي جعلها أوّل القصيدة.
قال ابن السيد (4): هذيل كلّها تصف أنّ السحاب تستقي من البحر ثم تصعد في الجوّ. وهذا ما عليه الحكماء من أنّ السحاب ينعقد من البخار، أعني الأجزاء الهوائيّة [المائية] المتحلّلة بالحرارة من الأشياء الرّطبة وذلك أنّ البخار المذكور إذا تصاعد ولم يتلطّف بتحليل الحرارة أجزاءه المائيّة حتّى يصير هواء، فإنه إذا بلغ الطبقة الزّمهريريّة تكاثف فاجتمع سحابا، وتقاطر مطرا، إن لم يكن البرد شديدا.
و «اللّجج»: جمع لجّة، وهو معظم الماء. ووصفها بخضر لصفائها يقال: ماء
__________
(1) النص في شرح أبيات المغني 2/ 312311والزيادة منه.
(2) في حاشية طبعة هارون 7/ 101: = يعني أنه ليس من رواية الأصمعي، إذ مطلعها عنده هو البيت السادس في ترتيب القصيدة من رواية السكري وإغفال ما قبله، وهو:
سقى أم عمرو كل آخر ليلة ... حناتم سود ماؤهن ثجيج =
(3) هي رواية ديوان الهذليين 1/ 50.
(4) الاقتضاب ص 446وشرح أبيات المغني 2/ 312. والزيادات منهما.
(7/93)
أخضر، أي: صاف. و «نئيج»: على فعيل مهموز العين: المرّ السريع بصوت، من نأجت الريح تنأج نئيجا: تحرّكت، فهي نؤوج. وللرّيح نئيج، أي: مرّ سريع.
وجملة: «لهنّ نئيج» في موضع الحال من فاعل ترفّعت العائد على حناتم بمعنى سحائب.
وترجمة أبي ذؤيب الهذليّ تقدّمت في الشاهد السابع والستين من أوائل الكتاب (1).
* * * وأنشد بعده، وهو الشاهد الخامس عشر بعد الخمسمائة (2): (البسيط)
515 - أو راعيان لبعران شردن لنا
كي لا يحسّان من بعراننا أثرا
على أنّ «كي» فيه بمعنى «كيف»، أو أن أصلها «كيف»، فحذفت الفاء لضرورة الشعر.
وهذا البيت أنشده الفراء في «تفسيره» عند قوله تعالى (3): {«وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى ََ»} كذا (4):
من طالبين لبعران لنا رفضت ... كي لا يحسّون من بعراننا أثرا
قال: هي في قراءة عبد الله: «ولسيعطيك ربّك فترضى»، والمعنى واحد، إلّا أنّ سوف كثرت في الكلام وعرف موضعها، فترك منها الفاء والواو، والحرف
__________
(1) الخزانة الجزء الأول ص 403.
(2) البيت لعمرو بن أحمر في ديوانه ص 71ولسان العرب (بغا). وهو بلا نسبة في شرح المفصل 4/ 110 ومعاني الفراء 3/ 274.
وروايته في ديوانه:
أو باغيان لبعران لنا رفضت ... كي لا يحسّون من بعراننا أثرا
(3) سورة الضحى: 93/ 5.
(4) المقطع من قوله: = كذا من طالبين لبعران أنّ كيف اسم =. ساقط من النسخة الشنقيطية.
(7/94)
إذا كثر فربّما فعل به ذلك، كما قيل: أيش تقول؟ وكما قيل: قم لا أباك، وقم لا بشانيك، يريدون: لا أبا لك، ولا أبا لشانئك. وقد سمعت بيتا حذفت الفاء فيه من كيف، قال الشاعر:
من طالبين لبعران لنا رفضت ... البيت
أراد: كيف لا يحسّون. وهذا كذلك. انتهى.
ونقلته من نسخة صحيحة بخط الخطيب البغداديّ صاحب تاريخ بغداد.
وأنكر أبو عليّ في «البغداديات» هذا، وحتّم أن تكون «كي» فيه بمعنى اللام، وهذه عبارته:
أنشد أبو بكر عن ابن الجهم عن الفراء:
من طالبين لبعران لهم شردت ... كيما يحسّون من بعرانهم خبرا
قال الفراء: أراد كيف فرخّم. قال أبو بكر: وهذا خطأ، وهو كما قال وبسطه، أنّ كيف اسم يمتنع ترخيمه، من غير وجه:
أحدها: أنه اسم ثلاثي، والثلاثي لم يجئ مرخّما إلّا ما كان ثالثه تاء تأنيث.
والآخر: أنّه منكور، والمنكور لا يرخّم كما لا يبنى، والترخيم أبعد من البناء، فإن امتنع بناؤه، كان ترخيمه أشدّ امتناعا أيضا، فإنّ كيف اسم مبنيّ مشابه للحروف، والحذف إنّما يكون في الأسماء المتمكّنة والأفعال المأخوذ منها (1) ولا يكون في الحروف.
كذلك ينبغي أن لا يكون فيما غلب [عليه] (2) شبهها، وصار بذلك في حيّزها.
فإن أراد بالترخيم ما يستعمله النحويّون في هذا النوع من المنادى، فهو غير منادى، وإن أراد به الحذف فهو غير سائغ.
فإن قلت: فقد قالوا: لد، ولدن، فحذفوا منه، وهو غير متمكّن، فكذلك يسوغ الحذف من كيف.
__________
(1) كذا في طبعة بولاق والنسخة الشنقيطية. والوجه: = المأخوذة منها =.
(2) زيادة يقتضيها السياق من طبعة هارون 7/ 104.
(7/95)
فالجواب أنه لا يسوغ الحذف من حيث حذف من لدن، وذلك أنّ لدن لمّا فتح ما قبل النون منها وضمّ، ونصب الاسم بعدها في قولهم: «لدن غدوة» ضارع التنوين الزائد في الاسم، لاختلاف الحركة قبلها، وانتصاب الاسم بعدها، فحسن لذلك حذفها كما يحذف الزائد.
وأيضا فإنّ هذا الاسم يضاف في نحو قولهم: لد الصلاة، ويدخل عليه حرف الجر، ويضاف إلى المضمر والمظهر. وكل ذلك توسّع فيها، ليس في كيف مثله، فيسوغ فيه في دخول ذلك ما لا يسوغ في كيف.
وأيضا فإن النون شديدة المشابهة بحروف اللّين. ألا تراها تزاد في مواضع زيادتها، وتلحق علامة الإعراب، كما يزاد ما هو منها. وحذفوها فاء (1) في قوله (2):
(الطويل)
* وهل يعمن من كان في العصر الخالي *
وفي نحو: «عموا ظلاما» (3). فحذفه أسهل لذلك من حذف غيره. ولو لم
__________
(1) يريد أن النون المحذوفة وقعت فاء الكلمة.
(2) عجز بيت لامرئ القيس وصدره:
* ألا عم صباحا أيها الطّلل البالي *
والبيت هو الإنشاد التاسع والسبعون بعد المائتين في شرح أبيات المغني للبغدادي.
والبيت لامرئ القيس في ديوانه ص 27وتاج العروس (طول) وجمهرة اللغة ص 1319والدرر 5/ 192 وشرح أبيات المغني 4/ 77وشرح شواهد المغني 1/ 340والكتاب 4/ 39. وهو بلا نسبة في أوضح المسالك 1/ 148وشرح الأشموني 1/ 69، 2/ 292وشرح شواهد المغني 1/ 485ومغني اللبيب 1/ 169وهمع الهوامع 2/ 83.
(3) قطعة من بيت مختلف في نسبته وتمامه:
أتوا ناري فقلت منون أنتم ... فقالوا: الجنّ قلت: عموا ظلاما
والبيت من الوافر، وهو لشمر بن الحارث في الحيوان 4/ 482، 6/ 197والدرر 6/ 246ولسان العرب (حسد، منن) ونوادر أبي زيد ص 123ولسمير الضبي في شرح أبيات سيبويه 2/ 183ولشمر أو لتأبط شرا في شرح التصريح 2/ 283وشرح المفصل 4/ 16ولأحدهما أو لجذع بن سنان في المقاصد النحوية 4/ 498.
وهو بلا نسبة في أمالي ابن الحاجب 1/ 462وأوضح المسالك 4/ 284وجواهر الأدب ص 107والحيوان 1/ 328والخصائص 1/ 128والدرر 6/ 310ورصف المباني ص 437وشرح الأشموني 2/ 642وشرح ابن عقيل ص 618وشرح شواهد الشافية ص 295والكتاب 2/ 411ولسان العرب (أنس، سرا)
(7/96)
يكن في النون من هذه الكلمة ما ذكرنا لما كان لحمل كيف عليه مساغ ما وجد لغيره مجاز.
فإن قلت: فكيف وجه البيت عندك؟ فالقول أنّ «كي» على ضربين: تكون مرّة بمعنى اللام، وذلك في قولهم: كيمه. وتكون في معنى «أن» في نحو: «لكيلا تأسوا (1)» فنقول: إنّ «كي» في البيت هي التي بمعنى اللام، فيمن قال: كيمه، دخلتها «ما» كافّة فمنعتها العمل الذي تعمله، فارتفع الفعل بعدها، لكفّ «ما» لها عن الدخول على الفعل، كما كفّت «ربّ» ومن في قولهم: ممّا أفعل، وربّما يقوم.
ونظير هذا ما أنشدناه عن أبي الحسن من قوله (2): (الطويل)
إذا أنت لم تنفع فضرّ فإنّما ... يرجّى الفتى كيما يضرّ وينفع
فعلى هذا يحمل هذا البيت. انتهى.
وهذا كله تطويل بلا طائل، فإن رواية الفرّاء الثابتة عنه: «كي لا»، بلا النافية لا بما، والتصرّف في الحرف بالحذف وغيره ثابت، مع أنّه خلاف الأصل، فكونه في الاسم أولى وأحقّ.
ونظير حذف الفاء من كيف حذفها من سوف، فإنهم يقولون: سو أفعل، والأصل: سوف أفعل (3).
وقد حذفت النون من «من» حرف الجر، فقالوا: م الرجل، والأصل: من الرّجل.
__________
والمقتضب 2/ 307والمقرب 1/ 300وهمع الهوامع 2/ 157، 211.
(1) سورة الحديد: 57/ 23.
(2) هو الإنشاد الواحد بعد الثلاثمائة في شرح أبيات المغني للبغدادي.
والبيت للنابغة الجعدي في ملحق ديوانه ص 246وله أو للنابغة الذبياني في شرح أبيات المغني 4/ 152وشرح شواهد المغني 1/ 507وللنابغة الجعدي أو للنابغة الذبياني أو لقيس بن الخطيم في المقاصد النحوية 4/ 245 ولقيس بن الخطيم في ملحق ديوانه ص 235وكتاب الصناعتين ص 315وللنابغة الذبياني في شرح التصريح 2/ 3والمقاصد النحوية 4/ 379. وهو بلا نسبة في أوضح المسالك 3/ 10وتذكرة النحاة ص 609والجنى الداني ص 262والحيوان 3/ 76وشرح الأشموني 2/ 283وشرح عمدة الحافظ ص 266ومغني اللبيب 1/ 182وهمع الهوامع 1/ 5، 31.
(3) شرح المفصل لابن يعيش 4/ 110وشرح أبيات المغني 4/ 151.
(7/97)
وقد حذفت من «على» الحرفيّة اللام والألف كما قال الشاعر، وأنشده سيبويه في آخر كتابه (1): (الطويل)
* طفت علماء غرلة خالد *
والأصل: على الماء.
والمراد بالترخيم في نحو هذا التخفيف بالحذف، وهو شائع في كلامهم، فلا وجه للترديد بين ترخيم المنادى وغيره.
على أنّ الفراء إنّما عبّر بالحذف لا بالترخيم، ومحصّل كلامه إنكار مجيء «كي» مخفّفا من كيف. وحمل «كي» في البيت على أنّها بمعنى اللام بمعونة «ما» الكافّة لها عن النصب، على تقدير صحة نقله، فما يصنع بقول الآخر، وقد أنشده ابن هشام في «المغني» في «كي» وفي «كيف» (2): (البسيط)
كي تجنحون إلى سلم وما ثئرت ... قتلاكم ولظى الهيجاء تضطرم
و «ليس» بعدها «ما»، والمعنى على الاستفهام. ولعلّه يقول: إن كي موضوعة للاستفهام عن حال الشيء بمعنى كيف، إلّا أنها مخفّفة من كيف، كما هو مذهب جماعة، وحكاه الشارح المحقق عن الأندلسي.
وقال ابن يعيش في «شرح المفصل» (3): وفي كيف لغتان، قالوا: كيف، وكي، قال الشاعر:
أو راعيان لبعران لنا شردت ... كي لا يحسّان من بعراننا أثرا
__________
(1) قطعة من بيت للفرزدق وتمامه:
وما سبق القيسيّ من ضعف حيلة ... ولكن طفت علماء غرلة خالد
والبيت للفرزدق في شرح المفصل 10/ 155. وهو بلا نسبة في المقتضب 1/ 251.
(2) هو الإنشاد الموفي الثلاثمائة في شرح أبيات المغني للبغدادي.
والبيت بلا نسبة في الجنى الداني ص 265وجواهر الأدب ص 233والدرر 3/ 135وشرح أبيات المغني للبغدادي 4/ 148وشرح الأشموني 3/ 549وشرح شواهد المغني 1/ 507، 2/ 557ومغني اللبيب 1/ 182، 205والمقاصد النحوية 4/ 378وهمع الهوامع 1/ 214.
(3) شرح المفصل لابن يعيش 4/ 110.
(7/98)
قالوا: كي. ها هنا بمعنى «كيف»، استفهام. وقال قوم: أراد: كيف، وإنّما حذف الفاء تخفيفا كما قالوا: سو أفعل، والمراد: سوف أفعل. انتهى.
وعلى هذا الأخير اقتصر صاحب المغني. والظاهر أنّ هذا من قبيل ضرورة الشعر، إذ لو كانت «كي» موضوعة للاستفهام لوردت في النثر، ولدوّنت في كتب اللغة كسائر الألفاظ الموضوعة.
والبيت الأول غير واضح المعنى، وقائله غير معروف، وما قبله مجهول.
و «البعران» بالضم: جمع بعير، وهو في الإبل بمنزلة الرجل في الإنسان.
والنون في «شردن» للإبل، لأنها جماعة. ورواه ابن يعيش: «شردت» بالتاء مع تقديم «لنا» عليه.
و «يحسّان» بضم الياء: مضارع: أحسّ الرجل الشيء إحساسا: علم به.
و «أثرا»: مفعول به. ورواية أبي عليّ قريبة من رواية الفراء.
وقوله: «من طالبين» هو جمع مجرور بمن. و «رفضت» بالفاء والضاد المعجمة، قال في المصباح: رفضت الإبل من باب ضرب: تفرّقت في المرعى.
ويتعدّى بالألف في الأكثر، فيقال: أرفضتها، وفي لغة بنفسه.
وقائل البيت الثاني مجهول أيضا. وزعم العيني وتبعه خدمة المغني أنه من أبيات سيبويه (1)، وهذا لا أصل له فإنّي قد تصفّحت أبياته مرارا فلم أجده فيها.
و «تجنحون»: تميلون. و «السّلم»، بكسر السين وفتحها: الصلح.
و «ثئرت» بالبناء للمفعول. و «قتلاكم»: نائب الفاعل، من ثأرت القتيل:
طلبت دمه وقتلت قاتله. والثأر مهموز. و «الهيجاء»: الحرب. و «تضطرم»:
تلتهب. والجملتان حالان من الواو في تجنحون.
وأتعجّب من العيني في قوله: «الشاهد في كي، فإنه بمعنى كيف وهو اسم لا شكّ فيه ككيف، لدخول حرف الجار (2) عليه». انتهى.
* * * __________
(1) المقاصد النحوية 4/ 378.
(2) كذا في طبعة بولاق وشرح أبيات المغني للبغدادي. وفي النسخة الشنقيطية وطبعة هارون: = حرف الجر عليه =. والنص في شرح أبيات المغني 4/ 152.
(7/99)
وأنشد بعده، وهو الشاهد السادس عشر بعد الخمسمائة (1): (الرمل)
516 - يا أبا الأسود لم أسلمتني
لهموم طارقات وذكر
على أنّ «لم» مركبة من اللام و «ما» الاستفهامية، فلما جرّت باللام حذفت الألف وسكنت الميم، كما أنّ «كم» مركبة من الكاف و «ما» الاستفهامية.
وهذا قول الفراء في «تفسيره»، أورده في شرح لكنّ من قوله تعالى (2):
{«وَلََكِنَّ النََّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ»} من سورة يونس، قال: ونرى أنّ قول العرب: كم مالك، أنّها ما وصلت من أولها بالكاف، ثم إنّ الكلام كثر بكم حتى حذفت الألف من آخرها وسكنت ميمها، كما قالوا: لم قلت ذاك؟ ومعناه: لم قلت ذاك؟ ولما قلت ذاك؟ كما قال الشاعر:
يا أبا الأسود لم أسلمتني ... البيت
وقال بعض العرب في كلامه وقيل (3): مذ كم قعد فلان؟ فقال: كمذ أخذت في حديثك. فردّه الكاف في مذ يدلّ على أنّ الكاف في «كم» زائدة.
وإنّهم ليقولون: كيف أصبحت؟ فيقول: كالخير، وكخير (4). وقيل لبعضهم:
كيف تصنعون الأقط؟ فقال: كهيّن. انتهى.
__________
(1) هو الإنشاد الثالث والتسعون بعد الأربعمائة في شرح أبيات المغني للبغدادي.
والبيت بلا نسبة في الإنصاف 1/ 211والدرر 6/ 310وشرح أبيات المغني 5/ 219وشرح شافية ابن الحاجب 2/ 297وشرح شواهد الشافية ص 224وشرح المغني 2/ 709وشرح المفصل 9/ 88والصاحبي في فقه اللغة ص 159ومغني اللبيب 1/ 299وهمع الهوامع 2/ 211.
وروايته في شرح أبيات المغني:
يا أبا الأسود لم خلفتني ...
(2) سورة يونس: 10/ 44. ومعاني القرآن للفراء 1/ 466.
(3) في معاني القرآن للفراء: = وقيل له =.
(4) في اللسان (كوف): = ومن كلام العرب إذا قيل لأحدهم كيف أصبحت أن يقول كخير، والمعنى على خير، قال الأخفش: فالكاف في معنى على قال ابن جني: وقد يجوز أن تكون في معنى الباء، أي:
بخير =.
(7/100)
وقوله: «لم» قلت، بسكون الميم، ظاهره أنه جائز في الكلام غير مخصوص بالشعر، ويؤيّده قول ابن الشجري في «أماليه»: ومن العرب من يقول: لم فعلت؟ بإسكان الميم.
قال ابن مقبل (1): (الوافر)
أأخطل لم ذكرت نساء قيس ... فما روّعن عنك ولا سبينا
وقال آخر (2):
يا أبا الأسود لم خلّيتني ... لهموم طارقات وذكر
انتهى.
وكذا في «شرح الشافية» للشارح المحقق، قال: وأمّا على «مه» وإلى «مه» وحتّى «مه»، ف «ما» فيها جزء مما قبلها، لكون ما قبلها حروفا، فلا تستقلّ، فيجوز لك الوقف بالهاء، كما ذكر، وبسكون الميم أيضا لكون علام مثلا كغلام.
قال:
يا أبا الأسود لم خلّيتني ... البيت
انتهى.
فقول ابن هشام في «المغني» إن تسكين الميم بعد حذف الألف مخصوص بالشعر، غير صحيح.
وقد تقدّم في الشاهد السادس والثلاثين بعد الأربعمائة (3)، ما يتعلق بحذف ألف ما الاستفهامية.
وقوله: «أسلمتني» هو من أسلم أمره لله وسلّم، بمعنى فوّض، أو من أسلم الأجير نفسه للمستأجر: مكّنه من نفسه، وكذلك سلّم بالتشديد. ويجوز أن يكون من أسلمه بمعنى خذله.
__________
(1) البيت لتميم بن أبي مقبل في ديوانه ص 312وشرح أبيات المغني 5/ 219.
(2) رواية انفردت بها الخزانة.
(3) الخزانة الجزء السادس ص 94وما بعدها.
(7/101)
وروى بدله: «خلّيتني» بمعنى تركتني. وروى أيضا: «خلّفتني»، قال الدماميني: معناه (1) أخّرتني. و «الهموم»: الأحزان. و «الطّروق»: المجيء ليلا.
وإنما جعل الهموم طارقات لأنّ أكثر ما يعترى الإنسان في الليل، حيث يجمع فكره ويخلو باله، فيتذكّر ما هو فيه من الأحوال الموجعة والمصائب المؤلمة.
و «ذكر» بكسر ففتح، قال الشاطبي في «شرح الألفية»: هو جمع ذكرى على (2) خلاف القياس، لأنّ شرط الجمع على فعل أن يكون مفرده فعلة مكسور الفاء مؤنثا بالتاء.
وقال الدماميني: هو جمع ذكرى وهو نقيض النّسيان. أو جمع ذكرة بمعنى ذكرى. وهو على الأوّل محفوظ، وعلى الثاني مقيس. انتهى.
قال صاحب المصباح: ذكرته بلساني وبقلبي ذكرى بالتأنيث وكسر الذال، والاسم ذكر بالضم والكسر، نصّ عليه جماعة منهم أبو عبيدة وابن قتيبة. وأنكر الفراء الكسر في القلب، وقال: اجعلني على ذكر منك بالضم لا غير. ولهذا اقتصر جماعة عليه. ويتعدّى بالألف والتضعيف، فيقال: أذكرته وذكّرته ما كان، فتذكّر.
انتهى.
والبيت مع كثرة تداوله في كتب النحو والصرف لا يعرف قائله. والله أعلم.
* * * وأنشد بعده (3): (الطويل)
صريع غوان راقهنّ ورقنه ... لدن شبّ حتّى شاب سود الذّوائب
على أنّ «لدن» إذا أضيفت إلى الجملة تمحّضت للزمان.
هذا هو التحقيق، لبقاء حكم المضاف إلى الجمل على وتيرة واحدة.
__________
(1) كلمة: = معناه =. ساقطة من النسخة الشنقيطية.
(2) كلمة: = على =. ساقطة من النسخة الشنقيطية.
(3) هو الشاهد رقم / 512/ من شواهد هذا الجزء من الخزانة.
(7/102)
وقال أبو حيان في «الارتشاف»: ولا يضاف إلى الجمل من ظروف المكان إلّا لدن وحيث، فتضاف إلى جملة الابتداء، نحو (1): (الطويل)
* وتذكر نعماه لدن أنت يافع *
وإلى الفعلية، نحو (2): (الطويل)
* لزمنا لدن ساءلتمونا وفاقكم *
وجاءت أن زائدة بعدها في قوله (3): (الطويل)
* وليت فلم تقطع لدن أن وليتنا *
قال ابن الدّهّان: ولا يضاف إلى الجمل من ظروف المكان إلّا حيث وحدها.
ولدن شبّ، على إضمار أن، كما صرّح بأن في قوله (4): (الطويل)
* أراني لدن أن غاب رهطي *
انتهى.
__________
(1) صدر بيت بلا نسبة وعجزه:
* إلى أنت ذو فودين أبيض كالنّسر *
والبيت بلا نسبة في الدرر 3/ 136وشرح الأشموني 2/ 318وهمع الهوامع 1/ 215.
(2) صدر بيت غير منسوب وعجزه:
* فلا يك منكم للخلاف جنوح *
والبيت هو الإنشاد الثالث والستون بعد الستمائة في شرح أبيات المغني للبغدادي.
والبيت بلا نسبة في شرح أبيات المغني 6/ 286وشرح شواهد المغني ص 836ومغني اللبيب ص 421.
(3) صدر بيت غير منسوب وعجزه:
* قرابة ذي قربى ولا حقّ مسلم *
والبيت بلا نسبة في الدرر 3/ 137وهمع الهوامع 1/ 215.
(4) قطعة من بيت للأعشى ميمون وتمامه:
أراني لدن أن غاب رهطي كأنّما ... يراني فيهم طالب الحقّ أرنبا
والبيت للأعشى في ديوانه ص 165وأساس البلاغة (رنب).
(7/103)
وتقدّم الكلام على البيت قريبا (1).
* * * وأنشد بعده، وهو الشاهد السابع عشر بعد الخمسمائة (2): (الوافر)
517 - فإنّ الكثر أعياني قديما
ولم أقتر لدن أنّي غلام
على أنّ الجملة التي بعد «لدن» يجوز تصديرها بحرف مصدري.
وهذا البيت أنشده ابن السكيت في «إصلاح المنطق»، ونسبه كالشارح إلى عمرو بن حسان (3) من بني الحارث بن همّام.
وقال شارح أبياته ابن السيرافي في قوله: «فإن الكثر أعياني» إلخ. أي: طلب الغنى في أوّل أمري، وحين شبابي، فلم أبلغ ما في نفسي منه، ومع ذلك فلم أكن فقيرا. فلا تأمرني بطلب المال وجمعه وترك تفريقه، فإنّي لا أبلغ نهاية الغنى بالمنع، ولا أفتقر بالبذل. انتهى.
قال صاحب الصحاح: الكثر بالضم من المال: الكثير. يقال: ما له قلّ ولا كثر. وأنشد البيت.
وقال في «قتر»: وأقتر الرجل: افتقر. وأنشده أيضا (4).
وقال في «عيي»: وعييت بأمري، إذا لم تهتد لوجهه. وأعياني هو. وأنشده أيضا، وقال: يقول كنت متوسّطا لم أفتقر فقرا شديدا، ولا أمكنني جمع المال الكثير.
ويروى: «أعناني»، أي: أذلّني وأخضعني. انتهى.
__________
(1) هذا الجزء من الخزانة الشاهد رقم 512.
(2) البيت لعمرو بن حسان في لسان العرب (كثر، عيا) ولرجل من ربيعة في إصلاح المنطق ص 33، 167، 364. وهو بلا نسبة في لسان العرب (قتر).
(3) يبدو أن البغدادي سها، فلقد نسبه صاحب إصلاح المنطق كما ذكرنا لرجل من ربيعة.
(4) في طبعة بولاق: = وأنشد أيضا =. وأثبتنا رواية النسخة الشنقيطية.
(7/104)
وهذا البيت يدلّ للشارح المحقق على أنّ «لدن» إذا أضيفت إلى الجملة تكون ظرف زمان. وهذا ظاهر منه.
وعمرو بن حسان: شاعر صحابي، ذكره ابن حجر في الإصابة (1).
* * * وأنشد بعده، وهو الشاهد الثامن عشر بعد الخمسمائة (2): (الرجز)
518 - طاروا علاهنّ فطر علاها
واشدد بمثنى حقب حقواها
على أنه قد حكي عن قوم من العرب: لداك، وإلاك، وعلاك، فلم يقلبوا الألف ياء مع المضمر في علاهنّ وعلاها، وفي المثنى، أعني حقواها. وكان القياس:
عليهن، وعليها، وحقويها.
قال أبو حاتم «فيما كتبه على نوادر أبي زيد»: هذه لغة بني الحارث بن كعب، ولغتهم قلب الياء الساكنة إذا انفتح ما قبلها ألفا، يقولون: أخذت الدّرهمان، والسّلام علاكم. انتهى.
وسيأتي بقية الكلام عليه إن شاء الله في المثنّى.
قال أبو زيد في «نوادره» (3): قال المفضل: أنشدني أبو الغول لبعض أهل اليمن:
أيّ قلوص راكب تراها ... طاروا عليهنّ فشل علاها
__________
(1) الإصابة 5807. وقال عنه: = تقدم ذكره في ترجمة سنبر وقد ترجم صاحب الإصابة لسنبر برقم 3509.
(2) الرجز لرؤبة في ملحق ديوانه ص 168وله أو لأبي النجم أو لبعض أهل اليمن في المقاصد النحوية 1/ 133 ولبعض أهل اليمن في شرح أبيات المغني 1/ 194وشرح شواهد المغني 1/ 128ونوادر أبي زيد ص 58. وهو بلا نسبة في تاج العروس (قلص) والخصائص 2/ 269وشرح شواهد الشافية ص 355وشرح المفصل 3/ 34، 129ولسان العرب (طير، علا، نجا).
(3) نوادر أبي زيد ص 58والرجز فيه.
(7/105)
واشدد بمثنى حقب حقواها ... ناجية وناجيا أباها
«القلوص» مؤنثة. «علاها»، يريد عليها، وهي لغة بني الحارث بن كعب.
وأما «أباها» فيمكن أن يكون أراد أبوها، فجاء به على لغة من قال هذا أباك، في وزن هذا قفاك. وكذا كان القياس.
وقال بعضهم: يقال أب وأبان، مثل يد ويدان، أراد الاثنين. والناجي: الماضي.
انتهى.
وأنشد أبو زيد البيتين الأولين من الأربعة في أوائل النوادر، ثم قال: وأما أباها، يعني في البيت الرابع، فيمكن أن يكون أراد أبوها فجاء به على لغة من قال: هذا أباك، في وزن هذه عصاك (1). وكذا كان القياس.
وقال بعضهم: ولكن يقال أب وأبان، كقولك: يد ويدان، فأراد الاثنين.
انتهى.
قال أبو الحسن الأخفش في «شرح النوادر»: قال أبو حاتم: سألت أبا عبيدة عن هذه الأبيات، فقال: انقط عليها، هذا من صنعة المفضّل. انتهى.
وقوله: «أيّ قلوص راكب»، بإضافة قلوص إلى راكب، و «أيّ» استفهامية قصد بالاستفهام المدح والتعظيم، وقد اكتسب التأنيث من قلوص، ولهذا أعاد الضمير عليها مؤنّثا. أو فيه قلب، والأصل قلوص أيّ راكب تراها. وهذا هو الظاهر. و «أيّ»: منصوب من باب الاشتغال، ويجوز الرفع على الابتداء.
والقلوص بالفتح: الناقة الشابّة.
وقوله: «طاروا عليهن» كذا في موضعين من النوادر، ورواه الجوهري:
«طاروا علاهن» كالثاني. وطاروا، يقال: طار القوم، أي: نفروا مسرعين. كذا في المصباح.
ورواه ابن هشام في «شرح الشواهد»: «شالوا علاهنّ» وقال: شال الشيء شولا، إذا ارتفع. والأمر شل بالضم. ويتعدّى بالهمزة وبالباء، فيقال أشلته وشلت به. وقول العامة شلته بالكسر لحن من وجهين، والمفعول محذوف، أي: برحالهم وبرحلك. انتهى.
__________
(1) في نوادر أبي زيد ص 58: = في وزن هذا قفاك =.
(7/106)
والظاهر أن المراد ارتفعوا على إبلهم فارتفع عليها. ولا حاجة إلى ذكر المفعول المعدّى بالباء. ويؤيّده رواية «طاروا»، فإنّ المعنى أسرعوا مخفّين. ورواية الشارح «فطر علاها» هي رواية صاحب الصحاح.
و «الحقب» بفتح الحاء المهملة والقاف، قال في الصحاح: هو حبل يشدّ به الرّحل إلى بطن البعير مما يلي ثيله، أي: ذكره، كي لا يجتذبه التصدير. تقول منه:
أحقبت البعير. انتهى.
و «المثنى»: مصدر ميمي من ثنيت الشيء ثنيا ومثنى، إذا عطفته، أريد به اسم المفعول، أي: المعطوف ثانيا.
و «حقواها»: مثنى حقو بفتح الحاء المهملة وسكون القاف (1)، وهو الخصر ومشدّ الإزار مثلا. وقول أبي زيد: إنّ أباها مثنى أب حذفت النون للإضافة، أراد أباها وأمّها فثنّي على التغليب.
وأنشد الجوهري الأبيات في «علا» بهذا الترتيب:
أيّ قلوص راكب تراها ... فاشدد بمثنى حقب حقواها
ناجية وناجيا أباها ... طاروا علاهنّ فطر علاها
* * * وأنشد بعده، وهو الشاهد التاسع عشر بعد الخمسمائة (2): (الهزج)
519 - فلولا نبل عوض في
حظبّاي وأوصالي
__________
(1) في اللسان والقاموس، ويقال أيضا حقو بالكسر.
(2) البيت للفند الزماني في الحماسة برواية الجواليقي ص 154والدرر 3/ 132وشرح الحماسة للأعلم 1/ 306وشرح الحماسة للتبريزي 2/ 52وشرح الحماسة للمرزوقي ص 538ولسان العرب (خظب). وهو بلا نسبة في همع الهوامع 1/ 213.
وروايته في بعض هذه المصادر:
... خضمّاتي وأوصالي
(7/107)
على أنّ «عوضا» قد يستعمل لمجرّد الزمان فيعرب.
جعل الشارح المحقق استعماله لمجرد الزمان سببا لإعرابه، أي: الزمان المجرّد عن العموم والاستغراق، بأن يكون نكرة غير مضمّن معنى الإضافة. فإن ضمّنها بني على الضم كما سيأتي في كلامه. وإن أضيف لفظا أعرب. فيكون له ثلاثة استعمالات (1):
الأوّل: ما نكّر بأن قطع عن الإضافة لفظا ومعنى، كما في البيت، وفي قولهم:
من ذي عوض، فيعرب جرّا بإضافة شيء إليه. ولم يسمع نصبه منوّنا على الظّرفية.
الثاني: ما حذف منه المضاف إليه، وضمّن معناه، فيبني على الضم أو أحد أخويه (2) نحو: لا أفعله عوض، والأصل: عوض العائضين.
والثالث: ما أضيف لفظا كعوض العائضين.
هذا مقتضى كلامه، وهو الحقّ الذي لا ينبغي أن يحاد عنه، فإنه جمع شملها المتفرّق في كتب النحويّين بإدخالها في حكم ظروف الجهات.
وقال أبو حيان في «الارتشاف»: وقد يضاف إلى العائضين، أو يضاف إليه فيعرب. وأورد هذا البيت، وقال: وعوض الظرف يبنى على الضم والفتح والكسر.
وقال ابن هشام في «المغني»: هو معرب إن أضيف، كقولهم: لا أفعله عوض العائضين، مبنيّ على أحد الحركات (3) إن لم يضف.
فالأوّل: يشمل ما قاله الشارح المحقق، لكن لا بذلك الحكم. والثاني: يقتضي بناء نحو البيت على حركة، ولا قائل به.
__________
(1) في النسخة الشنقيطية: = ثلاث استعمالات =.
وفي حاشية طبعة هارون 7/ 116: = وهو جائز على مذهب البغداديين، فإنهم يعتبرون لفظ الجمع. وانظر الأشموني في أول باب العدد =.
(2) في حاشية طبعة هارون 7/ 116: = يعني الألف والواو =.
(3) في حاشية طبعة هارون 7/ 117: = على أحد الحركات، ليس من لفظ ابن هشام. والوجه: إحدى الحركات =.
(7/108)
والعجب من ابن الملّا فإنّه شرح كلام المغني بكلام الشارح المحقق.
وقال ابن جنّي في الكلام على هذا البيت (1) من إعراب الحماسة: وأمّا إعرابه فلأنّه اضطرّ إليه، كما يضطرّ الشاعر إلى صرف ما لا ينصرف. وهو مبنيّ على الضم والفتح. هذا كلامه.
فيقال له: أي: ضرورة في قولهم: افعل ذاك من ذي عوض.
وأمّا شرّاح الحماسة فالمفهوم من كلامهم أنّه مبنيّ في البيت. ولم يتعرّضوا لإعرابه بوجه.
قال المرزوقي: عوض اسم الدهر معرفة مبني، وكما يبنى على الفتح قد يبنى على الضم، والضم فيه حكاه الكوفيون. ويقال: لا أفعله عوض العائضين. وإنما يبنى لتضمّنه معنى الألف واللام. انتهى.
وقد سطّرها الخطيب التبريزيّ في «شرحه» من غير زيادة.
وأما الأمين الطبرسيّ فلم يزد على قوله: عوض من أسماء الدّهر. وهذا كلّه مما يستغرب منه.
وقول الشارح المحقق: «وعوض في الأصل اسم للزمان والدهر»، بل الأصل مصدر عاضني الله منه عوضا بفتح فسكون، وعوضا بكسر ففتح، وعياضا بالكسر.
كذا في «العباب». فالعوض: كل إعطاء يكون خلفا من شيء.
قال ابن جني في شرح البيت: إنّما سمّوا الدهر عوضا لأنّه من التعويض، وذلك أنّه كلما مضى جزء من الدهر خلف آخر من بعيده، فكان الثاني كالعوض من الأوّل. وقد ذكرت هذا الموضع في «كتابي الموسوم بكتاب التعاقب».
وقال ابن هشام في «المغني»: وقيل: بل لأنّ الدهر في زعمهم يستلب ويعوّض.
وقوله أيضا: «ويقال افعل ذلك من ذي عوض» (2) إلخ، افعل يقرأ أمرا وخبرا،
__________
(1) في طبعة بولاق والنسخة الشنقيطية: = على هذا الكلام =. وهو تصحيف صوبناه.
(2) في حاشية طبعة هارون 7/ 118: = يشير إلى كلام الرضي في شرح الكافية 2/ 116. وبقيته: كما يقال من ذي أنف. ولذا أفاض البغدادي في شرح لفظ أنف فيما سيأتي =.
(7/109)
والمعنى افعله في زمان ذي تعويض، أي: في زمان يكون عوضا من هذا الزمان، وهو المستقبل.
وأنف، بضم الألف والنون، معناه الابتداء الجديد، أي: الإضافيّ بالنسبة إلى ما قبله. والمعنى: افعله في زمان (1) ذي ابتداء متجدّد، وهو الوقت الذي يتجدّد بانقضاء ما قبله، كاليوم والليلة، والأسبوع، والشهر، والسنة. والفعل منه استأنف استئنافا.
ومنه حديث ابن عمر: «إنّما الأمر أنف»، أي: يستأنف استئنافا من غير أن يكون سبق به سابق قضاء وتقدير. وروضة أنف، أي: مستجدّة لم تطأها الماشية ولم ترعها. ومنه حديث أبي مسلم الخولاني: «ووضعها في أنف من الكلأ وصفو من الماء».
ورجل مئناف، أي: ترعى ماشيته أنف الكلأ. وكأس أنف: مستجدّة للشرب فيها لم تستعمل (2) قبل هذا الوقت. وقولهم: فعله آنفا، بالمد وكسر النون، من هذا أيضا، وهو أول الزمان الذي أنت فيه.
ويقال أيضا: افعل ذاك من ذي قبل، بفتح القاف والموحّدة، وهو اسم مصدر لأقبل إقبالا. أي: في زمان ذي إقبال.
وفي فصيح ثعلب: لا أكلمك إلى عشرين ذي قبل، أي: إلى عشر ليال من زمان ذي استقبال، أي: من مستقبل الشهر.
والبيت من أبيات ثمانية للفند الزّمّانيّ، أوردها أبو تمام في «مختار أشعار القبائل» وفي «الحماسة»، وأولها (3):
أيا طعنة ما شيخ ... كبير يفن بالي
تقيم المأتم الأعلى ... على جهد وإعوال (4)
__________
(1) في النسخة الشنقيطية: = من زمان =.
(2) في النسخة الشنقيطية: = لم يستعمل =. وهو تصحيف صوابه من طبعة بولاق.
(3) الأبيات للفند الزماني في الحماسة برواية الجواليقي ص 154وشرح الحماسة للأعلم 1/ 306305وشرح الحماسة للتبريزي 2/ 5251وشرح الحماسة للمرزوقي ص 538.
(4) في طبعة بولاق: = على عهد =. وهو تصحيف صوابه من النسخة الشنقيطية والحماسة للتبريزي والمرزوقي.
(7/110)
ولولا نبل عوض في ... حظبّاي وأوصالي
لطاعنت صدور الخي ... ل طعنا ليس بالآلي
وقوله: «أيا طعنة» إلخ، قال الإمام المرزوقي: أراد: يا طعنة شيخ، و «ما» زائدة، وهذا اللفظ لفظ النداء، والمعنى معنى التعجب والتفخيم، أراد: ما أهولها من طعنة، ويالها من طعنة بدرت من شيخ كبير السن، فاني القوى بالي الجسم.
و «اليفن»: الشيخ الهرم. ويجوز أن يكون المنادى محذوفا وطعنة منصوب بفعل مضمر، كأنه أراد: يا قوم اذكروا طعنة شيخ. انتهى.
وقد بيّن الوجهين أبو هلال العسكري في «شرح الحماسة» قال: في ندائه وجهان:
أحدهما: أن يعجّب من فظاعتها، فكأنه يقول: هلمّي يا طعنة فاعجبي أنت أيضا من سعتك وهولك.
والآخر: أن المنادى غير الطعنة، كأنه قال: يا هؤلاء اشهدوا طعنة لا يطعن مثلها شيخ. وإنما قال طعنة شيخ، لأنّ قبيلة بكر، قالت: وما يغني هذا العشمة (1)! وذلك أن عداد زمّان في بني حنيفة، وكانوا اعتزلوا حرب بكر وتغلب حتّى كتب إليهم الحارث بن عباد يعنّفهم، فسرّحوا إليهم فندا، في سبعين راكبا، وكتبوا إليهم:
«إنّا أمددناكم بمائة فارس».
قال مؤرّج: «أمددناكم بألف رجل». فقالت بكر: وما يغني هذا العشمة؟
وكان شيخا، وله مائة وعشرون سنة. فقال: أما ترضون أن أكون لكم فندا من أفناد حضن (2)، تلودون بي؟!
فأرسلوه في الطلائع ورجع وليس معه رمحه، فسئل عنه، فقال: طعنت به رجلا فأنفذته وأجررته إيّاه. قالوا: ما نراك إلّا سلبته! فقال: تقدمون فتنظرون.
وقال مؤرّج: كان عمرو بن الرّقبان التغلبي حمل على بكر، فمرّ على صبيّ عند أمّه، فانتظمه برمحه، وحمله على رأس الرمح، وصرخت أمه، فقال: «تحنّني أمّ
__________
(1) العشمة: الشجرة البالية.
(2) الفند: القطعة العظيمة من الجبل. وحضن بالتحريك: جبل بأعلى نجد.
(7/111)
الرّبع». فحمل عليه الفند فطعنه فأنفذه. وتزعم بكر أنه طعنه وخلفه رديف له، فانتظمهما. وهذا مشهور في بكر وتغلب، أعني طعنة عمرو، وطعنة الفند، وقيل فيه شعر مصنوع قديم، يعني هذه الأبيات. انتهى.
وقوله: «تقيم المأتم» إلخ، قال المرزوقي: هذا من وصف الطعنة، كأنه كان تناوله بها رئيسا (1)، فلذلك وصف المأتم بالأعلى. والمأتم أصله أن يقع على النساء يجتمعن في الخير والشر، واشتقاقه من الأتم، وهو الضمّ والجمع، ومنه الأتوم وهي المرأة التي صار مسلكاها مسلكا واحدا. وأراد بالمأتم هنا الاجتماع للرّزيّة، وهو مصدر وصف به.
ويجوز أن يراد به أهل المأتم فحذف المضاف. والأعلى يراد به الأفظع شأنا.
ووصف الطّعنة بأنها تقيم الجمع على مجاهدة بلاء (2)، وإسراف في الصّياح والعواء، أي: تديم ذلك له. والعويل والعولة: صوت الصّدر. انتهى.
وقال التبريزي: الإعوال: رفع الصّوت بالبكاء.
وقوله: «ولولا نبل عوض» إلخ، أجمعوا في هذا الموضع على أنّ عوضا اسم الدهر، وقد شذّ بعضهم، فقال: عوض: رجل كان يعمل النّبال جيّدة، فشبّه ما ناله من نوائب الزمان بإصابة تلك النبال. هذا كلامه.
و «حظبّاي» بالإضافة إلى ياء المتكلم. والحظبّى بضم الحاء المهملة، وضم الظاء المشالة والمعجمة بعدها موحّدة مشددة وألف مقصورة، قال القالي في «المقصور والممدود»: هو الظّهر. قال: ووزنه فعلّى، ولم يأت على هذا الوزن إلّا الاسم دون الصفة.
وقال ابن ولّاد في «المقصور والممدود»: هو الصّلب، يعني ظهر الرجل.
وقال أبو هلال العسكري في «شرحه»: قال أبو النّدى (3): الحظبّى: عرق في الظّهر. وقال غيره: الحظبّى: عرق يبتدئ من القلب ويبدو عند السّرّة، ثم يتشعّب
__________
(1) كذا في طبعة بولاق والنسخة الشنقيطية. وفي شرح الحماسة للتبريزي وشرح الحماسة للمرزوقي: = كان تناول بها رئيسا =.
(2) في شرح الحماسة للتبريزي والمرزوقي: = على مجاهدة وبلاء =.
(3) في طبعة بولاق: = الندى =. وهو تصحيف صوابه من النسخة الشنقيطية.
(7/112)
فتتفرّق شعبه في الظّهر، يسمّيه الأطباء: الشّريان العظيم (1)، وقال الصاغاني في «العباب»: الحظبّى: صلب الرجل، ويقال: إنه عرق في الظهر، ويقال: إن الحظبّى الجسم، وفسّر بالمعاني الثلاثة هذا البيت.
وقال أبو زيد: الحظنبى بالنون قبل الموحّدة، وأنشد البيت «في حظنباي».
ورواه المرزوقي: «في خضمّاتي وأوصالي» بضمّتي الخاء والضاد المعجمتين وتشديد الميم، وقبل ياء المتكلم مثناة فوقية، على أنه جمع خضمّة. قال: والخضمّة: ما غلظ من الساق والذراع، ويبدل من ميمه الباء، فيقال: خضبّة.
والمعنى: لولا رميات الدهر في مفاصلي ومجامع أعضائي، ومستغلظ عضدي وذراعي، لكان تأثيري، وبلائي في الحرب أكثر مما كان، ولشفعت تلك الظعنة ولم أدعها وترا. انتهى.
وقال أبو هلال العسكري: ويروى: «في أعاليّ»، يريد انحناء ظهره، وتشنّج جلده، واضطراب خلقه، وانحلال قواه.
و «الأوصال»: جمع وصل، بكسر الواو وسكون الصاد، وهو المفصل.
وقال ابن جني في «إعراب الحماسة» (2): الظرف الذي هو قوله في حظبّاي، متعلّق بنفس النبل، لما فيها من معنى الحدّة والنفوذ، كقول جرير (3): (الطويل)
تركت بنا لوحا ولو شئت جادنا ... بعيد الكرى ثلج بكرمان ناضح
علّق بعيد الكرى بثلج، لما فيه من معنى البرد. ولا يجوز أن يكون الظرف حالا من نبل، لأنّ أبا الحسن منع اشتغال الحال مع لولا، لأنّها ضرب من الخبر، والخبر هنا محذوف البتة.
ويجوز أن يكون خبر مبتدأ محذوف، أي: هي في حظبّاي، فيكون حظبّاي متعلقا بمحذوف.
__________
(1) الشريان بفتح الشين وكسرها.
(2) إعراب الحماسة الورقة 92.
(3) هو الإنشاد السادس والسبعون بعد السبعمائة في شرح أبيات المغني للبغدادي.
والبيت لجرير في ديوانه ص 266وشرح أبيات المغني للبغدادي 7/ 153وشرح شواهد المغني ص 890. وهو بلا نسبة في تخليص الشواهد ص 166ومغني اللبيب ص 531والمقرب ص 157.
(7/113)
وأمّا حظبّاي فإنّه معظم بدنه، وهو قول أحمد بن يحيى، وهو من قولهم: رجل حظب (1) للجافي الغليظ. وحظبّى فعلّى كالحذرّى والنّذرّى (2). وحظبّاتي بالتاء خطأ. انتهى.
وقوله: «لطاعنت صدور الخيل» إلخ، هذا جواب لولا. قال المرزوقي: أراد بالخيل الفرسان، أي: لولا ما قدّمت من العذر لدافعت بالطّعن أوائل الخيل طعنا لا تقصير فيه ولا قصور. وخصّ الأوائل منهم لتقدّمه. ويجوز أن يريد بالصّدور الرؤساء والأكابر. وهم يتبجّحون بمجاذبة الأشراف (3). ألا ترى قول الآخر (4):
(الكامل)
من عهد عاد كان معروفا لنا ... أسر الملوك وقتلها وقتالها
وكما استعملوا الصّدور في الأماثل والجلّة، استعملوا الأعجاز في الأراذل والسّفلة، وهذا كما قالوا: الرؤوس والأذناب، وكما قال (5): (البسيط)
* ومن يسوّي بأنف النّاقة الذّنبا *
ويقال: ألوت في الأمر آلو، أي: قصّرت. وجعل التّقصير للطّعن على المجاز.
انتهى.
قال ابن جنّي: لك في «طعنا» وجهان: إن شئت حملته على فعل آخر دلّ
__________
(1) يقال: حظب بفتح فكسر، وبضمتين مع تشديد الباء.
(2) كلمة: = والنذرى =. ساقطة من النسخة الشنقيطية. وفي إعراب الحماسة لابن جني: = الندرى =. بالدال المهملة. وفي اللسان (حظب): = قال ابن سيده: وعندي أن لها نظائر: بذرّى من البذر، وحذرّى من الحذر، وغلبّى من الغلبة =.
(3) في شرح الحماسة للمرزوقي: = بمجاذبة العلية =.
وفي طبعة بولاق: = بمجاربة =. وهو تصحيف صوابه من النسخة الشنقيطية، وشرح الحماسة للمرزوقي.
(4) البيت لبشامة بن حزن النهشلي في الحماسة برواية الجواليقي ص 121وشرح الحماسة للأعلم 1/ 294 وشرح الحماسة للتبريزي 1/ 208وشرح الحماسة للمرزوقي ص 396.
(5) عجز بيت للحطيئة وصدره:
* قوم هم الرّأس والأذناب غيرهم *
والبيت للحطيئة في ديوانه ص 17وأساس البلاغة (أنف) وتاج العروس (ذنب، كرب) وتهذيب اللغة 14/ 438، 15/ 284ولسان العرب (ذنب، أنف) ومقاييس اللغة 1/ 147.
(7/114)
عليه طاعنت، كأنه قال: طعنت طعنا. وإن شئت حملته على أنه مصدر محذوف الزيادة، أي: طاعنت طعنا (1) أو مطاعنة أو مطاعنا أو طيعانا على ما جاء في مصادر مثله.
والآلي: فاعل من ألوت، أي: فترت وقصّرت. وهذا من الأفعال التي لا تستعمل إلّا في غير الواجب، يقال: ما ألوت أفعل كذا، ولا يقال: قد ألوت في حاجتك ولا نحو ذلك. وهو في الفعل بمنزلة أحد وكريب وكتيع، ونحو ذلك.
ومثله (2): ما زلت ولن أزال، ومثله في أكثر الأقوال: ما رمت من موضعي، أي:
ما برحت. انتهى باختصار.
و «الفند»، بكسر الفاء وسكون النون. و «زمّان» بكسر الزاي المعجمة وتشديد الميم. وهو شاعر جاهلي، تقدّمت ترجمته في الشاهد الحادي والأربعين بعد المائتين (3).
* * * وأنشد بعده (4): (الرجز)
* هل رأيت الذّئب قطّ *
__________
(1) في طبعة بولاق والنسخة الشنقيطية: = طعنا =. وهو تصحيف صوبناه من طبعة هارون نقلا عن إعراب الحماسة.
(2) قوله: = ومثله: ما زلت ولن أزال، ومثله = ساقط من النسخة الشنقيطية.
(3) الخزانة الجزء الثالث ص 402.
(4) قطعة من رجز وتمامها:
* جاؤوا بمذق هل رأيت الذئب قط *
والرجز هو الإنشاد الثالث بعد الأربعمائة في شرح أبيات المغني للبغدادي.
والرجز للعجاج في ملحق ديوانه 2/ 304وتاج العروس (خضر) والدرر 6/ 10وشرح التصريح 2/ 112 والمقاصد النحوية 4/ 61. وهو بلا نسبة في أساس البلاغة (ضيح) والإنصاف 1/ 115وأوضح المسالك 3/ 310وتاج العروس (مذق) وشرح الأشموني 2/ 499وشرح أبيات المغني 5/ 5وشرح ابن عقيل ص 477وشرح عمدة الحافظ ص 541وشرح المفصل 3/ 52/ 53ولسان العرب (خضر، مذق) والمحتسب 2/ 165والمخصص 13/ 177ومغني اللبيب 1/ 246، 2/ 585وهمع الهوامع 2/ 117.
(7/115)
وقد تقدّم شرحه في الشاهد السادس والتسعين (1) على أنّ قطّ قد استعملت بدون النفي لفظا لا معنى.
أمّا الأوّل فلأنّها وقعت بعد هل الاستفهامية، والفعل مع الاستفهام غير منفي.
وأما الثاني فلأنّ المراد من الاستفهام النفي، أي: ما رأيت الذئب قطّ.
قال أبو حيان في «الارتشاف»: وقال ابن مالك: وربّما استعملت دون نفي لفظا ومعنى، أو لفظا لا معنى. واستدلّ على ذلك بما ورد في الحديث على عادته.
انتهى.
أراد حديث البخاري: «قصرنا الصّلاة في السّفر مع النبي صلّى الله عليه وسلّم أكثر ما كنّا قطّ».
قال الكرماني في «شرح البخاري»: فإن قلت: شرط قطّ أن تستعمل بعد النفي. قلت: أوّلا لا نسلّم ذلك، فقد قال المالكي (2): استعمال قطّ غير مسبوق بالنفي مما خفي على النّحاة، وقد جاء في الحديث بدونه، وله نظائر.
وثانيا: أنّه بمعنى أبدا على سبيل المجاز، وثالثا: يقال إنّه متعلق بمحذوف منفيّ، أي: وما كنّا أكثر من ذلك قطّ. ويجوز أن تكون «ما» نافية، والجملة: خبر المبتدأ، وأكثر منصوبا على أنّه خبر كان، والتقدير: ونحن ما كنّا قطّ أكثر منا في ذلك الوقت. وجاز إعمال ما بعدها فيما قبلها إذا كانت بمعنى ليس. انتهى.
وقال الغرناطي (3): الذي جوّزه مراعاة لفظة «ما»، في قوله: ما كنّا قطّ وإن كانت غير نافية. وقد تراعى الألفاظ دون المعاني. انتهى.
وإليه جنح ابن هشام في «المغني» قال: من إعطاء الشيء (4) حكم المشبّه به في لفظه دون معناه، قول بعض الصحابة: قصرنا الصلاة مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أكثر ما كنّا قطّ. فأوقع قطّ بعد ما المصدرية، كما تقع بعد ما النافية. انتهى.
__________
(1) الخزانة الجزء الثاني ص 95.
(2) كذا في طبعة بولاق والنسخة الشنقيطية. ولم نهتد لمعرفته. وفي حاشية طبعة هارون 7/ 125: = ولعله المالقي =.
(3) قوله: = وقال الغرناطي دون المعاني. انتهى =. ساقط من النسخة الشنقيطية.
(4) في طبعة بولاق: = من أعطى =. وهو تصحيف صوابه من النسخة الشنقيطية.
(7/116)
وقال الكرماني أيضا في حديث البخاري: «فصلّى بأطول قيام وركوع وسجود رأيته قطّ يفعله»، من حديث أبي موسى في باب الذكر في الكسوف: فإن قلت: في بعض النسخ: «رأيته» بدون كلمة «ما» فما وجهه؟ قلت: إمّا أنّ حرف النفي مقدّر قبل رأيته كما في قوله تعالى (1): {«تَفْتَؤُا تَذْكُرُ يُوسُفَ»}. وإمّا أنّ أطول فيه معنى عدم المساواة، أو قط بمعنى حسب، أي: صلّى في ذلك اليوم فحسب بأطول قيام رأيته يفعل، أو أنّه بمعنى أبدا. انتهى.
وقد استعملها الزمخشري في المستقبل، قال في تفسير قوله تعالى (2): {«فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ»}: إنّ ذلك الإخلاص الحادث عند الخوف لا يبقى لأحد قطّ، فأعمل فيه «لا يبقى»، وهو مضارع.
قال أبو حيان في «تفسيره» بعد نقله كثرة استعمال الزمخشري قطّ ظرفا والعامل فيه غير ماض: «وهو مخالف لكلام العرب». انتهى.
وقال الحريري في «درّة الغوّاص»: قولهم: لا أكلمه قطّ، هو من أفحش الخطأ، لتعارض معانيه، وتناقض الكلام فيه. وذلك أنّ العرب تستعمل لفظة قطّ فيما مضى من الزمان، كما تستعمل لفظة أبدا فيما يستقبل، فيقولون: ما كلّمته قطّ، ولا أكلّمه أبدا.
والمعنى في قولهم ما كلمته قطّ، أي: فيما انقطع من عمري، لأنّه من قططت الشيء (3)، إذا قطعته. ومنه قطّ القلم، أي: قطع طرفه. وفيما يؤثر من شجاعة علي رضي الله عنه، أنه كان إذا اعتلى قدّ، وإذا اعترض قطّ. فالقدّ: قطع الشيء طولا، والقطّ: قطعه عرضا. انتهى.
وتبعه ابن هشام في «المغني، والقواعد (4)»، قال: والعامّة تقول: لا أفعله قطّ. وهو لحن.
__________
(1) سورة يوسف: 12/ 85.
(2) سورة لقمان: 31/ 32.
(3) كلمة: = الشيء = ساقطة من النسخة الشنقيطية.
(4) في حاشية طبعة هارون 7/ 127: = هو كتاب الإعراب عن قواعد الإعراب، وقد طبع عدة مرات، منها نسخة بتحقيق رشيد عبد الرحمن عبيدي. ولصديقنا وتلميذنا الدكتور علي فودة بحث وتحقيق جيد في هذا الكتاب من المنتظر أن يرى النور قريبا =.
(7/117)
واعترض عليه ابن جماعة في «شرح القواعد» بأنه غير صحيح، وغايته استعمال اللفظ في غير ما وضع له، فيكون مجازا لا لحنا. وجعله من اللحن عجيب، إذ لا خلل في إعرابه. وليس بشيء لأنّ اللحن بمعنى مطلق الخطأ. وهم كثيرا ما يستعملونه بهذا المعنى.
فإن قلت: إذا استعمل العرب لفظا في محلّ مخصوص، كقطّ بعد نفي الماضي، وكافّة حالا منكّرة أو في معنى مخصوص، كالغزالة للشمس في أوّل النهار، فهل مخالفتهم في ذلك جائزة أم لا؟ وعلى تقدير الجواز هل يكون حقيقة أو مجازا؟
وعلى الثاني أجيب بأنّ الذي يظهر من كلامهم، وتخطئة من خالفهم أنه غير جائز. فإن قيل بجوازه فالظاهر أنه مجاز مرسل، من استعمال المقيّد في المطلق، إلّا أنّه لا يظهر في كافة ونحوها كالظروف التي لا تتصرّف، فإن معناها لم يتغيّر، وإنّما يتغير إعرابها، وإن وقع مثله في مكان التقصير. كذا في «شرح الدرة» لشيخنا الخفاجي.
وقول الشارح المحقّق: «وقطّ لا يستعمل إلّا بمعنى أبدا» ظاهره أنّ أبدا ظرف للماضي، ولم أره بهذا المعنى. الموجود في الصحاح والعباب والقاموس: الأبد:
الدهر، والأبد: الدائم. بل قال الرّمّاني كما في المصباح: الأبد: الدهر الطويل الذي ليس بمحدود. فإذا قلت: لا أكلّمه أبدا، فالأبد من لدن تكلّمت إلى آخر عمرك.
وقال أبو حيان في «الارتشاف»: وممّا يستعمل ظرفا في المستقبل أبدا. تقول:
ما أصحبك أبدا، ولا تقول ما صحبتك أبدا.
وجعله السّمين ظرفا مطلقا، قال: أبدا ظرف زمان يقع للقليل والكثير، ماضيا كان أو مستقبلا. تقول: ما فعلته أبدا.
وقال الراغب: هو عبارة عن مدّة الزمان الممتدّ الذي لا يتجزّأ كما يتجزّأ (1)
الزمان. وذلك أنّه يقال زمان كذا، ولا يقال أبد كذا. انتهى.
* * * __________
(1) في طبعة بولاق: = كما يجزأ =. ولقد أثبتنا رواية النسخة الشنقيطية.
(7/118)
وأنشد بعده، وهو الشاهد الموفي العشرين بعد الخمسمائة (1): (الطويل)
520 - ولولا دفاعي عن عفاق ومشهدي
هوت بعفاق عوض عنقاء مغرب
على أنّ «عوضا» المبني قد يستعمل للمضيّ ومع الإثبات لفظا. فإنّ هوت ماض مثبت، وهو عامل في عوض، لكنّه منفيّ معنى، لكونه جواب لولا. ومن المعلوم أنّ جوابها ينتفي لثبوت شرطها، نحو: لولا زيد لأكرمتك، فالإكرام منتف لوجود زيد.
وأمّا عوض في البيت المتقدّم في قوله: «ولولا نبل عوض»، فقد استعملت في الإثبات لخروجها عن الظرفيّة. ولهذا جرّت، وكان عاملها اسما.
وكذلك قال أبو حيان في «الارتشاف»: وربّما جاءت «عوض» للمضيّ بمعنى قطّ، قال (2): (الطويل)
* فلم أر عاما عوض أكثر هالكا *
وقال أبو زيد أيضا في «نوادره»: تقول: ما رأيت مثله عوض.
ومنه تعلم سقوط قول الجوهري في الصحاح: لا يجوز أن تقول عوض ما فارقتك.
وقد تبع صاحب الصحاح جماعة منهم الزمخشريّ، قال في «المفصّل»: وقطّ وعوض، وهما لزماني المضيّ والاستقبال على سبيل الاستغراق، ولا يستعملان إلّا في موضع النفي.
ومنهم صاحب اللباب، وعبارته عبارة المفصّل بعينها.
__________
(1) لم نجد الشاهد فيما عدنا إليه من مصادرنا القديمة.
والبغدادي يذكر أنه لم يرد هذا البيت إلا في هذا الشرح، كما سيأتي لا حقا.
(2) صدر بيت وعجزه:
* ووجه غلام يستزى وغلامه *
والبيت بلا نسبة في الدرر 3/ 132وشرح أبيات المغني 3/ 325وكتاب التصحيف ص 290ولسان العرب (عوض) وهمع الهوامع 1/ 213.
(7/119)
وهذا البيت لم أره إلّا في هذا الشرح، ولم أقف على قائله ولا على شعره.
من اسمه عفاق
و «عفاق»
بكسر العين المهملة بعدها فاء: اسم جماعة، منهم عفاق بن المسيح، بضم الميم وفتح السين المهملة وسكون المثناة التحتية، ابن بشر بن أسماء بن عوف بن رياح بن ربيعة بن غوث بن شمخ بن فزارة الفزاري. وكان عفاق على شرطة الخميس مع عليّ بن أبي طالب. وكانوا يعرضون يوم الخميس، أو يجمعون يوم الخميس.
والمشهور ممن اسمه عفاق هو «عفاق بن مريّ»
بضم الميم وفتح الراء وتشديد الياء ابن سلمة بن قشير القشيري. كان جاور باهلة في سنة قحط، فأخذه الأحدب بن عمرو بن جابر بن عمّار (1) بن عبد العزّى الباهلي، فشواه وأكله.
وله يقول الشاعر (2): (الرجز)
إنّ عفاقا أكلته باهله ... تمشّشوا عظامه وكاهله
* وتركوا أمّ عفاق ثاكله *
وعيّر الفرزدق كفّهم عن باهلة حين لم يثأروا به، فقال (3): (الطويل)
إذا عامر خصيي عفاق تقلّدت ... بأعناقها واللّؤم تحت العمائم
وقال غيره (4): (الوافر)
فلو كان البكاء يردّ شيئا ... بكيت على بجير أو عفاق
على المرأين إذ هلكا جميعا ... لشأنهما بشجو واشتياق
وهذا من شواهد النحويين، أورده أبو علي في «المسائل المنثورة» وقال:
«على المرأين» بدل من قوله: «على بجير».
__________
(1) في جمهرة أنساب العرب ص 130: = جابر بن عمارة بن عبد العزى =.
(2) الرجز بلا نسبة في تاج العروس (عفق) وجمهرة أنساب العرب ص 245وكتاب العين 1/ 175ولسان العرب (عفق).
(3) البيت للفرزدق في ديوانه ص 798.
(4) البيتان لمتمم بن نويرة في ديوانه ص 124والأزهية ص 116ولسان العرب (عفق). وهما بلا نسبة في أمالي المرتضى 2/ 58.
(7/120)
وأورده صاحب اللباب على أنّ أو بمعنى الواو، في قوله: «أو عفاق» ولولا أنها بمعنى الواو، لقيل على المرء. والمشهد: مصدر شهدت المجلس، أي: حضرته.
وهوت قال صاحب المصباح: هوى يهوي من باب ضرب أيضا هويّا بضم الهاء لا غير، إذا ارتفع.
قال الشاعر (1): (الكامل)
* يهوي مخارمها هويّ الأجدل *
و «هوت» العقاب تهوي هويّا بفتح الهاء وضمها: انقضّت على صيد، أو غيره ما لم ترغه، فإذا أراغته، قيل: أهوت له بالألف. والإراغة: ذهاب الصيد هكذا وهكذا وهي تتبعه. وهوى يهوي، من باب ضرب أيضا هويّا بضم الهاء وفتحها، وزاد ابن القوطية هواء بالمد: سقط من أعلى إلى أسفل. قاله أبو زيد وغيره.
قال الشاعر (2): (الوافر)
* هويّ الدّلو أسلمها الرّشاء *
وهوى يهوي: مات، أو سقط في مهواة من شرف، هويّا وهويّا، وهواء بالمد. والمهواة بالفتح: ما بين الجبلين، وقيل: الحفرة. والهوّة بالضم: الحفرة، وقيل: الوهدة العميقة. انتهى.
و «عنقاء»: مؤنّث أعنق، وهي الطويلة العنق.
__________
(1) عجز بيت لأبي كبير الهذلي وصدره:
* وإذا رميت به الفجاج رأيته *
والبيت لأبي كبير الهذلي في ديوان الهذليين 2/ 94وتاج العروس (خرم) ولسان العرب (خرم). وهو للهذلي في مقاييس اللغة 6/ 16. وهو بلا نسبة في أساس البلاغة (هوي).
(2) عجز بيت لزهير بن أبي سلمى وصدره:
* فشجّ بها الأماعز وهي تهوي *
والبيت لزهير بن أبي سلمى في ديوانه ص 60وأساس البلاغة (شجج) وتهذيب اللغة 6/ 491، 10/ 446 ولسان العرب (شجج، هوا) ومجمل اللغة 4/ 454. وهو بلا نسبة في تاج العروس (هوي) ولسان العرب (هوا).
(7/121)
قال الصاغاني في «العباب»: العنقاء: الداهية، يقال: حلّقت به عنقاء مغرب، وطارت به العنقاء. وأصل العنقاء طائر عظيم معروف الاسم، مجهول الجسم.
وقال أبو حاتم في «كتاب الطير»: وأمّا العنقاء المغربة فالداهية، وليست من الطير التي علمناها. يقال: ضربت عليه العنقاء المغربة، إذا أصابه بلاء.
وقال ابن دريد: عنقاء مغرب كلمة لا أصل لها، يقال: إنّها طائر عظيم لا يرى إلّا في الدّهور، ثم كثر، حتّى سمّوا الداهية عنقاء مغرب. قال (1): (الطويل)
ولولا سليمان الخليفة حلّقت ... به من يد الحجّاج عنقاء مغرب
اه.
و «مغرب»: اسم فاعل من أغرب الرجل في البلاد، إذا بعد فيها بإمعان، وهو وصف عنقاء. وإنما جاز لأنّه على النسبة، أي: ذات إغراب.
وقال الصاغاني في هذه المادة: وعنقاء مغرب بلا هاء. والعنقاء المغرب:
الدّاهية، وأصلها طائر معروف الاسم مجهول الجسم، ويقال لهذا الطائر بالفارسية «سيمرغ»، هكذا يكتبونه موصولا، والأصل أن يكتب: «سي مرغ» مفصولا، ومعناه ثلاثون طائرا. يقال: حلّقت به عنقاء مغرب (2)، وطارت به العنقاء المغرب.
أنشد أبو مالك (3): (الطويل)
وقالوا: الفتى ابن الأشعريّة حلّقت ... به المغرب العنقاء إن لم يسدّد
وقال: العنقاء المغرب في هذا البيت هي رأس الأكمة. وأنكر أن يكون طائرا.
والذي قال العنقاء المغرب طائر، قال: هي التي أغربت في البلاد فنأت، ولم تحسّ، ولم تر. وحذفت هاء التأنيث كما قالوا: لحية ناصل، وناقة ضامر، وامرأة عاشق، ذهبوا بها إلى النسب، أي: ذات نصول، وذات ضمر، وذات عشق. وأغرب في البلاد: أمعن فيها. وأغرب الرجل في منطقه، إذا لم يبق شيئا، إلّا تكلّم به.
__________
(1) البيت في شروح سقط الزند ص 553ولسان العرب (عنق).
(2) المثل مشهور وهو في الحيوان 7/ 121ولسان العرب (ملع) ومجمع الميداني 1/ 201. وفي شرحه إنما وصف هذا الطائر بالمغرب لبعده عن الناس.
(3) البيت بلا نسبة في تاج العروس (غرب) وتهذيب اللغة 8/ 116ولسان العرب (غرب).
(7/122)
وأغرب الفرس في جريه، وهو غاية الإكثار منه. وأغرب الرجل، إذا بالغ في الضّحك حتّى تبدو غروب أسنانه. انتهى.
وكذلك أجاب الزمخشري في «أمثاله» عن تذكير الوصف، قال: ومغرب كقولهم: لحية ناصل، وناقة ضامر، على مذهبي الخليل وسيبويه.
وبهذا يجاب ابن هشام في سؤاله عن صحّة الوصف بمغرب فإنّه قال في بعض تعليقاته: لينظر في عنقاء مغرب، لم ذكّر الوصف وعنقاء فعلاء، وفعلاء مؤنّث دائما.
ويسقط جواب عبد الله الدّنوشريّ بأنّه إنّما لم تطابق الصفة الموصوف في التأنيث اعتبارا بالمعنى، إذ هي بمعنى الطائر. ووجه السّقوط أنّ العنقاء أكثر استعمالها بمعنى الداهية، وهي مؤنثة لفظا ومعنى.
وقال ابن السيد «فيما كتبه على كامل المبرد»: ذكر الفارسي أنه يقال عنقاء مغرب، على الصفة وعلى الإضافة، حكاه في «التذكرة».
وقال غيره: من جعل مغربا صفة لعنقاء، فهي التي لها إغراب (1) في الطّيران.
ويقال: مغربة، ذكره أبو حاتم وصاحب العين. ومن أضاف العنقاء إلى المغرب فالمغرب الرّجل الذي يأتي بالغرائب، يقال: أغرب الرّجل، إذا أتى بالغرائب.
انتهى.
فتأمّل معنى الإضافة.
وفي القاموس: والعنقاء المغرب بالضم، وعنقاء مغرب، ومغربة، ومغرب مضافة، طائر معروف الاسم لا الجسم، أو طائر عظيم يبعد في طيرانه، أو من الألفاظ الدالة على غير معنى، والداهية، ورأس الأكمة. انتهى.
فالمغرب ومغرب وصف للعنقاء، وعنقاء، تعريفا وتنكيرا، بالتأويل المذكور.
ومغربة وصف لعنقاء منكّرا، والوصف مطابق. وأمّا عنقاء مغرب بإضافة عنقاء إلى مغرب، فالظاهر أنه من إضافة الموصوف إلى الصفة. وينبغي أن يكون هذا بفتح الميم، فإنّه نقل صاحب «حياة الحيوان» عن بعضهم أنّ العنقاء طائر عند مغرب
__________
(1) في طبعة بولاق والنسخة الشنقيطية: = غرب =. وهو تصحيف صوابه من طبعة هارون 7/ 134. والإغراب مصدر للفعل أغرب.
(7/123)
الشمس أبيض، له بيض كالجبال. وعلى هذا لا إشكال، وتكون الإضافة من قبيل شهيد كربلاء.
وأما قوله: «من الألفاظ الدالة على غير معنى»، وهي عبارة الدميري أيضا، فقد عسر فهمه على بعض الفضلاء، لأنّ الجمع بين قوله «الدالة» وقوله على «غير معنى»، كالجمع بين الضبّ والنّون. فلو قال من الألفاظ التي لا معنى لها كان واضحا.
وأجيب بأنّ في عبارته صفة محذوفة، أي: على غير معنى خارجيّ. وقال الزمخشري في «أمثاله» عند قولهم: «طارت به عنقاء مغرب»: زعموا أنّها طائر كان على عهد حنظلة بن صفوان الحميريّ، نبيّ أهل الرّسّ، عظيم العنق.
وقيل: كان في عنقه بياض، ولذلك سمّي عنقاء. وكان أحسن طائر خلقه الله، فاختطف غلاما فأغرب به، ولذلك سمّي المغرب، فدعا عليه حنظلة فرمي بصاعقة.
انتهى.
وقال الدّميري في «حياة الحيوان»: هو طائر غريب تبيض بيضا كالجبال، وتبعد في طيرانها، سمّيت بذلك لأنّه كان في عنقها بياض كالطّوق.
وقال القزويني: إنّه أعظم الطّير جثّة، وأكبرها خلقة، تخطف الفيل كما تخطف الحدأة الفأر، وكانت قديما بين الناس فتأذّوا منها إلى أن سلبت يوما عروسا بحليها، فدعا عليها حنظلة النبيّ، فذهب الله بها إلى بعض جزائر البحر المحيط، وراء خط الاستواء، وهي جزيرة لا يصل إليها الناس، وفيها حيوان كثير كالفيل والكركند (1)
والجاموس والببر والسّباع، وجوارح الطير.
وعند طيرانها يسمع لأجنحتها دويّ، كدويّ الرعد القاصف والسّيل، وتعيش ألفي سنة، وتزاوج إذا مضى لها خمسمائة عام.
وقال العكبري في «شرح المقامات»: كان لأهل الرّسّ جبل شامخ (2)، فيه طيور
__________
(1) كذا في طبعة بولاق والنسخة الشنقيطية وحياة الحيوان 2/ 229نقلا عن القزويني. وصححها العلامة الشنقيطية في نسخته برسم: = الكركدن =. وفي لسان العرب (كركدن): = ابن الأعرابي: الكركدّن: دابة عظيمة الخلق يقال إنها تحمل الفيل على قرنها، ثقّل الدال من الكركدن =.
(2) في حياة الحيوان للدميري: = جبل شامخ يقال له: مخ، صاعد في السماء قدر ميل =.
(7/124)
شتّى منها العنقاء، وهي طائر عظيم الخلق، طويل العنق، ووجهه وجه إنسان، من أحسن الطير شكلا. وكانت تأكل الطّير، فجاءت مرّة فأخذت صبيّا ثم جارية، فاشتكوها لنبيّهم حنظلة بن صفوان، فدعا عليها حنظلة فذهبت وانقطع نسلها.
وقيل أصابتها صاعقة فاحترقت.
وكان حنظلة في زمن الفترة بين عيسى ومحمد صلّى الله عليه وسلّم (1) وسمّيت العنقاء لطول عنقها.
وقيل: إنّها كانت في زمن موسى. وقيل: إنّ النبيّ الذي دعا عليها خالد بن سنان. وفي المثل: «كالعنقاء تسمع بها ولا ترى»، كالغول. والمراد عدم رؤيتها بعد الانقراض المذكور.
وسمّيت مغربا بزنة اسم الفاعل من أغرب، لأنّها كانت تجيء بالغرائب. وقد وقع استعمالها في هذا المثل بدون الوصف، ومنه يعلم جواز استعمالها بدون الوصف.
كقول الشاعر: (الكامل)
لمّا رأيت بني الزّمان وما بهم ... خلّ وفيّ للشّدائد أصطفي
فعلمت أنّ المستحيل ثلاثة: ... الغول والعنقاء والخلّ الوفي
وكان القاضي الفاضل ينشد كثيرا: (الكامل)
وإذا السّعادة أحرستك عيونها ... نم فالمخاوف كلّهنّ أمان
واصطد بها العنقاء فهي حبالة ... واقتد بها الجوزاء فهي عنان
وقال غيره (2): (البسيط)
الخلّ والغول والعنقاء ثالثة ... أسماء أشياء لم توجد ولم تكن
__________
(1) هنا ينتهي النقل من شرح المقامات للعكبري.
وبعده في حياة الحيوان: = وذكر غيره أن الجبل يقال له: فتح. وسميت عنقاء لطول عنقها =.
ويقول صاحب طبعة هارون 7/ 136: = ويبدو أن البغدادي ينقل هنا عن شرح العكبري للمقامات غير متقيد بنقل الدميري عنه =.
(2) في طبعة بولاق والنسخة الشنقيطية: = الجود والغول =. وفي كتاب حياة الحيوان (العنقاء): = الجود والعنقاء ثالثة. وفي حياة الحيوان رسم (الغول): = الغول والخل والعنقاء =. ولقد أثبتنا رواية وتصحيح طبعة هارون 7/ 137.
(7/125)
وبه يضمحلّ قول بعضهم: إنّ هذا الشعر ليس بتركيب صحيح، لعدم وصف العنقاء.
وقال: ظاهر كلامهم انحصار الاستعمال فيما ذكر، فلا يقال العنقاء بلا وصف، ولا يوصف بغير ما ذكر، ولا يقال أيضا عنقاء منكّرا بلا وصف. هذا كلامه.
ولا يخفى أنّ الوصف ليس بلازم، عرّفت، أو نكّرت. وأما عدم الوصف بغير الإغراب، فلأنّها لا يعلم من حالها غير هذا، لكونها مجهولة عند الناس. ولو عرف شيء من أحوالها غير الإغراب، لوصفت به. والله أعلم.
وذكر الدّميريّ أنّ العقاب تسمّى عنقاء مغرب، لأنّها تأتي من مكان بعيد.
وبهذا فسرّ قول أبي العلاء المعريّ (1): (الوافر)
أرى العنقاء تكبر أن تصادا ... فعاند من تطيق له عنادا
* * * وأنشد بعده، وهو الشاهد الحادي والعشرون بعد الخمسمائة (2): (الطويل)
521 - رضيعي لبان ثدي أمّ تقاسما
بأسحم داج عوض لا نتفرّق
على أنّ أكثر ما تستعمل (3) «عوض» مع القسم، أي: تكون من متعلّقات
__________
(1) البيت لأبي العلاء المعري في شروح سقط الزند ص 553.
(2) هو الإنشاد الثالث والأربعون بعد المائتين في شرح أبيات المغني للبغدادي.
والبيت للأعشى في ديوانه ص 275وأدب الكاتب ص 407وإصلاح المنطق ص 297والأغاني 9/ 111 وجمهرة اللغة ص 905والخصائص 1/ 265والدرر 3/ 133وشرح أبيات المغني 3/ 324وشرح شواهد المغني 1/ 303وشرح المفصل 4/ 107والصاحبي في فقه اللغة ص 156ولسان العرب (عوض، سحم، لبن) ومغني اللبيب 1/ 150. وهو بلا نسبة في الاشتقاق ص 240والإنصاف 1/ 401وتاج العروس (عوض، سحم) وهمع الهوامع 1/ 213.
(3) في طبعة بولاق والنسخة الشنقيطية: = ما يستعمل =. والتصويب من طبعة هارون 7/ 138.
(7/126)
جواب القسم، فعوض متعلّق بنتفرّق، أي: لا نتفرّق أبدا.
فإن قلت: لا النافية مع جواب القسم لها الصّدر، تمنع من عمل ما بعدها فيما قبلها، فكيف تعلّق عوض بما بعد لا الواقع جوابا لتقاسما؟
قلت: أجازه ابن هشام في آخر النوع الثاني عشر من الجهة السادسة من الباب الخامس من «المغني»: قال: وأمّا قوله تعالى (1): {«وَيَقُولُ الْإِنْسََانُ أَإِذََا مََا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا»} فإنّ (2) «إذا» ظرف لأخرج، وإنّما جاز تقديم الظرف على لام القسم لتوسّعهم في الظروف.
ومنه قوله: «عوض لا نتفرّق»، أي: لا نتفرّق أبدا. ولا النافية لها الصّدر في جواب القسم. انتهى.
وظاهر كلام الشارح هنا جوازه، لكنّه شرط عند الكلام على حروف القسم من حروف الجر لجواز تقدّمه، أن تكون الجملة القسمية (3) ولأجل إفادة عوض فائدة القسم قد يقدّم على عامله قائما مقام الجملة القسمية، وإن كان عامله مقترنا بحرف يمنع عمله فيما تقدّمه، كنون التوكيد، وما. يقال: عوض لآتينك (4) لغرض سدّه مسدّ القسم (5). هذا كلامه.
واعترض الدماميني كلام ابن هشام بأنه نصّ في فصل إذا، على أنّ التوسع في الظرف بالتقديم في مثل قوله (6): (الرجز)
* ونحن عن فضلك ما استغنينا *
__________
(1) سورة مريم: 19/ 66.
(2) في طبعة بولاق والنسخة الشنقيطية: = إن =. والتصويب من شرح المغني.
(3) قوله: = ولأجل إفادة عوض مقام الجملة القسمية =. ساقط من النسخة الشنقيطية.
(4) في شرح الرضي 2/ 317: = فيقال عوض لآتينك وعوض ما آتيك =.
(5) وكذا أيضا في شرح الرضي. وفي النسخة الشنقيطية: = العرض سدّه مسد القسم =.
(6) الرجز هو الإنشاد الخامس والثلاثون بعد المائة في شرح أبيات المغني للبغدادي.
والرجز لعبد الله بن رواحة في ديوانه ص 107وشرح أبيات سيبويه 2/ 322والكتاب 3/ 511وله أو لعامر ابن الأكوع في الدرر 5/ 148وشرح أبيات المغني 2/ 250وشرح شواهد المغني 1/ 286، 287. وهو بلا نسبة في الأشباه والنظائر 2/ 234وتخليص الشواهد ص 130ومغني اللبيب 1/ 98، 269، 317، 2/ 339، 539، 694والمقتضب 3/ 13وهمع الهوامع 2/ 78.
(7/127)
خاصّ بالشعر، فكيف ساغ له تخريج الآية على ذلك؟
وقال ابن هشام في الكلام على عوض: قيل إنّها ظرف لنتفرّق. واستشكله الدماميني هناك بأنّ «لا» مانعة من العمل. ثم نقل كلام الشارح المحقق في حروف القسم، وقال: فيمكن أن يكون «لا نتفرّق» جواب قسم محذوف، و «عوض» سدّ مسده. لكنه خلاف الظاهر، لأنّ جملة القسم مذكورة. وأجاز التعلّق ابن يعيش في «شرح المفصل» من غير شرط، قال: أكثر استعمال عوض في القسم، تقول:
عوض لا أفارقك، أي: لا أفارقك أبدا، وقوله: عوض لا نتفرّق، أي: لا نتفرق أبدا. انتهى.
وكذلك أجازه ابن جنّي وشارح اللباب وغيره. وهو الصحيح، ويؤيّده قول الكرماني في «شرح أبيات الموشح»: اعلم أنه إذا كان معمول جواب القسم ظرفا، أو جارّا ومجرورا، جاز تقديمه عليه، كقوله: عوض لا نتفرق. وإلّا فلا يجوز في:
والله لأضربنّ زيدا، أن يقال: والله زيدا لأضربنّ.
وجعل الشارح المحقق «عوض» ظرفا في نحو: البيت هو الصحيح. وزعم بعضهم أنّ عوض فيه اسم صنم، قسم، وجملة «لا نتفرق» جوابه.
قال ابن هشام في «المغني»: واختلف في قول الأعشى:
رضيعي لبان ثدي أمّ ... البيت
فقيل ظرف لنتفرق. وقال ابن الكلبي: قسم، وهو اسم صنم كان لبكر بن وائل، بدليل قوله (1): (الوافر)
حلفت بمائرات حول عوض ... وأنصاب تركن لدى السّعير
و «السّعير»: اسم صنم كان لعنزة. انتهى.
ولو كان كما زعم لم يتّجه بناؤه في البيت. انتهى كلام ابن هشام.
ووجهه أنّ الشاعر حلف بالدماء المائرات، أي: الجاريات على وجه الأرض حول
__________
(1) هو الإنشاد الرابع والأربعون بعد المائتين في شرح أبيات المغني للبغدادي.
والبيت لرشيد بن رميض في شرح أبيات المغني 3/ 330ولسان العرب (سعر، دور، عوض). وهو بلا نسبة في شرح شواهد المغني 1/ 442ومغني اللبيب 1/ 151.
(7/128)
عوض. ومن عادة المشركين كانوا يذبحون ذبائح لأصنامهم، فلولا أنّ عوضا صنم لما ذبح له شيء، ولما حلف بالدماء التي حوله تعظيما له. ويدلّ أيضا على كونه صنما ذكره مع السّعير، وهو بالتصغير كما في القاموس وغيره، خلافا لما يوهمه كلام الصحاح.
والبيت قاله رشيد بن رميض، بالتصغير فيهما، العنزي. كذا في العباب للصاغاني. وزاد بعده (1):
أجوب الأرض دهرا إثر عمرو ... ولا يلقى بساحته بعيري
وقال: البيت مساند.
وما نقله ابن هشام عن ابن الكلبي مسطور كذلك في الصحاح في عوض. وقد راجعت كتاب الأصنام لابن الكلبي، وهو أبو المنذر هشام بن محمد بن السائب الكلبي، فلم أر فيه ذكر عوض، ولا ذكر صنما لبكر بن وائل، مع أنّه ذكر أصنام القبائل وسبب عبادتها، وكيف أزالها النبيّ صلّى الله عليه وسلّم وهو كتاب جيّد في بابه، جمع فيه فأوعى.
وكذا لم أر له ذكرا في «كتاب أيمان العرب» تأليف أبي إسحاق إبراهيم (2) بن عبد الله النّجيرمي، جمع فيه ألفاظ أيمانهم بأصنامهم وغيرها. وهو أيضا كتاب لعباداتهم (3) جيّد في بابه.
والمذكور في كتاب الأصنام إنّما هو السّعير وحده لا مع عوض، قال وكان لعنزة صنم يقال له: سعير، فخرج ابن أبي حلاس (4) الكلبي على ناقته، فمرّت به،
__________
(1) البيت لرشيد بن رميض في شرح أبيات المغني 3/ 331.
(2) في طبعة بولاق: = ابن اسحاق بن إبراهيم =. وفي النسخة الشنقيطية: = ابن إسحاق إبراهيم =. وهو تصحيف. وهو أبو إسحاق إبراهيم بن عبد الله، كان معاصرا لكافور الإخشيدي، وله معه قصة مشهورة.
ونسبته إلى النجيرم، بفتح النون والجيم، أو بفتحها وكسر الجيم، مع فتح الراء فيهما، وهي بليدة مشهورة دون سيراف مما يلي مدينة البصرة. وكتابه = أيمان العرب = مطبوع في مصر بتحقيق محب الدين الخطيب سنة 1343 هـ.
(3) في طبعة بولاق: = لمعابراتهم =. وفي النسخة الشنقيطية: = لعباراتهم =. والوجه ما أثبتناه نقلا عن طبعة هارون.
(4) في كتاب الأصنام ص 41: = فخرج جعفر بن أبي خلاس =. وفي معجم البلدان (سعير): = وكان لعنترة
(7/129)
وقد عترت عنده عنزة (1) فنفرت ناقته منه فأنشد يقول (2): (الكامل)
نفرت قلوصي من عتائر صرّعت ... حول السّعير تزوره ابنا يقدم
وجموع يذكر مهطعين جنابه ... ما إن يحير إليهم بتكلّم
قال أبو المنذر: «يقدم ويذكر» ابنا عنزة. فرأى بني هؤلاء يطوفون حول السّعير. انتهى.
وذكر ابن السيد في «شرح أبيات أدب الكاتب، وفي أبيات الجمل» وتبعه اللخمي وغيره كالصاغاني، أنّ عوضا كان صنما لبكر بن وائل. ولم يسنده إلى أحد، وقال: أصله أن يكون ظرفا، ثم كثر حتّى أجروه مجرى ما يقسم به وأحلّوه محلّه.
وقال الصاغاني: قال الليث: عوض كلمة تجري مجرى القسم، وبعض الناس يقول: هو الدهر والزمان.
يقول الرجل لصاحبه: عوض لا يكون ذاك أبدا. فلو كان عوض اسما للزمان لجرى بالتنوين، ولكنّه حرف يراد به القسم، كما أنّ أجل ونعم ونحوهما مما لم يتمكّن في التصريف حمل على غير الإعراب. انتهى.
والقول بأنه حرف لا اسم واه جدا. وقول ابن هشام لم يتّجه بناؤه في البيت، يريد أنه فيه مبنيّ على الضم بناء الظروف المقطوعة عن الإضافة. ولو كان اسما للصنم كما زعم لأعرب كما أعرب في قوله:
* حلفت بمائرات حول عوض *
وكان الواجب حينئذ [إما] جرّه بواو القسم، [أو نصبه بحذفها، بالتنوين فيهما،] (3) لأنه عند هذا القائل مقسم به. وجملة: «لا نتفرق» جوابه، والإعراب
__________
صنم يقال له سعير، فخرج جعفر بن خلاس الكلبي على ناقته =.
(1) في كتاب الأصنام: = وقد عثرت عنزة عنده =. وفي معجم البلدان: = وقد عترت عتيرة عنده فنفرت ناقته =.
وفي النسخة الشنقيطية مع أثر تصحيح: = وقد عثرت عنده عتيرة =. وما أثبتناه من طبعة بولاق، وهو يوافق النص وكتاب الأصنام.
(2) البيتان لجعفر بن خلاس الكلبي في كتاب الأصنام ص 41ومعجم البلدان (سعير).
(3) النص في شرح أبيات المغني 3/ 326. والزيادات منه.
(7/130)
منتف، فينتفي كونه اسما، ويثبت (1) ظرفيّته للجواب، والجواب إنما هو لتقاسما.
قال ابن جنّي في «إعراب الحماسة»: روي قول الأعشى «عوض لا نتفرق» بالفتح والضم، أي: لا نتفرق أبدا. وذهب الكوفيون إلى أنّ «عوض» ها هنا قسم، وأنّ «لا نتفرق» إنما هو جوابه. وليس الأمر عندنا كذلك، وإنما قوله لا نتفرق جواب تقاسما، كقوله تعالى (2): {«تَقََاسَمُوا بِاللََّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ»}. أي: تحالفا على ذلك. انتهى.
وكذلك قال العسكري في «كتاب التصحيف»: إنه ظرف، قال قرأت على أبي بكر بن دريد: (الطويل)
فلم أر عاما عوض أكثر هالكا ... ووجه غلام يسترى وغلامه (3)
«عوض»: اسم معرفة، وهو اسم للدهر، يضم ويفتح. والبصريون يقولونه بالضم. ومثله قول الأعشى: «عوض لا نتفرق» البيت، أي: لا نتفرق الدّهر (4).
وبما ذكرنا من وجوب إعرابه يعرف ضعف الوجوه الثلاثة التي قالها ابن السيّد في «شرح أبيات أدب الكاتب، وأبيات الجمل». وتبعه اللّخمي، قال: من جعل عوض اسم صنم جاز في إعرابه ثلاثة أوجه:
أحدها: أن يكون مبتدأ محذوف الخبر، كأنه قال: عوض قسمنا الذي نقسم به.
وجاز أن يكون في موضع نصب على أن تقدّر فيه حرف الجر وتحذفه، كقولك:
يمين الله لأفعلنّ.
ويجوز أن يكون في موضع خفض على إضمار حرف القسم. وهو أضعف الوجوه. ومن اعتقد هذا لزمه أن يجعل الباء في قوله بأسحم بمعنى في. انتهى.
__________
(1) في النسخة الشنقيطية: = وتثبت =. ووضعت نقطتان فوق التاء، ونقطتين تحتها، لتقرأ بالتاء والياء معا.
(2) سورة النمل: 27/ 49.
(3) في طبعة بولاق والنسخة الشنقيطية: = يشترى =. وهو تصحيف سبق لنا أن خرجنا البيت وصوبنا التصحيف.
(4) كتاب التصحيف ص 290.
(7/131)
وهذا البيت من قصيدة للأعشى ميمون (1) تقدّم أبيات من أوّلها في الشاهد الرابع بعد المائتين (2) من باب الحال، وتقدّم أيضا بعضها من أوّلها في الشاهد السابع والثمانين بعد الثلثمائة (3) من باب الضمير.
وهذه أبيات مما يليها، وهو أوّل المديح (4):
لعمري لقد لاحت عيون كثيرة ... إلى ضوء نار في يفاع تحرّق (5)
تشبّ لمقرورين يصطليانها ... وبات على النّار النّدى والمحلّق (6)
رضيعي لبان ثدي أمّ تقاسما ... بأسحم داج عوض لا نتفرّق
ترى الجود يجري ظاهرا فوق وجهه ... كما زان متن الهندوانيّ رونق
يداه يدا صدق فكفّ مبيدة ... وكفّ إذا ما ضنّ بالمال تنفق (7)
وأمّا إذا ما المحل سرّح مالهم ... ولاح لهم وجه العشيّات سملق (8)
نفى الذّمّ عن آل المحلّق جفنة ... كجابية الشّيخ العراقيّ تفهق (9)
ترى القوم فيها شارعين ودونهم ... من القوم ولدان من النّسل دردق (10)
__________
(1) في النسخة الشنقيطية: = لأعشى ميمون =. والأعشى لقب لقّب به.
(2) الخزانة الجزء الثالث ص 238237.
(3) الخزانة الجزء الخامس ص 288.
(4) الأبيات من قصيدة مطولة يمدح فيها المحلق بن حنتم بن شداد بن ربيعة في ديوانه ص 275273.
(5) البيت للأعشى في أساس البلاغة (لوح) وتاج العروس (لوح، عوض) وتهذيب اللغة 5/ 249وشرح أبيات المغني 3/ 327ولسان العرب (لوح).
(6) هو الإنشاد التاسع والثلاثون بعد المائة في شرح أبيات المغني للبغدادي.
والبيت للأعشى في الأغاني 9/ 111وشرح أبيات المغني 2/ 277وشرح شواهد المغني 1/ 303ولسان العرب (حلق). وهو بلا نسبة في شرح شواهد المغني 1/ 416ومغني اللبيب 1/ 101، 143.
(7) البيت للأعشى في لسان العرب (كفف).
(8) في حاشية طبعة هارون 7/ 145: = لم يرد هنا ولا في ديوان الأعشى بيت يكون فيه جواب = أما = صريحا.
وجوابها مفهوم من سياق الشعر بعده، أي فإنه يكون بادي الكرم، أو نحو ذلك =.
(9) البيت للأعشى في تاج العروس (فهق، جبى) وتهذيب اللغة 5/ 404ولسان العرب (حلق، فهق، جبى) ومجمل اللغة 4/ 67ومقاييس اللغة 1/ 503، 456. وهو بلا نسبة في المخصص 10/ 50.
(10) البيت بلا نسبة في تاج العروس (درق).
(7/132)
يروح فتى صدق ويغدو عليهم ... بملء جفان من سديف تدفّق
وبقي بعد هذا أكثر من ثلاثين بيتا (1).
روى شارح ديوانه محمد بن حبيب، وصاحب الأغاني (2)، والرياشي وغيرهم:
أنّ الأعشى كان يوافي سوق عكاظ في كلّ سنة، وكان المحلّق الممدوح واسمه عبد العزّى بن حنتم بن شدّاد، من بني عامر بن صعصعة، مئناثا مملقا، فقالت له امرأته (3): يا أبا كلاب، ما يمنعك من التعرّض لهذا الشاعر فما رأيت أحدا مدحه إلّا رفعه، ولا هجا أحدا إلّا وضعه، وهو رجل مفوّه مجدود الشعر، وأنت رجل كما علمت خامل الذكر، ذو بنات، فإن سبقت الناس إليه فدعوته إلى الضيافة رجوت لك حسن العاقبة.
قال: ويحك ما عندنا إلّا ناقة نعيش بها. قالت: إنّ الله يخلفها عليك. قال:
لابدّ له من شراب. قالت: إنّ عندي ذخيرة لي، ولعلّي أجمعها، فتلقّه قبل أن تسبق إليه.
ففعل وخرج إلى الأعشى. فوجد ابنه يقود ناقته، فأخذ زمامها منه، فقال الأعشى: من هذا الذي غلبنا على خطام ناقتنا؟ قيل: المحلّق. قال: شريف كريم.
وقال لابنه: خلّه يقتادها. فاقتادها إلى منزله، فنحر له ناقته، وكشف له عن سنامها وكبدها (4)، ووجد امرأته قد خبزت خبزا، وأخرجت نحي سمن، وجاءت بوطب لبن، فلما أكل الأعشى وأصحابه، وكان في عصابة قيسيّة، قدّم إليه الشراب، واشتوى له من كبد الناقة، وأطعمه من أطايبها، فلما أخذه الشراب سأله عن حاله وعياله، فعرف البؤس في كلامه، وأحاطت به بناته يغمزنه ويمسحنه، فقال: ما هذه الجواري حولي؟ قال: بنات أخيك، وهنّ ثمان (5).
__________
(1) في حاشية طبعة هارون 7/ 145: = يعني بعد ما ذكره في الخزانة من قبل وبعد ما ذكره هنا والقصيدة عدة أبياتها اثنان وستون بيتا =.
(2) الأغاني 9/ 115.
(3) في الأغاني: = فأقبلت عمة المحلق فقالت: يا ابن أخي =.
(4) في الأغاني: = وكشط له عن سنامها وكبدها =.
(5) في طبعة بولاق: = وهي ثمان =. وما أثبتناها من النسخة الشنقيطية مع أثر تصحيح والأغاني. وبعدها في الأغاني: = ثمان شريدتهن قليلة =.
(7/133)
قال: أما والله لئن بقيت لهنّ لا أدع شريدتهنّ قليلة (1). وخرج، ولم يقل فيه شيئا. ووافى المحلّق عكاظ، فإذا هو بسرحة، قد اجتمع الناس عليها، وإذا الأعشى يقول:
لعمرى لقد لاحت عيون كثيرة *
إلى آخر القصيدة. فسلّم عليه المحلّق، فقال: مرحبا بسيّد قومه: ونادى: يا معاشر العرب، هل فيكم مذكار يزوّج ابنه ببنات هذا الشريف الكريم؟ فما قام من مقعدة حتّى خطبت بناته جميعا.
وقوله: «لعمري لقد لاحت» إلخ، اللام لام ابتداء تفيد التأكيد، وعمري:
مبتدأ، وحذف خبره وجوبا، أي: عمري قسمي. ومعنى لاحت: نظرت، وتشوّفت إلى هذه النار.
حكى الفراء لحت الشيء، إذا أبصرته. وأنشد: (المتقارب)
وأحمر من ضرب دار الملوك ... تلوح على وجهه جعفرا (2)
كذا في «شرح أبيات الجمل لابن السيّد». و «اليفاع»، بالفتح: الموضع العالي. وجعل النار في يفاع لأنه أشهر لها، لأنّها إذا كانت في اليفاع أصابتها الرياح فاشتعلت. وهذه النار نار الضّيافة، كانوا يوقدونها على الأماكن المرتفعة لتكون أشهر، وربّما يوقدونها بالمندليّ الرّطب وهو عطر ينسب إلى مندل، وهو بلد من بلاد الهند ونحوه ممّا يتبخّر به ليهتدي إليها العميان. وأشعارهم ناطقة بذلك.
نيران العرب
ونيران العرب على ما في «[كتاب] الأوائل» لإسماعيل الموصلي (3) اثنتا عشرة نارا:
__________
(1) في طبعة بولاق: = لأدع شريدهن قليلة =. وفي النسخة الشنقيطية: = لأدع شريدتهن قليلة =. والوجه ما أثبتناه.
(2) في حاشية طبعة هارون 7/ 147: = رواية السيوطي عن ابن بري في الأشباه والنظائر 4/ 87: = وأصفر =. ثم ساق تخريج ابن بري لروايتي = تلوح = و = يلوح = أيضا. وقد نقل الرواية وتخريج ابن بري صاحب التاج في (لوح) عن السيوطي =.
(3) هو إسماعيل بن إبراهيم الموصلي المتوفى سنة 639هـ شرف الدين: فقيه حنفي أصله من الموصل، وسكنه ووفاته بدمشق. الأعلام 1/ 301. وخبر نيران العرب في شرح أبيات المغني للبغدادي 2/ 279.
(7/134)
«إحداها»: هذه، وهي نار القرى، وهي نار توقد لاستدلال الأضياف بها على المنزل. وأوّل من أوقد النار بالمزدلفة حتّى يراها من دفع من عرفة قصيّ بن كلاب.
«الثانية»: نار الاستمطار، كانت العرب في الجاهلية الأولى إذا احتبس عنهم المطر يجمعون البقر، ويعقدون في أذنابها وعراقيبها السّلع والعشر (1)، ويصعدون بها في الجبل الوعر، ويشعلون فيها النار. ويزعمون أنّ ذلك من أسباب المطر.
«الثالثة»: نار التحالف، كانوا إذا أرادوا الحلف أوقدوا نارا وعقدوا حلفهم عندها، ودعوا بالحرمان والمنع من خيرها على من ينقض العهد، ويحلّ العقد.
«الرابعة»: نار الطّرد، كانوا يوقدونها خلف من يمضي، ولا يشتهون رجوعه.
«الخامسة»: نار الأهبة للحرب، كانوا إذا أرادوا حربا، وتوقّعوا جيشا، أوقدوا نارا على جبلهم ليبلغ الخبر فيأتونهم.
«السادسة»: نار الصّيد، وهي نار توقد للظّباء لتعشى إذا نظرت [إليها].
ويطلب بها أيضا بيض النعام.
«السابعة»: نار الأسد، وهي نار يوقدونها إذا خافوه. وهو إذا رأى النار استهالها، فشغلته عن السّابلة. وقال بعضهم: إذا رأى الأسد النار حدث له فكر يصدّه عن إرادته. والضّفدع إذا رأى النار، تحيّر وترك النقيق.
«الثامنة»: نار السّليم، توقد للملدوغ إذا سهر، وللمجروح إذا نزف، وللمضروب بالسّياط، ولمن عضّه الكلب الكلب، لئلّا يناموا فيشتدّ بهم الأمر، ويؤدّي إلى الهلاك.
«التاسعة»: نار الفداء، وذلك أنّ الملوك إذا سبوا القبيلة خرجت إليهم السّادة للفداء. فكرهوا أن يعرضوا النساء نهارا فيفتضحن، وفي الظّلمة يخفى قدر ما يحبسون (2) لأنفسهم من الصفيّ (3)، فيوقدون النار ليعرضن.
__________
(1) السلع والعشر: ضربان من الشجر.
(2) في النسخة الشنقيطية: = قد ما يحبسون =.
(3) الصفي: ما يصطفيه الرئيس لنفسه من المغنم، والمراد هنا ما يختار من السبايا. ومنه حديث عائشة: = كانت
(7/135)
«العاشرة»: نار الوسم. قرّب بعض اللصوص إبلا للبيع، فقيل له: ما نارك (1)؟
وكان أغار عليها من كلّ وجه. وإنّما سئل عن ذلك لأنّهم يعرفون ميسم كلّ قوم، وكرم إبلهم من لؤمها.
فقال (2): (الرجز)
تسألني الباعة أين نارها ... إذا زعزعتها فسمت أبصارها
كلّ نجار إبل نجارها ... وكلّ نار العالمين نارها
«الحادية عشرة»: نار الحرّتين، كانت في بلاد عبس. فإذا كان الليل فهي نار تسطع، وفي النهار دخان يرتفع. وربما ندر منها عنق (3) فأحرق من مرّ بها. فحفر لها خالد بن سنان فدفنها، فكانت معجزة له.
«الثانية عشرة»: نار السّعالي، وهو شيء يقع للمتغرّب والمتقفّر. قال أبو المضراب (4) عبيد بن أيّوب: (الطويل)
ولله درّ الغول أيّ رفيقة ... لصاحب دوّ خائف متقفّر (5)
__________
صفية من الصفايا =، تعني صفية بنت حيي، كانت من غنيمة خيبر.
(1) في الحيوان 4/ 491: = قرب بعض اللصوص إبلا من الهواشة، وقد أغار عليها من كل جانب وجمعها من قبائل فقربها إلى بعض الأسواق فقال له بعض التجار: ما نارك؟ =.
(2) الرجز بلا نسبة في تاج العروس (نجر، نور، بيع) وتهذيب اللغة 11/ 41، 15/ 231والحيوان 4/ 492ولسان العرب (نجر، نور) ومجمع الأمثال 2/ 74ونهاية الأرب 1/ 112.
(3) في طبعة بولاق: = بدر منها عنق =. وهو تصحيف صوابه من النسخة الشنقيطية. وفي الحيوان 4/ 476: = وربما ندرت منها العنق =.
ندرت: ظهرت وبدت. والعنق: القطعة أو الطائفة، والعنق يذكر ويؤنث.
(4) كذا في طبعة بولاق والنسخة الشنقيطية. وفي سمط اللآلئ ص 383نقلا عن القالي: = أبو المطرد =. وقال البكري: = والمحفوظ في كنيته أبو المطراب بالباء =.
وفي الحيوان 4/ 482وردت: أبو المطراب.
(5) جاءت رواية البيت في الشعراء وسمط اللآلئ: = خائف يتستر =. وبذلك ينتفي الإقواء من البيت. وعلى هذه الرواية الجر يكون قد دخل البيت إقواء.
وفي حاشية طبعة هارون 7/ 149: = وبذلك ينتفي الإقواء بين البيتين فقط. لكنهما من أبيات ستة في الحيوان 6/ 165، خمسة منها رويها مكسور =.
(7/136)
أرنّت بلحن بعد لحن وأوقدت ... حواليّ نيرانا تبوح وتزهر (1)
وأما نار الحباحب (2) فكلّ نار لا أصل لها، مثل ما ينقدح (3) من نعال الدواب وغيرها.
وأما نار اليراعة، فهي طائر صغير، إذا طار باللّيل حسبته شهابا، وضرب من الفراش، إذا طار بالليل حسبته شرارا.
وأوّل من أورى نارها: أبو حباحب بن كلب بن وبرة بن تغلب بن حلوان بن عمرو بن الحاف بن قضاعة، فقالوا: نار أبي حباحب.
ومن حديثه ما ذكر عن ابن الكلبي، قال: كان أبو حباحب رجلا من العرب في سالف الدهر، بخيلا لا توقد له نار بليل، مخافة أن يقتبس منها، فإن أوقدها، ثم أبصرها مستضيء أطفأها. فضربت العرب به المثل في البخل والخلف، فقالوا (4):
«أخلف من نار أبي حباحب».
وقال ابن الشجري في «أماليه»: حباحب: رجل كان لا ينتفع بناره (5)، لبخله، فنسب إليه كلّ نار لا ينتفع بها، فقيل لما تقدحه حوافر الخيل على الصّفا:
نار الحباحب.
قال النابغة في وصف السيوف (6): (الطويل)
__________
والبيت لعبيد بن أيوب في تهذيب اللغة 5/ 63والحيوان 6/ 165وسمط اللآلئ ص 384وشرح أبيات المغني 2/ 281والشعر والشعراء 2/ 668ولسان العرب (لحن).
(1) البيت لعبيد بن أيوب في تاج العروس (لحن) وتهذيب اللغة 4/ 63والحيوان 6/ 165وسمط اللآلئ ص 384وشرح أبيات المغني 2/ 281والشعر والشعراء 2/ 668.
(2) وتسمى أيضا: = نار أبي الحباحب =. كما ورد في كتاب الحيوان 4/ 486.
(3) في طبعة بولاق: = مثل ما يقتدح =.
(4) ويقال أيضا: = أبخل من أبي حباحب =.
والمثل في جمهرة الأمثال 1/ 434والدرة الفاخرة 1/ 179والمرصع ص 111والمستقصى 1/ 108ومجمع الأمثال 1/ 253.
(5) في طبعة بولاق والنسخة الشنقيطية: = بماله =. وهو تصحيف صوبناه من شرح أبيات المغني للبغدادي 2/ 282.
(6) عجز بيت للنابغة الذبياني وصدره:
(7/137)
* ويوقدن بالصّفّاح نار الحباحب *
وجعل الكميت اسمه كنية للضرورة في قوله (1): (الوافر)
يرى الرّاؤون بالشّفرات منها ... كنار أبي الحباحب والظّبينا
وقال القطامي (2):
ألا إنّما نيران قيس إذا اشتووا ... لطارق ليل مثل نار الحباحب
انتهى.
وهذا هو التحقيق، لا ما ذكره الموصلي تبعا للعسكري في «أوائله» (3).
وزاد الصفدي في «شرح لامية العجم»: نار الغدر، قال: كانوا إذا غدر الرجل بجاره أوقدوا له نارا بمنى أيام الحجّ، ثم صاحوا: هذه غدرة فلان!
وعدّ نار المزدلفة، التي أوّل من أوقدها قصيّ، قسما مستقلا. وجعل عدّة النيران أربع عشرة نارا.
__________
* تقدّ السّلوقيّ المضاعف نسجه *
والبيت للنابغة في ديوانه ص 46والتنبيه والإيضاح 1/ 58وتهذيب اللغة 4/ 257وجمهرة اللغة ص 174 وكتاب العين 5/ 77ولسان العرب (حبحب، صفح، سلق) ومجمل اللغة 2/ 28. وهو بلا نسبة في تاج العروس (حبب، صفح، سلق) وجمهرة اللغة ص 851وكتاب العين 3/ 122.
(1) البيت للكميت بن زيد الأسدي في ديوانه 2/ 126وشرح أبيات المغني للبغدادي 2/ 283وشرح شواهد الإيضاح ص 537ولسان العرب (حبحب، شفر، ظبا) والمقاصد النحوية 4/ 361. وهو بلا نسبة في الصاحبي في فقه اللغة ص 250.
وقد ورد البيت في ديوان الكميت نقلا عن الأزهري صاحب التهذيب وفيه = وقود = بدل = كنار =.
وحباحب بالتنكير، ووقع في الأصل الشقرات بالقاف، وهو تصحيف، والبيت في وصف السيوف. وقال:
شفرات السيف: حروف حدها. وظبة السيف: حده
(2) البيت اختلف حول نسبته. فهو للقطامي في ديوانه ص 50والبيت هو الأربعون من قصيدته البالغة 42بيتا وشرح أبيات المغني للبغدادي 2/ 282وهو للنابغة الذبياني في ملحق ديوانه ص 228وتاج العروس (حبب) ولسان العرب (حبحب). وهو بلا نسبة في المخصص 11/ 26.
(3) كتاب الأوائل للعسكري ص 28، 34. وهو عنده أكثر بسطا، وليس عنده ذكر لأول من أورى نار الحباحب.
(7/138)
وقال ابن قتيبة في «أبيات المعاني» في نار التحالف:
كانوا يحلفون بالنار، وكانت لهم نار، يقال: إنّها كانت بأشراف اليمن (1) لها سدنة، فإذا تفاقم الأمر بين القوم فحلف بها انقطع بينهم. وكان اسمها: هولة والمهولة.
وكان سادنها إذا أتي برجل هيّبه من الحلف بها، ولها قيّم يطرح فيها الملح والكبريت، فإذا وقع فيها استشاطت وتنقّضت (2) فيقول: هذه النار قد تهدّدتك.
فإن كان مريبا نكل، وإن كان بريئا حلف.
قال الكميت (3): (الطويل)
هم خوّفونا بالعمى هوّة الرّدى ... كما شبّ نار الحالفين المهوّل
وقال الكميت، وذكر امرأة: (المتقارب)
فقد صرت عمّا لها بالمشي ... ب زولا لديها هو الأزول (4)
كهولة ما أوقد المحلفون ... لدى الحالفين وما زوّلوا (5)
__________
(1) في طبعة بولاق: = بأشواف =. وفي النسخة الشنقيطية: = بأسواق =. ولقد أثبتنا رواية المعاني الكبير ص 434.
(2) تنقضت: صوتت.
(3) البيت من هاشميته الرابعة، وهو فيها ص 161ونهاية الأرب 1/ 111.
وفي شرح الهاشميات ص 161: = العمى: الجهل، يقول: يخوفونا بجهلهم القتل. والردى: الهلاك. وشب:
أوقد. والمهول: هو المستخلف، وكانوا في الجاهلية إذا أرادوا أن يحلّفوا رجلا أوقدوا نارا، وألقوا فيها ملحا، وقالوا: إن حلفت كاذبا لم يأت عليك الحول ولك مال، وأراد نار القربان يقول: خوّفونا بأن جعلونا عميا وهوّلوا علينا بالمواعظ الكاذبة، وهم العمي =.
(4) البيت للكميت بن زيد في ديوانه 2/ 14وتاج العروس (زول) وتهذيب اللغة 13/ 251وديوان الأدب 3/ 297ولسان العرب (زول).
في طبعة بولاق والنسخة الشنقيطية: = بالمشيب زوالا =. وهو تصحيف صوابه من المصادر السابقة.
والزول: العجب. وزول أزول مبالغة، أي: عجب عاجب.
وفي المعاني الكبير ص 435: = يقول: صرت في أعين النساء كذلك =.
(5) البيت للكميت في ديوانه 2/ 14والبيان والتبيين 3/ 7وتهذيب اللغة 13/ 251والحيوان 4/ 471 ولسان العرب (هول) والمعاني الكبير ص 435.
(7/139)
وقال أوس (1): (الطويل)
إذا استقبلته الشّمس صدّ بوجهه ... كما صدّ عن نار المهوّل حالف
وقال أيضا في نار الأهبة: كانوا إذا أرادوا حربا، أو توقّعوا جيشا وأرادوا الاجتماع، أوقدوا ليلا على جبل، لتجتمع إليهم عشائرهم، فإذا جدّوا وأعجلوا أوقدوا نارين.
وقال الفرزدق (2): (الكامل)
ضربوا الصّنائع والملوك وأوقدوا ... نارين أشرفتا على النّيران
انتهى.
وقوله (3): «تحرّق» روي بالبناء للمفعول، وروي بالبناء للمعلوم والمفعول محذوف، أي: الحطب.
وقوله: «تشبّ لمقرورين» إلخ، أي: توقد. و «المقرور»: الذي أصابه القرّ، وهو البرد.
و «الاصطلاء»: افتعال من صلي النار وصلي بها، من باب تعب: [إذا] وجد حرّها. والصّلاء ككتاب: حرّ النار.
وقوله: «وبات على النار» إلخ، بات: له معنيان، أشهرهما ما قاله الفراء:
بات الرجل: إذا سهر (4) الليل كلّه في طاعة أو معصية. وهو المراد هنا.
والثاني بمعنى صار، يقال: بات بموضع كذا، أي: صار به، سواء كان في ليل أو نهار. والندى: الجود والكرم والمحلّق: هو الممدوح، واسمه عبد العزّى، من بني عامر بن صعصعة كما تقدم. وهو جاهلي. كذا في أنساب ياقوت وغيره.
__________
(1) البيت لأوس بن حجر في ديوانه ص 69والأزمنة والأمكنة 2/ 357وأساس البلاغة (هول) وتاج العروس (هول) ولسان العرب (هول) ومجمل اللغة 4/ 457ومقاييس اللغة 1/ 294، 6/ 20والمعاني الكبير ص 434.
(2) البيت للفرزدق في ديوانه ص 883والحيوان 4/ 475.
(3) النص في شرح أبيات المغني للبغدادي 2/ 283. والزيادات منه.
(4) كذا في طبعة بولاق والنسخة الشنقيطية وشرح أبيات المغني للبغدادي. وفي طبعة هارون 7/ 153: = سمر =.
وهو تصحيف.
(7/140)
المحلّق بن جزء
وقال العسكري في «التصحيف»: «المحلّق» الذي مدحه الأعشى مفتوح اللام، هو اسمه، وهو المحلّق بن جزء، من بني عامر بن صعصعة (1). والمحلّق الضبيّ ولّاه الحكم بن أيوب الثّقفي سفوان بفتح اللام أيضا، قال فيه بعض الشعراء (2):
(الطويل)
أبا يوسف لو كنت تعلم طاعتي ... ونصحي إذا ما بعتني بالمحلّق
وذكر أحمد بن حباب الحميريّ، أنّ في جعفيّ في مرّان منهم «المخلّق» بخاء معجمة ولام مكسورة. انتهى.
وقد خالف الجمهور في قوله إن المحلّق اسمه، وقالوا: إنّ اسمه عبد العزّى بن حنتم بن شدّاد بن ربيعة بن عبد الله بن عبيد، وهو أبو بكر، بن كلاب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة.
وسمّي محلّقا لأنّ فرسه عضّه، فصار موضع عضّه كالحلقة، فقيل له المحلّق.
وقال (3) ابن السيد في «[شرح] أبيات الجمل»: وسمّي المحلّق لأنّ بعيرا عضّه في وجهه، فصار فيه كالحلقة. وقيل: بل كوى نفسه بكيّة شبه الحلقة.
وزاد اللخمي: لأنه كان يأتي موضع الحلاق بمنى.
وحكى الموصلي أنّه أصابه داء فاكتوى على حلقه فسمّي المحلّق.
وروى أبو عبيدة: المحلّق، بكسر اللام. وروى الأصبهاني بفتحها.
وقال بعض فضلاء العجم في «شرح».
وقال الجوهريّ: المحلّق بكسر اللام: اسم رجل من بني أبي بكر بن كلاب، من بني عامر. انتهى.
وكسر اللام خلاف الصحيح. وهذا قول الأمير ابن ماكولا، نقله عن النسّابة
__________
(1) في كتاب التصحيف ص 459: = من بني أبي بكر بن كلاب = بدل من = عامر بن صعصعة =.
(2) هو أبو نويرة بن الحصين، وكان الحكم بن أيوب الثقفي قد أخذه بذنب العطرق. انظر الحيوان 1/ 20 وكتاب التصحيف للعسكري.
(3) من قوله: = قال ابن السيد في شرح أبيات الجمل وقال بعض فضلاء العجم في شرح =. ساقط من النسخة الشنقيطية.
(7/141)
حسن، ابن أخي اللبن. قال الأمير: وحنتم بحاء مهملة مفتوحة بعدها نون ساكنة ثم مثناة فوقية. والمحلّق كان سيّدا في الجاهلية، وهو الذي مدحه الأعشى.
وقال الكلبي في «جمهرة الأنساب»: المحلّق هو عبد العزّى بن حنتم بن شدّاد ابن ربيعة المجنون بن عبد الله بن أبي بكر بن كلاب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة.
كان سيّدا وذا بأس في الجاهلية، وله يقول الأعشى:
* وبات على النّار النّدى والمحلّق *
وله حديث. وكان الأعشى نزل به فأمرته أمّه، فنحر للأعشى ناقة ولم يكن له غيرها. انتهى.
قال ابن السيّد (1): لمّا كان من شأن المتحالفين أن يتحالفوا على النار، جعل النّدى والمحلّق كمتحالفين اجتمعا على نار. وذكر المقرورين لأنّ المقرور يعظم النار، ويشعلها لشدّة حاجته.
وقد أخذ أبو تمام الطائي هذا المعنى وأوضحه، فقال في مدحه الحسن بن وهب (2): (الكامل)
قد أثقب الحسن بن وهب في النّدى ... نارا جلت إنسان عين المجتلي
موسومة للمهتدي مأدومة ... للمجتدي مظلومة للمصطلي
ما أنت حين تعدّ نارا مثلها ... إلّا كتالي سورة لم تنزل
اه.
وقال اللخمي: كان الناس يستحسنون هذا البيت للأعشى، حتى قال الحطيئة (3): (الطويل)
__________
(1) الاقتضاب ص 391بتصرف من البغدادي في نقله.
(2) الأبيات لأبي تمام الطائي في ديوانه بشرح التبريزي 3/ 34من قصيدة مطلعها:
ليس الوقوف بكفء شوقك فانزل ... تبلل غليلا بالدموع فتبلل
وهي في شرح أبيات المغني للبغدادي 2/ 285.
(3) البيت للحطيئة في ديوانه ص 51وإصلاح المنطق ص 198والأغاني 2/ 168وشرح أبيات سيبويه 2/ 65 وشرح أبيات المغني 2/ 285والكتاب 3/ 86ولسان العرب (عشا) ومجالس ثعلب ص 467والمقاصد
(7/142)
متى تأته تعشو إلى ضوء ناره ... تجد خير نار عندها خير موقد
فسقط بيت الأعشى. انتهى.
وهذا مأخوذ من الأوائل للعسكري والموصلي.
وأورد صاحب الكشاف هذا البيت عند قوله تعالى (1): {«أَوْ أَجِدُ عَلَى النََّارِ هُدىً»}، واستشهد به على أنّ معنى الاستعلاء فيها، أنّ أهل النار يستعلون المكان القريب منها، كما قال سيبويه في مررت بزيد: إنّه لصوق في مكان يقرب من زيد.
أو لأنّ (2) المصطلين بها، إذا تكنّفوها قياما وقعودا كانوا مشرفين عليها.
وكذلك أورده ابن هشام في «المغني» قال:
أحد معاني على: الاستعلاء، إمّا على المجرور وهو الغالب، نحو (3): «عليها وعلى الفلك تحملون» أو على ما يقرب منه نحو: «أو أجد على النار هدى»، أي: هاديا، وقوله:
* وبات على النّار النّدى والمحلّق *
وأورده في الباء الموحدة أيضا، وقال: أقول: إنّ كلّا من الإلصاق والاستعلاء إنّما يكون حقيقيّا إذا كان مفضيا إلى نفس المجرور، كأمسكت بزيد، وصعدت على السّطح.
فإن أفضى إلى ما يقرب منه فمجازيّ، كمررت بزيد، في تأويل الجمهور (4)، وكقوله:
__________
النحوية 4/ 439. وهو بلا نسبة في جمهرة اللغة ص 871وشرح الأشموني 3/ 579وشرح ابن عقيل ص 581وشرح عمدة الحافظ ص 363وشرح المفصل 2/ 66، 4/ 148، 7/ 45، 53وما ينصرف وما لا ينصرف ص 88والمقتضب 2/ 65.
(1) سورة طه: 20/ 10.
(2) في النسخة الشنقيطية: = ولأن =. ولقد أثبتنا رواية طبعة بولاق لأنها توافق ما في الكشاف 2/ 21.
(3) سورة المؤمنون: 23/ 22وسورة غافر: 40/ 80.
وفي حاشية طبعة هارون 7/ 156: = وحذف = واو = وعليها للاقتباس، وهو أمر جائز. انظر حواشي الحيوان 4: 57وتحقيق النصوص لكاتبه ص 49=.
(4) في المغني ص 100: = في تأويل الجماعة =.
(7/143)
* وبات على النّار النّدى والمحلّق *
وقوله: «رضيعي لبان» إلخ، هو مثنّى رضيع، قالوا: رضيع الإنسان (1):
مراضعه.
قال التبريزي في «شرح ديوان أبي تمام»: إذا كانت المفاعلة بين اثنين جاء كلّ واحد منهما على فعيل كما جاء على مفاعل، كقعيد للذي يقاعدك وتقاعده، ونديم بمعنى منادم، ورضيع وجليس، بمعنى مراضع ومجالس. انتهى.
وإليه أشار الجوهري بقوله: «وهذا رضيعي كما تقول أكيلي». وكذلك قال صاحب المصباح: راضعته مراضعة، وهو رضيعي.
وفي «عمدة الحفّاظ للسّمين»: وفلان رضيع فلان، أي: رضيع معه. وأنشد هذا البيت ونسبه للنابغة. وهو سهو.
وفعيل هذا لا يعمل النصب. قال الشارح المحقق في أبنية المبالغة: «وأمّا الفعيل بمعنى الفاعل، كالجليس، فليس للمبالغة، فلا يعمل اتفاقا (2)».
فإضافة رضيعي إلى لبان ليس من الإضافة إلى المفعول به المصرّح (3)، بل هو مفعول على التوسّع بحذف حرف الجر، لأنه يقال: رضيعه بلبان أمّه، فحذف الباء، فانتصب لبان، وأضيف إليه الوصف.
و «ثدي» بالجر بدل من لبان، وعلى رواية النصب بدل أيضا بتقدير مضاف مجرور فيهما، أي: لبان ثدي، فلما حذف المضاف انتصب. أو هو منصوب على نزع الخافض، أي: من ثدي أمّ.
ولا يجوز الإبدال على محل لبان (4) لأنّ شرطه كالعطف على المحلّ إمكان ظهور ذلك المحلّ في الفصيح. لا يجوز مثلا: مررت بزيد وعمرا، خلافا لابن جني، لأنه لا يجوز: مررت زيدا.
__________
(1) في طبعة بولاق: = الأسنان =. وصوابه من النسخة الشنقيطية.
(2) شرح الرضي 2/ 188.
(3) أي الصريح. وفي النسخة الشنقيطية: = المسرح =. وهو تصحيف.
(4) في النسخة الشنقيطية: = على المحل لبان =.
(7/144)
فأمّا قوله (1): (الوافر)
* تمرّون الدّيار ولم تعوجوا *
فضرورة.
وغفل بعض من شرح «درّة الغوّاص» عن عدم عمل فعيل المذكور فقال في شرحه: وثدي منصوب برضيعي، ولا حاجة لتقدير من، كما قيل، لأنّ رضيع متعدّ بنفسه. هذا كلامه، مع أنه قال رضيع لا يكون إلّا بمعنى مراضع.
ولا مانع عندي أن يكون هنا بمعنى راضع، وتكون المشاركة من التثنية، بل هذا هو الجيّد، إذ لو كان رضيع هنا بمعنى مراضع لما ثنّى، ولكان المناسب أن يقول:
* رضيع النّدى من ثدي أمّ تقاسما *
وعليه يسهل إعراب البيت، فيكون رضيعي مضافا إلى مفعوله لأنه ماض، واسم الفعل الماضي تجب إضافته إلى ما يجيء بعده مما يكون في المعنى مفعولا، فيكون «ثدي أمّ»، بدلا من لبان بتقدير مضاف مجرور، والأصل رضيعي لبان لبان ثدي أمّ، أو يكون بدلا من لبان على المحلّ، على قول من لا يشترط المحرز الطّالب لذلك المحلّ. وفعيل قد وضع بالاشتراك تارة لفاعل وتارة لمفاعل، والقرينة تعيّن، وهي هنا التثنية.
وقال الأندلسي في «شرح المفصل»: رضيع فعيل للمبالغة. وعليه فيكون عاملا عمل فعله.
وقد ذهب ابن السيّد في «شرح أبيات أدب الكاتب، وأبيات الجمل» إلى ما
__________
(1) صدر بيت لجرير وعجزه:
* كلامكم عليّ إذا حرام *
وهو الإنشاد الواحد والأربعون بعد المائة في شرح أبيات المغني للبغدادي.
والبيت لجرير في ديوانه 278والأغاني 2/ 179وتخليص الشواهد ص 503والدرر 5/ 189وشرح أبيات المغني 2/ 289وشرح شواهد المغني 1/ 311ولسان العرب (مرر) والمقاصد النحوية 2/ 560. وهو بلا نسبة في الأشباه والنظائر 6/ 145، 8/ 252ورصف المباني ص 247وشرح ابن عقيل ص 272وشرح المفصل 8/ 8، 9/ 103ومغني اللبيب 1/ 100، 2/ 473والمقرب 1/ 115وهمع الهوامع 2/ 83.
(7/145)
ذكرنا، قال: لك أن تجعل الرضيع بمعنى الراضع، كقولهم: قدير بمعنى قادر، فيكون متعدّيا إلى مفعول واحد.
وإن شئت جعلته بمعنى مرضع، كقولهم: ربّ عقيد، بمعنى معقد، فيتعدّى إلى مفعولين. ومن خفض ثدي أمّ جعله بدلا من لبان (1)، ومن نصبه أبدله من موضعه، لأنه في موضع نصب. ولابدّ من تقدير مضاف في كلا الوجهين، كأنه قال: لبان ثدي أمّ. وإنما لزم تقدير مضاف لأنه لا يخلو من أن يكون بدل كلّ أو بدل بعض أو بدل اشتمال، فلا يجوز الثاني، لأن الثّدي ليس بعض اللبان ولا الثالث، لأنّ الأوّل يشتمل على الثاني (2)، وذلك لا يصح ها هنا.
وقد ذهب قوم إلى أنّ الثاني، هو المشتمل على الأوّل، وذلك غلط، فلم يبق إلّا أن يكون بدل كل (3). والثدي ليس اللبان، فوجب أن يقدّر لبان ثدي. ويجوز أن يكون ثدي أمّ مفعولا سقط منه حرف الجر، كقولك: اخترت زيدا الرجال.
انتهى.
وتعقّبه اللخمي بأنّه قيل: إن اسم الفاعل هنا بمعنى المضيّ، فلا يعمل عند البصريين، وإن انتصاب ثدي إنّما هو على التمييز، لأنّه يحسن فيه إدخال «من» المقدّرة في التمييز.
ويحتمل أن يكون منصوبا بإضمار فعل دلّ عليه رضيع، والتقدير: رضعا ثدي أمّ، كقوله تعالى (4): {«وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبََاناً»}. وهذا إنّما يكون على أن تجعل رضيعي خبرا لبات، لا حالا. انتهى كلامه.
وقال بعض فضلاء العجم في «أبيات المفصل»: ثدي بدل من محل لبان، في تقدير: رضيعين لبانا ثدي أمّ، وهو بدل اشتمال.
__________
(1) في كتاب الاقتضاب ص 392: = من لفظ اللبان =.
(2) في كتاب الاقتضاب: = لأن معنى قولنا بدل اشتمال أن يكون الأول يشتمل على الثاني =.
(3) في كتاب الاقتضاب: = أن يكون بدل الشيء من الشيء وهما لعين واحدة =. في هذا الموضع، والموضع الذي سبقه.
(4) سورة الأنعام: 6/ 96.
وفي النسخة الشنقيطية: = وجعل =. وهي قراءة عاصم وحمزة والكسائي. أما الباقون فقراءتهم: = جاعل =.
إتحاف فضلاء البشر ص 214.
(7/146)
وقيل: ثدي أمّ منصوب على إضمار رضعا، بدلالة رضيعي.
وتبعه الكرماني في «شرح أبيات الموشح». وفيه أنّ الوصف ماض، وأنّ بدل الاشتمال لابدّ له من ضمير.
والجيّد في نصب رضيعي، أن يكون على المدح.
وجوّز ابن السيّد واللخمي غير هذا: أن يكون حالا من الندى والمحلّق، ويكون قوله: «على النار» خبر بات. وأن يكون خبر بات، وعلى النار حالا. وأن يكونا خبرين.
أقول: أمّا الأول ففيه مع ضعف مجيء الحال من المبتدأ المنسوخ فساد المعنى، لأنّه يقتضي أن يكونا غير رضيعين في غير بياتهما على النار، وجودة المعنى تقتضي أنّهما رضيعان مذ ولدا.
وأمّا الأخيران ففيهما قبح التّضمين الذي هو من عيوب الشعر، وهو توقّف البيت على الآخر.
ويرد هذا أيضا على جعله حالا من الندى والمحلّق، وعلى جعله بدلا من مقرورين، وعلى جعله صفة له.
حكى هذه الثلاثة بعض فضلاء العجم في «شرح أبيات المفصل». وجوّز هذه الثلاثة شارح أبيات الموشح، مع تجويز كونه خبرا لبات. قال: وعلى هذه الأوجه خبر بات، قوله: تقاسما.
وهذا تعسّف فإنّ تقاسما جواب مقدّر نشأ من قوله: وبات على النار الندى والمحلق، والخبر هو على النار.
و «اللّبان» بكسر اللام، قال الأندلسي: هو لبن الآدمي. قيل: ولا يقال له لبن إنّما اللبن لسائر الحيوانات. وليس بصحيح، لأنه قد جاء في الخبر: «اللّبن للفحل»، أي: للزوج. نعم اللّبان في بني آدم أكثر. انتهى.
وكذلك قال ابن السيّد: روي عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «أنّ لبن الفحل محرّم» كما اتفق عليه الفقهاء. وفسّروه بأنّ الرجل تكون له امرأة ترضع بلبنه، فكل من أرضعته حرّمته عليه، وعلى ولده. والصحيح أنّه يقال: اللبان للمرأة خاصّة، واللبن عام.
(7/147)
وقال الحريريّ في «درّة الغوّاص» تبعا لابن قتيبة في «أدب الكاتب»: يقولون لرضيع الإنسان: قد ارتضع بلبنه، وصوابه ارتضع بلبانه، لأنّ اللبن المشروب، واللّبان مصدر، لابنه، أي: شاركه في شرب اللبن. وهذا هو معنى كلامهم الذي نحو إليه.
وإليه أشار الأعشى في قوله:
* رضيعي لبان ثدي أمّ تقاسما *
البيت. انتهى.
وقد تقدم الكلام على اللّبان في الشاهد الثالث والتسعين بعد الثلثمائة (1).
وقد أخذ معنى هذا المصراع، وبسطه الكميت، في مدح مخلد بن يزيد، وقال (2): (الرجز)
ترى النّدى ومخلدا حليفين ... كانا معا في مهده رضيعين
* تنازعا فيه لبان الثّديين *
وفيه لطف بلاغة (3)، لجعلهما أخوين من جنس واحد.
و «تقاسما»: تفاعلا من القسم، أي: أقسم كلّ منهما لا يفارق أحدهما الآخر. وروى بدله: «تحالفا» من الحلف وهو اليمين. والباء في قوله: «بأسحم»، داخلة على المقسم به، وقد اختلف في معناه: قال ابن السيّد:
فيه سبعة أقوال:
أحدها: هو الرماد، وكانوا يحلفون به. قال الشاعر: (المنسرح)
حلفت بالملح والرّماد وبالنّ ... ار [وبالله] نسلم الحلقه (4)
__________
(1) انظر الخزانة الجزء الخامس ص 320.
(2) الرجز للكميت بن زيد الأسدي في ديوانه 2/ 135وتاج العروس (حلف، لبن) وشرح أبيات المغني 3/ 328ولسان العرب (لبن).
(3) في شرح أبيات المغني: = وفيه لطف مبالغة =.
(4) البيت بلا نسبة في البيان والتبيين 3/ 8وتاج العروس (حلق) وشرح أبيات المغني 3/ 329ولسان العرب (حلق).
(7/148)
حتّى يظلّ الجواد منعفرا ... وتخضب النّبل غرّة الدّرقه (1)
ثانيها: هو الليل.
ثالثها: هو الرّحم.
رابعها: هو الدم، لأنّهم كانوا يغمسون أيديهم فيه إذا تحالفوا.
حكى هذه الأقوال الأربعة يعقوب، وحكى غيره، وهو الخامس أنّه حلمة الثدي. وقيل، وهو السادس: زقّ الخمر. وقيل، وهو السابع: دماء الذبائح التي كانت تذبح للأصنام. وجعله أسحم لأنّ الدم إذا يبس اسودّ.
وأبعد هذه الأقوال قول من قال: إنّه الرماد، لأنّ الرماد لا يوصف بأنه أسحم ولا داج، وإنما يوصف بأنه أورق (2). انتهى.
وقال أحمد بن فارس: الأسحم: الأسود. والأسحم في قول الأعشى:
* بأسحم داج *
هو الليل، وفي قول النابغة (3): (الطويل)
* بأسحم دان *
هو السحاب، وقول زهير (4): (الطويل)
__________
والبيت والذي يليه أنشدهما صاحب اللسان، واستشهد بهما على فتح لام = الحلقة =. والبيت ورد في طبعات الخزانة كلها مكسور الوزن. والإضافة من المصادر السابقة.
(1) البيت بلا نسبة في البيان والتبيين 3/ 8وتاج العروس (حلق) ولسان العرب (حلق).
انعفر: ظل ملقى في العفر متتربا. والنبل: السهام. والدرقة: واحدة الدرق، وهو ضرب من الترسة يتخذ من الجلود. وغرة كل شيء: أوله ووجهه.
(2) كتاب الاقتضاب ص 391وشرح أبيات المغني 3/ 329.
(3) قطعة من بيت للنابغة الذبياني وتمامه:
عفا آيه صوب الجنوب مع الصّبا ... بأسحم دان مزنه متصوّب
والبيت للنابغة الذبياني في ديوانه ص 73وأساس البلاغة (صوب) وتاج العروس (سحم) وكتاب العين 3/ 155ولسان العرب (سحم) ومجمل اللغة 3/ 125ومقاييس اللغة 3/ 141.
(4) قطعة من بيت لزهير بن أبي سلمى وتمامه:
(7/149)
* بأسحم مذود *
هو القرن. ويقال: بأسحم داج، أي: في الرحم. انتهى.
وقال الحريري في «الدّرة»: عنى بالأسحم الداجي: ظلمة الرحم المشار إليها في قوله تعالى (1): {«يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهََاتِكُمْ خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمََاتٍ ثَلََاثٍ»}. وقيل: بل عنى به الليل. وعلى كلا هذين التفسيرين فمعنى تقاسما فيهما، أي: تحالفا.
وقد قيل إنّ المراد بلفظة «تقاسما» اقتسما، وإن المراد بالأسحم الداجي الدم، وقيل: المراد بالأسحم اللبن لاعتراض السّمرة فيه، وبالداجي الدائم (2). انتهى.
ولا وجه لتفسير تقاسما، باقتسما، على تفسير الأسحم بأحد المعنيين الأخيرين.
وكيف يصحّ تفسير الداجي بالدائم، مع أنه من الدّجية، وهو الظلام.
وقال الجوهري: قيل: هو الدم، وقيل: الرحم، وقيل: سواد حلمة الثدي، وقيل: زقّ الخمر.
وقوله: «عوض» هو ظرف مقطوع عن الإضافة متعلّق بما بعده. وجملة: «لا نتفرق» جواب القسم، وجاء به على حكاية لفظ المتحالفين الذي نطقا به عند التحالف، ولو جاء به على لفظ الإخبار عنهما، لقال: لا يفترقان (3).
وزعم ابن السيّد، وتبعه اللخمي، أنه يجوز مع كون عوض ظرفا، أن يكون عوض مقسما به، والباء في أسحم بمعنى في. وهذا فاسد، لأنه كان يجب حينئذ إعرابه، وجرّه بحرف القسم.
قال الأندلسي: لا يجوز أن يكون عوض اسم صنم، لتقدّم المقسم به قبله، ولبنائه،
__________
نجاء مجدّ ليس فيه وتيرة ... ويذبّها عنها بأسحم مذود
البيت لزهير بن أبي سلمى في ديوانه ص 166وأساس البلاغة (ذود، وتر) وتاج العروس (سحم) وتهذيب اللغة 4/ 345، 14/ 150، 312وكتاب العين 8/ 132ولسان العرب (ذود، وتر، سحم) ومقاييس اللغة 3/ 141. وهو بلا نسبة في ديوان الأدب 3/ 239.
(1) سورة الزمر: 39/ 6.
(2) درة الغواص ص 100.
(3) في شرح أبيات المغني 3/ 330: = لقال: يفترقان =.
(7/150)
وأيضا لا يجوز حذف حرف القسم عند ذكر الفعل.
وعليه اقتصر الخوارزمي، نقله عنه ابن المستوفي، قال: عنى بأسحم داج: الليل، وهو ليس بالمقسم به، إنما هو ظرف بمنزلة أن تقول: تقاسما في ليل داج يكون تآلفهما فيه، واستئناس كلّ منهما بصاحبه أكثر.
وقال صاحب العين: عوض كلمة تجري مجرى القسم، فعوض على هذا القول معناه حلفا بالدّهر لا نتفرّق، فحذف حرف القسم ونصب المقسم به، كما في قولك: الله لأفعلنّ. هذا كلامه.
وفيه أنّ حرف القسم، لا يحذف مع ذكر الفعل.
وقال ابن السيّد: ومن اعتقد أنّ عوض اسم صنم، لزمه أن يجعل الباء في قوله:
بأسحم، بمعنى في. ويعني (1) بالأسحم الليل، أو الرحم. ولا يجوز أن تكون الباء في هذا الوجه للقسم، لأنّ القسم لم يقع بالأسحم، إنما وقع بعوض، الذي هو الصّنم.
انتهى.
ويعرف وجه ردّه مما ذكرنا.
وقوله: «وأمّا إذا ما المحل» إلخ، «المحل»: انقطاع المطر ويبس الأرض من الكلأ. وسرّح مالهم، أي: أطلقها وفرّقها. والمال عند العرب: الإبل والبقر والغنم. و «السّملق»، كجعفر: القاع الصّفصف.
وقوله: «نفى الذّمّ» إلخ، هو جواب إذا. والجفنة، بالفتح: قصعة الطّعام فاعل نفى. والجابية بالجيم، قال الجوهري: هي الحوض الذي يجبى فيه الماء للإبل.
وأنشد البيت.
و «تفهق»، قال المبرد في «أول الكامل» (2): من قولهم: فهق الغدير يفهق، إذا امتلأ ماء، فلم يكن فيه موضع مزيد.
قال الأعشى:
نفى الذّمّ عن رهط المحلّق جفنة ... البيت
__________
(1) في طبعة بولاق: = يعني = بحذف الواو.
(2) الكامل في اللغة 1/ 4.
(7/151)
هكذا ينشده أهل البصرة، وتأويله عندهم أنّ العراقيّ إذا تمكّن من الماء ملأ جابيته، لأنه حضريّ، فلا يعرف مواضع الماء ولا محالّه. وسمعت أعرابيّة تنشد (1):
«كجابية السّيح» بإهمال الطرفين، تريد النهر الذي يجري على جابيته، فماؤها لا ينقطع، لأنّ النهر يمدّه (2). انتهى.
وقال ابن السيّد في «حاشيته على الكامل»: كان الأحمر، يقول: الشيخ تصحيف، وإنّما هو السّيح بالسين والحاء غير معجمتين، وهو الماء الجاري على وجه الأرض يذهب ويجيء. و «الجابية»: الحوض، وجمعه الجوابي. وكلّ ما يحبس فيه الماء فهو جابية. وقيل: أراد بالشيخ العراقيّ كسرى.
وحكاه أبو عبيد في كلام ذكره عن الأصمعي في شرح الحديث. وخصّ بالشيخ على تأويل المبرد، لأنه قد جرّب الأمور، وقاسى الخير والشر، وهو يأخذ بالحزم في أحواله. انتهى.
و «دردق» بدالين بينهما راء: الأطفال، يقال: ولدان دردق، ودرداق. كذا في العباب.
والسّديف: شحم السّنام. وتدفّق أصله تتدفق بتاءين.
والأعشى شاعر جاهلي قد تقدّمت ترجمته في الشاهد الثالث والعشرين من أوائل الكتاب (3).
وقد روى صاحب الأغاني سبب هذه القصيدة على غير ما ذكرناه أيضا.
وقد روى عن النّوفليّ (4) أنّ المحلّق كانت له أخوات ثلاث، لم يرغب أحد فيهن لفقرهنّ وخموله. والتزويج إنّما كان لهنّ لا لبناته. والله أعلم.
* * * __________
(1) في الكامل في اللغة 1/ 4: = تنشد: (قال أبو الحسن هي أم الهيثم الكلابية من ولد المحلق وهي رواية أهل الكوفة).
(2) الكامل في اللغة 1/ 5.
(3) الخزانة الجزء الأول ص 181.
(4) الأغاني 9/ 115113.
والنوفلي، هو كما ورد في الأغاني 9/ 115: = علي بن محمد النوفلي =.
(7/152)
وأنشد بعده، وهو الشاهد الثاني والعشرون بعد الخمسمائة، وهو من شواهد س (1): (الرجز)
522 - لقد رأيت عجبا مذ أمسا
على أن «أمس» غير منصرف، مجرور بالفتحة، والألف للإطلاق.
وهذا نصّ سيبويه في باب تغيير الأسماء المبهمة إذا صارت أعلاما خاصة، أوردته بطوله لكثرة فوائده:
وسألته رحمه الله، يعني الخليل، عن أمس اسم رجل، فقال: مصروف، لأنّ أمس ها هنا ليس على الجرّ (2) ولكنّه لما كثر في كلامهم، وكان من الظروف، تركوه على حال واحدة، كما فعلوا ذلك: بأين وكسروه، كما كسروا غاق، إذ (3)
كانت الحركة تدخله لغير إعراب، كما أنّ حركة غاق لغير إعراب.
فإذا صار اسما لرجل انصرف، لأنه قد نقلته إلى غير ذلك الموضع، كما أنّك إذا سمّيت بغاق صرفته. فهذا يجري مجرى هذا، كما جرى ذا مجرى لا.
واعلم أنّ بني تميم يقولون في موضع الرفع: ذهب أمس بما فيه، وما رأيته مذ أمس، فلا يصرفون في الرفع، لأنهم عدلوه عن الأصل الذي هو عليه في الكلام، لا عمّا ينبغي له أن يكون عليه في القياس.
ألا ترى أنّ أهل الحجاز يكسرونه في كلّ موضع، وبنو تميم يكسرونه في أكثر المواضع في الجرّ والنصب. فلمّا عدلوه عن أصله في الكلام ومجراه، تركوا صرفه، كما تركوا صرف أخر حين فارقت أخواتها في حذف الألف واللام منها، وكما تركوا صرف سحر ظرفا.
لأنه إذا كان مجرورا أو مرفوعا أو منصوبا غير ظرف لم يكن بمنزلته إلّا وفيه الألف
__________
(1) الرجز لغيلان بن حريث الربعي في التنبيه والإيضاح 2/ 256وشرح شواهد الإيضاح ص 598والكتاب 3/ 445. وهو بلا نسبة في جمهرة اللغة ص 841، 863والخصائص 2/ 62والدرر 6/ 243والمحتسب 1/ 94، 300والمقاصد النحوصة 4/ 357ونوادر أبي زيد ص 57وهمع الهوامع 2/ 157.
(2) في كتاب سيبويه: = لأن أمس ليس ها هنا على الحدّ =. أي: ليس على حد الأسماء المبهمة.
(3) كذا في النسخة الشنقيطية والكتاب لسيبويه. وفي طبعة بولاق: = إذا =.
(7/153)
واللام أو يكون نكرة إذا أخرجتا منه. فلمّا صار معرفة في الظروف بغير ألف ولام، خالف التعريف في هذه المواضع، وصار معدولا عندهم كما عدلت أخر، فترك صرفه في هذا الموضع، كما ترك صرف أمس في الرفع.
وإن سمّيت رجلا بأمس في هذا القول صرفته، لأنّه لابدّ لك من أن تصرفه في الجر والنصب، لأنّه في الجر والنصب مكسور في لغتهم، فإذا انصرف في هذين الموضعين انصرف في الرّفع، لأنّك تدخله في الرفع وقد جرى له الصّرف في القياس في الجر والنصب، لأنّك لم تعدله عن أصله في الكلام مخالفا للقياس. ولا يكون أبدا في الكلام اسم منصرف في الجر والنصب ولا ينصرف في الرفع.
وكذلك سحر اسم رجل تصرفه، وهو في الرجل أقوى لا يقع ظرفا، ولو وقع اسم شيء، فكان ظرفا، صرفته، وكان كأمس لو كان أمس منصوبا غير ظرف مكسور كما كان. وقد فتح قوم أمس في مذ لمّا رفعوا وكانت في الجرّ هي التي ترفع، شبّهوها بها.
قال (1): (الرجز)
لقد رأيت عجبا مذ أمسا ... عجائزا مثل الأفاعي خمسا
وهذا قليل.
انتهى كلام سيبويه، ونقلته من نسخة معتمدة مقروءة على مشايخ جلّة، عليها خطوط إجازاتهم، منهم زيد بن الحسن بن زيد الكندي إمام عصره عربية وحديثا، وتاريخ إجازته سنة ثلاث وتسعين وخمسمائة، وهي نسخة ابن ولّاد تلميذ ثعلب والمبرد، وتوفي بمصر في سنة ثمان وتسعين ومائتين.
فما اعترض به الشارح المحقق على الزجاجي، في زعمه أنّ أمس في البيت مبنيّة على الفتح، حقّ لا شبهة فيه (2).
__________
(1) الرجز لغيلان بن حريث الربعي في التنبيه والإيضاح 2/ 256وشرح شواهد الإيضاح ص 598والكتاب 3/ 445. وهو بلا نسبة في جمهرة اللغة ص 841، 863والخصائص 2/ 62والدرر 6/ 243والمحتسب 1/ 94، 300والمقاصد النحوية 4/ 357ونوادر أبي زيد ص 57وهمع الهوامع 2/ 157.
(2) جاء في حاشية النسخة الشنقيطية بخط ناسخها: = قوله: فما اعترض به الشارح المحقق إلخ. قلت: ليس بحق، ولم ينفرد به الزجاجي. وقد أقره عليه جملة من الشروح، وردوا من رد عليه قال الخفاف: وقد أخذ على
(7/154)
وقد غلّطه شراحه، منهم ابن هشام اللخمي في «شرح أبيات الجمل»، قال:
«مذ أمسا» جارّ ومجرور، ومذ هنا حرف جر، وهي بمنزلة في، كأنه قال: لقد رأيت عجبا في أمس، والعامل فيها رأيت، والفتحة فتحة إعراب، وهي علامة الخفض كما تكون فيما لا ينصرف.
وقد غلط أبو القاسم فيها وزعم أنّها في البيت مبنية على الفتح، وإنّما هي في البيت على لغة بعض بني تميم (1). وليس في العرب من يبنيها على الفتح، وهي مخفوضة بمذ، ولكنّها لا تنصرف عندهم للتعريف والعدل.
وإنما دخل عليه الوهم من قول سيبويه: وقد فتح قوم أمس مع مذ لمّا رفعوا وكانت في الجر هي التي ترفع، شبّهوها بها. وأنشد البيت على ذلك. فتوهّم أنه لما ذكر الفتح الذي هو لقب البناء أنه أراد أن أمس مبنيّ.
ولو تأمّل لبان له العذر في ذكر الفتح هنا، إذ لا يمكن أن تسمّى الحركة التي يحدثها عامل الجرّ نصبا، لأنها ليست للنصب، إنما هي للجر. وسوّى بين عمل الجارّ والناصب دلالة على ضعف الجارّ فيما لا ينصرف، ولم يسمّها جرّا استقلالا لها، لأنّها لمّا ضمّت إلى النصب صارت كأنها غير جرّ البتة.
ألا تراه قال: وجميع ما لا ينصرف إذا أدخلت عليه الألف واللام انجرّ، وهو لم يزل مجرورا، إلّا أنه جعل الجر المحمول على النصب غير جرّ. وإلّا فالعوامل في المنصرف وغير المنصرف واحدة. فاعلم ذلك. انتهى كلام اللخمي.
وقال النحاس: قال سيبويه: قد فتح قوم أمس في مذ إلخ. هذا من كلام سيبويه مشكل يحتاج إلى الشرح. وشرحه عليّ بن سليمان، قال: أهل الحجاز على ما حكاه النحويون، يكسرون أمس في الرفع والنصب والخفض، وبنو تميم يرفعونه في موضع الرفع بلا تنوين، يجعلونه بمنزلة ما لا ينصرف.
__________
أبي القاسم في الأصل: ابن القاسم ذكر بنائها على الفتح، وقيل إنما هو إعرابه إعراب ما لا ينصرف.
وليس كذلك، فقد حكى الثلاثة الأوجه في المنتخب لأبي إسحاق الزجاج في الأصل: الزجاجي الذي نقل أبو القاسم منه. انتهى. قلت: نقل الأوجه الثلاثة الهروي في الذخائر وأقرها، وقال إن البناء على الفتحة لغة لبعض تميم. وذكر الثعلبي في شرح جمل الجرجاني مثله. ومثله في شرح شواهد الجمل للأعلم وابن السيد البطليوسي.
فتأمله. فعدم ذكر سيبويه له لا يدل على نفيه، إذ ليس في كلام سيبويه ما يدل على نفيه، والله أعلم =.
(1) انظر في ذلك نوادر أبي زيد ص 57.
(7/155)
وذلك أنّه ليس سبيل الظرف أن يرفع لأنّ الأخبار ليست عنه، فلما أخبروا عنه زادوه فضلة فأخرجوه من البناء إلى ما لا ينصرف، فلمّا اضطر الشاعر أجراه في الخفض مجراه في الرفع، وقدّر «مذ» هذه الخافضة، وفتحه لأنّه لا ينصرف.
انتهى.
وقال الأعلم: الشاهد فيه إعراب أمس ومنعها من الانصراف، لأنها اسم لليوم الماضي قبل يومك معدول عن الألف واللام. ونظير جرّها بعد مذ ها هنا رفعها في موضع الرفع، إذا قالوا: ذهب أمس بما فيه، وما رأيته مذ أمس، وهي لغة لبعض بني تميم.
فلما رفعت بعد مذ لأنّ مذ يرتفع ما بعدها إذا كان منقطعا ماضيا، جاز للشاعر أن يخفضه بعدها على لغة من جرّ بها في ما مضى وانقطع، لأنّ مذ هذه الخافضة لأمس هي الرافعة له في لغة من يرفع. وقد بيّنت هذا وكشفت حقيقته في كتاب النّكت. انتهى.
وليس في كلام سيبويه ما يدلّ على أنّه ضرورة. فتأمّل.
وأمّا ما وهّم به الشارح المحقق الزمخشريّ، فقد يمنع بأن يكون الزمخشريّ ذهب إلى ما حكاه الكسائي عن بعض بني تميم، بأنّهم يمنعون صرف أمس رفعا ونصبا وجرا.
ونقله أبو حيان في «الارتشاف». ويؤيّده قول أبي زيد في «النوادر» (1): قوله مذ أمسا ذهب بها إلى لغة بني تميم، يقولون: ذهب أمس بما فيه [فلم يصرفه].
وقال الجرمي «فيما كتبه على النوادر»: جعل مذ من حروف الجر ولم يصرف أمس، فتح آخره في موضع الجر، وهو الوجه في أمس.
وأبو زيد من مشايخ سيبويه، وإذا نقل عنه في كتابه، قال: «حدثني الثقة».
والشارح مسبوق بالتوهيم. قال أبو حيان: اختلف النحاة في إعراب أمس مطلقا إعراب ما لا ينصرف عند بعض تميم، فذهب إلى إثبات ذلك ابن الباذش، وهو قول ابن عصفور وابن مالك.
__________
(1) في نوادر أبي زيد ص 57: = ولم يصرف أمس ففتح آخره وهو في موضع الجر. والرفع الوجه في أمس =.
(7/156)
وقال الأستاذ أبو عليّ: هذا غلط، وإنّما بنو تميم يعربونه في الرفع، ويبنون في النصب والجر. انتهى.
والبيتان من رجز في نوادر أبي زيد سمعه من العرب، وأنشد بعدهما (1):
(الرجز)
يأكلن ما في رحلهنّ همسا ... لا ترك الله لهنّ ضرسا
وقال: الهمس: أن تأكل الشيء وأنت تخفيه.
وقوله: «عجائزا» نوّنه لضرورة الشعر، قيل بيان لقوله: عجبا، وقيل بدل منه. وهو جمع عجوز.
قال ابن السكيت: العجوز: المرأة الكبيرة، ولا تقل عجوزة، والعامة تقوله.
ومثل صفة لعجائز، وكذا قوله: خمسا. والسّعالي: جمع سعلاة بالكسر، ويقال أيضا: سعلاء بالمد والقصر، وهي أنثى الغول، وقيل: ساحرة الجنّ.
وروى أبو زيد وسيبويه بدله: «مثل الأفاعي» جمع أفعى، وهي حيّة يقال:
هي رقشاء دقيقة العنق عريضة الرأس، لا تزال مستديرة على نفسها، لا ينفع منها ترياق ولا رقية. يقال: هذه أفعى بالتنوين لأنه اسم وليس بصفة. كذا في المصباح.
والرّحل: المأوى والمنزل، وروى أيضا: «يأكلن ما في عكمهنّ» والعكم:
العدل بكسر أوّلهما.
وجملة: «لا ترك الله» إلخ، دعائية. وزاد ابن السيّد في «أبيات الجمل» بعد هذا:
* ولا لقين الدّهر إلّا تعسا *
وقال: التعس: السّقوط على القفا.
وزاد ابن هشام اللخمي (2): (الرجز)
__________
(1) الرجز بلا نسبة في تاج العروس (همس) وتهذيب اللغة 6/ 143وجمهرة اللغة ص 841، 863ولسان العرب (أمس، همس) ونوادر أبي زيد ص 57.
(2) الرجز بلا نسبة في لسان العرب (زبد).
(7/157)
فيها عجوز لا تساوي فلسا ... لا تأكل الزّبدة إلّا نهسا
والبيت الشاهد من أبيات سيبويه الخمسين التي ما عرف قائلها. وقال ابن المستوفي: وجدت هذه الأبيات الثمانية في كتاب نحو قديم، للعجاج أبي رؤبة.
وأراه بعيدا من نمطه.
وقوله: «لا تأكل الزّبدة إلّا نهسا»، أي: لا أسنان لها، فهي تنهسها. وهو إغراق وإفراط. و «النّهس»: أخذ اللحم بمقدّم الأسنان. انتهى.
* * * وأنشد بعده، وهو الشاهد الثالث والعشرون بعد الخمسمائة (1): (البسيط)
523 - لاه ابن عمّك لا أفضلك في حسب
عنّي ولا أنت ديّاني فتخزوني
على أنّ أصل «لاه ابن عمّك»: لله ابن عمّك، فحذف لام الجر لكثرة الاستعمال، وقدّر لام التعريف، فبقي: لاه ابن عمّك، فبني لتضمّن الحرف.
وصريحه أنّ كسرة الهاء كسرة بناء، وظاهر كلام المفصّل أنها كسرة إعراب، قال: وتضمر، أي: باء القسم، كما تضمر اللام في: لاه أبوك فإن المضمر يبقى
__________
(1) هو الإنشاد الرابع والثلاثون بعد المائتين في شرح أبيات المغني للبغدادي.
والبيت لذي الإصبع العدواني في أدب الكاتب ص 513والأزهية ص 279وإصلاح المنطق ص 373والأغاني 3/ 108وأمالي المرتضى 1/ 252وجمهرة اللغة ص 596والدرر 4/ 143وسمط اللآلئ ص 289وشرح أبيات المغني 3/ 285وشرح اختيارات المفضل ص 750وشرح التصريح 2/ 15وشرح شواهد المغني 1/ 430ولسان العرب (فضل، دين، عنن، لوه، خزا) والمؤتلف والمختلف ص 118ومغني اللبيب 1/ 147والمفضليات ص 160والمقاصد النحوية 3/ 286وهو لكعب الغنوي في الأزهية ص 97. وهو بلا نسبة في الأشباه والنظائر 1/ 263، 2/ 121، 303والإنصاف 1/ 394وأوضح المسالك 3/ 43والجنى الداني ص 246وجواهر الأدب ص 323والخصائص 2/ 288ورصف المباني ص 254، 368وشرح الأشموني 2/ 215وشرح ابن عقيل ص 364وشرح المفصل 8/ 53وهمع الهوامع 2/ 29.
وروايته المشهورة هي:
لاه ابن عمك لا أفضلت في حسب ... عني ولا أنت دياني فتخزوني
(7/158)
معناه، وأثره، بخلاف المحذوف فإنّه يبقى معناه ولا يبقى أثره. كذا حققه السيّد عند قول الكشاف في تفسير (1): «يجعلون أصابعهم» لأن المحذوف باق معناه (2) وإن سقط لفظه.
قال ابن يعيش في «شرحه»: اعلم أنّهم يقولون: لاه أبوك، ولاه ابن عمّك، يريدون: لله أبوك، ولله ابن عمّك.
قال الشاعر:
لاه ابن عمّك لا أفضلت في حسب ... البيت
أي: لله ابن عمّك، فحذفت لام الجر ولام التعريف، وبقيت اللام الأصلية.
هذا رأي سيبويه. وأنكر ذلك المبرد، وكان يزعم أنّ المحذوف لام التعريف واللام الأصليّة، والباقية هي لام الجر، وإنّما فتحت لئلا ترجع الألف إلى الياء، مع أنّ أصل لام الجر، الفتح.
وربّما قالوا، لهي أبوك، فقلبوا اللام إلى موضع العين وسكّنوا لأنّ العين كانت ساكنة، وهي الألف، وبنوه على الفتح، لأنّهم حذفوا منه لام التعريف وتضمّن معناها، فبني لذلك كما بني «أمس والآن»، وفتح آخره تخفيفا، لما دخله من الحذف والتغيير. انتهى.
وقال الأندلسي في «شرحه أيضا» عند قوله «وتضمر كما تضمر اللام» إلخ:
هذا هو الوجه الثالث، وهو أن تحذف الحرف لفظا، وتقدّره معنى، فيبقى عمله، كما تضمر ربّ.
وقال ابن السيّد في «شرح أبيات أدب الكاتب»: قوله لاه أراد: لله، حذف لام الجر، واللام الأولى من الله (3).
وكان المبرد يرى أنّه حذف اللامين من الله (4) وأبقى لام الجر وفتحها. وحجته أنّ حرف الجر لا يجوز أن يحذف. انتهى.
__________
(1) سورة البقرة: 2/ 19.
(2) في طبعة بولاق: = باق معناه =.
(3) في طبعة بولاق والنسخة الشنقيطية: = من لله =. والتصويب من الاقتضاب ص 442.
(4) في طبعة بولاق: = من لله =. وهو تصحيف صوابه من النسخة الشنقيطية والاقتضاب ص 442.
(7/159)
وقال ابن الشجري في «أماليه»: قوله «لاه ابن عمك»، أصله لله، فحذف لام الجر وأعملها محذوفة، كما في قوله، الله لأفعلنّ، وأتبعها في الحذف لام التعريف، فبقي «لاه» بوزن عال.
ولا يجوز أن تكون اللام في «لاه» لام الجر (1) وفتحت لمجاورتها للألف، كما زعم بعض النحويين، لأنهم قالوا: لهي أبوك، بمعنى لله أبوك، ففتحوا اللام ولا مانع لها من الكسر في لهي، لو كانت الجارّة، وإنما يفتحون لام الجرّ مع المضمر في نحو: لك ولنا، وفتحوها في الاستغاثة إذا دخلت على الاسم المستغاث به، لأنّه أشبه الضمير من حيث كان منادى، والمنادى يحلّ محلّ الكاف من نحو: أدعوك.
فإن قيل: فكيف يتصل الاسم بالاسم في قوله «لاه ابن عمّك» بغير واسطة، وإنما يتصل الاسم بالاسم في نحو: لله زيد ولأخيك ثوب، بواسطة اللام؟ فالجواب:
أنّ اللام أوصلت الاسم بالاسم، وهي مقدّرة، كما تحمّلت الجرّ، وهي مقدرة.
انتهى.
فهؤلاء كلّهم صرّحوا بأنّ الكسرة إعراب، وأن «لاه» مجرور باللام المضمرة.
وكأنّه، والله أعلم، اختصر كلامه من أمالي ابن الشجري فوقع فيما وقع (2).
وهذه عبارة ابن الشجري (3):
أقول: إنّ الاسم الذي هو «لاه» على هذا القول تامّ، وهو أن يكون أصله:
ليه على وزن جبل، فصارت ياؤه ألفا لتحرّكها وانفتاح ما قبلها.
ومن قال: لهي أبوك فهو مقلوب من لاه، فقدّمت لامه التي هي الهاء على عينه التي هي الياء، فوزنه فلع.
وكان أصله بعد تقديم لامه على عينه: للهي، فحذفوا لام الجر، ثم لام التعريف، وضمّنوه معنى لام التعريف فبنوه، كما ضمنوا معناها أمس، فوجب بناؤه، وحرّكوا الياء لسكون الهاء قبلها، واختاروا لها الفتحة لخفّتها. انتهى.
__________
(1) في طبعة بولاق: = الجار = بدل الجر. وهو تصحيف صوابه من النسخة الشنقيطية وأمالي ابن الشجري 2/ 14.
(2) كلام البغدادي هنا إشارة إلى نص الرضي الذي سبق في أول الشاهد.
(3) أمالي ابن الشجري 2/ 15.
(7/160)
وقول الشارح المحقق، كما هو أحد مذهبي سيبويه في الله، وهو أنّه من لاه يليه، قال ابن الشجري: أصل هذا الاسم الذي هو الله تعالى مسمّاه إلاه في أحد قولي سيبويه بوزن فعال، ثم لاه بوزن عال.
ولمّا حذفوا فاءه عوّضوا منها لام التعريف، فصادفت وهي ساكنة اللام التي هي عين، وهي متحركة، فأدغمت فيها. إلى أن قال: وهذا قول يونس بن حبيب، وأبي الحسن الأخفش، وعلي بن حمزة الكسائي، ويحيى بن زياد الفراء، وقطرب بن المستنير.
وقال بعد وفاقه لهذه الجماعة: وجائز أن يكون أصله لاه، وأصل لاه ليه على وزن جبل (1)، ثم أدخل عليه الألف واللام فقيل الله. واستدلّ على ذلك بقول العرب: لهي أبوك، يريد لاه أبوك. قال: فتقديره على هذا القول فعل، والوزن وزن باب ودار.
وأنشد للأعشى (2): (مخلع البسيط)
كحلفة من أبي رياح ... يسمعها لاهه الكبار
ولذي الإصبع العدوانيّ:
لاه ابن عمّك لا أفضلت في حسب ... البيت
انتهى كلام سيبويه. هذا كلامه (3).
وأقول: هذان البيتان ليسا بموجودين في كتاب سيبويه كما نبّهنا سابقا في الشاهد الخامس والعشرين بعد المائة (4).
وقد تكلّم أبو علي الفارسي على قولهم: لهي أبوك في «التذكرة القصرية»،
__________
(1) في أمالي ابن الشجري: = على وزن فعل =.
(2) في طبعة بولاق: = وأنشد الأعشى =. والتصويب من النسخة الشنقيطية وأمالي ابن الشجري.
والبيت للأعشى ميمون في ديوانه ص 333وجمهرة اللغة ص 327والدرر 3/ 39وسر صناعة الإعراب 2/ 430ولسان العرب (أله، لوه) والمقاصد النحوية 4/ 238وهمع الهوامع 1/ 178. وهو بلا نسبة في شرح المفصل 1/ 3.
(3) في أمالي ابن الشجري: = انتهى كلامه، أي كلام سيبويه =.
(4) الخزانة الجزء الثاني ص 234.
(7/161)
وفي «إيضاح الشعر» فلا بأس بنقل كلاميه لمزيد الفائدة والإيضاح:
قال في «التذكرة»: لهي أبوك مقلوب من لاه، على القول الذي لاه فيه فعل، أي: بفتحتين، لا على القول الذي لاه فيه عال محذوفة الفاء، وهي همزة إلاه.
ومن إشكال هذه المسألة مخالفة وزنها لوزن ما قلبت منه، لأنّ الأصل فعل، أي:
بفتحتين، ولهي فلع، أي: بسكون اللام.
ومن إشكالها أيضا أنّ المقلوب منه معرب وهو لاه، والمقلوب مبنيّ على الفتح، وهي لهي. وإنّما جعلنا لهي هو المقلوب، لأنه أقل تمكنا، وأكثر تغييرا، بدليل أنّ اسم الله تعالى معرب متصرّف في الخبر والنداء، أي: ليس هو مبنيّا ودخول جميع العوامل عليه، ولهي أبوك مبنيّ لا يزول عن هذا الموضع، فهو بهذا أكثر تغييرا وأقل تمكّنا.
ولا يخرج «لاه» في كلامهم مع ما قد ذكرنا من الدليل على أنه الأصل، أنه ليس أصل اشتق منه، إذ كان في كلامهم ما العين فيه ياء كثير. فأما مخالفة وزن لهي الأصل الذي قلبت منه فقد جاء مثله، قالوا فوق، فعين الفعل منه ساكنة، وقال امرؤ القيس (1): (الهزج)
* ونبلي وفقاها كعراقيب *
فقلب العين إلى موضع اللام وحرّك اللام كما سكن اللام في لهي، وذلك لأن
__________
(1) قطعة من بيت اختلف في نسبته وتمامه:
ونبلي وفقاها ك ... عراقيب قطا طحل
والبيت لامرئ القيس بن عابس الكندي في التنبيه والإيضاح 1/ 116ولسان العرب (دفنس، فقا) وللفند الزماني في تاج العروس (فوق، نبل، فقا) والتنبيه والإيضاح 1/ 116وتهذيب اللغة 9/ 339وجمهرة اللغة ص 550، 967، 1082ولسان العرب (عرقب، فوق، فقا) والمخصص 6/ 54، 15/ 180. وهو بلا نسبة في الشعر والشعراء ص 29ومقاييس اللغة 4/ 443.
وفي طبعة بولاق والنسخة الشنقيطية: = وتبكي وفقاها =. وهو تصحيف صوابه من المصادر السابقة الذكر.
وفي حاشية النسخة الشنقيطية بخط ناسخها: = وقوله وتبكي إلخ كذا بخط المؤلف، وهو تحريف، والصواب الذي لا محيد عنه:
ونبلي وفقاها ك ... عراقيب قطا طحل
والبيت لامرئ القيس بن عابس، بالباء الموحدة، الكندي الصحابي =.
(7/162)
المقلوب بناء مستأنف، فجائز أن يأتي مخالفا لما قلب منه.
يدلّك على أنه بناء مستأنف، قولهم: قسيّ، هي مقلوب من قووس، وهم لا يتكلمون بقووس البتة، فتركهم الكلام بالأصل يدلّك على أنّ المقلوب مبنيّ بناء مستأنفا، لأنه لو لم يكن مستأنفا، وكان هو المقلوب منه لكان المقلوب منه، متكلّما به.
وإذا ثبت أنّه بناء مستأنف لم ينكر أن يأتي على غير وزن المقلوب منه، كما أنه لما أن كانت أبنيته مستأنفة، لم ينكر أن تجيء على وزن الواحد.
وأما وجه بنائه، فهو أنه تضمّن معنى حرف التعريف كما تضمن أمس ذلك.
ألا ترى أنه في معنى: لله أبوك، وليس فيه حرف التعريف. وحرّك بالفتح كراهة للكسر مع الياء. ولا يحكم بأنّ لاه مبني، وأنت تجد سبيلا إلى الحكم له بالإعراب.
ألا ترى أنّه اسم متمكن منصرف، فلا يحكم له بالبناء إلّا بدليل، كما لم يحكم للهي إلّا بدليل، وهو الفتح. انتهى.
وصريح كلامه أخيرا يردّ ما زعمه الشارح من بناء لاه.
وقال في «إيضاح الشعر»: تحذف حروف المعاني مع الأسماء على ضروب:
أحدها: أن يحذف الحرف ويضمّن الاسم معناه، وهذا يوجب بناء الاسم، نحو أين، وخمسة عشر، وأمس في قول الحجازيّين ومن بناه، ولهي أبوك.
والآخر: أن يعدل الاسم عن اسم فيه حرف، فهذا المعدول لا يجب بناؤه، لأنّه لم يتضمّن الحرف فيلزم البناء، كما تضمنّه الأوّل، لأنّ الحرف يراد في ذلك البناء الذي وقع العدل عنه. وإذا كان هناك مرادا لم يتضمّن هناك الاسم.
ألا ترى أنّه محال أن يراد ثمّ (1)، فيعدل هذا عنه ويتضمّن معناه، لأنّك إذا ثبّتّ الحرف في موضعين، فلا يكون حينئذ عدلا.
ألا ترى أنّ العدل إنّما هو أن تلفظ ببناء وتريد الآخر، فلابدّ من أن يكون البناء المعدول غير المعدول ومخالفا له. ولا شيء يقع فيه الخلاف بين سحر المعدول والمعدول عنه إلّا إرادة لام التعريف في المعدول عنه، وتعرّي المعدول منه
__________
(1) في طبعة بولاق: = تم =. وهو تصحيف صوابه من النسخة الشنقيطية.
(7/163)
فلو ضمّنته معناه لكان بمنزلة إثباته، ولو أثبتّه لم يكن عدلا. فإذا كان كذلك لم يجز أن يتضمّنه، وإذا لم يتضمّنه، لم يجز أن يبنى كما بنى أمس.
والضرب الثالث: أن تحذف الحرف في اللفظ، ويكون مرادا فيه. وإنّما تحذفه من اللفظ اختصارا واستخفافا. فهذا يجري مجرى الثبات. فمن هذا القسم الحذف في جميع الظروف، حذفت اختصارا، لأنّ في ذكرك الأسماء التي هي ظروف دلالة على إرادتها.
ألا ترى أنك إذا قلت: جلست خلفك وقدمت اليوم، علم أنّ هذا لا يكون شيئا من أقسام المفعولات إلّا الظرف.
فلما كان كذلك كان حذفها بمنزلة إثباتها، لقيام الدّلالة عليها. فإذا كنيت رددت في التي كانت محذوفة للاختصار، وللدلالة القائمة عليها، لأنّ الضمير لا يتميّز ولا ينفصل كما كان ذلك في المظهر.
ألا ترى أنّ الهاء في كناية الظرف كالهاء في كناية المفعول به. فإذا رددت الحرف الذي كنت حذفته فوصلته به دلّ على أنّه من بين المفعولات ظرف. فقد علمت بردّك له في الإضمار أنّك لم تضمّن الاسم معنى الحرف فتبنيه، وأنّه مراد في حال الحذف، لأنّ في ظهور الاسم دلالة عليه، فحذفته لذلك.
فهذا يشبه قولهم: الله لأفعلنّ، في أنّهم مع حذفهم ذلك يجري عندهم مجرى غير المحذوف، إلّا أنّه لما حذف في الظرف واستغني عنه وصل الفعل إليه فانتصب.
والجارّ إذا حذفوه على هذا الحدّ الذي ذكرته لك من أنّ الدلالة قائمة على حذفه، يجري على ضربين:
أحدهما: أن يوصل الفعل كباب الظروف، واخترت الرجال زيدا.
والآخر: أن يوصل الفعل، ولكن يكون الحرف كالمثبت في اللفظ، فيجرّون به كما يجرّون به وهو مثبت، وذلك قولهم: الله، وكما قام لنا من الدلالة على حذفهم له في «وبلد (1)»، وكما ذهب إليه سيبويه في: (المتقارب)
__________
(1) في حاشية طبعة هارون 7/ 180: = إشارة إلى ما أنشده سيبويه في 1: 465 (3: 628من نسختي) من قول الراجز:
* وبلد تحسبه مكسوحا *
(7/164)
* ونار توقّد باللّيل نارا (1) *
وكما ذهب بعض المتقدّمين من البصريين في قوله (2): {«وَاخْتِلََافِ اللَّيْلِ»} إلى أنه على ذلك.
ولو قال قائل في إنشاد من أنشد (3): (الطويل)
* ولا مستنكر أن تعقّرا *
إلى هذا الوجه لكان قياس هذا القول. فأمّا تركهم الردّ في حال الإضمار في نحو (4): (الطويل)
ويوم شهدناه سليما وعامرا ... قليل سوى الطّعن النّهال نوافله
فمنهم من يقول: إنّما فعل ذلك لأنّ الإضمار لا يكون إلّا بعد مذكور، فيعلم
__________
(1) عجز بيت لأبي دؤاد وصدره:
* أكلّ امرئ تحسبين امرأ *
والبيت لأبي دؤاد في ديوانه ص 353والأصمعيات ص 191وأمالي ابن الحاجب 1/ 134، 297والدرر 5/ 39وشرح أبيات المغني 2/ 165وشرح التصريح 2/ 56وشرح شواهد الإيضاح ص 299وشرح شواهد المغني 2/ 700وشرح عمدة الحافظ ص 500وشرح المفصل 3/ 26والكتاب 1/ 66والمقاصد النحوية 3/ 445ولعدي بن زيد في ملحق ديوانه ص 199. وهو بلا نسبة في الأشباه والنظائر 8/ 49 والإنصاف 2/ 473وأوضح المسالك 3/ 169ورصف المباني ص 348وشرح الأشموني 2/ 325وشرح ابن عقيل ص 399وشرح المفصل 3/ 79، 142، 8/ 52، 9/ 105والمحتسب 1/ 281ومغني اللبيب 1/ 290والمقرب 1/ 237وهمع الهوامع 2/ 52.
(2) سورة البقرة: 2/ 164وسورة آل عمران: 3/ 190وسورة الجاثية: 45/ 5.
(3) قطعة من بيت للنابغة الجعدي وتمامه:
وليس بمعروف لنا أن نردّها ... صحاحا ولا مستنكر أن تعقّرا
والبيت للنابغة الجعدي في ديوانه ص 50وأمالي المرتضى 1/ 268وجمهرة أشعار العرب 2/ 785وشرح أبيات سيبويه 1/ 241والكتاب 1/ 64. وهو بلا نسبة في المقتضب 4/ 194، 200.
(4) هو الإنشاد الثالث والأربعون بعد السبعمائة في شرح أبيات المغني للبغدادي.
والبيت لرجل من بني عامر في الدرر 3/ 96وشرح المفصل 2/ 46. وهو بلا نسبة في الأشباه والنظائر 1/ 38 وشرح أبيات المغني 7/ 84وشرح ديوان الحماسة للمرزوقي ص 88والكامل في اللغة 1/ 21ولسان العرب (جزي) ومغني اللبيب 2/ 503والمقتضب 3/ 105والمقرب 1/ 147وهمع الهوامع 1/ 203.
(7/165)
أنّه إضمار ذلك. وهذا إذا اتّسعوا فيه فجعلوا نصبه نصب المفعول به لم يلزم أن يكون عليه دلالة، كما كان في حال كونه ظرفا.
فأمّا قولهم: لهي أبوك، فلا تكون هذه اللام الثانية في الاسم، إلا التي هي فاء الفعل.
والدليل على ذلك أنّها لا تخلو من أن تكون الجارّة، أو المعرّفة، أو التي هي فاء.
فلا يجوز أن تكون المعرّفة لأن تلك يتضمّنها الاسم، وإذا تضمنها الاسم لم تظهر.
ألا ترى أن الواو في خمسة عشر لا تثبت، واللام في أمس في قول من بنى لا تظهر. فلما كان الاسم هنا مبنيّا أيضا على الفتح، ولم يكن فيه معنى يوجب بناءه على تضمّنه لمعنى حرف التعريف، وجب أيضا أن لا يظهر، كما لم يظهر أيضا، فيما ذكرت لك. فإذا لم يجز ظهور حرف التعريف، لم تخل المحذوفة من أحد أمرين:
إمّا أن تكون الجارّة، أو التي هي فاء الفعل. فلا يجوز أن تكون الجارّة لأنّها مفتوحة وتلك مكسورة مع المظهرة، فلا يجوز إذا أن تكون إيّاها للفتح. فإن قال قائل: ما تنكر أن تكون الجارّة وإنّما فتحت لأنّها جاورت الألف، والألف يفتح ما قبلها؟
قيل له: الدلالة على أنّها في قولهم: لاه أبوك، هي الفاء وليست الجارّة، أنها لو كانت الجارّة في «لاه» وفتحت لمجاورة الألف لوجب أن تكسر في لهي ولا تفتح، لزوال المعنى الذي أوجب فتحه، وهو مجاورة الألف. فعلمت أنّ الفتح لم يكن لمجاورة الألف.
فإن قال: ترك في القلب كما كان في غير القلب، فذلك دعوى لا دلالة عليها، ولا يستقيم في القلب ذلك.
ألا تراهم قالوا: جاه في قلب وجه، وفقا في فوق. فإذا كانوا قد خصّوه بأبنية لا تكون في المقلوب عنه، دلّ على أنّه ليس يجب أن يكون كالمقلوب عنه. على أنّ ادّعاء فتح هذه اللام مع أنها الجارة، لا يسوغ في اللغة التي هي أشيع وأفشى. ولم تفتح (1) في هذه اللغة الشائعة إلا مع المنادى، وذلك لمضارعته المضمر.
__________
(1) في طبعة بولاق: = ولم يفتح =. ولقد أثبتنا رواية النسخة الشنقيطية.
(7/166)
فإذا لم يجز ذلك ثبت أنّها فاء الفعل، وإذا ثبت ذلك ثبت أنّ الجارة مضمرة، لابدّ من ذلك. ألا ترى أنّك إن لم تضمر يتّصل الاسم الثاني بالأوّل، لأنّه ليس إيّاه.
فالمعنى إذا: لله أبوك.
وممّا يدلّ على فساد قول من قال إنّ هذه اللام هي الجارّة، أنّها إذا كانت إياها كانت في تقدير الانفصال من الاسم، من حيث كان العامل في تقدير الانفصال عن المعمول فيه، فإذا كان كذلك فقد ابتدأ الاسم أوّله ساكن. وذلك ممّا قد رفضوه ولم يستعملوه.
ألا ترى أنّهم لم يخففوا الهمزة إذا كانت أول كلمة من حيث كان تخفيفها تقريبا من الساكن. فإذا رفضوا التقريب من الساكن في الابتداء، فأن يرفضوا فيه الابتداء بالساكن نفسه أولى.
ويدلّ على فساد ذلك أنّهم لم يخرموا [أوّل] (1) متفاعلن، كما خرموا أوّل فعولن ومفاعلن ونحو ذلك، مما يتوالى في أوله متحركات (2) لأنّ متفاعلن يسكن ثانيه للزحاف، فيلزم لو خرموه، كما خرم فعولن الابتداء بالساكن (3).
وعلى هذا قال الخليل: لو لفظت بالدال من قد، والباء من اضرب لقلت: أد، وإب، فاجتلبت همزة الوصل.
وقال أبو عثمان: لو أعللت الفاء من عدة وزنة ونحوهما، ولم تحذفها للزمك أن تجتلب همزة الوصل فيها، فتقول: إعدة (4).
ومن زعم أنّ الهمزة في أنا كان الأصل فيها ألفا (5) ثم أبدل منها همزة فقد جهل ما ذكرناه من مذاهب العرب ومقاييس النحويّين.
فأمّا أمس فقد جوّزت العرب فيه ضربين:
ضمّنها قوم معنى الحرف فبنوها في كلّ حال، وعدلها آخرون فلم يصرفوه، فهؤلاء
__________
(1) كلمة: = أول = زيادة من النسخة الشنقيطية.
(2) في النسخة الشنقيطية: = متحركان =. وهو تصحيف والصواب في طبعة بولاق.
(3) في النسخة الشنقيطية: = لو خرمه كما خرم = فقط.
(4) في النسخة الشنقيطية: = ايعدة =. وهو تصحيف صوابه من طبعة بولاق.
(5) في طبعة بولاق: = ألف =. وهو تصحيف صوابه من النسخة الشنقيطية.
(7/167)
جعلوه بمنزلة سحر في باب العدل، وأنّهم لم يضمّنوه الحرف. فأما أخر والعدل فيه فله موضع آخر يذكر فيه إن شاء الله تعالى.
انتهى كلام أبي علي، ولتعلّق جميعه بهذا الباب سقناه برمّته، ليكون كالتّتمّة له، وبالله التوفيق.
والبيت من قصيدة لذي الإصبع العدواني، وهو شاعر جاهليّ، وتقدّمت ترجمته في الشاهد الخامس والثمانين بعد الثلثمائة (1).
وعدّتها في رواية المفضّل في «المفضليات» (2) ثمانية عشر بيتا، وفي رواية ابن الأنباري في شرحها عن أبي عكرمة، ورواية أبي علي القالي في أماليه، ستة وثلاثون بيتا (3).
واقتصرنا على رواية المفضل. قالها في ابن عمّ له كان ينافسه ويعاديه، وهي (4):
(البسيط)
لي ابن عمّ على ما كان من خلق ... مختلفان فأقليه ويقليني
أزرى بنا أنّنا شالت نعامتنا ... فخالني دونه وخلته دوني (5)
يا عمرو إلّا تدع شتمي ومنقصتي ... أضربك حتّى تقول الهامة اسقوني (6)
لاه ابن عمّك لا أفضلت في حسب ... عنّي ولا أنت ديّاني فتخزوني
ولا تقوت عيالي يوم مسغبة ... ولا بنفسك في العزّاء تكفيني
__________
(1) الخزانة الجزء الخامس ص 278.
(2) المفضليات ص 161160.
(3) أمالي القالي 1/ 257255.
(4) الأبيات لذي الإصبع العدواني في ديوانه ص 9589والأغاني 3/ 106104وأمالي القالي 1/ 255 257وشرح أبيات المغني 3/ 291290وشرح اختيارات المفضل ص 765745والمفضليات ص 160 161.
(5) البيت لذي الإصبع العدواني في ديوانه ص 89ولسان العرب (نعم).
(6) البيت لذي الإصبع العدواني في ديوانه ص 92وتاج العروس (هيم) وتهذيب اللغة 6/ 47، 12/ 215 وجمهرة اللغة ص 1100وسمط اللآلئ ص 289والشعر والشعراء ص 712والكامل في اللغة 1/ 220 ولسان العرب (هوم) والمؤتلف والمختلف ص 118والمعاني الكبير ص 977. وهو بلا نسبة في لسان العرب (صدى).
(7/168)
إنّي لعمرك ما بابي بذي غلق ... عن الصّديق ولا خيري بممنون (1)
ولا لساني على الأدنى بمنطلق ... بالفاحشات ولا فتكي بمأمون
عفّ يؤوس إذا ما خفت من بلد ... هونا فلست بوقّاف على الهون
عنّي إليك فما أمّي براعية ... ترعى المخاض وما رأيي بمغبون
كلّ امرئ راجع يوما لشيمته ... وإن تخالق أخلاقا إلى حين
إنّي أبيّ أبيّ ذو محافظة ... وابن أبيّ أبيّ من أبيّين (2)
وأنتم معشر زيد على مائة ... فأجمعوا أمركم كلّا فكيدوني
فإن عرفتم سبيل الرّشد فانطلقوا ... وإن جهلتم سبيل الرّشد فأتوني
ماذا عليّ وإن كنتم ذوي كرم ... أن لا أحبّكم إن لم تحبّوني (3)
لو تشربون دمي لم يرو شاربكم ... ولا دماءكم جمعا تروّيني
الله يعلمني والله يعلمكم ... والله يجزيكم عنّي ويجزيني
قد كنت أوتيكم نصحي وأمنحكم ... ودّي على مثبت في الصّدر مكنون
لا يخرج الكره منّي غير مأبية ... ولا ألين لمن لا يبتغي ليني (4)
ومن رواية أبي عكرمة (5):
فإن ترد عرض الدّنيا بمنقصتي ... فإنّ ذلك ممّا ليس يشجيني
ولا يرى فيّ غير الصّبر منقصة ... وما سواه فإنّ الله يكفيني
لولا أياصر قربى لست تحفظها ... ورهبة الله فيمن لا يعاديني
إذن بريتك بريا لا انجبار له ... إنّي رأيتك لا تنفكّ تبريني
إنّ الذي يقبض الدّنيا ويبسطها ... إن كان أغناك عنّي سوف يغنيني
__________
(1) البيت بلا نسبة في مقاييس اللغة 4/ 454.
(2) البيت لذي الإصبع العدواني في سر صناعة الإعراب 2/ 628وشرح المفصل 5/ 13ولسان العرب (أبي).
وهو بلا نسبة في مجالس ثعلب 1/ 213والمقتضب 3/ 333.
(3) في النسخة الشنقيطية: = إذ لم تحبوني =.
(4) البيت بلا نسبة في لسان العرب (ضعف).
(5) هذه الأبيات في أمالي القالي وشرح اختيارات المفضل وقد خلت منها المفضليات وشرح أبيات المغني للبغدادي.
(7/169)
يا عمرو لو لنت لي ألفيتني بشرا ... سمحا كريما أجازي من يجازيني (1)
والله لو كرهت كفّي مصاحبتي ... لقلت إذ كرهت قربي لها بيني
وقوله: «لي ابن عمّ»، علم من هذا، أنهما اثنان. فقوله مختلفان خبر مبتدأ مضمر، أي: نحن.
وقوله: «من خلق»، أي: من تخالق. وكان تامّة، أي: ثبت، و «من» بيان لما.
ومطلع القصيدة على رواية أبي عكرمة والقاليّ (2):
يا من لقلب شديد الهمّ محزون ... أمسى تذكّر ريّا أمّ هارون
أمسى تذكّرها من بعد ما شحطت ... والدّهر ذو غلظة حينا وذو لين
فإن يكن حبّها أمسى لنا شجنا ... فأصبح الوأي منها لا يواتيني
فقد غنينا وشمل الدّهر يجمعنا ... أطيع ريّا وريّا لا تعاصيني
ترمي الوشاة فلا تخطي مقاتلهم ... بصادق من صفاء الودّ مكنون
ولي ابن عمّ على ما كان من خلق ... إلى آخره
و «الشجن»: الحزن. و «الوأي»: الوعد. و «غنينا»: أقمنا.
وقوله: «أزرى بنا» إلخ، قال ابن الأنباري: يقال أزرى به، إذا قصّر (3)، وزرى عليه: إذا عابه.
وقوله: «شالت نعامتنا»، أي: تفرّق أمرنا واختلف. يقال عند اختلاف القوم: شالت نعامتهم، وزفّ رألهم. و «الرأل»: فرخ النّعام. وقيل يقال شالت نعامتهم، إذا جلوا عن الموضع.
__________
(1) في طبعة بولاق: = لو كنت لي =. وهو تصحيف ظاهر لا يستقيم معه المعنى والتصويب من المصادر السابقة.
وفي المفضليات وشروحها: = ألفيتني يسرا =.
(2) أمالي القالي 1/ 255وشرح اختيارات المفضل ص 745.
وفي حاشية شرح اختيارات المفضل يقول د. قباوة: = الأبيات 51لم يروها الأنباري عن أبي عكرمة ورواها عن غيره =.
(3) في طبعة بولاق: = قصد =. وهو تصحيف صوابه من شرح اختيارات المفضل ص 748والنسخة الشنقيطية.
(7/170)
والمعنى: تنافرنا فصرت لا أطمئنّ إليه، ولا يطمئنّ إليّ، ويقال ألقوا عصاهم، إذا سكنوا واطمأنّوا. انتهى.
وقال الزمخشري في «المستقصى»: شالت نعامتهم، أي: تفرّقوا وذهبوا.
لأنّ النعامة موصوفة بالخفّة وسرعة الذهاب والهرب. ويقال أيضا: خفّت نعامتهم، وزفّ رألهم. وقيل: النعامة: جماعة القوم. وأنشد البيت مع أبيات أخر.
وقوله: «يا عمرو إلّا تدع شتمي» إلخ، قال ابن الأنباري (1): قال الأصمعي:
العرب تقول: العطش في الرأس.
وأنشد قول الراجز (2): (الرجز)
قد علمت أنّي مروّي هامها ... ومذهب الغليل من أوامها
* إذا جعلت الدّلو في خطامها *
«الغليل»: شدّة العطش. و «الأوام»: حرّ تجده في أجوافها. وأنشد أيضا (3):
(الطويل)
* ستعلم إن متنا صدى أيّنا الصّدي *
صدى، أي: عطشا. والمعنى: إن لا تدع شتمي اضربك على هامتك حيث تعطش. ويقال: إنّ الرجل إذا قتل فلم يدرك بثأره، خرجت هامة من قبره، فلا تزال تصيح: اسقوني اسقوني حتّى يقتل قاتله.
وأنشد في ذلك (4): (الوافر)
__________
(1) شرح المفضليات ص 321.
(2) الرجز بلا نسبة في شرح أبيات المغني للبغدادي 3/ 292وشرح المفضليات ص 321. وبعض أشطرها بلا نسبة في تاج العروس (أدم) وكتاب الجيم 1/ 68ولسان العرب (أدم).
(3) عجز بيت لطرفة بن العبد وصدره:
* كريم يروّي نفسه في حياته *
والبيت لطرفة بن العبد في ديوانه ص 33وشرح القصائد العشر للخطيب التبريزي ص 136وهو بلا نسبة في تاج العروس (صدى) ورصف المباني ص 396ولسان العرب (صدى).
(4) البيت لعبد الله بن خازم في أمالي القالي 3/ 31والحيوان 2/ 299والمخصص 8/ 162. وهو بلا نسبة في
(7/171)
فإن تك هامة بهراة تزقو ... فقد أزقيت بالمروين هاما
انتهى.
قال الشريف المرتضى في «أماليه» بعد نقل هذا: وهذا باطل لا أصل له.
ويجوز أن يعنيه ذو الإصبع على مذاهب العرب.
وقوله: «لاه ابن عمّك» إلخ أصله: لله ابن عمك، فحذف لام الجرّ مع لام التعريف وبقي عمله شذوذا، وهو خبر مقدّم، وابن عمّك: مبتدأ مؤخر، واللام المحذوفة للتعجّب.
ونقل (1) الشريف المرتضى عن ابن دريد، أنّه قال: أقسم وأراد: لله ابن عمّك (2)، فتكون اللام للقسم، وجملة: «لا أفضلت» جوابه.
وهذا غير صحيح، لأنه يبقى قوله ابن عمّك ضائعا.
وقال ابن هشام في «المغني» أصله لله درّ ابن عمّك. وهذا تكلّف لأنّه إجحاف مستغنى عنه بجعل اللام للتعجب، ويكون جملة: «لا أفضلت» إلخ، بيانا وتفسيرا لجهة التعجّب من كمال صفاته، المقتضى للتعجّب منها.
وقال ابن الأنباري: وروى: «لاه ابن عمّك» بالخفض، وهو قسم، المعنى:
ربّ ابن عمّك بخفض ربّ، فيكون على هذا ربّ تابعا للفظ الجلالة بالوصفيّة، ويكون جملة: «لا أفضلت» إلخ، جواب القسم، واللام المضمرة للقسم، ولاه مقسم به.
وقد أورد الشارح المحقق هذا البيت في «عن» من حروف الجر، على أنّها هنا في بابها من المجاوزة، وأفضلت مضمّن لمعنى تجاوزت في الفضل.
وأورده ابن هشام في «المغني» على أنّ «عن» فيه بمعنى على، قال: لأن المعنى المعروف: أفضلت عليه.
__________
أساس البلاغة (زقو) وتاج العروس (زقا، هوم) وتهذيب اللغة 6/ 469وجمهرة اللغة ص 823ولسان العرب (هوم، زقا).
(1) من قوله: = ونقل الشريف المرتضى مستغنى عنه بجعل اللام للتعجب =. ساقط من النسخة الشنقيطية.
(2) أمالي المرتضى 1/ 253.
(7/172)
وهذا قول ابن السكيت في «إصلاح المنطق»، وتبعه ابن قتيبة وغيره.
قال ابن السيد في «شرح أبيات أدب الكاتب» (1): ذهب يعقوب بن السكيت، ومن كتابه نقل ابن قتيبة هذه الأبواب، إلى أنّ «عن» ها هنا بمعنى على.
وإنما قال ذلك لأنه جعل أفضلت من قولهم: أفضلت على الرجل، إذا أوليته فضلا.
وأفضلت هذه تتعدّى بعلى، لأنها بمعنى الإنعام. ومعناه: إنّك لم تنعم عليّ بأن شرّفتني فتعتدّ (2) بذلك عليّ.
وقد يجوز أن يكون من قولهم: أعطى وأفضل، إذا زاد على الواجب. وأفضل هذه أيضا تتعدّى بعلى، يقال: أفضل على كذا، أي: زاد عليه فضلة.
وقد يجوز أن يكون من قولهم: أفضل الرجل إذا صار ذا فضل في نفسه، فيكون معناه: ليس لك فضل تنفرد به عنّي، وتحوزه دوني. فتكون «عن» هنا واقعة موقعها غير مبدلة من على. انتهى.
ومنه أخذ ما نقله ابن الملّا، بقوله: قيل: ضمّن أفضل معنى انفرد، فعدّى بعن، لأنّه إذا أفضل عليه في الحسب، أي: زاد فقد انفرد عنه بتلك الزيادة. وقيل: هي على بابها، لأنّه إذا كان أفضل، وكان فوقه في الحسب فقد زاد عنه، وصار في حيّز، فكأنه يقول: ما زاد قدرك عن قدري، ولا ارتفع شأنك عن شأني. انتهى.
هذا وقد روى صاحب الأغاني (3):
لاه ابن عمّك لا أفضلت في حسب ... شيئا
وعليها لا يكون في البيت عن، فلا يأتي هذا البحث.
وعلى تلك كان الظاهر أن يقول: «عنه» بضمير الغائب، لكنه التفت من الغيبة إلى التكلم.
قال ابن السيد: ويعني بابن العمّ المذكور نفسه، فلذلك ردّ الإخبار بلفظ المتكلّم ولم يخرجه بلفظ الغيبة، لئلّا يتوهّم أنّه يعني نفسه. ولو جاء بالكلام على لفظ الغيبة
__________
(1) الاقتضاب ص 442وشرح أبيات المغني 3/ 287.
(2) في طبعة بولاق: = فتعتدي =. وهو تصحيف صوابه من الاقتضاب ص 442وشرح أبيات المغني 3/ 287 والنسخة الشنقيطية.
(3) الأغاني 3/ 105.
(7/173)
لكان أحسن، ولكنه أراد تأكيد البيان، ورفع الإشكال.
و «الحسب»: ما يعدّه الإنسان من مآثر نفسه.
و «الدّيّان»: القيّم بالأمر المجازي به، وهو فعّال من الدّين، وهو الجزاء.
وفي «القاموس»: الديّان: القهّار، والقاضي، والحاكم، والمجازي الذي لا يضيع عملا، بل يجزي بالخير والشر.
و «تخزوني» بالخاء والزاي المعجمتين: مضارع خزاه خزوا بالفتح: ساسه وقهره وملكه. وأما الخزي بالكسر وهو الهوان والذّلّ فالفعل منه كرضي. وأخزاه الله: فضحه.
قال الدماميني: يحتمل الرفع والنصب في «فتخزوني» (1) كما يحتملها نحو: ما تأتينا فتحدثنا، أي: ولا أنت مالكي فأنت تسوسني (2)، أو ليس لك ملك فسياسة.
وعلى تقدير النصب فالفتحة مقدّرة كما في قوله (3): (الطويل)
* أبى الله أن أسمو بأمّ ولا أب *
وليس بضرورة. وقد قرئ في الشواذ (4): {«إِلََّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ}
__________
(1) في النسخة الشنقيطية: = تمزوني =. وهو تصحيف صوابه من شرح أبيات المغني 3/ 289والنسخة الشنقيطية.
(2) في شرح أبيات المغني: = ولا أنت مالكي، فكيف تسوسني =. وهي روآية أجود.
(3) عجز بيت لعامر بن الطفيل العامري وصدره:
* فما سوّدتني عامر عن وراثة *
والبيت هو الإنشاد السابع بعد التسعمائة في شرح أبيات المغني للبغدادي.
والبيت لعامر بن الطفيل في ديوانه ص 175والحيوان 2/ 95وشرح أبيات المغني 8/ 46وشرح شواهد الشافية ص 404وشرح شواهد المغني ص 953وشرح المفصل 10/ 101والشعر والشعراء ص 343ولسان العرب (كلل) والمقاصد النحوية 1/ 242. وهو بلا نسبة في الأشباه والنظائر 2/ 185والخصائص 2/ 342وشرح الأشموني 1/ 45وشرح شافية ابن الحاجب 3/ 183والمحتسب 1/ 127ومغني اللبيب ص 677.
(4) سورة البقرة: 2/ 237.
هذه قراءة الحسن، كما في القراآت الشاذة لابن خالويه ص 15وتفسير أبي. وقال أبو حيان: = وقرأ الحسن:
أو يعفو، بتسكين الواو، فتسقط في الوصل لالتقائها ساكنة مع الساكن بعدها =.
(7/174)
{النِّكََاحِ»}، بإسكان الواو من يعفو الذي (1). انتهى.
وقال ابن السيّد: وقوله لا أفضلت، معناه: لم تفضل. والعرب تقرن «لا» بالفعل الماضي، فينوب ذلك مناب «لم» إذا قرنت بالفعل المستقبل.
فمن ذلك قوله تعالى (2): {«فَلََا صَدَّقَ وَلََا صَلََّى»}. معناه: لم يصدّق ولم يصلّ. ومنه قول أبي خراش (3): (الرجز)
إن تغفر اللهمّ تغفر جمّا ... وأيّ عبد لك لا ألمّا
ومعنى البيت: لله ابن عمّك الذي ساواك في الحسب، وماثلك في الشرف، فليس لك فضل عليه، فتفتخر به، ولا أنت مالك أمره، فتسوسه، وتصرّفه على حكمك.
وقوله: «ولا تقوت على» إلخ، «تقوت»: تعطي القوت. و «المسغبة»:
المجاعة. و «العزّاء» بفتح العين المهملة وتشديد الزاي: الضيّق والشدّة.
وقوله: «إنّي لعمرك» إلخ، «الممنون»: المقطوع، أو من المنّة.
وقوله: «عفّ يؤوس» إلخ، أي: أعفّ عما ليس لي، لست بذي طمع، آيس ممّا في أيدي غيري، فلا تتبعه نفسي. و «الهون»، بالضم: الذّلّ.
وقوله: «فما أمي براعية»، أي: لست بابن أمة. عرّض به، وكان ابن أمة.
وإنّما خصّ رعية المخاض، لأنّها أشدّ من رعية غيرها، ولا يمتهن فيها إلّا من لم يبال به.
__________
(1) انظر المحتسب 1/ 125.
(2) سورة القيامة: 75/ 31.
(3) هو الإنشاد الواحد بعد الأربعمائة في شرح أبيات المغني للبغدادي.
والرجز لأبي خراش الهذلي في الأزهية ص 158وتاج العروس (جمم) وشرح أبيات المغني 4/ 397وشرح أشعار الهذليين 3/ 1346وشرح شواهد المغني ص 625ولسان العرب (جمم) والمقاصد النحوية 4/ 216 ولأمية بن أبي الصلت في الأغاني 4/ 131، 135وتاج العروس (لمم) وتهذيب اللغة 15/ 347، 420 وكتاب العين 8/ 350ولسان العرب (لمم) ولأمية أو لأبي خراش في لسان العرب (لمم). وهو بلا نسبة في الإنصاف ص 76وتاج العروس (لا) وجمهرة اللغة ص 92والجنى الداني ص 298وديوان الأدب 3/ 166 وكتاب العين 8/ 321ولسان العرب (لا) ومغني اللبيب 1/ 244.
(7/175)
وقوله: «إنّي أبيّ» إلخ، قال ابن جنّي في «سر الصناعة»: كسرة النون من أبيّين حركة التقاء الساكنين، وهما الياء والنون، وكسرت النون على أصل التقاء الساكنين إذا التقيا. ولم تفتح، كما تفتح نون الجمع، لأنّ الشاعر اضطرّ إلى ذلك لئلا يختلف حركة حرف الروي في سائر الأبيات.
وقوله: «وأنتم معشر» إلخ، «زيد»: زيادة. وأجمع أمره، بألف، قال تعالى (1): {«فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكََاءَكُمْ»}.
وقوله: «لا يخرج الكره هو فاعل يخرج، يقول: إذا أكرهت على الشيء، لم يكن عندي إلّا الإباء له، لا أعطي على القسر شيئا. و «المأبية»: مصدر، كالإباء.
* * * __________
(1) سورة يونس: 10/ 71.
(7/176)
النكرة والمعرفة
أنشد فيه، وهو الشاهد الرابع والعشرون بعد الخمسمائة، وهو من شواهد س (1): (الوافر)
524 - أظبي كان أمّك أم حمار
على أنّ الضمير المستتر في «كان» نكرة، لأنّه عاد على نكرة غير مختصة بشيء، وهو ظبي.
وقد تكلّم الشارح المحقق عليه في باب الأفعال الناقصة، وسيأتي إن شاء الله الكلام عليه هناك.
ولنشرح هنا الشعر ونعيّن قائله، فنقول:
هو من أبيات أوردها أبو تمام في «كتاب مختار أشعار القبائل»، ونسبها لثروان ابن فزارة بن عبد يغوث العامريّ، وهي (2):
وكائن قد رأيت من اهل دار ... دعاهم رائد لهم فساروا
فأصبح عهدهم كمقصّ قرن ... فلا عين تحسّ ولا أثار (3)
__________
(1) عجز بيت اختلف في نسبته. وصدره:
* فإنّك لا يضرّك بعد حول *
هو الإنشاد الخامس والعشرون بعد الثمانمائة في شرح أبيات المغني للبغدادي.
والبيت لخداش بن زهير في ديوانه ص 66وتخليص الشواهد ص 272وشرح أبيات المغني للبغدادي 7/ 241 وشرح شواهد المغني 2/ 918وعيون الأخبار 2/ 3والكتاب 1/ 48والمقتضب 4/ 94ولثروان بن فزارة في حماسة البحتري ص 758. وهو بلا نسبة في شرح المفصل 7/ 94ومغني اللبيب 2/ 590.
وروايته في حماسة البحتري:
* أطرف كان أمك أو حمار *
(2) الأبيات في شرح أبيات المغني للبغدادي 7/ 243وفرحة الأديب ص 5453.
(3) البيت لخداش بن زهير في التكملة (قرن). وهو بلا نسبة في تاج العروس (قرن) وتهذيب اللغة 9/ 88 ولسان العرب (قرن).
(7/177)
لقد بدّلت أهلا بعد أهل ... فلا عجب بذاك ولا سخار
فإنّك لا يضرّك بعد عام ... أظبي كان أمّك أم حمار
فقد لحق الأسافل بالأعالي ... وماج اللّؤم واختلط النّجار
وعاد العبد مثل أبي قبيس ... وسيق مع المعلهجة العشار
وقوله: «وكائن» هي خبرية بمعنى كم الخبرية. و «الرائد»: الذي يرسل في طلب الكلأ.
وقوله: «فأصبح عهدهم» إلخ، «العهد»، بالفتح: المنزل الذي لا يزال القوم إذا بعدوا عنه، رجعوا إليه وكذلك المعهد.
وقوله: «كمقصّ قرن»، قال أبو تمام، أي: كمقطع قرن. يريد: خلت ديارهم. وقيل: مقصّ قرن: جبل مشرف على عرفات أيضا. وليس يريده.
انتهى.
قال أبو محمد الأعرابي: مقصّ: موضع تقتصّ فيه الأرض، أي: لا يوجد لهم ولعهدهم أثر، كما لا يوجد أثر من يمشي على صخرة. و «قرن»: جبل.
انتهى (1).
و «تحسّ»: بالبناء للمفعول، من أحسّ الرجل الشيء إحساسا، أي: علم به. و «الأثار» بالفتح، هو الأثر. ويقال: أثارة أيضا بالهاء.
وقوله: «لقد بدّلت أهلا» إلخ، بالبناء للمفعول. و «السّخار»، بضم السين وكسرها: اسم للسّخرية والاستهزاء.
وقوله: «فإنّك لا يضرّك» هذه رواية أبي عبيدة.
ورواه مؤرّج السّدوسي في «أمثاله» (2): «فإنّك لا يضورك»، يقال: ضاره يضوره ويضيره بمعنى. ورويا: «حول» بدل عام. ولم أر رواية «فإنك لا تبالي» لأحد إلّا للنحويّين.
وقوله: «أظبي كان» إلخ، هذه هي الرواية المشهورة التي رواها سيبويه فمن
__________
(1) فرحة الأديب ص 53.
(2) لم يرد هذا النقل في متن كتاب الأمثال. بل أورده المحقق في زياداته نقلا عن الخزانة.
(7/178)
دونه (1) من النحاة. وقال أبو محمد الأسود الأعرابي في «ردّه على ابن السيرافي في شرح أبيات سيبويه» (2): كيف يكون الظبي والحمار أمّين وهما ذكرا الحيوان؟
حتّى إن المثل يضرب بالحمار، فيقال (3):
* من ينك العير ينك نيّاكا *
والصواب ما أنشدناه أبو النّدى:
* أظبي ناك أمّك أم حمار *
وإنّما قلبت اللفظة تحرّجا (4) فيما أرى، ثم استشهد به النحويون على ظاهره.
وهذه الأبيات قطعة طريفة أكتبها أبو الندى، وذكر أنّها لثروان بن فزارة بن عبد يغوث بن ربيعة بن عمرو بن عامر (5). انتهى.
أقول (6): يدفع ما توقّف فيه بأن أمّ هنا معناه الأصل. وهذا معنى شائع لا ينبغي العدول عنه، فإن الأمّ في اللغة تطلق (7) على أصل كل شيء، سواء كان في الحيوان، أو في غيره.
وقال الأعلم: [في «شرح شواهد سيبويه»] وصف في البيت تغير الزّمان، واطّراح مراعاة الأنساب. ويتّصل به ما يبيّنه، وهو قوله:
* فقد لحق الأسافل بالأعالي *
فيقول: لا تبالي بعد قيامك بنفسك، واستغنائك عن أبويك، من انتسبت إليه
__________
(1) في شرح أبيات المغني للبغدادي 7/ 244: = فمن بعده من النحويين =.
(2) فرحة الأديب ص 53وفيه: = وهما أذكر الحيوان =.
(3) المثل في الحيوان 2/ 3256/ 41وشرح أبيات المغني 7/ 244وفرحة الأديب ص 53ولسان العرب (نيك) والمستقصى 2/ 364ومجمع الأمثال 2/ 305.
(4) في طبعة بولاق: = تخرجا =. وهو تصحيف صوابه من شرح أبيات المغني للبغدادي 7/ 244والنسخة الشنقيطية.
(5) طرة شرح أبيات سيبويه 1/ 228وشرح أبيات المغني 7/ 244.
(6) في النسخة الشنقيطية: = وقال =. وهو تصحيف صوابه من طبعة بولاق وشرح أبيات المغني.
(7) في النسخة الشنقيطية وشرح أبيات المغني: = يطلق =.
(7/179)
من شريف، أو وضيع. وضرب المثل بالظبي والحمار، وجعلهما أمّين، وهما ذكران، لأنّه مثل لا حقيقة، وقصد قصد الجنسين، ولم يحقّق أبوّة. وذكر الحول لذكر الظبي والحمار (1) لأنّهما يستغنيان بأنفسهما بعد الحول، فضرب المثل بذكره للإنسان لما أراد من استغنائه بنفسه (2). انتهى.
وقوله: «وماج اللؤم» إلخ، ماج يموج (3). و «اللؤم»: دناءة النفس والآباء.
و «النّجار» بكسر النون وضمها بعدها جيم: الأصل، أي: ذهب السّودد، وغلب على الناس اللؤم والدناءة، واشتبه الأصل والنّسب، حتّى لو بقوا على هذه الحالة سنة لا يبالي إنسان أهجينا كان، أو غير هجين.
وقوله: «مثل أبي قبيس» هو مصغّر أبو قابوس، وهو كنية النعمان بن المنذر ملك الحيرة. و «قابوس»: معرّب كاووس، اسم ملك من ملوك الفرس القديمة.
وقال أبو محمد الأعرابي:
الذي أنشدناه أبو الندى (4):
* وعاد الفند مثل أبي قبيس *
ورواية الناس: «العبد». وذكر أبو الندى أنّه تصحيف (5).
و «الفند»، بكسر الفاء وسكون النون: قطعة من الجبل طولا، وقيل: الجبل العظيم. و «أبو قبيس»: جبل بمكّة، سمّي برجل من مذحج حدّاد، لأنّه أول من بنى فيه.
وفي القاموس: «المعلهج، كمزعفر: الأحمق اللئيم، والهجين. وحكم الجوهري بزيادة هائه غلط». والهجين: اللئيم، وعربيّ ولد من أمة، أو من أبوه خير من أمّه. وفرس هجين: غير كريم، كالبرذون. والعشار، بالكسر: جمع
__________
(1) في النسخة الشنقيطية: = تذكر الظبي والحمار =. وهو تصحيف صوابه من طبعة بولاق وشرح أبيات المغني للبغدادي.
(2) طرة سيبويه للأعلم 1/ 23وشرح أبيات المغني 7/ 244.
(3) في النسخة الشنقيطية: = ماج تموج =.
(4) فرحة الأديب ص 54.
(5) طرة شرح أبيات سيبويه 1/ 229.
(7/180)
عشير، وهو القريب والصّديق، أو جمع عشراء، والعشراء من النّوق: التي مضى لحملها عشرة أشهر أو ثمانية، أو هي كالنّفساء [من النساء].
وقال أبو محمد الأعرابي (1): الفند كناية عن الرجل الوضيع. وأبو قبيس: الرجل الشريف. و «المعلهجة»: الفاسدة النسب، أي: تزوّجت هذه المعلهجة ومهرت مهر الشريفة.
ثروان بن فزارة:
و «ثروان بن فزارة»: صحابيّ (2) وفد على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.
وهو القائل: (الطويل)
إليك رسول الله خبّت مطيّتي ... مسافة أرباع تروح وتغتدي
ونسبه صاحب الجمهرة وابن حجر في «الإصابة» عنه كذا: ثروان بن فزارة ابن عبد يغوث بن زهير الصّتم بن ربيعة بن عمرو بن عامر بن ربيعة بن عامر بن صعصعة.
والصّتم، بفتح الصاد وسكون التاء المثناة الفوقية: لقب زهير، ويقال له: زهير الأكبر.
ونسب سيبويه هذا البيت لخداش بن زهير. وزهير هذا هو زهير الصّتم المذكور، وهو أخو عبد يغوث جدّ ثروان الصحابي. قال المرزباني: هو جاهليّ. وأورده ابن حجر في «الإصابة» في قسم المخضرمين الذين أدركوا زمن النبي صلّى الله عليه وسلّم ولم يجتمعوا به.
خداش بن زهير العامري
قال: خداش بن زهير العامري، شهد حنينا مع المشركين، وله في ذلك شعر، يقول فيه (3): (البسيط)
يا شدّة ما شددنا غير كاذبة ... على سخينة لولا اللّيل والحرم
__________
(1) فرحة الأديب ص 54.
(2) شرح أبيات المغني للبغدادي 7/ 245.
(3) البيت لخداش بن زهير في ديوانه ص 93وأساس البلاغة (شدد) والأغاني 19/ 76وطبقات فحول الشعراء ص 145والعقد الفريد 5/ 255. وهو بلا نسبة في مجمل اللغة 3/ 153ومقاييس اللغة 3/ 146، 179.
والبيت من شعر قاله خداش في يوم نخلة، وهو الفجار الآخر.
(7/181)
ثم أسلم خداش بعد ذلك بزمان، ووفد ولده سعساع على عبد الملك يتنازعون في العرافة، فنظر إليه عبد الملك، فقال: قد ولّيتك العرافة. فقام قومه، وهم يقولون: فلج ابن خداش (1)! فسمعهم عبد الملك، فقال: كلّا والله لا يهجونا أبوك في الجاهليّة ونسوّدك في الإسلام. وذكر البيت المتقدم.
والمراد بقوله: «سخينة» قريش. وذكر المرزباني أنّه جاهلي، وأنّ البيت الذي قاله في قريش كان في حرب الفجار. وهذا أصوب. انتهى.
ونسب العسكري في «كتاب التصحيف» البيت الشاهد لزرارة بن فروان (2) من بني عامر بن صعصعة، وقال: الفاء في فروان مفتوحة.
ولم أر زرارة هذا في الأقسام الأربعة من الإصابة، ولا في جمهرة الأنساب لابن الكلبي. والله أعلم.
* * * وأنشد بعده، وقد تقدم شرحه في الشاهد الخامس والخمسين (3): (الكامل)
* ولقد أمرّ على اللّئيم يسبّني *
__________
(1) فلج: أي غلب وفاز.
(2) في طبعة بولاق والنسخة الشنقيطية: = فزوان = بالزاء المعجمة. وهو تصحيف صوابه من كتاب التصحيف ص 415. إضافة إلى عدم وجود مادة (فزا) في المعاجم. وفي لسان العرب (فرا): = فروة وفروان: اسمان =.
(3) صدر بيت لرجل من سلول وعجزه:
* فمضيت ثمت قلت لا يعنيني *
والبيت هو الإنشاد الأربعون بعد المائة في شرح أبيات المغني للبغدادي.
والبيت لرجل من سلول في الدرر 1/ 78وشرح أبيات المغني 2/ 287وشرح التصريح 2/ 11وشرح شواهد المغني 1/ 310والكتاب 3/ 24والمقاصد النحوية 4/ 58ولشمر بن عمرو الحنفي في الأصمعيات ص 126 ولعميرة بن جابر الحنفي في حماسة البحتري ص 171. وهو بلا نسبة في الأزهية ص 263والأشباه والنظائر 3/ 90والأضداد ص 132وأمالي ابن الحاجب ص 631وأوضح المسالك 3/ 206وجواهر الأدب ص 307والخصائص 2/ 338، 3/ 330والدرر 6/ 154وشرح شواهد الإيضاح ص 221وشرح شواهد المغني 2/ 841وشرح ابن عقيل ص 475والصاحبي في فقه اللغة ص 219ولسان العرب (ثمم، في) ومغني اللبيب 1/ 102، 2/ 429، 645وهمع الهوامع 1/ 9، 2/ 140.
(7/182)
على أنّه يجوز وصف المعرف باللام الجنسية بالنكرة كما هنا، فإنّ جملة «يسبّني» نكرة وقعت وصفا للئيم.
وفيه أنّهم قالوا: الجمل لا تتّصف بتعريف ولا تنكير. وقالوا أيضا: إنّ الجملة بعد المعرّف باللام الجنسيّة يحتمل أن تكون حالا منه، وأن تكون وصفا له. ومثّلوا بهذا البيت. منهم ابن هشام في «المغني» وغيره.
* * * وأنشد بعده، وهو الشاهد الخامس والعشرون بعد الخمسمائة (1): (الكامل)
525 - أزف التّرحّل غير أنّ ركابنا
لمّا تزل برحالنا وكأن قد
على أن «قد» كلمة مستقلة يصلح الوقف عليها.
وهذا الفصل قد أخذه الشارح المحقق من سرّ الصناعة لابن جنّي، وهذه عبارته فيه، قال:
وذهب الخليل إلى أنّ حرف التعريف بمنزلة «قد» في الأفعال، وأن الهمزة واللام جميعا للتعريف. وحكي عنه أنّه كان يسمّيها «أل»، كقولنا: قد، وأنّه لم يكن يقول الألف واللام، كما لا تقول في «قد» القاف والدال. ويقوّي هذا المذهب
__________
(1) هو الإنشاد الخامس والثمانون بعد المائتين في شرح أبيات المغني للبغدادي.
والبيت للنابغة في ديوانه صنعة الأعلم ص 89وديوانه صنعة ابن السكيت ص 30والأزهية ص 211والأغاني 11/ 8والجنى الداني ص 146، 260والدرر اللوامع 2/ 202، 5/ 178وشرح أبيات المغني 4/ 91، وشرح التصريح 1/ 36وشرح شواهد المغني ص 490، 764وشرح المفصل 8/ 148، 9/ 18، 52ولسان العرب (قدد) ومغني اللبيب ص 171والمقاصد النحوية 1/ 80، 2/ 314. وهو بلا نسبة في الأشباه والنظائر 2/ 56، 356وأمالي ابن الحاجب 1/ 455ورصف المباني ص 72، 125، 448وسر صناعة الإعراب ص 334، 490، 777وشرح الأشموني 1/ 12وشرح ابن عقيل ص 18وشرح قطر الندى ص 160 وشرح المفصل 10/ 110ومغني اللبيب ص 342والمقتضب 1/ 42وهمع الهوامع 1/ 143، 2/ 80.
وروايته في ديوانيه:
أفد الترحل غير أن ركابنا ... لما تزل برحالها وكأن قد
(7/183)
قطع أل في أنصاف الأبيات، نحو قول عبيد: (الرمل المرفّل)
يا خليليّ اربعا واستخبرا ال ... منزل الدّارس من أهل الحلال (1)
مثل سحق البرد عفّى بعدك ال ... قطر مغناه وتأويب الشّمال (2)
وهذه قطعة لعبيد مشهورة، عددها بضعة عشر بيتا، يطّرد جميعها على هذا القطع الذي تراه، إلّا بيتا واحدا من جملتها. ولو كانت اللام وحدها حرفا للتعريف لما جاز فصلها من الكلمة التي عرّفتها، لا سيّما واللام ساكنة، والساكن لا ينوى به الانفصال.
ويقوّي ذلك أيضا قول الآخر (3): (الرجز)
عجّل لنا هذا وألحقنا بذال ... الشّحم إنّ قد أجمناه بجل
فإفراده «أل»، وإعادته إيّاها في البيت الثاني يدلّ من مذهبهم على قوّة اعتقادهم لقطعها، فصار قطعهم «أل» وهم يريدون الاسم بعدها، كقطع النابغة «قد» وهو يريد الفعل بعدها.
وذلك قوله:
أفد التّرحّل غير أنّ ركابنا ... لمّا تزل برحالنا وكأن قد
ألا ترى أنّ التقدير فيه: وكأن قد زالت، فقطع «قد» من الفعل كقطع «أل» من الاسم. وعلى هذا أيضا قالوا في التذكّر: قام «ال»، إذا نويت بعده كلاما،
__________
(1) البيت لعبيد بن الأبرص في ديوانه ص 120وسر صناعة الإعراب 1/ 333وشرح المفصل 9/ 17 والمقاصد النحوية 1/ 511. وهو بلا نسبة في رصف المباني ص 71وشرح الأشموني 1/ 83والمنصف 1/ 66.
(2) البيت لعبيد بن الأبرص في ديوانه ص 120والخصائص 2/ 255وسر صناعة الإعراب 1/ 333 وشرح المفصل 9/ 17والمقاصد النحوية 1/ 511. وهو بلا نسبة في شرح الأشموني 1/ 83والمنصف 1/ 66.
(3) الرجز لغيلان بن حريث في الدرر 1/ 245والكتاب 4/ 147والمقاصد النحوية 1/ 510ولحكيم بن معية في شرح أبيات سيبويه 2/ 369. وهو بلا نسبة في تاج العروس (طرا) ورصف المباني ص 41، 70، 153وشرح الأشموني 1/ 83والكتاب 3/ 325وكتاب العين 6/ 134ولسان العرب (طرا) واللامات ص 41وما ينصرف وما لا ينصرف ص 121والمقتضب 1/ 84، 2/ 94والمنصف 1/ 66وهمع الهوامع 1/ 79.
(7/184)
أي: الحارث والعباس، فجرى هذا مجرى قولك في التذكر: قدي، أي: قد انقطع، أو قد قام، أو قد استخرج، ونحو ذلك.
وإذا كان «أل» عند الخليل حرفا واحدا فقد كان ينبغي أن تكون همزته مقطوعة ثابتة، كقاف قد، وباء بل، إلّا أنه لما كثر استعمالهم لهذا الحرف عرف موضعه، فحذفت همزته كما حذفوا: لم يك ولم أدر ولم أبل.
ويؤكد هذا القول عندك أيضا أنهم قد أثبتوا هذه الهمزة بحيث تحذف همزات الوصل البتة، وذلك نحو قول الله عزّ وجلّ (1): {«آللََّهُ أَذِنَ لَكُمْ»} و (2): {«آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ»} ونحو قولهم في القسم: أفأ لله، ولاها الله ذا. ولم نر همزة الوصل ثبتت في نحو هذا، فهذا كلّه يؤكّد أن همزة أل ليست بهمزة وصل، وأنها مع اللام كقد وهل ونحوهما. انتهى كلامه.
ثم أخذ في تأييد المذهب بكون اللام هي المعرّفة، ونقض مذهب الخليل، فقال:
وأمّا ما يدلّ على أنّ اللام وحدها هي حرف التعريف، وأنّ الهمزة إنّما دخلت عليها لسكونها فهو جرّ الجارّ إلى ما بعد حرف التعريف، وذلك نحو قولهم: عجبت من الرجل، ومررت بالغلام، فنفوذ الجرّ بحرفه إلى ما بعد التعريف يدلّ على أنّ حرف التعريف غير فاصل عندهم بين الجارّ والمجرور.
وإنّما كان كذلك (3) لأنّه في نهاية اللطافة والاتّصال بما عرّفه. وإنّما كان كذلك لأنه على حرف واحد ولا سيّما وهو ساكن (4).
ولو كان حرف التعريف عندهم حرفين كقد وهل لما جاز الفصل به بين الجار والمجرور، لأنّ «قد» و «هل» كلمتان بائنتان قائمتان بأنفسهما. ألا ترى أنّ أصحابنا أنكروا على الكسائي وغيره في قراءته (5): {«ثُمَّ لْيَقْطَعْ»} بسكون اللام.
__________
(1) سورة يونس: 10/ 59.
(2) سورة الأنعام: 6/ 144.
(3) في طبعة بولاق: = ذلك =.
(4) في طبعة بولاق والنسخة الشنقيطية: = ولا سيما ساكن =. وقد أثبتنا رواية شرح المفصل.
وفي حاشية طبعة هارون 7/ 200: = وانظر ابن يعيش 9: 18س 2حيث أرى أن يعيش إنما يلخص كلام ابن جني =.
(5) سورة الحج: 22/ 15.
(7/185)
وكذلك (1): {«ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ»} لأنّ ثمّ قائمة بنفسها، لأنّها على أكثر من حرف واحد، وليست كواو العطف وفائه، لأنّ تينك ضعيفتان متّصلتان بما بعدهما، فلطفتا عن نيّة فصلهما وقيامهما بأنفسهما. وكذلك لو كان حرف التعريف في نيّة الانفصال لما جاز نفوذ الجرّ إلى ما بعد حرف التعريف.
وهذا يدلّ على شدة امتزاج حرف التعريف بما عرّفه. وإنّما كان كذلك لقلّته وضعفه عن قيامه بنفسه، ولو كان حرفين لما لحقته هذه القلّة، ولا تجاوز حرف الجرّ إلى ما بعده.
ودليل آخر يدلّ على شدة اتّصال حرف التعريف بما دخل عليه، وهو أنّه قد حدث بدخوله معنى فيما عرّفه، لم يكن قبل دخوله، وهو معنى التعريف، فصار المعرّف كأنّه غير ذلك المنكور وشيء سواه.
ألا ترى إلى إجازتهم الجمع بين رجل والرّجل، قافيتين في شعر واحد، من غير استكراه ولا اعتقاد إيطاء. فهذا يدلّك على أنّ حرف التعريف كأنه مبنيّ مع ما عرّفه، كما أنّ ياء التحقير مبنية مع ما حقّرته، وكما أنّ ألف التكسير مبنيّة مع ما كسرته.
فكما جاز أن يجمع بين رجلكم ورجيلكم (2) قافيتين، وبين درهمكم ودراهمكم، كذلك جاز أيضا أن يجمع بين رجل والرجل، لأن النكرة شيء سوى المعرفة، كما أنّ المكبّر غير المصغّر، وكما أنّ الواحد غير الجميع.
فهذا أيضا دليل قويّ يدلّ على أنّ حرف التعريف مبنيّ مع ما عرّفه، أو كالمبنيّ معه. ويزيدك تأنيسا بهذا أن حرف التعريف نقيض التنوين، لأنّ التنوين دليل التنكير، كما أنّ هذا الحرف دليل التعريف.
فكما أنّ التنوين في آخر الاسم واحد، فكذلك حرف التعريف من أوّله ينبغي أن يكون حرفا واحدا.
فأمّا ما يحتج به الخليل من انفصاله عنه بالوقوف عليه عند التذكّر، فإن ذلك لا
__________
(1) سورة الحج: 22/ 29.
(2) في طبعة بولاق والنسخة الشنقيطية: = رجلكم ورجليكم =. وهو تصحيف صوبناه نقلا عن طبعة هارون 7/ 201. وفيها: = فإنه المعبر عن التصغير، كما أن ما بعده لتمثيل جمع التكسير =.
(7/186)
يدلّ على أنّه في نية الانفصال منه، لأنّ لقائل أن يقول: إنّه حرف واحد، ولكنّ الهمزة لمّا دخلت على اللام فكثر اللفظ بها، أشبهت اللام بدخول الهمزة عليها من جهة اللفظ لا المعنى، ما كان من الحروف على حرفين، نحو: هل، ولو، ومن، وقد، فجاز فصلها في بعض المواضع. وهذا الشبه اللفظي موجود في كثير من كلامهم.
ألا ترى أنّ أحمد وبابه مما ضارع الفعل لفظا، إنّما روعيت به مشابهة اللفظ، فمنع ما يختصّ بالأسماء وهو التنوين.
ومن الشبه اللفظي ما حكى سيبويه من صرفهم جندلا وذلذلا (1)، وذلك أنه لما فقد الألف التي في جنادل وذلاذل من اللفظ، أشبها الآحاد، نحو: علبط وخزخز، فصرفا كما صرفا، وإن كان الجميع من وراء الإحاطة بالعلم أنّه لا يراد هنا إلّا الجمع، فغلب شبه اللفظ بالواحد، وإن كانت الدلالة قد قامت من طريق المعنى على إرادة الجمع.
وهذا الشبه اللفظيّ أكثر من أن أضبطه لك. فكذلك جاز أن تشبه اللام لمّا دخلت الهمزة عليها فكثّرتها في اللفظ، بما جاء من الحروف على حرفين: نحو بل، وقد، ولن.
وكما جاز الوقوف عليها مع التذكّر، لما ذكرناه من مشابهتها قد وبل، كذلك جاز أيضا قطعها في المصراع الأوّل ومجيء ما تعرّف به في المصراع الثاني، نحو ما أنشدناه لعبيد.
وأما قوله سبحانه: «آلذّكرين حرّم» وقوله: «آلله أذن لكم»، فإنّما جاز احتمالهم لقطع همزة الوصل، مخافة التباس الاستفهام بالخبر. وأيضا فقد يقطعون في المصراع الأوّل بعض الكلمة وما هو منها أصل، ويأتون بالبقيّة في أول المصراع الثاني.
فإذا جاز ذلك في أنفس الكلم ولم يدلّ على انفصال بعض الكلمة من بعض، فغير منكر أيضا أن يفصل لام المعرفة في المصراع الأول، ولا يدلّ ذلك على أنّها عندهم في نيّة الانفصال، كما لم يكن ذلك فيما هو من أصل الكلمة.
__________
(1) مخفف الذلاذل. وهي أسافل القميص الطويل.
(7/187)
قال (1): (مجزوء الكامل)
يا نفس أكلا واضطجا ... عا نفس لست بخالده
وهو كثير. ومنه قول الأعشى (2): (الخفيف)
حلّ أهلي ما بين درنا فبادو ... لي وحلّت علويّة بالسّخال
وإذا جاز قطع همزة الوصل التي لا اختلاف بينهم فيها، نحو ما أنشده أبو الحسن (3): (الطويل)
ألا لا أرى اثنين أحسن شيمة ... على حدثان الدّهر منّي ومن جمل
فأن يجوز قطع الهمزة التي هي مختلف في أمرها، وهي مفتوحة أيضا مشابهة لما لا يكون من الهمز إلّا قطعا، نحو همزة أحمر، أولى وأجدر. إلى آخر ما ذكر، فإنّه أطال، وأطاب بضعفي ما نقلنا.
وقد أورده (4) الشارح المحقق في الجوازم، وفي كأنّ من الحروف المشبّهة بالفعل أيضا، على أنّ الفعل بعد «قد» محذوف، أي: كأن قد زالت.
وقد أورده ابن هشام على أنّ الفعل يجوز حذفه بعدها لقرينة، وفي التنوين أيضا على أنّ دال قد لحقها تنوين الترنم، قال: تنوين الترنّم، وهو اللاحق للقوافي المطلقة بدلا من حرف الإطلاق (5)، وهو الألف والواو والياء، وذلك في إنشاد بني تميم.
__________
(1) البيت لكثير في شرح المفصل 9/ 19ولم أقع عليه في ديوانه ورصف المباني ص 73وسر صناعة الإعراب 1/ 340ولسان العرب (خزم).
(2) البيت للأعشى في ديوانه ص 53وتاج العروس (بدل، سخل، درن) ولسان العرب (بدل، سخل، درن).
والدال في كل من درنا وبادولي، تقال بالفتح وبالضم أيضا، وهما موضعان.
(3) البيت لجميل بثينة في ديوانه ص 182وكتاب الصناعتين ص 151والمحتسب 1/ 248ونوادر أبي زيد ص 204ولابن دارة في الأغاني 21/ 255. وهو بلا نسبة في أوضح المسالك 4/ 368ورصف المباني ص 41 وسر صناعة الإعراب 1/ 341وشرح الأشموني 3/ 814وشرح التصريح 2/ 366وشرح المفصل 9/ 19 ولسان العرب (ثنى) والمقاصد النحوية 4/ 569وتاج العروس (ثني).
(4) في طبعة بولاق: = أورد = بحذف هاء الغائب.
(5) في طبعة بولاق والنسخة الشنقيطية: = حروف الإطلاق =. وهو تصحيف صوابه من المغني ص 378حرف النون
(7/188)
وظاهر قولهم أنّه تنوين محصّل للترنّم (1). وقد صرّح بذلك ابن يعيش.
والذي صرّح به سيبويه وغيره من المحقّقين أنّه جيء به لقطع الترنم، وأنّ الترنم، وهو التغنّي، يحصل بأحرف الإطلاق، لقبولها لمدّ الصوت فيها، فإذا أنشدوا، ولم يترنّموا، جاؤوا بالنون في مكانها.
ولا يختصّ هذا التنوين بالاسم، بدليل قوله: وكأن قدن (2) البيت. انتهى.
والبيت من قصيدة للنابغة الذبياني، وهو من أوائل القصيدة، وهي (3):
أمن ال ميّة رائح أو مغتدي ... عجلان ذا زاد وغير مزوّد
زعم البوارح أنّ رحلتنا غدا ... وبذاك تنعاب الغراب الأسود
لا مرحبا بغد ولا أهلا به ... إن كان تفريق الأحبّة في غد
أزف التّرحّل ... البيت
قال شارح ديوانه: قوله: «أمن ال ميّة» يخاطب نفسه كالمستثبت، والنون من «أمن» متحركة بفتحة همزة أل الملقاة عليها لتحذف تخفيفا.
قال الأصمعي: تقديره أمن آل ميّة أنت رائح أو مغتد (4). و «رائح»: من راح يروح رواحا.
و «مغتد»: من اغتدى، أي: ذهب وقت الغداة، وهو ضدّ الرواح.
و «عجلان»: من العجلة، نصبه على الحال. و «ذا»: حال من ضمير عجلان، وقيل: بدل منه.
والزاد في هذا الموضع: ما كان من تسليم وردّ تحية. و «تنعاب الغراب»:
صياحه. و «البوارح»: جمع بارح، وهو ما ولّاك مياسره، يمرّ من ميامنك إلى مياسرك. والعرب تتطيّر بالبارح وتتفاءل بالسانح.
__________
(1) في النسخة الشنقيطية: = المنرنيم =. وهو تصحيف صوابه من طبعة بولاق والمغني.
(2) في النسخة الشنقيطية: = وكأن قد =.
(3) الأبيات مطلع قصيدته الدالية، وهي في ديوانه صنعة الأعلم ص 9089وديوانه صنعة ابن السكيت ص 3028وشرح أبيات المغني 4/ 91.
(4) في النسخة الشنقيطية: = مغتدي =. وهو تصحيف.
(7/189)
و «أزف»: من باب فرح، أي: دنا. وروى بدله (1): «أفد» وهو مثله وزنا ومعنى. و «الترحّل»: الرحيل. و «غير» منصوب على الاستثناء المنقطع.
و «الرّكاب» الإبل، واحدها راحلة من غير لفظها.
و «لمّا» جازمة بمعنى لم. و «تزل» بضم الزاي، من زال يزول زوالا، أي:
فارق. والباء للمعية.
و «الرحال»: جمع رحل، وهو ما يستصحبه الإنسان من الأثاث. و «كأن» مخففة من الثقيلة.
قال الشارح المحقق في بابها: الأفصح عند تخفيفها إلغاؤها، وإذا لم تعملها لفظا ففيها ضمير شأن مقدّر، فاسمها ضمير الشأن، والجملة المحذوفة بعد قد خبرها.
وسيأتي الكلام عليه إن شاء الله في كأنّ.
ونقل ابن الملّا في «شرح المغني» عن ابن جني في «الخصائص»، أنه جوّز أن يكون [قدي] (2) هنا بمعنى «حسبي»، أي: وكأن ذلك حسبي، ف «قدي» وحده هو الخبر. هذا كلامه.
* * * وأنشد بعده، وهو الشاهد السادس والعشرون بعد الخمسمائة (3): (الرمل المرفّل)
526 - يا خليليّ اربعا واستخبرا ال
منزل الدّارس من أهل الحلال
__________
(1) هي رواية ديوانه وشرح أبيات المغني للبغدادي.
(2) في جميع طبعات الخزانة: = يكون قد هنا =. وهو تصحيف صوابه من شرح أبيات المغني للبغدادي، نقلا عن الخصائص. قال ابن جني في الخصائص 2/ 361، 3/ 131: = وكأن قد، أي: كأنها قد زالت =. ولم نجد ما نقله ابن الملا فيه.
(3) البيت لعبيد بن الأبرص في ديوانه ص 120وسر صناعة الإعراب 1/ 333وشرح المفصل 9/ 17 والمقاصد النحوية 1/ 511. وهو بلا نسبة في الخصائص 2/ 255ورصف المباني ص 71وشرح الأشموني 1/ 83والمنصف 1/ 66.
(7/190)
على أنّ الخليل استدلّ على أنّ حرف التعريف «أل» لا اللام وحدها، بفصل الشاعر إيّاها من المعرّف بها. ولو كانت اللام وحدها حرف تعريف لما جاز فصلها من المعرّف، لا سيّما واللام ساكنة.
وقد تقدّم بيانه ونقضه في البيت قبله.
قال ابن جني في «المنصف»، وهو شرح «تصريف المازني المسمّى بالملوكي»:
قد ذهب بعضهم إلى أنّ الألف واللام جميعا للتعريف بمنزلة قد في الأفعال، ولكن هذه الهمزة لمّا كثرت في الكلام وعرف موضعها، والهمزة مستثقلة (1) حذفت في الوصل لضرب من التخفيف.
قالوا: والدليل على ذلك أنّ الشاعر إذا اضطرّ فصلها من الكلمة كما تفصل قد. من ذلك قوله (2): (الرجز)
عجّل لنا هذا وألحقنا بذا ال ... شّحم إنّا قد مللناه بجل
فقطعها في البيت الأوّل، ثم ردّها في أول الكلمة بعد. لأنّها مرّت في البيت الأوّل، فكأنّها لمّا تباعدت أنسيها ولم يعتدّ بها (3). وهذا أحد ما يدلّ عندي على أنّ ما كان من الرجز على ثلاثة أجزاء، فهو بيت كامل وليس بنصف بيت على ما يذهب إليه أبو الحسن الأخفش (4).
ألا ترى أنّه ردّ «أل» في أوّل البيت الثاني. لأنّ الأوّل بيت كامل قد قام بنفسه، وتمّت أجزاؤه، فاحتاج في ابتداء البيت الثاني أن يعرّف الكلمة التي في أوله، فلم يعتدّ بالحرف الذي كان فصله، لأنّهما ليسا في بيت واحد.
ولو كان هذان البيتان بيتا واحدا، كما يقول من يخالف لما احتاج إلى ردّ حرف التعريف.
ألا ترى أنّ عبيدا لمّا جاء بقصيدة طويلة الأبيات، وجعل آخر المصراع الأوّل «أل» لم يعد الحرف في أوّل المصراع الثاني، لمّا كانا مصراعين، ولم يكن كلّ واحد
__________
(1) في طبعة بولاق: = مستقلة =. وهو تصحيف صوابها من النسخة الشنقيطية والمنصف 1/ 65.
(2) سبق تخريجه والحديث عنه في الشاهد النحوي السابق.
(3) في المنصف 1/ 66: = أو لم يعتد بها =.
(4) في المنصف: = على ما ذهب =.
(7/191)
منهما بيتا قائما برأسه. وذلك قوله:
يا خليليّ اربعا واستخبرا ال ... منزل الدّارس من أهل الحلال
فطرد هذه القصيدة وهي بضعة عشر بيتا على هذا الطّرز (1) إلّا بيتا واحدا، وهو (2):
فانتحينا الحارث الأعرج في ... جحفل كاللّيل خطّار العوالي
فهذا ما عندي في هذا. وقد كان أبو عليّ يحتجّ أيضا على أبي الحسن بشيء غير هذا. انتهى.
وقال ابن جني في «باب التطوّع بما لا يلزم، من الخصائص» قال:
وهو أمر قد جاء في الشعر القديم والمولّد جميعا، مجيئا واسعا (3). وهو أن يلتزم الشاعر ما لا يجب عليه، ليدلّ بذلك على غزارة (4) وسعة ما عنده.
وأورد قصائد إلى أن قال: وعلى ذلك ما أنشدنا أبو بكر محمد بن علي (5) عن أبي إسحاق (6) لعبيد، من قوله (7): (الرمل المرفّل)
يا خليليّ اربعا واستخبرا ال ... منزل الدّارس من أهل الحلال
مثل سحق البرد عفّى بعدك ال ... قطر مغناه وتأويب الشّمال (8)
__________
(1) في المنصف: = تطرد هذه القصيدة، وهي بضعة عشر بيتا على هذا الطراز =.
(2) البيت لعبيد بن الأبرص في ديوانه ص 117وتاج العروس (نجع) ولسان العرب (نجع).
(3) في طبعة بولاق: = مجيا واسعا =. بالتسهيل والإدغام. ولقد أثبتنا رواية النسخة الشنقيطية لأنها توافق رواية الخصائص.
(4) في الخصائص: = على غزره =.
(5) في حاشية طبعة هارون 7/ 207: = يبدو أنه محمد بن علي بن إسماعيل الملقب بمبرمان، وهو أستاذ أبي علي الفارسي وأبي سعيد السيرافي =.
(6) هو أبو إسحاق، إبراهيم بن السري بن سهل، أبو إسحاق الزجاج، وهو من شيوخ مبرمان. بغية الوعاة ص 75.
(7) الأبيات في ديوان عبيد بن الأبرص ص 122120.
(8) البيت لعبيد بن الأبرص في الخصائص 2/ 255وسر صناعة الإعراب 1/ 333وشرح المفصل 9/ 17 والمقاصد النحوية 1/ 511. وهو بلا نسبة في شرح الأشموني 1/ 83والمنصف 1/ 66.
(7/192)
ولقد يغنى به جيرانك ال ... ممسكو منك بأسباب الوصال (1)
ثمّ أودى ودّهم إذ أزمعوا ال ... بين والأيّام حال بعد حال
فانصرف عنهم بعنس كالوأى ال ... جأب ذي العانة أو شاة الرّمال
نحن قدنا من أهاضيب الملا ال ... خيل في الأرسان أمثال السّعالي (2)
شزّبا يعسفن من مجهولة ال ... أرض وعثا من سهول أو رمال
فانتجعنا الحارث الأعرج في ... جحفل كاللّيل خطّار العوالي (3)
ثمّ عجناهنّ خوصا كالقطا ال ... قاربات الماء من أين الكلال (4)
نحو قرص يوم جالت جولة ال ... خيل قبّا عن يمين أو شمال
كم رئيس يقدم الألف على ال ... سّابح الأجرد ذي العقب الطّوال (5)
قد أباحت جمعه أسيافنا ال ... بيض في الرّوعة من حيّ حلال (6)
ولنا دار ورثناها عن ال ... أقدم القدموس من عمّ وخال (7)
منزل دمّنه آباؤنا ال ... مورثونا المجد في أولى اللّيالي (8)
ما لنا فيها حصون غير ما ال ... مفردات الخيل تعدو بالرّجال
في روابي عدمليّ شامخ ال ... أنف فيه إرث مجد وجمال
فاتّبعنا دأب أولانا الأولى ال ... موقدي الحرب ومروي بالحبال (9)
__________
(1) البيت لعبيد بن الأبرص في سر صناعة الإعراب 2/ 539. وهو بلا نسبة في المنصف 1/ 66.
(2) البيت لعبيد بن الأبرص في تاج العروس (هضب) ولسان العرب (هضب).
(3) البيت لعبيد بن الأبرص في تاج العروس (نجع) ولسان العرب (نجع).
(4) البيت لعبيد بن الأبرص في تاج العروس (قرص) ولسان العرب (قرص).
(5) في طبعة بولاق: = الأجود =. ولقد أثبتنا رواية النسخة الشنقيطية. لأن البغدادي سوف يعتمدها في شرحه الآتي.
(6) في طبعة بولاق: = الأبيض =. وهو تصحيف صوابه من ديوان عبيد والنسخة الشنقيطية.
(7) البيت لعبيد بن الأبرص في لسان العرب (قدمس). وهو بلا نسبة في تاج العروس (قدمس).
(8) في طبعة بولاق والنسخة الشنقيطية: = منزل من دمنة =. وهو تصحيف صوابه من ديوانه. والبيت لعبيد بن الأبرص في تاج العروس (دمن) ولسان العرب (دمن).
ودمن القوم المنزل: سودوه وأثروا فيه بالدمن وغيره.
(9) البيت لعبيد في كتاب الجيم 1/ 201، 3/ 76ولسان العرب (وأل).
(7/193)
وقال القصيدة (1) كلّها على أنّ آخر مصراع كلّ بيت منها منته إلى لام التعريف، غير بيت واحد، وهو قوله: «فانتجعنا الحارث» إلى آخره، فسار هذا البيت الذي نقض القصيدة أن تمضي (2) على ترتيب واحد هو الجزء.
وذلك أنّه دلّ على أنّ هذا الشاعر إنّما تساند إلى ما في طبعه، ولم يتجشّم إلّا ما في نهضته ووضعه، من غير اغتصاب [له] (3) ولا استكراه ألجأ إليه (4)، إذ لو كان ذلك على خلاف ما حدّدناه، وأنّه إنما صنع الشعر صنعا، لكان قمنا أن لا ينقض ذلك ببيت واحد يوهيه، ويقدح فيه. وهذا واضح. انتهى.
وقوله: «يا خليليّ» مثنّى خليل. و «اربعا» بألف التثنية من ربع زيد بالمكان يربع بفتح الباء فيهما، إذا اطمأنّ وأقام به. و «استخبرا» أمر مسند إلى ألف التثنية.
و «الحلال»: جمع حالّ بمعنى نازل.
وفي القاموس: الحلال: جمع حلّة بكسر المهملة فيهما، وهم القوم النزول، وجماعة بيوت الناس، أو مائة بيت، والمجلس، والمجتمع.
وقوله: «مثل سحق البرد» إلخ، «السّحق»، بالفتح: الثوب البالي، وقد سحق ككرم سحوقة بالضم، كأسحق. و «البرد»، بالضم: ثوب مخطّط: فهو من قبيل إضافة الصفة إلى الموصوف. وعفّى تعفية: غطّاه تغطية ومحاه.
والقطر، أي: المطر، فاعله. و «مغناه»: مفعوله. والمغنى: المنزل الذي غني به أهله ثم ظعنوا، أو عامّ من غني بالمكان، كرضي، إذا أقام فيه. و «التأويب»:
الرجوع والمراد تردّد هبوبها. و «الشّمال»: الريح المعروفة.
وقوله: «ولقد يغنى»، هو من غني المذكور. والممسكو أصله الممسكون، حذفت نونه تخفيفا.
قال ابن جني في «المنصف»: قوله: الممسكو أراد الممسكون، ولكنّه حذف النون لطول الاسم لا للإضافة. وعندي فيه شيء ليس في قوله: الحافظو عورة
__________
(1) في الخصائص: = فقاد القصيدة =.
(2) في طبعة بولاق والنسخة الشنقيطية: = أن يمضي =.
(3) زيادة يقتضيها السياق من النسخة الشنقيطية والخصائص.
(4) في النسخة الشنقيطية: = أجاء إليه =. وفي الخصائص: = أجاءه إليه =.
(7/194)
العشيرة، وذلك أنّ حرف التعريف منه في المصراع الأوّل، وبقيّة الكلمة في المصراع الثاني، والمصراع كثيرا ما يقوم بنفسه حتّى يكاد يكون بيتا كاملا (1)، وكثيرا ما تقطع همزة الوصل في أوّل المصراع الثاني نحو قوله (2): (البسيط)
لتسمعنّ وشيكا في دياركم: ... الله أكبر يا ثارات عثمانا
وقد أجاز أبو الحسن الخرم في أول المصراع الثاني، بخلاف قول الخليل، وجاء ذلك في الشعر كقول امرئ القيس (3): (المتقارب)
وعين لها حدرة بدرة ... شقّت مآقيهما من دبر
فلمّا كان أوّل الممسكو في المصراع الأوّل وباقيه في المصراع الثاني، وهما كالبيتين، ازدادت الكلمة طولا، وازداد حذف النون جوازا. وليس الحافظو كذلك (4). فهذا فصل فيه لطف، وكلا الاسمين إنّما وجب فيه الحذف لطوله.
وقوله: «ثمّ أودى»، أي: هلك. و «أزمعوا»: من أزمعت الأمر وعليه:
أجمعت أو ثبتّ عليه.
وقوله: «والأيام حال»، أي: ذات حال وتغيّر.
وقوله: «بعنس كالوأى» «العنس»، بالفتح: الناقة الصّلبة. و «الوأى»، بفتح الواو والهمزة بعدها ألف مقصورة: الحمار الوحشيّ. و «الجأب»، بفتح الجيم وسكون الهمزة: الحمار الغليظ.
و «العانة»، بالنون: الأتان، وهو المراد هنا، والقطيع من حمر الوحش، والشاة الواحدة من الغنم للذكر والأنثى، أو تكون من الضأن والمعز والظباء والبقر والنعام وحمر الوحش، والمرأة، الجمع شاء. كذا في القاموس.
__________
(1) في النسخة الشنقيطية: = بيتا كاملا =. وفي حاشية النسخة الشنقيطية بخط الناسخ: = قوله بيتا كاملا كذا بخط المؤلف رحمه الله، والصواب بيتا كاملا =.
(2) البيت لحسان بن ثابت من قصيدة في رثاء عثمان بن عفان هو في ديوانه ص 216وشرح أبيات المغني 4/ 342ولسان العرب (ثور، وشك). وهو بلا نسبة في رصف المباني ص 41والمنصف 1/ 68.
(3) البيت بخلاف في الرواية لامرئ القيس في ديوانه ص 164وتاج العروس (أمع) ولسان العرب (فرج، لون) ومجمل اللغة 4/ 96ومقاييس اللغة 4/ 499. وهو بلا نسبة في تهذيب اللغة 11/ 45.
(4) بعده في المنصف: = لأن الكلمة بكمالها في المصراع الأول، فلم تطل طول الممسكو =.
(7/195)
وأهاضيب الملا: اسم مكان. و «أهاضيب»: جمع هضاب جمع هضبة، وهي الجبل المنبسط على وجه الأرض، أو جبل خلق من صخرة واحدة، أو الجبل.
قال أبو عبيد البكري في «المعجم»: «الملا»: بفتح الميم والقصر: موضع من أرض كلب، وموضع في ديار طيّئ. و «السعالي»: جمع سعلاة، وهي أنثى الغول.
وقوله: «شزّبا» إلخ، هو جمع شازب: الضامر اليابس. و «العسف»:
الأخذ على غير الطريق. و «وعثا»: مفعول يعسفن، جمع أوعث بمعنى وعث.
و «الوعث»، بالفتح: الطريق العسرة كالوعث بكسر العين. وقوله: من سهول، أو رمال، بيان لقوله رعثا.
وقوله: «فانتجعنا الحارث» إلخ، من انتجع فلانا، أي: أتاه طالبا معروفه.
وهنا تهكّم وسخرية. والحارث الأعرج هو من ملوك الشام. وأمّه مارية ذات القرطين.
و «الجحفل»، بفتح الجيم: الجيش الكثير. و «الخطّار» المضطرب.
و «العوالي»: الرّماح، جمع عالية، والعالية: أعلى القناة، أو النصف الذي يلي السّنان.
وقوله: «ثم عجناهنّ» يقال: عاج رأس البعير، أي: عطفه بالزمام.
و «الخوص»، بالضم: جمع أخوص، وخوصاء، وهي الغائرة العينين.
و «القاربات»، من القرب بفتحتين، وهو سير الليل لورد الغد. و «الأين»:
الإعياء. و «الكلال» بمعناه أيضا.
وقوله: «نحو قرص»، بالضم: موضع (1). و «قبّا»: جمع أقبّ، وصف من القبب بفتحتين، وهو دقّة الخصر وضمور البطن.
__________
(1) في معجم البلدان (قرص): = قرص: بالضم، بلفظ القرص من الخبز: تلّ بأرض غسان في شعر عبيد بن الأبرص = ثم أنشد أبياتا ثلاثة من القصيدة. وفي ديوان عبيد بن الأبرص ص 122: = نحو قرص =. وشرح صاحب الديوان بقوله: = قرص: هو ابن مالك بن غسان. ويقال: هو رجل من بني كعب بن قرص، تل بأرض غسان =.
وفي طبعة هارون 7/ 211: = وأما قوص، فهو خطأ، لأنها مدينة كبيرة كانت قصبة صعيد مصر =. انظر معجم البلدان (قوص).
(7/196)
وقوله: «كم رئيس يقدم الألف»، «الرئيس»: سيّد القوم وكبيرهم.
و «السابح»: الفرس الحسن الجري. و «الأجرد»: القصير الشعر. و «العقب»، بفتح المهملة وسكون القاف: الجري بعد الجري. و «الطّوال»، بالضم بمعنى الطويل، وجمعه: مفعول أباحت، وأسيافنا: فاعله.
و «القدموس»، بالضم: القديم، والسين زائدة.
و «المورثونا المجد»: جمع مورث، و «نا» ضمير المتكلم مع الغير، و «المجد» بالنصب مفعول.
وقوله: «ما لنا فيها»، أي: في تلك الدار. و «المفردات»، بفتح الراء: التي أفردت عن غيرها، و «ما» زائدة، والخيل بدل من المفردات.
وقوله «في روابي» إلخ، جمع رابية، وهي ما علا من الأرض. و «العدمليّ» بضم العين وسكون الدال المهملتين، وضم الميم وكسر اللام، قال صاحب القاموس:
العدمل والعدمليّ والعدامل والعدامليّ مضمومات: كلّ مسنّ قديم، والضّخم القديم من الشجر ومن الضّباب. و «الإرث»، بالكسر: الأصل.
وقوله: «فاتبعنا دأب أولانا» إلخ، أي: دأب عشيرتنا الأولى، أي: آبائنا الأقدمين. والأولى الثانية بدل من الأولى (1)، وهي اسم إشارة بمعنى أولئك (2).
والموقدين صفة له، أو بدل وحذفت نونه للإضافة.
وعبيد هو عبيد بن الأبرص الأسدي، بفتح العين وكسر الموحّدة، وهو شاعر جاهليّ، تقدّمت ترجمته في الشاهد السادس عشر بعد المائة (3).
وقوله في البيت الآخر: «عجّل لنا هذا وألحقنا» البيت، هو من أبيات سيبويه.
وهذا نصّه في المسألة: وزعم الخليل أنّ الألف واللام اللتين يعرّفون بهما حرف واحد، كقد وأن، ليست واحدة منهما منفصلة من الأخرى كانفصال ألف
__________
(1) كذا في طبعة بولاق والنسخة الشنقيطية. وفي طبعة هارون 7/ 212: = ووجه كتابتها الألى باعتبارها اسم موصول صفة لأولانا =.
(2) في حاشية طبعة هارون 7/ 212: = الوجه هنا أيضا أن تكون اسم موصول لا اسم إشارة. لأن أل لا تدخل على أسماء الإشارة =.
(3) الخزانة الجزء الثاني ص 188.
(7/197)
الاستفهام في قوله: أزيد، ولكن الألف كألف ايم، في ايم الله، وهي موصولة كما أنّ ألف ايم موصولة. إلى أن قال:
وقال الخليل: وممّا يدلّك على أن تلك مفصولة من الرّجل ولم يبن عليها (1) وأنّ الألف واللام فيها (2) بمنزلة قد، قول الشاعر (3): (الرجز)
دع ذا وعجّل ذا وألحقنا بذال ... بالشّحم إنّا قد مللناه بجل
قال: هي ها هنا كقول الرجل، وهو يتذكّر قدي، ثم يقول قد فعل. ولا يفعل مثل هذا علمناه بشيء مما كان من الحروف الموصولة. ويقول الرجل ألي، ثم يتذكّر. فقد سمعناهم يقولون ذلك، ولولا أنّ الألف واللام بمنزلة قد وسوف، لكانتا بناء بني عليه الاسم لا يفارقه (4)، ولكنّهما جميعا بمنزلة هل، وقد، وسوف (5)، يدخلان للتعريف (6). انتهى نصّه.
وقال الأعلم: الشاهد في قوله بذال، وأراد: بذا الشّحم، ففصل لام التعريف من الشحم لما احتاج إليه من إقامة القافية (7) ثم أعادها في الشحم لمّا استأنف ذكره بإعادة حرف الجرّ.
ومعنى بجل حسب، يقال: بجلي كذا، أي: حسبي (8). انتهى.
__________
(1) في طبعة بولاق والنسخة الشنقيطية: = عليهما =. وهو تصحيف صوابه من الكتاب لسيبويه 2/ 64.
(2) في طبعة بولاق والنسخة الشنقيطية: = فيهما =. وهو تصحيف صوابه من الكتاب لسيبويه.
(3) الرجز لغيلان بن حريث في الدرر 1/ 245والكتاب 4/ 147والمقاصد النحوية 1/ 510ولحكيم بن معية في شرح أبيات سيبويه 2/ 369. وهو بلا نسبة في تاج العروس (طرا) ورصف المباني ص 41، 70، 153وشرح الأشموني 1/ 83والكتاب 3/ 325وكتاب العين 6/ 134ولسان العرب (طرا) واللامات ص 41وما ينصرف وما لا ينصرف ص 121والمقتضب 1/ 84، 2/ 94والمنصف 1/ 66وهمع الهوامع 1/ 79.
(4) في طبعة بولاق والنسخة الشنقيطية: = لكانتا بني على الاسم لا تفارقه =. وهو تصحيف صوبناه وكملناه من الكتاب لسيبويه.
(5) بعده في طبعة بولاق والنسخة الشنقيطية: = وهل =. وهو تكرار لهل لم يرد عند سيبويه.
(6) في الكتاب لسيبويه: = تدخلان للتعريف وتخرجان =.
(7) في طبعة بولاق: = من إقامته القامة =. وهو تصحيف صوابه من النسخة الشنقيطية مع أثر تصحيح.
(8) عند الشنتمري: = أي: حسبي وكفاني =.
(7/198)
والبيت غفل لم يحلّ قائله. وقال العيني (1): قائله غيلان بن حريث الرّبعي الراجز.
وقوله: «وألحقنا» في رواية سيبويه: «وألزقنا»، وضبط بعض شرّاح أبياته «بخل» بالخاء المعجمة، أراد به الخلّ المعهود. والباء فيه حرف جر. وهذا أقرب إلى المعنى. انتهى. ولم أر ما ذكره. والله أعلم.
* * * وأنشد بعده، وهو الشاهد السابع والعشرون بعد الخمسمائة (2): (الطويل)
527 - وبالنّسر عند ما
هو قطعة من بيت، وهو:
أما والدّماء المائرات تخالها ... على قنّة العزّى وبالنّسر عند ما
على أنّ لام التعريف قد تزاد في العلم.
قال ابن الشجري في «أماليه»: نسر: الصّنم الذي كان قوم نوح يعبدونه، وقد ذكره الله تعالى في قوله (3): {«وَلََا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلََا سُوََاعاً وَلََا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً»}.
وأدخل فيه الشاعر الألف واللام زيادة للضرورة في قوله: و «بالنّسر عند ما» البيت. انتهى.
__________
(1) المقاصد النحوية 1/ 510.
(2) البيت لعمرو بن عبد الجن في لسان العرب (أبل) وله أو لرجل جاهلي في المقاصد النحوية 1/ 500ولعبد الحق في لسان العرب (نسر). وهو بلا نسبة في الإنصاف 1/ 318وتلخيص الشواهد ص 367وسر صناعة الإعراب 1/ 360ولسان العرب (عزز، عندم، قنن، لوى) والمنصف 3/ 134.
وروايته في بعض هذه المصادر:
أما ودماء مائرات تخالها ... على قنة
(3) سورة نوح: 71/ 23.
(7/199)
وقال ابن حنّي في «سرّ الصناعة»: أنشدنا أبو عليّ هذا البيت وقال: اللام في النّسر زائدة. وهو كما قال، لأنّ نسرا بمنزلة عمرو.
وقال ابن جنّي قبل هذا: وأمّا اللات والعزّى فذهب أبو الحسن إلى أنّ اللام فيهما زائدة. والذي يدلّ على صحّة مذهبه أنّ اللات والعزّى علمان، بمنزلة يغوث ويعوق ونسر ومناة، وغير ذلك من أسماء الأصنام.
فهذه كلّها أعلام وغير محتاجة في تعرّفها إلى اللام، وليست من باب الحارث والعبّاس، التي نقلت فصارت أعلاما وأقرّت فيها (1) لام التعريف، على ضرب من توهّم روائح الصفة فيها، فتحمل على ذلك. فوجب أن تكون فيها زائدة، ويؤكّد زيادتها فيها أيضا لزومها إيّاها كلزوم لام الآن والذي وبابه.
فإن قلت: فقد حكى أبو زيد: لقيته فينة والفينة، وقالوا للشّمس: إلاهة والإلاهة.
وليست فينة، ولا إلاهة، بصفتين فيجوز تعريفهما وفيهما اللام كالحارث والعباس.
فالجواب: أن فينة والفينة وإلاهة والإلاهة، ممّا اعتقب عليه تعريفان:
أحدهما: بالألف واللام، والآخر: بالوضع والعلميّة، ولم نسمعهم يقولون:
لات وعزّى بغير لام (2)، فدلّ لزوم اللام على زيادتها، وأنّ ما هي فيه، ليس مما اعتقب فيه تعريفان. انتهى.
ومحصّله أنّ اللام في «النسر» زائدة بعد وضع العلميّة، وأنّ اللام في اللات والعزّى زائدة فيهما عند وضع العلميّة، وأنّ اللام في الفينة والإلاهة للتعريف، وليست زائدة.
__________
(1) في طبعة بولاق: = وفيها =. بزيادة الواو وهو تصحيف صوابه من النسخة الشنقيطية مع أثر تصحيح.
(2) في حاشية طبعة بولاق: = قوله وعزى بغير لام. بل وقد قال أبو سفيان: ولا عزى لكم. وقال خالد بن الوليد: كفرانك يا عزى من هامش الأصل =.
وفي حاشية طبعة هارون 7/ 215: = أقول: أما النص الأول فقد ورد في إمتاع الأسماع 1: 158وفيه أن عمر بن الخطاب قال حين سمع كلمة أبي سفيان: = لنا العزى ولا عزى لكم = قال: = الله مولانا ولا مولى لكم =. وأما نص خالد بن الوليد فقد ورد هنا محرفا، والصواب أن خالد بن الوليد لما بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى العزى، وهي سمرة كانت لغطفان يعبدونها، وكانوا بنوا عليها بيتا وأقاموا لها سدنة، قام خالد بهدم هذا البيت، وأحرق تلك السمرة وهو يقول:
يا عزّ كفرانك لا سبحانك ... أني رأيت الله قد أهانك =
(7/200)
ولهذا لم ينشد الشارح المحقق البيت بتمامه لتعيّن الزائد الطارئ للضرورة من الزائد غير المنفكّ إلّا في ضرورة، كقوله (1): (الطويل)
عزّاي شدّي شدّة لا تكذّبي ... على خالد والقي الخمار وشمّري
وبيت الشاهد أول أبيات ثلاثة لعمرو بن عبد الجنّ، وبعده: (الطويل)
وما سبّح الرّهبان في كلّ ليلة ... أبيل الأبيلين المسيح بن مريما (2)
لقد هزّ منّي عامر يوم لعلع ... حساما إذا ما هزّ بالكفّ صمّما (3)
كذا أنشد هذه الأبيات أبو علي في «التذكرة القصرية» عن ابن الأعرابيّ، وابن الأنباريّ في «مسائل الخلاف»، وابن الشجري في «أماليه».
وقوله: «ألا والدماء» (4) إلخ، «ألا»: كلمة يستفتح بها الكلام، التنبيه، والواو للقسم، والدماء مقسم به (5)، والبيت الثالث جواب القسم. و «المائرات»:
المتردّدات، من مار الدم على وجه الأرض يمور، إذا تردّد.
ويروى: «أما ودماء مائرات» بدون لام. و «تخالها»: تظنّها. و «عند ما» المفعول الثاني. و «قنّة العزّى»: أعلاها. وقنّة الجبل، بالضم: أعلاه. و «العندم»:
البقّم. والعندم: دم الأخوين.
رواه أبو علي في «الحجّة»:
* أما ودماء لا تزال كأنّها *
__________
(1) البيت لدبية السلمي في تاج العروس (عزز) وكتاب الأصنام ص 26. وكان دبية سادنا للعزى.
وفي النسخة الشنقيطية وكتاب الأصنام: = عزّى = مخرومة، وهي صحيحة. ولقد أثبتنا رواية طبعة بولاق.
(2) البيت لابن عبد الجن في لسان العرب (أبل) ومعجم الشعراء ص 210ولعمرو بن عبد الحق في تاج العروس (أبل).
(3) البيت لحميد بن ثور في ديوانه ص 32ولسان العرب (لعع) وله أو لعمرو بن عبد الجن في تاج العروس (لعع) ولابن عبد الجن في لسان العرب (أبل) ومعجم الشعراء ص 210. وهو بلا نسبة في مجمل اللغة 1/ 160.
(4) كذا وردت: = ألا =. والغريب ذلك لأن نص الشاهد هنا هو: = أما والدماء =.
وفي طبعة بولاق: = ألا ودماء =. وهو تصحيف صوابه من النسخة الشنقيطية.
(5) في النسخة الشنقيطية: = مقسم بها =.
(7/201)
وقال: انتصاب عندم بأحد شيئين:
أحدهما: ما في كان من معنى الفعل، والآخر: أن يجعل على قنة العزّى مستقرا فيكون الحال عنه. فإن نصبت بالأوّل فذو الحال الضمير الذي في كأنّها، وإن نصبته عن المستقرّ فذو الحال الذّكر الذي في المستقرّ، والمعنى على حذف المضاف، كأنّه مثل عندم. انتهى.
وقوله: «وما سبّح» إلخ، الواو عاطفة على الدماء، و «ما»: مصدرية، و «سبّح» بمعنى نزّه، والرهبان: فاعله، و «أبيل» مفعوله، وفي كلّ ليلة متعلق بسبّح.
وروى: «في كلّ بيعة»، أي: وتسبيح الرّهبان (1) أبيل الأبيلين. و «البيعة»، بكسر الباء: متعبّد النصارى. و «أبيل الأبيلين»: راهب الرّهبان.
قال ابن فارس، والصاغاني في «العباب»: الأبيل: راهب النّصارى، وكانوا يسمّون عيسى عليه السلام أبيل الأبيلين، ومعناه راهب الراهبين. وعيسى: بدل أو عطف بيان له.
و «الأبيل»، بفتح الهمزة وكسر الموحّدة، كأمير: الرّاهب، سمّي به لتأبّله عن النساء وترك غشيانهنّ. والفعل منه أبل يأبل إبالة، ككتب كتابة، إذا تنسّك وترهّب.
وأورده الجواليقي في «المعرّبات» قال: الأبيل: الراهب، فارسي معرب، قال الشاعر (2) وهو جاهلي:
وما سبّح الرّهبان في كلّ بيعة ... البيت
وقال الآخر (3): (الطويل)
__________
(1) في طبعة بولاق: = وسبح الرهبان =. وهو تصحيف صوابه من النسخة الشنقيطية.
(2) يقول عنه المرزباني في معجم الشعراء 210208: = عمرو بن عبد الجن التنوخي جاهلي قديم خلف على ملك جذيمة الأبرش بعد قتله =.
(3) عجز بيت للأعشى ميمون وصدره:
* فإني ورب الساجدين عشية *
والبيت للأعشى ميمون في ديوانه ص 227وجمهرة اللغة ص 1027. وهو بلا نسبة في تاج العروس (أبل)
(7/202)
* وما صكّ ناقوس النّصارى أبيلها *
وقالوا: أيبليّ. قال (1): (المتقارب)
وما أيبليّ على هيكل ... بناه وصلّب فيه وصارا
قال أبو عبيدة: أيبليّ: صاحب أبيل، وهي عصا الناقوس. انتهى.
و «الأيبليّ» [هو] (2) بتقديم المثناة التحتية الساكنة وتأخير الموحّدة المفتوحة، ويجوز ضمها، ويجوز إبدال الألف هاء فيقال: هيبليّ، ويجوز إبدال الياء التحتية ألفا فيقال آبليّ.
وقد جمع صاحب القاموس هذه اللغات، فقال: الأبيل كأمير: العصا، والحزين بالسريانيّة، ورئيس النصارى، أو الراهب، أو صاحب الناقوس، كالأيبليّ بضم الباء وفتحها، والهيبليّ والآبليّ بضم الباء، والأبيل بضم الباء وفتحها. انتهى.
وقوله: «وما أيبليّ على هيكل»، هو من قصيدة للأعشى ميمون. قال الصاغاني في «العباب»: قيل أراد أبيليّ، كأميريّ، فلمّا اضطرّ قدّم الياء كما قالوا أينق، والأصل أنوق.
قال عديّ بن زيد العباديّ (3): (الرمل)
إنّني والله فاقبل حلفتي ... بأبيل كلّما صلّى جأر
وقال ابن دريد: الأبيل: ضارب الناقوس.
وأنشد:
* وما صكّ ناقوس النّصارى أبيلها *
__________
وجمهرة اللغة ص 380ولسان العرب (أبل) والمخصص 13/ 100.
(1) البيت للأعشى في ديوانه ص 103وأساس البلاغة (هكل) وتاج العروس (صور، أبل، هكل) وتهذيب اللغة 15/ 388وكتاب العين 7/ 150ولسان العرب (صلب، أبل، هكل) والمخصص 5/ 134، 13/ 101ومقاييس اللغة 10/ 42. وهو بلا نسبة في المخصص 4/ 78.
(2) زيادة من النسخة الشنقيطية يقتضيها السياق.
(3) البيت لعدي بن زيد العبادي في ديوانه ص 61وتاج العروس (أبل) ولسان العرب (أبل) ومقاييس اللغة 1/ 42.
(7/203)
انتهى.
ونقل العينيّ عن ابن الأثير أنه روي أيضا:
* أبيل الأبيليّين عيسى بن مريما *
على النّسب.
وقوله: «هزّ منّي عامر» إلخ، هذا من قبيل التجريد، يريد أن عامرا وجدني حساما في ذلك اليوم.
وروى الصاغانيّ في «العباب»: «لقد ذاق منّي». و «لعلع»: كجعفر:
موضع، قال ابن ولّاد: لعلع من آخر السّواد إلى البرّ، ما بين البصرة والكوفة.
وقال غيره: لعلع: ببطن فلج، وهي لبكر وائل، وقيل: هي من الجزيرة. كذا في معجم ما استعجم للبكري. و «صمّم»: مضى، يقال: صمّم الرجل في الأمر، إذا جدّ فيه.
والأبيات «لعمرو بن عبد الجنّ». كذا قال الصاغاني في العباب وغيره. وفي جمهرة الأنساب لابن الكلبي أنّه تنوخي. وهو عمرو بن عبد الجنّ بن عائذ الله بن أسعد بن سعد بن كثير بن غالب بن جرم. وأسد بن ناعصة بن عمرو بن عبد الجنّ، كان فارسا في الجاهلية.
قال: ورأيت رجلا من بني عبد الجنّ بالكوفة شجاعا، قطعت رجله فجعلت له من فضّة. و «تنوخ»: قبيلة من قبائل اليمن.
تتمة
العزّى في الأصل: تأنيث الأعزّ، وقد يكون الأعزّ بمعنى العزيز، والعزّى بمعنى العزيزة.
قال في الصحاح: العزّى: اسم صنم كان لقريش وبني كنانة، ويقال العزّى:
سمرة كانت لغطفان يعبدونها، وكانوا بنوا عليها بيتا وأقاموا لها سدنة، فبعث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خالد بن الوليد فهدم البيت وأحرق السّمرة، وهو يقول: (الرجز)
(7/204)
يا عزّ كفرانك لا سبحانك ... إنّي رأيت الله قد أهانك
ولا بأس بإيراد شيء من أخبار الأصنام، وسبب اتخاذ العرب لها، وكيف أزالها النبيّ صلّى الله عليه وسلّم.
قال أبو المنذر هشام بن محمّد بن السائب الكلبي في «كتاب الأصنام»: حدّثني أبي وغيره (1) أنّ اسماعيل بن إبراهيم صلّى الله عليهما وسلّم لمّا سكن مكّة، وولد له بها أولاد كثيرة حتى ملؤوا مكّة، ونفوا من كان فيها من العماليق، ضاقت (2) عليهم مكّة، ووقعت بينهم الحروب (3) [والعداوات، وأخرج] بعضهم بعضا، فتفسّحوا في البلاد والتماس المعاش.
وكان الذي سلخ بهم إلى عبادة الأوثان والحجارة، أنه كان لا يظعن من مكّة ظاعن، إلّا احتمل معه حجرا من حجارة الحرم، تعظيما للحرم، [وصبابة بمكة] (4)
فحيثما حلّوا، وضعوه، وطافوا به كطوافهم بالكعبة، [تيمنا منهم بها و] صبابة بها وحبّا، وهم على إرث أبيهم إسماعيل (5): من تعظيم الكعبة، والحجّ، والاعتمار.
ثم سلخ ذلك بهم إلى أن عبدوا ما استحبّوا ونسوا ما كانوا عليه، واستبدلوا بدين إبراهيم وإسماعيل غيره، فعبدوا الأوثان، وصاروا إلى ما كان عليه الأمم من قبلهم، كقوم نوح (6)، وفيهم بقايا على دين أبيهم إسماعيل، مع إدخالهم فيه ما ليس منه.
فكان (7) أول من غيّر دين إسماعيل عليه السلام، فنصب الأوثان، وسيّب السائبة،
__________
(1) كتاب الأصنام ص 6. وبعده في الأصنام: = وقد أثبتّ حديثهم جميعا =.
(2) في طبعة بولاق والنسخة الشنقيطية: = فضاقت =. وقد أثبتنا رواية كتاب الأصنام، فوجهها صحيح وأفضل.
(3) كذا في طبعة بولاق وكتاب الأصنام. وقد سقط ما بين معقوفين من النسخة الشنقيطية وطبعة هارون.
(4) زيادة يقتضيها السياق من كتاب الأصنام ص 6.
(5) في كتاب الأصنام: = وهم بعد يعظمون الكعبة ومكة، ويحجون ويعتمرون على إرث =.
(6) في كتاب الأصنام ص 6: = وانتجثوا ما كان يعبد قوم نوح =.
وانتجثوا: استخرجوا.
(7) كتاب الأصنام ص 8.
(7/205)
ووصل الوصيلة، وبحر البحيرة (1)، وحمى الحامية: عمرو بن ربيعة، وهو (2) لحيّ ابن حارثة بن عمرو بن عامر الأزدي، وهو أبو خزاعة.
وكان الحارث هو الذي يلي أمر الكعبة (3). فلما بلغ عمرو بن لحيّ نازعه في الولاية، وقاتل جرهما ببني إسماعيل، [فظفر بهم، وأجلاهم عن الكعبة]، ونفاهم من بلاد مكّة، وتولّى حجابة البيت.
ثم إنّه مرض مرضا شديدا، فقيل له: إنّ بالبلقاء من الشام حمّة (4) إن أتيتها برأت.
فأتاها فاستحمّ بها، فبرأ، ووجد أهلها يعبدون الأصنام، فقال: ما هذه؟
فقالوا: نستسقي بها المطر، ونستنصر بها على العدوّ. فسألهم أن يعطوه منها ففعلوا، فقدم بها مكّة، ونصبها حول الكعبة.
وحدّث الكلبي (5) عن أبي صالح عن ابن عباس، أنّ إسافا [ونائلة] رجل من جرهم، يقال له: إساف بن يعلى، ونائلة بنت زيد من جرهم وكان يتعشّقها في أرض اليمن، فأقبلوا حجّاجا فدخلا الكعبة، فوجدا غفلة من الناس وخلوة من (6)
البيت، ففجر بها في البيت، فمسخا فوجدوهما مسخين، [فأخرجوهما] (7)
فوضعوهما موضعهما، فعبدتهما خزاعة وقريش، ومن حجّ البيت [بعد] من العرب.
وكان أول من اتخذ تلك الأصنام من ولد إسماعيل وغيرهم، [و] سمّوها بأسمائها على ما بقي فيهم من ذكرها حين فارقوا دين إسماعيل هذيل بن مدركة.
__________
(1) في كتاب الأصنام: = وبحّر البحيرة =. بتشديد الحاء. وفي حاشية الأصنام: = هذا الضبط وارد في نسخة الخزانة الزكية هنا من هذه الطبعة، وهو كذلك في الروض الأنف، أما = بحر = مخففا فمعناه شق الأذن. ولكن المقام هنا يدل على ابتداع هذه السنة فلذلك كان استعمال: = بحّر =. مشددا وجيها.
(2) كذا في طبعة بولاق والنسخة الشنقيطية وكتاب الأصنام. وفي طبعة هارون 7/ 221: = وهي لحي =. وهو تصحيف.
(3) هو الحارث بن مضاض الجرهمي.
(4) الحمة: عين ماء فيها ماء جار، يستشفى بها المرضى.
(5) كتاب الأصنام ص 9.
(6) في كتاب الأصنام: = خلوة في البيت =. وهو وجه صحيح.
(7) في كتاب الأصنام: = فوجدوهما مسخين =. والزيادة من كتاب الأصنام.
(7/206)
اتخذوا سواعا فكان لهم برهاط من أرض ينبع. [وينبع عرض من أعراض المدينة] وكانت سدنته بني لحيان.
واتّخذت كلب: ودّا بدومة الجندل.
واتّخذت مذحج وأهل جرش: يغوث، واتخذت خيوان: يعوق، فكان بقرية لهم يقال لها: خيوان من صنعاء على ليلتين مما يلي مكة.
واتخذت حمير: نسرا فعبدوه بأرض يقال لها: بلخع (1)، ولم أسمع حمير سمّت به أحدا (2)، ولم أسمع له ذكرا في أشعارها، ولا أشعار [أحد من] العرب. وأظنّ ذلك كان لانتقال حمير أيام تبّع عن عبادة الأصنام إلى اليهودية (3).
وكان لحمير أيضا بيت بصنعاء، يقال له: رئام (4)، بهمزة بعد الراء المكسورة، يعظّمونه ويتقرّبون عنده بالذبائح، وكانوا فيما يذكرون يكلّمون منه. فلمّا انصرف تبّع من مسيره الذي سار فيه إلى العراق (5) قدم معه الحبران اللذان صحباه من المدينة، فأمراه بهدم رئام. وتهوّد تبّع، وأهل اليمن.
فمن ثمّ لم أسمع بذكر رئام ولا نسر في شيء من الأشعار ولا الأسماء. ولم تحفظ العرب من أشعارها إلّا ما كان قبيل الإسلام.
قال [هشام] أبو المنذر: ولم أسمع في رئام وحده شعرا، وقد سمعت في البقيّة.
__________
(1) كذا في طبعة بولاق وكتاب الأصنام ص 11ومعجم البلدان (بلخع). وفي النسخة الشنقيطية: = بكخع =.
وهو تصحيف.
(2) في معجم البلدان: = يعني قالوا: عبد نسر =.
(3) في حاشية كتاب الأصنام ص 11: = زاد ياقوت من عنده في هذا الموضع ما نصه: قلت: وقد ذكره الأخطل فقال:
أما ودماء مائرات تخالها ... على قنّة العزّى وبالنّسر عند ما
وما سبح الرهبان في كل بيعة ... أبيل الأبيلين المسيح ابن مريما
لقد ذاق منا عامر يوم لعلع ... حساما إذا ما هزّ بالكف صمّما =
(4) هو في كتاب الأصنام ص 11: = ريام = يالياء.
(5) كذا في النسخة الشنقيطية وكتاب الأصنام. وفي طبعة بولاق: = من العراق =.
ويعلق محقق طبعة هارون على ذلك 7/ 223: = ولها وجه إذا روعي أن تبعا قد سار إلى العراق، وانصرف أيضا من العراق =.
(7/207)
هذه الخمسة الأصنام التي كان يعبدها قوم نوح، وذكرها الله في كتابه (1): {«وَلََا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلََا سُوََاعاً وَلََا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً»}.
فلمّا صنع هذا عمرو بن لحيّ دانت العرب للأصنام [وعبدوها واتخذوها].
فكان أقدمها مناة. وسمّت العرب عبد مناة وزيد مناة. وكان منصوبا على ساحل البحر من ناحية المشلّل بقديد، بين المدينة ومكة.
وكانت العرب جميعا تعظّمه وتذبح حوله، وكان أشدّ إعظاما له الأوس والخزرج (2).
وكان أولاد معدّ على بقيّة من دين إسماعيل، وكانت ربيعة ومضر على بقيّة من دينه.
ومناة (3) هي التي ذكرها الله (4): {«وَمَنََاةَ الثََّالِثَةَ الْأُخْرى ََ»}. وكانت لهذيل وخزاعة. وقريش (5) وجميع العرب تعظّمها، إلى أن خرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من المدينة سنة ثمان من الهجرة، وهو عام الفتح (6).
فلما سار من المدينة أربع ليال، أو خمس ليال، بعث عليّا [إليها] (7) فهدمها وأخذ ما كان لها، فأقبل به إلى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم وكان فيما أخذ سيفان كان الحارث بن أبي شمر ملك غسّان أهداهما [لها]، أحدهما اسمه مخذم (8)
والآخر رسوب (9)، فوهبهما لعليّ، فيقال: إنّ ذا الفقار سيف عليّ أحدهما،
__________
(1) سورة نوح: 71/ 23.
(2) في الأصنام ص 13: = وكانت الأوس والخزرج ومن ينزل المدينة ومكة وما قارب من المواضع يعظمونه ويذبحون له ويهدون له =.
(3) كتاب الأصنام ص 14.
(4) سورة النجم: 53/ 20.
(5) في كتاب الأصنام ص 15: = وكانت قريش =. والزيادات منه.
(6) في كتاب الأصنام: = وهو عام فتح الله عليه =.
(7) زيادة يقتضيها السياق من كتاب الأصنام. وإليها، أي: إلى مناة.
(8) في طبعة بولاق: = مخزم = بالزاي المعجمة وهو تصحيف صوابه من كتاب الأصنام والنسخة الشنقيطية ومعجم البلدان.
(9) بعده في كتاب الأصنام: = وهما سيفا الحارث اللذان ذكرهما علقمة في شعره، فقال:
(7/208)
ويقال: إنّ عليّا وجدهما في الفلس (1): صنم لطيّئ حين بعثه النبي صلّى الله عليه وسلّم فهدمه.
ثم اتّخذوا اللات بالطائف، وكانت صخرة مربّعة، وكان يهوديّ يلتّ عندها السّويق، وكان سدنتها من ثقيف [بنو عتاب بن مالك]، وكانوا بنوا عليها بناء، وكانت قريش وسائر العرب تعظّمها.
وسمّت زيد اللات، وتيم اللات، وكانت في موضع منارة مسجد الطائف اليسرى اليوم.
فلم تزل كذلك حتّى أسلمت ثقيف، فبعث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم المغيرة بن شعبة فهدمها وحرّقها بالنار.
ثم اتّخذوا العزّى وسمّي بها عبد العزّى بن كعب، وكان الذي اتّخذها ظالم بن أسعد، وكانت بواد من نخلة الشآميّة [يقال له: حراض] عن يمين المصعد إلى العراق من مكة فوق ذات عرق [إلى البستان] بتسعة أميال، فبنى عليها بيتا (2)، وكانوا يسمعون فيه الصّوت.
وكانت أعظم الأصنام عند قريش، وكانت تطوف بالكعبة، وتقول:
«واللّات والعزّى، ومناة الثالثة الأخرى، فإنّهنّ الغرانيق العلى وإنّ شفاعتهنّ لترتجى».
وكانوا يقولون: بنات الله، تعالى الله عن ذلك علوّا كبيرا، وهنّ يشفعن إليه.
فلمّا بعث الله رسوله أنزل عليه (3): {«أَفَرَأَيْتُمُ اللََّاتَ وَالْعُزََّى وَمَنََاةَ الثََّالِثَةَ الْأُخْرى ََ أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى ََ»} الآية.
__________
مظاهر سربالي حديد عليهما ... عقيلا سيوف مخذم ورسوب = والمخذم: السريع القطع. والرسوب: الذي يمضي في الضريبة، ويغيب فيها، من الرسوب، وهو الذهاب سفلا.
(1) الفلس: ضبط في كتاب الأصنام بفتح الفاء، وضبطه صاحب معجم البلدان بضم الفاء وضبطه صاحب القاموس بكسر الفاء.
(2) في الأصنام ص 18: = فبنى عليها بسّا يريد بيتا =.
(3) سورة النجم: 53/ 2119.
(7/209)
وحمت لها قريش شعبا من وادي حراض، يقال له: سقام (1)، يضاهون به حرم الكعبة. وكان لها منحر ينحرون فيه هداياها، يقال له: «الغبغب»، وكانت قريش تخصّها بالإعظام، فلذلك قال زيد بن عمرو بن نفيل، وكان قد تألّه في الجاهلية، وترك عبادة الأصنام (2): (الوافر)
تركت اللّات والعزّى جميعا ... كذلك يفعل الجلد الصّبور (3)
فلا العزّى أدين ولا ابنتيها ... ولا صنمي بني غنم أزور (4)
ولا هبلا أزور وكان ربّا ... لنا في الدّهر إذ حلمي صغير
وكان سدنة العزّى بني شيبان (5)، من بني سليم، وكان آخر من سدنها [منهم] دبيّة (6)، فلم تزل كذلك حتّى بعث الله نبيّنا صلّى الله عليه وسلّم فعاب الأصنام ونهاهم عن عبادتها، ونزل القرآن فيها (7)، فاشتدّ ذلك على قريش، فلمّا كان يوم الفتح دعا [النبيّ صلّى الله عليه وسلّم] خالد بن الوليد، فقال: «انطلق إلى شجرة ببطن نخلة (8) فاعضدها». فانطلق فقتل دبيّة.
وحدثني أبي عن أبي صالح عن ابن عباس، قال: كانت العزّى شيطانة تأتي ثلاث سمرات ببطن نخلة، فلما بعث النبيّ خالد بن الوليد، قال له: «ائت بطن نخلة فإنّك تجد ثلاث سمرات، فاعضد الأولى». فأتاها فعضدها، فلما جاء إليه عليه الصلاة والسلام، فقال: هل رأيت شيئا؟ قال: لا. قال: «فاعضد الثانية».
__________
(1) في النسخة الشنقيطية: = سعام =. وهو تصحيف صوابه من كتاب الأصنام وطبعة بولاق وذكر أنه بضم السين.
(2) الأبيات وخبرها في الأغاني 3/ 125وكتاب الأصنام ص 2221منسوبة إلى زيد بن عمرو بن نفيل.
(3) البيت لزيد بن عمرو بن نفيل في جمهرة اللغة ص 80.
(4) في أصول جميع طبعات الخزانة: = أدين ولا أبتغيها =. وهو تصحيف صوابه من الأغاني وكتاب الأصنام.
وفي هامش النسخة الشنقيطية: = هكذا بخط المؤلف: ولا ابتغيها، وصوابه: = ولا ابنتيها =. أي كما في الأصنام.
(5) في الأصنام: = وكان سدنة العزى بنو شيبان =.
(6) في الأصنام: = دبية بن حرميّ السّلميّ =.
(7) في كتاب الأصنام ص 23: = فعابها وغيرها من الأصنام، ونهاهم عن عبادتها، ونزل القرآن فيها =.
(8) في كتاب الأصنام: = شجرة ببطن نخلة =. وفي طبعات الخزانة: = شجرة بطن نخلة =. ولقد أثبتنا رواية كتاب الأصنام لأن البغدادي ومن خلال السياق سيعيد ذكرها برسم = ببطن نخلة =.
(7/210)
فعضدها ثم أتى النبيّ عليه السلام، فقال: هل رأيت شيئا؟ قال: لا. قال:
«فاعضد الثالثة».
فأتاها فإذا بحبشيّة نافشة شعرها، واضعة ثديها على عاتقها (1)، تصرف بأنيابها، وخلفها دبيّة السّلميّ [وكان سادنها]، فلما نظر إلى خالد، قال (2): (الطويل)
عزّاي شدّي شدّة لا تكذّبي ... على خالد ألقي الخمار وشمّري
فإنّك إن لا تقتلي اليوم خالدا ... تبوئي بذلّ عاجلا وتنصّري
فقال خالد [رضي الله عنه]:
يا عزّ كفرانك لا سبحانك ... إنّي رأيت الله قد أهانك
ثم ضربها ففلق رأسها فإذا حممة (3)، ثم عضد الشجرة وقتل دبيّة [السادن]، ثم أتى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فأخبره، فقال: «تلك العزّى، ولا عزّى بعدها للعرب» (4).
قال أبو المنذر: ولم تكن قريش ومن بمكة، يعظّمون شيئا من الأصنام إعظامهم العزّى، ثم اللات، ثم مناة.
فأمّا العزّى فكانت تخصّها دون غيرها بالزيارة والهديّة (5).
وكانت ثقيف تخصّ اللات، وكانت الأوس والخزرج تخصّ مناة، وكلّهم كان معظّما للعزّى، ولم يكونوا يرون في الخمسة الأصنام التي رفعها (6) عمرو بن لحيّ كرأيهم في هذه.
__________
(1) في كتاب الأصنام ص 25: = واضعة يديها على عاتقها، تصرف =.
(2) البيتان لدبية السلمي في تاج العروس (عزز) والسيرة النبوية 2/ 437وكتاب الأصنام ص 26.
وفي النسخة الشنقيطية والأصنام مخطوط: = عزى =. ولقد أثبتنا رواية طبعة بولاق.
وفي حاشية كتاب الأصنام ص 26: = في جميع النسخ: = عزّى =. ويجب أن يكون: = أعزاء =. كما في هامش نسخة الخزانة الزكية ليصح الوزن =.
(3) الحممة: واحدة الحمم، وهي الفحم البارد، والرماد، وكل ما احترق من النار.
(4) بعده في الأصنام ص 26: = أما إنها لن تعبد بعد اليوم =.
(5) بعده في الأصنام ص 27: = وذلك فيما أظن لقربها كان منها =.
(6) رفعها: أي نصبها للعبادة. وفي كتاب الأصنام: = دفعها = بالدال المهملة.
(7/211)
وكانت لقريش أصنام في جوف الكعبة وحولها، وكان أعظمها عندهم «هبل» (1)، وكان فيما بلغني من عقيق أحمر على صورة الإنسان، مكسور اليد اليمنى، أدركته قريش كذلك، فجعلوا له يدا من الذّهب.
وكان أوّل من نصبه خزيمة بن مدركة، وكان يقال له: هبل خزيمة، وكان قدّامه سبعة أقدح (2) مكتوب في أوّلها: صريح، والآخر: ملصق. فإذا شكّوا في مولود أهدوا له هديّة، ثمّ ضربوا بالقداح، فإن خرج: صريح ألحقوه، وإن كان ملصقا دفعوه. وقدحا على الميت، وقدحا على النّكاح، وثلاثة لم تفسّر لي. فإذا اختصموا في أمر، أو أرادوا سفرا، أو عملا، أتوه فاستقسموا بالقداح عنده، فما خرج، عملوا به وانتهوا إليه.
وكان لهم «إساف ونائلة» (3)، لمّا مسخا حجرين، وضعا عند الكعبة ليتّعظ الناس بهما، فلما طال مكثهما وعبدت الأصنام، عبدا معها، وكان أحدهما بلصق الكعبة، والآخر في موضع زمزم، فنقلت قريش الذي كان بلصق الكعبة إلى الآخر.
وكانوا ينحرون ويذبحون عندهما.
فلما ظهر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يوم فتح مكّة، ودخل المسجد، والأصنام منصوبة حول الكعبة، فجعل يطعن بسية قوسه في عيونها ووجوهها، ويقول (4): {«جََاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبََاطِلُ إِنَّ الْبََاطِلَ كََانَ زَهُوقاً»}، ثم أمر فكفئت على وجوهها، ثم أخرجت من المسجد فحرّقت، فقال في ذلك راشد بن عبد الله السّلميّ (5): (الكامل)
قالت هلمّ إلى الحديث فقلت لا ... يأبى الإله عليك والإسلام
أو ما رأيت محمّدا وقبيله ... بالفتح حين تكسّر الأصنام
لرأيت نور الله أضحى ساطعا ... والشّرك يغشى وجهه الإظلام
__________
(1) كذا في النسخة الشنقيطية وكتاب الأصنام. وفي طبعة بولاق: = وكان أعظمها هبل عندهم =.
(2) الأقدح: جمع القدح بالكسر وقدح الميسر يجمع على أقدح وقداح وأقداح، وجمع الجمع أقاديح.
(3) النقل من كتاب الأصنام ص 29.
(4) سورة الإسراء: 17/ 81.
(5) الأبيات لراشد بن عبد الله السلمي وخبرها في كتاب الأصنام ص 31ومعجم البلدان (هبل) وهي لفضالة ابن عمير بن الملوح مع خبر آخر حول مقتل النبي في السيرة النبوية 2/ 417.
(7/212)
وكان لهم أيضا مناف، وسمّت به عبد مناف (1)، ولا أدري أين كان ولا من نصبه؟
ولم تكن الحيّض من النساء تدنو من أصنامهم، ولا تمسّح بها، إنّما كانت تقف ناحية منها.
وكان لأهل كلّ دار من مكّة صنم في دارهم يعبدونه، فإذا أراد أحدهم السفر، كان آخر ما يصنع في منزله أن يتمسّح به، وإذا قدم من سفره كان أوّل ما يصنع إذا دخل منزله أن يتمسّح به.
فلمّا بعث الله نبيّه وأتاهم بتوحيد الله وعبادته، قالوا (2): {«أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلََهاً وََاحِداً إِنَّ هََذََا لَشَيْءٌ عُجََابٌ»}، يعنون الأصنام.
واستهترت العرب في عبادتها، فمنهم من اتّخذ بيتا، ومنهم من اتّخذ صنما، ومن لم يقدر عليه ولا على بناء بيت، نصب حجرا أمام الحرم وأمام غيره مما استحسن، ثم طاف به كطوافه بالبيت، وسمّوها الأنصاب.
فإذا كانت تماثيل دعوها الأصنام والأوثان. وسمّوا طوافهم الدّوار. فكان الرجل إذا سافر فنزل (3) منزلا أخذ أربعة أحجار، فنظر إلى أحسنها فاتّخذه ربّا، وجعل ثلاث أثا فيّ لقدره (4)، وإذا ارتحل غيّره (5)، فإذا نزل منزلا آخر فعل مثل ذلك، فكانوا ينحرون ويذبحون عند كلّها ويتقرّبون إليها، وهم على ذلك عارفون بفضل الكعبة عليها (6).
وكانت بنو مليح من خزاعة [وهم رهط طلحة الطلحات] يعبدون الجنّ،
__________
(1) في حاشية كتاب الأصنام ص 32: = قال السهيلي في الروض الأنف ما نصه: عبد مناف من أجداد الرسول كان يلقب قمر البطحاء فيما ذكره الطبري. وكانت أمه حيى قد أخدمته مناة وكان صنما عظيما لهم، وكان يسمى به. عبد مناة ثم نظر قصي أبوه فرآه يوافق عبد مناة بن كنانة، فحوّله عبد مناف =.
(2) سورة ص: 38/ 5.
(3) كلمة: = فنزل =. ساقطة من طبعة هارون.
(4) كذا في النسخة الشنقيطية وكتاب الأصنام. وفي طبعة بولاق: = وجعل الثلاث أثا في =.
(5) في كتاب الأصنام ص 33: = وإذا ارتحل تركه =.
(6) بعده في كتاب الأصنام: = يحجونها ويعتمرون إليها =.
(7/213)
وفيهم نزلت (1): {«إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللََّهِ عِبََادٌ أَمْثََالُكُمْ»}.
وكان من تلك الأصنام «ذو الخلصة»، وتقدّم شرحه في أوائل الكتاب في الشاهد السابع والعشرين (2).
وكان لمالك وملكان ابني كنانة بساحل جدّة صنم، يقال له: «سعد» (3)، وكان صخرة طويلة، فأقبل رجل منهم بإبل [له] ليقفها عليه، يتبرّك بذلك فيها، فلما أدناها منه نفرت [وكان يهراق عليه بالدماء]، فذهبت في كلّ وجه، فتناول حجرا فرماه به، وقال: لا بارك الله فيك، إلها (4)، أنفرت عليّ إبلي!
ثم انصرف (5) وهو يقول (6): (الطويل)
أتينا إلى سعد ليجمع شملنا ... فشتّتنا سعد فلا نحن من سعد
وهل سعد إلّا صخرة بتنوفة ... من الأرض لا يدعو لغيّ ولا رشد
وكان لدوس، ثم لبني منهب بن دوس، صنم يقال له: «ذو الكفين» (7)، فلما أسلموا بعث النبيّ صلّى الله عليه وسلّم الطّفيل بن عمرو الدّوسي فحرّقه، وهو يقول (8): (الرجز)
يا ذا الكفين لست من عبادكا ... ميلادنا أكبر من ميلادكا
* إنّي حشوت النّار في فؤادكا *
__________
(1) سورة الأعراف: 7/ 194.
(2) الخزانة الجزء الأول ص 194.
(3) كتاب الأصنام ص 36.
(4) كذا في طبعة بولاق والنسخة الشنقيطية وكتاب الأصنام. وفي طبعة هارون 7/ 230: = إنها =. وهو تصحيف.
(5) في كتاب الأصنام جاءت العبارة كاملة وواضحة: = ثم خرج في طلبها حتى جمعها وانصرف عنه =.
(6) البيتان بلا نسبة في السيرة النبوية 1/ 81وكتاب الأصنام ص 37. والبيت الثاني بلا نسبة في تاج العروس (سعد) ولسان العرب (سعد).
(7) في القاموس (كفف): = وذو الكفين: صنم كان لدوس =. وفي تاج العروس (كفف): = وذو الكفين كزبير: صنم لدوس بن نصر =.
(8) الرجز للطفيل بن عمرو الدوسي في كتاب الأصنام ص 37. وهو بلا نسبة في تاج العروس (كفف).
(7/214)
وكان (1) لبني الحارث بن يشكر من الأزد صنم، يقال له: «ذو الشّرى».
وكان لقضاعة ولخم وجذام وعاملة وغطفان، صنم في مشارف الشام يقال له:
«الأقيصر».
وكان لمزينة صنم، يقال: «نهم»، وبه سمّت عبدنهم (2)، وكان سادنه خزاعيّ بن عبدنهم، من مزينة، فلما سمع النبيّ صلّى الله عليه وسلّم ثار إلى الصنم فكسّره وأنشأ يقول (3): (الطويل)
ذهبت إلى نهم لأذبح عنده ... عتيرة نسك كالذي كنت أفعل
فقلت لنفسي حين راجعت عقلها ... أهذا إله أبكم ليس يعقل
أبيت فديني اليوم دين محمّد ... إله السّماء الماجد المتفضّل
ثم لحق بالنبي صلّى الله عليه وسلّم، فأسلم وضمن (4) إسلام قومه مزينة.
وكان (5) لأزد السّراة صنم، يقال له: «عائم» بالهمزة.
وكان (6) لعنزة صنم، يقال له: «سعير»، وتقدّم شرحه قريبا (7).
وكان (8) لخولان صنم، يقال له: «عميانس»، يقسمون له من أنعامهم وحروثهم قسما بينه وبين الله تعالى بزعمهم، فما دخل في حقّ الله من حقّ عميانس ردّوه عليه، وما دخل في حقّ الصّنم من حقّ الله الذي سمّوه له تركوه [له].
وفيهم نزل فيما بلغنا (9): {«وَجَعَلُوا لِلََّهِ مِمََّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعََامِ نَصِيباً»}.
الآية.
__________
(1) الأصنام ص 38.
(2) في طبعة بولاق: = سمت عبدتهم =. وهو تصحيف صوابه من النسخة الشنقيطية وكتاب الأصنام ص 39.
(3) الأبيات لخزاعي بن عبد نهم في كتاب الأصنام ص 4039ومعجم البلدان (نهم).
(4) في كتاب الأصنام ص 40: = وضمن له إسلام قومه =.
(5) كتاب الأصنام ص 40.
(6) كتاب الأصنام ص 41.
(7) تقدم شرحه في الشاهد 521من هذا الجزء.
(8) كتاب الأصنام ص 43.
(9) سورة الأنعام: 6/ 136.
(7/215)
وكان لبني الحارث كعبة بنجران يعظّمونها.
وكان أبرهة الأشرم بنى بيتا بصنعاء (1)، سمّاها «القليس» بفتح القاف وكسر اللام، وضبطه صاحب القاموس بضم القاف وفتح اللام المشددة، بناها بالرّخام وجيّد الخشب المذهب، وكتب إلى ملك الحبشة: إنّي قد بنيت لك كنيسة لم يبن مثلها أحد، ولست تاركا العرب حتّى أصرف حجّهم عن الكعبة (2).
فبلغ ذلك بعض نسأة الشّهور، فبعث رجلين من قومه وأمرهما أن يخرجا حتّى يتغوّطا فيها. ففعلا، فلما بلغه ذلك غضب وخرج بالفيل والحبشة، فكان من أمره ما كان.
قال أبو المنذر: المعمول من خشب أو ذهب أو فضة صورة إنسان فهو صنم.
وإذا كان من حجارة فهو وثن.
هذا ملخص ما ذكره من الأصنام، وبقي عليه «عوض» وتقدّم شرحه قبل هذا بستة شواهد (3).
و «اليعبوب» (4)، وهو صنم لجديلة طيّئ، وكان لهم صنم أخذته منهم بنو أسد، فتبدّلوا اليعبوب بعده، قال عبيد (5): (الكامل)
فتبدّلوا اليعبوب بعد إلههم ... صنما فقرّوا يا جديل وأعذبوا
أي: لا تأكلوا على ذلك ولا تشربوا.
و «باجر» (6)، بالموحدة وبالجيم، قال ابن دريد: هو صنم كان للأزد في الجاهلية ومن جاورهم من طيّئ وقضاعة، كانوا يعبدونه. وهو بفتح الجيم، وربّما قالوا بكسرها.
__________
(1) كتاب الأصنام ص 46. وفيه: = بيتا بصنعاء، كنيسة سماها القليس =. والمراد بالبيت: الكنيسة.
(2) في كتاب الأصنام ص 47: = أصرف حجهم عن بيتهم الذي يحجونه إليه =.
(3) في الشاهد 521من شواهد الخزانة.
(4) كتاب الأصنام ص 63.
(5) البيت لعبيد بن الأبرص في ديوانه ص 3وتهذيب اللغة 2/ 321وكتاب الأصنام ص 63ومجمل اللغة 3/ 464. وهو بلا نسبة في مقاييس اللغة 4/ 259.
(6) لم أجد له ذكرا في كتاب الأصنام.
(7/216)
وأنشد بعده (1): (الطويل)
* لحافي لحاف الضّيف والبرد برده *
على أنّ أل في «البرد» عوض عن الضمير المضاف إليه، والتقدير: «وبردي برده».
وتمامه:
* ولم يلهني عنه غزال مقنّع *
وهو من شعر في الحماسة، وتقدّم شرحه في الشاهد الثالث والتسعين بعد المائتين (2).
* * * __________
(1) البيت لطفيل الغنوي في ديوانه ص 103ولعروة بن الورد في ديوانه ص 101ولمسكين الدارمي في ديوانه ص 51ولعتبة بن مسكين الدارمي في الحماسة البصرية 2/ 247ولعتبة بن بجير في شرح ديوان الحماسة للمرزوقي ص 1719. وهو بلا نسبة في أمالي المرتضى 1/ 475ولسان العرب (بصص).
(2) الخزانة الجزء الرابع ص 234.
(7/217)
باب العلم
أنشد فيه (1): (البسيط)
527 - سبحانه ثمّ سبحانا نعوذ به
وقبلنا سبّح الجوديّ والجمد
على أنّ «سبحان» أكثر ما يستعمل مضافا، وإذا قطع فقد جاء منوّنا في الشعر، كما في البيت، فلا يكون سبحان علما معرّفا بالعلمية (2) بل تعريفه إمّا بالإضافة لفظا كسبحان الله، أو تقديرا كما في قوله (3): (السريع)
* سبحان من علقمة الفاخر *
أي: سبحان الله.
__________
(1) البيت لورقة بن نوفل في الأغاني 3/ 121والدرر 3/ 69ولأمية بن أبي الصلت في ديوانه ص 30 والكتاب 1/ 326ولسان العرب (سبح، جمد، جود) ومعجم ما استعجم ص 391ولزيد بن عمرو بن نفيل في شرح أبيات سيبويه 1/ 194. وهو بلا نسبة في شرح المفصل 1/ 37، 120، 4/ 36والمقتضب 3/ 217 وهمع الهوامع 1/ 190.
وقد علق مصحح طبعة بولاق على هذا الشاهد، بأن البغدادي لم يضع له رقما كعادته، فقال: = فلعله سهو منه =.
(2) في طبعة بولاق: = معروفا بالعلمية =. وهو تصحيف صوابه من النسخة الشنقيطية.
(3) عجز بيت للأعشى ميمون وصدره:
* أقول لما جاءني فخره *
والبيت للأعشى في ديوانه ص 193وأساس البلاغة (سبح) والأشباه والنظائر 2/ 109وتاج العروس (شتت) وجمهرة اللغة ص 278والخصائص 2/ 435والدرر 3/ 70وشرح أبيات سيبويه 1/ 157وشرح شواهد المغني 2/ 905وشرح المفصل 1/ 37، 120والكتاب 1/ 324ولسان العرب (سبح). وهو بلا نسبة في الخصائص 2/ 197، 3/ 23والدرر 5/ 42ومجالس ثعلب 1/ 261والمقتضب 3/ 218والمقرب 1/ 149 وهمع الهوامع 1/ 190، 2/ 52.
(7/218)
وإمّا باللام، وهو قليل كقوله (1): (الرجز)
* سبحانك اللهمّ ذا السّبحان *
وإذا قطع عن الإضافة في الشعر نوّن ونصب على المفعولية المطلقة كسائر المصادر. فسبحان عنده إمّا معرف بالإضافة أو باللام، وإما منكّر في الشعر، ولا علميّة.
وقريب منه قول الطّيبي (2) في «حاشية الكشاف»: لا يستعمل «سبحان» علما إلّا شاذا، وأكثر استعماله مضافا، فليس بعلم لأنّ الأعلام لا تضاف.
وقد ردّ ابن هشام في «الجامع الصغير»، بعين ما ردّ به الشارح المحقّق، إلّا أنه قال: لملازمته للإضافة.
هذا محصّله، وهو مخالف لكلام سيبويه فمن بعده. والباعث له على المخالفة ما ذكره. قال س في باب ما ينتصب من المصادر على إضمار الفعل المتروك إظهاره:
زعم أبو الخطّاب أنّ سبحان الله كقولك: براءة الله من السّوء، كأنه يقول:
أبرأ براءة الله من السّوء (3).
وزعم أنّ مثله قول الأعشى:
أقول لمّا جاءني فخره ... سبحان من علقمة الفاخر
أي: براءة منه. وأمّا التنوين في سبحان، فإنّما ترك صرفه، لأنّه صار عندهم معرفة، وانتصابه كانتصاب الحمد لله.
وزعم أنّ قول الشاعر (4): (الوافر)
__________
(1) هو الشاهد الآتي لا حقا برقم 528.
(2) الطيبي، هو الحسين بن محمد بن عبد الله الطيبي المتوفى سنة 743هـ.
(3) انظر الكتاب لسيبويه 1/ 234طبعة هارون.
(4) البيت لأمية بن أبي الصلت في ديوانه ص 54وإنباه الرواة 2/ 40وشرح أبيات سيبويه 1/ 305والكتاب 1/ 325ولسان العرب (غنث، ذمم، سلم) ومراتب النحويين ص 112والمقاصد النحوية 3/ 183. وهو بلا نسبة في جمهرة اللغة ص 428.
وتغنثك: أي: تتغنثك، بحذف التاء، أي: تعلق بك.
(7/219)
سلامك ربّنا في كلّ فجر ... بريئا ما تغنّثك الذّموم
على قوله برّأتك (1) ربّنا من كل سوء. فكل هذا ينتصب انتصاب حمدا وشكرا، إلّا أنّ هذا ينصرف، وذلك لا ينصرف. ونظير سبحان الله في البناء من المصادر والمجرى، لا في المعنى: غفران، لأنّ بعض العرب، يقول: غفرانك لا كفرانك، يريد: استغفارا لا كفرا.
وقد جاء «سبحان» منونا مفردا في الشعر، قال الشاعر:
* سبحانه ثمّ سبحانا نعوذ به *
شبّهوه بقولهم: حجرا، وسلاما. انتهى كلام سيبويه.
وقوله:
* سبحان من علقمة الفاخر *
قال الأعلم: الشاهد فيه نصب سبحان على المصدر، ولزومها النّصب من أجل قلّة التمكن. وحذف التنوين منها، لأنّها وضعت علما للكلمة، فجرت في المنع من الصرف، مجرى عثمان ونحوه، ومعناها البراءة والتنزيه.
وقوله: «سلامك ربّنا» إلخ، قال الأعلم: الشاهد في نصب سلامك على المصدر الموضوع بدلا من اللفظ بالفعل، ومعناه البراءة والتنزيه، وهو بمنزلة سبحانك في المعنى وقلّة التمكّن.
ونصب بريئا على الحال المؤكّدة، والتقدير: أبرّئك بريئا (2) لأنّ معنى سلامك كمعنى أبرّئك، ومعنى «تغنّثك»: تعلق بك، وهي بالثاء المثلثة. و «الذّموم»:
جمع ذمّ. أي: لا تلحقك صفة ذمّ.
والبيت لأميّة بن أبي الصّلت.
وقوله: «سبحانه ثمّ سبحانا» (3) إلخ، قال الأعلم: الشاهد قوله سبحانا، وتنكيره
__________
(1) في الكتاب: = براءتك =.
(2) في النسخة الشنقيطية: = أبرأتك بريئا =. ولقد أثبتنا رواية طبعة بولاق، فهي توافق شرح الأعلم.
(3) في طبعة بولاق: = سبحانه سبحانا =. بإسقاط = ثم = التي جاءت ثابتة في النسخة الشنقيطية.
(7/220)
وتنوينه ضرورة، والمعروف فيه أنّه يضاف إلى ما بعده، أو يجعل مفردا معرفة كما تقدّم في بيت الأعشى. ووجه تنكيره وتنوينه أن يشبّه ببراءة لأنّه في معناها. والجودي والجمد، بضمتين: جبلان. انتهى.
وقال ابن خلف: قوله: سبحانا فيه وجهان: يجوز أن يكون نكرة فصرفه، ويجوز أن يكون صرفه للضرورة. انتهى.
وهذا من كلام أبي علي في «التذكرة القصرية»، قال: سبحانا يحتمل وجهين:
أحدهما: أن يكون هو الذي كان يضيفه في سبحانه. ويجوز أن يكون معرفة في الأصل ثم نكّر، كزيد من الزيدين. وجاز إفراد سبحان، وإن لم يستعمل ذلك في الكلام، فجاء في الشعر، كما استعمل العلم، في قوله:
* سبحان من علقمة الفاخر *
انتهى.
ويكون تنوينه على الأوّل ضرورة. وإلى الثاني ذهب ابن الشجري في «أماليه»، قال: سبحان في قول الأعشى:
* سبحان من علقمة الفاخر *
لم يصرفه لأنّ فيه الألف والنون زائدين (1)، وأنّه علم للتسبيح. فإن نكّرته صرفته، كما قال أميّة.
سبحانه ثمّ سبحانا نعوذ به ... البيت
اه.
وقد تقدّم في الشاهد الرابع والستين بعد الأربعمائة (2) النقل عن تذكرة أبي علي ما يتعلق بتنوين سبحان بأبسط من هذا، فارجع إليه.
__________
(1) في طبعة بولاق: = زائدان =. ولقد أثبتنا رواية النسخة الشنقيطية فهي توافق رواية أمالي ابن الشجري 2/ 250.
(2) انظر الخزانة الجزء السادس ص 268.
(7/221)
وقال ابن يعيش في «شرح المفصل»: سبحان علم عندنا واقع على التّسبيح، وهو مصدر معناه البراءة والتنزيه، وليس منه فعل وإنّما هو واقع موقع التسبيح الذي هو المصدر في الحقيقة، جعل علما على هذا الموضع، فهو معرفة لذلك ولا ينصرف، للتعريف وزيادة الألف والنون.
قال الأعشى:
* سبحان من علقمة الفاخر *
فلم ينوّنه لما ذكرنا من أنّه لا ينصرف. فإن أضفته قلت: سبحان الله، فيصير معرفة بالإضافة، وابتزّ منه تعريف العلمية، كما قلنا في الإضافة، نحو: زيدكم وعمركم، يكون بعد سلب العلمية.
فأما قوله:
* سبحانه ثمّ سبحانا نعوذ به *
ففي تنوين «سبحانا» هنا وجهان:
أحدهما: أن يكون ضرورة كما يصرف ما لا ينصرف في الشعر، من نحو أحمد وعمر.
والوجه الثاني: أن يكون أراد النكرة. انتهى.
وقد حمل صاحب «الكشف» قول الزمخشري: «سبحان علم للتسبيح» على أنّه علم مطلقا سواء أضيف أو لم يضف. وكذا قال الفناري في «حاشية ديباجة المطوّل»: إنه علم، أضيف، أو لم يضف، وهو غير منصرف للألف والنون مع العلمية.
وهذه طريقة ابن مالك، وتبعه الشارح المحقق، وهي أنّ العلم يجوز أن يضاف مع بقائه على علميّته من غير قصد تنكير. ولا يردّ بهذا على الشارح المحقق هنا، كما زعمه بعض مشايخنا، لأنّه قد نقل أنه يعرّف باللام تارة، وينكّر تارة.
وأما قوله: إنه ممنوع من الصرف مع الإضافة أيضا، فلعله مفرّع على القول بأنه، إذا لم تزل إحدى العلّتين فهو غير منصرف وإن كان مضافا.
(7/222)
وهذه عبارة صاحب الكشف: قوله: «سبحان علم للتسبيح»، الظاهر من إطلاقه ها هنا، وفي المفصل أنه علم للتسبيح، أي: التنزيه البليغ لا التسبيح بمعنى قول سبحان الله مطلقا، مضافا كان أم لا، خلاف ما نصّ عليه الشيخ ابن الحاجب أنّ ذلك في غير حال الإضافة.
والوجه ما ذهب إليه العلّامة، لأنّه إذا ثبتت العلّة بدليلها فالإضافة لا تنافيها، وليست من باب زيد المعارك لتكون شاذّة، بل من باب حاتم طيّئ وعنترة عبس، ولهذا لم يضف إلّا إلى اسم من أسمائه تعالى.
ولو لم يحمل على ما ذكرت لم يكن لقوله سبحان علم للتسبيح في هذا الموضع معنى.
وأما دلالته على التنزيه البليغ فمن الاشتقاق، أعني من التسبيح، وهو الإبعاد في الأرض. ثم ما يعطيه نقله إلى التفعيل، ثم العدول من المصدر إلى الاسم الموضوع له خاصّة، لا سيّما وهو علم، يشار به إلى الحقيقة الحاضرة في الذهن، وما فيه من قيامه مقام المصدر مع الفعل.
ولهذا لم يجز استعماله إلّا فيه تعالت أسماؤه (1) وعظم كبرياؤه. وكأنه قيل: ما أبعد الذي له هذه القدرة عن جميع النقائض، فلا يكون اصطفاؤه لعبده الخصيص به إلّا حكمة وصوابا. فالتنزيه لا ينافي التعجّب كما توهّم واعترض وجعله مدارا.
والتعجب ها هنا هو الوجه، بخلافه في قوله (2): {«سُبْحََانَكَ هََذََا بُهْتََانٌ عَظِيمٌ»}.
فافهم. انتهى.
وقد تضمّن كلامه جواب من استشكل العلميّة بأمرين:
أحدهما: أنّ مدلول التسبيح لفظ، لأنه مصدر سبّح إذا قال سبحان الله، ومدلول سبحانه التنزيه، لا اللفظ، فلا يصلح جعل سبحان الذي مدلوله معنى، على ما مدلوله لفظ.
وثانيهما: ما ذكره البهلوان في «حاشية الكشاف» من أنه قد تقرّر أنّ العلم لا تجوز إضافته إلّا بعد تنكيره، وطريق تنكير العلم، أن يؤوّل بواحد من الأمّة المسمّاة به.
__________
(1) في طبعة بولاق: = تعالى أسماؤه =. ولقد أثبتنا ما في النسخة الشنقيطية مع أثر تصحيح.
(2) سورة النور: 24/ 16.
(7/223)
وعلم الجنس مسمّاه شيء واحد لا متعدّد، فلا يصلح تنكيره.
وقول صاحب الكشف: وليست من باب زيد المعارك، أي: من إضافة العلم إلى ما هو متّصف به معنى، قصد به ردّ كلام الطّيي.
وأشار أبو السعود في «تفسيره» لردّهما بقوله: وحيث كان المسمّى معنى لا عينا، وجنسا لا شخصا، لم تكن إضافته من قبيل ما في زيد المعارك أو حاتم طيّئ.
وإنّما فعل هذا، لأنّ نحو: زيد المعارك، لا يكون إلّا في علم الشخص دون علم الجنس.
قال صاحب اللباب: طريق تنكير العلم، أن يتأوّل بواحد من الأمّة المسمّاة به، نحو: هذا زيد، ورأيت زيدا آخر.
أو يكون صاحبه قد اشتهر بمعنى من المعاني، فيجعل بمنزلة الجنس الدالّ على ذلك المعنى، نحو قولهم: لكلّ فرعون موسى.
قال شارحه: قوله وطريق تنكير العلم، أي: من أعلام الأشخاص، لا من أعلام الأجناس، فإنّه لا ينكّر بالطريق الأوّل، لأنّ من شرطه أن يوجد الاشتراك في التسمية، والمسمّى بعلم الجنس واحد لا تعدّد فيه، اللهم إلّا أن يوجد اسم مشترك أطلق بحسب الاشتراك على نوعين مختلفين، ثم ورد الاستعمال فيه مرادا به واحد من المسمّى به.
وأمّا بالطريق الثاني فلا شبهة في إمكان تنكيرها، مثل أن يقال: فرست كلّ أسامة، أي: بالغ في الشجاعة.
وقوله: «وزيدا آخر» تأويله المسمّى بزيد، وحينئذ يصير اسم جنس متواطئا يدخل فيه كلّ من سمّي به.
وقوله: «لكلّ فرعون موسى»، أي: لكلّ ظالم مبطل عادل محقّ. ويجوز أن يبقى العلم في هذا على حاله، ويكون المضاف محذوفا، أي: لمثل كلّ فرعون مثل موسى. وليس المراد هنا مسمّى بموسى، ولا مسمّى بفرعون. انتهى.
ويمكن تصوير تنكير العلم الجنسي بطريق آخر، وهو أن يجرّد عن ملاحظة التعيين، ويراد به مطلق الماهيّة في ضمن أيّ فرد من أفراده.
والحاصل أنّ القول بالعلمية مطلقا أضيف، أو لم يضف صعب.
(7/224)
ولله درّ الشارح المحقق، تفصّى عن الأمور بسلوكه طريقة وسطى، لا يرد عليها ما ذكر، وإن كانت مخالفة للجمهور.
بقي بحث في عامل سبحان، هل يجوز أن يقدّر فعل أمر؟ فيه نزاع.
ذكر السيّد في «شرح المفتاح» في قوله تعالى (1): {«فَلَمََّا جََاءَهََا نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النََّارِ وَمَنْ حَوْلَهََا وَسُبْحََانَ اللََّهِ رَبِّ الْعََالَمِينَ»} أنّ قوله وسبحان بتقدير الأمر، تنزيها له تعالى في مقام المكالمة عن المكان والجهد، أي: وسبّحه تسبيحا. انتهى.
وقال القاضي، في (2) {«فَسُبْحََانَ اللََّهِ حِينَ تُمْسُونَ»}: إخبار في معنى الأمر بتنزيه الله تعالى، والثناء عليه في هذه الأوقات.
وقال بعض من كتب عليه: لم يجعله أمرا ابتداء، لأنّ سبحان الله على ما بيّن في النحو لزم طريقة واحدة، لا ينصبه فعل أمر.
وجوّز الأمرين أبو شامة في (3): {«سُبْحََانَ الَّذِي أَسْرى ََ»}، قال: إن فعله المحذوف إمّا فعل أمر، أو خبر، أي: سبّحوا، أو سبّح الذي أسرى بعبده، على أن يكون ابتداء ثناء من الله على نفسه، كقوله (4): {«الْحَمْدُ لِلََّهِ رَبِّ الْعََالَمِينَ»}.
والبيت من أبيات لورقة بن نوفل الصحابي، قالها لكفّار مكّة حين رآهم يعذّبون بلالا على إسلامه، تقدّم شرحها مع ترجمته في الشاهد الرابع والثلاثين بعد المائتين (5).
وقبله (6):
سبحان ذي العرش لا شيء يعادله ... ربّ البريّة فرد واحد صمد
وقوله: «نعوذ به» يريد كلّما رأينا أحدا يعبد غير الله، عدنا بعظمته، وسبّحنا حتّى يعصمنا من الضّلال.
__________
(1) سورة النمل: 27/ 8.
(2) سورة الروم: 30/ 17.
(3) سورة الإسراء: 17/ 1.
(4) سورة الفاتحة: 1/ 1.
(5) الخزانة الجزء الثالث ص 359.
(6) البيت لورقة بن نوفل في الأغاني 3/ 121والبداية والنهاية 2/ 298والروض الأنف 1/ 125ونسب قريش للزبيري ص 208.
(7/225)
وروى الرّياشي: «نعود له» بالدال المهملة واللام، أي: نعاوده مرّة بعد مرّة.
و «الجوديّ»: جبل بالموصل، وقيل: بالجزيرة. و «الجمد»، بضم الجيم والميم: جبل أيضا بين مكة والبصرة. ومفعول «سبّح» محذوف، أي: سبّحه الجوديّ.
* * * وأنشد بعده، وهو الشاهد الثامن والعشرون بعد الخمسمائة (1): (الرجز)
528 - سبحانك اللهمّ ذا السّبحان
على أنّ «سبحان» جاء معرّفا باللام فلا يكون علما، فلا يأتي فيه ما زعمه بعضهم من أنه علم ولو أضيف. و «ذا» بمعنى صاحب منصوب لأنّه تابع للهمّ (2)
على المحل.
وهذا الرجز أنشده ابن مالك في «شرح الكافية»، قال في نظمها (3):
سبحان في غير اختيار أفردا ... ملابس التّنوين أو مجرّدا
وشذّ قول راجز ربّاني ... سبحانك اللهمّ ذا السّبحان
وقال في الشرح: من الملتزم الإضافة سبحان، وهو اسم بمعنى التسبيح، وليس بعلم، لأنّه لو كان علما، لم يضف إلى اسم واحد كسائر الأعلام. وأخلي من الإضافة لفظا للضرورة، منوّنا وغير منوّن.
فالتنوين كقول الشاعر:
سبحانه ثمّ سبحانا نعوذ به ... البيت
__________
(1) الرجز بلا نسبة في أمالي ابن الشجري 1/ 348وحاشية يس 1/ 125والدرر 3/ 71وهمع الهوامع 1/ 190.
(2) في طبعة بولاق والنسخة الشنقيطية: = تابع لا للهم =. وهو تصحيف صوابه من طبعة هارون 7/ 243.
(3) في شرح الكافية ص 52. أنشد ابن مالك هذا النظم.
(7/226)
وغير المنوّن، كقول الآخر:
* سبحان من علقمة الفاخر *
وزعم الزمخشريّ وأبو عليّ أنّ الشاعر ترك تنوين «سبحان»، لأنّه علم على التسبيح، فلا ينصرف للعلميّة وزيادة الألف والنون.
وليس الأمر كما زعما، بل ترك التنوين لأنّه مضاف إلى محذوف مقدّر الثبوت، كما قال الراجز (1): (الرجز)
* خالط من سلمى خياشيم وفا *
أراد: وفاها. وشذّ دخول الألف واللام على سبحان والإضافة إليه، فيما أنشده ابن الشجري، من قول الراجز:
* سبحانك اللهمّ ذا السّبحان *
انتهى.
وأورده أبو حيان أيضا في «الارتشاف» كما يأتي بعد هذا (2).
* * * وأنشد بعده:
* سبحان من علقمة الفاخر *
__________
(1) الرجز للعجاج في ديوانه ص 492وأساس البلاغة (رصف) وإصلاح المنطق ص 84وتاج العروس (صهرج، رصف، نزف، نهى) وتهذيب اللغة 12/ 164، 13/ 226، 15/ 41، 474، 575والدرر 1/ 113وشرح أبيات سيبويه 1/ 204وكتاب الجيم 3/ 283ولسان العرب (صهرج، رصف، نزف، فمم، نهى، ذو) والمقاصد النحوية 1/ 152والمقتضب 1/ 240والممتع في التصريف ص 408والمخصص 1/ 137، 138، 14/ 96، 15/ 78. وهو بلا نسبة في كتاب الجيم 3/ 275وكتاب العين 8/ 406 والمخصص 1/ 136وهمع الهوامع 1/ 40.
(2) هو الشاهد رقم 235من شواهد الخزانة انظر الجزء الثالث ص 367.
(7/227)
على أنّهم استدلّوا به على علميّة «سبحان» بمنعه من الصّرف للعلميّة، وزيادة الألف والنون كعثمان. وردّه الشارح المحقق بأنّه من قبيل المضاف، أي: سبحان الله، حذف المضاف إليه، وأبقى المضاف على حاله من التجرّد عن التنوين.
والشارح المحقق مسبوق بهذا الردّ، نقله أبو حيان في «الارتشاف» قال فيه:
معنى سبحان الله براءة من السّوء. ويستعمل مفردا منوّنا، وغير منوّن.
فإذا قلت: «سبحان» فهو ممنوع من الصرف عند سيبويه للعلمية وزيادة الألف والنون.
وقيل: هو مضاف في التقدير، ترك على هيئته حين كان مضافا في اللفظ. وهو اسم وضع موضع المصدر الذي هو التسبيح، وأصله الإضافة، ثم استعمل مقطوعا عنها منوّنا في الشعر، وغير منوّن. وقيل: وضع نكرة جارية مجرى المصادر، فعرّف بالإضافة وبأل. قال:
* سبحانك اللهمّ ذا السّبحان *
انتهى.
وممّن حكى ما ردّه الشارح، ابن الحاجب في «شرح المفصل» قال: والذي يدلّ عليه أنه علم قول الشاعر:
قد قلت لمّا جاءني فخره ... سبحان من علقمة الفاخر
ولولا أنّه علم لوجب صرفه، لأنّ الألف والنون في غير الصفات، إنما تمنع مع العلميّة، ولا يستعمل «سبحان» علما إلّا شاذا. وأكثر استعماله مضافا.
وإذا كان مضافا فليس بعلم، لأنّ الأعلام لا تضاف، وهي أعلام، لأنّها معرفة، والمعرفة لا تضاف. وقيل: إنّ سبحان في البيت حذف المضاف إليه، وهو مراد للعلم به. انتهى.
وزعم الراغب أنّ «سبحان» في هذا البيت مضاف إلى «علقمة» و «من» زائدة.
وهو ضعيف لغة وصناعة.
(7/228)
أما الأوّل فلأنّ العرب لا تستعمله مضافا إلّا إلى الله، أو إلى ضميره، أو إلى الربّ، ولم يسمع إضافته إلى غيره.
وأما صناعة فلأن «من» لا تزاد في الواجب عند البصريّين.
و «سبحان» هنا للتعجّب، ومن داخلة على المتعجّب منه. والأصل فيه أن يسبّح الله، عند رؤية العجيب من صنائعه، ثم كثر حتى استعمل في كلّ متعجّب منه.
وصاحب الصحاح وتبعه صاحب العباب، نظرا إلى ظاهره فقال: العرب تقول: سبحان من كذا، إذا تعجّبت منه.
قال الأعشى يذكر علقمة بن علاثة:
أقول لمّا جاءني فخره ... سبحان من علقمة الفاخر
يقول: العجب منه إذ يفخر. وإنّما لم ينوّن، لأنّه معرفة عندهم، وفيه شبه التأنيث. انتهى.
ولا يخفى ضعفه. ووجود الزيادة تغنى عن شبه التأنيث.
والبيت من قصيدة للأعشى ميمون، هجا بها علقمة بن علاثة الصحابي، وفضّل عدوّ الله عامر بن الطّفيل عليه.
وقد تقدّم شرحها وسببها في الشاهد الخامس والثلاثين بعد المائتين (1).
* * * وأنشد بعده:
* خالط من سلمى خياشيم وفا *
على أنّ أصله وفاها، حذف المضاف إليه، وبقي المضاف على حاله.
__________
(1) الخزانة الجزء الثالث ص 367.
(7/229)
وتقدّم شرحه في الشاهد الثالث والأربعين بعد المائتين (1).
* * * وأنشد بعده (2): (الكامل)
ولأنت أجرأ من أسامة إذ ... دعيت نزال ولجّ في الذّعر
تقدّم شرحه في الشاهد السابع والستين بعد الأربعمائة (3).
* * * وأنشد بعده (4): (البسيط)
كأنّ فعلة لم تملأ مواكبها ... ديار بكر ولم تخلع ولم تهب
وقد تقدّم شرح هذا أيضا في الشاهد السادس والثمانين بعد الأربعمائة (5).
* * * وأنشد بعده (6): (الطويل)
__________
(1) الخزانة الجزء الثالث ص 409.
(2) البيت من قصيدة للأعشى ميمون في شرح أبيات المغني للبغدادي 7/ 90وليس في ديوانه وللمسيب بن علس في البيان والتبيين 1/ 189188.
(3) الخزانة الجزء السادس ص 293.
(4) البيت لأبي الطيب المتنبي في ديوانه 1/ 217.
(5) الخزانة الجزء السادس ص 406.
(6) هو الإنشاد الثامن والستون في شرح أبيات المغني للبغدادي.
والبيت لابن ميادة في ديوانه ص 192والدرر 1/ 87وسر صناعة الإعراب 2/ 451وشرح أبيات المغني 1/ 304وشرح شواهد الشافية ص 12وشرح شواهد المغني 1/ 164ولسان العرب (زيد) والمقاصد النحوية 1/ 218، 509ولجرير في لسان العرب (وسع) وهو ليس في ديوانه. وهو بلا نسبة في أمالي ابن
(7/230)
رأيت الوليد بن اليزيد مباركا ... شديدا بأحناء الخلافة كاهله
وتقدّم شرحه أيضا في الشاهد التاسع عشر بعد المائة (1).
* * * وأنشد بعده (2): (الطويل)
علا زيدنا يوم النّقا رأس زيدكم ... بأبيض ماضي الشّفرتين يماني
وهذا أيضا تقدّم شرحه في الشاهد الثامن عشر بعد المائة (3).
* * * وأنشد بعده، وهو الشاهد التاسع والعشرون بعد الخمسمائة (4): (الكامل)
529 - سكنوا شبيثا والأحصّ وأصبحت
نزلت منازلهم بنو ذبيان
وإذا فلان مات عن أكرومة
رقعوا معاوز فقده بفلان
__________
الحاجب 1/ 322والأشباه والنظائر 1/ 23، 8/ 306والإنصاف 1/ 317وأوضح المسالك 1/ 73 وشرح الأشموني 1/ 85وشرح التصريح 1/ 153وشرح شافية ابن الحاجب 1/ 36وشرح قطر الندى ص 53ومغني اللبيب 1/ 52وهمع الهوامع 1/ 24.
(1) الخزانة الجزء الثاني ص 198.
(2) هو الإنشاد التاسع والستون في شرح أبيات المغني للبغدادي.
والبيت لرجل من طيئ في شرح أبيات المغني 1/ 308وشرح شواهد المغني 1/ 165والكامل في اللغة 2/ 118 والمقاصد النحوية 3/ 371. وهو بلا نسبة في الأشباه والنظائر 3/ 189، 191وجواهر الأدب ص 315وسر صناعة الإعراب 2/ 452، 456وشرح الأشموني 1/ 186، 2/ 442وشرح التصريح 1/ 153وشرح المفصل 1/ 44ولسان العرب (زيد) ومغني اللبيب 1/ 52.
(3) الخزانة الجزء الثاني ص 196.
(4) البيتان للمرار الفقعسي الأسدي في ديوانه ص 380وأمالي القالي 1/ 66وسمط اللآلئ ص 235، 455 وهما بلا نسبة في لسان العرب (شبث، حصص) والثاني بلا نسبة في معجم البلدان (شبث).
(7/231)
على أنّ «فلانا» يجوز أن يأتي في غير الحكاية، خلافا للمصنّف وابن السّرّاج، كما في البيت الثاني فإنّ «فلانا» الأوّل وقع فاعلا لفعل يفسّره ما بعده، و «فلانا» الثاني جرّ بالباء، وهما وقعا في غير حكاية.
والمصنّف ذهب إلى هذا في «شرح المفصّل» قال في آخر شرح العلم: ولم يثبت استعمال فلان إلّا حكاية، لأنّه اسم اللفظ الذي هو علم، لا اسم مدلول العلم، فلذلك لا يقال: جاءني فلان، ولكن يقال: قال زيد: جاءني فلان.
قال الله تعالى (1): {«يَقُولُ يََا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا يََا وَيْلَتى ََ لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلََاناً خَلِيلًا»}، فهو إذن اسم الاسم. انتهى.
والبيتان للمرّار الفقعسيّ، قد سقط من بينهما بيت.
روى القالي في «أماليه» (2) عن ابن دريد عن عبد الرحمن عن عمّه الأصمعيّ، قال: بينا أنا بحمى ضريّة، إذ وقف عليّ غلام من بني أسد في أطمار، ما ظننته يجمع بين كلمتين، فقلت: ما اسمك؟ فقال: حريقيص. فقلت: أما كفى أهلك أن سمّوك حرقوصا (3) حتّى حقّروا اسمك؟
فقال: إنّ السّقط يحرق الحرجة! فعجبت من جوابه، واتّصل الكلام بيننا، فقلت: أنشدنا شيئا من أشعار قومك. قال: نعم، أنشدك لمرّارنا؟ قلت: افعل.
فقال:
سكنوا شبيثا والأحصّ وأصبحت ... نزلت منازلهم بنو ذبيان
وإذا يقال أتيتم لم يبرحوا ... حتّى تقيم الحرب سوق طعان
وإذا فلان مات عن أكرومة ... رقعوا معاوز فقده بفلان
قال: فكادت الأرض أن تسوخ بي لحسن إنشاده وجودة الشعر. فأنشدت الرشيد هذه الأبيات، فقال: وددت يا أصمعيّ أن لو رأيت هذا الغلام فكنت أبلغه أعلى المراتب (4). انتهى.
__________
(1) سورة الفرقان: 25/ 2827.
(2) أمالي القالي 1/ 66.
(3) الحرقوص: اسم دويبة كالبرغوث، أو كالقراد.
(4) انتهى النقل من أمالي القالي 1/ 66.
(7/232)
و «حمى ضريّة»، بفتح الضاد المعجمة وكسر الراء المهملة وتشديد المثناة التحتيّة: نسب هذا الحمى إلى ضريّة بنت ربيعة بن نزار بن معدّ بن عدنان، وهو أكبر الأحماء من ضريّة إلى المدينة، وهي أرض كثيرة العشب.
وأوّل من حماه في الإسلام عمر بن الخطّاب لإبل الصّدقة وظهر الغزاة، وكان حماه ستة أميال من كلّ ناحية من نواحي ضريّة، وضريّة في أوسط الحمى.
و «الحرقوص»، بالقاف وبالمهملات، كعصفور: دوبيّة كالبرغوث، ربّما نبت له جناحان فطار.
و «السّقط»، قال القالي (1): هو ما يسقط من الزند إذا قدح.
وقال أبو عبيدة: في سقط النار وسقط الولد [وسقط الرمل] ثلاث لغات:
الضّمّ والفتح والكسر. وزناد العرب من خشب، وأكثر ما يكون من المرخ والعفار، ولذلك قال الأعشى (2): (المتقارب)
زنادك خير زناد الملو ... ك صادف منهنّ مرخ عفارا
وإنّما يؤخذ عود قدر شبر [فيثقب في وسطه ثقب لا ينفذ، ويؤخذ عود آخر قدر ذراع] (3) فيحدّد طرفه، فيجعل ذلك المحدّد في ذلك الثّقب، وقد وضعه بين رجليه، فيديره ويفتله فيوري نارا. فالأعلى زند، والأسفل زندة.
و «الحرجة»، بفتح الحاء والراء المهملتين بعدهما جيم، قال القالي: هو الشجر [الكثير] الملتفّ، وجمعه حراج [وأحراج].
قال العجّاج (4): (الرجز)
__________
(1) أمالي القالي 1/ 66. والزيادة منه.
(2) البيت للأعشى في ديوانه ص 103وأمالي القالي 1/ 66وتاج العروس (مرخ) وجمهرة اللغة ص 593، 765ومقاييس اللغة 4/ 64والمخصص 3/ 5، 11/ 37.
(3) زيادة يقتضيها السياق من أمالي القالي 1/ 66.
(4) الرجز لرؤبة في ملحق ديوانه ص 186وتاج العروس (حرجم) ولسان العرب (حرج، حرجم، أزا) وللعجاج في ديوانه 2/ 142، 145وأمالي القالي 1/ 66وجمهرة اللغة ص 1217. وهو بلا نسبة في أساس البلاغة (حرج، زأر) وتهذيب اللغة 4/ 137، 5/ 309وديوان الأدب 2/ 491ومجمل اللغة 2/ 54 ومقاييس اللغة 2/ 50.
(7/233)
عاين حيّا كالحراج نعمه ... يكون أقصى شلّه محرنجمه
يقول: عاين هذا الجيش الذي أتانا حيا. ويعني بالحيّ قومه بني سعد.
و «النّعم»: الإبل. و «أقصى»: أبعد. و «شلّه»: طرده. و «محرنجمه»:
مبركه حيث يجتمع بعضه إلى بعض.
والمعنى أنّ الناس إذا فوجئوا بالغارة طردوا إبلهم، وقاموا هم يقاتلون، فان انهزموا كانوا قد نجوا بها. يقول: فهؤلاء من عزّهم ومنعتهم لا يطردونها، ولكن يكون أقصى طردهم أن ينيخوها في مبركها ثم يقاتلوا عنها. انتهى.
وقوله: «سكنوا شبيثا»، هو بضم الشين المعجمة وفتح الموحدة وآخره ثاء مثلثة: اسم ماء لبني تغلب.
قال الجعديّ وذكر كليبا لمّا طعنه جسّاس: (الطويل)
فقال لجسّاس أغثني بشربة ... من الماء وامننها عليّ وأنعم (1)
فقال: تجاوزت الأحصّ وماءه ... وبطن شبيث وهو ذو مترسّم (2)
[مترسّم (3)]، أي: موضع الماء لمن طلبه (4). وقال عمرو بن الأهتم (5):
(الطويل)
فقال لجسّاس أغثني بشربة ... وإلّا فنبّىء من لقيت مكاني
فقال: تجاوزت الأحصّ وماءه ... وبطن شبيث وهو غير دفان
كذا في المعجم للبكري. قال السّكّري: يقال ماء دفن ومياه دفان، أي:
مندفنة، قد درس مواضعها. والأحصّ بمهملتين، قال البكري في «معجمه»: هو على وزن أفعل، واد لبني تغلب، كانت فيه بعض وقائعهم مع إخوتهم بكر.
__________
(1) البيت للنابغة الجعدي في ديوانه ص 145والأغاني 5/ 38وتهذيب اللغة 2/ 204ولسان العرب (حصحص) ومعجم البلدان (أحص).
(2) البيت للنابغة الجعدي في ديوانه ص 145وتاج العروس (شبث، حصص) وتهذيب اللغة 3/ 402، 404 ولسان العرب (حصص) ومعجم البلدان (أحص).
(3) ما بين معقوفين من النسخة الشنقيطية وهي ساقطة من طبعة بولاق.
(4) في طبعة بولاق: = لما طلبه =. وهو تصحيف صوابه من النسخة الشنقيطية.
(5) البيتان من قطعة لعمرو بن الأهتم في معجم البلدان (شبيث).
(7/234)
قال مهلهل (1): (الكامل)
وادي الأحصّ لقد سقاك من العدى ... فيض الدّموع بأهله الدّعس
و «الدّعس»: من منازل بكر.
وقال جرير (2): (الكامل)
سادت همومي بالأحصّ وسادي ... هيهات من بلد الأحصّ بلادي
وبالأحصّ قتل جسّاس بن مرّة، كليب بن ربيعة. انتهى.
وقوله: «تجاوزت الأحصّ وشبيثا»، صار مثلا (3) يضرب لطالب الشيء بعد فوته، أورده الزمخشري في «أمثاله»، قال: هما ماءان.
وأصله أنّ جسّاس بن مرّة لمّا ركب ليلحق كليبا أردف خلفه عمرو بن الحارث ابن ذهل بن شيبان، فلما طعنه وبه رمق، قال له (4): (الطويل)
أغثني يا جسّاس منك بشربة ... تعوّدها فضلا عليّ وأنعم
فقال له جسّاس: تجاوزت الأحصّ وشبيثا. أراد: إنك تباعدت عن موضع سقياك! ثم نزل عمرو فحسب أنّه يسقيه، فلما علم أنّ نزوله للإجهاز عليه قال (5):
(البسيط)
المستجير بعمرو عند كربته ... كالمستجير من الرّمضاء بالنّار
اه.
و «أصبحت، نزلت» إلخ، بنو ذبيان اسم أصبحت، وجملة «نزلت»: خبرها،
__________
(1) البيت للمهلهل في ديوانه ص 48ومعجم ما استعجم ص 118.
(2) البيت لجرير في ديوانه 1/ 507ومعجم البلدان (الأحص).
(3) المثل في أمثال العرب ص 130، 185وجمهرة الأمثال 1/ 279والمستقصى 2/ 16.
(4) البيت مع غيره في معجم البلدان (أحص) وجمهرة العسكري 1/ 279للنابغة الجعدي. وقد سبق لنا تخريجه منذ قليل.
وفي النسخة الشنقيطية: = عليك وأنعم =. وهو تصحيف صوبناه.
(5) البيت لابن دريد في تاج العروس (دعص) وليس في ديوانه. وهو بلا نسبة في جمهرة اللغة ص 653ولسان العرب (دعص).
(7/235)
وتقدّم من الشارح أنّه يجوز وقوع الماضي خبرا للأفعال الناقصة.
وقوله: «وإذا يقال أتيتم» إلخ، هذا البيت هو الذي أعجب الأصمعيّ والرّشيد، لدلالته على كمال الشجاعة. و «أتيتم»: بالبناء للمفعول يستعمل في المكروه، أي: دهيتم بمجيء العدوّ. وبرح الشيء، من باب تعب، براحا: زال من مكانه.
وروى: «الخيل» بدل الحرب. و «الطّعان»: المطاعنة بالرمح.
وقوله: «عن أكرومة»، «عن» متعلقة بحال محذوفة، أي: منصرفا عن أكرومة بضم الهمزة، أي: عن ذكر جميل، ومنقبة كريمة. والأكرومة من الكرم، كالأعجوبة من العجب.
وقوله: «رقعوا معاوز» إلخ، «رقعوا» بالقاف، من رقعت الثوب رقعا من باب نفع، إذا جعلت مكان القطع خرقة، واسمها رقعة، و «المعاوز»، قال القالي:
هي الثّياب الخلقان.
وفي الصحاح: المعوزة والمعوز بكسر أولهما: الثّوب الخلق الذي يبتذل (1)، والجمع معاوز. و «الفقد»: مصدر فقدته فقدا من باب ضرب، إذا عدمته.
يقول: إذا مات منهم سيّد، أقاموا موضعه سيّدا آخر.
المرّار الفقعسيّ الأسديّ
و «المرّار الفقعسيّ الأسديّ» هو شاعر إسلامي من شعراء الدولة الأموية، بفتح الميم وتشديد الراء الأولى. وينسب تارة إلى فقعس وهو أحد آبائه الأقربين، وتارة إلى أسد بن خزيمة بن مدركة، وهو جدّه الأعلى. وتقدمت ترجمته في الشاهد التاسع والتسعين بعد المائتين (2).
والموجود في نسخ الشرح: «المرار العبسي»، وهو تحريف وتصحيف من الفقعسي، إذ ليس من الشعراء المرار العبسي، وكأنه حرّف بالنظر إلى قوله نزلت منازلهم بنو ذبيان، فإنّ عبسا وذبيان أخوان أبوا قبيلتين، وهما ابنا بغيض بن ريث بن غطفان بن سعد بن قيس بن عيلان بن مضر.
__________
(1) في طبعة بولاق: = الثوب الخلق أي يبتذل =. وهو تصحيف صوابه من النسخة الشنقيطية والصحاح (عوز).
(2) الخزانة الجزء الرابع ص 268.
(7/236)
ويدلّ أيضا لما قلنا حكاية الأصمعي، إذ وقف على غلام من بني أسد، وفيها «أنشدك لمرّارنا». والله أعلم.
* * * وأنشد بعده، وهو الشاهد الثلاثون بعد الخمسمائة (1): (البسيط)
530 - أخذت بعين المال حتّى نهكته
وبالدّين حتّى ما أكاد أدان
وحتّى سألت القرض عند ذوي الغنى
وردّ فلان حاجتي وفلان
لما تقدّم قبله، فإن «فلانا» فاعل ردّ، وهو في غير حكاية.
روى أبو الفرج الأصبهاني في «الأغاني» (2) بسنده، قال:
مرّ عبيد الله بن العباس بن عبد المطّلب بمعن بن أوس المزني، وقد كفّ بصره، فقال له: يا معن كيف حالك؟ فقال [له]: ضعف بصري، وكثر عيالي، وغلبني الدين. قال: وكم دينك؟ قال: عشرة آلاف درهم. فبعث بها إليه، ثم مرّ به من الغد، فقال [له]: كيف أصبحت يا معن؟ قال:
أخذت بعين المال حتّى نهكته ... البيتين
قال له عبيد الله: الله المستعان، إنا بعثنا إليك [بالأمس] لقمة، فما لكتها حتّى انتزعت من يديك، فأيّ شيء للأهل والقرابة والجيران، وبعث إليه بعشرة آلاف درهم أخرى، فقال معن يمدحه (3): (الطويل)
إنّك فرع من قريش وإنّما ... يمجّ النّدى منها البحور الفوارع
ثووا قادة للنّاس بطحاء مكّة ... لهم وسقايات الحجيج الدّوافع
__________
(1) البيتان لمعن بن أوس المزني في الأغاني 12/ 56. وليسا في ديوانه.
(2) الأغاني 12/ 55. والزيادات منه.
(3) الأبيات لمعن بن أوس في الأغاني 12/ 56.
(7/237)
فلمّا دعوا للموت لم تبك منهم ... على حادث الدّهر العيون الدّوامع
قوله: «أخذت بعين المال» إلخ، يقال: أخذ الخطام، وأخذ به، على زيادة الباء، أو أخذت مضمّن معنى تصرّفت. وعين المال هنا: نقده، فإنّ العين له معان منها النقد. و «حتّى» هنا بمعنى الغاية.
و «نهكته»: أتلفته ومزّقته، وهو من نهكته الحمّى، إذا جهدته وأضنته ونقصت لحمه، جاء من باب نفع ومن باب فرح، أو من باب نهكت الثّوب من باب نفع: لبسته حتّى خلق. يقول: تصرّفت بالمال النقد، وأسرفت فيه إلى أن فني.
قوله: «وبالدّين» معطوف على قوله بعين المال، أي: وأخذت الدين من هنا ومن هنا حتّى ما بقي من يقرضني. و «أكاد» بفتح الهمزة بمعنى أقرب.
قال في المصباح: كاد يفعل كذا يكاد، من باب تعب: قارب الفعل.
قال ابن الأنباري: قال اللغويّون: كدت أفعل، معناه عند العرب قاربت الفعل ولم أفعل، وما كدت أفعل معناه، فعلت بعد إبطاء. قال الأزهريّ: وهو كذلك، وشاهده قوله تعالى (1): {«وَمََا كََادُوا يَفْعَلُونَ»}. وقد يكون ما كدت أفعل بمعنى ما قاربت. انتهى.
وهذا الأخير هو المراد هنا.
و «أدان»: مجهول دنته بمعنى أقرضته، قال صاحب المصباح (2): قال جماعة:
يستعمل دان لازما ومتعديا، فيقال: دنته، إذا أقرضته، فهو مدين ومديون، واسم الفاعل دائن فيكون الدائن من يأخذ الدّين على كونه لازما، ومن يعطيه على كونه متعدّيا. وقال ابن القطّاع: دنته أقرضته، ودنته استقرضت منه.
وقال ابن قتيبة: لا يستعمل دان إلّا لازما فيمن يأخذ الدين. وقال ابن السكيت أيضا: دان الرجل إذا استقرض، فهو دائن. وكذلك قال ثعلب، ونقله الأزهري أيضا.
__________
(1) سورة البقرة: 2/ 71.
(2) كتب مصحح طبعة بولاق في حاشية الطبعة: = قوله قال صاحب المصباح، إلخ قد تصرف في عبارته بتقديم وتأخير وبعض حذف، كما يظهر بالوقوف عليه =.
(7/238)
وعلى هذا فلا يقال منه مدين ولا مديون، لأنّ اسم المفعول إنّما يكون من فعل متعدّ، وهذا الفعل لازم، فإذا أردت التعدّي قلت: أدنته وداينته. قاله أبو زيد، وابن السكيت، وابن قتيبة، وثعلب. انتهى.
وقوله: «وحتى سألت القرض» إلخ، «سألت» هنا بمعنى طلبت، و «القرض»، بفتح القاف وكسرها، وهو ما تعطيه غيرك من المال لتقضاه. والفرق بينه وبين الدّين أنّ الدّين أعمّ منه، يكون ثمن مبيع وغيره، والقرض خاصّ بالنّقد من غير ربح.
وقوله: «وردّ فلان» إلخ، معطوف على سألت، قال أبو هلال العسكري في «كتاب الفروق في اللغة»: الفرق بين الفقر والحاجة أنّ الحاجة هي القصور عن المبلغ المطلوب، ولهذا يقال: الثوب يحتاج إلى خرقة، وفلان يحتاج إلى عقل، وذلك إذا كان قاصرا غير تامّ. والفقر خلاف الغنى.
فأمّا قولهم: مفتقر إلى عقل فهو استعارة، ومحتاج إلى عقل حقيقة. والفرق بين النقص والحاجة: أنّ النقص سبب الحاجة، والمحتاج يحتاج لنقصه، والنّقص أعمّ من الحاجة، لأنه يستعمل فيما يحتاج وفيما لا يحتاج.
وقوله: «فما لكتها» من لاك اللّقمة يلوكها لوكا، إذا مضغها.
وقوله: «إنّك فرع من قريش» إلخ، هو مخروم.
ويروى: «وإنك» بالواو فلا خرم. والفرع مستعار من فروع الشجرة، وهي أغصانها.
وفي الصحاح: هو فرع قومه للشّريف منهم. ومجّ الماء من فيه: رمى به.
و «النّدى»: أصل المطر، ويطلق لمعان، يقال: أصابه ندى من طلّ ومن عرق، وندى الخير وندى الشر، وندى الصوت. والندى: ما أصاب من بلل.
وبعضهم يقول: ما سقط آخر الليل ندى، وأمّا الذي يسقط أوله، فهو السّدى بالقصر أيضا. وضمير منها لقريش. وشبّه أجوادهم وكرماءهم بالبحور.
و «الفوارع»: جمع فارع، وهو العالي.
وقوله: «ثووا قادة الناس» إلخ، «ثوى» هنا متعدّ بمعنى سكنوا ونزلوا. قال صاحب المصباح: ثوى بالمكان وفيه، أي: أقام، وربّما تعدّى بنفسه. و «قادة»:
جمع قائد، من قاد الأمير الجيش والناس قيادة. و «بطحاء مكة» مفعول ثووا، و «لهم» خبر مقدم، و «الدوافع» مبتدأ مؤخر: جمع دافع.
(7/239)
وقوله: «ثووا قادة الناس» إلخ، «ثوى» هنا متعدّ بمعنى سكنوا ونزلوا. قال صاحب المصباح: ثوى بالمكان وفيه، أي: أقام، وربّما تعدّى بنفسه. و «قادة»:
جمع قائد، من قاد الأمير الجيش والناس قيادة. و «بطحاء مكة» مفعول ثووا، و «لهم» خبر مقدم، و «الدوافع» مبتدأ مؤخر: جمع دافع.
يقال: شاة أو ناقة دافع ودافعة ومدفاع، وهي التي تدفع اللّبأ في ضرعها قبيل النّتاج. وفي بمعنى مع. و «السّقاية»، بالكسر: الموضع يتّخذ لسقي الناس.
و «الحجيج»: جمع حاجّ.
وقوله: «فلمّا دعوا للموت» بالبناء للمفعول. يصفهم بالشجاعة، يقول: إن طلبوا للحرب لم تدمع لهم عين خوفا من القتل.
عبيد الله بن العباس
و «عبيد الله بن العباس» هو ابن عمّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو أخو عبد الله بن العباس حبر هذه الأمّة. قال ابن عبد ربّه في «العقد الفريد» (1):
أجواد الحجاز ثلاثة في عصر واحد: عبيد الله بن العباس، وعبد الله بن جعفر، وسعيد بن العاص.
فمن جود عبيد الله بن العباس أنه أوّل من فطّر جيرانه، وأول من وضع الموائد على الطّرق، وأول من حيّا (2) على طعامه، وأول من أنهبه. وفيه يقول شاعر المدينة: (الطويل)
وفي السّنة الشّهباء أطعمت حامضا ... وحلوا ولحما تامكا وممزّعا
وأنت ربيع لليتامى وعصمة ... إذا المحل من جوّ السّماء تطلّعا
أبوك أبو الفضل الذي كان رحمة ... وغيثا ونورا للخلائق أجمعا
ومن جوده: أنه أتاه رجل وهو بفناء داره، فقال: يا ابن عباس، إنّ لي عندك يدا، وقد احتجت إليها. فصعّد فيه بصره وصوّبه فلم يعرفه، ثم قال: ما يدك عندنا؟ قال: رأيتك واقفا بزمزم وغلامك يمتح لك من مائها، والشمس قد صهرتك، فظلّلتك بطرف كسائي حتّى شربت.
قال: إنّي لأذكر ذلك، وإنه يتردّد بين خاطري وفكري. ثم قال لقيّمه: ما عندك؟ قال: مائتا دينار وعشرة آلاف درهم. قال: ادفعها إليه، وما أراها تفي بحقّ يده عندنا.
__________
(1) العقد الفريد 1/ 343339ولسان العرب (جود).
(2) في طبعة بولاق: = من حي =. وهو تصحيف صوابه من النسخة الشنقيطية والعقد الفريد.
(7/240)
قال له الرجل: والله لو لم يكن لإسماعيل ولد غيرك لكان فيه ما كفاه، فكيف وقد ولد سيّد الأوّلين والآخرين، محمدا صلّى الله عليه وسلّم، ثم شفع (1) بك وبأبيك!
ومن جوده أيضا: أن معاوية حبس عن الحسين بن علي عليهما السلام صلاته حتّى ضاقت عليه حاله، فقيل: لو وجّهت إلى ابن عمّك عبيد الله، فإنّه قدم بنحو من ألف ألف درهم.
فقال الحسين: وأين تقع ألف ألف من عبيد الله، فو الله لهو أجود من الرّيح، إذا عصفت، وأسخى من البحر، إذا زخر!
ثم وجّه إليه مع رسوله بكتاب ذكر فيه حبس معاوية عنه صلاته، وضيق حاله، وأنّه يحتاج إلى مائة ألف درهم، فلما قرأ عبيد الله كتابه وكان من أرقّ الناس قلبا وألينهم عطفا انهملت عيناه، ثم قال: ويلك يا معاوية ممّا اجترحت يداك من الإثم، حين أصبحت ليّن المهاد، رفيع العماد، والحسين يشكو ضيق الحال، وكثرة العيال: ثم قال لقهرمانه: احمل إلى الحسين نصف ما أملكه من فضة وذهب، وثوب ودابّة، وأخبره أنّي شاطرته مالي، فإن أقنعه ذلك وإلّا فارجع واحمل إليه الشّطر الآخر.
فقال له القيّم: فهذه المؤن التي عليك من أين تقوم بها؟ قال: إذا بلغنا ذلك دللتك على أمر تقيم به حالك (2). فلمّا أتى الرسول برسالته إلى الحسين، قال: إنّا لله، حملت والله على ابن عمّي، وما حسبته يتّسع لنا بهذا كلّه.
فأخذ الشّطر من ماله. وهو أوّل من فعل ذلك في الإسلام.
ومن جوده: أنّ معاوية أهدى إليه وهو عنده بالشام من هدايا النّيروز حللا كثيرة، ومسكا، وآنية من ذهب وفضّة، ووجّهها مع حاجبه، فلما وضعها بين يديه نظر إلى الحاجب، وهو ينظر إليها، فقال: هل في نفسك منها شيء؟ فقال:
نعم، والله إنّ في نفسي منها ما كان في نفس يعقوب من يوسف عليهما السلام! فضحك عبيد الله، وقال: فشأنك بها فهي لك.
__________
(1) في العقد الفريد: = ثم شفّعه =.
(2) في العقد الفريد: = يقيم حالك =.
(7/241)
قال: جعلت فداك، أخاف أن يبلغ ذلك معاوية فيجد عليّ. قال: فاختمها بخاتمك وادفعها إلى الخازن، فإذا حان خروجنا حملها إليك ليلا. فقال الحاجب:
والله لهذه الحيلة في الكرم أكثر من الكرم، ولوددت أنّي لا أموت حتّى أراك مكانه! يعني معاوية.
فظنّ عبيد الله أنّها مكيدة منه، قال: دع عنك هذا الكلام فإنّا قوم نفي بما وعدنا، ولا ننقض ما أكّدنا.
ومن جوده أيضا: أنّه أتاه سائل، وهو لا يعرفه، فقال له: تصدّق، فإنّي نبّئت أنّ عبيد الله بن عباس أعطى سائلا ألف درهم، واعتذر إليه. فقال له: وأين أنا من عبيد الله؟ قال: أين (1) أنت منه في الحسب أم كثرة المال؟ قال: فيهما.
قال: أمّا الحسب في الرجل فمروءته وفعله، وإذا شئت فعلت، وإذا فعلت كنت حسيبا. فأعطاه ألفي درهم، واعتذر إليه من ضيق الحال، فقال له السائل:
إن لم تكن عبيد الله بن عباس فأنت خير منه، وإن كنت هو فأنت اليوم خير منك أمس. فأعطاه ألفا أخرى، فقال السائل: هذه هزّة كريم حسيب، والله لقد نقرت حبّة قلبي، فأفرغتها في قلبك فما أخطأت إلّا باعتراض الشكّ من جوانحي (2).
ومن جوده أيضا: أنّه جاءه رجل من الأنصار، فقال: يا ابن عمّ رسول الله، إنّه ولد لي في هذه الليلة مولود، وإنّي سمّيته باسمك تبرّكا منّي به، وإنّ أمّه ماتت.
فقال عبيد الله: بارك الله لك في الهبة، وأجزل لك الأجر على المصيبة. ثم دعا بوكيله، وقال: انطلق الساعة فاشتر للمولود جارية تحضنه، وادفع إليه مائتي دينار للنفقة على تربيته.
ثم قال للأنصاري: عد إلينا بعد أيام فإنّك جئتنا، وفي العيش يبس، وفي المال قلّة.
قال الأنصاري: لو سبقت حاتما بيوم واحد ما ذكرته العرب أبدا، ولكنّه سبقك، فصرت له تاليا، وأنا أشهد أنّ عفوك أكثر من مجهوده، وطلّ كرمك أكثر من وابله.
__________
(1) في طبعة بولاق: = قال قال أين =. وقال الثانية مقحمة.
(2) في العقد الفريد بعض نسخه: = بين جوانحي =.
(7/242)
معن بن أوس المزني
وأما «معن بن أوس المزني» فهو ابن أوس (1) بن نصر بن زياد بن أسعد بن أسحم بن ربيعة بن عداء بن ثعلبة بن ذؤيب بن سعد بن عداء بن عثمان بن عمرو بن أدّ بن طابخة بن إلياس بن مضر.
ومزينة بالتصغير، هي أمّ عمرو بن أدّ بن طابخة. كذا في جمهرة الأنساب للكلبي.
وأسحم بالمهملتين. وعداء في الموضعين بالكسر والمد والتخفيف. وروى في الأوّل عديّ بتشديد الياء.
و «معن» شاعر مجيد فحل من مخضرمي الجاهلية والإسلام، أورده ابن حجر في المخضرمين من الإصابة، وله مدائح في أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم وعمّر إلى أيام الفتنة بين عبد الله بن الزبير ومروان بن الحكم.
وكان معاوية يفضّل مزينة في الشعر، ويقول: كان أشعر الجاهلية منهم، وهو زهير (2)، وكان أشعر الإسلام منهم، وهو كعب بن زهير.
روى صاحب الأغاني (3) أنّ معن بن أوس كان مئناثا، وكان يحسن صحبة بناته وتربيتهنّ، فولد لبعض عشيرته بنت فكرهها، وأظهر جزعا من ذلك، فقال معن (4):
(الطويل)
رأيت رجالا يكرهون بناتهم ... وفيهنّ لا تكذب نساء صوالح
وفيهنّ والأيّام يعثرن بالفتى ... نوادب لا يمللنه ونوائح (5)
والبيت الثاني من أبيات مغني اللبيب على أنّ فيه الاعتراض بين المبتدأ والخبر.
__________
(1) في معجم الشعراء ص 399: = بن أبي أوس بن نصر =.
(2) في النسخة الشنقيطية: = هو زهير = بإسقاط الواو.
(3) الأغاني 12/ 55.
(4) الأبيات لمعن بن أوس المزني في ديوانه ص 32والأغاني 12/ 55والحماسة البصرية 1/ 273وشرح أبيات المغني للبغدادي 6/ 186.
(5) هو الإنشاد التاسع عشر بعد الستمائة في شرح أبيات المغني للبغدادي.
والبيت لمعن بن أوس المزني في ديوانه ص 32والخصائص 1/ 339والدرر 4/ 19وشرح شواهد المغني ص 808. وهو بلا نسبة في مغني اللبيب ص 387وهمع الهوامع 1/ 247.
(7/243)
قال أبو عبيد البكري في «شرح أمالي القالي» بعد إيراد هذين البيتين [و]:
أنشد صاعد بن الحسن لحسّان بن الغدير، أحد بني عامر (1) شعرا، فيه [البيت] الأوّل من هذين البيتين، وهي أبيات منها (2):
لأيّ زمان يخبأ المرء نفعه ... غدا بل غد للموت غاد ورائح
إذا المرء لم ينفعك حيّا فنفعه ... أقلّ إذا رصّت عليه الصّفائح
رأيت رجالا يكرهون بناتهم ... وهنّ البواكي والجيوب النواضح
وللموت سورات بها تنقض القوى ... وتسلو عن المال النّفوس الشّحائح (3)
وما النّأي بالبعد المفرّق بيننا ... بل النّأي ما ضمّت عليه الضّرائح
وروى أن عبد الملك بن مروان (4)، قال يوما وعنده عدّة من آل بيته وولده:
ليقل كلّ واحد منكم أحسن شعر سمعه. فذكروا لامرئ القيس، والأعشى، وطرفة، [فأكثروا] حتّى أتوا على محاسن ما قالوا، فقال عبد الملك (5): أشعرهم، والله، الذي يقول (6): (الطويل)
وذي رحم قلّمت أظفار ضغنه ... بحلمي عنه وهو ليس له حلم (7)
إذا سمته وصل القرابة سامني ... قطيعتها تلك السّفاهة والظلم (8)
فأسعى لكي أبني ويهدم صالحي ... وليس الذي يبني كمن شأنه الهدم
يحاول رغمي لا يحاول غيره ... وكالموت عندي أن يحلّ به رغم
فما زلت في لين له وتعطّف ... عليه كما تحنو على الولد الأمّ
__________
(1) في سمط اللآلئ ص 804: = أحد بني عامر بن ثور بن هذمة بن لاطم بن عثمان =.
(2) الأبيات لمعن بن أوس المزني في ديوانه ص 32وسمط اللآلئ ص 804وشرح أبيات المغني للبغدادي 6/ 187وبعضها في الأغاني 12/ 55.
(3) في طبعة بولاق والنسخة الشنقيطية: = تنقص القوى =. وهو تصحيف صوابه من المصادر السابقة.
(4) الأغاني 12/ 60وأمالي القالي 2/ 101.
(5) في طبعة بولاق: = عبد الله =. وهو تصحيف صوابه من الأغاني والنسخة الشنقيطية.
(6) الأبيات لمعن بن أوس في الأغاني 12/ 60وأمالي القالي 2/ 102وحماسة البحتري ص 873871 وديوان المعاني 1/ 153وزهر الآداب 3/ 875874ولباب الآداب ص 402401.
(7) الضغن: الحقد. والرحم: القرابة.
(8) سمته الوصل: عرضت عليه.
(7/244)
لأستلّ منه الضّغن حتّى سللته ... وإن كان ذا ضغن يضيق به الحلم
قالوا: ومن قائلها يا أمير المؤمنين؟ قال: معن بن أوس المزني.
* * * وأنشد بعده، وهو الشاهد الحادي والثلاثون بعد الخمسمائة (1): (البسيط)
531 - الله أعطاك فضلا من عطيّته
على هن وهن فيما مضى وهن
على أنّه قد يكنى ب «هن» عن العلم كما هنا.
وهذا من شرح المفصل لابن الحاجب، وعبارته: وقد يكنى ب «هن» عمّا لا يراد التصريح به لغرض، كقول ابن هرمة يخاطب حسن بن زيد:
الله أعطاك فضلا ... البيت
يعني عبد الله وحسنا وإبراهيم، بني حسن بن حسن، كأنّهم كانوا وعدوه شيئا فوفى به حسن.
ومن ثمّ قال بعضهم: يكنى به عن الأعلام أيضا. انتهى.
وقال أحد شرّاح أبيات الإيضاح للفارسي: قال الهروي: هن وهنة كناية عن الشيء لا تذكره باسمه. ولم يخصّ جنسا من غيره.
وقال أبو الحسن الأخفش في «الأوسط له»: تقول: هذا فلان بن فلان، وهذا هن بن هن، وهذه هنة بنت هنة (2)، كأنه قيل: هذا زيد بن عمرو فلم يذكره، فوضع بأنّها يكنى بها عن الأعلام. وهو صحيح، ويدلّ على ذلك قول ابن هرمة يمدح حسن بن زيد:
__________
(1) البيت لابن هرمة في ديوانه ص 223والأغاني 4/ 376والدرر 1/ 229ومجالس ثعلب 1/ 26. وهو بلا نسبة في همع الهوامع 1/ 74.
والبيت من قصيدة يمدح فيها ابن هرمة الحسن بن زيد.
(2) في طبعة بولاق: = هنت بنت هنت =. وهي رواية، وتقرأ بسكون النون.
(7/245)
الله أعطاك فضلا من عطيّته ... البيت
يعني: حسنا وإبراهيم وعبد الله، بني حسن بن حسن، وكأنهم كانوا وعدوه شيئا فوفى به حسن. انتهى كلامه.
وقال الشنواني في «حاشية الأوضح»: الهن يطلق، ويراد به الحقير، قال الشاعر:
الله أعطاك فضلا ... البيت
يعني على أقوام هم بالنسبة إليك صغار محتقرون. انتهى.
والبيت من أبيات ثلاثة رواها أبو العباس أحمد بن يحيى، الشهير بثعلب في «أماليه» (1)، قال: أخبرنا محمد، قال حدثنا أبو العباس: قال حدثني عمر بن شبّة (2)
قال: أخبرني أبو سلمة، قال: أخبرني ابن زبنّج راوية ابن هرمة، قال (3):
أصابت ابن هرمة أزمة فقال لي في يوم حارّ: اذهب فتكار لي حمارين إلى ستة أميال، ولم يسمّ موضعا. فركب واحدا وركبت واحدا، ثم سرنا حتّى انتهينا إلى قصور حسن بن زيد ببطحاء ابن أزهر، فدخلنا مسجده.
فلمّا زالت الشمس، خرج علينا مشتملا على قميصه، فقال لمولى له: أذّن.
فأذّن ثم لم يكلّمنا كلمة، ثم قال له: أقم. فأقام فصلّى بنا، ثم أقبل على ابن هرمة، فقال: مرحبا بك أبا إسحاق، حاجتك؟ قال: نعم، بأبي أنت وأمّي، أبيات قلتها وقد كان عبد الله بن حسن، وحسن، وإبراهيم، بنو حسن بن حسن، وعدوه شيئا فأخلفوه فقال: هاتها.
فأنشد (4):
أمّا بنو هاشم حولي فقد قرعوا ... نبلي الصّياب التي جمّعت في قرني
__________
(1) مجالس ثعلب 1/ 26.
(2) في موضع كلمة: = شبة = بياض في النسخة الشنقيطية.
(3) الخبر في الأغاني 4/ 375. وفيه: = أخبرنا ابن ربيح راوية =.
(4) الأبيات لابن هرمة في ديوانه ص 223والأغاني 4/ 376وتهذيب ابن عساكر 2/ 235ومجالس ثعلب 1/ 21.
(7/246)
فما بيثرب منهم من أعاتبه ... إلّا عوائد أرجوهنّ من حسن
الله أعطاك فضلا من عطيّته ... على هن وهن فيما مضى وهن
قال: حاجتك؟ قال: لابن أبي مضرّس عليّ خمسون ومائة دينار. قال: فقال لمولى له: أبا هيثم، اركب هذه البغلة، فأتني بابن أبي مضرّس، وذكر حقّه.
قال: فما صلّينا العصر حتّى جاء به، فقال له: مرحبا بك يا ابن أبي مضرّس، أمعك ذكر حقّ على ابن هرمة؟ فقال: نعم. قال: فامحه. قال: فمحاه.
ثم قال: يا هيثم بع ابن أبي مضرّس من تمر الخانقين بمائة وخمسين دينارا، وزده في كلّ دينار ربع دينار، وكل لابن هرمة بخمسين ومائة دينار تمرا، وكل لابن زبنّج (1) بثلاثين دينارا تمرا.
قال: فانصرفنا من عنده فلقيه محمد بن عبد الله بن حسن بالسّيالة، وقد بلغه الشعر، فغضب لأبيه وعمومته، فقال: أيا ماصّ بظر أمّه! أأنت القائل:
* على هن وهن فيما مضى وهن *
قال: لا، والله بأبي أنت، ولكنّي الذي أقول لك (2): (البسيط)
لا والذي أنت منه نعمة سلفت ... نرجو عواقبها في آخر الزّمن
لقد أبنت بأمر ما عمدت له ... ولا تعمّده قولي ولا سنني
فكيف أمشي مع الأقوام معتدلا ... وقد رميت بريء العود بالأبن
ما غيّرت وجهه أمّ مهجنة ... إذا القتام تغشّى أوجه الهجن
قال: وأمّ الحسن أمّ ولد. انتهى ما رواه ثعلب.
قال صاحب الأغاني (3): ويروى أن ابن هرمة لما قال هذا الشعر في حسن بن زيد قال عبد الله بن حسن: والله ما أراد الفاسق غيري، وغير أخويّ حسن وإبراهيم.
__________
(1) في الأغاني 4/ 376: = وكل لابن ربيح =.
(2) الأبيات لابن هرمة في ديوانه ص 222والأغاني 4/ 377376وتهذيب ابن عساكر 2/ 236ومجالس ثعلب 1/ 22.
(3) الأغاني 4/ 377.
(7/247)
وكان عبد الله يجري عليه رزقا، فقطعه عنه، وغضب عليه، فأتاه يعتذر، فنحّي وطرد، فسأل رجالا أن يكلّموه فردّهم، فيئس من رضاه فاجتنبه وخافه، فمكث ما شاء الله، ثم مرّ عشيّة وعبد الله على زربيّته (1) فلما رآه عبد الله تضاءل وتصاغر وأسرع في المشي (2)، فرقّ له عبد الله وأمر به فردّوه، وقال له: يا فاسق، تقول: على هن وهن! أتفضّل الحسن عليّ وعلى أخويّ؟!
فقال: بأبي أنت وأمّي، وربّ هذا القبر ما عنيت إلّا فرعون وهامان وقارون، أفتغضب لهم؟! فضحك، وردّ عليه جرايته. انتهى.
و «زبنّج»، بفتح الزاي المعجمة وفتح الموحدة وتشديد النون المفتوحة بعدها جيم. و «الأزمة»: الشّدّة والضائقة (3).
وقوله: «فتكار» أمر من تكاري يتكارى بمعنى اكترى يكتري، أي: أخذ الدابّة بالكراء والأجرة.
حسن بن زيد
و «حسن بن زيد»، هو حسن بن زيد بن الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم، ولي المدينة، وكان شريفا فاضلا. فزيد بن حسن هو أخو حسن بن حسن. فحسن بن زيد يكون ابن عمّ لهؤلاء الإخوة الثلاثة.
وقوله: «أما بنو هاشم حولي» إلخ، «قرعت»: أصابت. و «نبلي»، بالفتح: سهامي.
و «الصّياب»، بالكسر: جمع صائب، من صاب السهم يصوب صيبوبة، أي:
قصد ولم يجز (4) وصاب السهم القرطاس يصيبه صيبا: لغة في أصابه. و «القرن»، بالتحريك: الجعبة.
قال الأصمعيّ: القرن: جعبة من جلود تكون مشقوقة، ثم تخرز حتّى تصل الريح إلى الريش فلا يفسد.
__________
(1) الزربية بفتح فسكون: البساط والنمرقة، وقيل: هي كل ما بسط واتكي عليه والجمع زرابي.
وفي الأغاني: = على زربية في قمر المنبر =.
(2) في الأغاني: = تضاءل وتقنفذ وتصاغر =.
(3) في طبعة بولاق: = والمضايقة =.
(4) في طبعة بولاق والنسخة الشنقيطية: = لم يجر = بالراء المهملة من الجور، وهو الميل والعدول.
وفي اللسان (صوب): = وصاب السهم نحو الرمية يصرب صوبا وصيبوبة وأصاب إذا قصد ولم يجز =.
(7/248)
و «يثرب» هي المدينة المنوّرة. وقوله: «إلّا عوائد» استثناء منقطع، أي:
لكن. و «عوائد»: مبتدأ، و «أرجوهن»: خبره، وحسن هو حسن بن زيد.
يقول: ليس في المدينة من أعاتبه على ترك إحسانه إليّ، لكنني أرجو العوائد من حسن ابن زيد. و «العوائد»: جمع عائدة، وهي الصّلة والإحسان.
وقوله: «الله أعطاك فضلا» «الفضل» هنا: الزيادة. يقول: إنّ الله أعطاك فضلا على أبناء عمك، أي: فضّلك عليهم.
وقوله: «فيما مضى»، أي: في الأزل. وعبّر عن كل واحد منهم بهن الموضوع لما يستقبح ذكره من أسماء الجنس.
وليس هن هنا كناية عن علم كلّ منهم، ولو كان كناية عنهم لما غضب على الشاعر محمد بن عبد الله لأبيه وعمّيه، ولما اشتدّ غضب عبد الله لنفسه ولأخويه.
ولو كان الغضب لمجرد التفضيل لما بلغ هذا المبلغ منهم، وهم فروع الإمامة، وهضاب الحلم والإغضاء.
وقوله: «حاجتك»، هو منصوب في الموضعين بتقدير اذكر. وقوله: «من تمر الخانقين»، بالخاء المعجمة والنون والقاف، هو موضع، ويعرب إعراب المثنى.
كذا في معجم ما استعجم للبكري. و «كل» أمر من كال يكيل كيلا.
و «السّيالة» (1)، بفتح السين المهملة وتخفيف المثناة التحتية، قال صاحب المعجم: هي قرية جامعة، بينها وبين المدينة تسعة وعشرون ميلا، وهي لولد حسن ابن علي بن أبي طالب، وهي في الطريق منها إلى مكة.
وقوله: «لا والذي أنت منه نعمة سلفت» إلخ، «لا»: نفي لما اتّهم به الشاعر، والواو للقسم.
يعني: ليس الأمر كما توهّم، والله الذي أنعم بك علينا، ونرجو حسن عاقبة هذه النعمة عند انقضاء الأجل بأن يميتنا على حبّكم.
وقوله: «لقد أبنت» إلخ، هذا جواب القسم، و «أبنت»: بالبناء للمفعول، أي: ذكرت بسوء، وهو بالألف والباء والنون. يقال: فلان يؤبن بكذا، أي:
__________
(1) في معجم البلدان (السيالة): = أرض يطؤها طريق الحاج، قيل: هي أول مرحلة لأهل المدينة إذا أرادوا مكة.
قال ابن الكلبي: مرّ تبّع بها بعد رجوعه من قتال أهل المدينة، وواديها يسيل فسماها السيالة =.
(7/249)
يذكر بقبيح. وأبنه يأبنه من باب نصر وضرب، إذا اتّهمه به. و «عمدت»:
قصدت. و «السّنن»، بفتحتين: الطّريقة.
وقوله: «فكيف أمشي مع الأقوام» إلخ، «المعتدل»: المستقيم. وجملة «قد رميت» من الفعل والفاعل، حال من فاعل أمشي. و «رميت» بمعنى قذفت.
بريء العود مفعوله، وبالأبن متعلق برميت.
و «الأبن»، بضم الألف وفتح الموحدة: جمع أبنة بضم الألف وسكون الموحدة، وهي العقدة في العود، ومتعلّق بريء محذوف، أي: بريء العود من الأبن.
يقول: فكيف أكون بين الناس مستقيما إذا قذفت المستقيم بالعيوب.
وقوله: «ما غيّرت وجهه» إلخ، غيّره تغييرا: جعله غيرا. يريد أنّ أمّ الحسن ابن الحسن، وإن كانت أمّ ولد، ما ولدت ابنها الحسن مغايرا لشكل آبائه، كما يقال (1): «الولد للخال»، بل ولدته على صورة آبائه: سيّدا جليلا شهما.
و «المهجّنة»، بكسر الجيم: وهي المرأة التي تلد هجينا. و «الهجين»: الذي تلده أمّ ليست بعربيّة.
و «القتام»، بفتح القاف: الغبار. وغشّى تغشية، أي: غطّى تغطية. وأوجه مفعوله جمع وجه. والهجن، بضمتين: جمع هجين. و «الزّربيّة»، بكسر الزاء المعجمة وسكون الراء المهملة، هي الطّنفسة وجمعها زرابيّ.
و «ابن هرمة»، بفتح الهاء وسكون الراء بعدها ميم: شاعر مطبوع أدرك الدولتين، ومات في مدّة هارون الرشيد. واسمه إبراهيم، وتقدّمت ترجمته في الشاهد الثامن والستين (2).
* * * وأنشد بعده: (الرجز)
__________
(1) هو مثل معروف.
(2) الخزانة الجزء الأول ص 405.
(7/250)
* يا مرحباه بحمار ناجيه (1) *
على أنّ هاء السكت في الوصل قد تحرّك بالضم وبالكسر.
وتقدّم في باب المندوب أنّ بعضهم يحرّكها بالفتح بعد الألف. و «يا»: حرف نداء، والمنادى محذوف، و «مرحبا» مصدر منصوب بعامل محذوف، أي: صادف رحبا وسعة، حذف تنوينه لنيّة الوقف ووصل به هاء السكت، ثم عنّ له الوصل فوصل. والباء متعلّق به. و «حمار» مضاف إلى ناجية.
وروى الفراء في «تفسيره» (2): «ناهيه» بدل ناجيه، وهو اسم شخص.
وقد تقدّم الكلام عليه في الشاهد السابع والأربعين بعد المائة (3).
* * * وأنشد بعده، وهو الشاهد الثاني والثلاثون بعد الخمسمائة (4): (الرجز)
532 - يا ربّ يا ربّاه إيّاك أسل
على أنّ الهاء في «ربّاه» للسكت، وتضم وتكسر.
وتقدم في باب المندوب أنها تفتح أيضا عند بعضهم، إذا كانت بعد ألف كما هنا. ففيها بعد الألف ثلاث حركات.
وذكر هنا أنها تزاد في السعة وصلا ووقفا في آخر «هن» وإخوته (5). وهي في
__________
(1) الرجز بلا نسبة في الأشباه والنظائر 2/ 380وتاج العروس (سنى) وتهذيب اللغة 13/ 76والخصائص 2/ 358والدرر 6/ 248ورصف المباني ص 400وشرح أبيات المغني 6/ 159وشرح المفصل 9/ 46، 47والمنصف 3/ 142وهمع الهوامع 2/ 157.
(2) معاني القرآن للفراء 2/ 422.
(3) الخزانة الجزء الثاني ص 341.
(4) الرجز لعروة بن حزام في شرح المفصل 9/ 47ومعاني القرآن للفراء 2/ 422. وهو بلا نسبة في إصلاح المنطق ص 91وتاج العروس (ها، الياء) وشرح شواهد الشافية ص 228وشرح عمدة الحافظ ص 293 ولسان العرب (ها).
(5) في حاشية طبعة هارون 7/ 270: = أمثال هناناه وهنانيه وهنوناه وهنتاه وهنتاناه وهنتانيه وهناناء =.
(7/251)
نحو هذين البيتين في حال الضرورة، وهذا قول الكوفيين وبعض البصريّين. وقدّم (1)
في باب المندوب أنّ الكوفيين يثبتونها وقفا ووصلا في الشعر وغيره. ففي كلاميه تدافع.
قال الفراء في «تفسيره» من سورة الزمر، عند قوله تعالى (2): {«يََا حَسْرَتى ََ»}: يا ويلتا مضاف إلى المتكلّم. تحوّل (3) العرب الياء إلى الألف في كلّ كلام كان معناه الاستغاثة: يخرج على لفظ الدعاء (4).
وربما أدخلت العرب الهاء بعد الألف التي في «حسرتا»، فيخفضونها مرة، ويرفعونها. أنشدني أبو فقعس، بعض بني أسد (5): (الرجز)
يا ربّ يا ربّاه إيّاك أسل ... عفراء يا ربّاه من قبل الأجل
فخفض.
وأنشدني أيضا (6): (الرجز)
يا مرحباه بحمار ناهيه ... إذا أتى قرّبته للسّانيه
__________
(1) في النسخة الشنقيطية: = تقدم =. وهو تصحيف صوابه من طبعة بولاق.
وفي حاشية طبعة هارون 7/ 270: = وهو يشير إلى ما أورده الرضي في باب المندوب من شرحه على الكافية 1:
144 - وهو ما ذكره هنا من إثبات الهاء وقفا ووصلا في الشعر وغيره =.
(2) سورة الزمر: 39/ 56.
وفي النسخة الشنقيطية كتبت: = يا حسرتا = و = يا ويلتا = بالألف تتلوها ياء. وهو إشارة إلى جواز الكتابة بالوجهين.
(3) في معاني القرآن للفراء: = يحول = بالياء.
(4) في النسخة الشنقيطية: = تخرج على لفظ الدعاء = فقط.
(5) في طبعة بولاق: = لبعض بني أسد =. وهو تصحيف صوابه من النسخة الشنقيطية ومعاني القرآن للفراء.
والرجز لعروة بن حزام في شرح المفصل 9/ 47ومعاني القرآن للفراء 2/ 422. وهو بلا نسبة في إصلاح المنطق ص 91وتاج العروس (ها، الياء) وشرح شواهد الشافية ص 228وشرح عمدة الحافظ ص 293ولسان العرب (ها).
(6) الرجز بلا نسبة في الأشباه والنظائر 2/ 380وتاج العروس (سنى) وتهذيب اللغة 13/ 76والخصائص 2/ 358والدرر 6/ 248ورصف المباني ص 400وشرح أبيات المغني 6/ 159وشرح المفصل 9/ 46، 47ولسان العرب (سنا) والمنصف 3/ 142وهمع الهوامع 2/ 157.
(7/252)
والخفض أكثر في كلام العرب، إلّا في قولهم: يا هناه ويا هنتاه، فالرفع في هذا أكثر من الخفض، لأنه كثر في الكلام، فكأنّه حرف واحد مدعوّ. انتهى.
وظاهره على إطلاقه لا يختصّ بضرورة عندهم، وأمّا عند البصريين فلا يجوز تحريكها، ولا تلحق وصلا في غير: يا هناه.
والبيتان المذكوران وقعا بلا مناسبة في «أوائل إصلاح المنطق ليعقوب بن السكيت»، قال شارح أبياته يوسف بن السيرافي: لم ينشد يعقوب هذين البيتين، ولا الأبيات التي بعدهما شاهدا لشيء تقدّم، وإنّما أنشد ذلك، لأنّ الهاء تضمّ وتكسر، وهذا لا يتعلّق بالباب.
وهذه الهاء ليست من الكلمة، وإنّما دخلت للوقف، ثم احتاج إلى وصلها الشاعر فحرّكها بالكسر.
ومن ضمّ شبهها بهاء الضمير، وهذا رديء جدا. و «عفراء»: اسم امرأة سأل ربّه أن يريه إيّاها قبل أجله، ويجمع بينهما. انتهى.
وقال الزمخشري في «المفصل»: وحقّ هاء السكت أن تكون ساكنة، وتحريكها لحن، نحو ما في «إصلاح المنطق لابن السكيت»، من قوله:
* يا مرحباه بحمار عفراء *
و:
* يا مرحباه بحمار ناجيه *
ممّا لا معرّج عليه للقياس واستعمال الفصحاء. ومعذرة من قال ذلك أنّه أجرى الوصل مجرى الوقف، مع تشبيه هاء الوقف بهاء الضمير.
قال شارحه «ابن يعيش»: اعلم أنّه قد يؤتى بهذه الهاء لبيان حروف المدّ واللين، كما يؤتى بها لبيان الحركات (1).
ولا تكون إلّا ساكنة لأنّها موضوعة للوقف، والوقف إنّما يكون على الساكن.
__________
(1) بعده في شرح المفصل: = نحو يا زيداه وعمراه، ووا غلامهوه، وانقطاع ظهرهيه =.
(7/253)
وتحريكها لحن وخروج عن كرم العرب، لأنه لا يجوز ثبات (1) هذه الهاء في الوصل فتحرك، بل إذا وصلت استغنيت عنها بما بعدها من الكلام.
فأمّا قوله:
* يا مرحباه بحمار عفراء *
فإنّ الشعر لعروة بن حزام العذريّ. وقول الآخر:
* يا مرحباه بحمار ناجيه *
فضرورة، وهو رديء في الكلام. وإنّما اضطر الشاعر حين وصل إلى التحريك، لأنّه لا يجتمع ساكنان في الوصل على غير شرط إلّا حرّك. وقد رويت بضم الهاء وكسرها. فالكسر لالتقاء الساكنين، والضم على التشبيه بهاء الضمير. وبعد هذا البيت (2): (الرجز)
إذا أتى قرّبته لما شاء ... من الشّعير والحشيش والماء
ومعناه أنّ عروة كان يحبّ عفراء، وفيها يقول:
يا ربّ يا ربّاه إيّاك أسل ... عفراء يا ربّاه من قبل الأجل
* فإنّ عفراء من الدّنيا الأمل *
ثم خرج، فلقي حمارا عليه امرأة، فقيل له: هذا حمار عفراء! فقال:
* يا مرحباه بحمار عفراء *
فرحّب بحمارها لمحبّته لها، وأعدّ له الشعير والحشيش والماء.
ونظير معناه قول الآخر (3): (الوافر)
__________
(1) كذا في النسخة الشنقيطية وشرح المفصل. وفي طبعة بولاق: = إثبات =. وهو تصحيف صوبناه من المصادر السابقة.
(2) الرجز لعروة بن حزام العذري في شرح أبيات المغني للبغدادي 3/ 124.
(3) البيت بلا نسبة في جمل الزجاجي ص 195وعيون الأخبار 4/ 43.
(7/254)
أحبّ لحبّها السّودان حتّى ... أحبّ لحبّها سود الكلاب
انتهى.
وهذا من رجز أورده أبو محمد الأسود الأعرابي في «ضالّة الأديب» ولم ينسبه إلى أحد، وهو: (الرجز)
إليك أشكو عرق دهر ذي خبل ... وعيّلا شعثا صغارا كالحجل (1)
وأمّهم تهتف تستكسي الحلل ... قد طار عنها درعها ما لم يخل
يا ربّ يا ربّاه إيّاك أسل ... عفراء يا ربّاه من قبل الأجل
فإنّ عفراء من الدّنيا أمل ... لو كلّمت رهبان دير في قلل (2)
* لزحف الرّهبان يمشي وزحل (3) *
وقد راجعت ديوان عروة فلم أجد هذا الرجز.
وعروة تقدّمت ترجمته في الشاهد السادس والتسعين بعد المائة (4).
وقوله: «عرق دهر ذي خبل»، «العرق»، بفتح العين وسكون الراء المهملتين: مصدر عرقت العظم، من باب نصر، إذا أكلت ما عليه من اللحم.
و «الخبل»: الفساد. و «العيل»، بفتحتين: لغة في العيال.
و «تهتف»: تصوّت. و «الحلل»، بضم ففتح، قال الصاغاني: هي برود اليمن. و «الحلّة: إزار ورداء، لا تسمّى حلّة حتّى تكون ثوبين. و «الدّرع»، بالكسر: ثوب المرأة خاصة.
و «يخل» بالخاء المعجمة، أي: يتفقّد. و «الخائل»: الحافظ للشيء، يقال:
فلان يخول على أهله، أي: يرعى عليهم ويتفقّدهم.
__________
(1) الرجز بلا نسبة في تهذيب اللغة 3/ 198.
(2) الرجز بلا نسبة في تاج العروس (رهب) وتهذيب اللغة 6/ 290ولسان العرب (رهب).
(3) في طبعة بولاق: = تمشي =. وهو تصحيف صوابه من النسخة الشنقيطية.
وفي اللسان (رهب): = يسعى فنزل =، وفيه: = الراهب: المتعبد في الصومعة، وأحد رهبان النصارى والجمع الرهبان وقد يكون الرهبان واحدا وجمعا =.
(4) الخزانة الجزء الثالث ص 204.
(7/255)
و «أسل»: أصله أسأل، مخفّف بحذف الهمزة. و «زحل» بالزاء المعجمة والحاء المهملة: فارق مكانه، وجاء إليها.
* * *تتمة
قد حقّق الشارح المحقق هنا أنّ الألف والهاء في «يا هناه» زائدتان، بدليل أنّهما تلحقان فروعه من التثنية والجمع والتأنيث، كما نقله عن الأخفش، فيكون من المحذوف اللام، ووزنه فعاه.
وقصد بهذا البيان الوافي الردّ على ابن جنّي في زعمه أنّ الهاء لام الكلمة، وأنّ وزنها فعال، وشدّد في زعمه، وخطّأ من عدّها للسّكت.
فردّ عليه الشارح بأنها قد لحقت مع الألف آخر المثنى والمجموع على حدّه، وآخر المؤنث. ولو كانت لاما لما جاز تأخيرها. وأجاب عن تحريك الهاء.
وهذه عبارة ابن جنّي في «سر الصناعة» في إبدال الهاء من الواو، قال:
أبدلوها من حرف واحد، وهو قول امرئ القيس (1): (المتقارب)
وقد رابني قولها يا هنا ... هـ ويحك ألحقت شرّا بشر
فالهاء الأخيرة في «هناه» بدل من الواو في: هنوك وهنوات، وكان أصله هناو، فأبدلت الواو هاء، قالوا: هناه. هكذا قال أصحابنا.
ولو قال قائل: إنّ الهاء إنّما هي بدل من الألف المنقلبة عن الواو الواقعة بعد ألف هناه، إذ أصله هناو، ثم صارت هنا بألفين، كما أن أصل عطاء عطاو، ثم صار بعد القلب عطاا، فلما صار هناا التقت ألفان، كره اجتماع الساكنين فقلبت الألف الأخيرة هاء فقالوا: هناه، كما أبدل الجميع من ألف عطاا الثانية همزة لئلّا يجتمع
__________
(1) البيت لامرئ القيس في ديوانه ص 160وسر صناعة الإعراب 1/ 66، 2/ 560وشرح المفصل 10/ 43 ولسان العرب (هنن، هنا) والمقاصد النحوية 4/ 264. وهو بلا نسبة في رصف المباني ص 400وشرح الأشموني 3/ 877وشرح المفصل 1/ 48ولسان العرب (هنا) والمنصف 3/ 139.
(7/256)
همزتان، لكان قولا قويا، ولكان أيضا أشبه من أن يكون قلبت الواو في أوّل أحوالها هاء، من وجهين:
أحدهما: أنّ من شريطة قلب الواو ألفا أن تقع طرفا بعد ألف زائدة، وقد وقعت هنا كذلك.
والآخر: أنّ الهاء إلى الألف أقرب منها إلى الواو، بل هما في الطرفين. ألا ترى أنّ أبا الحسن ذهب إلى أنّ الهاء مع الألف من موضع واحد لقرب مكانيهما. فقلب الألف إذا هاء أقرب من قلب الواو هاء.
وكتب إليّ أبو علي من حلب، في جواب شيء سألته عنه، فقال: وقد ذهب أحد علمائنا إلى أنّ الهاء من هناه إنّما لحقت في الوقف لخفاء الألف، كما تلحق بعد ألف الندبة، ثم إنّها شبّهت بالهاء الأصلية فحرّكت.
ولم يسمّ أبو عليّ هذا العالم من هو؟ فلمّا انحدرت إليه إلى مدينة السلام وقرأت عليه نوادر أبي زيد، نظرت وإذا أبو زيد هو صاحب هذا القول.
وهذا من أبي زيد غير مرضيّ عند الجماعة، وذلك أنّ الهاء التي تلحق لبيان الحركات وحروف اللين إنّما تلحق في الوقف، فإذا صرت إلى الوصل حذفتها البتّة، فلم توجد فيه ساكنة متحركة.
وقد استقصيت هذا الفصل في «كتابي في شعر المتنبي» عند قوله (1): (البسيط)
* واحرّ قلباه ممّن قلبه شبم *
ودلّلت هناك على ضعف قول أبي زيد، وبيت المتنبي جميعا. انتهى.
وقال ابن جهور في «إعراب أبيات الجمل»:
واختلف في أصلها فذهب قوم إلى أن هذه الهاء أصل وليست بمبدلة، وأنّها مثل سنة وعضة، التي لامها تارة هاء، وتارة حرف علّة.
__________
(1) صدر بيت للمتنبي وعجزه:
* ومن بجسمي وحالي عنده سقم *
والبيت مطلع قصيدة مطولة للمتنبي يعاتب بها سيف الدولة الحمداني، وهو في ديوانه 4/ 80.
(7/257)
وهذا القول ضعيف من جهة أنّ باب قلق وسلس قليل.
وذهب آخرون إلى أنّ الألف والهاء زائدتان، وعلى هذا كثير من البصريين والكوفيين، بدليل قولهم: هن وهنة، وأنّ لام الكلمة محذوفة. وعلى هذا تأتي مسائل التثنية والجمع والمذكر والمؤنث. فالألف والهاء في كونهما زائدتين نظيرتا الألف والهاء في الندبة، إلّا أن هذه الهاء ليست للسّكت، كما ذهب إليه بعضهم لتحرّكها، وهاء السكت لا تتحرّك.
ومن جعلها هاء سكت، قال: زيدت الألف لبعد الصوت، وزيدت الهاء للوقف، ثم كثر في كلامهم حتّى صارت الهاء كأنّها أصلية تحرّكت.
فإذا ثنّيته على هذا قلت: يا هنانيه أقبلا. فالألف والنون للتثنية، والياء التي بعد النون هي الألف التي كانت في هناه، فانقلبت ياء لانكسار ما قبلها، وهو نون التثنية، وانكسرت الهاء بعد أن كانت مضمومة لمجاورتها الياء. وتقول في الجمع: يا هنوناه أقبلوا، الواو والنون للجمع، والألف بعد النون بقيت على حالها لانفتاح نون الجمع قبلها، وبقيت على حالها مضمومة.
وإنّما جاز أن يجمع هذا بالواو والنون من قبل أنّ هذه الكلمة قد تطرّق عليها التغيير بحذف لامها، فصارت الواو والنون كالعوض من لام الكلمة على حدّ قولهم:
سنون.
وتقول في المؤنث: يا هنتاه أقبلي، وفي التثنية: يا هنتانيه أقبلا، وفي الجمع: يا هناتوه أقبلن، قلبت ألف هناه واوا لانضمام ما قبلها، كما قلبتها ياء لانكسار ما قبلها في التثنية.
وهناه كلمة يكنى بها عن النّكرات، كما يكنى بفلان عن الأعلام. فمعنى يا هناه: يا رجل. ولا تستعمل إلّا في النداء عند الجفاء والغلظة.
وقيل: إنّها كناية عن الفواحش والعورات، يكنى بها عما يستقبح ذكره.
انتهى.
وقوله: فمعنى يا هناه: يا رجل، مساو لقول الشارح المحقق: للمنادى غير المصرّح باسمه.
وإنّما أورده في باب العلم استطرادا بمناسبة «هن» الذي قد يكنى به عن العلم.
ولهذا قال: ومنه، أي: ومن هن المذكور. والله أعلم.
(7/258)
وإنّما أورده في باب العلم استطرادا بمناسبة «هن» الذي قد يكنى به عن العلم.
ولهذا قال: ومنه، أي: ومن هن المذكور. والله أعلم.
* * * وأنشد بعده، وهو الشاهد الثالث والثلاثون بعد الخمسمائة (1): (المنسرح)
533 - قل لابن قيس أخي الرّقيّات
ما أحسن العرف في المصيبات
على أنّ هذا البيت يدلّ على أنّ الرّقيات في قولهم: قيس الرقيات بالإضافة، ليس من باب إضافة الاسم إلى اللقب، بل هو من باب الإضافة لأدنى ملابسة، لنكاحه لنسوة اسم كلّ منها (2) رقيّة. وقيل: هنّ جداته. وقيل: شبّب بثلاث كذلك.
ولو كان «الرّقيّات» لقبا لقيس لقيل في البيت: قل لابن قيس الرقيّات، فلما أضاف «أخا» إليه، وأتبعه لقيس في إعرابه، علم أنّه غير لقب لقيس، ولو كان لقبا له لقيل قيس الرقيات، إما بتنوين قيس وإتباع الرقيّات له بجعله عطف بيان له، وإمّا بإضافة إلى الرقيّات.
فلما أتبعه بإضافة أخ إلى الرقيّات، علم أنه غير لقب له، فعرف أنّ الإضافة إليها في قولهم قيس الرقيات للملابسة المذكورة.
هذا على تقرير الشارح. وأمّا على ما سيأتي، فأخي الرقيات تابع لابن لا لقيس.
و «العرف»، بكسر العين وسكون الراء المهملتين، قال صاحب العباب: هو الصّبر. وأنشد البيت عن ابن الأعرابي. يتعجّب من الصّبر في المصائب.
و «الأخ» يستعمل في اللغة على خمسة معان:
الأول: أخو النسب من الأبوين، أو من أحدهما.
__________
(1) البيت لأبي دهبل الجمحي في ديوانه ص 50ولسان العرب (عرف).
(2) في طبعة بولاق: = منهما =. وهو تصحيف صوابه من النسخة الشنقيطية.
(7/259)
الثاني: أخو النسبة إلى القوم، يقال: يا أخا تميم، لمن هو منهم. وبه فسّر قوله تعالى (1): {«يََا أُخْتَ هََارُونَ»}.
الثالث: أخو الصّداقة.
الرابع: أخو المجانسة والمشابهة، كقولهم: هذا الثوب أخو هذا.
الخامس: أخو الملازمة والملابسة، كقولهم: أخو الحرب، وأخو الليل.
فإن كان الرقيات عبارة عن الزّوجات، أو المعشوقات، فالأخ بالمعنى الأخير.
وإن كان أريد بها الجدّات، فالأخ بالمعنى الثاني.
ولم يذكر الشارح المحقق وجه تلقيبه بالرقيّات على تقدير كون الرقيات لقبا.
فأقول: يكون وجهه ما نقله كراع من أنّه إنما لقّب بهذا لقوله (2): (مجزوء الوافر)
رقيّة لا رقيّة لا ... رقيّة أيّها الرّجل
قال ابن دريد في «الوشاح»: من الشعراء من غلبت عليهم ألقابهم بشعرهم، حتى صاروا لا يعرفون إلّا بها. فمنهم: منبّه بن سعد بن قيس بن عيلان بن مضر، وهو أعصر، وإنّما سمّي أعصر، بقوله (3): (الكامل)
قالت عميرة ما لرأسك بعد ما ... نفد الشّباب أتى بلون منكر
أعمير إنّ أباك غيّر رأسه ... مرّ اللّيالي واختلاف الأعصر (4)
ومنهم: شأس بن نهار العبديّ، سمّي الممزّق، بقوله (5): (الطويل)
__________
(1) سورة مريم: 19/ 28.
(2) في طبعة بولاق رسم صدر البيت فقط. والإضافة من النسخة الشنقيطية.
(3) البيتان لأعصر في معجم الشعراء ص 466.
(4) البيت لباهلة في تاج العروس (عصر) ولسان العرب (عصر) ولمنبه بن سعد بن قيس في أساس البلاغة (عصر) ومعجم الشعراء ص 466. وهو بلا نسبة في لسان العرب (يبر) والمخصص 6/ 33.
(5) هو الإنشاد الثالث والخمسون بعد الأربعمائة في شرح أبيات المغني للبغدادي.
والبيت للمزق العبدي شأس بن نهار في الاشتقاق ص 330والأصمعيات ص 166وتاج العروس (أكل) وجمهرة اللغة ص 833وشرح أبيات المغني 5/ 145وشرح شواهد المغني 2/ 860والشعر والشعراء 1/ 407 ولسان العرب (مزق، أكل) والمقاصد النحوية 4/ 590. وهو بلا نسبة في رصف المباني ص 281وشرح الأشموني 3/ 575ومغني اللبيب 1/ 278.
(7/260)
فإن كنت مأكولا فكن خير آكل ... وإلّا فأدركني ولمّا أمزّق
ثم ذكر أكثر من خمسين شاعرا لقّب بشعر قاله.
وتفصيل الشارح المحقق في قيس الرقيات أجود من تفصيل ابن الحاجب في «شرح المفصّل» وإن كان مأخوذا منه، وهذه عبارته:
وابن قيس الرقيّات عبد الله، قال الأصمعي: نكح قيس نساء اسم كلّ واحدة رقيّة. وقيل: كانت له جدّات كذلك.
وقيل: كان يشبّب بثلاث كذلك. والاستشهاد على الوجه الضّعيف في إضافته على ذلك.
فأما إذا جعل الرقيّات لقبا لقيس، كانت الإضافة من باب قيس قفّة، وإمّا على الوجوب، أو على الأفصح كما تقدّم.
ورواية تنوين قيس تقوّي الوجه الثاني.
وقوله:
قل لابن قيس أخي الرّقيّات ... ما أحسن العرف في المصيبات
يقوّي الوجه الأول. انتهى.
أراد بالاستشهاد على الوجه الضعيف الإضافة لأدنى ملابسة. وقوله: «تقوّي الوجه الثاني»، أي: كون الرقيّات لقبا.
وقوله: «يقوّي الوجه الأول»، أي: كون الرقيات غير لقب.
والقول الأوّل، وهو أنّ الرقيّات أسماء زوجاته قول الأصمعي، نقله عنه صاحب الصحاح.
والقول الثاني، قاله ابن سلام الجمحي، قال: لقب بالرّقيّات، لأنّ جدّات له توالين كلّ منها تسمّى رقيّة.
والقول الثالث قاله ابن قتيبة في «كتاب الشعراء». وقال أبو عبيد في «كتاب النسب»: سمّي بذلك، لأنّه كان يشبّب بامرأتين كلّ منهما تسمّى رقيّة. وعلى هذا يكون الجمع عبارة عن اثنتين.
(7/261)
واعلم أنّ قول الشارح المحقق تبعا لغيره، إنّ الرقيّات تابع لقيس لا لابنه، هو قول أبي علي، فإنّه قال: قيس هو الملقّب بالرقيّات، لا اختلاف في ذلك، لقّب به لأنّ له جدّات توالين يسمّين الرقيّات. قاله ابن سلام. انتهى.
وقوله: لا اختلاف في ذلك، هو خلاف الواقع، فإن الأكثرين ذهبوا إلى أنّه لقب لابنه: إمّا عبد الله وإمّا عبيد الله.
قال ابن قتيبة في «كتاب الشعراء» (1): إنّما سمي عبد الله بن قيس أحد بني عامر بن لؤي، الرّقيّات، لأنّه كان يشبّب بثلاث نسوة، يقال لهنّ كلهنّ رقيّة.
وكذا في الأغاني. ورأيت بخطّ الحافظ مغلطاي «على هامش كامل المبرد» ما نصّه: ونقلت من خطّ الشاطبي: وافق الأصمعيّ ابن قتيبة على قوله.
فعلى هذا يقال عبد الله بن قيس الرقيّات بالرفع على الصفة لعبد الله. انتهى.
وذكر النحّاس عن البرقي أنّ في أجداده ثلاث نسوة كلّ امرأة منهنّ تسمّى رقيّة.
فعلى هذا يقال: عبد الله بن قيس الرقيّات على الإضافة. قاله ابن برّيّ.
ونقلت من خطّ الشاطبي أيضا: رأيت بعض من ألّف في النسب يقول: إنّ الذي يسمّى ابن الرقيّات، هو قيس أبو عبيد الله وعبد الله. انتهى.
وفي «ألقاب ابن سراقة» أنّ الذي يقال له الرقيّات هو قيس، وقيل: عبد الله ابن قيس. انتهى ما أورده الحافظ مغلطاي.
وكذلك قال أبو عبيد في «النسب»: عبيد الله بن قيس سمّي بالرّقيّات لأنّه كان يشبّب بامرأتين كلّ منهما تسمى رقيّة. انتهى.
وإذا قيل ابن قيس الرقيّات، فالمراد ابنه الشاعر، فإنّ لقيس ابنين: عبد الله وعبيد الله، واختلفوا في الشاعر منهما، فقال ابن قتيبة والمبرد في «الكامل»: هو عبد الله المكبّر.
وقال المرزباني في «معجمه» (2): هو عبيد الله بالتصغير. قال: ومن الرّواة من يقول الشاعر عبد الله، وهو خطأ. انتهى.
__________
(1) الشعر والشعراء 2/ 450.
(2) لم نجد له ذكرا في معجم الشعراء للمرزباني.
(7/262)
وقال ابن السيّد «فيما كتبه على الكامل»: ذكر المبرّد أنّ اسمه عبد الله بن قيس. وكذلك قال فيه ابن سلام، والجاحظ، وابن قتيبة. وقال غيرهم: هو عبيد الله، حكاه أبو عبيد عن الأصمعي وغيره، ومنهم الكلبي.
وكذلك قال المصعب الزبيري في «أنساب قريش» وبيّن أنّ له أخا شقيقا، يقال له: عبد الله بن قيس، ويقال فيه نفسه الرّقيّات لقب له، ويقال ابن الرقيّات.
واختلف في معنى تلقيبه بذلك، فقال ابن قتيبة: لأنّه كان يشبّب بثلاث رقيات.
وقال ابن سلام: إنّما نسب إلى الرقيّات لأنّ له جدّات اسمهنّ رقيّات. وقال كراع:
سمّي ابن قيس الرقيّات لقوله (1):
رقيّة لا رقيّة لا ... رقيّة أيّها الرّجل
انتهى.
فأنت ترى أنّ مبنى كلام هؤلاء الأئمة على أنّ الملقب بالرقيّات، إنّما هو ابن قيس، لا قيس. ولا جائز أن يقال إنه من قبيل تعدّي اللقب من الأب إلى الابن، لما نقلنا عن هؤلاء الأئمة.
وعلى ما ذكرنا جرى صاحب القاموس، وخطّأ صاحب الصحاح، فقال:
«وعبيد الله (2) بن قيس الرقيّات، لعدّة زوجات، أو جدّات أو حيات (3) له أسماؤهن رقيّة كسميّة. ووهم الجوهري». انتهى.
وهذه عبارة الصحاح: وعبد الله بن قيس الرقيّات إنما أضيف قيس إليهنّ لأنّه تزوج عدّة نسوة. إلى آخر الأقوال الثلاثة.
ونقل السيوطي عن ابن الأنباري في «فصل معرفة الألقاب وأسبابها» (4) أنه كان
__________
(1) في طبعة بولاق رسم البيت هكذا ناقصا مختل الوزن:
رقية لا رقية ... أيها الرجل
(2) في النسخة الشنقيطية: = وعبد الله =. وهو تصحيف صوابه من طبعة بولاق.
(3) قوله: = أو حيات =. ساقطة من طبعة هارون.
(4) المزهر 2/ 418. وعنوانه فيه: = معرفة الأسماء والكنى والألقاب والأنساب =.
(7/263)
يختار الرفع في الرقيّات، ويقول: إنّه لقب لعبد الله، لتشبيبه بثلاث نسوة أسماؤهنّ رقيّة. وقال غيره: الرقيات جدّاته، فهو مضاف. انتهى.
يعني أنّ عبد الله مضاف إلى الرقيّات على تفسيرها بالجدّات، فيكون مثل حبّ رمّان زيد، فإنّ القصد إلى إضافة الحبّ المختصّ بكونه للرّمان إلى زيد. والمتلبّس (1)
بالرقيات ابن قيس لا قيس. وبهذا يوجّه رواية جرّ الرقيّات.
و «ابن قيس الرقيات»
شاعر قريش (2). وهذه نسبته من «الجمهرة لابن الكلبي»: عبيد الله الذي يقال له: ابن قيس الرقيات، هو ابن قيس بن شريح بن مالك بن ربيعة بن وهيب بن ضباب بن حجير بن عبد بن معيص بن عامر بن لؤي بن غالب بن فهر بن النضر.
وعبيد الله، وشريح، ووهيب، وحجير بتقديم المهملة، ولؤيّ، هذه الخمسة بالتصغير.
و «ضباب»، بالفتح. و «عبد» بالإفراد. و «معيص»، بفتح الميم وكسر العين المهملة.
وعبد الله بن قيس أخو عبيد الله الرقيات له عقب، ولا عقب لعبيد الله.
وأسامة بن عبد الله بن قيس قتل يوم الحرّة، وله يقول ابن قيس الرقيّات (3):
(الكامل)
فنعى أسامة لي وإخوته ... فظللت مستكّا مسامعيه
ورقيّة، التي كان يشبّب بها ابن قيس الرقيات، بنت عبد الواحد بن أبي سعد ابن قيس بن وهب بن وهبان بن ضباب. كذا في الجمهرة ومختصرها لياقوت الحموي.
__________
(1) في النسخة الشنقيطية: = والملتبس =. وهو تصحيف صوابه من طبعة بولاق.
(2) في النسخة الشنقيطية: = شاعر قرشي =. صوابه من طبعة بولاق.
(3) البيت لابن الرقيات في ديوانه ص 99.
وفي طبعة بولاق: = مسامعه =. وهو تصحيف صوابه من النسخة الشنقيطية وديوانه.
استكت مسامعه: صمّت. وفي شرح ديوانه ص 99: = أسامة بن عبد الله بن قيس بن شريح، قتل يوم الحرة =.
(7/264)
قال الزبير بن بكّار: سألت عمّي مصعبا، ومحمد بن الضحّاك، ومحمد بن حسن، عن شاعر قريش في الإسلام، فكلّهم قالوا: ابن قيس الرقيّات.
وفي الأغاني (1) أنّ ابن قيس الرقيّات كان زبيريّ الهوى، خرج مع مصعب بن الزّبير على عبد الملك بن مروان، فقاتل معه إلى أن قتل مصعب، فخرج هاربا حتّى دخل الكوفة، فوقف على باب دار فرأته صاحبة الدار فعرفت أنه خائف، فأدخلته علّيّة (2) وجاءت إليه بجميع ما يحتاجه، فأقام عندها أكثر من حول، وهي لا تسأله من هو ولا يسألها من هي، وهي تسمع الجعل صباحا ومساء (3).
فبينا هو على تلك الحال، وإذا بمنادي عبد الملك ينادي ببراءة الذمّة ممن أصيب عنده: فأعلم المرأة أنّه راحل، فقالت: لا يروعك ما سمعت، فإنّ هذا نداء شائع منذ نزلت بنا فإن أردت المقام فالرّحب والسّعة وإن أردت الانصراف فأعلمني.
فقال لها: لابدّ من الرحيل.
فلما كان الليل رقت إليه، وقالت: انزل إن شئت. فنزل وإذا راحلتان على إحداهما رحل والأخرى زاملة، ومعهما عبدان ونفقة الطريق، فقالت: العبدان لك مع الراحلتين.
فقال لها: من أنت؟ فو الله ما رأيت أكرم منك؟ قالت: أنا التي تقول فيها (4):
(المنسرح)
عاد له من كثيرة الطّرب ... فعينه بالدّموع تنسكب
وفي رواية الأصمعي أنها قالت له: ما فعلت بك ما فعلت لتكافئني! فسأل عنها، فقيل: كثيرة. فذكرها في شعره.
ثم مضى حتّى دخل مكّة فأتى أهله ليلا، فلما دخل عليهم بكوا، وقالوا: ما خرج عنّا طلبك إلّا في هذه الساعة فانج بنفسك. فأقام عندهم حتّى أسحر، ثمّ نهض ومعه العبدان حتى أتى المدينة.
__________
(1) الأغاني 5/ 76.
(2) العلية بتشديد اللام والياء وضم العين وكسرها: الغرفة، وجمعها العلالي.
(3) الجعل بالضم: ما يجعل لقاء عمل. والمراد هنا: المال المعدّ لمن يدل على مكانه.
(4) البيت لعبد الله بن قيس الرقيات في ديوانه ص 1والأغاني 5/ 79وشرح أبيات المغني 4/ 387.
(7/265)
فجاء إلى عبد الله بن جعفر بن أبي طالب عند المساء، وهو يعشّي أصحابه، فجلس معهم وجعل يتعاجم، فلما خرج أصحابه كشف عن وجهه، وقال: جئت عائذا بك.
فكتب ابن جعفر إلى أمّ البنين بنت عبد العزيز، وهي زوجة الوليد بن عبد الملك، لتشفع له، فشفّعها فيه، وقال لها: مريه [أن] يحضر مجلس العشيّة.
فحضر مع النّاس، فأذن لهم وأخّر الإذن له حتّى أخذوا مجالسهم ثم أذن له، فلما دخل [عليه]، قال عبد الملك: يا أهل الشام، أتعرفون (1) هذا؟ قالوا: لا.
قال: هذا عبيد الله بن قيس الرقيّات، الذي يقول (2): (الخفيف)
كيف نومي على الفراش ولمّا ... تشمل الشّام غارة شعواء (3)
تذهل الشّيخ عن بنيه وتبدي ... عن خدام العقيلة العذراء (4)
قالوا: يا أمير المؤمنين! اسقنا دم هذا المنافق. قال: الآن وقد أمّنته وصار على بساطي (5) وفي منزلي؟! إنّما أخّرت الإذن له، لتقتلوه، فلم تفعلوا! فاستأذنه في الإنشاد فأذن له.
__________
(1) في طبعة بولاق: = تعرفون هذا = بحذف همزة الاستفهام.
(2) البيتان لعبيد الله بن قيس الرقيات في ديوانه ص 9695والأغاني 5/ 78وشرح أبيات المغني 4/ 389.
(3) البيت لابن قيس الرقيات في أساس البلاغة (شعو) وتاج العروس (شمل، شعى) وسمط اللآلئ 1/ 294 والشعر والشعراء ص 546والعقد الفريد 4/ 406ولسان العرب (شمل، خدم، شعا) ومجمل اللغة 3/ 161 ومقاييس اللغة 3/ 190ولمحمد بن الجهم صاحب الفراء في معجم الشعراء ص 450. وهو بلا نسبة في إصلاح المنطق ص 211وأمالي القالي 1/ 95وتاج العروس (خدم) وكتاب العين 2/ 190والمخصص 15/ 58.
(4) البيت من شواهد حذف التنوين للضرورة وقيل: إنه على نية إضافة خدام إلى ضمير العقيلة.
والبيت لابن قيس الرقيات في سر صناعة الإعراب ص 535وشرح المفصل 9/ 37ولسان العرب (شعا) والمنصف 2/ 231ولمحمد بن الجهم بن هارون في معجم الشعراء ص 450. وهو بلا نسبة في الإنصاف ص 661وتذكرة النحاة ص 444ولسان العرب (خدم) ومجالس ثعلب ص 150.
(5) في النسخة الشنقيطية: = وسار على بساطي =. وهو تصحيف صوابه من الأغاني وشرح أبيات المغني وطبعة بولاق.
وفي الأغاني 5/ 79وشرح أبيات المغني 4/ 389: = وصار في منزلي وعلى بساطي! =.
(7/266)
فأنشده:
* عاد له من كثيرة الطّرب *
حتّى وصل فيها إلى قوله (1): (المنسرح)
إنّ الأغرّ الذي أبوه أبو ال ... عاصي عليه الوقار والحجب
خليفة الله في رعيّته ... جفّت بذاك الأقلام والكتب
يعتدل التّاج فوق مفرقه ... على جبين كأنّه الذّهب (2)
فقال له عبد الملك: [يا ابن قيس!] تمدحني بما يمدح به الأعاجم (3)، وتقول في مصعب بن الزّبير (4): (الخفيف)
إنّما مصعب شهاب من ال ... لّه تجلّت عن وجهه الظّلماء
ملكه ملك رحمة ليس فيه ... جبروت ولا به كبرياء
يتّقي الله في الأمور وقد أف ... لح من كان همّه الاتّقاء
أمّا الأمان فقد سبق لك، ولكن والله لا تأخذ مع المسلمين عطاء أبدا! فقال ابن قيس لابن جعفر: وما ينفعني أماني؟ [تركت حيا كميت] لا آخذ مع النّاس عطاء [أبدا]؟! فقال له ابن جعفر: كم بلغت من السّنّ؟ قال: ستّين سنة.
قال: فعمّر نفسك (5). قال: عشرين سنة (6). قال: كم عطاؤك؟ قال: ألفا درهم.
فأمر له بأربعين ألف درهم (7)؟
__________
(1) الأبيات لعبد الله بن قيس الرقيات في ديوانه ص 5والأغاني 5/ 79وشرح أبيات المغني 4/ 388.
(2) البيت لابن قيس الرقيات في ديوانه ص 5والأغاني 5/ 87وتاج العروس (عصب، عقد) وسمط اللآلئ ص 295والكامل في اللغة ص 829ولسان العرب (عصب، عقد). وهو بلا نسبة في كتاب العين 1/ 311.
(3) في الأغاني وشرح أبيات المغني: = تمدحني بالتاج كأني من العجم =.
(4) الأبيات لابن قيس الرقيات يمدح بها مصعب بن الزبير في ديوانه ص 9291والأغاني 5/ 79وشرح أبيات المغني 4/ 389. والخبر أيضا. والزيادات من الأغاني وشرح أبيات المغني.
(5) أراد: قدّر لنفسك عمرا مستقبلا.
(6) في الأغاني 5/ 79: = قال: عشرين سنة من ذي قبل =.
(7) بعده في الأغاني 5/ 80: = وقال: ذلك عليّ إلى أن تموت على تعميرك نفسك =.
(7/267)
وقال ابن قتيبة في «كتاب الشعراء» (1): لما قتل مصعب وصار [الأمر] إلى [عبد الملك بن مروان أتى عبيد الله بن قيس عبد الله] ابن جعفر يستشفع به إلى عبد الملك، فقال له [عبد الله بن جعفر]: إذا دخلت معي [على عبد الملك] فكل أكلا يستشنعه [عبد الملك بن مروان].
ففعل فقال: من هذا يا ابن جعفر؟ قال: هذا أكذب الناس [إن قتل]. قال:
ومن هو؟ قال: الذي يقول (2): (المنسرح)
ما نقموا من بني أميّة إ ... لّا أنّهم يحلمون إن غضبوا
وأنّهم معدن الملوك فلا ... تصلح إلّا عليهم العرب
قال: قد عفونا عنه، ولكن لا يأخذ مع المسلمين عطاء. فكان ابن جعفر إذا خرج عطاؤه يعطيه منه. انتهى.
وفي رواية صاحب الأغاني (3): قال ابن قيس الرقيّات: تسأل أمير المؤمنين عن أمري. قال: نعم، فإذا دخلت إليه فادخل معي، وإذا دعي بالطّعام فكل أكلا فاحشا.
[فركب ابن جعفر، فدخل معه إلى عبد الملك، فلما قدم الطعام جعل يسيئ الأكل،] فقال عبد الملك: من هذا يا ابن جعفر؟ قال: [هذا] إنسان لا يجوز إلا أن يكون صادقا إن استبقي، وإن قتل كان أكذب الناس. قال: وكيف ذلك؟ قال:
لأنّه الذي يقول:
ما نقموا من بني أميّة إ ... لّا أنّهم يحلمون إن غضبوا
الأبيات.
فإن قتلته لغضبك عليه، كذّبته فيما مدحكم به. قال: هو آمن، ولكن لا أعطيه عطاء من بيت المال. قال: ولم وقد وهبته لي؟ فأحبّ أن تهب لي عطاءه أيضا كما وهبت لي دمه [وعفوت لي عن ذنبه]! قال: قد فعلت. قال: وتعطيه ما
__________
(1) الشعر والشعراء 2/ 451450.
(2) الأبيات لابن قيس الرقيات في ديوانه ص 4والأغاني 4/ 346والشعر والشعراء 2/ 451وشرح أبيات المغني 4/ 388، 390.
(3) الأغاني 5/ 8281.
(7/268)
فاته من العطاء قال: قد فعلت. وأمر له بذلك. انتهى.
وقوله: «كيف نومي على الفراش» البيتين، أوردهما ابن السيّد في «أول أبيات معانيه» وقال: الغارة الاسم، والإغارة المصدر. و «الشّعواء»: الواسعة.
و «الخدام»: جمع خدمة بالتحريك: الخلخال: وحذف التنوين من خدام للضرورة، والعقيلة فاعل تبدي، ومعناها المرأة التي عقلت، أي: حصنّت من أن ترى، وهي الكريمة. والعذراء (1): البكر.
* * * وأنشد بعده، وهو الشاهد الرابع والثلاثون بعد الخمسمائة (2): (الطويل)
534 - ومن طلب الأوتار ما حزّ أنفه
قصير ورام الموت بالسّيف بيهس
نعامة لمّا صرّع القوم رهطه
تبيّن في أثوابه كيف يلبس
على أنّ الشاعر قد أتبع اللقب الاسم، فإنّ «بيهسا» اسم رجل، و «نعامة» لقبه، وهو عطف بيان لبيهس.
قال شارح اللباب: هذا من الإجراء في المفرد فإنّ نعامة وبيهس: اسمان لذات واحدة، والثاني لقب، فكان القياس إضافة العلم إلى اللقب، وقد أجري عليه.
وكذا قال أبو حيان في «تذكرته» قال: إذا كان الاسم واللّقب مفردين بلا «أل» أضيف الاسم إلى اللّقب.
وقد يجمع بينهما، ويفصل أحدهما عن الآخر، وجاء ذلك في الشعر. وأنشد البيتين.
__________
(1) في النسخة الشنقيطية: = العذراء =.
(2) البيتان للمتلمس الضبعي في ديوانه ص 113، 116وحماسة البحتري ص 87والحماسة برواية الجواليقي ص 186185وشرح الحماسة للأعلم 1/ 434وشرح الحماسة للتبريزي 2/ 102وشرح الحماسة للمرزوقي ص 659ولعدي بن زيد العبادي في ملحق ديوانه ص 200والحيوان 4/ 413.
(7/269)
وما في «ما حزّ» إمّا زائدة، أي: ومن طلب الأوتار حزّ أنفه قصير، وهو إشارة إلى قصّة قصير مع الزّبّاء، وهي مشهورة. أو مصدريّة على أنه مبتدأ مع خبره، والجار والمجرور وهو من طلب خبره مقدّما عليه، أي: حزّ أنفه حاصل من جهة طلب الأوتار.
و «نعامة» عطف بيان لبيهس، وهو محل الاستشهاد. ومحلّ كيف نصب على الحال، والعامل يلبس، والجملة وهي كيف مع ما عمل فيه سادّ مسدّ المفعولين لتبيّن (1). ولا يجوز أن يكون مفعولا لتبيّن لئلّا يبطل صدريّته. انتهى.
والبيتان من قصيدة للمتلمس أورد منها أبو تمام في «الحماسة» بعضها. وهذا أوّل ما أورده (2): (الطويل)
ألم تر أنّ المرء رهن منيّة ... صريع لعافي الطّير أو سوف يرمس (3)
فلا تقبلن ضيما مخافة ميتة ... وموتن بها حرّا وجلدك أملس (4)
فمن طلب الأوتار ما حزّ أنفه ... البيتين
وما النّاس إلّا ما رأوا وتحدّثوا ... وما العجز إلّا أن يضاموا فيجلسوا
ألم تر أنّ الجون أصبح راسيا ... تطيف به الأيّام ما يتأيّس (5)
عصى تبّعا أزمان أهلكت القرى ... يطان عليه بالصّفيح ويكلس (6)
هلمّ إليها قد أثيرت زروعها ... وعادت عليها المنجنون تكدّس (7)
__________
(1) كذا في طبعة بولاق والنسخة الشنقيطية، أي: قول ساد مسدّ المفعولين.
(2) الأبيات للمتلمس في ديوانه ص 129110والحماسة برواية الجواليقي ص 187185وشرح الحماسة للأعلم 1/ 437434وشرح الحماسة للتبريزي 2/ 104102.
(3) البيت للمتلمس الضبعي في ديوانه ص 110والأغاني 24/ 220وتاج العروس (لمس). وهو بلا نسبة في جمهرة اللغة ص 720.
(4) البيت في ديوانه ص 111وأساس البلاغة (ملس) والأغاني 24/ 220. وهو بلا نسبة في مجمل اللغة 4/ 347ومقاييس اللغة 5/ 350.
(5) البيت في ديوانه ص 117وتاج العروس (أيس) ولسان العرب (أيس) ومقاييس اللغة 1/ 164. وهو بلا نسبة في المخصص 10/ 95.
(6) البيت للمتلمس في ديوانه ص 119والأغاني 24/ 221وتاج العروس (كلس) ولسان العرب (كلس، طين).
(7) البيت للمتلمس في ديوانه ص 122وتهذيب اللغة 10/ 46ولسان العرب (كلس، منجنون).
(7/270)
وذاك أوان العرض حيّ ذبابه ... زنابيره والأزرق المتلمّس (1)
يكون نذير من ورائي جنّة ... وينصرني منهم جليّ وأحمس (2)
وجمع بني قران فاعرض عليهم ... فإن تقبلوا هاتا التي نحن نوبس
فإن يقبلوا بالودّ نقبل بمثله ... وإلّا فإنّا نحن آبى وأشمس
وإن يك عنّا في حبيب تثاقل ... فقد كان منّا مقنب ما يعرّس (3)
هذا ما أورده أبو تمام.
قال ابن الأعرابي: إنّما قال [هذا] (4) فيما كان بين بني حنيفة وبين ضبيعة باليمامة، فأراد بنو حنيفة (5)، فنهاهم أن يقيموا على الذلّ، وأن يقبلوا الضّيم من قومهم، وأمرهم (6) بقتالهم حتّى يعطوهم حقّهم.
ومعنى ألم تر: ألم تعلم. يقول: الإنسان مرتهن بأجل، فإمّا أن يموت حتف أنفه فيدفن، وإمّا أن يقتل في معركة فيترك لعوافي الطّير والسّباع. وهو جمع عافية، وهو كلّ طالب رزق من إنسان أو بهيمة أو طائر. و «الرّمس»: الدّفن.
وقوله: «فلا تقبلن ضيما» إلخ، «الضيّم»: الظلم، والهضم. و «ميتة»:
فعلة من الموت، تكون للحال والهيئة، أي: لا تقبل الضيم مخافة حالة من حالات الموت ونوع من أنواعه.
وميتة مرجع الضمير في «بها»، أي: مت بتلك الميتة حرّا لم يستعبدك الحرّ.
وجلدك أملس: نقيّ من العار، سليم من العيب.
يريد أنّ الموت نازل بك على كلّ حال، فلا تتحمل العار خوفا منه.
__________
(1) جاءت رواية طبعة هارون: = والأزرق المتلمس =. وهي مصحفة.
والبيت للمتلمس في ديوانه ص 123والاشتقاق ص 317وجمهرة اللغة ص 747ولسان العرب (لمس، عرض). وهو بلا نسبة في الخصائص 2/ 377وسر صناعة الإعراب 2/ 510.
(2) البيت للمتلمس في ديوانه ص 129والأغاني 24/ 222وتاج العروس (جلا) ولسان العرب (جلا).
(3) البيت لأبي تمام في تاج العروس (لمس).
(4) كلمة: = هذا =. زيادة يقتضيها السياق من النسخة الشنقيطية.
(5) كذا في طبعة بولاق والنسخة الشنقيطية. والمعنى: أرادوا قبول الضيم.
(6) في طبعة بولاق: = أمر =. ولقد أثبتنا رواية النسخة الشنقيطية فهي أفضل.
(7/271)
وقوله: «فمن طلب الأوتار» «من» للتعليل، و «ما» إمّا زائدة وإمّا مصدرية.
و «الأوتار»: جمع وتر بفتح الواو وكسرها: الثّأر والذّحل. و «حزّ» بالحاء المهملة والزاء المعجمة: ماض من حززت الخشبة حزّا، من باب قتل: فرضتها.
والحزّ: الفرض. وأنفه مفعوله، وقصير فاعله.
و «صرّع» مبالغة صرعته صرعا، من باب نفع، إذا قتلته. والقوم فاعله، ورهطه مفعوله. و «الرّهط»: ما دون عشرة من الرجال ليس فيهم امرأة، وقيل:
من سبعة إلى عشرة. وما دون السّبعة إلى ثلاثة نفر.
وقال أبو زيد: الرّهط والنّفر: ما دون العشرة من الرجال. وقال ثعلب:
الرّهط والنفر والقوم والمعشر والعشيرة، معناهم الجمع، لا واحد لهم من لفظهم وهو للرّجال دون النساء.
وقال ابن السكيت: الرّهط والعترة بمعنى. ورهط الرجل: قومه وقبيلته الأقربون. كذا في المصباح. و «تبيّن» بمعنى علم. وهذا الكلام من المتلمّس تحضيض على دفع الضّيم وركوب الإباء من التزام العار، فلذلك أخذ يذكّر بحال من لم يزل يحتال حتّى أدرك مباغيه من أعدائه.
وفي البيت إشارة إلى قصّتين: إحداهما: قصة قصير صاحب جذيمة الأبرش مع الزباء، والثانية: قصة بيهس.
أمّا الأولى فقد رواها صاحب الأغاني عن ابن حبيب، قال (1): كان جذيمة الأبرش من أفضل الملوك رأيا، وأبعدهم مغارا، وأشدّهم نكاية. وهو أوّل من استجمع له الملك بأرض العراق.
وكانت منازله ما بين الأنبار، ورقّة (2)، وهيت، وعين التّمر، وأطراف البرّ، والقطقطانة، والحبرة.
فقصد في جموعه عمرو بن الظّرب بن حسّان بن أذينة بن السّميدع بن هوبر العاملي، من عاملة العماليق، فجمع عمرو جموعه ولقيه، فقتله جذيمة، وفضّ
__________
(1) الأغاني 15/ 315.
(2) في طبعة بولاق والنسخة الشنقيطية: = ورقّة =. وهو تصحيف صوابه من الأغاني 15/ 315.
(7/272)
جموعه فانفلّوا (1) وملّكوا بعده عليهم ابنته الزبّاء، وكانت من أحزم النساء (2)، فخافت أن يغزوها ملوك العرب، فاتّخذت لنفسها نفقا في حصن كان لها على شاطئ الفرات، وسكرت الفرات (3) في وقت قلّة الماء، وبنت في بطنه أزجا من الآجرّ والكلس، متّصلا بذلك النفق، وجعلت نفقا آخر في البرّيّة متّصلا بمدينة أختها، ثم أجرت الماء عليه، فكانت إذا خافت عدوّا دخلت النّفق.
فلمّا استجمع لها أمرها [واستحكم ملكها] أرادت أن تغزو جذيمة ثائرة بأبيها، فقالت لها أختها، وكانت ذات رأي وحزم: الرّأي (4) ابعثي إليه فأعلميه، أنّك قد رغبت في أن تتزوّجيه، وتجمعي ملكك إلى ملكه، وسليه أن يجيبك، فإن اغترّ ظفرت به بلا مخاطرة.
فكتبت إليه بذلك، فاستخفّه الطمع، وشاور أصحابه فكلّ صوّب رأيه في قصدها وإجابتها، إلّا قصير بن سعد بن عمرو بن جذيمة بن قيس بن هلال بن نمارة ابن لخم، فقال: هذا رأي فاتر، وغدر حاضر، فإن كانت صادقة فلتقبل إليك، وإلّا فلا تملّكها من نفسك (5).
فلم يوافق جذيمة قوله (6) ورحل إليها، فلمّا دخل عليها أمرت بقطع رواهشه (7)، ونزف دمه إلى أن مات.
فخرج قصير إلى عمرو بن عدي، ابن أخت جذيمة، فقال: هل لك في أن أصرف الجنود إليك على أن تطلب بدم خالك؟ فجعل ذلك له، فأتى القادة والأعلام، فقال: أنتم القادة والرؤساء، وعندنا الأموال والكنوز.
فانصرف إليه منهم بشر كثير، وملّكوا عمرو بن عدي، فقال قصير: انظر ما وعدتني به في الزباء.
__________
(1) وكذا في الأغاني أيضا. وانفلوا: انهزموا وانكسروا.
(2) في الأغاني: = من أحزم الناس =.
(3) سكر النهر سكرا: سدّه، وكل سدّ سدّ، فقد سكر.
(4) كذا في طبعة بولاق والنسخة الشنقيطية. أما في الأغاني 15/ 316فالعبارة مسهبة.
(5) في الأغاني: = وإلا فلا تمكنها من نفسك، فتقع في حبالها، وقد وترتها في أبيها =.
(6) في الأغاني: = قوله، وقال له: أنت امرؤ رأيك في الكن لا في الضّح =.
(7) الرواهش: عروق في باطن الذراع.
(7/273)
قال: وكيف، وهي أمنع من عقاب الجوّ؟! فقال: إذا أبيت فإنّي جادع أنفي وأذني، ومحتال لقتلها، فأعنّي وخلاك ذمّ. فقال له عمرو: أنت أبصر. فجدع قصير أنفه، ثم انطلق، حتّى دخل على الزبّاء، فقال: أنا قصير، لا وربّ البشر ما كان على ظهر الأرض أحد كان أنصح لجذيمة منّي ولا أغشّ لك، حتّى جدع عمرو ابن عديّ أنفي وأذني، فعرفت أنّي لم أكن مع أحد أثقل عليه منك.
فقالت: أي قصير، نقبل ذلك منك ونصرفك في بضاعتنا (1). فأعطته مالا للتجارة، فأتى بيت مال الحيرة، فأخذ ممّا فيه بأمر عمرو بن عدي ما ظنّ أنّه يرضيها، وانصرف إليها به.
فلمّا رأت ما جاء به، فرحت به، وزادته، ولم يزل بها حتّى أنست به، فقال لها يوما: إنّه ليس من ملكة ولا ملك، إلّا وينبغي لها أن تتّخذ نفقا تهرب إليه عند حدوث حادثة.
فقالت: إنّي قد فعلت ذلك، تحت سريري هذا، يخرج إلى نفق تحت سرير أختي. وأرته إيّاه. فأظهر سرورا بذلك، وخرج في تجارته كما كان يفعل، وعرف عمرو بن عديّ ما فعله، فركب عمرو في ألفي دارع على ألف بعير في جوالق، حتّى إذا صاروا إليها تقدّم قصير ودخل على الزبّاء، فقال: اصعدي حائط مدينتك، فانظري إلى مالك، فإنّي قد جئت بمال صامت.
وقد كانت أمنته فلم تكن تتّهمه، فلما نظرت إلى ثقل مشي الجمال قالت وقيل إنّه مصنوع منسوب إليها (2): (الرجز)
ما للجمال مشيها وئيدا ... أجندلا يحملن أم حديدا
__________
(1) في الأغاني 15/ 319: = ونصّر لك في بضاعتنا =.
(2) هو الإنشاد الثالث عشر بعد الثمانمائة في شرح أبيات المغني للبغدادي.
والرجز للزباء في أدب الكاتب ص 200والأغاني 15/ 320وأوضح المسالك 2/ 86وتاج العروس (وأد، صرف) وجمهرة اللغة ص 742، 1237والدرر 2/ 281وشرح أبيات المغني 7/ 216وشرح الأشموني 1/ 169وشرح التصريح 1/ 271وشرح شواهد المغني 2/ 912وشرح عمدة الحافظ ص 179ولسان العرب (وأد، صرف، زهق) ومغني اللبيب 2/ 581والمقاصد النحوية 2/ 448وللزباء أو للخنساء في المقاصد النحوية 2/ 448. وهو بلا نسبة في أساس البلاغة (وأد) وكتاب العين 7/ 111ومقاييس اللغة 6/ 78 وهمع الهوامع 1/ 159.
(7/274)
الأبيات المشهورة.
فلما دخلت الإبل خرجوا من الجوالق، فثاروا بأهل المدينة ضربا بالسيف، ودخلوا عليها قصرها فهربت تريد السّرب (1)، فوجدت قصيرا قائما عنده بالسّيف، فانصرفت راجعة، واستقبلها عمرو بن عديّ فضربها. وقيل: بل مصّت خاتمها، وقالت (2): «بيدي لا بيد عمرو!» وخربت المدينة وسبيت الذّراريّ، وغنم عمرو كلّ شيء كان لها ولأبيها وأختها. انتهى.
وأما «بيهس» الذي يلقب «نعامة»
فهو رجل من بني فزارة، وكان يحمّق، فقتل له سبعة إخوة، فجعل يلبس القميص مكان السّراويل، والسراويل مكان القميص، فإذا سئل عن ذلك قال (3): (الرجز)
البس لكلّ حالة لبوسها ... إمّا نعيمها وإمّا بوسها
فتوصّل بما صوّره من حاله عند الناس، إلى أن طلب بدماء إخوته.
وقوله: «البس لكلّ حالة» إلخ، قال الزمخشري في «أمثاله»: قاله بيهس حين شقّ قميصه، فغطّى به رأسه، وكشف استه بعد قتل إخوته. وإنّما أراد أنّه افتضح بقتلهم، وإنّه إن لم يثار بهم، فهو كالمقنّع رأسه واسته مكشوفة. يضرب في تلقّي كلّ حال بما يليق بها (4). انتهى.
وقد أورده في «الكشاف» عند قوله تعالى (5): {«وَعَلَّمْنََاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ»} على أن أصل لبوس اللباس، بمعنى ما يلبس.
__________
(1) السرب بالتحريك: الحفير تحت الأرض.
(2) المثل في أمثال العرب ص 147وجمهرة الأمثال 1/ 226، 235وزهر الأكم 1/ 208ومجمع الأمثال 1/ 236.
(3) الرجز لبيهس الفزاري في تاج العروس (بهنس، لبس، نعم) والتنبيه والإيضاح 2/ 301وشرح أبيات المغني 1/ 387. وهو بلا نسبة في لسان العرب (لبس).
والرجز من الأمثال، انظر أمثال العرب ص 111وجمهرة الأمثال 1/ 197والفاخر ص 62والمستقصى 1/ 304والوسيط في الأمثال ص 40، 89.
وفي طبعة بولاق: = بؤسها =. بالهمز وهو تصحيف صوابه من المصادر السابقة والنسخة الشنقيطية.
(4) في طبعة بولاق: = يلتقي بها =. وهو تصحيف صوابه من النسخة الشنقيطية.
(5) سورة الأنبياء: 21/ 80.
(7/275)
بيهس بن صهيب القضاعي
وقد أخطأ خضر الموصلي في «شرح شواهد التفسيرين» في نسبته إلى «بيهس ابن صهيب القضاعي»، وهو شاعر إسلامي في الدولة المروانية، وقد ترجمه الأصبهاني في «الأغاني» بحكايات ونقلها خضر منها، ونسبها إلى قائل البيت.
وقد حصل له اشتباه من اتّفاق الاسمين.
وقائل البيت جاهليّ، وقد ضرب به المثل في الجاهلية.
وقال أبو عبيد: المدركون الثأر في الجاهلية ثلاثة: بيهس، وقصير، وسيف [ابن] ذي يزن (1).
وبيهس صاحب البيت «كما في الجمهرة» هو بيهس بن خلف بن هلال بن غراب (2) بن ظالم بن فزارة بن ذبيان. فهو عدنانيّ، وذاك قحطاني.
قال ابن الكلبي في «الجمهرة»: بيهس وإخوته التسعة، منهم: نفر، وربيع، وحصين، بنو خلف، كانوا من أشطر فتيان العرب. انتهى.
والمشهور أنّهم سبعة.
قصة بيهس
وهذه قصته من «مجمع الأمثال للميداني»، قال: بيهس الفزاريّ الملقّب بنعامة كان سابع سبعة إخوة، فأغار عليهم ناس من أشجع، بينهم وبينهم حرب، وهم في إبلهم، فقتلوا منهم ستّة وبقي بيهس، وكان يحمّق، وكان أصغرهم، فأرادوا قتله، ثم قالوا: وما تريدون من قتل هذا، يحسب عليكم برجل، ولا خير فيه. فتركوه، فقال: دعوني أتوصّل معكم.
فلما كان من الغد نزلوا، فنحروا جزورا في يوم شديد الحرّ، فقالوا: ظلّلوا لحمكم لا يفسد. فقال بيهس (3): «لكنّ بالأثلات لحما لا يظلّل» يريد إخوته، فذهبت مثلا.
فلما قال ذلك، قالوا: إنّه لمنكر، وهمّوا أن يقتلوه، ثم تركوه وظلّوا يشوون من لحم الجزور ويأكلون، فقال أحدهم: ما أطيب يومنا وأخصبه!
__________
(1) زيادة من النسخة الشنقيطية.
(2) في طبعة بولاق: = بن عزاب =. وهو تصحيف صوابه من النسخة الشنقيطية.
(3) المثل في أمثال العرب ص 110وكتاب الأمثال لمجهول ص 97ولسان العرب (ظلل) والمستقصى 2/ 265ومجمع الأمثال 2/ 209.
(7/276)
فقال بيهس (1): «لكن على بلدح قوم عجفى!». فأرسلها مثلا.
ثم انشعب طريقهم فأتى أمّه، فأخبرها الخبر، قالت: فما جاءني بك من بين إخوتك؟ فقال بيهس: «لو خيّرت لاخترت». فذهبت مثلا.
ثم إنّ أمّه عطفت عليه ورقّت، فقال الناس: لقد أحبّت أمّ بيهس بيهسا.
فقال (2): «ثكل أرأمها ولدا!»، أي: أعطفها على ولد. فأرسلها مثلا.
ثم إنّ أمّه جعلت تعطيه ثياب إخوته فيلبسها، فيقول (3): «يا حبّذا التّراث لولا الذّلّة!». فأرسلها مثلا.
ثم إنه أتى على ذلك ما شاء الله! فمرّ بنسوة من قومه يصلحن امرأة منهنّ، يردن أن يهدينها لبعض قتلة إخوته، فكشف ثوبه عن استه وغطّى رأسه، فقلن:
ويلك ما تصنع يا بيهس؟ فقال:
* البس لكلّ حالة * البيت.
فأرسلها مثلا.
ثم أمر نساء من بني كنانة وغيرها فصنعن له طعاما، فجعل يأكل، ويقول (4):
«حبّذا كثرة الأيدي في غير طعام!». فأرسلها مثلا، فقالت أمّه: لا يطلب هذا بثأر! فقال (5): «لا تأمن الأحمق وفي يده سكين!». فأرسلها مثلا.
ثم إنّه أخبر أنّ أناسا من أشجع في غار يشربون فيه، فانطلق بخال له يقال [له] (6) أبو حنش، فقال له: هل لك في غار فيه ظباء لعلّنا نصيب منها؟ ويروى: «هل لك في غنيمة باردة؟». فأرسلها مثلا.
__________
(1) المثل في أمثال العرب ص 110وجمهرة الأمثال 2/ 183والعقد الفريد 3/ 101وكتاب الأمثال ص 139 وكتاب الأمثال لمجهول ص 97ولسان العرب (بلدح) والمستقصى 2/ 265ومجمع الأمثال 2/ 208.
(2) المثل في أمثال العرب ص 110وزهر الأكم 2/ 15والفاخر ص 63وكتاب الأمثال لمجهول ص 52 ومجمع الأمثال 1/ 152، 2/ 318، 418والوسيط في الأمثال ص 40، 89.
(3) المثل في أمثال العرب ص 111وجمهرة الأمثال 2/ 212والفاخر ص 63وكتاب الأمثال ص 334 ومجمع الأمثال 2/ 418.
(4) المثل في مجمع الأمثال 1/ 152.
(5) المثل في مجمع الأمثال 2/ 231.
(6) زيادة يقتضيها السياق من النسخة الشنقيطية.
(7/277)
فانطلق بيهس بخاله حتّى أقامه على فم الغار، ثم دفع أبا حنش في الغار، فقال:
ضربا أبا حنش! فقال (1) بعضهم: إن أبا حنش لبطل! فقال أبو حنش (2): «مكره أخاك لا بطل». فأرسلها مثلا.
فقتلهم جميعا، وجعل يتتبع قتله إخوته ويتقصّاهم حتّى قتل منهم أناسا كثيرا.
وقوله: «لكن على بلدح قوم عجفى» يضرب في التحزّن بالأقارب.
و «بلدح»، كجعفر: جبل في طريق جدّة، على أربعة أميال من مكّة.
وقوله: «وما الناس إلّا ما رأوا» إلخ، رواه أبو عمرو: (الطويل)
وما البأس إلّا حمل نفس على السّرى ... وما العجز إلّا نومة وتشمّس
ومعنى الأول: ما الناس إلّا رؤية وتحدّث، أي: اعتبار بالمشاهدة أو بما يروى من أخبار الأمم.
وقوله: «ألم تر أنّ الجون» إلخ، بفتح الجيم: حصن اليمامة. يقول: لا توعدونا فإنّ حصننا حصين لا يوصل إليه، ولا يستباح حماه. وجملة: «تطيف» إلخ، إمّا في موضع خبر ثان لأصبح، وإمّا صفة لراسيا. «وما يتأيّس»: لا يلين، في موضع الحال.
وقوله: «عصى تبّعا أزمان» إلخ، يقول: إنّ تبّعا لمّا غزا القرى والمدن، لم يصل إلى اليمامة. و «يطان عليه بالصّفيح»، أي: يجعله بدل طينه في الإصلاح والعمارة.
ويجوز أن يكون بالصفيح حالا، أي: يطان ويكلس بصفاحه، أي: هو مبنيّ بالحجارة. و «يكلس»: يصهرج. والكلس: الصّاروج (3). و «الصّفيح»: الحجارة العراض.
__________
(1) في طبعة بولاق: = قال =. ولقد أثبتنا رواية النسخة الشنقيطية، فهي توافق رواية مجمع الأمثال للميداني.
(2) المثل في أمثال العرب ص 112وجمهرة المثال 2/ 213، 242والعقد الفريد 3/ 130والفاخر ص 63 وكتاب الأمثال ص 271وكتاب الأمثال لمجهول ص 111ولسان العرب (جرل) والمستقصى 2/ 347 ومجمع الأمثال 2/ 318والوسيط في الأمثال ص 156.
(3) في طبعة بولاق والنسخة الشنقيطية: = الصهروج =. وهو تصحيف صوابه من لسان العرب والقاموس (صهرج).
(7/278)
ومعناه أنّه يبنى على المياه التي هي كالصفيح. والصّفيح: السيوف، واحدها صفيحة. ويشبّه الماء إذا كان صافيا بالسّيف. وذكر الماء وأراد العمارة، لأنّها به تكون.
وقوله: «هلمّ إليها» إلخ، يخاطب النعمان. وهذا تهكّم وسخرية. يقول: إن قدرت عليها، فاقصدها، فإنّها أخصب ما يكون، مزدرعها مثار، ودواليبها تدور (1). وضمير إليها لليمامة.
و «المنجنون»: الدّولاب. ومعنى تكدّس: يركب بعضها بعضا في الدّوران.
ويستعمل في سير الدوابّ وغيرها.
وقوله: «وذاك أوان العرض»، بكسر العين المهملة: واد من أودية اليمامة.
وحيّ، أي: عاش بالخصب. وروى: «جنّ»، أي: كثر ونشط. وزنابيره بدل من ذبابه. وذباب الرّوض قد يسمّى الزنابير.
وقوله: «الأزرق المتلمّس»: جنس آخر يكون أخضر ضخما. و «المتلمس»:
الطالب.
وقد سمّي الشاعر المتلمّس بهذا البيت، واسمه جرير. ولك أن تنصب الأوان وترفع العرض بالابتداء، واسم الزمان يضاف إلى الجمل، كأنه قال: وهذا الذي ذكرت هو في ذاك الأوان.
وقوله: «يكون نذير من ورائي» إلخ، هو نذير بن بهثة بن وهب. وقيل:
أراد بالنذير: المنذر. والمعنى: إنّي لمرصد لهم، من ينذرني بهم، فأتّقي وأتحرّز.
و «جليّ»، بضم الجيم وفتح اللام وتشديد الياء و «أحمس»: بطنان من ضبيعة بن ربيعة.
يقول: فإذا جاء وقت التحارب، قام بنصري هذان البطنان. وقيل: نذير وجليّ: أخوان، وأحمس بن ضبيعة أبوهما. يقول: هم ينصرونني، ويكونون لي وقاية من العدوّ.
وقوله: «وجمع بني قرّان» إلخ، جمع منصوب بفعل مضمر، كأنه قال: سمّ جمع بني قرّان.
__________
(1) في النسخة الشنقيطية: = تدر =. وهو تصحيف صوابه من طبعة بولاق.
(7/279)
ومعنى البيت: أجرونا مجرى نظائرنا، فإنّا نرضى بهم قدوة، واعرضوا ما تسوموننا (1) على بني قرّان، فإن التزموه وقبلوه فلنا بهم أسوة، وإلّا فالامتناع واجب.
وقوله: «هاتا» إلخ، أي: هذه الخطة التي نكره عليها. و «الأبس»: القهر.
وقال ابن الأعرابي: أبست الرجل، إذا لقيته بما يكره، وأبسته إذا وضعت منه باستخفاف وإهانة.
قوله: «فإن يقبلوا بالودّ نقبل بمثله» إلخ، أعاد الشرط وذلك أنّه قال قبل هذا:
فإن يقبلوا هاتا، ولم يأت له بجواب، ثم قال: فإن يقبلوا بالودّ نقبل بمثله، فاكتفى بجواب واحد لاشتماله على ما يكون جوابا لهما، فكأنّه قال: إن قبلوا ما نوبس به نقبل مثله، وأن أقبلوا بعد ذلك وادّين أقبلنا، وإلّا فنحن أشدّ أو أبلغ شماسا، أي:
امتناعا.
وكان بنو ضبيعة حلفاء لبني ذهل بن ثعلبة بن عكابة، فوقع بينهم نزاع، فعاتبهم المتلمس.
وقوله: «وإن يك عنّا» إلخ، أراد: حبيّب فخفّف، وهو حبيّب بن كعب بن يشكر بن بكر بن وائل. يقول: إن تكاسل بنو حبيّب عن إدراك ثأرنا فقد كان منا من يدأب ويسهر. و «المقنب»، بالكسر: زهاء ثلثمائة من الخيل. و «التعريس»:
النزول في آخر الليل.
وقوله: «ما يعرّس»، أي: ما يستقرّون إذا وتروا، ولكنّهم يغزون (2) ويغيرون أبدا حتّى يدركوا بثأرهم.
و «المتلمس»
شاعر جاهلي، واسمه جرير بن عبد المسيح، وسمّي المتلمس بالبيت المذكور.
وقد تقدّمت ترجمته مفصّلة في الشاهد التاسع والستين بعد الأربعمائة (3).
* * * __________
(1) في طبعة بولاق: = ما تساموننا =. وهو تصحيف صوابه من النسخة الشنقيطية.
(2) في طبعة بولاق: = يفرون =. وهو تصحيف صوابه من النسخة الشنقيطية.
(3) الخزانة الجزء السادس ص 318.
(7/280)
وأنشد بعده، وهو الشاهد الخامس والثلاثون بعد الخمسمائة، وهو من شواهد سيبويه (1): (الطويل)
535 - ألا يا ديار الحيّ بالسّبعان
على أنّ «السّبعان» أعرب بالحركة على النون مع لزوم الألف. وإذا نسب إليه قيل: السّبعاني.
وقال الزمخشري في «باب النسب من المفصل»: ومن ذلك قنّسريّ ونصيبيّ، فيمن جعل الإعراب قبل النون. ومن جعله معتقب الإعراب، قال: قنّسريني. وقد جاء مثل ذلك في التثنية، قالوا: خليلانيّ، وجاءني خليلان (2) اسم رجل. وعلى هذا قوله:
* ألا يا ديار الحيّ بالسّبعان *
قال ابن المستوفي: وجدت بخط الزّمخشري: ومن جعله معتقب الإعراب، بكسر القاف. وقد صحّح عليه مرّتين. فالمفتوح القاف مصدر، والمكسورها اسم فاعل. انتهى.
__________
(1) صدر بيت اختلف في نسبته وعجزه:
* أملّ عليها بالبلى الملوان *
والبيت لتميم بن أبي مقبل في ديوانه ص 335وإصلاح المنطق ص 394وأدب الكاتب ص 483وسمط اللآلئ ص 533وشرح أبيات سيبويه 2/ 422وشرح التصريح 2/ 329، 384والكتاب 4/ 259ولسان العرب (سبع، ملل، ملا) ومعجم ما استعجم ص 719ولابن أحمر في ديوانه ص 188وشرح الأشموني 3/ 849 ولأحدهما في معجم البلدان (السبعان) والمقاصد النحوية 4/ 542. وهو بلا نسبة في أوضح المسالك 4/ 333 والخصائص 3/ 202ولسان العرب (عفزر).
وفي حاشية ديوان تميم، يقول أستاذنا د. عزة حسن: = هذه القصيدة نقيضة، ينقض فيها ابن مقبل القصيدة التي قالها النجاشي الحارثي في وقعة صفين. وقد ذكر النجاشي الشاعر في قصيدته معاوية بن أبي سفيان وفراره من الحرب، وهجا قيس عيلان وعامرا قوم ابن مقبل وسائر القبائل التي كان ضلعها مع معاوية على عليّ، في وقعة صفين، وفخر بقومه وباليمانية عامة، فقال منها:
ونجى ابن حرب سابح ذو علالة ... أجش هزيم والرماح دواني =
(2) في طبعة بولاق: = وجاءني خليلاني =. وهو تصحيف صوابه من النسخة الشنقيطية.
(7/281)
وقد أورد سيبويه هذا المصراع في أوزان الأسماء، قال: ويكون على فعلان وهو قليل، قالوا: السّبعان، وهو اسم.
قال ابن مقبل:
* ألا يا ديار الحيّ بالسّبعان *
انتهى.
وأورده ابن قتيبة في «أدب الكاتب» (1) على أنّه لم يأت اسم على فعلان إلّا حرف واحد.
وكذلك قال أبو عبيد عبد الله البكريّ في «شرح أمالي القالي». وقال في «معجم ما استعجم»: «السّبعان»، بفتح أوله وضم ثانية على بناء فعلان، هكذا ذكره سيبويه، وهو جبل قبل الفلج. وأنشد هذا البيت.
و «الفلج»، بفتح الفاء وسكون اللام بعدها جيم: موضع في بلاد بني مازن، وهو في طريق البصرة إلى مكة.
وقال ياقوت في «معجم البلدان» (2): السبعان منقول من تثنية السّبع بفتح فضم، قال أبو منصور: هو موضع معروف في ديار قيس.
وقال نصر: السّبعان: جبل قبل فلج، وقيل: واد شماليّ سلم عنده جبل، يقال له: العبد، أسود ليس له أركان. ولا يعرف في كلامهم اسم على فعلان غيره.
انتهى.
وهذا المصراع وقع صدر بيت هو مطلع قصيدتين لشاعرين إحداهما (3) لتميم بن مقبل، وهو شاعر إسلاميّ مخضرم، وتقدمت ترجمته في الشاهد الثاني والثلاثين من أوائل الكتاب (4).
والثانية لشاعر جاهليّ من بني عقيل.
__________
(1) أدب الكاتب ص 483.
(2) معجم البلدان (السبعان).
(3) في طبعة بولاق: = أحدهما =. ولقد أثبتنا رواية النسخة الشنقيطية.
(4) الخزانة الجزء الأول ص 230.
(7/282)
أمّا الأولى وهي (1) المشهورة التي ذكرها شرّاح الشواهد، فهذه أبيات من أوّلها (2):
ألا يا ديار الحيّ بالسّبعان ... أملّ عليها بالبلى الملوان
نهار وليل دائب ملواهما ... على كلّ حال النّاس يختلفان (3)
ألا يا ديار الحيّ لا هجر بيننا ... ولكنّ روعات من الحدثان
لدهماء إذ للنّاس والعيش غرّة ... وإذ خلقانا بالصّبا عسران
وقوله: «ألا يا ديار الحيّ» إلخ، «ألا»: حرف تنبيه. يتأسّف على ديار قومه بهذا المكان، ويخبر أنّ الملوين، وهما الليل والنهار، أبلياها ودرساها.
و «الحيّ»: القبيلة.
وقوله: «بالسّبعان» متعلّق بمحذوف على أنّه حال من ديار.
وقوله: «أملّ عليها» فيه التفات لأنّه لم يقل عليك. قال الجواليقي في «شرح أدب الكاتب»: هو من أمللت الكتاب أملّه. خاطبها، ثم خرج عن خطابها إلى الإخبار عن الغائب.
وقيل: ويجوز أن يكون من أمللت الرجل، إذا أضجرته وأكثرت عليه ما يؤذيه، كأنّ الليل والنهار (4) أملّاها من كثرة ما فعلا بها من البلى. و «الملوان»: الليل والنهار ولا يفرد واحد منهما. يريد أنّ الليل والنهار، أملّا عليها أسباب البلى، فزاد الباء (5) كما قال (6): (البسيط)
__________
(1) في طبعة بولاق: = هي =. والتصويب من النسخة الشنقيطية.
(2) الأبيات لتميم بن أبي مقبل في ديوانه ص 337335وهي في ديوان عمرو بن أحمر ص 189188 ولتميم أو لابن أحمر في معجم البلدان (السبعان).
(3) البيت بلا نسبة في تاج العروس (ملا) ولسان العرب (ملا) والمخصص 15/ 133.
(4) قوله: = أملّاها من كثرة: الليل والنهار =. ساقط من النسخة الشنقيطية.
(5) قوله: = كما قال، لأنها طريقة تلازم =. ساقط من النسخة الشنقيطية.
(6) قطعة من بيت للراعي النميري أو للقتال وتمامه:
هنّ الحرائر لا ربّات أحمرة ... سود المحاجر لا يقرأن بالسّور
وهو الإنشاد الخامس والخمسون بعد المائة في شرح أبيات المغني للبغدادي.
والبيت للراعي النميري في ديوانه ص 122وأدب الكاتب ص 521وشرح أبيات المغني 2/ 368ولسان
(7/283)
* لا يقرأن بالسّور *
انتهى.
وقال أبو عبيد البكري في «شرح أمالي القالي» (1): أملّ بمعنى دأب ولازم، ومن هذا قيل للدين: ملّة، لأنّها طريقة تلازم. وقال الأصمعي: أملّ في معنى أملى، أي: طال. انتهى.
وقال الجوهري: أملّه وأملّ عليه، أي: أسأمه، فأراد بأملّ عليها، أسامها الملوان بالبلى لكثرة اختلافهما عليها. و «البلى»، بالكسر والقصر، مصدر بلي الثوب يبلى، من باب تعب، بلى وبلاء بالفتح والمد، أي: خلق، فهو بال. وبلي الميّت: أفنته الأرض.
وأنشد ابن السكيت هذا البيت في «إصلاح المنطق» على أنّ الملوين فيه بمعنى الليل والنهار.
وقال أبو عبيد البكري، وابن السيّد في «شرح أبيات أدب الكاتب»: جعل الشاعر الملوين هنا بمعنى الغداة والعشيّ، ويدلّ عليه قوله بعده:
* نهار وليل دائب ملواهما *
و «دأب»: اجتهد وبالغ في العمل.
وقوله: «على كلّ»، متعلّق بدائب. و «الرّوعة»: المرّة من الروع، وهو الفزع. و «الحدثان» مصدر حدث الشيء، من باب قعد، إذا تجدّد. أراد حوادث الدهر.
و «الغرة»، بالكسر: الغفلة. و «خلقانا»: مثنى خلق بضمتين، مضاف إلى «نا».
__________
العرب (سور) والمعاني الكبير ص 1138وللقتال الكلابي في ديوانه ص 53. وهو بلا نسبة في الأشباه والنظائر 2/ 183وجمهرة اللغة ص 1236والجنى الداني ص 217وشرح ديوان الحماسة للمرزوقي ص 383، 500، 830وشرح شواهد المغني 1/ 91، 336ولسان العرب (قرأ، لحد، قتل، زعم) ومجالس ثعلب ص 365ومغني اللبيب 1/ 29، 109، 2/ 675والمقتضب 3/ 244.
(1) سمط اللآلئ ص 533.
(7/284)
وأما الثانية فقد أورد خمسة أبيات من أوّلها إبراهيم الحصريّ في «كتابه زهر الآداب» (1)، وقال: إنّها لشاعر جاهلي من بني عقيل. وتابعه ياقوت في «معجم البلدان» (2)، وهي:
ألا يا ديار الحيّ بالسّبعان ... عفت حججا بعدي وهنّ ثماني
فلم يبق منها غير نؤي مهدّم ... وغير أثاف كالرّكيّ دفان
وآثار هاب أورق اللّون سافرت ... به الرّيح والأمطار كلّ مكان
قفار مروراة يحار بها القطا ... ويضحي بها الجأبان يفترقان
ينيران من نسج الغبار ملاءة ... قميصين أسمالا ويرتديان
وقوله: «عفت حججا»، يقال: عفت الدار تعفو، أي: اندرست وذهب أثرها. و «الحجج»: جمع حجّة بكسر أولهما: السّنة.
وروى ياقوت:
* خلت حجج بعدي لهنّ ثمان *
وقوله: «فلم يبق منها» إلخ، «النؤي»: حفيرة حول الخباء لئلّا يدخله ماء المطر.
و «الأثافيّ» (3): جمع أثفيّة، وهي ثلاثة أحجار (4) تكون عليها القدر. و «الرّكي»:
جمع ركيّة، وهي البئر.
و «دفان»، بكسر الدال بعدها فاء، يقال: ركيّة دفين ودفان، إذا اندفن بعضها. والجمع دفن بضمتين.
وقوله: «وآثار هاب» الهابي: التراب الناعم الدقيق، وهو اسم فاعل من هبا يهبو هبوا، أي: ارتفع. والهباء: دقاق التراب. والهابي أيضا: تراب القبر.
__________
(1) زهر الآداب 2/ 997.
(2) الأبيات لرجل من بني عقيل في زهر الآداب 2/ 997ومعجم البلدان (السبعان).
(3) في طبعة بولاق: = واثاف =.
(4) في طبعة بولاق: = ثلاثة أحجارة =. وهو تصحيف. وفي النسخة الشنقيطية: = ثلاث حجارة =. وهو تصحيف أيضا. والتصويب من طبعة هارون 7/ 306.
(7/285)
وأنشد له الأصمعي (1): (الطويل)
وهاب كجثمان الحمامة أجفلت ... به ريح ترج والصّبا كلّ مجفل
والمراد به هنا الرّماد، لأنّ الورقة هي لون الرّماد.
وقوله: «قفار مروراة» إلخ، «القفار»: جمع قفر، وهو المكان الذي لا ماء فيه ولا نبات، وهو صفة لمكان قبله. و «المروراة» بفتح الميم والراء، قال في الصحاح: هي المفازة التي لا شيء فيها، وهي فعوعلة (2) والجمع المرورى والمروريات والمراويّ.
و «الجأب»، بفتح الجيم وسكون الهمزة: الحمار الغليظ من حمر الوحش.
وأراد بالجأبين الذكر والأنثى، وإنّما يفترق كلّ منهما عن الآخر لعدم القوت.
وقوله: «ينيران من نسج» إلخ، أي: يحوكان، يقال: أنرت الثوب وهنرته، أي: حكته. ويقال أيضا: نرته أنيره نيرا بالكسر. و «النّير»: علم الثوب ولحمته.
وفي القاموس: النّير علم للثوب. ونرت الثوب نيرا ونيّرته وأنرته: جعلت له نيرا. وهدب الثوب: لحمته. ومن نسج، كان صفة لقميصين، فلمّا قدّم عليه صار حالا منه. و «الملاءة»، بالضم والمد: الرّيطة. و «قميصين»: بدل من ملاءة، و «ملاءة»: مفعول ينيران، و «عليهما»: حال من الغبار.
و «أسمالا»: خلقا، يقال: ثوب أسمال، أي: خلق. و «يرتديان»:
معطوف على ينيران، ومعناه يلبسان. يريد أنّ الحمارين، لشدة عدوهما، يثور التراب ويعلوهما، فيصير كالثوب عليهما. وإنّما اشتدّ عدوهما للنّجاة من هذه المفازة.
قال ياقوت (3): زعموا أنّ أول من جعل الغبار ثوبا هذا الشاعر. وكذلك قال الحصري: هو أوّل من نظر إلى هذا المعنى، وتبعته الخنساء في قولها من أبيات، وقد
__________
(1) البيت لمزاحم العقيلي ص 3وتاج العروس (ترج، جفل) والتنبيه والإيضاح 1/ 194ولسان العرب (ترج، جفل). وهو بلا نسبة في تاج العروس (هبا) ولسان العرب (هبا)
(2) في طبعة بولاق: = علة =. وهو تصحيف صوابه من النسخة الشنقيطية.
(3) معجم البلدان (السبعان) وزهر الآداب 2/ 997.
(7/286)
قيل لها: لقد مدحت أخاك، حتّى هجوت أباك، فقالت (1): (الكامل)
جارى أباه فأقبلا وهما ... يتعاوران ملاءة الحضر
وهذه أبرع عبارة، وأنصع استعارة.
وتبعها عديّ بن الرقاع في وصف حمار وأتانه (2): (الكامل)
يتعاوران من الغبار ملاءة ... بيضاء محدثة هما نسجاها
تطوى إذا وردا مكانا جاسيا ... وإذا السّنابك أسهلت نشراها
قال شارح ديوانه: قوله: «يتعاوران» إلخ، أي: تصير الغبرة للعير مرّة وللأتان مرّة. ويقال من العاريّة: قد تعوّرنا العواريّ. والمكان الجاسيّ: الغليظ، فإذا جريا فيه لم يكن لهما غبرة، وإذا أسهلا، أي: صارا إلى سهولة الأرض، ثار لهما غبار.
فجعل إثارة الغبار بمنزلة ملاءة تنشر عليهما، وزوال الغبار بمنزلة طيّ الملاءة.
وهذا أحسن ما قيل في وصف الغبار والعجاج.
وإلى هذا المعنى أشار أبو تمام الطائي في وصف كثرة ظعنه وقصده الملوك (3):
(الوافر)
يثير عجاجة في كلّ يوم ... يهيم بها عديّ بن الرّقاع
وقد سلك البحتريّ طريقة الخنساء، وأحسن فيه، إذ يقول في يوسف بن أبي سعيد (4): (الكامل)
جدّ كجدّ أبي سعيد إنّه ... ترك السّماك كأنّه لم يشرف
__________
(1) البيت مطلع قطعة للخنساء في وصف صخر وقد أرادت مساواته بأبيها. وهو في ديوانها ص 76وزهر الآداب 2/ 997ومعجم البلدان (السبعان).
(2) البيتان لابن الرقاع في ديوانه ص 50وأساس البلاغة (جسأ) وزهر الآداب 2/ 997والطرائف الأدبية ص 96.
(3) البيت لأبي تمام في زهر الآداب 2/ 997.
(4) هو يوسف بن أبي سعيد، محمد بن يوسف الثغري، ولاه المتوكل حرب الثغور بعد وفاة أبيه. والأبيات والخبر للبحتري في زهر الآداب 2/ 996.
(7/287)
قاسمته أخلاقه وهي الرّدى ... للمعتدي وهي النّدى للمعتفي
فإذا جرى في غاية وجريت في ... أخرى التقى شأواكما في المنصف
* * * وأنشد بعده، وهو الشاهد السادس والثلاثون بعد الخمسمائة (1): (المديد)
536 - ولها بالماطرون إذا
أكل النّمل الذي جمعا
على أنّ أبا علي، قال: «الماطرون» مجرور بكسرة على النون.
أقول: قاله في باب ما جعلت فيه النون المفتوحة اللاحقة بعد الواو والياء في الجمع حرف إعراب من «كتاب إيضاح الشعر»، وهذا نصّه:
اعلم أنّ هذه النون إذا جعلت حرف الإعراب، صارت ثابتة في الكلمة، فلم تحذف في الإضافة كما كانت تحذف قبل (2)، كما لا تحذف نون فرسن وضيفن ورعشن ونحو ذلك من النونات التي تكون حرف إعراب، وإن كانت زائدة.
ويكون حرف اللين قبلها الياء، ولا يكون الواو، لأنّ الواو تدلّ على إعراب بعينه، فلم يجز ثباتها، من حيث لم يجز ثبات إعرابين في الكلمة.
ألا ترى أنّهم إذا نسبوا إلى رجلان ونحوه من التثنية حذفوا، فقالوا: رجليّ، مع أنّ الألف قد لا تدلّ على إعراب بعينه لأنّ قوما يجعلون حرف الإعراب في الأحوال الثلاث ألفا.
فإذا حذفوا ذلك مع أنّهم قد جعلوها بمنزلة الدالّ فيه، لا يكون لإعراب مخصوص،
__________
(1) البيت لأبي دهبل الجمحي في ديوانه ص 85والحيوان 4/ 10والمستقصى 1/ 51وللأحوص الأنصاري في ديوانه ص 221وليزيد بن معاوية في ديوانه ص 22وشرح التصريح 1/ 76والمقاصد النحوية 1/ 48 ومعجم البلدان (الماطرون) وللأخطل التغلبي في لسان العرب (مطرن). وهو بلا نسبة في سر صناعة الإعراب 2/ 626ولسان العرب (مطر) والممتع في التصريف 1/ 158.
(2) في طبعة بولاق: = كما كانت لا تحذف قبل =. وهو تصحيف صوابه من النسخة الشنقيطية. والمراد كما كانت تحذف قبل أن تكون حرف إعراب.
(7/288)
فأن لا تثبت الواو الدالة على إعراب مختصّ أولى.
فأمّا من أجاز ثبات الواو في هذا الضّرب من الجمع، وزعم أنّ ذلك يجوز فيه، قياسا على قولهم: زيتون، فقوله في ذلك يبعد من جهة القياس، مع أنّا لم نعلمه جاء في شيء عنهم. وذلك أنّ هذه الواو لم تكن قطّ إعرابا ولا دالّا عليه، كما كانت التي في مسلمون.
فالواو في زيتون كالتي في منجنون، في أنّه لم يكن قطّ إعرابا، كما أنّ التي في منجنون كذلك. وعلى ما ذهب إليه الناس جاء التنزيل، وهو قوله تعالى (1): {«وَلََا طَعََامٌ إِلََّا مِنْ غِسْلِينٍ»}، لمّا صارت النون حرف إعراب، صار حرف اللين قبله الياء.
وقال تعالى (2): {«لَفِي عِلِّيِّينَ وَمََا أَدْرََاكَ مََا عِلِّيُّونَ»}.
فأمّا قول الشاعر:
ولها بالماطرون إذا ... أكل النّمل الذي جمعا
فأعجميّ، وليست الواو فيه إعرابا كالتي في سنين. فأمّا ثبات الياء في سنين وفلسطين وقنّسرين فإنّها لما لم تدلّ على إعراب، بعينه، أشبهت الياء التي في شمليل وقنديل، ولذلك ثبتت في النسب ولم تحذف كما حذف ما يكون في ثباته في الاسم اجتماع علامتين للإعراب.
وقد كثر هذا الضرب من الجمع، حتّى لو جعل قياسا مستمرا، كان مذهبا.
انتهى.
ومثله قول ابن جنّي في «سرّ الصناعة»: فأمّا الماطرون فليست النون فيه بزائدة، لأنّها تعرب.
قال:
* ولها بالماطرون إذا *
بكسر النون، فالكلمة إذا رباعيّة. انتهى.
__________
(1) سورة الحاقة: 69/ 36.
(2) سورة المطففين: 83/ 1918.
(7/289)
وفيه ردّ لمن جعل الكلمة ثلاثية، كصاحب القاموس، فإنه قال في «مادة مطر»:
وماطرون: قرية بالشام.
وفيه أنّه كان يجب أن يقول: الماطرون.
وقد خالف الجوهريّ فرواه «الناطرون» بالنون، وقال: الناطرون: موضع بناحية الشام، والقول في إعرابه، كالقول في نصيبين، وينشد هذا البيت بكسر النون:
ولها بالنّاطرون إذا ... البيت
وردّ عليه الصاغاني في «العباب»، فقال: الماطرون: موضع قرب دمشق.
وقال بعض من صنّف في اللغة: الناطرون: موضع بناحية الشام.
وكذلك غلّطه صاحب القاموس (1). ولم يذكره أبو عبيد البكري في «معجم ما استعجم».
وقال العيني (2) كالشارح المحقق: في «شرح كتاب سيبويه: الماطرون بالميم وطاء مفتوحة، والمشهور الماطرون بالميم وكسر الطاء. وقال أبو الحسن القفطي: الماطرون:
بستان بظاهر دمشق».
ثم قال: والبيت من أبيات ليزيد بن معاوية بن أبي سفيان تغزّل بها في نصرانيّة قد ترهّبت في دير خراب عند الماطرون، وهو بستان بظاهر دمشق يسمّى اليوم الميطور.
وأوّلها (3): (المديد)
آب هذا اللّيل فاكتنعا ... وأمرّ النّوم فامتنعا (4)
__________
(1) جاء في القاموس (مطر): = ووهم الجوهري، فقال: ناطرون بالنون =. وفي (نطر): = وغلط الجوهري في قوله ناطرون موضع بالشام وإنما هو ماطرون بالميم =.
(2) المقاصد النحوية 1/ 147: في شواهد المعرب والمبني، وهو قول أبي دهبل:
طال ليلي وبت كالمجنون ... واعتزتني الهموم بالماطرون
(3) الأبيات ليزيد بن معاوية بن أبي سفيان في ديوانه ص 22والكامل في اللغة 1/ 227226.
(4) البيت ليزيد بن معاوية في ديوانه ص 22وتاج العروس (كنع) ولسان العرب (كنع). وهو بلا نسبة في تهذيب اللغة 1/ 318.
(7/290)
راعيا للنّجم أرقبه ... فإذا ما كوكب طلعا
حال حتّى إنّني لأرى ... أنّه بالفور قد رجعا
ولها بالماطرون إذا ... أكل النّمل الذي جمعا
خرفة حتّى إذا ارتبعت ... سكنت من جلّق بيعا (1)
في قباب حول دسكرة ... حولها الزّيتون قد ينعا (2)
«آب»: رجع. و «اكتنع»: افتعل من الكنع، بالكاف والنون، قال صاحب العباب: اكتنع الليل: حضر، ودنا. وأنشد هذا البيت. و «أمرّ» بالبناء للمفعول بمعنى، جعل مرّا.
وقوله: «ولها بالماطرون» اللام متعلقة بمحذوف على أنّه خبر مقدّم، وخرفة:
مبتدأ مؤخر، وضمير المؤنث للنّصرانية التي تغزّل بها (3)، وبالماطرون فاعل لها، و «إذا» ظرف عامله متعلّق اللام.
و «الخرفة» بضم الخاء المعجمة وبالفاء: المخترف والمجتنى، وقيل ما يجتنى.
وهذه الرواية رواية المبرد في «الكامل».
وروى صاحب العباب في البيت: «خلفة» بالكسر بدل خرفة. وقال: خلفة الشجر: شجر يخرج بعد الثمر الكثير.
وكذا روى العينيّ عن ابن القوطيّة، أنّه قال: الرواية هي الخلفة باللام، وهو ما يطلع من الثمر بعد الثمر الطيّب. والجيّد عندي رواية الخلفة على أنها اسم من الاختلاف، أي: التردّد.
و «النّمل»: فاعل أكل، و «الذي»: مفعوله، والعائد محذوف، أي:
جمعه. و «ارتبعت»: دخلت في الرّبيع. ويروى: «ربعت» بمعناه.
__________
(1) البيت ليزيد بن معاوية في ديوانه ص 22وتاج العروس (مطر) وجمهرة اللغة ص 616ومعجم البلدان (الماطرون) وهو بلا نسبة في المخصص 11/ 9.
(2) البيت للأخطل التغلبى في تاج العروس (دسكر) ولسان العرب (دسكر) وليس فى ديوانه، وليزيد ابن معاوية في ديوانه ص 22وتهذيب اللغة 3/ 221ولسان العرب (ينع). وهو بلا نسبة في تاج العروس (ينع).
(3) في طبعة بولاق: = تنزل =. وهو تصحيف صوابه من النسخة الشنقيطية.
(7/291)
ويروى: «ذكرت» بدل سكنت. و «جلّق»، بكسر الجيم واللام المشددة المكسورة: مدينة بالشام. ومن جلّق كان صفة لقوله بيعا، فلما قدّم عليه صار حالا منه. و «بيعا»: مفعول سكنت أو ذكرت، وهو جمع بيعة بالكسر.
قال الجوهري وصاحبا «العباب والمصباح»: هي للنّصارى. وقال العيني:
البيعة لليهود، والكنيسة للنصارى. وهذا لا يناسب قوله إنّ الشّعر في نصرانيّة.
ومعنى البيتين أنّ لهذه المرأة تردّدا إلى الماطرون في الشتاء، فإنّ النمل يخزن الحب في الصّيف، ليأكله في الشتاء، ولا يخرج إلى وجه الأرض من قريته. وإذا دخلت في أيام الرّبيع، ارتحلت إلى البيع التي بجلّق.
وقال العيني: «قوله بالماطرون صفة لخرفة». وهذا مخالف لقولهم إن صفة النكرة إذا تقدّمت صارت حالا منه. وقال: إذا للوقت، والتقدير: لها خرفة وقت أكل النّمل ما جمعه.
وقوله: «في قباب حول» إلخ، الظرف: صفة لقوله بيعا، وهو جمع قبّة.
و «الدّسكرة»، بفتح الدال، نقل صاحب العباب، عن الليث أنّها بناء يشبه قصرا حوله بيوت، وجمعها دساكر، تكون للملوك. و «ينع»: لغة في أينع، أي: نضج واستوى.
قال المبرد في «الكامل» (1): أينعت الثمرة إيناعا، أي: أدركت. وينعت ينعا وينعا بالفتح والضم.
ويقرأ (2): {«انْظُرُوا إِلى ََ ثَمَرِهِ إِذََا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ»} و «ينعه» كلاهما جائز.
وأنشد هذه الأبيات الثلاثة الأخيرة، وقال: قال أبو عبيدة: هذا الشعر يختلف فيه، فبعضهم ينسبه إلى الأحوص، وبعضهم ينسبه إلى يزيد بن معاوية. انتهى.
وقد سها العينيّ هنا في قوله: «الاستشهاد بالماطرون حيث نزّل منزلة الزيتون في إلزامه الواو وإعرابه بالحروف»، وصوابه «وإعرابه بالحركات».
ولو استشهد الشارح المحقق، بقوله: (الخفيف)
__________
(1) الكامل في اللغة 1/ 226.
(2) سورة الأنعام: 6/ 99.
(7/292)
طال ليلي وبتّ كالمجنون ... واعترتني الهموم بالماطرون (1)
كما استشهد به ابن هشام في «شرح الألفية» لكان أولى، فإنّ كسرة النون صريحة، لوقوعها في القافية.
وهو مطلع قصيدة، وبعده (2): (الخفيف)
صاح حيّا الإله حيّا ودورا ... عند أصل القناة من جيرون (3)
عن يساري إذا دخلت إلى الدّا ... ر وإن كنت خارجا فيميني (4)
فلتلك اغتربت بالشّام حتّى ... ظنّ أهلي مرجّمات الظّنون (5)
هي زهراء مثل لؤلؤة الغ ... وّاص ميزت من جوهر مكنون (6)
وإذا ما نسبتها لم تجدها ... في سناء من المكارم دون (7)
تجعل المسك واليلنجوج والنّ ... دّ صلاء لها على الكانون (8)
__________
(1) البيت لأبي دهبل الجمحي في ديوانه ص 68ولسان العرب (خصر، سنن) ومعجم ما استعجم ص 409 والمقاصد النحوية 1/ 141ولعبد الرحمن بن حسان بن ثابت في ديوانه ص 59. وهو بلا نسبة في أوضح المسالك 1/ 53وجواهر الأدب ص 158والخصائص 3/ 216وشرح التصريح 1/ 76والممتع في التصريف 1/ 157.
(2) الأبيات لأبي دهبل الجمحي في ديوانه ص 7068والأغاني 7/ 128127والحماسة البصرية 2/ 206 207.
(3) البيت لأبي دهبل الجمحي في ديوانه ص 68ولسان العرب (خصر) وهو لأبي دهبل أو لعبد الرحمن بن حسان في الكامل في اللغة ص 387.
(4) البيت لأبي دهبل في ديوانه ص 68ولسان العرب (خصر، سنن).
(5) البيت لأبي دهبل في ديوانه ص 69ولسان العرب (خصر، سنن) ولأبي دهبل أو لعبد الرحمن بن حسان في الكامل في اللغة 1/ 174.
(6) البيت لأبي دهبل في ديوانه ص 69ولسان العرب (خصر، سنن) ولأبي دهبل أو لعبد الرحمن بن حسان في الكامل في اللغة 1/ 174.
(7) البيت لأبي دهبل في ديوانه ص 69ولسان العرب (خصر، سنن) ولأبي دهبل أو لعبد الرحمن بن حسان في الكامل في اللغة 1/ 174.
(8) البيت لأبي دهبل في ديوانه ص 70ولسان العرب (خصر، سنن) ولأبي دهبل أو لعبد الرحمن بن حسان في الكامل 1/ 174. وهو بلا نسبة في مقاييس اللغة 3/ 300.
(7/293)
ثمّ خاصرتها إلى القبّة الخض ... راء تمشي في مرمر مسنون (1)
قبّة من مراجل ضرّبتها ... عند حدّ الشّتاء في قيطون (2)
ثمّ فارقتها على خير ما كا ... ن قرين مقارنا لقرين (3)
فبكت خشية التّفرّق للبي ... ن بكاء الحزين إثر الحزين (4)
ليت شعري أمن هوى طار نومي ... أم براني ربّي قصير الجفون (5)
و «جيرون»: باب من أبواب دمشق. و «الرّجم»: الكلام بالظنّ.
و «اليلنجوج»، بجيمين: عود البخور.
وروى بدله: «الألوّة» بفتح الهمزة وضم اللام، وهو العود أيضا.
و «الصّلاء»، بالكسر والمد: التدفّي بالنار. و «المخاصرة»: أن يضع كلّ [واحد من] اثنين (6) يده على خصر الآخر. و «المسنون»: الأملس المجلوّ. و «المراجل»:
جمع مرجل بالكسر.
وقال ابن الأعرابي وحده: بفتح الميم، هو ضرب من برود اليمن. كذا في العباب.
وأخطأ العيني في قوله: هو القدر من النّحاس، إذ لا مناسبة له هنا. و «القيطون»:
المخدع.
__________
(1) البيت لأبي دهبل في ديوانه ص 70والتنبيه والإيضاح 2/ 155ولسان العرب (خصر، سنن) ولعبد الرحمن بن حسان في أساس البلاغة (خصر) وتاج العروس (سنن) وتهذيب اللغة 7/ 127ولأبي العيال أو لعبد الرحمن بن حسان في تاج العروس (خصر) وجمهرة اللغة ص 586وكتاب العين 4/ 183والكامل في اللغة 1/ 174ولسان العرب (سنن) ومقاييس اللغة 2/ 189.
(2) البيت لأبي دهبل في ديوانه ص 70ولسان العرب (خصر، سنن) ولعبد الرحمن بن حسان في تاج العروس (قطن) ولسان العرب (قطن) ولأبي دهبل أو لعبد الرحمن بن حسان في الكامل في اللغة 1/ 226.
(3) البيت لأبي دهبل في لسان العرب (خصر، سنن) ولم أقع عليه في ديوانه.
(4) البيت لأبي دهبل في لسان العرب (خصر، سنن) ولم أقع عليه في ديوانه.
(5) في طبعة بولاق، والنسخة الشنقيطية: = أم براني رمى =. وهو تصحيف، صوابه من الحماسة البصرية 2/ 207.
(6) زيادة يقتضيها السياق. وفي اللسان (خصر): = والمخاصرة: أخذ الرجل بيد الرجل وخاصر الرجل صاحبه، إذا أخذ بيده في المشي =.
(7/294)
قال العيني (1): هذه القصيدة لأبي دهبل الجمحي، وهو شاعر إسلاميّ شبّب فيها بعاتكة بنت معاوية، حين حجّت ورجع معها إلى الشام، فمرض بها. ويقال:
إنّ يزيد قال لأبيه، إنّ أبا دهبل ذكر رملة ابنتك، فاقتله. فقال: أيّ شيء قال؟
قال:
هي زهراء مثل لؤلؤة الغ ... وّاص البيت
قال معاوية: لقد أحسن! قال: فقد قال:
وإذا ما نسبتها ... البيت
قال: صدق! قال: فقد قال:
ثمّ خاصرتها إلى القبّة ... البيت
فقال معاوية: كذب!
وقال ثعلب (2): حدّثنا الزبير، قال: حدّثني مصعب، قال: حدثني إبراهيم بن أبي عبد الله، قال: خرج أبو دهبل يريد الغزو، وكان رجلا صالحا جميلا، فلما كان بجيرون، جاءته امرأة، فأعطته كتابا، فقال: اقرأ لي هذا الكتاب. فقرأه لها، ثم ذهبت [فدخلت قصرا،] وخرجت إليه، فقالت: لو تبلّغت معي إلى هذا القصر فقرأته على امرأة فيه، كان لك فيه أجر (3).
فبلغ معها القصر، فلمّا دخله فإذا فيه جوار كثيرة، فأغلقن (4) عليه القصر، وإذا امرأة وضيئة تدعوه إلى نفسها، فأبى، فحبس، وضيّق عليه، حتى كاد يموت.
ثم دعته إلى نفسها، فقال: أمّا الحرام فو الله لا يكون، ولكن أتزوّجك.
فتزوّجته، وأقام معها زمانا طويلا لا يخرج من القصر، حتّى يئس منه، وتزوّج بنوه وبناته، واقتسموا ماله، وأقامت زوجته تبكي عليه حتّى عميت.
ثم إنّ أبا دهبل، قال لامرأته: إنّك قد أثمت فيّ، وفي أهلي وولدي، فأذني لي
__________
(1) المقاصد النحوية 1/ 143.
(2) المقاصد النحوية 1/ 143.
(3) بعده في المقاصد النحوية 1/ 144: = إن شاء الله فإنه أتاها من غائب يعنيها أمره =.
(4) في طبعة بولاق والنسخة الشنقيطية: = فاغلقوا =. وهو تصحيف صوابه من المقاصد النحوية.
(7/295)
في المصير إليهم، وأعود إليك. فأخذت عليه العهود أن لا يقيم إلّا سنة. فخرج من عندها، وقد أعطته مالا كثيرا، حتّى قدم على أهله، فرأى حال زوجته، فقال لأولاده. أنتم قد ورثتموني، وأنا حيّ، وهو حظّكم، والله لا يشرك زوجتي فيما قدمت به أحد. فتسلّمت جميع ما أتى به.
ثم إنّه اشتاق إلى زوجته الشاميّة، وأراد الخروج إليها، فبلغه موتها، فأقام، وقال هذه القصيدة.
ويقال: إنّها لعبد الرحمن بن حسان بن ثابت. وذهب إليه الجوهريّ وغيره.
وقال ابن بريّ: الصحيح أنّها لأبي دهبل. انتهى كلام العيني (1).
ولم ينسبها أبو الفرج الأصبهاني في «الأغاني» (2) إلّا لعبد الرحمن بن حسان، قال: حدثنا محمد بن العبّاس اليزيدي، قال: حدثنا أحمد بن الحارث الخراز، قال:
حدّثنا المدائني، عن أبي عبد الرحمن المبارك، قال:
شبّب عبد الرحمن بن حسّان بأخت معاوية، فغضب يزيد، [فدخل على معاوية]، فقال لمعاوية: [يا أمير المؤمنين،] اقتل عبد الرحمن بن حسان. قال:
ولم؟ قال: شبّب بعمّتي. قال: وما قال؟ قال: قال:
طال ليلي وبتّ كالمحزون ... ومللت الثّواء في جيرون
قال [معاوية]: يا بنيّ، وما علينا من طول ليله وحزنه [أبعده الله؟].
وهذا هو مطلع القصيدة عند صاحب الأغاني، وليس فيه ذكر الماطرون قال يزيد: إنه يقول:
فلذاك اغتربت بالشّام (3) ... البيت
قال: يا بنيّ وما علينا من ظنّ أهله؟ قال: إنّه يقول:
هي زهراء مثل لؤلؤة الغ ... وّاص البيت
__________
(1) المقاصد النحوية 1/ 145.
(2) الأغاني 15/ 109. والزيادات منه.
(3) في طبعة بولاق والنسخة الشنقيطية: = فلذلك اغتربت =. وهو تصحيف صوابه من الأغاني 15/ 109.
(7/296)
قال: صدق با بنيّ. قال: وإنه يقول:
وإذا ما نسبتها لم تجدها ... البيت
قال: صدق [يا بنيّ]، هي هكذا.
قال: إنه يقول:
ثمّ خاصرتها إلى القبّة ... البيت
قال: [خاصرتها: أخذت بخصرها وأخذت بخصري] ولا كلّ هذا با بنيّ! ثم ضحك، وقال: أنشدني ما قال أيضا.
فأنشده قوله:
قبّة من مراجل نصبوها ... عند حدّ الشّتاء في قيطون
عن يساري إذا دخلت ... البيت
تجعل النّدّ والألوّة ... البيت
وقباب قد أشرجت وبيوت ... نطّقت بالرّيحان والزّرجون (1)
قال: يا بني، ليس يجب القتل في هذا، والعقوبة دون القتل، ولكنّا نكفّه بالصّلة [له] والتجاوز عنه.
ونسخت من كتاب ابن النطّاح (2): وذكر الهيثم بن عديّ عن ابن دأب، قال:
حدّثنا شعيب بن صفوان، أنّ عبد الرحمن بن حسّان [بن ثابت] كان يشبّب بابنة معاوية، ويذكرها في شعره، فقال الناس لمعاوية: لو جعلته نكالا؟ فقال: لا، ولكن أداويه بغير ذلك.
فأذن له وكان يدخل [عليه] في أخريات الناس، ثم أجلسه على سريره معه، وأقبل عليه بوجهه وحديثه، ثم قال: إنّ ابنتي الأخرى عاتبة عليك.
قال: في أيّ شيء؟ قال: في مدحتك أختها وتركك إيّاها. قال: فلها العتبى وكرامة، أنا ذاكرها [وممتدحها].
__________
(1) الزرجون: الكرم، أو قضبانه.
(2) الأغاني 15/ 110.
(7/297)
فلمّا فعل، وبلغ ذلك الناس، قالوا: قد كنّا نرى أنّ نسيب عبد الرحمن بن حسان بابنة معاوية لشيء، فإذا هو على رأي معاوية وأمره. وعلم من كان يعرف أنّه ليس له بنت أخرى، أنّه إنّما خدعه ليشبّب بها، ولا أصل لها، ليعلم الناس أنّه كذب على الأولى، لمّا ذكر الثانية.
هذا ما أورده صاحب الأغاني (1). والله أعلم.
* * * وأنشد بعده، وهو الشاهد السابع والثلاثون بعد الخمسمائة، وهو من شواهد س (2): (الخفيف)
537 - ليت شعري وأين منّي ليت
إنّ لوّا وإنّ ليتا عناء
على أنّ الكلمة المبنيّة إذا أريد بها لفظها فالأكثر حكايتها على ما كانت عليه، وقد تجيء معربة كما في البيت، كما أعرب «ليت» الأولى بالرفع على الابتداء، ونصب الثانية مع «لو» بإنّ.
وأورده سيبويه في «تسمية الحروف والكلم»، قال: والعرب تختلف فيها، يؤنثها بعض، ويذكّرها بعض.
وأما «ليت» و «إنّ» فحرّكت أواخرها بالفتح، لأنّها بمنزلة الأفعال، فإذا صيّرت واحدا منهما اسما، فهو ينصرف على كلّ حال. وإن جعلته اسما للكلمة،
__________
(1) الأغاني 15/ 111.
(2) البيت لأبي زبيد في ديوانه ص 578والأغاني 5/ 138والحماسة البصرية 2/ 257وشرح أبيات سيبويه 2/ 211وشرح أبيات المغني 3/ 390وشرح الحماسة للأعلم 2/ 737وشرح المفصل 6/ 30، 10/ 57 والشعر والشعراء 1/ 310والكتاب 3/ 261ولسان العرب (أوا). وهو بلا نسبة في جمهرة اللغة ص 168، 410، 489ودرة الغواص ص 32ولسان العرب (هلل) وما ينصرف وما لا ينصرف ص 65والمقتضب 1/ 235، 4/ 32، 43والمنصف 2/ 153.
ورواية الشطر الثاني اختلفت في بعض هذه المصادر:
* إن ليتا وإن لوّا عناء *
(7/298)
وأنت تريد لغة من ذكّر لم تصرفها، وإن سمّيتها بلغة من أنّث كنت بالخيار.
إلى أن قال: وأمّا «أو» و «لو» فهما ساكنا الأواخر (1)، فإذا صارت كلّ واحدة منهما اسما، فقصّتها في التأنيث والتذكير، والانصراف وترك الانصراف، كقصة «ليت» و «إنّ»، إلّا أنّك تلحق واوا آخر (2) فتثقّل.
وذلك لأنّه ليس في كلام العرب اسم آخره واو قبلها حرف مفتوح.
قال أبو زبيد:
ليت شعري وأين منّي ليت ... إنّ ليتا وإنّ لوّا عناء
وقال آخر (3): (الطويل)
ألام على لوّ ولو كنت عالما ... بأذناب لوّ لم تفتني أوائله
انتهى كلام سيبويه.
قال الأعلم: الشاهد في تضعيف «لو»، لمّا جعلها اسما، وأخبر عنها، لأنّ الاسم المفرد المتمكّن لا يكون على أقلّ من حرفين متحرّكين، والواو في «لو» لا تتحرّك، فضوعفت لتكون كالأسماء المتمكنة.
ويحتمل الواو (4) بالتضعيف الحركة. وأراد ب «لو» ها هنا «لو» التي للتمنّي، في نحو قولك: لو أتيتنا، لو أقمت عندنا، أي: ليتك أتيت. أي: أكثر التمنّي يكذّب صاحبه ويعنّيه، ولا يبلغ فيه مراده. انتهى.
والبيت من قصيدة لأبي زبيد الطائي، أورد منها الأعلم في «باب النسيب من حماسته» ستّة أبيات، وهي (5): (الخفيف)
__________
(1) في الكتاب لسيبويه: = فهما ساكنتا الأواخر =.
(2) في الكتاب: = واوا أخرى =.
(3) البيت بلا نسبة في الدرر 1/ 72وشرح عمدة الحافظ ص 609وشرح المفصل 6/ 31والكتاب 3/ 262وما ينصرف وما لا ينصرف ص 66وهمع الهوامع 1/ 5.
(4) في طبعة بولاق: = للواو =. باللام. وهو تصحيف صوابه من النسخة الشنقيطية.
(5) الأبيات لأبي زبيد الطائي في ديوانه ص 579577والأغاني 5/ 138وشرح الحماسة للأعلم 2/ 737.
(7/299)
ولقد متّ غير أنّي حيّ ... يوم بانت بودّها خنساء (1)
من بني عامر لها شقّ قلبي ... قسمة مثل ما يشقّ الرّداء (2)
أشربت لون صفرة في بياض ... وهي في ذاك لدنة غيداء
كلّ عين متى تراها من النّا ... س إليها مديمة حولاء
ليت شعري وأين منّي ليت ... إنّ ليتا وإنّ لوّا عناء
أيّ ساع سعى ليقطع شربي ... حين لاحت للصّابح الجوزاء (3)
قوله: «ولقد متّ» إلخ، يعني أنا لشدّة الحزن ميت، إلّا أنّي في عداد الأحياء.
و «بانت»: فارقت، يريد: هجرتني.
وقوله: «لها شقّ قلبي» بالكسر، يريد: شقّت قلبي بحبّها، فاستولت عليه.
وقوله: «أشربت لون صفرة» إلخ، أي: صبغت بهذين اللونين. وهذا أحمد الألوان عندهم. وفي بمعنى مع.
و «اللّدنة»: الناعمة. و «الغيداء»: المتثنّية من النّعمة، وهي أيضا الطويلة العنق.
وقوله: «كلّ عين» إلخ، «كلّ» مبتدأ، و «متى» اسم استفهام ظرف لتراها، وجملة: «تراها» صفة لعين، و «مديمة»: خبر المبتدأ، و «إليها»:
متعلق به، وهو اسم فاعل من أدمت، أي: واظبت. و «حولاء» خبر ثان.
جعلها حولاء لميلها إليها بالنّظر، فكأنّ بها حولا.
وقوله: «ليت شعري» إلخ، قد شرحه الشارح في «ليت» (4) وقال: التزم حذف الخبر في «ليت شعري» مردفا باستفهام، نحو: ليت شعري أتأتيني أم لا؟
وهذا الاستفهام مفعول شعري. فجملة: «أيّ ساع سعى» في البيت بعده مفعول شعري.
__________
(1) البيت لأبي زبيد الطائي في ديوانه 577وجمهرة اللغة ص 599والشعر والشعراء ص 310.
(2) البيت لأبي زبيد في ديوانه ص 578وتاج العروس (عطط).
(3) البيت لأبي زبيد الطائي في ديوانه ص 579وتهذيب اللغة 4/ 266والحماسة البصرية 2/ 358والحيوان 5/ 231، 557، 6/ 124والشعر والشعراء ص 310. وهو بلا نسبة في جمهرة اللغة ص 279.
(4) في طبعة بولاق: = في البيت =. وهو تصحيف صوابه من النسخة الشنقيطية.
(7/300)
و «الشّرب»، بالكسر: النّصيب من الماء. و «الصابح»: من صبحت الإبل، إذا سقيتها في أوّل النهار والإبل مصبوحة، والقوم صابحون. كذا في الجمهرة لابن دريد، وأنشد هذا البيت.
وقال القاليّ في «المقصور والممدود»: و «الجوزاء»: برج من بروج السماء.
والعرب تقول: «إذا طلعت الجوزاء توقّدت المعزاء، وكنست الظّباء، وعرقت العلباء (1)، وطاب الخباء». وأنشد هذا البيت.
وزاد صاحب الأغاني بعد هذا (2): (الخفيف)
فاستظلّ العصفور كرها مع الضّ ... بّ وأوفى في عوده الحرباء (3)
ونفى الجندب الحصى بكراعي ... هـ وأذكت نيرانها المعزاء (4)
من سموم كأنّها حرّ نار ... شفعتها ظهيرة غرّاء (5)
وإذا أهل بلدة أنكروني ... عرفتني الدّوّيّة الملساء (6)
عرفت ناقتي شمائل منّي ... فهي إلّا بغامها خرساء
عرفت ليلها الطّويل وليلي ... إنّ ذا النّوم للعيون غطاء
وأورد سبب هذه القصيدة بسنده عن ابن الأعرابي، قال (7): كان الوليد بن عقبة قد
__________
(1) العلباء بكسر العين: عصب العنق. قال عنه اللحياني: = هو مذكر لا غير =. لكنه ورد هنا مؤنثا. انظر ذلك في اللسان (علب).
(2) الأبيات لأبي زبيد الطائي في ديوانه ص 580579والأغاني 5/ 139138.
(3) البيت لأبي زبيد في ديوانه ص 579وتاج العروس (كرع) وتهذيب اللغة 1/ 310والحماسة البصرية 2/ 358والحيوان 5/ 232، 557، 6/ 124والشعر والشعراء ص 310ولسان العرب (كرع). وهو بلا نسبة في أساس البلاغة (كرع).
(4) البيت لأبي زبيد في ديوانه ص 579والحماسة البصرية 2/ 358والحيوان 5/ 232، 557وديوان كعب ابن زهير ص 17والشعر والشعراء ص 310وكتاب العين 1/ 200.
الجندب: الجراد الصغير. وكراعا الجندب: رجلاه. والمعزاء: الأرض الغليظة ذات الحجارة.
(5) البيت لأبي زبيد في ديوانه ص 579وتاج العروس (صمح) والحيوان 5/ 232ولسان العرب (صمح).
وهو بلا نسبة في تاج العروس (غرر) ولسان العرب (غرر).
السموم: الريح الحارة.
(6) الدوية: الفلاة، وسميت بذلك لما يسمع فيها من دويّ.
(7) الأغاني 5/ 137.
(7/301)
استعمل الربيع بن مريّ بن أوس بن حارثة بن لأم (1) الطائي على الحمى، فيما بين الجزيرة وظهر الحيرة، فأجدبت الجزيرة.
وكان أبو زبيد في تغلب. فخرج لهم ليرعيهم (2) فأبى عليه الأوسيّ، وقال: إن شئت أرعيك وحدك فعلت.
فأتى أبو زبيد الوليد بن عقبة، فأعطاه ما بين القصور الحمر من الشام إلى القصور الحمر من الحيرة، وجعلها له حمى، وأخذها من الآخر.
قال عمر بن شبّة في خبره خاصّة (3): فلما عزل الوليد عن الكوفة، وولي سعد ابن أبي وقّاص مكانه (4)، انتزعها منه وأخرجها من يده، فقال أبو زبيد:
ولقد متّ غير أنّي حيّ ... يوم بانت بودّها خنساء
إلى آخر القصيدة.
وأبو زبيد الطائيّ: شاعر نصرانيّ كان في صدر الإسلام، وتقدّمت ترجمته في الشاهد الثاني والثمانين بعد المائتين (5).
* * * وأنشد بعده، وهو الشاهد الثامن والثلاثون بعد الخمسمائة، وهو من شواهد المفصّل (6):
__________
(1) في طبعة بولاق: = حارثة بن لؤي =. وهو تصحيف صوابه من النسخة الشنقيطية والاشتقاق ص 383 والأغاني 5/ 137والكامل في اللغة 1/ 137والمعمرين ص 45.
قال عنه ابن دريد في الاشتقاق: = أنه كان رأسا لطيئ، وعاش مائتي سنة =. وفي المعمرين: = عاش فيما ذكره ابن الكلبي عن أبيه، أوس بن حارثة بن لأم بن عمرو بن طريف عاش مائتي سنة وعشرين سنة حتى هرم =.
وفيه يقول بشر بن أبي خازم الأسدي (ديوانه ص 222والكامل في اللغة 1/ 137:
إلى أوس بن حارثة بن لأم ... ليقضي حاجتي فيمن قضاها =
(2) في النسخة الشنقيطية: = بهم ليرعيهم =.
(3) الخبر في الأغاني 5/ 138.
(4) في الأغاني: = ووليها سعيد ابن العاص انتزعها =.
(5) الخزانة الجزء الرابع ص 180.
(6) البيت للراعي النميري في ديوانه ص 69وشرح المفصل 1/ 29، 30ولسان العرب (صمت) والمعاني
(7/302)
538 - بوحش إصمت
هو قطعة من بيت للرّاعي، وهو: (البسيط)
أشلى سلوقيّة باتت وبات بها ... بوحش إصمت في أصلابها أود
على أنّه (1) إذا سمّي بفعل فيه همزة وصل قطعت، ك «إصمت» بكسر الهمزة والميم.
وتقدّم عن الشارح المحقق أنه منقول من فعل أمر، لبرّيّة معيّنة. وقيل: هو علم الجنس لكلّ مكان قفر تقول: لقيته بوحش إصمت، وببلد إصمت.
و «الوحش»: المكان الخالي. وكسر ميم إصمت، والمسموع في الأمر الضم، لأنّ الأعلام كثيرا ما تغيّر عند النقل تبعا لنقل معانيها، كما قيل في شمس بن مالك، بضم الشين. انتهى.
وقوله: «وكسر ميم إصمت» إلخ، جواب عن سؤال مقدّر، وهو أنه لو كان منقولا من فعل الأمر لكانت الهمزة والميم مضمومين، لأنه يقال: صمت يصمت صمتا من باب نصر، وصموتا وصمتا بضمهما بمعنى سكت، واصمت مثله، فأجاب بما ذكره.
ومثله للأندلسي في «شرح المفصل»، قال: المشهور في مضارع صمت:
يصمت بالضم، فإمّا أن يكون الكسر لغة فيه، لم ينقل، وإمّا أن يكون ممّا غيّر في التسمية، كما قالوا: شمس بن مالك، بالضم فغيّروا لفظ الشّمس.
وإمّا أن يكون مرتجلا وافق لفظ الأمر الذي بمعنى اسكت فلا يكون من هذا الفصل. انتهى.
وكذا قال ابن يعيش في «شرح المفصل».
__________
الكبير 1/ 220ومعجم البلدان (إصمت). وهو بلا نسبة في أمالي ابن الحاجب ص 306، 341وشرح الأشموني 1/ 60.
روايته في المعاني الكبير 1/ 220:
يشلي سلوقيّة زلا جواعرها ... مثل اليعاسيب في أصلابها أود
(1) في النسخة الشنقيطية: = يعني أنه =.
(7/303)
وأجاب ابن الحاجب في «أماليه على المفصّل» بغير هذا، قال: وقد أخذ على صاحب المفصل باستشهاده، فإنّ العرب تقول: صمت يصمت، فالأمر فيه بالضم، فكيف جاء إصمت؟ وجوابه أن يقال: إنّ فعل يأتي على يفعل ويفعل.
ومنهم من يقول: إن سمع للفعل مضارع اتّبع، وإلّا فأنت فيه مخيّر، إن شئت قلت: يفعل أو يفعل.
ومنهم من يقول: إن كثر استعمال المضارع اتّبع، وإلّا كنت فيه بالخيار. انتهى.
وقال في شرح المفصل: واستشهاده بالبيت مستقيم على وجهين: أن يثبت أنّ فعل يجيء على يفعل ويفعل.
والوجه الثاني: أن يثبت صمت يصمت، ولا يستقيم على غير ذلك.
وقول بعضهم: «يجوز أن يكون أصله اصمت ثم غيّر بالتسمية» فغير ثبت.
وأصله أنّ رجلا، قال لصاحبه فيها: اصمت، تخويفا، فسمّيت به. وقد قيل:
إنّ وحش إصمت علم على كلّ مكان قفر كأسامة، وإن كان وحش في أصله بمعنى خال، ولا يخرج بذلك عن أن يكون إصمت علما منقولا قدّر، أو مرتجلا، كحمار قبّان ونحوه من المضافات. انتهى.
وهذا كلّه مبنيّ على أنّه لم يسمع يصمت بالكسر.
وقد نقله ابن المستوفي في «شرح أبيات المفصل» عن الجمهرة لابن دريد، قال:
قال أبو بكر محمد بن الحسن: الصّمت معروف، صمت يصمت صمتا، إذا سكت، وأصمتّه أنا إصماتا، إذا أسكتّه. كذا سمعته على شيخنا أبي الحرم مكّي بن زبان بكسر الميم في «الجمهرة». فسقط ما تمحّلوه هنا.
وقال ابن جنّي في «الخصائص» (1): وأما الفعل المستقبل المنقول إلى العلم فنحو قولهم في اسم الفلاة: إصمت، وإنّما هو في الأصل أمر من صمت يصمت إذا سكت. كأنّ إنسانا قال لصاحبه في مفازة: إصمت يسكته تسمّعا لنبأة أو جسها، فسمّي المكان بذلك.
__________
(1) في حاشية طبعة هارون 7/ 326: = لم أعثر على هذا النص في الخصائص. =. ونحن بدورنا أيضا لم نجد هذا النص.
(7/304)
وهذا ونحوه ممّا ذهب إليه أبو عمرو بن العلاء في قول الهذلي (1): (المتقارب)
على أطرقا باليات الخيا ... م إلّا الثّمام وإلّا العصيّ
ألا تراه، قال: إنّ أصله أنّ رجلا قال لصاحبه هناك: أطرقا، فسمّي المكان به، فصار علما له، كما صار «إصمت» علما له. وقطع الهمزة من إصمت مع التسمية به خاليا من ضميره، هو الذي شجّع النحاة على قطع هذه الهمزات إذا سمّي بما هي فيه.
فإن قيل: فقد قالوا: لقيته بوحش إصمتة، ولو كان إصمت في الأصل فعلا، لما لحقته تاء التأنيث؟ قيل: إنّما لحقت هذه التاء في هذا المثال على هذا الحدّ، ليزيدوا في إيضاح ما انتحوه من النقل، ويعلموا بذلك أنّه قد فارقوا موضعه من الفعلية، من حيث كانت هذه التاء لا تلحق هذا المثال فعلا، فصارت إصمتة في اللفظ كإجردة وإبردة (2). نعم وآنسهم بذلك تأنيث المسمّى به، وهو الفلاة.
انتهى.
وقال الزمخشري في «أمثاله» (3): لقيته بوحش إصمت: المكان الوحش:
الموحش، وهو الخالي من الإنس. وإصمت علم للفلاة القفر، سمّيت بذلك لأنه لا أنيس بها فينطقوا، أو لأنّها لشدّتها تصمت سالكها.
والدّليل تشتبه عليه طرقها فلا يتكلّم، لأنه لا يتّضح له الهدى فيها. ومانعها من الصرف التعريف ووزن الفعل، لأنه بزنة اضرب، وهي مجرورة الموضع بإضافة وحش إليها. وقيل: اسم بلدة بعينها.
ويروى: «ببلدة إصمت». ويقال: تركتني ببلدة إصمتة وبلد إصمت.
يضرب للرجل الذي لا ناصر له ولا مانع. انتهى.
__________
(1) البيت لأبي ذؤيب الهذلي في ديوانه ص 13وديوان الهذليين 1/ 65وشرح أشعار الهذليين 1/ 100وشرح المفصل 1/ 31ولسان العرب (طرق) ومعجم ما استعجم 1/ 167والمقاصد النحوية 1/ 397وللهذلي في شرح المفصل 1/ 29. وهو بلا نسبة في أمالي ابن الحاجب ص 333وشرح الأشموني 1/ 60.
(2) الإجرد: نبت يدل على الكمأة، واحدته إجردة والإبردة بتخفيف الدال: برد في الجوف. ويجد الرجل بالغداة البرد، فيقول: إنما هي إبردة الثرى، وغبردة الندى. انظر اللسان (برد، جرد).
(3) المثل في العقد الفريد 3/ 135وكتاب الأمثال ص 377وكتاب الأمثال لمجهول ص 94ولسان العرب (وحش) والمستقصى 2/ 286ومجمع الأمثال 2/ 184.
(7/305)
ولم يورد أبو عبيد البكري هذه الكلمة في «معجم ما استعجم» وأوردها ياقوت في «معجم البلدان» (1)، وقال: إصمت بالكسر وكسر الميم وتاء مثناة:
اسم علم لبرّيّة بعينها.
قال الراعي:
* أشلى سلوقيّة باتت وبات بها * إلخ وقال بعضهم: العلم هو وحش إصمت، الكلمتان معا.
وقال أبو زيد: يقال: لقيته بوحش إصمت، وببلدة إصمت، أي: بمكان قفر.
وإصمت منقول من فعل الأمر مجرد (2) عن الضمير، وقطعت همزته ليجري على غالب الأسماء.
وهكذا جميع ما يسمّى به من فعل الأمر. وكسر الهمزة في إصمت، إمّا لغة لم تبلغنا، وإمّا أن يكون غيّر في التسمية به عن أصمت بالضم الذي هو منقول في مضارع هذا الفعل (3)، وإمّا أن يكون [مجردا] مرتجلا وافق لفظ الأمر الذي بمعنى اسكت.
وربّما كان تسمية هذه الصحراء، بهذا الفعل للغلبة، لكثرة ما يقول الرجل لصاحبه، إذا سلكها: اصمت لئلّا تسمع فتهلك (4)، لشدّة الخوف [بها].
انتهى.
فهذه عدّة توجيهات لكسر الهمزة والميم، ولتسمية الفلاة به.
وإصمته غير منصرف أيضا، لكن للعلميّة والتأنيث.
والقول بأنّ إصمت مرتجل لا منقول أسلم، وأسهل، وحينئذ لا يحتاج إلى توجيه كسر الميم، ويكون منع الصرف للعلمية والتأنيث المعنوي، وفي إصمتة التأنيث اللفظي على طريقة واحدة.
__________
(1) معجم البلدان (إصمت).
(2) في طبعة بولاق: = ومجرد =. وفي معجم البلدان: = مجردا =. ولقد أثبتنا رواية النسخة الشنقيطية.
(3) وكذا في معجم البلدان. وفي النسخة الشنقيطية: = في المضارع لهذا الفعل =.
(4) في معجم البلدان (إصمت): = فنهلك =. بالنون.
(7/306)
والعجب من ابن يعيش فإنّه وجّه منع الصرف في «إصمت» بما ذكرنا مع القول بالنقل. وكونه علم جنس أظهر من كونه علم شخص لبقعة معيّنة، كما هو ظاهر من استعمالهم: والصحيح أنّ العلم إنّما هو إصمت وإصمتة، لا مجموع وحش إصمت ووحش إصمتة، بدليل أنّه يقال: بلد إصمت، وصحراء إصمت وغير ذلك، ولم يقل أحد بعلمية المجموع فيه، وما يضاف إليهما من وحش وبلد وبلدة وصحراء أيضا، كما نقله صاحب القاموس، إضافته للتخصيص.
وقد يجمع إصمت على إصمتين شذوذا، كأنّهم سمّوا كلّ قطعة منها بإصمت، إن كان إصمت علم قفر بعينه. وإن كان علم جنس فواضح. وقد رأيته في شعر أمية ابن أبي الصّلت، قال من قصيدة (1): (الوافر)
وترذى النّاب والجمعاء فيه ... بوحش الإصمتين له ذباب
قال شارح ديوانه: «ترذى» من الرّذيّة، أي: تترك، وقد أرذيت فهي مرذاة.
و «الناب»: الناقة المسنّة. و «الجمعاء» (2): الذاهبة الأسنان. و «الإصمتين»:
مكان ليس فيه أحد.
وهو مثل للعرب، يقال: تركت فلانا بوحش الإصمتين. وله ذباب ذباب الحمار (3). انتهى.
واعلم أنّ ابن المستوفي استشكل كون «إصمت» منقولا من الفعل دون ضميره، وقال: قول النّحاة إنّ إصمت منقول من فعل الأمر مجردا من الضمير، فيه نظر، لأنّه جمع بين نقيضين، وذلك أنّهم إنما سمّوا به بعد الأمر للمواجهة، فلا بدّ من الضمير فيه.
وإذا كان كذلك فهو من باب المسمّى بالجملة المركبة من الفعل والفاعل. اللهمّ إلّا أن يكونوا نزعوه بعد التسمية تحكّما منهم. انتهى.
__________
(1) البيت لأمية بن أبي الصلت في ديوانه ص 19.
وفي النسخة الشنقيطية وطبعة هارون: = الجعماء =. ولقد أثبتنا رواية طبعة بولاق وديوانه.
(2) في النسخة الشنقيطية وطبعة هارون: = الجعماء =.
الجمعاء: الناقة الهرمة المسنة والجعماء: الناقة المسنة، أو التي غابت أسنانها في اللثات.
(3) في النسخة الشنقيطية: = وله ذباب الحمار =.
(7/307)
أقول: لا يرد ما ذكره، فإنّهم قالوا: إذا سمّي بفعل، فإن لم يعتبر ضميره الفاعل فهو مفرد لا ينصرف، وإن اعتبر ضميره فهو جملة محكيّة، سواء كان الضمير مما يجب استتاره أم لا، بدليل أحمد المنقول من المضارع للمتكلم، وتغلب المنقول من المضارع للمخاطب، فالضمير أمر اعتباري يجوز أن يلاحظ ويعتبر، ويجوز عدمه، ولا ينظر إلى مكان تجريده من الفعل حين التسمية.
واستشكل أيضا قطع الهمزة بعد التسمية بأنّه من باب تحصيل الحاصل، لأنّها مقطوعة قبل التسمية، إذ لم تقع حشوا.
قال: وقولهم إنّهم قطعوا الهمزة من إصمت مع التسمية به خاليا من الضمير، فيه أيضا نظر، لأنّ المكان عندهم إنّما سمّي بقول الرجل لصاحبه: اصمت، يسكته (1) بذلك من غير أن يكون تقدّمه كلام قبله، وصله به فوصل الهمزة. وكذا كلّ فعل أمر من يفعل قطعت همزته. انتهى.
أقول: مرادهم التزام قطعها بعد التسمية درجا وابتداء، بخلاف إصمت قبل التسمية، فإنّ الهمزة لا تقطع في الدّرج، وهذا ظاهر.
وأمّا ما قاله صاحب القاموس من أنّ إصمت وإصمتة بقطع الهمزة ووصله فمشكل، ولم أره لغيره، وكأنه مأخوذ من مفهوم قول أبي زيد، كما نقله ابن مكرم في «لسان العرب»، وهو أنّ بعض العرب قطع الألف من إصمت ونصب التاء.
ومفهومه أنّ أكثر العرب يصل الألف ويسكن التاء، ويكون حينئذ هذا من باب التسمية بالجملة المحكية. ولم أر من قاله.
وأما وصلها في إصمتة فلم أعرف وجهه، وقد ذكروا همزة الوصل في أسماء معدودة، وليس هذا منها، اللهمّ إلّا أن يقال توصل بنقل حركتها إلى ساكن قبلها، كقولك: من إصمتة. والله أعلم.
وأمّا أطرقا فقد أدرجه صاحب المفصّل في المنقول من فعل الأمر مع إصمت.
وظاهره أنّه كإصمت غير منصرف، وأنّه من التسمية بالفعل دون ملاحظة الضمير البارز الفاعل.
__________
(1) في النسخة الشنقيطية: = يسكنه =. بالنون.
(7/308)
ولو لاحظه لذكره في العلم المركّب من جملة أو غيرها، والصّواب ذكره في قسم المركّب، لأنه جملة مركبة من فعل وفاعل قطعا.
ولهذا قال ابن الحاجب في «شرحه»: تمثيله بقوله: أطرقا في غير قسم المركّب ليس بمستقيم. وأجاب ابن يعيش بأنّ أطرقا لها جهتان: جهة كونه أمرا، وجهة كونه جملة. فإيراده هنا من حيث أنّه أمر. ولو أورده في المركّبات من حيث هو جملة لجاز. انتهى.
وفيه نظر فإنّ التقسيم يصير حينئذ فاسدا، لأنّ كل تقسيم صحيح ذكرت فيه أنواع باعتبار صفات مصحّحة للتقسيم يجب أن يكون صفة كلّ قسم منتفية عن بقية الأقسام، وإلّا (1) لم يصحّ التقسيم باعتبارها، وها هنا التقسيم قد ذكر فيه المركب فيجب أن يكون التركيب منتفيا عن بقيّة الأقسام.
وأجاب بعضهم بأنه يصح أن يكون أطرقا أمرا للواحد، وتثنيته تثنية الفعل لا الفاعل، كأنه قال: أطرق أطرق، كما قيل في (2): {«أَلْقِيََا فِي جَهَنَّمَ»}، وفي: «قفا نبك»، تأكيدا ومبالغة.
وأجاب بعض آخر بأنّ الألف يجوز أن تكون بدلا من نون التوكيد الخفيفة، والأصل أطرقن، فأبدلت للوقف ألفا.
ويردّه ما حكوا في وجه التسمية من أنّ رجلا قال لصاحبيه في موضع: أطرقا، تخويفا لهما، فسمّي به.
قال أبو عبيد البكري في «معجم ما استعجم» (3): أطرقا: موضع بالحجاز.
قال أبو عمرو بن العلاء: غزا ثلاثة نفر في الدّهر الأول، فلمّا صاروا إلى هذا الموضع سمعوا نبأة، فقال أحدهم لصاحبيه: أطرقا، أي: اسكتا (4).
وقال في موضع آخر: أي: الزما الأرض، فسمّي به ذلك الموضع. قال أبو الفتح بن جنّي: دلّ قول أبي عمرو أنّ الموضع سمّي بالفعل، وفيه ضميره لم يجرّد
__________
(1) قوله: = وإلا لم يصح عن بقية الأقسام =.
(2) سورة ق: 50/ 24.
(3) معجم ما استعجم ص 167.
(4) وكذا في معجم ما استعجم ص 167. وفي النسخة الشنقيطية: = اسكنا =. بالنون.
(7/309)
عنه، كما يقال: لقيته بوحش إصمت، أي: بفلاة يسكت (1) فيها المرء صاحبه، فيقول له: اصمت، إلّا أنّه جرّد إصمت من الضمير، فأعربه ولم يصرفه، للتعريف والتأنيث أو وزن الفعل. انتهى كلام أبي عبيد.
وقال ياقوت في «معجم البلدان» (2): قال أبو عمرو: أطرقا: اسم لبلد بعينه من فعل الأمر، وفيه ضمير وهي الألف. كأنّ سالكه سمع نبأة، فقال لصاحبيه:
أطرقا.
وقال الأصمعي: كان ثلاثة نفر بهذا المكان، فسمعوا صوتا، فقال أحدهم لصاحبيه: أطرقا، فسمّي بذلك. انتهى.
وقيل: إنّ أطرقا غير علم لأرض، فلا شاهد فيه. ثم اختلفوا، فقال قوم: هو جمع طريق، كصديق وأصدقاء، وقصر للضرورة. حكاه ياقوت.
وقال أبو عبيد في «المعجم»: قال بعضهم: هو جمع طريق على لغة هذيل، ويجوز أن يكون مقصورا من الممدود، نحو: نصيب وأنصباء. وعلى هذا استشهد به الحربي. انتهى.
قال ابن يعيش: يكون على هذا حذف الألف الأولى التي للمدّ، فعادت ألف التأنيث إلى أصلها، وهو القصر. وينبغي أن تكتب الألف بالياء. انتهى.
وقال ثعلب، كما نقله أبو عبيد أيضا: قوله على أطرقا، أراد على أطرقة، فأبدل من تاء التأنيث ياء، كما يقال في شكاعي شكاعة (3) كما يبدل أيضا من الألف تاء.
قال الراجز (4): (الرجز)
__________
(1) في النسخة الشنقيطية: = يسكن =. بالنون.
(2) معجم البلدان (أطرقا).
(3) وكذا في معجم ما استعجم ص 168. وكتب مصحح طبعة بولاق: = كذا بالأصل =.
(4) الرجز لأبي النجم في تاج العروس (ما) والدرر 6/ 230وشرح التصريح 2/ 344ولسان العرب (ما) ومجالس ثعلب 1/ 326. وهو بلا نسبة في الأشباه والنظائر 1/ 113وأوضح المسالك 4/ 348والخصائص 1/ 304والدرر 6/ 305ورصف المباني ص 162وسر صناعة الإعراب 1/ 160، 163، 2/ 563 وشرح الأشموني 3/ 756وشرح شافية ابن الحاجب 2/ 289وشرح قطر الندى ص 325وشرح المفصل
(7/310)
من بعد ما وبعد ما وبعدمت ... صارت نفوس القوم عند الغلصمت
انتهى.
وقال بعضهم: الرواية: «علا أطرقا»، وقال ابن يعيش: رواه بعضهم: بضم الراء، كأنه جعله جمع طريق، ويجعل «علا» فعلا ناصبا له من العلوّ، وفيه ضمير، كأنّه قال: السّيل علا أطرقا. وعلى هذا يكون قد أنّث الطريق لأنّ فعيلا وفعالا إنّما يجمعان على أفعل إذا كان مؤنثا، نحو عناق وأعنق، ويكون باليات الخيام من صفة أطرقا. انتهى.
وحكاه أبو عبيد أيضا، قال: ويروى: علا أطرقا من العلوّ. وجمع طريق على أطرق يدلّ على تأنيثه، لأنّه تكسير المؤنث كعناق وأعنق وعقاب وأعقب.
وقال ياقوت: قال أبو الفتح: ويروى: «علا أطرقا»، ف «علا» فعل ماض. و «أطرقا»: جمع طريق. فمن أنّث الطريق جمعه على أطرق، مثل عناق وأعنق، ومن ذكّره جمعه على أطرقا، كصديق وأصدقاء، فيكون قد قصره ضرورة.
هذا، والصحيح أنّ أطرقا علم أرض، بدليل قول عبد الله بن أبي أمية بن المغيرة المخزومي، يخاطب بني كعب بن عمرو، من خزاعة، وكان يطالبهم بدم الوليد بن المغيرة (1)، أبي خالد بن الوليد، لأنّه مرّ برجل منهم يصلح سهاما، فعثر بسهم منها فجرحه، فانتقض عليه، فمات (2): (الطويل)
إنّي زعيم أن تسيروا وتهربوا ... وأن تتركوا الظّهران تعوي ثعالبه
وأن تتركوا ماء بجزعة أطرقا ... وأن تسلكوا أيّ الأراك أطايبه (3)
وإنّا أناس لا تطلّ دماؤنا ... ولا يتعالى صاعدا من نحاربه
__________
5/ 89، 9/ 81والمقاصد النحوية 4/ 559وهمع الهوامع 2/ 157، 209.
(1) الوليد المذكور هذا، هو والد خالد بن الوليد سيف الله. انظر في ذلك جمهرة أنساب العرب ص 147.
وفي طبعة بولاق والنسخة الشنقيطية: = المغيرة بن أبي خالد بن الوليد =. وهو تصحيف صوبه العلامة الشنقيطي في نسخته.
(2) الأبيات لعبد الله بن أبي أمية المخزومي في معجم البلدان (أطرقا).
(3) في طبعة بولاق: = أصائبه =. وهو تصحيف صوابه من النسخة الشنقيطية ومعجم البلدان (أطرقا).
(7/311)
وقالوا في تفسير هذا: الجزعة والجزع بمعنى واحد، وهم معظم الوادي. وقال ابن الأعرابي: هو ما انثنى منه. و «أطرقا» هنا، وقع مضافا إليه، وهو علم موضع، سمّي بفعل الأمر كما تقدّم. ولا يتأتّى هنا، ما تمحّلوه في ذلك البيت.
قال ياقوت: وهذا الشعر يؤذن بأنّ أطرقا موضع من ضواحي مكّة، لأنّ الظّهران هناك، وهي منازل كعب بن خزاعة. فيكون أطرقا من منازلها بتلك النّواحي، وهي من منازل هذيل أيضا، ولذلك ذكروه في شعرهم. والله أعلم (1).
انتهي.
وقد آن لنا أن نرجع إلى المقصود، فنقول: البيت الشاهد من قصيدة للراعي واسمه عبيد بن حصين النّميريّ (2)، وتقدّمت ترجمته في الشاهد الثالث والثمانين بعد المائة (3).
وهي من قصيدة مدح بها عبد الله بن معاوية بن أبي سفيان، أوّلها (4):
(البسيط)
طاف الخيال بأصحابي وقد هجدوا ... من أمّ علوان لا نحو ولا صدد (5)
فأرّقت فتية باتوا على عجل ... وأعينا مسّها الإدلاج والسّهد (6)
هل تبلغنّي عبد الله دو سرة ... وجناء فيها عتيق النّيّ ملتبد
كأنّها يوم خمس القوم عن جلب ... ونحن والآل بالموماة نطّرد
قرم تعدّاه عاد عن طروقته ... من الهجان على خرطومه الزّبد
__________
(1) انتهى النقل من معجم البلدان (أطرقا).
(2) في طبعة بولاق: = النمري =. وهو تصحيف صوابه من النسخة الشنقيطية. فالراعي كما هو معروف من بني نمير بن عامر بن صعصعة.
وأما النمري، فالمفروض أن يكون تابعا، للنمر بن قاسط بن هنب بن أقصى بن دعمي. انظر جمهرة أنساب العرب ص 300.
(3) الخزانة الجزء الثالث ص 142.
(4) الأبيات للراعي النميري من قصيدة يمدح بها عبد الله بن يزيد بن معاوية، هي في ديوانه ص 7067.
(5) البيت للراعي النميري في ديوانه ص 67. وهو بلا نسبة في المخصص 5/ 105.
(6) كذا في طبعة بولاق والنسخة الشنقيطية وديوان الراعي النميري. وقد ظنها مصحح طبعة بولاق: = فارقت = من الفراق، فعلق عليها بما يفيد تصحيحها.
(7/312)
أو ناشط أسفع الخدّين ألجأه ... نفح الشّمال فأمسى دونه العقد
ثم وصف الثور والأطلال، فقال (1):
حتّى إذا هبط الأحدان وانقطعت ... عنها سلاسل رمل بينها وهد
صادف أطلس مشّاء بأكلبه ... إثر الأوابد ما ينمي له سبد (2)
أشلى سلوقيّة باتت وبات بها ... بوحش إصمت في أصلابها أود
يدبّ مستخفيا يغشي الضّراء بها ... حتّى استقامت وأعراه لها جدد (3)
فجال إذ رعنه ينأى بجانبه ... وفي سوالفها من مثله قدد
«هجدوا»: رقدوا. و «النّحو»: التوجّه. و «الصّدد»: القرب. وخبر نحو محذوف، أي: منها.
و «الإدلاج»: السّير من أول الليل. و «السّهد»، بفتحتين (4): الأرق والسّهر.
عبد الله بن معاوية
و «عبد الله» هو أخو يزيد بن معاوية. في «الجمهرة» (5): وعبد الله بن معاوية كان أحمق الناس، وأمّه فاختة بنت قرظة بن عبد عمرو بن نوفل بن عبد مناف. وأمّ يزيد ميسون بنت بحدل الكلبيّة.
و «الدّوسرة»، بالفتح: النّاقة الضخمة. و «الوجناء»: الشديدة. و «النّيّ»، بفتح النون: السّمن والشحم.
__________
(1) الأبيات للراعي في ديوانه ص 7069.
(2) البيت للراعي النميري ص 69ولسان العرب (طلس).
(3) كذا في جميع طبعات الخزانة وديوان الراعي النميري ص 70.
وفي حاشية طبعة هارون 7/ 336: = كذا ورد متن البيت وشرحه، لذا أبقيته على خطئه. والصواب إن شاء الله:
يمشي الضراء. يقال فلان يمشي الضراء بفتح الضاد إذا مشى مستخفيا فيما يوارى من الشجر. قال بشر:
عطفنا لهم عطف الضروس من الملا ... بشهباء لا يمشي الضراء رقيبها = والضراء ههنا أراد به الصيد، لذلك جاءت بكسر الضاد وهي الصحيحة وقد وهم محقق طبعة هارون فيما ذهب إليه. انظر اللسان (ضرا).
(4) السهد: يقال بفتحتين، وبضمتين، وبضمة واحدة أيضا.
(5) جمهرة أنساب العرب ص 113112.
(7/313)
و «الخمس»، بالكسر من أظماء الإبل: أن ترعى ثلاثة أيام، وترد اليوم الرابع.
و «الجلب»، بضم الجيم وفتح اللام: جمع جلبة، وهي الشّدّة. يقال: أصابتنا جلبة الزمان وكلبته. و «الآل»: السراب بعد الزوال. و «الموماة»، بالفتح:
الفلاة.
و «قرم»: خبر كأنّها، وهو بفتح القاف وسكون الراء: البعير المكرّم لا يجمل عليه ولا يذلّل، ولكن يكون للفحلة. و «تعدّاه»، أي: تعدّى عليه. و «عاد»:
من عدا عليه، أي: تجاوز عليه الحدّ. و «الطّروقة»: أنثى الفحل.
يقال: طرق الفحل الناقة طرقا، فهي طروقة، فعولة بمعنى مفعولة. والهجان من الإبل، البيض، يستوي فيه المؤنث والمذكر والواحد والجمع.
و «الخرطوم»: الأنف. و «الزّبد»: الرّغوة التي تظهر على فم البعير عند هيجانه.
شبّه ناقته في حالة جهدها وشدّتها، وهو سائر في شدّة الهجير، بفحل هائج، حال دون أنثاه حائل. وفيه مبالغات لا تخفى.
وقوله: «أو ناشط» إلخ، يعني أنّها إمّا تشبه ذلك الفحل، أو تشبه الناشط، وهو الثور الوحشيّ يخرج من أرض إلى أرض.
و «الأسفع»: الأسود، من السّفعة بالضم، وهي سواد مشرب حمرة، يعني اسودّ وجهه من شدّة الحر، أو من شدّة البرد والريح. و «ألجأه»: اضطرّه.
و «النّفح»: الهبوب. و «الشّمال»: الريح المعروفة.
قال الأصمعي: ما كان من الرياح نفح فهو برد، وما كان لفح فهو حرّ، و «العقد»، بفتح العين وكسر القاف وفتحها: ما تعقّد من الرمل، أي: تراكم، الواحدة عقدة كذلك.
يعني فهو مسرع ليصل كناسه ومأواه. و «الأحدان»، بالضم: قطع رمل متفرقة، والأصل وحدان جمع أوحد (1). و «وهد»، بضمتين: جمع وهاد، وهو جمع وهدة، وهو المكان المطمئن.
__________
(1) نظيره أسود وسودان.
(7/314)
و «صادف»، أي: ذلك الناشط. و «أطلس» مفعوله، يريد به صيّادا وقانصا. والأطلس، قال في القاموس: هو الرجل يرمى بقبيح. والسارق، والذئب الأمعط.
وفي الصحاح: الأطلس: الخلق، وكذلك الطّلس بالكسر، والجمع أطلاس.
ورجل أطلس الثّوب.
قال ذو الرمّة يصف قانصا (1): (البسيط)
مقزّع أطلس الأطمار ليس له ... إلّا الضّراء وإلّا صيدها نشب
و «مشّاء»: مبالغة ماش، أي: كاسب. و «أكلب»: جمع كلب.
و «الأوابد»: جمع آبدة، وهي الوحوش.
و «ينمي»، من نمى المال وغيره ينمي نماء: زاد. و «السّبد»: الصّوف، كنى به عن المال والماشية.
وقوله: «أشلى سلوقيّة»، فاعل أشلى ضمير أطلس، المراد به القانص.
قال أبو زيد: أشليت الكلب: دعوته.
وقال ابن السكيت: يقال: أوسدت الكلب بالصّيد وآسدته، إذا أغريته به.
ولا يقال: أشليته، إنّما الإشلاء الدّعاء. يقال: أشليت الشّاة والناقة، إذا دعوتهما بأسمائهما لتحلبهما.
وقول زياد الأعجم (2): (الطويل)
أتينا أبا عمرو فأشلى كلابه ... علينا فكدنا بين بيتيه نؤكل
يروى: «فأغرى كلابه». كذا في الصحاح. وسلوقيّة، أي: كلابا سلوقيّة.
__________
(1) البيت لذي الرمة في ديوانه ص 100وأساس البلاغة (ضري) وتاج العروس (قزع) وتهذيب اللغة 1/ 185وجمهرة أشعار العرب ص 959وكتاب العين 1/ 132ولسان العرب (طلس، قزع، ضرا) وهو بلا نسبة في المخصص 3/ 38.
(2) البيت لزياد بن الأعجم في ديوانه ص 156وتاج العروس (شلا) ولسان العرب (شلا) ومقاييس اللغة 3/ 210. وهو بلا نسبة في مجمل اللغة 3/ 174. والبيت قاله زياد في هجاء أبي عمرو.
(7/315)
قال أبو عبيد البكريّ في «معجم ما استعجم»: سلوق، بفتح أوله وضم اللام: موضع تنسب إليه الكلاب السّلوقية والدّروع. وفي «كتاب العين»: موضع باليمن تنسب إليه الكلاب. وقال أيضا: السّلوقي من الدّروع (1) والكلاب:
أجودها.
وقال الأصمعيّ: إنّما هي منسوبة إلى سلقية، بفتح أوّله وثانيه وإسكان القاف وتخفيف الياء، وهو موضع بالروم. فغيّره النسب. هكذا حكى أبو بكر.
وفي «البارع» عن أبي حاتم: السّلوقية من الكلاب منسوبة إلى مدينة من مدائن الرّوم، يقال لها: سلقية (2)، فأعربت (3).
قال أبو حاتم: وقال أبو العالية: إنّما يقال لها سلوقية، وقد دخلتها، وهي عظيمة، ولها شأن. انتهى.
وقوله: «باتت وبات بها»، قال صاحب المصباح: بات، له معنيان أشهرهما اختصاص الفعل بالليل، كما اختصّ الفعل في ظلّ بالنّهار. فإذا قلت: بات يفعل كذا فمعناه فعله بالليل.
وقال الليث: من قال بات بمعنى نام فقد أخطأ، لأنّك تقول بات يرعى النجوم، ومعناه ينظر إليها، وكيف ينام من يراقب النجوم.
والمعنى الثاني تكون بمعنى صار، يقال: بات بموضع كذا، أي: صار به، سواء كان في ليل أو نهار. وعليه قوله عليه الصلاة والسلام (4): «فإنّه لا يدري أين باتت يده». والمعنى صارت ووصلت. انتهى.
وقال الشارح المحقق: وتجيء بات تامّة بمعنى: أقام ليلا ونزل، سواء نام أو لم ينم. وفي كلامهم: «سر وبت». انتهى.
__________
(1) في طبعة بولاق: = الدرع =. وهو تصحيف صوابه من النسخة الشنقيطية مع أثر تصحيح فيها، ومعجم ما استعجم.
(2) في طبعة بولاق والنسخة الشنقيطية: = سلققية =. وهو تصحيف صوابه من معجم ما استعجم.
(3) في طبعة بولاق: = فعربت =. ولقد أثبتنا ما في النسخة الشنقيطية ومعجم ما استعجم.
(4) هو من الأحاديث الصحيحة، رواه صاحب الجامع الصغير ص 435وأوله: = إذا استيقظ أحدكم من نومه فلا يدخل يده في الإناء حتى يغسلها ثلاثا =.
(7/316)
وقوله: «في أصلابها أود»، أي: في أصلاب الكلاب السّلوقية. إذ لكلّ كلب صلب. ولهذا قدّرنا موصوف السلوقية جمعا، ولقوله: «بأكلبه».
وقدّر بعضهم تبعا لابن الحاجب: كلبة سلوقيّة. ووجه جمع الأصلاب بجعل كلّ طائفة من الفقر صلبا. وله العذر لأنّه لم يقف على ما قبله.
والصّلب: وسط الظّهر من العنق إلى العجز، وهي فقرات، أي: خرزات منتظمة. والمتنان يكتنفان يمينا وشمالا. و «الأود»، بفتحتين: الاعوجاج. والجملة حال من ضمير الكلاب، وهي حال لازمة، لأنّ الكلاب السّلوقيّة يكون أوساطها مخروطة الشّكل خلقة.
قال الأصمعيّ: إذا كان في ظهر الكلب احديداب قليل كان أفره له، وكذلك إذا كان واسع الفقحة كان أسرع لجريه، وكذلك من الدواب. وكذا إذا اتّسع منخراه وشدقاه.
فقوله: «أشلى سلوقيّة» استئناف بعد الإخبار عن الناشط بما ذكره. وأراد:
أشلى عليه، أي: أغرى الكلاب على الناشط.
وجملة: «باتت» إلخ، استئناف بيانيّ، كأنه قيل: فما صنعت؟ قال: باتت.
وقيل الجملة صفة سلوقية. وبات هنا تامّة كما نقلنا عن الشارح المحقق.
وقوله: «وبات بها»، أي: وبات الصيّاد مع السّلوقية، فالباء بمعنى مع، والضمير للسّلوقية.
وقوله: «بوحش إصمت» الباء بمعنى في، متعلّق بأحد الفعلين.
وقال ابن الحاجب في «أماليه»: المجرور في قوله: بوحش، يتعلق بأشلى، وتقديره: أشلى سلوقيّة بوحش هذه البرّيّة، باتت السلوقيّة في هذه البرّيّة. وبات بها، أي: عندها، والضمير للسلوقيّة. انتهى.
يريد أنّ الضمير في قوله: «عندها» للسلوقيّة، وأما ضمير «بها» فهو لوحش إصمت.
وصرّح به في «شرح المفصل»، قال: بها، أي: بوحش إصمت. وأضمر لأنّه متقدّم في المعنى لأشلى أو لباتت الأوّل. انتهى.
(7/317)
وكذا صنع الأندلسيّ، قال: أعمل الفعل الأوّل، وأضمر الثاني. وروى أبو الحسن عليّ بن عبد الله الطّوسيّ:
أشلى سلوقيّة زلّا جواعرها ... بوحش إصمت إلخ
و «الزّلّ»، بضم الزاي المعجمة وتشديد اللام: جمع أزلّ، وهو الممسوح العجز. و «الجواعر»: جمع جاعرة، وهو موضع رقمة است الحمار (1).
وقوله: «يدبّ مستخفيا» إلخ، دبّ يدبّ من باب ضرب، أي: مشى مشيا رويدا. وفاعله ضمير الصيّاد. وكذلك ضمير يغشي مضارع أغشى، بمعنى أحاط.
و «الضّراء» مفعوله، وهي جمع ضرورة بالكسر، وهو ولد الكلب. وضمير «بها» للسلوقيّة.
وجملة: «يغشى» حال من ضمير يدبّ. و «حتّى» بمعنى إلى. و «أعراه»:
كشفه. والضمير للناشط. وجدد فاعله، وهو بفتحتين: الأرض الصّلبة.
وقوله: «فجال»، من الجولان، وفاعله ضمير الناشط، و «إذ»: ظرف لجال، ورعنه من الرّوع، وهو الذعر، والنون ضمير الكلاب السلوقيّة، و «ينأى»:
يبعد.
يريد أنّ الناشط نجا من يد الكلّاب والحال أنّ في سوالف الكلاب من جلد مثل هذا الناشط قددا (2). و «السّالفة»: صفحة العنق. و «القدد»: جمع قدّة، وهو سير غير مدبوغ.
وأما البيت الثاني فهو لأبي ذؤيب الهذلي، وقد تقدمت ترجمته في الشاهد السابع والستين (3) من قصيدة عدّتها أربعة عشر بيتا ذكر من أوّلها دروس الديار وطموسها، إلى أن رثى ابن عمّه نشيبة بخمسة أبيات من آخرها.
وأوّلها (4): (المتقارب)
__________
(1) في النسخة الشنقيطية: = رقمة الحمار =.
(2) في طبعة بولاق والنسخة الشنقيطية: = قدد =. وهو تصحيف صوابه من طبعة هارون فهي اسم إن المنصوب.
(3) الخزانة الجزء الأول ص 403.
(4) البيت لأبي ذؤيب الهذلي في ديوانه ص 13وتاج العروس (ذبر، دوي) وتهذيب اللغة 14/ 244
(7/318)
عرفت الدّيار كرقم الدّوا ... ة يزبرها الكاتب الحميريّ
إلى أن قال بعد أبيات ثلاثة (1):
* على أطرقا باليات الخيام *
إلى آخره. «يزبرها» (2): يكتبها.
وذكر الحميريّ لأنّ الكتابة أصلها من اليمن. يريد: عرفت رسوم الديار، وآثارها خفيّة كآثار الخطّ القديم.
وقوله: «على أطرقا»، قال السكري في «شرحه»: أراد: عرفت الديار على أطرقا. و «الثّمام»: شجر يلقى على الخيام. و «العصيّ»: خشب بيوت الأعراب. وقوا في هذه القصيدة إن شدّدتها وصلتها، وإلّا خفضتها. انتهى.
والخيمة عند العرب: بيت من عيدان. و «الثّمام»: نبت ضعيف يحشى به خصاص البيوت ويستر به (3) جوانب الخيمة. فالثمام والعصي استثناء من الخيام، ويكون الاستثناء متّصلا.
قال ابن يعيش هذه القصيدة تروى مطلقة مرفوعة، وتروى مقيّدة ساكنة، وهي من المتقارب. فمن أطلقها كانت من الضرب الأوّل ووزنه فعولن عصي يو. ومن قيّدها كانت من الضرب الثالث، وهو المحذوف. فعل عصي.
وقوله: «على أطرقا» نصب على الحال من الدّيار، وكذلك باليات الخيام حال.
والمراد: عرفت الديار على أطرقا في هذه الحال. وقوله: «إلّا الثمام وإلّا العصي» يروى برفع الثمام ونصبه، فمن نصب فلا إشكال فيه لأنّه استثناء من موجب. ومن رفع فبالابتداء والخبر محذوف، والتقدير: إلّا الثمام وإلّا العصيّ لم تبل.
__________
وجمهرة اللغة ص 304والحماسة البصرية 1/ 238وديوان الهذليين 1/ 64وشرح أشعار الهذليين ص 98 ولسان العرب (ذبر، دوا). وهو بلا نسبة في كتاب العين 8/ 94ومقاييس اللغة 2/ 309.
(1) سبق لنا تخريج هذا البيت.
(2) في طبعة بولاق: = بريرها =. وهو تصحيف صوبناه.
(3) في طبعة بولاق: = ويستتر به =.
(7/319)
ومن نصب الثمام ورفع العصيّ فإنّه يحمله على المعنى، وذلك أنّه لما قال بليت، إلّا الثمام، كان معناه بقي الثمام، فعطف على هذا المعنى وتوهّم اللفظ. ومن قيّد القافية جاز أن تكون العصيّ مرفوعة كالمطلقة على ما ذكرنا، وجاز أن تكون منصوبة بالعطف على الثمام، إلّا إنّه أسكن للوقف. وما فيه أل يكون الوقف عليه كالمرفوع والمجرور. انتهى.
وقال «صاحب المقتبس»: ويروى: «باليات»، مرفوعا ومنصوبا على أنه خبر مبتدأ محذوف، أي: هي، وعلى الحال. وقوله: «على أطرقا» متعلّق بعرفت.
قال بعض فضلاء العجم: ويجوز أن يكون باليات على رواية الرفع مبتدأ وخبره على أطرقا، والإضافة كسحق عمامة. وعلى هذا كان كلاما منقطعا عن الأوّل وإخبارا ثانيا عن اندراس المنازل.
وقال ابن الحاجب في «الإيضاح»: باليات الخيام حال من الديار. وإلّا الثمام استثناء منقطع. وبعض الناس ينشد باليات بالرفع، يجعله مبتدأ. وبعضهم ينشده «إلّا الثّمام وإلّا العصيّ» بالرفع، وليس بصواب، وإنّما يجوز بناء الرفع على وجهين:
أحدهما: على الإتباع على المعنى دون اللفظ، فيكون [مثل (1)]: أعجبني ضرب زيد العاقل بالرفع.
والثاني: إمّا على قولهم: ما جاءني أحد إلّا حمار على اللغة التميمية. فقوله:
باليات الخيام، الخيام مرفوعة من حيث المعنى، فكأنه قال: باليات خيامها، فيكون قوله: «إلّا الثّمام» على اللغة التميمية، وإمّا على أنّ «إلّا» بمثابة غير. وكلّ منهما ضعيف.
أمّا أعجبني ضرب زيد العاقل فلأنّ زيدا معرب، والتوابع إنّما تجري على متبوعاتها على حسب إعرابها.
وأمّا ما جاءني أحد إلّا حمار، فلأنّ ذلك إنّما يثبت في النفي، مع أنّه فيه ضعيف، لأنّ الحمار ليس من جنس الأحد، فلا يكون بدلا، وأمّا كون «إلّا بمثابة»
__________
(1) زيادة يقتضيها السياق.
(7/320)
غير فشرطه في الفصيح أن تكون تابعة لجمع منكّر غير منحصر، وذلك مفقود.
انتهى.
وتوجيه ابن يعيش لرواية الرفع، أسلم من هذا. فتأمّل. فلا يرد عليه ما ذكره.
* * * وأنشد بعده، وهو الشاهد التاسع والثلاثون بعد الخمسمائة، وهو من شواهد س (1): (الرجز)
539 - بنات ألببي
على أنّه إذا سمّي ب «ألبب» يبقى الفكّ ولا يدغم، وهو بفتح الهمزة وسكون اللام وضمّ الموحّدة الأولى.
وهذا قطعة من بيت، وهو: (الرجز)
* تأبى له ذاك بنات ألببي *
قال صاحب الصحاح: وبنات ألبب: عروق في القلب تكون فيها الرّقّة. وقيل لأعرابيّة تعاتب ابنا لها: ما لك لا تدعين عليه؟ قالت:
* تأبى له ذاك بنات ألببي *
والذي أورده سيبويه: (الرجز)
* قد علمت ذاك بنات ألببه *
قال: وإذا سمّيت رجلا بألبب، من قولك:
* قد علمت ذاك بنات ألببه *
__________
(1) الرجز بلا نسبة في تاج العروس (لبب) والكتاب 3/ 195، 320، 4/ 430ولسان العرب (لبب) والمقتضب 1/ 171، 2/ 99والمنصف 1/ 200، 3/ 134.
(7/321)
تركته على حاله، لأنّ هذا اسم جاء على الأصل، كما قالوا: رجاء بن حيوة (1)، وكما قالوا: ضيون. فجاؤوا به على الأصل.
وربّما جاءت العرب بالشيء على الأصل. ومجرى بابه في الكلام على غير ذلك.
انتهى كلام سيبويه.
قال صاحب الصحاح: قال المبرّد في قول الشاعر:
* قد علمت ذاك بنات ألببه *
يريد: بنات أعقل هذا الحيّ. فإن جمعت ألببا، قلت: ألابب، والتصغير:
أليبب، وهو أولى من قول من أعلّها. انتهى.
وقال ياقوت في «حاشية الصحاح»: ويروى (2): «بنات ألببه»، بفتح الباء الأولى. والله أعلم.
ولم يورد أبو جعفر النحاس ولا الأعلم الشّنتمريّ هذا البيت في شواهد سيبويه، وكأنّهما لم يتنبها لكونه شعرا. والله أعلم.
* * * وأنشد بعده (3): (الطويل)
__________
(1) في النسخة الشنقيطية: = كما قالوا بن حيوة =. بإسقاط كلمة رجاء.
وهو رجاء بن حيوة بن جرول الكندي الفلسطيني. كان ثقة فاضلا كثير العلم، من عباد أهل الشام وفقهائهم وزهادهم. توفي سنة 112هـ. صفة الصفوة 4/ 186.
(2) هي الرواية الأكثر شهرة في مصادرنا القديمة.
(3) قطعة من بيت للفرزدق وتمامه:
ولكن ديافيّ أبوه وأمه ... بحوران يعصرن السليط أقاربه
والبيت للفرزدق في ديوانه 1/ 50والاشتقاق ص 242وتخليص الشواهد ص 474والدرر 2/ 285وشرح أبيات سيبويه 1/ 491وشرح شواهد الإيضاح ص 336، 626وشرح المفصل 3/ 89، 7/ 7والكتاب 2/ 40ولسان العرب (سلط، دوف). وهو بلا نسبة في الجنى الداني ص 150والخصائص 2/ 194 ورصف المباني ص 19، 232وسر صناعة الإعراب ص 446ولسان العرب (خطأ) ومعجم البلدان (دياف) وهمع الهوامع 1/ 160.
(7/322)
* يعصرن السّليط أقاربه *
على أنّه لو سمّي بضربن (1) على لغة أكلوني البراغيث، بجعل النون حرفا دالّا على الجمع المؤنث كما في «يعصرن السّليط أقاربه»، فإنّ النون فيه على قول حرف علامة لجمع المؤنث.
و «أقاربه» هو الفاعل، و «السليط» مفعوله، وهو الزيت.
وهذا المقدار قطعة من بيت للفرزدق، تقدّم شرحه في الشاهد السادس والسبعين بعد الثلثمائة (2).
* * * __________
(1) في النسخة الشنقيطية: = يضربن =، وهو تصحيف صوابه من طبعة بولاق.
وفي شرح الرضي 2/ 134: = ولو سميت بضربن على لغة يعصرن السليط أقاربه، جعلت النون معتقب الإعراب ولم تصرفه للتعريف والوزن =.
(2) الخزانة الجزء الخامس ص 230.
(7/323)
أسماء العدد
أنشد فيه، وهو الشاهد الأربعون بعد الخمسمائة (1): (الرجز)
540 - حتّى استثاروا بي إحدى الإحد
على أنّ «إحدى» يستعمل في المدح، ونفي المثل. فمعنى «هو إحدى الإحد»: داهية هي إحدى الإحد.
قال الدماميني في «شرح التسهيل»: إن قلت: كيف حمل إحدى الإحد مع أنّه للمؤنث على المذكّر؟ قلت: لأنّ المراد به داهية واحدة من الدواهي ومثله يحمل على المذكّر، فتقول: هو داهية من الدّواهي.
وأحد الأحدين المراد به إحدى الدّواهي، ولكنّهم يجمعون ما يستعظمونه جمع العاقل وإن لم يكن عاقلا. فمن قال: هو أحد الأحدين، فقد راعى مطابقة لفظ هو فلذلك ذكّر اللفظين جميعا.
ومن قال إحدى الإحد راعى المعنى، فلذلك أتى بإحدى، لأنّ ألفها إمّا للتأنيث، أو للإلحاق، ولكنّها تشبه في اللفظ ألف التأنيث، فأضافها إلى جمع المؤنّث وهو الإحد بكسر الألف وفتح الحاء. وفيه لغة أخرى وهو ضمّ الألف وفتح الحاء.
والمشهور في هذا الجمع أعني فعل بضم الفاء، أن يكون مفرده فعلة مؤنّثا بالتاء، كغرف جمع غرفة، لكنّه جمع به المؤنث بالألف كأحدى، حملا لها على أختها، أو يقدّر له مفرد مؤنّث بها، كما حققه السّهيلي في «الروض الأنف» في جمع ذكرى وذكر.
وكما أنّ إحدى الأحد، معناه: إحدى الدواهي، كذلك معنى أحد الأحدين (2)
__________
(1) الرجز للمرار بن سعيد الفقعسي في ديوانه ص 353والأغاني 10/ 317. وهو بلا نسبة في تاج العروس (أحد) ولسان العرب (وحد).
(2) في النسخة الشنقيطية: = إحدى الأحدين =. وهو تصحيف صوابه من طبعة بولاق.
(7/324)
لا يختصّ استعماله بالعقلاء، لكنهم يجمعون ما يستعظمونه جمع العقلاء.
قال «صاحب اللباب»: ما لا يعقل يجمع جمع المذكّر في أسماء الدّواهي، تنزيلا له منزلة العقلاء في شدّة النّكاية.
و «الداهية»: الأمر العظيم. ودواهي الدّهر: ما يصيب الناس من عظيم نوبه.
والدّهي، بسكون الهاء: النّكر وجودة الرأي. يقال: رجل داهية بيّن الدّهي والدّهاء بالمد. وقد يضاف «إحدى» إلى ضمير الإحد.
قال أبو زيد: يقال: لا يقوم لهذا الأمر إلّا ابن إحداها، أي: الكريم من الرجال. وهذا تفسير بالمعنى.
وزعم أبو حيان أنّ «إحدى الإحد» خاصّ بالمؤنّث. قال: كما قالوا: هو أحد الأحدين، وهي إحدى الإحد، يريدون التّفضيل في الدهاء والعقل، بحيث لا نظير له. قال:
* استثاروا بي إحدى الإحد *
انتهى.
وهذا البيت الذي أورده يردّ عليه.
ويقال أيضا: هو واحد الواحدين، نقله صاحب القاموس. ويقال أيضا: هو واحد الأحدين، وواحد الآحاد، حكاهما صاحب العباب.
ولا تختصّ إضافة إحدى، وواحد، وأحد، إلى الجمع من لفظه. قال صاحب الكشاف، عند قوله تعالى (1): {«إِنَّهََا لَإِحْدَى الْكُبَرِ»}، أي: لإحدى البلايا، والدّواهي: الكبر. ومعنى كونها إحداهنّ أنّها منهنّ واحدة في العظم لا نظير لها، كما تقول: هي إحدى النساء.
وقال أيضا في تفسير قوله تعالى (2): {«لَيَكُونُنَّ أَهْدى ََ مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ»}: من الأمّة التي يقال لها: إحدى الأمم، تفضيلا لها على غيرها في الهدى والاستقامة.
__________
(1) سورة المدثر: 74/ 35.
(2) سورة فاطر: 35/ 42.
(7/325)
قال «صاحب الكشف»: أقول: دلالتها على تفضيلها على سائر الأمم ليس بالواضح، بخلاف واحد القوم ونحوه، ثم وجّهها بأنه على أسلوب (1): (الكامل)
* أو يرتبط بعض النّفوس حمامها *
انتهى.
قال شيخنا الخفاجي: يريد أنّ واحدا بمعنى منفرد، ويلزم من انفراده امتيازه وعظمته، بخلاف إحدى فإنه اسم لجزء الشيء، فلا دلالة له على التعظيم، إلّا أن يقال إنّ البعض يدلّ عليه كما في البيت، لأنّ فيه إبهاما، والإبهام يستعمل للتعظيم.
ولك أن تقول: لا حاجة إلى هذا، لأنّ الزمخشريّ أشار إلى أنّ «إحدى» هنا بمعنى واحدة. انتهى.
وردّ الدماميني على صاحب الكشّاف، بأنّ الذي ثبت استعماله للمدح أحد، وإحدى مضافين إلى جمع من لفظهما، واستعملوا ذلك أيضا في المضاف إلى الوصف، نحو: هو أحد العلماء. أمّا في أسماء الأجناس مثل الأمم ففيه نظر. انتهى.
قال شيخنا: لا حاجة إلى النقل، لأنّه إن كان استفادته من أحد بمعنى واحد ومنفرد فهو معنى حقيقيّ لا معنى لنخصّصه. وإن كان لأنّ إبهام البعض يفيده فهو مجازيّ، فهو لا يقتصر فيه على السّماع.
وفي الحماسة (2): (الكامل)
يا واحد العرب الذي ما إن لهم ... من مذهب عنه ولا من مقصر
__________
(1) عجز بيت للبيد بن ربيعة وصدره:
* ترّاك أمكنة إذا لم أرضها *
والبيت للبيد في ديوانه ص 313والخصائص 1/ 74وشرح ديوان الحماسة للمرزوقي ص 772وشرح شواهد الشافية ص 415والصاحبي في فقه اللغة ص 251ومجالس ثعلب ص 63، 437346والمحتسب 1/ 111.
وهو بلا نسبة في الخصائص 2/ 317، 341.
(2) البيت لابن المولى، محمد بن عبد الله بن مسلم، من مقطوعة صغيرة يمدح بها يزيد بن حاتم، وهو في الحماسة برواية الجواليقي ص 582وشرح الحماسة للخطيب التبريزي 4/ 136وشرح الحماسة للأعلم 2/ 909.
والمقصر بفتح الصاد وكسرها: الكف والإمساك.
(7/326)
وقال زهير (1): (الطويل)
* إذا طرّقت إحدى اللّيالي بمعظم *
انتهى.
وقد سمع في «إحدى» قطعها عن الإضافة، سئل ابن عبّاس رضي الله عنه، عن رجل تتابع عليه رمضانان، فسكت، ثم سأله آخر، فقال: «إحدى من سبع، يصوم شهرين ويطعم (2)».
قال ابن الأثير في «النهاية»: يريد به إحدى سني يوسف عليه السلام المجدبة.
فشبّه حاله بها في الشدّة. أو من الليالي السّبع التي أرسل الله فيها العذاب على عاد.
انتهى.
وهذا يردّ على ابن مالك في قوله في «التسهيل»: «ولا يستعمل إحدى في غير تنييف دون إضافة» فإنّ «إحدى» قد استعملت بلا إضافة، إلّا أن يزعم أنّ الأصل أنّها إحدى الإحد من سبع، فحذف المضاف إليه.
والبيتان من رجز للمرّار بن سعيد الفقعسيّ، أورد بعضه الأصبهاني في «الأغاني»، قال (3): كان المرّار قصيرا مفرط القصر، ضئيل الجسم. وفي ذلك يقول (4):
عدّوني الثّعلب عند العدد ... حتّى استثاروا بي إحدى الإحد
ليثا هزبرا ذا سلاح معتد ... يرمي بطرف كالحريق الموقد
يقول: حسبوني من عداد الثعالب عند لقاء الأبطال، أروغ عنهم ولا أكافحهم.
__________
(1) عجز بيت لزهير وصدره:
* لحيّ حلال يعصم النّاس أمرهم *
والبيت لزهير بن أبي سلمى في ديوانه ص 33وأساس البلاغة (وسط) وتاج العروس (حلل) وديوان الأدب 3/ 93ولسان العرب (حلل).
(2) وكذا في فائق الزمخشري 1/ 15: = يصوم شهرين ويطعم مسكينا =.
(3) الأغاني 10/ 317.
(4) الرجز للمرار الفقعسي الأسدي في ديوانه ص 353والأغاني 10/ 317.
(7/327)
و «حتّى» بمعنى إلى. و «استثاروا»: هيّجوا، من ثار إلى الشّرّ، إذا نهض، واستثاره: أنهضه. وثارت الفتنة: هاجت. واستثارها: هيّجها. والباء من «بي» تجريديّة.
والتجريد «كما في الكشف» هو تجريد المعنى المراد عمن قام به، تصويرا له بصورة المستقلّ، مع إثبات ملابسة بينه وبين القائم به بأداة أو سياق. والأداة هنا الباء، كما يقال: لقيت بك أسدا، و (1) {«فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً»}.
قال صاحب الكشف: ولعلّ جعلها إلصاقيّة أوجه، أي: كائنا ملصقا بك.
والمراد التصوير المذكور، لأنّ الإلصاق هو الأصل، فقد سلم عن الإضمار وأفاد المبالغة الزائدة. انتهى.
قال شيخنا الخفاجي: وفيه أنّ السبب مبدأ أو منشأ للمسبّب، كما أنّ المنتزع مع المنتزع منه كذلك، فهو أقرب إلى التجريد، ومجرد الإلصاق لا يفيده. انتهى.
و «إحدى»: منصوب بفتحة مقدّرة، مفعول للفعل قبله، أي: إحدى الدّواهي.
قال أبو الهيثم: إحدى الإحد ونحوه أبلغ المدح.
وقال صاحب «العباب»، وتبعه صاحب القاموس: يقال في الأمر المتفاقم:
إحدى الإحد، أي: الأمر المشتدّ، الصّعب من تفاقم الأمر، إذا عظم.
وفي «أمثال الميداني (2)»، قال ابن الأعرابي: هذا أبلغ المدح، كما يقال (3):
واحد لا نظير له. التأنيث للمبالغة بمعنى الداهية. وأنشد هذا البيت، وقال: يضرب لمن لا نهاية لدهائه، ولا مثل له في نكرائه (4).
ومثله لرجل من غطفان (5): (الرجز)
__________
(1) سورة الفرقان: 25/ 59.
(2) مجمع الأمثال للميداني 1/ 393.
(3) في مجمع الأمثال: = كما تقول واحد =.
(4) المثل في لسان العرب (وحد) ومجمع الأمثال 1/ 393. وإلى هنا ينتهي نقل البغدادي من مجمع الأمثال بإيجاز.
(5) الرجز لرجل من غطفان في أساس البلاغة (وحد) وتاج العروس (أحد).
(7/328)
إنّكم لا تنتهوا عن الحسد ... حتّى يدلّيكم إلى إحدى الإحد
وقوله: «ليثا هزبرا» إلخ، هذا تفسير وعطف بيان لإحدى الإحد. و «اللّيث»:
الأسد، وكذلك الهزبر. و «ذا سلاح»: صفة لقوله ليثا.
وكذلك قوله: «معتدي»، إلّا أنه وقف على لغة ربيعة في تسكين المنصوب.
وهو من الاعتداء.
قال في الصحاح: والعدوان: الظّلم الصّراح وقد عدا عليه، وتعدّى عليه (1)
واعتدى، كلّه بمعنى (2).
وقوله: «يرمي» إلخ، هو صفة أخرى لقوله: ليثا. و «الطّرف»: نظر العين. و «الحريق»: المحرق. و «الموقد»، بفتح القاف. أراد أنّ عينه في غضبه حمراء كالنار الموقدة الملتهبة.
و «المرار بن سعيد»: شاعر إسلامي في الدولة المروانية، وكان لصّا من لصوص العرب.
وتقدّمت ترجمته في الشاهد التاسع والتسعين بعد المائتين (3). وهو بفتح الميم وتشديد الراء الأولى.
تتمة
قد ذكر الشارح المحقّق بعد هذا البيت إحدى وعشرين كلمة من الكلمات التي تختصّ بالنفي، وهي في أكثر النسخ محرفة غير منتفع بها، فرأينا من الإحسان ضبطها وشرحها، ابتغاء لوجه الله عزّ وجلّ، وهي:
الأولى: عريب، بفتح العين المهملة وكسر الراء، قال ابن السيّد: أي: ما بها
__________
(1) في طبعة بولاق والنسخة الشنقيطية: = عدى =. والتصويب من طبعة هارون 7/ 352.
(2) في حاشية طبعة هارون 7/ 352: = قلت: الأولى أن يكون من قولهم: أعتد الشيء إعتادا: أعده، كما في قوله:
أعتدت للغرماء كلبا ضاريا ... عندي وفضل هراوة من أرزن =
(3) الخزانة الجزء الرابع ص 268.
(7/329)
معرب يبين كلامه ويعربه. وقد قالوا: ما بها معرب، في هذا المعنى. وكذا قال صاحب القاموس.
الثانية: ديّار، أصله ديوار، فيعال من دار يدور فأدغم. قال ابن السيّد في «شرح إصلاح المنطق»: ديّار من الدّار، إمّا أن يكون فعّالا من ذلك، وكان حكمه دوّار، لأن دارا من الواو، بدليل قولهم في تحقيرها: دويرة.
قال يعقوب في «إصلاح المنطق»: وفي جمعها أدؤر قلبت واوه همزة لانضمامها كأجوه (1) في وجوه.
وإمّا أن يكون فيعالا أصلها ديوار، فأدغم. وقد غلط يعقوب في ديّار لأنّ ذا الرمّة استعمله في الواجب، فقال (2): (الطويل)
إلى كلّ ديّار تعرّفن شخصه ... من القفر حتّى تقشعرّ ذوائبه
الثالثة: داريّ منسوب إلى الدار. والدّاريّ أيضا: ربّ النّعم، سمّي بذلك، لأنّه مقيم في داره فنسب إليها. وإذا أرادوا المبالغة في لزوم الرجل الدار، قالوا: داريّة، والهاء للمبالغة.
والدّاريّ: العطّار أيضا، وهو منسوب إلى دارين: فرضة بالبحرين، وفيها سوق، وكان يحمل المسك من الهند إليها. والدّاريّ أيضا: نوتيّ السفينة وملّاحها، منسوب إلى دارين أيضا.
وهذه الثلاثة لاتلتزم النفي. وأمّا تميم الداريّ الصّحابي فمنسوب إلى الدار (3)، أحد آبائه.
الرابعة: دوريّ، قال يعقوب في «إصلاح المنطق» (4): ما بها دوريّ غير مهموز.
__________
(1) في طبعة بولاق: كأوجه =، وهو تصحيف صوابه من النسخة الشنقيطية.
(2) البيت لذي الرمة في ديوانه ص 48وتاج العروس (دور).
(3) في طبعة هارون 7/ 354: = في الإصابة: تميم بن أوس بن حارثة وقيل خارجة بن سود. وقيل سواد.
ابن جذيمة بن دراع بن عدي بن الدار. ودراع، كذا وردت في الإصابة والاستيعاب. لكن في تهذيب التهذيب:
= وداع، ويقال: ذراع =.
(4) إصلاح المنطق ص 391.
وقوله: = ما بها دوري غير مهموز. قال =. ساقط من النسخة الشنقيطية.
(7/330)
قال ابن السيّد: هو منسوب، فكان قياسه داريّ، لأن دورا جمع دار، وإذا نسب إلى الجمع فالحكم أن يردّ ذلك الجمع إلى الواحد.
وأما أبو عمر الدّوريّ فليس منسوبا إلى الدّور التي هي جمع دار، إنّما هو منسوب إلى موضع بالعراق، يقال له: دور. انتهى.
وزاد بعضهم: دؤريّ بهمز الواو، قال القالي (1) في «أماليه»: قال اللّحياني:
دؤريّ بالهمز غلط عندنا. وزاد صاحب القاموس ما بها ديّور، وهو فيعول. وهذه الخمسة من مادة واحدة.
الخامسة: طوريّ. قال ابن السيّد: هو منسوب إلى الطّور، وهو الجبل، أي:
ما بها إنسيّ ولا وحشيّ. وقال القالي: هو منسوب إلى الطّورة، وهي في بعض اللغات: الطّيرة. انتهى.
نقل صاحب «العباب» عن ابن دريد أنّ الطّورة، بكسر الطاء (2)، في بعض اللغات مثل الطّيرة، بكسرها وفتح الياء، أي: التطيّر. وكونه منسوبا إلى هذا بعيد.
والصواب الأوّل. ومثله طورانيّ، بزيادة الألف والنون. قال صاحب العباب:
الطّوريّ: الوحشي والغريب.
قال ذو الرمّة (3): (الطويل)
أعاريب طوريّون من كلّ قرية ... يحيدون عنها من حذار المقادر
وقال أبو عمرو: وقوله: «طوريّون»، واحدهم طوريّ وطورانيّ كذلك، وهما الوحشيّ من النّاس والطير. يقال: حمام طوريّ وطورانيّ. ويقال: ما بها طوريّ وطورانيّ، أي: أحد.
قال العجاج (4): (الرجز)
__________
(1) في طبعة بولاق: = قال القالي =. ولقد أثبتنا رواية النسخة الشنقيطية.
(2) بعده في طبعة بولاق: = انتهى =. وهي كلمة مقحمة لذلك حذفناها.
(3) البيت لذي الرمة في ديوانه ص 297وشرح شواهد الإيضاح ص 556ولسان العرب (طرأ، طور).
وفي اللسان (طور): = قال طوريون، أي وحشيون. يحيدون عن القرى حذار الوباء والتلف، كأنهم نسبوا إلى الطور، وهو جبل بالشام =.
(4) الرجز للعجاج في ديوانه 1/ 500498وأساس البلاغة (دوي) وتاج العروس (طور، أنس، دوا)
(7/331)
* وبلدة ليس بها طوريّ *
انتهى.
وعلى هذا لا يلزم طوريّ النفي.
السادسة: طاويّ بألف وواو، نقله القالي عن اللحياني. وقال: ما بها طاويّ غير مهموز.
وضبطها صاحب القاموس بضم الطاء وفتح الهمزة وهي عين الفعل، وكسر الواو وهي لام الفعل، وياء مشدّدة.
ولم أر من ذكر هذه الكلمة في عداد نظائرها، كذا كابن السّكيت، فإنّه عقد لها فصلا في «أواخر إصلاح المنطق». وكالقالي في «أماليه» (1) فإنه ذكر جملة كثيرة منها. وذكر صاحب القاموس فيها لغتين أخريين، ذكرهما القالي ولم يذكر الأولى:
إحداهما: طوئيّ بتأخير الهمزة عن الواو مع ضمّ الطاء وسكون الواو. وعلى هذه اقتصر صاحب الصحاح.
والثانية: طؤويّ، بضم الطاء وسكون الهمزة وكسر الواو. ولم يذكر ابن السكيت غير هذه (2).
قال ابن السيّد في «شرحه»: وطؤويّ من طاء يطوء، مثل طاع يطوع، إذا ذهب في الأرض. غير أنّه مقلوب، وكان قياسه طوئيّ على مثل طوعيّ، وعليه قولهم: طوئي. انتهى.
فظهر بهذا التحقيق أنّ طاويّا المذكور أوّلا في كلام صاحب القاموس مقلوب أيضا وأصله طوئي، فتكون (3) الثلاثة من مادة واحدة، وهي طاء وواو وهمزة. ولو
__________
وتهذيب اللغة 14/ 224والدرر 3/ 165وسمط اللآلئ ص 556ولسان العرب (أنس، دوا). وهو بلا نسبة في الإنصاف 1/ 274وجمهرة اللغة ص 1145والدرر 3/ 175ولسان العرب (طآ) والمخصص 10/ 121والمنصف 3/ 62ونوادر أبي زيد ص 226وهمع الهوامع 1/ 226، 232.
(1) إصلاح المنطق ص 391وأمالي القالي 1/ 251249.
(2) في إصلاح المنطق: = طوئي = بتأخير الهمزة.
(3) في النسخة الشنقيطية: = فيكون =.
(7/332)
كانت الكلمة معتلّة كما زعم صاحب القاموس تبعا لصاحب الصّحاح كيف يصحّ (1)
إيراد طوئي بتأخير الهمزة فيها.
وقد ذكرت هذه الكلمة في «التسهيل» كما في الشرح، فقال الدماميني في «شرحه»: هي بطاء مهملة مفتوحة فهمزة ساكنة فواو فياء نسب. كذا هو مضبوط في بعض النسخ. وقد قيل: إنّه من الطّيّ، أي: ما بها أحد يطوي.
قال ابن هشام: هذا لا يصحّ لاختلاف المادة، إلّا إن قيل: إن الهمزة مثلها في العألم. قلت: لا يصحّ لأنّ الطيّ مادته طاء فواو فياء، بدليل طويت.
ووقعت في بعض النسخ لفظة طأويّ مضبوطة بفتح الهمزة. ولا يتأتّى أن يكون من الطّيّ أصلا. وقد يقال: إنّه من وطئ، فقلبت فاء الكلمة إلى موضع اللام.
انتهى كلام الدماميني.
والتحقيق ما نقلناه عن ابن السيّد، وبه تلتئم لغاتها، ويزول الإشكال. هذا وفي غالب نسخ الشرح: «طاريّ» بالراء. وقد أثبته ابن الصائغ على هامش التسهيل، وقال: هو الغريب الذي طرأ على البلاد. وعليه تكون الكلمة مهموزة اللام، أبدلت ياء لانكسار ما قبلها وتطرّفها. لكن يرد أنّ هذه الكلمة غير لازمة للنّفي.
السابعة: أرم، أوردها ثعلب في «الفصيح»، قال شرّاحه: بفتح الهمزة وكسر الراء. وأما الإرم بكسر الهمزة وفتح الراء فهو العلم، وهو حجارة يجعل بعضها على بعض في المفازة والطريق يهتدى بها. كذا قال شارحه الهرويّ.
الثامنة: أريم، بزيادة الياء على ما قبلها. وكلاهما وصف، ويقال أيضا: آرم على فاعل.
قال ابن السيّد: أرم وآرم على فعل وفاعل، معناهما آكل. يقال: أرم يأرم أرما من باب ضرب، إذا أكل. والأرّم: الأضراس، جمع آرم، لأنّها تأرم، أي:
تأكل. ومنه قيل: فلان يحرق عليك الأرّم، أي: يصرف بأنيابه عليك غيظا، يعني يصوّت.
__________
(1) كذا في طبعة بولاق وهارون والنسخة الشنقيطية.
وفي حاشية طبعة هارون 7/ 356: = كذا في النسختين، مع وجوب نفي جواب لو بلم إذا كان مضارعا، كما في المغني، وتصح بالتأويل =.
(7/333)
قال الشاعر (1): (الرجز)
نبّئت أحماء سليمى أنّما ... ظلّوا غضابا يحرقون الأرّما
ويزاد في آخر الأوّل ياء النسبة فيقال: أرميّ، نقله القالي عن ابن الأعرابي، وصاحب العباب.
وضبطه صاحب القاموس بضبطين لم أجد واحدا منهما لأحد. قال: إرميّ كعنبيّ ويحرّك، ويقال: أيرميّ أيضا، نقله القاليّ عن ابن الأعرابيّ أيضا، وصاحب العباب عن أبي خيرة. وهو في الحقيقة مقلوب أريميّ. وزاد صاحب القاموس: كسر أوّله.
التاسعة: كتيع بفتح الكاف وكسر المثناة الفوقية. قال ابن السيّد: هو من قولك: أجمع أكتع.
وأنشد القاليّ عن ابن الأنباريّ (2): (الوافر)
أجدّ الحيّ فاحتملوا سراعا ... فما بالدّار إذ ظعنوا كتيع
وزاد صاحب العباب عن ابن عبّاد «كتاع» كغراب. وقد جاء الكتيع بمعنى المفرد من الناس، فالأولى أن يكون منه.
العاشرة: كرّاب، بفتح الكاف وتشديد الراء، وهو فعّال من الكراب، يقال:
كربت الأرض كرابا، إذا قلبتها للحرث. ولم يذكر هذه الكلمة ابن السكيت.
الحادية عشرة (3): دعويّ، بضم الدال وسكون العين وكسر الواو وياء النسبة.
قال ابن السكّيت: هو من دعوت. ووقع عند شارحه دوعيّ، وقال: هو من
__________
(1) الرجز بلا نسبة في أساس البلاغة (حرف) وتاج العروس (حرف، أرم) وتهذيب اللغة 15/ 300 وجمهرة اللغة ص 518، 803، 1068وكتاب العين 8/ 296وكتاب الجيم 2/ 228ولسان العرب (حرف، أرم) والمخصص 13/ 126ومقاييس اللغة 1/ 86، 2/ 43ونوادر أبي زيد ص 89.
(2) البيت بلا نسبة في أمالي القالي 1/ 251. وفي اللسان البيت لعمرو بن معديكرب نظير له. انظر اللسان (كتع).
(3) في النسخة الشنقيطية: = الحادي عشر =. وهو تصحيف. فهذه الكلمة، لا تلتئم مع سبقها بكلمة = العاشرة =.
(7/334)
الدّعاء، نسب على غير قياس، وكان قياسه دعوي أو دعائي. انتهى، ولم أره لغيره.
الثانية عشرة (1): شفر، بفتح الشين وضمها مع سكون الفاء فيهما، حكاهما القالي عن اللّحياني.
قال ابن السيّد: ما بها شفر، أي: ما بها قليل ولا كثير، من قولك: شفّر بالتشديد، إذا قلّ. وزاد صاحب العباب عن الفرّاء: شفرة بالفتح والهاء، وأنشد عن شمر (2): (الطويل)
رأت إخوتي بعد الجميع تفرّقوا ... فلم يبق إلّا واحدا منهم شفر
وقول (3) الشارح المحقق: «وقد لا يصحب نفيا»، أي: يقع في الإيجاب.
وأورد له صاحب العباب قول ذي الرمّة (4): (الطويل)
تمرّ لنا الأيّام ما لمحت لنا ... بصيرة عين من سوانا إلى شفر
وقال: أي: تمرّ بنا.
ويروى: «إلى سفر»، يريد: المسافرين.
الثالثة عشرة: دبّيّ، بضم الدال وكسر الموحّدة المشددة بعدها ياء نسبة. في العباب: قال الكسائيّ: هو من دببت، أي: ليس فيها من يدبّ.
وقال ابن السيّد: هذا على غير القياس، والقياس دبيبيّ، لأنه منسوب إلى الدبيب.
الرابعة عشرة: دبّيج، بكسر الدال وكسر الموحدة المشددة. قال ابن السيّد:
هو من الدّبج، وهو النّقش والتّزيين.
__________
(1) في النسخة الشنقيطية: = الثانية عشر =. وهو تصحيف ويبدو أن التعداد الخاطئ مستمر في الخزانة.
(2) البيت بلا نسبة في الدرر 3/ 163ورصف المباني ص 88ولسان العرب (شفر) والمقرب 1/ 169 وهمع الهوامع 1/ 225.
في طبعة بولاق: = رأيت =. وهو تصحيف صوابه من النسخة الشنقيطية واللسان (شفر).
(3) قوله: = وقول الشارح المحقق يريد المسافرين =. ساقط من النسخة الشنقيطية.
(4) البيت لذي الرمة في ديوانه ص 962وتاج العروس (شفر) وتهذيب اللغة 11/ 351ولسان العرب (شفر).
(7/335)
ورواه بعضهم: دبّيح بالحاء المهملة، ولا وجه له إلّا أن يكون فعّيلا من قولهم:
دبّح الرجل بالتشديد، إذا طأطأ رأسه. انتهى.
وقال صاحب «العباب»: شكّ أبو عبيد في الجيم والحاء، وسأل عنه بالبادية جماعة من الأعراب، فقالوا: ما بالدار دبّيّ، وما زادوا على ذلك. ووجد بخطّ أبي موسى الحامض: ما بالدار دبّيج، موقّع بالجيم، عن ثعلب.
وقال ابن فارس: الحاء في هذه الكلمة أقيس من الجيم. قال: وإن كان بالجيم كما قيل: فليس من هذا، ولعلّه يكون من دبّيّ من الدّبيب، ثم حوّلت ياء النسبة جيما على لغة من يفعل ذلك. انتهى.
وقال القالي (1): أنشد ابن الأعرابيّ (2): (الرجز)
هل تعرف المنزل من ذات الهوج ... ليس بها من الأنيس دبّيج
وهو فعّيل من الدّبج، وهو النقش والتزيين، وأصله فارسيّ مأخوذ من الدّيباج.
الخامسة عشرة: وابر، بالواو وكسر الموحّدة. قال ابن السيّد: يجوز أن يكون معناه ذا وبر، أي: مالك إبل. ويجوز أن يكون معناه مخيّم بخباء من وبر. وأنشد القاليّ عن ابن الأعرابيّ (3): (الطويل)
يمينا أرى من آل زبّان وابرا ... فيفلت منّي دون منقطع الحبل
والفعل منفيّ في جواب القسم، أي: لا أرى. وأنشد «صاحب العباب» أيضا (4): (الطويل)
فأبت إلى الحيّ الذين وراءهم ... جريضا ولم يفلت من الجيش وابر
وفي غالب نسخ الشرح: «آبر» بدل وابر، وهو اسم فاعل من أبرت النخلة، إذا أصلحتها باللّقح. ولم أر من ذكرها في هذه الكلمات، مع أنها لا تلزم النفي.
__________
(1) أمالي القالي 1/ 250.
(2) الرجز في أمالي القالي 1/ 250وسمط اللآلئ ص 565.
في طبعة بولاق والنسخة الشنقيطية: = المنزل ذات الهوج =. وهو تصحيف.
(3) البيت في أمالي القالي 1/ 250.
(4) البيت بلا نسبة في تاج العروس (وبر) ولسان العرب (وبر).
(7/336)
ووقع في التسهيل أيضا آبر، قال الدماميني: هو تحريف من النّسّاح، فإنّ «آبرا» يستعمل في الإيجاب، والصواب: وابر، بالواو.
السادسة عشرة: آبز، قال الشارح: هو بالزاي، وهو اسم فاعل من أبز الظبي يأبز أبزا وأبوزا: وثب أو تطلّق في عدوه. والآبز أيضا: الإنسان الذي يستريح في عدوه ثم يمضي. ولم أرها أيضا في هذه الألفاظ مع أنّها لا تلزم النفي.
وإن قلنا إنها وابز، أوّلها واو، فليست مادة الواو والباء والزاي موجودة. ولا أشكّ أنّ هذه الكلمة تصحّفت على الشارح، إمّا من آبن بالنون ومدّ الهمزة، وهي في التسهيل، ونقلها القاليّ عن ابن الأعرابي.
قال الدماميني: آبن على زنة اسم الفاعل من أبنه، إذا عابه، أي: ما فيها من يعيب، وذلك جنس الإنسان، وإما من وابن، نقل القالي عن اللّحياني: ما بها وابن بالواو والموحّدة.
قال صاحب القاموس: وما في الدار وابن بالموحّدة كصاحب، أي: أحد، مأخوذ من الوبنة، وهي الجوعة.
السابعة عشرة: تأمور. قال ابن السيّد: حكى أبو زيد: ما بها تأمور، أي:
أحد، بالهمز. ويقال أيضا: ما في الرّكيّة تامور، يعني الماء. وكذا نقل القالي عن أبي زيد. والتامور، بلا همز: الدّم. ويقال: دم النّفس.
قال أوس بن حجر يحضّض عمرو بن هند على بني حنيفة في قتل المنذر بن ماء السماء (1): (الكامل)
أنبئت أنّ بني سحيم أدخلوا ... أبياتهم تامور نفس المنذر
قال الأصمعي: يعني مهجة نفسه. والتامور: الخمر، والزعفران أيضا.
الثامنة عشرة: تؤمور، بضم التاء والهمز، نقل القالي عن اللّحياني: ما بها تامور ولا تؤمور بالهمز، أي: أحد.
__________
(1) البيت لأوس بن حجر في ديوانه ص 47وتاج العروس (أمر، نفس) وتهذيب اللغة 14/ 282والتنبيه والإيضاح 2/ 308ولسان العرب (تمر، نفس). وهو بلا نسبة في ديوان الأدب 1/ 371والمخصص 13/ 255.
(7/337)
التاسعة عشرة: تومور، بضم التاء بلا همز.
العشرون: تومريّ، بضم التاء والميم. قال ابن السّكّيت: وما بها تومريّ منسوب إلى تامور. وبلاد خلاء (1): ليس بها تومريّ. ويقال للمرأة: ما رأيت تومريّا أحسن منها، للمرأة الجميلة، أي: لم أر خلقا. وما رأيت تومريّا أحسن منه.
انتهى.
قال شارحه ابن السيّد: تومريّ منسوب إلى التامور، وهو دم القلب، نسبة على غير قياس.
وهذه الكلمات الأربعة من مادة التمر.
الحادية والعشرون: نمّيّ، بضم النون وتشديد الميم وتشديد الياء. قال صاحب القاموس: وما بها نمّيّ كقمّيّ: أحد. والنّمّيّ أيضا: الخيانة، والعيب، والطبيعة، وجوهر الإنسان وأصله.
وقال القالي: هو من نممت، وهو منسوب على خلاف القياس إلى النّمّة بالكسر، وهي القملة. فالنّمّيّ معناه: ذو قمل. وهذه الكلمة ليست موجودة في «الإصلاح»، وهي مذكورة في «التسهيل». هذا ما ذكره الشارح المحقق. وهو في هذا تابع لابن مالك.
وبقيت كلمات أخر أوردها ابن السكيت، هي: صافر. قال شارحه: هو اسم فاعل من صفر الرجل يصفر صفيرا، إذا صوّت بنفسه.
ونافخ ضرمة، بفتح الضاد والراء، قال شارحه: أي: نافخ حطبة فيها نار.
وصوّات، وهو فعّال من الصوت.
ولاعي قرو، بالعين المهملة وفتح القاف وسكون الراء بعدها واو. قال شارحه: أمّا لاعي فلا عق حريص، يقال: رجل لعو ولعا، وكلبة لعوة كذلك.
والقرو: ميلغة الكلب، فكأنّ معناه: ما بها كلب ولا ذئب.
وقال صاحب الصحاح: «يقال: ما بها لاعي قرو، أي: ما بها من يلحس عسّا، معناه ما بها أحد».
__________
(1) في طبعة بولاق: = وبلاد خلا =. ولقد أثبتنا رواية النسخة الشنقيطية.
(7/338)
ومنها: «ما بها ناخر»، قال شارحه: ناخر: اسم فاعل من نخر ينخر، إذا ردّد نفسه في خيشومه.
ومنها: ما بها نابح، قال شارحه: يعني كلبا. يقال: نبح الكلب ينبح، بكسر الباء وفتحها، فهو نابح ونبّاح.
ومنها: أنيس. قال شارحه: هو فعيل من أنس بالشيء. غير أنّه لا يستعمل إلّا في الجحد. قال (1): (الرجز)
* وبلدة ليس بها أنيس *
ويرد عليه قوله، كما يأتي قريبا (2): (الوافر)
أذئب القفر أم ذئب أنيس ... أصاب البكر أم حدث اللّيالي
فهذه ستّة أخرى.
وأورد أيضا: ما بها داع ولا مجيب.
ولا يخفى أن هذا لا يختصّ بالنفي.
ولم يزد شارحه على قوله: داع من الدعاء، ومجيب من الإجابة.
وأورد: ما بها راغ ولا ثاغ. قال شارحه: قد تستعملان في غير النفي لأنّ الثغاء صوت المعز، والرّغاء صوت الإبل. ومعلوم أنّهما قد يستعملان في الإيجاب والنفي.
__________
(1) الرجز لجران العود في ديوانه ص 97والدرر 3/ 162وشرح أبيات سيبويه 2/ 140وشرح أبيات المغني 6/ 236وشرح التصريح 1/ 353وشرح المفصل 2/ 117، 3/ 27، 7/ 21والمقاصد النحوية 3/ 107.
وهو بلا نسبة في الأشباه والنظائر 2/ 91والإنصاف 1/ 271وأوضح المسالك 2/ 261وتاج العروس (كنس، ألا) وتهذيب اللغة 15/ 426والجنى الداني ص 164وجواهر الأدب ص 165ورصف المباني ص 417وشرح الأشموني 1/ 229وشرح شذور الذهب ص 344وشرح المفصل 2/ 80والصاحبي في فقه للغة ص 136والكتاب 1/ 263، 2/ 322ولسان العرب (كنس، ألا) ومجالس ثعلب ص 452والمقتضب 2/ 319، 347، 414وهمع الهوامع 1/ 225.
(2) البيت للحطيئة في ديوانه ص 270والأغاني 2/ 173وطبقات فحول الشعراء ص 114.
(7/339)
وهذه كلمات أخر من «أمالي القالي» (1): ما بها دوّيّ منسوب إلى الدّوّيّة.
وقال صاحب الصحاح: ما بها دوّيّ، أي: أحد ممن يسكن الدّوّ، وهو أرض من أرض العرب. وربّما قالوا: داويّة، قلبوا الواو الأولى الساكنة ألفا لانفتاح ما قبلها.
ولا يقاس عليه.
ومنها: ما بها عين. وزاد أبو عبيد عن الفرّاء: ما بها عائن. وزاد اللحياني:
ما بها عائنة. قال صاحب الصحاح: عائنة بني فلان: أموالهم ورعيانهم. وما بها عائن، وكذلك ما بها عين، أي: أحد. وبلد قليل العين، أي: قليل الناس.
انتهى.
فعلم أن عينا وعائنة لا يلزمان النفي. وكذلك قال ابن السيّد في «شرح الإصلاح»: حكى عن الفراء: ما بها عائن وما بها عين. فأمّا عائن فلا يستعمل في الإيجاب، وأمّا العين فهم أهل الدار، فقد يستعمل في الإيجاب.
قال الراجز (2): (الرجز)
* تشرب ما في وطبها قبل العين *
ومنها: ما بها طارف، أي: من يطرف بعينه، أي: ينظر بها. فهذه ثلاث كلمات، فالمجموع: تسع كلمات.
* * * وأنشد بعده، وهو الشاهد الحادي والأربعون بعد الخمسمائة (3): (الرجز)
541 - لها ثنايا أربع حسان
وأربع فثغرها ثمان
__________
(1) أمالي القالي 1/ 250.
(2) الرجز لأبي النجم في تاج العروس (عين) ولسان العرب (عين). وهو بلا نسبة في تاج العروس (رشن) وتهذيب اللغة 3/ 208ولسان العرب (رشن) والمخصص 13/ 249.
(3) الرجز بلا نسبة في شرح الأشموني 3/ 627وتاج العروس (ثغر، ثمن) وتهذيب اللغة 15/ 107وشرح التصريح 2/ 274ولسان العرب (ثغر، ثمن).
(7/340)
على أنّه قد تحذف الياء من ثماني، ويجعل الإعراب على النون.
واستشهد به صاحب الكشّاف لقراءة من قرأ (1): {«وَلَهُ الْجَوََارِ الْمُنْشَآتُ»}، بحذف الياء من الجوار ورفع الراء كما في ثمان.
وأنكر الحريري في «درّة الغوّاص» حذف هذه الياء.
وقال ابن بريّ فيما كتب عليه، الكوفيّون يجيزون حذف هذه الياء في الشعر.
وأنشد عليه ثعلب، قوله:
لها ثنايا أربع حسان ... وأربع فثغرها ثمان
اه.
والصحيح أنّه غير مختص بالشّعر، بدليل الحديث الذي أورده الشارح المحقق، وهو في «صحيح مسلم، في باب الكسوف»، عن ابن عباس أنه قال (2): «صلّى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حين كسفت الشمس ثمان ركعات في أربع سجدات»، قال شارحه النووّي: قوله ثمان ركعات في أربع سجدات، أي: ركع ثمان مرات، كلّ أربع في ركعة، وسجد سجدتين في كلّ ركعة. وقد صرّح بهذا في الكتاب في الرواية الثانية.
ولا أعرف صاحب هذا الرجز.
وأنشد المعرّيّ في «شرح ديوان البحتري» (3) قبل هذين البيتين:
* إنّ كريّا أمة ميسان *
و «كريّا»، بضم الكاف وفتح الراء وتشديد المثناة التحتية: اسم أمة.
و «الأمة»: خلاف الحرّة. و «ميسان»، بكسر الميم: فيعال من الميس، وهو مصدر ماس يميس ميسا وميسانا أيضا، وهو التبختر. أراد أنّها تتبختر في مشيها.
__________
(1) سورة الرحمن: 55/ 24.
(2) كلمة: = قال =. ساقطة من النسخة الشنقيطية.
(3) هو كتابه المسمى: = عبث الوليد =. ولقد طبع الكتاب لأول مرة بدمشق بعناية الأستاذ محمد عبد الله المدني.
(7/341)
وقوله: «لها ثنايا» إلخ، هي جمع ثنيّة، وهي أربع من مقدّم الأسنان ثنتان من فوق وثنتان من تحت. وحذف التاء من أربع لأنّ المعدود وهي الثنيّة مؤنّث. وأراد بالأربع الثاني الرّباعيات، بفتح الراء، وتخفيف الياء، جمع رباعية على وزن ثمانية.
والرّباعيات: أربع أسنان، ثنتان من يمين الثنية، واحدة من فوق وواحدة من تحت وثنتان من شمالها، كذلك.
و «الثّغر»: المبسم، على وزن مجلس، وهو موضع البسم. يقال: بسم بسما من باب ضرب، إذا ضحك قليلا. وابستم وتبسّم كذلك. والإنسان إذا تبسّم فإنّما يرى من أسنانه الثنايا والرباعيات، وهي ثمانية.
واعلم أنّ أسنان الإنسان اثنتان وثلاثون سنّا (1): أربع ثنايا. وأربع رباعيات، وأربعة أنياب، وأربعة نواجذ، وستّة عشر ضرسا.
وبعضهم يقول: أربع ثنايا، وأربع رباعيات، وأربعة أنياب، وأربعة نواجذ، وأربع ضواحك، واثنتا عشرة رحى.
* * * وأنشد بعده، وهو الشاهد الثاني والأربعون بعد الخمسمائة (2): (الوافر)
542 - ثلاثة أنفس وثلاث ذود
لقد جار الزّمان على عيالي
__________
(1) في جميع أصول طبعات الخزانة: = أربع وثلاثون سنا =. وهو تحريف. والصواب ما أثبتناه.
وفي اللسان (ربع): = قال الأصمعي: للإنسان من فوق ثنيتان ورباعيتان بعدهما، ونابان وضاحكان وستة أرحاء من كل جانب وناجذان، وكذلك من أسفل =. ولقد تنبه مصحح طبعة بولاق لذلك، فجاء في حاشية طبعة بولاق: = قوله أربع وثلاثون إلخ، كذا بالأصل والمعدود على كلا القولين اثنان وثلاثون ا. هـ. مصححة =.
(2) البيت للحطيئة في ديوانه ص 270والأغاني 2/ 144والإنصاف 2/ 771والخصائص 2/ 412 وطبقات فحول الشعراء ص 114والكتاب 3/ 565ولسان العرب (ذود، نفس) ولأعرابي أو للحطيئة أو لغيره في الدرر 4/ 40ولأعرابي من أهل البادية في المقاصد النحوية 4/ 485. وهو بلا نسبة في أوضح المسالك 4/ 246والدرر 6/ 195وشرح الأشموني 2/ 620وشرح التصريح 2/ 270ومجالس ثعلب 1/ 304 وهمع الهوامع 1/ 253، 2/ 170.
وقد نسي البغدادي أن يذكر هنا أنه من شواهد سيبويه.
(7/342)
على أنّه يجوز إضافة العدد إلى اسم الجمع، وهو هنا الذّود.
وأنشده سيبويه شاهدا على تأنيث «ثلاثة أنفس»، وكان القياس «ثلاث أنفس»، لأنّ النفس مؤنّثة لكن أنّث لكثرة إطلاق النفس على الشخص.
ويأتي نصّه بعد أربعة شواهد.
ذكر الأصبهاني في «الأغاني» (1) بسنده، أنّ الحطيئة خرج في سفر له حين عمّ الغلاء (2)، ومعه امرأته أمامة، وبنته مليكة، فنزل منزلا وسرّح ذودا [له] ثلاثا، فلما قام للرّواح فقد أحدها، فقال (3):
أذئب القفر أم ذئب أنيس ... أصاب البكر أم حدث اللّيالي
ونحن ثلاثة وثلاث ذود ... لقد جار الزّمان على عيالي
سرّح الدابّة: أطلقها لترعى.
و «الذّود» من الإبل، قال ابن الأنباري: سمعت أبا العباس، يقول: ما بين الثلاث إلى العشر ذود.
وقال الفارابي: وهي هنا ثلاثة، وهي مؤنثة.
وقال في «البارع»: الذّود لا تكون إلّا إناثا.
ويرد عليه قوله: أصاب البكر، بفتح الباء، وهو الفتيّ من الإبل.
و «الرّواح»: المسير. و «القفر»: الخلاء والمفازة. وأراد بالذّئب الأنيس السارق.
و «حدث الليالي»، بفتحتين: ما يحدث فيها من المصائب، والمراد مطلق الحدث لا بقيد كونه بالليل. و «أصاب»: أدرك، وفاعله ضمير الذئب، والبكر مفعوله.
أراد: ما أدري كيف تلف البكر، أصابه أحد الذئبين، أم حدث الليالي.
__________
(1) الأغاني 2/ 173.
(2) قوله: = حين عم الغلاء =. غير موجود في الأغاني.
(3) البيتان وخبرهما في ديوانه ص 270والأغاني 2/ 173وطبقات فحول الشعراء ص 114.
(7/343)
وقوله: «ثلاثة أنفس» خبر مبتدأ محذوف، أي: نحن ثلاثة. و «العيال»، بكسر العين: أهل البيت، ومن يمونه الإنسان، الواحد عيّل كجياد جمع جيّد.
وترجمة الحطيئة تقدّمت في الشاهد التاسع والأربعين بعد المائة (1).
ورأيت في «أمالي الزجاجي الوسطى (2)»، قال: أخبرنا الأشناندانيّ عن العتبيّ عن رجل من قريش، قال: حضرت مجلس عبد الملك، وعنده بطن من بني عامر بن صعصعة، وكان رجل بينهم معه ابنتاه وذوده، وهنّ ثلاث، فراح ذوده يوما، ففقد منها واحدا، فنشده أي: سأل عنه وطلبه فلم ينشد، فأوفى على صخرة، وأنشأ يقول: (الوافر)
أذئب القفر أم ذئب أنيس ... سطا بالبكر أم صرف اللّيالي
وأنتم لو أراد الدّهر عدوا ... عديد التّرب من أهل ومال
ونحن ثلاثة وثلاث ذود ... لقد جار الزّمان على عيالي (3)
ولو مولى ضباب عال فيهم ... لجرّ الدّهر عن حال لحال (4)
ومولاهم أبي لا عيب فيه ... وفي مولاكم بعض المقال
هلمّ براءة والحيّ ضاح ... وإلّا فالوقوف على إلال
دعا داعي القلوص على ثبير ... ألا أين القلوص بني قتال
فطلبوا له ذوده، فردّوها عليه، وغرموا له، وقالوا: اخرج عنّا. انتهى.
و «سطا» بكذا وعليه: بطش بشدّة. و «الصّرف»، بالفتح: حادث الدهر.
و «أنتم»: مبتدأ، و «عديد»: خبره، والجملة دليل لجواب لو. و «العدو»:
مصدر عدا عليه، أي: ظلمه، وتجاوز الحدّ. و «عال الزمان»، بالعين المهملة، أي: جار، مصدره العول.
__________
(1) الخزانة الجزء الثاني ص 359.
(2) في حاشية طبعة هارون 7/ 368: = لم ترد في صلب أمالي الزجاجي. وقد أثبتها في ملحقات الأمالي 233=.
(3) في النسخة الشنقيطية: = لقد عال الزمان =.
(4) في حاشية طبعة هارون 7/ 369: = هكذا ضبط البغدادي الدهر بالشرح بعده: ولو نصب = الدهر = على الظرفية لكان أولى =.
(7/344)
و «المولى» هنا: حليف القوم. و «ضباب»، بالكسر: قبيلة. و «عال» هنا بمعنى افتقر، وصار ذا عيلة. و «جرّ»، بالبناء للمفعول، و «الدهر»، نائب الفاعل. يوبخهم بأنه مولى لهم، ولم يأخذوا بيده.
وهلمّ هنا بمعنى احضروا. وبراءة: مفعول له. وضاح: بارز. وإلال، بكسر الهمزة ولامين: جبل بعرفات.
يعني: إن لم تحضروا للبراءة في حال كون الحيّ ضاحيا فنحن نقف معكم على إلال.
وداعي: فاعل دعا. والقلوص: الناقة الشابة. وثبير: جبل بين مكّة ومنى.
وقتال، بالكسر: اسم رجل.
* * * وأنشد بعده، وهو الشاهد الثالث والأربعون بعد الخمسمائة، وهو من أبيات المفصّل (1): (الطويل)
543 - ثلاث مئين للملوك وفى بها
ردائي وجلّت عن وجوه الأهاتم
على أنّه جاء «ثلاث مئين» في ضرورة الشعر.
وقال صاحب المفصل: وقد رجع إلى القياس من قال:
ثلاث مئين ... البيت
قال ابن يعيش: هذا في الشعر على القياس، لأنّ الشّعر يفسح لهم في مراجعة الأصول المرفوضة. فهذا، وإن كان القياس، إلّا أنّه شاذّ في الاستعمال.
__________
(1) البيت للفرزدق في ديوانه ص 853وشرح التصريح 2/ 272ولسان العرب (ردى) والمقاصد النحوية 4/ 480. وهو بلا نسبة في أوضح المسالك 4/ 253وشرح الأشموني 2/ 622وشرح عمدة الحافظ ص 518 وشرح المفصل 6/ 21، 23والمقتضب 2/ 170.
ورواية البيت في ديوانه:
فدى لسيوف من تميم وفى بها ...
(7/345)
وكذا قال ابن مالك: إذا كان مفسّر الثلاثة وأخواتها مائة فيفرد، نحو:
ثلثمائة. وكان القياس أن يجمع، فيقال: ثلاث مئات أو مئين. إلّا أن العرب لا تجمع المائة إذا أضيف إليها عدد إلّا قليلا، كقوله:
ثلاث مئين للملوك ... البيت
وكلّهم من سيبويه (1) قال: يقال ثلثمائة، وكان حقّه أن يقولوا: مئين أو مئات، كما تقول: ثلاثة آلاف، لأنّ ما بين الثلاثة إلى العشرة يكون جماعة نحو:
ثلاثة رجال، وعشرة رجال، ولكنّهم شبّهوه بأحد عشر وثلاثة عشر. انتهى.
والنون من مئين منوّنة. قال شارح اللباب، قالوا: قتل في معركة ثلاثة من ملوك العرب، وكانت دياتهم ثلثمائة بعير، فرهن رداءه بالدّيات الثلاث، وهو دليل شرفه.
و «الأهاتم» بنقطتين من فوق: بنو الأهتم بن سنان بن سميّ. وإنّما سمّي بذلك لأنه كسرت ثنيّة يوم الكلاب. والهتم: كسر الثنايا من أصلها. انتهى.
وقال بعض فضلاء العجم في «شرح أبيات المفصّل»: قوله ثلاث مئين، قيل:
غرم ثلاث ديات فرهن بها رداءه. وكانت الدّية مائة إبل، والمعنى: ثلثمائة إبل.
وفى بها ردائي حين رهنته بها، وجلّت تلك المئون المرهون بها ردائي حين أدّيتها، وجلّت فعلتي هذه العار عن وجوه الأهاتم، وهم قوم الأهتم، وهو لقب سنان بن سميّ، لأنّه هتمت ثنيّته يوم الكلاب.
وفي البيت وصف لعظم شأنه، لأنه لا يقدم على تحمل الديات والغرامات إلّا السيّد العظيم الشأن.
ووصف لنفاسة برده وغلاء ثمنه، حيث رهنه بثلثمائة من الإبل. وفيه تأكيد لعظم شأنه (2). انتهى.
وقوله: «ووصف لنفاسة برده» إلخ، ليس رهن البردة لأنّها تقاوم ثمن الإبل المذكورة، بل لأنّ الشّريف إذا رهن شيئا ولو كان حقيرا فلا بدّ له من فكاكه لئلّا يلزمه العار، ولو مات فكّه بنوه أو أقاربه.
__________
(1) انظر الكتاب لسيبويه 1/ 107106من طبعة بولاق، و 1/ 209من طبعة هارون.
(2) في النسخة الشنقيطية: = بعظم شأنه =.
(7/346)
ومصداق ذلك ما قدّمناه في ترجمة أبي تمام من حكاية كسرى مع حاجب بن زرارة، في الشاهد الرابع والخمسين (1).
والبيت من قصيدة طويلة للفرزدق مذكورة في «المناقضات» (2) وليست رواية البيت كذا، وإنّما هي (3):
فدى لسيوف من تميم وفى بها ... ردائي وجلّت عن وجوه الأهاتم
قال شارح المناقضات (4):
يعني بالأهاتم الأهتم بن سنان بن خالد بن منقر بن عبيد بن الحارث بن عمرو بن كعب بن سعد بن زيد مناة بن تميم.
فعرف أن الأهتم ليس لقبا لسنان بن خالد، ولا سنان هو ابن سميّ كما تقدّم.
ومشى عليه العيني.
وناقضه جرير بقصيدة مثلها منها (5):
فغيرك أدنى للخليفة عهده ... وغيرك جلّى عن وجوه الأهاتم
قال شارحها: قوله «فغيرك أدنى» إلخ، يعني وكيع بن حسّان بن قيس [بن أبي سود]، قتل قتيبة بن مسلم فتكا، وبعث برأسه إلى سليمان بن عبد الملك بن مروان وطاعته (6)، لأنّ قتيبة كان خلع سليمان.
وقصّة رداء الفرزدق، رواها أبو عبيدة، قال: كان الفرزدق بالمدينة حين جاءت وقعة وكيع، وحجّ سليمان بن عبد الملك فبلغه بمكة وقعة وكيع بقتيبة، فخطب النّاس بمسجد عرفات: فذكر غدر بني تميم ووثوبهم على سلطانهم، وإسراعهم إلى الفتن، وأنّهم أصحاب فتن وأهل غدر وقلّة شكر.
__________
(1) الخزانة الجزء الأول ص 339.
(2) النقائض 1/ 343.
(3) هي رواية ديوانه. وفي طبعة بولاق رسمت: = فدا = بالألف.
(4) النقائض 1/ 371.
وفي النقائض: = الأهتم بن سمي بن سنان =.
(5) البيت من نقيضة لجرير في النقائض 1/ 399.
(6) في النقائض 1/ 400: = وبعث بطاعته مع الرأس =.
(7/347)
فقام إليه الفرزدق، فقال، وفتح رداءه: يا أمير المؤمنين، هذا ردائي رهن لك بوفاء بني تميم، والذي بلغك كذب! فقال الفرزدق في ذلك حيث جاءت بيعة وكيع لسليمان (1): (الطويل)
فدى لسيوف من تميم وفى بها ... ردائي وجلّت عن وجوه الأهاتم
شفين حزازات الصّدور ولم تدع ... علينا مقالا في وفاء للائم
أبأنا بهم قتلى وما في دمائهم ... وفاء وهنّ الشّافيات الحوائم (2)
جزى الله قومي إذ أراد خفارتي ... قتيبة سعي الأفضلين الأكارم (3)
هم سمعوا يوم المحصّب من منى ... ندائي إذا التفّت رفاق المواسم
و «الحوائم»: العطاش التي تحوم حول الماء. وخفض الحوائم على معنى الحسن الوجه. انتهى.
وترجمة الفرزدق تقدّمت في الشاهد الثلاثين من أوائل الكتاب (4).
وقال العيني (5): الرداء في البيت الشاهد بمعنى السيف. وأنشد عليه بيتا (6) ثم قال: ثلاث مئين مبتدأ، وجملة «وفى بها»: خبره.
و «جلّت» بالتشديد، بمعنى جلت بالتخفيف، من جلّ القوم عن البلد يجلّون بالضم، إذا جلوا وخرجوا.
والمعنى: كشفت ردائي حين وفت بديات الملوك الثلاثة، همّ ذلك، وتمادي الحروب عن أعيان الأهاتم وكبرائهم. فافهم.
هذا كلامه، وهو كلام من لم يصل إلى العنقود.
__________
(1) الأبيات للفرزدق في ديوانه ص 854853والنقائض 1/ 371.
(2) البيت للفرزدق في ديوانه ص 854وشرح التصريح 2/ 29. وهو بلا نسبة في أوضح المسالك 3/ 92 وشرح الأشموني 2/ 308.
(3) الخفارة: الذمة وانتهاكها. والمراد بها هنا انتهاكها.
(4) الخزانة الجزء الأول ص 218.
(5) المقاصد النحوية 4/ 480.
(6) هو قول الشاعر:
ينازعني ردائي عبد عمرو ... رويدا يا أخا سعد بن بكر
(7/348)
ورأيت مثل البيت الشاهد في شعر قراد بن حنش الصارديّ، وهو (1): (الطويل)
ونحن رهنّا القوس ثمّت فوديت ... بألف على ظهر الفزاريّ أقرعا
بعشر مئين للملوك سعى بها ... ليوفي سيّار بن عمرو فأسرعا
قال ابن عبد ربّه في «العقد الفريد» (2): إنّ سيّار بن عمرو بن جابر الفزاري احتمل للأسود بن المنذر دية ابنه الذي قتله الحارث بن ظالم، ألف بعير، وهي دية الملوك، ورهنه بها قوسه، فوفى. وكان هذا قبل قوس حاجب بن زرارة.
وقال أبو عبيدة في «مقاتل الفرسان»: إنّ أخا سيّار لأمّه الحارث بن سفيان الصّارديّ تكفّلها للأسود (3)، فقام منها بثمانمائة ثم مات، فرهن سيّار قوسه على المائتين الباقيتين لا غير، فلمّا مدح قراد بن حنش بني فزارة جعل الحمالة كلّها لسيّار.
انتهى.
وألف أقرع، بالقاف، أي: تامّ.
و «قراد بن حنش»:
شاعر جاهلي من بني صاردة، بتقديم الراء على الدال، وهم فخذ من فزارة.
* * * وأنشد بعده، وهو الشاهد الرابع والأربعون بعد الخمسمائة (4): (الرجز)
__________
(1) البيتان لقراد بن حنش الصاردي في الأغاني 11/ 111.
(2) في حاشية طبعة هارون 7/ 374: = لم أجد هذا النص في العقد بتتبع فهارسه، فليس في أعلامه سيار بن عمرو، ولا الأسود بن المنذر =.
لم نجد هذا النص في العقد، بل هو في الأغاني 11/ 111فلعل البغدادي سهى، والله أعلم.
(3) في النسخة الشنقيطية: = كفلها للأسود =.
(4) هذا الشطر والأشطر التالية من الرجز لامرأة من بني عقيل في شرح شواهد الشافية ص 163ولسان العرب (حتم، مأي) ونوادر أبي زيد ص 91ولقصي بن كلاب في لسان العرب (أمه) والمقاصد النحوية 4/ 565.
وهو بلا نسبة في الإنصاف 2/ 663وتاج العروس (سنا) والخصائص 1/ 311وسر صناعة الإعراب 2/ 534وشرح شافية ابن الحاجب 2/ 234ولسان العرب (حيد) والمخصص 9/ 3، 17/ 107والمنصف 2/ 68.
(7/349)
544 - وحاتم الطّائيّ وهّاب المئي
على أنّ أصله عند الأخفش: المئين، فحذفت النون لضرورة الشعر.
وهذا البيت من رجز أورده أبو زيد في «نوادره» في موضعين:
الموضع الأول قال فيه: هو لامرأة من بني عامر (1).
والموضع الثاني قال فيه: هو لامرأة من بني عقيل، تفخر بأخوالها من اليمن، وهو: (الرجز)
حيدة خالي ولقيط وعلي ... وحاتم الطّائيّ وهّاب المئي
ولم يكن كخالك العبد الدّعي ... يأكل أزمان الهزال والسّني
هنات عير ميّت غير ذكي
قولها: «هنات عير» [ميّت] (2)، تعني ذكر العير، فكنّت عنه لأنّها امرأة.
انتهى.
وقال في الموضع الأوّل: حذف التنوين من حاتم الطائي لالتقاء الساكنين. وقال أبو عليّ فيما كتبه عليه: خفّفت ياءات النسب كلّها للقافية.
فأمّا المئيّ والسنيّ فإنّها جمع على فعول، ثم قلبت الواوات ياءات فصار مئيّ وسنيّ، ثم خفّف بأن حذف إحدى الياءين، كما فعل في علي والدعي، فبقي المئي والسني. انتهى.
وقال أبو بكر بن السرّاج في «الأصول»: ذكر الأخفش سنين ومئين، فقال:
فيهما قولان. تم اختار أحدهما، وهو الصحيح عندنا، فقال: وأمّا سنين ومئين في قول من رفع النون فهو فعيل، ولكن كسر الفاء ككسرة ما بعدها، وأجمعوا كلّهم على كسرها، فصارت النون في آخر سنين بدلا من الواو، لأنّ أصلها من الواو.
وفي مئين النون بدل من الياء، لأنّ أصلها من الياء، كأنّها كانت مئي وقد قالوها في بعض الشعر ساكنة، ولا أراهم أرادوا إلّا التثقيل ثم اضطرّوا فخفّفوا، لأنّهم لو
__________
(1) هذا الموضع الأول لم نعثر عليه في نوادر أبي زيد، وكذلك محقق طبعة هارون، فلعل البغدادي سهى.
(2) زيادة يقتضيها السياق من نوادر أبي زيد.
(7/350)
أرادوا التخفيف لصار الاسم على فعل، وهذا بناء قليل.
قال الشاعر:
حيدة خالي ولقيط وعلي ... وحاتم الطّائيّ وهّاب المئي
وأمّا قولهم: ثلاث مئي، فإنهم أرادوا بمئي جماعة المائة، كتمرة وتمر، تقول فيه: رأيت مئيا مثل معيا.
وقولهم: رأيت مئا مثل معا خطأ، لأنّ المئي إنّما جاءت في الشعر.
فنقول: ليس لك أن تدّعي أنّ هذه الياء للإطلاق، وأنت لا تجد ما هو على حرفين يكون جماعة، ويكون واحده بالهاء، نحو: تمرة وتمر. قال أبو الحسن: وهو مذهب يونس، يعني: بالياء.
قال: والقياس الجيّد عندنا أن يكون سنين فعلينا مثل غسلين محذوفة، ويكون قول الشاعر: سني والمئي مرخّما.
فإن قلت: إن فعلينا لم يجئ في الجمع، وقد جاء فعيل نحو: كليب وعبيد، وقد جاء فيه ما لزمه فعيل مكسور الفاء، نحو: مئين، فإنّ من الجمع أشياء لم يجئ مثلها إلّا بغير اطّراد، نحو: سفر، وقد جاء منه ما ليس له نظير، نحو: عدى.
وأنت إذا جعلت سنينا (1) فعيلا جعلت النون بدلا، والبدل لا يقاس عليه ولا يطّرد، ومخالفة الجمع للواحد قد كثر، فأن تحمله على ما لا بدل فيه أولى.
وليس يجوز أن تقول: إنّ الياء في سنين أصليّة، وقد وجدتها زائدة في هذا البناء بعينه لمّا قلت: فعلين وفعلون، يعني: أنّك تقول: سنين يا هذا، أو سنون.
ثم قال: قوله:
وحاتم الطّائيّ وهّاب المئي ... يأكل أزمان الهزال والسنّي
فهذا إمّا أن يكون رخّم سنين ومئين، وإمّا أن يكون بنى سنة ومائة على سني ومئي، وكان أصلهما سنو ومئو، فلمّا حذف النون ورخّم بقي الاسم آخره واو قبلها ضمة، فلمّا أراد أن يجعله اسما كالأسماء التي لم يحذف منها شيء قلب الواو ياء
__________
(1) في طبعة بولاق: = جعلت شيئا =. وهو تصحيف صوابه من النسخة الشنقيطية.
(7/351)
وكسر ما قبلها، لأنه ليس في الأسماء ما آخره واو قبلها ضمة. فمتى وقع من هذا شيء قلبت الواو ياء. اه.
وقولها: «حيدة خالي» مبتدأ وخبر. و «حيدة»، بفتح المهملة وسكون المثناة التحتية. و «لقيط»، بفتح اللام معطوف على حيدة. وكذا عليّ وحاتم، فيكون أخوالها أربعة.
وروى هذين البيتين فقط الأخفش سعيد بن مسعدة في «كتاب المعاياة» لرجل من طيّئ، وذكر خالدا بدل حاتم.
وقولها: «ولم يكن كخالك» إلخ، الكاف مفتوحة لأنّها خاطبت رجلا.
و «الدّعيّ»: غير خالص النسب.
وقولها: «يأكل أزمان» إلخ، هذا بيان لعدم المشابهة بين خالها وبينه.
و «أزمان»: ظرف ليأكل، وهو جمع زمان.
و «الهزال»، بالضم: الضّعف من الجوع. و «السّني»: مرخّم سنين جمع سنة، بمعنى الجدب والقحط.
و «هنات» مفعول يأكل، منصوب بالكسرة، جمع هنة مؤنث هن، وهو كناية عما يستقبح التصريح باسمه، وهو هنا أير الحمار.
و «العير»، بفتح العين المهملة: الحمار الوحشيّ والأهليّ أيضا، والأنثى عيرة.
و «ميّت»: وصف عير، وكذلك غير ذكي. و «الذكيّ»: المذبوح، خففت الياء الضرورة.
وقال أبو الحسن عليّ الأخفش «فيما كتبه على نوادر أبي زيد» (1): قال أبو سعيد (2):
وروى الرياشيّ مرّة أخرى بدل البيت الأخير:
* هنات عير ميتة غير ذكي (3) *
__________
(1) نوادر أبي زيد ص 91. والزيادات منه.
(2) هو أبو سعيد السكري، الحسن بن الحسين البصري.
(3) في نوادر أبي زيد ص 91: = هنات عين = بالنون. وما في الخزانة صوابه.
(7/352)
قال أبو الحسن: الأوّل أحبّ إليّ، وهو أجود. [أبو زيد هنات عير ميّت تعني ذكر العير فكنّت عنه لأنها امرأة]. والميتة، بفتح الميم يكون نعتا للشيء، فإذا كسرت كانت الشيء بعينه.
قال أبو الحسن: الميتة تكون مصدرا كقولك: القعدة والرّكبة وما أشبههما، وتكون نعتا كقولك: مررت بفرس ميتة فتنعته بالمصدر، كما تقول: مررت برجل عدل، ثم يصير اسما غالبا كأجدل وما أشبهه، فتقول: هذا ميتة، كما تقول: هذا أجدل.
والميتة، بكسر الميم: الحال التي يكون عليها الشيء، كقولك: كريم الميتة، وحسن الصّرعة.
والكسر مطّرد في الحالات كلّها، كما أنّ الفتح مطّرد في المرّة. هذا الحق عندي الذي لا يجوز غيره. انتهى.
تتمة
زعم العينيّ (1) أنّ البيت الشاهد من هذا الرجز، وهو: (الرجز)
إنّي لدى الحرب رخيّ اللّبب ... عند تناديهم بهال وهب (2)
أمّهتي خندف والياس أبي ... وحاتم الطّائيّ وهّاب المئي
وهذا لا أصل له، فإنّ الرجز عنده لقصيّ بن كلاب، أحد أجداد النبي صلّى الله عليه وسلّم.
وكيف يكون حاتم الطائيّ أبا لقصيّ مع أنه بعده بمدّة طويلة. وقافية الرجز أيضا تأباه، وليس في هذا اشتباه.
* * * __________
(1) المقاصد النحوية 4/ 565.
(2) في طبعة بولاق: = إن لدى الحرب =. وهو تصحيف صوابه من النسخة الشنقيطية.
(7/353)
وأنشد بعده، وهو الشاهد الخامس والأربعون بعد الخمسمائة، وهو من شواهد س (1): (الوافر)
545 - إذا عاش الفتى مائتين عاما
فقد ذهب اللّذاذة والفتاء
على أنّه قد يفرد مميّز المائة وينصب، كما في البيت.
وأورده سيبويه في موضعين:
الأوّل: في «باب الصفة المشبّهة بالفاعل» وذكر أسماء العدد وعملها في الأسماء التي تبيّنها بالجر والنصب. حتى انتهى إلى قوله: «فإذا بلغت العقد تركت التنوين والنون وأضفت، وجعلت الذي يعمل فيه، وتبيّن به العدد من أيّ صنف هو، واحدا، كما فعلت ذلك فيما نوّنت.
إلّا أنّك تدخل فيه الألف واللام، لأنّ الأوّل يكون به معرفة ولا يكون المنوّن به معرفة. وذلك قولك: مائة درهم، ومائة الدرهم. وكذلك إن ضاعفته، فقلت:
مائتا الدرهم ومائتا الدينار، وكذلك الذي بعده، واحدا كان أو مثنّى. وذلك قولك: ألف درهم وألفا درهم. وقد جاء في الشعر بعض هذا منوّنا.
قال الربيع بن ضبع الفزاريّ:
* إذا عاش الفتى مائتين عاما *
انتهى.
والموضع الثاني «باب كم»، قال فيه: «لأنّه لو جاز إذا اضطرّ شاعر (2)
فقال: ثلاثة أثوابا، كان معناه معنى ثلاثة أثواب، قال الشاعر:
__________
(1) البيت للربيع بن ضبع في أمالي المرتضى 1/ 254والحماسة البصرية 2/ 381والدرر 4/ 41وشرح التصريح 2/ 273وشرح عمدة الحافظ ص 525والكتاب 1/ 208، 2/ 162ولسان العرب (فتا) والمقاصد النحوية 4/ 481والمعمرين ص 10وهمع الهوامع 1/ 135. وهو بلا نسبة في أدب الكاتب ص 299 وأوضح المسالك 4/ 255وجمهرة اللغة ص 1032وشرح الأشموني 3/ 623وشرح المفصل 6/ 21 ومجالس ثعلب ص 333والمقتضب 2/ 169والمنقوص والممدود ص 17.
(2) في الكتاب لسيبويه: = لأنه لو جاز في الكلام أو اضطر شاعر =.
(7/354)
* إذا عاش الفتى مائتين عاما *
انتهى.
قال الأعلم: الشاهد فيه إثبات النون في «مائتين» في ضرورة، ونصب ما بعدها، وكان الوجه حذفها، وخفض ما بعدها، إلّا أنها شبّهت للضّرورة بالعشرين ونحوها مما يثبت نونه وينصب ما بعده.
وصف في البيت هرمه، وذهاب مروءته ولذّته، وكان قد عمّر نيّفا على المائتين فيما يروى.
وروى: «أودى» بدل ذهب، بمعنى انقطع وهلك. و «الفتاء»: مصدر لفتى (1).
وروى: «تسعين عاما»، ولا ضرورة فيه على هذا. انتهى.
ورواية: «تسعين» لا أصل لها كما يعلم مما يأتي.
وروي: «التخيّل» بدل «اللّذاذة». و «التخيّل»: التكبّر وعجب المرء بنفسه.
وروى بدله: «المسرّة» و «المروءة» أيضا. و «الفتى»: الشابّ، وقد فتي بالكسر يفتى بالفتح فتى، فهو فتيّ السنّ بيّن الفتاء. قال الجواليقي: والفتاء مصدر لفتي (2).
والبيت آخر أبيات ستّة للرّبيع بن ضبع الفزاريّ، وهي (3): (الوافر)
ألا أبلغ بنيّ بني ربيع ... فأنذال البنين لكم فداء (4)
بأنّي قد كبرت ودقّ عظمي ... فلا تشغلكم عنّي النّساء
__________
(1) في النسخة الشنقيطية: = مصدر الفتى =.
(2) في النسخة الشنقيطية: = مصدر لفتي أيضا =.
(3) الأبيات للربيع بن ضبع الفزاري في المعمرين ص 109وحماسة البحتري ص 732وذيل الأمالي ص 214 215.
(4) في النسخة الشنقيطية: = فانزال =. وهو تصحيف صوابه من طبعة بولاق والمعمرين.
والبيت للربيع بن ضبع الفزاري في أمالي المرتضى 1/ 255. وهو بلا نسبة في تاج العروس (ربع).
(7/355)
فإنّ كنائني لنساء صدق ... وما ألّى بنيّ وما أساؤوا (1)
إذا كان الشّتاء فأدفئوني ... فإنّ الشّيخ يهدمه الشّتاء (2)
فأمّا حين يذهب كلّ قرّ ... فسربال خفيف أو رداء
إذا عاش الفتى مائتين عاما ... البيت
قوله: «فأنذال البنين (3) لكم فداء» جملة دعائية معترضة.
وروى الجواليقي في «شرح أدب الكاتب» (4): «فأشرار البنين»، قال:
وصفهم بالبرّ.
وقوله: «بأنّي قد كبرت» الباء متعلقة بقوله: أبلغ في البيت المتقدم. وكبر من باب تعب. ودقّ، أي: صار دقيقا يدقّ من باب ضرب دقّة: خلاف غلظ، فهو دقيق.
وروى: «ورقّ جلدي»، أي: صار رقيقا بالرّاء، من الرقّة. و «لا» ناهية.
وشغل من باب نفع.
و «عنّي»، أي: عن تفقّد أموري وإصلاحها. و «الكنائن»: جمع كنّة بالفتح والتشديد، وهي امرأة الابن والأخ، يريد: أنّهنّ نعم النساء. و «ألّى» بتشديد اللام، أي: ما أبطؤوا وما قصّروا. وهو من ألوت.
يقول: ما أبطأ بنيّ عن فعل المكارم وما يجب عليهم من القيام بأمري.
قال ابن السيّد في «شرح أبيات الجمل»: معنى ألّى قصّر في برّي. يقال: ألا يألو، فإذا أكثرت الفعل، قلت: ألّى يؤلّي تألية. انتهى.
وقال أبو حاتم السّجستاني في «كتاب المعمّرين» (5): حدّثنا أبو الأسود النّوشجاني
__________
(1) البيت للربيع في تاج العروس (أسا) وتهذيب اللغة 15/ 432. وهو بلا نسبة في مقاييس اللغة 1/ 128.
(2) البيت للربيع في الأزهية ص 184وأمالي المرتضى 1/ 255وتخليص الشواهد ص 242وحماسة البحتري 2/ 732والدرر 2/ 60وسمط اللآلئ ص 803. وهو بلا نسبة في أسرار العربية ص 135وشرح شذور الذهب ص 458ولسان العرب (كون) وهمع الهوامع 1/ 116.
(3) في النسخة الشنقيطية: = فأنزال =. وهو تصحيف صوابه من المصادر السابقة.
(4) هي رواية المعمرين ص 9.
(5) كتاب المعمرين ص 109.
(7/356)
عن العمري عن أبي عمرو الشيبانيّ، قال: سألني القاسم بن معن عن قوله:
* وما ألّى بنيّ وما أساؤوا *
قلت: أبطؤوا.
فقال: ما تركت في المسألة شيئا.
ونقل صاحب الصحاح هذه الحكاية مجملة، ثم قال أبو حاتم: و «التألية» التقصير، ومن قال: «وما آلى» بالمد، فمعناه ما أقسموا، أي: لا يبرّوني.
انتهى.
وقال السيّد المرتضى في «أماليه»: ألّى بالتشديد هو الصحيح، ومعناه: قصّر في قول بعضهم. واللغة الأخرى «ألا» مخفّفا، يقال: ألا الرجل يألو، إذا قصّر وفتر. فأمّا آلى بالمد في البيت فلا وجه له، لأنّه بمعنى حلف، ولا معنى له ها هنا.
انتهى.
وقوله: «إذا كان الشتاء» إلخ، هذا البيت من أبيات الجمل وغيره.
ويروى: «إذا جاء الشتاء». و «أدفئوني»: سخّنوني لأدفأ. يقول: إذا دخل فصل الشتاء فدثّروني بالثياب. فإنّ هذا الفصل يضعف قوّة الشيخ ويهدم عمره، ويخاف عليه فيه. ودلّ على أنّه يريد أن يدفأ بالثياب لا بغير ذلك، قوله بعد البيت: «فأمّا حين يذهب كلّ قرّ».
والشتاء في غير هذا الموضع، يراد به الضّيق، وشظف العيش، كما قال الحطيئة (1): (الوافر)
إذا نزل الشّتاء بدار قوم ... تجنّب جار بيتهم الشّتاء
إذا الشّتاء نفسه لا يقدر أحد أن يمتنع منه، وإنّما أراد أنّهم يواسون من جاورهم، فيتجنّبه الضيق وسوء الحال والمعيشة. و «يهدمه»، من هدمت البناء، من باب ضرب، إذا أسقطته فانهدم.
__________
(1) البيت للحطيئة في ديوانه ص 57وتاج العروس (عضب، شتا) وتهذيب اللغة 9/ 328، 11/ 396 ولسان العرب (عضب، شتا) والمخصص 16/ 29. وهو بلا نسبة في لسان العرب (قفا).
(7/357)
وروى: «يهرمه» بالراء (1)، أي: يضعفه، يقال: هرم الرجل من باب تعب، إذا كبر وضعف.
و «القرّ»، بضم القاف: البرد. و «السّربال»، بالكسر: القميص. قال الجواليقي: و «أو»: بمعنى الواو.
وقوله: «إذا عاش الفتى» إلخ، نصب عاما على التمييز، كما ينصب (2) المفرد بعد العشرين وما فوقها.
ولمّا صرفه عن الإضافة نصبه على التمييز وأعمل فيه مائتين، ونصب مائتين على الظرف.
قال ابن المستوفي: نسبت هذه الأبيات ليزيد بن ضبّة. والرواية: «إذا عاش الفتى ستّين عاما» فلا ضرورة ولا شاهد. انتهى.
وقول شارح اللباب: وروي: «إذا عاش الفتى خمسين عاما»، رواية واهية، فإنّ ابن الخمسين لا يبلغ من الضّعف هذه الرتبة.
الربيع بن ضبع الفزاريّ
والصحيح أنّ الأبيات «للربيع بن ضبع الفزاريّ»، كما رواها له جمّ غفير، وهو من المعمرين، أورده أبو حاتم السجستاني في «كتاب المعمرين» (3)، وقال:
قالوا:
وكان من أطول من كان قبل الإسلام عمرا: ربيع بن ضبع بن وهب بن بغيض ابن مالك بن سعد بن عديّ بن فزارة، عاش أربعين وثلثمائة سنة ولم يسلم. وقال لمّا بلغ مائتي سنة وأربعين سنة (4): (المنسرح)
أصبح منّي الشّباب قد حسرا ... إن ينأ عنّي فقد ثوى عصرا
__________
(1) بعده في طبعة بولاق والنسخة الشنقيطية: = من باب تعب =. وهذا خطأ ترتيبي. والوجه في هذه العبارة أن توضع بعد كلمة = الرجل =. كما أثبت محقق طبعة هارون 7/ 382.
(2) في النسخة الشنقيطية: = كما نصب =.
(3) كتاب المعمرين ص 98.
(4) الأبيات للربيع بن ضبع الفزاري في أمالي القالي 2/ 185وحماسة البحتري ص 732731وشرح أبيات المغني 8/ 9190والمعمرين ص 9ونوادر أبي زيد ص 159158. وبعضها في الحماسة البصرية 2/ 367 وديوان المعاني 2/ 224.
(7/358)
ودّعنا قبل أن نودّعه ... لمّا قضى من جماعنا وطرا (1)
ها أنا ذا آمل الخلود وقد ... أدرك عقلي ومولدي حجرا (2)
أبا امرئ القيس هل سمعت به ... هيهات هيهات طال ذا عمرا
أصبحت لا أحمل السّلاح ولا ... أملك رأس البعير إن نفرا (3)
والذّئب أخشاه إن مررت به ... وحدي وأخشى الرّياح والمطرا (4)
من بعد ما قوّة أسرّ بها ... أصبحت شيخا أعالج الكبرا
وقال لمّا بلغ مائتي سنة:
ألا أبلغ بنيّ بني ربيع ... فأشرار البنين لكم فداء
الأبيات المتقدمة. هذا ما أورده أبو حاتم.
وأورده ابن حجر في «قسم المخضرمين من الإصابة» فيمن أدرك النبيّ صلّى الله عليه وسلّم وكان يمكنه أن يسمع منه، فلم ينقل ذلك. وقال: هو جاهليّ، ذكر ابن هشام في «التيجان» أنّه كبر وخرف وأدرك الإسلام. ويقال: إنّه عاش ثلثمائة سنة، منها ستّون في الإسلام، ويقال: لم يسلم. انتهى.
وذكره السيد المرتضى في «فصل المعمرين من أماليه»، قال: ومن المعمرين:
الرّبيع بن ضبع الفزاري، يقال: إنّه بقي إلى أيام بني أميّة
وروي أنّه دخل على عبد الملك بن مروان، فقال له: يا ربيع، أخبرني عمّا أدركت من العمر والمدى، ورأيت من الخطوب الماضية. فقال: أنا الذي أقول:
__________
(1) هو الإنشاد الخامس والعشرون بعد الستمائة في شرح أبيات المغني للبغدادي 8/ 90.
(2) هذا البيت والذي يليه للربيع بن ضبع الفزاري في أمالي المرتضى 1/ 255. وهما بلا نسبة في المقتضب 3/ 183.
(3) البيت للربيع بن ضبع في أمالي المرتضى 1/ 255وشرح التصريح 2/ 36والكتاب 1/ 89ولسان العرب (ضمن) والمقاصد النحوية 3/ 398. وهو بلا نسبة في الرد على النحاة ص 114وشرح المفصل 7/ 105 والمحتسب 2/ 99.
(4) البيت للربيع بن ضبع في أمالي المرتضى 1/ 256والدرر 5/ 22وشرح التصريح 2/ 36والكتاب 1/ 90 ولسان العرب (ضمن) والمقاصد النحوية 3/ 397. وهو بلا نسبة في الأشباه والنظائر 7/ 173وأوضح المسالك 3/ 114والرد على النحاة ص 115والمحتسب 2/ 99.
(7/359)
ها أنا ذا آمل الخلود وقد ... أدرك عقلي ومولدي حجرا
فقال عبد الملك: قد رويت هذا من شعرك، وأنا صبيّ. قال: وأنا القائل:
إذا عاش الفتى مائتين عاما ... فقد ذهب اللّذاذة والفتاء
قال: وقد رويت هذا من شعرك، وأنا غلام، وأبيك يا ربيع لقد طار بك جدّ غير عاثر، ففصّل لي عمرك.
قال: عشت مائتي سنة في فترة عيسى عليه السلام، وعشرا ومائة سنة في الجاهلية، وستّين سنة في الإسلام.
قال: فأخبرني: عن فتية من قريش متواطئي الأسماء. قال: سل عن أيّهم شئت. قال: أخبرني عن عبد الله بن عباس. قال: فهم وعلم، وعطاء جذم، ومقرى ضخم. قال: فأخبرني عن عبد الله بن عمر. قال: حلم وعلم، وطول كظم، وبعد من الظّلم.
قال: فأخبرني عن عبد الله بن جعفر. قال: ريحانة طيّب ريحها، ليّن مسّها، قليل على المسلمين ضرّها. قال: فأخبرني عن عبد الله بن الزّبير. قال: جبل وعر، ينحدر (1) منه الصخر.
قال: لله درّك يا ربيع، ما أعرفك بهم؟ قال: قرب جواري، وكثرة استخباري.
قال السيّد رضي الله عنه: إن كان هذا الخبر صحيحا فيشبه أن يكون سؤال عبد الملك إنّما كان في أيّام معاوية، لا في ولايته، لأنّ الربيع يقول في الخبر: عشت في الإسلام ستين سنة، وعبد الملك ولي في سنة خمس وستين من الهجرة. فإن كان صحيحا فلا بدّ مما ذكرناه. فقد روي أنّ الربيع أدرك أيّام معاوية.
ويقال: إنّ الربيع لمّا بلغ مائتي سنة، قال:
ألا أبلغ بنيّ بني ربيع ... الأبيات المتقدمة
__________
(1) في طبعة بولاق والنسخة الشنقيطية: = يتخذ =. وفي هامش النسخة الشنقيطية: = ب: يتحدد =. وهو إشارة إلى نسخة أخرى، ورواية أخرى.
وفي طبعة هارون وأمالي المرتضى 1/ 254: = ينحدر =.
(7/360)
وقوله: «عطاء جذم»، أي: سريع. وكلّ شيء تسرّعت به فقد جذمته.
وفي الحديث: «إذا أذّنت فرتّل، وإذا أقمت فاجذم (1)»، أي: أسرع. و «المقرى»:
الإناء الذي يقرى فيه الضّيف. انتهى ما ذكره السيد المرتضى.
وقال ابن السيّد في «شرح أبيات الجمل»: روى الرّواة أنّ الرّبيع بن ضبع عاش حتّى أدرك الإسلام، وأنّه قدم الشام على معاوية بن أبي سفيان، ومعه حفداته (2).
ودخل حفيده على معاوية، فقال له: اقعد يا شيخ. فقال له: وكيف يقعد من جدّه بالباب؟
فقال له معاوية: لعلّك من ولد الرّبيع بن ضبع؟ فقال: أجل. فأمره بالدخول، فلما دخل سأله معاوية عن سنّه، فقال (3):
أقفر من ميّة الجريب إلى الزّ ... جّين إلّا الظّباء والبقرا (4)
كأنّها درّة منعّمة ... من نسوة كنّ قبلها دررا (5)
أصبح منّي الشّباب مبتكرا ... إن ينأ عنّي فقد ثوى عصرا
إلى آخر الأبيات المتقدمة. فقرأ معاوية (6): {«وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ»}.
انتهى.
وقد أورد أبو زيد في «نوادره» هذه الأبيات كذا. وقال أبو حاتم: «الزّخّين» (7)، بالخاء المعجمة. وقال الأخفش: الذي صحّ عندنا بالجيم (8).
__________
(1) في النسخة الشنقيطية: = فاجزم =. بالزاء المعجمة. وهو تصحيف صوابه من طبعة بولاق وأمالي المرتضى 1/ 256.
(2) الحفدات: جمع حفدة بالتحريك، وهم أولاد الأولاد.
(3) البيتان للربيع بن ضبع الفزاري في شرح أبيات المغني 8/ 91ونوادر أبي زيد ص 159158.
(4) البيت للربيع بن ضبع الفزاري في تاج العروس (درر) ولسان العرب (درر).
(5) البيت للربيع بن ضبع الفزاري في شرح شواهد الإيضاح ص 531ولسان العرب (درر). وهو بلا نسبة في المقتضب 2/ 208.
(6) سورة يس: 36/ 68.
(7) في نوادر أبي زيد ص 158: = روى أبو حاتم: الزّجّين والزّجين =. وفي النسخة الشنقيطية:
= الرخين =.
(8) في النوادر: = قال أبو الحسن الذي صح عندنا الزّجّين بالجيم معجمة =.
(7/361)
وقوله: «أصبح منّي الشّباب» إلخ، حسر البعير: أعيا. وروى: «مبتكرا» اسم فاعل من الابتكار.
و «إن ينأ»، أي: يبعد (1). و «ثوى»: أقام. و «عصرا»، بضمتين، أي:
دهرا.
وقوله: «فارقنا»، أي: الشّباب. وهذا البيت أورده ابن هشام في «المغني» على أنّ المراد: أراد فراقنا.
قال ابن جنّي في «المحتسب»: ظاهر هذا البيت إلى التناقض، لأنّا إذا فارقنا فقد فارقناه لا محالة، فما معنى قوله من بعد: «قبل أن نفارقه». وهو عندنا على إقامة المسبّب مقام السّبب، وهو وضع المفارقة موضع الإرادة لقرب أحدهما من الآخر (2).
وروى بدله (3):
* ودّعنا قبل أن نودّعه *
و «الجماع»: الاجتماع. و «الوطر»: الحاجة. وهاتان الكلمتان هنا قبيحتان.
قال الدماميني في «الحاشية الهندية على المغني»: وقع في حماسة أبي تمام قول ربيع بن زياد (4) يرثي مالك بن زهير العبسيّ (5): (الكامل)
__________
(1) في النسخة الشنقيطية: = أي إن وجد =.
(2) في المحتسب 1/ 168: = فوضع المفارقة، وهي المسبب موضع الإرادة لها، وهي السبب لذلك، وذلك لقرب أحدهما من صاحبه =.
(3) في حاشية طبعة هارون 7/ 388: = أي بدل رواية ابن جني، وهي فارقنا قبل أن نفارقه. والرواية التي يشير إليها هي المثبتة في الإنشاد السابق =.
(4) في جميع طبعات الخزانة: = ربيع بن مالك =. وهو تصحيف صوابه من طبعات الحماسة.
وفي حاشية طبعة بولاق: = قوله ابن مالك صوابه ابن زياد كما في الحماسة =.
(5) البيتان للربيع بن زياد في الحماسة برواية الجواليقي ص 284وشرح الحماسة للأعلم 1/ 520519 وشرح الحماسة للخطيب التبريزي 3/ 2524.
وفي طبعات الحماسة: = وقال الربيع بن زياد في مالك بن زهير العبسي =.
(7/362)
من كان مسرورا بمقتل مالك ... فليأت نسوتنا بوجه نهار (1)
يجد النّساء حواسرا يندبنه ... بالصّبح قبل تبلّج الأسحار
قال المرزوقي: إنّي لأتعجّب من أبي تمّام مع تكلّفه رمّ جوانب ما اختاره من الأبيات كيف ترك قوله: «فليأت نسوتنا» وهي لفظة شنيعة جدا. وأصلحه المرزوقي، بقوله: «فليأت ساحتنا».
قال التفتازاني: وأنا أتعجّب من جار الله كيف لم يورده على هذا الوجه، وحافظ على لفظ الشاعر دراية، مع زعمه أنّ القرّاء يقرؤون القرآن برأيهم. وأنا أتعجّب من إنشاد صاحب المغني لمثل هذا البيت، أورده هنا مع أنّه أشنع من بيت الحماسة وأفحش. ولقد كان في غنية بما أورده من الكتاب والسنة.
قال ابن نباتة في «مطلع الفوائد ومجمع الفرائد»: في قوله: «بالصّبح قبل تبلّج الأسحار» سؤال لطيف، وهو أنّ الصّبح لا يكون إلّا بعد تبلّج الأسحار، فكيف يقول قبله؟
والجواب: أنّه أراد بقوله: يندبنه بالصّبح، أنّهن يصفنه بالخلال المضيئة، والمناقب الواضحة، التي هي كالصبّح. انتهى.
وقوله: «أصبحت لا أحمل السلاح» إلخ، أورد في «التفسيرين» عند قوله تعالى (2): {«فَهُمْ لَهََا مََالِكُونَ»} على أنّ الملك الضبط والتسخير، كما في قوله: لا أملك رأس البعير، أي: لا أضبطه.
وقوله: «والذئب أخشاه» إلخ أورده سيبويه في «كتابه» والزجاجي في «جمله»، وابن هشام في «شرح الألفيّة، باب الاشتغال» على أنّ الذئب منصوب بفعل يفسّره أخشاه.
يقول: قد ضعفت قواه عن حمل سلاح الحرب، وصار في حال من لا يقدر على تصريف البعير إذا ركبه، ويخاف الذئب أن يعدو عليه، ويتأذّى بالرّيح إذا هبّت، والأمطار إذا نزلت.
__________
(1) البيت بلا نسبة في أساس البلاغة (وجه) وتاج العروس (وجه) وتهذيب اللغة 6/ 353ولسان العرب (وجه).
(2) سورة يس: 36/ 71.
(7/363)
وحجر، بضم الحاء المهملة والجيم هو أبو امرئ القيس الشاعر. وقوله: «طال ذا عمرا» هو تعجّب. أي: ما أطول هذا العمر.
وقوله: «من بعد ما قوّة» إلخ، «ما» زائدة. و «أعالج»، أي: أقاسي أمراض الكبر (1).
* * * وأنشد بعده، وهو الشاهد السادس والأربعون بعد الخمسمائة، وهو من أبيات الأصول (2): (الكامل)
546 - فيها اثنتان وأربعون حلوبة
سودا كخافية الغراب الأسحم
على أنّه يجوز وصف المميّز المفرد بالجمع باعتبار المعنى، كما في البيت، فإنّ «حلوبة» مميّز مفرد للعدد وقد وصف بالجمع، وهو سود: جمع سوداء.
قال ابن السّرّاج في «الأصول»:
وتقول: عندي عشرون رجلا صالحا، وعشرون رجلا صالحون، ولا يجوز صالحين على أن تجعله صفة رجل.
فإن كان جمعا على لفظ الواحد جاز فيه وجهان، تقول: عندي عشرون درهما جيادا وجياد. ومن رفع جعله صفة للعشرين ومن نصب أتبعه التفسير. وهذا البيت ينشد على وجهين:
فيها اثنتان وأربعون حلوبة ... سودا كخافية الغراب الأسحم
ويروى: «سود» بالرفع.
__________
(1) هذا ما في النسخة الشنقيطية. وفي طبعة بولاق: = أي أقاسي في أمراض الكبر =.
(2) البيت لعنترة في ديوانه ص 193والحيوان 3/ 425وشرح شذور الذهب ص 325وشرح القصائد العشر ص 272والمقاصد النحوية 4/ 487. وهو بلا نسبة في شرح الأشموني 3/ 625وشرح المفصل 3/ 55، 6/ 24.
(7/364)
وتقول: عندي ثلاث نسوة عجوزان وشابّة، وعجوزين وشابّة، تردّ مرة على ثلاث، ومرّة على نسوة. انتهى.
فعرف أنّ كلام الشارح ليس على إطلاقه، وينبغي تقييده بأن تكون الصفة على زنة المفرد، بأن لا تكون جمعا.
وبالنصب والرفع رواه شرّاح معلقة عنترة.
قال أبو جعفر والخطيب التبريزيّ (1): قوله: «سودا» نعت لحلوبة، لأنّها في معنى الجماعة، والمعنى من الحلائب.
ويروى: «سود» على أن يكون نعتا لقوله: «اثنتان وأربعون».
فإن قيل: كيف جاز أن ينعتهما وأحدهما معطوف على صاحبه؟ قيل: لأنّهما قد اجتمعا، فصارا بمنزلة قولك: جاء [ني] زيد وعمرو الظريفان. انتهى.
قال العيني: الشاهد في قوله: «سودا»، فإنّها نعت لقوله حلوبة، وروعي فيها اللفظ. انتهى.
ووجه ما قاله شرّاح معلقة عنترة: أبو جعفر النحوي، والأعلم، والخطيب، أنّ الحلوبة تستعمل في الواحد والجمع على لفظ واحد، يقال: ناقة حلوبة، وإبل حلوبة.
وقال الزوزني (2) في «شرح المعلقة»: الحلوبة: جمع الحلوب عند البصريّين، وكذلك قتوبة وقتوب، وركوبة وركوب. وقال غيرهم: هي بمعنى محلوب، وفعول إذا كان بمعنى المفعول جاز أن تلحقه التاء (3). انتهى.
وعلى هذا لا شاهد فيه، ويكون من وصف الجمع بالجمع.
ولم يذكر الإمام المزوقيّ في «شرح الفصيح» غير هذا الأخير، قال: وفعول إذا كان في معنى مفعول قد تلحقه الهاء، نحو: ركوبة وحلوبة وقتوبة. وأنشد هذا البيت.
__________
(1) شرح القصائد العشر للخطيب التبريزي ص 273. والزيادات منه.
(2) شرح المعلقات السبع للزوزني ص 237.
(3) في طبعة بولاق: = أن يلحقه التاء =.
(7/365)
وبما تقدّم يردّ قول الأعلم، في زعمه أنّ سودا ليس بوصف الحلوبة. قال:
قوله: سودا حال من قوله: اثنتان وأربعون، وهو حال من نكرة. ويجوز رفعه على النعت. ولا يكون نعتا لحلوبة لأنّها مفردة، إذ كانت تمييزا للعدد، وسودا جمع، ولا ينعت الواحد بالجمع. انتهى.
ويعرف جوابه مما سقناه.
والبيت من معلقة عنترة بن شدّاد العبسي، وقبله (1): (الكامل)
ما راعني إلّا حمولة أهلها ... وسط الدّيار تسفّ حبّ الخمخم
«راعني»: أفزعني. و «الحمولة»، بفتح الحاء: الإبل التي يحمل عليها.
و «وسط»: ظرف. و «تسفّ»: تأكل، يقال: سففت الدواء وغيره بالكسر، أسفّه بالفتح.
قال أبو عمرو الشيباني: و «الخمخم»، بكسر الخاءين المعجمتين: بقله لها حبّ أسود، إذا أكلته الغنم، قلّت ألبانها وتغيّرت. وإنّما وصف أنّها تأكل هذا لأنّها لم تجد غيره.
وروى ابن الأعرابي: «الحمحم»، بكسر الحاءين المهملتين، يروى بضمهما.
وقال: الحمحم أسرع هيجا، أي: يبسا، من الخمخم (2).
وإنّما راعه كون الحمولة وسط الدّار، لأنّها كانت عازبة في المرعى، فلما أرادوا الرّحيل ردّوها إلى الديار ليتحمّلوا عليها، فأفزعه ذلك.
وقال الخطيب (3): معنى البيت أنّه راعه سفّ الحمولة حبّ الخمخم، لأنّه لم يبق شيء إلّا الرحيل، فصارت تأكل حبّ الخمخم، وذلك أنّهم كانوا مجتمعين في الربيع، فلما يبس البقل ارتحلوا، وتفرّقوا.
__________
(1) البيت لعنترة العبسي في ديوانه ص 192وتاج العروس (خمم) وديوان الأدب 3/ 105وشرح القصائد العشر للخطيب ص 272وكتاب العين 3/ 34ولسان العرب (حمم، خمم). وهو بلا نسبة في تهذيب اللغة 7/ 17وكتاب العين 4/ 147.
(2) الشرح من ابن النحاس، وابن الأنباري، والخطيب التبريزي. انظر حاشية محقق شرح القصائد العشر ص 272.
(3) شرح القصائد العشر للخطيب التبريزي ص 272.
(7/366)
يقول: لمّا جئت فنظرت إلى أهلها قد تحمّلوا أفزعني ذلك، لفراقي إيّاها.
وقوله: «فيها اثنتان وأربعون حلوبة» إلخ، أي: في هذه الحمولة من النّوق التي تحلب اثنتان وأربعون حلوبة.
وقال العيني: الضمير راجع للرّكاب (1) في بيت قبله.
وهذا خلاف الظاهر مع القرب. وفيها خبر مقدّم، واثنتان: مبتدأ مؤخر، والجملة حال من الحمولة.
وقال أبو جعفر، والخطيب: اثنتان مرفوع بالابتداء، وإن شئت بالاستقرار.
يريد: أنّ فيها حال من حمولة، واثنتان فاعل فيها.
وقالا: ويروى: «خليّة»، بفتح الخاء المعجمة بدل حلوبة. و «الخليّة»: أن يعطف على الحوار ثلاث من النوق، ثم يتخلّى الراعي بواحدة منهنّ. فتلك الخليّة.
وأوضح منه أنّ الخلية ناقة تعطف مع أخرى على ولد واحد فتدرّان عليه، ويتخلّى أهل البيت بواحدة يحلبونها.
وقوله: «كخافية» صفة سودا. وشبّه سواد تلك النوق الحلائب بسواد خوافي الغراب، وهي أواخر الرّيش من الجناح مما يلي الظّهر، سمّيت بذلك لخفائها.
والأسحم: الأسود. وإنما خص الخوافي لأنها أسبط وأشدّ بريقا وألين.
وإنّما ذكر أنّ في إبلهم هذا العدد من الحلوبة السّود ليخبر بكثرتهم، وكثرة إبلهم، لأنّه إذا كان في إبلهم هذا العدد من هذا الصنف على غرابته وقلّته، فغيره من أصناف الإبل أكثر من أن يحصى عدده. وإنّما وصفها بالسّود لأنّها أنفس الإبل عندهم وأعزّها.
وترجمة عنترة صاحب المعلقة، تقدّمت في الشاهد الثاني عشر، من أوائل الكتاب (2).
* * * __________
(1) في طبعة بولاق والنسخة الشنقيطية: = للركائب =. والصواب من المقاصد النحوية 4/ 487. ونصه فيه:
= فيها، أي في الركاب =.
(2) الخزانة الجزء الأول ص 138.
(7/367)
وأنشد بعده، وهو الشاهد السابع والأربعون بعد الخمسمائة، وهو من شواهد س (1): (الطويل)
547 - وكان مجنّي دون من كنت أتّقي
ثلاث شخوص: كاعبان ومعصر
على أنّه يجوز اعتبار المعنى، فتجرّد علامة التأنيث من عدد المؤنث المعنوي، كما هنا، فإنّه جرّد «ثلاثا» من التاء لكون «شخوص» بمعنى نساء، بدليل الإبدال عنه بما بعده.
قال سيبويه: وزعم يونس عن رؤبة، أنّه قال: ثلاث أنفس (2) على تأنيث النفس، كما تقول: ثلاث أعين للعين من الناس.
قال الحطيئة (3): (الوافر)
ثلاثة أنفس وثلاث ذود ... لقد جار الزّمان على عيالي
وقال عمر بن أبي ربيعة:
فكان مجنّي دون من كنت أتّقي ... ثلاث شخوص: كاعبان ومعصر
فأنّث الشخص إذ كان في المعنى أنثى. انتهى.
قال أبو جعفر النحاس: قرأت على أبي الحسن عليّ بن سليمان، عن أبي العباس المبرد هذا البيت.
__________
(1) البيت لعمر بن أبي ربيعة في ديوانه ص 100والأشباه والنظائر 5/ 48، 129والأغاني 1/ 90وأمالي الزجاجي ص 118والإنصاف 2/ 770والخصائص 2/ 417وشرح أبيات سيبويه 2/ 366وشرح التصريح 2/ 271وشرح شواهد الإيضاح ص 313والكتاب 3/ 566ولسان العرب (شخص) والمقاصد النحوية 4/ 483. وهو بلا نسبة في الأشباه والنظائر 2/ 104وأوضح المسالك 4/ 251وشرح الأشموني 3/ 620وشرح التصريح 2/ 275وشرح عمدة الحافظ ص 519وعيون الأخبار 2/ 174والمقتضب 2/ 148والمقرب 1/ 307.
وروايته في بعض هذه المصادر:
فكان نصيري دون من كنت أتقي ...
(2) في طبعة بولاق والنسخة الشنقيطية: = ثلاثة أنفس =. وهو تصحيف صوابه من لسان العرب (نفس).
(3) البيت للحطيئة في ديوانه ص 270والأغاني 2/ 173وطبقات فحول الشعراء ص 114.
(7/368)
قال أبو العباس: لما اضطرّ جعل الشخص بدلا من امرأة إذ كان يقصدها به، ولذلك قال: كاعبان ومعصر، فأبان. ومن ذلك قول الله عزّ وجلّ (1): {«مَنْ جََاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثََالِهََا»} لأنّ المعنى واقع على حسنات، وأمثال نعت لما وقع عليه العدد.
وكذلك (2): {«وَقَطَّعْنََاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبََاطاً»} لأنّ المعنى واقع على جماعات.
وعلى هذا تقول: عندي عشرة نسّابات، لأنّك تريد الرّجال، وإنّما نسابات نعت. وتقول: إذا عنيت المذكّر: عندي ثلاثة دوابّ يا فتى، لأنّ الدوابّ نعت، فكأنك قلت: عندي ثلاثة براذين دواب.
وتقول: عندي خمس من الشاء، لأنّ الواحدة شاة لذكر كان أو أنثى. انتهى.
وما نقله عن المبرّد هو مسطور في «الكامل»، قال فيه: قوله: ثلاث شخوص، الوجه ثلاثة شخوص، ولكنه قصد إلى نساء أنّث على المعنى. وأبان ما أراد بقوله: كاعبان ومعصر.
ومثله قول الشاعر (3): (الطويل)
فإنّ كلابا هذه عشر أبطن ... وأنت بريء من قبائلها العشر
فقال: عشر أبطن، لأن البطن قبيلة، وأبان ذلك في قوله: من قبائلها العشر.
وقال الله عزّ وجلّ: «من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها» لأنّ المعنى حسنات.
انتهى.
وكذا قال السكريّ في «شرح أشعار اللصوص»، قال: كان يجب أن يقول:
ثلاثة، لأنّ الشخوص مذكّرة، ولكنّه ذهب إلى أعيان النّساء، لأنّهنّ مؤنثات، وإن كان سبب اللفظ مذكّرا.
__________
(1) سورة الأنعام: 6/ 160.
(2) سورة الأعراف: 7/ 160.
(3) البيت للنواح الكلابي في الدرر 6/ 196والمقاصد النحوية 4/ 484. وهو بلا نسبة في الأشباه والنظائر 2/ 105، 5/ 49وأمالي الزجاجي ص 118والإنصاف 2/ 769والخصائص 2/ 417وشرح الأشموني 3/ 620وشرح عمدة الحافظ ص 520والكتاب 3/ 565ولسان العرب (كلب، بطن) والمقتضب 2/ 148وهمع الهوامع 2/ 149.
(7/369)
وقد أدرج ابن جنّي في «الخصائص» هذا في فصل سمّاه الحمل على المعنى، قال: اعلم أنّ هذا الشرج (1) غور من العربيّة بعيد، ومذهب نازح فصيح، قد ورد به القرآن وفصيح الكلام، منثورا ومنظوما، كتأنيث المذكر وتذكير المؤنث، وتصوّر معنى الواحد في الجماعة والجماعة في الواحد.
ثمّ قال: فمن تذكير المؤنث قول الحطيئة: ثلاثة أنفس، ذهب بالنّفس إلى الإنسان فذكّر. وقال عمر: «ثلاث شخوص»، أنّث الشخص لأنّه أراد به المرأة.
انتهى.
وقال ابن السكيت في «كتاب المذكّر والمؤنث»: أنّث الشّخوص لأنّها شخوص إناث. فلو قلت: ثلاثة شخوص كان أجود، لأنّ الشخص ذكر وإن كان لأنثى.
وممّا اجتمعت عليه العرب لإيثار المضمر على الظاهر، قولهم: ثلاثة أنفس، وثلاثة أعيان. والخليل يختار: ثلاث أعين. والعين والنفس أنثيان، فذهبوا إلى أعيان الرجال وأنفس الرجال.
فإذا وجّهت النفس إلى الرجل أو المرأة ذهبت بهما جميعا إلى التذكير، لأنّه غير مؤنث، فتصير النّفس تؤدّي عن الإنسان، ويؤدّي الإنسان عن الذكر والأنثى، فتقول: ثلاثة أنفس، كما تقول: ثلاثة من الناس وإن عنيت نساء.
فإذا أردت الزّوج كانت النفس أنثى، وإذا أفردتها بفعل أو وصفتها به عاملتها معاملة التأنيث، كما قال الله تعالى (2): {«خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وََاحِدَةٍ»} ولم يقل واحد وهو آدم.
وقد يجوز لك أن تذهب إلى المعنى، فإن كانت أنثى أنّثت، وإن كان ذكرا ذكّرت. وليس بالوجه. انتهى.
و «المجنّ»، بكسر الميم: التّرس. قال العيني (3): ويروى: «فكان نصيري»،
__________
(1) في طبعة بولاق والنسخة الشنقيطية: = الشرح =. وهو تصحيف صوابه من الخصائص لابن جني.
الشرج بالجيم: النوع.
(2) سورة الزمر: 39/ 6.
(3) المقاصد النحوية 4/ 483.
(7/370)
بدل مجنّي، ومعناه: مانعي وساتري. ويروى: «بصيري» بالباء الموحدة، جمع بصيرة، وهي التّرس. حكاه أبو عبيدة.
وقال ابن سيده: يؤيّده رواية من روى: «فكان مجنّي». قال: وأكثر الناس يروونه: «نصيري»، بالنون. وهو تصحيف.
وقال أبو الحجّاج: هذا القول فيه إفراط، ورواية النون غير بعيدة من الصواب، وإن كان رواية الباء أظهر لقوله: «دون»، ولم يقل: «على» المستعملة مع النصر في مثل هذا النحو. انتهى.
و «الكاعب»، قال الجوهريّ: هي الجارية التي يبدو ثديها للنّهود. وقد كعبت تكعب بالضم كعوبا وكعّبت بالتشديد تكعيبا مثله. و «معصر»، بضم الميم وكسر الصاد، هي الجارية أوّل ما أدركت وحاضت. يقال: قد أعصرت، كأنّها دخلت عصر شبابها أو بلغته.
قال الراجز (1): (الرجز)
جارية بسفوان دارها ... يرتجّ عن مثل النّقا إزارها
قد أعصرت أو قد دنا إعصارها
والبيت من قصيدة طويلة لعمر بن أبي ربيعة تقدّم نقلها في الشاهد التسعين بعد الثلثمائة (2).
وهذه أبيات قبله (3):
فلمّا تقضّى اللّيل إلّا أقلّه ... وكادت توالي نجمه تتغوّر
أشارت بأنّ الحيّ قد حان منهم ... هبوب ولكن موعد لك عزور
فلمّا رأت من قد تنوّر منهم ... وأيقاظهم قالت: أشر كيف تأمر
__________
(1) الرجز لمنظور بن مرثد الأسدي في التنبيه والإيضاح 2/ 171ولسان العرب (عصر، سفا) ولمنظور بن حبة في تاج العروس (عصر). وهو بلا نسبة في تاج العروس (سفى) وتهذيب اللغة 2/ 17، 13/ 94وجمهرة اللغة ص 739، 1268وديوان الأدب 2/ 298والمخصص 1/ 47، 16/ 130ومقاييس اللغة 4/ 342.
(2) الخزانة الجزء الخامس ص 314305.
(3) الأبيات لعمر بن أبي ربيعة في ديوانه ص 10098.
(7/371)
فقلت: أباديهم فإمّا أفوتهم ... وإمّا ينال السّيف ثأرا فيثأر
فقالت: أتحقيقا لما قال كاشح ... علينا وتصديقا لما كان يؤثر
فإن كان ما لا بدّ منه فغيره ... من الأمر أدنى للخفاء وأستر
أقصّ على أختيّ بدء حديثنا ... ومالي من أن تعلما متأخّر
لعلّهما أن تبغيا لك مخرجا ... وأن ترحبا سربا بما كنت أحصر (1)
فقالت لأختيها: أعينا على فتى ... أتى زائرا والأمر للأمر يقدر
فأقبلتا فارتاعتا ثمّ قالتا: ... أقلّي عليك اللّوم فالخطب أيسر (2)
يقوم فيمشي بيننا متنكّرا ... فلا سرّنا يفشو ولا هو يبصر
فكان مجنّي دون من كنت أتّقي ... ثلاث شخوص كاعبان ومعصر
«التوالي»: التتابع (3). وتتغوّر: تغور فتذهب، وهو مأخوذ من الغور.
و «الهبوب»: الانتباه، يقال: هبّ من نومه، إذا استيقظ.
و «عزور»، بفتح العين المهملة وسكون الزاي المعجمة، بعدها واو مفتوحة، قال أبو علي: هي ثنيّة الجحفة.
وقال السّكونيّ: عزور: جبل بينه وبين جبل رضوى قدر شوط الفرس. وهما جبلان شاهقان منيعان لا يرومهما أحد.
ورضوى من ينبع على يوم، ومن المدينة على سبع مراحل، ميامنة طريق المدينة، ومياسرة طريق البرّ (4) لمن كان مصعدا إلى مكة، وعلى ليلتين من البحر. كذا في «معجم ما استعجم» للبكري.
__________
(1) البيت لعمر بن أبي ربيعة في ديوانه ص 99والدرر 2/ 171، 6/ 273وهمع الهوامع 2/ 171. وهو بلا نسبة في همع الهوامع 1/ 135.
(2) بعد هذا البيت في الديوان بيت هو:
فقالت لها الصغرى سأعطيه مطرفي ... ودرعي وهذا البرد إن كان يحذر
(3) في حاشية طبعة هارون 7/ 398: = هذا حق، ولكن ابن أبي ربيعة لم يرد بقوله: توالي نجمه: تتابعها. وإنما أراد توالي: جمع تال، وهو ما تأخر من النجوم هنا =.
(4) في حاشية طبعة هارون 7/ 399: = وكذا في معجم ما استعجم 655. وصوابه: = البريراء =، كما في كتاب عرام الذي ينقل عنه البكري. انظر نوادر المخطوطات 2: 396=.
(7/372)
و «أيقاظ»: جمع يقظ، بفتح الياء وضم القاف (1)، بمعنى يقظان.
وقوله: «فقالت أتحقيقا» من كلام العرب: أكلّ هذا بخلا. وذلك أنّه رآه يفعل شيئا يكره فقال: أكلّ هذا تفعل بخلا.
وقوله: «أباديهم» يريد أظهر لهم، غير مهموز. يقال بدا يبدو غير مهموز، إذا ظهر.
وقوله: «بدء حديثنا» يريد أوّل حديثنا.
وقوله: «وأن ترحبا»، يريد أن تتّسعا، أي: تتّسع صدورهما، من قولك:
فلان رحيب الصدر.
وقوله: «أحصر»، أي: أضيق به ذرعا، يقال حصر صدره، بمهملات، من باب فرح، إذا ضاق. والسّرب، بالفتح (2): الطريق.
وقوله: «فكان مجنّي» إلخ، أي: وقايتي. ودون بمعنى قدّام.
و «مجنّى» اسم كان، وثلاث بالنصب خبرها، ومن موصوله والعائد محذوف، أي: أتّقيه.
ويروى أنّ يزيد بن معاوية لمّا أراد توجيه مسلم بن عقبة إلى المدينة اعترض الناس، فمرّ به رجل من أهل الشام ومعه ترس قبيح، فقال: يا أخا أهل الشام، مجنّ ابن أبي ربيعة أحسن من مجنّك. يشير إلى هذا البيت.
وترجمة عمر بن أبي ربيعة تقدمت في الشاهد السابع والثمانين (3).
* * * __________
(1) وكذا: يقظ، بفتح فكسر. كما في القاموس واللسان.
(2) في حاشية طبعة هارون 7/ 399: = الأولى أن يقال بالفتح وبالكسر، من قولهم: إنه لواسع السرب، بالكسر، أي الصدر والرأي والهوى، كما في اللسان (سرب 477). وفي القاموس: وبالكسر: القطيع من الظباء والنساء وغيرها، والطريق، والبال، والقلب، والنفس. بعد أن ذكر السرب بالفتح الماشية كلها، والطريق، والوجهة، والصدور، والخرز =.
(3) الخزانة الجزء الثاني ص 30.
(7/373)
وأنشد بعده، وهو الشاهد الثامن والأربعون بعد الخمسمائة، وهو من شواهد س (1): (الرجز)
548 - كأنّ خصييه من التّدلدل
ظرف عجوز فيه ثنتا حنظل
على أنه ضرورة، والقياس حنظلتان بدون العدد، لما بيّنه الشارح المحقق.
وأورده سيبويه في باب تكسير الواحد للجميع بعد باب العدد. قال الأعلم:
الشاهد فيه إضافة «ثنتا» إلى «الحنظل»، وهو اسم يقع على جميع الجنس. وحقّ العدد القليل أن يضاف إلى الجمع القليل.
وإنما جاز على تقدير: ثنتان من الحنظل. هذا كما قال: ثلاثة فلوس (2)، أي:
ثلاثة من هذا الجنس، على ما بيّنه في الباب.
و «التّدلدل»: التعلق والاضطراب. وكان الوجه أن يقول: حنظلتان، فبناه على قياس الثلاثة وما بعدها إلى العشرة (3). وإنما خصّ «ظرف العجوز» لأنّها لا تستعمل طيبا، ولا غيره مما يتصنّع به النساء للرجال، يأسا منهم (4)، ولكنها تدخر
__________
(1) الرجز لجندل بن المثنى أو لسلمى الهذلية في المقاصد النحوية 4/ 485ولخطام المجاشعي أو لجندل بن المثنى أو لسلمى الهذلية أو للشماء الهذلية في الدرر 4/ 38ولجندل بن المثنى في شرح التصريح 2/ 270. وهو بلا نسبة في إصلاح المنطق ص 189وتاج العروس (دلل، هدل، ثني، خصى) وتهذيب اللغة 6/ 199، 7/ 478 وديوان الأدب 4/ 11والحماسة برواية الجواليقي ص 622وشرح أبيات سيبويه 2/ 361وشرح الحماسة للأعلم 2/ 1155وشرح الحماسة للتبريزي 4/ 166وشرح الحماسة للمرزوقي ص 1847وشرح المفصل 4/ 143، 144، 6/ 16، 18والكتاب 3/ 569، 624وكتاب العين 4/ 25، 287ولسان العرب (دلل، هدل، ثني، خصا) والمخصص 12/ 110، 16/ 98، 17/ 100والمقتضب 2/ 156والمنصف 2/ 131وهمع الهوامع 1/ 253.
وروايته في بعض هذه المصادر:
كأن ... سحق جراب فيه ثنتا حنظل
(2) كلمة: = هذا = ليست في شرح الأعلم.
(3) أراد إضافة العدد إلى تمييزه.
(4) أراد بأسا من الرجال.
وفي شرح الأعلم: = ليأسها منهم =. وبعده عنده: = وإنما تدخر فيه ما تتعانى، من الحنظل وغيره =.
(7/374)
الحنظل ونحوه من الأدوية. وظرف العجوز هو مزودها الذي تخزن فيه متاعها.
انتهى.
وهذان البيتان أوردهما أبو تمام في «باب الملح من الحماسة» (1). وروى:
«سحق جراب» (2) بدل ظرف عجوز.
قال ابن جني في إعرابها: أخرج التثنية عن أصلها (3)، وذلك أنّ قياسها على الجمع عندي اثنا رجال (4)، كقولهم: عندي ثلاثة رجال، غير أنّ التثنية لما أمكنك فيها انتظام العدّة وبيان النوع، غنيت بقليل اللفظ عن كثيره، أي: غنيت برجلان عن اثنا رجال. فلمّا قال ثنتا حنظل علمت بذلك أنه أخرجه على قياس الجمع (5).
ويريد: كأنّ خصييه بما عليهما من الصّفن، أو كأنّ ما عليهما منه بهما، سحق جراب فيه ثنتا حنظل، فحذف اختصارا، أو علما بما يعنيه. انتهى.
وأورده الشارح المحقق في باب التثنية. وسيأتي الكلام عليه إن شاء الله هناك في وجه تثنية خصي.
و «السّحق» بالفتح: الخلق. و «الحنظل» واحدها حنظلة.
وروي عن أبي حاتم أنه قال: الحنظل ها هنا الثّوم.
وأوردهما الأعلم في «حماسته» (6) برواية: «ظرف عجوز». وكتب في الهامش: شبّه خصيتيه في استرخاء صفنهما وتجلجل بيضتهما، حين شاخ واسترخت جلدة استه، بظرف عجوز (7) فيه حنظلتان.
__________
(1) الحماسة برواية الجواليقي ص 622وشرح الحماسة للأعلم 2/ 1155وشرح الحماسة للتبريزي 4/ 166 وشرح الحماسة للمرزوقي ص 1847.
(2) هي رواية التبريزي في الحماسة 4/ 166.
(3) في النسخة الشنقيطية: = على أصلها =. وكذا في إعراب الحماسة لابن جني الورقة 246. والوجه ما أثبتناه عن طبعة بولاق. لأن أصل التثنية ألا يذكر معها العدد، فيقال: رجلان وحنظلتان.
(4) في إعراب الحماسة: = على الجمع أن يقال: عندي اثنا رجال =.
(5) في طبعة بولاق والنسخة الشنقيطية: = عن قياس الجمع =. وهو تصحيف صوابه من إعراب الحماسة، وذلك لأن الراجز هنا خرج عن أصل التثنية، وجرى على قياس الجمع.
(6) شرح الحماسة للأعلم الشنتمري 2/ 1155.
(7) كذا في طبعة بولاق وشرح الأعلم. وفي النسخة الشنقيطية: = كظرف عجوز =.
(7/375)
وخصّ العجوز لأنها لا تستعمل الطّيب، ولا تتزيّن للرجال، فيكون في ظرفها ما لا تتزيّن به (1)، ولكنها تدّخر الحنظل ونحوه من الأدوية.
ويحتمل أن يكون هذا في وصف شجاع لا يجبن في الحرب فتتقلّص خصيتاه (2).
ويحتمل أن يكون هجوا.
ووجهه أنه يصف شيخا قد كبر وأسنّ ولذلك قال: ظرف عجوز، لأنّ ظرف العجوز خلق متقبّض فيه تشنّج لقدمه، فلذلك شبّه جلد الخصية به للغضون التي فيه.
والأولى أن يكون هجوا لذكره العجوز، مع تصريحه بذكر الخصيتين. ومثل هذا لا يصلح للمدح (3). انتهى.
وهذا الكلام هو ما قاله أبو عبد الله النّمريّ في «شرح الحماسة»، وزيّفه أبو محمد الأعرابي، الشهير بالأسود الغندجانيّ. قال «فيما كتبه على شرح النمري»:
قال أبو عبد الله: هذا يحتمل الذّم والمدح، إلّا أن يكون له تمام فيحمل عليه (4).
فأما الذم فهو أن يصف شيخا قد اضطرب جلده لكبر سنه وهرمه. وأما المدح فهو أن الأبطال يوصفون، إذا شهدوا الحرب، بطول الخصى وقلة تقلّصها. قال أبو محمد الأعرابي:
هذا موضع المثل (5):
* لا تقعنّ البحر إلّا سابحا *
قوله: «هذا يحتمل الذم والمدح» يدلّ على أنه لم يمارس الأشعار والأراجيز، ولم يستقر الدواوين. ومثل هذا البيت لا يعرف معناه قياسا إلا بمعرفة ما يتقدمه من
__________
(1) في شرح الحماسة للأعلم: = فلا يكون في ظرفها ما تتزين به =.
(2) زاد الأعلم في حماسته: = كما قال عنترة:
* يوما إذا لحقت خصى بكلاهما *
(3) في النهاية زاد البغدادي وتصرف في نقله عن الأعلم الشنتمري.
(4) في طبعة بولاق والنسخة الشنقيطية: = فيعمل عليه =. وهو تصحيف صوبناه من طبعة هارون 7/ 403.
(5) المثل في مجمع الأمثال 2/ 216.
(7/376)
الأبيات. وقد أثبتّها لك ها هنا لئلا يشتبه عليك من معنى البيت ما اشتبه على أبي عبد الله، فتكونا زندين في مرقّعة.
والأبيات لخطام المجاشعي، وهي من نوادر الرجز:
يا ربّ بيضاء بوعس الأرمل ... شبيهة العين بعيني مغزل
فيها طماح عن حليل حنكل ... وهي تداري ذاك بالتّجمّل
قد شغفت بنا شئ هبر كل ... ينفض عطفي خضل مرجّل
يحسب مختالا وإن لم يختل ... دسّ إليها برسول مجمل
عن كيف بالوصل لكم أم كيف لي ... فلم تزل عن زوجها المختشل
ابعث وكن في الرّائحين أو كل ... وكلّ ما أكلت في محلّل
وأوقرنّ يا هديت جملي ... حتّى إذا دبّ الرّضا في المفصل
وكان في القلب تحيت المسعل ... ثم غدا الشّيخ لها بأزفل
من الرّضا جنعدل التّكتّل ... كأنّ خصييه من التّدلدل
ظرف عجوز فيه ثنتا حنظل ... لما غدا تبهّلت: لا تأتلي
عن: ربّ يا ربّ عليه عجّل ... برهصة تقتله أو دمّل
أو حيّة تعضّ فوق المفصل
قال أبو محمد الأعرابي: فقوله: «كأنّ خصييه من التدلدل» أذمّ ذمّ يكون في الشيخ. وذلك أنهما يتدلّيان من الكبر، كما قال الآخر: (الرجز)
قد حلفت بالله لا أحبّه ... أن طال خصياه وقصر زبّه
يقال لمن هذه صفته: الدّودريّ (1). انتهى ما أورده.
و «بيضاء»: امرأة حسناء. و «الوعس»: جمع وعساء، وهي أرض ليّنة ذات رمل. و «الأرمل»: جمع رمل. و «مغزل»: ظبية ذات غزال. شبه عينها بعين الظبية.
__________
(1) في اللسان (ددر): = الدودري: العظيم الخصيتين، لم يستعمل إلا مزيدا، إذ لا يعرف في الكلام مثل ددر =.
(7/377)
و «الطّماح» بالكسر: الجماع. و «الحليل»: الزّوج. وروى: «خليل» بالمعجمة، وهو الصديق. و «الحنكل» بفتح الحاء وسكون النون وفتح الكاف:
القصير، واللئيم، والجافي الغليظ. كذا في القاموس. و «تداري» من المداراة.
و «التجمّل»: تكلّف الجميل.
وقوله: «قد شغفت» هو جواب ربّ. وشغف الهوى قلبه، من باب نفع، إذا بلغ شغافه بالفتح، أي: غشاءه. و «الناشئ»، مهموز الآخر، وهو الحدث الذي جاوز حدّ الصّغر. و «الهبركل»، بفتح الهاء الموحدة وسكون الراء وفتح الكاف: الشابّ الحسن الجسم.
و «ينفض»: يحرك. و «العطف»، بالكسر: الجانب. ونفض العطف كناية عن العجب والغرور.
و «الخضب»، بفتح الخاء وكسر الضاد المعجمتين: الرّطب، والناعم. أي قوام خضل. و «المرجّل»: الموشّى والمزيّن.
و «يحسب» بالبناء للمفعول. والضمير للناشئ. و «المختال»: المعجب بنفسه. وإن لم يختل، أي: وإن لم يعجب بنفسه، وأصله يختال: حذفت الألف لالتقاء الساكنين بالجزم. و «دسّ»: أرسل بخفية. والباء في «برسول» زائدة.
و «مجمل»: اسم فاعل من أجمل في الطلب، إذا رفق.
وقوله: «عن كيف» إلخ عن لغة في أن، وهي تفسيرية. و «المختشل»:
اسم فاعل من اختشل، بالخاء والشين المعجمتين، إذا ذلّ وضعف.
و «المفصل»، بكسر الميم وفتح الصاد: اللسان. و «تحيت»: مصغر تحت.
و «المسعل»: محل السّعال. و «الأزفل»، بفتح الهمزة وسكون الزاي وفتح الفاء:
الغضب والحدّة.
وقوله: «من الرضا» (1) إلخ، «من»: ابتدائية. و «جنعدل»، بفتح الجيم وضمها وفتح النون وسكون العين وفتح الدال: الصّلب الشديد. و «التكتّل»:
الاكتناز. و «تبهّلت»: تضرّعت، ودعت. و «لا تأتلي»: لا تقصّر.
__________
(1) كتبت كلمة: = الرضا =. في الرجز وفي التفسير الذي يليه وفي النسخة الشنقيطية بالياء. وهي سليمة.
وفي لسان العرب: = وتثنية الرضا رضوان ورضيان، الأولى على الأصل، والأخرى على المعاقبة =.
(7/378)
و «عن» لغة في «أن». و «ربّ»: منادى. و «الرّهصة»، بفتح الراء:
أن يتلف باطن حافر الدابة من حجر يطؤه.
والدّودريّ، بفتح الدال وسكون الواو وفتح الدال الثانية وكسر الراء وتشديد الياء (1).
وفيه لغة أخرى: دردريّ بالراء موضع الواو. وقال صاحب القاموس: هو الآدر، الطويل الخصيتين، والذي يذهب ويجيء في غير حاجة.
وقال ابن المستوفي: ويروى قبل الرجز الشاهد قوله (2): (الرجز)
تقول: يا ربّاه، يا ربّ هل ... إن كنت من هذا منجّي أحبلي
إمّا بتطليق وإمّا بأرحلي ... أو ارم في وجعائه بدمّل
وقال العيني في هذا: الرجز لجندل بن المثنّى. وفي «شرح الفصيح» قال ابن السرافي: قالته سلمى الهذلية. انتهى.
أقول: شرح ابن السيرافي هذين البيتين في «شرح أبيات إصلاح المنطق» ولم يذكر هذه الأبيات الأربعة المتقدّمة عليهما، ولا نسب الرجز لأحد. وهذه عبارته:
التدلدل: تحرّك الشيء المعلّق واضطرابه. وظرف العجوز: الجراب الذي تجعل فيه خبزها وما تحتاج إليه. وظرف العجوز خلق متقبض، فيه تشنّج لقدمه.
شبه جلد الخصية به، للغضون التي فيه. وشبه الأنثيين في الصّفن بحنظلتين في جراب. انتهى.
وقال ابن المستوفي: قال ابن السيرافي: حكى هذا الشاعر عن امرأة أنها دعت على زوجها وطلبت الراحة منه.
وقولها: «هل» أرادت هل تحسن إليّ بتفريق ما بيني وبينه من الوصلة وعقد التزويج. و «الأحبل»: جمع حبل، وهو ما بينهما من العقد. و «منجّي»: خبر كنت، وأسكن الياء من أجل القافية.
__________
(1) ضبطها في لسان العرب (ددر): = بفتح الراء =. وفي القاموس: = والدودري كيهيري: الذي يذهب ويجيء في غير حاجة، والآدر والطويل الخصيتين، كالدردي =. بتشديد الراء المفتوحة مع القصر أيضا.
(2) الرجز لجندل بن المثنى أو لسلمى الهذلية في المقاصد النحوية 4/ 486.
(7/379)
وقوله: «إما بتطليق»: إمّا أن يطلّق طلاقا بيّنا. وإما أن يقول ارحلي، يريد به الطلاق. وحذف المستفهم عنه (1) اعتمادا على فهم السامع. وحذف جواب الشرط، وهو إن كنت منجّيا لي من هذا الرجل فافعل.
وقوله: «أو ارم في وجعائه» إلخ هذا البيت أورده العيني بعد الثلاثة وقال:
الوجعاء، بفتح الواو وسكون الجيم والمد: الاست.
وتقدمت ترجمة خطام المجاشعي في الشاهد الخامس والثلاثين بعد المائة (2).
* * * وأنشد بعده، وهو الشاهد التاسع والأربعون بعد الخمسمائة، وهو من شواهد س (3): (الطويل)
549 - فطافت ثلاثا بين يوم وليلة
وكان النّكير أن تضيف وتجأرا
على أنّ العدد المميّز بمذكر ومؤنث معا المفصول بينه وبينهما بلفظ بين أو من، أو بالمجموع، إن كان المميّزان يوما وليلة، فالغلبة للتأنيث، فإنه اعتبر جانب المؤنث فذكّر عدده.
وإن كان المميّزان غير يوم وليلة فالغلبة للتذكير.
وهاتان المسألتان صرّح بهما سيبويه. وهذا نصه:
وتقول: سار خمس عشرة من بين يوم وليلة، لأنك ألقيت الاسم على الليالي ثم بيّنت فقلت: من بين يوم وليلة.
__________
(1) في طبعة بولاق: = منه =. وهو تصحيف صوابه من النسخة الشنقيطية.
(2) الخزانة الجزء الثاني ص 280.
(3) هو الإنشاد الرابع والتسعون بعد الثمانمائة في شرح أبيات المغني للبغدادي.
والبيت للنابغة الجعدي في ديوانه ص 41وأدب الكاتب ص 275وإصلاح المنطق ص 298وشرح أبيات المغني 8/ 23والكتاب 3/ 563ولسان العرب (خمس، ضيف). وهو بلا نسبة في مغني اللبيب 2/ 660والمقرب 1/ 311.
(7/380)
ألا ترى أنك تقول: لخمس بقين أو خلون، ويعلم المخاطب أن الأيام قد دخلت في الليالي. فإذا ألقي الاسم على الليالي اكتفي بذلك عن الأيام، كما أنك تقول: أتيته ضحوة وبكرة، فيعلم المخاطب أنها ضحوة يومك وبكرة يومك. وأشباه هذا في الكلام كثير.
فإنما قوله: «من بين يوم وليلة» توكيد بعد ما وقع على الليالي، لأنه قد علم أنّ الأيام داخلة مع الليالي.
قال النابغة الجعدي:
فطافت ثلاثا بين يوم وليلة ... يكون النّكير أن تضيف وتجأرا
وتقول: أعطاه خمسة عشر من بين عبد وجارية، لا يكون في هذا إلّا هذا، لأن المتكلم لا يجوز له أن يقول: خمسة عشر عبدا، فيعلم أن ثمّ من الجواري بعدّتهم، ولا خمس عشرة جارية فيعلم أنّ ثمّ من العبيد بعدّتهن، فلا يكون هذا إلّا مختلطا، ويقع عليهم الاسم الذي بيّن به العدد.
وقد يجوز في القياس خمسة عشر من بين يوم وليلة، وليس بحدّ كلام العرب.
انتهى.
وقد عمّم الشارح المحقق في قوله: «الغلبة للتذكير، نحو اشتريت عشرة بين عبد وأمة، ورأيت خمسة عشر من النّوق والجمال».
وفي المثالين أربع صور. والأول ممن يعقل، والثاني ممن لا يعقل، وفي كلّ منهما إما تقديم المذكّر وإمّا تأخيره. والحكم في الصّور الأربع واحد، وهو تأنيث العدد.
وهذا صريح قول سيبويه: لا يكون في هذا إلّا هذا. وهذا هو الظاهر، فإنّ المذكر عاقلا كان أو غيره، لشرفه يغلّب على المؤنث، قدّم أو أخّر. وهذا يشمل ما لو كان مع غير عاقل، نحو: اشتريت أربعة عشر بين عبد وناقة، أو بين ناقة وعبد.
وكذا يغلّب مؤنّث العاقل على غيره، فتقول: اشتريت أربع عشرة بين جمل وأمة، أو بين أمة وجمل. قال أبو حيان: وهذا هو القياس.
(7/381)
وقد خالف الفراء في الثلاثة (1) الأخيرة من الأربع (2) في عموم قول الشارح المحقق، فأوجب تذكير العدد فيها لتغليب المؤنث، قال عند تفسير قوله تعالى (3): {«يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً»}: وتقول: عندي ثلاثة بين غلام وجارية، ولا يجوز هنا ثلاث.
فإن قلت: بين ناقة وجمل غلّبت التأنيث ولم تبال أبدأت بالجمل أو بالناقة، فقلت: عندي خمس عشرة بين جمل وناقة. ولا يجوز أن تقول: عندي خمس عشرة أمة وعبدا، ولا بين أمة وعبد (4) إلا بالتذكير، لأن الذّكران من غير ما ذكرت لك لا يجتزأ (5) منها بالإناث، ولأنّ الذكر (6) موسوم بغير سمة الأنثى. انتهى.
ونقل ابن السكيت كلامه هذا بحروفه في «كتاب المؤنث والمذكر» وفي «كتاب إصلاح المنطق».
ووافق أبو حيان الشارح فيمن يعقل وخالفه فيمن لا يعقل. قال في «الارتشاف»: وإذا ميّزت عددا مركّبا بمذكر ومؤنث ذوي عقل، فالحكم في العدد للمذكر، سواء أقدّم التمييز المذكر أم أخّر، أو اتصل بالمركب أو انفصل ببين، أو كان المذكر نصفا أو أقل.
تقول: اشتريت خمسة عشر عبدا وأمة، أو أمة وعبدا، أو بين عبد وأمة، أو بين أمة وعبد، تغلّب المذكر، ولو كان واحدا.
فإن عدم العقل منهما، فإما أن يتصل التمييزان بالمركّب أو يفصل ببين. فإن اتّصل فالحكم للسابق منهما، فتقول: اشتريت ستّة عشر جملا وناقة، وست عشرة ناقة وجملا.
__________
(1) في طبعة بولاق: = في الثلاث =. وهي صحيحة، لكن الأوفق رواية النسخة الشنقيطية التي أثبتناها.
(2) كذا في طبعة بولاق والنسخة الشنقيطية. وهو جائز. فإن المعدود إذا لم يذكر جازت المطابقة في العدد أو عدمه.
(3) سورة البقرة: 2/ 234.
(4) في طبعة بولاق: = بين عبد وأمة =. ولقد أثبتنا رواية النسخة الشنقيطية فهي توافق رواية معاني القرآن للفراء 1/ 152.
(5) في طبعة بولاق: = لا تجتزئ =. ولقد أثبتنا رواية النسخة الشنقيطية ومعاني القرآن.
(6) في معاني القرآن للفراء: = ولأن الذكر منها =.
(7/382)
وإن فصلت (1) ببين فالحكم للمؤنث. تقول: اشتريت ست عشرة بين جمل وناقة، وست عشرة بين ناقة وجمل. انتهى.
وقول الشارح المحقق: إذا أبهمت الليالي ولم تذكر (2) جرى اللفظ على التأنيث إلخ، لم يجعله عند الإبهام من باب التغليب موافقة لسيبويه، إذ لا يصدق عليه تعريف التغليب، وهو أن تعمّ كلا الصّنفين بلفظ أحدهما، إذ لم يذكر عند الإبهام شيء من الليالي والأيام حتى يغلب (3) أحدهما على الآخر.
وإنما أراد الشارح أن الليالي مستلزمة للأيام، والأيام تابعة لها وداخلة فيها، كما قال سيبويه في: لخمس بقين.
قال الزجاج في تفسير الآية المذكورة: معنى قوله عز وجل: «وعشرا» يدخل فيها الأيام. زعم سيبويه أنك إذا قلت: لخمس بقين قد علم المخاطب أن الأيام داخلة مع الليالي. وزعم غيره أن لفظ التأنيث مغلّب في هذا الباب. انتهى.
وأراد بغير سيبويه الفرّاء، فإنه زعم في تفسيره عند هذه الآية أنه تغليب. قال:
لم يقل وعشرة لأن العرب إذا أبهمت العدد من الليالي والأيام غلّبوا عليه الليالي، حتى إنهم ليقولون: صمنا خمسا من شهر رمضان، لكثرة تغليبهم الليالي على الأيام.
فإذا أظهروا مع العدد تفسيره كانت الإناث بطرح الهاء، والذكران بالهاء، كما قال الله تعالى (4): {«سَبْعَ لَيََالٍ وَثَمََانِيَةَ أَيََّامٍ»}. وإن جعلت العدد غير متصل بالأيام كما يتصل الخافض بما بعده غلّبت الليالي أيضا على الأيام. فإذا اختلطا فكانت ليالي وأياما غلّبت التأنيث فقلت: مضى له سبع، ثم تقول بعد أيام: فيها برد شديد.
وأما المختلط فقول الشاعر:
* أقامت ثلاثا بين يوم وليلة *
__________
(1) في النسخة الشنقيطية: = فضل =.
(2) في شرح الرضي 2/ 146: = فلهذا إذا أبهمت ولم تذكر الأيام ولا الليالي جرى اللفظ على التأنيث، نحو قولك: أقام فلان خمسا =.
(3) في النسخة الشنقيطية: = حتى تغلب =.
(4) سورة الحاقة: 69/ 7.
(7/383)
فقال: ثلاثا وفيها أيام. انتهى.
ويرد عليه ما ذكر من أنه ليس من التغليب في شيء، وهو أول من ذهب إليه.
لا الزجاج، فإنه حاك للمذهبين. ولا الزجاجيّ، فإنه تلميذه.
قال ابن مالك في «فصل التاريخ من شرح الكافية الشافية». أوّل الشهر ليلة طلوع هلاله، فلذلك أوثر في التاريخ قصد الليالي واستغني عن قصد الأيام، لأنّ كلّ ليلة من أيام الشهر يتبعها يوم، فأغناهم قصد المتبوع عن التابع.
وليس هذا من التغليب، لأن التغليب هو أن تعمّ كلا الصّنفين بلفظ أحدهما، كقولك: الزّيدون والهندات خرجوا.
فالواو قد عمّت الزيدين والهندات تغليبا للمذكّر. وقولك: كتب لخمس خلون لا يتناول إلّا الليالي، والأيام مستغنى عن ذكرها، لكون المراد مفهوما. انتهى.
وقال أبو حيان في «الارتشاف»: التأريخ عدد الليالي والأيام بالنسبة إلى ما مضى من الشهر أو السنة وإلى ما بقي منهما. وفعله أرّخ وورّخ، تأريخا وتوريخا، لغتان.
فإن ذكرت الليالي والأيّام بالنسبة إلى السّنة أو الشّهر وذكرت العدد، كان على جنسه من تذكير وتأنيث. فتقول: سرت من شهر كذا خمس ليال، أو خمسة أيّام.
وإن لم تذكر المعدود، فالعرب تستغني باللّيالي عن الأيّام، فتقول: كتب لثلاث خلون من شهر كذا، وليس من تغليب المؤنث على المذكّر، خلافا لقوم منهم الزجّاجي. انتهى.
وقال ابن هشام في «المغني»: قالوا: يغلّب المؤنّث على المذكّر في مسألتين:
إحداهما: ضبعان في تثنية ضبع للمؤنث وضبعان للمذكّر، إذ لم يقولوا:
ضبعانان.
والثانية: التأريخ، فإنّهم أرّخوا باللّيالي دون الأيام. ذكر ذلك الزجّاجيّ وجماعة.
وهو سهو، فإنّ حقيقة التغليب أن يجتمع شيئان فيجري حكم أحدهما على الآخر، ولا يجتمع الليل والنهار. ولا هنا تعبير عن شيئين بلفظ أحدهما، وإنّما
أرّخت العرب باللّيالي لسبقها، إذ كانت أشهرهم قمريّة، والقمر إنّما يطلع ليلا.
(7/384)
وهو سهو، فإنّ حقيقة التغليب أن يجتمع شيئان فيجري حكم أحدهما على الآخر، ولا يجتمع الليل والنهار. ولا هنا تعبير عن شيئين بلفظ أحدهما، وإنّما
أرّخت العرب باللّيالي لسبقها، إذ كانت أشهرهم قمريّة، والقمر إنّما يطلع ليلا.
وإنّما المسألة الصحيحة، قولك: كتبته لثلاث بين يوم وليلة.
وضابطه أن يكون معنا عدد مميّز بمذكّر كلاهما ممّا لا يعقل، وفصلا من العدد بكلمة بين.
قال:
* فطافت ثلاثا بين يوم وليلة *
انتهى.
قال الشهاب ابن قاسم العباديّ «فيما كتبه على هامش المغني»: قد يكون الزجاجيّ عدّ اعتبار أحد الأمرين دون الآخر، كما هنا نوعا آخر من التغليب، لأنّ في التغليب تقديم أحد الأمرين في الاعتبار على الآخر، فلا يحكم بالسّهو عليه.
فليتأمّل. انتهى.
وقول ابن هشام: قالوا: يغلّب المؤنّث على المذكّر في مسألتين إلخ، مأخوذ من «درّة الغوّاص للحريري»، قال فيها: من أصول العربية أنّه متى اجتمع المذكر والمؤنث غلّب حكم المذكر على المؤنّث، إلا في موضعين:
أحدهما: أنّك متى أردت تثنية المذكّر والأنثى من الضّباع، قلت: ضبعان، فأجريت التثنية على لفظ المؤنث الذي هو ضبع، لا على لفظ المذكر الذي هو ضبعان. وإنّما فعل ذلك فرارا مما كان يجتمع من الزوائد لو ثنّي على لفظ المذكر.
والموضع الثاني: أنّهم في باب التاريخ، أرّخوا باللّيالي دون الأيّام. وإنّما فعلوا ذلك مراعاة للأسبق، والأسبق من الشهر ليلته. ومن كلامهم: سرنا عشرا من بين يوم وليلة. انتهى.
وفي كل من المسألتين نظر.
أمّا الثانية فقد تقدّم الكلام عليها، وردّ عليه ابن برّيّ «فيما كتبه على الدرّة»، وقال: ليس باب التاريخ ممّا غلّب فيه المؤنث كالضبع، بل هو محمول على الليالي فقط، كقولك: كتبت لخمس خلون. فإن قلت: سرت خمسة عشر ما بين يوم وليلة فقد غلّبت المؤنث على المذكّر. انتهى.
(7/385)
وأمّا الأولى فقد حكى الضبع في المذكر فلا تغليب في تثنيته. حكى الدّميري (1)
في «حياة الحيوان» عن ابن الأنباريّ أنّ الضبع يطلق على الذكر والأنثى.
وكذلك حكاه ابن هشام الخضراوي في «كتاب الإفصاح، في فوائد الإيضاح للفارسي» عن أبي العباس وغيره. انتهى.
وكذلك حكى الدماميني في «الحاشية المصرية على المغني» عن ابن الأنباريّ.
ونقل الصاغاني في «العباب» عن الوزير الصاحب بن عبّاد، أنه يقال: ضبعة بالهاء، وجمعه ضبع، فيكون اسم جنس جمعيّ يفرق بينه وبين واحده بالتاء. ويقال أيضا:
ضبعانة مؤنث ضبعان.
وقال الفيومي في المصباح: الضّبع بضم الباء في لغة قيس، وبسكونها في لغة تميم، وهي أنثى، وقيل: يقع على الذكر والأنثى.
وربّما قيل في الأنثى ضبعة بالهاء، كما قيل سبع وسبعة بالسكون مع الهاء، للتخفيف. والذكر ضبعان والجمع ضباعين، مثل سرحان وسراحين. ويجمع الضبع بضم الباء على ضباع، وبسكونها على أضبع. انتهى.
وقول «صاحب المغني»: ولا يجتمع اللّيل والنهار، أي: لفظهما، عند قصد الإبهام في التاريخ، نحو: كتب لخمس خلون، وسرنا خمسا، وأربعة أشهر وعشرا، فإنّه لم يذكر واحدا منهما فضلا عن اجتماعهما كما بيّنّا. فلا تعبير عن شيئين بلفظ أحدهما.
ونقل بعضهم كلام المغني في «شرحه على الدرّة» وتعقّبه بقوله: وفيه نظر لا يخفى، فإنّ قوله: لا يجتمع الليل والنهار، إن أراد في الوجود فمسلّم، لكنّه لا يفيد، لأنّ المراد بالاجتماع في التغليب الاجتماع في الحكم، وإرادة المتكلّم لدلالة اللفظ الواقع فيه التغليب عليهما. انتهى.
وهذه الإرادة واهية، إذ لا يتوهّم أحد اجتماعهما في الوجود، وإنّما المراد اجتماعهما في اللفظ. فإذا لم يوجدا فيه فلا تغليب. وهذا ظاهر.
__________
(1) الدميري. نسبة إلى دميرة بفتح الدال. قال صاحب القاموس عنها: = قريتان بالسمدونية =.
وهو كمال الدين محمد بن موسى بن عيسى الدميري المتوفى سنة 808هـ. جمع كتابه حياة الحيوان وهو ابن ثلاثين سنة ودفن في ضريحه بالقاهرة بالحسينية في مسجده المعروف بالصوابي.
(7/386)
وقول ابن هشام: وإنّما المسألة الصحيحة، أي: لتغليب المؤنث على المذكر في التاريخ. إذ الكلام فيه، وليس المعنى أنّه لا يغلّب المؤنث على المذكر إلّا في التاريخ، إذ ليس الكلام على مطلق تغليب المؤنث على المذكّر، كما فهمه الدماميني في «الحاشية الهندية» (1).
وقال معترضا عليه: أقول لا اختصاص لهذه المسألة بالتاريخ، فإنه يقال في غيره:
اشتريت عشرا بين جمل وناقة.
ويريد بالمثال أنّه يغلب المؤنّث على المذكّر في غير التاريخ كما هو مدلول سياق كلامه. ومثاله جار على مذهب الفراء وأبي حيّان. وأمّا على ما ذكره الشارح المحقق فيجب أن يقول: اشتريت عشرة بالتأنيث، لتغليب المذكّر.
وقول ابن هشام: وضابطه أن يكون معنا إلخ، أي: ضابط تغليب المؤنث على المذكر في التاريخ.
ولا يرد اعتراض الدماميني بقوله: يقع التغليب، بدون هذا الضابط، كقوله تعالى (2): {«أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً»}، فإنّ ابن هشام قد غلّط من قال بالتغليب في نحوها، فإنّ الآية ليست من التغليب في شيء كما تقدم بيانه.
وحاصل كلام ابن هشام أنّ التاريخ يكون بلا تغليب، كما في نحو الآية، ويكون بتغليب إذا كان داخلا في الضابطة المذكورة. والتغليب (3) يكون فيه، وفي غيره كما ذكره الشارح المحقق وغيره في تلك الأمثلة.
وهذا مما أنعم الله به عليّ من فهم كلام المغني فإنّ شراحه لم يهتدوا لمراده (4).
ولله الحمد على ذلك.
ولنرجع من هنا إلى شرح البيت، فنقول: وصف النابغة الجعدي به بقرة وحشيّة أكل السّبع ولدها، فطافت.
__________
(1) شرح أبيات المغني 8/ 23.
(2) سورة البقرة: 2/ 234.
(3) كذا في طبعة بولاق وشرح أبيات المغني. وفي النسخة الشنقيطية: = والضابط =.
(4) بعده في شرح أبيات المغني 8/ 24: = لمراده، ولم يعرفوا عجز البيت مع شهرته وتداوله في كتب النحو وغيرها =.
(7/387)
وروي: «أقامت» ثلاثة أيام وثلاث ليال تطلبه، ولا إنكار عندها ولا غناء إلّا الإضافة، وهي الجزع والإشفاق، والجؤار وهو الصّياح.
والنّكير: الإنكار، وهو من المصادر التي أتت على فعيل، كالنذير والعذير.
وأكثر ما يأتي هذا النوع من المصادر في الأصوات، كالهدير والهديل. أي: ما كان عندها حين فقدته إلّا الشفقة والصّياح، وتضيف مضارع أضاف إضافة (1).
وأورد البيت العسكري في موضعين من كتاب «التصحيف»، قال في الموضع الأوّل (2):
حدثنا أحمد بن يحيى، قال: سمعت سلمة بن عاصم، يقول: صحّف الكسائيّ في بيت النابغة الجعديّ، فقال: هو تصيف، بالصاد غير معجمة، وتضيف، أي:
تشفق. والإضافة: الشّفقة. ويروى: «أن تضيف»، بفتح التاء، أي: تعدل ها هنا مرّة وها هنا مرّة. يقول: كان نكيرها لمّا رأت الشّلو، أن تشفق وتجأر، لا شيء عندها غير ذلك.
وقال في الموضع الثاني (3): يروى: «تضيف» مضموم التاء والضاد معجمة.
ويروى: «تضيف» مفتوح التاء فمن رواه بفتحها وهو الجيّد، أراد تشفق. ومنه قوله (4): (الطويل)
وكنت إذا جاري دعا لمضوفة ... أشمّر حتّى ينصف السّاق مئزري
وفي الحديث: «حتّى إذا تضيّفت الشمس للغروب» بضاد معجمة، أي:
مالت. ويقال: ضافت تضيف ضيفا: إذا مالت.
وأخبرني ابن الأنباري عن ثعلب، قال: سئل ابن الأعرابيّ (5) عن قوله حين تضيّفت،
__________
(1) بعده في شرح أبيات المغني: = أي: أشفق، وهو بالضاد المعجمة، كذا ضبطوه =.
(2) كتاب حدوث التصحيف ص 126.
(3) كتاب حدوث التصحيف ص 327.
(4) البيت لأبي جندب الهذلي في ديوان الهذليين 3/ 92وشرح أبيات المغني 8/ 25وشرح أشعار الهذليين 1/ 358وشرح شواهد الشافية ص 383ولسان العرب (جور، ضيق، نصف، كون) والمعاني الكبير ص 700، 1119. وهو بلا نسبة في إصلاح شواهد الشافية ص 383وشرح المفصل 10/ 81ولسان العرب (جور، ضيف) والمحتسب 1/ 214والممتع في التصريف 2/ 470والمنصف 1/ 301.
(5) كذا في طبعة بولاق والنسخة الشنقيطية. وفي شرح أبيات المغني: سأل ابن الأعرابي =.
(7/388)
فقال: لا أعرفه، ولكن إن كان تصيّفت بصاد غير معجمة فهو حين تميل، كما قال أبو زبيد (1): (الخفيف)
كلّ يوم ترميه منّا برشق ... فمصيب أو صاف غير بعيد
يقال: صاف السهم وضاف، حكيا جميعا، أي: مال. وحكى أبو بكر بن الخبّاز (2) عن ثعلب عن ابن الأعرابي: يقال: صاف السهم بصاد غير معجمة: إذا أخطأ، لم يقل عربيّ قطّ ضاف منقوطة.
وأنشد غيره (3):
* فلمّا دخلناه أضفنا ظهورنا *
وضفت فلانا، إذا ملت إليه. وأضفته، إذا أملته إليك. ومنه قيل: للدعيّ مضاف، لأنّه مسند إلى قوم ليس منهم (4). انتهى.
وبعده (5):
وألفت بيانا عند آخر معهد ... إهابا ومعبوطا من الجوف أحمرا (6)
__________
(1) البيت لأبي زبيد الطائي في ديوانه ص 592والاختيارين ص 519وتاج العروس (رشق) وتهذيب اللغة 12/ 242وجمهرة اللغة ص 909، 1042وشرح أبيات المغني 8/ 25وكتاب العين 7/ 164ولسان العرب (صيف، رشق) ومجمل اللغة 2/ 379والمراثي ص 45ومقاييس اللغة 2/ 396، 3/ 327، 381.
وهو بلا نسبة في جمهرة اللغة ص 893.
في جميع المصادر السابقة عدا شرح أبيات المغني: = ترميه منها =. والضمير فيها عائد على المنون في بيت قبله:
علّل المرء بالرجاء ويضحي ... غرضا للمنون نصب العود
(2) في كتاب التصحيف ص 327: = أبو بكر الخباز =.
(3) صدر بيت لامرئ القيس وعجزه:
* إلى كل حاريّ قشيب مشطب *
والبيت في ديوانه ص 53وجمهرة اللغة ص 909وشرح أبيات المغني 8/ 25وشرح شذور الذهب ص 420 ولسان العرب (ضيف). وهو بلا نسبة في لسان العرب (حير).
(4) كتاب التصحيف ص 328327.
(5) البيتان للنابغة الجعدي في ديوانه ص 40وشرح أبيات المغني 8/ 23.
(6) البيت للنابغة الجعدي في ديوانه ص 40وتاج العروس (برقع) ولسان العرب (برقع).
(7/389)
وخدّا كبر قوع الفتاة ملمّعا ... وروقين لمّا يعدوا أن تقشّرا (1)
أراد أنّها وجدت عند آخر معهد عهدته فيه، ما بيّن لها وحقّق عندها أنّ السبع أكله. ثم فسّر ذلك البيان بما ذكره بعد ذلك. و «الإهاب»: الجلد. و «المعبوط»:
الدّم الطريّ.
و «الرّوقان»: القرنان. وشبّه خدّه لما فيه من السّواد، وردع الدّم والبياض، ببرقوع فتاة لأنّ الفتيات يزيّنّ براقعهن، وبقر الوحش بيض الألوان لا سواد فيها إلّا في قواثمها وخدودها وأكفالها.
وهذه الأبيات من قصيدة طويلة، نحو مائتي (2) بيت، للنّابغة الجعدي الصحابي، أنشد جميعها للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم. ومنها (3):
أتيت رسول الله إذ جاء بالهدى ... ويتلو كتابا كالمجرّة نيّرا
وهي من أحسن ما قيل في الفخر بالشجاعة، وقد أوردنا منها أبياتا كثيرة في ترجمته في الشاهد السادس والثمانين بعد المائة (4).
ومن أواخرها:
بلغنا السّماء مجدنا وسناؤنا ... وإنّا لنرجو بعد ذلك مظهرا (5)
__________
(1) البيت للنابغة الجعدي في ديوانه ص 40ولسان العرب (برقع). وهو بلا نسبة في تاج العروس (برقع) وتهذيب اللغة 3/ 294وديوان الأدب 2/ 65والمخصص 4/ 38.
(2) في شعره منها مائة وعشرون بيتا.
(3) البيت للنابغة الجعدي في ديوانه ص 36وشرح أبيات المغني 8/ 26والشعر والشعراء ص 208.
(4) الخزانة الجزء الثالث ص 163161.
(5) البيت للنابغة الجعدي في ديوانه ص 51وشرح أبيات المغني 8/ 26وشرح التصريح 2/ 161والشعر والشعراء ص 208ولسان العرب (ظهر) والمقاصد النحوية 4/ 193. وهو بلا نسبة في أوضح المسالك 3/ 406وشرح الأشموني 2/ 439.
وفي العقد الفريد 1/ 256: = وفد أبو ليلى نابغة بني جعدة على النبي صلى الله عليه وسلم، فأنشده شعره الذي يقول فيه: بلغنا السماء. قال النبي صلى الله عليه وسلم: = إلى أين ابا ليلى =. قال: إلى الجنة. قال النبي صلى الله عليه وسلم: = إن شاء الله = فلما انتهى إلى قوله:
ولا خير في حلم إذا لم تكن له ...
فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: = لا يفضض الله فاك =. فعاش مئة وثلاثين سنة لم تفضض له سن. وبقي
(7/390)
ولا خير في حلم إذا لم تكن له ... بوادر تحمي صفوه أن يكدّرا (1)
ولا خير في جهل إذا لم يكن له ... حليم إذا ما أورد الأمر أصدرا (2)
والبيت الأوّل أورده شرّاح الألفيّة (3) لإبدال مجدنا بدل اشتمال من الضمير المرفوع في قوله: بلغنا. وروي على غير هذه الرواية، وتقدّم هناك. ويروى بنصب «مجدنا» على أنّه مفعول لأجله.
وأنشده صاحب الكشاف أيضا عند قوله تعالى (4): {«وَرَفَعْنََاهُ مَكََاناً عَلِيًّا»}، على أنّ الحسن البصريّ فسّر المكان بالجنّة، كما أنّ النابغة فسّر المظهر بالجنّة لمّا سمع النبي صلّى الله عليه وسلّم هذا البيت، وقال له: إلى أين المظهر يا أبا ليلى (5)؟ فقال له النبي صلّى الله عليه وسلّم: «أجل إن شاء الله».
ولما أنشده البيتين بعده، قال له النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «لا يفضض الله فاك!».
فكان من أحسن الناس ثغرا، وكان إذا سقطت له ثنيّة نبتت، وكان فوه كالبرد المتهلّل، يتلألأ ويبرق.
* * * __________
حتى وفد على عبد الله بن الزبير =.
(1) البيت للنابغة الجعدي في تاج العروس (بدر) وشرح أبيات المغني 8/ 26والشعر والشعراء ص 208 وأخبار الزجاجي ص 226ولسان العرب (بدر، رفف).
(2) البيت للنابغة في أخبار الزجاجي ص 226وشرح أبيات المغني للبغدادي 8/ 26والشعر والشعراء ص 209 ولسان العرب (رفف).
(3) انظر شرح الأشموني 3/ 130وأوضح المسالك 3/ 68والمقاصد النحوية 4/ 193.
(4) سورة مريم: 19/ 57.
(5) في حاشية طبعة هارون 7/ 419: = في حاشية ش: = هكذا بخط المصنف، وفيه نقص. وفي طبقات ابن قتيبة: فقال إلى الجنة. والذي في الأغاني: فقال النبي صلى الله عليه وسلم: فأين المظهر يا ابا ليلى؟ فقلت: الجنة.
فقال: قل إن شاء الله =. انظر في ذلك الأغاني 5/ 8وما بعدها والشعر والشعراء ص 209208.
(7/391)
المذكر والمؤنث
أنشد فيه، وهو الشاهد الخمسون بعد الخمسمائة (1): (الوافر)
550 - فقلت لها: أصبت حصاة قلبي
وربّت رمية من غير رامي
على أنّ تاء التأنيث قد تلحق الحرف ك «ربّ» إذا كان مجرورها مؤنثا، ليدلّ من أوّل الأمر أنّ المجرور مؤنّث. والمشهور أنّها تزاد في بعض الحروف للتأنيث اللفظي.
والبيت قبله:
رمتني يوم ذات الغمر سلمى ... بسهم مطعم للصّيد لام
و «ذات الغمر»: موضع، كذا ذكره ابن الأثير في «المرصّع».
وأنشد قول قيس الهذليّ (2): (الطويل)
سقى الله ذات الغمر وبلا وديمة ... وجادت عليها البارقات اللّوامع
ولم أره في معجم البلدان، ولا في معجم ما استعجم.
و «سلمى»: فاعل رمتني، وهي اسم امرأة، والباء متعلقة برمتني. و «السّهم»:
النّشّاب. و «لأم»: صفته، أي: عليه ريش لؤام، بضم اللام مهموز العين على وزن فعال.
قال صاحب الصحاح: واللّؤام: القذذ الملتئمة، وهي التي تلي بطن القذّة منها ظهر الأخرى، وهو أجود ما يكون.
__________
(1) البيت بلا نسبة في لسان العرب (طعم) والمستقصى 2/ 105.
(2) البيت لقيس بن العيزارة الهذلي في ديوان الهذليين 3/ 79.
(7/392)
تقول منه: لأمت السّهم لأما. و «مطعم»: اسم فاعل من أطعم. و «حصاة القلب»: حبّته (1).
والبيتان أنشدهما الزمخشري في «المستقصى» ولم يعزهما لأحد، وقال (2):
«ربّ رمية من غير رام»: مثل أوّل من قاله الحكم بن عبد يغوث المنقري (3)، وكان من أرمى النّاس.
وذلك أنّه نذر ليذبحنّ مهاة على الغبغب (4)، فرام صيدها أيّاما فلم يمكنه، فكان يرجع مخفقا حتى همّ بقتل نفسه مكانها، فقال له ابنه مطعم: احملني أرفدك.
فقال: ما أحمل من رعش رهل جبان فشل!
فما زال به حتّى حمله، فرمى الحكم مهاتين فأخطأهما، فلما عرضت الثالثة رماها مطعم فأصابها، فعندها قال الحكم ذلك. يضرب في فلتة إحسان من المسيء.
انتهى.
* * * وأنشد بعده، وهو الشاهد الحادي والخمسون بعد الخمسمائة (5): (الرجز)
551 - يا صاحبا ربّت إنسان حسن
على أنّه قد جاء مجرور «ربّت» مذكّرا على خلاف الأوّل. ويجوز أن يريد ب «الإنسان» المؤنّث فيوافق ما قبله. والإنسان من الناس اسم جنس يقع على الذّكر والأنثى، والواحد والجمع. كذا في المصباح.
__________
(1) في طبعة بولاق: = حبتها =. وهو تصحيف صوابه من النسخة الشنقيطية.
(2) نص المثل في أغلب كتب الأمثال: = رمية من غير رام =. والمثل في جمهرة الأمثال 1/ 491وزهر الأكم 3/ 38والعقد الفريد 3/ 84، 6/ 162والفاخر ص 143وفصل المقال ص 43وكتاب الأمثال ص 51، 312ولسان العرب (غبب) ومجمع الأمثال 1/ 299، 2/ 180.
(3) هو رجل جاهلي من بني منقر.
(4) الغبغب: اسم منحر بمنى، وقيل: الموضع الذي كان ينحر فيه لللات والعزى.
(5) الرجز بلا نسبة في شرح المفصل 8/ 32ونوادر أبي زيد ص 103.
وفي النسخة الشنقيطية: = الواحد والخمسون بعد الخمسمائة =.
(7/393)
وهذا الالتزام ليس بلازم. على أنّ بقيّة الرجز يمنع ما أوّله، كما سيأتي.
قال أبو على في «كتاب الشعر»: ولحقت بعض الحروف تاء التأنيث، وذلك ربّ وربّت، وثمّ وثمّت، ولا، ولات.
قال (1): (الطويل)
ثمّت لا تجزونني عند ذاكم ... ولكن سيجزيني الإله فيعقبا
وأنشد أبو زيد:
يا صاحبا ربّت إنسان حسن ... يسأل عنك اليوم أو يسأل عن
وقياس من يسكّن التاء في «ثمّت» و «ربّت» أن يقف عليها بالتاء، كما يقف على ضربت. وقياس من حرّك أن يقف بالهاء، كما يقف على كيت وذيت.
انتهى.
والبيت من رجز أورده أبو زيد في «نوادره» (2):
يا صاحبا ربّت إنسان حسن ... يسأل عنك اليوم أو يسأل عن
إنّا على طول الكلال والتّون ... ممّا نقيم الميل من ذات الضّغن
نسوقها سنّا وبعض السّوق سن ... حتّى تراها وكأنّ وكأن
* أعناقها مشرّبات في قرن *
قال أبو زيد: ليست التاء (3) في «ربّت» للتأنيث، فلهذا جاز أن تقول (4) ربّت إنسان (5). انتهى.
__________
(1) البيت للأعشى ميمون في ديوانه ص 167والأزهية ص 263والرد على النحاة ص 125وسر صناعة الإعراب ص 386وشرح أبيات المغني للبغدادي 4/ 115والكتاب 3/ 39. وهو بلا نسبة في رصف المباني ص 169، 275.
(2) الرجز بلا نسبة في نوادر أبي زيد ص 103بخلاف يسير في الرواية. وبعض هذا الرجز للأغلب العجلي في ديوانه ص 165وتاج العروس (وني) ولسان العرب (رعن، وني).
(3) في النسخة الشنقيطية: = ليس التاء =. وهو تصحيف.
(4) في النسخة الشنقيطية: = أن يقول =.
(5) لم نجد هذا التعليق في نوادر أبي زيد المطبوعة.
(7/394)
وقوله: «يا صاحبا» أصله يا صاحبي، فالألف أصلها ياء. و «يسأل»:
جواب ربّ، وهو العامل في محل مجرورها.
وقوله: «أو يسأل عن» معطوف على يسأل عنك، وكلاهما بياء الغيبة.
أراد: يسأل عني بياء المتكلم.
وقوله: «إنّا على» إلخ، بكسر الهمزة ابتداء كلام. و «على» بمعنى مع.
و «الكلال»: مصدر كلّ يكلّ، من باب ضرب، إذا تعب وأعيا. و «التّون»، بفتح التاء، والواو، وهو التواني. قال صاحب الصحاح: وتوانى في حاجته، أي:
قصّر.
وقول الأعشى (1): (المتقارب)
ولا يدع الحمد بل يشتري ... بوشك الظّنون ولا بالتّون
أراد: بالتوان، فحذف الألف لاجتماع الساكنين، لأنّ القافية موقوفة.
و «الضّغن»، بكسر الضاد وفتح الغين المعجمتين: جمع ضغن بسكون الوسط.
قال صاحب الصحاح: إذا قيل في الناقة: هي ذات ضغن، فإنّما يراد نزاعها إلى وطنها.
و «السّنّ»، بفتح السين المهملة، قال الرّياشيّ: هو أسرع السير. و «القرن»، بفتح القاف والراء: حبل يقرن به البعيران. و «المشرّبات»، بفتح الراء المشددة، قال أبو حاتم والرياشيّ والمازني: هي المدخلات، من قوله (2): {«وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ»}.
وقال أبو الحسن الأخفش: ومن روى: «مسرّبات»، بالسين المهملة فإنّه يذهب إلى أنّها تسرّب في القرن، أي: تذهب فيه وتجيء. من قوله تعالى (3):
{«وَسََارِبٌ بِالنَّهََارِ»}.
وقول الشارح المحقق: وتلحق، أي: التاء، ثمّ أيضا إذا عطفت بها قصّة على قصة، لا مفردا على مفرد. هذا هو المشهور.
__________
(1) البيت للأعشى ميمون في ديوانه ص 75وتاج العروس (وني) ولسان العرب (وني).
(2) سورة البقرة: 2/ 93.
(3) سورة الرعد: 13/ 10.
(7/395)
وقد رأيت في شعر رؤبة بن العجاج عطف المفرد بها. قال (1): (الرجز)
فإن تكن سوائق الحمام ... ساقتهم للبلد الشّآم
فبالسّلام ثمّت السّلام
وكذلك استعملها ابن مالك، في جموع التكسير من «الألفية»، قال:
(الرجز)
أفعلة أفعل ثمّ فعله ... ثمّت أفعال جموع قلّه
* * * وأنشد بعده، وهو الشاهد الثاني والخمسون بعد الخمسمائة (2): (الهزج)
552 - لقد أغدو على أشق
ر يغتال الصّحاريّا
على أنّه جمع صحراء، فلما قلبت الألف بعد الراء في الجمع ياء قلبت الهمزة التي أصلها ألف التأنيث أيضا.
قال ابن جنّي في «سرّ الصناعة»: قد اطّرد عنهم قلب ألف التأنيث همزة (3).
والقول في ذلك أنّ الهمزة في صحراء وبابها، إنّما هي بدل من ألف التأنيث، كالتي في نحو: حبلى وسكرى.
إلّا أنّها في صفراء وقعت الألف بعد ألف قبلها زائدة، فالتقى ألفان زائدتان، ولم يجز في واحدة منهما الحذف.
__________
(1) الرجز لرؤبة بن العجاج في ديوانه ص 183. وهي ساكنة الروي في الديوان.
(2) البيت للوليد بن يزيد في ديوانه ص 74وسر صناعة الإعراب 1/ 86وشرح شواهد الشافية ص 95 وشرح المفصل 5/ 58والممتع في التصريف 1/ 330. وهو بلا نسبة في الإنصاف 2/ 816وشرح شافية ابن الحاجب 1/ 194، 2/ 162والمقرب 2/ 162.
(3) بعده في سر الصناعة: = وذلك نحو حمراء وصفراء وصحراء، وأربعاء، وعشراء، ورخصاء، وقاصعاء، وما أشبه ذلك =.
(7/396)
أمّا الأولى: فلو حذفتها لانفردت الآخرة، وهم قد بنوا الكلمة على اجتماع ألفين فيها.
وأما الآخرة: فلو حذفتها، لزالت سلامة التأنيث (1). وأما الحركة، فقال سيبويه: إنّه لما انجزم الحرفان، حرّكت الثانية، فانقلبت همزة، فصارت: صفراء وصحراء.
فإن قيل: ولم زعمت أنّ الثانية منقلبة، وهلّا زعمت أنّها زيدت للتأنيث همزة في أول أحوالها؟ فالجواب من وجهين:
أحدهما: أنّا لم نرهم في غير هذا الموضع أنّثوا بالهمزة، إنّما يؤنّثون بالتاء أو بالألف، فكان حمل همزة التأنيث في نحو: صحراء، على أنّها بدل من ألف التأنيث، لما ذكرنا أحرى.
والوجه الآخر: أنّا قد رأيناهم لمّا جمعوا بعض ما فيه همزة التأنيث أبدلوها في الجمع، ولم يحقّقوها البتة، وذلك قولهم في جمع صحراء وصلفاء: صحارى وصلافى، ولم نسمعهم أظهروا الهمزة في شيء من ذلك، فقالوا: صحاريء وصلافيء. ولو كانت الهمزة فيهن غير منقلبة، لجاءت في الجمع.
ألا تراهم، قالوا: كوكب درّيء وكواكب دراريء، وقرّاء وقراريء، ووضّاء ووضّائيء، فجاؤوا بالهمزة في الجمع لمّا كانت غير منقلبة، بل موجودة في قرأت ودرأت ووضؤت (2). فهذه دلالة قاطعة.
فإن قيل: فما الذي دعاهم إلى قلبها في الجمع ياء، وهلّا تركوها ملفوظا بها، كما كانت في الواحدة، فقالوا: صحاريء وصلافيء؟ فالجواب أنّها إنما كانت انقلبت وأصلها الألف، لاجتماع الألفين، وهذه صورتها صحراا وصلفاا، فلما التقت ألفان اضطرّوا إلى تحريك إحداهما، فجعلوها الثانية، لأنّها حرف الإعراب، فصارت صحراء وصلفاء.
وحال الجمع ما أذكره، وذلك أنّك إذا صرت إلى الجمع، لزمك أن تقلب الأولى
__________
(1) في سر الصناعة: = لزالت علامة التأنيث التي وسمت الكلمة بها، وهذا أفحش من الأول. فقد بطل حذف شيء منهما =.
(2) في طبعة بولاق: = ووضأت =. وهو تصحيف صوابه من النسخة الشنقيطية وسر الصناعة 1/ 96.
(7/397)
ياء لانكسار الراء في صحاري قبلها، كما تنقلب ألف قرطاس ياء في قراطيس، فكذلك تنقلب ألف صحراء الأولى ياء، فتصير في التقدير: صحاري ا، وصلافي ا، فتقع الياء الساكنة قبل الألف الأخيرة الراجعة عن الهمزة لزوال الألف [من قبلها، فتنقلب الألف ياء لوقوع الياء ساكنة قبلها، وتدغم الأولى المنقلبة عن الألف (1)] الزائدة في الياء الأخيرة المنقلبة عن ألف التأنيث، فيصير صحاريّ. أنشد أبو العباس للوليد بن يزيد:
لقد أغدو على أشق ... ر يغتال الصّحاريّا
وقال آخر (2): (الوافر)
إذا جاشت حواليه ترامت ... ومدّته البطاحيّ الرّغاب
جمع بطحاء. وكذلك ما حكاه الأصمعي من قولهم: صلافيّ وخباريّ، جمع صلفاء وخبراء. فبهذا استدللنا على أنّ الهمزة في صحراء وبابها بدل من ألف التأنيث. انتهى.
وهذا أصل كلّ جمع لنحو صحراء، ثم يخفّف بحذف الياء الأولى فيصير صحاري، بكسر الراء وتخفيف الياء، مثل مداري، ثم يبدل من الكسرة فتحة فتنقلب الياء ألفا لتحرّكها وانفتاح ما قبلها، كما فعلوا في مدارى. وهذان الوجهان هما المستعملان، والأوّل أصل متروك يوجد في الشعر.
وقوله: «لقد أغدو» مضارع غدا غدوّا من باب قعد، إذا ذهب غدوة، وهي ما بين صلاة الصبح وطلوع الشمس. و «الأشقر» من الخيل: الذي حمرته صافية.
والشّقرة في الإنسان: حمرة يعلوها بياض. و «يغتال»: يهلك، يقال: اغتاله، أي: أهلكه. وعين الفعل واو.
استعار يغتال لقطع المسافة بسرعة شديدة، فإنّ أصل اغتاله، بمعنى قتله على غرّة وغفلة. و «الصحراء»: البّريّة. وقال الليث: الصحراء: الفضاء الواسع.
وقال النضر: الصحراء من الأرض: الملساء، مثل ظهر الدابة الأجرد، ليس بها شجرة ولا آكام ولا جبال.
__________
(1) زيادة يقتضيها السياق من سر الصناعة.
(2) البيت بلا نسبة في سر صناعة الإعراب 1/ 86وشرح المفصل 5/ 58والممتع في التصريف ص 330.
(7/398)
ولم أقف على تتمة هذا الشعر. وهو للوليد بن يزيد بن عبد الملك بن مروان.
وتقدّمت ترجمته في الشاهد التاسع عشر بعد المائة (1).
* * * وأنشد بعده، وهو الشاهد الثالث والخمسون بعد الخمسمائة (2): (الوافر)
553 - متى كنّا لأمّك مقتوينا
على أنّ «مقتوينا» جمع مقتويّ بياء النسبة المشدّدة، فلما جمع جمع تصحيح حذفت ياء النسبة. و «المقتويّ»، بفتح الميم: نسبة إلى المقتى بفتحها، فقلبت الألف واوا في النسبة، كما تقول: معلويّ في النسبة إلى معلى. والمقتى: مصدر ميمي.
قال صاحب الصحاح: القتو: الخدمة، وقد قتوت أقتو قتوا ومقتى، أي:
خدمت، مثل غزوت أغزو غزوا ومغزى.
قال (3): (المنسرح)
إنّي امرؤ من بني فزارة لا ... أحسن قتو الملوك والخببا
ويقال للخادم: مقتويّ، بفتح الميم وتشديد الياء، كأنه منسوب إلى المقتى.
ويجوز تخفيف ياء النسبة، كما قال عمرو بن كلثوم:
__________
(1) الخزانة الجزء الثاني ص 200.
(2) عجز بيت لعمرو بن كلثوم وصدره:
* تهددنا وتوعدنا رويدا *
والبيت لعمرو بن كلثوم في ديوانه ص 79وجمهرة اللغة ص 408وشرح شواهد الإيضاح ص 292ولسان العرب (خصب، قتا، قوا) والمنصف 2/ 133ونوادر أبي زيد ص 188. وهو بلا نسبة في الأشباه والنظائر 1/ 289ولسان العرب (ذنب).
(3) البيت بلا نسبة في أساس البلاغة (قتو) وتاج العروس (قتا) وتهذيب اللغة 7/ 14، 9/ 253وديوان الأدب 4/ 71وكتاب العين 5/ 198ولسان العرب (خبب، قتا) والمخصص 3/ 141ومقاييس اللغة 7/ 14، 9/ 253.
(7/399)
* متى كنّا لأمّك مقتوينا *
انتهى.
قال ابن جنّي في «الخصائص»: كان قياسه إذا جمع أن يقال: مقتويّون ومقتويّين، كما إذا جمع بصريّ وكوفيّ، قيل: كوفيّون، وبصريّون، إلّا أنّه جعل علم الجمع معاقبا لياء النسبة، فصحّت اللام لنيّة الإضافة إلى النسبة، ولولا ذلك لوجب حذفها لالتقاء الساكنين، وأن يقال: مقتون ومقتين، كما يقال: هم الأعلون وهم المصطفون.
فقد ترى (1) إلى تعويض علم الجمع من ياء النسبة. الجميع زائد (2). انتهى.
ثم قال صاحب الصحاح: قال أبو عبيدة: قال رجل من بني الحرماز: هذا رجل مقتوين، وهذا رجلان مقتوين، ورجال مقتوين، كله سواء. وكذلك المؤنّث. وهم الذين يعملون للنّاس بطعام بطونهم.
قال سيبويه (3): سألت الخليل عن مقتويّ ومقتوين، فقال: هذا بمنزلة الأشعريّ والأشعرين. انتهى.
والواو من «مقتوين» في رواية أبي عبيد مكسورة، والنون منوّنة بالرفع.
وزاد عليه أبو زيد في «نوادره» فتح الواو، قال: رجل مقتوين ورجال مقتوين، وكذلك المرأة والنساء، وهو الذي يخدم القوم بطعام بطنه.
وقال عمرو بن كلثوم:
تهدّدنا وأوعدنا رويدا ... متى كنّا لأمّك مقتوينا
الواو مفتوحة، وبعضهم يكسرها، أي: متى كنّا خدما لأمّك. انتهى.
وقد تكلم أبو علي في «كتاب الشعر» على هذه اللفظة وبيّن وجوه استعمالها، مع شرح كلام أبي زيد وغيره، فلا بأس بإيراد كلامه، وإن كان فيه طول. قال:
__________
(1) في طبعة بولاق: = نرى =. ولقد أثبتنا رواية النسخة الشنقيطية والخصائص.
(2) في طبعة بولاق والنسخة الشنقيطية: = زائدا =. وهو تصحيف صوابه من الخصائص.
(3) الكتاب لسيبويه تحقيق هارون 3/ 410.
(7/400)
أنشد أبو زيد:
* متى كنا لأمّك مقتوينا *
قالوا: رجل مقتويّ، وقالوا في الجمع مقتوون، كما قالوا أشعريّ وأشعرون، فحذفوا ياءي النسب مع الجمع بالواو في هذين الموضعين ونحوهما.
فأما تصحيحهم الواو فإن شئت قلت صححوها في الجمع الذي على حد التثنية، كما صححوها في جمع التكسير حيث قالوا مقاتوة، كما أنهم لما حذفوا ياءي النسب في الجمع على حدّ التثنية حذفوهما في التكسير، فقالوا: المهالبة.
وإن شئت قلت: بنوا مقتوون على الجمع، كما بنوا مذروان على حد التثنية.
ألا ترى أنهم لم يفردوا الواحد منه بغير حرف التثنية، كما لم يفردوا واحد مذروان، وإنما استعمل واحد بحرف النسب مقتويّ.
وفيه قول آخر، وهو أن الواو صحّت لما كانت النسبة مرادة في الكلمة، فصححت بالواو مع الحذف، كما صحت مع الإثبات، ليكون تصحيحها دلالة على إرادة النسب، كما صحت الواو والياء في عور وصيد، ليعلم أن الفعل لمعنى ما يلزم تصحيح الواو فيه. وكذلك ازدوجوا واعتوروا.
ألا ترى أنك لو بنيت منه افتعلوا، لا تريد فيه معنى تفاعلوا، لأعللت. فأما النون فقد فتحت كما فتحت في مسلمون، وقد جعلت حرف الإعراب، كما جعلت في سنين ونحوه حرف الإعراب.
حكي ذلك عن أبي عبيدة، وحكاه أبو زيد، إلا أن أبا زيد حكى الفتح والكسر فيما قبل الياء فيمن جعل النون حرف إعراب، وحكيا جميعا: رجل مقتوين ورجلان مقتوين ورجال مقتوين. قال أبو زيد: وكذلك المرأة والنساء.
فأما ما انفرد أبو زيد بحكايته من كسر الواو التي قبل الياء وفتحها، فالأصل فيه الكسر، ألا ترى أنك لو أثبت ياء النسب لقلت مقتويّون، فإذا حذفتها وأنت تريدها، وجب تقدير الكسرة، كما كانت تقدر مع الياءين لو أثبتهما.
فالذي فتح إنما أبدل من كسرة الواو فتحة، كما أبدل الكسرة من الفتحة في قوله: (الوافر)
(7/401)
* ولكني أريد به الذّوينا (1) *
فأبدل من الفتحة في الواو الكسرة. يدلّك على أن الأصل فيها الفتحة قوله تعالى (2): {«ذَوََاتََا أَفْنََانٍ»}. وإنما جاز ذلك في الفتحة والكسرة لأنهما كالمثلين.
ألا ترى أنهم قد حركوا بالفتح مكان الكسر في جميع ما لا ينصرف، وجعلوا النصب والجر على لفظ واحد في التثنية وضربي الجمع المسلّم في التأنيث والتذكير.
فكما كانت كل واحدة من الكسرة والفتحة في هذه المواضع بمنزلة الأخرى، كذلك جاز أن تفتح الواو وتكسر من مقتوين فيما رواه أبو زيد.
فأما إجراؤه الكلمة وهي جمع على الواحد فيما اجتمع أبو زيد وأبو عبيدة في حكايته، فوجهه أنه قد جاء (3): {«هُنَّ أُمُّ الْكِتََابِ»} ولم يكنّ أمهات.
فكما أجرى الواحد على الجميع، كذلك في مقتوين وصف الواحد بالجميع.
وكأن الذي حسّن ذلك أنه في الأصل مصدر.
ألا ترى أنه مفعل من القتو، والمصدر يكون للواحد والجميع على لفظ واحد، فلما دخله الواو والنون، وكانا معاقبين لياء النسب صارتا كأنهما لغير معنى الجمع، كما كانتا في ثبة وبرة لما كانتا عوضا من اللام المحذوفة لم يكونا على حالهما في غير ما هما فيه عوض.
ألا ترى أن نحو طلحة لا يجمع بالواو والنون. فجرى مقتوون على الواحد والجميع كما يجري المصدر عليهما. وهذا الاعتلال يستمر في قول من لم يجعل النون حرف إعراب وفي قول من جعلها حرف إعراب.
ألا ترى أن من قال سنين فجعل النون حرف إعراب فهو في إرادته الجمع، كالذي لم يجعلها حرف إعراب.
__________
(1) عجز بيت للكميت بن زيد الأسدي وصدره:
* فلا أعني بذلك أسفليكم *
والبيت للكميت بن زيد في ديوانه 2/ 109والدرر 5/ 29وشرح أبيات سيبويه 2/ 227والكتاب 3/ 282 ولسان العرب (ذو). وهو بلا نسبة في ما ينصرف وما لا ينصرف ص 86.
(2) سورة الرحمن: 55/ 48.
(3) سورة آل عمران: 3/ 7.
(7/402)
ومن هذا الباب إنشاد من أنشد (1): (الرجز)
* قدني من نصر الخبيبين قدي *
من أنشده على الجمع أراد الخبيبين، ونسب إلى أبي خبيب، يريده ويريد شيعته.
وعلى هذا قراءة من قرأ (2): {«سَلََامٌ عَلى ََ إِلْ يََاسِينَ»} أراد النسب إلى الياس. وكما جمع هذا النحو على حد التثنية، كذلك جمع على التكسير في نحو المهالبة والمناذرة.
ومن هذا الباب: الأعجمون في قوله تعالى (3): {«وَلَوْ نَزَّلْنََاهُ عَلى ََ بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ»}. ومن زعم أن أعجمين جمع أعجم فقد غلط، لأن نحو أعجم لا يجمع بالواو والنون، كما أن عجماء لا تجمع بالألف والتاء إذا كانت صفة. فإنما أعجمون جمع أعجميّ، وحذف ياء النسب. وإنما أعجم وأعجميّ مثل أحمر وأحمريّ، يراد بكل واحد منهما ما يراد بالآخر. إلا أن حكم اللفظ مختلف.
فأما الألف في قوله: «مقتوينا»، فتحتمل ضربين: من قال مقتوين فالألف بدل من التنوين كالتي في رأيت رجلا.
ومن قال هؤلاء مقتوون ومقتوين فالألف للإطلاق، كقوله (4): (الوافر)
__________
(1) هو الإنشاد الواحد والثمانون بعد المائتين في شرح أبيات المغني للبغدادي.
والرجز لحميد بن مالك بن الأرقط في تاج العروس (خبب، حكد) والتنبيه والإيضاح 2/ 47، 53والدرر 1/ 207وشرح أبيات المغني 4/ 83وشرح شواهد المغني 1/ 487والكتاب 1/ 387ولسان العرب (خبب) والمقاصد النحوية 1/ 357ولحميد بن ثور في لسان العرب (لحد) وليس في ديوانه ولأبي بجدلة في شرح المفصل 3/ 124. وهو بلا نسبة في الأشباه والنظائر 4/ 241وأوضح المسالك 1/ 120وتخليص الشواهد ص 108والتنبيه والإيضاح 2/ 46وتهذيب اللغة 14/ 124ورصف المباني ص 362وشرح ابن عقيل ص 64والكتاب 2/ 371ومغني اللبيب 1/ 170ونوادر أبي زيد ص 205.
(2) سورة الصافات: 37/ 130.
(3) سورة الشعراء: 26/ 198.
(4) صدر بيت لجرير وعجزه:
* وقولي إن أصبت لقد أصابن *
والبيت هو الإنشاد السابع والخمسون بعد الخمسمائة في شرح أبيات المغني للبغدادي.
والبيت لجرير في ديوانه ص 813والخصائص 2/ 96والدرر 5/ 176، 6/ 233، 309وشرح أبيات سيبويه 2/ 349وشرح أبيات المغني للبغدادي 6/ 46وسر صناعة الإعراب ص 471، 479، 480، 481
(7/403)
* أقلّي اللّوم عاذل والعتابا *
انتهى.
وفيه لغة أخرى، وهي ضم الميم، ولم أر من ذكرها ومن شرحها غير أبي الحسن الأخفش «فيما كتبه على نوادر أبي زيد» وغير أبي علي. قال في «أواخر البغداديات»: قد كتبنا في هذه الأجزاء، وفي غيرها شرح قوله:
* متى كنا لأمّك مقتوينا *
ودلّلنا على صحة قول الخليل فيه، من أنه جمع يراد به النسب على حدّ الأعجمين والأشعرين، بتصحيح لام الفعل، وأن ذلك إنما صحّ، كما صحّ عوروا واجتوروا.
وهذا دليل بين على صحة قول الخليل. فأما ما أنشدناه أبو الحسن الأخفش ليزيد بن الحكم، قوله (1): (الطويل)
تبدّل خليلا بي كشكلك شكله ... فإني خليلا صالحا بك مقتوي
فإنه أنشدناه عن أحمد بن يحيى مقتوي بضم الميم، وهكذا صحته.
وحدثنا عن أحمد بن يحيى، أنه قال: المقتوي من الخدمة. وهو عندنا كما قال.
وشرحه أنه مفعلل، فالواو الصحيح في الكلمة لام الفعل، والياء منقلبة عن اللام الزائدة وأصله واو.
والدليل على ذلك، أنه مثل احمررت، فأما الواو فصحّت، كما صحّت في ارعويت ونحوه، إذ لا يجوز أن يتوالى في الكلمة إعلال لامين، ولا إعلال عين ولام،
__________
493، 501، 503، 513، 677، 726وشرح الأشموني 1/ 12وشرح شواهد المغني 2/ 762 وشرح المفصل 9/ 29والكتاب 4/ 205، 208والمقاصد النحوية 1/ 91وهمع الهوامع 2/ 80، 212.
وهو بلا نسبة في الإنصاف ص 655وجواهر الأدب ص 139، 141وأوضح المسالك 1/ 16ورصف المباني ص 29، 353وشرح ابن عقيل ص 17وشرح عمدة الحافظ ص 98وشرح المفصل 4/ 15، 145، 7/ 9واللسان (خنا) والمنصف 1/ 224، 702ونوادر أبي زيد ص 127.
(1) البيت ليزيد بن الحكم في ديوانه ص 377وأساس البلاغة (قوي) ولسان العرب (خصب). وهو بلا نسبة في لسان العرب (قتا) والمخصص 3/ 141.
(7/404)
لم يوجد ذلك في شيء إلا فيما حكم له بالقلّة.
وفي هذه القصيدة حروف أخر مثلها، وهو قوله: «محجوي»، و «مدحوي»، وهو من حجا ودحا.
ويدلك أيضا على ما ذكرنا من أن «مقتوي» في البيت مفعلل، وأن الميم ليس بمفتوح، إنما هو ميم مفعلل، تعدّيه إلى قوله خليلا. والمفتوحة الميم لا تتعدى إلى شيء، لأنه ليس باسم فاعل.
فإن قلت: أرأيت مفعلل نحو مرعو متعديا في موضع، فيجوز تعدّي هذا الذي في البيت؟ أو ليس هذا الباب يجيء كله غير متعد؟ فالقول فيه أن هذا الباب من اسم الفاعل كما قلت غير متعدّ، كما أن فعله كذلك، إلا أن الشاعر للضرورة يجوز أن يكون حمل ذلك على المعنى فعدّاه. والمعنى: فإني خليلا بك خادم. فحمله على هذا المعنى وعدّاه. وإن شئت أضمرت شيئا دلّ عليه «مقتوي» فتنصبه به.
انتهى.
وتبعه ابن جنّي في «المحتسب»، قال: قالوا: ارعوى افعلّ (1)، واقتوى، أي:
خدم وساس، فمقتو في بيت يزيد مفعلّ (2) من القتو، وهو الخدمة. وخليلا عندنا منصوب بفعل مضمر، يدلّ عليه مقتو، وذلك أنّ افعلّ (3) لا يتعدى إلى المفعول به، فكأنه قال: فإني أخدم أو أسوس، أو أتعهد، أو أستبدل بك خليلا. ودلّ مقتو على ذلك الفعل. انتهى.
وقد شرحنا قصيدة يزيد بن الحكم في أول باب المفعول معه، في الشاهد الثمانين بعد المائة (4).
والبيت من معلقة عمرو بن كلثوم التغلبي، تقدّم سببها وشرح أبيات منها مع ترجمته في الشاهد الثامن والثمانين بعد المائة (5).
__________
(1) في طبعة بولاق: = افعلل =. وهو صحيح على أصل الوزن قبل الإدغام. ولقد أثبتنا رواية النسخة الشنقيطية.
والمحتسب 2/ 25.
(2) في المحتسب: = مفتعل =. وهو تصحيف.
(3) في طبعة بولاق: = افعل =. وهو تصحيف صوابه من النسخة الشنقيطية والمحتسب 2/ 26.
(4) الخزانة الجزء الثالث ص 124.
(5) الخزانة الجزء الثالث ص 169.
(7/405)
وهذه أبيات منها (1):
بأيّ مشيئة عمرو بن هند ... تطيع بنا الوشاة وتزدرينا
بأيّ مشيئة عمرو بن هند ... نكون لقيلكم فيها قطينا
تهدّدنا وأوعدنا رويدا ... متى كنّا لأمّك مقتوينا
فإنّ قناتنا يا عمرو أعيت ... على الأعداء قبلك أن تلينا
قوله: «بأيّ مشيئة» متعلق بتطيع. و «عمرو» منادى مبنيّ على الضم. قال شرّاح المعلّقة (2): هو منصوب على أنّه إتباع لقوله: ابن هند، كما قيل: منتن، فأتبعوا الميم التاء، والقياس الضم.
وعمرو بن هند هو ملك الحيرة في الجاهليّة، قتله صاحب هذه المعلّقة، وتقدّم سبب قتله هناك.
و «تزدرينا»: تحتقرنا. والمعنى: أيّ شيء دعاك إلى هذه المشيئة، ولم يظهر منا ضعف يطمع الملك فينا حتّى يصغي إلى من يشي بنا عنده، ويغريه بنا فيحقرنا؟
وتقدير تطيع بنا، أي: في أمرنا.
و «القيل»، بفتح القاف: من هو دون الملك. وفيها، أي: في المشيئة.
و «القطين»: جمع قاطن، من قطن بالمكان إذا أقام فيه.
يقول: كيف شئت يا عمرو أن نكون خدما ورعايا لمن ولّيتموه أمرنا، أي: ما دعاك إلى هذه المشيئة، ولم يظهر منا ضعف يطمع الملك فينا.
وقوله: «تهدّدنا وأوعدنا رويدا» هذا استهزاء به. وهو بالجزم على أنّه أمر، أي: ترفّق في تهدّدنا وإيعادنا، ولا تبالغ فيهما، متى كنّا خدما لأمّك حتّى نهتمّ بتهديدك ووعيدك إيّانا؟!
وروى (3): «تهدّدنا وتوعدنا» بالمضارع على الإخبار. ثم قال: رويدا، أي:
دع الوعيد والتهديد وأهمله.
__________
(1) الأبيات لعمرو بن كلثوم من معلقته في ديوانه ص 89وشرح القصائد العشر للتبريزي ص 347345.
(2) شرح القصائد العشر للتبريزي ص 345.
(3) هي رواية النحاس في شرح القصائد العشر، وهي في شرح ابن الأنباري وشرح التبريزي أيضا.
(7/406)
قال شرّاح المعلّقة (1)، قالوا: وعدته في الخير والشرّ، فإذا لم تذكر الخير، قلت:
وعدته، وإذا لم تذكر الشر، قلت: أوعدته.
وذكر ابن الأنباري (2) أنّه يقال: وعدت الرجل خيرا وشرا، وأوعدته خيرا وشرّا. فإذا لم تذكر الخير، قلت: وعدته. وإذا لم تذكر الشرّ، قلت: أوعدته.
وقوله: «فإنّ قناتنا» إلخ، قال الزّوزنيّ (3): العرب تستعير للعزّ اسم القناة.
يقول: إنّ قناتنا أبت أن تلين لأعدائنا قبلك. يريد: أنّ عزّهم أبى أن يزول بمحاربة أعدائهم، لأنّ عزّهم منيع لا يرام.
* * * وأنشد بعده، وهو الشاهد الرابع والخمسون بعد الخمسمائة (4): (الطويل)
554 - كسامعتي شاة بحومل مفرد
على أنّه إذا كان المؤنث اللفظي حقيقيّ التذكير، جاز في ضميره التذكير والتأنيث.
و «شاة» هنا مؤنّثة لفظا، ومعناها الثّور الوحشي، وقد رجع إليه ضميره في وصفه، وهو مفرد مذكر، رعاية لجهة المعنى.
قال ابن السكيت في «كتاب المؤنث والمذكر»: ما جاءك من الجمع مثل الشاء والبقر والحصى فهذا اسم موضوع، فإذا أرادت العرب إفراد واحده، قالوا: شاة، للذكر والأنثى.
__________
(1) شرح القصائد العشر للتبريزي ص 347بخلاف يسير جدا.
(2) شرح المعلقات لابن الأنباري ص 403.
(3) شرح المعلقات للزوزني ص 214.
(4) عجز بيت لطرفة بن العبد وصدره:
* مؤلّلتان تعرف العتق فيهما *
والبيت لطرفة بن العبد في ديوانه ص 28وشرح القصائد العشر للتبريزي ص 118وشرح المعلقات السبع للزوزني ص 105وكتاب العين 1/ 349ولسان العرب (سمع، ألل، شوه).
(7/407)
ولم يرد بالهاء التأنيث المحض، إنّما أرادوا الواحد، فكرهوا أن يقولوا: عندي جراد، وهم يريدون الواحد من الجراد، فلا يعرف جمع من واحد، فجعلت الهاء دليلا على الواحد. فهذا قياس مطرد.
وهذا عجز، وصدره:
* مؤلّلتان تعرف العتق فيهما *
وقبله (1):
وصادقتا سمع التّوجّس للسّرى ... لجرس خفيّ أو لصوت مندّد
وهما من معلقة طرفة بن العبد المشهورة.
وصف ناقته بعدّة أبيات إلى أن وصف أذنيها، فقال: «وصادقتا سمع» إلخ، يعني: أذنيها، أي: لا تكذبها إذا سمعت شيئا.
و «التّوجّس»: الخوف والحذر من شيء يسمع.
وقوله: «للسّرى»، أي: في السّرى (2). و «الجرس»، بفتح الجيم: الصوت الخفيّ. و «المندّد»، بفتح الدال المشدّدة: الصوت المرفوع المبيّن.
وقوله: «مؤلّلتان» صفة صادقتا، أي: محدّدتان كتحديد الألّة، بفتح الهمزة وتشديد اللام، وهي الحربة. ويريد أن أذنيها كالحربة في الانتصاب.
و «العتق»: الكرم والنّجابة. أي: أنت تتبيّن الكرم فيهما إذا نظرت إليهما، لتحديدهما، وقلّة وبرهما.
قال الخطيب التبريزي (3): العتق هنا في الأذنين: أن لا يكون في داخلهما وبر، فهو أجود [لسمعهما]. والسّامعتان: الأذنان.
__________
(1) البيت لطرفة بن العبد في ديوانه ص 27وتاج العروس (ندد) وتهذيب اللغة 14/ 72وشرح القصائد العشر للتبريزي ص 117وشرح المعلقات السبع للزوزني ص 104ولسان العرب (ندد). وهو بلا نسبة في جمهرة اللغة ص 476.
(2) بعده في شرح القصائد العشر للتبريزي ص 117: = أو عند السرى =.
(3) شرح القصائد العشر للتبريزي ص 118والزيادة منه.
(7/408)
قال شرّاح المعلّقة: «الشاة» هنا: الثّور الوحشي، ولهذا قال: «مفرد» بلا هاء. و «حومل»: اسم رملة، لا ينصرف.
وشبّه أذني ناقته بأذني ثور وحشي، لتحديدهما وصدق سمعهما. وأذن الوحشيّ أصدق من عينه. وجعله مفردا لأنّه أشدّ توجّسا وحذرا، إذ ليس معه وحش يلهيه ويشغله، فانفراده أشدّ لسمعه وارتياعه.
وترجمة طرفة بن العبد تقدّمت في الشاهد الثاني والخمسين بعد المائة (1).
* * * وأنشد بعده (2): (المتقارب)
فلا مزنة ودقت ودقها ... ولا أرض أبقل إبقالها
تقدّم شرحه مفصّلا في الشاهد الثاني أول الكتاب (3).
* * * وأنشد بعده، وهو الشاهد الخامس والخمسون بعد الخمسمائة (4): (الطويل)
__________
(1) الخزانة الجزء الثاني ص 370.
(2) هو الإنشاد التسعون بعد الثمانمائة في شرح أبيات المغني للبغدادي.
والبيت لعامر بن جوين في تاج العروس (ودق) وتخليص الشواهد ص 483والدرر 6/ 268وشرح أبيات المغني للبغدادي 8/ 17وشرح التصريح 1/ 278وشرح شواهد الإيضاح ص 339، 460وشرح شواهد المغني 2/ 943والكتاب 2/ 46ولسان العرب (أرض، بقل) والمقاصد النحوية 2/ 462. وهو بلا نسبة في أمالي ابن الحاجب 1/ 352وأوضح المسالك 2/ 108وجواهر الأدب ص 113والخصائص 2/ 411والرد على النحاة ص 91ورصف المباني ص 166وشرح أبيات سيبويه 1/ 557وشرح ابن عقيل ص 244 وشرح الأشموني 1/ 174وشرح المفصل 5/ 94ولسان العرب (خضب) والمحتسب 2/ 112ومغني اللبيب 2/ 656والمقرب 1/ 303وهمع الهوامع 2/ 171.
(3) الخزانة الجزء الأول ص 63.
(4) البيت لعارق الطائي من قصيدة يخاطب بها عمرو بن هند، وقيل المنذر بن ماء السماء أخا عمرو في الأغاني 22/ 188والحماسة برواية الجواليقي ص 576وشرح الحماسة للأعلم الشنتمري 2/ 1100وشرح الحماسة
(7/409)
555 - حلفت بهدي مشعر بكراته
يخبّ بصحراء الغبيط درادقه
على أنّ تأنيث نحو الزينبات مجازيّ، لا يجب له تأنيث المسند، بدليل البيت، فإن «البكرات» كالزينبات، ولم يؤنّث له المسند، وهو مشعر.
وهذا ظاهر.
وقد خطّأ المبرد في «كتاب الروضة» قول أبي نواس: (المديد)
كمن الشّنآن منه لنا ... ككمون النّار في حجره
وقال: كان يجب أن يقول في حجرها، لأنّ النار مؤنّثة. وأجابوا عنه بأنّ أبا نواس أراد: ككمون النار في حجر الكمون.
والبيت من قصيدة لعارق الطّائيّ، عدّتها في رواية أبي تمام في الحماسة (1) أحد عشر بيتا، وفي رواية الأعلم (2): في «حماسته» أربعة عشر بيتا.
وبعده. وهو آخر القصيدة (3):
لئن لم تغيّر بعض ما قد صنعتم ... لأنتحين للعظم ذو أنا عارقه
وبهذا البيت سمّي عارقا، واسمه قيس كما يأتي.
خاطب بها عمرو بن هند ملك الحيرة (4)، وقيل: أخاه المنذر بن المنذر بن ماء السماء. كان أحدهما بعث جيشا للغزو، فلم يصيبوا أحدا وأخفقوا، فمرّوا بحيّ من طيّئ في حمى الملك فاستاقوهم، وكان قد أرعاهم الحمى، وكتب لهم بذلك
__________
للخطيب التبريزي 4/ 131وشرح الحماسة للمرزوقي ص 1746.
وروايته في شرح الأعلم والتبريزي:
... تخبّ بصحراء الغبيط درادقه
(1) شرح الحماسة للخطيب التبريزي ص 131129.
(2) شرح الحماسة للأعلم الشنتمري ص 11001098.
(3) الأغاني 22/ 188والحماسة برواية الجواليقي ص 576وشرح الحماسة للأعلم الشنتمري ص 1100 وشرح الحماسة للخطيب التبريزي 4/ 131وشرح الحماسة للمرزوقي ص 1746.
(4) مقدمة القصيدة في شرح الأعلم ص 1097.
(7/410)
عهدا، فلمّا قدموا بهم إلى الملك شاور فيهم زرارة بن عدس الدّارمي، فأشار عليه بقتل المقاتلة منهم، واستعباد ذراريهم، فقام رجل منهم، وقال: هذا كتابك لنا.
فأجرى عليهم الملك رزقا، فارتجل عارق هذا الشعر (1)، فلمّا سمعه الملك أحسن إليهم وخلّى سبيلهم.
وقوله: «حلفت بهدي» إلخ، «الهدي»: ما يهدى إلى الحرم من النّعم.
يقال: أهديت الهدي إلى الحرم، أي: سقته إليه.
و «مشعر»: اسم مفعول من الإشعار، وهو أن يطعن في السّنام، فيسيل الدم عليه، فيستدلّ بذلك على كونه هديا. وجعل الهدي دالّا على الجنس. وما بعده صفته، وهو مشعر، وبكراته مرفوع بمشعر، وهو جمع بكرة، وهي الشابّة من الإبل.
وخبّ يخبّ خببا، كطلب يطلب طلبا. والخبب: ضرب من العدو، وهو خطو فسيح. والباء بمعنى في.
و «الغبيط»، بفتح الغين المعجمة وكسر الموحدة: موضع قريب من فلج في طريق البصرة إلى مكّة.
و «الدّرادق»: جمع دردق كجعفر، وهو صغار الإبل. والضمير في بكراته ودرادقه للهدي.
وقوله: «لئن لم تغيّر» إلخ، هذه اللام هي اللام الموطئة، وطّأت الجواب الآتي للقسم الذي قبل الشرط، سواء كان القسم قبلها موجودا كما هنا أو غير موجود، كقوله تعالى (2): {«لَئِنْ أُخْرِجُوا لََا يَخْرُجُونَ»}. ولا يجوز أن تكون هذه اللام لام جواب القسم بأن يكون الجواب للشرط، ومجموع الشرط وجوابه جواب القسم، إذ لو كانت كذلك لجاز جزم الفعل في قولك: لئن أكرمتني أكرمك، بالجزم، والتالي باطل والمقدّم مثله.
وقد أجمع النّحاة على أنّ الفعل الثاني واجب الرفع. فإن قلت: فما جواب الشرط؟ قلت: محذوف دلّ عليه جواب القسم. و «تغيّر» بالخطاب.
__________
(1) في شرح الأعلم: = فارتحل عارق وقال هذا الشعر =.
(2) سورة الحشر: 59/ 12.
(7/411)
وروي: بالغيبة على البناء للمفعول ورفع بعض.
وقوله: «لأنتحين» اللام لام جواب القسم، و «أنتحين» مؤكد بالنون الخفيفة، جواب للقسم في البيت قبله وهو حلفت. والانتحاء للشيء: التعرّض له، والاعتماد والميل.
وروى: «لأنتحينّ العظم» بنون التوكيد الثقيلة وبلام التعريف بعدها. و «ذو» صفة للعظم، وهو في لغة طيّئ بمعنى الذي. وجملة: «أنا عارقه» صلته.
وبه أورده الزمخشري في «المفصّل»، قال: ومن الموصولات ذو الطائية.
وأنشد البيت.
و «عارق»: اسم فاعل من عرقت العظم عرقا، من باب قتل: أكلت ما عليه من اللحم. جعل شكواه كالعرق، وجعل ما بعده إن لم يغيّر ما صنعه تأثيرا في العظم.
يقول: حلفت أيّها الملك بقرابين الحرم وقد أعلمت بكراتها بعلامة الإهداء، يخبّ بصحراء ذلك الموضع صغارها، إن لم تعيّر بعض ما صنعته، ولم تتدارك ما فاتنا من عدلك، لأميلنّ على كسر العظم الذي أخذت ما عليه من اللّحم.
جعل شكواه وتقبيحه لما أتاه كالعرق، وجعل ما بعده إن لم يغير تأثيرا في العظم نفسه. وقد أحسن في التوعّد، وفي الكناية عن فعله وعما يهمّ به (1) بعده. ومعناه:
أكسر عظمكم بعد هذا التهديد، إن لم ترجعوا عن هذا الظلم.
عارق الطائي
و «عارق» اسمه قيس بن جروة بن سيف (2) بن وائلة بن عمرو بن مالك بن أمان، ويقال لأولاده: الأجئيّون، لإقامتهم بأجأ، وهو أحد جبلي طيّئ. وأمان هو ابن ربيعة بن جرول بن ثعل الطائي. كذا في جمهرة الأنساب. ويقال له: الأجئيّ لما ذكرنا. وهو شاعر جاهلي أورد أبو تمام من شعره في عدّة مواضع من الحماسة.
* * * __________
(1) في طبعة بولاق: = وعماهم =. وهو تصحيف صوابه من النسخة الشنقيطية.
(2) في معجم الشعراء للمرزباني ص 326: = بن سيف بن مالك بن عمرو بن أمان =.
وهو قيس بن جروة الأجئي، شاعر جاهلي، لقب بعارق لشعر قاله. انظر في ترجمته الأغاني 22/ 186وما بعدها وشرح الحماسة للأعلم ص 1097ومعجم الشعراء ص 326ونوادر المخطوطات 2/ 327.
(7/412)
وأنشد بعده، وهو الشاهد السادس والخمسون بعد الخمسمائة (1): (البسيط)
556 - لو كنت من مازن لم تستبح إبلي
بنو اللّقيطة من ذهل بن شيبانا
على أنّ «بنون» لتغيّر مفرده في الجمع أشبه جمع المكسّر، فجاز تأنيث الفعل المسند إليه، كما يجوز في الأبناء الذي هو جمع مكسّر، كما أسند في البيت «لم تستبح» بتاء التأنيث في أوله إلى «بنو».
وهذا ظاهر.
والبيت أوّل أبيات ثمانية، هي أوّل الحماسة، لقريط بن أنيف العنبريّ، وبعده (2):
إذن لقام بنصري معشر خشن ... عند الحفيظة إن ذو لوثة لانا (3)
قوم إذا الشّرّ أبدى ناجذيه لهم ... طاروا إليه زرافات ووحدانا (4)
__________
(1) هو الإنشاد العشرون في شرح أبيات المغني للبغدادي.
والبيت لقريط بن أنيف رجل من بلعنبر في الحماسة برواية الجواليقي ص 29وشرح أبيات المغني للبغدادي 1/ 83وشرح الحماسة للتبريزي 1/ 5وشرح شواهد المغني 1/ 68ولأحد شعراء بلعنبر في شرح الحماسة للأعلم الشنتمري 1/ 357وشرح الحماسة للمرزوقي ص 23وللعنبري في لسان العرب (لقط) وللحماسي في مغني اللبيب 1/ 21، 257. وهو بلا نسبة في شرح شواهد المغني 2/ 643ومجالس ثعلب 2/ 473.
(2) الأبيات لقريط بن أنيف في باب الحماسة الحماسة برواية الجواليقي ص 3029وشرح الحماسة للخطيب التبريزي 1/ 105وهي لرجل من بلعنبر في شرح الحماسة للأعلم الشنتمري 1/ 359357وشرح الحماسة للمرزوقي ص 3023.
(3) هو الإنشاد العشرون في شرح أبيات المغني للبغدادي.
والبيت لقريط بن أنيف في الحماسة برواية الجواليقي ص 29وشرح أبيات المغني 1/ 83وشرح الحماسة للتبريزي 1/ 7 وشرح شواهد المغني 1/ 68ولرجل من بلعنبر في شرح الحماسة للأعلم الشنتمري 1/ 357وشرح الحماسة للمرزوقي ص 23وللحماسي في مغني اللبيب 1/ 21. وهو بلا نسبة في تاج العروس (خشن) وشرح شواهد المغني 2/ 643 وشرح المفصل 1/ 82، 9/ 13، 96ولسان العرب (خشن) ومجالس ثعلب 2/ 473.
(4) البيت لقريط بن أنيف العنبري في تاج العروس (طير، زرف) والحماسة برواية الجواليقي ص 29وشرح الحماسة للخطيب التبريزي 1/ 8ولرجل من بلعنبر في شرح الحماسة للأعلم 1/ 358وشرح الحماسة للمرزوقي ص 27وللعنبري في تاج العروس (طير) ولسان العرب (طير). وهو بلا نسبة في تاج العروس (وحد) ولسان العرب (وحد).
(7/413)
لا يسألون أخاهم حين يندبهم ... في النّائبات على ما قال برهانا
لكنّ قومي وإن كانوا ذوي عدد ... ليسوا من الشّرّ في شيء وإن هانا (1)
يجزون من ظلم أهل الظّلم مغفرة ... ومن إساءة أهل السّوء إحسانا
كأنّ ربّك لم يخلق لخشيته ... سواهم من جميع النّاس إنسانا
فليت لي بهم قوما إذا ركبوا ... شنّوا الإغارة فرسانا وركبانا (2)
قال أبو عبيدة (3):
أغار ناس من بني شيبان على رجل من بني العنبر، يقال له: قريط بن أنيف، فأخذوا له ثلاثين بعيرا، فاستنجد قومه فلم ينجدوه، فأتى مازن تميم، فركب معه نفر فأطردوا لبني شيبان مائة بعير، فدفعوها إليه، فقال هذه الأبيات. انتهى.
و «مازن»: هنا هو ابن مالك بن عمرو بن تميم، أخي العنبر بن عمرو بن تميم.
وإذا كان كذلك، فمدح هذا الشاعر لهم يجري مجرى الافتخار بهم.
قال المرزوقي (4): قصد الشاعر في هذه الأبيات إلى بعث قومه على الانتقام له من أعدائه، لا إلى ذمّهم. وكيف يذمّهم، ووبال الذمّ راجع إليه؟
__________
(1) البيت لقريط بن أنيف في الحماسة برواية الجواليقي ص 29وشرح الحماسة للخطيب التبريزي 1/ 9ولرجل من بلعنبر في شرح الحماسة للأعلم الشنتمري 1/ 359وشرح الحماسة للمرزوقي ص 30وشرح شواهد المغني 1/ 69والمقاصد النحوية 3/ 72. وهو بلا نسبة في الأشباه والنظائر 7/ 110وشرح شواهد المغني 2/ 643 ومجالس ثعلب 2/ 473ومغني اللبيب 1/ 257.
(2) هو الإنشاد الرابع والأربعون بعد المائة في شرح أبيات المغني للبغدادي.
البيت لقريط بن أنيف في الحماسة برواية الجواليقي ص 30والدرر 3/ 80وشرح أبيات المغني 2/ 302وشرح الحماسة للخطيب التبريزي 1/ 10وشرح الحماسة للأعلم الشنتمري 1/ 359وشرح الحماسة للمرزوقي ص 30وشرح شواهد المغني 1/ 69والمقاصد النحوية 3/ 72، 277وللعنبري في لسان العرب (ركب) وللحماسي في همع الهوامع 2/ 21. وهو بلا نسبة في الجنى الداني ص 40وجواهر الأدب ص 47والدرر 4/ 103وشرح الأشموني 2/ 293وشرح شواهد المغني 1/ 316وشرح ابن عقيل ص 295، 361ومغني اللبيب 1/ 104وهمع الهوامع 1/ 195.
(3) الخبر في شرح الحماسة للخطيب التبريزي 1/ 1110وشرح أبيات المغني للبغدادي 1/ 84.
وأبو عبيدة: هو معمر بن المثنى التيمي.
(4) شرح الحماسة للمرزوقي ص 23مع بعض الاختلاف وشرح أبيات المغني 1/ 85.
(7/414)
لكنه سلك طريقة كبشة أخت عمرو بن معديكرب في قولها: (الطويل)
ودع عنك عمرا إنّ عمرا مسالم ... وهل بطن عمرو غير شبر لمطعم
فإنّها لا تهجو أخاها، وعمرو هو الذي كان يعدّ بألف فارس، ولكنّ مرادها تهييجه.
و «الاستباحة»: الإباحة. وقيل الإباحة: التخلية بين الشيء وبين طالبه، والاستباحة: اتخاذ الشيء مباحا. والأصل في الإباحة إظهار الشيء للناظر ليتناوله من شاء، ومنه: باح بسرّه.
و «اللقيطة» إنما ألحق بها الهاء، وإن كانت فعيلا بمعنى مفعول، لأنّها جعلت اسما ولم تتبع موصوفا كالذّبيحة.
كذا في شروح الحماسة. ولا مناسبة للّقيطة هنا لأنّها فزارية، لا اتّصال لها بذهل بن شيبان. والصواب: «بنو الشّقيقة» كما يأتي.
وأوّل من شرح على «اللقيطة» واتّبعوه: أبو عبد الله النمريّ، أوّل من شرح «الحماسة». قال: اللقيطة نبز نبزهم الشاعر به، وليس بنسب لهم، جعل أمّهم ملقوطة، وأخرجها مخرج النطيحة والرميّة. هذا كلامه.
وردّ عليه الأسود أبو محمد الأعرابيّ، «فيما كتبه على ذلك الشرح»، قال:
هذا موضع المثل (1): «أوّل الدّنّ درديّ».
هذا أول بيت من «الحماسة» جهل جهة الصواب في صحّة متنه، واستواء نظامه، فاشتغل بوزن اللّقيطة وذكر النطيحة. والصواب إن شاء الله ما أنشدناه أبو النّدى، وذكر أنّه لقريط بن أنيف العنبريّ:
لو كنت من مازن لم تستبح إبلي ... بنو الشّقيقة من ذهل بن شيبانا
قال: الشقيقة هي بنت عبّاد بن زيد بن عوف بن ذهل بن شيبان. وهي أمّ سيّار، وسمير، وعبد الله، وعمرو، أولاد سعد بن همام بن مرّة بن ذهل بن شيبان.
وهم سيّارة مردة، ليس يأتون على شيء إلّا أفسدوه.
__________
(1) المثل في مجمع الأمثال للميداني 1/ 89.
والدردي: ما رسب أسفل العسل والزيت ونحوهما من كل شيء مائع كالأشربة والأدهان.
(7/415)
قال: وأمّا اللّقيطة، وليس هذا موضعها، فهي أمّ حصن بن حذيفة وإخوته، وهم خمسة، واسمها نضيرة بنت عصيم بن مروان بن وهب بن بغيض بن مالك بن سعد بن عدي بن فزارة.
وإنّما ألحق بها هذا الاسم لأنّ أباها لم يكن له ولد غيرها، والعرب ذاك الدّهر تئد الجواري، فلما رآها انتشرت نفسه عليها ورقّ لها، وقال لأمّها: استرضعيها وأخفيها من الناس.
فكان أوّل من فطن لها حمل بن بدر، فقال لأخيه حذيفة وتحته العذريّة ليس له ولد إلّا منها، وهو مسهر، وبه كان يكتنى: مالك لا تتزوّج وتجمع النساء نرزق منك عضدا؟
قال: ومن لي بالنساء [التي] تشبهني وتلائمني؟ قد علمت ما لقيت من العذريّة وطلبها! قال: قد التقطت لك امرأة ترضاها وتشبهك. قال: من هي؟ قال: بنت لعصيم بن مروان بن وهب. قال: وإنّ له لبنتا؟ قال: نعم. قال: فإنّي لم أسمع بها. قال: كانت مخفاة وقد خبّرت خبرها. قال: فأنت رسولي إلى عصيم فيها.
قال: فأتاه فزوّجه إيّاها.
وبهذا سمّيت اللقيطة. وهي أمّ حصن، ومالك، ومعاوية، وورد، وشريك، بني حذيفة.
وإيّاهم عنى زبّان بن سيّار، بقوله (1): (الكامل)
أعددتها لبني اللّقيطة فوقها ... رمح وسيف صارم وشليل
انتهى كلام الأسود (2).
وما أورده في تسمية اللقيطة خلاف ما قاله السكّريّ في «شرح ديوان حسان بن
__________
(1) البيت لزبان بن سيار في شرح أبيات المغني للبغدادي 1/ 86وشرح الحماسة للتبريزي 1/ 6وشرح الحماسة للمرزوقي ص 353.
وفي طبعة بولاق: = وسليل =. وهو تصحيف صوابه من النسخة الشنقيطية وشرح أبيات المغني وشروح الحماسة.
الشليل بالشين المعجمة: الدرع.
(2) نقله الخطيب التبريزي في شرحه للحماسة 1/ 6. وقال: وزعم أبو محمد الأعرابي أن الرواية: = لم تستبح إبلي بنو اللقيطة إلخ.
(7/416)
ثابت»، قال: اللقيطة: أمّ حصن بن حذيفة، كانت سقطت منهم في نجعة وهي صغيرة، فأخذت فسمّيت اللقيطة.
وكذا قال ياقوت في «أنساب العرب»، قال: وحصن بن حذيفة، هو ابن اللقيطة، لأنّ قومها انتجعوا فسقطت، وهي طفل، فالتقطها قوم فردّوها عليهم.
انتهى. والله أعلم.
وقوله: «إذن لقام بنصري» إلخ، يأتي إن شاء الله الكلام على إعراب هذا البيت في إذن من نواصب الفعل. وقام بالأمر: تكفّل به.
و «خشن»، بضمتين: جمع خشن، وقيل: [جمع] أخشن، وضمّة الشين للإتباع.
و «الحفيظة»: الغضب في الشيء الذي يجب عليك حفظه. و «اللّوثة»، بضم اللام: الضّعف، وهي الرواية الصحيحة، وبالفتح: القوّة والشدّة. والأول أسدّ لأنّ مراده التعريض بقومه ليغضبوا أو يهتاجوا لنصرته.
وقوله: «قوم إذا الشرّ» إلخ، «الناجذ»، بالجيم والذال المعجمة: ضرس الحلم، زائد. والناجذ: مثل لاشتداد الشرّ، كما يقال: كشّر الحرب عن نابه (1)
كذا في شرح الطبرسي.
وقال غيره: الناجذ: أقصى الأضراس، كنى بإبدائه عن كشف الحال ورفع المجاملة. واستعمال الناجذ للشر استعارة لاشتداد أمره.
و «طاروا»: أسرعوا إلى دفعه ولم يتثاقلوا، و «الزّرافة»، بفتح الزاي، قال ابن جنّي في «إعراب الحماسة»: معناها الجماعة، سمّيت بذلك للزيادة التي في الاجتماع والتضامّ (2). ومنه التزريف، للزيادة في الحديث، يقال: زرّف في كلامه، أي: زاد فيه. ومنه الزّرافة لطول عنقها وزيادته على المعتاد المألوف فيما قدّه قدّها.
و «وحدان»: جمع واحد، كصاحب وصحبان، بمعنى منفردين.
__________
(1) أراد بالحرب هنا: القتال. مؤنث. وفي اللسان (حرب): = وحكى ابن الأعرابي فيها التذكير وأنشد:
وهو إذا الحرب هفا عقابه ... كره اللقاء تلتظي حرابه
قال: والأعرف تأنيثها إنما حكاية ابن الأعرابي نادرة =.
(2) في إعراب الحماسة لابن جني ورقة 5: = والتضام فيه =.
(7/417)
وقوله: «لا يسألون أخاهم» إلخ، قال ابن جنّي: ليس يندبهم هنا من النّدبة التي هي التفجّع، وإنما هي بمعنى الاشتغاثة. غير أنّ أصلهما واحد، وهو ما اجتمعا فيه من معنى الخصوص والعناية.
و «البرهان»: الدليل، فعلال لا فعلان، لقولهم: برهنت عليه، أي: أقمت الدّليل. وأخو القوم: الواحد منهم. واستشهد به صاحب الكشاف عند قوله تعالى (1):
{«إِذْ قََالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلََا تَتَّقُونَ»} على أنّ الأخ يطلق ويراد به الواحد من القوم كما في البيت. وفي البيت تعريض بقومه.
وقوله: «لكنّ قومي» إلخ، يعني إنّ قومي، وإن كان فيهم كثرة عدد وعدّة لسيوا من دفع الشرّ في شيء، وإن كان فيه خفّة وقلّة. وفيه مطابقة، حيث قابل الشرط بالشرط في الصّدر والعجز، والعدد والكثرة بالهون والخفّة. ويريد أنهم يؤثرون السلامة ما أمكن، ولو أرادوا الانتقام لقدروا بعددهم.
وقوله: «يجزون من ظلم» هذا البيت وما بعده استشهد بهما أهل البديع على النوع المسمّى: «إخراج الذمّ مخرج المدح». ونبّه بالبيتين على أنّ احتمالهم إنّما هو لاحتساب الأجر على زعمهم، فكأنّ الله لم يخلق لخوفه غيرهم. وقوله:
«سواهم» استثناء مقدّم من إنسان.
وقوله: «فليت لي بهم» أورده ابن هشام في «حرف الباء من المغني» على أنّ الباء في «بهم» للبدلية. وقال ابن جنّي: ليست الإغارة هنا مفعولا به، بل هي منتصبة على المفعول لأجله، أي: شدّوا للإغارة فرسانا وركبانا، أي: في هذه الحال.
و «قريط بن أنيف»
، بضم القاف وفتح الراء. وأنيف، بضم الهمزة وفتح النون. وهو شاعر إسلامي. قاله الخطيب التّبريزي في الحماسة (2).
وقد تتبّعت كتب الشعراء وتراجمهم فلم أظفر له بترجمة.
* * * __________
(1) سورة الشعراء: 26/ 106.
(2) لم يذكر ذلك الخطيب التبريزي في شرحه للحماسة التي بين أيدينا، وإنما ذكر العيني في شرح الشواهد 3/ 72 أنه شاعر إسلامي.
(7/418)
وأنشد بعده (1): (الطويل)
* بحوران يعصرن السّليط أقاربه *
وتقدّم شرحه مفصّلا في الشاهد السادس والسبعين بعد الثلثمائة (2).
* * * وأنشد بعده، وهو الشاهد السابع والخمسون بعد الخمسمائة (3): (الطويل)
557 - مع الصّبح ركب من أحاظة مجفل
على أنّ اسم الجمع بعضه ك «الرّكب» يجوز تذكيره وتأنيثه، وفي الشعر جاء مذكّرا، فإنه عاد الضمير عليه من «مجفل» بالتذكير، ولو أنّث لقيل: مجفلة.
و «مجفل» صفة ثانية لركب.
وهذا عجز بيت، وصدره:
* فعبّت غشاشا ثمّ مرّت كأنّها *
والبيت من القصيدة المشهورة بلاميّة العرب، للشّنفرى. وهذه أبيات منها متّصلة به (4):
__________
(1) البيت للفرزدق في ديوانه 1/ 50والاشتقاق ص 242وتخليص الشواهد ص 474والدرر 2/ 285 وشرح أبيات سيبويه 1/ 491وشرح شواهد الإيضاح ص 336، 626وشرح المفصل 3/ 89، 7/ 7 والكتاب 2/ 40ولسان العرب (سلط، دوف). وهو بلا نسبة في الجنى الداني ص 150والخصائص 2/ 194 ورصف المباني ص 19، 332وسر صناعة الإعراب ص 446ولسان العرب (خطأ) ومعجم البلدان (دياف) وهمع الهوامع 1/ 160.
(2) الخزانة الجزء الخامس ص 230وما بعدها.
(3) البيت للشنفرى في ديوانه ص 67وأمالي القالي 3/ 205وشرح شواهد الشافية ص 148وشرح لامية العرب للعكبري ص 45ولامية العرب ص 52ومعجم ما استعجم 1/ 116. وهو بلا نسبة في شرح شافية ابن الحاجب 2/ 202.
(4) الأبيات للشنفرى في ديوانه ص 6766وأمالي القالي 3/ 205وشرح لامية العرب للعكبري ص 4342
(7/419)
وتشرب أسآري القطا الكدر بعد ما ... سرت قربا أحناؤها تتصلصل (1)
هممت وهمّت وابتدرنا وأسدلت ... وشمّر منّي فارط متمهّل
فولّيت عنها وهي تكبو لعقره ... يباشره منها ذقون وحوصل
كأنّ وغاها حجرتيه وحوله ... أضاميم من سفر القبائل نزّل
توافين من شتّى إليه فضمّها ... كما ضمّ أذواد الأصاريم منهل
فعبّت غشاشا ... البيت
وقوله: «وتشرب أسآري» إلخ، «الأسآر»، بفتح الهمزة: جمع سؤر، وهو بقية الماء.
يريد أنّه يسبق القطا إذا سايرها في طلب الماء لسرعته، فترد بعده وتشرب سؤره، مع أنّ القطا أسرع الطير ورودا.
و «أسآري»: مفعول تشرب، و «القطا»: فاعله، و «الكدر»: صفته.
والقطا ثلاثة أضرب: أحدها كدريّ، وهي الغبر الألوان، الرّقش الظّهور، والبطون، والصّفر الحلوق.
ثانيها: جونيّ بضم الجيم، وهي سود الأجنحة والبطون، وهي أكبر من الكدر (2)، وتعدل جونيّة بكدريّتين، وهي منسوبة إلى الجونة، وهي الدّهمة.
والكدريّ منسوب إلى الكدرة، وهي الغبرة.
ثالثها: غطاط، وهي غبر البطون والظهور، سود بطون الأجنحة، طوال الأرجل والأعناق، لطاف الأجسام، لا تجتمع أسرابا، أكثر ما تكون ثلاثا أو اثنين.
كذا في «شرح أدب الكاتب» لابن برّي، واللّبليّ.
وسريت، إذا سرت في أوّل الليل وأسريت، إذا سرت في آخره. وقيل: بل هما لغتان.
__________
ولامية العرب ص 5250.
(1) البيت للشنفرى في ديوانه ص 66وأمالي القالي 3/ 206والمقاصد النحوية 3/ 206. وهو بلا نسبة في الأشباه والنظائر 7/ 21وشرح عمدة الحافظ ص 455.
(2) في النسخة الشنقيطية: = الكدري =.
(7/420)
و «القرب»، بفتح القاف والراء، قال الخطيب التّبريزيّ في «شرح القصيدة»:
هو ورود الماء. يقال: قربت الماء أقربه، إذا وردته. وليلة القرب: ليلة ورود الماء.
وقال الزمخشري في «شرحها»: قربا: حال من ضمير سرت. والقرب:
السير إلى الماء بينك وبينه ليلة. قال الأصمعيّ: قلت لأعرابيّ: ما القرب؟ فقال:
سير الليل لورود الغد. وقال الخليل: القارب: طالب الماء ليلا، ولا يقال لطالب الماء نهارا. انتهى.
و «الأحناء»: جمع حنو، بكسر المهملة وسكون النون، هو الجانب.
و «يتصلصل»: يصوّت.
قال الخطيب: وروايتي: «أحشاؤها» وهو أجود عندي. ويقال لليابس:
سمعت صلصلة، أي: صوتا من يبسه.
والصلصال: الفخّار. يقول: تتصلصل (1) أجوافها من العطش ليبسها.
وقوله: «هممت وهمّت» إلخ، هممت أنا وهمّت القطا. و «ابتدرنا»:
استبقنا. و «أسدلت»: أرخت جناحها وكفّت عن الطيران لتعبها.
قال الخطيب: وحفظي «وابتدرنا وقصّرت»، يريد أنّ القطا عجزت عن العدو وهو لم يكلّ. و «شمّر»: خفّ. و «الفارط»، بالفاء: المتقدّم.
و «المتمهّل»: المتأنّي. وفيه مبالغة وتجريد.
وقوله: «فولّيت عنها» إلخ، «تكبو»: تتساقط القطا إلى عقر الحوض، أي: تقرب منه.
و «العقر»، بضم العين المهملة وسكون القاف، هو مقام الساقي من الحوض، يكون فيه ما يتساقط من الماء عند أخذه من الحوض.
و «الذّقون»: جمع ذقن في الكثرة، وأذقان في القلّة. و «حوصل»: جمع حوصلة. يقول: وردت وصدرت والقطا تكرع ثم تصدر، وكنت أسرع منها.
وقوله: «كأنّ وغاها حجرتيه» إلخ، «وغاها»: أصواتها. و «الوغى»، بالغين المعجمة والمهملة: الصوت. و «حجرتيه»، منصوب على الظرف، والضمير
__________
(1) في طبعة بولاق: = يتصلصل =. وهو تصحيف صوابه من النسخة الشنقيطية.
(7/421)
للعقر، أي: مقام الساقي. وحجرتاه: ناحيتاه، مثنى حجرة، بفتح المهملة وسكون الجيم: الناحية.
و «حوله»: ظرف معطوف عليه، والضمير للعقر أيضا. و «أضاميم»: خبر كأنّ على حذف مضاف، أي: كأنّ وغاها وغى أضاميم، لأنّ التشبيه إنّما هو بين الصّوتين. وأضاميم: جمع إضمامة بالكسر، وهو القوم (1) ينضمّ بعضهم إلى بعض في السفر.
و «نزّل»: جمع نازل صفة أضاميم. أي: يسمع لهذه القطا أصوات كما يسمع أصوات هؤلاء عند نزولهم.
وقوله: «توافين من شتّى» إلخ، «توافين»: اجتمعن، والضمير للقطا.
و «من شتّى»، أي: من طرق مختلفة، جمع شتيت بمعنى مختلف. وضمير «إليه» للعقر، وكذلك فاعل ضمّها ضمير العقر.
و «أذواد»: جمع ذود، وهو ما بين الثّلاث إلى العشر من الإبل. و «الأصاريم»:
جمع أصرام بالفتح، وهو جمع صرم بالكسر، وهو القطعة من الإبل. كذا قال الخطيب.
وقال غيره: هو أبيات مجتمعة من الأعراب. و «المنهل»: مورد الماء، وهو فاعل ضمّ، وأذواد: مفعوله.
وقوله: «فعبّت غشاشا» إلخ، «عبّت»: شربت بلا مصّ. قال ثعلب:
عبّ يعبّ، إذا شرب الماء فصبّه في الحلق صبّا. وقال الخطيب: عبّت: تابعت الشّرب، كأنّها تعبّيه في أجوافها، فيكون من التعبية. و «غشاشا»، بكسر الغين المعجمة بعدها شينان معجمتان.
قال الخطيب: قال بعض أهل اللغة: معناه على عجلة. وقال غيره: قليلا أو غير مريء (2). و «الرّكب»: ركبان الإبل خاصّة. يقول: وردت القطا على عجل ثم صدرت في بقايا من الظّلمة في الفجر. وهذا يدلّ على قوّة سرعتها.
__________
(1) كذا في طبعة بولاق والنسخة الشنقيطية. وهو يعني لفظ الأضاميم.
وفي شرح اللامية للعكبري ص 44: = وأضاميم: قوم ينضم بعضهم إلى بعض في السفر =.
(2) في النسخة الشنقيطية: = قليلا أي غير مريء =.
(7/422)
و «مجفل»، بالجيم: مسرع، صفة ثانية لركب، ومن أحاظة صفة أولى.
و «أحاظة»، بضم الهمزة بعدها مهملة وظاء مشالة معجمة، قال الخطيب: أحاظة فيما ذكر ثعلب: قبيلة من الأزد.
وقال غيره: هي قبيلة من اليمن. ولم يعرفها المبرد، ولم أسمع باسمها إلّا في هذا الشعر. انتهى.
وقوله: «وقال غيره» إلخ، غير جيد، فإنّ الأزد من اليمن.
وقيل: أحاظة موضع لا قبيلة. قال البكري في «معجم ما استعجم»: أحاظة:
بلد. وأنشد هذا البيت، ثم قال: وقد قيل: إنّ أحاظة قبيلة من ذي الكلاع من حمير، وهو الصحيح. انتهى.
وقد ذكره ابن الكلبي في «جمهرة حمير»، قال: وأحاظة أخو ميتم بن سعد ابن عوف بن عدي بن مالك بن زيد بن سهل بن عمرو بن قيس بن معاوية بن جشم ابن عبد شمس بن وائل بن الغوث بن قطن بن عريب بن زهير بن أيمن بن الهميسع بن حمير بن سبأ.
ثم ذكر ميتم وأحاظة وغيرهما. وقال: وقد تكلّعوا، وهم رهط سميفع، وهو ذو الكلاع الأصغر، ابن ناكور بن عمرو بن يعفر بن يزيد، وهو ذو الكلاع الأكبر، ابن النعمان.
ثم ذكر أنّ قبائل ذي الكلاع ثلاث وعشرون قبيلة، منهم ميتم وأخوه أحاظة.
ثم قال: تكلّع هؤلاء في الجاهلية على سميفع.
والتكلّع في لغتهم: التجمع. وميتم، بفتح الميم وسكون المثناة التحتية وفتح المثناة الفوقية.
والشّنفرى: شاعر جاهليّ تقدّمت ترجمته في الشاهد السادس والعشرين بعد المائتين (1).
* * * __________
(1) الخزانة الجزء الثالث ص 322.
(7/423)
باب المثنى
أنشد فيه، وهو الشاهد الثامن والخمسون بعد الخمسمائة (1): (الرجز)
558 - أحبّ منها الأنف والعينانا
على أن لزوم الألف المثنّى في الأحوال الثلاثة لغة بني الحارث بن كعب، فإنّهم يقلبون الياء الساكنة إذا انفتح ما قبلها ألفا، يقولون: أخذت الدرهمان، واشتريت ثوبان، والسلام علاكم. قاله أبو حاتم والأخفش في «شرح نوادر أبي زيد».
والبيت من رجز مسطور في هذه النوادر، قال: وأنشدني المفضّل لرجل من [بني] ضبّة، هلك مذ أكثر من مائة سنة (2):
إنّ لسعدى عندنا ديوانا ... يخزي فلانا وابنه فلانا
كانت عجوزا عمرت زمانا ... وهي ترى سيّئها إحسانا
أعرف منها الأنف والعينانا ... ومنخرين أشبها ظبيانا
«ظبيان»: اسم رجل.
أراد: منخري ظبيان، فحذف، كما قال [عز وجل] (3): {«وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ»}، يريد: أهل القرية. انتهى.
__________
(1) الرجز لرؤبة بن العجاج في ملحق ديوانه ص 187ولرؤبة أو لرجل من ضبة في الدرر 1/ 139والمقاصد النحوية 1/ 184ولرجل في نوادر أبي زيد ص 15. وهو بلا نسبة في أوضح المسالك 1/ 64وتخليص الشواهد ص 80ورصف المباني ص 24وسر صناعة الإعراب ص 489، 705وشرح الأشموني 1/ 39وشرح التصريح 1/ 78وشرح ابن عقيل ص 42وشرح المفصل 3/ 129، 4/ 64، 67، 143وهمع الهوامع 1/ 49.
وروايته في ديوانه:
* أعرف منها الجيد والعينانا *
(2) الرجز لرجل من ضبة في نوادر أبي زيد ص 15وهي لرؤبة بن العجاج في ملحق ديوانه ص 187.
(3) سورة يوسف: 12/ 82.
(7/424)
قال ابن جني في «سر الصناعة»: من العرب من لا يخاف اللّبس ويجري الباب على أصل قياسه، فيدع الألف ثابتة في الأحوال، فيقول: قام الزيدان، وضربت الزيدان، ومررت بالزيدان، وهم بنو الحارث وبطن من ربيعة.
وأنشدوا في ذلك (1): (الطويل)
* تزوّد منّا بين أذناه ضربة *
وقال آخر (2): (الطويل)
فأطرق إطراق الشّجاع ولو يرى ... مساغا لناباه الشّجاع لصمّما
وقال آخر:
أعرف منها الجيد والعينانا ... ومنخرين أشبها ظبيانا
يريد: العينين. ثم إنه جاء بمنخرين على اللغة الفاشية. وروينا عن قطرب:
* خبّ الفؤاد مائل اليدان *
وقال آخر (3): (الرجز)
إنّ أباها وأبا أباها ... قد بلغا في المجد غايتاها
__________
(1) صدر بيت لهوبر الحارثي وعجزه:
* دعته إلى هابي التّراب عقيم *
والبيت لهوبر الحارثي في لسان العرب (صرع، شظى، هبا). وهو بلا نسبة في جمهرة اللغة ص 707والدرر 1/ 116وسر صناعة الإعراب 2/ 704وشرح شذور الذهب ص 61وشرح المفصل 3/ 128، 133 والصاحبي في فقه اللغة ص 49وهمع الهوامع 1/ 40.
(2) البيت للمتلمس الضبعي في ديوانه ص 34والأصمعيات ص 246والتمثيل والمحاضرة ص 377وحماسة البحتري 1/ 77والحماسة البصرية 1/ 41والحيوان 4/ 263والشعر والشعراء ص 111ولباب الآداب ص 393ولسان العرب (صمم) والمؤتلف والمختلف ص 95ومجموعة المعاني ص 366والوحشيات ص 112. وهو بلا نسبة في جمهرة اللغة ص 757وسر صناعة الإعراب 2/ 704وشرح الأشموني 1/ 34 وشرح المفصل 3/ 128.
(3) هو الشاهد التالي برقم / 559/ وانظر تخريجه لاحقا.
(7/425)
وفيها: وعلى هذا يتوجّه عندنا قراءة من قرأ (1): {«إِنْ هََذََانِ لَسََاحِرََانِ»}.
انتهى.
وقوله:
* إنّ لسعدى عندنا ديوانا *
«سعدى»، بضم السين: اسم امرأة.
قال السكريّ: الدّيوان مكسور، ولذلك قالوا: دواوين، مثل قيراط ودينار. ولو كان ديوان بالفتح، لقالوا: دياوين، ولأدغموا الواحد، فقالوا: ديّان، كما قالوا:
ديّار. انتهى.
قال ابن السيّد: الديوان أصله فارسي معرّب، واستعملته العرب، وجعلوا كلّ محصّل من كلام أو شعر ديوانا. وفاعل يخزي ضمير الديوان.
وقوله: «كانت عجوزا»، أي: صارت عجوزا. و «عمرت»، بفتح العين وكسر الميم.
وقوله: «ومنخرين أشبها ظبيانا» تقدّم عن أبي زيد أنّ ظبيان اسم رجل، وأنه على تقدير مضاف، أي: منخري ظبيان.
وزعم بعضهم كما نقله العيني أنّه مثنى ظبي، على حذف مضاف، والتقدير:
أشبها منخري ظبيين.
وهذا وإن كان في نفسه صحيحا إلّا أنّ نقل أبي زيد يدفعه.
والمنخر، على وزن مسجد: خرق الأنف، وأصله موضع النّخير، وهو الصوت من الأنف، يقال: نخر ينخر من باب قتل، إذا مدّ النّفس في الخياشيم.
والمنخر، بكسر الميم للإتباع لغة. والمنخور كعصفور: لغة طيّئ.
وعرف من نقل أبي زيد أنّ الرواية: «أعرف منها الأنف» لا: «أحبّ منها» كما هو في الشرح.
__________
(1) سورة طه: 20/ 63.
(7/426)
وبنو الحارث بن كعب: قبيلة عظيمة من قبائل العرب من قحطان.
* * * وأنشد بعده، وهو الشاهد التاسع والخمسون بعد الخمسمائة (1): (الرجز)
559 - إنّا أباها وأبا أباها
قد بلغا في المجد غايتاها
لما تقدّم قبله.
والشاهد في «غايتاها»، و «أبا أباها». فيجوز أن يكون جاء على لغة القصر، يقال: هذا أباك ومررت بأباك، فتكون الحركة مقدّرة على الألف.
والبيتان نسبهما ابن السيّد في «أبيات المعاني» (2) لرجل من بني الحارث.
وقال العيني (3)، وتبعه السيوطي في «شرح أبيات المغني»: نسبهما الجوهريّ إلى أبي النجم، وأنشد قبلهما (4):
__________
(1) هو الإنشاد التاسع والأربعون في شرح أبيات المغني للبغدادي.
والرجز لرؤبة في ملحق ديوانه ص 168وله أو لأبي النجم في الدرر 1/ 106وشرح التصريح 1/ 65وشرح شواهد المغني 1/ 127والمقاصد النحوية 1/ 133، 3/ 636وله أو لرجل من بني الحارث في شرح أبيات المغني 1/ 193. وهو بلا نسبة في أسرار العربية ص 46والإنصاف ص 18وأوضح المسالك 1/ 46وتخليص الشواهد ص 58ورصف المباني ص 24، 236وسر صناعة الإعراب 2/ 705وشرح الأشموني 1/ 29 وشرح شذور الذهب ص 62وشرح شواهد المغني 2/ 585وشرح ابن عقيل ص 33وشرح المفصل 1/ 53 ومغني اللبيب 1/ 38وهمع الهوامع 1/ 39.
(2) النص بكامله في شرح أبيات المغني 1/ 193.
(3) المقاصد النحوية للعيني 1/ 128.
(4) هو الإنشاد الرابع والتسعون بعد الخمسمائة في شرح أبيات المغني للبغدادي.
الرجز بلا نسبة في الأشباه والنظائر 2/ 108، 7/ 233وأمالي المرتضى 2/ 259والإنصاف 2/ 612وأوضح المسالك 2/ 245وتاج العروس (علف) والخصائص 2/ 431والدرر 6/ 79وشرح أبيات المغني 1/ 193 وشرح الأشموني 1/ 226وشرح التصريح 1/ 346وشرح الحماسة للمرزوقي ص 1147وشرح شذور الذهب ص 312وشرح شواهد المغني 1/ 58، 2/ 929وشرح ابن عقيل ص 305ولسان العرب (زجج، قلد، علف) ومغني اللبيب 2/ 632والمقاصد النحوية 3/ 101وهمع الهوامع 2/ 130.
(7/427)
واها لريّا ثمّ واها واها ... هي المنى لو أنّنا نلناها
يا ليت عينيها لنا وفاها ... بثمن نرضي به أباها
إنّ أباها ... إلخ
وقد رجعت إلى الصحاح فلم أر فيه إلّا البيتين الأوّلين، ولم أر فيه ما أنشده الشارح هنا.
وقال العينيّ أيضا وتبعه السيوطي:
أنشد أبو زيد في نوادره عن المفضّل، قال: أنشدني أبو الغول، لبعض أهل اليمن (1):
أيّ قلوص راكب تراها ... شالوا علاهنّ فشل علاها
واشدد بمثنى حقب حقواها ... ناجية وناجيا أباها
إنّ أباها ... إلخ
وقد رجعت إلى النوادر أيضا فلم أر فيها هذين البيتين، وإنّما أورد عن المفضّل الأبيات الأربعة من قوله: أيّ قلوص إلى قوله: وناجيا أباها. أوردها في موضعين من النوادر (2)، ولم يزد على تلك الأربعة. وقد شرحناها في الشاهد الثامن عشر بعد الخمسمائة من باب الظروف (3).
و «المجد»: الشّرف. وكان الظاهر أن يقول: قد بلغا في المجد غايتيه، بضمير المذكر الراجع إلى المجد، لكنّه أنث الضمير لتأويل المجد بالأصالة. والمراد بالغايتين الطّرفان من شرف الأبوين، كما يقال: أصيل الطرفين.
وقال العيني: المجد: الكرم، والضمير لريّا.
__________
(1) الرجز لرؤبة في ديوانه ص 168وله أو لأبي النجم أو لبعض أهل اليمن في المقاصد النحوية 1/ 133 ولبعض أهل اليمن في شرح أبيات المغني 1/ 194وشرح شواهد المغني 1/ 128. وهو بلا نسبة في تاج العروس (قلص) والخصائص 2/ 269وشرح شواهد الشافية ص 355وشرح المفصل 3/ 34، 129ولسان العرب (طير، علا، نجا).
(2) انظر نوادر أبي زيد ص 58وص 164.
(3) الجزء السابع من الخزانة.
(7/428)
وهذا على ما ذكره الجوهري من أنّ قبل البيت: «واها لريا». وأما على رواية أبي زيد فيكون ضمير أباها للقلوص. هذا كلامه.
* * * وأنشد بعده، وهو الشاهد الستون بعد الخمسمائة (1): (الرجز)
560 - يا ربّ خال لك من عرينه ... فسوته لا تنقضي شهرينه
شهري ربيع وجماديينه
على أن نون التثنية قد تفتح كما في «شهرينه» و «جماديينه»، وكما في البيت السابق.
* أعرف منها الأنف والعينانا *
قال ابن جنّي في «سرّ الصناعة»: قرأت على أبي علي في «نوادر أبي زيد» (2):
* أعرف منها الأنف والعينانا *
وروينا عن قطرب لامرأة من فقعس:
يا ربّ خال لك من عرينه ... حجّ على قليّص جوينه
فسوته لا تنقضي شهرينه ... شهري ربيع وجماديينه
وقد حكي أنّ منهم من ضمّ النون في نحو: الزيدان والعمران. وهذان من الشذوذ بحيث لا يقاس غيرهما عليهما. انتهى.
وقيّد ابن عصفور في «كتاب ضرائر الشعر» فتح النون بحالة النصب والخفض،
__________
(1) الرجز لامرأة من فقعس في سر صناعة الإعراب 2/ 489وشرح المفصل 4/ 142. وهو بلا نسبة في الإنصاف ص 755وجمهرة اللغة ص 1311والمقرب 2/ 45، 46والممتع في التصريف 2/ 609 والمخصص 15/ 114.
(2) في طبعة بولاق: = أعرف منه =. وهو تصحيف صوابه من النسخة الشنقيطية ونوادر أبي زيد ص 15.
(7/429)
وبحالة النصب فقط في لغة من ألزم المثنّى الألف في جميع الأحوال.
وقد وجّه أبو علي في «كتاب الشعر» فتح النون على وجوه. قال: أنشد أبو زيد:
* أعرف منها الأنف والعينانا *
تحريك النون بالفتح يحتمل غير وجه. منها: أنّ حركتها لمّا كانت لالتقاء الساكنين، ورأى التحريك في التقائهما في المنفصل والمتّصل لا يحرّك بضرب واحد من الحركة، جعل التثنية مثل ذلك.
ألا ترى أنهم قالوا: ردّ، وردّ، وردّ، وقالوا: عوض، وعوض (1)، ونحو ذلك، فلم يلزموا في المتّصل ضربا واحدا من التحريك، فكذلك جعل نون التثنية بمنزلته.
ويجوز أن يكون شبّه التثنية بالجمع، لمّا رآهم، يقولون: مضت سنون، ويقولون: مضت سنين، فيجعلون النون في الجمع حرف الإعراب، جعلها في التثنية كذلك.
ويجوز أن يكون شبّه غير العلم بالعلم. ألا ترى أنّ النحويّين قد أجازوا في رجل يسمّى بتثنية أن يجعلوا النون حرف الإعراب، فيقولون: هذا زيدان وعمران، وكان القياس أن لا يعرّى من شيء يدلّ على التثنية، كما أنّه إذا سمي بجمع بالألف والتاء لم يعرّوه ممّا يدلّ على حكاية ذلك.
إلّا أنّهم لما قالوا السّبعان في الاسم المخصوص فلم يبقوا شيئا يدلّ على حكاية التثنية جاز على ذلك تغيير ما سمّي بتثنية.
وقد حكى البغداديّون تحريك نون التثنية بالفتح إذا وقعت بعد ياء. وأنشدوا (2):
(الطويل)
__________
(1) كذا في طبعة بولاق والنسخة الشنقيطية. والحق أن عوض مثلثة الضاد. انظر لسان العرب والقاموس (عوض).
(2) قطعة من بيت لحميد بن ثور وتمامه:
على أحوذيّين استقلّت عليهما ... فما هي إلا لمحة فتغيب
(7/430)
* على أحوذيّين *
ويشبه أن يكونوا شبّهوا التثنية بالجمع.
فكما فتحوا النون بعد الياء في الجمع، كذلك فتحوا ما بعد الياء في التثنية، وهذا مما يقوي، فتح النون في قوله: «العينانا».
ألا ترى أنّه ليس يلزمها على رأيهم وعلى ما أنشدوه حركة واحدة. وما عليه الجمهور أولى من جهة القياس أيضا، وهو الأكثر في الاستعمال. وذلك أنّ هذه الياء لا تلزم الكلمة.
وقد وجدت من الحروف ما لا يقع به الاعتداد لمّا لم يلزم. فالياء في هذا الموضع ليست بلازمة.
ألا ترى أنّ منهم من يجعلها في جميع الأحوال ألفا. وقد حذفوا هذه النون في غير الإضافة، كما يحكى عن الكسائي أنّه أنشد: (مجزوء الرجز)
يا حبّ قد أمسينا ... ولم تنام العينا
أراد: العينان، فحذف النون.
وقوله (1): «إنّ عمّيّ اللذا» أشبه شيئا (2)، لأنّ الاسم قد طال بالصلة. انتهى.
__________
والبيت لحميد بن ثور في ديوانه ص 55والدرر 1/ 137وشرح المفصل 4/ 141والمقاصد النحوية 1/ 177. وهو بلا نسبة في أوضح المسالك 1/ 63وتخليص الشواهد ص 79وجواهر الأدب ص 154وسر صناعة الإعراب 2/ 488وشرح الأشموني 1/ 39وشرح التصريح 1/ 78وشرح ابن عقيل ص 42ولسان العرب (حوذ) والمقرب 3/ 136وهمع الهوامع 1/ 49.
(1) قطعة من بيت للأخطل التغلبي وتمامه:
أبني كليب إنّ عمّيّ اللّذا ... قتلا الملوك وفكّكا الأغلالا
والبيت من الكامل وهو للأخطل في ديوانه ص 108والأزهية ص 296والاشتقاق ص 338وتاج العروس (لذي) والدرر 1/ 145وسر صناعة الإعراب 2/ 536وشرح التصريح 1/ 132وشرح المفصل 3/ 154، 155والكتاب 1/ 186ولسان العرب (فلج، حظا، لذي) والمقتضب 4/ 146. وهو بلا نسبة في الأشباه والنظائر 2/ 362وأوضح المسالك 1/ 140ورصف المباني ص 341وشرح الحماسة للمرزوقي ص 79وما ينصرف وما لا ينصرف ص 84والمحتسب 1/ 185والمنصف 1/ 67.
(2) في طبعة بولاق: = أشبه شيء =. وأراد أشبه قليلا. وهو يشير طبعا هنا إلى قول الأخطل السابق.
(7/431)
وقوله: «يا ربّ خال» إلخ، «يا»: حرف تنبيه، و «ربّ»، والعامل في محلّ مجرورها حجّ. و «عرينة»، بضم العين وفتح الراء المهملتين: قبيلة باليمن.
وقوله (1): «حجّ على قليّص» إلخ، حذفه الشارح المحقق، لعدم تعلّق غرضه به. وإنّما ذكر البيت الأوّل وإن كان مثل الثاني، ليعلم منه فتح النون في البيتين الآخرين، إذ لولا ذكره، لربّما ظنّ أنّ النون فيهما مكسورة، كقول الراجز:
(الرجز)
قل لخليليك وتحسنانه ... هل أنتما العيش ملبّثانه
في دار حيّ حيث تعلمانه ... إن لا تقولان فتحسنانه
و «قليّص»: مصغر قلوص، وهي الناقة الشابة. و «جوينة»: مصغر جون بفتح الجيم. والجون من الخيل ومن الإبل: الأدهم الشديد السواد.
قوله: «فسوته لا تنقضي» إلخ، «الفسوة»، بالفتح: ريح يخرج بغير صوت يسمع. وهو على حذف مضاف، أي: نتن فسوته لا ينقضي في هذه المدّة، ففسوته تشبه فسوة الظّربان.
والظّربان، بفتح الظاء المعجمة المشالة وكسر الراء بعدها موحدة، وهي دويبّة كالهرّة منتنة الريح، تزعم العرب أنّها تفسو في ثوب أحدهم إذا صادها، فلا تذهب رائحته حتّى يبلى الثوب.
وقد ضرب بها الأمثال، يقال (2): «أنتن من ظربان»، و (3) «أفسى من ظربان»، و (4) «فسا بينهم الظّربان»، إذا تقاطع القوم وتهاجروا.
و «تنقضي»: تذهب شيئا فشيئا. «شهرين» منصوب على الظرف وعامله
__________
(1) في النسخة الشنقيطية: = وقد =. وهو تصحيف صوابه من طبعة بولاق.
(2) هو حيوان من رتبة اللواحم، أصغر من النسور منتن الرائحة.
والمثل في الألفاظ الكتابية ص 283، 284وجمهرة الأمثال 2/ 298والحيوان 1/ 249والدرة الفاخرة 2/ 391ومجمع الأمثال 2/ 85.
(3) المثل في جمهرة الأمثال 2/ 105وجمهرة اللغة ص 1244والحيوان 1/ 248والدرة الفاخرة 1/ 329 وكتاب الأمثال لمجهول ص 15ولسان العرب (ظرب، فسا) والمستقصى 1/ 272ومجمع الأمثال 2/ 85.
(4) المثل في ثمار القلوب ص 418وجمهرة الأمثال 1/ 221والحيوان 1/ 249والدرة الفاخرة 1/ 206 ولسان العرب (ظرب) والمستقصى 2/ 180ومجمع الأمثال 1/ 284، 2/ 74.
(7/432)
تنقضي، وهو مثنى شهر، وفتح النون شذوذا، والهاء بعدها للسكت أتي بها لبيان الفتحة، فإنّها قد يبيّن بها حركة نون الاثنين مكسورة ومفتوحة، ويبيّن بها حركة نون الجمع أيضا، كقوله: (الرجز)
قد صبّحت بالأمس ماء لينه (1) ... يحفّها م القوم أربعونه
* حالية كاسية دهينه *
قوله: «شهري ربيع» إلخ، بدل من شهرينه. و «جماديينه»: معطوف على شهري، لا على ربيع، لوجهين:
أحدهما: أنّه لا يقال شهر جمادى فإنّ لفظ شهر لا يضاف إلّا لما في أوّله راء كشهر ربيع وشهر رجب وشهر رمضان، كما هو المشهور.
ثانيهما: لئلّا يفسد المعنى، فإنه لو عطف على ربيع لاقتضى أنّ البدل أربعة أشهر، والمبدل منه شهران، وهذا خلف من القول، فعطفه على البدل يفيد أنّ عدم الانقضاء في أربعة أشهر: شهري ربيع وجماديين، وهو مثنّى جمادى، بضم الجيم وقصر آخره، فلمّا ثنّي قلبت الألف ياء، كقولك: فتيان في تثنية الفتى.
* * * وأنشد بعده، وهو الشاهد الحادي والستون بعد الخمسمائة (2): (الرجز)
561 - ليث وليث في محلّ ضنك
كلاهما ذو أشر ومحك
__________
(1) لينه: بالكسر ثم السكون: بئر ماؤها عذب زلال، وقال السكوني: لينة هو المنزل الرابع لقاصد مكة من واسط، وهي كثيرة الركيّ والقلب = معجم البلدان (لينة).
(2) الرجز لجحدر بن مالك الحنظلي في أمالي ابن الشجري 1/ 11وتاج العروس (درك) ولسان العرب (درك) ولواثلة بن الأسقع أو لجحدر بن مالك في الدرر 1/ 128. وهو بلا نسبة في تاج العروس (عسج، ركك، صرم) وتهذيب اللغة 3/ 255وشرح أبيات المغني 3/ 211وشرح شواهد المغني 2/ 834ولسان العرب (عوى) ومغني اللبيب 2/ 415والمقرب 2/ 41وهمع الهوامع 1/ 43. وروايته في شرح أبيات المغني:
... كلاهما ذو أنف ومحك
(7/433)
على أنّ أصل المثنى العطف بالواو، فلذلك يرجع إليه الشاعر في الضرورة كما هنا، فإنّ القياس أن يقول: ليثان، لكنّه أفردهما وعطف بالواو لضرورة الشعر.
قال ابن الشجري في «أماليه» (1): التثنية والجمع المستعملان أصلهما التثنية والجمع بالعطف، فقولك: جاء الرجلان ومررت بالزيدين أصله جاء الرجل والرجل، ومررت بزيد وزيد، فحذفوا العاطف والمعطوف وأقاموا حرف التثنية مقامهما اختصارا.
وصحّ ذلك لاتفاق الذّاتين في التسمية بلفظ واحد. فإن اختلف لفظ الاسمين رجعوا إلى التكرير بالعاطف، كقولك: جاء الرجل والفرس، إذ كان ما فعلوه من الحذف في المتّفقين يستحيل في المختلفين.
ولمّا التزموا في تثنية المتّفقين ما ذكرنا من الحذف، كان التزامه في الجمع ممّا لا بدّ منه ولا مندوحة عنه، لأنّ حرف الجمع ينوب عن ثلاثة فصاعدا إلى ما لا يدركه الحصر.
ويدلّك على صحّة ما ذكرته أنّهم ربما رجعوا إلى الأصل في تثنية المتّفقين وما فويق ذلك من العدد، فاستعملوا التكرير بالعاطف إمّا للضرورة، وإمّا للتفخيم.
فالضّرورة، كقول القائل (2): (الرجز)
* كأنّ بين فكّها والفكّ *
أراد أن يقول: بين فكّيها، فقاده تصحيح الوزن والقافية إلى استعمال العطف.
ومثله فيما جاوز الاثنين قول أبي نواس (3):
__________
(1) أمالي ابن الشجري 1/ 11.
(2) الرجز لمنظور بن مرثد في أساس البلاغة (ذبح) وتاج العروس (ذبح، دكك، زكك) ولسان العرب (ذبح، زكك). وهو بلا نسبة في الأشباه والنظائر 2/ 201وأسرار العربية ص 47وتاج العروس (ركك، سكك، فكك) والتنبيه والإياح 1/ 234وتهذيب اللغة 4/ 473، 9/ 459وجمهرة اللغة ص 135وديوان الأدب 2/ 194وشرح المفصل 4/ 138، 8/ 91والمخصص 11/ 200، 13/ 39.
(3) هو الإنشاد الرابع والسبعون بعد الخمسمائة في شرح أبيات المغني للبغدادي.
والبيت لأبي نواس في ديوانه 2/ 7والدرر 6/ 77وشرح أبيات المغني 6/ 83ومغني اللبيب 2/ 356. وهو بلا نسبة في المقرب 2/ 49.
(7/434)
أقمنا بها يوما ويوما وثالثا ... ويوما له يوم التّرحّل خامس
فإن استعملت هذا في السّعة فإنّما تستعمله لتفخيم الشيء الذي تقصد تعظيمه، كقولك: لمن تعنّفه بقبيح تكرّر منه، وتنبّهه على تكرير عفوك: قد صفحت عن جرم وجرم وجرم وجرم، وكقولك: لمن يحقر أيادي أسديتها إليه، أو ينكر ما أنعمت به عليه: قد أعطيتك ألفا وألفا وألفا. فهذا أفخم في اللفظ، وأوقع في النفس، من قولك: قد صفحت لك عن أربعة أجرام، وقد أعطيتك ثلاثة آلاف.
انتهي.
وهذا الشعر لواثلة بن الأسقع، أورده له الكلاعي في «السيرة النبوية» في وقعة مرج الرّوم، قال: كان واثلة بن الأسقع في خيل قيس بن هبيرة، في جيش خالد بن الوليد، فخرج بطريق من كبارهم فبرز له واثلة، وهو يقول في حملته (1):
ليث وليث في مجال ضنك ... كلاهما ذو أنف ومحك
أجول جول حازم في العرك ... أو يكشف الله قناع الشّكّ
مع ظفري بحاجتي ودركي
ثم حمل على البطريق فقتله.
وأورد الجاحظ تتمته وقصّته في «كتاب المحاسن والمساوي» (2) لجحدر بن مالك الحنفي على غير هذا الوجه، قال:
كان باليمامة رجل من بني حنيفة (3) يقال له: جحدر بن مالك، وكان لسنا فاتكا شاعرا، وكان قد أفحش على أهل هجر وناحيتها، فبلغ ذلك الحجاج بن يوسف، فكتب إلى عامل اليمامة يوبّخه في تلاعب جحدر به، ثم يأمره بالتجرّد في طلبه حتّى يظفر به.
فبعث العامل إلى فتية من بني يربوع حنظلة، فجعل لهم جعلا عظيما إن هم
__________
(1) هي رواية شرح أبيات المغني للبغدادي 3/ 211. والرجز بكامله في شرح أبيات المغني 3/ 211وخبره في صراعه مع الأسد.
(2) الخبر والرجز لجحدر بن مالك، أورده الجاحظ في كتابه المحاسن والأضداد ص 81وأمالي ابن الشجري 1/ 11والدرر 1/ 18وشرح أبيات المغني 3/ 210وهمع الهوامع 1/ 43.
(3) في معجم البلدان (حجر): = من بني جشم بن بكر =.
(7/435)
قتلوا جحدرا، أو أتوا به، ووعدهم أن يوفدهم إلى الحجاج ويسني فرائضهم (1)، فخرج الفتية في طلبه حتّى إذا كانوا قريبا منه بعثوا إليه رجلا منهم يريه أنّهم يريدون الانقطاع إليه. فوثق بهم، واطمأنّ إليهم.
فبيناهم على ذلك إذ شدّوه وثاقا، وقدموا به إلى العامل فبعث به معهم إلى الحجّاج، فلما قدموا به على الحجاج، قال له: أنت جحدر؟ قال: نعم. قال: ما حملك على ما بلغني عنك؟ قال: جرأة الجنان، وجفوة السّلطان، وكلب الزمان!
قال: وما الذي بلغ من أمرك فيجترئ جنانك، ويصلك سلطانك، ولا يكلب عليك زمانك؟ قال: لو بلاني الأمير لوجدني من صالحي الأعوان، وبهم الفرسان (2)
ومن أوفى على أهل الزّمان.
قال الحجاج: أنا قاذفك في قبّة فيها أسد، فإن قتلك كفانا مؤنتك، وإن قلته خلّيناك ووصلناك. قال: قد أعطيت أصلحك الله المنية، وعظّمت المنّة، وقرّبت المحنة. فأمر به فاستوثق منه بالحديد، وألقي في السّجن، وكتب إلى عامله بكسكر يأمره أن يصيد له أسدا ضاريا.
فلم يلبث العامل أن بعث له بأسد ضاريات، قد أبزت (3) على أهل تلك الناحية ومنعت عامّة مراعيهم ومسارح دوابّهم، فجعل منها واحدا في تابوت يجرّ على عجلة، فلما قدموا به أمر فألقي في حيّز (4)، وأجيع ثلاثا، ثمّ بعث إلى جحدر فأخرج وأعطي سيفا ودلّي عليه، فمشى إلى الأسد، وأنشأ يقول (5):
ليث وليث في مجال ضنك ... كلاهما ذو أنف ومحك
__________
(1) أصل الإسناء الرفع. والمراد زيادة الفريضة.
(2) بهم بضم ففتح جمع بهمة، بوزن غرفة: وهو الفارس الذي لا يدرى من أين يؤتى له من شدة بأسه.
(3) في أمالي ابن الشجري وشرح أبيات المغني والمحاسن: = قد أبرّت =.
والإبزاء: الغلبة والقهر. والإبرار: الغلبة أيضا. يقال أبر عليهم إبرارا: غلبهم.
(4) في طبعة بولاق والنسخة الشنقيطية والمحاسن والأضداد: = في حيّز =. وهو تصحيف صوابه من شرح أبيات المغني 3/ 211.
والحير: شبه الحظيرة. وحائر الحجاج بالبصرة معروف، يابس لا ماء فيه، وأكثر الناس يسميه: الحير. انظر في ذلك اللسان (حير).
(5) الرجز في شرح أبيات المغني 3/ 211.
(7/436)
وصولة في بطشه وفتك ... إن يكشف الله قناع الشّكّ
وظفرا بجؤجؤ وبرك ... فهو أحقّ منزل بترك
الذّئب يعوي والغراب يبكي
حتى إذا كان منه على قدر (1) رمح، تمطّى الأسد وزأر، وحمل عليه، فتلقّاه جحدر بالسّيف فضرب هامته ففلقها، وسقط الأسد كأنّه خيمة قوّضتها الريح.
ولم يلبث جحدر لشدّة حملة (2) الأسد عليه، مع كونه مكبّلا، أن وقع على ظهره (3) متلطّخا بالدم. وعلت أصوات الجماعة بالتكبير، وقال له الحجّاج لمّا رأى منه ما هاله: يا جحدر، إن أحببت أن ألحقك ببلادك وأحسن جائزتك فعلت ذلك بك، وإن أحببت أن تقيم عندنا أقمت فأسنينا فريضتك.
فقال: أختار صحبة الأمير. ففرض له ولجماعة أهل بيته، وأنشأ جحدر، يقول (4): (الكامل)
يا جمل إنّك لو رأيت بسالتي ... في يوم هيج مردف وعجاج (5)
وتقدّمي للّيث أرسف نحوه ... حتّى أكابره عن الأحراج (6)
جهم كأنّ جبينه لمّا بدا ... طبق الرّحا متفجّر الأثباج
يرنو بناظرتين يحسب فيهما ... من ظنّ خالهما شعاع سراج
شثن براثنه كأنّ نيوبه ... زرق المعابل أو شذاة زجاج
وكأنّما خيطت عليه عباءة ... برقاء أو خلق من الدّيباج
__________
(1) في طبعة بولاق: = قد رمح = وهو تصحيف. صوابه من النسخة الشنقيطية وشرح أبيات المغني للبغدادي.
وفي أمالي ابن الشجري: = على قيد رمح =. والقيد: القدر أيضا.
(2) في طبعة بولاق: = لشدة حمل =. وهو تصحيف صوابه من النسخة الشنقيطية وشرح أبيات المغني للبغدادي.
(3) في طبعة بولاق: = إذ وقع على ظهره =. وهو تصحيف صوابه من النسخة الشنقيطية وشرح أبيات المغني للبغدادي.
(4) الخبر والأبيات لجحدر في المحاسن والأضداد ص 8280والموفقيات ص 174. والأبيات لجحدر بن معاوية المحرزي في ديوانه ص 170.
(5) البيت لجحدر في ديوانه ص 170ولسان العرب (درك).
(6) البيت لجحدر في ديوانه ص 170وتاج العروس (حرج) ولسان العرب (حرج، درك) ومجمل اللغة 2/ 55ومقاييس اللغة 2/ 51.
(7/437)
قرنان محتضران قد ربّتهما ... أمّ المنيّة غير ذات نتاج
وعلمت أنّي إن أبيت نزاله ... أنّي من الحجّاج لست بناج
فمشيت أرسف في الحديد مكبّلا ... بالموت نفسي عند ذاك أناجي
هذا ما أورده الجاحظ (1).
وقد أورد ابن الشجري في أماليه هذه الحكاية مختصرة لجحدر المذكور، مع أربعة أبيات من الرجز ولم يذكر هذه الأبيات.
وأخرج السيوطي في «بحث ربّ من شرح شواهد المغني» هذه الحكاية بنحو ما ذكره ابن الشجري عن المعافي بن زكريا، وابن عساكر في تاريخه بسند متّصل عن ابن الأعرابي، وعن الزبير بن بكّار في «الموفّقيات».
ولم يورد السكري في «كتاب اللصوص» شيئا مما أورده الجاحظ، مع أنه استوعب أحوال اللصوص وأشعارهم في كتابه، وأورد له أشعارا كثيرة جيدة.
وقوله: «ليث وليث (2)» إلخ، «الليث»: الأسد. و «الضّنك»: الضّيق.
و «الأشر»، بفتحتين، البطر.
وروى بدله: «ذو أنف»، بفتح الهمزة والنون، بمعنى الاستنكاف.
و «المحك»، بفتح الميم وسكون الحاء المهملة: اللّجاج.
و «الحازم» من الحزم، وهو التثبّت والتيقّظ. و «العرك»، بفتح العين وسكون الراء المهملتين: الحرب، والمعركة موضعه.
وقوله: «أو يكشف الله» إلخ، «أو» هنا بمعنى إلى. و «الظّفر»: الغلبة.
و «الدّرك»: الوصول.
و «الجؤجؤ» في شعر جحدر، بجيمين وهمزتين، على وزن قنفذ: الصّدر.
و «البرك»، بفتح الموحدة وسكون الراء: ما حول الصدر.
وقوله: «كأنّه خيمة قوّضتها الريح»، رواه ابن الشجري: «كأنّه أطم مقوّض»،
__________
(1) في المحاسن والأضداد روى الجاحظ ستة أبيات لم يذكرها البغدادي. كما أن الزبير بن بكار روى في الموفقيات أربعة أبيات إضافة إلى أبيات الجاحظ الزائدة، أغفلها البغدادي.
(2) كلمة: = ليث = الأولى ساقطة من النسخة الشنقيطية.
(7/438)
وقال: الأطم، بضمتين: الحصن. و «المقوّض»: من قوّضت البناء، إذا نقضته من غير هدم. و «المكبّل»: المقيّد، والكبل، بفتح الكاف وكسرها مع سكون الموحدة: القيد الثقيل.
وقوله: «يا جمل إنّك لو رأيت بسالتي» إلخ، «جمل»، بضم الجيم وسكون الميم: اسم امرأة. و «البسالة»: الشّجاعة. و «أرسف»: أمشي بالقيد، يقال:
رسف في قيده، من باب ضرب وقتل.
و «الجهم»: العبوس. و «الأثباج»: جمع ثبج، بفتح المثلثة والموحدة، وهو ما بين الكاهل إلى الظهر. و «يرنو»: ينظر. و «شثن» بمعنى خشن. و «البراثن»:
جمع برثن كقنفذ، وهو ظفر السّبع. و «النيوب»: جمع ناب، وهي السّنّ.
و «زرق»: جمع أزرق. و «المعابل»: جمع معبلة بكسر الميم، وهو نصل طويل عريض. و «الشّذاة»، بفتح الشين والذال المعجمتين: الطّرف.
و «الزّجاج»، بالكسر: جمع زجّ بضم الزاي، وهي الحديدة التي في أسفل الرمح. و «القرنان»: مثنّى قرن بالكسر، وهو المساوي لصاحبه في الشّجاعة وغيرها.
و «واثلة بن الأسقع»
، بالمثلثة والقاف، هو من الصحابة، قال ابن الأثير في «أسد الغابة في أسماء الصحابة»: واثلة بن الأسقع بن عبد العزّى الكناني الليثي، وقيل: واثلة بن عبد الله بن الأسقع. أبو شدّاد، وقيل: أبو الأسقع، وقيل: أبو قرصافة (1). أسلم وخدم النبيّ صلّى الله عليه وسلّم ثلاث سنين. من أصحاب الصّفّة. وله رواية. مات سنة ثلاث وثمانين وهو ابن مائة، وقيل: مات سنة خمس وثمانين وهو ابن ثمان وتسعين سنة. وتوفي بالمقدس وقيل: بدمشق. وكان قد عمي.
انتهى.
ووقعة مرج الرّوم كانت بعد سنة خمس عشرة من الهجرة بعد فتح الشام، في خلافة عمر بن الخطّاب. فلا شكّ أن واثلة أقدم من جحدر، ويكون جحدر قد أخذ الشعر من واثلة وزاده. والله أعلم.
* * * __________
(1) قرصافة بكسر القاف. والقرصافة: الخذروف، ومن النساء والنوق: التي تتدحرج كأنها كرة.
(7/439)
وأنشد بعده، وهو الشاهد الثاني والستون بعد الخمسمائة (1): (الرجز)
562 - كأنّ بين فكّها والفكّ
فارة مسك ذبحت في سكّ
لما تقدّم قبله. وكان القياس أن يقول: بين فكّيها، لكنّه أتى بالمتعاطفين للضرورة.
قال ابن يعيش: الأصل في قولك الزيدان: زيد وزيد. والذي يدلّ على ذلك أنّ الشاعر إذا اضطرّ عاود الأصل، نحو قوله:
* كأنّ بين فكّها والفكّ *
أراد: بين فكّيها، فلما لم يتّزن له رجع إلى العطف، وهو كثير في الشعر.
انتهى.
و «الفكّ»، بالفتح: اللّحي، بفتح اللام وسكون المهملة، وهو عظم الحنك، وهو الذي عليه الأسنان. وهو من الإنسان حيث ينبت الشعر، وقال في «البارع»:
الفكّان: ملتقى الشّدقين من الجانبين.
قال ابن السيرافي: وصف امرأة بطيب الفم. يريد أنّ ريح المسك يخرج من فيها.
و «فأرة»: منصوب اسم كأنّ، و «بين» خبرها. و «السّكّ»: ضرب من الطّيب. انتهى.
و «ذبحت»: بالبناء للمفعول. قال يعقوب في «إصلاح المنطق»: قال الأصمعي: الذّبح: الشقّ. وأنشد البيت. أي: شقّت وفتقت.
وقال المفضّل بن سلمة الضبي في «كتاب الطيّب»: ومن الطيّب المسك، يقال: هو المسك، والأناب، واللّطيمة.
__________
(1) الرجز لمنظور بن مرثد الأسدي في أساس البلاغة (ذبح) وتاج العروس (ذبح، دكك، زكك) ولسان العرب (ذبح، زكك). وهو بلا نسبة في الأشباه والنظائر 2/ 201وأسرار العربية ص 47وتاج العروس (ركك، سكك، فكك) وتهذيب اللغة 4/ 473، 9/ 459والتنبيه والإيضاح 1/ 234وجمهرة اللغة ص 135وديوان الأدب 2/ 194وشرح المفصل 4/ 138، 8/ 91.
(7/440)
وقال أبو زيد: اللّطيمة: المسك، يقال: للعير التي تحمل المسك أيضا لطيمة.
ويقال للتي فيها المسك: فارة ونافجة.
قال الأحوص (1): (البسيط)
كأنّ فارة مسك فضّ خاتمها ... صهباء ذاكية من مسك دارينا
وقال آخر: (الرجز)
كأنّ حشو المسك والدّمالج ... نافجة من أطيب النّوافج
ويقال: فتقت الفارة، وذبحت، وفضّت، وشقّت.
قال الراجز:
كأنّ بين فكّها والفكّ ... فارة مسك ذبحت في سكّ
و «السّكّ»، بضم السين: نوع من الطّيب. وقال أبو حنيفة الدّينوريّ في «كتاب النبات»: الفار: جمع فارة، وهي فار المسك، وهي نوافجه التي يكون المسك فيها، شبّهت بالفار وليست بفار، إنما هي سرر ظباء المسك. قال الشاعر (2):
(الطويل)
إذا التّاجر الهنديّ وافى بفارة ... من المسك أضحت في مفارقهم تجري
وقال آخر في وصف امرأة: (البسيط)
* كأنّ فارة مسك في مقبّلها *
وهي مهموزة فأرة وفأر. وكذلك الفأر كله مهموز. وبنواحي الهند فأر يجلب إلى أرض العرب أحيانا، قد تأنّست وألفت، تدور في البيوت، تدخل بين الثّياب، فلا تلابس شيئا، ولا تدخل بيتا ولا تخرأ على شيء، ولا تبول عليه، إلّا فاح طيبا.
ويجلب التجّار خرءها فيشتريه الناس، ويجعلونه في صرر، ويضعونها بين الثياب فتطيب. وأخبرني من رآها أنّها نحو بنات مقرض. وفارة الإبل مأخوذة من هذا،
__________
(1) البيت للأحوص الأنصاري في ديوانه ص 208.
(2) البيت لأبي المختار الكلابي في لسان العرب (شطر). وهو بلا نسبة في تاج العروس (دور) ولسان العرب (دور) والمخصص 11/ 205ومقاييس اللغة 2/ 311.
(7/441)
وهي الإبل التي ترعى أفواه البقول الطّيبة في العذوات العازبة (1) ثم ترد الماء فتشرب، فإذا رويت ثم صدرت فالتفّ بعضها ببعض، فاحت برائحة طيّبة.
قال الأصمعي: قلت لأبي مهديّة: كيف تقول: ليس الطيب إلا المسك. وهو يريد أن يعلم كيف يعربه. فقال أبو مهدية له: فأين العنبر؟
فقال الأصمعي: فقل: ليس الطيب إلّا المسك والعنبر. فقال: أين أدهان حجر؟ فقال:
فقل ليس الطّيب إلا المسك والعنبر وأدهان حجر. فقال: فأين فارة إبل صادرة؟
ومن هذا الجنس والضرب الذي ذكرنا الدّويبّة التي تسمّى الزّباد، وهي مثل السّنّورة الصغيرة فيما ذكر لي، تجلب من تلك النواحي، وقد تأنس فتقتنى وتحتلب شيئا شبيها بالزّبد يظهر على حلمتها (2) بالعصر، كما يظهر على آنف الغلمان المراهقين، فيجمع وله رائحة طيّبة البنّة. وقد رأيته يقع في الطّيب. وقد بلغني أنّ شحمه كذلك أيضا.
وقد ذكر بعض الشعراء القدم بعض هذا وجعله أمعاء الدابّة، وظنّ أنه إنّما طاب جوفه لأنه يأكل الطّيب، فقال (3): (البسيط)
تكسو المفارق واللّبات ذا أرج ... من قصب معتلف الكافور درّاج
والأعراب لا يميّزون هذا. وفي فارة الإبل، يقول الراعي (4): (الطويل)
لها فأرة ذفراء كلّ عشيّة ... كما فتق الكافور بالمسك فاتقه
ظنّ أنّه يفتق به. وكان الراعي أعرابيا قحّا، والمسك لا يفتق بالكافور. انتهى كلام الدينوري.
__________
(1) العذوات: جمع عذاة. والعذاة: الأرض الطيبة التربة الكريمة المنبت التي ليست بسبخة ولا تكون العذاة ذات وخامة ولا وباء. والعازبة: البعيدة النائبة.
(2) في النسخة الشنقيطية: = حلمته =.
(3) البيت للراعي النميري في ديوانه ص 32وأساس البلاغة (قصب) وتاج العروس (قصب) والشعر والشعراء ص 424والعقد الفريد 5/ 362وكتاب الصناعتين ص 72ولسان العرب (قصب، كفر).
(4) البيت للراعي في ديوانه ص 190وإصلاح المنطق ص 337وتاج العروس (فأر، فتق) وتهذيب اللغة 14/ 424وثمار القلوب ص 413والحيوان 7/ 210ولسان العرب (ذفر، فتق، فأر). وهو بلا نسبة في تاج العروس (فور) ولسان العرب (فور) ومجالس ثعلب ص 118.
(7/442)
و «البنّة»، بالفتح للموحّدة وتشديد النون: الرائحة الطيّبة، وربّما قيلت في غير الطّيّبة.
وقال أبو القاسم عليّ بن حمزة البصريّ اللغوي «فيما كتبه على كتاب النبات من تبيين أغلاط الدينوريّ»: قد غلط في همز هذه الفارة، لأنّ الفأر كلّه مهموز إلّا فارة الإبل.
وقد اختلف في فارة المسك وفأرة الإنسان وهي عضله. والأعلى في فأر المسك الهمز، وفي فار الإنسان ترك الهمز. ومن كلامهم: «أبرز نارك، وإن أهزلت فارك»، أي: أطعم الطعام وإن أضررت ببدنك.
فأمّا قوله: «والمسك لا يفتق بالكافور»، فصحيح. ولم يقل الراعي: «كما فتق المسك بالكافور فاتقه»، إنّما قال: «كما فتق الكافور بالمسك»، وإن كان المسك لا يفتق بالكافور فإنّ الكافور يفتق بالمسك.
وجعل الراعي أعرابيّا قحّا ونسبه إلى الجفاء، وأوهم أنّه غلط، وخطّأه في شيء لم يقله، إلّا أن يكون عند أبي حنيفة أنّ الكافور لا يفتق بالمسك، ويكون هو قد غلط في العبارة وعكسها، فيكون في هذه الحال أسوأ حالا منه في الأولى، ويكون قليل الخبرة بالطّيب وعمله واستعماله. ولا رائحة أخمّ من الكافور إذا فتق بالمسك، يشهد بذلك بنو النّعمة والعطّارون قاطبة. انتهى.
والرجز الشاهد لمنظور بن مرثد الأسديّ. قال ابن بريّ في «حاشيته على صحاح الجوهري»:
وقبله (1): (الرجز)
يا حبّذا جارية من عكّ ... تعقّد المرط على مدكّ
* مثل كثيب الرّمل غير ركّ *
و «عكّ»، بفتح العين المهملة: أبو قبيلة من الأزد في قحطان. و «المرط»،
__________
(1) الرجز لمنظور بن مرثد في أساس البلاغة (ذبح) وتاج العروس (ذبح، دكك، زكك). وهو بلا نسبة في الأشباه والنظائر 2/ 201وأسرار العربية ص 47وتاج العروس (ركك، سكك، فكك) والتنبيه والإيضاح 1/ 234وتهذيب اللغة 4/ 473، 9/ 459وجمهرة اللغة ص 135وديوان الأدب 2/ 194وشرح المفصل 4/ 138، 8/ 91والمخصص 11/ 200، 13/ 39.
(7/443)
بالكسر: كساء من صوف أو خزّ يؤتزر به (1) وتتلفّع به المرأة. وأراد بالمدكّ، بكسر الميم: العجز.
و «الرّكّ»، بكسر الراء المهملة: المهزول، والمكان المضعوف الذي لم يمطر إلّا قليلا.
قاله الصغاني، وأنشد البيت للمعنى الأوّل. وقال: وذكره بعض من صنّف في اللغة بالزاي، في اللغة وفي الرجز، وهو تصحيف. انتهى.
وأراد به الجوهريّ. وقد خطّأه كذلك ابن بريّ في «حاشيته على الصحاح»، وتبعه الصّفديّ أيضا.
ومنظور بن مرثد تقدّم في الشاهد الثاني والأربعين بعد الأربعمائة (2).
* * * وأنشد بعده، وهو الشاهد الثالث والستون بعد الخمسمائة (3): (البسيط)
563 - لو عدّ قبر وقبر كنت أكرمهم
ميتا وأبعدهم عن منزل الذّام
على أنّ تعاطف المفردين فيه ليس من قبيل ما تقدّم من كونه للضرورة، بل لقصد التكثير، إذ المراد: لو عدّت القبور قبرا قبرا. ولم يرد قبرين فقط، وإنّما أراد الجنس متتابعا واحدا بعد واحد. يعني: إذا حصّلت أنساب الموتى وجدتني أكرمهم نسبا، وأبعدهم من الذّم.
__________
(1) في النسخة الشنقيطية: = يتزر به =.
(2) الخزانة الجزء السادس ص 130.
(3) البيت لعصام بن عبيد الزماني في الحماسة برواية الجواليقي ص 325وشرح الحماسة للأعلم 2/ 695 وشرح الحماسة للتبريزي 3/ 77وشرح الحماسة للمرزوقي ص 1122ومعجم الشعراء ص 270ولعصام الرقاشي في البيان والتبيين 2/ 316ولأبي القمقام الأسدي في عيون الأخبار 1/ 92ولهشام الرقاشي في العقد الفريد 1/ 69. وهو بلا نسبة في المراثي ص 313والمقرب 2/ 41.
وروايته في المراثي:
لو عد بيت وبيت كنت أكرمهم ... بيتا وأبعدهم عن منزل الذّام
(7/444)
والبيت من أبيات أربعة أوردها أبو تمّام والأعلم الشّنتمريّ (1) وصاحب الحماسة البصرية في «حماساتهم» (2)، لعصام بن عبيد الزّمّاني. ونسبها الجاحظ في «كتاب البيان» لهمّام الرّقاشي (3)، وهي (4):
أبلغ أبا مسمع عنّي مغلغلة ... وفي العتاب حياة بين أقوام (5)
أدخلت قبلي قوما لم يكن لهم ... في الحقّ أن يلجوا الأبواب قدّامي
لو عدّ قبر وقبر كنت أكرمهم ... ميتا وأبعدهم عن منزل الذّام
فقد جعلت إذا ما حاجتي نزلت ... بباب دارك أدلوها بأقوام (6)
قوله: «أبلغ أبا مسمع» إلخ، هو بكسر الميم الأولى وفتح الثانية.
و «المغلغلة»: الرسالة، لأنّها تغلغل إلى الإنسان حتّى تصل إليه من بعد، من قولهم:
تغلغل الماء، إذا دخل بين الأشجار. وأصل الغلغلة دخول الشيء في الشيء.
وجملة: «وفي العتاب حياة» إلخ، معترضة بين أبلغ وبين أدخلت. و «العتاب»:
اللّوم والتوقيف على الذنب.
يعني ما دام القوم يلوم كلّ منهم صاحبه على ما صدر منهم من التقصير لصاحبه، يرجى صلاحهم وارتباط مودّاتهم. وإن لم يتعاتبوا انطوت ضمائرهم على الأحقاد.
وقوله: «أدخلت قبلي قوما» إلخ، أي: قدّمتهم عليّ في الإذن وإن لم يكن من حقّهم أن يتقدّموا عليّ إذا وردنا الأبواب.
و «يلجوا»: يدخلوا. وروي: «أن يدخلوا». ودخل يتعدّى في الأصل بحرف جر، ثم يحذف الجار تخفيفا، فيقال: دخلت البيت.
__________
(1) الأبيات لعصام بن عبيد الزماني في الحماسة برواية الجواليقي ص 325324وشرح الحماسة للأعلم 2/ 695694وشرح الحماسة للتبريزي 3/ 77وشرح الحماسة للمرزوقي ص 1122.
(2) لم يذكر صاحب الحماسة البصرية إلا بيتا واحدا فقط هو مطلع القصيدة. انظر الحماسة البصرية 2/ 22.
(3) البيان والتبيين 2/ 316، 3/ 302، 4/ 85.
(4) الأبيات بلا نسبة في كتاب المراثي ص 313.
(5) البيت لهشام الرقاشي في مقاييس اللغة 4/ 377ولعصام بن عبيد الزماني في تاج العروس (غلل) والحماسة البصرية 2/ 22. وهو بلا نسبة في لسان العرب (غلل).
(6) البيت بلا نسبة في أساس البلاغة (دلي).
(7/445)
وقوله: «لو عدّ قبر وقبر» إلخ، قال ابن جنّي في «إعراب الحماسة»: لم يرد لو عدّ قبران اثنان، وإنّما أراد لو عدّت القبور قبرا قبرا. ولو قال: عدّ قبر قبر فرفع لم يجز ذلك، كما جاز لو عدّت القبور قبرا قبرا. وذلك أنّ هذا من مواضع العطف، فحذف حرفه لضرب من الاتّساع.
وهذا الاتساع خاصّة إنما جاء في الحال، نحو: فصّلت حسابه بابا بابا، ودخلوا رجلا رجلا، أي: متتابعين. ولو رفعت، فقلت: فصّل حسابه باب باب، وأدخلوا رجل رجل على البدل لم يجز.
وعلى هذا قالوا: هو جاري بيت بيت، ولقيته كفّة كفّة (1)، فاتّسعوا بالبناء على الحال. ونحوها في ذلك الظرف، نحو قولك: كان يأتينا يوم يوم، وليلة ليلة، وأزمان أزمان، وصباح مساء.
فلو خرجت به عن الظرفيّة لم يجز فيه هذا البناء. ألا تراك تقول: هو يأتينا كلّ صباح مساء، في ليلة ليلة، فتعرب البتّة. انتهى.
وقال الطّبرسيّ: يريد لو عدّت القبور قبرا قبرا، إلّا أنّه اقتصر، وحذف القبور، وجعل القبر فاعلا (2)، وأزاله عن سنن الحال. وقيل: معناه: لو عدّ قبري، وقبر الداخل قبلي لكنت أكرم منه ميتا. انتهى.
والذام (3): لغة في الذّمّ بتشديد الميم.
وقوله: «فقد جعلت إذا» إلخ، هو بالتكلّم. قال الطبرسيّ: أي: طفقت وأقبلت، إذا نزلت حاجتي بباب دارك، يريد إذا ألجأتني إليك حاجة أدلوها، أي:
أتنجّرها بغيري (4)، واستشفعت أقواما في قضائها، ولم أقربك بنفسي. انتهى.
__________
(1) انظر سيبويه 3/ 304. وفي اللسان (كفف): = وقولهم: لقيته كفّة كفّة، بفتح الكاف، أي كفاحا، وذلك إذا استقبلته مواجهة، وهما اسمان جعلا واحدا وبنيا على الفتح مثل خمسة عشر =.
(2) في حاشية طبعة بولاق: = قوله فاعلا يريد نائب فاعل. اه =.
وفي حاشية النسخة الشنقيطية: = هكذا بخط المؤلف، والصواب نائب فاعل =.
وفي حاشية طبعة هارون 7/ 475: = والحق أن تجوز في التعبير بالفاعل عن نائبه
(3) في المراثي ص 313: = الذام والذيم، والعاب والعيب واحد، وهو ما يذم به الرجل ويعاب =.
(4) في النسخة الشنقيطية: = أي أنجزها بغيري =.
والتنجز: طلب إنجاز العدة أو الحاجة.
(7/446)
قال أبو حنيفة الدينوريّ في «كتاب النبات» الدّلو: الاستقاء بالدّلو من العمق. يقال أدلى الدلو: إذا حدرها للاستقاء، يدليها إدلاء. ودلاها، إذا اجتذبها إليه يدلوها دلوا.
قال تعالى (1): {«فَأَرْسَلُوا وََارِدَهُمْ فَأَدْلى ََ دَلْوَهُ»}، فهذا من الإدلاء، وهو إلقاؤها في البئر.
وقال الشاعر في دلوت:
فقد جعلت إذا ما حاجة عرضت ... البيت
أي: أبتغي شفعاء يستخرجون لي حاجتي. انتهى.
عصام بن عبيد الزمّاني
و «عصام بن عبيد» (2): شاعر جاهلي. وعبيد: مصغّر عبد بالتذكير. وزمّان، بكسر الزاي وتشديد الميم: أحد أجداد الشاعر، وهو من بني حنيفة.
* * * وأنشد بعده (3): (الطويل)
هما نفثا في فيّ من فمويهما ... على النّابح العاوي أشدّ رجام
وتقدّم شرحه مفصّلا في الشاهد السادس والعشرين بعد الثلثمائة (4).
__________
(1) سورة يوسف: 12/ 19.
(2) شاعر من أهل اليمامة، عاش في الدولة الأموية، كان يناقض يحيى بن أبي حفصة مولى مروان بن الحكم، انظر في ترجمته معجم الشعراء ص 270.
(3) البيت للفرزدق في ديوانه 2/ 771وتذكرة النحاة ص 143وجواهر الأدب ص 95والدرر 1/ 156 وسر صناعة الإعراب 1/ 417، 2/ 485وشرح أبيات سيبويه 2/ 258وشرح شواهد الشافية ص 115 والكتاب 3/ 365، 622ولسان العرب (فمم، فوه) والمحتسب 2/ 238. وهو بلا نسبة في أسرار العربية ص 235والأشباه والنظائر 1/ 216والإنصاف 1/ 345وجمهرة اللغة ص 1307والخصائص 1/ 170، 3/ 147، 211وشرح شافية ابن الحاجب 3/ 215والمقتضب 3/ 158والمقرب 2/ 129وهمع الهوامع 1/ 51.
(4) الخزانة الجزء الرابع ص 419.
(7/447)
وضمير التثنية لإبليس وابن إبليس (1). و «نفثا»، أي: ألقيا على لساني. و «النابح»:
هنا أراد به من يتعرّض للهجو، والسّبّ من الشعراء، وأصله في الكلب. ومثله العاوي.
و «الرّجام»: مصدر راجمه بالحجارة، أي: راماه. وراجم فلان عن قومه، إذا دافع عنهم. جعل الهجاء في مقابلة الهجاء كالمراجمة، لجعله الهاجي كالكلب النابح.
والبيت آخر قصيدة للفرزدق قالها في آخر عمره تائبا إلى الله تعالى ممّا فرط منه من مهاجاته النّاس، وذمّ فيها إبليس لإغوائه إيّاه في شبابه.
* * * وأنشد بعده، وهو الشاهد الرابع والستون بعد الخمسمائة (2): (الكامل)
564 - يديان بيضاوان عند محلّم
هذا صدر، وعجزه:
* قد يمنعانك أن تضام وتضهدا *
على أنّه مثنى «يدا» بالقصر، فلما ثنّي قلبت ألفه ياء، كفتيان في مثنى فتى، لأنّ أصلها الياء، فإنّ التثنية من جملة ما يردّ الشيء إلى أصله.
وإنّما قلبت في المفرد ألفا لانفتاح ما قبلها. وتقلب واوا في النسبة إليها عند الخليل وسيبويه، فيقال: يدويّ.
قال صاحب الصحاح: وبعض العرب يقول لليد: يدا، مثل رحا (3).
__________
(1) وذلك بقول الفرزدق في البيت الذي يسبق هذا البيت من قصيدته، وهو قوله:
وإنّ ابن إبليس وإبليس ألبنا ... لهم بعذاب النّاس كلّ غلام
(2) البيت بلا نسبة في شرح الأشموني 3/ 668وشرح شواهد الشافية ص 113وشرح المفصل 5/ 83، 6/ 5، 10/ 56ولسان العرب (يدي) والمقرب 2/ 42والمنصف 1/ 64، 2/ 148.
(3) في النسخة الشنقيطية: = رحى =.
وفي لسان العرب (رحا): = الرحا: معروفة، وتثنيتها رحوان، والياء أعلى =.
(7/448)
قال الشاعر (1): (الرجز)
يا ربّ سار بات ما توسّدا ... إلّا ذراع العنس أو كفّ اليدا
يديان بيضاوان ... البيت
وكذا قال ابن يعيش. وفيه ردّ على من زعم أنّ «يديان» (2) مثنّى يد ردّت لامه شذوذا، كالزمخشري في «المفصل».
قال ابن يعيش: متى كانت اللام الساقطة ترجع في الإضافة فإنّها تردّ إليه في التثنية، لا يكون إلا كذلك.
وإذا لم ترجع في الإضافة لم ترجع في التثنية كأب وأخ، تقول: أخوان وأبوان، لأنّك تقول في الإضافة: أبوك وأخوك، فترى اللام رجعت في الإضافة، فلذلك رددتها في التثنية.
وذلك لأنّا رأينا التثنية قد تردّ الذاهب الذي لا يعود في الإضافة، كقولك في يد:
يديان، وفي دم: دموان. وأنت تقول في الإضافة يدك ودمك، فلا تردّ الذاهب.
فلما قويت التثنية على ردّ ما لم تردّه الإضافة صارت أقوى من الإضافة. وحمل أصحابنا يديان على القلّة والشّذوذ، وجعلوه من قبيل الضرورة.
والذي أراه أنّ بعض العرب يقول في اليد: يدا في الأحوال كلّها، يجعله مقصورا كرحا. إلى آخر ما ذكره الجوهريّ.
وكذا صنع ابن الشجري في «أماليه»، قال: ويد أصلها يدي لظهور الياء في تثنيتها، ولقولهم: يديت إليه يدا، أي: أسديت إليه نعمة.
قال (3): (الوافر)
__________
أراد: رحيان، فهي يائية واوية، لأنه يقال: رحوت بالرحا، ورحيت بها.
(1) الرجز بلا نسبة في تاج العروس (يدي) وجمهرة اللغة ص 1307والجنى الداني ص 356وجواهر الأدب ص 289والدرر 1/ 110وشرح عمدة الحافظ ص 804وشرح المفصل 4/ 152ولسان العرب (أبى، يدي) وهمع الهوامع 1/ 39.
(2) في النسخة الشنقيطية: = يدان =. وهو تصحيف صوابه من طبعة بولاق.
(3) البيت لبعض بني أسد في الحماسة برواية الجواليقي ص 61وشرح الحماسة للأعلم 1/ 318ولمعقل بن عامر الأسدي في شرح الحماسة للتبريزي 1/ 99. وهو بلا نسبة في شرح المفصل 5/ 84ولسان العرب (جذا، يدي)
(7/449)
يديت على ابن حسحاس بن بدر ... بأسفل ذي الجذاة يد الكريم
فيجوز أن تكون اليد، التي هي النّعمة مأخوذة من التي هي الجارحة، لأنّ النّعمة تسدى باليد.
ويجوز أن تكون الجارحة مأخوذة من النعمة، لأن اليد نعمة من نعم الله على العبد، ويدلّ على سكون عينها جمعها على أيد، لأنّ قياس فعل في جمع القلّة أفعل، كأكلب وأكعب وأبحر، وأنسر في جمع نسر.
وفتح الدال في التثنية، كقوله:
* يديان بيضاوان * البيت
لا يدلّ على فتحها في الواحد، لما ذكرته من إجراء هذه المنقوصات على الحركة إذا أعيدت لاماتها، وذلك لاستمرار حركات الإعراب عليها في حال نقصها، وكذلك إذا نسبت إليها أعدت المحذوف وفتحت الدال، وأبدلت من الياء واوا، كما أبدلت من ياء قاض. فقلت: يدويّ. هذا قول الخليل وسيبويه في النّسب إلى هذا الضرب.
وأبو الحسن الأخفش ينسب إليه على زنته الأصلية، فيقول: يدييّ، وفي غد:
غدويّ، وحر (1): حرحيّ. والخليل وسيبويه، يقولون: غدويّ وحرحيّ. وجمع اليد التي هي الجارحة في الأكثر على أيد، وقد جمعها على أياد، في قوله (2): (الرجز)
* قطن سخام بأيادي غزّل *
«سخام»: ناعم. واليد التي هي النعمة جمعها في الأكثر الأشهر على أياد.
وقد جمعوها على الأيدي، وإنّما الأيادي جمع الجمع، كقولهم في جمع أكلب:
__________
في طبعة بولاق: = الجزاة يد =. وهو تصحيف صوابه من المصادر السابقة والنسخة الشنقيطية. وفي جميع نسخ الحماسة: = حسحاس بن وهب =.
(1) كلمة: = وحر =. ساقطة من طبعة بولاق وأضفناها من النسخة الشنقيطية.
(2) الرجز لجندل بن المثنى الحارثي الطهوي في أساس البلاغة (سخم) وتاج العروس (رود، غزل، هجل، سخم، ثجل، يدي) ولسان العرب (رود، غزل، هجل، سخم، ثجل، يدي). وهو بلا نسبة في ديوان الأدب 1/ 446وشرح المفصل 5/ 74.
(7/450)
أكالب. وقولهم في تثنيتها: يدان، أكثر من قولهم: يديان. فهذا مضادّ لقولهم: دمان (1)
ودميان. انتهى.
وكذا قال ابن جنّي في «شرح تصريف المازني»، قال: إذا قالوا في النسب إلى يد يدويّ تركوا عين الفعل محرّكة بعد الردّ، لأنّهم لو حذفوا الحركة عند ردّ اللام لكانت اللام كأنها لم تردّ، لأنّها قد عاقبت الحركة.
وهذا قول أبي عليّ فيما أخذته عنه، وهو يشهد لصحّة قول سيبويه فيما ذهب إليه في تبقية الحركة التي حدثت بعد الحذف، إذا ردّ إلى الكلمة ما حذف منها.
وأبو الحسن يذهب إلى ما وجب بالحذف عند ردّ المحذوف، والقول قول سيبويه.
ألا ترى أنّ الشاعر لما ردّ الحرف المحذوف بقّى الحركة (2) في قوله:
يديان بيضاوان ... البيت
قال أبو على: فان قيل: فما تصنع بقوله (3): (الرجز)
* إنّ مع اليوم أخاه غدوا *
وقول الآخر (4): (الطويل)
وما النّاس إلّا كالدّيار وأهلها ... بها يوم حلّوها وغدوا بلاقع
__________
(1) في طبعة بولاق: = أدمان =. وهو تصحيف صوابه من النسخة الشنقيطية.
(2) في النسخة الشنقيطية: = أبقى =. وفي طبعة بولاق: = وبقى =. وفي طبعة هارون والمنصف: = وبقّى =.
وهو الوجه الصحيح.
(3) الرجز بلا نسبة في تاج العروس (غدا) وتخليص الشواهد ص 180وجمهرة اللغة ص 671، 682، 1061، 1266وشرح أبيات المغني 7/ 163وشرح شافية ابن الحاجب 3/ 215، 217وشرح شذور الذهب ص 575وشرح شواهد الشافية ص 449وشرح المفصل 1/ 23، 5/ 8والمخصص 9/ 60 والمقتضب 2/ 238، 3/ 153والممتع في التصريف 2/ 623والمنصف 1/ 64، 2/ 149.
(4) البيت للبيد بن ربيعة في ديوانه ص 169وأمالي المرتضى 1/ 453وشرح المفصل 6/ 4والشعر والشعراء 1/ 284ولسان العرب (غدا) ولذي الرمة في ملحق ديوانه ص 1887وللبيد أو لذي الرمة في تاج العروس (غدا). وهو بلا نسبة في الكتاب 3/ 358والمنصف 1/ 64، 2/ 149.
(7/451)
ألا ترى أنّه ردّ اللام وحذف حركة العين. فهذا يشهد لصحّة قول أبي الحسن الأخفش. فالجواب: أنّ الذي قال غدوا ليس من لغته أن يقول: غد فيحذف، بل الذي يقول: غد غير الذي قال غدوا. انتهى.
قال ابن المستوفي: الذي قاله ابن جنّي غير ما ذكره الجوهري، فتثنيته يدين على ما ذكره ابن جنّي صناعيّة، وعلى ما ذكره الجوهريّ لغوية.
وقد تكلّم ابن السكيت على «يد» زيادة على ما ذكرنا في «كتاب المؤنث والمذكر»، فأحببنا إيراده تتميما للفائدة. قال: اليد مؤنثة تصغيرها يديّة، يردّ إليها في التصغير ما نقص منها، والناقص منها ياء. والدليل على ذلك أنّ الشاعر، قال:
(الكامل)
يديان بيضاوان عند محلّم ... قد تمنعانك منهما أن تهضما
وتجمع ثلاث أيد، ثم جمعوها الأيادي، ولم يقولوا: يديّ بالضم، ولا أيداء، وهو قياس. فاستغني بأيد وأياد عنه.
قال الشاعر (1): (الطويل)
فلن أذكر النّعمان إلّا بصالح ... فإنّ له عندي يديّا وأنعما
فإن شئت جعلت اليديّ بالفتح على جهة عصيّ وعصيّ، وتركت ضم أولها أو كسره لثقل الضم والكسر في الياء. وإن شئت جعلته جمعا مفتعلا (2) مثل عبد وعبيد، وكلب وكليب، ومعز ومعيز. ويقال: قد يديته، أي: أصبت يده، وقد يدي من يده إذا شلّ منها.
وحدّثني الأثرم عن أبي عبيدة، قال: كنت مع أبي الخطاب عند أبي عمرو في مسجد بني عديّ، فقال أبو عمرو: لا تجمع أيد بالأيادي، إنّما الأيادي للمعروف.
قال: فلما قمنا، قال لي أبو الخطاب: أما إنّها في علمه ولم تحضره، وهو أروى لهذا البيت منّي: (الخفيف)
__________
(1) البيت لضمرة بن ضمرة في لسان العرب (زنم) ونوادر أبي زيد ص 53وللأعشى في لسان العرب (يدي) وللنابغة الذبياني في لسان العرب (نعم). وهو بلا نسبة في سر صناعة الإعراب 1/ 240وشرح المفصل 10/ 56 وكتاب العين 8/ 102ولسان العرب (سود، حبق).
(2) أي: اسم جمع.
(7/452)
ساءها ما تأمّلت في أيادي ... نا وإشناقها إلى الأعناق (1)
انتهى.
قال بعض فضلاء العجم في «شرح أبيات المفصل»: «المحلّم»، بكسر اللام، يقال: إنه من ملوك اليمن (2). وصف اليد وهي النّعمة بالبياض، عبارة عن كرم صاحبها.
وقوله: «عند محلّم»، أي: لمحلّم. يقال: عند فلان عطيّة أو مال، أي: له ذلك. كذا في «المقتبس».
قلت: وجه التشبيه على ما ذكر غير ظاهر، والأظهر أن يراد العضوان، ويراد ببياضهما نقاؤهما وطهارتهما عن تناول ما لا يحسن في الدّين والمروءة. و «ضامه»:
ظلمه، وكذا هضمه. و «ضهده»: قهره.
وقوله: «أن تضام وتضهدا»: مفعول ثان لقوله: تمنعانك، يقال: منعه كذا ومنعه من كذا.
وروى: «قد تنفعانك» وعليه فقوله: أن تضام في محلّ النصب على الظّرف، أي: وقت كونك مظلوما مقهورا.
والمعنى: لهذا الملك يدان طاهرتان عن موجبات الذمّ، وتمنعانك أيّها المخاطب أن تكون مظلوما بالنّصرة على من يظلمك والإعانة عليه. انتهى.
ورواه الجوهري:
يديان بيضاوان عند محرّق ... قد تمنعانك منهما أن تهضما
و «محرّق»، بكسر الراء المشددة، قال صاحب العباب: كان عمرو بن هند ملك الحيرة يلقّب بالمحرّق، لأنّه حرّق مائة من بني تميم. ومحرّق أيضا: لقب الحارث ابن عمرو ملك الشام، من آل جفنة. وإنّما قيل له ذلك لأنّه أوّل من حرّق العرب في ديارهم. وهم يدعون: آل محرّق.
__________
(1) البيت لعدي بن زيد العبادي في ديوانه ص 150وشرح المفصل 5/ 74ولسان العرب (شنق). وهو بلا نسبة في تاج العروس (يدي) والخصائص 1/ 227ولسان العرب (يدي).
(2) في الاشتقاق ص 287: = واشتقاق محلم من قولهم: تحلمت يرابيع أرض بني فلان، إذا سمنت =.
(7/453)
وروى ابن الشجري (1):
عند محلّم ... قد تمنعانك أن تذلّ وتقهرا
وأنشده ابن الأعرابي وأبو عمر الزّاهد:
عند محلّم ... قد تمنعانك بينهم أن تهضما
وروي أيضا على غير ما ذكر.
ومع كثرة تداوله في كتب اللغة والنحو لم ينسبه أحد إلى قائله ولا ذكر تتمة له.
والله أعلم.
* * * وأنشد بعده، وهو الشاهد الخامس والستون بعد الخمسمائة (2): (الوافر)
565 - فلو أنّا على جحر ذبحنا
جرى الدّميان بالخبر اليقين
على أنّه جاء «دميان» في تثنية دم.
وهو شاذّ عند الجوهريّ، لأنه واويّ. وما أورده الشارح المحقق هو كلام صاحب الصحاح إلى قوله: «فإن قيل» إلخ.
وصدر كلامه: الدم أصله دمو بالتحريك، وإنّما قالوا: دمي يدمى، لحال الكسرة
__________
(1) أمالي ابن الشجري 2/ 35والمقتضب 1/ 332ومجالس العلماء للزجاجي ص 327.
(2) البيت للمثقب العبدي في ملحق ديوانه ص 283والأزهية ص 141والمقاصد النحوية 1/ 192ولعلي بن بدال في أمالي الزجاجي ص 20وشرح شواهد الشافية ص 112ولمرداس بن عمرو في الوحشيات ص 84. وهو بلا نسبة في الإنصاف 1/ 357وجمهرة اللغة ص 286، 1307ورصف المباني ص 242وسر صناعة الإعراب 1/ 395وشرح الأشموني 3/ 669وشرح شافية ابن الحاجب 2/ 64وشرح شواهد الإيضاح ص 281وشرح المفصل 4/ 151، 152، 5/ 84، 6/ 5، 9/ 24ولسان العرب (أخا، دمى) والمقتضب 1/ 231، 2/ 238، 3/ 153والمقرب 2/ 44والممتع في التصريف 2/ 624والمنصف 2/ 148.
ورواية ديوانه:
فلو أنّا على حجر ذبحنا ...
(7/454)
التي قبل الياء، كما قالوا: رضي يرضى، وهو من الرّضوان. وأنشد البيت.
وقال ابن السّرّاج في «الأصول»: وأمّا دم فهو فعل بالتحريك لأنّك تقول:
دمي يدمى دما، فهو دم. فهذا مثل فرق يفرق فرقا، فهو فرق. فدم مصدر مثل بطر وحذر. وهذا قول أبي العباس المبرد (1).
وليس عندي في قولهم: دمي يدمى حجّة لمن ادّعى أن دما فعل لأنّ قولهم:
دمي يدمى دما، إنما هو فعل ومصدر اشتقّا من الدم، كما اشتقّ ترب يترب تربا من التّراب.
فقولهم: دما اسم للحدث، والدم: الشيء الذي هو جسم. ولكن قولهم:
دميان دلّ على أنه فعل.
قال الشاعر لمّا اضطرّ:
فلو أنّا على جحر ذبحنا ... البيت
ثم قال: وأما دم فقد استبان أنّه من الياء، لقول بعض العرب دميان. وقال بعضهم: دموان. فممّا دلّ على أنّه من الواو أكثر، لأنّهم قد قالوا هنوان وأخوان وأبوان. انتهى كلامه. وهذا مأخذ كلام الصحاح.
وقد ردّ ابن جنّي بعض هذا في «شرح تصريف المازني» وأيّد مذهب سيبويه، قال: وزن شاة فعلة ساكنة العين. هذا هو الصواب.
وكلّمت بعض الشيوخ من أصحابنا بمدينة السّلام، في العين منها هل هي ساكنة أم متحرّكة؟ فادّعى أنّها متحرّكة، فسألته عن الدّلالة على ذلك، فقال: انقلابها ألفا يدلّ على أنها متحركة، لأنّها لو كانت ساكنة لوجب إثباتها كما ثبتت في حوض وثوب. فقلت له: أنا وأنت مجمعان على أنّ سكون العين هو الأصل، وأنّ الحركة زائدة، وحكم الزيادة أن لا تثبت إلّا بدليل.
فأمّا قولك انقلابها دليل على الحركة فغير لازم، لأنّ الحركة التي فيها إنما دخلتها لمجاورتها تاء التأنيث، وقد أجمعنا على أنّ تاء التأنيث يفتح ما قبلها، وأنّ سكون العين هو الأصل حتى تقوم دلالة على الحركة.
__________
(1) في طبعة بولاق: = أبي العباس والمبرد =. وهو تصحيف فكلاهما واحد.
(7/455)
وأمّا انقلاب العين فإنّما هو لما حدث فيها من الفتح عند مجاورتها تاء التأنيث، فوقف الكلام هناك. وكأنّها (1) كانت شوهة، فلما حذفت الهاء بقيت شوة ففتحوا الواو (2) لتاء التأنيث، فصار شوة، فانقلبت الواو ألفا لتحرّكها وانفتاح ما قبلها.
فإن قيل: ما تنكر أن تكون فعلة، لأنّ اللام لما ردّت وأبدلت في شاء همزة بقيت الألف بحالها.
ولو كانت إنّما انفتحت العين لمجاورتها التاء لوجب إذا رجعت اللام وزالت التاء أن تعود إلى سكونها، فيقال: شوة أو شوء (3) إذا أبدلت الهمزة؟ قيل: هذا لا يلزم، لأنّ العين لمّا تحركت لمجاورتها التاء ثم ردّت اللام بعد ذلك، تركت الفتحة في العين بحالها قبل الردّ. وهذا مذهب سيبويه.
ألا ترى أنه لم يكن عنده في قول الشاعر:
* جرى الدّميان بالخبر اليقين *
دلالة على تحرّك العين من دم، لأنّها لما أجري عليها الإعراب في قولهم: دم ودما ودم، ثم ردّ اللام في التثنية بقّى الحركة (4) في العين على ما كانت عليه قبل الردّ، كما قال الآخر:
* يديان بيضاوان عند محلّم *
وقد أجمعوا على سكون العين من يد. وقد تراه، قال: يديان، فحرّكها عند الردّ، لأنّها قد جرت محركة قبل الردّ (5).
والقول فيه مثله في الدّميان. وغيره من أصحابنا، وهو أبو العباس، يذهب إلى ترك العين من دم، لأنه مصدر دميت دما، مثل: هويت هوى. قال أبو بكر بن السرّاج: «وليس ذلك بشيء».
__________
(1) في النسخة الشنقيطية: = وأنها =. وهو تصحيف صوابه من طبعة بولاق والمنصف 1/ 147.
(2) في المنصف: = ففتحت الواو =.
(3) في طبعة بولاق: = شوه وشوء =. ولقد أثبتنا رواية النسخة الشنقيطية.
(4) في النسخة الشنقيطية: = بقيت الحركة =. ولقد أثبتنا رواية طبعة بولاق فهي توافق المنصف.
(5) في المنصف: = متحركة قبل الرد =. وكلمة: = محركة = ساقطة من النسخة الشنقيطية.
(7/456)
ثم أورد ما نقلناه من كلام ابن السرّاج. وحاصل كلامه أنّ دما أصله سكون العين، وأنّ لامه ياء لا واو. وبه جزم الزجاج في «تفسيره» عند قوله (1): {«يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذََابِ»} الآية.
قال: إنّ الأخفش يختار أن يكون المحذوف من ابن الواو، لأنّ أكثر ما يحذف الواو لثقلها، والياء تحذف أيضا لأنها تثقل. والدليل على هذا أنّ يدا قد أجمعوا أنّ المحذوف منه الياء، ولهم دليل قاطع من الإجماع. يقال: يديت إليه يدا. ودم محذوف منه الياء، يقال: دم ودميان.
قال الشاعر:
* جرى الدّميان بالخبر اليقين *
والبنوّة ليس بشاهد قاطع في الواو، لأنّهم يقولون: الفتوّة، والتثنية فتيان، فابن (2) يجوز أن يكون المحذوف منه الواو والياء، وهما عندي متساويان. اه.
وقد حكى الخلاف ابن الشجري في «أماليه» في كون العين محرّكة أو ساكنة، وفي كون اللام ياء أو واوا، ورجّح كونها ياء، قال: ودم عند بعض التصريفيين دمي ساكن العين، قالوا: لأنّ الأصل في هذه المنقوصات أن تكون أعينها سواكن، حتّى يقوم دليل على الحركة، من حيث كان السّكون هو الأصل، والحركة طارئة.
قالوا: وليس ظهور الحركة في دميان دليلا على أنّ العين متحركة في الأصل، لأنّ الاسم إذا حذفت لامه واستمرّت حركات الإعراب على عينه، ثم أعيدت اللام في بعض تصاريف الكلمة، ألزموا العين الحركة.
وقال من خالف أصحاب هذا القول: أصل دم دمي بفتح العين، لأنّ بعض العرب قلبوا لامه ألفا فألحقوه بباب رحا، فقالوا: هذا دم ودما كرحا.
وقال بعض العرب في تثنيته دمان فلم يردّوا اللام، كما قالوا في تثنية يد يدان.
والوجه أن يكون العمل على الأكثر. وكذلك حكى قوم دموان. والأعرف فيه الياء.
__________
(1) سورة البقرة: 2/ 49وسورة الأعراف: 7/ 41وسورة إبراهيم: 14/ 6.
(2) في طبعة بولاق والنسخة الشنقيطية: = فأين =. وهو تصحيف صوابه من لسان العرب (بني).
(7/457)
وعليه أنشدوا:
* جرى الدّميان بالخبر اليقين *
قال بعض أهل اللغة: من العرب من يقول: الدمّ بالتشديد، كما تلفظ العامّة، وهي لغة رديّة.
وأنشدوا لتأبّط شرّا: (الرجز)
حيث التقت بكر وفهم كلّها ... والدّمّ يجري بينهم كالجدول
والعامّة تفعل مثل هذا في الفم. ومن العرب (1) من يشدّد الفم أيضا. وإنّما يكون ذلك في الشّعر، قال:
* يا ليتها قد خرجت من فمّه *
انتهى.
والجحر، بضم الجيم وسكون الحاء المهملة: الشقّ في الأرض.
وقوله: «جرى الدّميان» إلخ، أراد بالخبر اليقين ما اشتهر عند العرب، من أنّه لا يمتزج دم المتباغضين. وهذا تلميح في غاية الحسن، أي: لما امتزجا وعرف ما بيننا من العداوة.
قال ابن الأعرابي: معناه لم يختلط دمي ودمه، من بغضي له وبغضه لي، بل يجري دمي يمنة ودمه يسرة. ويوضّحه قول المتلمس من قصيدة (2): (الطويل)
أحارث إنّا لو تساط دماؤنا ... تزايلن حتّى لا يمسّ دم دما
وقال ابن قتيبة في ترجمة المتلمس من «كتاب الشعراء» (3): هذا البيت من إفراطه. يقول: إنّ دماءهم تنماز من دماء غيرهم. وهذا محال لا يكون أبدا.
__________
(1) في أمالي ابن الشجري 2/ 35: = ومن العرب العرب من =. وأراد العرب الخلص.
(2) البيت للمتلمس الضبعي في ديوانه ص 16والأصمعيات ص 245وتاج العروس (شيط، زيل) والحماسة البصرية 1/ 41والشعر والشعراء ص 113ولسان العرب (شيط، زيل).
(3) الشعر والشعراء ص 113.
(7/458)
وكذا قال ابن عبد ربّه في «العقد الفريد» (1).
و «تساط» بالسين المهملة، يعني: تخلط. ومنه قول العامة (2): «لو خلط دمي بدمه لما اختلط»، أي: لباينه من شدّة العداوة، ولم يمازجه.
وقال الأندلسي: معناه لو ذبحنا على جحر واحد، لامتزجت دماؤنا بدمائكم.
يصف ما بينهما من العداوة. وهذا خلاف المعنى، والصواب: لما امتزجت دماؤنا.
ونقل بعض فضلاء العجم في «شرح أبيات المفصل» أن معنى البيت: لو ذبحنا على جحر لعلم من الشّجاع منّا من الجبان، بجري دمه وجموده (3) لأنّ من زعمهم أنّ دم الشّجاع يجري، ودم الجبان يجمد. وتحقيقه: جرى دمي ودمك ملتبسين بالخبر اليقين.
ولا يخفى أنّ هذا المعنى غير صحيح هنا، بدليل ما قبله، وهو (4): (الوافر)
لعمرك إنّني وأبا رياح ... على حال التّكاشر منذ حين
ليبغضني وأبغضه وأيضا ... يراني دونه وأراه دوني
فلو أنّا على جحر ذبحنا ... البيت
هكذا روى الأبيات الثلاثة ابن دريد في «كتابه المجتنى» (5) عن عبد الرحمن عن عمّه الأصمعيّ، ونسبها لعليّ بن بدّال بن سليم.
و «التكاشر»: المباسطة، من الكشر، وهو التبسّم. وروى ابن دريد بدله في «الجمهرة»: «على طول التجاور». وعلى بمعنى مع.
__________
(1) في العقد الفريد 5/ 359: = وهذا من الكذب المحال =.
(2) المثل في جمهرة الأمثال 1/ 290، 2/ 183، 212والعقد الفريد 3/ 101وكتاب الأمثال ص 14 ومجمع الأمثال 2/ 174.
(3) أي جمود دم عدوه.
(4) الأبيات للمثقب العبدي ص 283282والحماسة البصرية 1/ 40. وهي لمرداس بن عمرو في الوحشيات ص 84. والمعروف أنها لعلي بن بدال، من سليم. انظر لذلك أمالي الزجاجي ص 14وجمهرة اللغة 2/ 303 ولسان العرب (دمي) والمجتنى ص 81.
(5) في طبعة بولاق والنسخة الشنقيطية: = في كتابه المجتبي = بالباء وسبق لنا أن بيّنا أنه خطأ. والكتاب طبع في مدينة حيدر آباد الدكن سنة 1342هـ. ويقول ابن دريد في مقدمته ص 12: = سميناه كتاب المجتنى لاجتنائنا فيه طرائف الآثار، كما تجتنى أطايب الثمار =.
(7/459)
وقد أدخل هذه الأبيات الثلاثة صاحب «الحماسة البصرية» في قصيدة المثقّب العبديّ.
وأنشد بعدها (1): (الوافر)
فإمّا أن تكون أخي بصدق ... فأعرف منك غثّي من سميني
وإلّا فاطّرحني واتّخذني ... عدوّا أتّقيك وتتّقيني
وتبعه ابن هشام في «شرح شواهده»، والعيني أيضا في «شرح شواهد شروح الألفية»، ولم يوردها أحد في هذه القصيدة.
وقد رجعت إلى ديوانه فلم أجدها في هذه القصيدة. ورواها المفضّل في «المفضليات» عارية عنها، ولم ينبّه عليها أحد من شرّاحهم كابن الأنباريّ وغيره.
وقال ابن المستوفي: رأيت (2) هذه الأبيات في كتاب نحو قديم منسوبة للفرزدق.
ووجدتها أيضا في نسخة قديمة ذكر كاتبها أنّها زيادات الحماسة، كتبها محمد بن أحمد بن الحسن في ربيع الآخر، سنة ثمان وتسعين وثلثمائة، ونسبها لمرداس (3) بن عمرو. وقال: وتروى للأخطل.
ووجدتها في «نوادر اللّحياني أبي الحسن علي بن حازم» (4) قد أنشدها لأوس.
انتهى كلام ابن المستوفي.
__________
(1) هما الإنشاد الرابع والثمانون في شرح أبيات المغني للبغدادي.
والبيتان للمثقب العبدي في ديوانه ص 212211والأزهية ص 142141والدرر 6/ 129وشرح اختيارات المفضل ص 12671266وشرح أبيات المغني 2/ 12وشرح شواهد المغني 1/ 190، 191 ومغني اللبيب 1/ 61والمراثي ص 241والمفضليات ص 292وله أو لسحيم بن وثيل في المقاصد النحوية 1/ 192، 4/ 149. وهو بلا نسبة في الجنى الداني ص 532وجواهر الأدب ص 415وشرح الأشموني 2/ 426والمقرب 1/ 232وهمع الهوامع 2/ 135.
(2) في طبعة بولاق: = في رواية هذه الأبيات =. وهو تصحيف واضح، صححه الشنقيطي بقلمه برسم:
= رأيت =. وهو وجه حسن ولذلك أثبتناه.
(3) في طبعة بولاق: = ونسبها المرداس =. وهو تصحيف صوابه من النسخة الشنقيطية.
(4) في طبعة بولاق والنسخة الشنقيطية: = خازم =. بالخاء المعجمة وهو تصحيف صوابه من طبقات الزبيدي ص 213 ومراتب النحويين ص 142. ففي طبقات الزبيدي ذكر علي بن حازم في الطبقة الثانية من اللغويين الكوفيين. وفي مراتب النحويين قال عنه أبو الطيب اللغوي: = أبو الحسن علي بن حازم اللحياني، من بني لحيان، صاحب النوادر =.
(7/460)
وابن دريد هو المرجع في هذا الأمر، فينبغي أن يؤخذ بقوله. والله أعلم.
و «علي بن بدّال»
، بفتح الموحدة وتشديد الدال، وآخره لام.
* * * وأنشد بعده، وهو الشاهد السادس والستون بعد الخمسمائة (1): (الطويل)
566 - فلسنا على الأعقاب تدمى كلومنا
ولكن على أقدامنا يقطر الدّما
على أنّ المبرّد استدلّ به بأنّ «الدم» أصله فعل بتحريك العين، ولامه ياء محذوفة، بدليل أنّ الشاعر لما اضطرّ أخرجه على أصله وجاء به على الوضع الأوّل.
فقوله «الدّما» بفتح الدال فاعل يقطر، والضمة مقدّرة على الألف، لأنّه اسم مقصور، وأصله دمي، تحرّكت الياء وانفتح ما قبلها فقلبت ألفا.
والدّليل على أنّ اللام ياء قولهم في التثنية: دميان، وفي الفعل: دميت يده. هذا محصّل مدّعاه، وهو إنّما يتمّ على أنّ فتح الميم قبل حذف اللام، وعلى أنّ الدما بمعنى الدم، وعلى أنّ يقطر بالياء التحتية. وفي كلّ واحد بحث.
أمّا الأول فممنوع، وإنّما فتحة الميم حادثة بعد حذف اللام، وهو مذهب سيبويه، وذلك أنّ الحركة عنده إذا حدثت لحذف حرف ثم ردّ المحذوف ثبتت الحركة التي كانت قد جرت على الساكن قبل دخولها عليه بحالها.
ويشهد له قولهم: يديان فإنّهم أجمعوا على سكون العين من يد من غير خلاف. وقد نراهم، قالوا: يديان، فحرّكوا عند الرّدّ، لأنّها قد جرت محرّكة قبل ردّ اللام.
__________
(1) البيت للحصين بن الحمام المري في جمهرة اللغة ص 1306والحماسة برواية الجواليقي ص 62وديوان المعاني 1/ 115وشرح الحماسة للأعلم 1/ 316وشرح الحماسة للتبريزي 1/ 103وشرح الحماسة للمرزوقي ص 198والشعر والشعراء 2/ 653ولسان العرب (دمي). وهو بلا نسبة في تخليص الشواهد ص 77وشرح شواهد الإيضاح ص 279وشرح شواهد الشافية ص 114وشرح المفصل 4/ 153، 5/ 84، 85ولسان العرب (برغز) والمنصف 2/ 148.
(7/461)
وأما الثاني فممنوع أيضا، لاحتمال أنّه مصدر دمي دما، كفرح يفرح فرحا.
قال ابن جنّي في «شرح تصريف المازني»: دما: مصدر دميت يده، لا بمعنى الدّم.
وأما قوله، وأنشدنيه (1) أبو علي:
* ولكن على أقدامنا يقطر الدّما *
فالدّما في موضع رفع، وهو مصدر مقصور على فعل، وتقديره على حذف مضاف.
وكذا قول الشاعر: (الرمل)
كأطوم فقدت برغزها ... أعقبتها الغبس منه عدما (2)
غفلت ثمّ أتت ترقبه ... فإذا هي بعظام ودما (3)
فإنّه أوقع المصدر فيهما موقع الجوهر، وتأويله عندي على حذف المضاف، كأنّه قال: يقطر ذو الدّمى، وإذا هي بعظام وذي دمى. انتهى.
و «الأطوم»، بفتح الألف وضم الطاء: البقرة الوحشيّة. و «البرغز»، بضم الموحدة فالغين المعجمة، وسكون الراء المهملة بينهما، وآخره زاي، هو ولدها.
و «الغبس»: جمع أغبس، وهي الذئاب، وقيل: هي الكلاب. والدّما في الموضعين لا خفاء في كونه بمعنى الدّم، والتأويل خلاف الظاهر.
وأمّا الثالث فقد روي أيضا بالنون وبالتاء الفوقيّة.
أمّا الأول فقد قال العسكري في «كتاب التصحيف» (4): اختلفوا في نصب الدم، ورواه أبو عبيدة:
__________
(1) في طبعة بولاق: = وأنشد فيه =. صوابه من النسخة الشنقيطية.
(2) البيت بلا نسبة في تاج العروس (برغز، أطم) وجمهرة اللغة ص 1306ولسان العرب (برغز).
(3) البيت بلا نسبة في الأشباه والنظائر 5/ 97وتاج العروس (يدي) وتخليص الشواهد ص 77وجمهرة اللغة ص 1307والدرر 1/ 111ورصف المباني ص 16وشرح شواهد الإيضاح ص 277وشرح المفصل 5/ 84 ولسان العرب (برغز، أطم، أبي) والمنصف 2/ 148وهمع الهوامع 1/ 39.
(4) شرح ما يقع فيه التصحيف والتحريف ص 325.
(7/462)
* على أقدامنا تقطر الدّما *
بالنون، أي: نقطر دما من جراحنا. انتهى.
فقطر على هذا متعدّ، يقال: قطر الدم وقطرته، أي: سال وأسلته.
وأمّا الرواية بالتاء الفوقية فقد رواها شرّاح الحماسة، وقالوا (1): قطر فعل متعدّ مسند إلى ضمير الكلوم. فالدّما على هاتين الروايتين مفعول به، يحتمل أنّه مقصور كما قال المبرد، ويحتمل أنّه الدم منقوص وألفه للإطلاق. وحينئذ يسقط الاستدلال على أنّه مقصور.
وقال المرزوقي في «شرح الحماسة» (2)، وتبعه التبريزي، وغيره: وإن شئت جعلت الدم منصوبا على التمييز، كأنه قال: تقطر دما، وأدخل الألف واللام ولم يعتدّ بهما.
وقال في «شرح الفصيح»: وبعضهم يجعل الدّما تمييزا، ولا يعتدّ بالألف واللام، أراد تقطر كلومنا دما، أي: من الدم، كما في قوله (3): (الوافر)
* ولا بفزارة الشّعر الرّقابا *
وما أشبهه. ويجوز في هذا الوجه أن تنصبه على التشبيه بالمفعول به، كما يفعل بقوله: هو الحسن وجها. انتهى.
أقول: قد خطّأ أبو عليّ الوجه الأول في «المسائل البصرية»، قال: وحمل الدّما على التمييز خطأ. انتهى.
__________
(1) شرح الحماسة للأعلم 1/ 317وشرح الحماسة للتبريي 1/ 103وشرح الحماسة للمرزوقي ص 198.
(2) المصادر السابقة نفسها.
(3) في طبعة بولاق: = بغزارة =. وهو تصحيف صوابه من المصادر الآتية والنسخة الشنقيطية.
وهو عجز بيت للحارث بن ظالم وصدره:
* فما قومي بثعلبة بن سعد *
والبيت للحارث بن ظالم في الأغاني 11/ 119والإنصاف ص 133وشرح أبيات سيبويه 1/ 258وشرح اختيارات المفصل 3/ 1335والكتاب 1/ 201والمقاصد النحوية 3/ 609والمقتضب 4/ 161والمفضليات ص 314. وهو بلا نسبة في شرح المفصل 6/ 89.
(7/463)
وأما الوجه الثاني: فليس على منوال ما مثّل به. وزاد ابن جنّي في «إعراب الحماسة»، فقال: روي: «تقطر الدّما»، بفتح المثناة الفوقية وضمّها. أمّا الأوّل فلأنّ قطر متعدّ.
وأمّا الثاني فعلى أنّه منقول من قطر الدّم بالرفع، وأقطرته، كقولك: سال وأسلته. انتهى.
وقد جاء تقطر الدّما متعدّيا ناصبا للدم، في قول العبّاس بن عبد المطلب لأبي طالب، حين قتل خداش بن علقمة بن عامر، من أبيات عدّتها ثلاثة عشر بيتا، أوردها أبو تمام في «آخر كتاب مختار أشعار القبائل»، وهو (1): (الطويل)
أبى قومنا أن ينصفونا فأنصفت ... قواطع في أيماننا تقطر الدّما
وأورد السيّوطي في «الأشباه والنظائر» مجلس ثعلب مع جماعة من النحويين، نقله من كتاب غرائب مجالس النحويين للزجاجي، قال: حدّثنا أبو الحسن علي بن سليمان، قال: كنّا عند أبي العباس ثعلب فأنشدنا:
فلسنا على الأعقاب تدمى كلومنا ... ولكن على أقدامنا يقطر الدّما
فسألنا: ما تقولون فيه؟ فقلنا: الدم فاعل جاء على الأصل. فقال: هكذا رواية أبي عبيد (2).
وكان الأصمعيّ، يقول: هذا غلط، وإنّما الرواية: «تقطر الدّما» منقوطة من فوقها، والمعنى: ولكن على أقدامنا تقطر الكلوم الدّما، فيصير مفعولا به. ويقال:
قطر الماء وقطرته أنا.
وأنشدنا:
* فإذا هي بعظام ودما * البيتين
وقال: كان الأصمعيّ يقول: إنّما الرواية بكسر الدال، ثم قصر الممدود.
انتهى.
__________
(1) البيت للعباس بن عبد المطلب في التذكرة السعدية ص 135وحماسة البحتري ص 196والحماسة البصرية 1/ 52والعيون 1/ 78ومعجم الشعراء ص 262والوحشيات ص 67.
(2) وكذلك في الأشباه والنظائر 3/ 40. أما في مجالس العلماء للزجاجي ص 325: = رواية أبي عبيدة =.
(7/464)
وأما ما ادّعى المبرّد أن لام الدم ياء لا واو، فقد تقدّم الكلام عليه في البيت قبل هذا.
وهو من أبيات ثلاثة أورها أبو تمام في «الحماسة» للحصين بن الحمام المرّيّ، وأوردها الأعلم الشنتمريّ في «حماسته أيضا»، وهي (1): (الطويل)
تأخّرت أستبقي الحياة فلم أجد ... لنفسي حياة مثل أن أتقدّما
فلسنا على الأعقاب تدمى كلومنا ... ولكن على أقدامنا تقطر الدّما
نفلّق هاما من رجال أعزّة ... علينا وهم كانوا أعقّ وأظلما
وقوله: «تأخّرت أستبقي الحياة» إلخ، قال الطبرسيّ في شرحه: يقول:
نكصت على عقبي رغبة في الحياة، فرأيت الحياة في التقدّم. وقال المرزوقي: يجوز أن يكون هذا مثل قولهم: «الشّجاع موقّى»، أي: تتهيّبه الأقران فيتحامونه، فيكون ذلك وقاية له.
وفي طريقته قول الآخر: (المتقارب)
يخاف الجبان يرى أنّه ... سيقتل قبل انقضاء الأجل
وقد تدرك الحادثات الجبان ... ويسلم منها الشّجاع البطل
ومثله قول الآخر (2): (المتقارب)
نهين النّفوس وهون النّفو ... س يوم الكريهة أوقى لها
ويجوز أن يقول: أحجمت مستبقيا لعيشي، فلم أجد لنفسي عيشا كما يكون في الإقدام، وذلك لأنّ الأحدوثة الجميلة عند الناس إنّما تكون بالتقدّم لا بالتأخّر، وبالاقتحام لا بالانحراف.
ومن ذكر بالجميل وتحدّث عنه بالبلاء حيّ ذكره واسمه، وإن ذهب أثره وجسمه. وقوله: «حياة مثل أن أتقدّما»، معناه حياة تشبه الحياة المكتسبة في التقدّم وبالتقدّم.
__________
(1) شرح الحماسة للأعلم الشنتمري 1/ 316والحماسة البصرية 1/ 51.
(2) البيت للخنساء في ديوانها ص 105وتهذيب اللغة 6/ 442ولسان العرب (هون) ونهاية الأرب 3/ 72.
(7/465)
وقوله: «فلسنا على الأعقاب» إلخ، «الأعقاب»: جمع عقب، بفتح فكسر، هو مؤخّر القدم.
و «الكلوم»: جمع كلم بفتح فسكون، وهو الجرح.
قال المرزوقي: أراد: لسنا بدامية الكلوم على الأعقاب. ولو لم يجعل الإخبار على أنفسهم لكان الكلام: ليست كلومنا بدامية على الأعقاب. فيقول: نتوجّه نحو الأعداء في الحرب ولا نعرض عنهم، فإذا جرحنا كانت الجراحات في مقدّمنا، لا في مؤخّرنا، وسالت الدّماء على أقدامنا، لا على أعقابنا.
ومثله قول القطاميّ (1): (البسيط)
ليست تجرّح فرّارا ظهورهم ... وفي النّحور كلوم ذات أبلاد
انتهى.
وقد أورد ابن هشام صاحب السيرة هذا البيت في «سيرته»، وتبعه الشاميّ فأورده في «سيرته» أيضا، قالا: إن من جملة من فرّ يوم بدر خالد بن الأعلم، وهو القائل:
ولسنا على الأعقاب تدمى كلومنا ... ولكن على أقدامنا تقطر الدّما
فما صدق في ذلك، بل هو أوّل من فرّ يوم بدر، فأدرك وأسر. انتهى.
فظاهره أنّه قائل هذا البيت. وليس كذلك، وإنّما قاله متمثلا به.
وقوله: «نفلّق هاما» إلخ، قال المرزوقي: يقول: نشقّق هامات من رجال يكرمون علينا، لأنّهم منا وهم كانوا (2) أسبق إلى العقوق، وأوفر ظلما، لأنّهم بدؤونا بالشرّ وألجؤونا إلى القتال، فنحن منتقمون ومجازون. انتهى.
وقال الخطيب التبريزي (3): أصل العقوق القطع، يقال: عقّ الرحم كما يقال:
قطعها. وجمع العاقّ أعقّة وهو جمع نادر. انتهى.
__________
(1) البيت للقطامي في ديوانه ص 89وتاج العروس (بلد) ولسان العرب (بلد).
(2) في طبعة بولاق: = وإن كانوا =. وهو تصحيف صوابه من النسخة الشنقيطية وشرح الحماسة للمرزوقي ص 199.
(3) شرح الحماسة للخطيب التبريزي 1/ 103.
(7/466)
وهذه الأبيات الثلاثة من قصيدة عدّتها واحد وأربعون بيتا (1) للحصين بن الحمام، وهو شاعر جاهلي، أوردها المفضّل في «المفضليات» (2) وليس البيتان الأوّلان من الثلاثة موجودين في رواية المفضّل.
والبيت الثالث في روايته إنّما هو: «يفلّقن» بالنون، لأنّه ضمير السّيوف في بيت قبله، وهو:
صبرنا وكان الصّبر منّا سجيّة ... بأسيافنا يقطعن كفّا ومعصما
وقد تقدّم أبيات كثيرة منها مشروحة مع ترجمته في الشاهد الثاني والعشرين بعد المائتين، من باب الاستثناء (3).
وقد أورد ابن الأنباريّ في «شرحه» منشأ هذه القصيدة، فقال: كانت بنو سعد بن ذبيان قد أحلبت على بني سهم مع بني صرمة، وأحلبت معهم محارب بن خصفة، فساروا إليهم ورئيسهم حميضة بن حرملة الصّرمي ونكصت عن حصين ابن الحمام قبيلتان، وهما عدوان بن وائلة بن سهم، وعبد غنم بن وائلة بن سهم، فلم يكن معه إلّا بنو وائلة بن سهم والحرقة، فسار إليهم فلقيهم الحصين ومن معه بدارة موضوع، فظفر بهم وهزمهم، وقتل منهم فأكثر.
فلذلك يقول الحصين بن الحمام: (الطويل)
ولا غرو إلّا يوم جاءت محارب ... يقودون ألفا كلّهم قد تكتّبا (4)
موالي موالينا ليسبوا نساءنا ... أثعلب قد جئتم بنكراء ثعلبا
وإنّما سارت إليهم محارب للحلف الذي كان بينهم. فقال الحصين: (الطويل)
أيا أخوينا من أبينا وأمّنا ... إليكم وعند الله والرّحم العذر
انتهى.
__________
(1) في طبعة بولاق: = أحد وأربعون بيتا =. ولقد أثبتنا رواية النسخة الشنقيطية.
(2) المفضليات ص 6964في اثنين وأربعين بيتا.
(3) الخزانة الجزء الثالث ص 303.
(4) في طبعة بولاق: = ولا غزو =. وهو تصحيف صوابه من النسخة الشنقيطية.
والغرو: العجب.
(7/467)
و «أحلب»، بالحاء المهملة، قال في «الصحاح»: يقال للقوم إذا جاؤوا من كلّ أوب للنّصرة: قد أحلبوا. والمحلب: الناصر. ويعجبني من آخر هذه القصيدة قوله:
فلست بمبتاع الحياة بسبّة ... ولا مبتغ من رهبة الموت سلّما
يقول: لا أشتري الحياة بما أسبّ عليه وأعيّر به، ولا أطلب النجاة من الموت، لأنّي أعلم أنّ الموت لا بدّ منه. يعني: من طلب النجاة من الموت احتمل الذّلّ، ومن علم أنه ميت لا محالة لم يحتمل المذلّة.
الحصين بن الحمام
و «الحصين»، بضم الحاء وفتح الصاد المهملتين. والحمام، بضم المهملة وتخفيف الميم. والمرّيّ نسبة إلى مرّة، وهو أبو قبيلة، وهو مرّة بن عوف بن سعد بن ذبيان. وسهم وصرمة أخوان، وهما ابنا مرّة. ووائلة هو ابن سهم.
والحصين من بني وائلة، وهو الحصين بن الحمام بن ربيعة بن مساب بن حرام بن وائلة. وحميضة، بالتصغير هو ابن حرملة بن الأشعر بن إياس بن مريطة بن ضرمة بن صرمة بن مرّة (1).
* * * وأنشد بعده، وهو الشاهد السابع والستون بعد الخمسمائة (2): (الرجز)
567 - يا ربّ ساربات ما توسّدا
إلّا ذراع العنس أو كفّ اليدا
على أنّ السيرافي استدلّ به على أنّ «يدا» أصله فعل بتحريك العين.
قال صاحب الصحاح: بعض العرب يقول: لليد يدا، مثل رحى. وأنشد الشعر.
وتثنيتها على هذه اللغة يديان مثل رحيان.
__________
(1) جاء في القاموس (ضرم): = وضرمة بن صرمة بكسر الصاد المهملة: جد لهاشم بن حرملة =.
(2) الرجز بلا نسبة في الأضداد لابن الأنباري ص 188وتاج العروس (يدي) وجمهرة اللغة ص 1307 والجنى الداني ص 356وجواهر الأدب ص 289والدرر 1/ 110وشرح أبيات المغني 3/ 356وشرح عمدة الحافظ ص 804وشرح المفصل 4/ 152ولسان العرب (أبي يدي) وهمع الهوامع 1/ 39.
(7/468)
قال الشاعر:
يديان بيضاوان عند محرّق ... قد تمنعانك منهما أن تهضما
انتهى.
وتبعه ابن يعيش بقوله: «والذي أراه أنّ بعض العرب يقول في اليد يدا». إلى آخر ما ذكره صاحب الصحاح.
وقال ابن الأنباري في «كتاب الأضداد» (1): أنشد الفراء:
* يا ربّ ساربات ما توسّدا * إلخ أي: كان ذراع الناقة له بمنزلة الوسادة. وموضع اليد خفض بإضافة الكفّ إليها، وثبتت الألف فيها، وهي مخفوضة لأنّها شبّهت بالرّحى والفتى [والعصا].
وعلى هذا قالت جماعة من العرب: قام أباك، وجلس أخاك، فشبّهوهما بعصاك ورحاك. هذا مذهب أصحابنا.
وقال غيرهم: موضع اليد نصب بكفّ، وكفّ فعل ماض من قولك: قد كفّ فلان الأذى عنّا. انتهى كلامه. فتأمّل كلامه.
و «يا»: حرف تنبيه. و «ربّ»: حرف جر. و «سار»: اسم فاعل من سرى في الليل. واسم بات ضمير سار، وجملة: «ما توسّدا» خبرها، والجملة الكبرى صفة لسار.
ويجوز أن تكون بات تامّة، وجملة: «ما توسّدا» حال من ضمير فاعلها.
و «توسّد»: بمعنى اتّخذ وسادة. و «العنس»، بفتح العين وسكون النون: النّاقة الشديدة.
ويروى: «العيس» بالكسر وبالمثناة التحتيّة، وهي الإبل البيض التي يخالط بياضها شيء من الشّقرة، واحدها أعيس والأنثى عيساء.
يقول: أكثر من يسير اللّيل لم يتوسّد للاستراحة إلّا ذراع ناقته المعقولة، أو كفّ يده. وجواب «ربّ» محذوف، تقديره: لقيته، أو مذكور في بيت بعده.
__________
(1) الأضداد ص 188.
(7/469)
ولا يصحّ أن يكون جوابها ما توسّد. فتأمّل.
وهذا الرجز لم أقف على قائله ولا تتمّته. والله أعلم.
* * * وأنشد بعده، وهو الشاهد الثامن والستون بعد الخمسمائة (1): (الطويل)
568 - هما خطّتا إمّا إسار ومنّة
وإمّا دم والقتل بالحرّ أجدر
على أنّ نون التثنية قد تحذف للضرورة كما هنا، فإنّ الأصل: هما خطتان.
وهذا على رفع إسار. وأما على جرّه ف «خطّتا» مضاف إليه، وحذفت النون للإضافة.
قال ابن هشام في «المغني»: في رفع إسار حذف نون المثنّى من خطّتان. وفي جره الفصل بين المتضايفين بإمّا. فلم ينفكّ البيت عن ضرورة. انتهى.
وقد تكلّم على الوجهين ابن جنّي في «إعراب الحماسة» بكلام لا مزيد عليه في الحسن. قال: أمّا الرفع فظريف المذهب (2)، وظاهر أمره أنّه على لغة من حذف نون التثنية لغير إضافة، فقد حكي ذلك.
ومما يعزى إلى كلام البهائم قول الحجلة للقطاة: «بيضك ثنتا، وبيضي مائتا»، أي: ثنتان، ومائتان. وقول الآخر: (الطويل)
__________
(1) هو الإنشاد التاسع والسبعون بعد الثمانمائة في شرح أبيات المغني للبغدادي.
والبيت لتأبط شرا في ديوانه ص 89والأغاني 21/ 140وجواهر الأدب ص 154والحماسة برواية الجواليقي ص 36والدرر 1/ 143وشرح أبيات المغني للبغدادي 7/ 360وشرح التصريح 2/ 58وشرح الحماسة للأعلم 1/ 211وشرح الحماسة للتبريزي 1/ 39وشرح الحماسة للمرزوقي ص 79وشرح شواهد المغني 2/ 975ولسان العرب (خطط) والمقاصد النحوية 3/ 486. وهو بلا نسبة في الخصائص 2/ 405ورصف المباني ص 342وشرح الأشموني 2/ 328ومغني اللبيب 2/ 643والممتع في التصريف 2/ 526وهمع الهوامع 1/ 49، 2/ 52.
(2) في شرح أبيات المغني 7/ 360: = فطريف المذهب = بالمهملة.
(7/470)
لنا أعنز لبن ثلاث فبعضها ... لأولادها ثنتا وما بيننا عنز (1)
وذهب الفراء في قوله (2): (المتقارب)
لها متنتان خظاتا كما ... أكبّ على ساعديه النّمر
إلى أنّه أراد خظاتان، فحذف النون استخفافا. واستدلّ على ذلك بقول الآخر (3):
(الهزج)
ومتنان خظاتان ... كز حلوف من الهضب
وقد تقصّيت القول على هذا الموضع في كتابي «سر الصناعة». فعلى هذا يجيء قوله:
هما خطّتا إمّا إسار ومنّة ... وإمّا دم
على أنه أراد: خطتان، ثم حذف النون على ما تقدّم.
فإن قلت: فإذا كان بالتثنية قد أثبت شيئين، فكيف فسرّ بالواحد، فقال: إمّا وإمّا، وهما يثبتان الواحد كما تثبته أو (4).
__________
(1) البيت بلا نسبة في الخصائص 2/ 430وسر صناعة الإعراب 2/ 487وشرح الحماسة للمرزوقي ص 80 وشرح أبيات المغني للبغدادي 7/ 360وشرح شواهد الشافية ص 159وشرح المعلقات السبع الطوال ص 305 والممتع في التصريف 2/ 527.
(2) هو الإنشاد الثالث والعشرون بعد الثلاثمائة في شرح أبيات المغني للبغدادي.
والبيت لامرئ القيس في ديوانه ص 164والأشباه والنظائر 5/ 46وإنباه الرواة 1/ 180والحيوان 1/ 273 وسر صناعة الإعراب 2/ 484وشرح اختيارات المفضل 2/ 923وشرح شواهد الشافية ص 156ولسان العرب (متن، خظا). وهو بلا نسبة في رصف المباني ص 342وشرح الحماسة للمرزوقي ص 80وشرح شافية ابن الحاجب 2/ 230ولسان العرب (الألف) ومغني اللبيب 1/ 197والمقرب 2/ 187، 193 والممتع في التصريف 2/ 526.
(3) البيت لأبي دواد الإيادي في ديوانه ص 288والحماسة البصرية 2/ 327وسر صناعة الإعراب ص 484، 487وشرح شواهد الإيضاح ص 499ولسان العرب (خظا) والمعاني الكبير 1/ 145ولعقبة بن سابق في الأصمعيات ص 41. وهو بلا نسبة في الممتع في التصريف ص 526.
(4) في النسخة الشنقيطية: = كما ثبته أو =. وما في طبعة بولاق يوافق إعراب الحماسة وشرح أبيات المغني للبغدادي. والنص بكامله في شرح أبيات المغني 7/ 361.
(7/471)
فالجواب: أنّه تصوّر أمرين، واعتقد أنّه لا بدّ من أحدهما، وعلم أنّ المحصول عليه أحدهما لا كلاهما، ففسّر ما تصوّره، وهما شيئان، بما يحصل عليه وهو الواحد، كما يخصّ بعد العموم في نحو قولك: ضربت زيدا رأسه، ولقيت بني فلان ناسا منهم.
فإن قلت: فهلّا حملته على حذف المضاف فكان أقرب مذهبا وأيسر متوهّما، حتّى كأنه قال: هما إحدى خطّتين؟
قيل: يمنع من ذلك قوله: هما، وهما لا يكون خبره مفردا. ألا ترى (1) لا تقول: أخواك جالس! ولا نحو ذلك. فلذلك انصرفنا عن هذا الوجه، إلى الذي قبله.
ويجوز عندي فيه وجه أعلى من هذا الضعف حذف نون التثنية عندنا، وهو أن يكون على وجه الحكاية، حتّى كأنه قال: هما خطّتا قولك: إمّا إسار ومنّة، وإمّا دم، فتحذف النون على هذا للإضافة البتّة.
وأمّا من جرّ إمّا إسار ومنّة، [وإمّا دم] (2) فأمره واضح. وذلك أنّه حذف النون [من خطتان] للإضافة، ولم يعتدّ «إمّا» فاصلا بين المضاف والمضاف إليه.
وعلى هذا تقول: هما غلاما إمّا زيد، وإمّا عمرو، وهذان ضاربا إمّا زيد، وإمّا جعفر.
وأجود من هذا أن تقول: هما إمّا خطّتا إسار ومنّة وإمّا دم. وإن شئت: وإمّا خطتا دم.
فإن قلت: إن إمّا مثل «أو» في أنّ كلّ واحدة منهما توجب أحد الشيئين، فترجع بك الحال إذن إلى أنّك كأنّك قلت: هما خطّتا أحد هذين الأمرين.
وليس الأمر كذلك، إنما [المعنى] هما خطّتان إحداهما كذا، والأخرى كذا.
وليست أيضا كلّ واحدة من الخطّتين للإسار والدّم جميعا، إنّما أحدهما لأحدهما (3)
على ما تقدّم.
__________
(1) كذا في طبعة بولاق والنسخة الشنقيطية وشرح أبيات المغني. وفي إعراب الحماسة: = ألا تراك =.
(2) زيادة من شرح أبيات المغني 7/ 361. والكلام في إعراب الحماسة بتقديم وتأخير.
(3) في إعراب الحماسة وشرح أبيات المغني: = إنما لإحداهما =.
(7/472)
فالجواب: أنّ سبب جواز ذلك هو أن كلّ واحد من الإسار والدم لمّا كان معرضا لكلّ واحدة من الخطّتين، يصلح أن يصير بصاحب الخطّة إليه، أطلقا جميعا على كلّ واحدة منهما بأن أضيفا إليه، وجعل مفضى له ومظنّة منه.
ونحو منه قول الله تبارك وتعالى (1): {«وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهََارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ»} ولم يجعل كلّ واحد من الليل [والنّهار (2)] لكلّ واحد من السّكون والابتغاء، وإنّما جعل الليل للسّكون، والنّهار للابتغاء، فخلط الكلام اكتفاء بمعرفة المخاطبين بوقت السّكون من وقت الابتغاء (3). انتهى.
والبيت من أحد عشر بيتا لتأبّط شرّا، أوردها أبو تمام في «الحماسة» هكذا (4):
(الطويل)
إذا المرء لم يحتل وقد جدّ جدّه ... أضاع وقاسى أمره وهو مدبر
ولكن أخو الحزم الذي ليس نازلا ... به الخطب إلّا وهو للقصد مبصر
فذاك قريع الدّهر ما عاش حوّل ... إذا سدّ منه منخر جاش منخر
أقول للحيان وقد صفرت لهم ... وطابي ويومي ضيّق الحجر معور (5)
هما خطّتا إمّا إسار ومنّة ... وإمّا دم والقتل بالحرّ أجدر
وأخرى أصادي النّفس عنها وإنّها ... لمورد حزم إن فعلت ومصدر
فرشت لها صدري فزلّ عن الصّفا ... به جؤجؤ عبل ومتن مخصّر
فخالط سهل الأرض لم يكدح الصّفا ... به كدحة والموت خزيان ينظر (6)
__________
(1) سورة القصص: 28/ 73.
(2) زيادة يقتضيها السياق من إعراب الحماسة وشرح أبيات المغني للبغدادي.
(3) إعراب الحماسة ورقة 2120وفي النقل تقديم وتأخير وشيء من الاختصار.
(4) الأبيات لتأبط شرا في ديوانه ص 9087والأغاني 21/ 4140والحماسة برواية الجواليقي ص 36 وشرح الحماسة للأعلم 1/ 212209وشرح الحماسة للتبريزي 1/ 4138وشرح الحماسة للمرزوقي 1/ 8374.
(5) البيت لتأبط شرا في ديوانه ص 89وتاج العروس (وطب) والتنبيه والإيضاح 1/ 147ولسان العرب (وطب).
(6) البيت لتأبط شرا في ديوانه ص 90وأساس البلاغة (خزي).
(7/473)
فأبت إلى فهم وما كدت آيبا ... وكم مثلها فارقتها وهي تصفر (1)
وأورد صاحب الأغاني أول الأبيات «أقول للحيان» والأبيات الثلاثة قبله، بعد قوله: فأبت إلى فهم البيت.
وخبر هذه الأبيات (2) أنّ تأبّط شرّا كان يشتار عسلا في غار من بلاد هذيل، وكان يأتيه كلّ عام، وأنّ هذيلا ذكر لها ذلك، فرصدته لوقت، حتّى إذا هو جاء وأصحابه تدلّى، فدخل الغار. فأغارت هذيل على أصحابه وأنفروهم، ووقفوا على الغار، فحرّكوا الحبل، فأطلع رأسه، فقالوا: اصعد. قال: فعلام أصعد؟ على الطّلاقة والفداء (3)؟ قالوا: لا شرط لك. قال: أفتراكم آخذيّ وقاتليّ وآكلي جنائي (4). لا والله لا أفعل!
ثم جعل يسيل العسل على فم الغار، ثم عمد إلى زقّ فشدّه على صدره ثم لصق بالعسل، ولم يزل يتزلّق عليه حتّى جاء سليما إلى أسفل الجبل، فنهض وفاتهم، وبين موضعه الذي وقع فيه وبينهم مسيرة (5) ثلاثة أيام.
وقوله: «إذا المرء لم يحتل» إلخ، الحيلة من حال الشيء، إذا انقلب عن جهته، كأنّ صاحبها يريد أن يستنبط ما تحوّل عند غيره، ولذلك يقال: فلان حوّل قلّب. و «جدّ جدّه»: ازداد جدّه جدّا. والجدّ، بالكسر: الاجتهاد.
و «أضاع»: وجد أمره ضائعا، أو بمعنى ضيّع.
والمعنى: عالج أمره مدبرا فيه غير مقبل. أي: إذا المرء لم يطلب رشده في إصلاح أمره في الوقت الذي يجب أن يفعله، آل به أمره إلى الضيّاع.
__________
(1) البيت لتأبط شرا في ديوانه ص 91والدرر 2/ 150وشرح التصريح 1/ 203وشرح شواهد الإيضاح ص 629ولسان العرب (كيد) والمقاصد النحوية 2/ 165. وهو بلا نسبة في الإنصاف 2/ 544وأوضح المسالك 1/ 302ورصف المباني ص 190وشرح ابن عقيل ص 164وشرح عمدة الحافظ ص 822وشرح المفصل 7/ 13وهمع الهوامع 1/ 130.
(2) الخبر في الأغاني 21/ 141140وشرح أبيات المغني للبغدادي 7/ 362بخلاف يسير في الرواية.
(3) كذا في جميع أصول الخزانة وشرح أبيات المغني. وفي الأغاني: = أعلى الطلاقة أم الفداء =.
(4) في شرح أبيات المغني للبغدادي: = وآكلي جناي =.
(5) كلمة: = مسيرة = ساقطة من طبعة بولاق، وهي موجودة في النسخة الشنقيطية وشرح أبيات المغني للبغدادي.
(7/474)
وقوله: «ولكن أخو الحزم»، يقول: صاحب الحزم هو الذي يستعدّ للأمر قبل نزوله.
وقوله: «فذاك قريع الدّهر» إلخ، يجوز أن يكون في معنى مختار الدهر، ويكون من قرعت، أي: اخترته بقرعتي. ويجوز أن يكون من قرعه الدهر بنوائبه حتّى جرّب وتبصّر. وقوله: «ما عاش»، أي: مدّة عيشه.
وقوله: «إذا سدّ منه منخر» إلخ، مثل للمكروب المضيّق عليه. و «جاش»:
تحرّك واضطرب. والمعنى: لا يؤخذ عليه طريق إلّا نفذ في طريق آخر، لافتنانه في الحيل.
وقوله: «أقول للحيان» إلخ، «لحيان»: بطن من هذيل، خاطبهم لمّا كانوا على رأس الغار الذي اشتار منه العسل.
وقوله: «صفرت وطابي» الواو للحال. و «الوطاب» هنا: ظروف العسل، وهي في الأصل جمع وطب، وهو سقاء اللبن.
و «صفرت»: خلت. أشار إلى ظروف العسل التي صبّ العسل منها على الجانب الآخر، وركبه متزلّقا حتّى لحق بالسهل. وقيل: معناه خلا قلبي من ودّهم، يريد وطاب ودّي.
وقيل: أشرفت نفسي على الهلاك. فأراد بالوطاب جسمه. و «معور»، [اسم فاعل] (1) من أعور لك الشيء، إذا بدت لك عورته، وهي موضع المخافة.
وكلّ ما طلبته فأمكنك، فقد أعورك وأعور لك.
وقوله: «هما خطّتا» إلخ، هذا مقول القول. و «الخطّة»، [بالضم]:
الحالة والشأن. وكأنّهم كانوا يريدونه على الحالتين، فأخذ يتهكّم عليهم، ويحكي مقالتهم.
والمعنى: ليس إلّا واحدة من خصلتين (2) على زعمكم: إمّا استئسار والتزام منّتكم إن رأيتم العفو. وإمّا قتل وهو بالحرّ أجدر ممّا يكسبه الذل. فهاتان الخصلتان (3) هما
__________
(1) زيادة يقتضيها السياق من الأغاني وشرح أبيات المغني.
(2) في الأغاني وشرح أبيات المغني: = من الحالتين =.
(3) في الأغاني وشرح أبيات المغني: = فهاتان هما الخطتان =.
(7/475)
اللتان أشار إليهما، بقوله: «هما خطّتا». وقد ثلّثهما بخطة أخرى ذكرها فيما بعد. وكلّه تهكّم وهزء.
وقوله: «والقتل بالحرّ أجدر» اعتراض بين ما عدّه من الخصال. وقوله:
«وأخرى أصادي النفس» إلخ، «المصاداة»: إدارة الرأي في تدبير الشيء أو الإتيان به. يقول: وها هنا خطة أخرى أداري نفسي فيها، وإنّها هي الموضع الذي يرده الحزم ويصدر عنه إن فعلت.
وإنّما قسّم الكلام هذه الأقسام لأنّه رآهم يبتّون (1) أمره عليها، ولأنّه نظر إلى جهتي الجبل، فعلم أنّه إن رضي ما أراده بنو لحيان كان فيه إحدى الحالتين من الأسر والقتل بزعمهم. وإن احتال للجهة الأخرى فالحزم فيها وخلاصه فيها، وكان أمرا ثالثا.
وقوله: «وإنّها لمورد حزم» اعتراض أيضا.
وهذه الأبيات الثلاثة من باب التقسيم الذي هو من محاسن الكلام، وهو أن يقصد وصف شيء تختلف أحواله، فيقسّم أقساما محصورة لا يمكن الزيادة عليها ولا النّقصان، كما قسّم تأبّط شرّا أحواله مع بني لحيان أقساما ثلاثة لا رابع لها. ومنه قول بشر بن أبي خازم (2): (الوافر)
ولا ينجي من الغمرات إلّا ... براكاء القتال أو الفرار
وليس في أقسام النّجاة للمحارب قسم ثالث.
ونحوه قول زهير (3): (الطويل)
وأعلم ما في اليوم والأمس قبله ... ولكنّني عن علم ما في غد عمي
فقسّم الأيام ثلاثة، ولا رابع لها.
وقوله: «فرشت لها صدري» إلخ، بيّن بهذا كيفيّة مزاولته لنفسه. و «الفرش»:
__________
(1) في طبعة بولاق: = يبنون =. وأثبتنا رواية النسخة الشنقيطية وأراد يقطعون.
(2) البيت لبشر بن أبي خازم في ديوانه ص 79وجمهرة اللغة ص 325وشرح التصريح 2/ 291وشرح المفصل 4/ 50ولسان العرب (برك). وهو بلا نسبة في الاشتقاق ص 247وجمهرة اللغة ص 1229.
(3) البيت لزهير بن أبي سلمى في ديوانه ص 35وتهذيب اللغة 3/ 245ولسان العرب (عمى).
(7/476)
البسط. وضمير «لها»: للخطّة التي عبّر عنها بقوله: «وأخرى»، أي: فرشت من أجل هذه الخطّة صدري على الصّفا. وهذا حين صبّ العسل فتزلّق به عن الصّفا، أي: بصدره. جؤجؤ عبل، أي: ضخم. ومتن مخصّر، أي: دقيق. والصّدر والمتن:
صدره ومتنه، ولكنّه أخرجه مخرج قولهم: لقيت بزيد الأسد، وزيد هو الأسد عندهم، ووضع فرشت موضع ألقيت ووضعت. ويقال: فرشت ساحتي بالأجرّ. وأفرشت الشاة للذّبح، إذا أضجعتها. كذا قال التبريزي.
وقوله: «فخالط سهل الأرض» إلخ، الخلط، أصله تداخل أجزاء الشيء في الشيء. والكدح بالأسنان والحجر دون الكدم.
يقول: وصلت إلى السهل، ولم يؤثّر الصّفا، وهو الصّخر، في صدري أثرا ولا خدشا، والموت كان قد طمع فيّ، فلما رآني وقد تخلّصت بقي مستحيا. وخزيان، من الخزاية وهي الاستحياء، ويجوز أن يكون من الخزي، وهو الفضيحة والهوان.
و «ينظر»: خبر ثان أو حال من ضمير خزيان. وينظر: يتحيّر. وقد حمل قوله تعالى (1): {«وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ»} على معنى تتحيّرون.
وقوله: «فأبت إلى فهم». إلى آخره، «أبت»: رجعت. و «فهم»: قبيلة تأبط شرا.
وقوله: «وكم مثلها» إلخ، أي: مثل هذه الخطّة فارقتها بالخروج منها وهي مغلوبة تصفر وأنا الغالب. وقيل معناه: كم مثل لحيان فارقتها وهي تتلهّف كيف أفلتّ.
وسيأتي إن شاء الله تعالى الكلام على هذا البيت في باب الفعل، وفي أفعال المقاربة.
وقد تقدّمت ترجمة تأبّط شرا في الشاهد الخامس عشر من أوائل الكتاب (2).
* * * __________
(1) سورة الواقعة: 56/ 84.
(2) الخزانة الجزء الأول ص 147.
(7/477)
وأنشد بعده، وهو الشاهد التاسع والستون بعد الخمسمائة (1): (الوافر)
569 - متى ما تلقني فردين ترجف
روانف أليتيك وتستطارا
على أنّ يجوز اتفاقا أن يقال: «أليتان» بتاء التأنيث، إلى آخر ما نقله عن أبي علي.
وقد نقل عنه ابن الشجري في «المجلس الثالث من أماليه» خلاف هذا، قال:
قال أبو علي الحسن بن أحمد الفارسي: قد جاء من المؤنث بالتاء حرفان لم يلحق في تثنيتهما التاء، وذلك قولهم: خصيان وأليان، فإذا أفردوا، قالوا: خصية وألية.
وأنشد أبو زيد (2): (الرجز)
* يرتجّ ألياه ارتجاج الوطب *
وأنشد سيبويه (3): (الرجز)
__________
(1) البيت لعنترة العبسي في ديوانه ص 234والدرر 5/ 94وشرح التصريح 2/ 94وشرح شواهد الشافية ص 505وشرح عمدة الحافظ ص 460وشرح المفصل 2/ 55ولسان العرب (طير، ألا، خصا) والمقاصد النحوية 3/ 174. وهو بلا نسبة في أسرار العربية ص 191وأمالي ابن الحاجب 1/ 451وشرح الأشموني 3/ 579وشرح شافية ابن الحاجب 3/ 301وشرح المفصل 4/ 116، 6/ 87ولسان العرب (رنف) وهمع الهوامع 2/ 63.
وروايته في ديوانه:
متى ما نلتقي فردين ترجف ...
(2) الرجز بلا نسبة في أدب الكاتب ص 410وتاج العروس (ألي، خصي) وتهذيب اللغة 15/ 433وجمهرة اللغة ص 247، 991وشرح شواهد الإيضاح ص 404ولسان العرب (جبب، ألا، خصا) والمقتضب 3/ 41والمقرب 2/ 45ومقاييس اللغة 1/ 424والمنصف 2/ 131ونوادر أبي زيد ص 130.
(3) الرجز لخطام المجاشعي أو لجندل بن المثنى أو لسلمى الهذلية أو لشماء الهذلية في الدرر 4/ 38ولجندل بن المثنى أو لسلمى الهذلية في المقاصد النحوية 4/ 485ولجندل بن المثنى في شرح التصريح 2/ 270. وهو بلا نسبة في إصلاح المنطق ص 189وتاج العروس (دلل، هدل، ثني، خصي) وتهذيب اللغة 6/ 199، 7/ 478وديوان الأدب 4/ 11والحماسة برواية الجواليقي ص 622وشرح أبيات سيبويه 2/ 361وشرح الحماسة للأعلم 2/ 1155وشرح الحماسة للتبريزي 4/ 166وشرح الحماسة للمرزوقي ص 1847وشرح المفصل 4/ 143، 144، 6/ 16، 18 والكتاب 3/ 569، 624والمقتضب 2/ 156والمنصف 2/ 131وهمع الهوامع 1/ 253.
(7/478)
كأنّ خصييه من التّدلدل ... ظرف عجوز فيه ثنتا حنظل
انتهى.
وقد جاءت في قوله: «روانف أليتيك» تاء التأنيث كما ترى، فالعرب إذن مختلفة في ذلك. انتهى كلام ابن الشجري.
وهذا كلام الصحاح، قال: الألية، بالفتح: ألية الشاة. فإذا ثنّيت، قلت:
أليان، فلا تلحقه التاء.
وأنشده الزمخشري في «المفصل» على أنّ الحال قد تجيء من الفاعل والمفعول معا، كفردين فإنّه حال منهما في تلقني.
وكذا أنشده في «الكشاف» عند قوله تعالى (1): {«أَلََّا تُكَلِّمَ النََّاسَ ثَلََاثَةَ أَيََّامٍ إِلََّا رَمْزاً»} في قراءة من قرأ: «رمزا» بضمتين، وهو جمع رموز كرسل جمع رسول.
و «رمزا» بفتحتين، وهو جمع رامز كخدم جمع خادم. قال: هو حال منه ومن الناس دفعة (2) كما في البيت، بمعنى إلّا مترامزين، كما يكلّم الناس الأخرس بالإشارة ويكلّمهم.
و «متى»: جازمة، و «تلقني»: شرطها، و «ترجف»: جزاؤها. وروي:
«ترعد»: بالبناء للمفعول. و «روانف»: فاعل ترجف.
قال أبو علي في «المسائل البصرية»: وتستطارا جزم عطف على ترعد، فحملته على الأليتين، أو على معنى الرّوانف، لأنّهما اثنان في الحقيقة. وهذا أحسن من أن تحمله على أنّ في، وتستطارا ضمير الّروانف، وتجعل الألف بدلا من النون الخفيفة، لأنّ الجزاء واجب.
وقد جاء:
* ومهما تشأ منه فزارة تمنعا *
__________
(1) سورة آل عمران: 3/ 41وقراءة:: = رمزا = بضمتين هي قراءة علقمة بن قيس ويحيى بن وثاب.
وبفتحتين قراءة الأعمش. تفسير أبي حيان 2/ 453.
(2) في النسخة الشنقيطية: = وفقه =. وهو تصحيف صوابه من طبعة بولاق وكشاف الزمخشري 1/ 144.
(7/479)
إلّا أنّ هذا إن لم يضطرّ إليه وزن كان بمنزلته في الكلام. انتهى.
وتبعه ابن السيّد في «أبيات المعاني» قال: تستطارا جزم بالعطف على ترعد بحمله على الأليتين، أو على معنى الرّوانف، لأنّهما اثنتان في الحقيقة، وإنّما جمعهما اتّساعا.
وقال قوم: تستطار محمول على الرّوانف، وفيه ضميرها، وكان الوجه أن يقول: تستطر، إلّا أنّه أتى بالنون الخفيفة فانفتحت الراء، فلم تسقط الألف التي هي عين الفعل، وأبدل من النون ألفا.
ومثله قول الآخر (1): (الطويل)
* ومهما تشأ منه فزارة تمنعا *
يريد: تمنعن. والقول الأوّل اختيار أبي عليّ، لأنّه اضطرّ في البيت الثاني، ولم يضطرّ في «تستطار»، لأنّ له حمله على معنى التثنية، فهو بمنزلة في الكلام.
انتهى.
وزاد ابن الشجري في «أماليه» (2)، وقال: معنى تستطار تستخفّ. ويحتمل وجهين من الإعراب، أحدهما: أن يكون مجزوما معطوفا على جواب الشرط، وأصله تستطاران، فسقطت نونه للجزم.
فالألف على هذا ضمير عائد على الرّوانف، وعاد إليها وهي جمع (3) ضمير تثنية، لأنّها من الجموع الواقعة في مواقع التثنية، نحو قولك: وجوه الرّجلين، فعاد الضمير على معناها دون لفظها، إذ المعنى رانفتا أليتيك.
__________
(1) عجز بيت للكميت بن معروف وصدره:
* فمهما نشأ منه فزارة تعطكم *
والبيت للكميت بن معروف في ديوانه ص 195وحماسة البحتري ص 66وشرح أبيات سيبويه 2/ 272 وللكميت بن ثعلبة في لسان العرب (قزع) وللكميت بن معروف أو للكميت بن ثعلبة الفقعسي في المقاصد النحوية 4/ 330ولعوف بن عطية بن الخرع في الدرر 5/ 165والكتاب 3/ 515. وهو بلا نسبة في شرح الأشموني 2/ 500وهمع الهوامع 2/ 79.
(2) أمالي ابن الشجري 1/ 21.
(3) في طبعة بولاق: = هو جمع =. وهو تصحيف صوابه من النسخة الشنقيطية وأمالي ابن الشجري 1/ 21.
(7/480)
كما أنّ معنى الوجوه من قولك: حيّا الله وجوهكما، معنى الوجهين لأنّه لا يكون لواحد أكثر من وجه، كما أنّه ليس للألية إلّا رانفة واحدة.
والجواب الثاني: أن يكون نصبا على الجواب بالواو، بتقدير: وأن تستطار، فالألف على هذا لإطلاق القافية، والتاء للخطاب، وهي في الوجه الأوّل للتأنيث.
ويجوز أن تجعل التاء في هذا الوجه أيضا لتأنيث الرّوانف، وجاء الجواب بعد الشرط والجزاء كما يجيء بعد الكلام الذي ليس بواجب، كالنهي والنفي.
ومثله في انتصاب الجواب بالواو بعد الشرط والجزاء قوله عز وجل (1): {«إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوََاكِدَ عَلى ََ ظَهْرِهِ»} ثم قال (2): {«أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمََا كَسَبُوا وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجََادِلُونَ»}. ومن قرأ: «ويعلم» رفعا (3) استأنفه. ومثله قول النابغة (4): (الوافر)
فإن يهلك أبو قابوس يهلك ... ربيع النّاس والشّهر الحرام
ونأخذ بعده بذناب عيش ... أجبّ الظّهر ليس له سنام (5)
قد روي: «ونأخذ» جزما بالعطف على جواب الشرط، وروي نصبا على الجواب، وروي رفعا أيضا على الاستئناف. انتهى.
وقال ابن الحاجب في «أماليه»: يجوز أن يكون معطوفا على ترجف، وألحقت به نون التوكيد الخفيفة فقلبت ألفا في الوقف، إلّا أنّ إلحاق نون التوكيد في جواب الشرط ضعيف.
ويجوز أن يكون منصوبا على أحد وجهين:
__________
(1) سورة الشورى: 42/ 33.
(2) سورة الشورى: 42/ 3534.
(3) بعده في أمالي ابن الشجري: = وهو نافع وابن عامر =.
(4) البيتان من مقطوعة للنابغة الذبياني في ديوانه ص 106105.
(5) البيت للنابغة الذبياني في ديوانه ص 106والأغاني 11/ 26وشرح أبيات سيبويه 1/ 28وشرح المفصل 6/ 83، 85والكتاب 1/ 196والمقاصد النحوية 3/ 579، 4/ 434. وهو بلا نسبة في اسرار العربية ص 200والأشباه والنظائر 6/ 11والاشتقاق ص 105وأمالي ابن الحاجب 1/ 458والإنصاف 1/ 134 وشرح الأشموني 3/ 591وشرح ابن عقيل ص 589وشرح عمدة الحافظ ص 358ولسان العرب (جبب، ذنب) والمقتضب 2/ 179.
(7/481)
أحدهما: مذهب الكوفيين بالواو التي يسمّونها واو الصرف، مثلها عندهم في قوله تعالى: «ويعف عن كثير ويعلم» في قراءة الأكثرين.
والثاني: مذهب البصريين، وهو أن يكون معطوفا على مقدّر مثلها عندهم في قوله ويعلم، أي: لينتقم ويعلم. إلّا أنّه لا يمكن التقدير لفعل منصوب، لأنّه في المعنى سبب، ولو قدّر فعل منصوب لكان مسبّبا، فينبغي أن يكون التقدير لاسم منصوب مفعول من أجله، كأنّه قيل: ترجف روانف أليتيك خوفا واستطارة.
فلمّا أتى بالفعل موضع استطارة وعطف على المقدّر (1)، وجب أن يكون منصوبا مثله في قولك: أريد إتيانك وتحدّثني.
و «الرّوانف»: أطراف الأليتين، واحدته رانفة. وتستطار بمعنى يطلب منك أن تطير خوفا وجبنا. والعرب تقول لمن اشتدّ به الخوف: طارت نفسه خوفا.
ومنه قوله (2): (الوافر)
* أقول لها وقد طارت شعاعا *
وقال ها هنا: وتستطارا، كأنّه طلب منه أن يطير من الخوف. والضمير في وتستطارا للمخاطب لا للروانف، إذ تطلب من الروانف استطارة، وإنّما المقصود طلبه من المخاطب. انتهى.
وقوله: «كأنّه قيل ترجف روانف أليتيك خوفا واستطارة»، هو أجود ممّا نقله العيني، بأنّ نصبه بأن في تقدير مصدر مرفوع بالعطف على مصدر ترجف، تقديره:
ليكن منك رجف الرّوانف والاستطارة.
وقال ابن يعيش: قوله: وتستطارا يحتمل وجوها:
__________
(1) في النسخة الشنقيطية: = عطفا على المقدر =.
(2) صدر بيت لقطري بن الفجاءة وعجزه:
* من الأبطال ويحك لن تراعي *
والبيت لقطري بن الفجاءة في ديوان الخوارج ص 169والتذكرة السعدية ص 49والحماسة برواية الجواليقي ص 40والحماسة البصرية 1/ 39وحماسة الخالديين 1/ 116وسمط اللآلئ ص 575وشرح أبيات المغني للبغدادي 4/ 251وشرح الحماسة للتبريزي 1/ 50ولباب الآداب ص 224.
(7/482)
أحدها: أن يكون مجزوما بحذف النون، فالضمير للرّوانف، وعاد إليها الضمير بلفظ التثنية لأنّها تثنية في المعنى.
والثاني: أن يكون عائدا إلى الأليتين.
والآخر: أن يكون الضمير مفردا عائدا إلى المخاطب، والألف بدل من نون التوكيد. انتهى مختصرا.
ونقله العينيّ بحروفه ولم يعزه. ولا يخفى اختلاله، فإنّه قال: فيه وجوه. ولم يذكر غير الجزم، وكان يجب أن يقابله بالنصب كما فعله غيره (1)، ويقول بعده:
والضمير للمخاطب والألف للإطلاق، ويدرج عود الضمير إلى الأليتين في صورة الجزم.
أو يقول: وتستطارا مجزوم، في مرجع ضميره أوجه ثلاثة. وجعله تعدّد احتمال مرجع الضمير وجوها مقابلة للجزم فاسد، فإنّ الثلاثة محتملة في صورة الجزم.
فتأمّل.
وزاد العيني بعد هذا: ويقال الضمير المفرد عائد إلى الرّوانف، تقديره:
تستطاران هي. انتهى.
وهذا هو الأول مما ذكره ابن يعيش بعينه، فذكره تكرار له (2).
والبيت من أبيات عدّتها ثلاثة عشر بيتا لعنترة العبسيّ (3)، خاطب بها عمارة بن زياد العبسيّ. قال الأعلم في «شرح شعره في الأشعار الستّة» (4)، وابن الشجري في «أماليه»: كان عمارة يحسد عنترة على شجاعته، إلّا أنّه كان يظهر تحقيره، ويقول لقومه: إنّكم قد أكثرتم من ذكره، ولوددت أنّي لقيته خاليا حتّى أريحكم منه، وحتّى أعلمكم أنّه عبد.
وكان عمارة مع كثرة جوده كثير المال، وكان عنترة لا يكاد يمسك إبلا، ولكن يعطيها إخوته ويقسمها فيهم، فبلغه ما يقول عمارة فقال الأبيات.
__________
(1) في النسخة الشنقيطية: = كما فعل غيره =.
(2) في النسخة الشنقيطية: = تكرارا له =. وفي طبعة بولاق: = تكرار = بالرفع على أنه خبر لذكره.
(3) ديوان عنترة العبسي ص 239234.
(4) ديوان عنترة العبسي ص 233.
(7/483)
وهذه أبيات ستة منها ويأتي إن شاء الله تعالى بقيّتها في «أفعل التفضيل»:
(الوافر)
أحولي تنفض استك مذرويها ... لتقتلني فها أنا ذا عمارا (1)
متى ما تلقني فردين ترجف ... روانف أليتيك وتستطارا
وسيفي صارم قبضت عليه ... أشاجع لا ترى فيها انتشارا
حسام كالعقيقة فهو كمعي ... سلاحي لا أفلّ ولا فطارا
وكالورق الخفاف وذات غرب ... ترى فيها عن الشّرع ازورارا
ومطّرد الكعوب أحصّ صدق ... تخال سنانه باللّيل نارا
وقوله: «أحولي تنفض» إلخ، الهمزة للاستفهام الإنكاري التوبيخي. و «حولي»:
ظرف لتنفض، و «استك»: فاعل تنفض، و «مذرويها»: مفعوله.
والمعنى: أتتوعّدني وتهدّدني واستك تضيق عن ذلك. وتنفض مذرويها مثل لخفّته بالوعيد وطيشه. يقال: جاء فلان ينفض مذرويه، إذا جاء يتهدّد.
وقد شرح السيد المرتضى، قدّس الله روحه، هذه الكلمة في «أماليه» أحسن شرح، في كلام نقله للحسن البصريّ، وقع فيه: «ترى أحدهم يملخ في الباطل ملخا، ينفض مذرويه، ويقول: ها أنا ذا فاعرفوني».
قال: الملخ هو التثنّي والتكسّر، يقال: ملخ الفرس، إذا لعب. والمذروان:
فرعا الأليتين. هذا قول أبي عبيدة (2)، وأنشد بيت عنترة.
وقال ابن قتيبة رادّا عليه: ليس المذروان فرعي الأليتين بل هما الجانبان من كلّ شيء، تقول العرب: جاء فلان يضرب أصدريه (3)، ويضرب عطفيه، وينفض مذرويه، وهما منكباه. وذكر أنّه سمع رجلا من نصحاء العرب، يقول: قنع مذرويه، يريد جانبي رأسه، وهما فوداه. وإنّما سمّيا بذلك لأنّهما يذريان، أي: يشيبان.
__________
(1) البيت لعنترة العبسي في ديوانه ص 234وتاج العروس (ذرا) وكتاب العين 8/ 186ولسان العرب (عمر، ذرا). وهو بلا نسبة في تهذيب اللغة 15/ 7وجمهرة اللغة ص 695والمخصص 2/ 45، 15/ 114.
(2) في أمالي المرتضى 1/ 156: = أبي عبيد =. وسيأتي لا حقا في هذا الجزء نقل أبي عبيد عن أبي عبيدة.
(3) في طبعة بولاق: = بصدريه =. وهو تصحيف صوابه من النسخة الشنقيطية.
الأصدران: العطفان، أي عطفا الإنسان، جانبيه من لدن الرأس إلى الورك.
(7/484)
والذّرى (1): الشيب. قال: وهذا أصل الحرف، ثم استعير للمنكبين والأليتين والطّرفين من كلّ شيء.
وقال أميّة بن أبي عائذ الهذليّ يذكر قوسا (2): (المتقارب)
على عجس هتّافة المذروي ... ن زوراء مضجعة في الشّمال
أراد: قوسا ينبض طرفاها. قال: فلا معنى لوصف الرجل الذي كره الحسن، بأنّه يحرّك أليتيه، ولا من شأن من يبذخ وينبّه على نفسه، يقول: ها أنا ذا فاعرفوني، أن يحرّك أليتيه.
وإنّما أراد أنّه يضرب عطفيه، وهذا مما يوصف به المرح المختال.
وربّما قالوا: جاءنا ينفض مذرويه، إذا تهدّد وتوعّد، لأنّه إذا تكلّم وحرّك رأسه نفض قرون فوديه، وهما مذرواه.
قال المرتضى قدّس الله روحه: وليس الذي ذكره أبو عبيدة (3) ببعيد، لأنّ من شأن المختال الذي يزهى بنفسه أن يهتزّ ويتثنّى، فتتحرّك أعطافه وأعضاؤه. ومذرواه من جملة ما يهتزّ ويتحرّك، لأنّهما بارزان من جسمه، فيظهر فيهما الاهتزاز. وإنّما خصّ المذروان بالذكر مع أنّ غيرهما يتحرّك أيضا على طريق التقبيح على هذا المختال، والتهجين لفعله (4).
وقول ابن قتيبة: ليس من شأن من يبذخ أن يحرّك أليتيه، ليس بشيء، لأنّ الأغلب من شأن البذّاخ المختال الاهتزاز وتحريك الأعطاف. على أنّ هذا يلزمه فيما قاله، لأنّه ليس من شأن كلّ متوعّد، أن يحرّك رأسه، وينفض مذرويه. فإذا قال إنّ ذلك في الأكثر قيل له مثله.
هذا ما أورده السيد المرتضى رحمه الله.
__________
(1) في أمالي المرتضى: = الذرى والذروة =.
(2) البيت لأمية بن أبي عائذ الهذلي في ديوان الهذليين 2/ 185وتاج العروس (هتف) وشرح أشعار الهذليين ص 508وكتاب الجيم 1/ 278وللهذلي في تاج العروس (ذرا) ولسان العرب (ذرا) ومقاييس اللغة 3/ 316، 6/ 32.
(3) في طبعة بولاق والنسخة الشنقيطية: = أبو عبيد =. والتصويب من طبعة هارون 7/ 515.
(4) في طبعة بولاق: = بفعله =. وهو تصحيف من النسخة الشنقيطية مع أثر تصحيح.
(7/485)
وقوله: جاء فلان يضرب أصدريه، قال ابن السكيت في «إصلاح المنطق» (1)
بدله: جاء يضرب أزدريه، إذا جاء فارغا.
قال شارحه ابن السيّد: قوله: يضرب أزدريه، إنّما أصله أصدريه، فأبدلوا مكان الصاد حرفا يطابق الدال في الجهر وعدم الإطباق، وهو الزاي.
والأصدران: عرقان يضربان تحت الصّدغين، لا يفرد له واحد. ومعناه أنّه جاء فارغا نادما خائبا، يلطم صدغيه، ويضرب أعلاهما إلى أسفلهما، ندما وتحسرا، خدّيه (2). انتهى.
واعلم أنّ كلام ابن قتيبة مأخوذ من كلام أبي مالك (3) نقله عنه أبو القاسم علي ابن حمزة البصري «فيما كتبه على الغريب المصنّف لأبي عبيد القاسم بن سلّام» من تبيين غلطاته فيه.
قال أبو القاسم: وروي عن أبي عبيدة: المذرى: طرف الألية. والرّانفة:
ناحيتها. ثم قال إخبارا عن نفسه: يقال: المذروان أطراف الأليتين، وليس لهما واحد، وهذا أجود القولين، لأنّه لو كان لهما واحد، فقيل: مذرى لكان في التثنية مذريان بالياء. وما كانت في التثنية بالواو.
قال أبو القاسم: كان يجب عليه إذ سمت به نفسه إلى الردّ على أبي عبيدة معمر ابن المثنّى، أن يضبط ما يروي أوّلا، وإلّا فهو كالذي لم يتمّ.
والمذروان والرانفان بمعنى واحد، وقد فرق بينهما فجعل المذروين الطّرفين، وعبّر عنهما بالأطراف، وجعل الرانفة الناحية، وليس كذلك قال أبو عبيدة وغيره.
وكلام أبي مالك أحكا (4)، لأنّه أتمّ. المذروان: أعالي الأليتين وأعالي القرنين أيضا،
__________
(1) إصلاح المنطق ص 399.
(2) كذا في طبعة بولاق والنسخة الشنقيطية. وفي هامش طبعة بولاق: = قوله خديه كذا بالأصل وليحرر اه مصححة =.
(3) في طبعة بولاق: = من كلام مالك =. وهو تصحيف صوابه من النسخة الشنقيطية مع أثر تصحيح. وهو أبو مالك عمرو بن كركرة. قال عنه ابن النديم في الفهرست: = أعرابي كان يعلم في البادية ويورق في الحضر، مولى بني سعد راوية أبي البيداء وكركرة: بفتح كافي كركرة =. انظر طبقات الزبيدي ص 175والفهرست ص 44ومراتب النحويين لأبي الطيب اللغوي ص 71ومعجم الأدباء 16/ 132131.
(4) هو من قولهم: حكأ العقدة وحكاها، أي: شدها وأحكمها.
(7/486)
وكذلك أعالي المنكبين. وكذلك الرّوانف، الواحدة رانفة. وأنشد بيت عنترة. ففي هذا القول دليل على أنّ المذروين ليس باسم لشيء واحد.
ومع هذا فقد قال أبو يوسف بن السكيت في «باب المثنى»: جاء ينفض مذرويه، إذا جاء يتوعّد. وجاء يضرب أزدريه، إذا جاء فارغا، ويقال بالصاد أيضا.
وهذا وإن كان غير ما قال أبو مالك فإليه يرجع، لأنّ تحريك المنكبين من فعال المتوعّد، فيريد أنّه متوعد هذا فعاله، ومحرّك منكبيه، إنّما تتحرّك له فروعهما وأعاليهما، كما قال أبو مالك. وما حكاه في واحد المذروين كلام أبي عمرو الشيباني، فلم ينسبه إليه. انتهى كلامه (1).
قال ابن الشجري: وهذا الحرف مما شذّ عن قياس نظائره، وكان حقّه أن تصير واوه إلى الياء، كما صارت إلى الياء في قولهم: ملهيان ومغزيان، لأنّ الواو متى وقع في هذا النحو طرفا رابعا فصاعدا استحقّ الانقلاب إلى الياء، حملا على انقلابه في الفعل، نحو: يلهي ويغزي.
وإنّما انقلبت الواو ياء في قولك: ملهيان ومغزيان، وإن لم تكن طرفا لأنّها في تقدير الطّرف، من حيث كان حرف التثنية لا يحصّن ما اتّصل به، لأنّ دخوله كخروجه.
وصحّت الواو في المذروين لأنّهم بنوه على التثنية، فلم يفردوا، فيقولوا: مذرى كما قالوا: ملهى، فصحّت لذلك، كما صحّت الواو والياء في العلاوة والنّهاية، فلم يقلبا إلى الهمزة لأنّهم بنوا الاسمين على التأنيث.
وكما صحّت الياء في الثّنايين من قولهم: عقلته بثنايين، إذا عقلت يديه جميعا بطرفي حبل، لأنّهم صاغوه مثنّى. ولو أنهم تكلموا بواحده، لقالوا: ثناء مهموز، كرداء، ولقالوا في تثنيته: ثناءين، كردائين. انتهى.
وقوله: «فها أنا ذا عمارا» أراد: يا عمارة، فرخّم وألحق ألف الإطلاق.
عمارة بن زياد العبسيّ
وعمارة هو أحد بني زياد العبسيّ، وهم: الربيع، وعمارة، وقيس، وأنس، كلّ واحد منهم قد رأس في الجاهلية وقاد جيشا. وأمّهم فاطمة بنت الخرشب
__________
(1) كلمة: = كلامه =. ساقطة من طبعة بولاق.
(7/487)
الأنماريّة (1)، وكانت إحدى المنجبات. وهي التي سئلت: أيّ ينيك أفضل؟ فقالت:
الربيع، بل عمارة، بل قيس، بل أنس.
ثم قالت: «ثكلتهم إن كنت أدري أيّهم أفضل، هم كالحلقة المفرغة، لا يدرى أين طرفاها».
وكان لكلّ واحد منهم لقب، فكان عمارة، يقال له: الوهّاب، وكان الرّبيبع، يقال له: الكامل، وقيس، يقال له: الجواد، وأنس، يقال له: أنس الحفاظ.
وكان عمارة آلى على نفسه أن لا يسمع صوت أسير ينادي في الليل إلّا افتكّه.
وقوله: «متى ما تلقني فردين»، أي: منفردين أنا وأنت خاصّة، ليس معي معين، وليس معك معين. و «ما»: زائدة.
قال ابن الشجري: والرّانفة: طرف الألية الذي يلي الأرض، إذا كان الإنسان قائما.
وروى بدل فردين: «خلوين» بالكسر، أي: خاليين. وروى أيضا: «برزين» بالكسر، أي: بارزين.
و «سيفي صارم» إلخ، «الصارم»: القاطع. و «الأشاجع»: عصب ظاهر الكفّ، واحدها أشجع.
قال ابن الشجري: هي عروق ظاهر الكفّ، واحدها أشجع، وبه سمّي الرجل.
وهو قبل التسمية مصروف، كما ينصرف أفكل. ويقال: رجل عاري الأشاجع، إذا كان قليل لحم الكفّ. انتهى.
وقوله: «لا ترى فيها انتشارا»، قال الأعلم: يصف أنّه سليم العصب شديد الخلق. والانتشار: انتشار العصب، وهو انتفاخها، كانتشار الفرس في يديه (2).
وقوله: «حسام كالعقيقة» إلخ، يقول: هو صاف برّاق كالقطعة من البرق، وهي العقيقة.
__________
(1) في جمهرة أنساب العرب ص 250: = فاطمة بنت الخرشب الأنمارية التي ولدت الكملة من بني عبس =.
وانظر في ذلك الأغاني 16/ 2119والاشتقاق ص 277والعقد الفريد 3/ 351والمحبر ص 398، 458 والمعارف ص 37.
(2) كلمة: = الفرس =. ساقطة من النسخة الشنقيطية.
(7/488)
ويقال العقيقة: السّحابة تنشقّ عن البرق. والكمع، بكسر الكاف وسكون الميم: الضجيع. يقول: هو ملازم لي، وإن كنت مضطجعا.
وقوله: «لا أفلّ» أراد سلاحي لا فلّ فيه، ولا فطارا. والأفلّ: الذي فيه فلول. والفطارا، بضم الفاء: المشقّق. يقول: هو حديد السّلاح تامّها.
وقال ابن الشجري: العقيقة الشّقّة من البرق، وهي ما انعقّ منه. وانعقاقه:
تشقّقه. والكمع والكميع: الضّجيع، وجاء في الحديث النّهي عن المكامعة، والمكاعمة.
والمكامعة: أن يضطجع الرجلان في ثوب واحد ليس بينهما حاجز. والمكاعمة: أن يقبّل الرجل الرجل على فيه.
وقوله: «لا أفلّ ولا فطارا»، أي: لا فلّ فيه ولا فطر. والفلّ: الثّلم.
والفطر: الشق. وموضع قوله: كالعقيقة، وصف لحسام، ففي الكاف ضمير عائد على الموصوف. وانتصاب أفلّ على الحال من المضمر في الكاف، والعامل في الحال ما في الكاف من معنى التشبيه، والتقدير: حسام يشبه العقيقة غير منفلّ ولا منفطر.
انتهى.
وقوله: «وكالورق الخفاف» إلخ، يعني سهاما جعل نصالها بمنزلة الورق في خفّتها. وأراد: بعض سلاحي سهام مثل الورق الخفاف بكسر الخاء، جمع خفيف ضدّ الثقيل.
وقوله: «وذات غرب» يعني قوسا. وغربها: حدّها، بفتح الغين المعجمة وسكون المهملة.
و «الشّرع»، بكسر الشين المعجمة وفتح الراء المهملة: جمع شرعة بكسر فسكون، وهي الأوتار. و «الازورار»: الميلان.
يقول: هي محنيّة ففيها ميل عن وترها. وكلّما (1) مالت عنه وبعدت كان أمضى لسهمها وأنفذ.
وقوله: «ومطّرد الكعوب» يعني رمحا طويلا. وكعوبه: رؤوس أنابيبه.
و «اطّرادها»: تتابعها واستقامتها. و «الأحصّ»، بمهملتين: الأملس الذي لا لحاء عليه ولا عقدة.
__________
(1) في طبعة بولاق والنسخة الشنقيطية: = كل ما =. وصواب كتابتها متصلة.
(7/489)
و «الصّدق»، بفتح الصاد، وهو الصّلب المستقيم. وشبّه سنانه بالنار لصفائه وحدّته. يقول: إذا نظرت إليه ليلا أضاء لك الظلام، فكأنّه نار.
وقد تقدّمت ترجمة عنترة في الشاهد الثاني عشر من أوائل الكتاب (1).
* * * وأنشد بعده، وهو الشاهد السبعون بعد الخمسمائة (2): (الوافر)
570 - بلى أير الحمار وخصيتاه
أحبّ إلى فزارة من فزار
لما تقدّم قبله، وسيأتي ما يتعلّق به قريبا.
والبيت من أبيات ثلاثة للكميت بن ثعلبة، وهي:
نشدتك يا فزار وأنت شيخ ... إذا خيّرت تخطئ في الخيار (3)
أصيحانيّة أدمت بسمن ... أحبّ إليك أم أير الحمار (4)
بلى أير الحمار وخصيتاه ... أحبّ إلى فزارة من فزار
وقوله: «نشدتك»، أراد: نشدتك بالله، أي: ذكّرتك به واستعطفتك به، لتخبرني عمّا أسألك. ويقال أيضا: نشدتك الله من باب نصر. وجملة: «تخطئ» في محلّ رفع صفة لشيخ، من الخطأ ضدّ الصواب. و «إذا»: ظرف له. والخيار:
هو الاختيار.
وقوله: «أصيحانيّة أدمت» إلخ، الهمزة للاستفهام، و «صيحانية»: صفة لموصوف محذوف، أي: أتمرة صيحانيّة. والصّيحانيّ: تمر معروف بالمدينة. ويقال:
كان كبش، اسمه صيحان بمهملتين، شدّ بنخلة فنسبت إليه، وقيل: صيحانيّة.
__________
(1) الخزانة الجزء الأول ص 138.
(2) البيت للكميت بن ثعلبة في جمهرة الأمثال 2/ 16والدرة الفاخرة 1/ 87ولسان العرب (مدر). وهو بلا نسبة في تاج العروس (مدر) وسمط اللآلئ ص 861.
(3) البيت للكميت بن ثعلبة في تاج العروس (مدر) ولسان العرب (مدر).
(4) البيت للكميت بن ثعلبة في تاج العروس (مدر) ولسان العرب (مدر).
(7/490)
و «أدمت»: بالبناء للمفعول من الإدام، يقال: أدمت الخبز، إذا أصلحت إساغته بالإدام، وهو ما يؤتدم به، مائعا كان أو جامدا.
وقوله: «بلى أير الحمار» قد وقعت «بلى» هنا جوابا للاستفهام المجرّد من النفي وشبهه.
وهذا يشكل على اتّفاقهم بأنّها لا يجاب بها الإيجاب. وقد وقع مثله في أحاديث من صحيحي البخاريّ ومسلم، نقلها ابن هشام في «المغني». وبنو فزارة يرمون بأكل أير الحمار.
وقد بيّن مثله الجاحظ في مساوي البخل «من كتاب المحاسن والمساوي» (1) قال:
المثل السائر (2): «هو أبخل من مادر»، وهو رجل من بني هلال. وبلغ من بخله أنّه كان يسقي أبله فبقي في أسفل الحوض ماء قليل، فسلح فيه ومدر الحوض به، فسمّي مادرا.
وذكروا أنّ بني فزارة وبني هلال تنافروا إلى أنس بن مدرك، وتراضوا به، فقالت بنو هلال: يا بني فزارة أكلتم أير الحمار. فقال بنو فزارة: لم نعرفه.
وكان سبب ذلك أنّ ثلاثة اصطحبوا: فزاريّ، وتغلبيّ، وكلابيّ، فصادفوا حمار وحش، ومضى الفزاري في بعض حوائجه، فطبخا وأكلا وخبّئا للفزاريّ أير الحمار، فلمّا رجع قالا له: قد خبّأنا لك حصّتك فكل.
وأقبل يأكل ولا يسيغه، فجعلا يضحكان، ففطن وأخذ السيف وقام إليهما، وقال: لتأكلانّ منه وإلّا قتلتكما! فامتنعا فضرب أحدهما فقتله، وتناوله الآخر فأكل منه!
فقالت بنو فزارة: منكم يا بني هلال من سقى إبله فلمّا رويت سلح في الحوض ومدره بخلا.
فنفّرهم أنس بن مدرك على الهلالّيين، فأخذ الفزاريون منهم مائة بعير، وكانوا تراهنوا عليها.
__________
(1) صواب تسمية الكتاب: = المحاسن والأضداد =. وانظر منه ص 4544.
(2) المثل في جمهرة الأمثال 1/ 246والدرة الفاخرة 1/ 86وكتاب الأمثال لمجهول ص 5والمستقصى 1/ 13 ومجمع الأمثال 1/ 111.
(7/491)
وفي بني هلال، يقول الشاعر (1): (الطويل)
لقد جلّلت خزيا هلال بن عامر ... بني عامر طرّا لسلحة مادر
فأفّ لكم لا تذكروا الفخر بعدها ... بني عامر أنتم شرار العشائر
هذا ما أورده الجاحظ، ونقله حمزة الأصفهاني، والميداني، والزّمخشري في أمثالهم (2).
و «الكميت بن ثعلبة»:
شاعر إسلاميّ فقعسي أسديّ. ويقال له: الكميت الأكبر. وهو ابن ثعلبة بن نوفل بن نضلة بن الأشتر بن حجوان (3) بن فقعس الأسدي.
وهو جدّ الكميت بن معروف بن الكميت الأكبر.
وهو القائل في قصّة ابن دارة، وقتله (4): (الطويل)
فلا تكثروا فيها الضّجاج فإنّه ... محا السّيف ما قال ابن دارة أجمعا
ومن شعر الكميت ابن ابنه وله ديوان مفرد، ولم يذكر الجمحي في «طبقات الشعراء» غيره ممن اسمه كميت (5): (الطويل)
__________
(1) البيتان لرجل من بني هلال بن عامر في تاج العروس (مدر) والتنبيه والإيضاح 2/ 202ولسان العرب (مدر).
(2) الدرة الفاخرة ص 86والمستقصى 1/ 13ومجمع الأمثال 1/ 100.
(3) حجوان بتقديم الحاء المهملة قال ابن دريد في الاشتقاق: اشتقاقه من حجا يحجو بالمكان، أي أقام به أو من حج الشيء يحجه حجا، إذا سحبه. انظر في ذلك الاشتقاق ص 104وجمهرة أنساب العرب ص 178، 195.
(4) البيت للكميت بن معروف الأسدي في ديوانه ص 195والبيان والتبيين 1/ 389ومجمع الأمثال 2/ 303 ومعجم الشعراء ص 347والوحشيات ص 116وله أو للكميت بن ثعلبة الأكبر أو لزميل الفزاري في لسان العرب (دور) وللكميت بن ثعلبة أو للكميت بن معروف في تاج العروس (قزع) والتنبيه والإيضاح 2/ 123 وللكميت بن ثعلبة في الأغاني 21/ 245والمؤتلف ص 170. وهو بلا نسبة في الحماسة البصرية 1/ 75 والحيوان 3/ 426وفصل المقال ص 26.
(5) الحقيقة أن ابن سلام في كتابه طبقات فحول الشعراء ذكرهم جميعا، لكن أفاض في الحديث عن الكميت بن معروف. قال ابن سلام في طبقاته ص 195: = والثالث: الكميت بن معروف وهو شاعر وجدّه الكميت بن ثعلبة شاعر وكميت بن زيد الآخر شاعر. والكميت بن معروف الأوسط أشعرهم قريحة، والكميت بن زيد أكثرهم شعرا.
(7/492)
فقلت له تالله يدري مسافر ... إذا أضمرته الأرض ما الله صانع (1)
أسلم في زمن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، ولم يجتمع معه، وقد أورده ابن حجر في قسم المخضرمين من «الإصابة» عن أبي عبيدة والمرزباني.
وأما الكميت بن زيد مادح آل البيت فقد تقدّمت ترجمته في الشاهد السادس عشر من أوائل الكتاب (2). وهو أسديّ أيضا.
أنس بن مدركة الخثعمي
وأمّا أنس بن مدركة الخثعمي فهو من الصّحابة رضي الله عنهم (3).
* * * وأنشد بعده، وهو الشاهد الحادي والسبعون بعد الخمسمائة (4): (الرجز)
571 - يرتجّ ألياه ارتجاج الوطب
على أنّه قيل: أليان في تثنية «ألية»، من ضرورة الشعر، والقياس «أليتان».
قال القالي في «المقصور والممدود»: قال أبو حاتم: ربّما حذفت العرب هاء التأنيث من ألية في الاثنين، فقالوا: أليتان وأليان.
__________
(1) البيت مختلف في نسبته. فهو للكميت بن معروف في ديوانه ص 170وطبقات فحول الشعراء ص 196 والمؤتلف والمختلف ص 257وللبيد في جمهرة اللغة ص 756ولقيس بن الحدادية في الأغاني 14/ 154 ومعجم الشعراء ص 325والمراثي ص 317. وهو بلا نسبة في الدرر 2/ 105وهمع الهوامع 1/ 124.
ويدري: أي لا يدري. وهناك خلاف في الرواية بين هذه المصادر.
(2) الخزانة الجزء الأول ص 153.
(3) وهو سهو من البغدادي، فلقد سبقت ترجمته في الجزء الثالث من الخزانة ص 89.
(4) الرجز بلا نسبة في أدب الكاتب ص 410وأمالي ابن الشجري 1/ 20وتاج العروس (ألي، خصي) وتهذيب اللغة 15/ 433وجمهرة اللغة ص 247، 991وشرح شواهد الإيضاح ص 404ولسان العرب (حبب، ألا، خصا) والمقتضب 3/ 41ومقاييس اللغة 1/ 424والمقرب 2/ 45والمنصف 2/ 131 ونوادر أبي زيد ص 130.
وروايته المشهورة:
* ترتج ألياه ارتجاج الوطب *
(7/493)
وأنشدونا (1): (الرجز)
كأنّما عطيّة بن كعب ... ظعينة واقفة في ركب
يرتجّ ألياه ارتجاج الوطب
وأورد أبو زيد في «نوادره» هذه الأبيات الثلاثة ولم يزد عليها شيئا. قال الجواليقي في «شرح أدب الكاتب»: «الظعينة»: المرأة. و «الرّكب»: أصحاب الإبل. و «الارتجاج»: الاضطراب. و «الوطب»: سقاء اللبن. اه.
قال ابن السيّد في «شرحه أيضا»: وصفه بأنّ كفله عظيم رخو يرتجّ، لعظمه ورخاوته، ارتجاج الوطب، وهو زقّ اللبن. وارتجاجه: اضطرابه. وهذا كقول الآخر (2): (الطويل)
فأمّا الصّدور لا صدور لجعفر ... ولكنّ أعجازا شديدا ضريرها
يقول: قوّتهم ليست في صدورهم، إنّما هي في أكفالهم، فهم يلقون منها ضريرا، أي: ضررا ومشقّة (3).
و «الظعينة»: المرأة، سمّيت بذلك لأنّه يظعن بها. وكان يجب أن يقال: ظعين بغير هاء، لأنّها في تأويل مظعون بها. وفعيل إذا كان صفة للمؤنّث في تأويل مفعول كان بغير هاء، نحو: امرأة قتيل وجريح، ولكنّها جرت مجرى الأسماء حتّى صارت غير جارية على موصوف، كالذبيحة والتطيحة.
ووصفها بأنّها واقفة في ركب لأنّها تتبختر إذا كانت كذلك وتعظّم عجيزتها لتري حسنها.
ألا ترى إلى قول الآخر: (المتقارب)
تخطّط حاجبها بالمداد ... وتربط في عجزها مرفقه
اه.
__________
(1) تم تخريج هذا الرجز في تخريج الشاهد السابق.
(2) البيت لرجل من ضباب في شرح شواهد الإيضاح ص 102. وهو بلا نسبة في أسرار العربية ص 106وسر صناعة الإعراب 1/ 265وشرح المفصل 7/ 134، 9/ 12ولسان العرب (ضرر).
(3) في اللسان (ضرر) أن الضرير، هو الصبر على الشيء والمقاساة له.
(7/494)
قوله: وفعيل إذا كان صفة للمؤنّث في تأويل مفعول كان بغير هاء، أقول: هذا إذا كان جاريا على موصوفه كما مثّل.
فأمّا إذا كان لموصوف غير مذكور فيجب التأنيث لئلّا يلتبس بالمذكر. فظعينة هنا واردة على القياس.
وهذا الرجز مع كثرة الاستشهاد به لم يعلم قائله. والله أعلم.
* * * وأنشد بعده (1): (الرجز)
كأنّ خصييه من التّدلدل ... ظرف عجوز فيه ثنتا حنظل
لما تقدّم قبله.
ومثله (2)، قال سيبويه: من قال خصيان لم يثنّه على الواحد المستعمل في الكلام، يعني أنّ خصيين تثنية خصي لا يستعمل في الكلام.
ومثله قول ثعلب، قال في «فصيحه»: وتقول: هما الخصيان، فإذا أفردت أدخلت الهاء، فقلت: خصية.
وهو في «نوادر أبي زيد». ومن أبيات أدب الكاتب (3): (الرجز)
قد حلفت بالله لا أحبّه ... أن طال خصياه وقصر زبّه
أراد: [قصر (4)]، بضم الصاد، فسكّنه.
ونقل الإمام المرزوقي في «شرح الفصيح» عن الخليل، أنه قال: الخصية تؤنّث
__________
(1) سبق لنا تخريج هذا الرجز في الشاهد رقم / 582/ من شواهد الخزانة في هذا الجزء.
(2) من قوله: = قال سيبويه فقلت خصية =. لم يرد في النسخة الشنقيطية في هذا الموضع. وإنما ورد في موضع بعده وهو في قوله: = فسكنه. ونقل الإمام المرزوقي =. ولقد أثبتناه عن طبعة بولاق.
(3) الرجز في أدب الكاتب ص 317كتاب تقويم اللسان. وتاج العروس (زبب، خصى) وجمهرة اللغة ص 69ولسان العرب (زبب، خصا).
(4) زيادة يقتضيها السياق من النسخة الشنقيطية وأدب الكاتب ص 317.
(7/495)
ما دامت مفردة (1)، فإذا ثنّوها أنّثوا وذكّروا.
ونقل اللّبليّ في «شرحه أيضا» عن ابن خالويه، قال: أجمعت العرب على إثبات الهاء في واحدها، فقالوا: خصية، فإذا ثنوا، فمنهم من يقول: الخصيان بغير هاء، وهي المختارة. ومنهم من يقول: خصيتان.
قال: فمن أثبت الهاء في الاثنين فلا سؤال معه في الفرع على الأصل. ومن قال:
هما الخصيان، بناه على لفظ من قال: هما الأنثيان، لأنّ الأنثيين لا واحد لهما من لفظهما، فلما لم تلحق العلامة في الأنثيين في ذلك أسقطها من هذه.
وقال القالي في «المقصور والممدود»: قال أبو حاتم: وربّما حذفت العرب هاء التأنيث في الاثنين من الخصية، فقالوا: خصيتان وخصيان. وأنشد هذين البيتين عن أبي زيد. ثم قال: قال أبو زيد: لا يقال للواحد خصي بغير هاء.
وكذا قال أبو عثمان المازني في «تصريف الملوكي»، قال: وأما الصّلاية والعباية، فلم يجيئوا بهما على الصّلاء والعباء، كما أنّهم حين قالوا: خصيان لم يجئ على الواحد، ولو جاء على الواحد، لقالوا: خصيتان (2).
وقال ابن جنّي في «شرحه»: العباية والصّلاية بنيت في أوّل أحوالها على التأنيث ولم تجئ على المذكر، ولو جاءت عليه، لقالوا: عباءة وصلاءة، كما أنّ خصيان لو جاء على خصية، لقيل: خصيتان، ولكنّه بني على التثنية، في أوّل أحواله، وإن كانت فرعا، كما بنيت العباية على التأنيث في أوّل أحوالها، وإن كانت فرعا.
قال أبو العباس: يقال: خصية وخصي. فمن قال: خصية، قال: خصيتان.
ومن قال: خصي، قال: خصيان. ومثله ألية وألي. فمن قال: ألية، قال: أليتان.
ومن قال: ألي، قال: أليان.
قال الرّاجز:
* يرتجّ ألياه ارتجاح الوطب *
__________
(1) في النسخة الشنقيطية: = ما دامت مؤنثة =. وهو تصحيف صوابه من طبعة بولاق.
(2) كذا في طبعة بولاق والمنصف 2/ 131. وفي النسخة الشنقيطية: = الخصيتان =.
(7/496)
وقال آخر (1): (الطويل)
أخصيي حمار بات يكدم نجمة ... أتؤخذ جاراتي وجارك سالم
وقال آخر (2): (الرجز)
* يا بأبي خصياك من خصى وزب *
وقال آخر:
كأنّ خصييه من التّدلدل ... البيت
فثنّى الخصي على خصيين. اه.
وإلى هذا ذهب أبو القاسم علي بن حمزة البصري «فيما كتبه على إصلاح المنطق».
قال ابن السكيت في «إصلاحه»: تقول: ما أعظم خصيته خصيتيه، ولا تكسر الخاء.
قال الراجز:
* كأنّ خصييه من التّدلدل *
الواحدة خصية.
__________
(1) في طبعة بولاق: = أخصى حمار =. وهو تصحيف صوبناه من المصادر الآتية الذكر. ولقد صححت في النسخة الشنقيطية.
وفي طبعة بولاق أيضا: = يكدم لحمة =. وهو تصحيف أيضا صوبناه من المصادر الآتية الذكر. ولقد صححت في النسخة الشنقيطية.
والبيت للحارث بن ظالم المري من قصيدة مفضلية في الأغاني 11/ 108والأزمنة والأمكنة 2/ 268وتاج العروس (نجم) ولسان العرب (نجم) والمفضليات ص 313. وهو بلا نسبة في تهذيب اللغة 11/ 129.
والقصيدة في هجاء الملك النعمان. أراد: يا خصيي حمار يخاطب النعمان يصغره بذلك. ويكدم: يعض.
والنجمة: واحدة النجم، وهو النبت على وجه الأرض ليس له ساق.
(2) الرجز لآدم مولى بلعنبر في البيان والتبيين 1/ 182ولسان العرب (أبي). وهو بلا نسبة في تاج العروس (أبي، خصى) ولسان العرب (بأبأ، خصا).
(7/497)
وقالت امرأة من العرب (1): (الرجز)
لست أبالي أن أكون محمقه ... إذا رأيت خصية معلّقه
وقال أبو القاسم المذكور: هذا قول أصاب في بعضه وسها في بعضه. الواحدة من الخصيتين خصية، ومن الخصيين خصي.
قال الراجز (2):
يا بأبي أنت ويا فوق البيب ... يا بأبي خصياك من خصى وزب
وقال الفرزدق (3): (الطويل)
أتاني على القعساء عادل وطبه ... بخصيي لئيم واست عبد تعادله
والسابق إلى هذا المذهب أبو الحسن علي اللّحياني في «نوادره» كما نقله عنه اللّبلي في «شرح الفصيح»، قال: حكى اللّحياني فيما جاء مثنّى من كلام العرب:
ألي وخصي، وألية وخصية، وفي التثنية أليان وأليتان، وخصيان وخصيتان، قال:
هما لغتان. اه.
ونقل ابن السكيت في «إصلاح المنطق» عن أبي عمرو الشّيباني أنّه قال:
الخصيتان: البيضتان. والخصيان: الجلدتان اللتان فيهما البيضتان. وأنشد البيت الشاهد.
قال شارح أبياته ابن السّيرافيّ: «التدلدل»: تحرّك الشيء المعلّق واضطرابه.
و «ظرف العجوز»: الجراب الذي تجعل فيه خبزها وما تحتاج إليه. وظرف العجوز خلق فيه تشنّج لقدمه.
شبّه جلد الخصية به للغضون التي فيه، وشبّه الأنثيين في الصّفن بحنظلتين في جراب. اه.
__________
(1) الرجز لامرأة من العرب في تاج العروس (خصى) وإصلاح المنطق ص 168وشرح المفصل 4/ 143 ولسان العرب (خصا). وهو بلا نسبة في تاج العروس (حمق) وتهذيب اللغة 4/ 84وجمهرة اللغة ص 560 ولسان العرب (حمق) والمخصص 16/ 129والمنصف 2/ 132.
(2) تم تخريج الشاهد منذ أسطر قليلة.
(3) البيت للفرزدق في ديوانه ص 737وشرح أبيات سيبويه 1/ 336والكتاب 1/ 167.
(7/498)
وكذا قال المرزوقي: هذا البيت (1) أن يكون شاهدا للصّفن أولى، لأنّه شبه موضع البيضتين بظرف جراب، والبيضتين بالحنظلتين. اه.
وهذا التأويل وإن أمكن حمله في البيت هنا، فلا يمكن حمله في الأبيات السابقة.
وقد تقدّم في الشاهد الثامن والأربعين بعد الخمسمائة من باب العدد أنّهما من رجز لخطام المجاشعيّ. ونسبهما أبو سهل الهرويّ في «شرح الفصيح» إلى جندل.
وقيل: قائلهما دكين.
وأنشد قبلهما (2):
رخو يد اليمنى من التّرسّل ... من الرّضا جنعدل التّكتّل
ويقال: مرّ فلان يتكتّل، إذا مرّ وهو يقارب الخطو ويحرّك منكبيه. اه.
وقال اللّبليّ في «شرحه»: قال السيرافي: هذان البيتان لشمّاء الهذلية. وأنشد الشعر هكذا:
تقول يا ربّ ويا ربّ هل ... هل أنت من هذا مخلّ أحبلي
إمّا بتطليق وإلّا فاقتل (3) ... أو ارم في وجعائه بدمّل
كأنّ خصييه من التّدلدل ... ظرف عجوز فيه ثنتا حنظل
شبّه خصييه في استرخاء صفنهما، حين شاخ واسترخت جلدة استه بظرف عجوز فيه حنظلتان. وخصّ العجوز لأنّها لا تستعمل الطّيب ولا تتزيّن للرجال فيكون في ظرفها ما تتزيّن به، ولكنّها تدّخر الحنظل ونحوه من الأدوية.
ويحتمل الشعر أن يكون مدحا في وصف شجاع، لا يجبن في الحرب فتتقلّص خصيتاه.
قال: ويحتمل أن يكون هجوا. ووجهه أن يصف شيخا قد كبر وأسنّ، ولذلك قال: ظرف عجوز، لأنّ ظرفها خلق منقبض (4)، فيه تشنّج لقدمه، فلذلك شبّه جلد
__________
(1) في النسخة الشنقيطية: = هذا البيت يحتمل أن =. بإقحام يحتمل. وهو تصحيف.
(2) مرّ تخريج الرجز في باب العدد من هذا الجزء.
(3) رسمت كلمة: = فاقتل =. بالباء والتاء معا، لتقرأ في كلا الوجهين.
(4) كذا وردت الرواية في طبعة بولاق والنسخة الشنقيطية. والوجه: = متقبض = بالتاء =.
(7/499)
الخصية به، للغضون التي فيه. والأولى أن يكون هجوا، لذكره العجوز والحنظلتين، مع تصريحه بذكر الخصيتين.
قال التّدميريّ (1):
ويروى: «من التهدّل»، وهو استرخاء جلدة الخصية. قال: وظرف العجوز:
مزودها الذي تخزن متاعها فيه. والحنظل: نبات معروف، ويقال: العلقم.
وروي عن أبي حاتم أنه قال: الحنظل ها هنا: الثّوم. اه.
وتقدّم ما فيه. وقوله إنّ الشعر لشمّاء الهذليّة ينافيه أوله:
* تقول يا ربّ ويا ربّ هل *
وقوله:
* لست أبالي أن أكون محمقه *
يقال: أحمقت المرأة، إذا ولدت ولدا أحمق.
قال التّدميريّ (2):
معنى الشّعر أنّ هذه المرأة، كانت تلاعب ابنا لها صغيرا وترقّصه، وتنظر في أثناء ذلك إلى خصيتيه (3) فتفرح بكونه ذكرا، فقالت: لست أبالي إذا ولدت الذكور، أن يكون أولادي حمقى، وأن أكون أنا محمقة، أي: ألد الحمقى. وذلك كله فرارا من البنات، وكراهية لهنّ.
* * * __________
(1) في طبعة بولاق: = الدميري =. وهو تصحيف صوابه من النسخة الشنقيطية.
والتدميري، نسبة إلى تدمير، وهي كورة بالأندلس تتصل بأحواز كورة جيّان، وهي شرقي قرطبة. وينسب إليها جماعة. والذي أراده وقصده البغدادي هو شارح الفصيح، أحمد بن عبد الجليل بن عبد الله التدميري. توفي بفاس سنة 555للهجرة، انظر بغية الوعاة ص 138.
(2) في طبعة بولاق: = الدميري =. وهو تصحيف سبق لنا آنفا تصوييه، وصوابه من النسخة الشنقيطية.
(3) في طبعة بولاق: = خصيته =. وهو تصحيف صوابه من النسخة الشنقيطية.
(7/500)
وأنشد بعده، وهو الشاهد الثاني والسبعون بعد الخمسمائة (1): (البسيط)
572 - كأنّه وجه تركيّين إذ غضبا
على أنّه إذا أضيف الجزءان لفظا ومعنى إلى متضمّنيهما المتّحدين بلفظ واحد، فلفظ الإفراد في المضاف أولى من لفظ التثنية، كما في البيت، فإن «تركيين» متضمّنان ولفظهما متّحد، لجزأيهما، وهما الوجهان، فإنّ وجه كلّ أحد جزء منه، فلما أضيف إليهما أضيف بلفظ المفرد، وهو الوجه. وهذا أولى من أن يقول: كأنّه وجها تركيّين.
وجمعه أولى من الإفراد. فلو قال: كأنّه وجوه تركيّين أولى من وجه تركيّين.
هذا محصّل كلامه.
وإيضاحه أنّ كل ما في الجسد منه شيء واحد، لا ينفصل كالرأس، والأنف واللسان، والظهر، والبطن، والقلب، فإنّك إذا ضممت إليه مثله، جاز فيه ثلاثة أوجه:
«أحدها»: الجمع، وهو الأكثر نحو قوله تعالى (2): {«فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمََا»}.
وإنّما عبّروا بالجمع، والمراد التثنية لأنّها جمع. وهذا لا يلبس. وشبّهوا هذا النوع بقولهم: نحن فعلنا.
قال سيبويه (3): وسألت الخليل عن: ما أحسن وجوههما، فقال: لأنّ الاثنين جميع، وهذا بمنزلة قول الاثنين: نحن فعلنا ذاك، ولكنّهم أرادوا أن يفرقوا بين ما يكون منفردا، وبين ما يكون شيئا من شيء. اه.
يريد أنّهم قد استعملوا في قولهم: ما أحسن وجوه الرجلين الجمع موضع الاثنين، كما يقول الاثنان: نحن فعلنا، ونحن إنّما هو ضمير موضوع للجماعة.
__________
(1) صدر بيت للفرزدق وعجزه:
مستهدف لطعان غير منحجر *
والبيت للفرزدق في ديوانه ص 371. وهو بلا نسبة في شرح المفصل 4/ 157ولسان العرب (طعن). وهو بلا نسبة لكنه بقافية تذبيب في أمالي ابن الشجري 1/ 12ومعاني الفراء 1/ 308.
(2) سورة التحريم: 66/ 4.
(3) الكتاب تحقيق هارون: 2/ 48.
(7/501)
وإنّما استحسنوا ذلك لما بين التثنية والجمع من التقارب، من حيث كانت التثنية عددا تركّب من ضمّ واحد إلى واحد. وأول الجمع وهو الثلاثة، تركّب من ضمّ واحد إلى اثنين، فلذلك قال: لأنّ الاثنين جميع.
وقوله: «ولكنّهم أرادوا أن يفرقوا» إلخ، معناه أنّهم أعطوا المفرد حقّه من لفظ التثنية، فقالوا في رجل رجلان، وفي وجه وجهان، ولم يفعل ذلك أهل اللغة العليا في قولهم: ما أحسن وجوه الرجلين، وذلك أنّ الوجه المضاف إلى صاحبه إنّما هو شيء من شيء.
فإذا ثنّيت الثاني منهما علم السامع ضرورة أنّ الأوّل لابدّ أن يكون وفقه في العدّة (1) فجمعوا الأوّل كراهة أن يأتوا بتثنيتين متلاصقتين في مضاف ومضاف إليه.
والمتضايفان يجريان مجرى الاسم الواحد، فلما كرهوا أن يقولوا: ما أحسن وجهي الرّجلين، فيكونوا كأنهم قد جمعوا في اسم واحد بين تثنيتين، غيّروا لفظ التثنية الأولى بلفظ الجمع، إذ العلم محيط بأنه لا يكون للاثنين أكثر من وجهين، فلما أمنوا اللّبس في وضع الوجوه موضع الوجهين، استعملوا أسهل اللفظين. كذا في أمالي ابن الشجري.
وهذا علّة البصريين.
وقال الفراء: إنّما خصّ هذا النوع بالجمع، لأنّ الشيء الواحد منه يقوم مقام الشيئين، حملا على الأكثر، فإذا ضمّ إلى ذلك شيء مثله، كان كأنّه أربعة، فأتى بلفظ الجمع.
وهذا معنى حسن من معاني الفراء.
قال ابن يعيش: وهذا من أصول الكوفيين. ويؤيّده أنّ ما في الجسد منه شيء واحد، ففيه الدية كاملة كاللّسان والرأس. وأمّا ما فيه شيئان كالعين فإنّ فيه نصف الدّية.
وهذه عبارة الفرّاء، نقلناها تبرّكا. قال في تفسيره، عند قوله تعالى (2): {«وَالسََّارِقُ}
__________
(1) في طبعة بولاق: = العدد =. وهو تصحيف صوابه من النسخة الشنقيطية وفي أما لي ابن الشجري 1/ 13:
= في جميع العدة =.
(2) سورة المائدة: 5/ 38.
(7/502)
{وَالسََّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمََا»}: وفي قراءة عبد الله: «والسّارقون والسّارقات فاقطعوا أيمانهما» وإنّما قال أيديهما لأنّ كلّ شيء موحّد من خلق الإنسان إذا ذكر مضافا إلى اثنين فصاعدا جمع، فقيل: قد هشّمت رؤوسهما، وملأت (1) ظهورهما وبطونهما ضربا. ومثله (2): {«فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمََا»}.
وإنّما اختير الجمع على التثنية لأنّ أكثر ما تكون عليه الجوارح اثنين في الإنسان:
اليدين، والرجلين، والعينين (3) فلمّا جرى أكثره على هذا ذهب بالواحد (4) منه مذهب التثنية.
وقد يجوز هذا فيما ليس من خلق الإنسان، وذلك أن تقول للرجلين: خلّيتما نساءكما، وأنت تريد امرأتين، وخرقتما قمصكما. وإنّما ذكرت ذلك لأنّ من النحويين من كان لا يجيزه إلّا في خلق الإنسان. وكلّ سواء. اه.
وكذا قال ابن الشجريّ في هذا، قال: وجروا على هذا السّنن في المنفصل عن الجسد، فقالوا: مدّ الله في أعماركما، ونسأ الله في آجالكما. ومثله في المنفصل فيما حكاه سيبويه: ضع رحالهما (5). اه.
أقول: كذا (6) في الشرح أيضا.
وحكاه سيبويه في «أوائل كتابه (7)»: وضعا رحالهما بالماضي لا بالأمر. قال: وقالوا:
وضعا رحالهما، يريد رحلي راحلتين. وحدّ الكلام أن يقول: وضعت رحلي الرّاحلتين.
وقال في «أواخر كتابه»: زعم يونس أنّهم يقولون: ضع رحالهما وغلمانهما، وإنّما هما اثنان.
__________
(1) في طبعة بولاق: = وملئت =. وهو تصحيف صوابه من النسخة الشنقيطية ومعاني القرآن للفراء 1/ 306.
(2) سورة التحريم: 66/ 4.
(3) كذا في النسخة الشنقيطية ومعاني القرآن للفراء 1/ 307. وفي طبعة بولاق: = اليدان والرجلان والعينان =.
(4) وفي معاني القرآن للفراء: = ذهب بالواحد منه إذا أضيف إلى اثنين =.
(5) الكتاب لسيبويه تحقيق هارون 3/ 622.
(6) في النسخة الشنقيطية: = أقول كهذا =.
(7) في النسخة الشنقيطية: = في كتابه =. فقط. وهذه إشارة إلى ما ورد في كتاب سيبويه 1/ 241. كما أن قوله التالي: في أواخر كتابه يشير إلى ما ورد في 2/ 201.
(7/503)
هذا حكم ما كان منه في الجسد شيء واحد، فإن كان اثنين كاليد والرجل فتثنيته إذا ثنيت المضاف إليه واجبة، لا يجوز غيرها. تقول: فقأت عينيهما، وقطعت أذنيهما، لأنّك لو قلت: أعينهما، وآذانهما لا لتبس بأنّك أوقعت الفعل بالأربع.
فإن قيل: فقد جاء في القرآن (1): {«فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمََا»} فجمع اليد، وفي الجسد يدان، فهذا يوجب بظاهر اللفظ إيقاع القطع بالأربع. فالجواب أنّ المراد فاقطعوا أيمانهما. وكذلك هي في مصحف عبد الله بن مسعود [رضي الله عنه (2)].
فلمّا علم بالدّليل الشرعي أنّ القطع محلّه اليمين وليس في الجسد إلّا يمين واحدة، جرت مجرى آحاد الجسد، فجمعت كما جمع الوجه، والظهر، والبطن.
«الثاني» من الوجوه الثلاثة (3): الإفراد. ولم يذكر سيبويه هذه المسألة، وذلك نحو قولك: ما أحسن رأسهما، وضربت ظهر الزيدين، وذلك لوضوح المعنى، إذ لكلّ واحد شيء واحد من هذا النوع، فلا يشكل، فأتي بلفظ الإفراد إذ كان أخفّ.
قال الفرّاء في تفسير تلك الآية: وقد يجوز أن تقول (4) في الكلام: السّارق والسّارقة فاقطعوا يمينهما، لأنّ المعنى اليمين من كلّ واحد منهما، كما قال الشاعر (5): (الوافر)
كلوا في نصف بطنكم تعيشوا ... فإنّ زمانكم زمن خميص
__________
(1) سورة المائدة: 5/ 38.
(2) زيادة يقتضيها السياق من النسخة الشنقيطية.
في أمالي ابن الشجري: = في مصحف عبد الله =. ومما هو جدير بالذكر أن هذا النقل من أمالي ابن الشجري لكن البغدادي لم يصرح هنا بأخذه هذا.
(3) هذا استمرار لذكر الأوجه التي يتحدث عنها البغدادي هنا أي استمرار لقول البغدادي في أول الشاهد: = جاز فيه ثلاثة أوجه: أحدها الجمع =.
(4) في طبعة بولاق: = يقول =. ولقد أثبتنا ما في النسخة الشنقيطية ومعاني القرآن للفراء 1/ 307.
(5) البيت بلا نسبة في أسرار العربية ص 223وتخليص الشواهد ص 157والدرر 1/ 152وشرح أبيات سيبويه 1/ 374وشرح المفصل 5/ 8، 6/ 21والكتاب 1/ 210والمحتسب 2/ 87والمقتضب 2/ 172 وهمع الهوامع 1/ 50.
(7/504)
وقال الآخر (1): (البسيط)
الواردون وتيم في ذرا سبأ ... قد عضّ أعناقهم جلد الجواميس
من قال: «ذرا» بالضم جعل سبأ جبلا، ومن قال: «ذرا» بالفتح أراد موضعا (2).
ويجوز في الكلام أن تقول: ائتني برأس شاتين، ورأسي شاة (3).
فإذا قلت: رأسي شاة فإنّما أردت رأس هذا الجنس. وإذا قلت: برأس شاتين فإنّك تريد به الرأس من كلّ شاة.
قال الشاعر في ذلك (4):
كأنّه وجه تركيّين قد غضبا ... مستهدف لطعان غير تذبيب
اه.
وقوله: «رأسي شاة» هذه مسألة زائدة على ما ذكروا في هذا الباب، استفيد جوازها منه.
قال ابن خلف: وقرأ بعض القرّاء (5): {«فَبَدَتْ لَهُمََا سَوْآتُهُمََا»} بالإفراد (6).
والعجب من ابن الشجريّ في حمله الإفراد على ضرورة الشعر، فإنّه لم يقل أحد إنّه من قبيل الضرورة. قال: ولا يكادون يستعملون هذا إلّا في الشعر. وأنشدوا شاهدا عليه:
__________
(1) البيت لجرير في ديوانه ص 130وشرح أبيات المغني 1/ 322ولسان العرب (ضغبس) والمخصص 1/ 31، 4/ 41، 13/ 86، 15/ 186، 17/ 30.
(2) في حاشية طبعة هارون 7/ 537: = لم يذكر في معاني القرآن 1: 308الضبط بالضم في الأولى وبالفتح في ذرا الثانية. وقد وجهه محققا معاني القرآن على هذا الوجه: من قال ذرى جعل سبأ جبلا مع ضبط ذرى هنا في الفتح وقراءة جيلا بالياء، بمعنى القبيلة، أي إن تيما يحتمون بسبأ ويمتنعون بها. ثم أتبعا ذلك بقراءة: من قال ذرى أراد موضعا. مع ضبط ذرى هنا بضم الذال =.
(3) في معاني القرآن للفراء: = ورأس شاة =. وبعده: = فإذا قلت برأس شاة =.
(4) هي رواية أمالي ابن الشجري 1/ 12ومعاني القرآن للفراء 1/ 308.
(5) سورة طه: 20/ 121.
(6) هي قراءة الحسن. انظر إتحاف فضلاء البشر ص 222.
(7/505)
كأنّه وجه تركيّين قد غضبا ... البيت
وقال في آخره: ذبّ فلان عن فلان (1): دفع عنه. وذبّب في الطّعن والدّفع، إذا لم يبالغ فيهما. اه.
وتبعه ابن عصفور في «كتاب ضرائر الشعر»، والصحيح أنّه غير مختصّ بالشعر.
«الثالث»: التثنية. وهذا على الأصل وظاهر اللفظ. قال سيبويه (2): وقد يثنّون ما يكون بعضا لشيء.
زعم يونس أنّ رؤبة كان يقول: ما أحسن رأسيهما.
وقال الراجز (3): (الرجز)
* ظهراهما مثل ظهور التّرسين *
قال الفراء في تفسير تلك الآية (4): وقد يجوز تثنيتهما. قال أبو ذؤيب الشاعر (5):
(الكامل)
فتخالسا نفسيهما بنوافذ ... كنوافذ العبط التي لا ترقع
اه.
وقال ابن الشجري: ومن العرب من يعطي هذا حقّه كلّه من التّثنية، فيقولون:
ضربت رأسيهما، وشققت بطنيهما، وعرفت ظهريكما، وحيّا الله وجهيكما.
__________
(1) في طبعة بولاق: = على فلان =. وهو تصحيف صوابه من النسخة الشنقيطية مع أثر تصحيح وأمالي ابن الشجري 1/ 12.
(2) الكتاب لسيبويه تحقيق هارون 2/ 48.
(3) الرجز لخطام المجاشعي في شرح المفصل 4/ 156والكتاب 2/ 48ولسان العرب (مرت) وله أو لهميان في التنبيه والإيضاح 1/ 173والكتاب 3/ 622. وهو بلا نسبة في شرح الأشموني 3/ 404وشرح شافية ابن الحاجب 1/ 194والمخصص 9/ 7وهمع الهوامع 1/ 40، 51.
(4) أراد قوله تعالى: = والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما =. انظر معاني القرآن للفراء 1/ 307.
(5) البيت لأبي ذؤيب الهذلي في ديوان الهذليين 1/ 20والدرر 1/ 158وشرح اختيارات المفضل ص 1726 وشرح أشعار الهذليين 1/ 40ولسان العرب (خلس، عبط). وهو بلا نسبة في همع الهوامع 1/ 51.
(7/506)
فممّا ورد بهذه اللغة قول الفرزدق (1): (الطويل)
* بما في فؤادينا من الشّوق والهوى *
وقول أبي ذؤيب:
فتخالسا نفسيهما بنوافذ ... البيت
أراد: بطعنات نوافذ كنوافذ العبط: [جمع العبيط (2)]، وهو البعير الذي ينحر لغير داء. اه.
والجمع في هذا الباب هو الجيّد المختار، وبه نزل القرآن العظيم (3).
والبيت الشاهد قافيته رائيّة لا بائية.
وهو من قصيدة عدّتها ستة عشر بيتا للفرزدق، هجا بها جريرا تهكّم به وجعله امرأة. وهذه عشرة أبيات بعد ستّة من أوّلها (4):
ما تأمرون عباد الله أسألكم ... بشاعر حوله درجان مختمر
لئن طلبتم به شأوي لقد علمت ... أنّي على العقب خرّاج من القتر
ولا يحامي على الأنساب منفلق ... مقنّع حين يلقى فاتر النّظر (5)
هدرت لمّا تلقّتني بجونتها ... وخشخشت لي حفيف الرّيح في العشر
ثمّ اتّقتني بجهم لا سلاح له ... كمنخر الثّور معكوسا من البقر
معلنكس الكين مجلوم مشافره ... ذي ساعدين يسمّى دارة القمر
__________
(1) صدر بيت للفرزدق وعجزه:
* فيجبر منهاض الفؤاد المشعّف *
والبيت للفرزدق في ديوانه ص 554وجمهرة أشعار العرب ص 878والدرر 1/ 155والكتاب 3/ 623 والنقائض ص 553. وهو بلا نسبة في شرح المفصل 4/ 155وهمع الهوامع 1/ 51.
(2) زيادة يقتضيها السياق من النسخة الشنقيطية وأمالي ابن الشجري 1/ 12.
(3) في حاشية طبعة هارون 7/ 539: = اقتبسه البغدادي من قول ابن الشجري: = والجمع في هذا ونحوه هو الوجه =. كما جاء في التنزيل: قالا ربنا ظلمنا أنفسنا =.
(4) الأبيات للفرزدق في ديوانه ص 371370. وهي في هجاء جرير.
(5) رواية الديوان: = على الأحساب =. وستأتي هذه الرواية في التفسير.
(7/507)
كأنّه وجه تركيّين قد غضبا ... مستهدف لطعان غير منجحر (1)
كأنّ رمّانة في جوفه انفلقت ... يكاد يوقد نارا ليلة القرر
هل يغلبن بظرها أيري إذا اطّعنا ... والطّاعن الأوّل الماضي من الظّفر
إنّي لقومي سنان يطعنون به ... وأنت أخت كليب عيبة الكمر
قوله: «ما تأمرون عباد الله» إلخ، «ما»: استفهامية، و «عباد الله»:
منادى، والباء من قوله: «بشاعر» متعلّق بقوله: «تأمرون»، أو هو بمعنى عن متعلّق بأسألكم. وأراد بالشاعر جريرا.
و «مختمر»: صفة ثانية له، اسم فاعل من اختمرت المرأة، أي: لبست الخمار بالكسر، وهو ثوب تغطّي به المرأة رأسها. وجملة: «حوله درجان» صفة أولى لشاعر. نسبه إلى أنّه امرأة: والدّرج بالضم، وهو وعاء الطّيب، كالحقّة والعلبة.
وقوله: «لئن طلبتم به شأوي» إلخ، «به» أي بهذا الشاعر. و «الشّأو»، بفتح الشين وسكون الهمزة: الغاية والسّبق. يقول: إن أردتم منه أن يبلغ غايتي، أو يسبقني.
واللام في «لئن» موطّئة للقسم، وجملة: «لقد علمت»: جواب القسم، وجواب الشرط محذوف يدلّ عليه جواب القسم. وفاعل علمت ضمير شاعر، والمراد به امرأة (2). وعلى بمعنى مع.
و «العقب»، بفتح العين وسكون القاف: جري الفرس بعد جريه الأوّل.
و «الخرّاج»: مبالغة خارج. و «القتر»، بفتح القاف والمثناة الفوقية: الغبار.
يقول: لا يمكن أن تبلغ شأوي فضلا عن السّبق، فإنّها تعلم أنّي كثيرا ما خرجت من الغبار، أي: إذا كان أحد سابقا، شققت غباره، فسبقته وخرجت من غباره.
وهذا بعد التّعب والجري الكثير، فكيف أكون في أوّل جري.
وقوله: «ولا يحامي على الأحساب (3)»، أراد بالمنفلق: ذات لها انفلاق، وهو كناية عن ذات الفرج. والانفلاق: الانشقاق. و «مقنّع»: ذات قناع.
__________
(1) غيرت في النسخة الشنقيطية هذه الرواية برسم: = إذ غضبا =. وهي رواية ديوانه.
(2) في النسخة الشنقيطية: = المراد به امرأة =. بإسقاط الواو منها.
(3) هذه الرواية هي رواية الديوان. مع أن البغدادي رواه في إنشاده المتقدم: = على الأنساب =.
(7/508)
وحين متعلّق بمقنّع. و «يلقى»: بالبناء للمفعول، من اللّقيّ. وفاتر النّظر، أي:
ضعيف النظر. وهذه الأوصاف الثلاثة من أوصاف النساء.
وقوله: «هدرت لمّا تلقّتني» إلخ، «الجونة»، بضم الجيم: العلبة، ودرج الطّيب. والخشخشة: صوت السّلاح ونحوه. وحفيف مفعول مطلق، أي: خشخشته كحفيف الريح. والحفيف، بالحاء المهملة وفاءين، وهو صوت الريح إذا مرّت على الأشجار.
و «العشر»، بضم ففتح: شجر عظيم له شوك. و «الهدير»: صوت شقشقة الجمل.
يقول: لما برزت لمحاربتي وكان سلاحها جونتها، وكان صوتها مؤنّثا ضعيفا كصوت الريح المارّة بالأشجار، هدرت عليها كالفحل الهائج فأدهشتها.
وقوله: «ثمّ اتّقتني بجهم لا سلاح له» إلخ، «الجهم»: الغليظ الثخين، وهو هنا كناية عن فرجها. وأراد بالسلاح الشعر النابت حوله، وشبّهه بمنخر الثّور حالة كونه معكوسا. والعكس: أن يشدّ حبل في منخره إلى رسغ يديه ليذلّ، وحينئذ يرى شقّه أوسع. وأصله في البعير.
وقوله: «معلنكس الكين»، «المعلنكس»: الكثيف المجتمع. وقال شارح ديوانه: هو الكثير اللّحم.
و «الكين»، بالفتح: لحم الفرج من داخل. و «المشافر»: جمع شفر بالضم على خلاف القياس، وشفر كلّ شيء: حرفه.
و «المجلوم»: المقصوص شعره بالجلم بفتح الجيم واللام، وهو المقصّ ونحوه.
ومعلنكس ومجلوم كلاهما بالجرّ صفتان لجهم، وكذا قوله: «ذي ساعدين»، وجملة: «يسمّى» إلخ. وأراد بالسّاعدين الأسكتين، أي: حرفيه، وسمّاهما ساعدين لغلظهما وطولهما.
وقوله: «كأنه وجه تركيين» إلخ، أي: كأنّ ذلك الجهم، المراد به الفرج.
شبّه كلّ فلقة منه بوجه تركيّ. والأتراك غلاظ الوجوه، عراضها، حمرها.
و «إذا»: ظرف عامله ما في كأنّ من معنى التشبيه. وعند غضبهم تشتدّ وجوههم حمرة.
(7/509)
وروى الفراء وغيره: «قد غضبا» فتكون الجملة حالا من تركيين، على طرز قوله تعالى (1): {«أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً»}.
ومستهدف صفة لوجه، وهو اسم فاعل من استهدف. قال صاحب العباب:
واستهدف، أي: انتصب.
قال النابغة في صفة فرج (2): (الكامل)
وإذا طعنت طعنت في مستهدف ... رابي المجسّة بالعبير مقرمد
وشيء مستهدف، أي: عريض. اه.
و «الطّعان»، بالكسر: مصدر طعنه بالرمح طعنا وطعانا. وغير بالرفع صفة لمستهدف. و «المنجحر»: اسم فاعل من انجحر، أي: دخل جحره، بضم الجيم وسكون المهملة، يقال: أجحرته، أي: ألجأته إلى أن دخل جحره، فانجحر.
وقوله: «كأنّ رمّانة» إلخ، يريد أنّ داخل ذلك الفرج محمرّ شديد الحرارة.
و «يوقد»: يشعل. و «القرر»: جمع قرّة بالضم: البرد، كغرفة وغرف.
وقوله: «هل يغلبن بظرها» إلخ، «يغلبن» مؤكد بالنون الخفيفة. و «البظر»:
لحمة بين شفري الفرج تقطعها الخاتنة. والمرأة التي لم يختن بظرها، يقال لها:
بظراء. ومنه قولهم في الشتم: يا ابن البظراء! واطّعنا أصله، تطاعنّا، والألف ضمير البظر والأير.
وقوله: «والطّاعن الأوّل» إلخ، أي: من يطعن أوّلا هو الذي يذهب بالظّفر ويغلب. ومعلوم أنّ الذكر هو الذي يبدأ بالطّعن للأنثى.
وقوله: «إنّي لقومي سنان» إلخ، يقول: إنّي لقومي كالسّنان يطعنون بي نحور الأعداء. ويطعنون بضم العين.
وقوله: «وأنت أخت» إلخ، هذا التفات من الغيبة إلى الخطاب. وأنت:
مبتدأ، وعيبة: خبره، وأخت: منادى. لمّا جعل جريرا امرأة، قال له: يا أخت كليب، أي: يا امرأة من قبيلة كليب.
__________
(1) سورة الحجرات: 49/ 12.
(2) البيت للنابغة الذبياني في ديوانه صنعة الأعلم الشنتمري ص 97وديوانه صنعة ابن السكيت ص 40.
(7/510)
والعيبة، بالفتح: خرج صغير توضع فيه الثّياب. والكمر: جمع كمرة بفتحتين، كقصب جمع قصبة، وهو الذكر والأير، وأصله الحشفة، ويطلق عليه مجازا، تسمية للكلّ باسم الجزء.
وترجمة الفرزدق قد تقدّمت في الشاهد الثلاثين من أوائل الكتاب (1).
* * * وأنشد بعده، وهو الشاهد الثالث والسبعون بعد الخمسمائة، وهو من شواهد س (2): (الرجز)
573 - ظهراهما مثل ظهور التّرسين
على أنّه قد جمع بين اللغتين، فإنه أتى بتثنية المضاف في «ظهراهما»، وبجمعه في ظهور «الترسين».
واستشهد به سيبويه على تثنية المضاف على الأصل، في موضعين من كتابه.
الموضع الأوّل: في الرّبع الأوّل، في باب ما جرى من الأسماء التي من الأفعال وما أشبهها، من الصفات التي ليست بفعل. وتقدّم نقل كلامه في البيت الذي قبل هذا.
والموضع الثاني: أوّل الرّبع الرابع بين أبواب جموع التكسير، في باب ترجمته:
هذا باب ما لفظ به مما هو مثنّى كما لفظ بالجمع.
قال: وهو أن يكون كلّ واحد منهما بعض شيء مفرد من صاحبه، وذلك قولك: ما أحسن رؤوسهما وأحسن عواليهما. قال الله تبارك وتعالى (3): {«إِنْ تَتُوبََا}
__________
(1) الخزانة الجزء الأول ص 218.
(2) الرجز لخطام المجاشعي في الدرر 1/ 116، 118، 166وشرح المفصل 4/ 156والكتاب 2/ 48 ولسان العرب (مرت) وله أو لهميان بن قحافة في التنبيه والإيضاح 1/ 173والكتاب 3/ 622والمقاصد النحوية 4/ 89. وهو بلا نسبة في البيان والتبيين 1/ 156وشرح الأشموني 3/ 404وشرح شافية ابن الحاجب 1/ 194والمخصص 9/ 7وهمع الهوامع 1/ 40، 51.
(3) سورة التحريم: 66/ 4.
(7/511)
{إِلَى اللََّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمََا»}، {«وَالسََّارِقُ وَالسََّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمََا} [1]». فرّقوا بين المثنّى الذي هو شيء على حدة وبين ذا.
وقال الخليل: نظيره قولك: فعلنا، وأنتما اثنان، فتكلّم به كما تكلّم به وأنتم ثلاثة. وقد قالت العرب في الشيئين اللذين كلّ واحد منهما اسم على حدة وليس واحد منهما بعض شيء، كما قالوا في ذا، لأنّ التثنية جمع، فقالوه كما قالوا:
فعلنا.
زعم يونس أنّهم يقولون: ضع رحالهما وغلمانهما، وإنّما هما اثنان (2). إلى أن قال: وزعم يونس أنّهم يقولون: ضربت رأسيهما. وزعم أنه سمع ذلك من رؤبة أيضا، أجروه على القياس.
قال هميان بن قحافة: (الرجز)
* ظهراهما مثل ظهور التّرسين *
وقال الفرزدق (3): (الطويل)
* هما نفثا في فيّ من فمويهما *
وقال أيضا (4): (الطويل)
بما في فؤادينا من الشّوق والهوى ... فيجبر منهاض الفؤاد المعذّب
__________
(1) سورة المائدة: 5/ 38.
(2) في طبعة بولاق: = وأنهما =. وهو تصحيف صوابه من النسخة الشنقيطية مع أثر تصحيح. والكتاب.
(3) صدر بيت للفرزدق وعجزه:
* على النابح العاوي أشد رجام *
والبيت للفرزدق في ديوانه 2/ 771وتذكرة النحاة ص 143وجواهر الأدب ص 95والدرر 1/ 156وسر صناعة الإعراب 1/ 417، 2/ 485وشرح أبيات سيبويه 2/ 258وشرح شواهد الشافية ص 115والكتاب 3/ 365، 622ولسان العرب (فمم، فوه) والمحتسب 2/ 238. وهو بلا نسبة في أسرار العربية ص 235 والأشباه والنظائر 1/ 216والإنصاف 1/ 345وجمهرة اللغة ص 1307والخصائص 1/ 170، 3/ 147، 211وشرح شافية ابن الحاجب 3/ 215والمقتضب 3/ 158والمقرب 2/ 129وهمع الهوامع 1/ 51.
(4) مرّ البيت منذ قليل برواية: = المشعف =. ولقد تم التعليق عليه سابقا.
(7/512)
انتهى كلامه.
قال الأعلم: الشاهد فيه تثنية الظهرين على الأصل، والأكثر في كلامهم إخراج مثل هذا إلى الجمع، كراهة لاجتماع تثنيتين في اسم واحد، لأنّ المضاف إليه من تمام المضاف، مع ما في التثنية من معنى الجمع، وأنّ المعنى لا يشكل، ولذلك قال: مثل ظهور التّرسين، فجمع الظّهر.
قال الزجّاج في «تفسير آية السارق»: قال بعض النحويين:
إنّما جعلت تثنية ما كان في الإنسان منه واحد جمعا لأنّ أكثر أعضائه فيه منه اثنان، فحمل ما كان فيه الواحد على مثل ذلك.
قال: لأنّ للإنسان عينين، فإذا ثنّيت العينين، قلت: عيونهما، فجعلت:
«قلوبكما» و «ظهوركما» في القرآن كذلك، وكذلك: «أيديهما». وهذا خطأ، إنّما ينبغي أن يفصل بين ما في الشيء منه واحد، وبينما في الشيء منه اثنان.
وقال قوم: إنّما فعلنا ذلك للفصل بين ما في الشيء منه واحد وبين ما في الشيء منه اثنان، فجعل ما في الشيء منه واحد تثنيته جمعا، كقول الله (1): {«فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمََا»}.
قال أبو إسحاق: حقيقة هذا الباب أنّ ما كان في الشيء منه [واحد (2)]، لم يثنّ ولفظ به على لفظ الجمع (3) لأنّ الإضافة تبيّنه.
فإذا قلت: أشبعت بطونهما علم أنّ للاثنين بطنين فقط. وأصل التثنية الجمع، لأنّك إذا ثنّيت الواحد فقد جمعت واحدا إلى واحد.
وكان الأصل أن يقال: اثنا رجال، ولكن رجلان لا يدلّ على جنس الشيء وعدده، فالتثنية يحتاج إليها للاختصار فإذا لم يكن اختصار ردّ الشيء إلى أصله، وأصله الجمع، فإذا قلت: قلوبهما فالتثنية في هما قد أغنتك عن تثنية قلب، فصار الاختصار ها هنا ترك تثنية قلب. وإن ثنّي ما كان في الشيء منه واحد فذلك جائز عند النحويّين.
__________
(1) سورة التحريم: 66/ 4.
(2) زيادة يقتضيها السياق من طبعة هارون 7/ 547.
(3) في طبعة بولاق: = لم يثن لفظ به على الجمع =. وهو تصحيف صوابه من النسخة الشنقيطية.
(7/513)
قال الشاعر:
* ظهراهما مثل ظهور التّرسين *
فجاء بالتثنية والجمع في بيت واحد.
وحكى سيبويه أنّه قد يجمع المفرد الذي ليس من شيء إذا أردت به التثنية.
وحكي عن العرب: وضعا رحالهما، يريد: رحلي راحلتيهما. انتهى.
وأنشد الفراء في «تفسيره» عند قوله تعالى (1): {«وَلِمَنْ خََافَ مَقََامَ رَبِّهِ جَنَّتََانِ»}
قال: ذكر المفسّرون أنّهما بستانان من بساتين الجنّة. وقد يكون في العربية جنّة تثنّيها العرب في أشعارها. أنشدني بعضهم: (الرجز)
ومهمهين قذفين مرتين ... قطعته بالسّمت لا بالسّمتين (2)
وأنشدني آخر (3): (الرجز)
يسعى بكبداء ولهذمين ... قد جعل الأرطاة جنّتين
وذلك أنّ الشعر له قواف تقيمها الزيادة والنقصان، فيحتمل ما لا يحتمله الكلام.
قال الفراء: الكبداء (4): القوس. ويقال: لهذم ولهذم، لغتان (5)، وهو السّهم.
انتهى.
والصحيح أنّ هذين البيتين من رجز لخطام المجاشعي، وهو شاعر إسلاميّ، لا لهميان بن قحافة. كما تقدّم نقل أبيات كثيرة من هذا الرجز في الشاهد الخامس والثلاثين
__________
(1) سورة الرحمن: 55/ 46.
(2) الرجز لخطام المجاشعي في التنبيه والإيضاح 1/ 173ولسان العرب (مرت). وهو بلا نسبة في تاج العروس (سمت) وتهذيب اللغة 8/ 302ولسان العرب (سمت، بقق).
(3) الرجز بلا نسبة في عمدة الحافظ ص 127ومعاني الفراء 3/ 118.
(4) في معاني القرآن للفراء 3/ 118: = الكيداء = بالياء. وكذا في رواية الرجز أيضا.
وفي لسان العرب (كبد): = وقوس كبداء: غليظة الكبد شديدتها، وقيل قوس كبداء، إذا ملأ مقبضها الكف =.
وكبد القوس: فويق مقبضها حيث يقع السهم.
(5) ضبط في اللسان والقاموس: بوزن جعفر فقط.
(7/514)
بعد المائة (1). والرواية الصحيحة كذا:
ومهمهين قذفين مرتين ... ظهراهما مثل ظهور التّرسين
جبتهما بالنّعت لا بالنّعتين ... على مطار القلب سامي العينين
والواو في «مهمهين» واو ربّ. و «المهمه»: القفر المخوف. و «القذف»، بفتح القاف والذال المعجمة بعدها فاء: البعيد من الأرض.
وقال العيني: هو المكان المرتفع الصّلب. قال: ويروى: «فدفدين».
والفدفد: الأرض المستوية. قاله الجوهري.
و «المرت»، بفتح الميم وسكون الراء المهملة بعدها مثناة فوقية: الأرض التي لا ماء فيها ولا نبات. و «الظّهر»: ما ارتفع من الأرض. شبّهه بظهر ترس في ارتفاعه وتعرّيه من النبت.
كما قال الأعشى (2): (الخفيف)
وفلاة كأنّهما ظهر ترس ... ليس إلّا الرّجيع فيها علاق
وقال الأعلم: وصف فلاتين لا نبت فيهما ولا شخص يستدلّ به، فشبّههما بالتّرسين.
وقال العيني: مثل ظهري التّرسين في الاستواء والامّلاس، وعدم المرافق فيهما، من نبت للرّاعية، أو علم هاد للناس.
و «جبتهما»: قطعتهما، وهو جواب ربّ المقدّرة. يقال: جاب الوادي يجوبه جوبا، إذا قطعة بالسّير فيه. وروى: «قطعته» بإفراد الضمير.
نقل العينيّ عن أبي علي، أنه قال: أفرد الضمير وهو يريد المهمهين، كما قال تعالى (3): {«نُسْقِيكُمْ مِمََّا فِي بُطُونِهِ»}. ويقال التقدير: قطعت ذلك. ويقال: إنّما
__________
(1) الخزانة الجزء الثاني ص 275.
(2) البيت للأعشى في ديوانه ص 261وأساس البلاغة (رجع) وتاج العروس (رجع، علق) وكتاب العين 1/ 164ولسان العرب (رجع، علق) ومجمل اللغة 2/ 467، 3/ 404ومقاييس اللغة 2/ 491، 4/ 126.
وهو بلا نسبة في تهذيب اللغة 1/ 245.
(3) سورة النحل: 16/ 66.
(7/515)
أفرد الضمير، لأنّه أراد المهمه، وإنّما ثنّاه تنبيها على طوله واتصال المشي لراكبه فيه، كما قال رؤبة (1): (الرجز)
* ومهمه أطرافه في مهمه *
انتهى.
وهذا يؤيّد ما قاله الفراء. وقوله: «بالنعت لا بالنعتين»، أي: نعتا لي مرّة واحدة، فلم أحتج إلى أن ينعتا لي مرّة ثانية. وصف نفسه بالحذق والمهارة. والعرب تفتخر بمعرفة الطّرق، وتعيّر الجاهل بها.
وأمّا رواية: «قطعته بالسّمت لا بالسّمتين» فهو من رجز لشاعر آخر، أنشده الفارسي في «تذكرته»، وذكر قبله (2): (الرجز)
ومهمه أعور إحدى العينين ... بصير الأخرى وأصمّ الأذنين
* قطعته بالسّمت لا بالسّمتين *
قال: كانت في هذا الموضع بئران، فعوّرت إحداها، وبقيت الأخرى، فلذلك قال: أعور إحدى العينين.
وقوله: «وأصمّ الأذنين» يعني: أنّه ليس به جبل فيسمع صوت الصدى.
وقوله: «بالسّمت» إلخ، أي: قيل لي مرّة واحدة فاكتفيت. انتهى.
وقال: السّمت: السّير بالحدس. وقال ابن يسعون: يريد بالسّمت إلخ بإشارة واحدة (3)، ولم أحتج إلى تكرير النظر، لحذقي ومعرفتي بالطريق.
وقوله: «على مطار القلب» متعلّق بجبتهما. أراد: على فرس جيّد هذه صفته.
__________
(1) الرجز لرؤبة في ديوانه ص 166وتاج العروس (عمه) وتهذيب اللغة 1/ 150وديوان الأدب 2/ 254 وشرح شواهد الإيضاح ص 389وشرح شواهد الشافية ص 202وله أو للعجاج في المقاصد النحوية 3/ 345.
وهو بلا نسبة في أوضح المسالك 3/ 77وتاج العروس (بلل) ولسان العرب (بلا).
(2) مرّ تخريج هذا الشاهد النحوي سابقا.
(3) في طبعة بولاق: = بإشارة واحد =. وهو تصحيف صوابه من النسخة الشنقيطية مع أثر تصحيح.
(7/516)
وترجمة خطام المجاشعيّ تقدّمت في الشاهد الخامس والثلاثين بعد المائة (1).
* * * وأنشد بعده، وهو الشاهد الرابع والسبعون بعد الخمسمائة (2): (الطويل)
574 - وعيناي في روض من الحسن ترتع
على أنّه قريب من وقوع المفرد موقع المثنّى (3)، فيما يصطحبان ولا يفترقان، كقولك: عيني لا تنام، أي: عيناي، وإنّما قال: «قريب منه» لأنّ المثال وقع فيه المفرد في موقع المثنّى، والبيت وقع فيه المثنّى، وهو عيناي في موضع المفرد، لأنّ خبره ترتع، وليس فيه ضمير اثنين.
قال أبو حيّان في «تذكرته»: قال أبو عمرو:
وإذا كان الاثنان لا يكاد أحدهما ينفرد من الآخر مثل اليدين، والرجلين، والخفّين، فإن تقدّم مثنّاه جاز لك في الشعر والكلام، أن توحّد صفته، فتقول:
خفّان جديد وجديدان، وعينان ضخمة وضخمتان، لأنّ الواحد يدلّ على صاحبه إذا كان لا يفارقه.
وأنشد الفراء (4): (الطويل)
سأجزيك خذلانا بتقطيعي الصّفا ... إليك وخفّا واحد يقطر الدّما
فقال: يقطر، ولم يقل: يقطران. انتهى.
__________
(1) الخزانة الجزء الثاني ص 280.
(2) البيت لأبي الطيب المتنبي في ديوانه 2/ 344وأمالي ابن الشجري 1/ 120، 121وشرح أبيات المغني للبغدادي 4/ 374.
والبيت من قصيدة للمتنبي، قالها في صباه مدح بها عليّ بن أحمد الطائي.
(3) في طبعة بولاق: = موقع الشيء =. وهو تصحيف صوابه من النسخة الشنقيطية.
(4) البيت للعين المنقري في لسان العرب (دمي). وهو بلا نسبة في تاج العروس (زحف) ولسان العرب (زحف).
(7/517)
والمصراع عجز، وصدره (1):
* حشاي على جمر ذكيّ من الغضا *
والبيت من قصيدة لأبي الطيّب المتنبي، مطلعها (2):
حشاشة نفس ودّعت يوم ودّعوا ... فلم أدر أيّ الظّاعنين أشيّع
قال الواحدي في شرحه: الحشا: ما في داخل الجوف، ويريد به القلب ها هنا.
يقول: قلبي على جمر شديد التوقّد من الهوى، أي: لأجل توديعهم وفراقهم.
وعيني ترتع في وجه الحبيب في روض من الحسن.
والبيت من قول أبي تمام: (الطويل)
أفي الحقّ أن يضحى بقلبي مأتم ... من الشّوق والبلوى وعيناي في عرس
وإنّما لم يقل ترتعان لأنّ حكم العينين حكم حاسّة واحدة، ولا تكاد تنفرد إحداهما برؤية دون الأخرى، فاكتفى بضمير الواحدة، كما قال الآخر (3): (مجزوء الوافر)
* بها العينان تنهلّ *
انتهى.
قال صدر الأفاضل، عند قول المعريّ (4): (البسيط)
كأنّ أذنيه أعطت قلبه خبرا ... عن السّماء بما يلقى من الغير
__________
(1) روايته في ديوانه وشرح أبيات المغني:
* حشاي على جمر ذكي من الهوى *
(2) البيت مطلع قصيدته في ديوانه 2/ 344وشرح أبيات المغني 4/ 374.
(3) عجز بيت لامرئ القيس وصدره:
* لمن زحلوقة زلّ *
والبيت لامرئ القيس في ديوانه ص 472وأمالي ابن الشجري 1/ 121وجمهرة اللغة 1/ 19ولسان العرب (زلل).
(4) شروح سقط الزند ص 146.
(7/518)
فإن قلت: كيف لم يبرز الضمير في أعطت مع إسناده إلى ضمير الاثنين؟ قلت:
إمّا لأنّه قد نزّل العضوين منزلة عضو واحد، لأنّ المقصود بهما منفعة واحدة. وعليه قول امرئ القيس (1): (المتقارب)
وعين لها حدرة بدرة ... شقّت مآقيهما من أخر
ألا ترى أنّه عنى بالعين العينين، حتّى صرف إلى ضمير الاثنين. وقول أبي الطيّب (2): (الكامل)
وتكرّمت ركباتها عن مبرك ... تقعان فيه وليس مسكا أذفرا
لأنّه جعل كلّ ركبتين كركبة واحدة حتّى قال: تقعان. وإمّا لأنّه قد عامل المثنى معاملة الجمع.
ومنه قول عنترة (3): (الوافر)
متى ما تلقني فردين ترجف ... روانف أليتيك وتستطارا
وقال آخر (4): (البسيط)
* أقراب أبلق ينفي الخيل رمّاح *
ألا ترى أنّه قد سمّى الرّانفتين والقربين روانف وأقرابا.
ومثله في احتمال الوجهين قوله (5): (الكامل)
__________
(1) البيت لامرئ القيس في ديوانه ص 166وتاج العروس (أخر، بدر، حدر) والتنبيه والإيضاح 2/ 77 وتهذيب اللغة 4/ 209وجمهرة اللغة ص 500وديوان الأدب 1/ 138ولسان العرب (أخر، بدر، حدر) والمخصص 2/ 5، 16/ 185. وهو بلا نسبة في مقاييس اللغة 1/ 208.
(2) البيت من قصيدة للمتنبي في ديوانه 2/ 276يمدح بها أبا الفضل محمد بن العميد.
(3) تقدم تخريج البيت سابقا.
(4) عجز بيت لأوس بن حجر وصدره:
* كأنّ أقرابه لمّا علا شطبا *
والبيت لأوس بن حجر في ديوانه ص 15ولعبيد بن الأبرص ص 35وأمالي القالي 1/ 177وتاج العروس (شطب) وهو بلا نسبة في جمهرة اللغة ص 343ولسان العرب (شطب).
(5) البيت لسلمى بن ربيعة في سمط اللآلئ ص 173، 267وشرح الحماسة للمرزوقي ص 547ونوادر أبي
(7/519)
كأنّ في العينين حبّ قرنفل ... أو سنبلا كحلت به فانهلّت
وقول الفزردق (1): (الوافر)
* ولو بخلت يداي بها وضنّت *
هذا وقول أبي الطّيّب:
* وعيناي في روض من الحسن ترتع *
مع تمكّنه من أن يقول: وعيني دليل على أنّه لا في مقام الضرورة. انتهى.
وقد تكلّم ابن الشجري في «أماليه» على البيت، وجعل المسألة رباعيّة، فلا بأس بنقل كلامه تتميما للفائدة.
وقال بعد إنشاد البيت: الحشا: ما بين الضّلع التي في آخر الجنب إلى الورك، والجمع أحشاء.
وذكت النار تذكو: اتّقدت وارتفع لهبها. والرّوضة: موضع يتّسع ويجتمع فيه الماء، فيكثر نبته. ولا يقال لموضع الشّجر روضة. والرّتوع في الأصل للماشية، وهو ذهابها ومجيئها في الرّعي. وكثر ذلك حتّى استعمل للآدميّين. وفي التنزيل (2):
{«يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ»}.
ومن قرأ: «نرتع» بكسر العين فهو نفعل من الرّعي. وأصل رتع: أكل ما شاء.
__________
زيد ص 121ولعلباء بن أرقم في الأصمعيات ص 161. وهو بلا نسبة في تذكرة النحاة ص 358والصاحبي في فقه اللغة ص 253ولسان العرب (هلل).
(1) صدر بيت للفرزدق وعجزه:
* لكان عليّ للقدر الخيار *
والبيت للفرزدق في ديوانه ص 364والخصائص 1/ 258والمحتسب 2/ 181والمقرب 1/ 252.
(2) سورة يوسف: 12/ 12.
هذه قراءة أبي عمرو، وابن عامر، بالنون وسكون العين. وأما قراءة = نرتع = بالنون وكسر العين، فهي قراءة البزي، وقراءة عاصم وحمزة والكسائي ويعقوب وخلف: = يرتع ويلعب =. بالياء وسكون العين من الرتوع.
وقرأ نافع وأبو جعفر: = يرتع ويلعب =. من الأرتعاء. انظر إتحاف فضلاء البشر ص 262.
(7/520)
ومنه قول سويد بن أبي كاهل (1): (الرمل)
ويحيّيني إذا لاقيته ... وإذا يخلو له لحمي رتع
وإنّما قال: عيناي، فثنّى، ثم قال: ترتع فأخبر عن الاثنين بفعل واحدة، لأنّ العضوين لمشتركين في فعل واحد مع اتفاقهما في التسمية يجري عليهما ما يجري على أحدهما.
ألا ترى أنّ كلّ واحدة من العينين لا تكاد تنفرد بالرؤية دون الأخرى.
فاشتراكهما في النظر كاشتراك الأذنين في السمع، والقدمين في السّعي. ويجوز أن يعبّر عنهما بواحدة، تقول: رأيته بعيني، وسمعته بأذني، وما سعت في ذاك قدمي.
فإن قلت: بعينيّ وأذنيّ وقدميّ فثنّيت، فهو حقّ الكلام، والأوّل أخفّ، وأكثر استعمالا.
ولك في هذا الباب (2) أربعة أوجه من الاستعمال:
أحدها: أن تستعمل الحقيقة في الخبر، والمخبر عنه، وذلك قولك: عيناي رأتاه، وأذناي سمعتاه، وقدماي سعتا فيه.
والثاني: أن تعبّر عن العضوين بواحد وتفرد الخبر، حملا على اللفظ، تقول:
عيني رأته، وأذني سمعته، وقدمي سعت فيه.
وإنّما استعملوا الإفراد في هذا تخفيفا، وللعلم بما يريدون. فاللفظ على الإفراد والمعنى على التثنية.
فلو قيل على هذا:
* وعيني في روض من الحسن ترتع *
كان جيّدا.
__________
(1) البيت لسويد بن أبي كاهل اليشكري في ديوانه ص 282والأغاني 13/ 98وشرح اختيارات المفضل ص 904والشعر والشعراء 1/ 428والمفضليات ص 198. وهو بلا نسبة في لسان العرب (رتع) والمقتضب 4/ 170.
(2) كذا في طبعة بولاق والنسخة الشنقيطية. وهو وجه الصواب. وفي أمالي ابن الشجري 1/ 121: = في هذا البيت =.
(7/521)
والثالث: أن تثنّي العضو، وتفرد الخبر، لأنّ حكم العينين أو الأذنين أو القدمين حكم واحدة، لاشتراكهما في الفعل، فتقول: أذناي سمعته، وعيناي رأته، وقدماي سعت فيه، كما قال:
* وعيناي في روض من الحسن ترتع *
ومنه قوله سلميّ بن ربيعة السّيدي (1): (الكامل)
فكأنّ في العينين حبّ قرنفل ... أو سنبلا كحلت بها فانهلّت
ومنه قول امرئ القيس: (مجزوء الوافر)
لمن زحلوقة زلّ ... بها العينان تنهلّ
وللفرزدق:
ولو بخلت يداي بها وضنّت ... لكان عليّ للقدر الخيار
والرابع: أن تعبّر (2) عن العضوين بواحد، وتثنّي الخبر (3) حملا على المعنى، كقولك: أذني سمعتاه، وعيني رأتاه.
ومنه قول امرئ القيس، وهذا قليل (4):
وعين لها حدرة بدرة ... شقّت مآقيهما من أخر
وقول الآخر (5): (الطويل)
إذا ذكرت عيني الزّمان الذي مضى ... بصحراء فلج ظلّتا تكفان
فأمّا ما أنشده ابن السكيت من قول الراجز: (الرجز)
__________
(1) سبق لنا تخريج هذا البيت منذ قليل.
وفي النسخة الشنقيطية: = كحلت به =. وهي مصححة، وهي رواية أبي تمام في حماسته.
(2) في طبعة بولاق: = أن يعبر =. ولقد أثبتنا رواية النسخة الشنقيطية وأمالي ابن الشجري.
(3) في طبعة بولاق: = ويثني الخبر =. ولقد أثبتنا رواية النسخة الشنقيطية وأمالي ابن الشجري.
(4) سبق لنا تخريج البيت منذ قليل.
(5) البيت بلا نسبة في تذكرة النحاة ص 573والدرر 1/ 151والصاحبي في فقه اللغة ص 253وهمع الهوامع 1/ 50.
(7/522)
* والسّاق منّي باديات الرّير (1) *
فكان الوجه أن يقول: بادية حملا على لفظ الساق، أو باديتان لأنّ المراد بالساق الساقان، ولكنه جمع في موضع التثنية. ويشبه ذلك قولك: ضربت رؤوسهما.
ويمكن أن تكون الألف في باديات إشباعا، كقول القائل (2): (الوافر)
وأنت من الغوائل حين ترمى ... ومن ذمّ الرّجال بمنتزاح
أراد: بمنتزح، فأشبع الفتحة فنشأت عنها الألف، ويقال: مخّ رار ورير، للرّقيق منه.
وقوله: «من الغضى» مفسّر للجمر.
وكذلك قوله: «من الحسن» مفسّر للرّوض، ف «من» متعلقة بمحذوف وصف للمفسّر.
وقال: «حشاي» والمراد ما جاور الحشا، وهو القلب. والعرب تعبّر عن الشيء بمجاوره، فالمعنى: قلبي على جمر من الغضى، شديد التّوقّد، لفراقهم، وعيني ترتع من وجه الحبيب في روض من الحسن.
واستعار الرّتوع للعين لتصويب النّظر وتصعيده في محاسن المنظور إليه. واستعار لحسنه روضا تشبيها لعينيه بالنّرجس، ولخدّيه بالشّقيق، ولثغره بالأقحوان.
ومعنى البيت ناظر إلى قول أبي تمّام:
أفي الحقّ أن يمسي بقلبي مأتم ... من الشّوق والبلوى وعيناي في عرس
__________
(1) في طبعتي بولاق وهارون والنسخة الشنقيطية: = باردات الرير =. وهو تصحيف صوابه من ديوان الأدب ولسان العرب. والرجز بلا نسبة في ديوان الأدب 3/ 301ولسان العرب (رير).
وقبله في اللسان:
أقول بالسبت فويق الدير ... إذا أنا مغلوب قليل الغير
(2) البيت لابن هرمة في ديوانه ص 92والأشباه والنظائر 2/ 30والخصائص 2/ 106، 3/ 121وسر صناعة الإعراب 1/ 25، 2/ 719وشرح شواهد الشافية ص 25ولسان العرب (نزح) والمحتسب 1/ 340. وهو بلا نسبة في أسرار العربية ص 45والإنصاف 1/ 25ولسان العرب (نجد، حتن) والمحتسب 1/ 166.
(7/523)
وأنشدت للرضيّ (1): (البسيط)
* فالقلب في مأتم والعين في عرس *
واستعمال المأتم لجماعة النساء في المناحة خاصّة، مما لم ترده العرب، ولكنّه عندهم لجماعة في المناحة وغيرها.
قال أبو حيّة (2): (الطويل)
رمته أناة من ربيعة عامر ... نؤوم الضّحى في مأتم أيّ مأتم
وقول امرئ القيس فيما ذكرته شاهدا، وصف به عين فرس. ومعنى «حدرة»:
مكتنزة ضخمة.
و «بدرة»: تبدر النّظر. و «شقت مآقيهما من أخر»، أي: اتّسعت من آخرهما.
والبيت من ثالث البحر المسمّى بالمتقارب (3)، عروضه سالمة وضربه محذوف، ووزنه فعل، وقد استعمل فيه الخرم الذي يسمّى الثّلم في أوّل النصف الثاني، وقلّما يوجد الخرم إلّا في أوّل البيت.
وقوله: «لمن زحلوفة»، «الزحلوفة» (4): الزلّاقة التي يتزلّج فيها الصّبيان فيزلقون.
ويروى: «زحلوقة» بالقاف. انتهى كلام ابن الشجري.
__________
(1) عجز بيت للشريف الرضي وصدره:
* تلذ عيني وقلبي منك في ألم *
والبيت في ديوانه 1/ 425وقبله:
كم نظرة منك تشفي النفس عن عرض ... وترجع القلب مني جدّ منتكس
(2) البيت لحميد بن ثور في جمهرة اللغة ص 1032وليس في ديوانه ولأبي حية النميري في لسان العرب (أتي).
وهو بلا نسبة في أدب الكاتب ص 24وشرح المفصل 10/ 14.
(3) في حاشية طبعة بولاق، كتب مصححها: = قوله عروضه سالمة، فيه أن العروض محذوفة مثل الضرب اه مصححه =. ولقد فات البغدادي أن ينبه هنا على هذا الخطأ الذي وقع فيه ابن الشجري في أماليه 1/ 123.
(4) كلمة: = الزحلوفة = ساقطة من النسخة الشنقيطية.
(7/524)
وترجمة المتنبّي قد تقدّمت في الشاهد الحادي والأربعين بعد المائة (1).
* * * وأنشد بعده، وهو الشاهد الخامس والسبعون بعد الخمسمائة، وهو من شواهد س (2): (الوافر)
575 - كلوا في بعض بطنكم تعفّوا
فإنّ زمانكم زمن خميص
على أنّ فيه قيام المفرد مقام الجمع، وهو «بطونكم»، لأنه يريد: بطن كلّ واحد منهم.
وظاهره أنّه غير ضرورة. ونصّ سيبويه على أنّه ضرورة.
قال سيبويه في «مسائل التمييز من باب الصفة المشبّهة من أوائل الكتاب»:
قال بعضهم في الشعر، ما لا يستعمل في الكلام (3). قال علقمة بن عبدة (4):
(الطويل)
به جيف الحسرى فأمّا عظامها ... فبيض وأمّا جلدها فصليب
وقال (5): (الرجز)
__________
(1) الخزانة الجزء الثاني ص 307وما بعدها.
(2) البيت بلا نسبة في أسرار العربية ص 223وأمالي ابن الشجري 1/ 311، 2/ 25وتخليص الشواهد 157 والدرر 1/ 152وشرح أبيات سيبويه 1/ 374وشرح المفصل 5/ 8، 6/ 21والكتاب 1/ 210والمحتسب 2/ 87ومعاني القرآن للفراء 1/ 307والمقتضب 2/ 172وهمع الهوامع 1/ 50.
(3) في الكتاب: = وليس بمستنكر في كلامهم أن يكون اللفظ واحدا والمعنى جميع، حتى قال بعضهم في الشعر ما لا يستعمل في الكلام =.
(4) البيت لعلقمة الفحل في ديوانه ص 40وشرح أبيات سيبويه 1/ 134وشرح اختيارات المفضل ص 1588 والكتاب 1/ 209والمقتضب 2/ 173. وهو بلا نسبة في جمهرة اللغة ص 350.
(5) الرجز للمسيب بن زيد مناة في شرح أبيات سيبويه 1/ 212وشرح أبيات المغني 2/ 88ولسان العرب (شجا) والمحتسب 2/ 87ولطفيل في جمهرة اللغة ص 1041وليس في ديوانه. وهو بلا نسبة في أساس
(7/525)
لا تنكروا القتل وقد سبينا ... في حلقكم عظم وقد شجينا
إلى أن قال: وممّا جاء في الشعر على لفظ الواحد يراد به الجمع:
كلوا في بعض بطنكم تعفّوا ... البيت
وقوله: «به جيف الحسرى» إلخ، هو جمع حسير، وهي الناقة التي أعيت، من الإعياء والكلال.
قال الأعلم: وصف طريقا بعيدا شاقّا على من سلكه. و «الصّليب»: اليابس، وقيل: هو الودك. أي: قد سال ما فيه من رطوبة لإحماء الشّمس عليه.
يقول: أكلت السباع ما عليها من اللّحم فتعرّت، وبدا وضح العظام.
وقوله: «لا تنكروا القتل» إلخ، قال الأعلم: وصف أنّهم قتلوا من قوم كانوا قد سبوا من قومه، فيقول: لا تنكروا قتلنا لكم، وقد سبيتم منّا، ففي حلوقكم عظم بقتلنا إيّاكم، وقد شجينا نحن، أي: غصصنا بسبيكم لمن سبيتم منّا. والبيت للمسيّب بن زيد مناة الغنويّ.
وقوله: «كلوا في بعض» إلخ، قال الأعلم: وصف أنّهم قتلوا من شدّة الزّمان وكلبه (1)، فيقول: كلوا في بعض بطونكم ولا تملؤوها حتّى تعتادوا ذلك تعفّوا عن كثرة الأكل وتقنعوا باليسير، فإنّ الزمان ذو مخمصة وجدب.
والشاهد أنّه وضع الجلد موضع الجلود، والحلق موضع الحلوق، والبطن موضع البطون لضرورة الشعر.
ونقل ابن السّرّاج كلام سيبويه في باب التمييز، وتبعهما ابن عصفور في «كتاب ضرائر الشعر».
وذهب الفراء في «تفسيره» إلى أنّه جائز في الكلام غير مختصّ بالشعر. وقد تقدّم النقل عنه قبل هذا ببيتين.
__________
البلاغة (شجر) وتاج العروس (شجا، مأى) وتهذيب اللغة 2/ 125، 32وشرح المفصل 6/ 32 والكتاب 1/ 209ولسان العرب (نهر، سمع، أمم، عظم، مأى) والمخصص 1/ 31، 10/ 30والمقتضب 2/ 172.
(1) في الشنتمري: = وصف شدة الزمان وكلبه =.
(7/526)
وقال أيضا في تفسير سورة النحل عند قوله تعالى (1): {«يَتَفَيَّؤُا ظِلََالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمََائِلِ»}، قال: وحّد اليمين وجمع الشمائل، وكلّ ذلك جائز في العربية.
قال الشاعر (2): (الطويل)
بفي الشّامتين الصّخر إن كان هدّني ... رزيّة شبلي مخدر في الضّراغم
ولم يقل بأفواه الشامتين.
وقال الآخر (3): (البسيط)
* قد عضّ أعناقهم جلد الجواميس *
ولم يقل جلود.
وقال آخر (4): (الطويل)
فباست بني عبس وأستاه طيّئ ... وباست بني دودان حاشا بني نصر
فجمع ووحّد.
وقال آخر:
كلوا في نصف بطنكم تعيشوا ... فإنّ زمانكم زمن خميص
وجاز التوحيد (5) لأنّ أكثر الكلام يواجه به الواحد، فيقال: خذ عن يمينك وعن شمالك لأنّ المكلّم واحد والمتكلّم كذلك، فكأنّه إذا وحّد ذهب إلى واحد من القوم. وإن جمع فهو الذي لا مسألة فيه. انتهى.
__________
(1) سورة النحل: 16/ 48.
(2) البيت للفرزدق في ديوانه ص 764وأساس البلاغة (خدر) وديوان الأدب 2/ 296.
(3) البيت لجرير في ديوانه ص 130ولسان العرب (ضغبس) والمخصص 1/ 31، 4/ 41، 13/ 86، 15/ 186، 17/ 30.
(4) البيت للحطيئة في ديوانه ص 142وتهذيب اللغة 6/ 118ولسان العرب (سته). وهو بلا نسبة في أساس البلاغة (سته).
قوله: = الآخر وقال آخر = ساقط من النسخة الشنقيطية.
(5) في معاني القرآن للفراء: = فجاء التوحيد =.
(7/527)
وتبعه جماعة منهم ابن جنّي في «المحتسب» قال في سورة المؤمنين: قرأ:
«عظما» واحدا «فكسونا العظام» جماعة: السّلميّ، وقتادة، والأعرج، والأعمش، واختلف عنهم.
وقرأ: «عظاما» جماعة «فكسونا العظم» واحدا: مجاهد.
قال أبو الفتح: أمّا من وحّد فإنّه ذهب إلى لفظ إفراد الإنسان والنّطفة والعلقة.
ومن جمع فإنّه أراد أنّ هذا أمر عامّ في جميع الناس (1).
وقد شاع عنهم وقوع المفرد في موضع الجماعة، نحو قول الشاعر:
* كلوا في نصف بطنكم تعفّوا *
وقال آخر (2):
* في حلقكم عظم وقد شجينا *
وهو كثير، وقد ذكرناه. إلّا أنّ من قدّم الإفراد ثم عقّب بالجمع أشبه لفظا، لأنه جاور بالواحد لفظ الواحد الذي هو إنسان، وسلالة، ونطفة، وعلقة، ومضغة، ثم عقّب بالجماعة، لأنّها هي الغرض. ومن قدّم الجماعة بادر إليها، إذ كانت هي المقصود، ثم عاد فعامل اللفظ المفرد بمثله.
والأوّل أجرى على قوانينهم. ألا تراك، تقول: من قام وقعدوا إخوتك، فيحسن لانصرافه عن اللفظ إلى المعنى.
وإذا قلت: من قاموا وقعد إخوتك، ضعف، لأنّك قد انتحيت بالجمع على المعنى، وانصرفت عن اللفظ. فمعاودة اللّفظ بعد الانصراف عنه تراجع، وانتكاث (3). فاعرفه وابن عليه، فإنّه كثير جدّا. انتهى.
__________
(1) انظر في ذلك المحتسب 2/ 87.
(2) سبق لنا تخريج هذا البيت منذ قليل.
(3) كذا في طبعة بولاق. وفي النسخة الشنقيطية والمحتسب: = الانتكاث: الانصراف عن الشيء =. وفي اللسان (نكث): = وطلب فلان حاجة ثم انتكث لأخرى، أي انصراف إليها =.
وفي طبعة بولاق: = وانتكاب =. وهو تصحيف لا وجد له.
(7/528)
ومنهم الزمخشري في «كشّافه» قال عند قوله تعالى (1): {«خَتَمَ اللََّهُ عَلى ََ قُلُوبِهِمْ وَعَلى ََ سَمْعِهِمْ»}: فإنه وحّد السّمع مع جمع القلوب، كما وحّد الشاعر البطن مع جمع كلوا.
ومقتضى الظاهر أسماعهم وبطونكم، لكن لمّا كان المراد سمع كلّ واحد منهم وبطن كلّ واحد مع أمن اللّبس جاز، فإنّه من المعلوم أنّ لكلّ واحد منهم سمعا واحدا وبطنا.
وقد أورد البيت في عدّة مواضع من «الكشاف»، وأورده أيضا في «المفصّل» في باب التمييز، ولم يقل شرّاحه كابن يعيش: إنّه ضرورة.
ومنهم صاحب اللباب، قال: وقد يقع الواحد موقع الجمع نحو قوله تعالى (2):
{«فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً»}.
ونظيره:
* كلوا في بعض بطنكم تعفّوا *
وقوله: «كلوا في بعض بطنكم»، قال صاحب الكشاف: أكل في بعض بطنه، إذا كان دون الشّبع، وأكل في بطنه، إذا امتلأ وشبع. وأراد بعض بطونكم.
وقوله: «تعفّوا» مجزوم بحذف النون في جواب الأمر.
قال ابن السّيرافي: الخميص: الجائع. والخمص (3): الجوع. أراد بوصفه الزّمن بخميص أنّه جائع من فيه، فالصّفة للزمن والمعنى لأهله.
يقول لهم: اقتصروا على بعض ما يشبعكم ولا تملؤوا بطونكم من الطّعام فينفد طعامكم، فإذا نفد احتجتم إلى أن تسألوا الناس، أن يطعموكم شيئا. وإن قدرتم لأنفسكم جزءا من الطّعام عففتم عن مسألة الناس. انتهى.
قال شارح اللّباب، وبعض فضلاء العجم في «شرح أبيات المفصّل» «تعفّوا»:
من العفّة.
__________
(1) سورة البقرة: 2/ 7.
(2) سورة النساء: 4/ 4.
(3) الخمص بالفتح والتحريك: الجوع.
(7/529)
ويروى: «تعيشوا». كانوا يتلصّصون ويتغاورون، لأنّهم في زمن قحط، فقال لهم ذلك.
والمعنى: كلوا قليلا تكونوا أعفّاء لا يصدر منكم فعل قبيح كالإغارة والتلصّص.
أو تعيشوا، ولا تموتوا، فإنّ زمانكم زمن قحط أهله جائعون. انتهى.
والبيت من أبيات سيبويه الخمسين التي لم يعلم قائلها. والله أعلم.
* * * وأنشد بعده، وهو الشاهد السادس والسبعون بعد الخمسمائة (1): (الطويل)
576 - لنا إبلان فيهما ما علمتم
على أنّه يجوز تثنية اسم الجمع على تأويل: فرقتين، وجماعتين.
قال ابن يعيش في «شرح المفصل»: القياس يأبى تثنية الجمع. وذلك أنّ الغرض من الجمع الدلالة على الكثرة، والتثنية تدلّ على القلة، فهما معنيان متدافعان، ولا يجوز اجتماعها في كلمة واحدة.
وقد جاء شيء من ذلك عنهم على تأويل الإفراد، قالوا: إبلان، وغنمان، وجمالان. وحكى سيبويه: لقاحان سوداوان، وإنّما لقاح جمع لقحة. هذا كلامه.
أقول: المراد من تثنية الجمع تضعيفه بجعله مثلين من نوعين، فلا تدافع بين التثنية والجمع، إلّا إذا توّجها إلى مفرد.
__________
(1) صدر بيت اختلف في نسبته وعجزه:
* فعن أيها ما شئتم فتنكّبوا *
أو:
* فأدّوهما إن شئتم أن تسالما *
البيت لشعبة بن قمير على قافية فتنكبوا في شرح شواهد الإيضاح ص 561ونوادر أبي زيد ص 143 ولعوف بن عطية على قافية نسالما في الأصمعيات ص 167. وهو بلا نسبة في شرح المفصل 4/ 154 ولسان العرب (نكب).
(7/530)
وقد تقدّم ما يتعلّق به في الشاهد الثلاثين (1).
وأنشده صاحب الكشاف عند قوله تعالى (2): {«فَالْتَقَى الْمََاءُ»} من سورة القمر في قراءة التثنية (3)، على أنّ المراد نوعان: ماء السماء وماء الأرض، كما يقال: تمران وإبلان.
وهذا المصراع وقع في شعرين: أحدهما ما أنشده أبو زيد في «نوادره» (4)، وهو المشهور في كتب النحو والتفسير، وتمامه (5):
* فعن أيّة ما شئتم فتنكّبوا *
وهو بيت مفرد لم يذكر غيره ولا قائله.
ونسبه الصاغاني في «العباب»، «لشعبة بن قمير»، وهو شاعر مخضرم، أسلم في زمن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم ولم يره.
ذكره ابن حجر في «الإصابة، في قسم المخضرمين»، وقال: الإبل لا واحد لها من لفظها، وهي مؤنّثة، لأنّ أسماء الجموع التي لا واحد لها من لفظها إذا كانت لغير الآدميين فالتأنيث لها لازم، والجمع آبال. وإذا صغّرتها أدخلتها الهاء، فقلت:
أبيلة، كما تقول: غنيمة. وإذا قالوا (6): إبلان فإنّما يريدون قطعتين من الإبل.
انتهى.
ومثله، ما أنشده أبو تمام في «الحماسة» من شعر للمساور بن هند، وهو:
(الطويل)
__________
(1) الخزانة الجزء الأول ص 207.
(2) سورة القمر: 54/ 12.
(3) في حاشية طبعة هارون 7/ 565: = قراءة الماءان لم ينسبها الزمخشري، وقد نسبها أبو حيان: 1778 إلى علي، ولحسن ومحمد بن كعب والجحدري. وقرئ بالتثنية مع الواو الماوان وهي قراءة ثانية للحسن كما في الكشاف وتفسير أبي حيان، وعن الحسن أيضا: المايان، بالياء، كما في تفسير أبي حيان =.
(4) نوادر أبي زيد ص 143وإيراده فيها يرجح أنه لشعبة بن قمير، لأن أبا زيد أورده بعد أبيات لشعبة بن قمير.
وهي مماثلة في الوزن والروي.
(5) هي رواية نوادر أبي زيد، أضاف الهاء إلى أي.
(6) في طبعة بولاق: = أرادوا =. ولقد اثبتنا ما في النسخة الشنقيطية.
(7/531)
إذا جارة شلّت لسعد بن مالك ... لها إبل شلّت لها إبلان (1)
أراد: إذا جارة لسعد بن مالك شلّت إبل لها شلّ من أجلها قطيعان من الإبل.
والشّلّ: الطّرد.
قال ابن المستوفي: قالوا في نحوه: إبلان وغنمان ولقاحان. ونحوه أنّهم أرادوا به قطعتين: قطعة في جهة، وقطعة في أخرى، أو قطعتين من الإبل والغنم، أو إبلا موصوفة بصفة غير الإبل الأخرى لتفيد التثنية معنى ما.
وقوله: «عن أيّة» بالتنوين، والأصل عن أيّتهما، فلما حذف المضاف إليه عوّض عنه التنوين. والمشهور في الكتب «فعن أيّها» بتأنيث الضمير، على أنّه راجع إلى فرقة وقطعة.
وروى: «وعن أيهما» بضمير التثنية مع تخفيف أيّ. وهذه الرواية واضحة.
قال صاحب العباب: وانتكب الرجل كنانته أو قوسه، إذا ألقاها على منكبيه وكذلك تنكبها. وتنكّبه: تجنّبه. انتهى.
قال بعض فضلاء العجم في «شرح أبيات المفصل»: «الإبلان»: جماعتان من الإبل. ولفظ الإبل في عرفهم، عبارة عن مائة بعير، وإن جاز استعماله في أكثر منه.
وقوله: «فيهما ما علمتم» قال صاحب الكتاب، يعني الزّمخشري: أي ما علمتم من قرى الأضياف وتحمّل الغرامات والدّيات. و «التنكّب»: التجنّب.
وتنكّب القوس: ألقاها على منكبه. ولا يدري مما أخذ ما في البيت (2). نقله كلّه (3)
عن المقتبس.
قلت: أخذه من الثاني، وضمّنه معنى الأخذ. والمعنى: لنا قطيعان من الإبل فيهما ما علمتم من قرى الأضياف وتحمّل الغرامات، فخذوا عن أيّهما ما شئتم وأردتم، فإنّها مباحة غير ممنوعة. ولا يبعد أن يريد: فتجنبوا عن أيّهما ما دام لكم
__________
(1) البيت للمساور بن هند في تاج العروس (أبل) والحماسة برواية الجواليقي ص 546وشرح الحماسة للأعلم 2/ 1003وشرح الحماسة للتبريزي 4/ 98وشرح الحماسة للمرزوقي ص 1663.
(2) أراد من أي المعنيين. وفي النسخة الشنقيطية: = مم أخذها في البيت =.
(3) في طبعة بولاق: = نقل كله =. ولقد أثبتنا رواية النسخة الشنقيطية.
(7/532)
مشيئة، أي: أبدا. فتجنّبوا فإنّها محفوظة بنا. وفي هذا الوجه يكون البيت مشتملا على السّماحة والحماسة والقصد إلى وصف أربابها بالعزّة والقوة، وأنّ أحدا لا يقدر على التعرّض لإبلهم. هذا كلامه.
وقال خضر الموصليّ في «شرح شواهد التفسيرين»: تنكّبوا: اجعلوه في منكبكم. و «عن» للمجاوزة، لأنّ القطعة المتنكّبة (1) قد انفصلت عن الباقي، من تنكّب القوس: ألقاها على منكبه، أو من نكّب عن الطريق: عدل عنه، أي:
اعدلوا عن أيّها شئتم.
و «ما» زائدة، على معنى أنّ في كلّ طائفة منها ما يدلّ على أنّها للأجواد، فانصرفوا عن أيّها شئتم، خائبين عاجزين عن مجاراتنا (2). انتهى.
والظاهر أنّ المعنى هو هذا الأخير. ويمنع المعنى الأوّل شيئان:
«أحدهما»: لفظيّ وهو تعدية تنكّب بعن، فإنّ المعنى على الانصراف والمجاوزة عنهما.
و «الثاني»: معنويّ (3) وهو أنّ الإبل، لا يمكن حملها على المنكب عادة. والله أعلم.
ثم رأيت في «شرح أبيات إيضاح الفارسي، لابن برّيّ» المصراع الثاني:
«فعن أيّها»، بإفراد الضمير وتأنيثه. وقال:
قبله (4):
غداة دعا الدّاعي فكان صريخه ... نجيحا إذا كرّ الدّعاء المثوّب
بكلّ وآة ذات جدّ وباطل ... وطرف عليه فارس متلبّب
وجمع كرام لم تمزّر سراتهم ... حسى الذّلّ لا درد ولا متأشّب (5)
__________
(1) في طبعة بولاق: = المنتكبة =. بتقديم النون. وهو تصحيف صوابه من النسخة الشنقيطية.
(2) في طبعة بولاق: = مجازاتنا = بالزاي. وهو تصحيف صوابه من النسخة الشنقيطية.
(3) في النسخة الشنقيطية: = والمثاني معنى =. وهو تصحيف صوابه من طبعة بولاق.
(4) الأبيات في نوادر أبي زيد ص 143.
(5) في طبعة بولاق والنسخة الشنقيطية: = حشي =. وهو تصحيف صوابه من نوادر أبي زيد.
وفي طبعة بولاق والنسخة الشنقيطية: = لم يزر =. وهو تصحيف صوابه من نوادر أبي زيد.
(7/533)
«الصريخ»: الإجابة، وهو في معنى مصرخ الذي هو مصدر، كالإصراخ.
يقال: أصرخته، إذا أغثته. و «نجيحا»: منجحا. و «المثوّب»: المنادي.
و «الوآة»، بفتح الواو وهمزة ممدودة فهاء: الفرس السريعة المقتدرة الخلق، كأنّها تضمن لحاق المطلوب وتعدّيه لسرعتها وقوّتها. و «الطّرف»: الحصان الكريم. و «المتلبّب»: المتحزّم المشمّر.
وقوله: «فعن أيّها» أعاد الضمير على مجموع الإبلين لأنّها جماعة. وأراد بقوله: «ما علمتم» المنيّة، ويجوز أن تكون الهاء تنبيها، والتقدير: فعن أيّها شئتم فتنكّبوا. وعدّى تنكّبوا بعن، لأنّه بمعنى اعدلوا، ومعناه التحذير والإرشاد، أي:
تنكّبوا ما شئتم من ذلك فهو خير لكم. انتهى كلامه.
وقال شارح آخر لأبيات الإيضاح (1): الهاء من أيّها راجعة إلى الأصناف الثلاثة التي ذكرها قبل، وهي راكب كلّ وآة، وراكب كلّ طرف، والجمع الكرام. ومراده الإيعاد والتّهديد، لا صريح الاستفهام، كأنّه قال: فعن أيّها ما شئتم فتنكّبوا هذه الإبل إن استطعتم، أي: إنّكم لا تقدرون على ذلك. هذا كلامه.
والشعر الثاني هو شعر عوف بن عطيّة [بن (2)] الخرع التّيمي.
والمصراع أوّل قصيدة عدّتها سبعة عشر بيتا. وهذه أربعة أبيات من أوّلها (3):
(الطويل)
هما إبلان فيهما ما علمتم ... فأدّوهما إن شئتم أن نسالما
وإن شئتم ألقحتم ونتجتم ... وإن شئتم عينا بعين كما هما
وإن كان عقلا فاعقلوا لأخيكما ... بنات المخاض والبكار المقاحما
جزيت بني الأعشى مكان لبونهم ... كرام المخاض واللّقاح الرّوائما
__________
ولم تمزر، من التمزر، وهو الشيء الذي تجزأ به (نوادر أبي زيد). والحسى: جمع حسوة بالضم وهي الشيء القليل من الشراب، أو ما كان ملء الفم. والدرد: جمع أدرد، وهو الذي سقطت أسنانه. والمتأشب:
المختلط.
(1) في طبعة بولاق: = وقال شارح آخر أبيات الإيضاح =. وهو تصحيف صوابه من النسخة الشنقيطية.
(2) كلمة: = بن =. ساقطة من طبعة بولاق.
(3) الأبيات لعوف بن عطية بن الخرع التيمي في الأصمعيات ص 168167.
(7/534)
قال أبو سعيد الحسن بن الحسين السكريّ في «شرح ديوانه»: أقبل أهل بيت من ربيعة بن مالك بن زيد مناة، وهم بنو الأعشى، حتّى نزلوا وسط الرّباب، فأغار عليهم بنو عبد مناة بن بكر بن سعد بن ضبّة، فأخذوا إبلهم، فقال بنو الأعشى:
انظروا رجلا من الرّباب له منعة وعزّ فادّعوا عليه جواركم لعلّه يمنعكم، وتلبسوا بين القوم شرّا!
فأتوا عوف بن عطيّة بن الخرع، فقالوا: يا عوف، أنت والله جارنا، وقد أخبرنا قومنا أنّا نريدك. فانطلق عوف إلى عبد مناة، فقال: أدّوا إلى هؤلاء إبلهم، فأخذوا يضحكون به، وقالوا: إن شئت جمعنا لك إبلا، وإن شئت عقلنا لك.
قال: أما عندكم غير هذا؟ قالوا: لا.
فانصرف عنهم، فقال لبني الأعشى: اتبعوا مصادر النّعم. حتّى إذا أوردوا، قال: يا بني الأعشى لا تقصّروا، خذوا مثل إبلكم. فأخذوا ثمّ انطلقوا حتّى نزلوا معه على أهله، فجاءه بنو عبد مناة، فقالوا: يا عوف، ما حملك على ما صنعت؟
قال: الذي صنعتم حملني.
فأخذ يلعب بهم، وقال: إن شئتم جمعنا لكم، وإن شئتم عقلنا لكم. فقال عوف في ذلك هذه القصيدة.
وقوله (1): «هما إبلان» إلخ، أي: إبل بني الأعشى وإبلكم. وأدّى الأمانة إلى أهلها، إذا أوصلها. والاسم الأداء (2) والتأدية.
وقوله: «وإن شئتم ألقحتم» إلخ، قال السكّريّ: يقول: إن شئتم فردّوها، أو تلقحونها، وتنتجونها، وتردّونها بأولادها.
و «عين بعين»، أي: ردّوها بأعيانها حتّى نردّها بأعيانها. ويقال: قد نتجت الفرس والناقة فهي منتوجة. وفرس نتوج: في بطنها ولد. انتهى.
ويقال: ألقح الفحل الناقة إلقاحا: أحبلها. والنّتاج: اسم يشمل وضع البهائم من الغنم وغيرها. وإذا ولي الإنسان ناقة أو شاة ماخضا حتّى تضع، قيل: نتجها
__________
(1) في النسخة الشنقيطية: = وما =.
(2) في طبعة بولاق: = الأدى =. وهو تصحيف. وفي النسخة الشنقيطية: = الأدا =. وهو تصحيف أيضا.
والتصويب من لسان العرب (أدا).
(7/535)
نتجا، من باب ضرب. فالإنسان كالقابلة، لأن يتلقّى الولد ويصلح من شأنه، فهو ناتج، والبهيمة منتوجة، والولد نتيجة.
وقوله: «وإن كان عقلا فاعقلوا» إلخ، يقال عقلت عنه: غرمت عنه ما لزمه من دية وجناية.
و «ابن مخاض»: ولد النّاقة يأخذ في السنة الثانية، والأنثى بنت مخاض، والجمع فيهما بنات مخاض.
و «البكار»: جمع بكرة، ككلاب جمع كلبة. والبكرة: الصغيرة الشابّة من النّوق، والذكر بكر.
و «المقاحم»: جمع مقحم بضم الميم وفتح الحاء: البعير الذي يربع ويثنى في سنة واحدة، فيقحم (1) سنّا على سنّ. قال الأصمعيّ: وذلك لا يكون إلّا لابن الهرمين.
قال السكري: يقول: إن صار الأمر إلى عقل أخيكم الذي أخذت إبله فاعقلوا بنات المخاض والبكار المقاحم، أي: اجمعوا له الرّذالة فأدّوها إليه. وهذا هزء بهم (2).
وقوله: «جزيت بني الأعشى» إلخ، يريد: أنّه عوّضهم إبلا خيرا من إبلهم.
قال السكري: والمخاض: الحوامل، واحدتها خلفة.
و «اللّقاح»: ذوات الألبان، واحدتها لقحة بكسر فسكون. ويقال أيضا:
لقوح، والجمع لقح بضمتين.
و «الرّوائم»: جمع رائم، وهي التي أحبّت ولدها وعطفت عليه. يقال: قد رئمته أمّه رئمانا. ورأمها: ما عطفت عليه من ولد غيرها أو بوّ. انتهى.
وعوف بن عطيّة بن الخرع تقدّمت ترجمته في الشاهد الحادي والسبعين بعد الأربعمائة (3).
__________
(1) في طبعة بولاق والنسخة الشنقيطية: = فتقحم =. وهو تصحيف صوبناه.
(2) رسمت الكلمة في النسخة الشنقيطية: = هزؤبهم =.
(3) الخزانة الجزء السادس ص 340.
(7/536)
تتمة
من أمثلة تثنية اسم الجمع: قومان. قال الفرزدق (1): (الطويل)
وكلّ رفيقي كلّ رحل وإن هما ... تعاطى القنا قوماهما أخوان
واستشهد به ابن عصفور في «شرح الجمل الكبير» على تثنية قوم. وكذا ابن مالك في «شرح التسهيل». ف «قوماهما»: فاعل تعاطى، وحذف نون التثنية للإضافة إلى هما.
وفيه شاهد أيضا على تثنية المضاف إلى اثنين المرجوحة، فيكون من قبيل (2):
(الرجز)
* ظهراهما مثل ظهور التّرسين *
ومعنى البيت أنّ كلّ رفيقين في السّفر أخوان وإن تعادى قوماهما وتعاطوا المطاعنة بالقنا. ورحل الشخص: مأواه في الحضر، ثم أطلق على أمتعة المسافر، لأنّها هناك مأواه.
وهذا البيت مع وضوح معناه قد حرّفه أبو عليّ الفارسيّ في «المسائل البغداديات» بتنوين قوم، وزعم أنّه مفرد منصوب، فاختلّ عليه معنى البيت وإعرابه، فاحتاج إلى أن صحّحه بتعسّفات وتمحّلات كان غنيا عنها، ومقامه أعلى، وأجلّ من أن ينسب إليه مثل هذا التحريف، ولكن هو كما قيل (3): (الطويل)
__________
(1) هو الإنشاد الثاني والعشرون بعد الثلاثمائة في شرح أبيات المغني للبغدادي.
والبيت للفرزدق في ديوانه ص 870والدرر 5/ 132وشرح أبيات المغني 4/ 208وشرح شواهد المغني 2/ 536ولسان العرب (يدي) ومغني اللبيب 1/ 196.
(2) سبق لنا تخريج شطر الرجز في الشاهد السابق.
(3) عجز بيت اختلف في نسبته وصدره:
* ومن ذا الذي ترضى سجاياه كلها *
وهو الإنشاد الأول في شرح أبيات المغني للبغدادي.
والبيت ليزيد بن محمد المهلبي في تاج العروس (حير) والتمثيل والمحاضرة ص 93وزهر الآداب 1/ 93وشرح أبيات المغني 1/ 1. وهو بلا نسبة في جمهرة الأمثال 2/ 283والتنبيه على أمالي القالي ص 15.
(7/537)
* كفى المرء نبلا أن تعدّ معايبه *
وقد تبعه على هذا التحريف والتخريج ابن هشام في «مغني اللبيب» ولخّص كلامه من غير أن يعزوه إليه. وأنقل لك كلامهما حتّى لا تقضي العجب منهما.
قال أبو عليّ في «البغداديات»: ينشد بيت الفرزدق، وهو:
وكلّ رفيقي كلّ رحل ... البيت
وفيه غير شيء من العربيّة. فمنه: قال: تعاطى، وقد تقدّمه اثنان، ولم يقل:
تعاطيا. فإن قلت: إنه حذف لام الفعل من تعاطى لالتقاء الساكنين ولم يردّه إلى أصله للضرورة، فيقول: تعاطيا، فهو قول.
وهذه الضرورة عكس ما في قول امرئ القيس (1): (المتقارب)
* لها متنتان خظاتا *
لأنّ هذا البيت اللام في موضع وجب حذفها، مثل رمتا، لأنّ الحركة للتاء في رمتا غير لازمة، والفرزدق حذفه في موضع وجب إثباته، لأنّك تقول: تعاطيا وتراميا.
وإن قلت: تعاطى تفاعل، والألف لام الفعل ليست بضميره، وفي الفعل ضمير واحد [لأن «هما»] (2) وإن كان في اللفظ مثنّى، فهو في المعنى كناية عن كثرة، وليس المراد بالتثنية هنا اثنين فيحمل الكلام عليها، ولكنّه في المعنى يرجع إلى كل،
__________
(1) قطعة من بيت لامرئ القيس وتمامه:
لها متنتان خظاتا كما ... أكب على ساعديه النمر
وهو الإنشاد الثالث والعشرون بعد الثلاثمائة في شرح أبيات المغني للبغدادي.
والبيت لامرئ القيس في ديوانه ص 164والأشباه والنظائر 5/ 46وإنباه الرواة 1/ 180والحيوان 1/ 273 وسر صناعة الإعراب 2/ 484وشرح أبيات المغني 4/ 213وشرح اختيارات المفضل 2/ 923وشرح شواهد الإيضاح ص 156ولسان العرب (متن، خظا). وهو بلا نسبة في رصف المباني ص 342وشرح الحماسة للمرزوقي ص 80وشرح شافية ابن الحاجب 2/ 230ولسان العرب (الألف) ومغني اللبيب 1/ 197 والمقرب 2/ 187، 193والممتع في التصريف 2/ 526.
(2) زيادة يقتضيها السياق من شرح أبيات المغني 4/ 209، والنص بحرفيته فيه.
(7/538)
فحملت الضمير على كلّ، فهو قول (1). ويقوّي هذا (2): {«وَإِنْ طََائِفَتََانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا»}.
ألا ترى أنّ الطائفتين لمّا كانتا في المعنى جمعا، لم يرجع الضمير إليهما مثنّى، لكنه جمع على المعنى.
وكذلك تعاطى، أفرد على المعنى إذ كان لكلّ، ثم حمل بعد الكلام على المعنى، فقال: هما أخوان. فالقول في «هما» أنّه مبتدأ في موضع خبر الابتداء الأول، وهو كلّ، وثنّاه وإن كان في المعنى جمعا، للدلالة المتقدّمة أنّ المراد بهذه التثنية الجمع.
ألا ترى أنّ قوله: كلّ رفيقي كلّ رحل، جمع؟! ونظيره قوله: «بينهما» بعد:
«وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا».
فإن قال قائل: إن هما يرجع إلى رفيقين على قياس قولهم في قوله تعالى (3):
{«وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوََاجاً يَتَرَبَّصْنَ»} فهو عندنا مخطئ، لأنّ الاسم الأوّل يبقى متعلّقا بغير شيء.
وهذا القول ينتقض في قول من يقول به، لأنّه عندهم يرتفع بالثاني، أو بالراجع إليه، فإذا لم يكن له ثان، كان إيّاه في المعنى ولم يعد [ل] إليه شيء، وجب أن لا يجوز ارتفاعه به عندهم.
والجملة التي هي «هما أخوان» رفع خبر لكلّ. ولا أستحسن أن يكون هما فصلا لو كان المبتدأ والخبر معرفتين، لأنّي وجدت علامة ضمير الاثنين يعنى به الجمع في البيت والآية، وفي قول الآخر (4): (الكامل)
إنّ المنيّة والحتوف كلاهما ... يوفي المخارم يرقبان سوادي
__________
(1) كلمة: = فهو قول =. ساقطة من النسخة الشنقيطية.
(2) سورة الحجرات: 49/ 9.
(3) سورة البقرة: 2/ 234.
(4) هو الإنشاد السادس والثلاثون بعد الثلاثمائة في شرح أبيات المغني للبغدادي.
والبيت للأسود بن يعفر في ديوانه ص 26وسمط اللآلئ ص 174، 368وشرح أبيات المغني 4/ 262وشرح شواهد المغني 2/ 553والصاحبي في فقه اللغة ص 214والمفضليات ص 216ومغني اللبيب 1/ 204.
(7/539)
وقوله [تعالى] (1): {«أَنَّ السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضَ كََانَتََا رَتْقاً فَفَتَقْنََاهُمََا»}، ونحو هذا.
ولم أجد الاثنين المظهرين يعنى بهما الجمع، والكثرة [مكثرة علامة الضمير] (2). فإن كان كذلك جعلت «هما» مبتدأ وجعلت أخوان خبره، وحملته على لفظ هما دون معناه.
ولو جعلت «هما» فصلا وكان الاسمان معرفتين وما قرب منهما، وجعلت أخوان خبر كلّ لم يمتنع، لأنّ الاثنين المظهرين قد عني بهما الكثرة أيضا.
ألا ترى أنّ في نفس هذا البيت: وكلّ رفيقي كلّ رحل، وليس الرفيقان باثنين فقط، وإنّما يراد بهما الكثرة. فكذلك يراد بأخوان الكثرة.
إلّا أن قوله: «وكل رفيقي» في الحمل على الجمع أحسن من حمل أخوان على الجمع، لأنّ المعنى في قوله: وكلّ رفيقي كلّ رحل، كلّ الرفقاء، إذا كانوا رفيقين رفيقين فهما أخوان وإن تعاطى كلّ واحد مغالبة الآخر، لاجتماعهما في السّفرة والصّحبة.
فالقول الأوّل في هذا هو الوجه، ومثل هذا قولهم: هذان خير اثنين في الناس، وهذان أفضل اثنين في العلماء.
فيدلّك على أنّ الاثنين في قولنا: هذان خير اثنين في الناس، والرفيقين في هذا البيت، ما يذهب إليه سيبويه، من أنّ المعنى: إذا كان الناس اثنين اثنين فهذا أفضلهم، وإضافة رفيقين في هذا البيت إلى كلّ رحل، لو كان المراد بهما اثنين فقط لكانت هذه الإضافة مستحيلة، لأنّ رفيقين اثنين لا يكونان لكلّ رحل. ففي هذا البيت دليل على أنّ رفيقين يراد بهما الكثرة. وفيه أنّه حملهما على معنى كلّ، وفيه الوجهان اللذان حمّلناهما [في] تعاطى.
فأمّا قوله: قوما فيحتمل ثلاثة أوجه:
أحدها: أن يكون بدلا من القنا، لأنّ قومهما من سببهما وما يتعلّق بهما.
ويحتمل أن يكون مفعولا له، وكأنه قال: وإن هما تعاطيا القنا للمقاومة، أي:
لمقاومة كلّ واحد منهما صاحبه ومغالبته. ويحتمل أن يكون مصدرا من باب {«صُنْعَ}
__________
(1) سورة الأنبياء: 21/ 30.
(2) زيادة يقتضيها السياق من شرح أبيات المغني للبغدادي 4/ 210.
(7/540)
{اللََّهِ} [1]» و {«وَعَدَ اللََّهُ} [2]» لأنّ تعاطى القنا يدلّ على مقاومة. فتحمل قوما على هذا كما حملت «وعد الله» على ما تقدّم في الكلام، مما فيه وعد. هذا آخر كلامه.
وقال ابن هشام في «المغني»: هذا البيت من المشكلات لفظا، وإعرابا، ومعنى. فلنشرحه.
قوله: «كلّ رحل»، «كلّ» هذه زائدة، وعكسه حذفها في (3): {«عَلى ََ كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ»} فيمن أضاف.
وتعاطى أصله تعاطيا، فحذفت لامه للضّرورة. وعكسه إثبات اللام للضرورة فيمن قال:
* لها متنتان خظاتا *
إذا قيل: إنّ خظاتا فعل وفاعل، أو ألف تعاطى لام الفعل، ووحّد الضمير لأنّ الرفيقين، ليسا باثنين معيّنين، بل هما كثير، كقوله تعالى (4): {«وَإِنْ طََائِفَتََانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا»}، ثم حمل على اللفظ إذ قال: هما أخوان، كما قيل (5):
{«فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمََا»}. وجملة: «هما أخوان» خبر كلّ.
وقوله: «قوما» إمّا بدل من القنا لأنّ قومهما من سببهما إذ معناه تقاومهما، فحذفت الزوائد فهو بدل اشتمال. وإمّا مفعول لأجله، أي: تعاطيا القنا لمقاومة كلّ منهما للآخر، أو مفعول مطلق من باب «صنع الله» لأنّ تعاطي القنا يدلّ على تقاومهما.
ومعنى البيت: أنّ كلّ الرّفقاء في السّفر، إذا استقروا رفيقين رفيقين فهما كالأخوين، لاجتماعهما في السّفر والصّحبة، وإن تعاطى كلّ منهما مغالبة الآخر.
انتهى كلامه.
__________
(1) سورة النمل: 27/ 88.
(2) سورة النساء: 4/ 122.
(3) سورة غافر: 40/ 35.
(4) سورة الحجرات: 49/ 9.
(5) سورة الحجرات: 49/ 9.
(7/541)
وهذا كلّه كما ترى فاسد لفساد أساسه. وقد تنبّه له الدمامينيّ في «الحاشية الهندية» (1) إلّا أنّه لم يقف على كلام أبي علي، وقال: أطال المصنف يعني ابن هشام في تقرير ما يزيل الإشكال الذي ادّعاه، وكله مبنيّ على حرف واحد، وهو ثبوت تنوين قوما من جهة الرواية، ولعلّها ليست كذلك. وإنّما هي «قوماهما» تثنية قوم، والمثنّى مضاف إلى ضمير الرفيقين. ولا إشكال حينئذ لا لفظا، ولا إعرابا، ولا معنى.
وقد رأيت في نسخة من «ديوان الفرزدق» (2) هذا البيت مضبوط الميم من «قوماهما» بفتحة واحدة، وملكت هذه النسخة في جلدين. وضبط هذا البيت هو الذي كان باعثا على شرائها. ولله الحمد والمنّة. انتهى.
وقد نقل العينيّ كلام ابن هشام بعينه في «شرح شواهد الألفيّة» من غير عزو إليه.
والبيت من قصيدة للفرزدق، خاطب فيها ذئبا، أتاه، وهو نازل في بعض أسفاره، وكان قد أوقد نارا، ثم رمى إليه من زاده.
وقال له: تعشّ، وينبغي أن لا يخون أحد منّا صاحبه، حتى نكون مثل الصّاحبين.
وقال أبو عبيدة في «كتاب الضّيفان (3)»: ضاف الفرزدق ذئب (4)، ومعه مسلوخ، فألقى إليه ربع الشاة، وأراد أصحابه طرده فنهاهم، ثم ألقى إليه الرّبع الآخر فشبع، فقال الفرزدق هذه القصيدة. وهذه أبيات منها (5): (الطويل)
وأطلس عسّال وما كان صاحبا ... دعوت لناري موهنا فأتاني (6)
فلمّا أتاني قلت دونك إنّني ... وإيّاك في زادي لمشتركان
__________
(1) شرح أبيات المغني للبغدادي 4/ 208.
(2) هي نسخة ديوانه طبعة الصاوي المكتبة التجارية الكبرى بمصر.
(3) المقاصد النحوية 1/ 461.
(4) يقال ضافه وتضيفه: نزل به، وصار له ضيفا.
(5) الأبيات في ديوان الفرزدق ص 870وشرح أبيات المغني للبغدادي 4/ 213والمقاصد النحوية 1/ 462.
(6) البيت للفرزدق في ديوانه ص 329وتاج العروس (عسل).
(7/542)
فبتّ أقدّ الزّاد بيني وبينه ... على ضوء نار مرّة ودخان
فقلت له لمّا تكشّر ضاحكا ... وقائم سيفي في يدي بمكان
تعشّ فإن عاهدتني لا تخونني ... نكن مثل من يا ذئب يصطحبان (1)
وأنت امرؤ يا ذئب والغدر كنتما ... أخيّين كانا أرضعا بلبان
ولو غيرنا نبّهت تلتمس القرى ... رماك بسهم أو شباة سنان
وكلّ رفيقي كلّ رحل وإن هما ... تعاطى القنا قوماهما أخوان
و «الأطلس»: الأغبر من الذئاب. والواو واو ربّ. و «عسّال» صفة مبالغة من العسلان، وهو مشي الذئب باضطراب وسرعة. و «الموهن»، بفتح الميم وكسر الهاء: ساعة تمضي من اللّيل.
و «أقدّ»: أقطع طولا. و «التكشّر»: ظهور الأسنان عند الضحك. و «تعشّ»:
أمر من تعشّى.
والبيت شاهد لإطلاق من على اثنين، لقوله: يصطحبان. و «أخيّين»: مصغّر أخوين. و «اللّبان»، بالكسر: لبن الآدميّ. وشباة كلّ شيء: حدّه، وهو بفتح الشين المعجمة والموحدة.
* * * وأنشد بعده، وهو الشاهد السابع والسبعون بعد الخمسمائة (2): (البسيط)
__________
(1) هو الإنشاد الثاني والأربعون بعد الستمائة في شرح أبيات المغني للبغدادي.
والبيت للفرزدق في ديوانه ص 870والأغاني 21/ 307وتخليص الشواهد ص 142والدرر 1/ 284 وشرح أبيات سيبويه 2/ 84وشرح أبيات المغني للبغدادي 6/ 237وشرح شواهد المغني 2/ 536والكتاب 2/ 416ومغني اللبيب 2/ 404والمقاصد النحوية 1/ 461. وهو بلا نسبة في الخصائص 2/ 422وشرح الأشموني 1/ 69وشرح شواهد المغني 2/ 829وشرح المفصل 2/ 132، 4/ 13والصاحبي في فقه اللغة ص 173ولسان العرب (منن) والمحتسب 1/ 219والمقتضب 2/ 295، 3/ 253.
(2) البيت لعمرو بن العداء في شرح شواهد الإيضاح ص 560ولسان العرب (وبد، عقل) ولد عبل في الأغاني 20/ 162. وهو بلا نسبة في الأشباه والنظائر 4/ 203وشرح المفصل 4/ 153ومجالس ثعلب 1/ 171والمقرب 2/ 43.
(7/543)
577 - لأصبح الحيّ أوبادا ولم يجدوا
عند التّفرّق في الهيجا جمالين
على أنّه يجوز تثنية الجمع المكسّر، فإنّ «جمالين» مثنى جمال، أي: قطيعين من الجمال.
وأورده صاحب الكشاف عند قوله تعالى (1): {«رَبُّ السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضِ وَمََا بَيْنَهُمََا»} على تثنية الضمير، مع أنّ المرجع السموات والأرض، بإرادة ما بين الجنسين.
وقال في «المفصل»: وقد يثنّى الجمع على تأويل الجماعتين والفريقين. أنشد أبو زيد (2):
* لنا إبلان فيهما ما علمتم *
وفي الحديث: «مثل المنافق كالشّاة العائرة بين الغنمين (3)».
وأنشد أبو عبيد:
لأصبح الحيّ أوبادا ولم يجدوا ... البيت
وقالوا: لقاحان سوداوان.
وقال أبو النّجم (4): (الرجز)
__________
وروايته في بعض هذه المصادر:
* لأصبح القوم أوبادا ولم يجدوا *
(1) سورة مريم: 19/ 65وسورة الشعراء: 26/ 24وسورة الصافات: 37/ 5وسورة ص: 38/ 66 وسورة الدخان 44/ 7وسورة النبأ: 78/ 37.
(2) انظر الشاهد السابق.
(3) رواه النسائي في كتاب الإيمان وشرائعه 8/ 124كما رواه أحمد في 2/ 32، 47، 68، 82، 88، 102، 143، 283من حديث عبد الله بن عمر.
(4) البيت لأبي النجم في الأشباه والنظائر 4/ 200وأساس البلاغة (بقل) والأغاني 10/ 158وتاج العروس (حبب، بقل) وجمهرة اللغة ص 65وسمط اللآلئ ص 581وشرح شواهد الشافية ص 313312ولسان العرب (بقل) وكتاب العين 5/ 170ومجمل اللغة 1/ 281. وهو بلا نسبة في المخصص 10/ 174، 17/ 105ومقاييس اللغة 1/ 274.
(7/544)
* بين رماحي مالك ونهشل *
انتهى.
والحديث رواه نافع عن ابن عمر، والمرويّ فيه: «مثل المنافق مثل الشاة العائرة بين غنمين، تعير إلى هذه مرّة، وإلى هذه مرّة، لا يدرى أيّهما تتّبع».
والعائرة بالعين المهملة: المتردّدة، من عار الفرس، إذا ذهب هنا وهنا. شبّه المنافق في تردّده وعدم ثباته على جانب بالشاة المتردّدة بين قطيعين من الغنم، لا تستقرّ في قطيع. ويقال: سهم عائر وحجر عائر، إذا لم يعلم من أين هو، ولا من رماه.
ولم يقيّد الجمع بالمكسّر (1) كما قيّده الشارح المحقق به، احترازا من الجمع المصحّح، لئلّا يجتمع فيه إعرابان بالحروف، وهو ممتنع لوضوحه.
و «اللّقاح»: جمع لقوح، وهي الناقة ذات اللّبن، مثل قلاص وقلوص. وقال ثعلب: اللّقاح جمع لقحة بالكسر، وإن شئت لقوح، وهي التي نتجت، فهي لقوح شهرين أو ثلاثة، ثم هي لبون بعد ذلك.
وتقدم شرح قوله:
* بين رماحي مالك ونهشل *
في باب الندبة (2).
وقوله: «لأصبح الحيّ أوبادا» البيت، قبله (3):
سعى عقالا فلم يترك لنا سبدا ... فكيف لو قد سعى عمرو عقالين
أنشدهما أبو عبيد القاسم بن سلّام البغداديّ في «أمثاله»، وقال: استعمل معاوية
__________
(1) أراد بذلك الزمخشري في شرح المفصل.
(2) انظر الخزانة الجزء الثاني ص 343وما بعدها باب ما يختص بالنداء.
(3) البيت لعمرو بن العداء الكلبي في تاج العروس (عقل، سعا) وتهذيب اللغة 1/ 239، 3/ 91ولسان العرب (وبد، عقل، سعا). وهو بلا نسبة في جمهرة اللغة ص 844وكتاب العين 1/ 159ومقاييس اللغة 4/ 71والمخصص 7/ 134، 17/ 105.
(7/545)
ابن أبي سفيان ابن أخيه عمرو بن عتبة (1) بن أبي سفيان، على صدقات كلب، فاعتدى عليهم، فقال عمرو بن العدّاء الكلبيّ هذا الشّعر.
و «سعى» في الموضعين، من سعى الرجل على الصدقة، أي: الزكاة يسعى سعيا: عمل في أخذها من أربابها. وعقالا وعقالين منصوبان على الظرف، أراد:
مدّة عقال، ومدّة عقالين. والعقال: صدقة عام.
قال الأصمعيّ: بعث فلان على عقال بني فلان، إذا بعث على صدقاتهم. قال أبو عبيد: هذا كلام العرب المعروف عندهم.
فأمّا ما روي أنّ عمر كان يأخذ مع كلّ فريضة عقالا ورواء، فإذا دخلت إلى المدينة باعها، ثم تصدّق بتلك العقل والأروية فالعقال: الحبل الذي يعقل به البعير، والرّواء: الحبل الذي يقرن به البعيران.
وقالوا في قول أبي بكر: «لو منعوني عقالا ممّا أدّوا إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لقاتلتهم عليه»: يعني: بالعقال صدقة عام، وقيل: أراد الحبل الذي كانت تعقل به الفريضة المأخوذة في الصّدقة. وهو بالحبل أولى في هذا الموضع، لأنّ الإنسان إنما يذكر في مثل هذا الموضع الأقلّ لا الأكثر، بناء على قوّة العزمة في الأدنى، فكيف في الأعلى. انتهى.
وقال المبرّد في «الكامل (2)»، بعد نقل كلام أبي بكر، رضي الله عنه: قوله:
«لو منعوني عقالا [لجاهدتهم عليه]» على خلاف ما تتأوّله العامة.
ولقول العامة وجه قد يجوز، فأمّا الصحيح، فأنّ المصدّق إذا أخذ من الصّدقة ما فيها، ولم يأخذ ثمنا، قيل: أخذ عقالا. وإذا أخذ الثمن، قيل: أخذ نقدا.
وقال الشاعر (3): (الطويل)
__________
(1) في النسخة الشنقيطية: = عمرو بن أبي عتبة =. وهو تصحيف.
وكتب ناسخ النسخة الشنقيطية تعليقا في هامش النسخة بخطه: = كذا بخط المؤلف، وصوابه عمرو بن عتبة =.
وانظر في نسبه جمهرة أنساب العرب لابن حزم الأندلسي ص 112وما بعدها. وفيها أنه قتل مع ابن الأشعث.
(2) الكامل في اللغة 1/ 231والزيادات منه.
(3) البيت بلا نسبة في الكامل في اللغة 1/ 231.
وبعده في حواشي الكامل: = كانت الأمراء إذا خرجت لأخذ الصدقة تضرب الطبول =.
(7/546)
أتانا أبو الخطّاب يضرب طبله ... فردّ ولم يأخذ عقالا ولا نقدا
والذي تقوله العامّة، تأويله: لو منعوني ما يساوي عقالا فضلا عن غيره. وهو وجه.
والأوّل هو الصحيح، لأنّه ليس له عليهم عقال يعقل به البعير فيطلبه فيمنعه، ولكن مجازه في قول العامّة ما ذكرنا. وهو من كلام العرب (1): أتانا بجفنة يقعد عليها ثلاثة، أي: لو قعد عليها ثلاثة لصلح. انتهى (2).
وقال ثعلب في «أماليه»: العقال: صدقة سنة في خبر أبي بكر: «لو منعوني عقالا». وأنشد البيتين.
والسّبد، بفتحتين، الشّعر والوبر.
وقال ابن السيّد في «شرح أدب الكاتب»: إذا قيل: ما له سبد ولا لبد، فمعناه: ما له ذو سبد، وهي الإبل والمعز، ولا ذو لبد، وهي الغنم. ثم كثر ذلك حتّى صار مثلا مضروبا للفقر، فقيل لكلّ من لا مال له أيّ شيء كان. ففيه مجاز من وجهين:
أحدهما: إيقاعهم النفي على السّبد واللّبد، وهم يريدون نفي ما له السّبد واللّبد.
والثاني: استعمالهم ذلك في كلّ من لا مال له، وأصله أن يكون في الإبل والمعز والغنم خاصّة. انتهى.
وقوله: «فكيف» هو ظرف مع عامله المحذوف في محلّ الرفع على أنّه خبر لمبتدأ محذوف، أي: كيف حالنا. وهذه الجملة دليل جواب لو.
يقول: تولّى هذا الرجل علينا سنة في أخذ الزّكاة منّا فلم يترك لنا شيئا لظلمه إيّانا، فلو تولّى سنتين علينا، على أيّ حال كنّا نكون؟
وقوله: «لأصبح الحيّ» إلخ، اللام في جواب قسم مقدّر (3). وزعم خضر الموصلي في
__________
(1) كلمة: = هو = ليست في الكامل في اللغة.
(2) الكامل في اللغة 1/ 232.
(3) في طبعة بولاق: = جواب القسم =. وهو تصحيف صوابه من النسخة الشنقيطية مع أثر تصحيح.
(7/547)
«شرح شواهد التفسيرين» (1) أنّ اللام في جواب «لو» المتقدّمة. وهو ذهول عما قبله. و «الحيّ»: القبيلة.
و «الأوباد»: جمع وبد بفتحتين، قال الجوهري: الوبد، بالتحريك: شدّة العيش وسوء الحال، مصدر يوصف به فيستوي فيه الواحد والجمع، ثم يجمع، فيقال: أوباد، كما يقال: عدل وعدول، على توهّم النعت الصحيح. وأنشد البيت.
وقال ابن برّيّ في «شرح أبيات الإيضاح للفارسي»: الوجه أن يكون جمع وبد، وهو السيّئ الحال، كفخذ وأفخاذ. انتهى.
و «الهيجاء»: الحرب، قال ابن ولّاد في «المقصور والممدود»: الهيجاء:
تمدّ وتقصر.
قال الشاعر (2):
* يا ربّ هيجا هي خير من دعه *
وقال آخر (3):
__________
(1) في طبعة بولاق: = التفسير =. وهو تصحيف صوابه من النسخة الشنقيطية. وأراد بالتفسيرين: تفسير الزمخشري المسمى بالكشاف، وتفسير البيضاوي والمسمى بأنوار التنزيل وأسرار التأويل.
(2) الرجز للبيد في ديوانه ص 340والأغاني 15/ 295وأمالي المرتضى 1/ 191وتاج العروس (قزع، نزع) والدرر 4/ 116وشرح أبيات المغني 2/ 10وفصل المقال ص 91ومجالس ثعلب 2/ 449ومجمع الأمثال 2/ 103. وهو بلا نسبة في تاج العروس (موه) وكتاب العين 2/ 223ولسان العرب (موه) والمخصص 16/ 14وهمع الهوامع 2/ 25.
(3) صدر بيت غير منسوب وعجزه:
* فحسبك والضّحّاك سيف مهنّد *
والبيت هو الإنشاد السابع والتسعون بعد السبعمائة في شرح أبيات المغني للبغدادي.
والبيت لجرير في ذيل الأمالي ص 140وليس في ديوانه. وهو بلا نسبة في سمط اللآلئ ص 899وشرح الأشموني 1/ 224وشرح أبيات المغني 7/ 191وشرح شواهد الإيضاح ص 374وشرح شواهد المغني 2/ 900وشرح عمدة الحافظ ص 407، 667وشرح المفصل 2/ 51ولسان العرب (حسب، هيج، عصا) ومغني اللبيب 2/ 563والمقاصد النحوية 3/ 84.
(7/548)
* إذا كانت الهيجاء وانشقّت العصا *
انتهى.
وهي مؤنّثة كما في البيتين.
وهذه الكلمة مع شهرتها لم يوردها القالي في «المقصور والممدود» مع أنه استقصى النوعين (1) في كتابه.
وثنّى الجمال لأنه جعلها صنفين: صنفا لترحّلهم يحملون عليها أثقالهم، وصنفا لحربهم يركبونه إذا جنبوا خيلهم. ويؤيّده رواية أبي الفرج: «يوم الترحّل والهيجا (2)». و «أوبادا»: خبر أصبح إن كانت ناقصة، وحال من القوم إن كانت تامّة.
وروى أبو الفرج: «لأصبح الحيّ أوقاصا»، وهو جمع وقص بفتحتين، وقد تسكّن القاف: ما بين الفريضتين من نصب الزّكاة ممّا لا شيء فيه. فعلى هذه الرواية حذف مضاف، أي: لأصبح مال الحيّ أوقاصا، أي: لا يوجد عندهم في العام الثاني ما يجب فيه الصّدقة.
عمرو بن عدّاء الكلبيّ
و «عمرو بن عدّاء الكلبيّ»: شاعر إسلامي.
* * * تم بعون الله تعالى وحسن تيسيره الجزء السابع
من خزانة الأدب بتقسيم محقّقها
__________
(1) في النسخة الشنقيطية: = مع استقصاء الدوعين =. وهو تصحيف صوابه من طبعة بولاق.
(2) في طبعة بولاق: = والهيجاء =. وهو تصحيف صوابه بالقصر حتى يستقيم الوزن.
(7/549)
فهرس التراجم
قيس بن الخطيم 32
الأخنس بن شهاب 35
عبد مناف بن ربع 45
حرقة بنت النعمان 61
الحارث بن ظالم 75
من اسمه عفاق 120
عفاق بن مريّ 120
«نيران العرب» 134
المحلق بن جزء 141
خداش بن زهير 181
ثروان بن فزارة 181
المرار الفقعسي 236
عبيد الله بن العباس 240
معن بن أوس 243
حسن بن زيد 248
ابن قيس الرقيات 264
«قصة بيهس» 276
بيهس بن صهيب 276
عبد الله بن معاوية 313
قراد بن حنش 349
الربيع بن ضبع 358
عارق الطائيّ 412
قريط بن أنيف 418
واثلة بن الأسقع 439
عصام بن عبيد الزّمّاني 447
علي بن بدال 461
الحصين بن الحمام 468
عمارة بن زياد العبسي 487
الكميت بن ثعلبة 492
أنس بن مدركة 493
عمرو بن عداء الكلبي 449
(7/551)
فهرس الموضوعات
الظروف 3
النكرة والمعرفة 177
العلم 218
أسماء العدد 324
المذكر والمؤنث 392
المثنى 424
(7/552)
المجلد الثامن
بسم الله الرّحمن الرّحيم
باب المجموع
أنشد فيه، وهو الشاهد الثامن والسبعون بعد الخمسمائة (1): (الطويل)
578 - لنا جامل لا يهدأ اللّيل سامره
على أنّ «جاملا» ليس بجمع، بدليل عود الضمير عليه من «سامره» مفردا.
قال صاحب الكشاف في «سورة الأعراف»: الأناس اسم جمع غير مكسّر، بدليل عود الضمير المفرد إليه، وتصغيره على لفظه.
والسابق إلى هذا أبو علي، قال في «البغداديات»، فإن قال قائل: فهلا جاز تكسيره، أي: اسم الجمع، كما جاز تحقيره، فيما حكاه سيبويه من قولهم:
رجل (2) ورجيل؟ قيل له: لا ينبغي أن يجوز.
وذلك أن هذا الاسم على بناء الآحاد، والمراد به الكثرة، فلو كسّر كما صغّر لكان في ذلك إجراؤه مجرى الآحاد، وإزالته عمّا وضع له من الدلالة على الكثرة،
__________
(1) عجز بيت للحطيئة في ديوانه وصدره:
* وإن تك ذا شاء كثير فإنّهم *
والبيت للحطيئة في ديوانه ص 25ولسان العرب (جمل) وهو بلا نسبة في شرح المفصل 5/ 78.
وروايته في لسان العرب والمفصل:
* فإن تك ذا شاء كثير فإنّهم *
(2) رجل بفتح الراء وسكون الجيم: اسم جمع للراجلين الذين يمشون على أرجلهم لا يركبون.
(8/3)
إذ كان يكون في ذلك مساواته له من جهة البناء والتكسير والتحقير، والحديث عنه كالحديث عن الآحاد، نحو ما أنشد أبو الحسن:
* لهم جامل لا يهدأ اللّيل سامره *
وهذا كلّ جهاته، أو عامّته، فيجب إذا صغّر أن لا يكسّر، فيكون بترك تكسيره منفصلا، مما يراد به الآحاد دون الكثرة. انتهى.
والمصراع من قصيدة للحطيئة هجا بها الزّبرقان بن بدر الصّحابي التميمي، ومدح فيها ابن عمه بغيض بن شمّاس، وفضّله عليه.
وتقدّم السبب في هذا مفصّلا في باب ما لا ينصرف (1). والرواية «ذوو جامل» بدل: «لنا جامل».
وهذه أبيات منها (2):
فدع آل شمّاس بن لأي فإنّهم ... مواليك أو كاثر بهم من تكاثره (3)
أتحصر أقواما يجودا بمالهم ... فلولا قبيل الهرمزان تحاصره (4)
فلا المال إن جادوا به أنت مانع ... ولا العزّ من بنيانهم أنت عاقره
__________
(1) هذا سهو من البغدادي، فالصواب أنه تقدم في باب التمييز في الشاهد الرابع عشر بعد المائتين، عند قول الحطيئة:
سيري أمام فإنّ الأكثرين حصى ... والأكرمين إذا ما ينسبون أبا
انظر في ذلك الخزانة الجزء الثالث ص 270
(2) الأبيات للحطيئة في ديوانه ص 2523.
(3) البيت للحطيئة في ديوانه ص 23وتاج العروس (ذرر) ولسان العرب (ذرر).
(4) كذا في جميع طبعات الخزانة، وكذا فيما سيأتي من شرح للبغدادي في الخزانة.
وفي ديوانه ص 23: = أتحصر قوما أن يجودوا بمالهم =. وفيه أيضا: = فهلا قتيل الهرمزان =. وفي شرح ديوانه يقول السكري ص 23. = أتمنع الناس أن يجودوا بأموالهم في الحقوق، فهلّا منعت عمر بن الخطاب، رضي الله تعالى عنه، حين يعطي الأموال في وجوهها. والهرمزان: دهقان تستر وإنما نسب الهرمزان إلى قتل عمر بن الخطاب لأنهم رأوا أبا لؤلؤة غلام المغيرة بن شعبة، وهو يعرض على الهرمزان السكين التي قتل بها عمر فبذلك السبب وثب عبيد الله بن عمر على الهرمزان فقتله متهما له أن يكون مالأ أبا لؤلؤة على أبيه عمر بن الخطاب، رحمه الله تعالى =.
(8/4)
فإن تك ذا عزّ حديث فإنّهم ... لهم إرث مجد لم تخنه زوافره (1)
فإن تك ذا شاء كثير فإنّهم ... ذوو جامل لا يهدأ اللّيل سامره
وقوله: «مواليك»، أي: أبناء عمّك. و «المكاثرة»: المفاخرة، أي: فاخر بهم إذا لم يكن عندك من الفخر ما تفاخر به.
وقوله: «أتحصر أقواما» إلخ، أي: أتمنع وتحبس؟! يقول: دع هؤلاء الذين يجودون بمالهم. وعليك بالهرمزان فامنعه. أي: إنّك لا تقدر إلا على العجم (2).
و «لولا»: بمعنى هلّا. و «الهرمزان»: كان والي مدينة تستر. فلما فتحت جاؤوا به إلى عمر بن الخطاب.
وقوله: «فإن تك ذا عزّ» إلخ، «الحديث»: الحادث. يريد أنّ عزّه حادث بتوليته النبيّ صلّى الله عليه وسلّم صدقات بني تميم (3). و «الإرث»، بالكسر:
الأصل والمجد والشرف.
و «زوافره»: موادّه وروافده، يقال: هو زافرتهم عند السّلطان، أي: يقوم بأمرهم ويعينهم. ويقال: هو في زافرة قومه، أي: في عددهم وكثرتهم. ويقال:
زوافره: معظمه (4).
وقوله: «فإن تك ذا شاء كثير» إلخ، «الشاء»: جمع شاة. قال صاحب المصباح: الشاة من الغنم يقع على الذكر والأنثى، فيقال: هذا شاة للمذكر، وهذه شاة للأنثى، وشاة ذكر وشاة أنثى، وتصغيرهما شويهة. والجمع شاء وشاه بالهاء رجوعا إلى الأصل، كما قيل: شفة وشفاه. ويقال: أصلها شاهة مثل عاهة.
انتهى.
و «الجامل»: اسم جمع بمعنى جماعة الإبل مع رعاتها. و «الهدء»، مهموز الآخر: السّكون. و «الليل»: ظرف، و «سامره»: فاعله، والضمير للجامل.
أي: لا يسكن ولا ينام الذي يحفظ الإبل، وهو السامر.
__________
(1) البيت للحطيئة في ديوانه ص 24وأساس البلاغة (زفر) وهو بلا نسبة في تاج العروس (ورث) وتهذيب اللغة 15/ 118ولسان العرب (ورث).
(2) كذا في طبعة بولاق وهارون والنسخة الشنقيطية. وسبق لنا الحديث عن ذلك آنفا.
(3) في حاشية طبعة هارون 8/ 5: = إضافة المصدر إلى مفعوله ثم الإتيان بالفاعل قليل. الأشموني 2: 289=.
(4) في شرح ديوانه ص 24: = زافرة الرجل: أنصاره وهم ناهضته وأسرته، وزافرة البيت: أركانه =.
(8/5)
يعني أنّ الرّعاة يسهرون ليلهم لحفظ إبلهم. قال صاحب الصحاح: السّمر:
المسامرة، وهو الحديث بالليل، وقد سمر يسمر، فهو سامر. والسّامر أيضا: السّمّار، وهم القوم يسمرون. انتهى.
وترجمة الحطيئة تقدمت في الشاهد التاسع والأربعين بعد المائة (1).
* * * وأنشد بعده (2): (الطويل)
* مع الصّبح ركب من أحاظة مجفل *
على أنّ «ركبا» ليس جمعا بدليل عود الضمير إليه من صفته بالإفراد، ولو كان جمعا لقيل: مجفلون.
والمصراع من لاميّة العرب للشنفرى، تقدّم الكلام عليه قبل باب المثنى، في الشاهد السابع والخمسين بعد الخمسمائة (3).
* * * وأنشد بعده، وهو الشاهد التاسع والسبعون بعد الخمسمائة (4): (الوافر)
__________
(1) الخزانة الجزء الثاني ص 359.
(2) عجز بيت للشنفرى وصدره:
* فعبّت غشاشا ثمّ مرّت كأنّها *
والبيت للشنفرى في ديوانه ص 67وأمالي القالي 3/ 205وشرح شواهد الشافية ص 148وشرح لامية العرب للعكبري ص 45ولامية العرب ص 52ومعجم ما استعجم 1/ 116وهو بلا نسبة في شرح شافية ابن الحاجب 2/ 202.
(3) انظر الخزانة الجزء السابع ص 419.
(4) البيت لجرير في ديوانه ص 429والاشتقاق ص 538وتخليص الشواهد ص 72وتذكرة النحاة ص 480 والدرر 1/ 140وطبقات فحول الشعراء ص 71والمقاصد النحوية 1/ 187وهو بلا نسبة في أوضح المسالك 1/ 67وشرح الأشموني 1/ 39وشرح التصريح 1/ 79وشرح ابن عقيل ص 40وهمع الهوامع 1/ 79.
(8/6)
579 - عرفنا جعفرا وبني أبيه
وأنكرنا زعانف آخرين
على أنّ نون الجمع قد تكسر في ضرورة الشعر كما في «آخرين».
وقد يمكن أن تكون كسرة النون كسرة إعراب، كما تقدّم النّقل عن أبي علي في باب التثنية. وسيأتي في آخر هذا الباب، فلا ضرورة حينئذ.
قال الشارح المحقق، فيما سيأتي: إذا كسرت النون، فلا يكون ما قبلها إلّا الياء.
وكذلك نصّ ابن عصفور في «كتاب الضرائر» أنّ كسر نون الجمع لا يكون إلّا في حال النصب والخفض، كما أنّ فتح نون التثنية لا يكون إلّا كذلك. فلكسرها شرطان:
أحدهما: الشعر، وثانيهما: الياء.
وبهذا يعرف سقوط قول ابن هشام في «شرح الشواهد»: إنّ الشرط الثاني قد أهمله النحويون، وإنّ الشرط الأوّل أهمله ابن مالك في «منظومته» دون التسهيل.
قال ابن عصفور: ووجه كسر النون تحريكها على أصل التقاء الساكنين. وقال العيني: ويقال إن كسر نون الجمع ليس بضرورة، وإنّما هو لغة لقوم بنى الشاعر كلامه على هذه اللغة.
والبيت آخر أبيات أربعة لجرير، خاطب بها فضالة العرينيّ (1) أوردها محمد بن حبيب في «المناقضات» (2)، وهي: (الوافر)
__________
جعفر وعبيد ابنا ثعلبة بن يربوع، أخوا عرين. والزعانف: جمع زعنفة، وهي أهداب الثوب المتخرقة.
وزعانف السمك: أجنحته. أراد بها أراذل الناس وخساسهم وأتباعهم.
(1) في حاشية النسخة الشنقيطية: = قوله العرني هكذا وجد بخط المؤلف، وصوابه العريني، ولا وجه له، فإن حذف الياء في مثل هذا قياس =.
وانظر لذلك شرح الأشموني 4/ 186والكتاب لسيبويه 3/ 339. وفي طبعة بولاق وهارون والنسخة الشنقيطية:
= العرني =. وهو تصحيف صوبناه.
(2) النقائض ص 31وديوانه ص 429والمقاصد النحوية 1/ 187.
(8/7)
أتو عدني وراء بني رياح ... كذبت لتقصرنّ يداك دوني (1)
فنعم الوفد وفد بني رياح ... ونعم فوارس الفزع اليقين
عرين من عرينة ليس منّا ... برئت إلى عرينة من عرين (2)
عرفنا جعفرا وبني عبيد ... وأنكرنا زعانف آخرين
وزاد العينيّ في روايته بعد هذا بيتا، وهو (3):
قبيّلة أناخ اللّؤم فيها ... فليس اللّؤم تاركهم لحين
وسبب هذا، على (4) ما حكاه محمد بن حبيب: أنّ جريرا لمّا هجا غسّان السّليطيّ، وهو سليط بن الحارث بن يربوع. وكان خال فضالة (5) أحد بني عرين بن ثعلبة بن يربوع، قال فضالة لجرير: أتهجو خالي، أما والله لأقتلنّك! فقال جرير هذه الأبيات (6).
وقوله: «أتوعدني» إلخ، الهمزة للإنكار، ووراء بمعنى خلف. ورياح بكسر الراء بعدها مثناة تحتيّة، هو رياح بن يربوع بن حنظلة بن مالك بن زيد مناة بن تميم.
وبنوه هم: همّام. وهرميّ (7)، وحميريّ، وزيد، وعبد الله، ومنقذ، وجابر.
وقوله: «فنعم الوفد» إلخ، «الوفد»: الجماعة. و «الفزع»: الخوف.
وإنّما وصفه باليقين لأنّ المدح إنما يكون لمن يغيث عند الخوف المتيقّن، لا الخوف المتوهّم، أو المظنون.
وقوله: «عرين من عرينة» إلخ، «عرين»، بفتح العين وكسر الراء: هو عرين بن ثعلبة بن يربوع، وهو مبتدأ وخبره من عرينة. وهو بضم العين وفتح الراء،
__________
(1) البيت لجرير في ديوانه ص 429وتاج العروس (ورى) ولسان العرب (ورى) والمقاصد النحوية 1/ 187 والنقائض ص 31.
(2) البيت لجرير في ديوانه ص 429وتاج العروس (عرن)، وتهذيب اللغة 2/ 340ولسان العرب (عرن) والمقاصد النحوية 1/ 187والنقائض ص 31وهو بلا نسبة في جمهرة اللغة ص 774.
(3) القطعة في خمسة أبيات في ديوانه ص 429والمقاصد النحوية 1/ 187والنقائض ص 31.
(4) كلمة: = على = ساقطة من النسخة الشنقيطية.
(5) في النسخة الشنقيطية: = وكان خاله =.
(6) انظر في ذلك النقائض ص 3130.
(7) في الاشتقاق ص 221: = منسوب إلى الهرم، والواحدة هرمة، وهو ضروب من الحمض =.
(8/8)
وهو بطن من بجيلة، من قبائل اليمن، وهو عرينة بن قسر بن عبقر بن أنمار بن إراش ابن عمرو بن الغوث بن نبت بن زيد بن كهلان.
وبجيلة هي أمّ عبقر، وهي بجيلة بنت سعد العشيرة، وهي أمّ جماعة كلّ منهم بطن، بها يعرفون. وجملة: «ليس منا»، خبر ثان، أو مستأنفة. يريد: إنّ عرينا قحطاني لا عدناني، وإنّما نفاه عن نسبه، وجعله قحطانيا نكاية في فضالة، فإنّه من ولد عرين.
وقوله: «برئت إلى عرينة» إلخ، قال ابن هشام في «شرح الشواهد»:
الأصل برئت إليه منه، فأناب الظاهرين عن الضميرين، لإيضاح المتبرّأ منه من المتبرّأ إليه، ولأنّ إيقاع البراءة على صريح اسم عرين أبلغ.
وقال العيني: يقال برئ له، لأنّ إلى تجيء مرادفة للّام. ويجوز أن تكون إلى للغاية. والمعنى برئت من عرين منتهيا إلى عرينة، فيكون إلى عرينة حال.
هذا كلامه.
وقوله: «عرفنا جعفرا وبني أبيه»، أي: إخوته، وهم جعفر وجهور وعبيد.
وكذا عرين أخوهم لكنّه نفاه منهم. وجميعهم أولاد ثعلبة بن يربوع. وثعلبة (1) هو أخو كليب بن يربوع. وجرير من أولاد كليب، فرياح وثعلبة وكليب إخوة.
وروى (2):
* عرفنا جعفرا وبني عبيد *
وقوله: «وأنكرنا زعانف» إلخ، «نا»: فاعل، و «زعانف»: مفعوله.
وهذا تعريض بفضالة من بني عرين بأنه من الملحقين والأتباع، لا من الصّريح الخالص النّسب. وزعانف: جمع زعنفة بكسر الزاي والنون وسكون العين بينهما.
قال محمد بن حبيب: «الزّعانف»: الأتباع، واحده زعنفة، وهو من زعانف الثوب: أهدابه التي تنوس منه. وكذلك لئام الناس ورذالهم إنّما هم من أطراف الأديم وأخبثه.
__________
(1) في طبعة بولاق: = وثعلب =. وهو تصحيف صوابه من النسخة الشنقيطية.
(2) هي رواية ديوانه والنقائض. وفي المقاصد النحوية:
* عرفنا جعفرا وبني أبيه =
(8/9)
و «آخرين»: صفة لموصوف محذوف، أي: قوم آخرين، كذا قال الشارح المحقق.
وترجمة جرير تقدمت في الشاهد الرابع من أوّل الكتاب (1).
* * * وأنشد بعده، وهو الشاهد الثمانون بعد الخمسمائة (2): (الخفيف)
580 - نضّر الله أعظما دفنوها
بسجستان طلحة الطّلحات
على أنّ السّماع والاستعمال في نحو: «طلحة»، وهو كلّ علم مذكر مختوم بالهاء، جمعه بالألف والتاء، ولم يسمع جمعه بالواو والنون.
وقد بسط ابن الأنباريّ الكلام على هذه المسألة في «مسائل الخلاف» فلا بأس بإيراده، قال:
ذهب الكوفيّون إلى أنّ الاسم الذي آخره تاء التأنيث إذا سمّي به رجل يجوز أن يجمع بالواو والنون، نحو: طلحة وطلحون. وإليه ذهب ابن كيسان إلا أنّه يفتح اللام (3) فيقول: طلحون بالفتح، كما قالوا: أرضون حملا على أرضات. واحتجّ الكوفيّون بأنه في تقدير جمع طلح، لأنّ الجمع قد تستعمله العرب على تقدير حذف حرف من الكلمة، قال الشاعر (4): (الرجز)
* وعقبة الأعقاب في الشّهر الأصم *
__________
(1) الخزانة الجزء الأول ص 90.
(2) البيت لعبيد الله بن قيس الرقيات في ديوانه ص 20والحيوان 1/ 332والدرر 6/ 57وشرح شواهد الإيضاح ص 294وشرح المفصل 1/ 47ولسان العرب (طلح) ومعجم البلدان (سجستان) وهو بلا نسبة في الإنصاف ص 41وتخليص الشواهد ص 98والجنى الداني ص 605ورصف المباني ص 297، 348 ولسان العرب (نضر) والمقتضب 2/ 188، 4/ 7وهمع الهوامع 2/ 127.
(3) في النسخة الشنقيطية: = بفتح اللام =. ولقد أثبتنا رواية طبعة بولاق والإنصاف ص 41.
(4) الرجز بلا نسبة في الإنصاف ص 40والدرر 1/ 131ولسان العرب (صوي) وهمع الهوامع 1/ 45.
(8/10)
فكسّره على ما لا هاء فيه. وإذا كانت الهاء (1) في تقدير الإسقاط، جاز جمعه بالواو والنون. ويدلّ لنا أنّا أجمعنا على أنّه لو سمّي رجل بحمراء أو حبلى جمع بالواو والنون.
ولا خلاف أنّ ما في آخره ألف التأنيث أشدّ تمكنا في التأنيث مما في آخره تاء التأنيث، لأن ألف التأنيث صيغت الكلمة عليها، ولم تخرج الكلمة من التذكير إلى التأنيث، وتاء التأنيث ما صيغت الكلمة عليها، وأخرجت الكلمة من التذكير إلى التأنيث.
ولهذا المعنى قام التأنيث بالألف في منع الصرف مقام شيئين، بخلاف التأنيث بالتاء. فإذا جاز أن يجمع بالواو والنون ما في آخره ألف التأنيث، وهي أو كد من التاء، فلأن يجوز فيما آخره التاء كان ذلك من طريق الأولى.
وأمّا ابن كيسان فاحتجّ على ذلك بأنه إنّما جوّزنا جمعه بالواو والنون، لأنّ التاء تسقط في الطلحات، فإذا سقطت وبقي الاسم بلا تاء، جاز جمعه بالواو والنون، كقولهم: أرض وأرضون. وكما حرّكت العين في أرضون بالفتح حملا على أرضات، فكذلك حركت العين من الطّلحون حملا على الطّلحات، لأنّهم يجمعون ما كان على فعلة من الأسماء دون الصفات، على فعلات بالتحريك.
وقال البصريون: لا يجوز هذا الجمع. والدليل على امتناعه أنّ نحو طلحة فيه علامة التأنيث، والواو والنون علامة التذكير، فلو قلنا إنه يجوز الجمع بالواو والنون، لأدّى إلى أن يجمع في اسم علامتان متضادّتان، وذلك لا يجوز. ولهذا إذا وصفوا المذكّر بالمؤنّث، فقالوا: رجل ربعة جمعوه ربعات بلا خلاف، ولم يقولوا: ربعون.
والذي يدلّ على صحّة هذا القياس أنه لم يسمع من العرب في جمع هذا الاسم (2)
إلّا بالألف والتاء كقولهم في طلحة: طلحات، وهبيرة: هبيرات (3) ولم يسمع عن أحد من العرب أنّهم قالوا: الطّلحون. فإذا كان هذا الجمع مدفوعا (4) من جهة القياس، معدوما من جهة النقل، وجب أن لا يجوز.
__________
(1) في طبعة بولاق: = وإذا كان =. ولقد أثبتنا رواية النسخة الشنقيطية والإنصاف.
(2) قوله: = في جمع هذا الاسم = ساقط من النسخة الشنقيطية. وبعده في الإنصاف: = أو نحوه =.
(3) في طبعة بولاق: = وهبيرات =.
(4) في طبعة بولاق: = مرفوعا =. بالراء المهملة.
(8/11)
وأمّا قولهم إنّه في التقدير جمع طلح ففاسد، لأنّ الجمع إنما وقع على جميع حروف الاسم، وتاء التأنيث من جملته، فلم ننزعها عنه قبل الجمع، وإن كان اسما لمذكر، لئلّا يكون بمنزلة ما سمّي به ولا علامة فيه. فالتاء في جمعه مكان التاء في واحده.
وأما ما استشهدوا به من قولهم:
* وعقبة الأعقاب في الشّهر الأصم *
فهو مع شذوذه وقلّته، لا تعلّق له بما وقع الخلاف فيه، لأنّ جمع التصحيح ليس على قياس جمع التكسير ليحمل عليه.
وأمّا قولهم: إنا أجمعنا على جمع نحو حمراء وحبلى علمين بالواو والنون.
قلنا: إنّما جاز لأن ألف التأنيث يجب قلبها إلى بدل، لأنّها صيغت الكلمة عليها، فتنزّلت منزلة بعضها، فلم يفتقر لعلامة تأنيث الجمع (1) بخلاف التاء فإنه يجب حذفها إلى غير بدل، لأنّها ما صيغت عليها الكلمة، وإنّما هي بمنزلة اسم ضمّ إلى اسم، فجعلت علامة تأنيث الجمع عوضا منها.
وأمّا قول ابن كيسان: إنّ التاء تسقط في الطلحات، فإذا سقطت جاز الجمع، ففاسد، لأن التاء وإن كانت محذوفة لفظا إلّا أنّها ثابتة تقديرا، لأنّهم لمّا أدخلوا تاء التأنيث في الجمع حذفوا هذه التاء التي كانت في الواحد، لأنّهم كرهوا أن يجمعوا بين علامتي تأنيث.
وكان حذف الأولى أولى لأنّ في الثانية زيادة معنى، فإنّ الأولى تدلّ على التأنيث فقط، والثانية تدلّ على التأنيث والجمع، وهي حرف إعراب، فحذف الأولى بمنزلة ما حذف لالتقاء الساكنين، فإنه وإن كان محذوفا لفظا إلّا أنّه ثابت تقديرا.
والذي يدلّ على فساد ما ذهب إليه من فتح العين من الطّلحون أنّ هذا الجمع يسلم فيه نظم الواحد في حروفه وحركاته، والفتح يدخل في جمع التصحيح تكسيرا.
__________
(1) في النسخة الشنقيطية: = فلم يفتقر بعلامة تأنيث الجمع =.
وفي الإنصاف: = فلم تفتقر إلى أن تعوض بعلامة تأنيث الجمع =.
(8/12)
فأمّا قوله: إنّ العين حرّكت من أرضون بالفتح حملا على أرضات. قلنا: لا نسلم، وإنّما غيّر فيه لفظ الواحد، لأنّه جمع على خلاف الأصل، لأنّ الأصل في هذا الجمع أن يكون لمن يعقل، ولكنّهم لمّا جمعوه بالواو والنون غيّروا فيه نظم الواحد تعويضا عن حذف تاء التأنيث فيه، تخصيصا له بشيء لا يكون في سائر أخواته، مع أنّ هذا التعويض تعويض جواز لا تعويض وجوب.
ألا ترى أنّهم لا يقولون في جمع شمس شمسون ولا في جمع قدر قدرون؟ فلمّا كان هذا الجمع في أرض على خلاف القياس، أدخل فيه ضرب من التغيير، فأمّا إذا جمع (1) من يعقل بالواو والنون، فلا يجوز أن يجعل بهذه المثابة، لأنّ جمعه بحكم الأصل، فلا يجوز أن يدخله تغيير.
ويخرج على هذا حذف التاء وفتح العين من طلحات. أمّا حذف التاء فلأنّ التاء الثانية صارت عوضا عنها لأنّها للتأنيث. وأمّا أنتم فحذفتم من غير عوض، فبان الفرق.
وأمّا فتح العين فلأجل الفصل بين الاسم والصّفة، فإن ما كان على فعلة من الأسماء فإنّه يفتح منه العين، نحو: جفنات وقصعات. وما كان صفة فإنّه لا يحرّك منه العين نحو: صعبات.
وأما جمع التصحيح فلا يدخله [شيء (2)] من هذا التغيير. سواء كان اسما أو صفة. فبان الفرق بينهما. والله أعلم.
انتهى كلام ابن الأنباريّ مختصرا.
واعلم أنّ فتح عين فعلة الاسميّ في الجمع واجب، ويجوز تسكينه في الضرورة كما يأتي في بابه. ومنه قول البحتريّ (3): (المتقارب)
وكيف يسوغ لكم جحده ... وطلحتكم بعض طلحاته
__________
(1) في النسخة الشنقيطية: = فإذا جمع =.
(2) زيادة يقتضيها السياق من النسخة الشنقيطية والإنصاف.
(3) البيت من قصيدة له يقولها في عبيد الله بن عبد الله بن طاهر في ديوانه 1/ 475.
أراد بقوله: = طلحتكم =. طلحة بن طاهر بن الحسين الخزاعي أمير خراسان. وبقوله: = طلحاته =. طلحة الطلحات، وهو طلحة بن عبد الله بن خلف الخزاعي.
(8/13)
خلافا لأبي العلاء المعريّ في «شرحه» فإنّه زعم أنّه غير ضرورة.
وقوله: «طلحة الطلحات» روي بالجرّ والنصب.
قال أبو حيان في «تذكرته»: حكى الكسائيّ والفراء عن العرب هذا البيت بخفض طلحة على تكرير الأعظم، أي: أعظم طلحة الطّلحات.
وما اختلفوا في جواز نصب طلحة بالردّ على الأعظم، والحمل على إعرابها.
انتهى.
وجعل ابن عصفور في «كتاب الضرائر» الجرّ من الضرورة. قال: ومنه حذف المضاف من غير أن يقام المضاف إليه مقامه، نحو قوله:
* بسجستان طلحة الطّلحات *
في رواية من خفض طلحة، يريد أعظم طلحة الطّلحات، فحذف المضاف الذي هو أعظم، لدلالة أعظم المتقدّم الذكر عليه. ولم يقم المضاف إليه وهو طلحة مقامه، بل أبقاه على خفضه. انتهى.
وقال ابن برّيّ في «شرح أبيات الإيضاح»: والأشبه عندي أن تخفضه (1)
بإضافة سجستان إليه، لأنّه كان أميرها. انتهى.
وقول أبي حيان: نصب طلحة بالردّ على «الأعظم» يعني البدليّة.
وزعم بعضهم أنّه بدل كلّ من بعض. وزاد هذا القسم في الأبدال. والصحيح أنّه بدل كلّ من كلّ، بجعل أعظم من قبيل ذكر البعض وإرادة الكلّ، بدليل المعنى.
وقال ابن السيّد البطليوسي في «أبيات المعاني»: من نصب طلحة فعلى إضمار أعني، لأنه نبّه عليه بضرب من المدح لما تقدّم من الترحّم عليه.
وذهب آخرون في نصبه إلى حذف حرف الجر، كأنه أراد رحم الله أعظما دفنوها لطلحة (2)، فلمّا حذف الجار نصب. وقد دفع (3) قوم النصب، وأنشدوه بالجر
__________
(1) في طبعة بولاق: = يخفضه = ولقد أثبتنا رواية النسخة الشنقيطية.
(2) في طبعة بولاق: = بطلحة =. وهو تصحيف صوابه من النسخة الشنقيطية.
(3) في طبعة بولاق: = رفع = بالراء المهملة وهو تصحيف صوابه من النسخة الشنقيطية.
(8/14)
على تقدير مضاف، كأنه في التقدير: أعظم طلحة الطلحات، ثم حذف الثاني لدلالة الأول عليه. وهذا شاذّ، يقلّ في كلامهم حذف الجار، مع بقاء عمله.
انتهى.
و «طلحة الطلحات» هو أحد الأجواد المشهورين في الإسلام (1)، واسمه طلحة بن عبد الله بن خلف الخزاعي. وأضيف إلى الطلحات لأنّه فاق في الجود خمسة أجواد اسم كلّ واحد منهم طلحة، وهم طلحة الخير، وطلحة الفياض، وطلحة الجود، وطلحة الدّراهم، وطلحة النّدى.
وقيل كان في أجداده جماعة اسم كلّ طلحة. كذا قال ابن الحاجب في «شرح المفصل».
وقال إبراهيم الوطواط في «كتاب الغرر والخصائص الواضحة (2)»: قيل سمّي بذلك لأنّه كان أجودهم، وقيل لأنه وهب في عام واحد ألف جارية، فكانت كلّ جارية منهنّ إذا ولدت غلاما تسمّيه طلحة على اسم سيّدها.
وذكر الطّلحات الخمسة، وهم طلحة بن عبيد الله التيمي (3)، وهو طلحة الفياض، وطلحة بن عمر بن عبيد (4) الله بن معمر التيمي أيضا، وهو طلحة الجود.
وطلحة بن عبد الله بن عوف الزّهريي، أخي عبد الرحمن بن عوف، وهو طلحة النّدى. وطلحة بن الحسن بن علي بن أبي طالب، وهو طلحة الخير.
وطلحة بن عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق، ويسمى طلحة الدّراهم. وطلحة ابن عبد الله بن خلف الخزاعي وهو سادسهم المشهور بطلحة الطّلحات (5). انتهى.
__________
(1) هو أحد أجواد العرب المشهورين. ففي لسان العرب (جود): = وأجواد أهل البصرة: عبيد الله بن أبي بكرة، ويكنى أبا حاتم، وعمر بن عبد الله بن معمر التيمي، وطلحة بن عبد الله بن خلف الخزاعي وهؤلاء أجود من أجواد الكوفة =.
(2) كذا في طبعة بولاق والنسخة الشنقيطية. وفي حاشية طبعة هارون 8/ 16: = وإنما هو: غرر الخصائص الواضحة، وغرر النقائض الفاضحة =.
(3) في طبعة هارون: = التميمي =. وهو تصحيف.
(4) في طبعة بولاق: = طلحة بن عمرو بن عبد الله =. وفي غرر الخصائص ص 168: = طلحة بن عمر بن عبد الله =. وهو تصحيف ولقد صوبناه من جمهرة أنساب العرب ص 127والأغاني 11/ 186. ففي الأغاني:
= رملة بنت عبد الله بن خلف وكانت تحت عمر بن عبيد الله بن معمر، وقد ولدت منه ابنه طلحة الجود =.
(5) في اللسان (طلح): = وطلحة الطلحات: طلحة بن عبيد الله بن خلف الخزاعي، ورأيت في بعض حواشي
(8/15)
وقال ابن برّيّ في «شرح أبيات الإيضاح»: سمّي طلحة الطلحات بسبب أمّه، وهي صفية بنت الحارث بن طلحة بن أبي طلحة، وأخوها طلحة بن الحارث، فقد تكنّفه الطّلحات كما ترى، ففصل بهذه الإضافة من غيره من الطّلحات.
وكانوا ستّة. انتهى.
وكان والي سجستان، وبها مات.
قال الزمخشري في «أمثاله»:
قال سحبان بن وائل البليغ المشهور في طلحة الطّلحات: (مجزوء الكامل)
يا طلح أكرم من مشى ... حسبا وأعطاه لتالد (1)
منك العطاء فأعطني ... وعليّ حمدك في المشاهد (2)
فحكّمه، فقال: فرسك الورد، وقصرك بزرنج، وغلامك الخبّاز (3) وعشرة آلاف درهم. فقال طلحة: أفّ لك، لم تسألني على قدري، وإنّما سألتني على قدرك، وقدر قبيلتك باهلة! والله لو سألتني كلّ فرس وقصر وغلام لي لأعطيتك! ثم أمر له بما سأل، وقال: والله ما رأيت مسألة محكّم ألأم منها.
قال ياقوت في «معجم البلدان» (4): سجستان: ناحية كبيرة وولاية واسعة.
ذهب بعضهم إلى أن سجستان اسم للنّاحية، وأنّ اسم مدينتها زرنج، بتقديم
__________
نسخ الصحاح بخط من يوثق به: الصواب طلحة بن عبد الله بن بري، رحمه الله، ذكر ابن الأعرابي في طلحة هذا أنه إنما سمي طلحة الطلحات بسبب أمه، وهي صفية بنت الحارث بن طلحة بن أبي طلحة زاد الأزهري:
ابن عبد مناف، قال وأخوها أيضا طلحة بن الحارث قد تكنفه هؤلاء الطلحات كما ترى وقبره بسجستان وفيه يقول ابن قيس الرقيات:
رحم الله أعظما =
(1) البيت لسحبان بن وائل الباهلي في تاج العروس (طلح) والتنبيه والإيضاح 1/ 256والحماسة البصرية 1/ 150ولسان العرب (طلح).
(2) البيت لسحبان بن وائل الباهلي في تاج العروس (طلح) والحماسة البصرية 1/ 150ولسان العرب (طلح).
(3) في حاشية طبعة هارون 8/ 17: = المراد بالخباز: الطاهي الذي يجمع بين الخبز والطهو. انظر حواشي الحيوان 5: 458457=.
(4) معجم البلدان (سجستان).
(8/16)
المعجمة على المهملة، وبينها وبين هراة عشرة أيام، ثمانون فرسخا (1) وهي جنوبيّ هراة. وأرضها كلّها رملة سبخة، والرّياح فيها لا تسكن أبدا، ولا تزال شديدة تدير رحيّهم، وطحنهم كلّه على تلك الرّحيّ. وهي من الإقليم الثالث، وفيها نخل كثير وتمر.
و «نضّر» بمعنى حسّن. والمشهور (2): «رحم الله أعظما».
والبيت أوّل قصيدة عدّتها أربعة عشر بيتا لقيس الرّقيات (3)، رثى بها طلحة الطلحات، وبعده:
كان لا يحرم الخليل ولا يع ... تلّ بالبخل طيّب العذرات
سبط الكفّ بالنّوال إذا ما ... كان جود البخيل حبس العدات
في «الزاهر» لابن الأنباري، قال الأصمعي: العذرة: فناء الدّار.
و «العذرات»: أفنية الدور. وكانوا فيما مضى يطرحون النّجاسات في أفنية دورهم، فسمّوها باسم الموضع، وكذلك الغائط هو عند العرب ما اطمأنّ من الأرض، وكانوا فيما مضى إذا أراد الرجل قضاء حاجته طلب الموضع المطمئنّ من الأرض، فكثر هذا، حتّى سمّوا الحدث باسم الموضع.
وكذلك الكنيف في كلام العرب: الحظيرة التي تعمل للإبل فتكنفها من البرد، فسمّوا ما حظروه وجعلوه موضعا للحدث بذلك الاسم، تشبيها به. انتهى.
وقد تقدّمت ترجمة قيس الرّقيات (4) في الشاهد الثالث والثلاثين بعد الخمسمائة (5).
* * * __________
(1) في طبعة بولاق: = وثمانون فرسخا =. بزيادة الواو وهو تصحيف صوابه من النسخة الشنقيطية.
(2) هي رواية ديوانه ولسان العرب (طلح).
(3) البيتان لابن قيس الرقيات في ديوانه ص 2120.
وفي شرح ديوانه ص 21: = الخليل من الخلة، وهي الحاجة، ومنه قولهم: ما أخلك إلى هذا الأمر، أي: ما أحوجك، والعذرات: الأفنية. سبط الكف: أي ليس فيها تقبض عن من يسأله =.
(4) كذا في طبعة بولاق. وفي النسخة الشنقيطية: = ترجمة الرقيات =.
(5) الخزانة الجزء السابع ص 264.
(8/17)
وأنشد بعده (1): (الوافر)
فما وجدت بنات ابني نزار ... حلائل أسودين وأحمرينا
على أنّ ابن كيسان استدلّ بهذا البيت على جواز جمع أحمر وأسود بالواو والنون، وهو عند غيره شاذ.
والبيت قد تقدّم شرحه مفصّلا في الشاهد الرابع والعشرين من أوائل الكتاب (2).
* * * وأنشد بعده (3): (الطويل)
* وقائلة خولان فانكح فتاتهم *
على أنّ «فانكح» عند الأخفش خبر المبتدأ الذي هو خولان، والفاء زائدة في الخبر، وعند سيبويه غير زائدة، والأصل عنده: هذه خولان فانكح فتاتهم.
والمصراع صدر، وعجزه:
* وأكرومة الحيّين خلو كما هيا *
وتقدّم الكلام عليه مستوفى في الشاهد السابع والسبعين من باب المبتدأ (4).
__________
(1) البيت للكميت بن زيد في ديوانه 2/ 116والمقرب 2/ 50وهو للحكيم الأعور بن عياش الكلبي في الدرر 1/ 133وشرح شواهد الشافية ص 143وهو بلا نسبة في شرح الأشموني 1/ 35وشرح شافية ابن الحاجب 2/ 171وشرح المفصل 5/ 60وهمع الهوامع 1/ 45.
(2) الخزانة الجزء الأول ص 184.
(3) هو الإنشاد السبعون بعد المائتين في شرح أبيات المغني للبغدادي.
والبيت بلا نسبة في الأزهية ص 243وأوضح المسالك 2/ 163والجنى الداني ص 71والدرر 2/ 36والرد على النحاة ص 104ورصف المباني ص 386وشرح أبيات سيبويه 1/ 413وشرح أبيات المغني 4/ 37 وشرح الأشموني 1/ 189وشرح التصريح 1/ 299وشرح شواهد الإيضاح ص 86وشرح شواهد المغني 1/ 468، 2/ 873وشرح المفصل 1/ 100، 8/ 95والكتاب 1/ 139، 143ولسان العرب (خلا) ومغني اللبيب 1/ 165والمقاصد النحوية 2/ 529وهمع الهوامع 1/ 110
(4) الخزانة الجزء الأول ص 433.
(8/18)
وخولان: حيّ من أحياء اليمن.
* * * وأنشد بعده، وهو الشاهد الحادي والثمانون بعد الخمسمائة، وهو من شواهد س (1): (الرجز)
581 - إنّك إن يصرع أخوك تصرع
على أنّ إلغاء الشرط المتوسّط بين المبتدأ والخبر ضرورة، فإنّ جملة «تصرع» خبر إنّ، والجملة دليل جزاء الشرط (2)، وجملة الشرط معترضة بين المبتدأ والخبر.
ويأتي الكلام عليه إن شاء الله تعالى في الجوازم (3).
والبيت من رجز لعمرو بن خثارم البجليّ، وهو (4): (الرجز)
يا أقرع بن حابس يا أقرع ... إنّي أخوك فانظرن ما تصنع
إنّك إن يصرع أخوك تصرع ... إنّي أنا الدّاعي نزارا فاسمعوا
في باذخ من عزّ مجد يفرع ... به يضرّ قادر وينفع
وأدفع الضّيم غدا وأمنع ... عزّ ألدّ شامخ لا يقمع
يتبعه النّاس ولا يستتبع ... هل هو إلّا ذنب وأكرع
__________
(1) هو الإنشاد التسعون بعد السبعمائة في شرح أبيات المغني للبغدادي.
والرجز لجرير بن عبد الله البجلي في شرح أبيات سيبويه 2/ 121والكتاب 3/ 67ولسان العرب (بجل) وله أو لعمرو بن خثارم البجلي في شرح شواهد المغني 2/ 897والمقاصد النحوية 4/ 430ولعمرو بن خثارم البجلي في الدرر 1/ 227وديوان الأدب 1/ 435وشرح أبيات المغني 7/ 180وهو بلا نسبة في الإنصاف 2/ 623وجواهر الأدب ص 202ورصف المباني ص 104وشرح الأشموني 3/ 586وشرح التصريح 2/ 249وشرح ابن عقيل ص 587وشرح عمدة الحافظ ص 354وشرح المفصل 8/ 158ومغني اللبيب 2/ 553والمقتضب 2/ 72، وهمع الهوامع 2/ 72.
(2) في شرح أبيات المغني 7/ 180: = دليل جواب الشرط =.
(3) الخزانة طبعة بولاق 3/ 643. بعد الشاهد النحوي رقم 690.
(4) الرجز في فرحة الأديب ص 111.
(8/19)
وزمع مؤتشب مجمّع ... وحسب وغل وأنف أجدع
قال ابن الأعرابي في «نوادره»: كان جرير بن عبد الله البجليّ تنافر هو وخالد ابن أرطاة الكلبيّ إلى الأقرع بن حابس، وكان عالم العرب في زمانه.
والمنافرة: المحاكمة، من النّفر، لأنّ العرب كانوا إذا تنازع [وتفاخر] الرجلان منهم، وادّعى كلّ واحد أنه أعزّ من صاحبه تحاكما إلى عالم، فمن فضّل منهما قدّم نفره عليه (1)، أي: فضّل نفره على نفره.
فقال الأقرع: ما عندك يا خالد؟ فقال: ننزل البراح، ونطعن بالرّماح، ونحن فتيان الصّياح (2).
فقال: ما عندك يا جرير؟ فقال: نحن أهل الذّهب الأصفر، والأحمر المعتصر (3)، نخيف ولا نخاف، ونطعم ولا نستطعم. ونحن حيّ لقاح، نطعم ما هبّت الرّياح. نطعم الدّهر، ونصوم الشهر (4) ونحن ملوك القسر (5).
فقال الأقرع: واللات والعزّى، لو نافرت قيصر ملك الرّوم، وكسرى عظيم الفرس، والنّعمان ملك العرب، لنفّرت عليهم.
__________
(1) في شرح أبيات المغني 7/ 181: = فضل نفره على نفر الآخر =.
(2) كذا بالياء في طبعة بولاق والنسخة الشنقيطية وشرح أبيات المغني للبغدادي.
وفي طبعة هارون 8/ 21: = الصباح =. بالباء الموحدة. وفي حاشية طبعة هارون يقول المحقق: = الصباح بالباء الموحدة: الغارة. وهي أكثر ما تكون في الصباح. وفي النسختين الصياح بالياء تصحيف. وهم ينسبون فرسانهم إلى الصباح =.
والوجه الصياح بالياء المثناة. ففي اللسان (صحيح): = والصيحة: الغارة إذا فوجئ الحي بها والمصايحة والتصايح: أن يصيح القوم بعضهم ببعض =. ويبدو أن محقق طبعة هارون سهى عن هذا المعنى، أو لم يدركه.
والله أعلم.
(3) في شرح أبيات المغني 7/ 181: = نحن أهل المذهب، والأحمر المعتصر =.
أراد بالأحمر: النبيذ والخمر.
(4) كذا في طبعة بولاق والنسخة الشنقيطية وشرح أبيات المغني. وسيورد البغدادي لاحقا رواية ثانية وهي:
نطعم الشهر، ونضمن الدهر =.
وفي حاشية طبعة بولاق: = قوله نصوم إلخ كذا بالأصل هنا وسيأتي نطعم الشهر ونضمن الدهر وليحرر اه.
مصححه =.
(5) في طبعة بولاق: = ونحن الملوك لقسر =. وهو تصحيف صوابه من النسخة الشنقيطية وشرح أبيات المغني.
(8/20)
وروى: «لنصرت عليهم (1)».
فقال عمرو بن خثارم البجليّ هذه الأرجوزة في تلك المنافرة.
وقوله: «يا أقرع بن حابس» هو من الصّحابة رضي الله عنهم (2)، وكانت هذه المنافرة في الجاهليّة قبل إسلامه. والصّرع: الهلاك.
ونزار هو أبو قبيلة، وهو نزار بن معدّ بن عدنان.
و «الباذخ»: العالي، يقال: جبل باذخ بمعجمتين. و «المجد»: العظمة والشّرف. و «يفرع»، أي: يعلو كلّ عزّ ومجد. يقال: فرعت قومي، أي:
علوتهم بالشّرف ونحوه. وهو بالفاء ومهملتين.
و «الألدّ»: الأشدّ. ولدّه يلدّه: غلبه في الخصومة. و «الشامخ»: المرتفع.
و «يقمع»، أي: يقهر ويذلّ، يقال: قمعه بالقاف والميم فانقمع.
وقوله: «هل هو» الضمير لخالد بن أرطاة الكلبي. و «الأكرع»: جمع كراع بالضم، وهو مستدقّ الساق، استعاره لأسفل الناس، كالذّنب.
و «الزّمع»، بفتح الزاي والميم، هو رذال الناس. يقال: هو من زمع الناس.
أي: مآخيرهم. و «المؤتشب»، بفتح الشين، قال في «الصحاح»: وفلان مؤتشب، أي: مخلوط غير صريح في نسبه.
و «الوغل»، بفتح الواو وسكون المعجمة. قال في «الصحاح»: والوغل:
النّذل من الرجال. و «أجدع» بالجيم والدال المهملة: مقطوع الأنف.
وقوله: «ننزل البراح» بفتح الموحدة والحاء المهملة: المكان الذي لا سترة فيه من شجر وغيره، وهو منزل الكرماء.
وقوله: «والأحمر المعتصر» هو الخمر.
وقوله: «حيّ لقاح» بفتح اللام بعدها قاف، قال في «الصحاح»: يقال:
حيّ لقاح للذين لا يدينون للملوك، أو لم يصبهم في الجاهلية سباء.
__________
(1) وفي شرح أبيات المغني: «لنصرتك عليهم =.
القسر: القهر والغلبة.
(2) ترجمة أقرع بن حابس، وجرير بن عبد الله في الإصابة 1/ 72و 233.
(8/21)
و «جرير بن عبد الله البجلي» صحابي، وكان جميلا. قال عمر [رضي الله عنه]: هو يوسف هذه الأمّة. وقدّمه عمر في حروب العراق على جميع بجيلة، وكان لهم أثر عظيم في فتح القادسية.
ثم سكن جرير الكوفة، وأرسله عليّ [رضي الله عنه] رسولا إلى معاوية، ثم اعتزل الفريقين وسكن قرقيساء حتى مات سنة إحدى، وقيل أربع وخمسين.
وفي الصحيح أنّه صلّى الله عليه وسلّم بعثه إلى ذي الخلصة فهدمها (1).
وفيه قال: «ما حجبني رسول الله صلّى الله عليه وسلّم منذ أسلمت، ولا رآني إلّا تبسّم». كذا في «الإصابة» لابن حجر.
وخالد بن أرطاة الكلبيّ جاهلي.
و «الأقرع بن حابس» صحابيّ. قال ابن حجر في «الإصابة»: هو الأقرع ابن حابس بن عقال بن محمد بن سفيان التّميميّ المجاشعي الدّارمي.
قال ابن إسحاق: وفد على النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، وشهد فتح مكّة وحنينا والطائف، وهو من المؤلفة قلوبهم. وقد حسن إسلامه.
وقال الزّبير في «النسب»: كان الأقرع حكما في الجاهليّة، وفيه يقول جرير، وقيل غيره، لمّا تنافر إليه (2) هو والفرافصة أو خالد بن أرطاة:
يا أقرع بن حابس يا أقرع ... إنّك إن يصرع أخوك تصرع
قال ابن دريد: اسم الأقرع بن حابس فراس، وإنّما قيل له الأقرع لقرع كان برأسه. وكان شريفا في الجاهلية والإسلام.
وروى ابن شاهين أنّه لما أصاب عيينة بن حصن بني العنبر، قدم وفدهم. فذكر القصّة وفيها: فكلّم الأقرع بن حابس رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في السّبي.
وكان بالمدينة قبل قدوم السّبي.
__________
(1) في الأصنام ص 3635: = فلما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة، وأسلمت العرب، ووفدت عليه وفودها، قدم عليه جرير بن عبد الله مسلما. فقال له: يا جرير! ألا تكفيني ذا الخلصة؟ فقال:
بلى! =.
(2) في الإصابة: = لما سافر إليه = وهو تصحيف صوابه في الخزانة.
(8/22)
وفي ذلك يقول الفرزدق يفخر بعمّه الأقرع (1): (الطويل)
وعند رسول الله قام ابن حابس ... بخطّة سوّار إلى المجد حازم
له أطلق الأسرى التي في قيودها ... مغلّلة أعناقها في الشّكائم (2)
وأما «عمرو بن خثارم البجلي» فهو جاهلي، والله أعلم.
هذا على وجه الاختصار، وأمّا على وجه البسط فهو ما أورده أبو محمد الأعرابي في «فرحة الأديب» (3) قال: أملى علينا أبو النّدى، قال:
كان سبب المنافرة بين جرير بن عبد الله البجلي، وبين خالد بن أرطاة بن خشين بن شبث الكلبيّ، أنّ كلبا أصابت في الجاهلية رجلا من بجيلة، يقال له:
مالك بن عتبة، من بني عادية بن عامر بن قداد (4)، فوافوا به عكاظ.
فمرّ العاديّ بابن عمّ له يقال له: القاسم بن عقيل بن أبي عمرو بن كعب بن عريج بن الحويرث بن عبد الله بن مالك بن هلال بن عادية بن عامر بن قداد، يأكل تمرا، فتناول من ذلك التمر شيئا ليتحرّم به، فجذبه الكلبيّ، فقال له القاسم: إنّه رجل من عشيرتي! فقال: لو كانت له عشيرة منعته!
فانطلق القاسم إلى بني عمّه بني زيد بن الغوث، فاستتبعهم، فقالوا: نحن منقطعون في العرب، وليست لنا جماعة نقوى بها. فانطلق إلى أحمس (5) فاستتبعهم.
__________
(1) البيت للفرزدق من مطولة قالها في قتل قتيبة بن مسلم بن عمرو، في ديوانه ص 862. والرواية في ديوانه:
= بخطة سوّار =. وفي الإصابة كما في الخزانة جاءت الرواية. والإسوار بكسر الهمزة وضمها: الجيد الرمي بالسهام، ونظنها تصحيفا. لذلك أخذنا برواية الديوان.
وفي حاشية طبعة هارون 8/ 22: «ولا وجه له هنا ولا يستقيم مع قوله إلى المجد. والوجه: = سوار إلى المجد كما في ديوان الفرزدق =.
(2) في النسخة الشنقيطية: = مغلغله = وصححها الشنقيطي بخطه = مغللة =. كما في الإصابة والديوان.
الشكائم: لجم الحديد المعترضة في أفواه الخيل.
(3) فرحة الأديب ص 107.
(4) هو عامر بن قداد بن ثعلبة بن معاوية بن زيد بن الغوث بن أنمار. الاشتقاق ص 519وجمهرة أنساب العرب ص 474.
(5) في طبعة بولاق والنسخة الشنقيطية: = إلى آخر =. وهو تصحيف صوابه من فرحة الأديب ص 107.
وفي جمهرة أنساب العرب ص 474بطون بجيلة هم بنو أحمس بن الغوث بن أنمار.
(8/23)
فقالوا: كلّما طارت وبرة من بني زيد في أيدي العرب أردنا أن نتبعها! فانطلق عند ذلك إلى جرير بن عبد الله البجلي فكلّمه، فكان القاسم يقول: إنّ أوّل يوم أريت فيه الثياب المصبّغة والقباب الحمر، اليوم الذي جئت فيه جريرا في قسر، وكان سيّد بني مالك بن سعد بن زيد بن قسر، وهم بنو أبيه.
فدعاهم في انتزاع العاديّ من كلب، فتبعوه فخرج يمشي بهم، حتّى هجم على منازل كلب بعكاظ، فانتزع منهم مالك بن عتبة العاديّ، وقامت كلب دونه، فقال جرير: زعمتم أنّ قومه لا يمنعونه. فقالت كلب: إنّ رجالنا خلوف.
فقال جرير: لو كانوا لم يدفعوا عنكم شيئا. فقالوا: كأنّك تستطيل على قضاعة، إن شئت قايسناكم المجد! وزعيم قضاعة يومئذ خالد بن أرطاة بن خشين بن شبث. قال: ميعادنا من قابل (1) سوق عكاظ.
فجمعت كلب وجمعت قسر، ووافوا عكاظ من قابل، وصاحب أمر كلب خالد بن أرطاة، فحكّموا الأقرع بن حابس بن عقال بن محمّد بن سفيان بن مجاشع، حكّمه جميع الحيّين، ووضعوا الرّهون على يدي عتبة بن ربيعة بن عبد شمس، في أشراف من قريش.
وكان في الرّهن من قسر: الأصرم بن عوف بن عويف بن مالك بن ذبيان بن ثعلبة بن عمرو بن يشكر بن عليّ بن مالك بن سعد بن نذير بن قسر.
ومن أحمس (2): حازم بن أبي حازم، وصخر بن العلبة. ومن بني زيد بن الغوث ابن أنمار رجل.
ثم قام خالد بن أرطاة، فقال لجرير: ما تجعل (3)؟ قال: الخطر في يدك. قال:
ألف ناقة حمراء في ألف ناقة حمراء.
فقال جرير: ألف قينة عذراء في ألف قينة عذراء، وإن شئت فألف أوقيّة صفراء لألف أوقيّة صفراء.
__________
وفي حاشية النسخة الشنقيطية: = هكذا بخط المؤلف: آخر، والصواب أحمس =.
(1) أي في العام المقبل.
(2) في طبعة بولاق: = أحمر =. وهو تصحيف سبق لنا أن صوبناه آنفا.
(3) في فرحة الأديب ص 108: = ما نجعل؟ =.
(8/24)
قال: من لي بالوفاء؟ قال: كفيلك اللات والعزّى، وإساف ونائلة، [وشمس] ويعوق، وذو الخلصة، ونسر، فمن عليك بالوفاء؟ قال: ودّ ومناة، وفلس (1)
ورضا (2).
قال جرير: لك بالوفاء سبعون غلاما معمّا مخولا (3)، يوضعون على أيدي الأكفاء من أهل الله (4). فوضعوا الرّهن من بجيلة ومن كلب على أيدي من سمّينا من قريش، وحكّموا الأقرع بن حابس، وكان عالم العرب في زمانه.
فقال الأقرع: ما عندك يا خالد؟ فقال: ننزل البراح، ونطعن بالرّماح، ونحن فتيان الصّباح (5)!
فقال الأقرع: ما عندك يا جرير؟ قال: نحن أهل الذهب الأصفر، والأحمر المعتصر (6)، نخيف ولا نخاف، ونطعم ولا نستطعم. ونحن حيّ لقاح (7)، نطعم ما هبّت الرّياح، نطعم الشّهر، ونضمن الدّهر، ونحن ملوك القسر (8)!
فقال الأقرع: واللات والعزّى لو فاخرت قيصر ملك الروم، وكسرى عظيم فارس، والنّعمان ملك العرب، لنفّرتك عليهم! وأقبل نعيم بن حجبة النّمري، وقد كانت قسر ولدته (9)، بفرس إلى جرير، فركبه جرير من قبل وحشيّه، فقيل: لم
__________
(1) في طبعة بولاق وهارون والنسخة الشنقيطية: = القلس =. بالقاف وهو تصحيف صوابه من كتاب الأصنام ص 15، 59وفرحة الأديب ص 109.
(2) ويمدّ (رضاء) وكان بيتا لبني ربيعة بن كعب بن سعد بن زيد بن مناة، فهدمه المستوغر في الإسلام، وقال في ذلك:
لقد شددت على رضاء شدة ... فتركتها تلا تنازع أسحما
انظر كتاب الأصنام ص 30.
(3) أي كريم الأعمام والأخوال. انظر القاموس المحيط (الخال).
(4) أهل الله: كان يطلق على قريش. فقد كانوا يسمون بذلك في الجاهلية.
(5) في النسخة الشنقيطية: = الصياح =. ولقد أثبتنا رواية طبعة بولاق.
(6) في النسخة الشنقيطية وفرحة الأديب: = المعصفر =.
(7) من معانيها: ما تلقح به النخلة، والحي الذين لا يدينون للملوك، أو لم يصبهم في الجاهلية سباء.
(8) في طبعة بولاق وفرحة الأديب: = الملوك لقسر =. وفي النسخة الشنقيطية: = الملوك قسر =. وهو تصحيف سبق لنا أن صوبناه.
(9) في فرحة الأديب ص 109: = قد وفدته =.
(8/25)
يحسن أن يركب الفرس! فقال جرير: الخيل ميامن (1)، وإنّا لا نركبها (2) إلّا من وجوهها.
وقد كان نادى عمرو بن خثارم أحد بني جشم بن عامر بن قداد، فقال (3):
(الرجز)
لا يغلب اليوم فتى والاكما ... يا ابني نزار انصرا أخاكما
إنّ أبي وجدته أباكما ... ولم أجد لي نسبا سواكما
غيث ربيع سبط نداكما ... حتّى يحلّ النّاس في مرعاكما
أنتم سرور عين من رآكما ... قد ملئت فما ترى سواكما
قد فاز يوم الفخر من دعاكما ... ولا يعدّ أحد حصاكما
وإن بنوا لم يدركوا بناكما ... مجدا بناه لكما أباكما
ذاك ومن ينصره مثلاكما ... يوما إذا ما سعّرت ناراكما
وقال أيضا (4): (الرجز)
يا لنزار قد نمى في الأخشب ... دعوة داع دعوة المثوّب (5)
يا لنزار ثمّ فاسعي واركبي ... يا لنزار ليس عنكم مذهبي
إنّ أباكم هو جدّي وأبي ... لم ينصر المولى إذا لم تغضبي
يا لنزار إنّني لم أكذب ... أحسابكم أخطرتها وحسبي (6)
__________
(1) الخيل ميامن. أي: من أي جنب جئتها فهو يمين. واليمين: ذو اليمن والبركة. ويضرب المثل للشيء تحمده من أي جهة جئته.
والمثل في جمهرة الأمثال 1/ 419ومجمع الأمثال 1/ 247.
(2) في طبعة بولاق: = لا نركب = ولقد أثبتنا رواية النسخة الشنقيطية وفرحة الأديب.
(3) الأرجوزة وخبرها في فرحة الأديب ص 110.
(4) فرحة الأديب ص 111110.
(5) الأخشبان: هما الجبلان المطيفان بمكة، وهما أبو قبيس والأحمر، وهو جبل مشرف وجهه على قعيقعان.
قال ياقوت في معجم البلدان (الأخشبان): = وقد نفرد هذه التثنية، فيقال لكل واحد منهما: الأخشب =.
(6) أخطرني فلان: أي صار مثلي في الخطر والشرف.
وفي فرحة الأديب: = أحظرتها =. أي منعتها، والمحظور: المحرم.
(8/26)
ومن تكونوا عزّه لا يغلب ... ينمي إلى عزّ هجان مصعب
كأنّه في البرج عند الكوكب (1)
وقال أيضا: (الرجز)
يا أقرع بن حابس يا أقرع ... إنّي أخوك فانظرن ما تصنع
إنّك إن يصرع أخوك تصرع ... إنّي أنا الدّاعي نزارا فاسمعوا
لي باذخ من عزّه ومفزع ... به يضرّ قادر وينفع (2)
وأدفع الضّيم غدا وأمنع ... عزّ ألدّ شامخ لا يقمع
يتبعه النّاس ولا يستتبع ... هل هو إلّا ذنب وأكرع (3)
وزمع مؤتشب مجمّع ... وحسب وغل وأنف أجدع (4)
وقال أيضا (5):
يا أقرع بن حابس يا أقرع ... إنّك إن تصرع أخاك تصرع (6)
إنّي أنا الدّاعي نزارا فاسمع ... في باذخ من عزّه ومفزع (7)
__________
(1) بعده في حاشية النسخة الشنقيطية مع علامة إلحاق: = هذان الشطران مما أورده أبو محمد الأعرابي، ولم يوردهما المؤلف =. والنص الملحق هو: = وقال أيضا:
يا لنزار دعوة صباحا ... قد فاضح الأمر بنا فضاحا =.
وهذان الشطران وردا في فرحة الأديب ص 111.
(2) كذا في طبعة بولاق وفرحة الأديب بالزاي المعجمة.
وفي طبعة هارون 8/ 28والنسخة الشنقيطية: = مفرع = بالراء المهملة.
وفي حاشية طبعة هارون: = المفرع بالراء، من فرع فلان فلانا: علاه =. ولقد أثبتنا رواية طبعة بولاق وفرحة الأديب.
(3) أراد مجد خصمه.
(4) الزمع: مسايل صغيرة ضيقة، مفرده زمعة، ومؤتشب: مختلط غير صريح النسب. والوغل: الساقط المقصر.
(5) الأرجوزة في فرحة الأديب ص 112.
(6) رسمت كلمة: = تصرع =. في النسخة الشنقيطية لتقرأ بالياء والتاء معا في الموضعين.
(7) في طبعتي بولاق وهارون والنسخة الشنقيطية: = فاسمعوا = وهذا يعني أن هذا الشطر دخله الإقواء وهو اختلاف حركة الروي ولقد أثبتنا رواية فرحة الأديب والبغدادي ينقل عنها وهي الصواب.
(8/27)
قم قائما ثمّت قل في المجمع ... للمرء أرطاة أيا ابن الأفدع (1)
ها إنّ ذا يوم علا ومجمع ... ومنظر لمن رأى ومسمع
فنفّره الأقرع بمضر وربيعة، ولولاهم (2) نفّر الكلبيّ.
وكانت القرابة بين بجيلة وولد نزار (3): أنّ إراش بن عمرو بن الغوث بن نبت بن مالك بن زيد بن كهلان بن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان (4)، خرج حاجّا، فتزوّج سلامة بنت أنمار بن نزار، وأقام معها في الدار بغور تهامة (5)، فأولدها أنمار ابن إراش ورجالا.
فلما توفّي إراش وقع بين أنمار بن إراش وإخوته اختلاف في القسمة، فتنحّى عن إخوته، وأقام إخوته (6) في الدار مع أخوالهم. وتزوج أنمار بن إراش بهند بنت مالك ابن غافق بن الشاهد، فولدت أقيل وهو خثعم (7)، ثم توفّيت.
فتزوّج بجيلة بنت صعب بن سعد العشيرة، فولدت له عبقر (8)، فسمّته باسم جدّها وهو سعد، ولقّب بعبقر، لأنه ولد على جبل يقال له: عبقر (9). وولدت أيضا الغوث، ووادعة، وصهيبة، وخزيمة (10)، وأشهل، وشهلاء، وسنيّة، وطريفا، وفهما، وجدعة (11)، والحارث. انتهى ما أورده أبو محمد الأعرابيّ.
__________
(1) في النسخة الشنقيطية: = الأقرع =. وهو تصحيف ولقد أثبتنا رواية طبعة بولاق.
(2) في طبعة بولاق: = ولولاه =. وهو تصحيف صوبناه من النسخة الشنقيطية وفرحة الأديب.
(3) البغدادي ما زال ينقل من فرحة الأديب ص 113112.
(4) انظر جمهرة الأنساب ص 329، 387.
(5) غور تهامة: ما بين ذات عرق إلى البحر.
(6) في طبعة بولاق: = عن أخويه وأقام أخويه =. وهو تصحيف صوبناه من النسخة الشنقيطية وفرحة الأديب.
(7) كذا في طبعتي بولاق وهارون والنسخة الشنقيطية. وفي فرحة الأديب: = أقيل =. وفي حاشية فرحة الأديب:
= والتصحيح من جمهرة الأنساب ص 387=.
(8) كذا في طبعة بولاق وفرحة الأديب. وفي طبعة هارون والنسخة الشنقيطية: = عبقرا =.
(9) الخبر في معجم البلدان (عبقر).
(10) في طبعة بولاق وهارون والنسخة الشنقيطية: = وحزيمة =. وهو تصحيف صوابه من جمهرة أنساب العرب ص 387وفرحة الأديب ص 113.
(11) في طبعة بولاق وهارون والنسخة الشنقيطية: = خدعة =. وهو تصحيف صوابه من جمهرة أنساب العرب ص 387وفرحة الأديب ص 113. والمقتضب ص 109.
(8/28)
وظهر أنّهما أرجوزتان على قافية العين، أولاهما مرفوعة والثانية مجرورة.
والشاهد إنّما يتأتّى على الأولى.
وقد روى أيضا:
* إنّك إن تصرع أخاك تصرعوا *
بالجمع، يريد الأقرع وقومه. وعلى هذا لا شاهد فيه كالرجز الثاني.
* * * وأنشد بعده (1): (المنسرح)
الحافظو عورة العشيرة لا ... يأتيهم من ورائنا وكف
على أنّه تحذف نون الجمع للضّرورة كما هنا، والأصل: الحافظون عورة العشيرة.
وهذا على رواية نصب عورة. أمّا على رواية خفضها فالنّون حذفت للإضافة.
وقد تقدّم الكلام عليه مفصلا في الشاهد الثامن والتسعين بعد المائتين (2).
والوكف، بفتح الواو والكاف، وروى بدله: «نطف» بفتح النون والطاء المهملة، وكلاهما بمعنى العيب.
* * * __________
(1) البيت لعمرو بن امرئ القيس في الدرر 1/ 146وشرح شواهد الإيضاح ص 127ولقيس بن الخطيم في ديوانه ص 115وملحق ديوانه ص 238ولعمرو بن امرئ القيس أو لقيس بن الخطيم في لسان العرب (وكف) ولشريح بن عمران أو لمالك بن العجلان في شرح أبيات سيبويه 1/ 205ولرجل من الأنصار في الكتاب 1/ 186وهو بلا نسبة في أدب الكاتب ص 324وإصلاح المنطق ص 63وجواهر الأدب ص 155ورصف المباني ص 341وسر صناعة الإعراب 2/ 538والكتاب 1/ 202والمحتسب 2/ 80 والمقتضب 4/ 145والمنصف 1/ 67وهمع الهوامع 1/ 49.
(2) الخزانة الجزء الرابع ص 253.
(8/29)
وأنشد بعده (1): (الرجز)
* وحاتم الطّائيّ وهّاب المئي *
على أنّه حذف تنوين «حاتم» لالتقاء الساكنين. والمئي أصله المئين حذفت النون لضرورة الشعر، كحذف التنوين.
وقد تقدّم الكلام عليه مستوفى في الشاهد الرابع والأربعين بعد الخمسمائة (2).
* * * وأنشد بعده، وهو الشاهد الثاني والثمانون بعد الخمسمائة (3): (الكامل)
582 - زعمت تماضر أنّني إمّا أمت
يسدد أبينوها الأصاغر خلّتي
على أنّ جمع «أبينوها» شاذّ، كما بينه الشارح المحقق.
وملخّصه: أنّه إمّا جمع أبين مصغّر أبنى كأعمى (4).
__________
(1) الرجز لامرأة من بني عقيل في شرح شواهد الشافية ص 163ولسان العرب (حتم، مأي) ونوادر أبي زيد ص 91ولقصي بن كلاب في لسان العرب (أمه) والمقاصد النحوية 4/ 565وهو بلا نسبة في الإنصاف 2/ 663وتاج العروس (سنا) والخصائص 1/ 311وسر صناعة الإعراب 2/ 534وشرح شافية ابن الحاجب 2/ 234ولسان العرب (حيد) والمخصص 9/ 3، 17/ 107والمنصف 2/ 68.
(2) الخزانة الجزء السابع ص 350.
(3) البيت لسلمي بن ربيعة في أمالي القالي 1/ 81والحماسة برواية الجواليقي ص 156والحماسة البصرية 1/ 56والدرر 5/ 92وشرح الحماسة للأعلم 1/ 163وشرح الحماسة للتبريزي 2/ 56وشرح الحماسة للمرزوقي ص 547ولسان العرب (خلل) ونوادر أبي زيد ص 121وهو لعلباء بن الأرقم في الأصمعيات ص 161وهو بلا نسبة في شرح المفصل 9/ 5، 41وهمع الهوامع 2/ 63.
وروايته في بعض هذه المصادر:
... يسدد بنيوها الأصاغر خلتي
(4) في أمالي ابن الشجري 1/ 43، 2/ 69: = فهو اسم سموا به الجمع ولم ينطقوا به، ولكن لما سمع تصغيره دل على أن المكبر أفضل =.
(8/30)
وإمّا جمع أبين مصغّر أبن بفتح الهمزة (1)، وهو جمع ابن بكسرها.
وإمّا جمع أبين مصغر ابن، بجعل همزة الوصل قطعا.
وإمّا مصغّر بنيين على غير قياس. فهذه أقوال أربعة.
قال أبو علي في «باب من الجمع بالواو (2) والنون، من كتاب الشعر»: قال الشاعر (3): (السريع)
إن يك لا ساء فقد ساءني ... ترك أبينيك إلى غير راع
لا يخلو قولهم «أبينون» في تحقير أبناء من أن يكون مقصورا من أفعال، أو يكون تحقير أفعل، أو يكون اسما صيغ في التحقير.
ولا يجوز أن يكون مقصورا من أفعال، لأنّ أفعالا لم يقصر في موضع غير هذا، فلا يستقيم أن يدّعى فيه شيء، ولا نظير له، وقد خولف فيه. ولم يجئ في شيء كما جاء أسد وأسد ونحوه.
ولا يستقيم أن يكون تحقير أفعل، وإن كان أفعل مثل أفعال في أنّ كلّ واحد منهما للعدد القليل.
فإن قلت: أوليس قد قالوا: صبيّ وصبية، وغلام وغلمة، وقالوا في التصغير:
أصيببة وأغيلمة، وأفعلة من فعلة كأفعل من أفعال في أنّ كلّ واحد جمع أدنى العدد، جاء التكبير على أحدهما ووقع التحقير على الآخر. وكذلك أبينون، وإلى هذا يذهب بعض البغداديين.
فالجواب: لا يستقيم أن يكون هذا على أفعل وإن كان ما ذكرت من أدنى العدد يقوم مقام الآخر لدخول الواو والنون وهما في أنّه للعدد القليل، مثل البناء المبنيّ له، فلا يستقيم، إذ لم ينقل لحاق الواو والنون له، كما لا يجتمع الحرفان لمعنى واحد في الكلمة.
__________
(1) في شرح الرضي 2/ 170: = كأدل جمع دلو =.
(2) في طبعة بولاق: = من الجمع بالواو =. وهو تصحيف صوابه من النسخة الشنقيطية.
(3) البيت للسفاح بن بكير اليربوعي في تاج العروس (بني) وشرح اختيارات المفضل ص 1365ولسان العرب (بني) والمفضليات ص 324ولرجل من بني يربوع في تهذيب اللغة 15/ 492وهو بلا نسبة في جمهرة اللغة ص 1099وشرح الحماسة للتبريزي 2/ 56.
(8/31)
ألا ترى أنّك إذا جمعت اسما فيه علامة التأنيث بالألف والتاء أزلتها بالحذف أو القلب.
فكما أزلت العلامة فلم تجمع بينهما، كذلك لا يستقيم أن تجمع بين الواو والنون وبين بناء أدنى العدد، لاجتماع شيئين لمعنى واحد في الكلمة.
فإذا لم يستقم ذلك علمت أنّه صيغ في التحقير، كما قال، كأنّك حقّرت أبنى (1) مثل أعمى.
فإن قلت فمن أبيات الكتاب (2): (الرجز)
قد شربت إلّا دهيدهينا ... قليّصات وأبيكرينا
فالقول في ذلك أنه ضرورة.
وكأنّ الذي استهواه أنّ أفعل جمع من أبنية الجموع القليلة، وقد جاء ضربان منه بالتاء فهو أفعلة وفعلة، فلمّا وافقتها أفعل في القلّة وكان تأنيث الجمع قائما فيه قدّر أنّ التاء فيه تلزم، فقدّر فيها التأنيث كما جاء في البناءين الآخرين (3).
فلمّا لم تثبت عوّض منها كما عوّض من العلامة التي ينبغي أن تثبت فيها، فقال أبيكرين كما قيل أرضون. فإذا كان كذلك لم تجتمع علامتان لمعنى.
ألا ترى أنّ الياء كأنّها عوض من علامة التأنيث، كما أنّها في أرضين كذلك.
وأمّا أبينون فإذا لم تكن فيه ضرورة وكان التصغير قد يصاغ فيه الأسماء التي لا تكون في التكبير نحو: عشيشة وأنيسان (4) كذلك تحمل أبنى (5) على هذا النحو دون أفعل، فيلزم فيه اجتماع شيئين بمعنى.
__________
(1) في طبعة بولاق والنسخة الشنقيطية: = ابنا =. وانظر لذلك الكتاب لسيبويه طبعة هارون 2/ 456.
(2) الرجز بلا نسبة في تاج العروس (بكر) وتهذيب اللغة 3/ 188، 5/ 357وجمهرة اللغة ص 1334 ورصف المباني ص 430وسر صناعة الإعراب 2/ 618وشرح شافية ابن الحاجب 1/ 270وشرح شواهد الشافية ص 100والكتاب 3/ 494ولسان العرب (بكر، يمن، دهده، علا) ومجمل اللغة 2/ 256 والمخصص 7/ 61ومقاييس اللغة 4/ 115.
(3) في النسخة الشنقيطية: = أن التاء فيه تلزم الآخرين =.
(4) في حاشية طبعة هارون 8/ 32: = إذ أن المكبر إنما هو عشية وإنسان، والمصغر منهما عشيشية وأنيسيان =.
(5) في طبعة بولاق والنسخة الشنقيطية: = ابنا =. وقد سبق لنا توضيح ذلك آنفا.
(8/32)
وأمّا الدّهيدهينا فيشبه أن يكون لمّا حذف حرف اللين الذي كان يجب إثباته، شبّه ذلك بعلامة التأنيث من حيث الحذف، فجعل الواو والنون عوضا من ذلك كما جعلها عوضا من علامة التأنيث. انتهى كلام أبي عليّ.
وقال ابن جنّي في «إعراب الحماسة» ذهب سيبويه إلى أنّ الواحد المكبّر من هذا الجمع أبنى على وزن أفعل مفتوح العين، بوزن أعمى، ثم حقّر أيضا (1) فصار أبين كأعيم، ثم جمع بالواو والنون فصار أبينون، ثم حذفت (2) النون للإضافة فصارت أبينوها.
وذهب الفراء إلى أنّه كسّر ابنا (3) على أفعل مضموم العين، ككلب وأكلب.
ويذهب البغداديون في هذه المحذوفات إلى أنّها كلّها سواكن العين. فأبين عندهم كأديل، كما أنّ أبن ذلك المقدّر عندهم كأدل. وكأنّ سيبويه إنّما عدل إلى أن جعل الواحد من ذلك أفعل اسما واحدا مفردا غير مكسّر لأمرين:
أحدهما: أنّ مذهبه في ابن أنّه فعل، بدلالة تكسيرهم إيّاها على أفعال، وليس من باب فعل أو فعل.
والآخر: أنّه لو كان أفعل لكان لمثال القلّة، ولو كان له لقبح جمعه بالواو والنون. وذلك أن هذا الجمع موضوع للقلّة فلا يجمع بينه وبين مثال القلّة، لئلّا يكون ذلك كاجتماع شيئين لمعنى واحد، وذلك مرفوض في كلامهم.
ورأى مع هذا أنّه قد جاء في أسماء الجموع المفردة غير المكسّرة ما هو على أفعل مفتوح العين، وهو ما أنشده أبو زيد من قوله (4): (الطويل)
ثمّ رآني لا أكونن ذبيحة ... وقد كثرت بين الأعمّ المضائض
__________
(1) كلمة: = أيضا =. ساقطة من النسخة الشنقيطية. وهي ليست في التنبيه لابن جني.
(2) في التنبيه: = ثم حذف =.
(3) في طبعة بولاق والنسخة الشنقيطية: = ابني =. وهو تصحيف صوابه من كتاب التنبيه لابن جني.
(4) البيت لقيس بن جروة في شرح شواهد الإيضاح ص 575ونوادر أبي زيد ص 62وهو بلا نسبة في تاج العروس (مضض، عمم) ولسان العرب (عمم، مضض، روى).
في طبعة بولاق والنسخة الشنقيطية: = وانى =. وهو تصحيف صوابه من المصادر السابقة. وقبله في نوادر أبي زيد:
فإن أباها مقسم بيمينه ... لئن نبضت كفي وإني لنابض
(8/33)
كذا رواه الأعمّ بفتح العين، ومثله أثأبة وأثأب، وأضحاة وأضحى. وهذه أسماء مفردة غير مكسّرة. وكذلك أروى، وله نظائر. واعتصم الفراء فيما ذهب إليه بقول الشاعر:
قد رويت إلّا دهيدهينا ... قليّصات وأبيكرينا
فهذا تحقير أبكر، وهو مثال القلّة كما ترى، وقد جمع بالواو والنون.
وكان يروى: «الأعمّ» بضم العين، فهذا عنده كصكّ وأصكّ، وضبّ وأضبّ. وكيف تصرّفت الحال فرواية أبي زيد في النفوس بحيث لا ريب (1).
وأمّا قوله (2):
من يك لا ساء فقد ساءني ... ترك أبينيك إلى غير راع
فيحتمل أمرين:
أحدهما: أن يكون الياء فيه علم الجمع، كالواو في قوله: أبينوها.
والآخر: أنّه واحد الأبنين (3) على ما تقدّم من الخلاف فيكون على قول صاحب الكتاب تحقير ابنى كأعمى، وعلى قياس قول الفراء تحقير أبن كأدل، فيكون اللام ياء (4). انتهى.
واقتصر ابن الشجري في «أماليه» على مذهب سيبويه، قال: وأشكل ما في هذا الاسم وهو أبن قولهم في جمع مصغّره: أبينون في هذا البيت.
لا يجوز أن يكون أبينون جمعا لمصغّر ابن، لأنّه لو كان كذلك لقيل: بنيّون.
ولا يجوز أن يكون جمعا لمصغّر أبناء، لأنه لو كان كذلك لقيل: أبيناؤون.
ولو أرادوا هذا لاستغنوا بقولهم: أبيناء عن جمعه بالواو والنون. وإذا بطل الأول
__________
(1) النقل من كتاب التنبيه لابن جني. لكن فيه كلام طويل ليس موجودا.
(2) في طبعة بولاق: = راعي =. والقافية ساكنة الروي. لذلك صوبناه من النسخة الشنقيطية والمفضليات.
والبيت من قصيدة مطلعها: (المفضليات ص 323).
صلّى على يحيى وأشياعه ... ربّ رحيم وشفيع مطاع
(3) كذا في التنبيه. وفي طبعة بولاق: = الأبينيين =. وفي النسخة الشنقيطية: = الأبينين =.
(4) في التنبيه: = فتكون الياء لاما =.
(8/34)
والثاني فإنّ قولهم: أبينون جمع لتصغير اسم للجمع، وليس بجمع، ولكنّه كنفر ورهط، وهو مما قدّروه ولم ينطقوا به.
ومثاله أبنى مقصور بوزن أعشى، ثم حقّر فصار إلى أبين مثل أعيش، ثم جمع، فقيل: أبينون، وأصله أبينيون، ففعل به ما فعل في القاضون. انتهى.
وبقي مذهب خامس نقله الخطيب التّبريزي في «شرح هذا البيت من الحماسة» (1) عن أبي العلاء المعريّ، قال: زعم أبو العلاء أنّ «أبينوها» تصغير أبناء.
ولمّا ذكر سيبويه هذا الجمع عبّر بعبارة توهم أنّه جمع أبنى على أفعل ثم صغّر (2)، كما يقال: أعشى وأعيش والجمع أعيشون.
وإنّما أراد أن الألف التي في أبناء وبعدها الهمزة تحذف، فيصير تصغيره كتصغير أفعل.
كأنّ أبا العلاء يريد أنّ مكبّر هذا الجمع أبنى (3) على وزن أفعل مفتوح العين بوزن أعمى، ثم حقّر فصار أبين كأعيم، ثم جمع بالواو والنون فصار أبينون، ثم حذفت النون للإضافة.
وكان الأصل أبناء على أفعال، فالهمزة لام الكلمة، وهي منقلبة من واو، فلمّا حذفت الألف من أفعال رجعت اللام إلى ما كانت فصارت ألفا في آخر الكلمة، فصار أبنى كأعمى، ثم صغّر على ما تقدّم.
[و] قال: ويحسن أن يقال: جمع ابنا (4) على أفعل، لأنّ أصله فعل كما يقال:
زمن وأزمن، ثم صغّره وجمعه.
وقال قوم: إنّما أراد بنيّون، وابن من ذوات الواو، فنقلها إلى أوّل الاسم، ثم همزها للضمة، كما قالوا: وجوه وأجوه.
__________
(1) شرح الحماسة للخطيب التبريزي 2/ 56.
(2) في شرح الحماسة للتبريزي: = جمع أبناء على أفعل ثم صغر =.
(3) في شرح الحماسة: = أبنا =.
(4) زيادة يقتضيها السياق من شرح الحماسة للتبريزي.
وفيه: = أبناء =
(8/35)
فقوله: أبينوها على هذا تصغير أبنى مقصورا عند البصريين، وهو اسم صيغ للجمع كأروى وأضحى، فهو على أفعل بفتح العين. انتهى.
والبيت من قصيدة عدّتها أحد عشر بيتا لسلميّ بن ربيعة (1) من بني السيّد بن ضبّة، أوردها أبو تمام في «الحماسة» وهي (2): (الكامل)
حلّت تماضر غربة فاحتلّت ... فلجا وأهلك باللّوى فالحلّة
وكأنّ في العينين حبّ قرنفل ... أو سنبلا كحلت به فانهلّت (3)
زعمت تماضر أنّني إمّا أمت ... يسدد أبينوها الأصاغر خلّتي
تربت يداك وهل رأيت لقومه ... مثلي على يسري وحين تعلّتي (4)
رجلا إذا ما النّائبات غشينه ... أكفى لمعضلة وإن هي جلّت
ومناخ نازلة كفيت وفارس ... نهلت قناتي من مطاه وعلّت
وإذا العذارى بالدّخان تقنّعت ... واستعجلت نصب القدور فملّت (5)
دارت بأرزاق العفاة مغالق ... بيديّ من قمع العشار الجلّة
ولقد رأبت ثأى العشيرة بينها ... وكفيت جانيها اللّتيّا والتي (6)
__________
(1) انظر في تحقيق اسمه ونسبه ما كتبه محقق شرح الحماسة للمرزوقي في حواشي الحماسة ص 546.
(2) الأبيات لسلمي بن ربيعة في أمالي القالي 1/ 8281والحماسة برواية الجو اليقي ص 156155وشرح الحماسة للأعلم 1/ 165163وشرح الحماسة للتبريزي 2/ 5655ونوادر أبي زيد ص 121.
(3) البيت لسلمي بن ربيعة في أمالي القالي 1/ 81والحماسة برواية الجواليقي ص 155وسمط الآلئ ص 173، 267وشرح الحماسة للأعلم 1/ 163وشرح الحماسة للتبريزي 2/ 55وشرح الحماسة للمرزوقي ص 547ونوادر أبي زيد ص 121وهو لعلباء بن أرقم في الأصمعيات ص 161وهو بلا نسبة في تذكرة النحاة ص 358والصاحبي في فقه اللغة ص 253ولسان العرب (هلل).
(4) في النسخة الشنقيطية: = تعلت =. وهو تصحيف صوابه من المصادر السابقة.
(5) البيت لسلمي بن ربيعة في أمالي القالي 1/ 81والحماسة برواية الجواليقي ص 156والدرر 1/ 184 وشرح الحماسة للأعلم 1/ 165وشرح الحماسة للتبريزي 2/ 57وشرح الحماسة للمرزوقي ص 55وشرح المفصل 5/ 105ونوادر أبي زيد ص 121ولعلباء بن أرقم في الأصمعيات ص 162، وهو بلا نسبة في شرح اختيارات المفضل ص 816وهمع الهوامع 1/ 60.
(6) البيت لسلمي بن ربيعة في أمالي القالي 1/ 82والحماسة برواية الجواليقي ص 156وشرح أبيات المغني للبغدادي 7/ 311وشرح الحماسة للأعلم 1/ 165وشرح الحماسة للتبريزي 1/ 57ونوادر أبي زيد ص 121وهو لعلباء بن أرقم في الأصمعيات ص 162.
(8/36)
وصفحت عن ذي جهلها ورفدتها ... نضحي ولم تصب العشيرة زلّتي (1)
وكفيت مولاي الأحمّ جريرتي ... وحبست سائمتي على ذي الخلّة
وقد روى هذه القصيدة القاليّ في «أماليه»، وأبو الحسن الأخفش في «شرح نوادر أبي زيد» (2) كما نقلناها.
قوله: «حلّت تماضر غربة» إلخ، قال الإمام المرزوقي: «تماضر»: امرأته، وكانت فارقته عاتبة عليه في استهلاكه المال، وتعريضه النفس للمعاطب، فلحقت بقومها، فأخذ هو يتلهّف عليها ويتحسّر في أثرها، وأثر أولاده منها.
فيقول: نزلت هذه المرأة بعيدة منك فاحتلّت فلجا وأهلك نازلون بين الموضعين.
وهذا الكلام توجّع.
و «فلج»: على طريق البصرة. و «الحلّة»: موضع من الحزن ببلاد ضبّة.
و «اللّوى»: رمل متّصل به رقيق (3). وبين المواضع التي ذكرها تباعد.
فإن قيل: لم قال حلّت، ثم قال: احتلّت (4)؟ قلت: نبّه بالأوّل أنّها اختارت البعد منه والتغرّب عنه، وبالثاني الاستقرار، فكأنّه قال: نزلت في الغربة (5)
فاستوطنت فلجا. وفلج بفتح اللام: بلد، وفلج بسكون اللام: ماء. انتهى.
وقال الأسود أبو محمد الأعرابيّ في «شرح الحماسة»: هذه المرأة فارقته إمّا بطلاق وإمّا مغاضبة، فأسف عليها.
والحلّة بفتح المهملة وكسرها (6): موضع حزن وصخور ببلاد ضبّة. واللّوى هنا:
موضع بعينه.
__________
(1) تضحي كذا في طبعة بولاق. وقد جعلها الشنقيطي في نسخته: = نصحي = تصحيحا. ورواية: = نصحي = هي رواية أمالي القالي وطبعات الحماسة كلها.
(2) أمالي القالي 1/ 81ونوادر أبي زيد ص 121.
(3) كذا في طبعتي بولاق وهارون والنسخة الشنقيطية. وفي شرح الحماسة للأعلم: = واللوى: حيث يتصل الرمل بالجدد فيرقّ ويلتوي راجعا إلى معظم الرمل =.
(4) بعده في شرح الحماسة للمرزوقي: = وهلا اكتفى بأحدهما =.
(5) في شرح الحماسة للمرزوقي: = نزلت في هذه الغربة =.
(6) ضبطها ياقوت في معجم البلدان بفتح الحاء.
(8/37)
والغربة، بفتح الغين المعجمة: الأرض البعيدة. وفلج بالفتح والسكون: واد بطريق البصرة إلى مكّة، ببطنه منازل للحاجّ، وبينه وبين فلج، زعموا مسيرة عشر.
انتهى.
وقال التبريزيّ (1): قوله غربة، أي: دار بعيدة (2). والحلّة: موضع في بلاد بني ضبّة. وقالوا: هي حزن ببلاد ضبّة. انتهى.
وتماضر من أسماء النساء. قال ابن جنّي في «إعراب الحماسة»:
التاء في تماضر عندنا فاء، وإنّما لم يصرف عندنا هذا الاسم لما فيه من التعريف والتأنيث، [لا] (3) لأنّه بوزن تفاعل (4). فتماضر إذا كقراقر وعذافر. وكذا القياس في تاء جمل ترامز (5). انتهى.
والظاهر أنّ تماضر تفاعل، والتاء زائدة لا أصل، إذ هو من مضر. وإليه ذهب أبو العلاء المعريّ في «شرح ديوان البحتري»، قال: تماضر بضم التاء وكسر الضاد، وهو منقول من فعل مضارع، كما سميت المرأة تكتم وتكنى.
وكان في النسخة «أي من ديوان البحتري»، قال: تماضر بفتح التاء وضم الضاد. وهذا غلط، والمعروف في أسماء النساء ما ذكرنا.
وذكر ابن السرّاج عن قوم من النحويّين أنّهم جعلوا تماضر في الأبنية التي أغفلها سيبويه. وهذا وهم، لأنّ تماضر تفاعل من قولك: ماضرت تماضر. فإمّا أن يكون
__________
(1) شرح الحماسة للخطيب التبريزي 2/ 55.
(2) في شرح الحماسة للتبريزي 2/ 55: = دارا بعيدة =.
(3) كلمة: = لا = ساقطة من طبعة بولاق والنسخة الشنقيطية. وهي زيادة يقتضيها السياق من إعراب الحماسة ورقة 93.
(4) في طبعة بولاق: = فعاعل =. وهو تصحيف صوابه من النسخة الشنقيطية وإعراب الحماسة لابن جني.
وابن جني ينفي أن يكون الوزن هو = تفاعل = بالتاء فتمنع الكلمة من الصرف للعلمية ووزن الفعل، ويعني أن منعها الصرف للعلمية والتأنيث.
(5) في اللسان (ترمز): = التّرامز من الإبل: الذي إذا مضغ رأيت دماغه يرتفع ويسفل، وقيل: هو القوي الشديد =.
قال ابن جني: ذهب أبو بكر إلى أن التاء فيها زائدة ولا وجه لذلك لأنها في موضع عين عذافر، فهذا يقضي بكونها أصلا وليس معنى اشتقاق فيقطع بزيادتها =.
(8/38)
مأخوذا من اللبن الماضر، وهو الحامض (1) وقيل: الأبيض، فكأنّه من ماضرت الرجل، إذا سقيته وسقاك اللبن. وإمّا أن يكون من مضر، كأنّه من ماضرته، إذا ناسبته إلى مضر. انتهى.
وقد تبعه تلميذه الخطيب التّبريزي هنا، وقال: تماضر من أسماء النّساء. وقد ذكرها بعض الناس فيما أغفله سيبويه من الأبنية. وليس الأمر كذلك، لأنّ تماضر مسمّاة بالفعل المضارع الذي هو مأخوذ من اللبن الماضر، وهو الحامض أو من قولهم: عيش مضر، أي: ناعم وقيل: المضر: الأبيض. انتهى.
وقوله: «وكأنّ في العينين» إلخ، قال المرزوقي: يقول: ألفت البكاء لتباعدها (2)، فجادت العينان بإسالة دمعهما غزيرا متحلّبا منهما، فكأنّ في عينيّ أحد هذين المهيّجين الحالبين للعيون.
وقوله: «كحلت» إخبار عن إحدى العينين، وساغ ذلك لما في العلم من أنّ حالتيهما لا تفترقان (3)، ومتى اجتمع شيئان في أمر لا يفترقان فيه (4)، اجتزئ بذكر أحدهما عن الآخر. انتهى.
والقرنفل والسّنبل من أخلاط الأدوية التي تحرق العين، وتسيل الدّموع. وانهلّ واستهلّ، إذا سال.
وقوله: «زعمت تماضر أنّني» إلخ، قال المرزوقي في زعمت (5): يتردّد بين الشكّ واليقين. وها هنا يريد به الظّنّ. وأنّني مع معموليها (6) نائب عن مفعوليه.
يقول: ظنّت هذه المرأة أنّه إن نزل بي حادث قضاء الله تعالى، سدّ مكاني ورمّ ما يتشعّث من حالها بزوالي، أبناؤها الأصاغر.
__________
(1) من قوله: «وقيل الأبيض اللبن الماضر، وهو الحامض =. ساقط من النسخة الشنقيطية.
(2) في طبعة بولاق: = وتبعادها =. ولقد أثبتنا رواية النسخة الشنقيطية وشرح الحماسة للمرزوقي.
(3) في طبعة بولاق والنسخة الشنقيطية: = من أن حالتيهما لا يفترقان فيه =. وهو تصحيف صوابه من شرح الحماسة للمرزوقي.
(4) قوله: = ومتى اجتمع شيئان في أمر لا يفترقان فيه = ساقط من النسخة الشنقيطية.
(5) كلمة: = في =. في طبعة بولاق فقط. وهي ساقطة من النسخة الشنقيطية وشرح الحماسة للمرزوقي. وفي شرح الحماسة للمرزوقي: = زعم =.
(6) في شرح الحماسة للمرزوقي: = وأنني مع الجزاء والجواب =.
(8/39)
ويريد بهذا الكلام التوصّل إلى الإبانة عن محلّه، وأنّه لا يغني غناءه من النّاس إلّا القليل. يقال: سدّ فلان مسدّ فلان وسدّ خلّته، وناب منابه، وشغل مكانه، بمعنى واحد (1).
فإن قيل: كيف ساغ أن يقول يسدد خلّتي، وإذا مات لم تكن له خلّة؟ قلت:
أضافها إلى نفسه لمّا كان يسدّها أيام حياته، فكأنه قال: الخلّة التي كنت أسدّها.
وهذا من إضافة الشيء إلى الشيء [على (2)] المعتاد فيهما.
ومثله قولهم: شهاب القذف، فأضيف الشهاب إلى القذف، لمّا كان من رمي الرامي. ووجوه الإضافات واسعة كثيرة، وكذلك متعلّقاتها. انتهى.
وقال الأسود: أرته الاستغناء عنه بأطفالها. وهذا يدلّ على أنّها غاضبة، وهي في حباله. والخلّة بفتح المعجمة: الفرجة، والثّلمة التي يتركها بموته. والخلّة:
الضعف والوهن، والخلّة: الفقر. والخليل: الفقير، والخلّة: الخصلة.
وقوله: «تربت يداك» إلخ، هذا التفات من الغيبة إلى خطابها.
قال المرزوقي في «ترب»: يستعمل في الفقر والخيبة لا غير. وأترب يستعمل في الغنى والفقر جميعا، فإذا أريد به الغنى، فالمعنى صار له من المال بعدد التراب، وإذا اريد به الفقر، فالمعنى: صار في التراب، كما يقال: أسهل، إذا صار في السهل.
وقد يجوز أن يكون مثل أقلّ، والمعنى صار مالك قليلا من المال.
وقوله: «حين تعلّتي (3)»: المعنى: وحين اعتمدت على إقامة العلّة لحصول الفقر (4).
وعلى هذا قوله (5): (الطويل)
__________
(1) كلمة: = واحد = ليست في شرح الحماسة للمرزوقي.
(2) زيادة يقتضيها السياق من شرح الحماسة للمرزوقي.
(3) في طبعة بولاق: = تعلت = وهو تصحيف صوابه من النسخة الشنقيطية وشرح الحماسة للمرزوقي.
(4) في شرح الحماسة للمرزوقي: = بحصول الفقر =.
(5) صدر بيت لتأبط شرا وعجزه:
* فقد نشز الشّرسوف والتصق المعا *
(8/40)
* قليل ادّخار الزّاد إلّا تعلّة *
أي: قدر ما يقام به العلّة. أقبل عليها يوبّخها ويخطّئ رأيها، ويكذّب ظنّها، ويقبّح اختيارها، في إفاتة نفسها الحظّ منه، ويدعو عليها بالفقر (1) والخيبة في الرّجاء (2) فقال: صار في يدك التراب، وهل رأيت لقومه من يماثلني في حالتي السّراء والضرّاء، حتّى تعلّقي مثل رجائك فيّ بغيري، إذا أخليت مكاني. انتهى.
وقال الأسود: أي: خاب رجاؤك حين تعدلين بي أطفالا، وقد رأيت الرّجال أعياهم مكاني. وتربت يداك معناه صار في يدك التراب، أي: لك الخيبة مما أمّلت.
وهي كلمة تقال للمخطئ وجه القصد.
وقوله: «حين تعلّتي»: يريد العسر، تعتلّ حاله وتختلّ.
وقال التّبريزي: التعلّة من علّلت، كأنّه أراد حين أفتقر، فأحتاج إلى العلل، أي: الحجج، أو إلى أن أعلّل نفسي كما يعلّل العليل.
قال ابن جنّي: قوله: «وحين تعلّتي» معطوف على موضع قوله: يسري، أي: على وقت يسري وحين تعلّتي.
ومثلي يحتمل أمرين:
أحدهما: أن يكون مفعول رأيت، فينتصب رجلا في البيت بعده على التمييز، كقولك: لي مثله عبدا، أي: من العبيد، فيكون تقديره: مثلي من الرّجال الذين إذا غشوا كفوا.
والاخر: أن يكون أراد هل رأيت رجلا مثلي؟ فلمّا قدّم مثلي، وهو وصف نكرة نصبه على الحال منها.
واللام في قوله: «لقومه» متعلّقة بنفس رأيت، كقولك: رأيت لبني فلان نعما وعبيدا.
__________
والبيت لتأبط شرا في ديوانه ص 98والحماسة برواية الجواليقي ص 143وشرح الحماسة للأعلم 1/ 404 وشرح الحماسة للتبريزي 2/ 27وشرح الحماسة للمرزوقي ص 494.
(1) في شرح الحماسة للمرزوقي: = بالفقرا والبأساء =.
(2) في طبعة بولاق: = الرخاء =. وهو تصحيف صوابه من النسخة الشنقيطية وشرح الحماسة للمرزوقي.
(8/41)
وإن جعلت مثلي مفعول رأيت كانت الهاء في «قومه» له. وإن جعلته حالا مقدّمة فالهاء لرجل.
وقوله: «رجلا إذا ما النائبات» إلخ، قال المرزوقي: رجلا بدل من مثلي، كأنّه قال: هل رأيت لقومه رجلا أكفى للشّدائد، وإن عظمت عند طروق النوائب وغشيان الحوادث منّي؟ فحذف منّي لأنّ المراد مفهوم.
و «المعضلة»: الداهية الشديدة. يقال: أعضل الأمر، إذا اشتدّ. ويروى:
«لمضلعة» وهي التي تضمّ (1) الأضلاع بالزّفرات، وتنفّس الصّعداء، حتى تكاد تحطمها (2).
وقوله: «ومناخ نازلة» إلخ. قال المرزوقي: أخذ يعدّد ما كانت كفايته مقسومة فيه، ومصروفة إليه. و «مناخ»: مصدر أنخت.
وكفيت يتعدّى إلى مفعولين، وقد حذفهما، كأنه قال: كفيته العشيرة.
يقول: ربّ نازلة أناخت، أنا دفعت شرّها، وكفيت قومي الاهتمام بها، وربّ فارس سقيت رمحي من دم ظهره، العلل بعد النّهل. وخصّ الظّهر ليعلم أنّه أدبر عنه وولّى.
وقوله: «وإذا العذارى بالدّخان» إلخ. قال المرزوقي: أقبل يعدّد الخصال المجموعة فيه من الخير (3) بعد أن نبّه على أنّه لا يقوم مقامه أحد، فكيف من طمعت (4)
في نيابته عنه.
يقول: وإذا أبكار النّساء صبرت على دخان النار حتّى صار كالقناع لوجهها، لتأثير البرد فيها، ولم تصبر لإدراك القدور (5) بعد تهيئتها ونصبها، فشوت في الملّة قدر ما تعلّل به نفسها من اللحم، لتمكّن الحاجة والضّرّ منها، ولإجداب الزمان واشتداد السّنة على أهلها أحسنت.
__________
(1) في طبعة بولاق والنسخة الشنقيطية: = تقيم =. وهو تصحيف صوابه من شرح الحماسة للمرزوقي.
(2) في طبعة بولاق: = تخطمها =. وهو تصحيف صوابه من النسخة الشنقيطية وشرح الحماسة للمرزوقي.
(3) قوله: = من الخير =. ليست في شرح الحماسة للمرزوقي.
(4) في شرح الحماسة للمرزوقي: = طمع =. وتقرأ أيضا بالبناء للمجهول.
(5) في شرح الحماسة للمرزوقي: = ولم تصبر على إدراك القدور =.
(8/42)
وجواب إذا في البيت بعده. وخصّ العذارى بالذكر لفرط حيائهنّ، ولتصوّنهنّ عن كثير مما يتبذّل فيه غيرهنّ (1). وجعل نصب القدور مفعول استعجلت على المجاز والسعة. ويجوز أن يكون المراد به: استعجلت غيرها بنصب القدور، أو في نصب القدور، فحذف الجارّ. انتهى.
وقال الأسود: ويروى: «تلفعت». واللّفاع: الملحفة. و «القناع»: المقنعة.
أي: غشين الدّخان، حتّى صار لهنّ كاللّفاع، أو القناع من شدّة البرد. واستعجلت نصب القدور فملّت، أي: ألقت اللحم في الملّة جوعا وضرا (2)، لم تصبر إلى إدراك القدر.
قال التبريزيّ: وعلى هذا يكون وملّت بالواو، وغير أبي تمام يرويه: (الكامل)
* واستبطأت نصب القدور فملّت *
وقال ابن جنّي: ملّت هنا، من ملّة النار (3) لا من الملالة، أي: بادرت للضرورة الخبز قبل القدر.
وهذا البيت أورده البيضاويّ عند قوله تعالى (4): {«وَلَهُمْ فِيهََا أَزْوََاجٌ مُطَهَّرَةٌ»}، واستشهد به على جواز جمع الصفة وإفرادها في مطهّرة. وقرأ زيد بن علي:
«مطهّرات»، وهما لغتان فصيحتان.
وقوله: «دارت بأرزاق العفاة» إلخ، هو جمع عاف (5)، وهو كل طالب رزق من النّاس وغيرهم.
و «مغالق»: فاعل دارت، وهي قداح الميسر جمع مغلق ومغلاق بكسرهما، مأخوذ من غلق الرّهن، لأنّه من فاز سهمه غلق نصيبه فذهب به غير منازع فيه. قاله الأسود.
__________
(1) في النسخة الشنقيطية: = فيهن غيرهن =. وهو تصحيف صوابه من طبعة بولاق وشرح الحماسة للمرزوقي.
(2) في طبعة بولاق والنسخة الشنقيطية: = وضر ألم =. وهو تصحيف صوابه من طبعة هارون 8/ 43.
الضرى بفتحتين: مصدر ضري بالشيء ضرا وضراوة: لهج به واعتاده ولم يكد يصبر عنه.
(3) في طبعة بولاق: = من ملت =. وهو تصحيف صوابه من النسخة الشنقيطية وإعراب الحماسة الورقة 97.
(4) سورة البقرة: 2/ 25.
(5) في النسخة الشنقيطية: = عافي = بالياء. وهو تصحيف صوبناه.
(8/43)
وقال المرزوقي: وإنّما سمّيت القداح مغالق لأنّ الجزر تغلق عندها وتهلك بها.
و «القمع»، بفتحتين: قطع السّنام، الواحدة قمعة.
و «العشار»: جمع عشراء، وهي الناقة التي قد أتى عليها من حملها عشرة أشهر، وتستصحب هذا الاسم فتسمّى به بعد وضعها الحمل بأشهر.
و «الجلّة»، بكسر الجيم: المسانّ، الواحدة جليلة. ومنه (1): «ما له دقيقة ولا جليلة»، أي: شاة ولا ناقة.
قال المرزوقي: قوله: «أرزاق العفاة» كلام شريف، يقول: وإذا صار الزمان كذا، دارت القداح في الميسر بيديّ، لإقامة أرزاق الطّلّاب من أسنمة النوق المسانّ الكبار الحوامل، التي قرب عهدها بوضع الحمل. وكلّ ذلك يضنّ به ويتنافس فيه.
وقال الأسود: قوله «بيديّ» فيه قولان:
أحدهما: أنّ ذوات الأنصباء من القداح سبعة، وعدد الأيسار سبعة، فإذا نقص منهم واحد، أخذ أحد الستة قدحه، وأخرج من ثمن الجزور نصيبه، ثم جعل إحدى يديه ضاربة بقدح نفسه، والأخرى بقدح صاحبه.
وإنما أراد بذلك التمدّح بأنّه يضرب بقدحين، لا أنّه (2) يفرد لهذا يدا ولهذا أخرى.
وإيّاه أراد متمّم بن نويرة بقوله (3): (الطويل)
بمثنى الأيادي ثمّ لم تلف مالكا ... من القوم ذا قاذورة متزبّعا
__________
(1) المثل في جمهرة الأمثال 2/ 267ولسان العرب (جلل، عفط) ومجمع الأمثال 2/ 284.
(2) في طبعة بولاق: = إلا أن =. وهو تصحيف صوابه من النسخة الشنقيطية.
(3) البيت من مرثية متمم بن نويرة في أخيه مالك وهو في ديوانه ص 108وأساس البلاغة (قذر) وتاج العروس (قذر، زبع) وتهذيب اللغة 2/ 151، 9/ 70وديوان الأديب 1/ 373والمراثي ص 70والمفضليات ص 266ومقاييس اللغة 3/ 47. وهو بلا نسبة في جمهرة اللغة ص 333وكتاب العين 1/ 362والمخصص 11/ 99.
والبيت فيه خلاف كبير في الرواية بين رواية البغدادي، وبقية المصادر. فالصدر ليس هذا عجزه والعكس بالعكس.
(8/44)
والآخر: أنّه أراد: يقرع بين إبله أيّها ينحر؟ فقال: بيديّ ليعلم أنه لم يرد مقارعة إنسان غيره. انتهى.
وقال بعضهم: في البيت مبالغات:
إحداها: قوله دارت، فإنّه يدل على أنه أمر متكرر مرّة بعد أخرى.
ثانيها: جمع الرزق والعافي.
ثالثها: الدّلالة على أنّه غارم لا فائز.
رابعها: قوله يديّ بالتثنية.
خامسها: إيثار السّنام الذي هو أطيب ما في الإبل.
سادسها: العشار، وهي أنفس الإبل عند العرب.
سابعها: قمعها وتعريفها (1).
ثامنها: أنّ العفاة ما لهم موئل غيره. وفيه غير ذلك.
وقوله: «ولقد رأبت ثأى العشيرة» إلخ. قال الأسود: رأبت رأبا: أصلحت.
والثّأى كالعصا: الصّدع.
وقد ثأى الخرز، إذا انخرمت خرزتان فصارتا واحدة (2)، أي: ما كان بينها من نائرة أطفأت، أو جناية غرمت، وكفيت جانبها اللتيا والتي، وهما من أسماء الدواهي، واللّتيّا أصغر من التي، وهي في الأصل تصغيرها، ثم هما من الأسماء الموصولة وحذفت صلتها.
وذلك في عظم الأمر وشدّته، كأنّه قال (3): كفيته التي عظمت شدّتها، وتناهت بليّتها. وكأنه يريد باللّتيا صغار المغارم. أي: غرمها في ماله. وبالتي عظامها، كالدم يعقله عن القاتل ونحوه. انتهى.
__________
(1) في النسخة الشنقيطية: = جمعها وتعريفها =.
(2) في اللسان (ثأى): = حكى كراع عن الكسائي: ثأى الخرز يثأى، وذلك أن يتخرم حتى تصير خرزتان في موضع، وقيل: هما لغتان =.
(3) كلمة: = قال =. ساقطة من النسخة الشنقيطية.
(8/45)
وقال المرزوقي: يقول: وكما ظهر غنائي في تلك الأبواب، فلقد سعيت في إصلاح ذات البين من العشيرة، وكفيت من جنى منها الجناية الصغيرة والكبيرة، بالمال والنفس، والجاه والعزّ.
وقوله: «جانيها» إن فتحت الياء كان واحدا، وإن أدّى معنى الجمع. وإن سكّنت الياء جاز أن يكون جمعا سالما، وأن يكون واحدا حذف فتحتها (1).
وقال ابن جنّي: «بينها» متعلّق بنفس الثّأى، أي: أصلحت الفساد بينها.
والهاء في جانيها ضمير العشيرة، أي: كفيت جاني العشيرة الداهية التي جناها على نفسه.
ولا يجوز أن يكون «ها» ضمير اللتيا، أي: جاني الداهية، وذلك أنّ الجاني هو المفعول الأوّل وهو مقدّم في موضعه.
فلا يجوز أن يتعلّق به ضمير المفعول الثاني لأنه إنّما يتقدّم ضمير الشيء عليه إذا كان رتبته أن يكون بعده، فأمّا أن يتقدم ضمير الشيء عليه متعلقا بما رتبته التقديم على صاحب الضمير فذلك تقديم الضمير على مظهره لفظا ومعنى، وهذا عندنا غير جائز البتّة، وإنّما المتجوّز من ذلك أن يتقدّم الضمير على مظهره لفظا على أن يكون متأخّرا عنه معنى. فأمّا تقدّمه عليه لفظا ومعنى فلا.
ألا ترى: لا تقول ضرب غلامها هندا. ولكن تقول: ضربت غلامها هند.
فكذلك لا يكون «ها» من جانيها ضميرا للتيا.
كما لا تجيز أعطيت مالكه درهما ولا كسوت صاحبها جبة، ولكن تقول:
أعطيت درهمه زيدا، وكسوت ثوبه عمرا.
وقد يجوز مع هذا كلّه أن تكون «ها» من «جانيها» ضميرا للّتيّا على حدّ ما يجيزه من: أعطي الدرهم زيدا، وأدخل القبر عمرا على القلب.
وعلى هذا أجازوا: مررت بالمكسوّته جبة، ولقيت المعطاه درهم. فكأنّ للتيا والتي على هذا هي المكفيّة جانيها، كما أنّ الجبّة هي المسكوّة زيدا فهو على قولك:
كفيت اللتيا جانيها. فاعرفه. انتهى، ولنفاسته سقناه برمّته.
__________
(1) في شرح الحماسة للمرزوقي: = قد حذفت فتحتها =.
(8/46)
وقوله: «وصفحت عن ذي جهلها» إلخ، قال الأسود: أكمل مكرمة صلاح ذات البين بما أردفه من الإغضاء على ما بدر من جاهلها. أي: من جهل منهم عليّ صفحت عنه ولم أجهل عليه.
وقوله: «تضحي» أراد تضحي وتمسي (1)، فاكتفى بذكر أحدهما من الآخر.
ووجه آخر: خصّ الغداة بالذّكر، لأنّ جناة الشرّ يتوخّون به ظلام الليل إرادة أن يخفى ذلك. انتهى.
وقد صحّف هذه الكلمة وحرّفها، وإنّما هي نصحي بالصاد المهملة (2). قال المرزوقي: يصف نفسه بالحلم معهم ومع سفهائهم (3)، يقول: عفوت عن جاهلها فلم أؤاخذه بما بدر منه من هفوة أو زلّة، ثم بذلت نصحي لعشيرتي بمقدار جهدي، ولم أجرّ عليه جريرتي (4).
وقال الأسود: المعنى أنّه ليس من أهل السّفه وجناة الشرّ.
وقوله: «ولم تصب العشيرة زلّتي»، أي: إن زلّ، ولا عصمة، كفى نفسه، ولم يشتدّ عليه الأمر، فيفتقر إلى من يكفيه، أو يعينه.
وقوله: «وكفيت مولاي الأحمّ» إلخ، قال الأسود: الأحمّ بالمهملة هو الأخصّ الأدنى، من الحميم. وهو تفسير لقوله: «ولم تصب العشيرة زلّتي» وتأكيد للإكمال.
يقول: إن جررت جريرة أغنيت فيها نفسي عن ابن عمّي الأدنى، فضلا عن الأبعد، وحبست سائمتي، يريد السّوام، وهو المال الراعي.
وقد سامت الماشية: دخل بعضها في بعض في الرّعي. وهذا إغراق بعد التأكيد، أي: حبستها عن المرعى على ذي الخلّة بالفتح، أي: الفقر، ليختار منها على عينه، كما قال: (الطويل)
__________
(1) في النسخة الشنقيطية: = نضحي، أراد نضحي ونمسي =.
(2) يشير إلى رواية القالي والحماسة بكافة شروحها.
(3) في طبعة بولاق: = سفاهتهم =. وهو تصحيف صوابه من النسخة الشنقيطية.
وفي شرح الحماسة للمرزوقي: = يصف نفسه بالحلم معهم، وكظم الغيظ فيهم، ومنع سفهائهم =.
(4) في شرح الحماسة للمرزوقي: = ولم أجر عليهم جريرتي =.
(8/47)
* يخيّر منها في البوازل والسّدس (1) *
انتهى.
قال ابن جنّي: اعلم أنّ هذا الشاعر لزم اللام قبل هذه التاء في هذه الأبيات، وليست بواجبة من حيث كان الرّويّ إنّما هو التاء.
ووجه ذلك فيما ذهب إليه قطرب: أنّ هذه التاء في الفعل، نظيرة الهاء في الاسم. فكما يلزم ما قبلها في نحو: قائمة وسائمة (2) فكذلك التزم (3) ما قبلها في نحو:
ضنّت وحنّت. نعم، وقد يلتزم الشاعر المدلّ ما لا يجب عليه، ثقة بنفسه، وشجاعة في لفظه. وقد ذكرت من هذا الطرز في «كتاب المعرب (4)» ما يتجاوز قدر الكفاية.
وسلميّ بن ربيعة روي بوجهين: أحدهما: بضم السين وتشديد الياء التحتية، قال ابن جني في «المبهج» (5): هو اسم مرتجل.
وثانيهما: سلمى بفتح السين والقصر، قال أبو الحسن الأخفش: وقع في نسختي من نوادر أبي زيد بهذا الضبط، وحفظي (6) بالوجه الأوّل.
والسّيد بكسر السين، قال ابن جني: السّيد: الذئب، والأنثى سيدانة بزيادة الألف والنون.
وضبة أيضا: اسم منقول من ضبّة الحديد، ومن أنثى الضبّ ونحوه.
__________
(1) عجز بيت لمنصور بن مسجاح وصدره:
* فطاف كما طاف المصدّق وسطها *
والبيت لمنصور بن مسجاح في تاج العروس (سدس) والتنبيه والإيضاح 2/ 279والحماسة برواية الجواليقي ص 550وشرح الحماسة للأعلم 2/ 1012وشرح الحماسة للتبريزي 4/ 102وشرح الحماسة للمرزوقي ص 1675. وهو بلا نسبة في لسان العرب (سدس).
(2) في إعراب الحماسة: = قائمة وسائمة =.
(3) في طبعة بولاق والنسخة الشنقيطية: = ألزم =. ولقد أثبتنا رواية إعراب الحماسة.
(4) في إعراب الحماسة: = المعرب في تفسير قوافي أبي الحسن =.
(5) المبهج في تفسير أسماء شعراء الحماسة ص 134.
(6) في طبعة بولاق: = وحفظ =. وهو تصحيف صوابه من النسخة الشنقيطية مع أثر تصحيح، ومن نوادر أبي زيد ص 121.
(8/48)
و «سلميّ» شاعر جاهلي (1)، وهذه نسبته من «جمهرة ابن الكلبي»: سلميّ بن ربيعة بن زبّان، بفتح الزاي وتشديد الموحدة، ابن عامر بن ثعلبة بن ذئب بن السّيد ابن مالك بن بكر بن سعد بن ضبّة بن أدّ بن طابخة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معدّ ابن عدنان.
ومن ولد سلميّ في الإسلام: يعلى بن عامر بن سالم بن أبي سلميّ بن ربيعة، كان على خراج الرّيّ وهمذان.
ومن ولده أيضا: المفضّل الراوية بن محمد بن يعلى بن عامر بن سالم المذكور.
* * * وأنشد بعده، وهو الشاهد الثالث والثمانون بعد الخمسمائة، وهو من شواهد سيبويه (2): (الرجز)
583 - قد شربت إلّا الدّهيدهينا
قليّصات وأبيكرينا
على أنّ جمع مصغّر «دهداه» وجمع مصغّر «بكر» على ما في البيت، شاذّ.
أنشد سيبويه هذا الرجز، وقال: و «الدّهداه»: حاشية الإبل، فكأنه حقّر دهاده (3) فرده إلى الواحد وهو دهداه، وأدخل الياء والنون كما تدخل في أرضين وسنين، وذلك حيث اضطرّ في الكلام إلى أن يدخل ياء التصغير.
__________
(1) سلمي بن ربيعة بن زبان بن عامر، شاعر جاهلي، كان متلافا للمال مما جعل زوجته تفارقه، فجعل يتحسر عليها. وانظر في ذلك سمط اللآلئ ص 267وشرح الحماسة للمرزوقي 2/ 546والمبهج في تفسير أسماء شعراء الحماسة ص 135134.
(2) الرجز بلا نسبة في تاج العروس (بكر) وتهذيب اللغة 3/ 188، 5/ 357وجمهرة اللغة ص 1334 ورصف المباني ص 430وسر صناعة الإعراب 2/ 618وشرح شافية ابن الحاجب 1/ 270وشرح شواهد الشافية ص 100والكتاب 3/ 494ولسان العرب (بكر، يمن، دهده، علا) ومجمل اللغة 2/ 256 والمخصص 7/ 61ومقاييس اللغة 4/ 115.
(3) كذا في طبعة بولاق، والكتاب لسيبويه وهو الصواب. وفي النسخة الشنقيطية: = دهداه =. وهو تصحيف.
(8/49)
وأما «أبيكرينا» فإنه جمع الأبكر، ولكنّه أدخل الياء والنون كما أدخلها على الدّهيدهين. انتهى.
وقد تقدّم عن أبي علي في البيت قبله ما يتعلق به.
وقال ابن جنّي في «إعراب الحماسة»: وأمّا أبيكرين فقد يمكن على قول سيبويه أن يقال إنّ واحدها أبكر، بفتح العين في هذا الموضع.
ألا ترى أنّك لم تسمع العين في هذا البيت مفتوحة ولا مضمومة. فإن قلت:
فقد سمعت في غير هذا الموضع أبكر بضم العين؟ قيل: أجل قد سمع هذا بضم عينه، وغير منكر أن يكون الخروج عن الواحد مرة إلى جمع مكسّر، وأخرى إلى اسم للجمع (1) مفرد غير مكسّر.
ألا تراهم قالوا: رجل ورجال فكسّروه، ثم قالوا رجلة فصاغوا للجمع اسما مفردأ. وكذلك الجمال والأجمال، هذا مع قولهم الجامل.
فكذلك لا ينكر أن يكون أبكر بضم العين جمعا مكسرا، أو يكون واحد أبيكرين المكبّر أبكر بفتح العين وإن لم يسمع مكبّرا، لكن يدلّ عليه ما انحرف عند سيبويه (2) من اعتقاد جمع أمرين لمعنى واحد. وهذا واضح.
وكذلك ينبغي أن يقال في قول الآخر: (الرجز)
أشكو إلى مولاي من مولاتي ... تربط بالحبل أكيرعاتي
وذلك أنّ الألف والتاء موضوعان للقلّة وضع الواو والنون لها. فلا يحسن أن يكون الواحد المكبّر من أكيرعات أكرعة ولا أكرعا (3) بضم العين لأنّهما مثالا قلّة.
فعلى قياس قوله (4) في «أبينون» (5) ما يجب أن يقال في الواحد المكبّر من أكيرعات إنّه أكرع. على وزن أفعل بفتح العين، الأعمى والأروى. انتهى.
__________
(1) كذا في طبعة بولاق وإعراب الحماسة الورقة 95وهو الصواب. وفي النسخة الشنقيطية: = اسم الجمع =.
(2) في إعراب الحماسة: = ما انحرف سيبويه عنه =.
(3) في طبعة بولاق: = والأكرعة =. وهو تصحيف. وفي النسخة الشنقيطية: = ولا كرعة =. وهو تصحيف أيضا. والصواب ما أثبتناه نقلا عن إعراب الحماسة لابن جني الورقة 95.
(4) كلمة: = قوله =: ساقطة من النسخة الشنقيطية.
(5) من قوله: = ما يجب أن يقال الأعمى والأروى. انتهى =. ساقطة من النسخة الشنقيطية.
(8/50)
وقال في «سرّ الصناعة» أيضا، عند سرد ما جمع بالواو والنون من كلّ مؤنث معنوي كأرض، أو مؤنث بالتاء محذوف اللام كثبة، ما نصّه:
فإن قلت: فما بالهم قالوا:
* قد رويت إلّا الدّهيدهينا * إلخ
فجمعوا تصغير دهداه، وهو الحاشية من الإبل وأبيكرا وهو جمع بكر، بالواو والنون، وليسا من جنس ما ذكرت؟
فالجواب: أنّ أبكرا جمع بكر، وكلّ جمع فتأنيثه سائغ مستمرّ، لأنّه جماعة في المعنى.
وكأنه قد كان ينبغي أن يكون في أبكر وأكلب وأعبد هاء. فيكون تقديرها أكلبة وأبكرة وأعبدة، كما قالوا في غير هذا: فحالة: جمع فحل، وذكارة: جمع ذكر.
فكما جاز أن تأتي الهاء في هذه الجموع كذلك جاز أيضا أن تقدّر (1) في أبكر الهاء، فيصير كأنه أبكرة.
وقد جاءت الهاء في أفعل نفسها.
قال (2): (الطويل)
بأجرية بقع عظام رؤوسها ... لهنّ إذا حرّكن في البطن أزمل
فهذا جمع جرو. وأجرية أفعلة. فألحق الهاء في أفعل.
ويدلّك على أنه أراد أفعل قول الآخر (3): (مجزوء الكامل)
وتجرّ مجرية لها ... لحمي إلى أجر حواشب
__________
(1) في النسخة الشنقيطية: = يقدر =.
(2) الأزمل: الصوت، وجمعه الأزامل.
(3) البيت للأعلم الهذلي في ديوان الهذليين 2/ 80وتاج العروس (جرا) والتنبيه والإيضاح 1/ 64وتهذيب اللغة 4/ 190، 309، 11/ 174وشرح أشعار الهذليين ص 314وكتاب العين 3/ 97ولسان العرب (حشب، جرا) ومجمل اللغة 2/ 69. وهو بلا نسبة في مقاييس اللغة 1/ 447، 2/ 66.
(8/51)
وجاز أن تجمع فعلا على أفعل، وأفعلة (1)، وأفعل، لفعل مفتوحة الفاء، من حيث كان فعل وفعل ثلاثيّين ساكني العينين، وقد اعتقبا أيضا على المعنى الواحد، نحو: حجّ وحجّ، وفصّ وفصّ، ونفط ونفط.
وإذا ثبت أنّ أفعل من أمثلة الجموع، يجوز في الاستعمال والقياس تأنيثه. لم ينكر أن يعتقد في أنّ «أبكرا» قد كان ينبغي أن يكون فيها هاء تأنيث الجماعة، فصار إذن جمعهم إيّاها بالواو والنون في قوله: «أبيكرونا» إنّما هو عوض من الهاء المقدّرة في أبكر، فجرى ذلك مجرى أرض في جمعهم إيّاها بالواو والنون في قولهم:
أرضون.
فأمّا دهيدهينا فإنّ واحده دهداه، وهو القطعة من حاشية الإبل، فهو نظير الصّرمة والهجمة، فكأنّ الهاء فيها لتأنيث الفرقة والقطعة، كما أن الهاء في عصبة وطائفة لتأنيث الجماعة، فكأنه كان في التقدير: دهداهة، فلمّا حذفت الهاء فصار دهداها جمع تصغيره بالواو والنون تعويضا من الهاء المقدّرة.
قال أبو علي: وحسّن أيضا جمعه بالواو والنون أنّه قد حذفت ألف دهداه في التحقير، ولو جاء على أصله لقيل: دهيديه (2) بوزن صلصال وصليصيل، فواحد دهيدهينا، إنّما هو دهيده، وقد حذفت الألف من مكبّره (3) فكان ذلك أيضا مسهّلا للواو والنون، وداعيا إلى التعويض بهما. انتهى كلامه.
وهذا مخالف لكلامه السابق تبعا لأبي علي وغيره، من أنّ أبيكرينا جمع أبكر بفتح الكاف.
وإليه ذهب يوسف (4) بن السّيرافي في «شرح شواهد الغريب المصنف»، قال:
أبيكرينا جمع أبيكر، وأبيكر تصغير أبكر، وأبكر جمع بكر، وهو في الإبل بمنزلة
__________
(1) في طبعة بولاق والنسخة الشنقيطية: = على أفعل، وأفعل =.
وفي طبعة هارون: = على أفعل، وأفعلة =. وفي حاشية طبعة هارون 8/ 52: = وأرى الصواب فيما أثبت =.
(2) في النسخة الشنقيطية: = دهيده =. وهو تصحيف صوابه من طبعة بولاق.
(3) في النسخة الشنقيطية: = إنما هو دهيدهة، وقد حذف الألف من مكبره =.
(4) في النسخة الشنقيطية: = أبو يوسف =. وهو تصحيف.
وهو أبو محمد، يوسف بن الحسن بن عبد الله، المتوفى سنة 385هـ. وأبوه الحسن بن عبد الله بن المرزبان، أبو سعيد السيرافي، المتوفى سنة 368هـ شرح شواهد الغريب المصنف ولده أبو محمد. ذكر ذلك صاحب البغية.
(8/52)
الشابّ في الناس. وهذه العلامة لا تكون إلّا لجمع المذكر العاقل في الكلام، وربّما أدخلها الشاعر إذا احتاج. وتدخل على كثير من الأسماء النواقص.
والبيتان من رجز أورده أبو عبيد القاسم بن سلام في «الغريب المصنّف»، قال:
الحاشية صغار الإبل، والدّهداه مثل ذلك.
قال الراجز (1): (الرجز)
يا وهب فابدأ ببني أبينا ... ثمّت ثنّ ببني أخينا
وجيرة البيت المجاورينا ... قد رويت إلّا الدّهيدهينا
إلّا ثلاثين وأربعينا ... قليّصات وأبيكرينا
قال ابن السيرافي: نصب الدّهيدهينا على الاستثناء.
وقوله: «إلّا ثلاثين» بدل من الدهيدهينا. و «قليّصات» بدل من ثلاثين.
انتهى.
وجعله قليّصات بدلا من البدل جائز مشهور، ولم يجعله بدلا من الدّهيدهينا، لأنّه لم يعرف تعدّد البدل في غير بدل البداء، كما قاله أبو حيّان وابن هشام في «بحث إذ من المغني».
وكذا أعرب شيخنا ياسين الحمصيّ قول ابن مالك أوّل الألفية:
* أحمد ربّي الله خير مالك *
فجعل خير بدلا من الجلالة، لا من الرّبّ (2) قال: وأمّا دعوى الدّماميني الجواز، أخذا من كلام ابن الحاجب في «الأمالي» فاشتباه لأنّ ابن الحاجب قال في الكلام على آية غافر: الأحسن أنّ (3) {«ذِي الطَّوْلِ»} بدل ثان من المبدل الأوّل. فقال الدّمامينيّ: فيه دليل بيّن على جواز تعدّد المبدل منه. انتهى.
وابن الحاجب لم يقل من المبدل منه، بل قال من المبدل، يعني البدل. انتهى.
__________
(1) سبق لنا تخريج الرجز آنفا.
(2) في طبعة بولاق: = من رب =. ولقد أثبتنا رواية النسخة الشنقيطية.
(3) سورة غافر: 40/ 3.
(8/53)
وقوله: «يا وهب» هو اسم راع يسقي الإبل. وأبينا وأخينا كلاهما جمع أب وأخ. و «قليّصات»، بكسر الياء المشددة جمع مصغر قلوص، وهي الناقة الشابّة.
وقد روى بدل «شربت»: «رويت»، و «نهلت».
وهذا الرجز مع كثرة الاستشهاد به لم يعرف قائله. والله أعلم.
* * * وأنشد بعده، وهو الشاهد الرابع والثمانون بعد الخمسمائة (1): (الطويل)
584 - ولي دونكم أهلون سيد عملّس
وأرقط زهلول وعرفاء جيأل
على أنّ «أهلا»، وإن كان غير علم لمذكّر عاقل ولا صفة له، لكنّه جمعه هذا الجمع لتنزيله هذه الوحوش الثلاثة، منزلة الأهل الحقيقي. وكذلك ما بعده، وهو (2):
هم الأهل لا مستودع السّرّ ذائع ... لديهم ولا الجاني بما جرّ يخذل
وقبلهما (3):
لعمرك ما بالأرض ضيق على امرئ ... سرى راغبا أو راهبا وهو يعقل
والأبيات من قصيدة الشنفرى المشهورة بلاميّة العرب، وقد تقدّم شرح أبيات منها (4).
__________
(1) البيت للشنفرى في ديوانه ص 59وأمالي القالي 3/ 203وشرح لامية العرب للعكبري ص 18وشرح المفصل 5/ 31ولسان العرب (عرف) والمحتسب 1/ 218والمقاصد النحوية 2/ 118والمنصف 3/ 6. وهو بلا نسبة في تخليص الشواهد ص 266.
(2) البيت للشنفرى في ديوانه ص 59وأمالي القالي 3/ 203وشرح لامية العرب للعكبري ص 19.
(3) البيت للشنفرى في ديوانه ص 59وأمالي القالي 3/ 203والأشباه والنظائر 1/ 193، 2/ 15وشرح شواهد المغني 2/ 899وشرح لامية العرب للعكبري ص 17والمقاصد النحوية 2/ 118والمنازل والديار ص 358.
(4) انظر الخزانة الجزء الثالث ص 319وما بعدها.
(8/54)
وقوله: «لعمرك» إلخ، اللام لام الابتداء للتأكيد. و «عمرك»، بفتح العين مبتدأ مضاف إلى الكاف، وخبره محذوف تقديره: قسمي. والعمر، بضم العين وفتحها: مدة الحياة، خصّ المفتوح القسم.
وقوله: «ما بالأرض»، «ما»: نافية، و «بالأرض»: خبر مقدم.
و «ضيق»: مبتدأ مؤخر، والجملة جواب القسم (1).
وجملة: «سرى» إلخ، صفة لامرئ. و «راغبا»: حال من ضمير سرى (2)، وجملة: «وهو يعقل» حال ثانية (3).
يعني: أن من فارق أهله، وسافر رغبة في أمر يطلبه، أو خوفا من شيء يجتنبه، يرى سعة في حاله، إن كان ممن يعقل، فإنه يدبّر نفسه بعقله، ولا يضيع في الغربة.
وقوله: «ولي دونكم أهلون» إلخ، التفات من الغيبة إلى الخطاب، خاطب به أهله.
و «أهلون»: مبتدأ، و «دونكم»: ظرف كان في الأصل صفة لأهلون فلما قدّم عليه صار حالا منه. و «دون» هنا: بمعنى غير (4)، و «لي»: خبر مقدّم لأهلون.
وقوله: «سيدّ عملّس» خبر لمبتدأ محذوف، أي: هم سيد وأرقط وعرفاء.
يقول: اتّخذت هذه الوحوش أهلا بدلا منكم، لأنّها تحميني من الأعداء، ولا تخذلني في حالة الضّيق.
__________
(1) كلمة: = القسم =. ساقطة من النسخة الشنقيطية.
(2) في شرح لامية العرب للعكبري ص 18: = وراغبا وراهبا: حالان من الضمير في = سرى = والعامل فيهما سرى =.
(3) بعده في شرح لامية العرب: = وفي صاحب الحال هنا وجهان، أحدهما الضمير في = سرى =، أي: سرى عاقلا. والثاني هو حال من الضمير في = راغب = أو = راهب =، أي: يرغب أو يرهب عاقلا، أي فهما لما يرغب فيه، أو يخاف منه =.
(4) في شرح لامية العرب: = وفي دون وجهان، أحدهما هو صفة لأهلين، بمعنى غير، فلما قدّم صار حالا، وهكذا صفة النكرة إذا قدمت عليها، أي: ولي أهلون غيركم. والثاني هو ظرف، والعامل فيه الجار والمجرور، أو ما يتعلق به الجار من معنى الاستقرار، وفتحة النون على الوجه الأول إعراب الصفة، وعلى الوجه الثاني إعراب الظرف =.
(8/55)
وهذا تعريض بعشيرته، في أنّهم لا حماية لهم كهذه الحيوانات، ولا غيرة لهم على من جاورهم فضلا عن الحميم القريب، مثل هذه الوحوش.
و «السّيد»، بكسر السين المهملة: مشترك بين الأسد والذئب، ومراده الثاني، ولهذا عيّنه بالوصف. وكذلك فعل بأرقط وعرفاء.
و «العملّس»، بفتح العين المهملة والميم واللام المشددة، القويّ على السّير السريع.
و «أرقط»: ما فيه نقط بياض وسواد، مشترك بين حيوانات، منها النمر والحيّة. وأراد الأوّل، ولهذا وصفه بزهلول بضم الزاي، وهو الأملس، وقيل:
الخفيف وهو من أوصاف النمر.
و «العرفاء»: مؤنّث الأعرف. قال صاحب العباب: يقال للضبع عرفاء لكثرة شعر رقبتها. وأنشد هذا البيت.
وقال الخطيب التّبريزي في «شرح القصيدة»: العرفاء: الضبع التي تكون طويلة العرف، ليست هاهنا بنعت، ولكنّها في الأصل نعت، فغلب فصار بمنزلة الأسماء غير النّعوت (1) حتى إنه يقال: «جاءتكم العرفاء» فيفهم من هذا القول أنّ الضبع جاءت. و «جيأل»، بفتح الجيم وسكون المثناة التحتية بعدها همزة مفتوحة، بدل من عرفاء.
قال صاحب العباب: جيأل على وزن فيعل: اسم للضبع، وهي معرفة بلا ألف ولام. وأنشد هذا البيت.
وقوله: «هم الأهل» إلخ، لمّا نزّل هذه الوحوش منزلة الأهل ذكرهم بضمير العقلاء، وعرّف الخبر لإفادة الحصر، أي: هم الأهل لا غيرهم.
وبيّن وجهه بقوله: «لا مستودع السرّ» إلخ، يعني: أنّ السرّ المستودع عندهم غير ذائع بل مصون.
«ولا الجاني بما جرّ يخذل» عندهم، بل يحمى. و «الجاني»: الذي فعل جناية من قتل أو نهب ونحوهما. و «جرّ»، أي: فعل جريرة بفتح الجيم، وهي
__________
(1) صححها الشنقيطي في نسخته إلى: = المنعوتة =. وهو تصحيف صوابه من طبعة بولاق.
(8/56)
التّبعة والذّنب. و «يخذل»: يترك نصره، يقال: خذلته وخذلت عنه من باب قتل، والاسم الخذلان، إذا تركت نصره وإعانته وتأخّرت عنه.
وقد تقدّمت ترجمة الشنفرى، وهو شاعر لصّ جاهلي، في الشاهد السادس والعشرين بعد المائتين (1).
* * * وأنشد بعده (2): (الوافر)
* ولكنّي أريد به الذّوينا *
تقدّم شرحه مفصلا في الشاهد السادس عشر من أوائل الكتاب (3).
وأراد بالذّوين ملوك اليمن. كذي نواس، وذي رعين، وذي أصبح.
وهو عجز، وصدره:
* فلا أعني بذلك أسفليكم *
والمشار إليه بذلك، هو الهجو.
* * * وأنشد بعده، وهو الشاهد الخامس والثمانون بعد الخمسمائة (4): (الطويل)
__________
(1) الخزانة الجزء الثالث ص 322.
(2) عجز بيت للكميت بن زيد الأسدي وصدره:
* فلا أعني بذلك أسفليكم *
والبيت للكميت بن زيد في ديوانه 2/ 109والدرر 5/ 29وشرح أبيات سيبويه 2/ 227والكتاب 3/ 282 ولسان العرب (ذو). وهو بلا نسبة في ما ينصرف وما لا ينصرف ص 86.
(3) الخزانة الجزء الأول ص 156149.
(4) البيت للصمة بن عبد الله القشيري في تخليص الشواهد ص 71وشرح التصريح 1/ 77وشرح شواهد
(8/57)
585 - ذراني من نجد فإنّ سنينه
لعبن بنا شيبا وشيّبننا مردا
على أنّ نون الجمع الذي جاء على خلاف القياس، قد يجعل معتقب الإعراب، أي: محلّ تعاقبه. أي: تجري عليها الحركات واحدا بعد واحد، ولا تحذف للإضافة كما في قوله: «سنينه». فالنون لمّا جرى عليها الإعراب، لم تحذف مع إضافة الكلمة إلى ضمير نجد.
وفي كلامه شيئان: أحدهما: أنّه غير خاصّ بالضرورة.
والثاني: أنّه لا يجوز هذا فيما حقّه هذا الجمع.
والأوّل موافق لكلام أبي علي في «إيضاح الشعر» دون الثاني. قال في باب ما جعلت فيه النون المفتوحة اللاحقة بعد الواو والياء في الجمع حرف إعراب، بعد أن أنشد جميع الأبيات الآتية.
اعلم أنّ هذه النون إذا جعلت حرف الإعراب، صارت ثابتة في الكلمة فلم تحذف في الإضافة، كما لا تحذف نون فرسن ورعشن ونحوه وإن كانت زائدة، ويكون حرف اللين قبلها الياء ولا يكون الواو، لأنّ الواو تدلّ على إعراب بعينه، فلم يجز ثباتها من حيث لم يجز ثبات إعرابين في الكلمة.
فأمّا من أجاز ثبات الواو في هذا الضّرب من الجمع وزعم أنّ ذلك يجوز فيه قياسا على قولهم: زيتون، فقوله: بعيد (1) من جهة القياس، مع أنّا لا نعلمه جاء في شيء منهم.
وذلك أنّ هذه الواو لم تكن قطّ إعرابا كما في مسلمون. وعلى ما ذهب إليه جاء التنزيل (2): {«لَفِي عِلِّيِّينَ»}. انتهى.
__________
الإيضاح ص 597وشرح المفصل 5/ 1211والمقاصد النحوية 1/ 169. وهو بلا نسبة في أوضح المسالك 1/ 57وجواهر الأدب ص 157وشرح الأشموني 1/ 37وشرح ابن عقيل ص 39ولسان العرب (نجد، سنه) ومجالس ثعلب ص 177، 320.
(1) في طبعة بولاق: = يبعد =. ولقد أثبتنا رواية النسخة الشنقيطية.
(2) سورة المطففين: 83/ 18.
ونص الآية في سورة المطففين: = لفي عليين =. وحذف بعض الحروف جائز عند الاقتباس من التنزيل الحكيم.
(8/58)
وما ذهب إليه الشارح المحقق هو ظاهر كلام الفراء عند تفسير قوله تعالى (1):
{«الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ».}
قال: العضون في كلام العرب: السّحر. ويقال: عضّوه، أي: فرّقوه، كما تعضّى الشاة والجزور، وواحد العضون عضة، ورفعها عضون، ونصبها وخفضها عضين.
ومن العرب من يجعلها بالياء على كلّ حال ويعرب نونها، فيقال هذه عضينك ومررت بعضينك وسنينك.
وهي كثيرة في أسد وتميم وعامر، أنشدني بعضهم من بني عامر:
ذراني من نجد فإنّ سنينه ... البيت
ثم قال بعد أبيات مثلها: وإنّما جاز ذلك في هذا المنقوص الذي كان على ثلاثة أحرف فنقصت لامه، فلمّا جمعوه بالنون، وتوهّموا أنّه فعول إذ جاءت الواو وهي واو جمع، فوقعت في موقع الناقص، فتوهّموا أنّها الواو الأصلية وأنّ الحرف على فعول.
ألا ترى أنّهم لا يقولون ذلك في الصالحين والمسلمين وما أشبهه. وما كان من حرف نقص من أوّله، مثل زنة ودية ولدة، فإنّه لا يقاس على هذا. فما كان منه مؤنثا أو مذكرا فاجره على التّمام مثل الصالحين. انتهى كلامه.
وكذلك قال ابن الشجري في «أماليه» قال: ومنهم من جعل النون في جمع سنة حرف الإعراب، وألزمها الياء وأثبت النون في الإضافة. ورفعها وخفضها ونوّنها، تشبيها لها بنون غسلين، فقالوا: أقمت عنده سنينا، وعجبت من سنين زيد، وأعجبتني سنينك. وأنشد البيت.
وهذا مخالف لصنيع ابن جنّي في «سرّ الصناعة» فإنّه خصّه بالضرورة وجوّزه في الجمع الحقيقي.
وتبعه ابن عصفور في «كتاب الضرائر» قال: ومن العرب من يجعل الإعراب في النون من جمع المذكر السالم.
__________
(1) سورة الحجر: 15/ 91.
(8/59)
وذلك كلّه لا يحفظ إلّا في الشعر، نحو قول الفرزدق (1): (البسيط)
ما سدّ حيّ ولا ميت مسدّهما ... إلّا الخلائف من بعد النّبيّين
وقوله: (البسيط)
وإن أتمّ ثمانينا رأيت له ... شخصا ضئيلا وكلّ السّمع والبصر
وقوله (2): (الوافر)
وأنّ لنا أبا حسن عليّا ... أب برّ ونحن له بنين
وقوله (3): (الوافر)
وماذا يدّري الشّعراء منّي ... البيت
ووجه ذلك إجراء جمع السلامة وما يجري مجراه مجرى المفرد، ولذلك ثبتت النون في حال الإضافة، كقوله (4): (الكامل)
ولقد ولدت بنين صدق سادة ... ولأنت بعد الله كنت السّيدا
__________
(1) البيت للفرزدق في تخليص الشواهد ص 75والدرر 1/ 41وشرح المفصل 5/ 14والكامل في اللغة والأدب 1/ 303وهمع الهوامع 1/ 49. وهو بلا نسبة في سر صناعة الإعراب 2/ 628. وليس في ديوان الفرزدق.
(2) البيت برواية أخرى لأحد أولاد علي بن أبي طالب في شرح التصريح 1/ 77والمقاصد النحوية 1/ 156ولسعيد بن قيس الهمداني كما سيأتي في الشاهد 588. وهو بلا نسبة في أوضح المسالك 1/ 55.
(3) صدر بيت لسحيم بن وثيل الرياحي وعجزه:
* وقد جاوزت حدّ الأربعين *
والبيت في إصلاح المنطق ص 156والأصمعيات ص 19وتخليص الشواهد ص 74وتذكرة النحاة ص 480 وحماسة البحتري ص 55والحماسة البصرية 1/ 102والدرر 1/ 140وسر صناعة الإعراب 2/ 627وشرح أبيات المغني 4/ 9وشرح التصريح 1/ 77وشرح ابن عقيل ص 41وشرح المفصل 5/ 11وطبقات فحول الشعراء ص 580والكامل في اللغة 1/ 304ولسان العرب (نجذ، ربع، دري) والمقاصد النحوية 1/ 191.
وهو بلا نسبة في الأشباه والنظائر 7/ 248وأوضح المسالك 1/ 61وجواهر الأدب ص 155وشرح الأشموني 1/ 38، 39والمقتضب 3/ 332وهمع الهوامع 1/ 49.
(4) البيت بلا نسبة في تخليص الشواهد ص 75وشرح المفصل 5/ 12والممتع في التصريف 1/ 143.
(8/60)
وقول الآخر (1): (الوافر)
سنيني كلّها لاقيت حربا ... أعدّ مع الصّلادمة الذّكور
وقوله:
ذراني من نجد فإنّ سنينه ... البيت
انتهى.
ومن إعراب الجمع بالحركة قول الشاعر (2): (الخفيف)
ربّ حيّ عرندس ذي طلال ... لا يزالون ضاربين القباب
ف «ضاربين» منصوب بالفتحة على أنّه خبر يزالون، وهو مضاف للقباب.
و «الحيّ»: القبيلة.
و «العرندس»، كسفرجل: الشّديد. و «الطّلال»، بفتح المهملة: الحالة الحسنة، والهيئة الجميلة.
ومثله قول الزمخشري في «المفصّل»: وقد يجعل إعراب ما يجمع بالواو والنون في النون، وأكثر ما يجيء ذلك في الشعر، ويلزم الياء إذ ذلك، قالوا: أتت عليه سنين.
وقال الشاعر:
دعاني من نجد فإنّ سنينه ... البيت
وقال سحيم:
وماذا تدّري الشّعراء منّي ... البيت
__________
(1) البيت لقطيب بن سنان في نوادر أبي زيد ص 162. وهو بلا نسبة في شرح شواهد الإيضاح ص 598 وشرح المفصل 5/ 12ومجالس ثعلب ص 321.
(2) في النسخة الشنقيطية: = القبابا =. وهو تصحيف.
والبيت هو الإنشاد الثمانون بعد الثمانمائة في شرح أبيات المغني للبغدادي.
والبيت لأعشى بني تغلب عمرو بن الأيهم في شرح أبيات المغني للبغدادي 7/ 364. وهو بلا نسبة في أوضح المسالك 1/ 59وتخليص الشواهد ص 75والدرر 1/ 136وشرح الأشموني 1/ 37وشرح التصريح 1/ 77 ومغني اللبيب ص 643والمقاصد النحوية 1/ 176وهمع الهوامع 1/ 47.
(8/61)
انتهى.
قال شارحه ابن يعيش: اعلم أنّ من العرب من يجعل إعراب هذا الجمع في النون، بشرط أن يلحقه نقص كسنين.
والشيخ قد أطلق هنا، والحقّ ما ذكرته. انتهى.
والبيت من قصيدة للصّمّة بن عبد الله القشيريّ، وبعده (1): (الطويل)
لحا الله نجدا كيف يترك ذا النّدى ... بخيلا وحرّ الناس تحسبه عبدا
على أنّ نجدا قد كساني حلّة ... إذا ما رآني جاهل ظنّني عبدا
سوادا وأخلاقا من الصّوف بعد ما ... أراني بنجد ناعما لابسا بردا
على أنّه قد كان للعين قرّة ... وللبيض والفتيان منزله حمدا (2)
سقى الله نجدا من ربيع وصيّف ... وجود وتسكاب سقى مزنه نجدا
قال ابن هشام في «شرح الشواهد»: وكان من خبره، أي: الصمة، أنّه خطب ابنة عمّه، فاشتطّ عمّه في المهر عليه، وبخل عليه أبوه بالجمال، فزوّجت من غيره، فغضب من عمّه وأبيه، وخرج إلى طبرستان، وهي مقرّ الديلم، فأقام بها (3)
مدّة حياته إلى أن مات فيها. فلهذا تارة يحنّ إلى نجد، وتارة يذمّه. انتهى.
وقوله: «ذراني من نجد» ويروى أيضا: «دعاني من نجد» وهما بمعنى، أي: اتركاني من ذكر نجد. ونجد من بلاد العرب، وهو خلاف الغور، والغور هو
__________
(1) الأبيات للصمة بن عبد الله القشيري في المقاصد النحوية 1/ 171170.
(2) البيت والذي يليه للصمة بن عبد الله في المقاصد النحوية 1/ 171وهما بلا نسبة في المذكر والمؤنث للأنباري ص 246ومعجم البلدان (نجد).
(3) كذا في المقاصد النحوية وهو الصواب. وفي طبعة بولاق والنسخة الشنقيطية: = أقام به =. وهو تصحيف صوابه من المقاصد النحوية.
وخبر عبد الله بن الصمة والخلاف حول اسمه كبير في المراثي يرويه محمد بن العباس اليزيدي ص 306: =
لعبد الله بن الصمة القشيري، وكان وامقا لابنة عمه ريّا. فخرج أبوه يخطبها عليه، وخرج بالمهر معه، وكان المهر مائة ناقة، فنقص المهر ناقة. فقال أخوه: ما كنت لآخذه إلا تاما فمحكا فرجع فقال له ابنه: ما صنعت؟
قال: يا بني كان من الأمر ذيت وذيت. فقال: والله ما أدري أيكما كان ألأم، وتالله لا يجمع رأسي ورأسها وساد أبدا. وخرج إلى ناحية الشام =
(8/62)
تهامة. وكلّ ما ارتفع من تهامة إلى أرض العراق فهو نجد. وهو مذكّر. كذا في الصحاح.
و «السنين»: جمع سنة، وهي هنا إمّا بمعنى العام، وإمّا بمعنى القحط.
ويقال: أرض بني فلان سنة، إذا كانت مجدبة.
و «شيبا» حال من «نا» في «بنا»، وهو بالكسر جمع أشيب، وهو الذي ابيضّ شعره. و «مردا»: حال أيضا من «نا» في شيّبننا، وهو جمع أمرد وهو الذي لا شعر بعارضيه.
وقوله: «لحا الله نجدا» إلخ، في الصحاح لحاه الله، أي: قبحه ولعنه.
و «النّدى»: الجود.
وروى بدله: «الغنى». و «حرّ»: معطوف على ذا النّدى، وجملة:
«تحسبه» في موضع المفعول الثاني. وهذا البيت تعريض بأبيه وعمّه.
ونقل ابن المستوفي عن ثعلب، أنّ المراد من هذا البيت أنّ عيش نجد عيش شديد، لا بدّ أن يقوم بالمال فيه وإلّا ضاع.
ونقل عن ابن الأعرابيّ أيضا أنّه ذمّ نجدا لشتائه وقيظه. وهذا إنّما يصحّ مع قطع النظر عن سبب الشعر. ونقل أيضا عن أبي زيد البيتين المذكورين، وأنه قال: ذمّ نجدا لشدّة شتائه وقيظه.
ولم أر في ديوان أبي زيد (1) إلا البيت الشاهد غير مشروح بهذا الشرح، ونقله أبو علي عن أبي زيد في «التذكرة القصرية» ثم قال: [قال (2)] ابن الهيصم، هذا الشيخ الكوفيّ الذي يجلس إلى أبي حاتم، قال: أنشدني أعرابيّ بالشام هذا البيت وقبله بيتا آخر، وهو:
لحا الله نجدا كيف يترك ذا الغنى ... فقيرا وحرّ القوم تحسبه عبدا
وهذا إنشاد طريف (3). وسمعت أيضا هذا البيت بقصر ابن هبيرة من أعرابيّ. انتهى.
__________
(1) في حاشية طبعة هارون 8/ 64: = قد يكون عنى نوادر أبي زيد. على أن الشاهد لم يرد في نوادر أبي زيد =.
(2) زيادة يقتضيها السياق من النسخة الشنقيطية.
(3) في طبعة بولاق: = إنشاد ظريف =. وهي صحيحة.
(8/63)
وكأنّه لم يقف على هذه القصيدة ولا على شيء من خبرها.
وقوله: «على أنّ نجدا» إلخ، «على» هنا للاستدراك والإضراب، وكذلك «على» الآتية. يريد أنه لمّا تغرّب وفارق نجدا افتقر، ولبس الثّياب الأخلاق السّود من (1) الصّوف. و «ناعما»: متنعّما مترفّها.
وقوله: «وللبيض والفتيان» الجارّ والمجرور خبر مقدّم، و «منزله»: مبتدأ مؤخر، وهو مضاف لضمير نجد.
و «البيض»: النساء الحسان. و «الفتيان»: جمع الفتى، وهو الشابّ. والحمد هنا بمعنى المحمود. وهذا تشوّق منه إلى وطنه وتحزّن على مفارقته منه.
ثم دعا له على طريقة العرب بقوله: «سقى الله نجدا» إلخ، وقوله: «من ربيع»، أي: من مطر ربيع، وجود معطوف عليه، وهو بفتح الجيم: المطر الغزير.
و «المزن»: السحاب.
والصّمّة شاعر إسلاميّ في الدولة المروانية، وهو بدويّ، ولجدّه مرّة بن هبيرة صحبة مع النبيّ صلّى الله عليه وسلّم.
وتقدّم الكلام عليه وعلى نسبه في الشاهد الخامس والستين بعد المائة (2).
وذكره الآمدي في «المؤتلف والمختلف» (3)، فقال: هو «الصّمّة بن عبد الله» إلى آخر نسبه، ثم أورد له ثلاثة أبيات من شعره، وأورد صمّتين من الشعراء لبني جشم (4):
أحدهما: صمّة الأكبر، وهو مالك بن الحارث.
وثانيهما: صمّة الأصغر، وهو معاوية بن الحارث، أخو مالك بن الحارث الصمّة الأكبر (5). وهذا الأصغر هو أبو دريد بن الصّمّة، وكلاهما شاعر فارس جاهلي.
__________
(1) كلمة: = من = ساقطة من النسخة الشنقيطية.
(2) الخزانة الجزء الثالث ص 61.
(3) المؤتلف والمختلف ص 214.
(4) المؤتلف والمختلف ص 213.
(5) في طبعتي بولاق وهارون والنسخة الشنقيطية: = الحارث بن الصمة الأكبر =. وهو تصحيف صوابه من المؤتلف والمختلف.
(8/64)
والصّمّة (1) بالكسر للصاد المهملة وتشديد الميم.
وقد أورد ابن الأعرابي في «نوادره» البيت الشاهد فقط، ونسبه إلى محجن بن مزاحم الغنويّ. والله أعلم.
* * * وأنشد بعده، وهو الشاهد السادس والثمانون بعد الخمسمائة (2): (الوافر)
586 - وماذا يدّري الشّعراء منّي
وقد جاوزت حدّ الأربعين
لما تقدّم قبله من أنّه معرب بالحركة على النون.
قال المبرد في «الكامل» عند قول الفرزدق (3): (المنسرح)
إنّي لباك على ابني يوسف جزعا ... ومثل فقدهما للدّين يبكيني
ما سدّ حيّ ولا ميت مسدّهما ... إلّا الخلائف من بعد النّبيّين (4)
وابنا يوسف هما محمد أخو الحجاج السفّاك، ومحمد ابنه، فإنه جاءه نعي أخيه يوم مات ابنه.
__________
(1) انظر في ترجمته وأخباره الأغاني 6/ 1والمؤتلف والمختلف ص 214والمراثي ص 306.
(2) البيت لسحيم بن وثيل الرياحي في إصلاح المنطق ص 156والأصمعيات ص 19وتخليص الشواهد ص 74 وتذكرة النحاة ص 480وحماسة البحتري ص 55والحماسة البصرية 1/ 102والدرر 1/ 140وسر صناعة الإعراب 2/ 627وشرح أبيات المغني 4/ 9وشرح التصريح 1/ 77وشرح ابن عقيل ص 41وشرح المفصل 5/ 11وطبقات فحول الشعراء ص 580والكامل في اللغة 1/ 304ولسان العرب (نجذ، ربع، دري) والمقاصد النحوية 1/ 191. وهو بلا نسبة في الأشباه والنظائر 7/ 248وأوضح المسالك 1/ 61 وجواهر الأدب ص 155وشرح الأشموني 1/ 38، 39والمقتضب 3/ 332وهمع الهوامع 1/ 49.
(3) الكامل في اللغة 1/ 303والبيتان في شرح أبيات المغني للبغدادي 6/ 80والكامل في اللغة 1/ 303ولم نجدهما في ديوانه.
(4) البيت للفرزدق في تخليص الشواهد ص 75والدرر 1/ 41وشرح المفصل 5/ 14وهمع الهوامع 1/ 49.
وهو بلا نسبة في سر صناعة الإعراب 2/ 628.
(8/65)
قال: أمّا قوله (1): «من بعد النّبيّين» فخفض هذه النون وهي نون الجمع، وإنّما فعل ذلك، لأنّه جعل الإعراب فيها لا فيما قبلها، وجعل هذا الجمع كسائر الجمع، نحو: أفلس ومساجد وكلاب، فإنّ إعراب هذا كإعراب الواحد.
وإنّما جاز ذلك لأنّ الجمع يكون على أبنية شتّى، وإنّما يلحق منه منهاج التثنية (2) ما كان على حدّ التثنية، لا يكسّر الواحد عن بنائه (3)، وإلّا [فلا،] فإنّ الجمع كالواحد لاختلاف معانيه، كما تختلف معاني الواحد، والتثنية ليست كذلك، لأنّها ضرب واحد لا يكون اثنان أكثر من اثنين عددا، كما يكون الجمع أكثر من الجمع.
فممّا جاء على هذا المذهب قولهم: هذه سنين فاعلم، وهذه عشرين فاعلم.
قال العدواني (4): (البسيط)
إنّي أبيّ أبيّ ذو محافظة ... وابن أبيّ أبيّ من أبيّين (5)
وأنتم معشر زيد على مائة ... فأجمعوا كيدكم كلّا فكيدوني (6)
وقال سحيم بن وثيل (7):
__________
(1) النص في شرح أبيات المغني للبغدادي 6/ 81والكامل في اللغة 1/ 304والزيادة منهما.
(2) كذا في شرح أبيات المغني 6/ 81والكامل في اللغة 1/ 304وهو الصواب. وفي طبعتي هارون وبولاق والنسخة الشنقيطية: = وإنما تلحق =.
(3) في النسخة الشنقيطية: = على بنائه =. وهو تصحيف صوابه من طبعة بولاق وشرح أبيات المغني والكامل في اللغة.
(4) البيتان لذي الإصبع العدواني من مطولة له وهما في ديوانه ص 95والأغاني 3/ 106وأمالي القالي 1/ 256وشرح أبيات المغني 3/ 291والكامل في اللغة 1/ 304والمفضليات ص 161160.
(5) البيت لذي الإصبع العدواني في سر صناعة الإعراب 2/ 628وشرح المفصل 5/ 13ولسان العرب (أبي).
وهو بلا نسبة في مجالس ثعلب 1/ 213والمقتضب 3/ 333.
(6) البيت لذي الإصبع العدواني في ديوانه ص 95وأساس البلاغة (زيد) وتاج العروس (زيد، جمع) والتنبيه والإيضاح 2/ 25وكتاب الجيم 2/ 59ولسان العرب (زيد، عشر). وهو بلا نسبة في جمهرة اللغة ص 643 وديوان الأدب 3/ 323ومقاييس اللغة 3/ 40.
(7) البيتان لسحيم بن وثيل الرياحي في الأصمعيات ص 73وطبقات فحول الشعراء ص 72والكامل في اللغة 1/ 304.
(8/66)
وماذا يدّري الشّعراء منّي ... وقد جاوزت رأس الأربعين
أخو خمسين مجتمع أشدّي ... ونجّذني مداورة الشّؤون
وفي كتاب الله [عزّ وجلّ (1)]: {«إِلََّا مِنْ غِسْلِينٍ»} (2). فإن قال قائل: فإنّ غسلين واحد.
فجوابه أنّ كلّ ما كان على بناء الجمع [من الواحد] فإعرابه إعراب الجمع.
ألا ترى أنّ عشرين ليس لها واحد من لفظها، فإعرابها (3) كإعراب مسلمين، وواحدهم مسلم. وكذلك جميع الإعراب.
ويقولون (4): هذه فلسطون يا فتى، ورأيت فلسطين يا فتى، وهذا القول الأجود. وكذلك: يبرين [وفي الرفع:] يبرون يا فتى. وكلّ ما أشبه هذا فهو بمنزلته، تقول: هذه قنّسرون، ورأيت قنّسرين.
والأجود في هذا البيت (5): (المتقارب)
وشاهدنا الجلّ والياسمو ... ن والمسمعات بقصّابها
وفي القرآن ما يصدّق ذلك، قول الله عزّ وجلّ (6): {«كَلََّا إِنَّ كِتََابَ الْأَبْرََارِ لَفِي عِلِّيِّينَ. وَمََا أَدْرََاكَ مََا عِلِّيُّونَ»}. انتهى.
وذهب ابن جنّي إلى أنّ تلك الكسرة للضرورة، والإعراب إنّما هو بالياء. قال في «سرّ الصناعة»:
فأمّا قول سحيم بن وثيل:
* وقد جاوزت حدّ الأربعين *
__________
(1) زيادة يقتضيها السياق من الكامل في اللغة ص 304. وفي النسخة الشنقيطية وطبعة هارون: = تعالى =.
(2) سورة الحاقة: 69/ 36.
(3) في الكامل في اللغة: = وإعرابها =.
(4) النص منقول من الكامل في اللغة 1/ 304. والزيادة منه.
(5) البيت للأعشى في ديوانه ص 223وتاج العروس (قصب، جلل) والكامل في اللغة 1/ 305ولسان العرب (قصب، جلل) والمخصص 13/ 13ومقاييس اللغة 5/ 95.
(6) سورة المطففين: 83/ 1918.
(8/67)
فليست النون حرف إعراب، ولا الكسرة فيها علامة جرّ الاسم، وإنّما هي حركة التقاء الساكنين، وهما الياء والنون، وكسرت على أصل حركة التقاء الساكنين، ولم يفتح كما يفتح (1) نون الجمع، لأن الشاعر اضطرّ إلى ذلك، لئلّا تختلف حركة الرويّ في سائر الأبيات.
ويدلك على أنّ الحركة التي هي الكسرة ليست جرّا قول الشاعر:
* وابن أبيّ أبيّ من أبيّين *
فأبيّون جمع أبيّ، مثل ظريفون من ظريف.
فكما لا شكّ (2) أنّ كسر نون أبيّين إنّما هي لالتقاء الساكنين، لأنّه جمع تصحيح، فكذلك ينبغي أن تكون كسرة نون الأربعين.
وكذلك قول الفرزدق:
* إلّا الخلائف من بعد النّبيّين *
وهذا أيضا جمع نبيّ على الصحة لا محالة، فكسرة نون الجمع في هذه الأشياء ضرورة، وأجريت في ذلك مجرى نون التثنية. انتهى.
وكذلك قال في «إعراب الحماسة»، عند قول الشاعر (3): (البسيط)
أقول لمّا أرى كعبا ولحيته ... لا بارك الله في بضع وستّين
من السّنين تملّاها بلا حسب ... ولا حياء ولا عقل ولا دين
قال: كان أبو العباس يذهب في قول سحيم:
* وقد جاوزت حدّ الأربعين *
إلى أنّه أخرجه على أصل التقاء الساكنين، وهو الكسرة ضرورة.
__________
(1) في النسخة الشنقيطية: = كما تفتح =.
(2) في النسخة الشنقيطية: = كما لا شك =.
(3) البيتان بلا نسبة في الأشباه والنظائر 7/ 247والحماسة برواية الجواليقي ص 493وشرح الحماسة للأعلم الشنتمري 2/ 1089وشرح الحماسة للتبريزي 4/ 47ولسان العرب (بضع).
(8/68)
ويؤكّد ذلك هاهنا أيضا قوله بعده، «من السنين» فجاء بمن المرادة في جميع التفاسير من أحد عشر إلى تسعة وتسعين.
ألا ترى أنّ أصل حركة عشرين درهما (1) إنّما هو عشرون من الدّراهم، فمجيئه بالتمييز على أصله يؤنسك بأنّ كسر نون السنين من قبلها، هو أيضا خروج فيها عن الأصل (2)، غير أنّ النون في السنين الثانية مفتوحة على الاستعمال، ولم يضطر إلى كسرها، كما يضطر في القافية قبلها (3). انتهى.
وأراد بأبي العباس المبرّد، وقد نقلنا كلامه، وليس فيه ما نقله عنه، وكلامه بعده غير واضح. انتهى أيضا فتأمّله.
وسحيم بن وثيل شاعر إسلاميّ، تقدّمت ترجمته في الشاهد الثامن والثلاثين من أوائل الكتاب (4) مع شرح عدّة أبيات من هذه القصيدة.
وهذا البيت قبل البيتين اللذين أوردهما المبرد (5):
عذرت البزل إن هي خاطرتني ... فما بالي وبال ابني لبون
«البزل»: جمع بازل، وهو المسنّ من الإبل. وضربه مثلا. يقول: عذرت المسانّ من الشعراء إذا تعرّضوا لي وهاجوني، فكيف بغلامين حديثين؟! يعني الأبيرد (6)
__________
(1) في إعراب الحماسة الورقة 214: = أن أصل عشرين درهما =.
(2) في إعراب الحماسة: = على الأصل =.
(3) في إعراب الحماسة: = ولم يضطر في كسرها كما اضطر في القافية قبلها =.
(4) الخزانة الجزء الأول ص 261.
(5) في حاشية طبقات فحول الشعراء ص 72: = وخبر الأبيات أن الأبيرد الرياحي وابن عمه الأحوص أرسلا إلى سحيم رجلا بأبيات يتعرضان له بها، فلما سمعها أخذ عصاه وجعل ينحدر في الوادي يقبل ويدبر ويهمهم بالشعر، ثم قال له: اذهب وقل لهما:
أنا ابن جلا وطلاع الثنايا ... متى أضع العمامة تعرفوني
الأبيات. فجاءاه فاعتذرا له =.
(6) في طبعة بولاق: = يعني الأبرد =. وهو تصحيف صوابه من النسخة الشنقيطية والأصمعيات وطبقات فحول الشعراء.
والأبيرد بهيئة التصغير هو الأبيرد بن المعذر بن قيس بن عتاب بن هرمي بن رياح بن يربوع بن حنظلة بن مالك بن زيد ابن مناة بن تميم. انظر في ترجمته وأخباره الأغاني 13/ 126وشرح الحماسة للتبريزي 3/ 58والمؤتلف ص 27.
(8/69)
والأخوص (1)، وكانا تعرّضا له.
وقوله: «وماذا يدّري الشعراء» إلخ، «يدّري» بالدال المهملة، يقال: ادّراه يدّريه، إذا ختله وخدعه.
يقول: كيف يطمع الشعراء في خديعتي، وقد جاوزت أربعين سنة، وقاربت الخمسين، وقد اجتمع أشدّي، وجرّبت، وعرفت الخديعة والمكر، فلا يتمّ عليّ شيء.
و «الشؤون»: جمع شأن. و «مداورتها»: التقلّب فيها والتصرّف.
و «نجّذ» بالذال المعجمة، أي: أحكم، يقال: رجل منجّذ، إذا كان قد جرّب الأمور، ونجذته الأمور، إذا أحكمته، كما يقال: حنّكته التجارب.
والناجذ: آخر الأضراس، ويقال له: ضرس الحلم. ومن ذلك قولهم: ضحك حتّى بدت نواجذه.
واجتماع الأشدّ عبارة عن كمال القوى، وتمام العقل.
* * * وأنشد بعده، وهو الشاهد السابع والثمانون بعد الخمسمائة (2): (الوافر)
587 - غراث الوشح صامتة البرين
لما تقدّم قبله، من أنّه معرب بالحركة على النون.
__________
(1) في طبعة بولاق: = الأحوص =. بالحاء المهملة. وفي حاشية طبقات فحول الشعراء: = الأحوص = بالحاء المهملة.
وفي النسخة الشنقيطية وطبعة هارون 7/ 69: = الأخوص =. وفي المؤتلف: = ومنهم الأخوص بالخاء المعجمة واسمه زيد بن عمرو بن عتّاب =. ولقد سبق ترجمته في الخزانة الجزء الرابع ص 153.
(2) عجز بيت للطرماح بن حكيم وصدره:
* حسان مواضع النّقب الأعالي *
والبيت للطرماح في ديوانه ص 526.
(8/70)
وهو جمع برة بضم الباء، قال في الصحاح: كلّ حلقة من سوار وقرط، وخلخال، وما أشبهها برة.
قال (1): (الوافر)
* وقعقعن الخلاخل والبرينا *
و «البرة» أيضا: حلقة من صفر تجعل في لحم أنف البعير.
وقال الأصمعي: تجعل في أحد جانبي المنخرين. قال: وربّما كانت البرة من شعر، فهي الخزامة.
قال أبو علي: أصل البرة بروة، لأنّها جمعت على برى مثل قرية وقرى، ويجمع برات وبرين. انتهى.
والصواب أنّ أصلها بروة بضم الباء لا بفتحها، نحو: غرفة وغرف، وخصلة وخصل.
وهذا المصراع عجز، وصدره:
* حسان مواضع النّقب الأعالي *
وقد أورده أبو علي في «كتاب الشعر» مع أبيات أخر على طرز البرين، من قصيدة هذا البيت وغيرها، ثم قال: وقد كثر هذا الضرب من الجمع، حتّى لو جعل قياسا مستمرا كان مذهبا. انتهى.
والبيت من قصيدة للطّرمّاح، عدّتها سبعون بيتا (2) كلّها غزل ونسيب.
وقبله (3):
ظعائن كنت أعهدهنّ قدما ... وهنّ لدى الأمانة غير خون
وبعده:
__________
(1) البيت بلا نسبة في الصحاح (برا) ولسان العرب (بري).
(2) هي في ديوانه ص 548519في سبعين بيتا.
(3) البيتان للطرماح في ديوانه ص 526.
(8/71)
طوال مثل أعناق الهوادي ... نواعم بين أبكار وعون (1)
و «الظعائن»: جمع ظعينة، وهي المرأة ما دامت في الهودج. و «العهد»:
الحفظ بالبال. و «قدما»، بكسر القاف وسكون الدال، قال في الصحاح: يقال قدما كان كذا وكذا، وهو اسم من القدم جعل اسما من أسماء الزمان.
و «خون»: جمع خائنة. وجملة: «وهنّ لدى الأمانة» إلخ، حال من مفعول أعهدهنّ.
وقوله: «حسان مواضع» إلخ، جمع امرأة حسنة بمعنى حسناء. و «النّقب»، بضم ففتح: جمع نقبة بسكون الثاني، هو اللون والوجه. كذا في الصحاح (2).
وأراد بالأعالي ما يظهر للشمس من الوجه والعنق وأطرافه فإنّها مع ظهورها للشمس والهواء والحرّ والبرد، إذا كانت في غاية الحسن والصفاء ونهاية اللّطف، فغيرها يكون أحسن.
و «غراث»: جمع غرثان، بمعنى الجوعان، وأراد لازمه وهو الهزيل، اللازم من الجوع.
و «الوشح» بالضم: جمع وشاح بالكسر والضم، وهو شيء ينسج عريضا من أديم ويرصّع بالجواهر، وتشدّه المرأة بين عاتقيها وكشحيها.
__________
(1) في ديوانه: = طوال مشك أعناق =.
وفي حاشية طبعة هارون 8/ 71: = في الديوان مشك أعناق الهوادي وصوابهما جميعا = متل = بالميم المكسورة بعدها تاء مثناة فوقية فلام مشددة =.
وفي حاشية ديوانه ص 526، يقول أستاذنا د. عزة حسن: = الخزانة وذيل الديوان المطبوع: مثل، وهو تصحيف =.
(2) في حاشية طبعة هارون 8/ 72: = تفسير الجوهري هذا لا علاقة له بالبيت، وإنما هو تفسير عام. ولا يصح هنا. وأراه يعني بمواضع النقب ما يقابل الوشح والبرين في عجز البيت، أي ما يلقى عليه النقاب والوشاح والبرة.
فالنقب: هنا بضمتين جمع نقاب، وهو قناع المرأة تنتقب به، ولكن هكذا قيده البغدادي وفسره بهذا القيد =.
وفي حاشية ديوانه ص 526يقول د. عزة حسن: = النقب: جمع نقبة، وهي اللون والوجه. والأعالي: ما يظهر للشمس من الوجه والعنق وأطرافه. وغراث الوشح: كناية عن أنهن خميصة البطون، دقيقة الخصور، تجول وشحهن على خصورهن. والغرثان والغرثى في الأصل: الجائع. وصامتة البرين: كناية عن أن سوقهن ممتلئة لا تجول فيها خلاخيلهن، فلا تصوت والبرين: جمع برة، وهي الخلخال هاهنا =.
(8/72)
قال في الصحاح: وامرأة غرثى الوشاح، أي: دقيقة الخصر لا يملأ وشاحها، فكأنّه غرثان.
وصامتة، أي: ساكتة. وسكوت البرة كناية عن امتلاء ساقيها لحما، بحيث لا يتحرّك ليسمع له صوت. والبرة هنا: الخلخال.
وقوله: «طوال مثل» إلخ، هو جمع طويل وطويلة.
و «المثل» (1): الشّبه. أراد تشبيه أعناقهنّ بأعناق الظباء.
ورواه المولى خسرو في «حاشيته على البيضاوي» بفتح الميم والشين المعجمة وتشديد اللام، على إضافة طوال إليه. قال: و «المشلّ»: مفعل من شللت الثوب، أي: خطته، والمراد به ما يستر الأعناق. هذا كلامه.
وتبعه خضر الموصليّ في «شرح شواهد التفسيرين»، ولا يخفى أنّ هذا تعسّف من تصحيف (2).
و «الهوادي»: الظّباء وبقر الوحش المتقدّمة. و «النواعم»: جمع ناعمة، وهي الليّنة في اللّمس.
و «العون»: جمع عوان، قال الجوهري: العوان: النّصف في سنّها من كلّ شيء، أي: المتوسّطة.
وقد أورد هذا البيت في «التفسيرين» شاهدا على أنّ العوان في قوله تعالى (3):
{«عَوََانٌ بَيْنَ ذََلِكَ»} بمعنى النّصف بين الحديثة والمسنّة.
__________
(1) في النسخة الشنقيطية: = ومثل =. وهو تصحيف.
(2) في حاشية طبعة هارون 8/ 73: = أقول: هاتان الصورتان = مثل = و = مشل = والصورة الثالثة التي وردت في الديوان = مشك = من العسير قولها. والذي أرى أن توجه الرواية والتفسير هو = طوال متل = بكسر الميم بعدها تاء مثناة فوقية كما أسلفت في الحاشية رقم (1) وبإضافة طوال إلى = متل =. ونظيره من الشعر القديم قول عمرو بن عمار النهدي، وأنشده سيبويه في كتابه 1: 81بولاق و 1: 162من نسختي:
طويل متل العنق أشرف كاهلا ... أشق رحيب الجوف معتدل الجرم
قال ابن منظور: = عنى ما انتصب منه =. وقال الشنتمري بعد أن ذكر أن البيت في وصف فرس: = والمتل: العنق الطويل، الغليظ المغرز، وأضافه إلى العنق لتبيين نوع المتل، فكأنه قال: طويل الشيء المتل الذي هو العنق =.
(3) سورة البقرة: 2/ 68.
(8/73)
قال خضر الموصليّ: وتوقّف بعضهم في الاستشهاد، لأنّ «بين» يوصف بها الوسط، وتضاف إلى متعدّد، هما الطرفان لذلك الوسط.
وفي البيت الموصوف ببين هو النواعم، والمتعدّد الذي أضيفت هي إليه الأبكار والعون فلزم (1) أن يكونا طرفا، والنّواعم وسطا، فلم يدلّ على أنّ العوان النّصف، بل على ضدّه وهو الطّرف.
وأجاب عنه بعض الفضلاء بأن «بين» هنا مستعملة للتنويع، كما يقال:
مركوب فلان ما بين البغل والفرس، أي: مركوبه نوعان: بغل وفرس، فيكون المعنى أنّ الممدوحات نواعم بعضها أبكار وبعضها عون. ولا شكّ أنّها هي المتوسطات في السّنّ، وأما الصغار اللاتي في سنّ الطّفولية فلا يميل الطبع إليهنّ، وكذا المسنّات. فالتوسّط معلوم من المقام.
أقول: إنّما يتمّ الجواب أن لو استعمل «بين» التي للتنويع بغير ما، والاستعمال يشهد أنّه لا بدّ منها، فيقال: مركوب فلان ما بين بغل وفرس، وثيابه ما بين خزّ وحرير، ولا يقال بين، كما صرّح به النحاس. انتهى.
و «الطّرمّاح» هو الطّرمّاح بن حكيم الطائي (2)، شاعر إسلامي في الدولة المروانية، ومولده ومنشؤه بالشام، ثم انتقل إلى الكوفة مع من وردها من جيوش أهل الشام، فاعتقد مذهب الشّراة الأزارقة، وذلك إنه لما قدمها نزل على تيم اللات بن ثعلبة، وفيهم شيخ من الشراة له سمة وهيئة، فكان يجالسه ويسمع منه، فدعاه إلى مذهبه فقبله منه، واعتقده أشدّ اعتقاد حتّى مات عليه.
قال ابن قتيبة (3): كان الكميت بن زيد صديقا للطرمّاح لا يتفارقان في حال من الأحوال، فقيل للكميت: لا شيء أعجب من صفاء ما بينكما على تباعد ما بينكما من النسب والمذهب والبلاد، وهو شاميّ قحطانيّ خارجيّ (4)، وأنت كوفيّ نزاري
__________
(1) في النسخة الشنقيطية: = فلزما =. ولقد أثبتنا رواية طبعة بولاق.
(2) هو الحكم بن حكيم بن الحكم بن نفر بن قيس بن جحدر وكنيته أبو نفر، ويكنى أبا خبيبة أيضا.
والطرماح لقب عرف به الشاعر، حتى غلب على اسمه الأصلي، فاشتهر به. انظر في ترجمته وأخباره الأغاني 12/ 35والمقاصد النحوية 2/ 276ومقدمة ديوانه ص 7.
(3) لم نجد النص المذكور في كتاب الشعر والشعراء لابن قتيبة. ولقد عثرنا عليه في الأغاني 12/ 36.
(4) في الأغاني: = قحطاني شاريّ =.
(8/74)
شيعيّ (1)، فكيف اتفقتما مع تباين المذهب وشدّة العصبية؟! فقال: اتفقنا على بغض العامّة.
والطّرمّاح بكسر الطاء والراء المهملتين وتشديد الميم، وآخره حاء مهملة ووزنه فعمّال، فالميم زائدة (2).
ولم نذكر بقيّة نسبه لأنّ في ألفاظها غرابة وغموضا، يحتاج إلى ضبط يطول به الكلام، ولا فائدة فيه.
و «الشّراة»، بضم الشين: الخوارج، الواحد شار، كقضاة جمع قاض.
سمّوا بذلك لقولهم: إنّا شرينا أنفسنا في طاعة الله، أي: بعناها بالجنّة، حين فارقنا الأئمّة الجائرة. يقال: منه تشرّى الرجل. كذا في الصحاح.
* * * وأنشد بعده، وهو الشاهد الثامن والثمانون بعد الخمسمائة (3): (الوافر)
588 - وأنّ لنا أبا حسن عليّا
أب برّ ونحن له بنين
لما تقدّم قبله، فإنه رفع «بنين» بالضمة على النون مع لزوم الياء.
__________
(1) في طبعة بولاق: = وأنت نزاري كوفي شيعي =. وهي رواية سليمة لكننا أثبتنا رواية النسخة الشنقيطية لتوافقها مع رواية الأغاني.
(2) في حاشية طبعة هارون 8/ 74: = أقول: مع زيادة الميم لم لا يكون وزنه فعلال؟ من قولهم: طرمح البناء وغيره: علاه ورفعه =.
وفي مقاييس اللغة يقول ابن فارس 3/ 457: = طرمح البناء: أطاله ومنه اسم الطرماح =.
وفي اللسان (طرمح): = طرمح البناء وغيره: علّاه ورفعه، والميم زائدة =.
(3) البيت لأحد أولاد علي بن أبي طالب في شرح التصريح 1/ 77والمقاصد النحوية 1/ 156. وهو بلا نسبة في أوضح المسالك 1/ 55.
وروايته في هذه المصادر:
وكان لنا أبو حسن عليّ ... أبا برّا ونحن له بنين
(8/75)
وأورده ابن عصفور في «كتاب الضرائر»، وقال: إنّه ضرورة لا يحفظ إلّا في الشعر.
وجعله خطأ أبو العباس المبرد في «كتاب الرّوضة»، وخطّأ قول أبي نواس (1):
(الطويل)
شمول تخطّاها المنون فقد أتت ... سنين لها في دنّها وسنين
ولحّنه في قوله بعد هذا (2):
* تخيّرها بعد البنين بنون *
لأنّه جمع في الكلمة إعرابين: إعرابا بالحرف، وإعرابا بالحركة. وهو غير مسموع في كلام العرب.
وتقدّم الكلام على مثله قريبا، وهو قوله:
ذراني من نجد فإنّ سنينه ... البيت
وقوله: «وأنّ لنا» بفتح الهمزة، لأنّه معطوف على قوله:
* بأنّا لا نزال لكم عدوّا *
في بيت قبله كما سيأتي.
ورواه ابن عقيل وابن هشام في شرح الألفية (3):
وكان لنا أبو حسن عليّ ... أبا برّا ونحن له بنين
و «لنا» كان في الأصل نعتا لقوله: أب، فلما قدّم عليه صار حالا منه. و «نحن»:
مبتدأ، و «بنين»: خبره، وصفته محذوفة بدليل ما قبله، والتقدير: ونحن له بنين أبرار،
__________
(1) من قصيدة لأبي نواس في ديوانه ص 338ومطلعها:
لمن طلل عاري المحل دفين ... عفا عهده إلا خوالد جون
(2) لأبي نواس في ديوانه وتمام البيت:
تراث أناس عن أناس تخرموا ... توارثها بعد البنين بنون
(3) رواية أوضح المسالك 1/ 55.
(8/76)
ولولا هذا التقدير لخلا الحمل من فائدة. وروى أيضا:
ألم تر أنّ والينا عليّا أب برّ ... إلخ
و «الوالي» من ولي الأمر يليه ولاية، بكسر اللام فيهما وكسر الواو (1).
و «البرّ» بالفتح، قال صاحب المصباح: برّ الرجل يبرّ برّا، وزان علم يعلم علما فهو برّ بالفتح، وبارّ أيضا، أي: صادق أو تقيّ، وهو خلاف الفاجر، وجمع الأوّل أبرار، وجمع الثاني بررة، مثل كافر وكفرة (2).
وبررت والدي أبرّه برّا وبرورا: أحسنت الطاعة إليه، ورفقت به، وتحرّيت محابّه وتوقّيت مكارهه. وبرّ الحجّ واليمين والقول برّا أيضا، فهو برّ وبارّ أيضا.
ويستعمل متعدّيا أيضا بنفسه في الحج، وبالحرف في اليمين والقول، فيقال: برّ الله الحجّ يبرّه برورا، أي: قبله.
وبررت في القول واليمين أبرّ فيهما برورا أيضا، إذا صدقت فيهما، فأنا برّ وبارّ. وفي لغة يتعدّى بالهمزة، فيقال: أبرّ الله الحجّ، وأبررت القول واليمين. والبرّ، بالكسر: الخير والفضل، والمبرّة مثله. انتهى.
والبيت من أبيات لسعيد بن قيس الهمداني، قالها في أحد أيّام صفّين (3) وذلك أنّ معاوية دعا أهل الشام، فقال: إنّ عليّا يخرج في سرعان الخيل فمن ينتدب له؟ فقام عبد الرحمن بن خالد، فقال: أنا له.
فقال له معاوية: اقعد فلم أعهدك خفيفا. فقال عبد الرحمن العكّيّ: أنا له.
فقال له معاوية: أنت له لولا عجلتك في الحرب. فقال عمرو بن الحصين السّكوني:
أنا له. فقال: أنت له حقّا!
فخرج في عكّ والصّدف، وخرج عليّ رضي الله عنه كعادته، فترقّبه السّكونيّ وحمل عليه من خلفه، فلمّا كاد أن يطعنه اعترضه سعيد بن قيس الهمدانيّ فطعنه طعنة
__________
(1) في حاشية طبعة هارون 8/ 76: = وقيل الولاية بالفتح: المصدر. وبالكسر: الاسم مثل الإمارة والنقابة، وقيل بكسر الواو وفتحها في الولاية مصدرا =.
(2) بعده في المصباح: = ومنه قوله للمؤذن: صدقت وبررت، أي صدقت في دعواك إلى الطاعات، وصرت بارا. دعاء له بذلك، ودعاء له بالقبول. والأصل: بر عملك =.
(3) لم نجد خبرا لهذه الأبيات في كتاب وقعة صفين.
(8/77)
قصم بها صلبه، فالتفت عليّ رضي الله عنه فرأى السّكونيّ صريعا. ثم قتل سعيد بن قيس رجلا من ذي رعين، فجزع عليهما معاوية جزعا شديدا، فقال سعيد بن قيس هذه الأبيات (1): (الوافر)
لقد فجعت بفارسها رعين ... كما فجعت بفارسها السّكون
غداة أتى أبا حسن عليّا ... وأمّ النّقع مشبلة طحون
ليطعنه فقلت له خذنها ... مسوّمة يخفّ لها القطين
أقول له ورمحي في صلاه ... وقد قرّت بمصرعه العيون
ألا يا عمرو عمرو بني حصين ... وكلّ فتى ستدركه المنون
أترجو أن تنال إمام صدق ... أبا حسن وذا ما لا يكون
لقد بكت السّكون عليك حتّى ... وهت منها النّواظر والجفون
ألا أبلغ معاوية بن حرب ... ورجم الغيب يكشفه اليقين
بأنّا لا نزال لكم عدوّا ... طوال الدّهر ما سمع الحنين
ألم تر أنّ والينا عليّا ... أب برّ ونحن له بنين
وأنّا لا نريد سواه يوما ... وذاك الرّشد والحقّ المبين
وأنّ له العراق وكلّ كبش ... حديد القرن ترهبه القرون
و «العكيّ»: نسبة إلى عكّ بفتح المهملة: أبو قبيلة من اليمن، وهو عكّ بن عدنان بن عبد الله بن الأزد.
و «السّكوني»: نسبة إلى السّكون، بفتح السين المهملة، أبو قبيلة عظيمة من اليمن، وهو السّكون بن أشرس بن ثور. ويقال لثور: كندة، وإليه ينتسب امرؤ القيس.
و «الصّدف»، بفتح المهملة وكسر الدال: بطن من كندة ينسبون اليوم إلى حضرموت. وإذا نسبت إليه، فقلت: صدفيّ، فتحت الدال.
و «همدان»، بسكون الميم: أبو قبيلة عظيمة باليمن.
__________
(1) في حاشية طبعة هارون 8/ 77: = الأبيات لم ترد في وقعة صفين =. وهذا يؤيد ما ذكرناه سابقا.
(8/78)
و «ذو رعين» بالتصغير: بطن من حمير، وهو ذو رعين بن سهل بن زيد.
كذا في الجمهرة (1). وقد تجوّز الشاعر في حذف ذي منه.
وفجعت في الموضعين بالبناء للمفعول، من فجعه، في ماله وأهله، أي: أصابه بالرزيّة. و «الفجيعة»: الرزيّة، وفعله من باب نفع. و «أمّ النّقع» أراد بها الحرب. و «النّقع»، بالنون والقاف: الغبار.
و «مشبلة»: اسم فاعل من أشبل عليه، أي: عطف. وأشبلت المرأة بعد بعلها: صبرت على أولادها فلم تتزوّج. ولبوة مشبل، إذا مشى معها أولادها.
والشّبل بالكسر: ولد الأسد.
و «طحون»: مبالغة طاحنة، أي: مهلكة. والضمير في «خذنها» راجع إلى الطّعنة المفهومة من قوله ليطعنه. و «المسوّمة»: المرسلة، من قولهم: سوّم فيها الخيل، إذا أرسلها. ومنه السائمة. و «يخفّ»: يرحل ويسافر. و «القطين»:
جمع قاطن، وهو المقيم.
و «الصّلا»، بفتح الصاد والقصر: العجز، وفي الأصل هو مغرس الذنب من الفرس، ومنه، قيل: أخذت الصلاة. و «المصرع» (2): المهلك. و «وهت»:
ضعفت.
وقوله (3): {«رَجْماً بِالْغَيْبِ»}، أي: ظنّا من غير دليل ولا برهان.
وقوله: «بأنّا»، متعلق بأبلغ. و «العدوّ»: خلاف الصديق، يقع على الواحد المذكر والمؤنث والمجموع.
و «طوال الدهر»، بفتح الطاء، أي: طوله. و «الحنين» هنا: حنين الناقة، وهو صوتها في نزاعها إلى ولدها.
__________
(1) أراد جمهرة النسب لابن الكلبي. وفي جمهرة أنساب العرب لابن جزم ص 433: = وذو رعين، واسمه يريم، ابن زيد بن سهل بن عمرو بن قيس وسهل هذا أخو خيران وشعبان ابني عمرو، بطن ضخم =.
(2) في طبعة بولاق: = والمسرع =. وهو تصحيف صوابه من النسخة الشنقيطية.
(3) سورة الكهف: 18/ 22.
وفي حاشية طبعة بولاق: = قوله: وقوله رجما بالغيب الذي تقدم في الأبيات ورجم الغيب =.
ويبدو أن البغدادي أراد تفسير الشعر على ضوء تفسير هذه الآية الكريمة.
(8/79)
و «القرن» في الموضعين، بفتح القاف (1). وجملة: «ترهبه» حالية.
و «سعيد بن قيس الهمداني» من أصحاب عليّ رضي الله عنه، ولم أر له ذكرا في كتب الصحابة (2)، وإنما هو تابعي.
قال ابن الكلبي: السّبيع: بطن من همدان.
ومن السّبيع: سعيد (3) بن قيس بن زيد بن مرب بن معديكرب بن أسيف بن عمرو بن سبع بن السّبيع. انتهى.
و «همدان»، بسكون الميم: قبيلة عظيمة باليمن، وهو لقب، واسمه أوسلة.
و «السّبيع»، بفتح السين المهملة وكسر الموحدة.
و «مرب»، بفتح الميم وكسر الراء المهملة بعدها موحّدة.
ولمّا لم يقف العينيّ على ما قبل البيت الشاهد، ولا على ما بعده ظنّ أن البيت لأحد أولاد عليّ رضي الله عنه.
* * * وأنشد بعده (4): (الوافر)
__________
(1) القرن بفتح القاف: روق الكبش، والجمع قرون، لا يكسّر على غير ذلك، وموضعه من رأس الإنسان. ورمح مقرون: سنانه من قرن وذلك أنهم ربما جعلوا أسنة رماحهم من قرون الظباء والبقر الوحشي =.
انظر اللسان (قرن). وقد أخطأ محقق طبعة هارون بقوله: القرن بالفتح سيد القوم ورئيسهم. فالقرن: هو المثيل في القوة والشدة. والجمع أقران.
(2) في طبعة بولاق: = في كتاب الصحابة =. وهو تصحيف صوابه من النسخة الشنقيطية. وله أخبار متفرقة وكثيرة في كتاب وقعة صفين.
(3) في طبعة بولاق: = سعد =. وهو تصحيف صوابه من النسخة الشنقيطية وجمهرة أنساب العرب ص 436.
(4) عجز بيت لعمرو بن كلثوم وصدره:
* تهددنا وتوعدنا رويدا *
والبيت في ديوانه ص 79وجمهرة اللغة ص 408وشرح شواهد الإيضاح ص 292ولسان العرب (خصب، قتا، قوا) والمنصف 2/ 133ونوادر أبي زيد ص 188. وهو بلا نسبة في الأشباه والنظائر 1/ 289ولسان العرب (ذنب).
(8/80)
* متى كنّا لأمّك مقتوينا *
على أنّه حكي عن أبي عبيدة، وأبي زيد جعل نون «مقتوينا» محلّ تعاقب الإعراب بالحركة. فالألف هنا بدل من التنوين.
وهذه عبارة أبي زيد في «نوادره»: رجل مقتوين [ورجلان مقتوين]، ورجال مقتوين (1). وكذلك المرأة والنساء، وهو الذي يخدم القوم بطعام بطنه.
وقال عمرو بن كلثوم:
تهدّدنا وأوعدنا رويدا ... متى كنّا لأمّك مقتوينا
الواو مفتوحة وبعضهم يكسرها، أي: متى كنّا خدما لأمّك. هذا كلامه.
وقد شرحه (2) أبو علي في «كتاب الشعر» (3) وقال: النون حرف الإعراب.
ونقله عنه وعن أبي عبيدة. وضبط الميم بالفتح والضمّ وتقدّم كلامه منقولا بتمامه في الشاهد الثالث والخمسين بعد الخمسمائة من باب المذكر والمؤنث (4).
وقال أبو الحسن الأخفش في شرحه لها: هذا القياس (5) وهو مسموع من العرب أيضا، فتح الواو من مقتوين، فتقول مقتوين، فيكون الواحد مقتوى (6)، فاعلم (7)، مثل مصطفى فاعلم (8)، ومصطفين إذا جمعت.
__________
(1) زيادة يقتضيها السياق من نوادر أبي زيد ص 188.
(2) في النسخة الشنقيطية: = وقد جره =. وهو تصحيف صوابه من طبعة بولاق.
(3) أراد كتاب إيضاح الشعر لأبي علي ويسمى أيضا = الإيضاح الشعري = و = إعراب الشعر =.
(4) الخزانة الجزء السابع ص 399.
(5) في طبعة بولاق: = هنا القياس =. وفي نوادر أبي زيد ص 188: = القياس وهو مسموع =. ولقد أثبتنا رواية النسخة الشنقيطية.
(6) في نوادر أبي زيد ص 188: = فيكون الواحد مقتى =. وفي النوادر يضبط أبو زيد مقتوينا بفتح الميم، بينما يضبطها هارون في طبعته بضم الميم. وهي بالفتح أصح.
(7) في طبعة بولاق: = فاعل =. وهو تصحيف صوابه من النسخة الشنقيطية ونوادر أبي زيد.
(8) في طبعة بولاق: = مصطفى فاعل =. وهو تصحيف. وفي النسخة الشنقيطية: = فاعلم = فقط.
وفي حاشية طبعة هارون 8/ 81: = ليست في النوادر =. وهذا سهو من المحقق فالنص بحرفيته ودون نقص في النوادر لأبي زيد.
(8/81)
ومن قال مقتوين فكسر الواو فإنّه يفرده في الواحد والتثنية والجمع والمؤنث، لأنه عنده مصدر، فيصير بمنزلة قولهم: رجل عدل، وفطر وصوم ورضا (1) وما أشبهه.
ويقال: مقت الرجل، إذا خدم. فهذا بيّن في هذا الحرف. انتهى.
وهذا مبنيّ على أنّ الميم مضمومة، إلّا أنّ قوله مقت الرجل، فجعل الميم أصليّة، لا وجه له. فتأمّل.
* * * وأنشد بعده، وهو الشاهد التاسع والثمانون بعد الخمسمائة، وهو من شواهد سيبويه (2): (الطويل)
589 - إذا ما بنو نعش دنوا فتصوّبوا
على أنّ الأخفش حكى: بنو عرس وبنو نعش، اعتبارا للفظ ابن، وإن كان غير عاقل، كما في البيت. كأنه جعلها جمعا لابن نعش، وإن لم يستعمل.
قال سيبويه (3): وأمّا {«كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} [4]»، و {«رَأَيْتُهُمْ لِي سََاجِدِينَ»} (5)،
__________
(1) في النسخة الشنقيطية ونوادر أبي زيد رسمت الكلمة: «رضي» بالياء. وإلى هنا ينتهي النقل من نوادر أبي زيد.
(2) عجز بيت للنابغة وصدره:
* شربت بها والدّيك يدعو صباحه *
والبيت هو الإنشاد السابع والثمانون بعد الخمسمائة في شرح أبيات المغني للبغدادي.
والبيت للنابغة الجعدي في ديوانه ص 4والحماسة البصرية 2/ 74وشرح أبيات سيبويه 1/ 476وشرح أبيات المغني 6/ 130وشرح شواهد المغني ص 782والصاحبي في فقه اللغة ص 250والكتاب 2/ 47ولسان العرب (نعش). وهو بلا نسبة في تذكرة النحاة ص 370وشرح المفصل 5/ 105ومغني اللبيب ص 365 والمقتضب 2/ 226.
(3) النص في شرح أبيات المغني 6/ 130.
(4) سورة الأنبياء: 21/ 33.
(5) سورة يوسف: 12/ 4.
(8/82)
و {«يََا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسََاكِنَكُمْ} [1]»، فزعم الخليل أنّه جعلهم بمنزلة من يعقل ويسمع، لمّا ذكرهم بالسجود، وصار النمل بتلك المنزلة حين حدّث عنه ما يحدث عن الأناسيّ (2).
وكذلك «في فلك يسبحون»، لأنّها جعلت في طاعتها وفي أنّه لا ينبغي لأحد أن يقول: مطرنا بنوء كذا، ولا ينبغي لأحد أن يعبد شيئا منها، بمنزلة ما يعقل (3) من المخلوقين ويبصر الأمور.
قال النابغة الجعدي:
شربت بها والدّيك يدعو صباحه ... إذا ما بنو نعش دنوا فتصوّبوا
فجاز هذا حيث صارت هذه الأشياء عندهم تؤمر وتطيع، وتفهم الكلام، وتعبد بمنزلة الآدميّين. انتهى (4).
قال الأعلم: الشاهد فيه تذكير بنات نعش، لإخباره عنها بالدنوّ والتصوّب كما يخبر عن الآدميين، على ما بيّنه سيبويه.
وصف خمرا باكرها بالشّرب عند صياح الديك. وتصوّب بنات نعش: دنوّها من الأفق للغروب.
والباء في قوله: «بها» زائدة مؤكّدة. وكثيرا ما تزيدها العرب في مثل هذا.
قال تعالى (5): {«عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ»}. انتهى.
أقول (6): الباء في البيت والآية للتبعيض.
وقال ابن خلف: الشاهد أنه جمع «ابنا» من غير ما يعقل، جمع العقلاء المذكّرين، [فقال: بنو،] وكان ينبغي أن يقول: بنات نعش، وواحدها ابن
__________
(1) سورة النمل: 27/ 18.
(2) في سيبويه 1/ 240: = حين حدثت عنه كما تحدث عن الأناسي =.
(3) في سيبويه: = من يعقل =.
(4) سيبويه 1/ 240.
(5) سورة المطففين: 83/ 28.
(6) النص في شرح أبيات المغني للبغدادي 6/ 131130. والزيادات منه. والقارئ لهذه القطعة يجد التفكك وعدم الانسجام والوضوح في طبعة هارون.
(8/83)
نعش. [لأن ما لا يعقل من المذكر والمؤنث يجمع جمع السلامة والتكسير: كحمّام وحمّامات،] وحمل بنو نعش على ما يعقل لمّا كان دورها على مقدار لا يتغيّر، [فكأنها تقدر] ذلك الدور، وتعقله. [فجاز هذا حيث صارت هذه الأشياء عندهم تؤمر وتطيع وتفهم الكلام، وتعبد بمنزلة الآدميين،] وقال: «دنوا فتصوّبوا»، وكان ينبغي أن يقال: دنون فتصوّبن. انتهى.
وقال ابن هشام في «المغني»: والذي جرّأه على استعمال الواو في غير العقلاء قوله: بنو لا بنات.
والذي سوّغ ذلك أنّ ما فيه من تغيير نظم الواحد شبّهه بجمع التكسير، فسهل مجيئه لغير العاقل. ولهذا جاز تأنيث فعله، نحو (1): {«إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرََائِيلَ»}، مع امتناع قامت الزيدون. انتهى.
و «بنات نعش» من منازل القمر الثمانية والعشرين، قال صاحب الصحاح:
اتّفق سيبويه والفرّاء على ترك صرف نعش، للمعرفة والتأنيث.
قال الدمامينيّ في «الحاشية الهندية»: الظاهر أنّه جائز لا واجب، لأنّه ساكن الوسط.
وقال صاحب العباب: بنات نعش الكبرى: سبعة كواكب، أربعة منها نعش، وثلاث بنات. وكذلك بنات نعش الصغرى.
وذكر أبو عمر الزاهد في «فائت الجمهرة» عن الفراء أنّه يقال: بنات نعش في ميزان عمر، لا ينصرف في المعرفة وينصرف في النكرة. قال: وليس بينهم خلاف، تقول: هذه بنات نعش مقبلة، ومعها بنات نعش أخرى مقبلة.
وقد جاء في الشعر بنو نعش، وأنشد أبو عبيدة للنّابغة الجعدي:
وصهباء لا تخفي القذى وهي دونه ... تصفّق في راووقها ثمّ تقطب (2)
تمزّزتها والدّيك يدعو صباحه ... إذا ما بنو نعش دنوا فتصوّبوا (3)
__________
(1) سورة يونس: 10/ 90.
(2) البيت للنابغة الجعدي في ديوانه ص 4والحماسة البصرية 2/ 74وشرح أبيات المغني 6/ 131والعمدة 2/ 282ولسان العرب (نعش).
(3) تمززتها: هي رواية الصاحبي ص 122.
(8/84)
وقال ابن دريد: سمّيت بنات نعش تشبيها بحملة النعش (1) في تربيعها.
وقال الليث: يقال للواحد منها ابن نعش، لأنّ الكواكب مذكّرة، فيذكّرونه على تذكيره.
وإذا قالوا: ثلاث وأربع ذهبوا إلى مذهب التأنيث، لأنّ البنين إنّما يقال للآدميين. وعلى هذا القياس يقولون: ابن آوى، وابن عرس، فإذا جمعوا، قالوا:
بنات آوى، وبنات عرس، قال الخليل: هذا شيء لم يسمّ بالابن لحال الأب والأمّ كما قيل: بنون وبنات. وإذا ذكروا ابن لبون، وابن مخاض، قالوا: هذا ابن لبون وابن مخاض.
وإذا ثنوّا، قالوا: ابنا لبون وابنا مخاض. وإذا جمعوا تركوا القياس ولم يقولوا بنون، ولكنهم يقولون بنات مخاض ذكورا. هذا كلام العرب.
ولو حمله النحويّ على القياس فذكّر المذكر وأنّث المؤنث لكان صوابا. وبعضهم يقول: لا يجوز لما كان من غير الآدميين (2) أن يقال في جمعه إلّا بالتأنيث، إلّا أن يضطرّ شاعر فيخرجه مخرج الآدميين، إذا حمل على غير الآدميين، على مثال ما يجمعون عليه.
قال تعالى (3): {«وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سََاجِدِينَ»} لمّا فعلوا فعل الآدميّين جمعهم كما يجمعون. وخاطبهم بما يخاطبون. انتهى كلام العباب.
وقال القالي في «المقصور والممدود»: قال أبو حاتم: يقال ابن آوى لهذا السبع، وللاثنين: ابنا آوى (4)، وللجمع: بنات آوى وإن كنّ ذكورا، ولا يصرف آوى. ويجمعون كل جماعة من غير الإنس على بنات، كما قالوا: بنات نعش لهذه الكواكب، ولم يقولوا: بنو نعش، فإن اضطرّ شاعر قاله مستكرها.
قال الشاعر:
__________
(1) في طبعة بولاق: = بجملة النعش = بالجيم. وهو تصحيف صوابه من النسخة الشنقيطية ولسان العرب (نعش).
(2) قوله: = أن يقال في جمعه إذا حمل على غير الآدميين =. ساقط من النسخة الشنقيطية.
(3) سورة يوسف: 12/ 4.
(4) في النسخة الشنقيطية: = أبناء آوى =. وهو تصحيف صوابه من طبعة بولاق.
(8/85)
فباكرتها والدّيك يدعو صباحه ... البيت
والصواب: بنات نعش دنت فتصوّبت، أو دنون فتصوّبن. فهذا على الاضطرار. وأمّا ما لا يعرف ذكوره من إناثه فمحمول على اللفظ، يقال للذكر والأنثى ابن عرس وابن قترة (1) لضرب من الحيات، وابن دأية غير معروف للغراب.
فإذا جمعت على هذا النحو، قلت: بنات آوى، وبنات عرس، وبنات قترة، وبنات دأية، للذكور والإناث. وكلّ جمع من غير الإنس والجن والشياطين والملائكة، فيقال فيه بنات. انتهى.
والبيتان من قصيدة للنابغة الجعدي أورد أبياتا منها السّيوطيّ في «شرح شواهد المغني» (2).
وقوله: «وصهباء» إلخ، أي: ربّ صهباء، وهي الخمر. «لا تخفي»: لا تستر.
و «القذى»: ما يقع في الماء والشراب والعين إذا هبّت الريح. و «دون» هنا بمعنى قدّام. يقول: إنّ القذى إذا حصل في أسفل الزجاجة رآه الرائي في الموضع الذي هو فيه، لصفائها. والخمر أقرب إلى الرائي من القذى، وهي فيما بين الرائي وبين القذى، يريد أنها يرى ما وراءها لصفائها.
وتصفّق: بالبناء للمفعول. و «التصفيق»: إدارتها من إناء إلى إناء لتصفو.
و «الراووق»: المصفاة. و «تقطب»: تمزج.
وقوله: «شربت بها» إلخ، روى أيضا: «تمزّزتها والدّيك». و «التّمزز»:
تمصّص الشراب قليلا قليلا. ومزّه يمزّه، أي: مصّه.
وقوله: «يدعو صباحه»، أي: في وقت صباحه (3).
__________
(1) في اللسان (قتر): = وابن قترة: ضرب من الحيات خبيث إلى الصغر ما هو لا يسلم من لدغها، مشتق من ذلك، وقيل: هو بكر الأفعى، وهو نحو من الشبر ينزو ثم يقع =.
(2) هي في ديوان النابغة الجعدي في 32بيتا ص 113.
وفي شرح أبيات المغني للبغدادي 6/ 131: = والبيت من قصيدة عدتها ستة وثلاثون بيتا للنابغة الجعدي =.
(3) في النسخة الشنقيطية: = أي وقت صباحه = بإسقاط = في =. وفي طبعة بولاق: = في أي في وقت صباحه =.
بإقحام = في = الأولى في النص.
(8/86)
قال ابن رشيق في «باب السرقات الشعرية من العمدة» (1).
قد اجتلب الفرزدق هذا البيت واستلحقه بشعره، فقال (2): (الطويل)
وإجّانة ريّا السّرور كأنّها ... إذا غمست فيها الزّجاجة كوكب
تمزّزتها والدّيك يدعو صباحه ... البيت
والنابغة الجعدي شاعر صحابيّ تقدّمت ترجمته في الشاهد السادس والثمانين بعد المائة (3).
* * * __________
(1) العمدة في محاسن الشعر 2/ 283282.
(2) البيت للفرزدق في ديوانه ص 15والعمدة في محاسن الشعر 2/ 283.
والإجانة: وعاء من الفخار.
(3) الخزانة الجزء الثالث ص 158.
(8/87)
جمع المؤنث السالم
أنشد فيه، وهو الشاهد التسعون بعد الخمسمائة (1): (الطويل)
590 - أتت ذكر عوّدن أحشاء قلبه
خفوقا ورفضات الهوى في المفاصل
على أنّ «رفضات» كان يستحق أن يفتح فاؤه، فسكّن للضرورة، لأنّ رفضات جمع رفضة، وفعلة بفتح الفاء وسكون العين، إذا كان اسما لا صفة كصعبة، يجب فتحها إذا جمعت بالألف والتاء.
و «رفضة» هنا اسم لأنّه مصدر محض ليس فيه من معنى الوصفيّة شيء، ولو كان مؤوّلا بالوصف كرجل عدل لكان للتسكين وجه.
قال ابن عصفور في «كتاب الضرائر»: حكم ل «رفضات» وهو اسم بحكم الصفة.
ألا ترى أنّ رفضات جمع رفضة، ورفضة اسم، والاسم إذا كان على وزن فعلة وكان صحيح العين فإنه إذا جمع بالألف والتاء لم يكن بدّ من تحريك عينه إتباعا لحركة فائه، نحو: جفنة، وجفنات.
وإن كان صفة بقيت العين على سكونها، نحو: ضخمة، وضخمات. وإنّما فعلوا ذلك فرقا بين الاسم والصفة، وكان الاسم أولى بالتحريك لخفّته، فاحتمل لذلك ثقل الحركة، فكان ينبغي أن يقول: رفضات بالتحريك، إلّا أنّه لما اضطرّ إلى التسكين حكم لها بحكم الصفة فسكّن.
__________
(1) البيت لذي الرمة في ديوانه ص 494وإصلاح المنطق ص 154وشرح شواهد الإيضاح ص 247وشرح المفصل 5/ 28ولسان العرب (سنب) والمحتسب 1/ 56، 2/ 171والمقتضب 2/ 192.
روايته في ديوانه وبعض هذه المصادر:
أبت ذكر عودن ...
(8/88)
ومما يبيّن لك صحّة ما ذكرته من الحمل على الصّفة أنّ أكثر ما جاء من ذلك في الشعر إنّما هو مصدر، لقوّة شبه المصدر باسم الفاعل الذي هو صفة.
ألا ترى أنّ كلّ واحد منهما يقع موقع صاحبه. والمعتلّ اللام من فعلة بمنزلة الصحيح اللام، في أنّ العين لا تسكن في جمع الاسم منه إلّا في ضرورة، حكى أبو الفتح عن بعض قيس: ثلاث ظبيات بإسكان الباء. وروى أيضا عن أبي زيد عنهم:
شرية، وشريات. انتهى باختصار.
وقد تكلّم ابن جنّي في «موضعين من المحتسب» على هذا الجمع في أوّل سورة البقرة، وفي سورة لقمان. ولمّا كان الأوّل أجمع للفوائد اقتصرنا عليه.
قال: وقد سكّنوا المفتوح، وهو ضرورة. قال لبيد (1): (الوافر)
رحلن لشقّة ونصبن نصبا ... لوغرات الهواجر والسّموم
وقال ذو الرمّة:
أبت ذكر عوّدن أحشاء قلبه ... البيت
وروينا أيضا أنّ بعض قيس، قال: ثلاث ظبيات، فأسكن موضع العين.
وروينا عن أبي زيد أيضا عنهم شرية وشريات، وهو الحنظل.
والتسكين عندي في هذا أسوغ منه في نحو: رفضات، ووغرات، من قبل أنّ قبل الألف ياء محرّكة مفتوحا ما قبلها. وهذا شرط اعتلالها بانقلابها ألفا.
ويحتاج أن نعتذر من ذلك فنقول: لو قلبت ألفا لوجب حذفها لسكونها وسكون الألف بعدها، وليس في نحو: رفضات ما يوجب الاعتذار من الحركة.
وكان رفضات أقرب مأخذا من تمرات، من قبل أنّ رفضة حدث ومصدر، والمصدر قويّ الشبه باسم الفاعل الذي هو صفة، والصفة لا تحرّك في نحو هذا (2).
__________
(1) البيت للبيد بن ربيعة في ديوانه ص 102.
في شرح ديوانه: = أي رحلن لأرض بعيدة. نصبن: أي رفعن فيه رفعا. والهواجر: أنصاف النهار، ويروى:
رحلن لشقة ونصصن نصا: رفعن للسير والنجاء وغرات: واحدها وغرة، والوغرة، شدة حرّ النهار.
والسموم: الريح الحارة =.
(2) بعده في المحتسب لابن جني: = نحو صعبة وصعبات، وخدلة وخدلات =.
(8/89)
ويدلّك على قوّة شبه المصدر بالصّفة وقوع كلّ واحد منهما موقع صاحبه.
فكذلك سهّل شيئا إسكان نحو: رفضة، ووغرة، لسكونهما حدثين ومصدرين، لشبههما بالصفة.
ويزيد في أنسك تسكين عين ما لامه حرف علّة (1)، لما يعقب من الاعتذار من تحريك [عينه (2)]، امتناعهم من تحريك العين في فعلة إذا كانت حرف علّة، وذلك نحو جوزات، ألا ترى لو حرّك لوجب أن يعتذر من صحّة العين مع حركتها وانفتاح ما قبلها، بأن يقولوا: لو أعلّت لوجب القلب، فيلتبس بما عينه في الواحد ألف منقلبة، نحو: قارة وقارات (3).
وإذا جاز إسكان العين الصّحيحة، نحو: تمرات صار المعتلّ أحرى بالصحة.
انتهى باختصار.
والبيت من قصيدة طويلة لذي الرمّة كلّها غزل ونسيب. وقبله (4):
إذا قلت ودّع وصل خرقاء واجتنب ... زيارتها تخلق حبال الوسائل
يخاطب نفسه. ويقول: إذا قلت: ودّع يا ذا الرمّة وصل خرقاء، و «خرقاء»:
لقب محبوبته ميّة، و «تخلق»: مجزوم في جواب أحد الأمرين المتقدّمين، وفاعله ضمير المخاطب، وهو من أخلقت الثوب، إذا أبليته.
و «الحبال»: جمع حبل بمعنى السّبب، استعير لكلّ شيء، يتوصّل به إلى أمر من الأمور.
و «الوسائل»: جمع وسيلة. قال شارح ديوانه: الوسيلة القربة، والمنزلة.
وقوله: «أبت ذكر» إلخ، هذا جواب إذا في البيت قبله. و «أبت» بمعنى امتنعت.
__________
(1) في حاشية طبعة هارون 8/ 89: = أي في نحو ظبية وغزوة =.
(2) زيادة يقتضيها السياق من المحتسب 1/ 57.
(3) في طبعة بولاق والنسخة الشنقيطية: = فارة وفارات = بالفاء. وهو تصحيف صوابه بالقاف، كما في المحتسب، وكما سيأتي في الشاهد رقم 593من شواهد الخزانة.
القارة بتخفيف الراء الحرّة، وهي أرض ذات حجارة سود، وجمعها قارات انظر اللسان (قور).
(4) ديوان ذي الرمة ص 494.
(8/90)
وفي بعض نسخ الشرح «أتت» بالمثناة على أنّه من الإتيان. ولم أره في نسخ الديوان، وعندي منه ولله الحمد أربع نسخ، و «ذكر»، بكسر الذال وفتح الكاف: جمع ذكر، والذكر بالكسر والضم: اسم لذكرته بلساني وبقلبي ذكرى بالكسر والقصر، نص عليه جماعة منهم أبو عبيدة، وابن قتيبة.
وأنكر الفراء الكسر في القلب، وقال: اجعلني على ذكر منك بالضم لا غير.
ولهذا اقتصر عليه جماعة. والنون من «عوّدن» ضمير الذّكر. وعودته كذا فاعتاده وتعوّده، أي: صيّرته له عادة.
و «الأحشاء»: جمع حشى بالقصر، وهو ما في البطن من معى وكرش (1)، وغيرهما.
و «الخفوق» مفعول ثان لعوّد، وهو مصدر خفق، وخفقانا أيضا إذا اضطرب.
و «رفضات»: بالرفع معطوف على ذكر.
قال شارح ديوانه: رفضاته: تفرّقه وتفتّحه في المفاصل، وهو بالفاء والضاد المعجمة. وهذا من قولهم: رفضت الإبل ترفض كضرب يضرب، رفوضا، إذا تبدّدت في المرعى حيث أحبّت. ورفضات الهوى من إضافة المصدر إلى فاعله.
وقال ابن بريّ: يقول: إن تجتنب زيارتها تخلق حبال الوسائل لبعد العهد بها، وتقادم الوصل الذي يشوّق إليها. يريد أن يهوّن على نفسه السلوّ عنها، ثم أجاب نفسه، فقال: أبت ذكر جمع ذكرة.
وأحشاء قلبه: جمع حشى، كأنه أراد ما بين الجنبين، لاشتمال الخفقان على جميع ذلك. ورفضات: جمع رفضة، يعني الكسر والحطم. انتهى.
وترجمة ذي الرمّة تقدّمت في الشاهد الثامن (2).
* * * __________
(1) في النسخة الشنقيطية: = من أمعاء =. وهو تصحيف صوابه من طبعة بولاق. والمعى بكسر الميم وفتحها، وفتح العين: واحد الأمعاء.
(2) الخزانة الجزء الأول ص 119.
(8/91)
وأنشد بعده، وهو الشاهد الحادي والتسعون بعد الخمسمائة (1): (الطويل)
591 - وأهلة ودّ قد تبرّيت ودّهم
وأبليتهم في الحمد جهدي ونائلي
على أنّ «أهلا» الوصف يؤنّث بالتاء كما في البيت.
وقوله: «وأهلة ودّ» صفة لموصوف محذوف، أي: جماعة مستأهلة للودّ، أي: مستحقّة له.
وفي البيت ردّ على الخليل في زعمه أنّه لا يقال: أهلة. قال سيبويه: قلت للخليل: هلّا قالوا أرضون، أي: بسكون الراء، كما قالوا: أهلون، قال: إنّها لمّا كانت تدخلها التاء أرادوا أن يجمعوها بالواو والنون كما جمعوها بالتاء. و «أهل» مذكر لا تدخله التاء، ولا تغيّره الواو والنون، كما لا تغيّر غيره من المذكّر، نحو:
صعب. انتهى.
وقد أنكر بعضهم استأهل بمعنى استحقّ. نقل صاحب العباب عن تهذيب الأزهري أنه قال (2): خطّأ بعضهم قول من يقول: فلان يستأهل أن يكرم أو يهان، بمعنى يستحقّ.
قال: ولا يكون الاستئهال إلّا من الإهالة، وهو أخذ الإهالة أو أكلها، وهي الألية المذابة.
قال الأزهريّ: وأمّا أنا فلا أنكره ولا أخطّئ من قاله لأنّي سمعت أعرابيا فصيحا من بني أسد يقول لرجل شكر عنده يدا أوليها: «تستأهل يا أبا حازم ما أوليت (3)» وحضر ذلك جماعة من الأعراب، فما أنكروا قوله. قال: ويحقّق ذلك قوله تعالى (4): {«هُوَ أَهْلُ التَّقْوى ََ وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ»}. انتهى.
__________
(1) البيت لأبي الطمحان القيني في تاج العروس (أهل، بري) ولسان العرب (أهل). وهو بلا نسبة في إصلاح المنطق ص 154وشرح المفصل 5/ 32والمحتسب 1/ 217.
(2) النص في تهذيب الأزهري 6/ 418بخلاف يسير في الرواية. فقد جاء في التهذيب: = وقد سمعت أعرابيا فصيحا من بني أسد يقول لرجل أولى كرامة أنت تستأهل ما أوليت =.
(3) سبق لنا منذ قليل ذكر رواية الأزهري في التهذيب.
(4) سورة المدثر: 74/ 56.
(8/92)
وقول الشارح المحقق: «وأهل في الأصل اسم دخله معنى الوصف» قال الراغب في «مفردات القرآن» (1): أهل الرجل: من يجمعه وإيّاهم نسب أو دين أو نحو ذلك، من صناعة وبيت وبلد.
فأهل الرّجل في الأصل: من جمعه وإيّاهم مسكن واحد، ثم تجوّز به، فقيل أهل بيته من يجمعه وإيّاهم نسب أو ما ذكر.
وعبّر عن أهله بامرأته (2). وفلان أهل لكذا، أي: خليق به. والآل، قيل:
مقلوب منه لكن خصّ بالإضافة إلى أعلام الناطقين دون النكرات والأزمنة والأمكنة، فيقال: آل فلان ولا يقال آل رجل، ولا آل زمن كذا، ولا آل موضع كذا، كما يقال أهل بلد كذا وموضع كذا. انتهى.
وقال صاحب العباب: الأهل: أهل الرجل، وأهل الدار، وكذلك الأهلة.
قال أبو الطّمحان القيني:
وأهلّة ودّ قد تبرّيت ودّهم ... وأبليتهم في الجهد بذلي ونائلي
أي: ربّ من هو أهل للودّ، وقد تعرّضت له، وبذلت له في ذلك طاقتي من نائل. والجمع أهلات وأهلات وأهلون.
وكذلك الأهالي زادوا فيه الياء على غير قياس، كما جمعوا ليلا على ليال. وقد جاء في الشعر آهال، مثل فرخ وأفراخ.
وأنشد الأخفش (3): (الرجز)
* وبلدة ما الإنس من آهالها *
وقال ابن عبّاد: يقولون هو أهله لكلّ خير، بالهاء. وفلان أهل لكذا، أي:
مستحقّ له. انتهى.
__________
(1) مفردات الراغب ص 28.
(2) في مفردات الراغب: = وعبّر بأهل الرجل عن امرأته =.
(3) الرجز بلا نسبة في تاج العروس (أهل) وشرح المفصل 5/ 73ولسان العرب (أهل، بلل).
والبيت شاهد على استعمال = بل = في استئناف الكلام.
(8/93)
والواو في «وأهلة» واو ربّ، وصفة مجرورها محذوف، أي: ربّ أهل ودّ ملتبس ومبهم. و «تبرّيت» جوابها العامل في محلّ مجرورها.
قال ابن السكيت في «إصلاح المنطق»: قد تبرّيت لمعروفه تبرّيا، إذا تعرّضت له.
أنشد الفراء:
وأهلة ودّ ... البيت
يقال: أهل وأهلة. انتهى.
ورواية البيت للشارح المحقق هي رواية ابن السكيت في «إصلاح المنطق (1)، وفي كتاب المذكر والمؤنث».
وكذا رواه السخاويّ في «سفر السعادة»، وقال (2): ومعنى تبرّيت تعرّضت له ولودّه، وبذلت له في ذلك طاقتي.
وقال ابن السّيرافي في «شرح أبيات الإصلاح»: ويروى: «في الجهد بذلي ونائلي»، أي: ربّ أهل ودّ قد تعرّضت، لأن يعلموا أنّي أودّهم وبذلت لهم مالي في العسر واليسر، ولم أبخل عليهم بشيء.
يصف نفسه بالوفاء والبذل. وتفسير تبرّيت: كشفت وفتّشت. يريد أنّه فتش عن صحّة ودّهم له ليعلمه فيجيزهم به.
و «أبليتهم»: أوصلتهم ومنحتهم. والبليّة بمعنى المنحة تارة والمحنة (3) أخرى.
ومنح يتعدّى إلى مفعولين.
قال زهير (4): (الطويل)
__________
(1) في النسخة الشنقيطية: = في الإصلاح =.
(2) في طبعة بولاق: = قال = بدون حرف الواو.
(3) في طبعة بولاق والنسخة الشنقيطية: = والمحبة أخرى =. وهو تصحيف صوابه من اللسان (بلا). وقد صوبه أيضا محقق طبعة هارون.
يقال بلى فلان وابتلى، إذا امتحن بمنحة. ويقال في الخير والشر.
(4) البيت لزهير بن أبي سلمى في ديوانه ص 91وتاج العروس (بلى) وتهذيب اللغة 15/ 390وديوان
(8/94)
جزى الله بالإحسان ما فعلا بكم ... وأبلاهما خير البلاء الذي يبلو
أي: خير الصنيع الذي يختبر به عباده. والجهد بالضم في لغة الحجاز، وبالفتح عند غيرهم: الوسع والطاقة. و «النائل»: النّوال، كلاهما بمعنى العطاء
والبيت نسبه ابن السيرافي وصاحب العباب إلى «أبي الطّمحان القيني»، وهو شاعر إسلامي.
قال ابن قتيبة في «كتاب الشعراء» (1): هو حنظلة بن الشّرقي. وكان فاسقا، وقيل له: ما كان أدنى ذنوبك؟ قال: ليلة الدّير، قيل [له]: وما ليلة الدّير؟ قال:
نزلت بدير نصرانيّة فأكلت عندها طفيشلا بلحم خنزير (2)، وشربت من خمرها، وزنيت بها، وسرقت كأسها (3) ومضيت!!
وكان نازلا على الزّبير بن عبد المطلب، وكان ينزل عليه الخلعاء.
وهو القائل لقوم أغاروا على إبله، وكانوا شربوا من ألبانها (4): (الطويل)
__________
الأدب 4/ 106ولسان العرب (بلا) ومقاييس اللغة 1/ 294.
وفي شرح ديوانه صنعة ثعلب: = أي: صنع الله إليهما خير الصنيع الذي ييتلي به عباده. قال: والإنسان ييلى بالخير والشر =.
(1) الشعر والشعراء 1/ 304.
(2) في حاشية طبعة هارون 8/ 94: = ضبطه صاحب القاموس بوزن سميدع، وذكر أنه نوع من المرق. وجعله البغدادي في كتاب الطبيخ 55ضربا من التنوريات، أي الأطعمة التي تنضج في التنور. وجاء في كتاب منهاج الدكان 220: = طفشيل: كل طعام يعمل من القطاني، أعني الحبوب، كالعدس والجلبان وما أشبه ذلك =.
وفسره استينجاس في المعجم الفارسي الإنجليزي 313بأنه ضرب من اللحم يعالج بالبيض والجزر والعسل. وانظر الحيوان 3: 524: 226. ويقال له أيضا طفشيل بكسر الطاء والشين كما في كتاب الطبيخ وحواشيه. وهو معرب = تفشله أو = نفشيله = الفارسية =.
(3) في الشعر والشعراء: = وسرقت كساءها =.
(4) البيت لأبي الطمحان القيني في أساس البلاغة (ملح) والتنبيه والإيضاح 1/ 272وسمط اللآلئ ص 405 والشعر والشعراء 1/ 305والكامل في اللغة 1/ 295ولسان العرب (ملح). وهو بلا نسبة في جمهرة اللغة ص 569والمخصص 1/ 26.
واختلفت حركة الروي في البيت بين هذه المصادر. فمنهم من تركها هكذا منصوب الروي، ومنهم من كسر الروي. والصواب بكسر الروي: = اغبر =. وهذه رواية سمط اللآلئ والشعر والشعراء ونوادر أبي زيد. فالقصيدة مكسورة الروي وأولها:
ألا حنت المرقال واشتاق ربها ... تذكر أرماما وأذكر معشري
(8/95)
وإنّي لأرجو ملحها في بطونكم ... وما بسطت من جلد أشعث أغبرا
يقول: أرجو أن يعطفكم (1) عليّ ذلك اللبن أن تردّوها. و «الملح»: اللبن.
انتهى.
وقال أبو عبيد البكري في «شرح أمالي القالي»: إنّه كان نديما للزّبير بن عبد المطلب في الجاهلية، ثم أدرك الإسلام.
وقال الآمدي في «المؤتلف والمختلف» (2): أبو الطّمحان القيني، اسمه حنظلة ابن الشّرقي. كذا وجدته في كتاب بني القين بن جسر.
ووجدت نسبه في «ديوانه المفرد»: أبو الطمحان ربيعة بن عوف بن غنم بن كنانة بن القين بن جسر.
شاعر محسن مشهور، وهو القائل (3): (الطويل)
أضاءت لهم أحسابهم ووجوههم ... دجى اللّيل حتّى نظّم الجزع ثاقبه
ثم أورد اثنين من الشّعراء، يقال لهما أبو الطمحان: أحدهما: أبو الطمحان النّهشلي.
ثانيهما: أبو الطّمحان الأسديّ.
وقال أبو حاتم في «كتاب المعمرين» (4): هو من بني كنانة بن القين بن جسر ابن شيع الله بن الأسد بن وبرة بن تغلب بن حلوان بن عمران بن الحاف بن قضاعة.
عاش مائتي سنة.
__________
(1) في طبعة بولاق: = يلطفكم =. وهو تصحيف صوابه من النسخة الشنقيطية والشعر والشعراء.
(2) المؤتلف والمختلف ص 221.
(3) البيت لأبي الطمحان القيني في الأغاني 13/ 9وأمالي المرتضى 1/ 257وتخليص الشواهد ص 202 والحماسة برواية الجواليقي ص 522والحماسة البصرية 1/ 161وديوان المعاني 1/ 22وشرح الحماسة للأعلم 2/ 876وشرح الحماسة للتبريزي 4/ 73وشرح الحماسة للمرزوقي ص 1598والعمدة 2/ 139والكامل في اللغة 1/ 31وكتاب الصناعتين ص 360ولسان العرب (خضض) والمؤتلف والمختلف ص 222 والمقاصد النحوية 1/ 567وهما للقيط بن زرارة في الحيوان 3/ 93والشعر والشعراء ص 715.
والجزع بفتح الجيم وكسرها: ضرب من الخرز فيه سواد وبياض.
(4) المعمرون ص 72.
(8/96)
وقال في ذلك (1): (الوافر)
حنتني حانيات الدّهر حتّى ... كأنّي خاتل يدنو لصيد
قريب الخطو يحسب من رآني ... ولست مقيّدا أنّي بقيد
انتهى.
وأورده ابن حجر في «الإصابة» في قسم المخضرمين الذين أدركوا زمن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم وأسلموا ولم يروه.
وذكره المرزباني، فقال (2): هو أحد المعمّرين، وهو القائل:
وإنّي من القوم الذين هم هم ... إذا مات منهم سيّد قام صاحبه
أضاءت لهم أحسابهم ووجوههم ... دجى اللّيل حتّى نظّم الجزع ثاقبه
ويقال هو أمدح بيت قيل في الجاهلية.
والطّمحان بفتح الطاء والميم بعدها حاء مهملة.
* * * وأنشد بعده، وهو الشاهد الثاني والتسعون بعد الخمسمائة، وهو من شواهد س (3): (الطويل)
592 - وهم أهلات حول قيس بن عاصم
إذا أدلجوا يدعون باللّيل كوثرا
على أنّه جمع «أهلة»، جمع باعتبار اسميّته، ولهذا فتح عينه.
وفيه ردّ على سيبويه في زعمه أنّه جمع أهل. قال: وقد يجمعون المؤنث الذي
__________
(1) البيتان لأبي الطمحان القيني في الأغاني 12/ 347والمعمرين ص 72.
(2) الموشح ص 106و 114و 381.
(3) البيت للمخبل السعدي في ديوانه ص 294والأشباه والنظائر 5/ 133وشرح المفصل 5/ 33والكتاب 3/ 600ولسان العرب (أهل). وهو بلا نسبة في الاشتقاق ص 123.
(8/97)
ليست فيه هاء التأنيث بالتاء، كما يجمعون ما فيه الهاء، لأنّه مؤنّث مثله، وذلك قولهم: عرسات وأرضات، وعير وعيرات، حرّكوا الياء وأجمعوا فيها على لغة هذيل، لأنّهم يقولون: بيضات وجوزات.
وقد قالوا: عيرات، وقالوا: أهلات، فخفّفوا، شبّهوه (1) بصعبات حيث كان أهل مذكّرا تدخله الواو والنون، فلمّا جاء مؤنثا كمؤنث صعب فعل به كما فعل بمؤنّث صعب.
وقد قالوا: أهلات (2) كما قالوا: أرضات.
قال المخبّل:
وهم أهلات حول قيس بن عاصم ... البيت
انتهى.
قال الأعلم: الشاهد فيه جمع أهل على أهلات وتحريك الثاني (3). ووجه دخول الألف والتاء فيه حمل أهل على معنى الجماعة، لأنه يؤدّي عن معناها وإن لم تكن فيه الهاء، فجمع بالألف والتاء كما تجمع الجماعة.
ووجه تحريك الثاني تشبيهه بأرضات، لأنّه في الجمع مؤنّث مثلها، ولأنّ حكم ما يجمع بالألف والتاء من باب فعلة، وكان من الأسماء، تحريك ثانيه، كجفنة وجفنات. انتهى.
وقد تبع الزمخشريّ في «مفصّله» سيبويه، فقال: وحكم المؤنّث الذي لا تاء فيه كحكم الذي فيه التاء، قالوا: أرضات وأهلات في جمع أرض وأهل. قال:
«فهم أهلات» البيت.
قال شارحه ابن يعيش: أهلات: جمع أهلة، وليس بجمع أهل كما ظنّه المصنف (4).
__________
(1) في الكتاب لسيبويه: = شبهوها =.
(2) في الكتاب: = وقد قالوا أهلات فثقلوا =.
(3) في حاشية طبعة هارون 8/ 97: = الشنتمري: بالألف والتاء وتحريك الثاني =.
(4) في حاشية طبعة هارون 8/ 98: = الذي في ابن يعيش: كما ظنه صاحب الكتاب، يعني سيبويه، لا الزمخشري كما يتبادر إلى الذهن من عبارة: كما ظنه المصنف =.
(8/98)
ألا ترى أنّ أهلا مذكر يجمع بالواو والنون، لأنّهم لمّا وصفوا به أجروه مجرى الصفات في دخول تاء التأنيث، للفرق، فقالوا: رجل أهل، وامرأة أهلة، كما يقولون: ضارب وضاربة.
قال الشاعر:
* وأهلة ودّ قد تبرّيت ودّهم *
ولمّا قالوا في المذكّر أهل وأهلون، وفي المؤنث أهلة وأهلات، أشبه فعلة من الصفات فجمعوه (1) بالألف والتاء، وأسكنوا الثاني منه، كما فعلوا ذلك بسائر الصفات.
ومن العرب من يقول: أهلات، فيفتح الثاني كما فتحوا في أرضات، لأنه اسم مثله، وإن كان أشبه الصفة.
قال المخبل:
* فهم أهلات حول قيس بن عاصم *
انتهى.
والبيت من قصيدة للمخبّل السعديّ. قال ابن المستوفي في «شرح أبيات المفصل»، وقبله (2):
ألم تعلمي يا أمّ عمرة أنّني ... تخاطأني ريب الزّمان لأكبرا
وأشهد من عوف حلولا كثيرة ... يحجّون سبّ الزّبرقان المزعفرا
فهم أهلات حول قيس بن عاصم ... البيت
وقوله: «ألم تعلمي» إلخ، قال أبو محمد الأسود الأعرابي: معناه أنّه كره أن يعيش ويعمّر حتّى يرى الزّبرقان من الجلالة والعظمة بحيث يحجّ بنو سعد عصابته (3).
انتهى.
__________
(1) في طبعة بولاق والنسخة الشنقيطية: = جمعوه =. وهو تصحيف صوابه من شرح المفصل.
(2) البيتان للمخبل السعدي في ديوانه ص 294.
(3) العصابة: العمامة، وكل ما يعصب به الرأس.
(8/99)
و «تخاطأني» بمعنى تخطّاني وفاتني. و «ريب الزّمان»: حوادثه. وكبر في السّنّ، من باب فرح.
وقوله: «وأشهد» بالنصب عطف على لأكبر. و «عوف»: أبو قبيلة، وهو عوف بن كعب بن سعد بن زيد مناة بن تميم.
و «الحلول»: القوم النّزول، من حلّ بالمكان إذا نزل فيه.
و «يحجّون»: يقصدون. قال ابن دريد في «الجمهرة»: الحجّ: القصد.
وأنشد هذا البيت.
و «السّبّ»، بكسر السين المهملة: العمامة، قال ابن دريد في «الجمهرة»:
السّبّ بالكسر: الشّقّة البيضاء من الثياب، وهي السّبيبة أيضا. وأنشد هذا البيت.
وقال: يريد العمامة هاهنا. وكانت سادات العرب تصبغ العمائم بالزّعفران.
وقد فسّر قوم هذا البيت بما لا يذكر. انتهى.
أقول: من جملة من فسّره بالقبيح الأصمعي، قال في «كتاب الفرق بين ما للإنسان والوحوش»، قالوا في الدّبر من الإنسان دون البهائم: است وست وسه بالهاء، ويسمى أيضا السّبّة بالضم، والسّبّة بالفتح، والسّبّة بالكسر.
قال المخبّل:
* يحجّون سبّ الزّبرقان المزعفرا *
قال ابن السيرافي في «شرح أبيات الإصلاح»: قال بعض الناس: إنّ الشاعر قصد بهذا البيت معنى قبيحا، وكنى بهذا اللفظ عنه. وإنّما أراد أنّ الزبرقان كان به داء الأبنة يؤتى من أجله. انتهى.
ويدفعه قوله: «يزورون»، فإنّ الزيارة لا تستعمل في مثل هذا، إلّا أن يدّعي التهكّم.
وقال أبو محمد الأسود: من زعم أنّ المخبّل كنى هاهنا عن قبيح، فقد أخطأ، وإنما قصد (1) بسبّ الزّبرقان أنّ بني سعد بن زيد مناة كانوا يحجّون عصابته، إذا
__________
(1) في النسخة الشنقيطية: = أراد =.
(8/100)
استهلّوا رجبا في الجاهلية، إجلالا له، وإعظاما لقدره. وذكر ذلك ربيعة بن سعد النّمري يمدح الزبرقان: (البسيط)
كانت تحجّ بنو سعد عصابته ... إذا استهلّوا على أنصابه رجبا
سبّ يزعفره سعد ويعبده ... في الجاهليّة ينتابونه عصبا (1)
والعصابة: ما يعصب به الرأس. انتهى.
و «الزبرقان» هو ابن بدر الصحابي (2)، ولّاه النبيّ صلّى الله عليه وسلّم صدقات بني تميم.
قال صاحب «زهر الآداب»: سمي الزبرقان لجماله. والزّبرقان: القمر قبل تمامه، وقيل: لأنّه كان يزبرق عمّته (3) في الحرب، أي: يصفّرها. انتهى.
واسمه حصين بن بدر. وإيّاه عنى المخبّل بقوله من هذه القصيدة (4): (الطويل)
تمنّى حصين أن يسود جذاعه ... فأمسى حصين قد أذلّ وأقهرا
و «الجذاع» (5)، بكسر الجيم بعدها ذال معجمة: أولاد السّعفاء.
قال صاحب جمهرة الأنساب: ولد عوف بن كعب بن سعد عطاردا، وبهدلة،
__________
(1) في النسخة الشنقيطية: = بيتا يومه =. وهو تصحيف.
ينتابونه: يقصدونه مرة بعد مرة.
(2) هو الحصين بن بدر بن امرئ القيس بن قيس بن خلف بن بهدلة سيد من أسياد تميم في الجاهلية، عظيم القدر في الإسلام. وشاعر محسن. انظر في أخباره زهر الآداب ص 4039وجمهرة أنساب العرب ص 318 والمؤتلف والمختلف ص 187والمراثي ص 220.
(3) في زهر الآداب ص 40: = يزبرق عمامته، أي يصفرها في الحرب =.
(4) البيت للمخبل السعدي في ديوانه ص 294وتاج العروس (قهر، جذع) وتهذيب اللغة 5/ 395وكتاب الجيم 3/ 131ولسان العرب (قهر، جذع). وهو بلا نسبة في ديوان الأدب 2/ 299ح ومجمل اللغة 4/ 128 والمخصص 3/ 130، 12/ 205، 310.
(5) في طبعة بولاق، والنسخة الشنقيطية: = والجذاعة =. وهو تصحيف ظاهر لا يقبله السياق، وقد صوبناه.
وفي اللسان (جذع): = وجذاع الرجل: قومه لا واحد له قال المخبل يهجو الزبرقان وخص أبو عبيد بالجذاع رهط الزبرقان =.
(8/101)
وجشم، وبرنيقا (1). وأمّهم السعفاء بنت غنم من بني باهلة، ويقال لبنيها: الجذاع.
وأنشد هذا البيت.
وقال السّخاوي في «سفر السعادة»: وإنّما سمّي الزّبرقان لصفرة عمامته.
وزبرقت الثّوب، أي: صفّرته. وقال: «المزعفر» لأنّ السّبّ مذكّر وإن كان المراد به العمامة.
وقوله: «وهم أهلات» إلخ، الظاهر أنّ هذا البيت غير متّصل بما قبله، لسقوط أبيات بينهما.
يقول: هم أهلات وأقارب حول قيس بن عاصم. يعني أنّه سيّدهم، وهم قد أحاطوا به. وأدلج القوم إدلاجا كأكرم إكراما: ساروا الليل كلّه. فإن ساروا من آخر الليل قيل ادّلجوا ادّلاجا بتشديد الدال.
قال الأعلم: وصف اجتماع أحياء سعد من بني منقر وغيرهم إلى قيس بن عاصم المنقريّ سيّدهم، وتعويلهم عليه في أمورهم.
و «الكوثر»: الجواد الكثير العطاء. أي: إن أدلجوا حدوا الإبل بمدحه وذكره.
انتهى.
وقيل إنّ كوثرا كان شعارا لهم عند نداء بعضهم بعضا في اللّيل وفي الحرب.
و «قيس بن عاصم» صحابيّ (2)، وهو قيس بن عاصم بن سنان بن خالد بن منقر بكسر الميم، ابن عبيد بن مقاعس بن عمرو بن كعب بن سعد بن زيد مناة بن تميم.
وفد قيس بن عاصم على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقال: «هذا سيّد أهل الوبر».
__________
(1) في طبعة بولاق والنسخة الشنقيطية: = وبرنيقي =. وهو تصحيف صوابه من النسخة الشنقيطية وجمهرة أنساب العرب ص 318واللسان (برنق).
وفي اللسان (برنق): = وبنو برنيق: بطين من العرب =. والبرنيق: من أسماء الكمأة وقيل: ضرب من الكمأة صغار أسود.
(2) قيس بن عاصم بن سنان المنقري، شاعر فارس سيد.
انظر في أخباره وترجمته معجم الشعراء ص 324والمراثي ص 220.
(8/102)
وترجمة المخبّل السعدي تقدّمت في الشاهد الرابع والثلاثين بعد الأربعمائة (1).
* * * وأنشد بعده، وهو الشاهد الثالث والتسعون بعد الخمسمائة (2): (الطويل)
593 - أخو بيضات رائح متأوّب
على أنّ هذيلا تفتح عين فعلة الاسميّ في الجمع بالألف والتاء، ك «بيضات»، بفتحات.
صرّح به ابن جنّي في «الخصائص» بأنّ فتح حرف العلّة في بيضات وجوزات لغة هذيل، فلا يكون من قبيل ضرورة الشعر.
ولهذا لم يورده ابن عصفور في «كتاب الضرائر».
قال أبو عمر (3) محمد بن عبد الواحد الزاهد في «كتاب اليواقيت»: قال أبو العباس: وأخبرني سلمة عن الفرّاء، قال: أنشدني بعض بني هذيل «أخو بيضات» البيت.
وكذا قال الزمخشريّ في «المفصل»: إذا اعتلّت عين فعلة سكنت إلّا في لغة هذيل. فعند غير هذيل يكون الفتح ضرورة.
وقد أطلق ابن جنّي في «شرح تصريف المازني»، فقال: وقد جاء في الشعر
__________
(1) الخزانة الجزء السادس ص 89.
(2) صدر بيت لأحد الهذليين وعجزه:
* رفيق بمسح المنكبين سبوح *
والبيت لأحد الهذليين في الدرر 1/ 85وشرح التصريح 2/ 299وشرح المفصل 5/ 30. وهو بلا نسبة في أسرار العربية ص 355وأوضح المسالك 4/ 306والخصائص 3/ 184وسر صناعة الإعراب ص 778 وشرح الأشموني 3/ 668وشرح شواهد الشافية ص 132ولسان العرب (بيض) والمحتسب 1/ 58 والمنصف 1/ 343وهمع الهوامع 1/ 23.
(3) في النسخة الشنقيطية: = أبو عمرو =. وهو تصحيف صوابه من طبعة بولاق.
(8/103)
تحريك مثل هذا. قال الشاعر: «أخو بيضات» البيت.
وهذا ليس بجيّد، ولا بدّ من التقييد.
قال في «المحتسب»: امتنعوا من تحريك العين في فعلة إذا كانت حرف علّة، كجوزات وبيضات. ولو حرّك لوجب أن يعتذر من صحّة العين مع حركتها وانفتاح ما قبلها بأن يقال: لو أعلّت لوجب القلب فيصير جازات وباضات، فيلتبس ذلك بما عينه في الواحد ألف منقلبة، نحو: قارة وقارات، وجارة وجارات. وإذا جاز إسكان العين الصحيحة، نحو: تمرات وشفرات صار المعتلّ أحرى بالصحّة.
وربما جاء الفتح في العين، كما قال الهذلي (1):
* أخو بيضات رائح متأوّب *
وعذره في ذلك أنّ هذه الحركة إنّما وجبت في الجمع، وقد سبق العلم بكونها في الواحد ساكنة، فصارت الحركة في الجمع عارضة فلم تحفل. وفي هذا بعد هذا ضعف.
ألا ترى أنّ هذه الألف والتاء تبنى الكلمة عليهما وليستا في حكم المنفصل.
يدلّك على ذلك صحّة الواو في خطوات.
ولو كانت الألف والتاء في حكم المنفصل لوجب إعلال الواو، لأنّها لام وقبلها ضمة.
قال أبو علي: يدلّك على أنّ الكلمة مبنيّة على الألف والتاء اطّراد إتباع الكسر للكسر في سدرات وكسرات مع عزّة فعل في الواحد بكسرتين (2). إلّا أنّ ممّا يؤنس بكون حركة العين غير لازمة، قول يونس في جروة إذا قلت: جروات. فصحّة الواو وهي لام بعد كسرة تدلّك على قلة الاعتداد بها.
أو يقال: إنّ هذا شاذ، يدلّ على شذوذه امتناعهم أن يحرّكوا عين كلية ومدية في هذا الجمع (3)، لما كان يعقب ذلك من وجوب قلب الياء إلى الواو. فدلّنا ذلك
__________
(1) لم نجد البيت في ديوان الهذليين ولا في شرح أشعار الهذليين.
(2) في المحتسب: = مع عزة فعل في الواحد. وإنما حكى سيبويه منه إبل لا غير =.
(3) في المحتسب: = أن يحركوا عين كلية ومدية، وأن يقولوا: كليات ومديات =.
(8/104)
على أنّ نحو جروات شاذّ. فهذه أشياء تراها متكافئة. وعلى كل حال فالاختيار خطوات بالإسكان. انتهى.
والمصراع صدر، وعجزه:
* رفيق بمسح المنكبين سبوح *
والبيت مع كثرة وجوده في كتب النحو والصرف لم أطّلع على قائله، ولا على تتمته.
قال شارح اللباب: يصف ذكرا من النّعام، أي: هو أخو بيضات يرجع ويسرع إلى بيضاته.
وقال بعض فضلاء العجم في «شرح أبيات المفصل»: «الرائح»: الذي يسير ليلا.
و «المتأوّب»: الذي يسير نهارا، يصف ظليما وهو ذكر النعام، شبّه به ناقته، فيقول: ناقتي في سرعة سيرها كظليم (1) له بيضات يسير ليلا ونهارا ليصل إلى بيضاته.
رفيق بمسح المنكبين، عالم بتحريكهما في السّير.
«سبوح»: حسن الجري. وإنّما جعله أخا بيضات ليدلّ على زيادة سرعته في السّير، لأنه موصوف بالسرعة. وإذا قصد بيضاته يكون أسرع. انتهى.
وقال الكرماني في «شرح أبيات الموشح»: رائح من الرّواح، أي: راجع.
والسّبوح من السبح، وهو شدّة الجري.
والمراد برفيق بمسح المنكبين: التحرّك يمينا وشمالا، وذلك من عادة الطّير.
و «المنكب»: مجتمع ما بين العضد والكتف.
وقد خطّأ العيني فخر الدين الجاربردي في قوله: البيت في صفة النعامة، بأنّ البيت في مدح جمله شبّهه بالظليم (2). والتخطئة لا وجه لها، وكونه في وصف نعامة أو ظليم أمر سهل مع أنّه متوقّف على الوقوف على ما قبل هذا البيت.
__________
(1) في طبعة بولاق: = ظليم =. ولقد أثبتنا رواية النسخة الشنقيطية.
(2) في النسخة الشنقيطية: = يشبهه =. ولقد أثبتنا رواية طبعة بولاق.
(8/105)
قال صاحب المصباح: يتوهّم بعض الناس أن الرّواح لا يكون إلّا في آخر النهار، وليس كذلك بل الرّواح والغدوّ عند العرب يستعملان في المسير أيّ وقت كان، من ليل أو نهار. قاله الأزهريّ وغيره. وعليه قوله عليه الصلاة والسلام: «من راح إلى الجمعة في أوّل النهار فله كذا»، أي: من ذهب.
و «التأوّب»: تفعّل من الأوب، وهو الرّجوع من السّفر. والرّفيق من الرّفق، وهو ضدّ العنف.
* * *
جمع التكسير
(8/106)
* * *
جمع التكسير
أنشد فيه، وهو الشاهد الرابع والتسعون بعد الخمسمائة، وهو من شواهد سيبويه (1):
(الطويل)
594 - لنا الجفنات الغرّ يلمعن في الضّحى
وأسيافنا يقطرن من نجدة دما
على أنّه إن ثبت اعتراض النابغة على حسان بقوله (2): «قلّلت حفانك وسيوفك» لكان فيه دليل على أنّ المجموع بالألف والتاء جمع قلّة. وهذا طعن منه على هذه الحكاية.
ثم استظهر أن جمعي السلامة لمطلق الجمع من غير نظر إلى القلّة والكثرة، فيصلحان لهما. انتهى.
وقد نظمه أبو الحسن الدّبّاج (3)، من نحاة إشبيلية، ذيلا لجموع القلة من التكسير في بيت من المتقدّمين، وهما:
بأفعل وبأفعال وأفعلة ... وفعلة يعرف الأدنى من العدد
وسالم الجمع أيضا داخل معها ... فهذه الخمس فاحفظها ولا تزد
__________
(1) البيت لحسان بن ثابت في ديوانه ص 131وأسرار العربية ص 356وشرح الأشموني 3/ 671وشرح شواهد الإيضاح ص 521وشرح المفصل 5/ 10والكتاب 3/ 578ولسان العرب (جدا) والمحتسب 1/ 187والمقاصد النحوية 4/ 527والموشح ص 82. وهو بلا نسبة في الأشباه والنظائر 1/ 135والخصائص 2/ 206والمقتضب 2/ 188.
(2) انظر في ذلك الموشح ص 82. وفيه: = أقللت جفانك =.
(3) في طبعة بولاق والنسخة الشنقيطية: = الذياح =. وهو تصحيف صوابه من بغية الوعاة 2/ 153. والدباح:
بالدال المهملة المفتوحة والباء المهملة المشددة وآخره جيم وهو أبو الحسن علي بن جابر بن علي الإشبيلي اللخمي النحوي. توفي سنة 646هـ.
(8/107)
وقد صرّح سيبويه بأنّ الجمع بالألف والتاء للقلّة. وأوّل بيت حسّان على أنّه للكثرة، وهذا نصّه:
وأمّا ما كان على فعلة، فإنّك إذا أردت أدنى العدد جمعتها بالتاء، وفتحت العين، وذلك قولك: قصعة وقصعات، فإذا جاوزت أدنى العدد كسّرت الاسم على فعال، وذلك قصعة وقصاع.
ثم قال: وقد يجمعون بالتاء وهم يريدون الكثير، قال حسان:
لنا الجفنات الغرّ ... البيت
فلم يرد أدنى العدد. انتهى.
قال الأعلم: الشاهد في وضع الجفنات، وهي لما قلّ من العدد في الأصل، لجريها مجرى الثلاثة، موضع الجفان التي هي للكثير. و «الغرّ»: البيض، يريد بياض الشحم.
و «الأسياف»: جمع لأدنى العدد، فوضعه موضع الكثير. وصف قومه بالندى والبأس، يقول: جفاننا معدّة للأضياف ومساكين الحيّ بالغداة، وسيوفنا يقطرن دما، لنجدتنا وكثرة حروبنا. انتهى.
وإلى مذهب سيبويه ذهب الزجاج، قال في تفسيره عند قوله تعالى (1):
{«وَاذْكُرُوا اللََّهَ فِي أَيََّامٍ مَعْدُودََاتٍ»} قالوا: هي أيام التشريق. ومعدودات يستعمل كثيرا في اللّغة للشيء القليل.
وكلّ عدد قلّ أو كثر فهو معدود، ولكن معدودات أوّل على القلّة، لأنّ كلّ قليل يجمع بالألف والتاء، نحو: دريهمات وحمّامات. وقد يجوز، وهو حسن كثير، أن يقع الألف والتاء للتكثير.
وقد روى أنه عيب على القائل:
* لنا الجفنات الغرّ * البيت
فقيل له: قلّلت (2) الجفنات ولم تقل الجفنان! وهذا الخبر عندي مصنوع، لأنّ
__________
(1) سورة البقرة: 2/ 203.
(2) في طبعة بولاق: = قلت =. ولقد أثبتنا رواية النسخة الشنقيطية.
(8/108)
الألف والتاء قد تأتي للكثرة، قال الله عزّ وجلّ (1): {«إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمََاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنََاتِ»}، وقال: «في جنّات»، وقال (2): {«وَهُمْ فِي الْغُرُفََاتِ آمِنُونَ»}
فالمسلمون ليسوا في غرفات قليلة، ولكن إذا خصّ القليل في الجمع بالألف والتاء دلّ عليه، لأنّه يلي التثنية.
وجائز حسن أن يراد به الكثير، ويدلّ المعنى الشاهد على الإرادة، كما أنّ قولك جمع يدل على القليل والكثير. انتهى.
وكذلك قال ابن جنّي في «المحتسب» عند قراءة طلحة من سورة النساء (3):
«صوالح قوانت حوافظ للغيب». قال أبو الفتح: التكسير هنا أشبه لفظا بالمعنى، وذلك أنّه إنّما يراد هنا معنى الكثرة لا صالحات من الثلاث إلى العشر. ولفظ الكثرد أشبه بمعنى الكثرة من لفظ القلّة بمعنى الكثرة، والألف والتاء موضوعتان للقلة، فهما على حدّ التثنية بمنزلة الزيدون من الواحد إذا كانوا على حدّ الزيدان (4).
هذا موجب اللغة على أوضاعها، غير أنّه قد جاء لفظ الصحة (5) والمعنى الكثرة كقوله تعالى (6): {«إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمََاتِ»} إلى قوله: {«وَالذََّاكِرِينَ اللََّهَ كَثِيراً وَالذََّاكِرََاتِ»} والغرض في جميعه الكثرة لا ما هو لما بين الثلاثة إلى العشرة، وكان أبو علي ينكر الحكاية المرويّة عن النابغة وقد عرض عليه حسان شعره، وأنّه لما صار إلى قوله:
* لنا الجفنات الغر * البيت
قال له النابغة: لقد قلّلت جفانك وسيوفك! قال أبو علي: هذا خبر مجهول لا أصل له، لأن الله تعالى يقول (7): {«وَهُمْ فِي الْغُرُفََاتِ آمِنُونَ»} ولا يجوز أن تكون
__________
(1) سورة الأحزاب: 33/ 35.
(2) سورة سبأ: 34/ 37.
(3) سورة النساء: 4/ 34.
قراءة الجماعة هي: = فالصالحات قانتات حافظات للغيب =.
(4) في المحتسب: = إذا كان على حد الزيدان =.
(5) أي الجمع الصحيح للمؤنث والمذكر، وهما للقلة.
(6) سورة الأحزاب: 33/ 35.
(7) سورة سبأ: 34/ 37.
(8/109)
الغرف كلّها التي في الجنّة من الثلاث إلى العشر.
وعذر ذلك عندي أنه قد كثر عنهم وقوع الواحد على معنى الجمع جنسا، كقولنا: أهلك الناس الدينار والدرهم، وذهب الناس بالشاة والبعير، فلمّا كثر ذلك جاؤوا في موضعه بلفظ الجمع الذي هو أدنى إلى الواحد أيضا، أعني جمعي السالم (1)، وعلم أيضا أنه إذا جيء في هذا الموضع بلفظ جمع الكثرة لا يتدارك معنى الجنسية، فلهوا عنه، وأقاموا على لفظ الواحد تارة، ولفظ الجمع المقارب للواحد تارة أخرى، إراحة لأنفسهم من طلب ما لا يدرك ويأسا منه.
فيكون هذا كقوله (2): (المتقارب)
رأى الأمر يفضي إلى آخر ... فصيّر آخره أوّلا
ومثل هذين الجمعين مجيئهم في هذا الموضع بتكسير القلة (3) كقوله تعالى (4):
{«وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ»}، وقول حسان: وأسيافنا يقطرن، ولم يقل: عيونهم ولا سيوفنا. وقد ذكرنا هذا ونحوه في كتاب الخصائص. انتهى.
قال شيخنا ياسين الحمصي في «شرح ألفية ابن مالك»: اعلم أنّهم قالوا: إذا قرن جمع القلة بأل التي للاستغراق، أو أضيف إلى ما يدلّ على الكثرة انصرف بذلك إلى الكثرة.
وعلى هذا الإيراد ما قاله النابغة على حسّان، ويقال إنّ حسّان أجاب بذلك، لكنّ قوله: أسيافنا لم يضف إلى ما يدلّ على الكثرة.
وعليك بحفظ هذه القاعدة، فكثيرا ما يغفل عنها. وممن غفل عنها العلّامة، والقاضي، وصاحب المغني (5) في تفسير قوله تعالى (6): {«مََا نَفِدَتْ كَلِمََاتُ اللََّهِ»}
__________
(1) جاء رسم المحتسب للجملة: = أعني الجمع بالواو والنون، والألف والتاء =.
(2) البيت في الخصائص 1/ 209، 2/ 31، 170وشرح المفصل 5/ 120.
(3) في طبعة بولاق: = بتكثير القلة =. وهو تصحيف صوابه من النسخة الشنقيطية والمحتسب.
(4) سورة التوبة: 9/ 92.
(5) في طبعة بولاق: = وصاحب والمغني = بزيادة الواو.
وفي النسخة الشنقيطية: = والمغني =. والوجه ما أثبتناه نقلا عن طبعة هارون 8/ 109.
(6) سورة لقمان: 31/ 27.
(8/110)
حيث وجّهوا التعبير بجمع القلّة بما ذكروه. وردّ عليهم الكورانيّ بأنّ الجمع في الآية مضاف.
واعلم أيضا أنّ أبا حيان استشكل انصراف جمع القلة إلى الكثرة بما حاصله أنه وضع للقلة، وهي من ثلاثة إلى عشرة، فإذا دخل أداة الاستغراق ينبغي أن يكون الاستغراق فيما وضع له، لا فيما زاد، لأنه ليس مما وضع له. ثم أجاب بما حاصله أنه وضع بوضع آخر مع أداة الاستغراق للكثرة. انتهى.
وقال أيضا في «حاشيته على التصريح للشيخ خالد»: اعلم أنّ ما ذكره النحاة من أنّ جموع القلة للعشرة فما دونها لا ينافي تصريح أئمّة الأصول بأنّها من صيغ العموم، لأنّ كلام النحاة، كما قال إمام الحرمين، محمول على حالة التجرد عن التعريف. انتهى.
وهذا الجواب فيه نظر، فإن غالب ما وقع فيه النزاع معرّف بأل.
وقد نقل جماعة اعتراض النابغة على حسان في هذا البيت، منهم أبو عبد الله المرزباني في «كتاب الموشح» (1) من عدّة طرق، قال: كتب إليّ أحمد بن عبد العزيز، أخبرنا عمر بن شبّة، قال: حدّثني أبو بكر العليمي، قال: حدّثنا عبد الملك ابن قريب، قال: كان النابغة الذبيانيّ تضرب له قبّة حمراء من أدم بسوق عكاظ، فتأتيه الشعراء فتعرض عليه أشعارها.
قال: فأوّل من أنشده [الأعشى: ميمون بن قيس أبو بصير، ثم أنشده] (2)
حسّان بن ثابت الأنصاريّ (3):
لنا الجفنات الغرّ يلمعن في الضّحى ... وأسيافنا يقطرن من نجدة دما
ولدنا بني العنقاء وابني محرّق ... فأكرم بنا خالا وأكرم بنا ابنما (4)
__________
(1) الموشح ص 82.
(2) زيادة يقتضيها السياق من الموشح.
(3) البيتان لحسان بن ثابت في ديوانه ص 131130والموشح ص 82.
(4) في طبعة بولاق: = وابن محرق =. وهو تصحيف صوابه من ديوانه والموشح.
والبيت لحسان في ديوانه ص 130وتاج العروس (بنى) ولسان العرب (بنى). وهو بلا نسبة في تهذيب اللغة 15/ 506وكتاب العين 1/ 169.
والعنقاء: هو ثعلبة بن عمرو بن مزيقياء بن عامر ماء السماء. ومحرق هو الحارث بن عمرو مزيقياء، وكان أول من عاقب بالنار.
(8/111)
فقال له النابغة: «أنت شاعر، ولكنّك أقللت جفانك وأسيافك، وفخرت بمن ولدت، ولم تفخر بمن ولدك».
وحدّثني علي بن يحيى، قال (1): حدثنا أحمد بن سعيد، قال: حدثنا الزّبير بن بكّار، قال: حدّثني عمّي مصعب بن عبد الله، قال: أنشد حسّان نابغة بني ذبيان قصيدته التي يقول فيها:
* لنا الجفنات الغرّ *
فقال له: «ما صنعت شيئا، قلّلت أمركم، فقلت: جفنات وأسياف».
وأخبرني الصّولي، قال: حدّثني محمد بن سعيد، ومحمد بن العباس الرّياشيّ، [عن الرياشي] عن الأصمعي، عن أبي عمرو بن العلاء، قال: كان النابغة الذبياني تضرب له قبّة بسوق عكاظ من أدم، فتأتيه الشعراء، فتعرض عليه أشعارها، فأتاه الأعشى فكان أوّل من أنشده، ثم أنشده حسان بن ثابت قصيدته التي منها:
* لنا الجفنات الغرّ *
وذكر البيتين، فقال له النابغة: «أنت شاعر، ولكنّك أقللت جفانك وأسيافك، وفخرت بمن ولدت ولم تفتخر بمن ولدك».
قال الصّولي (2): فانظر إلى هذا النقد الجليل الذي يدلّ عليه نقاء كلام النابغة وديباجة شعره، [قال له: أقللت أسيافك] لأنه قال: «وأسيافنا»، وأسياف جمع لأدنى العدد، والكثير سيوف. و «الجفنات» لأدنى العدد، والكثير جفان [وقال:
فخرت بمن ولدت لأنه قال: ولدنا بني العنقاء وابني محرق]. فترك الفخر بآبائه، وفخر بمن ولد نساؤه.
قال: ويروى أنّ النابغة قال له: «أقللت أسيافك ولمّعت جفانك (3)». يريد قوله: «لنا الجفنات الغرّ» والغرّة: لمعة بياض في الجفنة. فكأنّ النابغة عاب هذه
__________
(1) مازال النقل مستمرا عن الموشح ص 83.
(2) الموشح ص 83. والزيادات منه.
(3) في طبعة بولاق والنسخة الشنقيطية: = أجفانك =. وهو تصحيف صوابه من الموشح ص 83.
وجمع الجفنة جفان، وجفن.
(8/112)
الجفان، وذهب إلى أنه لو قال لنا الجفنات البيض فجعلها بيضا، كان أحسن.
فلعمري إنه حسن (1) في الجفان، إلّا أن الغرّ أجلّ لفظا من البيض.
قال أبو عبد الله المرزبانيّ: وقال قوم ممن أنكر هذا البيت: في قوله: يلمعن بالضّحى، ولم يقل بالدّجى. وفي قوله: وأسيافنا يقطرن ولم يقل يجرين، لأنّ الجري أكثر من القطر.
وقد ردّ هذا القول واحتجّ فيه قوم لحسّان، بما لا وجه لذكره في هذا الموضع.
فأمّا قوله: «فخرت بمن ولدت، ولم تفخر بمن ولدك» فلا عذر عندي لحسّان فيه على مذهب نقّاد الشعر.
وقد احترس من مثل هذا الزّلل رجل من كلب، فقال يذكر ولادتهم لمصعب بن الزّبير وغيره ممّن ولده نساؤهم (2): (الطويل)
وعبد العزيز قد ولدنا ومصعبا ... وكلب أب للصّالحين ولود
فإنه لمّا فخر بمن ولده نساؤهم فضّل رجالهم، وأخبر أنّهم يلدون الفاضلين، وجمع ذلك في بيت [واحد، فأحسن] وأجاد. انتهى ما أورده المرزباني (3).
وممن نقلها أيضا أبو الفرج الأصبهاني في «الأغاني» (4) قال بعد إيراد سنده:
إنّ النابغة كانت تضرب له قبّة في سوق عكاظ، وتنشده الشعراء أشعارها، فأنشده الأعشى شعرا فاستحسنه، ثم أنشدته الخنساء قصيدة حتى انتهت إلى قولها (5):
(البسيط)
وإنّ صخرا لوالينا وسيّدنا ... وإنّ صخرا إذا نشتو لنحّار
وإنّ صخرا لتأتمّ الهداة به ... كأنّه علم في رأسه نار (6)
__________
(1) في الموشح ص 83: = إنه أحسن =.
(2) البيت بلا نسبة في الموشح ص 84.
(3) الموشح ص 84.
(4) الأغاني 11/ 6.
(5) البيتان للخنساء في رثاء صخر في ديوانها ص 4948والأغاني 15/ 81.
(6) البيت للخنساء في ديوانها ص 49وتاج العروس (صخر) وجمهرة اللغة ص 948وشرح أبيات المغني 6/ 49، 7/ 120ومقاييس اللغة 4/ 109.
(8/113)
فقال: [والله] لولا أنّ أبا بصير الأعشى، أنشدني قبلك، لقلت إنّك أشعر الناس (1): أنت والله أشعر من كلّ ذات مثانة (2). فقالت: إي والله ومن كلّ ذي خصيين.
فقال حسّان: أنّا والله أشعر منك ومنها ومن أبيك. قال: حيث تقول ماذا؟
قال: حيث أقول:
لنا الجفنات الغرّ البيتين
فقال: إنّك شاعر لولا أنّك قلّلت عدد جفانك، وفخرت بمن ولدته.
وفي رواية أخرى: قال له: إنّك قلت الجفنات فقلّلت العدد، ولو قلت الجفان لكان أكثر، وقلت: يلمعن بالضّحى، ولو قلت يبرقن بالدّجى لكان أبلغ في المديح، لأنّ الضيف في الليل أكثر. وقلت: يقطرن من نجدة دما فدلّلت على قلّة القتل، ولو قلت يجرين لكان أكثر لانصباب الدم.
وفخرت بمن ولدت ولم تفتخر بمن ولدك. فقام حسّان منكسرا منقطعا. انتهى ما رواه.
وقال أسامة بن منقذ في «باب التفريط من كتاب البديع»: اعلم أنّ التّفريط هو أن يقدم على شيء فيأتي بدونه، فيكون تفريطا منه إذ لم يكمل اللفظ أو يبالغ في المعنى. وهو باب واسع يعتمد عليه النقّاد من الشّعراء، مثل قول حسّان بن ثابت الأنصاري:
* لنا الجفنات الغرّ * البيت
وفرّط في قوله: «الجفنات» لأنّها دون العشرة، وهو يقدر أن يقول: «لدينا الجفان» لأن العدد القليل لا يفتخر به.
وكذلك قوله: «وأسيافنا» لأنّها دون العشرة، وهو قادر أن يقول: «وبيض لنا».
__________
(1) في الأغاني: = لقلت: إنك أشعر الجن والإنس =.
(2) في اللسان (مثن): = المثانة: مستقرّ البول وموضعه من الرجل والمرأة معروفة قال الأزهري والمثانة عند عوام الناس موضع البول، وهي عنده موضع الولد من الأنثى =.
(8/114)
وفرّط في قوله: «الغرّ» لأنّ السّود أمدح من البيض، لأجل الدّهن وكثرة القرى فيهنّ.
وفرّط في قوله: بالضّحى، وهو قادر على أن يقول في الدّجى، لأن كلّ شيء يلمع في الضّحى. وفرّط في قوله: يقطرن، وهو قادر على أن يقول: يجرين، لأن القطر قطرة بعد قطرة. وقال قدامة: أراد بقوله الغرّ المشهورات.
وقال بالضّحى لأنه لا يلمع فيه إلّا عظيم ساطع الضوء، والدّجى يلمع فيه يسير النور. وأما أسياف وجفنات فإنّه قد يوضع القليل موضع الكثير، كما قال سبحانه (1): {«لَهُمْ جَنََّاتٍ»} و {«دَرَجََاتٍ} [2]».
وقوله: «يقطرن دما» هو المعروف والمألوف، فلو قال يجرين لخرج عن العادة. وينوب قطر عن جرى. اهـ.
وقال ابن أبي الإصبع في «كتابه تحرير التحبير»: في باب الإفراط في الصفة، وهو الذي سمّاه قدامة المبالغة، وسمّاه من بعده التبليغ: وحدّ قدامة المبالغة بأن قال (3):
هي أن يذكر المتكلّم حالا من الأحوال لو وقف عندها لأجزأت، فلا يقف حتّى يزيد في معنى ما ذكره ما يكون أبلغ في معنى قصده، كقوله (4): (الوافر)
ونكرم جارنا ما دام فينا ... ونتبعه الكرامة حيث مالا
وأنا أقول: قد اختلف في المبالغة، فقوم يرون أجود الشعر أكذبه وخير الكلام ما بولغ فيه، ويحتجّون بما جرى بين النابغة الذبياني، وبين حسّان في استدراك النابغة عليه تلك المواضع، في قوله:
لنا الجفنات الغرّ ... البيت
فإنّ النابغة إنّما عاب على حسان ترك المبالغة. والقصّة مشهورة، وإن روي عنه انقطاعه في يد النابغة. وقوم يرون المبالغة من عيوب الكلام. والقولان مردودان.
__________
(1) سورة البقرة: 2/ 25و 198وسورة المائدة: 5/ 119.
(2) سورة الأنفال: 8/ 4.
(3) نقد الشعر ص 84وكتاب الصناعتين ص 379378.
(4) في تحرير التحبير ص 147: = كقول عمرو بن الأهتم التغلبي =. والبيت لابن الأهتم في كتاب الصناعتين ص 379ونقد الشعر ص 84.
(8/115)
وقد بيّن وجه الردّ فيهما (1).
ونقل العيني عن ابن يسعون نقد هذا البيت من جهة اللفظ، ساقط، لأنّ الجمع في الجفنات نظير قوله تعالى (2): {«وَهُمْ فِي الْغُرُفََاتِ آمِنُونَ»} وأما الغرّ هنا فليس جمع غرّة، بل البيض المشرفات من كثرة الشّحوم وبياض اللّحوم. وهي جمع غرّاء.
ويجوز أن يريد بها المشهورة المنصوبة للقرى. وكذلك: «يلمعن» هو المستعمل في هذا النّحو الذي يدلّ به على البياض، كما تقول: لمع السراب، ولمع البرق، وكذلك الضّحى والضّحاء، لأنهما بمعنى. على أنّ الضّحى أدلّ على تعجيلهم القرى.
وأمّا القول: بأنّ يبرقن في الدّجى أبلغ فساقط، لأنّه إنما أراد أن إطعامهم موصول، وقراهم في كلّ وقت مبذول، لأنّه قد وصف قبل هذا قراهم بالليل حيث قال (3):
وإنّا لنقري الضّيف إن جاء طارقا ... من الشّحم ما أضحى صحيحا مسلّما
ويروى: «ما أمسى».
وأما قوله: يقطرن فهو المستعمل في مثل هذا، يقال: سيفه يقطر دما. ولم تجر العادة بأن يقال: يجري دما، مع أنّ يقطر أمدح، لأنه يدلّ على مضاء السيف وسرعة خروجه عن الضّريبة حتّى لا يكاد يعلق به دم. اه.
والبيت من قصيدة افتخاريّة لحسان بن ثابت الصحابي، عدّتها خمسة وثلاثون بيتا. وهذه أبيات منها بعد أن ذكر منازل حبيبته (4):
لنا حاضر فعم وباد كأنّه ... شماريخ رضوى عزّة وتكرّما (5)
متى ما تزنّا من معدّ بعصبة ... وغسّان نمنع حوضنا أن يهدّما
__________
(1) انظر في ذلك تحرير التحبير ص 151148.
(2) سورة سبأ: 34/ 37.
(3) البيت لحسان بن ثابت في ديوانه ص 129.
(4) هي في خمسة وثلاثين بيتا في ديوانه ص 131126.
(5) البيت لحسان بن ثابت في ديوانه ص 130وتاج العروس (حضر) ولسان العرب (حضر) ومجمل اللغة 2/ 80ومقاييس اللغة 2/ 76.
(8/116)
بكلّ فتى عاري الأشاجع لاحه ... قراع الكماة يرشح المسك والدّما
إذا استدبرتنا الشّمس درّت متوننا ... كأنّ عروق الجوف ينضحن عندما
ولدنا بني العنقاء وابني محرّق ... فأكرم بنا خالا وأكرم بنا ابنما
نسوّد ذا المال القليل إذا بدت ... مروءته فينا وإن كان مكرما
وإنّا لنقري الضّيف إن جاء طارقا ... من الشّحم ما أمسى صحيحا مسلّما
ألسنا نردّ الكبش عن طيّة الهوى ... ونقلب مرّان الوشيج محطّما
وكائن ترى من سيّد ذي مهابة ... أبوه أبونا وابن أخت ومحرما
لنا الجفنات الغرّ ... البيت
أبى فعلنا المعروف أن ننطق الخنا ... وقائلنا بالعرف إلّا تكلّما
فكلّ معدّ قد جزينا بصنعه ... فبؤسى ببؤساها وبالنّعم أنعما (1)
وهذه آخر القصيدة.
وقوله: «لنا حاضر فعم» إلخ، قال في الصحاح: «الحاضر»: الحيّ العظيم.
وأنشد البيت.
و «الفعم»: الكثير الممتلئ. و «البادي»: النازل بالبادية، يقال: بدا بداوة، بالفتح والكسر، وهي الإقامة بالبادية. و «الشّمراخ»، بالكسر: رأس الجبل.
و «رضوى»، بالفتح: جبل بالمدينة.
وقوله: «متى ما تزنّا» إلخ، «تزنّا»: بالخطاب من الوزن. و «معدّ»: أبو قبيلة.
والواو في قوله: «وغسّان» للقسم ونمنع جواب الشرط. وهذه عبارة عن العزّ والمنعة.
وقوله: «بكلّ فتى» إلخ، متعلق بنمنع. و «الأشاجع»: أصول الأصابع التي تتّصل بعصب ظاهر الكف، الواحد أشجع.
وأراد «بعريها» كونها عارية من اللّحم غير غليظة. و «لاحه» بالمهملة بمعنى غيّره.
__________
(1) في النسخة الشنقيطية: = وكل معد =. وهي رواية ديوانه أيضا.
(8/117)
و «قراع»: مصدر قارعة. ومقارعة الأبطال: قرع بعضهم بعضا. و «الكماة»:
الشّجعان.
وقوله: «يرشح المسك» إلخ، أراد أنّهم ملوك، فإذا جرح أحدهم سال دمه برائحة المسك.
وقوله: «إذا استدبرتنا الشمس» إلخ. «المتون»: الظّهور. و «العندم»:
البقّم (1)، وقيل دم الأخوين. قال شارح ديوانه: يريد أنّهم إذا عرقوا [عرقوا (2)] برائحة الطّيب.
وقوله: «ولدنا بني العنقاء» إلخ، «العنقاء»: ثعلبة بن عمرو مزيقياء بن عامر بن ماء السماء.
و «محرّق»: هو الحارث بن عمرو مزيقياء (3) وكان أوّل من عاقب بالنار.
وقوله: «فأكرم بنا» هو تعجّب، أي: ما أكرمنا خالا، وما أكرمنا ابنا، و «ما»: زائدة.
__________
(1) في شرح ديوانه ص 130: = والعندم: صبغ أحمر =.
(2) زيادة يقتضيها السياق من النسخة الشنقيطية وشرح ديوان حسان ص 130.
(3) مزيقياء: لقب لعمرو هذا: وهو عمرو بن عامر ماء السماء، وهو ابن حارثة الغطريف، بن امرئ القيس البطريق، بن ثعلبة البهلول بن مازن قاتل الجوع، بن الأزد. (الاشتقاق ص 435والعمدة 2/ 228).
والمحرق هنا، الحارث بن عمرو، سمي بذلك لأنه أول من حرّق العرب في ديارها، وهو الحارث الأكبر، ويكنى أبا شمر. وقصد بقوله: ابني محرق، ابنه الحارث بن أبي شمر الغساني، وهو الحارث الأعرج، وأمه مارية ذات القرطين، وهي مارية بنت ظالم بن وهب بن الحارث بن معاوية الكندي، ثم الحارث الأصغر بن الحارث الأكبر، وهو ولد الحارث الأعرج، وكان يقال له: أبو شمر الأصغر. وله يقول نابغة بني ذبيان:
علي لعمرو نعمة بعد نعمة ... لوالده ليست بذات عقارب
وفي اللسان (حرق): = وكان عمرو بن هند يلقب بالمحرق، لأنه حرق مائة من بني تميم: تسعة وتسعون من بني دارم، وواحدا من البراجم، وشأنه مشهور. ومحرق أيضا: لقب الحارث بن عمرو ملك الشام من آل جفنة، وإنما سمي بذلك لأنه أول من حرق العرب في ديارهم، فهم يدعون آل محرق وأما قول أسود بن يعفر:
ماذا أؤمل بعد آل محرق ... تركوا منازلهم وبعد إياد
فإنما عنى به امرأ القيس بن عمرو بن عدي اللخمي لأنه أيضا يدعى محرق. قال ابن سيده: محرّق لقب ملك، وهما محرقان: محرق الأكبر وهو امرئ القيس اللخمي، ومحرق الثاني وهو عمرو بن هند مضرط الحجارة، سمي بذلك لتحريقه بني تميم يوم أوارة، وقيل: لتحريقه نخل ملهم =.
(8/118)
وقوله: «وإنا لنقري» إلخ. «نقري»: نضيف. و «الطروق»: المجيء ليلا. و «ما»: مفعول نقري لتضمّنه معنى نطعم. يريد أنهم يذبحون للضّيف الإبل السالمة من علّة ومرض.
وقوله: «ألسنا نردّ الكبش» إلخ. «الكبش»: سيّد القوم. و «الطّيّة» بالكسر: النية.
و «الهوى»: هوى النفس. و «المرّان» بالضم: جمع مارن، وهو الرّمح اللين المهزّ. أي: نقاتل بها حتّى تنكسر.
و «ها» في البيت الأخير للتنبيه.
وترجمة حسّان تقدّمت في الشاهد الحادي والثلاثين من أوائل الكتاب (1).
* * * __________
(1) الخزانة الجزء الأول ص 227.
(8/119)
المصدر
أنشد فيه، وهو الشاهد الخامس والتسعون بعد الخمسمائة (1): (الطويل)
595 - وما الحرب إلّا ما علمتم وذقتم
وما هو عنها بالحديث المرجّم
على أنّ الظرف والجار والمجرور يعمل فيهما ما هو في غاية البعد من العمل، كحرف النفي والضمير كما في البيت، فإنّ قوله: «عنها» متعلق ب «هو». أي:
ما حديثي عنها.
والبيت من معلّقة زهير بن أبي سلمى الجاهلي. قال الصاغاني في «العباب»:
الحرب مؤنّث، يقال: وقعت بينهم حرب.
قال الخليل: تصغيرها حريب بلا هاء رواية عن العرب. قال المازني: لأنّه في الأصل مصدر. وقال المبّرد: الحرب قد تذكّر.
وأنشد (2): (الرجز)
وهو إذا الحرب هفا عقابه ... مرجم حرب تلتقي حرابه
وقد جعل الشارح المحقق الضمير كناية عن الحديث الذي هو قول وفاقا لأبي الحسين الزّوزني شارح المعلّقات، قال: الضمير كناية القول لا العلم، لأنّ العلم لا يكون قولا. وفيه ردّ على سائر شرّاح المعلقات، في أنّ الضمير راجع إلى العلم.
__________
(1) البيت لزهير بن أبي سلمى في ديوانه صنعة الأعلم ص 18وديوانه صنعة ثعلب ص 26والدرر 5/ 244 وشرح شواهد المغني 1/ 384وشرح القصائد العشر للتبريزي ص 161ولسان العرب (رجم). وهو بلا نسبة في شرح قطر الندى ص 262وهمع الهوامع 2/ 92.
(2) الرجز بلا نسبة في تاج العروس (حرب، هفا) وشرح شواهد الشافية ص 98ولسان العرب (عقا، لظى، هفا).
في النسخة الشنقيطية: = ملجم =. وهو تصحيف صوابه من طبعة بولاق وشرح شواهد الشافية.
(8/120)
قال أبو جعفر النحاس، وتبعه التّبريزي واللفظ له:
قوله: «وما هو عنها»، أي: ما العلم عنها بالحديث، أي: ما الخبر عنها بحديث يرجّم فيه بالظنّ، فقوله هو كناية عن العلم، لأنّه لما قال: إلّا ما علمتم، دلّ على العلم.
قال الله تعالى (1): {«وَلََا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمََا آتََاهُمُ اللََّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً»}، المعنى: أنه لما قال يبخلون دلّ على البخل، كقولهم: من كذب كان شرا له، أي: كان الكذب شرا له. اه.
وقال الأعلم الشنتمري (2): هو كناية عن العلم، يريد: وما علمكم بالحرب.
و «عن» بدل من الباء. هذا كلامه.
وقال صعودا في «شرح ديوانه»: هو ضمير راجع على ما، وكأنه قال: وما الذي علمتم. ثم كنى عن الذي. اه.
و «المرجّم»: الذي يرجم بالظنون، والترجيم والرّجم: الظنّ، ومنه قول الله عزّ وجلّ (3): {«رَجْماً بِالْغَيْبِ»}، أي: ظنّا. والذّوق أصله في المطعوم، واستعير هنا للتجربة.
يقول: ليست الحرب إلّا ما عهدتموها وجرّبتموها ومارستم كراهتها، وما هذا الذي أقوله بحديث مظنون.
وهذا ما شهدت به الشواهد الصادقة من التّجارب، وليس من أحكام الظّنون.
خاطب زهير بهذا الكلام قبيلة ذبيان وأحلافهم، وهم أسد وغطفان، ويحرّضهم على الصّلح مع بني عمّهم بني عبس، ويخوّفهم من الحرب، فإنّهم قد علموا شدائدها في حرب داحس.
وقد تقدّم (4) شرح القصة مع شرح أبيات كثيرة من هذه المعلقة مع ترجمة زهير في
__________
(1) سورة آل عمران: 3/ 180.
(2) ديوان زهير صنعة الأعلم ص 18.
(3) سورة الكهف: 18/ 22.
(4) في طبعة بولاق: = قد تقدم =.
(8/121)