روحا، فدخل على عبد الملك وقال: يا أمير المؤمنين انظر ماذا جرى علي اليوم من الحجاج! فقال:
وما ذاك؟ قال: قتل غلماني وعرقب خيلي وأحرق فساطيطي فأمر بإحضار الحجاج، فلما حضر قال له عبد الملك: ويلك ماذا فعلت اليوم مع سيدك روح بن زنباع؟ فقال له: يا أمير المؤمنين إن يدي يدك وسوطي سوطك وما على أمير المؤمنين أن يخلف لروح عوض الغلام غلامين، والفرس فرسين، والفسطاط فسطاطين، ولا يسكرني في العسكر. فقال له: افعل، فتم للحجاج ما يريد وقوي من ذلك اليوم أمره، وعظم شره. وكان هذا أول ما عرف من كفاءته. وللحجاج أخبار كثيرة وخطب بليغة: قال المبرد في الكامل: حدثني التوزي بإسناده عن عبد الملك بن عمير الليثي قال: بينما أنا في المسجد الجامع بالكوفة، وأهل الكوفة يومئذ ذوو حالة حسنة، يخرج الرجل منهم في العشرة والعشرين من مواليه إذ قيل: قدم الحجاج أميرا على العراق، فنظرت فإذا به قد دخل المسجد معتما بعمامة قد غطى بها أكثر وجهه، متقلدا سيفا متنكبا قوسا، يؤم المنبر فمال الناس نحوه، فصعد المنبر فمكث ساعة لا يتكلم فقال الناس بعضهم لبعض: قبح الله بني أمية حيث تستعمل مثل هذا على العراق! فقال عمير بن ضابىء البرجمي (1): ألا أحصبه لكم؟ فقيل: أمهل حتى ننظر. فلما رأى الحجاج أعين الناس ترمقه، حسر اللثام عن وجهه ونهض قائما ثم حمد الله وأثنى عليه وصلّى على النبي صلى الله عليه وسلم ثم قال (2):
أنا ابن جلا وطلاع الثنايا ... متى أضع العمامة تعرفوني
ثم قال يا أهل الكوفة إني لأرى رؤوسا قد أينعت وحان قطافها وإني لصاحبها، وكأني أنظر إلى الدماء بين العمائم واللحى.
هذا أوان الشر فاشتدي زيم ... قد لفها الليل بسواق حطم (3)
... ليس براعي إبل ولا غنم ... ولا بجزار على ظهر وضم
ثم قال:
قد لفها الليل بعصلبي ... أروع خراج من الدوي (4)
... مهاجر ليس بأعرابي ... معاود للطعن بالخطّي (5)
ثم قال أيضا:
قد شمرت عن ساقها فشدوا ... وجدّت الحرب بكم فجدّوا ... والقوس فيها وترعردّ ... مثل ذراع البكر أو أشد
__________
(1) هو عمير بن ضابىء بن الحارث البرجمي، شاعر، من سكان الكوفة، وكان من الذين حاصروا عثمان بن عفان، وعلم الحجاج ذلك فأمر به فقتل سنة 75هـ.
(2) البيت في وفيات الأعيان: 1/ 165ونسبته إلى سحيم بن وثيل الرياحي.
(3) الزّيم: الغارة. وإسم فرس. والشطر الأول يجري مجرى المثل. جمهرة الأمثال: 2/ 284.
(4) عصلبي: من العصلوب وهو القوي.
(5) الخطي: الرمح.(2/243)
إني والله يا أهل العراق، مما يقعقع لي بالشنان، ولا يغمز جانبي كتغماز التنين، ولقد فررت عن ذكاء، وفتشت عن تجربة، وإن أمير المؤمنين نثل كنانته، فعجم عيدانها عودا عودا فوجدني أمرها عودا، وأصلبها مكسرا، وأبعدها مرمى، فرماكم بي، لأنكم طالما أوضعتم في الفتنة، واضطجعتم في مراقد الضلال، والله لأحزمنكم حزم السلمة، ولأضربنكم ضرب غرابيب الإبل، فإنكم لكأهل قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغدا من كل مكان فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون. وإني والله ما أقول إلا وفيت، ولا أهم إلا أمضيت، ولا أحلف إلا بريت وإن أمير المؤمنين أمرني بإعطائكم أعطياتكم، وأن أوجهكم لمحاربة عدوّكم مع المهلب بن أبي صفرة، وإني أقسم بالله لا أجد رجلا تخلف بعد أن أخذ عطائه ثلاثة أيام، إلا ضربت عنقه. يا غلام اقرأ كتاب أمير المؤمنين فقرأ: بسم الله الرحمن الرحيم من عبد الله عبد الملك بن مروان أمير المؤمنين إلى من بالكوفة من المسلمين سلام عليكم فلم يقل أحد شيئا فقال الحجاج: اكفف يا غلام، ثم أقبل على الناس، فقال: أيسلم عليكم أمير المؤمنين فلم تردّوا سلامه؟ هذا أدب ابن سمية، أما والله لأودّبنكم غير هذا الأدب، أو لتستقيمن. اقرأ يا غلام كتاب أمير المؤمنين فلما بلغ إلى قوله سلام عليكم لم يبق في المسجد أحد إلا قال وعلى أمير المؤمنين السلام. ثم نزل فوضع للناس أعطياتهم فجعلوا يأخذون، حتى أتاه شيخ يرعش كبرا فقال: أيها الأمير إني من الضعف على ما ترى ولي ابن هو أقوى مني على الأسفار أفتقبله مني بدلا فقال له الحجاج: نفعل أيها الشيخ. فلما ولى، قال له قائل: أتدري من هذا أيها الأمير؟ قال:
لا، قال: هذا عمير بن ضابىء البرجمي الذي يقول (1) أبوه:
هممت ولم أفعل وكدت وليتني ... تركت على عثمان تبكي حلائله
ودخل هذا الشيخ على عثمان رضي الله تعالى عنه، يوم الدار وهو مقتول، فوطىء بطنه وكسر ضلعين من أضلاعه، فقال: ردّوه، فلما ردّ قال له الحجاج: أيها الشيخ هلا بعثت إلى أمير المؤمنين عثمان بن عفان بديلا يوم الدار. إن في قتلك إصلاحا للمسلمين: يا حرسي اضرب عنقه.
تفسير ما في خطبة الحجاج من الكلام: قوله: أنا ابن جلا إنما أراد المنكشف الأمر، ولم يصرف جلا لأنه أراد الفعل فحكى. والفعل إذا كان فيه فاعله مضمرا أو مظهرا لم يكن إلا حكاية. كقولك قرأت: {اقْتَرَبَتِ السََّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ} [2] لأنك حكيت وكذلك الابتداء والخبر تقول قرأت: {الْحَمْدُ لِلََّهِ رَبِّ الْعََالَمِينَ} [3] * قال الشاعر:
والله ما زيد بنام صاحبه.
وهذه الكلمة لسحيم بن وثيل الرياحي، وإنما قالها الحجاج متمثلا وقوله طلاع الثنايا جمع ثنية والثنية الطريق في الجبل والطريق في الرمل، يقال لها: الجلد وإنما أراد جلد يطلع الثنايا في
__________
(1) الخبر والبيت في وفيات الأعيان: 2/ 34.
(2) سورة القمر: الآية 1.
(3) سورة الفاتحة: الآية 1.(2/244)
ارتفاعها وصعوبتها. كما قال دريد (1) بن الصمة يرثي أخاه عبد الله:
كميش الإزار خارج نصف ساقه ... بعيد من السوآت طلاع أنجد (2)
والنجد ما ارتفع من الأرض وقوله: إني لأرى رؤوسا، قد أينعت، يريد أدركت يقال أينعت الثمرة إيناعا وينعت ينعا وينعا ويقرأ انظروا إلى ثمره إذا أثمر وينعه وينعه، وكلاهما جائز قال أبو عبيدة وهذا الشعر مختلف فيه فبعضهم ينسبه إلى الأحوص (3) وبعضهم إلى يزيد بن معاوية (4) وهو:
ولها بالماطرون إذا ... أكل النمل الذي جمعا ... حرقة حتى إذا ارتفعت ... سكنت من جلق نبعا ... في قباب عند دسكرة ... حولها الزيتون قد ينعا
وقوله: هذا أوان الشر فاشتدي زيم، يعني فرسا أو ناقة، والشعر للحطيم القيسي. وقوله:
قد لفها الليل بسواق حطم. الحطم الذي لا يبقي من الخبز شيئا، يقال: رجل حطم إذا كان يأتي على الزاد لشدة أكله. ويقال للنار التي لا تبقي على شيء حطمة. وقوله: على ظهر وضم الوضم كل ما قطع عليه اللحم قال الشاعر:
وفتيان صدق حسان الوجوه ... لا يجدون لشيء ألم ... من آل المغيرة لا يشهدو ... ن عند المجازر لحم الوضم
وقوله قد لفها الليل بعصلبي: أي شديد أروع أي ذكي. وقوله خراج من الدوي: يقول خراج عن كل غماء وشدة، ويقال للصحراء دوية وهي التي تنسب للدو، والدو صحراء ملساء لا علم بها ولا إمارة قال الحطيئة (5):
وأني اهتدت والدو بيني وبينها ... وما خلت ساري الدو بالليل يهتدي (6)
والداوية الفلاة المتسعة التي يسمع لها دوي بالليل، وإنما ذلك الدوي من أخفاف الإبل تنفسخ أصواتها فيها وجهلة الأعراب تقول: إن ذلك عزيف الجن. وقوله: والقوس فيها وترعردّ أي شديد ويقال عرند. وقوله: إني والله ما يقعقع لي بالشنان واحدها شن. وهي الجلد اليابس فإذا
__________
(1) دريد بن الصمة الجشحي البكري، من هوازن، شاعر سيد فارس أدرك الإسلام ولم يسلم، قتل في حنين سنة 8هـ.
(2) كميش الإزار: مشمّره. والبيت في ديوان دريد: 49.
(3) الأحوص: عبد الله بن محمد بن عبد الله بن عاصم الأنصاري، شاعر هجاء، نفاه الوليد بن عبد الملك، وعاد إلى دمشق أيام يزيد بن عبد الملك ومات فيها سنة 105هـ.
(4) يزيد بن معاوية بن أبي سفيان الخليفة الأموي المتوفي سنة 64هـ.
(5) الحطيئة: حرول بن أوس بن مالك العبسي، أبو مليكة، شاعر مخضرم، أدرك الجاهلية والإسلام فأسلم، وكان سليط اللسان هجاء. مات سنة 45هـ.
(6) ديوان الخطيئة: 47.(2/245)
قعقع به نفرت الإبل منه فضرب ذلك مثلا لنفسه، قال النابغة الذبياني (1):
كأنك من جمال بني أقيش ... يقعقع بين رجليه بشن
وقوله: ولقد فررت عن ذكاء يعني عن تمام سن. والذكاء على ضربين: أحدهما تمام السن والآخر حدّة القلب، فما جاء في تمام السن قول قيس (2) بن زهير العبسي جرى المذكيات غلاب وقول زهير (3):
يفضله إذا اجتهدا عليه ... تمام السن منه والذكاء
وقوله: فعجم عيدانها عودا عودا: أي مضغها لينظر أيها أصلب. يقال: عجمت العود إذا مضغته وعضضته والمصدر العجم. يقال: عجمه عجما، ويقال لنوى كل شيء عجم بفتح الجيم ومن سكن فقد أخطأ قال الأعشى:
وجذعانها كلقيط العجم وقوله: طالما أوضعتم في الفتنة: الإيضاع ضرب من السير وله أخبار كثيرة تركناها كراهية التطويل. قال ابن خلكان: ولما حضرته الوفاة أحضر منجما وقال: هل ترى في علمك أن ملكا يموت؟ قال: نعم، ولست هو. قال وكيف ذلك؟ قال: لأن الملك الذي يموت اسمه كليب. فقال الحجاج: أنا هو والله بذلك الاسم سمتني أمي فأوصى عند ذلك وكان ينشد في مرضه:
يا رب قد حلف الأعداء واجتهدوا ... أيمانهم أنني من ساكني النار ... أيحلفون على عمياء ويحهم ... ما ظنهم بعظيم العفو غفار (4)
وتوفي الحجاج سنة خمس وتسعين في خلافة الوليد بواسط، ودفن بها، وعفا قبره وأجري عليه الماء ولما مات لم يعلم بموته، حتى خرجت جارية من قصره وهي تقول:
اليوم يرحمنا من كان يغبطنا ... واليوم نتبع من كانوا لنا تبعا
فعلم بموته. وقال الحافظ الذهبي وابن خلكان وغيرهما: أحصي من قتله الحجاج صبرا، سوى من قتل في حروبه، فبلغ مائة ألف وعشرين ألفا. وكذا رواه الترمذي في جامعه. ومات في حبسه خمسون ألف رجل، وثلاثون ألف امرأة، منهن ستة عشر ألفا مجردات. وكان يحبس الرجال والنساء في موضع واحد. وعرضت سجونه بعده، فوجد فيها ثلاثة وثلاثون ألفا لم يجب على أحد منهم لا قطع ولا صلب. وقال الحافظ ابن عساكر: إن سليمان بن عبد الملك، أخرج من كان في سجن الحجاج من المظلومين. ويقال: إنه أخرج في يوم واحد ثمانين ألفا. ويقال: إنه
__________
(1) النابغة الذبياني: زياد بن معاوية شاعر جاهلي فحل. والبيت في ديوانه: 190.
(2) قيس بن زهير بن جذيمة بن رواحة العبسي، من العقلاء، مات سنة 10هـ.
(3) زهير هو الشاعر زهير بن أبي سلمى، الحكيم الجاهلي. والبيت في ديوانه 16.
(4) البيت وما قبله في وفيات الأعيان: 2/ 53منسوبان إلى عبيد بن سفيان العكلي. وفي البيت الثاني: «ما ظنهم بقديم».(2/246)
أخرج من سجونه ثلاثمائة ألف. وقال ابن خلكان: ولم يكن لحبسه سقف يستر الناس من الشمس في الصيف، ولا من المطر في الشتاء، بل كان حوشا مبنيا بالرخام. وكان له غير ذلك من أنواع العذاب. وقيل: إنه سأل كاتبه يوما فقال: كم عدة من قتلنا في التهمة؟ فقال ثمانون ألفا.
وكانت مدة ولايته على العراق عشرين سنة، ومات وله ثلاث وخمسون سنة. روي أنه ركب يوم جمعة، فسمع ضجة، فقال: ما هذا؟ فقيل: المحبوسون يضجون ويشكون مما هم فيه، من الجوع والعذاب. فالتفت إلى ناحيتهم وقال: {اخْسَؤُا فِيهََا وَلََا تُكَلِّمُونِ} (1). فما صلى جمعة بعدها. ورأيت على حاشية تاريخ ابن خلكان بخط بعض المشايخ أن بعض العلماء كفره بهذا الكلام وغيره مما وقع منه. وفي الكامل للمبرد: ومما كفر به الفقهاء الحجاج أنه رأى الناس يطوفون حول حجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إنما تطوفون بأعواد ورمة. قلت: وإنما كفروه بهذا لأن في هذا الكلام تكذيبا لرسول الله صلى الله عليه وسلم نعوذ بالله من اعتقاد ذلك. فإنه صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن الله عزّ وجلّ حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء» أخرجه (2) أبو داود وذكر أبو جعفر الداودي هذا الحديث بزيادة ذكر الشهداء والعلماء والمؤذنين. وهي زيادة غريبة. قال السهيلي:
الداودي من أهل الفقه والعلم. ولكن روي عن أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز رحمه الله، أنه رأى الحجاج في المنام بعد موته وهو جيفة منتنة، فقال له: ما فعل الله بك قال: قتلني بكل قتيل قتلته قتلة واحدة إلا سعيد بن جبير (3) فإنه قتلني به سبعين قتلة. فقال له: ما أنت منتظر؟ فقال ما ينتظره الموحدون فهذا مما ينفي عنه الكفر. ويثبت أنه مات على التوحيد وعند الله علم حاله وهو أعلم بحقيقة أمره.
تنبيه:
فإن قيل: ما الحكمة في أن الله تعالى قتل الحجاج بكل قتيل قتله قتلة واحدة إلا سعيد بن جبير رحمه الله تعالى؟ وهو قد قتل عبد الله بن الزبير (4) رضي الله تعالى عنهما، وهو صحابي وسعيد بن جبير تابعي؟ والصحابي أفضل من التابعيّ فالجواب أن الحكمة في ذلك، أن الحجاج لما قتل عبد الله بن الزبير رضي الله تعالى عنهما كان له نظراء في العلم كثيرون كابن عمر وأنس بن مالك وغيرهما من الصحابة، ولما قتل سعيد بن جبير لم يكن له نظير في العلم في وقته.
وذكر غير واحد من المصنفين أن الحسن البصري رحمه الله لما بلغه قتل سعيد بن جبير، قال: والله لقد مات سعيد بن جبير يوم مات وأهل الأرض من مشرقها إلى مغربها محتاجون لعلمه. فمن هذا المعنى ضوعف العذاب على الحجاج بقتله. والله أعلم. وسيأتي حديث قتل سعيد بن جبير في باب اللام في اللبوة. وقتل عبد الله بن الزبير تقدم في باب الهمزة في الأوز.
__________
(1) سورة المؤمنون: الآية: 108.
(2) رواه أبو داود في الصلاة: 201. وتر: 26. والنسائي في الجمعة: 5، ورواه ابن ماجه في الإقامة: 79.
والجنائز: 65. والدارمي في الصلاة: 206وابن حنبل: 4، 8.
(3) سعيد بن جبير الأسدي بالولاء، الكوفي، تابعي كان أعلمهم إطلاقا، وهو حبشي الأصل. قتله الحجّاج، وكان أهل الأرض في حاجة إلى علمه، سنة 95هـ.
(4) ابن الزبير: عبد الله بن الزبير بن العوام القرشي الأسدي أبو بكر، أول مولود في المدينة بعد الهجرة، بويع له بالخلافة سنة 64هـ، حاربه بنو أمية، فحاصره أخيرا الحجاج في البيت الحرام وقتله سنة 73هـ.(2/247)
الأمثال:
قالوا (1): «أغلم من تيس بني حمان» بكسر الحاء المهملة، وذلك أن بني حمان تزعم أن تيسهم سفد سبعين عنزا بعد ما فريت أوداجه، ففخروا بذلك والله أعلم. ويقال للتيس قفط وسفد. وفي الأذكياء (2) لابن الجوزي أن مزينة أسرت أبا حسان الأنصاري، وقالوا لا نأخذ فداءه إلا تيسا، فغضب قومه، وقالوا: لا نفعل هذا فأرسل إليهم: أعطوهم ما طلبوا فلما جاؤوا بالتيس، قال أعطوهم أخاهم وخذوا أخاكم فسموا مزينة التيس، وصار لهم لقبا وعيبا.
الخواص:
جميع بدنه منتن كالإبط، ولحيته تشد على صاحب حمى الربع، وعلى من به صداع فيزولان. وطحاله يقطعه صاحب الطحال بيده، ويعلقه في بيت هو فيه، فإذا جف الطحال زال ألم المطحول. ورطوبة كبده حال شقها تقطر في الأذن الوجيعة يزول وجعها. وكعبه إذا سحق وشرب هيج الباه وبوله يغلى حتى يغلظ ويخلط بمثله سكرا ويطلى به الجرب في الحمام فإنه يذهب. وبعره إذا وضع تحت رأس صبي يبكي كثيرا يزول عنه. وسيأتي له منافع أخرى في خواص المعز والله أعلم.
باب الثاء المثلثة
الثاغية:
النعجة قالوا: ما له ثاغية ولا راغية، أي لا نعجة ولا ناقة أي ما له شيء ومثله ما له دقيقة ولا جليلة فالدقيقة الشاة والجليلة الناقة.
الثرملة:
بالضم أنثى الثعالب وسيأتي إن شاء الله تعالى ما في الثعلب في هذا الباب.
الثعبان:
الكبير من الحيات ذكرا كان أو أنثى. والجمع الثعابين والثعبة ضرب من الوزغ وسيأتي إن شاء الله تعالى في باب الواو. وقال الجاحظ، في كتاب الأمصار: وتفاضل البلدان والثعابين بمصر وليست هي في بلد غيرها، وإليها حول الله عصا موسى صلى الله عليه وسلم، قال الله تعالى: {فَأَلْقى ََ عَصََاهُ فَإِذََا هِيَ ثُعْبََانٌ مُبِينٌ} [3] * يعني أنه حولها ثعبانا عظيما ومما يتعلق بخبر الثعبان: أن عبد الله بن جدعان (4)، كان في ابتداء أمره صعلوكا ترب اليدين، وكان مع ذلك شريرا فاتكا لا يزال يجني الجنايات، فيعقل عنه أبوه وقومه حتى أبغضته عشيرته، ونفاه أبوه وحلف لا يؤويه أبدا. فخرج في شعاب مكة حائرا ثائرا، يتمنى الموت أن ينزل به، فرأى شقا في جبل، فظن أن فيه حية فتعرض للشق يريد أن يكون فيه ما يقتله فيستريح، فلم ير شيئا فدخل فيه فإذا فيه ثعبان عظيم له عينان تقدان كالسراجين، فحمل عليه الثعبان. فأفرج له فانساب عنه مستديرا بدارة عند بيت ثم خطا خطوة أخرى، فصفر به الثعبان، فأقبل إليه كالسهم فأفرج له فانساب عنه، فوقف ينظر إليه يفكر في أمره، فوقع في نفسه أنه مصنوع فأمسكه بيديه فإذا هو مصنوع من ذهب، وعيناه ياقوتتان فكسره وأخذ عينيه ودخل البيت، فإذا جثث طوال على سرر لم ير مثلهم طولا وعظما، وعند رؤوسهم لوح من فضة فيه تاريخهم، وإذا هم رجال من ملوك جرهم،
__________
(1) جمهرة الأمثال: 2/ 78.
(2) الأذكياء: 113.
(3) سورة الأعراف: الآية 107.
(4) عبد الله بن جدعان التيمي، من الأجواد في الجاهلية.(2/248)
وآخرهم موتا الحارث بن (1) مضاض صاحب العذبة الطويلة، وإذا عليهم ثياب من وشي لا يمس منها شيء إلا انتثر كالهباء من طول الزمان مكتوب في اللوح عظات. قال ابن هشام: كان اللوح من رخام وكان فيه أنا نفيلة (2) بن عبد المدان بن خشرم بن عبديا ليل بن جرهم بن قحطان ابن نبي الله هود عليه السلام عشت من العمر خمسمائة عام وقطعت غور الأرض ظاهرها وباطنها في طلب الثروة والمجد والملك فلم يكن ذلك ينجيني من الموت وتحته مكتوب:
قد قطعت البلاد في طلب الثر ... وة والمجد قالص الأثواب ... وسريت البلاد قفر القفر ... بقناة وقوة واكتساب ... فأصاب الردى بنات فؤادي ... بسهام من المنايا صياب ... فانقضت مدتي وأقصر جهلي ... واستراحت عواذلي من عتابي ... ودفعت السفاه بالحلم لما ... نزل الشيب في محل الشباب ... صاح هل ريت أو سمعت براع ... رد في الضرع ما قرى في الحلاب
وإذا في وسط البيت كوم عظيم من الياقوت واللؤلؤ والذهب والفضة والزبرجد فأخذ منه ما أخذ، ثم علم على الشق بعلامة. وأغلق بابه بالحجارة، وأرسل إلى أبيه بالمال الذي خرج به منه يسترضيه ويستعطفه، ووصل عشيرته كلهم فسادهم وجعل ينفق من ذلك الكنز، ويطعم الناس ويفعل المعروف وكانت جفنته، يأكل منها الراكب على البعير وسقط فيها صبي فغرق ومات وفي غريب الحديث لابن قتيبة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «كنت أستظل بظل جفنة عبد الله بن جدعان صكة عمي». يعني في الهاجرة. وسميت الهاجرة صكة عمي لخبر ذكره أبو حنيفة في الأنوار، وهو أن عميا رجل من عدوان، وقيل: من إياد وكان فقيه العرب في الجاهلية فقدم في قومه، معتمرا أو حاجا، فلما كان على مرحلتين من مكة، قال لقومه، وهم في وسط الظهيرة: من أتى مكة غدا في مثل هذا الوقت كان له أجر عمرتين! فصكوا الإبل صكة شديدة حتى أتوا مكة من الغداة.
وعمي تصير أعمى على الترخيم فسميت الظهيرة صكة عمي. وعبد الله بن جدعان تيمي يكنى أبا زهير، وهو ابن عم عائشة رضي الله تعالى عنها. ولذلك قالت: يا رسول الله إن ابن جدعان كان يطعم العطام ويقري الضيف ويفعل المعروف فهل ينفعه ذلك يوم القيامة؟ قال صلى الله عليه وسلم: «لا إنه لم يقل يوما رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين (3)». كذا قاله السهيلي في الروض الأنف. وفي كتاب ري العاطش وأنس الواحش، لأحمد بن عمار (4) أن ابن جدعان ممن حرم الخمر في الجاهلية، بعد أن كان بها مغرى، وذلك أنه سكر ليلة فصار يمد يديه ويقبض على ضوء القمر ليأخذه فضحك منه جلساؤه، فأخبر بذلك حين صحا. فحلف أن لا يشربها أبدا. فلما كبر وهرم، أراد بنو تيم أن
__________
(1) ابن مضاض، الحارث، من ملوك الجاهلية من بني جرهم من قحطان.
(2) نفيلة الجرهمي بن عبد المدان من ملوك مكة والطائف في الجاهلية.
(3) رواه البخاري في الدعوات: 61. ومسلم في الإيمان: 365، والذكر: 70وأحمد: 4/ 417، 50، 270، 6، 93.
(4) ابن عمار: أحمد بن عمار بن أبي العباس المهدوي التميمي مقرىء أندلسي مات سنة 440هـ.(2/249)
يمنعون من تبذير ماله، ولاموه في العطاء، فكان يدعو الرجل، فإذا دنا منه، لطمه لطمة خفيفة، ثم يقول له: قم فانشد لطمتك واطلب ديتها، فإذا فعل ذلك أعطته بنو تيم من مال ابن جدعان.
ولقد أجاد أبو الفتح علي بن محمد البستي، صاحب النظم والنثر، في هذه القصيدة، وهي قصيدة طويلة طنانة تشتمل على مواعظ وحكم فلنأت بها بتمامها وبما ذيل عليها أهل الفضل. ويقال: إنها لأمير المؤمنين الراضي (1) بالله وهي هذه:
زيادة المرء في دنياه نقصان ... وربحه غير محض الخير خسران ... وكل وجدان حظ لاثبات له ... فإن معناه في التحقيق فقدان ... يا عامرا لخراب الدهر مجتهدا ... بالله هل لخراب العمر عمران ... ويا حريصا على الأموال يجمعها ... أنسيت أن سرور المال أحزان ... زع الفؤاد عن الدنيا وزخرفها ... فصفوها كدر والوصل هجران ... وأوع سمعك أمثالا أفصلها ... كما يفصل ياقوت ومرجان ... أحسن إلى الناس تستعبد قلوبهم ... فطالما استعبد الإنسان، إحسان ... وكن على الدهر معوانا لذي أمل ... يرجو نداك فإن الحر معوان ... من جاد بالمال مال الناس قاطبة ... إليه والمال للإنسان فتان ... من كان للخير منّاعا فليس له ... عند الحقيقة إخوان وأخدان (2)
... لا تخدشن بمطل وجه عارفة ... فالبر يخدشه مطل وليان ... يا خادم الجسم كم تسعى لخدمته ... أتطلب الربح مما فيه خسران ... أقبل على النفس فاستكمل فضائلها ... فأنت بالنفس لا بالجسم إنسان ... من يتق الله يحمد في عواقبه ... ويكفه شر من عزوا ومن هانوا ... حسب الفتى عقله خلا يعاشر ... إذا تحاماه إخوان وخلان ... لا تستشر غير ندب حازم فطن ... قد استوى منه إسرار وإعلان ... فللتدابير فرسان إذا ركضوا ... فيها أبروا كما للحرب فرسان ... وللأمور مواقيت مقدرة ... وكل أمر له حد وميزان ... من رافق الرفق في كل الأمور فلم ... يندم عليه ولم يذممه إنسان ... ولا تكن عجلا في الأمر تطلبه ... فليس يحمد قبل النضج بحران ... وذو القناعة راض في معيشته ... وصاحب الحرص ان أثرى فغضبان ... كفى من العيش ما قد سد من رمق ... ففيه للحران حققت غنيان ... هما رضيعا لبان حكمة وتقى ... وساكنا وطن مال وطغيان ... من مد طرفا بفرط الجهل نحو هوى ... أغضى عن الحق يوما وهو خزيان ... من استشار صروف الدهر قام له ... على حقيقة طبع الدهر برهان ... من عاشر الناس لاقى منهم نصبا ... لأن طبعهم بغي وعدوان (3)
__________
(1) الراضي: الخليفة العباسي محمد بن جعفر بن المعتضد بالله أحمد. مولوده سنة 297هـ. ووفاته سنة 329هـ.
(2) أخدان: جمع خدن أي خليل وصاحب.
(3) النصب: التعب.(2/250)
ومن يفتش على الإخوان مجتهدا ... فجل إخوان هذا الدهر خوان ... من يزرع الشر يحصد في عواقبه ... ندامة ولحصد الزرع إبان ... من استنام إلى الأشرار نام وفي ... قميصه منهم صل وثعبان ... من سالم الناس يسلم من غوائلهم ... وعاش وهو قرير العين جذلان ... من كان للعقل سلطان عليه غدا ... وما على نفسه للحرص سلطان ... وإن أساء مسيء فليكن لك في ... عروض زلته صفح وغفران ... إذا نبا بكريم موطن فله ... وراءه في بسيط الأرض أوطان ... لا تحسبن سرورا دائما أبدا ... من سره زمن ساءته أزمان ... يا ظالما فرحا بالعز ساعده ... إن كنت في سنة فالدهر يقظان ... يا أيها العالم المرضي سيرته ... أبشر فأنت بغير الماء ريان ... ويا أخا الجهل لو أصبحت في لجج ... فأنت ما بينها لا شك ظمآن ... دع التكاسل في الخيرات تطلبها ... فليس يسعد بالخيرات كسلان ... صن حر وجهك لا تهتك غلالته ... فكل حر لحر الوجه صوان ... لا تحسب الناس طبعا واحدا فلهم ... غرائز لست تحصيها وألوان ... ما كل ماء كصداء لوارده ... نعم ولا كل نبت فهو سعدان ... من استعان بغير الله في طلب ... فإن ناصره عجز وخذلان ... واشدد يديك بحبل الله معتصما ... فإنه الركن إن خانتك أركان ... لا ظل للمرء يغني عن تقى ورضا ... وإن أظلته أوراق وأفنان ... سحبان من غير مال باقل حصر ... وباقل في ثراء المال سحبان (1)
... والناس إخوان من والته دولته ... وهم عليه إذا عادته أعوان ... يا رافلا في الشباب الرحب منتشيا ... من كأسه هل أصاب الرشد نشوان ... لا تغترر بشباب ناعم خضل ... فكم تقدم قبل الشيب شبان ... ويا أخا الشيب لو ناصحت نفسك لم ... يكن لمثلك في الإسراف إمعان ... هب الشبيبة تبدي عذر صاحبها ... ما بال شيبك يستهويه شيطان ... كل الذنوب فإن الله يغفرها ... إن شيع المرء إخلاص وإيمان ... وكل كسر فإن الله يجبره ... وما لكسر قناة الدين جبران ... أحسن إذا كان إمكان ومقدرة ... فلا يدوم على الإنسان إمكان ... فالروض يزدان بالأنوار فاغمة ... والحر بالعدل والإحسان يزدان ... خذها سرائر أمثال مهذبة ... فيها لمن يبتغي التبيان تبيان ... ماضر حسابها والطبع صائغها ... إن لم يصغها قريع الشعر حسان
__________
(1) سحبان بن زفر بن إياس الوائلي الباهلي، خطيب يضرب به المثل في البلاغة مات سنة 54هـ. وباقل:
علم يضرب به المثل في العي.(2/251)
ومن هنا ذيل من ذيل عليها فقال:
وكن لسنة خير الخلق متبعا ... فإنها لنجاة العبد عنوان ... فهو الذي شملت للخلق أنعمه ... وعمهم منه في الدارين إحسان ... جبينه قمر قد زانه خفر ... وثغره درر غر ومرجان ... والبدر يخجل من أنوار طلعته ... والشمس من حسنه الوضاح تزدان ... به توسلنا في محو زلتنا ... لربنا أنه ذو الجود منان ... ومذ أتى أبصرت عمى القلوب به ... سبل الهدى ووعت للحق آذان ... يا رب صل عليه ما همي مطر ... فأينعت منه أوراق وأغصان ... وابعث إليه سلاما زاكيا عطرا ... والآل والصحب لا تفنيه أزمان
ومن نثرة، يعني أبا القاسم البستي: من أصلح فاسده، أرغم حاسده. ومن أطاع غضبه، أضاع أدبه عادات السادات سادات العادات. من سعادة جدك، وقوفك عند حدك. الرشوة رشاء الحاجات. أجهل الناس من كان للإخوان مذلا، وعلى السلطان مدلا.
الفهم شعاع العقل. المنية تضحك من الأمنية. حد العفاف الرضا بالكفاف.
توفي البستي رحمه الله سنة أربعمائة.
ثعالة:
كنخالة وزبالة وفضالة ثلاثة أخوة يشبه بعضهم بعضا: اسم للثعلب وهو معرفة وأرض مثعلة بالفتح، أي كثيرة الثعالب كما قالوا: معقرة للأرض من الكثيرة العقارب.
الأمثال:
قالوا (1): «أروغ من ثعالة». قال الشاعر:
فاحتلت حين صرمتني ... والمرء يعجز لا محاله ... والدهر يلعب بالفتى ... والدهر أروغ من ثعاله ... والمرء يكسب ماله ... والشيخ يورثه الفساله ... والعبد يقرع بالعصا ... والحر تكفيه المقاله
وقالوا: «أعطش من ثعالة». (2) واختلفوا في تفسيره، فزعم محمد بن حبيب أنه الثعلب، وخالفه ابن الأعرابي فزعم أن ثعالة رجل من بني مجاشع شرب بول رفيق له في مفازة فمات عطشا.
الثعبة
: ضرب من الوزغ قاله الجوهري.
الثعلب:
معروف، والأنثى ثعلبة، والجمع ثعالب وأثعل. روى ابن قانع في معجمه عن وابصة بن معبد، قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «شر السباع هذه الأثعل». يعني الثعالب. وكنية الثعلب أبو الحصين وأبو النجم وأبو نوفل وأبو الوثاب وأبو الحنبص. والأنثى أم عويل والذكر ثعلبان. وأنشد الكسائي عليه:
__________
(1) جمهرة الأمثال: 1/ 406.
(2) جمهرة الأمثال: 2/ 61.(2/252)
أرب (1) يبول الثعلبان برأسه ... لقد ذل من بالت عليه الثعالب
هكذا أنشده جماعة، وهو وهم. فقد رواه أبو حاتم الرازي: الثعلبان، بالفتح على أنه تثنية ثعلب، وذكر أن بني ثعلب كان لهم صنم يعبدونه، فبينما هم ذات يوم إذ أقبل ثعلبان يشتدان فرفع كل منهما رجله وبال على الصنم، وكان للصنم سادن يقال غاوي بن ظالم. فقال البيت المتقدم، ثم كسر الصنم، وأتى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «ما اسمك قال: غاوي بن ظالم.
قال: لا، بل أنت راشد بن عبد ربه». وفي نهاية الغريب أنه كان لرجل صنم، وكان يأتي بالخبز والزبد، فيضعه عند رأسه، ويقول له: أطعم فجاء ثعلبان فأكل الخبز والزبد، ثم عصل على رأس الصنم، أي بال. والثعلبان ذكر الثعالب. وفي كتاب الهروي: فجاء ثعلبان فأكلا الخبز والزبد،.
أراد تثنية ثعلب. قال الحافظ بن ناصر: أخطأ الهروي في تفسيره، وصحف في روايته. وإنما الحديث فجاء ثعلبان، وهو الذكر من الثعالب، اسم له معروف لا مثنى، فأكل الخبز والزبد ثم عصل، بالعين والصاد، على رأس الصنم. فقام الرجل فضرب الصنم فكسره ثم جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره بذلك وقال فيه شعرا وهو:
لقد خاب قوم أملوك لشدة ... أرادوا نزالا أن تكون تحارب ... فلا أنت تغني عن أمور تواترت ... ولا أنت دفاع إذا حل نائب ... أربّ يبول الثعلبان برأسه ... لقد ذل من بالت عليه الثعالب
والحديث مذكور في معجم البغوي وابن شاهين وغيرهما. والرجل المذكور راشد بن عبد ربه. وحديثه مشروح في كتاب دلائل النبوة لأبي نعيم الأصفهاني. وأهل اللغة يستشهدون بهذا البيت في أسماء الحيوان والفرق في ذلك بين الذكر والأنثى كما قالوا لأفعوان ذكر الأفاعي والعقربان ذكر العقارب والثعلب سبع جبان مستضعف ذو مكر وخديعة، لكنه لفرط الخبث والخديعة، يجري مع كبار السباع. ومن حيلته في طلب الرزق أنه يتماوت وينفخ بطنه، ويرفع قوائمه حتى يظن أنه مات، فإذا قرب منه حيوان وثب عليه وصاده. وحيلته هذه لا تتم على كلب الصيد. قيل للثعلب: ما لك تعدو أكثر من الكلب؟ فقال: لأني أعدو ولنفسي والكلب يعدو لغيره. قال الجاحظ: ومن أشد سلاح الثعلب عندهم الروغان والتماوت وسلاحه سلحه، فإن سلاحه أنتن وألزج وأكثر من سلاح الحبارى. قالت العرب:
أدهى وأنتن من سلاح الثعلب.
والجاحظ اسمه عمرو بن بحر الكناني الليثي وقيل له الجاحظ، لأن عينيه كانتا جاحظتين، ويقال له الحدقي أيضا، لذلك أصابه الفالج في آخر عمره، فكان يطلي نصفه بالصندل والكافور لشدة حرارته، والنصف الآخر لو قرض بالمقاريض لما أحس به من خدره وشدة برده. وكان يقول: أنا من جانبي الأيمن مفلوج، فلو قرض بالمقاريض ما علمت. ومن جانبي الأيسر منقرس، فلو مر به الذباب تألمت. وقال: اصطلحت على جسدي الأضداد فإن أكلت باردا أخذ
__________
(1) الحيوان للجاحظ: 6/ 303وفيه: «إله بدل رب». ولم يعزه. وفي الاصابة: 5213هو لغاوي بن ظالم.(2/253)
برجلي، وإن أكلت حارا أخذ برأسي وكان ينشد:
أترجو أن تكون وأنت شيخ ... كما قد كنت أيام الشباب ... لقد كذبتك نفسك ليس ثوب ... دريس كالجديد من الثياب
وله التصانيف في كل فن وهو من رؤوس المعتزلة، وإليه تنسب الطائفة الجاحظية من المعتزلة. ومن أحسن تصانيفه كتاب الحيوان. توفي سنة خمس وخمسين ومائتين بالبصرة. قال: ومن العجب في قسمة الأرزاق أن الذئب يصيد الثعلب فيأكله، والثعلب يصيد القنفذ فيأكله، والقنفذ يصيد الأفعى فيأكلها، والأفعى تصيد العصفور فتأكله، والعصفور يصيد الجراد فيأكله، والجراد يلتمس فراخ الزنابير فيأكلها، والزنبور يصيد النحلة فيأكلها، والنحلة تصيد الذبابة فتأكلها، والذبابة تصيد البعوضة فتأكلها. روى صاحب الغيلانيات، في الجزء الأول، عن الشعبي، عن جابر بن عبد الله، قال: جاء رجل إلى أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه فقال: رأيت كأني أجري مع الثعلب أحسن جري. فقال: أجريت ما لا يجري، أنت رجل في لسانك كذب فاتق الله عزّ وجلّ! ومن شأن الثعلب، إذا دخل برج حمام، وكان شبعان، قتلها ورمى بها لعلمه أنه إذا جاع عاد إليها وأكلها. وهو من الحيوان الذي سلاحه سلاحه، وهو أنتن من سلاح الحبارى كما تقدم.
فإذا تعرض للقنفذ ولقيه كالكرة وتحصن بشوكه سلح عليه فينبسط، فعندها يقبض على مراق بطنه.
ومن ظريف ما يحكى عنه، أن البراغيث، إذا كثرت في صوفه، تناول صوفة منه بفيه، ثم يدخل النهر قليلا قليلا، والبراغيث تصعد فرارا من الماء حتى تجتمع في الصوفة التي في فيه، فيلقيها في الماء ثم يهرب. والذئب يطلب أولاد الثعلب فإذا ولد له ولد، وضع أوراق العنصل على باب وجاره، ليهرب الذئب منها. وفروه أفضل الفراء ومنه: الأبيض والأسود والخلنجي وقال القزويني في عجائب المخلوقات: إنه أهدي إلى نوح بن منصور الساماني (1) ثعلب له جناحان من ريش إذا قرب الإنسان منه نشرهما، وإذا بعد عنه ألصقهما بجانبيه. ثم قال: وكانت الثعالب تطير في الزمن الأول. وفي آخر (2) كتاب الأذكياء لأبي الفرج بن الجوزي عن المعافى بن زكريا قال زعموا أن أسدا وثعلبا وذئبا اصطحبوا، فخرجوا يتصيدون فصادوا حمارا وظبيا وأرنبا، فقال الأسد للذئب: اقسم بيننا صيدنا، فقال: الأمر أبين من ذلك الحمار لك، والأرنب لأبي معاوية يعني الثعلب، والظبي لي. فخبطه الأسد فأطاح رأسه. ثم أقبل على الثعلب، وقال: قاتله الله ما أجهله بالقسمة! هات أنت يا أبا معاوية. فقال الثعلب: يا أبا الحارث، الأمر أوضح من ذلك الحمار لغدائك، والظبي لعشائك، والأرنب فيما بين ذلك. فقال له الأسد: قاتلك الله ما أقضاك! من علمك هذه الأقضية؟
قال: رأس الذئب الطائح عن جثته، وفي رواية عن الشعبي فقال له الأسد: قاتلك الله ما أبصرك بالقضاء والقسمة؟ من أين تعلمت هذا؟ قال: مما رأيت من أمر الذئب. ومما يروى من حيل الثعلب ما ذكره الشافعي قال: كنا في سفر في أرض اليمن، فوضعنا سفرتنا لنتعشى، وحضرت صلاة المغرب، فقمنا نصلي ثم نتعشى، فتركنا السفرة كما هي، وقمنا إلى الصلاة، وكان فيها دجاجتان،
__________
(1) هو نوح بن منصور بن نوح بن نصر الساماني، أمير ما وراء النهر مات في بخارى سنة 387هـ.
(2) الأذكياء: 242.(2/254)
فجاء الثعلب فأخذ إحدى الدجاجتين فلما قضينا الصلاة، أسفنا عليها، وقلنا حرمنا طعامنا فبينما نحن كذلك، إذ جاء الثعلب وفي فمه شيء كأنه الدجاجة فوضعه، فبادرنا إليه لنأخذه ونحن نحسبه الدجاجة. قد ردها، فلما قمنا جاء إلى الأخرى وأخذها من السفرة وأصبنا الذي قمنا إليه لنأخذه فإذا هو ليف قد هيأه مثل الدجاجة. ومما وقع من فطنة البهائم مما يقارب هذا ما يحكى عن القاسم بن أبي طالب التنوخي الأنباري قال: كنت ماضيا إلى انبار في رفقة فيها بازدارية السلطان قد خرجوا يروضونها فأطلقوا بازيا على دراج، فطار الدراج إلى غيضة فدخل فيها، وألقى نفسه بين شوك كان فيها، فأخذ من ذلك الشوك أصلين كبيرين في رجليه، ونام على قفاه ورفع رجليه، فاستتر بذلك من الباز، فلما قرب منه البازداري طار فصاده البازي. فقالوا: ما رأينا قط دراجا أحذق من هذا! وقد أورد هذه الحكاية القاضي أبو علي الحسن بن على التنوخي أيضا في كتاب أخبار المذاكرة ونشوان المحاضرة بألفاظ مخالفة لما سيق هنا فقال وحدثني أبو القاسم بن أبي طالب التنوخي الأنباري قال:
كنت ماضيا إلى الأنبار مع رفقة بازدارية للسلطان، فأطلقوا بازيا على دراج لاح لهم، فطار الدراج ولحقه الباز فأخذوا يهللون ويكبرون ويعجبون، فلحقتهم وسألتهم فإذا بالدراج قد دخل غيضة فألقى نفسه بين شوك كان فيها، وأخذ من ذلك الشوك أصلين كبيرين بين رجليه، ونام على قفاه وشال رجليه وفيهما الشوك، ليختفي به عن الباز، والباز قد طلبه طويلا فلم يره، وقد خفي عليه أمره بذلك الشوك الذي شاله في رجليه حتى ستربه نفسه، إلى أن جاء البازدارية فرأوا الدراج فقصدوه، وقربوا منه فطار، وأحس به الباز فاصطاده، فسمعتهم يقولون: ما رأينا قط دراجا أمكر من هذا، ولا أحذق منه بالتوقي ولا سمعنا بمثل هذا وأسرفوا في التعجب منه. وهذه أخبار تقارب ما تقدم في فطنة الطير وذكائه وقال القاضي أبو علي التنوخي حدثني أبو الفتح البصروي قال: حدثني بعض أهل الموصل ممن كان مغرى بالصيد، وطلب الجوارح، أن صيادا من أهل أرمينية وتلك النواحي حدثه قال: خرجت إلى الصحراء يوما، فنصبت شبكتي وجعلت فيها طائرا مستأنسا، ودخلت في كوخ تحت الأرض يسترني، وجعلت أنظر إلى الشبكة حتى إذا وقع فيها شيء من البزأة أو الصقورة أو الشواهين أو غير ذلك من الجوارح، أخذته فلما كان قريبا من الظهر، وإذا بزمجة لطيفة قد طارت على الشبكة، فلما رأتها نفرت وترجلت قريبا منها، فجلست على الأرض ساعة، فإذا بعقاب جائر فلما رآها ترجل معها وجلسا جميعا، وإذا بطائر يطير في الجو فنهضت الزمجة قبل العقاب وطارت خلف الطائر، فلم تزايله إلى أن صادته وجاءت به فنسرته وصار لحما، وأقبلت تأكل فجاء العقاب وأكل معها، فلما فني اللحم زاف العقاب عليها فضربت وجهه بجناحها، فزاف ثانية فضربته أشد من الأولى، فزاف الثالثة فضربته أشد من ذلك، ولم تزل تضربه بمنسرها إلى أن قتلته وطارت، فتعجبت من نفورها من الشبكة وقلت هي كرزة ويجوز أن تعرف الشبكة بالعادة، ومما سوى ذلك من مناهضتها للطائر قبل العقاب حتى صادته. ثم إنها منعت العقاب من سفادها وأنها أطعمته من صيدها ثم لم ترض بذلك حتى قتلته لما ألح عليها، وطمعت في أن أصيدها لأصيد بها ما لا قيمة له فبت ليلتي في ذلك الكوخ، فلما كان من الغد فإذا هي قد ترجلت قريبا من الشبكة في مثل ذلك الوقت فنزل إليها عقاب فجلس معها وعن لهما صيد فجرت صورتها مع العقاب الثاني كما جرت مع العقاب الأول سواء بلا اختلاف البتة. وطارت فزاد تعجبي وحرصي عليها. وبت ليلتي الثانية في
الكوخ، فلما كان في اليوم الثالث فإذا بها قد ترجلت على الصورة والرسم وإذا بعد ساعة بعقاب لطيف وحشي الريش، قد ترجل فما مضت ساعة حتى عن لهما صيد، فهمت الزمجة بالنهوض فضربها العقاب بجناحه ضربة كاد يقتلها ونهض مسرعا إلى الطيران حتى اصطاد الطائر وجاء به فنسره وطرحه بين يديها، ولم يذق منه شيئا حتى أكلت الزمجة واستوفت، ثم أكل هو بعدها لحم الطائر الباقي وفني. فزاف عليها فزافت له، ولم تمنعه فزاف الثانية فركبها فمكنته حتى سفدها ثم طارا معا.(2/255)
كنت ماضيا إلى الأنبار مع رفقة بازدارية للسلطان، فأطلقوا بازيا على دراج لاح لهم، فطار الدراج ولحقه الباز فأخذوا يهللون ويكبرون ويعجبون، فلحقتهم وسألتهم فإذا بالدراج قد دخل غيضة فألقى نفسه بين شوك كان فيها، وأخذ من ذلك الشوك أصلين كبيرين بين رجليه، ونام على قفاه وشال رجليه وفيهما الشوك، ليختفي به عن الباز، والباز قد طلبه طويلا فلم يره، وقد خفي عليه أمره بذلك الشوك الذي شاله في رجليه حتى ستربه نفسه، إلى أن جاء البازدارية فرأوا الدراج فقصدوه، وقربوا منه فطار، وأحس به الباز فاصطاده، فسمعتهم يقولون: ما رأينا قط دراجا أمكر من هذا، ولا أحذق منه بالتوقي ولا سمعنا بمثل هذا وأسرفوا في التعجب منه. وهذه أخبار تقارب ما تقدم في فطنة الطير وذكائه وقال القاضي أبو علي التنوخي حدثني أبو الفتح البصروي قال: حدثني بعض أهل الموصل ممن كان مغرى بالصيد، وطلب الجوارح، أن صيادا من أهل أرمينية وتلك النواحي حدثه قال: خرجت إلى الصحراء يوما، فنصبت شبكتي وجعلت فيها طائرا مستأنسا، ودخلت في كوخ تحت الأرض يسترني، وجعلت أنظر إلى الشبكة حتى إذا وقع فيها شيء من البزأة أو الصقورة أو الشواهين أو غير ذلك من الجوارح، أخذته فلما كان قريبا من الظهر، وإذا بزمجة لطيفة قد طارت على الشبكة، فلما رأتها نفرت وترجلت قريبا منها، فجلست على الأرض ساعة، فإذا بعقاب جائر فلما رآها ترجل معها وجلسا جميعا، وإذا بطائر يطير في الجو فنهضت الزمجة قبل العقاب وطارت خلف الطائر، فلم تزايله إلى أن صادته وجاءت به فنسرته وصار لحما، وأقبلت تأكل فجاء العقاب وأكل معها، فلما فني اللحم زاف العقاب عليها فضربت وجهه بجناحها، فزاف ثانية فضربته أشد من الأولى، فزاف الثالثة فضربته أشد من ذلك، ولم تزل تضربه بمنسرها إلى أن قتلته وطارت، فتعجبت من نفورها من الشبكة وقلت هي كرزة ويجوز أن تعرف الشبكة بالعادة، ومما سوى ذلك من مناهضتها للطائر قبل العقاب حتى صادته. ثم إنها منعت العقاب من سفادها وأنها أطعمته من صيدها ثم لم ترض بذلك حتى قتلته لما ألح عليها، وطمعت في أن أصيدها لأصيد بها ما لا قيمة له فبت ليلتي في ذلك الكوخ، فلما كان من الغد فإذا هي قد ترجلت قريبا من الشبكة في مثل ذلك الوقت فنزل إليها عقاب فجلس معها وعن لهما صيد فجرت صورتها مع العقاب الثاني كما جرت مع العقاب الأول سواء بلا اختلاف البتة. وطارت فزاد تعجبي وحرصي عليها. وبت ليلتي الثانية في
الكوخ، فلما كان في اليوم الثالث فإذا بها قد ترجلت على الصورة والرسم وإذا بعد ساعة بعقاب لطيف وحشي الريش، قد ترجل فما مضت ساعة حتى عن لهما صيد، فهمت الزمجة بالنهوض فضربها العقاب بجناحه ضربة كاد يقتلها ونهض مسرعا إلى الطيران حتى اصطاد الطائر وجاء به فنسره وطرحه بين يديها، ولم يذق منه شيئا حتى أكلت الزمجة واستوفت، ثم أكل هو بعدها لحم الطائر الباقي وفني. فزاف عليها فزافت له، ولم تمنعه فزاف الثانية فركبها فمكنته حتى سفدها ثم طارا معا.
وحكى: القاضي أبو علي التنوخي أيضا قال: حدثني فارس بن مشغف أحد الجند القدماء المولدين وقد صار بوّابا لأبي محمد يحيى بن محمد بن سليمان بن فهد قال: كنت أصحب قائدا من قواد السلطان يعرف بأبي إسحاق بن أبي مسعود الأزدي، وكانت إليه إمارة المدائن اسبانين والمدينة العتيقة، وكانت إذ ذاك عامرة آهلة والسلاطين ينزلون بها، وكنت مقيما فيها معه، وكان لهجا بالصيد، فخرج ذات يوم وأنا معه، إلى المدينة المعروفة بالرومية، المقابلة للمدينة العتيقة، وهي إذ ذاك خراب، ومعه صقارته وآلة صيده وجنده حتى مل وسلك الطريق راجعا، وكان معه صقر له فاره وقد شبع مما أطعمه من صيده، فمسح الصقار صدره وحمله على يده وهو يسير إذ اضطرب الصقر اضطرابا شديدا فقال له ابن أبي مسعود: قد شاهد الصقر طريدة، وهذا الاضطراب لأجلها فأرسله، فقال: يا سيدي هو صقر شره واضطرابه ليس لهذا، وقد شبع ولا آمن أن أرسله على طريدة وهو شبعان فيتيه. فزاد اضطراب الصقر فقال: أرسله وليس عليك منه شيء فأرسله فطار وتراكضنا خلفه حتى جاء إلى أجمة صغيرة تستره، ونحن نراه فرفرف عليها وإذا بشيء قد صعد منها مثل النشاب في مقدار زج النشابة فقط فحاص عنه الصقر ثم انحط في الأجمة فدخلنا خلفه فإذا هو قد ترجل على حبارى واصطادها، وإذا هو طلع على يد الصقار. ومن عادة الحبارى أن تذرق على الجارح الذي يصيدها لتجرح جناحه وتعقره بذرقها لحماه وحدته وينسلخ جلده والصقر عارف بذلك، فاحتال عليها الصقر فرفرف عليها كأنه يريد صيدها، فذرقت الحبارى إلى فوق حتى صعدت ذرقتها فلما أخطأت الصقر انحط عليها في الحال فاصطادها، وكان الصقارون، ومن حضر من الجند والمتصيدين المدنيين يعجبون من ذلك، ويعدونه من غرائب ما شاهدوه من أفعال الجوارح. وذكر القاضي التنوخي عن فارس هذا قال: كنت مع هارن بن غريب الحبال، من جملة عسكره ورجاله، ونحن قيام بين يدي حلوان، والجند سائرون وهو يتصيد في طريقه، إذ عن له غزال فأرسل عليه صقرا كان بحضرته، ولم يكن الكلابون بالقرب منه، فيرسلون معه كلبا لأن العادة أن الصقر لا يصيد غزالا إلا إذا كان معه كلب، وذلك أن الصقر يطير فيقع على رأسه فيعقره ويضرب بجناحيه بين عينيه، فيمنعه من شدة العدو فيلحقه الكلب فيصيده. هكذا جرت العادة في صيد الغزلان بالصقور، إلا أن ابن الحبال، لما لاح له الغزال، أطلق الصقر لئلا يفوته الغزال، وغرر به لحوق الكلاب في الحال، وقد رأى أن يشغله الصقر عن العدو، فتلحقه خيلنا ورماحنا فطار الصقر، وتراكضنا خلفه، وأنا ممن ركض، وجرى الغزال فوافى إلى منحدر في الصحراء، فانحدر فيه، فلما حصل منحدرا سقط الصقر على خده وعنقه، فأنشب مخلبيه فيهما وحمله الغزال. فرأينا الصقر قد سدل أحد مخلبيه حتى إنه يخط في الأرض، حتى إذا وصل إلى وضع من الصحراء فيه شوك فعلق بأصل شوك عظيم، ثم جذب
عنق الغزال بالمخلب الآخر الذي كان أمسكه به في خده وأصل عنقه. وإذا به قد دق عنقه وصرعه، فلحقناه وذكيناه ووقعت البشارة فقال ابن الحبال ومن معه: ما رأينا قط صقرا أفره من هذا وخلع على الصقار خلعة حسنة.(2/256)
وحكى: القاضي أبو علي التنوخي أيضا قال: حدثني فارس بن مشغف أحد الجند القدماء المولدين وقد صار بوّابا لأبي محمد يحيى بن محمد بن سليمان بن فهد قال: كنت أصحب قائدا من قواد السلطان يعرف بأبي إسحاق بن أبي مسعود الأزدي، وكانت إليه إمارة المدائن اسبانين والمدينة العتيقة، وكانت إذ ذاك عامرة آهلة والسلاطين ينزلون بها، وكنت مقيما فيها معه، وكان لهجا بالصيد، فخرج ذات يوم وأنا معه، إلى المدينة المعروفة بالرومية، المقابلة للمدينة العتيقة، وهي إذ ذاك خراب، ومعه صقارته وآلة صيده وجنده حتى مل وسلك الطريق راجعا، وكان معه صقر له فاره وقد شبع مما أطعمه من صيده، فمسح الصقار صدره وحمله على يده وهو يسير إذ اضطرب الصقر اضطرابا شديدا فقال له ابن أبي مسعود: قد شاهد الصقر طريدة، وهذا الاضطراب لأجلها فأرسله، فقال: يا سيدي هو صقر شره واضطرابه ليس لهذا، وقد شبع ولا آمن أن أرسله على طريدة وهو شبعان فيتيه. فزاد اضطراب الصقر فقال: أرسله وليس عليك منه شيء فأرسله فطار وتراكضنا خلفه حتى جاء إلى أجمة صغيرة تستره، ونحن نراه فرفرف عليها وإذا بشيء قد صعد منها مثل النشاب في مقدار زج النشابة فقط فحاص عنه الصقر ثم انحط في الأجمة فدخلنا خلفه فإذا هو قد ترجل على حبارى واصطادها، وإذا هو طلع على يد الصقار. ومن عادة الحبارى أن تذرق على الجارح الذي يصيدها لتجرح جناحه وتعقره بذرقها لحماه وحدته وينسلخ جلده والصقر عارف بذلك، فاحتال عليها الصقر فرفرف عليها كأنه يريد صيدها، فذرقت الحبارى إلى فوق حتى صعدت ذرقتها فلما أخطأت الصقر انحط عليها في الحال فاصطادها، وكان الصقارون، ومن حضر من الجند والمتصيدين المدنيين يعجبون من ذلك، ويعدونه من غرائب ما شاهدوه من أفعال الجوارح. وذكر القاضي التنوخي عن فارس هذا قال: كنت مع هارن بن غريب الحبال، من جملة عسكره ورجاله، ونحن قيام بين يدي حلوان، والجند سائرون وهو يتصيد في طريقه، إذ عن له غزال فأرسل عليه صقرا كان بحضرته، ولم يكن الكلابون بالقرب منه، فيرسلون معه كلبا لأن العادة أن الصقر لا يصيد غزالا إلا إذا كان معه كلب، وذلك أن الصقر يطير فيقع على رأسه فيعقره ويضرب بجناحيه بين عينيه، فيمنعه من شدة العدو فيلحقه الكلب فيصيده. هكذا جرت العادة في صيد الغزلان بالصقور، إلا أن ابن الحبال، لما لاح له الغزال، أطلق الصقر لئلا يفوته الغزال، وغرر به لحوق الكلاب في الحال، وقد رأى أن يشغله الصقر عن العدو، فتلحقه خيلنا ورماحنا فطار الصقر، وتراكضنا خلفه، وأنا ممن ركض، وجرى الغزال فوافى إلى منحدر في الصحراء، فانحدر فيه، فلما حصل منحدرا سقط الصقر على خده وعنقه، فأنشب مخلبيه فيهما وحمله الغزال. فرأينا الصقر قد سدل أحد مخلبيه حتى إنه يخط في الأرض، حتى إذا وصل إلى وضع من الصحراء فيه شوك فعلق بأصل شوك عظيم، ثم جذب
عنق الغزال بالمخلب الآخر الذي كان أمسكه به في خده وأصل عنقه. وإذا به قد دق عنقه وصرعه، فلحقناه وذكيناه ووقعت البشارة فقال ابن الحبال ومن معه: ما رأينا قط صقرا أفره من هذا وخلع على الصقار خلعة حسنة.
وحكى: القاضي أبو علي التنوخي، قال: أخبرني أبو القاسم البصري قال: أخبرني بعض الجمدارية من الجند أنه كان مع قائد من قوادهم في الصيد ومعه عقاب يتصيد به وقد اصطاد واستكفى، إذ اضطرب العقاب، على يد العقاب اضطرابا شديدا فخاف على نفسه، لأن العقاب ربما أتلف عقابه، إذا منعه من إرادته وليس يجري مجرى غيره من الجوارح فأرسله العقاب فطار، وطرد وراءه فإذا به قد سقط على شيخ ضعيف، كان يجر شوكا، وهو يمشي على أربعة فنسره ودق عنقه وأتلفه، وولغ في دمه وأكل من لحمه. وإذا بالعقاب قد جاء إلى القائد فقال له: ما الخبر؟ فقال له: يا سيدي اصطاد العقاب شيخا وحشيا بريا، وكان يسمعنا نقول اصطد لنا وحشيا وسنورا بريا فقد رأن شيخا بريا وحشيا مثله، ولم يفكر أن العقاب أتلف رجلا مسلما.
فقال القائد: ويحك ما تقول؟ وحرك فحركنا وراءه فوجدنا الشيخ فاغتم لذلك غما شديدا وعجبنا من أمر العقاب.
وحكى: القاضي التنوخي في كتابه أيضا، قال: حدثني أبو محمد يحيى بن محمد بن سليمان ابن فهد قال: حدثني بعض المتصيدين. وقد تجارينا عجائب ما يجري فيه، فقال: من أحسن وأظرف ما رأينا منه أن بازيا كان لفلان، وسماه أرسله فاصطاد دراجا، وقبض عليه بإحدى يديه، وترجل كما جرت به العادة وأمسكه ينتظر البازداري فيذبحه ويطعمه منه، كما جرت العادة في مثل ذلك. وهو على جانبه إذ أبصر دراجا آخر يطير، فطار والدراج الأول في إحدى يديه حتى قبض على الدراج الآخر فاصطاده وترجل، وقد أمسكهما بيديه جميعا، فاجتمعنا وشاهدناه على هذه الحالة، فاستظرفناه ثم أخذناهما من يديه. وذكر (1) ابن الجوزي في آخر كتاب الأذكياء، والحافظ أبو نعيم في حلية الأولياء، عن الشعبي، أنه قال: مرض الأسد فعاده جميع السباع ما خلا الثعلب، فنم عليه الذئب، فقال الأسد: إذا حضر فأعلمني. فلما حضر أعلمه فعاتبه في ذلك فقال: كنت في طلب الدواء لك. قال: فأي شيء أصبت؟ قال: خرزة في ساق الذئب ينبغي أن تخرج! فضرب الأسد بمخالبه في ساق الذئب، وانسل الثعلب. فمر به الذئب بعد ذلك، ودمه يسيل، فقال له الثعلب: يا صاحب الخف الأحمر إذا قعدت عند الملوك فانظر ماذا يخرج من رأسك. قال الحافظ أبو نعيم: لم يقصد الشعبي، من هذا سوى ضرب المثل وتعليم العقلاء وتنبيه الناس، وتأكيد الوصية في حفظ اللسان، وتهذيب الأخلاق والتأدب بكل طريق. وفي مثل ذلك قيل:
احفظ لسانك لا تقول فتبتلي ... إن البلاء موكل بالمنطق
وروى الإمام أحمد، عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، أنه (2) قال: «نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصلاة عن ثلاثة نقرة كنقرة الديك، وإقعاء كإقعاء الكلب، والتفات كالتفات الثعلب». وقيل للشعبي: يقال: في المثل إن «شريحا أدهى من الثعلب وأحيل»: فما هذا؟ فقال: خرج شريح أيام
__________
(1) كتاب الأذكياء: 241.
(2) رواه أحمد: 2/ 311.(2/257)
الطاعون إلى النجف، فكان إذا قام يصلي يجيء ثعلب، فيقف تجاهه ويحاكيه، ويخيل بين يديه، ويشغله عن صلاته، فلما طال ذلك عليه نزع قميصه فجعله على قصبة، وأخرج كميه وجعل قلنسوته عليها.
فأقبل الثعلب فوقف بين يديه على عادته فأتاه شريح من خلفه وأخذه بغتة فلذلك يقال: «سريح أدهى من الثعلب وأحيل». ويقال: ضغا الثعلب والسنو يضغو ضغوا وضغاء، أي صاح وكذلك صوت كل ذليل مقهور. ويقال للإمام العلامة أبي منصور عبد الملك (1) بن محمد النيسابوري، رأس المؤلفين، وإمام المصنفين صاحب التصانيف الفائقة، والآداب الرائقة، كثمار القلوب، وفقه اللغة، ويتيمة الدهر في محاسن أهل العصر، وغير ذلك من التصانيف، الثعالبي منسوب إلى خياطة جلود الثعالب لأنه كان فراء، ويتيمة الدهر أكبر كتبه وأحسنها، وفيها يقول أبو الفتح نصر الله بن قلاقس الإسكندراني (2):
أبيات أشعار اليتيمة ... أبكار أفكار قديمة ... ماتوا وعاشت بعدهم ... فلذاك سميت اليتيمة
ومن شعر أبي منصور الثعالبي:
يا سيدا بالمكرمات ارتدى ... وانتعل العيوق والفرقدا ... مالك لا تجري على مقتضى ... مودة طال عليها المدى ... إن غبت لم أطلب وهذا سليم ... ان بن داود نبي الهدى ... تفقد الطير على شغله ... فقال ما لي لا أرى الهدهدا
وله في غلام مسافر:
فديت مسافرا ركب الفيافي ... فأثر في محاسنه السفار ... فمسك ورد خديه السواقي ... وغبر مسك صدغيه الغبار
توفي سنة تسع وعشرين وقيل سنة ثلاثين وأربعمائة.
الحكم:
نص إمامنا الشافعي رحمه الله، على حل أكله. وقال ابن الصلاح: ليس في حله حديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي تحريمه حديثان في إسنادهما ضعف واعتمد الشافعي في ذلك على عادة العرب في أكله فيندرج في عموم قوله (3) تعالى: {قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبََاتُ} وبحله قال طاوس وعطاء وغيره ونقل في فوائد رحلته عن أبي سعيد الدارمي، الإمام في الحديث والفقه تلميذ البويطي رحمه الله أن الثعلب حرام. وكره أبو حنيفة ومالك أكله وأكثر الروايات عن أحمد تحريمه لأنه سبع.
الأمثال:
قالوا (4) «أروغ من ثعلب» (5). قال الشاعر:
__________
(1) هو عبد الملك بن محمد بن إسماعيل أبو منصور الثعالبي، لغوي أديب عالم توفي سنة 429هـ. له تصانيف كثيرة.
(2) نصر بن عبد الله بن عبد القوي اللخمي، أبو الفتوح المعروف بابن قلاقس الاسكندري شاعر كاتب. مات سنة 567هـ.
(3) سورة المائدة: الآية 4.
(4) جمهرة الأمثال: 1/ 406.
(5) البيتان لطرفة عيون الأخبار: 2/ 5.(2/258)
كل خليل كنت خاللته ... لا ترك الله له واضحه ... كلهم أروغ من ثعلب ... ما أشبه الليلة بالبارحة
وفي المجالسة للدينوري، أن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه، قال: وهو على المنبر:
إن الذين قالوا ربّنا الله ثم استقاموا ولم يروغوا روغان الثعالب. وفي رواية الثعلب وفي شعب البيهقي وأمثال العسكري عن الحسن بن سمرة رضي الله تعالى عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «مثل الذي يفر من الموت كالثعلب تطلبه الأرض بدين فجعل يسعى حتى إذا أعيا وانبهر دخل حجره فقالت له الأرض: يا ثعلب ديني ديني، فخرج فلم يزل كذلك حتى انقطعت عنقه فمات».
وقالوا: «أذل ممن بالت عليه الثعالب». يضرب لمن يستذل كما تقدم. «وأدهى من ثعلب».
«وأعطش من ثعالة (1). قال حميد بن ثور (2):
ألم تر ما بيني وبين ابن عامر ... من الود قد بالت عليه الثعالب ... وأصبح صافي الود بيني وبينه ... كأن لم يكن والدهر فيه عجائب
الخواص:
رأسه إذا ترك في برج حمام هربت كلها. ونابه يشد على الصبي الذي به ريح الصبيان يذهب عنه، ولا يفزع في نومه، وتحسن أخلاقه. ومرارته إذا نفخت في أنف المصروع لا يصرع أبدا. ولحمه ينفع من اللقوة والجذام. وشحمه يذاب ويطلى به من به النقرس يزول وجعه في الحال. وخصيته تشد على الصبي فتنبت أسنانه بغير ألم. وفروه أنفع شيء للمرطوبين بخورا ولبسا. ودمه إذا طلي به رأس صبي نبت شعره، وإن كان أقرع. وإذا استصحب دمه إنسان، لا تؤثر فيه حيلة محتال. ورئته إذا سحقت وشربت، نفعت من الريح. وأنيابه إذا علقت على المصروع برىء. وطحاله له إذا شد على ذي الطحال الوجع أبرأه. وقال هرمس: من أمسك كليتي الثعلب بيده لم يخف الكلاب ولم تنبح عليه. وأذنه إذا علقت على الخنازير، التي في العنق أبرأتها. وشحمه إذا أذيب وقطر في الأذن الوجعة سكن وجعها. وذكره ينفع من الصداع إذا علق على الرأس. ومرارته إذا طلي بها الذهب يصير لونه لون النحاس. وخصيته تنفع من الورم الكائن عند الأذنين إذا دلك بها. وكبده إذا سقي منه وزن مثقال بشراب، من به وجع الطحال، أبرأه من ساعته. وشحمه إذا طلي به أطراف اليدين والرجلين أمنت مضرة البرد ودماغه إذا خلط بورس وطلي به الرأس أذهب القرع والحزاز والبثور وسقوط الشعر. وقضيبه إذا علق على الصبي الذي يبكي بالليل ويفزع يذهب ذلك عنه. وكذلك يفعل الناب. وشحمه تجتمع عليه البراغيث حيث كان. وخصيته إذا جففت، وسقي منها رجل وزن درهم زاد في الجماع والإنعاظ. وزبله يسحق بدهن ورد ويطلى به الإحليل وقت الجماع يزيد فيه ما شاء. وفي كتاب الإبدال: إن طلبت شحم الثعلب فلم تجده فبدله شحم الذئب.
التعبير:
الثعلب في المنام امرأة فمن رأى أنه يلاعب ثعلبا فإن له امرأة يحبها وتحبه. وقيل الثعلب رجل ذو مكر وخديعة، فمن نازعه فإنه ينازع غريما كذلك وأكل لحمه يدل على وجع
__________
(1) جمهرة الأمثال: 2/ 61.
(2) هو حميد بن ثور بن حزن الهلالي شاعر جاهلي أدرك الإسلام وأسلم توفي سنة 30هـ.(2/259)
يصيب الآكل من الرياح ويبرأ وقيل إنه عدو من قبل سلطان وقالت اليهود إنه يدل على الطبيب أو المنجم. وقالت النصارى: من قبل ثعلبا فإنه يصيب امرأة غزيرة. وقيل: من قتل ثعلبا قتل ولد رجل شريف، ومن شرب لبن ثعلب شفي من مرض. وقيل: من نازع ثعلبا في نومه، خاصم بعض أهله أو أصدقائه. والله تعالى أعلم.
الثفا:
بالثاء المثلثة وبالفاء والألف في آخره: السنور البري وهو قريب من الثعلب على شكل السنور الأهلي وسيأتي في بابه إن شاء الله تعالى.
الثقلان:
الإنس والجن، سميا بذلك لأنهما ثقلا الأرض وقيل: لشرفهما، وكل شريف يقال له ثقيل وقيل لأنهما مثقلان بالذنوب.
الثلج:
فرخ العقاب قاله ابن سيده.
الثني
: الذي يلقي ثنيته ويكون ذلك في ذوات الظلف والحافر في السنة الثالثة وفي ذي الخف في السنة السادسة والجمع ثنيان وثنايا والأنثى ثنية والجمع ثنيات.
الثور:
الذكر من البقر. وكنيته أبو عجل. والأنثى ثورة والجمع ثورة وثيران وثيرة. قال سيبويه: قلبوا الواو ياء حيث كانت بعد كسرة، قال: وليس هذا بمطرد. وقال المبرد: إنما قلبوا ثيرة ليفرقوا بينه وبين ثورة الإقط وبنوه على فعلة ثم حركوه. وسمي الثور ثورا لأنه يثير الأرض، كما سميت البقرة بقرة لأنها تبقرها، قال في الإحياء: نظر أبو الدرداء إلى ثورين يحرثان في قرن فوقف أحدهما يحك جسمه، فوقف له الآخر فبكى أبو الدرداء رضي الله عنه. وقال: هكذا الإخوان في الله عزّ وجلّ يعملان لله تعالى، فإذا وقف أحدهما وافقه الآخر، وبالموافقة يتم الإخلاص. ومن لم يكن مخلصا في إخائه فهو منافق. والإخلاص استواء الغيب والشهادة والقلب واللسان.
فائدة:
قال وهب بن منبه: كانت الأرض كالسفينة تذهب وتجيء، فخلق الله تعالى ملكا في غاية العظم والقوة، وأمره أن يدخل تحتها، ويجعلها على منكبيه ففعل، وأخرج يدا من المشرق ويدا من المغرب، وقبض على أطراف الأرض وأمسكها. ثم لم يكن لقدميه قرار فخلق الله تعالى صخرة من ياقوتة حمراء في وسطها سبعة آلاف ثقبة يخرج من كل ثقبة بحر لا يعلم عظمه إلا الله عزّ وجلّ. ثم أمر الصخرة فدخلت تحت قدمي الملك، ثم لم يكن للصخرة قرار، فخلق الله عزّ وجلّ ثورا عظيما له أربعة آلاف عين، ومثلها آذان ومثلها أنوف وأفواه وألسنة وقوائم، ما بين كل اثنتين منها مسيرة خمسمائة عام. وأمر الله تعالى هذا الثور فدخل تحت الصخرة فحملها على ظهره وقرنه. واسم هذا الثور كيوثا، ثم لم يكن للثور قرار. فخلق الله تعالى حوتا عظيما لا يقدر أحد أن ينظر إليه لعظمه وبريق عينيه وكبرهما، حتى إنه لو وضعت البحار كلها في إحدى مناخره لكانت كخردلة في فلاة، فأمر الله تعالى ذلك الحوت أن يكون قرارا لقوائم هذا الثور، واسم هذا الحوت يهموت. ثم جعل قراره الماء، وتحت الماء هواء، وتحت الهواء ماء، وتحت
الماء ظلمات. ثم انقطع علم الخلائق عما تحت الظلمات. هكذا نقله القاضي شهاب الدين بن فضل، في كتاب مسالك الأبصار في ممالك الأبصار في الجزء الثالث والعشرين منه.(2/260)
قال وهب بن منبه: كانت الأرض كالسفينة تذهب وتجيء، فخلق الله تعالى ملكا في غاية العظم والقوة، وأمره أن يدخل تحتها، ويجعلها على منكبيه ففعل، وأخرج يدا من المشرق ويدا من المغرب، وقبض على أطراف الأرض وأمسكها. ثم لم يكن لقدميه قرار فخلق الله تعالى صخرة من ياقوتة حمراء في وسطها سبعة آلاف ثقبة يخرج من كل ثقبة بحر لا يعلم عظمه إلا الله عزّ وجلّ. ثم أمر الصخرة فدخلت تحت قدمي الملك، ثم لم يكن للصخرة قرار، فخلق الله عزّ وجلّ ثورا عظيما له أربعة آلاف عين، ومثلها آذان ومثلها أنوف وأفواه وألسنة وقوائم، ما بين كل اثنتين منها مسيرة خمسمائة عام. وأمر الله تعالى هذا الثور فدخل تحت الصخرة فحملها على ظهره وقرنه. واسم هذا الثور كيوثا، ثم لم يكن للثور قرار. فخلق الله تعالى حوتا عظيما لا يقدر أحد أن ينظر إليه لعظمه وبريق عينيه وكبرهما، حتى إنه لو وضعت البحار كلها في إحدى مناخره لكانت كخردلة في فلاة، فأمر الله تعالى ذلك الحوت أن يكون قرارا لقوائم هذا الثور، واسم هذا الحوت يهموت. ثم جعل قراره الماء، وتحت الماء هواء، وتحت الهواء ماء، وتحت
الماء ظلمات. ثم انقطع علم الخلائق عما تحت الظلمات. هكذا نقله القاضي شهاب الدين بن فضل، في كتاب مسالك الأبصار في ممالك الأبصار في الجزء الثالث والعشرين منه.
فائدة أخرى:
روى مسلم في كتاب الظهار والنسائي في عشرة النساء، عن ثوبان: «إن أهل الجنة، حين يدخلونها، ينحر لهم ثور الجنة الذي كان يأكل من أطرافها، ويأكلون من زيادة كبد الحوت (1)» وروى هناد بن السري وابن إسحاق بإسناد حسن: «إن الشهداء حين يدخلون الجنة يخرج عليهم حوت وثور من الجنة لغدائهم فيلعبان حتى إذا كثر عجبهم منهما طعن الثور الحوت بقرنه فبقره لهم كما يذبحون، ثم يروحان عليهم أيضا لعشائهم فيلعبان فيضرب الحوت الثور بذنبه فيبقره كما يذبحون». قال السهيلي: وفي هذا الحديث من باب التفكر والاعتبار، أن الحوت لما كان عليه قرار هذه الأرض وهو حيوان سابح استشعر أهل هذه الدار أنهم في منزل قلعة وبوار، وليست بدار قرار. فإذا نحر لهم قبل أن يدخلوا الجنة فأكلوا من كبده كان في ذلك أشعار لهم بالراحة من دار الزوال وإنهم قد صاروا إلى دار القرار كما يذبح لهم الكبش الأملح على الصراط، ليعلموا أنه لا موت ولا فناء. وأما الثور فهو آلة الحرث وأهل الدنيا لا يخلون من أحد هذين الحرثين: حرث لدنياهم وحرث لأخراهم. ففي نحر الثور هنالك إشعار براحتهم من الكدين وترفيههم من نصب الحرثين.
فائدة أخرى:
روى (2) البخاري في بدء الخلق عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الشمس والقمر يكوران يوم القيامة».
انفرد به البخاري وقد رواه الحافظ أبو بكر البزار بأبسط من هذا السياق فقال: حدثنا إبراهيم بن زياد البغدادي حدثنا يونس بن محمد حدثنا عبد العزيز بن المختار عن عبد الله الداناج قال: سمعت أبا سلمة بن عبد الرحمن زمن خالد بن عبد الله القسري، في هذا المسجد، مسجد الكوفة، وجاء الحسن فجلس إليه فحدث عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
«إن الشمس والقمر ثوران في النار يوم القيامة». فقال الحسن: وما ذنبهما؟ فقال: أحدثك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وتقول وما ذنبهما؟! ثم قال البزار: ولا يروى عن أبي هريرة إلا من هذا الوجه. ولم يرو عبد الله الداناج عن أبي سلمة سوى هذا الحديث. وروى الحافظ أبو يعلى الموصلي من طريق درست بن زياد، عن يزيد الرقاشي، وهما ضعيفان، عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الشمس والقمر ثوران عقيران في النار». وقال كعب الأحبار: (3): يجاء بالشمس والقمر يوم القيامة كأنهما ثوران عقيران فيقذفان في جهنم ليراهما من عبدهما. كما قال (4) تعالى:
{إِنَّكُمْ وَمََا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللََّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ} الآية. وخرج أبو داود الطيالسي عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الشمس والقمر ثوران عقيران في النار». وفي نهاية الغريب، قيل لما وصفهما الله تعالى بالسباحة في قوله (5) تعالى: {وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} ثم أخبر سبحانه وتعالى على بجعلهما في
__________
(1) رواه مسلم في الحيض: 34.
(2) رواه البخاري في بدء الخلاق: 454.
(3) كعب الأحبار، هو كعب بن ماتع بن ذي هجن الحميري، تابعي، أسلم زمن أبي بكر، مات سنة 32هـ.
(4) سورة الأنبياء: الآية 98.
(5) سورة يس: الآية 40.(2/261)
النار يهذب بهما أهلها بحيث لا يبرحان بها صار كأنهما ثوران عقيران لا يبرحان. كذلك ذكر ذلك أبو موسى وهو كما تراه. وقيل: إنما يجمعان في جهنم لأنهما عبدا من دون الله عزّ وجلّ ولا يكون لهما عذاب لأنهما جماد وإنما يفعل ذلك بهما زيادة على تبكيت الكافرين وخزيهم. وردّ ابن عباس قول كعب الأحبار، وقال: الله أجلّ وأكرم من أن يعذب الشمس والقمر، وإنما يخلقهما يوم القيامة أسودين مكوّرين، فإذا كانا حيال العرش خرّا ساجدين لله تعالى، ويقولان: إلهنا قد علمت طاعتنا لك وسرعتنا في المضي في أمرك أيام الدنيا، فلا تعذبنا في عبادة الكافرين إيانا.
فيقول الرب تعالى: صدقتما إني قضيت على نفسي أن أبدىء وأعيد وأني أعيد كما إلى ما بدأتكما منه، وإني خلقتكما من نور عرشي فارجعا إليه فيختلطان بنور العرش. فذلك معنى قوله تعالى:
{إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ} (1). وروى أبو نعيم في ترجمة سعيد بن جبير أنه قال: أهبط الله تعالى إلى آدم ثورا أحمر، فكان يحرث عليه ويمسح العرق عن جبينه وهو الذي قال الله تعالى فيه: {فَلََا يُخْرِجَنَّكُمََا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقى ََ} (2) فكان ذلك شقاءه وكان عليه السلام يقول لحواء: أنت عملت بي هذا فليس أحد من ولد آدم يعمل على ثور إلّا قال: حو دخلت عليه من قبل آدم. وكانت العرب إذا أوردوا البقر فلم تشرب إما لكدر الماء، أو لقلة العطش، ضربوا الثور فيقتحم الماء لأن البقرة تتبعه. وقال في ذلك أنس بن مدركة (3) في قتله سليك ابن سلكة (4):
إني وقتلي سليكا ثم أعقله ... كالثور يضرب لما عافت البقر (5)
الأمثال:
قالوا (6): «الثور يحمي أنفه بروقه» والروق القرن. يضرب في الحث على حفظ الحريم. وفي سنن النسائي وسيرة ابن هشام، أما الصديق رضي الله تعالى عنه، لما قدم المدينة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، أخذته الحمى وعامر بن فهيرة وبلالا قالت عائشة رضي الله تعالى عنها: فدخلت عليهم، وهم في بيت واحد، فقلت: كيف أصبحت يا أبت؟ فقال:
كل امرء مصبح في أهله ... والموت أدنى من شراك نعله
فقلت إنّا لله وإنا إليه راجعون إن أبي ليهذي ثم قلت لعامر كيف تجدك؟ فقال:
لقد وجدت الموت قبل ذوقه ... والمرء يأتي حتفه من فوقه ... كل امرء مجاهد بطوقه ... كالثور يحمي أنفه بروقه
فقلت: والله هذا ما يدري ما يقول. ثم قلت لبلال: كيف أصبحت؟ فقال:
ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة ... بفخ وحولي أذخر وجليل
__________
(1) سورة البروج: الآية 13.
(2) سورة طه: الآية 117.
(3) ذكر صاحب الشعر والشعراء أن قاتل السليك هو أنس بن مدرك الخثعمي.
(4) والسّليك هو ابن عمير بن يتربي بن سنان، والسّلكة أمه، شاعر أسود صعلوك من صعاليك الجاهلية قتل في نحو 17ق. هـ.
(5) البيت في ترجمته السليك. الشعر والشعراء: 232.
(6) مجمع الأمثال: 1/ 153.(2/262)
وهل أردن يوما مياه مجنة ... وهل يبدون لي شامة وطفيل
قالت: ثم إني دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخبرته، فقال: «اللهم حبّب إلينا المدينة كما حببت إلينا مكة، اللهم بارك لنا في صاعنا ومدنا، اللهم انقل حماها إلى مهيعة» (1) قول عامر: بطوقه الطوق الطاقة. وقول بلال بفخ هو واد بمكة، ومجنة سوق بأسفل مكة وشامة وطفيل جبلان مشرفان على مجنة. وقوله صلى الله عليه وسلم مهيعة الجحفة وقالت العرب: «أرعى من ثور». وقالوا: «إنما أكلت يوم أكل الثور الأبيض» (2). روي عن علي رضي الله تعالى عنه، أنه قال: إنما مثلي ومثل عثمان، كمثل ثلاثة أثوار كانت في أجمة: أبيض وأسود وأحمر، ومعها فيها أسد فكان لا يقدر منها على شيء لاجتماعها عليه، فقال الأسد للثور الأسود وللثور الأحمر إنه لا يدل علينا في أجمتنا إلا الثور الأبيض، فإن لونه مشهور ولوني على لونكما فلو تركتماني آكله خلت لكما الأجمة وصفت! فقالا:
دونك وإياه فكله. فأكله ومضت مدة على ذلك، ثم إن الأسد قال للثور الأحمر: لوني على لونك فدعني آكل الثور الأسود! فقال له: شأنك به. فأكله. ثم بعد أيام قال للثور الأحمر: إني آكلك لا محال فقال: دعني أنادي ثلاثة أصوات، فقال: إفعل فنادى: «إنما أكلت يوم أكل الثور الأبيض». قالها ثلاثا، ثم قال علي كرّم الله وجهه: إنما هنت يوم قتل عثمان رضي الله عنه يرفع بها صوته.
ومن خواصه:
إنه إذا نزل الثور على البقرة، ثم بال بعد نزوله فمن أخذ من ذلك الطين، وطلى به إحليله هيج الباه وانعظ. ومثانته إذا أخذت وجففت وسحقت وسقيت لمن يبول في فراشه بخل وماء بارد نفعه وأبرأه. وإذا وقف الثور عن السير فاربط خصيتيه فإنه يسير بنشاط وينساق سريعا. وإذا طرح في أذن الثور زئبق مات مكانه. وإن طلي منخره بدهن ورد صرع. وإن كتب ببوله على الحديد أثر فيه حتى يقرأ. وقد تقدم له خواص في باب الباء الموحدة في البقرة.
وأما تعبيره:
فإنه يدل على سيد شديد البأس، كثير النفع والعون، موافق مطواع، وربما دل على الشباب الجميل لأنه من أسمائه. وتدل رؤيته أيضا على ثوران الفتنة، أو العون على ما يذلل الأمور الصعاب، خصوصا لأرباب الحرف والزراعة والإنشاء. وربما دلت رؤيته على البلادة والذهول. ورؤية الثور الأبلق فرح وسرور والأسود سؤدد أو شفاء للمريض وربما دل الثور على الجنون لأنه من أسمائه.
الثول:
بفتح الثاء وسكون الواو ذكر النحل وقيل جماعة النحل وعلى هذا قال الأصمعي:
لا واحد له من لفظه. والثول بالتحريك جنون يصيب الشاة فلا تتبع الغنم وتستدبر مرتعها وشاة ثولاء وتيس أثول.
الثيتل:
الذكر المسن من الأوعال. وفي حديث النخعي: «في الثيتل بقرة». يعني إذا صاده المحرم أو في الحرم.
__________
(1) الخبر والأبيات في العقد الفريد: 5/ 288والحديث أيضا.
(2) مجمع الأمثال: 1/ 25.(2/263)
باب الجيم
الجأب:
الأسد والحمار الوحشي الغليظ والجمع جؤب.
الجارف:
ولد الحية.
الجارحة:
ما تعلم الاصطياد من كلب أو فهد أو باز أو نحو ذلك. والجمع الجوارح. قال الله تعالى: {وَمََا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوََارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمََّا عَلَّمَكُمُ اللََّهُ} (1) سمي جارحة لأنه يكسب لصاحبه والجوارح الكواسب قال تعالى: {وَيَعْلَمُ مََا جَرَحْتُمْ بِالنَّهََارِ} أي ما كسبتم (2).
الجاموس:
واحد الجواميس، فارسي معرب، وهو حيوان عنده شجاعة وشدة بأس، وهو مع ذلك أجزع خلق الله يفرق من عض بعوضة ويهرب منها إلى الماء والأسد يخافه وهو مع شدته وغلظه ذكي ينادي راعيه الإناث: يا فلانة يا فلانة فتأتي إليه المناداة ومن طبعه كثرة الحنين إلى وطنه ويقال: إنه لا ينام أصلا لكثرة حراسته لنفسه وأولاده. وإذا اجتمع ضرب دائرة وتجعل رؤوسها خارج الدائرة وأذنابها إلى داخلها، والرعاة وأولادها من داخل، فتكون الدائرة كأنها مدينة مسورة من صياصيها، والذكر منها يناطح ذكر آخر، فإذا غلب أحدهما، دخل أجمة فيقيم فيها حتى يعلم أنه قوي، فيخرج ويطلب ذلك الفحل الذي غلبه فيناطحه حتى يغلبه ويطرده.
وهو ينغمس في الماء غالبا إلى خرطومه.
حكمه وخواصه:
كالبقر، لكن إذا بخر البيت بجلد الجاموس طرد منه البق وأكل لحمه يورث القمل وشحمه إذا خلط بملح أندراني وطلي به الكلف والجرب والبرص أزالها وأبرأها.
وقال ابن زهر، نقلا عن ارسطاطاليس: في دماغ الجاموس دود من أخذ منه شيئا وعلقه عليه أو على غيره لم ينم مادام عليه.
التعبير:
الجاموس في المنام رجل شجاع جلد لا يخاف أحدا يحتمل أذى الناس فوق طاقته، فإن رأت امرأة أن لها قرن جاموس، فإنها تتزوج ملكا وإلا كان ذلك قوة ومنعة لقيمها والله أعلم.
الجان:
حية بيضاء، وقيل: الحية الصغيرة قال الله تعالى: {فَلَمََّا رَآهََا تَهْتَزُّ كَأَنَّهََا جَانٌّ وَلََّى مُدْبِراً} * (3) وقال تعالى في آية أخرى: {وَمََا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يََا مُوسى ََ} إلى قوله: {فَإِذََا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعى ََ} (4) وقال تعالى: {فَإِذََا هِيَ ثُعْبََانٌ مُبِينٌ} *. قال ابن عباس رضي الله تعالى عنه: صارت حية صفراء، لها عرف كعرف الفرس، وصارت تتورم حتى صارت ثعبانا، وهو أعظم ما يكون من الحيات. قال تعالى: {فَإِذََا هِيَ ثُعْبََانٌ مُبِينٌ} * (5). فلما ألقى موسى العصا، صارت جانا في الابتداء، ثم صارت ثعبانا في الانتهاء. ويقال: وصف الله تعالى العصا بثلاثة أوصاف: بالحية والجان والثعبان، لأنها كانت كالحية لعدوها، وكالثعبان لابتلاعها، وكالجان لتحركها. قال فرقد السنجي: كان بين لحييها أربعون ذراعا. قال ابن عباس والسدي: إنه لما ألقى العصا، صارت
__________
(1) سورة المائدة: الآية 4.
(2) سورة الأنعام: الآية 60.
(3) سورة النحل: الآية 10.
(4) سورة طه: الآية 2017.
(5) سورة الأعراف: الآية 107(2/264)
حية عظيمة صفراء شقراء فاغرة فاها، بين لحييها ثمانون ذراعا، وارتفعت من الأرض بقدر ميل، وقامت على ذنبها واضعة لحيها الأسفل في الأرض، والأعلى على سور القصر، وتوجهت نحو فرعون لتأخذه. وروي أنها أخذت قبة فرعون بين نابيها، فوثب فرعون من سريره هاربا، وأخذته قبل أخذه البطن في ذلك اليوم أربعمائة مرة، وحملت على الناس فانهزموا وصاحوا، ومات منهم خمسة وعشرون ألفا، قتل بعضهم بعضا. ويقال: كانت العصا حية لموسى، وثعبانا لفرعون، وجانا للسحرة. وأما قوله: {وَلِيَ فِيهََا مَآرِبُ أُخْرى ََ} (1) فكان يحمل عليها زاده وسقاءه وكانت تماشيه وتحادثه، وكان يضرب بها الأرض فيخرج منها ما يأكل يومه، ويركزها فيخرج الماء، فإذا رفعها ذهب الماء، وكان يرد بها غنمه، وكانت تقيه الهوام بإذن الله تعالى، وإذا ظهر له عدو حاربته وناضلت عنه، وإذا أراد الاستقاء من البئر، صارت شعبتاها كالدلو يستقي به. وكان يظهر على شعبتيها نور كالشمعتين تضيء له ويهتدي بها، وإذا اشتهى ثمرة من الثمار ركزها في الأرض فتغصن أغصان تلك الشجرة، وتورق ورقها وتثمر ثمرها. قاله ابن عباس. والله أعلم، وقد تقدم في باب التاء المثناة أن العصا كانت من آس الجنة أهبطت مع آدم إلى الأرض.
الجبهة:
الخيل وهو المراد بقوله صلى الله عليه وسلم في حديث (2) الزكاة: «ليس في الجبهة ولا في النخة ولا في الكسعة صدقة». وقيل للخيل ذلك لأنها خيار البهائم كما يقال. وجه السلعة لخيارها، ووجه القوم وجبهتهم سيدهم. والنخة البقر العوامل، مأخوذ من النخ، وهو السوق الشديد، والكسعة الحمير، مأخوذ من الكسع وهو ضرب الادبار. قاله الزمخشري وغيره والله تعالى أعلم.
الجثلة:
النملة السوداء وسيأتي إن شاء الله تعالى في باب النون في لفظ النملة ما فيه.
الجحل:
بتقديم الجيم على الحاء الحبارى. وستأتي إن شاء الله تعالى وقيل: هو الحرباء، وقيل: هو الجعل، وقيل هو الضب الكبير المسن. وقيل: هو اليعسوب العظيم كالجراد إذا سقط لا يضم جناحه. والجمع جحول وجحلان.
الجحمرش:
الأرنب المرضع والعجوز الكبيرة، والمرأة الثقيلة السمجة. والجمع جحامر والتصغير جحيمر.
الجحش:
ولد الحمار الوحشي والأهلي قيل: وإنما يسمى بذلك قبل أن يعظم، والجمع جحاش وجحشان. والأنثى جحشة. وربما سمي المهر جحشا تشبيها بولد الحمار، والجحش ولد الظبية في لغة هذيل. ويقال للرجل، إذا كان مستبدا برأيه: «جحيش وحده» (3)، كما قالوا: «عيير وحده» (4) يشبهونه في ذلك بالجحش والعير، وقالت عائشة رضي الله تعالى عنها: كان عمر أجودنا «نسيج وحده» (5) وقد أعد للأمور أقرانها. وروى الدارقطني أن زينب بنت جحش أم المؤمنين،
__________
(1) سورة طه: الآية 18.
(2) رواه مسلم في الزكاة: 9. وأبو داود في الزكاة: 11والنسائي في الزكاة: 16، 17. وابن ماجه في الزكاة:
15. والدارمي في الزكاة: 10.، والموطأ في الزكاة: 37. وأحمد: 2/ 242، 249، 254.
(3) مجمع الأمثال: 2/ 13.
(4) مجمع الأمثال: 2/ 13.
(5) مجمع الأمثال: 2/ 13.(2/265)
رضي الله عنها، كان اسم أبيها برة، وقيل كان اسمه برة بالضم. وقال النبي صلى الله عليه وسلم «لو كان أبوك مؤمنا لسميته باسم رجل منا أهل البيت، ولكني قد سميته جحشا» والجحش أكبر من البرة.
الجخدب:
بضم الجيم وبالخاء المعجمة وفتح الدال المهملة وجمعه جخادب. ضرب من الجنادب وهو الأخضر الطويل الرجلين وقيل: هو دويبة نحو من العظاءة ويقال له أبو جخادب.
الجدجد:
بالضم صرار الليل، قاله الجوهري، وهو قفاز وفيه شبه بالجراد، والجمع الجداجد وقال الميداني: الجدجد ضرب من الخنافس، يصوت في الصحارى من أول الليل إلى الصبح فإذا طلبه طالب لم يره، ولذلك قالوا: «أكمن من جدجد» (1). وفي حديث عطاء في الجدجد: يموت في الوضوء قال: لا بأس به. والوضوء بفتح الواو اسم للماء الذي يتوضأ به.
وبالضم اسم للفعل. وسيأتي ذكر الجدجد في باب الصاد المهملة في الكلام على الصرار.
الجداية:
بكسر الجيم وفتحها الذكر والأنثى من أولاد الظباء إذا بلغ ستة أشهر أو سبعة، وخص بعضهم به الذكر منها. قال الأصمعي: الجداية بمنزلة العناق من الغنم. وفي سنن أبي داود الترمذي عن كلدة بن حنبل الغساني، وليس له في الكتب الستة سواه، قال: بعثني صفوان بن أمية إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بلبن وجداية وضغابيس، والنبي صلى الله عليه وسلم بأعلى مكة، فدخلت ولم أسلم فقال (2): «ارجع وقل السلام عليكم». وذلك بعد ما أسلم صفوان، الضغابيس صغار القثاء، والجداية الصغير من الظباء ذكرا كان أو أنثى.
الجدي:
الذكر من أولاد المعز، وثلاثة أجد، فإذا كثرت فهي الجداء. روى أبو داود عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما «أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي فذهب جدي يمرّ بين يديه فجعل يتقيه (3)» وروى الطبراني والبزار بإسناد حسن عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «كان جدي في غنم كثيرة ترضعه أمه فترويه، فانفلت يوما فرضع الغنم كلها ثم لم يشبع فقيل: إن مثل هذا، مثل قوم يأتون من بعدكم فيعطى الرجل منهم ما يكفي القبيلة أو الأمة ثم لم يشبع (4)». وفي صفة الصفوة وغيرها عن مجاهد، قال كان عمر رضي الله عنه يقول: «لو مات جدي بطف الفرات لخشيت أن يطالب الله به عمر». الطف اسم موضع بناحية الكوفة، وأضيف إلى الفرات لقربه منه.
الأمثال:
قالوا تغد بالجدي قبل أن يتعشى بك يضرب للأخذ بالحزم.
الخواص:
لحم الجدي أقل حرارة ورطوبة من الخروف وأسرع المعز هضما وأجوده الجدي
__________
(1) مجمع الأمثال: 2/ 171.
(2) رواه أبو داود في الأدب: 127، والترمذي في الاستئذان: 18وأحمد: 4/ 414.
(3) رواه أبو داود في الصلاة: 110. وابن ماجه في الإقامة: 39، وابن حنبل: 1/ 247، 291، 308، 341، 343.
(4) رواه البخاري في الجهاد: 37، وفي الوصايا 9، والرفاق 7، 11، والزكاة: 5047ورواه مسلم في الزكاة: 96، 98، 121، 122، 123. الترمذي قيامه: 29. النسائي زكاة: 938150 وابن ماجه فتن: 18، الدارمي زكاة: 20.(2/266)
الأحمر والأزرق ولحمه سريع الانهضام، لكنه يضر بأصحاب القولنج، والعسل يذهب مضرته وهو جيد الغذاء ويكره السمين من ذكورها وإناثها لعسر انهضامها، ورداءة غذائها. ولحوم المعز بالجملة نافعة لمن به الدماميل والبثور، ولحومها في الشتاء رديئة وفي الصيف جيدة وفي باقي الفصول متوسطة.
التعبير:
الجدي في المنام ولد فمن رأى جديا مذبوحا فهو موت ولد. وأكل الجدي المشوي يدل على موت ولد ذكر، فإن أكل منه ذراعه نجا من الهلكة، وإن أكل منه الجنب اليسار، فإنه يدل على هم وحزن. والنصف مما يلي الرأس إلى السرة يعبر بالمرأة والبنات والنصف مما يلي السرة إلى الرجلين يعبر بالبنين. والذراع المشوي في المنام إذا كان ناضجا فهو رزق من امرأة يمكر بها.
وإذا كان غير ناضج فهو غيبة ونميمة ويأتي القول فيه في باب الخروف فإنه مثله.
الأجدل:
الصقر صفة غالبة عليه، وأصله من الجدل الذي هو الشدة. وهي الأجادل كسروه تكسير الأسماء، لغلبة الصفة، ولذلك جعله سيبويه مما يكون صفة في بعض الكلام، واسما في بعض اللغات. وقد يقال للأجدل أجدلي، ونظيره أعجم وأعجمي. وهو ممنوع من الصرف كأخيل عند قليل، والأكثر أنهما مصروفان.
الأمثال
: قالوا (1): «بيض القطا يحضنه الأجدل» يضرب للشريف يأوي إليه الوضيع.
الجذع:
بفتح الجيم والذال المعجمة، وهو من الضأن ما له سنة تامة، هذا هو الأصح عند أصحابنا، وهو الأشهر عند أهل اللغة وغيرهم وقيل: ما له ستة أشهر. وقيل: ما له سبعة وقيل ثمانية وقيل عشرة حكاه القاضي عياض. وهو غريب وقيل: إن كان متولدا بين شابين فستة أشهر، وإن كان بين هرمين، فثمانية أشهر. قال بعض أهل البادية: الأجذاع هو أن تكون الصوفة على الظهر قائمة. وإذا أجذع نامت، والجذع من المعز ما له سنتان على الأصح، وقيل سنة قال:
الجوهري: الجذع قبل الثني، والجمع جذعان وجذاع، والأنثى جذعة والجمع جذعات. تقول لولد الشاة في السنة الثانية ولولد المعز والحافر في السنة الثالثة وللإبل في السنة الخامسة أجذع.
والجذع اسم له في زمن وليس لسن تنبت ولا تسقط. روى زر بن حبيش عن عبد الله بن مسعود قال: كنت غلاما يافعا أرعى غنما لعقبة بن أبي معيط، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر، وقد نفرا من المشركين فقالا: «يا غلام هل عندك من لبن تسقينا فقلت: إني مؤتمن ولست بساقيكما» فقال (2)
النبي صلى الله عليه وسلم: «هل عندك من جذعة لم ينز عليها الفحل». قلت: نعم قال: فائتني بها. قال:
فأتيتهما بها فاعتقلها النبي صلى الله عليه وسلم، ومسح الضرع ودعا، فجعل الضرع يحفل، ثم أتاه أبو بكر بصخرة منقعرة فاحتلب فيها وشرب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وشرب أبو بكر ثم شربت. ثم قال صلى الله عليه وسلم للضرع: «أقلص» فقلص أي اجتمع. قال: فأتيته بعد ذلك فقلت: علمني من هذا القول قال:
إنك عليم معلم. قال: فأخذت من فيه سبعين سورة لا ينازعني فيها أحد. وفي حديث المبعث أن ورقة بن نوفل قال: يا ليتني فيها جذعا. الضمير في فيها للنبوّة. أي ليتني كنت شابا عند ظهورها، حتى أبالغ في نصرتها وحمايتها وجذعا منصوب على الحال من الضمير في فيها تقديره
__________
(1) مجمع الأمثال: 1/ 109.
(2) رواه أحمد: 1/ 462.(2/267)
ليتني مستقر فيها جذعا أي شابا وقيل: هو منصوب بإضمار كان وضعف ذلك لأن كان الناقصة لا تضمر إلا إذا كان في الكلام لفظ ظاهر يقتضيها كقولهم: إن خيرا فخير، وإن شرا فشر أي إن كان خيرا فخير وروى الحافظ الدمياطي عن علي بن صالح، قال: كان ولد عبد المطلب عشرة، كل منهم يأكل جذعة. وروى أبو عمر بن عبد البر، في التمهيد، من طريق صحيح، أن أعرابيا سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن شجرة طوبى، فقال له: «هل أتيت الشأم؟ فإن فيها شجرة يقال لها الجوزة».
ثم وصفها. ثم إن الأعرابي سأل عن عظم أصلها فقال له لو ركبت جذعة من ابل أهلك، ثم طفت بها أو قال درت بها، حتى تندق ترقوتها هرما ما قطعتها» (1) وذكر السهيلي في التعريف والاعلام أن أصلها في قصر النبي صلى الله عليه وسلم في الجنة، ثم تنقسم فروعها على منازل أهل الجنة كما انتشر منه العلم والإيمان على جميع أهل الدنيا وهذه الشجرة من شجرة الجوز.
الجراد:
معروف الواحدة جرادة الذكر والأنثى فيه سواء. يقال: هذا جرادة ذكر وهذه جرادة أنثى كنملة وحمامة. قال أهل اللغة: وهو مشتق من الجرد. قال: والاشتقاق في أسماء الأجناس قليل جدا. يقال ثوب جرد أي أملس. وثوب جرد إذا ذهب زئيره. وهو بري وبحري.
والكلام الآن في البري. قال (2) الله تعالى: {يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدََاثِ، كَأَنَّهُمْ جَرََادٌ مُنْتَشِرٌ} أي في كل مكان. وقيل: وجه التشبيه أنهم حيارى فزعون لا يهتدون ولا جهة لأحد منهم يقصدها.
والجراد لا جهة له فيكون أبدا بعضه على بعض. وقد شبههم في آية أخرى بالفراش المبثوث.
وفيهم من كل هذا شبه، وقيل: إنهم أولا كالفراش حين يموج بعضهم في بعض ثم كالجراد إذا توجهوا نحو المحشر والداعي. والجرادة تكنى بأم عوف قال أبو عطاء السندي (3):
وما صفراء تكنى أم عوف ... كأن رجيلتيها منجلان
والجراد أصناف مختلفة: فبعضه كبير الجثة، وبعضه صغيرها، وبعضه أحمر وبعضه أصفر وبعضه أبيض. وكان مسلمة بن عبد الملك بن مروان يلقب بالجرادة الصفراء، وكان موصوفا بالشجاعة والاقدام والرأي والدهاء. ولي أرمينية وأذربيجان غير مرة، وإمرة العراقين وسار في مائة وعشرين ألفا وغزا القسطنطينية في خلافة سليمان أخيه. وروى عن عمر بن عبد العزيز، وهو مذكور في سنن أبي داود وكانت وفاته سنة احدى وعشرين ومائة.
ومن الفوائد عنه
أنه لما حضر عمورية حصل له صداع فلم يركب في الحرب فقال أهل عمورية للمسلمين: ما بال أميركم لم يركب اليوم فقالوا: حصل له صداع، فأخرجوا لهم برنسا وقالوا ألبسوه إياه ليزول عنه ما يجد. فلبسه مسلمة فشفي، ففتقوه فلم يجدوا فيه شيئا ثم فتقوا أزراره فإذا فيه بطاقة مكتوب فيها هذه الآيات: بسم الله الرحمن الرحيم {ذََلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ} (4) بسم الله الرحمن الرحيم {الْآنَ خَفَّفَ اللََّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً} (5) بسم الله الرحمن الرحيم {يُرِيدُ اللََّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسََانُ ضَعِيفاً} (6) بسم الله الرحمن الرحيم
__________
(1) رواه أحمد: 4/ 184.
(2) سورة القمر: الآية 7.
(3) أبو عطاء السندي.
(4) سورة البقرة: الآية 178.
(5) سورة الأنفال: الآية 66.
(6) سورة النساء: الآية 28.(2/268)
{حم عسق} (1) بسم الله الرحمن الرحيم {وَإِذََا سَأَلَكَ عِبََادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدََّاعِ إِذََا دَعََانِ} (2) بسم الله الرحمن الرحيم {أَلَمْ تَرَ إِلى ََ رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شََاءَ لَجَعَلَهُ سََاكِناً} (3)
بسم الله الرحمن الرحيم {وَلَهُ مََا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهََارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} (4) فقال المسلمون:
من أين لكم هذا وإنما أنزل على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم؟ قالوا: وجدناه منقوشا في حجر في كنيسة قبل أن يبعث نبيكم بسبعمائة عام. قال الحافظ ابن عساكر: ويكتب للصداع أيضا بسم الله الرحمن الرحيم {كهيعص ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيََّا إِذْ نََادى ََ رَبَّهُ نِدََاءً خَفِيًّا قََالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً وَلَمْ أَكُنْ بِدُعََائِكَ رَبِّ شَقِيًّا} (5) {أَلَمْ تَرَ إِلى ََ رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شََاءَ لَجَعَلَهُ سََاكِناً} (6) {كهيعص} (7) حم {عسق} (8) كم لله من نعمة على كل عبد شاكر وغير شاكر. وكم لله من نعمة في كل قلب خاشع وغير خاشع وكم لله من نعمة في كل عرق ساكن وغير ساكن اذهب أيها الصداع بعز عز الله وبنور وجه الله {وَلَهُ مََا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهََارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} (9) ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وصلى الله على سيدنا محمد خاتم النبيين والمرسلين وعلى آله وصحبه أجمعين. قال: يكتب ويجعل على الرأس فإنه نافع. قلت: وهو عجيب مجرب. قال: ومما جرب أيضا للصداع أن تكتب هذه الأحرف الآتية على دف خشب وتدق فيه مسمارا على حرف بعد حرف إلى أن يكن الصداع، وتقرأ وأنت تدق {وَلَوْ شََاءَ لَجَعَلَهُ سََاكِناً} (10) {وَلَهُ مََا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهََارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} (11) وهي هذه الأحرف:
اح اك ك ح ع ح ام ح. وذكر لها خبرا اتفق لهارون الرشيد مع بعض ملوك الروم، وسيأتي إن شاء الله تعالى في السوس شيء يتعلق بهذا. والجراد إذا خرج من بيضه يقال له الدبى، فإذا طلعت أجنحته وكبرت فهو الغوغاء الواحدة غوغاة وذلك حين يموج بعضه في بعض، فإذا بدت فيه الألوان واصفرت الذكور واسودت الإناث سمي جرادا حينئذ وهو إذا أراد أن يبيض، التمس لبيضه المواضع الصلدة والصخور الصلبة التي لا تعمل فيها المعاول، فيضربها بذنبه فتفرج له فيلقي بيضه في ذلك الصدع، فيكون له كالأفحوص ويكون حاضنا له ومربيا. وللجرادة ست أرجل: يدان في صدرها، وقائمتان في وسطها، ورجلان في مؤخرها، وطرفا رجليها منشاران.
وهو من الحيوان الذي ينقاد لرئيسه فيجتمع كالعسكر إذا ظعن أوله تتابع جميعه ظاعنا وإذا نزل أوله نزل جميعه. ولعابه سم ناقع للنبات، لا يقع على شيء إلا أهلكه. وفي البخاري عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال (12): «بينما أيوب عليه الصلاة والسلام يغتسل عريانا خر عليه رجل جراد من ذهب، فجعل يحثي في ثوبه، فناداه الله تعالى: يا أيوب ألم أكن
__________
(1) سورة الشورى: الآية 1و 2.
(2) سورة البقرة: الآية 186.
(3) سورة الفرقان: الآية 45.
(4) سورة الأنعام: الآية 13.
(5) سورة مريم: الآية 41.
(6) سورة الفرقان: الآية 45.
(7) سورة مريم: الآية 1.
(8) سورة الشورى: الآية 21.
(9) سورة الأنعام: الآية 13.
(10) سورة الفرقان: الآية 45.
(11) سورة الأنعام: الآية 13.
(12) رواه البخاري في الغسل: 20والتوحيد: 35والأنبياء: 20، ورواه النسائي في الغسل: 7. ورواه ابن حنبل: 2/ 243، 304، 314، 490، 511.(2/269)
أغنيك عما ترى؟ قال: بلى يا رب ولكن لا غنى لي عن بركتك» قال الشافعي: في هذا الحديث نعم المال الصالح مع العبد الصالح. وروى الطبراني والبيهقي عن شعبة عن أبي زهير النميري قال (1): قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تقتلوا الجراد فإنه جند الله الأعظم». قلت هذا، وإن صح، أراد به ما لم يتعرض لإفساد الزرع وغيره، فإن تعرض لذلك، جاز دفعه بالقتل وغيره. والجند العسكر والجمع أجناد وجنود. وفي الحديث: «الأرواح جنود مجندة» أي مجموعة، كما يقال ألوف مؤلفة، وقناطير مقنطرة. ثم أسند عن ابن عمر: أن جرادة وقعت بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا مكتوب على جناحيها بالعبرانية: نحن جند الله الأكبر ولنا تسع وتسعون بيضة ولو تمت المائة لأكلنا الدنيا بما فيها فقال (2) رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اللهم أهلك الجراد اقتل كبارها، وأمت صغارها، وأفسد بيضها، وسد أفواهها عن مزارع المسلمين ومعايشهم، إنك سميع الدعاء. فجاءه جبريل عليه السلام وقال: إنه قد استجيب لك في بعضه». وكذلك أسنده الحاكم في تاريخ نيسابور أيضا ثم أسند الطبراني أيضا عن الحسن بن علي قال: كنا على مائدة نأكل أنا وأخي محمد بن الحنفية وبنو عمي عبد الله وقثم والفضل أولاد العباس، فوقعت جرادة على المائدة فأخذها عبد الله وقال لي:
ما مكتوب على هذه فقلت سألت أبي أمير المؤمنين عن ذلك؟ فقال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عنه فقال لي: «مكتوب عليها: أنا الله لا إله إلا أنا رب الجراد ورازقها إن شئت بعثتها رزقا لقوم، وإن شئت بعثتها بلاء على قوم». فقال عبد الله: هذا من العلم المكنون. ثم أسند أيضا هو وأبو يعلى الموصلي عن جابر بن عبد الله أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه في سنة من سني خلافته فقد الجراد فاهتم لذلك هما شديدا فبعث إلى اليمن راكبا، وإلى الشام راكبا وإلى العراق راكبا، كل يسأل هل رأوا الجراد؟ فأتاه الراكب الذي سار إلى اليمن بقبضة منه فنثرها بين يديه فلما رأى عمر الجراد، كبر وقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول «إن الله عز وجل خلق ألف أمة ستمائة منها في البحر، وأربعمائة في البر. وإن أوّل هلاك هذه الأمم الجراد، فإذا هلك الجراد، تتابعت الأمم مثل النظام إذا قطع سلكه (3)». ورواه ابن عدي في ترجمة محمد بن عيسى العبدي وذكره الحكيم الترمذي في نوادره وقال: إنما صار الجراد أول هذه الأمم هلاكا، لأنه خلق من الطينة التي فضلت من خلق آدم عليه الصلاة والسلام. وإنما تهلك الأمم بهلاك الآدميين لأنها سخرت لهم وهو في الكامل والميزان في ترجمة محمد بن عيسى بن كيسان. وفي الحلية في ترجمة حسان بن عطية. قال الأوزاعي حدثني حسان قال: «إنما مثل الشياطين في كثرتهم كمثل رجل دخل زرعا فيه جراد كثير، فكلما وضع رجله تطاير الجراد يمينا وشمالا ولولا أن الله عز وجل غض البصر عنهم، ما رؤي شيء إلا وعليه شيطان». وفيها في ترجمة يزيد بن ميسرة قال: كان طعام يحيى بن زكريا عليهما الصلاة والسلام الجراد وقلوب الشجر، وكان يقول: من أنعم منك يا يحيى وطعامك الجراد وقلوب الشجر: وفي الجراد خلقة عشرة من جبابرة الحيوان مع ضعفه وجه فرس وعينا فيل وعنق ثور وقرنا أيل وصدر أسد وبطن عقرب وجناحا نسر وفخذا جمل ورجلا نعامة وذنب حية.
__________
(1) رواه النسائي في الصيد: 37.
(2) رواه الترمذي في الأطعمة: 23، وابن ماجه في الصيد: 9.
(3) الكامل لابن عدي: 6/ 2249.(2/270)
وقد أحسن القاضي محيي الدين الشهرزوري (1) في وصف الجراد بذلك في قوله:
لها فخذا بكر وساقا نعامة ... وقادمتا نسر وجؤجؤ ضيغم (2)
... حبتها أفاعي الأرض بطنا وأنعمت ... عليها جياد الخيل بالرأس والفم
وما يستحسن ويستجاد من شعره قوله يصف نزول الثلج من الغيم:
ولما شاب رأس الدهر غيظا ... لما قاساه من فقد الكرام ... أقام يميط عنه الشيب غيظا ... وينثر ما أماط على الأنام (3)
توفي الشهرزوري في سنة ست وثمانين وخمسمائة وليس في الحيوان أكثر افسادا لما يقتاته الانسان من الجراد. قال الأصمعي: أتيت البادية، فإذا أعرابي زرع برا له، فلما قام على سوقه وجاد سنبله أتاه رجل جراد فجعل الرجل ينظر إليه ولا يدري كيف الحيلة فيه فأنشأ يقول:
مر الجراد على زرعي فقلت له ... لا تأكلنّ ولا تشغل بإفساد ... فقام منهم خطيب فوق سنبلة ... أنا على سفر لا بد من زاد
وقيل لأعرابي: ألك زرع؟ فقال: نعم. ولكن أتانا رجل من جراد، بمثل مناجل الحصاد، فسبحان من يهلك القوي الأكول بالضعيف المأكول.
فائدة:
تكتب هذه الكلمات وتجعل في أنبوبة قصب وتدمن في الزرع أو في الكرم فإنه لا يؤذيه الجراد بإذن الله تعالى وهي بسم الله الرحمن الرحيم، اللهم صلي على سيدنا محمد، وعلى آل سيدنا محمد وسلم، اللهم أهلك صغارهم، واقتل كبارهم، وأفسد بيضهم، وخذ بأفواههم عن معايشنا وأرزاقنا، إنك سميع الدعاء إني توكلت على الله ربي وربكم، ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها إن ربي على صراط مستقيم. اللهم صلي على سيدنا محمد، وعلى آل سيدنا محمد وسلم، واستجب منا يا أرحم الراحمين. وهو عجيب مجرب. ومما يفعل لطرد الجراد أيضا، وقد جرب وفعل، فصرفه الله به وأخبرني به الشيخ يحيى بن عبد الله القرشي، وأنه فعل ذلك غير مرة، فصرفه الله سبحانه وتعالى عن البلاد التي هو فيها، وكفاهم شره وأن بعض العلماء أفاده ذلك، وقد سماه لي وذهب عني اسمه الآن، انه إذا وقع الجراد بأرض وأردت أن الله سبحانه وتعالى يصرفه، فخذ منه أربع جرادات، واكتب على أجنحتها أربع آيات من كتاب الله تعالى، في جناح كل جرادة آية، ثم توجه بها إلى أي بلد تسميها وتقول لهم: انصرفوا إليها. على الأولى:
{فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللََّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} (4) وعلى الثانية {وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مََا يَشْتَهُونَ} (5) وعلى
__________
(1) الشهرزوري هو أبو حامد محمد بن القاضي كمال الدين بن الشهرزوري الملقب محي الدين. دخل بغداد ثم قصد الشام وولي قضاء دمشق ومات سنة 586هـ.
(2) الأبيات الأربعة مع ترجمته: وفيات الأعيان: 4/ 246.
(3) في الوفيات: «يميط هذا الشيب عنه».
(4) سورة البقرة: الآية 137.
(5) سورة سبأ: الآية 54.(2/271)
الثالثة {ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللََّهُ قُلُوبَهُمْ} (1) وعلى الرابعة {فَلَمََّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلى ََ قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ} (2).
الحكم:
أجمع المسلمون على إباحة أكله وقد قال عبد الله بن أبي أوفى: «غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سبع غزوات نأكل الجراد» (3) رواه أبو داود والبخاري والحافظ أبو نعيم. وفيه ويأكله رسول الله صلى الله عليه وسلم معنا.
وروى ابن ماجه عن أنس قال: «كن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم يتهادين الجراد في الأطباق (4)». وفي الموطأ من حديث ابن عمر سئل عن الجراد فقال: وددت أن عندي قفة آكل منها. وروى البيهقي عن أبي امامة الباهلي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن مريم بنت عمران عليها السلام سألت ربها أن يطعمها لحما لا دم له فأطعمها الجراد فقالت: الله أعشه بغير رضاع وتابع بينه بغير شياع» قلت: يا أبا الفضل ما الشياع؟ قال: الصوت. وتقدم أن يحيى بن زكريا كان يأكل الجراد وقلوب الشجر، يعني الذي ينبت في وسطها غضا طريا قبل أن يقوى ويصلب، واحدها قلب بالضم للفرق. وكذلك قلب النخلة. وقالت الأئمة الأربعة: يحل أكله سواء مات حتف أنفه، أو بذكاة أو باصطياد مجوسي أو مسلم قطع منه شيء أم لا. وعن أحمد رحمه الله أنه إذا قتله البرد لم يؤكل، وملخص مذهب مالك أنه إن قطع رأسه حل، وإلا فلا. والدليل على عموم حله، قوله صلى الله عليه وسلم: «أحلت لنا ميتتان ودمان: الكبد والطحال والسمك والجراد» (5) رواه الإمام الشافعي والإمام أحمد والدارقطني والبيهقي من حديث عبد الرحمن بن زيد بن أسلم عن أبيه عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما مرفوعا. قال البيهقي.
وروي عن ابن عمر موقوفا وهو الأصح واختلف أصحابنا وغيرهم في الجراد هل هو صيد بري أو بحري فقيل: بحري لما روى ابن ماجه عن أنس رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا على الجراد فقال: «اللهم أهلك كباره، وأفسد صغاره، واقطع دابره، وخذ بأفواهه عن معايشنا وأرزاقنا إنك سميع الدعاء (6)». فقال رجل: يا رسول الله كيف تدعو على جند من أجناد الله تعالى بقطع دابره؟ فقال صلى الله عليه وسلم: «إن الجراد نثرة الحوت من البحر (7)». أي عطسته والمراد أن الجراد من صيد البحر يحل للمحرم أن يصيده. وفيه عن أبي هريرة قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حج أو عمرة فاستقبلنا رجل جراد، فجعلنا نضربهن بنعالنا وأسواطنا. فقال صلى الله عليه وسلم: «كلوه فإنه صيد البحر (8)». والصحيح أنه بري لأن المحرم يجب عليه فيه الجزاء إذا أتلفه عندنا وبه قال عمر وعثمان
__________
(1) سورة التوبة: الآية 127.
(2) سورة الأحقاف: الآية 129.
(3) رواه البخاري في الذبائح: 13، ومسلم في الصيد: 52، والترمذي في الأطعمة 22. والنسائي في الصيد:
37. والدارمي في الصيد: 5. وابن حنبل: 4/ 353، 357، 385.
(4) رواه ابن ماجه في الصيد: 9.
(5) رواه ابن ماجه في الصيد: 9، والأطعمة: 31، وأبو داود في الأطعمة: 34. والموطأ صفة النبي: 30، وابن حنبل: 2/ 97.
(6) رواه الترمذي في الأطعمة: 23، وابن ماجه في الصيد: 9.
(7) رواه ابن ماجه في الصيد: 9.
(8) رواه أبو داود في المناسك: 41. وابن ماجه في الصيد: 9.(2/272)
وابن عمر وابن عباس وعطاء. قال العبدري: وهو قول أهل العلم كافة إلا أبا سعيد الخدري فإنه قال: لا جزاء فيه وحكاه ابن المنذر عن كعب الأحبار، وعروة بن الزبير فإنهم قالوا: هو من صيد البحر لا جزاء فيه. واحتج لهم بحديث أبي المهزم عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال:
أصبنا رجلا من جراد فكان الرجل منا يضربه بسوطه، وهو محرم، فقيل: ان هذا لا يصلح.
فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: «إنما هو من صيد البحر» رواه أبو داود والترمذي وغيرهما، واتفقوا على ضعفه لضعف، أبي المهزم وهو بضم الميم وكسر الزاي وفتح الهاء بينهما. واسمه يزيد ابن سفيان وسيأتي ذكره في حكم النعامة. واحتج الجمهور بما رواه الإمام الشافعي بإسناده الصحيح أو الحسن، عند عبد الله بن أبي عمار، أنه قال: أقبلت مع معاذ بن جبل رضي الله تعالى عنه وكعب الأحبار في أناس محرمين من بيت المقدس بعمرة، حتى إذا كنا ببعض الطريق، وكعب على نار يصطلي «فمرت به رجل من جراد، فأخذ جرادتين فقتلهما، وكان قد نسي إحرامه ثم ذكر إحرامه، فألقاهما». فلما قدمنا المدينة دخل القوم على عمر رضي الله عنه ودخلت معهم فقص كعب قصة الجرادتين على عمر، فقال: «ما جعلت على نفسك يا كعب؟ فقال: درهمين فقال: بخ بخ درهمان خير من مائة جرادة اجعل ما جعلت على نفسك» (1) وبإسناد الشافعي والبيهقي الصحيح عن القاسم بن محمد قال: كنت جالسا عند ابن عباس فسأله رجل عن جرادة قتلها، وهو محرم فقال ابن عباس: فيها قبضة من طعام ولتأخذن بقبضة جرادات. قال الإمام الشافعي رحمه الله: أشار بذلك إلى أن فيها القيمة فالجراد وبيضه مضمونان بالقيمة على المحرم، وفي الحرم فلو وطئه عامدا أو جاهلا ضمن، ولو عم الجراد المسالك ولم يجد بدا من وطئه فالأظهر أنه لا ضمان. وقيل: لا ضمان قطعا. ويجوز السلم في الجراد والسمك حيا وميتا عند عموم وجودهما.
ويوصف كل جنس بما يليق به وحكى الرافعي في باب الربا ثلاثة أوجه: أحدها: أنه ليس من جنس اللحوم، قال في الروضة وهو الأصح. والثاني أنه من اللحوم البريات. والثالث أنه من اللحوم البحريات. ويظهر أثر الخلاف في جواز بيعه بلحم بحري أو بري وفيما لو حلف لا يأكل لحما. وحكى الموفق بن طاهر قولا غريبا أنه من صيد البحر لأنه يتولد من روث السمك وهو شاذ.
الأمثال:
قالت العرب: «تمرة خير من جرادة وأطيب من جرادة». «وجاء القوم كالجراد المنتشر (2)». أي متفرقين. «وأجرد من الجراد (3)». «وأغوى من غوغاء (4) الجراد». وقالوا: «كالجراد لا يبقي ولا يذر» (5). يضرب في اشتداد الأمر واستئصال القوم. وقالوا: «أحمى من مجير الجراد (6)».
وهو مدلج بن سويد الطائي، وكان من حديثه فيما ذكر ابن الأعرابي، عن الكلبي أنه خلا ذات يوم في خيمته فإذا هو بقوم من طيء، ومعهم أوعيتهم، فقال: ما خطبكم؟ قالوا: جراد وقع بفنائك فجئنا لنأخذه. فركب فرسه وأخذ رمحه وقال: والله لا يتعرض له أحد منكم إلا قتلته
__________
(1) الحديث بتمامه في الموطأ حج: 236235.
(2) مجمع الأمثال: 1/ 165.
(3) جمهرة الأمثال: 1/ 271.
(4) جمهرة الأمثال: 2/ 76.
(5) مجمع الأمثال: 1/ 162.
(6) جمهرة الأمثال: 1/ 330.(2/273)
أيكون في جواري ثم تريدون أخذه! ولم يزل يحرسه حتى حميت عليه الشمس فطار. فقال:
شأنكم الآن به فقد تحول عن جواري.
الخواص:
إذا تبخر الإنسان بالجراد البري نفعه من عسر البول. وقال ابن سينا: إذا أخذ منه اثنتا عشرة جرادة، ونزعت رؤوسها وأطرافها، وجعل معها قليل من الآس اليابس، وشربه صاحب الاستسقاء نفعه. والجراد الطويل العنق، إذا علق على من به حمى الربع نفعه. وإذا طلي ببيضه وجوفه الكلف أبرأه.
التعبير:
الجراد في الرؤيا جند الله لأنه من آيات موسى عليه الصلاة والسلام. وهو عذاب، والدبى منه ناس سيئة أخلاقهم قبيحة سيرتهم. وإذا وقع في موضع يؤخذ ويؤكل فإنه خير ونعمة وإذا رأى أنه جعله في جرة أو قدر فإنه ينال دراهم ودنانير. وروي أن رجلا جاء إلى ابن سيرين رحمه الله فقال: رأيت كأني أخذت جرادا فجعلته في جرة فقال ابن سيرين: دراهم توصلها إلى امرأة فكان كذلك ومن رأى أنه يمطر عليه جراد من ذهب عوضه الله ما ذهب منه لقصة أيوب عليه السلام.
الجراد البحري:
قال الشريف: هو حيوان له رأس مربع، وله مما يلي رأسه صدف خزفي، ونصفه الثاني لا خزف عليه، وله في كلا الجانبين عشرة أيد طوال شبيهة بأيدي العناكب، إلا أنها كبار جدا منها ما هو قدر الرغيف، ومنها ما هو دون ذلك. وهو كثير بساحل البحر ببلاد الغرب، ويأكلونه كثيرا مشويا ومطبوخا. وله قرنان دقيقان أحمران، وعينان بارزتان متدليتان من رأسه، وهذا الجراد حار يابس وأجود ما يؤكل منه مشويا في الفرن وهو داخل في عموم أنواع الصدف وخاصية لحمه النفع من الجذام.
الجرارة:
نوع من العقارب إذا مشى على الأرض جر ذنبه. وسيأتي إن شاء الله تعالى في باب العين. وهي عقارب صغار صفر على مقدار ورق الانجذان. وتكون بعسكر مكرم. وأكثر ما توجد في كهارات السكر وفي الطين الذي هو قوالب السكر. قاله في كامل الصناعة. وقال موسى بن عبد الله الاسرائيلي القرطبي: الجرارة نوع من العقارب صغير الجسم لا يقوم ذنبه على جسمه كما تفعل العقارب بل يجره على الأرض وكذلك توجد ببلاد المشرق قال الجاحظ: وهي تكون بعسكر مكرم وجنديسابور إذا لسعت أحدا قتلته. وربما تناثر لحمه، وربما يعفن وينتن، حتى لا يدنو منه أحد إلا وهو محمر الوجه مخافة أعدائه. وهذا النوع يألف الحشوش والمواضع النادية وسمها حار محرق. وقال ابن جميع، في كتابه الارشاد: والجرارة نوع من العقارب، وسمها حار يابس يعرض للبدن منه التهاب وكرب، وليس يجد لموضع لسعها ألما قال: ومن الأشربة النافعة لها ماء الشعير وماء الجبن وسويق التفاح بالماء البارد. اهـ وقال القزويني والجاحظ: وهذا النوع يقتل غالبا اهـ.
الجرذ:
بضم الجيم وفتح الراء المهملة وبالذال المعجمة ذكر الفيران وقيل: هو ضرب من الفأر أعظم من اليربوع أكدر في ذنبه سواد حكاه ابن سيده قال الجاحظ: والفرق بين الجرذ والفأر كالفرق بين الجواميس والبقر والبخاتي والعراب، قال: وجرذان انطاكية لا تقوى عليها السنانير
لعظمها إلا للواحد بعد الواحد. قال: وهي ببلاد خراسان قوية جدا وربما عضت النائم فقطعت أذنه وأنا رأيت جرذا قاتل سنورا ففقأ عين السنور وهرب منه. وقال الزمخشري في ربيع الأبرار:(2/274)
بضم الجيم وفتح الراء المهملة وبالذال المعجمة ذكر الفيران وقيل: هو ضرب من الفأر أعظم من اليربوع أكدر في ذنبه سواد حكاه ابن سيده قال الجاحظ: والفرق بين الجرذ والفأر كالفرق بين الجواميس والبقر والبخاتي والعراب، قال: وجرذان انطاكية لا تقوى عليها السنانير
لعظمها إلا للواحد بعد الواحد. قال: وهي ببلاد خراسان قوية جدا وربما عضت النائم فقطعت أذنه وأنا رأيت جرذا قاتل سنورا ففقأ عين السنور وهرب منه. وقال الزمخشري في ربيع الأبرار:
الجرذ إذا خصي أكل جميع الفأر. والجرذ لا يقوم له شيء منها. قال: وزعموا أن الخصي من كل جنس أضعف من الفحل إلا الجرذان فإن الخصاء يحدث فيه شجاعة وجراءة والجمع جرذان، كصرد وصردان. وأرض جرذة أي ذات جرذان. وكنيته أبو جوال وأبو راشد وأبو العدرج وسيأتي في باب الفاء إن شاء الله تعالى. وروى أبو داود وابن ماجه وغيرهما عن ضباعة بنت الزبير زوج المقداد بن الأسود (1) قالت: ذهب المقداد بن الأسود لحاجة ببقيع الخبخبة وهو بفتح الخاءين المعجمتين وسكون الباء الأولى، موضع بنواحي المدينة، فدخل خربة فإذا الجرذ يخرج من حجر دينارا دينارا، حتى أخرج سبعة عشر دينارا، ثم أخرج طرف خرقة خضراء، قال المقداد: فقمت فمددت طرف الخرقة، فوجدت فيها دينارا فكانت ثمانية عشر دينارا. قالت: فذهب بها المقداد فاستأذن على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما دخل عليه أخبره بذلك، وقال: خذ صدقتها يا رسول الله فقال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: «هل أهويت بيدك إلى الحجر؟» قال المقداد لا والذي بعثك بالحق. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك للمقداد «خذها بارك الله لك فيها» وفي رواية: «هذا رزق ساقه الله إليك (2)». وفي صحيح مسلم من حديث سعيد بن أبي عروبة عن أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه قال: إن ناسا من عبد القيس قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله إنا حي من ربيعة فذكر الحديث إلى أن قالوا يا رسول الله فيم نشرب؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «في أسقية الأدم» فقالوا: يا رسول الله إن أرضنا كثيرة الجرذان ولا نبقى فيها أسقية الأدم. فقال (3) رسول الله صلى الله عليه وسلم:
«وإن أكلتها الجرذان وإن أكلتها الجرذان».
وحكي: أن امرأة جاءت إلى قيس بن سعد (4) بن عبادة بن دليم، وكان حليما جوادا، فقالت له: مشت جرذان بيتي على العصا قال: لادعهن يثبن وثب الأسود ثم ملأ بيتها طعاما وودكا وإداما. وروي إنه كان له ديون كثيرة فمرض فاستبطأ عوّاده فقيل له: إنهم يستحيون من أجل دينك عليهم. فأمر مناديا ينادي من كان لقيس بن سعد عليه دين فهو بريء منه! فأتى الناس حتى هدموا درجة كان يصعد عليها إليه. قال عروة وكان قيس بن سعد يقول: اللهم ارزقني مالا فإنه لا تصلح الفعال إلا بالمال. قال: وكان أبوه سعد بن عبادة يقول: اللهم هب لي حمدا وهب لي مجدا فإنه لا مجد إلا بفعال، ولا فعال إلا بمال، اللهم إن القليل لا يصلحني ولا أصلح عليه. وقال يحيى بن أبي كثير: كان قيس بن سعد، إذا انصرف من صلاة مكتوبة، قال:
اللهم ارزقني مالا استعين به على الفعال، فإنه لا تصلح الفعال إلا بالمال. قال الجوهري: الفعل بالفتح مصدر فعل يفعل. وقرأ بعضهم {وَأَوْحَيْنََا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرََاتِ} (5) والفعل بالكسر
__________
(1) هو المقداد بن عمرو ويعرف بابن الأسود الكندي صحابي توفي سنة 33هـ.
(2) رواه أبو داود في الإمارة: 40، وابن ماجه لقطة: 3.
(3) رواه مسلم في الإيمان: 26، وأحمد 3، 23.
(4) قيس بن سعد بن عبادة بن دليم الأنصاري الخزرجي المدني صحابي من الدهاة الأجواد توفي سنة 60هـ.
(5) سورة الأنبياء: الآية 73.(2/275)
الاسم، والجمع الفعال، مثل قدح وقداح وبئر وبئار والفعال بالفتح الكرم قال هدبة (1):
ضروبا بلحييه على عظم زوره ... إذا القوم هشّوا للفعال تقنّعا
انتهى. وقال ابن سيده: الفعال بالفتح اسم للفعل الحسن انتهى توفي قيس بن سعد سنة ستين وقيل سنة تسع وخمسين للهجرة النبوية.
وحكمه وخواصه
: كالفأر وسيأتي في باب الفاء إن شاء الله تعالى.
التعبير:
الجرذ في المنام تدل رؤيته على الفسق والأذى والاجتماع، وربما دلت رؤيته على الذل والمقت، وربما دلت على نساء جفاة. ومن أكل لحمه في المنام نال رزقا من حرام. وقال بعض أهل التعبير يدل على النقلة من أخذه أو دخل إلى منزله لقوله (2) تعالى {فَأَرْسَلْنََا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ}. وكان سببه الجرذ فوقعت النقلة من تلك الأرض وأكل لحمه يدل على غيبة رجل فاسق والله أعلم.
الجرجس:
لغة في القرقس وهو البعوض الصغار وسيأتي في باب القاف إن شاء الله تعالى.
الجوارس:
النحل وجرست النحل العرفط تجرس جرسا إذا أكلته والجرس في الأصل الصوت الخفي. والعرفط بالضم شجرة الطلح وله صمغ كريه الرائحة. فإذا أكلته النحلة حصل في عسلها شيء من ريحه.
الجرو:
بكسر الجيم وفتحها وضمها ثلاث لغات مشهورات الصغير من أولاد الكلب وسائر السباع وفي المثل لا تقتن من كلب سوء جروا قال الشاعر:
ولو ولدت فقيرة جرو كلب ... لسب بذلك الجرو الكلاب
وقال ابن سيده: الجرو الصغير من كل شيء حتى من الحنظل والبطيخ والقثاء والرمان. روى مسلم في صحيحه عن ميمونة رضي الله تعالى عنها «أن النبي صلى الله عليه وسلم أصبح يوما واجما، فقالت ميمونة: يا رسول الله إني قد استنكرت هيئتك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن جبريل وعدني أن يلقاني الليلة فلم يلقني أما والله ما أخلفني قط قالت: فظل رسول الله صلى الله عليه وسلم يومه ذلك على ذلك الحال، ثم وقع في نفسه أن جرو كلب تحت فسطاط لنا فأمر به فأخرج ثم أخذ صلى الله عليه وسلم بيده ماء فنضح مكانه.
فلما أمسى لقيه جبريل، فقال له صلى الله عليه وسلم: قد كنت وعدتني أن تلقاني البارحة فقال: أجل ولكنا معشر الملائكة لا ندخل بيتا فيه كلب ولا صورة. فأصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ فأمر بقتل الكلاب حتى إنه أمر بقتل كلب الحائط الصغير وبترك كلب الحائط الكبير (3)». ورواه الطبراني عن خولة خادم النبي صلى الله عليه وسلم بزيادة على ذلك، ولفظها إن جروا دخل البيت، ودخل تحت السرير ومات. «فمكث رسول الله صلى الله عليه وسلم أياما لا ينزل عليه الوحي، فقال: «يا خولة ما حدث في بيت رسول الله فإن جبريل
__________
(1) هدبة: هو هدبة بن خشرم بن كرز من عذرة، مات سنة 50هـ. والبيت مع ترجمته في الشعر والشعراء 462.
(2) سورة سبأ: الآية 16.
(3) رواه أبو داود في اللباس: 45.(2/276)
لا يأتيني؟ فهل حدث في بيت رسول الله حدث؟» ثم خرج إلى المسجد قالت: فقمت فكنست البيت فأهويت بالمكنسة تحت السرير فإذا شيء تحت المكنسة ثقيل فلم أزل حتى أخرجته، فإذا هو جرو كلب ميت فأخذته بيدي وألقيته خلف الدار فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ترعد لحيته وكان إذا أتاه الوحي أخذته الرعدة فقال: يا خولة دثريني فأنزل الله عز وجل {وَالضُّحى ََ وَاللَّيْلِ إِذََا سَجى ََ مََا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمََا قَلى ََ} (1) قال ابن عبد البر: وليس إسناد حديثها هذا مما يحتج به. والصحيح أن هذه السورة، نزلت في أول ما نزل من القرآن، لما انقطع عنه الوحي فقال المشركون إن محمدا قد ودّعه ربه أي هجره فأنزل الله هذه السورة. وروى البيهقي في أواخر الباب السابع والأربعين من الشعب عن معاذ بن جبل قال: كان في بني إسرائيل رجل عقيم لا يولد له، وكان يخرج فإذا رأى غلاما من غلمان بني إسرائيل عليه حلى يخدعه، حتى يدخله بيته، فيقتله ويلقيه في مطمورة له، فبينما هو كذلك إذ لقى غلامين أخوين عليهما حلى فأدخلهما بيته وقتلهما وطرحهما في مطمورته. وكانت له امرأة مسلمة تنهاه عن ذلك، وتقول له إني أحذرك النقمة من الله عز وجل.
فيقول: لو أن الله يأخذني على شيء لأخذني يوم فعلت كذا وكذا فتقول له المرأة: إن صاعك لم يمتلىء ولو امتلأ صاعك لأخذت فلما قتل الغلامين، خرج أبوهما في طلبهما فلم يجد أحدا يخبره عنهما، فأتى نبيا من أنبياء اسرائيل، وذكر ذلك له فقال له ذلك النبي: هل كان معهما لعبة يلعبان بها؟ فقال أبوهما: نعم كان لهما جرو. قال فائتني به فأتاه به فوضع النبي خاتمه بين عينيه ثم خلى سبيله، ثم قال: أول دار يدخلها من دور بني إسرائيل فيها بيان ذلك. فأقبل الجرو يتخلل الدور حتى دخل دار من دور بني إسرائيل، فدخلوا خلفه فوجدوا الغلامين مقتولين مع غلمان كثيرة قد قتلهم وطرحهم في المطمورة. فانطلقوا به إلى ذلك النبي عليه السلام فأمر به أن يصلب، فلما رفع إلى الخشبة أتته امرأته وقالت: قد كنت أحذرك هذا اليوم، وأخبرك أن الله غير تاركك، وأنت تقول: لو أن الله يأخذني على شيء لأخذني يوم فعلت كذا وكذا. فأخبرك أن صاعك لم يمتلىء بعد.
ألا وإن صاعك قد امتلأ. وسيأتي إن شاء الله تعالى في باب الكاف في لفظ الكلب الحديث الذي في مسند الإمام أحمد الطبراني والبزار في الكلبة التي عوى جروها في بطنها. وروى الحاكم في المناقب من حديث أبي ذر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا اقترب الزمان كثر لبس الطيالسة وكثرت التجارة وكثر المال وعظم رب المال بماله وكثرت الفاحشة وكثرت النساء، وكانت امارة الصبيان، وجار السلطان وطفق في المكيال الميزان، ويربي الرجل جرو كلب خير له من أن يربي ولدا. ولا يوقر كبير ولا يرحم صغير، ويكثر الزنا حتى إن الرجل ليغشى المرأة على قارعة الطريق فيقول أمثلهم في ذلك الزمان: لو اعتزلتم عن الطريق. ويلبسون جلود الضأن على قلوب الذئاب، أمثلهم في ذلك الزمان المداهن» (2) وكذلك رواه الطبراني في معجمه الأوسط وفيه سيف ابن مسكين وهو ضعيف.
الجريث:
بكسر الجيم بالراء المهملة والثاء المثلثة، وهو هذا السمك الذي يشبه الثعبان.
وجمعه جراثي. ويقال له أيضا الجريء بالكسر والتشديد وهو نوع من السمك يشبه الحية ويسمى
__________
(1) سورة الضحى: الآية 31.
(2) رواه الدرامي في فضائل القرآن: 4.(2/277)
بالفارسية مارماهي وقد تقدم في باب الهمزة أنه الأنكليس. قال الجاحظ: إنه يأكل الجرذان وهو حية الماء.
وحكمه:
الحل قال البغوي عند قوله (1) تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعََامُهُ} إن الجريث حلال بالاتفاق، وهو قول أبي بكر وعمر وابن عباس وزيد بن ثابت وأبي هريرة رضي الله تعالى عنهم وبه قال شريح والحسن وعطاء، وهو مذهب مالك وظاهر مذهب الشافعي. والمراد هذه الثعابين التي لا تعيش إلا في الماء. وأما الحيات التي تعيش في البر والبحر، فتلك من ذوات السموم، وأكلها حرام. وسئل ابن عباس عن الجري فقال: هو شيء حرمته اليهود ونحن لا نحرمه.
الخواص:
مرارته يسعط بها الفرس المجنون يذهب جنونه. ولحمه يجوّد الصوت. وسيأتي إن شاء الله تعالى في باب الصاد المهملة في لفظ الصيد ما ذكره البخاري في صحيحه في الجري.
الجزور: من الإبل يقع على الذكر والأنثى، وهو مؤنث، والجمع جزر. وكذا قاله الجوهري، وقال ابن سيده: الجزور الناقة التي تجزر والجمع جزائر وجزر وجزرات جمع الجمع كطرق وطرقات. قالت خرنق بنت هفان (2):
لا يبعدن قومي الذين هم ... سم العداة وآفة الجزر ... النازلون بكل معترك ... والطيبين معاقد الأزر
وبها سميت المجزرة وهي الموضع الذي يذبح فيه. وفي كتاب العين الجزور من الضأن والمعز خاصة مأخوذ من الجزر، وهو القطع. وفي صحيح مسلم، من حديث عبد الرحمن بن شماسة أن عمرو بن العاص قال عند موته: إذا دفنتموني فسنوا عليّ التراب سنائم، أقيموا حول قبري قدر ما تنحر الجزور ويقسم لحمها، حتى أستأنس بكم، وأنظر ماذا أراجع به رسل ربي.
قلت: وإنما ضرب المثل بنحر الجزور وتقسيم لحمها، لأنه كان في أول أمره جزارا بمكة، فألف نحر الجزائر، وضرب به المثل، وكونه كان جزارا جزم به ابن قتيبة في المعارف، ونقله ابن دريد في كتاب الوشاح وكذلك ابن الجوزي في التلقيح، وأضاف إليه الزبير بن العوام بن كرير فقال:
هؤلاء كانوا جزارين وذكر التوحيدي في كتاب «بصائر القدماء وسرائر الحكماء» صناعة كل من علمت صناعته من قريش فقال: كان أبو بكر الصديق رضي الله تعالى عنه بزازا، وكذلك عثمان وطلحة وعبد الرحمن بن عوف رضي الله تعالى عنهم، وكان عمر رضي الله تعالى عنه دلالا يسعى بين البائع والمشتري، وكان سعد بن أبي وقاص يبري النبل. وكان الوليد بن المغيرة (3) حدادا،
__________
(1) سورة المائدة: الآية 96.
(2) الخرنق بنت بدر بن هفّان بن مالك من بني ضبيعة شاعرة جاهلية وهي أخت طرفة بن العبد. ماتت في نحو سنة 50ق. هـ. والبيتان في ديوانها 43. وفي الديوان: «والطيبين معاقد الأزر».
(3) الوليد بن المغيرة، من القضاة في الجاهلية، كان يكسو الكعبة وحده، أدرك الإسلام كبيرا ولم يسلم. مات سنة 1هـ.(2/278)
وكذلك أبو العاص (1) أخو أبي جهل (2) وكان عقبة (3) بن أبي معيط خمارا، وكان أبو سفيان (4) بن حزب يبيع الزيت والأدم، وكان عبد الله بن جدعان نخاسا يبيع الجواري، وكان النضر (5) بن الحارث عوادا يضرب بالعود، وكان الحكم بن أبي العاص (6) خصاء يخصي الغنم. وكذلك حريث ابن عمرو والضحاك بن قيس الفهري (7) وابن سيرين (8). وكان العاص (9) بن وائل السهمي بيطارا يعالج الخيل، وكان ابنه عمرو بن العاص جزارا. وكذلك أبو حنيفة صاحب الرأي والقياس وكان الزبير بن العوام خياطا، وكذلك عثمان بن طلحة الذي دفع له النبي صلى الله عليه وسلم مفتاح الكعبة، وقيس (10) بن مخرمة وكان مالك بن دينار (11) وراقا، وكان المهلب (12) بن أبي صفرة بستانيا، وكان قتيبة بن مسلم (13) الذي فتح بلاد العجم إلى ما وراء النهر جمالا، وكان سفيان (14) بن عيينة معلما، وكذلك الضحاك (15) بن مزاحم، وعطاء (16) بن أبي رباح، والكميت الشاعر (17)، والحجاج ابن يوسف الثقفي، وعبد الحميد (18) بن يحيى صاحب الرسائل، وأبو عبيد الله القاسم بن
__________
(1) أبو العاص بن هشام بن المغيرة المخزومي. أخو أبي جهل قتل في بدر سنة 2هـ.
(2) أبو جهل: عمرو بن هشام بن المغيرة المخزومي، من قادة قريش في الجاهلية قتل وأخوه مشركا في بدر.
(3) عقبة بن أبي معيط: من مقدمي قريش في الجاهلية قتل مشركا في بدر سنة 2هـ.
(4) أبو سفيان بن حرب: صخر بن حرب بن أمية، صحابي، وهو والد معاوية. أسلم يوم فتح مكة ومات سنة 31هـ.
(5) النضر بن الحارث بن علقمة بن كلدة، وهو أول من غنى على العود ألحان القرس، وهو ابن خالة النبي صلى الله عليه وسلم، من أسرى بدر، أسره المسلمون وقتلوه سنة 2هـ.
(6) الحكم بن أبي العاص، صحابي أسلم يوم الفتح. مات سنة 32هـ.
(7) الضحّاك بن قيس بن خالد الفهري، شهد صفين مع معاوية تولى الكوفة لمعاوية. مات سنة 65هـ.
(8) ابن سيرين: محمد بن سيرين البصري الأنصاري، إمام عصره في العلوم الدينية في البصرة تابعي كاتب، توفي سنة 110هـ. اشتهر في تعبير الرؤيا.
(9) العاص بن وائل بن هاشم السهمي القرشي أحد الحكام في الجاهلية، أدرك الإسلام وظل على الشرك مات سنة 3ق. هـ.
(10) قيس بن مخرمة.
(11) مالك بن دينار البصري، من رواة الحديث. مات سنة 131هـ.
(12) المهلب بن أبي صفرة ظالم بن سراق الأزدي، أمير جواد، قاتل الأزارقة وظفر بهم، تولى خراسان. مات سنة 83هـ.
(13) قتيبة بن مسلم بن عمرو بن الحصين الباهلي فاتح بلاد خوارزم وسجستان وسمرقند غزا أطراف الصين، ومات سنة 96هـ.
(14) سفيان بن عيينة بن ميمون، محدث الحرم المكي. مات سنة 198هـ.
(15) الضحاك بن مزاحم، كان مفسرا مؤدبا للأولاد. مات بخراسان سنة 105هـ.
(16) عطاء بن أسلم بن صفون، تابعي فقيه، محدث. مات سنة 114هـ.
(17) الكميت بن زيد بن خنيس الأسدي، شاعر الهاشميين كوفي من شعراء العصر الأموي مات سنة 126هـ.
(18) عبد الحميد بن يحيى العامري، الكاتب من ائمة الكتاب مات سنة 132هـ.(2/279)
سلام (1) والكسائي (2) هذه صناعة الأشراف.
قال وأما أديان العرب فإن النصرانية كانت في ربيعة وغسان وبعض قضاعة واليهودية كانت في حمير وكنانة وكندة وبني الحارث بن كعب والمجوسية في تميم ومنهم الحاجب (3) بن زرارة الذي رهن قوسه عند كسرى، ووفى به حتى ضرب المثل به فقالوا: «أوفى من قوس حاجب» وفكت أيام النبي صلى الله عليه وسلم، وأهديت إليه والزندقة كانت في قريش انتهى. وما ذكره من كون الزبير بن العوام كان خياطا، فيه نظر، والصواب أنه كان جزارا. ذكره ابن الجوزي وغيره كما تقدم. ولأن عمرو بن العاص يومئذ كان كبير مصر وعظيم أهلها، فأشبه الجزور بالنسبة إلى غيرها، من بهيمة الأنعام ونحرها موته، وتفرقة لحمها قسمة أمواله بعد موته. وكان من جملة تركته تسعة أرادب ذهبا. وأما الوضوء من أكل لحم الجزور فقد تقدم في باب الهمزة في لفظ الإبل ذكر من ذهب إليه من الأئمة وأنه المختار المنصور من جهة الدليل ففي صحيح مسلم وغيره عن جابر بن سمرة رضي الله تعالى عنه: أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم أنتوضأ من لحوم الغنم فقال: «إن شئت توضأ وإن شئت فلا تتوضأ» فقال: أنتوضأ من لحوم الإبل؟ قال: «نعم توضأ من لحوم الإبل» (4). وروى أحمد وأبو داود وغيرهما عن البراء بن عازب قال: سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الوضوء من لحوم الإبل فقال: «توضؤا منها». وسئل عن لحوم الغنم فقال: «لا تتوضؤا منها» (5). قال النووي رحمه الله هذان حديثان صحيحان ليس عنهما جواب شاف وقد اختاره جماعة من محققي أصحابنا المحدثين اهـ.
وروى البخاري ومسلم وأبو داود النسائي عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه، قال: بينما النبي صلى الله عليه وسلم ساجد إذ جاءه عقبة بن أبي معيط بسلى جزور فقذفه على ظهر النبي صلى الله عليه وسلم فلم يرجع رأسه حتى جاءت فاطمة رضي الله تعالى عنها فأخذته من على ظهره، ودعت على من صنع ذلك.
فقال (6) النبي صلى الله عليه وسلم: «اللهم عليك بالملأ من قريش اللهم عليك بأبي جهل بن هشام وعتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة وعقبة بن أبي معيط وأمية بن خلف أو أبي بن خلف». قال: فلقد رأيتهم قتلوا يوم بدر فألقوا في بئر، غير أمية أو أبي فإنه كان ضخما فلما جروه تقطعت أوصاله قبل أن يلقى في البئر.
الجساسة:
بفتح الجيم وتشديد السين المهملة الأولى. قال ابن سيده: هي دابة في جزائر البحر تجس الأخبار وتأتي بها الدجال. وكذا قال أبو داود السجستاني: سميت بذلك لتجسسها الأخبار للدجال. وجاء عن عبد الله بن عمرو بن العاص انها دابة الأرض المذكورة في القرآن
__________
(1) القاسم بن سلام الهروي، عالم محدث أديب فقيه مؤدب مات سنة 224هـ.
(2) الكسائي: علي بن حمزة بن عبد الله الأسدي، الكوفي اللغوي النحوي. مات سنة 189هـ. كان مؤدب الرشيد العباسي وابنه الأمين.
(3) الحاجب بن زرارة بن عدس الدارمي، من سادات العرب في الجاهلية، أسلم ثم مات سنة 3هـ.
(4) رواه مسلم في الحيض: 97والبخاري في الصلاة: 50.
(5) رواه أحمد: 4، 352.
(6) رواه البخاري في الجزية: 21والوضوء 69والصلاة 109، ومناقب الأنصار: 29، ورواه مسلم في الجهاد:
107، 108، والنسائي في الطهارة: 191وابن حنبل: 1/ 417393.(2/280)
وهي بجزيرة ببحر القلزم. وروى مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه عن فاطمة بنت قيس، قالت: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقام خطيبا فقال: «إني لم أجمعكم لرغبة ولا لرهبة، ولكن لحديث حدثنيه تميم الداري، حدثني أنه ركب سفينة بحرية في ثلاثين رجلا من لخم وجذام فألجأهم ريح عاصف إلى جزيرة، فإذا هم بدابة فقالوا لها: ما أنت؟ قالت: أنا الجساسة. قالوا:
أخبرينا الخبر. قالت: إن أردتم الخبر فعليكم بهذا الدير، فإن فيه رجلا بالأشواق إليكم» (1).
قال: فأتيناه فذكر الحديث. وتميم الداري هذا هو تميم بن أوس بن خارجة بن سويد أبو رقبة أسلم سنة تسع من الهجرة وروي له عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ثمانية عشر حديثا. روى مسلم منها حديث (2) «الدين النصيحة» ومن مناقبه العظيمة التي لا يشاركه فيها غيره أن النبي صلى الله عليه وسلم روى عنه قصة الجساسة. وروى عنه جماعة من الصحابة كابن عباس وأنس وأبي هريرة وجماعة من التابعين. وكان بالمدينة ثم انتقل إلى بيت المقدس، بعد قتل عثمان. وكان كثير التهجد وهو أول من قص على الناس، وأول من أسرج المسجد. قال الحافظ أبو نعيم. وكذلك رواه أبو داود الطيالسي عن أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه. قال: أول من أسرج المسجد تميم الداري وتوفي سنة أربعين وأما تميم الداري المذكور في صحيح البخاري في قصة الجام فذاك نصراني من أهل دارين قاله مقاتل بن حيان وغيره.
جعار:
الضبع وفي المثل «أعيث من جعار» (3). أي أفسد والعيث الفساد. قال الشاعر:
فقلت لها عيثي جعار وجرري ... بلحم امرىء لم يشهد النوم ناظره
الجعدة:
الشاة وستأتي في كنى الذئب إن شاء الله تعالى في باب الذال المعجمة.
الجعل:
كصرد ورطب جمعه جعلان بكسر الجيم والعين ساكنة. والناس يسمونه أبا جعران لأنه يجمع الجعر اليابس ويدخره في بيته. وهو دويبة معروفة يسمى الزعقوق، تعض البهائم في فروجها فتهرب، وهو أكبر من الخنفساء شديد السواد، في بطنه لون حمرة، للذكر قرنان، يوجد كثيرا في مراح البقر والجواميس ومواضع الروث، ويتولد غالبا من أخثاء البقر، ومن شأنه جمع النجاسة وادخارها كما تقدم. ومن عجيب أمره أنه يموت من ريح الورد وريح الطيب، فإذا أعيد إلى الروث عاش. قال أبو الطيب يصفه في شعره:
كما تضر رياح الورد بالجعل.
وله جناحان لا يكادان يريان إلا إذا طار وله ستة أرجل وسنام مرتفع جدا، وهو يمشي القهقرى أي يمشي إلى خلف وهو مع هذه المشية يهتدي إلى بيته، ويسمى الكبرتل وإذا أراد الطيران تنفش فيظهر جناحاه فيطير. ومن عادته أن يحرس النيام فمن قام لقضاء حاجته تبعه،
__________
(1) رواه مسلم في الفتن: 119. ورواه أبو داود في الملاحم: 1514. والترمذي في الفتن: 66. وابن ماجه في الفتن: 33وأحمد: 4184174133736.
(2) رواه أبو داود في الأدب: 59. والنسائي: 31. وأحمد: 1031024.
(3) جمهرة الأمثال: 2/ 63.(2/281)
وذلك من شهوته للغائط لأنه قوته. روى الطبراني وابن أبي الدنيا في كتاب العقوبات، والبيهقي في شعب الايمان، عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه، أنه قال: إن ذنوب بني آدم لتقتل الجعل في حجره. وروى الحاكم عن أبي الأحوص عن ابن مسعود أنه قرأ {وَلَوْ يُؤََاخِذُ اللََّهُ النََّاسَ بِمََا كَسَبُوا مََا تَرَكَ عَلى ََ ظَهْرِهََا مِنْ دَابَّةٍ وَلََكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى ََ أَجَلٍ مُسَمًّى} (1) ثم قال: كاد الجعل يعذب في حجره بذنب بني آدم. ثم قال الحاكم: صحيح الإسناد ولم يخرجاه. وقال مجاهد في قوله تعالى:
{وَيَلْعَنُهُمُ اللََّاعِنُونَ} (2) إنهم دواب الأرض: الخنافس والجعلان، يمنعون القطر بخطاياهم.
وروى أبو داود والترمذي وحسنه وهو آخر حديث في جامعه، قبل العلل، وابن حيان عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ان الله قد أذهب عنكم عيبة الجاهلية وفخرها بالآباء إما مؤمن تقي أو فاجر شقي، أنتم بنو آدم، وآدم من تراب، ليسد عن رجال فخرهم بأقوام ما هم إلا فحم من فحم جهنم، أو ليكونن على الله أهون من الجعل الذي يدفع بأنفه النتن» (3) وفي رواية: أهون على الله من الجعل يدفع الخراء بأنفه» (4) وفي مسند أبي داود الطيالسي، وشعب الايمان عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا تفخروا بآبائكم الذين ماتوا في الجاهلية فو الذي نفسي بيده لما يدحرج الجعل بأنفه خير من آبائكم الذين ماتوا في الجاهلية» (5). وروى البزار في مسنده عن حذيفة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
«كلكم بنو آدم وآدم من تراب، لينتهين قوم يفخرون بآبائهم، أو ليكونن أهون على الله من الجعلان» (6). وكان عامر بن مسعود الجمحي الصحابي رضي الله تعالى عنه يلقب دحروجة الجعل لقصره وهو راوي حديث الصوم في الشتاء الغنيمة الباردة وروى الرياشي عن الأصمعي قال:
مر بنا أعرابي ينشد ابنا له فقلنا له: صفه لنا فقال: كأنه دنينير. فقلنا له لم نره فذهب فلم نلبث أن جاء بصغير أسود كأنه جعل قد حمله على عنقه، فقلت له: لو سألتنا عن هذا لأرشدناك. فإنه لم يزل عامة يومه بين أيدينا ثم أنشد الأصمعي:
زينها الله في الفؤاد كما ... زين في عين والد ولده
الحكم: يحرم أكله لاستقذاره.
الأمثال: قالوا (7): «ألصق من جعل» لأنه يتبع الإنسان إلى الغائط كما تقدم. قال الشاعر:
إذا أتيت سليمى شب لي جعل ... إن الشقي الذي يغري به الجعل
وهو يضرب للرجل يلصق به من يكرهه فلا يزال يهرب منه.
الخواص: إذا أخذ الجعل غير مطبوخ، ولا مملوح وجفف وشرب، من غير إضافة إلى غيره، نفع من لسع العقرب نفعا عظيما.
التعبير: الجعل في المنام عدو بغيض ثقيل، وربما دل على رجل مسافر، ينقل الأموال من
__________
(1) سورة فاطر: الآية 45.
(2) سورة البقرة: الآية 159.
(3) رواه أحمد: 1/ 301.
(4) رواه الترمذي في المناقب: 74.
(5) رواه أحمد: 1/ 301.
(6) رواه أبو داود في الأدب: 111. والترمذي في المناقب: 73.
(7) المستقصى: 1/ 323.(2/282)
بلد إلى بلد، وماله حرام أو فيه شبهة. والله أعلم.
الجعول:
ولد النعامة لغة يمانية. قاله ابن سيده. وسيأتي لفظ النعامة في باب النون.
الجفرة:
بفتح الجيم ما بلغت أربعة أشهر من أولاد المعز وفصلت عن أمها والذكر جفر سمي بذلك لأنه جفر جنباه أي عظما. والجمع أجفار وجفار.
فائدة:
قال ابن قتيبة، في كتابه أدب الكاتب، وكتاب الجفر جلد جفر كتب فيه الإمام جعفر بن محمد الصادق لآل البيت كل ما يحتاجون إلى علمه وكل ما يكون إلى يوم القيامة وإلى هذا الجفر أشار أبو العلاء المعري (1) بقوله:
لقد عجبوا لأهل البيت لما ... أتاهم علمهم في مسك جفر ... ومرآة المنجم وهي صغرى ... أرته كل عامرة وقفر
والمسك الجلد وقيل: إن ابن تومرت (2) المعروف بالمهدي ظفر بكتاب الجفر فرأى فيه ما يكون على يد عبد (3) المؤمن صاحب المغرب، وقصته وحليته واسمه. فأقام ابن تومرت مدة يتطلبه حتى وجده وصحبه، وكان يكرمه ويقدمه على سائر أصحابه وينشد (4) إذا أبصره:
تكاملت فيك أوصاف خصصت بها ... فكلنا بك مسرور ومغتبط ... السن ضاحكة والكف مانحة ... والنفس واسعة والوجه منبسط
ولم يصح أن ابن تومرت استخلف عبد المؤمن عند موته، وإنما راعى أصحابه إشارته في تقديمه وإكرامه فتم له الأمر. وعبد المؤمن هو الذي حمل الناس في المغرب حين تم له الأمر على مذهب مالك رحمه الله في الفروع وعلى مذهب أبي الحسن الأشعري رحمه الله في الأصول. وكان عبد المؤمن ملكا حازما عاقلا سفاكا للدماء يقتل على الذنب الصغير. توفي في جمادى الآخرة سنة ثمان وخمسين وخمسمائة ومدة ولايته ثلاث وثلاثون سنة وأشهر.
وحكمها:
الحل يفدى بها اليربوع إذا قتله المحرم.
وخواصها:
وتعبيرها كالمعز والله أعلم.
جلكى:
كمرطى نوع متولد بين الحية والسمك إذا ذبح لا يخرج منه دم وعظمه رخو يؤكل مع لحمه يسمن النساء إذا أكل وهو نعم العلاج لذلك والله أعلم.
الجلالة:
من الحيوان الذي يأكل الجلة والعذرة. والجلة البعر يوضع موضع العذرة يقال:
جلت الدابة الجلة واجتلتها فهي جالة وجلالة إذا التقطتها. روى أبو داود وغيره من حديث نافع
__________
(1) المعري: أحمد بن عبد الله بن سليمان، اللغوي النحوي الشاعر المتفلسف. مات بالمعرة سنة 449هـ.
(2) ابن تومرت: محمد بن عبد الله بن تومرت المصمودي، صاحب دعوة عبد المؤمن بن علي سلطان المغرب.
(3) وكان ابن تومرت أديبا فصيحا. مات سنة 524هـ. وعبد المؤمن بن علي توفي سنة 558هـ.
(4) البيتان لأبي الشيعي. ديوانه 83. وفي وفيات الأعيان: 3/ 230.(2/283)
عن ابن عمر وابن عباس رضي الله تعالى عنهم «أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ركوب الجلالة (1)». وروى الحاكم، من حديث عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما، قال: «نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أكل لحم الجلالة»، وشرب لبنها وأن لا يحمل عليها ولا يركبها الناس حتى تعلف أربعين ليلة» وروى البيهقي وغيره عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم «نهى عن الشرب من في السقاء عن ركوب الجلالة وعن المجثمة» (2) وهي كل حيوان ينصب ويرمى ليقتل إلا أنها تكثر في الطيور والأرانب وأشباه ذلك مما يجثم بالأرض أي يلزمها ويلتصق بها وجثم الطائر جثوما وهو بمنزلة البروك للابل وسيأتي الكلام على الجلالة في فرع في الكلام على السخلة.
الجلم:
اليؤيؤ وهو نوع من الصقور وسيأتي ذكره فيها إن شاء الله تعالى وفي باب الياء أيضا.
الجمل:
الذكر من الإبل قال الفراء هو زوج الناقة. وكذا قال ابن مسعود لما سئل عن الجمل كأنه استجهل من سأله عما يعرفه الناس جميعا وجمع الجمل جمال وأجمال وجمائل وجمالات.
قال الله تعالى: {كَأَنَّهُ جِمََالَتٌ صُفْرٌ} (3) قال أكثر المفسرين: هي جمع جمال على تصحيح البناء، كرجال ورجالات وقال ابن عباس وابن جبير لجمالات قلوس السفن وهي حبالها العظام إذا جمعت مستديرة بعضها إلى بعض جاء منها أجرام عظام وقال ابن عباس أيضا: الجمالات قطع النحاس العظام وإنما يسمى البعير جملا إذا أربع.
فائدة:
كان اسم الجمل الذي ركبته عائشة رضي الله تعالى عنها يوم وقعته عسكر اشتراه لها يعلى بن أمية بأربعمائة درهم، وقيل بمائتي درهم، وهو الصحيح. قال ابن الأثير: مر مالك بن الحارث المعروف بالأشتر النخعي، وكان من الأبطال المشهورة، وكان من أصحاب علي يوم الجمل، بعبد الله بن الزبير، وكان مع عائشة رضي الله تعالى عنها وكان من الأبطال فتماسكا فصار كل واحد منهما إذا قوي على صاحبه، جعله تحته وركب على صدره فعلا ذلك مرارا، وابن الزبير يصيح (4) بأعلى صوته:
اقتلوني ومالكا ... واقتلوا مالكا معي
يريد بذلك الاشتر النخعي قال ابن الزبير: أمسيت يوم الجمل وفيّ سبع وثلاثون جراحة ما بين طعنة رمح وضربة سيف ورمية سهم قال: ولا ينهزم من الفريقين أحد وما أخذ أحد بخطام الجمل إلا قتل فأخذت الخطام فقالت عائشة رضي الله تعالى عنها: من أنت؟ قلت: ابن
__________
(1) رواه أبو داود في الجهاد: 47. وفي الأطعمة: 3324. والأشربة: 14. ورواه الترمذي في الأطعمة:
24، والنسائي في الضحايا: 4443، وابن ماجه في الذبائح: 11والموطأ أضاحي: 28وأحمد: 1 226219.
(2) رواه البخاري في الأشربة: 24. وأبو داود في الأشربة: 14، النسائي في الضحايا: 44
(3) سورة المرسلات: الآية 33.
(4) وفيات الأعيان: 7/ 195. وفي: «أقتلاني وأقتلا».(2/284)
الزبير. فقالت: واثكل أسماء ومر بي الأشتر فعرفته فاقتتلنا فو الله ما ضربته ضربة إلا ضربني بها ستا أو سبعا فجعلت أنادي:
اقتلوني ومالكا ... واقتلوا مالكا معي
وضاع الخطام مني ثم أخذ مالك برجلي فرماني في الخندق، وقال: لولا قرابتك من رسول الله صلى الله عليه وسلم ما اجتمع منك عضو إلى عضو أبدا. وفي رواية فجاء أناس منا ومنهم، وتقاتلوا حتى تحاجزنا، وضاع مني الخطام وسمعت عليا رضي الله عنه يقول: اعقروا الجمل، فإنه إن عقر تفرقوا فضربه رجل فسقط. فما سمعت قط أشد من عجيج الجمل، ثم أمر علي بحمل الهودج من بين القتلى، فاحتمله محمد بن أبي بكر وعمار بن ياسر، فأدخل محمد بن أبي بكر يده في الهودج.
فقالت عائشة رضي الله تعالى عنها: من هذا الذي يتعرض لحرم رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ أحرقه الله بالنار! فقال: يا أختاه قولي بنار الدنيا فقالت: بنار الدنيا. وقتل طلحة رضي الله تعالى عنه في الوقعة، وكان من حزب عائشة. ورجع الزبير فقتله عمرو بن جرموز بوادي السباع وهو نائم، وعاد بسيفه إلى علي، فلما رآه قال: إنه لسيف طالما جلا الكرب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأحيط بعائشة ودخل علي البصرة فبايعه أهلها، وأطلق عثمان بن حنيف وجهز عائشة وأخرج أخاها محمدا معها وشيعها علي بنفسه أميالا وسرح بنيه معها يوما وقيل: إن عدة المقتولين من أصحاب الجمل ثمانية آلاف وقيل سبعة عشر ألفا. ومن أصحاب علي نحو ألف وقطع علي خطام الجمل يومئذ نحو ثمانين كفا معظمهم من بني ضبة كلما قطعت يد رجل أخذ الخطام آخر وفي ذلك يقول الضبي (1):
نحن بني ضبة أصحاب الجمل ... ننازل الموت إذا الموت نزل
والموت أحلى عندنا من العسل (2)
وكانوا قد ألبسوه الأدراع إلى أن عقر. ونصب نبي، عند النحويين على المدح والتخصيص، وكانت وقعة الجمل يوم الخميس العاشر من جمادى الأولى أو الآخرة وقيل في خامس عشرة سنة ست وثلاثين من ارتفاع الشمس إلى قريب العصر. ويروى أن عائشة أعطت الذي بشرها بسلامة ابن الزبير لما لاقى الأشتر عشرة آلاف درهم.
وذكر: ابن خلكان وغيره أن الأشتر دخل على عائشة رضي الله تعالى عنها، بعد وقعة الجمل، فقالت له: يا أشتر أنت الذي أردت قتل ابن أختي يوم الجمل؟ فأنشدها:
أعائش لولا أنني كنت طاويا ... ثلاثا لألفيت ابن أختك هالكا ... غداة ينادي والرماح تنوشه ... بآخر صوت اقتلوني ومالكا ... فنجاه مني أكله وشبابه ... وخلوة جوف لم يكن متماسكا
ونقل أنه كان في رأس ابن الزبير رضي الله عنه ضربة عظيمة من الأشتر لو صب فيها قارورة دهن لاستقر. وروى الحاكم من حديث قيس بن أبي حازم وابن أبي شيبة، من حديث ابن
__________
(1) الضبي: في هامش العقد الفريد هو الحارث الضبي. العقد: 4/ 327.
(2) العقد الفريد: 4/ 327.(2/285)
عباس رضي الله عنهما، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لنسائه: «أيتكن صاحبة الجمل الأديب تسير، أو تخرج حتى ينبحها كلاب الحوأب؟» والحوأب نهر بقرب البصرة والأديب الأزب وهو الكثير شعر الوجه. قال ابن دحية والعجب من ابن العربي كيف أنكر هذا الحديث في كتاب الغوامض والعواصم له! وذكر أنه لا يوجد له أصل وهو أشهر من فلق الصبح. وروي أن عائشة لما خرجت، مرت بماء يقال له الحوأب فنبحتها الكلاب، فقالت: ردوني ردوني فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «كيف بإحداكن إذا نبحتها كلاب الحوأب» (1). وهذا الحديث مما أنكر على قيس بن أبي حازم. وأما قول الشاعر:
شكا إلى جملي طول السرى ... يا جملي ليس إلى المشتكى
صبرا جميلا فكلانا مبتلى
فمعلوم أن الجمل لا ينطق، وإنما أراد التجوز ومقابلة الكلام بمثله كقوله (2) تعالى: {فَمَنِ اعْتَدى ََ عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى ََ عَلَيْكُمْ} وكقول عمرو بن كلثوم (3):
ألا لا يجهلن أحد علينا ... فنجهل فوق جهل الجاهلينا
وكقول الآخر:
ولي فرس للحلم بالحلم ملجم ... ولي فرس للجهل بالجهل مسرج ... فمن رام تقويمي فإني مقوم ... ومن رام تعويجي فإني معوج
يريد: أكافىء الجاهل والمعوج لا أنه امتدح بالجهل والاعوجاج. وأما قوله تعالى: {حَتََّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيََاطِ} (4) فأراد به الحيوان المعروف لأنه أعظم الحيوانات المتداولة للإنسان جثة فلا يلج إلا في باب واسع كأنه قال لا يدخلون الجنة أبدا قال الشاعر:
لقد عظم البعير بغير لب ... فلم يستغن بالعظم البعير
وقرأ ابن عباس ومجاهد الجمل بضم الجيم وتشديد الميم وفسر بحبل السفينة الغليظ. وسم الخياط هو بخش الإبرة أي ثقبها وقد ألغز فيها الشاعر فقال:
سعت ذات سم في قميصي فغادرت ... به أثرا والله يشفي من السم ... كست قيصرا ثوب الجمال وتبعا ... وكسرى وعادت وهي عارية الجسم
وكنية الجمل أبو أيوب وأبو صفوان. وفي حديث أم زرع زوجي «لحم جمل غث على رأس جبل وعر». وفي سنن أبي داود عن مجاهد عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم «أهدى عام
__________
(1) رواه ابن حنبل: 6/ 52/ 97.
(2) سورة البقرة: الآية 194.
(3) عمرو بن كلثوم، شاعر جاهلي، فارس شجاع من أصحاب المعلقات من تغلب والبيت في معلقته، انظر المعلقات السبع الزوزني: والعقد الفريد: 5/ 87.
(4) سورة الأعراف: الآية 40.(2/286)
الحديبية في هداياه جملا كان لأبي جهل بن هشام في أنفه برة من فضة يغيظ بذلك المشركين» (1).
قال الخطابي وفيه من الفقه أن الذكران في الهدي جائزة. وقد روي عن ابن عمر أنه كان يكره ذلك في الإبل ويرى أن تهدى الإناث منها. وفيه دليل أيضا على جواز استعمال اليسير من الفضة في لجم المراكب من الخيل وغيرها وقوله: يغيظ بذلك المشركين، معناه أن هذا الجمل كان معروفا لأبي جهل، فحازه النبي صلى الله عليه وسلم، فكان يغيظهم أن يروه في يده صلى الله عليه وسلم، وصاحبه قتيل سليب. وروى أبو داود والترمذي وابن ماجه عن العرباض بن سارية قال: وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم موعظة ذرفت منها العيون ووجلت منها القلوب فقلنا: يا رسول الله هذه موعظة مودع فما تعهد إلينا؟ فقال صلى الله عليه وسلم:
«قد تركتكم على بيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك، ومن يعش منكم فسيرى اختلافا كثيرا فعليكم بما عرفتم من سنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي، عضوا عليها بالنواجذ، واياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وعليكم بالطاعة وإن كان عبدا حبشيا فإنما المؤمن كالجمل الأنف حيثما قيد انقاد» (2). والأنف الجمل المخزوم الأنف الذي لا يمتنع على قائده. وقيل: الأنف الذلول ويروى كالجمل الآنف بالمد وهو بمعناه: وفيه أن قيد انقاد وإن أنيخ على صخرة استناخ» والنواجذ بالذال المعجمة الأشهر أنها أقصى الأسنان أي تمسكوا بها كما يتمسك العاض بجميع أضراسه. وفي الحديث أنه صلى الله عليه وسلم «ضحك حتى بدت نواجده» (3). والمراد ههنا الضواحك وهي التي تبدو عند الضحك لأنه صلى الله عليه وسلم كان ضحكه تبسما.
وروى الإمام أحمد أبو داود النسائي عن أبي هريرة أنه صلى الله عليه وسلم قال (4): «إذا سجد أحدكم فلا يبرك كما يبرك الجمل، وليضع يديه ثم ركبتيه». قال الخطابي: حديث وائل بن حجر أثبت من هذا وهو ما رواه الأربعة عنه أنه قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم إذا سجد وضع ركبتيه قبل يديه، وإذا نهض رفع يديه قبل ركبتيه. وروى البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه «أنه كان مع النبي صلى الله عليه وسلم على جمل فأعيا، فنخسه النبي صلى الله عليه وسلم ودعا له وقال: اركب فركب فكان أمام القوم قال فقال لي النبي صلى الله عليه وسلم: كيف ترى بعيرك؟ فقلت: قد أصابته بركتك قال: أفتبيعنيه؟
فاستحييت ولم يكن لي ناضح غيره، فقلت: نعم. فما زال صلى الله عليه وسلم يزيدني ويقول: والله يغفر لك حتى بعته بأوقية من ذهب، على أن لي ركوبه حتى أبلغ المدينة. فلما بلغتها، قال صلى الله عليه وسلم لبلال: اعطه الثمن وزده. ثم رد صلى الله عليه وسلم علي الجمل» (5). وفي كتاب ابن حيان من حديث حماد بن سلمة عن أبي الزبير عن جابر رضي الله تعالى عنه، قال: «استغفر لي رسول الله صلى الله عليه وسلم، ليلة البعير، خمسا
__________
(1) رواه ابن ماجه في المناسك: 9884. وابن حنبل: 1/ 261234، 269، 273.
(2) رواه ابن ماجه في المقدمة: 6.
(3) رواه البخاري في تفسير سورة: 239. والتوحيد: 19. والكفارات: 3. ورواه مسلم في المنافقين: 20 3021. وفي الإيمان: 308، 309، 314. والجهاد 55132. وأبو داود في الطلاق: 32. وفي الاستسقاء 2.
(4) رواه أبو داود في الصلاة: 137. والترمذي في الصلاة 85، والنسائي في التطبيق: 38، وابن حنبل: 3812.
(5) رواه البخاري في البيوع: 34، والجهاد: 49، والشروط: 4. ومسلم في المساقاة: 109، 111، 114.
والرضاع 59. والنسائي في البيوع: 77.(2/287)
وعشرين مرة» (1). وبهذا استدل على جواز بيع وشرط. والخلاف فيه مقرر في كتب الفقه، قال السهيلي: والحكمة في شرائه الجمل، ورده عليه وإعطائه الثمن بزيادة، أنه عليه الصلاة والسلام كان أخبره بأن الله تعالى أحيا أباه ورد عليه روحه. فاشترى الجمل منه. وهو مطيته كما اشترى الله أنفس الشهداء، بثمن هو الجنة. ونفس الإنسان مطيته ثم زادهم فقال (2) {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى ََ} وزيادة ثم رد عليهم أنفسهم التي اشترى منهم فقال (3) {وَلََا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللََّهِ أَمْوََاتاً بَلْ أَحْيََاءٌ} الآية. فأشار صلى الله عليه وسلم بالشراء ورد الثمن والزيادة ثم رد الجمل إليه إلى تأكيد الخبر الذي أخبر به عن الله عز وجل فتشاكل الفعل والخبر. وفي مسند الإمام أحمد والحاكم، عن عبد الله بن جعفر رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم «دخل حائطا لبعض الأنصار فإذا فيه جمل، فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم ذرفت عيناه، فمسح النبي صلى الله عليه وسلم سنامه، وفي رواية فمسح ذفرييه، فسكن. ثم قال صلى الله عليه وسلم: من رب هذا الجمل؟ فجاء فتى من الأنصار فقال: هو لي يا رسول الله فقال صلى الله عليه وسلم: ألا تتقي الله في هذه البهيمة التي ملكك الله إياها، فإنه شكا لي أنك تجيعه وتدئبه». (4) وروى الطبراني عن جابر رضي الله عنه، قال: «خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة ذات الرقاع، حتى إذا كنا بحرة واقم، إذ أقبل جمل يرقل حتى دنا من النبي صلى الله عليه وسلم، فجعل يرغو على هامته، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن هذا الجمل يستعديني على صاحبه، يزعم أنه كان يحرث عليه منذ سنين، حتى إذا أعجزه وأعجفه وكبر سنه، أراد نحره، إذهب يا جابر إلى صاحبه فائت به. قلت: ما أعرفه. فقال: إنه سيدلك عليه، قال فخرج الجمل بين يدي معنقا حتى وقف بي في مجلس بني خطمة. فقلت أين رب هذا الجمل؟
فقالوا: هذا لفلان بن فلان، فجئته فقلت له: أجب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فخرج معي حتى جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إن جملك يزعم أنك حرثت عليه زمانا حتى إذا أعجزته وأعجفته وكبر سنه أردت أن تنحره، فقال: والذي بعثك بالحق إن ذلك لكذلك، فقال صلى الله عليه وسلم: ما هكذا جزاء المملوك الصالح. ثم قال صلى الله عليه وسلم: تبيعه؟ قال: نعم فابتاعه منه ثم أرسله صلى الله عليه وسلم في الشجر حتى نصب سنامه». فكان إذا اعتل على بعض المهاجرين والأنصار من نواضحهم شيء أعطاه إياه، فمكث كذلك زمانا.
وحكى: القشيري في رسالته وابن الجوزي في مثير الغرام الساكن عن أحمد بن عطاء الروذباري، أنه قال: كنت راكبا جملا فغاصت رجلا الجمل في الرمل فقلت: جل الله، فقال الجمل: جل الله.
وحكى: القشيري عنه أيضا في باب كرامات الأولياء، قال: كلمني رجل في طريق مكة، فقال: إني رأيت جمالا والمحامل عليها وقد مدت أعناقها في الليل، فقلت سبحان الله سبحان من يحمل عنها ما هي فيه، فالتفت إلي جمل، وقال: قل جل الله. فقلت: جل الله.
غريبة:
رأيت بخط بعض العلماء المتقدمين المبرزين، أنه كان بخراسان رجل عائن، فجلس يوما إلى جماعة فمر بهم قطار جمال فقال العائن: من أي جمل تريدون أن أطعمكم من
__________
(1) رواه الترمذي في المناقب: 52.
(2) سورة يونس: الآية 26.
(3) سورة آل عمران: الآية 161.
(4) رواه أحمد: 1/ 205204. وأبو داود في الجهاد: 44.(2/288)
لحمه؟ فأشاروا إلى جمل من أحسنها، فنظر إليه العائن فوقع الجمل لساعته. وكان صاحب الجمل حكيما، فقال: من ربط جملي فليحله، وليقل: بسم الله عظيم الشان شديد البرهان ما شاء الله، كان حبس حابس من حجر يابس وشهاب قابس، اللهم إني رددت عين العائن عليه، وفي أحب الناس إليه وفي كبده وكليتيه لحم رقيق، وعظم دقيق فيما له يليق {فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرى ََ مِنْ فُطُورٍ ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خََاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ} (1). فوقف الجمل لساعته كأن لم يكن به بأس وندرت عين العائن.
فائدة:
العائن إذا اعترف أنه قتل غيره بالعين فلا قود عليه، ولا دية ولا كفارة، وإن كانت العين حقا، لأنه لا يفضي إلى القتل غالبا، ويندب للعائن أن يدعو له بالبركة فيقول اللهم بارك فيه ولا تضره وأن يقول ما شاء الله لا قوة إلا بالله.
وذكر القاضي حسين أن نبيا من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام استكثر قومه ذات يوم فأمات الله تعالى منهم مائة ألف في ليلة واحدة، فلما أصبح شكا إلى الله من ذلك، فقال الله تعالى له: إنك لما استكثرتهم عنتهم فهلا حصنتهم! فقال: يا رب فكيف أحصنهم؟ قال: تقول حصنتكم بالحي القيوم الذي لا يموت أبدا، ودفعت عنكم السوء بلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. قال القاضي: وهكذا السنة في الرجل إذا رأى نفسه سليمة وأحواله معتدلة، يقول في نفسه ذلك.
وكان القاضي يحصن تلامذته بذلك إذا استكثرهم. وذكر الإمام فخر الدين الرازي في بعض كتبه أن العين لا تؤثر ممن له نفس شريفة لأنها استعظام للشيء وما ذكره القاضي حسين يرد ذلك.
وحكى القشيري في رسالته عن محمد بن سعيد البصري أنه قال: بينما أنا أمشي في بعض طرق البصرة إذ رأيت أعرابيا يسوق جملا، ثم التفت فإذا الجمل قد وقع ميتا، ووقع الرجل والقتب، فمشيت قليلا ثم التفت، فإذا الأعرابي يقول يا مسبب كل سبب يا مؤمل كل من طلب رد على ما ذهب، يحمل الرجل والقتب، فقام الجمل وعليه الرجل والقتب. واحياء الموتى كرامة فهو وإن كان عظيما إلا أنه جائز على القول الصحيح المختار، عند المحققين المعتمدين من أئمة الأصول، إذ ما جاز أن يكون معجزة لنبي جاز أن يكون كرامة لولي، بشرط أن لا يدعي التحدي كالنبوة. وإحياء الموتى كرامة للأولياء كثير لا ينحصر وسيأتي إن شاء الله تعالى ذكر طرف من ذلك في أماكنه من هذا الكتاب.
فائدة:
قال شيخنا اليافعي رحمه الله: لا يلزم أن يكون من له كرامة من الأولياء أفضل ممن ليس له كرامة منهم، بل قد يكون بعض من ليس له كرامة منهم أفضل من بعض، من له كرامة، لأن الكرامة قد تكون لتقوية يقين صاحبها، وكمال المعرفة بالله. ولهذا قال قطب العلوم وتاج العارفين وقرة أعين الصديقين أبو القاسم الجنيد (2) قدس الله سره: قد مشى رجال باليقين على الماء، ومات بالعطش رجال أفضل منهم. وقال أيضا: اليقين ارتفاع الريب في مشهد الغيب وقال أيضا: اليقين هو استقرار العلم الذي لا ينقلب ولا يحول ولا يتغير وقال: (يعني اليافعي)، قلت:
ولأن الكرامة قد تقع لكثير من المحبين والزهاد، ولا تقع لكثير من العارفين، والمعرفة أفضل من
__________
(1) سورة الملك: الآية 4.
(2) الجنيد.(2/289)
المحبة عند الأكثرين، وأفضل من الزهد عند الكل. اهـ قلت: وهذا هو المختار عند المحققين والله أعلم.
وفي كتاب خبر البشر بخير البشر، للإمام العلامة محمد بن ظفر (1) أنه كان على باب من أبواب الاسكندرية، صورة جمل من نحاس، عليه راكب من نحاس، في هيئة العرب متزر مرتد، وعليه عمامة وفي رجليه نعلان، كل ذلك من نحاس. وكانوا إذا تظالموا يقول المظلوم للظالم:
أعطني حقي قبل أن يخرج هذا فيأخذ بحقي منك شئت أو أبيت! ولم يزل الصنم على ذلك حتى افتتح عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنه أرض مصر، فغيبوا الصنم وفي ذلك إشارة إلى البشارة بمحمد صلى الله عليه وسلم.
وحكمه وخواصه:
تقدما في الإبل.
الأمثال:
قالوا: «الجمل من جوفه يجتر» (2). يضرب لمن يأكل من كسبه، أو ينتفع بشيء يعود عليه منه ضرر. وقالوا (3): أخلف من بول الجمل». وهو من الخلف لا من الخلاف، لأنه يبول إلى خلف. وقالوا: «وقع القوم في سلى جمل» (4). يضرب لمن بلغ في الشدة منتهى غاياتها.
كما قالوا: «بلغ السكين العظم» (5) وذلك أن الجمل لا يكون له سلى فأرادوا أنهم وقعوا في أمر صعب. والسلى الجلدة الرقيقة التي يكون فيها الولد من المواشي إن نزعت عن وجه الفصيل ساعة ما يولد إلا قتلته. وهذا كقولهم: «أعز من الأبلق العقوق» (6) وقالوا: «الثمر في البئر وعلى ظهر الجمل» (7). وأصله أن مناديا، كان في الجاهلية، يقف على أطم من آطام المدينة حين يدرك الثمر، ينادي بذلك. أي من سقى ماء البئر على ظهر الجمل بالسانية وجد عاقبة سقيه في ثمره. وهذا قريب من قولهم: «عند الصباح يحمد القوم السرى» (8). وقريب من قول الشاعر:
إذا أنت لم تزرع وأبصرت حاصدا ... ندمت على التفريط في زمن الزرع
وقول الآخر:
تسألني أم الوليد جملا ... يمشي رويدا ويكون أولا
يضرب في طلب ما لا يكون، هذا إذا ذكر البيت كله. وأما قولهم: «يمشي رويدا ويكون أولا» (9) فيضرب للرجل يدرك حاجته في تؤدة ودعة. وأما قولهم (10): «لا ناقتي فيها ولا جملي»، فسيأتي إن شاء الله تعالى في باب النون في الكلام على الناقة.
التعبير:
الجمل في المنام حج لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «والجمل الأعرابي يدل على الحج» لقوله (11)
__________
(1) محمد بن ظفر.
(2) مجمع الأمثال: 1/ 175.
(3) جمهرة الأمثال: 1/ 351.
(4) المستقصى: 2/ 377.
(5) المستقصى: 2/ 13.
(6) جمهرة الأمثال: 2/ 56.
(7) مجمع الأمثال: 1/ 137.
(8) جمهرة الأمثال 2/ 38.
(9) مجمع الأمثال: 2/ 421.
(10) جمهرة الأمثال: 2/ 305.
(11) سورة النحل: الآية 7.(2/290)
تعالى: {وَتَحْمِلُ أَثْقََالَكُمْ إِلى ََ بَلَدٍ} الآية. والجمل البختي رجل أعجمي. ومن رأى جملا يصول عليه فإنه يخاصم سفيها. ومن قاد جملا بخاطمه، فإنه يهدي رجلا ضالا ومن أكل رأس جمل، اغتاب رجلا رئيسا. ومن رأى جمالا عربا، ولي على قوم من الأعراب. ومن رأى جملين يقتتلان، فإنهما ملكان. ومن رأى أنه يجر جملا فإنه يقهر عدوا. وقال ارطاميدورس: رؤية الجمل تدل على مجاديف السفينة وعلى سرعة سيرها والجمال تدل على أقوام جهال، لا معرفة لهم ولا رأي.
والغالب عليهم الذلة ومن رأى أنه سقط من ظهر جمل خشي عليه الفقر. ومن رأى أنه رمحه جمل مرض. والقطار من الجمال إذا كان يتلو بعضها بعضا أمطار لأن المطر يتلو بعضه بعضا، وهي تحمل الأثقال كما تحمل السحب الأمطار. وإذا ذبحت الجمال ولم يكن في ذلك المكان رجل فتاك فإنها دعوة لكرام. ومن رأى كأنه صار جملا فإنه يحمل أثقالا من تبعات الناس. والبخت سفر بعيد لراكبها بلا عناء. وربما دل الجمل على المسكن، وعلى السفينة، لأنه من سفن البر. وربما دل على الموت، لأنه يظعن بالأحباب إلى الأمكنة البعيدة. وربما دل على الزوجة ويدل الجمل على الحقد وأخذ الثأر ولو بعد حين. وربما دل على الرجل الصبور. وربما دل على البطء في الأحوال لمن يريد الاستعجال. وربما دل الجمل على الجمال، لأنه مشتق من لفظها. وللآية وتدل رؤيا الجمال على الجان، لأنها خلقت من أعين الجان. وتدل الجمال على الأرزاق والفوائد لامتهانها وملكها قال ابن المقري: ورؤية الجمال البخت تدل على الأجلاء من الناس وأرباب الأسفار كالتجار في البر والبحر. وربما دلت على الأعجام والغرباء. وربما تدل رؤيتها على الهموم والأنكاد والسبي وسلب المال. والله سبحانه وتعالى أعلم.
جمل البحر
: سمكة طولها ثلاثون ذراعا كذا قاله ابن سيده. وللعجاج (1) فيه رجز حسن، قاله الجاحظ في كتاب البيان والتبيين. وفي حديث أبي عبيدة رضي الله تعالى عنه أنه أذن في أكل جمل البحر، وهو سمك شبيه بالجمل.
جمل الماء:
البجع وهو الحوصل وسيأتي إن شاء الله تعالى في باب الحاء المهملة.
جمل اليهود:
الحرباء وسيأتي إن شاء الله تعالى في باب الحاء المهملة.
الجمعليلة:
بفتح الجيم والميم الضبع وسيأتي إن شاء الله في باب الضاد المعجمة.
جميل وجميل:
طائر جاء مصغرا والجمع جملان مثل كعيب وكعبان قال سيبويه: وهو البلبل.
الجنبر:
كمقعد فرخ الحبارى مثل به سيبويه وفسره السيرافي كذا قاله ابن سيده.
الجندب:
ضرب من الجراد، وقيل: ذكر الجراد مثلث الدال. والجمع جنادب. قال سيبويه: نونه زائدة. وقال الجاحظ: إنه يحفر بذراعيه ويغوص في الطين وفي الأرض إذا اشتد الحر وربما يطير في شدة الحر أيضا. وفي الحديث (2) «إن مثل ما بعثني الله تعالى به كمثل رجل أوقد نارا
__________
(1) العجاج: عبد الله بن رؤبة بن لبيد بن صخر السعدي التميمي، أبو الشعثاء، الراجز. مات سنة 90هـ.
(2) رواه مسلم في الفضائل: 19. وابن حنبل: 3923613.(2/291)
فجعل الجنادب يقعن فيها» الحديث رواه مسلم والترمذي كلاهما عن قتيبة بن سعيد، عن المغيرة ابن عبد الرحمن عن أبي الزناد عن الاعراج عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وفي حديث ابن مسعود «كان يصلي الظهر والجنادب ينفرن من الرمضاء» أي تثب من شدة حرارة الأرض.
الجندع:
كقنفذ جندب أسود له قرنان طويلان، وهو أثخن الجنادب ولا يؤكل قاله ابن سيده. وقال أبو حنيفة الجندع جندب صغير.
الجن:
أجسام هوائية قادرة على التشكل بأشكال مختلفة، لها عقول وأفهام وقدرة على الأعمال الشاقة. وهم خلاف الإنس. الواحد جني ويقال: إنما سميت بذلك لأنها تتقى ولا ترى وجن الرجل جنونا، وأجنه الله فهو مجنون، ولا تقل مجن وقولهم في المجنون: ما أجنه شاذ لا يقاس عليه، لأنه لا يقال في المضروب: ما أضربه، ولا في المشكوك ما أشكه. روى الطبراني بإسناد حسن، عن أبي ثعلبة الخشني، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (1): «الجن ثلاثة أصناف، فصنف لهم أجنحة يطيرون بها في الهواء، وصنف حيات وصنف يحلون ويظعنون». وكذلك رواه الحاكم، وقال: صحيح الإسناد، وسيأتي إن شاء الله تعالى، في باب الخاء المعجمة في الكلام على الخشاش، حديث أبي الدرداء رضي الله تعالى عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (2): خلق الله الجن ثلاثة أصناف: صنف حيات وعقارب وخشاش الأرض، وصنف كالريح في الهواء، وصنف كبني آدم عليهم الحساب والعقاب، وخلق الإنس ثلاثة أصناف: صنف كالبهائم قال الله عز وجل {إِنْ هُمْ إِلََّا كَالْأَنْعََامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا} (3) وقال تعالى: {لَهُمْ قُلُوبٌ لََا يَفْقَهُونَ بِهََا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لََا يُبْصِرُونَ بِهََا وَلَهُمْ آذََانٌ لََا يَسْمَعُونَ بِهََا أُولََئِكَ كَالْأَنْعََامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولََئِكَ هُمُ الْغََافِلُونَ} (4)
وصنف أجسادهم كأجساد بني آدم، وأرواحهم كأرواح الشياطين. وصنف في ظل الله عز وجل يوم لا ظل إلا ظله». قال ابن حبان رواه يزيد بن سفيان الرهاوي، عن أبي المنيب عن يحيى بن كثير، عن أبي سلمة عن أبي الدرداء رضي الله عنه، ويزيد بن سفيان ضعفه يحيى بن معين والامام أحمد بن حنبل وابن المديني.
الحكم:
أجمع المسلمون قاطبة على أن نبينا محمدا صلى الله عليه وسلم مبعوث إلى الجن كما هو مبعوث إلى الإنس قال الله تعالى {وَأُوحِيَ إِلَيَّ هََذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ} (5) ومن بلغ، والجن بلغهم القرآن.
وقال تعالى: {وَإِذْ صَرَفْنََا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ} (6) الآية. وقال (7) تبارك وتعالى:
{تَبََارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقََانَ عَلى ََ عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعََالَمِينَ نَذِيراً} وقال عز وجل {وَمََا أَرْسَلْنََاكَ إِلََّا رَحْمَةً لِلْعََالَمِينَ} (8) وقال تعالى: {وَمََا أَرْسَلْنََاكَ إِلََّا كَافَّةً لِلنََّاسِ} (9) قال الجوهري: الناس قد تكون من الإنس والجن، وقال تعالى خطابا للفريقين: {سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلََانِ فَبِأَيِّ آلََاءِ رَبِّكُمََا}
__________
(1) رواه أحمد: 4/ 128.
(2) رواه أحمد: 4/ 128.
(3) سورة الفرقان: الآية 44.
(4) سورة الأعراف: الآية 179.
(5) سورة الأنعام: الآية 19.
(6) سورة الأحقاف: الآية 29.
(7) سورة الفرقان: الآية 1.
(8) سورة لأنبياء: الآية 107.
(9) سورة سبأ: الآية 28.(2/292)
{تُكَذِّبََانِ} * (1) والثقلان: الإنس والجن، سميا بذلك لأنهما ثقلا الأرض وقيل: لأنهما مثقلان بالذنوب. وقال (2) تعالى: {وَلِمَنْ خََافَ مَقََامَ رَبِّهِ جَنَّتََانِ} ولذلك قيل: إن من الجن مقربين وأبرارا، كما أن من الإنس كذلك. وبهذه الآية استدل الجمهور، على أن الجن المؤمنين، يدخلون الجنة ويثابون، كما يثاب الإنس. وخالف أبو حنيفة والليث في ذلك، فقالا ثواب المؤمنين منهم أن يجاروا من النار. وخالفهما الأكثرون حتى أبو يوسف ومحمد وليس لأبي حنيفة والليث حجة سوى قوله (3) تعالى: {وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذََابٍ أَلِيمٍ} وقوله (4) تعالى: {فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلََا يَخََافُ بَخْساً وَلََا رَهَقاً} قالا: فلم يذكر في الآيتين ثوابا سوى النجاة من العذاب. والجواب من وجهين أحدهما أن الثواب مسكوت عنه، والثاني أن ذلك من قول الجن ويجوز أن يكونوا لم يطلعوا إلا على ذلك، وخفي عليهم ما أعد الله لهم من الثواب وقيل: إنهم إذا دخلوا الجنة لا يكونون مع الإنس، بل يكونون في ربضها. وفي الحديث عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: «الخلق كلهم أربعة أصناف: فخلق في الجنة كلهم وهم الملائكة، وخلق كلهم في النار وهم الشياطين وخلق في الجنة والنار وهم الجن، والإنس لهم الثواب وعليهم العقاب». وهو موقوف على ابن عباس رضي الله عنهما، وفيه شيء وهو أن الملائكة لا يثابون بنعيم الجنة. ومن المستغربات، ما رواه أحمد بن مروان المالكي الدينوري في أوائل الجزء التاسع من المجالسة عن مجاهد، أنه سئل عن الجن المؤمنين أيدخلون الجنة؟ فقال: يدخلونها ولكن لا يأكلون فيها ولا يشربون بل يلهمون التسبيح والتقديس، فيجدون فيهما ما يجد أهل الجنة من لذيذ الطعام والشراب، ويدل لعموم بعثته صلى الله عليه وسلم من السنة أحاديث منها ما روى مسلم عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (5):
أعطيت جوامع الكلم، وأرسلت إلى الناس كافة» وفيه من حديث جابر رضي الله عنه «وبعثت إلى كل أحمر وأسود» (6) وفي كتاب «خير البشر بخير البشر» للامام العلامة محمد بن ظفر، عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه، وهو بمكة: «من أحب منكم أن يحضر الليلة أمر الجن فلينطلق معي فانطلقت معه، حتى إذا كنا بأعلى مكة خط إلي خطا، ثم انطلق حتى قام فافتتح القرآن، فغشيه اسودة كثيرة وحالت بيني وبينه، حتى ما أسمع صوته ثم انطلقوا يتقطعون كما يتقطع السحاب ذاهبين حتى بقي منهم رهط، ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال:
ما فعل الرهط؟ قلت: هم أولئك يا رسول الله. قال: فأخذ عظما وروثا فأعطاهم إياه ونهى أن يستطيب أحد بعظم أو روث» (7) وفي اسناده ضعف، وفيه أيضا عن بلال بن الحارث رضي الله عنه، قال: نزلنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره بالعرج، فتوجهت نحوه فلما قاربته سمعت لغطا وخصومة رجال، لم أسمع لغة أحد من ألسنتهم، فوقفت حتى جاء النبي صلى الله عليه وسلم وهو يضحك،
__________
(1) سورة الرحمن: الآية 3231.
(2) سورة الرحمن: الآية 46.
(3) سورة الأحقاف 31.
(4) سورة الجن: الآية 13.
(5) رواه البخاري في التعبير: 11، ومسلم في المساجد: 5وابن حنبل: 2، 250، 412، 442، 501.
(6) رواه الدارمي في السير: 28. ومسلم في المساجد: 3.
(7) رواه النسائي في الطهارة: 34، 35. ورواه البخاري في الوضوء: 2021. ورواه مسلم في الطهارة:
58. وأبو داود في الطهارة: 45، والترمذي في الطهارة: 64وغيرهم.(2/293)
فقال: «اختصم إلي الجن المسلمون والجن المشركون، وسألوني أن أسكنهم فأسكنت المسلمين الجلس، وأسكنت المشركين الغور». وكل مرتفع من الأرض جلس ونجد وكل منخفض غور.
وفيه أيضا عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: انطلق النبي صلى الله عليه وسلم في طائفة من أصحابه، عامدين إلى سوق عكاظ، وقد حيل بين الشياطين وخبر السماء فرجعت الشياطين إلى قومهم فقالوا: ما لكم قالوا حيل بيننا وبين خبر السماء، وأرسلت علينا الشهب. فقالوا: ما ذاك إلا من شيء حدث، فاضربوا مشارق الأرض ومغاربها فالتقى الذين أخذوا نحو تهامة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه وهم بنخلة عامدين إلى سوق عكاظ، «وهو صلى الله عليه وسلم يصلي بأصحابه صلاة الفجر فلما سمعوا القرآن أنصتوا له، وقالوا: هذا الذي حال بيننا وبين خبر السماء، ورجعوا إلى قومهم فقالوا: {إِنََّا سَمِعْنََا قُرْآناً عَجَباً} (1) الآيتين (2). وهذا الذي ذكره ابن عباس رضي الله عنهما أول ما كان من أمر الجن مع النبي صلى الله عليه وسلم ولم يكن النبي صلى الله عليه وسلم رآهم إذ ذاك، إنما أوحيي إليه بما كان منهم. وفيه أيضا، وفي صحيح مسلم عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم، ذات ليلة، ففقدناه فالتمسناه، في الأودية والشعاب، فقلنا: استطير أو اغتيل فبتنا بشر ليلة بات بها قوم، فلما أصبحنا إذا هو جاء من قبل حراء فقلنا: يا رسول الله فقدناك فطلبناك فلم نجدك فبتنا بشر ليلة بات بها قوم! فقال (3) صلى الله عليه وسلم: «أتاني داعي الجن فذهبت معه فقرأت عليهم القرآن قال: فانطلق بنا فأرانا آثار نيرانهم وسألوه الزاد فقال: لكم كل عظم ذكر اسم الله عليه، تأخذونه فيقع في أيديكم أوفر ما كان لحما، وكل بعر علف لدوابكم». ثم قال (4) صلى الله عليه وسلم: «فلا تستنجوا بهما فإنهما طعام إخوانكم».
وروى الطبراني بإسناد حسن، عن الزبير بن العوام رضي الله عنه، قال: «صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما صلاة الصبح، في مسجد المدينة، فلما انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أيكم يتبعني إلى وفد الجن الليلة» فسكت القوم ولم يتكلم منهم أحد. قال ذلك ثلاثا، فمر بي يمشي فأخذ بيدي فجعلت أمشي معه حتى تباعدت عنا جبال المدينة كلها، وأفضينا إلى أرض براز وإذا رجال طوال كأنهم الرماح متدثري ثيابهم من بين أرجلهم فلما رأيتهم، غشيتني رعدة شديدة، حتى ما تمسكني رجلاي، من الفرق، فلما دنونا منهم خط لي رسول الله صلى الله عليه وسلم بابهام رجله في الأرض خطا وقال لي «اقعد في وسطه» فلما جلست ذهب عني كل شيء كنت أجده من ريبة، ومضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بيني وبينهم فتلا قرآنا رفيعا، حتى طلع الفجر، ثم أقبل صلى الله عليه وسلم حتى مر بي فقال: «الحق بي» فجعلت أمشي معه فمضينا غير بعيد، فقال صلى الله عليه وسلم لي: «التفت فانظر هل ترى حيث كان أولئك من أحد؟» فالتفت فقلت: يا رسول الله سوادا كثيرا فخفض رسول الله صلى الله عليه وسلم رأسه إلى الأرض فنظر عظما وروثة «فرمى بهما إليهم» ثم قال (5) صلى الله عليه وسلم: «هؤلاء وفد جن نصيبين سألوني الزاد فجعلت لهم كل
__________
(1) سورة الجن: الآية 1.
(2) رواه البخاري في الآذان: 105. وفي تفسير سورة 72. ورواه مسلم في الصلاة: 149. والترمذي في تفسير سورة: 72.
(3) رواه مسلم في الصلاة: 150.
(4) رواه مسلم: طهارة 145. الدارمي: وضوء 12. أحمد: 4873.
(5) رواه البخاري في مناقب الأنصار: 32.(2/294)
عظم وروثة». قال الزبير رضي الله عنه: فلا يحل لأحد أن يستنجي بعظم ولا روثة. وروي أيضا عن ابن مسعود رضي الله عنه، قال: استتبعني رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة فقال: «إن نفرا من الجن خمسة عشر، بنو اخوة وبنو عم، يأتون الليلة فأقرأ عليهم القرآن». فانطلقت معه إلى المكان الذي أراد فجعل لي خطا ثم أجلسني فيه، وقال: «لا تخرج من هذا» فبت فيه حتى أتاني رسول الله صلى الله عليه وسلم مع السحر، وفي يده عظم حائل وروثة وخمة. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا أتيت الخلاء فلا تستنج بشيء من هذا» قال: فلما أصبحت قلت: لأعلمن حيث كان رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذهبت فرأيت موضع سبعين بعيرا. وروى الشافعي والبيهقي أن رجلا من الأنصار رضي الله عنهم، خرج يصلي العشاء فسبته الجن وفقد أعواما، وتزوجت زوجته. ثم أتى المدينة فسأله عمر رضي الله عنه، عن ذلك، فقال: اختطفتني الجن، فلبثت فيهم زمانا طويلا، فغزاهم جن مؤمنون وقاتلوهم، فأظفرهم الله عليهم، وسبوا منهم سبايا وسبوني معهم، فقالوا: تراك رجلا مسلما، ولا يحل لنا سباؤك، فخيروني بين المقام عندهم والقفول إلى أهلي؟ فاخترت أهلي فأتوا بي إلى المدينة فقال له عمر رضي الله عنه: ما كان طعامعهم؟ قال: الفول وكل ما لم يذكر اسم الله عليه.
قال: فما كان شرابهم؟ قال: الجدف. وهو الرغوة، لأنها تجدف عن الماء، وقيل: نبات يقطع ويؤكل، وقيل كل إناء كشف عنه غطاؤه. وأما الاجماع فنقل ابن عطية وغيره الاتفاق على أن الجن متعبدون بهذه الشريعة على الخصوص، وأن نبينا محمدا صلى الله عليه وسلم مبعوث إلى الثقلين، فإن قيل: لو كانت الأحكام بجملتها لازمة لهم لكانوا يترددون إلى النبي صلى الله عليه وسلم، حتى يتعلموها، ولم ينقل أنهم أتوه إلا مرتين بمكة، وقد تجدد بعد ذلك أكثر الشريعة قلنا: لا يلزم من عدم النقل عدم اجتماعهم به، وحضوره مجلسه وسماعهم كلامه، من غير أن يراهم المؤمنون، ويكون هو صلى الله عليه وسلم يراهم، ولا يراهم أصحابه، فإنه تعالى يقول (1) عن رأس الجن: {إِنَّهُ يَرََاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لََا تَرَوْنَهُمْ} فقد يراهم صلى الله عليه وسلم بقوة يعطيها الله له زائدة على قوة أصحابه، وقد يراهم بعض الصحابة في بعض الأحوال كما رأى أبو هريرة رضي الله عنه الشيطان الذي أتاه ليسرق من زكاة رمضان.
كما رواه البخاري فإن قيل: ما تقول فيما حكي عن بعض المعتزلة انه ينكر وجود الجن؟ قلنا عجيب أن يثبت ذلك عمن يصدق بالقرآن، وهو ناطق بوجودهم. وروى البخاري ومسلم والنسائي عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (2): «ان عفريتا من الجن تفلت عليّ البارحة، يريد أن يقطع عليّ صلاتي فذعته، بالذال المعجمة والعين المهملة، أي خنقته، وأردت أن أربطه في سارية من سواري المسجد، فذكرت قول أخي سليمان، وقال (3) صلى الله عليه وسلم: «إن بالمدينة جنا قد أسلموا وقال: لا يسمع مدى صوت المؤذن جن ولا إنس ولا شيء إلا شهد له يوم القيامة».
وروى مسلم عن سالم بن عبد الله بن أبي الجعد وليس له في الكتب الستة سواه عن ابن مسعود
__________
(1) سورة الأعراف: آية 27.
(2) رواه البخاري في الصلاة: 75، الأنبياء: 40، تفسير سورة: 38. ورواه مسلم في المساجد: 39. وأحمد:
2/ 298.
(3) رواه البخاري في الأذان: 5، وبدء الخلق: 12، والتوحيد: 52. والنسائي أذان: 14، وابن ماجه أذان:
5 - والموطأ نداء: 5. وابن حنبل: 3، 6، 35، 43.(2/295)
رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما منكم من أحد إلا وقد وكل به قرينه من الجن، قالوا:
وإياك يا رسول الله؟ قال: واياي إلا أن الله أعانني عليه فأسلم فلا يأمرني إلا بخير» (1). روي فأسلم بفتح الميم وضمها وصحح الخطابي الرفع ورجح القاضي عياض والنووي الفتح وهو المختار. وأجمعت الأمة على عصمة النبي صلى الله عليه وسلم من الشيطان، وإنما المراد تحذير غيره من فتنة القرين ووسوسته وإغوائه، فأعلمنا أنه معنا لنحترز منه، بحسب الإمكان. وأما عصمته صلى الله عليه وسلم من الكبائر، فمجتمع عليها وكذلك سائر الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين. وفي الصغائر خلاف ليس هذا موضع ذكره. والصحيح أنهم صلى الله عليهم وسلم معصومون من الكبائر والصغائر.
وكذلك الملائكة عليهم السلام كما قاله القاضي وغيره من المحققين. فإذا علم هذا فاعلم أن الأحاديث في وجود الجن والشياطين لا تحصى وكذلك أشعار العرب وأخبارها، فالنزاع في ذلك مكابرة فيما هو معلوم بالتواتر ثم إنه أمر لا يحيله العقل، ولا يكذبه الحس ولذلك جرت التكاليف عليهم. ومما اشتهر أن سعد بن عبادة رضي الله عنه لما لم يبايعه الناس وبايعوا أبا بكر رضي الله عنه، سار إلى الشأم فنزل حوران وأقام بها إلى أن مات في سنة خمس عشرة ولم يختلف أنه وجد ميتا في مغتسله بحوران وأنهم لم يشعروا بموته بالمدينة حتى سمعوا قائلا يقول في بئر:
قد قتلنا سيد الخز ... رج سعد بن عبادة ... فرميناه بسهمي ... ن ولم نخط فؤاده
فحفظوا ذلك اليوم فوجدوه اليوم الذي مات فيه. ووقع في صحيح مسلم أن سعدا شهد بدرا. وقال الحافظ فتح الدين بن سيد الناس: والصحيح أنه لم يشهد بدرا. كذا رواه الطبراني من حديث محمد بن سيرين وقتادة وكلاهما أدرك سعد أو روى عن حجاج بن علاط السلمي وهو والد نصر بن حجاج الذي قيل (2) فيه:
هل من سبيل إلى خمر فأشربها ... أم من سبيل إلى نصر بن حجاج
انه قدم مكة في ركب فأجنهم الليل بواد مخيف موحش، فقال له أهل الركب: قم فخذ لنفسك أمانا ولأصحابك فجعل يطوف بالركب ويقول:
أعيذ نفسي وأعيذ صحبي ... من كل جني بهذا النقب
حتى أعود سالما وركبي
فسمع قائلا يقول: {يََا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطََارِ السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضِ} (3) الآية فلما قدم مكة أخبر كفار قريش بما سمع، فقالوا: صبأت يا أبا كلاب. إن هذا الذي قلته يزعم محمد أنه أنزل عليه، فقال: والله لقد سمعته وسمعه هؤلاء معي. ثم أسلم وحسن إسلامه، وهاجر إلى المدينة، وابتنى بها مسجدا يعرف به. وعند ابن سعد والطبراني
__________
(1) رواه مسلم في المنافقين: 69، والدارمي في الرفاق 25. وابن حنبل: 4604013973851.
(2) عيون الأخبار: 4/ 24. وفيه: «ألا سبيل أم هل سبيل».
(3) سورة الرحمن: الآية 33.(2/296)
والحافظ أبي موسى وغيرهم عمرو بن جابر الجني في الصحابة فرووا بأسانيدهم عن صفوان بن المعطل السلمي أنه قال خرجنا حجاجا فلما كنا بالعرج، إذا نحن بحية تضطرب فلم نلبث أن ماتت، فأخرج لها رجل منا خرقة فلفها فيها ثم حفر لها في الأرض. ثم قدمنا مكة فأتينا المسجد الحرام فوقف علينا رجل فقال: أيكم صاحب عمرو بن جابر؟ قلنا: ما نعرفه. قال: أيكم صاحب الجان (1)؟ قالوا: هذا. قال: جزاك الله عنا خيرا. أما انه كان آخر التسعة من الجن الذين سمعوا القرآن من النبي صلى الله عليه وسلم. وكذلك رواه الحاكم في المستدرك في ترجمة صفوان بن المعطل وذكر ابن أبي الدنيا عن رجل من التابعين أن حية دخلت عليه في خبائه تلهث عطشا فسقاها ثم إنها ماتت فدفنها فأتى من الليل فسلم عليه وشكر، وأخبر أن تلك الحية كان رجلا صالحا من جن نصيبين، اسمه زوبعة، قال: وبلغنا من فضائل عمر بن عبد العزيز الأموي أمير المؤمنين رضي الله تعالى عنه أنه كان يمشي بأرض فلاة فإذا بحية ميتة فكفنها بفضلة من ردائه ودفنها فإذا قائل يقول: يا سرق اشهد لسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لك: ستموت بأرض فلاة فيكفنك ويدفنك رجل صالح فقال: ومن أنت يرحمك الله؟ فقال: من الجن الذين استمعوا القرآن من رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يبق منهم، إلا أنا وسرق هذا الذي قد مات. وفي كتاب خير البشر بخير البشر، عن عبيد المكتب، عن ابراهيم، قال: خرج نفر من أصحاب عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه، وأنا معهم يريدون الحج حتى إذا كانوا ببعض الطريق، رأوا حية بيضاء تتثنى على الطريق، يفوح منها ريح المسك قال: فقلت لأصحابي امضوا فلست ببارح حتى أنظر ماذا يصير إليه أمرها فما لبثت أن ماتت، فظننت بها الخير لمكان الرائحة الطيبة فكفنتها في خرقة ثم نحيتها عن الطريق ودفنتها.
وأدركت أصحابي في المتعشى قال فو الله انا لقعود، إذا أقبل أربع نسوة من قبل المغرب فقال واحدة منهن: أيكم دفن عمرا؟ فقلنا من عمر؟ فقالت: أيكم دفن الحية؟ قال: فقلت: أنا. قالت أما والله لقد دفنت صوّاما قوّاما يؤمن بما أنزل الله عز وجل، ولقد آمن بنبيكم محمد صلى الله عليه وسلم وسمع صفته في السماء قبل أن يبعث بأربعمائة سنة. قال: فحمدت الله تعالى ثم قضينا حجنا ثم مررت بعمر رضي الله تعالى عنه فأخبرته خبر الحية والمرأة، فقال: صدقت، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول فيه هذا. وفيه أيضا عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: كنت عند أمير المؤمنين عثمان رضي الله عنه، إذ جاءه رجل فقال: ألا أحدثك بعجيب يا أمير المؤمنين؟ قال: بلى قال: بينا أنا بفلاة من الأرض لقيت عصابتين قد التفتا ثم افترقتا، قال: فجئت معتركهما فإذا من الحيات شيء ما رأيت مثله قط، وإذا ريح المسك أجده من حية منها صفراء دقيقة، فظننت أن تلك الرائحة لخير فيها فأخذتها، ولففتها في عمامتي ثم دفنتها. فبينما أنا أمشي إذ أنا بمناد ينادي هداك الله ان هذين حيان من الجن كان بينهما قتال فاستشهد الحية التي دفنتها وهو من الذين استعموا الوحي من رسول الله صلى الله عليه وسلم. وفيه أيضا أن فاطمة بنت النعمان النجارية قالت: قد كان لي تابع من الجن فكان إذا جاء اقتحم البيت الذي أنا فيه اقتحاما، فجاءني يوما فوقف على الجدار ولم يصنع كما كان يصنع، فقلت له، ما بالك لم تصنع ما كنت تصنع صنيعك قبل؟ فقال: انه قد بعث اليوم نبي يحرم الزنا. وروى البيهقي في دلائله عن الحسن أن عمار بن ياسر رضي الله عنه قال: قاتلت مع
__________
(1) رواه أحمد: 3125.(2/297)
رسول الله صلى الله عليه وسلم الجن والإنس فسئل عن قتال الجن، فقال: أرسلني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بئر أستقي منها، فرأيت الشيطان في صورته فصارعني فصرعته، ثم جعلت أدمي أنفه بفهر كان معي أو حجر. فقال صلى الله عليه وسلم لأصحابه إن عمارا لقي الشيطان عند البئر فقاتله، فلما رجعت سألني فأخبرته الأمر فكان أبو هريرة رضي الله تعالى عنه يقول: إن عمار بن ياسر أجاره الله من الشيطان على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم. وقد أشار إليه البخاري، فيما رواه، عن ابراهيم النخعي قال: «ذهب علقمة إلى الشأم، فلما دخل المسجد، قال: اللهم يسر لي جليسا صالحا فجلس إلى أبي الدرداء فقال أبو الدرداء: ممن أنت؟ قال: من أهل الكوفة. قال: أو ليس فيكم أو منكم صاحب السر الذي لا يعلمه غيره؟ يعني حذيفة، قلت: بلى. قال: أو ليس فيكم أو منكم الذي أجاره الله من الشيطان على لسان نبيه محمد صلى الله عليه وسلم؟ يعني عمارا، قلت: بلى. قال: أو ليس فيكم أو منكم صاحب السواك والوساد؟ قلت: بلى. قال: كيف كان عبد الله يقرأ {وَاللَّيْلِ إِذََا يَغْشى ََ، وَالنَّهََارِ إِذََا تَجَلََّى} (1)
قلت: والذكر والأنثى» وذكر الحديث (2). وروى أبو بكر في رباعياته، والقاضي أبو يعلى عن عبد الله بن حسين المصيصي، قال: دخلت طرسوس، فقيل لي: ههنا امرأة يقال لها نهوس رأت الجن الذين وفدوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتيتها فإذا هي امرأة مستلقية على قفاها فقلت: أرأيت أحدا من الجن الذين وفدوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت: نعم حدثني سمحج وسماه النبي صلى الله عليه وسلم عبد الله قال: قلت: يا رسول الله أين كان ربنا قبل خلق السموات والأرض؟ قال على حوت من نور يتلجلج في النور قالت: قال: تعني سمحج. وسمعته صلى الله عليه وسلم يقول: «ما من مريض يقرأ عنده سورة يس إلا مات ريان ودخل قبره ريان وحشر يوم القيام ريان».
وأغرب من هذا ما في أسد الغابة تبعا لأبي موسى باسنادهما عن مالك بن دينار عن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه قال: «كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم خارجا من جبال مكة، إذ أقبل شيخ يتوكأ على عكازه فقال النبي صلى الله عليه وسلم مشية جني ونغمته، قال: أجل فقال النبي صلى الله عليه وسلم: من أي الجن؟
قال أنا هامة بن الهيم أو ابن هيم بن لاقيس بن ابليس. فقال: لا أرى بينك وبينه إلا أبوين قال:
أجل. قال كم أتى عليك؟ قال أكلت الدنيا إلا أقلها، كنت ليالي قتل قابيل هابيل غلاما ابن أعوام، فكنت أتشوف على الآكام وأورش بين الأنام. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بئس العمل؟ فقال يا رسول الله دعني من العتب فإني ممن آمن بنوح وتبت على يديه وإني عاتبته في دعوته فبكى وأبكاني وقال: إني والله لمن النادمين وأعوذ بالله أن أكون من الجاهلين ولقيت هودا وآمنت به، ولقيت ابراهيم وكنت معه في النار إذ ألقي فيها، وكنت مع يوسف إذ ألقي في الجب، فسبقته إلى قعره ولقيت شعيبا وموسى، ولقيت عيسى بن مريم، فقال لي: إن لقيت محمدا فاقرئه مني السلام وقد بلغت رسالته، وآمنت بك فقال النبي صلى الله عليه وسلم: على عيسى وعليك السلام، ما حاجتك يا هامة قال: إن موسى علمني التوراة، وعيسى علمني الإنجيل، فعلمني القرآن. فعلمه». وفي رواية أنه صلى الله عليه وسلم علمه عشر سور من القرآن وقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم ينعه إلينا فلا نراه، والله أعلم، إلا حيا.
__________
(1) سورة الليل: الآية 21.
(2) رواه البخاري في فضائل الصحابة: 2730، والترمذي في المناقب: 3. والنسائي في الصلاة: 9.
وابن حنبل: 1945. 4514504494446.(2/298)
وفيه أيضا عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه، أنه قال ذات يوم لابن عباس:
حدثني بحديث تعجبني به، قال: حدثني أبو خزيم بن فاتك الأسدي أنه خرج يوما في الجاهلية في طلب إبل له قد ضلت فأصابها في ابرق العزاف. وسمي بذلك لأنه يسمع فيه عزيف الجن.
قال: فعقلتها وتوسدت ذراع بكر منها ثم قلت: أعوذ بعظيم هذا المكان. وفي رواية بكبير هذا الوادي وإذا بهاتف يهتف بي ويقول:
ويحك عذ بالله ذي الجلال ... منزل الحرام والحلال ... ووحد الله ولا تبال ... ما هول ذا الجني من الأهوال
فقلت:
يا أيها الداعي فما تخيل ... أرشد عندك أم تضليل
فقال:
هذا رسول الله ذو الخيرات ... جاء بياسين وحاميمات ... وسور بعد مفصلات ... يدعو إلى الجنة والنجاة ... يأمر بالصوم والصلاة ... ويزجر الناس عند الهنات
قال: فقلت: من أنت أيها الهاتف يرحمك الله؟ قال: أنا مالك بن مالك بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جن أهل نجد. قال: فقلت: لو كان لي من يكفيني إبلي هذه لأتيته حتى أؤمن به فقال: إن أردت الأسلام فأنا أكفيكها حتى أردها إلى أهلك سالمة إن شاء الله تعالى. قال:
فامتطيت راحلتي وقصدت المدينة فقدمتها في يوم جمعة فأتيت المسجد فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب فأنخت راحلتي بباب المسجد وقلت ألبث حتى يفرغ من خطبته، فإذا أبو ذر قد خرج فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أرسلني إليك وهو يقول لك: مرحبا بك قد بلغني إسلامك فادخل فصل مع الناس. قال: فتطهرت ودخلت فصليت. ثم دعاني. قال: ما فعل الشيخ الذي ضمن أن يرد إبلك إلى أهلك؟. أما إنه قد ردها إلى أهلك سالمة؟ فقلت: جزاه الله خيرا ورحمه الله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أجل رحمه الله، فأسلم وحسن إسلامه. وفي مسند الدارمي عن الشعبي، قال:
قال: عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه لقي رجل من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم رجلا من الجن فصارعه فصرعه الإنسي، فقال له الإنسي: إني أراك ضئيلا شخيتا، كأن ذراعيك ذراعا كلب فكذلك أنتم معشر الجن أم أنت من بينهم كذلك؟ قال: «لا والله إنني من بينهم لضليع ولكن علودني الثانية فإن صرعتني علمتك شيئا ينفعك. قال: نعم فعاوده فصرعه. فقال له: أتقرأ الله لا إله إلا هو الحي القيوم؟ قال: نعم. قال: فإنك لا تقرؤها في بيت إلا خرج منه الشيطان له حجج كحجج الحمار، ثم لا يدخله حتى يصبح» (1) قال الدارمي: الضئيل الدقيق. والشخيت المهزول، والضليع جيد الأضلاع. والحجج الريح. وقال أبو عبيدة الحجج الضراط وسيأتي في
__________
(1) رواه الدارمي في فضائل القرآن: 14.(2/299)
باب الغين المعجمة في لفظ الغول حديث أبي هريرة وحديث أبي أيوب الأنصاري رضي الله تعالى عنهما في ذلك إن شاء الله تعالى.
مسألة:
يصح انعقاد الجمعة بأربعين مكلفا سواء كانوا من الجن أو من الإنس أو منهما قاله القمولي. لكن نقل الشيخ أبو الحسن محمد بن الحسين الآبري في مناقب الشافعي رضي الله تعالى عنه التي ألفها عن الربيع أنه قال: سمعت الشافعي رضي الله تعالى عنه يقول: من زعم، من أهل العدالة، أنه يرى الجن، ردت شهادته وعزر، لمخالفته لقوله (1) تعالى {إِنَّهُ يَرََاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لََا تَرَوْنَهُمْ} إلا أن يكون الزاعم نبيا ونظير هذا قول الشيخ محيي الدين النووي رحمه الله تعالى في الفتاوى: من منع التفضيل بين الأنبياء يعزر لمخالفته القرآن. ويحمل قول الشافعي رحمه الله على من ادعى رؤيتهم على ما خلقوا عليه ويحمل كلام القمولي على ما إذا تصوروا في صورة بني آدم، كما تقدم قريبا.
واعلم أن المشهور أن جميع الجن من ذرية ابليس، وبذلك يستدل على أنه ليس من الملائكة لأن الملائكة لا يتناسلون، لأنهم ليس فيهم إناث. وقيل: الجن جنس، وابليس واحد منهم ولا شك أن الجن ذريته، بنص القرآن، ومن كفر من الجن يقال له شيطان. وفي الحديث: «لما أراد الله أن يخلق لأبليس نسلا وزوجة ألقى عليه الغضب، فطارت منه شظية من نار فخلق منها امرأته». ونقل ابن خلكان في تاريخه في ترجمة الشعبي واسمه عامر أنه قال: إني لقاعد يوما إذ أقبل حمال ومعه دن، فوضعه ثم جاءني فقال: أنت الشعبي؟ فقلت: نعم. قال: أخبرني هل لأبليس زوجة؟ فقلت: إن ذلك العرس ما شهدته! قال: ثم ذكرت قوله (2) تعالى: {أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيََاءَ مِنْ دُونِي} فقلت: إنه لا تكون ذرية إلا من زوجة، فقلت: نعم. فأخذ دنه وانطلق، قال: فرأيت أنه مجتاز بي وروى أن الله تعالى قال لأبليس: لا أخلق لآدم ذرية إلا ذرأت لك مثلها، فليس من ولد آدم أحد إلا وله شيطان قد قرن به، وقيل: إن الشياطين فيهم الذكور والإناث، فيتوالدون من ذلك، وأما ابليس فإن الله تعالى خلق له في فخذه اليمنى ذكرا وفي اليسرى فرجا فهو ينكح هذا بهذا فيخرج له كل يوم عشر بيضات، يخرج من كل بيضة سبعون شيطانا وشيطانة، وذكر مجاهد أن من ذرية إبليس لا قيس وولهان، وهو صاحب الطهارة والصلاة والهفاف. وهو صاحب الصحارى ومرة وبه يكنى وزلنبور، وهو صاحب الأسواق يزين اللغو والحلف الكاذب، ومدح السلعة، وبثر وهو صاحب المصائب، يزين خمش الوجوه ولطم الخدود ودوشق الجيوب، والأبيض وهو الذي يوسوس للأنبياء عليهم السلام، والأعور وهو صاحب الزنا ينفخ في احليل الرجل وعجز المرأة، وداسم وهو الذي إذا دخل الرجل بيته ولم يسلم ولم يذكر اسم الله تعالى دخل معه ووسوس له فألقى الشر بينه وبين أهله، فإن أكل ولم يذكر اسم الله أكل معه، فإذا دخل الرجل بيته ولم يسلم ولم يذكر اسم الله تعالى ورأى شيئا يكرهه وخاصم أهله فليقل داسم داسم أعوذ بالله منه، ومطوس وهو صاحب الأخبار يأتي بها فيلقيها في أفواه الناس، ولا يكون لها أصل ولا حقيقة، والاقنص وأمهم طرطبة، وقال النقاش: بل هي حاضنتهم
__________
(1) سورة الأعراف: الآية 27.
(2) سورة الكهف: الآية 50.(2/300)
ويقال: إنمه باض ثلاثين بيضة عشر في المغرب وعشر في المشرق وعشر في وسط الأرض وانه خرج من كل بيضة جنس من الشياطين كالغيلان والعقارب والقطارب والجان وأسماء أخرى مختلفة. ثم كلهم عدو لبني آدم لقوله (1) تعالى {أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيََاءَ مِنْ دُونِي} وهم لكم عدوّ إلا من آمن منهم قال النووي رحمه الله: ابليس كنيته أبو مرة واختلف العلماء في أنه هل هو من الملائكة من طائفة يقال لهم الجن؟ أم ليس من الملائكة وفي اسمه هل هو اسم أعجمي أم عربي؟ قال ابن عباس وابن مسعود وابن المسيب وقتادة وابن جرير والزجاج وابن الأنباري: كان ابليس من الملائكة من طائفة يقال لهم الجن وكان اسمه بالعبرانية عزازيل وبالعربية الحارث وكان من خزان الجنة وكان رئيس ملائكة سماء الدنيا وسلطانها وسلطان الأرض، وكان من أشد الملائكة اجتهادا وأكثرهم علما وكان يسوس ما بين السماء والأرض فرأى بذلك لنفسه شرفا عظيما وعظمة فذاك الذي دعاه إلى الكبر فعصى وكفر فمسخه الله شيطانا رجيما ملعونا نعوذ بالله من خذلانه ومقته ونسأله العافية والسلامة في الدين والدنيا والآخرة. ولذلك قيل: إذا كانت خطيئة الإنسان في كبر فلا ترجه، وإن كانت خطيئته في معصية فارجه. قالوا: وقوله تعالى: {كََانَ مِنَ الْجِنِّ} أي من طائفة من الملائكة، يقال لهم: الجن، وقال سعيد بن جبير والحسن البصري: لم يكن ابليس من الملائكة طرفة عين، وإنه لأصل الجن كما أن آدم أصل الإنس. وقال عبد الرحمن بن زيد وشهر ابن حوشب ما كان من الملائكة قط. والاستثناء منقطع زاد شهر بن حوشب، وإنما كان من الجن الذين ظفر بهم الملائكة فأسره بعضهم وذهب به إلى السماء. وقال أكثر أهل اللغة والتفسير: إنما سمي ابليس لأنه أبلس من رحمة الله. والصحيح كما قاله الإمام النووي وغيره من الأئمة الأعلام أنه من الملائكة وأن اسمه أعجمي وأن الاستثناء متصل لأنه لم ينقل أن غيرهم أمر بالسجود والأصل في الاستثناء أن يكون من جنس المستثنى منه، وقال القاضي عياض: الأكثر على أنه أبو الجن كما أن آدم أبو البشر. والاستثناء من غير الجنس شائع في كلام العرب. قال الله تعالى:
{مََا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبََاعَ الظَّنِّ} (2) والصحيح المختار ما سبق عن النووي ومن وافقه وعن محمد بن كعب القرظي أنه قال: الجن مؤمنون والشياطين كفار وأصلهم واحد. وسئل وهب بن منبه عن الجن ما هم وهل يأكلون ويشربون ويتناكحون؟ فقال: هم أجناس فأما الصميم الخالص من الجن فإنهم ريح لا يأكلون ولا يشربون ولا ينامون في الدنيا ولا يتوالدون. ومنهم أجناس يأكلون ويشربون ويتناكحون وهم السعالي والغيلان، والقطارب وأشباه ذلك وستأتي في أبوابها إن شاء الله.
فائدة:
قال القرافي: اتفق الناس على تكفير ابليس بقصته مع آدم عليه الصلاة والسلام، وليس مدرك الكفر فيها الامتناع من السجود وإلا لكان كل من أمر بالسجود فامتنع منه كافرا، وليس كذلك ولا كان كفره لكونه حسد آدم على منزلته من الله تعالى، وإلا لكان كل حاسد كافرا، وليس كذلك، ولا كان كفره لعصيانه وفسوقه وإلا لكان كل عاص وفاسق كافرا. وقد أشكل ذلك على جماعة من متأخري الفقهاء فضلا عن غيرهم، وينبغي أن يعلم أنه إنما كفر لنسبته
__________
(1) سورة الكهف: الآية 50.
(2) سورة النساء: الآية 157.(2/301)
الحق جل جلاله إلى الجور، والتصرف الذي ليس بمرضي، وظهر ذلك فحوى قوله: {أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نََارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} * (1) ومراده على ما قاله الأئمة المحققون، من المفسرين وغيرهم، أن الزام العظيم الجليل بالسجود للحقير من الجور والظلم فهذا وجه كفره لعنه الله. وقد أجمع المسلمون قاطبة على أن من نسب ذلك للحق تعالى كان كافرا. واختلف هل كان قبل ابليس كافر أو لا فقيل: لا وإنه أول من كفر. وقيل: كان قبله قوم كفار وهم الجن الذين كانوا في الأرض إنتهى وقد اختلف أيضا في كفر ابليس، هل كان جهلا أو عنادا؟ على قولين لأهل السنة والجماعة ولا خلاف، أنه كان عالما بالله تعالى قبل كفره فمن قال: انه كفر جهلا، قال: انه سلب العلم الذي كان عنده عند كفره ومن قال: إنه كفر عنادا قال: إنه كفر ومعه علمه. قال ابن عطية:
والكفر مع بقاء العلم مستبعد إلا أنه عندي جائز لا يستحيل مع خذلان الله تعالى لمن يشاء وروى البيهقي في شرح الأسماء الحسنى في آخر باب قوله تعالى: {مََا كََانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلََّا أَنْ يَشََاءَ اللََّهُ} (2)
عن عمر بن ذر قال: سمعت عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى يقول لو أراد الله أن لا يعصى لم يخلق ابليس. وقد بين ذلك في آية من كتابه وفصلها، علمها من علمها، وجهلها من جهلها، وهي قوله (3) تعالى: {مََا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفََاتِنِينَ إِلََّا مَنْ هُوَ صََالِ الْجَحِيمِ} ثم روى من طريق عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأبي بكر: يا أبا بكر لو أراد الله أن لا يعصى ما خلق ابليس إنتهى وقال رجل للحسن: يا أبا سعيد أينام ابليس؟ فقال: لو نام لوجدنا راحة فلا خلاص للمؤمن منه إلا بتقوى الله تعالى. وقال في الإحياء قبيل بيان دواء الصبر: من غفل عن ذكر الله تعالى، ولو في لحظة فليس له في تلك اللحظة قرين إلا الشيطان. قال تعالى: {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمََنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطََاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ} (4) وقال عليه الصلاة والسلام: «إن الله تعالى يبغض الشاب الفارغ» لأن الشاب إذا لم يشغل ظاهره بمباح يستعين به على دينه عشش الشيطان في قلبه وباض وفرخ، ثم تزدوج أفراخه أيضا ويبيض ويفرخ مرة أخرى وهكذا يتوالد نسل الشيطان توالدا أسرع من توالد سائر الحيوانات لأن طبعه من النار والنار، إذا وجدت الحلفاء اليابسة، كثر توالدها فلا تزال تتوالد النار من النار ولا تنقطع البتة، فالشهوة في نفس الشاب للشيطان كالحلفاء اليابسة للنار ولذلك قال الحسين الحلاج: هي نفسك إن لم تشغلها بالحق شغلتك بالباطل.
فائدة:
ذكر بعض العلماء العاملين أن الله تعالى افترض على خلقه فريضتين في آية واحدة، والخلق عنها غافلون فقيل له: وما هي؟ فقال: قال الجليل جل جلاله {إِنَّ الشَّيْطََانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا} (5) فهذا أمر منه سبحانه لنا بأن نتخذه عدوا فقيل له: كيف نتخذه عدوا ونتخلص منه؟ فقال: اعلم ان الله تعالى جعل لكل مؤمن سبعة حصون. فالحصن الأول من ذهب، وهو معرفة الله تعالى، وحوله حصن من فضة وهو الايمان به تعالى وحوله حصن من حديد وهو التوكل عليه جل وعلا، وحوله حصن من حجارة، وهو الشكر والرضا عنه عز شأنه، وحوله حصن من
__________
(1) سورة ص: الآية 56.
(2) سورة الأنعام: الآية 111.
(3) سورة الصافات: الآية 163.
(4) سورة الزخرف: الآية 36.
(5) سورة فاطر: الآية 6.(2/302)
فخار وهو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والقيام بهما، وحوله حصن من زمرذ، وهو الصدق والاخلاص له تعالى، وحوله حصن من لؤلؤ رطب، وهو أدب النفس. فالمؤمن من داخل هذه الحصون، وابليس من ورائها ينبح كما ينبح الكلب، والمؤمن لا يبالي به لأنه قد تحصن بهذه الحصون. فينبغي للمؤمن أن لا يترك أدب النفس في جميع أحواله ويتهاون به في كل ما يأتي، فإن من ترك أدب النفس وتهاون به، فإنه يأتيه الخذلان لتركه حسن الأدب مع الله تعالى، ولا يزال ابليس يعالجه، ويطمع فيه ويأتيه حتى يأخذ منه جميع الحصون، ويرده إلى الكفر نعوذ بالله من ذلك. انتهى وما ذكره من الفريضتين في الآية قد يشكل، فيقال: ليس فيها إلا فريضة واحدة، وهي قوله تعالى: {فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا} (1) إذ الأمر يقتضي الوجوب عند عدم قرينة تدل على خلافه.
وقد سألت شيخنا الإمام اليافعي رحمه الله عن الفريضة الثانية، أين هي من الآية؟ فأجاب قدّس الله روحه، بأن فيها فريضة علمية وفريضة عملية، فالأولى العلم بكونه عدوّا والثانية العمل في اتخاذ العداوة له انتهى وأما ما تقدم من ذكر الحصون فهو في نهاية الحسن والتحقيق، لكن قد يستولي الشيطان على بعض الحصون المذكورة دون بعض فيرد العبد إلى الفسق دون الكفر، فيستحق النار من غير تخليد، وقد لا يرده إلى الفسق، ولكن يردّه إلى ضعف الايمان، فلا يستحق النار ولكن يستحق النزول عن رتبة أهل الايمان الكامل، وكل هذا التفاوت بسبب تفاوت الحصون المذكورة، إذ ليس أخذ حصن المعرفة والإيمان كأخذ بقية الحصون المذكورة، وبقية الحصون تتفاوت أيضا، فليس أخذ حصن الصدق والإخلاص، كأخذ حصن الأمر والنهي وكذلك سائر الحصون، والكلام في ذلك يطول ولكن مهما بقي حصن الايمان وحصن التوكل كاملين للعبد لم يقدر عليه الشيطان، لقوله تعالى: {إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطََانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى ََ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} (2) وهؤلاء المتصفون بالعبودية الكاملة لقوله تعالى: {إِنَّ عِبََادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطََانٌ} * (3) وهم المؤمنون حقا لقوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذََا ذُكِرَ اللََّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذََا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيََاتُهُ زََادَتْهُمْ إِيمََاناً وَعَلى ََ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} (4) ثم قال في آخر وصفهم: {أُولََئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا} * (5) وقد يكون أخذ حصن واحد مؤدّيا إلى الكفر، وموجبا للتخليد في النار، كحصن الإيمان بالله. ونعوذ بالله من ذلك، ولكن لا يقدر على أخذ حصن الايمان، حتى يأخذ الحصون التي حوله نسأل الله الكريم الهدى والسلامة من الزيغ والردى. واعلم أن أوّل الواجبات المعرفة، وقال الاستاذ: النظر وقال ابن فورك وإمام الحرمين: القصد إلى النظر وقد بسطنا الكلام على ذلك، في كتابنا الجوهر الفريد في علم التوحيد، وما قاله في ذلك علماء الشريعة ومشايخ الصوفية رحمهم الله تعالى. فليراجع ذلك في الجزء السابع من الكتاب المذكور، وبالله التوفيق. واختلفوا هل بعث الله تعالى من الجن إليهم رسلا قبل بعثه نبينا محمد صلى الله عليه وسلم؟ فقال الضحاك: كان منهم رسل لظاهر قوله تعالى: {يََا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ} (6) وقال المحققون: لم يرسل إليهم منهم رسول ولم يكن ذلك في الجن قط وإنما الرسل من الإنس خاصة، وهذا هو الصحيح
__________
(1) سورة فاطر: الآية 6.
(2) سورة النحل: الآية 99.
(3) سورة الإسراء: الآية 65.
(4) سورة الأنفال: الآية 2.
(5) سورة الأنفال: الآية 4.
(6) سورة الأنعام: الآية 30.(2/303)
المشهور. وأما الجن ففيهم النذر. وأما الآية فمعناها من أحد الفريقين، كقوله تعالى: {يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجََانُ} (1) وإنما يخرجان من الملح دون العذب. وقال منذر بن سعيد البلوطي: قال ابن مسعود رضي الله تعالى عنه: إن الذين لقوا النبي صلى الله عليه وسلم من الجن، كانوا رسلا إلى قومهم، وقال مجاهد: النذر من الجن، والرسل من الإنس ولا شك أن الجن مكلفون في الأمم الماضية كما هم مكلفون في هذه الأمة لقوله تعالى: {أُولََئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كََانُوا خََاسِرِينَ} (2) وقوله تعالى: {وَمََا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلََّا لِيَعْبُدُونِ} (3) وقيل المراد: مؤمنوا الفريقين. فما خلق أهل الطاعة منهم إلا لعبادته، وما خلق الأشقياء إلا للشقاوة، ولا مانع من اطلاق العام وإرادة الخاص. وقيل: معناه إلا لآمرهم بعبادتي وأدعوهم إليها وقيل: إلا ليوحدون، فإن قيل: لم اقتصر على الفريقين ولم يذكر الملائكة؟ فالجواب أن ذلك لكثرة من كفر من الفريقين، بخلاف الملائكة فإن الله قد عصمهم كما تقدم، فإن قيل: لم قدّم الجن على الإنس في هذه الآية؟ فالجواب أن لفظ الإنس أخف لمكان النون الخفيفة والسين المهموسة، فكان الأثقل أولى بأوّل الكلام من الأخف لنشاط المتكلم وراحته.
فرع:
كان الشيخ عماد الدين بن يونس رحمه الله، يجعل من موانع النكاح اختلاف الجنس، ويقول: لا يجوز للإنسي أن يتزوج جنية لقوله (4) تعالى: {وَاللََّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوََاجاً} وقال (5) تعالى: {وَمِنْ آيََاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوََاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهََا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً} فالمودة الجماع والرحمة الولد. ونص على منعه جماعة من أئمة الحنابلة. وفي الفتاوى السراجية: لا يجوز ذلك لاختلاف الجنس. وفي القنية سئل الحسن البصري عنه؟ فقال:
يجوز بحضرة شاهدين. وفي مسائل ابن حرب، عن الحسن وقتادة أنهما كرها ذلك. ثم روي بسند فيه ابن لهيعة، أن النبي صلى الله عليه وسلم «نهى عن نكاح الجن». وعن زيد العمى، أنه كان يقول: اللهم ارزقني جنية أتزوج بها تصاحبني حيثما كنت. وروى ابن عدي في ترجمة نعيم بن سالم بن قنبر مولى علي بن أبي طالب رضي الله عنه، عن الطحاوي قال: حدثنا يونس بن عبد الأعلى قال: قدم علينا نعيم بن سالم مصر فسمعته يقول: تزوجت امرأة من الجن. فلم أرجع إليه. وروى في ترجمة سعيد بن بشير، عن قتادة، عن النضر بن أنس، عن بشير بن نهيك، عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أحد أبوي بلقيس كان جنيا». وقال الشيخ نجم الدين القمولي: وفي المنع من التزوج نظر، لأن التكليف يعم الفريقين، قال: وقد رأيت شيخا كبيرا صالحا أخبرني أنه تزوج جنية. انتهى قلت: وقد رأيت أنا رجلا من أهل القرآن والعلم، أخبرني أنه تزوج أربعا من الجن، واحدة بعد واحدة. لكن يبقى النظر في حكم طلاقها، ولعانها، والإيلاء منها، وعدتها، ونفقتها، وكسوتها، والجمع بينها وبين أربع سواها، وما يتعلق بذلك.
وكل هذا فيه نظر لا يخفى. قال شيخ الإسلام شمس الدين الذهبي رحمه الله تعالى: رأيت بخط الشيخ فتح الدين اليعمري، وحدثني عنه عثمان المقاتلي قال: سمعت الشيخ أبا الفتح القشيري
__________
(1) سورة الرحمن: الآية 22.
(2) سورة الأحقاف: الآية 18.
(3) سورة الذاريات: الآية 56.
(4) سورة النمل: الآية 72.
(5) سوة الروم: الآية 21.(2/304)
يقول: سمعت الشيخ عز الدين بن عبد السلام يقول: وقد سئل عن ابن عربي فقال: شيخ سوء كذاب. فقيل له: وكذاب أيضا؟ قال: نعم. تذاكرنا يوما نكاح الجن، فقال: الجن روح لطيف والإنس جسم كثيف فكيف يجتمعان؟ ثم غاب عنا مدة وجاء في رأسه شجة، فقيل له في ذلك، فقال: تزوجت امرأة من الجن فحصل بيني وبينها شيء فشجتني هذه الشجة! قال الشيخ الذهبي بعد ذلك: وما أظن ابن عربي تعمد هذه الكذبة وإنما هي من خرافات الرياضة.
فرع:
روى أبو عبيدة في كتاب الأموال والبيهقي عن الزهري عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه «نهى عن ذبائح الجن». قال: وذبائح الجن أن يشتري الرجل الدار، أو يستخرج العين أو ما أشبه ذلك، فيذبح لها ذبيحة للطيرة. وكانوا في الجاهلية يقولون إذا فعل ذلك: لم يضر أهلها الجن فأبطل صلى الله عليه وسلم ذلك ونهى عنه.
تتمة:
في كتاب مناقب الشيخ عبد القادر الكيلاني (1) قدس الله سره، أنه جاءه بعض أهل بغداد، وذكر أن له بنتا اختطفت من سطح داره، وهي بكر. فقال له الشيخ: اذهب هذه الليلة إلى خراب الكرخ، واجلس عند التل الخامس وخط عليك دائرة في الأرض، وقل وأنت تخطها:
بسم الله على نية عبد القادر، فإذا كانت فحمة العشاء، مرت بك طوائف من الجن، على صور شتى، فلا يروعك منظرهم، فإذا كان السحر مر بك ملكهم في محفل منهم، فيسألك عن حاجتك فقل: قد بعثني إليك عبد القادر واذكر له شأن ابنتك. قال: فذهبت وفعلت ما أمرني به الشيخ فمر بي صور مزعجة المنظر ولم يقدر أحد منهم على الدنو من الدائرة التي أنا فيها، وما زالوا يمرون زمرا زمرا إلى أن جاء ملكهم، راكبا فرسا، وبين يديه أمم منهم، فوقف بازاء الدائرة وقال:
يا انسي ما حاجتك؟ قلت: قد بعثني إليك الشيخ عبد القادر، فنزل عن فرسه وقبل الأرض وجلس خارج الدائرة، وجلس من معه ثم قال لي: ما شأنك؟ فذكرت له قصة ابنتي، فقال لمن حوله: علي بمن فعل هذا فأتى بمارد ومعه ابنتي. فقيل له: إن هذا مارد من مردة الصين، فقال له:
ما حملك على أن اختطفت من تحت ركاب القطب؟ فقال: إنها وقعت في نفسي، فأمر به فضربت عنقه، وأعطاني ابنتي فقلت: ما رأيت كالليلة في امتثالك أمر الشيخ عبد القادر! قال: نعم. إنه لينظر من داره إلى مردة الجن وهم بأقصى الأرض فينفرون من هيبته وأن الله تعالى إذا أقام قطبا مكنه من الجن والإنس. وروي عن أبي القاسم الجنيد أنه قال: سمعت سريا السقطي رحمه الله، يقول: كنت يوما مارا في البادية، فآواني الليل إلى جبل لا أنيس فيه، فبينا أنا في جوف الليل ناداني مناد فقال: لا تدور القلوب في الغيوب حتى تذوب النفوس من مخافة فوت المحبوب.
فعجبت وقلت: أجني ينادي أم إنسي؟ فقال: بل جني مؤمن بالله سبحانه، ومع إخواني، فقلت:
وهل عندهم ما عندك؟ قال: نعم وزيادة. قال فناداني الثاني منهم، فقال: لا تذهب من البدن الفترة إلا بدوام الفكرة. قال: فقلت في نفسي: ما أنفع كلام هؤلاء؟ فناداني الثالث فقال: من أنس به في الظلام نشرت له غدا الأعلام. قال فصعقت. فلما أفقت إذا أنا بنرجسة على صدري
__________
(1) الكيلاني: عبد القادر بن موسى بن عبد الله بن جنكي دوست الحسني، مؤسس الطريقة القادرية زاهد متصوف. توفي سنة 561هـ.(2/305)
فشممتها فذهب عني ما كان بي من الوحشة، واعتراني الأنس. فقلت: وصية رحمكم الله، فقالوا: أبى الله أن يحيا بذكره ويأنس به إلا قلوب المتقين، فمن طمع في غير ذلك فقد طمع في غير مطمع، وفقنا الله وإياك. ثم ودعوني ومضوا وقد أتى علي حين، وأنا أرى برد كلامهم في خاطري. وفي كفاية المعتقد ونكاية المنتقد، لشيخنا اليافعي عن السري أيضا أنه قال: كنت أطلب رجلا صديقا مدة من الأوقات، فمررت يوما في بعض الجبال، فإذا أنا بجماعة زمنى وعميان ومرضى، فسألت عن حالهم فقالوا: ههنا رجل يخرج في السنة مرة فيدعو لهم فيجدون الشفاء، قال: فمكثت حتى خرج ودعا لهم فوجدوا الشفاء فقفوت أثره فأدركته، وتعلقت به، وقلت له: بي علة باطنة فما دواؤها؟ فقال يا سري خل عني. فإنه غيور وإياك أن يراك تأنس إلى غيره، فتسقط من عينه، ثم تركني وذهب. وفي كتاب التوحيد للإمام محمد بن أبي بكر الرازي، عن الجنيد أنه قال: كنت أسمع السري يقول يبلغ العبد من الهيبة والانس إلى حد لو ضرب وجهه بالسيف لم يشعر به. قال: وكان في نفسي منه شيء حتى بان لي أن الأمر كذلك. انتهى قلت: وذلك لأن الهيبة والأنس فوق القبض والبسط، والقبض والبسط فوق الخوف والرجاء، فالهيبة مقتضاها الغيبة والدهش، فكل هائب غائب حتى لو قطع قطعا لم يحضر من غيبته، إلا بزوال الهيبة عنه. والأنس مقتضاه الصحو والإفاقة، ثم إنهم يتفاوتون في الهيبة والأنس، فأدنى مرتبة في الأنس أنه لو ألقي في لظى ما تكدر أنسه، لأنه لا يشهد إلا هو، ولا يعرف إلا هو، ألا ترى إلى قول السري رحمه الله: يبلغ العبد من الهيبة والأنس إلى حد لو ضرب وجهه بالسيف لم يشعر به! وذلك لأن الأنس يتولد من السرور بالله، ومن صح له الأنس بالله، استوحش مما سواه، فهو باق بالله فان عن السوى لم ير غيره. ولم يشهد لسواه فعلا فلم ير في الكونين إلا إياه فلا يقع نظره إلا عليه، ولا بصره إلا على فعله، وخلقه لأن العارف عرف الصنعة بالصانع، ولم يعرف الصانع بالصنعة، فلم ير إلا فعله وخلقه. ولذلك قال الصديق الأكبر أبو بكر رضي الله تعالى عنه: ما رأيت شيئا إلا ورأيت الله قبله. وهذا هو المقام الشريف من التوحيد. واعلم أن العبد لا يذوق حلاوة الأنس بالله تعالى، إلا إذا قطع العلائق، ورفض الخلائق، وغاص في الدقائق، مطلعا على الحقائق. ولا ينبئك مثل خبير. واعلم أن حالتي الهيبة والأنس، وإن جلتا، فأهل الحقيقة يعدونهما نقصا لتضمنهما تغير العبد، فإن أهل التوحيد المتمكنين سمت أحوالهم عن التغير، فلهم كمال في المحو، ووجود في العين ولا هيبة لهم ولا أنس ولا علم ولا حس، وارتقاؤهم عن هذا المقام بالجود والفيض الإلهي. فسبحان من خص برحمته من شاء من عباده.
وقال السري رحمه الله: صحبت رجلا يقال له الوالد سنة لم أسأله عن مسألة، فقلت له يوما:
ما المعرفة التي ليس فوقها معرفة؟ فقال: أن تجد الله أقرب إليك من كل شيء، وأن ينمحي عن سرائرك وظواهرك كل شيء غيره. فقلت له: بأي شيء أصل إلى هذا؟ فقال: بزهدك فيك ورغبتك فيه سبحانه وتعالى. قال: فكان كلامه سبب انتفاعي بهذا الأمر. توفي السري لست خلون من رمضان، سنة ثلاث وخمسين ومائتين. وقيل غير ذلك والله أعلم بالصواب.
الخواص:
لا تدخل الجن بيتا فيه الأترج (1). روينا عن الإمام أبي الحسن، علي بن الحسن،
__________
(1) الأترج: ضرب من الحمضيات.(2/306)
بن الحسن، بن محمد الخلعي، نسبة إلى بيع الخلع، وهو من أصحاب الشافعي، وقبره معروف بالقرافة، والدعاء عنده مستجاب. وكان يقال له قاضي الجن أنه أخبر أنهم كانوا يأتون إليه، ويقرؤون عليه، وأنهم أبطؤا عنه جمعة ثم أتوه فسألهم عن ذلك فقالوا: كان في بيتك شيء من الأترج وإنا لا ندخل بيتا هو فيه. قال الحافظ أبو طاهر السلفي: وكان الخلعي إذا سمع عليه الحديث يختم مجلسه بهذا الدعاء: اللهم ما مننت به فتممه، وما أنعمت به فلا تسلبه، وما سترته فلا تهتكه، وما علمته فاغفره. توفي في شوال سنة ثمان وأربعين وأربعمائة. قلت: ولهذا ضرب النبي صلى الله عليه وسلم المثل للمؤمن الذي يقرأ القرآن بالأترجة، لأن الشيطان يهرب عن قلب المؤمن القارىء للقرآن، كما يهرب عن مكان فيه الأترج، فناسب ضرب المثل به، بخلاف سائر الفواكه. وفي المستدرك في تراجم الصحابة من حديث أحمد بن حنبل عن عبد القدوس بن بكير بإسناده إلى مسلم بن صبيح، قال (1): دخلت على عائشة رضي الله تعالى عنها وعندها رجل مكفوف، وهي تقطع له الأترج وتطعمه إياه بالعسل، فقالت: إن هذا ابن أم مكتوم الذي عاتب الله فيه نبيه صلى الله عليه وسلم، مازال هذا له من آل محمد. قلت: وفي تخصيصه بالأترج والعسل ما لا يخفى على متأمل.
وفي معجم الطبراني، عن حبيب بن عبد الله عن أبي كبشة عن أبيه عن جده، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعجبه النظر إلى الحمام الأحمر والأترج. وسيأتي في باب الفاء حديث سليمان بن موسى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن الجن لا يدخلون دارا فيها فرس عتيق.
التعبير:
الجن في المنام دهاة الناس أصحاب، مكر وحيل، لما كانوا يصنعون لسليمان عليه الصلاة والسلام من المحاريب والتماثيل، فمن عالج أحدا من الجن في المنام، فإنه ينازع قوما أصحاب مكر وحيل، ومن رأى أنه يعلم الجن القرآن فإنه ينال رياسة وولاية لقوله (2) تعالى: {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ} والجن في الرؤيا بمنزلة اللصوص، فمن دخلت الجن داره فليحذر اللصوص، والجنون في المنام على وجوه: فمن رأى أنه قد جن فإنه ينال غنى كما قال الشاعر:
جن له الدهر فنال الغنى ... يا ويحه إن عقل الدهر
وقيل: الجنون دال على أكل الربا لقوله تعالى: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبََا لََا يَقُومُونَ إِلََّا كَمََا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطََانُ مِنَ الْمَسِّ} (3) وربما دل على دخول الجنة لقوله عليه الصلاة والسلام:
«اطلعت على الجنة فرأيت أكثر أهلها البله والمجانين» فانسب الجنون إلى الرائي بما يليق به، وإن رأت امرأة أنها قد جنت وعولجت بالرقى، فإنها تحمل بولد يكون له دهاء فيكون الجنون جنينا تحمل به والله تعالى أعلم.
جنان البيوت:
بجيم مكسورة ونون مفتوحة مشددة، وهي الحيات جمع جان وهي الحية الصغيرة وقيل الدقيقة الصغيرة، وقيل الدقيقة البيضاء. روى البخاري ومسلم وأبو داود عن أبي لبابة رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم «نهى عن قتل الجنان التي في البيوت إلا الابتر وذا الطفيتين،
__________
(1) رواه النسائي في الطلاق: 73.
(2) سورة الجن: الآية 1.
(3) سورة البقرة: الآية 275.(2/307)
فإنهما اللذان يخطفان البصر ويطرحان أولاد النساء» (1). والطفيتان بضم الطاء الخطان الأبيضان على ظهر الحية والأبتر قصير الذنب. وقال النضر بن شميل: هو صنف من الحيات أزرق مقطوع الذنب لا تنظر إليه حامل إلا ألقت ما في بطنها وفي كتاب الحشرات قال ابن خالويه: سمعت ابن عرفة يقول: الجنان حيات إذا مشت رفعت رأسها عند المشي وأنشد يقول (2):
رفعن بالليل إذا ما أسدفا ... أعناق جنان وهاما رجفا
الجندبادستر:
حيوان كهيئة الكلب ليس ككلب الماء ويسمي القندر، وسيأتي في باب القاف، ولا يوجد إلا ببلاد القفجاق وما يليها، ويسمى السمور أيضا، وهو على هيئة الثعلب، أحمر اللون ليس له يدان، وله رجلان وذنب طويل ورأس كرأس الإنسان ووجه مدوّر وهو يمسي متكفيا على صدره كأنه يمشي على أربع، وله أربع خصيات: اثنتان ظاهرتان، واثنتان باطنتان.
ومن شأنه أنه إذا رأى الصيادين له لأخذ الجندبادستر وهو الموجود في خصيتيه البارزتين، هرب فإذا جدوا في طلبه قطعهما بفيه، ورمى بهما إليهم إذ لا حاجة لهم إلا بهما. فإذا لم يبصرهما الصيادون وداموا في طلبه استلقى على ظهره حتى يريهم الدم فيعلمون أنه قطعهما فينصرفون عنه وهو إذا قطع الظاهرتين أبرز الباطنتين عوضا عنهما. وفي باطن الخصية شبه الدم أو العمل زهم الرائحة، سريع التفرك إذا جف. وهذا الحيوان يهرب إلى الماء ويمكث فيه زمانا حابسا نفسه، ثم يخرج وهو حيوان يصلح أن يحيا في الماء وخارج الماء، وأكثر أوقاته في الماء ويغتذي فيه بالسمك والسرطان، وخصاه تنفع من نهش الهوام وتصلح لأشياء كثيرة، وهو دواء محمود يسخن الأعضاء الباردة ويجفف الرطبة، وليس له مضرة أصلا في شيء من الأعضاء وله خاصية في جميع العلل الباردة الرطبة التي تحدث في الرئة، وفي الدماغ، وينفع من الصمم البارد، ولا شيء أنفع للريح في الأذن منه. وينفع من لدغ العقرب إذا طلي به موضعها، وإذا طلي به الرأس مدرفا (3) بأحد الأدهان نفع المصروعين، وينفع من الفالج واسترخاء الأعضاء والنقرس البارد منفعة عظيمة وإذا شرب كان ترياقا للسموم الباردة كلها، حيوانية ونباتية، لا سيما الأفيون وهو يلطف الأخلاط، ويذهب البلغم حيث كان، وينفع الخفقان المتولد من أسباب باردة، وجلده غليظ الشعر، يصلح لبسه للمشايخ والمبرودين، ولحمه نافع للمفلوجين وأصحاب الرطوبات، وإذا شرب الإنسان من الجندبادستر الأسود وزن درهم هلك بعد يوم.
الجنين:
هو ما يوجد في بطن البهيمة بعد ذبحها، فإن وجد ميتا بعد ذبحها فهو حلال بإجماع الصحابة، كما نقله الماوردي في الحاوي، وبه قال مالك والأوزاعي والثوري، وأبو سيف، ومحمد، واسحق والإمام أحمد، وتفرد أبو حنيفة بتحريم أكله محتجا بقوله (4) تعالى:
__________
(1) رواه البخاري في بدء الخلق: 15، والمغازي: 12. ومسلم في السلام: 131، 134، 136. ورواه أبو داود في الأدب: 163، والنسائي في الحج: 87. والموطأ في الاستئذان: 3231. ورواه أحمد: 2، 146، 4303، 836.
(2) الحيوان للجاحظ: 6/ 173ونسبه للخطفي. وفيه: «يرفعن بالليل».
(3) مدرف: ممزوج.
(4) سورة المائدة: الآية 3.(2/308)
{حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ} وبقوله صلى الله عليه وسلم: «أحلت لنا ميتتان ودمان: السمك والجراد والكبد والطحال» (1). وهذه ميتة ثالثة لم تذكر. ودليل الجمهور أحلت لكم بهيمة الأنعام قال ابن عباس وابن عمر رضي الله تعالى عنهم: بهيمة الأنعام أجنتها توجد ميتة في بطن الأم يحل أكلها بذكاة الأمهات. وهو من أحكام هذه السورة وفيه بعد لأن الله تعالى قال: {إِلََّا مََا يُتْلى ََ عَلَيْكُمْ} * (2)
وليس في الأجنة ما يستثنى وقد تقدم ذلك في باب الباء الموحدة. وروي عن أبي هريرة رضي الله عنه، أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ذكاة الجنين ذكاة أمه». فجعل إحدى الذكاتين نائبة عن الأخرى، وقائمة مقامها. فإن قيل: إنما أراد التشبيه دون النيابة، فيكون المعنى ذكاة الجنين كذكاة أمه، لأنه قدم الجنين على الأم فصار تشبيها بالأم، ولو أراد النيابة لقدم الأم على الجنين إنما يطلق عليه ما دام مستجنا في بطن أمه، فأما إذا انفصل، فإن الاسم يزول عنه ويسمى ولدا قال الله تعالى: {وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهََاتِكُمْ} (3) وهو في بطن الأم لا يقدر عليه، فوجب حمله على النيابة دون التشبيه. الثاني أنه لو أراد التشبيه دون النيابة، لساوى الأم غيرها، ولم يكن لخصوصية التشبيه بالأم فائدة. الثالث أنه لو أراد التشبيه لنصب ذكاة الأم بحذف كاف التشبيه والروايتان إنما هما برفع ذكاة أمه فثبت أنه أراد النيابة دون التشبيه، فإن قيل: فقد روي ذكاة أمه بالنصب ومعناها كذكاة أمه، فالجواب أن هذه الرواية غير صحيحة ولو سلمت كانت محمولة على نصبها بحذف الياء الموحدة دون الكاف. ويكون معناه ذكاة الجنين بذكاة أمه، ولو احتمل الأمرين لكانتا مستعملتين فتستعمل الرواية المرفوعة في النيابة، إذا خرج ميتا، والرواية المنصوبة في التشبيه إذا خرج حيا فيكون أولى من استعمال إحدى الروايتين وترك الأخرى. ويدل عليه أيضا نص لا يحتمل التأويل، وهو ما رواه أبو سعيد الخدري قال: قلت: يا رسول الله إنا ننحر الناقة ونذبح البقرة والشاة وفي بطونها الجنين أنلقيه أم نأكله؟ فقال عليه الصلاة والسلام: «كلوه إن شئتم فإن ذكاة الجنين ذكاة أمه» (4). واستدل الشيخ أبو محمد كما قال الرافعي بأنه لو لم يحل الجنين بذكاة الأم، لما جاز ذبح الأم مع ظهور الحمل. كما لا تقتل الحامل قصاصا ولا حدا. فألزم عليه ذبح رمكة في بطنها بغلة، فمنع ذبحها. والرمكة أنثى الخيل، كما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى وهي مأكولة، والبغل لا يؤكل، إذا ثبت هذا فاعلم أن للجنين ثلاثة أحوال ذكرها الماوردي: أحدها أن يكون كاملا كما سبق، ثانيها أن يكون علقة فهذا غير مأكول، لأن العلقة دم، ثالثها أن يكون مضغة، قد انعقد لحمه ولم تبن صورته، ولم تتشكل أعضاؤه، ففي إباحة أكله وجهان: من اختلاف قوليه في وجوب الغرة كونها أم ولد، قال الماوردي، وقال بعض أصحابنا: إذا نفخ فيه الروح لم يؤكل، وإلا أكل، وهذا مما لا سبيل إلى إدراكه ولو خرج الجنين وبه حياة مستقرة، اشترط ذبحه أو غير مستقرة حل بغير ذكاة. ولو خرج رأسه ثم ذكيت الأم قال القاضي والبغوي:
__________
(1) رواه ابن ماجه في الأطعمة: 31، وابن حنبل: 972.
(2) سورة المائدة: الآية 1.
(3) سورة النجم: الآية 32.
(4) رواه أبو داود في الأضاحي: 18. والترمذي في الصيد: 10. وابن ماجه في الذبائح: 15. ورواه الدارمي في الأضاحي: 18، وابن حنبل: 313.(2/309)
لم يحل إلا بذكاة لأنه مقدور عليه. وقال القفال: يحل لأن خروج بعض الولد كعدم خروجه في العدة وغيرها، قال في الروضة قول القفال أصح. والله أعلم. وذكر ابن خلكان في تاريخه ان الامام صائن الدين أبا بكر القرطبي (1) كان كثيرا ما ينشد هذين البيتين متمثلا:
جرى قلم القضاء بما يكون ... فسيان التحرك والسكون ... جنون منك أن تسعى لرزق ... ويرزق في غشاوته الجنين
هما لأبي الخير الكاتب الواسطي رحمة الله عليه.
جهبر:
كجعفر أنثى الدب، وهي إذا أرادت الولادة، استقبلت بنات نعش الصغرى، فتسهل ولادتها. وإذا ولدت يكون ولدها قطعة لحم تخاف عليه من النمل، فتنقله من موضع إلى موضع خوفا من النمل، وربما تركت أولادها وأرضعت ولد الضبع. ولهذا قالت العرب «أحمق من جهبر».
الجواد:
الفرس الجيد العدو سمي بذلك لأنه يجود بجريه والأنثى جواد أيضا قال الشاعر:
نمته جواد لا يباع جنينها
والجمع جود وجياد كثوب وكثياب. وأجياد جبل بمكة، سمي بذلك لموضع خيل تبع.
ويسمى قعيقعان لموضع سلاحه، وروى جعفر الفريابي، في كتابه فضل الذكر، عن سهل بن سعد الساعدي رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لأن أصلي الصبح ثم أجلس في مجلسي فأذكر الله تعالى حتى تطلع الشمس، أحب إليّ من شد على جياد الخيل في سبيل الله عز وجل».
وروى النسائي والحاكم وابن السني والبخاري في تاريخه عن سعد بن أبي وقاص رضي الله تعالى عنه، قال: ان رجلا جاء إلى الصلاة ورسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي فقال، حين انتهى إلى الصف الأول:
اللهم آتني أفضل ما تؤتي عبادك الصالحين. فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم الصلاة قال: «من المتكلم آنفا؟ قال: أنا يا رسول الله. قال: إذن يعقر جوادك وتستشهد في سبيل الله تعالى». وفي سنن ابن ماجه من حديث عمرو بن عبسة رضي الله تعالى عنه قال: «أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله أي الجهاد أفضل؟ فقال صلى الله عليه وسلم: من أهريق دمه وعقر جواده» (2). وفي كتاب النصائح لابن ظفر، أن أمة لعمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه، اسمها زائدة، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «يا زائدة انك لموفقة». فأتته يوما فقالت: يا رسول الله إني عجنت عجينا لأهلي ثم ذهبت أحتطب، فاحتطبت وأكثرت، فرأيت فارسا على جواد لم أرقط أحسن منه وجها وملبسا وجوادا، ولا أطيب منه ريحا، فأتاني وسلم علي وقال: كيف أنت يا زائدة؟ قلت: بخير والحمد لله. قال: وكيف محمد؟ قلت:
__________
(1) القرطبي: أبو بكر يحيى بن سعدون بن تمام بن محمد الأزدي القرطبي، إمام في القراءات وعلوم القرآن الكريم والحديث والنحو واللغة. مات سنة 567هـ. والبيتان في وفيات الأعيان: 6/ 172.
(2) رواه أبو داود في الوتر: 12، والتطوع: 11، ورواه النسائي في الزكاة: 49. وابن ماجه في الجهاد: 15، ورواه الدارمي في الصلاة: 135، والجهاد: 3. وأحمد: 2/ 391346302300191 4412/ 5385114/ 265.(2/310)
بخير، وينذر الناس بأمر الله. قال: إذا أتيت محمد فأقرئيه مني السلام، وقولي له رضوان خازن الجنة يقرئك السلام، ويقول لك: ما فرح أحد بمبعثك ما فرحت به، فإن الله جعل أمتك ثلاث فرق: فرقة يدخلون الجنة بغير حساب، وفرقة يحاسبون حسابا يسيرا ويدخلون الجنة وفرقة تشفع لهم فتشفع فيهم فيدخلون الجنة. قلت: نعم. ثم ولى عني فأخذت في رفع حطبي فثقل عليّ فالتفت إلي وقال: يا زائدة أثقل عليك حطبك؟ قلت: نعم بأبي وأمي. فعطف عليّ وغمز الحزمة بقضيب أحمر في يده فرفعها، ونظر فإذا هو بصخرة عظيمة فوضع الحزمة بالقضيب عليها، وقال:
اذهبي يا صخرة بالحطب معها، فجعلت الصخرة تدهده بين يدي بالحطب، حتى أتيت «فسجد النبي صلى الله عليه وسلم شكرا وحمدا لله تعالى على بشرى رضوان. ثم قال لأصحابه: قوموا لننظر فقاموا وانطلقوا إلى الصخرة فرأوها وعاينوا آثارها». ويقرب من هذه البشرى ما روي عن عبد الله ابن عمر رضي الله تعالى عنهما، قال: إن رجلا من أهل اليمن جاء إلى كعب الأحبار فقال له: إن فلانا الحبر اليهودي أرسلني إليك برسالة فقال له كعب: هاتها فقال له الرجل: إنه يقول لك: ألم تكن فينا سيدا شريفا مطاعا فما الذي أخرجك من دينك إلى أمة محمد؟ فقال له كعب: أتراك راجعا إليه؟ قال: نعم. قال: فإن رجعت إليه فخذ بطرف ثوبه لئلا يفر منك، وقل له: يقول لك كعب: أسألك بالله الذي فلق البحر لموسى، وأسألك بالله الذي ألقى الألواح إلى موسى بن عمران فيها علم كل شيء، ألست تجد في كلمات الله تعالى، أن أمة محمد ثلاثة أثلاث: فثلث يدخلون الجنة بغير حساب، وثلث يحاسبون حسابا يسيرا ثم يدخلون الجنة، وثلث يدخلون الجنة بشفاعة أحمد، فإنه سيقول لك: نعم. فقل له: يقول لك كعب: اجعلني في أي هذه الأثلاث شئت. وفي كتاب خير البشر بخير البشر لمحمد بن ظفر أيضا، قال: روي أن مرثد بن عبد كلال قفل من غزاة غزاها بغنائم عظيمة فوفد عليه زعماء العرب، وشعراؤها وخطباؤها، يهنؤنه، فرفع الحجاب عن الوافدين، وأوسعهم عطاء، واشتد سروره بهم، فبينما هو على ذلك، إذ نام يوما فرأى رؤيا في المنام أخافته وأذعرته وأهالته في حال منامه، فلما انتبه أنسيها حتى لم يذكر منها شيئا، وثبت ارتياعه في نفسه بها فانقلب سروره حزنا واحتجب عن الوفود حتى أساء به الوفود الظن، ثم إنه حشر الكهان فجعل يخلو بكاهن كاهن ثم يقول له اخبرني عما أريد أن أسألك عنه، فيجيبه الكاهن بأن لا علم عندي، حتى لم يدع كاهنا علمه إلا كان إليه منه ذلك. فتضاعف قلقه، وطال أرقه، وكانت أمه قد تكهنت، فقالت له: أبيت اللعن أيها الملك، إن الكواهن أهدى إلى ما تسأل عنه لأن أتباع الكواهن من الجان، ألطف وأظرف من أتباع الكهان! فأمر بحشر الكواهن إليه، وسألهن كما سأل الكهان فلم يجد عند واحدة منهن علما مما أراد علمه. ولما يئس من طلبته، سلا عنها.
ثم إنه بعد ذلك ذهب يتصيد فأوغل في طلب الصيد، وانفرد عن أصحابه فرفعت له أبيات في ذرى جبل وكان قد لفحه الهجير، فعدل إلى الأبيات وقصد بيتا منها، كان منفردا عنها فبرزت إليه منه عجوز، فقالت له انزل بالرحب والسعة والأمن والدعة، والجفنة المدعدعة، والعلبة المترعة، فنزل عن جواده ودخل البيت، فلما احتجب عن الشمس، وخفقت عليه الأرواح نام، فلم يستيقظ حتى تصرم الهجير، فجلس يمسح عينيه، فإذا بين يديه فتاة، لم ير مثلها قواما
ولا جمالا، فقالت له: أبيت اللعن أيها الملك الهمام، هل لك في الطعام؟ فاشتد اشفاقه وخاف على نفسه، لما رأى أنها عرفته وتصامم عن كلمتها، فقالت له: لا حذر فداك البشر، فجدك الأكبر، وحظنا بك الأوفر، ثم قربت إليه ثريدا وقديدا وحيسا. وقامت تذب عنه، حتى انتهى أكله. ثم سقته لبنا صريفا وضريبا. فشرب ما شاء وجعل يتأملها مقبلة ومدبرة، فملأت عينيه حسنا وقلبه هوى، فقال لها: ما اسمك يا جارية؟ قالت: اسمي عفيراء. فقال لها: يا عفيراء من الذي دعوته بالملك الهمام؟ قالت: مرثد العظيم الشان، حاشر الكواهن والكهان، لمعضلة بعد عنها الجان. فقال: يا عفيراء أتعلمين تلك المعضلة؟ قالت: أجل أيها الملك إنها رؤيا منام، ليست بأضغاث أحلام. قال الملك: أصبت يا عفيراء، فما تلك الرؤيا؟ قالت: رأيت أعاصير زوابع، بعضها لبعض تابع، فيها لهب لامع، ولها دخان ساطع، يقفوها نهر متدافع، وسمعت فيما أنت سامع، دعاء ذي جرس صادع، هلموا إلى المشارع، فروي جارع، وغرق كارع. فقال الملك:(2/311)
ثم إنه بعد ذلك ذهب يتصيد فأوغل في طلب الصيد، وانفرد عن أصحابه فرفعت له أبيات في ذرى جبل وكان قد لفحه الهجير، فعدل إلى الأبيات وقصد بيتا منها، كان منفردا عنها فبرزت إليه منه عجوز، فقالت له انزل بالرحب والسعة والأمن والدعة، والجفنة المدعدعة، والعلبة المترعة، فنزل عن جواده ودخل البيت، فلما احتجب عن الشمس، وخفقت عليه الأرواح نام، فلم يستيقظ حتى تصرم الهجير، فجلس يمسح عينيه، فإذا بين يديه فتاة، لم ير مثلها قواما
ولا جمالا، فقالت له: أبيت اللعن أيها الملك الهمام، هل لك في الطعام؟ فاشتد اشفاقه وخاف على نفسه، لما رأى أنها عرفته وتصامم عن كلمتها، فقالت له: لا حذر فداك البشر، فجدك الأكبر، وحظنا بك الأوفر، ثم قربت إليه ثريدا وقديدا وحيسا. وقامت تذب عنه، حتى انتهى أكله. ثم سقته لبنا صريفا وضريبا. فشرب ما شاء وجعل يتأملها مقبلة ومدبرة، فملأت عينيه حسنا وقلبه هوى، فقال لها: ما اسمك يا جارية؟ قالت: اسمي عفيراء. فقال لها: يا عفيراء من الذي دعوته بالملك الهمام؟ قالت: مرثد العظيم الشان، حاشر الكواهن والكهان، لمعضلة بعد عنها الجان. فقال: يا عفيراء أتعلمين تلك المعضلة؟ قالت: أجل أيها الملك إنها رؤيا منام، ليست بأضغاث أحلام. قال الملك: أصبت يا عفيراء، فما تلك الرؤيا؟ قالت: رأيت أعاصير زوابع، بعضها لبعض تابع، فيها لهب لامع، ولها دخان ساطع، يقفوها نهر متدافع، وسمعت فيما أنت سامع، دعاء ذي جرس صادع، هلموا إلى المشارع، فروي جارع، وغرق كارع. فقال الملك:
أجل هذه رؤياي. فما تأويلها يا عفيراء؟ قالت: الأعاصير الزوابع ملوك تبايع، والنهر علم واسع، والداعي نبي شافع، والجارع ولي تابع، والكارع عدوّ منازع. فقال الملك: يا عفيراء أسلم هذا النبي أم حرب؟ فقالت: أقسم برافع السماء، ومنزل الماء من العماء، إنه لمطل الدماء، ومنطق العقائل نطق الإماء. فقال الملك: الام يدعو يا عفيراء؟ قالت إلى صلاة وصيام، وصلة أرحام، وكسر أصنام، وتعطيل أزلام، واجتناب آثام. فقال الملك: يا عفيراء من قومه؟ قالت مضر بن نزار، ولهم منه نقع مثار، ينجلي عن ذبح وآثار. فقال الملك: يا عفيراء إذا ذبح قومه فمن أعضاده؟ قالت أعضاده غطاريف يمانون، طائرهم به ميمون، يغزيهم فيغزون، ويدمث بهم الحزون (1) وإلى نصره يعتزون. فأطرق الملك يؤامر نفسه في خطبتها، فقالت: أبيت اللعن أيها الملك، إن تابعي غيور، ولأمري صبور، وناكحي مثبور، والكلف بي ثبور، فنهض الملك وجال في صهوة جواده، وانطلق فبعث إليها بمائة ناقة كوماء. قال محمد بن ظفر: أوغل في طلب الصيد أي بالغ في ذلك وأمعن، والوغول الدخول في الشيء بقوة.
وذرجبل بفتح الذال المعجمة الكن والمدعدعة هي التي ملئت بقوة ثم حركت حتى تراص ما فيها ثم ملئت بعد ذلك. والعلبة بضم العين المهملة واسكان اللام اناء من جلد. والأرواح هي الرياح. وصريفا اللبن المحض بحدثان الحلاب يصرف عن الضرع إلى الشارب وضريبا اللبن الرائب. وبعد عنها الجان أي جبنوا عنها ولم يطيقوها. وأعاصير زوابع هي من الرياح ما يثير التراب فيعليه في الجوّ، ويديره وساطع أي مرتفع. ودعاء ذي جرس صادع. الجرس الصوت والمشارع المداخل إلى النهر. وجارع أي من شرب جرعا أمن وكارع أي من أمعن غرق. وتبايع جمع تبع، وهذا لقب لملوك اليمن، وهو من الأتباع لأن بعضهم كان يتبع في الملك بعضا. والعماء هو الغيم والغمام، ومنطق العقائل هن الكرائم من النساء، أي يسبيهن فيشددن النطق على أوساطهن، كالإماء للمهنة والخدمة. ونقع مثار: النقع الغبار يثيره المتحاربون. والأعضاد الأنصار. والغطاريف السادة والتغطرف التكبر. ويدمث أي يسهل ويؤامر نفسه يراد به تعارض
__________
(1) الحزون: جمع الحزن: الأرض الغليظة.(2/312)
الرأيين المتضادين في النفس وجال في صهوة جواده: جال أي وثب، والصهوة مقعد الفارس من ظهر فرسه. والكوماء الناقة العظيمة السنام.
ونظير هذا من الرؤيا المنسية، وليست من أخبار الكهان، وإنما هو خبر نبوي، رؤيا بختنصر، وذلك أن بختنصر، لما غزا بيت المقدس، اختار من سبي بني اسرائل مائة ألف صبي، فكان منهم دانيال عليه السلام، فرأى بختنصر رؤيا ارتاع لها، وحدث له في المنام ما أنساه الرؤيا، فسأل الكهان والسحرة والمنجمين عن ذلك، فقالوا له: إن أخبرتنا عن رؤياك أخبرناك عن تأويلها، فقال: إني قد أنسيتها، ولئن لم تخبروني بها لأنزعن أكتافكم. فخرجوا من عنده مذعورين ثم رجع إليه أحدهم فقال له: أيها الملك، إن لم يكن أحد عنده علم بالرؤيا، فهو دانيال الغلام الإسرائيلي، فأحضره وسأله فقال له دانيال: إن لي ربا عنده علم ذلك، فأجلني فأجله ثلاثا، فخرج دانيال فأقبل على الصلاة والدعاء، فأوحى الله إليه بالرؤيا وبتأويلها، فأتى إلى بختنصر وقال له: إنك رأيت صنما قدماه وساقاه من فخار، وركبتاه وفخذاه من نحاس، وبطنه من فضة، وصدره من ذهب، وعنقه ورأسه من حديد. قال: صدقت: قال دانيال: فبينما أنت تنظر إليه وتتعجب منه، إذ أرسل الله عليه صخرة من السماء فهشمته، فصار رفاتا، ثم عظمت تلك الصخرة، حتى ملأت الدنيا، فهي التي أنستك الرؤيا. قال: صدقت. فما تأويلها؟ قال دانيال: أما الصنم فهو مثل لملوك الدنيا، وكان بعضهم ألين ملكا من بعض، فكان أول الملك الفخار وهو أضعفه، ثم كان فوقه النحاس وهو أفضل منه وأشد، ثم كان فوقه الفضة وهي أفضل وأحسن، ثم كان فوقه الذهب وهو أفضل منها وأحسن من ذلك كله، ثم كان الحديد من فوقه وهو أشد منه، وهو ملكك فهو أشد ملك، وأعز مما كان قبله. وأما الصخرة التي أرسلها الله من السماء، فنبي يبعثه الله في آخر الزمان، فيدق ذلك كله أجمع، وتمتلىء الدنيا بدينه، ويصير الأمر إليه ويقيم له ملكا لا يزول أبدا ما بقي الدهر. فعجب بختنصر مما سمع، وأحسن إلى دانيال وقربه وأعلى منزلته.
وذكر ابن خلكان في ترجمة ابن القرية (1) واسمه أيوب بن زيد بن القرية، بكسر القاف وتشديد الراء المهملة وكسرها بالياء المثناة تحت. وكان أعرابيا مقربا عند الحجاج، أن الحجاج بعثه إلى عبد الرحمن بن الأشعث بن قيس الكندي لما خرج على عبد الملك بن مروان، وخلعه ودعا إلى نفسه، فقال ابن الأشعث: لتقومن خطيبا، ولتخلعن ابن مروان، ولتسبن الحجاج، أو لأضربن عنقك. ففعل ابن القرية ذلك وأقام عند ابن الأشعث، فلما قتل ابن الأشعث بدير الجماجم، في الوقعة التي كانت بينه وبين الحجاج، جىء بابن القرية إلى الحجاج فسأله عن أشياء، فمن كلامه في جواب الحجاج ملخصا: أهل العراق أعلم الناس بحق وباطل. أهل الحجاز أسرع الناس إلى فتنة وأعجزهم فيها. أهل الشأم أطوع الناس لخلفائهم. أهل مصر عبيد من غلب. أهل اليمن أهل طاعة ولزوم جماعة. أرض الهند بحرها در وجبلها ياقوت، وشجرها عود، وورقها عطر.
اليمن أصل العرب وأصل البيوتان والحسب. مكة رجالها علماء حفاة، ونساءها كساة عراة.
__________
(1) وفيات الأعيان: 1/ 250.(2/313)
المدينة رسخ العلم فيها وظهر منها. البصرة شتاؤها جليد، وحرها شديد، وماؤها ملح، وحربها صلح. الكوفة ارتفعت عن حر البحر، وسفلت عن برد الشأم. واسط جنة بين حمأة وكنة. قال وما حمأتها وكنتها؟ قال: البصرة والكوفة يحسدانها وما يضرها، ودجلة والفرات يتجاريان بإضافة الخير عليها. الشأم عروس بين نسوة جلوس. ثم قال في أثناء كلامه «لكل جواد كبوة» (1)، «ولكل صام نبوة» (2)، «ولكل حليم هفوة» (3). فقال الحجاج: إن العرب تزعم أن لكل شيء آفة. قال:
صدقت العرب، أصلح الله الأمير، آفة الحلم الغضب، وآفة العقل العجب، وآفة العلم النسيان، وآفة السخاء المن عند البذل، وآفة العبادة الفترة، وآفة الكرم مجاورة اللئام، وآفة الشجاعة البغي، وآفة الماء سوء التدبير، وآفة الكامل من الرجال العدم. قال: فما آفة الحجاج؟
قال: لا آفة لمن كرم حسبه، وطاب نسبه، وزكا فرعه. فقال الحجاج: امتلأت شقاقا، وأظهرت نفاقا. اضربوا عنقه. فلما رآه قتيلا ندم على قتله. وكان قتله في سنة أربع وثمانين وقد ذكرت هذه الحكاية بطولها في كتاب «غاية الارب في كلام حكماء العرب». وهو في ثلاثة مجلدات. ومن أمثال العرب المشهورة «ان الجواد عينه (4) فراره». أي يغنيك شخصه ومنظره، عن أن تخبره وأن تفر أسنانه.
وحكى صاحب ابتلاء الأخيار بالنساء الأشرار، أنه عرض على أبي مسلم الخراساني، صاحب الدعوة جواد لم ير مثله، فقال لقواده: لماذا يصلح هذا الجواد؟ قالوا: للغزو في سبيل الله. قال: لا. قالوا: فيطلب عليه العدوّ. قال: لا. قالوا: فلماذا يصلح أصلح الله الأمير؟ قال:
ليركبه الرجل، ويفر به من المرأة السوء، والجار السوء. ومن أحسن أوصاف الخيل الصافنات قال الله تعالى: {إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصََّافِنََاتُ الْجِيََادُ} (5) قال أهل التفسير: إنها كانت ألف فرس لسليمان عليه الصلاة والسلام، وإنما عقرها لأنها كانت سببا في فوت الصلاة. قال بعض العلماء:
لما ترك الخيل لله، عوضه الله عنها، ما هو خير له منها، وهو الريح التي كان غدوها شهرا ورواحها شهرا. وروى الإمام أحمد قال: حدثنا اسماعيل قال: حدثنا سليمان بن المغيرة عن حميد بن هلال، عن أبي قتادة وأبي الدهماء، وكانا يكثران السفر نحو هذا البيت قالا: أتينا على رجل من أهل البادية، فقال البدوي: أخذ بيدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجعل يعلمني مما علمه الله عز وجل، فكان من كلامه: «إنك لا تدع شيئا اتقاء الله عز وجل إلا أعطاك الله خيرا منه». وأخرجه (6)
النسائي من حديث ابن المبارك عن سليمان بن الحسين. وأبو الدهماء اسمه قرفة بن بهيس، وقيل بن بيهس. روى له الجماعة إلا البخاري. وقال الثعلبي: كانت بالناس مجاعة، ولحوم الخيل لهم حلال، وإنما عقرها لتؤكل، على وجه القربة بها، كالهدي عندنا، ونظير هذا ما فعله أبو طلحة الأنصاري بحائطه، إذ تصدق به لما دخل عليه الدبسي، وهو في الصلاة فشغله.
والصافن الذي يرفع إحدى يديه ويقف على طرف سنبكه وقد يفعل ذلك برجله، وهي
__________
(1) جمهرة الأمثال: 2/ 173.
(2) جمهرة الأمثال: 1/ 249.
(3) جمهرة الأمثال: 1/ 249.
(4) مجمع الأمثال: 1/ 9.
(5) سورة ص: الآية 31.
(6) رواه أحمد: 5، 78.(2/314)
علامة الفراسة كما قال في حقه العجّاج (1):
ألف الصفون فلا يزال كأنه ... مما يقوم على الثلاث كسير
وقال بعضهم: الخير في الآية الخيل. والعرب تسمي الخيل خيرا. ولذلك قال عليه الصلاة والسلام لزيد الخيل: «أنت زيد الخير». وكان رضي الله عنه، إذا ركب الخيل، خطت رجلاه الأرض واسمه زيد بن مهلهل بن زيد الطائي، وكان كثير الخيل، لم يكن لأحد من قومه، ولا لكثير من العرب إلا الفرس أو الفرسان، وكان له الخيل الكثيرة منها الهطال والكميت والورد والكامل ولاحق ودموك قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم في وفد طيء سنة تسع فأسلم وقال له النبي صلى الله عليه وسلم:
«ما وصف لي أحد في الجاهلية فرأيته في الإسلام إلا رأيته بدون تلك الصفة إلا أنت، فإنك فوق ما قيل لي إن فيك لخصلتين يحبهما الله ورسوله الأناة والحلم». وفي رواية الحياء والحلم. فقال:
الحمد لله الذي جبلني على ما يحب الله ورسوله. مات بعد رجوعه من عند النبي صلى الله عليه وسلم محموما عند قومه. وكان صلى الله عليه وسلم يقول: «إنه نعم الفتى إن لم تدركه أم مبدم». وروي أنه صلى الله عليه وسلم قال له: «يا زيد الخير تقتلك أم كلبة» يعني الحمى. فلما رجع إلى أهله حم ومات، رضي الله تعالى عنه.
وقال ابن عباس والزهري: مسح سليمان صلى الله عليه وسلم بالسوق والأعناق، لم يكن بالسيف بل بيده تكريما لها ومحبة. ورجحه الطبري وقال بعضهم: بل غسلها بالماء وذكر الثعلبي أن هذا المسح إنما كان وسما بالتحبيس في سبيل الله تعالى. وجمهور المفسرين على أنها كانت خيلا موروثة. وقال بعضهم: قتلها حتى لم يبق منها أكثر من مائة فرس. فمن نسل تلك المائة كل ما يوجد من الخيل، وهذا بعيد. وقال بعضهم: كانت عشرين فرسا أخرجها الشيطان له من البحر، وكانت ذوات أجنحة. وأما قوله (2) {وَهَبْ لِي مُلْكاً لََا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي} فقال الجمهور أراد أن يفرده من بين البشر ليكون خاصة له وكرامة وهذا هو الظاهر من خبر العفريت الذي ظهر للنبي صلى الله عليه وسلم في صلاته فأخذه وأراد أن يوثقه بسارية من سواري المسجد كما تقدم. وسيأتي إن شاء الله تعالى في باب العين المهملة أيضا.
وروى النسائي وابن ماجه، عن عبد الله ابن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن سليمان بن داود عليه الصلاة والسلام، لما فرغ من بنيان بيت المقدس سأل الله تعالى حكما يصادف حكمه وملكا لا ينبغي لأحد من بعده، وأن لا يأتي هذا المسجد أحد لا يريد إلا الصلاة فيه، إلا خرج من خطيئته كيوم ولدته أمه. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أما الاثنتان، فقد أعطيهما، وأنا أرجو أن يكون قد أعطي الثالثة؟؟. انتهى فقد دعا نبي ورجا نبي. وأما صفة كرسيه عليه الصلاة والسلام، فقد روي عن ابن عباس أنه قال: كان يوضع لسليمان ستمائة كرسي ثم يجيء أشراف الإنس فيجلسون مما يليه، ثم يجيء أشراف الجن فيجلسون مما يلي الإنس، ثم يدعو الطير فتظلهم، ثم يدعو الريح فتقلهم، وتسير مسيرة شهر غدوا ورواحا، وذلك أن سليمان عليه الصلاة والسلام لما ملك بعد أبيه، أمر باتخاذ كرسي، يجلس عليه للقضاء،
__________
(1) العجّاج: عبد الله بن رؤبة بن لبيد بن صخر السعدي، راجز مجيد توفي سنة: 90هـ.
(2) سورة ص: الآية 35.(2/315)
وأمر بأن يعمل عملا بديعا مهولا بحيث إذا رآه مبطل أو شاهد زور، ارتدع وبهت، فأمر أن يجعل من أنياب الفيلة مرصعا بالدر والياقوت والزبرجد، وأن يحف بأربع نخلات من ذهب شماريخها (1)
الياقوت منهما عمود من الزبرجد الأخضر. على رأس نختلتين منها طاووسان من ذهب، وعلى رأس نخلتين نسران من ذهب، بعضها يقابل بعضا. وجعل بجانب الكرسي أسدين من ذهب، وعلى رأس كل واحد منهما عمود من الزبرجد الأخضر. وقد عقد على النخلات أشجار كروم من الذهب الأحمر وعناقيدها من الياقوت الأحمر، بحيث تظل عروش الكروم والنخل الكرسي. وكان سليمان إذا أراد صعوده وضع قدميه على الدرجة السفلى فيستدير الكرسي كله بما فيه دوران الرحا المسرعة وتنشر تلك الطيور والنسور أجنحتها، ويبسط الأسدان أيديهما، ويضربان الأرض بأذنابهما، فإذا استوى على أعلاه أخذ النسران، اللذان في النخلتين، تاج سليمان فوضعاه على رأسه، ثم يستدير الكرسي بما فيه فيدور معه النسران والطاووسان والأسدان مائلات برؤوسها إلى سليمان، وينضحن عليه من أجوافهن المسك والعنبر، ثم تناوله حمامة من ذهب، قائمة على عمود، من أعمدة الجواهر، فوق الكرسي، التوراة فيفتحها سليمان ويقرؤها على الناس ويدعوهم إلى فصل القضاء.
ويجلس عظماء بني اسرائيل على كراسي الذهب المرصعة بالجوهر، وهي ألف كرسي عن يمينه، ويجلس عظماء الجن على كراسي الفضة عن يساره، وهي ألف كرسي، ثم تحف بهم الطيور فتظلهم. ويتقدم الناس لفصل الخصومات، فإذا تقدمت الشهود لأداء الشهادات، دار الكرسي بما فيه وعليه، دوران الرحا المسرعة، ويبسط الأسدان أيديهما، ويضربان الأرض بأذنابهما، وينشر النسران والطاووسان أجنحتها، فيفزع الشهود فلا يشهدون إلا بالحق. فلما توفي سليمان عليه الصلاة والسلام، وغزا بختنصر بيت المقدس، حمل الكرسي إلى انطاكية وأراد أن يصعد عليه فلم يقدر، وضرب الأسدان رجله فكسراها. ثم لما هلك بختنصر حمل الكرسي إلى بيت المقدس، فلم يستطع ملك قط أن يجلس عليه. ولم يدر أحد ما آل إليه عاقبة أمره، ولعله رفع. وإنما ذكرت صفته هنا لأنه من الملك الذي لا ينبغي لأحد من بعده. وزعم الطبري أن بختنصر، ليس من الملوك الأربعة الذين ملكوا الأقاليم كلها، كما قاله العتبي ومن تقدمه إلى هذا القول. قال: ولكنه كان عاملا على العراق للملك المالك للأقاليم في ذلك الحين وهو كيلهراسب. والصحيح ما قاله العتبي وغيره.
وذكر أهل التاريخ وأصحاب السير أن رجلا من بني إسرائيل إسمه إسحاق في زمن عيسى بن مريم عليهما السلام، كان له ابنة عم من أجمل أهل زمانها وكان مغرما بها، فماتت فلزم قبرها ومكث زمانا لا يفتر عن زيارته، فمرّ به عيسى يوما وهو على قبرها يبكي، فقال له عيسى عليه السلام: ما يبكيك يا إسحق؟ فقال له: يا روح الله كانت لي ابنة عم وهي زوجتي، وكنت أحبها حبا شديدا وإنها قد توفيت، وهذا قبرها وإني لا أستطيع الصبر عنها وقد قتلني فراقها، فقال له عيسى: أتحب أن أحييها لك بإذن الله؟ قال: نعم يا روح الله فوقف عيسى على القبر، وقال: قم يا صاحب هذا القبر بإذن الله: فانشق القبر وخرج منه عبدا أسود، والنار خارجة من مناخره وعينيه، ومنافذ وجهه، وهو يقول:
__________
(1) الشماريخ: جمع الشمراخ: الطرف.(2/316)
لا إله إلّا الله عيسى روح الله وكلمته وعبده ورسوله، فقال إسحاق: يا روح الله:
وكلمته ما هذا القبر الذي فيه زوجتي، وإنما هو هذا وأشار إلى قبر آخر، فقال عيسى للأسود: ارجع إلى ما كنت فيه فسقط ميتا فواراه في قبره. ثم وقف على القبر الآخر وقال: قم يا ساكن هذا القبر بإذن الله، فقامت المرأة وهي تنثر التراب عن وجهها، فقال عيسى: هذه زوجتك؟ قال: نعم يا روح الله. قال: خذ بيدها وانصرف. فأخذها ومضى فأدركه النوم فقال لها: إنه قد قتلني السهر على قبرك، وأريد أن آخذ لي راحة. قالت:
افعل فوضع رأسه على فخذها ونام. فبينما هو نائم إذ مر عليها ابن الملك، وكان ذا حسن وجمال وهيئة عظيمة، راكبا على جواد حسن، فلما رأته هويته، وقامت إليه مسرعة، فلما نظرها وقعت في قلبه، فأتت إليه وقالت: خذني. فأردفها على جواده وسار فاستيقظ زوجها ونظر فلم يرها فقام يطلبها، وقص أثر الجواد فأدركهما، وقال لابن الملك: اعطني زوجتي وابنة عمي، فأنكرته وقالت: أنا جارية ابن الملك فقال: بل أنت زوجتي وابنة عمي. فقالت: ما أعرفك! وما أنا إلا جارية ابن الملك! فقال له ابن الملك: أفتريد أن تفسد جاريتي؟ فقال: والله إنها لزوجتي وإن عيسى بن مريم أحياها لي بإذن الله، بعد أن كانت ميتة، فبينما هم في المنازعة إذ مر عيسى صلى الله عليه وسلم فقال إسحاق: يا روح الله أما هذه زوجتي التي أحييتها لي بإذن الله؟ قال: نعم. فقالت: يا روح الله إنه يكذب وإني جارية ابن الملك. وقال ابن الملك: هذه جاريتي. قال عيسى: ألست التي أحييتك بإذن الله؟ قالت: لا والله يا روح الله. قال: فردي علينا ما أعطيناك. فسقطت ميتة.
فقال عيسى: من أراد أن ينظر إلى رجل أماته الله كافرا ثم أحياه وأماته مسلما، فلينظر إلى ذلك الأسود. ومن أراد أن ينظر إلى امرأة أماتها الله مؤمنة، ثم أحياها وأماتها كافرة، فلينظر إلى هذه.
وإن إسحاق الإسرائيلي، عاهد الله تعالى أن لا يتزوج أبدا، وهام على وجهه في البراري باكيا.
وفي هذه الحكاية أعظم عبرة لأولي الألباب وهي من أعجب ما يسمع في التوفيق والخذلان، نسأل الله تعالى السلامة، وحسن الخاتمة، بجاه سيدنا محمد وآله. وقد أحببت أن أذكر هنا ما أخبرني به بعض العلماء العارفين وهو أن عيسى صلى الله عليه وسلم اجتاز في بعض الأيام بجبل، فرأى فيه صومعة فدنا منها فرأى فيها متعبدا قد انحنى ظهره، ونحل جسمه، وبلغ به الاجتهاد أقصى غاياته، فسلم عليه وقال له: منذ كم أنت في هذه الصومعة؟ فقال: منذ سبعين سنة أسأله حاجة واحدة وما قضاها لي بعد! فعساك يا روح الله أن تكون شفيعا لي فيها فعساها تقضى! فقال له عيسى: وما حاجتك؟
قال: أن يذيقني مثقال ذرة من خالص محبته. فقال عيسى: ها أنا أدعو الله لك في ذلك فدعا له عيسى في تلك الليلة فأوحى الله إليه إني قد قبلت شفاعتك، وأجبت دعوتك. فعاد عيسى بعد أيام إلى ذلك الموضع فرأى الصومعة قد وقعت والأرض التي تحتها قد شقت، فنزل عيسى ذلك الشق إلى منتهاه فرأى العابد في مغارة تحت ذلك الجبل، واقفا شاخصا مثقال ذرة من خالص محبتنا فعلمنا أنه لا يطيق ذلك، فوهبناه جزءا من سبعين ألف جزء من ذرة، فهو فيها حائر كما ترى فكيف لو وهبناه أكثر من ذلك؟! اهـ قلت: فمحبة الخواص من هذه المعادن رشحت، وبهذه الأوصاف عرفت، واعلم أن المحبة هي أوّل أودية الفناء، والعقبة التي تنحدر منها إلى منازل المحو. وقد اختلفت إشارات أهل التحقيق في العبارة عنها، فكل نطق بحسب ذوقه، وافصح
بمقدار شوقه. ليس هذا موضع حكاية أقوالهم، واختلاف عباراتهم فيها، وقد بسطنا الكلام في ذلك في كتابنا الجوهر الفريد في أواخر الجزء الثامن، ولنذكر لمعة يستأنس بها الناظر، في هذا الكتاب. فاعلم أن المحبة على الإجمال موافقة المحبوب فيما شاء سواء فيما حزن أو سر، نفع أو ضر، وقد أشار بعضهم إلى ذلك بقوله (1):(2/317)
قال: أن يذيقني مثقال ذرة من خالص محبته. فقال عيسى: ها أنا أدعو الله لك في ذلك فدعا له عيسى في تلك الليلة فأوحى الله إليه إني قد قبلت شفاعتك، وأجبت دعوتك. فعاد عيسى بعد أيام إلى ذلك الموضع فرأى الصومعة قد وقعت والأرض التي تحتها قد شقت، فنزل عيسى ذلك الشق إلى منتهاه فرأى العابد في مغارة تحت ذلك الجبل، واقفا شاخصا مثقال ذرة من خالص محبتنا فعلمنا أنه لا يطيق ذلك، فوهبناه جزءا من سبعين ألف جزء من ذرة، فهو فيها حائر كما ترى فكيف لو وهبناه أكثر من ذلك؟! اهـ قلت: فمحبة الخواص من هذه المعادن رشحت، وبهذه الأوصاف عرفت، واعلم أن المحبة هي أوّل أودية الفناء، والعقبة التي تنحدر منها إلى منازل المحو. وقد اختلفت إشارات أهل التحقيق في العبارة عنها، فكل نطق بحسب ذوقه، وافصح
بمقدار شوقه. ليس هذا موضع حكاية أقوالهم، واختلاف عباراتهم فيها، وقد بسطنا الكلام في ذلك في كتابنا الجوهر الفريد في أواخر الجزء الثامن، ولنذكر لمعة يستأنس بها الناظر، في هذا الكتاب. فاعلم أن المحبة على الإجمال موافقة المحبوب فيما شاء سواء فيما حزن أو سر، نفع أو ضر، وقد أشار بعضهم إلى ذلك بقوله (1):
وقف الهوى بي حيث أنت فليس لي ... متأخر عنه ولا متقدم ... أجد الملامة في هواك لذيذة ... حبا لذكرك فليلمني اللوّم ... أشبهت أعدائي فصرت أحبهم ... إذ كان حظي منك حظي منهم ... فأهنتني فأهنت نفسي صاغرا ... ما من يهون عليك ممن يكرم (2)
واعلم أن الغيرة من أوصاف المحبة، والغيرة تأبى الستر والإخفاء، فكل من بسط لسانه في العبارة عنها والكشف عن سرها فليس له منها ذوق، وإنما حركه وجدان الرائحة، ولو ذاق منها شيئا لغاب عن الشرح والوصف. فالمحبة الصادقة لا تظهر على المحب بلفظه، وإنما تظهر بشمائله ولحظه، ولا يفهم حقيقتها من المحب سوى المحبوب، لموضع امتزاج الأسرار من القلوب، وقد قيل في ذلك:
تشير فأدري ما تقول بطرفها ... وأطرق طرفي عند ذاك فتفهم ... تكلم منا في الوجوه عيوننا ... فنحن سكوت والهوى يتكلم
وأما محبة العوام، فهي محبة تنبت من مطالعة المنة، وتثبت باتباع السنة، وتنمو على الإجابة للغاية، وهي محبة تقطع الوساوس، وتلذذ الخدمة، وتسلي عن المصائب، وهي في طريق العوام عمدة الإيمان فعند القوم كل ما كان من العبد، فهو علة تليق بعجز العبد وفاقته. وإنما عين الحقيقة أن يكون العبد قائما بإقامة الحق له، محبا بمحبته له نظارا بنظره إليه من غير أن تبقى فيه بقية تقف على رسم، أو تناط باسم، أو تتعلق بأثر، أو توصف بنعت، أو تنسب إلى وقت، صم بكم عمي لدينا محضرون.
وروي: عن إبراهيم الخواص، رحمة الله عليه، أنه قال: عطشت، في بعض سياحاتي، عطشا شديدا، حتى سقطت من شدة العطش، فإذا أنا بماء قد سقط على وجهي، فأحسست ببرده على فؤادي، ففتحت عيني فإذا أنا برجل ما رأيت أحسن منه على جواد أشهب، عليه ثياب خضر وعمامة صفراء، وبيده قدح، فسقاني منه شربة، وقال لي: ارتدف خلفي فارتدفت، فلم يبرح حتى قال لي: ما ترى؟ قلت: المدينة. قال: انزل واقرأ على رسول الله صلى الله عليه وسلم مني السلام وقل له:
رضوان خازن الجنة يقرأ عليه السلام. وهذه كرامة عظيمة، ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم. قال شيخنا اليافعي: من رأيتموه يزدري بالأولياء، أو ينكر مواهب الأصفياء، فاعلموا أنه محارب لله مبعد من رحمته مطرود عن حقيقة قربه به والله أعلم.
__________
(1) في العقد الفريد: 5/ 374لأبي الشيص، انظر ديوانه 101.
(2) وفي الديوان: «نفسي جاهدا».(2/318)
الجواف:
بالضم والتخفيف ضرب من السمك وليس من جيده ومنه قول مالك بن دينار:
أكلت رغيفا ورأس جوافه، فعلى الدنيا العفاء. أي الدروس، وذهاب الأثر وقيل العفاء التراب.
الجوذر
: بفتح الذال المعجمة وضمها، والجؤذر بالهمزة أيضا مع الواو: ولد البقرة الوحشية قال الشاعر:
أن من يدخل الكنيسة يوما ... يلق فيها جآذرا وظباء (1)؟
ولقد أجاد علي بن إسحاق الزاهي حيث يقول (2):
وبيض بالحاظ العيون كأنما ... هززن سيوفا واستللن خناجرا ... تصدين لي يوما بمنعرج اللوى ... فغادرن قلبي بالتصبر غادرا ... سفرن بدورا وانتقبن أهلة ... ومسن غصونا والتفتن جآذرا ... واطلعن في الأجياد بالدر أنجما ... جعلن لحبات القلوب ضرائرا
ومما يستجاد من شعره:
الريح تعصف والأغصان تعتنق ... والمزن باكية والزهر مغتبق ... كأنما الليل جفن والبروق له ... عين من الشمس تبدو ثم تنطبق
وله أيضا وأجاد (3):
تبدت فهذا البدر من خجل بها ... وحقك مثلي في دجى الليل حائر (4)
... وماست فشق الغصن غيظا جيوبه ... ألست ترى أوراقه تتناثر
فأجيز على ذلك:
وفاحت فألقى العود في النار جسمه ... كذا نقلت عنه الحديث المجامر (5)
... وقالت فغار الدر واصفر لونه ... كذلك ما زالت تغار الضرائر
وله أيضا وقيل لغيره:
بادر إذا حاجة في وقتها عرضت ... فللحوائج أوقات وساعات ... إن أمكنت فرصة فانهض لها عجلا ... ولا تأخر فللتأخير آفات
__________
(1) الجآذر: جمع الجؤذر: البقرة الوحشية.
(2) ابن إسحاق: علي بن إسحاق بن خلف، أبو الحسن القطان المعروف بالزاهي شاعر من أهل بغداد. توفي سنة 352هـ. والأبيات في وفيات الأعيان: 3/ 372.
(3) فوات الوفيات: 2/ 305.
(4) في فوات الوفيات: «من كلف بها» ونسبتهما إلى زكي الدين القوصي.
(5) البيتان لابن المرصص، وفي الأول: «في النار نفسد» فوات الوفيات: 2/ 305.(2/319)
وله وأحسن:
أما ترى الغيث كلما ضحكت ... كمائم الزهر في الرياض بكى ... كالحب يبكي لديه عاشقه ... وكلما فاض دمعه ضحكا
وله أيضا:
لحى الله أمرءا أولا لسرا ... فبحت به وفض الله فاه ... لأنك بالذي استودعت منه ... أنم من الزجاج بما وعاه
وقد قيل في المعنى وأجاد قائله:
ينم بسر مستوعبه سرا ... كما نم الظلام بسر نار ... أتم من النصول على مشيب ... ومن صافي الزجاج على عقار
توفي الزاهي سنة ستين وثلاثمائة وهو شاعر ماهر رحمه الله تعالى.
الجوزل:
بفتح الجيم، فرخ الحمام والقطا وأنواعهما. وسيأتي ذكره في لفظ القطا والجمع جوازل قال الشاعر:
يا ابنة عمي لا أحب الجوزلا ... ولا أحب قرصك المفلفلا ... وإنما أحب ظبيا أعبلا ... وربما سمي الشاب جوزلا
جيال:
كجبال، اسم للضبع على فعال، وهي معرفة بلا ألف ولام.
وحكمها يأتي في باب الضاد المعجمة.
الأمثال:
قالوا: «أنبش من جيال» (1) لأنها تنبش القبور، وتخرج جيف الموتى من باطن الأرض إلى ظاهرها.
أبو جرادة: هو الطائر الذي يسميه أهل العراق الباذنجان، ويسميه أهل الشأم البصير، يؤخذ لحمه فيذوب ويتمسح به من كانت البواسير به ظاهرة ينفعه نفعا بينا والله أعلم.
باب الحاء المهملة
حائم:
هو الغراب الأسود لأنه يحوم عندهم بالفراق قال المرقش (2):
ولقد غدوت وكنت لا ... أغدو على واق وحائم (3)
... فإذا الأشائم كالايا ... من والأيامن كالأشائم ... وكذاك لا خير ولا ... شر على أحد بدائم
__________
(1) المستقصى: 1/ 378.
(2) المرقش: عوف بن سعد بن مالك، شاعر جاهلي متين وهو المرقش الأكبر أبو عمرو. مات سنة 75ق. هـ.
(3) البيت في الحيوان للجاحظ: 3/ 436. وفيه: «على واق أتم».(2/320)
وستأتي، إن شاء الله تعالى، هذه الأبيات في أول باب الواو. ويسمى غراب البين وسيأتي إن شاء الله تعالى في باب الغين المعجمة.
الحارية:
نوع من الأفعى وقد تقدم في باب الهمزة.
الحباب:
الحية قال الجوهري: وإنما قيل لها ذلك لأن الحبائب اسم شيطان، والحية يقال لها شيطان. روي عن سعيد بن المسيب أنه قال: «بلغني أن النبي صلى الله عليه وسلم غير اسم رجل من الأنصار، كان اسمه الحباب. وقال: «الحباب اسم شيطان». وقال أبو داود في باب تغيير الاسم القبيح.
وغير النبي صلى الله عليه وسلم اسم العاص وعزيز وعتلة وشيطان والحكم وغراب وهشاب وحباب. والرجل الذي غير النبي صلى الله عليه وسلم اسمه هو عبد الله بن عبد الله بن أبي ابن سلول. كان اسمه الحباب «فسماه النبي صلى الله عليه وسلم عبد الله». وأبوه كان يكنى أبا الحباب.
الحبتر:
الثعلب وقد تقدم ذكره في باب الثاء المثلثة.
الحبث:
حية بتراء ذات سم قاتل. وسيأتي إن شاء الله تعالى لفظ الحية في آخر هذا الباب.
حباحب:
كهداهد حيوان له جناحان كالذباب يضيء بالليل كأنه نار وقد ضربت العرب به المثل فقالوا: «أضعف من نار الحباحب» (1) وقيل: الحباحب اسم رجل من محارب بن خصفة، مشهور بالبخل، كانت له نار ضعيفة يوقدها مخافة الضيفان، فضربوا به المثل لذلك. قال الجوهري: وربما قيل نار أبي الحباحب، وهو ذباب. وقال في المرصع: يقال للنار القليلة التي لا ينتفع بها، وللذباب الطائر في الليل أبو حباحب. غير مصروف قلت: وهذا الطائر يسمى القطرب ذكره ابن البيطار وغيره وقال في الصحاح: القطرب طائر.
وحكمه:
تحريم الأكل لأنه من الحشرات.
الحبارى:
بضم الحاء المهملة وفتح الباء الموحدة: طائر معروف وهو اسم جنس يقع على الذكر والأنثى. واحده وجمعه سواء، وإن شئت قلت في الجمع: حباريات. قال الجوهري: وألف حبارى ليست للتأنيث ولا للإلحاق وإنما بني الاسم عليها، فصارت كأنها من نفس الكلمة، لا تنصرف في معرفة ولا نكرة، أي لا تنون. قلت: وهذا سهو منه بل ألفها للتأنيث كسماني ولو لم تكن له لانصرفت. وأهل مصر يسمون الحبارى الحبرج. وهي من أشد الطير طيرانا، وأبعدها شوطا، وذلك أنها تصاد بالبصرة، وفيوجد في حواصلها الحبة الخضراء، التي شجرها البطم، ومنابتها تخوم بلاد الشأم. ولذلك قالوا في المثل «أطلب من الحبارى». وإذا نتف ريشها أو تحسر وأبطأ نباته ماتت كمدا. والكمد الحزن المكتوم. وهو طائر طويل العنق رمادي اللون في منقاره بعض طول وقال الجاحظ: الحبارى لها خزانة في دبرها وأمعائها لها أبدا فيها سلح رقيق. فمتى ألح عليها الصقر سلحت عليه فينتف ريشه كله، وفي ذلك هلاكه. وقد جعل الله تعالى سلحها سلاحا لها قال الشاعر (2):
__________
(1) جمهرة الأمثال: 2/ 245.
(2) البيت في الحيوان للجاحظ: 5/ 448. وهو منسوب إلى أوس بن غلفاء الهجيمي، وهو شاعر جاهلي.(2/321)
وهم يتركوك أسلح من حبارى ... رأت صقرا وأشرد من نعام
ومن شأنها أنها تصاد ولا تصيد. روى البيهقي في الشعب من حديث يحيى بن أبي كثير عن سلمة عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه سمع رجلا يقول: إن الظالم لا يضر إلا نفسه فقال أبو هريرة: كذب والذي نفسي بيده إن الحبارى لتموت هزالا من خطايا بني آدم، وهو كذلك في تفسير الثعلبي في آخر سورة فاطر يعني إذا كثرت الخطايا، منع الله القطر عن أهل الأرض. وإنما يصيب الطير من الحب والثمرة على قدر المطر قال الشاعر:
يسقط الطير حيث يلتقط ... الحب وتغشى منازل الكرماء (1)
وهي من أكثر الطير حيلة في تحصيل الرزق، ومع ذلك تموت جوعا لهذا السبب فسبحان القادر على ما يشاء وولدها يقال له نهار، وفرخ الكروان يقال له ليل ولذلك قال الشاعر:
ونهارا رأيت منتصف اللي ... ل وليلا رأيت وسط النهار
الحكم:
يحل أكلها لأنها من الطيبات. روى أبو داود والترمذي عن يزيد بن عمر بن سفينة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، عن أبيه عن جده أنه قال: «أكلت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حبارى». (2) قال الترمذي غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه.
الأمثال:
قالوا: «أنكد من الحبارى» كما تقدم. وقال عثمان: «كل شيء يحب ولده حتى الحبارى». (3) وإنما خصها بالذكر لأنها يضرب بها المثل في الحمق، فهي، على حمقها، تحب ولدها فتطعمه وتعلمه الطيران كغيرها من الحيوان. وقالوا: «أسلح من الحبارى» (4)
حالة الخوف «وأسلح من الدجاج» (5) حالة الأمن. وقالوا: «الحبارى خالة الكروان» (6) وقالوا: (7) «أقصر من إبهام الحبارى» و «من إبهام القطاة».
الخواص:
لحم الحبارى بين لحم الدجاج ولحم البط في الغلظ، وهو أخف من لحم البط لأنه بري وهو حار ورطب جدا. وأجوده المخاليف المكدودة قبل الذبح وهو نافع لتسكين الرياح، لكنه يضر بالمفاصل والقولنج. ويدفع ضرره الدارصيني والزيت والخل، ويتولد منه دم بلغمي ويوافق أصحاب الأمزجة الباردة من الشبان، لا سيما إذا أكل في الشتاء وفي البلاد الباردة. وقال صاحب تقويم الصحة: يكره لحم الحبارى لغلظه وعسر انهضامه وأجوده ما طبخ بعد أن يمضي عليه يومان ثم يغرز في صدره وأفخاذه الثوم الكثير والفلفل، ويعمل بالأبازير وهو إذا انهضم ولد غذاء كثيرا. وما كان منه مخلفا خير مما كان عتيقا، ويجب أن يتناول بعده حلواء العسل انتهى.
وقال القزويني: يوجد في حوصلته حجر إذا علق على الإنسان لا يحتلم ما دام عليه وإن
__________
(1) البيت لبشار بن برد وهو في الحيوان للجاحظ: 5/ 445. وفيه: «حيث ينتشر».
(2) رواه أبو داود في الأطعمة: 28. والترمذي في الأطعمة: 62.
(3) المستقصى: 2/ 227.
(4) جمهرة الأمثال: 1/ 436.
(5) جمهرة الأمثال: 1/ 436.
(6) مجمع الأمثال: 1/ 215.
(7) جمهرة الأمثال: 2/ 109.(2/322)
كان به إسهال حبس بطنه. وإذا علق قلبه على من يكثر النوم قل نومه. وقال أرسطا طاليس في النعوت: بيض الحبارى ما كان منه ذكرا يسود الشعر، ويبقى صبغه سنة لا ينصل وما كان منه أنثى لا يسود الشعر، ويعرف ما يسود بأن يؤخذ خيط فيدخل في إبرة ويدخل في بيضة فإذا اسود الخيط صبغ بها وإلا فلا.
التعبير:
الحبارى في المنام رجل سخي صاحب دخل وخرج بلا منفعة كثير الأكل والتعب لا يفتر ليلا ولا نهارا.
الحبرج:
ذكر الحبارى واليحبور ولدها وقيل اليحبور من طير الماء.
الحبركى:
القراد قالت (1) الخنساء:
فلست بمرضع ثديي حبركى ... أبوه من بني جشم بن بكر
والأنثى حبركاة وقال أبو عمرو الجرمي: قد جعل بعضهم الألف في حبركى للتأنيث، فلم يصرفه. وربما شبه به الرجل الغليظ الطويل الظهر القصير اليدين.
حبلق:
كعملس غنم صغار لا تكبر وقيل قصار الغنم ودقاقها.
حبيش:
قال الجوهري هو طائر جاء مصغرا كالكميت والكعيب انتهى. والكعيب البلبل كما تقدم.
الحجر:
الأنثى من الخيل لم يدخلوا فيه الهاء لأنه اسم لا يشركها فيه الذكر. والجمع أحجار وحجور وقيل: أحجار الخيل ما يتخذ منها للنسل، وليس بقوي. وفي كامل ابن عدي في ترجمة محمد بن عبد الله العرزمي، عن عمر بن شعيب، عن أبيه عن جده، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (2):
«ليس في حجرة ولا بغلة زكاة» وهذا يدل على أنه يقال لها حجرة بالهاء. لكن في المستدرك، من حديث أبي حيان التيمي عن أبي زرعة عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يسمي الأنثى من الخيل فرسا.
وحكمها:
وخواصها كالخيل وسيأتي ذكر ذلك في باب الخاء المعجمة والفاء.
التعبير:
الحجرة في المنام امرأة شريفة مباركة لقوله صلى الله عليه وسلم: «ظهورها عز وبطونها كنز». (3)
فمن ركب حجرة في منامه بآلة الركوب، فإنه ينكح امرأة شريفة مباركة في عقد صحيح. ومن ركب حجرة بلا سرج ولا لجام، فإنه ينكح امرأة في غير عصمه، أو يركب أمرا لا يثبت عليه.
وربما دلت الحجرة البيضاء على امرأة ذات حسب ونسب والحمراء على امرأة ذات زينة. والصفراء على امرأة ذات مرض. والسوداء على امرأة ذات ملك وسودد والدهماء كذلك. وربما دلت الحجرة على السنة فالسمينة خصب، والضعيفة جدب. وقد تكون ضعف الجاه والقوى والحيل والله تعالى أعلم.
__________
(1) ديوان الخنساء: 77.
(2) الكامل لابن عدي: 6/ 2112. ورواه النسائي في الزكاة: 16.
(3) رواه البخاري: مناقب 28. ومسلم: زكاة 25وإمارة: 9996. وأبو داود في الجهاد: 41. وابن ماجه في التجارات: 29. والجهاد: 14. والدارمي في الجهاد: 33. والموطأ في الجهاد: 44. وأحمد: 3/ 39. وفي البخاري: الخير معقود بنواصي الخيل إلى يوم القيامة.(2/323)
الحجروف:
دويبة طويلة القوائم أعظم من النمل حكاه ابن سيده.
الحجل:
بالفتح الذكر من القبج الواحدة حجلة واسم جمعه حجلى. ولم يأتي جمع على فعلى بكسر الفاء. الاحرفان حجلى وظربي جمع ظربان وهو دويبة منتنة الريح وستأتي في باب الظاء المشالة إن شاء الله تعالى. والحجل طائر على قدر الحمام، كالقطا أحمر المنقار والرجلين ويسمى دجاج البر، وهو صنفان: نجدي وتهامي، فالنجدي أخضر اللون أحمر الرجلين، والتهامي فيه بياض وخضرة. وفراخ هذا الطائر تخرج كاسية، ومن شأنها إذا لم تلقح أن تتمرغ في التراب، وتصبه على أصول ريشها فتلقح. ويقال إنها تبيض من سماع صوت الذكر أو بريح تهب من قبله، وإذا باضت ميز الذكر الذكور منها، فحضنها وهي تحضن الإناث وهما كذلك في التربية. قال التوحيدي: ويعيش الحجل عشر سنين ويصنع عشين يجلس الذكر على واحد، والأنثى على واحد، ومن طبع الحجل أنه يأتي أعشاش نظرائه، فيأخذ بيضها ويحضنه. فإذا طارت الفراخ لحقت بأمهاتها التي باضتها وفي تركيبه قوّة الطيران حتى إن الإنسان، إذا لم يره يظنه حجرا خرج من مقلاع. والذكر شديد الغيرة على الأنثى، فلذلك إذا اجتمع ذكران اقتتلا على الأنثى فأيهما غلب ذل الآخر. وتبعت الأنثى الغالب منهما. وفي طبع الذكر أن يخدع أمثاله بقرقرته، ولهذا يتخذه الصيادون في أشراكهم ليكثر القرقرة فيجتمع إليه أبناء جنسه فيقعن معه. وهو يفعل ذلك كالحاسد لها والمنتقم منها والأنثى إذا أصيب بيضها قصدت عش غيرها، وغلبتها على بيضها أو تسرقه وتحضنه.
فائدة:
ذكر في كتاب النشوان، وتاريخ ابن النجار عن أبي نصر محمد بن مروان الجعدي، أنه أكل بعض مقدمي الأكراد على سماط فيه حجلتان مشويتان، فأخذ الكردي بيده واحدة وضحك، فسأله عن ذلك فقال: قطعت الطريق في عنفوان شبابي على تاجر، فلما أردت قتله تضرع إلي فلم أقبل تضرعه، ولم أفلته فلما رأى الجد مني، التفت إلى حجلتين كانتا في جبل وقال اشهدا لي عليه إنه قاتلي ظلما فقتلته. فلما رأيت هاتين الحجلتين، تذكرت حمقه في استشهادهما علي. فقال ابن مروان لما سمع ذلك منه قد شهدتا والله عليك عند من يفيدك عند من يقيدك بالرجل ثم أمر بضرب عنقه.
الحكم:
أكلها حلال اتفاقا. وسيأتي إن شاء الله تعالى، في النحام، في باب النون عن كامل ابن عدي أن الطير المشوي الذي أهدي للنبي صلى الله عليه وسلم، كان حجلا. وقيل: كان نحاما. وصح أنه صلى الله عليه وسلم كان بين كتفيه خاتم مثل زر الحجلة. قال الترمذي: المراد بالحجلة هذا الطائر وزرها بيضها قلت: والصواب إنها حجلة السرير واحدة الحجال، وزرها الذي يدخل في عروتها.
وروى البيهقي في دلائل النبوّة عن الواقدي عن شيوخه أنهم قالوا: لما شك في موت النبي صلى الله عليه وسلم قال بعضهم: قد مات، وقال بعضهم: لم يمت، فوضعت أسماء بنت عميس يدها بين كتفيه، ثم قالت: توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم، قد رفع الخاتم من بين كتفيه. فكان هذا هو الذي عرف به موته صلى الله عليه وسلم. وأسماء بنت عميس كانت زوجة جعفر بن أبي طالب ثم تزوّجها الصديق، فأولدها محمدا ثم تزوّجها علي بن أبي طالب، بعد وفاة الصديق. وكان محمد بن أبي بكر صغيرا فرباه علي
فهو ربيب علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنهم أجمعين.(2/324)
وروى البيهقي في دلائل النبوّة عن الواقدي عن شيوخه أنهم قالوا: لما شك في موت النبي صلى الله عليه وسلم قال بعضهم: قد مات، وقال بعضهم: لم يمت، فوضعت أسماء بنت عميس يدها بين كتفيه، ثم قالت: توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم، قد رفع الخاتم من بين كتفيه. فكان هذا هو الذي عرف به موته صلى الله عليه وسلم. وأسماء بنت عميس كانت زوجة جعفر بن أبي طالب ثم تزوّجها الصديق، فأولدها محمدا ثم تزوّجها علي بن أبي طالب، بعد وفاة الصديق. وكان محمد بن أبي بكر صغيرا فرباه علي
فهو ربيب علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنهم أجمعين.
فائدة أخرى:
في المستدرك، عن وهب بن منبه، أنه قال: «لم يبعث الله نبيا إلا وقد كان عليه شامة النبوة في يده اليمنى، إلا نبينا محمدا صلى الله عليه وسلم فإن شامة النبوة كانت بين كتفيه». (1) وقال علي رضي الله تعالى عنه: لأهل العراق يا أشباه الرجال ولا رجال، يا عقول ربات الحجال! وقال كثير عزة:
وأنت الذي حببت كل قصيرة ... إلي فلا تدرك نداك القصائر ... عنيت قصيرات الحجال ولم أرد ... قصار الخطاشر النساء البحاتر (2)
وسيأتي الكلام على خاتم النبوة في باب الكاف في لفظ الكركي.
الأمثال:
ضرب النبي صلى الله عليه وسلم المثل بالحجل فقال (3): «اللهم إني أدعو قريشا وقد جعلوا طعامي طعام الحجل». يريد أنه يأكل الحبة بعد الحبة لا يجد في الأكل. وقال الأزهري: أراد إنهم غير جادين في إجابتي فلا يدخل منهم في دين الله إلا النادر القليل. وروى الحافظ أبو القاسم الأصبهاني في كتاب الترغيب والترهيب، عن أنس رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (4)
«أول ما يحاسب العبد عليه يوم القيامة صلاته فإن صلحت صلح سائر عمله، وإن فسدت فسد سائر عمله». قال وكان يقول: «حاذوا المناكب في الصلاة فإن الشيطان يتخلل الصفوف كما يتخلل الحجل والصف الأيمن خير من الصف الأيسر» قال قوله: حاذوا من الحذاء وهو أن يجعل المنكب بجنب المنكب.
الخواص:
لحمها معتدل جيد سريع الهضم إذا ابتلع من كبدها وهي حارة قدر نصف مثقال نفع من الفزع، ومرارتها تنفع الغشاوة المظلمة في العين اكتحالا. وإذا سعط بمرارتها إنسان في كل شهر مرة احتد ذهنه، وقل نسيانه، وقوي بصره. وقال المختار بن عبدون: بيض الحجل ألطف من بيض الدجاج، وهو نافع للمترفهين وضار بأصحاب الكد، ويولد غذاء معتدلا، ويوافق أصحاب الأمزجة المعتدلة، وهو أجود هضما من بيض الدجاج، وأجود ما يعمل أن يلقى في الماء وهو يغلي وفيه ملح أو خل، ويكون الماء متساويا عليه. وكذلك كل بيض، وأما المطجن من كل بيض فرديء جدا يولد حجارة في المثانة، ويحدث غما وقولنجا. والمغلي في الماء أهضم منه وأنفع ومن المقلي في الأدهان أيضا انتهى. وقال غيره: بيض الحجل إذا طبخ في الماء المغلي في الكمون والملح أو بخل اعنصل وأكل نفع من المغص وسائر أوجاع البطن.
وأما رؤيته في المنام:
فالحجلة تدل على امرأة غير الفة وربما تدل رؤيتها على محبة الأولاد.
الحدأة:
بكسر الحاء المهملة، أخس الطير، كنيته أبو الخطاف، وأبو الصلت، ولا تقل
__________
(1) رواه البخاري في الوضوء: 40، والمرضى: 18، والدعوات: 31. ورواه مسلم في الفضائل: 112.
(2) البحاتر: القصار.
(3) رواه أحمد: 1/ 104.
(4) مختصر الترغيب والترهيب ص 26. ورواه الترمذي في الصلاة: 188. والنسائي صلاة 9.(2/325)
حدأة بفتح الحاء، لأنها الفاس التي لها رأسان وقد جاء في الحديث الحديا على وزن الثريا، كذا قيده الأصيلي. وقد جاء الحدياة بغير همز وفي بعض الروايات الحديثة بالهمزة كأنه تصغير. ذكره الصاغاني قال: وصواب تصغيره الحديثة بالهمز وإن ألقيت حركة الهمزة على الياء شددتها، وقلت: الحدية على مثال عليه. وفي الحديث لا بأس بقتل الحدو والإفعو، قال الأزهري: هي لغة فيهما. وقال ابن السراج: بل هي على مذهب الوقف لا على هذه اللغة قلب الألف واوا على لغة من قال حدا وكذا أفعى انتهى. وقال الأصمعي: جمع الحدأة حدأ كلبا وزاد ابن قتيبة وحدآن.
قال الجوهري: هي مثل عنبة وعنب وقد قال في ع ن ب الحبسة من العنب عنبة وهو بناء نادر لأن الأغلب على هذا البناء الجمع نحو قرد وقردة وفيل وفيلة وثور وثورة. إلا أنه قد جاء للواحد، وهو قليل نحو العنبة والتولة والطيبة والخيرة والطيرة ولا أعرف غيره انتهى. وهو قد ذكر ذلك في حدأة كما تقدم والطيبة المغنم الهنيء والتولة ما تحبب به المرأة لزوجها، والخيرة والطيرة معروفتان. قلت: وقد يرد عليه ثومة جمعه ثوم وذبحة وهو وجع في الحلق ومنة وهو العنكبوت، ورمخة وهي البلحة وضمخة وهي السمينة وهننة وهي نوع من القنافذ وتيمة وهي شجرة بوادي إبراهيم بالحجاز، والحدأة تبيض بيضتين، وربما باضت ثلاثا، وخرج منها ثلاثة أفراخ، وتحضن عشرين يوما، ومن ألوانها السود والرمد وهي لا تصيد وإنما تخطف. ومن طبعها أنها تقف في الطيران، وليس ذلك لغيرها من الكواسر. وزعم ابن وحشية وابن زهر أن العقاب والحدأة يتبدلان فيصير العقاب حدأة والحدأة عقابا. وفي نسخة الغراب بدل العقاب فسبحان القادر على ما يشاء. ويقال: إنها أحسن الطير مجاورة لما جاورها من الطير، فلو ماتت جوعا لا تعدو على فراخ جارها وتزعم رواة الأخبار ونفلة الآثار أنها كانت من جوارح سليمان بن داود عليهما الصلاة والسلام، وإنما امتنعت من أن تؤلف أو تملك لأنها من الملك الذي لا ينبغي لأحد من بعده.
والسبب في صياحها عند سفادها أن زوجها قد جحد ولدها منه، فقالت: يا نبي الله قد سفدني حتى إذا حضنت بيضي وخرج منه ولدي جحدني. فقال سليمان عليه السلام للذكر: ما تقول؟ فقال: يا نبي الله إنها تحوم البراري ولا تمتنع من الطير فلا أدري أهو مني أو من غيري! قال: فأمر سليمان عليه السلام بإحضار الولد فوجده شبه والده فألحقه به. ثم قال لها سليمان عليه السلام: لا تمكنه أبدا حتى تشهدي عليه ذلك الطير لئلا يجحد بعدها. فصارت إذا سفدها صاحت وقالت: يا طيور اشهدوا فإنه سفدني اهـ. وتقول في صياحها كل شيء هالك إلا وجهه وهي طرشاء ولو كانت مما يصاد بها لما كان من الكواسر أحسن صيدا منها، ولا أجل ثمنا. ومن طبعها أنها لا تخطف إلا من يمين من تخطف منه، دون شماله، حتى إن بعض الناس يقول: إنها عسراء لأنها لا تأخذ من شمال إنسان شيئا. وقال القزويني: إنها سنة ذكر وسنة أنثى. وفي صحيح البخاري وغيره أن أعرابية كانت تخدم نساء النبي صلى الله عليه وسلم وكانت كثيرا ما تتمثل بهذا البيت (1).
ويوم الوشاح من أعاجيب ربنا ... على أنه من ظلمة الكفر نجاني
__________
(1) البيت في كتاب الحيوان للجاحظ: 5/ 153. وفيه:
ويوم السّخاب من تعاجيب ابنا ... كما أنه من بلدة الكفر نجاني(2/326)
فقالت لها عائشة رضي الله تعالى عنها: ما هذا البيت الذي أسمعه منك: فقالت شهدت عروسا لنا تجلى، إذ دخلت مغتسلا لنا وعليها وشاح، فوضعته فجاءت الحديا فأبصرت حمرته فأخذته، ففقدوا الوشاح فاتهموني به ففتشوني حتى قبلي فدعوت الله أن يبرئني «فجاءت الحديا بالوشاح حتى ألقته بينهم» (1). كذا قيده الأصيلي الحديا على وزن الثريا. وروي من طريق الصاغاني وغيره: الحدياة بغير همزة والحديئة بالهمز. وفي رواية فرفعت رأسي وقلت يا غياث المستغيثين فما أتممتهن، حتى جاء غراب فرمى الوشاح، أو قالت فألقى الوشاح بيننا فلو رأيتني يا أم المؤمنين وهن حولي يقلن: اجعلينا في حل، فنظمت ذلك في بيت، فأنا أنشده لئلا أنسى النعمة فأترك شكرها. وروى الحافظ النسفي في كتاب فضائل الأعمال بإسناده إلى حماد بن سلمة، أن عاصم بن أبي النجود، شيخ القراء، في زمانه قال: أصابتني خصاصة (2) فجئت إلى بعض إخواني فأخبرته بأمري فرأيت في وجهه الكراهة، فخرجت من منزله إلى الجبانة فصليت ما شاء الله، ثم وضعت وجهي على الأرض، وقلت: يا مسبب الأسباب، يا مفتح الأبواب، يا سامع الأصوات، يا مجيب الدعوات، يا قاضي الحاجات اكفني بحلالك عن حرامك، وأغنني بفضلك عمن سواك. قال: فو الله ما رفعت رأسي حتى سمعت وقعة بقربي فرفعت رأسي فإذا حدأة طرحت كيسا أحمر فأخذت الكيس فإذا فيه ثمانون دينارا جوهرة ملفوفة في قطنة مندوفة. قال: فبعت الجوهرة بمال عظيم وفضلت الدنانير فاشتريت بها عقارا وحمدت الله على ذلك انتهى. وحكى القشيري في الرسالة، في آخر باب كرامات الأولياء، عن شبل المروزي أنه اشترى لحما بنصف درهم فاستلبته منه حدأة فدخل شبل مسجدا يصلي فيه، فلما رجع إلى منزله قدمت له زوجته لحما، فقال لها من أين لكم هذا؟ فقالت: تنازع حدأتان فسقط هذا منهما! فقال شبل: الحمد لله الذي لم ينس شبلا، وإن كان شبل ينساه. وفي كتاب المجالسة للدينوري، في الجزء الثالث، عن عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه، قال: كان سعد بن أبي وقاص بين يديه لحم، فجاءت حدأة فأخذته فدعا عليها سعد فاعترض عظم في حلقها فوقعت ميتة انتهى. وروينا بالسند الصحيح أن الشيخ عبد القادر الجيلي قدس الله روحه، جلس يوما يعظ الناس، وكانت الريح عاصفة، فمرت على مجلسه حدأة طائرة، فصاحت فشوشت على الحاضرين ما هم فيه، فقال الشيخ: يا ريح خذي رأس هذه الحدأة فوقعت لوقتها في ناحية ورأسها في ناحية فنزل الشيخ عن الكرسي وأخذها بيده، وأمر يده الأخرى عليها. وقال: بسم الله الرحمن الرحيم فحييت وطارت والناس يشاهدون ذلك.
الحكم:
يحرم أكلها لأنها من الفواسق الخمس المأمور بقتلها. قال الخطابي: المراد بفسقها تحريم أكلها. وسيأتي إن شاء الله تعالى في باب الفاء في لفظ الفأر بيان ذلك. وفي الصحيحين من حديث ابن عمر وعائشة وحفصة رضي الله تعالى عنهم أجمعين، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (3): «خمس
__________
(1) رواه البخاري في مناقب الأنصار: 26.
(2) الخصاصة: الفقر.
(3) رواه مسلم في الحج: 67، 68، 69. والنسائي في المناسك 113، 114، 118، 119. وابن ماجه في المناسك: 91، وفي الموطأ: حج 90، وأحمد: 6/ 259164122978733.(2/327)
فواسق يقتلن في الحل والحرم». وفي رواية «ليس على المحرم في قتلهن جناح الحدأة والغراب الأبقع والعقرب والفأرة والكلب والعقور». نبه صلى الله عليه وسلم بذكر هذه الخمسة على جواز قتل كل مضر فيجوز له أن يقتل الفهد والنمر والذئب والصقر والشاهين والباشق والزنبور والبرغوث والبق والبعوض والوزغ والذباب والنمل إذا آذاه. قال الرافعي: وفي معنى هذه الخمسة: الفحية والذئب والأسد والنمر والنسر والعقاب، فهذه الأنواع يستحب قتلها للمحرم وغيره. وقال في باب الأطعمة ما يخالف ذلك وهو أن قتلها على سبيل الوجوب وسيأتي بيان هذا إن شاء الله تعالى، في باب الصاد في الكلام على الصيد.
الأمثال:
قالوا (1): «حدأة حدأة وراءك بندقة» قال أبو عبيدة: يراد بذلك هذه الحدأة التي تطير، والبندقة ما يرمي به يضرب للتحذير.
الخواص:
مرارتها تجفف في الظل وتنقع في إناء زجاج، فمن لسعه شيء من الهوام، قطر منه في الموضع الذي لسع فيه، واكتحل مخالفا إن لسع في الجانب الأيمن، اكتحل في العين اليسرى، وإن لسع في الجانب الأيسر اكتحل في العين اليمنى ثلاثة أميال، فإنه ينجيه. وإن سحقت وطرحت في سلة الحاوي، ماتت الحيات كلها. ودمها إذا خلط بقليل مسك وماء ورد شرب على الريق نفع من ضيق النفس. وإن علقت وهي حية في بيت لم يدخله حية ولا عقرب.
التعبير:
الحدأة تدل رؤيتها على الحرب والقتال، لما قيل «حدأة حدأة وراءك بندقة» قال بعض أهل اللغة: إن حدأة وبندقة كانتا قبيلتين من سعد العشيرة، فأغارت حدأة وتغلبت، وكانت تنزل بالكوفة على بندقة، وكانت تنزل باليمن، فنالت منهم، ثم كسرت بندقة حدأة وتغلبت عليهم. وقيل: هي الطائر المعروف، وبندقة الرامي كما تقدم. وربما دلت على الرجل المتجرم أو المرأة الزانية. وجماعة الحدأ تدل على قطاع الطريق، وربما دلت رؤيتها على من يحل قتاله لكفره وشركه، فإن قتلهم مباح في الحل والحرم، وكذلك الحدأة قاله ابن الدقاق. وقال غيره: الحدأة في المنام ملك خامل الذكر ظالم، وذلك لقوة سلاحه وقربه من الأرض. ومن أصاب حدأة ولد له غلام وينال قبل البلوغ ملكا، فإن طارت منه مات الولد. وقال أراطيمدورس:
الحدأة في المنام تدل على اللصوص والخطافين وتدل على النساء والله أعلم.
الحذف:
بفتح الحاء والذال المعجمة غنم سود صغار من غنم الحجاز، الواحد حذفة وفي حديث الصلاة «لا يتخللكم الشياطين كأنها حذف». وفي رواية (2) كأولاد الحذف قيل: «يا رسول الله وما أولاد الحذف؟ قال: ضأن سود جرد صغار تكون باليمن».
الحر:
الفرس العتيق وفرخ الحمامة وقيل الذكر منها وولد الظبية وولد الحية والصقر البازي وقال ابن سيده: الحر طائر صغير أنمر أصقع قصير الذنب عظيم المنكبين والرأس. وقيل إنه يضرب إلى الخضرة وهو يصيد.
__________
(1) جمهرة الأمثال: 1/ 305.
(2) رواه ابن حنبل: 2974، 26652832603وأبو داؤد في الصلاة: 93. والنسائي إمامة: 28.(2/328)
الحرباء:
كنيته أبو خجادب وأبو الزنديق وأبو الشقيق وأبو قادم. ويقال له جمل اليهود كما تقدم. قال الإمام القزويني في كتاب عجائب المخلوقات: لما كان الحرباء خلقا بطيء النهضة وكان لا بد له من القوت خلقه الله على صورة عجيبة فخلق عينيه تدور إلى كل جهة من الجهات، حتى يدرك صيده من غير حركة في يديه، ولا قصد إليه، ويبقى كأنه جامد، أو كأنه ليس من الحيوان.
ثم أعطي مع السكون خاصية أخرى، وهو أنه يتشكل بلون الشجرة التي يكون عليها، حتى يكاد يختلط لونه بلونها، ثم إذا قرب منه ما يصطاده من ذباب وغيره، أخرج لسانه ويخطف ذلك بسرعة، كلحوق البرق، ثم يعود إلى حاله كأنه جزء من الشجرة، وخلق الله لسانه بخلاف المعتاد ليلحق ما بعد عنه بثلاثة أشبار ونحوها، يصطاد به على هذه المسافة، وإذا رأى ما يروعه ويخوفه تشكل وتكوّن على هيئة وشكل، يفر منه كل من يريد من الجوارح ويكرهه بسبب ذلك التلون.
انتهى.
والحرباء أكبر من العظاية، وهي تستقبل الشمس وتدور معها كيفما دارت، وتتلون بحر الشمس كما قال الإمام الغزالي ألوانا مختلفة، فتتلون إلى حمرة وصفرة وخضرة وما شاءت. وهو ذكر أم حبين والجمع الحرابي والأنثى حرباءة. قال رجل: خاصمت ابن أخي إلى معاوية فجعلت أحجه، فقال: أنت كما قال الشاعر (1):
إني أتيح له حرباء تنضبة ... لا يرسل السماق إلا ممسكا ساقا
أراد بالساق هنا الغصن من أغصان الشجرة. والمعنى: أنه لا تنقضي له حجة حتى يتمسك بأخرى، تشبيه بالحرباء. قال الجوهري: ويقال حرباء تنضب كما يقال ذئب غضى. والتنضب شجر يتخذ منه السهام والتاء زائدة لأنه ليس في الكلام فعلل، وفي الكلام تفعل مثل تقتل وتخرج، والواحدة تنضبة، ويقال لها أيضا حرباء الظهيرة. وهي دويبة غبراء ما دامت فرخا، ثم تصفو وهي أبدا تطلب الشمس، فحين تبدو تنحرف بوجهها إليها حتى إذا استوت الشمس، علت رأس شجرة وما يجري مجراها، فإذا صار قرص الشمس فوق رأسها، بحيث لا تراها أصابها مثل الجنون، فلا تزال طالبة لها، ولا تفتر إلى أن تتصوّب إلى جهة المغرب، فترجع بوجهها إليها مستقبلة لها، ولا تنحرف عنها إلى أن تغيب الشمس، فإذا غابت الشمس، طلب هذا الحيوان معاشه ليله كله إلى أن يصبح. حتى إن طائفة من المتكلمين على طبائع الحيوان، يقولون: إنه مجوسي ولسانه طويل جدا مقدار ذراع كما تقدم، وذلك دليل على أنه يكون مطويا في حلقه، وهو يبلغ به ما بعد عنه من الذباب والأنثى من هذا النوع تسمى أم حبين. وستأتي في آخر الباب.
وقد سمي أبو النجم في بعض شعره الحرباء بالشقي، وليس الشقي باسم للحرباء، وإنما سماه به لاستقباله الشمس، كذا ذكره في المحكم في العين والنون والباء.
وهذا الحيوان يوصف بالحزم لأنه، مع تقلبه مع الشمس، لا يرسل يده من غصن حتى يمسك غيره، وهو يشبه رأس العجل وعلى هيئة السمكة الصغيرة، وله أربعة أرجل كسام أبرص. وذكر الشيخ جمال الدين بن هشام، في شرح بانت سعاد، أن للحرباء سناما كسنام البعير وإنه يتلون ألوانا، ويكنى أبا قرة، وهي تتلون بلون الشجرة، التي تكون عليها، حتى تكاد تختلط بلونها، فإذا
__________
(1) هو أبو داود الأيادي والبيت في الحيوان: 6/ 367. وفيه: «لا يترك الساق».(2/329)
قرب منها الذباب ونحوه اختطفته بلسانها، وقد تقدم عن القزويني نظير ذلك.
الحكم:
قال في الروضة إنها نوع من الوزغ غير مأكولة لكن مقتضى ما قاله الجاحظ والجوهري من أنها ذكر أم حبين، أنها تؤكل، لأن أم حبين مأكولة كما سيأتي إن شاء الله تعالى.
لكن قالوا: إن الحرباء من ذوات السموم، فيكون هذا علة تحريمها إلا إنها نوع من الوزغ.
الأمثال:
قالوا: «فلان يتلون تلون الحرباء»، يضرب لمن لا يثبت على حالة، وقالوا:
«أجود من عين الحرباء» «وأحزم من الحرباء» لما (1) تقدم. والحزم الاحتراس والنظر في الأمر قبل الإقدام عليه.
الخواص:
دمها إذا نتف الشعر النابت في أجفان العين وجعل في أصوله لم ينبت أبدا ومرارتها إذا اكتحل بها أزالت غشاوة البصر. وشحمها إذا جعل على حديدة وأحرق بالنار وخلط بالدم، مع شيء يسير من الماء وجدد عليه الدم والشحم، وطلي به قروح الرأس والأبثار، فإنه يبرئها من أول طلية.
التعبير:
الحرباء في المنام وزير ملك أو خليفته، لا يكاد يفارقه لأنها تدور أبدا مع الشمس، ولا تفارقها كما تقدم. وربما دلت على الخدمة للسلطان، أو الفتنة في الدين أو المرأة المجوسية وربما دلت على الحرب والندب وعلى الميت والله أعلم.
الحرذون:
بكسر الحاء وبالذال المعجمة دويبة شبيهة بالضب، وقيل: هو ذكر الضب لأن له ذكرين مثله وهو من ذوات السموم يوجد في العمران المهجورة كثيرا له كف ككف الإنسان مقسومة الأصابع إلى الأنامل، وجلده لا برص فيه، بخلاف سام أبرص، والحق أنه غير الورل خلافا لعبد اللطيف البغدادي.
وحكمه
: تحريم الأكل لأنه من ذوات السموم.
الخواص:
قال أرسطو: من اطّلى بشحم الحرذون، وألقى نفسه على التمساح لم يضره التمساح، وإذا شم رائحته خدر وانقلب على ظهره. وإن أحرق جلده واطلى به إنسان لم يحس بألم الضرب والقطع، ولو فرق بين رأسه وجسده، والعيارون يفعلون ذلك، فيظهر منهم الثبات على الضرب وغيره، والحرذون يقتل العقرب وإذا علق شحمه على صاحب حمى الربع في خرقة سوداء أبرأه وأزالها، وقال مهراريس: إنما يعلق قلبه على الوصف الذي تقدم.
ورؤيته في المنام:
تدل على الطمع والشره في الكسب واختلاف المزاج والذهول والنسيان والله تعالى أعلم.
الحرشاف أو الحرشوف:
الجراد المهزول الكثير الأكل الواحدة حرشافة. وفي حديث خولة بنت ثعلبة زوج أوس بن الصامت رضي الله عنهما، لما قال لها: أنت كظهر أمي، وجاءت تستفتي له رسول الله صلى الله عليه وسلم وتشتكي إلى الله، فأنزل الله عزّ وعلا فيها:
__________
(1) جمهرة الأمثال: 1/ 329.(2/330)
{قَدْ سَمِعَ اللََّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجََادِلُكَ فِي زَوْجِهََا وَتَشْتَكِي إِلَى اللََّهِ} (1) إلى آخر الآيات. قال لها النبي صلى الله عليه وسلم: «مريه أن يعتق رقبة (2). قالت:
والله ما يجد رقبة وماله خادم غيري. قال: مريه فليصم شهرين متتابعين. قالت: والله يا رسول الله ما يقدر على ذلك، إنه ليشرب في اليوم كذا كذا مرة قد ذهب بصره مع ضعف بدنه، وإنما هو كالحرشافة» شبهته بالجراد المهزول الكثير الأكل.
الحرقوص:
بضم الحاء المهملة وبالقاف المضمومة وبالصاد المهملة في آخره وبالسين في لغة عوض الصاد دويبة كالبرغوث صغير أرقط بحمرة أو صفرة، ولونه الغالب عليه السواد. وربما نبت له جناحان فطار قال الراجز:
ما لقى البيض من الحرقوص ... يدخل تحت الحلق المرصوص ... من مارد لص من اللصوص ... بمهر لا غال ولا رخيص
أراد بلا مهر أصلا. وقيل هي دويبة مثل القراد وأنشدوا:
مثل الحراقيص على حمار
وفي ربيع الأبرار للزمخشري: أنها دويبة أكبر من البرغوث، وعضها أشد من عضه، وهي مولعة بفروج النساء تولع النمل بالمذاكير، وينبت لها جناحان كما ينبت للنملة، وقيل الحرقوص البرغوث بعينه، واحتج له بقول الطرماح: (3)
ولو أن حرقوصا على ظهر قملة ... يكر على صفي تميم لولت (4)
ويقال له النهيك وقالت أعرابية:
يا أيها الحرقوص مهلا مهلا ... أإبلا أعطيتني أم نحلا
أم أنت شيء لا تبالي الجهلا
وقال ابن سيده: الحرقوص دويبة محزمة لها حمة كحمة الزنبور تلدغ بها كأطراف السياط، ولذلك يقال لمن ضرب بأطراف السياط أخذته الحراقيص.
فائدة:
الحرقوص السعدي رجل من الصحابة وهو ذو الخويصرة التميمي، الذي بال في المسجد وهو القائل للنبي صلى الله عليه وسلم، وهو يقسم: اعدل. فقال: «ويلك فمن يعدل إذا لم أعدل» قد «خبت وخسرت إن لم أعدل» (5). وهو الذي خاصم الزبير في شراج الحرة، وقال أن كان ابن عمتك «فأمر النبي صلى الله عليه وسلم الزبير باستيفاء حقه».
__________
(1) سورة المجادلة: الآية 1.
(2) الموطأ طلاق: 23. وابن حنبل: 4106.
(3) الطرماح بن حكيم بن الحكم، من طيء شاعر إسلامي فحل، كان يدافع عن المعتزلة مات سنة 125.
(4) الشعر والشعراء: 389. وفيه: «ولو أن برغوثا».
(5) رواه البخاري في المناقب: 25، والأدب: 95. ورواه ابن ماجه في المقدمة: 12. ورواه مسلم في الزكاة:
148142 - وابن حنبل: 35535365563.(2/331)
وقال ابن الأثير، في أسد الغابة: الحرقوص بن زهير السعدي من الصحابة ذكره الطبري وقال: إن الهرمز أن الفارسي، كفر ومنع ما قبله واستعان بالأكراد وكثر جمعه فكتب عتبة بن غروان إلى عمر رضي الله عنه بذلك، فكتب إليه عمر يأمره بقصده وأمد المسلمين بحرقوص بن زهير.
وكانت له صحبة من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمره بالقتال فاقتتل المسلمون والهرمزان، فانهزم الهرمزان.
وفتح حرقوص سوق الأهواز ونزل بها. وله أثر كبير في قتال الهرمزان. وبقي حرقوص إلى أيام علي رضي الله تعالى عنه وشهد معه صفين ثم صار مع الخوارج ومن أشدهم على علي. وكان مع الخوارج لما قاتلهم علي فقتل حرقوص يومئذ سنة سبع وثلاثين.
وحكمه:
تحريم الأكل لأنه من الحشرات.
الحريش:
نوع من الحيات أرقط. كذا قاله الجوهري بعد هذا: الحريش دابة لها مخالب كمخالب الأسد، ولها قرن واحد في هامتها ويسميها الناس بالكركدن. وقال أبو حيان التوحيدي: هي دابة صغيرة في جرم الجدي ساكنة جدا. غير أن لها من قوّة الجسم وسرعة الحركة ما يعجز القناص ولها في وسط رأسها قرن واحد مصمت مستقيم، تناطح به جميع الحيوان، فلا يغلبها شيء ويحتال لصيدها بأن تتعرض لها فتاة عذراء أو صبية فإذا رأتها وثبت إلى حجرها كأنها تريد الرضاع، وهذه محبة فيها طبيعية ثابتة فإذا هي صارت في حجرة الفتاة، أرضعتها من ثديها على غير حضور اللبن فيها، حتى تصير كالنشوان من الخمر، فيأتيها القناص على تلك الحالة، فيشدها وثاقا على سكون منها، بهذه الحيلة. وقال القزويني في الأشكال: الحريش حيوان في حجم الجدي ذو عدو شديد، وعلى رأسه قرن واحد كقرن الكركدن، وأكثر عدوه على رجليه لا يلحقه شيء في عدوه، ويوجد في غياض بلغار وسجستان انتهى.
وحكمه:
التحريم سواء كان من نوع الحيات أو الحيوان الموصوف لعموم النهي عن أكل كل ذي ناب من السباع.
الخواص:
دمه يشربه من به خناق ينفتح في الحال، ولحمه يبرىء صاحب القولنج أكلا.
وكعبه يجعل على العرق المدمي يسكن ألمه.
الحسبان:
الجراد واحده حسبانة وكذلك النملة الصغيرة.
الحساس:
جنس من السمك صغار وهو الهف.
الحسل:
ولد الضب. والجمع أحسال وحسول وحسلان وحسلة. يقال ذلك لولد الضب حين يخرج من بيضته وكنية الضب أبو حسل.
وحكمه
: كأبيه.
الأمثال:
قالوا (1): «لا آتيك سن الحسل». أي أبدا لأن سنها لا تسقط حتى تموت وأنشد العجاج يقول (2):
__________
(1) جمهرة الأمثال: 1/ 336.
(2) البيتان لرؤية بن العجّاج وهو في ديوانه: 128.(2/332)
إنك لو عمرت عمر الحسل ... أو عمر نوح زمن الفطحل (1)
... والصخر مبتل كطين الوحل ... كنت رهين هرم وقتل (2)
الفطحل على وزن الهزبرز من لم يخلق فيه الناس وكانت الحجارة فيه رطبة.
الحسيل:
ولد البقرة الأهلية لا واحد له من لفظه. والأنثى حسيلة. كذا قاله الجوهري وهو وهم والصواب الحسيل أولاد البقر واحده حسيلة لأنه سمع له واحد من لفظه. وفي كفاية المتحفظ: الحسيلة البقرة وجمعها حسائل.
حسون:
عصفور ذو ألوان، بحمرة وصفرة وبياض وسواد وزرقة وخضرة، يسميه أهل الأندلس أبا الحسن، والمصريون أبا زقاية وربما أبدلوا الزاي سينا، وهو يقبل التعليم فيعلم أخذ الشيء من يد الإنسان المتباعد ويأتي به إلى مالكه. وهو داخل في عموم العصافير. وسيأتي إن شاء الله تعالى في باب العين المهملة.
الحشرات:
صغار دواب الأرض وصغار هوامها. الواحدة حشرة بالتحريك. وابن أبي الأشعث يسمي جميع هذا الحيوان الأرضي، لأنه لا يفارقها إلى الهواء، ولا إلى الماء وهو يأوي في حجرته، ويركز في بطنها ولا يحتاج إلى شرب الماء، ولا إلى شم النسيم. وهو قرين الأفاعي والحيات والجرذان الأهلية والبربة، واليربوع والضب والحرذون والقنفذ والعقرب والخنفساء والوزغ والنمل والحلم، وأنواع أخرى، سيأتي منها ما لم يتقدم له ذكر.
فائدة:
قوله (3) تعالى: {أُولََئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللََّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللََّاعِنُونَ} قال مجاهد: اللاعنون الحشرات والبهائم، يصيبهم الجدب بذنوب علماء السوء الكاتمين، فيلعنونهم. رواه ابن ماجه مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم. فإن قيل: كيف جمع ما لا يعقل جمع من يعقل؟ فالجواب أنه أسند إليهم فعل من يعقل كما قال: {رَأَيْتُهُمْ لِي سََاجِدِينَ} (4). ولم يقل ساجدات. وكقوله (5) تعالى:
{وَقََالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنََا} وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما. اللاعنون كل المخلوقات ما عدا الجن والإنس. وقيل ما عدا الملائكة فقط.
الحكم:
يحرم أكل الحشرات، ولا يصح بيعها لعدم النفع بها. وبه قال الإمام أحمد وأبو حنيفة وداود. وقال مالك: إنها حلال لقوله (6) تعالى: {قُلْ لََا أَجِدُ فِي مََا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى ََ طََاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلََّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً} الآية. ولحديث التلب بن ثعلبة بن ربيعة التميمي قال:
«صحبت النبي صلى الله عليه وسلم فلم أسمع لحشرة الأرض تحريما». رواه أبو داود والتلب بتاء مثناة من فوق مفتوحة ثم لام مكسورة ثم باء ثالثة الحروف. وقال شعبة الثلب بثاء مثلثة وفي سنن أبي داود، في كتاب العتاق، عن أحمد أنه قال: كان شعبة ألثغ لم يبين التاء من الثاء. وكذلك قال الإمام الحافظ أبو عمر بن عبد البر، ثم قال: وكان التلب يكنى أبا الملقام، روى عنه ابنه ملقام أنه أتى
__________
(1) في الديوان: «فقلت: لو عمرت سن الحسل.
(2) في الديوان: «كنت رهين».
(3) سورة البقرة: الآية 159.
(4) سورة يوسف: الآية 4.
(5) سورة فصلت: الآية 21.
(6) سورة الأنعام: الآية 145.(2/333)
النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «استغفر لي يا رسول الله، فقال: اللهم اغفر للتلب وارحمه». ثلاثا. واحتج الشافعي والأصحاب بقوله (1) تعالى: {وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبََائِثَ} وهو ما تستخبثه العرب. وبقوله (2)
صلى الله عليه وسلم: «خمس من الدواب كلهن فاسق يقتلن في الحل والحرم: الغراب والحدأة والعقرب والفأرة والكلب العقور». رواه البخاري ومسلم من رواية عائشة وحفصة وابن عمر رضي الله عنهم وعن أم شريك أنه صلى الله عليه وسلم «أمر بقتل الأوزاغ». رواه (3) الشيخان. وأما قوله تعالى: {قُلْ لََا أَجِدُ فِي مََا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً} (4) الآية: فقد قال الشافعي وغيره من العلماء: معناه مما كنتم تأكلونه وتستطيبونه. وقال الغزالي، في الوسيط: لا يؤكل من الحشرات إلا الضب. وقد استدرك عليه اليربوع وابن عرس وأم حبين والقنفذ والدلدل. وسيأتي الكلام عليهن في أماكنهن إن شاء الله تعالى.
الحشو والحاشية:
صغار الإبل التي لا كبار فيها وكذلك من الناس.
الحصان:
بكسر الحاء المهملة الذكر من الخيل. قيل: إنما سمي حصانا لأنه حصن ماء فلم ينز إلا على كريمة. روى البخاري ومسلم والترمذي والنسائي عن البراء بن عازب رضي الله تعالى عنه، قال: كان رجل يقرأ سورة الكهف، وإلى جانبه حصان مربوط، فغشيته سحابة فجعلت تدنو وتدنو فجعل فرسه ينفر، فلما أصبح ذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: «تلك السكينة تنزلت للقرآن» (5). والرجل المذكور أسيد بن حضير.
وفي الخبر أن فرعون هاب دخول البحر، وكان على حصان أدهم، ولم يكن في خيل فرعون أنثى، فجاءه جبريل على فرس وديق أي تشتهي الفحل على صورة هامان، وقال له: تقدم فخاض للبحر، فتبعها حصان فرعون وميكائيل يسوقهم لا يشرد منهم أحد، فلما صار آخرهم في البحر، وهم أولهم أن يخرج انطبق عليهم فأغرقهم أجمعين. وروي عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه، أنه قال: كان أصحاب موسى ستمائة ألف وسبعين ألفا. وقال عمرو بن ميمون: كانوا ستمائة ألف. وقيل: خرج موسى في ستمائة ألف وعشرين ألف مقاتل لا يعدون ابن العشرين لصغره، ولا ابن الستين لكبره. وكانوا يوم دخول مصر مع يعقوب اثنين وسبعين ألفا، ما بين رجل وامرأة. فلما أراد المسير، ضرب الله عليهم التيه، فلم يدروا أين يذهبون، فدعا موسى مشيخة
__________
(1) سورة الأعراف: الآية 157.
(2) رواه مسلم في الحج: 7977716966والبخاري في الصيد: 7. وبدء الخلق: 16، وأبو داود في المناسك: 39، والترمذي في الحج: 21، والنسائي في الحج: 88868482 وابن ماجه مناسك: 91. والدارمي مناسك: 19. الموطأ حج: 9088. أحمد: 30832 32.
(3) رواه البخاري في بدء الخلق: 15، أنبياء: 8. ورواه مسلم في السلام: 144142. وأبو داود في الأدب: 163. النسائي مناسك: 115. وابن ماجه صيد: 12. الدارمي أضاحي: 27. أحمد: 1 176.
(4) سورة الأنعام: الآية 145.
(5) رواه البخاري في المناقب: 25، وفضائل القرآن: 11، ورواه مسلم في المسافرين: 241240. ورواه الترمذي في ثواب القرآن: 6. وابن حنبل: 4/ 298293281.(2/334)
بني إسرائيل، وسألهم عن ذلك؟ فقالوا: إن يوسف عليه الصلاة والسلام، لما حضره الموت أخذ على إخوته عهدا أن لا يخرجوا من مصرحتى يخرجوه معهم، فلذلك أنسد علينا الطريق. فسألهم عن موضع قبره فلم يعلموا فقام موسى ينادي أنشد الله كل من يعلم أين قبر يوسف إلا أخبرني به، ومن لم يعلم فصمت أذنه عن قولي، فكان يمر بين الرجلين وهو ينادي فلا يسمعان صوته، حتى سمعته عجوز من بني إسرائيل فقالت: أرأيتك إن دللتك على قبره أتعطيني كل ما سألتك؟
فأبى عليها، وقال: حتى أسأل ربي عزّ وجلّ. فأمره الله أن يعطيها سؤالها. فقالت: إني عجوز كبيرة لا أستطيع المشي فاحملني وأخرجني من مصر هذا في الدنيا، وأما في الآخرة فأسألك أن لا تنزل غرفة في الجنة إلا نزلتها معك. قال: نعم. قالت: إنه في جوف الماء في النيل، فادع الله حتى يحسر عنه الماء. فدعا الله تعالى فحسر عنه الماء. ودعا الله تعالى أن يؤخر طلوع الفجر إلى أن يفرغ من أمر يوسف، فحفر موسى ذلك الموضع واستخرجه في صندوق مرمر، وحمله معه حتى دفنه بالشام. ففتح لهم الطريق فساروا وموسى على ساقتهم وهارون على مقدمتهم. ونذر بهم فرعون فجمع قومه، وأمرهم أن لا يخرجوا في طلب بني إسرائيل، حتى تصيح الديكة. قال عمرو بن ميمون: فو الله ما صاح ديك تلك الليلة. فخرج فرعون في طلب بني إسرائيل، وعلى مقدمته هامان في ألف ألف وسبعمائة ألف، وكان فيهم سبعون ألفا من دهم الخيل، سوى سائر الشيات.
وقال شيخ التفسير محمد بن جرير الطبري: كان في عسكر فرعون مائة ألف حصان أدهم، وكان فرعون في سبعة آلاف وكان في الدهم، وكان بين يديه مائة ألف ناشب، ومائة ألف أصحاب حراب، ومائة ألف أصحاب أعمدة. وكان الماء في غاية زيادته، وكان قد أشرف على بني إسرائيل حين أشرقت الشمس، فتحير أصحاب موسى فأوحى الله تعالى إلى موسى: أن اضرب بعصاك البحر، فضربه فلم يطعه فأوحى الله تعالى إليه أن كنه فضربه وقال انفلق أبا خالد بإذن الله تعالى فانفلق، فكان كل فرق كالطود العظيم، وظهر فيه اثنا عشر طريقا لكل سبط طريق، وارتفع الماء بين كل طريقين كالجبل. وأرسل الله تعالى الريح والشمس على قعر البحر حتى صار يبسا فحاضت بنو إسرائيل البحر كل سبط في طريق، وعن جانبهم الماء كالجبل الضخم فصار لا يرى بعضهم بعضا فخافوا. وقال كل سبط قد قتل إخواننا فأوحى الله تعالى إلى الماء أن يشبك فصار الماء شبكات كالطاقات يرى بعضهم بعضا ويسمع بعضهم كلام بعض، حتى عبروا البحر سالمين.
فذلك قوله (1) تعالى: {فَأَنْجَيْنََاكُمْ وَأَغْرَقْنََا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ} وذلك أن فرعون، لما وصل إلى البحر، ورآه متقطعا قال لقومه: انظروا إلى البحر كيف انفلق من هيبتي، حتى أدرك عبيدي الذين أبقوا! ادخلوا البحر، فهاب قومه أن يدخلوه، وقالوا له: إن كنت ربا فادخل البحر كما دخل. يعني موسى. وكان فرعون على حصان أدهم ولم يكن في خيل فرعون فرس أنثى، فجاء جبريل عليه السلام على فرس أنثى وديق، فتقدمهم وخاض البحر، فلما شم أدهم فرعون ريحها، اقتحم البحر في أثرها، ولم يملك فرعون من أمره شيئا، وهو لا يرى فرس جبريل عليه السلام، فاقتحمت الخيول خلفه البحر، وجاء ميكائيل عليه السلام على فرس، خلف القوم يسوقهم، حتى لم يبق رجل، وهو يقول لهم: الحقوا بأصحابكم، حتى إذا خاضوا كلهم البحر، وخرج
__________
(1) سورة البقرة: الآية 50.(2/335)
جبريل عليه السلام من البحر، وهم أولهم بالخروج، أمر الله عزّ وجلّ، البحر أن يأخذهم فالتطم عليهم فأغرقهم أجمعين. وكان بين طرفي البحر أربعة فراسخ. وذلك بمرأى من بني إسرائيل.
وذلك قوله تعالى: {وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ} * أي إلى مصارعهم. وقيل: إلى هلاكهم. والبحر هو القلزم طرف من بحر فارس انتهى. وقال قتادة: هو بحر وراء مصر، يقال له أساف.
ولا خلاف أن فرعون مات كافرا، ولا التفات إلى قول من قال خلاف ذلك، ولا تعريج عليه. والنزاع في أنه مات مسلما مكابرة وخرق للإجماع، والله أعلم. وذكر (1) ابن خلكان أن عبد الملك بن مروان، لما عزم على الخروج لمحاربة مصعب بن الزبير ناشدته زوجته عاتكة بنت يزيد بن معاوية، أن لا يخرج بنفسه، وأن يستنيب غيره، وألحت عليه في المسألة، فلما لم يسمع منها بكت وبكى من حولها من حشمها. فقال عبد الملك: قاتل الله كثيرا كأنه رأى موقفنا هذا حين قال:
إذا ما أراد الغزو لم يثن همّه ... حصان عليها نظم دريزينها (2)
... نهته فلما لم تر النهي عاقه ... بكت فبكى مما شجاها قطينها
ثم عزم عليها أن تقصر، وخرج. ويضاهي هذه الحكاية في طرفة اتفاقها وملحة مساقها ما حكي أن المأمون حين بنى على بوران بنت الحسن بن سهل، فرش له حصير منسوج بالذهب، ثم نثر على قدميه لآلىء كثيرة، فلما رأى المأمون تساقط اللآلىء المختلفة، على الحصير المنسوج بالذهب، قال: قاتل الله أبا نواس كأنه شاهد هذه الحال حين شبه حباب كأسه بقول (3):
كأن كبرى وصغرى من فواقعها ... حصباء در على أرض من الذهب
وقد عيب ذلك على أبي نواس وقد اعتذر عنه بأنه جعل من في البيت زائدة على ما أجازه أبو الحسن الأخفش من زيادتها في الكلام الموجب، وأول عليه قوله (4) تعالى: {مِنْ جِبََالٍ فِيهََا مِنْ بَرَدٍ} وقيل: تقديره فيها برد والله أعلم.
الحصور:
الناقة الضيقة الإحليل والحصور من الرجال الذي لا يقرب النساء.
فائدة أجنبية:
ذكرها الصاغاني في العباب قال: سألني والدي تغمده الله تعالى برحمته، وأسكنه بحبوحة جنته بعزته، قبل سنة تسعين وخمسمائة وأنا إذ ذاك أسحب مطارف الشباب، في رغد العيش اللباب، وهو يفيدني غرر الفوائد ويزقني درر الفرائد. وكان رحمه الله ريان من الفضائل، ظعانا عن الرذائل، عن معنى قولهم: قد أثر حصير الحصير في حصير الحصير، فلم أدر ما أقول فقال: الحصير الأول البارية، والثاني السجن، والثالث الجنب، والرابع الملك. انتهى.
حضاجر:
اسم للذكر والأنثى من الضباع سميت بذلك لسعة بطنها وعظمه وهو معرفة.
قال الحطيئة:
__________
(1) وفيات الأعيان: 108. وفيه: «لم يثن عزمه».
(2) الحصان: المرأة العفيفة.
(3) البيت في ديوان أبي نواس: 39. وفيه: «كأن صغرى وكبرى».
(4) سورة النور: الآية 43.(2/336)
هلا غضبت لرحل جا ... رك إذ تنبذه حضاجر (1)
كذا أنشده ابن سيده وأنشده الجوهري:
هلا غضبت لجار بيتك قال السيرافي: وإنما جعل اسما لها على لفظ الجمع إرادة للمبالغة وقال سيبويه: سمعنا العرب تقول: وطب حضجر، وأوطب حضاجر. ولذلك لا ينصرف في معرفة ولا نكرة لأنه اسم لواحد على بنية الجمع. وقال ابن الحاجب في كافيته: وحضاجر اسم علم للضبع غير منصرف لأنه منقول عن الجمع. قلت وهو الأوجه والله أعلم.
الحضب:
الذكر الضخم من الحيات. وقيل حية دقيقة وقيل الأبيض من الحيات.
الحفان:
فراخ النعام واحدها حفانة، الذكر والأنثى فيه سواء وربما سموا صغار الإبل حفانا.
الحفص:
ولد الأسد وبه سمي الرجل حفصا.
الحقم:
ضرب من الطير يشبه الحمام ويقال إنه الحمام نفسه.
الحلزون:
دود في جوف أنبوبة حجرية يوجد في سواحل البحار وشطوط الأنهار. وهذه الدودة تخرج بنصف بدنها من جوف تلك الأنبوبة الصدفية، وتمشي يمنة ويسرة تطلب مادة تغتذي بها فإذا أحست بلين ورطوبة انبسطت إليها، وإذا أحست بخشونة أو صلابة انقبضت وغاصت في جوف الأنبوية الصدفية، حذرا من المؤذي لجسمها، وإذا انسابت جرت بيتها معها.
وحكمه:
التحريم لاستخباثه. وقد قال الرافعي في السرطان أنه يحرم لما فيه من الضرر ولأنه داخل في عموم تحريم الصدف. وسيأتي الكلام عليه في باب السين المهملة. وأما المحار الذي يسمى الدنيلس فسيأتي الكلام عليه في باب الدال المهملة.
الخواص:
قال ابن سينا: طلي الجبهة بالحلزون يمنع انصباب المواد إلى العين والله أعلم.
الحلكة والحلكاء والحلكاء والحلكي:
بفتح الحاء المهملة وضمها وكسرها دويبة شبيهة بالعظاية تغوص في الرمل.
الحلم:
القراد العظيم، الواحدة حلمة. وقال الجوهري: هو مثل القمل وسيأتي أنه القراد المهزول. قال: والحلم أيضا دود يقع في جلد الشاة الأعلى وجلدها الأسفل. فإذا دبغ لم يزل ذلك الموضع رقيقا يقال: حلم الأديم بكسر اللام يحلم بفتحها حلما إذا أكله قال الشاعر وهو الوليد بن عقبة بن أبي معيط:
فإنك والكتاب إلى على ... كدابغة وقد حلم الأديم
قال ابن السكيت: وهذه الدويبة هي التي تأكل الكتب وتمزق الأوراق. وفي الحديث أن
__________
(1) ديوان الخطيئة: 33. تنبّذه: تفرقه. حضاجر: اسم من أسماء الضبع.(2/337)
ابن عمر رضي الله تعالى عنهما، كان ينهى أن تنزع الحلمة من أذن دابته وروى أبو داود عن أبي سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بأصحابه يوما «فنزع نعليه، ووضعهما على يساره»، فلما رأى ذلك القوم، ألقوا نعالهم فلما انقضت الصلاة، قال: «مالكم خلعتم نعالكم»؟ قالوا: يا نبي الله رأيناك خلعت نعليك فخلعنا نعالنا. فقال عليه الصلاة والسلام: «إنما نزعتهما لأن جبريل أخبرني أن فيهما دم حلمة». انتهى (1) قلت والمراد به الدم اليسير المعفو عنه. وإنما فعله النبي صلى الله عليه وسلم تنزها عن النجاسة، وإن كان معفوا عنها، وقد أطلق أصحابنا العفو عن اليسير من سائر الدماء إلا المتولي فإنه استثنى من ذلك دم الكلب والخنزير واحتج بغلظ نجاستهما. وأما الدم الباقي على اللحم وعظامه، فإنه مما تعم به البلوى، وقيل من أصحابنا من تعرض له. وقد ذكر أبو إسحاق الثعلبي المفسر من أئمة أصحابنا، عن جماعة كثيرة من التابعين، أنه لا بأس به. ونقله عن جماعة من أصحابنا لمشقة الاحتراز. وصرح الإمام أحمد وأصحابه بأن ما يبقى من الدم في اللحم معفو عنه، ولو غلبت حمرة الدم في القدر لعسر الاحتراز عنه، وحكوه عن عائشة وعكرمة والثوري.
وبه قال إسحاق لقوله (2) تعالى: {إِلََّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً} فلم ينه عن كل دم بل نهى عن المسفوح خاصة. وهو السائل والله تعالى أعلم قال الأصمعي ويقال للقراد: أول ما يكون صغيرا قمقامة، ثم يصير حمنانة، ثم يصير قرادا، ثم يصير حلما. وأنشد أبو علي الفارسي (3):
وما ذكر فإن يكبر فأنثى ... شديدا لازم ليس له ضروس
والأكثر أن يجمع ضرس على أضراس. والأسنان كلها إناث إلا الأضراس والأنياب.
وحكمه:
تحريم الأكل لاستخباثه. وسيأتي الكلام عليه إن شاء الله تعالى في باب القاف في لفظ القراد.
الأمثال:
قالت العرب: «القردان فما بال الحلم (4)» وهو قريب من قولهم: «استنت الفصال حتى القرعى». وسيأتي (5) في بابه.
الحمار الأهلي:
الحمار جمعه حمير وحمر وأحمرة. وربما قالوا للأتان: حمارة وتصغيره حمير، ومنه توبة (6) بن الحميّر صاحب ليلى الأخيلية (7). الذي تقدم ذكره. وكنية الحمار أبو صابر وأبو زياد قال الشاعر:
زياد لست أدري من أبوه ... ولكن الحمار أبو زياد
__________
(1) رواه ابن حنبل: 923.
(2) سورة الأنعام: الآية 145.
(3) الفارسي: الحسن بن أحمد، أبو علي، لغوي نحوي، مات سنة 377هـ.
(4) مجمع الأمثال: 2/ 97.
(5) جمهرة الأمثال: 1/ 91.
(6) توبة بن الحميّر بن حزم العامري، شاعر من العشاق أحب ليلى الأخيلية. قتل سنة 85هـ.
(7) ليلى بنت عبد الله بن الرحال بن شداد، الأخيلية العامرية، شاعرة فصيحة. جميلة ماتت سنة 80هـ.(2/338)
ويقال للحمارة: أم محمود وأم تولب وأم جحش وأم نافع وأم وهب. وليس في الحيوان ما ينزو على غير جنسه ويلقح إلا الحمار والفرس. وهو ينزو إذا تم له ثلاثون شهرا ومنه نوع يصلح لحمل الأثقال ونوع لين الأعطاف سريع العدو، ويسبق براذين الخيل. ومن عجيب أمره أنه إذا شم رائحة الأسد رمى نفسه عليه من شدة الخوف يريد بذلك الفرار منه. قال حبيب بن أوس الطائي (1)، يخاطب عبد الصمد (2) بن المعذل وقد هجاه:
أقدمت ويحك من هجوي على خطر ... والعير يقدم من خوف على الأسد (3)
ويوصف بالهداية إلى سلوك الطرقات التي مشى فيها، ولو مرة واحدة، وبحدة السمع وللناس في مدحه وذمه أقوال متباينة، بحسب الأغراض. فمن ذلك أن خالد بن صفوان (4)
والفضل بن عيسى (5) الرقاشي كانا يختاران ركوب الحمير على ركوب البراذين، فأما خالد فلقيه بعض الأشراف بالبصرة على حمار، فقال: ما هذا يا ابن صفوان؟ فقال: عير من نسل الكداد، يحمل الرحلة، ويبلغني العقبة، ويقل داؤه، ويخف دواؤه، ويمنعني من أن أكون جبارا في الأرض، وأن أكون من المفسدين. وأما الفضل فإنه سئل عن ركوبه الحمار؟ فقال: إنه من أقل الدواب مؤنة، وأكثرها معونة، وأخفضها مهوى، وأقربها مرتقى. فسمع أعرابي كلامه، فعارضه بقوله:
الحمار شنار، والعير عار، منكر الصوت لا ترقأ به، ولا تمهر به النساء، وصوته أنكر الأصوات.
قال الزمخشري: الحمار مثل في الذم الشنيع والشتيمة، ومن استحياشهم لذكر اسمه أنهم يكنون عنه، ويرغبون عن التصريح به، فيقولون: الطويل الأذنين، كما يكنون عن الشيء المستقذر. وقد عد من مساوي الآداب، أن يجري ذكر الحمار في مجلس قوم ذوي مروأة، ومن العرب من لا يركب الحمار استنكافا، وإن بلغت به الرحلة الجهد. انتهى. والمروأة بالهمز وتركه، قال الجوهري: هي الإنسانية. وقال ابن فارس هي الرجولية وقيل: إن ذا المروأة من يصون نفسه عن الإدناس، ولا يشينها عند الناس. وقيل: من يسير بسيرة أمثاله، في زمانه ومكانه. قال الدارمي قيل المروأة في الحرفة. وقيل في آداب الدين، كالأكل والصياح في الجم الغفير وانتهار السائل، وقلة فعل الخير مع القدرة عليه. وكثرة الاستهزاء والضحك، ونحو ذلك انتهى. وفي الصحيحين وغيرهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أما يخشى الذي يرفع رأسه قبل الإمام أن يجعل الله صورته صورة حمار أو يحول رأسه رأس حمار» (6). ومعنى ذلك، والله أعلم، أن يمسخ صورته كلها فيجعل رأسه رأس حمار، وبدنه بدن حمار، وفيه دليل على جواز وقوع المسخ أعاذنا الله منه. وهو لا يكون إلا من شدة الغضب. قال الله تعالى: {قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذََلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللََّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللََّهُ}
__________
(1) الطائي: حبيب بن أوس الشاعر المشهور أبو تمّام، من كبار شعراء العصر العباسي، توفي سنة 231هـ.
(2) ابن المعذل: عبد الصمد بن المعذل بن غيلان، أبو القاسم من شعراء العصر العباسي. توفي سنة 240هـ.
(3) ديوان أبي تمام: 513. وفيه: أطلعت روعك حتى صرت لي غرضا. قد يقدم العير من ذعر على الأسد.
(4) خالد بن صفوان: من الفصحاء الأثرياء في العصر الأموي له أخبار مع الخلفاء. مات سنة 133هـ.
(5) الرقاشي: أبو العباس، الفضل بن عبد الصمد، شاعر مجيد من أهل البصرة توفي سنة 200هـ.
(6) البخاري في الآذان: 53. ومسلم في الصلاة: 119116115. الترمذي جمعه: 56.(2/339)
{وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنََازِيرَ وَعَبَدَ الطََّاغُوتَ} (1) الآية. وهذا الحديث صريح في تحريم مسابقة الإمام بالركوع والسجود، وغيرهما من أركان الصلاة. وبه صرح البغوي والمتولي وصححه النووي، في شرح المهذب. وهو ظاهرا يراد الكفاية. وفي الصحيحين وغيرهما عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا سمعتم نهاق الحمير فتعوذ بالله من الشيطان فإنها رأت شيطانا، وإذا سمعتم صياح الديكة فاسألوا الله من فضله فإنها رأت ملكا» (2). وسيأتي في باب الدال المهملة إن شاء الله تعالى.
غريبة:
رأيت في كتاب النصائح لابن ظفر قال: دخلت ثغرا من ثغور الأندلس فألفيت به شابا متفقها من أهل قرطبة فآنسني بحديثه وذاكرني طرفا من العلم ثم إني دعوت فقلت: يا من قال واسألوا الله من فضله. فقال: ألا أحدثك عن هذه الآية بعجب؟ قلت: بلى. فحدثني عن بعض سلفه أنه قال: قدم علينا من طليطلة راهبان، كانا عظيمي القدر بها، وكانا يعرفان اللسان العربي، فأظهرا الإسلام وتعلما القرآن والفقه، فظن الناس بهما الظنون. قال: فضممتهما إلى وقمت بأمرهما، وتجسست عليهما فإذا هما على بصيرة من أمرهما، وكانا شيخين فقلما لبث أحدهما حتى توفي. وأقام الآخر أعواما ثم مرض، فقلت له يوما: ما سبب إسلامكما؟ فكره مسألتي فرفقت به فقال: إن أسيرا من أهل القرآن، كان يخدم كنيسة نحن في صومعة منها، فاختصصنا به لخدمتنا، وطالت صحبته لنا، حتى فقهنا اللسان العربي، وحفظنا آيات كثيرة من القرآن، لكثرة تلاوته له، فقرأ يوما: {وَسْئَلُوا اللََّهَ مِنْ فَضْلِهِ} (3) فقلت لصاحبي، وكان أشد مني رأيا وأحسن فهما: أما تسمع دعاوى هذه الآية؟ فزجرني. ثم إن الأسير قرأ يوما: {وَقََالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} (4) فقلت لصاحبي: هذه أشد من تلك. فقال: ما أحسب الأمر إلا على ما يقولون. وما بشر عيسى إلا بصاحبهم. قال: واتفق يوما أني غصصت بلقمة، والأسير قائم علينا، يسقينا الخمر على طعامنا، فأخذت الكأس منه فلم أنتفع بها فقلت في نفسي: يا رب إن محمدا قال عنك إنك قلت: {وَسْئَلُوا اللََّهَ مِنْ فَضْلِهِ} (5) وإنك قلت: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} فإن كان صادقا فاسقني فإذا صخرة يتفجر منها الماء فبادرت فشربت منه، فلما قضيت حاجتي انقطع وورائي ذلك الأسير فشك في الإسلام ورغبت أنا فيه وأطلعت صاحبي على أمري، فأسلمنا معا. وغدا علينا الأسير يرغب في أن نعمده وننصره فانتهرناه وصرفناه عن خدمتنا. ثم إنه فارق دينه وتنصر فحرنا في أمرنا، ولم نهتد لوجه الخلاص. فقال صاحبي: وكان أشد مني رأيا: لم لا ندعو بتلك الدعوة؟ فدعونا بها في التماس الفرج، ونمنا القائلة، فأريت في المنام أن ثلاثة أشخاص نورانية، دخلوا معبدنا، فأشاروا إلى صور فيه فانمحت، وأتوا بكرسي فنصبوه، ثم أتى جماعة مثلهم في النور والبهجة، وبينهم رجل ما رأيت أحسن خلقا منه، فجلس على الكرسي، فقمت إليه فقلت له: أنت السيد المسيح؟ فقال: لا بل أنا أخوه أحمد، أسلم فأسلمت، ثم قلت: يا رسول الله كيف لنا بالخروج إلى بلاد أمتك؟ فقال لشخص قائم بين
__________
(1) سورة المائدة: الآية 60.
(2) رواه البخاري في بدء الخلق: 15، ومسلم في الذكر: 82. والترمذي دعوات: 56، وأحمد: 3062.
(3) سورة النساء: الآية 32.
(4) سورة غافر: الآية 60.
(5) سورة النساء: الآية 32.(2/340)
يديه: إذهب إلى ملكهم، وقل له يحملهما مكرمين، إلى حيث أحبا من بلاد المسلمين، وأن يحضر الأسير فلانا، ويعرض عليه العود إلى دينه، فإن فعل يخلى سبيله، وإن لم يفعل فليقتله، قال:
فاستيقظت من منامي وأيقظت صاحبي، وأخبرته بما رأيت، وقلت له: ما الحيلة؟ فقال: قد فرج الله أما ترى الصور ممحوّة؟ فنظرت فوجدتها ممحوّة. فازددت يقينا. ثم قال لي صاحبي: قم بنا إلى الملك. فأتيناه فجرى في تعظيمنا، على عادته، وأنكر قصدنا له. فقال له صاحبي: افعل ما أمرت به في أمرنا وفي أمر فلان الأسير فانتقع لونه وأرعد، ثم دعا بالأسير وقال له: أنت مسلم أو نصراني؟ فقال: بل نصراني. فقال له: ارجع إلى دينك، فلا حاجة لنا فيمن لا يحفظ دينه.
فقال: لا أرجع إليه أبدا. فاخترط الملك سيفه وقتله بيده. ثم قال لنا سرا: إن الذي جاء إلى واليكما شيطان، ولكن ما الذي تريدان؟ قلنا: الخروج إلى بلاد المسلمين. قال: أنا أفعل ما تريدان، لكن أظهرا أنكما تريدان بيت المقدس. فقلنا له: نفعل. فجهزنا وأخرجنا مكرمين انتهى.
وروى النسائي والحاكم عن جابر بن عبد الله أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا سمعتم نباح الكلاب ونهيق الحمير في الليل فتعوذوا بالله من الشيطان الرجيم فإنها ترى ما لا ترون، وأقلوا الخروج إذا هدأت الرجل، فإن الله يبث في الليل من خلقه ما شاء» (1). ثم قال الحاكم: صحيح الإسناد على شرط مسلم. وفي سنن أبي داود وغيره عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
«ما من قوم يقومون من مجلس لا يذكرون الله تعالى فيه، إلا قاموا عن مثل جيفة حمار وكان عليهم حسرة». (2) وفي تاريخ نيسابور وكامل ابن عدي من حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «شر الحمير الأسود القصير» وقال الجوهري تعشير الحمار نهيقه عشرة أصوات في طلق واحد قال الشاعر (3):
لعمري لئن عشرت من خيفة الردى ... نهاق حمارا نبي لجزوع
وذلك أنهم، إذا خافوا من وباء بلد، عشروا كتعشير الحمار، قبل أن يدخلوها. وكانوا يزعمون أن ذلك ينفعهم.
غريبة أخرى:
قال مسروق: كان رجل بالبادية له حمار وكلب وديك، وكان الديك يوقظهم للصلاة، والكلب يحرسهم، والحمار ينقلون عليه الماء ويحمل لهم خيامهم. فجاء الثعلب فأخذ الديك فحزنوا له، وكان الرجل صالحا، فقال: عسى أن يكون خيرا. ثم جاء ذئب فحرق بطن الحمار فقتله. فقال الرجل: عسى أن يكون خيرا. ثم أصيب الكلب بعد ذلك. فقال: عسى أن يكون خيرا. ثم أصبحوا ذات يوم فنظروا فإذا قد سبي من كان حولهم وبقوا سالمين. وإنما أخذوا أولئك بما كان عندهم من أصوات الكلاب والحمير والديكة. فكانت الخيرة في هلاك ما كان عندهم من ذلك كما قدر الله سبحانه وتعالى. فمن عرف خفي لطف الله رضي بفعله.
__________
(1) رواه البخاري في بدء الخلق: 15، ومسلم في الذكر: 82، والترمذي في الدعوات: 56. وابن حنبل:
2/ 355321306، 3553063.
(2) رواه أبو داود في الأدب: 25، وابن حنبل: 2/ 527515494389.
(3) الحيوان للجاحظ: 6/ 359والبيت لعروة بن الورد الشاعر الجاهلي.(2/341)
فائدة:
روى البيهقي، في دلائل النبوة، بسنده إلى أبي سبرة النخعي، قال: أقبل رجل من اليمن، فلما كان في أثناء الطريق نفق حماره فقام فتوضأ. ثم صلّى ركعتين، ثم قال: اللهم إني جئت مجاهدا في سبيلك ابتغاء مرضاتك، وأنا أشهد أنك تحيي الموتى وتبعث من في القبور، لا تجعل لأحد علي اليوم منة. أسألك أن تبعث لي حماري، فقام الحمار ينفض أذنيه. قال البيهقي:
هذا إسناد صحيح. ومثل هذا يكون معجزة لصاحب الشريعة، حيث يكون في أمته من يحيي الله له الموتى كما سبق. ويأتي والرجل المذكور اسمه نباتة بن يزيد النخعي. قال الشعبي: أنا رأيت ذلك الحمار يباع بعد ذلك في السوق، فقيل للرجل: أتبيع حمارا قد أحياه الله لك؟ قال: فكيف أصنع؟ فقال رجل من رهطه ثلاثة أبيات حفظت منها هذا البيت:
ومنا الذي أحيا الإله حماره ... وقد مات منه كل عضو ومفصل
فائدة أخرى:
قوله تعالى: {وَإِذْ قََالَ إِبْرََاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى ََ} (1) قال الحسن وقتادة وعطاء الخراساني والضحاك وابن جريج رحمهم الله تعالى: كان سبب هذا السؤال من إبراهيم صلى الله عليه وسلم، أنه مر على دابة ميتة، قال ابن جريح: كانت جيفة حمار بساحل البحر قال عطاء:
بحيرة طبرية، قالوا: فرآها وقد توزعتها دواب البحر والبر، وكان البحر إذا مد جاءت الحيتان ودواب البحر، فأكلت منها فما وقع منها يصير في البحر، وإذا جزر جاءت السباع فأكلت منها فما وقع منها يصير ترابا، فإذا ذهبت السباع جاءت الطير فأكلت منها، فما سقط منها قطعته الرياح في الهواء. فلما رأى إبراهيم ذلك تعجب منها، وقال: يا رب قد علمت لتجمعها من بطون السباع، وحواصل الطير، وأجواف دواب البحر، فأرني كيف تحييها لأعاين ذلك فازداد يقينا، فعاتبه الله على ذلك، فقال: {أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قََالَ بَلى ََ} يا رب قد علمت وآمنت {وَلََكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} (2) أي يسكن إلى المعاينة والمشاهدة فإبراهيم صلى الله عليه وسلم كان يعلم يقينا أن الله يحيي الموتى، ولكنه أراد أن يصير له علم اليقين، لأن الخبر ليس كالمعاينة وما أحسن قول بعضهم:
لئن كلمت بالتفريق قلبي ... فأنت بخاطري أبدا مقيم ... ولكن للعيان لطيف معنى ... له سأل المعاينة الكليم
وقيل: كان سبب هذا السؤال من إبراهيم أنه لما احتج على نمروذ فقال: {رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ} (3) فقال نمروذ أنا أحيي وأميت فقتل رجلا وأطلق آخر، فجعل ترك القتل إحياء. فقال إبراهيم: إن الله يقصد إلى جسد ميت فيحييه، فقال له نمروذ: أنت عاينته فلم يقدر أن يقول نعم. فانتقل إلى حجة أخرى، ثم سأل ربه أن يريه إحياء الموتى. قال: {أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قََالَ بَلى ََ وَلََكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} بقوة حجتي، وإذا قيل لي: أنت عاينته؟ أقول: نعم قد عاينته. وقال سعيد بن جبير: لما اتخذ الله إبراهيم خليلا سأل ملك الموت ربه أن يأذن له فيبشر إبراهيم بذلك، فأذن له فأتى إبراهيم فلم يكن في الدار، فدخل داره وكان إبراهيم من أغير الناس، إذا خرج أغلق بابه. فلما جاء وجد في داره رجلا فثار عليه إبراهيم ليأخذه، فقال له: من أنت؟ ومن أذن
__________
(1) سورة البقرة: الآية 260.
(2) سورة البقرة: الآية 260.
(3) سورة البقرة: الآية 258.(2/342)
لك أن تدخل داري بغير إذني؟ فقال: أذن لي رب هذه الدار. فقال له إبراهيم: صدقت. وعرف أنه ملك فقال له: من أنت؟ فقال: أنا ملك الموت، جئت أبشرك بأن الله قد اتخذك خليلا، فحمد الله تعالى، ثم قال: ما علامة ذلك؟ قال: إجابة الله دعاءك وإحياء الموتى بسؤالك. فحينئذ قال إبراهيم: {رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى ََ قََالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قََالَ بَلى ََ وَلََكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} (1) إنك قد اتخذتني خليلا وأجبتني إذا دعوتك وروى البخاري عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (2): «نحن أحق بالشك من إبراهيم إذ قال: {رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى ََ قََالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قََالَ بَلى ََ وَلََكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي}» ورحم الله لوطا لقد كان يأوي إلى ركن شديد. ولو لبثت في السجن ما لبث يوسف لأجبت الداعي». وقد (3) أخرجه مسلم عن ابن وهب أيضا.
وقوله: نحن أحق بالشك من إبراهيم قال المزني: لم يشك النبي، ولا إبراهيم صلى الله عليه وسلم في أن الله قادر على أن يحيي الموتى، وإنما شكا في أنه تعالى هل يجيبهما إلى ما سألاه أم لا. وقال الخطابي: ليس في قوله: «نحن أحق بالشك من إبراهيم» اعتراف بالشك على نفسه، ولا على إبراهيم، لكن فيه نفي الشك عنهما. يقول: إذا لم أشك أنا في قدرة الله على إحياء الموتى فإبراهيم أولى بأن لا يشك.
وإنما قال ذلك على سبيل التواضع والهضم من النفس. وكذلك قوله: «ولو لبثت في السجن ما لبث يوسف لأجبت الداعي» وفيه إعلام أن المسألة من إبراهيم عليه الصلاة والسلام، لم تعرض من جهة الشك، لكن من قبيل زيادة العلم بالعيان. فإن العيان يفيد من المعرفة والطمأنينة ما لا يفيده الاستدلال. وقيل: لما نزلت هذه الآية. قال قوم: شك إبراهيم ولم يشك نبينا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا القول تواضعا منه وتقديما لإبراهيم صلى الله عليه وسلم. وسيأتي الكلام على تمام الآية، في باب الطاء المهملة في الكلام على لفظ الطير.
فائدة أخرى:
قوله تعالى: {أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلى ََ قَرْيَةٍ وَهِيَ خََاوِيَةٌ عَلى ََ عُرُوشِهََا قََالَ أَنََّى يُحْيِي هََذِهِ اللََّهُ بَعْدَ مَوْتِهََا فَأَمََاتَهُ اللََّهُ مِائَةَ عََامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قََالَ كَمْ لَبِثْتَ قََالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قََالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عََامٍ فَانْظُرْ إِلى ََ طَعََامِكَ وَشَرََابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلى ََ حِمََارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ} (4) الآية. هذه الآية منسوقة على الآية التي قبلها تقديره ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه وإلى الذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها، وقيل: تقديره هل رأيت كالذي حاج إبراهيم في ربه «وهل رأيت كالذي مر على قرية؟ قاله البغوي. وقد اختلف المفسرون وأهل السير، في ذلك المار. فقال وهب بن منبه: هو أرمياء بن حلقيا، وكان من سبط هارون وهو الخضر. وقال قتادة وعكرمة والضحاك: وهو عزير بن شرخيا، وهو الأصح. وقال مجاهد هو كافر شك في البعث واختلفوا في تلك القرية، فقال وهب وعكرمة وقتادة. هي بيت المقدس. وقال الضحاك: هي الأرض
__________
(1) سورة البقرة: الآية 260.
(2) رواه البخاري في الأنبياء: 11، تفسير سورة: 462. ورواه مسلم في الإيمان: 238، فضائل: 152، ورواه ابن ماجه في الفتن: 23، وابن حنبل: 3262.
(3) رواه البخاري في التعبير: 9، أنبياء: 1911، تفسير سورة: 12، ورواه مسلم في الإيمان: 238، وفضائل الصحابة: 152، ورواه الترمذي في تفسير سورة: 112. وابن حنبل: 3323266.
(4) سورة البقرة: الآية 259.(2/343)
المقدسة. وقال الكلبي: هي دير سابر آياد. وقال السدي: سلماياد. وقيل: دير هرقل. وقيل الأرض التي أهلك الله فيها الذين خرجوا من ديارهم، وهم ألوف. وقيل: هي قرية العنب، وهي على فرسخين من بيت المقدس، وهي خاوية ساقطة. يقال: خوي البيت بكسر الواو يخوي خوى، مقصورا، إذا سقط. وخوى البيت بالفتح يخوي خواء، ممدودا، إذا خلا. على عروشها سقوفها، واحدها عرش. وكل بناء عرش. وكان السبب في ذلك على ما ذكره محمد بن إسحاق صاحب السيرة. أن الله تعالى بعث أرمياء إلى ناشية بن أنوص، ملك بني إسرائيل، ليسدده ويأتيه بالخبر من الله وكان قوام أمر بني إسرائيل، بالاجتماع على الملوك وطاعة الملوك أنبياءهم. فكان الملك هو الذي يسير بالجموع والنبي يقيم له أمره، ويشير عليه برشده، ويأتيه بالخبر من ربه عزّ وجلّ. فعظمت الأحداث في بني إسرائيل وركبوا المعاصي، فأوحى الله إلى أرمياء أن ذكر قومك نعمي، وعرفهم أحداثهم. فقام أرمياء فيهم ولم يدر ما يقول فألهمه في الوقت خطبة طويلة بليغة، بين لهم فيها ثواب الطاعة، وعقاب المعصية، وقال في آخرها عن الله عزّ وجلّ: وإني أحلف بعزتي لأقيضن لكم فتنة يتحير فيها الحكيم، ولأسلطن عليكم جبارا قاسيا ألبسه الهيبة، وأنزع من قلبه الرحمة، يتبعه عدد مثل سواد الليل المظلم. ثم أوحى الله إلى أرمياء إني مهلك بني إسرائيل بيافث، ويافث أهل بابل، وهم ولد يافث بن نوح، فلما سمع أرمياء ذلك صاح وبكى ومزق ثيابه ونبذ التراب على رأسه. فأوحى الله إليه: يا أرمياء أشق عليك ما أوحيت إليك؟ قال: نعم، يا رب أهلكني قبل أن أرى في بني إسرائيل ما لا أسر به. فأوحى الله إليه:
وعزتي لا أهلك بني إسرائيل حتى يكون الأمر في ذلك من قبلك ففرح بذلك أرمياء، وقال: لا والذي بعث موسى بالحق لا أرضى بهلاك بني إسرائيل أبدا، ثم أتى الملك فأخبره بذلك وكان ملكا صالحا فاستبشر وفرح، وقال: أن يعذبنا ربنا، فبذنوب كثيرة، وإن يعف عنا فبرحمته. ثم إنهم لبثوا بعد الوحي ثلاث سنين لم يزدادوا وإلا معصية تماديا في الشر، وذلك حين اقترب هلاكهم.
فقل الوحي ودعاهم الملك إلى التوبة فلم يفعلوا فسلط الله عليهم بختنصر فخرج في ستمائة ألف راية يريد أهل بيت المقدس، فلما قصد سائرا أتى الخبر للملك فقال لإرمياء: أين ما زعمت أن الله عزّ وجلّ أوحى إليك؟ فقال أرمياء: إن الله لا يخلف الميعاد وأنا به واثق، فلما قرب الأجل بعث الله إلى أرمياء ملكا متمثلا في صورة رجل من بني إسرائيل فقال له أرمياء: من أنت؟ فقال أنا رجل من بني إسرائيل أتيتك أستفتيك في أهلي ورحمي وصلت أرحامهم ولم آت إليهم إلا حسنا ولم يزدهم إكرامي إياهم إلا سخطا، فأفتني فيهم فقال: أحسن فيما بينك وبين الله، وصلهم وابشر بخير فانصرف الملك فمكث أياما ثم أقبل إليه في صورة ذلك الرجل فجلس بين يديه، فقال له ارمياء: من أنت؟ قال: أنا الذي أتيتك أستفتيك في أهلي ورحمي فقال له أرمياء: أما ظهرت أخلاقهم لك بعد؟ قال: يا نبي الله ما أعلم كرامة يأتيها أحد من الناس إلى رحمه إلا أتيتها إليهم وأفضل قاله له أرمياء: ارجع فأحسن إليهم اسأل الله الذي يصلح عباده الصالحين أن يصلحهم لك. فانصرف الملك ومكث أياما، ونزل بختنصر وجنوده حول بيت المقدس، أكثر من الجراد المنتشر. ففزع منهم بنو إسرائيل، وقال ملكهم لارمياء: أين ما وعدك ربك؟ فقال أرمياء:
إني واثق بوعد ربي. ثم أقبل الملك على أرمياء، وهو جالس على جدار بيت المقدس يضحك
ويستبشر بنصر ربه. فجلس بين يديه فقال له أرمياء: من أنت؟ قال: أنا الذي أتيتك مرتين أستفتيك في شأن أهلي ورحمي. فقال له أرمياء: ألم يأن لهم أن يفيقوا من الذي هم فيه؟ فقال له الملك: يا نبي الله كل شيء كان يصيبني منهم قبل اليوم، كنت أصبر عليه، واليوم رأيتهم في عمل لا يرضي الله تعالى. فقال أرمياء: على أي عمل رأيتهم؟ قال على عمل عظيم من سخط الله عزّ وجل، فغضبت لله، وأتيتك وأنا أسألك بالله الذي بعثك بالحق إلا ما دعوت الله عليهم ليهلكهم. فقال أرمياء: يا مالك السموات والأرض، إن كانوا على حق وصواب فأبقهم وإن كانوا على عمل لا نرضاه فأهلكهم فلما خرجت الكلمة من فم أرمياء، أرسل الله صاعقة من السماء في بيت المقدس فالتهب مكان القربان، وخسف بسبعة أبواب من أبوابه، فلما رأى ذلك أرمياء صاح وشق ثيابه وقال: يا مالك السموات والأرض أين ميعادك الذي وعدتني؟ فنودي أنه لم يصبهم ما أصابهم، إلا بفتياك ودعائك. فعلم أنها فتياه وإن ذلك السائل كان رسولا من الله إليه فطار أرمياء حتى خالط الوحوش ودخل بختنصر وجنوده بيت المقدس ووطىء الشام وقتل بني إسرائيل حتى أفناهم وخرب بيت المقدس. ثم أمر جنوده أن يملأ كل رجل منهم ترسه ترابا فيقذفه في بيت المقدس ففعلوا حتى ملؤوه. ثم أمرهم أن يجمعوا من كان في بلدان بيت المقدس فاجتمع عنده كبيرهم وصغيرهم من بني إسرائيل فاختار منهم سبعين ألف صبي فقسمهم بين الملوك الذين كانوا معه فأصاب كل واحد منهم أربعة أغلمة. وكان من أولئك الأغلمة دانيال وحنانيا. وفرق من بقي من بني إسرائيل ثلاث فرق: فثلثا قتلهم، وثلثا سباهم، وثلثا أقرهم بالشأم. فكانت هذه الوقعة الأولى التي أنزلها الله تعالى ببني إسرائيل يظلمهم. فلما ولي بختنصر راجعا عنهم إلى بابل، ومعه سبايا بني إسرائيل، أقبل أرمياء على حمار له، معه عصير عنب في ركوة وسلة تين، حتى غشي إيلياء فلما وقف عليها ورأى خرابها، قال: {أَنََّى يُحْيِي هََذِهِ اللََّهُ بَعْدَ مَوْتِهََا} (1) ثم ربط أرمياء حماره بحبل جديد، فألقى الله تعالى عليه النوم، فلما نام نزع الله منه الروح مائة عام، وأمات حماره وعصيره وتينه عنده، وأعمى الله عنه العيون، فلم يره أحد وذلك ضحى. ومنع الله السباع والطير عن أكل لحمه، فلما مضى من موته سبعون سنة، أرسل الله تعالى ملكا من ملوك فارس، يقال له نوشك إلى بيت المقدس ليعمره، فانتدب في ألف قهرمان مع كل قهرمان ثلاثمائة ألف عامل، وجعلوا يعمرونه. وأهلك الله بختنصر ببعوضة دخلت في دماغه، ونجى الله من بقي من بني إسرائيل، ولم يمت أحد منهم ببابل، وردهم الله إلى بيت المقدس ونواحيه، وعمروه ثلاثين سنة وكثروا، حتى كانوا على أحسن ما كانوا عليه. فلما مضت المائة سنة أحيا الله تعالى من أرمياء عينيه، وسائر جسده ميت ثم أحيا جسده وهو ينظر، ثم نظر إلى حماره فإذا عظامه متفرقة بيض تلوح، فسمع صوتا من السماء أيها العظام البالية إن الله تعالى يأمرك أن تجتمعي فاجتمع بعضها إلى بعض واتصل بعضها ببعض، ثم نودي إن الله عزّ وجلّ يأمرك أن تكتسي لحما وجلدا فكان كذلك ثم نودي إن شاء الله عزّ وجلّ يأمرك أن تحيا، فقام بإذن الله عزّ وجلّ ونهق، وعمر الله تعالى أرمياء فهو الذي يرى في الفلوات فذلك قوله تعالى:(2/344)
إني واثق بوعد ربي. ثم أقبل الملك على أرمياء، وهو جالس على جدار بيت المقدس يضحك
ويستبشر بنصر ربه. فجلس بين يديه فقال له أرمياء: من أنت؟ قال: أنا الذي أتيتك مرتين أستفتيك في شأن أهلي ورحمي. فقال له أرمياء: ألم يأن لهم أن يفيقوا من الذي هم فيه؟ فقال له الملك: يا نبي الله كل شيء كان يصيبني منهم قبل اليوم، كنت أصبر عليه، واليوم رأيتهم في عمل لا يرضي الله تعالى. فقال أرمياء: على أي عمل رأيتهم؟ قال على عمل عظيم من سخط الله عزّ وجل، فغضبت لله، وأتيتك وأنا أسألك بالله الذي بعثك بالحق إلا ما دعوت الله عليهم ليهلكهم. فقال أرمياء: يا مالك السموات والأرض، إن كانوا على حق وصواب فأبقهم وإن كانوا على عمل لا نرضاه فأهلكهم فلما خرجت الكلمة من فم أرمياء، أرسل الله صاعقة من السماء في بيت المقدس فالتهب مكان القربان، وخسف بسبعة أبواب من أبوابه، فلما رأى ذلك أرمياء صاح وشق ثيابه وقال: يا مالك السموات والأرض أين ميعادك الذي وعدتني؟ فنودي أنه لم يصبهم ما أصابهم، إلا بفتياك ودعائك. فعلم أنها فتياه وإن ذلك السائل كان رسولا من الله إليه فطار أرمياء حتى خالط الوحوش ودخل بختنصر وجنوده بيت المقدس ووطىء الشام وقتل بني إسرائيل حتى أفناهم وخرب بيت المقدس. ثم أمر جنوده أن يملأ كل رجل منهم ترسه ترابا فيقذفه في بيت المقدس ففعلوا حتى ملؤوه. ثم أمرهم أن يجمعوا من كان في بلدان بيت المقدس فاجتمع عنده كبيرهم وصغيرهم من بني إسرائيل فاختار منهم سبعين ألف صبي فقسمهم بين الملوك الذين كانوا معه فأصاب كل واحد منهم أربعة أغلمة. وكان من أولئك الأغلمة دانيال وحنانيا. وفرق من بقي من بني إسرائيل ثلاث فرق: فثلثا قتلهم، وثلثا سباهم، وثلثا أقرهم بالشأم. فكانت هذه الوقعة الأولى التي أنزلها الله تعالى ببني إسرائيل يظلمهم. فلما ولي بختنصر راجعا عنهم إلى بابل، ومعه سبايا بني إسرائيل، أقبل أرمياء على حمار له، معه عصير عنب في ركوة وسلة تين، حتى غشي إيلياء فلما وقف عليها ورأى خرابها، قال: {أَنََّى يُحْيِي هََذِهِ اللََّهُ بَعْدَ مَوْتِهََا} (1) ثم ربط أرمياء حماره بحبل جديد، فألقى الله تعالى عليه النوم، فلما نام نزع الله منه الروح مائة عام، وأمات حماره وعصيره وتينه عنده، وأعمى الله عنه العيون، فلم يره أحد وذلك ضحى. ومنع الله السباع والطير عن أكل لحمه، فلما مضى من موته سبعون سنة، أرسل الله تعالى ملكا من ملوك فارس، يقال له نوشك إلى بيت المقدس ليعمره، فانتدب في ألف قهرمان مع كل قهرمان ثلاثمائة ألف عامل، وجعلوا يعمرونه. وأهلك الله بختنصر ببعوضة دخلت في دماغه، ونجى الله من بقي من بني إسرائيل، ولم يمت أحد منهم ببابل، وردهم الله إلى بيت المقدس ونواحيه، وعمروه ثلاثين سنة وكثروا، حتى كانوا على أحسن ما كانوا عليه. فلما مضت المائة سنة أحيا الله تعالى من أرمياء عينيه، وسائر جسده ميت ثم أحيا جسده وهو ينظر، ثم نظر إلى حماره فإذا عظامه متفرقة بيض تلوح، فسمع صوتا من السماء أيها العظام البالية إن الله تعالى يأمرك أن تجتمعي فاجتمع بعضها إلى بعض واتصل بعضها ببعض، ثم نودي إن الله عزّ وجلّ يأمرك أن تكتسي لحما وجلدا فكان كذلك ثم نودي إن شاء الله عزّ وجلّ يأمرك أن تحيا، فقام بإذن الله عزّ وجلّ ونهق، وعمر الله تعالى أرمياء فهو الذي يرى في الفلوات فذلك قوله تعالى:
__________
(1) سورة البقرة، الآية: 259.(2/345)
{فَأَمََاتَهُ اللََّهُ مِائَةَ عََامٍ} (1) الآية وقوله تعالى: {لَمْ يَتَسَنَّهْ} (2) أي لم يتغير وكان التين كأنه قطف من ساعته، والعصير كأنه عصر من ساعته. نقله عن وهب بن منبه انتهى. وسيأتي الكلام على الخضر واختلاف العلماء في اسمه ونبوته في لفظ الحوت من هذا الباب.
وقال قتادة وعكرمة والضحاك إن بختنصر لما خرب بيت المقدس، وأقدم سبي بني إسرائيل بابل، كان فيهم عزير ودانيال وسبعة آلاف من أهل بيت داود عليه الصلاة والسلام، فلما نجا عزير من بابل ارتحل على حماره حتى نزل بدير هرقل، على شط دجلة فطاف في القرية فلم يرفيها أحدا، ورأى عامة شجرها حاملا فأكل من الفاكهة، واعتصر من العنب فشرب منه، وجعل الفاكهة في سلة، والعصير في زق. فلما رأى خراب القرية، قال: {أَنََّى يُحْيِي هََذِهِ اللََّهُ بَعْدَ مَوْتِهََا} (3) قالها تعجبا لا شكا في البعث. وقال السدي: إن الله تعالى أحيا عزيرا ثم قال له: انظر إلى حمارك قد هلك وبليت عظامه، فبعث الله ريحا فجاءت بعظام الحمار من كل سهل وجبل ذهب بها الطير والسباع فاجتمعت وركب بعضها في بعض. وهو ينظر فصار حمارا من عظم ليس فيه لحم ولا دم، ثم كسيت العظام لحما ودما فصار حمارا لا روح فيه، ثم أقبل ملك يمشي حتى أخذ بمنخر الحمار فنفخ فيه، فقام الحمار ونهق بإذن الله تعالى. وقال قوم: أراد به عظام هذا الرجل، وذلك إن الله عزّ وجلّ لم يمت حماره فأحيا الله عينيه ورأسه وسائر جسده ميت، ثم قال: انظر إلى حمارك فنظر فإذا حماره قائم، كهيئته يوم ربطه حيا لم يطعم ولم يشرب مائة عام. وتقدير الآية:
{وَانْظُرْ إِلى ََ حِمََارِكَ،} {وَانْظُرْ إِلَى الْعِظََامِ كَيْفَ نُنْشِزُهََا} (4) هذا قول قتادة والضحاك وغيرهما.
وروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال: لما أحيا الله عزّ وجلّ عزيرا بعد ما أماته مائة سنة، ركب حماره وقصد بيت المقدس حتى أتى محلته، فأنكره الناس وأنكروا منزلته فانطلق على وهم حتى أتى منزله فإذا هو بعجوز عمياء مقعدة قد أتى عليها من العمر مائة وعشرون سنة، كانت أمة لهم، وكان عزير قد خرج عنهم وهي ابنة عشرين سنة وكانت قد عرفته وعقلته، فقال لها عزير: يا هذه هذا منزل عزير؟ قالت: نعم. هذا منزل عزير، وبكت وقالت: ما رأيت أحدا منذ كذا وكذا سنة يذكر عزيرا. قال: أماتني مائة سنة، ثم بعثني. قالت: فإن عزيرا كان مجاب الدعوة، يدعو للمريض وصاحب البلاء بالعافية. فادع الله تعالى أن يرد على بصري حتى أراك، فإن كنت عزيرا عرفتك. فدعا ربه سبحانه وتعالى، ومسح بيده على عينيها فأبصرت، ثم أخذ بيدها وقال:
قومي بإذن الله تعالى. فأطلق الله رجليها، فقامت صحيحة فنظرت إليه وقالت: أشهد أنك عزير فانطلقت إلى بني إسرائيل، وهم في أنديتهم ومجالسهم، وفيهم ابن لعزير شيخ ابن مائة سنة وثماني عشرة سنة، وبنو بنيه شيوخ في المجلس، فنادت: هذا عزير قد أتاكم الله به، فكذبوها فقالت:
أنا فلانة مولاتكم دعا لي عزير به فردّ علي بصري وأطلق رجلي وزعم أن الله سبحانه كان أماته مائة سنة، ثم بعثه. قال: فأقبل الناس إليه فقال ابنه: كان لأبي شامة سوداء مثل الهلال بين كتفيه فكشف عن كتفيه فإذا هو كما قال انتهى. وقال السدّي والكلبي: لما رجع إلى قريته، وقد أحرق بختنصر التوراة، ولم يكن عهد بين الخلائق، بكى عزير على التوراة فأتاه ملك بإناء من الله تعالى، فيه ماء، فشرب منه، فمثلت التوراة في صدره، فرجع إلى بني إسرائيل وقد علمه الله
__________
(1) سورة البقرة: الآية 259.
(2) سورة البقرة: الآية 259.
(3) سورة البقرة: الآية 259.
(4) سورة البقرة: الآية 259.(2/346)
التوراة، وبعثه نبيا فقال: أنا عزير فلم يصدقوه فقال: إني عزير بعثني الله تعالى إليكم لأجدد لكم توراتكم. قالوا: فأملها علينا فأملاها عليهم عن ظهر قلبه. فقالوا: ما جعل الله التوراة في قلب رجل بعد ما ذهبت، إلا أنه ابنه فقالوا عزير ابن الله. تعالى الله وتقدس عن الصاحبة والولد. وكان الله قد أمات عزيرا وهو ابن أربعين سنة، وبعثه وهو ابن مائة وأربعين سنة، وكان أولاده وأولاد أولاده شيوخا وعجائز، وهو شاب أسود الرأس واللحية فسبحان من هو على كل شيء قدير.
فائدة أخرى:
ذكر ابن خلكان وغيره من المؤرخين أن قيصر، ملك الروم، كتب إلى عمر ابن الخطاب رضي الله تعالى عنه: إن رسلي أتتني من قبلك، فزعمت أن قبلكم شجرة تخرج مثل آذان الحمر، ثم تنشق عن مثل اللؤلؤ، ثم تخضر فتكون مثل الزمرذ والزبرجد الأخضر، ثم تحمر فتكون مثل الياقوت الأحمر، ثم تينع وتنضج فتكون كأطيب فالوذج، ثم تيبس فتكون عصمة المقيم وزاد المسافر، فإن تكن رسلي صدقتني فما أرى هذه الشجرة إلا من شجر الجنة. فكتب إليه عمر: من عبد الله عمر أمير المؤمنين إلى قيصر ملك الروم: إن رسلك قد صدقتك هذه الشجرة عندنا، وهي الشجرة التي أنبتها الله تعالى على مريم حين نفست بعيسى ابنها، فاتق الله ولا تتخذ عيسى إلها من دون الله.
{إِنَّ مَثَلَ عِيسى ََ عِنْدَ اللََّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرََابٍ ثُمَّ قََالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلََا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ} (1) وذال الزمرذ معجمة ودال الزبرجد مهملة. وقيصر كلمة إفرنجية معناها شق عنه وسببه على ما قاله المؤرخون: إن أم قيصر ماتت في المخاض، فشق بطنها وأخرج فسمي قيصر وكان يفخر بذلك على الملوك. ويقول إنه لم يخرج من الرحم واسمه أغسطس، وفي زمن ملكه ولد المسيح عليه الصلاة والسلام. ثم وضع هذا اللقب لكل من ملك الروم كما لقبوا ملك الترك خاقان، وملك فارس كسرى، وملك الشام هرقل، وملك القبط فرعون، وملك اليمن تبعا وملك الحبشة النجاشي وملك فرغانة الأخشيد، وملك مصر في الإسلام سلطانا قال ابن خلكان: وهنا نكتة يسأل عنها وهي أن الروم يقال لهم بنو الأصفر فما السبب في تسميتهم بذلك؟ فيقال إن ملك الروم كان قد احترق في الزمن الأوّل فبقيت منه امرأة فتنافسوا في الملك حتى وقع بينهم، ثم اصطلحوا على أن يملكوا أول من يشرف عليهم فجلسوا مجلسا لذلك، فأقبل رجل من اليمن، ومعه عبد له حبشي، يريد الروم فأبق العبد منه، فأشرف عليهم فقالوا: انظروا في أي شيء وقعتم فزوّجوه تلك المرأة وملكوه عليهم، فولدت منه غلاما فسموه الأصفر لصفرة لونه لكونه تولد بين الحبشي والمرأة البيضاء. ونسب الروم إليه. ثم إن سيد العبد خاصمهم فيه، فقال العبد: صدق أنا عبده فارضوه فأعطوه حتى أرضوه وبقي هذا النسب على الروم.
وفي كتاب النصائح لابن ظفر أنه لما اشتد مرض الرشيد بطوس، أحضر طبيبا طوسيا فارسيا، وأمر أن يعرض عليه ماؤه، هو مع مياه كثيرة لمرضى وأصحاء فجعل يستعرض القوارير حتى رأى قارورة الرشيدة فقال: قولوا لصاحب هذا الماء يوصي فإنه قد انحلت قواه وتداعت بنيته. فأقيم وأمر بالذهاب فذهب ويئس الرشيد من نفسه وتمثل قائلا:
__________
(1) سورة آل عمران: 59.(2/347)
إن الطبيب بطبه ودوائه ... لا يستطيع دفاع نحب قد أتى ... ما للطبيب يموت بالداء الذي ... قد كان يبرىء مثله فيما مضى
وبلغه أن الناس قد أرجفوا بموته، فاستدعى بحمار وأمر فحمل عليه، فاسترخت فخذاه فقال: أنزلوني صدق المرجفون. ثم استدعى بأكفان فتخير منها ما أعجبه، وأمر فشق له قبر أمام فراشه، ثم اطلع فيه فقال: {مََا أَغْنى ََ عَنِّي مََالِيَهْ هَلَكَ عَنِّي سُلْطََانِيَهْ} (1) فتوفي في يومه رحمه الله تعالى. وفي تاريخ ابن خلكان أن بعض أصحاب الحلاج (2) ادّعى أنه رؤي يوم قتله وهو راكب على حمار في طريق النهروان وأنه قال لهم: لعلكم تظنون أني المضروب والمقتول؟ وكان سبب قتله أنه جرى منه كلام في مجلس حامد بن العباس وزير المقتدر بالله فأفتى القضاة والعلماء بإباحة دمه فرسم المقتدر بتسليمه إلى محمد بن عبد الصمد صاحب الشرطة فتسلمه بعد العشاء خوفا من العامة أن تنزعه من يده، ثم أخرجه يوم الثلاثاء لست بقين من ذي القعدة سنة تسع وثلاثمائة عند باب الطاق واجتمع عليه خلق كثير. وأمر به فضربه الجلاد ألف سوط، فما استعفى ولا تأوّه ثم قطع أطرافه الأربعة، وهو ساكن لا يضطرب، ثم حز رأسه وأحرقت جثته وألقي رمادها في دجلة، ونصب الرأس ببغداد، ثم حمل وطيف به في النواحي والبلاد وجعل أصحابه يعدون أنفسهم برجوعه بعد أربعين يوما. واتفق إن زادت دجلة تلك السنة زيادة وافرة، فادعى أصحابه أن ذلك بسبب إلقاء رماده فيها. وادعى بعض أصحابه أنه لم يقتل وإنما ألقي شبهه عند قتله على عدوّ له ولما أخرج ليقتل أنشد قائلا (3):
طلبت المستقر بكل أرض ... فلم أر لي بأرض مستقرّا ... أطعت مطامعي فاستعبدتني ... ولو أني قنعت لكنت حرّا
ويحكى أن الحلاج أنشد عند قتله:
لم أسلم النفس للأسقام تتلفها ... إلا لعلمي بأن الموت يشفيها ... ونظرة منك يا سؤلي ويا أملي ... أشهى إلي من الدنيا وما فيها ... نفس المحب على الآلام صابرة ... لعل متلفها يوما يداويها
وكان الحلاج قد صحب الجنيد ووقع بينه وبين الشبلي وغيره من مشايخ الصوفية رحمة الله تعالى عليهم أجمعين انتهى. وذكر الشيخ الإمام عز الدين بن عبد السلام المقدسي في مفاتيح الكنوز أنه لما أتي به ليصلب ورأى الخشب والمسامير ضحك ضحكا كثيرا ثم نظر في الجماعة فرأى الشبلي فقال: يا أبا بكر أما معك سجادة قال: بلى. قال: افرشها لي ففرشها فتقدم وصلى ركعتين فقرأ في الأولى فاتحة الكتاب، وبعدها: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ} (4) الآية ثم قرأ في الثانية فاتحة الكتاب وبعدها: {كُلُّ نَفْسٍ ذََائِقَةُ الْمَوْتِ} * الآية (5) ثم ذكر كلاما مطوّلا ثم تقدم
__________
(1) سورة الحاقة: الآية 2928.
(2) الحلاج، أبو مغيث الحسين بن منصور، الزاهد المشهور، أتهم، لأقوال قالها بالحلول وأفتى القضاة بقتله سنة 309هـ.
(3) وفيات الأعيان: 2/ 144.
(4) سورة البقرة: الآية 155.
(5) سورة آل عمران: 185.(2/348)
أبو الحارث السياف، ولطمه لطمة هشم وجهه وأنفه فصاح الشبلي ومزق ثيابه وغشي على أبي الحسن الواسطي وعلى جماعة من المشايخ المشهورين. وكان الحلاج يقول: اعلموا أن الله قد أباح لكم دمي، فاقتلوني ليس للمسلمين اليوم شغل أهم من قتلي. وقال: إن قتلي قيام بالحدود ووقوف مع الشريعة ومن تجاوز الحدود أقيمت عليه الحدود. قلت: وقد اضطرب الناس في أمره اضطرابا كبيرا متباينا فمنهم من يعظمه ومنهم من يكفره. وقد ذكر الإمام قطب الوجود حجة الإسلام في كتاب مشكاة الأنوار ومصفاة الأسرار فصلا مطوّلا في أمره واعتذر عن إطلاقاته كقوله: أنا الحق وما في الجبة إلا الله وحملها كلها على محامل حسنة، وقال: هذا من فرط المحبة وشدة الوجد وهو مثل قول القائل (1):
أنا من أهوى ومن أهوى أنا ... فإذا أبصرته أبصرتنا
وحسبك هذا مدحة وتزكية وكان ابن شريح إذا سئل عنه يقول: هذا رجل قد خفي على حاله وما أقول فيه. وهذا شبيه بكلام عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى وقد سئل عن علي ومعاوية رضي الله تعالى عنهما فقال: دماء طهر الله منها سيوفنا، أفلا نطهر من الخوض فيهم ألسنتنا؟ وهكذا ينبغي لمن يخاف الله أن لا يكفر أحدا من أهل القبلة بكلام يصدر عنه يحتمل التأويل على الحق والباطل. فإن الإخراج من الإسلام عظيم ولا يسارع به إلا جاهل.
ويحكى عن شيخ العارفين قطب الزمان عبد القادر الجيلاني قدس الله سره أنه قال: عثر الحلاج ولم يكن له من يأخذ بيده ولو أدركت زمانه لأخذت بيده وهذا وما سبق عن الإمام الغزالي في أمره كاف لمن له أدنى فهم وبصيرة وسمي الحلاج لأنه جلس يوما على حانوت حلاج واستقضاه حاجة فقال له الحلاج أنا مشتغل بالحلج. فقال له: امض في حاجتي حتى أحلج عنك فمضى الحلاج في حاجته، فلما عاد وجد قطنه كله محلوجا، وكان لا يحلجه عشرة رجال في أيام متعددة.
فمن ثم قيل له الحلاج. وقيل إنه كان يتكلم على الأسرار ويخبر عنها، فسمي حلاج الأسرار وكان من أهل البيضاء بليدة بفارس واسمه الحسين بن منصور والله أعلم.
وذكر ابن خلكان وغيره أن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه ولي محمد بن أبي بكر الصديق مصر، فدخلها سنة سبع وثلاثين وقام بها إلى أن بعث معاوية بن أبي سفيان عمرو بن العاص في جيوش أهل الشام، ومعهم معاوية بن حديج، بحاء مهملة مضمومة ودال مهملة مفتوحة وبالجيم في آخره كذا ضبطه ابن السمعاني في الأنساب وابن عبد البر وابن قتيبة وغيرهم.
ووقع في كثير من نسخ تاريخ ابن خلكان معاوية بن خديج بخاء معجمة ودال مكسورة وآخره جيم وهو غلط. والصواب ما تقدم وأصحابه أي أصحاب معاوية بن خديج فاقتتلوا فانهزم محمد بن أبي بكر واختبأ في بيت مجنونة فمر أصحاب معاوية بن خديج بالمجنونة وهي قاعدة على
__________
(1) وفيات الأعيان: 2/ 141. وهما بيتان، وفي هامشه إلى انهما في ديوان الحلاج: 93:
أنا من أهوى ومن أهوى أنا ... نحن روحان حللنا بدنا ... فإذا أبصرتني أبصرته ... وإذا أبصرته أبصرتنا(2/349)
الطريق، وكان لها أخ في الحبس فقالت: أتريد قتل أخي قال: لا ما أقتله. قالت: فهذا محمد بن أبي بكر داخل بيتي، فأمر معاوية أصحابه فدخلوا إليه وربطوه بالحبال وجروه على الأرض وأتوا به معاوية، فقال له محمد: احفظني لأبي بكر فقال له: قتلت من قومي في قضية عثمان ثمانين رجلا، وأتركك وأنت صاحبه لا والله. فقتله في صفر سنة ثمان وثلاثين. وأمره معاوية أن يجر في الطريق ويمر به على دار عمرو بن العاص لما يعلم من كراهته لقتله، وأمر به أن يحرق بالنار في جيفة حمار.
وقال غيره: بل وضعه حيا في جيفة حمار وأحرقه بالنار، وكان سبب ذلك دعوة أخته عائشة عليه لما أدخل يده في هودجها يوم وقعة الجمل، وهي لا تعرفه فظنته أجنبيا فقالت من هذا الذي يتعرض لحرم رسول الله صلى الله عليه وسلم أحرقه الله بالنار! فقال: يا أختاه قولي بنار الدنيا فقالت: بنار الدنيا. وقد تقدم هذا في باب الجيم في الكلام على لفظ الجمل ودفن في الموضع الذي قتل فيه. فلما كان بعد سنة من دفنه، أتى غلامه وحفر قبره فلم يجد فيه سوى الرأس فأخرجه ودفنه في المسجد تحت المنارة. ويقال إن الرأس في القبلة. قال: وكانت عائشة رضي الله تعالى عنها قد أنفذت أخاها عبد الرحمن إلى عمرو بن العاص في شأن محمد فاعتذر بأن الأمر لمعاوية بن خديج. ولما قتل ووصل خبره إلى المدينة مع مولاه مسالم، ومعه قميصه، ودخل به داره اجتمع رجال ونساء فأمرت أم حبيبة بنت أبي سفيان زوج النبي صلى الله عليه وسلم بكبش فشوي وبعثت به إلى عائشة، وقالت: هكذا قد شوي أخوك فلم تأكل عائشة بعد ذلك شواء حتى ماتت. وقالت هند بنت شمر الحضرمية: رأيت نائلة امرأة عثمان بن عفان تقبل رجل معاوية بن خديج وتقول: بك أدركت ثأري ولما سمعت أمه أسماء بنت عميس بقتله كظمت الغيظ حتى شخبت ثدياها دما. ووجد عليه علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وجدا عظيما وقال كان لي ربيبا وكنت أعده ولدا ولبني أخا. وذلك لأن عليا كان قد تزوج أمه أسماء بنت عميس بعد وفاة الصديق ورباه كما تقدم. وذكر الإمام العلامة أقضى القضاة الماوردي وغيره أن سفيان بن سعيد الثوري أكل ليلة زائدا على عادته فقال: إن الحمار إذا زيد في علفه زيد في عمله، ثم قام حتى أصبح. قال: وكان فتى يجالس الثوري ولا يتكلم فأحب أن يعرف نطقه فقال: يا فتى إن من كان قبلنا مروا على خيول سابقة وبقينا بعدهم على حمر دبرة فقال الفتى: يا أبا عبد الله إن كنا على الطريق فما أسرع لحوقنا بهم. وقال سفيان بن عيينة:
دعانا سفيان الثوري ليلة فقدم لنا تمرا ولبنا خائرا فلما توسط الأكل قال: قوموا فلنصل ركعتين شكرا لله تعالى فقال ابن وكيع، وكان حاضرا: لو قدم لنا شيئا من اللوزينج، لقال: قوموا فلنصل التراويح فتبسم سفيان. وقال سفيان الثوري ما استودعت قلبي شيئا قط فخانني. وقال له رجل: أوصني فقال: اعمل للدنيا بقدر مقامك فيها، وللآخرة بقدر مقامك فيها، والسلام. وقال له رجل: إني أريد الحج، فقال: لا تصحب من يتكرم عليك فإنك إن ساويته في النفقة أضرّ بك، وإن تفضّل عليك استذلك. ودخل الثوري على المهدي يوما فسلم عليه تسليم العامة، ولم يسلم بالخلافة، فأقبل عليه المهدي بوجه طلق، وقال: يا سفيان تفر منا ههنا وههنا وتظن أنا لو أردناك بسوء لم نقدر عليك؟ وقد قدرنا عليك الآن! أما تخشى أن نحكم فيك الآن بهوانا؟ فقال سفيان: أن تحكم في بحكم الآن، يحكم فيك ملك عادل قادر يفرق بين الحق والباطل. فقال الربيع: يا أمير المؤمنين ألهذا الجاهل أن يستقبلك بمثل هذا؟ ائذن لي أن اضرب عنقه. فقال له
المهدي: اسكت ويلك وهل يريد هذا وأمثاله إلا أن تقتلهم فنشقى بهم ويسعدوا بنا اكتبوا عهده على قضاء الكوفة بحيث أن لا يعترض عليه في حكم. فكتب عهده ودفع إليه فأخذه وخرج ورمى به في دجلة وهرب، فطلب في كل بلد فلم يوجد وتوفي بالبصرة متواريا سنة إحدى وستين ومائة رحمه الله تعالى. وهو أحد الأئمة المجتهدين، اجمع الناس على دينه وورعه وثقته. ويروى أن أبا القاسم الجنيد (1) رحمه الله كان يفتي على مذهبه، وهو غلط والصواب أن الجنيد كان شافعيا وقد عده شيخ الإسلام تقي الدين السبكي في الأصحاب وكذلك عده غيره.(2/350)
دعانا سفيان الثوري ليلة فقدم لنا تمرا ولبنا خائرا فلما توسط الأكل قال: قوموا فلنصل ركعتين شكرا لله تعالى فقال ابن وكيع، وكان حاضرا: لو قدم لنا شيئا من اللوزينج، لقال: قوموا فلنصل التراويح فتبسم سفيان. وقال سفيان الثوري ما استودعت قلبي شيئا قط فخانني. وقال له رجل: أوصني فقال: اعمل للدنيا بقدر مقامك فيها، وللآخرة بقدر مقامك فيها، والسلام. وقال له رجل: إني أريد الحج، فقال: لا تصحب من يتكرم عليك فإنك إن ساويته في النفقة أضرّ بك، وإن تفضّل عليك استذلك. ودخل الثوري على المهدي يوما فسلم عليه تسليم العامة، ولم يسلم بالخلافة، فأقبل عليه المهدي بوجه طلق، وقال: يا سفيان تفر منا ههنا وههنا وتظن أنا لو أردناك بسوء لم نقدر عليك؟ وقد قدرنا عليك الآن! أما تخشى أن نحكم فيك الآن بهوانا؟ فقال سفيان: أن تحكم في بحكم الآن، يحكم فيك ملك عادل قادر يفرق بين الحق والباطل. فقال الربيع: يا أمير المؤمنين ألهذا الجاهل أن يستقبلك بمثل هذا؟ ائذن لي أن اضرب عنقه. فقال له
المهدي: اسكت ويلك وهل يريد هذا وأمثاله إلا أن تقتلهم فنشقى بهم ويسعدوا بنا اكتبوا عهده على قضاء الكوفة بحيث أن لا يعترض عليه في حكم. فكتب عهده ودفع إليه فأخذه وخرج ورمى به في دجلة وهرب، فطلب في كل بلد فلم يوجد وتوفي بالبصرة متواريا سنة إحدى وستين ومائة رحمه الله تعالى. وهو أحد الأئمة المجتهدين، اجمع الناس على دينه وورعه وثقته. ويروى أن أبا القاسم الجنيد (1) رحمه الله كان يفتي على مذهبه، وهو غلط والصواب أن الجنيد كان شافعيا وقد عده شيخ الإسلام تقي الدين السبكي في الأصحاب وكذلك عده غيره.
وكان سفيان الثوري كوفيا فإنه سئل عن عثمان وعن علي رضي الله تعالى عنهما أيهما أفضل؟
فقال: أهل البصرة يقولون بتفضيل عثمان وأهل الكوفة يقولون بتفضيل علي. فقيل له: فما تقول أنت؟ قال أنا رجل كوفي. يعني أنه يقول بتفضيل علي.
وفي كتاب ابتلاء الأخيار أن عيسى عليه الصلاة والسلام لقي إبليس وهو يسوق خمسة أحمرة عليها أحمال، فسأله عن الأحمال فقال: تجارة أطلب لها مشترين. قال: وما هي التجارة؟ قال:
أحدها الجور. قال: ومن يشتريه؟ قال السلاطين. والثاني الكبر. قال: ومن يشتريه؟ قال:
الدهاقين: والثالث الحسد. قال: ومن يشتريه؟ قال: العلماء. والرابع الخيانة. قال: ومن يشتريها؟ قال: عمال التجار. والخامس الكيد. قال: ومن يشتريه؟ قال: النساء.
ومما يحكى: من كيد النساء ومكرهن ما روي في بعض التفاسير، عن جعفر الصادق بن محمد الباقر، أنه قال: كان في بني إسرائيل رجل، وكان له مع الله معاملة حسنة، وكان له زوجة وكان ضنينا بها، وكانت من أجمل أهل زمانها مفرطة في الجمال والحسن، وكان يقفل عليها الباب، فنظرت يوما شابا فهويته وهويها، فعمل له مفتاحا على باب دارها، وكان يدخل ويخرج ليلا ونهارا متى شاء، وزوجها لم يشعر بذلك فبقيا على ذلك زمانا طويلا. فقال لها زوجها يوما، وكان أعبد بني إسرائيل وأزهدهم إنك قد تغيرت علي ولم أعلم ما سببه، وقد توسوس قلبي وقد كان أخذها بكرا، ثم قال لها: واشتهي منك أن تحلفي لي أنك لم تعرفي رجلا غيري، وكان لبني إسرائيل جبل يقسمون به ويتحاكمون عنده، وكان الجبل خارج المدينة، وكان عنده نهر يجري، وكان لا يحلف أحد عنده كاذبا إلا هلك. فقالت له: ويطيب قلبك إذا حلفت لك عند الجبل؟ قال: نعم، قالت متى شئت فعلت. فلما خرج العابد لقضاء حاجته، دخل عليها الشاب، فأخبرته بما جرى لها مع زوجها، وأنها تريد أن تحلف له عند الجبل، وقالت: ما يمكنني أن أحلف كاذبة، ولا أقول لزوجي ما أحلف فبهت الشاب وتحير، وقال: فما تصنعين؟ فقالت له: بكر غدا، وألبس ثوب مكار وخذ حمارا واجلس على باب المدينة، فإذا خرجنا فأنا آمره يكتري منك الحمار، فإذا اكتراه منك بادر واحملني وارفعني فوق الحمار، حتى أحلف له وأنا صادقة أني ما مسني أحد غيرك وغير هذا المكاري. فقال: حبا وكرامة. فلما جاء زوجها قال قومي بنا إلى الجبل لتحلفي به. فقالت ما لي طاقة بالمشي فقال: اخرجي فإن وجدت مكاريا اكتريت لك. فقامت ولم تلبس لباسها، فلما خرج العابد وزوجته، رأت الشاب ينتظرها فصاحت به يا مكاري أتكري حمارك إلى الجبل بنصف درهم؟ قال: نعم، ثم تقدم ورفعها على الحمار فساروا حتى وصلوا إلى الجبل. فقالت
__________
(1) الجنيد بن محمد بن الجنيد البغدادي الخزاز، بغدادي صوفي، عالم في الأصول مات سنة 297هـ.(2/351)
للشاب: انزلني عن الحمار حتى أصعد على الجبل، فلما تقدم الشاب إليها ألقت بنفسها إلى الأرض، فانكشفت عورتها فشتمت الشاب، فقال: والله ما لي ذنب، ثم مدت يدها إلى الجبل فأمسكته وحلفت له أنه لم يمسسها أحد، ولا نظر إنسان مثل نظرك إلي، مذ عرفتك، غيرك وغير هذا المكاري. فاضطرب الجبل اضطرابا شديدا وزال عن مكانه، وأنكرت بنو إسرائيل ذلك.
فذلك قوله تعالى: {وَإِنْ كََانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبََالُ} (1) ويقرب من هذا ما روي عن وهب بن منبه أنه كان في زمن بني إسرائيل في زمن عيسى عليه الصلاة والسلام، رجل اسمه شمشون، وكان من أهل قرية من قرى الروم، كان قد هداه الله لرشده وصار من الحواريين، وكان أهله أصحاب أوثان يعبدونها وكان منزله من القرية على أميال، وكان يغزوهم وحده، ويجاهدهم في الله حق جهاده فيقتل ويسبي ويصيب المال، وكان ربما لقيهم بغير زاد فإذا قاتلهم وعطش انفجر له من الحجر الذي في القرية ماء فيشرب منه حتى يروى، وكان قد أعطي قوة في البطش وكان لا يوثقه حديد ولا غيره، وكانوا لا يقدرون منه على شيء، فتآمروا فيه فقال بعضهم لبعض: إنكم لن تقدروا على أذاه إلا من قبل زوجته، فدخلوا عليها وجعلوا لها جعلا إن أوثقته، فقالت: نعم أنا أوثقه لكم، فأعطوها حبلا وثيقا وقالوا لها: إذا نام فأوثقي يديه إلى عنقه ثم ذهبوا فجاء شمشون ونام، فقامت إليه فأوثقته كتافا فجعلت يديه إلى عنقه، فلما هب من نومه، جذب يديه فوقع الحبل من عنقه، فقال لها لم فعلت هذا؟ قالت لأجرب قوتك ما رأيت مثلك قط. ثم أرسلت إليهم إني قد ربطته بالحبل فلم يغن شيئا فأرسلوا إليها بجامعة من حديد، وقالوا لها إذا نام فاجعليها في عنقه، فلما نام جعلتها في عنقه، فلما هب من نومه جذبها فتقطعت، فقال لها: لم فعلت هذا؟ قالت لأجرب قوتك ما رأيت مثلك في الدنيا يا شمشون! أما في الأرض شيء يغلبك؟ قال: الله عزّ وجلّ يغلبني. ثم شيء واحد. قالت: ما هو؟ قال: ما أنا بمخبرك به.
فلم تزل تخدعه وتمكر به وتتلطف له في السؤال، وكان ذا شعر كثير جدا فقال: ويحك إن أمي كانت جعلتني نذيرا فلا يغلبني شيء أبدا ولا يوثقني إلا شعري. فتركته حتى نام، ثم قامت إليه فأوثقت يديه إلى عنقه بشعره فأوثقه ذلك. وبعثت إلى القوم فجاؤوا وأخذوه فجدعوا أنفه، وفقؤوا عينيه وأوقفوه للناس، بين ظهراني المدينة، وكانت المدينة ذات أساطين، وأشرف الملك لينظر ماذا يفعل به، فدعا الله شمشون، حين مثلوا به وأوقفوه، أن يسلطه عليهم، فرد الله عليه بصره، وما أصابوا من جسده، وأمره أن يأخذ بعمود من عمد المدينة الذي عليه الملك والناس ففعل، فوقعت المدينة وهلك من فيها وأرسل الله على زوجته صاعقة فأحرقتها، ونجى الله تعالى شمشون بمنه وفضله انتهى. وحكاياتهن في المكر والكيد لا تحصى وحسبك أن الله تعالى استضعف كيد الشيطان فقال: {إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطََانِ كََانَ ضَعِيفاً} (2) واستعظم كيد النساء فقال: {إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ} (3).
وفي كتاب نزهة الأبصار في أخبار ملوك الأمصار، وهو كتاب عظيم المقدار، ولا أعلم مصنفه أن بعض الملوك، مر بغلام وهو يسوق حمارا غير منبعث، وقد عنف عليه في السوق، فقال: يا غلام ارفق به فقال الغلام: أيها الملك في الرفق به مضرة عليه، قال: وكيف ذلك؟ قال:
__________
(1) سورة إبراهيم: الآية 46.
(2) سورة النساء: الآية 76.
(3) سورة يوسف: الآية 28.(2/352)
يطول طريقه ويشتد جوعه، وفي العنف به إحسان إليه. قال: وكيف ذلك؟ قال: يخف حمله ويطول أكله فأعجب الملك بكلامه، وقال: قد أمرت لك بألف درهم. فقال: رزق مقدور وواهب مشكور. قال الملك: وقد أمرت بإثبات اسمك في حشمي قال: كفيت مؤونة ورزقت معونة. فقال له الملك: عظني فإني أراك حكيما. فقال: أيها الملك إذا استوت بك السلامة فجدد ذكر العطب، وإذا هنأتك العافية، فحدث نفسك بالبلاء، وإذا اطمأن بك الأمن فاستشعر الخوف، وإذا بلغت نهاية العمل فاذكر الموت، وإذا أحببت نفسك فلا تجعلن لها في الإساءة نصيبا. فأعجب الملك بكلامه، وقال: لولا أنك حديث السن لاستوزرتك. فقال: لن يعدم الفضل من رزق العقل. قال: فهل تصلح لذلك؟ قال: إنما يكون المدح والذم بعد التجربة ولا يعرف الإنسان نفسه حتى يبلوها. فاستوزره فوجده ذا رأي صائب، وفهم ثاقب، ومشورة تقع موقع التوفيق.
وفي هذا الكتاب دعابات فمنها أن الرشيد خرج إلى الصيد، فانفرد عن عسكره والفضل بن الربيع خلفه، فإذا هو بشيخ كبير راكب على حمار، فنظر إليه، فإذا هو رطب العينين فغمز الفضل عليه، فقال له الفضل: أين تريد؟ قال: حائطا لي. قال: هل لك أن أدلك على شيء تداوي به عينيك فتذهب تلك الرطوبة؟ فقال: ما أحوجني إلى ذلك فقال له: خذ عيدان الهواء وغبار الماء وورق الكماة، فصره في قشرة جوزة، واكتحل به فإنه يذهب رطوبة عينيك.
فاتكأ الشيخ على قربوس (1) سرجه، وضرط ضرطة طويلة، ثم قال: هذه أجرة لوصفك، وإن نفعنا الكحل زدناك. فضحك الرشيد حتى كاد يسقط عن دابته. ومنها أنه حضر خياط لبعض الأمراء ليفصل له قباء، فأخذ يفصل والأمير ينظر إليه، فلم يتهيأ له أن يسرق شيئا فضرط فضحك الأمير حتى استلقى فأخرج الخياط من القباء ما أراد فجلس الأمير وقال: يا خياط ضرطة أخرى، فقال الخياط لا لئلا يضيق القباء. وفي كتاب نشوان المحاضرة قال ذو النون بن موسى:
كنت غلاما، والمعتضد إذ ذاك بكور الأهواز، فخرجت يوما من قرية يقال لها سانطف أريد عسكر مكرم (2). ومعي حماران واحد راكبه والآخر عليه حمل البطيخ، فمررت بعسكر المعتضد، وأنا لا أعلم من هو، فأسرع إلي جماعة منهم فأخذ واحد منهم من الحمل ثلاث بطيخات أو أربع، فخفت أن ينقص عن عدده فأتهم به، فبكيت وصحت، والحمار يسير على المحجة، والعسكر مجتاز وإذا بكبكبة عظيمة يقدمها رجل منفرد، فوقف وقال: يا مالك يا غلام تبكي وتصيح؟ فعرفته الخبر، فوقف ثم التفت إلى القوم وقال: أيه علي بالرجل الساعة. قال: فجيء به في أسرع من طبق البصر، حتى كأنه كان وراء ظهره، فقال: هو هذا يا غلام؟ قلت: نعم فأمر به فضرب بالمقارع، وهو واقف وأنا راكب على حماري، والعسكر واقف وجعل يقول له: وهو يضرب يا كلب أما كان معك ثمن هذا البطيخ؟ أما قدرت أن تمنع نفسك منه؟ أهو مالك أو مال أبيك؟
أليس صاحبه أتعب نفسه وأجهد في زرعه وسقيه وأداء خراجه؟ والمقارع تأخذه حتى ضرب مائة مقرعة. ثم أمر لي بأربعة دنانير وسار. وأخذ الجيش يشتموني ويقولون: ضرب القائد الفلاني بسبب هذا مائة مقرعة فسألت بعضهم فقال: هذا أمير المؤمنين المعتضد.
__________
(1) القربوس: حنو السّرج.
(2) عسكر مكرم: بلدة في نواحي خوزستان.(2/353)
وفي كتاب الأذكياء لابن الجوزي، عن الجاحظ أنه قال: قال ثمامة بن أشرس (1): دخلت على صديق لي أعوده، وتركت حماري على الباب، ولم يكن معي غلام يحفظه، فلما خرجت إذا فوقه صبي يحفظه، فقلت: أركبت حماري بغير أذني؟ فقال: خفت أن يذهب فحفظته لك. لو ذهب لكان أعجب إلي من بقائه! فقال: إن كان هذا رأيك في الحمار فقدر أنه ذهب وهبه لي واربح شكري! فلم أدر ما أقول. وأحسن من هذا الذكاء ما رواه ابن الجوزي أيضا، قال: ركب المعتصم إلى خاقان يعوده، والفتح بن خاقان صبي يومئذ، فقال له المعتصم: أيهما أحسن غار أمير المؤمنين أم دار أبيك؟ قال: إذا كان أمير المؤمنين في دار أبي فدار أبي أحسن. فأراه المعتصم، فصافى يده، وقال: يا فتح هل رأيت أحسن من هذا القص؟ قال: نعم اليد التي هو فيها.
ويقرب من هذا وهو من الجواب المسكت، ما ذكره الإمام ابن الجوزي قال: دخل شاب على المنصور، فسأله عن وفاة أبيه، فقال: مات، رحمه الله، يوم كذا وكذا، وكان مرضه، رحمه الله، يوم كذا، خلف، رحمه الله، كذا. فانتهره الربيع وقال أما تستحي بين يدي أمير المؤمنين تقول هذا؟ فقال الشاب: لا ألومك على انتهاري لأنك لم تعرف حلاوة الآباء! وكان الربيع لقيطا فما أعلم المنصور ضحك كضحكه يومئذ انتهى. وفي تاريخ ابن خلكان، في ترجمة الحاكم العبيدي (2)، أن الحاكم بأمر الله كان له حمار أشهب يدعى بقمر يركبه، وكان يحب الانفراد والركوب وحده، فخرج راكبا حماره ليلة الإثنين سابع عشر شوال سنة إحدى عشرة وأربعمائة إلى ظاهر مصر، وطاف ليلته كلها وأصبح متوجها إلى شرقي حلوان ومعه راكبان، فأعاد أحدهما ثم أعاد الآخر وبقي الناس يخرجون يلتمسون رجوعه ومعهم دواب الموكب إلى يوم الخميس سلخ الشهر المذكور. ثم خرج ثاني القعدة جماعة من الموالي والأتراك فأمعنوا في طلبه وفي الدخول في الجبل فرأوا حماره الأشهب الذي كان راكبا عليه، وهو على قرنة الجبل وقد ضربت يداه ورجلاه بسيف، وعليه سرجه ولجامه فتبعوا الأثر فإذا أثر حمار وأثر راجل خلفه وراجل قدامه، فقصوا الأثر إلى البركة التي في شرقي حلوان، فنزل فيها رجل فوجد فيها ثيابه وهي سبع جباب ووجدت مزرورة لم تحل أزرارها، وفيها آثار السكاكين فحملت إلى القصر، ولم يشكوا في قتله. غير أن جماعة من المتغالين في حبهم له السخيفي العقل يدعون حياته وأنه سيظهر ويحلفون بغيبة الحاكم. ويقال إن أخته دست عليه من قتله وكان الحاكم جوادا بالمال سفاكا للدماء. وكانت سيرته عجبا يخترع كل يوم حكما يحمل الناس عليه فمن ذلك أنه أمر الناس سنة خمس وتسعين وثلاثمائة بكتب سب الصحابة رضي الله تعالى عنهم في حيطان المساجد والقياسر والشوارع، وكتب إلى سائر الديار المصرية يأمرهم بالسب ثم أمر بقطع ذلك سنة سبع وتسعين. وأمر بضرب من يسب الصحابة وتأديبه وأمر بقتل الكلاب فلم ير كلب في الأسواق والأزقة إلا قتل ونهى عن بيع الفقاع والملوخيا، ثم نهى عن بيع الزبيب قليله وكثيره، وجمع جملة كثيرة وأحرقت وأنفقوا على إحراقها خمسمائة دينار، ثم نهى عن بيع العنب أصلا وألزم اليهود
__________
(1) ثمامة بن أشرس النميري، أبو معن من كبار المعتزلة، فصيح بليغ. مات سنة 213هـ.
(2) وفيات الأعيان: 5/ 29. والحاكم هو أبو علي المنصور الملقب الحاكم بأمر الله بن العزيز بن المعز بن المنصور القائم بن المهدي صاحب مصر. مات سنة 411هـ.(2/354)
والنصارى أن يتميزوا في لباسهم عن المسلمين في الحمامات، وخارجها، ثم أفرد حماما لليهود وحماما للنصارى وألزمهم أن لا يركبوا شيئا من المراكب المحلاة، وأن تكون ركبهم من الخشب وأن لا يستخدموا أحدا من المسلمين ولا يركبوا حمار المكاري المسلم ولا سفينة نواتيها مسلمون.
وأمر بهدم القمامة في سنة ثمان وأربعمائة وجميع الكنائس بالديار المصرية. ووهب جميع ما فيها من الآلات وجميع ما لها من الأحباس لجماعة من المسلمين وأمر أن لا يتكلم أحد في صناعة النجوم، وأن ينفى المنجمون من البلاد، وكذلك أصحاب الغناء ومنع النساء من الخروج إلى الطرقات ليلا ونهارا، ومنع الأساكفة من عمل الأخفاف للنساء، ولم تزل النساء ممنوعات من الخروج إلى أيام ولده الظاهر مدة سبع سنين. ثم أمر ببناء ما كان هدم من الكنائس، ورد ما كان قد أخذ من أحباسها.
وحلوان مدينة كثيرة النزه فوق مصر بخمسة أميال كان يسكنها عبد العزيز بن مروان، وبها توفي وبها ولد ولده عمر بن عبد العزيز انتهى. قلت: وفي قوله ليلة الإثنين سابع عشر، وقوله إلى يوم الخميس سلخ الشهر المذكور نظر ظاهر والله أعلم. وفي رسالة القشيري، في باب كرامات الأولياء، سمعت أبا حاتم السجستاني يقول سمعت أبا نصر السراج يقول: سمعت الحسين بن أحمد الرازي يقول: سمعت أبا سليمان الخواص يقول: كنت راكبا حمارا يوما، وكان الذاب يؤذيه فيطأطىء رأسه، وكنت أضرب رأسه بخشبة في يدي، فرفع الحمار رأسه إليّ وقال: اضرب فإنك هكذا على رأسك تضرب. قال الحسين: فقلت لأبي سليمان لك وقع هذا قال: نعم، كما تسمعني.
تذنيب:
روى البيهقي في الشعب عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه، أنه قال: كانت الأنبياء عليهم الصلاة والسلام يركبون الحمر، ويلبسون الصوف، ويحلبون الشاة، وكان للنبي صلى الله عليه وسلم حمار اسمه عفير بضم العين المهملة، وضبطه القاضي عياض بالغين المعجمة. وقد اتفقوا على تغليطه، أهداه له المقوقس (1) وكان فروة بن عمرو الجذامي (2) أهدى له حمارا يقال له يعفور، مأخوذان من العفرة وهو لون التراب، فنفق يعفور في منصرف النبي صلى الله عليه وسلم من حجة الوداع. وذكر السهيلي أن يعفور طرح نفسه في بئر يوم موت النبي صلى الله عليه وسلم. وذكر ابن عساكر في تاريخه بسنده إلى أبي منصور قال: لما فتح النبي صلى الله عليه وسلم خيبر أصاب حمارا أسود، فكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم الحمار فقال له: ما اسمك؟ قال: يزيد بن شهاب، أخرج الله من نسل جدي ستين حمارا لا يركبها إلا نبي وقد كنت أتوقعك لتركبني ولم يبق من نسل جدي غيري ولا من الأنبياء غيرك، وقد كنت قبلك عند رجل يهودي وكنت أتعثر به عمدا، كان يجيع بطني ويركب ظهري. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «فأنت يعفور يا يعفور تشتهي الإناث. قال: لا، فكان صلى الله عليه وسلم يركبه في حاجته، وكان يبعثه خلف من شاء من أصحابه، فيأتي الباب فيقرعه برأسه، فإذا خرج إليه صاحب الدار أومأ إليه فيعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أرسله إليه، فيأتي النبي صلى الله عليه وسلم فلما قبض رسول الله جاء إلى بئر كانت
__________
(1) المقوقس: ملك مصر.
(2) فروة بن عمرو بن النافرة من بني نفاثة من جذام، أسلم بعد وقعة تبوك. مات سنة 12هـ.(2/355)
لأبي الهيثم بن التيهان فتردى فيها جزعا على رسول الله صلى الله عليه وسلم. فكانت قبره. قال الإمام الحافظ أبو موسى: هذا حديث منكر جدا إسنادا ومتنا لا يحل لأجد أن يرويه إلا مع كلامي عليه. وقد ذكره السهيلي في التعريف والأعلام في الكلام على قوله (1) تعالى: {وَالْخَيْلَ وَالْبِغََالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهََا وَزِينَةً} وفي كامل ابن عدي، في ترجمة أحمد بن بشير، وفي شعب الإيمان للبيهقي، عن الأعمش عن سلمة بن كهيل عن عطاء عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تعبد رجل في صومعة فأمطرت السماء وأعشبت الأرض فرأى حمارا له يرعى، فقال: يا رب لو كان لك حمار لرعيته مع حماري، فبلغ ذلك نبيا من أنبياء بني إسرائيل، فأراد أن يدعو عليه، فأوحى الله إليه إنما أجازي عبادي على قدر عقولهم»! (2). وهو كذلك في الحلية لأبي نعيم في ترجمة زيد بن أسلم. وروى ابن أبي شيبة في مصنفه والإمام أحمد في الزهد، عن سليمان بن المغيرة، عن ثابت قال: قيل لعيسى بن مريم عليهما السلام: يا رسول الله لو اتخذت لك حمارا تركبه لحاجتك؟
فقال: أنا أكرم على الله من أن يجعل لي شيئا يشغلني عنه.
الحكم:
يحرم أكله عند أكثر أهل العلم، وإنما رويت الرخصة فيه عن ابن عباس رواه عنه أبو داود في سننه وقال الإمام أحمد: كره أكله خمسة عشر رجلا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم. وادعى ابن عبد البر الإجماع الآن على تحريمه. قال: وقد روي عن غالب بن أبجر، قال: أصابتنا سنة فشكونا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله لم يكن عندي ما أطعم أهلي إلا سمان حمر وإنك حرمت لحوم الحمر الأهلية «فقال: اطعم أهلك من سمن حمرك، فإنما حرمتها من أجل جوال القرية». ولم (3) يرو عن غالب بن أبجر سوى هذا الحديث. ولنا ما روى جابر وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم «نهى عن لحوم الحمر الأهلية وأذن في لحوم الخيل». متفق (4) عليه. وحديث غالب رواه أبو داود واتفق الحفاظ على تضعيفه، ولو بلغ ابن عباس أحاديث النهي الصحيحة الصريحة في تحريمه لم يصر إلى غيره. ولو صح حديث غالب لحمل على الأكل منها، حال الاضطرار وأيضا هي قضية عين لا عموم لها ولا حجة فيها. واختلف أصحابنا في علة تحريمها، هل هو لاستخباث العرب لها؟ أو للنص على وجهين! حكاهما الروياني وغيره وأفاد الحافظ المنذري أن تحريم لحوم الحمر نسخ مرتين، ونسخت القبلة مرتين، ونسخ نكاح المتعة مرتين. واختلف السلف في لبنها فحرمه أكثر العلماء، ورخص فيه عطاء وطاوس والزهري، والأول أصح لأن حكم اللحم ويحرم ضربه وضرب غيره من الحيوانات المحترمة بالإجماع. روى البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بحمار قد وسم وجهه، فقال: «لعن الله من فعل هذا» (5) وفي رواية «لعن الله الذي وسم هذا».
__________
(1) سورة النحل: الآية 8.
(2) الكامل لابن عدي: 1/ 169.
(3) رواه أبو داود في الأطعمة: 33.
(4) رواه البخاري: ذبائح 28، مغازي: 38، نكاح: 31. ورواه مسلم في النكاح: 30، والصيد: 23، 25 27، 30، 31، 37. ورواه الترمذي في النكاح: 30، والصيد: 23، 25، 27، 31. الترمذي ذبائح:
13.
(5) رواه مسلم في اللباس: 108، 109. وأبو داود جهاد: 52. وأحمد: 3/ 297، 323.(2/356)
الأمثال:
قالوا: «عشر تعشير الحمار»، (1) قال الجوهري: تعشير الحمار نهيقه عشرة أصوات في طلق واحد قال الشاعر (2):
لعمري لئن عشرت من خيفة الردى ... نهاق حمار أنني لجزوع (3)
وذلك أنهم كانوا إذا خافوا وباء بلد عشروا كتعشير الحمار قبل أن يدخلوه، وكانوا يزعمون أن ذلك ينفعهم. وقوله (4) تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرََاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهََا كَمَثَلِ الْحِمََارِ يَحْمِلُ أَسْفََاراً} أي يثقله حملها ولا ينفعه علمها وكل من يعلم ولم يعمل بعلمه فهذا مثله. وفي الحديث (5) «يؤتى بالرجل يوم القيامة، فيلقى في النار فتندلق أقتاب بطنه، فيدور كما يدور الحمار في الرحا فيطيف به أهل النار، فيقولون: ما لك؟ فيقول: كنت آمر بالخير ولا آتيه، وأنهى عن الشر وآتيه» والإقتاب الأمعاء واحدها قتب بالكسر. وقالت العرب: هم يتهارجون تهارج الحمر.
أي يتسافدون. والهرج كثرة النكاح. يقال: بات يهرجها ليله جميعا. وروى الحافظ أبو نعيم عن أبي الزاهرية، عن كعب الأحبار قال: يمكث الناس بعد يأجوج ومأجوج في الرخاء والخصب والدعة عشر سنين حتى إن الرجلين ليحملان الرمانة الواحدة بينهما، ويحملان العنقود الواحد من العنب، فيمكثون على ذلك عشر سنين، ثم يبعث الله ريحا طيبة فلا تدع مؤمنة ولا مؤمنا إلا قبضت روحه، ثم يبقى الناس بعد ذلك يتهارجون تهارج الحمر في المروج، حتى يأتي أمر الله والساعة، وهم على ذلك. وقالوا «بال الحمار فاستبال أحمرة». أي (6) حملهن على البول، يضرب في تعاون القوم على ما يكره. وقالوا (7): «اتخذ فلان حمار الحاجات». يضرب للذي يمتهن في الأمور. وقالوا: «تركته جوف حمار» (8) أي لا خير فيه. وقالوا: «أصبر من حمار». (9) وقالوا:
«شر المال مالا يذكى ولا يزكى» (10) أشاروا بذلك إليه. وقالوا «ما بقي منه إلا قدر ظمء حمار» (11). لأنه أقصر الحيوان ظمأ. الجوهري في مادة عشا قال الشاعر:
غدونا غدوة سحرا بليل ... عشاء بعد ما انتصف النهار ... قصدناها حمارا ذا قرون ... أكلنا اللحم وانفلت الحمار
وفي معنى هذا البيت وجهان أحدهما أنّا أتعبناه حتى أكلنا لحمه لشدة الإضرار به من العدو ثم انفلت. والثاني إنا ذبحناه فأكلناه أكلا لم يبق منه شيء فكأنه انفلت. وقوله: ذا قرون أي مسنا قد أتت عليه قرون من الدهر. وقالوا (12): «أذل من حمار مقيد». قال الشاعر:
__________
(1) مجمع الأمثال: 2/ 42.
(2) هو عروة بن الورد الشاعر الجاهلي الصعلوك، والبيت في الحيوان للجاحظ: 6/ 359.
(3) في كتاب الحيوان: «نهاق الحمير».
(4) سورة الجمعة: الآية 5.
(5) رواه البخاري في بدء الخلق: 10، والفتن: 17. ورواته مسلم في الزهد: 51، وأحمد: 2055.
(6) المستقصى: 2/ 5.
(7) مجمع الأمثال: 1/ 135.
(8) مجمع الأمثال: 1/ 135.
(9) جمهرة الأمثال: 1/ 484.
(10) المستقصى: 2/ 130.
(11) المستقصى: 2/ 317.
(12) جمهرة الأمثال: 1/ 380.(2/357)
وما يقيم بدار الذل يعرفها ... إلا الأذلان عير الحي والوتد ... هذا على الخسف مربوط برمته ... وذا يشج فلا يرثي له أحد
الخواص:
من سقي من وسخ أذنه في شراب أو غيره سبت ونام، ولم يعقل أصلا. ومن نزع شعرة من ذنبه عند نزوه وربطها على فخذه أنعظ وهيج الباه. وإذا ربط حجر في ذنبه لم ينهق.
وكذا إذا طليت استه بدهن. وقال الإمام الفخر الرازي وصاحب الحاوي: إذا طبخ لحم الحمار الأهلي وقعد في مائه من به كزاز نفعه. وإذا اتخذ من حافره خاتم، ولبسه المصروع لم يصرع.
وسرجينه وسرجين الخيل، إذا أحرقا أو لم يحرقا وخلطا بخل قطعا سيلان الدم. وإذا علق جلد جبهته على الصبيان منعهم من الفزع وإذا رش على زبله خل وشم قطع الرعاف. وقال صاحب الفلاحة: إذا ركب الملسوع بالعقرب حمارا، وجعل وجهه إلى ذنبه صار الوجع إلى الحمار، وبرىء الراكب. وكذلك إن تقدّم الملدوغ إلى أذن الحمار وقال: إني لدغت بعقرب في المكان الفلاني ذهب الوجع. وإن ركبه مقلوبا كما تقدم كان أقوى فعلا. ومخه إذا طلي به الرأس مع الزيت، طول الشعر. وكبده إذا أكلت مشوية على الريق، منقوعة في الخل، نفعت من الصرع وأمن آكلها من الصرع. ولبن الحمارة إذا صمد به الذكر أنعظ. ونهيق الحمار يضر بالكلب حتى إنه ربما عوى من كثرة ما يؤلمه.
التعبير:
الحمار في المنام جد الإنسان وسعده، وربما دل على غلام أو ولد أو خير، وربما دل على السفر أو العلم، لقوله (1) تعالى: {كَمَثَلِ الْحِمََارِ يَحْمِلُ أَسْفََاراً} وربما على المعيشة لقوله (2)
تعالى: {وَانْظُرْ إِلى ََ حِمََارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنََّاسِ} وربما دل الحمار على العالم المحصل. أو اليهود، لقوله تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرََاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهََا} (3) الآية وربما دلّ الحمار على ما يوطأ فيه كالوطاء والزربول وما أشبه ذلك. وظهور حمار عزير في المنام ظهور آية. وربما دلت رؤيته على الخلاص من الشدائد، وعلى الرجوع إلى المناصب السنية، أو المنازعة في الدين. والحمير والبغال ملكها في المنام، أو ركوبها دليل على الزينة بالمال أو الولد، لقوله (4) تعالى: {وَالْخَيْلَ وَالْبِغََالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهََا وَزِينَةً} وربما دل ركوب الحمار على النجاة من الهم. وموت الحمار وهزاله فقر صاحبه. وقيل موته موت صاحبه. والنزول عن ظهره بلا نية نزول فقر وبيعه فقر أيضا، ومن ذبح حماره ليأكل لحمه نال سعة في رزقه، وإن ذبحه لغير الأكل فإنه يفسد معاشه بالولد والعز، فمن رأى أنه لا يحسن ركوب حماره، فإنه يتحلى بما ليس من أهله، والمهازيل والضعاف من الحمر، مال في زيادة، والسمان منها مال قد انتهى. والحمار المصري وكيل وهو نعم الوكيل. والحمارة امرأة معينة على المعيشة كثيرة الخير ذات نسل وربح متواتر، فمن ركب حمارة في منامه، وخلفها جحش فإنه يتزوج امرأة لها ولد. ومن رأى حمارة لا تمشي إلا بالصوت فإنه لا يطعم إلا بالدعاء. ولفظ الأتان من الإتيان. وربما دل صياحها على الشر والإنكاد، لقوله (5)
__________
(1) سورة الجمعة: الآية 5.
(2) سورة البقرة: الآية 259.
(3) سورة الجمعة: الآية 5.
(4) سورة النحل: الآية 8.
(5) سورة لقمان: الآية 19.(2/358)
تعالى: {إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوََاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ} أو ظهور عارض من الجان، فإن نهيق الحمار يدل على رؤية الشيطان لأن السنة وردت بالتعوذ من الشيطان الرجيم عند سماع صوته، وقيل سماع صوته دعاء على الظلمة. ومن رأى حمارا موقورا دخل منزله، فإنه خير يسوقه الله إليه على قدر جوهر ذلك الحمل. ولبن الحمارة خصب في تلك السنة وربما دل الشرب منه على مرض شاربه ثم ينجو منه. ولحم الحمار مال لمن أكله. وحمار المرأة زوجها فإن مات طلقها أو مات زوجها. ومن صارع حمارا مات بعض أقاربه ومن رأى حماره صار فرسا نال خيرا من السلطان، وإن صار بغلا نال خيرا من سفر. ومن حمل حماره في المنام نال خيرا وقوّة في السعادة، حتى يتعجب منه. ومن رأى له حافرا فذلك قوة في المال والتصرف وكذلك الخف ومن سمع صوت الحوافر من غير أن يرى شيئا من البهائم. فإنها أمطار ويعبر الحمار برجل جاهل. وربما دلت رؤيته على الولد من الزنا.
ومن رأى حمارا نزل من السماء فدس ذكره في دبره نال مالا عظيما يستغني به. لا سيما إذا كان الرائي ملكا، والحمار أسود أو أدهم والله أعلم.
الحمار الوحشي:
ويسمى الفراء ويقال حمار وحش وحمار وحشي، وهو العير وربما أطلق العير على الأهلي أيضا والحمار الوحشي شديد الغيرة، فلذلك يحمي عانته الدهر كله ومن عجيب أمره أن الأنثى من هذا النوع إذا ولدت ذكرا كدم الفحل خصيتيه، فالأنثى تعمل الحيلة في الهرب منه حتى يسلم. وربما كسرت رجل التولب كي لا يسعى ولا تزال ترضعه إلى أن يكبر فيسلم من أبيه وأشار إلى ذلك الحريري بقوله في المقامة الثالثة عشرة:
يا رازق النعاب في عشه ... وجابر العظم الكثير المهيض ... أتح لنا اللهم من عرضه ... من دنس الذم نقى رحيض
وسيأتي هذا إن شاء الله تعالى في باب النون في النعاب ويقال: إن الحمار الوحشي يعمر مائتي سنة وأكثر.
وذكر ابن خلكان في ترجمة (1) يزيد بن زياد أن بعض الجند حدث أنهم نزلوا على جرود، فاصطادوا من حمر الوحش شيئا كثيرا، وذبحوا منها حمارا وطبخوا لحمه الطبخ المعتاد، فلم ينضج فزيد في الإيقاد عليه يوما كاملا فلم ينضج، فقام بعض الجند وأخذ رأسه، وجعل يقلبه فرأى على أنذه وسما، فقرأه فإذا هو بهرام جور وموضع الوسم ظاهر أبيض، وهو بالقلم الكوفي. قال ابن خلكان: وأحضروا الأذن عندي فوجدت الاسم ظاهرا وبهرام جور كان من ملوك الفرس قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم بزمان طويل، وكان من عادته إذا أخذ الصيد وسمه وأطلقه، والله تعالى يعلم كم كان عمر الحمار قبل الوسم. وهذا الحمار لعله عاش أكثر من مائتي سنة. وجرود قرية من قرى دمشق، وبأرضها من حمر الوحش شيء كثير، يجاوز الحصر وفي أرض جرود الجبل المدخن وإنما سمي هذا الجبل بالمدخن لأنه لا يزال عليه مثل الدخان من الضباب وقيل: إن الحمار يعيش أكثر من ثمانمائة سنة وألوان حمر الوحش مختلفة، والأخدرية أطولها عمرا وأحسنها شكلا. وهي منسوبة إلى أخدر، فحل كان لكسرى أردشير فتوحش، واجتمع بعانات فضرب فيها فالمتولد منها يقال له
__________
(1) وفيات الأعيان: 6/ 342. وهو يزيد بن زياد بن ربيعة، لقبه مفرّغ الحميري توفي سنة 69هـ.(2/359)
أخدري. وقال (1) الجاحظ: أعمار حمر الوحش تزيد على أعمار الحمر الأهلية، ولا نعرف حمارا أهليا عاش أكثر من حمار أبي سيارة، وهو عميلة بن خالد العدواني، كان له حمار أسود أجاز الناس عليه من المزدلفة إلى منى أربعين سنة وكان يقول:
لا هم مالي في الحمار الأسود ... أصبحت بين العالمين أحسد ... هلا يكاد ذو الحمار الجلعد ... فق أبا سيارة المحسد ... من شر كل حاسد إذا حسد ... ومن أذاة النافثات في العقد ... اللهم حبب بين نسائنا ... وبغض بين رعائنا
واجعل المال في سمحائنا
وفيه يقول الشاعر:
خلوا الطريق عن أبي سيارة ... وعن مواليه بني فزاره ... حتى يجيز سالما حماره ... مستقبل يدعو جاره
فقد أجار الله من أجاره
ولذلك قيل (2): «أصح من حمار أبي سيارة» وروى ابن أبي شيبة وابن عبد البر من طريقه، من حديث أبي فاطمة الليثي، ويقال الأزدي، ويقال الدوسي، أنه قال: كنا جالسين عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «من أحب أن يصح فلا يسقم؟ فابتدرناها فقلنا نحن يا رسول الله. فقال:
أتحبون أن تكونوا كالحمر الصالة؟ قالوا: لا يا رسول الله. قال: ألا تحبون أن تكونوا أصحاب بلاء وأصحاب كفارات فو الذي نفس أبي القاسم بيده أن الله ليبتلي المؤمن بالبلاء فما يبتليه إلا لكرامته عليه، لأن الله قد أنزل عبده منزلة لم يبلغها بشيء من عمله دون أن ينزل به من البلاء ما لا يبلغ تلك المنزلة إلا به». وكذا رواه البيهقي أيضا في الشعب وقال: سألت عنه بعض أهل الأدب، فزعم أنه أراد به حمر الوحش. وقال ابن الأثير في نهاية الغريب: قوله: أتحبون أن تكونوا كالحمر الصالة» قال أبو أحمد العسكري: هو بالصاد غير المعجمة ورواه أيضا بالضاد المعجمة.
وهو خطأ يقال للحمار الوحشي الحاد الصوت: صال وصلصال كأنه يريد الصحيحة الأجساد والشديدة الأصوات، لقوّتها ونشاطها.
الحكم:
يحل أكله بالإجماع، وفي الصحيحين وغيرهما أن النبي صلى الله عليه وسلم (3) قال: «إنا لم نرده عليك إلا إننا حرم». قال الشافعي: ولو توحش الحمار الأهلي حرم أكله. ولو استأهل الوحشي لم يحرم. ولا نعلم في حل الوحشي خلافا إلا ما روي عن مطرف أنه قال: إذا أنس واعتلف صار كالأهلي. وأهل العلم قاطبة على خلاف قوله ولا يحل الحمار المتولد بين الأهلي والوحشي، لأن الولد يتبع خير الأبوين في الأطعمة حتى يقرض أحدهما غير مأكول. كما يتبع أخسهما في النجاسة،
__________
(1) الحيوان: 1/ 139. وأبو سيارة هو عميلة بن أعزل كذا في الحيوان.
(2) جمهرة الأمثال: 1/ 484.
(3) رواه البخاري في الصيد: 6والهبة: 6، 17ومسلم حج: 5453525150. ورواه أبو داود في المناسك: 40والترمذي في الحج: 56والنسائي في المناسك: 79.(2/360)
حتى يجب الغسل من ولوغه وسائر أجزائه سبعا إذا تولد بين كلب وذئب. وكما يتبع الأخس في الأنكحة حتى إذا تولد بين كتابي ووثني لم تحل مناكحته، وقد خالفوا هذا الأصل في باب الجزية، فقالوا: يعقد للمتولد بين كتابي ووثني، وفي الديات ألحقوه بأكثرهما دية، وهو الأصح المنصوص.
وقيل: يتبع أقلهما دية. وقيل يعتبر بالأب. وهذه الأقوال حكاها الرافعي في باب الغرة وفي الحج جعلوه تابعا للأغلظ تكليفا، حتى لو قتل متولدا بين ظبي وشاة وجب عليه الجزاء، وعكسوا ذلك في الزكاة، فلم يوجبوها في المتولد بين الأهلي والوحشي، وفي إيجابها في المتولد بين انسيين كبقرة وجاموس نظر. وجعلوه تابعا لأشرفهما دينا، حتى لو كان أحد الأبوين مسلما عند العلوق، أو أسلم قبل بلوغه حكم بإسلام الصغير تبعا وجعلوه تابعا للأم في الرق والحرية، أعني ما دام حملا، إلا في المستولدة والمغرور بحريتها. وجعلوه تابعا للأب في النسب مطلقا، لأن النسب يعتبر بالآباء دون الأمهات. واستثنوا من ذلك أولاد بنات رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنهم ينسبون إليه، دون أولاد بنات غيره، وهذا من خصائصه صلى الله عليه وسلم. وجعلوا ولد الزنا مقطوع النسب عن أبيه. والمنفي ليس كذلك لأنه لو استحلفه لحقه ولم يتعرضوا للتبعية في بابي الأضحية والعقيقة والاحتياط اعتبار أكثر السنين فيه، حتى لو تولد بين ضأن ومعز اشترط لإجزائه في الأضحية طعنه في السنة الثالثة اعتبارا بأكثر الأبوين سنا، وهو المعز ولم يتعرضوا أيضا له في الربويات وفائدته أنه هل يجعل جنسا برأسه، حتى يباع لحمه بلحم أي الأبوين كان مفاضلة، أو يجعل كالجنس الواحد احتياطا فيحرم التفاضل؟
وهذا هو الأقرب اعتبار الضيق باب الربا. ولم يتعرضوا له أيضا في السلم والقرض حتى لو أقرضه حيوانا متولدا بين حيوانين، أو أسلم إليه في لحمه أو لحم ضأن أو معز، فأتاه بلحم متولد بين ضأن ومعز فالمتجه عدم جواز قبوله، لأنه نوع آخر والاستبدال عن النوع، بنوع آخر لا يجوز على الصحيح. ولم يتعرضوا له أيضا في الشركة والوكالة والقراض، كل ذلك لندوره والمتجه المنع في الجميع لأن هذه العقود إنما تصح فيما يعم وجوده ولو أوصى لرجل بشاة فأعطاه الوارث متولدا بين ضأن ومعز لم يجبر على القبول، لأن الوصية إنما تحمل على المتعارف والله تعالى أعلم.
الأمثال:
قالوا: «فلان أكفر من حمار» (1) وهو رجل من عاد كان يقال له حمار بن مويلع، وقيل هو حمار بن مالك بن نصر الأزدي كان مسلما، وكان له واد طوله مسيرة يوم في عرض أربعة فراسخ، لم يكن ببلاد العرب أخصب منه، وفيه من كل الثمار فخرج بنوه يوما يتصيدون، فأصابتهم صاعقة فهلكوا فكفر وقال: لا أعبد من فعل هذا ببني. ودعا قومه إلى الكفر، فمن عصاه قتله، فأهلكه الله وأخرب واديه فضربت العرب به المثل في الكفر. قال الشاعر:
ألم تر أن حارثة بن بدر ... يصلي وهو أكفر من حمار
الخواص:
قال ابن وحشية وابن السويدي وغيرهما: النظر إلى أعين الحمر الوحشية يديم صحة العين، ويمنع نزول الماء إليها بخاصة عجيبة أودعها الله فيها، والاكتحال بمرارتها يحد البصر ويزيل ظلمته ويمنع من ابتداء نزول الماء في العين. وأكل سمين لحمها ينفع من مرض المفاصل ويزيله، ولحمها أيضا ينفع من النقرس نفعا بينا وشحمها إذا طلي به الكلف أزاله ومرارتها تنفع
__________
(1) جمهرة الأمثال: 2/ 147.(2/361)
من داء الثعلب طلاء، وتنفع من البول على الفراش أكلا ومخها يسخن بدهن الزنبق ويدهن به البهق يزول بإذن الله تعالى.
التعبير:
الحمار الوحشي في المنام يدل على الزوجة أو الولد من ذي الجفاء والقسوة أو من أرباب البوادي، فاعتبر ذلك واعط الرائي حقه. ومن رأى أنه ركب حمارا وحشيا فإنه يدل على معصية، ومن رأى أنه ركبه وسقط عنه فليحذر من درك يناله في معصية. ومن شرب من لبن حمارة وحش نال نسكا في دينه. ومن رأى أنه حوى شيئا من لحوم حمر الوحش أو ملكها نال عزا وغنيمة ومالا والحمار الأهلي إذا استوحش في المنام فهو ضر وشر. والحمار الوحشي في المنام إذا أنس فهو نفع وخير.
حمار قبان:
قال النووي في التحرير: هو فعلان من قب لأنه لا ينصرف في معرفة ولا نكرة.
وقال الجوهري: هي دويبة وقبان فعلان من قب لأن العرب لا تصرفه وهو معرفة عندهم ولو كان فعالا لصرفته تقول رأيت قطيعا من حمر قبان غير منصرف قال الشاعر:
يا عجبا لقد رأيت عجبا ... حمار قبان يسوق أرنبا ... خاطبها يمنعها أن تذهبا ... فقالت: أردفني فقال مرحبا
وقد ذكر ابن مالك وغيره من الصرفيين، أن كل اسم يكون في آخره نون بعد ألف بينها وبين فاء الكلمة مشدد، فهو محتمل لأصالة النونات وزيادة أحد المثلين وبالعكس ومثلوا ذلك بحسان ودكان وتبان وريان ونحوها فقالوا: حسان إن أخذ من الحسن فنونه أصلية وإحدى السينين زائدة، وإن أخذ من الحسن فنونه زائدة مع الألف ووزنه على الأوّل فعال وعلى الثاني لزيادة الألف والنون دون الأوّل وتبان إن أخذ من التبن فنونه أصلية، وإن أخذ من التب، وهو الخسران، فنونه زائدة مع الألف فيمنع الصرف إذا عرف هذا فقبان يجوز أن يكون مأخوذا من القب وهو الضمور والأقب ضامر البطن كما قال الجوهري. والخيل القب الضوامر وقد أنشد الجاحظ يصف نسوة:
يمشين مشي قطا البطاح تأوّدا ... قب البطون رواجح الأكفال (1)
فحما رقبان يجوز أن يكون مأخوذا من هذا الضمور بطنه، فإنه دويبة مستديرة، بقدر الدينار، ضامرة البطن متولدة من الأماكن الندية على ظهرها شبه المجن مرتفعة الظهر، كأن ظهرها قبة إذا مشت لا يرى منها سوى أطراف رجليها، ورأسها لا يرى عند المشي، إلا أن تقلب على ظهرها، لأن أمام وجهها حاجزا مستديرا، وهي أقل سوادا من الخنفساء، وأصغر منها ولها ستة أرجل، تألف المواضع السبخة في الغالب، ومواضع الزبل ويجوز أن يكون لفظ قبان مأخوذا من قبن في الأرض قبونا إذا ذهب، قال صاحب المفردات: وهذه الدابة هي التي تسمى هدبة وهي كثيرة الأرجل، تستدير عند ما تلمس. ومن حمار قبان نوع ضامر البطن غير مستدير، والناس يسمونه أبا شحيمة، يألف المواضع الندية، والظاهر أنه صغار حمار قبان وأنه بعد يأخذ في الكبر.
وأهل اليمن يطلقونه على دويبة فوق الجرادة من نوع الفراش. والاشتقاق لا يساعده ويجوز
__________
(1) البيت في الحيوان للجاحظ: 5/ 217. والقطا. من الحيوانات. الأكفال: جمع كفل: ردف.(2/362)
اشتقاقه من قبن المتاع إذا وزنه فعلى هذا ينصرف لأصالة النون. والقبان الذي يوزن به قال الشعبي: معناه العدل بالرومية، والاشتقاق الأول أظهر. فذلك التزمت العرب منعه من الصرف.
الحكم:
يحرم أكلها لاستخباثها.
الأمثال:
قالوا (1): «أذل من حمار قبان».
الخواص:
إذا شرب حمار قبان مع شراب نفع من عسر البول، ومن اليرقان. وقال بعضهم: إذا لف حمار قبان في خرقة وعلق على من به حمى مثلثة قلعها أصلا.
التعبير
: رؤية حمار قبان في النوم تدل على حقارة الهمة ومخالطة السفل ومكاثرتهم والله أعلم.
الحمام:
قال الجوهري: هو عند العرب ذوات الأطواق نحو الفواخت والقمارى وساق حر والقطا والوراشين، وأشباه ذلك. يقع على الذكر والأنثى لأن الهاء إنما دخلته على أنه واحد من جنس لا للتأنيث. وعند العامة إنها الدواجن فقط الواحدة حمامة وقال حميد بن ثور الهلالي من أبيات:
وما هاج هذا الشوق إلا حمامة ... دعت ساق حربرهة فترنما (2)
والحمامة هنا القمرية وقال الأصمعي في قول النابغة (3):
واحكم كحكم فتاة الحي إذ نظرت ... إلى حمام شراع، وارد الثمد (4)
... قالت: «ألا ليتما هذا الحمام لنا ... إلى حمامتنا أو نصفه فقد» ... فحسّبوه فألفوه كما زعمت ... تسعا وتسعين لم ينقص ولم يزد
هذه زرقاء اليمامة، نظرت إلى قطا وارد في مضيق الجبل، فقالت: يا ليت هذا القطا لنا، ومثل نصفه معه إلى قطاة أهلنا فيكمل لنا مائة قطاة فاتبعت وعدت على الما. فإذا هي ست وستون. قال أبو عبيدة رأته من مسيرة ثلاثة أيام وأرادت بالحمام القطا فقالت ذلك انتهى. وقال الأموي: الدواجن التي تستفرخ في البيوت تسمى حماما أيضا وأنشد للعجاج:
إني وربّ البلد المحرم ... والقاطنات البيت عند زمزم
قواطنا مكة من ورق الحم
يريد الحمام. وجمع الحمامة حمام وحمائم وحمامات. وربما قالوا حمام للمفرد. قال جران العود (5):
وذكرني الصبا بعد التنائي ... حمامة أيكة تدعو حماما
وحكى أبو حاتم عن الأصمعي في كتاب الطير الكبير أن اليمام هو الحمام البري. الواحدة
__________
(1) جمهرة الأمثال: 1/ 382.
(2) البيت في الحيوان للجاحظ: 3/ 197. وفيه: «دعت ساق حر ترحة فترنما».
(3) هو النابغة الذبياني زياد بن معاوية الشاعر الجاهلي، والابيات في ديوانه 26.
(4) شراع: مجتمع. الثّمد: الماء القليل.
(5) جران العود: عامر بن الحارث النميري، شاعر إسلامي وصّاف.(2/363)
يمامة، وهو ضروب. والفرق بين الحمام الذي عندنا واليمام، أن أسفل ذنب الحمامة، مما يلي ظهرها فيه بياض، وأسفل ذنب اليمامة لا بياض فيه انتهى. ونقل النووي في التحرير عن الأصمعي أن كل ذات طوق فهي حمام. والمراد بالطوق الحمرة أو الخضرة أو السواد المحيط بعنق الحمامة في طوقها. وكان الكسائي يقول: الحمام هو البري، واليمام الذي يألف البيوت والصواب ما قاله الأصمعي. ونقل الأزهري عن الشافعي أن الحمام كل ما عب وهدر، وإن تفرقت أسماؤه والعب بالعين المهملة شدة جرع الماء من غير تنفس. قال ابن سيده: يقال في الطائر عبّ ولا يقال شرب. والهدير ترجيع الصوت ومواصلته من غير تقطيع له. قال الرافعي والأشبه أن ما عب هدر. قال: فلو اقتصروا في تفسير الحمام على العب لكفاهم، ويدل عليه أن الإمام الشافعي قال في عيون المسائل: وما عب من الماء عبا فهو حمام وما شرب قطرة قطرة كالدجاج فليس بحمام اهـ. وفيما قاله الرافعي نظر لأنه لا يلزم من العب الهدير قال الشاعر:
على جو يضي نغر مكب ... إذا افترت فترة يعب
وحمرات شربهن غب
وصف النغر بالعب، مع أنه لا يهدر، وإلا كان حماما والنغر نوع من العصفور، وسيأتي ذكره إن شاء الله تعالى في باب النون، إذا علمت ذلك انتظم لك كلام الشافعي، وأهل اللغة أن الحمام يقع على الذي يألف البيوت ويستفرخ فيها، وعلى اليمام والقمري وساق حر وهو ذكر القمري، كما سيأتي إن شاء الله تعالى في باب السين. والفواخت والدبسي والقطار والوارشين واليعاقب والشفنين والزاغ والورداني والطوراني. وسيأتي بيان ذلك كل واحد في بابه إن شاء الله تعالى. والكلام الآن في الحمام الذي يألف البيوت، وهو قسمان: أحدهما البري وهو الذي يلازم البروج وما أشبه ذلك، وهو كثير النفور، وسمي بريا لذلك والثاني الأهلي وهو أنواع مختلفة وأشكال متباينة، منها الرواعب والمراعيش والعداد والسداد والمضرب والقلاب والمنسوب. وهو بالنسبة إلى ما تقدم كالعتاق من الخيل وتلك البراذين، قال الجاحظ: الفقيع من الحمام، كالصقلاب من الناس، وهو الأبيض. روى أبو داود الطبراني وابن ماجه وابن حبان بإسناد جيد عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلا يتبع حمامة، فقال: «شيطان يتبع شيطانة» (1) وفي رواية «شيطان يتبعه شيطان» قال البيهقي: وحمله بعض أهل العلم على إدمان صاحب الحمام على إطارته والاشتغال به، وارتقاء الأسطحة التي يشرف منها على بيوت الجيران وحرمهم لأجله. وسيأتي الكلام عليه في الأحكام. وروى البيهقي عن أسامة بن زيد رضي الله تعالى عنهما، قال: شهدت عمر بن عبد العزيز رحمه الله يأمر بالحمام الطيار، فتذبح وتترك المقصصات. وروى ابن قانع والطبراني عن حبيب بن عبد الله بن أبي كبشة، عن أبيه، عن جده، أن النبي صلى الله عليه وسلم «كان يعجبه النظر إلى الأترج والحمام الأحمر». وروى الحاكم، في تاريخ نيسابور، عن عائشة رضي الله عنها قالت: «كان النبي صلى الله عليه وسلم يعجبه النظر إلى الخضرة وإلى الأترج وإلى الحمام
__________
(1) رواه ابن ماجه في الأدب: 44. وأبو داود أدب: 57. وابن حنبل: 2/ 345.(2/364)
الأحمر» قال ابن قانع والحافظ أبو موسى: قال هلال بن العلاء: الحمام الأحمر التفاح. قال أبو موسى وهذا التفسير لم أره لغيره. وكان في منزله صلى الله عليه وسلم حمام أحمر يقال له وردان.
وفي عمل اليوم والليلة لابن السني عن خالد بن معدان عن معاذ بن جبل «أن عليا رضي الله تعالى عنه شكا إلى النبي صلى الله عليه وسلم الوحشة فأمره أن يتخذ زوج حمام، وأن يذكر الله عند هديره». ورواه الحافظ ابن عساكر وقال: إنه غريب جدا وسنده ضعيف. وروى ابن عدي، في كامله، في ترجمة ميمون بن موسى، عن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه، أنه شكا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الوحشة فقال له: «اتخذ زوجا من حمام تؤنسك وتصيب من فراخها وتوقظك للصلاة بتغريدها» أو «اتخذ ديكا يؤنسك ويوقظك للصلاة». وروى أيضا في ترجمة محمد بن زياد الطحان، عن ميمون بن مهران، عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اتخذوا الحمام المقاصيص في بيوتكم فإنها تلهي الجن عن صبيانكم» (1). وقال عبادة بن الصامت رضي الله تعالى عنه، شكا رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الوحشة فقال له: «إن النبي صلى الله عليه وسلم اتخذ زوجا من حمام» رواه الطبراني، وفيه الصلت الجراح لا يعرف، وبقية رجاله رجال الصحيح. وفي كامل ابن عدي في ترجمة سهل بن فرير، عن محمد بن المنكدر، عن جابر رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
«شكت (2) الكعبة إلى الله تعالى قلة زوارها، فأوحى الله إليها لأبعثن إليك أقواما يحنون إليك كما تحن الحمامة إلى فراخها. وفي سنن أبي داود والنسائي، من حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، بإسناد جيد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يكون في آخر الزمان قوم يخضبون بالسواد كحواصل الحمام، لا يريحون رائحة الجنة» (3). ومن طبعه أنه يطلب وكره ولو أرسل من ألف فرسخ. ويحمل الأخبار ويأتي بها من البلاد البعيدة في المدة القريبة، وفيه ما يقطع ثلاثة آلاف فرسخ في يوم واحد. وربما اصطيد وغاب عن وطنه عشر حجج فأكثر ثم هو على ثبات عقله، وقوة حفظه، ونزوعه إلى وطنه، حتى يجد فرصة فيطير إليه. وسباع الطير يطلبه أشد الطلب وخوفه من الشاهين أشد من خوفه من غيره، وهو أطير منه، ومن سائر الطير كله لكنه يذعر منه، ويعتريه ما يعتري الحمار إذا رأى الأسد والشاة إذا رأت الذئب، والفأر إذ رأى الهر ومن عجيب الطبيعة فيه، ما حكاه ابن قتيبة في عيون الأخبار عن المثنى بن زهير أنه قال: لم أر شيئا قط من رجل وامرأة إلا وقد رأيته في الحمام، رأيت حمامة لا تريد إلا ذكرها، وذكرا لا يريد إلا أنثاه إلا أن يهلك أحدهما أو يفقد.
ورأيت حمامة تتزين للذكر ساعة يريدها، ورأيت حمامة لها زوج وهي تمكن آخر ما تعدوه. ورأيت حمامة تقمط حمامة، ويقال: إنها تبيض من ذلك، ولكن لا يكون لذلك البيض فراخ. ورأيت ذكرا يقمط ذكرا، ورأيت ذكرا يقمط كل ما لقي. ولا يزاوج وأنثى يقمطها كل ما رآها من الذكور ولا تزاوج. وليس من الحيوان ما يستعمل التقبيل عند السفاد إلا الإنسان والحمام. وهو عفيف في السفاد، يجر ذنبه ليعفي أثر الأنثى، كأنه قد علم ما فعلت، فيجتهد في إخفائه. وقد يسفد لتمام ستة أشهر، والأنثى تحمل أربعة عشر يوما، وتبيض بيضتين: إحداهما ذكر والثانية
__________
(1) الكامل لابن عدي: 6/ 2141، عن ابن عبّاس.
(2) الكامل لابن عدي: 3/ 1380.
(3) رواه أبو داود ترجّل: 20، والنسائي زينة: 15، وابن حنبل: 1/ 273.(2/365)
أنثى، وبين الأولى والثانية يوم وليلة، والذكر يجلس على البيض ويسخنه جزءا من النهار، والأنثى بقية النهار، وكذلك في الليل. وإذا باضت الأنثى وأبت الدخول على بيضها لأمر ما ضربها الذكر، واضطرها للدخول. وإذا أراد الذكر أن يسفد الأنثى أخرج فراخه عن الوكر، وقد ألهم هذا النوع، إذا خرجت فراخه من البيض، بأن يمضغ الذكر ترابا مالحا، ويطعمها إياه، ليسهل به سبيل المطعم. فسبحان اللطيف الخبير الذي آتى كل نفس هداها.
وزعم أرسطو أن الحمام يعيش ثمان سنين. وذكر الثعلبي وغيره، عن وهب بن منبه في قوله (1) تعالى: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مََا يَشََاءُ وَيَخْتََارُ} وقال اختار من النعم الضأن، ومن الطير الحمام.
وذكر أهل التاريخ أن أمير المؤمنين المسترشد (2) بالله بن المستظهر بالله لما حبس رأى في منامه كأن على يده حمامة مطوقة، فأتاه آت فقال له: خلاصك في هذا، فلما أصبح حكى ذلك لابن سكينة الإمام، فقال له: ما أولته يا أمير المؤمنين؟ قال أولته ببيت أبي تمام:
هن الحمام فإن كسرت عيافة ... من حائهن فإنهن حمام (3)
وخلاصي في حمامي فقتل بعد أيام يسيرة سنة تسع وعشرين وخمسمائة، وكانت خلافته سبع عشرة سنة وثمانية أشهر وأياما. وروى البيهقي في الشعب، عن معمر قال: جاء رجل إلى ابن سيرين، رحمه الله تعالى فقال: رأيت في النوم، كأن حمامة التقمت لؤلؤة، فخرجت منها أعظم مما دخلت، ورأيت حمامة أخرى التقمت لؤلؤة فخرجت منها أصغر مما دخلت، ورأيت حمامة أخرى التقمت لؤلؤة فخرجت منها كما دخلت سواء. فقال له ابن سيرين: أما التي خرجت أعظم مما دخلت، فذلك الحسن بن أبي الحسن البصري يسمع الحديث فيجوده بمنطقه ثم يصل فيه من مواعظه. وأما التي خرجت أصغر مما دخلت فذلك محمد بن سيرين يسمع الحديث فينقص منه.
وأما التي خرجت كما دخلت سواء فهو قتادة وهو أحفظ الناس. وذكر ابن خلكان في ترجمته (4)
يعني ابن سيرين، أن رجلا أتاه فقال له: رأيت كأني أخذت حمامة لجاري فكسرت جناحها، فتغير وجه ابن سيرين وقال: ثم ماذا؟ قال: ثم جاء غراب أسود فسقط على ظهر بيتي فنقبه، فقال له محمد بن سيرين: ما أسرع ما أدبك ربك! أنت رجل تخالف إلى امرأة جارك، وأسود يخالفك إلى امرأتك. قال: وكان ابن سيرين بزازا وكان من موالي أنس بن مالك خادم النبي صلى الله عليه وسلم. وحبس بدين كان عليه. وكان يقول: إني لأعرف الذنب الذي حمل به على الدين. قيل له ما هو؟ وقال:
قلت لرجل مفلس منذ أربعين سنة: يا مفلس. قال بعضهم: قلت ذنوبهم فعلموا من أين يؤتون، وكثرت ذنوبنا فليس يدري من أين نؤتى. قال: وكان أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه قد أوصى أن يغسله ويكفنه ويصلي عليه محمد بن سيرين، وكان محمد بن سيرين محبوسا لما مات أنس، فاستأذنوا له الأمير، فأذن له فخرج فغسله وكفنه وصلّى عليه، ثم رجع إلى السجن ولم يذهب إلى أهله. وكان ابن سيرين من أعلام التابعين وكانت له اليد الطولى في علم الرؤيا روي
__________
(1) سورة القصص: الآية 68.
(2) المسترشد بالله هو الفضل بن أحمد بن المقتدي، الخليفة العباسي. توفي سنة 529هـ.
(3) ديوان أبي تمّام: 247.
(4) وفيات الأعيان: 4/ 181.(2/366)
أن امرأة جاءته، وهو يتغدى، فقالت له: رأيت القمر دخل في الثريا، ونادى مناد من خلقي:
ائتي ابن سيرين فقصي عليه، قال: فتغير لونه وقام. وهو آخذ على بطنه، فقالت له أخته: ما بالك؟ قال: زعمت هذه أني ميت بعد سبعة أيام. فمات بعد سبعة أيام، سنة عشر ومائة بعد الحسن البصري بمائة يوم رحمهما الله تعالى. وفي الشعب للبيهقي عن سفيان الثوري أنه قال: كان اللعب بالحمام من عمل قوم لوط. وقال إبراهيم النخعي: من لعب بالحمام الطيارة، لم يمت حتى يذوق ألم الفقر. وروى البزار في مسنده أن الله تعالى أمر العنكبوت فنسجت على وجه الغار، وأرسل حمامتين وحشيتين فوقفتا على فم الغار، وإن ذلك مما صد المشركين عنه صلى الله عليه وسلم، وإن حمام الحرم من نسل تينك الحمامتين. وروى ابن وهب «أن حمام مكة أظلت النبي صلى الله عليه وسلم يوم فتحها فدعا لها بالبركة». وروى الطبراني بإسناد صحيح عن أبي ذر رضي الله تعالى عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتلو هذه الآية (1): {وَمَنْ يَتَّقِ اللََّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لََا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللََّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} فجعل يعيدها علي حتى نعست عنه، ثم قال: «يا أبا ذر كيف تصنع إذا أخرجت من المدينة؟ قلت: إلى السعة والدعة أنطلق إلى مكة فأكون حمامة من حمام الحرم، فقال صلى الله عليه وسلم: فيكيف تصنع إذا أخرجت من مكة؟ قلت إلى السعة والدعة أنطلق إلى الشأم والأرض المقدسة. قال: فكيف تصنع إذا أخرجت من الشأم؟ فقلت: والذي بعثك بالحق أضع سيفي على عاتقي. قال صلى الله عليه وسلم: وخير من ذلك تسمع وتطيع وإن كان عبدا حبشيا» (2) وفي الصحيح طرف منه وفي ابن ماجه طرف من أوله.
وذكر أن هارون الرشيد كان يعجبه الحمام واللعب به، فأهدي له حمام وعنده أبو البختري وهب القاضي، فروى له بسنده عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا سبق إلا في خف أو حافرا وجناح». (3). فراد أو جناح. وهي لفظة وضعها للرشيد، فأعطاه جائزة سنية، فلما خرج قال الرشيد: بالله لقد علمت أنه كذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأمر بالحمام فذبح فقيل له:
وما ذنب الحمام؟ قال: من أجله كذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم. فترك العلماء حديث أبي البختري لذلك وغيره من موضوعاته. فلم يكتبوا حديثه. وكان أبو البختري المذكور قاضي مدينة النبي صلى الله عليه وسلم بعد بكار بن عبد الله الزبيري، ثم ولي قضاء بغداد، بعد أبي يوسف صاحب أبي حنيفة، رحمه الله. وتوفي أبو البختري سنة مائتين في خلافة المأمون. والبختري مأخوذ من البخترة التي هي الخيلاء، وهو يتصحف على كثير من الناس بالبحتري الشاعر المشهور، والأول بالخاء المعجمة والثاني بالحاء المهملة. قال ابن أبي خيثمة: والشيخ تقي الدين القشيري، في الاقتراح واضع حديث الحمام غياث بن إبراهيم، وضعه للمهدي لا للرشيد. وقال ابن قتيبة: وأبو البختري هو
__________
(1) سورة الطلاق: الآية 2، 3.
(2) رواه ابن ماجه في المقدمة: 6، والجهاد: 39، ورواه الدارمي في المقدمة: 16، وابن حنبل: 4/ 126 1795127.
(3) رواه أبو داود جهاد: 60، والترمذي جهاد: 22، والنسائي خيل: 14، وابن ماجه جهاد: 44. ابن حنبل:
4744253582582562.(2/367)
وهب بن وهب بن وهب ثلاثة أسماء على نسق واحد، ومثله في ملوك الفرس بهرام بن بهرام بن بهرام، ومثله في الطالبين حسن بن حسن بن حسن، ومثله في غسان الحارث الأصغر بن الحارث الأعرج بن الحارث الأكبر انتهى. قلت: ومثله في المتأخر بن الغزالي محمد بن محمد بن محمد أحد أصحاب الوجوه في المذهب.
ومما حكي لنا واشتهر ورويناه بالسند الصحيح. عن الشيخ العارف بالله تعالى أبي الحسن الشاذلي رحمه الله تعالى، أنه قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في المنام وقد باهى موسى وعيسى صلّى الله عليهما وسلم بالإمام الغزالي فقال لهما: في أمتكما حبر كهذا؟ وأشار إلى الغزالي، فقالا: لا.
وقال الشيخ الإمام العارف بالله الأستاذ ركن الشريعة والحقيقة أبو العباس المرسي، وقد ذكر الغزالي فشهد له بالصديقية العظمى. وحسبك من باهى به النبي صلى الله عليه وسلم موسى وعيسى وشهد له الصديقون بالصديقية العظمى. وقد ذكر له شيخنا جمال الدين الأسنوي في المهمات ترجمة حسنة، منها: هو قطب الوجود والبركة الشاملة لكل موجود، وورح خلاصة أهل الإيمان، والطريق الموصلة إلى رضا الرحمن، يتقرب إلى الله تعالى به كل صديق، ولا يبغضه إلا ملحد أو زنديق، قد انفرد في ذلك العصر عن أعلام الزمان، كما انفرد في هذا الباب فلا يترجم معه فيه إنسان. انتهى. وكان حجة الإسلام زين الدين محمد الغزالي قد ولي تدريس النظامية بمدينة بغداد، ثم تركها وسلك طريق الزهد وقصد الحج، فلما رجع توجه إلى الشأم، فأقام بدمشق بزاوية الجامع، وانتقل إلى القدس ثم قصد مصر، وأقام بالإسكندرية مدة، ثم عاد إلى وطنه بطوس، ثم ألزم بالعود إلى نيسابور والتدريس بها في النظامية، ثم تركها وعاد إلى وطنه واتخذ خانقاه للصوفية وصرف وقته إلى وظائف الخيرات، من تلاوة القرآن، ومجالسة الصالحين، وكثرة العبادة، والتخلي عن الدنيا، والإقبال على الله تعالى بكنه الهمة، والتبحر في علوم الحقيقة. وكتبه نافعة مفيدة، لا سيما إحياء علوم الدين فإنه كتاب لا يستغنى عنه طالب الآخرة. توفي الإمام حجة الإسلام في جمادى الآخرة سنة خمس وخمسمائة بطوس رحمه الله تعالى ورضي عنه وأرضاه.
وذكر ابن خلكان أن شرف الدين بن عنين حضر درس فخر الدين (1) الرازي بخوارزم، فسقطت بالقرب منه حمامة، وقد طردها بعض الجوارح فلما وقعت رجع عنها، ولم تقدر الحمامة على الطيران من خوفها وشدة البرد، فلما قام الإمام فخر الدين من الدرس وقف عليها ورق لها وأخذها بيده، فأنشده ابن عنين بديها أبياتا منها:
من نبأ الورقاء أن محلكم ... حرم وأنك ملجأ للخائف ... وفدت عليك وقد تدانى حتفها ... فحبوتها ببقائها المستأنف ... ولو أنها تحبى بمال لانثنت ... من راحتيك بنائل متضاعف (2)
__________
(1) فخر الدين الرازي: محمد بن عمر بن الحسن بن علي التيمي البكري، أبو عبد الله. عالم في التفسير والمعقولات. مات في هراة سنة 606هـ. والخبر مع ترجمته في وفيات الأعيان: 4/ 248. وكذلك الأبيات.
(2) في الوفيات: «ولو أنها». والنائل: العطاء.(2/368)
وكان بين شرف الدين بن عنين (1) والملك المعظم عيسى ابن الملك العادل أبي بكر بن أيوب صاحب دمشق مؤانسة ومصاحبة، وكان يجري بينهما أمور تدل على حسن إدراك الملك المعظم منها أن ابن عنين حصل له توعك فكتب إليه:
انظر إلي بعين مولى لم يزل ... يولي الندى وتلاف قبل تلافي (2)
... أنا كالذي أحتاج ما يحتاجه ... فاغنم ثنائي والثواب الوافي (3)
فجاء إليه بنفسه ومعه ثلاثمائة دينار، فقال: هذه الصلة وأنا العائد، وهذه لو وقعت من أكابر النحاة لاستعظمت منه، فضلا عن ملك. قوله هذه الصلة أنا العائد، لأن الذي اسم موصول يحتاج إلى صلة وعائد فالصلة ما وصله به من المال، والعائد يحتمل معنيين: أحدهما: وأنا العائد لك بالصلة مرة بعد أخرى فطب نفسا، والآخر من عاد يعود عيادة وهي عيادة المريض.
وكان الملك المعظم فاضلا حازما شجاعا حنفي المذهب وكانت له رغبة في فن الأدب حتى إنه شرط لكل من حفظ مفصل الزمخشري مائة دينار وخلعة. فحفظه خلق كثير لهذا السبب. توفي سنة أربع وعشرين وستمائة وتوفي الإمام فخر الدين الرازي المتقدم ذكره يوم عيد الفطر سنة ست وستمائة بهراة رحمهما الله تعالى.
فائدة:
قال بعض الحكماء: كل إنسان مع شكله كما أن كل طير مع جنسه، وكان مالك بن دينار يقول: لا يتفق إثنان في عشرة إلا وفي أحدهما وصف من الآخر، فإن أشكال الناس كأجناس الطير، ولا يتفق نوعان منه في طيران إلا لمناسبة بينهما، فرأى يوما حمامة مع غراب، فعجب من اتفاقهما وليسا من شكل واحد فلما مشيا إذا هما أعرجان، فقال: من ههنا اتفقا. وكل إنسان يأنس إلى شكله، كما أن كل طير يأنس إلى جنسه، فإذا اصطحب اثنان برهة من الزمان وليس بينهما مناسبة ما، فلا بد أن يتفرقا كما قال بعض الشعراء:
وقائل كيف تفرقتما ... فقلت قولا فيه إنصاف ... لم يك من شكلي ففارقته ... والناس أشكال وألاف
وسيأتي عنه في الصعوة شيء من هذا. روى أحمد في الزهد عن يزيد بن ميسرة أن المسيح عليه الصلاة والسلام كان يقول لأصحابه: إن استطعتم أن تكونوا بلها في الله تعالى مثل الحمام فافعلوا قال: وكان يقال إنه ليس شيء أبله من الحمام وذلك أنك تأخذ فراخه من تحته فتذبحها، ثم يعود إلى مكانه ذلك فيفرخ فيه.
الحكم:
يحل أكله بالإجماع بجميع أنواعه لأنه من الطيبات، ولأن الشارع أوجب فيه على المحرم، إذا قتله، شاة. وفي مستند ذلك وجهان: أحدهما أن ذلك لما بينهما من الشبه، فإن كلا
__________
(1) ابن عنين: أبو المحاسن محمد بن نصر بن الحسين بن عنين، شاعر مجيد هجاء، نفاه السلطان صلاح الدين من دمشق. مات سنة 630هـ بدمشق.
(2) البيتان في وفيات الأعيان: 3/ 496.
(3) في الوفيات: «ما تحتاجه ... ثوابي والثناء الواقي».(2/369)
منهما يألف البيوت ويأنس بالناس، والثاني: وهو الأصح، أن مستنده توقيف بلغهم فيه. ونقل الرافعي عن الشيخ أبي محمد الخلاف، فيما لو قتل طائرا أكبر من الحمام، أو مثله هلى ينبني على هذا؟ إن قلنا المستند التوقيف أوجبنا الشاة. وإن قلنا المستند المشابهة أوجبنا القيمة. وقد أسقط الإمام النووي. رحمه الله، هذه المسألة من الروضة، وكأنه ظن أن الخلاف فيها لفظي لا فائدة فيه. وبيض الحمام وكل طائر يحرم على المحرم، صيده حرام عليه فإن أتلفه ضمنه بقيمته، هذا مذهبنا وبه قال الإمام أحمد وآخرون. وقال المزني وبعض أصحاب داود: لا جزاء في البيض. وقال مالك: يضمنه بعشر ثمن أصله. قال ابن المنذر: واختلفوا في بيض الحمام، فقال علي وعطاء: في كل بيضتين درهم، وقال الزهري والشافعي وأصحاب الرأي وأبو ثور: فيه قيمته وسيأتي في بيض النعام حكمه إن شاء الله تعالى. ومن أحكامه في الصيد أنه إذا اختلطت حمامة مملوكة أو حمامات بحمامات مباحة محصورة لم يجز الإصطياد منها. ولو اختلطت بحمام ناحية جاز الإصطياد في الناحية. ولو اختلط حمام أبراج مملوكة لا تكاد تحصر بحمام بلدة أخرى مباحة ففي جواز الاصطياد منها وجهان: أصحهما الجواز. وبيع الحمام في البرج على تفصيل بيع السمك في البركة. وسيأتي في باب السين المهملة إن شاء الله تعالى لو باعها وهي طائرة اعتمادا على عادة عودها فوجهان:
أصحهما عند الإمام الجواز كالعبد المبعوث في شغل وعند الجمهور المنع إذ لا وثوق بعودها لعدم عقلها. ومن أحكامه في الربا أنه جنس واحد بجميع أنواعه. كذا قاله المراوزة (1). وقال العراقيون: إن كل نوع منه جنس واحد بجميع جنس، والقماري جنس، والفواخت جنس. وأما اتخاذه للبيض والفارخ وللأنس وحمل الكتب فجائز بلا كراهة. وأما اللعب به والتطير والمسابعة، فقيل:
يجوز لأنه لا يحتاج إليها في الحرب لنقل الأخبار والأصح كراهته، لما تقدم في حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، الذي قال فيه: «شيطان يتبع شيطانة» (2). قال ابن حبان بعد رواية هذا الحديث: إنما قال له شيطان، لأن اللاعب بالحمام، لا يكاد يخلو من لغو وعصيان، والعاصي يقال له شيطان قال الله تعالى شياطين الإنس والجن، وأطلق على الحمامة شيطانة للمجاورة، ولا ترد الشهادة بمجرد اللعب بالحمام، خلافا لمالك وأبي حنيفة فإن انضم إليه قمار أو نحوه ردت به الشهادة.
وروى أبو محمد الرامهرمزي في كتابه «المحدث الفاضل بين الراوي والواعي» عن مصعب الزبيري، قال: سمعت مالك بن أنس رضي الله تعالى عنه وقد قال لابني أخته أبي بكر محمد وإسماعيل ابني أبي أويس. أراكما تحبان هذا الشأن وتطلبانه، يعني الحديث، قالا: نعم. قال:
فإن أحببتما أن تنتفعا، وينفع الله بكما فأقلا منه وفقها. ونزل ابن مالك من فوق سطح، ومعه حمام قد غطاه، فعلم مالك أنه قد فهمه الناس فقال مالك: الأدب أدب الله لا أدب الآباء والأمهات، والخير خير الله لا خير الآباء والأمهات. وروي عنه أيضا، أنه قال: كان يحيى بن مالك بن أنس، يدخل ويخرج ولا يجلس معنا عند أبيه، فكان إذا نظر إليه أبوه قال: هاه إن ما تطيب به نفسي أن
__________
(1) المراوزة: جمع المروزي نسبة إلى مرو.
(2) رواه ابن ماجه في الأدب: 44، وأبو داود أدب: 57، وأحمد: 2/ 357.(2/370)
هذا الشأن لا يورّث، وإن أحدا لم يخلف أباه في مجلسه إلا عبد الرحمن ابن القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه، وكان أفضل أهل زمانه، وكان أبوه أفضل أهل زمانه. وقال البخاري في المناسك، من صحيحه: حدثنا علي بن عبد الله، قال: حدثنا سفيان قال: حدثنا عبد الرحمن بن القاسم، وكان أفضل أهل زمانه، أنه سمع أباه، وكان أفضل أهل زمانه، يقول:
سمعت عائشة رضي الله عنها تقول: «طببت رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي هاتين». الحديث (1)
وأم عبد الرحمن قريبة بنت عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه، واتفق الناس على جلالته وإمامته وثقته وورعه وكثرة علمه، ولد في حياة عائشة رضي الله تعالى عنها، وتوفي سنة ست وعشرين ومائة. روى له الجماعة. وروي أن المنصور أمير المؤمنين، قال له يوما:
عظني بما رأيت، قال: مات عمر بن عبد العزيز وخلف أحد عشر ابنا، فبلغت تركته سبعة عشر دينارا، كفن منها بخمسة دنانير، واشتري له موضع القبر بدينارين، وأصاب كل واحد من أولاده تسعة عشر درهما. ومات هشام بن عبد الملك، وخلف أحد عشر ابنا، فورث كل واحد منهم ألف ألف درهم، ثم إني رأيت رجلا من أولاد عمر بن عبد العزيز حمل في يوم واحد على مائة فرس في سبيل الله تعالى. ورأيت رجلا من أولاد هشام يسأل أن يتصدق عليه انتهى. قلت: وهذا أمر غير عجيب فإن عمر وكلهم إلى ربه فكفاهم وأغناهم، وهشام وكلهم إلى دنياهم فأفقرهم مولاهم.
وأما بيع زرق الحمام، وسرجين البهائم المأكولة وغيرها، فباطل وثمنه حرام، هذا مذهبنا. وقال أبو حنيفة: يجوز بيع السرجين لإتفاق أهل الأعصار، في جميع الأمصار، على بيعه من غير إنكار، ولأنه يجوز الانتفاع به فجاز بيعه كسائر الأشياء. واحتج أصحابنا بحديث ابن عباس رضي الله عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله تعالى إذا حرم على قوم شيئا، حرم عليهم ثمنه». وهو حديث صحيح، رواه أبو داود بإسناد صحيح. وهو عام إلا ما خرج بدليل، كالحمار وبأنه نجس العين فلم يجز بيعه. كالعذرة فإنهم وافقونا على بطلان بيعها، مع أنه ينتفع بها. وأما الجواب عما احتجوا به، فهو ما أجاب به الماوردي وغيره، أن بيعه إنما يفعله الجهلة والأراذل فلا يكون ذلك حجة في دين الإسلام. وأما قولهم: إنه ينتفع به فأشبه غيره، فالفرق أن هذا نجس بخلاف غيره.
الأمثال:
قالوا: «آمن من حمام الحرم، وآلف من حمام (2) مكة». وقالوا: «تقلدها طوق الحمامة» (3)، كناية عن الخصلة القبيحة، أي تقلدها كطوق الحمامة، لأنه لا يزايلها ولا يفارقها، كما لا يفارق الطوق الحمامة، ومثله قوله تعالى: {وَكُلَّ إِنسََانٍ أَلْزَمْنََاهُ طََائِرَهُ فِي عُنُقِهِ} (4). أي إن عمله لازم له لزوم القلادة أو الغل لا ينفك عنه. وقال الزمخشري: فإن قلت: لم ذكر حسيبا؟
قلت: لأنه بمنزلة الشاهد والقاضي والأمين، لأن هذه الأمور الغالب أن يتولاها الرجال، فكأنه
__________
(1) رواه البخاري في الغسل: 12، 14، والحج 14318، واللباس: 73، 74، 79، 81. ورواه مسلم في الحج: 3837363534333231. ورواه أبو داود في المناسك: 10، الترمذي حج: 77، النسائي مناسك: 41، 42، 97. الدارمي مناسك: 10، الموطأ حج: 19. أحمد: 6/ 39، 98.
(2) جمهرة الأمثال: 1/ 162.
(3) جمهرة الأمثال: 1/ 222.
(4) سورة الإسراء: الآية 13.(2/371)
قيل له: كفى بنفسك رجلا حسيبا. وكان الحسن البصري إذا قرأها قال: يا ابن آدم أنصفك والله من جعلك حسيب نفسك. وقيل في قوله تعالى: {سَيُطَوَّقُونَ مََا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيََامَةِ} (1)
أي يلزمون أعمالهم كما يلزم الطوق العنق. يقال: طوق فلان الحمامة، أي ألزم جزاء عمله. روى الإمام أحمد في الزهد عن مطرف أنه قال: إذا أنامت، فلا تحبسوني لكي يجتمع الناس، فأطوقهم طوق الحمامة. ومن هذا المعنى. قول عبد الله بن جحش لأبي سفيان:
أبلغ أبا سفيان عن ... أمر عواقبه ندامه ... دار ابن عمك بعتها ... تقضي بها عنك الغرامه ... وحليفكم بالله رب الن ... اس مجتهد القسامه ... اذهب بها اذهب بها ... طوّقتها طوق الحمامه
أي لزمه عارها. قال الإمام عبد الرحمن السهيلي: هذا المثل منتزع من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم «من غصب شبرا من الأرض، طوقه يوم القيامة من سبع أرضين» (2). وقوله: طوق الحمامة لأن طوقها لا يفارقها ولا تلقيه عن نفسها أبدا، كما يفعل من لبس طوقا من الآدميين. وفي هذا البيت، من حلاوة الإشارة، وملاحة الاستعارة مالا مزيد عليه. وفي قوله: طوق الحمامة ردّ على من تأوّل قوله صلى الله عليه وسلم: «طوّقه من سبع أرضين» أنه من الطاقة، لا من الطوق في العنق. وقاله الخطابي في أحد قوليه، مع أن البخاري قد قال في بعض رواياته: خسف به إلى سبع أرضين.
وفي مصنف ابن أبي شيبة «من غصب شبرا من أرض جاء به اسطاما في عنقه». والاسطام كالحلق من الحديد وقالوا: «أخرق من حمامة» (3) لأنها لا تحكم عشها وذلك لأنها ربما جاءت إلى الغصن من الشجرة فتبني عليه عشها في الموضع الذي تذهب به الريح فينكسر من بيضها أكثر مما يسلم قال عبيد بن الأبرص (4):
عيوا بأمرهم كما ... عييت بيضتها الحمامة (5)
... جعلت لها عودين من ... بشم وآخر من ثمامه (6)
الخواص:
إذا سكن المخدور بقربها أو في بيت يجاورها أو في بيت هي فيه برىء. وفي مجاورتها أمان من الخدر والفالج والسكتة والسبات. وهذه خاصية عظيمة بديعة ودمها إذا اكتحل به حارا نفع من الجراحات العارضة للعين والغشاوة. ودمها خاصة يقطع الرعاف الذي من حجب الدماغ، وإذا خلط بالزيت ابرأ من حرق النار وزبل الحمام حار، وأشده حرارة زبل
__________
(1) سورة آل عمران: الآية 180.
(2) رواه الترمذي ديات: 21، والبخاري في بدء الخلق: 2، والمساقاة: 142141139137.
الدارمي بيوع: 64. ابن حنبل: 1901871، 387.
(3) جمهرة الأمثال: 1/ 349.
(4) عيد بن الأبرص: شاعر جاهلي من أصحاب المعلقات. والبيتان في ديوانه: 138.
(5) في الديوان: برمت بنو أسدكما ... برمت ببيضتها الحمامة
(6) النّشم: شجر تتخذ منه القسي. الثمامة: نبت ضعيف. وفي الديوان: «نشم وآخر».(2/372)
البري، الذي لا يأوي البيوت، وأعجب ما في زبله أنه إذا سخن في الماء وجلس فيه من به عسر البول، ابرأه ومما جرب لعسر البول: أن يكتب له في إناء نظيف، ثم يذاب بماء ويسقى لمن به ذلك فإنه يبول من وقته وساعته، قوله (1) تعالى: {إِنَّ اللََّهَ لََا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مََا دُونَ ذََلِكَ لِمَنْ يَشََاءُ} * {وَمََا قَدَرُوا اللََّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيََامَةِ وَالسَّمََاوََاتُ مَطْوِيََّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحََانَهُ وَتَعََالى ََ عَمََّا يُشْرِكُونَ} (2) رمص نفح وشفوا بفضل الله عزّ وجلّ. وإذا طلي بالخل وضمد به من به وجع الاستسقاء، نفعه نفعا بينا. وزبل الحمام الأحمر إذا شرب منه قدر درهمين، مع ثلاثة دراهم دارصيني نفع من الحصاة. ولحم الحمام جيد للكلى ويزيد في المني والدم، وإذا شقت وهي حية ووضعت وهي حارة في موضع لسع العقرب نفعت نفعا بينا، وزبل الحمام إذا بخر به المطلقة أسرع بنزول الولد والمشيمة.
التعبير:
الحمام في المنام رسول أمين، أو صديق صدوق، أو حبيب أنيس، وربما دلت رؤية الحمام على النوح والتعديد. قال الشاعر:
صب ينوح إذا الحمام ينوح
وربما دلت الحمامة في الرؤيا على امرأة مباركة حسناء عربية لا تبتغي ببعلها بدلا. والحمام على رأس المريض هو حمام الموت قال الشاعر (3):
هن الحمام فإن كسرت عيافة ... من حائهن فإنهن حمام
وبروجها مجمع النساء، وفراخها بنون فمن رأى أنه يعلف الحمام، ويدعوهن إليه فإنه يقود. وإن حشر الحمام والغربان في مكان واحد، فإنه يقود أيضا، لأن الغربان فسّاق وكل شيء يحشر مع غير جنسه كالنعاج والكلاب وأشباه ذلك فإنه قيادة. وهدير الحمام كلام باطل، ومن سمع حمامة تهدر فإنه يدل على امرأة تعاتب زوجها. ومن رأى حمامة قدمت عليه وتلقاها فإنه يرد عليه كتاب. ومن نفرت منه حمامته ولم تعد إليه فإنه يطلق زوجته أو تموت. ومن رأى كأن له حماما، فإنه يشتري الجواري. ومن قص جناح حمامة في المنام، فقد حلف على زوجته أن لا تخرج من بيته، أو تلد أو تحمل، لأن النفاس والحمل يمنعان من الخروج، والحمام الذي يهدي إلى الطريق فإنه خبر يأتي الرائي من مكان بعيد. والحمام في المنام دليل خير لمن يصادق أو يشارك لاجتماع بعضه مع بعض في الطيران والمزاوجة. وقال جاماسب: من اصطاد الحمام في منامه، أكل مال أعدائه. ومن رأى بعين حمامته نقصا، فهو نقص في دين زوجته وخلقها. وقال ابن المقري:
رؤية المنسوب من الحمام إلى من دونه شريف القدر أو النسب. ورؤيته دال على الإفراج والنصر على الأعداء، واللهو واللعب وربما دل الحمام على الأزواج الصينات، وذوات الحفظ للأسرار، والكد على العيال، وربما دل على الحمام الذي هو الموت، وربما دل المرأة ذات الأولاد، والرجل الكثير النسل، المنعكف على أهل بيته والله أعلم.
الحمد:
فرخ القطاة وفي المثل (4) «حمد قطاة يستمي الأرانب أن يصيدها». يضرب للضعيف
__________
(1) سورة النساء: الآية 48.
(2) سورة الزمر: الآية 67.
(3) هو أبو تمام. والبيت في ديوانه: 247.
(4) مجمع الأمثال: 1/ 210.(2/373)
الذي يروم أن يكيد قويا. قال الميداني: ولم أر له ذكرا في الكتب.
الحمر:
بضم الحاء المهملة وتشديد الميم وبالراء: المها، ضرب من الطير كالعصفور، قال أبو المهوش الأسدي:
قد كنت أحسبكم أسود حمية ... فإذا لصاف تبيض فيه الحمر
لصاف اسم جبل والواحدة حمرة قال الراجز:
وحمرات شربهن غبّ ... إذا غفلت غفلة تعبّ
وقد تخفف، فيقال: حمرة وحمرات، وابن لسان الحمرة، كان من خطباء العرب وهو أحد بني تيم اللات بن ثعلبة، وكان من علماء زمانه، ضرب به المثل في الفصاحة وطول العمر، واسمه ورقاء بن الأشعر، ويكنى أبا كلاب، سأله معاوية يوما عن أشياء فأجابه عنها، فقال له بم نلت العلم؟ قال: بلسان سؤول وقلب عقول، ثم قال: يا أمير المؤمنين إن للعلم آفة وإضاعة ونكدا واستجاعة: فآفته النسيان، وإضاعته أن تحدث به غير أهله، ونكده الكذب فيه، واستجاعته إن صاحبه منهوم لا يشبع أبدا.
الحكم:
حل الأكل بالإجماع لأنها من أنواع العصافير، وقال العبادي: منهم من حرم الحمر لأنه نهاش، وهذا قول شاذ مردود. روى أبو داود الطيالسي والحاكم وقال: صحيح الإسناد، عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه قال: كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم «فدخل رجل غيضه، فأخرج منها بيض حمرة فجاءت الحمرة، ترف على رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه» (1) فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه: «أيكم فجع هذه؟ فقال رجل: أنا يا رسول الله أخذت بيضها». وفي رواية الحاكم «أخذت فرخها» فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «رده رده رحمة لها» (2). وفي الترمذي وابن ماجه عن عامر الدارمي أن جماعة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، دخلوا غيضة فأخذوا فرخ طائر فجاء الطائر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يرف فقال عليه الصلاة والسلام: «أيكم أخذ فرخ هذا؟ فقال رجل: أنا فأمره أن يرده فرده». وسيأتي إن شاء الله تعالى في باب الفاء في الكلام على الفرخ الحديث الذي رواه أبو داود في أول كتاب الجنائز عن عامر الرامي. والحكمة في الأمر بالرد على أنه يحتمل أنهم كانوا محرمين أو لأنها لما استجارت به أجارها فكان الإرسال في هذه الحالة واجبا.
الأمثال:
قالوا: «أعمر من ابن لسان الحمرة» (3) وقالوا: «أنسب من ابن لسان الحمرة» (4).
وكان أنسب العرب وأعظمهم كبرا.
وخواصه وتعبيره:
ستأتي في باب العين المهملة في لفظ العصفور.
الحمسة:
بتحريك الحاء والميم والسين المهملة دابة من دواب البحر. وقيل هي السلحفاة والجمع حمس حكاه ابن سيده.
__________
(1) رواه أحمد: 1/ 4.
(2) رواه أبو داود جهاد: 112.
(3) مجمع الأمثال: 2/ 54.
(4) جمهرة الأمثال: 2/ 253.(2/374)
الحماط:
بكسر الحاء المهملة والحمطوط بالضم دويبة تتكون في العشب.
الحمك:
الصغار من كل شيء واحدته حمكة وقد غلب على القمل والحمك أيضا فراخ القطا والنعام والحمك أيضا أراذل الناس قال الراجز (1):
لا تعذليني برذالات الحمك
الحمل:
الخروف إذا بلغ ستة أشهر وقيل: هو ولد الضأن الجذع فما دونه، والجمع حملان وأحمال. روى ابن ماجه، من حديث أبي يزيد الأنصاري رضي الله عنه، قال: مر النبي صلى الله عليه وسلم بدار من دور الأنصار فوجد ريح قتار فقال: «من هذا الذي ذبح»؟ فخرج إليه رجل منا فقال: أنا يا رسول الله ذبحت قبل أن أصلي لأطعم أهلي فأمره صلى الله عليه وسلم أن يعيد، فقال: والله الذي لا إله إلا هو ما عندي إلا حمل من الضأن، فقال صلى الله عليه وسلم: «اذبحه ولن يجزىء عن أحد بعدك» (2). وفي كتاب قوت القلوب لأبي طالب المكي، في أوائل الفصل الخامس والعشرين، قال: حدثني بعض أخواني عن بعض أهل هذه الطائفة، قال: قدم علينا بعض الفقراء، فاشترينا من جار لنا حملا مشويا، ودعوناه في جماعة من أصحابنا، فلما مد يده ليأكل وأخذ لقمة وجعلها في فيه لفظها، ثم اعتزل وقال: كلوا أنتم فإنه قد عرض لي مانع منعني من الأكل، فقلنا له: لا نأكل ما لم تأكل معنا.
فقال: أما أنا فغير آكل، ثم انصرف، فكرهنا أن نأكل دونه، فقلنا لو دعونا الشواء فسألناه عن أصل هذا الحمل فلعل له سببا مكروها، فدعوناه، وسألناه، ولم نزل به حتى أقر أنه كان ميتة، وأن نفسه شرهت إلى بيعه حرصا على ثمنه. قال: فأطعمناه الكلاب ثم لقينا الرجل فسألناه عن العارض الذي منعه عن الأكل، فقال: ما شرهت نفسي إلى الأكل منذ عشرين سنة، فلما قدمتم إلى هذا الحمل شرهت نفسي إليه شرها ما عهدته قبل ذلك، فعلمت أن في الطعام علة. فتركت أكله لأجل شره النفس. قال: فانظر كيف اتفقا في شره النفس عن قصد واحد، واختلفاه في التوفيق والخذلان، فعصم الله العالم بالورع والمحاسبة، وترك الجاهل مع شره النفس بالحرص وترك المراقبة.
عجيبة:
في معجم ابن قانع والطبراني في ترجمة كردم بن السائب الأنصاري قال: خرجت مع أبي إلى المدينة في أول ما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم بمكة فآوانا الليل إلى راع فلما انتصف الليل، جاء الذئب فاحتمل حملا من الغنم، فوثب الراعي وقال: يا عامر الوادي أوذي جارك فنادى مناد: يا سرحان أرسله فجاء الحمل يشتد عدوا حتى دخل في الغنم. وأنزل الله تعالى على رسوله: {وَأَنَّهُ كََانَ رِجََالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجََالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزََادُوهُمْ رَهَقاً} (3). وهو في الميزان في ترجمة إسحاق بن الحارث الكوفي، وهو ضعيف. وفي الشفاء، للقاضي عياض رحمه الله تعالى، يقال:
__________
(1) البيت لرؤبة بن العجّاج وتمامه: (الديوان 117) تبلّج الزهراء في جنح الدلك ... لا تعذليني بالرذلات الحمك
(2) رواه ابن ماجه في الأضاحي: 12. وابن حنبل: 5/ 34077.
(3) سورة الجن: الآية 6.(2/375)
إن سبب ابتلاء يعقوب بيوسف صلّى الله عليهما وسلّم أنه اجتمع يوما، هو وابنه يوسف على أكل حمل مشوي، وهما يضحكان وكان لهما جار يتيم، فشم رائحته واشتهاه وبكى وبكت جدة له عجوز لبكائه، وبينهما جدار، ولا علم عند يعقوب وابنه بذلك، فعوقب يعقوب بالبكاء أسفا على يوسف، إلى أن ابيضت عيناه من الحزن، فلما علم بذلك كان بقية حياته يأمر مناديا ينادي على سطحه ألا من كان مضطرا فليتغدّ عند آل يعقوب. وعوقب يوسف بالمحنة التي نصّ الله عليها انتهى. قلت: وهذا الكلام لا أعتقد له صحة وقد عجبت من القاضي عياض رحمه الله كيف ذكره في كتابه والذي يجب تنزيههما عن هذه الرذيلة وإنما ذكرته لأنبه على أنه لا يعتقد صحته، وإن كان الطبراني قد روى، في معجمه الأوسط والصغير، من حديث أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث طويل، شيئا من ذلك، وأن يعقوب كان بعد ذلك إذا أراد الغداء أمر مناديا ينادي: ألا من أراد الغداء فليتغد مع يعقوب، وإذا كان صائما نادى مناد: ألا من كان صائما فليفطر مع يعقوب فإنما رواه الطبراني عن شيخه محمد بن أحمد الباهلي البصري. وهو ضعيف جدا. وكذا رواه البيهقي في الشعب في الباب الثاني والعشرين وذكر الواحدي في تفسير قوله تعالى: {إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ} (1) أن ريح الصبا استأذنت ربها عزّ وجلّ أن تأتي يعقوب بريح يوسف قبل أن يأتيه البشير فأذن لها فلذلك يستروح كل محزون بريح الصبا وهي من ناحية المشرق فيرتاح إلى الأوطان والأحباب وأنشد:
أيا جبلي نعمان بالله خليا ... نسيم الصّبا يسري إلي نسيمها (2)
... فإن الصبا ريح إذا ما تنسمت ... على نفس مهموم تجلت همومها
حمنان:
بفتح الحاء المهملة صغار القردان واحدته حمنانة وحمنة وهي من القراد دون الحلم.
الحمولة:
قال الجوهري: هي بالفتح الإبل التي تحمل وكذلك كل ما احتمل عليه الحي من حمار أو غيره سواء كانت عليه الأحمال أو لم تكن. وفعول تدخله الهاء إذا كان بمعنى مفعول بها. قال الله تعالى: {وَمِنَ الْأَنْعََامِ حَمُولَةً وَفَرْشاً} (3) وسيأتي له ذكر في باب الفاء إن شاء الله تعالى.
الحميمق:
قال ابن سيده: إنه طائر يصيد القطا والجنادب ونحوهما وسمعت بعض أهل العلم يقول: إنه الباشق ويفسر به قول أبي الوليد الأزرقي في تاريخ مكة. وهو قال ابن جريج قلت لعطاء: إذا كنت محرما أفأقتل العقاب؟ قال: أقتل. قلت: والصقر والحميمق فإنهما يأخذان حمام المسلمين؟ قال: اقتل واقتل البعوض والذباب واقتل الذئب فإنه عدو ذكره في تعظيم الحرم.
حميل حر:
بالضم وقد يكسر طائر معروف.
الحنش:
بفتح الحاء المهملة والنون وبالشين المعجمة الحية. ويقال الأفعى والجمع
__________
(1) سورة يوسف: الآية 94.
(2) البيت وما يليه في وفيات الأعيان: 4/ 222، دون عزو. وفيه: «يخلص إلى نسيمها».
(3) سورة الأنعام: الآية 142.(2/376)
أحناش. وقيل: الأحناش جميع دواب الأرض كالضب والقنفذ واليربوع وغيرها ثم خصت به الحية قال ذو الرمة (1):
وكم حنش ذعف اللعاب كأنه ... على الشرك العادي نصف عصام
وبه سمي الرجل حنشا وقيل: الحنش حية بيضاء غليظة مثل الثعبان أو أعظم. وقيل: إنه أسود الحيات والحنش أيضا بالتحريك ما يصاد من الطير والهوام، وفي كتاب العين الحنش ما رؤوسهما رؤوس الحيات وسام أبرص ونحوها. وفي الحديث في قتل الدجال «وترتفع الشحناء والتباغض وتنزع حمة كل دابة حتى يدخل الوليد يده في فم الحنش فلا يضره» (2). الحمة هي ما تلسع به الهوام. وفي سنن ابن ماجه وجامع الترمذي عن خزيمة بن جزء، أنه قال: يا رسول الله جئتك أسألك عن أحناش الأرض، ما تقول في الثعلب؟ قال: «ومن يأكل الثعلب؟» قلت: فما تقول في الذئب؟ قال: «أو يأكل الذئب أحد فيه خير» (3). وذكر الترمذي الذئب والأرنب فكل هذه من أحناش الأرض.
الحنظب:
الذكر من الجراد. وقال الخليل: الحناظب الخنافس. الواحدة حنظب وحنظباء وقال حمزة الأصفهاني: من المركبات بين الثعلب والهرة الوحشية الحنظب. وأنشد (4) لحسان بن ثابت رضي الله تعالى عنه:
أبوك أبوك وأنت ابنه ... فبئس البني وبئس الأب ... وأمك سوداء نوبية ... كأن أناملها الحنظب ... يبيت أبوك لها سافدا ... كما سافد الهرة الثعلب
قال الطمماحي يصف كلبا أسود:
أعددت للذئب وليل الحارس ... مصدرا أتلع مثل الفارس ... يستقبل الريح بأنف خانس ... في مثل جلد الحنظباء اليابس
الحوار:
ولد الناقة ولا يزال حوارا حتى يفصل عن أمه، فإذا فصل عن أمه فهو فصيل وثلاثة أحورة والكثير حيران وحوران أيضا. قاله الجوهري وذكر ابن هشام وغيره في سرية عبد الله بن أنيس إلى خالد بن نبيح وكانت في المحرم في السنة الثالثة من الهجرة وكان ينزل عرنة أنه قال في ذلك:
تركت ابن ثور كالحوار وحوله ... نوائح تفري كل جيب مقدد
الأبيات الخمسة. وسيأتي ذكر القصة إن شاء الله تعالى في باب العين المهملة في العنكبوت.
الأمثال:
قال صاحب يسار الكواعب له: ما يسار كل لحم الحوار، واشرب لبن العشار،
__________
(1) ذو الرمة: غيلان بن عقبة بن نهيس بن مسعود العدوي شاعر بدوي متغزل مات سنة 117هـ.
(2) رواه مسلم في الإيمان: 243. وابن ماجه فتن: 33، وابن حنبل: 2/ 94.
(3) رواه الترمذي في الأطعمة: 4.
(4) ديوان حسان: 117.(2/377)
وإياك وبنات الأحرار. والقصة في ذلك مشهورة في ذلك يقول الشاعر:
وإني لأخشى إن خطبت إليهم ... عليك الذي لاقى يسار الكواعب
وقالوا: «أمسخ من لحم الحوار» (1) قال الشاعر:
وقد علم الغثر والطارقون ... بأنك للضيف جوع وقرّ (2)
... مسيخ مليخ كلحم الحوار ... فلا أنت حلو ولا أنت مر
المسيخ والمليخ الذي لا طعم له. وقالوا: «كسؤر العبد من لحم الحوار» (3) ويضرب للشيء الذي لا يدرك منه شيء، وأصله أن عبدا نحر حوارا وأكله، ولم يبق لمولاه منه شيئا فضرب به المثل لما يفقد البتة.
الحوت:
السمك والجمع أحوات وحوتة وحيتان. قال الله تعالى: {إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتََانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ} (4) الآية. وهذا يمكن أن يقع من الحيتان بإرسال من الله تعالى، كإرسال السحاب أو بوحي الهام كالوحي إلى النحل، أو بإشعار في ذلك اليوم، نحو ما يشعر الله الدواب يوم الجمعة، بأمر الساعة حسبما يقتضيه قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما من دابة إلا وهي مصيخة يوم الجمعة فرقا من قيام الساعة» (5) ويحتمل أن يكون ذلك من الحيتان شعورا بالسلامة في ذلك اليوم، على نحو شعور حمام الحرم بالسلامة. قال أصحاب القصص: كان الحوت يقرب ويكثر حتى يمكن أخذه باليد، فإذا كان يوم الأحد، غاب بجملته، وقيل: يغيب أكثره ولا يبقى منه إلا القليل وستأتي القصة في ذلك في باب القاف في لفظ القرد. وروينا بالسند الصحيح عن سعيد بن جبير أنه قال: لما أهبط الله تعالى آدم إلى الأرض، لم يكن فيها غير النسر في البر، والحوت في البحر، وكان النسر يأوي إلى الحوت فيبيت عنده، فلما رأى النسر آدم عليه السلام، أتى الحوت وقال: يا حوت لقد أهبط اليوم إلى الأرض من يمشي على رجليه ويبطش بيديه، فقال الحوت: لئن كنت صادقا فمالي منجى منه في البحر ومالك مخلص منه في البر.
الأمثال:
قال الشاعر:
كالحوت لا يلهيه شيء يلهمه ... يصبح ظمآن وفي البحر فمه
اللهم الابتلاع يضرب لمن عاش بخيلا شرها.
روى الطبراني: في معجمه الأوسط عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: «علماء هذه الأمة رجلان: رجل آتاه الله علما فبذله للناس ولم يأخذ عليه طعما، ولم يشتر به ثمنا قليلا، فلذلك يصلي عليه طير السماء، وحيتان الماء، ودواب الأرض، والكرام الكاتبون، يقدم على الله سيدا شريفا، حتى يرافق المرسلين. ورجل آتاه الله علما في الدنيا، فضن به على
__________
(1) جمهرة الأمثال: 2/ 233.
(2) الغثر: سفلة الناس.
(3) رواه أبو داود في الصلاة: 201. النسائي في الجمعة: 45. الموطأ جمعة: 16. أحمد: 2/ 272.
(4) مجمع الأمثال: 2/ 151.
(5) سورة الأعراف: الآية 163.(2/378)
عباد الله وأخذ عليه طعما، واشترى به ثمنا قليلا، فذاك يأتي يوم القيامة ملجما بلجام من نار، وينادي مناد على رؤوس الأشهاد هذا فلان ابن فلان، آتاه الله علما في الدنيا فضن به على عباد الله، وأخذ عليه طعما واشترى به ثمنا قليلا، ثم يعذب حتى يفرغ من الحساب ويكفي الحوت شرفا أنه كان وعاء ومسكنا لنبي الله يونس عليه الصلاة والسلام، وذلك أن الله تعالى أوحى إليه إني لم أجعل لك يونس رزقا، وإنما جعلت بطنك له حرزا وسجنا، ثم استنقذه الله تعالى من بطنه، واختلف في مدة لبثه في بطن الحوت فقال مقاتل بن حيان: ثلاثة أيام، وقال عطاء: سبعة أيام، وقال الضحاك: عشرين يوما، وقال السدي والكلبي ومقاتل بن سليمان: أربعين يوما، وقال الشعبي التقمه ضحى ولفظه عشية. وأما قوله (1) تعالى: {وَأَنْبَتْنََا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ}
فالمراد باليقطين هنا القرع على قول جميع المفسرين. فكل نبت يمتد وينبسط على وجه الأرض، ليس له ساق ولا يبقى على الشتاء نحو القرع والقثاء والبطيخ فهو يقطين.
فائدة:
سئل إمام الحرمين هل الباري تعالى في جهة؟ فقال: هو متعال عن ذلك. فقيل له: ما الدليل على ذلك؟ فقال: قوله صلى الله عليه وسلم: «لا تفضلوني على يونس بن متى». (2) فقيل له:
ما وجه ذلك؟ فقال: لا أقول حتى يأخذ ضيفي هذا ألف دينار يقضي بها دينه. فقام بها رجلان، فقال: إن يونس بن متى رمى نفسه في البحر فالتقمه الحوت وصار في قعر البحر في ظلمات ثلاث ونادى {أَنْ لََا إِلََهَ إِلََّا أَنْتَ سُبْحََانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظََّالِمِينَ} (3) ولم يكن النبي صلى الله عليه وسلم حين جلس على الرفرف الأخضر، وانتهى إلى أن سمع صريف الأقلام وناجاه ربه بما ناجاه، وأوحى إليه ما أوحى، بأقرب إلى الله تعالى من يونس بن متى في بطن الحوت في ظلمة البحر انتهى. وسيأتي في باب النون إن شاء الله تعالى جواب ابن عباس رضي الله عنهما عن رسالة ملك الروم، التي سأل فيها معاوية عن القبر الذي سار بصاحبه وروى الحاكم في المستدرك بإسناد فيه يزيد بن البلوي، عن أنس رضي الله تعالى عنه، قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر فنزلنا منزلا فإذا في الوادي رجل يقول: اللهم اجعلني من أمة محمد المرحومة، قال: فأشرفت عليه فإذا رجل طوله ثلاثمائة ذراع، فقال: من أنت؟ قلت: أنا أنس بن مالك خادم النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: وأين هو؟ قلت: هو ذا يسمع منك كلامك. قال: فأته واقرئه مني السلام، وقل له: أخوك الياس يقرئك السلام. قال: فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته، فجاء حتى عانقه وقعدا يتحدثان. فقال: يا رسول الله إني إنما آكل في السنة يوما واحدا، وهذا يوم فطري، فآكل أنا وأنت فنزلت عليهما مائدة من السماء عليها خبز وحوت وكرفس، فأكلا وأطعماني، وصليا العصر ثم ودعه ثم رأيته مر في السحاب نحو السماء. قال الحاكم صحيح الإسناد. قال شيخ الإسلام العلامة شمس الدين الذهبي رحمه الله في الميزان: أما استحيا الحاكم
__________
(1) سورة الصافات: الآية 146.
(2) رواه البخاري في تفسير سورة: 4/ 26/ 137. والترمذي تفسير سورة: 939. وابن ماجه في الزهد:
33. وابن حنبل: 4512.
(3) سورة الأنبياء: الآية 87.(2/379)
من الله تعالى في تصحيح مثل هذا؟ وقال في تلخيص المستدرك، بعد قول الحاكم «هذا صحيح» قلت: بل هو موضوع قبح الله من وضعه، وما كنت أحسب ولا أجوز أن الجهل يبلغ بالحاكم إلى تصحيح هذا اهـ.
فائدة:
قال القشيري: يقال: إن سليمان عليه الصلاة والسلام سأل ربه، سبحانه وتعالى، أن يأذن له أن يضيف يوما، جميع الحيوانات، فأذن الله تعالى له، فأذن الله تعالى له، فأخذ سليمان في جمع الطعام مدة طويلة، فأرسل الله تعالى له حوتا واحدا من البحر، فأكل كل ما جمعه سليمان، في تلك المدة الطويلة، ثم استزاده فقال سليمان: لم يبق عندي شيء، ثم قال له: وأنت تأكل كل يوم مثل هذا؟ فقال: رزقي كل يوم ثلاثة أضعاف هذا، ولكن الله لم يطعمني اليوم إلا ما أطعمتني أنت، فليتك لم تضيفني فإني بقيت اليوم جائعا حيث كنت ضيفك! انتهى. وفي هذا إشارة إلى كمال قدرة الله تعالى، وعظيم سلطانه، وسعة خزائنه، إذ مثل سليمان مع سعة ملكه وقوة سلطانه الذي آتاه الله تعالى، عجز أن يشبع مخلوقا واحدا من مخلوقات الله تعالى. فسبحانه المتكفل بأرزاق خلقه. وهنا دقيقة يجب أن ينتبه لها: وهي أن الشبع والري ليس هو من فعل الطعام والماء، وإنما أجرى الله العادة بخلق الشبع عند أكل الطعام، وخلق الري عند شرب الماء، فالشبع والري خلق الله تعالى. هذا مذهب أهل الحق ولا التفات لمن قال غير ذلك.
وحكمه وخواصه وتعبيره
: كالسمك وسيأتي في باب السين المهملة إن شاء الله تعالى.
حوت الحيض:
قال ابن زهر: قال لي من رآه: إنه دابة عظيمة في البحر تمنع المراكب الكبار عن السير، فإذا أشرف أهل السفينة على العطب، رموا له بخرق الحيض فيهرب، ولا يقربهم فهي معدة معهم لذلك، وهذا الحوت اسمه الفاطوس. وسيأتي في باب الفاء إن شاء الله تعالى. قال: ومن عجيب أمر هذا الحيوان أنه لا يقرب مركبا فيه امرأة حائض.
وحكمه
: كعموم السمك ودم الحوت نجس كسائر الدماء، وقيل: طاهر لأنه إذا يبس ابيض بخلاف سائر الدماء، فإنها تسود. كذا نقله القرطبي عن بعض الحنفية.
الخواص:
قال الرازي وغيره: إذا سعط المصروع بوزن حبة من مرارته برىء من الصرع بإذن الله تعالى، وهو مجرب. وكبده إذا جففت وسحقت، وذر منها على الدم السائل قطعه أو على الجرح ألحمه وأبرأه، وإن كان عظيما. وهو أيضا مجرب ووسط لحم ظهره، إذ أخذ منه قطعة ولاكها إنسان هيجت الباه وأنعظت.
تذنيب:
الحيض في المنام نكاح حرام، فمن رأى أنه حائض فإنه يأتي محرما. والمرأة إذا رأت أنها حائض، اختلط عليها أمرها، فإن اغتسلت ذهب الهم عنها، وإن رأت امرأة أنها مستحاضة، وهي التي لم ينقطع الدم عنها، فإنها كثيرة الذنوب لا تثبت على توبة، لأن الإثم صار طبعا لها نسأل الله السلامة. وقيل: إن الرجل إذا رأى أنه حائض فإنه يكذب، وإن رأى امرأته حائضا نغلق عليه أمره والله تعالى أعلم.
حوت موسى ويوشع عليهما الصلاة والسلام
: قال أبو حامد الأندلسي رأيت سمكة بقرب مدينة سبتة، من نسل الحوت الذي أكل منه موسى وفتاه يوشع عليهما السلام، فأحيا الله نصفه
فاتخذ سبيله في البحر سربا، ونسلها في البحر إلى الآن في ذلك الموضع. وهي سمكة طولها أكثر من ذراع، وعرضها شبر واحد. في جانبيها شوك وعظام وجلد رقيق على أحشائها، ولها عين ونصف رأس من رآها من هذا الجانب استقذرها، وحسب إنها ميتة ونصفها الآخر صحيح، والناس يتبركون بها ويهدونها إلى الأماكن البعيدة قال ابن عطية: وأنا رأيتها كذلك قال: ومن غريب ما روى البخاري عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما في قصص هذه الآية إن الحوت إنما حيي لأنه مسه ماء عين هنالك تدعى عين الحياة ما مست ميتا قط إلّا وحيي. وقال الكلبي توضأ يوشع بن نون من عين الحياة، فنضح على الحوت المالح وهو في المكتل من ذلك الماء فعاش الحوت، فجعل يضرب بذنبه ولا يضرب بذنبه شيئا من الماء وهو ذاهب إلا يبس. قال: ومن غريبه أيضا أن بعض المفسرين ذكر أن موضع سلوك الحوت عاد طريقا يبسا، وإن موسى مشى عليه متبعا للحوت حتى أفضى به ذلك الطريق إلى جزيرة في البحر وفيها وجد الخضر.(2/380)
: قال أبو حامد الأندلسي رأيت سمكة بقرب مدينة سبتة، من نسل الحوت الذي أكل منه موسى وفتاه يوشع عليهما السلام، فأحيا الله نصفه
فاتخذ سبيله في البحر سربا، ونسلها في البحر إلى الآن في ذلك الموضع. وهي سمكة طولها أكثر من ذراع، وعرضها شبر واحد. في جانبيها شوك وعظام وجلد رقيق على أحشائها، ولها عين ونصف رأس من رآها من هذا الجانب استقذرها، وحسب إنها ميتة ونصفها الآخر صحيح، والناس يتبركون بها ويهدونها إلى الأماكن البعيدة قال ابن عطية: وأنا رأيتها كذلك قال: ومن غريب ما روى البخاري عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما في قصص هذه الآية إن الحوت إنما حيي لأنه مسه ماء عين هنالك تدعى عين الحياة ما مست ميتا قط إلّا وحيي. وقال الكلبي توضأ يوشع بن نون من عين الحياة، فنضح على الحوت المالح وهو في المكتل من ذلك الماء فعاش الحوت، فجعل يضرب بذنبه ولا يضرب بذنبه شيئا من الماء وهو ذاهب إلا يبس. قال: ومن غريبه أيضا أن بعض المفسرين ذكر أن موضع سلوك الحوت عاد طريقا يبسا، وإن موسى مشى عليه متبعا للحوت حتى أفضى به ذلك الطريق إلى جزيرة في البحر وفيها وجد الخضر.
إشارة:
كانت هذه القطرة مباركة فأحيا الله تعالى بها الميت، لأنها قطرة من وجه متوضىء وللعبادات تأثيرات، فحياة القلب من ميراث العمل. كان موسى ويوشع في تعب ومشقة فلما حيي الحوت وجدا السبيل إلى مطلبها. فكذا الجوارح والأعضاء في خوف وحيرة حتى تحيا القلوب بذكر الله تعالى، فإذا حيي القلب بالذكر أمنت الأعضاء وسكنت، واعلم أن موسى عليه السلام، جد في طلب الخضر حتى وجده. وكذلك يستحب لكل طالب فائدة دينية أو دنيوية أن يكون كرارا غير فرار. فإما الظفر والغنيمة، وإما القتل والشهادة، كما اتفق للحسين الحلاج وغيره، وقد تقدم ذكر قصته قريبا وروى أبي بن كعب رضي الله تعالى عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «انجاب الماء عن مسلك الحوت فصار كوّة لم تلتئم فدخل موسى على أثر الحوت، فإذا هو بالخضر». وقال قتادة: ما سلك الحوت طريقا إلا صار ماء جامدا طريقا يبسا. وكان موسى عليه الصلاة والسلام قد لحقه الجوع فقال لفتاه، وهو يوشع: {آتِنََا غَدََاءَنََا لَقَدْ لَقِينََا مِنْ سَفَرِنََا هََذََا نَصَباً} (1) الآية.
قال ابن عطية: وكان أبو الفضل الجوهري يقول في وعظه: مشى موسى عليه السلام لمناجاة ربه تعالى أربعين يوما لم يحتج إلى طعام، ولما مشى إلى بشر لحقه الجوع. والإشارة في ذلك أنهما كانا متعلمين، وطالب العلم من حقه أن يحتمل كل مشقة، ولا يبالي بصيف ولا شتاء ولا جوع ولا ذل، إذ الذي يطلب لا يعرف قيمته إلا صاحبه، ومن عرف قدر ما يطلب هان عليه ما يبذل ومن طلب العظيم خاطر بالعظيم وسيأتي إن شاء الله تعالى، في باب الصاد المهملة، في الصرد عن مقاتل طرف من ذلك مطول.
وكانت حياة لحوت عند مجمع البحرين قال قتادة: مجمع البحرين هما بحر فارس وبحر الروم مما يلي الشرق وقيل: هما بحر الأردن وبحر القلزم وقيل هما بحر بالمغرب وبحر بالزقاق.
والحكمة في جمع موسى مع الخضر عليهما السلام بمجمع البحرين أنهما بحران في العلم أحدهما أعلم بالظاهر، وأعني بالظاهر علم الشرع وهو موسى والآخر أعلم بالباطن أعني بالباطن: علم الحقيقة وأسرار الملكوت وهو الخضر. فكان اجتماع البحرين بمجمع البحرين فحصلت المناسبة.
__________
(1) سورة الكهف: الآية 62.(2/381)
إشارة:
اعلم أن موسى عليه الصلاة والسلام لم يجد من هو دونه وهو الخضر عليه السلام حتى تجرد عن كل ما سواه فكذلك العبد لا يجد قرب مولاه وحبه حتى يتجرد عن كل ما سواه.
قال الشبلي: انفرد بالله حتى تكون مجردا عن الأغيار وتكون واحدا للواحد فردا للفرد، وقال الإمام تاج الدين عطاء الله السكندري: من تجرد في وقته لوقته فاته من وقته، ومن استقبل الوقت فاز بحظه وأنشد:
لا كنت إن كنت أدري ... كيف الطريق إليكا ... أفنيتني عن جميعي ... فكنت سلم يديكا
وقيل للجنيد: متى يكون العبد منفردا متحيزا؟ قال: إذا ألزم جوارحه الكف عن جميع المخالفات، وأفنى حركاته عن كل الإرادات، فكان شبحا بين يدي الحق لا يتميز وما أحسن قول بعضهم:
وعن فنائي فني فنائي ... وفي فنائي وجدت أنتا ... في محو اسمي ووسم جسمي ... سألت عني فقلت أنتا ... أشار سري إليك حتى ... فني فنائي ودمت أنتا ... أنت حياتي وسر قلبي ... فحيث ما كنت كنت أنتا
قال الشبلي: اضرب بالدنيا وجه عاشقيها، وبالآخرة وجه طالبيها، وسلم نفسك وقد وصلت، فإذا قلت: الله فهو الله، وإذا سكت فهو الله. وهذا هو المقام العظيم، واسم الخضر عليه السلام مضطرب فيه اضطرابا متباينا، فقيل: إنه بليا بن ملكان بن فالغ بن شالح بن ارفخشذ بن نوح عليه السلام، قاله وهب بن منبه. وقيل: إيليا بن عاميل شما لخسين بن أرما بن علقما بن عيصو بن إسحاق بن إبراهيم عليهما السلام. وقيل: اسمه أرميا بن حلقيا من سبط هارون قاله الثعلبي قلت: والأصح الذي نقله أهل السير وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم، كما قاله البغوي وغيره، إن اسمه بليا، بباء موحدة مفتوحة ولام ساكنة وياء مثناة من تحت، وفي آخره ألفح ابن ملكان بفتح الميم، وبإسكان اللام وبالنون في آخره. وقيل: بليان، قيل: كان من بني إسرائيل، وقيل كان من أبناء الملوك وكنيته أبو العباس، قال السهيلي: كان أبوه ملكا وأمه اسمها ألها وإنها ولدته في مغارة، وأنه وجد هناك شاة ترضعه في كل يوم من غنم رجل من القرية، ولما وجده الرجل أخذه ورباه، فلما شب طلب أبوه كاتبا، وجمع أهل المعرفة والنبالة ليكتب الصحف التي أنزلت على إبراهيم وشيث، فكان فيمن أقدم عليه من الكتاب ابنه الخضر عليه السلام، وهو لا يعرفه فلما استحسن خطه ومعرفته بحث عن جلية أمره فعرف أنه ابنه فضمه لنفسه، وولاه أمر الناس. ثم إن الخضر فر من الملك لأسباب يطول ذكرها ولم يزل سائحا إلى أن وجد عين الحياة فشرب منها فهو حي إلى أن يخرج الدجال، وأنه الرجل الذي يقتله الدجال ويقطعه ثم يحييه الله تعالى. انتهى وسيأتي إن شاء الله تعالى عن صاحب ابتلاء الأخيار في باب السين المهملة في لفظ السعلاء أنه ابن خالة ذي القرنين.
واختلف في سبب تلقيبه بالخضر فقال الأكثرون: لأنه جلس على فروة بيضاء فإذا هي تهتز من تحته خضراء، والفروة وجه الأرض. وقيل: لأنه كان إذا صلى اخضر ما حوله، والصواب
الأول. واختلف في حياته فقال الإمام محيي الدين النووي وجمهور العلماء: هو حي موجود بين أظهرنا قال: وهذا متفق عليه عند الصوفية وأهل الصلاح والمعرفة. وحكاياتهم في رؤيته والاجتماع به والأخذ عنه وسؤاله وجواباته ووجوده في المواضع الشريفة ومواطن الخير أكثر من أن تحصر وأشهر من أن تشهر. قال الشيخ أبو عمرو بن الصلاح: هو حي عند جماهير العلماء والصالحين والعامة معهم على ذلك وإنما شذ بإنكاره بعض المحدثين انتهى. وقال الحسن: إنه مات وقال ابن المنادي لا يثبت حديث في بقائه. وقال الإمام أبو بكر بن العربي: مات قبل انقضاء المائة ويقرب من هذا جواب الإمام محمد بن إسماعيل البخاري: لما سئل عن الخضر والياس عليهما السلام هل هما في الأحياء؟ فقال: كيف يكون ذلك وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا يبقى على رأس مائة سنة ممن هو اليوم على ظهر الأرض واحد». (1) والصحيح الصواب أنه حي وقال بعضهم إنه اجتمع مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعزى أهل بيته وهم مجتمعون لغسله. وقد روي ذلك من طرق صحاح. وفي التمهيد لابن عبد البر إمام أهل الحديث في وقته رحمه الله أن النبي صلى الله عليه وسلم حين غسل وكفن، سمعوا قائلا يقول: السلام عليكم أهل البيت إن في الله خلفا من كل هالك، وعوضا من كل تالف، وعزاء من كل مصيبة، فعليكم بالصبر واحتسبوا، ثم دعا لهم ولا يرون شخصه، فكانوا يرون أنه الخضر عليه السلام يعني أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وأهل بيته رضي الله تعالى عنهم.(2/382)
واختلف في سبب تلقيبه بالخضر فقال الأكثرون: لأنه جلس على فروة بيضاء فإذا هي تهتز من تحته خضراء، والفروة وجه الأرض. وقيل: لأنه كان إذا صلى اخضر ما حوله، والصواب
الأول. واختلف في حياته فقال الإمام محيي الدين النووي وجمهور العلماء: هو حي موجود بين أظهرنا قال: وهذا متفق عليه عند الصوفية وأهل الصلاح والمعرفة. وحكاياتهم في رؤيته والاجتماع به والأخذ عنه وسؤاله وجواباته ووجوده في المواضع الشريفة ومواطن الخير أكثر من أن تحصر وأشهر من أن تشهر. قال الشيخ أبو عمرو بن الصلاح: هو حي عند جماهير العلماء والصالحين والعامة معهم على ذلك وإنما شذ بإنكاره بعض المحدثين انتهى. وقال الحسن: إنه مات وقال ابن المنادي لا يثبت حديث في بقائه. وقال الإمام أبو بكر بن العربي: مات قبل انقضاء المائة ويقرب من هذا جواب الإمام محمد بن إسماعيل البخاري: لما سئل عن الخضر والياس عليهما السلام هل هما في الأحياء؟ فقال: كيف يكون ذلك وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا يبقى على رأس مائة سنة ممن هو اليوم على ظهر الأرض واحد». (1) والصحيح الصواب أنه حي وقال بعضهم إنه اجتمع مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعزى أهل بيته وهم مجتمعون لغسله. وقد روي ذلك من طرق صحاح. وفي التمهيد لابن عبد البر إمام أهل الحديث في وقته رحمه الله أن النبي صلى الله عليه وسلم حين غسل وكفن، سمعوا قائلا يقول: السلام عليكم أهل البيت إن في الله خلفا من كل هالك، وعوضا من كل تالف، وعزاء من كل مصيبة، فعليكم بالصبر واحتسبوا، ثم دعا لهم ولا يرون شخصه، فكانوا يرون أنه الخضر عليه السلام يعني أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وأهل بيته رضي الله تعالى عنهم.
قال السهيلي: وقد ذكر أن الخضر عليه السلام هو ارمياء ولم يصححه محمد بن جرير الطبري، وأبطله بما يطول ذكره من الحجج. وذكر أيضا أنه اليسع صاحب الياس عليهما السلام، وأعجب ما في ذلك قول من قال: إنه ابن فرعون صاحب موسى عليه السلام. ذكره النقاش. انتهى.
واختلف في نبوته فقال القشيري وكثيرون: هو ولي. وقال بعضهم: هو نبي ورجحه النووي وحكى الماوردي في تفسيره ثلاثة أقوال: أحدها أنه نبي، والثاني أنه ولي، والثالث أنه من الملائكة. وهذا القول غريب باطل لما قدمناه. وقال المازري: اختلف العلماء في الخضر هل هو ولي أو نبي؟ فقال الأكثرون: هو نبي، واحتجوا بقول تعالى: {وَمََا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي} (2) فدل على أنه نبي يوحى إليه وبأنه أعلم من موسى، ويبعد أن يكون ولي أعلم من نبي، وأجاب الآخرون بأنه يجوز أن يكون الله تعالى قد أوحى إلى نبي الله ذلك الزمان بأن يأمر الخضر بذلك انتهى. ولم ينقل أنه كان مع موسى فكيف يتأتى هذا الجواب والخضر كان في عصر موسى؟ فإن نقل أنه كان معه نبي آخر قيل هذا الاحتمال في الجواب وإلا فلا. فإن قيل: إن يوشع بن نون كان نبيا في زمن موسى، قيل:
هذه القضية كانت قبل نبوته، وأيضا فهو كان مصاحبا لموسى ومرافقه حين لقيا الخضر، وهو الذي أخبر موسى بانسياب الحوت في البحر. واختلف في كونه مرسلا فقال الثعلبي: الخضر نبي بعثه الله بعد شعيب، وهو معمر محجوب عن أبصار أكثر الناس. وقيل: إنه لا يموت إلا في آخر الزمان حين يرفع القرآن. وقصته مع موسى في السفينة والغلام والقرية طويلة مشهورة، تركناها لطولها واشتهارها لكن قال السهيل: إن القرية برقة وقيل غير ذلك.
__________
(1) رواه البخاري في العلم: 41، مواقيت: 40. وأبو داود: ملاحم 17. وأحمد: 2/ 12188.
(2) سورة الكهف: الآية 82.(2/383)
فائدة:
لما حان لموسى والخضر أن يتفرقا قال له الخضر عليه السلام: لو صبرت لأتيت على ألف عجب كل عجب أعجب مما رأيت! فبكى موسى عليه السلام على فراقه ثم قال موسى للخضر عليهما السلام: أوصني يا نبي الله فقال له الخضر: يا موسى اجعل همك في معادك، ولا تخض فيما لا يعنيك، ولا تترك الخوف في أمنك، ولا تيأس من الأمن في خوفك، وتدبير الأمور في علانيتك، ولا تذر الإحسان في قدرتك. فقال له موسى: يا نبي الله، فقال له الخضر: يا موسى إياك واللجاجة، ولا تمش في غير حاجة، ولا تضحك من غير عجب، ولا تعير أحدا من الخطائين بخطاياهم بعد الندم، وابك على خطيئتك يا ابن عمران. فقال له موسى عليه السلام: قد أبلغت في الوصية فأتم الله عليك نعمته، وعمرك في طاعته، وكلأك من عدوه. فقال الخضر عليه السلام: وأوصني أنت، فقال له موسى: إياك والغضب إلا في الله، ولا ترض عن أحد إلا في الله، ولا تحب الدنيا ولا تبغض لدنيا، فإن ذلك يخرج من الإيمان ويدخل في الكفر، فقال له الخضر: لقد أبلغت في الوصية فأعانك الله على طاعته، وأراك السرور في أمرك، وحببك إلى خلقه، وأوسع عليك من فضله، فقال موسى عليه السلام: آمين. رواه السهيلي. وقال البغوي:
روي أن موسى لما أراد أن يفارق الخضر عليه السلام، قال له: أوصني، قال له: يا موسى لا تطلب العلم لتحدث به، واطلبه لتعمل به.
تتمة:
في كتاب الهواتف، لأبي بكر بن أبي الدنيا أن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه، لقي الخضر عليه السلام وعلمه هذا الدعاء، وذكر فيه ثوابا عظيما ورحمة، لمن قاله في دبر كل صلاة وهو: يا من لا يشغله سمع عن سمع، ويا من لا تعطله المسائل، ويا من لا يبرمه إلحاح الملحين، أذقني برد عفوك وحلاوة رحمتك. وذكر في كتابه أيضا عن عمر رضي الله تعالى عنه، في هذا الدعاء بعينه، نحو ما ذكر عن علي رضي الله عنه في سماعه من الخضر عليه السلام.
عجيبة:
روى الإمام الحافظ أبو بكر الخطيب البغدادي في كتابه المتفق والمفترق في ترجمة أسامة بن زيد التنوخي أنه ولي مصر للوليد بن عبد الملك بن مروان، ولأخيه سليمان، وهو الذي بنى مقياس النيل العتيق، الذي بجزيرة فسطاط مصر، ذكره ابن يونس في تاريخه. ثم روى الخطيب في ترجمة أسامة هذا أن صنما كان بالإسكندرية يقال له شراحيل، على حشفة من حشف البحر، مستقبلا بأصبع من أصابع كفه القسطنطينية لا يدري أكان مما عمله سليمان النبي عليه الصلاة والسلام أو الإسكندر، تصاد عنده الحيتان، وكانت الحيتان تدور حوله وحول الإسكندرية، وكان قدم الصنم طول قامة الرجل إذا انبطح، ومد يديه فكتب أسامة بن زيد، وهو عامل مصر للوليد بن عبد الملك: يا أمير المؤمنين إن عندنا بالإسكندرية صنما يقال له شراحيل، وهو من نحاس، وقد غلت علينا الفلوس، فإن رأى أمير المؤمنين أن ننزله ونجعله فلوسا فعلنا، وإن رأى غير ذلك فليكتب إلينا بما نعتمده في أمره. فكتب إليه: لا تنزله حتى أبعث إليك أمناء يحضرونه. فبعث إليه رجالا أمناء، فأنزلوا الصنم عن الحشفة، فوجدت عيناه ياقوتتين حمراوين ليس لهما قيمة، فضربه أسامة بن زيد فلوسا فانطلقت الحيتان ولم ترجع إلى ذلك المكان أبدا بعد أن كانت لا تفارقه ليلا ولا نهارا وتصاد بالأيدي.
الحوشي:
النعم المتوحشة. ويقال: إن الإبل الحوشية منسوبة إلى الحوش وهي فحول جن
تزعم العرب أنها ضربت في نعم بعضهم فنسبت إليها.(2/384)
النعم المتوحشة. ويقال: إن الإبل الحوشية منسوبة إلى الحوش وهي فحول جن
تزعم العرب أنها ضربت في نعم بعضهم فنسبت إليها.
الحوصل:
طائر كبير له حصولة عظيمة يتخذ منها الفرو، وجمعه حواصل. قال ابن البيطار: وهذا الطائر يكون بمصر كثيرا ويعرف بالبجع، وجمل الماء والكي، بضم الكاف وسكون الياء المثناة من تحت. وهو صنفان: أبيض وأسود فالأسود منه كريه الرائحة، ولا يكاد يستعمل والأجود الأبيض وحرارته قليلة، ورطوبته كثيرة، وهو قليل البقاء، ولبسه يصلح للشباب وذوي الأمزجة الحارة ومن تغلب عليه الصفراء. انتهى والمعروف خلاف ما قال وأنه أشد حرارة من فرو الثعلب والحوصلة والحوصل من الطائر، والظليم بمنزلة المعدة للإنسان.
وحكمه:
الحل كما جزم به الرافعي وغيره عموما فإن قيل: لم لا أجري فيه الوجه الذي في طير الماء؟ فالجواب أن ذلك الوجه يجري في طير لا يفارق الماء، وهذا يألفه ثم يفارقه فهو كالأوز البلدي وقد رأيت منه بمدينة النبي صلى الله عليه وسلم واحدا أقام بها أعواما يمشي في أزقتها لكن غالب اقتياته في البر اللحم وفي البحر السمك.
الحلان:
بحاء مضمومة بعدها لام ألف مشددة ثم نون هو الجدي يوجد في بطن أمه. وقال الأصمعي: الحلان والحلام بالنون وبالميم صغار الغنم. وقال ابن السكيت: الحلان الذي يصلح أن يذبح للنسك وفي الحديث أن عمر رضي الله تعالى عنه قضى في أم حبين يقتلها المحرم بحلان. وفي حديث آخر ذبح عثمان كما يذبح الحلان، أي إن دمه أطل دم الحلان. وحكمه سيأتي إن شاء الله تعالى.
حيدرة:
إسم من أسماء الأسد. روى البخاري ومسلم عن سلمة بن الأكوع رضي الله تعالى عنه، قال: أرسلني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه يوم خيبر وهو أرمد، فقال: «لأعطين الراية غدا رجلا يحبه الله ورسوله، قال: ويحب الله ورسوله» (1) فأتيت عليا وجئت به أقوده وهو أرمد حتى أتيت به النبي صلى الله عليه وسلم، فبصق في عينيه فبرأ وأعطاه الراية. قال:
فبرز مرحب وهو يقول:
قد علمت خيبر أني مرحب ... شاكي السلاح بطل مجرب
إذا الحروب أقبلت تلتهب
قال: فبرز له علي رضي الله عنه وهو يقول (2):
أنا الذي سمّتني أمي حيدره ... كلّيث غابات كريه المنظره
أكيلهم بالسيف كيل السندره
وضرب مرحبا ففلق رأسه وقتله، وكان الفتح. قال السهيلي: ذكر قاسم بن ثابت في تسميته حيدرة ثلاثة أقوال: الأول أن اسمه في الكتب القديمة أسد والأسد هو حيدرة. والثاني أن
__________
(1) رواه البخاري: جهاد 102، 121، 143، فضائل أصحاب النبي: 9. ورواه مسلم في فضائل الصحابة:
32، 35. والترمذي: مناقب 50، وابن ماجه مقدمة: 11. وابن حنبل: 1/ 99، 185، 2/ 384، 4/ 52، 5/ 333.
(2) ديوان الإمام علي: 77. وفيه: «أكيلكم بالسيف».(2/385)
أمه فاطمة بنت أسد، حين ولدته. كان أبوه غائبا، فسمته باسم أبيها أسدا، فقدم أبوه فسماه عليا. والثالث أنه كان يلقب في صغره بحيدرة لأن الحيدرة الممتلىء لحما، العظيم البطن. وكذلك كان علي رضي الله تعالى عنه، ولذلك قال بعض اللصوص حين فر من سجنه الذي سماه نافعا وقيل يافعا بالياء:
ولو اني مكثت لهم قليلا ... لجروني لحيدرة البطين
وكان مرحب قد رأى في المنام كأن أسدا افترسه، فأراد علي رضي الله عنه أن يذكره أنه هو الأسد الذي يقتله، فكاشفه بذلك، فلما سمع مرحب قوله، تذكر المنام فأرعد فقتله علي رضي الله تعالى عنه، وبهذا يستدل على جواز المبارزة في الحرب بشرط أن لا يتضرر المسلمون بقتل المبارز.
فإن طلبها كافر، استحب الخروج إليه. وروى أبو داود بإسناد صحيح عن علي رضي الله تعالى عنه، أنه قال: لما كان يوم بدر تقدم عتبة بن ربيعة بنفسه وتبعه أخوه وابنه، فنادى من يبارز؟
فانتدب إليه شبان من الأنصار فقال: من أنتم؟ فأخبروه: فقال: لا حاجة لنا فيكم إنما أردنا بني عمنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا حمزة قم يا علي قم يا عبيدة بن الحارث، فأقبل حمزة إلى عتبة بن ربيعة، وأقبلت أنا إلى أخيه شيبة، وأقبل عبيدة إلى الوليد بن عتبة فاختلف بين عتبة والوليد ضربتان، فأثخن كل منهما صاحبه، ثم ملنا إلى الوليد فقتلناه، واحتملنا عبيدة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومخ ساقه يسيل، فقال (1): «أشهيد أنا يا رسول الله؟ قال: نعم» قال: وددت والله أن أبا طالب حيا ليعلم أننا أحق منه بقوله:
ولا نسلمه حتى نصرع حوله ... ونذهل عن أبنائنا والحلائل
ثم أنشأ يقول:
فإن تقطعوا رجلي فإني مسلم ... أرجّي بها عيشا من الله عاليا ... وألبسني الرحمن فضلا ومنة ... لباسا من الإسلام غطى المساويا
قال الشافعي رضي الله عنه: وبارز يوم الخندق عمرو بن عبدود لأنه خرج ينادي من يبارز؟ فقام له علي رضي الله عنه، وهو مقنع بالحديد، فقال: أنا له يا نبي الله. فقال: «إنه عمرو إجلس». فنادى عمرو ألا رجل يبارز؟ ثم جعل يؤنبهم ويقول: أين جنتكم التي تزعمون أن من قتل منكم يدخلها؟ أفلا يبرز إلي رجل منكم؟ فقام علي رضي الله عنه، وقال: أنا له يا رسول الله، فقال له: إنه عمرو اجلس. فنادى الثالثة وذكر شعرا فقام علي وقال: أنا له يا رسول الله. قال: إنه عمرو قال: وإن كان عمرا فأذن له رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمشى إليه حتى أتاه، فقال له عمرو: من أنت؟ قال: أنا علي بن أبي طالب. قال: غيرك يا ابن أخي، أريد من أعمامك من هو أسن منك فإني أكره أن أهريق دمك. فقال علي رضي الله عنه: لكني والله لا أكره أن اهريق دمك! فغضب، ونزل عن فرسه وسل سيفه كأنه شعلة نار ثم أقبل نحو علي رضي الله عنه مغضبا فاستقبله علي بدرقته، فضربه عمرو في الدرقة فقدها، وأثبت فيها السيف وأصاب رأس
__________
(1) رواه أبو داود: جهاد 109. وابن حنبل: 1/ 117.(2/386)
علي فشجه، وضربه علي رضي الله عنه على حبل عاتقه فسقط قتيلا، وثار العجاج. وسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم التكبير، فعرف صلى الله عليه وسلم أن عليا قد قتله. اهـ وجاء في بعض الروايات أن عليا رضي الله عنه لما بارز عمرا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اليوم برز الإيمان كله للشرك كله» وكان سيف علي رضي الله عنه يقال له ذو الفقار، لأنه كان في وسطه مثل فقرات الظهر، وكان لمنبه بن الحجاج، سلبه منه النبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر، وأعطاه عليا رضي الله تعالى عنه وكان من حديدة وجدت عند الكعبة من دفن جرهم، أو غيرهم، وكانت صمصامة عمرو بن معد يكرب من تلك الحديدة أيضا.
تتمة:
ينبغي لمقدم العسكر أن يتشبه بصفات من صفات الحيوان فيكون في قوة القلب كالأسد لا يجبن ولا يفر، وفي الكبر كالنمر لا يتواضع للعدو، وفي الشجاعة كالدب يقاتل بجميع جوارحه، وفي الحملة كالخنزير لا يولي دبره إذا حمل، وفي الغارة كالذئب إذا يئس من وجه أغار من وجه، وفي حمل السلاح كالنملة تحمل أضعاف وزن بدنها، وفي الثبات كالحجر لا يزول عن مكانه، وفي الوفاء كالكلب لو دخل سيده النار يتبعه، وفي الصبر كالحمار، وفي التماس الفرصة كالديك، وفي الحراسة كالكركي وفي التعب كاليعر، وهي دويبة تكون بخراسان تسمن على التعب والمشقة.
الحيرمة:
البقرة والجمع حيرم قال ابن أحمر (1):
تبدل أدما من ظباء وحيرما كذا أنشده الجوهري.
الحية:
اسم يطلق على الذكر والأنثى، فإن أردت التمييز قلت: هذا حية ذكر، وهذا حية أنثى. قاله المبرد في الكامل، وإنما دخلته الهاء لأنه واحد من جنس. كبطة ودجاجة على أنه قد روي عن بعض العرب: رأيت حيا على حية أي ذكرا على أنثى، وفلان حية ذكر والنسبة إلى الحية حيوي. والحيوت: ذكر الحيات أنشد الأصمعي:
ويأكل الحية والحيوتا ... ويخنق العجوز أو تموتا
وذكر ابن خالويه لها مائتي اسم ونقل السهيلي عن المسعودي: إن الله تعالى لما أهبط الحية إلى الأرض، أنزلها بسجستان، فهي أكثر أرض الله حيات ولولا العربد يأكلها، ويفني كثيرا منها لخلت من أهلها لكثرة الحيات، وقال كعب الأحبار: أهبط الله تعالى الحية بأصبهان، وإبليس بجدة، وحوّاء بعرفة، وآدم بجبل سرنديب وهو بأرض الصين في بحر الهند، عال يراه البحريون من مسافة أيام، وفيه أثر قدم آدم عليه الصلاة والسلام مغموسة في الحجر. ويرى على هذا الأثر كل ليلة كهيئة البرق من غير سحاب، ولا بد له في كل يوم من مطر يغسل موضع قدم آدم عليه الصلاة والسلام. ويقال:
إن الياقوت الأحمر يوجد على هذا الجبل فتحدره السيول والأمطار من ذروته إلى الحضيض. ويوجد به الماس أيضا وبه يوجد العود. كذا قاله القزويني.
__________
(1) ابن أحمر: هنيء بن أحمر من بني الحارث من كنانة، شاعر جاهلي.(2/387)
قلت وهو قريب من جبل يقال له ساتيدما، بكسر المثناة من فوق بعدها مثناة من تحت، ودال مهملة وميم وألف، وهو متصل من بحر الروم إلى بحر الهند، ليس يأتي يوم من الدهر إلا ويسفك عليه دم، فسمي ساتيدما لذلك. وكان قيصر قد غزا كسرى، وأتى بلاده فاحتال له حتى انصرف عنه، فاتبعه كسرى في جنوده فأدركه بساتيدما، فانهزم أصحاب قيصر مرعوبين من غير قتال، فقتلهم كسرى قتل الكلاب ونجا قيصر ولم يدركه كذا حكاه البكري في معجمه. وذكره الجوهري نقلا عن سيبويه كذلك أنشدوا على ذلك:
لما رأت ساتيدما استعبرت ... لله در اليوم من لامها (1)
والحية أنواع: منها الرقشاء وهي التي فيها سود وبيض، ويقال لها الرقطاء أيضا وهي من أخبث الأفاعي قال (2) النابغة في وصف السليم:
فبت كأني ساورتني ضئيلة ... من الرقش، في أنيابها السّم ناقع (3)
... تبادرها الراقون من شر سمها ... فتطلقه يوما، ويوما تراجع (4)
... تسهّد من ليل التمام، سليمها ... كحلي نساء، في يديه، قعاقع (5)
وقال غيره:
هم أيقظوا رقط الأفاعي ونبهوا ... عقارب ليل نام عنها حواتها (6)
... وهم نقلوا عني الذي لم أفه به ... وما آفه الأخيار إلا رواتها
وتزعم الأعراب أن الأفاعي صم، وكذلك النعام قال علي بن نصر الجهضمي: دخلت على المتوكل فإذا هو يمدح الرفق فأكثر فقلت: يا أمير المؤمنين أنشدني الأصمعي:
لم أر مثل الرفق في لينه ... أخرج للعذراء من خدرها ... من يستعن بالرفق في أمره ... يستخرج الحية من جحرها
فقال: يا غلام الدواة والقرطاس، فأتى بهما فكتبهما وأمر لي بجائزة سنية، وقال أبو بكر بن أبي دواد: كان المستعين بالله بعث إلى نصر بن علي، يشخصه للقضاء، فدعاه عبد الملك أمير البصرة وأمره بذلك فقال: ارجع فاستخير الله فرجع إلى بيته فصلى ركعتين، وقال: اللهم إن كان لي عندك خير فاقبضني إليك، ونام فنبهوه فإذا هو ميت. وذلك في شهر ربيع الآخر سنة خمسين
__________
(1) ساتيد ما: إسم جبل.
(2) ديوان النابغة الذبياني: 80.
(3) ساورتني: واثبتني. الرّقش: جمع الرقشاء: الحية المرقطة. ضئيلة: حية دقيقة اللحم. ناقع: مجتمع.
(4) في الديوان: «تناذرها من سوء ... تطلقه طورا، وطورا».
(5) في الديوان: يسهّد لحلي النساء. وليل التمام: ليل الشتاء. سليمها: ملدوغها. قعاقع: جمع قعقعة:
الصوت المدوّي.
(6) حوات: جمع حوّاء، الذي يربي الأفاعي.(2/388)
ومائتين. ومن أنواعها الأزعر وهو غالب فيها ومنها ما هو أزب ذو شعر، ومنها ذوات القرون.
وأرسطو ينكر ذلك قال الراجز:
وذات قرنين طحون الضرس ... تنهس لو تمكنت من نهس
تدير عينا كشهاب القبس
ومنها الشجاع وسيأتي في باب الشين المعجمة. ومنها العربد وهي حية عظيمة، تأكل الحيات كما تقدم، ومنها الأصلة وهو عظيم جدا له وجه كوجه الإنسان، ويقال إنه يصير كذلك إذا مرت عليه ألوف من السنين. ومن خاصية هذا، أن يقتل بالنظر أيضا، ومنها الصل وتسمى المتكللة لأنها مكللة الرأس، وقيل: الصل الأول وهذه المكللة، وهي شديدة الفساد تحرق كل ما مرت عليه، ولا ينبت حول جحرها شيء من الزرع أصلا، وإذا حاذى مسكنها طائر سقط، ولا يمر حيوان بقربها إلا هلك. وتقتل بصفيرها على غلوة سهم، ومن وقع عليه بصرها ولو من بعد مات، ومن نهشته مات في الحال، وضربها فارس برمحه فمات هو وفرسه. وهي كثيرة ببلاد الترك ومنها ذو الطفيتين والأبتر. وفي الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (1): «اقتلوهما فإنهما يلتمسان البصر ويسقطان الحبالى». قال الزهري: ونرى ذلك من سمها. وسيأتي بيان هذا الحديث في باب الطاء إن شاء الله تعالى. ومنها الناظر متى وقع نظره على إنسان مات الإنسان من ساعته. ومنها نوع آخر إذا سمع الإنسان صوته مات.
ومن أسماء الحية العيم والعين والصم والأزعر والأبتر والناشر والأين والأرقم والأصلة والجان والثعبان والشجاع والأزب والأفعى والأفعوان وهو الذكر من الأفاعي كما تقدم والأرقش والأرقط والصل وذو الطفيتين والعربد. قال ابن الأثير: ويقال للحية أبو البخترى وأبو الربيع وأبو عثمان وأبو العاصي وأبو مذعور وأبو وثاب وأبو يقظان وأم طبق وأم عافية وأم عثمان وأم الفتح وأم محبوب وبنات طبق والحية الصماء وهي الشديد الشر قال عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنه:
إذا تخازرت وما بي من خزر ... ثم كسرت الطّرف من غير حور (2)
... ألفيتني ألوي بعيد المستمر ... أحمل ما حملت من خير وشر
كالحية الصّماء في أصل الشجر
والصّمة الذكر من الحيات وجعه صمم، وبه سمي والد دريد بن الصمة. وزعم أهل الكلام في طبائع الحيوان، أن الحية تعيش ألف سنة، وهي في كل سنة تسلخ جلدها، وتبيض ثلاثين بيضة على عدد أضلاعها، فيجتمع عليها النمل فيفسد غالب بيضها، ولا يصلح منه إلا القليل، وإن لدغها العقرب ماتت. ومن أنواعها: الحريش وقد تقدم ذكره وشرها الأفاعي ومسكنها الرمال. وبيض الحيات مستطيل وهو كدر اللون وأخضر وأسود وأبيض وأرقط، وفي
__________
(1) رواه البخاري في بدء الخلق: 14. ومسلم في السلام: 129128. وأبو داود في الأدب: 163. والترمذي صيد: 15، وابن حنبل: 6452312192/ 157.
(2) الخزر: كسر العين، أو ضيقها.(2/389)
بيضة نمش ولمع والسبب في اختلاف ذلك لا يعرف، وداخله شيء كالصديد، وهو في جوفها منضد طولا على خط واحد، وليس للحيات سفاد يعرف، وإنما هو التواء بعضها على بعض ولسانها مشقوق فيظن بعض الناس أن لها لسانين. وتوصف بالنهم والشره، لأنها تبتلع الفراخ من غير مضغ كما يفعل الأسد، ومن شأنها أنها إذا ابتلعت شيئا له عظم أتت شجرة أو نحوها، فتلتوي عليها التواء شديدا حتى يتكسر ذلك في جوفها. ومن عادتها أنها إذا نهشت انقلبت، فيتوهم بعض الناس أنها فعلت ذلك لتفرغ سمها، وليس كذلك. ومن شأنها أنها إذا لم تجد طعاما عاشت بالنسيم، وتقتات به الزمن الطويل، وتبلغ الجهد من الجوع فلا تأكل إلا لحم الشيء الحي وهي إذا كبرت، صغر جسمها واقتنعت بالنسيم، ولم تشته الطعام. ومن غريب أمرها، أنها لا تريد الماء ولا ترده إلا أنها لا تضبط نفسها عن الشرب، إذا شمته لما في طبعها من الشوق إليه فهي إذا وجدته شربت منه حتى تسكر. وربما كان السكر سبب هلاكها. والذكر لا يقيم بموضع واحد وإنما تقيم الأنثى على بيضها حتى تخرج فراخها، وتقوى على الكسب، ثم تخرج هي سائرة، فإن وجدت حجرا انسابت فيه، وعينها لا تدور في رأسها، بل كأنها مسمار مضروب في رأسها، وكذلك عين الجراد، وإذا قلعت عادت، وكذلك نابها إذا قلع عاد بعد ثلاثة أيام، وكذلك ذنبها إذا قطع نبت. ومن عجيب أمرها أنها تهرب من الرجل العريان وتفرح بالنار وتطلبها، وتتعجب من أمرها، وتحب اللبن حبا شديدا. وإذا ضربت بسوط مسه عرق الخيل، ماتت وتذبح فتبقى أياما لا تموت وقد تقدم أنها إذا عميت، أو خرجت من تحت الأرض، لا تبصر طلبت الرازيانج (1)
الأخضر، فتحك به بصرها فتبصر، فسبحان من قدر فهدى، قدر عليها العمى وهداها إلى ما يزيله عنها، وليس شيء في الأرض مثل الحية إلا وجسم الحية أقوى منه، ولذلك إذا أدخلت صدرها في حجر أو صدع لم يستطع أقوى الناس إخراجها منه، وربما تقطعت ولا تخرج وليس لها قوائم، ولا أظفار تشبث بها وإنما قوي ظهرها، هذه القوة لكثرة أضلاعها، فإن لها ثلاثين ضلعا وإذا مشت مشت على بطنها، فتتدافع أجزاؤها وتسعى بذلك الدفع الشديد، والحيات في أصل الطبع مائية وتعيش في البحر، بعد أن كانت برية، وفي البر بعد أن كان بحرية. قال الجاحظ:
الحيات ثلاثة أنواع: نوع منها لا ينفع للسعته ترياق، ولا غيره كالثعبان، والأفعى والحية الهندية، ونوع منها ينفع في لسعته الدرياق وما كان سواهما مما يقتل فإنما يقتل بواسطة الفزع، كما حكي أن شخصا نام تحت شجرة، فتدلت عليه حية فعضت رأسه، فانتبه محمر الوجه، وحك رأسه وتلفت فلم ير أحدا فلم يرتب بشيء، ووضع رأسه ونام، فلما كان بعد ذلك بمدة، قال له بعض من رآها: هل علمت مم كان انتباهك تحت الشجرة؟ قال: لا، والله ما علمت. قال: إنما كان من حية تدلت عليك فعضت رأسك فلما قمت فزعا تقلصت ففزع فزعة فاضت فيها نفسه.
قال: فهم بزعمون أن الفزع هو الذي هيج السم وفتح مسام البدن، حتى مشى السم فيه انتهى.
فائدة
: في النصائح لابن ظفران خالد بن الوليد رضي الله تعالى عنه، لما تحصن منه أهل الحيرة بالقصر الأبيض وغيره من حصونهم، نزل بالنجف وأرسل إليهم: إن ابعثوا إلي رجلا من عقلائكم، فأرسلوا إليه عبد المسيح بن عمرو بن قيس بن حيان بن نفيلة الغساني وكان من
__________
(1) الرازيانج: ضرب من النبات.(2/390)
المعمرين، عمر أكثر من ثلاثمائة وخمسين سنة، فقاوله المقاولة المشهورة، وكان في يد عبد المسيح قارورة يقلبها، فقال له خالد: ما الذي في هذه القارورة؟ قال سم ساعة. قال: ما تصنع به؟
قال: إن وجدت عندك ما أحبه لقومي وأهل بلدي حمدت الله وقبلته، وإن لم أجد ذلك شربته وقتلت نفسي به. ولم أرجع إلى قومي بما يسوؤهم. فقال خالد رضي الله عنه: هاتها فناوله القارورة فأفرغها خالد في راحته وقال: بسم الله الرحمن الرحيم بسم الله وبالله بسم الله رب الأرض والسماء بسم الله الذي لا يضر مع اسمه شيء في الأرض ولا في السماء وهو السميع العليم. ثم شربه، ويقال: إنه شرب عليه ماء، فضرب بذقنه على صدره، وغشيه عرق ثم سري عنه، فانصرف عبد المسيح إلى قومه، وكانوا نصارى نسطورية، إلا أنهم عرب، فقال لهم:
جئتكم من عند رجل شرب سم ساعة فلم يضره فاعطوه ما سألكم، وأخرجوه من أرضكم راضيا، فهؤلاء قوم مصنوع لهم، وسيكون لهم شأن عظيم. فصالحوه على ثمانين ألف درهم فضة انتهى.
وقال بعضهم: إن سم ساعة لا يكون إلا من الحية الهندية، ولا ينفع فيها درياق ولا غيره وفي الناصح أيضا: أن أمة لأبي الدرداء رضي الله تعالى عنه، قالت له: من أي جنس أنت؟ قال: أنا آدمي مثلك. قالت: كيف تكون آدميا. وقد أطعمتك السم أربعين يوما فما ضرك؟ فقال لها: أما علمت أن الذاكرين الله تعالى لا يضرهم شيء وإني كنت أذكر الله باسمه الأعظم. قالت: وما هو؟ قال بسم الله الذي لا يضر مع اسمه شيء في الأرض وفي السماء وهو السميع العليم. ثم قال: ما الذي حملك على ذلك؟ قالت: بغضك. قال: أنت حرة لوجه الله تعالى وأنت في حل مما صنعت انتهى.
عجيبة:
ذكر القرطبي، في تفسير سورة غافر، عن ثور بن يزيد عن خالد بن معدان عن كعب الأحبار، أنه قال: لما خلق الله تعالى العرش، قال: لم يخلق الله تعالى خلقا أعظم مني واهتز تعاظما، فطوّقه الله تعالى بحية لها سبعون ألف جناح، في كل جناح سبعون ألف ريشة، في كل ريشة سبعون ألف وجه، في كل وجه سبعون ألف فم، في كل فم سبعون ألف لسان. يخرج من أفواهها كل يوم من التسبيح عدد قطر المطر، وعدد ورق الشجر، وعدد الحصى والثرى، وعدد أيام الدنيا، وعدد الملائكة أجمعين، فالتوت الحية على العرش، فالعرش إلى نصف الحية وهي ملتوية عليه، فتواضع عند ذلك انتهى. وروي أن الرشيد نام ليلة فسمع قائلا يقول:
يا راقد الليل انتبه ... إن الخطوب لها سرى ... ثقة الفتى من نفسه ... ثقة محللة العرا
فاستيقظ فوجد المصابيح قد طفئت فأمر بالشموع فأوقدت، ونظر فإذا حية بقرب فراشه فقتلها.
غريبة:
ذكر الإمام أبو الفرج بن الجوزي رحمه الله تعالى، في الأذكياء عن بشر بن الفضل قال: خرجنا حجاجا فمررنا بماء من مياه العرب، فوصف لنا فيه ثلاث جوار أخوات بارعات في الجمال، وإنّهن يطببن ويعالجن، فأحببنا أن نراهن، فعمدنا إلى صاحب لنا، فحككنا ساقه بعود حتى أدميناه، ثم حملناه وأتينا به إليهن، فقلنا: هذا سليم فهل من راق؟ فخرجت إلينا الأخت
الصغرى، فإذا جارية كالشمس الطالعة، فجاءت حتى وقفت عليه، ونظرته فقالت: ليس بسليم. قلنا: وكيف ذلك؟ قالت: إنه خدشه عود بالت عليه حية ذكر، والدليل على ذلك أنه إذا طلعت عليه الشمس مات قال: فلما طلعت الشمس مات. فعجبنا من ذلك وانصرفنا. وفيه أيضا في أواخره أن عيسى عليه الصلاة والسلام مر بحاو يطارد حية، فقالت له الحية: يا روح الله قل له لئن لم يلتفت عني لأضربنه ضربة أقطعه قطعا! فمر عيسى عليه الصلاة والسلام ثم عاد فإذا الحية في سلة الحاوي. فقال لها عيسى عليه السلام: ألست القائلة كذا وكذا؟ فكيف صرت معه؟(2/391)
ذكر الإمام أبو الفرج بن الجوزي رحمه الله تعالى، في الأذكياء عن بشر بن الفضل قال: خرجنا حجاجا فمررنا بماء من مياه العرب، فوصف لنا فيه ثلاث جوار أخوات بارعات في الجمال، وإنّهن يطببن ويعالجن، فأحببنا أن نراهن، فعمدنا إلى صاحب لنا، فحككنا ساقه بعود حتى أدميناه، ثم حملناه وأتينا به إليهن، فقلنا: هذا سليم فهل من راق؟ فخرجت إلينا الأخت
الصغرى، فإذا جارية كالشمس الطالعة، فجاءت حتى وقفت عليه، ونظرته فقالت: ليس بسليم. قلنا: وكيف ذلك؟ قالت: إنه خدشه عود بالت عليه حية ذكر، والدليل على ذلك أنه إذا طلعت عليه الشمس مات قال: فلما طلعت الشمس مات. فعجبنا من ذلك وانصرفنا. وفيه أيضا في أواخره أن عيسى عليه الصلاة والسلام مر بحاو يطارد حية، فقالت له الحية: يا روح الله قل له لئن لم يلتفت عني لأضربنه ضربة أقطعه قطعا! فمر عيسى عليه الصلاة والسلام ثم عاد فإذا الحية في سلة الحاوي. فقال لها عيسى عليه السلام: ألست القائلة كذا وكذا؟ فكيف صرت معه؟
فقالت: يا روح الله إنه قد حلف لي والآن غدر بي، فسم غدره أضر عليه من سمّي.
وفي عجائب المخلوقات للقزويني، أن الريحان الفارسي لم يكن قبل كسرى أنو شروان، وإنما وجد في زمانه وسببه أنه كان ذات يوم جالسا للمظالم، إذا أقبلت حية عظيمة تنساب تحت سريره، فهموا بقتلها فقال كسرى: كفوا عنها فإني أظنها مظلومة، فمرت تنساب فأتبعها كسرى بعض أساورته، فلم تزل سائرة، حتى استدارت على فوهة بئر، فنزلت فيها، ثم أقبلت تتطلع فنظر الرجل فإذا في قعر البئر حية مقتولة، وهي على متنها عقرب أسود، فأدلى رمحه إلى العقرب ونخسه به وأتى إلى الملك فأخبره بحال الحية، فلما كان في العام القابل أتت تلك الحية في اليوم الذي كان كسرى جالسا فيه للمظالم، وجعلت تنساب حتى وقفت بين يديه، ونفضت من فيها بزرا أسود فأمر به الملك أن يزرع فنبت منه الريحان. وكان الملك كثير الزكام وأوجاع الدماغ فاستعمل منه فنفعه جدا.
فائدة أخرى:
في حلية الأولياء للحافظ العلامة أبي نعيم رحمه الله تعالى، في ترجمة سفيان بن عيينة، عن يحيى بن عبد الحميد قال: كنت في مجلس سفيان بن عيينة، وقد اجتمع عنده ألف إنسان أو يزيدون أو ينقصون، فالتفت في آخر مجلسه إلى رجل كان عن يمينه، وقال:
قم حدث الناس بحديث الحية، فقال الرجل: اسندوني فأسندناه فشال جفونه عن عينه، ثم قال: ألا فاستمعوا وعوا حدثني أبي عن جدي أن رجلا كان يعرف بابن الحمير، وكان له ورع وكان يصوم النهار ويقوم الليل، وكان مبتلى بالقنص، فخرج يوما يتصيد، فبينما هو سائر إذ عرضت له حية، فقالت يا محمد بن حمير أجرني أجارك الله، فقال لها: ممن؟ قالت من عدو قد ظلمني. قال لها: وأين عدوك؟ قالت له: من ورائي. قال لها: من أي أمة أنت؟ قالت: من أمة محمد صلى الله عليه وسلم.
قال: ففتحت لها ردائي وقلت لها ادخلي فيه. قالت: يراني عدوي. قال: فبسطت لها طمري وقلت لها: ادخلي بين طمري وبطني. قالت: يراني عدوي. قلت لها: فما الذي أصنع بك؟
قالت: إن أردت اصطناع المعروف، فافتح لي فاك حتى أنساب فيه. قلت: أخشى أن تقتليني.
فقالت: لا والله ما أقتلك، والله شاهد علي بذلك وملائكته وأنبياؤه وحملة عرشه وسكان سمواته أن لا أقلتك. قال: ففتحت لها فمي فانسابت فيه، ثم مضيت فعارضني رجل معه صمصامة فقال: يا محمد فقلت له: ما تشاء؟ قال: هل لقيت عدوي؟ قلت: ومن عدوك؟ قال: حية.
قلت: اللهم لا. واستغفرت ربي مائة مرة من قولي لا، لعلمي أين هي. ثم مضيت قليلا، فإذا بها قد أخرجت رأسها من فمي وقالت: انظر هل مضى هذا العدو؟ فالتفت فلم أر أحدا،
فقلت: لم أر أحدا فإن أردت الخروج فاخرجي. فقالت: الآن يا محمد اختر لنفسك واحدة من اثنتين: إما أن افتت كبدك وإما أن أنفث في فؤادك فأدعك بلا روح! فقلت: يا سبحان الله أين العهد الذي عهدت إلي، واليمين الذي حلفت لي، ما أسرع ما نسيته وخنت؟ فقالت: يا محمد ما رأيت أحمق منك إذ نسيت العداوة التي كانت بيني وبين أبيك آدم، حيث أخرجته من الجنة، فليت شعري ما الذي حملك على اصطناع المعروف مع غير أهله؟ قال: فقلت لها: ولا بد لك من قتلي؟ قالت: لا بد من ذلك. قال: فقلت لها: أمهليني حتى أصير تحت هذا الجبل، فأمهد لنفسي موضعا. قالت: شأنك وما تريد. قال محمد: فمضيت أريد الجبل، وقد أيست من الحياة، فرفعت طرفي إلى السماء، وقلت: يا لطيف الطف بي بلطفك الخفي، يا لطيف يا قدير أسألك بالقدرة التي استويت بها على العرش، فلم يعلم العرش أين مستقرك منه، يا حليم يا عليم يا عظيم يا حي يا قيوم يا ألله ألا ما كفيتني شر هذه الحية. ثم مشيت فعارضني رجل صبيح الوجه طيب الرائحة تقي الثوب فقال لي: سلام عليك فقلت: وعليك السلام يا أخي. فقال: ما لي أراك قد تغير لونك واضطرب كونك؟ فقلت: من عدو قد ظلمني قال لي: وأين عدوك؟ قلت: في جوفي. قال: فافتح فاك، ففتحته فوضع فيه مثل ورقة زيتون خضراء، ثم قال: امضغ وابلع فمضغت وبلعت. قال محمد: فلم ألبث إلا قليلا حتى مغصني بطني ودارت الحية في بطني فرميت بها من أسفل قطعا قطعا، وذهب عني ما كنت أجده من الخوف، فتعلقت بالرجل، فقلت: يا أخي من أنت الذي منّ الله علي بك؟ فضحك ثم قال: أما تعرفني قلت: اللهم لا. قال: يا محمد بن حمير إنه لما كان بينك وبين هذه الحية ما كان، ودعوت الله بهذا الدعاء، ضجت ملائكة السموات السبع إلى الله عزّ وجلّ فقال الله تبارك وتعالى وعزتي وجلالي بعيني كل ما فعلت الحية بعبدي، وأمرني سبحانه وتعالى أن انطلق إلى الجنة، وخذ ورقة خضراء من شجرة طوبى والحق بها عبدي محمد بن حمير، وأنا يقال لي المعروف ومستقري في السماء الرابعة، ثم قال: يا محمد بن حمير عليك باصطناع المعروف فإنه يقي مصارع السوء، وإنه وإن ضيعه المصطنع إليه لم يضع عند الله تعالى.(2/392)
قلت: اللهم لا. واستغفرت ربي مائة مرة من قولي لا، لعلمي أين هي. ثم مضيت قليلا، فإذا بها قد أخرجت رأسها من فمي وقالت: انظر هل مضى هذا العدو؟ فالتفت فلم أر أحدا،
فقلت: لم أر أحدا فإن أردت الخروج فاخرجي. فقالت: الآن يا محمد اختر لنفسك واحدة من اثنتين: إما أن افتت كبدك وإما أن أنفث في فؤادك فأدعك بلا روح! فقلت: يا سبحان الله أين العهد الذي عهدت إلي، واليمين الذي حلفت لي، ما أسرع ما نسيته وخنت؟ فقالت: يا محمد ما رأيت أحمق منك إذ نسيت العداوة التي كانت بيني وبين أبيك آدم، حيث أخرجته من الجنة، فليت شعري ما الذي حملك على اصطناع المعروف مع غير أهله؟ قال: فقلت لها: ولا بد لك من قتلي؟ قالت: لا بد من ذلك. قال: فقلت لها: أمهليني حتى أصير تحت هذا الجبل، فأمهد لنفسي موضعا. قالت: شأنك وما تريد. قال محمد: فمضيت أريد الجبل، وقد أيست من الحياة، فرفعت طرفي إلى السماء، وقلت: يا لطيف الطف بي بلطفك الخفي، يا لطيف يا قدير أسألك بالقدرة التي استويت بها على العرش، فلم يعلم العرش أين مستقرك منه، يا حليم يا عليم يا عظيم يا حي يا قيوم يا ألله ألا ما كفيتني شر هذه الحية. ثم مشيت فعارضني رجل صبيح الوجه طيب الرائحة تقي الثوب فقال لي: سلام عليك فقلت: وعليك السلام يا أخي. فقال: ما لي أراك قد تغير لونك واضطرب كونك؟ فقلت: من عدو قد ظلمني قال لي: وأين عدوك؟ قلت: في جوفي. قال: فافتح فاك، ففتحته فوضع فيه مثل ورقة زيتون خضراء، ثم قال: امضغ وابلع فمضغت وبلعت. قال محمد: فلم ألبث إلا قليلا حتى مغصني بطني ودارت الحية في بطني فرميت بها من أسفل قطعا قطعا، وذهب عني ما كنت أجده من الخوف، فتعلقت بالرجل، فقلت: يا أخي من أنت الذي منّ الله علي بك؟ فضحك ثم قال: أما تعرفني قلت: اللهم لا. قال: يا محمد بن حمير إنه لما كان بينك وبين هذه الحية ما كان، ودعوت الله بهذا الدعاء، ضجت ملائكة السموات السبع إلى الله عزّ وجلّ فقال الله تبارك وتعالى وعزتي وجلالي بعيني كل ما فعلت الحية بعبدي، وأمرني سبحانه وتعالى أن انطلق إلى الجنة، وخذ ورقة خضراء من شجرة طوبى والحق بها عبدي محمد بن حمير، وأنا يقال لي المعروف ومستقري في السماء الرابعة، ثم قال: يا محمد بن حمير عليك باصطناع المعروف فإنه يقي مصارع السوء، وإنه وإن ضيعه المصطنع إليه لم يضع عند الله تعالى.
فائدة أخرى:
روى الحاكم وصححه عن أبي اليسر رضي الله تعالى عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يدعو: «اللهم إني أعوذ بك من الهدم والتردي، وأعوذ بك من الحرق والغرق، وأعوذ بك من أن يتخبطني الشيطان عند الموت، وأعوذ بك أن أموت في سبيلك مدبرا وأعوذ بك أن أموت (1)
لديغا». قال الجاحظ: وتأويل هذا عند العلماء، أنه لا يتفق للإنسان أن يكون موته بهذا العدو إلا وهو من أعداء الله تعالى، بل من أشدهم عداوة، فكان عليه الصلاة والسلام يتعوذ منه لذلك.
فائدة أخرى:
يقال: لسعته الحية والعقرب تلسعه لسعا فهو ملسوع. قال بعض العلماء المتقدمين: من قال في أول الليل وأول النهار: عقدت لسان الحية وزبان العقرب ويد السارق بقول: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله، أمن من الحية والعقرب والسارق، ومن الفوائد المجربة النافعة، أن يسأل الراقي الملدوغ إلى أين انتهى الوجع في العضو؟ ثم يضع
__________
(1) رواه أبو داود في الوتر: 32. والنسائي في الاستعاذة: 61. ابن حنبل: 2/ 256.(2/393)
على أعلاه حديدة ويقرأ العزيمة ويكررها، وهو يجرد موضع الألم بالحديدة حتى ينتهي في جرد السم إلى أسفل الوجع، فإذا اجتمع في أسفله، جعل يمص ذلك الموضع حتى يذهب جميع الألم ولا اعتبار بفتور العضو بعد ذلك. وهي هذه: سلام على نوح في العالمين، وعلى محمد في المرسلين، من حاملات السم أجمعين، لا دابة بين السماء والأرض إلا وربي آخذ بناصيتها أجمعين، كذلك يجزي عباده المحسنين، إن ربي على صراط مستقيم نوح نوح نوح. قال لكم نوح: من ذكرني فلا تلدغوه إن ربي بكل شيء عليم، وصلّى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم. ورأيت بخط بعض المحققين، من العلماء، أن يوقف الملسوع أو رسوله، أو المكلوب أو شارب السم قائما ثم يخط دور قدميه، يبدأ بالخط من إبهام الرجل اليمنى حتى ترجع إليها ثم يخط بين قدميه خطا ويكون ذلك بسكين فولاذ، ثم يأخذ من تحت مشط رجله اليمنى، ومن تحت كعبه الأيسر ترابا، ويرميه في إناء نظيف، ويسكب عليه ماء، ثم يأخذ السكين ويوقفها في وسط إناء آخر، ويكون رأس السكين إلى فوق، ويسكب الماء الذي في الإناء على السكين التي في الإناء الثاني، ويرقي بهذه الرقية، ويكون فراغ الماء مع فراغ الرقية، ثم يجعل النصاب إلى فوق، ويسكب الماء كأول مرة، ثم يجعل رأسها إلى فوق أيضا، ويفعل كأول مرة. ثم يسقي الملسوع أو رسوله أو المكلوب أو شارب السم. وهي: سارا سارا في سارا عاتي نور نور نور أنا وأرميا فاه يا طورا كاطوا برملس أوزانا أو صنانيما كاما يوقا بانيا ساتيا كاطوط اصبأوتا ابريلس توتي تنا أوس. فإنه يبرأ بإذن الله تعالى كما جرب مرارا وما أحسن قول القائل:
قالوا: حبيبك ملسوع فقلت لهم: ... من عقرب الصدغ أو من حية الشعر ... قالوا: بلى أفاعي الأرض قلت لهم: ... وكيف تسعى أفاعي الأرض للقمر
ولجمال الملك بن أفلح:
وقالوا يصير الشعر في الماء حية ... إذا الشمس حاذته فما خلته صدقا ... فلما التوى صدغاه في ماء وجهه ... وقد لسعا قلبي تيقنته حقا
غريبة أخرى:
ذكر المسعودي عن الزبير بن بكار أن أخوين في الجاهلية خرجا مسافرين، فنزلا في ظل شجرة بجنب صفاة، فلما دنا الرواح، خرجت لهما من تحت الصفاة حية تحمل دينارا فألقته إليهما فقالا: إن هذا لمن كنز هنا فأقاما ثلاثة أيام، وهي في كل يوم تخرج لهما دينارا فقال أحدهما للآخر: إلى متى ننتظر هذه الحية؟ ألا نقتلها ونحفر عن هذا الكنز فنأخذه؟ فنهاه أخوه وقال له: ما تدري لعلك تعطب ولا تدرك المال، فأبى عليه وأخذ فأسا ورصد الحية حين خرجت فضربها ضربة جرح رأسها ولم يقتلها، فبادرت إليه الحية فقتلته، ورجعت إلى جحرها فدفنه أخوه، وأقام حتى إذا كان الغد، خرجت الحية معصوبا رأسها وليس معها شيء فقال: يا هذه والله إني ما رضيت ما أصابك ولقد نهيت أخي عن ذلك فلم يقبل، فهل لك أن نجعل الله بيننا على أن لا تضريني ولا أضرك، وترجعين إلى ما كنت عليه أولا؟ فقالت الحية: لا. قال: ولم؟ قالت:
لأني أعلم أن نفسك لا تطيب لي أبدا وأنت ترى قبر أخيك، ونفسي لا تطيب لك أبدا وأنا أذكر هذه الشجة. ثم أنشد أبيات النابغة الجعدي التي يقول فيها:
وما لقيت ذات الصفا من حليفها ... وكانت تريه المال رعبا وظاهره(2/394)
غريبة أخرى:
في رحلة ابن الصلاح، وتاريخ ابن النجار، في ترجمة يوسف بن علي بن محمد الزنجاني الفقيه الشافعي قال: حدثنا الشيخ أبو إسحاق الشيرازي رحمه الله، عن القاضي الإمام أبي الطيب أنه قال: كنا في حلقة النظر بجامع المنصور ببغداد فجاء شاب خراساني يسأل عن مسألة المصراة، ويطالب بالدليل فاحتج المستدل بحديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، الثابت في الصحيحين وغيرهما، فقال الشاب، وكان حنفيا: أبو هريرة غير مقبول الحديث، قال القاضي: فما استتم كلامه حتى سقطت عليه حية عظيمة من سقف الجامع، فهرب الناس وتبعت الشاب دون غيره فقيل له: تب تب فقال: تبت فغابت الحية ولم يبق لها أثر. قال ابن الصلاح:
هذا إسناد ثابت، فيه ثلاثة من صالحي أئمة المسلمين القاضي أبو الطيب الطبري، وتلميذه أبو إسحاق وتلميذه أبو القاسم الزنجاني. ويقرب من هذا ما رواه أبو اليمن الكندي، قال:
حدثنا عبيد الله بن محمد بن حمدان، قال: حدثنا أبو بكر محمد بن القاسم النحوي، قال: أخبرنا الكريمي، قال: حدثنا يزيد بن قرة الدراع، يرفعه إلى عمر بن حبيب، قال: حضرت مجلس الرشيد فجرت مسألة المصراة فتنازع الخصوم فيها وعلت أصواتهم فاحتج بعضهم بالحديث الذي رواه أبو هريرة رضي الله تعالى عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، فرد بعضهم الحديث، وقال: أبو هريرة متهم فيما يرويه، ونحا نحوه الرشيد ونصر قوله. فقلت: أما الحديث فصحيح وأبو هريرة رضي الله تعالى عنه صحيح النقل فيما يرويه عن النبي صلى الله عليه وسلم، فنظر إلى الرشيد نظر مغضب، فقمت من المجلس إلى منزلي فلم يستقر بي الجلوس حتى قيل: صاحب الشرطة بالباب. فدخل إلى فقال: أجب أمير المؤمنين إجابة مقتول وتحنط وتكفن. فقلت: اللهم إنك تعلم أني قد دافعت عن صاحب نبيك محمد صلى الله عليه وسلم، وأجللت نبيك أن يطعن على أصحابه، فسلمني منه. قال فأدخلت على الرشيد فإذا هو جالس على كرسي من ذهب حاسر عن ذراعيه وبيده السيف، وبين يده النطع، فلما رآني قال: يا ابن حبيب ما تلقاني أحد بالرد ودفع قولي مثل ما تلقيتني به! فقلت: يا أمير المؤمنين إن الذي حاولت عليه فيه إزراء على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلى ما جاء به. فقال: كيف ويحك؟ قلت:
لأنه إذا كان أصحابه كذابين، فالشريعة باطلة والفرائض والأحكام من الصلاة والصيام والحج والنكاح والطلاق والحدود، كلها مردودة غير مقبولة لأنهم رواتها، ولا تعرف إلا بواسطتهم، فرجع الرشيد إلى نفسه، وقال: الآن أحييتني يا ابن حبيب أحياك الله ثم أمر لي بعشرة آلاف درهم.
ويقرب من هذه القصة ما سيأتي إن شاء الله تعالى في باب القاف في الكلام على لفظ القرد في الرجل الذي رد على معاوية بن أبي سفيان رضي الله تعالى عنهما وهو على المنبر.
تتمة:
قال طارق بن شهاب الزهري: كان عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه، قد قضى في ميراث الجد مع الإخوة في قضايا مختلفة، ثم إنه جمع الصحابة رضي الله تعالى عنهم، وأخذ كتفا ليكتب فيه، وهم يرون أنه يجعله أبا، فخرجت حية فتفرقوا، فقال: لو أراد الله تعالى أن يمضيه لأمضاه، ثم إنه أتى منزل زيد بن ثابت رضي الله تعالى عنه، فاستأذن عليه ورأسه في يد جارية له ترجله فنزع رأسه، فقال له عمر رضي الله تعالى عنه: دعها ترجلك. فقال زيد: يا أمير المؤمنين لو أرسلت إلي جئتك؟ فقال عمر: إنما الحاجة لي إني جئتك في أمر الجد وأريد أن أجعله
أبا، فقال له زيد: لا أوافقك على أن تجعله أبا. فخرج عمر رضي الله تعالى عنه مغضبا، ثم أرسل إليه في وقت آخر، فكتب إليه زيد رضي الله تعالى عنه مذهبه فيه، في قطعة قتب وضرب له مثلا بشجرة نبتت على ساق واحد، فخرج منها غصن ثم خرج من الغصن غصن آخر، فالساق يسقي الغصن فإن قطع الغصن الأول رجع الماء إلى الغصن الثاني، وإن قطع الغصن الثاني رجع الماء إلى الغصن الأول. فلما أتى عمر رضي الله تعالى عنه كتاب زيد، خطب الناس ثم قرأ قطعة القتب عليهم، ثم قال: إن زيدا قد قال في الجد قولا وقد أمضيته.(2/395)
قال طارق بن شهاب الزهري: كان عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه، قد قضى في ميراث الجد مع الإخوة في قضايا مختلفة، ثم إنه جمع الصحابة رضي الله تعالى عنهم، وأخذ كتفا ليكتب فيه، وهم يرون أنه يجعله أبا، فخرجت حية فتفرقوا، فقال: لو أراد الله تعالى أن يمضيه لأمضاه، ثم إنه أتى منزل زيد بن ثابت رضي الله تعالى عنه، فاستأذن عليه ورأسه في يد جارية له ترجله فنزع رأسه، فقال له عمر رضي الله تعالى عنه: دعها ترجلك. فقال زيد: يا أمير المؤمنين لو أرسلت إلي جئتك؟ فقال عمر: إنما الحاجة لي إني جئتك في أمر الجد وأريد أن أجعله
أبا، فقال له زيد: لا أوافقك على أن تجعله أبا. فخرج عمر رضي الله تعالى عنه مغضبا، ثم أرسل إليه في وقت آخر، فكتب إليه زيد رضي الله تعالى عنه مذهبه فيه، في قطعة قتب وضرب له مثلا بشجرة نبتت على ساق واحد، فخرج منها غصن ثم خرج من الغصن غصن آخر، فالساق يسقي الغصن فإن قطع الغصن الأول رجع الماء إلى الغصن الثاني، وإن قطع الغصن الثاني رجع الماء إلى الغصن الأول. فلما أتى عمر رضي الله تعالى عنه كتاب زيد، خطب الناس ثم قرأ قطعة القتب عليهم، ثم قال: إن زيدا قد قال في الجد قولا وقد أمضيته.
تذنيب:
روى الإمام الحافظ أبو عمر بن عبد البر وغيره أن أبا خراش الهذلي الشاعر، واسمه خويلد بن مرة مات في زمن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه من نهش حية، وكان ممن يعدو على قدميه، فيسبق الخيل، وهو القائل:
رقوني وقالوا يا خويلد لا ترع ... فقلت وأنكرت الوجوه هم هم
وكان ممن أسلم وحسن إسلامه. وكان سبب موته أنه أتاه نفر من اليمن قدموا حجاجا فنزلوا به، وكان الماء بعيدا عنهم. فقال لهم: يا بني ما أمسى عندنا ماء، ولكن هذه برمة وقربة وشاة فردوا الماء وكلوا شاتكم ثم دعوا قربتنا وبرمتنا عند الماء حتى نأخذهما فقالوا: لا والله ما نحن بسارين ليلتنا هذه. فلما رأى ذلك أبو خراش أخذ قربته وسعى نحو الماء، تحت الليل، حتى استقى، ثم أقبل صادرا، فنهشته حية قبل أن يصل إليهم، فأقبل مسرعا حتى أعطاهم الماء وقال:
اطبخوا شاتكم وكلوا، ولم يعلمهم بما أصابه، فباتوا يأكلون حتى أصبحوا، وأصبح أبو خراش في الموت، فلم يبرحوا حتى دفنوه. فلما بلغ عمر رضي الله تعالى عنه خبره غضب غضبا شديدا وقال:
لولا أن تكون سنة لأمرت أن لا يضاف يماني أبدا، ولكتبت بذلك إلى الآفاق. ثم كتب إلى عامله باليمن أن يأخذ النفر الذين نزلوا بأبي خراش، فيغرمهم ديته ويؤدبهم بعد ذلك بعقوبة جزاء لفعلهم.
غريبة أخرى:
ذكر القاضي الإمام شمس الدين أحمد بن خلكان في وفيات الأعيان في ترجمة (1) عماد الدولة أبي الحسن علي بن بويه، وكان أبوه صيادا: ليست له معيشة إلا صيد السمك، وكان له ثلاثة أولاد: عماد الدولة أكبرهم، ثم ركن الدولة الحسن، ثم معز الدولة.
والجميع ملكوا وكان عماد الدولة سبب سعادتهم وانتشار صيتهم فإنهم ملكوا العراقين والأهواز وفارس، وساسوا أمور الرعية أحسن سياسة. قال: ومن عجيب ما اتفق لعماد الدولة، أنه لما ملك شيراز في أول ملكه، اجتمع أصحابه وطالبوه بالأموال، ولم يكن عنده ما يرضيهم به، فأشرف أمره على الانحلال، فاغتم لذلك، فبينما هو مفكر وقد استلقى على ظهره في مجلس قد خلا فيه للتفكير والتدبير، إذ رأى حية خرجت من موضع من سقف ذلك المجلس، ودخلت في موضع آخر منه فخاف أن تسقط عليه فدعا بالفراشين وأمرهم بإحضار سلم وأن يخرجوا الحية، فلما صعدوا وبحثوا عنها، وجدوا ذلك السقف يفضي إلى غرفة بين سقفين، فعرفوه بذلك فأمرهم بفتحها ففتحت، فإذا فيها صناديق فيها خمسمائة ألف دينار، فحمل ذلك بين يديه فقسمه على
__________
(1) وفيات الأعيان: 4/ 50.(2/396)
رجاله، فثبت أمره بعد أن كان قد أشفى على الانحلال والانخرام. ثم إنه جهز ثيابا وسأل عن خياط حاذق، فوصف له خياط كان لصاحب البلد قبله، فأمر بإحضاره وكان أطروشا، وكان عنده وديعة لصاحب البلد، فوقع في نفسه أنه سعى به إليه، وأنه طلب بسبب الوديعة، فلما خاطبه حلف أنه لم يكن عنده سوى أثني عشر صندوقا لا يدري ما فيها، فتعجب عماد الدولة من جوابه ووجه معه من يحمل الصناديق، فوجد فيها أموالا وثيابا تجمل كثيرة، فكانت هذه الأسباب من أقوى دلائل سعادته، توفي عماد الدولة سنة ثمان وثلاثين وثلاثمائة ولم يعقب.
الحكم:
يحرم أكل الحيات لضررها. وكذا يحرم أكل الترياق المعمول من لحومها. وقال البيهقي: كره أكله ابن سيرين، قال أحمد: ولهذا كرهه الإمام الشافعي، فقال: لا يجوز أكل الترياق المعمول من لحم الحيات، إلا أن يكون بحال الضرورة، بحيث يجوز له أكل الميتة وأما السمك الذي في البحر على شكلها فحلال، كما تقدم. وأمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتل الحيات أمر ندب.
روى البخاري ومسلم والنسائي عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في غار بمنى، وقد أنزلت عليه والمرسلات عرفا، فنحن نأخذها من فيه رطبة، إذ خرجت علينا حية فقال: اقتلوها فابتدرناها لنقتلها فسبقتنا فقال صلى الله عليه وسلم: «وقاها الله شركم كما وقاكم شرها (1).
وعداوة الحية للإنسان معروفة قال الله تعالى: {اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ} * (2) قال الجمهور الخطاب لآدم وحواء والحية وإبليس.
وروى قتادة: رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ما سالمناهن منذ عاديناهن» (3).
وقال ابن عمر رضي الله عنهما: من تركهن فليس منا. وقالت عائشة رضي الله عنها: من ترك حية خشية من ثأرها فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين. وفي سنن البيهقي عن عائشة رضي الله تعالى عنها، أنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الحية فاسقة والعقرب فاسقة والفأرة فاسقة والغراب فاسق» (4). وفي مسند الإمام أحمد عن ابن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: «من قتل حية فكأنما قتل رجلا مشركا بالله، ومن ترك حية مخافة عاقبتها فليس منا» (5). وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: «إن الحيات مسخت كما مسخت القردة من بني إسرائيل» (6). وكذا رواه الطبراني عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكذا رواه ابن حبان.
وأما الحيات التي في البيوت، فلا تقتل حتى تنذر ثلاثة أيام، لقوله صلى الله عليه وسلم: «إن بالمدينة جناقد أسلموا فإذا رأيتم منها شيئا فآذنوه ثلاثة أيام» (7). وحمل بعض العلماء ذلك على المدينة وحدها.
والصحيح أنه عام في كل بلدة لا تقتل حتى تنذر. روى مسلم ومالك في أواخر الموطأ وغيرهما، عن أبي السائب مولى هشام بن زهرة أنه قال: دخلت على أبي سعيد الخدري في بيته، فوجدته يصلي، فجلست أنتظر فراغه فسمعت حركة تحت سرير في ناحية البيت فالتفت، فإذا حية فوثبت
__________
(1) رواه النسائي في المناسك: 114. وابن حنبل: 1/ 385.
(2) سورة البقرة: الآية 36.
(3) رواه أحمد: 2/ 247، 432، 520.
(4) رواه أحمد: 6/ 209، 238.
(5) رواه أبو داود أدب: 162. وأحمد: 3482301.
(6) رواه مسلم في القدر: 36.
(7) رواه مسلم في السلام: 141139.(2/397)
لأقتلها فأشار إلي أن أجلس فجلست، فلما انصرف من صلاته أشار إلى بيت في الدار، فقال:
أترى هذا البيت؟ قلت: نعم قال: كان فيه فتى منا حديث عهد بعرس فخرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الخندق، فكان ذلك الفتى يستأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم، عند انتصاف النهار، ويرجع إلى أهله، فاستأذن يوما فقال صلى الله عليه وسلم: «خذ عليك سلاحك فإني أخشى عليك بني قريظة».
فأخذ الفتى سلاحه، ثم رجع إلى أهله فوجد امرأته بين البابين قائمة، فأهوى إليها بالرمح ليطعنها به، وقد أصابته الغيرة، فقالت: أكفف عليك رمحك، وادخل البيت حتى تنظر ما الذي أخرجني منه، فدخل فإذا حية عظيمة مطوقة على الفراش، فأهوى إليها بالرمح فانتظمها به، ثم خرج به فركزه في الدار فاضطربت عليه، وخر الفتى ميتا. فما ندري أيهما كان أسرع موتا الحية أم الفتى؟
قال: فجئنا النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرناه بذلك، وقلنا ادع الله أن يحييه، فقال: «استغفروا ربكم لصاحبكم». ثم قال (1): «إن بالمدينة جنا قد أسلموا فإذا رأيتم منهن شيئا فآذنوه ثلاثة أيام فإذا بدا لكم بعد ذلك فاقتلوه فإنما هو شيطان». وقد اختلف العلماء في الإنذار، هل هو ثلاثة أيام، أو ثلاث مرات. والأول هو الذي عليه الجمهور. وكيفيّته: أن يقول: أنشدكنّ بالعهد الذي أخذه عليكن نوح وسليمان عليهما الصلاة والسلام أن لا تبدوا لنا ولا تؤذونا. وفي أسد الغابة عن عبد الرحمن بن أبي يعلى أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا ظهرت الحية في المسكن، فقولوا لها:
إنا نسألك بعهد نوح وبعهد سليمان بن داود عليهم الصلاة والسلام لا تؤذينا فإن عادت فاقتلوها» (2). وروى الحافظ أبو عمر بن عبد البر أن عقبة بن عامر بن عبد قيس الفهري، ولد على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو ابن خالة عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنه، لما فتح إفريقية، وقف على موضع القيروان، وهو واد كثير الحيات، وقال: يا أهل الوادي إنا حالون، إن شاء الله تعالى، قاطنون، ثلاث مرات، قال: فما رأينا حجرا ولا شجرا إلا خرج من تحته حية حتى هبطن بطن الوادي ثم قال: انزلوا بسم الله. فعمروا القيروان. وكان عقبة مجاب الدعوة وعند الحنفية ينبغي أن لا تقتل الحية البيضاء لأنها من الجان وقال الطحاوي: لا بأس بقتل الجميع والأولى الإنذار.
من الفوائد العجيبة المجربة ما أخبرني به بعض مشايخي، أنه يكتب على أربع ورقات، وتوضع كل ورقة في قرنة من قرن البيت فإن الحيات تهر بن منه ولا تدخله حية بإذن الله تعالى وهو هذا:
178111611 - رح 11511755وو 7 وو 51ر و 11م 11ح 111ح ط 5هـ 8 وفي الإحياء من كتاب آداب السفر يستحب لمن أراد لبس الخف، في حضر أو سفر، أن ينكس الخف، وينفض ما فيه، حذرا من حية أو عقرب أو شوكة، واستدل له بحديث أبي إمامة الباهلي رضي الله عنه الآتي في باب الغين المعجمة، في الكلام على لفظ الغراب، وفي فتاوى
__________
(1) رواه مسلم في السلام: 141139.
(2) رواه الترمذي في الصيد: 15.(2/398)
الإمام النووي: إذا اصطاد الحاوي حية وحبسها معه على عادتهم، فلسعته فمات هل يأثم؟
فأجاب. إن صادها ليرغب الناس، في اعتماد معرفته، وهو صادق في صنعته، ويسلم منها في ظنه، ولسعته فمات لم يأثم. وإن انفلتت وأتلفت شيئا لم يضمنه.
وروى الإمام أحمد، في الزهد، أن حاويا معه حيات في خرج، نزل بقوم من أهل اليمن، فخرج بالليل بعض الحيات، فلسعت بعض أهل المنزل فقتلته. فكتب بذلك عامل اليمن إلى عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى، فقال: لا شيء عليه لكن مره إذا نزل بقوم أن يخبرهم بما معه، وفي كتاب الأربعين على مذهب المحققين من الصوفية، للإمام الحافظ أبي مسعود سليمان بن إبراهيم بن محمد بن سليمان الأصبهاني، بإسناده إلى عمران بن حصين رضي الله تعالى عنه، قال:
أخذ النبي صلى الله عليه وسلم بعمامتي من ورائي، وقال: «يا عمران إن الله يحب الإنفاق ويبغض الإقتار فأنفق وأطعم، ولا تعسر فيعسر عليك الطلب، واعلم أن الله يحب البصير الناقد عند هجم الشبهات، والعقل الكامل عند نزول البليات، ويحب السماحة ولو على تمرات، ويحب الشجاعة ولو على قتل حية».
الأمثال:
قالوا: «فلان أسمع من حية وأعدى من حية» (1). وهو من العدو لأنها تسرع إلى جحرها إذ أراعها شيء.
روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الإيمان ليأرز إلى المدينة، كما تأرز الحية إلى جحرها» (2). وفي صحيح مسلم عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: «بدأ الإسلام غريبا وسيعود غريبا كما بدأ وهو يأرز بين المسجدين كما تأرز الحية إلى جحرها». أي مسجدي مكة والمدينة، ومعنى يأرز ينضم ويجتمع بضعه إلى بعض، ومعناه أن المؤمن إنما يسوقه إلى المدينة إيمانه ومحبته للنبي صلى الله عليه وسلم. ويحتمل أن يكون المراد بذلك:
عصمة المدينة من الدجال والفتن، فيكون الإسلام فيها موقرا، ويحتمل أن يكون المراد بذلك رجوع الناس إلى سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ومنها ظهرت ويحتمل أن يكون المراد بذلك أن الدين يؤخذ من علمائها وأئمتها، وكذلك كان. وسيأتي إن شاء الله تعالى في باب الميم، في لفظ المطية حديث الترمذي إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يوشك أن يضرب الناس آباط المطي في طلب العلم فلا يجدون عالما أعلم من عالم المدينة». وقالوا: «أبغض من ريح السذاب إلى الحيات» (3)، وقالوا: «الحية من الحيية». أي الأمر الكبير من الصغير، وربما قالوا: «الحيوت من الحية» وهذا كقولهم: «العصا من العصية» (4). وقد جاء معنى المثلين في كتاب الله تعالى، قال الله تعالى: {وَلََا يَلِدُوا إِلََّا فََاجِراً كَفََّاراً} (5). كذا ذكره ابن الجوزي وغيره.
الخواص:
قال عيسى بن علي: ناب الحية إذا قلع في حياتها وعلق على صاحب حمى الربع
__________
(1) جمهرة الأمثال: 1/ 172.
(2) رواه البخاري مدينة: 6. ومسلم إيمان: 233. ابن ماجه مناسك: 104. أحمد: 2/ 286.
(3) مجمع الأمثال: 1/ 119.
(4) جمهرة الأمثال: 2/ 37.
(5) سورة نوح: الآية 27.(2/399)
تزول عنه، وإن علق على من به وجع الأسنان نفعه وسكن وجعها. ولحمها يحفظ الحواس، ومرق لحمها يقوي البصر، ولحوم الحيات من حيث الجملة يسخن ويجفف وينقي البدن ويحلل منه أسقاما. وسلخها إذا وضع في ثياب لم تسوس، وإن أحرق وعجن بزيت طيب وحشي به الضرس المتآكل الوجع أبرأه. وإن سحق مع رأسها وجعل على داء الثعلب، أنبت الشعر. وقال يحيى بن ماسويه: يؤخذ سلخ حية مقلي وقشور أصل الكبر وزراوند طويل وبلادر، أجزاء متساوية، ويبخر به صاحب البواسير الظاهرة والباطنة المتعلقة، فإنها تسقط. وقال غيره: سلخ الحية ومقل أزرق يبخر بها البواسير الظاهرة والخفية فتبرأ. وبيض الحية يدق مع بورق وخل، ويطلى به البرص الجديد يقطعه. وسلخ الحية إذا عجن بثلاث تمرات وأطعم لمن به الثآليل ذهبت عنه، وإن أكله من ليس به ثآليل لم تخرج أبدا وقلبها يذهب حمى الربع تعليقا.
فائدة:
روى ابن أبي شيبة وغيره أن فريكا قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعيناه مبيضتان لا يبصر بهما شيئا فسأله صلى الله عليه وسلم ما أصابه؟ فقال: كنت أمرن جملا فوقفت على بيض حية، ولم أشعر فأصبت ببصري، فنفث رسول الله صلى الله عليه وسلم في عينيه، فأبصر فكان يدخل الخيط في الإبرة وهو ابن ثمانين سنة، وإن عينيه مبيضتان.
التعبير:
الحية في المنام تعبر بأشياء كثيرة فهي عدو ودولة وحياة وسيل وولد وامرأة. فمن نازع حية، وهي تريد أن تنهسه فإنه ينازع عدوا له لقوله (1) تعالى: {اهْبِطُوا مِنْهََا جَمِيعاً} {بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ} * فإن رأى أنه أخذ حية ولم يخف منها، وصرفها حيث يشاء، فإنه ينال دولة ونصرة، لأن موسى عليه الصلاة والسلام، نال بها النصرة على فرعون. ومن رأى أن حية خرجت من فمه، وكان مريضا، فإنه يموت لأنها حياته وقد خرجت من فمه. ومن رأى حيات تمشي في خلاف الشجر أو الزرع، فإنها سيول لأنهم شبهوا جريان الماء بالحيات، هذا إذا كان جريها بلا نفخ ولا إحراق شيء. ومن قتل حية على فراشه ماتت امرأته. ومن رأى امرأته حاملا ووضعت حية، أتاه ولد عاق. ومن رأى حية ميتة فإنه عدو قد كفاه الله شره. ومن عضته حية فورم موضع العضة نال مالا لأن السم مال، والورم زيادة فيه. ومن أكل لحم حية مطبوخا، نال مال عدوه، ومن أكله نيأ اغتاب عدوه. ومن رأى حية نزلت من مكان فإن ذلك موت رئيس ذلك المكان. ومن رأى حية ابتلعته، فإنه ينال سلطانا ومن رأى كأنه يتخطى الحيات ولا تنهسه، فإنه يأمن أعداءه، وإن كان مسجونا خرج من سجنه. ورؤية الحيات الكثيرة في الطرق وهي تمنع الناس بنفخها ونهسها فإن ذلك ظلم من السلطان. ومن رأى كأن الحيات قد فقدن من مكان، فإن الوباء والموت يكثر في ذلك المكان لأن الحيات هي الحياة ومن رأى كأن حية تكلمه، فإنه ينال سرورا. ومن رأى كأنه ملك حية ملساء، وصرفها حيث شاء، فإنه ينال غنى وسعادة. والسود من الحيات أعداء لهم قوة، فمن ملك حية سوداء نال ملكا وولاية. والبيض أعداء ضعاف، والثعبان يدل على العداوة في الأهل والأزواج والأولاد. وربما كان جارا شريرا حسودا. والتنين يدل على سلطان جائر مهاب أو نار محرقة. والأصلة تدل على امرأة ذات نسل وأصل وعمر طويل. والشجاع يدل على امرأة
__________
(1) سورة البقرة: الآية 36.(2/400)
باذلة أو ولد جسور. والأفاعي تدل على أقوام أغنياء، لكثرة سمها. والناشر يدل على الهم، أو على رجل محارب غيور. وحيات البيوت خسران. وحيات البوادي قطاع الطريق، وحيات الماء مال فمنشد وسطه بحية منها فإنه شده بهميان. وحيات البطن أعداء من الأهل والأقارب. فمن رمى حية فإنه يفارق شخصا من أقاربه خبيثا كان يواكله. والله أعلم.
الحيوت:
كسفّود ذكر الحيات.
الحيدوان:
الورشان. وسيأتي ذكره إن شاء الله تعالى في باب الواو.
الحيقطان:
بضم القاف ذكر الدرّاجة.
الحيوان:
جنس الحي والحيوان: الحياة والحيوان ماء في الجنة قاله ابن سيده. والحيوان نهر في السماء الرابعة يدخله ملك كل يوم، فيغمس فيه ثم يخرج، فينتفض انتفاضة، يخرج منه سبعون ألف قطرة، يخلق الله تعالى من كل قطرة ملكا يؤمرون أن يطوفوا بالبيت المعمور، فيطوفون به ثم لا يعودون إليه أبدا، ثم يقفون بين السماء والأرض يسبحون الله تعالى إلى يوم القيامة. كذا رواه روح بن جناح مولى الوليد بن عبد الملك، الذي روى عن مجاهد عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «عالم واحد أشد على الشيطان من ألف عابد» وحديثه (1) هذا في كتابي الترمذي وابن ماجه. وقال الزمخشري في تفسير قوله تعالى: {وَإِنَّ الدََّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوََانُ} (2) أي ليس فيها إلا حياة دائمة مستمرة خالدة لا موت فيها، فكأنها في ذاتها حياة. والحيوان مصدر حيي، وقياسه حييان فقلبوا الياء الثانية واوا كما قالوا: حيوة في اسم رجل، وبه سمي ما فيه حياة حيوانا، وفي بناء الحيوان زيادة معنى ليس في بناء الحياة وهو ما في بناء فعلان من الحركات، ومعنى الاضطراب كالنزوان، وما أشبه ذلك. والحياة حركة كما أن الموت سكون، فمجيئه على ذلك مبالغة في معنى الحياة. وقال ابن عطية: الحيوان والحياة بمعنى واحد. وهو عند الخليل وسيبويه مصدر كالهيمان ونحوه. والمعنى لا موت فيها، قاله مجاهد وهو حسن. ويقال:
الأصل حييان بياءين، فأبدلت إحداهما واوا لاجتماع المثلثين. وقال الجاحظ: الحيوان على أربعة أقسام شيء يمشي، وشيء يطير، وشيء يعود، وشيء ينساخ في الأرض. إلا أن كل شيء يطير يمشي، وليس كل شيء يمشي يطير. فأما النوع الذي يمشي، فهو على ثلاثة أقسام: ناس وبهائم وسباع، والطير كله سبع وبهيمة وهمج. والخشاش ما لطف جرمه وصغر جسمه، وكان عديم السلاح. والهمج ليس من الطيور، ولكنه يطير وهو فيما يطير كالحشرات فيما يمشي. والسبع من الطير ما أكل اللحم خالصا، والبهيمة ما أكل الحب خالصا والمشترك كالعصفور، فإنه ليس بذي مخلب ولا منسر، وهو يلتقط الحب، ومع ذلك يصيد النمل، ويصيد الجراد، ويأكل اللحم. ولا يزق فراخه كما يزق الحمام، فهو مشترك الطبيعة، وأشباه العصافير من المشترك كثيرة، وليس كل ما طار بجناحين من الطير. فقد يطير الجعلان والذباب والزنابير والجراد والنمل والفراش والبعوض والأرضة والنحل وغير ذلك، ولا تسمى طيورا، وكذلك الملائكة تطير ولها أجنحة، وليست من الطير، وكذلك جعفر بن أبي طالب ذو جناحين يطير بهما في الجنة، وليس من الطير انتهى. وفي
__________
(1) رواه ابن ماجه مقدمة: 17. والترمذي علم: 19.
(2) سورة العنكبوت: الآية 64.(2/401)
الصحيحين وغيرهما عن عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم (1) قال: «لعن الله من مثل بالحيوان». وفي رواية «لعن الله من اتخذ شيئا فيه الروح غرضا» (2). وفي رواية «نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تصبر البهائم» (3). قال العلماء تصبير البهائم هو أن تحبس وهي أحياء لتقتل بالرمي ونحوه، وهو معنى قوله: «لا تتخذوا شيئا فيه الروح غرضا» أي يرمى إليه كالغرض من الجلود وغيرها. وهذا النهي للتحريم لأن النبي صلى الله عليه وسلم لعن فاعله، ولأنه تعذيب للحيوان وإتلاف لنفسه، وتضييع لماليته، وتفويت لذكاته، إن كان مذكى، ولمنفعته إن لم يكن مذكى.
تتمة:
في كتاب التنوير في إسقاط التدبير، قال الشيخ تاج الدين بن عطاء الله الإسكندري وإنما خص الله تعالى الحيوان بالافتقار إلى التغذية، دون غيره من الموجودات، لأنه تعالى وهب للحيوان من صفاته ما لو تركه من غير فاقة لا دعى الربوبية، أو ادعى فيه ذلك فأراد الحق سبحانه، وهو الحكيم الخبير، أن يحوجه إلى مأكل ومشرب وملبس وغير ذلك، من أسباب الحاجة، ليكون تكرار أسباب الحاجة منه سببا لخمود الدعوى منه أو فيه.
الحكم:
يصح السلم في الحيوان، لأنه يثبت في الذمة ثمنا وصداقا، وفي إبل الدية. وصح أن النبي صلى الله عليه وسلم استسلف بكرا ومنع أبو حنيفة رضي الله عنه ذلك. لأن ابن مسعود رضي الله عنه كرهه، ولأنه لا ينضبط بالصفة لنا ما روى أبو داود والحاكم على شرط مسلم، عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، أنه قال (4): «أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أشتري بعيرا ببعيرين إلى أجل» وروى البيهقي عن علي رضي الله عنه، أنه باع جملا له يدعى عصفور بعشرين بعيرا إلى أجل واشترى ابن عمر رضي الله تعالى عنهما راحلة بأربعة أبعرة يوفيها صاحبها بالربذة. رواه مالك في الموطأ في البخاري بغير إسناد. الربذة بالذال المعجمة موضع على ثلاث مراحل من المدينة وأما الحديث الذي رواه الحسن عن سمرة رضي الله عنه «أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الحيوان بالحيوان» (5) فرواه أبو داود والترمذي وابن ماجه وقال الترمذي: إنه حسن صحيح، وسماع الحسن من سمرة صحيح. هكذا قال علي بن المديني وغيره. والعمل على هذا عند أكثر أهل العلم من الصحابة وغيرهم في منع بيع الحيوان بالحيوان نسيئة وهو قول سفيان الثوري وأهل الكوفة، وبه قال أحمد. وقد رخص بعض أهل العلم من الصحابة وغيرهم، في بيع الحيوان بالحيوان نسيئة. وهو قول الشافعي وإسحاق وقال الخطابي: النهي في حديث سمرة محمول على ما إذا كان نسيئة من الطرفين، فيكون من باب الكالىء بالكالىء بدليل حديث عبد الله بن عمرو بن العاص المذكور وقال مالك: إذا اختلفت أجناس الحيوان جاز بيع بعضه ببعض نسيئة وإن تشابهت لم يجز وقال في الإحياء تكره التجارة في الحيوان لأن المشتري يكره قضاء الله فيه، وهو الموت الذي هو بصدده لا محالة. وقيل: بيع الحيوان واشتر الموتان. ويضمن سائر الحيوان إذا
__________
(1) رواه البخاري في الذبائح: 25. والنسائي في الضحايا: 41، والدارمي أضاحي: 13.
(2) رواه مسلم صيد: 60.
(3) رواه مسلم صيد: 58. النسائي ضحايا: 79. والبخاري ذبائح: 25.
(4) رواه البخاري في البيوع: 108.
(5) رواه أبو داود في البيوع: 15، والبخاري بيوع: 108. الترمذي بيوع: 21. أحمد: 3/ 310.(2/402)
أتلف بالقيمة لما في الصحيحين عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من أعتق شركا له في عبد، فإن كان معه ما يبلغ ثمن العبد، قوم عليه وأعطى شركاءه حصصهم وعتق عليه العبد». وإلا فقد عتق منه ما عتق فأوجب القيمة في العبد بالإتلاف بالعتق، ولأن إيجاب مثله من جهة الخلقة لا يمكن لاختلاف الجنس الواحد في القيمة، فكانت القيمة أقرب إلى إيفاء حقه، وتضمن أعضاء الحيوان بما نقص من قيمته. وأوجب أبو حنيفة في عين الإبل والبقر والخيل ربع القيمة وسيأتي إن شاء الله تعالى في باب الفاء في لفظ الفحل، أثر يشهد لذلك من حديث عروة البارقي وأوجب مالك رحمه الله في قطع ذنب حمار ذي الهيئة وذنب بغلته تمام القيمة ويأخذ المتلف العين.
الخواص:
الخصي من الحيوان أبرد من فحله، وإذا كان سمينا كان لذيذا مرطبا ملينا للطبيعة، بطيء الانحدار، وما كان مهزولا فبالضد إلا أنه سريع الإنحدار. أجوده حولي المعز ومنفعته سرعة الانهضام، ومضرته أنه يرخي المعدة، ودفع مضرته شرب مياه الفواكه القابضة.
وهو يولد دما معتدلا يوافق أصحاب الأمزجة المعتدلة من الشبان. ومن الأزمان زمان الربيع.
ويجب أن يعلم أن أفضل لحوم الحيوان ما كان معتدلا في الهزال والسمن. وأجود اللحوم لحم الضأن المتناهي الشباب والبقر التي لم تبلغ سن الشباب والخصي من المعز وأجوده على الإطلاق الضأن.
التعبير:
من كلمه حيوان من الدواب أو الطير وفهم كلامه، فإنه كما قال. وربما دل على وقوع أمر منه يعجب الناس له، وإن لم يفهم ما قاله فليحذر على مال يذهب منه، لأن الحيوان مأكله، وقد تكون هذه الرؤيا باطلة، فلا ينبغي أن يفتش عنها، وجلود سائر الحيوان ميراث.
وقيل: الجلود بيوت لمن ملكها لقوله (1) تعالى: {وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعََامِ بُيُوتاً} وربما دلت جلود الحيوان كالسمور والسنجاب والوشق والقاقم والفنك والنمس والثعلب والأرنب والفهد للجلوس، وأشباه ذلك على النعمة الطائلة، والأموال والأرزاق، وعلو الشأن لمن لبسها في المنام أو رآها عنده، أو ملكها. وإذا رأى الأنسان كأن جلده سلخ، وكان مريضا، فإنه يموت وإلا افتقر وافتضح. وربما دلت الجلود على ما يعمل منها فجلود الإبل تدل على الطبول، وجلود الضأن على الكتابة والمعز على النطوع، وجلود البقر على الأوطئة والدلاء والسيور، وجلود الخيل والبغال والحمير على الأوعية والأسقية، وجلود الجاموس على الحصون. وأما الأصواف والأوبار والأشعار فكل ذلك دال على الفوائد والأرزاق والملابس، وأموال موروثة وغير موروثة أو مغتصبة. وأما القرون فتدل رؤيتها على الأعوام والسنين، أو السلاح أو ما يتجمل به من الأموال والأولاد والعز والجاه. وأما أنياب الفيل وعظمه، فإن ذلك دال على تركة من هلك من الملوك والزعماء. وأما أظلاف الحيوان فإنها تدل على الكد والسعي والاجتماع بين المرأة وزوجها، والوالدة وولدها.
والظلف في الصورة هاء مشقوقة وأما الأخفاف فقوة سفر وربما دل الخف في استدارته على العدو أو السقم أو التمهيد للأمور والتوطئة الحسنة. وأما الأذناب فإنها دالة على ما دل الحيوان عليه، ومن يساعده في مصالحه، ويذب عنه ما يخشاه. وأما أصوات الحيوان، فنذكرها هنا مفصّلة: فأما ثغاء
__________
(1) سورة النحل: الآية 80.(2/403)
الشاة فلطافة من امرأة وصديق أو بر من رجل كريم. وأما ثغاء الجدي والكبش والحمل، فسرور وخصب. وأما صهيل الفرس، فهو هيبة من رجل شريف أو جندي شجاع. وأما نهيق الحمار، فسفه من رجل سفيه. وأما شحيج البغل، فصعوبة من رجل صعب المرام. وأما خوار العجل والثور والبقر فوقوع في فتنة. وأما رغاء الإبل، فسفر طويل في حج أو تجارة رابحة أو جهاد. وأما زئير الأسد، فخوف وهيبة لمن سمعه من ملك ظلوم. وأما ضغاء الهرة، فشهرة من خادم لص أو فاجر. وأما نهيز الفأرة، فضرب من رجل نقاب أو فاسق أو سرقة. وأما بغام الظبي، ففائدة من امرأة حسناء. وأما عواء الكلب، فخجل من سعى في الظلم. وأما عواء الذئب، فجور من لص غشوم. وأما صياح الثعلب، فكيد من رجل كذاب، أو امرأة كذابة. وأما وعوعة ابن آوى، فصراخ نساء أو ضجة المحبوسين اليائسين. وأما صياح الخنزير، فظفر بأعداء حمقى. وأما صوت الفهد، فتهدد من رجل مذبذب طامع ويظفر به من سمعه. وأما نقيق الضفدع، فدخول في عمل رجل عالم أو رئيس أو سلطان، وقيل: إنه كلام قبيح. وأما فحيح الحية فكلام من عدو كاتم للعداوة، ثم يظفر به من سمعه، ومن كلمته الحية بكلام لطيف فإنه عدو يخضع له ويتعجب الناس لذلك.
أم حبين:
بحاء مهملة مضمومة، وباء موحدة مفتوحة مخففة: دويبة مثل ابن عرس وابن آوى وسام أبرص وابن قترة، إلا أنه تعريف جنس وربما أدخل عليه الألف واللام ثم لا يكون بحذفهما منه نكرة، وإنما سميت بذلك من الحبن، تقول: فلان به حبن فهو أحبن أي مستسقي فشبهت بذلك لكبر بطنها. وهي على خلقة الحرباء غير الصدر وقيل هي أنثى الحرابي وهما أما حبين وهن أمهات حبين. وهي دابة على قدر الكف تشبه الضب غالبا، قاله أبو منصور الأزهري ما نقله من كونها أنثى الحرابي، هو الذي نقله صاحب الكفاية. فإنه قال: الحرباء ذكر أم حبين، وقال ابن السكيت: هي أعرض من العظاءة وفي رأسها عرض، وقال أبو زيد: إنها غبراء لها أربع قوائم على قدر الضفدعة التي ليس بضخمة، فإذا طردها الصيادون قالوا لها:
أم حبين انشري برديك ... إن الأمير ناظر إليك
وضارب بسوطه جنبيك فيطردونها حتى يدركها الإعياء، فتقف منتصبة على رجليها وتنشر جناحيها، وهما أغبران على مثل لونها، فإذا زاد في طردها نشرت أجنحة من تحت ذينك الجناحين، لم ير أحسن منهن ما بين أصفر وأحمر وأخضر وأبيض وهي طرائق بعضها فوق بعض، مثل أجنحة الفراش في الرقة، فإذا رآها الصيادون قد فعلت ذلك تركوها. وقال علي بن حمزة: الصحيح عندي إن هذه صفة أم عويف. وستأتي في باب العين المهملة إن شاء الله تعالى. وقال ابن قتيبة: أم حبين تستقبل الشمس، وتدور معها كيف دارت، وهذه صفة الحرباء. وقال في المرصع: اختلف في أم حبين، فقيل: هي ضرب من العظاء وقيل: هي أعرض منها وقيل: هي أنثى الحرابي، يتحاماها الأعراب فلا يأكلونها لنتنها. انتهى. وما ذكره ابن قتيبة من كون أم حبين ضربا من العظاء فيه نظر، فإن العظاء نوع من الوزغ، كما ذكره أهل اللغة، ويقال لها حبينة معرفة بلا ألف ولام، تقع
على الواحد والجمع وقد تجمع على أم حبينات، وأمهات حبين، وأمات حبين، ولم ترد إلا مصغرة. وفي حديث عقبة رحمه الله: «أتموا صلاتكم ولا تصلوا صلاة أم حبين» وفسروه بأنها إذا مشت تطأطىء رأسها كثيرا، وترفعه لعظم بطنها فهي تقع على رأسها وتقوم. فشبه بها صلاتهم في السجود. وفي الحديث أنه صلى الله عليه وسلم رأى بلالا وقد خرج بطنه فقال: «أم حبين». تشبيها له بها.(2/404)
أم حبين انشري برديك ... إن الأمير ناظر إليك
وضارب بسوطه جنبيك فيطردونها حتى يدركها الإعياء، فتقف منتصبة على رجليها وتنشر جناحيها، وهما أغبران على مثل لونها، فإذا زاد في طردها نشرت أجنحة من تحت ذينك الجناحين، لم ير أحسن منهن ما بين أصفر وأحمر وأخضر وأبيض وهي طرائق بعضها فوق بعض، مثل أجنحة الفراش في الرقة، فإذا رآها الصيادون قد فعلت ذلك تركوها. وقال علي بن حمزة: الصحيح عندي إن هذه صفة أم عويف. وستأتي في باب العين المهملة إن شاء الله تعالى. وقال ابن قتيبة: أم حبين تستقبل الشمس، وتدور معها كيف دارت، وهذه صفة الحرباء. وقال في المرصع: اختلف في أم حبين، فقيل: هي ضرب من العظاء وقيل: هي أعرض منها وقيل: هي أنثى الحرابي، يتحاماها الأعراب فلا يأكلونها لنتنها. انتهى. وما ذكره ابن قتيبة من كون أم حبين ضربا من العظاء فيه نظر، فإن العظاء نوع من الوزغ، كما ذكره أهل اللغة، ويقال لها حبينة معرفة بلا ألف ولام، تقع
على الواحد والجمع وقد تجمع على أم حبينات، وأمهات حبين، وأمات حبين، ولم ترد إلا مصغرة. وفي حديث عقبة رحمه الله: «أتموا صلاتكم ولا تصلوا صلاة أم حبين» وفسروه بأنها إذا مشت تطأطىء رأسها كثيرا، وترفعه لعظم بطنها فهي تقع على رأسها وتقوم. فشبه بها صلاتهم في السجود. وفي الحديث أنه صلى الله عليه وسلم رأى بلالا وقد خرج بطنه فقال: «أم حبين». تشبيها له بها.
وهذا من مزحه صلى الله عليه وسلم قال الجاحظ: قال أبو زيد النحوي: سمعت أعرابيا يقول لأم حبين: حبينة وحبينة اسمها. وحبين تصغير أحبن وهو الذي استلقى على ظهره ونفخ بطنه.
الحكم:
الحل لأنها من الطيبات ولأنها تفدى في الحرم والإحرام إذا قتلت بحلان كما تقدم.
ومن قواعد الشافعي لا يفدى إلا المأكول البري. وحكى الماوردي فيها وجهين: وقال: إن الحل مقتضى قول الشافعي، ومقتضى ما قاله ابن الأثير في المرصع: إنها حرام. وفي التمهيد لابن عبد البر، عن جماعة من أهل الأخبار أن مدنيا سأل أعرابيا فقال: أتأكلون الضب؟ قال:
نعم. قال: فاليربوع؟ قال: نعم. قال: فالقنفذ؟ قال: نعم. قال: فالورل؟ قال: نعم. قال:
أفتأكلون أم حبين؟ قال: لا. قال: فليهنىء أم حبين العافية انتهى. والجواب أن هذا راجع لما اعتادوا أكله وترك أكله، خاصة لا أنها حرام على أنه لم يثبت ذلك.
أم حسان:
دويبة على قدر كف الإنسان.
أم حسيس:
بضم الحاء المهملة، دويبة سوداء من دواب الماء لها أرجل كثيرة.
أم حفصة:
الدجاجة الأهلية.
أم حمارس:
بفتح الحاء المهملة الغزالة قاله ابن الأثير والله الموفق للصواب.
باب الخاء المعجمة
الخازباز:
والخزباز لغة فيه. قال الجوهري: إنه ذباب، وهما اسمان جعلا اسما واحدا وبنيا على الكسر لا يتغيران في الرفع والنصب والجر قال ابن أحمر:
تفقأ فوقه القلع السواري ... وجن الخازباز به جنونا
جوز فيه الجوهري أن يكون من جن الذباب إذا كثر صوته، وأن يكون من جن النبت جنونا إذا طال. واستعمله المتنبي كذلك في قوله (1):
كلما جادت الظنون بوعد ... عنك جادت يداك بالإنجاز ... ملك منشد القريض لديه ... يضع الثوب في يدي بزاز (2)
... ولنا القول وهو أدرى بفحوا ... وأهدى فيه إلى الإعجاز ... ومن الناس من تجوز عليه ... شعراء كأنها الخازباز (3)
... ويرى أنه البصير بهذا ... وهو في العمى ضائع العكاز
__________
(1) ديوان المتنبي: 2/ 183.
(2) في الديوان: واضع الثوب.
(3) في الديوان: «من يجوز».(2/405)
وقال الأصمعي: الخازباز حكاية لصوت الذباب، فسماه به وقال ابن الأعرابي: إنه نبت.
وأنشد ابن نصير تقوية لقول ابن الأعرابي:
رعيتها أكرم عود عودا ... الصّل والصفصل واليعضيدا (1)
... والخازباز السنم النجودا ... بحيث يدعو وعامر مسعودا
وعامر ومسعود راعيان. قال وهو في غير هذا داء يأخذ الإبل في حلوقها والناس قال الراجز:
يا خازباز أرسل الهازما ... إني أخاف أن تكون لازما (2)
وقيل وهو السنور. حكاه أبو سعيد. فإن كان ذبابا أو سنورا فسيأتي حكمه إن شاء الله تعالى.
الأمثال:
قالت العرب: «الخازباز أخصب» (3) قال الميداني: إنه ذباب يطير في الربيع يدل على خصب السنة والله أعلم.
خاطف ظله:
طائر من جنس العصافير. قال الكميت بن زيد:
وريطة فتيان كخاطف ظله ... جعلت لهم منها خباء ممددا
وقال ابن سلمة: هو طائر يقال له الرفراف، إذا رأى ظله في الماء أقبل عليه ليخطفه. وهذه صفة ملاعب ظله وسيأتي إن شاء الله تعالى في باب الميم.
الخاطف:
الذئب وسيأتي إن شاء الله تعالى في باب الذال المعجمة.
الخبهقعي:
بفتح الخاء والباء والعين مقصورة وتمد: ولد الكلب من الذئبة، وبه سمي أبو الخبهقعي أعرابي من بني تميم.
الخثق:
بفتح الخاء والثاء المثلثة قال ارسطا طاليس في النعوت: إنه طائر عظيم.
يكون ببلاد الصين وبابل وأرض الترك ولم يره أحد حيا إذ لا يقدر عليه أحد في حال حياته، ومن شأنه أنه إذا شم رائحة السم خدر وعرق وذهب حسه. وقال غيزه: إن له في مشتاه ومصيفه سموما كثيرة في طريقه فإذا شم رائحة السم خدّر وسقط ميتا، فتؤخذ جثته، ويجعل منها أوان ونصب للسكاكين. فإذا شم العظم رائحة السم، رشح عرقا فيعرف به الطعام المسموم. ومخ عظام هذا الطائر سم لكل حيوان والحية تهرب من عظامه فلا تدرك.
الخدارية:
بضم الحاء وبالدال المهملة العقاب. سميت بذلك للونها وبعير خداري، أي شديد السواد ومنه لون خداري، وما أحسن قول الميداني في خطبة (4) كتابه
__________
(1) الصّل: القطعة من العشب. الصّفصل: نبت. اليعضيد: ضرب من البقول.
(2) اللهزمتان: لحمتان ناتئتان تحت الأذنين.
(3) مجمع الأمثال: 1/ 248.
(4) مجمع الأمثال: 1/ 5.(2/406)
مجمع الأمثال: فإن أنفاس الناس لا يأتي عليها الحصر، ولا تنفد حتى ينفد العصر، وأنا أعتذر للناظر في هذا الكتاب من خلل يراه، أو لفظ لا يرضاه، فأنا كالمنكر لنفسه، المغلوب على حسه وحدسه، منذ حط البياض بعارضي رحالة، وحال الزمان على سوادهما فأحاله، وأطار من وكرها متي الخدارية، وأنحى على عود الشباب فمص ريّه، وملك يدا الضعف زمام قواي وأسلمني من كل يحطب في حبل هواي. فكأني المعني بقول الشاعر:
وهت عزماتك عند المشيب ... وما كان من حقّها أن تهي ... وأنكرت نفسك لما كبرت ... فلا هي أنت ولا أنت هي ... وإن ذكرت شهوات النفوس ... فما تشتهي غير أن تشتهي
الخدرنق:
العنكبوت وفي دالة الإهمال والإعجام في درة الغواص.
الخراطين:
قيل: هي الأساريع، والصواب أنها شحمة الأرض وستأتي إن شاء الله تعالى في باب الشين المعجمة وقيل: إنها العلق الكبار الطوال التي تكون في المواضع الندية من الأرض وهي إذا قليت بالزيت، ثم سحقت ناعما وتحمل بها صاحب البواسير نفعته، وإذا أخذ منها شيء وجعل في زيت ودفن سبعة أيام ثم أخرج ورمي من الزيت حتى تذهب رائحته ووضع في قارورة ووضع فيها مقدار نصفها شقائق النعمان، ثم يدفن سبعة أيام ويخرج، فمن اختضب به أسود شعره ولم يشب سريعا.
الخرب:
بفتح الخاء المعجمة والراء المهملة وبالباء الموحدة: ذكر الحبارى، والجمع خراب وأخراب وخربان. ذكر أبو جعفر أحمد بن جعفر البلخي أن الرشيد جمع بين أبي الحسن الكسائي وأبي محمد اليزيدي ليتناظرا بين يديه فسأل اليزيدي والكسائي عن إعراب قول الشاعر:
ما رأينا قط خربا ... نقرعنه البيض صقر ... لا يكون العير مهرا ... لا يكون المهر مهر؟
فقال الكسائي: يجب أن يكون المهر منصوبا على أنه خبر كان. ففي البيت على هذا اقواء.
فقال اليزيدي: الشعر صواب لأن الكلام قد تم عند قوله لا يكون، ثم استأنف فقال: المهر مهر.
ثم ضرب الأرض بقلنسوته وقال: أنا أبو محمد. فقال له يحيى بن خالد: أتكتني بحضرة أمير المؤمنين وتسفه على الشيخ؟ فقال له الرشيد: والله إن خطأ الكسائي مع حسن أدبه، أحب إلي من صوابك مع قلة أدبك. فقال: يا أمير المؤمنين إن حلاوة الظفر أذهبت عني التحفظ فأمر بإخراجه. واجتمع الكسائي ومحمد بن الحسن الحنفي يوما في مجلس الرشيد فقال الكسائي: من تبحر في علم اهتدى لجميع العلوم. فقال له محمد: ما تقول فيمن سها في سجود السهو هل يسجد مرة أخرى؟ قال: لا. قال: لماذا؟ قال: لأن النحاة تقول: المصغر لا يصغر. قال: فما تقول في تعليق العتق بالملك؟ قال: لا يصح. قال: لم؟ قال: لأن السيل لا يسبق المطر. وتعلم النسائي النحو على كبر سنه وذلك أنه مشى يوما حتى أعيا فجلس، فقال: قد عييت، فقيل له: قد لحنت. قال: كيف؟
قيل: إن كنت أردت التعب فقل: أعييت، وإن كنت أردت انقطاع الحيلة، فقل: عييت! فأنف من قولهم لحنت، واشتغل بعلم النحو حتى مهر وصار إمام وقته فيه. وكان مؤدب الأمين والمأمون
وكان له اليد العظمى والوجاهة التامة عند الرشيد وولديه. توفي الكسائي ومحمد بن الحسن صاحب أبي حنيفة في يوم واحد سنة تسع وثمانين ومائة ودفنا في مكان واحد. فقال الرشيد دفن ههنا العلم والأدب.(2/407)
قيل: إن كنت أردت التعب فقل: أعييت، وإن كنت أردت انقطاع الحيلة، فقل: عييت! فأنف من قولهم لحنت، واشتغل بعلم النحو حتى مهر وصار إمام وقته فيه. وكان مؤدب الأمين والمأمون
وكان له اليد العظمى والوجاهة التامة عند الرشيد وولديه. توفي الكسائي ومحمد بن الحسن صاحب أبي حنيفة في يوم واحد سنة تسع وثمانين ومائة ودفنا في مكان واحد. فقال الرشيد دفن ههنا العلم والأدب.
الأمثال:
قالوا: «ما رأينا صقرا يرصده خرب». يضرب للشريف يقهره الوضيع.
الخرشة:
بالتحريك الذبابة قاله الجوهري ومنه سماك بن خرشة الإخباري، سميت أمه بإسم تلك الذبابة ومنه أبو خراشة السلمي في قول عباس بن مرداس (1):
أبا خراشة أما أنت ذا نقر ... فإن قومي لم تأكلهم الضبع (2)
أي السنة المجدبة ومنه خرشة بن الحر الفزاري الكوفي. مات سنة أربع وسبعين كان يتيما في حجر عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه، وهو الذي روي عنه أن رجلا شهد عند فقال له:
إني لا أعرفك ولا يضرك أني لا أعرفك إلى آخر القصة ووقع في المهذب في ذلك غلظ وتصحيف.
الخر شقلا:
السمك البلطي. وفي الخبر: لولا الخرشقلا لوجدت أوراق الجنة في ماء النيل.
الخرشنة:
طائر أكبر من الحمام وسيأتي ذكره في باب الكاف إن شاء الله تعالى.
الخرق:
بضم الخاء وتشديد الراء المهملة وبالقاف في آخره نوع من العصافير ذكره الجاحظ.
الخرنق:
بكسر الخاء المعجمة ولد الأرنب وبه سمي الخرنق الشاعر الذي كان في زمن التابعين. وأرض مخرنقة أي ذات خرانق وقالوا: «ألين من خرنق (3)». وكان للنبي صلى الله عليه وسلم درع يقال لها الخرنق للينها، ودرع أخرى يقال لها البتيراء لقصرها، وأخرى يقال لها ذات الفضول، سميت به لطولها، أرسل بها إليه سعد بن عبادة حين سار إلى بدر، وهذه هي التي رهنها عند اليهودي، فافتكها منه أبو بكر الصديق رضي الله تعالى عنه، وأخرى يقال لها ذات الوشاح وذات الحواشي، وأخرى يقال لها فضة والسغدية، بالسين المهملة والغين المعجمة. قال الحافظ الدمياطي:
وكانت السغدية درع داود عليه الصلاة والسلام التي لبسها حين قتل جالوت وكانت عمله بيده.
قال الكلبي وغيره في قوله تعالى: {وَعَلَّمَهُ مِمََّا يَشََاءُ} (4) يعني صنعة الدروع وكان يصنعها ويبيعها، وكان عليه السلام لا يأكل إلا من عمل يده. وقيل: منطق الطير، وكلام البهائم، وقيل: هو الزبور. وقيل: الصوت الطيب والألحان، فلم يعط الله أحدا من خلقه مثل صوته.
وكان عليه الصلاة والسلام إذا قرأ الزبور تدنو منه الوحوش، حتى يأخذ بأعناقها، وتظله الطير مصيخة له، ويركد الماء الجاري وتسكن الريح. روى الضحاك عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، أنه قال: إن الله تعالى أعطاه سلسلة موصولة بالمجرّة، ورأسها عند صومعته، وقوتها قوة الحديد ولونها لون النار، وحلقها مستديرة مفصلة بالجواهر، مسورة بقضبان اللؤلؤ الرطب، فلا يحدث في الهواء حدث، إلا صلصلت السلسلة، فيعلم داود ذلك الحدث. ولا يمسها ذو عاهة إلا
__________
(1) العباس بن مراداس السلمي: من سادات قومه بني سليم، صحابي شاعر. توفي حوالي سنة 18هـ.
(2) البيت في ديوانه: 106. وفيه: «أمّا كنت ذا».
(3) جمهرة الأمثال: 2/ 179.
(4) سورة البقرة: الآية 251.(2/408)
برأ وكان بنو إسرائيل يتحاكمون إليها بعد داود، فمن تعدى على صاحبه، أو أنكر له حقا أتى إلى السلسلة، فمن كان صادقا مد يده إلى السلسلة فنالها، ومن كان كاذبا لم ينلها، وكانت كذلك إلى إلى أن ظهر فيهم المكر والخديعة. فروي عن غير واحد أن ملكا من ملوك بني إسرائيل، أودع عند رجل جوهرة ثمينة ثم طلبها فأنكر الرجل، فتحاكما إلى السلسلة فعمد الرجل الذي عنده الجوهرة إلى عكازه فنقرها وضمنها الجوهرة واعتمد عليها. فلما حضر إلى السلسلة قال صاحب الجوهرة:
رد علي وديعتي، فقال صاحبه: ما أعرف لك عندي من وديعة، فإن كنت صادقا فتناول السلسلة، فأتاها فتناولها بيده، فقيل للمنكر: قم أنت وتناولها، فقال لصاحب الجوهرة: خذ عكازتي هذه فاحفظها لي حتى أتناول السلسلة، ثم أتاها فتناولها بعد أن قال: أللهم إن كنت تعلم أن هذه الوديعة التي يدعيها علي قد وصلت إليه فقرب مني السلسلة، ثم مد يده فتناولها، فتعجب القوم وشكوا فيها فأصبحوا وقد رفع الله السلسلة. قال الضحاك والكلبي: ملك داود بعد أن قتل جالوت سبعين سنة، ولم يجتمع بنو إسرائيل على ملك واحد إلا على داود، وجمع الله لداود بين الملك والنبوة، ولم يجتمع ذلك لأحد من قبله، بل كان الملك في سبط والنبوة في سبط، وقبضه الله تعالى وهو ابن مائة سنة صلى الله عليه وسلم.
قال الحافظ الدمياطي: ودرعان أصابهما من بني قينقاع، فهذه تسع أدرع. وكان صلى الله عليه وسلم قد لبس يوم أحد فضة وذات الفضول، ويوم حنين ذات الفضول والسغدية والله أعلم.
الخروف:
معروف، وهو الحمل وربما سمي به المهر إذا بلغ ستة أشهر. حكاه الأصمعي.
وفي الميزان للإمام الذهبي، في ترجمة عثمان بن صالح السهمي، أنه روي عن ابن لهيعة عن موسى بن وردان عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه. قال: مرت بالنبي صلى الله عليه وسلم نعجة فقال: «هذه التي بورك فيها وفي خروفها». قال أبو حاتم: هذا حديث موضوع أي كذب.
الأمثال
: قالوا (1): «كالخروف يتقلب على الصوف». يضرب للرجل المكفي المؤنة.
التعبير:
الخروف في الرؤيا يدل على ولد ذكر طائع لوالديه، فمن وهب له خروف وله امرأة حامل أتاه ولد ذكر وجميع الصغار من الحيوان في الرؤيا هموم، لأنها تحتاج إلى كلفة في التربية هذا إذا لم ينسبوا إلى الأولاد. وقيل: الخروف دليل خير لمن أراد الموافقة في أمر يطلبه، لأن الخروف سريع الأنس إلى بني آدم، ومن ذبح خروفا لغير الأكل مات ولده، والخروف المشوي السمين مال كثير والهزيل مال قليل. ومن أكل شواء خروف فإنه يأكل من كد ولده والله أعلم.
الخزز:
بضم الخاء المعجمة وفتح الزاي الأولى ذكر الأرانب الجمع خزان مثل صرد وصردان.
الخشاش:
بفتح الخاء المعجة هوام الأرض وحشراتها، وقيل: صغار الطير وحكى القاضي عياض فتح الخاء وضمها وكسرها. وحكى أبو علي الفارسي فيها الضم أيضا، وجعل الزبيدي ضمها من لحن العامة. والفتح هو المشهور وواحد الخشاش خشاشة، وقيل: الخشاش دابة تكون
__________
(1) المستقصى: 2/ 206.(2/409)
في جحر الأفاعي والحيات منقطة بياض وسواد. وقيل: الخشاش الثعبان العظيم وقيل: حية مثل الأرقم وقيل حية خفيفة صغيرة الرأس، وفي الحديث (1) الصحيح: «أن امرأة دخلت النار في هرة حبستها فلم تطعمها شيئا ولم تدعها تأكل من خشاش الأرض». أي هوامها وحشراتها، وقال الحسن بن عبد الله بن سعد العسكري (2) في كتاب التحريف والتصحيف: الخشاش بالفتح النذل من كل شيء مثل الرخم من الطير وكل ما لا يصيد وأنشد (3).
خشاش الأرض أكثرها فراخا ... وأم الصقر مقلات نزور
والمعروف في البيت بغاث الطير أكثرها فراخا. روى ابن أبي الدنيا في كتاب مكايد الشيطان، من حديث أبي الدرداء، رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «خلق الله الجن ثلاثة أصناف:
صنف حيات وعقارب، وخشاش الأرض وصنف كالريح في الهواء، وصنف عليه الحساب والعقاب. وخلق الله الإنس ثلاثة أصناف صنف كالبهائم لهم قلوب لا يفقهون بها، ولهم أعين لا يبصرون بها، ولهم آذان لا يسمعون بها، وصنف أجسادهم أجساد بني آدم وأرواحهم أرواح الشياطين، وصنف كالملائكة فهم في ظل الله يوم لا ظل إلا ظله». وقال وهيب ابن الورد، بلغنا أن إبليس تمثل ليحيى بن زكريا عليهما الصلاة والسلام فقال له: أنصحك فقال له لا أريد ذلك، ولكن أخبرني عن بني آدم فقال: هم عندنا ثلاثة أصناف: صنف منهم هم أشد الأصناف عندنا نقبل على أحدهم حتى نفتنه عن دينه، ونتمكن منه فيفزع إلى الاستغفار والتوبة، فيفسد علينا كل شيء نصيبه منه، ثم نعود إليه فيعود فلا نحن نيأس منه ولا نحن ندرك منه حاجتنا، فنحن معه في عناء، وصنف منهم في أيدينا كالكرة في أيدي صبيانكم نتلقفهم كيف شئنا قد كفونا مؤنة أنفسهم، وصنف منهم مثلك هم معصومون لا نقدر منهم على شيء.
الخشاف:
لغة في الخفاش.
الخشرم:
الزنابير. قال الأصمعي لا واحد له من لفظه.
الخشف:
بضم الخاء وفتح الشين المعجمة الذباب الأخضر. والخشف بكسر الخاء وإسكان الشين المعجمة ولد الظبي بعد أن يكون جداية وقيل: هو خشف أوّل ما يولد والجمع خشفة.
قال ابن سيده وروى جرير عن ليث قال: صحب رجل عيسى بن مريم عليه الصلاة والسلام فقال: أكون معك يا نبي الله وأصحبك، فانطلقا حتى أتيا إلى شط نهر، فجلسا يتغديان ومعهما ثلاثة أرغفة، فأكلا رغيفين وبقي رغيف، فقام عيسى عليه الصلاة والسلام إلى النهر، فشرب ثم رجع فلم يجد الرغيف، فقال للرجل: من أخذ الرغيف؟ فقال: لا أدري. قال: فانطلق ومعه صاحبه. فرأى ظبية ومعها خشفان لها، فدعا أحدهما فأتاه فذبحه وشوى من لحمه وأكل هو والرجل، ثم قال للخشف: قم بإذن الله فقام وذهب. فقال للرجل: أسألك بالذي أراك هذه الآية من أخذ الرغيف؟ فقال: لا أدري فسارا حتى انتهيا إلى نهر، فأخذ عيسى بيد الرجل ومشيا
__________
(1) رواه البخاري في بدء الخلق: 16. ومسلم في التوبة: 25. وابن ماجه في الزهد: 30. والدارمي في الرقاق:
93. وابن حنبل: 2/ 261، 269.
(2) العسكري: الحسن بن عبد الله بن إسماعيل، أبو أحمد فقيه أديب محدّث بغدادي. مات سنة 382هـ.
(3) البيت في الحيوان للجاحظ: 7/ 61، 70. وفيه: «بغاث الطير أكثرها فروخا، وأم الباز».(2/410)
على الماء، فلما جازا قال عيسى: أسألك بالذي أراك هذه الآية من أخذ الرغيف؟ قال: لا أدري.
فسارا حتى انتهيا إلى مفازة فجلسا، فأخذ عيسى ترابا ورملا وقال كن ذهبا بإذن الله فكان ذهبا، فقسمه عيسى ثلاثة أثلاث، ثم قال: ثلث لي وثلث لك وثلث للذي أخذ الرغيف. فقال الرجل: أنا أخذته قال عيسى: كله لك. ثم فارقه عيسى عليه السلام وذهب ومكث هو عند المال في المفازة، فانتهى إليه رجلان فأرادا أن يأخذاه منه ويقتلاه، فقال: هو بيننا أثلاثا ثم قال: فابعثا أحدكما إلى القرية ليشتري لنا طعاما فقال الذي بعث: لأي شيء اقاسمهما المال؟ لأجعلن لهما في الطعام سما فاقتلهما ففعل. وقال صاحباه في غيبته: لأي شيء نقاسمه المال؟ إذا جاء قتلناه واقتسمنا المال نصفين. فلما جاء قاما إليه وقتلاه، ثم أكلا الطعام فماتا وبقي المال في المفازة وأولئك الثلاثة قتلى حوله فمر عيسى عليه الصلاة والسلام بهم. وهم على تلك الحالة، فقال لأصحابه:
هكذا الدنيا تفعل بأهلها فاحذروها.
الخضاري:
طائر يسمى الأخيل قاله الجوهري. وقد تقدم في باب الهمزة.
الخضرم:
كعلبط ولد الضب.
الخضيراء:
طائر معروف عند العرب.
الخطاف:
بضم الخاء المعجمة جمعه خطاطيف ويسمى زوار الهند وهو من الطيور القواطع إلى الناس، تقطع البلاد البعيدة إليهم رغبة في القرب منهم ثم إنها تبني بيوتها في أبعد المواضع عن الوصول إليها، وهذا الطائر يعرف عند الناس بعصفور الجنة، لأنه زهد ما في أيديهم من الأقوات فأحبوه لأنه إنما يتقو بالذباب والبعوض. وفي الحديث الحسن، الذي رواه ابن ماجه وغيره، عن سهل بن سعد الساعدي، أنه قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال له دلني على عمل إذا عملته أحبني الله وأحبني الناس فقال: «ازهد في الدنيا يحبك الله، وازهد فيما في أيدي الناس يحبك الناس (1)». فأما كون الزهد في الدنيا سببا لمحبة الله تعالى فلأنه تعالى يحب من أطاعه ويبغض من عصاه، وطاعة الله لا تجتمع مع محبة الدنيا، وأما كونه سببا لمحبة الناس فلأنهم يتهافتون على محبة الدنيا، وهي جيفة منتنة وهم كلابها، فمن زاحمهم عليها أبغضوه، ومن زهد فيها أحبوه كما قال (2) الإمام الشافعي رضي الله تعالى عنه:
وما هي إلا جيفة مستحيلة ... عليها كلاب همهن اجتذابها ... فإن تجتنبها كنت سلما لأهلها ... وإن تجتذبها نازعتك كلابها
وقد أحسن القائل في وصف الخطاف:
كن زاهدا فيما حوته يد الورى ... تضحي إلى كل الأنام حبيبا؟ ... أو ما ترى الخطاف حرم زادهم ... أضحى مقيما في البيوت ربيبا
سماه ربيبا لأنه يألف البيوت العامرة دون الخربة، وهو قريب من الناس ومن عجيب أمره أن عينه تقلع ثم ترجع ولا يزى واقفا على شيء يأكله أبدا ولا مجتمعا بأنثاه، والخفاش يعاديه فلذلك
__________
(1) رواه ابن ماجه في الزهد: 1.
(2) ديوان الشافعي 30.(2/411)
إذا فرخ يجعل في عشه قضبان الكرفس فلا يؤذيه إذا شم رائحته ولا يفرخ في عش عتيق حتى يطينه بطين جديد ويبني عشه بناء عجيبا. وذلك أنه يهيىء الطين مع التبن فإذا لم يجد طينا مهيئا ألقى نفسه في الماء ثم يتمرغ في التراب حتى يمتلىء جناحاه، ويصير شبيها بالطين، فإذا هيأ عشه جعله على القدر الذي يحتاج إليه هو وأفراخه ولا يلقي في عشه زبلا بل يلقيه إلى خارج، فإذا كبرت فراخه علمها ذلك. وأصحاب اليرقان يلطخون فراخ الخطاف بالزعفران فإذا رآها صفراء ظن أن اليرقان أصابها من شدة الحر فيذهب فيأتي بحجر اليرقان من أرض الهند، فيطرحه على فراخه، وهو حجر صغير فيه خطوط بين الحمرة والسواد يعرف بحجر السنونو فيأخذه المحتال فيعلقه عليه أو يحكه ويشرب من مائه يسيرا فإنه يبرأ بإذن الله تعالى. والخطاف متى سمع صوت الرعد يكاد أن يموت، وقال ارسطو في كتاب النعوت: الخطاطيف إذا عميت أكلت من شجرة يقال لها عين شمس فيرد بصرها لما في تلك الشجرة من المنفعة للعين وفي رسالة القشيري في آخر باب المحبة أن خطافا راود خطافة على قبة سليمان عليه الصلاة والسلام فامتنعت منه، فقال لها: أتمتنعين علي ولو شئت لقلبت القبة على سليمان، فسمعه سليمان فدعاه وقال له ما حملك على ما قلت؟ فقال:
يا نبي الله العشاق لا يؤاخذون بأقوالهم قال: صدقت.
فائدة:
ذكر الثعلبي وغيره في تفسير سورة النمل أن آدم عليه الصلاة والسلام، لما أخرج من الجنة اشتكى إلى الله تعالى الوحشة، فآنسه الله تعالى بالخطاف، وألزمها البيوت فهي لا تفارق بني آدم أنسالهم. قال: ومعها أربع آيات من كتاب الله عز وجل وهي (1) {لَوْ أَنْزَلْنََا هََذَا الْقُرْآنَ عَلى ََ جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خََاشِعاً} إلى آخر السورة، وتمد صوتها بقوله العزيز الحكيم. والخطاطيف أنواع:
منها نوع يألف سواحل البحر يحفر بيته هناك، ويعشش فيه، وهو صغير الجثة دون عصفور الجنة، ولونه رمادي والناس يسمونه سنونو بضم السين المهملة ونونين. وسيأتي إن شاء الله تعالى في باب السين المهملة، ومنها نوع أخضر على ظهره بعض حمرة أصغر من الذرة يسميه أهل مصر الخضيري، لخضرته يقتات الفراش والذباب ونحو ذلك، ومنها نوع طويل الأجنحة رقيقها يألف الجبال، ويأكل النمل، وهذا النوع يقال له السمائم مفرده سمامه، ومنهم من يسمي هذا النوع السنونو الواحدة سنونوة، وهو كثير في المسجد الحرام يعشش في سقفه في باب إبراهيم وباب بني شيبة. وبعض الناس يزعم أن ذلك هو الطير الأبابيل الذي عذب الله تعالى به أصحاب الفيل. روى نعيم بن حماد عن الحسن رضي الله عنه، قال: دخلنا على ابن مسعود رضي الله عنه، وعنده غلمان كأنهم الدنانير، أو الأقمار حسنا فجعلنا نتعجب من حسنهم، فقال عبد الله كأنكم تغبطوني بهم؟! فقلنا: والله إن مثل هؤلاء يغبط بهم الرجل المسلم، فرفع رأسه إلى سقف بيت له قصير، قد عشش فيه الخطاف وباض، فقال: والذي نفسي بيده لأن أكون قد نفضت يدي من تراب قبورهم، أحب إلي من أن يخرج عش هذا الطائر فينكسر بيضه. قال ابن المبارك: إنما قال ذلك خوفا عليهم من العين. قال أبو إسحاق الصابي يصف الخطاف:
وهندية الأوطان زنجية الخلق ... مسوّدة الألوان محمرة الحدق ... إذا صرصرت صرت بآخر صوتها ... حداد فأذرت من مدامعها العلق
__________
(1) سورة الحشر: الآية 21.(2/412)
كأن بها حزنا وقد لبست له ... كما صر ملوي العود بالوتر الحزق ... تصيف لدينا ثم تشتو بأرضها ... ففي كل عام نلتقي ثم نفترق
الحكم:
يحرم أكل لحم الخطاطيف لما روى أبو الحويرث عبد الرحمن بن معاوية وهو من التابعين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن قتل الخطاطيف وقال: «لا تقتلوا هذه العوذ إنها تعوذ بكم من غيركم». ورواه البيهقي وقال: إنه منقطع. قال: ورواه إبراهيم بن طهمان عن عباد بن إسحاق عن أبيه، قال: «نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قتل الخطاطيف عوذ البيوت». ومن هذه الطريق رواه أبو داود في مراسيله، قال البيهقي: وهو منقطع أيضا. لكن صح عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما موقوفا عليه، أنه (1) قال: «لا تقتلوا الضفادع فإن نقيقها تسبيح. ولا تقتلوا الخطاف فإنه لما خرب بيت المقدس، قال: يا رب سلطني على البحر حتى أغرقهم». قال البيهقي: اسناده صحيح. وسيأتي إن شاء الله تعالى في باب الضاد المعجمة في الحديث (2) «إن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الجلالة والمجثمة والخطفة». بإسكان الطاء وفيها تأويلان أحدهما أن الخطفة ما اختطفه السبع من الحيوانات فأكله حرام. قاله ابن قتيبة: الثاني إن النهي عما يختطف بسرعة ومنها سمي الخطاف لسرعة اختطافه. قاله ابن جرير الطبري ونقله عنه في الحاوي. فعلى هذا يحرم كل ما كان يتقوت بما يختطفه، ولأنه يتقوت من الخبائث قال الماوردي: كل ما كان مستخبثا كالخطاطيف والخفافيش فأكله حرام لخبث لحمه. وقال محمد بن الحسن رضي الله عنه: إنه حلال لأنه يتقوت بالحلال غالبا قال أبو عاصم العبادي: وهذا محتمل على أصلنا. وإليه مال أكثر أصحابنا. وحكاه في شرح المهذب قولا عن حكاية البندنيجي.
الخواص:
قال ارسطو: إن أخذت عين الخطاف وجعلت في خرقة، وشدت على سرير فمن صعد على ذلك السرير لم ينم. وإن أخذت وجففت وسحقت بدهن طيب، فأي امرأة شربت منه أحبت الساقي. وإن أخذت وسحقت بدهن زنبق ومسحت به سرة امرأة نفساء نفعتها. وقلبه إذا سحق بعد تجفيفه وشرب هيج الباه. ودمه إذا سقيت منه امرأة، وهي لا تعلم، سكن عنها شهوة الجماع. وإن ضمد به اليافوخ سكن الصداع الحادث من الأخلاط. وزبله يسحق ويطلى به على الدبيلة تبرأ. ومرارته تسود الشعر الأبيض شربا، وينبغي أن يملأ الشارب فمه حليبا لئلا تسود أسنانه. ولحمه يورث السهر لآكله وفي رأس الخطاف حصاة فيها منافع شتى، وكل خطاف يبلع تلك الحصاة فمن ظفر بها وحملها معه وقته السوء، وكانت له وسيلة إلى من يحب حتى لا يقدر على رده. قال الاسكندر: يوجد عند أول بطن من بطون الخطاطيف في أعشاشها، أول ما يبرزن ويظهرن في العش، حجران أبيضان أو أبيض وأحمر، إن وضع الأبيض على المصروع أفاق، وإن وضع على المعقود حله، والأحمر إن علق على من به عسر البول أبرأه، وربما وجد هذان الحجران مختلفي. الأحوال أحدهما طويل والآخر ململم إن جعلا في جلد عجل وعلقا على من به وسواس وتخيل أبرأه. ولا يوجدان إلا في العش الذي يكون في ناحية المشرق
__________
(1) رواه الدارمي في الأضاحي: 26.
(2) رواه الدارمي في الأضاحي: 18، وابن حنبل: 5/ 195، 6/ 445.(2/413)
دون غيره، وهو عجيب مجرب وقال ابن الدقاق: إن أخذ الطين من عشه، وأديف (1) بالماء وشرب أدر البول، مجرب نافع.
التعبير:
الخطاف في المنام يؤول برجل أو امرأة ومال وولد قارىء لكتاب الله تعالى، ويؤول بمال مغصوب. فمن رأى أنه أخذ خطافا اتخذ مالا حراما، وذلك لأن إسمه خطاف، وهو بمنزلة الخطف. ومن رأى أن بيته قد امتلأ خطاطيف، نال مالا حلالا لأنه نماء خطفه. وقيل: الخطاف رجل أديب أنيس ورع، فمن رأى كأنه استعاره من غيره فإنه يأنس إلى شخص، ومن أخذه فإنه يظلم امرأة. وقالت النصارى: من أكل لحم خطاف في المنام، فإنه يقع في خصومة.
ومن رأى الخطاطيف تخرج من داره تفرق عنه اقرباؤه من جهة سفر، وربما دل الخطاف على الأشغال والأعمال لأنه يظهر في زمن البطالة، وصوت الخطاطيف تنبيه على عمل الخير لأنه كالتسبيح، وربما دل على امرأة صاحبة أمانة. وقال جاماسب: من صاد خطافا أدخلت اللصوص عليه والله تعالى أعلم.
الخطّاف:
بفتح الخاء وتشديد الطاء، سمكة ببحر سبتة لها جناحان على ظهرها أسودان، تخرج من الماء وتطير في الهواء ثم تعود إلى البحر قاله أبو حامد الأندلسي.
الخفاش:
بضم الخاء وتشديد الفاء واحد الخفافيش التي تطير في الليل، وهو غريب الشكل والوصف والخفش صغر العين وضيق البصر.
فائدة:
الأخفش صغير العين ضعيف البصر وقيل: وهو عكس الأعشى وقيل: هو من يبصر في الغيم دون الصحو. وقال الجوهري: هو نوعان والأعشى من يبصر نهارا لا ليلا والعمش ضعف الرؤية مع سيلان الدمع غالب الأوقات والعور معروف.
تتمة:
في كل عين نصف دية ولو عين أحول وأخفش وأعمش وأعور وأعشى وأجهر ونحوهم لأن المنفعة باقية في أعين هؤلاء ومقدار المنفعة لا ينظر إليه كما لا ينظر إلى قوة البطش والمشي وضعفهما. وكذا من بعينه بياض لا ينقص الضوء فإنه يكون كالثآليل في اليد سواء كان على بياض الحدقة أو سوادها وكذا لو كان على الناظر، إلا أنه رقيق لا يمنع الأبصار، ولا ينقص الضوء. هذا ما نص عليه الشافعي رضي الله تعالى عنه، وجرى عليه الأئمة ولم يفرقوا بين حصول ذلك بأفة سماوية أو جناية، فإن نقص فبقسطه، إن أمكن ضبط ذلك النقصان بالصحيحة التي لا بياض بها، وإن لم يمكن ضبط النقص الحاصل بالجناية فالواجب فيه الحكومة وفارق الأعمش ونحوه فإن البياض نقص الضوء الخلقي وعين الأعمش لا ينقص ضوؤها عما كان في الأصل. وهذا الفرق يفهمك أن العمش لو تولد من آفة أو جناية لا يجب في العين كمال الدية فإن سلم قيد به ذلك الاطلاق السابق.
فرع:
ليس في عين الأعور السليمة! إلا نصف الدية عندنا. قال ابن المنذر: وروي
__________
(1) أداف: أذاب وخلط.(2/414)
عن عمر وعثمان رضي الله تعالى عنهما أن فيها الدية، وبه قال عبد الملك بن مروان والزهري وقتادة ومالك والليث والإمام أحمد وإسحاق بن راهويه انتهى. قال البطليوسي:
الخفاش له أربعة أسماء: خفاش وخشاف وخطاف ووطواط، وتسميته خفاشا يحتمل أن تكون مأخوذة من الخفش والأخفش في اللغة نوعان: ضعيف البصر خلقه، والثاني لعلة حدثت وهو الذي يبصر بالليل دون النهار وفي يوم الغيم دون يوم الصحو انتهى. وذكر الجاحظ أن إسم الخفاش يقع على سائر طير الليل، فكأنه راعي العموم، وكون الوطواط هو الخفاش هو الذي ذكره ابن قتيبة وأبو حاتم في كتاب الطير الكبير. وما ذكره البطليوسي من أن الخفاش هو الخطاف فيه نظر، والحق أنهما صنفان وهو الوطواط. وقال قوم:
الخفاش الصغير والوطواط الكبير وهو لا يبصر في ضوء القمر ولا في ضوء النهار غير قوي البصر قليل شعاع العين كما قال الشاعر:
مثل النهار يزيد أبصار الورى ... نورا ويعمي أعين الخفاش
ولما كان لا يبصر نهارا التمس الوقت الذي لا يكون فيه ظلمة ولا ضوء وهو قريب غروب الشمس لأنه وقت هيجان البعوض، فإن البعوض يخرج ذلك الوقت يطلب قوته، وهو دماء الحيوان، والخفاش يخرج طالبا للطعم فيقع طالب رزق على طالب رزق فسبحان الحكيم.
والخفاش ليس هو من الطير في شيء فإنه ذو أذنين وأسنان وخصيتين ومنقار ويحيض ويطهر، ويضحك كما يضحك الإنسان، ويبول كما تبول ذوات الأربع ويرضع ولده ولا ريش له. قال:
بعض المفسرين: لما كان الخفاش هو الذي خلقه عيسى بن مريم عليه الصلاة والسلام بإذن الله تعالى كان مباينا لصنعة الخالق. ولهذا سائر الطيور تقهره وتبغضه فما كان منها يأكل اللحم أكله وما لا يأكل اللحم قتله، فلذلك لا يطير إلا ليلا. وقيل لم يخلق عيسى غيره لأنه أكمل الطير خلقا. وهو أبلغ في القدوة لأن له ثديا وآذانا وأسنانا ويحيض كما تحيض المرأة. قال وهب بن منبه:
كان يطير ما دام الناس ينظرون إليه فإذا غاب عن أعينهم سقط ميتا ليتميز فعل الخلق من فعل الخالق، وليعلم أن الكمال لله تعالى. وقيل: إنما طلبوا خلق الخفاش لأنه من أعجب الطير خلقية، إذ هو لحم ودم يطير بغير ريش وهو شديد الطيران سريع التقلب، يقتات البعوض والذباب، وبعض الفواكه وهو مع ذلك موصوف بطول العمر فيقال: إنه أطول عمرا من النسر ومن حمار الوحش، وتلد انثاه ما بين ثلاثة أفراخ وسبعة، وكثيرا ما يسفد وهو طائر في الهواء وليس في الحيوان ما يحمل ولده غيره والقرد والإنسان، ويحمله تحت جناحه وربما قبض عليه بفيه وذلك من حنوه وإشفاقه عليه، وربما أرضعت الأنثى ولدها وهي طائرة وفي طبعه إنه متى أصابه ورق الدلب خدر ولم يطر، ويوصف بالحمق، ومن ذلك أنه إذا قيل له: اطرق كرى، الصق بالأرض.
الحكم:
يحرم أكله لما رواه أبو الحويرث مرسلا أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن قتله، وقيل: إنه لما خرب بيت المقدس، قال: رب سلطني على البحر حتى أغرقهم، وسئل عنه الإمام أحمد فقال:
ومن يأكله؟ قال النخعي: كل الطير حلال إلا الخفاش. قال الروياني: وقد حكينا في الحج خلاف هذا فيحتمل قولين، وعبارة الشرح والروضة يحرم الخفاش قطعا. وقد يجري فيه الخلاف مع
أنهما قد جزما في كتاب الحج بوجوب الجزاء فيه، إذا قتله المحرم، وإن الواجب فيه القيمة مع تصريحهما بأن ما لا يؤكل لا يفدى على أن الرافعي مسبوق بذلك، فأول من ذكره صاحب التقريب وأشعر كلامه بأن الشافعي رضي الله تعالى عنه ذكره. وذكر المحاملي أن اليربوع لا يحل أكله، ويجب فيه الجزاء في أصح القولين وهو غريب، ولم يزل الناس يستشكلون ما وقع في الرافعي من ذلك. وليس بمشكل فهو يتبين بمراجعة كلام الروياني فإنه قال:(2/415)
ومن يأكله؟ قال النخعي: كل الطير حلال إلا الخفاش. قال الروياني: وقد حكينا في الحج خلاف هذا فيحتمل قولين، وعبارة الشرح والروضة يحرم الخفاش قطعا. وقد يجري فيه الخلاف مع
أنهما قد جزما في كتاب الحج بوجوب الجزاء فيه، إذا قتله المحرم، وإن الواجب فيه القيمة مع تصريحهما بأن ما لا يؤكل لا يفدى على أن الرافعي مسبوق بذلك، فأول من ذكره صاحب التقريب وأشعر كلامه بأن الشافعي رضي الله تعالى عنه ذكره. وذكر المحاملي أن اليربوع لا يحل أكله، ويجب فيه الجزاء في أصح القولين وهو غريب، ولم يزل الناس يستشكلون ما وقع في الرافعي من ذلك. وليس بمشكل فهو يتبين بمراجعة كلام الروياني فإنه قال:
فرع:
قال في الأم: الوطواط فوق العصفور ودون الهدهد، وفيه إن كان مأكولا قيمته.
وذكر عن عطاء أنه قال: فيه ثلاثة دراهم انتهى. فاتضح إن المسألة منصوصة للشافعي رضي الله تعالى عنه، وأنه علق وجوب الجزاء على القول بحل أكله، تم تتبعت كلام عطاء المذكور فوجدت الأزهري قد نقل عنه أنه يجب فيه إذا قتله المحرم ثلثا درهم. قال أبو عبيد قال الأصمعي:
الوطواط هو الخفاش. وقال أبو عبيدة: الأشبه عندي أنه الخطاف. قلت: وأيا كان فهو غير مأكول.
الخواص:
إذا وضع رأسه في حشو مخدة، فمن وضع رأسه عليها لم ينم، وإن طبخ رأسه في إناء نحاس أو حديد بدهن زنبق، ويغمز فيه مرارا حتى يتهرى ويصفى ذلك الدهن عنه، ويدهن به صاحب النقرس، والفالج القديم والارتعاش، والتورم في الجسد والربو، فإنه ينفعه ذلك ويبرئه وهو عجيب مجرب. وإن ذبح الخفاش في بيت وأخذ قلبه، وأحرق فيه لم يدخله حيات ولا عقارب، وإن علق قلبه وقت هيجانه على إنسان هيج الباه. وعنقه إذا علق على إنسان أمن من العقارب، ومن مسح بمرارته فرج امرأة قد عسرت ولادتها، ولدت لوقتها، ومن أخذت من النساء من شحمه لرفع الدم ارتفع عنها. وإن طبخ الخفاش ناعما حتى يتهرى، ومسح به الإحليل أمن من تقطير البول، وإن صب من مرق الخفاش وقعد فيه صاحب الفالج انحل ما به. وزبله إذا طلي به على القوابي قلعها، ومن نتف ابطه وطلاه بدمه مع لبن أجزاء متساوية لم ينبت فيه شعر وإذا طلي به عانات الصبيان قبل البلوغ منع من نبات الشعر فيها.
التعبير:
الخفاش في المنام رجل ناسك، وقال ارطيا ميدروس: إن رؤيته تدل على البطالة وذهاب الخوف لأنه من طيور الليل ولا يؤكل لحمه وهو دليل خير للحبلى بأنها تلد ولادة سهلة ولا تحمد رؤيته للمسافر برا وبحرا، وتدل رؤيته على خراب منزل من يدخل إليه وقيل: الخفاشة في المنام امرأة ساحرة والخفاش تدل رؤيته على رجل حيران ذي حرمان والله أعلم.
الخنان:
كرمان الوزغة، وفي حديث علي كرم الله وجهه أنه قضى قضاء، فاعترف (1) عليه بعض الحرورية فقال له: اسكت يا خنان ذكره الهروي وغيره.
الخلنبوص:
بفتح الخاء المعجمة واللام وإسكان النون وضم الباء الموحدة طائر أصغر من العصفور على لونه وشكله.
الخلد:
بضم الخاء ونقل في الكفاية عن الخليل بن أحمد فتح الخاء وكسرها قال الجاحظ:
__________
(1) هكذا في الأصل ولعله «اعترض».(2/416)
هو دويبة عمياء صماء لا تعرف ما بين يديها إلا بالشم، فتخرج من جحرها، وهي تعلم أن لا سمع لها ولا بصر، فتنفخ فاها وتقف عند جحرها، فيأتي الذباب فيقع على شدقها، ويمر بين لحييها فتدخله جوفها بنفسها، فهي تتعرض لذلك في الساعات التي يكون فيها الذباب أكثر.
وقال غيره: الخلد فأر أعمى لا يدرك إلا بالشم. قال ارسطو في كتاب النعوت: كل حيوان له عينان إلا الخلد، وإنما خلق كذلك لأنه ترابي جعل الله له الأرض كالماء للسمك، وغذاؤه من بطنها وليس له في ظهرها قوة ولا نشاط، ولما لم يكن له بصر، عوضه الله حدة حاسة السمع فيدرك الوطء الخفي من مسافة بعيدة، فإذا أحس بذلك جعل يحفر في الأرض، قال: والحيلة في صيده أن يجعل له في جحره قملة، فإذا أحس بها وشم رائحتها، خرج إليها ليأخذها وقيل: إن سمعه بمقدار بصر غيره. وفي طبعه الهرب من الرائحة الطيبة، ويهوى رائحة الكراث والبصل، وربما صيد بهما فإنه إذا شمهما خرج إليهما، وهو إذا جاع فتح فاه فيرسل الله تعالى له الذباب فيسقط عليه فيأكله، وذكر بعض المفسرين، أن الخلد هو الذي خرب سد مأرب، وذلك أن قوم سبأ كانت لهم جنتان، أي بستانان عن يمين من يأتيها وشماله. قال (1) الله تعالى لهم: {كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ} أي على ما أنعم به عليكم. وكانت بلدتهم طيبة لا يرى فيها بعوض ولا برغوث، ولا عقرب ولا حية، ولا ذباب، وكان الركب يأتون وفي ثيابهم القمل وغيره، فإذا وصلوا إلى بلادهم ماتت. وكان الإنسان يدخل البستان والمكتل على رأسه، فيخرج وقد امتلأ من أنواع الفواكه من غير أن يتناول منها شيئا بيده. فبعث الله لهم ثلاثة عشر نبيا فدعوهم إلى الله وذكروهم نعمه عليهم. وأنذروهم عقابه فأعرضوا وقالوا: ما نعرف لله علينا من نعمة وكان لهم سدّ بنته بلقيس، لما ملكتهم، وبنت دونه بركة فيها اثنا عشر مخرجا على عدد أنهارهم، فكان الماء يقسم بينهم على ذلك. فلما كان من شأنها مع سليمان عليه الصلاة والسلام ما كان، مكثوا مدّة بعدها ثم طغوا وبغوا وكفروا فسلط الله عليهم جرذا أعمى، يقال له الخلد، فنقب السد من أسفله فهلكت أشجارهم وخربت أرضهم. وكانوا يزعمون في علمهم وكهانتهم أن سدهم ذلك تخربه فأرة فلم يتركوا فرجة بين حجرين إلا ربطوا عندها هرة، فلما جاء الوقت الذي أراد الله تعالى، أقبلت فأرة حمراء إلى هرة من تلك الهرار، فساورتها حتى استأخرت عنها الهرة، فدخلت في الفرجة التي كانت عندها، ونقبت وحفرت، فلما جاء السيل وجد خللا، فدخل فيه حتى قلع السد، وفاض على أموالهم فغرقها ودفن بيوتهم بالرمل.
وروي: عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ووهب غيرهما انهم قالوا: كان ذلك السد بنته بلقيس وذلك أنهم كانوا يقتتلون على ماء أوديتهم، فأمرت بواديهم فسد بالعرم، وهو بلغة حمير، فسدت بين الجبلين بالصخر والقار، وجعلت له أبوابا ثلاثة: بعضها فوق بعض وبنت من دونه بركة ضخمة وجعلت فيها إثني عشر مخرجا على عدد أنهارهم، يفتحونها إذا احتاجوا إلى الماء وإذا استغنوا عنه سدوها فإذا جاء المطر اجتمع إليه ماء أودية اليمن، فاحتبس السيل من وراء السد فأمرت بالباب الأعلى ففتح فجرى ماؤه في البركة فكانوا يسقون من الباب
__________
(1) سورة سبأ: الآية 15.(2/417)
الأعلى ثم من الثاني ثم من الثالث الأسفل فلا ينفد الماء حتى يثوب الماء من السنة المقبلة، فكانت تقسمه بينهم على ذلك والله أعلم.
ونقل: الإمام أبو الفرج بن الجوزي عن الضحاك، أن الجرذ الذي خرب سد مأرب كان له مخاليب وأنياب من حديد، وأن أول من علم بذلك عمرو بن عامر الأزدي وكان سيدّهم وكان قد رأى في المنام، كأنه انبثق عليه الردم، فسال الوادي، فأصبح مكروبا فانطلق نحو الردم، فرأى الجرذ يحفر بمخاليب من حديد، ويقرض بأنياب من حديد، فانصرف إلى أهله فأخبر امرأته وأراها ذلك وأرسل بنيه فنظروا، فلما رجعوا قال: هل رأيتم ما رأيت قالوا نعم قال: فإن هذا الأمر ليس لنا إلى إذهابه من سبيل. وقد اضمحلت الحيلة فيه لأن الأمر من الله، وقد آذن الله بالهلاك ثم إنه عمد إلى هرة فأخذها، وأتى إلى الجرذ فصار الجرذ يحفر ولا يكترث بالهرة، فولت الهرة هاربة فقال عمر ولأولاده: احتالوا لأنفسكم فقالوا: يا أبت كيف نحتال؟ فقال: إني محتال لكم بحيلة قالوا:
افعل فدعا أصغر بنيه وقال له: إذا جلست في المجلس، واجتمع الناس على العادة، وكان الناس يجتمعون إليه وينتهون برأيه، فإني آمرك بأمر فتغافل عنه، فإذا شتمتك فقم إلي والطمني. ثم قال لأولاده: فإذا فعل ذلك فلا تنكروا عليه، ولا يتكلم أحد منكم، فإذا رأى الجلساء فعلكم لم يجسر أحد منهم أن ينكر عليه، ولا يتكلم فأحلف أنا عند ذلك يمينا لا كفارة لها، أن لا أقيم بين أظهر قوم قام إليّ أصغر بني فلطمني فلم يغيروا. فقالوا: نفعل ذلك فلما جلس واجتمع الناس إليه أمر ابنه الصغير ببعض أمره، فلها عنه فشتمه، فقام إليه ولطم وجهه فعجب الجماعة من جراءة ابنه عليه، وظنوا أن أولاده يغيرون عليه فنكسوا رؤسهم! فلما لم يغر أحد منهم، قام الشيخ وقال:
أيلطمني ولدي وأنتم سكوت! ثم حلف يمينا لا كفارة لها أن يتحول عنهم، ولا يقيم بين أظهر قوم لم يغيروا عليه، فقام القوم يعتذرون إليه وقالوا له: ما كنا نظن أن أولادك لا يغيرون، فذاك الذي منعنا. فقال: قد سبق مني ما ترون وليس إلي غير التحول من سبيل. ثم أنه عرض ضياعه للبيع، وكان الناس يتنافسون فيها، واحتمل بثقله وعياله وتحول عنهم، فلم يلبث القوم إلا يسيرا حتى أتى الجرذ على الردم، فاستأصله فبينما القوم ذات ليلة بعد ما هدأت العيون، إذا هم بالسيل فاحتمل أنعامهم وأموالهم وخرب ديارهم، فذلك قوله (1) تعالى: {فَأَرْسَلْنََا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ}
وفي العرم أقوال: قيل: هو المسناة أي السد. قاله قتادة. وقيل: هو إسم الوادي، قال السهيلي.
وقيل: إسم الخلد الذي خرق السد. وقيل هو السيل الذي لا يطاق. وأما مأرب فبسكون الهمزة إسم لقصر كان لهم. وقيل: هو إسم لكل ملك كان على سبأ، كما أن تبعا إسم لكل من ولي اليمن والشحر وحضر موت، قاله المسعودي. وقال السهيلي: وكان السد من بناء سبأ بن يشجب، وكان قد ساق إليه سبعين واديا ومات من قبل أن يتمه فاتمته ملوك حمير. وإسم سبأ عبد شمس بن يشجب بن يعرب بن قحطان. قيل: إنه أول من سبي فسمي سبأ. وقيل: إنه أول من تتوج من ملوك اليمن، وقال المسعودي: بناه لقمان بن عاد وجعله فرسخا في فرسخ، وجعل له ثلاثين شعبا فأرسل الله عليه سيل العرم، وفرقوا ومزقوا حتى صاروا مثلا. فقالوا: «تفرقوا أيدي سبأ وأيادي
__________
(1) سورة سبأ: الآية 16.(2/418)
سبأ». قال الشعبي: لما غرقت قراهم تفرقوا في البلاد، فأما غسان. فلحقوا بالشأم، والأزد إلى عمان، ومر خزاعة إلى تمامة وجذيمة إلى العراق، والأوس والخزرج إلى يثرب، وكان الذي قدم منهم المدينة عمرو بن عامر وهو جد الأوس والخزرج.
روى: أبو سبرة النخعي عن فروة بن مسيك القطيفي قال: قال رجل: يا رسول الله أخبرني عن سبأ أكان رجلا أو امرأة أو أرضا؟ فقال صلى الله عليه وسلم: «كان رجلا من العرب، وله عشرة أولاد تيامن منهم ستة وتشاءم. أربعة، فأما الذين تيامنوا فكندة والأشعريون والأزد ومذحج وأنمار وحمير. فقال الرجل: وما أنمار؟ قال: الذين منهم خثعم وبجيلة. وأما الذين تشاءموا فلخم وجذام وعاملة وغسان.
ومن الفوائد المجربة:
أن يكتب للخلد الذي يطلع في الدواب، ويعلق في أذن الدابة اليسرى: يا خلد سليمان بن داود ذكر عزرائيل على وسطك، وذكر جبرائيل على رأسك، وذكر اسرافيل على ظهرك، وذكر ميكائيل على بطنك لا تدب ولا تسعى ألا أيبس كما يبس لبن الدجاج وقرن الحمار بقدرة العزيز القهار. وهذا قول عزرائيل وجبرائيل واسرافيل وميكائيل، وملائكة الله المقربين، الذين لا يأكلون ولا يشربون، إلا بذكر الله هم يعيشون اصبا وتآال شداي ايبس أيها الخلد من دابة فلان ابن فلانة أو من هذه الدابة بقدرة من يرى ولا يرى. ويسألونك عن الجبال فقل ينسفها ربي نسفا فيذرها قاعا صفصفا لا ترى فيها عوجا ولا أمتا ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت فقال لهم الله موتوا فماتوا. كذلك يموت الخلد من دابة فلان ابن فلانة أو من هذه الدابة.
1171118111 - ل ط ط 31531171اب ر ك امن الفوائد المجرية للخلد أيضا، أن يكتب في ورقة ويعلق في عنق الفرس المخلود: طلعوا ستة وستين ملكا إلى جبال القدس لقوا ثلاث شجرات الواحدة قطعت والثانية يبست والثالثة احترقت انقطع أيها الخلد ببركة سيهوم ديهوم دهوم بألف لا حول ولا قوّة إلا بالله العلي العظيم ج وج وج وارتفع ارتفع ارتفع اهـ اهـ اهـ ل ط اس ل ط اس ل ط اس ل ط اس ل ط اس الله الله الله الله الله الله الله الله الله الله الله حم حم حم حم حم حم حم حم حم حم حم توكلت ل اد هي ع ل اا على الله اللهم احفظ حامله ودابته بحرمة الرب العظيم والقرآن العظيم ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم انتهى.(2/419)
الحكم:
يحرم أكله لأنه نوع من الفأر وقال مالك: لا بأس بأكل الخلد والحيات إذا ذكى ذلك. وهذا أول مسألة في كتاب الذبائح من المدوّنة.
الأمثال:
قالوا: «اسمع من خلد وأفسد من خلد».
الخواص:
دمه إذا اكتحل به أبرأ العين، والدم الذي في ذنبه إذا طلى به الخنازير أذهبها، وشفته العليا إذا علقت على من به حمى الربيع أذهبتها، وإن أكل لحمه قبل طلوع الشمس مشويا تعلم آكله كل شيء، ودماغه إن جعل في قارورة مع دهن ورد ودهن به الجرب، والقوابي (1) والكالف، والحزاز وكل شيء يظهر في الجسد أبرأه، قال الجاحظ: التراب الذي يخرجه الخلد من جحره يزعمون أنه يصلح لصاحب النقرس، إذا بل بالماء وطلي به ذلك المكان. وقال ارسطو: إذا غرق الخلد في ثلاثة أرطال ماء، ثم سقي منه إنسان تكلم بكل علم يسأل عنه، على سبيل الهذيان اثنين وأربعين يوما. وقال يحيى بن زكريا: إذا غرق الخلد في ثلاثة أرطال ماء، وترك فيه حتى ينتفخ ثم يصفى من ذلك الماء، ويرمى عظمه، ويطبخ في قدر نحاس ويلقى عليه أربعة دراهم لبان ذكر، ومثله أفيون، ومثله كبريت، ومثله نشادر، بعد أن تدق هذه الحوائج مع أربعة أرطال عسل ويطبخ حتى يصير مثل الطلاء، ويجعل في اناء زجاج ثم يلعق على الريق، والشمس في الحمل إلى أن تدخل الأسد، ولا يأكل مستعمله شيئا فيه زهومة، ويكون طاهرا صائما، فمن فعل ذلك علمه الله تعالى كل شيء بقدرته.
التعبير:
الخلد تدل رؤيته على العمى والنية والتبدد والحيرة والاختفاء وضيق الملك. وربما دلت رؤيته على حدة السمع لمن يشكو ضررا من سمعه. إن رؤي مع ميت فهو في النار لقوله (2)
عز وجل: {وَذُوقُوا عَذََابَ الْخُلْدِ بِمََا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} وربما كان في الجنة وسكن جنة الخلد والله تعالى أعلم.
الخلفة:
الناقة الحامل وجمعها خلفات. روى مسلم عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أيحب أحدكم إذا رجع إلى أهله أن يجد فيه ثلاث خلفات عظام سمان قلنا نعم قال فثلاث آيات يقرؤهن أحدكم في صلاته خير له من ثلاث خلفات عظام سمان (3)». وروي أيضا عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «غزا نبي من الأنبياء فقال لقومه: لا يتبعني رجل قد ملك بضع امرأة وهو يريد أن يبني بها ولم يبن، ولا أحد قد بنى بنيانا ولم يرفع سقفها، ولا أحد قد اشترى غنما أو خلفات وهو ينتظر أولادها. قال: فغزا فدنا من القرية حين صلاة العصر أو قريبا من ذلك، فقال للشمس: أنت مأمورة وأنا مأمور، واللهم احبسها علي فحبست عليه حتى فتح الله عليه». الحديث (4). وهذا النبي هو يوشع بن نون عليه السلام.
__________
(1) القوابي: جمع القوباء: ما يظهر على الجسد ويخرج منه.
(2) سورة السجدة: الآية 14.
(3) رواه الدارمي في الفضائل: 1. مسلم في المسافرين: 250. وابن ماجه في الأدب: 52. وابن حنبل:
2/ 497466397.
(4) رواه البخاري خمس: 8، ومسلم جهاد: 3، وابن حنبل: 2/ 318.(2/420)
فائدة:
حبست الشمس مرتين لنبينا صلى الله عليه وسلم: إحداهما يوم الخندق حين شغلوا عن صلاة العصر حتى غربت الشمس، فردها الله تعالى عليه. كما رواه الطحاوي وغيره. والثانية صبيحة الإسراء حين انتظر العير التي أخبر بوصولها مع شروق الشمس وفي أواخر المستدرك من حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لو أخذ سبع خلفات بشحومهن، فألقين في شفير جهنم ما انتهين إلى قعرها سبعين عاما». قال شيخ الإسلام الإمام الذهبي: إسناده صالح.
والحكمة في التمثيل بالسبع إن ذلك عدد أبواب جهنم. وروى الشافعي والنسائي وابن ماجه من حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (1): «الا إن في قتيل الخطأ وقتيل السوط والعصا مائة من الإبل مغلظة، منها أربعون خلفة في بطونها أولادها». وإسناده ضعيف ومنقطع.
وقال أبو حاتم: رواية ارساله أشبه. قال شيخ الإسلام النووي في تهذيبه: وهذا مما يستشكل لأن الخلفة هي التي في بطنها ولدها فإن قيل: فما الحكمة في قوله صلى الله عليه وسلم: «في بطونها أولادها»؟ فجوابه من أربعة أوجه: أحدها أنه توكيد وإيضاح، والثاني أنه تفسير لها لا قيد، والثالث أنه نفي لوهم من يتوهم أن يكفي في الخلفة أن تكون حملت في وقت ما ولا يشترط حملها حالة دفعها في الدية، والرابع أنه إيضاح لحكمها وأنه يشترط في نفس الأمر أن تكون حاملا ولا يكفي قول أهل الخبرة أنها خلفة إذا تبين إنه لم يكن في بطنها ولد. وذكر الرافعي أنه قيل: إن الخلفة تطلق أيضا على التي ولدت وولدها يتبعها.
فائدة أخرى:
الخطأ المحض هو أن لا يقصد ضربه، بل قصد شيئا آخر فأصابه فمات منه، فلا قصاص عليه، بل تجب دية مخففة على عاقلته، مؤجلة إلى ثلاث سنين. وتجب الكفارة في ماله في الأنواع كلها. وشبه العمد أن يقصد ضربه بما لا يموت مثله من مثل ذلك الضرب غالبا بأن ضربه بعصا خفيفة أو حجر صغير ضربة أو ضربتين فمات، فلا قصاص فيه، بل تجب دية مغلظة على عاقلته مؤجلة إلى ثلاث سنين. والعمد المحض هو أن يقصد قتل إنسان، بما يقصد به القتل غالبا، كالسيف والسكين، وما أشبه ذلك ففيه القصاص عند وجود التكافؤ، أو دية مغلظة في مال القاتل حالة. وعند أبي حنيفة، قتل العمد لا يوجب الكفارة لأنه كبيرة كسائر الكبائر ودية الحر المسلم مائة من الإبل، فإذا كانت الدية في العمد المحض، أو شبه العمد، فهي مغلظة بالسن، فيجب ثلاثون حقة، وثلاثون جذعة، وأربعون خلفة في بطونها أولادها. وهو قول عمرو بن زيد بن ثابت رضي الله تعالى عنهما. وبه قال عطاء وإليه ذهب الشافعي للحديث المتقدم عن ابن عمر رضي الله عنهما. وذهب قوم إلى أن الدية المغلظة أرباع: خمس وعشرون بنت مخاض، وخمس وعشرون بنت لبون، وخمس وعشرون حقة، وخمس وعشرون جذعة. وهو قول الزهري وربيعة، وبه قال مالك وأحمد وأبو حنيفة. وأما دية الخطأ فمخففة وهي أخماس بالاتفاق، غير أنهم اختلفوا في تقسيمها فذهب مالك والشافعي رضي الله تعالى عنهما إلى أنها عشرون بنت مخاض، وعشرون بنت لبون، وعشرون ابن لبون، وعشرون حقة، وعشرون جذعة. وبه قال عمر بن عبد العزيز
__________
(1) رواه النسائي قسامة: 3433. وأبو داود ديّات: 2417، وابن ماجه ديات: 5. وابن حنبل: 112 103. 41254103.(2/421)
وسليمان بن يسار وربيعة. وجعل أبو حنيفة وأحمد عوض بني اللبون بني المخاض. ويروى ذلك عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه. والدية في الخطأ وشبه العمد على العاقلة كما تقدم، وهو عصبات القاتل من الذكور، ولا يجب على الجاني منها شيء، لأن النبي صلى الله عليه وسلم أوجبها على العاقلة. فإن عدمت الإبل فتجب قيمتها من الدراهم والدنانير في قول. وفي قول يجب بدل مقدر منها وهو ألف دينار أو اثنا عشر ألف درهم. لما روي أن عمر رضي الله تعالى عنه فرض الدية على أهل الذهب ألف دينار، وعلى أهل الورق اثني عشر ألف درهم. وبه قال مالك وعروة بن الزبير والحسن البصري. وقال أبو حنيفة: إنها مائة من الإبل أو ألف دينار، أو عشرة آلاف درهم. وبه قال سفيان الثوري رضي الله تعالى عنه.
فرع:
ودية المرأة نصف دية الرجل. ودية أهل الذمة والعهد ثلث دية المسلم إن كان كتابيا، وإن كان مجوسيا فخمس الثلث. وروي عن عمر رضي الله تعالى عنه أنه قال: دية اليهودي والنصراني أربعة آلاف، ودية المجوسي ثمانمائة درهم. وبه قال ابن المسيب والحسن البصري رضي الله تعالى عنهما. وإليه ذهب الشافعي رضي الله تعالى عنه، وذهب جماعة من أهل العلم إلى أن دية الذمي والمعاهد مثل دية المسلم، وهو قول ابن مسعود وسفيان الثوري وأصحاب الرأي. وقال عمر بن عبد العزيز: دية الذمي نصف دية المسلم، وهو قول مالك وأحمد. وأما دية الأطراف فمبسوطة في كتب الفقه.
تذنيب:
قوله (1) تعالى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزََاؤُهُ جَهَنَّمُ خََالِداً فِيهََا} الآية. قال أهل التفسير: إنها نزلت في مقيس بن سبابة، وذلك أنه لما قتل أخوه هشام بن صبابة في بني النجار، ولم يعلموا له قاتلا، وأعطوه ديته مائة من الإبل ثم انصرف هو والفهري إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم راجعين نحو المدينة، فأتي الشيطان مقيسا ووسوس إليه فقال: تقبل دية أخيك فتكون عليك وصمة ومسبة، فاقتل الرجل الذي معك، فتكون نفس مكان نفس وفضل الدية، فغفل الفهري عن نفسه، فرماه مقيس بصخرة فشدخه. ثم ركب بعيرا من إبل الدية وساق باقيها ورجع إلى مكة كافرا فأنزل الله عز وجل فيه هذه الآية. ومقيس هذا هو الذي استثناه النبي صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة ممن أمنه، فقتل وهو متعلق بأستار الكعبة. وقد اختلف في حكم هذه الآية فروى البغوي وغيره عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال: قاتل المؤمن عمدا لا توبة له. وقال زيد بن ثابت رضي الله تعالى عنه لما نزلت الآية التي في الفرقان وهي قوله (2) تعالى: {وَالَّذِينَ لََا يَدْعُونَ مَعَ اللََّهِ إِلََهاً آخَرَ} عجبنا من لينها فلبثنا سبعة أشهر، ثم نزلت الغليظة فنسخت الغليظة اللينة، وأراد بالغليظة هذه الآية وباللينة آية الفرقان. وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: آية الفرقان مكية وآية النساء مدنية، لم ينسخها شيء والذي عليه جمهور المفسرين، وهو مذهب أهل السنة قاطبة، أن توبة قاتل المسلم عمدا مقبولة لقوله (3) تعالى: {إِنَّ اللََّهَ لََا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مََا دُونَ ذََلِكَ لِمَنْ يَشََاءُ} * وما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما فهو تشديد ومبالغة في الزجر عن القتل. كما روي عن سفيان بن عيينة رضي الله تعالى عنه أنه قال: إن المؤمن إذا لم يقتل
__________
(1) سورة النساء: الآية 93.
(2) سورة الفرقان: الآية 68.
(3) سورة النساء: الآية 48.(2/422)
يقال له لا توبة لك، وإن قتل يقال له توبة. وروي مثله عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما.
وليس في الآية مستند لمن يقول بالتخليد في النار بارتكاب الكبائر لأن الآية نزلت في قاتل كافر هو مقيس بن صبابة. كما تقدم. وقيل: إنه وعيد لمن قتل مؤمنا مستحلا لقتله بسبب إيمانه. ومن استحل قتل أهل الإيمان لإيمانهم كان كافرا مخلدا في النار. وروي أن عمرو بن عبيد قال لأبي عمرو بن العلاء، هل يخلف الله وعده؟ فقال أبو عمرو: لا. فقال: أليس قال (1) الله عزّ وجلّ: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزََاؤُهُ جَهَنَّمُ خََالِداً فِيهََا} فقال له أبو عمرو: أمن العجم أنت يا أبا عثمان؟
ألم تعلم أن العرب لا تعد الاخلاف في الوعيد خلفا وذما، وإنما تعد اخلاف الوعد خلفا وذما وأنشد قائلا:
وإني وإن أوعدته أو وعدته ... لمخلف إيعادي ومنجز موعدي
والدليل على أن غير الشرك لا يوجب التخليد في النار ما روى البخاري عن عبادة بن الصامت رضي الله تعالى عنه، وكان قد شهد بدرا، وهو أحد النقباء ليلة العقبة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (2)، وحوله أصحابه: «بايعوني على أن لا تشركوا بالله شيئا ولا تزنوا ولا تسرقوا ولا تقتلوا أولادكم ولا تأتوا ببهتان تفترونه بين أيديكم وأرجلكم، ولا تعصوا في معروف، فمن وفى منكم فأجره على الله، ومن أصاب من ذلك شيئا فعوقب في الدنيا فهو كفارته، ومن أصاب من ذلك شيئا ثم ستر الله عليه، فهو إلى الله إن شاء عفا عنه وإن شاء عاقبه قال فبايعناه على ذلك».
وما روي أيضا في الحديث الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم قال: من مات لا يشرك بالله شيئا دخل الجنة والله الموفق.
الخمل:
بالتحريك ضرب من السمك قاله ابن سيده.
الخنتعة:
كقنفذة الأنثى من الثعالب قاله الأزهري.
الخندع:
كجندب زنة ومعنى صغار الجنادب وقال في المحكم: إنه الخفاش في بعض اللغات.
الخنزير البري:
بكسر الخاء المعجمة جمعه خنازير وهو عند أكثر اللغوين رباعي وحكى ابن سيده عن بعضهم إنه مشتق من خزر العين لأنه كذلك ينظر. فهو على هذا ثلاثي يقال تخازر الرجل إذا ضيق جفنه ليحدد النظر، كقولك: تعامى وتجاهل، قال عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنه في يوم صفين:
إذا تخازرت وما بي من خزر ... ثم كسرت الطرف من غير حور ... ألفيتي ألوي بعيد المستمر ... كالحية الصماء في أصل الشجر
أحمل ما حملت من خير وشر.
__________
(1) سورة النساء: الآية 93.
(2) رواه مسلم إيمان: 153150. زكاة 3332والبخاري: علم 49. خبائز: 1توعيد: 33. رفاق:
1413. ورواه الترمذي إيمان: 18. النسائي صلاة 1. ابن ماجه ديات: 1. أحمد: 1/ 374.(2/423)
وكنية الخنزير أبو جهم وأبو زرعة وأبو دلف وأبو عتبة وأبو علية وأبو قادم، وهو يشترك بين البهيمية والسبعية، فالذي فيه من السبع الناب وأكل الجيف، والذي فيه من البهيمية الظلف وأكل العشب والعلف، وهذا النوع يوصف بالشبق، حتى إن الأنثى منه يركبها الذكر وهي ترتع، فربما قطعت أميالا وهو على ظهرها، ويرى أثر ستة أرجل، فمن لا يعرف ذلك يظن أن في الدواب ماله ستة أرجل. والذكر من هذا النوع يطرد الذكور عن الإناث، وربما قتل أحدهما صاحبه، وربما هلكا جميعا. وإذا كان زمن هيجان الخنازير، طأطأت رؤوسها، وحركت أذنابها، وتغيرت أصواتها. وتضع الخنزيرة عشرين خنوصا، وتحمل من نزوة واحدة، والذكر ينزو إذا تمت له ثمانية أشهر، والأنثى تضع إذا مضى لها ستة أشهر. وفي بعض البلاد ينزو الخنزير إذا تمت له أربعة أشهر، والأنثى تحمل جراءها وتربيها، إذا تمت لها ستة أشهر أو سبعة. وإذا بلغت الأنثى خمس عشرة سنة لا تلد. وهذا الجنس أنسل الحيوان، والذكر أقوى الفحول على السفاد وأطولها مكثا فيه، يقال: إنه ليس لشيء من ذوات الأنياب والأذناب، ما للخنزير من القوة في نابه، حتى إنه يضرب بنابه صاحب السيف والرمح، فيقطع كل ما لاقى من جسده من عظم وعصب، وربما طال ناباه فيلتقيان فيموت عند ذلك جوعا لأنهما يمنعانه من الأكل. وهو متى عض كلبا سقط شعر الكلب. وهو إذا كان وحشيا ثم تأهل، لا يقبل التأديب. ويأكل الحيات أكلا ذريعا، ولا يؤثر فيه سمومها، وهو أروغ من الثعلب، وإذا جاع ثلاثة أيام ثم أكل سمن في يومين، وهكذا تفعل النصارى بالخنازير في الروم يجيعونها ثلاثة أيام، ثم يطعمونها يومين لتسمن. وإذا مرض أكل السرطان فيزول مرضه. وإذا ربط على حمار ربطا محكما، ثم بال الحمار مات الخنزير.
ومن عجيب أمره:
أنه إذا قلعت إحدى عينيه مات سريعا، وفيه من الشبه بالإنسان أنه ليس له جلد يسلخ إلا أن يقطع بما تحته من اللحم وروى الخباري ومسلم وغيرهما عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (1): «والذي نفسي بيده ليوشكن أن ينزل فيكم ابن مريم عليه السلام حكما مقسطا، فيكسر الصليب، ويقتل الخنزير، ويضع الجزية، ويفيض المال حتى لا يقبله أحد». وفي رواية «يهلك في زمانه الملل كلها إلا الإسلام، ويهلك الدجال، ويمكث في الأرض أربعين سنة ثم يتوفاه الله فيصلي عليه المسلمون». وهذا الحديث رواه أبو داود في آخر سننه في كتاب الملاحم مطوّلا قال الخطابي: وفي قوله: «ويقتل الخنزير» دليل على وجوب قتل الخنازير، وبيان أن أعيانها نجسة، وذلك أن عيسى عليه السلام إنما ينزل في آخر الزمان وشريعة الإسلام باقية وقوله: «ويضع الجزية» معناه أنه يضعها عن النصارى واليهود وأهل الكتاب، ويحملهم على الإسلام فلا يقبل منهم غير دين الحق. فذلك معنى وضعها. وفي أواخر الموطأ عن يحيى بن سعيد أن عيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام لقي خنزيرا على الطريق، فقال له:
إذهب بسلام، فقيل له: أتقول هذا الخنزير؟ فقال عيسى عليه الصلاة والسلام: إني أخاف أن أعود لساني النطق بالسوء.
__________
(1) رواه البخاري في المظالم: 31، والبيوع: 102، والأنبياء: 49. ورواه مسلم في الإيمان 243242. ورواه أبو داود في الملاحم: 14، والترمذي في الفتن: 54، وابن ماجه في الفتن: 33، وأحمد: 2/ 240.(2/424)
فائدة:
ذكر أهل التفسير وأصحاب السير، أن عيسى عليه الصلا والسلام استقبل رهطا من اليهود، فلما رأوه قالوا: قد جاء الساحر ابن الساحرة، وقذفوه وأمه، فلما سمع ذلك عيسى دعا عليهم ولعنهم فمسخهم الله تعالى خنازير، فلما رأى ذلك يهوذا، وهو رأس اليهود وأميرهم، فزع من ذلك وخاف دعوته، فجمع اليهود واستشارهم في أمر عيسى عليه الصلاة والسلام، فاجتمعت كلمة اليهود على قتله، فطرقوا عيسى عليه الصلاة والسلام في بعض الليل ونصبوا خشبة ليصلبوه عليها، فأظلمت الأرض، وأرسل الله تعالى ملائكة فحالت بينهم وبينه، فجمع عيسى عليه الصلاة والسلام الحواريين تلك الليلة، وأوصاهم ثم قال: ليكفرن بي أحدكم قبل أن يصيح الديك ويبيعني بدراهم يسيرة، ثم إن الحواريين خرجوا من عنده وتفرقوا. وكانت اليهود تطلبه فأتى إليهم أحد الحواريين، وقال لهم: ما تجعلون لي إن دللتكم على المسيح؟ فجعلو له ثلاثين درهما فأخذها ودلهم عليه فلما دخل البيت، ألقى الله تعالى عليه شبه عيسى، ورفع الله عيسى إليه.
فدخلوا فرأوه، فأخذوه. فقال لهم: أنا الذي دللتكم عليه، فلم يلتفتوا إلى قوله، وقتلوه وصلبوه وهم يظنون أنه عيسى. وقيل: إن الذي ألقي عليه شبهه كان من اليهود، وإسمه تطبانوس.
وقيل: إن عيسى عليه الصلاة والسلام قال للحواريين؟ أيكم يقذف عليه شبهي فيقتل؟ فقال رجل منهم. أنا يا نبي الله. فقتل ذلك الرجل وصلب ورفع الله تعالى عيسى عليه الصلاة والسلام إليه، وكساه الريش وألبسه النور، وقطع عنه لذة المطعم والمشرب، فهو عليه الصلاة والسلام طائر مع الملائكة المقربين حول العرش. وقال أهل التاريخ: حملت مريم بعيسى عليهما السلام ولها ثلاث عشرة سنة، وولدت عيسى ببيت لحم، من أرض أروى شلم، لمضي خمس وستين سنة، من غلبة الاسكندر على أرض بابل، وأوحى الله إليه على رأس ثلاثين سنة من عمره، ورفع من بيت المقدس ليلة القدر من شهر رمضان وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة. وماتت أمه مريم بعد رفعه عليه السلام بست سنين. وذكر ابن أبي الدنيا، عن سعيد بن عبد العزيز أنه قال: قيل لأبي أسيد الفزاري: من أين تعيش فحمد الله تعالى وكبره وقال: يرزق الله الكلب والخنزير ولا يرزق أبا أسيد!؟ وروى ابن ماجه، عن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه، إن النبي صلى الله عليه وسلم قال (1): «طلب العلم فريضة على كل مسلم، وواضع العلم في غير أهله كمقلد الخنازير الجوهر واللؤلؤ والدر والذهب». وفي اسناده كثير بن شنظير، وهو مختلف في توثيقه وتضعيفه. وقال في الإحياء: جاء رجل إلى ابن سيرين فقال: رأيت أن أقلد الدر أعناق الخنازير، فقال: أنت تعلم الحكمة غير أهلها. وفيه أيضا في الباب السادس من أبواب العلم، روي أن رجلا كان يخدم موسى عليه الصلاة والسلام فجعل يقول: حدثني موسى صفي الله حدثني موسى نجي الله حدثني موسى كليم الله حتى أثرى وكثر ماله ففقده موسى عليه السلام وجعل يسأل عنه فلم يجد له أثر. حتى جاءه رجل ذات يوم وفي يده خنزير وفي عنقه حبل أسود فقال: يا موسى أتعرف فلانا؟ قال:
نعم. قال: هو هذا الخنزير. فقال موسى عليه السلام: يا رب أسألك أن ترده إلى حاله الأول حتى أسأله بم أصابه ذلك؟ فأوحى الله تعالى إليه لو دعوتني بالذي دعا به آدم فمن دونه ما أجبتك فيه، ولكن أخبرك لم صنعت به هذا لأنه كان يطلب الدنيا بالدين. وكذلك رواه الإمام أبو طالب
__________
(1) رواه ابن ماجه في المقدمة: 17.(2/425)
المكي في قوت القلوب. وفي المستدرك عن أبي إمامة رضي الله تعالى عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
«يبيت قوم من هذه الأمة على طعام وشراب ولهو فيصبحون وقد مسخوا خنازير، وليخسفن الله بقبائل منها ودور منها حتى يصبحوا، فيقولوا قد خسف لليلة بدار بني فلان، وليرسلن عليهم حجارة كما أرسلت على قوم لوط، وليرسلن عليهم الريح العقيم بشربهم الخمر وأكلهم الربا ولبسهم الحرير، واتخاذهم القينات وقطعهم الرحم». ثم قال: صحيح الاسناد.
الحكم:
لا يجوز بيع الخنزير لما روى أبو داود من حديث أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله عز وجل حرم الخمر وثمنها وحرم الميتة وثمنها وحرم الخنزير وثمنه» (1). واختلفوا في جواز الانتفاع به فكرهت طائفة ذلك وممن منع منه ابن سيرين والحكم وحماد والشافعي وأحمد وإسحاق ورخص فيه الحسن والأوزاعي وأصحاب الرأي. وهو نجس العين كالكلب يغسل ما نجس بملاقاة شيء من أجزائه سبعا إحداهن بالتراب. ويحرم اكله لقوله (2) تعالى: {قُلْ لََا أَجِدُ فِي مََا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى ََ طََاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلََّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ} والرجس النجس. قال الإمام العلامة أقضى القضاة الماوردي: الضمير في قوله تعالى {فَإِنَّهُ رِجْسٌ} عائد على الخنزير لكونه أقرب مذكور ونظيره قوله (3) تعالى: {وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللََّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيََّاهُ تَعْبُدُونَ} ونازعه الشيخ أبو حبان وقال: إنه عائد على اللحم لأنه إذا كان في الكلام مضاف ومضاف إليه، عاد الضمير على المضاف دون المضاف إليه، لأن المضاف هو المحدث عنه، والمضاف إليه وقع ذكره بطريق العرض وهو تعريف المضاف وتخصيصه. وقال شيخنا الأسنوي رحمه الله تعالى: وما ذكره الماوردي أولى من حيث المعنى، وذلك أن تحريم اللحم قد استفيد من قوله تعالى، أو لحم خنزير فلو عاد الضمير لزم خلو الكلام من فائدة التأسيس، فوجب عوده إلى الخنزير ليفيد تحريم اللحم والكبد والطحال وسائر أجزائه، وقال القرطبي، في تفسير سورة البقرة، لا خلاف أن جملة الخنزير محرمة، إلا الشعر فإنه يجوز الخرازة به. ونقل ابن المنذر الإجماع على نجاسته. وفي دعواه الإجماع نظر، لأن مالكا يخالف فيه، نعم هو أسوأ حالا من الكلب فإنه يستحب قتله ولا يجوز الانتفاع به في حالة، بخلاف الكلب. وقال شيخ الإسلام النووي رحمه الله: ليس لنا دليل على نجاسته بل مقتضى المذهب طهارته كالأسد والذئب والفأرة. وقد روي أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الخرازة بشعره فقال: «لا بأس بذلك» (4) رواه ابن خويز منداد. قال: ولأن الخزازة به كانت على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وبعده، موجودة ظاهرة ولم يعلم أنه صلى الله عليه وسلم أنكرها، ولا أحد من الأئمة بعده. وقال الشيخ نصر المقدسي: لا يجوز المسح على خف خرز بشعره ولا الصلاة فيه وإن غسله سبعا إحداهن بالتراب، لأن التراب والماء لا يصلان إلى مواضيع الخرز المتنجسة قال الإمام النووي: وهذا الذي ذكره الشيخ أبو الفتح نصر هو المشهور. وقال القفال، في شرح التلخيص: سألت الشيخ أبا زيد عنه، فقال: الأمر إذا ضاق اتسع. ومراده أن بالناس ضرورة إليه، فتصح الصلاة فيه لذلك. وفي الشرح والروضة في أواخر كتاب الأطعمة قريب من ذلك. ولا يجوز اقتناء الخنزير سواء كان يعدو على الناس أو لم
__________
(1) رواه أبو داود بيوع: 64.
(2) سورة الأنعام: الآية 145.
(3) سورة النحل: الآية 114.
(4) رواه مسلم في الصلاة: 267266265. ورواه أبو داود صلاة: 109.(2/426)
يكن يعدو، فإذا كان يعدو وجب قتله قطعا وإلا فوجهان: أحدهما يجب قتله، والثاني يجوز قتله، ويجوز إرساله وهو ظاهر نص الشافعي. فالوجهان في وجوب قتله، وأما اقتناؤه فلا يجوز بحال كما صرح به في شرح المهذب وغيره. وفي سنن أبي داود من حديث عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: أحسبه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا صلى أحدكم إلى غير سترة فإنه يقطع صلاته الكلب والحمار والخنزير واليهودي والمجوسي والمرأة الحائض، ويجزىء عنه إذا مروا بين يديه قذفه بحجر». وفيه (1) أيضا من حديث المغيرة بن شعبة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (2): «من باع الخمر فليشقص الخنازير». قال الخطابي: معناه فليستحل أكلها. وقال في النهاية: معناه فليقطعها ويفصلها أعضاء كما تفصل الشاة إذا بيع لحمها. والمعنى: من استحل بيع الخمر فليستحل بيع الخنزير، فإنهما في التحريم سواء، وهذا لفظ أمر معناه النهي، تقديره من باع الخمر فليكن للخنازير قصابا. وجعله الزمخشري من كلام الشعبي.
الأمثال:
قالوا: «أطيش من عفر». والعفر ولد الخنزير، والعفر أيضا الشيطان، والعفر أيضا العقرب، وقالوا: «أقبح من خنزير». وقالوا: «أكرهه كراهة الخنازير الماء الموغر». وأصله أن النصارى تغلي الماء للخنازير فتلقيها فيه لتنضج، فذلك هو الإيغار. قال أبو عبيد: ومنه قول الشاعر:
ولقد رأيت مكانهم فكرهتهم ... ككراهة الخنزير للإيغار
وقال ابن دريد: ألايغار أن يغلى الماء للخنازير فتسمط وهي حية.
إشارة:
ابن دريد هو محمد بن الحسن بن دريد أبو بكر الأزدي البصري إمام عصره في اللغة والأدب والشعر، ومن جيد شعره المقصورة التي مدح بها الشاه بن ميكال وولده إسماعيل وعارضه فيها جماعة كثيرة من الشعراء، واعتنى بمقصورته جماعة من العلماء، فشرحوها. ومن تصانيفه الجمهرة وهو من الكتب المعتبرة، قال بعض العلماء: ابن دريد أعلم الشعراء وأشعر العلماء، وعرض له في أواخر عمره فالج، فكان إذا دخل عليه الداخل ضج وتألم لدخوله وإن لم يصل إليه وسقي الترياق فبرىء منه ورجع إلى أسماع تلامذته ثم عاوده الفالج بعد حول، لغذاء ضار تناوله فكان يحرك يديه حركة ضعيفة، وبطل من محزمه إلى قدميه. قال تلميذه أبو علي: كنت أقول في نفسي إن الله تعالى عاقبه بقوله في المقصورة حين ذكر الدهر بقوله (3):
مارست من لوهوت الأفلاك ... من جوانب الجوّ عليه ما شكا
وعاش بهذه الحالة عامين وكان آخر كلامه (4):
فوا حزني إن لا حياة لذيذة ... ولا عمل يرضي به الله صالح
ثم قبض. قال ابن دريد: سهرت ليلة فلما كان آخر الليل رأيت رجلا دخل علي في المنام فأخذ بعضادتي الباب وقال: أنشدني أحسن ما قلت في الخمر، فقلت: ما ترك أبو نواس لأحد
__________
(1) رواه النسائي في القبلة: 7. وابن ماجه إقامة: 38. وابن حنبل: 1/ 347247.
(2) رواه أبو داود بيوع: 64. الدارمي أشربة: 9. ابن حنبل: 4/ 253.
(3) وفيات الأعيان: 4/ 326.
(4) وفيات الأعيان: 4/ 327.(2/427)
شيئا فقال: أنا أشعر منه، قلت: من أنت؟ قال: أنا أبو ناجية من أهل الشام ثم أنشدني (1):
وحمراء قبل المزج صفراء بعده ... أتت بين ثوبي نرجس وشقائق ... حكت وجنة المعشوق صرفا فسلطوا ... عليها مزاجا فاكتست لون عاشق
فقلت له: أسأت فقال: ولم؟ قلت لأنك قلت: وحمراء، فقدمت الحمرة ثم قلت: بين ثوبي نرجس وشقائق، فقدمت الصفرة فقال: ما هذا الاستقصاء في هذا الوقت يا بغيض؟
ويقال: إن ابن دريد أنشدهما لنفسه، وكان ابن دريد يشرب الخمر إلى أن جاوز تسعين سنة، وكان، حين أصابه الفالج، صحيح الذهن والعقل، يرد فيما يسأل عنه ردا صحيحا. وتوفي في شعبان سنة إحدى وعشرين وثلاثمائة ببغداد، ودريد تصغير أدرد وهو الذي ليس في فيه سن قاله ابن خلكان وغيره.
الخواص:
كبده إذا أكلت أو سقيت لإنسان نفعت من نهش الهوام خصوصا الحيات، وإن جفت وسقيت لمن به ريح الفالج والقولنج، برىء من وقته، وإذا قطرت مرارته في أنف رجل مربوط في كل جانب من أنفه ثلاث قطرات انطلق وبرىء، وإذا أحرق عظمه وسحق وشربه من به البواسير، فإنها تهدأ وتبرأ، بإذن الله تعالى، وقيل: إن حشي به موضع الناسور، أبرأه وعظمه يعلق على من به حمى الربع تذهب عنه، وقال يوحنا إن مما جربته الحكماء القدماء، أن عظم الخنزير يعلق على من به حمى الربع في خرقة تعقد فيه يبرأ منها، وإن جففت مرارته ووضعت على البواسير قلعتها من ساعتها، وزبله إذا أمسكه من به فواق دائم أبرأه، وإن شرب فتت الحصا.
وأجوده زبل البري، وإن عجن بخل وطلي به الرأس نفع من سائر الجراحات، والجروح التي تظهر به، وإذا لطخ به، أصل شجرة الرمان الحامض أبدله حلوا وعرقوبه إذا أحرق وسحق وعجن بعسل وسقي لمن به مغص ونفخ في معدته وأمعائه وزن مثقال، فإنه ينفع نفعا عظيما.
التعبير:
الخنزير تدل رؤيته على الشر والنكد والإفلاس، وعلى المال الحرام، وتدل رؤية إناثه على كثرة النسل، فإن حصل له منه ضرر في المنام ربما تنكد من نصراني، وقيل: الخنزير في المنام عدو قوي ملعون خدوع عند النوائب، غدّار فمن رأى أنه ركب خنزيرا نال مالا وقهر عدوا كما وصفت ومن أكل لحم الخنزير مطبوخا نال مالا وتجارة من غير حل. ومن رأى أنه تحول خنزيرا نال مالا مع ذلة ووهن في الدين ومن رأى أنه يمشي، كما يمشي الخنزير، نال سرورا وقرة عين.
وأولاد الخنازير هموم لمن ملكها والخنزير الأهلي خصب لمن رأه بداره، وكل حيوان يتربى عاجلا ويألف فهو تمام قصد من رآه وقضاء حاجته. والبري يدل للمسافر على مطر أو برد. ومن رعى الخنازير في المنام فإنه يلي على قوم من اليهود والنصارى. ومن رأى كأن زوجته صارت خنزيرة، فإنه يطلقها لأنه حرمت عليه. ولحمه خير لجميع الناس لأن الخنزير لا ينفع إلا بعد موته وهو مال حرام لقوله (2) تعالى: {إِنَّمََا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ} * ففيه إشارة لذلك والله أعلم
__________
(1) وفيات الأعيان: 4/ 327.
(2) سورة البقرة: الآية 173.(2/428)
الخنزير البحري:
سئل مالك عنه فقال: أنتم تسمونه خنزيرا يعني أن العرب لا تسميه بذلك لأنها لا تعرف في البحر خنزيرا والمشهور أنه الدلفين. وسيأتي إن شاء الله في باب الدال المهملة قال الربيع: سئل الشافعي رضي الله تعالى عنه عن خنزير الماء فقال: يؤكل. وروي أنه لما دخل العراق قال فيه: حرمه أبو حنيفة وأحله ابن أبي ليلى. وروي هذا القول عن عمرو عثمان وابن عباس وأبي أيوب الأنصاري وأبي هريرة رضي الله تعالى عنهم، والحسن البصري والأوزاعي والليث وأبى مالك أن يقول فيه شيئا وأبقاه مرة أخرى على جهة الورع. وحكى ابن أبي هريرة عن ابن خيران أن اكارا صاد له خنزير ماء، وحمله إليه فأكله وقال: كان طعمه موافقا لطعم الحوت سواء. وقال ابن وهب: سألت الليث بن سعد عنه، فقال: إن سماه الناس خنزيرا لم يؤكل لأن الله حرم الخنزير.
الخنفساء:
معروفة، وكان من حقها أن تكتب قبل هذا لأن نونها زائدة وهي بفتح الفاء ممدودة الأنثى خنفساءة وقال ابن سيده: الخنفساء دويبة سوداء أصغر من الجعل منتنة الريح.
والأنثى خنفسة وخنفساءة وضم الفاء في كل ذلك لغة. والخنفس إسم للكثير من الخنافس. وقال الأصمعي: لا يقال خنفساءة بالهاء وكنيتها أم القسور وأم الأسود، وأم مخرج وأم اللجاج، وأم التن، تتولد من عفونة الأرض وهي طويلة الظمأ وبينها وبين العقرب صداقة، ولهذا يسميها أهل المدينة الشريفة جارية العقرب.
وهي أنواع منها الجعل وحمار قبان، وبنات وردان، والحنطب وهو ذكر الخنافس، والخنفساء مخصوصة بكثرة الفسو كالظربان ولذلك تقول العرب في أمثالها (1): «إذا تحركت الخنفساء فست».
قال حنين بن إسحاق: طريق طرد الخنافس أن يطرح في أماكنها الكرفس فإنها تهرب من ذلك المكان. وروى ابن عدي في كامله في ترجمة أبي معشر وإسمه نجيح عن المقبري عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (2): «ليدعن الناس فخرهم في الجاهلية، أو ليكونن أبغض إلى الله تعالى من الخنافس».
غريبة:
حكى القزويني أن رجلا رأى خنفساء فقال: ماذا يريد الله تعالى من خلق هذه؟
ألحسن شكلها أو لطيب ريحها! فابتلاه الله تعالى بقرحة عجز عنها الأطباء حتى ترك علاجها، فسمع يوما صوت طبيب من الطرقيين ينادي في الدرب، فقال: هاتوه حتى ينظر في أمري، فقالوا: وما تصنع بطرقي وقد عجز عنك حذاق الأطباء! فقالى: لا بد لي منه، فلما أحضروه ورأى القرحة استدعى بخنفساء، فضحك الحاضرون منه، فتذكر العليل القول الذي سبق منه، فقال: احضروا له ما طلب فإن الرجل على بصيرة من أمره، فأحضروها له، فأحرقها وذر رمادها على قرحته فبرىء بإذن الله تعالى. فقال للحاضرين: إن الله تبارك وتعالى أراد أن يعرفني أن أخس المخلوقات أعز الأدوية.
وحكى: (3) ابن خلكان في ترجمة جعفر بن جعفر بن يحيى بن خالد بن برمك البرمكي أنه
__________
(1) مجمع الأمثال: 1/ 245. وجمهرة الأمثال: 2/ 90. وفيه: «أفسى من خنفساء».
(2) الكامل لابن عدي: 7/ 2517. ورواه ابن حنبل: 2/ 366.
(3) وفيات الأعيان: 1/ 328.(2/429)
كان عنده أبو عبيدة الثقفي فقصدته خنفساء فأمر جعفر بإزالتها، فقال أبو عبيدة: دعوها عسى أن يأتين بقصدها إليّ خير، فإنهم يزعمون ذلك، فأمر له جعفر بألف دينار، فقال: تحقق زعمهم.
فأمر بتنحيتها فقصدته ثانيا فأمر له بألف دينار أخرى.
الحكم
يحرم أكلها لاستخباثها. وقال الأصحاب: ما لا يظهر فيه ضر ولا نفع، كالخنافس والدود والجعلان والسرطان والبغاث والرخمة والعظاءة والسلحفاة والذباب وأشباهها، يكره قتلها للمحرم وغيره، هكذا قطع به الجمهور. وحكى إمام الحرمين وجها شاذا إنه لا يحرم قتل الطيور والحشرات. ودليل الكراهة أنه عبث بلا حاجة. وقد ثبت في صحيح مسلم عن شداد بن أوس رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال (1): إن الله تعالى كتب الإحسان على كل شيء فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة». وليس من الإحسان قتلها عبثا. وروى البيهقي عن قطبة الصحابي رضي الله تعالى عنه أنه كان يكره أن يقتل الرجل ما لا يضره.
الأمثال:
يقال: «أفسى من الخنفساء (2) وقالوا: «الخنفساء إذا مست نتنت (3)». أي جاءت بالنتن الكثير. يضرب لمن ينطوي على خبث معناه لا تفتشوا على ما عنده، فإنه يؤذيكم بنتن معايبه. وقال خلف الأحمر (4) النحوي يهجو العتبي (5):
لنا صاحب مولع بالخلاف ... كثير الخطاء قليل الصواب ... ألج لجاجا من الخنفساء ... وأدهى إذا ما مشى من غراب (6)
الخواص:
إذا أخذت رؤوس الخنافس وجعلت في برج حمام اجتمع الحمام إليه، والاكتحال بما في جوفها من الرطوبة يحد البصر، ويجلو غشاوة العين، ويزيل البياض، وينفع السبل نفعا عظيما بليغا. وإذا بخر المكان بورق الدلب، هرب منه الخنافس وإن أخذت خنفساء وطبخت بعصير السمسم وقطر في الأذن منه، فإنه نافع من جميع أوجاع الأذن وإن شدخت خنفساء وربطت على لسعة العقرب أبرأتها، وإن أحرقت وذر رمادها على القرحة أبرأتها، ومن أكل الخنفساء ولم يشعر بها حتى دخلت إلى جوفه، وهي حية قتلته من وقته.
التعبير:
الخنفساء في المنام تدل رؤيتها على موت النفساء، ورؤية الذكر تدل على رجل يخدم الأشرار. وربما دلت رؤيته على عدوّ قذر بغيض والله أعلم.
الخنّوص:
بكسر الخاء وتشديد النون ولد الخنزير، والجمع الخنانيص. قال الأخطل يخاطب بشر بن مروان:
__________
(1) رواه مسلم في الصيد: 57. وأبو داود في الأضاحي: 11. الترمذي في الديّات: 14النسائي في الضحايا:
272622. ابن ماجه ذبائح: 3. الدارمي أضاحي: 10.
(2) مجمع الأمثال: 1/ 245. وجمهرة الأمثال: 2/ 90. وفيه: «أفسى من خنفساء».
(3) مجمع الأمثال: 1/ 245. وجمهرة الأمثال: 2/ 90. وفيه: «أفسى من خنفساء».
(4) خلف الأحمر: خلف بن حيّان، أبو محرز، راوية، أديب، شاعر بصري له علم في النحو. مات سنة 180هـ.
(5) العتبي: محمد بن عبيد الله بن عمرو: أديب كثير الأخبار حسن الشعر. مات في البصرة سنة 228.
(6) البيتان في الحيوان للجاحظ: 3/ 500. وفيه: «أزهي إذا».(2/430)
أكلت الدجاج فأفنيتها ... فهل في الخنانيص من مغمرّ
ويروي أكلت القطاة قاله ابن سيده.
وحكمه وتعبيره: كالخنزير.
الخواص:
مرارته تحلل الأورام اليابسة، وإذا خلطت بعسل وطلي بها احليل الرجل هيج الباه بشهوة عظيمة. وشحمه المذاب إذا مسح به أصل شجر الرمان الحامض أبدله حلوا.
الخيتعور:
الذئب لأنه لا عهد له. وقيل: الخيتعور الغول، والياء فيه زائدة، وفي الحديث:
«ذاك أزب العقبة يقال له الخيتعور». يريد به شيطان العقبة فجعل الخيتعور إسما له. وقيل:
الخيتعور كل شيء يضمحل ولا يدوم على حالة واحدة ولا يكون له حقيقة كالسراب قال الشاعر (1):
كل أنثى وإن بدا لك منها ... آية الحب حبها خيتعور
وقيل: الخيتعور دويبة تكون في وجه الماء لا تثبت في موضع إلا دبت. وقيل: الخيتعور الذي ينزل في الهواء، أبيض كالخيط أو كنسج العنكبوت. وقيل الخيتعور الدنيا الذاهبة والله أعلم.
الخيدع:
والخيطل السنور وسيأتي إن شاء الله تعالى في باب السين.
الأخيل:
طائر أخضر على جناحيه لمع تخالف لونه سمي بذلك للخيلان. وقيل للأخيل الشقراق وهو مشؤوم. ولفظه ينصرف في النكرة إذا سميت به، ومنهم من لا يصرفه في معرفة ولا نكرة ويجعله في الأصل صفة من التخيل. ويحتج بقوله حسان رضي الله تعالى عنه:
ذريني وعلمي بالأمور وشيمتي ... فما طائري فيها عليك بأخيلا (2)
الخيل:
جماعة الأفراس لا واحد له من لفظه كالقوم والرهط والنفر. وقيل: مفرده خائل، قاله أبو عبيدة وهي مؤنثة والجمع خيول وقال السجستاني: تصغيرها خييل.
وسميت الخيل خيلا لاختيالها في المشية، فهو على هذا اسم للجمع عند سيبويه، وجمع عند أبي الحسن. ويكفي في شرف الخيل أن الله تعالى أقسم بها في كتابه فقال:
{وَالْعََادِيََاتِ ضَبْحاً} (3) وهي خيل الغزو التي تعدو فتضج أي تصوّت بأجوافها. وفي الصحيح عن جرير بن عبد الله رضي الله تعالى عنه قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يلوي ناصية فرسه بأصبعيه وهو يقول: «الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة (4)». الأجر
__________
(1) البيت في الحيوان للجاحظ منسوب إلى الحارث بن عمرو الكندي وفيه: «آية الود عهدها».
(2) البيت في ديوان حسان: 404. وفيه: «طائري يوما».
(3) سورة العاديات: الآية 1.
(4) رواه البخاري: مناقب 28. مسلم: زكاة 25. أبو داود: جهاد 41. ابن ماجه: تجارات 29. الدارمي:
جهاد 33. الموطأ: جهاد 44. أحمد: 3/ 39.(2/431)
والغنيمة. ومعنى عقد الخير بنواصيها أنه ملازم لها، كأنه معقود فيها والمراد بالناصية هنا الشعر المسترسل على الجبهة. قاله الخطابي وغيره قالوا: وكنى بالناصية عن جميع ذات الفرس، كما يقال: فلان مبارك الناصية، وميمون الغرة أي الذات. وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى المقبرة فقال: «السلام عليكم دار قوم مؤمنين وإنا إن شاء الله بكم لاحقون وددت أنا قد رأينا إخواننا (1)». قالوا: أو لسنا إخوانك يا رسول الله؟ قال صلى الله عليه وسلم: «بل أنتم أصحاب إخواننا الذي لم يأتوا بعد». فقالوا:
كيف تعرف من لم يأت بعد من أمتك يا رسول الله؟ قال صلى الله عليه وسلم: «أرأيتم لو أن رجلا له خيل غر محجلة بين ظهراني خيل دهم بهم، ألا يعرف خيله؟ قالوا: بلى يا رسول الله.
قال صلى الله عليه وسلم: «فإنهم يأتون يوم القيامة غرا محجلين من آثار الوضوء وأنا فرطهم على الحوض» (2). وفي رواية البيهقي، «إن أمتي يأتون يوم القيامة، غرا من السجود، محجلين من الوضوء، ولا يكون ذلك لأحد من الأمم غيرهم». وروى مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم «كان يكره الشكال من الخيل» (3)
والشكال أن يكون الفرس في رجله اليمنى بياض، وفي يده اليسرى بياض، أو في يده اليمنى ورجله اليسرى، كذا وقع تفسيره في صحيح مسلم وهذا أحد الأقوال في الشكال.
وقال أبو عبيدة وجمهور أهل اللغة: والغريب هو أن يكون منه ثلاث قوائم محجلة، وواحدة مطلقة تشبيها بالشكال الذي يشكل به الخيل، فإنه يكون في ثلاث قوائم غالبا. وقال أبو عبيدة: وقد يكون الشكال ثلاث قوائم مطلقة وواحدة محجلة، قال: ولا تكون المطلقة أو المحجلة إلا في الرجل. وقال ابن دريد: هو أن يكون محجلا في شق واحد في يده ورجله، فإن كان مخالفا، قيل: شكال مخالف، وقيل: الشكال بياض اليدين، وقيل:
بياض الرجلين. قال العلماء: إنما كرهه صلى الله عليه وسلم، لأنه على صورة المشكول وقيل: يحتمل أن يكون جرب ذلك الجنس، فلم يكن فيه نجابة. وقال بعض العلماء: فإذا كان مع ذلك أغر زالت الكراهة لزوال شبهه بالشكال. وقال ابن رشيق، في عمدته في باب منافع الشعر ومضاره: إن أبا الطيب المتنبي لما ذهب إلى بلاد فارس ومدح عضد (4) الدولة بن بويه الديلمي، وأجزل جائزته، رجع من عنده قاصدا بغداد، وكان معه جماعة، فخرج عليهم
__________
(1) رواه مسلم: جنائز 102. أبو داود: جنائز 79. النسائي: طهارة 109. ابن ماجه: جنائز 36. الموطأ:
طهارة 28.
(2) رواه البخاري: وضوء 3. ومسلم: طهارة 34، 39. والترمذي: جمعة 74. والنسائي: طهارة 109.
ابن ماجه: طهارة 6. الموطأ: طهارة 28. أحمد: 1/ 288.
(3) رواه أبو داود في الجهاد: 43. ومسلم: إمارة 102101. الترمذي: جهاد 21. النسائي: خيل 4.
ابن ماجه: جهاد 14. أحمد: 2/ 250.
(4) عضد الدولة: فنّاخسرو بن الحسن، لقبه عضد الدولة، تولى ملك بلاد فارس والموصل أيام الدولة العباسية.
مات سنة 372. وكان جوادا مهيبا ممدّحا.(2/432)
قطاع الطريق، بالقرب من بغداد، فلما رأى الغلبة فر هاربا، فقال له غلامه: لا يتحدث الناس عنك بالفرار أبدا وأنت القائل (1):
الخيل والليل والبيداء تعرفني ... والحرب والضرب والقرطاس والقلم
فكر راجعا، وقاتل حتى قتل. فكان سبب قتله هذا البيت، وذلك في شهر رمضان سنة أربع وخمسين وثلاثمائة. وما أحسن قول أبي سليمان الخطابي في مدح العزلة والانفراد وإن لم يكن له تعلق بهذا المعنى:
أنست بوحدتي ولزمت بيتي ... فدام الأنس لي ونما السرور ... وأدّبني الزمان فلا أبالي ... هجرت فلا أزار ولا أزور ... ولست بسائل ما دمت حيا ... أسار الخيل أم ركب الأمير
فائدة
: ذكر ابن خلكان في تاريخه أن شخصا سأل المتنبي عن قوله.
بادر هواك صبرت أم لم تصبرا.
كيف يثبت الألف في تصبرا مع وجود لم الجازمة! ومن حقه أن يقول لم تصبر؟ فقال أبو الطيب المتنبي: لو كان أبو الفتح بن جني ههنا لأجابك: هذه الألف هي بدل النون الساكنة لأنه كان في الأصل لم تصبرن، ونون التأكيد الخفيفة إذا وقف الإنسان عليها أبدل منها ألفا قال الأعشى (2):
وذا النصب المنصوب لا تنسكنّه ... ولا تعبد الشيطان والله فاعبدا
كان الأصل فاعبدن، فلما وقف عليها أتي بألف بدلا من النون ومراده بأبي الفتح عثمان بن جني الموصلي النحوي المشهور، وكان ابن جني قد قرأ على أبي علي الفارسي وفارقه وقعد للإقراء بالموصل، فمر به شيخه أبو علي يوما فرآه في حلقته، فقال له: زّببت وأنت حصرم، فترك حلقته وتبعه، ولم يزل ملازما له حتى مهر. وأبوه جني مملوك رومي، وله أشعار حسنة وكان أعوّر بعين واحدة وفي ذلك يقول (3):
صدودك عني ولا ذنب لي ... يدل على نية فاسده ... فقد وحياتك مما بكيت ... خشيت على عيني الواحدة ... ولولا مخافة أن لا أراك ... لما كان في تركها فائدة
وله تصانيف مفيدة وشرح ديوان المتنبي ولذلك أشار إليه المتنبي كما تقدم وكانت وفاة
__________
(1) ديوان المتنبي: 3/ 369. وفيه: «الخيل والضرب والطعن».
(2) ديوان الأعشى 137. وفيه: «ولا تعبد الأوثان» وتمام البيت:
وذا النصب المنصوب لا تنسكنّه ... ولا تعبد
(3) الأبيات لابن جني وهي في وفيات الأعيان: 3/ 246.(2/433)
ابن جني في صفر ببغداد سنة اثنتين وتسعين وثلاثمائة. وفي سنن النسائي، من حديث سلمة بن نفيل الكوني أن النبي صلى الله عليه وسلم «نهى عن إذالة الخيل»، وهو امتهانها في الحمل عليها واستعمالها.
وأنشد أبو عمر بن عبد البر، في التمهيد لابن عباس رضي الله تعالى عنهما:
أحبوا الخيل واصطبروا عليها ... فإن العز فيها والجمالا ... إذا ما الخيل ضيعها أناس ... ربطناها فأشركنا العيالا ... نقاسمها المعيشة كل يوم ... ونكسوها البراقع والجلالا
فائدة:
رأيت في تاريخ نيسابور، للحاكم أبي عبد الله في ترجمة أبي جعفر الحسن بن محمد بن جعفر الزاهد العابد أنه روى بإسناده عن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه، قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لما أراد الله سبحانه وتعالى أن يخلق الخيل، قال لريح الجنوب: إني خالق منك خلقا، أجعله عزا لأوليائي ومذلة لأعدائي وجمالا لأهل طاعتي فقالت الريح: اخلق يا رب، فقبض منها قبضة فخلق منها فرسا، وقال جل وعلا: خلقتك عربيا وجعلت الخير معقودا بنواصيك، والغنائم محتازة على ظهرك، وبّوأتك سعة من الرزق وأيدتك على غيرك من الدواب، وعطفت عليك صاحبك، وجعلتك تطيرين بلا جناح، فأنت للطلب وأنت للهرب وإني سأجعل على ظهرك رجالا يسبحونني ويحمدونني ويهللونني ويكبرونني». ثم قال صلى الله عليه وسلم: «ما من تسبيحة وتهليلة وتكبيرة، يكبرها صاحبها قد فتسمعه الملائكة إلا تجيبه بمثلها. قال: فلما سمعت الملائكة بخلق الفرس، قالت: يا رب نحن ملائكتك نسبحك ونحمدك ونهلك ونكبرك، فماذا لنا؟
فخلق الله تعالى لها خيلا لها أعناق كأعناق البخت، يمد بها من شاء من أنبيائه ورسله، قال: فلما استوت قوائم الفرس في الأرض. قال الله تعالى له: إني أذل بصهيلك المشركين، وأملأ منه آذانهم، وأذل به أعناقهم، وأرعب به قلوبهم. قال: فلما أن عرض الله تعالى على آدم كل شيء مما خلق، قال له: اختر من خلقي ما شئت، فاختار الفرس. فقيل له: اخترت عزك وعز ولدك خالدا ما خلدوا وباقيا ما بقوا أبد الآبدين، ودهر الداهرين».
وهو في شفاء الصدور عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، بغير هذا اللفظ. ولفظه إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لما أراد الله أن يخلق الخيل أوحى إلى ريح الجنوب: إني خالق منك خلقا فاجتمعي فاجتمعت، فأتى جبريل عليه السلام فقبض منها قبضة، ثم قال الله عز وجل له: هذه قبضتي ثم خلق منها فرسا كميتا. وقال الله عز وجل: خلقتك فرسا وجعلتك عربيا، وفضلتك على سائر ما خلقت من البهائم، بسعة الرزق والغنائم، تقاد على ظهرك، والخير معقود بناصيتك. ثم أرسله فصهل، فقال جل وعلا: «يا كميت بصهيلك أرهب المشركين وأملأ مسامعهم، وأزلزل أقدامهم، ثم وسمه بغرة وتحجيل فلما خلق الله تعالى آدم، قال: يا آدم اختر أي الدابتين أحببت: يعني الفرس أو البراق، وهو على صورة البغل لا ذكرو لا أنثى، فقال:
يا جبريل اخترت أحسنهما وجها وهو الفرس، فقال الله تعالى: يا آدم اخترت عزك وعز أولادك باقيا ما بقوا، وخالدا ما خلدوا». وفيه أيضا عن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه، وكرم وجهه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن في الجنة شجرة، يخرج من أعلاها حلل، ومن أسفلها خيل بلق
من ذهب مسرجة ملجمة، بلجم من در وياقوت، لا تروث ولا تبول، لها أجنحة خطوتها مد بصرها، يركبها أهل الجنة فتطير بهم حيث شاؤوا، فيقول الذين أسفل منهم درجة: «يا ربنا بم بلغ عبادك هذه الكرامة كلها؟ فيقول بأنهم كانوا يقومون الليل، وكنتم تنامون، وكانوا يصومون النهار وكنتم تأكلون، وكانوا ينفقون وكنتم تبخلون، وكانوا يقاتلون وكنتم تجبنون. ثم يجعل الله في قلوبهم الرضا فيرضون وتقرّ أعينهم».(2/434)
يا جبريل اخترت أحسنهما وجها وهو الفرس، فقال الله تعالى: يا آدم اخترت عزك وعز أولادك باقيا ما بقوا، وخالدا ما خلدوا». وفيه أيضا عن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه، وكرم وجهه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن في الجنة شجرة، يخرج من أعلاها حلل، ومن أسفلها خيل بلق
من ذهب مسرجة ملجمة، بلجم من در وياقوت، لا تروث ولا تبول، لها أجنحة خطوتها مد بصرها، يركبها أهل الجنة فتطير بهم حيث شاؤوا، فيقول الذين أسفل منهم درجة: «يا ربنا بم بلغ عبادك هذه الكرامة كلها؟ فيقول بأنهم كانوا يقومون الليل، وكنتم تنامون، وكانوا يصومون النهار وكنتم تأكلون، وكانوا ينفقون وكنتم تبخلون، وكانوا يقاتلون وكنتم تجبنون. ثم يجعل الله في قلوبهم الرضا فيرضون وتقرّ أعينهم».
فائدة أخرى:
أول من ركب الخيل إسماعيل عليه السلام، ولذلك سميت بالعراب، وكانت قبل ذلك وحشية كسائر الوحوش، فلما أذن الله تعالى لأبراهيم وإسماعيل عليهما السلام برفع القواعد من البيت قال الله عز وجل: إني معطيكما كنزا دخرته لكما، ثم أوحى الله إلى إسماعيل:
أن اخرج فإدع بذلك الكنز، فخرج إلى أجياد، وكان لا يدري ما الدعاء والكنز! فألهمه الله تعالى الدعاء، فلم يبق على وجه الأرض فرس بأرض العرب إلا اجابته، فأمكنته من نواصيها وتذللت له، ولذلك قال نبينا صلى الله عليه وسلم: «اركبوا الخيل فإنها ميراث أبيكم إسماعيل». وروى النسائي عن أحمد بن حفص عن أبيه عن إبراهيم بن طهارة عن سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن أنس رضي الله تعالى عنه، قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم «لم يكن شيء أحب إليه، بعد النساء، من الخيل».
إسناده (1) جيد. وروى الثعلبي بإسناده عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (2): «ما من فرس إلا ويؤذن له عند كل فجر بدعوة يدعو بها: اللهم من خولتني من بني آدم وجعلتني له فاجعلني أحب أهله وماله إليه». وقال (3) صلى الله عليه وسلم: «الخيل ثلاثة: فرس للرحمن، وفرس للإنسان، وفرس للشيطان. فأما فرس الرحمن فما اتخذني في سبيل الله تعالى وقوتل عليه أعدؤه، وفرس الإنسان ما استطرق عليه، وفرس الشيطان ما روهن عليه». وفي طبقات ابن سعد بسنده، عن عريب المليكي أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن قوله (4) تعالى: {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوََالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهََارِ سِرًّا وَعَلََانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلََا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلََا هُمْ يَحْزَنُونَ} من هم؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: هم أصحاب الخيل. ثم قال (5) صلى الله عليه وسلم: «إن المنفق على الخيل كباسط يده بالصدقة لا يقبضها، وأبوالها أرواثها يوم القيامة كذكي المسك». وعريب بضم العين المهملة. وروى الشيخان عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم سابق بين الخيل التي ضمرت وكان أمدها من الحفياء إلى ثنية الوداع، وسابق بين الخيل التي لم تضمر من الثنية إلى مسجد بني زريق، وكان ابن عمر رضي الله تعالى عنهما فيمن أجرى. وروى شيخ الإسلام الحافظ الذهبي في آخر طبقات الحفاظ، عن شيخه الحافظ شرف الدين الدمياطي، بإسناده إلى أبي أيوب الأنصاري رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا تحضر الملائكة من اللهو شيئا إلا ثلاثة: لهو الرجل مع امرأته وإجراء الخيل، والنضال». وروى الترمذي في صفة أهل الجنة بإسناد ضعيف عن واصل بن السائب عن أبي
__________
(1) رواه النسائي: خيل 2. ابن حنبل: 275.
(2) رواه النسائي: خيل 9. ابن حنبل: 1625.
(3) رواه البخاري: جهاد 48. مساقاة: 12. ورواه مسلم: زكاة 24. وابن ماجه: جهاد 14. الموطأ: جهاد 3.
وأحمد: 2951.
(4) سورة البقرة: الآية 274.
(5) رواه أبو داود: لباس 25. ابن حنبل: 1804.(2/435)
سودة عن أبي أيوب الأنصاري رضي الله تعالى عنه، قال: جاء إعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: إني أحب الخيل فهل في الجنة خيل؟ فقال (1) صلى الله عليه وسلم: «إن دخلت الجنة أتيت بفرس من ياقوتة لها جناحان، فتحمل عليها فتطير بك في الجنة حيث شئت». وفي معجم ابن قانع، إن هذا الإعرابي إسمه عبد الرحمن بن ساعدة الأنصاري. وكذلك ذكره الدينوري في أوائل المجالسة، وذكر ابن عدي بهذا الإسناد الضعيف، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن أهل الجنة يتزاورون على نجائب بيض كأنهن الياقوت وليس في الجنة من البهائم إلا الإبل والطير.
فائدة أخرى
: خيل السباق عشرة: ذكرها الرافعي وغيره وحذفها من الروضة وهي مجل ومصل وتال وبارع ومرتاح وحظي وعاطف ومؤمل والسكيت والفسكل وإلى ذلك أشرت في المنظومة بقولي:
مهمة خيل السباق عشرة ... في الشرح دون الروضة المعتبرة ... وهي مجل ومصل تالي ... والبارع المرتاح بالتوالي ... ثم حظي عاطف مؤمل ... ثم السكيت والأخير الفسكل
فائدة أخرى:
قال السهيلي في التعريف والإعلام: وأما خيل رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسماؤها:
السكب، وهو من سكب الماء كأنه سيل، والسكب أيضا شقائق النعمان، والمرتجز سمي بذلك لحسن صهيله واللحيف كأنه يلحف الأرض لجريه، ويقال فيه اللخيف بالخاء المعجمة. وذكر البخاري في جامعه واللزاز ومعناه أنه ما سابق شيئا إلا لزه أي أثبته، وملاوح والضرس والورد وهبه لعمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه فحمل عليه عمر في سبيل الله تعالى، وهو الذي وجده يبتاع برخص انتهى.
فائدة أخرى:
روى ابن السني وأبو القاسم الطبراني عن أبان بن أبي عياش والمستغفري أيضا عن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه قال: كتب عبد الملك إلى الحجاج بن يوسف أن أنظر أنس بن مالك خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأدن مجلسه، وأحسن جائزته وأكرمه. قال: فأتيته فقال لي: يا أبا حمزة إني أريد أن أعرض عليك خيلي فتعلمني أين هي من الخيل التي كانت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فعرضها فقلت: شتان ما بينهما! تلك كانت أروائها وأبوالها وأعلافها أجرا، وهذه هيئت للرياء والسمعة. فقال الحجاج: لولا كتاب أمير المؤمنين فيك لضربت الذي فيه عيناك! فقلت: ما تقدر على ذلك، قال: ولم؟ قلت: لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم علمني دعاء أقوله لا أخاف معه من شيطان ولا سلطان ولا سبع. فقال: يا أبا حمزة علمه ابن أخيك يعني ابنه محمد بن الحجاج، فأبيت عليه. فقال لابنه: أئت عمك أنسا فتسأله أن يعلمك ذلك. قال أبان: فلما حضرته الوفاة دعاني فقال: يا أبا أحمد إن لك إلي انقطاعا، وقد وجبت حرمتك، وإني معلمك الدعاء الذي علمني رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا تعلمه من لا يخاف الله أو نحو ذلك، وهو ذلك الدعاء المبارك: الله أكبر الله أكبر بسم الله على نفسي وديني، بسم الله على أهلي ومالي، بسم الله على كل شيء أعطانيه ربي، بسم الله خير الأسماء، بسم الله الذي لا يضر مع إسمه داء، بسم الله الذي لا يضر إسمه
__________
(1) رواه الترمذي: بدنة 11.(2/436)
شيء، في الأرض ولا في السماء، وهو السميع العليم، بسم الله افتتحت، وعلى الله توكلت، الله الله ربي لا أشرك به شيئا أسألك اللهم بخيرك من خيرك، الذي لا يعطيه أحد غيرك، عز جارك وجل ثناؤك، ولا إله غيرك، اجعلني في عبادك واحفظني من شر كل ذي شر خلقته، وأحترز بك من الشيطان الرجيم، اللهم إني احترس بك من شر كل ذي شر خلقته وأحترز بك منهم، وأقدم بين يدي بسم الله الرحمن الرحيم {قُلْ هُوَ اللََّهُ أَحَدٌ اللََّهُ الصَّمَدُ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ} (1) ومن خلفي مثل ذلك وعن يميني مثل ذلك وعن يساري مثل ذلك ومن فوقي مثل ذلك ومن تحتي مثل ذلك.
مسألة:
قال شيخ الإسلام تقي الدين السبكي رحمه الله تعالى: ورد مثال كريم ممن هو حقيق بالتبجيل والتعظيم، يتضمن السؤال عن الخيل: هل كانت قبل آدم عليه السلام أو خلقت بعده؟ وهل خلق الذكور قبل الإناث أو الإناث قبل الذكور؟ وهل العربيات قبل البراذين أو البراذين قبل العربيات؟ وهل ورد في الحديث أو الأثر أو السير أو الأخبار ما يدل على ذلك؟
والجواب:
أن نختار أن خلق الخيل كان قبل خلق آدم عليه السلام بيومين أو نحوهما، وأن خلق الذكور قبل الأناث وأن العربيات قبل البراذين، أما قولنا إن خلقها كان قبل خلق آدم فلآيات في القرآن سنذكرها آية آية وتذكر وجه الاستدلال والمعنى فيه، وهو أن الرجل الكبير يهيء له ما يحتاج إليه قبل قدومه وقال (2) تعالى: {خَلَقَ لَكُمْ مََا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً} فالأرض وكل ما فيها مخلوق لآدم وذريته إكراما لهم، ومن كمال إكرامهم وجودها قبلهم، فجميع ذلك مقدم على خلقه ثم كان خلق آدم بعد ذلك آخر الخلق، لأنه وذريته أشرف الخلق، ألا يرى أن النبي صلى الله عليه وسلم أشرف من الجميع، ولذلك كان آخرا لأن به صلى الله عليه وسلم تم كمال الوجود، وما سوى آدم مما هيىء له حيوان وجماد. والحيوان أشرف من الجماد، والخيل من أشرف الحيوان، غير الآدمي فكيف يؤخر خلقها عنه فهذه الحكمة تقتضي تقديم خلقها مع غيرها من المنافع.
وإنما قلنا بيومين أو نحوهما، لحديث ورد فيه، يتضمن أن بث الدواب يوم الخميس، والحديث في الصحيح، لكن فيه كلام. ولا شك أن خلق آدم عليه السلام كان يوم الجمعة، والحديث المذكور يتضمن أنه بعد العصر، فلذلك قلنا إنه بيومين أو نحوهما على التقريب. وأما التقدم فلا يتردد فيه، والمعنى فيه قد ذكرناه. وأما الآيات التي تدل له، فمنها قوله تعالى:
{خَلَقَ لَكُمْ مََا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوى ََ إِلَى السَّمََاءِ فَسَوََّاهُنَّ سَبْعَ سَمََاوََاتٍ} ووجه الاستدلال أن الآية الكريمة اقتضت خلق ما في الأرض جميعا قبل تسوية الرحمن السماء، ومن جملة ما في الأرض الخيل، فالخيل مخلوفة قبل تسوية السماء عملا بالآية ودلالة ثم على الترتيب، وتسوية السماء قبل خلق آدم عليه السلام، لأن تسوية السماء كانت في جملة الأيام الستة لقوله تعالى: {رَفَعَ سَمْكَهََا فَسَوََّاهََا} (3) إلى قوله جل وعلا {وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذََلِكَ دَحََاهََا} (4) ودلالة الحديث الصحيح المجمع عليه على أن خلق آدم عليه السلام يوم الجمعة بعد كمال المخلوقات أما آخر الأيام الستة إن قلنا إن
__________
(1) سورة الإخلاص: الآية 41.
(2) سورة البقرة: الآية 29.
(3) سورة النازعات: الآية 28.
(4) سورة النازعات: الآية 30.(2/437)
ابتداء الخلق يوم الأحد، كما يقوله المؤرخون وأهل الكتاب، وهو المشهور عند أكثر الناس، وأما في اليوم السابع فهو خارج عن الأيام الستة كما يقتضيه الحديث، الذي أشرنا إليه فيما سبق الذي في صحيح مسلم، الذي صدره إن الله تعالى خلق التربة يوم السبت، وإن كان فيه كلام. وأما تأخر خلق آدم عليه السلام، فلا كلام فيه فثبت بهذا أن خلق الخيل قبل خلق آدم عليه السلام، وهي من جملة المخلوقات في الأيام الستة لا كما يقوله بعض الجهلة الكفرة. ويروي فيه أحاديث موضوعة لا تصدر إلا عن اسخف المجانين لا حاجة بنا إلى ذكرها. ومن الآيات قوله (1) تعالى:
{وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمََاءَ كُلَّهََا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلََائِكَةِ فَقََالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمََاءِ هََؤُلََاءِ إِنْ كُنْتُمْ صََادِقِينَ قََالُوا سُبْحََانَكَ لََا عِلْمَ لَنََا إِلََّا مََا عَلَّمْتَنََا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ قََالَ يََا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمََائِهِمْ فَلَمََّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمََائِهِمْ قََالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مََا تُبْدُونَ وَمََا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ} وجه الاستدلال بهذه الآية أن الأسماء كلها إما أن يراد بها نفس الأسماء أو صفات المسميات، ومنافعها وعلى كلا التقديرين المسميات موجودة في ذلك الوقت للإشارة إليها بقوله:
هؤلاء. ومن جملة المسميات الخيل، فلتكن موجودة حينئذ. والأسماء عام بالألف واللام مؤكدة بقوله تعالى: {كُلَّهََا} * فتقوى العموم فيه. والمسميات لا بد من إرادتها بقوله تعالى: {ثُمَّ عَرَضَهُمْ} وقوله تعالى: {بِأَسْمََائِهِمْ} * فهذا دليل قاطع في ذلك. والعموم شامل للخيل فمن رأى دلالة العموم قطيعة، يقطع بدخولها ومن لا يرى ذلك يستدل به فيه كما يستدل بسائر الأدلة الشرعية. ومن الآيات قوله تعالى في سورة {الم تَنْزِيلُ} الله {الَّذِي خَلَقَ السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضَ وَمََا بَيْنَهُمََا فِي سِتَّةِ أَيََّامٍ ثُمَّ اسْتَوى ََ عَلَى الْعَرْشِ} * (2) وجه الاستدلال اقتضاؤها خلق ما بينهما في الستة، وقد قلنا إن خلق آدم عليه السلام خارج عن الأيام الستة بعدها أو حاصل في آخرها بعد خلق غيره كما سبق وفي الآيات قوله (3) تعالى في سورة ق {وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضَ وَمََا بَيْنَهُمََا فِي سِتَّةِ أَيََّامٍ وَمََا مَسَّنََا مِنْ لُغُوبٍ} وجه الاستدلال بها ما قد مناه فيما قبلها، فهذه أربع آيات تدل على ذلك فيها كفاية. وقد جاء عن وهب بن منبه في الاسرائيليات، أن الخيل خلقت من ريح الجنوب وذلك لا ينافي ما قلناه، ولا تلتزم صحته، لأنا لا نصحح إلا ما صح لنا، عن الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم. وقد جاء عن ابن عباس رضي الله عنهما أن الخيل، كانت وحوشا وأن الله تعالى ذللها لإسماعيل عليه الصلاة والسلام. وذلك لا ينافي ما قلناه، فقد تكون مخلوقة من قبل آدم عليه السلام، واستمرت على وحشيتها إلى عهد إسماعيل عليه السلام. أو كانت تركب في وقت، ثم توحشت ثم ذللت لإسماعيل عليه السلام. وليس في ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن الصحابة دليل، فالمعتمد ما قلناه من دلالة القرآن والذي قيل من أن إسماعيل عليه السلام أول من ركبها أمر مشهور ولكن اسناده ليس صحيحا حتى نلتزمه. وقد قلنا إنا لا نلتزم إلا ما صح عن الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم. وفي تفسير القرطبي من رواية الترمذي الحكيم، عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: لما أذن الله تعالى لإبراهيم وإسماعيل عليهما الصلاة والسلام برفع القواعد، قال الله تبارك وتعالى إني معطيكما كنزا ادخرته لكما. ثم أوحى الله إلى إسماعيل عليه السلام، أن اخرج إلى أجياد فادع يأتك الكنز، فخرج إلى أجياد ولا يدري ما الدعاء ولا الكنز
__________
(1) سورة البقرة: الآية 3331.
(2) سورة السجدة: الآية 41.
(3) سورة ق: الآية 38.(2/438)
فألهمه الله تعالى الدعاء، فلم يبق على وجه الأرض فرس بأرض العرب إلا جاءته وأمكنته من ناصيتها وذللها الله تعالى له. ولو ذكرنا ما قال الناس في ذلك، وشرحناه بطوله لطال. فقد تكلم الناس في ذلك كثيرا وذكروا من خواص الخيل ومنافعها شيئا كثيرا، ليس ذلك كله مما نلتزم صحته، ومطالبة القاصد بسرعة الجواب، في أسرع وقت، تقتضي الاقتصار على ما قلناه، وفيه كفاية. وأما قولنا إن خلق الذكور قبل الإناث، فلأمرين: أحدهما شرف الذكر على الأنثى، والثاني حرارته وإن كان الإثنان من جنس واحد، من مزاج واحد، فأحدهما أكثر حرارة من الآخر، فقد جرت عادة القدرة الإلهية بتكوين أقواهما حرارة قبل الآخر، والذكر أقوى حرارة من الأنثى، فناسب أن يكون وجوده أسبق ولتحصل المنة به أكثر، ولذلك كان خلق آدم عليه السلام قبل خلق حوّاء، ولأن أعظم ما يقصد له الخيل الجهاد، والذكر في الجهاد خير من الأنثى، لأن الذكر أجرى وأجرأ، أعني أشد جريا وأقوى جراءة، ويقاتل مع راكبه والأنثى بخلاف ذلك، وقد تقطع بصاحبها أحوج ما يكون إليها، إذا كانت وديقا، ورأت فحلا، ولا يرد على ذلك ركوب جبريل عليه السلام أنثى، لما جاز البحر بموسى عليه السلام، لأن ذلك لركوب فرعون فحلا فقصد طلبه للأنثى وعجز فرعون عن إمساك رأسه. وأما قولنا إن العربيات قبل البراذين، فلما ذكر من حديث إسماعيل عليه السلام، ولأن العربيات أشرف وآصل. والبرذون إنما يكون بعارض أو علة إما فيه وإما في أبيه أو أمه، ولم تكن البراذين تذكر فيما خلا من الزمان ألا ترى إلى قصة إسماعيل عليه السلام، وقصة سليمان عليه السلام، وإنما البراذين ما انتحس من الخيل، حتى اختلف العلماء هل يسهم كما يسهم للفرس العربي أو لا؟ وفي حديث من مراسيل مكحول، في بعض ألفاظه «للفرس سهمان وللهجين سهم». فهذه الرواية تقتضي أن الهجين لا يسمى فرسا، والهجين هو البرذون أو قريب منه. وبالجملة البراذين حثالة الخيل وما كان الله تعالى ليخلق من الجنس حثالة في الأول. وأما الأحاديث النبوية والآثار الصحيحة، فإن ما جاء منها في فضيلة الخيل وسباقها، وشياتها وفضيلة اتخاذها، وبركتها والنفقة عليها وخدمتها، ومسح نواصيها والتماس نسلها، وثمنها ونمائها، والنهي عن خصائها، وجز نواصيها وأذنابها وإزالتها، وفيما يقسم لصاحبها من الغنيمة واختلاف العلماء فيه، وهل يجب فيها زكاة أو لا؟ وغير ذلك أضرّ بنا للعجلة.
وهذه نبذة يسيرة كتبتها على سبيل العجلة في ساعة من النهار، ولعجلة المطالب بها، وإن اخترتم كتبت فيها كتابا مستقلا إن شاء الله تعالى.
الحكم:
أكل لحوم الخيل يأتي إن شاء الله تعالى، في باب الفاء في لفظ الفرس. وذكر الصميري، في شرح الكفاية، أنه لا يجوز بيعها لأهل الحرب كالسلاح، ويكره أن تقلد الأوتار لما روى البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي عن أبي بشير الأنصاري رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ذلك قال الخطابي: «وأمره صلى الله عليه وسلم بقطع قلائد الخيل». قال مالك: أراه من أجل العين. وقال غيره: إنما أمر بقطعها لأنهم كانوا يعلقون فيها الأجراس، وقال آخرون: لئلا تختنق بها عند شدة الركض، ويحتمل أن يكون أراد عين الوتر خاصة دون غيره من السيور والخيوط.
وقيل: معناه لا تطلبوا عليها الأوتار والدخول ولا تركضوها في درك الثار، على ما كان من عادتهم في الجاهلية والسبق فيها معتبر بالأعناق، وفي الإبل بالأكتاف، لأن الإبل ترفع أعناقها في العدو،
فلا يمكن اعتبار مدها، والخيل تمدها. والمراد: إذا استوت أعناقها في الطول والقصر والإرتفاع لقوله (1) صلى الله عليه وسلم: «بعثت أنا والساعة كفرسي رهان كاد أحدهما أن يسبق الآخر بإذنه». وفي المستدرك وسنن أبي داود وابن ماجة ومسند أحمد من حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم (2)
قال: «من أدخل فرسا بين فرسين، ولا يأمن أن يسبق فليس بقمار، ومن أدخل فرسا بين فرسين وقد أمن أن يسبق فهو قمار». والصحيح أن الذمي يمنع من ركوبها، لقوله تعالى: {وَمِنْ رِبََاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللََّهِ وَعَدُوَّكُمْ} فأمر أولياءه بإعدادها لأعدائه، ولأن ظهورها عز، وهم ضربت عليهم الذلة. وفي وجه أنهم لا يمنعون وينسب لأبي حنيفة مثله. وقال الشيخ أبو محمد الجويني: يمنعون من الشريفة دون البراذين الخسيسة. وألحق الإمام والغزالي البغال النفيسة بالخيل، وجزم به الفوراني ولم يقيده بالنفيسة. ولا زكاة في الخيل عند الجمهور، لقوله (3) صلى الله عليه وسلم:(2/439)
وقيل: معناه لا تطلبوا عليها الأوتار والدخول ولا تركضوها في درك الثار، على ما كان من عادتهم في الجاهلية والسبق فيها معتبر بالأعناق، وفي الإبل بالأكتاف، لأن الإبل ترفع أعناقها في العدو،
فلا يمكن اعتبار مدها، والخيل تمدها. والمراد: إذا استوت أعناقها في الطول والقصر والإرتفاع لقوله (1) صلى الله عليه وسلم: «بعثت أنا والساعة كفرسي رهان كاد أحدهما أن يسبق الآخر بإذنه». وفي المستدرك وسنن أبي داود وابن ماجة ومسند أحمد من حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم (2)
قال: «من أدخل فرسا بين فرسين، ولا يأمن أن يسبق فليس بقمار، ومن أدخل فرسا بين فرسين وقد أمن أن يسبق فهو قمار». والصحيح أن الذمي يمنع من ركوبها، لقوله تعالى: {وَمِنْ رِبََاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللََّهِ وَعَدُوَّكُمْ} فأمر أولياءه بإعدادها لأعدائه، ولأن ظهورها عز، وهم ضربت عليهم الذلة. وفي وجه أنهم لا يمنعون وينسب لأبي حنيفة مثله. وقال الشيخ أبو محمد الجويني: يمنعون من الشريفة دون البراذين الخسيسة. وألحق الإمام والغزالي البغال النفيسة بالخيل، وجزم به الفوراني ولم يقيده بالنفيسة. ولا زكاة في الخيل عند الجمهور، لقوله (3) صلى الله عليه وسلم:
«ليس على المسلم في عبده ولا فرسه صدقة». متفق عليه. وأوجبها أبو حنيفة في إناثها المنفردة أو المجتمعة مع الذكور فعند ذلك صاحبها بالخيار، وإن شاء أعطى عن كل فرس دينارا وإن شاء قومها وأعطى من كل مائتي درهم خمسة دراهم، وإن كانت ذكورا منفردة فلا شيء فيها.
الأمثال:
قالوا (4): «الخيل ميامين». أي مباركات. قالوا: «الخيل أعلم بفرسانها» (5).
يضرب للرجل يظن أن عنده غناء ولا غناء عنده. ومن كلمات النبي صلى الله عليه وسلم التي لم يسبق إليها قوله: «يا خيل الله اركبي». قالها يوم حنين في حديث أخرجه مسلم وهو على حذف مضاف، أراد صلى الله عليه وسلم: «يا فرسان خيل الله اركبي». وهو من أحسن المجازات، كقوله (6)
تعالى: {وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ} قال الجاحظ، في كتاب البيان والتبيين: عن يونس بن حبيب إنه قال: لم يبلغنا من بدائع الكلام ما بلغنا عن النبي صلى الله عليه وسلم، وغلط في هذا الحديث ونسب إلى التصحيف، وإنما قال القائل: ما بلغنا عن البتي، يريد عثمان البتي، فصحف الجاحظ. قالوا: والنبي صلى الله عليه وسلم أجل من أن يخلط مع غيره من الفصحاء حتى يقال:
ما بلغنا عنه من الفصاحة أكثر من الذي بلغنا عن غيره، كلامه أجل من ذلك وأعلى صلى الله عليه وسلم.
الخواص:
الخيل إذا سقيت الزرنيخ الأحمر قتلها. وسيأتي إن شاء الله تعالى بيان ذلك في باب الفاء في لفظ الفرس ويأتي طرف من خواصه.
التعبير:
الخيل في المنام قوّة وزينة وعز وهي أشرف ما ركب من الدواب، فمن رأى عنده منها شئيا نال قوّة وعزا. وربما دل ذلك على اتساع حاله، وادرار رزقه، وانتصاره على
__________
(1) رواه أحمد: 5/ 331.
(2) رواه ابن ماجه جهاد: 44. أحمد: 2/ 505.
(3) رواه مسلم زكاة: 9. وأبو داود زكاة: 11. النسائي زكاة: 16، 17. وابن ماجه زكاة: 15. الموطأ زكاة:
37. أحمد: 2/ 249.
(4) جمهرة الأمثال: 1/ 339.
(5) جمهرة الأمثال: 1/ 338.
(6) سورة الإسراء: الآية 64.(2/440)
أعدائه، لقوله (1) تعالى: {زُيِّنَ لِلنََّاسِ حُبُّ الشَّهَوََاتِ مِنَ النِّسََاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنََاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعََامِ وَالْحَرْثِ} وربما ظفر بعدوّه لقوله (2)
عز وجل: {وَمِنْ رِبََاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللََّهِ وَعَدُوَّكُمْ} ومن رأى خيلا تتطاير في الهواء فإنها فتنة. ولا خير في ركوب الخيل في غير محل الركوب كالسطح والحائط ونحوهما، وخيل البريد في الرؤيا قرب أجل من ركبها وسيأتي إن شاء الله تعالى تتمة الكلام في باب الفاء في لفظ الفرس كما وعدنا والله أعلم.
ومما جرب:
لمغل الخيل والدواب أن يكتب على الحوافر الأربع: بسم الله الرحمن الرحيم فأصابها إعصار فيه نار، فاخترقت عجفون عجفون عجفون شاشيك شاشيك شاشيك وأيضا يكتب لحمر الخيل والدواب ويعلق عليها وقد جرب ولا طلهه هو هو هو رهت هر هر هر هر هر هر وهو هو هو هو هو هو هـ هـ هـ هـ هـ أمها هيالولوس درروبر حفرب ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
أم خنور:
على وزن التنور والسفود الضبع وسيأتي إن شاء الله تعالى في باب الضاد المعجمة الكلام عليه والله الموفق للصواب.
باب الدال المهملة
الدابة:
ما دب من الحيوان كله، وقد أخرج بعض الناس منها الطير لقوله (3) تعالى: {وَمََا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلََا طََائِرٍ يَطِيرُ بِجَنََاحَيْهِ إِلََّا أُمَمٌ أَمْثََالُكُمْ} ورد بقوله (4) تعالى: {وَمََا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلََّا عَلَى اللََّهِ رِزْقُهََا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهََا وَمُسْتَوْدَعَهََا كُلٌّ فِي كِتََابٍ مُبِينٍ} قال الشيخ تاج الدين بن عطاء رحمه الله تعالى: وهذه الآية مصرحة بضمان الحق الرزق، وقطعت ورود الهواجس والخواطر عن قلوب المؤمنين، فإن وردت على قلوبهم كرت عليها جيوش الإيمان بالله تعالى، والثقة به فهزمتها بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه، فإذا هو زاهق ولأن الطير يدب على الأرض برجليه في بعض حالاته قال الأعشى (5):
بنات كغصن البان ترتج إن مشت ... دبيب قطا البطحاء في كل منهل
وقال (6) تعالى: {وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لََا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللََّهُ يَرْزُقُهََا وَإِيََّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} وقال (7)
عز وجل: {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللََّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لََا يَعْقِلُونَ} قال ابن عطية: مقصود الآية أن يبيّن أن هذه الطائفة العاتية من الكفار هي شر الناس عند الله تعالى، وأنها في أخس
__________
(1) سورة آل عمران: الآية 14.
(2) سورة الأنفال: الآية 60.
(3) الأعشى: ميمون بن قيس، الشاعر الجاهلي. البيت في ديوانه: 353. وفيه: «نياف كغصن».
(4) سورة العنكبوت: الآية 60.
(5) سورة الأنعام: الآية 38.
(6) سورة هود: الآية 6.
(7) سورة الأنفال: الآية 22.(2/441)
المنازل لديه وعبر بالدواب ليتأكد ذمهم، وليفضل الكلب والخنزير والفواسق الخمس، وغيرها عليهم. والدواب كل ما دب يجمع الحيوان بجملته.
وفي الصحيحين: عن أبي قتادة رضي الله تعالى عنه قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم مر عليه بجنازة، فقال (1): «مستريح ومستراح منه» قالوا: يا رسول الله ما المستريح والمستراح منه؟ فقال صلى الله عليه وسلم:
«العبد المؤمن مستريح من وصب الدنيا ونصبها إلى رحمة الله تعالى والعبد الفاجر تستريح منه العباد والبلاد والشجر والدواب». وفي سنن أبي داود والترمذي والنسائي بأسانيد صحيحة عن إبراهيم بن محمد عن أبي سلمة عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم (2) قال: «ما من دابة إلا وهي مصيخة يوم الجمعة خشية أن تقوم الساعة». يروي مصيخة ومسيخة بالصاد والسين والأصل الصاد ومعانهما منصتة مستمعة.
وفي الحلية: في ترجمة أبي لبابة الأنصاري رضي الله تعالى عنه، وهو من أهل الصفة، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (3): «إن يوم الجمعة سيد الأيام وأعظمها عند الله تعالى من يوم الفطر ويوم الأضحى ما من ملك مقرب، ولا سماء ولا أرض، ولا جبال ولا رياح، ولا بحر إلا وهو مشفق من يوم الجمعة أن تقوم الساعة». وفي صحيح مسلم، عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، قال:
أخذ النبي صلى الله عليه وسلم بيدي وقال (4): «خلق الله التربة يوم السبت، وخلق فيها الجبال يوم الأحد، وخلق الشجر يوم الاثنين، وخلق المكروه يوم الثلاثاء، وخلق النور يوم الأربعاء، وبث فيها الدواب يوم الخميس، وخلق آدم عليه السلام بعد العصر من يوم الجمعة، في آخر ساعة من ساعات الجمعة، فيما بين العصر إلى المغرب».
وإعلم: أنه سبحانه وتعالى يخلق ما يشاء بلا كلفة ونصب، ويختار ما يشاء بلا زلفة وسبب، يخلق ما يشاء بلا علاج، ويختار ما يشاء بلا احتياج، يخلق ما يشاء علما بربوبيته، ويختار ما يشاء دلالة على وحدانيته، سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون والجاحدون علوّا كبيرا. وفي كامل ابن الأثير إن كسرى كان له خمسون ألف دابة وثلاثة آلاف امرأة.
غريبة:
في تاريخ ابن خلكان، في ترجمة ركن الدولة بن بويه، أنه حارب عدوا له وضاقت الميرة على الطائفتين، حتى ذبحوا دوابهم، ولو أمكن ركن الدولة الانهزام لفعل، فاستشار وزيره أبا الفضل بن العميد في الهرب، فقال له: لا ملجأ لك إلا إلى الله تعالى، فانو للمسلمين خيرا، وصمم العزم على حسن السيرة والإحسان، فإن الحيل البشرية كلها تقطعت بنا، وإن انهزمنا تبعونا وقتلونا، وهم أكثر منا، فقال قد سبقتك إلى هذا يا أبا الفضل، قال أبو الفضل: ثم إن ركن الدولة استدعاني في تلك الليلة في الثلث الأخير، وقال: رأيت الساعة في منامي كأني على
__________
(1) رواه البخاري في الرقاق: 42. ومسلم في الجنائز: 61. النسائي جنائز: 4948. الموطأ جنائز: 55، أحمد: 5/ 296.
(2) الموطأ جمعة: 16.
(3) رواه ابن ماجه في الإقامة: 79. أحمد: 3/ 420.
(4) رواه أحمد: 2/ 327. ومسلم منافقين: 27.(2/442)
دابتي فيروز. وقد انهزم عدونا، وأنت تسير إلى جانبي وقد جاءنا الفرج من حيث لا نحتسب، فمددت عيني فرأيت على الأرض خاتما فأخذته فإذا فصه فيروزج، فجعلته في إصبعي وتبركت به فانتهيت، وقد أيقنت بالظفر فإن الفيروزج الفرج جاء ومعناه الظفر، ولذلك لقب الدابة فيروز.
قال ابن العميد: فلم أبرح إذ أتانا الخبر والبشارة بأن العدو قد رحل وتركوا خيامهم، فما صدقنا حتى تواترت الأخبار فركبنا ولا نعرف سبب هزيمتهم وسرنا حذرين من كيدهم ومكرهم، وسرت إلى جانبه وهو على دابته فيروز، فصاح ركن الدولة بغلام بين يديه ناولني ذلك الخاتم فأخذ خاتما من الأرض فناوله إياه فإذا هو من فيروزج فجعله في اصبعه، وقال: هذا تأويل رؤياي، وهذا هو الخاتم الذي رأيته في منامي بعينه. قال: وهذا عن أعجب ما يحكى وإسم ركن الدولة الحسن أبو علي، وكان ملكا جليلا مهابا وكان قد ملك أصبهان والري وهمذان، وجميع عراق العجم وقد فتح أكثر البلاد وملكها وقرر قواعدها وضبطها. توفي في المحرم سنة ست وستين وثلاثمائة وكان عمره تسعا وتسعين سنة وكانت مدة ملكه أربعا وأربعين سنة. وفي شفاء الصدور لابن سبع السبتي عن أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم (1) قال: «لا تضربوا وجوه الدواب فإن كل شيء يسبح بحمده» وقد تقدم عنه حديث في البهيمة قريب من هذا وفي كتاب الاحياء في باب كسر الشهوتين، حديث «لا يستدير الرغيف، ويوضع بين يديك حتى يعمل فيه ثلاثمائة وستون صانعا أو لهم ميكائيل الذي يكيل الماء من خزائن الرحمة، ثم الملائكة التي تزجي سحابا، ثم الشمس والقمر والأفلاك، وملوك الهواء ودواب الأرض، وآخر ذلك الخباز {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللََّهِ لََا تُحْصُوهََا} [2] وروى الإمام أحمد والبيهقي في الشعب، عن محمد بن سيرين، قال:
خرجت دابة تقتل الناس، فمن دنا منها قتلته فجاء رجل أعور فقال: دعوني وإياها فدنا منها فوضعت رأسها له حتى قتلها. فقالوا: حدثنا بأمرك، فقال: ما أصبت ذنبا قط إلا ذنبا واحدا بعيني هذه، فأخذت سهما وفقأتها به. قال الإمام أحمد: ولعل هذا كان جائزا في شريعة بني إسرائيل، أو في شريعة من كان قبلنا أما في شريعتنا فلا يجوز فقء العين، التي ينظر بها إلى ما لا يحل له. لكن يستغفر الله تعالى من ذلك ولا يعود إليه.
وذكر (3) ابن خلكان في ترجمة الربيع الجيزي أنه مر يوما بسكة من سكك مصر، فطرحت عليه إجانة من رماد، فنزل عن دابته، ونفض ثيابه فقيل له ألا تزجرهم! فقال: من استحق النار فصولح على الرماد، لم يجز له أن يغضب. والربيع بن سلمان هذا صاحب الشافعي، وهو أحد رواة القول الجديد عن الشافعي. وتوفي سنة خمس ومائتين. والجيزي نسبة إلى الجيزة قبالة مصر، والأهرام في عملها بالقرب منها، وهي من عجائب أبنية الدنيا، والأهرام قبور لملوك عظام، أرادوا أن يتميزوا بها على سائر الملوك بعد مماتهم، كما تميزوا عليهم في حياتهم. قيل: إن المأمون لما وصل مصر أمر بنقب أحد الهرمين فنقب بعد جهد شديد، وغرامة نفقة عظيمة، فوجد داخله مراق ومها، ويعسر سلوكها، ووجد في أعلاها بيتا، مكعبا، طول كل ضلع من أضلاعه ثمانية أذرع، وفي وسطه حوض من صوّان مطبق فيه رمة بالية، قد أتت عليها العصور فكف عن نقب ما
__________
(1) رواه ابن حنبل: 4/ 131.
(2) سورة إبراهيم: الآية 34.
(3) وفيات الأعيان: 2/ 292.(2/443)
سواه. ونقل أن هرمس الأول، وهو أخنوخ وهو ادريس استدل من أحوال الكواكب، على كون الطوفان فأمر ببنيان الأهرام، ويقال: إنه ابتناها في مدة ستة أشهر وكتب فيها: قل لمن يأتي بعدنا يهدمها في ستمائة عام، والهدم أيسر من البنيان وكسوناها الديباج فليكسها الحصر والحصر أيسر من الديباج. وقال الإمام أبو الفرج بن الجوزي في كتاب سلوة الاحزان: ومن عجائب الهرمين، أن سمك كل واحد منهما أربعمائة ذراع من رخام ومرمر، وفيها مكتوب أنا بنيتها بملكي، فمن ادعى قوة فليهدمها فإن الهدم أيسر من البناء، قال ابن المنادي: بلغنا أنهم قدروا خراج الدنيا مرارا، فإذا هو لا يقوم بهدمها والله أعلم. وفي صحيح (1) مسلم وغيره عن صهيب رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: «كان ملك من الملوك وكان لذلك الملك كاهن يكهن له وفي رواية ساحر فقال الساحر: إني قد كبرت وأخاف أن أموت فينقطع عنكم علمي ولا يكون فيكم من يعلمه فانظروا إلي غلاما فهيما أو قال فطنا لقنا فأعلمه علمي هذا، فنظروا له غلاما على ما وصف، وأمروه أن يحضر ذلك الساحر، وأن يختلف إليه، وكان على طريق الغلام راهب في صومعة قال معمر: أحسب أن أصحاب الصوامع يومئذ كانوا مسلمين فجعل الغلام يسأل ذلك الراهب كلما مر به، فلم يزل به حتى أخبره فقال: إنما أنا عبد الله، فجعل الغلام يمكث عند الراهب. ويبطىء على الساحر، فأرسل إلى أهل الغلام أنه لا يكاد يحضرني، فأخبر الغلام الراهب بذلك فقال له الراهب: إذا خشيت الساحر فقل: حبسني أهلي، وإذا خشيت أهلك فقل: حبسني الساحر. فبينما الغلام على ذلك إذ أتى على دابة عظيمة وقد حبست الناس، فقال:
اليوم يبين أمر الراهب من أمر الساحر، فأخذ حجرا وقال: اللهم إن كان أمر الراهب أحب إليك من أمر الساحر فاقتل هذه الدابة، ثم رمى بالحجر فقتلها. فقال الناس من قتلها؟ فقالوا:
الغلام. ففزع الناس، وقالوا: لقد علم هذا الغلام علما لم يعلمه أحد. قال: فسمع به أعمى، كان جليسا للملك، فقال له: إن رددت بصري فلك كذا وكذا! فقال له: لا أريد منك شيئا ولكن أرأيت إن رجع إليك بصرك، أتؤمن بالذي رده لك؟ قال: نعم فدعا الله تعالى فرد عليه بصره، فأمن الأعمى، وإنه جاء إلى الملك بعد ما شفي، فجلس معه كما كان يجلس، فقال له: من رد عليك بصرك؟ قال: ربي قال: وهل لك رب غيري؟ قال: الله ربي وربك. فأمر بالمنشار فوضع على رأسه حتى وقع شقاه». وفي رواية الترمذي أن تلك الدابة كانت أسدا وأن الغلام لما قتلها أخبر الراهب فقال له إن لك شأنا وإنك تبتلى فلا تدل علي. وإن الملك بلغه أمرهم فبعث إليهم فأتي بهم إليه فقال: لاقتلن كل واحد منكم قتلة لا أقتل بها صاحبه، ثم أمر بالراهب وبالرجل الذي كان أعمى فوضع المنشار على مفرق كل واحد منهما فقتله، ثم قتل المقعد بقتلة أخرى، ثم أمر بالغلام، فقال: انطلقوا به إلى جبل كذا وكذا، فألقوه من رأسه، فانطلقوا به إلى ذلك الجبل، فلما انتهوا به إلى ذلك المكان الذي أرادوا أن يلقوه منه، قال الغلام: اللهم اكفنيهم بما شئت، فجعلوا يتهافتون من ذلك الجبل ويتردون منه حتى لم يبق منهم إلا الغلام. قال: فرجع الغلام يمشي حتى أتى الملك فقال له: ما فعل أصحابك؟ قال: كفانيهم ربي بما شاء، فأمر الملك أن ينطلقوا به إلى البحر، فيلقوه فيه، فانطلقوا به إلى البحر فقال الغلام: اللهم اكفنيهم بما شئت
__________
(1) رواه مسلم زهد: 73. والبخاري مناقب الأنصار: 29. والترمذي في تفسير سورة: 85.(2/444)
فأغرق الله عز وجل الذين كانوا معه، وأنجاه. فأقبل الغلام يمشي على وجه الماء حتى أتى الملك فتحير الملك في نفسه، فقال له الغلام: أتريد أن تقتلني؟ قال: نعم. قال: إنك لا تقدر على ذلك حتى تصلبني وترميني بسهم من كنانتي وتقول إذا رميتني: بسم الله رب هذا الغلام بعد أن تجمع الناس في صعيد واحد. قال: فجمع الملك الناس في صعيد واحد وأمر بالغلام أن يصلب فصلب، وأخذ الملك سهما من كناية الغلام وقال: بسم الله رب هذا الغلام ورماه فوقع السهم في صدغه فقتله ووضع الغلام يده على صدغه فقال الناس: آمنا برب هذا الغلام. فقيل للملك:
إنك جزعت حين خالفك ثلاثة، فهذا العالم كلهم قد خالفوك فأمر بالأخدود، فخد أخدودا ثم ألقي فيه الحطب والنار ثم جمع الناس وقال لهم: من رجع عن دينه تركناه، ومن لم يرجع ألقيناه في هذه النار. فجعل يلقيهم في ذلك الأخدود. فذلك قوله (1) تعالى: {قُتِلَ أَصْحََابُ الْأُخْدُودِ النََّارِ ذََاتِ الْوَقُودِ} زاد مسلم فأتى بامرأة لتلقى في النار ومعها صبي رضيع، فجزعت فقال لها:
الغلام يا أماه لا تجزعي فإنك على الحق. وذكر ابن قتيبة أن الغلام الرضيع، كان عمره سبعة أشهر. قال الترمذي وإن الغلام أخرج في زمان عمر رضي الله تعالى عنه ويده على صدغه كما وضعها حين قتل.
وذكر صاحب السيرة محمد بن إسحاق فيها أن إسمه عبد الله بن التامر. وأن رجلا من أهل نجران حفر خربة في زمن عمر رضي الله تعالى عنه في بعض حاجته، فوجده تحت الردم قاعدا واضعا يده على ضربة في صدغه، وفي يده خاتم مكتوب عليه «ربي الله» فكتبوا بذلك إلى عمر رضي الله تعالى عنه فكتب إليهم أن أقروه على حاله ففعلوا. قال السهيلي. ويصدقه قوله (2)
عز وجل {وَلََا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللََّهِ أَمْوََاتاً} الآية وقوله صلى الله عليه وسلم: «إن الله حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء». خرجه (3) أبو داود وذكر أبو جعفر الداودي هذا الحديث بزيادة ذكر الشهداء والعلماء والمؤذنين، قال: وهي زيادة غريبة، لكن الداودي من أهل الثقة والعلم.
انتهى قال ابن بشكوال وكان إسم ذلك الملك يوسف ذا نواس، وكان بنجران وكان ملك حمير وما حوله، وقيل إسمه زرعة ذو نواس، وكان على دين اليهودية قاله السمرقندي. والوقعة كانت قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم بسبعين سنة، وكان إسم ذلك الراهب قيتمون، قاله ابن بشكوال.
وفي المثل السائر: «فلان أكذب من دبّ ودرج» (4). قال الجوهري: معناه أكذب الأحياء والأموات، لأنهم يدرجون في الأكفان وروى الترمذي الحكيم، عن زيد بن أسلم أن الأشعريين أبا موسى وأبا مالك وأبا عامر رضي الله تعالى عنهم في نفر منهم لما هاجروا قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد أرملوا من الزاد، فأرسلوا قاصدهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم يسأله، فلما انتهى إليه سمعه يقرأ (5) {وَمََا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلََّا عَلَى اللََّهِ رِزْقُهََا} فقال الرجل: ما الأشعريون بأهون
__________
(1) سورة البروج: الآية 4، 5.
(2) سورة البقرة: الآية 169.
(3) رواه أبو داود في الصلاة: 201، وتر: 26. والنسائي في الجمعة: 5. وابن ماجه في الإقامة: 79. والدارمي في الصلاة: 206. وأحمد: 84.
(4) جمهرة الأمثال: 2/ 144.
(5) سورة هود: الآية 6.(2/445)
على الله من الدواب، فرجع ولم يدخل على النبي صلى الله عليه وسلم فأتى أصحابه وقال لهم: أبشروا فقد جاءكم الغوث فظنوا أنه قد أعلم النبي صلى الله عليه وسلم بحالهم، فبينما هم كذلك إذ أتاهم رجلان معهما قصعة مملوأة خبزا ولحما فأكلوا ما شاء الله، ثم قال بعضهم لبعض: ردوا بقية هذا الطعام على رسول الله صلى الله عليه وسلم فردوه، ثم إنهم أتوه فقالوا: يا رسول الله لم نر طعاما أكثر ولا أطيب من طعام أرسلته إلينا! فقال صلى الله عليه وسلم: «ما أرسلنا إليكم شيئا فأخبروه أنهم أرسلوا صاحبهم إليه، فسأله صلى الله عليه وسلم فأخبره بما صنع، فقال (1) صلى الله عليه وسلم: «ذلكم شيء رزقكموه الله عزّ وجلّ». قال الشيخ تاج الدين بن عطاء الله السكندري: هذه آية مصرحة بضمان الحق الرزق، وقطعت ورود الهواجس والخواطر عن قلوب المؤمنين، فإن وردت على قلوبهم، كرت عليها جيوش الإيمان بالله والثقة به وبضمانه فهزمتها بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق.
وذكر: ابن السني عن عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال (2):
إذا انفلتت دابة أحدكم بأرض فلاة فليناد: يا عباد الله احبسوا فإن الله عز وجل في الأرض حابسا يحبسها». قال: الإمام النووي رحمه الله تعالى حكى لي بعض شيوخنا الكبار في العلم، أنه انفلتت له دابة، أظنها بغلة، وكان يعرف هذا الحديث، فقاله فحبسها الله تعالى عليه في الحال. قال:
وكنت أنا مرة مع جماعة، فانفلتت منهم بهيمة، فعجزوا عنها فقلت هذا الحديث فوقفت في الحال بغير سبب سوى هذا الكلام. وروى ابن السني أيضا، عن الإمام السيد الجليل المجمع على جلالته وحفظه، وديانته وورعه ونزاهته، أبي عبد الله يونس بن عبيد بن دينار المصري التابعي، المشهور، رحمه الله تعالى، أنه قال: ليس رجل يكون على دابة صعبة، فيقول في أذنها: {أَفَغَيْرَ دِينِ اللََّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ} (3) إلا وقفت بإذن الله تعالى. وروى الطبراني، في معجمه الأوسط، من حديث أنس رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من ساء خلقه من الرقيق والدواب والصبيان فاقرؤوا في أذنه {أَفَغَيْرَ دِينِ اللََّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ}. وقد تقدم في باب الباء الموحدة في لفظ البلغة أن النبي صلى الله عليه وسلم ركب بغلة فحادت به فحبسها، وأمر رجلا أن يقرأ عليها قل أعوذ برب الفلق فسكنت.
فرع:
في كتب الحنابلة يجوز الانتفاع بالدابة في غير ما خلقت له كالبقر للحمل واللركوب، والإبل والحمير للحرث وقوله صلى الله عليه وسلم: «بينما رجل يسوق بقرة إذ أراد أن يركبها فقالت: إنا لم نخلق لذلك». متفق (4) عليه. المراد أنه معظم منافعها ولا يلزم منه منع غير ذلك. وقال الإمام أحمد من شتم دابة، قال الصالحون: لا تقبل شهادته لحديث المرأة التي لعنت الناقة. وفي صحيح (5) مسلم عن أبي الدرداء رضي الله عنه: «لا يكون اللعانون شفعاء ولا شهداء يوم القيامة».
فرع:
يجب على مالك الدابة علفها ورعيها وسقيها لحرمة الروح كما في الصحيح عذبت
__________
(1) رواه النسائي في الصيد: 35.
(2) رواه مسلم: توبة 7.
(3) سورة آل عمران: الآية 83.
(4) رواه ابن حنبل: 5023822452.
(5) رواه مسلم في البر: 8685. وأبو داود أدب: 45. وابن حنبل: 6/ 448.(2/446)
امرأة في هرة لأنها ذات روح فأشبهت العبد. فإن لم تكن ترعى لزمه أن يعلفها ويسقيها إلى أول شبعها وريها دون غايتهما، وإن كانت ترعى لزمه إرسالها لذلك حتى تشبع وتروى بشرط فقد السباع العادية ووجود الماء، فإن اكتفت بكل من الرعي أو العلف خير بينهما فإن لم تكتف إلا بهما الزماه، وإن احتاجت البهيمة إلى السقي ومعه ماء يحتاج إليه لطهارته سقاها وتيمم، فإن امتنع من العلف أجبر في مأكولة على بيع أو علف أو ذبح، وفي غيرها على بيع أو علف صيانة لها عن الهلاك فإن لم يفعل فعل الحاكم ما تقتضيه المصلحة، فإن كان له مال ظاهر بيع في النفقة، فإن تعذر جميع ذلك فمن بيت المال.
فائدة:
يستحب أن يقول عند ركوب الدابة ما رواه الحاكم والترمذي وصححاه عن علي بن ربيعة، قال: شهدت علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه، وقد أتى بدابة ليركبها، فلما وضع رجله في الركاب قال: بسم الله، فلما استوى على ظهرها قال: الحمد لله، ثم قال: سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين وإنا إلى ربنا لمنقلبون. ثم قال: الحمد لله ثلاث مرات، ثم قال:
الله أكبر ثلاث مرات، ثم قال: سبحانك اللهم إني ظلمت نفسي فاغفر لي، فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت ثم ضحك. فقيل: يا أمير المؤمنين من أي شيء ضحكت؟ قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم فعل كما فعلت، فقلت: يا رسول الله من أي شيء ضحكت؟ قال: «إن ربك تعالى يعجب من عبده إذا قال: رب اغفر لي ذنوبي يعلم أنه لا يغفر الذنوب غيري» (1).
وروى أبو القاسم الطبراني، في كتاب الدعوات، عن عطاء عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إذا ركب العبد الدابة ولم يذكر إسم الله تعالى، ردفه الشيطان، فقال: تغن فإن كان لا يحسن الغناء، قال له: تمن فلا يزال في أمنيته حتى ينزل». وفيه عن أبي الدرداء رضي الله أن النبي صلى الله عليه وسلم (2) قال: «من قال إذا ركب دابة: بسم الله الذي لا يضر مع إسمه شيء سبحانه ليس له سمي، سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين، وإنا إلى ربنا لمنقلبون، الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد وعليه السلام. قالت: الدابة:
«بارك الله عليك من مؤمن خففت، عن ظهري وأطعت ربك، وأحسنت إلى نفسك بارك الله لك في سفرك وأنجح حاجتك».
وروى ابن أبي الدنيا عن محمد بن ادريس عن أبي النضر الدمشقي عن إسماعيل ابن عياش، عن عمرو بن قيس الملائي، أنه قال: إذا ركب الرجل الدابة، قالت: اللهم اجعله بي رفيقا رحيما، فإذا لعنها، قالت: على أعصانا لله لعنة الله. وفي كامل ابن عدي في ترجمة عباد، ابن كثير الثقفي، وكان شعبة، لا يستغفر له، أنه روى عن ابن طاوس عن أبيه، عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «اضربوا الدواب على النفار ولا تضربوها على العثار».
فرع:
يجوز الارداف على الدابة إذا كانت مطيقة، ولا يجوز إذا لم تطقه. ففي الصحيحين (3) عن اسامة بن زيد رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم «أردفه حين دفع من عرفات
__________
(1) رواه أبو داود في الجهاد: 64.
(2) رواه مسلم والترمذي وأبو داود. أنظر رياض الصالحين ص 412.
(3) البخاري جهاد: 59. مسلم حج: 147.(2/447)
إلى المزدلفة، ثم أردف الفضل بن العباس رضي الله تعالى عنهما، من مزدلفة إلى منى، وأنه صلى الله عليه وسلم أردف معاذا رضي الله تعالى عنه على الرحل، وأردفه على حمار يقال له عفير وأمر صلى الله عليه وسلم عبد الرحمن ابن أبي بكر رضي الله تعالى عنهما، أن يعتمر بأخته عائشة رضي الله تعالى عنها من التنعيم، فأدرفها وراءه على راحلته، وأردف صلى الله عليه وسلم صفية أم المؤمنين رضي الله تعالى عنها وراءه، حين تزوجها بخيبر» وإذا أردف صاحب الدابة، فهو أحق بصدرها ويكون الرديف وراءه إلا أن يرضى صاحبها بتقديمه لجلالته أو غير ذلك. وأفاد الحافظ ابن منده أن الذين أردفهم النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثة وثلاثون نفسا، ولم يذكر فيهم عقبة بن عامر الجهني رضي الله تعالى عنه، ولم يذكر أحد من علماء الحديث والسير أن النبي صلى الله عليه وسلم أردفه. وروى الطبراني عن جابر رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم «نهى أن يركب ثلاثة على دابة (1)».
فرع:
قال أصحابنا ما ليس مأكولا من الدواب والطيور، إن كان فيه مضرة متمحضة، استحب قتله للمحرم وغيره كالفواسق الخمس والذئب والأسد والنمر والنسر والحدأة والبرغوث والقمل والزنبور والبق والقراد وأشباهها. فإن كان فيه منفعة ومضرة كالفهد والكلب المعلم والعقاب والبازي والصقر ونحوها فلا يستحب قتله لما فيه من المنفعة، ولا يكره لما فيه من الضرر، وهو الصيال على حمام الناس. والعقر وإن لم يكن فيه نفع ولا ضرر كالخنافسس والدود والجعلان والسرطان والبغاث والرخمة والعظاءة واللجا والذباب وأشباهها، فيكره قتله ولا يحرم، على ما قطع به الجمهور وحكى الإمام وجها شاذا أنه يحرم قتل الطيور دون الحشرات لأنه عبث بلا حاجة.
وأما دابة الأرض التي ذكرها الله تعالى في سورة سبأ. فهي الأرضة، وقيل سوسة الخشب قال الله تعالى: {فَلَمََّا قَضَيْنََا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مََا دَلَّهُمْ عَلى ََ مَوْتِهِ إِلََّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ} (2)
السبب في ذلك أن سليمان عليه السلام، كان قد أمر الجن ببناء صرح، فبنوه له، ودخله مختفيا ليصفو له يوم واحد من الدهر عن الكدر، فدخل عليه شاب فقال له: كيف دخلت من غير استئذان؟ فقال له إنما دخلت بإذن. قال: ومن أذن لك؟ قال: رب هذا الصرح! فعلم سليمان أنه ملك الموت، أتى ليقبض روحه. فقال: سبحان الله، هذا اليوم الذي طلبت فيه الصفاء.
فقال له: طلبت ما لم يخلق. فاستوثق من الاتكاء على العصا. وقد كانت بيت المقدس بقي من تمام بنائه سنة، فسأل الله تعالى تمامها على يد الإنس والجن. وكان يخلو بنفسه الشهرين والثلاثة فكانوا يقولون إنه يتحنث أي يعبد ربه، فقبض روحه، وكانت الجن تدعي علم الغيب، فلما قبض، بقيت الجن تعمل على عادتها، وقيل: إن ملك الموت أعلمه أنه بقي من عمره ساعة فدعا الجن فبنوا له الصرح، وقام يصلي متكئا على عصاه، فمات وهو متكىء عليها وكانت الشياطين تجتمع حول محرابه فلا ينظر أحد منهم إليه في صلاته إلا احترق، فمر واحد منهم فلم يسمع صوته، ثم رجع فسلم فلم يسمع له كلاما، فنظر فإذا هو قد خر ميتا، فعلمت الإنس أن الجن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين سنة. وكان عمره عليه السلام ثلاثا وخمسين سنة. والمنسأة العصا،
__________
(1) البخاري لباس: 99. ومسلم فضائل: 66.
(2) سورة سبأ: الآية 14.(2/448)
وكانت من خروب، وذلك أنه كان يتعبد في بيت المقدس فينبت له في محرابه كل سنة شجرة، فيسألها ما إسمك؟ فتقول الشجرة: إسمي كذا، فيقول لها: لأي شيء أنت؟ فتقول: لكذا وكذا فيأمر بها فتقلع، فإن كانت تنبت بغرس غرست، وإن كانت لدواء كتبت، فبينما هو ذات يوم، إذ رأى شجرة بين يديه فقال لها: ما إسمك؟ قالت: أنا الخروبة خرجت لخراب ملكك. فعرف أنه قد حضر أجله، فاستعد واتخذ منها عصا، واستدعى بزاد سنة، والجن تتوهم أنه يأكل بالليل.
وكان أمر الله قدرا مقدورا، وكان الذي ابتدأ في بناء بيت المقدس داود عليه السلام، فرفعه قامة رجل ثم مات، فلما استخلف ابنه سليمان عليه السلام، أحب اتمامه فجمع الجن والشياطين، وقسم عليهم الأعمال، فخص كل طائفة منهم بعمل يستصلحها له، فأرسل الجن والشياطين في تحصيل الرخام والمها الأبيض، وأمر ببناء المدينة بالرخام والصفاح، وجعلها اثني عشر ربضا، وأنزل في كل ربض منها سبطا، فلما فرغ من بناء المدينة، ابتدأ في عمارة المسجد، فوجه الشياطين فرقا فرقا، يستخرجون الذهب والفضة والياقوت من معادنها، والدر الصافي من البحر، وفرقا يقلعون الجواهر والرخام من أماكنها، وفرقا يأتونه بالمسك والعنبر وسائر أنواع الطيب. فأتى من ذلك بشيء لا يحصيه إلا الله تعالى، ثم أحضر الصناع وأمرهم بنحت تلك الحجارة المرتفعة، وتصييرها ألواحا، وثقب اليواقيت واللآلىء، واصلاح الجواهر، فبنى المسجد بالرخام الأبيض والأصفر والأخضر وعمده بأساطين المها الصافي، وسقفه بالواح الجواهر الثمينة، ونضد سقوفه وحيطانه باللآلىء واليواقيت، وسائر الجواهر وبسط أرضه بألواح الفيروزج، فلم يكن يومئذ في الأرض بيت أبهى ولا أنور من ذلك المسجد، كان يضيء في الظلماء كالقمر ليلة البدر، فلما فرغ منه جمع إليه أحبار بني إسرائيل، فأعلم أنه قد بناه لله عز وجل خالصا واتخذ ذلك اليوم عيدا.
فائدة:
قال بعض العلماء: سخر الله عز وجل الجن لسليمان عليه السلام، وأمرهم بطاعته، ووكل بهم ملكا بيده صوت من نار، فمن زاغ منهم عن أمره، ضربه الملك ضربة أحرقته. قال أهل التفسير: أجرى الله تعالى لسليمان عين النحاس ثلاثة أيام بلياليهن كجري الماء، وكان ذلك بأرض اليمن، وإنما ينتفع الناس اليوم بما أخرج الله لسليمان من النحاس.
وروى الحاكم عن إبراهيم بن طهمان، عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «كان سليمان نبي الله، إذا قام في مصلاه، رأى شجرة نابتة بين يديه فيقول: ما إسمك؟ فتقول: كذا. فيقول: لأي شيء أنت؟ فتقول:
لكذا وكذا فإذا كانت لدواء كتبت، وإن كانت لغرس غرست، فبينما هو يصلي يوما إذ رأى شجرة، فقال: ما إسمك؟ قالت: الخروب. فقال: لأي شيء أنت؟ قالت: لخراب هذا البيت.
فقال سليمان عند ذلك: اللهم عم على الجن موتي، حتى يعلم الإنس إن الجن لا تعلم الغيب، قال: فاتخذ منها عصا، وتوكأ عليها، فأكلتها الأرضة، فسقط، فوجدوه ميتا حولا، فتبينت الإنس أن الجن، لو كانوا يعلمون الغيب، ما لبثوا حولا في العذاب المهين (1)». وكان ابن عباس رضي الله تعالى عنهما يقرؤها هكذا ما لبثوا حولا في العذاب المهين، فشكرت الجن الأرضة.
وكانت تأتيها بالماء والتراب حيث كانت ثم قال: صحيح الإسناد.
__________
(1) رواه ابن ماجه إقامة: 199، والدارمي مقدمة: 6وابن حنبل: 1372.(2/449)
وأما الدابة التي هي أحد اشراط الساعة، فقال ابن عمر رضي الله تعالى عنهما في قوله تعالى: {وَإِذََا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنََا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ} (1) قال: إذا لم يأمروا بالمعروف، ولم ينهوا عن المنكر. قيل: إنها دابة طولها ستون ذراعا ذات قوائم ووبر، وقيل: هي مختلفة تشبه عدة من الحيوانات، يتصدع لها جبل الصفا فتخرج منه ليلة جمع، والناس سائرون إلى متى. وقيل: تخرج من الحجر وقيل: من أرض الطائف، ومعها عصا موسى، وخاتم سليمان عليهما السلام، لا يدركها طالب ولا يعجزها هارب تضرب المؤمن بالعصا، وتكتب في وجهه مؤمن، وتطبع الكافر بالخاتم وتكتب في وجهه كافر. كذا رواه الحاكم في أواخر المستدرك عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم، وفيه عن أبي الطفيل عن أبي شريحة عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال: «يكون للدابة ثلاث خرجات في الدهر: تخرج أول خرجة بأقصى اليمن، فيفشو ذكرها بالبادية، ولا يدخل ذكرها القرية، يعني مكة. ثم يكون زمان طويل ثم تخرج خرجة أخرى قريبا من مكة فيفشو ذكرها في البادية، ويدخل ذكرها القرية، يعني مكة، ثم يكون زمان فبينما الناس يوما في أعظم المساجد عند الله حرمة، وأحبها إلى الله تعالى، وأكرمها على الله عز وجل، يعني المسجد الحرام، لم يرعهم إلا وهي في ناحية المسجد بين الركن الأسود وباب بني مخزوم، فترفض الناس عنها شتى، وتثبت لها عصابة من المسلمين عرفوا أنهم لن يعجزوا الله هربا فتنفض عن رؤوسهم التراب، فتجلو عن وجوههم حتى تظل كأنها الكواكب الدرية، ثم تذهب في الأرض فلا يدركها طالب، ولا يعجزها هارب، حتى إن الرجل ليعوذ منها بالصلاة، فتأتيه من خلفه فتقول: أي فلان الآن تصلي؟ فيلتفت إليها فتسمه في وجهه، ثم تذهب فيتجاور الناس في ديارهم، ويصطحبون في أسفارهم، ويشتركون في أموالهم، يعرف المؤمن من الكافر، حتى إن الكافر يقول: يا مؤمن اقضني، ويقول المؤمن: يا كافر اقضني. وروى السهيلي أن موسى عليه السلام سأل ربه عز وجل أن يريه الدابة التي تكلم الناس، فأخرجها الله له من الأرض، فرأى منظرا أفزعه وهاله، قال: أي رب ردها، فردها. قال: والدابة اسمها أقصد. كذا ذكره محمد بن الحسن المقري في تفسيره انتهى.
روى أنها تخرج حين ينقطع الخير، ولا يؤمر بالمعروف، ولا ينهى عن المنكر، ولا يبقى منيب ولا تائب.
وفي الحديث (2): «أن الدابة وطلوع الشمس من المغرب، من أول اشراط الساعة». ولم يعين الأول منهما، وكذلك الدجال وظاهر الأحاديث أن طلوع الشمس آخرها، والظاهر إن الدابة التي تخرج واحدة، وروي أنه يخرج من كل بلد دابة، مما هو مبثوث نوعها في الأرض، وليست بواحدة، فعلى هذا يكون قوله تعالى دابة إسم جنس.
__________
(1) سورة النمل: الآية 82.
(2) رواه البخاري في الفتن: 25. رقاق 40. ومسلم في التوبة: 31. والإيمان: 248. وأبو داود في الجهاد: 2.
والترمذي في الفتن: 21. وابن ماجه فتن 2825. والدارمي في السير: 69، وأحمد: 1/ 192.(2/450)
وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، أنها الثعبان الذي كان في جوف الكعبة، واختطفه العقاب، حين أرادت قريش بناء البيت الحرام، وأن الطائر حين اختطفها، ألقاها بالحجون، فالتقمتها الأرض، فهي الدابة التي تخرج تكلم الناس، وتخرج عند الصفا. قاله محمد بن الحسن المقري، وهو غريب غير أن الرجل من أهل العلم، ولذلك حكينا قوله، وقال القرطبي: أنها فصيل ناقة صالح، لقوله في الحديث: «تخرج ولها رغاء». والرغاء لا يكون إلا للإبل وهو غريب أيضا. وفي الميزان للذهبي، عن جابر الجعفي أنه كان يقول: دابة الأرض علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه. قال: وكان جابرا الجعفي شيعيا يرى الرجعة أي أن عليا رضي الله تعالى عنه يرجع إلى الدنيا، وقال الإمام أبو حنيفة رضي الله تعالى عنه: ما لقيت أحدا أكذب من جابر الجعفي، ولا أفضل من عطاء بن أبي رباح. وقال الإمام الشافعي رضي الله تعالى عنه: أخبرني سفيان بن عيينة قال: كنا في منزل جابر الجعفي فتكلم بشيء، فخرجنا مخافة أن يقع علينا السقف، قلت: ومع ذلك روى له أبو داود والترمذي وابن ماجه، ووفاته سنة ست وستين ومائة. واختلف العلماء في كيفية خلق الدابة اختلافا كثيرا فقيل إنها على خلقة الآدميين وقيل: جمعت خلق كل حيوان.
وهنا فائدة
: وهي أن المفسرين اختلفوا في تفسير قوله (1) تعالى: {أَخْرَجْنََا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ} قيل: تكلمهم ببطلان الأديان، سوى دين الإسلام، قاله السدي. وقيل:
كلامها أن تقول لواحد: هذا مؤمن، وتقول لآخر: هذا كافر. وقيل: كلامها ما قاله (2) الله عز وجل {أَنَّ النََّاسَ كََانُوا بِآيََاتِنََا لََا يُوقِنُونَ} ويكون كلامها بالعربية. وروي عن علي رضي الله تعالى عنه، إنه قال: ليست بدابة لها ذنب ولكن كالحية. كأنه يشير إلى أنها رجل والاكثرون على إنها دابة. وروى ابن جريج عن أبي الزبير أنه وصف الدابة فقال: رأسها رأس ثور، وعيناها عينا خنزير، وأذنها أذن فيل، وقرنها قرن ايل، وصدرها صدر أسد، ولونها لون نمر، وخاصرتها خاصرة هر، وذنبها ذنب كبش، وقوائمها قوائم بعير، بين كل مفصلين اثنا عشر ذراعا. وروى الثعلبي عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أنه قال: تخرج الدابة من صدع في الصفا تجري كجري الفرس ثلاثة أيام وما خرج ثلثها. وروي أيضا عن حذيفة بن اليمان رضي الله تعالى عنه أنه قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الدابة تخرج من أعظم المساجد حرمة عند الله تعالى، بينما عيسى عليه السلام يطوف بالبيت، ومعه المسلمون، فتضطرب الأرض من تحتهم، وينشق الصفا مما يلي المسعى وتخرج الدابة من الصفا، أول ما يبدو منها رأسها، ملمعة ذات وبر وريش، لا يدركها طالب، ولا يفوتها هارب، تسم الناس مؤمنا وكافرا أما المؤمن فتترك وجهه كأنه كوكب دري، وتكتب بين عينه: مؤمن، وأما الكافر فتترك في وجهه نكتة سوداء وتكتب بين عينيه: كافر. وروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قرع الصفا بعصاه، وهو محرم، وقال: إن الدابة لتسمع قرع عصاي هذه. وعن عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما أنه قال: تخرج الدابة من شعب أبي قبيس رأسها في السحاب ورجلاها في الأرض. وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم
__________
(1) سورة النمل: الآية 82.
(2) سورة النمل: الآية 82.(2/451)
قال: «بئس الشعب شعب أجياد» مرتين أو ثلاثا، قيل: ولم ذلك يا رسول الله؟ قال صلى الله عليه وسلم: «لأنه تخرج منه الدابة فتصرخ ثلاث صرخات، يسمعها من بين الخافقين».
وقيل إن وجهها وجه رجل، وسائر خلقتها كخلقة الطير، فتكلم من رآها أن أهل مكة كانوا بمحمد صلى الله عليه وسلم والقرآن لا يوقنون.
فرع:
أوصى لرجل بدابة حمل على فرس وبغل وحمار، لأنها في اللغة إسم لما دب على وجه الأرض، ثم قصرها العرف على ذوات الأربع والوصية تنزل على العرف، وإذا ثبت عرف في بلد عم جميع البلاد، كما لو حلف لا يركب دابة فركب كافرا لا يحنث، وإن كان الله تعالى قد سماه دابة وكما لو احلف لا يأكل خبزا حنث بأكل خبز الأرز في طبرستان على الأصح هذا هو المنصوص.
وقال ابن سريج: إنما ذكر الشافعي هذا، على عرف أهل مصر، في ركوبها جميعا، واستعمال لفظ الدابة فيها. أما حيث لا يستعمل إلا في الفرس كالعراق، فإنه لا يعطي سواها، وقيل: إن قاله بمصر لم يعط إلا حمارا قاله في البحر ويدخل في لفظ الدابة الكبير والصغير، والذكر والأنثى والسليم والمعيب، وقال المتولي: إلا ما يمكن ركوبه.
فرع:
يكره دوام الوقوف على الدابة لغير حاجة، وترك النزول عنها للحاجة، لما في سنن أبي داود والبيهقي، من حديث أبي مريم، عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم (1)
قال: «إياكم أن تتخذوا ظهور دوابكم منابر، فإن الله عزّ وجلّ إنما سخرها لكم لتبلغكم إلى بلد لم تكونوا بالغيه إلا بشق الأنفس، وجعل لكم في الأرض مستقرا فاقضوا عليها حاجاتكم». ويجوز الوقوف على ظهرها للحاجة، ريثما تقضى لما روى (2) مسلم وأبو داود والنسائي، عن أم الحصين الأحمسية رضي الله تعالى عنها، قالت: «حججت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حجة الوداع، فرأيت أسامة وبلالا رضي الله تعالى عنهما، أحدهما آخذ بخطام ناقة النبي صلى الله عليه وسلم، والآخر رافع ثوبه يستره من الحر، حتى رمى جمرة العقبة». وهكذا رواه أحمد والحاكم وابن حبان وصححاه. وقال الشيخ عز الدين بن عبد السلام، في الفتاوى الموصلية: النهي عن ركوب الدواب، وهي واقفة محمول على ما إذا كان لغير غرض صحيح، وأما الركوب الطويل في الأغراض الصحيحة، فتارة يكون مندوبا، كالوقوف بعرفة، وتارة يكون واجبا، كوقوف الصفوف في قتال المشركين، وقتال كل من يجب قتاله، وكذلك الحراسة في الجهاد، إذا خيف هجمة العدو، وهذا لا خلاف فيه. وفي حديث أم الحصين رضي الله تعالى عنها دليل على أن للمحرم أن يستظل بالمظال، نازلا بالأرض وراكبا على ظهر الدابة، ورخص فيه أكثر أهل العلم إلا أن مالك بن أنس وأحمد رضي الله تعالى عنهما، كانا يكرهان للمحرم أن يستظل راكبا، لما روى الإمام أحمد عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما، أنه رأى رجلا قد جعل على رحله عودا له شعبتان، وجعل عليه ثوبا يستظل به وهو محرم، فقال له ابن عمر رضي الله تعالى عنهما: اضح للذي حرمت له أي ابرز للشمس، وأما قوله صلى الله عليه وسلم «لا تتخذوا ظهور الدواب منابر» فإنما أراد أن يستوطن ظهورها لغير أرب في ذلك، ولا حاجة. وقال
__________
(1) رواه أبو داود جهاد: 55.
(2) رواه مسلم في الحج: 312. وأبو داود في المناسك: 34. والنسائي في العيدين: 17.(2/452)
الرياشي: رأيت أحمد بن المعذل في الموقف في يوم شديد الحر، وقد ضحى للشمس، فقلت له:
يا أبا الفضل إن هذا أمر قد اختلف فيه فلو أخذت بالتوسعة فأنشأ يقول:
ضحيت له كي استظل بظله ... إذا الظل أضحى في القيامة قالصا ... فوا أسفا إن كان سعيك باطلا ... ويا حسرتا إن كان حجك ناقصا
وأحمد بن المعذل هذا بصري مالكي المذهب، يعد من زهاد البصرة وعلمائها وأخوه عبد الصمد بن المعذل شاعر ماهر.
الداجن:
الشاة التي يعلفها الناس في منازلهم، وكذلك الناقة والحمام البيوتي. والأنثى داجنة، والجمع دواجن. وقال أهل اللغة: دواجن البيوت ما ألفها من الطير والشاة وغيرهما. وقد دجن في بيته إذا لزمه قال ابن السكيت: شاة داجن وراجن، إذا ألفت البيوت واستأنست. قال:
ومن العرب من يقولها بالهاء. وكذلك غير الشاة ككلاب الصيد، وقد أنشد عليه الجوهري بيتا للبيد رضي الله تعالى عنه. قال: وأبو دجانة كنية سماك بن خرشة، وسيأتي إن شاء الله تعالى ذكره في القنفذ. وفي صحيح مسلم عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، أن ميمونة اخبرته أن داجنة كانت لبعض نساء النبي صلى الله عليه وسلم فماتت، فقال (1) رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ألا أخذتم إهابها فاستمتعتم به». وفيه وفي السنن الأربعة، عن عائشة رضي الله عنها قالت: «لقد نزلت آية الرجم ورضاعة الكبير عشرا، ولقد كانت في صحيفة تحت سريري، فلما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم وتشاغلنا بموته، دخل داجن فأكلها». وفي (2) حديثها أيضا: «كانت عندنا داجن فإذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم، عندنا قم وثبت وإذا خرج صلى الله عليه وسلم جاء وذهب». وفي الحديث «لعن الله من مثل بدواجنه (3)». وعن عمران بن حصين رضي الله تعالى عنه قال: كانت العضباء داجنا لا تمنع من حوض ولا بيت، وهي ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وفي حديث الإفك فتدخل الداجن فتأكل من عجينها.
تتمة:
دجين بن ثابت أبو اليربوعي البصري، روى عن أسلم مولى عمرو بن هشام بن عروة بن الزبير، قال ابن معين: حديثه ليس بشيء. وقال أبو حاتم وأبو زرعة: ضعيف. وقال النسائي: ليس بثقة. وقال الدارقطني وغيره: ليس بالقوي. وقال ابن عدي: روي لنا عن ابن معين إنه قال: دجين هو جحا. وقال البخاري: دجين بن ثابت هو أبو الغصن سمع مسلمة وابن مبارك، وروى عنه وكيع. قال عبد الرحمن بن مهدي قال لنا مرة دجين: وهو جحا، حدثني مولى لعمر بن عبد العزيز فقلنا له إن مولى لعمر بن عبد العزيز لم يدرك النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: إنما هو أسلم مولى عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه. قال: قلنا لعمر ما بالك لا تحدثنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: إنما أخشى أن أزيد أو أنقص، وإني قد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول (4): «من
__________
(1) رواه مسلم في الحيض: 103. وابن حنبل: 5/ 417.
(2) رواه ابن ماجه في النكاح: 36.
(3) رواه البخاري في الذبائح: 25. والنسائي في الضحايا: 41. والدارمي أضاحي: 13.
(4) رواه البخاري علم: 38. جنائز: 33. ورواه مسلم زهد: 72. وأبو داود علم: 4. والترمذي فتن: 70.
وابن ماجه مقدمة: 4. والدارمي مقدمة: 25. وأحمد: 2/ 47.(2/453)
كذب علي متعمدا فليتبوّأ مقعده من النار». وقال حمزة والميداني في الأمثال: جحا رجل من فزارة، كنيته أبو الغصن وهو من أحمق الناس. فمن حمقه، أن موسى بن عيسى الهاشمي مر به يوما وهو يحفر بظهر الكوفة موضعا، فقال له: ما بالك يا أبا الغصن لأي شيء تحفر؟ فقال: إني دفنت في هذه الصحراء دراهم ولست أهتدي إلى مكانها. فقال له موسى: كان ينبغي أن تجعل عليها علامة، قال: لقد فعلت، قال: ماذا؟ قال: سحابة في السماء كانت تظلها، ولست أدري موضع العلامة الآن. ومن حمقه أيضا أنه خرج يوما بغلس، فعثر في دهليز منزله بقتيل، فالقاه في بئر هناك، فعلم به أبوه فأخرجه ودفنه، ثم خنق كبشا والقاه في البئر، ثم إن أهل القتيل طافوا في سكك الكوفة يبحثون عنه، فتلقاهم جحا وقال: في دارنا رجل مقتول فانظروا لعله صاحبكم، فغدوا إلى منزله، فأنزلوه في البئر، فلما رأى الكبش، ناداهم هل كان لصاحبكم قرون؟
فضحكوا منه وانصرفوا. ومن حمقه أيضا أن أبا مسلم الخراساني، صاحب الدعوة، لما ورد الكوفة، قال لمن حوله: أيكم يعرف جحا فيدعوه إلي؟ فقال يقطين: أنا. فخرج ودعاه، فلما دخل لم يجد في المجلس غير أبي مسلم ويقطين، فقال جحا: يا يقطين أيكما أبو مسلم؟! وجحا إسم لا ينصرف لأنه معدول من جاح مثل عمر من عامر يقال جحا يجحو جحوا إذا رمى.
الدارم:
القنفذ. قاله ابن سيده وسيأتي إن شاء الله تعالى في باب القاف.
الدبى:
بفتح الدال المهملة وتخفيف الباء الموحدة الجراد قبل أن يطير. الواحدة دباة قال الراجز:
كأن خوف قرطها المعقوب ... على دباة أو على يعسوبّ
وأرض مدبية أي كثيرة الدبى، وقالوا في أمثالهم (1): «أكثر من الدبى». وفي حديث عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: يا رسول الله كيف الناس بعد ذلك؟ قال (2) صلى الله عليه وسلم: «دبى يأكل شداده ضعفاءه حتى تقوم الساعة». وقد تقدم الكلام على عموم الجراد.
الدب:
من السباع معروف، والأنثى دبة وكنيته أبو جهينة وأبو الجلاح وأبو سلمة وأبو حميد وأبو قتادة وأبو اللماس: وأرض مدبة أي ذات أدباب. والدب يحب العزلة فإذا جاء الشتاء دخل وجاره الذي اتخذه في الغيران، ولا يخرج حتى يطيب الهواء، وإذا جاع يمتص يده ورجليه فيندفع عنه بذلك الجوع. ويخرج في الربيع كاسمن ما يكون. وهو مختلف الطباع، لأنه يأكل ما تأكله السباع، وما ترعاه البهائم، وما يأكله الناس ومن طبعه أنه إذا كان أوان السفاد، خلا كل ذكر بأنثاه، والذكر يسافد أنثاه مضطجعة على الأرض، وتضع الأنثى جروها قطعة لحم غير مميز الجوارح، فتهرب به من موضع إلى موضع، خوفا عليه من النمل، كما تقدم في جهير، وهي مع ذلك تلحسه حتى تتميز أعضاؤه ويتنفس. وفي ولادتها صعوبة وربما أشرفت على التلف حالة الوضع، وزعم بعضهم أنها تلد من فيها، وإنما تلده ناقص الخلق تشوقا للذكر وحرصا على السفاد، ولشدة شهوتها تدعو الآدمي إلى وطئها. ومن شأن هذا الجنس أن يسمن في الشتاء وتقل
__________
(1) جمهرة الأمثال: 2/ 147.
(2) رواه ابن حنبل: 6/ 9081.(2/454)
فيه حركته وتضع الإناث حينئذ. وإذا جثم في مكان لا يتحرك منه إلى أن يمضي عليه أربعة عشر يوما، وبعد ذلك يتدرج في الحركة. والأنثى إذا انهزمت دفعت جراءها بين يديها، فإذا اشتد خوفها عليها صعدت بها الأشجار. وفي طبعه فطنة عجيبة لقبول التأديب، لكنه لا يطيع معلمه إلا بعنف وضرب شديد.
وحكمه:
تحريم الأكل لأنه سبع يتقوى بنابه. وقال الإمام أحمد: إن لم يكن له ناب فلا بأس به، لأن الأصل الإباحة، ولم يتحقق وجود المحرم.
فائدة:
قال الإمام أبو الفرج بن الجوزي في آخر الأذكياء (1): هرب رجل من أسد، فوقع في بئر، فوقع الأسد خلفه، فإذا في البئر دب، فقال له الأسد: منذ كم لك ههنا؟ قال: منذ أيام، وقد قتلني الجوع. فقال: له الأسد: أنا وأنت نأكل هذا الإنسان وقد شبعنا، فقال له الدب فإذا عاودنا الجوع ما نصنع؟ وإنما الرأي أن نحلف له، أنا لا نؤذيه ليحتال في خلاصنا وخلاصه، فإنه على الحيلة أقدر منا فحلفا له فتشبث حتى وجد نقبا فوصل إليه، ثم إلى الفضاء فتخلص وخلصهما. ومعنى هذا أن العاقل لا يترك الحزم في كل أموره، ولا يتبع شهوته لا سيما إذا علم أن فيها هلاكه بل ينظر في عاقبة أمره ويأخذ بالحزم في ذلك. وحكى القزويني في عجائب المخلوقات أن أسدا قصد إنسانا فهرب والتجأ إلى شجرة، فإذا على بعض أغصانها دب يقطف ثمرتها، فلما رأى الأسد أنه فوق الشجرة، جاء وافترش تحتها ينتظر نزول الإنسان. قال: فنظرت إلى الدب، فإذا هو يشير بإصبعه إلى فيه، أن اسكت لئلا يعرف الأسد أني هنا. قال: فبقيت متحيرا بين الأسد والدب، وكان معي سكين صغير فأخرجته وقطعت بعض الغصن الذي عليه الدب حتى إذا لم يبق منه إلا اليسير سقط الدب بسبب ثقله فوثب الأسد عليه وتصارعا زمانا ثم غلبه الأسد فافترسه ورجع عني.
الأمثال:
تقدم أنهم قالوا: «أحمق من جهبر». وهي أنثى الدب. وأما قولهم (2): «ألوط من دب». فهو رجل من العرب كان يتجاهر بعمل ذلك. وأما قولهم (3): «ألوط من ثفر»، فإنما قالوه لأن الثفر لا يفارق دبر الدابة، وقولهم (4): «ألوط من راهب». هذا من قول الشاعر:
وألوط من راهب يدّعي ... بأن النساء عليه حرام
الخواص:
نابه يلقى في لبن المرضعة ويسقاه الصبي تنبت أسنانه بسهولة. وشحمه يزيل البرص طلاء، وإذا شدت عينه اليمنى في خرقة، وعلقت على عضد إنسان لم يخف السباع، وإن علقت على من به الحمى الدائمة ابرأته، ومرارته إذا اكتحل بها مع العسل وماء الرازيانج اذهبت ظلمة البصر، وإذا طلي بذلك موضع داء الثعلب، أنبت الشعر فيه، وإذا شرب من مرارته وزن دانقين بعسل وماء حار، نفع الرئة والبواسير وطرد الرياح. وإذا ربطت مرارته على فخذ الرجل اليمنى جامع ما شاء ولا يضره، ودمه إذا
__________
(1) الأذكياء: 243.
(2) جمهرة الأمثال: 2/ 183.
(3) جمهرة الأمثال: 2/ 183.
(4) جمهرة الأمثال: 2/ 183.(2/455)
اكتحل به منع طلوع الشعر في اجفان العين. وإن اكتحل به بعد نتفه لم ينبت، وإذا دلك الولد بشحمه، كان له حرزا من كل سوء، وإذا جشي بشحمه موضع الناسور نفعه، وإذا طلي بشحمه كلب جن. وقطعة من جلده إذا علقت على الصبي الذي ساء خلقه يزول عنه ذلك، وعينه اليمنى إذا جففت وعلقت على الطفل لم يفزع في نومه.
التعبير:
الدب في المنام يدل على الشر والنكد والفتنة، وربما دلت رؤيته على المكر والخديعة، وعلى المرأة الثقيلة البدن الموحشة المنظر، ذات اللهو واللعب والطرب، وربما دلت رؤيته على الأسر والسجن وربما دلت رؤيته على عدو أحمق، لص محتال مخنث، فمن رأى أنه ركب دبا نال ولاية دنيئة، إن كان لها أهلا، وإلا ناله هم وخوف ثم ينجو وربما دل على سفر ثم يرجع إلى مكانه والله تعالى أعلم.
الدبدب:
حمار الوحش قاله في العباب. وقد تقدم الكلام عليه في باب الحاء المهملة.
الدبر:
بفتح الدال جماعة النحل. وقال السهيلي الدبر الزنابير، وأما الدبر بكسر الدال فصغار الجراد. قال الأصمعي لا واحد له من لفظه، ويقال إن واحده خشرمة، ويجمع الدبر على دبور قال الهذلي في وصف عسال:
إذا لسعته الدبر لم يرج لسعها.
أي لم يخف لسعها به فسر قوله (1) تعالى: {فَمَنْ كََانَ يَرْجُوا لِقََاءَ رَبِّهِ} وقوله (2)
تعالى: {مَنْ كََانَ يَرْجُوا لِقََاءَ اللََّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللََّهِ لَآتٍ} أي من كان يخاف لقاءه. قال النحاس: أجمع أهل التفسير على أن الرجاء في الآيتين بمعنى الخوف. ويقال أيضا للزنابير دبر، كما قاله السهيلي. ومنه قيل لعاصم بن ثابت الأنصاري رضي الله تعالى عنه: حمى الدبر، وذلك أن المشركين لما قتلوه أرادوا أن يمثلوا به، فحماه الله تعالى بالدبر فارتدعوا عنه، حتى أخذه المسلمون فدفنوه. وكان رضي الله تعالى عنه، قد عاهد الله تعالى أن لا يمس مشركا ولا يمسه مشرك، فحماه الله تعالى منهم بعد وفاته. وفي أوائل تاريخ نيسابور للحاكم عن ثمامة بن عبد الله عن أنس بن مالك رضي الله عنه، وهو ممن روى له الجماعة أنه قال: خرجنا مرة من خراسان ومعنا رجل يشتم أو ينال من أبي بكر وعمر رضي الله تعالى عنهما فنهيناه فأبى، فحضر غداؤنا ذات يوم ثم مضى إلى حاجته فأبطأ علينا فبعثنا في طلبه فرجع إلينا الرسول وقال: أدركوا صاحبكم، فذهبنا إليه فإذا هو قد قعد على حجر يقضي حاجته فخرج عليه عنق من الدبر، فنثرت مفاصله مفصلا مفصلا. قال: فجمعنا عظامه، وإنها لتقع علينا فما تؤذينا، وهي تبري مفاصله. وجاء في الحديث: «لتسلكن سنن من قبلكم ذراعا بذراع، حتى لو سلكوا
__________
(1) سورة الكهف: الآية 11.
(2) سورة العنكبوت: الآية 5.(2/456)
خشرم دبر لسلكتموه» (1) والخشرم مأوى النحل. وفي الفائق أن سكينة بنت الحسين رضي الله تعالى عنهما، جاءت إلى أمها الرباب وهي صغيرة تبكي، فقالت: ما بك؟ قالت: مرت بي دبيرة، فلسعتني بأبيرة أرادت تصغير دبرة وهي النحلة سميت بذلك لتدبيرها في عمل العسل.
الدبسي:
بفتح الدال المهملة وكسر السين المهملة، ويقال له أيضا الدبسي، بضم الدال طائر صغير منسوب إلى دبس الرطب لأنهم يغيرون في النسب كالدهري والسهلي والفامي بائع الفوم، والقياس فومي. والأدبس من الطير والخيل، الذي في لونه غبرة بين السواد والحمرة. وهذا النوع قسم من الحمام البري وهو أصناف مصري وحجازي وعراقي، وهي متقاربة لكن أفخرها المصري. ولونه الدكنة وقيل: هو ذكر اليمام. قال الجاحظ: قال صاحب منطق الطير: يقال في الحمام الوحشي من القماري والفواخت، وما أشبه ذلك: دباسي ويقال: هدل يهدل هديلا، إذا صاح فإذا طرب قيل: غرد يغرد تغريدا والتغريد يكون أيضا للإنسان، وأصله من الطير، وبعضهم يزعم أن الهديل من أسماء الحمامة الذكر قال الراجز (2):
كهداهد كسر الرماة جناحه ... يدعو بقارعة الطريق هديلا
وسيأتي إن شاء الله تعالى ذكر الهديل في باب الهاء. روى الإمام أحمد والطبراني ورجال المسند رجال الصحيح عن يحيى بن عمارة عن جده حنش، قال: دخلت الأسواق، فأخذت دبسيتين وأمهما ترفرف عليهما، وأنا أريد أن أذبحهما قال: فدخل علي أبو حنش فأخذ متيخة فضربني بها وقال: ألم تعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حرم ما بين لابتي المدينة. المتيخة أصل جريد النخل وأصل العرجون والأسواف، سيأتي إن شاء الله تعالى ذكره في النهاس أيضا في باب النون. وفي الموطأ عن عبد الله بن أبي بكر أن أبا طلحة الأنصاري رضي الله تعالى عنه كان يصلي في حائط له، فطار دبسي فأعجبه، وهو طائر في الشجر يلتمس مخرجا، فأتبعه بصره ساعة وهو في صلاته، فلم يدركم صلى فذكر للنبي صلى الله عليه وسلم ما أصابه من الفتنة. ثم قال: يا رسول الله هو صدقة فضعه حيث شئت، قال مالك: وعن عبد الله بن أبي بكر أن رجلا من الأنصار، كان يصلي في حائط له بالقف في زمن التمر والنخل، قد ذللت فهي مطوقة بثمرها فنظر إليها فأعجبه ما رأى من ثمرها، ثم رجع إلى صلاته فإذا هو لا يدري كم صلى. فقال لقد أصابتني في مالي هذا فتنة. فجاء عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه، وهو يومئذ خليفة فذكر له ذلك وقال: هو صدقة فاجعله في سبيل الخير فباعه عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه بخمسين ألفا فسمى ذلك الحائط الخمسون والقف واد من أودية المدينة. وكان ابن عمر رضي الله تعالى عنهما لا يعجبه شيء من ماله إلا خرج عنه لله تعالى، وكان رقيقه يعرفون منه ذلك فربما لزم أحدهم المسجد، فإذا رآه ابن عمر رضي الله تعالى عنهما، على تلك الحالة الحسنة عتقه، فيقول له أصحابه: إنهم يخدعونك فيقول: من خدعنا بالله تعالى، انخدعنا له. وطلب منه خادم بثلاثين ألفا، فقال: أخاف أن تفتني دراهم ابن عامر، وكان
__________
(1) رواه البخاري أنبياء: 50. وفيه: حتى لو سلكوا جحرضب لسلكتموه.
(2) هو الراعي النميري، والبيت في الحيوان للجاحظ: 3/ 243.(2/457)
هو الطالب له، فقال للخادم إذهب فأنت حر لله تعالى. ولذلك قال أبو سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه: ما منا أحد إلا وقد مالت به الدنيا، الا ابن عمر رضي الله تعالى عنهما، ولم يمت إلى أن أعتق ألف نسمة أو أكثر من ذلك. ومناقبه وفضائله رضي الله تعالى عنه لا تحصى قال حجة الإسلام الغزالي: وكانوا يفعلون ذلك قطعا لمادة الفكرة، وكفارة لما جرى من نقصان الصلاة وهذا هو الدواء القاطع لمادة العلة ولا يغني غيره.
ومن طبع الدبسي إنه لا يرى ساقطا على وجه الأرض بل في الشتاء له مشتى وفي الصيف له مصيف ولا يعرف له وكره.
وحكمه:
الحل بالاتفاق. وفي سنن البيهقي عن ابن أبي ليلى، عن عطاء عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، أنه قال في الخضري: والدبسي والقمري والقطا والحجل إذا قتله المحرم شاة شاة.
الخواص:
قال صاحب المنهاج في الطب: إنه أفضل الطير البري، وبعده الشحرور والسماني، ثم الحجل والدراج، وفراخ الحمام والورشان وهو حار يابس.
والدباساء ممدودا الأنثى من الجراد. وهو في المنام كالسماني وسيأتي إن شاء الله تعالى الكلام عليهما في باب السين المهملة فلينظر هناك.
الدجاج:
مثلث الدال حكاه ابن معن الدمشقي وابن مالك وغيرهما، الواحدة دجاجة الذكر والأنثى فيه سواء والهاء فيه كبطة وحمامة، وقال ابن سيده: سميت الدجاجة دجاجة لإقبالها وادبارها يقال: دج القوم يدجون دجيجا إذا مشوا مشيا رويدا في تقارب خطو. وقيل هو أن يقبلوا ويدبروا. وقال الأصمعي: الدجاجة بالفتح الواحدة من الدجاج، وبالكسر الكبة من الغزل.
وقال غيره: الكبة من الغزل دجاجة بفتح الدال أيضا. قاله الإمام ابن بيدار في شرح الفصيح.
وكنية الدجاجة أم الوليد وأم حفصة وأم جعفر وأم عقبة وأم إحدى وعشرين وأم قوب وأم نافع.
وإذا هرمت الدجاجة لم يكن لبيضها مح، وإذا كانت كذلك لم يخلق منها فرخ، ومن عجيب أمرها أنه يمر بها سائر السباع فلا تخشاها فإذا مر بها ابن آوى وهي على سطح أو جدار أو شجرة رمت بنفسها إليه. وتوصف الدجاجة بقلة النوم، وسرعة الانتباه. يقال إن نومها واستيقاظها إنما هو بمقدار خروج النفس ورجوعه، ويقال إنها تفعل ذلك من شدة الجبن، وأكثر ما عندها من الحيلة أنها لا تنام على الأرض، بل ترتفع على رف أو على جذع، أو جدار أو ما قارب ذلك، وإذا غربت الشمس فزعت إلى تلك العادة وبادرت إليها. والفرخ يخرج من البيضة كاسيا كاسيا، ظريفا مقبولا، سريع الحركة يدعى فيجيب، ثم هو كلما مرت عليه الأيام، حمق ونقص حسنه وكيسه وزاد قبحه، فلا يزال كذلك حتى ينسلخ من جميع ما كان فيه إلى أن يصير إلى حالة لا يصلح فيها إلا للذبح أو الصياح أو البيض. والدجاج مشترك الطبيعة يأكل اللحم والذباب، وذلك من طباع الجوارح، ويأكل الخبز ويلتقط الحب، وذلك من طباع البهائم والطير. ويعرف الديك من الدجاجة وهو في البيضة وذلك أن البيضة إذا كانت مستطيلة محدودة الأطراف فهي مخرج الإناث، وإذا كانت مستديرة عريضة الأطراف، فهي مخرج الذكور. والفرخ يخرج من البيضة تارة بالحضن
وتارة بأن يدفن في الزبل ونحوه. ومن الدجاج ما يبيض مرتين في اليوم، والدجاجة تبيض في جميع السنة، إلا في شهرين منها شتويين، ويتم خلق البيض في عشرة أيام، وتكون البيضة عند خروجها لينة القشر، فإذا أصابها الهواء يبست، وهي تشتمل على بياض وصفرة، بينهما قشر رقيق، يسمى قميصا، ويعلوه قشر صلب. فالبياض رطوبة مختلطة لزجة متشابهة الأجزاء، وهي بمنزلة المني. والصفرة رطوبة سلسة ناعمة أشبه شيء بدم قد جمد، وهي للفرخ مادة يغتذي بها من سرته.(2/458)
وإذا هرمت الدجاجة لم يكن لبيضها مح، وإذا كانت كذلك لم يخلق منها فرخ، ومن عجيب أمرها أنه يمر بها سائر السباع فلا تخشاها فإذا مر بها ابن آوى وهي على سطح أو جدار أو شجرة رمت بنفسها إليه. وتوصف الدجاجة بقلة النوم، وسرعة الانتباه. يقال إن نومها واستيقاظها إنما هو بمقدار خروج النفس ورجوعه، ويقال إنها تفعل ذلك من شدة الجبن، وأكثر ما عندها من الحيلة أنها لا تنام على الأرض، بل ترتفع على رف أو على جذع، أو جدار أو ما قارب ذلك، وإذا غربت الشمس فزعت إلى تلك العادة وبادرت إليها. والفرخ يخرج من البيضة كاسيا كاسيا، ظريفا مقبولا، سريع الحركة يدعى فيجيب، ثم هو كلما مرت عليه الأيام، حمق ونقص حسنه وكيسه وزاد قبحه، فلا يزال كذلك حتى ينسلخ من جميع ما كان فيه إلى أن يصير إلى حالة لا يصلح فيها إلا للذبح أو الصياح أو البيض. والدجاج مشترك الطبيعة يأكل اللحم والذباب، وذلك من طباع الجوارح، ويأكل الخبز ويلتقط الحب، وذلك من طباع البهائم والطير. ويعرف الديك من الدجاجة وهو في البيضة وذلك أن البيضة إذا كانت مستطيلة محدودة الأطراف فهي مخرج الإناث، وإذا كانت مستديرة عريضة الأطراف، فهي مخرج الذكور. والفرخ يخرج من البيضة تارة بالحضن
وتارة بأن يدفن في الزبل ونحوه. ومن الدجاج ما يبيض مرتين في اليوم، والدجاجة تبيض في جميع السنة، إلا في شهرين منها شتويين، ويتم خلق البيض في عشرة أيام، وتكون البيضة عند خروجها لينة القشر، فإذا أصابها الهواء يبست، وهي تشتمل على بياض وصفرة، بينهما قشر رقيق، يسمى قميصا، ويعلوه قشر صلب. فالبياض رطوبة مختلطة لزجة متشابهة الأجزاء، وهي بمنزلة المني. والصفرة رطوبة سلسة ناعمة أشبه شيء بدم قد جمد، وهي للفرخ مادة يغتذي بها من سرته.
والذي يتكون من الرطوبة البيضاء عين الفرخ ثم دماغه ثم رأسه ثم ينحاز البياض في لفافة واحدة هي جلدة الفرخ، وتنحاز الصفرة في غشاء واحد هي سرته، فيتغذى منها كتغذي الجنين من سرته من دم الحيض، وربما وجد في البيضة الواحدة محان أصفران، فإذا حضنت هذه البيضة خرج منها فرخان، وقد شوهد ذلك. وأغذى البيض وألطفه ذوات الصفرة، وأقله غذاء ما كان من دجاج لا ديك لها، وهذا النوع من البيض، لا يتولد منه حيوان، ولا مما يباض في نقصان القمر على الأكثر، لأن البيض من الاستهلال إلى الابدار يمتلىء ويرطب، فيصلح للكون وبالضد من الابدار إلى المحاق. ويعرف الفرخ الذكر من الأنثى، بعد عشرة أيام، بأن يعلق بمنقاره، فإن تحرك فذكر، وإن سكن فأنثى. وقد وصف الشعراء البيضة بأوصاف مختلفة منها قول أبي الفرج الأصبهاني من أبيات:
فيها بدائع صنعة ولطائف ... ألفن بالتقدير والتعليق ... خلطان مائيان ما اختلطا على ... شكل ومختلف المزاج رقيق
روى ابن ماجه (1) من حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم «أمر الأغنياء باتخاذ الغنم، وأمر الفقراء باتخاذ الدجاج». وقال: «عند اتخاذ الأغنياء الدجاج يأذن الله تعالى بهلاك القرى». وفي اسناده علي بن عروة الدمشقي، قال ابن حبان: كان يضع الحديث. قال عبد اللطيف البغدادي: إنما أمر الأغنياء باتخاذ الغنم والفقراء باتخاذ الدجاج لأنه أمر كل قوم بحسب مقدرتهم وما تصل إليه قوتهم والقصد من ذلك كله أن لا يقعد الناس عن الكسب، وإنماء المال وعمارة الدنيا، وأن لا يدعوا التسبب فإن ذلك يوجب التعفف والقناعة، وربما أدّى إلى الغنى والثروة. وترك الكسب والاعراض عنه يوجب الحاجة والمسألة للناس والتكفف منهم، وذلك مذموم شرعا وأما قوله: «عند اتخاذ الأغنياء الدجاج يأذن الله تعالى بهلاك القرى». يعني أن الأغنياء إذا ضيقوا على الفقراء في مكاسبهم، وخالطوهم في معايشهم تعطل سببهم وهلكوا، وفي هلاك الفقراء بوار، وفي ذلك هلاك القرى وبوارها. وفي آخر البخاري (2) وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «تلك الكلمة من الحق يختطفها الجني فيقرقرها في أذن وليه كقرقرة الدجاجة». وذكر الإمام العلامة أبو الفرج بن الجوزي، في الأذكياء (3)، عن أحمد بن طولون، صاحب مصر، أنه جلس
__________
(1) رواه ابن ماجه في التجارات: 69.
(2) البخاري أدب: 117، توحيد: 57. ورواه مسلم في السلام: 123. وأحمد: 6/ 87.
(3) الإذكياء: 56.(2/459)
يوما في منتزه له يأكل مع ندمائه فرأى سائلا وعليه ثوب خلق، فوضع يده في رغيف ودجاجة وقطعة لحم وفالوذج وأمر بعض الغلمان بمناولته فأخذ ذلك الغلام وذهب به إلى السائل ورجع، فذكر أنه ما هش له ولا بش، فقال ابن طولون للغلام: ائتني به فأحضره بين يديه فاستنطقه فأحسن الجواب، ولم يضطرب من هيبته، فقال له أحضر لي الكتب التي معك، وأصدقني عمن بعث بك، فقد صح عندي أنك صاحب خبر، وأحضر السياط فاعترف له بذلك. فقال بعض من حضر هذا: والله السحر. فقال أحمد: ما هو بسحر ولكنه قياس صحيح وفراسة، وذلك أني لما رأيت سوء حاله وجهت إليه بطعام يشره إلى أكله الشبعان، فما هش ولا بش ولا مد يده إليه، فأحضرته وخاطبته فتلقاني بقوة جأش وجواب حاضر. فلما رأيت رثاثة حاله، وقوة جأشه، وسرعة جوابه، علمت أنه صاحب خبر انتهى. وقال ابن خلكان في ترجمته (1): كان أبو العباس أحمد بن طولون صاحب الديار المصرية والشامية والثغور، ملكا عادلا شجاعا متواضعا، حسن السيرة، يحب أهل العلم، كريما له مائدة يحضرها الخاص والعام، كثير الصدقة. نقل أنه قال له وكيله يوما إن امرأة تأتيني وعليها الازار الرفيع، وفي يدها الخاتم الذهب، فتطلب مني أفأعطيها؟ فقال: من مد يده إليك فأعطه. وكان يحفظ القرآن، ورزق حسن الصوت فيه، وكان مع ذلك طائش السيف سفاك الدماء. قيل إنه أحصى من قتله صبرا ومن مات في حبسه فكان ثمانية عشر ألفا توفي سنة سبعين ومائتين بزلق الأمعاء. ويقال إن طولون تبناه ولم يكن ابنه. وروي أن رجلا كان يواظب القراءة على قبره، فرآه ذات ليلة في المنام، فقال: أحب منك أن لا تقرأ علي! قال: ولم؟ قال: لأنه لا تمر بي آية إلا قرعت بها، ويقال لي أما سمعت هذه أما مرت بك هذه؟ اهـ وروى الإمام الحافظ ابن عساكر في تاريخه أن سليمان بن عبد الملك رحمه الله تعالى، كان نهما في الأكل، وقد نقل عنه فيه أشياء غريبة، فمنها أنه اصطبح في بعض الأيام بأربعين دجاجة مشوية، وأربعين بيضة، وأربع وثمانين كلوة بشحمها، وثمانين جردقة، ثم أكل مع الناس على السماط العام. ومنها أنه دخل ذات يوم بستانا له، وكان قد أمر قيمه أن يجني ثماره ويستطيب له، وكان معه أصحابه، فأكل القوم حتى أكتفوا واستمر هو يأكل فأكل أكلا ذريعا، ثم استدعى بشاة مشوية فأكلها، ثم أقبل على الفاكهة فأكل أكلا ذريعا، ثم أتى بدجاحتين مشويتين فأكلهما، ثم مال إلى الفاكهة فأكل أكلا ذريعا، ثم أتى بقعب يقعد فيه الرجل مملوء سمنا وسويقا وسكرا فأكله أجمع، ثم سار إلى دار الخلافة، وأتى بالسماط فما نقص من أكله شيء. ومنها أنه حج فأتى الطائف فأكل سبعمائة رمانة وخروفا وست دجاجات، وأتى بمكوك زبيب طائفي فأكله أجمع. وقيل إنه كان له بستان فجاء رجل ليضمنه ودفع له قدرا من المال، فاستؤذن في ذلك فدخل البستان لينظره وجعل يأكل من ثماره، ثم أذن في ضمانه فلما قيل للضامن أحمل المال، قال: كان ذلك قبل ان يدخله أمير المؤمنين. قيل كان سبب مرضه أنه أكل أربعمائة بيضة، وثمانمائة حبة تين، وأربعمائة كلوة بشحمها، وعشرين دجاجة فحم، وفشت الحمى في عسكره، وكان موته بالتخمة رحمة الله تعالى عليه في مرج دابق.
فائدة:
ذكر بعض العلماء أن من أكل كثيرا وخاف على نفسه من التخمة، فليمسح على
__________
(1) وفيات الأعيان: 1/ 173.(2/460)
بطنه بيده، وليقل: الليلة ليلة عيدي يا كرشي ورضي الله عن سيدي أبي عبد الله القرشي. يفعل ذلك ثلاثا، فإنه لا يضره الأكل وهو عجيب مجرب.
وقد روينا بأسانيد شتى من طرق مختلفة، أن امرأة جاءت بولدها إلى سيدي الشيخ عبد القادر الكيلاني قدس الله روحه، وقالت: إني رأيت قلب ابني هذا شديد التعلق بك، وقد خرجت عن حقي فيه لله عز وجل ولك، فاقبله فقبله الشيخ، وأمره بالمجاهدة وسلوك الطريق، فدخلت عليه أمه يوما، فوجدته نحيلا مصفرا من آثار الجوع والسهر، ووجدته يأكل قرصا من الشعير، فدخلت إلى الشيخ فوجدت بين يديه إناء فيه عظام دجاجة مسلوقة، قد أكلها فقالت:
يا سيدي تأكل لحم الدجاج ويأكل ابني خبز الشعير، فوضع الشيخ يده على تلك العظام، وقال:
قومي بإذن الله تعالى الذي يحيى العظام وهي رميم، فقامت دجاجة سوية وصاحت، فقال الشيخ: إذا صار ابنك هكذا فليأكل ما شاء. وذكر ابن خلكان أيضا في ترجمة (1) الهيثم بن عدي أن رجلا من الأولين كان يأكل وبين يديه دجاجة مشوية، فجاءه سائل فرده خائبا، وكان الرجل مترفا فوقع بينه وبين امرأته فرقة، وذهب ماله وتزوجت امرأته، فبينما الزوج الثاني يأكل وبين يديه دجاجة مشوية إذ جاءه سائل، فقال لامرأته: ناوليه الدجاجة فناولته، ونظرت إليه فإذا هو زوجها الأول. فأخبرت زوجها الثاني بالقصة فقال الزوج الثاني: وأنا والله ذلك المسكين الأول، خولني الله نعمته وأهله لقلة شكره. وقال الهيثم: خرجت في سفر على ناقة، فأمسيت عند خيمة اعرابي، فنزلت. فقالت ربة الخباء: من أنت؟ فقلت: ضيف. قالت: وما يصنع الضيف عندنا إن الصحراء لواسعة؟ ثم قامت إلى بر فطحنته وعجنته وخبزته، ثم قعدت تأكل، فلم ألبث أن جاء زوجها ومعه لبن، فسلم ثم قال: من الرجل؟ قلت: ضيف. قال: أهلا وسهلا حياك الله، وملأ قعبا من لبن وسقاني. ثم قال: ما أراك أكلت شيئا! وما أراها أطعمتك! فقلت: لا والله.
فدخل عليها مغضبا، وقال: ويلك أكلت وتركت الضيف؟ قالت: وما أصنع به أطعمه طعامي؟
وزاد بينهما الكلام، فضربها حتى شجها، ثم أخذ شفرة وخرج إلى ناقتي فنحرها، فقلت: ما صنعت عافاك الله؟ فقال: والله لا يبيت ضيفي جائعا، ثم جمع حطبا، وأجج نارا وأقبل يشوي ويطعمني، ويأكل ويلقي إليها، ويقول: كلي لا أطعمك الله! حتى إذا أصبح تركني ومضى، فقعدت مغموما، فلما تعالى النهار، أقبل ومعه بعير ما يسأم الناظر من النظر إليه، وقال: هذا مكان ناقتك ثم زودني من ذلك اللحم ومما حضره. وخرجت من عنده فضمني الليل إلى خيمة أعرابي، فسلمت فردت صاحبة الخباء علي السلام، وقالت: من الرجل؟ قلت: ضيف. فقالت:
مرحبا بك حياك الله وعافاك، فنزلت ثم عمدت إلى بر فطحنته وعجنته وخبزته، ثم روت ذلك بالزبد واللبن ووضعته بين يدي، ومعه دجاجة مشوية، وقالت: كل واعذر، فلم البث إذ أقبل أعرابي كريه المنظر، فسلم فرددت عليه السلام، فقال: من الرجل؟ قلت: ضيف. قال: وما يصنع الضيف عندنا؟ ثم دخل إلى أهله وقال: أين طعامي؟ قالت: أطعمته للضيف. فقال:
أتطعمين طعامي للأضياف؟ ثم تكالما فضربها فشجها، فجعلت أضحك فخرج إليّ وقال: ما يضحكك؟ فأخبرته بقصة الرجل والمرأة اللذين نزلت عندهما قبله، فاقبل علي وقال: إن هذه
__________
(1) وفيات الأعيان: 6/ 106.(2/461)
المرأة التي عندي أخت ذلك الرجل، وتلك المرأة التي عنده أختي. قال: فنمت ليلتي متعجبا فلما أن أصبحت انصرفت.
الحكم:
يحل أكل الدجاج لأنه من الطيبات، لما روى الشيخان والترمذي والنسائي عن زهدم بن مضرب الجرمي قال: كنا عند أبي موسى الأشعري رضي الله عنه، فدعا بمائدة عليها لحم دجاج فدخل رجل من بني تيم الله، أحمر شبيه بالموالي، فقال له: هلم فتلكأ، فقال: هلم فإني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يأكل منه وفي لفظ «رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يأكل دجاجة (1)». وهذا الرجل إنما تلكأ لأنه رآه يأكل العذرة فقذره ويحتمل أن يكون تردد لالتباس الحكم عليه، أو لم يكن عنده دليل فتوقف حتى يعلم حكم الله تعالى وقد جاء النهي عن لبن الجلالة ولحمها وبيضها. وفي الكامل والميزان في ترجمة غالب بن عبيد الله الجذري وهو متروك عن نافع عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أراد أن يأكل دجاجة أمر بها فربطت أياما ثم يأكلها بعد ذلك.
وفي فتاوى القاضي حسين لو قال رجل لامرأته إن لم تبيعي هذه الدجاجات فأنت طالق فقتلت واحدة منهن طلقت لتعذر البيع، وإن جرحتها ثم باعتها فإن كانت بخبث لو ذبحت لم تحل لم يصح البيع ووقع الطلاق وإلا فتحل اليمين.
فرع
لا يجوز بيع دجاجة فيها بيض ببيض كما لا يجوز بيع شاة في ضرعها لبن بلبن، ويحرم بيع الحنطة بدقيقها والسمسم بكسبه، وما أشبهه لأنه يحرم بيع مال الربا بأصله المشتمل عليه.
فرع:
البيضة التي في جوف الطائر الميت فيها ثلاثة أوجه حكاها الماوردي والروياني والشاشي أصحها، وهو قول ابن القطان وأبي الفياض، وبه قطع الجمهور إن تصلبت فطاهرة وإلا فنجسة. والثاني طاهرة مطلقا، وبه قال أبو حنيفة لتميزها عنه فصارت بالولد أشبه. والثالث نجسة مطلقا، وبه قال مالك لأنها قبل الإنفصال جزء من الطائر وحكاه المتولي عن نص الشافعي رضي الله تعالى عنه. وهو نقل غريب شاذ ضعيف، وقال صاحب الحاوي والبحر: فلو وضعت هذه البيضة تحت طائر فصارت فرخا، كان الفرخ طاهرا على الأوجه كلها كسائر الحيوان، ولا خلاف أن ظاهر البيضة نجس، وأما البيضة الخارجة في حال حياة الدجاجة فهل يحكم بنجاسة ظاهرها؟ فيه وجهان: حكاهما الماوردي والروياني والبغوي وغيرهم، بناء على الوجهين في نجاسة رطوبة فرج المرأة قال في المهذب: إن المنصوص نجاسة رطوبة فرج المرأة. وقال الماوردي: إن الشافعي رضي الله تعالى عنه قد نص في بعض كتبه على طهارتها. ثم حكى التنجيس عن ابن سريج. فملخص الخلاف فيها قولان لا وجهان. وقال الإمام النووي: رطوبة الفرج طاهرة مطلقا، سواء كان الفرج من بهيمة أو امرأة، وهو الأصح. وإذا فرعنا على نجاسة رطوبة الفرج فنقل النووي في شرح المهذب عن فتاوى ابن الصباغ، ولم يخالفه أن المولود لا يجب غسله إجماعا.
وقال في آخر باب الآنية من الشرح المذكور: إن فيه وجهين حكاهما الماوردي والروياني، وقد حكاهما الشيخ أبو عمرو بن الصلاح في فتاويه. ورأيت في الكافي للخوارزمي أن الماء لا ينجس بوقوعه فيه فيحتمل أن يكون الخلاف مفرعا على القول القديم بعدم وجوب الغسل، لكونه نجسا
__________
(1) رواه البخاري في الذبائح: 26، والمغازي: 73. ورواه مسلم في الإيمان: 9. والدارمي أطعمة: 27.(2/462)
معفوا عنه، وأما إذا انفصل الولد حيا، بعد موتها، فعينه طاهرة بلا خلاف. ويجب غسل ظاهره بلا خلاف. وأما البلل الخارج مع الولد أو غيره فنجس، كما جزم به الرافعي في الشرح الصغير والنووي في شرح المهذب. وقال الإمام لا شك فيه. وأما الرطوبة الخارجة من باطن الفرج فإنها نجسة كما تقدم، وإنما قلنا بطهارة ذكر المجامع ونحوه، على ذلك القول لأنا لا نقطع بخروجها.
قال في الكفاية: والفرق بين رطوبة فرج المرأة، ورطوبة باطن الذكر لأنها لزجة لا تنفصل بنفسها، ولا تمازج سائر رطوبات البدن، فلا حكم لها قلت: والرطوبة هي ماء أبيض متردد بين المذي والعرق. كما قاله في شرح المهذب وغيره. وسيأتي إن شاء الله تعالى الكلام على الجلالة من الدجاج وغيره في باب السين المهملة في حكم السخلة والله الموفق.
الأمثال (1)
: قالوا: «أعطف من أم إحدى وعشرين». وهي الدجاجة كما تقدم.
الخواص:
لحم الدجاج معتدل الحرارة جيد. وأكل لحم الفتي من الدجاج يزيد في العقل والمني ويصفي الصوت، لكنه يضر بالمعدة والمرتاضين. ودفع مضرته أن يتناول بعده شراب العسل. وهو يولد غذاء معتدلا يوافق من الأمزجة المعتدلة ومن الإنسان الفتيان، ومن الأزمان الربيع. وأعلم أن الدجاج المعتدلة الغذاء ليست حارة مستحيلة: إلى الصفراء، ولا باردة مولدة للبلغم، ولا أعلم من أين أجمعت العامة والأطباء الأغمار على مضرتها بالنقرس وتوليد هاله، والقائلون بذلك لعلهم معتقدون بالخاصية وحسب لا غير. وهي محسنة للون وأدمغتها تزيد في الأدمغة والعقل. وهي من أغذية المترفهين، لا سيما من قبل أن تبيض. وإما بيضها فحار مائل إلى الرطوبة واليبس وقال بياروق: بياضه بارد رطب، وصفرته حارة جيدة للكاد. والطري منفعته تزيد في الباه لكنه إذا أدمن أكله يولد كلفا. وهو بطيء الهضم ودفع ضرره بالاقتصار على صفرته هو يولد خلطا محمودا. وأعلم أن أجود البيض للإنسان بيض الدجاج، والدراج إذا كانا طريين معتدلي النضج، فإن الصلب إما أن يتخم، أو يورث حمى، وهو يلبث طويلا ويغذو إذا انهضم كثيرا، والنيمرشت يغذو غذاء كثيرا والمسلوق بخل يعقل البطن، والساذج ينفع من حرارة المعدة والمثانة ونفث الدم، ويصفي الصوت. وأنفع السليق ما ألقي على الماء وهو يغلي عد مائة ورفع.
ومما ينفع لحل المعقود أن تكتب على جوانب السيف هذه الأحرف بكصم لا لا وم ما ما لا لا لا هـ هـ هـ وتقطع به بيضة دجاجة سوداء نظيفة مناصفة، فتأكل المرأة النصف والرجل النصف، فإنه مجرب وهو يحل إثنين وسبعين بابا بإذن الله تعالى. ومما ينفع لحل المعقود أيضا أن يكتب ويعلق في عنق الرجل، ففتحنا أبواب السماء بماء منهمر وفجرنا الأرض عيونا فالتقى الماء على أمر قد قدر وحملناه على ذات ألواج ودسر تجري بأعيننا جزاء لمن كان كفر. ومما جرب أيضا لحل المعقود أن تكتب وتعلق عليه الفاتحة والإخلاص والمعوّذتين، و {يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبََالِ فَقُلْ يَنْسِفُهََا رَبِّي نَسْفاً فَيَذَرُهََا قََاعاً صَفْصَفاً لََا تَرى ََ فِيهََا عِوَجاً وَلََا أَمْتاً} (2) {أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضَ كََانَتََا رَتْقاً فَفَتَقْنََاهُمََا وَجَعَلْنََا مِنَ الْمََاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلََا يُؤْمِنُونَ} [3] {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مََا هُوَ}
__________
(1) مجمع الأمثال: 2/ 53.
(2) سورة طه: الآية 107105.
(3) سورة الأنبياء: الآية 30.(2/463)
{شِفََاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} [1] {فَلَمََّا تَجَلََّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسى ََ صَعِقاً} [2] {مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيََانِ بَيْنَهُمََا بَرْزَخٌ لََا يَبْغِيََانِ} [3] فقلنا {اضْرِبْ بِعَصََاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكََانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ} [4] و {هُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمََاءِ بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً وَكََانَ رَبُّكَ قَدِيراً} (5)
و {عَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ} [6] و {قَدْ خََابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً} [7] و {مَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللََّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} (8) {إِنَّ اللََّهَ بََالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللََّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً} [9] وتكتب إسم الرجل والمرأة في آخر الكتاب وتقول: أللهم إني أسألك أن تجمع بين فلان بن فلانة وبين فلانة بنت فلانة بحق هذه الأسماء والآيات إنك على كل شيء قدير. باهيا شراهيا أصبأوت آل شداي ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم في في في في تم وكمل. وقال ابن وحشية: دماغ الدجاجة إذا وضع على لسعة الحية خاصة أبرأتها. وقال القزويني: إذا طبخت الدجاجة مع عشر بصلات بيض وكف سمسم مقشور حتى تتهرى ويؤكل لحمها ويشرب مرقتها فإنه يزيد في الباه ويقوّي الشهوة. وقال غيره: المداومة على أكل لحم الدجاج تورث البواسير والنقرس. وهذا قول جاهل بالطب وهو قول أغمار الأطباء كما تقدم. قال القزويني: وفي قانصة الدجاجة حجر إذا شد على المصروع أبرأه، وإذا علق على إنسان زاد في قوّة الباه، ويدفع عنه عين السوء، وإذا ترك تحت رأس الصبي فإنه لا يفزع في نومه. وذرق الدجاجة السوداء إذا ألصق على باب قوم، وقع بينهم الخصومة والشر، وإذا طلي الذكر بمرارة الدجاجة السوداء وجامع من شاء لم ينله أحد بعده. وإذا دفنت رأس دجاجة سوداء في كوز جديد، تحت فراش رجل قد خاصم زوجته، صالحها من وقته. وإذا احتمل رجل من دهن الدجاجة السوداء قدر أربعة دارهم هيج الباه. وإذا أخذ عينا دجاجة سوداء شديدة السواد، وعينا سنبور أسود، وجففن وسحقن واكتحل بهن، رأى من يفعل ذلك الروحانيين، فإن سألهم أخبروه بما يريد والله أعلم.
التعبير:
الدجاج في المنام نساء ذليلات مهينات، فالرقادة ذات نشاط وأصالة وبدالة.
والدبيبة امرأة دنيئة الأصل أو خائنة وفروخها أولاد زنا، وربما دلت الدجاجة على المرأة ذات الأولاد، ودخولها على المريض عافيته وآذان الدجاجة شر ونكد أو موت. وكذلك الفروخ ربما دل دخولها على السليم، على انذار بمرض يحتاج فيه إليها وربما دل دخولها على زوال الهموم والانكاد، وعلى الأفراح والتظاهر بالرفاهية والنعم، والفروج ولد أو ملبوس مفرح أو فرج لمن هو في شدة، وربما كانت الدجاجة في المنام تدل رؤيتها على امرأة رعناء حمقاء ذات جمال، أو سرية أو خادم.
فمن رأى كأنه ذبح دجاجة افتض جارية. ومن صادها نال ولاية ومالا هنيأ من العجم. ومن رأى الدجاج أو الفراريج تساق من مكان إلى مكان فإنه سبي. ومن رأى الدجاج أو الطواويس تهدر في منزله، فإنه صاحب فجور. وريش الدجاج مال، والبيض في المنام يعبر بالنساء لقوله تعالى:
__________
(1) سورة الإسراء: الآية 82.
(2) سورة الأعراف: الآية 143.
(3) سورة الرحمن: الآية 2019.
(4) سورة الشعراء: الآية 63.
(5) سورة الفرقان: الآية 54.
(6) سورة طه: الآية 111.
(7) سورة طه: الآية 111.
(8) سورة الطلاق: الآية 3.
(9) سورة الطلاق: الآية 3.(2/464)
{كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ} (1) والبيضة الواحدة لمن رآها بيده، فإن كانت زوجته حاملا فإنها تضع له بنتا وإن كان أعزب تزوّج ومن رأى البيض يجرف من مكان إلى مكان، كما تجرف الزبالة، فإنه سبي نساء ذلك المكان. ومن رأى بيضا نيئا وهو يأكله، فإنه يأكل مالا حراما وللطبوخ رزق حلال بتعب. وإذا رأت الحامل كأنها أعطيت بيضة مقشرة فإنها تلد بنتا وفراريج الدجاج أولاد زنا. ومن قشر بيضة فأكل بياضها، ورمى صفارها، فإنه نباش للقبور، ويأخذ أكفان الموتى. لما روى عن ابن سيرين أنه أتاه رجل، فقال: إني رأيت كأني أقشر بيضة وأرمي صفارها وآكل بياضها. فقال ابن سيرين: هذا رجل نباش للقبور. فقيل له: من أين أخذت هذا؟ فقال: البيضة القبر، والصفار الجسد، والبياض الكفن. فيلقى الميت ويأكل ثمن الكفن، وهو البياض. وحكي أن امرأة أتت إلى ابن سيرين فقالت: رأيت كأني أضع البيض تحت الخشب، فتخرج فراريج. فقال ابن سيرين: ويلك اتقي الله، فإنك امرأة توفقين بين الرجال والنساء فيما لا يحبه الله عز وجل فقال له جلساؤه: قذفت المرأة يا محمد، من أين أخذت ذلك؟ فقال: من قوله تعالى في النساء يشبهن بالبيض {كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ} وقال جل وعلا، يشبه المنافقين بالخشب: {كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ} (2) فالبيض هو النساء، والخشب هم المفسدون والفراريج هم أولاد الزنا والله أعلم.
الدجاجة الحبشية:
هي نوع مما تقدم. قال الشافعي: يحرم على المحرم الدجاجة الحبشية لأنها وحشية تمتنع بالطيران، وإن كانت ربما ألفت البيوت. قال القاضي حسين: الدجاجة الحبشية شبيهة بالدراج. قال: وتسمى بالعراق الدجاجة السندية، فإن أتلفها لزمه الجزاء. وقال مالك: لا جزاء في دجاج الحبش على المحرم لاستئناسه، وكذلك كل ما تأنس من الوحشي عند الشافعي فيه الجزاء، خلافا لمالك. والدجاج الحبشي هو الدجاج البري، وهو في الشكل واللون قريب من الدجاج يسكن في الغالب سواحل البحر، وهو كثير ببلاد المغرب، يأوي مواضع الطرفاء ويبيض فيها. قال الجاحظ: ويخرج فراخه وكذلك فراخ الطاووس والبط السندي كيسة كاسية تلتقط الحب من ساعتها كفراخ الدجاج الأهلي ويقال له الغرغر، وسيأتي الكلام عليه إن شاء الله تعالى في باب الغين المعجمة.
الدج:
طائر صغير في حد اليمام من طير الماء سمين طيب اللحم وهو كثير بالاسكندرية وما يشابهها من بلاد السواحل قاله ابن سيده.
الدحرج:
بضم الدال المهملة دويبة قاله ابن سيده.
الدخاس:
كنحاس دويبة تغيب في التراب والجمع الدخاخيس.
الدخس:
بضم الدال المهملة وتشديد الخاء المعجمة ضرب من السمك وهو الدلفين. قاله ابن سيده أيضا وقال الجوهري: الدخس مثال الصرد دويبة في البحر تنجي الغريق تمكنه من ظهرها ليستعين على السباحة وتسمى الدلفين وسيأتي قريبا إن شاء الله تعالى في هذا الباب.
__________
(1) سورة الصافات: الآية 49.
(2) سورة المنافقون: الآية 4.(2/465)
الدخل:
بتشديد الخاء المعجمة أيضا طائر صغير والجمع الدخاخيل وهو أغبر يسقط على رؤوس الشجر والنخل. واحدته دخلة وفي أدب الكاتب لابن قتيبة الدخل ابن تمرة.
بضم الدال وفتح الراء المهملتين كنيته أبو الحجاج وأبو خطار وأبو ضبة، وسيأتي إن شاء الله تعالى، في باب الضاد المعجمة الساقطة واحدته دراجة، هو طائر مبارك، كثير النتاج، مبشر بالربيع، وهو القائل: «بالشكر تدوم النعم» وصوته مقطع على هذه الكلمات، وتطيب نفسه على الهواء الصافي، وهبوب الشمال، ويسوء حاله بهبوب الجنوب، حتى إنه لا يقدر على الطيران، وهو طائر أسود باطن الجناحين، وظاهرهما أغبر على خلقة القطا إلا أنه الطف. والدراج إسم يطلق على الذكر والأنثى، حتى تقول الحيقطان:
فيختص بالذكر، وأرض مدرجة أي ذات دراج. كذا قاله الجوهري. وقال سيبويه:
واحدة الدراج درجوج، والديلم ذكر الدراج وقال ابن سيده: الدراج طائر شبيه بالحيقطان، وهو من طير العراق قال ابن دريد أحسبه مولدا وهو الدرجة مثل الرطبة. وأما الجاحظ فجعله من أقسام الحمام لأنه يجمع فراخه تحت جناحيه، كما يجمع الحمام من شأنه أنه لا يجعل بيضه في موضع واحد، بل ينقله لئلا يعرف أحد مكانه ولا يتسافد في البيوت وإنما يفعل ذلك في البساتين قال أبو الطيب المأموني يصف دراجة:
قد بعثنا بذات حسن بديع ... كنبات الربيع بل هي أحسن ... في رداء من جلنار وآس ... وقيص من ياسمين وسوسن
وسيأتي إن شاء الله تعالى في القبج زيادة في نعتها في باب القاف، قال الجاحظ: وهو من الخلق الذي لا يسمن بل يعظم وإذا عظم لم يحمل اللحم.
وحكمه:
الحل لأنه إما من الحمام أو من القطا وهما حلالان.
الأمثال:
قالوا (1): «فلان يطلب الدراج من خيس الأسد». يضرب لمن يطلب ما يتعذر وجوده.
الخواص:
يؤخذ شحمه فيذوب بدهن كادي ويقطر في الأذن الوجعة ثلاث قطرات، يسكن وجعها بإذن الله تعالى. قال ابن سينا: لحمه أفضل من لحم الفواخت، واعدل والطف. وأكله يزيد في الدماغ والفهم والمني.
التعبير:
الدراج في المنام مال، وقيل امرأة أو مملوك. فمن ملكه أو رآه عنده فإنه يملك مالا أو سرية أو مملوكا أو يتزوج والله أعلم.
الدراج:
بفتح الدال والراء المهملتين القنفذ، صفة غالبة عليه لأنه يدرج ليله كله. قاله ابن سيده.
__________
(1) مجمع الأمثال: 2/ 423.(2/466)
فائدة أجنبية:
استدراج الله تعالى العبد، أنه كلما جدد خطيئة. جدد الله له نعمة وأنساه الاستغفار وأن يأخذه قليلا قليلا ولا يباغته.
روى: أحمد في الزهد عن عقبة بن عامر رضي الله تعالى عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (1):
«إذا رأيت الله تعالى يعطي العبد، من الدنيا على معاصيه ما يحب، فإنما هو استدراج». ثم تلا قوله (2) تعالى: {فَلَمََّا نَسُوا مََا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنََا عَلَيْهِمْ أَبْوََابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتََّى إِذََا فَرِحُوا بِمََا أُوتُوا أَخَذْنََاهُمْ بَغْتَةً فَإِذََا هُمْ مُبْلِسُونَ} قال ابن عطية: روي عن بعض العلماء أنه قال: رحم الله امرءا تدبر هذه الآية {حَتََّى إِذََا فَرِحُوا بِمََا أُوتُوا أَخَذْنََاهُمْ بَغْتَةً فَإِذََا هُمْ مُبْلِسُونَ} وقال محمد بن النضر الحارثي: أمهل هؤلاء القوم عشرين سنة وقال الحسن. والله ما أحد من الناس بسط الله تعالى له في الدنيا فلم يخف أن يكون قد مكر به فيها إلا كان قد نقص في عمله وعجز في رأيه ما أمسكها الله تعالى عن عبد، فلم يظن أنه خير له فيها، إلا كان قد نقص في عمله، وعجز في رأيه. وفي الخبر أن الله تعالى أوحى إلى موسى عليه السلام، إذا رأيت الفقر مقبلا إليك فقل:
مرحبا بشعار الصالحين. وإذا رأيت الغنى مقبلا إليك فقل: ذنب عجلت عقوبته.
الدرباب:
طائر مركب من الشقراق والغراب، وذلك بين في لونه، وهو كما قال أرسطاطاليس في النعوت: إنه طائر يحب الأنس، ويقبل التأديب والتربية، وفي صفيره وقرقرته أعاجيب، وذلك أنه ربما أفصح بالأصوات وقرقر كالقمري وربما حمحم كالفرس وربما صفر كالبلبل وغذاؤه من النبت والفاكهة واللحم وغير ذلك، ومألفه الغياض والأشجار الملتفة. انتهى قلت:
وهذه صفة الطائر المسمى عند الناس بأبي زريق فإنه على هذا النعت الذي ذكره. ويقال له القيق أيضا وسيأتي إن شاء الله تعالى له مزيد بيان في باب القاف.
الدرحرج:
قال القزويني: إنها دويبة مبرقشة بحمرة وسواد يقال إنها سم، من أكلها تقرحت مثانته، وسد بوله وأظلم بصره، وتورم قضيبه وعانته، ويعرض له اختلاط في عقله.
وحكمها:
التحريم لضررها بالبدن والعقل.
الدرص:
بكسر الدال ولد القنفذ والأرنب واليربوع والفأرة والهرة والذئبة ونحوها والجمع ادراص ودرصة. قال السهيلي في التعريف والإعلام: العرب تقول للأحمق أبو دراص للعبه بالأدراص، وهو جمع درص، وهو ولد الكلبة وولد الهرة ونحو ذلك. وكنية اليربوع أم أدراص قاله الأصمعي.
الأمثال:
قالت العرب: «ضل دريص نفقه» (3) أي جحره يضرب لمن لا يعبأ بأمره قال طفيل (4):
فما أم أدراص بأرض مضلة ... بأغدر من قيس إذا الليل أظلما
__________
(1) رواه أحمد: 4/ 145.
(2) سورة الأنعام: الآية 44.
(3) مجمع الأمثال: 1/ 419.
(4) طفيل: هو طفيل بن كعب الغنوي، جاهلي، شعره جيد.(2/467)
الدرة:
بضم الدال المهملة الببغاء المتقدمة في باب الموحدة. حكى الشيخ كمال الدين جعفر الأدفوي في كتابه الطالع السعيد في ترجمة محمد بن محمد النصيبي القوصي الفاضل المحدث الأديب، أنه أخبره أنه حضر مرة عند عز الدين بن البصراوي الحاجب بقوص، وكان له مجلس يجتمع فيه الرؤساء والفضلاء والأدباء، فحضر الشيخ علي الحريري، وحكى أنه رأى ذرة تقرأ سورة يس، فقال النصيبي: وكان غراب يقرأ سورة السجدة فإذا جاء إلى السجدة سجد ويقول سجد لك سوادي واطمأن بك فؤادي.
الدساسة:
بفتح الدال حية صماء تندس تحت التراب اندساسا أي تندفن وقيل: هي شحمة الأرض. وستأتي إن شاء الله تعالى في باب الشين المعجمة.
الدعسوقة:
بفتح الدال دويبة كالخنفساء وربما قيل ذلك للصبية والمرأة القصيرة تشبيها بها قاله في المحكم وفي مختصر العين للزبيدي أيضا إلا أنه ضبطه بالقلم بفتح الدال في نسخة صحيحة.
الدعموص:
بضم الدال دويبة تغوص في الماء، والجمع الدعاميص، كبرغوث وبراغيث، وقال السهيلي: الدعموص سمكة صغيرة كحية الماء، ودعيميص إسم رجل كان داهيا سيأتي ذكره إن شاء الله تعالى في الأمثال، ويقال: «هذا دعيميص هذا الأمر» (1). أي عالم به انتهى. روى مسلم عن أبي حسان قال: قلت لأبي هريرة رضي الله تعالى عنه أنه قد مات لي اثنان من الولد، فهل أنت محدثي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بحديث تطيب به أنفسنا عن موتانا؟ قال: نعم. «صغاركم دعاميص الجنة» (2). أي لا يمنعون من بيت، فيلقى أحدهم أباه أو قال أبويه فيأخذ بيده أو بثوبه كما آخذ أنا ببعض ثوبك هذا فيقول: هذا فلان فلا يتناهى حتى يدخل هو وأبوه الجنة. وفي الحديث أن رجلا زنى فمسخه الله تعالى دعموصا. وبعضهم يقول الدعموص هو الآذن على الملك المتصرف بين يديه قال أمية بن أبي الصلت:
دعموص أبواب الملو ... ك وحاجب للخلق فاتح
قال الحافظ المنذري في الترغيب والترهيب، في الكلام على هذا الحديث: الدعاميص بفتح الدال جمع دعموص بضمها، وهي دويبة صغيرة يضرب لونها إلى سواد تكون في الغدران، شبه الطفل بها في الجنة لصغره وسرعة حركته. وقيل: هو إسم للرجل الزوار للملوك، الكثير الدخول عليهم. والخروج، لا يتوقف على أذن منهم، ولا يخاف أين يذهب من ديارهم، شبه طفل الجنة به لكثرة ذهابه في الجنة حيث شاء، لا يمتنع من بيت فيها ولا موضع، وهذا قول ظاهر انتهى. قال الجاحظ: إذا كبر الناموس صار دعاميص وهو يتولد من الماء الراكد، وإذا كبر صار فراشا، ولعل هذا هو عمدة من جعل الجراد بحريا. والدعموص من الخلق الذي لا يعيش في ابتداء أمره إلا في الماء، ثم بعد ذلك يستحيل بعوضا وناموسا.
فائدة:
في فتاوى القاضي حسين، أن دود الماء لو انشق أو ذاب، فخرج منه ماء، كان ذلك
__________
(1) جمهرة الأمثال: 2/ 294.
(2) رواه مسلم بر: 154، وأحمد: 5104772.(2/468)
الماء طهورا يجوز منه التوضؤ، وعلله بأن هذا الدود ليس بحيوان، بل هو منعقد من بخار يصعد من الماء، فيشبه الدود، وهذا منه صريح في جواز شرب الدعاميص مع الماء، لأنها ماء منعقد.
ويحتمل أن يكون منه اختيار الأن دود الخل والفاكهة يعطى حكم ما يتولد منه حتى يجوز أكله منفردا. كما هو وجه في المذهب موجها بأنه يشبهه طعما وطبعا. والظاهر أن هذا لا يوافق عليه.
والمشهور خلاف ما قاله تفسيرا وحكما. وإن الدعموص محرم الأكل لاستقذاره لأنه من الحشرات.
الأمثال:
قالوا (1): «أهدى من دعيميص الرمل». وهو عبد أسود كان داهية خريتا لم يكن يدخل في بلاد وبار غيره فقام في الموسم وقال:
فمن يعطني تسعا وتسعين بكرة ... هجانا راد ما أهدها لوبار
فقام رجل من مهرة وأعطاه ما سأل وتحمل معه بأهله وولده، فلما توسطوا الرمل طمست الجن عين دعيميص، فتحير وهلك هو ومن معه في تلك الرمال، وفي ذلك يقول الفرزدق.
كهلاك ملتمس طريق وبار.
الدغفل:
كجعفر ولد الفيل، وذكر الثعالب أيضا. وكان دغفل بن حنظلة النسابة، أحد بني شيبان يسمى بذلك. روى عنه الحسن البصري شيئا من سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وخولف فيه، ويقال: إن له صحبة ولم يصح، ولم يعرفه أحمد بن حنبل، وروى عنه الحسن أنه قال: «كان على النصارى صوم شهر رمضان فولي عليهم ملك، فمرض فنذر، إن شفاه الله أن يزيد الصوم عشرا، ثم كان عليهم ملك بعده، يأكل اللحم، فمرض فنذر إن شفاه الله أن لا يأكل اللحم ويزيد الصوم ثمانية أيام، ثم كان ملك بعده فقال: ما ندع هذه الأيام إلا أن نتمها خمسين ونجعلها في الربيع فصارت خمسين يوما». قال البخاري: لا يتابع دغفل على ذلك ولا يعرف للحسن سماع منه. وقال ابن سيرين: كان دغفل رجلا عالما، لكن اغتلمته النساء. أرسل إليه معاوية رضي الله تعالى عنه، يسأله عن أنساب العرب وعن النجوم وعن العربية وعن أنساب قريش فأخبره، فإذا هو رجل عالم فقال له من أين حفظت هذا يا دغفل؟ قال: بلسان سؤول وقلب عقول، فأمره أن يعلم ولده يزيد.
الدغناش:
طائر صغير من أنواع العصافير أصغر من الصرد مخطط الظهر بحمرة مطوق بالسواد والبياض، وهو شرير الطبع شديد المنقار. يوجد كثيرا بسواحل البحر الملح وغيره.
وحكمه:
الحل لأنه من أنواع العصافير.
الدقيش:
بضم الدال وفتح القاف، طائر صغير أصغر من الصرد وتسميه العامة الدقناس.
وحكمه
: كالذي قبله ولعله هو، ولكن تلاعبوا به فسموه تارة كذا وتارة كذا. وفي
__________
(1) جمهرة الأمثال: 2/ 294.(2/469)
الصحاح قيل لأبي الدقيش الشاعر ما الدقيش؟ فقال: لا أدري إنما هي أسماء نسمعها فنتسمى بها!
الدلدل:
عظيم القنافذ. والدلدال الاضطراب، وقد تدلدل السحاب أي تحرك متدليا، وبه سميت بغلة النبي صلى الله عليه وسلم التي أهداها له المقوقس. وفي حديث أبي مرثد الآتي إن شاء الله تعالى في باب العين، قالت «عناق البغي: يا أهل الخيام هذا الدلدل الذي يحمل أسراكم» (1). وإنما شبهته بالقنفذ لأنه أكثر ما يظهر في الليل ولأنه يخفي رأسه في جسده ما استطاع. وقال الجاحظ:
الفرق بين الدلدل والقنفذ، كالفرق بين البقر والجواميس والبخاتي والعراب والجرذ والفأر وهو كثير ببلاد الشام والعراق وبلاد المغرب في قدر الثعلب القلطي. وقال الإمام الرافعي: الدلدل على حد السخلة، ومن شأنه أن يسفد قائما وظهر الأنثى لاصق بظهر الرجل. والأنثى تبيض خمس بيضات وليس هو بيضا في الحقيقة، إنما هو على صورة البيض يشبه اللحم. ومن شأنه أن يجعل لجحره بابين: أحدهما في جهة الجنوب، والآخر في جهة الشمال. فإذا هبت ريح سد باب جهتها، وإذا رأى ما يكرهه القبض، فيخرج منه شوك كالمسال يجرح من أصابه، والشوك الذي على ظهره نحو الذراع، وزعم بعض المتكلمين على طبائع الحيوان، أن الشوك الذي على ظهره نحو الذراع شعر، وأنه لما غلظ البخار، واشتد غلظه، وغلب عليه اليبس، عند صعوده من المسام، صار شوكا
الحكم:
نص الشافعي على حله، رواه عنه ابن ماجة وغيره. وقال الرافعي: قطع الشيخ أبو محمد بتحريمه في الوسيط أنه كان يعده من الخبائث. وقال ابن الصلاح: هذا غير مرضي وكأنه لم يعرف ما الدلدل، واعتقد ما بلغنا عن الشيخ أبي أحمد الأشنهي أنه قال: الدلدل كبار السلاحف. وهذا غير مرضي، والمحفوظ أنه ذكر القنافذ وقطع بحله الماوردي والروياني وغيرهما وهو الصواب.
الأمثال: (2)
قالوا «أسمع من دلدل».
وخواصه وتعبيره:
كالقنافذ وستأتي إن شاء الله تعالى في باب القاف.
الدلفين:
الدخس وضبطه الجوهري في باب السين المهملة بضم الدال فقال: الدخس مثال الصرد دابة في البحر تنجي الغريق تمكنه من ظهرها ليستعين به على السباحة. ويسمى الدلفين وقال غيره: إنه خنزير البحر. وهو دابة تنجي الغريق وهو كثير بأواخر نيل مصر من جهة البحر الملح، لأنه يقذف به البحر إلى النيل وصفته كصفة الزق المنفوخ، وله رأس صغير جدا وليس في دواب البحر ماله رئة سواه فلذلك يسمع منه النفخ والنفس، وهو إذا ظفر بالغريق كان أقوى الأسباب في نجاته لأنه لا يزال يدفعه إلى البر حتى ينجيه، ولا يؤذي أحدا ولا يأكل إلا السمك. وربما ظهر على وجه الماء كأنه ميت وهو يلد ويرضع، وأولاده تتبعه حيث ذهب، ولا يلد إلا في الصيف، من طبعه الأنس بالناس وخاصة بالصبيان وإذا صيد جاءت دلافين كثيرة لقتال
__________
(1) رواه النسائي في النكاح: 12.
(2) جمهرة الأمثال: 1/ 433.(2/470)
صائده، وإذا لبث في العمق حينا حبس نفسه، وصعد بعد ذلك مسرعا مثل السهم لطلب النفس، فإن كانت بين يديه سفينة وثب وثبة ارتفع بها عن السفينة، ولا يرى منها ذكر إلا مع أنثى.
الحكم:
يحل أكله لعموم حل السمك إلا ما استثني منه، وليس هذا من المستثنيات كما سيأتي إن شاء الله تعالى.
الخواص:
إذا غلي شحمه في حنظلة فارغة وقطر في الأذن نفع من الصمم، ولحمه بارد بطيء الهضم. وإذا علقت أسنانه على الصبيان يفزعوا. وأكل شحمه ينفع من أوجاع المفاصل.
وشحم كلاه إذا أذيب بالنار، ودهن به مع دهن الزنبق وجه امرأة أحبها زوجها وطلب مرضاتها. وكفاه يعلقان على من يفزع فيذهب فزعه. وإذا وضع نابه الأيمن في دهن ورد سبعة أيام ومسح به وجه إنسان كان محبوبا عند عامة الناس ونابه الأيسر بالضد من ذلك.
التعبير:
الدلفين تدل رؤيته على ما دلت عليه رؤية التمساح، وربما دلت رؤيته على المكايد، والاختفاء بالأعمال، وعلى التلصص واستراق السمع، وربما دلت رؤيته على كثرة الدعاء والمطر، قاله ابن الدقاق. وقال المقدسي: من رآه في المنام، وكان خائفا، أمن ونجا لأنه ينجي الغرقى. وكل حيوان يرى مما يخشى منه في اليقظة كالتمساح ونحوه، إذا كان خارج الماء فهو عدو عاجز لا يقدر على مضرة من رآه في المنام، لأن قوته وبطشه في الماء فإذا خرج منه زالت قوّته والله اعلم.
الدلق:
بالتحريك فارسي معرب، وهو دويبة تقرب من السمور. قال عبد اللطيف البغدادي: إنه يفترس في بعض الأحايين ويكرع الدم. وذكر ابن فارس، في المجمل، إنه النمس، وفيه نظر. قال الرافعي: والدلق يسمى ابن مقرس وقال القزويني: إنه حيوان وحشي عدو الحمام إذا دخل البرج لا يترك فيه واحدا أو تنقطع الثعابين عند صوته، وسيأتي إن شاء الله تعالى الكلام في باب الميم على ابن مقرص وما وقع فيه للرافعي والنووي.
وفي رحلة ابن الصلاح، عن كتاب لوامع الدلائل، في زوايا المسائل للكيا الهراسي أنه قال: يجوز أكل الفنك والسنجاب والدلق والقاقم، والحوصل والزرافة كالثعلب. ثم إن ابن الصلاح كتب بخطه: الدلق النمس. فاستفدنا من هذا حل النمس والزرافة. وسيأتي إن شاء الله تعالى بيانهما في بابيهما.
الخواص:
عينه اليمنى تعلق على من به حمى الربع تزول عنه بالتدريج، وإذا علق اليسرى عليه عادت. وشحمه إذا بخر به برج الحمام هربت كلها. وهو يزيل الكلال الحاصل للإنسان من أكل الحامض. ودمه يقطر في أنف المصروع منه نصف دانق ينفعه، وجلده يجلس عليه صاحب القولنج والبواسير ينفعه.
الدلم:
نوع من القراد، قالت العرب في أمثالها: «فلان أشد من الدلم» (1).
__________
(1) مجمع الأمثال: 1/ 391.(2/471)
الدلهاما:
قال القزويني: هو شيء يوجد في جزائر البحار، على هيئة إنسان راكب على نعامة، يأكل لحوم الناس الذين يقذفهم البحر، وذكر بعضهم أنه عرض لمركب في البحر فحاربهم وحاربوه، فصاح بهم صيحة خروا على وجوههم فأخذهم.
الدم:
بكسر الدال السنور، حكاه في المحكم عن النضر في كتاب الوحوش.
الدنة:
بتشديد النون دويبة كالنملة قاله ابن سيده.
الدنيلس:
معروف وهو نوع من الصدف والحلزون، قال جبريل بن بختيشوع: إنه ينفع من رطوبة المعدة والاستسقاء.
وحكمه:
حل الأكل لأنه من طعام البحر، ولا يعيش إلا فيه. ولم يأت على تحريمه دليل.
كذا أفتى به الشيخ شمس الدين بن عدلان وعلماء عصره وغيرهم. وما نقل عن الشيخ عز الدين بن عبد السلام من الافتاء بتحريم أكله لم يصح. فقد نص الشافعي على أن حيوان البحر الذي لا يعيش إلا فيه يؤكل لعموم الآية، ولقوله صلى الله عليه وسلم «هو الطهور ماؤه، الحل ميتته» (1).
ووراء ذلك وجهان، وقيل قولان أحدهما يحرم لأنه صلى الله عليه وسلم خص السمك بالحل، والثاني ما أكل شبهه في البر، كالبقر والشاء حلال. وما لا كخنزير الماء وكلبه حرام وعلى هذا لا يؤكل ما أشبه الحمار وإن كان في البر الحمار الوحشي حلالا. قال في كتاب التبيان: فيما يحل ويحرم من الحيوان للشيخ عمار الدين الاقفهسي، وقد نقل عن الشيخ عز الدين بن عبد السلام أنه كان يفتي بتحريم الدنيلس، قال: وهذا مما لا يرتاب فيه سليم الطبع. قلت: وقد ذكر ارسطاطاليس، في كتابه نعوت الحيوان، أن السرطان لا يخلق بتولد ونتاج، وإنما يستحيل في الصدف أي يتخلق فيه ثم يخرج، ومنه ما يتولد ثم ينشق عنه الصدف ويخرج، كما أن البعوض يتولد من أوساخ المياه ونتنها.
فقد استفدنا من كلام ارسطاطاليس أن ما في داخل الدنيلس وغيره، من الأصداف يستحيل سرطانات، وإذا كان الحيوان غير مأكول، فأصله كذلك إلا على القول الضعيف. وسمعت عن بعض الفقهاء أنه كان يفتي بحل الدنيلس، ويأخذه من كلام الأصحاب ما أكل مثله في البر، أكل مثله في البحر. وقال إن الدنيلس له نظير في البر، وهو الفستق، وهذه غباوة منه لأن مراد الأصحاب ما أكل في البر من حيوان أكل مثله في البحر. ثم هل يجب مع ذلك ذبحه أم لا؟ فيه وجهان: وليس مرادهم تشبيه حيوان بحري بحمار بري حتى يصح القياس. وبالجملة فهذا القائل، قد قاس الخبيث بالطيب، ويلزمه أن يقول بحل سائر المحار والأصداف لأن الدنيلس محار صغير، ثم يأخذ بعد ذلك في الكبر، والدليل على ذلك أنه يوجد منه صغير وكبير فإذا تكامل بقي محارا، فينبغي القطع بتحريم الدنيلس لأنه من أنواع الصدف، والصدف مستخبث كالسلحفاة والحلزون. قال الجاحظ: والملاحون يأكلون البلبل، وهو ما في جوف الصدفة، وهذا يدل على أنه غير مستطاب وإلا لما عده من خواص الملاحين. وأهل مصر يعيبون أهل الشام
__________
(1) رواه أبو داود في الطهارة: 41. والترمذي في الطهارة: 52. والنسائي في الطهارة: 46وابن ماجه في الطهارة: 38. الموطأ في الطهارة: 12، والدارمي وضوء: 53. وأحمد: 2/ 237.(2/472)
بأكلهم السرطان، وأهل الشام يعيبون أهل مصر بأكلهم الدنيلس ولم أجد لهم مثلا إلا قول الشاعر:
ومن العجائب والعجائب جمة ... أن يلهج الأعمى بعيب الأعمش
انتهى كلام الأقفهسي، وهو مخالف لما ذكره المؤلف والله أعلم.
الدهانج:
بضم الدال الجمل الضخم ذو السنامين. وسيأتي إن شاء الله تعالى في باب الفاء في الفالج.
الدوبل:
الحمار الصغير الذي لا يكبر وكان الأخطل يلقب به ومنه قول جرير (1):
بكى دوبل لا يرقىء الله دمعه ... ألا إنما يبكي من الذل دوبل (2)
الدود:
جمع دودة وجمع الدود ديدان، والتصغير دويد، وقياسه دويدة وداد الطعام يداد وأداد ودوّد. إذا وقع فيه السوس قال الراجز:
قد أطعمتني دفلا حوليا ... مسوسا مدوّدا حجريا
والدود أيضا صغار الدود. ودويد بن زيد عاش أربعمائة وخمسين سنة، وأدرك الإسلام وهو لا يعقل، وارتجز وهو محتضر:
اليوم يبنى لدويد بيته ... لو كان للدهر بلى ابليته ... أو كان قرني واحدا كفيته ... يا رب نهب صالح حويته ... ورب غيل حسن لويته ... ومعصم مخضب ثنيته
وفي تاريخ (3) ابن خلكان، إنه سعى بأبي الحسن الهادي، بن محمد الجواد، بن علي الرضا إلى المتوكل بأن في منزله سلاحا وكتبا من شيعته، وأنه يطلب الأمر لنفسه، فبعث المتوكل إليه جماعة فهجموا عليه في منزله فوجدوه على الأرض مستقبل القبلة يقرأ القرآن، فحملوه على حاله إلى المتوكل والمتوكل يشرب، فاعظمه وأجله وقال له: أنشدني فقال: إني قليل الرواية للشعر. فقال له المتوكل: لا بد فأنشده:
باتوا على قلل الأجبال تحرسهم ... غلب الرجال فما أغنتهم القلل ... واستنزلوا بعد عز من معاقلهم ... وأودعوا حفرا يا بئس ما نزلوا ... ناداهم صارخ من بعد ما قبروا ... أين الأسرة والتيجان والحلل ... فأفصح القبر عنهم حين ساءلهم ... تلك الوجوه عليها الدود يقتتل ... قد طالما أكلوا دهرا وما شربوا ... فأصبحوا بعد ذاك الأكل قد أكلوا
__________
(1) جرير بن عطية الخطفي، الشاعر المجيد من شعراء العصر الأموي. والمتوفى سنة 110هـ.
(2) البيت في ديوانه: ص 366. وفيه: لا يرقأ.
(3) وفيات الأعيان: 3/ 272.(2/473)
فبكى المتوكل والحاضرون. ثم قال له المتوكل: يا أبا الحسن هل عليك دين؟ قال: نعم أربعة آلاف درهم، فأمر له بها وصرفه مكرما. فلما كثرت السعاية به عند المتوكل أحضره المدينة، وأقره بسر من رأى، وتدعى العسكر لأن المعتصم لما بناها انتقل إليها بعسكره، فقيل لها:
العسكر، فأقام بها عشرين سنة وتسعة أشهر، ولهذا قيل له العسكري. وتوفي في جمادى الآخرة سنة أربع وخمسين ومائتين، وهو أحد الأئمة الأثني عشر على مذهب الإمامية رضي الله تعالى عنه وعن آبائه الكرام. والدود أنواع كثيرة يدخل فيها الأساريع والحلم والأرضة ودود الخل والزبل، ودود الفاكهة ودود القز والدود الأخضر الذي يوجد في شجر الصنوبر، وهو في القوة والفعل كالذراريح، وكله معروف ومنه ما يتولد في جوف الإنسان. وروى ابن عدي بسند فيه عصمة بن محمد بن فضالة عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «كلوا التمر على الريق فإنه يقتل الدود (1)». وقالت الحكماء: شرب الوخشيرق يرمي الدود من البطن، وورق الخوخ إذا ضمدت السرة به قتل ديدان البطن. روى البيهقي في الشعب، عن صدقة بن يسار أنه قال:
دخل داود عليه الصلاة والسلام في محرابه، فأبصر دودة صغيرة فتفكر في خلقها، وقال: ما يعبأ الله بخلق هذا الدودة، فأنطقها الله فقالت: يا داود أتعجبك نفسك؟ لأنا على قدر ما أتاني الله، أذكر لله وأشكر له منك، على ما آتاك الله. قال الله تعالى: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلََّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ} (2) وأما دود الفاكهة فذكر الزمخشري في تفسير قوله (3) تعالى: {وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ} الآية أنها بعثت خمسمائة غلام، عليهم ثياب الجواري وحليهن، وخمسمائة جارية على زي الغلمان، كلهم على سروج الذهب والخيل المسومة، وألف لبنة من ذهب وفضة، وتاجا مكللا بالدر والياقوت والمسك والعنبر، وحقا فيه درة يتيمة وخرزة مثقوبة معوجة الثقب، وبعثت برجلين من أشراف قومها المنذر بن عمرو وآخر ذي رأي وعقل. وقالت: إن كان نبيا ميز بين الغلمان والجواري، وثقب الدرة ثقبا مستويا، وسلك في الخرزة خيطا ثم قالت للمنذر: إن نظر إليك نظر غضبان، فهو ملك فلا يهولنك أمره، وإن رأيت شيئا لطيفا فهو نبي، فأعلم الله نبيه سليمان بذلك، فأمر الجن فضربوا لبن الذهب والفضة، وفرشت في ميدان بين يديه طوله سبعة فراسخ، وجعلوا حول الميدان حائطا، شرفة من ذهب وشرفة من فضة، وأمر بأحسن الدواب في البر والبحر فربطوها، عن يمين الميدان ويساره على اللبن، وأمر بأولاد الجن، وهم خلق كثير، فاقيموا على اليمين واليسار، ثم قعد على كرسيه، والكراسي عن يمينه ويساره، واصطفت الشياطين صفوفا فراسخ، والجن صفوفا فراسخ، والإنس صفوفا فراسخ، والوحش والسباع والطيور والهوام كذلك، فلما دنا القوم، نظروا فرأوا الدواب تروث على لبنات الذهب والفضة، فرموا بما معهم منها، فلما وقفوا بين يديه، نظر إليهم بوجه طلق، ثم قال: أين الحق الذي فيه كذا وكذا؟ فقدموه بين يديه فأمر الأرضة، فأخذت شعرة ونفدت فيها، فجعل رزقها في الشجر، وأخذت دودة بيضاء بفيها الخيط، ونفذت فيها فجعل رزقها في الفواكه، ودعا بالماء، فكانت الجارية تأخذ الماء بيدها، فتجعله في الأخرى، ثم تضرب به وجهها، والغلام كما يأخذه يضرب به وجهه، ثم ردا الهدية، وقال للمنذر: ارجع إليهم. فلما رجع وأخبرها الخبر قالت: هو نبي وما
__________
(1) الكامل لابن عدي 5/ 2009.
(2) سورة الإسراء: الآية 44.
(3) سورة النمل: الآية 35.(2/474)
لنا به طاقة فشخصت إليه في أثنى عشر ألف قيل تحت يد كل قبل ألوف.
وأما دود القز فيقال لها الدودة الهندية، وهي من أعجب المخلوقات، وذلك إنه يكون أولا بزرا من قدر حب التين، ثم يخرج من الدود عند فصل الربيع، ويكون عند الخروج أصغر من الذر، وفي لونه ويخرج من الأماكن الدافئة من غير حضن، إذا كان مصرورا مجعولا في حق، وربما تأخر خروجه فتصره النساء وتجعله تحت ثديهن، وإذا خرج أطعم ورق التوت الأبيض، ولا يزال يكبر ويعظم إلى أن يصير في قدر الإصبع، وينتقل من السواد إلى البياض أولا فأولا، وذلك في مدة ستين يوما على الأكثر، ثم يأخذ في النسج على نفسه بما يخرجه من فيه إلى أن ينفد ما في جوفه منه. ويكمل عليه ما يبنيه إلى أن يصير كهيئة الجوزة، ويبقى فيه محبوسا قريبا من عشرة أيام، ثم ينقب عن نفسه تلك الجوزة، فيخرج منها فراش أبيض له جناحان، لا يسكنان من الاضطراب، وعند خروجه يهيج إلى السفاد، فيلصق الذكر ذنبه بذنب الأنثى ويلتحمان مدة، ثم يفترقان، وتبزر الأنثى البزر الذي تقدم ذكره على خرق بيض، تفرش له قصدا إلى أن ينفد ما فيها منه، ثم يموتان هذا إن أريد منهما البزر وإن أريد الحرير ترك في الشمس بعد فراغه من النسج، بعشرة أيام يوما بعض يوم فيموت. وفيه من أسرار الطبيعة أنه يهلك من صوت الرعد، وضرب الطست والهاون ومن شم الخل والدخان ومس الحائض والجنب. ويخشى عليه من الفأر والعصفور والنمل والوزغ وكثرة الحر والبرد وقد ألغز فيه بعض الشعراء فقال:
وبيضة تحضن في يومين ... حتى إذا دبت على رجلين ... واستبدلت بلونها لونين ... حاكت لها خيسا بلا نيرين ... بلا سماء وبلا بابين ... ونقبته بعد ليلتين ... فخرجت مكحولة العينين ... قد صبغت بالنقش حاجبين ... قصيرة ضئيلة الجنبين ... كأنها قد قطعت نصفين ... لها جناح سابع النبردين ... ما نبتا إلا لقرب الحين
إن الردى كحل لكل عين
قال الإمام أبو طالب المكي (1)، في كتابه قوت القلوب: وقد مثل بعض الحكماء ابن آدم بدود القز، لا يزال ينسج على نفسه، من جهله حتى لا يكون له مخلص، فيقتل نفسه ويصير القز لغيره، وربما قتلوه إذا فرغ من نسجه، لأن القز يلتف عليه فيروم الخروج عنه فيشمس، وربما غمز بالأيدي حتى يموت لئلا يقطع القز ليخرج القز صحيحا. فهذه صورة المكتسب الجاهل الذي أهلكه أهله وماله وتتنعم ورثته بما شقي هو به فإن أطاعوا به، كان أجره لهم، وحسابه عليه، وإن عصوا به كان شريكهم في المعصية لأنه أكسبهم إياها به، فلا يدري أي الحسرتين عليه أعظم إذهابه عمره لغيره، أو نظره إلى ماله في ميزان غيره؟ انتهى. وقد أشار إلى ذلك أبو الفتح البستي (2)
بقوله:
__________
(1) مكي بن أبي طالب حموش بن محمد الأندلس. مقرىء عالم بالعربية والتفسير. مات سنة 437. من أهل القيروان، طاف في بلاد المشرق وعاد إلى موطنه. له تصانيف كثيرة.
(2) البستي: علي بن محمد، أبو الفتح البستي. وفاته سنة 400هـ. شاعر رقيق.(2/475)
ألم تر أن المرء طول حياته ... معنى بأمر لا يزال يعالجه ... كدود كدود القز ينسج دائما ... ويهلك غما وسط ما هو ناسجه
وله أيضا وأجاد:
لا يغرنك أنني لين اللم ... س فعزمي إذا انتضيت حسام ... أنا كالورد فيه راحة قوم ... ثم فيه لآخرين زكام
وقال آخر (1) في المعنى:
يفنى الحريص بجمع المال مدته ... وللحوادث ما يبقى وما يدع (2)
... كدودة القز ما تبنيه يهلكها ... وغيرها بالذي تبنيه ينتفع (3)
لما أخذت دودة القز تنسج، أقبل العنكبوت يتشبه بها، وقال: لي نسج ولك نسج. فقالت دودة القز: إن نسجي ملابس الملوك ونسجك ملابس الذباب، وعند مس الحاجة يتبين الفرق ولذلك قيل:
إذا اشتبكت دموع في خدود ... تبين من بكى ممن تباكى
تتمة:
شجرة الصنوبر تثمر في كل ثلاثين سنة مرة، وشجرة الدبا تصعد في كل أسبوعين، فتقول لشجرة الصنوبر: إن الطريق التي قد قطعتها في ثلاثين سنة قطعتها في أسبوعين. ويقال:
لك شجرة ولي شجرة، فتقول شجرة الصنوبر لها: مهلا إلى أن تهب رياح الخريف، فحينئذ يتبين لك اغترارك بالإسم. وقال المسعودي في ترجمة الراضي إن دودة بطبرستان، تكون من المثقال إلى ثلاثة مثاقيل، تضيء في الليل كما يضيء الشمع، وتطير بالنهار فترى لها أجنحة، وهي خضراء ملساء لا جناحين لها في الحقيقة، غذاؤها التراب، لم تشبع قط منه خوفا أن تفنى تراب الأرض فتهلك جوعا. قال: وفيها منافع كثيرة وخواص واسعة انتهى. وسيأتي عن الجاحظ قريب من هذا.
الحكم:
يحرم أكله بجميع أنواعه، لأنه مستخبث إلا ما تولد من مأكول فعندنا فيه ثلاثة أوجه: أصحها جواز أكله معه لا منفردا، والثاني يجب تمييزه ولا يؤكل أصلا، والثالث يؤكل معه ومنفردا. وعلى الأصح ظاهر اطلاقهم أنه لا فرق بين أن يسهل تمييزه أو يشق. ولا يجوز بيع الدود إلا القرمز الذي يصبغ به وهو دود أحمر يوجد في شجر البلوط في بعض البلاد صدفي يشبه الحلزون. تجمعه نساء تلك البلاد بأفواههن. وأما دود القز فيجوز بيعه، ويجب إطعامه ورق الفرصاد، وهو التوت الأبيض، ويجوز تشميسه، وإن هلك لتحصيل فائدته. ويجوز بيع الفيلج وفي باطنه الدود الميت لأن بقاءه فيه من مصلحته، فيجوز بيعه وزنا وجزفا، كما صرح به القاضي
__________
(1) هو أبو علي، ابن الشبل. والبيتان في فوات الوفيات: 3/ 340.
(2) في الفوات: «يغنى البخيل». «وللحوادث والأيام ما يدع».
(3) في الفوات: «تبنيه يهدمها».(2/476)
حسين. وقال الإمام: إن باعه جزافا كما صرح به القاضي حسين وقال الإمام إن باعه جزافا جاز، وإن باعه وزنا لم يجز. قلت: وهذا هو الصحيح المعتمد، لأن الدود الذي فيه، يمنع معرفة مقدار ما فيه من المقصود. وهو القز وقد جزم به الشيخان، في آخر كتاب السلم. وجزم به ابن الرفعة وغيره. وفي روثه الخلاف في روث ما لا نفس له سائلة. وفي بزره الوجهان في بيض ما لا يؤكل والأصح الطهارة. وقال الفوراني والمتولي: إن قلنا دود القز طاهر، بعد الموت فبزره طاهر، وإن قلنا إنه نجس فالبزر كالبيض لأن له نماء مثله. وفي فتاوى القفال: إن بزر القز لا مثل له، ولا يجوز السلم فيه، لأن أهل الصنعة لا يعرفون أن هذا البزر يكون نسجه أحمر أو أبيض، فهو كالسلم في الجواهر.
الأمثال:
قالوا (1): «أصنع من دود القز». وربما قالوا: «أكثر من الدود وأضعف من الدود». قال ابن رشد، في جامع البيان والتحصيل: سأل عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه، عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنه، عن البحر، فقال: خلق قوي يركبه خلق ضعيف، دود على عودان ضاعوا هلكوا، وإن بقوا فرقوا. فقال عمر: لا أحمل فيه أحدا أبدا.
الخواص:
إذا أخذ دود القز، وخلط بالزيت ولطخ به بدن إنسان نفع من نهش الهوام، وذوات السموم ودودة القز إن أخرجت منه وأكلها الدجاج حصل له سمن كثير، ودود الزبل الأصفر الذي يخلق منه، إذا طبخ في زيت عتيق حتى ينضج ويدهن بذلك الزيت داء الثعلب، فإنه يبرئه، وهو في ذلك عجيب مجرب إذا داوم عليه.
التعبير:
الدود في المنام عدو من الأهل، ودود القز زبون للتاجر، ورعية للسلطان، فمن أخذ منه شيئا نال منفعة منهم، وربما دلت رؤية الدود على مال حرام. ويعبر أيضا بالضر فمن زال عنه زال ذلك عنه، وربما عبر الدود بالأولاد القصيري الأعمار، وأصحاب التركات السنية، وربما دلت رؤيته على قرب الأجل ونهاية العمر، وربما دلت على الحاكة من الرجال والنساء، والمحاكين للصور والله أعلم.
دؤالة:
كنخالة من أسماء الثعلب، سمي بذلك لنشاطه وخفة مشيه والدألان مشية النشيط.
الدودمس:
ضرب من الحيات محرنفش الغلاصيم، ينفخ فيحرق ما أصاب والجمع دودمسات ودواميس قاله ابن سيده.
الدوسر:
الجمل الضخم والأنثى دوسرة. وجمل دوسري كأنه منسوب إليه.
الديسم:
بالفتح ولد الدب قال الجوهري: قلت لأبي الغوث: يقال إنه ولد الذئب من الكلبة! فقال: ما هو إلا ولد الدب. وقال في المحكم: إنه ولد الثعلب. وقال الجاحظ: إنه ولد الذئب من الكلبة. وهو أغبر اللون وغبرته ممتزجة بسواد. وحكمه: تحريم الأكل على كل تقدير.
الديك:
ذكر الدجاج وجمعه ديوك وديكة، وتصغيره دويك، وكنيته أبو حسان،
__________
(1) جمهرة الأمثال: 1/ 479.(2/477)
وأبو حماد وأبو سليمان، وأبو عقبة، وأبو مدلج، وأبو المنذر، وأبو نبهان وأبو يقظان، وأبو برائل والبرائل الذي يرتفع من ريش الطائر في عنقه، وينفشه الديك للقتال، وقيل: إن للديك خاصة.
ويسمى الأنيس والمؤانس، ومن شأنه أنه لا يحنو على ولده، ولا يألف زوجة واحدة، وهو أبله الطبيعة، وذلك أنه إذا سقط من حائط لم يكن له هداية ترشده إلى دار أهله. وفيه من الخصال الحميدة أنه يسوي بين دجاجه، ولا يؤثر واحدة على واحدة إلا نادرا، وأعظم ما فيه من العجائب، معرفة الأوقات الليلية فيقسط أصواته عليها تقسيطا، لا يكاد يغادر منه شيئا سواء طال أو قصر.
ويوالي صياحه قبل الفجر وبعده، فسبحان من هداه لذلك. ولهذا أفتى القاضي حسين والمتولي والرافعي بجواز اعتماد الديك المجرب في أوقات الصلوات. ومن غريب أمره، إذا كانت الديكة بمكان، ودخل عليها ديك غريب سفدته كلها، وقد أجاد أبو بكر الصنوبري في مدحه حيث قال (1):
مغرد الليل ما يألوك تغريدا ... مل الكرى فهو يدعو الصبح مجهودا ... لما تطرب هز العطف من طرب ... ومد للصوت لما مده الجيدا ... كلابس مطرفا مرخ ذوائبه ... تضاحك البيض من اطرافه السودا ... حالى المقلد لو قيست قلائده ... بالورد قصر عنها الورد توريدا
وفي تاريخ (2) ابن خلكان في ترجمة محمد بن معن بن محمد بن صمادح، المنعوت بالمعتصم، من قصيدة مدحه بها أبو القاسم الأسعد بن بليطة في صفة الديك:
كأن أنو شروان أعطاه تاجه ... وناط عليه كفّ مارية القرطا (3)
... سبى حلة الطاووس حسن لباسه ... ولم يكفه حتى سبى المشية البطا
قال (4) الجاحظ: ويدخل في الديك الهندي والجلاسي والنبطي والسندي والزنجي، وزعم أهل التجربة أن الديك الأبيض الأفرق من خواصه أن يحفظ الدار التي هو فيها، وزعموا أن الرجل إذا ذبح الديك الأبيض الأفرق، لم يزل ينكب في أهله وماله.
وروى عبد الحق بن قانع بإسناده إلى جابر بن أثوب، بسكون الثاء المثلثة وفتح الواو، وهو أثوب بن عتبة، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الديك الأبيض خليلي». وإسناده لا يثبت. ورواه غيره بلفظ: «الديك الأبيض صديقي وعدو الشيطان، يحرس صاحبه وسبع دور خلفه». قال: وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقتنيه في البيت والمسجد. وفي التهذيب في ترجمة البزي الراوي عن ابن كثير، وهو أبو الحسن أحمد بن محمد بن عبد الله بن القاسم بن نافع بن أبي بزة المكي، وهو ضعيف الحديث، عن الحسن عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الديك الأبيض الأفرق حبيبي وحبيب حبيبي جبريل يحرس بيته وستة عشر بيتا من جيرانه». وروى الشيخ محب الدين الطبري «أن النبي صلى الله عليه وسلم كان له ديك أبيض وكان الصحابة رضي الله عنهم يسافرون بالديكة لتعرفهم أوقات الصلوات».
__________
(1) العقد الفريد: 6/ 171.
(2) وفيات الأعيان: 5/ 43.
(3) أنو شروان: من أكاسرة الفرس. وفي الوفيات: «أعلاه تاجه» و «ناطت عليه».
(4) الحيوان: 3/ 145.(2/478)
وفي الصحيحين وسنن أبي داود والترمذي والنسائي عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم (1) قال: «إذا سمعتم صياح الديكة فاسألوا الله من فضله فإنها رأت ملكا، وإذا سمعتم نهاق الحمير فتعوذوا بالله من الشيطان، فإنها رأت شيطانا». قال القاضي عياض: سببه رجاء تأمين الملائكة على الدعاء، واستغفارهم وشهادتهم له بالإخلاص والتضرع والابتهال. وفيه استحباب الدعاء عند حضور الصالحين والتبرك بهم وإنما أمرنا بالتعوذ من الشيطان عند نهيق الحمير، لأن الشيطان يخاف من شره عند حضوره فينبغي أن يتعوذ منه انتهى. وفي معجم الطبراني وتاريخ أصبهان، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن لله سبحانه ديكا أبيض جناحاه موشيان بالزبرجد والياقوت واللؤلؤ، جناح بالمشرق وجناح بالمغرب، ورأسه تحت العرش وقوائمه في الهواء، يؤذن في كل سحر فيسمع تلك الصيحة أهل السموات وأهل الأرض، إلا الثقلين، الإنس والجن، فعند ذلك تجيبه ديوك الأرض فإذا دنا يوم القيامة يقول الله تعالى: ضم جناحيك، وغض صوتك. فيعلم أهل السموات وأهل الأرض إلا الثقلين أن الساعة قد اقتربت». وروى الطبراني والبيهقي في الشعب، عن محمد بن المنكدر، عن جابر رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن لله ديكا رجلاه في التخوم، وعنقه تحت العرش منطوية، فإذا كان هنة من الليل، صاح: سبوح قدوس، فتصيح الديكة». وهو في كامل ابن عدي في ترجمة علي بن أبي علي اللهبي. قال: وهو يروي أحاديث منكرة عن جابر رضي الله عنه. وفي كتاب فضل الذكر، للحافظ العلامة جعفر بن محمد بن الحسن الفريابي، عن ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن لله عز وجل ديكا رجلاه في الأرض السفلى، وعنقه مثنية تحت العرش، وجناحاه في الهواء يخفق بهما في السحر كل ليلة، يقول: سبحان الملك القدوس ربنا الملك الرحمن لا إله غيره». وروى الثعلبي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ثلاثة أصوات يحبها الله تعالى. صوت الديك، وصوت قارىء القرآن، وصوت المستغفرين بالأسحار». وروى الإمام أحمد وأبو داود وابن ماجة، عن زيد بن خالد الجهني رضي الله تعالى عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا تسبوا الديك فإنه يوقظ للصلاة». إسناده (2)
جيد وفي لفظ «فإنه يدعو إلى الصلاة» قال الإمام الحلمي في قوله صلى الله عليه وسلم «فإنه يدعو إلى الصلاة».
دليل على أن كل من استفيد منه خير، لا ينبغي أن يسب ويستهان به، بل حقه أن يكرم ويشكر ويتلقى بالإحسان، وليس معنى دعاء الديك إلى الصلاة أنه يقول بصراخه حقيقة: الصلاة أو قد حانت الصلاة، بل معناه أن العادة قد جرت بأنه يصرخ صرخات متتابعة، عند طلوع الفجر، وعند الزوال، فطرة فطره الله عليها فيتذكر الناس بصراخه الصلاة، ولا يجوز لهم أن يصلوا بصراخه، من غير دلالة سواه إلا من جرب منه ما لا يخلف فيصير ذلك له إشارة والله أعلم انتهى. وروى الحاكم في المستدرك في أوائل كتاب الإيمان والطبراني ورجاله رجال الصحيح عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله أذن لي أن أحدث عن ديك رجلاه في الأرض وعنقه مثنية تحت العرش، وهو يقول: سبحانك ما أعظم شأنك، قال: فيرد عليه ما يعلم ذلك من حلف بي كاذبا». وروى الإمامان أبو طالب المكي وحجة الإسلام الغزالي، عن
__________
(1) رواه البخاري: بدء الخلق: 15. ومسلم ذكر: 82. الترمذي دعوات: 56.
(2) رواه أحمد: 5/ 4193/ 115.(2/479)
ميمون بن مهران، أنه قال: بلغني أن تحت العرش ملكا في صورة ديك، براثنه من لؤلؤة وصيصته من زبرجد أخضر، فإذا مضى ثلث الليل الأول ضرب بجناحيه وزقا وقال: ليقم القائمون، فإذا مضى نصف الليل ضرب بجناحيه وزقا وقال: ليقم المصلون، فإذا طلع الفجر ضرب بجناحيه وزقا وقال: ليقم الغافلون وعليهم أوزارهم ومعنى زقا صاح.
نكتة:
كان سهل بن هارون بن راهويه، في خدمة المأمون، وكان حكيما فصيحا شاعرا فارسي الأصل شيعي المذهب، شديد التعصب على العرب، وله مصنفات عديدة في الأدب وغيره، وكان الجاحظ يصف براعته وحكمته وشجاعته في كتبه، وكان إليه النهاية في البخل وله فيه حكايات عجيبة: فمن ذلك قال دعبل: كنا عنده يوما فأطلنا القعود، حتى كاد يموت جوعا، ثم قال: ويحك يا غلام غدنا! فأتاه بقصعة فيها ديك مطبوخ، فتأمله ثم قال أين الرأس يا غلام؟
قال: رميت به. فقال: إني والله لأمقت من يرمي برجله، فكيف برأسه؟ ولو لم يكن فيما فعلت إلا الطيرة والفأل لكراهته، أما علمت أن الرأس رئيس الأعضاء، ومنه يصرخ الديك، ولولا صوته ما أريد، وفيه عرفه الذي يتبرك به، وعينه التي يضرب بها المثل في الصفاء، فيقال: «شراب كعين الديك». ودماغه عجب لوجع الكليتين، ولم ير عظم أهش تحت الأسنان منه، وهب أنك ظننت أني لا آكله أو ليس العيال كانوا يأكلونه؟ فإن كان قد بلغ من نبلك أنك لا تأكله، فعندنا من يأكله، أو ما علمت أنه خير من طرف الجناح، ومن رأس العنق؟ انظر لي أين هو؟ فقال:
والله ما أدري أين هو، ولا أين رميت به. فقال: رميته في بطنك قاتلك الله.
الحكم
: يحل أكله لما تقدم في الدجاج، ويكره سبه لما تقدم في حديث زيد بن خالد الجهني، ويجوز اعتماد الديك المجرب في أوقات الصلوات كما تقدم قريبا. قال أصبغ بن زيد الواسطي: كان لسعيد بن جبير ديك يقوم في الليل بصياحه، فلم يصح ليلة حتى أصبح فلم يصل سعيد تلك الليلة فشق ذلك عليه، فقال: ماله قطع الله صوته؟ فلم يسمع له صوت بعد ذلك. وفي مناقب إمامنا الشافعي رحمه الله تعالى، أن رجلا سأله عن رجل خصى ديكا له، فقال: عليه أرشه. وفي الكامل. في ترجمة عبد الله بن نافع مولى ابن عمر عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم: «نهى عن خصاء الديك والغنم والخيل. وقال (1): «إنما النماء في الخيل». وتحرم المنافرة بالديكة. وسيأتي ما ورد في ذلك من النهي في باب الكاف، في المناطحة بالكباش، في لفظ الكبش إن شاء الله تعالى.
الأمثال:
قالوا (2): «أشجع من ديك» «وأسفد من ديك (3)».
فائدة:
روى (4) مسلم وغيره أن عمر رضي الله عنه خطب الناس يوما فحمد الله وأثنى عليه. ثم قال: إني رأيت رؤيا لا أراه إلا لحضور أجلي وهي أن ديكا نقرني ثلاث نقرات، وفي لفظ رأيت كأن ديكا أحمر نقرني نقرة أو نقرتين. فحدثتها أسماء بنث عميس رضي الله عنها فحدثتني بأن يقتلني رجل من الأعاجم. وكان هذا القول منه يوم الجمعة فطعن يوم الأربعاء
__________
(1) رواه ابن حنبل: 2/ 24.
(2) جمهرة الأمثال: 1/ 460.
(3) المستقصى: 1/ 169.
(4) رواه مسلم في المساجد: 78. وابن حنبل: 1/ 482715.(2/480)
رضي الله عنه. وروى الحاكم عن سالم بن أبي الجعد عن معدان بن أبي طلحة عن عمر رضي الله تعالى عنه أنه قال على المنبر: رأيت في المنام كأن ديكا نقرني ثلاث نقرات فقلت: أعجمي يقتلني، وإني جعلت أمري إلى هؤلاء الستة، الذي توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنهم راض: عثمان وعلي وطلحة والزبير وعبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص. فمن استخلف فهو الخليفة. وذكر ابن خلكان وغيره، أن عمر رضي الله عنه، لما طعن، اختار من الصحابة ستة نفر، وهم المتقدم ذكرهم. وكان سعد بن أبي وقاص غائبا، وجعل عبد الله ابنه مشيرا، وليس له من الأمر شيء وأقام المسور بن مخرمة، وثلاثين نفسا من الأنصار، وقال: إن اتفقوا على واحد إلى ثلاثة أيام، وإلا فاضربوا رقاب الكل فلا خير للمسلمين فيهم، وإن افترقوا فرقتين، فالفرقة التي فيها عبد الرحمن بن عوف. وأوصي أن يصلي صهيب بالناس ثلاثة أيام، فأخرج عبد الرحمن بن عوف نفسه من الشورى، واختار عثمان فبايعه الناس. ونقل أن العباس بن عبد المطلب قال لعلي:
يا ابن أخي لا تدخل نفسك في الشورى مع القوم، فإني أخاف أن يخرجوك منها فتبقى وصمة فيك فلم يقبل منه.
وكان عمر قد بويع له بالخلافة يوم مات الصديق بعهد منه له في ذلك كما سبق في باب الهمزة في لفظ الأوز. وضربه أبو لؤلؤة فيروز الفارسي غلام المغيرة بن شعبة، وكان مجوسيا، وقيل: كان نصرانيا، ثلاث ضربات أحداهن تحت سرته، فقال: قتلني الكلب. وخرج من المحراب ودخل عبد الرحمن بن عوف، فأتم الصلاة بالناس. ومر أبو لؤلؤة هاربا في يده خنجر يضرب به يمينا وشمالا فطرح عليه رجل من الأنصار رداءه، فلما علم أنه مأخوذ، نحر نفسه.
وكان بعض الذين في المسجد لم يشعروا بذلك لشغلهم بالصلاة إلا أنهم فقدوا صوت عمر ولم يعلموا ما سببه. وإنه لما طعن، قيل له: ما أحب الأشربة إليك يا أمير المؤمنين؟ قال: النبيذ فسقوه نبيذا، فخرج من جرحه، فقال قوم: نبيذ وقال قوم: دم فسقوه لبنا فخرج من جرحه.
فقيل له: أوص يا أمير المؤمنين، فأوصى بالشورى كما تقدم. وكان قتله في ذي الحجة سنة ثلاث وعشرين وبقي ثلاثة أيام، وتوفي لأربع بقين من ذي الحجة. وقيل لليلتين وقد تقدم بعض ذلك في الأوز.
ويقال إن عبيد الله بن عمر وثب على الهرمزان فقتله، وقتل معه رجلا نصرانيا، يعرف بحفنة من أهل نجران، كانا قد اتهما بإغراء أبي لؤلؤة بعمر رضي الله عنه. وقتل بنتا لأبي لؤلؤة طفلة. ووداهم عثمان رضي الله عنه. ولحق عبيد الله بمعاوية في خلافة علي رضي الله عنه.
وكان في أيام عمر الفتوحات العظام، وهو الذي سمى الغزوات الشواتي والصوائف، وهو أول من أرخ التاريخ بعام الهجرة، وأول من دعي بأمير المؤمنين وأول من ختم الكتب، وكان في يده خاتم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفيه نظر. وأول من ضرب بالدرة وحملها. وأول من قال: أطال الله بقاءك، قالها لعلي رضي الله عنهما، وهو الذي أخر المقام إلى موضعه اليوم، وكان ملصقا بالبيت، وهو أول من جمع الناس على إمام واحد في التراويح. وحج بالناس عشر سنين متوالية آخرها سنة ثلاث وعشرين، ومعه نساء رسول الله صلى الله عليه وسلم في الهوادج ورجع إلى المدينة فرأى الرؤيا المتقدم
ذكرها، وتزوّج عمر أم كلثوم بنت علي رضي الله عنه، وأصدقها أربعين ألف درهم، وكان أي عمر رضي الله عنه قد حد ابنه عبيد الله على الشراب، فقال له وهو يحده: قتلتني يا أبتاه. فقال له: يا بني إذا لقيت ربك فأخبره أن أباك يقيم الحدود. والذي في السير أن المحدود في الشراب ابنه الأوسط أبو شحمة، وإسمه عبد الرحمن، وأمه أم ولد يقال لها الهيبة. وقتل عبيد الله الرجلين مشكل وقتله الطفلة أشكل والله أعلم. وذكر غير واحد من الثقات، أنه كان لرقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، من عثمان، ولد يقال له عبد الله، وبه كان يكنى، بلغ سبع سنين نقره ديك في وجهه فمات بعد أمه في جمادى سنة أربع. ولم يولد له غيره من بنات النبي صلى الله عليه وسلم. ولما هاجرت رقية إلى الحبشة كان فتيان الحبشة يتعرضون لرؤيتها ويتعجبون من جمالها، فآذاها ذلك فدعت عليهم فهلكوا جميعا. وقالوا: «ما كلمته إلا كحسو الديك» (1) يريدون السرعة قال الشاعر:(2/481)
وكان في أيام عمر الفتوحات العظام، وهو الذي سمى الغزوات الشواتي والصوائف، وهو أول من أرخ التاريخ بعام الهجرة، وأول من دعي بأمير المؤمنين وأول من ختم الكتب، وكان في يده خاتم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفيه نظر. وأول من ضرب بالدرة وحملها. وأول من قال: أطال الله بقاءك، قالها لعلي رضي الله عنهما، وهو الذي أخر المقام إلى موضعه اليوم، وكان ملصقا بالبيت، وهو أول من جمع الناس على إمام واحد في التراويح. وحج بالناس عشر سنين متوالية آخرها سنة ثلاث وعشرين، ومعه نساء رسول الله صلى الله عليه وسلم في الهوادج ورجع إلى المدينة فرأى الرؤيا المتقدم
ذكرها، وتزوّج عمر أم كلثوم بنت علي رضي الله عنه، وأصدقها أربعين ألف درهم، وكان أي عمر رضي الله عنه قد حد ابنه عبيد الله على الشراب، فقال له وهو يحده: قتلتني يا أبتاه. فقال له: يا بني إذا لقيت ربك فأخبره أن أباك يقيم الحدود. والذي في السير أن المحدود في الشراب ابنه الأوسط أبو شحمة، وإسمه عبد الرحمن، وأمه أم ولد يقال لها الهيبة. وقتل عبيد الله الرجلين مشكل وقتله الطفلة أشكل والله أعلم. وذكر غير واحد من الثقات، أنه كان لرقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، من عثمان، ولد يقال له عبد الله، وبه كان يكنى، بلغ سبع سنين نقره ديك في وجهه فمات بعد أمه في جمادى سنة أربع. ولم يولد له غيره من بنات النبي صلى الله عليه وسلم. ولما هاجرت رقية إلى الحبشة كان فتيان الحبشة يتعرضون لرؤيتها ويتعجبون من جمالها، فآذاها ذلك فدعت عليهم فهلكوا جميعا. وقالوا: «ما كلمته إلا كحسو الديك» (1) يريدون السرعة قال الشاعر:
ويوما كحسو الديك قد بات صحبتي ... ينالونه فوق القلاص العياهل (2)
يريد قتله وسرعته وضربوا المثل بصفاء عينه فقالوا: «أصفى من عين الديك» (3).
ومن المشهور في ذلك قصيدة عدي بن زيد العبادي التي يقول (4) فيها:
بكر العاذلون في وضح الصب ... بح يقولون لي أما تستفيق ... ويلومون فيك يا ابنة عبد الله ... والقلب عندكم موهوق (5)
... لست أدري إذا أكثروا العذل فيها ... أعدّو يلومني أم صديق ... ودعوا بالصبوح يوما فجاءت ... قينة في يمينها إبريق ... قدمته على عقار كعين ال ... ديك صفيّ سلافها الراووق (6)
ولهذه الأبيات حكاية حسنة مشهورة مذكورة في درة الغواص. وفي تاريخ ابن خلكان، في ترجمة حماد الراوية قال: كنت منقطعا إلى يزيد بن عبد الملك، وكان أخوه هشام يجفوني لذلك في أيامه، فلما مات يزيد، وأفضت الخلافة إلى هشام، خفتة فمكثت في بيتي سنة لا أخرج إلا لمن أثق به، من إخواني سرا، فلما لم أسمع أحدا ذكرني في السنة، أمنت فخرجت يوما، وصليت الجمعة بالرصافة، وإذا شرطيان قد وقفا عليّ وقالا: يا حماد أجب الأمير يوسف بن عمر، وكان واليا على العراق، فقلت في نفسي: من هذا كنت أخاف. ثم قلت للشرطين: هل لكما أن تدعاني حتى آتي أهلي، فاودعهم وداع من لا يرجع إليهم أبدا، ثم أسير معكما إليه؟ فقالا: ما إلى ذلك سبيل. فاستسلمت في أيديهما، ثم صرت إلى يوسف بن عمر، وهو في الايوان الأحمر، فسلمت
__________
(1) المستقصى: 2/ 216.
(2) القلاص: جمع القلوص: الناقة الشابة.
(3) مجمع الأمثال: 1/ 417.
(4) وفيات الأعيان: 2/ 208. وعدي بن زيد بن حماد بن زيد العبّادي التميمي، شاعر جاهلي من الدهاة.
(5) موهوق: محبوس.
(6) السلاف: الخمرة المصفاة. الراووق: ما تروّق به الخمرة.(2/482)
فرد علي السلام، ورم إلي كتابا فيه: بسم الله الرحمن الرحيم من عبد الله هشام أمير المؤمنين إلى يوسف بن عمر الثقفي، أما بعد فإذا قرأت كتابي هذا فابعث إلى حماد الراوية من يأتيك به، من غير ترويع، وادفع له خمسمائة دينار وجملا مهريا، يسير عليه لإثنتي عشرة ليلة إلى دمشق. قال:
فأخذت الدنانير ونظرت فإذا جمل مرحول فجعلت رحلي في الغرز وسرت إثنتي عشرة ليلة حتى وافيت دمشق، فنزلت على باب هشام، فاستأذنت فأذن لي فدخلت عليه في دار قوراء مفروشة بالرخام، وبين كل رخامتين قضيب من ذهب، وهشام جالس على طنفسة حمراء، وعليه ثياب حمر من الخز، وقد تضمخ بالمسك والعنبر، فسلمت عليه فرد علي السلام، واستدناني فدنوت إليه حتى قبلت رجله فإذا جاريتان لم أر مثلهما قط في أذن كل واحدة منهما حلقتان، فيهما لؤلؤتان تتقدان، فقال لي: كيف أنت يا حماد وكيف حالك؟ قلت: بخير يا أمير المؤمنين. فقال: أتدري فيم بعثت إليك؟ قلت: لا. قال: بعثت إليك لبيت خطر ببالي لم أدر قائله! قلت: وما هو؟ قال:
ودعوا بالصبوح يوما فجاءت ... قينة في يمينها ابريق (1)
فقلت: يقوله عدي بن زيد العبادي في قصيدة له فقال: أنشدنيها فانشدته:
بكر العاذلون في وضح الصب ... ح يقولون لي أما تستفيق ... ويلومون فيك يا ابنة عبد الله ... والقلب عندكم موهوق ... لست أدري إذا أكثروا العذل فيها ... أعدوّ يلومني أم صديق
قال حماد فانتهيت فيها إلى قوله:
ودعوا بالصبوح يوما فجاءت ... قينة في يمينها ابريق (2)
... قدمته على عقار كعين ال ... ديك صفيّ سلافها الراووق ... مرة قبل مزجها فإذا ما ... مزجت لذ طعمها من يذوق ... وطفا فوقها فقاقيع كاليا ... قوت حمر يزينها التصفيق ... ثم كان المزاج ماء سحاب ... لاصرى آجن ولا مطروق (3)
قال: فطرب هشام، ثم قال لي: أحسنت يا حماد والله، يا جارية اسقيه فسقتني شربة ذهبت بثلث عقلي، فقال: أعده فاعدته فاستخفه الطرب حتى نزل عن فرشه، ثم قال للجارية الأخرى: اسقيه فسقتني، شربة ذهبت بثلث آخر من عقلي، ثم قال: سل حاجتك يا حماد.
فقلت: كائنة ما كانت؟ قال: نعم. قلت: إحدى هاتين الجاريتين، فقال: هما لك بما عليهما، ثم قال للجارية الأولى: اسقيه فسقتني شربة، فسقطت منها فلم أعقل حتى أصبحت، والجاريتان عند رأسي، فإذا عشرة من الخدم، ومع كل واحد منهم بدرة فيها عشرة آلاف درهم. فقال أحدهم: إن أمير المؤمنين يقرأ عليك السلام ويقول لك: خذ هذه وانتفع بها في سفرك فأخذتها والجاريتين وعدت إلى أهلي انتهى. هكذا ساقها الحريري في كتابه درة الغواص، وفيه
__________
(1) وفيات الأعيان: 2/ 208.
(2) الصّبوح: شراب الصباح.
(3) آجن: فاسد.(2/483)
اعترضان: أحدهما قوله: يا جارية اسقيه، فإن هشام لم يكن يشرب الخمر، اللهم إلا أن كان يشرب بحضرته. والثاني قوله: إن هشاما بعث إلى يوسف بن عمر الثقفي، فإنه في هذا التاريخ، لم يكن متوليا على العراق، وإنما كان واليا عليه في التاريخ المذكور خالد بن عبد الله القسري حسبما ذكره أهل التاريخ.
الخواص:
لحم الديوك حار يابس، باعتدال أجوده عند اعتدال أصواتها، وهو ينفع أصحاب القولنج، ويستحب كدها قبل ذبحها، وأكل لحمها يولد غذاء محمودا ويوافق من الأمزجة الباردة ومن الأسنان الشيوخ، ومن الزمان الشتاء. والديوك العتيقة تنحل منها قوة في الطبخ، ولحمها يطلق البطن، وينفع المفاصل، والرعشة والحمى العتيقة، ذات الأدوار، ولا سيما إذا عمل بملح كثير وماء كرنب، ولبان القرطم والإسفاناخ. وأما الفراخ فغذاؤها موافق لجميع الناس حين تبتدىء بالصياح. والدجاج قبل أن يبيض. وينبغي أن يواصل أكلها دائما. وأما خواص أجزائه فدم الديك أو دماغه إذا طلي به على لسع الهوام أبرأه، والاكتحال بدمه ينفع البياض في العين، وعرف الديك إذا أحرق وسقي منه من يبول في فراشه أزال عنه ذلك وأبرأه.
وإذا طليت جبهة الديك وعرفه بدهن لم يصح. وإذا نتف الريش الطويل الذي في ذنبه، عند ركوبه على الدجاجة وهو يسفدها، وجعل في مجرى الحمام، فمن اغتسل من ذلك الماء أنعظ. وفي طرف جناحيه عظمتان، إذا علقت اليمنى على من به الحمى الدائمة أبرأته، وإذا علقت اليسرى على من به حمى الربع أبرأته. وهاتان العظمتان يمنعان الإعياء والنعاس إذا علقتا على بهيمة.
وخصيته إذا شويت وأكلتها المرأة التي لا تحبل، في حيضها قبل الطهر بثلاثة أيام، وجامعها زوجها حبلت. وإذا أخذ هذا العضو من يريد الجماع الكثير، وصره في قرطاس وعلقه على عضده الأيسر، أنعظ انعاظا شديدا عجيبا، فإذا حله سكن ذلك عنه. وعرف الديك الأبيض أو الأحمر إذا بخر به المجنون نفعه نفعا عجيبا. ومرارة تخلط بمرق ضأن وتؤكل على الريق تذهب النسيان، وتذكر ما نسي. ودمه يخلط بعسل ويعرض على النار، ويطلى به الذكر يقوي الذكر والباه. وخصية الديك تعلق على الديك المهارش لا يغلبه ديك.
التعبير:
الديك تدل رؤيته على الخطيب والمؤذن، والقارىء المطرب، وربما دلت رؤيته على الرجل الذي يأمر بالمعروف ولا يأتيه، لأنه يذكر بالصلاة ولا يصلي، وربما دلت رؤيته على الرجل الكثير النكاح، أو السمار الكثير العياط، أو الزمار الذي يأوي إلى النساء، أو الحارس، وربما دلت رؤيته على الرجل الكريم المؤثر على نفسه بما يحتاج إليه، أو القانع بما يجد أو الناقص الحظ، والعائل أو الكثير الوقوع في الشدائد، وربما تدل رؤيته على رب الدار كما أن الدجاجة ربة البيت، ويعبر أيضا بمملوك، لأنه ضمن المدرج لنوح عليه الصلاة والسلام لما أنفذه، يكشف خبر الماء إن كان نقص فغدر ولم يأت، فبقي الديك رهينا كالمملوك من ذلك الزمان وامتنع من الطيران.
وقيل: الديك في المنام رجل محارب من قبل المماليك. وقيل: الديك إذا كان أبيض أفرق فأنه مؤذن، فمن ذبحه في المنام، فإنه لا يجيب المؤذن، وقيل: رؤية الديك تدل على مصاحبة العلماء وأولي الحكمة. روي أن رجلا أتى ابن سيرين، فقال له: رأيت كأن ديكا دخل منزلي فلقط حبات شعير كانت فيه، فقال له ابن سيرين: إن سرق لك شيء فأعلمني. فما كان إلا أيام إذ أتى الرجل
إليه فقال: سرق لي بساط من سطح منزلي، فقال ابن سيرين: المؤذن أخذه، فكان كذلك. وقال آخر لابن سيرين: رأيت كأني أخنق ديكا، فقال ابن سيرين؟ هذا رجل ينكح يده. وقال له آخر:(2/484)
وقيل: الديك في المنام رجل محارب من قبل المماليك. وقيل: الديك إذا كان أبيض أفرق فأنه مؤذن، فمن ذبحه في المنام، فإنه لا يجيب المؤذن، وقيل: رؤية الديك تدل على مصاحبة العلماء وأولي الحكمة. روي أن رجلا أتى ابن سيرين، فقال له: رأيت كأن ديكا دخل منزلي فلقط حبات شعير كانت فيه، فقال له ابن سيرين: إن سرق لك شيء فأعلمني. فما كان إلا أيام إذ أتى الرجل
إليه فقال: سرق لي بساط من سطح منزلي، فقال ابن سيرين: المؤذن أخذه، فكان كذلك. وقال آخر لابن سيرين: رأيت كأني أخنق ديكا، فقال ابن سيرين؟ هذا رجل ينكح يده. وقال له آخر:
رأيت كأن ديكا يصيح بباب بيت إنسان وينشد:
قد كان من رب هذا البيت ما كانا ... هيوا لصاحبه يا قوم أكفانا
فقال يموت صاحب الدار بعد أربعة وثلاثين يوما، فكان كذلك. وهي عدد حروف الديك بالجمل، وجاءه آخر فقال: رأيت كأن ديكا يقول: الله الله الله فقال له: بقي من أجلك ثلاثة أيام فكان كذلك.
ديك الجن:
دويبة توجد في البساتين، إذا ألقيت في خمر عتيق حتى تموت، وتترك في محارة، وتسد رأسها وتدفن في وسط الدار، فإنه لا يرى فيها شيء من الأرضة أصلا قاله القزويني. وديك الجن لقب لأبي محمد بن عبد السلام الحمصي الشاعر المشهور من شعراء الدولة العباسية، كان يتشيع تشيعا حسنا وله مراث في الحسين رضي الله عنه، وكان ماجنا خليعا عاكفا على القصف واللهو متلافا لما ورثه. مولده سنة إحدى وستين ومائة وعاش بضعا وسبعين سنة، وتوفي في أيام المتوكل سنة خمس أو ست وثلاثين ومائتين. ولما اجتاز أبو نواس بحمص، قاصدا مصر لامتداح الخصيب، جاءه إلى بيته فاختفى منه، فقال لامته: قولي له: اخرج فقد فتنت أهل العراق بقولك (1):
موردة من كف ظبي كأنما ... تناولها من خده فأدارها
فلما سمع ذلك ديك الجن خرج إليه واجتمع به وأضافه. وفي تاريخ (2) ابن خلكان أن دعبلا الخزاعي (3)، لما اجتاز يحمص سمع ديك الجن بوصوله فاختفى منه، خوفا أن يظهر لدعبل، لأنه كان قاصرا بالنسبة إليه، فقصده في داره، فطرق الباب واستأذن عليه، فقالت الجارية: ليس هو هنا، فعرف قصده، فقال لها: قولي له: اخرج فأنت أشعر الإنس والجن بقولك:
فقام تكاد الكأس تحرق كفه ... من الشمس أو من وجنتيه استعارها ... موردة من كف ظبي كأنما ... تناولها من خده فأدارها
فلما بلغ ذلك ديك الجن خرج إليه وأضافه.
الديلم:
ذكر الدراج وحكمه وخواصه وأمثاله وتعبيره كالدراج.
ابن دأية:
الغراب الأبقع سمي بذلك لأنه إذا رأى دبرة في ظهر بعير، أو قرحة في عنقه نزل عليه ونقرها إلى الديات.
فائدة:
الدّيات بتشديد الدال وبالياء المثناة تحت والتاء المثناة فوق في آخره هي عظام الرقبة،
__________
(1) وفيات الأعيان: 3/ 185.
(2) وفيات الأعيان: 3/ 185.
(3) دعبل بن علي بن رزين الخزاعي، أبو علي، شاعر هجّاء، بغدادي. وفاته سنة 246هـ.(2/485)
وفقار الظهر. قال ابن الأعرابي في نوادره: فقار البعير ثمان عشرة فقرة، وأكثرها إحدى وعشرون فقرة، وفقار الإنسان سبع عشرة فقرة. وقال جالينوس: خرز الظهر من لدن منبت النخاع من الدماغ، إلى عظم العجز أربع وعشرون خرزة، سبع منها في العنق، وسبع عشرة في الظهر، ثنتا عشرة في الصلب، وخمس في البطن، وهو العجز. قال: والاضلاع أربع وعشرون: اثنتا عشرة في كل جانب، وجملة العظام التي في جسم الإنسان مائتان وثمانية وأربعون عظما، حاشا العظم الذي في القلب والعظام التي حشي بها خلل المفاصل، وتسمى السمسمية، وإنما سميت بالسمسمية لصغرها قال: وجميع الثقب التي في بدن الإنسان اثنتا عشرة: العينان والأذنان، والمنخران، والفم، والثديان، والفرجان، والسرة، حاشا الثقب الصغار التي تسمي المسام، وهي التي يخرج منها العرق فإنها لا تكاد تنحصر.
روي: أن عتبة بن أبي سفيان، ولى رجلا من أهله على الطائف، فظلم رجلا من الأزد، فأتى الأزدي عتبة، فمثل بين يديه، فقال: أصلح الله الأمير إنك قد أمرت من كان مظلوما أن يأتيك، فقد أتاك مظلوم غريب الديار، ثم ذكر ظلامته بضجة وجفاء فقال له عتبة: أني أراك أعرابيا جافيا، والله ما أحسبك تدري كم فرض الله عليك من ركعة بين يوم وليلة! فقال الأزدي:
أرأيتك إن أنبأتك بها أتجعل لي عليك مسألة؟ قال عتبة: نعم. قال (1):
إن الصلاة أربع وأربع ... ثم ثلاث بعدهن أربع
ثم صلاة الفجر لا تضيّع.
فقال عتبة: صدقت ما مسألتك؟ قال: كم فقار ظهرك؟ قال عتبة: لا أدري. فقال:
أفتحكم بين الناس وأنت تجهل هذا من نفسك؟ فقال عتبة: أخرجوه عني، وردوا عليه غنيمته.
والإبل تعرف من الغراب ذلك فهي تخافه وتحذره وهو الذي تسميه العرب الأعور وتتشاءم به.
وسيأتي الكلام عليه، في باب الغين المعجمة إن شاء الله تعالى.
الدئل:
بضم الدال وكسر الهمزة دابة شبيهة بابن عرس، وكان من حقه أن يكتب في أول الباب، وإنما أخرناه لأنه يكتب في الرسم بالياء قال كعب (2) بن مالك الأنصاري رضي الله عنه:
جاؤوا بجيش لوقيس معرسه ... ما كان إلا كمعرس الدئل
أراد موضع نزولهم ليلا كبيت ابن عرس. قال أحمد بن يحيى: ما نعلم إسما جاء على فعل غير هذا. قال الأخفش: وإليه ينسب أبو الأسود الدئلي، قاضي البصرة، إلا أنهم فتحوا الهمزة، على مذهبهم في النسبة، استثقالا لتوالي الكسرتين مع ياء النسب، كما نسبوا إلى نمرة نمري وإلى ملك ملكي. وإسم أبي الأسود ظالم بن عمرو بن سليمان بن عمرو وفي إسمه ونسبه اختلاف كثير، وكان من سادات التابعين وأعيانهم. يروي عن علي وأبي موسى وأبي ذر وعمران بن حصين
__________
(1) العقد الفريد: 3/ 458ولم ينسبه إلى أحد.
(2) كعب بن مالك بن عمرو بن القين الأنصاري، صحابي شاعر، أشتهر في الجاهلية، وكان من شعراء النبي صلى الله عليه وسلم في الإسلام. مات سنة 50هـ.(2/486)
رضي الله تعالى عنهم أجمعين. وصحب عليا رضي الله عنه، وشهد معه وقعة صفين، وهو بصري، وكان من أكمل الرجال رأيا، وأسدهم عقلا، ويعد من الشعراء والمحدثين والبخلاء والفرسان والبخر والعرج والمفاليج والنحويين. وهو أول من وضع النحو، فقيل: إن عليا رضي الله تعالى عنه، وضع له: الكلام كله ثلاثة أضرب: إسم وفعل وحرف، ثم دفعه إليه، وقال له: تمم على هذا وسمي النحو نحوا، لأن أبا الأسود قال: استأذنت على علي بن أبي طالب، رضي الله تعالى عنه، في أن أضع نحو ما وضع، فسمي لذلك نحوا. وهو القائل لبنيه: لا تجاودوا الله عز وجل، فإنه أجود وأمجد، ولو شاء أن يوسع على الناس كلهم لفعل، فلا تجهدوا أنفسكم في التوسعة على الناس فتهلكوا هزالا. وهو صاحب نوادر، فمنها: أنه سمع رجلا يقول: من يعشي الجائع؟ فدعاه وعشاه، فلما ذهب السائل ليخرج، قال له: هيهات إنما أطعمتك على أن لا تؤذي المسلمين الليلة. ثم وضع رجله في الأدهم حتى أصبح. والأدهم القيد. ومنها أنه قال له رجل: إنك ظرف علم، ووعاء حلم، غير أنك بخيل. فقال: لا خير في ظرف لا يمسك ما فيه.
ومنها أنه اشترى حصانا بتسعة دنانير، واجتاز به على رجل أعور، فقال: بكم اشتريته؟ فقال:
قومه. فقال: قيمته أربعة دنانير ونصف. فقال: معذور أنت لأنك نظرته بعين واحدة فقومته بنصف قيمته، ولو نظرته بالعين الأخرى، لو كانت صحيحة، لقومته ببقية القيمة. ومضى إلى داره ونام، فلما استيقظ سمعه يقضم، فقال: ما هذا؟ قالوا: الفرس يأكل شعيره، فقال: لا أترك في مالي من أنام وهو يمحقه ويتلفه، ولا أترك إلا ما يزيده وينميه فباعه واشترى بثمنه أرضا للزراعة.
ومنها أن جيرانه بالبصرة، كانوا يخالفونه في الاعتقاد ويؤذونه ويرجمونه في الليل بالحجارة، ويقولون له: إنما يرجمك الله تعالى فيقول لهم: كذبتم لو رجمني الله لأصابني وأنتم ترجموني فلا يصيبني. ثم باع الدار. فقيل له: بعت دارك؟ فقال: بل بعت جاري فأرسلها مثلا. وهذا عكس ما جرى لأبي الجهم العدوي، فإنه باع داره بمائة ألف درهم، ثم قال: بكم تشترون جوار سعيد (1) بن العاص؟ فقالوا: وهل يشترى جوار قط؟ قال: ردوا علي داري، وخذوا دراهمكم، والله لا أدع جوار رجل إن فقدت سأل عني، وإن رآني رحّب بي، وإن غبت حفظني، وإن شهدت قربني، وإن سألته أعطاني، وإن لم أسأله ابتدأني، وإن نابتني جائحة فرج عني. فبلغ ذلك سعيدا فبعث إليه بمائة ألف درهم. ومنها أنه دخل على معاوية رضي الله تعالى عنه يوما فبينما هو يخاطبه إذا ضرط أبو الأسود، فضحك معاوية فقال له: يا أمير المؤمنين لا تخبر بها أحدا، فلما خرج من عنده، دخل عمرو بن العاص، فأخبره معاوية بما كان من أبي الأسود، فلما رآه عمرو قال له:
يا أبا الأسود ضرطت بين يدي أمير المؤمنين؟ فلما دخل على معاوية قال له: ألم أسألك أن لا تخبر بها أحدا؟ فقال له معاوية: ما علم بها إلا عمرو، فقال: اياه كنت أحذر، ولكن فأنت لا تصلح للخلافة! قال: كيف؟ قال: إذا لم تكن لك أمانة على ضرطة فكيف تؤمن على أموال المسلمين ودمائهم؟ فضحك معاوية ووصله. ومنها أنه قيل له: هل شهد معاوية بدرا؟ قال: نعم. لكن من ذلك الجانب. وكان أبو الأسود يعلم أولاد زياد ابن أبيه، والي العراقين فخاصمته امرأته إلى زياد في ولدها، وقالت: إنه يريد أن يغلبني على ولدي، وقد كان بطني له وعاء، وثديي له سقاء،
__________
(1) سعيد بن العاص بن سعيد بن العاص، الأموي القرشي، صحابي توفي سنة 59هـ.(2/487)
وحجري له وطاء. فقال: أبو الأسود: بهذا تريدين أن تغلبيني على ولدي وقد حملته قبل أن تحمليه، ووضعته قبل أن تضعيه. فقالت: ولا سواء إنك حملته خفا وحملته ثقلا، ووضعته شهوة ووضعته كرها. فقال له زياد: إني أرى امرأة عاقلة فادفع ابنها إليها فأخلق أن تحسن أدبه. توفي أبو الأسود بالبصرة في طاعون الجارف سنة تسع وستين، وعمره خمس وثمانون سنة، وهذا الطاعون كان بالبصرة مات فيه سراة الناس. قيل إنه مات فيه لانس بن مالك رضي الله تعالى عنه ثلاثون ولدا والله تعالى أعلم.
باب الذال المعجمة
ذؤالة
: إسم للذئب كأسامة للأسد، وهو معرفة سمي بذلك لأنه يذأل في مشيته من الذألان، وهو المشي الخفيف، وفي الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بجارية سوداء ترقص صبيا لها وتقول:
ذؤال يا ابن القرم يا ذؤال.
فقال صلى الله عليه وسلم: «لا تقولي ذؤالة فإنه شر السباع». وذؤال ترخيم ذؤالة والقرم السيد.
الذباب:
معروف واحدته ذبابة ولا تقل ذبانة. جمعه في القلة أذبة وفي الكثرة ذبان بكسر الذال وتشديد الباء الموحدة وبالنون في آخره كغراب وأغربة وغربان وقراد وأقردة وقردان قال النابغة:
يا واهب الناس بعيرا صلبه ... ضرّابة بالمشفر الأذبّه
ولا يقال ذبابات إلا في الديون قال الراجز:
أو يقضى الله ذبابات الديون.
وأرض مذبة بفتح الميم والذال أي ذات ذباب. وقال الفراء: أرض مذبوبة، كما يقال أرض موحوشة، أي ذات وحوش. وسمي ذبابا لكثرة حركته واضطرابه، وقيل لأنه كلم ذب آب، وكنيته أبو حفص وأبو حكيم وأبو الحدرس والذباب أجهل الخلق لأنه يلقي نفسه في الهلكة. قال الجوهري: يقال ليس شيء من الطيور يلغ إلا الذباب، وسيأتي إن شاء الله تعالى في باب العين المهملة في العنكبوت قول افلاطون: إن الذباب أحرص الأشياء ولم يخلق للذباب أجفان لصغر أحداقها، ومن شأن الأجفان أن تصقل مرآة الحدقة من الغبار، فجعل الله لها عوضا من الأجفان يدين تصقل بهما مرآة حدقتها، فلهذا ترى الذباب أبدا يمسح بيديه عينيه، وهو أصناف كثيرة متولدة من العفونة. قال (1) الجاحظ: الذباب عند العرب يقع على الزنابير والنحل والبعوض بأنواعه، كالبق والبراغيث والقمل والصؤاب والناموس والفراش والنمل. والذباب المعروف عند الاطلاق العرفي وهو أصناف النعر والقمع والخازباز والشعراء وذباب الكلاب وذباب الرياض وذباب الكلا والذباب الذي يخالط الناس يخلق من الفساد، وقد يخلق من الأجساد، ويقال: إن
__________
(1) الحيوان للجاحظ: 3/ 316، 314، 351، 342، 328، 309، 310، 502، 317، 390.(2/488)
الباقلا إذا عتق في موضع استحال كله ذبابا، وطار من الكوى التي في ذلك الموضع ولا يبقى فيه غير القشر انتهى. روى الحاكم عن النعمان بن بشير رضي الله تعالى عنه أنه قال، وهو على المنبر:
سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ألا إنه لم يبق من الدنيا إلا مثل الذباب تمور في جوها، فالله الله في اخوانكم من أهل القبور، فإن أعمالكم تعرض عليهم». ومعنى تمور تذهب وتجيء، والجوّ ما بين السماء والأرض. وفي مسند أبي يعلى الموصلي، من حديث أنس رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: «عمر الذباب أربعون ليلة، والذباب كله في النار، إلا النحل (1). وهو في الكامل في ترجمة عمرو بن شقيق عن مجاهد عن ابن عمر رضي الله عنهما، أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
«الذباب كله في النار إلا النحل. قيل كونه في النار ليس بعذاب له، وإنما ليعذب به أهل النار بوقوعه عليهم» (2). وروى النسائي والحاكم عن أبي المليح عن أبيه أسامة بن عمير بن عامر الأقيش الهذلي البصري قال: كنت رديف رسول الله صلى الله عليه وسلم فعثر بعيرنا فقلت: تعس الشيطان.
فقال صلى الله عليه وسلم: «لا تقل تعس الشيطان فإنه يعظم حتى يصير مثل البيت، ويقول: بقوتي، ولكن قل بسم الله فإنه يصغر حتى يصير مثل الذبابة» (3). ورواه أبو داود عن أبي المليح عن رجل قال:
كنت رديف رسول الله صلى الله عليه وسلم فعثرت دابته فقلت: الخ ورواه ابن السني كما رواه النسائي والحاكم، وصرح فيه بأن أبا المليح رواه عن أبيه أسامة بن مالك. وكلتا الروايتين صحيحة فإن الرجل المجهول في رواية أبي داود صحابي والصحابة كلهم عدول، لا تضر الجهالة بأعيانهم. وقال الإمام العلامة الذهبي: الرجل المجهول المبهم أبو عزة. ورواه خالد الحذاء عن أبي تميمة الهجيمي عن أبيه خالد قال: كنت رديفا للنبي صلى الله عليه وسلم، فعثرت الناقة، فقال إلى آخره. كذا هو في أسد الغاية، في ذكر المنسوبين إلى القبائل. وأما قوله: تعس، فقيل: معناه هلك، وقيل: سقط وقيل: عثر، وقيل لزمه الشر. وتعس بفتح العين وكسرها والفتح أشهر، ولم يذكر الجوهري غير الفتح. وروى الطبراني وابن أبي الدنيا، من حديث أبي أمامة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «وكل بالمؤمن مائة وستون ملكا يذبون عنه ما لم يقدر عليه، فمن ذلك سبعة أملاك يذبون عنه كما يذب عن قصعة العسل الذباب، في اليوم الصائف ولو بدوا لكم لرأيتموهم على كل سهل وجبل كل باسط يديه فاغرفاه، ولو وكل العبد إلى نفسه طرفة عين لاختطفته الشياطين». والعرب تجعل الذباب والفراش والنحل والدبر ونحوها كلها واحدا كما تقدم. وجالينوس يقول: إنه ألوان فللإبل ذباب، وللبقر ذباب.
وأصله دود صغار يخرج من أبدانهن فيصير ذبابا وزنابير. وذباب الناس يتولد من الزبل ويكثر الذباب إذا هاجت ريح الجنوب ويخلق في تلك الساعة، وإذا هبت ريح الشمال خف وتلاشى.
وهو من ذوات الخراطيم كالبعوض. انتهى. ومن عجيب أمره أنه يلقي رجيعه على الأبيض أسود، وعلى الأسود أبيض، ولا يقع على شجرة اليقطين. ولذلك أنبتها الله على نبيه يونس عليه الصلاة والسلام، لأنه حين اخرج من بطن الحوت لو وقعت عليه ذبابة لآلمته فمنع الله عنه الذباب بذلك، فلم يزل كذلك حتى تصلب جسمه. ولا يظهر كثيرا إلا في الأماكن العفنة، ومبدأ خلقه
__________
(1) الكامل لابن عدي: 5/ 1701.
(2) رواه أبو داود في الأدب: 77. وابن حنبل: 5/ 59.
(3) في الكامل لابن عدي «وكل به سبعون ملكا» من حديث أبي هريرة: 2/ 690.(2/489)
منها ثم من السفاد، وربما بقي الذكر على الأنثى عامة اليوم. وهو من الحيوانات الشمسية، لأنه يخفي شتاء ويظهر صيفا، وبقية أنواعه كالناموس والفراش والنعر والقمع وغيرها، ستذكر في أبوابها إن شاء الله تعالى وما أحسن قول أبي العلاء المعري، ووفاته سنة تسع وأربعين وأربعمائة:
يا طالب الرزق الهنيّ بقوّة ... هيهات أنت بباطل مشغوف ... رعت الأسود بقوة جيف الفلا ... ورعى الذباب الشهد وهو ضعيف
ولمحمد الأندلسي في المعنى:
مثل الرزق الذي تطلبه ... مثل الظل الذي يمشي معك ... أنت لا تدركه متبعا ... وإذا وليت عنه تبعك
وفي المعنى (1) أيضا لأبي الخير الكاتب الواسطي:
جرى قلم القضاء بما يكون ... فسيان التحرك والسكون ... جنون منك أن تسعى لرزق ... ويرزق في غشاوته الجنين
وقد أجاد الأمير سيف الدين علي بن فليح الظاهري في التحذير من احتقار العدوّ بقوله:
لا تحقرن عدوّا لأن جانبه ... وإن تراه ضعيف البطش والجلد ... فللذبابة في الجرح المديد يد ... تنال ما قصّرت عنه يد الأسد
وفي تاريخ (2) ابن خلكان، في ترجمة الإمام يوسف بن زهرة الهمذاني الزاهد، صاحب المقامات والكرامات والأحوال الظاهرات، أنه جلس يوما للوعظ فاجتمع إليه العالم، فقام من بينهم فقيه يعرف بابن السقاء وآذاه، وسأله عن مسألة، فقال له الإمام يوسف: اجلس فإني أجد من كلامك رائحة الكفر، ولعلك أن تموت على غير دين الإسلام! فقدم رسول ملك الروم إلى الخليفة فخرج ابن السقاء مع الرسول إلى القسطنطينية فتنصر ومات نصرانيا. وكان ابن السقاء قارئا للقرآن، محمودا في تلاوته. وحكى من رآه بالقسطنطينية قال: رأيته مريضا ملقى على دكة، وبيده مروحة يدفع بها الذباب عن وجهه، فقلت له: هل القرآن باق على حفظك؟ فقال: ما أذكر منه إلا آية واحدة وهي {رُبَمََا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كََانُوا مُسْلِمِينَ} (3) والباقي أنسته. اهـ نعوذ بالله من سخطه وخذلانه، ونسأله حسن الخاتمة. فانظر يا أخي كيف هلك هذا الرجل، وخذل بالانتقاد، وترك الاعتقاد. نسأل الله السلامة، فعليك يا أخي بالاعتقاد، وترك الانتقاد على المشايخ العارفين، والعلماء العاملين، والمؤمنين الصالحين، فإن حرابهم مسمومة. فقل من تعرض لهم وسلم، فسلم تسلم ولا تنتقد تندم، واقتد بإمام العارفين، ورأس الصديقين، وعلامة العلماء العاملين في وقته الشيخ محي الدين عبد القادر الكيلاني رحمه الله تعالى، لما عزم على زيارة قطب
__________
(1) وفيات الأعيان: 6/ 172.
(2) وفيات الأعيان: 7/ 78. وذكر ابن خلكان في ترجمته أن إسمه يوسف بن أيوب بن وهرة. ووفاته سنة 535هـ.
(3) سورة الحجر: الآية 2.(2/490)
الغوث بمكة، وقال رفيقاه ما قالا فقال: أما أنا فذاهب على قدم الزيارة والتبرك، لا على قدم الإنكار والامتحان، فآل أمره إلى أن قال: قدمي هذا على رقبة كل ولي، وآل أمر أحد رفيقيه إلى الكفر، وترك الإيمان بالانتقاد، وترك الاعتقاد. كما اتفق في هذه الحكاية. وآل أمره الآخر إلى اشتغاله بالدنيا، وتركه خدمة المولى لقلة التوفيق. فنسأل الله التوفيق والهداية والأمانة على الإيمان به وبرسوله، والاعتقاد الحسن في أوليائه وأصفيائه، بمحمد وآله. حدث يحيى بن معاذ أن أبا جعفر المنصور كان جالسا، فألح على وجهه ذباب حتى أضجره، فقال: انظروا من بالباب، فقالوا: مقاتل بن سليمان فقال: علي به، فلما دخل عليه، قال له: هل تعلم لماذا خلق الله الذباب؟ قال: نعم. ليذل به الجبابرة، فسكت المنصور. ومقاتل بن سليمان مشهور بتفسير كتاب الله العزيز، وأخذ الحديث عن جماعة، قال الإمام الشافعي رضي الله عنه: الناس كلهم عيال على ثلاثة: على مقاتل بن سليمان في التفسير، وعلى زهير بن أبي سلمى في الشعر، وعلى أبي حنيفة في الفقه. قعد مقاتل بن سليمان يوما فقال: سلوني عما دون العرش. فقال له رجل: آدم عليه الصلاة والسلام لما حج أول حجة حجها من حلق رأسه، فقال ليس هذا من علمكم ولكني ابتليت لما اعجبتني نفسي. وقيل إنه قيل له الذرة أو النملة أمعاؤها في مقدمها أو مؤخرها؟ فلم يدر ما يقول فكانت عقوبة عوقب بها وأنشد أبو عمرو بن العلاء في هذا المعنى (1):
من تحلّى بغير ما هو فيه ... فضحته شواهد الامتحان
والعلماء مختلفون فيه، فمنهم من وثقه ومنهم من كذبه، وترك حديثه. قيل: إنه كان يتكلم في الصفات بما لا تحل الرواية عنه. وقيل: إنه كان يأخذ عن اليهود والنصارى علم القرآن الذي يوافق كتبهم، وكان مشبها. قال ابن خلكان وغيره: وهذا لا أعتقد صحته. وتوفي مقاتل بن سليمان في سنة خمس وخمسين ومائة وفي مناقب الإمام الشافعي أن المأمون سأله فقال: لاي شيء خلق الله الذباب؟ فقال: مذلة للملوك. فضحك المأمون وقال: رأيته وقد وقع على جسدي فقال: نعم. ولقد سألتني عنه وما عندي جواب. فلما رأيته قد سقط منك بموضع لا يناله منك أحد فتح الله لي فيه بالجواب. فقال لله درك. وفي شفاء الصدور وتاريخ ابن النجار مسندا أن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يقع على جسده ولا ثيابه ذباب أصلا.
الحكم:
كل أنواعه يحرم أكلها، وفيه وجه أنه يحل حكاه الرافعي. وقال الماوردي: ومن الفقهاء من أباح الذباب المتولد من مأكول كالفول ونحوه، ولعل قائل هذا القول هو الذي يقول بإباحة المتولد من الفواكه.
فرع:
قال في الأحياء في أول كتاب الحلال والحرام: لو وقعت ذبابة أو نملة في قدر طبيخ وتهرت أجزاؤها لم يحرم أكل ذلك الطبيخ، لأن تحريم أكل الذباب والنمل ونحوهما إنما كان للاستقذار ولا يعد هذا مستقذرا. قال: ولو وقع فيه جزء من لحم آدمي ميت، لم يحل أكل ذلك الطبيخ، حتى لو كان لحم الآدمي وزن دانق، حرم الطبيخ لا لنجاسته فإن الآدمي الميت
__________
(1) العقد الفريد: 2/ 218. وأبو عمرو بن العلاء بن عمار بن العريان، المازني البصري، من القراء السبعة، عالم بالعربية والشعر والنحو مات بالكوفة سنة 156هـ.(2/491)
طاهر على الصحيح، خلافا لأبي حنيفة، ولكن لأن أكل لحم الآدمي حرام لحرمته لا لاستقذاره، بخلاف الذباب. هذا كلام الغزالي رحمه الله تعالى. قال في شرح المهذب المختار أنه لا يحرم أكل الطبيخ في مسألة لحم الآدمي لأنه صار مستهلكا، فهو كالبول وغيره إذا وقع في قلتين من الماء فإنه يجوز استعمال جميعه لأن البول صار باستهلاكه كالعدم. وروى البخاري وأبو داود والنسائي وابن ماجه وابن خزيمة وابن حبان أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (1): إذا وقع الذباب في إناء أحدكم فليمقله، فإن في أحد جناحيه داء وفي الآخر دواء وإنه يتقى بجناحه الذي فيه الداء». وفي رواية النسائي وابن ماجه «أن أحد جناحي الذباب سم والآخر شفاء فإذا وقع في الطعام فامقلوه فإنه يقدم السم ويؤخر الشفاء». قال الخطابي: وقد تكلم على هذا الحديث بعض من لا خلاق له، وقال:
كيف يكون هذا وكيف يجتمع الداء والشفاء في جناحي ذبابة؟ وكيف تعلم ذلك من نفسها حتى تقدم جناح الداء وتؤخر جناح الشفاء، وما أداها إلى ذلك؟ قال: وهذا سؤال جاهل، أو متجاهل فإن الذي يجد نفسه، ونفس سائر الحيوانات، قد جمع فيها بين الحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة، وهي أشياء متضادة إذا تلاقت تفاسدت ثم يرى أن الله قد ألف بينها وقهرها على الإجتماع وجعل منها قوى الحيوان التي منها بقاؤه وصلاحه لجدير أن لا ينكر إجتماع الداء والشفاء في جزأين من حيوان واحد. وإن الذي ألهم النحلة أن تتخذ البيت العجيب الصنعة وتعسل فيه، وألهم الذرة أن تكتسب قوتها وتدخره لأوان حاجتها إليه، هو الذي خلق الذبابة وجعل لها الهداية إلى أن تقدم جناحا وتؤخر جناحا لما أراده من الابتلاء الذي هو مدرجة التعبد والامتحان، الذي هو مضمار التكليف، وله في كل شيء حكمة وعنوان، وما يذكر إلا أولو الألباب. انتهى. وقد تأملت الذباب فوجدته يتقي بجناحه الأيسر وهو مناسب للداء، كما أن الأيمن مناسب للدواء. وقد استفيد من الحديث أنه إذا وقع في المائع لا ينجسه لأنه ليس له نفس سائلة، هذا هو المشهور وفي قول ينجسه، كسائر الميتات النجسة، وفي ثالث مخرج أن ما يعم وقوعه كالذباب والبعوض لا ينجس، وما لا يعم كالخنافس والعقارب ينجس. وهو متجه لا محيد عنه ومحمل الخلاف في ميتة أجنبية أما الناشىء منه كدود الفواكه والجبن والخل، فلا ينجس ما مات فيه بلا خلاف. كذا قاله الشيخان وابن الرفعة وحكى الدارمي في المسألة ثلاثة أوجه، ثالثها الفرق بين الكثير والقليل ومحل ذلك ما لم يتغير به لكثرته فإن كثر وتغير به فالأصح أنه ينجسه، ومحله أيضا إذا وقع فيه بنفسه فإذا طرح فيه ضر.
فرع:
لو وقع الزنبور أو الفراش أو النحل وأشباه ذلك في الطعام، هل يؤمر بغمسه لعموم قوله صلى الله عليه وسلم «إذا وقع الذباب في إناء أحدكم». الحديث (2)؟ وهذه الأنواع كلها يقع عليها إسم الذباب في اللغة كما تقدم نقله عن الجاحظ وغيره. وقد قال علي رضي الله تعالى عنه في العسل إنه مذقة ذبابة. وروي الذباب كله في النار إلا النحل كما سبق. فسمي الكل ذبابا وإذا كان كذلك فالظاهر وجوب حمل الأمر بالغمس على الجميع إلا النحل فإن الغمس قد يؤدي إلى قتله وهو حرام.
__________
(1) رواه البخاري: بدء الخلق: 17. وأبو داود أطعمة: 48. والنسائي فرع: 11. وابن ماجه طب: 31.
والدارمي أطعمة: 12. وابن حنبل: 2/ 229.
(2) رواه البخاري: بدء الخلق: 17. وأبو داود أطعمة: 48. والنسائي فرع: 11. وابن ماجه طب: 31.
والدارمي أطعمة: 12. وابن حنبل: 2/ 229.(2/492)
الأمثال:
قال (1) الله تعالى: {يََا أَيُّهَا النََّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللََّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبََاباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ} الآية. معنى ضرب أثبت وألزم، نحو ضربت عليه الذلة، وضربت عليهم الجزية، ويحتمل أن يكون من الضريب الذي هو المثل، وهذا المثل من أبلغ ما أنزل الله تعالى في تجهيل قريش واستركاك عقولهم، والشهادة على أن الشيطان خدعهم، حيث وصفوا بالآلهية التي تقتضي الاقتدار على المقدورات كلها، والاحاطة بالمعلومات عن آخرها، صورا وتماثيل وأدل من ذلك على عجزهم، وانتفاء قدرتهم، أن هذا الخلق الأذل الأقل، لو اختطف منهم شيئا، فاجتمعوا على أن يستخلصوه منه، لم يقدروا. وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن الأصنام كانت ثلاثمائة وستين صنما حول الكعبة، وكانوا يضمخونها بأنواع الطيب ويطلون رؤوسها بالعسل، وكان الذباب يذهب بذلك، وكانوا يتألمون من هذه الجهة. فجعلت مثلا.
وقالوا: «أجرأ من ذبابة وأهون من ذبابة (2)». «واطيش وأخطأ من الذباب» (3) لأنه يلقي نفسه في الشيء الحار، والشيء الذي يلتصق به ولا يمكنه التخلص وقالوا (4): «أوغل من ذباب: قال الشاعر:
أوغل في التطفيل من ذباب ... على طعام وعلى شراب ... لو أبصر الرغفان في السحاب ... لطار في الجو بلا حجاب
قال أبو عبيد كان رجل من أهل الكوفة يقال له طفيل بن دلال من بني عبد الله بن غطفان، وكان يأتي الولائم من غير أن يدعى إليها، وكان يقال له طفيل الأعراس، وكان أول رجل لابس هذا العمل في الأمصار فصار مثلا ينسب إليه كل من يقتدي به. وقالوا (5): «أزهى من ذبابة». وقالوا: «أصابه ذباب لادغ» يضرب لمن نزل به شر عظيم يرق له من سمعه، وقالوا ما يساوي متك ذباب يضرب للشيء الحقير، والمتك العرق الذي في باطن الذكر، وهو كالخيط في باطنه على خلقة العجان. وفي كتاب النصائح لابن ظفر قال: رأيت في أخبار بعض الملوك أن وزيره أشار عليه بجمع الأموال وادخارها وقال: إن الرجال، وإن تفرقوا عنك اليوم، متى احتجتهم عرضت عليهم الأموال فتهافتوا عليك، فقال: هل لهذا من شاهد؟ قال: نعم. هل بحضرتنا الساعة ذباب؟ قال: لا. فأمر الوزير بجفنة فيها عسل، فأحضرت فتساقط عليهم الذباب، فاستشار الملك بعض خواص أصحابه، فنهاه عن ذلك، وقال: لا تغير قلوب الرجال، فليس كل وقت أردتهم يحضرون، فقال: فهل لذلك من دليل؟ قال: نعم. إذا أمسينا أخبرتك فلما أظلم الليل. قال للملك: أحضر جفنة العسل، فأحضرت فلم تحضر ذبابة، فرجع الملك عن رأيه الأول.
الخواص:
قال الجاحظ: إذا ضرب اللبن بالكندس ونضح به البيت لم يدخله ذباب، وإذا أخذت ذبابة وفصلت رأسها ودلكت بها قرصة الزنبور سكنت، وإذا أحرق الذباب وسحق وخلط بعسل وطلي به داء الثعلب فإنه ينبت فيه الشعر، وإذا ماتت الذبابة، فنثر عليها خبث الحديد
__________
(1) سورة الحج: الآية 73.
(2) جمهرة الأمثال: 1/ 264، 2/ 289.
(3) جمهرة الأمثال: 2/ 21، 1/ 357.
(4) مجمع الأمثال: 2/ 380.
(5) المستقصى: 1/ 151.(2/493)
عاشت من وقتها، وإذا بخر البيت بورق القرع أو كندس أو سليخة ذهب منه الذباب، وإذا طبخ ورق القرع ورش به البيت أو الحيطان لم يقع فيه ذباب انتهى.
صفة طلسم لمنع الذباب:
يؤخذ كندس جديد وزرنيخ أصفر أجزاء متساوية، يسحقان ويعجنان بماء بصل الفار، ويدهن ويعمل منه تمثال ويوضع على المائدة، فلا يقربها ذباب ما دام عليها وإذا وضع على باب البيت باقة من الحشيشة التي يقال لها سادريون، فلا يدخل البيت ذباب ما دامت الباقة معلقة على الباب، وإذا أخذت الذباب الكبير فقطعت رؤوسهن، وحككت بجسدهن موضع الشعرة التي تنبت في الجفن، حكا شديدا فإنه يذهبها أصلا، وهو عجيب مجرب، وإذا أخذت ذبابة وجعلت في خرقة كتان وربطت بخيط ووسع الربط عليها وعلقت على من يشتكي عينه سكن ألمه، وتعلق في عنقه أو عضده. وإن شدخ الذباب وضمد به العين الوارمة أبرأها. وقال محمد بن زكريا القزويني: رأيت في كتب الطبيعيات الرومية إذا علقت ذبابة حية على من يشتكي ضرسه برىء. ومن عضه كلب فليستر وجهه عن الذباب، فإن ذلك مما يؤذيه والله أعلم.
التعبير:
الذباب في المنام خصم ألد وجيش ضعيف، وربما دل اجتماعه على الرزق الطيب، وربما دل على الداء والدواء للحديث المتقدم. وربما دلت رؤيته على الأعمال السيئة والوقوع فيما يوجب التقريع لقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللََّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبََاباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ} إلى قوله: {ضَعُفَ الطََّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ} (1).
الذر:
النمل الأحمر الصغير واحدته ذرة. قال تعالى: {إِنَّ اللََّهَ لََا يَظْلِمُ مِثْقََالَ ذَرَّةٍ} (2) أي لا يبخس ولا ينقص أحدا من ثواب عمله مثقال ذرة، أي وزن ذرة. سئل ثعلب عنها فقال: إن مائة نملة وزن حبة. والذرة واحدة منها وقيل: إن الذرة ليس لها وزن. ويحكى أن رجلا وضع خبزا حتى علاه الذر وستره ثم وزنه فلم يزد شيئا. وقيل: الدر اجزاء الهباء في الكوة، وكل جزء منه ذرة ولا يكون لها وزن. وفي صحيح مسلم وغيره من حديث أنس رضي الله تعالى عنه، في شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم يوم القيامة: «ثم يخرج من النار من قال لا إله إلا الله وكان في قلبه من الخير ما يزن ذرة». صحفها (3) شعبة بن بسطام، وقال: مثقال ذرة بضم الذال وتخفيف الراء وقال العبدري: إنما قال درة بالدال المهملة وتشديد الراء واحدة الدر وهو تصحيف التصحيف. قال ابن بطة من الحنابلة في تفسير الآية: مثقال مفعال من الثقل، والذرة النملة الصغيرة الحمراء، وهي أصغر ما يكون إذا مر عليها حول لأنها تصغر وتحرى كما تفعل الأفعى. تقول العرب أفعى حارية وهي أشدها سما قال امرؤ القيس:
من القاصرات الطّرف لو دبّ محول ... من الذّر فوق الأتب منها الأثّرا (4)
المحول الذي أتى عليه حول والأتب ثوب تلقيه المرأة في عنقها بلا كم ولا جيب وقال حسان:
__________
(1) سورة الحج: الآية 73.
(2) سورة النساء: الآية 40.
(3) رواه البخاري: توريد 2436. ومسلم في الإيمان: 149147. والترمذي في البرّ: 61. ورواه النسائي في الإيمان: 18. وابن حنبل: 1/ 296.
(4) ديوان امرىء القيس: 96.(2/494)
لو يدب الحولي من ولد الذ ... ر عليها لأندبتها الكلوم (1)
أي لو دبت الحولية من الذر عليها لأثرت بها الكلوم. وقال السهيلي وغيره: أهلك الله تعالى جرهم بالذر والرف، حتى كان آخرهم موتا امرأة رؤيت تطوف بالبيت بعدهم بزمان، فتعجبوا من طولها وعظم خلقها، حتى قال لها قائل: أجنية أنت أم إنسية؟ فقالت: بل انسيه من جرهم، ثم اكترت من رجلين من جهينة بعيرا إلى أرض خيبر، فلما أنزلاها استخبراها عن الماء فأخبرتهما، فوليا فأتاها الذر فتعلق بها إلى أن انتهى إلى خياشيمها، ثم نزل إلى حلقها فهلكت.
وعبر عن الذرة يزيد بن هارون بأنها دودة حمراء وهي عبارة فاسدة. وروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال: الذرة رأس النملة. وقال بعض العلماء لأن تفضل حسناتي سيآتي بمثقال ذرة أحب إلي من الدنيا وما فيها قال (2) الله تعالى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقََالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقََالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} انتهى. وهذه الآية كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسميها الجامعة الفاذة، أي المنفردة في معناها. وروى البيهقي في الشعب، من حديث صالح المري عن الحسن عن أنس أن سائلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فاعطاه تمرة فقال السائل: سبحان الله نبي من أنبياء الله يتصدق بتمرة: فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «أو ما عملت أن فيها مثاقيل ذر كثير». «ثم أتاه آخر فسأله فأعطاه تمرة فقال: تمرة من نبي من الأنبياء لا تفارقني هذه التمرة ما بقيت، ولا أزال أرجو بركتها أبدا فأمر له بمعروف.
وفي رواية قال للجارية: إذهبي إلى أم سلمة فمريها فلتعطه الأربعين درهما التي عندها قال أنس:
فما لبث الرجل أن استغنى». وروى الإمام أحمد في مسنده بإسناد رجاله ثقات، عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يقتص للخلق بعضهم من بعض حتى الجماء من القرناء وحتى الذرة من الذرة» (3). وأعطى سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه سائلا تمرتين، فقبض السائل يده فقال له سعد: يا هذا إن الله قد قبل منا مثاقيل الذرة. وفعلت عائشة رضي الله تعالى عنها هذا في حبة عنب. وسمع هذه الآية صعصعة بن عقال التميمي عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال: حسبي لا أبالي أن لا أسمع آية غيرها. وسمعها رجل عند الحسن البصري فقال: انتهت الموعظة. فقال الحسن: فقه الرجل. وروى الحاكم في المستدرك عن أبي أسماء الرحبي، أن هذه السورة نزلت وأبو بكر الصديق رضي الله تعالى عنه، يأكل مع النبي صلى الله عليه وسلم، فترك أبو بكر الأكل وبكى، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «ما يبكيك». فقال: يا رسول الله أو نسأل عن مثاقيل الذر؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
«يا أبا بكر ما رأيت في الدنيا مما تكره فمثاقيل ذر الشر، ويدخر الله لك مثاقيل ذر الخير إلى الآخرة». قال: والذرة نملة صغيرة حمراء لا يرجح بها ميزان. وروى الإمام أحمد في الزهد عن أبي هريرة رضي الله تعالى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يجاء بالجبارين والمتكبرين يوم القيامة رجال على صور الذر يطؤهم الناس، من هوانهم على الله، حتى يقضي بين الناس، قال: ثم يذهب بهم إلى نار الأنيار. قيل: يا رسول الله وما نار الأنيار؟ قال عصارة أهل النار». ورواه (4) صاحب الترغيب والترهيب. وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم (5) قال: «يحشر المتكبرون يوم
__________
(1) ديوان حسان بن ثابت 433.
(2) سورة الزلزلة: الآية 87.
(3) رواه أحمد: 2/ 362.
(4) رواه مسلم في الأشربة: 72. والترمذي في القيامة: 47. والنسائي في الأشربة: 49. وابن حنبل: 2/ 82.
(5) رواه الترمذي قيامة: 47. وأحمد: 2/ 179.(2/495)
القيامة أمثال الذر في صور الناس، يغشاهم الصغار من كل مكان، ويساقون إلى سجن من النار يقال له بولس، تعلوهم نار الأنيار، ويسقون من طينة الخبال، وهي عصارة أهل النار». رواه الترمذي وقال: حديث حسن غريب. وفي شعب الإيمان للبيهقي عن الأصمعي قال: مررت بأعرابية في البادية في كوخ فقلت لها يا اعرابية من يؤنسك ههنا؟ قالت: يؤنسني مؤنس الموتى في قبورهم. قلت: ومن أين تأكلين؟ قالت: يطعمني مطعم الذرة وهي أصغر مني. وفي المدهش للإمام العلامة أبي الفرج بن الجوزي أن رجلا من العجم طلب الأدب حينا فبينما هو في بعض الطريق سائر إذ مرّ بصخرة ملساء فتأملها فإذا ذر يدب عليها، وقد أثر عليها من كثرة دبيبه ففكر وقال: مع صلابة هذا الحجر، وخفة هذا الذر قد أثر فيه هذا الأثر، فأنا أحرى على أن أدوم على الطلب فلعلي أظفر ببغيتي. فراجع الإثبات على الأدب، فلم يلبث أن خرج مبرزا. وهكذا يجب أن يكون طالب فائدة دينية أو دنيوية، لا سيما طالب التوحيد والمعرفة، أن يكون كرارا غير فرار، فإما الظفر والغنيمة وإما القتل والشهادة. وسئل أبو زيد البسطامي رحمه الله تعالى، عن العارف؟ فقال: هو أن يكون وحداني التدبير، فرداني المعنى، صمداني الرؤية، رباني القوة، وحداني العيش، نوراني العلم خلداني العجائب، سماوي الحديث، وحشي الطلب ملكوتي السر، عنده مفاتح الغيب، وخزائن الحكم وجواهر القدس، وسرادقات الأبرار، فإذا جاوز الحد وارتفع إلى أعلى فهو غير مدرك وحاله غير موصوف. وفي صحيح مسلم عن ابن مسعود رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (1): «لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر». فقال رجل: إن الرجل يجب أن يكون ثوبه حسنا ونعله حسنة، فقال: «إن الله جميل يحب الجمال الكبر بطر الحق وغمط الناس». ورواه (2) الترمذي، وقال: حسن غريب. وقيل: المراد بالكبر ههنا الكبر عن الإيمان فصاحبه لا يدخل الجنة أصلا إذا مات عليه. وقيل لا يكون في قلبه كبر حين دخول الجنة. كما قال (3) الله تعالى: {وَنَزَعْنََا مََا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ} * الآية وهذان التأويلان فيهما بعد، فإن الحديث ورد في سياق النهي عن الكبر المعروف، وهو الارتفاع على الناس واحتقارهم، والظاهر فيه ما اختاره القاضي عياض وغيره من المحققين، أنه لا يدخلها دون مجازاة، أو لا يدخلها مع أول الداخلين، وأما قوله، «فقال رجل». فذلك الرجل هو مالك بن مرارة الرهاوي، قاله القاضي عياض، وأشار إليه ابن عبد البر. وحكى أبو القاسم خلف بن عبد الملك بن بشكوال في إسمه أقوالا: أحدها أنه أبو ريحانة، وإسمه شمعون، وقيل: ربيعة بن عامر، وقيل: سواد بالتخفيف بن عمرو، وقيل: معاذ بن جبل. ذكره ابن أبي الدنيا في كتاب الخمول والتواضع.
وقيل: عبد الله بن عمرو بن العاص. ومعنى قوله إن الله جميل: أي إن كل أمره سبحانه حسن وجميل، فله الأسماء الحسنى، وصفات الجمال والكمال، وقيل جميل بمعنى مجمل ككريم وسميع بمعنى مكرم ومسمع. وقال أبو القاسم القشيري: معناه جليل: وقيل معناه ذو النور والبهجة أي مالكهما وقيل: معناه جميل الأفعال بكم، والنظر إليكم يكلفكم اليسير ويعين عليه، ويثيب عليه
__________
(1) رواه البخاري في الإيمان: 33. والترمذي جهنم: 9، 10. وابن ماجه مقدمة: 9. وابن حنبل: 1/ 416.
(2) رواه مسلم إيمان: 147. وابن ماجه دعاء: 10. وابن حنبل: 4/ 133.
(3) سورة الأعراف: الآية 43.(2/496)
الجزيل سبحانه ما أكرمه! قال شيخ الإسلام يحيى النووي رحمه الله تعالى: هذا الإسم ورد في الحديث الصحيح وورد في الأسماء الحسنى. وفي إسناده مقال والمختار جواز اطلاقه على الله تعالى، ومن العلماء ومن معه. وقال إمام الحرمين أبو المعالي: ما ورد به الشرع جوزنا إطلاقه، وما لم يرد فيه إذن ولا منع لم نقض فيه بتجويز ولا منع، فإن الأحكام الشرعية تتلقى من موارد الشرع، ولو قضينا بتحريم أو تحليل لكنا مثبتين حكما بغير الشرع، ثم لا يشترط في جواز الاطلاق ورود ما نقطع به في الشرع، ولكن ما يقتضي العمل، وإن لم يوجب العمل فإنه كاف إلا أن الأقيسة الشرعية من مقتضيات العمل، ولا يجوز التمسك بها في تسمية الله تعالى وصفته. قال النووي:
وقد اختلف أهل السنة في تسميته تعالى ووصفه، من أوصاف الكمال والجلال والمدح، بما لم يرد به الشرع ولا منعه، فأجازه طائفة ومنعه آخرون، إلا أن يرد به شرع مقطوع به من نص كتاب، أو سنة متواترة، أو إجماع على اطلاقه، فإن ورد به خبر واحد فقد اختلفوا فيه، فأجازه طائفة وقالوا الدعاء به والثناء من باب العمل. وذلك جائر بخبر الواحد، ومنعه آخرون لكونه راجعا إلى اعتقاده ما يجوز أن يستحيل على الله تعالى، وطريق هذا القطع، قال القاضي: والصواب جوازه لاشتماله على العمل، ولقوله تعالى: {وَلِلََّهِ الْأَسْمََاءُ الْحُسْنى ََ فَادْعُوهُ بِهََا} (1) وهو كما قال. وأما قوله وغمط الناس كذا في نسخ صحيح مسلم، وكذلك ذكره أبو داود في مصنفه، وذكره الترمذي وغيره غمص بالصاد المهملة وهما بمعنى واحد وهو احتقارهم.
وأما رؤيته في المنام، فإنها تعبر بالنسل لقوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} (2) والذر أيضا يعبر بالضعفاء من الناس. وقيل: الذر جند لأنه من النمل والله تعالى أعلم.
الذراح:
قال الجوهري: الذراح والذروح بالضم دويبة حمراء منقطة بسواد تطير وهي من السموم والجمع الذراريح. وقال سيبويه: واحد الذراريح ذرحرح، وليس عنده في الكلام فعول بواحدة. وكان يقول: سبوح قدوس بفتح أوائلهما. والذراح أنواع فمنه ما يتولد من الحنطة ومنه دود الصنوبر ومنه ما في أجنحته خطوط صفر ولونه مختلف وأجسامها كبار طوال ممتلئة قريبة الشبه من بنات وردان.
الحكم:
يحرم أكلها لاستخبائها.
الخواص:
الذراريح تنفع الجرب، والعلة التي ينقشر معها الجلد. ويخلط في الأدوية الموافقة للأورام، كالسرطان والقوابي الرديئة، قال الرازي: الاكتحال منها ينفع الطرفة في العين، وإذا طلي بها مسحوقة قتلت القمل، وإذا طبخت في زيت أبرأ ذلك الزيت داء الثعلب وزعم القدماء من الأطباء: أنه إذا جعل شيء منها من خرقة حمراء وعلقت على من به حمى أبرأته بخاصية عجيبة.
الذرع:
بالتحريك ولد البقرة الوحشية تقول منه أذرعت البقرة فهي مذرع.
__________
(1) سورة الأعراف: الآية 180.
(2) سورة الأعراف: الآية 172.(2/497)
الذعلب:
والذعلبة الناقة السريعة، وفي حديث سواد بن مطرف الذعلب الناقة الوجناء (1).
الذئب:
يهمز ولا يهمز وأصله الهمزة والأنثى ذئبة، وجمع القلة أذؤب، وجمع الكثرة ذئاب وذؤبان. ويسمى الخاطف والسّيد والسرحان وذؤالة والعمّلس والسلق، والأنثى سلقة والسمسام، وكنيته أبو مذقة لأنه لونه كذلك قال الشاعر:
حتى إذا جن الظلام واختلط ... جاؤوا بمذق هل رأيت الذئب قط
ومن كناه الشهيرة أبو جعدة. قال عبيد بن الأبرص (2) للمنذر بن ماء السماء ملك الحيرة حين أراد قتله:
وقالوا: هي الخمر تكنى الطلا ... كما الذئب يكنى أبا جعدة
ضربه مثلا أي تظهر لي الإكرام وأنت تريد قتلي. كما أن الخمرة، وإن سميت طلاء وحسن إسمها، فإن فعلها قبيح. وكذلك الذئب، وإن حسنت كنيته فإن فعله قبيح. والجعدة الشاة وقيل: نبت طيب الريح ينبت في الربيع ويجف سريعا وسئل ابن الزبير عن المتعة؟ فقال: الذئب يكني أبا جعدة. يعني أن المتعة حسنة الإسم قبيحة المعنى، كما أن الذئب حسن الكنية قبيح الفعل. ومن كناه أبو ثمامة وأبو جاعد وأبو رعلة وأبو سلعامة وأبو العطلس وأبو كاسب وأبو سبلة.
ومن أصحابه الشهيرة أو يس مصغرا، ككميت ولحيف. قال الشاعر الهذلي:
يا ليت شعري عنك والأمر عمم ... ما فعل اليوم أويس بالغنم
ومن أوصافه الغبش، وهو لون كلون الرماد يقال: ذئب أغبش وذئبة غبشاء. وروى الإمام أحمد وأبو يعلي الموصلي وعبد الباقي بن قانع أن الأعشى الشاعر المازني الحرمازي، وإسمه عبد الله بن الأعور، كانت عنده امرأة يقال لها معاذة، فخرج في شهر رجب يمير أهله من هجر، فهربت امرأته ناشزة عليه، فعاذت برجل منهم يقال له مطرف بن بهصل بن كعب بن قميع بن دلف بن أهصم بن عبد الله بن الحرماز، فجعلها خلف ظهره، فلما قدم لم يجدها في بيته فأخبر بخبرها فطلبها منه، فلم يدفعها إليه وكان مطرف أعز منه في قومه فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فعاذ به وأنشأ يقول:
يا سيد الناس ودّيان العرب ... أشكو إليك ذرية من الذرب ... كالذئبة الغبشاء في ظلّ السّرب ... خرجت أبغيها الطعام في رجب ... فخالفتني بنزاع وهرب ... وقذفتني بين عيص مؤتشب (3)
... أخلفت العهد ولطّت بالذنب ... وهن شر غالب لمن غلب
فقال (4) النبي صلى الله عليه وسلم عند ذلك: «وهن شر غالب لمن غلب». كنى عن فسادها وخيانتها
__________
(1) الناقة الوجناء: الشديدة.
(2) عبيد بن الأبرص: شاعر جاهلي من أصحاب المعلقات، قتله المنذر في يوم بؤسة سنة 250ق. هـ.
(3) العيص المؤتشب: الشجر الملتف. والأشبة: الذئب كما في القاموس.
(4) رواه أحمد: 2022.(2/498)
بالذربة، وأصله ومن ذرب المعدة وهو فسادها. وقيل: أراد سلاطة لسانها وفساد منطقها مأخوذة من قولهم: ذرب لسانه، إذا كان حاد اللسان لا يبالي بما يقول، والعيص بالعين والصاد المهملتين أصل الشجر والمؤتشب الملتف وقوله لطت بالذنب، وهو بالطاء المهملة، أراد به أنها منعته بضعها من لطت الناقة بذنبها، إذا سدت فرجها به، إذا أرادها الفحل. وقيل: أراد توارت وأخفت شخصها عنه، كما تخفي الناقة فرجها بذنبها، وكان الأعشى المذكور شكا إلى النبي صلى الله عليه وسلم إمرأته وما صنعت، وأنها عند رجل منهم يقال له مطرف بن بهصل، فكتب النبي صلى الله عليه وسلم إلى مطرف: «انظر امرأة هذا معاذة فادفعها إليه». فأتاه (1) بكتاب النبي صلى الله عليه وسلم فقرأه عليه، فقال لها: يا معاذة هذا كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فيك وأنا دافعك إليه. فقالت: خذ لي العهد والميثاق وذمة النبي صلى الله عليه وسلم، أن لا يعاقبني فيما صنعت، فأخذ لها ذلك ودفعها مطرف إليه فأنشأ يقول:
لعمرك ما حبي معاذة بالذي ... يغيره الواشي ولا قدم العهد ... ولا سوء ما جاءت به إذ أزلها ... غواة رجال اذينا جونها بعدي
وقال الزمخشري في تفسيره قوله (2) تعالى: {إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ} استعظم كيد النساء على كيد الشيطان، لأنه، وإن كان في الرجال كيد، إلا أن النساء ألطف كيدا، وأنفذ حيلة، ولهن في ذلك رفق وبذلك يغلبن الرجل. ومنه قوله تعالى: {وَمِنْ شَرِّ النَّفََّاثََاتِ فِي الْعُقَدِ} (3) والنفاثات من بينهن اللاتي لهن ما ليس لغيرهن من البوائق. وعن بعض العلماء أنه قال: أنا أخاف من النساء أكثر مما أخاف من الشيطان، لأن الله تعالى يقول (4): {إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطََانِ كََانَ ضَعِيفاً} وقال (5) في النساء: {إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ} وفي تاريخ (6) ابن خلكان، في ترجمة عمر بن أبي ربيعة، قال: بينما عمر بن أبي ربيعة يطوف بالبيت، إذ رأى امرأة تطوف بالبيت، فأعجبته فسأل عنها فإذا هي من البصرة، فكلمها مرارا، فلم تلتفت إليه وقالت: إليك عني فإنك في حرم الله في موضع عظيم الحرمة، فلما ألح عليها ومنعها من الطواف، أتت محرما لها، وقالت له تعالى معي أرني المناسك، فحضر معها فلما رآها عمر بن أبي ربيعة عدل عنها، فتمثلت بشعر الزبرقان (7) بن بدر السعدي:
تعدو الذئاب على من لا كلاب له ... وتتقي مربض المستأسد الضاري (8)
فبلغ المنصور خبرهما، فقال: وددت أن لم تبق فتاة في خدرها إلا سمعته. وكانت ولادة عمر بن أبي ربيعة في الليلة التي قتل فيها عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه، فكان الحسن البصري يقول، إذا جرى ذكر ولادته: أي حق رفع وأي باطل وضع، وغزا في البحر فأحرقوا السفينة فاحترق، وذلك في سنة ثلاث وثمانين.
__________
(1) رواه أحمد: 2022.
(2) سورة يوسف: الآية 28.
(3) سورة الفلق: الآية 4.
(4) سورة النساء: الآية 76.
(5) وفيات الأعيان: 3/ 436.
(6) سورة يوسف: الآية 28.
(7) الزبرقان بن بدر التميمي السعدي، صحابي، من رؤساء قومه. مات سنة 45. هـ.
(8) البيت في الحيوان للجاحظ غير معزو. وفيه: «وتتقي صولة».(2/499)
وللأسد والذئب في الصبر على الجوع ما ليس لغيرهما من الحيوان، لكن الأسد شديد النهم حريص رغيب شره، وهو مع ذلك يحتمل أن يبقى أياما لا يأكل شيئا والذئب وإن كان أقفر منزلا، وأقل خصبا وأكثر كدا، إذا لم يجد شيئا اكتفى بالنسيم، فيقتات به وجوفه يذيب العظم المصمت، ولا يذيب نوى التمر، ولا يوجد الالتحام عند السفاد إلا في الكلب والذئب. ومتى التحم الذئب والذئبة، وهجم عليهما هاجم قتلهما كيف شاء، إلا أنهما لا يكادان يوجدان كذلك، لأنهما إذا أرادا السفاد توخيا موضعا لا يطؤه الإنس، خوفا على أنفسهما ويسفد مضطجعا على الأرض، وهو موصوف بالانفراد والوحدة، وإذا أراد العدو فإنما هو الوثب والقفز، ولا يعود إلى فريسة شبع منها أبدا. ومن عجيب امره أنه ينام بإحدى مقلتيه والأخرى يقظى حتى تكتفي العين النائمة من النوم، فيفتحها وينام بالأخرى ليحترس باليقظى ويستريح بالنائمة قال حميد (1) بن ثور في وصفه، في أبيات مشهورة منها:
ونمت كنوم الذئب في ذي حفيظة ... أكلت طعاما دونه وهو جائع (2)
... ينام بإحدى مقلتيه ويتقي ... بأخرى الأعادي فهو يقظان هاجع
وهو أكثر الحيوان عواء إذا كان مرسلا فإذا أخذ وضرب بالعصي والسيوف حتى يتقطع أو يهشم لم يسمع له صوت إلى أن يموت. وفيه من قوّة حاسة الشم، أنه يدرك المشموم من فرسخ.
وأكثر ما يتعرض للغنم في الصبح وإنما يتوقع فترة الكلب ونومه وكلاله، لأنه يظل طول ليله حارسا متيقظا. ومن غريب أمره أنه إذا إجتمع جلده مع جلد شاة تمغط جلد الشاة، وأنه متى وطىء ورق العنصل مات من ساعته. والذئب إذا كده الجوع عوى فتجتمع له الذئاب، ويقف بعضها إلى بعض.
فمن ولى منها وثب إليه الباقون وأكلوه، وإذا عرض للإنسان، وخاف العجز عنه، عوى عواء استغاثة فتسمعه الذئاب، فتقبل على الإنسان اقبالا واحدا، وهم سواء في الحرص على أكله، فإن أدمى الإنسان واحدا منها، وثب الباقون على المدمى فمزقوه، وتركوا الإنسان. وقال بعض الشعراء يعاتب صديقا له وكان قد أعان عليه في أمر نزل به:
وكنت كذئب السّوء لما رأى دما ... بصاحبه يوما أحال على الدم (3)
روى البيهقي في الشعب، عن الأصمعي، قال: دخلت البادية فإذا بعجوز بين يديها شاة مقتولة وجرو ذئب مقع، فنظرت إليها فقالت: أتدري ما هذا؟ قلت: لا. قالت: جرو ذئب أخذناه وأدخلناه بيتنا، فلما كبر قتل شاتنا. وقد قلت في ذلك شعرا قلت لها: ما هو؟ فأنشدته:
بقرت شويهتي وفجعت قلبي ... وأنت لشاتنا ولد ربيب (4)
__________
(1) حميد بن ثور بن حزن الهلالي العامري. شاعر جاهلي أدرك الإسلام وأسلم مات سنة 30هـ؟.
(2) البيت في الحيوان للجاحظ: 6/ 472. وفيه: «الذئب عن حفيظة». البيت في الشعر والشعراء 247.
وفيه: «المنايا بأخرى فهو».
(3) العقد الفريد: 6/ 242. وهو للفرزدق. وفي العقد: وكنا كذئب
(4) شويهة تصغير شاة.(2/500)
غذيت بدرّها وربيت فينا ... فمن أنباك أن أباك ذيب ... إذا كان الطباع طباع سوء ... فليس بنافع فيها الأديب
وهو إذا خافه إنسان طمع فيه، وإذا طمع الإنسان فيه خافه، ويقطع العظم بلسانه ويبريه بري السيف، ولا يسمع له صوت، ويقال: عوى الذئب، كما يقال عوى الكلب قال الشاعر: (1)
عوى الذئب فاستأنست للذئب إذ عوى ... وصوّت إنسان فكدت أطير (2)
وقال آخر:
ليت شعري كيف الخلاص من النا ... س وقد أصبحوا ذئاب اعتداء
قلت لما بلاهم: صدق خبري ... رضي الله عن أبي الدرداء
أشار إلى قول أبي الدرداء: إياكم ومعاشرة الناس فإنهم ما ركبوا قلب امرىء إلا غيروه، ولا جواد إلا عقروه، ولا بعيرا إلا أدبروه. وروى السهيلي، في الكلام على غزوة أحد، في حديث مسند، أنه قال: لما ولد عبد الله بن الزبير نظر إليه النبي صلى الله عليه وسلم وقال: «هو هو ورب الكعبة». فلما سمعت أمه أسماء ذلك أمسكت عن ارضاعه، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: «أرضعيه ولو بماء عينيك، كبش بين ذئاب عليها ثياب ليمنعن البيت أو يقتلن دونه» (3). وروى ابن ماجه والبيهقي عن كعب بن مالك، وقال: حديث صحيح حسن، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما ذئبان جائعان أرسلا في زريبة غنم، بأفسد لها من حرص الرجل على المال والشرف لدينه وقد نص الله تعالى على ذم الحرص بقوله: {وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النََّاسِ عَلى ََ حَيََاةٍ} (4) وروى ابن عدي عن عمرو بن حنيف عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أدخلت الجنة فرأيت فيها ذئبا، فقلت:
أذئب في الجنة؟ فقال: أكلت ابن شرطي». قال ابن عباس: هذا وإنما أكل ابنه فلو أكله رفع في عليين. وقد رأيته كذلك في تاريخ نيسابور للحاكم في ترجمة شيخه علي بن محمد بن إسماعيل الطوسي وهو حديث موضوع.
وروى الحاكم في مستدركه بإسناد على شرط مسلم عن أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه قال: بينما راع يرعى بالحرة، إذ عدا الذئب على شاة فحال الراعي بينه وبينها فأقعى الذئب على ذنبه، وقال: يا عبد الله تحول بيني وبين رزق ساقه الله إلي! فقال الرجل: واعجبا ذئب يكلمني! فقال الذئب: ألا أخبرك بأعجب مني، هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الحرتين يخبر الناس بأنباء ما قد سبق، فزوى الراعي شياهه إلى زاوية من زوايا المدينة، ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال (5): «صدق والذي نفسي بيده».
__________
(1) هو الأصيمر السعدي الشاعر اللص الفاتك، من شعراء الدولتين الأموية والعباسية. مات سنة 170هـ.
(2) البيت في الحيوان للجاحظ: 1/ 379.
(3) رواه مسلم في الرضاع: 302826والحدود: 23. ورواه النسائي في النكاح: 53والدارمي في الحدود: 17. وأحمد: 5/ 348، 6/ 201174.
(4) رواه الترمذي في الزهد: 43. والدارمي في الرقاق: 21. وأحمد: / 460456.
(5) رواه البخاري أنبياء: 54. فضائل الصحابة: 65. ورواه مسلم في فضائل الصحابة: 13. ورواه الترمذي في المناقب: 17. وابن ماجه أضاحي: 9. وأحمد: 2/ 246.(2/501)
فائدة:
قال ابن عبد البر وغيره: كلم الذئب من الصحابة ثلاثة: رافع بن عميرة وسلمة بن الأكوع وأهبان بن أوس الأسلمي رضي الله تعالى عنهم. قال: ولذلك تقول العرب: هو كذئب أهبان يتعجبون منه، وذلك أن أهبان بن أوس المذكور كان في غنم له فشد الذئب على شاة منها فصاح به أهبان فأقعى الذئب وقال: أتنزع مني رزقا رزقنيه الله تعالى؟ فقال أهبان: ما سمعت ولا رأيت أعجب من هذا ذئب يتكلم، فقال الذئب: أتعجب من هذا! ورسول الله صلى الله عليه وسلم بين هذه النخلات وأو مأ بيده إلى المدينة يحدث بما كان وبما يكون، ويدعو الناس إلى الله وإلى عبادته وهم لا يجيبونه، قال أهبان بن أوس: فجئت النبي صلى الله عليه وسلم وأخبرته بالقصة وأسلمت، فقال لي: «حدث به الناس». قال عبد الله بن أبي داود السجستاني الحافظ فيقال لأهبان: مكلم الذئب ولأولاده أولاد مكلم الذئب، ومحمد بن الأشعث الخزاعي من ولده واتفق مثل ذلك لرافع بن عميرة وسلمة بن الأكوع انتهى. وقال البخاري (1): أنبأنا شعيب عن الزهري عن أبي سلمة بن عبد الرحمن أن أبا هريرة رضي الله تعالى عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «بينما راع في غنمه إذا عدا عليها الذئب فأخذ منها شاة، فطلبه الراعي فالتفت إليه الذئب، وقال: من لها يوم السبع يوم لا راعي لها غيري. وبينما رجل يسوق بقرة قد حمل عليها، فالتفتت إليه وكلمته فقالت: إني لم أخلق لهذا ولكني خلقت للحرث. فقال الناس: سبحان الله ذئب يتكلم، وبقرة تتكلم. فقال النبي صلى الله عليه وسلم آمنت بذلك أنا وأبو بكر وعمر؟ قال ابن الأعرابي: السبع بسكون الباء الموضع الذي عنده المحشر يوم القيامة. أراد من لها يوم القيامة. وقيل: هذا التفسير يفسد بقول الذئب في تمام الحديث يوم لا راعي لها غيري، والذئب لا يكون لها راعيا يوم القيامة. وقيل أراد من لها يوم الفتن حين يتركها الناس هملا لا راعي لها نهبة للسباع والذئاب، فجعل السبع لها راعيا إذ هو منفرد بها.
ويكون حينئذ بضم الباء. وهذا انذار ربما يكون من الشدائد والفتن التي تأتي حتى يهمل الناس فيها مواشيهم وتتمكن منها السباع بلا مانع. وقال أبو عبيدة معمر بن المثنى (2) يوم السبع عيد كان لهم في الجاهلية يشتغلون فيه بلهوهم ولعبهم وأكلهم فيجيء الذئب فيأخذها وليس هو بالسبع الذي يفترس الناس. قال: وأملاه أبو عامر العبدي الحافظ بضم الباء وكان من العلم والاتقان بمكان. وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (3): «كانت امرأتان معهما ابناهما إذ جاء الذئب فذهب بابن أحداهما، فقالت هذه لصاحبتها: إنما ذهب بابنك أنت وقالت الأخرى إنما ذهب بابنك، فتحاكما إلى داود عليه الصلاة والسلام فقضى به للكبرى، فخرجتا على سليمان فأخبرتاه بذلك فقال سليمان عليه الصلاة والسلام: ائتوني بالسكين أشقه بينكما نصفين فقالت الصغرى: لا ويرحمك الله هو ابنها فقضى به للصغرى». قال أبو هريرة
__________
(1) رواه البخاري في الأنبياء: 54وفضائل الصحابة: 65. وغير كما تقدم.
(2) معمر بن المثنى التيمي بالولاء، أبو عبيدة النحوي اللغوي الأديب. له نحو من مئتي مصنف. مات سنة 209هـ. ويقال إنه كان إباضيا معتزليا شعوبيا.
(3) رواه البخاري في الفرائض: 30، والحرث: 4، والأنبياء: 40، ورواه مسلم في المساجد: 33، والأقضية:
20، وأبو داود في الصلاة: 167، والنسائي في السهو: 20. وابن ماجه في الصيد: 14، وابن حنبل: 2 322.(2/502)
رضي الله تعالى عنه والله ما سمعت بالسكين قط، إلا يومئذ وما كنا نقول إلا المدية واستدل بهذا الحديث من جوز أن المرأة تستلحق اللقيط، وأنه يلحقها لأنها أحد الأبوين. ونقله صاحب التقريب عن ابن سريج والأصح أنه لا يلحقها إذا استلحقته لإمكان إقامة البينة على الولادة بطريق المشاهدة بخلاف الرجل. وفيه وجه ثالث يلحق الخلية دون المزوّجة، لتعذر الإلحاق بها دونه، وإذا قلنا يلحقها بالإستلحاق. وكان لها زوج لم يلحقه في الأصح وليس المراد بالزوج من هي في عصمته، بل كونها فراشا، لشخص لوثبت نسب اللقيط منها بالبينة، لحق صاحب الفراش سواء كانت في العصمة أو في العدة. وروى الإمام أحمد والطبراني بإسناد جيد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
«الشيطان ذئب الإنسان كذئب الغنم يأخذ القاسية إياكم والشعاب وعليكم بالعامة والجماعة والمساجد» (1). وفي تاريخ ابن النجار عن وهب بن منبه قال: بينما امرأة من بني إسرائيل، على ساحل البحر تغسل ثيابها، وصبي لها يدب بين يديها، إذ جاء سائل فأعطته لقمة من رغيف كان معها، فما كان بأسرع من أن جاء ذئب فالتقم الصبي، فجعلت تعدو خلفه وتقول: يا ذئب ابني يا ذئب ابني، فبعث الله ملكا فنزع الصبي من فم الذئب ورمى به إليها. وقال: لقمة بلقمة.
وهو في الحلية عن مالك بن دينار وقال: أخذ السبع صبيا لامرأة فتصدقت بلقمة فرماه السبع فنوديت لقمة بلقمة. وروى الإمام أحمد في الزهد عن سالم بن أبي الجعد، قال: خرجت امرأة وكان معها صبي لها، فجاء الذئب فاختلسه منها فخرجت في أثره وكان معها رغيف، فعرض لها سائل فأعطته الرغيف، فجاء الذئب بصبيها فرده عليها وقد تقدم نظير ذلك عنه في باب الهمزة في الأسود السالخ. قال ابن سعد كان موسى بن أعين راعيا بكرمان في خلافة عمر بن عبد العزيز فكانت الذئاب والشاه والوحش ترعى في موضع واحد فبينما نحن ذات ليلة إذ عرض الذئاب لشاة، فقلنا ما نرى الرجل الصالح إلا قد مات، فنظرنا فإذا عمر بن عبد العزيز قد مات تلك الليلة، وذلك لعشر بقين من شهر رجب سنة إحدى ومائة كما تقدم في الأوز وكانت مدة خلافته سنتين وخمسة أشهر. وروى الإمام أحمد في الزهد أيضا عن مالك بن دينار قال: لما استعمل عمر بن عبد العزيز على الناس، قال رعاة الشاة: من هذا العبد الصالح الذي قام على الناس؟
قيل لهم: وما أعلمكم بذلك قالوا إنه إذا ولي على الناس خليفة عدل كفت الذئاب والأسد عن شياهنا.
الحكم:
يحرم أكله لتقويته بنابه.
الأمثال:
وصفته العرب بأوصاف مختلفة فقالوا (2): «أغدر من ذئب». واختل (3) وأخبث (4)
واخون (5) وأجول وأعتى وأعوى وأظلم (6) وأحرأ وأكسب (7) وأجوع (8) وأنشط (9) وأوقح (10)
__________
(1) رواه ابن حنبل: 2432335.
(2) جمهرة الأمثال: 1/ 136.
(3) جمهرة الأمثال: 1/ 355.
(4) جمهرة الأمثال: 1/ 375.
(5) جمهرة الأمثال: 1/ 356.
(6) جمهرة الأمثال: 2/ 27.
(7) جمهرة الأمثال: 2/ 146.
(8) جمهرة الأمثال: 1/ 268.
(9) جمهرة الأمثال: 2/ 251.
(10) جمهرة الأمثال: 2/ 275.(2/503)
واجسر وأيقظ (1) وأعق (2) وألأم (3) من ذئب». وقالوا: «أخوك أم الذئب (4) وقالوا (5):
«أخف رأسا من الذئب». لأنه ينام بإحدى مقلتيه كما تقدم. وسيأتي له ذكر في أمثال الغراب.
وقالوا في الدعاء على العدو: رماه الله بداء الذئب أي الجوع، وقالوا: الذئب يكنى أبا جعدة كما تقدم، وقالوا (6): «من استرعى الذئب الغنم فقد ظلم». أي ظلم الغنم، ويجوز أن يراد به ظلم الذئب، حيث كلفه ما ليس في طبعه، وأول من قال ذلك أكثم بن صيفي، وقاله عمر رضي الله تعالى عنه في قصة سارية بن حصن المشهورة، وذلك أنه كان يخطب يوم الجمعة بالمدينة فقال في خطبته: «يا سارية بن حصن الجبل الجبل من استرعى الذئب الغنم فقد ظلم». فالتفت الناس بعضهم إلى بعض، ولم يفهموا مراده فلما قضى صلاته، قال له علي كرم الله وجهه: ما هذا الذي قلته؟ قال: أو سمعته؟ قال: نعم. أنا وكل من في هذا المسجد. قال: وقع في خلدي أن المشركين هزموا إخواننا وركبوا أكتافهم، وأنهم يمرون بجبل فإن عدلوا إليه، قاتلوا من وجدوا وظفروا، وإن جاوزوه هلكوا فخرج مني هذا الكلام، فجاء البشير بعد شهر، فذكر أنهم سمعوا في ذلك اليوم، في تلك الساعة حين جاوزوا الجبل، صوتا يشبه صوت عمر رضي الله تعالى عنه يقول: يا سارية بن حصن الجبل الجبل! فعدلوا إليه ففتح الله عليهم. كذا نقله في تهذيب الأسماء واللغات، وفي طبقات ابن سعد وأسد الغابة أنه سارية بن زنيم بن عمرو بن عبد الله بن جابر.
وأنشدوا في معنى هذا المثل البيت:
وراعي الشام يحمي الذئب عنها ... فكيف إذا الرعاة لها ذئاب!
كان يحيى (7) بن معاذ الرازي رحمه الله تعالى يقول لعلماء الدنيا في زمانه: يا أصحاب العلم قصوركم قيصرية (8) وبيوتكم كسروية، وأثوابكم طالوتية، وأخفافكم جالوتية، وأوانيكم فرعونية، ومراكبكم قارونية، وموائدكم جاهلية، ومذاهبكم شيطانية، فأين المحمدية.
الخواص:
إذا علق رأس الذئب في برج حمام لم يقربه سنور ولا شيء يؤذي الحمام. وكعب الذئب الأيمن إذا علق على رأس رمح، ثم إجتمع عليه جماعة لم يصلوا إليه ما دام الكعب معلقا على رمحه. وعينه اليمنى من علقها عليه لم يخف لصا ولا سبعا. وخصيته إذا شقت وملحت بملح وسقي منها وزن مثقال بماء الجرجير من به وجع الخاصرة ابرأه، وهو نافع أيضا لذات الجنب إذا شرب منها بماء حار وعسل. ودمه ينفع من الصمم إذا ديف بدهن الجوز وقطر في الأذن. ودماغه يداف بماء السذاب والزيت ويدهن به الجسد ينفع من كل علة ظاهرة وباطنة في البدن من البرد.
__________
(1) جمهرة الأمثال: 2/ 338.
(2) جمهرة الأمثال: 2/ 60.
(3) جمهرة الأمثال: 2/ 61.
(4) جمهرة الأمثال: 1/ 137.
(5) جمهرة الأمثال: 1/ 346.
(6) جمهرة الأمثال: 2/ 214.
(7) يحيى بن معاذ بن جعفر الرازي، واعظ، زاهد من أهل الري. مات بنيسابور سنة 258هـ.
(8) قيصرية: نسبة إلى قيصر ملك الروم، وكسروية: نسبة إلى كسرى ملك الفرس. طالوتية: نسبة إلى طالوت. جالوتية: نسبة إلى جالوت. وقارونية: نسبة إلى قارون. كل ذلك كناية عن كثرة التنعم، والاختلاف والفرقة.(2/504)
وأنيابه وجلده وعينه إذا حملها الإنسان معه غلب خصمه، وكان محببا إلى الناس جميعا وكبده تنفع من وجع الكبد. وقضيبه إذا شوي في الفرن ومضغت منه قطعة هيجت الباه، وإذا خلطت مرارته بالعسل أو بالماء ولطخ بها الذكر وقت الجماع أحبت المرأة الرجل حبا شديدا. وإذا علق ذنب الذئب على معلف بقر لم تقرب إليه ما دام معلقا، وإن أجهدها الجوع. وإن بخر موضع بزبله لم يقربه الفأر. وقيل: يجتمع إليه الفأر، وإذا إجتمع جلده وجلد شاة في موضع واحد تجرد جلد الشاة كما تقدم. ومن أدمن الجلوس على جلده أمن من القولنج، وإذا علق وتر من ذنبه على شيء من الملاهي وضرب بها تقطعت جميع أوتار الغنم التي تكون على الملاهي، ولم يسمع لها صوت، وإذا بخر بجلد الذئب حانوت من يعمل الدفوف التي تلعب بها النساء، تشققت وإن اتخذ طبل من جلده وضرب به بين طبول تشققت الطبول كلها. وشحمه ينفع من داء الثعلب، وشرب مرارته ينفع من استرخاء البطن، وإذا لطخ بها على الإحليل جامع الرجل ما شاء، وإذا طلي بمرارته مع مرارة نسر ودهن الزئبق هيج الباه وأنعظ. وربما أنزل من لذة ذلك وإذا ديفت مرارته بدهن ورد ودهن بها الرجل حاجبيه أحبته المرأة إذا مشي بين يديها. وإذا خلطت مرارته بورس وطلي بها الوجه أذهب البهق. وعين الذئبة إذا علقت على من يصرع تمنع من الصرع، وإن أخذ عظم من العظام التي توجد في ذيل الذئب، وخدش بها الضرس الوجع أبرأه من وقته. وقال جالينوس: يسعط بمرارة الذئب ودهن البنفسج من به الشقيقة المزمنة، فأنه يبرأ. وإن سعط بذلك المولود أمن من الصرع ما عاش. وعيناه إذا علقتا على صبي لم يصرع وإن أخذ جزء من مرارة الذئب وجزء من عسل لم تصبه النار واكتحل به نفع من ظلمة العين وضعف البصر. وإن عقد ذنب الذئب بإسم امرأة، لم يقدر عليها أحد من الرجال، حتى تحل العقدة. وأن خلطت مرارة الذئب بعسل، وطلي به الذكر، وجامع امرأة، فإنها تحب ذلك الرجل حبا شديدا، ودم الذئب ينضج الجراحات.
صفة طلسم لجمع الذئاب
: يعمل تمثال ذئب من نحاس ويجوف داخله، ويوضع فيه قضيب ذئب ويصفر به فتجتمع الذئاب التي تسمع صوته إليه.
صفة طلسم تهرب منه الذئاب:
يعمل تمثال ذئب من نحاس، ويحشى من خرء ذئب، ويدفن في أي موضع أردت فإن الذئاب تهرب من ذلك الموضع.
التعبير:
تدل رؤيته على الكذب والحيلة والعداوة للأهل والمكر بهم. وقيل: الذئب في الرؤيا لص غشوم ظلوم وجروه ولد لص، فمن رأى جرو ذئب فإنه يربي لصا لقيطا، وإن تحوّل الذئب حيوانا انسيا كالخروف وشبهه فإنه لص يتوب ومن رأى ذئبا دخل داره فليحذر اللصوص، ومن رأى ذئبا فإنه يتهم إنسانا ويكون المتهم بريئا لقصة يوسف عليه الصلاة والسلام. ومن رأى ذئبا وكلبا واجتمعا على النفاق والمكر والخديعة والله أعلم.
ذؤالة:
إسم للذئب كأسامة للأسد وهو معرفة. سمي بذلك لأنه يذأل في مشيته وهي المشية الخفيفة.
وفي الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بجارية سوداء ترقص صبيا لها وتقول ذؤال يا ابن القرم
يا ذؤال، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تقولي ذؤال فإنه شر السباع، وذؤال ترخيم ذؤالة والقرم السيد».(2/505)
وفي الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بجارية سوداء ترقص صبيا لها وتقول ذؤال يا ابن القرم
يا ذؤال، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تقولي ذؤال فإنه شر السباع، وذؤال ترخيم ذؤالة والقرم السيد».
الذيخ:
بكسر الذال ذكر الضباع الكثير الشعر والأنثى ذيخة والجمع ذيوخ وأذياخ وذيخة.
روى البخاري في أحاديث الأنبياء، وفي التفسير عن إسماعيل بن عبد الله قال: حدثني أخي عبد الحميد، وعن ابن أبي ذئب، عن سعيد المقبري، عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: «يلقى إبراهيم عليه الصلاة والسلام أباه يوم القيامة وعلى وجه آزر قترة وغبرة، فيقول له إبراهيم عليه السلام: ألم أقل لك أن لا تعصني، فيقول أبوه: فاليوم لا أعصيك، فيقول إبراهيم: يا رب إنك وعدتني أن لا تخزيني يوم يبعثون فأي خزي أخزى من أن يكون أبي في النار؟ فيقول الله تعالى: إني حرمت الجنة على الكافرين، فيقال: يا إبراهيم ما تحت رجليك فينظر فإذا بذيخ متلطخ فيؤخذ بقوائمه فيلقى في النار» (1). ورواه النسائي والبزار والحاكم في آخر المستدرك. عن أبي سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ليأخذن رجل بيد أبيه يوم القيامة يريد أن يدخله الجنة قال: فينادي إن الجنة لا يدخلها مشرك لأن الله حرم الجنة على كل مشرك، قال:
فيقول: «أي رب أبي فيحول في صورة قبيحة، وريح منتنة فيتركه». قال: فكان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يرون أنه إبراهيم عليه الصلاة والسلام، ولم يزدهم رسول الله صلى الله عليه وسلم على ذلك. ثم قال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين. ثم روى الحاكم عن حماد بن سلمة عن أيوب عن ابن سيرين عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يلقى رجل أباه يوم القيامة فيقول: يا أبت أي ابن كنت لك فيقول: خير ابن فيقول: هل أنت مطيعي اليوم؟ فيقول:
نعم. فيقول خذ بازرتي فيأخذ بازرته ثم ينطلق حتى يأتي الله وهو يعرض الخلق، فيقول: يا عبدي ادخل من أي أبواب الجنة شئت فيقول: أي رب وأبي معي فإنك وعدتني أن لا تخزيني. قال: فيمسخ الله أباه ضبعا ثم يلقى في النار فيؤخذ بأنفه، فيقول الله تعالى: يا عبدي أبوك هو فيقول لا وعزتك». ثم قال: صحيح على شرط مسلم، وفي حديث خزيمة بن ثابت أو ابن حكيم السلمي البهزي وليس بالأنصاري: «والذيخ محرنجم أي كالح منقبض من شدة الجذب». وهو حديث طويل شرحه ابن الأثير في أوائل كتاب مثال الطالب، والحكمة في كونه مسخ ضبعا، دون غيره من الحيوان أن الضبع أحمق الحيوان، كما سيأتي إن شاء الله، في أمثال الضبع.
ومن حمقه أنه يغفل عما يجب التيقظ له. ولذلك قال علي بن أبي طالب كرم الله وجهه: لا أكون كالضبع تسمع اللدم فتخرج حتى تصاد. والدم الضرب الخفيف، فلما لم يقبل آزر النصيحة من أشفق الناس عليه، وقبل خديعة عدوه الشيطان أشبه الضبع الموصوفة بالحمق. لأن الصياد إذا أراد أن يصيدها رمى في جحرها بحجر فتحسبه شيئا تصيده، فتخرج لتأخذه فتصاد عند ذلك.
ويقال لها وهي في جحرها: أطرفي أم طريق خامري أم عامر أبشري بجراد عطلى وشاة هزلى، فلا يزال يقال لها ذلك، حتى يدخل عليها الصائد، فيربط يديها ورجليها، ثم يجرها. ولأن آزر لو مسخ كلبا أو خنزيرا لكان فيه تشويه الخلقة، فأراد الله تعالى إكرام إبراهيم عليه الصلاة والسلام بجعل أبيه على هيئة متوسطة. قال في المحكم: يقال ذيخته أي ذللته فلما خفض إبراهيم لأبيه جناح الذل من الرحمة، فلم يقبل حشر، بصفة الذل يوم القيامة. وهذه الحكمة هي أحد الأسباب
__________
(1) رواه البخاري في تفسير سورة: 26.(2/506)
الباعثة على تأليف هذا الكتاب كما تقدم في خطبته والله أعلم.
باب الراء المهملة
الراحلة:
قال الجوهري: هي الناقة التي تصلح لأن ترحل، وكذلك الرحول ويقال الراحلة المركب من الإبل ذكرا كان أو أنثى انتهى. والهاء فيها للمبالغة كالتي في داهية وراوية وعلّامة. وإنما سميت راحلة لأنها ترحل أي يشد عليها الرحل فهي فاعلة بمعنى مفعولة كقوله (1)
تعالى: {فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رََاضِيَةٍ} * أي مرضية. وقد ورد فاعل بمعنى مفعول في عدة مواضع من القرآن العظيم. كقوله (2) تعالى: {لََا عََاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللََّهِ إِلََّا مَنْ رَحِمَ} أي لا معصوم.
وكقوله (3) تعالى: {مََاءٍ دََافِقٍ} أي موفوق. وكقوله (4) تعالى: {حَرَماً آمِناً} * أي مأمونا. وفيه جاء أيضا مفعول بمعنى فاعل، كقوله (5) تعالى: {حِجََاباً مَسْتُوراً} أي ساترا، و {كََانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا} (6) أي آتيا. قال الحريري (7): وقد يكنى عن النعل بالراحلة، لأنها مطية القدم وإليها أشار الشاعر بقوله ملغزا:
رواحلنا ست ونحن ثلاثة ... نجنبهن الماء في كل مورد
روى البيهقي في الشعب، في أواخر الباب الخامس والخمسين، أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: «من مشى عن راحلته عقبة فكأنما أعتق رقبة». قال أبو أحمد: العقبة ستة أميال، وروى البخاري ومسلم وغيرهما من حديث الزهري عن سالم عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الناس كابل مائة لا تجد فيها راحلة (8)». وقال البيهقي في سننه في باب إنصاف الخصمين في الدخول على القاضي والاستماع منهما والإنصاف لهما هذا الحديث يتأول على أن الناس في أحكام الدين سواء، لا فضل فيها الشريف على مشروف، ولا لرفيع على وضيع، كالإبل المائة لا يكون فيها راحلة، وهي الذلولة التي ترحل وتركب. وذكر قبله عن ابن سيرين أنه قال: كان أبو عبيدة بن حذيفة قاضيا، فدخل عليه رجل من الأشراف، وهو يستوقد نارا، فسأله حاجة، فقال له أبو عبيدة: أسألك أن تدخل أصبعك في هذه النار، قال سبحان الله. قال: أبخلت علي بإصبع من أصابعك أن تدخله في هذه النار، وتسألني إدخال جسمي كله في نار جهنم؟ وقال ابن قتيبة: الراحلة النجيبة المختارة من الإبل للركوب وغيره، وهي كاملة الأوصاف، فإذا كانت في ابل عرفت. قال: ومعنى الحديث أن الناس متساوون ليس لأحد منهم فضل في النسب بل هل أشباه كالإبل المائة. وقال الأزهري: الراحلة عند العرب، الجمل النجيب (9) والناقة النجيبة.
__________
(1) سورة الحاقة: الآية 21.
(2) سورة هود: الآية 43.
(3) سورة الطارق: الآية 6.
(4) سورة العنكبوت: الآية 67.
(5) سورة الإسراء: الآية 45.
(6) سورة مريم: الآية 61.
(7) الحريري: القاسم بن علي بن محمد بن عثمان، أبو محمد الحريري، البصري، الأديب الكبير صاحب «المقامات» الحريرية. «ودرّة الغواص». مات بالبصرة سنة 516هـ.
(8) رواه البخاري في الرقاق: 35. ومسلم في فضائل الصحابة: 232.
(9) أبو العباس القرطبي.(2/507)
قال: والهاء فيها للمبالغة، كما يقال: رجل نسابة وداهية. قال: والمعنى الذي ذكره ابن قتيبة غلط، بل معنى الحديث أن الزاهد في الدنيا الكامل في الزهد فيها الراغب في الآخرة قليل جدا، كقلة الراحلة في الإبل هذا كلام الأزهري. قال الإمام النووي وهو أجود من كلام ابن قتيبة.
وأجود منهما قول آخرين: أن المرضى الأحوال من الناس الكامل الأوصاف قليل فيهم جدا كقلة الراحلة في الإبل. قالوا: والراحلة البعير الكامل الأوصاف الحسن المنظر القوي على الأحمال والأسفار. وقال الإمام العلامة الحافظ أبو العباس القرطبي، شيخ المفسرين في زمانه: الذي يقع لي أن الذي يناسب التمثيل بالراحلة، إنما هو الرجل الكريم الجواد الذي يتحمل كل الناس وأثقالهم، بما يتكلف من القيام بحقوقهم والغرامات عنهم وكشف كربهم. فهذا هو القليل الوجود بل قد يصدق عليه إسم المفقود. قلت: وهذا أشبه القولين والله أعلم.
الرأل:
ولد النعام والأنثى رألة والجمع رئال ورئلان. وسيأتي ذكر النعام في باب النون إن شاء الله تعالى.
الراعي
: بالراء والعين المهملتين طائر متولد بين الورشان والحمام وهو شكل عجيب. قاله القزويني وقال (1) الجاحظ: إنه متولد بين الحمام والورشان وهو كثير النسل، ويطول عمره وله فضل وعظم في البدن والفرخ عليهما زلة في الهدير قرقرة ليست لأبويه، حتى صارت سببا للزيادة في ثمنه وعلة للحرص على اتخاذه وقد ضبطه بعض مصنفي العصر بالزاي والغين المعجمتين وهو وهم.
الربّى:
على وزن فعلى بالضم: الشاة التي وضعت حديثا، وإن مات ولدها فهي أيضا ربى وقيل: ربابها ما بينها وبين عشرين يوما، وقيل: هي ربى ما بينها وبين شهرين من وضعها، وخصها أبو زيد بالمعز وغيره بالضأن وقيل: الربى من المعز والرعوث من الضأن وجمعها رباب بالضم. قلت: وقد جاء الجمع على فعال في خمس عشرة كلمة رباب جمع ربى، ورخال الآتي في الباب. ورذال جمع رذل، وبساط جمع بسط، وناقة بسيطة أي هزيلة وتؤام تقول هذا در تؤام أي من التوأمين ونذال جمع نذل، ورعاة جمع راع، وقماء جمع قميء أي حقير، وجمال مع جمل، وسحاح جمع سح، المطر أي كثرة أنصبابه، وعراق جمع عرق. قال علي كرم الله وجهه: الدنيا أهون على الله من عراق خنزير بيد أجذم. وظؤار جمع ظئر وهي الدابة وثناء جمع ثني واحد أثناء الشيء، وعزاز جمع عزيز وفرار جمع فرير وهو الظبي.
الرّباح:
بفتح الراء الموحدة المخففة: دويبة كالسنور، وهي التي يجلب منها الزّباد (2)، وهذا هو الصواب في التعبير ووهم الجوهري فقال في النسخة التي بخطه: الرباح إسم دويبة يجلب منها الكافور وهو وهم عجيب. فإن الكافور صمغ شجر بالهند والرباح نوع منه فكأن الجوهري لما سمع أن الزباد يجلب من الحيوان سرى ذهنه إلى الكافور، فذكره. وسيأتي ذكره في باب الزاء المعجمة، فلما رأى ابن القطاع هذا الوهم، أصلحه فقال: والرباح بلد يجلب منه
__________
(1) الحيوان للجاحظ: 3/ 163.
(2) الزّباد: طيب يرشح من تحت ذنب السّنّور أو الرّباح.(2/508)
الكافور، وهو أيضا وهم، لأن الكافور صمغ شجر يكون داخل الخشب ويتخشخش فيه إذا حرك فينشر ويستخرج وقد أجاد ابن رشيق (1) بقوله:
فكرت ليلة وصلها في صدها ... فجرت بقايا أدمعي كالعندم (2)
... فطفقت أمسح مقلتي في نحرها ... إذ عادة الكافور إمساك الدم (3)
الرّباح:
بضم الراء المهملة وتشديد الباء الموحدة ذكر القرود وسيأتي حكمه.
الأمثال:
قالوا (4): «أجبن من رباح».
الرّبح:
بضم الراء المهملة وفتح الباء الموحدة الفصيل كأنه لغة في الربيع والربح أيضا طائر قاله الجوهري.
الربية:
دويبة بين الفأر وأم حبين قاله ابن سيده وقال غيره هي الفأر.
الرتوت:
الخنازير. قاله الجوهري بعد أن قال: الرت الرئيس وهؤلاء رتوت البلد. وقال في المحكم: الرت شيء يشبه الخنزير البري، وجمعه رتوت. وقيل هي الخنازير الذكور وقد تقدمت في باب الخاء المعجمة.
الرّثيلا:
بضم الراء المهملة وفتح الثاء المثلثة جنس من الهوام ويمد أيضا وسيأتي ذكرها في آخر الصيد وقال الجاحظ: الرثيلا نوع من العناكب وتسمى عقرب الحيات، لأنها تقتل الحيات، والأفاعي انتهى. وقال أبو عمر وموسى القرطبي الإسرائيلي: الرثيلا إسم يقع على أنواع كثيرة من الحيوان. وقيل: إنها ستة أنواع، وقيل: ثمانية وكلها من أصناف العنكبوت. وذكر حذاق الأطباء أن أعظم هذه الأنواع شرا: المصرية، أما النوعان الموجودان في البيوت، في أكثر البلاد، فهما العنكبوت ونكايتهما قليلة. وأما بقية الأنواع الأخرى من الرثيلات فإنها توجد غالبا في الأرياف، ومنها نوع له زغب، وأهل مصر يسمونه أبا صوفة. ونهش هذه الأنواع كلها قريب من لسع العقرب وسيأتي ذكرها في الصاد في الصيدان إن شاء الله تعالى. ومن خواصها أن شرب دماغها مع شيء من الفلفل ينفع من سمها.
وهي في الرؤيا تدل على امرأة مؤذية مفسدة لما يصلحه الناس من نسج ناقضة لما يبرمونه منه. وقيل: هي في الرؤية عدو قتال حقير المنظر شديد الطعنة والله أعلم.
الرّخل:
الأنثى من ولد الضأن والجمع رخال كما تقدم.
الرّخ:
بالخاء المعجمة في آخره طائر في جزائر بحر الصين يكون جناحه الواحدة عشرة
__________
(1) ابن رشيق هو أبو علي، الحسن بن رشيق، المعروف بالقيرواني، أديب بليغ ناقد. توفي سنة 463هـ. بمازر في صقلية. والبيتان مع ترجمته في وفيات الأعيان: 2/ 87.
(2) في الوفيات: «فكرت ليلة وصلة في صدّه». والعندم: دم الأخوين أو البقّم.
(3) في الوفيات: «أمسح ناظري في نحره إذ شيمة».
(4) جمهرة الأمثال: 1/ 264.(2/509)
آلاف باع، ذكره الجاحظ وأبو حامد الأندلسي قال: وقد كان وصل إلى أرض المغرب رجل من التجار ممن سافر إلى الصين وأقام بها مدة وكان عنده أصل ريشة من جناحه، كانت تسع قربة ماء وكان يقول: إنه سافر مرة في بحر الصين فألقتهم الريح إلى جزيرة عظيمة فخرج إليها أهل السفينة ليأخذوا الماء والحطب، فرأوا قبة عظيمة أعلى من مائة ذراع، ولها لمعان بريق فعجبوا منها فلما دنوا منها إذا هي بيضة الرخ، فجعلوا يضربونها بالخشب والفؤوس والحجارة حتى انشقت عن فرخ كأنه جبل، فتعلقوا بريشة من جناحه فجروه، فنفض جناحه، فبقيت هذه الريشة معهم وخرج أصلها من جناحه، ولم يكمل بعد خلقه فقتلوه وحملوا ما قدروا عليه من لحمه وقد كان بعضهم طبخ بالجزيرة قدرا من لحمه، وحركها بعود حطب ثم أكلوه. وكان فيهم مشايخ فلما أصبحوا إذ هم قد اسودت لحاهم ولم يشب بعد ذلك من أكل من ذلك الطعام. وكانوا يقولون:
إن ذلك العود الذي حركوا به القدر من عود شجرة النشاب، قال: فلما طلعت الشمس، إذا بالرخ قد أقبل في الهواء كأنه سحابة عظيمة في رجله حجر كالبيت العظيم أكبر من السفينة فلما حاذى السفينة ألقى ذلك الحجر بسرعة فوقع الحجر في البحر وسبقت السفينة ونجاهم الله تبارك وتعالى بفضله ورحمته. والرخ من أدوات الشطرنج والجمع رخاخ ورخخة قال ابن سيده وقد أجاد سري الرفاء (1) حيث قال:
وفتية زهر الآداب بينهم ... أبهى وأنضر من زهر الرياحين ... راحوا إلى الراح مشي الرّخ وانصرفوا ... والراح يمشي بهم مشي البراذين (2)
ومن مستحسن شعره قوله (3):
بنفسي من أجود له بنفسي ... ويبخل بالتحية والسلام ... وحتفي كامن في مقلتيه ... كمون الموت في حدّ الحسام
التعبير:
الرخ في المنام يدل على أخبار غريبة، وأسفار بعيدة، وربما دل على الهذر في الكلام الصحيح والسقيم. وكذلك العنقاء والله أعلم. وسيأتي حكمها في باب العين المهملة.
الرخمة:
بالتحريك طائر أبقع يشبه النسر في الخلقة، وكنيتها أم جعفران وأم رسالة وأم عجيبة وأم قيس وأم كبير، ويقال لها الأنوق والجمع رخم والهاء فيه للجنس قال الأعشى:
يا رخما قاظ على مطلوب ... يعجل كفّ الخارىء المطيب (4)
__________
(1) السري الرفاء: هو أبو الحسن السّريّ بن أحمد بن السّري الرفاء الموصلي الشاعر، كان في صباه يرفو ويطرز، مدح سيف الدولة وغيره من الرؤساء شعره عذب غني بالتشبيهات واجمل ما فيه الأوصاف. مات سنة 362هـ.
(2) وفيات الأعيان: 2/ 361. وفي البيت الثاني: «تمشي بهم مشي الفرازين». والراح: الخمرة، والبراذين: جمع البرذون: دابة كالحمار.
(3) وفيات الأعيان: 2/ 361.
(4) ديوان الأعشى: 265. وفي الديوان: «على ينخوب» والينخوب: الجبان.(2/510)
مطلوب إسم جبل، والمطيب معناه الذي يطلب طيب النفس بالاستنجاء. ومنه الاستطابة وتسمى الرخمة بالأنوق كما تقدم. ويقال لها ذات الإسمين لذلك، وهي تحمق مع تحرزها. قال الكميت:
وذات إسمين والألوان شتى ... تحمق وهي كيّسة الحويل
أي الحيلة، وذكر عند الشعبي الروافض، فقال: لو كانوا من الدواب لكانوا حمرا، ولو كانوا من الطير لكانوا رخما. ومن طبع هذا الطائر أنه لا يرضى من الجبال إلا بالموحش منها، ولا من الأماكن إلا باسحقها وأبعدها من أماكن أعدائه، ولا من الهضاب إلا بصخورها. ولذلك تضرب العرب المثل بالامتناع ببيضه فيقولون: «أعز من بيض الأنوق» (1). كما تقدم. والأنثى منه لا تمكن من نفسها غير ذكرها، وتبيض بيضة واحدة وربما أتأمت وهي من لئام الطير، وهي ثلاثة: البوم والغراب والرخمة.
وحكمها:
تحريم الأكل كما تقدم. روى البيهقي عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: «نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أكل الرخمة» (2). وإسناده ليس بالقوي وقال الإمام العلامة القرطبي، في تفسير آخر سورة الأحزاب: {كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسى ََ} بقولهم أنه قتل أخاه هارون فتكلمت الملائكة بموته ولم يعرف موضع قبره إلا الرخمة فلذلك جعله الله أصم أبكم وكذلك رواه الحاكم في المستدرك وفي كتاب تواريخ الأنبياء عليهم الصلاة والسلام. وقال الزمخشري: إنها تقول في صياحها سبحان ربي الأعلى.
الأمثال:
قالوا: «أحمق من رخمة وأموق» (3). وإنما خصت من بين الطير بذلك، لأنها ألأم الطير وأظهرها حمقا وموقا، وأقذرها طعما، لأنها تأكل العذرة. وقالوا: إنطقي يا رخم فإنك من طير الله أصله أن الطير صاحت فصاحت لرخمة، فقيل لها: يهزأ بها إنك من طير الله فانطقي يضرب للرجل الذي لا يلتقت إليه ولا يسمع منه.
الخواص:
إذا بخر البيت بريشها طرد الهوام وزبلها يداف بخل خمر ويطلى به البرص يغير لونه وينفعه. وكبدها تشوى وتسحق وتداف (4)، ويسقى ذلك لمن به جنون، كل يوم ثلاث مرات، ثلاثة أيام متوالية يشفى. وإن علق رأسها على المرأة التي عسرت ولادتها، وضعت سريعا، والجلد الأصفر الذي على قانصة الرخمة إذا أخذ وسحق بعد تجفيفه، وشرب بشراب العسل نفع من كل سم. وعظم رأس الرخمة ينفع من وجع الرأس تعليقا.
التعبير:
الرخمة في الرؤيا إنسان أحمق قذر، فمن رأى أنه أخذ رخمة فإنه يقع في حرب يسفك فيه دم كثير. وقيل: من أخذ رخمة مرض مرضا شديدا. وقالت النصارى: الرخم الكثير يدل على عسكر يحل في ذلك المكان، وهم سفلى يأكلون الحرام. وقال ارطاميدورس:
__________
(1) جمهرة الأمثال: 2/ 55.
(2) الكامل لابن عدي: 3/ 924، 925.
(3) جهمرة الأمثال: 2/ 317.
(4) تداف: تخلط.(2/511)
الرخم دليل خير لمن صنعته خارج البلد كالكّلاسين وصناع الآجر، لأن الرخم لا يدخل البلد، والرخم في المنام يدل على ناس يغسلون الموتى، ويسكنون المقابر، لأن الرخم يأكل الجيفة ولا يدخل المدن، ومن رأى رخمة في دار وكان فيها مريض، فإنه يموت. وإن لم يكن في الدار مريض خشي على صاحب الدار من الموت أو المرض الشديد. والله أعلم.
الرشأ:
بفتح الراء الظبي إذا قوي وتحرك ومشى مع أمه والجمع أرشأ. أنشدنا شيخنا الإمام العلامة جمال الدين عبد الرحيم الأسنوي (1) رحمه الله تعالى قال: أنشدنا شيخنا الشيخ أثير الدين أبو حيان (2)، قال: أنشدنا شيخنا أبو جعفر بن الزبير قال: أنشدنا أبو الخطاب بن خليل قال:
أنشدنا شيخنا أبو حفص عمر بن عمر قاضي أشبيلية لنفسه، وقد أهديت إليه جارية، فتبين له أنه قد كان وطىء أمها فردها ومعها هذه الأبيات:
يا مهدي الرشا الذي ألحاظه ... تركت جفوني نصب تلك الأسهم ... ريحانة كل المنى في شمها ... لولا المهيمن واجتناب المحرم ... ما عن قلى صرفت إليك وإنما ... صيد الغزالة لم يبح للمحرم (3)
... يا ويح عنترة يقول وشفه ... ما شفني وجد وإن لم أكتم ... يا شاة ما قنص لمن حلّت له ... حرمت علي وليتها لم تحرم
وقال أبو الفتح البستي وأجاد:
من أين للرشا الغرير الأحور ... في الخد مثل عذارك المتحدر (4)
... رشأ كأن بعارضيه كليهما ... مسكا تساقط فوق ورد أحمر
الرشك:
بضم الراء وإسكان الشين المعجمة، وهو بالفارسية إسم للعقرب. ذكر القاضي الإمام أبو الوليد ابن الفرضي في كتاب الألقاب، في أسماء نقلة الحديث، والخطيب أبو علي الغساني، في كتاب تقييد المهمل، والقاضي أبو الفضل عياض بن موسى، في كتاب مشارق الأنوار، والحافظ أبو الفرج بن الجوزي، وغيرهم: أن يزيد بن أبي يزيد وإسمه سنان الضبعي، مولاهم البصري الدارد المعروف بالرشك، أنه لقب بذلك لكبر لحيته قيل: إن العقرب دخل في لحيته، فأقامت ثلاثة أيام وهو لا يدري بها لعظم لحيته، وطولها، قال ابن دحية (5) في كتابع العلم المنشور: والعجب كيف لا يحس بها وكيف لا تسقط عند وضوئه للصلاة، ولعله كان لا يخلل
__________
(1) الإسنوي: عبد الرحيم بن الحسن بن علي الإسنوي الشافعي، جمال الدين، فقيه أصولي من علماء العربية، أقام في القاهرة. له مصنفات كثيرة، توفي سنة 772هـ.
(2) أبو حيان: محمد بن يوسف بن علي بن يوسف بن حيان الغرناطي الأندلسي الجيّاني، أثير الدين، عالم بالعربية والتفسير والحديث، ولد في غرناطة ومات بالقاهرة سنة 745هـ.
(3) القلى: البغض.
(4) الرشأ: الغزال. الغريز: الصغير. الأحور. في عينه حور أي بياض.
(5) ابن دحية: عمر بن الحسن بن علي بن محمد، أبو الخطاب، أديب مؤرخ، محدّث من أهل سبتة بالأندلس.
استقر بمصر ومات بالقاهرة سنة 633هـ.(2/512)
لحيته لكبرها، أو كانت العقرب صغيرة جدا، فإختبأت بين الشعر، وأما كونها مقدرة بثلاثة أيام، فهذا التقدير كيف يصح؟ لأنه لو علم بها في أول وجودها في لحيته ما تركها! فمن أين تعلم هذه المدة؟ انتهى. والذي عندي في ذلك أنه يحتمل أن يكون في منتزه، أو كان في مكان فيه العقارب كثيرة، وكانت مدة إقامته في ذلك المكان ثلاثة أيام، فلما أصابها بعد ذلك، علم أن مبدأ وجودها كان من ذلك الوقت، وهذا أولى من تكذيب من رواه من الأئمة الأعلام. فقد روى الحاكم أبو عبد الله في كتاب علوم الحديث، له عن يحيى بن معين أنه قال: كان يزيد يسرح لحيته فخرج منها عقرب، فلقب بالرشك انتهى. والمشهور أن الرشك هو القسام بلغة أهل البصرة، سمي بذلك لأنه كان يقسم الأرض والدور وغير ذلك. مات بالبصرة سنة ثلاثين ومائة وروى له الجماعة. قال الترمذي أبو عيسى في باب ما جاء في صوم ثلاثة من كل شهر. حدثنا محمود بن غيلان، حدثنا أبو داود حدثنا شعبة عن يزيد الرشك، قال: سمعت معاذا يقول: قلت لعائشة رضي الله تعالى عنها أكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم ثلاثة أيام من كل شهر؟ قالت: نعم. قلت: من أيها كان يصوم؟ قالت: كان لا يبالي من أيها صام. قال الترمذي: حديث حسن صحيح. ويزيد الرشك هو يزيد بن أبي يزيد الضبعي، وهو يزيد القاسم، وهو القسام. والرشك هو القسام بلغة أهل البصرة كما تقدم.
الرفراف:
طائر يقال له ملاعب ظله، ويقال له خاطف ظله، وسيأتي الكلام عليه في باب الميم والظليم أيضا يقال له رفراف، لرفرفته عند عدوه والرفرف ضرب من السمك قاله ابن سيده.
الرق:
بكسر الراء بالقاف ضرب من دواب الماء يشبه التمساح، والرق أيضا العظيم من السلاحف وجمعه رقوق. وفي غريب الحديث كان فقهاء المدينة يشترون الرق ويأكلونه. رواه الجوهري بفتح الراء والأكثرون بكسرها.
الركاب:
بكسر الراء الإبل، واحدتها راحلة وجمعها ركائب. وفي حديث جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث بعثا، عليهم قيس بن سعد بن عبادة، فجهد وانتحر لهم قيس تسع ركائب، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الجود لمن شيمة أهل ذلك البيت». ويجمع أيضا على ركب ومنه قيل: زيت ركابي، لأنه يحمل على ظهور الإبل. والركوبة ما يركب، يقال: ما له ركوبه ولا حلوبة ولا حمولة، أي ما يركبه ويحلبه. ويحمل عليه. وقرأت عائشة رضي الله تعالى عنها فمنها ركوبتهم. وجمع الركوبة ركائب انتهى. وقال السهيلي، قبيل الكلام على ما أنزل الله تعالى، في غزوة بدر: والركوبة ركائب. انتهى. ولو أراد الجمع بغير هاء لقال: ركب كعجز. كما جاء في الحديث أنه عليه الصلاة والسلام قال: «إن الجنة لا يدخلها العجز». قالها ممازحا لعمته صفية رضي الله عنها، وقيل: بل قالها لامرأة من الأنصار. ذكر ذلك هناد بن السري في كتاب الرقائق له.
الركن:
الفأر ويسمى ركينا على لفظ التصغير قاله ابن سيده.
الرمكة:
بالتحريك الأنثى من البراذين والجمع رماك ورمكات وأرماك أيضا عن الفراء،
مثل ثمار وأثمار ووقع في الوسيط في الباب الثاني من أبواب البيع لو قال: بعتك هذه النعجة فإذا هي رمكة ففي قول يعول على الإشارة وفي قوله آخر يعول على العبارة قال ابن الصلاح: هذا تصحيف، إنما هو هذه البغلة فإن الرمكة لا تشتبه بالنعجة.(2/513)
بالتحريك الأنثى من البراذين والجمع رماك ورمكات وأرماك أيضا عن الفراء،
مثل ثمار وأثمار ووقع في الوسيط في الباب الثاني من أبواب البيع لو قال: بعتك هذه النعجة فإذا هي رمكة ففي قول يعول على الإشارة وفي قوله آخر يعول على العبارة قال ابن الصلاح: هذا تصحيف، إنما هو هذه البغلة فإن الرمكة لا تشتبه بالنعجة.
الرهدون:
والرهدنة بفتح الراء، طائر يشبه الحمرة يرهدن في مشيته كأنه يستدبر وجمعه رهادن، وهو كثير بمكة خصوصا بالمسجد الحرام وهو يشبه العصافير إلا أنه أدبس.
الروبيات:
هو سمك صغير جدا أحمر.
الخواص:
إن طرحت رجل الروبيان في شراب من يحب الشراب ابغضه، ورقبته ينحر بها فيسقط الجنين وإذا دق الروبيان وهو طري، وضمد به موضع الشوك أو السهم الغائص في البدن أخرجه بسهولة. وإن سلق مع الحمص الأسود وضمد به السرة أخرج حب القرع. وإن جفف وسحق واكتحل به صاحب الغشاوة نفعه. وإن سحق مع سكنجبين وشرب أخرج حب القرع من الجوف. قاله عبد الملك بن زهر.
الريم:
ولد الظبي والجمع آرام قال الشاعر:
بها العير والآرام يمشين خلفه ... وأطلاؤها ينهضن من كل مجثم (1)
يقول: إذا ذهب فوج جاء فوج. وقال الأصمعي: الآرام الظباء البيض الخالصة البياض، الواحدة ريم. قال: وهي تسكن الرمال وهذا النوع من الظباء، يقال إنه ضأنها لأنه أكثرها شحما ولحما. وكان زكي الدين بن كامل القطيعي أبو الفضل يعرف بقتيل الريم، وأسير الهوى. توفي سنة ست وأربعين وخمسمائة. ومن شعره:
لي مهجة كادت بحر كلومها ... للناس من فرط الجوى تتكلم (2)
... لم يبق منها غير أرسم أعظم ... متحدثات للهوى تتظلم (3)
أم رباح:
بفتح الراء تخفيف الباء الموحدة وحاء مهملة طائر أغبر أحمر الجناحين والظهر يأكل العنب قاله في المرصع.
أبو رباح:
بكسر الراء وتخفيف الباء المثناة تحت اليؤيؤ وسيأتي في آخر الكتاب.
ذو رميح:
مصغر اليربوع، ورمحه ذنبه. وقيل: هو ضرب من اليرابيع طويل الرجلين قاله ابن سيده.
__________
(1) العير: الحمار. اطلاء: جمع الطلا: ولد الغزال. مجثم: مرتع.
(2) البيتان في فوات الوفيات: 2/ 27. والكلوم: جمع الكلم: الجرح. الجوى: الشوق.
(3) في الفوات: «متجردات للهوى».(2/514)
الفهرس
مقدمة المؤلف 3
مقدمة المصنف 6
باب الهمزة
الأسد 10
الإبل 26
الأبابيل 32
الأتان 32
الأخطب 34
الأخيضر 34
الأخيل 34
الأربد 34
الأرخ 35
الأرضة 35
الأرقم 36
الأرنب 36
الأرنب البحري 41
الأروية 41
الأساريع 42
الأسفع 43
الأسقنقور 43
الأسود السالخ 44
الأصرمان 45
الأصلة 45
الأطلس 46
الأطوم 46
الأطيش 46
الأغثر 47
الأفال والأفائل 47
الأقهبان 55
الأملول 55
الإنس 55
الإنسان 55
إنسان الماء 69
الكم 69
الأنقد 69
الإنكليس 71
الأنن 71
الأنيس 71
الأنوق 71
الإوز 72
الإلفة 152
الإلق 152
الأودع 152
الأورق 152
ايلس 154
الأيم والأين 154
الأيّل 154
ابن آوى 156
باب الباء الموحدة
البابوس 157
البازي 157
البازل 162
الباقعة 162
بالام 162
البال 163
الببر 164
الببغاء 164
البج 166
البجع 166
البخزج 166(2/515)
البجاق 166
البخت 167
البدنة 167
البذج 169
البراق 170
البرذون 173
البرغش 176
البرغن 177
البرغوث 177
البرا 179
البرقانة 179
البرقش 179
البركة 180
البشر 180
البط 180
البطس 184
البعوض 184
البعير 193
البغاث 199
البغل 200
البقر الأهلي 212
البقر الوحشي 220
بقر الماء 221
بقرة بني إسرائيل 221
البق 222
البكر 223
البلبل 225
البلح 227
البلشون 227
البلصوص 227
بنات الماء 227
بنات وردان 227
البهار 227
البهثة 228
البهرمان 228
البهمة 228
البهيمة 228
البوم والبومة 231
البوّة 234
بوقير 234
البينيب 234
البياح 234
أبو براقش 234
أبو برا 235
أبو بريص 235
باب التاء المثناة
التالب 235
التبيع 235
التبشر 235
التثفل 235
التدرج 235
التخس 235
التفلق 235
التفه 236
التم 236
التمساح 237
التميلة 238
التنوّط 238
التنين 238
التورم 240
التولب 240
التيس 240
باب الثاء المثلثة
الثاغية 248
الثرملة 248
الثعبان 248(2/516)
ثعالة 252
الثعبة 252
الثعلب 252
الثفا 260
الثقلان 260
الثلج 260
الثني 260
الثور 260
الثول 263
الثيتل 263
باب الجيم
الجأب 264
الجارف 264
الجارحة 264
الجاموس 264
الجان 264
الجيهة 265
الجثلة 265
الجحل 265
الجحمرش 265
الجحش 265
الجخدب 266
الجدجد 266
الجدابة 266
الجدي 266
الأجدل 267
الجذع 267
الجراد 268
الجراد البحري 274
الجرارة 274
الجرذ 274
الجرجس 276
الجوارس 276
الجرو 276
الجريث 277
الجساسة 280
جعار 281
الجعدة 281
الجعل 281
الجعول 283
الجفرة 283
جلكى 283
الجلالة 283
الجلم 284
الجمل 284
جمل البحر 291
جمل الماء 291
جمل اليهود 291
الجمعليلة 291
جميل وجميل 291
الجنبر 291
الجندب 291
الجندع 292
الجن 292
جنان البيوت 307
الجندبادستر 308
الجنين 308
جهبر 310
الجواد 310
الجواف 317
الجوذر 317
الجوزل 320
جيال 320
أبو جرادة 320
باب الحاء المهملة
حائم 320(2/517)
الحارية 321
الحباب 321
الحبتر 321
الحبث 321
حباحب 321
الحبارى 321
الحبرج 323
الحبركى 323
حبلق 323
حبيش 323
الحجر 323
الحجروف 324
الحجل 324
الحدأة 325
الحذف 328
الحر 328
الحرباء 329
الحرذون 330
الحرشاف أو الحرشوف 330
الحرقوص 331
الحريش 332
الحسبان 332
الحساس 332
الحسل 332
الحسيل 333
حسون 333
الحشرات 333
الحشو والحاشية 334
الحصان 334
الحصور 336
حضاجر 336
الحضب 337
الحفان 337
الحفص 337
الحقم 337
الحلزون 337
الحلكة والحلكاء والحلكاء والحلكي 337
الحمار الأهلي 338
الحمار الوحشي 359
حمار قبان 362
الحمام 363
الحمسة 374
الحمر 374
الحماط 375
الحمك 375
الحمل 375
حمنان 376
الحمولة 376
الحميمق 376
جميل حر 376
الحنش 376
الحنظب 377
الحوار 377
الحوت 378
حوت الحيض 380
حوت موسى ويوشع عليهما الصلاة والسلام 380
الحوشي 384
الحوصل 385
الحلان 385
حيدرة 385
الحيرمة 387
الحية 387
الحيوت 401
الحيدوان 401
الحيقطان 401
الحيوان 401
أم حبين 404(2/518)
أم حسان 405
أم حسيس 405
أم حفصة 405
أم حمارس 405
باب الخاء المعجمة
الخازباز 405
الخاطف 406
خاطف ظله 406
الخبهقعي 406
الخثق 406
الخدارية 406
الخدرنق 407
الخراطين 407
الخرب 407
الخرشة 408
الخرشفلا 408
الخرشنة 408
الخرق 408
الخرنق 408
الخروف 409
الخزز 409
الخشاش 409
الخشاف 410
الخشرم 410
الخشف 410
الخضاري 411
الخضرم 411
الخضيراء 411
الخطاف 411
الخطّاف 414
الخفاش 414
الخنان 416
الخلنبوص 416
الخلد 416
الخلفة 420
الخمل 423
الخنتعة 423
الخندع 423
الخنزير البري 423
الخنزير البحري 429
الخنفساء 429
الخنّوص 430
الختيعور 431
الخيدع 431
الأخيل 431
الخيل 431
أم خنور 441
باب الدال المهملة
الدابة 441
الداجن 453
الدارم 454
الدبى 454
الدبدب 456
الدبر 456
الديسي 457
الدجاج 458
الدجاجة الحبشية 465
الدج 465
الدحرج 465
الدخاس 465
الدخس 465
الدخل 466
الدراج 466
الدرباب 467
الدرحرج 467
الدرص 467
الدرة 468
الدساسة 468(2/519)
الدعسوقة 468
الدعموص 468
الدغفل 469
الدغناش 469
الدقيش 469
الدلدل 470
الدلفين 470
الدلق 471
الدلم 471
الدلهاما 472
الدم 472
الدنة 472
الدنيلس 472
الدهانج 473
الدوبل 473
الدود 473
دؤالة 477
الدودمس 477
الدوسر 477
الديسم 477
الديك 477
ديك الجن 485
الديلم 485
ابن دأية 485
الدئل 486
باب الذال المعجمة
ذؤالة 488
الذباب 488
الذر 494
الذراح 497
الذرع 497
الذعلب 498
الذئب 498
ذؤالة 505
الذيخ 506
باب الراء المهملة
الراحلة 507
الرأل 508
الراعي 508
الربّى 508
الرّباح 508
الرّباح 509
الرّبح 509
الربية 509
الرتوت 509
الرّثيلا 509
الرّخل 509
الرّخ 509
الرخمة 510
الرشأ 512
الرشك 512
الرفراف 513
الرق 513
الركاب 513
الركن 513
الرمكة 513
الرهدون 514
الروبيات 514
الريم 514
أم رباح 514
أبو رباح 514
ذو رميح 514(2/520)