{عَلَيْكُمْ} فيعلموا بمكانكم {يَرْجُمُوكُمْ} (1) قال ابن جريج: يشتموكم ويؤذوكم بالقول. ويقال:
يقتلوكم ويقال: كان من عادتهم القتل بالرجم، وهو من أخبث القتل. ويقال: يضربوكم أو يعيدوكم في ملتهم أي دينهم الكفر، ولن تفلحوا إذا أبدا إن عدتم إليهم.
قوله (2) عز وجل: {وَكَذََلِكَ أَعْثَرْنََا عَلَيْهِمْ} أي اطلعنا عليهم، يقال: عثرت على الشيء:
اطلعت عليه، وأعثرت غيري وأطلعته عليه {لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللََّهِ حَقٌّ} (3) يعني قوم تاودوسيوس، {وَأَنَّ السََّاعَةَ لََا رَيْبَ فِيهََا إِذْ يَتَنََازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ} (4) قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: يتنازعون في البنيان والمسجد، فقال المسلمون: نبني عليهم مسجدا، لأنهم على ديننا، وقال المشركون: نبني عليهم بنيانا لأنهم من أهل نسبنا. وقال عكرمة: يتنازعون في الأرواح والأجساد.
فقال المسلمون: البعث للأجساد والأرواح، وقال المشركون: البعث للأرواح دون الأجساد. فبعثهم الله تعالى من رقادهم، وأراهم أن البعث للأجساد والأرواح. وقيل: يتنازعون في عددهم {فَقََالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيََاناً رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ، قََالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلى ََ أَمْرِهِمْ} (5)، تاودوسيوس الملك وأصحابه {لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً} (6).
قوله (7) عز وجل: {سَيَقُولُونَ ثَلََاثَةٌ رََابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ} وذلك أن السيد والعاقب وأصحابهما، من نصارى نجران، كانوا عند النبي صلى الله عليه وسلم فجرى ذكر أهل الكهف، فقال السيد: كانوا ثلاثة رابعهم كلبهم، وكان السيد يعقوبيا، وقال العاقب: كانوا خمسة سادسهم كلبهم، وقال المسلمون: كانوا سبعة وثامنهم كلبهم. فحقق الله قول المسلمين وصدقهم بعدما حكى قول النصارى فقال: {سَيَقُولُونَ ثَلََاثَةٌ رََابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سََادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْماً بِالْغَيْبِ} (8) أي قذفا بالظن من غير يقين كقول الشاعر:
وأجعل قول الحقّ قولا مرجّما
{وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثََامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ} (9) قال بعضهم: هذه واو الثمانية، وذلك أن العرب تقول واحد اثنان ثلاثة أربعة خمسة ستة سبعة وثمانية لأن العقد عندهم كان سبعة، كما هو اليوم عندنا عشرة. ونظيره قوله (10) تعالى: {التََّائِبُونَ الْعََابِدُونَ الْحََامِدُونَ السََّائِحُونَ الرََّاكِعُونَ السََّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنََّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ} وقوله تعالى لأزواج النبي صلى الله عليه وسلم: {ثَيِّبََاتٍ وَأَبْكََاراً} (11) وقال بعضهم: هذه واو الحكم والتحقيق، فإن الله حكى اختلافهم فتم الكلام عند قوله {وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ} (12) ثم حكى أن ثامنهم كلبهم، الثامن لا يكون إلا بعد السبع. فهذا تحقيق قول المسلمين.
{قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مََا يَعْلَمُهُمْ إِلََّا قَلِيلٌ} (13) قال مجاهد وقتادة: قليل من الناس، وقال
__________
(1) سورة الكهف: آية 20.
(2) سورة الكهف: آية 21.
(3) سورة الكهف: آية 21.
(4) سورة الكهف: آية 21.
(5) سورة الكهف: آية 21.
(6) سورة الكهف: آية 21.
(7) سورة الكهف: آية 22.
(8) سورة الكهف: آية 22.
(9) سورة الكهف: آية 22.
(10) سورة التوبة: آية 112.
(11) سورة التحريم: آية 5.
(12) سورة الكهف: آية 22.
(13) سورة الكهف: آية 22.(1/407)
عطاء وقتادة أيضا: يعني بالقليل أهل الكتاب. وقال ابن عباس، في قوله: {مََا يَعْلَمُهُمْ إِلََّا قَلِيلٌ} (1) قال: أنا من أولئك القليل، وهم مكسلمينا وتمليخا ومرطونس وبنيونس وساربونس ودوانوانس وكند سلططنوس، وهو الراعي. والكلب اسمه قطمير كلب أنمر فوق القلطي، ودون الكردي. والقلطي كلب صيني.
قال محمد بن المسيب: وما بقي بنيسابور محدث إلا كتب عني هذا الحديث، إلا من لم يقدر له. وكتبه علي أبو عمر والجبري زاد الإمام أبو الحسن في روايته فقال: قلت: وصدق ابن المسيب. فقد رأيت في تفسير أبي عمرو الجبري هذا الحديث، مرويا عن ابن المسيب، ثم قال:
أعني الإمام أبا الحسن بسنده عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، قال: إن الله عز وجل عدهم حتى انتهى إلى السبعة، وأنا من القليل الذين يعلمونهم هم سبعة يعني أصحاب الكهف.
قال الثعلبي: قوله تعالى: {فَلََا تُمََارِ فِيهِمْ إِلََّا مِرََاءً ظََاهِراً} (2) وهو ما نص عليه، في كتابه العزيز من خبرهم، يقول تعالى: حسبك ما قصصت عليك فلا تمار فيهم {وَلََا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَداً} (3) من أهل الكتاب. وقوله تعالى: {وَلََا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فََاعِلٌ ذََلِكَ غَداً إِلََّا أَنْ يَشََاءَ اللََّهُ} (4)
قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: يعني إن عزمت على أن تفعل غدا شيئا، أو تحلف على شيء أنت فاعله غدا، فقل: إن شاء الله، فإن نسيت الاستثناء، ثم ذكرته فقله، ولو بعد سنة، وهذا تأديب من الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم، حين سئل عن المسائل الثلاثة: أهل الكهف والروح وذي القرنين، فوعدهم أن يجيبهم غدا، ولم يقل إن شاء الله ولم يستثن.
روي عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا يتم إيمان العبد حتى يستثني في كل كلامه.
قوله عز وجل {وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذََا نَسِيتَ} (5) قال ابن عباس ومجاهد وأبو العالية والحسن رضي الله تعالى عنهم: معناه إذا نسيت الاستثناء ثم ذكرته فاستثن. وقال عكرمة رضي الله تعالى عنه:
معناه واذكر ربك إذا غضبت. فقد روى وهب بن منبه، قال: مكتوب في الإنجيل: يا ابن آدم اذكرني حين تغضب، أذكرك حين أغضب، وإلا أمحقك فيمن أمحق. وإذا ظلمت فلا تنتصر، فإن نصرتي لك خير من نصرتك لنفسك. وقال الضحاك والسدي: هذا في الصلاة لقوله (6) صلى الله عليه وسلم:
«من نسي صلاة أو نام عنها، فليصلها متى ذكرها». وقال أهل الإشارة: معناه اذكر ربك، إذا نسيت غيره. ويؤيده قول ذي النون المصري رحمه الله تعالى: من ذكر الله على الحقيقة نسي في جنب ذكره كل شيء، فإذا نسي في جنب ذكره كل شيء، حفظ الله له كل شيء، وكان له عوضا من كل شيء. وقيل: معناه واذكر ربك، إذا تركت ذكره والنسيان هو الترك.
قوله (7) عز وجل {وَقُلْ عَسى ََ أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هََذََا رَشَداً} أي يثبتني على طريق
__________
(1) سورة الكهف: آية 22.
(2) سورة الكهف: آية 22.
(3) سورة الكهف: آية 22.
(4) سورة الكهف: آية: 23، 24.
(5) سورة الكهف: آية 24.
(6) رواه أبو داود: صلاة 11. والنسائي: مواقيت 53.
(7) سورة الكهف: آية 24.(1/408)
هو أقرب إليه وأرشد. وقيل: معناه لعل الله يهديني فيرشدني لأقرب مما وعدتكم وأخبرتكم، أنه سيكون إن هو شاء. وقيل: إن الله أمره أن يذكره إذا نسي شيئا، ويسأله أن يذكره فيذكره ويهديه، لما هو خير له من تذكره ما نسيه.
ويقال: إن هؤلاء القوم، لما سألوه عن قصة أصحاب أهل الكهف، على وجه العناد، أمره الله أن يخبرهم أن الله سيؤتيه من الحجج والبيان على صحة نبوته، وما دعاهم إليه من الحق زيادة على ما سألوه، ثم إن الله تعالى فعل ذلك به حيث آتاه من علم غيوب المسلمين، وخبرهم ما كان أوضح الحجج، وأقرب إلى الرشد من خبر أصحاب الكهف. وقال بعضهم: هذا شيء أمر صلى الله عليه وسلم أن يقوله مع قوله: إن شاء الله إذا ذكر الاستثناء بعد ما نسيه، فإذا نسي الإنسان «إن شاء الله» فتوبته من ذلك وكفارته أن يقول: عسى أن يهديني ربي لأقرب من هذا رشدا.
وقوله (1) تعالى: {وَلَبِثُوا} يعني أصحاب الكهف، {فِي كَهْفِهِمْ ثَلََاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعاً} (2) قال بعضهم: هذا خبر عن أهل الكتاب أنهم قالوا ذلك، وقالوا: لو كان خبرا من الله عن قدر لبثهم في الكهف، لم يكن لقوله (3) {قُلِ اللََّهُ أَعْلَمُ بِمََا لَبِثُوا} وجه مفهوم، فقد أعلم الله خلقه قدر لبثهم. وهذا القول قول قتادة، يدل عليه قراءة عبد الله بن مسعود: فقالوا لبثوا في كهفهم.
وقال مطر الوراق في هذه الآية: هذا شيء قالته اليهود، فرد الله عليهم، فقال: {قُلِ اللََّهُ أَعْلَمُ بِمََا لَبِثُوا} (4).
وقال آخرون: هذا إخبار من الله تعالى عن قدر لبثهم في الكهف، وقالوا: معنى قوله (5)
تعالى: {قُلِ اللََّهُ أَعْلَمُ بِمََا لَبِثُوا} أن أهل الكتاب على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالوا: إن للفتية من لدن دخلوا الكهف إلى يومنا هذا ثلاثمائة وتسع سنين، فرد الله عليهم ذلك.
قال صلى الله عليه وسلم: «الله أعلم بما لبثوا بعد أن قبض أرواحهم إلى يومنا هذا لا يعلم ذلك غير الله وغير من أعلمه ذلك». وقال الكلبي: قالت النصارى، أهل نجران: أما الثلاثمائة فقد عرفناها، وأما التسع فلا علم لنا بها. فنزلت (6) {قُلِ اللََّهُ أَعْلَمُ بِمََا لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضِ} أي يعلم ما غاب فيهما من العباد.
واختلفوا في قوله (7) عز وجل: {ثَلََاثَ مِائَةٍ سِنِينَ} فقرأ أهل الكوفة بغير تنوين، بمعنى فلبثوا في كهفهم سنين ثلاثمائة. وقال الضحاك ومقاتل: نزلت (8) {وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلََاثَ مِائَةٍ} فقالوا:
أياما أو أشهرا أو سنين. فلذلك قال: سنين. ولم يقل سنة انتهى. ما ساقه الإمام أبو اسحاق محمد بن أحمد الثعلبي، من قصة أصحاب الكهف، وقد ذكرها الحافظ أبو محمد بن جرير بن يزيد الطبري في تاريخه الكبير، وفيها زيادة فوائد فلنأت بها.
قال: ومما كان في أيام ملوك الطوائف ما ذكره الله تعالى في كتابة العزيز من أمر الفتية، الذين أووا إلى الكهف فضرب على آذانهم، قال: وكان أصحاب الكهف فتية آمنوا بربهم، كما وصفهم الله في تنزيله، فقال لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: {أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحََابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كََانُوا مِنْ}
__________
(1) سورة الكهف: آية 25.
(2) سورة الكهف: آية 25.
(3) سورة الكهف: آية 26.
(4) سورة الكهف: آية 26.
(5) سورة الكهف: آية 26.
(6) سورة الكهف: آية 26.
(7) سورة الكهف: آية 25.
(8) سورة الكهف: آية 25.(1/409)
{آيََاتِنََا عَجَباً} (1) والرقيم هو الكتاب الذي كان القوم الذين منهم، كان الفتية كتبوه في لوح بذكر خبرهم وقصصهم، ثم جعلوه على باب الكهف الذي أووا إليه، أو نقروه في الجبل الذي أووا إليه، أو كتبوه في لوح وجعلوه في صندوق خلفوه عندهم، إذا أوى الفتية إلى الكهف.
وكان عدد الفتية فيما ذكر عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما سبعة وثامنهم كلبهم. قال قتادة: ذكر لنا أن ابن عباس كان يقول: أنا من ذلك القليل الذي استثنى الله عز وجل كانوا {سَبْعَةٌ وَثََامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ} (2) وكان اسم أحدهم تمليخا وهو الذي كان يلي شراء الطعام لهم الذي ذكر الله عز وجل عنهم أنهم قالوا. إذ هبّوا من رقدتهم: {فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هََذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّهََا أَزْكى ََ طَعََاماً فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ} (3) قال مجاهد في قوله (4) تعالى {فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ} اسمه تمليخ.
وأما ابن اسحاق، فإنه قال: اسمه يمليخا. وكان ابن اسحاق يقول: عدد الفتية ثمانية فعلى قوله كان تاسعهم كلبهم. وإنه كان يسميهم فيقول: كان أحدهم، وهو أكبرهم، والذي كلم الملك عن سائرهم مكسلمينا، والآخر مجسلمينا، والثالث يمليخا، والرابع مرطوس، والخامس كفشطيوس، والسادس ينيونس، والسابع ميموس، والثامن بطنيوس، والتاسع طالوس، وكانوا أحداثا.
وعن مجاهد قال: لقد حدثت أنه كان على بعضهم من حداثة أسنانهم وضح الورق، وكانوا من قوم يعبدون الأوثان من الروم فهداهم الله للإسلام، وكانت شريعتهم شريعة عيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام، في قول جماعة من سلف علمائنا.
وعن عمرو يعني بن قيس الملائي، في قوله (5) تعالى: {أَنَّ أَصْحََابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كََانُوا مِنْ آيََاتِنََا عَجَباً} قال: كانت الفتية على دين عيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام، وكان ملكهم كافرا، وكان بعضهم يزعم أن أمرهم ومصيرهم إلى الكهف، كان قبل المسيح، وأن المسيح أخبر قومه خبرهم وأن الله عز وجل بعثهم من رقدتهم، بعدما رفع المسيح عليه السلام في الفترة التي بينه وبين محمد صلى الله عليه وسلم، والله أعلم، أي ذلك كان.
فأما الذي عليه علماء الإسلام، فعلى أن أمرهم كان بعد المسيح. وأما أنه كان في أيام ملوك الطوائف، فإن ذلك لا يرفعه رافع من أهل العلم بأخبار الناس القديمة، وكان لهم في ذلك الزمن ملك يقال له دقيانوس، يعبد الأصنام فيما ذكر، فبلغه عن الفتية خلافهم إياه في دينه، فطلبهم فهربوا منه بدينهم، حتى صاروا إلى جبل لهم، يقال له منحلوس.
وكان سبب إيمانهم وخلافهم لقومهم ما ذكر عن وهب بن منبه، أنه قال: جاء حواري عيسى ابن مريم إلى مدينة أصحاب الكهف، فأراد أن يدخلها، فقيل له: إن على بابها صنما لا يدخل أحد إلا سجد له، فكره أن يدخلها. فأتى حماما كان قريبا من تلك المدينة، فكان يعمل،
__________
(1) سورة الكهف: آية 9.
(2) سورة الكهف: آية 22.
(3) سورة الكهف: آية 19.
(4) سورة الكهف: آية 19.
(5) سورة الكهف: آية 9.(1/410)
فيه يؤاجر نفسه من صاحب الحمام، فرأى الرجل في حمامه البركة ودر عليه الرزق، فجعل يعرض عليه الإسلام، وجعل يسترسل إليه، وعلقه فتية من أهل المدينة، فجعل يخبرهم خبر السماء والأرض، وخبر الآخرة حتى آمنوا بما يقوله وصدقوه، وكانوا على مثل حاله في حسن الهيئة، وكان يشترط على صاحب الحمام، أن الليل لا يحول بيني وبينه أحد، ولا بين الصلاة إذا حضرت، فكان على ذلك، حتى جاء ابن الملك بامرأة، فدخل بها الحمام، فعيره الحواري (1)، وقال له:
أنت ابن الملك وتدخل معك هذه التي هي كذا وكذا. فاستحيا وذهب، فرجع مرة أخرى، فقال له مثل ذلك، فسبه وانتهره ولم يلتفت إليه حتى دخل، ودخلت معه المرأة فماتا في الحمام جميعا.
فأتى الملك، فقيل له: إن صاحب الحمام قد قتل ابنك فالتمس فلم يقدر عليه، وهرب كل من كان يصحبه، فسموا الفتية فالتمسوا فخرجوا من المدينة فمروا بصاحب لهم في زرع، وهو على مثل أمرهم، فذكروا له أنهم التمسوا، فانطلق معهم ومعه الكلب حتى آواهم الليل إلى الكهف، فدخلوا وقالوا: نبيت ههنا الليلة، ثم نصبح إن شاء الله فترون رأيكم. فضرب على آذانهم فخرج الملك في أصحابه يتبعونهم، حتى وجدوهم قد دخلوا الكهف، فكلما أراد رجل أن يدخل الكهف أرعب، فلم يطق أحد أن يدخله فقال قائل: أليس لو كنت قدرت عليهم قتلتهم؟
قال: بلى. قال: فابن عليهم باب الكهف ودعهم يموتون عطشا وجوعا. ففعل فغبر بعد ما بنى عليهم باب الكهف، زمان بعد زمان.
ثم إن راعيا أدركه المطر عند الكهف، فقال: لو فتحت هذا الكهف وأدخلت غنمي من المطر، فلم يزل يعالجه حتى فتح، فأدخل فيه غنمه، ورد الله تعالى إليهم أرواحهم في أجسادهم من الغد حين أصبحوا، فبعثوا أحدهم بورق يشتري لهم طعاما، فلما أتى باب مدينتهم لم ير شيئا ينكره، حتى دخل على رجل فقال له: بعني بهذه الدراهم طعاما، فقال: ومن أين لك هذه الدراهم؟ قال: خرجت أنا وأصحاب لي أمس فآوانا الليل حتى أصبحوا، فأرسلوني. فقال: هذه الدراهم كانت على عهد الملك فلان، فأنى لك بها؟ فرفعه إلى الملك، وكان ملكا صالحا، فقال:
من أين لك هذه الدراهم؟ قال: خرجت أنا وأصحاب لي أمس حتى أدركنا الليل في كهف كذا وكذا فلما أصبحوا أمروني أن أشتري لهم طعاما. قال: وأين أصحابك؟ قال: في الكهف.
فانطلقوا معه حتى أتوا باب الكهف، فقال: دعوني أدخل إلى أصحابي قبلكم، فلما رأوه ودنا منهم، ضرب الله على آذانه وآذانهم، فجعلوا كلما دخل رجل أرعب، فلم يقدروا أن يدخلوا إليهم. فبنوا عنده كنيسة واتخذوها مسجدا يصلون فيه.
وعن قتادة عن عكرمة قال: كان أصحاب الكهف أبناء ملوك الروم، رزقهم الله الإسلام، فتعوذوا بدينهم واغتالوا قومهم، حتى انتهوا إلى الكهف، فضرب الله على صماخهم فلبثوا دهرا طويلا حتى هلكت أمتهم، وجاءت أمة مسلمة، وكان ملكهم مسلما، واختلفوا في الروح والجسد، فقال قائل: تبعث الروح والجسد جميعا، وقال قائل: تبعث الروح لا غير، فأما الجسد فتأكله الأرض، فلا يكون شيئا، فشق على ملكهم اختلافهم، فانطلق فلبس المسوح وجلس على
__________
(1) الحواري: أحد الحواريين، وهم أتباع عيسى عليه الصلاة والسلام.(1/411)
الرماد، ثم دعا الله تعالى فقال: أي رب قد ترى اختلاف هؤلاء، فابعث لهم ما يبين لهم.
فبعث الله أصحاب الكهف، فبعثوا أحدهم يشتري لهم طعاما، فدخل السوق فجعل ينكر الوجوه، ويعرف الطريق ويرى الإيمان بالمدينة ظاهرا فانطلق وهو مستخف، حتى أتى رجلا يشتري منه الطعام، فلما نظر الرجل إلى الورق أنكرها. قال: حسبت أنه قال: كأنها أخفاف الربع، يعني الإبل الصغار. فقال الفتى: أليس ملككم فلانا؟ قال: لا بل ملكنا فلان. فلم يزل ذلك بينهما حتى رفعه إلى الملك، فسأله الملك فأخبره الفتى خبر أصحابه. فبعث الملك في الناس فجمعهم، فقال: إنكم قد اختلفتم في الروح والجسد، وإن الله قد بعث لكم آية، فهذا الرجل من قوم فلان يعني ملكهم الذي مضى، فقال الفتى: انطلقوا معي إلى أصحابي، فلما أبصرهم ضرب على آذانه وآذانهم، فلما استبطؤوه دخل الملك ودخل معه الناس، فإذا أجساد لا ينكرون منها شيئا غير أنها لا أرواح فيها! فقال الملك: هذه آية بعثها الله لكم.
قال قتادة: وغزا ابن عباس مع حبيب بن مسلمة، فمروا بالكهف فإذا فيه عظام، فقال رجل: هذه عظام أهل الكهف. فقال ابن عباس رضي الله عنهما: لقد ذهبت عظامهم منذ أكثر من ثلاثمائة سنة. وقال وهب والسدي وغيرهما: وأسماؤهم مكسلمينا وهو أكبرهم ورئيسهم، وأمليخا وهو أجملهم وأعبدهم وأنشطهم، ومرطونس، ويوناس، وساربنوس، وبطنيوس وكندسلططنوس، وكلبهم قطمير يكتب ذلك للنوم ولبكاء الأطفال.
ومما يكتب لنوم الصبيان وبكائهم: أعوذ بكلمات الله التامات التي نام بها أصحاب الكهف والرقيم، الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها فيمسك التي قضى عليها الموت ويرسل الأخرى إلى أجل مسمى، اللهم الق النوم والسكينة على حامل هذا الكتاب، بألف لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
فائدة أخرى
: وقد تقدمت قبل ذلك، وهي عن عمرو بن دينار أنه قال: مما أخذ على العقرب أن لا تضر أحدا في ليل أو نهار أن يصلي على نوح صلى الله عليه وسلم. ومما أخذ على الكلب، أن لا يضر أحدا حمل عليه في ليل أو نهار، إذ قرأ {وَكَلْبُهُمْ بََاسِطٌ ذِرََاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ} (1) إلى هنا انتهى ما تقدم.
وقال القرطبي في كتاب التذكار في أفضل الأذكار: بلغنا عمن تقدم أن في سورة الرحمن آية تقرأ على الكلب إذا حمل على الإنسان، وهي قوله تعالى: {يََا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطََارِ السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لََا تَنْفُذُونَ إِلََّا بِسُلْطََانٍ} (2) فإنه لا يؤذيه بإذن الله تعالى. وفي تاريخ الإسلام للذهبي في سنة ثلاثمائة أن ممشاد الدينوري رحمه الله تعالى، خرج من داره فنبحه كلب، فقال: لا إله إلا الله فمات الكلب مكانه.
الحكم
: يحرم أكل الكلاب بجميع أنواعها إلا ابن آوى، فإنه من جنس الكلاب وفيه خلاف سبق في باب الهمزة. وروى ابن عبد البر، في التمهيد، عن الشعبي، أنه سئل عن رجل
__________
(1) سورة الكهف: آية 18.
(2) سورة الرحمن: آية 33.(1/412)
يتداوى بلحم الكلاب! فقال: لا شفاه الله. وعلى مقتني الكلب المباح اقتناؤه، أن يطعمه أو يرسله، أو يدفعه لمن يريد الانتفاع به، ولا يحل حبسه ليهلك جوعا.
فرع
: لو كان لإنسان كلب محترم مضطر، ومع غيره شاة، جاز له مكالبته عليها لإطعامه ويضمنها له.
فرع
: لو عض كلب كلب شاة فكلبت نحرت، ولا يؤكل لحمها. قال أبو حيان التوحيدي من أصحابنا في كتاب الامتاع: إذا كلب الجمل نحر، ولا يؤكل لحمه انتهى. والظاهر أن ذلك خشية الإيذاء.
فرع
: لو غصب نجاسة تنفع ككلب معلم، وجلد ميتة وسرجين، فهل له كسر بابه ونقب جداره، إذا لم يصل إليها إلا بذلك؟ الظاهر أنه يجوز له ذلك، كالمال لأنها حق، ويجوز الدفع عنها كالمال والله أعلم.
تنبيه
: الكلاب كلها نجسة المعلمة وغيرها الصغير والكبير وبه قال الأوزاعي وأبو حنيفة وأحمد واسحاق وأبو ثور وأبو عبيدة ولا فرق بين الكلب المأذون في اقتنائه وغيره، ولا بين كلب البدوي والحضري لعموم الأدلة.
وفي مذهب مالك رحمه الله تعالى أربعة أقوال: طهارته، ونجاسته، وطهارة سؤر المأذون في اتخاذه دون غيره، وهذه الثلاثة عن مالك. والرابع عن عبد الملك بن الماجشون أنه يفرق بين البدوي والحضري، وقال الزهري ومالك وداود: إنه طاهر وإنما يغسل الإناء من ولوغه تعبدا.
ويحكى هذا عن الحسن البصري وعروة بن الزبير، محتجين بقوله (1) تعالى: {فَكُلُوا مِمََّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} ولم يذكر غسل موضع إمساكها.
وبحديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما، قال: كانت الكلاب تقبل وتدبر في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وتبول، فلم يكونوا يرشون شيئا من ذلك ذكره البخاري في صحيحه. واحتج أصحابنا بحديث أبي هريرة رضية الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليرقه وليغسله سبع مرات، إحداهن بالتراب». قالوا: ولو لم يكن نجسا لما أمر بإراقته لأنه حينئذ يكون اتلاف مال. وأما حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما، فقال البيهقي: أجمع المسلمون على أن بول الكلاب نجس، وعلى وجوب الرش من بول الصبي، والكلب أولى. فكان حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قبل الأمر بالغسل من ولوغ الكلب، أو أن بولها خفي مكانه فمن تيقنه لزمه غسله.
فرع
: اختلف الأصحاب في موضع عض الكلب من الصيد، والأصح أنه لا يعفى عنه، كما لو أصاب ثوبا أو إناء، فلا بد من غسله وتعفيره. والثاني يعفى عنه، والثالث يكفي غسله بالماء مرة، والرابع أنه طاهر، والخامس يجب تقويره، والسادس إن أصاب عرقا نضاخا بالدم حرم
__________
(1) سورة المائدة: آية 4.(1/413)
أكله، والنضاخ الفوار. قال (1) الله عز وجل: {فِيهِمََا عَيْنََانِ نَضََّاخَتََانِ} وأحكام التتريب وشرطوه مبسوطة في كتب الفقه.
روى مسلم عن أبي ذر رضي الله تعالى عنه، قال: قال (2) رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يقطع الصلاة الحمار والمرأة والكلب الأسود». قيل لأبي ذر رضي الله تعالى عنه: ما بال الكلب الأسود من الكلب الأحمر من الكلب الأصفر؟ قال: يا ابن أخي سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل ما سألتني، فقال:
«الكلب الأسود شيطان». فحمله بعض العلماء على ظاهره، وقال: الشيطان يتصور بصورة الكلب الأسود. ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: «اقتلوا منها كل أسود بهيم» (3). وقيل: لما كان الكلب الأسود أشد ضررا من غيره وأشد ترويعا، كان المصلي إذا رآه اشتغل عن صلاته، فانقطعت عليه لذلك.
ولذلك تأول الجمهور قوله صلى الله عليه وسلم «يقطع الصلاة المرأة والحمار» بأن ذلك مبالغة الخوف على قطعها وإفسادها من الشغل بهذه المذكورات. وذلك لأن المرأة تفتن، والحمار ينهق، والكلب الأسود يروع ويشوش الفكر، فلما كانت هذه الأمور، آيلة إلى القطع، جعلها قاطعة. وذهب ابن عباس وعطاء رضي الله تعالى عنهم، إلى أن المرأة التي تقطع الصلاة، إنما هي الحائض لما تستصحبه من النجاسة. واحتج أحمد رحمه الله بحديث الكلب الأسود على أنه لا يجوز صيده ولا يحل، لأنه شيطان. واختاره أبو بكر الصيرفي من أصحابنا. وقال الشافعي رحمه الله ومالك وأبو حنيفة وجماهير العلماء رحمة الله تعالى عليهم: يحل صيده كغيره. وليس المراد بالحديث، إخراجه عن جنس الكلاب، ولهذا إذا ولغ في إناء أو غيره وجب غسله وتعفيره كولوغ الكلب الأبيض.
وفي صحيح مسلم عن عبد الله بن مغفل رضي الله تعالى عنه، قال: أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتل الكلاب ثم قال (4) صلى الله عليه وسلم: «ما بالهم وبال الكلاب». ثم رخص صلى الله عليه وسلم في كلب الصيد وكلب الغنم. فحمل الأصحاب الأمر بقتلها على الكلب الكلب والكلب العقور، واختلفوا في قتل ما لا ضرر فيه منها. فقال القاضي حسين وإمام الحرمين والماوردي، في باب بيع الكلاب، والنووي في أول البيع، من شرحي المهذب ومسلم: لا يجوز قتلها. وقال في باب المحرمات الإحرام: إنه الأصح، وإن الأمر بقتلها منسوخ. وعلى الكراهة اقتصر الرافعي في الشرح وتبعه في الروضة وزاد أنها كراهة تنزيه لا تحريم.
لكن، قال الشافعي في الأم، في باب الخلاف، في ثمن الكلاب: واقتلوا الكلاب التي لا نفع فيها حيث وجدتموها، وهذا هو الراجح في المهمات ولا يجوز اقتناء الكلب الذي لا منفعه فيه.
وذلك لما في اقتنائها من مفاسد الترويع والعقر للمار. ولعل ذلك لمجانبة الملائكة لمحلها، ومجانبة الملائكة أمر شديد لما في مخالطتهم من الإلهام إلى الخير والدعاء إليه.
واختلف الأصحاب في جواز اتخاذ الكلب لحفظ الدرب والدور على وجهين: أصحهما
__________
(1) سورة الرحمن: آية 66.
(2) رواه مسلم: صلاة، 255، 265، 266، 269، 271ورواه البخاري: صلاة 105102.
(3) رواه أبو داود: أضاحي 21، ومسلم: مساقاة 47. والترمذي: صيد 16، 17.
(4) رواه مسلم: مساقاة 45. وابن حنبل 2، 144.(1/414)
الجواز، واتفقوا على جواز اتخاذه للزراعة والماشية والصيد، لكن يحرم اقتناء كلب الماشية قبل شرائها، وكذلك كلب الزرع والصيد لمن لا يزرع ولا يصيد، فلو خالف واقتنى نقص من أجره كل يوم قيرطان. وفي رواية: قيراط، وكلاهما في الصحيح (1).
وحمل ذلك على نوع من الكلاب، إذ بعضها أشد أذى من بعض أو لمعنى فيها، أو يكون ذلك مختلفا باختلاف المواضع، فيكون القيراطان في المدائن ونحوها، والقيراط في البوادي أو يكون ذلك في زمنين. فذكر القيراط أولا ثم زاد في التغليظ، فذكر القراطين. والمراد بالقيراط مقدار معلوم عند الله عز وجل ينقص من أجر عمله. واختلفوا في المراد بما نقص منه. فقيل: مما مضى من عمله، وقيل: من مستقبله، وقيل: قيراط من عمل الليل، وقيراط من عمل النهار، وقيل: قيراط من عمل الفرض، وقيراط من عمل النفل.
وأول من اتخذ الكلب للحراسة نوح عليه السلام، روى القاسم بن سلمة، بإسناده عن علقمة عن عبد الله رضي الله تعالى عنه أنه قال: أول من اتخذ الكلب للحراسة نوح عليه السلام، وذلك أنه قال: يا رب أمرتني أن أصنع الفلك وأنا في صناعته أصنع أياما، فيجيئون في الليل فيفسدون كل ما عملت، فمتى يلتئم لي ما أمرتني به فقد طال علي أمدي؟ فأوحى الله إليه:
يا نوح اتخذ كلبا يحرسك، فاتخذ نوح عليه السلام كلبا، وكان يعمل بالنهار وينام بالليل. فإذا جاء قومه ليفسدوا بالليل عمله نبحهم الكلب فينتبه نوح عليه السلام فيأخذ الهراوة ويثب لهم فيهربون منه. فالتأم له ما أراد.
قال الحافظ أبو عمرو بن الصلاح، في مناسكه في قوله صلى الله عليه وسلم: «لا تصحب الملائكة رفقة فيها كلب ولا جرس»: فإن وقع ذلك من جهة غيره، ولم يستطع إزالته فليقل: اللهم إني أبرأ إليك مما فعله هؤلاء، فلا تحرمني ثمرة صحبة ملائكتك وبركتهم ومعونتهم أجمعين. وأما قوله (2) صلى الله عليه وسلم: «لا تدخل الملائكة بيتا فيه كلب ولا صورة». فقال العلماء: سبب امتناعهم من البيت الذي فيه صورة، كونها معصية فاحشة، وفيها مضاهاة لخلق الله تعالى، وبعضها في صورة ما يعبد من دون الله تعالى وسبب امتناعهم من البيت الذي فيه الكلب كثرة أكله النجاسات، ولأن بعض الكلاب يسمى شيطانا. كما جاء في الحديث و «الملائكة ضد الشياطين»، ولقبح رائحة الكلب، والملائكة تكره الرائحة الخبيثة، ولأنها منهي عن اتخاذها فعوقب متخذها بحرمانه دخول الملائكة بيته، وصلاتها فيه، واستغفارها له، وتبركها عليه في بيته، ودفعها أذى الشياطين.
والملائكة الذين لا يدخلون بيتا فيه كلب ولا صورة هم ملائكة يطوفون بالرحمة والتبرك والاستغفار، وأما الحفظة والموكلون بقبض الأرواح فيدخلون في كل بيت، ولا تفارق الحفظة بني آدم في حال من الأحوال، لأنهم مأمورون بإحصاء أعمالهم وكتابتها.
قال الخطابي: وإنما لا تدخل الملائكة بيتا فيه كلب ولا صورة، مما يحرم اقتناؤه من الكلاب والصور، فأما ما ليس اقتناؤه بحرام من كلب الصيد، والزرع والماشية، والصورة التي تمتهن في
__________
(1) رواه البخاري: بدء الخلق 177، مغازي 12، لباس 88. ومسلم: لباس 81.
(2) رواه البخاري: بدء الخلق 177، مغازي 12، لباس 88. ومسلم: لباس 81.(1/415)
البساط والوسادة وغيرهما، فلا يمتنع دخو الملائكة بسببه. وأشار القاضي إلى نحو ما قال الخطابي، قال النووي: والأظهر أنه عام في كل كلب وكل صورة، وأنهم يمتنعون من الجميع لإطلاق الأحاديث. ولأن الجرو الذي كان في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت السرير، كان له فيه عذر ظاهر، فإنه لم يعلم به ومن هذا امتنع جبريل عليه السلام من دخول البيت بسببه، فلو كان العذر في وجود الكلب والصورة لا يمنعهم لم يمتنع جبريل عليه السلام.
قال الجاحظ: روي أن جماعة من الصحابة رضي الله تعالى عنهم ذهبوا إلى بيت رجل من الأنصار ليعودوه في مرض، فهرت في وجوههم كلاب من دار الأنصاري، فقال الصحابة: لا تدع هؤلاء من أجر فلان شيئا، كل كلب من هؤلاء ينقص من أجره كل يوم قيراطا. فدل هذا على أن القيراط يتعدد بتعدد الكلاب، وقد سئل الشيخ الإمام تقي الدين السبكي عن ذلك فأجاب بأنه لا يتعدد كما لو ولغت الكلاب في الإناء، فإن الأصح عدم تعدد الغسلات، وقد قالوا بتعدد القيراط إذا صلى على جنائر دفعة واحدة.
وقال الغزالي في منكرات الشرع من الإحياء: من كان له كلب عقور على باب داره، يؤذي الناس يجب منعه منه، وإن كان لا يؤذي إلا بتنجيس الطريق وكان يمكن الاحتراز عن نجاسته لم يمنع منه، وإن كان يضيق الطريق ببسط ذراعيه فيمنع منه، بل يمنع صاحبه أن ينام على الطريق، أو يقعد قعودا يضيق الطريق، فكلبه أولى بالمنع. ولا يصح بيع جميع الكلاب عندنا، خلافا لمالك، فإنه أباح بيعها، حتى قال سحنون: ويحج بثمنها. وقال أبو حنيفة: يجوز بيع غير العقور.
والأصح عدم صحة إجارة الكلاب المعلمة، لأن اقتناءها لهذه المنافع إنما جوز لأجل الحاجة، وما جوز للحاجة لا يجوز أخذ العوض عليه، ولأنه لا قيمة لعينه، فكذلك منفعته. وقال صاحب التلخيص: لا تجوز لأنها منفعة مقصودة، واختاره الروياني وابن أبي عصرون، وبناهما الماوردي على اختلاف أصحابنا في أن منفعة الكلب، هل هي مملوكة أو مستباحة؟ وفيها وجهان: فعلى الأول يجوز إجارته، وعلى الثاني لا.
ومن أحكامه
: أن من كان في داره كلب عقور فاستدعى إنسانا فعقره وجب عليه ضمانه على الأصح في تصحيح النووي. وقيل: لا قطعا، وهو المجزوم به في أصل الروضة، لأن للكلب اختيارا، ويمكن دفعه بعصا وغيرها، هذا إذا لم يعلم الداخل أنه عقور، فإن علم ذلك فلا ضمان جزما، وكذلك لو كان مربوطا فسار إليه المستدعي جاهلا بحاله، فلا ضمان أيضا، ومن له كلب عقور ولم يحفظه فقتل إنسانا في ليل أو نهار، ضمنه لتفريطه. وفي معناه الهرة المملوكة التي تأكل الطيور كما سيأتي، إن شاء الله تعالى في باب الهاء. وقيل: لا ضمان فيها لأن العادة لم تجر بربطها.
فرع
: لو سرق قلادة من عنق كلب، أو سرقها مع الكلب، قطع وحرز الكلب كحرز الدواب. وإذا وقع في الغنيمة كلب ينتفع به للاصطياد، أو الماشية والزرع. حكى الإمام عن العراقيين أن للإمام أن يسلمه إلى واحد من المسلمين، لعلمه بحاجته إليه، ولا يحسب عليه، واعترض بأن الكلب منتفع به، فليكن حق اليد فيه لجميعهم كما لو مات وله كلب لا يستبد به بعض الورثة. الموجود في كتاب العراقيين، انه إن أراده بعض الغانمين أو أهل الخمس، ولم ينازعه
غيره سلم إليه، وإن تنازعوا فإن وجدنا كلابا وأمكنت القسمة عددا قسم، وإلا أقرع بينهم.(1/416)
: لو سرق قلادة من عنق كلب، أو سرقها مع الكلب، قطع وحرز الكلب كحرز الدواب. وإذا وقع في الغنيمة كلب ينتفع به للاصطياد، أو الماشية والزرع. حكى الإمام عن العراقيين أن للإمام أن يسلمه إلى واحد من المسلمين، لعلمه بحاجته إليه، ولا يحسب عليه، واعترض بأن الكلب منتفع به، فليكن حق اليد فيه لجميعهم كما لو مات وله كلب لا يستبد به بعض الورثة. الموجود في كتاب العراقيين، انه إن أراده بعض الغانمين أو أهل الخمس، ولم ينازعه
غيره سلم إليه، وإن تنازعوا فإن وجدنا كلابا وأمكنت القسمة عددا قسم، وإلا أقرع بينهم.
وهذا هو المذهب، وههنا المعتبر قيمتها عند من يرى لها قيمة ويعتبر منافعها، كما في الوصية من الروضة.
تتمة
: قوله تعالى: {تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمََّا عَلَّمَكُمُ اللََّهُ} (1) أي من العلم الذي كان علمكم الله دل على أن للعالم فضيلة ليست للجاهل، لأن الكلب إذا علم تحصل له فضيلة على غير المعلم، والإنسان إذا كان له علم أولى أن يكون له فضل على غيره كالجاهل، لا سيما إذا عمل بما علم. كما قال علي رضي الله تعالى عنه: لكل شيء قيمة، وقيمة المرء ما يحسنه. وقال لقمان لابنه، واسمه ثاران: وقيل: أنعم يا بني لكل قوم كلب، فلا تكن كلب قومك. وروى الإمام أحمد، في مسنده، والبزار والطبراني، من حديث عبد الله بن عمر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (2): «ضاف رجل رجلا من بني إسرائيل، وفي داره كلبة مجح، فقالت الكلبة: لا والله لا أنبح ضيف أهلي! قال:
فعوت جراؤها في بطنها فقيل: ما هذا؟ فأوحى الله إلى رجل منهم: هذا مثل أمة تكون من بعد يقهر سفاؤها حلماءها». والمجح بالجيم المكسورة قبل الحاء المهملة. قيل: هي الحامل التي قرب ولادتها.
وفي صحيح (3) مسلم وسنن أبي داود عن أبي الدرداء رضي الله تعالى عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم أتي بامرأة مجح على باب فسطاط، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «لعله يريد أن يلم بها». فقالوا: نعم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لقد هممت أن ألعنه لعنا يدخل معه قبره كيف يورثه وهو لا يحل له كيف يستخدمه وهو لا يحل له».
الأمثال
: قال الله تعالى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنََاهُ آيََاتِنََا فَانْسَلَخَ مِنْهََا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطََانُ فَكََانَ مِنَ الْغََاوِينَ وَلَوْ شِئْنََا لَرَفَعْنََاهُ بِهََا وَلََكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوََاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ} (4) قال ابن عباس ومجاهد وغيرهما رضي الله تعالى عنهم أجمعين: هو رجل من الكنعانيين الجبارين اسمه بلعم بن باعوراء، وقيل بلعام بن باعر، وقال عطية عن ابن عباس: أصله من بني إسرائيل ولكنه كان مع الجبارين.
وقال مقاتل: هو من مدينة بلقاء، وكانت قصته على ما ذكره ابن عباس والسدي وغيرهما أن موسى صلى الله عليه وسلم لما قصد حرب الجبارين، ونزل أرض كنعان من أرض الشأم، أتي قوم بلعم وكانوا كفارا، وكان بلعم عنده اسم الله الأعظم، وكان مجاب الدعوة، فقالوا له: إن موسى رجل حديد، ومعه جنود كثيرة، وإنه قد جاء ليخرجنا من بلادنا، ويقتلنا ويحلها بني إسرائيل، وأنت رجل مجاب الدعوة، فاخرج وادع الله أن يردهم عنا.
فقال: ويلكم نبي الله ومعه الملائكة والمؤمنون كيف أدعو عليهم، وأنا أعلم من الله ما أعلم؟ وإني إن فعلت هذا ذهبت دنياي وآخرتي!؟ فراجعوه وألحوا عليه، فقال: حتى أؤامر ربي
__________
(1) سورة المائدة: آية 4.
(2) رواه ابن حنبل: 1702.
(3) رواه مسلم: طلاق 29.
(4) سورة الأعراف: آية 175.(1/417)
وكان لا يدعو بشيء، حتى ينظر ما يؤمر به في المنام، فوامر بالدعاء عليهم، فقيل له في المنام: لا تدع عليهم. فقال لهم: إني قد آمرت ربي وإني نهيت. فأهدوا له هدية فقبلها، ثم راجعوه فقال:
حتى أؤامر ربي فآمره، فلم يجز إليه بشيء. فقال: قد وامرت فلم يجز إلي بشيء. فقالوا: لو كره ربك أن تدعو عليهم، لنهاك كما نهاك المرة الأولى، فلم يزالوا يتضرعون إليه حتى فتنوه فافتتن، وركب أتانا له متوجها إلى جبل يطلع منه على عسكر بني إسرائيل، يقال له حسان، فما سار عليها غير كثير حتى ربضت به فنزل عنها، وضربها حتى إذا أذلقها الضرب، قامت فركبها فلم تسر به كثيرا حتى ربضت، ففعل بها مثل ذلك، فقامت فركبها فلم تسر به كثيرا حتى ربضت، فضربها حتى أذلقها، فأذن الله تعالى لها بالكلام، فكلمته حجة عليه، فقالت: ويحك يا بلعم أين تذهب ألا ترى الملائكة أمامي يردوني عن وجهي هذا أتذهب إلى نبي الله والمؤمنين، تدعو عليهم؟ فلم ينزع فخلى الله سبيلها فانطلقت حتى إذا أشرفت على جبل حسان، جعل يدعو عليهم بالاسم الأعظم الذي كان عنده، فاستجيب له ووقع موسى عليه السلام وبنو إسرائيل في التيه.
فقال موسى: يا رب بأي ذنب أوقعتنا في التيه؟ قال تعالى: بدعاء بلعام. قال موسى عليه السلام: يا رب فكما سمعت دعاءه علينا فاسمع دعائي عليه. فدعا موسى عليه أن ينزع الله تعالى منه الاسم الأعظم. فنزع الله منه المعرفة وسلخه منها، فخرجت من صدره كحمامة بيضاء. قاله مقاتل.
وقال ابن عباس والسدي: لما دعا بلعام على موسى وقومه، قلب الله لسانه، فجعل لا يدعو عليهم بشيء من الشر إلا صرف الله به لسانه إلى قومه، ولا يدعو بشيء من الخير، إلا صرف الله به لسانه إلى بني إسرائيل، فقال له قومه: يا بلعم أتدري ما تصنع؟ إنما تدعو لهم وعلينا! فقال:
هذا ما أملك، هذا شيء قد غلب الله عليه، فنسي الاسم الأعظم واندلع لسانه على صدره. فقال لهم: قد ذهبت مني الآن الدنيا والآخرة، فلم يبق إلا المكر والخديعة والحيلة، فسأمكر لكم وأحتال عليهم، جملوا النساء وزينوهن وأعطوهن السلع، ثم أرسلوهن إلى العسكر يبتعنها فيه، ومروهن أن لا تمنع امرأة نفسها من رجل أرادها، فإنهم إن زنى واحد منهم كفيتموهم. ففعلوا.
فلما أتى النساء العسكر، مرت امرأة من الكنعانيين اسمها كستى بنت صور برجل من عظماء بني إسرائيل، يقال له زمري بن شلوم، رأس سبط شمعون بن يعقوب، فقام إليها فأخذ بيدها حين أعجبه جمالها، ثم أقبل بها حتى وقف على موسى عليه السلام، فقال: إني أظنك ستقول هذا حرام علي! فقال موسى: أجل هي حرام عليك لا تقربنها. قال: فو الله لا أطيعك في هذا، ثم دخل بها قبة، فوقع عليها، فأرسل الله الطاعون على بني إسرائيل في الوقت.
وكان فنحاص بن العيزار بن هارون صاحب أمر موسى عليه السلام، وكان رجلا قد أعطي بسطة في الخلق، وقوة في البطش وكان غائبا، حين صنع زمري بن شلوم ما صنع، فجاء الطاعون يجوس بني إسرائيل، فأخبر الخبر فأخذ حربته، وكانت من حديد كلها، ثم دخل عليهما القبة، وهما متضاجعان، فانتظمهما بحربته، ثم خرج بهما رافعهما إلى السماء، والحربة قد أخذها بذراعه، واعتمد بمرفقه على خاصرته، وأسند الحربة إلى الحيية وكان بكر العيزار، فجعل يقول:
اللهم هكذا نفعل بمن يعصيك، فرفع الطاعون، فحسب من هلك من بني إسرائيل بالطاعون فيما
بين أصاب زمري المرأة إلى أن قتلهما فنحاص، فوجد قد هلك منهم سبعون ألفا في ساعة من النهار. فمن هنالك يعطي بنو إسرائيل ولد فنحاص من كل ذبيحة ذبحوها: القبة والذراع واللحى لاعتماده بالحربة على خاصرته، وأخذه إياها بذراعه وإسناده إياها إلى الحيية، والبكر من كل أموالهم وأنفسهم، لأنه كان بكر العيزار. ويقال: إنه لما انتظمهما بالحربة وخرج بهما كانا في الحربة كحالهما في حالة الزنا. فكان ذلك آية.(1/418)
اللهم هكذا نفعل بمن يعصيك، فرفع الطاعون، فحسب من هلك من بني إسرائيل بالطاعون فيما
بين أصاب زمري المرأة إلى أن قتلهما فنحاص، فوجد قد هلك منهم سبعون ألفا في ساعة من النهار. فمن هنالك يعطي بنو إسرائيل ولد فنحاص من كل ذبيحة ذبحوها: القبة والذراع واللحى لاعتماده بالحربة على خاصرته، وأخذه إياها بذراعه وإسناده إياها إلى الحيية، والبكر من كل أموالهم وأنفسهم، لأنه كان بكر العيزار. ويقال: إنه لما انتظمهما بالحربة وخرج بهما كانا في الحربة كحالهما في حالة الزنا. فكان ذلك آية.
وروي عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنهما، وسعيد بن المسيب، وزيد بن أسلم، أن هذه الآية نزلت في أمية بن أبي الصلت، وكان قد قرأ التوراة والإنجيل، وكان يعلم أن الله تعالى يرسل رسولا من العرب، فرجا أن يكون هو ذلك الرسول، فلما أرسل الله تعالى محمدا صلى الله عليه وسلم حسده وكفر به، وكان صاحب حكمة وموعظة حسنة، وكان قصد بعض الملوك، فلما رجع مر على قتلى بدر، فسأل عنهم من قتلهم؟ فقيل قتلهم محمد صلى الله عليه وسلم. فقال: لو كان نبيا ما قتل أقرباءه. وسيأتي إن شاء الله تعالى له ذكر في الوعل أيضا.
وقالت فرقة: إنها نزلت في رجل من بني إسرائيل، كان قد أعطي ثلاث دعوات مستجابات، وكانت له امرأة له منها ولد، فقالت: اجعل لي منها دعوة، فقال: لك منها واحدة فما تريدين؟ قالت: ادع الله أن يجعلني أجمل امرأة في بني إسرائيل، فدعا لها. فكانت كذلك. فلما علمت أنه ليس فيهم مثلها رغبت عنه، فغضب الزوج، ودعا عليها فصارت كلبة نباحة فذهبت فيها دعوتان، فجاء بنوها وقالوا: ليس لنا على هذا قرار، وقد صارت أمنا كلبة نباحة، والناس يعيروننا بها، ادع الله أن يردها إلى الحال التي كانت عليه، فدعا الله لها فعادت كما كانت، فذهبت فيها الدعوات كلها. والقولان الأولان أظهر.
وقال الحسن وابن كيسان: نزلت في منافقي أهل الكتاب الذين كانوا يعرفون النبي صلى الله عليه وسلم، كما يعرفون أبناءهم. وقال قتادة: هذا مثل ضربه الله تعالى لكل من عرض عليه الهدى، فأبى أن يقبله. قال الله تعالى: {وَلَوْ شِئْنََا لَرَفَعْنََاهُ بِهََا} (1) أي وفقناه للعمل بها، فكنا نرفع بذلك منزلته في الدنيا والآخرة. ولكنه أخلد إلى الأرض، أي ركن إلى الدنيا وشهواتها ولذاتها.
قال الزجاج: خلد وأخلد واحد، وأصله من الخلود وهو الدوام والمقام. يقال: أخلد فلان بالمكان، إذا أقام به. والأرض هنا عبارة عن الدنيا لأن ما فيها من العقار والرباع كلها أرض وسائر متاعها مستخرج من الأرض. واتبع هواه انقاد إلى ما دعاه إليه الهوى، فعوقب في الدنيا بأنه كان يلهث كما يلهث الكلب، فشبه به صورة وهيئة. قال القتبي: كل شيء يلهث فإنما يلهث من إعياء أو عطش، إلا الكلب فإنه يلهث في حال التعب وحال الراحة، وفي حال الري وحال العطش، فضربه الله مثلا لمن كذّب بآيات الله. فقال: إن وعظته فهو ضال، وإن تركته فهو ضال كالكلب، إن طردته لهث وإن تركته على حاله لهث انتهى.
واللهث تنفس بسرعة، وتحرك أعضاء الفم معه، وامتداد اللسان وخلقة الكلب أنه يلهث على كل حال. قال الواحدي وغيره: وهذه الآية من أشد الآي على ذوي العلم، وذلك أن الله
__________
(1) سورة الأعراف: آية 176.(1/419)
تعالى أخبر أنه آتاه آياته من اسمه الأعظم، والدعوات المستجابة والعلم والحكمة، فاستوجب بالسكون إلى الدنيا واتباع الهوى تغيير النعمة عليه، والانسلاخ عنها. ومن الذي يسلم من هاتين الحالتين إلا من عصمه الله تعالى! نسأل الله التوفيق والهداية بمنه وكرمه. وروى الشيخان عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال (1): «الذي يعود في هبته كالكلب يرجع في قيئه». وفي رواية: «كمثل الكلب يقيء ثم يعود في قيئه فيأكله».
قال عمر رضي الله تعالى عنه: حملت على فرس في سبيل الله فأضاعه الذي كان عنده، فأردت أن أشتريه وظننت أن يبيعه برخص فسألت النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: «لا تشتره ولو باعكه بدرهم، ولا تعد في صدقتك فإن العائد في صدقته، كالعائد في قيئه». وقال الجاحظ: لكل جيفة كلب، ولكل قدر طالب، ولكل نحو راغب، ولكل وسخ حامل، ولكل صم جارع، ولكل طعام آكل، ولكل ساقط لاقط، ولكل ثوب لابس، ولكل فرج ناكح انتهى.
وقالت العرب: «آلف (2) من كلب» و «أبصر (3) وأبخل (4) وأطوع (5) وأفحش (6) وألأم (7)
وأبول (8)» فيجوز أن يراد به البول نفسه ويجوز أن يراد به كثرة الجراء، فإن البول في كلام العرب يكنى به عن الولد. وبذلك عبر ابن سيرين رحمه الله تعالى عليه، رؤيا عبد الملك بن مروان لما رأى أنه بال في محراب مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم أربع مرات، فكتب إليه: إن صدقت رؤياك، فسيقوم من أولادك أربعة في المحراب، ويتقلدون الخلافة بعدك فوليها أربعة خلفاء من صلبه: الوليد وسليمان وهشام ويزيد.
وقالوا: «سمن كلبك يأكلك» (9)، وهو قريب من قولهم: «اتق إساءة من أحسنت إليه»، وقالوا: «جوع (10) كلبك يتبعك»، يضرب في معاشرة اللئام، وقالوا: «الكلاب على البقر» (11)، برفعها ونصبها، فالنصب على إضمار فعل تقديره خل كلاب الصيد، أودع الكلاب على بقر الوحش لتصطادها، والرفع على الابتداء، وما بعده خبره. ومعنى المثل: «إذا أمكنتك الفرصة فاغتنمها». ويقال: معناه خل بين الناس خيرهم وشريرهم، واغتنم أنت طريق السلامة. وقد سئلت عن قول (12) الأخطل:
قوم إذا استنبح الأضياف كلبهم ... قالوا لأمّهم بولي على النار
فتمسك البول بخلا أو تجود به ... وما تبول لهم إلا بمقدار
والخبز كالعنبر الوردي عندهم ... والقمح سبعون أردبا بدينار (13)
__________
(1) رواه البخاري: هبة 3. ومسلم: هبات 5، 6.
(2) مجمع الأمثال: 1/ 87.
(3) جمهرة الأمثال: 1/ 195.
(4) جمهرة الأمثال: 1/ 201.
(5) جمهرة الأمثال: 2/ 24.
(6) جمهرة الأمثال: 2/ 91.
(7) جمهرة الأمثال: 2/ 181.
(8) جمهرة الأمثال: 1/ 205.
(9) المستقصى: 2/ 121.
(10) مجمع الأمثال: 1/ 165.
(11) جهرة الأمثال: 2/ 141.
(12) ديوان الأخطل: 166.
(13) الإردب: مكيال للحبوب.(1/420)
فقلت: هذا عكس قول شاعر (1) الأنصار حيث يقول:
لله درّ عصابة نادمتهم ... يوما بجلّق في الزمان الأول
أولاد جفنة حول قبر أبيهم ... قبر ابن مارية الكريم المفضّل
يغشون حتى ما تهرّ كلابهم ... لا يسألون عن السواد المقبل
بيض الوجوه كريمة أحسابهم ... شمّ الأنوف من الطّراز الأول
ومن شعر العتابي (2) رحمه الله تعالى:
طاف الخيال بنا ليلا فحيّانا ... أهلا به من ملمّ زار عجلانا
ما ضرّ زائرنا المهدى تحيته ... في النوم إذ زارنا لو زار يقظانا
إني أهتدي وسواد الليل معتكر ... على تباعد مسراه ومسرانا
إن الأماني قد خيلن لي سكنا ... ردت تحيته قلبي كما كانا
حتى إذا هو ولى وانتبهت له ... هاجت زيارته شوقا وأحزانا
وقال علي بن محمد بن نصير في المعنى بيتا مفردا:
وكان خيالها يشفي سقاما ... فضنّت بالخيال على الخيال
وقالوا: «أشكر (3) من كلب».
حكى محمد بن حرب، قال: دخلت على العتابي فوجدته جالسا على حصير، وبين يديه شراب في إناء، وكلب رابض بالفناء بحياله، يشرب كأسا ويولغه أخرى، فقلت له: ما الذي أردت بما اخترت؟ فقال: أسمع أنه يكف عني أذاه، ويكفيني أذى من سواه، ويشكر قليلي ويحفظ مبيتي ومقيلي، وهو من بين الحيوان خليلي. قال ابن حرب: فتمنيت والله أن أكون كلبا له لأحوز هذا النعت منه.
الخواص
: لحمه يعلو شحمه، بخلاف لحم الشاة، فإن شحمها يعلو لحمها، فإذا ارتضعت الشاة من كلبة كان لحمها على صفة لحم الكلاب، وفي ذلك قصة شهيرة لربيعة ومضر وأنمار وإياد، تقدمت في باب الهمزة في الأفعى.
قال السهيلي: وفي الحديث «لا تسبوا ربيعة ومضر، فإنهما كانا مؤمنين». قال: وإنما سمي ربيعة الفرس لأنه أعطي من ميراث أبيه الخيل، وأعطي أخوه الذهب، فسمي مضر الحمراء. ولا تقول العرب إلا ربيعة ومضر ولا يقولون مضر وربيعة أصلا.
__________
(1) ديوان حسّان بن ثابت: 364.
(2) العتابي: كلثوم بن عمرو بن أيوب التغلبي، أبو عمرو. كاتب مترسل، جيد الشعر من أهل الشام، سكن بغداد ومدح هارون الرشيد وغيره. مات سنة 220هـ.
(3) جمهرة الأمثال: 1/ 462.(1/421)
ومن خواص الكلب العجيبة، أنه لا يلغ في دم مسلم. قال القاضي عياض، في الشفاء:
أفتى فقهاء القيروان وأصحاب سحنون بقتل ابراهيم الفزاري، وكان شاعرا ماهرا متفننا في كثير من العلوم، وكان يحضر مجلس القاضي أبي العباس بن أبي طالب، طلبا للمناظرة فضبطت عليه أمور منكرة من الاستهزاء بالله تعالى والأنبياء عليهم الصلاة والسلام، فقتل ثم صلب منكسا، وأنزل وأحرق بالنار، ولما رفعت خشبته وزالت عنها الأيدي، استدارت وتحولت عن القبلة، وجاء كلب فولغ في دمه. فقال يحيى بن عمر: صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه قال: «لا يلغ الكلب في دم مسلم».
وإذا قطع لسان كلب أسود، وأخذه إنسان في يده، لم تنبح عليه الكلاب، وإن أخذت قرادة من أذن كلب، وأمسكها إنسان في يده خضعت له الكلاب كلها حتى ذلك الكلب المأخوذة منه. وإن علقت أسنانه على صبي، خرجت أسنانه من غير تعب، وأنيابه إذا علقت على من به عضة الكلب الكلب سكن عنه وجعها، وإذا علقت على من به اليرقان الظاهر نفعه، وإن حمل إنسان معه ناب الكلب لم تنبحه الكلاب. وذكره إذا جفف وعلق على الفخد هيج الباه. ومن كان يلقى من القولنج شدة، فليقم كلبا نائما وليبل في مكانه، فإنه يزول عنه من وقته ويموت الكلب.
ونابه إذا علق على من يتكلم في نومه سكن، ولبن الكلبة إذا طلي به الشعر حلقه، وإن شرب بالماء سكن من وقته السعالي. وبوله إذا طلي به على الثآليل قلعها، وقراده إذا نقع في نبيذ وشربه شارب سكر من وقته. وشعر الكلب الأسود البهيم، إذا علق على المصروع نفعه، ومن كان عنده عبد أبق وأحب أن لا يأبق، فليأخذ جرو كلب صغيرا فيحرقه ثم يسحقه بزيت، ويطلي به رأسه فإنه لا يأبق، مجرب، قاله القزويني وغيره. ولبن الكلبة إذا شرب نفع من السموم القاتلة، ويخرج الأجنة والمشيمة، ومن اكتحل بلبن كلبة سهر ليله كله. وزبله إذا سحق وعجن بماء الكزبرة، وطلي به الأورام الحادة نفعها بإذن الله تعالى.
التعبير
: الكلاب في الرؤيا عند المسلمين عبيد، وفي الحديث «أن الكلب من الممسوخ»، وأوله المعبرون برجل سفيه مجترىء على العاصي، وإذا نبح فهو سفيه مشنع طمع، فمن رأى كلبا عضه أو خدشه، ناله من عدوه هم بقدر الألم، وربما مرض، وربما دلت رؤية الكلب على الانكلاب على الدنيا، مع عدم الادخار ورؤية كلب أهل الكهف في المنام، تدل على الخوف أو السجن أو الهرب أو الاختفاء، ورؤيته في البلد دليل على تجديد ولاية، وربما دل الكلب على الكفر والإياس من رحمة الله تعالى، لقوله (1) تعالى: {فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ} الآية.
وكلب الصيد عز ورفعة ورزق، وكلب الماشية رجل صاحل غيور على الأهل والجار، قاله ابن المقري. ومن رأى كلبا مزق ثيابه، فإن سفيها يغتابه، وإن لم يسمع نباحه فهو عدو، وتزول عداوته بشيء يسير.
والكلب يعبر برجل من الأهل، فمن نازعه كلب نازعه رجل من أهله، وربما عبر بالمشنع إذا نبح، أو بسماع نواح، أو بفتح بيت الخلاء. والكلبة امرأة دنيئة من قوم معاندين، والجرو ولد
__________
(1) سورة الأعراف: آية 176.(1/422)
محبوب، فإن كان أبيض فهو مؤمن، وإن كان أسود فهو يسود قومه، وقيل: جرو الكلب لقيط سفيه، والكلب الكلب سفيه أيضا. ورؤية كلب الراعي تدل على فائدة من ملك أو وال، والكلب الذي يصاد به ملك وولاية، لمن رآه إذا كان أهلا لذلك، أو يصير إليه شيء يستغني به لقوله (1) تعالى: {وَمََا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوََارِحِ مُكَلِّبِينَ} والكلب الصيني يدل على مخالطة قوم من الأعجام غير مسلمين.
ومن رأى أنه يصيد بالكلاب، فإنه يعطى بغيته وينال مناه، وقال ارسطاميدورس: من رأى كلاب الصيد خارجة فهي دليل خير لطالب الرزق والخدمة، وإذا رآها داخلة من الصيد، فإنها تدل على البطالة. والكلب الحارس في المنام يدل على صيانة الزوجة والمال. وقيل: الكلاب في المنام تدل على قوم أذلة. ومن رأى أنه صار كلبا، فإن الله تعالى قد آتاه علما فنسيه، لقوله تعالى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنََاهُ آيََاتِنََا فَانْسَلَخَ مِنْهََا} (2) إلى قوله تعالى: {فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ} (3) الآية.
وقيل: الكلاب تعبر بغلمان الشرطة، والكلب عدو ضعيف لتحوله عن جوهر السباع، ثم يصير صديقا بعد العداوة، لقصة آدم عليه السلام، لما أهبط إلى الأرض وقد تقدم طرف منها، فجعل في التأويل عدوا ثم يرجع صديقا.
ومن الرؤيا المعبرة أن سيدنا أبابكر الصديق رضي الله تعالى عنه، رأى كأن كلبة من مكة تهر على الناس، فلما دنوا منها، استلقت على ظهرها ودرت ثدياها لبنا، فأخبر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال:
«ذهب كلبهم، وأقبل درهم، وستلقونهم بعد ويسألونكم أرحامهم فإذا لقيتم أبا سفيان فلا تقتلوه». فلما قدم المسلمون لفتح مكة، قاتل بعضهم وكان ما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم. ومن الرؤيا المعبرة أيضا أن رجلا أتى ابن سيرين، فقال: رأيت كلبين يقتتلان على فرج زوجتي، فقال: إنها أخذت المقراض، وجزت شعر فرجها والله تعالى أعلم.
خاتمة
: ومن الفوائد المجربة أن يكتب في إناء حديد، ويمسح بزيت، ويسقى للمكلوب، فإنه يشفى بإذن الله تعالى وهي هذه الأحرف: (اب ج م اع هـ د باب اللد)، ويكتب أيضا للحامل في إناء جديد، ويغسل بماء ويسقى فإنه نافع إن شاء الله تعالى والله أعلم.
كلب الماء:
تقدم في القاف أنه القندس. وقال في عجائب المخلوقات: كلب الماء معروف، وهو حيوان مشهور يداه أطول من رجليه يلطخ بدنه بالطين، فيحسبه التمساح طينا، ثم يدخل جوفه فيقطع أمعاءه ويأكلها، ثم يمزق بطنه ويخرج. قال: ومن خواصه أن من كان معه شحم كلب الماء، أمن من غائلة التمساح. وذكر بعضهم أن جلد الجندبادستر خصية هذا الحيوان. وقد تقدمت صفة ذلك في باب الجيم.
الحكم
: سئل الليث بن سعد عن أكل لحم كلب الماء؟ فقال: لا بأس به، وقد تقدم في عموم السمك، أنها تحل إلا أربعة ليس هذا منها. وقيل: لا يؤكل لأن شبهه في البر لا يؤكل.
__________
(1) سورة المائدة: آية 4.
(2) سورة الأعراف: آية 175.
(3) سورة الأعراف: آية 176.(1/423)
الخواص
: دم كلب الماء يخلط بماء الكمون الكرماني ويشرب في الحمام ينفع من تقطير البول وعسره، ودماغه ينفع من ظلمة العين اكتحالا، ومرارته قدر عدسة منها، سم قاتل. وقال ابن سينا: إن خصيته تنفع من نهش الحيات، وجلده يتخذ منه جورب يلبسه المنقرس يذهب عنه ذلك ويبرأ.
الكلثوم:
الفيل قاله ابن سيده. وقد تقدم حكمه في باب الفاء.
الكلكسة:
قال قوم: إنه ابن عرس، وقال قوم: إنه حيوان آخر غير ابن عرس، وزبله إذا سحق وديف بالخل، وطلي به مواضع النملة الظاهرة، نفع نفعا بينا. وفي كتاب دمقراطيس، أن الكلكسة تبيض من فيها.
الكميت:
الفرس الشديد الحمرة، ولا يقال كميت، حتى يكون عرفه وغرته وذنبه سودا، وإن كانت حمرا فهو أشقر، والورد فيما بين الكميت والأشقر، والجمع وردان. والكميت من أسماء الخمر، قال الشيخ صلاح الدين الصفدي (1)، وفيه تورية:
وحمراء لما ترشفتها ... جنيت بها اللهو فيما جنيت
ونلت المسرات دون الورى ... لأني سبقتهم بالكميت
الكندارة:
سمكة لها سنام معروفة عند أهل البحر.
الكنعبة:
الناقة العظيمة، وسيأتي إن شاء الله تعالى، حكم الناقة في باب النون.
الكعند والكعند:
كجعفر ضرب من السمك، قاله الجوهري وأنشد لجرير (2):
قوم إذا جعلوا في صيرهم بصلا ... ثم اشتووا كنعدا من مالح جدفوا
الكندش:
العقعق، قال (3) أبو المغطش الحنفي يصف امرأة:
منيت بزمردة كالعصا ... ألصّ وأخبث من كندش
ولفظ زمردة فارسي معرب أي امرأة الرجل.
الكهف:
الجاموس المسن، وقد تقدم حكمه في باب الجيم.
الكودن:
البرذون البطيء، وقال الجوهري: هو البرذون يوكف ويشبه به البليد، وقال ابن سيده: الكودن البرذون، وقيل: البغل. وفي حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم «لم يعط الكودن شيئا». وفي رواية: «أعطاه دون سهم العراب». رواه الطبراني. وفي إسناده أبو
__________
(1) الصفدي: خليل بن أيبك بن عبد الله، صلاح الدين، أديب مؤرخ كثير التصانيف. مات في دمشق سنة 764هـ.
(2) ديوان جرير (طبعة دار المعارف) ج 1/ 177. وفيه: «واستوسقوا مالحا من كنعد جذفوا».
(3) البيت في الحيوان للجاحظ 4/ 39ونسبه إلى دعبل الخزاعي.(1/424)
بلال الأشعري وهو ضعيف.
الكوسج:
سمكة في البحر لها خرطوم كالمنشار، تفترس، وربما التقمت ابن آدم وقصمته نصفين، وهي القرش. ويقال لها: اللخم أيضا، ويقال: إنها إذا صيدت بالليل وجدوا في جوفها شحمة طيبة، وإن صيدت نهارا لم يجدوها.
وقال القزويني: الكوسج نوع من السمك، وهو في الماء شر من الأسد في البر، يقطع الحيوان في الماء بأسنانه، كما يقطع السيف الماضي. قال: ورأيته وهو سمكة مقدار ذراع أو ذراعين، وأسنانه كأسنان الناس، تنفر منه الحيوانات البحرية، وله أوان معين يكثر فيه بدجلة البصرة.
وحكمه
عند الإمام أحمد تحريم الأكل. وقال أبو حامد من أصحابه: لا يؤكل التمساح، ولا الكوسج لأنهما يأكلان الناس. ولأنه ذو ناب انتهى. ومقتضى مذهبنا أنه حلال، ومن ألحقه بالقرش أجرى عليه حكمه الذي تقدم في باب القاف.
الكهول:
قال الأزهري: هو بفتح الكاف وضم الهاء العنكبوت، ومنه قول عمرو لمعاوية رضي الله تعالى عنهما: أتيتك وأمرك كحق الكهول. أي ضعيف كبيت العنكبوت. وضبطها الخطابي والزمخشري بغير ذلك، لكن قالا: إنها العنكبوت أيضا.
باب اللام
لأي:
على وزن لعي هو الثور الوحشي، والجمع ألآء على وزن ألعاء، مثل جبل وأجبال.
والأنثى لآة. وقال الفارسي: يجوز أن تكون ألفه منقلبة عن ياء من اللاي. وقال في المحكم:
ويجوز أن تكون منقلبة عن واو من اللاو، لأن الثور يوصف بالقوة كما قال ابن عقيل (1):
يمشي بها دبّ الزناد كأنه ... فتى فارسي من سراويل رامج
وقد تقدم في باب الباء الموحدة، في ذكر أدم أهل الجنة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أدامهم بالام ونون» (2). قالوا: ما هذا؟ قال: ثور وحوت. قال السهيلي، في أول الروض في لؤي: اسم جد النبي صلى الله عليه وسلم قال ابن الأنباري: إنه تصغير اللأي، وهو الثور الوحشي. وقال أبو حنيفة: اللأي البقرة، قال: وسمعت أعرابيا يقول بكم لآك هذه.
اللباد
: بضم اللام، قاله الزبيدي في الأبنية، اسم طائر يلبد في الأرض، ولا يكاد يطير، إلا أن يطار، ولبد آخر نسور لقمان، وهو ينصرف لأنه ليس بمعدول، وخبره يأتي في باب النون في النسر إن شاء الله تعالى.
__________
(1) ابن عقيل: عبد الله بن عبد الرحمن بن عبد الله بن محمد القرشي، ولد ونشأ في القاهرة، وهو من أئمة النحو.
مات سنة 769هـ.
(2) رواه مسلم: منافقين 30. والبخاري: رقائق 44.(1/425)
الأمثال
: قالوا: «أهرم (1) من لبد». قال (2) الشاعر:
إن معاذ بن مسلم رجل ... ليس لميقات عمره أمد
قد شاب رأس الزمان واكتهل ... الدهر وأثواب عمره جدد
قل لمعاذ إذا مررت به ... قد ضجّ من طول عمرك الأبد
يا بكر حواء كم تعيش وكم ... تسحب ذيل الحياة يا لبد
مصححا كالظليم ترفل في ... برديك مثل السعير تتقد
صاحبت نوحا ورضت بغلة ذي ... القرنين شيخا لولدك الولد
فارحل ودعنا فإن غايتك ... الموت وإن شد ركنك الجلد
اللبوءة:
بضم الباء وبعدها همزة: أنثى الأسد، واللبأة واللبوة، ساكنة الباء، غير مهموزة لغتان فيها حكاهما ابن السكيت، ويقال لها: العرس أيضا.
قال عون بن أبي شداد العبدي: بلغني أن الحجاج بن يوسف الثقفي، لما ذكر له سعيد بن جبير رحمة الله تعالى عليه، بعد قتل عبد الرحمن بن الأشعث (3)، أرسل إليه قائدا من أهل الشأم من خاصة أصحابه، فبينما هم يطلبون، إذا هم براهب في صومعة له، فسألوه عنه فقال الراهب:
صفوه لي. فوصفوه له، فدلهم عليه، فانطلقوا فوجدوه ساجدا يناجي ربه تعالى بأعلى صوته، فدنوا منه وسلموا عليه فرفع رأسه، فأتم بقية صلاته، ثم رد عليهم السلام، فقالوا له:
إن الحجاج أرسل إليك فأجبه. فقال: ولا بد من الإجابة؟ فقالوا: لا بد. فحمد الله وأثنى عليه وصلى على النبي صلى الله عليه وسلم، ثم قام يمشي معهم حتى انتهوا إلى دير الراهب، فقال الراهب: يا معشر الفرسان أصبتم صاحبكم؟ قالوا: نعم. فقال لهم: اصعدوا الدير، فإن اللبوة والأسد يأويان حول الدير، فعجلوا الدخول قبل المساء ففعلوا ذلك، وأبى سعيد رضي الله عنه، أن يدخل الدير! فقالوا: ما نراك إلا تريد الهرب منا؟ قال: لا ولكني لا أدخل منزل مشرك أبدا.
فقالوا: إن لا ندعك فإن السباع تقتلك.
قال سعيد: فإن معي ربي يصرفها عني، ويجعلها حراسا حولي تحرسني من كل سوء، إن شاء الله تعالى. قالوا: فأنت من الأنبياء؟ قال: ما أنا من الأنبياء، ولكني عبد من عباد الله خاطىء مذنب. قالوا له: فاحلف لنا أنك لا تبرح. فحلف لهم. فقال لهم الراهب: اصعدوا الدير، وأوتروا القسي لتنفروا السباع عن هذا العبد الصالح، فإنه كره الدخول علي في الصومعة، فدخلوا وأوتروا القسي فإذا هم بلبوة قد أقبلت، فلما دنت من سعيد بن جبير، تحككت به وتمسحت به، ثم ربضت قريبا منه، وأقبل الأسد فصنع مثل ذلك، فلما رأى الراهب ذلك دخلت
__________
(1) جمهرة الأمثال: 2/ 293.
(2) وفيات الأعيان: 5/ 218، والأبيات لأبي السري سهل بن أبي غالب، وكان مقرّبا من هارون الرشيد.
(3) ابن الأشعث: عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث، قائد شجاع، ثار على الحجّاج وقاتله، وانتهى الأمر بمقتله سنة 85هـ.(1/426)
في قلبه هيبة، فلما أصبحوا نزلوا إليه، فسأله الراهب عن شرائع دينه وسنن نبيه صلى الله عليه وسلم فقرر له سعيد ذلك كله، فأسلم الراهب وحسن إسلامه.
وأقبل القوم على سعيد يعتذرون إليه ويقبلون يديه ورجليه، ويأخذون التراب الذي وطئه بالليل يصلون عليه، ويقولون: يا سعيد حلفنا الحجاج بالطلاق والعتاق، إن نحن رأيناك لا ندعك حتى نشخصك إليه، فمرنا بما شئت. فقال سعيد: امضوا لشأنكم فإني لائذ بخالقي ولا راد لقضاء ربي.
فساروا حتى وصلوا إلى واسط، فلما انتهوا إليها، قال لهم سعيد رضي الله تعالى عنه: يا معشر القوم، قد تحرمت بكم وصحبتكم، ولست أشك أن أجلي قد قرب وحضر، وأن المدة قد انقضت ودنت، فدعوني الليلة آخذ أهبة الموت، وأستعد لمنكر ونكير، وأذكر عذاب القبر، وما يحثى على من التراب، فإذا أصبحتم فالميعاد بيني وبينكم المكان الذي تريدون، فقال بعضهم: لا نريد أثرا بعد عين. وقال بعضهم: إنكم قد بلغتم أمنكم، واستوجبتم جوائزكم من الأمير، فلا تعجزوا عنه. وقال بعضهم: هو علي أدفعه إليكم إن شاء الله تعالى. فنظروا إلى سعيد وقد دمعت عيناه واغبر لونه، وكان لم يأكل ولم يشرب ولم يضحك، منذ لقوه وصحبوه، فقالوا بأجمعهم: يا خير أهل الأرض ليتنا لم نعرفك ولم نرسل لك، الويل لنا كيف ابتلينا بك! فاعذرنا عند خالقنا، يوم الحشر الأكبر، فإنه القاضي الأكبر، والعادل الذي لا يجوز. فلما فرغوا من البكاء والمجاوبة له ولهم، قال كفيله: أسألك بالله يا سعيد إلا ما زودتنا من دعائك وكلامك، فإنا لن نلقي مثلك أبدا.
فدعا لهم سعيد رضي الله تعالى عنه. ثم خلوا سبيله، فغسل رأسه ومدرعته وكساءه، وأقبل على الصلاة والدعاء والاستعداد للموت، ليله كله، وهم مختفون الليل كله فلما انشق عمود الصبح، جاءهم سعيد بن جبير رضي الله تعالى عنه فقرع الباب، فقالوا: صاحبكم ورب الكعبة، فنزلوا إليه فبكى وبكوا معه طويلا، ثم ذهبوا به إلى الحجاج فدخل عليه المتلمس فسلم عليه وبشره بقدوم سعيد بن جبير، فلما مثل بين يديه قال له:
ما اسمك؟ قال: سعيد بن جبير. فقال: بل أنت شقي بن كسير. قال سعيد: بل أمي كانت أعلم باسمي منك. فقال الحجاج: شقيت أنت وشقيت أمك. فقال سعيد: الغيب يعلمه غيرك. قال الحجاج: لأبدلنك بالدنيا نارا تلظى. قال: لو علمت أن بيدك لاتخذتك إلها. قال:
فما قولك في محمد صلى الله عليه وسلم؟ قال: نبي الرحمة. قال: فما قولك في علي أفي الجنة هو أم النار؟ قال: لو دخلتهما وعرفت أهلهما عرفت من فيهما. قال: فما قولك في الخلفاء؟ قال: لست عليهم بوكيل.
قال: فأيهم أعجب إليك؟ قال: أرضاهم لخالقه. قال: فأيهم أرضى للخالق؟ قال: علم ذلك عند الذي يعلم سرهم ونجواهم. قال: فما بالك لا تضحك؟ قال: أيضحك مخلوق خلق من الطين والطين تأكله النار؟ قال: فما بالنا نضحك؟ قال: لم تستو القلوب. قال: ثم إن الحجاج أمر باللؤلؤ والزبرجد والياقوت، وغير ذلك من الجواهر، فوضعت بين يدي سعيد، فقال سعيد رضي الله تعالى عنه: إن كنت جمعت هذا لتفدى به من فزع يوم القيامة، فصالح، وإلا ففزعة واحدة
تذهل كل مرضعة عما أرضعت، لا خير في شيء جمع للدنيا إلا ما طاب وزكا.(1/427)
قال: فأيهم أعجب إليك؟ قال: أرضاهم لخالقه. قال: فأيهم أرضى للخالق؟ قال: علم ذلك عند الذي يعلم سرهم ونجواهم. قال: فما بالك لا تضحك؟ قال: أيضحك مخلوق خلق من الطين والطين تأكله النار؟ قال: فما بالنا نضحك؟ قال: لم تستو القلوب. قال: ثم إن الحجاج أمر باللؤلؤ والزبرجد والياقوت، وغير ذلك من الجواهر، فوضعت بين يدي سعيد، فقال سعيد رضي الله تعالى عنه: إن كنت جمعت هذا لتفدى به من فزع يوم القيامة، فصالح، وإلا ففزعة واحدة
تذهل كل مرضعة عما أرضعت، لا خير في شيء جمع للدنيا إلا ما طاب وزكا.
ثم دعا الحجاج بآلات اللهو، فضربت بين يدي سعيد فبكى سعيد. فقال الحجاج: ويلك يا سعيد. فقال سعيد: الويل لمن زحزح عن الجنة، وأدخل النار. فقال: يا سعيد أي قتلة تريد أن أقتلك بها؟ قال: اختر لنفسك يا حجاج، فو الله لا تقتلني قتلة إلا قتلك الله مثلها في الآخرة.
قال: فتريد أن أعفو عنك؟ قال: إن كان العفو من الله فنعم، وأما منك أنت فلا. فقال: اذهبوا به فاقتلوه. فلما أخرج من الباب ضحك، فأخبر الحجاج بذلك، فأمر برده فقال: ما أضحكك وقد بلغني أن لك أربعين سنة لم تضحك؟ قال: ضحكت عجبا من جراءتك على الله، ومن حلم الله عليك، فأمر بالنطع فبسط بين يديه، وقال: اقتلوه.
فقال سعيد: {كُلُّ نَفْسٍ ذََائِقَةُ الْمَوْتِ} * (1). ثم قال: {وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً وَمََا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} (2). قال: وجهوه لغير القبلة. فقال سعيد: {فَأَيْنَمََا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللََّهِ} (3) فقال: كبوه لوجهه. فقال: {مِنْهََا خَلَقْنََاكُمْ وَفِيهََا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهََا نُخْرِجُكُمْ تََارَةً أُخْرى ََ} (4) فقال الحجاج: اذبحوه. فقال سعيد: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدا عبده ورسوله. ثم قال: اللهم لا تسلطه على أحد يقتله بعدي. فذبح على النطع رحمة الله تعالى عليه، فكان رأسه يقول بعد قطعه: لا إله إلا الله مرارا. وذلك في شعبان سنة خمس وتسعين. وكان عمر سعيد تسعا وأربعين سنة، وعاش الحجاج بعده خمس عشرة ليلة، ولم يسلط على قتل أحد بعده.
ولما بلغ الحسن البصري (5) رضي الله تعالى عنه قتل سعيد بن جبير، قال: اللهم أنت على فاسق ثقيق رقيب، والله لو أن أهل المشرق والمغرب اشتركوا في قتله، لكبهم الله تعالى في النار، والله لقد مات وأهل الأرض من المشرق إلى المغرب محتاجون إلى علمه. ونقل أن سعيدا رضي الله تعالى عنه كان يقول: وشى بي واش، وأنا في بلد الله الحرام، أكله إلى الله، يعني خالد القسري.
وروي أن الحجاج لما حضرته الوفاة، كان يغيب ثم يفيق، ويقول: ما لي ولسعيد بن جبير.
وقيل: إنه كان في مدة مرضه كلما نام، رأى سعيد بن جبير آخذا بثوبه، وهو يقول: يا عدو الله فيم قتلتني فيستيقظ مذعورا.
وروي أن أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى، رآه بعد موته في المنام، وهو جيفة منتنة، وأنه قال له: ما فعل الله بك؟ فقال: قتلني الله بكل قتيل قتلته قتلة واحدة، وقتلني بسعيد بن جبير سبعين قتلة.
فإن قيل ما الحكمة في أن الله تعالى قتل الحجاج بكل قتيل قتلة وقتله بسعيد سبعين قتلة؟
وقد قتل من هو أفضل من سعيد، وهو عبد الله بن الزبير رضي الله تعالى عنهما، لأنه صحابي،
__________
(1) سورة آل عمران: آية 185.
(2) سورة الأنعام: آية 79.
(3) سورة البقرة: آية 115.
(4) سورة طه: آية 55.
(5) الحسن البصري: أبو سعيد بن يسار، إمام أهل البصرة في الفقه وله مواقف مشهودة مع الحجاج وقد سلّمه الله من أذاه. مات سنة 110هـ.(1/428)
وسعيد بن جبير تابعي والصحابي أفضل من التابعي؟
فالجواب أن الحجاج لما قتل ابن الزبير، كان له نظراء في العلم من الصحابة، كابن عمرو وأنس بن مالك وغيرهما، ولما قتل سعيدا لم يكن له نظير في العلم، فضوعف عليه العذاب بسبب ذلك. ويشهد لهذا القول ما تقدم عن الحسن البصري، لا لكونه أفضل من ابن الزبير والله أعلم.
التعبير
: اللبوة في المنام بنت ملك، فمن رأى أنه جامع لبوة نجا من شدة عظيمة، ويعلو شأنه ويظفر بأعدائه، فإن رأى ذلك ملك، وكان في حرب، فإنه يظفر بمن يحاربه ويملك بلادا كثيرة. وقيل: إن اللبوة تعبيرها كالسبع والله أعلم.
اللجأ:
بالجيم نوع من السلاحف يعيش في البر والبحر، ولها حيلة عجيبة وتوصل في صيد ما تصيده من طائر وغيره، وذلك أنها تغوص في الماء ثم تتمرغ في التراب، ثم تكمن للطير في مواضع شربها، فيختفي عليه لونها، فتمسكه وتغوص به في الماء حتى يموت.
ويقال: إن اللجأة تضع بيضها في البر، وأنها تحضنه بالنظر إليه. وقال أرسطاطاليس في النعوت: ما خرج من بيض اللجأة مستقبل البحر، صار إلى البحر، وما خرج منه مستقبل البر، صار إلى البر وكلهن يردن الماء، لأنهن من خلق الماء. قال: وهي تأكل الثعابين واللجأة البحرية لها لسان في صدرها من أصابته به من الحيوان قتلته. وقد تقدم ذكرها في باب السين.
الحكم
: صرح بتحريمها وبعدم جواز أكلها البغوي والنووي في شرح المهذب.
الخواص
: قال أرسطو: كبدها إذا أكل طريا نفع من داء الكبد، ولحمها إذا طبخ بخل صفة السكباج وشرب من مرقته من به استسقاء نفعه، وأد بل بطنه، وهو يشد الفؤاد ويذهب الرياح السوداوية والله أعلم.
التعبير
: اللجأة في المنام امرأة عفيفة، وسنة مقبلة ذات مال، وربما دلت على الوقاية من الأعداء، لاتخاذ الناس من ظهرها تجافيف يدفع الإنسان بها عن نفسه.
اللحكاء:
قال الأزهري: هي بضم اللام وفتح الحاء المهملة والكاف، وبالألف والمد، ويقال له: اللحكة على مثال الهمزة واللمزة، وحكى ابن قتيبة، في أدب الكاتب، الحلكاء بفتح الحاء وإسكان اللام وبالمد، وحكى في المقصور والممدود، الحلكا بضم الحاء وفتح اللام المشددة وبالقصر، شحمة الأرض تغوص في الرمل كما يغوص طير الماء في الماء. وقال غيره: الحلكة بالهاء وهي فيما ذكروا دويبة كأنها سمكة تكون في الرمل، فإذا أحست بالإنسان، دارت في الرمل وغاصت فيه. وقال غير الأزهري: الحلكة بتقديم الحاء على اللام، وكذلك الحلكاء على مثال العنقاء.
وحكى صاحب جامع اللغة فيها القصر أيضا. وقال الجوهري: اللحكة أظنها مقلوبة من الحلكة. قال ابن الصلاح (1)، في مشكل الوسيط الذي ضبطناه، عن الأزهري، صاحب كتاب
__________
(1) ابن الصلاح: عثمان بن عبد الرحمن بن عثمان الشهرزوري الكردي، تقي الدين فاضل عالم في التفسير والفقه وأسماء الرجال درّس في القدس ودمشق ومات فيها سنة 643هـ.(1/429)
تهذيب اللغة، الموثوق به: إنها مقصورة، وهي دويبة ملساء كأنها شحمة مشربة بحمرة، ويقال لها الحلكة مثل الهمزة انتهى. وقال الماوردي، في الحاوي: اللحكاء تشبه السمك وهي عريضة من أعلى، دقيقة من أسفل. وقال ابن السكيت، في إصلاح المنطق: اللحكة دويبة شبيهة بالعظاءة، زرقاء تبرق وليس لها ذنب طويل كالعظاءة وقوائمها خفية. وهذا القول أحسن من الذي نقله ابن الصلاح عن تهذيب الأزهري.
وقد تقدم في حرف الحاء الحلكة. وقال الصيدلاني والروياني: إنها دويبة مثل الإصبع تجري في الرمل ثم تغوص فيه. وهذا يقوي قول الجوهري إنها مقلوبة من الحلكة، لأنه فسرها بهذا فعلى ما قاله الأزهري من كونها ملساء كأنها شحمة مشربة بحمرة حسن تشبيه العرب أصابع النساء بها، إلا أن الاشتقاق لا يساعده، لأن الحلكة فيما يظهر شدة السواد، مأخوذ من قولهم: أسود حالك، ولما كانت زرقاء لشدة سوادها سموها بهذا الاسم. والعرب تسميها بنات النقا لأنها تسكن نقيات الرمل.
الحكم
: لا يحل أكلها لأنها من أنواع الوزغ.
اللخم:
بضم اللام وإسكان الخاء المعجمة، ضرب من السمك ضخم يقال له الكوسج، وهو القرش كما تقدم. وأنشد ابن سيده لبعض الأدباء:
لصيد اللخم في البحر ... وصيد الأسد في البر
وقضم الثلج في القر ... ونقل الصخر في الحر
وإقدام على الموت ... وتحويل إلى القبر
لأشهى من طلاب العز ... ممن عاش في الفقر
وحكمه
: حل الأكل فيما يظهر، وقد قال أبو السعادات المبارك بن محمد بن الأثير، في كتابه نهاية غريب الحديث ما نصه: في حديث عكرمة رضي الله تعالى عنه، اللخم حلال، وهو ضرب من سمك البحر يقال اسمه القرش اهـ. وقد تقدم الكلام على القرش في باب القاف.
اللعوس:
الذئب سمي بذلك لسرعة أكله.
اللعوة:
بفتح اللام الكلبة، قالت العرب: «أجوع (1) من لعوة».
اللقحة:
بالكسر والفتح، لغتان مشهورتان والكسر أشهر، والجمع لقح بكسر اللام وفتح القاف كبركة وبرك، وهي الناقة ذات اللبن، وقيل القريبة العهد من النتاج، وناقة لقوح إذا كانت غزيرة اللبن.
روى مسلم عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (2): «تقوم الساعة والرجل يحلب اللقحة فما يصل الإناء إلى فيه حتى تقوم الساعة، والرجلان يتبايعان الثوب فلا يتبايعانه حتى تقوم الساعة، والرجل يليط حوضه فما يصدر حتى تقوم الساعة». وفيه من حديث النواس
__________
(1) جمهرة الأمثال: 1/ 268.
(2) رواه مسلم: فتن 140.(1/430)
بن سمعان في صفة الدجال: «ويبارك في الرسل يعني اللبن حتى إن اللقحة من الإبل لتكفي الفئام من الناس، واللقحة من الغنم لتكفي الفخذ من الناس، واللقحة من البقر لتكفي القبيلة من الناس». الفئام الجماعة الكثيرة مأخوذ من الكثرة، والفخذ بالذال المعجمة الجماعة من الأقارب، وهم دون البطن والبطن دون القبيلة. قال ابن فارس: الفخذ هنا باسكان الخاء المعجمة لا غير بخلاف الفخذ التي هي العضو فإنها تكسر وتسكن.
وكان للنبي صلى الله عليه وسلم عشرون لقحة بالغابة وهي على بريد من المدينة بطريق الشأم، كان يراح إليه صلى الله عليه وسلم كل ليلة بقربتين عظيمتين من لبن، وكان أبو ذر رضي الله تعالى عنه فيها، وكان صلى الله عليه وسلم يفرقها على نسائه وهي التي استاقها العرنيون وقتلوا راعيها يسارا ففعل رسول الله صلى الله عليه وسلم بهم ما فعل.
وروى (1) الحاكم عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن رجلا أهدى إلى النبي صلى الله عليه وسلم لقحة، فأثابه منها ست بكرات فتسخطها، فقال صلى الله عليه وسلم: «من يعذرني من فلان؟ أهدى إلي لقحة فأثبته منها ست بكرات فتسخطها لقد هممت أن لا أقبل هدية إلا من قرشي أو أنصاري أو ثقفي أو دوسي» ثم قال: صحيح الإسناد.
وروى هو وأحمد والبيهقي، عن ضرار بن الأزور رضي الله تعالى عنه، قال: أهديت إلى النبي صلى الله عليه وسلم لقحة، فأمرني أن أحلبها فحلبتها فجهدت حلبها، فقال صلى الله عليه وسلم: «لا تفعل دع داعي اللبن». وروى البزار عن بريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بحلاب لقحة، فقام رجل فقال له صلى الله عليه وسلم:
«ما اسمك»؟ فقال: مرة. فقال صلى الله عليه وسلم: «اقعد». فقام آخر، فقال له صلى الله عليه وسلم: «ما اسمك»؟ قال:
يعيش. فقال صلى الله عليه وسلم له: «احلب».
ورواه مالك عن يحيى بن سعيد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للقحة تحلب: «من يحلب هذه»؟ فقام رجل، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «ما اسمك»؟ قال له الرجل: مرة. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم «اجلس».
ثم قال: «من يحلب هذه»؟ فقام رجل، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «ما اسمك»؟ قال: حرب. قال:
«اجلس». ثم قال صلى الله عليه وسلم: «من يحلب هذه»؟ فقام رجل فقال له صلى الله عليه وسلم: «ما اسمك»؟ قال: يعيش.
فقال له صلى الله عليه وسلم: «احلب».
ثم روى عن يحيى بن سعيد أن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه قال لرجل: ما اسمك؟ قال: جمرة. قال ابن من؟ قال: ابن شهاب. قال: ممن؟ قال: من الحرقة. قال: أين مسكنك؟ قال بحرة النار. قال: بأيها؟ قال: بذات لظى. فقال له عمر رضي الله تعالى عنه:
أدرك أهلك فقد احترقوا. قال: فكان كما قال عمر رضي الله تعالى عنه.
وفي السيرة أنه صلى الله عليه وسلم لما خرج إلى بدر، مر برجلين فسأل عن اسمهما، فقال له أحدهما:
مسلخ والآخر مخذل، فعدل عن طريقهما، وليس هذا من الطيرة التي نهى صلى الله عليه وسلم عنها، بل من باب كراهة الاسم القبيح. فقد كان صلى الله عليه وسلم يكتب إلى أمرائه: «إذا أبردتم إلي بريدا، فأبردوه حسن
__________
(1) رواه الدارمي: أضاحي 25.(1/431)
الاسم حسن الوجه». وفي حديث البزار ومالك زيادة، رواها ابن وهب وهي: فقام عمر فقال:
لا أدري أقول أم أسكت؟ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قل» قال: فكيف نهيتنا عن الطيرة وتطيرت؟
فقال صلى الله عليه وسلم: «ما تطيرت ولكني آثرت الاسم الحسن».
وروى أبو داود والترمذي والحاكم وقال: صحيح عن ابن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (1): «الطيرة شرك وما منا إلا من تطير ولكن الله تعالى يذهبه بالتوكل». قال الخطابي: معناه وما منا إلا من يعتريه التطير، ويسبق إلى قلبه الكراهة فيه فحذفه اختصارا للكلام، واعتمادا على فهم السامع. قال البخاري: كان سليمان بن حرب ينكر هذا، ويقول:
هذا ليس من قول النبي صلى الله عليه وسلم وكأنه من كلام ابن مسعود رضي الله عنه.
قال الإمام عبد الصمد: لما رأيت في أطواق الذهب لجار الله العلامة أبي القاسم محمود الزمخشري قوله: رزق مبسوط ومقدر، وشرب صاف ومكدر، ورجل يحسو الماء القراح (2)، وآخر درت له اللقاح، وما أوتي هذا من عجز ووهن، وما أوتي ذاك من فضل وذكاء ذهن، ولكن تقدير من بيده الملكوت، وإليه الكتاب الموقوت، ذكرت هذين البيتين:
لم أوت من طلب ولا ... جدّ ولا هم شريف
لكنه قدر يزو ... ل من القوي إلى الضعيف
وما أحسن قول (3) القائل حيث قال:
أنفق ولا تخش إقلالا فقد قسمت ... على العباد من الرحمن أرزاق
لا ينفع البخل مع دنيا مولية ... ولا يضرّ مع الإقبال إنفاق
اللقوة:
العقاب الأنثى، واللقوة بالكسر مثله. قال أبو عبيد: سميت لقوة لسعة أشداقها، وقيل: لاعوجاج منقارها، واللقوة مرض يميل به الوجه إلى جانب. واللقوة الناقة السريعة اللقاح، ولقوة لقب الحجاج بن يوسف الثقفي البغدادي المعروف بابن الشاعر. روى عنه مسلم وأبو داود ووفاته سنة تسع وخمسين ومائتين.
اللقاط:
بالتشديد طائر معروف، سمي بذلك لأنه يلقط الحب.
وحكمه
: الحل، قال العبادي: اللقاط حلال، إلا ما استثناه النص. قال، في شرح المهذب: يعني به ذا المخلب وفيما قاله نظر، لأن المراد به ما يلقط الحب وذو المخلب، لم يدخل في اسم اللقاط حتى يصح استثناؤه منه، لكن يحتمل أنه أراد بالمستثنى الغراب الزرعي والاستثناء المنقطع لا تصح إرادته هنا، لأن الرافعي رحمه الله قد نقل بعد ذلك، عن البوشنجي، أن اللقاط حلال، بغير استثناء.
__________
(1) رواه أبو داود: طب 24. والترمذي سير 46.
(2) الماء القراح: الماء الخالص.
(3) البيتان لجحظة البرمكي كما في معجم الأدباء 1/ 319.(1/432)
ولعل أبا عاصم أراد بالمستثنى بالنص غراب الزرع، والغداف الصغير فإنهم يلقطان الحب، ويأكلان الزرع. كما قاله الماوردي في الحاوي، وفيهما وجهان أصحهما في الروضة تحريم الغداف وحل الزرعي. وقد تقدم طرف من هذا في أحكام الغراب، لكن كلام الرافعي يقتضي حلهما، فمن قال بتحريمهما استثناهما من اللقاط، ولم يحمل الأمر الوارد بقتل الغراب على الأبقع وحده، بل عليه وعلى غيره.
ونقل الجاحظ هذا الاحتمال عن صاحب المنطق، فقال: قال صاحب المنطق: الغراب جنس من الأجناس التي أمر بقتلها في الحال والحرم، وهذا صريح في أن الجميع فواسق، وأن قتل جميعها مستحب.
وقد صرح في الحاوي باستحباب قتل الغراب الأسود الكبير، وألحقه بالأبقع وجعل النهي علة تحريمه، ومن قال: يحل اللقاط مطلقا لم يستثن شيئا، وحمل الأمر بقتل الغراب على الأبقع، لأنه قد ورد التقييد، في بعض الروايات بالغراب الأبقع. وهذا إنما يستقيم إذا قلنا: إنّ ذكر بعض أفراد العموم تخصيص، والصحيح أنه ليس بتخصيص. والغراب الأبقع، وإن كان يلقط الحب، فهو غير وارد على البوشنجي، لأن غالب أكله الخبائث، بخلاف الزرعي والغداف الصغير والله تعالى أعلم.
اللقلق:
طائر أعجمي طويل العنق وكنيته عند أهل العراق أبو خديج، وعبر عنه الجوهري بالقاف، وهو اسم أعجمي قال: وربما قالوا: اللغلغ، والجمع اللقالق، وهو يأكل الحيات، وصوته اللقلقة، وكذلك كل صوت فيه حركة واضطراب. ويوصف بالفطنة والذكاء، قال القزويني، في الأشكال: قال الرئيس: من ذكاء هذا الطائر أنه يتخذ له عشين يسكن في كل واحد منهما بعض السنة، وأنه إذا أحسّ بتغير الهواء عند حدوث الوباء، ترك عشه وهرب من تلك الديار، وربما ترك بيضه أيضا. قال: ومما يتوصل به إلى طرد الهوام اتخاذ اللقلق، فإن الهوام تهرب من مكان هو فيه، لفزعها منه وإذا ظهرت قتلها.
الحكم
: في حله وجهان: أحدهما، وبه قال الشيخ أبو محمد: يحل كالكركي ورجحه الغزالي، والثاني يحرم، وصححه البغوي وجزم به العبادي، واحتج بأنه يأكل الحيات، ويصف في الطيران. وقد قال صلى الله عليه وسلم: «كل ما دفّ ودّع ما صف». يقال: دف الطائر في طيرانه إذا حرك جناحيه، كأنه يضرب بهما، وصف إذا لم يتحرك، كما تفعل الجوارح. ومنه قوله (1) تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صََافََّاتٍ}. والأصح في شرح المهذب والروضة أنه حرام. واللقلق من طير الماء وقد تقدم استثناؤه.
الخواص
: إذا ذبح فرخ من فراخه وطلي به بدن المجذوم نفعه نفعا بينا، وإذا أخذ من دماغه وزن دانق ومن أنفحة الأرنب مثله، وأذيبا على النار، فمن طعم منه باسم آخر هيج روحانية المحبة في قلبه. وقال هرمس: من حمل عظم اللقلق معه زال همه، وإن كان عاشقا سلا ومن حمل
__________
(1) سورة الملك: آية 19.(1/433)
حبة عينه اليمنى لم ينم، ومن حمل حبة عينه اليسرى نام، ولم يتنبه ما لم تحل عنه، ومن حمل عينه ودخل الماء، لم يغرق، وإن لم يحسن السباحة.
التعبير
: اللقلق في المنام يدل على قوم يحبون المشاركة فإذا رآها إنسان مجتمعة في مكان، فإنهم لصوص وقطاع طريق وأعداء محاربة، وقيل: رؤية اللقلق تدل على تردد. ومن رأى اللقالق متفرقة فإنها دليل خير إن كان مسافرا أو أراد السفر، لأنها تظهر في الصيف، وتدل رؤياها على قدوم المسافر إلى وطنه والمقيم على سفره والله أعلم.
اللهق:
الثور الأبيض وقد تقدم ما في الثور في باب الثاء المثلثة.
اللهم:
الثور المسن، وقد تقدم والجمع لهوم.
اللوب والنوب:
الأول بضم اللام، والثاني بضم النون، جماعة النحل ومنه حديث ريان بن قسور رضي الله تعالى عنه قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو نازل بوادي الشوحط، فكلمته فقلت: يا رسول الله إن معنا لوبا لنا، يعني نحلا كانت في غيلم لنا، فيه طرم وشمع، فجاء رجل فضرب ميتين، فأنتج حيا وكفنه بالثمام، يعني قدح نارا بالزندين، ونحسه يعني دخنه، فطار اللولب هاربا، وأدلى مشواره في الغيلم، فاشتار العسل فمضى به، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ملعون من سرق شرو قوم فأضربهم أفلا تبعتم أثره وعرفتم خبره». قال: قلت: يا رسول الله إنه دخل في قوم لهم منعة، وهم جيرتنا من هذيل. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «صبرك صبرك ترد نهر الجنة، وإن سعته كما بين العقيقة والسحيقة يتسبب جريا بعسل صاف من قذاه ما تقيأه لوب ولا مجه نوب» انتهى.
الغيلم البئر وأراد بها ههنا الخلية.
والطرم العسل ذكره السهيلي في مقتل خبيب وأصحابه، بعد أحد. وذكره أبو عمر بن عبد البر وابن الأثير أبو السعادات، ونقلا عن ابن ماكولا، أنه قال: ذكره عبد الغني بن سعيد وغيره بإسناد ضعيف.
اللوشب:
ككوكب الذئب، وقد تقدم ما في الذئب في باب الذال المعجمة.
اللياء:
سمكة في البحر يتخذ من جلدها الترسة فلا يحيك فيها شيء من السلاح، ولا يقطع، وفي الحديث أن فلانا أهدى لرسول الله صلى الله عليه وسلم بودان لياء مقشى. ومنه حديث معاوية رضي الله تعالى عنه أنه دخل عليه وهو يأكل لياء مقشى.
الليث:
الأسد، وجمعه ليوث. وهو أيضا ضرب من العناكب يصطاد الذباب، وهو أصغر من العنكبوت. والليث من الرجل: الشجاع وبنو ليث بطن من العرب، وبه سمي ليث بن سعد بن عبد الرحمن بن الحارث، إمام أهل مصر في الفقه. ولد بقلقشندة وهي قرية في أسفل مصر سنة أربع وتسعين. قال الشافعي: الليث أفقه من مالك، إلا أن أصحابه لم يقوموا به، وقال عثمان بن صالح: كان أهل مصر ينتقصون عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه، حتى نشأ فيهم الليث بن سعد فحدثهم بفضائل عثمان رضي الله تعالى عنه. فكفوا عن ذلك.
وكان أهل حمص ينتقصون عليا رضي الله تعالى عنه، حتى نشأ فيهما اسماعيل بن عياش (1)
فحدثهم بفضائل علي رضي الله تعالى عنه فكفوا عن ذلك.(1/434)
الأسد، وجمعه ليوث. وهو أيضا ضرب من العناكب يصطاد الذباب، وهو أصغر من العنكبوت. والليث من الرجل: الشجاع وبنو ليث بطن من العرب، وبه سمي ليث بن سعد بن عبد الرحمن بن الحارث، إمام أهل مصر في الفقه. ولد بقلقشندة وهي قرية في أسفل مصر سنة أربع وتسعين. قال الشافعي: الليث أفقه من مالك، إلا أن أصحابه لم يقوموا به، وقال عثمان بن صالح: كان أهل مصر ينتقصون عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه، حتى نشأ فيهم الليث بن سعد فحدثهم بفضائل عثمان رضي الله تعالى عنه. فكفوا عن ذلك.
وكان أهل حمص ينتقصون عليا رضي الله تعالى عنه، حتى نشأ فيهما اسماعيل بن عياش (1)
فحدثهم بفضائل علي رضي الله تعالى عنه فكفوا عن ذلك.
وحج الليث، فقدم المدينة فبعث إليه الإمام مالك بن أنس بطبق رطب، فجعل على الطبق ألف دينار ورده إليه، وكان الليث رحمه الله يستغل في كل سنة عشرين ألف دينار فينقفها وما وجبت عليه زكاة قط. وقالت له امرأة: يا أبا الحارث إن لي ابنا عليلا واشتهى عسلا، فقال: يا غلام اعطها مطرا من عسل، والمطر مائة وعشرون رطلا. فقيل له في ذلك، فقال: سألت على قدر حاجتها، ونحن أعطيناها على قدر نعمتنا. واشترى قوم منه ثمره ثم استقالوه، فأقالهم وأعطاهم خمسين دينارا، وقال: إنهم كانوا قد أملوا فيها أملا فأحببت أن أعرضهم عن أملهم.
وكان رضي الله تعالى عنه حنفي المذهب، وولي القضاء بمصر وتوفي بها في شعبان سنة خمسن وسبعين ومائة. وقبره في القرافة الصغرى مشهور. وقلقشندة بفتح القاف ولام وقاف وشين معجمة مفتوحة ونون ساكنة ودال مهملة وهاء آخرها بينها وبين مصر مقدار ثلاثة فراسخ كذا قاله ابن خلكان.
وحكى: عبد الله بن أبي عبيدة بن محمد بن عمار بن ياسر، قال: كان بأرض اليمامة رجل من ربيعة يقال له جحدر بن مالك العجلي، وكان شاعرا فحلا فاتكا قد أمر على أهل حجر وما يليها، فبلغ ذلك الحجاج، فكتب إلى عامله على اليمامة يوبخه ويلومه على تغلب جحدر في ولايته ويأمره بالتجرد في طلبه والبعث به إليه، إن ظفر به. فلما أتى العامل كتابه دس إليه فتية من قومه، ووعدهم أن يوفدهم معهم، فمكثوا لذلك أياما حتى إذا أصابوا منه غرة شدوا عليه فأوثقوه، وقدموا به على العامل. فبعث به إلى الحجاج فلما جاوزوا بجحدر حجرا أنشأ يقول:
لقد ما هاجني فازددت شوقا ... بكاء حمامتين تغردان
تجاوبتا بلحن أعجمي ... على غصنين من غرب وبان
فقلت لصاحبي وكنت أحزو ... ببعض القول ماذا تحزوان
فقالا: الدار جامعة قريبا ... فقلت وأنتما متمنيان
فكان البان أن بانت سليمى ... وفي الغرب اغتراب غير دان
إذا جاوزتما نخلات حجر ... وأندية اليمامة فانعياني
وقولا جحدر أمسى رهينا ... يعالج وقع مصقول يماني
كذا المغرور بالدنيا سيردى ... وتهلكه المطامع والأماني
فلما قدم به على الحجاج، قال له: أنت جحدر؟ قال: نعم، أصلح الله الأمير. قال: فما حملك على ما صنعت؟ قال: جراءة الجنان، وكلب الزمان، وجفوة السلطان. قال: وما الذي بلغ من أمرك فيجرأ جنانك، ويكلب زمانك ويجفوك سلطانك؟ قال: لو بلاني الأمير لوجدني من صالح الأعوان، وأهم الفرسان، وأما جراءة جناني فإني لم ألق فارسا قط، إلا كنت عليه في نفسي
__________
(1) ابن عياش: إسماعيل بن عياش بن سليم العنبسي، عالم الشام ومحدّثها. مات سنة 182هـ.(1/435)
مقتدرا، فقال له الحجاج بن يوسف: إنا قاذفون بك في جب ليث، فإن هو قتلك كفانا مؤنتك، وإن أنت قتلته خلينا عنك وأحسنا جائزتك! قال: نعم، أصلح لله الأمير قربت المحنة، وأعظمت المنة، أنت أهل ذلك، إذا شئت فأمر به. فقيد وحبس.
وكتب إلى عامله على كسكر يأمره بالبعثة إليه بأسد ضار، فبعث إليه بأسد قد أضر بأهل كسكر، في صندوق يجره ثوران، فلما قدم به على الحجاج، أمر به فأدخل في جب وسد بابه وجوعه ثلاثة أيام، ثم أتى بجحدر وأمكن من سيف قاطع، وجلس الحجاج والناس ينظرون إليهما فلما نظر الأسد إلى جحدر، وقد أقبل ومعه السيف يرسف في قيوده، تهيأ وتمطى فأنشد جحدر يقول:
ليث وليث في مجال ضنك ... كلاهما ذو أنف وفتك (1)
وسورة في وصلة ومحك ... أن يكشف الله قناع الشك
من ظفري بحاجتي ودركي ... فذاك أحرى منزل بترك
فوثب إليه الأسد وثبة شديدة فتلقاه جحدر بالسيف، فضرب هامته ففلقها حتى خالط ذباب السيف لهواته، وتخضبت ثيابه من دمه، فوثب وهو يقول:
يا جمل إنك لو رأيت كريهتي ... في يوم هيج مسدف وعجاج (2)
وتقدمي لليث أرسف موثقا ... كيما أكابره على الإحراج
جهم كأن جبينه لما بدا ... طبق الرحا متعجّر الأثباج
يسمو بناظرتين تحسب فيهما ... لما أجالهما شعاع سراج
فكأنما خيطت عليه عباءة ... برقاء أو قطع من الديباج
قرنان مختصران قد مخضتهما ... أمّ المنية غير ذات نتاج
ففلقت هامته فخر كأنه ... أطم تساقط مائل الأبراج (3)
ثم انثنيت وفي ثيابي شاهد ... مما جرى من شاخب الأوداج (4)
أيقنت أني ذو حفاظ ماجد ... من نسل أملاك ذوي أتواج
مما يغار على النساء حفيظة ... إذ لا يثقن بغيرة الأزواج
فقال له الحجاج: يا جحدر إن أحببت المقام معنا فأقم، وإن أحببت الانصراف إلى بلادك فانصرف. فقال: بل أختار صحبة الأمير والكينونة معه، ففرض له في شرف العطاء، وأقام ببابه فكان من خواص أصحابه. وسيأتي إن شاء الله تعالى في باب الهاء في الهزبر ما قاله بشر بن أبي عوانة (5)، لما قتل الأسد، وقد أحسن إبراهيم بن محمد المغربي رحمه الله حيث قال:
__________
(1) الضنك: الضيق.
(2) العجاج: الغبار.
(3) الهامة: الرأس، أو القامة.
(4) الأوداج: عروق الرقبة.
(5) بشر بن عوانة العبدي، شاعر ذكره بديع الزمان الهمذاني وجعله بطلا لقصة قتل الأسد. ويبدو أنّ هذا الاسم وهمي ولا وجود له على الحقيقة.(1/436)
حملنا من الأيام ما لا نطيقه ... كما حمل العظم الكثير العصائبا (1)
وليل رجونا أن يهبّ عذاره ... فما اختطّ حتى صار بالفجر شائبا
الليل:
ولد الكروان، قالوا: «فلان أجبن من ليل» (2). وقال ابن فارس، في المجمل:
يقال إن بعض الطير يسمى ليلا، ولا أعرفه. وسيأتي إن شاء الله تعالى في حرف النون أن النهار ولد الحبارى والله أعلم.
باب الميم
مارية:
بتشديد المثناة التحتية القطاة الملساء، وبالتخفيف البقرة الوحشية. وأما قولهم (3):
«خذه ولو بقرطي مارية». فهي مارية بنت ظالم بن وهب. وقيل: أم ولد جفنة. قال (4) حسان بن ثابت رضي الله تعالى عنه:
أولاد جفنة حول قبر أبيهم ... قبر ابن مارية الكريم المفضّل
يقال إنها أهدت إلى الكعبة قرطيها، وعليهما درتان كبيضتي الحمام، لم ير الناس مثلهما، ولم يدروا قدرهما ولا قيمتهما. يضرب في الشيء الثمين، أي لا يفوتنك بأي ثمن يكون. وسيأتي إن شاء الله تعالى، بعد هذا بأوراق يسيرة، في ترجمة المقوقس، ذكر مارية القبطية، أم ولد النبي صلى الله عليه وسلم وقريبها مابور.
المازور:
طائر مبارك ببحر المغرب، يتيامن به أصحاب السفن، يبيض عند سكون البحر، على السواحل، فإذا رأوا بيضه، عرفوا أن البحر قد سكن. وهذا الطائر إذا كانت السفن قريبة من مكان مخوف، أو دابة مضرة يأتي فيطير أمام المركب، فيصعد وينزل كأنه يخبرهم حتى يدبروا أمرهم، والملّاحون يعرفونه. ذكره في تحفة الغرائب.
الماشية:
الإبل والبقر والغنم، والجمع المواشي، سميت ماشية لرعيها وهي تمشي، وقيل لكثرة نسلها، يقال أمشى الرجل، إذا كثرت ماشيته، وفيه يقول الشاعر:
وكلّ فتى وإن أثرى وأمشى ... ستخلفه عن الدنيا المنون
روى مسلم عن جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا ترسلوا مواشيكم وصبيانكم إذا غابت الشمس حتى تذهب فحمة العشاء» (5). وفي سنن أبي داود والترمذي، عن الحسن عن سمرة بن جندب رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا أتى أحدكم على ماشية فإن كان فيها صاحبها فليستأذنه، فإن أذن له فليحتلب وليشرب، وإن لم يكن فيها أحد فليصوت ثلاثا، فإن أجابه أحد فليستأذنه، فإن لم يجبه أحد فليحتلب وليشرب ولا يحمل». قال الترمذي:
__________
(1) البيتان في وفيات الأعيان: 1/ 258ونسبتهما لإبراهيم الغزي الشاعر أبو إسحاق المتوفي سنة 524هـ.
(2) جمهرة الأمثال: 1/ 263.
(3) مجمع الأمثال: 1/ 231.
(4) ديوان حسّان: 365.
(5) رواه مسلم: أشربة 97. والبخاري: بدء الخلق 15، 16، أشربة 22.(1/437)
حسن صحيح والعمل عليه عند بعض أهل العلم، وبه قال أحمد واسحاق وقال علي بن المديني:
سماع الحسن من سمرة صحيح.
وفي الصحيحين عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (1): «لا يحلبن أحد ماشية أحد إلا بإذنه، أيحب أحدكم أن تؤتى مشربته فتكسر خزانته فينقل طعامه، فإنما تخزن لهم ضروع مواشيهم أطعمتهم، فلا يحلبن أحد ماشية أحد إلا بإذنه».
ومن أحكام الماشية أنها إذا أفسدت زرعا لغير مالكها، ولم يكن معها، فإن كان ذلك بالنهار لم يضمن، وإن كان بالليل ضمن، لما روى أبو داود وغيره عن حرام بن سعيد ابن محيصة، قال: إن ناقة للبراء بن عازب رضي الله تعالى عنه، دخلت حائط قوم فأفسدت، فقضى النبي صلى الله عليه وسلم أن على أهل الأموال حفظ أموالهم بالنهار، وعلى أهل المواشي ما أصابته مواشيهم بالليل. وقد تقدم في الغنم فرع له تعلق بهذا.
تذنيب
: إذا اشترك أهل الزكاة في ماشية زكوا زكاة الرجل الواحد، فلو كان أحدهم كافرا أو مكاتبا، فلا أثر لخلطته وهي تسمى خلطة ملك، وخلطة أعيان وخلطة اشتراك، وإذا خلطا مجاورة فكذلك الحكم لقوله (2) صلى الله عليه وسلم: «لا يجمع بين متفرق ولا يفرق بين مجتمع خشية الصدقة».
ورواه البخاري ويشترط في هذه أن لا تتميز في المشرع والمسرح والمراح، وهو موضع الحلب بفتح اللام. وكذا الراعي والفحل على الصحيح، ولا تشترط النية على الصحيح، لأن خفة المؤنة واتحاد المرافق لا يختلف بالقصد وعدمه، والله تعالى أعلم.
مالك الحزين:
قال الجوهري: إنه من طير الماء، وقال ابن بري، في حواشيه إنه البلشون.
قال: وهو طائر طويل العنق والرجلين انتهى.
قال الجاحظ: من أعاجيب الدنيا أمر مالك الحزين لأنه لا يزال يقعد بقرب المياه، ومواضع نبعها من الأنهار وغيرها، فإذا نشفت يحزن على ذهابها، ويبقى حزينا كئيبا، وربما ترك الشرب حتى يموت عطشا، خوفا من زيادة نقصها بشربه منها. قال: وقريب من هذا دودة تضيء بالليل كضوء الشمع، وتطير بالنهار فيرى لها أجنحة، وهي خضراء ملساء غذاؤها التراب، لم تشبع منه قط، خوفا أن يفنى تراب الأرض فتهلك جوعا. قال: وفيها خواص كثيرة ومنافع واسعة.
وهذا الطائر لما كان يقعد عند المياه التي انقطعت عن الجري، وصارت مخزونة، سمي مالكا، ولما كان يحزن على ذهابها سمي بالحزين، وهو عطف بيان لمالك، كما يقال: أبو حفص عمر. وقال التوحيدي، في كتاب الامتناع والمؤانسة: مالك الحزين ينشل الحيتان من الماء فيأكلها، وهي طعامه، وهو لا يحسن السباحة، فإن أخطأه الانتشال، وجاع طرح نفسه على شاطىء البحر وفي بعض ضحضاحاته، فإذا اجتمع إليه السمك الصغار، أسرع إلى خطف ما استطاع منها. ولا يحتاج إلى تزاوج ولا سفاد.
__________
(1) رواه البخاري: لقطة 8. ومسلم: لقطة 13.
(2) رواه البخاري: زكاة 34، حيل 3.(1/438)
وحكمه
: حل الأكل.
ومن خواصه
: أن لحمه غليظ بارد يولد إدمان أكله البواسير، وقد تقدم في خطبة الكتاب، أن ضبط هذا كان من جملة الأسباب الباعثة على تأليفه، خوفا من تصحيف لفظه. وتحريفه، والله تعالى الموفق.
المتردية:
هي التي وقعت في بئر، أو من مكان عال فماتت، ولا فرق بين أن تقع بنفسها أو بسبب آخر، فإنها متردية.
وحكمها
: تحريم الأكل بالإجماع.
المجثّمة:
بفتح الجيم وتشديد الثاء المثلثة، هي التي تلقى على الأرض مربوطة، وتترك حتى تموت. قال القزويني: الجثوم للطير والناس بمنزلة البروك للبعير، ومنه قوله (1) تعالى: {جََاثِمِينَ} *
أي بعضهم على بعض، وجاثمين باركين على الركب أيضا، روى ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم: «نهى عن الجلالة، وعن المجثمة، وعن الخطفة» (2).
المثا:
الفراش وقد تقدم ما فيه في باب الفاء.
المربح:
طائر من طير الماء قبيح الهيئة، قاله ابن سيده.
المرء:
الرجل تقول هذا مرء صالح، ورأيت مرءا صالحا، ومررت بمرء صالح، ولا يجمع على لفظه. وبعضهم يقول: المرؤون، وربما سموا الذئب مرءا. وذكر يونس أن قول الشاعر:
وأنت امرء تعدو على كلّ غرة ... فتخطىء فيها تارة وتصيب
يعني به الذئب، والله تعالى أعلم.
المرزم:
من طير الماء طويل الرجلين والعنق، أعوج المنقار في أطراف جناحيه سواد، أكثر أكله السمك.
وحكمه
: حل الأكل.
المرعة:
بضم الميم وفتح الراء والعين المهملتين، كالهمزة. طائر حسن اللون، طيب الطعم، على قدر السماني، وجمعها مرع بضم الميم وفتح الراء. قاله ثعلب وابن السكيت وهي تشبه الدراجة.
وحكمها
: حل الأكل.
الخواص
: قال ابن زاهر: إذا شق جوفها، ووضع على الشوك والنصل الغائص في اللحم أخرجه من غير مشقة.
مسهر:
قال هرمس: إنه طائر لا ينام الليل كله، وهو في النهار يطلب معاشه وله في الليل
__________
(1) سورة الأعراف: آية 78.
(2) رواه البخاري: ذبائح 25. وأبو داود: أشربة 14.(1/439)
صوت حسن يكرره ويرجعه يلتذ به كل من يسمعه، ولا يشتهي النوم سامعه من لذة سماعه.
ومن خواصه
: أنه إذا جفف دماغه في ظل، وأخذ منه وزن درهم، وسعط به إنسان مع دهن اللوز، لا ينام أصلا، ويصيبه من الكرب أمر عظيم، حتى يظنه من يراه أنه شارب خمر ومن أمسك رأس هذا الطائر في يده أو علقه عليه، أذهب الوحشة والوسواس عنه، وأورثه من الطرب ما يخرجه إلى حد الرعانة.
المطية:
الناقة التي يركب مطاها، أي ظهرها. وجمعها مطايا ومطي. وقال الجوهري: المطي واحد وجمع يذكر ويؤنث، والمطايا فعالى، وأصله فعائل، إلا أنه فعل به ما فعل بخطايا. قال أبو العميثل: المطية تذكر وتؤنث، ولما رأى الشيخ أبو الفضل الجوهري مدينة النبي صلى الله عليه وسلم أنشد يقول:
رفع الحجاب لنا فلاح لناظري ... قمر تقطع دونه الأوهام
وإذا المطي بنا بلغن محمدا ... فظهورهن على الرجال حرام
قد زوّرتنا خير من وطىء الثرى ... فلها علينا حرمة وذمام
الذمام بالذال المعجمة: الحرمة. وقال السهيلي، في غزوة مؤتة:
وإذا المطي بنا بلغن محمدا
هو من شعر أبي نواس، قال: وقد أحسن في ذلك، وقد أساء الشماخ حيث قال (1):
إذا بلغتني وحملت رحلي ... عرابة فاشرقي بدم الوتين
وعرابة هذا رجل من الأنصار، وكان من الأجواد. قال عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما:
رأيت رجلا طائفا بالبيت الحرام حاملا أمه على ظهره وهو يقول:
إني لها مطية لا تذعر ... إذا الركاب نفرت لا تنفر
ما حملت وأرضعتني أكثر ... الله ربي ذو الجلال أكبر
وذكر ابن خلكان وغيره، أن أمدح بيت قالته العرب، قول (2) جرير لعبد الملك بن مروان:
ألستم خير من ركب المطايا ... وأندى العالمين بطون راح
وأهجى بيت قالته العرب قول (3) الأخطل يهجو جريرا:
قوم إذا استنبح الأضياف كلبهم ... قالوا لأمهم: بولي على النار
وأحكم بيت قالته العرب قول (4) طرفة:
ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا ... ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
__________
(1) العقد الفريد: 5/ 340.
(2) ديوانه: 76.
(3) ديوان الأخطل: 166.
(4) ديوان طرفة: 57.(1/440)
وأحمق بيت قالته العرب، قول (1) القائل، وهو الأعشى أبو محجن الثقفي:
إذا متّ فادفني إلى جنب كرمة ... تروي عظامي بعد موتي عروقها
ولا تدفنني في الفلاة فإنني ... أخاف إذا ما متّ أن لا أذوقها
وروى في حديث معاوية رضي الله تعالى عنه، أنه قال لابن أبي محجن الثقفي: أبوك الذي يقول:
إذا متّ فادفني، البيتين فقال (2): أبي الذي يقول:
وقد أجود وما مالي بذي قنع ... وأكتم السرّ فيه ضربة العنق
وأغزل بيت قالته العرب قول (3) جرير:
إنّ العيون التي في طرفها حور ... قتلننا ثم لم تحيين قتلانا
يصرعن ذا اللب حتى لا حراك به ... وهنّ أضعف خلق الله إنسانا
فائدة
: روى الطبراني في الدعوات، من حديث ابن مسعود رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا تسبوا الدنيا فنعمت مطية المؤمن، عليها يبلغ الجنة وبها ينجو من النار». وقال علي رضي الله تعالى عنه: لا تسبوا الدنيا ففيها تصلون، وفيها تصومون، وفيها تعملون، فإن قيل: كيف يجمع بين هذا، وبين قوله (4) صلى الله عليه وسلم: «الدنيا ملعونة ملعون ما فيها إلا ذكر الله وما والاه وعالما أو متعلما». فالجواب ما قاله شيخ الإسلام عز الدين بن عبد السلام، في آخر الفتاوى الموصيلة: إن الدنيا التي لعنت هي المحرمة التي أخذت بغير حقها أو صرفت إلى غير مستحقها.
وقد تقدم في باب الباء الموحدة في ذكر البعوض، ما قاله الشيخ أبو العباس القرطبي في ذلك وهو حسن فراجعه.
وفي الحديث (5): «بئس مطية الرجل زعموا» شبه ما يقدمه المتكلم أمام كلامه، ويتوصل به إلى غرضه من قوله: زعموا كذا وكذا بالمطية التي يتوصل بها إلى الحاجة، وإنما يقال زعموا في حديث لا سند له ولا ثبت فيه. وإنما يحكى على الألسن على سبيل البلاغ، فذم من الحديث ما هذا سبيله.
وفي الكشاف وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «زعموا مطية الكذب». وقال ابن عمر وشريح: لكل شيء كنية، وكنية الكذب زعموا. قال ابن عطية: ولا يوجد زعم مستعملة في فصيح الكلام، إلا عبارة عن الكذب، أو قول انفرد به قائله، وتبقى عهدته على الزاعم، ففي ذلك ما ينحو إلى تضعيف الزعم، وقول سيبويه زعم الخليل كذا إنما يجيء فيما تفرد الخليل به.
تتمة
: قال شيخ الإسلام النووي: روينا بالإسناد الصحيح، في جامع الترمذي وغيره، عن
__________
(1) العقد الفريد: 6/ 350. وأبو محجن شاعر مخضرم ادرك الإسلام وشهد القادسية.
(2) الحيوان للجاحظ: 5/ 182.
(3) ديوان جرير: 492.
(4) رواه الترمذي: زهد 14. وابن ماجه زهد 3.
(5) رواه أبو داود: أدب 72. وابن حنبل 4/ 119. 5/ 401.(1/441)
أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يوشك أن يضرب الناس آباط المطي في طلب العلم، فلا يجدون عالما أعلم من عالم المدينة». قال الترمذي: حديث حسن. قال: وقد روي عن سفيان ابن عيينة أنه قال: هو مالك بن أنس انتهى.
والحديث المذكور رواه النسائي والحاكم، في أوائل المستدرك من حديث ابن عيينة، عن ابن جريج، عن أبي الزبير، عن أبي صالح، عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (1): «يوشك أن تضربوا أكباد الإبل فلا تجدوا عالما أعلم من عالم المدينة» ثم قال: صحيح على شرط مسلم ولم يخرجه انتهى.
قلت: إنما لم يخرجه مسلم لأنه سأل البخاري عنه فقال: له علة وهي أن أبا الزبير، لم يسمع من أبي صالح، ولما روى النسائي، في السنن الكبرى هذا الحديث، من رواية ابن عيينة، عن ابن جريج عن أبي الزناد، عن أبي هريرة عقبه بقوله: هذا خطأ. والصواب عن أبي الزبير عن أبي صالح عن أبي هريرة وقيل: عالم المدينة عبد الله بن عبد العزيز بن عبد الله بن عمر بن الخطاب العمري المدني الزاهد، روى عنه ابن عيينة وابن المبارك وغيرهما. وكان من أزهد أهل زمانه وأشدهم تخليا للعبادة. وروي أن الرشيد قال: والله إني أريد الحج كل سنة، ما يمنعني من ذلك إلا رجل من ولد عمر رضي الله عنه يسمعني ما أكره يعني العمري. توفي العمري سنة أربع وثمانين ومائة بعد مالك بنحو ست سنين وهو ابن ست وستين سنة.
قال عمر بن شبة: حدثنا أبو يحيى الزهري، قال: قال عبد الله بن عبد العزيز العمري عند موته: بنعمة ربي أحدث، لو أن الدنيا أصبحت تحت قدمي، لا يمنعني من أخذها إلا أن أزيل قدمي عنها ما أزلتها، وكتب العمري إلى مالك وابن أبي ذئب وابن دينار وغيرهم بكتب، أغلظ لهم فيها، فجاوبه مالك جواب فقيه. قال ابن عبد البر، في التمهيد: كتب العمري العابد إلى مالك يحضه على الانفراد والعمل، ويرغبه به عن الاجتماع عليه في العلم، فكتب إليه مالك أن الله عز وجل قسم الأعمال، كما قسم الأرزاق، فرب رجل فتح له في الصلاة ولم يفتح له في الصوم، وآخر فتح له في الصدقة ولم يفتح له في الصيام، وآخر فتح له في الجهاد ولم يفتح له في الصلاة، ونشر العلم وتعليمه من أفضل أعمال البر، وقد رضيت بما فتح الله لي فيه من ذلك، وما أظن ما أنا فيه بدون ما أنت فيه، وأرجو أن يكون كلانا على خير وبر. ويجب على كل واحد منا أن يرضى بما قسم الله له والسلام.
وفي الإحياء، في الباب السادس من أبواب العلم، يحكى أن يحيى بن يزيد النوفلي، كتب إلى مالك بن أنس: بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على سيدنا محمد في الأولين والآخرين من يحيى بن يزيد إلى مالك بن أنس، أما بعد فقد بلغني أنك تلبس الرقاق، وتأكل الرقاق، وتجلس على الوطاء، وتجعل على بابك حجابا، وقد جلست مجلس العلم، وضربت إليك آباط المطي، وارتحل إليك الناس، فاتخذوك إماما ورضوا بقولك، فاتق الله يا مالك، وعليك بالتواضع. كتبت إليك بالنصيحة مني كتابا، ما اطلع عليه إلا الله والسلام.
__________
(1) رواه الترمذي: علم 18. وابن حنبل 2/ 299.(1/442)
فكتب إليه مالك بن أنس: بسم الله الرحمن الرحيم من مالك بن أنس إلى يحيى بن يزيد، سلام عليك أما بعد فقد وصل إلي كتابك، فوقع مني موقع النصيحة من المشفق، أمتعك الله بالتقوى، وجزاك وخولك بالنصيحة خيرا، وسأل الله التوفيق، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. وأما ما ذكرت، من أني آكل الرقاق وألبس الرقاق وأجلس على الوطاء، فنحن نفعل ذلك ونستغفر الله تعالى، وقد قال سبحانه: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللََّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبََادِهِ وَالطَّيِّبََاتِ مِنَ الرِّزْقِ} (1) وإني لا أعلم أن ترك ذلك، خير من الدخول فيه، فلا تدعنا من كتابك فإنا ليس ندعك من كتابنا والسلام. وفيه أيضا وروي أن الرشيد أعطاه ثلاثة آلاف دينار فأخذها ولم ينفقها، فلما أراد الرشيد الشخوص إلى العراق، قال لمالك: ينبغي أن تخرج معنا فإني عزمت أن أحمل الناس على الموطأ، كما حمل عثمان رضي الله عنه الناس على القرآن. فقال له: أما حمل الناس على الموطأ فليس إلى ذلك سبيل، فإن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم افترقوا بعده في الأمصار فحدثوا فعند أهل كل مصر علم، وقد قال صلى الله عليه وسلم: «اختلاف أمتي رحمة» وأما الخروج معك فلا سبيل إليه، قال صلى الله عليه وسلم: «المدينة خير لهم لو كانوا يعلمون». وقال (2) صلى الله عليه وسلم: «المدينة تنفي خبثها كما ينفي الكير خبث الحديد». وهذه دنانيركم كما هي، إن شئتم فخذوها وإن شئتم فدعوها. يعني إنما تكلفني الخروج معك، ومفارقة المدينة بما اصطنعته لدي. فلا أوثر الدنيا على مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وهذا يدل على زهده في الدنيا رحمه الله تعالى.
وفيه أيضا أن الشافعي رحمه الله، قال: شهدت مالكا رحمه الله وقد سئل عن ثمان وأربعين مسألة فقال في اثنتين وثلاثين منها: لا أدري وهذا يدل على أنه كان يريد بعلمه وجه الله تعالى، فإن من يريد غير وجه الله بعلمه لا تسمح نفسه بأن يقر على نفسه بأنه لا يدري. ولذلك قال الشافعي: إذا ذكر العلماء فمالك البحر، وما أحد أمن علي من مالك.
وقيل: إن أبا جعفر المنصور منعه من رواية الحديث في طلاق المكره، ثم دس عليه من سأله فروى عن ملأ من الناس: ليس على مكره طلاق. فضربه بالسياط. فانظر كيف اختار ضرب السياط، ولم يترك رواية الحديث.
وفي الحلية أن الشافعي رحمه الله، قال: قالت لي عمتي، ونحن بمكة: رأيت في هذه الليلة عجبا! فقلت لها: وما هو؟ قالت: رأيت كأن قائلا يقول لي: مات الليلة أعلم أهل الأرض. قال الشافعي: فحسبنا ذلك فإذا هي ليلة مات مالك بن أنس رحمه الله تعالى.
وقال عبد الرحمن بن مهدي: لا أقدم على مالك أحدا. وكان مالك يقول: إذا لم يكن للإنسان في نفسه خير، لم يكن للناس فيه خير. وفي الحلية أيضا، قال مالك: ما بت ليلة إلا رأيت فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم انتهى.
وكان مالك رحمه الله إماما عالما عابدا زاهدا ورعا عارفا بالله تعالى، وكان مبالغا في تعظيم علم الدين، لا سيما حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنه كان إذا أراد أن يحدث توضأ وجلس على صدر
__________
(1) سورة الأعراف: آية 32.
(2) رواه البخاري: المدينة 2. ومسلم: حج 487، 488.(1/443)
فراشه، وسرح لحيته وتمكن في الجلوس على وقار وهيبة، ثم حدث. فقيل له في ذلك، فقال: إني أحب أن أعظم حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكان يقول: العلم نور يجعله الله حيث شاء، وليس هو بكثرة الرواية وقد مدحه بعض العلماء فقال (1):
يدع الكلام فلا يراجع هيبة ... والسائلون نواكس الأذقان
سيما الوقار وعز سلطان التقى ... فهو المهيب وليس ذا سلطان
توفي الإمام مالك رحمه الله تعالى، في سنة تسع وسبعين ومائة.
المعراج:
دابة عظيمة عجيبة مثل الأرنب صفراء اللون، على رأسها قرن واحد أسود، لم يرها شيء من السباع والدواب إلا هرب. ذكرها القزويني في جزائر البحار.
المعز:
بفتح الميم والعين المهملة وتسكينها لغتان: نوع من الغنم خلاف الضأن وهي ذوات الشعور والأذناب القصار، وهو اسم جنس وكذلك المعيز والأمعوز والمعزى وواحد المعز ماعز، مثل صاحب وصحب، وتاجر وتجر، والأنثى ما عزة والجمع مواعز. وأمعز القوم كثرت معزاهم.
وكنيتها أم السخال. وفي حديث علي رضي الله عنه: وأنتم تنفرون منه نفور المعزى من وعوعة الأسد أي صوته، ووعوعة الناس ضجتهم.
وروى البزار وابن قانع أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «احسنوا إلى المعزى، وأميطوا عنها الأذى، فإنها من دواب الجنة».
وفي الحديث: «استوصوا بالمعزى خيرا فإنه مال رقيق، وأنقوا عطنه». أي نقوا مرابضها مما يؤذيها من حجارة وشوك وغير ذلك، وهي مع ذلك موصوفة بالحمق، وتفضل على الضأن بغزارة اللبن وثخانة الجلد، وما نقص من ألية المعز، زاد في شحمه، ولذلك قالوا: ألية المعز في بطنه.
ولما خلق الله تعالى جلد الضأن رقيقا غزر صوفه، ولما خلق جلد المعز ثخينا قلل شعره، فسبحان اللطيف الخبير.
الخواص
: لحمه يورث الهم والنسيان، ويولد البلغم، ويحرك السوداء، لكنه نافع جدا لمن به الدماميل، وقرن المعز الأبيض يسحق ويشد في خرقة ويجعل تحت رأس النائم، فإنه لا ينتبه مادام تحت رأسه. ومرارة التيس تخلط بمرارة البقر، وتلطخ بها فتيلة، وتجعل في الأذن تزيل الطرش وتمنع نزول الماء. وإذا اكتحل بمرارة التيس بعد نتف الشعر الذي في باطن الجفن منع من انباته، ويمنع أيضا من الغشاوة اكتحالا، ومن العشا ويقلع اللحمة الزائدة التي يقال لها التوتة، وينفع طلاء من الورم الذي يقال له داء الفيل. وأكل مخه يورث الهم والنسيان ويحرك السوداء.
قال الرئيس ابن سينا: بعر المعزى يحلل الخنازير بقوة فيه، وإذا احتملته المرأة بصوفة منع سيلان الدم من الفرج ويقطع النزيف.
ابن مقرض:
بضم الميم وكسر الراء وبالضاد المعجمة، دويبة كحلاء اللون، طويلة الظهر
__________
(1) الحيوان للجاحظ: 3/ 491، وهو لابن الخياط.(1/444)
ذات قوائم أربع أصغر من الفأر، تقتل الحمام وتقرض الثياب، ولذلك قالوا: ابن مقرض.
الحكم
: حكى الرافعي في حله الوجهين، في ابن عرس وقال: إنه الدلق، قال في المهمات:
الصحيح على ما يقتضيه كلام الرافعي الحل. وقد وقعت المسألة في الحاوي الصغير، على الصواب فأباح ابن مقرض وحرم ابن عرس. وقد تقدم في باب الدال المهملة الكلام على الدلق مستوفى، والله الموفق.
المقوقس:
طائر معروف مطوق سواده في البياض، كالحمام وهو لقب لجريج بن مينا القبطي ملك مصر، وكان من قبل هرقل، ويقال: إن هرقل عزله لما رأى ميله إلى الإسلام. وأهدى لرسول الله صلى الله عليه وسلم فرسا يقال له الزاز، وبغلته الدلدل، وحمارا أو غلاما خصيا اسمه مابور. وقد ذكره ابن منده وأبو نعيم في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم غلطا في ذلك فإنه لم يسلم ومات على نصرانيته. ومنه فتح المسلمون مصر في خلافة عمر رضي الله تعالى عنه. ومابور المذكور كان ابن عم مارية القبطية، وكان يأوي إليها فقال الناس: علج يدخل على علجة، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فبعث عليا ليقتله، فقال: يا رسول الله أقتله أم أرى رأيي فيه؟ فقال صلى الله عليه وسلم: «بل ترى رأيك فيه» فلما رأى الخصي عليا، ورأى السيف في يده، تكشف فإذا هو مجبوب ممسوح فرجع علي إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وأخبره بذلك فقال صلى الله عليه وسلم: «إن الشاهد يرى ما لا يرى الغائب».
وروى (1) مسلم في آخر باب التوبة، بعد حديث الإفك عن أنس رضي الله تعالى عنه، أن رجلا كان متهما بأم ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلي: «اذهب فاضرب عنقه». فأتاه علي فإذا هو على ركى يتبرد فيها، فقال له علي: اخرج فناوله يده فأخرجه فإذا هو مجبوب ليس له ذكر فكف علي عنه ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله إنه لمجبوب.
والذي رواه الطبراني، في هذه القصة عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل على مارية القبطية أم ولده إبراهيم، وهي حامل به فوجد عندها نسيبا لها، كان قد قدم معها من مصر فأسلم وحسن إسلامه، وكان يدخل عليها وأنه رضي من مكانه من أم ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجب نفسه فقطع ما بين رجليه، حتى لم يبق لنفسه قليلا ولا كثيرا، فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما على أم ولده إبراهيم، فوجد قريبها عندها، فوقع في نفسه من ذلك شيء كما يقع في أنفس الناس، فرجع متغير اللون، فلقي عمر رضي الله تعالى عنه، فأخبره بما وقع في نفسه من قريب أم إبراهيم، فأخذ عمر رضي الله تعالى عنه السيف، وأقبل يسعى حتى دخل على مارية فوجد قريبها ذلك، عندها فأهوى إليه بالسيف ليقتله، فلما رأى ذلك منه كشف عن نفسه، فلما رأى ذلك عمر رضي الله تعالى عنه، رجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخبره، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ألا أخبرك يا عمر أن جبريل أتاني فأخبرني أن الله عز وجل قد برأها وقريبها مما وقع في نفسي، وبشرني أن في بطنها غلاما مني وأنه أشبه الخلق بي، وأمرني أن أسميه إبراهيم، وكناني بأبي إبراهيم، ولولا أني أكره أن أحول كنيتي التي عرفت بها، لتكنيت بأبي إبراهيم كما كناني
__________
(1) رواه مسلم: توبة 59.(1/445)
جبريل». ثم مات الخصي في زمن عمر فجمع الناس لشهود جنازته وصلى عليه عمر ودفن بالبقيع.
وأهدى المقوقس أيضا للنبي صلى الله عليه وسلم قدحا من قوارير، كان صلى الله عليه وسلم يشرب فيه، وثيابا من قباطي مصر ومطرفا من مطرفاتهم، وطرفا من طرفهم، وألف مثقال ذهبا وعسلا من عسل بنها. فأعجب النبي صلى الله عليه وسلم العسل ودعا في عسلها بالبركة.
ووصلت الهدايا إلى النبي صلى الله عليه وسلم سنة سبع وقيل سنة ثمان. وهلك المقوقس في ولاية عمرو بن العاص ودفن في كنيسة أبي يحنس على نصرانيته. وكان الرسول إليه من قبل النبي صلى الله عليه وسلم حاطب بن بلتعة رضي الله تعالى عنه الذي شهد له بالإيمان، وكان حاطب عاقلا لبيبا حازما لا يخدع، باع بعض أصحابه بيعة غبن فيها لغيبة حاطب فقال «صفقة لم يحضرها حاطب»، فضرب ذلك مثلا في شراء كل صفقة ربح بائعها.
قال حاطب: لما بعثني النبي صلى الله عليه وسلم إلى المقوقس، جئته بكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزلني في منزله، وأقمت عنده ليالي، ثم بعث إلي وقد جمع بطارقته، فقال: إني سأكلمك بكلام أحب أن تفهمه مني. قال: فقلت: هلم. فقال: أخبرني عن صاحبك أليس هو نبيا؟ قال: قلت: بلى.
قال: هو رسول الله؟ قلت: بلى هو رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: فما باله، حيث كان هكذا لم يدع على قومه، لما أخرجوه من بلده إلى غيرها؟ فقلت له: فعيسى ابن مريم أتشهد أنه رسول الله؟ قال:
كذا. قلت: فما باله، حيث أخذه قومه، وأرادوا صلبه، لم يدع عليهم بأن يهلكهم الله، بل رفعه الله إليه في سماء الدنيا؟ قال: أحسنت أنت حكيم من حكيم.
المكاء:
بضم الميم وبالمد والتشديد طائر يصوت في الرياض، يسمى مكاء لأنه يمكو أي يصفر كثيرا ووزنه فعال كخطاف. والأصوات في الأكثر تأتي على فعال بتخفيف العين كالبكاء والصراخ والرغاء والنباح والجؤار ونحوه. وجمعه المكاكي وهذا الطائر يصفر ويصوت كثيرا. قال البغوي في تفسير المكاء: الصفير وهو في اللغة اسم طائر أبيض يكون بالحجاز له صفير، وقال ابن السكيت في إصلاح المنطق: يقال: مكا الطائر ومكا الرجل يمكو مكوا، إذا جمع يديه وصفر فيهما، وكأنهم اشتقوا له هذا الاسم من الصياح. وجمعه المكاكي والمكاء الصفير قال الله تعالى:
{وَمََا كََانَ صَلََاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلََّا مُكََاءً وَتَصْدِيَةً} (1) أي صفيرا أو تصفيقا. وقال ابن قتيبة:
المكاء الصفير أي بالتخفيف والمكاء بالتشديد طائر يصفر في الرياض ويمكو أي يصفر. قال الشاعر:
إذا غرّد المكاء في غير روضة ... فويل لأهل الشاء والحمرات
قال البطليوسي في الشرح: إن المكاء إنما يألف الرياض فإذا غرد في غير روضة، فإنما يكون ذلك لإفراط الجدب وعدم النبات، وعند ذلك يهلك الشاء والحمير، فالويل لمن لم يكن له مال غيرهما.
__________
(1) سورة الأنفال: آية 35.(1/446)
والحمرات في البيت: جمع حمر بضم الميم، وحمر جمع حمار بمنزلة كتاب وكتب. ويجوز أن يكون جمع حمير كقضيب وقضب. وقولهم: حمير ليس بجمع ولكنه اسم للجمع، بمنزلة العبيد والكتيب قال ابن عطية: والذي مربي، من أمر العرب، في غير ما ديوان، أن المكاء والتصدية كانا من فعل العرب قديما قبل الإسلام، على جهة التقرب به والتشرع. قال: ورأيت عن بعض أقوياء العرب، أنه كان يمكو على الصفا فيسمع من حراء وبينهما أربعة أميال. انتهى. وكذلك كان مخرمة بن قيس بن عبد مناف يصفر عند البيت فيسمع من حراء، وكان قبل مولد النبي صلى الله عليه وسلم عام الفيل، وكانت قريش تطوف بالبيت وهم عراة يصفرون ويصفقون.
وقال القزويني: المكاء من طير البادية يتخذ أفحوصا عجيبا، وبينه وبين الحية عداوة، فإن الحية تأكل بيضه وفراخه. وحدث هشام بن سالم أن حية أكلت بيض مكاء، فجعل المكاء يشرشر أي يرفرف على رأسها ويدنو منها، حتى إذا فتحت فاها ألقى في فيها حسكة فأخذت بحلق الحية فماتت.
المكلفة:
طائر، قال الجاحظ: لما كانت العقاب سيئة الخلق تبيض ثلاث بيضات، فتخرج فراخها فتلقى واحدا منها، فيأخذه هذا الطائر الذي يتكلف به قيل له: المكلفة ويسمى كاسر العظام، فيربيه كما تقدم اهـ.
واختلفوا في سبب فعل العقاب ذلك، فقال بعضهم: لأنها لا تحضن إلا بيضتين، وقال بعضهم: بل تحضن الثلاثة، لكنها ترمي بفرخ من فراخها استثقالا للكسب على الثلاثة. وقال آخرون: ليس كذلك إلا لما يعتريها من الضعف عن الصيد كما يعتري النفساء من الوهن. وقيل:
لأنها سيئة الخلق كما تقدم. ولا يستعان على تربية الولد إلا بالصبر. وقيل: لأنها كثيرة الشره وإذا لم تكن أم الفراخ تؤثر أولادها على نفسها ضاعت أولادها. قال هؤلاء: والفرخ الذي ترمي به العقاب من الثلاثة، يحضنه طائر يقال له المكلفة ويسمونه كاسر العظام أيضا، فيربيه كما تقدم والله تعالى أعلم.
الملكة:
كالسمكة حية طولها شبر أو أكثر، على رأسها خطوط بيض تشبه التاج، فإذا انسابت على الأرض، أحرقت كل شيء مرت عليه، وإن طار طائر فوقها سقط عليها، وإذا بدت تنساب هرب من بين يديها جميع الدواب. ومن أكل تلك الحية من السباع أو غيرها مات. وهي قليلة الظهور للناس.
ومن خواصها
الغريبة أن من قتلها فقد حاسة الشم في الحال، ولا يمكن بعد ذلك علاجه.
المنارة:
سمكة تخرج من البحر، على شكل المنارة، فترمي بنفسها على السفينة فتكسرها وتغرق أهلها، فإذا أحس الناس بها ضربوا بالطسوس والبوقات لتبعد عنهم، وهي محنة عظيمة في البحر. قاله أبو حامد الأندلسي.
المنخنقة:
هي البهيمة المأكولة تنخنق بحبل حتى تموت، وكانت العرب تفعله حرصا على الدم، لأن العرب كانوا يأكلون الدم، ويسمونه الفصيد، ويقولون: إن اللحم دم جامد. فحرم
الله تعالى المنخنقة لما ينحبس فيها من الدم، قال الرافعي: ويستثنى من المنخنقة الجنين فإنه مات بقطع النفس عنه وهو حلال.(1/447)
هي البهيمة المأكولة تنخنق بحبل حتى تموت، وكانت العرب تفعله حرصا على الدم، لأن العرب كانوا يأكلون الدم، ويسمونه الفصيد، ويقولون: إن اللحم دم جامد. فحرم
الله تعالى المنخنقة لما ينحبس فيها من الدم، قال الرافعي: ويستثنى من المنخنقة الجنين فإنه مات بقطع النفس عنه وهو حلال.
فرع
: لو ذبح بهيمة وقطع أوداجها، ثم خنقها ومنع خروج الدم حتى ماتت بقطع النفس، فيحتمل حلها، لأنها لما قطعت أوداجها حصلت الذكاة الشرعية، ولا أثر لحبس الدم كما لا أثر له في مصيد الجوارح إذا مات الصيد بالمثقل، ولم تدرك ذكاته أو رماه بسهم فمات، فإنه حلال وإن انحبس فيه الدم، ويحتمل التحريم، وهو ما أجاب به شيخنا الأسنوي رحمه الله تعالى، لأن الحكمة في الذكاة خروج الدم ولم يوجد، فأشبهت المنخنقة. وبالقياس على ما لو خنقها أولا ثم أسرع فقطع الأوداج والحياة مستقرة، ثم ماتت بقطع النفس. والفرق بين هذا، وبين مصيد الجوارح أن الذبح هناك غير مقدور عليه، فانتفت حكمته لعدم القدرة عليه والقدرة ههنا موجودة فافترق البابان، ولأنا لو قلنا بحلها لم يكن لتحريم الخنق معنى، لأنه يمكن التوصل إليه بهذا الطريق والله أعلم.
المنشار:
سمكة في بحر الزنج كالجبل العظيم من رأسها إلى ذنبها مثل أسنان المنشار من عظام سود، كالأبنوس كل سن منها كذراعين وعند رأسها عظمان طويلان، كل عظم مقدار عشرة أذرع، تضرب بالعظمين ماء البحر يمينا وشمالا، فيسمع له صوت هائل، ويخرج الماء من فيها وأنفها فيصعد نحو السماء، ثم يعود إلى المركب رشاشه كالمطر. وإذا دخلت تحت سفينة كسرتها، فإذا رآها أهل السفن ضجوا إلى الله تعالى، حتى يدفعها عنهم. كذا ذكره، في عجائب المخلوقات، وهي داخلة في عموم السمك والله أعلم.
الموقوذة:
قال الزجاج: هي التي تقتل ضربا، يقال: وقذتها أقذها وقذا، وأوقذتها أوقذها إيقاذا إذا أثخنتها ضربا انتهى. قال (1) الفرزدق يهجو جريرا:
كم عمة لك يا جرير وخالة ... فدعاء قد حلبت علي عشاري
سعارة تقذّ الفصيل برجلها ... فطّارة لقوادم الأبكار
قوله: فدعاء هي التي أصابها الفدع، وهو ورم في القدم، والعشار: النوق، واحدها عشراء وهي التي مضى عليها تسعة أشهر، وطعنت في العاشر، وهي حامل. وقوله: تقذ الفصيل أي تضربه إذا دنا منها عند الحلب، وفطارة مأخوذ من الفطر، وهو الحلب بأطراف الأصابع، فإن كان بجميع الأصابع فهو الصب، وهو إنما يكون في الكبار من النوق، وأما الصغار من النوق فإنما تحلب بأطراف الأصابع، لصغر ضروعها. وفي معنى الموقوذة ما يرمى من الطير بالسهام التي لا نصل لها أو بحجر ونحوه فتموت. وقد سئل ابن عمر رضي الله تعالى عنهما عن الطير يموت بالبندقة، فقال: هو وقيذ. قلت: الظاهر عدم جواز رمي الطير بالبندق، إذا علم أنه يقتل غالبا، وكذلك الطومار والحجر لأنه من باب اتلاف الحيوان لغير منفعة والله تعالى أعلم.
الموق:
بالضم نمل له أجنحة وسيأتي إن شاء الله تعالى ما في النمل في باب النون.
__________
(1) ديوان الفرزدق: 312.(1/448)
المول:
العنكبوت الواحدة مولة، وأنشدوا:
حاملة ذلول لا محموله ... ملأى من الماء كعين الموله
المها:
بالفتح جمع مهاة، وهي البقرة الوحشية والجمع مهوات، وقيل: المها نوع من البقر الوحشي إذا حملت الأنثى من المها هربت من البقر، ومن طبعها الشبق، والذكر لفرط شهوته يركب ذكرا آخر، وهي أشبه بالمعز الأهلية، وقرونها صلاب جدا، وبها يضرب المثل في سمن المرأة وجمالها قال (1) الشاعر:
خليلي إن قالت بثينة: ماله ... أتانا بلا وعد؟ فقولا لها: لها
سها وهو مشغول لعظم الذي به ... ومن بات طول الليل يرعى السّها سها
بثينة تزري بالغزالة في الضحى ... إذا برزت لم تبق يوما بها بها
لها مقلة نجلاء كحلاء خلقة ... كأن أباها الظبيّ أو أمها مها
دهتني بود قاتل وهو متلفي ... وكم قتلت بالود من ودّها دها
فائدة
: روى الطبراني، في معجمه الكبير بإسناد رجاله ثقات، عن عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: نزل الركن الأسود من السماء، فوضع على أبي قبيس، كأنه مهاة بيضاء، فمكث أربعين سنة، ثم وضع على قواعد إبراهيم صلى الله عليه وسلم. وروى (2) في الأوسط والكبير أيضا، عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الحجر الأسود من حجارة الجنة وما في الأرض من الجنة غيره وكان أبيض كالمهاة ولولا ما مسه من رجس الجاهلية ما مسه ذو عاهة إلا برىء». وفي إسناده محمد بن أبي ليلى، وفيه كلام. وروى هشام بن عروة بن الزبير عن أبيه، قال: بينما عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه يطوف بالبيت، إذا هو برجل يطوف، وعلى عنقه مثل المهاة، يعني حسنا وجمالا وهو يقول:
عدت لهذي جملا ذلولا ... موطأ أتبع السهولا
أعدّ لها بالكفّ أن تميلا ... أحذر أن تسقط أو تزولا
أرجو بذاك نائلا جزيلا (3)
فقال له عمر رضي الله تعالى عنه: يا عبد الله من هذه التي وهبت لها حجك؟ قال: امرأتي يا أمير المؤمنين، وإنها لحمقاء مرغامة، أكول قمامة، لا تبقى لها خامة، فقال رضي الله تعالى عنه: ما لك لا تطلقها؟ قال: يا أمير المؤمنين إنها لحسناء لا تفرك، وأم صبيان لا تترك. قال: فشأنك بها.
وحكى الإمام أبو الفرج بن الجوزي، في كتاب الأذكياء، قال: قعد رجل على جسر بغداد فأقبلت امرأة من جهة الرصافة إلى الجانب الغربي، فاستقبلها شاب فقال لها: رحم الله علي بن الجهم. فقالت المرأة: رحم الله أبا العلاء المعري، وما وقفا ومرا مشرقا ومغربا، قال: فتبعت
__________
(1) ديوان جميل بثينة: 104.
(2) رواه البخاري: حج 50، 56. والترمذي حج 35، 49.
(3) النائل: العطاء.(1/449)
المرأة وقلت لها: إن لم تقولي لي ما قلتما فضحتك! فقالت: أراد قول (1) علي بن الجهم:
عيون المها بين الرّصافة والجسر ... جلبن الهوى من حيث أدري ولا أدري
وأردت أنا قول أبي العلاء المعري:
فيا دارها بالحزن إن مزارها ... قريب ولكن دون ذلك أهوال
فتركتها وانصرفت.
وقد تقدم حكمها وأمثالها في باب الباء الموحدة في الكلام على البقر الوحشي.
الخواص
: مخها يطعم لصاحب القولنج ينفعه نفعا بينا، ومن استصحب معه شعبة من قرن المهاة نفرت منه السباع، وإذا بخر بقرنه أو جلده في بيت نفرت منه الحيات، ورماد قرنه يذر على السن المتأكلة يسكن وجعها، وشعره إذا بخر به البيت هرب منه الفأر والخنافس، وإذا أحرق قرنه وجعل في طعام صاحب الحمى الربع، فإنها تزول عنه بإذن الله تعالى، وإذا شرب في شيء من الأشربة زاد في الباه، وقوى العصب، وزاد في الإنعاظ، وإذا نفخ في أنف الراعف قطع دمه، وإذا أحرق قرناه حتى يصيرا رمادا وديفا بخل، وطلي به موضع البرص مستقبل الشمس، فإنه يزول بإذن الله تعالى، وإذا استف منه مقدار مثقال، فإنه لا يخاصم أحدا إلا غلبه.
التعبير
: المهاة في الرؤيا رجل رئيس كثير العبادة، معتزل عن الناس، ومن رأى عين المهاة، نال رياسة أو امرأة سمينة جميلة قصيرة العمر، ومن رأى رأسه تحول كرأس مهاة نال رياسة وغنيمة وولاية على ناس غرماء، ومن رأى كأنه مهاة فإنه يعتزل الجماعة، ويدخل في بدعة والله الموفق.
المهر:
ولد الفرس والجمع أمهار ومهار ومهارة، والأنثى مهرة بالضم والجمع مهر ومهرات. قال الربيع بن زياد العبسي:
ومجنبات ما يذقن عذوفا ... يقذفن بالمهرات والأمهار
وقد أحسن مهيار الديلمي في وصف المهرة حيث قال:
قال لي العاذل: تسلو قلت: مه ... إنّ أسباب هواها محكمه
مهرة تسمع في السرج لها ... تحت من يعلو عليها حمحمه
وقيل لبعض الحكماء: أي المال أشرف؟ قال: فرس يتبعها فرس في بطنها فرس.
وقال الجوهري: في الحديث (2): «خير المال مهرة مأمورة، وسكة مأبورة»، أي كثيرة النتاج والنسل. والسكة الطريقة المصطفة من النخل، والمأبورة الملقحة، ومعنى الكلام خير المال نتاج أو زرع، وملخص هذا أن الجوهري رحمه الله جعله في موضع حديثا، وفي موضع من كلام الناس.
كذا قاله الإمام الحافظ شرف الدين الدمياطي، في كتاب الخيل، في آخر الباب الأول. قلت:
__________
(1) ديوان علي بن الجهم: 141.
(2) رواه ابن حنبل: 3/ 468.(1/450)
وهذا عجيب من الجوهري مع سعة حفظه، وغزارة علمه والصواب أنه حديث رواه أحمد والطبراني والله أعلم.
إشارة
: كان أبو عبد الله محمد بن حسان البسري، من الأولياء ذوي الكرامات الظاهرة، والأحوال الباهرة، وأنه خرج للغزاة مرة، فبينما هو في فلاة من الأرض إذ مات مهره الذي كان يركبه، فقال: اللهم أعرنا إياه فقام المهر حيا بإذن الله تعالى، فلما وصل إلى بسر، أخذ السرج عنه فسقط ميتا.
وكان رحمه الله، إذا كان شهر رمضان دخل بيتا وقال لامرأته: طيني علي الباب وألقي إلي كل ليلة رغيفا من الكوة، فإذا كان يوم العيد فتحت الباب ودخلت فتجد الثلاثين رغيفا في زاوية البيت فلا يأكل ولا يشرب ولا ينام رضي الله تعالى عنه.
وفي الأنساب لابن السمعاني، أن أبا عبد الله المذكور منسوب إلى بصرى، قرية من قرى الشأم فأبدلت الصاد سينا على قياس قولهم في السويق الصويق والسراط الصراط انتهى.
وقال ابن الأثير: هذا كله خطأ في النقل والنحو، أما النقل فإنه منسوب إلى بسر قرية معروفة، وأما النحو فإبدال الصاد سينا ليس على إطلاقه إنما ذلك مع حروف معلومة، وقد ذكره الحافظ أبو القاسم بن عطاء الدمشقي، في تاريخ دمشق، وقال: إنه من قرية بسر وهذا هو الصواب والله تعالى أعلم.
قلت: والحروف التي تبدل معها السين صادا هي: الحاء والطاء والعين والقاف بشرط أن تكون السين متقدمة وأحد هذه الحروف متأخرا والله تعالى أعلم.
ملاعب ظله:
القرلي المتقدم ذكره، في باب القاف، وربما قيل له: خاطف ظله. قال الكميت:
وريطة فتيان كخاطف ظلّه ... جعلت لهم منها خباء ممددا
كذا قاله الجوهري. قال: قال ابن سلمة: هو طائر يقال له الرفراف، إذا رأى ظله في الماء أقبل إليه ليخطفه.
أبو مزينة:
سمك في البحر على صورة الرجال، يقال إنهم يظهرون بالاسكندرية والبرلس ورشيد على صورة بني آدم بجلود لزجة وأجساد متشاكلة، لهم بكاء وعويل إذا وقعت في أيدي الناس، وذلك أنهم ربما برزوا من البحر إلى البر، يتمشون فيقع بهم الصيادون، فإذا بكوا رحموهم وأطلقوهم كذا ذكره القزويني.
ابنة المطر:
قال في المرصع: إنها دويبة حمراء تظهر عقب المطر، فإذا نضب الثرى عنها ماتت.
أبو المليح:
الصقر وحكمه، تقدم في باب الصاد المهملة.(1/451)
ابن ماء:
قال في المرصع: إنه نوع من طير الماء، ويجمع على بنات ماء، فإذا عرفته قلت:
ابن الماء بخلاف ابن عرس وابن آوى، لأنه لا يقع على أنواع من طير الماء، ويطلق على كل ما يألف الماء من أجناس الطير، وذلك يدل كل واحد منها على جنس مخصوص والله أعلم.
باب النون
الناب:
المسنة من النوق، والجمع النيب. وفي المثل: «لا أفعل ذلك ما حنت النيب» سميت بذلك لطول نابها، ولا يقال للجمل: ناب، وناب القوم سيدهم، قاله الجوهري.
الناس:
جمع إنسان. قال الجوهري: والناس قد يكون من الإنس والجن، وقال كثير من المفسرين، في قوله (1) تعالى: {لَخَلْقُ السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النََّاسِ} معناه أعجب من خلق المسيح الدجال، ولم يذكر المسيح الدجال في القرآن، إلا في هذه الآية على هذا القول.
وقيل: ذكر في قوله تعال {يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيََاتِ رَبِّكَ} (2)، والمشهور أنه طلوع الشمس من مغربها.
فرع
: حلف لا يكلم الناس، حنث إذا كلم واحدا، كما لو قال: لا آكل الخبز، فإنه يحنث بما أكل منه، ولو حلف لا يكلم ناسا حمل على ثلاثة كذا صرح به الشيخان، وفاقا لابن الصباغ وغيره. وقال الماوردي والروياني: إذا حلف على معدود في نفي أو إثبات كالنساء والمساكين، فإن كانت يمينه على الإثبات كقوله: لأكلمن الناس، ولأتصدقن على المساكين لم يبر إلا بثلاثة، اعتبارا بأقل الجمع. وإن كانت يمينه على النفي كقوله: لا أكلم الناس حنث بالواحد، اعتبارا بأقل العدد، وهو واحد، والرق أن نفي الجمع ممكن وإثبات الجمع متعذر، فاعتبر أقل الجمع في الإثبات وأقل العدد في النفي والله تعالى أعلم.
الناضح:
البعير الذي يستقى عليه، سمي بذلك لأنه ينضح الماء، أي يصبه، والأنثى ناضحة وسانية والجمع نواضح. روى (3) مسلم عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أو عن أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه شك الأعمش قال: لما كان يوم غزوة تبوك أصاب الناس مجاعة فقالوا: يا رسول الله لو أذنت لنا فنحرنا نواضحنا فأكلنا وادهنا؟ فقال صلى الله عليه وسلم: «افعلوا». فقال عمر رضي الله تعالى عنه: يا رسول الله إن فعلت قل الظهر، ولكن ادعهم بفضل أزوادهم، ثم ادع لهم عليها بالبركة، لعل الله أن يجعل في ذلك غنى. فقال صلى الله عليه وسلم: «نعم». فدعا صلى الله عليه وسلم بنطع فبسطه، ثم دعا بفضل أزوادهم فجعل الرجل يجيء بكف ذرة، ويجيء الآخر بكف تمر، ويجيء الآخر بكسرة، حتى اجتمع شيء يسير. فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالبركة، ثم قال: «خذوا في أوعيتكم».
فأخذوا في أوعيتهم حتى ما تركوا في العسكر وعاء إلا ملؤوه وأكلوا حتى شبعوا. وفضلت فضلة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أني محمد رسول الله لا يلقى الله بها عبد غير شاك فيحجب عن الجنة».
وروى الحافظ أبو نعيم من طريق غيلان بن سلمة الثقفي قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره، فرأينا منه عجبا، جاء رجل فقال: يا رسول الله إنه كان لي حائط فيه عيشي
__________
(1) سورة غافر: آية 57.
(2) سورة الأنعام: آية 158.
(3) رواه مسلم: إيمان 45. وابن حنبل 113.(1/452)
وعيش عيالي، ولي فيه ناضحان فمنعا بي أنفسهما، وحائطي وما فيه، ولا أقدر على الدنو منهما، فنهض رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه حتى أتى الحائط، فقال لصاحبه: «افتح الباب» فقال: إن أمرهما عظيم، فقال صلى الله عليه وسلم: «افتح الباب» فلما حرك الباب أقبلا ولهما جلبة، فلما انفرج الباب، نظرا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فبركا ثم سجدا، فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم برؤوسهما ثم دفعهما إلى صاحبهما، وقال:
«استعملهما وأحسن علفهما». فقال القوم: تسجد لك البهائم أفلا تأذن لنا في السجود لك فقال صلى الله عليه وسلم: «إن السجود ليس إلا للحي الذي لا يموت، ولو أمرت أحدا أن يسجد لأحد، لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها» (1).
وروى الحافظ أبو نعيم الأصبهاني وأبو بكر البيهقي، من حديث يعلى بن مرة، قال: بينما نحن نسير مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذا مررنا بناضح يستقى عليه، فلما رآه البعير جرجر ووضع جرانه وخطامه، فوقف رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: «أين صاحب هذا؟» فجاءه فقال صلى الله عليه وسلم: «بعنيه» فقال: بل نهبه لك، وإنه لأهل بيت ما لهم معيشة غيره، فقال (2) صلى الله عليه وسلم: «إنه شكا إلي كثرة العمل وقلة العلف فأحسنوا إليه» وذكر نحوه الحاكم، في المستدرك، من طريق يعلى. وقال: صحيح ولم يخرجاه. وفي رواية: «إنه جاء وعيناه تذرفان» وفي رواية: «أنه سجد للنبي صلى الله عليه وسلم»، وفي رواية أنه صلى الله عليه وسلم قال: «أتدرون ما يقول زعم أنه خدم مواليه أربعين سنة». وفي رواية: «عشرين سنة حتى كبر فنقصوا من علفه وزادوا في عمله حتى إذا كان لهم غرض أرادوا أن ينحروه غدا». وفي رواية يعلى: «في طريق مكة»، وفي رواية أنه صلى الله عليه وسلم، قال لأصحابه: «لا تنحروه وأحسنوا إليه حتى يأتي أجله».
الناقة:
الأنثى من الإبل، قال الجوهري: الناقة تقديرها فعلة بالتحريك، لأنها جمعت على نوق مثل بدنة وبدن، وخشبة وخشب، وفعلة بالتسكين لا تجمع على ذلك، وقد جمعت في القلة على أنوق. ثم استثقلوا الضمة على الواو فقدموها. فقالوا: أونق. حكاها يعقوب عن بعض الطائيين، ثم عوضوا من الواو ياء، فقالوا: أينق ثم جمعوها على أيانق. وقد تجمع الناقة على نياق مثل ثمرة وثمار إلا أن الواو صارت ياء لكسرة ما قبلها، وأنشد أبو زيد للقلاخ بن حزن:
أبعدكن الله من نياق ... إن لم تنجين من الوثاق
وبعير منوق أي مذلل مروض، وناقة منوقة اهـ.
وكنية الناقة أم بو وأم حائل وأم حوار وأم السقب وأم مسعود ويقال لها بنت الفحل وبنت الفلاة وبنت النحائب. روى الإمام أحمد، ورجاله رجال الصحيح، عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يسير في سفر، فلعن رجل ناقة، فقال صلى الله عليه وسلم: «أين صاحب هذه الناقة؟» فقال الرجل: أنا. فقال صلى الله عليه وسلم: «أخّرها فقد أجبت فيها».
وروى مسلم وأبو داود والنسائي، عن عمران بن حصين رضي الله تعالى عنه، قال: بينما
__________
(1) رواه أبو داود: نكاح 40. والترمذي رضاع 10.
(2) رواه ابن حنبل: 1734.(1/453)
النبي صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره، وامرأة من الأنصار على ناقة فلعنتها، فسمع ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال (1): «خذوا ما عليها ودعوها فإنها ملعونة». قال عمران: فكأني أراها الآن ورقاء تمشي في الناس، ما يعرض لها أحد. وفي رواية: لا تصحبنا ناقة عليها لعنة الله. قال ابن حبان: إنما أمر صلى الله عليه وسلم بإرسالها، لأنه عليه السلام تحقق إجابة الدعوة فيها، فمتى علم استجابة الدعاء من لاعن ما أمرناه بإرسال دابته، ولا سبيل إلى علم هذا لانقطاع الوحي فلا يجوز استعمال هذا الفعل لأحد أبدا. وقيل: إنما قال صلى الله عليه وسلم هذا زجرا لها ولغيرها. وقد كان سبق نهيها ونهي غيرها عن اللعن، فعوقبت بإرسال الناقة. والمراد النهي عن مصاحبته لتلك الناقة في الطريق.
وأما بيعها وذبحها وركوبها في غير تلك الطريق، وغير ذلك من التصرفات، التي كانت جائزة قبل هذا فهي باقية على الجواز، لأن النهي إنما ورد في المصاحبة، فيبقى الباقي كما كان.
والورقاء بالمد التي يخالط بياضها سواد، والذكر أورق.
وقد ورد في النهي عن اللعن أحاديث، منها ما روى مسلم في صحيحه عن أبي الدرداء رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا يكون اللعانون شفعاء ولا شهداء يوم القيامة». وفيه أيضا عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (2): «لا ينبغي لصديق أن يكون لعانا».
وفي رواية (3) الترمذي عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ليس المؤمن بالطعان ولا باللعان ولا الفاحش ولا البذي».
وفي سنن أبي داود عن أبي الدرداء رضي الله تعالى عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن العبد إذا لعن شيئا صعدت اللعنة إلى السماء، فتغلق أبواب السماء دونها، فتهبط إلى الأرض فتغلق أبوابها دونها، ثم تأخذ يمينا وشمالا، فإذا لم تجد مساغا رجعت إلى الذي لعن، فإن كان أهلا لذلك نزلت عليه وإلا رجعت إلى قائلها». وفي شعب البيهقي، أن عبد الله بن أبي الهذيل كان إذا لعن شاة لم يشرب من لبنها، وإذا لعن دجاجة لم يأكل من بيضها.
فائدة
: وأما قوله تعالى: {نََاقَةُ اللََّهِ} * (4) فهو إضافة خلق إلى خالق تشريفا وتخصيصا، قيل:
إن صالحا عليه الصلاة والسلام أتى بالناقة من قبل نفسه، وقال الجمهور: بل سألوه أن يدعو ربه أن يخرج لهم آية من صخرة يقال لها الكائبة ناقة عشراء، فدعا الله فانشقت عن ناقة عظيمة، يروى أنها كانت حاملا، فولدت وهم ينظرون إليها سقبا قدرها، فعقرها قدار بن سالف، وهو أشقى الأولين. {فَتَعََاطى ََ فَعَقَرَ} (5) أي قام على أطراف أصابع رجليه، ثم رفع يديه فضربها.
روي أن سيد ثمود جندع بن عمرو قال: يا صالح أخرج لنا من هذه الصخرة، لصخرة منفردة في ناحية الحجر، يقال لها الكائبة، ناقة مخترجة جوفاء وبراء عشراء. فصلى صالح ركعتين، ودعا ربه، فتمخضت الصخرة تمخض النتوج بولدها، ثم تحركت فانصدعت عن ناقة مخترجة
__________
(1) رواه أبو داود: جهاد 50. وابن حنبل: 4294.
(2) رواه مسلم: بر 84. والترمذي بر 72.
(3) رواه الترمذي: بر 72. وابن حنبل 3372.
(4) سورة الأعراف: آية 73.
(5) سورة القمر: آية 29.(1/454)
جوفاء وبراء وعشراء، كما وصفوا، لا يعلم ما بين جنبيها عظما إلا الله تعالى، وهم ينظرون ثم نتجت سقبا مثالها في العظم فآمن به جندع بن عمرو ورهط من قومه. فقال لهم صالح عليه السلام: هذه ناقة الله لها شرب يوم ولكم شرب يوم معلوم. فمكثت الناقة، ومعها سقبها في أرض ثمود، ترعى الشجر وتشرب الماء وكانت ترد الماء غبا، فإذا كان يوم شربها، وضعت رأسها في بئر في الحجر، يقال لها بئر الناقة لا ترفع رأسها حتى تشرب كل ما فيها، فلا تدع فيها قطرة، ثم ترفع رأسها فتتفحج لهم، فيحلبون منها ما شاؤوا من لبن، فيشربون ويدخرون ويملؤون أوانيهم كلها. ثم تصدر من غير الفج الذي وردت منه، لأنها لا تقدر أن تصدر من حيث جاءت. فإذا كان الغد كان يومهم، فيشربون من الماء ما شاؤوا، أو يدخرون ما شاؤوا فهم من ذلك في بر ودعة.
وكانت الناقة تصيف، إذا كان الحر، بظهر الوادي، فتهرب منها المواشي إلى بطن الوادي، في حره وجدبه، وتشتو إذا كان الشتاء ببطن الوادي، فتهرب مواشيهم إلى ظهر الوادي في البرد والجدب، فأضر ذلك بمواشيهم للبلاء والاختبار، فكبر ذلك عليهم فعتوا عن أمر ربهم، وحملهم ذلك على عقر الناقة، فعقرها قدار بن سالف، وهو أشقى الأولين. وكان أحمر أزرق قصيرا ملتزق الخلق، واسم أمه قديرة. روي أنه ولد على فراش سالف، ولم يكن من ظهره، فدعته امرأة يقال لها عنيزة، وكانت عجوزا مسنة، وكانت ذات بنات حسان، وذات مال من إبل وبقر وغنم.
وكان قدار عزيزا منيعا في قومه، فقالت له: أعطيك أي بناتي شئت، على أن تعقر الناقة.
فانطلق قدار فكمن لها في أصل شجرة على طريقها، فلما مرت به شد عليها بالسيف فعقرها، فذلك قوله (1) تعالى: {فَتَعََاطى ََ فَعَقَرَ} أي قام على أطراف أصابع رجليه، ثم رفع يديه فضربها، فجرت ورغت رغاءة واحدة تحذر سقبها، فانطلق السقب حتى أتى جبلا منيعا، يقال له صنو.
وأتى صالح عليه السلام فقيل له: أدرك الناقة، فقد عقرت، فأقبل وخرجوا يتلقونه يعتذرون إليه. ويقولون له: يا نبي الله إنما عقرها فلان، لا ذنب لنا. فقال: انظروا هل تدركون فصيلها، فإن أدركتموه فعسى أن يرفع عنكم العذاب، فخرجوا يطلبونه، فلما رأوه على الجبل ذهبوا ليأخذوه، فأوحى الله إلى الجبل فتطاول في السماء حتى ما يناله الطير.
وقدار بضم القاف ثم دال مهملة مخففة ثم ألف ثم راء مهملة هكذا ذكره جميع أهل التواريخ وغيرهم. ووقع في المهذب، في باب الهدنة، أن اسمه العيزار بن سالف، وهو وهم بلا خلاف. وكان عقر الناقة يوم الأربعاء، فأصبحوا يوم الخميس ووجوههم مصفرة، كأنما طليت بالخلوق، صغيرهم وكبيرهم ذكرهم وإنثاهم فأيقنوا بالعذاب، وكان صالح عليه الصلاة والسلام قد أخبرهم بذلك. وخرج هاربا منهم فشغلهم عنه ما نزل بهم، من عذاب الله، فجعل بعضهم يخبر بعضا ما يرون في وجوههم، فلما أمسوا صاحوا بأجمعهم ألا قد مضى يوم من الأجل، فلما أصبحوا يوم الجمعة إذا وجوههم محمرة، كأنما خضبت بالدماء، فلما أمسوا صاحوا بأجمعهم ألا قد مضى يومان من الأجل، فلما أصبحوا يوم السبت إذا وجوههم مسودة كأنما طليت بالقار، فلما
__________
(1) سورة القمر: آية 29.(1/455)
أمسوا صاحوا بأجمعهم ألا قد مضى الأجل وحضركم العذاب، فلما كان يوم الأحد، لما اشتد الضحى، أتتهم صيحة من السماء فيها صوت كل صاعقة، وصوت كل شيء له صوت يصوت به في الأرض، فقطعت قلوبهم في صدورهم، فأصبحوا في ديارهم جاثمين. وكان الذي آمن بصالح عليه الصلاة والسلام من ثمود أربعة آلاف، فخرج بهم صالح إلى حضرموت، فلما حضرها صالح مات، فسميت حضرموت. ثم بنى الأربعة آلاف مدينة يقال لها حاضور. كذا قاله محمد بن اسحاق ووهب وجماعة. وقال قوم من أهل العلم: توفي صالح بمكة وهو ابن ثمان وخمسين سنة، وأقام في قومه عشرين سنة.
وروى أحمد والطبراني والبزار بإسناد صحيح عن جابر رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (1): «لا تسألوا نبيكم الآيات فإن قوم صالح سألوا نبيهم أن يبعث لهم آية فبعث الله لهم الناقة فكانت ترد من هذا الفج فتشرب ماءهم يوم ورودها وتصدر من هذا الفج فعتوا عن أمر ربهم فعقروا الناقة، فقيل لهم: تمتعوا في داركم ثلاثة أيام أو قيل لهم: إن العذاب يأتيكم إلى ثلاثة أيام، ثم جاءتهم الصيحة فأهلكت من تحت أديم السماء منهم في مشارق الأرض ومغاربها إلا رجلا واحدا كان في حرم الله تعالى فمنعه من عذاب الله عز وجل». قالوا: يا رسول الله من هو؟ قال: «أبو رغال». قيل: ومن أبو رغال؟ قال: «جد ثقيف». وفي رواية فلما خرج أصابه ما أصاب قومه فدفن ودفن معه غصن من ذهب. وأراهم صلى الله عليه وسلم قبر أبي رغال، فنزل القوم فابتدروه بأسيافهم وحفروا عنه واستخرجوا ذلك الغصن.
وروى الطبراني عن عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (2): «أشقى الناس ثلاثة: عاقر ناقة ثمود وابن آدم الأول الذي قتل أخاه، ما سفك على الأرض دم إلا لحقه منه إثم، لأنه أول من سن القتل وقاتل علي بن أبي طالب». رضي الله تعالى عنه.
وعن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما نزل الحجر، في غزوة تبوك، أمرهم أن لا يشربوا من بئرها، ولا يستقوا منها، فقالوا: قد عجنا منها واستقينا. فأمرهم عليه الصلاة والسلام أن يطرحوا ذلك العجين، ويهريقوا ذلك الماء، وأمرهم أن يستقوا من البئر التي كانت تردها الناقة. وفي رواية (3) جابر أنه صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه: «لا يدخلن أحد منكم القرية ولا تشربوا من مائها ولا تدخلوا على هؤلاء المعذبين إلا أن تكونوا باكين خشية أن يصيبكم مثل ما أصابهم».
وروى (4) مسلم عن أبي مسعود الأنصاري رضي الله تعالى عنه، قال: جاء رجل بناقة مخطومة، فقال: هذه في سبيل الله تعالى، فقال له صلى الله عليه وسلم: «لك بها يوم القيامة سبعمائة ناقة مخطومة».
وروى (5) أحمد وأبو داود وابن حبان والحاكم عن أبي بن كعب قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم
__________
(1) رواه ابن حنبل: 2963.
(2) رواه البخاري: أنبياء 17، تفسير سورة 191. وابن حنبل 263174.
(3) رواه البخاري: أنبياء 17.
(4) رواه مسلم: إمارة 132. والنسائي جهاد 46.
(5) رواه ابن حنبل: 1425.(1/456)
عاملا فمررت برجل، فلما جمع لي ماله لم أجد عليه فيه إلا ابنة مخاض، فقلت له: أدّ ابنة مخاض، فإنها صدقتك. فقال: ذاك ما لا لبن فيه ولا ظهر، ولكن هذه ناقة فتية سمينة فخذها فامتنع أبي بن كعب، وترافعا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له: «ذاك الذي عليك فإن تطوعت فخير أجرك الله فيه وقبلناه منك». قال: ها هي يا رسول الله قد جئتك بها فخذها، فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم بقبضها ودعا له في ماله بالبركة.
وفي كامل ابن عدي وسنن البيهقي وشعب الإيمان عن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه، قال: إن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله أرسل ناقتي وأتوكل، أم أعقلها وأتوكل؟
فقال صلى الله عليه وسلم: «بل اعقلها وتوكل».
وروى البيهقي عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما، قال: إن رجلا ادعى عليه عند النبي صلى الله عليه وسلم بسرقة ناقة، فقال: ما سرقتها. فقال صلى الله عليه وسلم: «احلف» فقال: والله الذي لا إله إلا هو ما سرقتها. فنزل جبريل على النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إنه سرقها، ولكن غفر الله له كذبه، بصدقه بلا إله إلا هو. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «أخذتها فردها إليه» فردها إليه. وفي رواية قال له النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الله غفر لك كذبك بصدقك بلا إله إلا الله».
وروى (1) الحاكم عن النعمان بن سعد قال: كنا جلوسا عند علي رضي الله تعالى عنه، فقرأ {يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمََنِ وَفْداً} (2) فقال: لا والله ما على أرجلهم يحشرون ولا يساقون سوقا، ولكن يؤتون بنوق من نوق الجنة، لم تنظر الخلائق إلى مثلها، رحالها الذهب وأزمتها الزبرجد، فيقعدون عليها حتى يقرعوا باب الجنة. ثم قال: صحيح الإسناد.
وروى (3) الحاكم أيضا عن عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما، قال: كنا جلوسا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ دخل أعرابي جهوري الصوت بدوي على ناقة حمراء، فأناخها بباب المسجد، ودخل فسلم على النبي صلى الله عليه وسلم ثم قعد فلما قضى نحبه، قالوا: يا رسول الله إن الناقة التي تحت الأعرابي سرقة قال صلى الله عليه وسلم: «أثمّ بينة» قالوا: نعم يا رسول الله. فقال صلى الله عليه وسلم: «يا علي خذ حق الله من الأعرابي إن قامت عليه البينة، وإن لم تقم فرده إلي» فأطرق الأعرابي ساعة، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم:
«قم يا أعرابي لأمر الله وإلا فأدل بحجتك». فقالت الناقة من خلف الباب: والذي بعثك بالحق والكرامة يا رسول الله إن هذا ما سرقني وما ملكني أحد سواه. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «يا أعرابي بالذي أنطقها بعذرك ما الذي قلت»؟ قال: قلت: اللهم إنك لست برب استحدثناك، ولا معك إله أعانك على خلقنا ولا معك رب فنشكّ في ربوبيتك، أنت ربنا كما نقول، وفوق ما يقول القائلون أسألك أن تصلي على محمد وأن تريني براءتي. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «الذي بعثني بالكرامة يا أعرابي لقد رأيت الملائكة يبتدرون أفواه الأزقة يكتبون مقالتك فأكثر الصلاة علي». ثم قال الحاكم: رواته ثقات، لكن فيهم يحيى بن عبد الله المصري، لست أعرفه بعدالة ولا جرح. وقد تقدم في البعير حديث رواه الطبراني قريب من هذا.
__________
(1) رواه ابن حنبل: 1/ 155.
(2) سورة مريم: آية 85.
(3) رواه الترمذي: زهد 50وابن حنبل: 4/ 239.(1/457)
وفي المستدرك أيضا، في ترجمة صهيب رضي الله عنه، عن كعب الأحبار، عن صهيب بن سنان، قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو: «اللهم إنك لست بإله استحدثناه، ولا برب ابتدعناه، ولا كان لنا قبلك من إله نلجأ إليه، ونذرك ولا أعانك على خلقنا أحد فنشركه معك، تباركت وتعاليت» (1) قال كعب الأحبار: كان نبي الله صلى الله عليه وسلم يدعو به، ثم قال: صحيح الإسناد.
في المستدرك أيضا، من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم نزل بأعرابي فأكرمه، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «يا أعرابي سل حاجتك». فقال: يا نبي الله ناقة نرحلها، وأعنزا يحلبها أهلي. فقال صلى الله عليه وسلم: «أعجز هذا أن يكون مثل عجوز بني إسرائيل». قالوا: يا رسول الله، وما عجوز بني إسرائيل؟ قال صلى الله عليه وسلم: «إن بني إسرائيل خرجوا من مصر، فضلوا الطريق، وأظلم عليهم، فقالوا: ما هذا؟ قال علماؤهم: إن يوسف عليه الصلاة والسلام، لما حضرته الوفاة، أخذ علينا موثقا من الله، أن لا نخرج حتى ننقل عظامه معنا، فقال موسى عليه الصلاة والسلام: فمن يعلم موضع قبره؟ قالوا: عجوز لبني إسرائيل، فبعث إليها فأتته فقال: دليني على قبر يوسف، قالت: وتعطيني ما أسألك؟ فقال: وما سؤالك؟ قالت: أكون معك في الجنة. فكره أن يعطيها ذلك، فأوحى الله إليه أن أعطها حكمها، ففعل». ورواه الطبراني وأبو يعلى الموصلي بنحوه.
وفي رواية، في غير المستدرك أنها كانت مقعدة عمياء، وأنها قالت لموسى: لا أخبرك عن موضع قبره حتى تعطيني أربع خصال: تطلق رجلي وبصري وشبابي وأكون معك في الجنة. فأوحى الله إليه أن أعطها ما سألتك، فإن ما تعطي علي، ففعل. فانطلقت بهم إلى مستنقع ماء، فاستخرجته من شاطىء النيل، في صندوق من مرمر، فلما فكوا تابوته طلع القمر، وأضاءت الطريق مثل النهار، فاهتدوا وحملوه معهم إلى الشام فدفنه موسى عليه السلام عند آبائه إبراهيم وإسحاق ويعقوب صلى الله عليهم وسلم. وعاش يوسف بعد أبيه يعقوب ثلاثا وعشرين سنة، وتوفي وهو ابن مائة وعشرين سنة.
وفي المستدرك وغيره، عن معاذ رضي الله تعالى عنه، أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول (2): «من قاتل في سبيل الله قدر فواق ناقة وجبت له الجنة». وفواق الناقة ما بين الحلبتين من الراحة وتضم فاؤه وتفتح.
وفي الحديث أيضا: «عيادة المريض قدر فواق الناقة». وفي أخبار معن بن زائدة الشيباني أن رجلا قال له: احملني أيها الأمير، فأمر له بناقة وفرس وبغل وحمار وجارية. ثم قال: لو علمت أن الله خلق مركوبا يحمل عليه غير هذا لحملتك عليه. وقد أمرنا لك من الخز بجبة وقميص وعمامة ودراعة وسراويل ومنديل ومطرف ورداء وكساء وجورب وكيس. ولو علمنا شيئا آخر يتخذ من الخز غير هذا لأعطيناك إياه. قال بعضهم: رحم الله معنا، لو كان يعلم أن الغلام يركب لأمر له به، ولكنه كان عربيا محضا لم يتدنس بقاذورات العجم. وذكر ابن خلكان في ترجمته أنه جلس يوما فرأى راكبا فقال: ما أحسب هذا يريد غيري، فلما وصل أنشد قائلا (3):
__________
(1) رواه مسلم: مسافرين 201. وأبو داود: صلاة 119.
(2) رواه أبو داود: جهاد 40. والترمذي: فضائل الجهاد 17. النسائي جهاد 25.
(3) وفيات الأعيان: 5/ 248.(1/458)
أصلحك الله قلّ ما بيدي ... فما أطيق العيال إذ كثروا
ألحّ دهر رمى بكلكله ... فأرسلوني إليك وانتظروا (1)
فقال: يا فلان ناقتي الفلانية وألف دينار، فدفعهما إليه وهو لا يعرفه. ومحاسن معن كثيرة، وتولى الولايات العظيمة، وتولى في آخر عمره سجستان، فبينما هو ذات يوم في داره والصناع يعملون بين يديه، اندس بينهم قوم من الخوارح فقتلوه وهو يحتجم وهربوا، فتبعهم ابن أخيه يزيد بن مزيد بن زائدة فقتلهم عن آخرهم. وكان قتله في سنة إحدى أو اثنتين أو ثمان وخمسين ومائة رحمه الله. ورثاه الشعراء بمراث كثيرة، فمن المراثي النادرة أبيات الحسن (2) بن مطر الأزدي، وهي في الحماسة منها:
ألما على معن وقولا لقبره ... سقتك الغوادي مربعا ثم مربعا (3)
فيا قبر معن كيف واريت جوده ... وقد كان منه البرّ والبحر مترعا
ويا قبر معن أنت أول حفرة ... من الأرض خطّت للمكارم مضجعا
بلى وقد وسعت الجود والجود ميت ... ولو كان حيا ضقت حتى تصدّعا
فتى عيش في معروفه بعد موته ... كما كان بعد السيل مجراه مربعا
ولما مضى معن مضى الجود وانقضى ... وأصبح عرنين المكارم أجدعا
وحكمها
: كالإبل.
الأمثال
: قالوا: «لا ناقتي (4) فيها ولا جملي» وأصل المثل للحارث بن عبادة. وقيل: أول من قاله صدوف بنت حليس العذرية، وخبرها مشهور في الأمثال. ومما أنشد في ذلك قول (5)
الراعي:
وما هجرتك حتى قلت معلنة ... لا ناقة لي في هذا ولا جمل
وقال الطغرائي (6) في لاميته:
فيم الإقامة بالزوراء لا سكني ... بها ولا ناقتي فيها ولا جملي
يضرب عند التبري من الظلم أو الإساءة وأطال فيه أصحاب الأمثال، وقالوا: «استنوق الجمل» (7) أي صار ناقة، يضرب للرجل يكون في حديث أو صفة شيء ثم يخلطه بغيره. وينتقل
__________
(1) الكلكل: الصدر.
(2) هو الحسين بن مطير الأسدي شاعر متقدم مخضرم بين العصرين الأموي والعباسي مات سنة 169هـ.
والأبيات في وفيات الأعيان: 5/ 254.
(3) الغوادي: جمع الغادية وهي مطرة الغداة.
(4) جمهرة الأمثال: 2/ 305.
(5) ديوان الراعي: 198.
(6) الطّغرائي: الحسين بن علي بن محمد الأصبهاني، شاعر كاتب وزير، مات سنة 513هـ.
(7) جمهرة الأمثال: 1/ 49.(1/459)
منه إليه. قال الجوهري: وأصله أن طرفة بن العبد، كان عند بعض الملوك، والمسيب بن عبس ينشد شعرا في وصف جمل، ثم حوله إلى نعت ناقة، فقال طرفة: قد استنوق الجمل.
وخواصها
: كالإبل أيضا.
التعبير
: الناقة في الرؤيا امرأة، فإن كانت من البخت فهي أعجمية، وإن كانت غير بختية فهي امرأة عربية. فمن رأى كأنه حلب ناقة تزوج امرأة صالحة، ومن كان متزوجا وحلب ناقة رزق ولدا ذكرا، وربما رزق بنتا. ومن رأى ناقة ومعها فصيلها، فإنه يدل على ظهور آية وفتنة عامة. وقال ابن سيرين: الناقة المحدوجة سفر في بر، ومن ركب ناقة مهرية في منامه سافر وقطع عليه الطريق. ومن حلب النوق في منامه فإنه يلي ولاية يجمع فيها الزكاة.
ومن الرؤيا المعبرة أن ابن سيرين رحمه الله، أتاه رجل فقال له: رأيت رجلا يحلب من النوق البخت لبنا، ثم حلبها دما. فقال ابن سيرين: هذا رجل يتولى على الأعاجم ويجيبهم الزكاة وهي اللبن، ثم يظلمهم ويأخذ أموالهم غصبا، وهو الدم، فكان كذلك. ولحم النوق يدل على وفاء النذر لقول الله تعالى: {كُلُّ الطَّعََامِ كََانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرََائِيلَ إِلََّا مََا حَرَّمَ إِسْرََائِيلُ عَلى ََ نَفْسِهِ} (1)
وهو لحم الجزور. وقيل: لحم الجزور في الرؤيا مصيبة، وقيل مرض، وقيل: رزق، لقول الله تعالى: {وَالْأَنْعََامَ خَلَقَهََا لَكُمْ فِيهََا دِفْءٌ وَمَنََافِعُ وَمِنْهََا تَأْكُلُونَ، وَلَكُمْ فِيهََا جَمََالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ، وَتَحْمِلُ أَثْقََالَكُمْ} (2) ومن عقر ناقة في منامه ندم على أمر فعله، وناله منه مصيبة لقول (3) الله تعالى: {فَعَقَرُوهََا فَأَصْبَحُوا نََادِمِينَ}.
وقيل: ركوب الناقة نكاح امرأة، فإن ركبها مقلوبا أتى امرأة في دبرها. ومن رأى ناقة صارت بغلة أو بعيرا، فإن زوجته لا تحمل أبدا. ومن ماتت ناقته ماتت امرأته، أو بطل سفره، وربما دلت الناقة على امرأة كثيرة الخصام، لكثرة رغائها. ومن رأى ناقة دخلت مدينة، فإنها فتنة لقول الله تعالى: {إِنََّا مُرْسِلُوا النََّاقَةِ فِتْنَةً لَهُمْ} (4) فإذا عقرت ناقة في مدينة، أصاب أهلها نكبة والله أعلم.
الناموس:
البعوض وقد تقدم في باب الباء الموحدة، وقال أبو حامد الأندلسي: الناموس دويبة تلسع الناس، وقال الجوهري: وناموس الرجل سره الذي يطلعه على باطن أمره، ويخصه بما يستره عن غيره. قال الزبيدي: وهو مشتق من نمس بالكلام إذا أخفاه، يقال: نمس الصائد إذا اختفى في الدريئة انتهى.
وأهل الكتاب يسمون جبريل عليه السلام الناموس الأكبر، لأنه يخفي الكلام حين يلقيه إلى الرسل عن الحاضرين، وفي الحديث أن ورقة بن نوفل قال لخديجة رضي الله تعالى عنها، وهو ابن عمها، وكان نصرانيا: لئن كان ما تقولين حقا، إنه ليأتيه الناموس الذي كان يأتي موسى.
__________
(1) سورة آل عمران: آية 93.
(2) سورة النحل: الآيات 5، 6، 7.
(3) سورة الشعراء: آية 157.
(4) سورة القمر: آية 27.(1/460)
وقد تقدم هذا في باب الفاء، في الفاعوس، وتقدم في الفاعوس الكلام على لفظ الناموس.
وما جاء على وزن فاعول ولام الفعل منه سين.
الناهض:
فرخ العقاب، وقد تقدم ما في العقاب في باب العين المهملة.
النباج:
كرمان الهدهد الكثير القرقرة وسيأتي ما فيه في باب الهاء.
النبر:
بالكسر دويبة شبيهة بالقراد لكنها أصغر منه إذا دبت على البعير تورم مدبها، والجمع نبار وأنبار. قال (1) الراجز شبيب بن البرصاء (2):
كأنها من بدن وإيقار ... دبت عليها ذربات الأنبار
ويروى: عاربات الأنبار، والأنبار أيضا ضرب من السباع، قاله ابن سيده. قال البطليوسي، في الشرح: ويروى هذا البيت بالفاء، وهو أفعال من الشيء الوافر، ويروى بالقاف يريد أنها أو قرت بالشحوم ومعنى الرواية الأولى، أن هذه من سمنها ووفورها دبت عليها الأنبار فلسعتها، وقوله ذربات، في معناها وجهان: أحدهما أنها الحديدة اللسع مأخوذة من قولهم: سكين ذرب ومذرب، أي حادة، والثاني أنها مسمومة، يقال: ذربت السهم إذا سقيته السم ويقال للسم الذرب انتهى.
النجيب:
من الإبل والخيل، ومن الرجال الكريم، والجمع نجباء وأنجاب والنجائب جمع نجيبة، روى (3) أبو داود عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: إن عمر رضي الله تعالى عنه أهدي نجيبة فطلبت منه بثلاثمائة دينار، فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم في أن يبيعها، ويشتري بثمنها بدنا.
فنهاه عن ذلك، وقال: «بل انحرها». وكذلك رواه الإمام أحمد والبخاري في تاريخه. وفي المثل:
أنجبت المرأة إذا ولدت النجباء والمنتجب المختار من كل شيء.
روى الحاكم في المستدرك، عن عبد الله بن الوليد، عن عبد الله بن عبيد بن عمير، قال:
لقد حج الحسن بن علي رضي الله تعالى عنهما خمسا وعشرين حجة ماشيا، وأن النجائب لتقاد بين يديه. وفي الحلية سئل محمد بن علي بن الحسين، المعروف بالباقر أحد الأئمة الإثني عشر، على رأي الإمامية، عن عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى، فقال: أما علمت أن لكل قوم نجيبة، وأن نجيبة بني أمية عمر بن عبد العزيز، وأنه يبعث يوم القيامة أمة وحده.
وروى (4) الإمام أحمد والبزار والطبراني وغيرهم باختصار، عن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنه لم يكن نبي إلا وقد أعطي سبعة رفقاء نجباء ووزراء، وإني أعطيت أربعة عشر: حمزة وجعفر، وعلي وحسن وحسين، وأبو بكر وعمر وعثمان، وعبد الله بن مسعود وأبوذر والمقداد، وعمار وسليمان وبلال».
__________
(1) البيت في الحيوان للجاحظ: 6/ 22.
(2) ابن البرصاء: شبيب بن يزيد جمرة بن عوف بن أبي حارثة المري، شاعر إسلامي بدوي، مات سنة 100 هـ.
(3) رواه أبو داود: مناسك 15.
(4) رواه ابن حنبل: 1/ 88، 142، 148، 149.(1/461)
وفي بعض طرق الطبراني مصعب بن عمير، وفيه كثير الشواء، وهو من صغار التابعين، وثقه ابن حبان وضعفه الجمهور وبقية رجاله ثقات.
وفي الحديث: «إن الله يحب التاجر النجيب» أي الفاضل الكريم السخي. وقال (1) ابن مسعود: سورة الأنعام من نجائب القرآن أي من أفاضل سوره.
النحام:
طائر على خلقة الأوز، واحدته نحامة يكون آحادا وأزواجا في الطيران، وإذا أراد المبيت اجتمع رفوفا فذكوره تنام، وإناثه لا تنام، وتعد لها مبايت، فإذا نفرت من واحد ذهبت إلى آخر. ويقال: إن الأنثى تبيض من زق الذكر من غير سفاد، فإذا باضت نفرت. وبقي الذكر عند البيض، يذرق عليه فيقوم الذرق مقام الحضن، فإذا تمت مدته خرجت الفراخ لا حراك بها فتأتي الأنثى فتنفخ في مناقيرها حتى تجري الريح فيها روحا، ثم يتعاون الذكر والأنثى على التربية. وفي الذكر غلظ طبع وقلة وفاء، فإنه إذا رأى فراخه قد قويت على الطعم ضربها وطردها، فتذهب الأم معها فلا تقرب الذكر إلى وقت السفاد.
الحكم
: يحل أكله لأنه من الطيبات، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم أكله. روى ابن النجار، في ذيل تاريخ بغداد، في ترجمة سهل بن عبيد بن سورة الخراساني الأصبهاني أنه حدث عن اسماعيل بن هارون، عن الصعق بن حزن، عن مطر الوراق، قال (2): أهدي للنبي صلى الله عليه وسلم طير يقال له النحام فأكله واستطابه، وقال: «اللهم أدخل إلي أحب خلقك اليك» وأنس رضي الله تعالى عنه بالباب، فجاء علي رضي الله تعالى عنه، فقال: يا أنس استأذن لي على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: إنه على حاجة، فدفع صدره ودخل، فقال رضي الله عنه: يوشك أن يحال بيننا وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما رآه صلى الله عليه وسلم قال: «اللهم وال من والاه».
وفي الكامل لابن عدي، في ترجمة جعفر بن سليمان الضبعي، أن الطير المشوي كان حجلا. وفيه، في ترجمة جعفر بن ميمون، أنه كان حبارى. وفي المستدرك أن التي أهدته للنبي صلى الله عليه وسلم أم أيمن رضي الله تعالى عنها.
قلت: حديث (3) الطير خرجه الترمذي، وقال: غريب. والبغوي في حسان المصابيح، وخرجه الحربي، وزاد بعد قوله: أهدي للنبي صلى الله عليه وسلم طير، وكان مما يعجبه أكله. وزاد بعد قوله فجاء علي بن أبي طالب فقال: استأذن لي على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: ما عليه إذن، ولكن أحب أن يكون رجلا من الأنصار. ورواه الطبراني وأبو يعلى والبزار، من عدة طرق كلها ضعيفة. وخرجه عمر بن شاهين، ولم يذكر زيادة الحربي. وقال بعد قوله: فجاء علي فرددته: ثم جاء فرددته، فدخل في الثالثة أو في الرابعة فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «ما حبسك عني أو ما أبطأك عني يا علي»؟ قال:
جئت فردني أنس ثم جئت فردني أنس، فقال صلى الله عليه وسلم: «يا أنس ما حملك على ما صنعت؟» قال:
رجوت أن يكون رجلا من الأنصار. فقال صلى الله عليه وسلم: «يا أنس أوفي الأنصار خير من علي أو أفضل من علي»؟.
__________
(1) رواه الدارمي: فضائل القرآن 17.
(2) رواه مسلم: حج 65. والنسائي مناسك 78. وابن حنبل 1611.
(3) رواه مسلم: حج 65. والنسائي مناسك 78. وابن حنبل 1611.(1/462)
وعن سفينة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أهدت امرأة لرسول الله صلى الله عليه وسلم طيرين بين رغيفين، فقدمتهما إليه، فقال صلى الله عليه وسلم: «اللهم ائتني بأحب خلقك إليك وإلى رسولك». ثم ذكر معنى الحديث. قال الحاكم: وقد رواه عن أنس جماعة أكثر من ثلاثين نفسا. ثم صحت الرواية عن علي وأبي سعيد وسفينة وهو من الأحاديث المستدركة على المستدرك. قال الذهبي في تلخيصه: لقد كنت زمنا طويلا أظن أن حديث الطير لم يجسر الحاكم أن يودعه في مستدركه فلما علقت هذا الكتاب، رأيت الهول من الموضوعات التي فيه والله أعلم.
النحل:
ذباب العسل، وقد تقدم في باب الذال المعجمة، في لفظ الذباب، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في تفسير سورة النساء: «الذباب كله في النار إلا النحل» (1). وواحدة النحل نحلة كنخل ونخلة. وقرأ يحيى بن وثاب: {وَأَوْحى ََ رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ} (2) بفتح الحاء. والجمهور بالإسكان.
قال الزجاج: سميت نحلا لأن الله تعالى نحل الناس العسل، الذي يخرج منها، إذ النحلة العطية وكفاها شرفا قول الله تعالى: {وَأَوْحى ََ رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ} (3) فأوحى سبحانه إليها وأثنى عليها فعلمت مساقط الأنواء من وراء البيداء، فتقع هناك على كل حرارة عبقة، وزهرة أنقة، ثم تصدر عنها بما تحفظه رضابا وتلقطه شرابا.
قال القزويني، في عجائب المخلوقات: يقال ليوم عيد الفطر يوم الرحمة، إذ فيه أوحى الله إلى النحل صنعة العسل، فبين سبحانه أن في النحل أعظم اعتبار، وهو حيوان فهيم ذو كيس وشجاعة، ونظر في العواقب، ومعرفة بفصول السنة. وأوقات المطر، وتدبير المرتع والمطعم، والطاعة لكبيره، والاستكانة لأميره وقائده، وبديع الصنعة وعجيب الفطرة.
قال أرسطو: النحل تسعة أصناف: منها ستة يأوي بعضها إلى بعض. قال: وغذاؤها من الفضول الحلوة والرطوبات التي يرشح بها الزهرة والورق، ويجمع ذلك كله ويدخره، وهو العسل وأوعيته، ويجمع مع ذلك رطوبات دسمة، يتخذ منها بيوت العسل، وهذه الدسومات هي الشمع، وهو يلقطها بخرطومه ويحملها على فخذيه، وينقلها من فخذيه إلى صلبه، هكذا قال.
والقرآن يدل على أنها ترعى الزهر، فيستحيل في جوفها عسلا وتلقيه من أفواهها، فيجتمع منه القناطير المقنطرة قال الله تعالى: {ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرََاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهََا شَرََابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوََانُهُ فِيهِ شِفََاءٌ لِلنََّاسِ} (4) وقوله: {مِنْ كُلِّ الثَّمَرََاتِ} (5) المراد به بعضها، نظيره قوله تعالى: {وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ} (6) يريد البعض واختلاف الألوان في العسل بحسب اختلاف النحل والمرعى، وقد يختلف طعمه لاختلاف المرعى. ومن هذا المعنى قول زينب رضي الله تعالى عنها للنبي صلى الله عليه وسلم: جرست نحلة العرفط، حين شبهت رائحته برائحة المغافير والحديث مشهور في الصحيحين وغيرهما.
ومن شأنه في تدبير معاشه أنه إذا أصاب موضعا نقيا بنى فيه بيوتا من الشمع أولا، ثم بنى
__________
(1) الموطأ: جهاد 10.
(2) سورة النحل: آية 68.
(3) سورة النحل: آية 68.
(4) سورة النحل: آية 69.
(5) سورة النحل: آية 69.
(6) سورة النحل: آية 23.(1/463)
البيوت التي تأوي فيها الملوك، ثم بيوت الذكور التي لا تعمل شيئا. والذكور أصغر جرما من الإناث وهي تكثر المادة داخل الخلية، وإن طارت فهي تخرج بأجمعها وترتفع في الهواء ثم تعود إلى الخلية. والنحل تعمل الشمع أولا، ثم تلقي البزر لأنه لها بمنزلة العش للطير، فإذا ألقته قعدت عليه وحضنته، كما يحضن الطير، فيكون من ذلك البزر دود أبيض، ثم ينهض الدود وتغذي نفسها ثم تطير، وهي لا تقعد على أزهار مختلفة بل على زهر واحد، وتملأ بعض البيوت عسلا وبعضها فراخا، ومن عادتها أنها إذا رأت فسادا من ملك، إما أن تعزله وإما أن تعزله وإما أن تقتله، وأكثر ما تقتل خارج الخلية. والملوك لا تخرج إلا مع جميع النحل، فإذا عجز الملك عن الطيران، حملته.
وسيأتي إن شاء الله تعالى بيان ذلك، في آخر الكتاب، في لفظ اليعسوب.
ومن خصائص الملك أنه ليس له حمة يلسع بها، وأفضل ملوكها الشقر، وأسوؤها الرقط بسواد. والنحل تجتمع فتقسم الأعمال فبعضها يعمل العسل، وبعضها يعمل الشمع، وبعضها يسقي الماء، وبعضها يبني البيوت، وبيوتها من أعجب الأشياء لأنها مبنية على الشكل المسدس الذي لا ينحرف، كأنه استنبط بقياس هندسي. ثم هو في دائرة مسدسة، لا يوجد فيها اختلاف، فبذلك اتصلت حتى صارت كالقطعة الواحدة، وذلك لأن الأشكال من الثلاث إلى العشر، إذا جمع كل واحد منها إلى أمثاله لم يتصل، وجاءت بينها فروج، إلا الشكل المسدس، فإنه إذا جمع إلى أمثاله اتصل، كأنه قطعة واحدة وكل هذا بغير مقياس منها ولا آلة ولا بركار، بل ذلك من أثر صنع اللطيف الخبير وإلهامه إياها، كما قال: {وَأَوْحى ََ رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبََالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمََّا يَعْرِشُونَ} الآية (1).
فتأمل كمال طاعتها وحسن امتثالها لأمر ربها، كيف اتخذت بيوتا في هذه الأمكنة الثلاثة الجبال والشجر وبيوت الناس حيث يعرشون أي حيث يبنون العروش، فلا ترى للنحل بيتا في غير هذه الأمكنة الثلاثة البتة. وتأمل كيف كانت أكثر بيوتها في الجبال، وهي المتقدمة في الآية ثم الأشجار وهي دون ذلك، ثم فيما يعرش الناس وهي أقل بيوتها. فانظر كيف أداها حسن الامتثال إلى أن اتخذت البيوت قبل المرعى. فهي تتخذها أولا، فإذا استقر لها بيت خرجت منه فرعت وأكلت من الثمرات، ثم أوت إلى بيوتها، لأن ربها سبحانه وتعالى أمرها باتخاذ البيوت أولا، ثم الأكل بعد ذلك، وقال في الإحياء: انظر إلى النحل كيف أوحى الله إليها، حتى اتخذت من الجبال بيوتا، وكيف استخرج من لعابها الشمع والعسل، وجعل أحدهما ضياء والآخر شفاء.
ثم لو تأملت عجائب أمرها في تناولها الأزهار والأنوار، واحترازها من النجاسات والأقذار، وطاعتها لواحد من جملتها، وهو أكبرها شخصا وهو أميرها، ثم ما سخر الله لأميرها من العدل والانصاف بينها، حتى إنه ليقتل منها على باب المنفذ، كل ما وقع منها على نجاسة، لقضيت من ذلك العجب، إن كنت بصيرا في نفسك، وفارغا من هم بطنك وفرجك، وشهوات نفسك، في معاداة أقرانك، وموالاة إخوانك.
ثم دع عنك جميع ذلك، وانظر إلى بنيانها بيتا من الشمع، واختيارها من جميع الأشكال،
__________
(1) سورة النحل: آية 68.(1/464)
الشكل المسدس، فلا تبني بيتها مستديرا ولا مربعا ولا مخمسا، بل مسدسا لخاصية في الشكل المسدس، يقصر فهم المهندس عن درك ذلك، وهو أن أوسع الأشكال وأحواها المستدير، وما يقرب منه فإن المربع تخرج منه زوايا ضائعة، وشكل النحل مستدير مستطيل، فترك المربع حتى لا تبقى الزوايا فارغة.
ثم لو بناها مستديرة لبقيت خارج البيوت فرج ضائعة، فإن الأشكال المستديرة، إذا اجتمعت لم تجتمع متراصة، بحيث لا يبقى بعد اجتماعها فرجة، إلا المسدس. وهذه خاصية هذا الشكل، فانظر كيف ألهم الله تعالى النحل على صغر جرمه ذلك لطفا به وعناية بوجوده، فيما هو محتاج إليه ليهنأ عيشه. فسبحانه ما أعظم شأنه وأوسع لطفه وامتنانه.
وفي طبعه أنه يهرب بعضه من بعض، ويقاتل بعضه بعضا في الخلايا، ويلسع من دنا من الخلية، وربما هلك المسلوع، وإذا هلك شيء منها داخل الخلايا، أخرجته الأحياء إلى خارج، وفي طبعه أيضا النظافة، فلذلك يخرج رجيعه من الخلية، لأنه منتن الريح.
وهو يعمل زماني الربيع والخريف، والذي يعمله في الربيع أجود. والصغير أعمل من الكبير، وهو يشرب من الماء ما كان صافيا عذبا، يطلبه حيث كان، ولا يأكل من العسل إلا قدر شبعه، وإذا قل العسل في الخلية، قذفه بالماء ليكثر، خوفا على نفسه من نفاده، لأنه إذا نفد، أفسد النحل بيوت الملوك وبيوت الذكور، وربما قتلت ما كان منها هناك.
قال حكيم من اليونان لتلامذته: كونوا كالنحل في الخلايا، قالوا: وكيف النحل في الخلايا؟ قال: إنها لا تترك عندها بطالا إلا نفته وأبعدته، وأقصته عن الخلية، لأنه يضيق المكان، ويفني العسل، ويعلم النشيط الكسل. والنحل يسلخ جلده كالحيات، وتوافقه الأصوات اللذيذة المطربة ويضره السوس. ودواؤه أن يطرح له في كل خلية كف ملح، وأن يفتح في كل شهر مرة، ويدخن باخثاء البقر.
وفي طبعه أنه متى طار من الخلية يرعى ثم يعود، فتعود كل نحلة إلى مكانها لا تخطئه.
وأهل مصر يحولون الخلايا في السفن ويسافرون بها إلى مواضع الزهر والشجر، فإذا اجتمع في المرعى فتحت أبواب الخلايا، فيخرج النحل منها ويرعى يومه أجمع، فإذا أمسى عاد إلى السفينة وأخذت كل نحلة منها مكانها من الخلية لا تتغير عنه.
روى (1) الإمام أحمد والحاكم والترمذي والنسائي، من حديث أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه، أنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذا نزل عليه الوحي، سمع عنده دوي كدوي النحل، فنزل عليه صلى الله عليه وسلم يوما، فمكثنا ساعة، ثم سري عنه فاستقبل القبلة ورفع يديه فقال: «اللهم زدنا ولا تنقصنا، وأكرمنا ولا تهنا، وأعطنا ولا تحرمنا، وآثرنا ولا تؤثر علينا، وأرضنا وارض عنا». ثم قال صلى الله عليه وسلم: «لقد أنزل الله علي عشر آيات، من أقامهن دخل الجنة». ثم قرأ: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلََاتِهِمْ خََاشِعُونَ} (2) الآيات. قال: صحيح الإسناد.
__________
(1) رواه الترمذي: تفسير سورة 123. وابن حنبل 341.
(2) سورة المؤمنون: آية 2.(1/465)
قال النحاس: معنى أقامهن، عمل بهن ولم يخالف ما فيهن، كما يقال: فلان يقوم بعمله.
وروى البيهقي من حديث أنس رضي الله تعالى عنه مرفوعا، لما خلق الله جنة عدن وغرس أشجارها بيده قال لها: تكلمي، فقالت: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} (1).
وروى (2) ابن ماجه، عن أبي بشر بكر بن خلف قال: حدثني يحيى بن سعيد، عن موسى بن أبي عيسى الطحان، عن عون بن عبد الله، عن أبيه أو عن أخيه عن النعمان بن بشير رضي الله تعالى عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن مما تذكرون من جلال الله التسبيح والتهليل والتحميد، ينعطفن حول العرش لهن دوي كدوي النحل، تذكر بصاحبها. أما يحب أحدكم أن يكون له أو لا يزال له من يذكر به»؟ ورواه الحاكم، وقال: صحيح على شرط مسلم. والدوي صوت ليس بالعالي.
وفي حديث الإيمان: يسمع دوي صوته ولا يفقه ما يقوله.
وفي المستدرك عن أبي سبرة الهذلي، قال: قال عبد الله بن عمرو رضي الله تعالى عنهما فحدثني حديثا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فهمته وكتبته بيدي: بسم الله الرحمن الرحيم هذا ما حدث به عبد الله بن عمرو عن محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله لا يحب الفاحش ولا المتفحش، ولا سوء الجوار ولا قطيعة الرحم». ثم قال (3) صلى الله عليه وسلم: «إنما مثل المؤمن كمثل النحلة، وقعت فأكلت طيبا، ثم سقطت ولم تفسد ولم تكسر، ومثل المؤمن كمثل القطعة الذهب الأحمر، أدخلت النار فنفخ عليها فلم تتغير ووزنت فلم تنقص. فذلك مثل المؤمن». ثم قال: صحيح الإسناد.
وفي المعجم الأوسط للطبراني بإسناد حسن، عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مثل بلال كمثل النحلة، غدت تأكل من الحلو والمر ثم هو حلو كله».
وروى الإمام أحمد وابن أبي شيبة والطبراني أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «المؤمن كالنحلة تأكل طيبا وتضع طيبا، وقعت فلم تكسر ولم تفسد». وفي شعب البيهقي، عن مجاهد، قال: صاحبت عمر رضي الله تعالى عنه من مكة إلى المدينة فما سمعته يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا هذا الحديث: «إن مثل المؤمن كمثل النحلة إن صاحبته نفعك، وإن شاورته نفعك، وإن جالسته نفعك وكل شأنه منافع، وكذلك النحلة كل شأنها منافع». قال ابن الأثير: وجه المشابهة بين المؤمن والنحلة، حذق النحل وفطنته، وقلة أذاه وخفارته ومنفعته، وقنوعه وسعيه في النهار، وتنزهه عن الأقذار، وطيب أكله، فإنه لا يأكل من كسب غيره، ونحوله وطاعته لأميره.
وإن للنحل آفات تقطعه عن عمله، منها: الظلمة والغيم والريح والدخان والماء والنار، وكذلك المؤمن له آفات تفتر به عن علمه منها: ظلمة الغفلة، وغيم الشك، وريح الفتنة، ودخان الحرام، وماء السعة، ونار الهوى انتهى.
__________
(1) سورة المؤمنون: آية 2.
(2) رواه ابن ماجه: أدب 56. الدارمي مقدمة 2. وابن حنبل 2684.
(3) رواه ابن حنبل: 1992.(1/466)
وفي مسند الدارمي، عن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه، أنه قال: كونوا في الناس كالنحلة في الطير إنه ليس في الطير شيء إلا وهو يستضعفها، ولو تعلم الطير ما في أجوافها من البركة، ما فعلت ذلك بها. خالطوا الناس بألسنتكم وأجسادكم وزايلوهم بأعمالكم وقلوبكم.
فإن للمرء ما اكتسب، وهو يوم القيامة مع من أحب.
وفيه (1) أيضا، عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، أنه سأل كعب الأحبار كيف تجد نعت رسول الله صلى الله عليه وسلم في التوراة؟ فقال كعب: نجده محمد بن عبد الله، يولد بمكة ويهاجر إلى طيبة، ويكون ملكه بالشام، ليس بفحاش ولا صخاب في الأسواق، ولا يكافىء بالسيئة السيئة، ولكن يعفو ويصفح، أمته الحمادون، يحمدون الله في كل سراء وضراء يوضئون أطرافهم ويأتزرون في أوساطهم يصفون في صلاتهم كما يصفون في قتالهم، دويهم في مساجدهم كدوي النحل، يسمع مناديهم في جو السماء.
غريبة
: ذكر ابن خلكان، في ترجمة (2) عبد المؤمن بن علي ملك الغرب، أن أباه كان يعمل الطين فخارا، وأنه كان في صغره نائما في دار أبيه، وأبوه يعمل في الطين، فسمع أبوه دويا في السماء، فرفع رأسه فرأى سحابة سوداء من النحل قد هوت مطبقة على الدار، فاجتمعت كلها على ولده وهو نائم، فغطته وأقامت عليه مدة، ثم ارتفعت عنه وما تألم منها. وكان بالقرب منهم رجل يعرف الزجر فأخبره أبوه بذلك، فقال: يوشك أن يجتمع على ولدك جميع أهل المغرب، فكان كذلك.
وكان من أمر ولده ما اشتهر من ملك المغرب الأعلى والأدنى، ومات عبد المؤمن في جمادى الآخرة سنة ثمان وخمسين وخمسمائة. وقد تقدمت الإشارة إلى ذكر موته، في باب الجيم، في الجفرة.
وجمهور الناس على أن العسل يخرج من أفواه النحل، وروي عن علي رضي الله تعالى عنه أنه قال: تحقيرا للدنيا أشرف لباس ابن آدم فيها لعاب دودة، وأشرف شرابه فيها رجيع نحلة.
وظاهر هذا أنه من غير الفم، كذا نقله عنه ابن عطية.
والمعروف عنه أنه قال: إنما الدنيا ستة أشياء: مطعوم ومشروب وملبوس ومركوب ومنكوح ومشموم، فأشرف المطعوم العسل، وهو مذقة ذباب، وأشرف المشروب الماء، ويستوي فيه البر والفاجر، وأشرف الملبوس الحرير، وهو نسج دودة، وأشرف المركوب الفرس، وعليه تقتل الرجال، وأشرف المشموم المسك، وهو دم حيوان، وأشرف المنكوح المرأة، وهو مبال في مبال. والمحقق أن العسل يخرج من بطونها، لكن لا يدري أمن فمها أو من غيره، لكن لا يتم صلاحه إلا بحمي أنفاسها. فقد صنع ارسطاطالبس بيتا من زجاج لينظر إلى كيفية ما تصنع فأبت أن تعمل حتى لطخته من باطن الزجاج بالطين كذا قاله الغزنوي وغيره.
وروينا في تفسير الكواشي الأوسط، أن العسل ينزل من السماء فيثبت في أماكن من الأرض فيأتي النحل فيشربه، ثم يأتي الخلية، فيلقيه في الشمع المهيأ للعسل في الخلية، لا كما يتوهمه بعض
__________
(1) رواه الدرامي: مقدمة 2.
(2) وفيات الأعيان: 3/ 237.(1/467)
الناس من أن العسل من فضلات الغذاء، وأنه قد استحال في المعدة عسلا، هذه عبارته. والله أعلم.
لطيفة
: اعلم أن الله تعالى جمع في النحلة السم والعسل دليلا على كمال قدرته، وأخرج منها العسل ممزوجا بالشمع. وكذلك عمل المؤمن ممزوجا بالخوف والرجاء. وفي العسل ثلاثة أشياء:
الشفاء والحلاوة واللين، وكذلك المؤمن، قال (1) الله تعالى: {ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ََ ذِكْرِ اللََّهِ} ويخرج من الشاب خلاف ما يخرج من الكهل والشيخ، وكذلك حال المقتصد والسابق، وأمرها الله تعالى بأكل الحلال، حتى صار لعابها شفاء ودواء. وكل الذباب في النار إلا النحل.
ودواء الأطباء مر، ودواء الله حلو وهو العسل. وهي تأكل من كل الشجر، ولا يخرج منها إلا حلوا، ولا يغيرها اختلاف مأكلها. والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه وقوله (2) تعالى: {فِيهِ شِفََاءٌ لِلنََّاسِ} لا يقتضي العموم لكل علة، وفي كل إنسان، لأنه نكرة في سياق الإثبات، بل هو خبر عن أنه يشفي كما يشفي غيره من الأدوية في حال دون حال.
وعن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما، أنه كان لا يشكو شيئا إلا تداوى بالعسل، حتى كان يدهن به الدمل والقرحة والقرصة، ويقرأ هذه الآيات، وهذا يقتضي أنه كان يحمله على العموم.
وروى ابن ماجه والحاكم عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (3):
«العسل شفاء من كل داء، والقرآن شفاء لما في الصدور، فعليكم بالشفاءين القرآن والعسل».
وروى (4) ابن ماجه أيضا عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من لعق من العسل ثلاث غدوات من كل شهر لم يصبه عظيم من البلاء». وحكى النقاش عن أبي وجرة أنه كان يكتحل بالعسل ويتداوى به من كل سقم.
وروي أيضا عن عوف بن ملك رضي الله تعالى عنه أنه مرض فقال: ائتوني بماء فإن الله تعالى يقول (5): {وَنَزَّلْنََا مِنَ السَّمََاءِ مََاءً مُبََارَكاً} ثم قال: وائتوني بعسل وقرأ الآية، ثم قال:
ائتوني بزيت فإنه من شجرة مباركة. فخلط الجميع ثم شربه فشفي.
وروى البخاري ومسلم والترمذي والنسائي عن أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه، قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن أخي استطلق بطنه، فقال عليه الصلاة والسلام: «اسقه عسلا» فسقاه، ثم جاءه فقال: يا رسول الله إني قد سقيته عسلا، فلم يزده إلا استطلاقا فقال عليه الصلاة والسلام: «اسقه عسلا». ثلاث مرات، ثم جاء الرابعة فقال صلى الله عليه وسلم «اسقه عسلا».
قال: قد سقيته فلم يزده إلا استطلاقا، فقال عليه الصلاة والسلام: «صدق الله وكذب بطن أخيك اسقه عسلا» فسقاه (6) فبرىء.
__________
(1) سورة الزمر: آية 23.
(2) سورة النحل: آية 69.
(3) رواه ابن ماجه طب 7.
(4) رواه ابن ماجه طب 7.
(5) سورة ق: آية 9.
(6) رواه مسلم: سلام 91. والبخاري طب 4، 24.
والترمذي طب 21.(1/468)
فائدة
: قد اعترض في هذا الحديث، وفي قوله (1) صلى الله عليه وسلم: «عليكم بهذا العود الهندي» يعني الكست، فإن فيه سبعة أشفية: منها ذات الجنب، وقوله (2) صلى الله عليه وسلم: «الحمى من فيح جهنم فاطفؤها بالماء»، وقوله (3) صلى الله عليه وسلم: «إن في الحبة السوداء الشفاء من كل داء إلا السام» يعني الموت.
وقوله (4) صلى الله عليه وسلم: «الكمأة من المن وماؤها شفاء للعين».
أما من في قلبه مرض من الملحدة فقال: الأطباء مجمعون على أن العسل مسهل، فكيف يوصف لمن به الإسهال؟ ومجمعون أيضا على أن استعمال المحموم الماء البارد مخاطرة، وقرب من الهلاك، لأنه يجمع المسام ويحقن البخار المتحلل، ويعكس الحرارة إلى داخل الجسم، فيكون سببا للتلف، وينكرون أيضا مداواة ذات الجنب بالقسط مع ما فيه من الحرارة الشديدة، ويرون ذلك خطرا، وهذا الذي قاله المعترض الملحد جهالة بينة وهو فيها كما قال الله تعالى: {بَلْ كَذَّبُوا بِمََا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ} (5) ونحن نشرح الأحاديث المذكورة في هذا الموضع، ونذكر ما قاله الأطباء في ذلك ليظهر جهل هذا المعترض.
اعلم أن علم الطب من أكثر العلوم احتياجا إلى التفصيل حتى إن المريض يكون الشيء الواحد دواء له في ساعة، ثم يصير داء له في الساعة التي تليها بعارض يعرض له، من غضب يحمي مزاجه فيتغير علاجه، أو هواء يتغير، أو غير ذلك مما لا يحصى كثرة. فإذا وجد الشفاء بشيء في حالة ما لشخص ما، لم يلزم منه الشفاء به في سائر الأحوال ولجميع الأشخاص، والأطباء مجمعون على أن المرض الواحد يختلف علاجه، باختلاف السن والزمان والعادة، والغذاء المتقدم، والتدبير المألوف، وقوة الطباع.
فإذا عرفت هذا، فاعلم أن الإسهال يحصل من أنواع كثيرة منها الإسهال الحادث من التخم والهيضات. وقد أجمع الأطباء، في مثل هذا، على أن علاجه بأن تترك الطبيعة وفعلها، فإن احتاجت إلى معين على الإسهال، أعينت مادامت القوة باقية، وأما حبسها فضرر عندهم.
واستعجال مرض، فيحتمل أن يكون هذا الإسهال لهذا الشخص المذكور في الحديث، كان من امتلاء هيضة، فدواؤه ترك الإسهال على ما هو عليه، أو تقويته فأمره صلى الله عليه وسلم بأن يسقيه عسلا فزاده إسهالا، فزاده عسلا إلى أن فنيت المادة فوقف الإسهال. أو يكون الخلط الذي به، كان يوافقه شراب العسل، فثبت بما ذكرناه أن العسل جار على صناعة الطب، وأن المعترض عليه ملحد جاهل بصناعة الطب، ولسنا نقصد الاستظهار لتصديق الحديث، بقول الأطباء، بل لو كذبوه كذبناهم وكفرناهم. فلو وجدنا المشاهدة تصدق دعواهم لتأولنا كلامه صلى الله عليه وسلم حينئذ وخرجناه على ما يصح.
وقد ذكرنا هذا الجواب وما بعده، عدة للحاجة إن اعتضدوا بمشاهدة، وليظهر جهل
__________
(1) رواه مسلم: سلام 87. وابن ماجه طب 17. وابن حنبل 3566. ورواه البخاري: طب 23، 26.
(2) رواه البخاري: بدء الخلق 10، طب 28. ومسلم سلام 78.
(3) رواه البخاري: طب 7. ومسلم سلام 88. وابن ماجه طب 6.
(4) رواه ابن حنبل: 3465.
(5) سورة يونس: آية 39.(1/469)
المعترض، وأنه لا يحسن الصناعة التي اعترض بها، وانتسب إليها. وكذلك القول في الماء البارد للمحموم، فإن المعترض تقوّل على النبي صلى الله عليه وسلم ما لم يقل، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقل أكثر من قوله (1):
«أطفئوها بالماء» ولم يبين صفته وحاله، والأطباء يسلمون أن الحمى الصفراوية يدبر صاحبها يسقى الماء البارد الشديد البرودة، ويسقونه الثلج ويغسلون أطرافه بالماء البارد، فلا يبعد أنه صلى الله عليه وسلم أراد هذا النوع من الحمى.
وأما إنكاره الشفاء من ذات الجنب بالقسط فباطل أيضا. فقد قال بعض الأطباء: إن ذات الجنب، إذا حدثت من البلغم، كان القسط من علاجها. وقد ذكر جالينوس وغيره من حذاق الأطباء، أنه ينفع من وجع الصدر. وقال بعض قدماء الأطباء: إنه يستعمل حيث يحتاج إلى إسخان عضو من الأعضاء، وحيث يحتاج إلى جذب خلط من باطن البدن إلى ظاهره. وهكذا قال الرئيس ابن سينا وغيره من فحول الأطباء، وهذا يبطل ما زعمه هذا المعترض الملحد.
وأما قوله (2) صلى الله عليه وسلم: «فيه سبعة أشفية» فقد أطبق الأطباء في كتبهم، على أنه يدر الطمث والبول، وينفع من السموم، ويحرك شهوة الجماع، ويقتل الدود وحب القرع، الذي في الأمعاء، إذا شرب بعسل، ويذهب الكلف، إذا طلي عليه. وينفع من برودة المعدة والكبد، ومن الحمى الورد والربع وغير ذلك. وهو صنفان: بحري وهندي، فالبحري هو القسط الأبيض، وقيل هو أكثر من صنفين ونص بعضهم على أن البحري أفضل من الهندي، وأقل حرارة منه، وقيل: هما حاران يابسان في الدرجة الثالثة، والهندي أشد حرارة منه فيها.
وقال الرئيس ابن سينا: القسط حار في الثالثة، يابس في الثانية. وقد اتفق الأطباء على هذه المنافع التي ذكرناها في القسط، وهو العود الهندي المذكور في الحديث، فصار ممدوحا شرعا وطبا.
وإنما عددنا منافع القسط من كتب الأطباء، لأنه صلى الله عليه وسلم ذكر منها عددا مجملا.
وأما قوله (3) صلى الله عليه وسلم «في الحبة السوداء شفاء من كل داء إلا السام» فيحمل أيضا على العلل الباردة على نحو ما سبق في القسط، وهو صلى الله عليه وسلم قد يصف بحسب ما شاهده من غالب حال أصحابه، قال الإمام المازري، وقال شيخ الإسلام محيي الدين النووي، وذكر القاضي عياض كلام المازري الذي قدمناه، ثم قال: وذكر الأطباء في منفعة الحبة السوداء، التي هي الشونيز، أشياء كثيرة، وخواص عجيبة، يصدقها قوله صلى الله عليه وسلم. فذكر جالينوس أنها تحلل النفخ، وتقتل ديدان البطن، إذا أكلت أو وضعت على البطن، وتنفع الزكام إذا قليت وصرت في خرقة وشمت، وتزيل العلة التي ينقش منها الجلد، وتقطع الثآليل المعلقة والمنكسة والخيلان، وتدر الطمث المنحبس، إذا كان احتباسه من أخلاط غليظة لزجة، وتنفع الصداع إذا طلي بها الجبين، وتقطع البثور والجرب، وتدر البول واللبن، وتحلل الأورام البلغمية، إذا تضمد بها مع خل. وتنفع من الماء العارض في العين إذا سقط بها مسحوقة بدهن، وهي تنفع من انصباب المواد أيضا، ويتمضمض
__________
(1) رواه البخاري: بدء الخلق 10، طب 28.
(2) رواه البخاري: طب 23، 26.
(3) رواه البخاري: طب 7.(1/470)
بها من وجع الأسنان، وتنفع من نهش الرتيلاء. وإذا بخر بها طردت الهوام.
قال القاضي: وذكر جالينوس أن من خاصيتها إذهاب حمى البلغم والسوداء، وتقتل حب القرع. وإذا علق الشونيز في عنق المزكوم ينفعه، وينفع من حمى الربع. قال: ولا تبعد منفعته من أدوية حارة لخواص فيها فقد نجد ذلك في أدوية كثيرة فيكون الشونيز منها لعموم الحديث، ويكون استعماله أحيانا منفردا وأحيانا مركبا.
وأما قوله صلى الله عليه وسلم في الكمأة، وهي بفتح الكاف وإسكان الميم وبعدها همزة مفتوحة: و «ماؤها شفاء للعين» قيل: هو نفس الماء مجردا، وقيل: معناه أن يخلط ماؤها بدواء يعالج به العين، وقيل: إن كان لتبريد ما في العين من حرارة، فماؤها مجردا شفاء، وإن كان لغير ذلك فيركب مع غيره. قال الإمام النووي: والصحيح، بل الصواب أن ماءها مجردا شفاء للعين مطلقا، فيعصر ماؤها، ويجعل في العين منه. قال: وقد رأيت أنا وغيري في زماننا من كان أعمى وذهب بصره حقيقة، فكحل عينيه بماء الكمأة مجردا، فبرىء وعاد بصره إليه. وهو الشيخ العدل الإمام الكمال الدمشقي صاحب فقه ورواية للحديث. وكان استعماله ماء الكمأة اعتقادا في حديث النبي صلى الله عليه وسلم، وتبركا به، فشفاه الله لذلك.
ففي هذا الحديث والأحاديث المتقدمة بيان لما حواه النبي صلى الله عليه وسلم من علوم الدين والدنيا، وصحة علم الطب، وجواز التطبب في الجملة، واستحبابه لما ذكر في الأحاديث الصحيحة من الحجامة وشرب الأدوية والسعوط، وقطع العروق والرقى وغير ذلك من الأدوية، ولا خفاء أن لله تعالى في مخلوقاته حكما وأسرارا، ولم يخلق جل جلاله داء إلا وخلق له دواء علمه من علمه وجهله من جهله والله أعلم.
وذهبت طائفة إلى أن هذه الآية (1) {وَأَوْحى ََ رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ} إنما يراد بها أهل البيت من بني هاشم، وأنهم النحل وأن الشراب هو القرآن، وقد ذكر بعضهم هذا في مجلس أبي جعفر المنصور فقال له رجل: جعل الله طعامه وشرابه مما يخرج من بطون بني هاشم، فأضحك الحاضرين وأبهت القائل.
فائدة أخرى
: اعلم أن للعسل أسماء كثيرة منها السنوت كسفود وسنور، وفي الحديث (2)
«عليكم بالسنى والسنوت» ومنها السلوى لأنه يسلي عن كل حلو، قال خالد بن زهير الهذلي:
وقاسمها بالله جهد الأنتم ... ألذّ من السلوى إذا ما نشورها
ومن أسمائه الحافظ والأمين، لأنه يحفظ ما يودع فيه، فيحفظ الميت أبدا واللحم ثلاثة أشهر، والفاكهة ستة أشهر.
روى (3) أصحاب الكتب الستة، عن أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها، أن النبي صلى الله عليه وسلم
__________
(1) سورة النحل: آية 68.
(2) رواه ابن ماجه: طب 9.
(3) رواه البخاري: طلاق 8، أطعمة 32، أشربة 1510. ومسلم: رضاع 88. والترمذي: أطعمة 29.
وأبو داود أشربة 11. وابن ماجه أطعمة 36، والدارمي أطعمة 34، وابن حنبل 596.(1/471)
«كان يحب الحلواء، ويشرب العسل». قال العلماء: المراد بالحلواء هنا كل حلو، وذكر العسل بعدها تنبيها على شرفه ومرتبته ومزيته، وهو من باب ذكر الخاص بعد العام. والحلواء بالمد، وفيه جواز أكل لذيذ الأطعمة والطيبات من الرزق، وأن ذلك لا ينافي الزهد والمراقبة لا سيما إذا حصل ذلك اتفاقا.
وفي تاريخ أصبهان، في ترجمة أحمد بن الحسن، عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أول نعمة ترفع من الأرض العسل». وكان مالك بن الحارث بن عبد يغوث النخعي الكوفي، المعروف بالأشتر من شيعة أمير المؤمنين علي رضي الله تعالى عنه، وكان تابعيا رئيس قومه، وله بلاء حسن في وقعه اليرموك، وذهبت عينه يومئذ، وكان فيمن شهد حصار عثمان رضي الله تعالى عنه، وشهد وقعة الجمل وصفين. وكان عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه إذا رآه صرف نظره عنه وقال: كفى الله أمة محمد صلى الله عليه وسلم شره. ولاه علي رضي الله تعالى عنه مصر، بعد قيس بن سعد بن عبادة بن دليم، فلما وصل إلى القلزم شرب شربة عسل فمات.
فلما بلغ ذلك عليا رضي الله تعالى عنه، قال: لليدين والفم. وقال عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنه، حين بلغه ذلك: إن لله جنودا من العسل. وقيل: إن الذي قال ذلك معاوية بن أبي سفيان رضي الله تعالى عنهما. وهو الذي سمه. وقيل: إن الذي سمه كان عبدا لعثمان رضي الله تعالى عنه. وكانت وفاته في شهر رجب سنة سبع وثلاثين. روى له النسائي حديثين. وفي أخبار الحجاج بن يوسف أنه كتب إلى عامله بفارس: أرسل إلي من عسل خلار من النحل الأبكار، ومن الدستفشار الذي لم تمسه النار. يريد بالأبكار فراخ النحل، لأن عسلها أطيب وأصفى. وخلار موضع بفارس مشهور بجودة العسل والدستفشار كلمة فارسية معناها ما عصرته الأيدي.
الحكم
: كره مجاهد قتل النحل، ويحرم أكلها على الأصح، وإن كان عسلها حلالا، كالآدمية لبنها حلال ولحمها حرام. وأباح بعض السلف أكلها كالجرادة، وهو وجه ضعيف في المذهب. ويحرم قتلها، والدليل على الحرمة نهي (1) النبي صلى الله عليه وسلم عن قتلها. وفي الإبانة، في كتاب الحج، يكره قتلها، وما ذكره الفوراني في الإنابة من الكراهة وذكره غيره من التحريم مفرع، على منع الأكل، فإن أبحناه جاز قتله كالجراد، وكان القياس جواز قتل النحل، لأنه من ذوات الإبر، وما فيه من المنفعة يعارض بالضرر، لأنه يصول ويلدغ الآدمي وغيره.
وقد ذكر الرافعي، في كتاب الحج، أنه يجوز قتل الصقر والبازي من الجوارح ونحوها كما تقدم في الكلام عليها، في أماكنها، وعلله بأن المنفعة فيها معارضة بالمضرة، وهو اصطيادها طيور الناس، فجعلوا المضرة التي فيها مبيحة لقتلها، ولم يجعلوا المنفعة التي فيها عاصمة من القتل. إلا أنه صلى الله عليه وسلم «نهى عن قتل النحل» (2)، كما تقدم، ولا شيء في قوله صلى الله عليه وسلم إلا طاعة الله بالتسليم لأمره صلى الله عليه وسلم.
وأما بيع النحل، وهو في الكوارة فصحيح إن رؤى جميعه، وإلا فهو بيع غائب، فإن باعها
__________
(1) رواه أبو داود: 164. وابن ماجه صيد 10.
(2) رواه أبو داود: 164. وابن ماجه صيد 10.(1/472)
وهي طائرة ففي التتمة يصح، وفي التهذيب عكسه. وصورة المسألة أن تكون الأم في الكوارة كما قاله ابن الرفعة، وإلا صح من الوجهين الصحة. والفرق بينها وبين باقي الطير من وجهين:
أحدهما أنها لا تقصد بالجوارح بخلاف غيرها، والثاني أنها لا تأكل في الغالب والعادة إلا مما ترعاه، فلو توفق في صحة البيع على حبسها لربما أضر بها أو تعذر بسببه بيعها، بخلاف غيرها من الطيور.
وقال أبو حنيفة: لا يصح بيع النحل كالزنبور وسائر الحشرات، واحتج أصحابنا بأنه حيوان طاهر منتفع به، فجاز بيعه كالشاة والحمام بخلاف الزنبور والحشرات، فإنه لا منفعة فيها كدود القز، ويبقى لها في الكوارة شيئا من العسل، فإن كان الاشتيار في الشتاء وتعذر الخروج، يكون المبقي أكثر. فإن أغنى عن العسل غيره، لم يتعين إبقاء العسل. وقد قيل تشوى دجاجة وتعلق على باب الكوارة لتأكل منها.
الأمثال
: قالوا: «أنحل من نحلة» مأخوذ من النحول وهو الهزال، وقالوا: «أهدى من نحلة» وقالوا: «كلام كالعسل وفعل كالأسل» (1) وهي الرماح يضرب في اختلاف القول والفعل.
الخواص
: العسل حر يابس، جيده الشهد وهو مدر للبول مسهل يهيج القيء. وهو معطش ويستحيل إلى الصفراء يولد دما حارا، فإن طبخ بالماء ونزعت رغوته ذهبت حدته، وقلت حلاوته ونفعه، وكثر غذاؤه وإدراره للبول واطلاقه، وأجوده الخريفي الصادق الحلاوة، والكثير الربيعي المائل إلى الحمرة. ويدفع مضرته التفاح المز، وكل ما أسرع إليه الفساد من لحم وغيره إذا وضع في العسل طالت مدة مقامه، وإذا خلط العسل الذي لم يصبه ماء ولا نار ولا دخان بشيء من المسك واكتحل به نفع من نزول الماء في العين، والتلطخ به يقتل القمل والصئبان، ولعقه علاج لعضة الكلب الكلب، والمطبوخ منه نافع من السموم، ومن خاصية الشمع أن من استصحبه وقيل أكله أورثه الغم لكن لا يصيبه الاحتلام.
التعبير
: النحل في الرؤيا خصب وغنى لمن قناه مع خطر، ومن رأى كوارة نحل واستخرج منها عسلا نال مالا حلالا، فإن أخذ العسل كله ولم يترك للنحل شيئا، فإنه يجوز على قوم، فإن ترك للنحل شيئا فإنه يعدل إن كان واليا أو طالب حق، ومن رأى النحل يقع على رأسه نال ولاية ورياسة، وإن رأى ذلك ملك نال ملكا، وكذلك إذا حل بيده. والنحل للفلاحين دليل خير، وأما الجندي وغير الفلاحين فدليل مخاصمة، وذلك لصوته ولدغه. والنحل يدل على العسكر، لأنه أميره كما يتبع العسكر أميره. ومن قتل نحلا فهو عدو، ولا يحمد قتل النحل للفلاح، لأنه رزقه ومعاشه. والنحل يدل على العلماء وأصحاب التصنيف، وربما دل على الكد والكسب والجباية.
وأما العسل فإنه في المنام مال حلال بلا تعب، وهو شفاء من المرض لقوله (2) تعالى:
{يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهََا شَرََابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوََانُهُ فِيهِ شِفََاءٌ لِلنََّاسِ} ومن رأى أنه يطعم الناس العسل، فإنه يسمعهم الكلام الحسن والقرآن بلحن طيب، ومن رأى كأنه يلعق عسلا فإنه يتزوج،
__________
(1) مجمع الأمثال: 2/ 133.
(2) سورة النحل: آية 69.(1/473)
لقوله (1) صلى الله عليه وسلم لامرأة رفاعة رضي الله عنهما: «حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك». وأكل العسل عناق حبيب وتقبيله.
وأما الشهد فإنه ميراث من حلال أو مال من شركة، وقال ابن سيرين: الشهد رزق حلال لأن النار لا تمسه، ومن رأى بين يديه شهدا موضوعا، فإن عنده علما عزيزا والناس يريدون سماعه منه، والشهد إذا كان وحده، فهو مال من غنيمة، فإن كان في وعاء فهو رجل صاحب علم ومال حلال، وهو للزاهد الغني مال وبر ودين، ومن رأى كأنه يأكل الشهد وفوقه العسل، فإنه ينكح أمة والله تعالى أعلم.
النحوص:
بفتح النون وضم الحاء والصاد المهملتين الأتان الحائل، والجمع نحص ونحاص.
النسر:
طائر معروف وجمعه في القلة أنسر، وفي الكثرة نسور، وكنيته أبو الأبرد وأبو الأصبع وأبو مالك وأبو المنهال وأبو يحيى، والأنثى يقال لها أم قشعم. وسمي نسرا لأنه ينسر الشيء ويبتلعه، وهو عريف الطير، ويقول في صياحه: ابن آدم عش ما شئت، فإن الموت ملاقيك. كذا قاله الحسن بن علي رضي الله تعالى عنهما.
قلت: وفي هذا مناسبة لما خص النسر به من طول العمر، يقال: إنه من أطول الطير عمرا، وأنه يعمر ألف سنة، وقصة لبد تأتي إن شاء الله تعالى، في الأمثال. والنسر ذو منسر، وليس بذي مخلب، وإنما له أظفار حداد كالمخالب. والبازي والنسر يسفدان كما يسفد الديك.
وزعم قوم أن الأنثى من هذا النوع، تبيض من نظر الذكر إليها، وهي لا تحضن وإنما تبيض في الأماكن العالية الضاحية للشمس، فيقوم حر الشمس للبيض مقام الحضن، وهو حاد البصر يرى الجيفة من أربعمائة فرسخ، وكذلك حاسة شمه في النهاية، لكنه إذا شم الطيب مات لوقته، وهو أشد الطير طيرانا، وأقواها جناحا، حتى إنه ليطير ما بين المشرق والمغرب في يوم واحد، وإذا وقع على جيفة وعليها عقبان تأخرت، ولم تأكل مادام يأكل منها، وكل الجوارح تخافه، وهو شره نهم رغيب إذا وقع على جيفة وامتلأ منها، لم يستطع الطيران حتى يثب وثبات، يرفع بها نفسه طبقة بعد طبقة في الهواء حتى يدخل تحت الريح، وربما صاده الضعيف من الناس في هذه الحالة، والأنثى منه تخاف على بيضها وفراخها الخفاش، فتفرش في وكرها ورق الدلب لينفر منه، وهو من أشد الطير حزنا على فراق إلفه، فإذا فارق أحدهما الآخر مات حزنا وكمدا.
ومن غريب ما ألهم أنه إذا حملت أنثاه، ذهب إلى الهند فأخذ من هناك حجرا كهيئة الجوزة، إذا حرك سمع له حس حجرا آخر متحرك، كصوت الجرس فإذا جعله عليها أو تحتها أذهب عنها العسر، وهذا بعينه قاله القزويني في العقاب، وقد تقدم في باب العين. وليس في سباع الطير أكبر جثة منه، ويقال للنسر أيضا أبو الطير قال الشاعر:
فلا وأبي الطير المريه في الضحى ... على خالد لقد وقعت على لحم
__________
(1) رواه البخاري: طلاق 377.(1/474)
والنسر سيد الطير، روى اليافعي، في كتاب نفحات الأزهار ولمحات الأنوار، عن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه، أنه قال: سمعت حبيبي رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «هبط علي جبريل فقال: يا محمد إن لكل شيء سيدا، فسيد البشر آدم، وسيد ولد آدم أنت، وسيد الروم صهيب، وسيد فارس سليمان، وسيد الحبش بلال، وسيد الشجر السدر، وسيد الطير النسر، وسيد الشهور رمضان، وسيد الأيام يوم الجمعة، وسيد الكلام العربية، وسيد العربية القرآن، وسيد القرآن سورة البقرة».
وروى الطبراني، في معجمه الأوسط، عن عائشة رضي الله تعالى عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
«يا رب أخبرني بأكرم خلقك عليك»؟ فقال جلا وعلا: الذي يسرع إلى هواي إسراع النسر إلى هواه. والحديث يأتي إن شاء الله تعالى بتمامه في النمر.
وفي شعب الإيمان للبيهقي، عن علي بن هارون العبدي، قال: سمعت الجنيد رضي الله عنه يقول: حق الشكر أن لا يعصي الله فيما أنعم، ومن كان لسانه رطبا بذكر الله تعالى، دخل الجنة وهو يضحك. وقال: إن لله عبادا يأوون إلى ذكر الله، كما يأوي النسر إلى وكره.
وفي الحلية، في ترجمة وهب بن منبه وغيرها، عن وهب بن منبه، قال: إن بختنصر مسخ أسدا فكان ملك السباع، ثم مسخ نسرا فكان ملك الطير، ثم مسخ ثورا فكان ملك الدواب.
وكان مسخه سبع سنين، وقلبه في ذلك كله قلب إنسان، وهو في ذلك كله يعقل عقل الإنسان، وكان ملكه قائما. ثم رده الله إلى بشريته، ورد عليه روحه، فدعا إلى توحيد الله وقال: كل إله باطل إلا الله إله السماء. فقيل لوهب: أمات مسلما؟ فقال: وجدت أهل الكتاب قد اختلفوا فيه، فقال بعضهم: آمن قبل أن يموت. وقال بعضهم: قتل الأنبياء، وخرب بيت الله المقدس، وأحرق كتبه، فغضب الله عليه فلم يقبل منه التوبة انتهى.
قال السدي: إن بختنصر، لما رجع إلى صورته، ورد الله عليه ملكه، كان دانيال وأصحابه، من أكرم الناس عليه، فحسدتهم المجوس، وقالوا لبختنصر: إن دانيال إذا شرب لم يملك نفسه أن يبول، وكان ذلك فيهم عارا، فجعل لهم طعاما فأكلوا وشربوا، وقال للبواب: انظر أول من يخرج للبول، فاضربه بالطبر، فإن قال: أنا بختنصر، فقل: كذبت! بختنصر أمرني بقتلك، فكان أول من قام للبول بختنصر، فلما رآه البواب، شد عليه فقال: أنا بختنصر، فقال البواب:
كذبت بختنصر أمرني بقتلك، ثم ضربه فقتله. هكذا قال أصحاب المبتدا.
وروي عن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه أنه قال: إن نمرود الجبار، لما حاج إبراهيم عليه الصلاة والسلام في ربه، قال: إن كان ما يقوله إبراهيم حقا، فلا أنتهي حتى أصعد إلى السماء فأعلم ما فيها، فعمد إلى أربعة أفراخ من النسور، فرباها حتى شبت، واتخذ تابوتا، فجعل له بابا من أعلاه وبابا من أسفله، وقعد نمرود مع رجل في التابوت، ونصب خشبات في أطراف التابوت، وجعل على رؤوسها اللحم، وربط التابوت بأرجل النسور وخلاها، فطارت وصعدت طمعا في اللحم، حتى مضى يوم وأبعدت في الهواء، فقال نمرود لصاحبه: افتح الباب الأعلى وانظر إلى السماء هل قربنا منها؟ ففتح ونظر، فقال: إن السماء كهيئتها ثم قال له: افتح
الباب الأسفل، وانظر إلى الأرض، كيف تراها؟ ففعل وقال: أرى الأرض مثل اللحة والجبال مثل الدخان، فطارت النسور يوما آخر وارتفعت، حتى حالت الريح بينها وبين الطيران، فقال لصاحبه: افتح البابين وانظر ففتح الأعلى، فإذا السماء كهيئتها، وفتح الأسفل فإذا الأرض سوداء مظلمة. ونودي: أيها الطاغية إلى أين تريد؟(1/475)
وروي عن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه أنه قال: إن نمرود الجبار، لما حاج إبراهيم عليه الصلاة والسلام في ربه، قال: إن كان ما يقوله إبراهيم حقا، فلا أنتهي حتى أصعد إلى السماء فأعلم ما فيها، فعمد إلى أربعة أفراخ من النسور، فرباها حتى شبت، واتخذ تابوتا، فجعل له بابا من أعلاه وبابا من أسفله، وقعد نمرود مع رجل في التابوت، ونصب خشبات في أطراف التابوت، وجعل على رؤوسها اللحم، وربط التابوت بأرجل النسور وخلاها، فطارت وصعدت طمعا في اللحم، حتى مضى يوم وأبعدت في الهواء، فقال نمرود لصاحبه: افتح الباب الأعلى وانظر إلى السماء هل قربنا منها؟ ففتح ونظر، فقال: إن السماء كهيئتها ثم قال له: افتح
الباب الأسفل، وانظر إلى الأرض، كيف تراها؟ ففعل وقال: أرى الأرض مثل اللحة والجبال مثل الدخان، فطارت النسور يوما آخر وارتفعت، حتى حالت الريح بينها وبين الطيران، فقال لصاحبه: افتح البابين وانظر ففتح الأعلى، فإذا السماء كهيئتها، وفتح الأسفل فإذا الأرض سوداء مظلمة. ونودي: أيها الطاغية إلى أين تريد؟
وقال عكرمة: كان معه في التابوت غلام، قد حمل قوسا ونشابا، فرمى بسهم، فعاد إليه السهم ملطخا بدم سمكة، قذفت بنفسها من بحر في الهواء، وقيل بدم طائر أصابه السهم. فقال: كفيت إله السماء. قال: ثم إن النمرود، أمر صاحبه أن يصوب الخشبات، وينكس اللحم ففعل، فهبطت النسور بالتابوت، فسمعت الجبال هفيف التابوت والنسور، ففزعت وظنت أنه قد حدث حادث من لسماء، وأن الساعة قد قامت، فكادت تزول عن أماكنها. فذلك قوله تعالى: {وَإِنْ كََانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبََالُ} (1) قرأ ابن مسعود رضي الله عنه إن كاد بالدال المهملة وقرأ العامة بالنون وقرأ ابن جريج والكسائي لتزول بفتح اللام الأولى ورفع الثانية، وقرأ العامة بكسر اللام الأولى ونصب الثانية. قال الجوهري: نسر صنم لذي الكلاع بأرض حمير، وكان يغوث لمذحج، ويعوق لهمدان من أصنام قوم نوح عليه السلام. قال الله تعالى: {وَلََا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً} (2) انتهى.
وإلى هذا أشار العباس رضي الله تعالى عنه، عم النبي صلى الله عليه وسلم، لما أتى النبي صلى الله عليه وسلم منصرفه من تبوك، فقال: يا رسول الله إني أريد أن أمتدحك، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قل لا يفضض الله فاك». فأنشد العباس رضي الله تعالى عنه يقول:
من قبلها طبت في الظلال وفي ... مستودع حيث يخصف الورق
ثم هبطت البلاد لا بشر ... أنت ولا مضغة ولا علق
بل نطفة تركب السفين وقد ... ألجم نسرا وأهله الغرق
تنقل من صالب إلى رحم ... إذا مضى عالم بدا طبق
وردت نار الخليل مكتتما ... في صلبه أنت كيف يحترق
حتى احتوى بيتك المهيمن من ... خندق علياء تحتها النطق
وأنت لما ولدت أشرقت الأرض ... وضاءت بنورك الأفق
فنحن في ذلك الضياء وفي النور ... وسبل الرشاد نخترق
تتمة
: روى الدارقطني، عن عقبة بن عامر الجهني، رضي الله تعالى عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لما عرج بي إلى السماء الدنيا، دخلت جنة عدن، فوقعت في يدي تفاحة، فلما وضعتها في يدي انقلبت حوراء عيناء مرضية، أشفار عينها كمقادم النسور، فقلت لها: لمن أنت؟
فقالت: للخليفة بعدك».
الحكم
: يحرم أكله لاستخباثه، وأكله الجيف.
__________
(1) سورة إبراهيم: آية 46.
(2) سورة نوح: آية 23.(1/476)
الأمثال
: قالوا: «أعمر من نسر» (1) وقالوا: «أتى الأبد على لبد» (2) وهذا اللبد الذي هو آخر نسور لقمان بن عاد.
وكان لقمان بن عاد الأصغر، قد سيره قومه، وهم عاد الذين ذكرهم الله في كتابه العزيز، إلى الحرم يستسقي لهم، ومعه رهط من قومه، فلما قدموا مكة نزلوا على معاوية بن بكر، وهو بظاهر مكة خارج الحرم، فأنزلهم وأكرمهم، وكانوا أخواله وأصهاره، فأقاموا عنده شهرا، وكان مسيرهم شهرا. فلما رأى معاوية بن بكر طول مقامهم، وقد بعثهم قومهم يتغوثون لهم، من البلاء الذي أصابهم، شق ذلك عليه، فقال: هلك أخوالي وأصهاري، وهؤلاء مقيمون عندي، وهم ضيفي، والله ما أدري كيف أصنع بهم. فشكا ذلك من أمرهم إلى قينتيه الجرادتين فقالتا: قل شعرا لا يدرون من قاله، لعل ذلك يحركهم! فقال شعرا يؤنبهم فيه ويذكرهم الأمر الذي وفدوا لأجله، فلما غنتهم الجرادتان شعره، قال بعضهم لبعض: إنما بعثكم قومكم يتغوثون بكم من البلاء الذي نزل بهم وقد أبطأتم عليهم، فادخلوا هذا الحرم فاستسقوا لقومكم.
فقال مرثد بن سعد، وكان قد آمن بهود عليه الصلاة والسلام سرا: إنكم والله لا تسقون بدعائكم، ولكن إن أطعتم نبيكم، وأنبتم إلى ربكم سقيتم. فأظهر إسلامه عند ذلك، وقال شعرا يذكر فيه إسلامه. فقالوا لمعاوية بن بكر: احبس عنا مرثد بن سعد، فلا يقدمن معنا مكة، فإنه قد اتبع دين هود وترك ديننا.
ثم خرجوا إلى مكة يستسقون لعاد، فلما ولوا إلى مكة خرج مرثد بن سعد من منزل معاوية بن بكر، حتى أدركهم قبل أن يدعوا الله بشيء مما خرجوا له، فلما انتهى إليهم، قام يدعو الله، ووفد عاد يدعون. فقال: اللهم أعطني سؤلي وحدي ولا تدخلني في شيء مما يدعوك به وفد عاد.
وكان قيل بن عتر رأس وفد عاد، فقال وفد عاد: اللهم اعط ما سألك، واجعل سؤلنا مع سؤله. فقال قيل: يا إلهنا إن كان هود صادقا، فاسقنا فإنا قد هلكنا. فأنشأ الله سحائب ثلاثا:
بيضاء وحمراء وسوداء. ثم ناداه مناد من السحاب: يا قيل، اختر لنفسك وقومك من هذه السحائب، فقال قيل: اخترت السحابة السوداء، فإنها أكثر السحائب ماء، فناداه مناد: اخترت رمادا رمدا لا يبقي من آل عاد أحدا.
وساق الله السحابة السوداء التي اختارها قيل، بما فيها من النقمة، إلى عاد حتى خرجت عليهم من واد يقال له المغيث، فلما رأوها استبشروا وقالوا: هذا عارض ممطرنا، يقول الله عز وجل: {بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهََا عَذََابٌ أَلِيمٌ} الآية (3).
وكان أول من أبصر ما فيها، وعرف أنها ريح مهلكة، امرأة من عاد، يقال لها مهدو، فلما تبينت ما فيها صاحت ثم صعقت، فلما أفاقت، قالوا لها: ماذا رأيت؟ قالت: رأيت ريحا فيها كشهب النار، أمامها رجال يقودونها فسخرها الله عليهم سبع ليال وثمانية أيام حسوما فلم تدع من عاد أحدا إلا أهلكته. واعتزل هود ومن معه من المؤمنين في حظيرة، ما يصيبه ومن معه، من
__________
(1) جمهرة الأمثال: 2/ 66.
(2) جمهرة الأمثال: 1/ 105.
(3) سورة الأحقاف: آية 24.(1/477)
الريح إلا ما يلين عليهم ويلذ الأنفس، وإنها لتمر من عاد بالظعن، فتحملهم بين السماء والأرض وتدمغهم بالحجارة حتى هلكوا عن آخرهم. فلما هلكت عاد خير لقمان بين أن يعيش عمر سبع بقرات سمر من أظب عفر، في جبل وعر لا يمسها القطر، أو عمر سبعة أنسر، كلما هلك نسر خلف من بعده نسر، وكان قد سأل الله تعالى طول العمر، فاختار النسور فكان يأخذ الفرخ حين خروجه من البيضة فيربيه فيعيش ثمانين سنة، هكذا حتى هلك منها ستة فسمى السابع لبدا. فلما كبر وهرم وعجز عن الطيران، كان يقول له لقمان: انهض لبد، فلما هلك لبد مات لقمان.
وروي أن الله تعالى أمر الريح فهالت عليهم الرمال، فكانوا تحت الرمل سبع ليال وثمانية أيام، لهم أنين تحت الرمل، ثم أمر الله الريح فكشفت عنهم الرمل، وأرسل طير أسود، فنقلتهم إلى البحر فألقتهم فيه، ولم تخرج ريح قط إلا بمكيال إلا يومئذ، فإنها عتت عن الخزنة فغلبتهم فلم يعلموا كم كان مكيالها.
وفي الحديث أنها خرجت على قدر خرم الخاتم.
وروي عن علي رضي الله تعالى عنه، أنه قال: إن قبر نبي الله هود عليه الصلاة والسلام بحضر موت، في كثيب أحمر.
وقال عبد الرحمن بن سابط: بين الركن والمقام وزمزم اقبر تسعة وتسعين نبيا منهم هود وشعيب وصالح واسماعيل صلى الله عليهم وسلم. وقد ذكرت العرب لبدا في أشعارها كثيرا فمن ذلك قول (1) النابغة الذبياني:
أضحت خلاء وأضحى أهلها احتملوا ... أخنى عليها الذي أخنى على لبد
وقد تقدم ما قاله الشاعر في ذكر لبد في باب اللام.
الخواص
: إذا جعل قلب النسر في جلد ذئب، وعلق على إنسان، كان محبوبا مهابا مقضي الحاجة عند السلطان وغيره، ولا يضره سبع أبدا. وإن عسر وضع امرأة فوضع تحتها ريشة من ريشه أسرعت الولادة. وإذا أخذ عظم كبير من عظامه وعلق على من يخدم الملوك والسلاطين أمن غضبهم، وكان محبوبا عندهم. وعظم فخذه الأيسر إن علق على من به سجج قديم نفعه وأبرأه.
وعقب ساقه إن علق على من به النقرس أبرأه الأيمن للأيمن والأيسر للأيسر. وإن دخن بريشة من ريشه في بيت فيه هوام طردها، ولم يبق فيه شيء منها. وكبده إذا شويت واحترقت وشربت نفعت للباه منفعة عظيمة. وإن أخذ بيضه وضرب بعضه ببعض حتى يختلط، ويمسح به الإحليل ثلاثة أيام قوي قوة عجيبة. ومرارته تنفع من الماء النازل في العين إذا اكتحل بها سبع مرات بماء بارد، وطلي بها حول العين. وإن علق فكه الأعلى على عنق إنسان في خرقة لم يقربه شيء من الهوام.
التعبير
: النسر في المنام ملك فمن رأى نسرا نازعه، فإن سلطانا يغضب عليه ويوكل به ظالما، لأن سليمان عليه الصلاة والسلام وكل النسر على الطير، فكانت تخافه.
__________
(1) ديوان النابغة: 20.(1/478)
ومن ملك نسرا مطاعا أصاب ملكا عظيما، ومن ملك نسرا فطار به، وهو لا يخافه، فإنه يعلو أمره ويصير جبارا عنيدا لما تقدم عن النمرود. ومن أصاب فرخ نسر ولد له ولد يكون عظيما هاديا، فإن رأى ذلك نهارا، فإنه يمرض، فإن خدشه ذلك الفرخ طال مرضه. ورؤية النسر المذبوح تدل على موت ملك من الملوك. ومن رأى النسر من النساء الحوامل فإنها ترى المراضع والدايات.
وقالت اليهود: النسر يفسر بالأنبياء الصالحين، لأن في التوراة شبه الصالحين بالنسر، الذي يعرف وطنه ويرفرف على فراخه ويزقها. وقال ابراهيم الكرماني: النسر يعبر بأكبر الملوك لأن الله تعالى خلق ملكا على صورته، وهو موكل بأرزاق الطير. وقال جاماست: من رأى نسرا أو سمع صياحه، خاصم إنسانا.
وقال ابن المقري: من ملك نسرا أو تحكم عليه نال عزا وسلطانا ونصرة على أعدائه، وعاش عمرا طويلا فإن كان الرائي من أهل الجهد والاجتهاد انقطع عن الناس واعتزلهم، وعاش منفردا لا يأوي إلى أحد. وإن كان ملكا انتصر على أعدائه، وربما صالحهم وأمن شرهم ومكايدهم وانتفع بما عندهم من السلاح والمال، وإن كان من عوام الناس نال منزلة تليق به أو مالا وانتصر على أعدائه. وربما دلت رؤية النسر على البدعة والضلالة عن الهدى، نعوذ بالله من ذلك لقوله (1) تعالى: {وَلََا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيراً}. ورؤية المؤنث منها نساء خواطىء، وصغار أولاد زنا، وكذلك العقاب. قال: وربما دلت رؤيتها على الموت لاقتناصها الأرواح، وأكلها الميتة والجيفة. وربما دل النسر على الغيرة على العيال والله تعالى أعلم.
النساف:
بفتح النون وتشديد السين طائر له منقار كبير، قاله ابن سيده.
النسناس:
قال في المحكم هو خلق في صورة الناس مشتق منهم لضعف خلقهم، وقال في الصحاح: هو جنس من الخلق يثب أحدهم على رجل واحدة انتهى.
وقال المسعودي، في مروج الذهب: إنه حيوان كالإنسان له عين واحدة، يخرج من الماء ويتكلم. ومتى ظفر بالإنسان قتله. وفي كتاب القزويني، قال في الأشكال: إنه أمة من الأمم، لكل واحد منهم نصف بدن ونصف رأس ويد ورجل، كأنه إنسان شق نصفين يقفز على رجل واحدة قفزا شديدا، ويعدو عدوا شديدا منكرا ويوجد في جزائر بحر الصين.
وفي المجالسة للدينوري، عن ابن قتيبة عن عبد الرحمن بن عبد الله أنه قال: قال ابن اسحاق: النسناس خلق باليمن، لأحدهم عين ويد ورجل، يقفز بها، وأهل اليمن يصطادونهم فخرج قوم لصيدهم، فرأوا ثلاثة نفر منهم، فأدركوا واحدا منهم فعقروه وتوارى اثنان في الشجر، فذبح الذي عقر فقال أحدهم لصاحبه: إنه لسمين، فقال أحد الإثنين: إنه كان يأكل الضرو فأخذوه فذبحوه. فقال الذي ذبحه: ما أنفع الصمت! فقال الثالث: فأنا الصميت فأخذوه فذبحوه.
__________
(1) سورة نوح: آية 24.(1/479)
قال ابن سيده: الضر والبطم، وهو شجر الحبة الخضراء، كذا يسميه أهل اليمن.
وقال الميداني، في باب الهمزة من الأمثال: قال أبو الدقيس: إن الناس كانوا يأكلون النسناس، وهم قوم لكل منهم يد ورجل ونصف رأس ونصف بدن يقال: إنهم من نسل أرم بن سام أخي عاد وثمود ليست لهم عقول، يعيشون في الآجام على ساحل بحر الهند والعرب، يصطادونهم ويأكلونهم وهم يتكلمون بالعربية، ويتناسلون ويتسمون بأسماء العرب، ويقولون الأشعار. وفي تاريخ صنعاء أن رجلا تاجرا سافر إلى بلادهم، فرآهم يثبون على رجل واحدة، ويصعدون الشجر، ويفرون من الكلاب خوفا أن تأخذهم وسمع واحدا منهم يقول:
فررت من خوف الشراة شدّا ... إذ لم أجد من الفرار بدّا
قد كنت قدما في زماني جلدا ... فها أنا اليوم ضعيف جدا
وروى أبو نعيم، في الحلية عن ابن أبي مليكة عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، أنه قال: ذهب الناس وبقي النسناس. قيل: ما النسناس؟ قال: الذين يتشبهون بالناس، وليسوا بالناس.
وفي المجالسة للدينوري، من كلام الحسن البصري، أنه قال: ذهب الناس وبقي النسناس، لو تكاشفتم ما تدافنتم. وهو في الفائق ونهاية ابن الأثير وغريب الهروي عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه. وقيل: النسناس يأجوج ومأجوج. وقيل: خلق على صورة الناس أشبهوهم في شيء وخالفوهم في شيء وليسوا من بني آدم.
ومنه الحديث «ان حيا من عاد عصوا نبيهم فمسخهم الله نسناسا، لكل واحد منهم يد ورجل من شق واحد، ينقرون كما ينقر الطير، ويرعون كما ترعى البهائم». ونونها الأولى مكسورة وقد تفتح. وروى أحمد في الزهد، عن مطرف بن عبد الله أنه قال: عقول الناس على قدر زمانهم. وقال: هم الناس والنسناس وأناس غمسوا في ماء الناس. قال الكريمي: سمعت أبا نعيم يقول: كثيرا ما يعجبني قول عائشة رضي الله تعالى عنها:
ذهب الذين يعاش في أكنافهم
لكن أبا نعيم يقول:
ذهب الناس فاستقلوا وصاروا ... خلفا في أراذل النسناس
في أناس نعدّهم من عديد ... فإذا فتّشوا فليسوا بناس
كلما جئت أبتغي النيل منهم ... بدروني قبل السؤال بياس
وبلوني حتى تمنيت أني ... منهم قد أقلت رأسا براس
الحكم
: قال القاضي أبو الطيب والشيخ أبو حامد: لا يحل أكل النسناس لأنه على خلقة الناس. ولذلك قال الشيخ محب الدين الطبري، في شرح التنبيه: وأما هذا الحيوان، الذي تسميه العامة بالنسناس، فهو نوع من القردة، لا يعيش في الماء فينبغي تحريم أكله، لأنه يشبه القردة في
الخلقة والخلق والذكاء والفطنة. وأما الحيوان البحري منه ففي حكمه وحل أكله وجهان: أحدهما يحل كغيره من السمك، واختاره الروياني وغيره.(1/480)
: قال القاضي أبو الطيب والشيخ أبو حامد: لا يحل أكل النسناس لأنه على خلقة الناس. ولذلك قال الشيخ محب الدين الطبري، في شرح التنبيه: وأما هذا الحيوان، الذي تسميه العامة بالنسناس، فهو نوع من القردة، لا يعيش في الماء فينبغي تحريم أكله، لأنه يشبه القردة في
الخلقة والخلق والذكاء والفطنة. وأما الحيوان البحري منه ففي حكمه وحل أكله وجهان: أحدهما يحل كغيره من السمك، واختاره الروياني وغيره.
والثاني يحرم كما تقدم، وبه قال الشيخ أبو حامد والقاضي أبو الطيب، وهو عندهما مستثنى مما عدا السمك، مما لا يعيش إلا في الماء. وترتيب الخلاف فيه: أنا إذا قلنا بتحريم ما عدا الحوت، حرم النسناس. وإن قلنا بإباحته، ففي النسناس وجهان: أحدهما التحريم كالضفدع والسرطان والتمساح. والثاني الحل ككلب الماء وإنسانه. وهذا هو الأقرب إلى نص الشافعي.
ويشهد له قول صاحب المحكم، وقول كراع في البحر المتقدم. والنسناس، فيما يقال، دابة في عداد الوحش، تصاد وتؤكل. وهو على شكل الإنسان بعين واحدة، ورجل واحدة، ويد واحدة، يتكلم كالانسان انتهى. فأفاد قوله أنها تصاد وتؤكل أنها مستطابة، وقد تقدم عن الدينوري عن أبي اسحاق أن النسناس يصاد ويؤكل. وقاله الميداني أيضا كما تقدم.
التعبير
: هو في الرؤيا رجل قليل العقل يهلك نفسه ويفعل فعلا يسقطه من أعين الناس والله أعلم.
النسنوس:
طائر يأوي الجبال، له هامة كبيرة.
النضو:
بالكسر البعير المهزول، والناقة نضوة والجمع فيهما أنضاء. وقد أنضتها الأسفار فهي منضاة وأنضى فلان بعيره أي أهزله، وقد أحسن الوزير مؤيد الدين أبو اسماعيل الحسين بن علي الطغرائي صاحب لامية العجم، وكان من أفراد الدهر، وحامل لواء النظم والنثر، في قوله:
يقتلن أنضاء حبّ لا حراك به ... وينحرون كرام الخيل والإبل
وأحسن الشارح لكلامه الشيخ صلاح الدين الصفدي في ذكره العددين المتحابين هنا، وهما المائتان والعشرون، فإنه عدد زائد أجزاؤه أكثر منه، لأنها إذا جمعت كانت مائتين وأربعة وثمانين بغير زيادة ولا نقصان، والمائتان والأربعة والثمانون عدد ناقص أجزاؤه أقل منه، لأنها إذا جمعت كانت جملتها مائتين وعشرين. فكل من العددين المتحابين أجزاؤه مثل الآخر.
بيان ذلك أن العدد التام هو الذي إذا جمعت أجزاؤه كانت مثله، وهو الستة، فإن أجزاءها البسيطة الصحيحة: النصف وهو ثلاثة، والثلث هو اثنان، والسدس وهو واحد. والعدد الناقص ما إذا جمعت أجزاؤها البسيطة الصحيحة كانت أقل منه، كالثمانية فإن أجزاءها النصف والربع والثمن. وهي سبعة.
والعدد الزائد ما إذا جمعت أجزاؤه زادت عليه كالإثنى عشر فمجموع أجزائها ستة عشر، وهي تزيد على الأصل. والمائتان والعشرون لها نصف، وهو مائة وعشرة، وربع وهو خمسة وخمسون، وخمس وهو أربع وأربعون، وعشر وهو اثنان وعشرون، ونصف عشر وهو أحد عشر، وجزء من أحد عشر وهو عشرون، وجزء من اثنين وعشرين وهو عشرة، وجزء من أربع وأربعين
وهو خمسة، وجزء من خمسة وخمسين وهو أربعة، وجزء من مائة وعشرة وهو اثنان، وجزء من مائتين وعشرين وهو واحد. وجملة ذلك مائتان وأربعة وثمانون. والمائتان والأربعة والثمانون ليس لها إلا نصف وهو مائة واثنان وأربعون، وربع وهو أحد وسبعون، وجزء من أحد وسبعين وهو أربعة، وجزء من مائة واثنين وأربعين هو اثنان، وجزء من مائتين وأربعة وثمانين وهو واحد، وجملة ذلك من الأجزاء الصحيحة مائتان وعشرون.(1/481)
والعدد الزائد ما إذا جمعت أجزاؤه زادت عليه كالإثنى عشر فمجموع أجزائها ستة عشر، وهي تزيد على الأصل. والمائتان والعشرون لها نصف، وهو مائة وعشرة، وربع وهو خمسة وخمسون، وخمس وهو أربع وأربعون، وعشر وهو اثنان وعشرون، ونصف عشر وهو أحد عشر، وجزء من أحد عشر وهو عشرون، وجزء من اثنين وعشرين وهو عشرة، وجزء من أربع وأربعين
وهو خمسة، وجزء من خمسة وخمسين وهو أربعة، وجزء من مائة وعشرة وهو اثنان، وجزء من مائتين وعشرين وهو واحد. وجملة ذلك مائتان وأربعة وثمانون. والمائتان والأربعة والثمانون ليس لها إلا نصف وهو مائة واثنان وأربعون، وربع وهو أحد وسبعون، وجزء من أحد وسبعين وهو أربعة، وجزء من مائة واثنين وأربعين هو اثنان، وجزء من مائتين وأربعة وثمانين وهو واحد، وجملة ذلك من الأجزاء الصحيحة مائتان وعشرون.
فقد ظهر بهذا المثل تحاب العددين. وأصحاب الخواص يزعمون أن لذلك خاصية عجيبة في المحبة إذا جعل العدد الأقل والعدد الأكثر في شيء من المأكول وأطعم لمن يريد محبته ويجمع هذين العددين قولك: (فردكر) قال الشارح: وكنت بخلت بهذه الفائدة أن أودعها هذا الكتاب، ثم رأيت إثباتها فيه والله أعلم.
النعاب:
في فتاوى ابن الصلاح أنه اللقلق.
وحكمه
: تحريم الأكل على الأصح كما تقدم والمعروف أنه الغراب. يقال: نعب الغراب وغيره ينعب نعبا ونعيبا ونعابا وتنعابا ونعبانا، إذا صوت وقيل: إذا مد عنقه وحرك رأسه وصوت.
وفي المجالسة للدينوري، في أوائل الجزء العاشر، عن الأخوص بن حكيم قال: كان من دعاء داود عليه الصلاة والسلام: يا رازق النعاب في عشه، قال: وذلك أن الغراب إذ فقس عن فراخه، خرجت بيضا، فإذا رآها كذلك نفر عنها، فتفتح أفواهها فيرسل الله تبارك وتعالى لها ذبابا يدخل في أجوافها، فيكون ذلك غذاء لها حتى تسود، فإذا اسودت عاد الغراب فغذاها، ويرفع الله تعالى الذباب عنها. وكذلك ذكره صاحب كتاب الحجة لبيان المحجة وغيره، عن مجاهد وغيره. وقد تقدم في باب الحاء المهملة، في لفظ الحمار الوحشي أن الحريري أشار إلى ذلك في المقامة الثالثة عشر بقوله:
يا رازق النعاب في عشّه ... وجابر العظم الكسير المهيض
أتح لنا اللهم من عرضه ... من دنس الذمّ نقى رحيض
والذي رويناه في كتاب الترمذي، عن أبي الدرداء رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «كان من دعاء داود عليه السلام: «اللهم إني أسألك حبّك وحبّ من يحبك، والعمل الذي يبلغني حبك، اللهم اجعل حبك أحب إلي من نفسي ومن أهلي ومن الماء البارد» (1). قال: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذا ذكر داود عليه السلام، يقول: «كان أعبد البشر». قال الترمذي: هذا حديث حسن.
وروينا في كتاب حلية الأولياء، عن الفضيل بن عياض، رحمه الله، قال: قال داود عليه السلام: إلهي كن لابني سليمان كما كنت لي، فأوحى الله تبارك وتعالى إليه: يا داود قل لابنك سليمان، يكن لي كما كنت لي، حتى أكون له كما كنت لك.
وهذا الدعاء الذي رواه الترمذي، عن داود عليه السلام، روي أيضا نحوه عن نبينا صلى الله عليه وسلم،
__________
(1) رواه الترمذي: دعوات 72.(1/482)
من حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه، قال (1): احتبس عنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات غداة عن صلاة الصبح، حتى كدنا نتراءى عين الشمس، فخرج سريعا فثوب بالصلاة، فصلى وتجوز في صلاته، فلما سلم دعا بصوته فقال لنا: «على مصافكم كما أنتم». ثم انفتل إلينا فقال: «أما اني سأحدثكم ما حبسني عنكم الغداة، إني قمت من الليل فتوضأت وصليت ما قدر لي، فنعست في صلاتي حتى استثقلت، فإذا أنا بربي تعالى في أحسن صورة، فقال: يا محمد. فقلت: لبيك ربي. قال: فيم يختصم الملأ الأعلى؟ قلت: رب لا أدري. قال تعالى: «في الكفارات والدرجات». وفي رواية «قلت: في الكفارات والدرجات». قال: فما هن؟ قلت: مشي الأقدام إلى الجماعات، والجلوس في المساجد بعد الصلوات، وإسباغ الوضوء على المكروهات. قال: ثم فيم؟ قلت: في اطعام الطعام، ولين الكلام، والصلاة بالليل، والناس نيام. قال: سل. قلت: اللهم إني أسألك فعل الخيرات، وترك المنكرات، وحب المساكين، وأن تغفر لي وترحمني، وإذا أردت بعبادك فتنة فاقبضني إليك غير مفتون، أسألك حبك وحب من يحبك، وحب كل عمل يقربني إلى حبك».
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنها حق فادرسوها ثم تعلموها». قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح.
النعام:
معروف، يذكر ويؤنث، وهو اسم جنس مثل حمام وحمامة، وجراد وجرادة، وتجمع النعامة على نعامات. ويقال لها أم البيض وأم ثلاثين، وجماعتها بنات الهيق، والظليم ذكرها. قال الجاحظ: والفرس يسمونها اشتر مرغ، وتأويله بعير وطائر. قال (2) الشاعر:
ومثل نعامة تدعى بعيرا ... تعاصينا إذا ما قيل طيري
فإن قيل احملي قالت: فإني ... من الطير المرفّه في الوكور
قال: ويقال لقدم البعير خف، والجمع خفاف ومنسم والجمع مناسم. وكذلك يقال في النعامة ويقال لأنثى النعام قلوص، كما يقال ذلك في الإبل، وإنما قالوا ذلك لما رأوا فيها من شبه الإبل.
قال: وتزعم الأعراب، أن النعامة ذهبت تطلب قرنين، فقطعوا أذنيها، فلذلك سميت بالظليم انتهى. وكأنهم إنما سموها ظليما لأنهم ظلموها، حين قطعوا أذنيها ولم يعطوها ما طلبت، وهذا بناء على اعتقادهم الفاسد.
والنعامة صمعاء، يقال: خرج السهم متصمعا إذا ابتلت قذذه من الدم. ويقال: أتانا بثريدة متصمعة إذا دققها وحدد رأسها، وصومعة الراهب منه، لأنها دقيقة من أعلى الرأس، ورجل أصمع القلب إذا كان حديدا ماضيا، ويقال للرجل أيضا إذا كان قصير الأذنين لاصقتين بالرأس أصمع، والمرأة صمعاء وبنو أصمع قبيلة من العرب منهم الأصمعي، واسمه عبد الملك بن قريب، وهو صاحب لغة ونحو وشعر ونوادر. فمن نوادره أنه قال: مررت في بعض سكك الكوفة، فإذا برجل قد خرج من حش على كتفه جرة وهو يقول:
وأكرم نفسي أنني إن أهنتها ... وحقّك لم تكرم على أحد بعدي
فقلت له: أتكرمها بمثل هذا؟ قال: نعم واستغني عن سفلة مثلك، إذا سألته قال: صنع الله بك
__________
(1) رواه مالك في الموطأ: قرآن 40.
(2) عيون الأخبار: 2/ 101ونسبته إلى يحيى بن نوفل الحميري.(1/483)
وترك. فقلت: تراه عرفني. فأسرعت فصاح بي يا أصمعي فالتفت فقال:
لنقل الصخر من قلل الجبال ... أحبّ إلي من منن الرجال
يقول الناس: كسب فيه عار ... وكلّ العار في ذلّ السؤال
وقال الأصمعي: سألت أعرابية عن ولد لها كنت أعرفه، فقالت: مات وأنسى المصائب. ثم قالت:
وكنت أخاف الدهر ما كان آمنا ... فلما تولّى مات خوفي من الدهر
وقال: قلت لرجل من الأعراب أعرفه بالكذب: أصدقت قط؟ فقال: لولا أني أصدق في هذا لقلت: لا. وقال الأصمعي للكسائي، وهما عند الرشيد: ما معنى قول (1) الراعي؟
قتلوا ابن عفان الخليفة محرما ... ودعا فلم أر مثله مخذولا
فقال الكسائي: كان محرما بالحج. فقال الأصمعي: فما أراد عدي بن زيد بقوله (2):
قتلوا كسرى بليل محرما ... فمضى فلم يمتع بكفن
فهل كان محرما بالحج وأي إحرام لكسرى؟ فقال الرشيد للكسائي: يا علي إذا جاء الشعر فإياك والأصمعي. وروي أن الرشيد قال للأصمعي: ما أحسن ما مر بك في تقويم اللسان؟ قال:
أوصى رجل بعض بنيه فقال: يا بني أصلحوا من ألسنتكم، فإن الرجل تنوبه النائبة، فيتحمل فيها فيستعير من أخيه وأبيه ومن صديقه ثوبه، ولا يجد من يعيره لسانه، وأنشد (3) في ذلك:
وما حسن الرجال لهم بزين ... إذا لم يسعد الحسن اللسان
كفى بالمرء عيبا أن تراه ... له وجه ليس له لسان
ويروى عن الأصمعي أنه قال: وجدني أبو عمرو بن العلاء مارا في بعض أزقة البصرة فقال:
إلى أين يا أصمعي؟ فقلت: لزيارة بعض إخواني. فقال: يا أصمعي إن كان لفائدة أو عائدة، وإلا فلا. وقد أنشدني في ذلك يوسف الحلبي:
يا أيها الإخوان أوصيكم ... وصية الوالد والوالده
لا تنقلوا الأقدام إلّا إلى ... من لكم عنده فائده
إما لعلم تستفيدونه ... أو لكريم عنده مائده
وكان من كلام الأصمعي: خير العلم ما أطفأت به الحريق، وأخرجت به الغريق. وكان يقول:
أحفظ ستة عشر ألف أرجوزة، فيها ما عدد أبياتها المائة والمائتان. ومن عجيب ما يحكى قال أبو العيناء: كنا في جنازة الأصمعي، فحدثني أبو قلابة (4) الشاعر، وأنشدني (5) لنفسه:
__________
(1) ديوانه: 231.
(2) وفيات الأعيان: 3/ 170.
(3) عيون الأخبار: 2/ 185.
(4) أبو قلابة: عبد الله بن زيد بن عمرو عالم بالقضاء والأحكام. مات بالشام سنة 104هـ.
(5) البيتان في وفيات الأعيان: 3/ 176.(1/484)
لعن الله أعظما حملوها ... نحو دار البلى على خشبات
أعظما تبغض النبي وأهل ... البيت والطيبين والطيبات
قال: ثم حدثني (1) أبو العالية الشاعر وأنشدني لنفسه أيضا:
لا درّ درّ نبات الأرض إذ فجعت ... بالأصمعي لقد أبقت لنا أسفا
عش ما بدا لك في الدنيا فلست ترى ... في الناس منه ولا من علمه خلفا
وكانت وفاة الأصمعي في سنة ست عشرة مائتين بالبصرة.
والنعام، عند المتكلمين على طبائع الحيوان، ليست بطائر وإن كانت تبيض، ولها جناح وريش، ويجعلون الخفاش طيرا، وإن كان يحبل ويلد، وله أذنان بارزتان، وليس له ريش لوجود الطيران فيه، ومراعاة لقوله تعالى: {وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي} (2) وهم يسمون الدجاجة طيرا، وإن كانت لا تطير. وظن بعض الناس، أن النعامة متولدة من جمل وطائر، وهذا لا يصح. ومن أعاجيبها أنها تضع بيضها طولا، بحيث لو مد عليها خيط، لاشتمل على قدر بيضها، ولم تجد لشيء منه خروجا عن الآخر، ثم إنها تعطي كل بيضة منه نصيبها من الحضن، إذ كان كل بدنها لا يشتمل على عدد بيضها. وهي تخرج لعدم الطعم، فإن وجدت بيض نعامة أخرى، تحضنه وتنسى بيضها، ولعلها أن تصاد فلا ترجع إليه، ولهذا توصف بالحمق، ويضرب بها المثل في ذلك قال (3) ابن هرمة:
فإني وتركي ندى الأكرمين ... وقد حي بكفي زنادا شحاحا
كتاركة بيضها بالعراء ... وملبسة بيض أخرى جناحا
ويقال إنها تقسم بيضها أثلاثا: فمنه ما تحضنه، ومنه ما تجعل صفاره غذاء، ومنه ما تفتحه وتجعله في الهواء حتى يتعفن، ويتولد منه دود، فتغذي بها فراخها إذا خرجت.
قال في الكفاية: يقال عار الظليم إذا صاح، والزمار صياح الأنثى. وقال ابن قتيبة: يقال عريعر للذكر، والأنثى زمر زمارا انتهى. وقد سمى الحريري، في المقامات، النعامة باسم صوتها. فقال: ما تقول فيمن أتلف زمارة في الحرم؟ قال: عليه بدنة من النعم.
روي عن كعب الأحبار قال: لما أهبط الله تعالى آدم عليه الصلاة والسلام، جاءه ميكائيل بشيء من حب الحنطة، وقال: هذا رزقك، ورزق أولادك من بعدك، قم فاحرث الأرض، وابذر الحب. قال: ولم يزل الحب من عهد آدم عليه السلام، إلى زمن إدريس عليه السلام، كبيضة النعامة، فلما كفر الناس نقص إلى بيضة الدجاجة، ثم إلى بيضة الحمامة، ثم إلى قدر البندقة.
وكان في زمن العزيز على قدر الحمصة.
والنعام من الحيوان الذي يزاوج ويعاقب الذكر والأنثى في الحضن، وكل ذي رجلين، إذا
__________
(1) وفيات الأعيان: 3/ 176.
(2) سورة المائدة: آية 110.
(3) الحيوان للجاحظ: 1/ 199.(1/485)
انكسرت له أحداهما، استعان بالأخرى في نهوضه وحركته، ما خلا النعامة فإنها تبقى في مكانها جاثمة حتى تهلك جوعا قال (1) الشاعر:
إذا انكسرت رجل النعامة لم تجد ... على أختها نهضا ولا بأستها حبوا
وليس للنعام حاسة السمع، ولكن له شم بليغ، فهو يدرك بأنفه، ما يحتاج فيه إلى السمع، فربما شم رائحة القناص من بعد، ولذلك تقول العرب: «هو أشم (2) من نعامة»، كما تقول: «هو أشم (3) من ذرة». قال ابن خالويه، في كتابه: ليس في الدنيا حيوان لا يسمع ولا يشرب الماء أبدا إلا النعام. ولا مخ له ومتى دميت رجل واحدة له لم ينتفع بالباقية. والضب أيضا لا يشرب، ولكنه يسمع. ومن حمقها أنها إذا أدركها القناص أدخلت رأسها في كثيب رمل، تقدر أنها قد استخفت منه، وهي قوية الصبر على ترك الماء، وأشد ما يكون عدوها إذا استقبلت الريح، وكلما اشتد عصوفها، كانت أشد عدوا وتبتلع العظم الصلب والحجر والمدر والحديد فتذيبه وتميعه كالماء.
قال الجاحظ: من زعم أن جوف النعام إنما يذيب الحجارة، لفرط الحرارة، فقد أخطأ.
ولكن لا بد مع الحرارة من غرائز أخر، بدليل أن القدر يوقد عليها الأيام ولا تذيب الحجارة. وكما أن جوفي الكلب والذئب يذيبان العظم، ولا يذيبان نوى التمر، وكما أن الإبل تأكل الشوك وتقتصر عليه، وإن كان شديدا كالسمر، وهو شجر أم غيلان، وتلقيه روثا، وإذا أكلت الشعير ألقته صحيحا انتهى.
وإذا رأت النعامة في أذن صغير لؤلؤة أو حلقة اختطفتها. وتبتلع الجمر فيكون جوفها هو العامل في إطفائه ولا يكون الجمر عاملا في إحراقه، وفي ذلك أعجوبتان إحداهما التغذي بما لا يتغذى به، والثانية الاستمراء والهضم، وهذا غير منكر، لأن السمندل يبيض ويفرخ في النار كما تقدم. وأما قول الحريري في المقامة السادسة: فقلدوه في هذا الأمر الزعامة، تقليد الخوارج أبا نعامه. فأبو نعامة هو قطري بن الفجاءة واسمه جعونة بن مازن المازني الخارجي، خرج زمن مصعب بن الزبير فبقي عشرين سنة يقاتل ويسلم عليه بالخلافة، وكان كلما سير إليه الحجاج جيشا يستظهر قطري عليه. ويروى أن شخصا قال للحجاج: أيها الأمير، فقال الحجاج: إنما الأمير قطري بن الفجاءة، الذي إذا ركب، ركب لركوبه عشرون ألفا لا يسألونه أين يريد! وكان قطري مقداما لا يهاب الموت، وفي ذلك يقول مخاطبا لنفسه وهي من أبيات الحماسة (4):
أقول لها وقد طارت شعاعا ... من الأبطال ويحك لا تراعي
لأنك لو سألت بقاء يوم ... على الأجل الذي لك لم تطاعي
فصبرا في مجال الموت صبرا ... فما نيل الخلود بمستطاع
ولا ثوب البقاء بثوب عزّ ... فيطوى عن أخي الخنع اليراع
__________
(1) عيون الأخبار: 2/ 100.
(2) جمهرة الأمثال: 1/ 458.
(3) جمهرة الأمثال: 1/ 458.
(4) ديوان الحماسة: 1/ 24.(1/486)
سبيل الموت غاية كلّ حيّ ... وداعيه لأهل الأرض داعي
ومن لا يغتبط يسأم ويهرم ... وتسلمه المنون إلى انقطاع
وما للمرء خير في حياة ... إذا ما عدّ من سقط المتاع
وهذه الأبيات تشجع أجبن خلق الله تعالى. ثم توجه إلى قطري سفيان بن الأبرد الكلبي، فظهر على قطري وقتله. ولا عقب لقطري، إنما قيل لأبيه الفجاءة، لأنه كان باليمن، فقدم على أهله فجاءة فسمي بها. كذا قال ابن خلكان وغيره.
الحكم
: يحل أكل النعام بالإجماع، لأنه من الطيبات، ولأن الصحابة رضي الله تعالى عنه قضوا فيه، إذا قتله المحرم أو في الحرم ببدنة. روي ذلك عن عثمان وعلي وابن عباس وزيد بن ثابت ومعاوية رضي الله عنهم. رواه الشافعي والبيهقي، ثم قال الشافعي: هذا غير ثابت عند أهل العلم بالحديث، وهو قول الأكثر ممن لقيت. وإنما قلنا في النعامة بدنة بالقياس لا بهذا.
واختلفوا في بيض النعام، إذا أتلفه المحرم أو في الحرم، فقال عمر وابن مسعود والشعبي والنخعي والزهري والشافعي وأبو ثور وأصحاب الرأي: تجب فيه القيمة. وقال أبو عبيدة وأبو موسى الأشعري: يجب فيه صيام يوم أو إطعام مسكين. وقال مالك: يجب فيه عشر ثمن البدنة كما في جنين الحرة غرة من عبد أو أمة قيمة عشر دية الأم. دليلنا أنه جزء من الصيد، لا مثل له من النعم، فوجبت قيمته، كسائر المتلفات التي لا مثل لها.
وأما حديث (1) أبي المهزم، الذي رواه ابن ماجه والدارقطني، عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «في بيض النعامة يصيبه المحرم ثمنه» فهو ضعيف باتفاق المحدثين، وبالغوا في تضعيفه حتى قال شعبة: أعطوه فلسا يحدثكم سبعين حديثا.
وقد تقدم ذكر أبي المهزم في الجراد أيضا، لكن في مراسيل أبي داود، من حديث عائشة رضي الله تعالى عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم حكم في بيض النعام، في كل بيضة صيام يوم. ثم قال أبو داود: أسند هذا الحديث والصحيح إرساله. واستدل له في المهذب، بأنه خارج من الصيد يخلق منه مثله، فضمن بالجزاء كالفرخ، فإن كسر بيضا لم يحل له أكله بلا خلاف.
وفي تحريمه على الحلال طريقان: أصحهما أنه لا يحرم، لأنه لا روح فيه، ولا يحتاج إلى ذكاة، فإن كسر بيضا مذرا لم يضمنه من غير النعامة، لأنه لا قيمة له، ويضمنه من النعامة لأن لقشره قيمة. وقال الشافعي: لا أكره لمن يعلم من نفسه في الحرب بلاء أن يعلم. والمراد بالإعلام أن يجعل في صدره ريش نعام، كما فعله حمزة رضي الله تعالى عنه يوم بدر، فإنه غرز ريش النعام في صدره. وفي كتاب مناقب الشافعي، للحاكم أبي عبد الله، بإسناده عن محمد بن اسحاق، عن المزني، قال: سئل الشافعي عن نعامة ابتلعت جوهرة لرجل آخر، فقال: لست آمره بشيء، ولكن إن كان صاحب الجوهرة كيسا عدا على النعامة فذبحها، واستخرج جوهرته ثم ضمن لصاحب النعامة ما بين قيمتها حية ومذبوحة.
__________
(1) رواه ابن ماجه: مناسك 90.(1/487)
الأمثال
: قالوا: «مثل النعامة لا طير ولا جمل» (1). يضرب لمن لم يحكم له بخير ولا شر، وقالوا: «أروى (2) من النعامة»، لأنها لا تشرب الماء، فإن رأته شربته عبثا. وقالوا: «ركب جناح نعامة» (3). يضرب لمن جد في أمر كانهزام أو غيره، وقد تقدم في باب السين، قول الشماخ في أبياته التي رثى بها عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه. قالت عائشة رضي الله تعالى عنها، لما كان آخر حجة حجها عمر بأمهات المؤمنين رضي الله تعالى عنهن: مررت بالمحصب فسمعت رجلا على راحلة قد رفع عقيرته فقال (4):
جزى الله خيرا من إمام وباركت ... يد الله في ذاك الأديم الممزق
فمن يسع أو يركب جناحي نعامة ... ليدرك ما قد مت بالأمس يسبق
قضيت أمورا ثم غادرت بعدها ... بوائق في أكمامها لم تفتق
فلم يدر ذلك الراكب من هو، وكنا نتحدث بأنه من الجن. فرجع عمر رضي الله تعالى عنه من تلك الحجة فطعن فمات. وقالوا: تكلم فلان «فجمع بين الأروى والنعامة» إذا تكلم بكلمتين مختلفتين، لأن الأروى يسكن الجبال، والنعامة تسكن الفيافي، فلا يجتمعان. وقالوا: «أحمق (5)
من نعامة» و «أجبن (6) من نعامة». وذلك أنها إذا خافت شيئا، لا ترجع إليه بعد ذلك أبدا.
الخواص
: مرارته سم ساعة، ومخ عظامه يورث آكله السل، وذرقه إذا أحرق وسحق وطلي به على السعفة أبرأها من وقته، وقشر بيض النعام إذا طرح في الخل بعد ما يخرج جميع ما فيه، تحرك في الخل وزال من موضعه، إلى موضع آخر. وإذا عمل من الحديد الذي يأكله النعام، ويخرج منه سكين أو سيف، لم يكل أبدا ولم يقم له شيء.
التعبير
: النعامة في المنام امرأة بدوية، وقيل: النعامة نعمة، فمن ركب نعامة في منامه فإنه يركب خيل البريد، وقيل: من ركب نعامة فإنه ينكح خصيا، والنعامة تدل على الأصم لأنها لا تسمع، وقيل: تدل على النعي لأنه مشتق من اسمها، وربما دلت على النعمة. والنعامتان على نعمتين والثلاث نعامات على نعي الرائي وموته للاشتقاق والله أعلم.
النعثل:
كجعفر، الذكر من الضباع وكان أعداء عثمان رضي الله تعالى عنه يسمونه نعثلا.
النعجة:
الأنثى من الضأن والجمع نعاج ونعجات قال الشاعر:
من كان ذا بتّ فهذا بتي ... مقيظ مصيف مشتى
تخذته من نعجات ست ... سود نعاج من نعاج الدّست
والدست الصحراء، وكنيتها أم الأموال وأم فروة، وتطلق على الأنثى من الظباء والبقر الوحشية.
روى أحمد بن صالح السهمي، عن ابن لهيعة عن موسى بن وردان عن أبي هريرة رضي الله تعالى
__________
(1) مجمع الأمثال: 2/ 290.
(2) جمهرة الأمثال: 1/ 405.
(3) مجمع الأمثال: 1/ 299.
(4) وفيات الأعيان: 3/ 284.
(5) جمهرة الأمثال: 1/ 316.
(6) مجمع الأمثال: 1/ 187.(1/488)
عنه، قال: مرت بالنبي صلى الله عليه وسلم نعجة، فقال: «هذه التي بورك فيها، وفي خروفها». لكنه حديث منكر جدا. وربما كنى بالنعجة عن المرأة، قال (1) الله تعالى: {إِنَّ هََذََا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وََاحِدَةٌ} قرأ الحسن نعجة بكسر النون.
قال في التمهيد سئل المبرد عن قول الله تعالى: {إِنَّ هََذََا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وََاحِدَةٌ} (2) وهم الملائكة، والملائكة لا أزواج لهم. فقال: نحن طول الزمان نفعل مثل هذا، نقول: ضرب زيد عمرا، وإنما هذا تقدير، كان المعنى إذا وقع هكذا فيكف الحكم فيه؟ ومثله قول عدي بن زيد للنعمان: أتدري ما تقول هذه الشجرة أيها الملك؟ فقال: وما تقول؟ قال:
تقول (3):
ربّ ركب قد أناخوا حولنا ... يشربون الخمر بالماء الزلال
ثم أضحوا لعب الدهر بهم ... وكذاك الدهر حال بعد حال
وقول آخر:
شكا إلي جملي طول السّرى ... صبرا جميلا فكلانا مبتلى
قال الزمخشري: فإن قلت: ما وجه قراءة ابن مسعود رضي الله تعالى عنه ولي نعجة أنثى قلت: يقال: امرأة أنثى للحسناء الجميلة، والمعنى وصفها بالعراقة في لين الأنوثة وفتورها، وذلك أصلح وأزيد في تكسرها وتثنيها، ألا ترى إلى وصفهم لها بالكسول والمكسال؟ وقوله:
تمشي رويدا وتكاد تنعسف
وفي مسند أبي محمد الدارمي، في باب سخاء النبي صلى الله عليه وسلم، عن عبد الله بن أبي بكر، عن رجل من العرب، قال: زحمت رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين، وفي رجلي نعل كثيفة، فوطئت بها على رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنفحني نفحة بسوط كان في يده، وقال: بسم الله لقد أوجعتني. قال: فبت لنفسي لائما أقول: أوجعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبت بليلة كما يعلم الله. فلما أصبحنا، إذا برجل يقول: أين فلان؟ قال: فقلت: والله هذا الذي كان مني بالأمس. قال: فانطلقت وأنا متخوف، فقال (4) لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنك وطئت بنعلك على رجلي بالأمس فأوجعتني فنفحتك نفحة بالسوط فهذه ثمانون نعجة فخذها بها».
الأمثال
: قالوا: «أعجل (5) من نعجة إلى حوض» و «أحمق (6) من نعجة على حوض»، لأنها إذا رأت الماء أكبت عليه تشرب، فلا تنثني عنه إلا أن تزجر أو تطرد.
الخواص
: قرن النعجة إذا أخذ وقرىء عليه ثلاث مرات: {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مََا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَمََا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهََا وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً} (7). ووضع تحت رأس
__________
(1) سورة ص: آية 23.
(2) سورة ص: آية 23.
(3) وفيات الأعيان: 1/ 388.
(4) رواه الدارمي: مقدمة 12.
(5) جمهرة الأمثال: 2/ 62.
(6) جمهرة الأمثال: 1/ 316.
(7) سورة آل عمران: آية 30.(1/489)
امرأة نائمة، من غير أن تعلم، وسئلت عن شيء أخبرت به، ولا تكاد تكتم شيئا مما تعلم.
ومرارتها إذا أحرقت وخلطت بزيت، وطلي بها الحواجب كثرت شعرها وسودته. ولبن النعاج إذا كتب به على قرطاس فلا تظهر عليه، فإذا طرح في الماء ظهرت عليه كتابة بيضاء. وإن تحملت امرأة بصوف نعجة قطعت الحبل، وقد تقدم.
التعبير
: النعجة في المنام امرأة شريفة غنية إذا كانت سمينة، لأنه قد كني عن النساء بالنعاج كما تقدم، ومن أكل لحم نعجة ورث امرأة، وصوفها ولبنها مال. ومن رأى نعجة دخلت منزله نال خصبا في تلك السنة. والنعجة الحامل خصب ومال يرتجى، ومن صارت نعجته كبشا فإن زوجته لا تحمل أبدا. وقس على هذا في جميع الإناث. والنعاج الكثيرة نساء صالحات، وربما دلت رؤيتهن على الهموم والأفكار، وفقد الأزواج وزوال المنصب لقوله تعالى: {إِنَّ هََذََا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وََاحِدَةٌ} (1) الآية.
النعبول:
بضم النون طائر قاله ابن دريد وغيره.
النعرة:
مثال الهمزة، ذباب ضخم أزرق العين له إبرة في طرف ذنبه يلسع بها ذوات الحوافر خاصة. سميت نعرة بضم النون وفتح العين المهملة لنعيرها وهو صوتها قال (2) ابن مقبل:
ترى النعرات الخضر حول لباته ... أحاد ومثنى أضعفتها صواهله
وربما دخلت في أذن الحمار، فركب رأسه ولا يرده شيء. تقول منه: نعر الحمار بالكسر، ينعر نعرا فهو نعر.
الحكم
: يحرم أكله.
الأمثال
: قالوا (3): «فلان في أنفه أو أذنه نعرة»، يضرب للجامح الذي لا يستقر على شيء.
النعم:
عند اللغويين الإبل والشاء، يذكر ويؤنث.
قال الله تعالى: {نُسْقِيكُمْ مِمََّا فِي بُطُونِهََا} (4) وقال تعالى في موضع آخر: {مِمََّا فِي بُطُونِهِ} (5)
والجمع أنعام وجمع الجمع أناعيم. وعند الفقهاء النعم يشمل الإبل والبقر والغنم. وقال ابن الأعرابي: النعم الإبل خاصة، والأنعام الإبل والبقر والغنم.
وحكى القشيري، في تفسير قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنََّا خَلَقْنََا لَهُمْ مِمََّا عَمِلَتْ أَيْدِينََا أَنْعََاماً فَهُمْ لَهََا مََالِكُونَ} (6) أنها الإبل والبقر والغنم والخيل والبغال والحمير، {فَهُمْ لَهََا مََالِكُونَ} (7) أي ضابطون مطيعون كما قال الشاعر:
__________
(1) سورة ص: آية 23.
(2) البيت في الحيوان للجاحظ: 7/ 233.
(3) مجمع الأمثال: 2/ 69.
(4) سورة المؤمنون: آية 21.
(5) سورة النحل: آية 66.
(6) سورة يس: آية 71.
(7) سورة يس: آية 71.(1/490)
أصبحت لا أحمل السلاح ولا ... أملك رأس البعير إن نفرا
أي لا أضبطه وقوله (1) تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمََا تَأْكُلُ الْأَنْعََامُ} قال ثعلب:
معناه لا يذكرون الله على طعامهم ولا يسمعون، كما أن الأنعام لا تفعل ذلك.
روى الشيخان وغيرهما، من حديث سهل بن سعد رضي الله تعالى عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال لعلي رضي الله تعالى عنه: «لأن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك من حمر النعم» (2). وهذا يدل على فضل العلم والتعليم وشرف منزلة أهله، بحيث إنه إذا اهتدى به رجل واحد لا يعلم العلم، كان ذلك خيرا له من حمر النعم، وهي خيارها وأشرفها عند أهلها، فما الظن بمن يهتدي به كل يوم طوائف من الناس.
والنعم كثيرة الفائدة، سهلة الانقياد، ليس لها شراسة الدواب، ولا نفرة السباع، ولشدة حاجة الناس إليها، لم يخلق الله سبحانه وتعالى لها سلاحا شديدا، كأنياب السباع وبراثنها، وأنياب الحشرات وابرها، وجعل من شأنها الثبات والصبر على التعب والجوع والعطش. وخلقها ذلولا تقاد بالأيدي، كما قال (3) تعالى: {وَذَلَّلْنََاهََا لَهُمْ فَمِنْهََا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهََا يَأْكُلُونَ} وجعل الله تعالى قرنها سلاحا لها، لتأمن به من الأعداء، ولما كان مأكلها الحشيش، اقتضت الحكمة الإلهية أن جعل له أفواها واسعة، وأسنانا حدادا، وأضراسا صلابا، لتطحن بها الحب والنوى.
فائدة
: جعل الله تعالى الأنعام رفقا بالعباد ونعمة عددها عليهم ومنفعة بالغة، قال الله تعالى: {وَذَلَّلْنََاهََا لَهُمْ فَمِنْهََا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهََا يَأْكُلُونَ، وَلَهُمْ فِيهََا مَنََافِعُ وَمَشََارِبُ أَفَلََا يَشْكُرُونَ} (4)
فكان أهل الجاهلية يقطعون طريق الانتفاع، ويذهبون نعمة الله فيها، ويزيلون المنفعة والمصلحة التي للعباد فيها بفعلهم الخبيث.
قال الله تعالى: {مََا جَعَلَ اللََّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلََا سََائِبَةٍ وَلََا وَصِيلَةٍ وَلََا حََامٍ} (5) فلفظ جعل في الآية لا يتجه أن يكون بمعنى خلق، لأن الله تعالى خلق هذه الأشياء كلها، ولا بمعنى صير لعدم المفعول الثاني، وإنما هو بمعنى ما سن ولا شرع، ولذلك تعدت إلى مفعول واحد.
والبحيرة هي الناقة، كانت إذا ولدت خمسة أبطن بحروا أذنها، أي شقوها وحرموا ركوبها، والحمل عليها، ولم يجزوا وبرها، وتركوها تأكل حيث شاءت لا تطرد عن ماء ولا كلأ، ثم نظروا إلى خامس ولدها، فإن كان ذكرا نحروه فأكله الرجال والنساء، وإن كان أنثى بحروا أذنها أي شقوها وتركوها، وحرّموا على النساء لبنها ومنافعها. وكانت منافعها للرجال خاصة، فإذا ماتت حلت للرجال والنساء، وقيل: كانت الناقة إذا تابعت اثنتي عشرة إناثا سيبت، فلم تركب ظهورها، ولم يجز وبرها ولم يشرب لبنها إلا ضيف. فما نتجت بعد ذلك من أنثى بحر أذنها، أي شق ثم خلى سبيلها مع أمها في الإبل، فلم تركب ولم يجز وبرها، ولم يشرب لبنها إلا ضيف، كما
__________
(1) سورة محمد: آية 12.
(2) رواه البخاري: جهاد 143، فضائل أصحاب النبي 62. مغازي 38، أطعمة 1. ومسلم: فضائل 35.
(3) سورة يس: آية 72، 73.
(4) سورة يس: آية 72، 73.
(5) سورة المائدة: آية 103.(1/491)
فعل بأمها، فهي البحيرة بنت السابئة. والبحر الشق. قيل: ومنه سمي البحر بحرا لشقه الأرض، والبحيرة فعيلة بمعنى مفعولة.
والسائبة الناقة التي سيبت، وذلك أن الرجل من أهل الجاهلية، إذا مرض أو غاب قريبه نذر فقال: إن شفاني الله أو شفى مريضي، أو رد غائبي، فناقتي هي سائبة ثم يسيبها كالبحيرة، فلا تحبس عن رعي ولا ماء، ولا يركبها أحد. وقال علقمة: هي العبد يسيب، أي لا ولاء عليه، ولا عقل ولا ميراث.
وقد قال صلى الله عليه وسلم: «إنما الولاء لمن أعتق» (1). وقال سعيد بن المسيب: السائبة الناقة التي كانوا يسيبونها لآلهتهم لا يحمل عليها شيء، والبحيرة الناقة التي يمنع درها للطواغيت، فلا يحلبها أحد من الناس، وقيل: السائبة الناقة إذا ولدت اثنتي عشرة أنثى سيبت. والسائبة فاعلة بمعنى مفعولة كقولهم: ماء دافق أي مدفوق وعيشة راضية أي مرضية.
روى (2) محمد بن اسحاق عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأكثم بن الجون الخزاعي رضي الله تعالى عنه: «يا أكثم رأيت عمرو بن لحي يجر قصبه في النار، فما رأيت من رجل أشبه برجل منه به ولا بك منه، ولقد رأيته في النار يؤذي أهل النار بريح قصبه». قال أكثم: أيضرني شبهه يا رسول الله؟ قال: «لا إنك مؤمن وهو كافر».
وعمرو بن لحي هو أول من غير دين اسماعيل عليه الصلاة والسلام، ونصب الأوثان، وبحر البحيرة وسيب السوائب ووصل الوصيلة وحمى الحام.
والوصيلة من الغنم، كانت الشاة إذا ولدت ثلاثة بطون أو خمسة أو سبعة، فإن كان آخرها جديا ذبحوه لبيت الآلهة، وأكل منه الرجال والنساء، وإن كان عناقا استحيوها. فإن كان جديا وعناقا استحيوا الذكر من أجل الأنثى، وقالوا: هذه العناق وصلت أخاها فلم يذبحوه. وكان لبن الأنثى حراما على النساء، فإن مات منها شيء أكله الرجال والنساء جميعا.
والحام هو الفحل من الإبل، إذا لقح من صلبه عشرة أبطن، وقيل: إذا ضرب عشر سنين، وقيل: إذا ولد من ولد ولده، وقيل: إذا ركب من ولد ولده، قالوا: قد حمى ظهره، فلا يركب ولا يحمل عليه شيء، ولا يمنع من كلأ ولا ماء، فإذا مات أكله الرجال والنساء، فأعلم الله تعالى أنه لم يحرم من هذه الأشياء شيئا بقوله عز وجل: {مََا جَعَلَ اللََّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلََا سََائِبَةٍ وَلََا وَصِيلَةٍ وَلََا حََامٍ} (3) وإنما هذه كلها من أفعال الجاهلية التي نهى الله عنها.
النغر:
بضم النون وفتح الغين المعجمة قال الجوهري: إنه طير كالعصافير، حمر المناقير.
والجمع نغران كصرد وصردان، قال الخطابي: أنشدني أبو عمرو فقال (4):
__________
(1) رواه الدارمي: فرائض 46.
(2) رواه البخاري: مناقب 9. تفسير سورة 235. ورواه مسلم: كسوف 9، 10.
(3) سورة المائدة: آية 103.
(4) عيون الأخبار: 2/ 202.(1/492)
يحملن أوعية السلاح كأنما ... يحملنه بأكارع النغران
ومؤنثه نغرة كهمزة، وأهل المدينة يسمونه البلبل.
وفي الصحيحين عن أنس رضي الله تعالى عنه، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن الناس خلقا، وكان لي أخ لأمي فطيم يقال له عمير، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا جاءنا قال (1): «يا أبا عمير ما فعل النغير»؟. وعمير تصغير عمر أو عمرو، والفطيم بمعنى المفطوم. قال شيخ الإسلام النووي رحمه الله تعالى، في الحديث فوائد كثيرة منها: جواز تكنية من لم يولد له، وتكنية الطفل وأنه ليس كذبا.
وفي الحديث: «بادروا بكنى أولادكم لا تسبق إليها ألقاب السوء». وفيه جواز المزاح فيما ليس بإثم، وجواز تصغير بعض المسميات، وجواز التسجيع في الكلام الحسن بلا كلفة، وملاطفة الصبيان وتأنيسهم، وبيان ما كان عليه صلى الله عليه وسلم من حسن الخلق وكرم الشمائل، والتواضع وزيارة أهل الفضل، لأن أم سليم والدة أبي عمير وأنس رضي الله تعالى عنهما، هي من محارمه صلى الله عليه وسلم. واستدل به بعض المالكية على جواز الصيد من حرم المدينة، ولا دلالة فيه لذلك، لأنه ليس في الحديث أنه من حرم المدينة، بل نقول: إنه صيد من الحل وأدخل الحرم. ويجوز للحلال أن يفعل ذلك، ولا يجوز له أن يصيد من الحرم، فيفرق بين ابتداء صيده، وبين استصحاب إمساكه. وقد صحت أحاديث كثيرة عن النبي صلى الله عليه وسلم في تحريم صيد حرم المدينة، فلا يجوز تركها بمثل هذا الاحتمال ومعارضتها به. وفي الحديث أيضا دليل على جواز لعب الصغير بالطير الصغير.
قال العلامة أبو العباس القرطبي: لكن الذي أجاز العلماء أن يمسك له، وأن يلهو بحبسه.
وأما تعذيبه والعبث به فلا يجوز، لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن تعذيب الحيوان إلا لمأكله. وقال غيره:
معنى قوله: يلعب به يتلهى بحبسه وإمساكه، وفيه دليل على جواز حبس الطير في القفص والتلهي به لهذا الغرض وغيره.
ومنع ابن عقيل الحنبلي من ذلك، وجعله سفها وتعذيبا، لقول أبي الدرداء رضي الله تعالى عنه: تجيء العصافير يوم القيامة، تتعلق بالعبد الذي كان يحبسها في القفص عن طلب أرزاقها، وتقول: يا رب هذا عذبني في الدنيا. والجواب: أن هذا فيمن منعها المأكول والمشروب. وقد سئل القفال عن ذلك فقال: إذا كفاها المؤنة جاز، بل في الحديث دليل على جواز قصها للعب الصبيان بها.
وكان بعض الصحابة يكره ذلك. ورأيت لأبي العباس أحمد بن القاص مصنفا حسنا على هذا الحديث، وذكر فيه أن أبا حنيفة سمع صوت امرأة يضربها بعلها، وهي تصيح، فقال:
صدقة مقبولة وحسنة مكتوبة. فقال له رجل من أصحابه: كيف ذاك يا أستاذ؟ فقال لقوله صلى الله عليه وسلم:
«أدب الجاهل صدقة عليه». وأنا أعرفها جاهلة.
__________
(1) رواه البخاري: أدب 81، 112. ومسلم: أدب 30. وأبو داود: أدب 69.(1/493)
وحكمه
: حل الأكل لأنه من جنس العصافير.
النغض:
بكسر النون وفتحها الظليم، سمي بذلك لأنه يحرك رأسه، قال الله تعالى:
{فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُسَهُمْ} (1) أي يحركونها استهزاء. قال الشاعر:
أنغض نحوي رأسه وأقنعا ... كأنه يطلب شيئا أنفعا
النغف:
بنون وغين معجمة مفتوحتين ثم فاء، دود يكون في أنوف الإبل والغنم، الواحدة نغفة. قاله الأصمعي. وقال أبو عبيدة: هو أيضا الدود الأبيض، يكون في النوى. وما سوى ذلك من الدود فليس بنغف. وقيل: هو دود طوال سود وخضر وغبر يقطع الحرث في بطون الأرض.
روى (2) مسلم عن النواس بن سمعان رضي الله تعالى عنه في حديثه الذي رواه في الدجال:
«ويبعث الله تعالى يأجوج ومأجوج، فيرسل عليهم النغف في رقابهم فيصبحون فرسى كموت نفس واحدة». قوله: فرسى معناه قتلى، الواحدة فريس من فرس الذئب الشاة وافترسها إذا قتلها.
وروى البيهقي، في الأسماء والصفات، في باب ما ذكر فيه الكف عن عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما، أنه قال: لما خلق الله تعالى آدم عليه السلام، نفضه نفض المزود فخرج منه مثل النغف، فقبض قبضتين، فقال جل وعلا لما في اليمين: هذه إلى الجنة ولا أبالي. ولما في الأخرى: هذه إلى النار ولا أبالي، ثم قال: هذا موقوف. وروي بعده بأسطر عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، قال: إنّ أخذ الميثاق على بني آدم، كان بأرض عرفات.
النفار:
بالفاء كجار العصفور سمي بذلك لنفوره.
النقاز:
بالقاف والزاي طائر من صغار العصافير، كأنه مشتق من النقز وهو الوثب.
النقاقة:
الضفدع والنقيق صوتها. قالوا: «أعطش من النقاقة» (3). وذلك أنها إذا فارقت الماء ماتت.
النقد:
بفتح النون والقاف صغار الغنم، واحدتها نقدة وجمعها نقاد. وقال الجوهري:
النقد بالتحريك جنس من الغنم قصار الأرجل قباح الوجوه، تكون بالبحرين الواحدة نقدة.
الأمثال
: قالوا (4): «أذل من النقد». قال الأصمعي: أجود الصوف صوف النقد. قال (5)
الكذاب الحرمازي:
ففيم يا شرّ تميم محتدا ... لو كنتم شاء لكنتم نقدا
أو كنتم قولا لكنتم فندا ... أو كنتم ماء لكنتم زبدا
أو كنتم صوفا لكنتم قردا
__________
(1) سورة الإسراء: آية 51.
(2) رواه مسلم: فتن 110. والترمذي فتن 59.
(3) جمهرة الأمثال: 2/ 61.
(4) جمهرة الأمثال: 1/ 381.
(5) الأبيات في الحيوان للجاحظ: 5/ 463.(1/494)
النكل:
الفرس القوي المجرب، وفي الحديث «أن الله تعالى يحب النكل على النكل» بالتحريك، يعني الرجل القوي المجرب على الفرس القوي المجرب. وهو كقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الآخر: «إن الله يحب الرجل القوي المبدىء المعيد على الفرس القوي المبدىء المعيد». وقد تقدم ذكر هذا الحديث في باب الفاء في الفرس.
النمر:
بفتح النون وكسر الميم ويجوز إسكان الميم مع فتح النون وكسرها كنظائره، ضرب من السباع فيه شبه من الأسد، إلا أنه أصغر منه، وهو منقط الجلد نقطا سودا وبيضا وهو أخبث من الأسد، لا يملك نفسه عند الغضب حتى يبلغ من شدة غضبه أن يقتل نفسه. والجمع أنمار وأنمر ونمور ونمار. والأنثى نمرة. وكنيته أبو الأبرد وأبو الأسود وأبو جعدة وأبو جهل وأبو خطاف وأبو الصعب وأبو رقاش وأبو سهيل وأبو عمرو وأبو المرسال. والأنثى أم الأبرد وأم رقاش. قال الأصمعي: يقال: تنمر فلان أي تنكر وتغير، لأن النمر لا تلقاه أبدا إلا متنكرا غضبان. قال عمرو بن معد يكرب:
قوم إذا لبسوا الحديد ... تنمروا حلقا وقدا
يريد تشبهوا بالنمر لاختلاف ألوان القد والحديد. ومزاج النمر كمزاج السبع، وهو صنفان:
صنف عظيم الجثة صغير الذنب وبالعكس. وكله ذو قهر وقوة وسطوات صادقة، ووثبات شديدة وهو أعدى عدو للحيوانات، ولا تروعه سطوة أحد، وهو معجب بنفسه، فإذا شبع نام ثلاثة أيام، ورائحة فيه طيبة بخلاف السبع، وإذا مرض وأكل الفأر زال مرضه.
وذكر الجاحظ أن النمر يحب شرب الخمر، فإذا وضع له في مكان شربه حتى يسكر فعند ذلك يصاد. وزعم قوم أن النمرة لا تضع ولدها إلا مطوقا بحية، وهي تعيش وتنهش إلا أنها لا تقتل. ومنزلته من السباع في الرتبة الثانية من الأسد، وهو ضعيف الحزم شديد الحرص يقظان الحراك. وفي طبعه عداوة الأسد، والظفر بينهما سجال، وهو نهوش خطوف بعيد الوثبة، فربما وثب أربعين ذراعا صعودا، ومتى لم يصد لم يأكل شيئا، ولا يأكل من صيد غيره وينزه نفسه عن أكل الجيف.
روى الطبراني في معجمه الأوسط، عن عائشة رضي الله تعالى عنها، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن موسى عليه السلام قال: يا رب أخبرني بأكرم خلقك عليك، فقال: الذي يسرع إلى هواي إسراع النسر إلى هواه، والذي يألف عبادي الصالحين كما يألف الصبي الناس، والذي يغضب إذا انتهكت محارمي كغضب النمر لنفسه، فإن النمر إذا غضب لا يبالي أقل الناس أم كثروا». وفي إسناده محمد بن عبد الله بن يحيى بن عروة، وهو متروك. وقد تقدم في النسر الإشارة إلى بعضه.
الحكم
: يحرم أكله لأنه سبع ضار.
روى (1) أبو داود عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا تصحب الملائكة رفقة
__________
(1) رواه أبو داود لباس 40.(1/495)
فيها جلد نمر». وفي رواية «وقعة». قال الشيخ أبو عمرو بن الصلاح، في الفتاوى: جلد النمر نجس كله قبل الدباغ سواء كان مذكى أم لا، فيمتنع استعماله امتناع نجس العين. ومعنى هذا أنه يحرم استعماله قطعا فيما يجب فيه مجانبة النجاسة من صلاة وغيرها.
وهل يحرم على الاطلاق؟ فيه وجهان: وأما بعد الدباغ فنفس الجلد طاهر، والشعر الذي عليه نجس، تبعا لأصله ولأجل أنه غالب ما يستعمل منه. ورد الحديث بالنهي عنه مطلقا وفي حديث (1) آخر: «لا تركبوا النمور». وفي حديث (2) آخر أنه صلى الله عليه وسلم «نهى عن جلود السباع أن تفترش» ولا شك أن النمر من السباع. فهذه الأحاديث قوية معتمدة والتأويل المتطرق إليها غير قوي، وإذا وجد الموفق مثل هذا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في مثل هذا المضطرب فهو ضالته ومستروحه لا يرى عنه معدلا.
الأمثال
: قالوا: «شمر واتزر والبس جلد النمر» (3). يضرب لمن يؤمر بالجد والاجتهاد.
وقالوا: «لبس فلان لفلان جلد النمر» (4). يضرب في العداوة وكشفها.
الخواص
: إذا دفن رأسه في موضع اجتمع فيه من الفأر شيء كثير، ومرارته يكتحل بها تزيد في ضوء البصر، وتمنع نزول الماء في العين، وهي سم قاتل إن سقي منها أحد دانقا لا يتخلص منها إلا أن يشاء الله تعالى، ودماغه إذا أنتن لا يشم أحد من الناس رائحته إلا مات، هكذا حكاه ارسطاطاليس، في كتاب طبائع الحيوان.
وقيل: إن النمر يهرب من جمجمة الإنسان، وشعره إذا بخر به البيت هربت العقارب منه، وشحمه إذا أذيب وجعل في الجراحات العتيقة نظفها وأبرأها. ولحمه من أكل منه خمسة دراهم لا يضره سم الحيات والأفاعي.
وقال القزويني: إن جميع أجزائه تفعل فعل السم القاتل، وخاصة مرارته، وهذا هو الصواب. وقضيبه يطبخ ويشرب من مرقته ينفع من تقطير البول، وأوجاع المثانة. وجلده إذا أدمن الجلوس عليه بلا حائل صاحب البواسير نفعه، ومن حمل معه شيئا من جلده، يصير مهابا عند الناس. ويده وبراثنه إذا دفنت في موضع لا يعيش فيه فأر، وإذا نهش النمر إنسانا طلبه الفأر ليبول عليه، فإن فعل ذلك مات، وينبغي أن يحترس من ذلك ويصان، قاله صاحب عين الخواص. وقال بعضهم: من مسح جلده بشحم الضبع، ودخل على النمر فر النمر منه.
التعبير
: النمر في المنام سلطان جائر، أو عدو مجاهر، شديد الشوكة، فمن قتله قتل عدوا بهذه الصفة، ومن أكل من لحمه نال مالا وشرفا، ومن ركبه نال سلطانا عظيما، فإن رأى النمر ركبه ناله ضرر من سلطان أو عدو. ومن نكح نمرة تسلط على امرأة من قوم ظلمة، ومن رأى نمرا في داره هجم على داره رجل فاسق. ومن رأى أنه صاد نمرا أو فهدا نال منفعة بقدر ضرر غضبه.
وقال ارطاميدورس: النمر يدل على رجل ويدل على امرأة. وذلك بسبب تغير لونه، وهو
__________
(1) رواه أبو داود لباس 40.
(2) رواه أبو داود صلاة 122، وابن ماجه إقامة 204.
(3) مجمع الأمثال: 1/ 362.
(4) جمهرة الأمثال: 2/ 164.(1/496)
ذو مكر وخديعة وربما دل على مرض ووجع العينين. ولبنه عداوة تضر شاربه والله تعالى أعلم.
النمس:
بنون مشددة مكسورة، وبالسين المهملة في آخره دويبة عريضة، كأنها قطعة قديد، تكون بأرض مصر، يتخذها الناظور إذا اشتد خوفه من الثعابين، لأن هذه الدويبة تقتل الثعبان وتأكله. قاله الجوهري.
وقال قوم: هو حيوان قصير اليدين والرجلين، وفي ذنبه طول يصيد الفأر والحيات ويأكلها.
وقال المفضل بن سلمة: هو الظربان، وقال الجاحظ: يزعمون أن بمصر دويبة يقال لها النمس، تنقبض وتنطوي إلى أن تصير كالفأر، فإذا انطوى عليها الثعبان زفرت ونفخت وانتفخت فيتقطع الثعبان.
وقال ابن قتيبة: النمس ابن عرس وتسميته نمسا يحتمل أن يكون مأخوذا من قولهم: نمس بالكلام أي أخفاه، ونمس الصائد إذا اختفى في الدريئة، لأنه لما كان يتماوت وتسكن أطرافه حتى تعضه الحية فيأكلها أشبه الصائد في اختفائه في الدريئة.
وحكمه
: تحريم الأكل لاستخباثه والرافعي في كتاب الحج قال: إن النمس أنواع، وبهذا يجمع بين هذه الأقوال المتباينة.
الخواص
: إذا بخر برج الحمام بذنب النمس هرب الحمام منه. ومرارته تداف ببياض البيض ويضمد بها العين فتلقط الحرارة وتقطع الدمعة، ودمه يسعط منه المجنون وزن قيراط مع لبن امرأة ويبخر به يفيق. وذكره يطبخ ويشرب من مرقته من كان به تقطير البول ووجع المثانة يبرئه. وعينه اليمنى إذا علقت في خرقة كتان على صاحب حمى الربع أبرأته، وإن علقت عليه اليسرى عادت إليه، ودماغه إذا هرس بماء الفجل ودهن ورد، ودهن به إنسان جرب ومرض مكانه من وقته، وحله أن يسحق خرؤه بدهن الزئبق ويطلى به، وخرؤه إن غرق في ماء وسقي منه إنسان خاف الليل والنهار، ويرى كأن الشياطين في طلبه.
التعبير
: النمس في الرؤيا يدل على الزنا، لأنه يسرق الدجاج، والجماعة منه في التعبير نساء، فمن نازع نمسا أو رآه في منزله فإنه ينازع إنسانا زانيا والله أعلم.
النمل:
معروف الواحدة نملة والجمع نمال، وأرض نملة ذات نمل، وطعام منمول إذا أصابه النمل، والنملة بالضم النميمة، يقال رجل نمل أي نمام، وما أحسن قول الأول:
اقنع بما تلقى بلا بلغة ... فليس ينسى ربّنا النملة
إن أقبل الدهر فقم قائما ... وإن تولّى مدبرا نم له
وكنيته أبو مشغول والنملة أم نوبة وأم مازن، وسميت النملة نملة لتنملها وهو كثرة حركتها، وقلة قوائمها. والنمل لا يتزاوج ولا يتناكح إنما يسقط منه شيء حقير في الأرض فينمو حتى يصير بيظا حتى يتكون منه، والبيض كله بالضاد المعجمة الساقطة إلا بيظ النمل، فإنه بالظاء المشالة.
والنمل عظيم الحيلة في طلب الرزق، فإذا وجد شيئا أنذر الباقين ليأتوا إليه، ويقال إنما
يفعل ذلك منها رؤساؤها. ومن طبعه أنه يحتكر قوته من زمن الصيف لزمن الشتاء، وله في الاحتكار من الحيل ما أنه إذ احتكر ما يخاف إنباته قسمه نصفين، ما خلا الكسفرة فإنه يقسمها أرباعا، لما ألهم من أن كل نصف منها ينبت، وإذا خاف العفن على الحب أخرجه إلى ظاهر الأرض ونشره، وأكثر ما يفعل ذلك ليلا في ضوء القمر، ويقال إن حياته ليست من قبل ما يأكله ولا قوامه، وذلك لأنه ليس له جوف ينفذ فيه الطعام، ولكنه مقطوع نصفين، وإنما قوته إذا قطع الحب في استنشاق ريحه فقط. وذلك يكفيه.(1/497)
والنمل عظيم الحيلة في طلب الرزق، فإذا وجد شيئا أنذر الباقين ليأتوا إليه، ويقال إنما
يفعل ذلك منها رؤساؤها. ومن طبعه أنه يحتكر قوته من زمن الصيف لزمن الشتاء، وله في الاحتكار من الحيل ما أنه إذ احتكر ما يخاف إنباته قسمه نصفين، ما خلا الكسفرة فإنه يقسمها أرباعا، لما ألهم من أن كل نصف منها ينبت، وإذا خاف العفن على الحب أخرجه إلى ظاهر الأرض ونشره، وأكثر ما يفعل ذلك ليلا في ضوء القمر، ويقال إن حياته ليست من قبل ما يأكله ولا قوامه، وذلك لأنه ليس له جوف ينفذ فيه الطعام، ولكنه مقطوع نصفين، وإنما قوته إذا قطع الحب في استنشاق ريحه فقط. وذلك يكفيه.
وقد تقدم في العقعق والفأر عن سفيان بن عيينة أنه قال: ليس شيء يحتال لقوته إلا الإنسان والعقعق والنمل والفأر، وبه جزم في الإحياء، في كتاب التوكل. وعن بعضهم أن البلبل يحتكر الطعام، ويقال: إن للعقعق مخابئ إلا أنه ينساها. والنمل شديد الشم ومن أسباب هلاكه نبات أجنحته، فإذا صار النمل كذلك أخصبت العصافير لأنها تصيدها في حال طيرانها. وقد أشار إلى ذلك أبو العتاهية بقوله (1):
وإذا استوت للنمل أجنحة ... حتى يطير فقد دنا عطبه
وكان الرشيد كثيرا ما ينشد ذلك عند نكبة البرامكة. وقد تقدمت الإشارة إليها في باب العين المهملة في لفظ العقاب، وهو يحفر قريته بقوائمه وهي ست، فإذا حفرها جعل فيها تعاريج لئلا يجري إليها ماء المطر، وربما اتخذ قرية بسبب ذلك، وإنما يفعل ذلك خوفا على ما يدخره من البلل.
قال البيهقي في الشعب: وكان عدي بن حاتم الطائي يفت الخبز للنمل، ويقول: إنهن جارات ولهن علينا حق الجوار، وسيأتي إن شاء الله تعالى، في الوحش عن الفتح بن سخرب الزاهد، أنه كان يفت الخبز لهن في كل يوم فإذا كان يوم عاشوراء لم تأكله. وليس في الحيوان ما يحمل ضعف بدنه مرارا غيره، على أنه لا يرضى بأضعاف الأضعاف، حتى إنه يتكلف لحمل نوى التمر، وهو لا ينتفع به، وإنما يحمله على حمله الحرص والشره. ويجمع غذاء سنين لو عاش، ولا يكون عمره أكثر من سنة. ومن عجائبه اتخاذ القرية تحت الأرض، وفيها منازل ودهاليز وغرف وطبقات معلقة، يملؤها حبوبا وذخائر للشتاء ومنه ما يسمى الذر الفارسي، وهو من النمل بمنزلة الزنابير من النحل، ومنه أيضا ما يسمى بنمل الأسد، سمي بذلك لأن مقدمه يشبه وجه الأسد ومؤخره يشبه النمل.
فائدة
: في الصحيحين (2) وسنن أبي داود والنسائي وابن ماجه عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «نزل نبي من الأنبياء عليهم السلام تحت شجرة، فلدغته نملة فأمر بجهازه فأخرج من تحتها، وأمر بها فأحرقت بالنار. فأوحى الله إليه: فهلا نملة واحدة». قال أبو عبد الله الترمذي، في نوادر الأصول: لم يعاتبه الله على تحريقها، وإنما عاتبه على كونه أخذ البريء
__________
(1) الحيوان للجاحظ: 4/ 36.
(2) رواه البخاري بدء الخلق 16. ومسلم: سلام 149، 150. وأبو داود: أدب 164.(1/498)
بغير البريء.
وقال القرطبي: هذا النبي هو موسى بن عمران عليه السلام، وأنه قال: يا رب تعذب أهل قرية بمعاصيهم وفيهم الطائع، فكأنه جل وعلا أحب أن يريه ذلك من عنده، فسلط عليه الحر حتى التجأ إلى شجرة مستروحا إلى ظلها، وعندها قرية النمل فغلبه النوم، فلما وجد لذة النوم لدغته نملة. فدلكهن بقدمه فأهلكهن، وأحرق مسكنهن. فأراه الله تعالى الآية في ذلك عبرة لما لدغته نملة كيف أصيب الباقون بعقوبتها، يريد الله تعالى أن ينبهه على أن العقوبة من الله تعم الطائع والعاصي فتصير رحمة وطهارة وبركة على المطيع، وسوءا ونقمة وعذابا على العاصي. وعلى هذا ليس في الحديث ما يدل على كراهة ولا حظر في قتل النمل، فإن من آذاك حل لك دفعه عن نفسك، ولا أحد من خلق الله أعظم حرمة من المؤمن، وقد أبيح لك دفعه عنك بضرب أو قتل على ماله من المقدار، فكيف بالهوام والدواب التي قد سخرت للمؤمن، وسلط عليها وسلطت عليه، فإذا آذته أبيح له قتلها.
وقوله: «فهلا نملة واحدة» دليل على أن الذي يؤذي يقتل، وكل قتل كان لنفع أو دفع ضر فلا بأس به عند العلماء، ولم يخص تلك النملة التي لدغته من غيرها، لأنه ليس المراد القصاص، لأنه لو أراده لقال فهلا نملتك التي لدغتك، ولكن قال: فهلا نملة، فكأن نملة تعم البريء والجاني، وذلك ليعلم أنه أراد تنبيهه لمسألة ربه تعالى في عذاب أهل قرية فيهم المطيع والعاصي.
وقد قيل: إن في شرع هذا النبي عليه السلام كانت العقوبة للحيوان بالتحريق جائزة، فلذلك إنما عاتبه الله تعالى في إحراق الكثير لا في أصل الإحراق. ألا ترى قوله: فهلا نملة واحدة، وهو بخلاف شرعنا فإن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن تعذيب الحيوان بالنار. وقال (1): «لا يعذب بالنار إلا الله تعالى». فلا يجوز إحراق الحيوان بالنار، إلا إذا أحرق إنسانا فمات بالإحراق فلوارثه الاقتصاص بالإحراق للجاني.
وأما قتل النمل، فمذهبنا لا يجوز لحديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم «نهى عن قتل أربع من الدواب: النملة والنخلة والهدهد والصرد». رواه أبو داود (2) بإسناد صحيح، على شرط الشيخين. والمراد النمل الكبير، السليماني كما قاله الخطابي والبغوي في شرح السنة. وأما النمل الصغير المسمى بالذر فقتله جائز، وكره مالك رحمه الله قتل النمل، إلا أن يضر ولا يقدر على دفعه إلا بالقتل، وأطلق ابن أبي زيد جواز قتل النمل إذا آذت. وقيل: إنما عاتب الله هذا النبي عليه السلام لانتقامه بنفسه بإهلاك جمع آذاه واحد منهم، وكان الأولى به الصبر والصفح، لكن وقع للنبي عليه السلام، أن هذا النوع مؤذ لبني آدم، وحرمة بني آدم أعظم من حرمة غيره من الحيوان. فلو انفرد له هذا النظر، ولم ينضم إليه التشفي الطبيعي، لم يعاتب فعوتب على التشفي بذلك والله أعلم.
__________
(1) رواه البخاري: جهاد 149. والترمذي سير 20.
(2) رواه أبو داود: أدب 164. وابن ماجه صيد 10.(1/499)
روى الدارقطني والطبراني، في معجمه الأوسط عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أنه قال:
لما كلم الله تعالى موسى عليه الصلاة والسلام، كان يبصر دبيب النمل على الصفا في الليلة المظلمة من مسيرة عشرة فراسخ.
وروى الترمذي الحكيم، في نوادره، عن معقل بن يسار، قال: قال أبو بكر رضي الله تعالى عنه، وشهد به على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم الشرك فقال (1): «هو فيكم أخفى من دبيب النمل وسأدلك على شيء إذا فعلته أذهب الله عنك صغار الشرك وكباره، تقول: اللهم إني أعوذ بك أن أشرك بك شيئا، وأنا أعلم، وأستغفرك لما تعلم ولا أعلم، بقولها ثلاث مرات».
وروي أيضا عن أبي إمامة الباهلي رضي الله تعالى عنه، قال: ذكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم رجلان أحدهما عابد والآخر عالم، فقال (2) رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فضل العالم على العابد كفضلي على أدناكم».
ثم قال: «إن الله وملائكته وأهل السموات وأهل الأرضين حتى النملة في جحرها، وحتى الحوت في البحر ليصلون على معلمي الناس الخير». قال الترمذي: حديث حسن صحيح.
وسمعت أبا عثمان الحسين بن حريث الخزاعي يقول: سمعت الفضيل بن عياض يقول:
عالم عامل معلم يدعى كثيرا في ملكوت السموات. وروي أن النملة التي خاطبت سليمان عليه الصلاة والسلام أهدت إليه نبقة فوضعتها في كفه وقالت:
ألم ترنا نهدي إلى الله ماله ... وإن كان عنه ذا غنى فهو قابله
ولو كان يهدى للجليل بقدره ... لقصّر عنه البحر حين يسائله
ولكننا نهدى إلى من نحبه ... فيرضى به عنا ويشكر فاعله
وما ذاك إلا من كريم فعاله ... وإلا فما في ملكنا من يشاكله
فقال سليمان عليه السلام: بارك الله فيكم. فهم بتلك الدعوة أشكر خلق الله، وأكثر خلق الله توكلا على الله تعالى.
روي أن رجلا استوقف المأمون ليسمع منه فلم يقف له، فقال: يا أمير المؤمنين إن الله استوقف سليمان بن داود عليهما السلام لنملة ليستمع منها، وما أنا عند الله بأحقر من نملة، وما أنت عند الله بأعظم من سليمان! فقال له المأمون: صدقت، ووقف له وسمع له وقضى حاجته.
ومن شعر الإمام تاج الدين اليمني في منزل فيه نمل قوله:
ما لي أرى منزل المولى الأديب به ... نمل تجمع في أرجائه زمرا
فقال: لا تعجبن من نمل منزلنا ... فالنمل من شأنها أن تتبع الشعرا
فائدة أخرى
: قال الإمام العلامة فخر الدين الرازي، في تفسير قوله تعالى: {حَتََّى إِذََا أَتَوْا عَلى ََ وََادِ النَّمْلِ قََالَتْ نَمْلَةٌ يََا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسََاكِنَكُمْ} الآية (3). وادي النمل بالشأم كثير النمل. فإن قيل: لم أتى بعلى؟ قلت: لوجهين أحدهما: أن إتيانهم كان من فوق، فأتى بحرف
__________
(1) رواه ابن حنبل: 4034.
(2) رواه الترمذي: علم 19. وابن ماجه مقدمة 17.
(3) سورة النمل: آية 18.(1/500)
الاستعلاء، الثاني: أنه يراد به قطع الوادي وبلوغ آخره من قولهم: أتى على الشيء إذا بلغ آخره، فتكلمت النملة بذلك، وهذا غير مستبعد، فإن حصول العلم والنطق لها ممكن في نفسه، والله سبحانه قادر على كل الممكنات.
وحكي عن قتادة أنه دخل الكوفة، فاجتمع عليه الناس، فقال: سلوا عما شئتم، وكان أبو حنيفة حاضرا، وهو يومئذ غلام حدث، فقال: سلوه عن نملة سليمان أكانت ذكرا أم أنثى؟
فسألوه فأفحم، فقال أبو حنيفة: كانت أنثى. فقيل له: كيف عرفت ذلك؟ فقال: من قوله تعالى: {قََالَتْ} ولو كانت ذكرا لقال قال نملة، لأن النملة مثل الحمامة والشاة، في وقوعها على الذكر والأنثى، قال: ورأيت في بعض الكتب أن تلك النملة، إنما أمرت رعيتها بالدخول في مساكنها، لئلا ترى النعم التي أوتيها سليمان وجنوده، فتقع في كفران نعمة الله عليه. وفي هذا تنبيه على أن مجالسة أرباب الدنيا محظورة.
يروى أن سليمان قال لها: لم قلت للنمل ادخلوا مساكنكم أخفت عليها مني ظلما؟ قالت:
لا ولكني خشيت أن يفتنوا بما يرون من جمالك وزينتك فيشغلهم ذلك عن طاعة الله.
قال الثعلبي وغيره: إنها كانت مثل الذئب في العظم، وكانت عرجاء ذات جناحين. وذكر عن مقاتل أن سليمان عليه السلام سمع كلامها من ثلاثة أميال.
وقال بعض أهل التذكير: إنها تكلمت بعشرة أنواع من البديع، قولها: {يََا} (1) نادت {أَيُّهَا} (2) نبهت {النَّمْلِ} (3) سمت {ادْخُلُوا} (4) أمرت {مَسََاكِنَكُمْ} (5) نعتت {لََا يَحْطِمَنَّكُمْ} (6) حذرت {سُلَيْمََانُ} (7) خصت {وَجُنُودُهُ} (8) عمت {وَهُمْ} (9) أشارت {لََا يَشْعُرُونَ} (10) اعتذرت. والمشهور أنه النمل الصغار. واختلف في اسمها فقيل: كان اسمها طاخية، وقيل كان اسمها حزمى. قيل: كان نمل الوادي كالذئاب، وقيل: كالبخاتي.
قال السهيلي، في التعريف والاعلام: ولا أدري كيف يتصور للنملة اسم علم، والنمل لا يسمي بعضه بعضا! ولا الآدمي يمكنه تسمية واحدة منها باسم علم، لأنه لا يتميز للآدميين بعضه من بعض، ولا هم أيضا واقعون تحت ملك بني آدم، كالخيل والكلاب ونحوهما، لأن العلمية فيما كان كذلك موجودة عند العرب.
فإن قلت: إن العلمية موجودة في الأجناس كثعالة وأسامة وجعار في الضبع ونحو هذا كثير، فالجواب أن هذا ليس من أمر النمل، لأنهم زعموا أنه اسم علم لنملة واحدة معينة من بين سائر النمل. وثعالة ونحوه مختص بواحد من الجنس، بل كل واحد رأيته من ذلك الجنس فهو ثعالة، وكذلك أسامة وابن آوى وابن عرس وما أشبه ذلك. فإن صح ما قالوا، وله وجه فهو أن تكون هذه النملة الناطقة، قد سميت بهذا الاسم في التوراة، أو في الزبور، أو في بعض الصحف، أو سماها الله تعالى بهذا الاسم، وعرفها به جميع الأنبياء قبل سليمان أو بعده، وخصت بالتسمية لنطقها وإيمانها، ومعنى قولنا: وإيمانها أنها قالت للنمل: {وَهُمْ لََا يَشْعُرُونَ}، وهو التفاتة مؤمن أي أن سليمان عليه السلام من عدله وفضله، وفضل جنوده، لا يحطمون نملة فما فوقها، إلا وهم لا يشعرون.
__________
(1) سورة النمل: آية 18.
(2) سورة النمل: آية 18.
(3) سورة النمل: آية 18.
(4) سورة النمل: آية 18.
(5) سورة النمل: آية 18.
(6) سورة النمل: آية 18.
(7) سورة النمل: آية 18.
(8) سورة النمل: آية 18.
(9) سورة النمل: آية 18.
(10) سورة النمل: آية 18.(1/501)
وقد قيل: إنما كان تبسم سليمان سرورا بهذه الكلمة منها، ولذلك أكد التبسم بقوله:
ضاحكا، إذ قد يكون التبسم من غير ضحك ولا رضا، ألا تراهم يقولون: تبسم تبسّم الغضبان، وتبسم تبسم المستهزىء، وتبسم تبسم الضحك، وتبسم الضحك، إنما هو من سرور ولا يسر نبي بأمر دنيا، وإنما يسر بما كان من أمر الدين فقولها: وهم لا يشعرون إشارة إلى الدين والعدل انتهى.
فائدة أخرى
: روى أبو داود والحاكم وصححه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للشفاء بنت عبد الله:
«علمي حفصة رقية النملة كما علمتها الكتابة» (1). وفي صحيح مسلم (2)، أن النبي صلى الله عليه وسلم أرخص في الرقية من النملة، والنملة قروح تخرج في الجنب من البدن، ورقيتها شيء كانت تستعمله النساء، يعلم كل من سمعه أنه كلام لا يضر ولا ينفع، وهو أن يقال: العروس تحتفل وتختضب وتكتحل، وكل شيء تفتعل، غير أن لا تعصي الرجل، أراد النبي صلى الله عليه وسلم بهذا المقال تأنيب حفصة، لأنه ألقى إليها سرا فأفشته. فكان هذا من لغو الكلام ومزاحه. كقوله صلى الله عليه وسلم للعجوز: «لا تدخل الجنة عجوز» (3).
ورأيت في بعض الكتب، بخط بعض الأئمة الحفاظ، أن رقية النملة أن يصوم راقيها ثلاثة أيام متوالية، ثم يرقيها بكرة كل يوم من الثلاثة، عند طلوع الشمس، فيقول: اقسطري وانبرجي فقد نوه بنوه بربطش ديبقت اشف أيها الجرب بألف لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
ويكون في أصبعه زيت طيب، يمسح به عليها ويتفل على الموضع عقب الرقية قبل المسح بالزيت فافهم.
روى الدارقطني والحاكم عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا تقتلوا النملة فإن سليمان عليه السلام خرج ذات يوم يستسقي، فإذا هو بنملة مستلقية على قفاها رافعة قوائمها، تقول: اللهم إنا خلق من خلقك، لا غنى لنا عن فضلك، اللهم لا تؤاخذنا بذنوب عبادك الخاطئين، واسقنا مطرا تنبت لنا به شجرا، وتطعمنا به ثمرا، فقال سليمان لقومه: ارجعوا فقد كفيتم وسقيتم بغيركم».
فوائد
: قال الخلال: أخبرنا عبد الله بن أحمد بن حنبل، قال: حدثنا أبي قال: حدثنا عبد الصمد بن عبد الوارث قال: حدثنا أبو عبد الله الكواز قال: حدثتني حبيبة مولاة الأحنف بن قيس، أن الأحنف بن قيس رآها تقتل نملة فقال: لا تقتليها، ثم دعا بكرسي فجلس عليه، فحمد الله تعالى وأثنى عليه ثم قال: إني أحرج عليكن إلا خرجتن من داري فاخرجن فإني أكره أن تقتلن في داري، قال: فخرجن فما رؤي فيه منهن بعد ذلك اليوم واحدة. قال عبد الله بن الإمام أحمد: رأيت أبي فعل ذلك حرج على النمل، وأكثر علمي أنه جلس على كرسي كان يجلس عليه لوضوء الصلاة، ثم رأيت النمل قد خرجن من بعد ذلك كبار سود فلم أرهن بعد ذلك.
ورأيت بخط بعض المشايخ لإذهاب النمل أن يكتب في إناء نظيف. هذه الأسماء، وتغسل
__________
(1) رواه أبو داود: طب 18. وابن حنبل 3726.
(2) رواه مسلم: سلام 57، 58. والترمذي طب 15.
(3) الحديث لا يعني أن المرأة المسلمة المسنّة لا تدخل الجنة، بل المراد أنها لا تكون في الجنة إلا وهي شابة.(1/502)
بماء وترش في بيت النمل، فإنه يذهب ولا يطلع، وهو: الحمد لله باهيا شراهيا سأريكم باهيا شراهيا. ورأيت أيضا، في بعض المصنفات، أن يكتب على أربع شقف نيئات، وتجعل في أربع أركان المكان الذي فيه النمل، فإن النمل يرحل وربما مات، وهو {وَإِذْ قََالَتْ طََائِفَةٌ مِنْهُمْ: يََا أَهْلَ يَثْرِبَ لََا مُقََامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا} (1) لا تسكنوا في منزلنا فتفسدوا، {اللََّهَ لََا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ} (2)، {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيََارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقََالَ لَهُمُ اللََّهُ مُوتُوا} (3) فماتوا كذلك يموت النمل من هذا المكان ويذهب بقدرة الله.
ومما جرب أيضا فوجدناه نافعا أن يكتب على لوح ما عز ويوضع على قرية النمل، فإنه يرحل وهو: ق ول هـ ال ح ق ول هـ ال م ل ك الله الله الله وما لنا أن لا نتوكل على الله وقد هدانا سبلنا، ولنصبرن على ما آذيتمونا، وعلى الله فليتوكل المتوكلون. {قََالَتْ نَمْلَةٌ: يََا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسََاكِنَكُمْ لََا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمََانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لََا يَشْعُرُونَ} [4]، اهيا اهيا شراهيا أدونائى آل شدائى ارحل أيها النمل من هذا المكان بحق هذه الأسماء وبألف لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ف ق ج م م خ م ت.
ومن المجربات أيضا أنك إذا كان لك حلواء أو عسل أو سكر أو ما هو شبيه بذلك وكان في إناء، ومررت بيديك على شفته، وقلت: هذا لوكيل القاضي، أو هذا لرسول القاضي، أو هذا لغلام القاضي. فإن النمل لا يقربه، وقد فعل ذلك مرارا وشوهد فلا يصل الذر إليه.
الحكم
: يكره أكل ما حملته النمل بفيها وقوائمها، لما روى الحافظ أبو نعيم في الطب النبوي، عن صالح بن خوات بن جبير، عن أبيه عن جده رضي الله تعالى عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم «نهى أن يؤكل ما حملت النمل بفيها وقوائمها»، ويحرم أكل النمل لورود النهي عن قتله، وقد تقدم.
ونقل الرافعي في البيع، وجها عن أبي الحسن العبادي أنه يجوز بيع النمل بعسكر مكرم، لأنه يعالج به السكر، وبنصيبين لأنه يعالج به العقارب الطيارة، وعسكر مكرم قرية من قرى الأهواز والسكر بفتح السين والكاف ومراده بالعقارب الطيارة الجراد.
الأمثال
: قالوا: «ما عسى أن يبلغ عض النمل» (5)، يضرب لمن لا يبالي بوعيده، وقالوا:
«أحرص من نملة» و «أروى (6) من نملة» لأنها تكون في الفلوات فلا تشرب ماء وقالوا: «أضعف وأكثر (7) وأقوى (8) من النمل».
وحكي أن رجلا قال لبعض الملوك: جعل الله قوتك مثل قوة النمل، فأنكر عليه فقال: ليس من الحيوان ما يحمل ما هو أكبر منه إلا النملة، وقد أهلك الله بالنمل أمة من الأمم وهي جرهم.
وفي سيرة ابن هشام، في غزوة حنين عن جبير بن مطعم رضي الله تعالى عنه، أنه قال: لقد
__________
(1) سورة الأحزاب: آية 13.
(2) سورة يونس: آية 81.
(3) سورة البقرة: آية 243.
(4) سورة النمل: آية 18.
(5) مجمع الأمثال: 2/ 290.
(6) مجمع الأمثال: 1/ 315.
(7) جمهرة الأمثال: 2/ 147.
(8) مجمع الأمثال: 2/ 126.(1/503)
رأيت قبل هزيمة القوم، والناس يقتتلون، مثل النجاد الأسود نزل من السماء حتى سقط بيننا وبين القوم، فنظرت فإذا هو نمل أسود مبثوث قد ملأ الوادي، فلم أشك أنها الملائكة ولم تكن إلا هزيمة القوم.
الخواص
: بيظ النمل وهو بالظاء المشالة كما تقدم، إذا أخذ وسحق وطلي به موضع منع انبات الشعر فيه، وإذا نثر بيظه بين قوم تفرقوا شذر مذر، ومن سقي منه وزن درهم لم يملك أسفله بل يغلبه الحبق أي الضراط، وإن سدت قريته باخثاء البقر لم يفتحها بل يهرب من مكانه، وكذلك يفعل روث القط وإذا سد جحر النمل بحجر المغناطيس مات، وإذا دقت الكرويا وجعلت في جحر النمل منعتهن الخروج، وكذلك الكمون. وإذا صب ماء السذاب في قرية النمل قتله، وإذا رش به بيت هربت البراغيث منه، وكذلك يفعل ماء السماق في البراغيث، وإذا قطر شيء من القطران في قرية النمل متن والكبريت إذا دق ونثر في قريتها هلكت، وإن علقت خرقة امرأة حائض حول شيء لم يقربه النمل. وإذا أخذت سبع نملات طوال وتركتها في قارورة مملوءة بدهن الزيبق، وسددت رأسها ودفنتها في زبل يوما وليلة ثم أخرجتها وصفيت الدهن عنها، ثم مسحت به الإحليل وما فوقه هيج الباه، وأكثر العمل وقوى الإنعاظ. مجرب.
التعبير
: النمل في الرؤيا يعبر بناس ضعفاء أصحاب حرص، والنمل يعبر أيضا بالجند والأهل، ويعبر بالحياة، فمن رأى النمل دخل قرية أو مدينة فإنه جند يدخلها، ومن سمع كلام النمل نال خصبا وخيرا، ومن رأى النمل دخل منزله ومعه أحمال ثقيلة فإن الخصب والخير يدخل داره، ومن رأى النمل على فراشه كثرت أولاده، ومن رأى النمل خرج من داره نقص عدد أهله.
ومن رأى النمل يطير من مكانه وفيه مريض، فإن المريض يهلك أو يسافر من ذلك المكان قوم ويلقون شدة، والنمل يدل على خصب ورزق لأنه لا يكون إلا في مكان فيه الرزق، وإذا رأى المريض كأن النمل يدب على جسده فإنه يموت، لأن النمل حيوان أرضي بارد. وقال جاماست:
من رأى النمل يخرج من مكانه ناله هم والله تعالى أعلم.
النهار:
ولد الحبارى، قالت العرب: «أحمق من نهار»، قال البطليوسي، في شرح أدب الكاتب: قد اختلف اللغويون في النهار، فقال قوم: هو فرخ القطاة، وقال قوم: إنه ذكر البوم، والأنثى صيف، وقيل: إنه ذكر الحبارى، والأنثى ليل، وقيل: إنه فرخ الحبارى، قال الشاعر:
ونهار رأيت منتصف الليل ... وليل رأيت وسط النهار
وهذا القول هو الصواب والله أعلم.
النهاس:
بتشديد النون الأولى، وبالسين في آخر، الأسد.
النهس:
طائر يشبه الصرد، إلا أنه غير ملمع يديم تحريك ذنبه ويصيد العصافير، وجمعه نهسان كصرد وصردان. وقال ابن سيده: النهس ضرب من الصرد، وسمي بذلك لأنه ينهس اللحم. والنهس أصله أكل اللحم بطرف الأسنان، والنهش بالشين المعجمة أكله بجميعها والطير إذا أكل اللحم إنما يأكله بطرف منقاره فلذلك سمي نهسا.
وفي مسند أحمد ومعجم الطبراني أن زيد بن ثابت قال: رأيت شرحبيل بن سعد وقد صاد نهسا بالأسواق، فأخذه من يده وأرسله. والأسواق اسم موضع بحرم المدينة الذي حرمه رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقد تقدم ذكره في الدبسي وإنما أرسله لأن صيد المدينة حرام كمكة.(1/504)
طائر يشبه الصرد، إلا أنه غير ملمع يديم تحريك ذنبه ويصيد العصافير، وجمعه نهسان كصرد وصردان. وقال ابن سيده: النهس ضرب من الصرد، وسمي بذلك لأنه ينهس اللحم. والنهس أصله أكل اللحم بطرف الأسنان، والنهش بالشين المعجمة أكله بجميعها والطير إذا أكل اللحم إنما يأكله بطرف منقاره فلذلك سمي نهسا.
وفي مسند أحمد ومعجم الطبراني أن زيد بن ثابت قال: رأيت شرحبيل بن سعد وقد صاد نهسا بالأسواق، فأخذه من يده وأرسله. والأسواق اسم موضع بحرم المدينة الذي حرمه رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقد تقدم ذكره في الدبسي وإنما أرسله لأن صيد المدينة حرام كمكة.
الحكم
: قال الشافعي: النهس حرام كالسباع التي تنهس اللحم.
النهام:
بضم النون طائر، قاله السهيلي في إسلام عمر رضي الله تعالى عنه، وقال الجوهري: هو ضرب من الطير.
النهسر:
كجعفر الذئب، وقيل: ولد الأرنب وقيل الضبع.
النهشل:
الذئب والصقر أيضا وقد تقدم كل منهما في بابه.
النواح:
طائر كالقمري، وحاله حاله إلا أنه أحر منه مزاجا وأدمث صوتا، ولقد كاد أن يكون للأطيار الدمثة الشجية الأصوات ملكا وهو يهيجها إلى التصويت لأنه أشجاها صوتا، وأطيبها نغما. وجميعها تهوى استماع صوته وهو يطرب لغناء نفسه.
النوب:
بضم النون النحل لا واحد له من لفظه، وقيل واحدها نائب. قال أبو عبيدة:
سميت نوبا لأنها تضرب إلى السواد. وقال أبو عبيد: سميت به لأنها ترعى ثم تنوب إلى موضعها، قال أبو ذؤيب:
إذا لسعته النحل لم يرج لسعها ... وخالفها في بيت نوب عواسل
أي لم يخف ولم يبال، فاستعمل الرجاء بمعنى الخوف. ومنه قوله تعالى: {مََا لَكُمْ لََا تَرْجُونَ لِلََّهِ وَقََاراً} (1) أي لا تخافون عظمة الله. وقوله تعالى: {وَقََالَ الَّذِينَ لََا يَرْجُونَ لِقََاءَنََا} (2) الآية، أي لا يخافون. قال ابن عطية: والذي يظهر لي أن الرجاء في الآية وفي البيت على بابه، لأن خوف لقاء الله مقترن أيضا برجائه فإذا نفى سبحانه الرجاء عن أحد، فإنما أخبر عنه بأنه يكذب بالبعث لنفي الخوف والرجاء انتهى.
النورس:
طير الماء الأبيض، وهو زمج الماء، وقد تقدم في باب الزاي.
النوص:
بفتح النون الحمار الوحشي.
النون:
الحوت وجمعه نينان وأنوان، كما قالوا: حوت وحيتان وأحوات، وقد تقدم في أول الكتاب في باب الباء الموحدة، في لفظ بالام، ما رواه مسلم والنسائي عن ثوبان رضي الله تعالى عنه قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم سأله بعض اليهود عن تحفة أهل الجنة فقال: «زيادة كبد الحوت» (3).
وكان علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه يقول: سبحان من يعلم اختلاف النينان في البحار الغامرات. وروى (4) الحاكم عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، قال: أول شيء خلقه الله
__________
(1) سورة نوح: آية 13.
(2) سورة الفرقان: آية 21.
(3) رواه مسلم: حيض 34، منافقين 30.
(4) رواه الترمذي، تفسير سورة 68.(1/505)
القلم، فقال له: اكتب، فقال: وما أكتب؟ قال: القدر، فجرى من ذلك اليوم بما هو كائن إلى يوم الساعة. قال: وكان عرشه على الماء فارتفع بخار الماء فتفتقت منه السموات، ثم خلق النون فبسطت الأرض عليه فالأرض على ظهر النون، فاضطرب النون فمادت الأرض فأثبتت بالجبال، وإن الجبال لتفخر على الأرض.
وقال كعب الأحبار: إن إبليس تغلغل إلى الحوت الذي على ظهره الأرض كلها فوسوس إليه، وقال: أتدري ما على ظهرك يا لوتياء من الأمم والدواب والشجر والجبال وغير ذلك، فلو نفضتهم فألقيتهم عن ظهرك أجمع لاسترحت، فهم لوتياء أن يفعل ذلك، فبعث الله إليه دابة، فدخلت منخره ووصلت إلى دماغه فعج الحوت إلى الله تعالى منها، فأذن الله لها فخرجت.
قال كعب: فو الذي نفسي بيده لينظر إليها وتنظر إليه إن هم بشيء من ذلك عادت إليه كما كانت.
وقال علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه: اسم الحوت يهموت. قال الراجز:
ما لي أراكم كلّكم سكوتا ... والله ربي خالق يهموتا
وفي مسن الدارمي، عن مكحول قال: قال (1) رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فضل العالم على العابد كفضلي على أدناكم». ثم تلا هذه الآية (2): {إِنَّمََا يَخْشَى اللََّهَ مِنْ عِبََادِهِ الْعُلَمََاءُ} ثم قال: «إن الله وملائكته وأهل سمواته وأرضه والنون في البحر، يصلون على الذين يعلمون الناس الخير» (3).
وفي شعب البيهقي، عن خولة بنت قيس، امرأة حمزة وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قالا: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من مشى إلى غريمه لحقه، صلت عليه دواب الأرض، ونون الماء وغرس الله له بكل خطوة شجرة في الجنة، ولا غريم يلوي غريمه وهو قادر، إلا كتب الله عليه في كل يوم إثما».
وروى أبو بكر البزار عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من مشى إلى غريمه لحقه صلت عليه دواب الأرض، ونون الماء وينبت له بكل خطوة شجرة في الجنة وذنب يغفر».
وروى الدينوري، في المجالسة في أول الجزء السادس، عن الأوزاعي رحمه الله، أنه قال:
كان عندنا صياد يصطاد النينان، فكان يخرج إلى الصيد، فلا يمنعه مكان الجمعة عن الخروج، فخسف به وببغلته، فخرج الناس وقد ذهبت به بغلته في الأرض، فلم يبقى منها إلا أذناها وذنبها.
وفيها أيضا، في أول الجزء العشرين، عن زيد بن أسلم، قال: جلس إليّ رجل قد ذهبت يمينه من عضده، فجعل يبكي ويقول: من رآني فلا يظلمن أحدا فقلت له: ما حالك قال: بينا أنا أسير على شط البحر، إذ مررت بنبطي قد اصطاد سبعة أنوان، فقلت: أعطني نونا فأبى،
__________
(1) رواه الترمذي: علم 19. وابن ماجه: مقدمة 17.
(2) سورة فاطر: آية 28.
(3) الدارمي: مقدمة 29.(1/506)
فأخذت منه نونا وهو كاره، فانقلب إليّ النون وهو حي فعض إبهامي عضة يسيرة، فلم أجد لها ألما، فانطلقت به إلى أهلي فصنعوه وأكلنا فوقعت الأكلة في إبهامي، فاتفق الأطباء على أن أقطعها فقطعتها، ثم عالجتها حتى قلت: قد برئت فوقعت الأكلة في كفي، ثم في ساعدي، ثم في عضدي، فمن رآني فلا يظلمن أحدا.
وذو النون لقب نبي الله يونس بن متى عليه الصلاة والسلام، لأنه ابتلعه الحوت {فَنََادى ََ فِي الظُّلُمََاتِ أَنْ لََا إِلََهَ إِلََّا أَنْتَ سُبْحََانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظََّالِمِينَ} (1) روى الترمذي عن سعد بن أبي وقاص، المجاب الدعوة رضي الله تعالى عنه، قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «إني لأعلمكم كلمة ما قالها مكروب إلا فرج الله كربه عنه، ولا دعا بها عبد مسلم إلا استجيب له، دعوة أخي يونس لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين» (2). وجمعت الظلمات لشدة تكاثفها عليه، فإنها ظلمة بطن الحوت وظلمة الليل وظلمة البحر، قيل: وظلمة حوت التقم الحوت الأول.
واختلفوا في مدة مكثه في بطنه، فقيل: سبع ساعات، وقيل: ثلاثة أيام، وقيل: سبعة أيام، وقيل: أربعة عشر يوما، وقال السهيلي: أقام في بطنه أربعين يوما، يتردد به في ماء الدجلة.
ونقل الإمام أحمد، في كتاب الزهد، أن رجلا قال للشعبي: مكث يونس في بطن الحوت أربعين يوما فقال الشعبي: ما مكث إلا أقل من يوم التقمه ضحى، فلما كان بعد العصر وقاربت الشمس الغروب، تثاءب الحوت فرأى يونس ضوء الشمس، فقال: لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين، قال: فنبذه وصار كأنه فرخ.
فقال رجل للشعبي: أتنكر قدرة الله؟ قال: ما أنكر قدرة الله، ولو أراد الله تعالى أن يجعل في بطنه سوقا لفعل.
وروى البزار، بإسناد جيد، عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «لما أراد الله تعالى حبس يونس في بطن الحوت، أوحى الله إلى الحوت أن لا تخدش له لحما، ولا تكسر له عظما، فأخذه ثم أهوى به إلى مسكنه في البحر، فلما انتهى به إلى أسفل البحر، سمع يونس حسا، فقال في نفسه: ما هذا؟ فأوحى الله إليه، وهو في بطن الحوت، ان هذا تسبيح دواب البحر، فسبح وهو في بطن الحوت، فسمعت الملائكة تسبيحه، فقالوا: ربنا إننا نسمع صوتا ضعيفا بأرض غريبة، فقال تعالى: ذاك عبدي يونس، حبسته في بطن الحوت، في بطن البحر. فقالوا: العبد الصالح الذي كان يصعد إليك منه في كل يوم وليلة عمل صالح. قال عز وجل: نعم فشفعوا له عند ذلك، فأمر الله تعالى الحوت فقذفه في الساحل. كما قال الله تعالى:
{فَنَبَذْنََاهُ بِالْعَرََاءِ وَهُوَ سَقِيمٌ} (3).
وروي أن الحوت مشى به في البحار كلها، حتى ألقاه في نصيبين، من ناحية الموصل، فنبذه الله تعالى في عراء، وهي الأرض الفيحاء التي لا شجر فيها ولا معلم. وهو سقيم كالطفل المنفوس، مضغة لحم إلا أنه لم ينقص من خلقه شيء، فأنعشه الله في ظل اليقطينة بلبن أروية
__________
(1) سورة الأنبياء: آية 87.
(2) رواه الترمذي: دعوات 81.
(3) سورة الصافات: آية 145.(1/507)
تغاديه وتراوحه، وقيل: بل كان يتغذى من اليقطينة، فيجد منها ألوان الطعام وأنواع شهواته.
والحكمة في إنبات الله اليقطينة عليه، أن من خاصية اليقطين أن لا يقربه الذباب، ومن خواصه أن ماء ورقه إذا رش به مكان لا يقربه ذباب أيضا. فأقام عليه الصلاة والسلام تحتها إلى أن صح جسده، لأن ورق الفرع أنفع شيء لمن يسلخ جلده عن جسده، كيونس عليه السلام.
وروي أنه عليه الصلاة والسلام كان يوما نائما، فأيبس الله تعالى تلك اليقطينة. وقيل:
أرسل الله تعالى عليها الأرضة، فقطعت عروقها فانتبه عليه السلام فوجد حر الشمس، فعز عليه شأنها وجزع، فأوحى الله تعالى إليه: يا يونس جزعت ليبس يقطينة، ولم تجزع لهلاك مائة ألف أو يزيدون، تابوا فتيب عليهم. وما أحسن قول (1) الجوهري، صاحب الصحاح:
فها أنا يونس في بطن حوت ... بنيسابور في ظلّ الغمام
فبيتي والفؤاد ويوم دجن ... ظلام في ظلام في ظلام
وقول (2) الآخر:
مغيث أيوب والكافي لذي النون ... ينيلني فرجا بالكاف والنون
وقول آخر في المعنى:
ربما عالج القوافي رجال ... في القوافي فتلتوي وتلين
طاوعتهم عين وعين وعين ... وعصتهم نون ونون ونون
قال الشيخ جمال الدين بن الحاجب: معنى قوله: عين وعين وعين، يعني به نحو يد وغد ودد، لأنها عينات مطاوعات في القوافي، مرفوعة كانت أو منصوبة أو مجرورة، لأن وزن يدفع ووزن غدفع ووزن ددفع، وقوله: وعصتهم نون ونون ونون: الحوت يسمى نونا، والدواة تسمى نونا والنون الذي هو الحرف وكلها نونات غير مطاوعة في القوافي، إذ لا يلتئم واحد منها مع الآخر.
فائدة
: روى الدينوري في المجالسة، وأبو عمر بن عبد البر في التمهيد، عن أبي العباس محمد بن اسحاق السراج، قال: حدثنا هشيم عن علي بن زيد، عن يوسف بن مهران، عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، قال: كتب صاحب الروم إلى معاوية رضي الله تعالى عنه يسأله عن أفضل الكلام ما هو؟ وعن الثاني والثالث والرابع والخامس، وكتب إليه يسأله عن أكرم الخلق على الله، وعن أكرم الإماء على الله، وعن أربعة من الخلق، فيهم الروح لم يرتكضوا في رحم، ويسأله عن قبر مشى بصاحبه، وعن المجرة وعن القوس، وعن مكان طلعت فيه الشمس، لم تطلع عليه قبل ذلك، ولم تطلع عليه بعده؟
فلما قرأ معاوية الكتاب، قال: أخزاه الله تعالى، وما علمي بما ههنا! فقيل له: اكتب إلى ابن عباس فكتب إليه بذلك، فكتب إليه ابن عباس رضي الله تعالى عنهما:
__________
(1) معجم الأدباء: 2/ 209.
(2) وفيات الأعيان: 3/ 249.(1/508)
إن أفضل الكلام لا إله إلا الله كلمة الاخلاص لا يقبل عمل إلا بها، والتي تليها سبحان الله وبحمده صلاة الحق، والتي تليها الحمد الله كلمة الشكر، والتي تليها الله أكبر، والخامس لا حول ولا قوة إلا بالله.
وأما أكرم الخلق على الله عز وجل فآدم عليه السلام، خلقه الله بيده، وعلمه الأسماء كلها، وأما أكرم إمائه عليه، فهي مريم التي أحصنت فرجها، فنفخ فيه من روحه.
وأما الأربعة الذين لم يرتكضوا في الرحم، فآدم وحواء وناقة صالح والكبش الذي فدى به اسماعيل عليه الصلاة والسلام، وقيل: عصا موسى عليه السلام، حين ألقاها، فصارت ثعبانا مبينا.
وأما القبر الذي سار بصاحبه، فهو الحوت حين التقم يونس، وأما المجرة فباب السماء، وأما القوس فإنه أمان لأهل الأرض من الغرق، بعد قوم نوح. وأما المكان الذي طلعت عليه الشمس، ولم تطلع عليه قبله ولا بعده، فهو المكان الذي انفلق في البحر لبني إسرائيل. فلما قدم عليه الكتاب، أرسل به إلى صاحب الروم فقال: لقد علمت أن معاوية لم يكن له بهذا علم، وما أصاب هذا إلا رجل من بيت النبوة.
باب الهاء
الهالع:
النعام السريع في مضيه والأنثى هالعة.
الهامة:
بتخفيف الميم على المشهور، طير الليل وهو الصدى، والجمع هام وهامات قال (1)
ذو الرمة:
قد أعسف النازح المجهول معسفه ... في ظلّ أخضر يدعو هامة البوم
وقد تقدم أن الذكر من البوم يختص باسم الصدى والصيدح، وتقدم أن هذه الأسماء تقع على طير الليل بطريق الاشتراك، وتسمية هذه الطيور بالصدي والصودي، لما تعتقده الأعراب من كونه عطشان، لا يزال يقول: اسقوني.
والصدى العطش، والصادي العطشان. ويقال: رجل صديان وامرأة صديا. والصدى أيضا صوت يرجع من الصوت، إذا خرج ووجد ما يحبسه من حجر ونحوه.
والعرب تقول: أصم الله صداه، إذا دعوا على شخص بالخرس، والمعنى لا جعل الله له صدى يرجع إليه بصوته، وقد تقدم ذلك.
ويقع الصدى أيضا على الدماغ لكونه متصورا بصورة الصدى، ولهذا سمي الدماغ هامة، لأنه يشبه رأس الصدى، لأن الصدى لما كان كبير الرأس، واسع العين وفيه شبه برأس ابن آدم، سموا الرأس هامة باسمه. والهامة هو الصدى، وتسميته بالهامة يحتمل أن تكون للمعنى الذي
__________
(1) ديوان ذي الرمة (المكتب الإسلامي): 656. وأعسف: أسير على غير هدى. النازح: البعيد.(1/509)
لأجله سمي صدى، وهو العطش.
ويجوز أن يراعى الاشتقاق على أن يكون قد اشتق من الهيام بضم الهاء، وهو داء يصيب الإبل فتشرب ولا تروى، ومنه قوله تعالى: {فَشََارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ} (1) وهو جمع أهيم كأحمر، والهيم الإبل التي أصابها الهيام، يقال: جمل أهيم وناقة هيماء وإبل هيم، قال الشاعر:
بي اليأس أو داء الهيام أصابني ... فإياك عني لا يكن بك ما بيا
وقال لبيد (2):
أجزت على معارفها بشعب ... وأطلاح عن المهري هيم
وقيل: الهيم الأرض السهلة ذات الرمل، ويحتمل أنه إنما سمي هامة باسم رأسه تشبيها بهامة الإنسان وهي رأسه قال الشاعر:
ونضرب بالسيوف رؤوس قوم ... أزلنا هامهن عن الصدور
وعلى هذا يكون التجوز حاصلا من الجانبين، وهذا قد وجد في كلام بعضهم الإيماء إليه، وسمي بعضهم الهامة بالمصاص، لأنه ينزل إلى الحمام فيمص دمها، وإنما سموا بعض هذه الطيور بومة، لأنها تصيح بهذا الحرف، وبعضها يصيح بقاف وواو وقاف، فيسمونها قوقة وأم قويق، وكل هذا من جنس الهوام.
وروى (3) مسلم وغيره، عن جابر رضي الله تعالى عنه، قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا صفر ولا هامة». وفيه تأويلان: أحدهما أن العرب كانت تتشاءم بالهامة، وهي هذا الطائر المعروف من طير الليل كما تقدم. وقيل: هو البومة كانت إذا سقطت على دار أحدهم قالوا: نعت إليه نفسه أو بعض أهله، وهذا تفسير الإمام مالك بن أنس رحمه الله، والثاني أن العرب، كانت تعتقد أن روح القتيل، الذي لم يؤخذ بثأره، تصير هامة، فتزقو عند قبره وتقول: اسقوني اسقوني من دم قاتلي! فإذا أخذ بثأره طارت.
قال لبيد (4):
فليس الناس بعدك في نفير ... وما هم غير أصداء وهام
وقيل: كانوا يزعمون أن عظام الميت، وقيل روحه تصير هامة، ويسمونها الصدى، وهذا تفسير أكثر العلماء وهو المشهور، ويجوز أن يكون المراد النوعين، وأنه عليه الصلاة والسلام نهى عنهما جميعا.
روى أبو نعيم، في الحلية عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه، قال: كنت عند كعب
__________
(1) سورة الواقعة: آية 55.
(2) ديوان لبيد: 185.
(3) رواه البخاري: طب 19، 25، 45، 53. ومسلم: سلام 101، 103، 106، 108، 109.
(4) ديوان لبيد: 203.(1/510)
الأحبار، وهو عند عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه، فقال كعب: يا أمير المؤمنين، ألا أخبرك بأغرب شيء قرأته في كتب الأنبياء عليهم السلام: أن هامة جاءت إلى سليمان بن داود عليهما الصلاة والسلام، فقالت: السلام عليك يا نبي الله، فقال: وعليك السلام يا هامة، أخبريني كيف لا تأكلين من الزرع؟ قالت: يا نبي الله، إن آدم أخرج من الجنة بسببه، قال: فكيف لا تشربين الماء؟ قالت: يا نبي الله لأنه غرق فيه قوم نوح فمن أجل ذلك لا أشربه، قال لها سليمان: كيف تركت العمران وسكنت الخراب؟ قالت: لأن الخراب ميراث الله، فأنا أسكن ميراث الله، قال الله تعالى: {وَكَمْ أَهْلَكْنََا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهََا فَتِلْكَ مَسََاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلََّا قَلِيلًا وَكُنََّا نَحْنُ الْوََارِثِينَ} (1).
فالدنيا ميراث الله كلها، قال سليمان: فما تقولين إذا جلست فوق خربة؟
قالت: أقول أين الذين كانوا يتنعمون فيها؟ قال سليمان: فما صياحك في الدور، إذا مررت عليها؟ قالت: أقول: ويل لبني آدم كيف ينامون وأمامهم الشدائد؟ قال سليمان عليه السلام: فما لك لا تخرجين بالنهار؟ قالت: من كثرة ظلم بني آدم لأنفسهم، قال:
فأخبريني ما تقولين في صياحك؟ قالت: أقول: تزودوا يا غافلين، وتهيئوا لسفركم، سبحان خالق النور. فقال سليمان عليه السلام: ليس في الطيور طير أنصح لابن آدم، ولا أشفق عليه من الهامة، وما في قلوب الجهال أبغض منها.
فرع
في فتاوي قاضي خان: إذا صاحت الهامة فقال أحد: يموت رجل، فقال بعضهم:
يكون ذلك كفرا إنما يقال هذا على جهة التفاؤل انتهى. وهو قريب مما تقدم في العقعق.
والهوام حشرات الأرض وروى ابن حبان وأبو داود الطيالسي، من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن هذه الهوام من الجن فإذا رأى أحدكم في بيته شيئا منها فليحرج عليه ثلاث مرات» (2) قال في النهاية: هو أن يقول لها: أنت في حرج إن عدت إلينا فلا تلومينا أن نضيق عليك بالتتبع والطرد والقتل.
وروى (3) البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعوذ الحسن والحسين يقول: «أعيذكما بكلمات الله التامة من كل شيطان وهامة ومن كل عين لامة»، ثم يقول صلى الله عليه وسلم: «كان أبوكما إبراهيم عليه السلام يعوذ بها إسماعيل واسحاق عليهما الصلاة والسلام».
قال الخطابي: الهامة إحدى الهوام ذوات السموم كالحية والعقرب ونحوهما، فإن قيل: في هذا الحديث دليل على أن للهامة حقيقة. فالجواب أن الهامة هنا بالتشديد، وتلك بالتخفيف كما تقدم. والمراد هنا هوام الأرض من الحيات والعقارب ونحوهما، كما قاله الخطابي، أو المراد كل ما يهم بالأذى، وهو اسم فاعل من هم يهم فهو هامة كأنه صلى الله عليه وسلم قال: أعيذكما من شر كل نسمة هامة بالأذى، وقوله عليه الصلاة والسلام: «ومن كل عين لامة» معناه ذات لمم، قال الخطابي: وكان
__________
(1) سورة القصص: آية 58.
(2) رواه أبو داود: أدب 162.
(3) رواه البخاري: أنبياء 10. أبو داود سنة 20. الترمذي طب 18. ابن ماجه طب 36.(1/511)
أحمد بن حنبل رحمه الله يستدل بقوله «بكلمات الله التامة» على أن القرآن غير مخلوق، ويقول: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يستعيذ بمخلوق، وما من كلام مخلوق إلا وفيه نقص، فالموصوف منه بالتمام هو غير مخلوق وهو كلام الله تعالى.
وفي الصحيحين وغيرهما، عن كعب بن عجرة رضي الله تعالى عنه، قال: فيّ أنزلت هذه الآية (1) {فَمَنْ كََانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ} أتيت النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: «أدنه» فدنوت ثم قال: «ادنه» فدنوت، فقال (2) صلى الله عليه وسلم: «أيؤذيك هوامك»؟ قال ابن عوف: أظنه قال: نعم.
فأمرني بفدية من صيام أو صدقة أو نسك ما تيسر.
وروى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (3): «إن لله مائة رحمة، واحدة بين الجن والأنس والبهائم والهوامّ فيها يتعاطفون ويتراحمون، وبها تعطف الوحوش على أولادها، وأخر تسعا وتسعين رحمة، يرحم الله بها عباده يوم القيامة». وسيأتي هذا في باب الواو، في لفظ الوحش إن شاء الله تعالى.
وفي الإحياء، في فضل الجمعة، يقال: إن الطير والهوام يلقي بعضها بعضها في يوم الجمعة، فتقول: سلام سلام يوم صالح، وهو كذلك في قوت القلوب أيضا.
وفي كتاب فردوس الحكمة، آية في كتاب الله، من قرأها يأمن من الهوام {إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللََّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مََا مِنْ دَابَّةٍ إِلََّا هُوَ آخِذٌ بِنََاصِيَتِهََا إِنَّ رَبِّي عَلى ََ صِرََاطٍ مُسْتَقِيمٍ} (4) وقد تقدم نظير هذا في باب الباء الموحدة، في البراغيث من رواية ابن أبي الدنيا، في كتاب التوكل، إن عامل أفريقية كتب إلى عمر بن عبد العزيز رضي الله تعالى عنه، يشكو إليه الهوام والعقارب، فكتب إليه: وما على أحدكم إذا أمسى وأصبح أن يقول: {وَمََا لَنََا أَلََّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللََّهِ وَقَدْ هَدََانََا سُبُلَنََا} (5) الآية.
وفي كتاب النصائح، أن بعض السياحين، كان مقداما على كل هول يخافه المسافرون، غير متحفظ من الهوام والسباع، فتعجب منه قوم وخوفوه الغرر بنفسه، فقال: إني على بصيرة من أمري، وذلك أني سافرت تاجرا مع رفقة، فكان سراق الأعراب، يطوفون بنا كل ليلة، وكنت أشد أصحابي ذكرا وأطولهم سهرا، وكنت قد أكتريت مع رجل من الأعراب أعرفه بالصلاح والدين فلما رآني على هذه الحالة، قال: صل على محمد صلى الله عليه وسلم مائة مرة، ونم آمنا، ففعلت ذلك ونمت، فإذا رجل يوقظني فارتعت وقلت: من أنت؟ فقال: اصطنعني واستتبني، قلت: مالك؟ قال:
هذه يدي قد احتبسها متاعك، وإذا هو قد شق عدلا كنت نائما عليه، وأدخل يده لاستخراج الثياب منه، فلم يستطيع إخراج يده فأيقظت المكاري وأخبرته وسألته أن يدعو له، فقال: أنت
__________
(1) سورة البقرة: آية 196.
(2) رواه البخاري: محصر 5، 6، 8. مغازي 35. مرض 16. طب 16. كفارات 1. ومسلم حج 80.
(3) رواه مسلم: توبة 19. وابن ماجه زهد 35.
(4) سورة هود: آية 56.
(5) سورة إبراهيم: آية 12.(1/512)
أولى بالدعاء فإنه من أجلك أصيب، فدعوت وأمن فأطلق عن الرجل، فلا أنسى اسوداد يده من اختناق الدم فيها. وفيه أيضا أنه صلوات الله وسلامه عليه، قال: «من صلى عليّ يوم الجمعة ثمانين مرة غفر الله له ذنوب ثمانين سنة» قيل: يا رسول الله، كيف نقول؟ قال صلى الله عليه وسلم: «قولوا اللهم صل على محمد عبدك ونبيك وحبيبك ورسولك النبيّ الأميّ وعلى آله وصحبه وسلم».
روي أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه، لما أتى إلى غار ثور مع النبي صلى الله عليه وسلم، سبق إلى دخوله، فانبطح فيه وألقى نفسه، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «لم فعلت هذا؟» قال: لأن هذه الغيران يكون فيها الهوام المؤذية، فأحببت إن كان فيها شيء أن أقيك بنفسي وقيل: كان عليه رضي الله تعالى عنه برد ثمين فمزقه وحشا به الأحجرة فبقي جحران فسدهما بعقبيه.
والهامة في الرؤيا
امرأة قوادة أو زانية.
وحكمها
: تحريم الأكل.
الهبع:
الفصيل الذي نتج في آخر النتاج، يقال: «ما له هبع ولا ربع»، والأنثى هبعة والجمع هبعات.
الهبلع:
الكلب السلوقي، قاله ابن سيده، وقد تقدم ما في الكلب، في باب الكاف.
الهجاة:
الضفدع، قاله ابن سيده أيضا، والمعروف الهاجة.
الهجرس:
ولد الثعلب والجمع هجارس، وقيل: هو ولد الدب، وقال أبو زيد: هو القرد، وفي الحديث أن عيينة بن حصن الفزاري مد رجله بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال أسيد بن حضير رضي الله عنه: يا عين الهجرس، أتمد رجلك بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم؟
وفي الاستيعاب، في ترجمة أسيد بن حضير، قال: جاء عامر بن الطفيل وأربد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسألاه أن يجعل لهما نصيبا من تمر المدينة، «فأبى رسول الله صلى الله عليه وسلم»، فقال عامر بن الطفيل: لأملأنها عليك خيلا جردا، ورجالا مردا! فقال صلى الله عليه وسلم: «اللهم اكفني شر عامر بن الطفيل». فأخذ أسيد بن حضير الرمح، وجعل يقرع رؤوسهما ويقول: أخرجا أيها الهجرسان، فقال عامر: من أنت؟ قال: أنا أسيد بن حضير، فقال: أبوك خير منك، فقال: بل أنا خير منك ومن أبي، مات أبي وهو كافر. فقيل للأصمعي: ما الهجرس؟ قال: الثعلب.
فلما رجع عامر وأربد، من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانا ببعض الطرق، أرسل الله على أربد صاعقة فأحرقته وأحرقت بعيره، وبعث الله على عامر الطاعون في عنقه، فقتله في بيت امرأة سلولية، من بني سلول. فجعل يقول: يا بني عامر «غدة كغدة البعير، وموتا في سلولية» (1).
وذكر سيبويه قول عامر: غدة كغدة البعير وموتا في بيت سلولية، في باب ما ينصب على
__________
(1) مجمع الأمثال: 2/ 57.(1/513)
إضمار الفعل المتروك، كأنه قال: اغد غدة. قلت: ومن الأوهام أن المستغفري ذكر في كتابه معرفة الصحابة عامر بن الطفيل، وقال: إنه أسلم وسأل النبي صلى الله عليه وسلم أن يعلمه كلمات يعيش بهن، فقال صلى الله عليه وسلم: «يا عامر أفش السلام وأطعم الطعام واستحي من الله حق الحياء، وإذا أسأت فأحسن، فإن الحسنات يذهبن السيآت» انتهى.
والصواب أن عامر بن الطفيل لم يؤمن بالله طرفة عين، ولم يختلف أحد من أهل النقل، في ذلك. وأما أربد المذكور، فهو أخو لبيد الشاعر الذي عاش في الإسلام ستين سنة لم يقل فيها شعرا، سأله عمر رضي الله تعالى عنه عن تركه الشعر؟ فقال: ما كنت لأقول شعرا بعد أن علمني الله البقرة وآل عمران. فزاد عمر في عطائه خمسمائة درهم من أجل هذا القول. فكان عطاؤه ألفين وخمسمائة، فلما كان زمن معاوية أراد أن ينقصه الخمسمائة، فقال له: ما بال العلاوة فوق الفودين؟
فقال له لبيد رضي الله تعالى عنه: آن أن أموت ويصير لك العلاوة والفودان. فرق له معاوية وتركها له، ومات لبيد بعد ذلك بأيام قليلة، وقد قيل: إنه قال (1) في الإسلام بيتا واحدا وهو:
الحمد لله إذ لم يأتني أجلي ... حتى لبست من الإسلام سربالا
وقيل: قال:
ولقد سئمت من الحياة وطولها ... وسؤال هذا الناس كيف لبيد (2)
الأمثال
: قالوا (3): «اسفد من هجرس» «وأغلم (4) وأنزى» (5).
الهجرع:
الكلب السلوقي الخفيف، قاله ابن سيده.
الهجين:
من الخيل والناس، الذي أبوه عربي وأمه غير عربية، والهجان من الإبل البيض، يستوي فيه الذكر والمؤنث، يقال: بعير هجان، وناقة هجان، وإبل هجان، وامرأة هجان، أي كريمة.
الهدهد:
بضم الهاءين وإسكان الدال المهملة بينهما، طائر معروف ذو خطوط وألوان كثيرة، وكنيته أبو الأخبار وأبو ثمامة وأبو الربيع وأبو روح وأبو سجاد وأبو عباد. ويقال له الهداهد، قال الراعي:
كهداهد كسر الرماة جناحه.
والجمع الهدهد بالفتح، وهو طير منتن الريح طبعا لأنه يبني أفحوصه في الزبل، وهذا عام في جميع جنسه، ويذكر عنه أنه يرى الماء في باطن الأرض، كما يراه الانسان في باطن الزجاجة، وزعموا أنه كان دليل سليمان على الماء، ولهذا السبب تفقده لما فقده. وكان سبب غيبة الهدهد عن سليمان عليه الصلاة والسلام، أن سليمان عليه السلام، لما فرغ من بناء بيت المقدس، عزم على
__________
(1) ديوان لبيد: 236.
(2) ديوان لبيد: 46.
(3) مجمع الأمثال: 1/ 356.
(4) جمهرة الأمثال: 2/ 78.
(5) مجمع الأمثال: 2/ 356.(1/514)
الخروج إلى أرض الحرم، فتجهز واستصحب من الجن والإنس والشياطين والطير والوحش، ما بلغ من عسكره مائة فرسخ، فحملتهم الريح، فلما وافى الحرم، أقام به ما شاء الله أن يقيم، وكان ينحر كل يوم، طول مقامه بمكة خمسة آلاف ناقة، ويذبح خمسة آلاف ثور، وعشرين ألف شاة، وأنه قال لمن حضره من أشراف قومه:
إن هذا مكان يخرج منه نبي عربي من صفته كذا وكذا ويعطى النصر على من ناوأه، وتبلغ هيبته مسيرة شهر، القريب والبعيد عنده في الحق سواء، لا تأخذه في الله لومة لائم. قالوا: فبأي دين يدين يا نبي الله؟ قال: بدين الحنيفية، وطوبى لمن أدركه وآمن به قالوا: فكم بيننا وبين خروجه يا نبي الله؟ قال: مقدار ألف عام، فليبلغ الشاهد منكم الغائب فإنه سيد الأنبياء وخاتم الرسل.
وأقام سليمان عليه السلام بمكة، حتى قضى نسكه، ثم خرج من مكة صباحا، وسار نحو اليمن، فوافى صنعاء وقت الزوال، وذلك مسيرة شهر، فرأى أرضا حسناء تزهو خضرتها، فأحب النزول فيها ليصلي ويتغدى، فلما نزل، قال الهدهد: إن سليمان قد اشتغل بالنزول، فارتفع نحو السماء، فنظر إلى طول الدنيا وعرضها، يمينا وشمالا، فرأى بستانا لبلقيس، فمال إلى الخضرة فوقع فيه، فإذا هو بهدهد من هداهد اليمن، فهبط عليه، وكان اسم هدهد سليمان يعفور، فقال هدهد اليمن ليعفور: من أين أقبلت وأين تريد؟ قال: أقبلت من الشام مع صاحبي سليمان بن داود عليهما السلام فقال: ومن سليمان؟ قال: ملك الجن والإنس والشياطين والطير والوحش والريح، وذكر له من عظمة ملك سليمان وما سخر الله له من كل شيء، فمن أين أنت؟ فقال له الهدهد الآخر: أنا من هذه البلاد، ووصف له ملك بلقيس، وأن تحت يدها اثني عشرة ألف قائد، تحت يد كل قائد مائة ألف مقاتل، ثم قال: فهل أنت منطلق معي حتى تنظر إلى ملكها؟
فقال: أخاف أن يتفقدني سليمان في وقت الصلاة، إذا احتاج إلى الماء فقال الهدهد الثاني: إن صاحبك يسره أن تأتيه بخبر هذه الملكة، فمضى معه ونظر إلى ملك بلقيس، وما رجع إلى سليمان إلا بعد العصر.
وكان سليمان قد نزل على غير ماء، فسأل الإنس والجن والشياطين عن الماء؟ فلم يعلموا له خبرا فتفقد الطير، ففقد الهدهد، فدعا عريف الطير وهو النسر، فسأله عن الهدهد فلم يجد عنده علمه، فغضب سليمان عليه السلام عند ذلك، وقال: {لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذََاباً شَدِيداً} (1) الآية. ثم دعا بالعقاب وهو سيد الطير، فقال له: علي بالهدهد الساعة، فارتفع في الهواء فنظر إلى الدنيا كالقصعة في يد الرجل، ثم التفت يمينا وشمالا، فإذا هو بالهدهد مقبلا من نحو اليمن، فانقض عليه العقاب يريده، فناشده الله، وقال: أسألك بحق الذي قواك وأقدرك علي إلا ما رحمتني، ولم تتعرض لي بسوء، فتركه ثم قال له: ويلك ثكلتك أمك، إن نبي الله قد حلف ليعذبنك أو يذبحنك! فقال الهدهد: أو ما ستثنى نبي الله قال: بلى، قال: {أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطََانٍ مُبِينٍ} (2) قال الهدهد: قد نجوت إذا. ثم طار الهدهد والعقاب، حتى أتيا سليمان عليه السلام، فلما قرب منه
__________
(1) سورة النمل: آية 21.
(2) سورة النمل: آية 21.(1/515)
الهدهد أرخى ذنبه وجناحيه يجرهما على الأرض تواضعا، فأخذ سليمان رأسه فمده إليه، وقال: يا نبي الله اذكر وقوفك بين يدي الله عز وجل، فارتعد سليمان وعفا عنه. ثم سأله عن سبب غيبته، فأخبره بأمر بلقيس، وقد تقدمت الإشارة إلى طرف من قصتها في باب الدال والعين المهملتين في الكلام على الدود والعفريت.
قال الزمخشري: وكان السبب في تخلفه وغيبته عن سليمان عليه السلام، أنه حين نزل سليمان حلق الهدهد، فرأى هدهدا واقفا فوصف له ملك سليمان، وما سخر له من كل شيء، وذكر له صاحبه ملك بلقيس، وأن تحت يدها اثني عشرة ألف قائد، تحت كل قائد مائة ألف، فذهب معه لينظر فما رجع إلا بعد العصر، فدعا سليمان عليه السلام عريف الطير وهو النسر فلم يجد عنده علمه. فقال لسيد الطير، وهو العقاب: علي به، فارتفعت فنظرت فإذا هو مقبل، فقصدته فناشدها الله تعالى، وقال: بحق الذي قواك وأقدرك علي إلا ما رحمتني. فتركته، وقالت:
ثكلتك أمك إن نبي الله حلف ليعذبنك، قال: أو ما ستثنى؟ قالت: بلى قال: {أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطََانٍ مُبِينٍ} (1) فلما قرب من سليمان، أرخى ذنبه وجناحيه يجرهما على الأرض تواضعا له، فلما دنا منه أخذ رأسه فمده إليه فقال: يا نبي الله اذكر وقوفك بين يدي الله، فارتعد سليمان وعفا عنه ثم سأله. وأما قوله: لأعذبنه، فتعذيبه بما يحتمله حاله ليعتبر به أبناء جنسه.
وقيل: كان عذاب سليمان عليه السلام للطير، أن ينتف ريشه وذنبه ويلقيه في الشمس ممعطا، لا يمتنع من النمل ولا من هوام الأرض، وهو أظهر الأقاويل. وقيل: إنه يطلى بالقطران ويشمس، وقيل: أن يلقى للنمل تأكله، وقيل: إيداعه القفص، وقيل: التفريق بينه وبين إلفه، وقيل: إلزامه صحبة الأضداد.
وعن بعضهم أنه قال: أضيق السجون صحبة الأضداد، وقيل: حبسه مع غير جنسه، وقيل: الزامه خدمة أقرانه، وقيل: تزويجه عجوزا. فإن قلت: من أين أحل له تعذيب الهدهد؟
قلت: يجوز أن يبيح الله له ذلك، كما أباح ذبح البهائم والطيور للأكل وغيره من المنافع.
وحكى القزويني أن الهدهد قال لسليمان عليه السلام: أريد أن تكون في ضيافتي قال: أنا وحدي، قال: بل أنت وأهل عسكرك في جزيرة كذا في يوم كذا فحضر سليمان عليه السلام بجنوده فطار الهدهد فاصطاد جرادة فخنقها ورمى بها في البحر، وقال: كلوا، يا نبي الله من فاته اللحم، ناله المرق. فضحك سليمان وجنوده من ذلك حولا كاملا. وفي ذلك قيل:
جاءت سليمان يوم العرض هدهدة ... أهدت له من جراد كان في فيها
وأنشدت بلسان الحال قائلة ... إنّ الهدايا على مقدار مهديها
لو كان يهدى إلى الإنسان قيمته ... لكان يهدى لك الدنيا وما فيها
قال عكرمة: إنما صرف سليمان عليه السلام عن ذبح الهدهد، لأنه كان بارا بأبويه، ينقل الطعام إليهما فيزقهما في حال كبرهما.
__________
(1) سورة النمل: آية 21.(1/516)
قال الجاحظ: وهو وفاء حفوظ ودود، وذلك أنه إذا غابت أنثاه، فلم يأكل ولم يشرب، ولم يشتغل بطلب طعم ولا غيره، ولا يقطع الصياح حتى تعود إليه، فإن حدث حادث أعدمه إياها، لم يسفد بعدها أنثى أبدا، ولم يزل صائحا عليها ما عاش، ولم يشبع بعدها أبدا بطعم، بل ينال منه ما يمسك رمقه، إلى أن يشرف على الموت، فعند ذلك ينال منه يسيرا.
وفي الكامل، وشعب الإيمان للبيهقي، أن نافع بن الأزرق، سأل ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، فقال: سليمان عليه السلام، مع ما خوله الله من الملك وأعطاه، كيف عنى بالهدهد مع صغره؟ فقال له ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: إنه احتاج إلى الماء، والهدهد كانت الأرض له كالزجاج كما تقدم. فقال ابن الأزرق لابن عباس: قف يا وقاف كيف يبصر الماء من تحت الأرض، ولا يرى الفخ إذا غطى له بقدر أصبع من تراب؟ فقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: إذا نزل القضاء عمي البصر وأنشدوا في ذلك لأبي عمرو الزاهد:
إذا أراد الله أمرا بامرىء ... وكان ذا عقل ورأي وبصر
وحيلة يفعلها في دفع ما ... يأتي به محتوم أسباب القدر
غطى عليه سمعه وعقله ... وسله من ذهنه سلّ الشعر
حتى إذا أنفذ فيه حكمه ... رد عليه عقله ليعتبر
ونافع ابن الأزرق هو رأس فرقة من الخوارج، يقال لها الأزارقة، يكفرون علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه إذ حكم، وهو قبل التحكيم عندهم إمام عدل، ويكفرون الحكمين أبا موسى وعمرا. ويرون قتل الأطفال ولا يقيمون الحدود على من قذف محصنا، ويقيمونها على قذف المحصنات وغير ذلك من الأقوال. وأنشد أبو الشيص (1) في صفة الهدهد (2):
لا تأمنن على سري وسرّكم ... غيري وغيرك أو طي القراطيس
أو طائر سوف أجليه وأنعته ... ما زال صاحب تنقير وتدريس
سود براثنه ميل ذوائبه ... صفر حمالقه في الحسن مغموس
البراثن بالباء الموحدة وبالثاء المثلثة وبالنون في آخره: اظفاره، والذوائب ريشه، والحمالق الأجفان.
قال أبو الحسن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، صاحب دمية القصر، وهي ذيل يتيمة الدهر، قتل سنة سبع وستين وأربعمائة:
لا تنكري يا عز إن ذلّ الفتى ... ذو الأصل واستعلى خسيس المحتد
إنّ البزاة رؤوسهن عواطف ... والتاج معقود برأس الهدهد
__________
(1) أبو الشيص: محمد بن علي بن عبد الله بن رزين بن سليمان بن تميم الخزاعي. شاعر مطبوع كوفي. مات سنة 196هـ.
(2) عيون الأخبار: 1/ 100.(1/517)
قيل: إن الإمام الحافظ أبا قلابة، واسمه عبد الملك بن محمد الرقاشي، رأت أمه وهي حامل به، كأنها ولدت هدهدا. فقيل لها: إن صدقت رؤياك، فإنك تلدين ولدا ذكرا كثير الصلاة فولدته، فلما كبر كان يصلي كل يوم أربعمائة ركعة، وحدث من حفظه ستين ألف حديث، ومات سنة ست وسبعين ومائتين رحمه الله تعالى.
الحكم
: الأصح تحريم أكله لنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن أكله، لأنه منتن الريح، ويقتات الدود.
وقيل: يحل أكله، لأنه يحكى عن الشافعي وجوب الفدية فيه، وعنده لا يفدى إلا المأكول.
الأمثال
: قال: «أسجد من هدهد» (1)، يضرب لمن يرمى بالأبنة، وقالوا: «أبصر من هدهد» لما تقدم من رؤيته الماء تحت الأرض.
الخواص
: إذا بخر البيت بريشة من ريشه طرد الهوام عنه، وعينه إذا علقت على صاحب النسيان ذكر ما نسيه، وكذلك يفعل قلبه إذا شوي وأكل مع سذاب، وهو نافع للحفظ والذكاء، ولا ينسى شيئا، وهو أنفع من حب الفهم وأسلم. ومن أخذ عشرة هداهد ونزع ريشها وتركها في دار أو دكان خرب ذلك المكان، ولم يعمر أبدا.
ومن أخذ مصران الهدهد وعلقه على من به النزيف نفعه، ومن أخذ منقاره وهو ميت، وخرز عليه جلدة لم يتلف له شيء ما دام عليه. وإن دخل به على سلطان رحب به وأكرمه وقضى حوائجه، ومن أخذ تراب عش الهدهد وتركه في سجن خرج من فيه من وقته، وإن أخذ من مخالب رجليه مخلبا واحدا وعلقه على صبي أو غيره لم يلحقه عين ولا يزال في عافية ما دام معلقا عليه.
ومن أخذ ذنبه وشيئا من دمه وعلقه على شجرة لم تحمل أبدا، وإن علق على دجاجة بياضة لم تبض، وإن علق على من به نزف الدم سكن عنه، ومن أخذ لسانه وألقاه في شيء من دهن السمسم وجعله تحت لسانه، وسأل إنسانا حاجة قضاها له، وإذا حمل ريشه إنسان وخاصم غلب خصمه، وقضيت حاجته، وظفر بما يريد ولحمه إذا أكل مطبوخا نفع من القولنج، ودماغ الهدهد إذا أخرج وعمل في دقيق وعجن منه قرصة، وجففت في الظل، وأطعمت الإنسان ويقول المطعم: أطعمتك يا فلان بن فلان هدهدا، وجعلتك تسمع قولي وتطيعني، وتشهد لي كما شهد الهدهد لسليمان عليه السلام فإن المطعوم يحب المطعم حبا شديدا.
وإن أخذت قشرته وشددتها على عضدك الأيسر، وأخذت منقاره ولسانه وكتبت هذه الأسماء في رق ظبي وجعلتهما فيه، وشددته بخيط صوف كحلي أو أسود أو أحمر ودفنته تحت باب من تريد موضع دخوله وخروجه فإنك تبلغ ما تريده منه من المحبة والعطف والقبول. وهي هذه الأسماء التي تكتبها: فطيطم مارنورمانيل وصعانيل.
ودم الهدهد إذا أخذ في صدفة وقطر في عين يطلع فيها الشعر أزاله، وإذا ذبحت هدهدا،
__________
(1) مجمع الأمثال: 1/ 356.(1/518)
وأخذت دماغه وجففته، وسحقته ببعض من المصطكى، ودققت معه إحدى وعشرين ورقة آس، وخلطته وأشممته لمن تريد، فإنه يحبك. وعينه اليمنى إذا علقتها عليك في خرقة جديدة وشددتها على عضدك الأيمن، ودخلت على من شئت فإنه لا يراك أحد إلا أحبك، وإذا أردت سواد الشعر، فخذ مصران الهدهد وجففه ثم اسحقه بدهن سمسم وادهن به رأس من تريد أو لحيته ثلاثة أيام فإن شعره يسود سوادا عظيما. ودمه وهو حار، إذا قطر على البياض العارض في العين أذهبه، وإن بخر بمخه برج الحمام لم يقربه شيء يؤذيه، وإن علق هدهد مذبوح بجملته في بيت أمن أهله من السحر، ومن علق عليه لحيه الأسفل أحبه الناس، وإن بخر المجنون بعرفه أبرأه، ولحمه إذ بخر به معقود عن الباه، أو مسحورا أبرأه.
وقال جابر رحمه الله: إن قلب الهدهد إذا شوي وأكل مع سذاب فإنه ينفع للحفظ جدا.
ومصران الهدهد إذا علق على من بها نزف الدم، انقطع عنها. وإن أخذت ثلاث ريشات من الجناح الأيسر من الهدهد، وكنس بها باب دار ثلاثة أيام، قبل طلوع الشمس، ويقول الكانس:
كما انقطع هذا التراب من هذا المكان، كذلك ينقطع فلان بن فلانة من هذا المكان، فإنه يخرج منه ولا يعود إليه أبدا وإن أحرقت جناحه الأيسر، ونثرت رماده على طريق من تريد فإنه إذا وطئه أحبك حبا شديدا. ومنقار الهدهد وريشه من جناحه الأيمن إذا خرز في جلد وعلقت ذلك عليك باسم من تريد، واسم أمه، أحبك حبا شديدا. وأطول ريشة في جناحيه الأيسر قبول.
التعبير
: الهدهد في المنام، رجل عالم غني يثنى عليه بالقبيح لنتن ريحه، فمن رآه نال عزا ومالا فإن كلمه فإنه يأتيه خير من قبل السلطان لقوله تعالى: (1) {وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ} وقال ابن سيرين: من رأى هدهدا، قدم له مسافر، وقيل: الهدهد رجل حاسب صاحب دهاء يخبر السلطان بما يحدث من الأمور، لأنه أخبر سليمان عليه السلام بأمر بلقيس، وكان صادقا في قوله، وربما كانت رؤيته أمانا للخائف، وقال ابن المقري: إن رؤيته تدل على هدم الدار العامرة، أو الشيء العامر مأخوذ من اسمه هدهد، وربما دلت على الرسول الصادق، والقرب من الملوك والجاسوس، أو الرجل العالم الكثير الجدال، وربما دل على النجاة من الشدائد والعذاب، وربما دل على المعرفة بالله تعالى، وبما شرعه من الدين والصلاة، وإن رآه ظمآن، اهتدى إلى الماء، والله تعالى أعلم.
الهدي:
هو ما يهدى إلى الحرم من النعم، والهدى أيضا مثله وقرىء {حَتََّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} (2) بالتخفيف والتشديد، وهما لغتان الواحدة هدية وهدية. وكان الهدي الذي مع النبي صلى الله عليه وسلم في الحديبية ونحره مائة بدنة. وقال المسور بن مخرمة ومروان بن الحكم: سبعين بدنة والناس سبعمائة. فكانت البدنة عن عشرة وهذا غريب.
وعن مصعب بن ثابت، قال: والله لقد بلغني أن حكيم بن حزام رضي الله تعالى عنه حضر يوم عرفة ومعه مائة رقبة ومائة بدنة ومائة بقرة ومائة شاة، فقال: هذا كله لله تعالى، فأعتق
__________
(1) سورة النمل: آية 22.
(2) سورة البقرة: آية 196.(1/519)
الرقاب، وأمر بتلك فنحرت، رواه الطبراني مرسلا.
وفي الصحيحين (1)، عن عائشة رضي الله عنها، قالت: أهدي النبي صلى الله عليه وسلم مرة غنما، وفيه استحباب تقليد الغنم، وقال مالك وأبو حنيفة، لا يستحب، بل خصا التقليد بالإبل والبقر.
فرع
: اتفق العلماء على أن الهدي إذا كان تطوعا فللمهدي أن يأكل منه، وكذلك أضحية التطوع. لما روى (2) جابر أنه صلى الله عليه وسلم أهدى في حجة الوداع مائة بدنة نحر رسول الله صلى الله عليه وسلم منها بيده ثلاثا وستين، وأمر عليا فنحر ما بقي منها، ثم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يؤخذ من كل بدنة بضعة، فتجعل في قدر فأكلا من لحمها وحسيا من مرقها.
واختلفوا في الهدي الواجب بالشرع، مثل دم التمتع والقران والواجب بافساد الحج وفواته وجزاء الصيد، فذهب قوم إلى أنه لا يجوز أن يأكل منه شيئا وبه قال الشافعي، وكذلك ما أوجبه على نفسه بالنذر، وقال ابن عمر رضي الله تعالى عنهما: لا يأكل من جزاء الصيد والنذر، ويأكل مما عداهما، وبه قال الإمام أحمد واسحاق. وقال مالك: يأكل من هدي التمتع ومن كل هدي وجب عليه، إلا من فدية الأذى وجزاء الصيد والنذر. وقال أصحاب الرأي: يأكل من دم التمتع والقران، ولا يأكل من كل واجب سواهما، والله تعالى أعلم.
الهديل:
ذكر الحمام قد تقدم ما في الحمام في باب الحاء المهملة، قال جران العود (3):
كان الهديل الظالع الرجل وسطها ... من البغي شريب يغرد منزف
والهديل صوت الحمام، يقال: هدل القمري يهدل هديلا، والهديل فرخ كان على عهد نوح عليه الصلاة والسلام، فصاده جارح من الطير، فليس من حمامة إلا وتبكي عليه إلى يوم القيامة.
قال نصيب (4):
فقلت أتبكي ذات طوق تذكرت ... هديلا وقد أودى وما كان تبع
يقول لم يخلق تبع بعد.
الهرماس:
بكسر الهاء من اسماء الأسد، وقيل: هو الشديد من السباع، والهرماس بن زياد الباهلي من الصحابة سكن البصرة وطال عمره، وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم حديثين أحدهما عن أبي داود والآخر رواه النسائي. والهرميس بكسر الهاء أيضا الكركدن عند ابن سيده. قال: وهو أكبر من الفيل قال الشاعر:
والفيل لا يبقى على الهرميس
الهر:
السنور، والجمع هررة، كقرد وقردة، والأنثى هرة وتقدمت في خواص الأسد في
__________
(1) رواه البخاري: حج 110.
(2) رواه البخاري: حج 122121. ومسلم حج 349.
(3) جران العود: عامر بن الحارث النميري، شاعر، أدرك الإسلام.
(4) نصيب: مولى المهدي العباسي، شاعر مجيد، كنيته أبو الحجناء. مات سنة 175هـ.(1/520)
الكلام على الفأرة، أن الهرة خلقت من عطسة الأسد. روى الإمام أحمد والبزار ورجال الإمام أحمد ثقات، من حديث (1) أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلا يشرب قائما فقال صلى الله عليه وسلم: «قه أيسرّك أن يشرب معك الهر» قال: لا. قال: «فقد شرب معك الشيطان». وفي تاريخ ابن النجار، في ترجمة محمد بن عمر الحنبلي، عن أنس رضي الله تعالى عنه، قال: كنت جالسا عند عائشة رضي الله تعالى عنها أبشرها بالبراءة، فقالت: والله لقد هجرني القريب والبعيد، حتى هجرتني الهرة، وما عرض علي طعام ولا شراب، فكنت أرقد وأنا جائعة، فرأيت الليلة في منامي فتى فقال: ما لك حزينة؟ فقلت: مما ذكر الناس. فقال: ادعي بهذه الكلمات يفرج عنك. فقلت: وما هي؟ فقال: قولي: دعاء الفرج يا سابغ النعم، ويا دافع النقم، ويا فارج الغمم، ويا كاشف الظلم، ويا أعدل من حكم، ويا حسيب من ظلم، ويا ولي من ظلم، ويا أول بلا بداية، ويا آخر بلا نهاية، ويا من له اسم بلا كنية، أجعل لي من أمري فرجا ومخرجا.
قالت: فانتبهت وأنا ريانة شبعانة، وقد أنزل الله براءتي وجاءني الفرج. وفي الحديث (2)
الصحيح، عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: إن الشيطان عرض للنبي صلى الله عليه وسلم في صلاته، قال عبد الرزاق: في صورة هر، قال صلى الله عليه وسلم: «فشد علي يقطع علي صلاتي، فأمكنني الله منه فذعته أي خنقته ولقد هممت أن أوثقه في سارية من سواري المسجد حتى تصبحوا تنظرون إليه. فذكرت قول أخي سليمان: رب أغفر لي وهب لي ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي فرده الله خاسئا».
وروى ابن أبي خيثمة، عن ميمونة بنت سعيد، مولاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو في الاستيعاب، عن سليمان الفارسي، خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم أوصى بالهر، وقال: «إنّ امرأة عذبت في هرة ربطتها» (3) الحديث، وهو في الصحيحين.
وفي الزهد للإمام أحمد: رأيتها في النار وهي تنهش قبلها ودبرها. والمرأة المعذبة كانت كافرة، كما رواه البزار في مسنده، والحافظ أبو نعيم في تاريخ أصبهان، ورواه البيهقي في البعث والنشور، عن عائشة رضي الله تعالى عنها، فاستحقت التعذيب بكفرها وظلمها.
وقال القاضي عياض في شرح مسلم: يحتمل أن تكون كافرة. ونفى النووي هذا الاحتمال، وكأنهما لم يطلعا على نقل في ذلك.
وفي مسند أبي داود الطيالسي، من حديث الشعبي، عن علقمة قال: كنا عند عائشة رضي الله تعالى عنها، ومعنا أبو هريرة، فقالت: يا أبا هريرة أنت الذي تحدث (4) عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن امرأة عذبت بالنار من أجل هرة؟ قال أبو هريرة: نعم سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقالت عائشة: المؤمن أكرم على الله من أن يعذبه من أجل هرة، إنما كانت المرأة مع ذلك كافرة يا أبا هريرة، إذا حدثت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فانظر كيف تحدث. وقد تقدم في الفرس، ما أنكرته عائشة على أبي هريرة.
__________
(1) رواه ابن حنبل: 2/ 301.
(2) رواه البخاري: عمل 10.
(3) رواه البخاري: أنبياء 54. ومسلم: سلام 151، 152.
(4) رواه مسلم: كسوف 9.(1/521)
وروى ابن عساكر، في تاريخه عن بعض أصحاب الشبلي، أنه رآه في النوم، بعد موته فقال له: ما فعل الله بك؟ فقال: أوقفني بين يديه وقال: يا أبا بكر أتدري بماذا غفرت لك؟
فقلت: بصالح عملي. فقال: لا. قلت: باخلاصي في عبوديتي، قال: لا. قلت: بحجي وصومي وصلاتي. قال: لم أغفر لك بذلك. فقلت: بهجرتي إلى الصالحين، وإدامة أسفاري في طلب العلوم. فقال: لا. فقلت: يا ربي هذه المنجيات التي كنت أعقد عليها خنصري، وظني أنك بها تعفو عني وترحمني. فقال: كل هذه لم أغفر لك بها، فقلت: إلهي فبماذا؟ قال: أتذكر حين كنت تمشي في دروب بغداد، فوجدت هرة صغيرة، قد أضعفها البرد، وهي تنزوي من جدار إلى جدار من شدة البرد والثلج، فأخذتها رحمة لها، فأدخلتها في فرو كان عليك وقاية لها من ألم البرد؟
فقلت: نعم. فقال: برحمتك لتلك الهرة رحمتك.
وأبو بكر الشبلي اسمه دلف بن جحدر، وقيل جعفر بن يونس الخراساني، كان سيدا صالحا محدثا، مالكي المذهب، صحب الجنيد رضي الله تعالى عنه، وكان في ابتداء أمره واليا على دنباوند، فتاب في مجلس خير النساج، وكانت له خطفات وسكرات وغرقات توجب تلك الغرقات شطحات، فقام عذره فيها ودخل على الجنيد يوما فوقف بين يديه وصفق وأنشد يقول (1):.
عودوني الوصال والوصل عذب ... ورموني بالصدّ والصدّ صعب
زعموا حين أزمعوا أن ذنبي ... فرط حبي لهم وما ذاك ذنب
لا وحقّ الخضوع عند التلاقي ... ما جزا من يحب ألا يحب
فأجابه (2) الجنيد رحمه الله تعالى:
وتمنيت أن أراك ... فلمّا رأيتكا
غلبت دهشة السرور ... فلم أملك البكا
ومن شعر (3) الشبلي رحمه الله تعالى:
مضت الشبيبة والحبيبة فانبرى ... دمعان في الأجفان يزدحمان
ما أنصفتني الحادثات رمينني ... بمودعين وليس لي قلبان
توفي الشبلي، رحمه الله في سنة أربع وثلاثين وثلاثمائة، وله سبع وثمانون سنة.
وفي كامل ابن عدي، في ترجمة أبي يوسف صاحب أبي حنيفة، أنه روى (4) عن عروة، عن عائشة رضي الله تعالى عنها، أنها قالت: كان النبي صلى الله عليه وسلم تمر به الهرة فيصفي لها الإناء فتشرب، ثم يتوضأ بفضلها. قال: وكان أبو يوسف يقول: من طلب غرائب الحديث كذب، ومن طلب المال بالكيمياء افتقر، ومن طلب الدين بالكلام تزندق.
__________
(1) وفيات الأعيان: 2/ 273.
(2) وفيات الأعيان: 2/ 274.
(3) وفيات الأعيان: 2/ 276.
(4) رواه ابن حنبل: 5/ 296.(1/522)
وفي آخر كتاب مناقب الشافعي رضي الله تعالى عنه، للحاكم أبي عبد الله، بإسناده إلى محمد بن عبد الله بن عبد الحكم، قال: سمعت الشافعي يقول: اختصم رجلان إلى بعض القضاة، في هرة ادعى كل منهما أنها له، وأن عنده أولادها، فحكم القاضي أن توسط بين داريهما ثم ترسل فأي دار دخلت فهي لصاحبها. قال الشافعي: فانجفل الناس، وانجفلت معهم، فلم تدخل الهرة دار واحد منهما. قال الشافعي: فبطل قضاؤه.
غريبة
: ذكر أن مروان الجعدي المنبوز بالحمار، آخر خلفاء بني أمية، لما ظهر السفاح بالكوفة، وبويع له بالخلافة، وجهز العساكر إليه، فانهزم منهم، حتى وصل إلى أبي صير، وهي قرية عند الفيوم قال: ما اسم هذه القرية؟ قيل: أبو صير. قال: فإلى الله المصير، ثم دخل الكنيسة التي بها، فبلغه أن خادما له نم عليه، فأمر به فقطع رأسه، وسل لسانه وألقي على الأرض، فجاءت هرة فأكلته. ثم بعد أيام، هجم على الكنيسة التي كان نازلا بها عامر بن إسماعيل، فخرج مروان من باب الكنيسة، وفي يده سيف، وقد أحاطت به الجنود، وخفقت حوله الطبول، فتمثل ببيت الحجاج بن الحكم السلمي وهو (1):
متقلدين صفائحا هندية ... يتركن من ضربوا كأن لم يولد
ثم قاتل حتى قتل، فأمر عامر برأسه فقطع في ذلك المكان، وسل لسانه وألقي على الأرض، فجاءت تلك الهرة بعينها فخطفته فأكلته. فقال عامر: لو لم يكن في الدنيا عجب إلا هذا، لكان كافيا، لسان مروان في فم هرة! وقال في ذلك شاعرهم:
قد يسّر الله مصرا عنوة لكم ... وأهلك الكافر الجبار إذ ظلما
فلاك مقوله هرّ يجر جرّه ... وكان ربّك من ذي الظلم منتقما
ودخل عامر بعد قتله الكنيسة، فقعد على فرش مروان، وكان مروان، حين الهجوم على الكنيسة، يتعشى، فلما سمع الوجبة، وثب عن عشائه، فأكل عامر ذلك الطعام، ودعا بابنة مروان، وكانت أسن بناته، فقالت: يا عامر إن دهرا أنزل مروان عن فرشه، وأقعدك عليه، حتى تعشيت بعشائه، واستصبحت بمصباحه، ونادمت ابنته، لقد أبلغ في موعظتك، وأجمل في إيقاظك.
فاستحيا عامر وصرفها وكان قتل مروان في سنة ثلاث وثلاثين ومائة.
الحكم
: يحرم أكل الهر على الصحيح، والثاني، وبه قال الليث بن سعد، يحل أكله.
واختاره أبو الحسن البوشنجي، وهو من أئمة أصحابنا، وهو حيوان طاهر لما روى الإمام أحمد والدارقطني والحاكم والبيهقي، من حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم دعي إلى دار قوم فأجاب، ودعي إلى دار آخرين فلم يجب، فقيل له في ذلك، فقال (2): «إن في دار فلان كلبا». فقيل له: وإن في دار فلان هرة، فقال صلى الله عليه وسلم: «الهرة ليست بنجسة إنما هي من الطوافين
__________
(1) البيت في العقد الفريد ونسبته إلى الجحّاف بن حكيم. انظر العقد الفريد 4/ 214.
فالصواب الجحّاف وهو من الفتاك الشعراء في العصر الأموي، مات سنة 90هـ.
(2) رواه ابن حنبل: 1/ 80.(1/523)
عليكم والطوفات».
قال الإمام النووي، في شرح المهذب: وبيع الهرة الأهلية جائز بلا خلاف عندنا، إلا ما حكاه البغوي، في شرح مختصر المزني، عن ابن القاص، أنه قال: لا يجوز، وهذا شاذ باطل مردود، والمشهور جوازه وبه قال جماهير العلماء.
قال ابن المنذر: أجمعت الأمة على جواز اتخاذها، ورخص في بيعها ابن عباس والحسن وابن سيرين والحكم وحماد ومالك والثوري والشافعي وإسحاق وأبو حنيفة، وسائر أصحاب الرأي.
وكرهت طائفة بيعها منهم: أبو هريرة وطاوس ومجاهد وجابر بن زيد.
وقال ابن المنذر: إن ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم النهي عن بيعه، فبيعه باطل، وإلا فجائز.
احتج من منعه بحديث ابن الزبير، قال: سألت جابرا رضي الله تعالى عنه عن ثمن الكلب والسنور، فقال: نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك. رواه مسلم.
وفي سنن (1) أبي داود والترمذي وابن ماجه من حديث جابر رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم «نهى عن ثمن الهر».
واحتج أصحابنا بأنه طاهر منتفع به ووجد فيه جميع شروط البيع، فجاز بيعه كالحمار والبغل، والجواب عن الحديثين من وجهين أحدهما: جواب أبي العباس بن القاص والخطابي والقفال وغيرهم، أن المراد الهرة الوحشية، فلا يصح بيعها، لعدم الانتفاع بها، إلا على الوجه الضعيف القائل بجواز أكلها، والثاني أن المراد نهي تنزيه. فهذان الجوابان هما المعتمدان. وأما ما ذكره الخطابي وابن عبد البر، أن الحديث ضعيف فغلط منهما لأن الحديث في صحيح مسلم بإسناد صحيح كما تقدم بيانه، في باب السين المهملة.
وفي السنن (2) الأربعة، من حديث كبشة بنت كعب بن مالك، وكانت تحت بعض ولد أبي قتادة، أن أبا قتادة رضي الله تعالى عنه، دخل فسكبت له وضوءا، فجاءت هرة فشربت منه، فأصفى لها الإناء حتى شربت. قالت كبشة: فرآني أنظر إليه، فقال: أتعجبين يا ابنة أخي؟
فقلت: نعم. فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إنها ليست بنجس إنها من الطوافين عليكم والطوافات». والطوافون الخدم، والطوافات الخادمات، جعلها بمنزلة المماليك في قوله تعالى (3):
{وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدََانٌ مُخَلَّدُونَ}. ومنه قول إبراهيم النخعي: إنما الهرة كبعض أهل البيت.
كذا نقله الزمخشري.
وفي المستدرك وسنن ابن ماجه وكامل بن عدي عن عبد الرحمن بن أبي الزناد، عن أبيه عن أبي سلمة، عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (4): «الهرة لا تقطع
__________
(1) رواه أبو داود: بيوع 62. الترمذي بيوع 49. ابن ماجه صيد 20.
(2) رواه أبو داود: طهارة 38. الترمذي طهارة 69. النسائي طهارة 53. ابن ماجه طهارة 32.
(3) سورة الواقعة: آية 17.
(4) رواه ابن ماجه: طهارة 32.(1/524)
الصلاة إنما هي من متاع البيت».
فرع
: إذا كان للإنسان هرة تأخذ الطيور، وتقلب القدور، فأفلتت وأتلفت، فهل على صاحبها ضمان ما أتلفت؟ وجهان، أصحهما: نعم. سواء أتلفت ليلا أو نهارا، لأن مثل هذه الهرة ينبغي أن تربط ويكف شرها. وكذا الحكم في كل حيوان يولع بالتعدي، أما إذا لم يعهد منها ذلك، فالأصح لا ضمان،، لأن العادة جرت بحفظ الطعام عنها، لا بربطها. وأطلق إمام الحرمين في ضمان ما تتلفه الهرة أربعة أوجه: أحدها يضمن، والثاني لا، والثالث يضمن ليلا لا نهارا، والرابع عكسه: لأن الأشياء تحفظ عنها ليلا.
وإذا أخذت الهرة حمامة أو غيرها وهي حية، جاز فتل أذنها وضرب فمها، لترسلها فإذا قصدت الحمام فأهلكت بالدفع، فلا ضمان. فإذا كانت الهرة ضارية بالإفساد فقتلها إنسان في حال إفسادها دفعا جاز ولا ضمان عليه، كقتل الصائل دفعا، وينبغي تقييد ذلك، بما إذا لم تكن حاملا لأن في قتل الحامل قتل أولادها، ولم يتحقق منهم جناية.
وأما قتلها في غير حالة الإفساد، ففيه وجهان: أصحهما عدم الجواز ويضمنها. وقال القاضي حسين: يجوز قتلها ولا ضمان عليه فيها، وتلحق بالفواسق الخمس فيجوز قتلها، ولا يختص بحال ظهور الشر، وسؤرها طاهر لطهارة عينها، ولا يكره، فلو تنجس فمها ثم ولغت في ماء قليل، فثلاثة أوجه: الأصح أنها إن غابت واحتمل ولوغها في ماء يطهر فمها، ثم ولغت لم تنجسه، والثاني تنجسه مطلقا، والثالث عكسه وغير الماء من المائعات كالماء.
الأمثال
: قالوا: «أبر من هرة» (1) أرادوا بذلك أنها تأكل أولادها من شدة الحب لهم قال الشاعر:
أما ترى الدهر وهذا الورى ... كهرة تأكل أولادها
وقالوا: «فلان لا يعرف هر من بر» (2) قال ابن سيده: يعني لا يعرف الهر من الفار. وقال الزمخشري: لا يعرف من يكرهه ممن يبره، وما أحسن قول (3) أحمد بن فارس صاحب المجمل في اللغة، وكانت وفاته سنة ثلاث عشرة وثلاثمائة:
إذا ازدحمت هموم الصدر قلنا ... عسى يوما يكون لها انفراج
نديمي هرتي وأنيس نفسي ... دفاتر لي ومعشوقي السراج
قال شيخنا اليافعي رحمه الله تعالى: أخبرني بعض الصالحين من أهل اليمن، أن هرة كانت تأتي الشيخ العارف الأهدل بالدال المهملة، فيطعمها من عشائه، وكان اسمها لؤلؤة، فضربها خادم الشيخ ذات ليلة فماتت، فرمى بها الخادم في خرابة، لئلا يعلم الشيخ بذلك، فلما جاء الشيخ سكت عنه ليلتين أو ثلاثا، ثم قال: أين لؤلؤة؟ فقال: ما أدري، فقال الشيخ: ما تدري، ثم ناداها
__________
(1) جمهرة الأمثال: 1/ 197.
(2) جمهرة الأمثال: 5/ 312.
(3) مجمل اللغة: 1/ 29.(1/525)
لؤلؤة لؤلؤة، فجاءت تجري إليه، فأطعمها على العادة. والخواص تقدمت في باب السين في لفظ السنور.
تتمة
: قال الصاحب بن عباد أنشدني أبو الحسن بن أبي بكر الحسن بن علي العلاف البغدادي المقري الأديب قصيدة والده في الهر الذي كنى به عن ابن المعتز حين قتله المقتدر، فخشي من المقتدر ونسبها إلى الهر، وعرض به في أبيات منها.
وقيل: إنما كنى بالهر عن المحسن بن الوزير أبي الحسن علي بن الفرات (1) أيام محنته لأنه لم يجسر أن يذكره ويرثيه، وقيل: كان له هر يأنس به، فكان يدخل أبراج الحمام التي لجيرانه ويأكل فراخها، فأمسكه أربابها فذبحوه، فرثاه بقصيدة. وقال (2) ابن خلكان: وهي من أحسن الشعر وأبدعه. وعددها خمسة وستون بيتا، وطولها يمنع من الإتيان بجميعها، فنأتي بمحاسنها، وفيها أبيات مشتملة على حكم فنأتي بها وأولها:
يا هرّ فارقتنا ولم تعد ... وكنت عندي بمنزلة الولد
فكيف ننفك عن هواك وقد ... كنت لنا عدة من العدد
تطرد الأذى وتحرسنا ... بالغيب من حية ومن جرد
وتخرج الفأر من مكامنها ... ما بين مفتوحها إلى السّدد
يلقاك في البيت منهمو مدد ... وأنت تلقاهمو بلا مدد
لا عدد كان منك منفلتا ... منهم ولا واحد من العدد
لا ترهب الصيف عند هاجرة ... ولا تهاب الشتاء في الجمد
وكان يجري ولا سداد لهم ... أمرك في بيتنا على سدد
حتى اعتقدت الأذى لجيرتنا ... ولم تكن للأذى بمعتقد
وحمت حول الردى لظلمهم ... ومن يحم حول حوضه يرد
وكان قلبي عليك مرتعدا ... وأنت تنساب غير مرتعد
تدخل برج الحمام متئدا ... وتبلغ الفرخ غير متئد
وتطرح الريش في الطريق لهم ... وتبلع اللحم بلع مزدرد
أطعمك الغي لحمها فرأى ... قتلك أربابها من الرشد
حتى إذا داوموك واجتهدوا ... وساعد النصر كيد مجتهد
كادوك دهرا فما وقعت وكم ... أفلت من كيدهم ولم تكد
فحين أخفرت وانهمكت و ... كاشفت وأسرفت غير مقتصد
صادوك غيظا عليك وانتقموا ... منك وزادوا ومن يصد يصد
__________
(1) ابن الفرات: علي بن محمد بن موسى، أبو الحسن، وزير أديب عاقل من الأجواد أيام المقتدر. مات سنة 312هـ.
(2) وفيات الأعيان: 2/ 109.(1/526)
ثم شفوا بالحديد أنفسهم ... منك ولم يرعووا على أحد
فلم تزل للحمام مرتصدا ... حتى سقيت الحمام بالرصد
ومنها:
لم يرحموا صوتك الضعيف كما ... لم ترث منها لصوتها الغرد
أذاقك الموت ربّهن كما ... أذقت أفراخه يدا بيد
كأنّ حبلا حوى بجودته ... جيدك للخلق كان من مسد
كأن عيني تراك مضطربا ... فيه وفي فيك رغوة الزبد
وقد طلبت الخلاص منه فلم ... تقدر على حيلة ولم تجد
فما سمعنا بمثل موتك إذ ... متّ ولا مثل عيشك النكد
فجدت بالنفس والبخيل بها ... أنت ومن لم يجد بها يجد
عشت حريصا يقوده طمع ... ومت ذا قاتل بلا قود
يا من لذيذ الفراخ أوقعه ... ويحك هلّا قنعت بالغدد
ألم تخف وثبة الزمان كما ... وثبت في البرج وثبة الأسد
عاقبة الظلم لا تنام وإن ... تأخرت مدة من المدد
أردت أن تأكل الفراخ ولا ... يأكلك الدهر أكل مضطهد
هذا بعيد من القياس وما ... أعزّه في الدنو والبعد
لا بارك الله في الطعام إذا ... كان هلاك النفوس في المعد
كم دخلت لقمة حشا شره ... فأخرجت روحه من الجسد
ما كان أغناك عن تسوّرك ال ... برج ولو كان جنة الخد
ومنها:
قد كنت في نعمة وفي دعة ... من العزيز المهيمن الصّمد
تأكل من فأر بيتنا رغدا ... وأين بالشاكرين للرغد
وكنت بددت شملهم زمنا ... فاجتمعوا بعد ذلك البدد
فلم يبقوا لنا على سبد ... في جوف أبياتها ولا لبد (1)
وفرغوا قعرها وما تركوا ... ما علقته يد على وتد
وفتتوا الخبز في السلال وكم ... تفتتت للعيال من كبد
ومزقوا من ثيابنا جددا ... فكلنا في المصائب الجدد
وكان ابن العلاف ينادم المعتضد بالله، فبات ليلة في دار المعتضد مع جماعة من ندمائه، فجاء خادم ليلا فقال: إن أمير المؤمنين يقول لكم: أرقت الليلة فقلت (2):
__________
(1) يقال: «ماله سبد ولا لبد» بمعنى لا قليل ولا كثير.
(2) وفيات الأعيان: 2/ 108.(1/527)
ولما انتبهنا للخيال الذي سرى ... إذ الدار قفرى والمزار بعيد
وقد ارتج علي تمامه فمن أجازه بما يوافق غرضي أجزته فارتج على الجماعة، وكانوا كلهم أفاضل، فقال (1) ابن العلاف:
فقلت لعيني عاودي النوم واهجعي ... لعلّ خيالا طارقا سيعود
فعاد الخادم إلى المعتضد، ثم رجع إلى ابن العلاف، وقال: يقول أمير المؤمنين: أحسنت، وأمر لك بجائزة سنية وكانت وفاة ابن العلاف سنة ثماني عشرة وثلاثمائة وعمره مائة سنة.
التعبير
: الهر في الرؤيا خادم حافظ، فان خطف شيئا فهو لص الدار، وخدشه وعضه خيانة الخادم، وقال ابن سيرين: عض الهر مرض سنة، وكذلك خدشه، والهر إذا لم يكن يأمو فهو سنة فيها راحة لمن رآه، والهر الوحشي سنة فيها تعب ونصب، ومن باع هرة فإنه ينفق ماله، وقالت اليهود: الهر يعبر بالغمازين واللصوص لأن فيها المنفعة والمضرة.
وقال أرطاميدورس: الهر في المنام امرأة خداعة صخابة، وعض الهر مرض في تلك السنة.
ومن الرؤيا المعبرة أن ابن سيرين أتته امرأة فقالت: رأيت كأن سنورا أدخل رأسه في بطن زوجي فأخذ منه قطعة، فقال ابن سيرين: قد سرق لزوجك ثلاثمائة درهم وستة عشر درهما، قالت:
صدقت، فمن أين لك هذا؟ قال: من هجاء حروفه في حساب الجمل فالسين ستون والنون خمسون والواو ستة والراء مائتان، فصار المبلغ ثلاثمائة وستة عشر درهما، فاتهموا عبدا كان في جوارهم، فضربوه فأقر بالمال، ومن رأى كأنه أكل لحم سنور، فإنه يتعلم السحر والله تعالى أعلم.
الهرنصانة:
بالكسر دودة تسمى السرفة، وقد تقدمت، في باب السين المهملة.
هرثمة:
من أسماء الأسد، حكاه ابن سيده وغيره.
الهرهير:
نوع من السمك، وقال المبرد: إنه مركب من السلحفاة، ومن أسود سالح، قال:
وهو من أخبث الحيات، ينام ستة أشهر ثم لا يسلم سليمه انتهى. والظاهر أنه مشترك بين الحية والسمك.
الهرزون والهرزان:
الظليم، وقد تقدم في باب الظاء.
الهزار:
بفتح الهاء العندليب، وقد تقدم في باب الصاد المهملة في الكلام على الصعوة قول الشاعر:
الصعو يرتع في الرياض وإنما ... حبس الهزار لأنه يترنم
الهزبر:
بكسر الهاء وفتح الزاي واسكان الباء الموحدة وبالراء المهملة في آخره الأسد، كذا
__________
(1) وفيات الأعيان: 2/ 108.(1/528)
حكاه الجوهري. وقال غيره: إنه حيوان على شكل السنور الوحشي، وفي قده إلا أن لونه يخالف لونه وهو من ذوات الأنياب، ويوجد في بلاد الحبشة كثيرا، لكن يؤيد ما حكاه الجوهري ما قاله بشر بن أبي عوانة لما قتل الأسد:
أفاطم لو شهدت ببطن جب ... وقد لاقى الهزبر أخاك بشرا
إذا لرأيت ليثا رام ليثا ... هزبرا أغلبا لاقى هزبرا
تبهنس إذ تقاعس عنه مهري ... فقلت له: عقرت اليوم مهرا
أنل قدمي بطن الأرض إني ... وجدت الأرض أثبت منك ظهرا
وقلت له وقد أبدى نصالا ... محددة ولحظا مكفهرا
يدل بمخلب وبحد ناب ... وباللحظات تحسبهن جمرا
وفي يمناي ماضي العزم أبغي ... بمضربه قراع الموت أثرا
فأنت تروم للأشبال قربا ... ومطلبي لبنت العم مهرا
فلما ظن أن النصح غشّ ... وخال مقالتي زورا وهجرا
مشى ومشيت من أسدين راما ... مراما كان يطلباه وعرا
هززت له الحسام فخلت أني ... سللت به لدى الظلماء فجرا
وجدت بضربة جاءته شفعا ... بساعد ماجد تركته وترا
فخرّ مجندلا فحسبت أني ... هدمت له بناء مشمخرا
وقلت له يعز علي أني ... قتلت مناسبي جلدا وقهرا
ولكن رمت شيئا لم يرمه ... سواك فلم تطق يا ليث صبرا
فلا تجزع فقد لاقيت حرا ... يحاذر أن يعاب فمت حرا
وأبو الهزبر الملك المؤيد صاحب اليمن داود بن الملك المظفر يوسف بن عمر، كانت دولته بضعا وعشرين سنة، وكان عالما فاضلا شجاعا، وكان عنده من الكتب نحو مائة ألف مجلد، وكان يحفظ التنبيه وغيره وأبوه الملك المظفر، وولده الملك المجاهد كانا في العلم أرفع منه درجة، وأذكى قريحة، وأشهر فضلا، تغمدهم الله برحمته.
الهرعة:
القملة، قيل: مكتوب على عرش بلقيس:
ستأتي سنون هي المعضلات ... يراع من الهرعة الأجدل
وفيها يهين الصغير الكبير ... وذو العلم يسكته الأجهل
الهف:
جنس من السمك صغار، وهو الحساس المتقدم ذكره في باب الحاء المهملة.
الهقل:
بكسر الهاء الفتى من النعام، وبه لقب محمد بن زياد الهقل الدمشقي، كاتب الأوزاعي، وكان يسكن بيروت، فغلب عليه هذا اللقب. قال ابن معين: ما كان بالشأم أوثق منه، وكان أعلم الناس بمحاسن الأوزاعي وفتياه، توفي سنة تسع وسبعين. وروى له الجماعة
سوى البخاري وفي المثل قالوا: «أشم من هقل» (1).(1/529)
بكسر الهاء الفتى من النعام، وبه لقب محمد بن زياد الهقل الدمشقي، كاتب الأوزاعي، وكان يسكن بيروت، فغلب عليه هذا اللقب. قال ابن معين: ما كان بالشأم أوثق منه، وكان أعلم الناس بمحاسن الأوزاعي وفتياه، توفي سنة تسع وسبعين. وروى له الجماعة
سوى البخاري وفي المثل قالوا: «أشم من هقل» (1).
الهقلس:
كعملس الذئي، وقد تقدم الكلام على الذئب في باب الذال المعجمة مستوفى قال الكميت:
ونسمع أصوات الفراعل حوله ... يعاوين أولاد الذئاب الهقالسا
يعني حول الماء الذي ورده.
الهمج:
جمع همجة وهو ذباب صغار كالبعوض، يسقط على وجوه الغنم والحمير وأعينها، اشتقوا من اسمه ما يؤكد به. فقالوا: همج هامج كقولهم: ليل لائل، وصيف صائف، ووتد واتد، ويوم أيوم، وجاهلية جهلاء، ويقال للرعاع من الناس الحمقى إنما هم الهمج.
قال علي رضي الله تعالى عنه: سبحان من أدمج قوائم الذرة والهمجة. وقال لكميل بن زياد: يا كميل القلوب أوعية، وخيرها أوعاها للخير، والناس ثلاثة: عالم رباني، ومتعلم على سبيل نجاة، وهمج رعاع أتباع كل ناعق.
والرباني الراسخ في العالم بعلمه. وقال صاحب قوت القلوب، في تفسير قول علي كرم الله وجهه: هذا الهمج الفراش الذي يتهافت في النار، لجهله واحدته همجة، والرعاع الخفيف الطياش الذي لا عقل له، يستفزه الطمع، ويستخفه الغضب، ويزدهيه العجب، ويستطيله الكبر. قال: ثم بكى علي وقال: هكذا يموت العلم بموت حامله انتهى كلامه.
الهمع:
بفتح الهاء والميم: الصغير من الظباء خاصة.
الهمل:
بالتحريك الإبل بلا راع، مثل النفش إلا أن النفش لا يكون إلا ليلا، والهمل يكون ليلا ونهارا. ويقال: إبل همل وهاملة وهمال وهوامل، وتركتها هملا أي سدى، إذا أرسلتها ترعى ليلا ونهارا بلا راع. وفي المثل: «اختلط المرعي بالهمل» (2). والمرعى الذي له راع. قاله الجوهري. وما أحسن ما صنع الطغرائي في ختمه لاميته بقوله:
ترجو البقاء بدار لاثبات لها ... فهل سمعت بظلّ غير منتقل
قد رشحوك لأمر لو فطنت له ... فاربأ بنفسك أن ترعى مع الهمل
أشار به إلى قوله تعالى (3): {أَيَحْسَبُ الْإِنْسََانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً} أي معطلا لا يؤمر ولا ينهى.
يقال: أسديت حاجتي أي ضيعتها وابل سدى، أي ترعى حيث شاءت بلا راع كذا فسره الثعلبي وغيره.
الهملع:
بالتحريك مع تشديد اللام الذئب قال الشاعر.
والشاء لا تمشي مع الهملع
__________
(1) جمهرة الأمثال: 1/ 458.
(2) جمهرة الأمثال: 1/ 93.
(3) سورة القيامة: آية 36.(1/530)
أي لا تنمو مع رؤية الذئب، والمشاء هو نماء المال وزيادته. يقال: مشى الرجل وأمشى، إذا نما ماله وكثرت ماشيته، وقيل في قوله تعالى: {أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلى ََ آلِهَتِكُمْ} (1) إنه من المشاء، لا من المشي. قاله السهيلي، قبل خروج النبي صلى الله عليه وسلم إلى الطائف، وأفاد بعده بسطرين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لخديجة رضي الله تعالى عنه: «إن الله أعلمني أن سيزوجني معك في الجنة مريم ابنة عمران، وكلثم أخت موسى، وآسية امرأة فرعون». فقالت: بالرفاء والبنين. وذكر أيضا في الحديث، أن النبي صلى الله عليه وسلم أطعم خديجة رضي الله تعالى عنها، من عنب الجنة.
الهمهم:
الأسد قاله ابن سيده، وقد تقدم ما في الأسد.
الهنبر:
مثل الخنصر، ولد الضبع. قال أبو زيد من أسماء الضبع أم هنبر في لغة فزارة، قال الشاعر القتال الكلابي:
يا قاتل الله صبيانا تجيء بهم ... أمّ الهنيبر من زندلها واري
وقال أبو عمرو: الهنبر الجحش، ومنه قيل للأتان: أم الهنبر.
وقالوا في المثل: «أحمق من أم الهنبر» (2).
الهودع:
بفتح الهاء والدال المهملة وبالعين المهملة في آخره: النعامة وقد تقدم ما فيها.
الهوذة:
بفتح الهاء وسكون الواو وبعدها ذال معجمة ضرب من الطير، وقال قطرب: هي القطاة، والجمع هوذ وبذلك سمي هوذة بن علي الحنفي، الذي أرسل إليه النبي صلى الله عليه وسلم سليط بن عمرو العامري فأكرمه وأنزله وكتب إلى النبي صلى الله عليه وسلم: ما أحسن ما تدعو إليه وأجمله، وأنا خطيب قومي وشاعرهم، فاجعل لي بعض الأمر، فأبى النبي صلى الله عليه وسلم. ولما قدم سليط على هوذة ومعه كتاب النبي صلى الله عليه وسلم، وكان فيه:
بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد رسول الله إلى هوذة بن علي. سلام على من اتبع الهدى، واعلم أن ديني سيظهر إلى منتهى الخف والحافر، فأسلم تسلم وأجعل لك ما تحت يديك.
فلما قرأ الكتاب، أنزله وحياه، ورده ردا دون رد، وأجاز سليط بن عمرو بجائزة، وكساه أثوابا من نسج هجر. وكتب إلى النبي صلى الله عليه وسلم ما تقدم. فلما انصرف النبي صلى الله عليه وسلم من فتح مكة، جاءه جبريل فأخبره أنه قد مات على نصرانيته، والله تعالى أعلم.
الهوزن:
بفتح الهاء وإسكان الواو وفتح الزاي. طائر، قاله ابن سيده، وبإبدال الواو ياء رجل من أعراب فارس، وهو القائل فيما حكى الله عنه {قََالُوا: ابْنُوا لَهُ بُنْيََاناً فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ} (3) في قصة إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام، ورميه في النار. وهو الذي جاء فيه الحديث الذي انفرد به مسلم، عن محمد بن زياد، عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم (4) قال:
__________
(1) سورة ص: آية 6.
(2) جمهرة الأمثال: 1/ 316.
(3) سورة الصافات: آية 97.
(4) رواه البخاري: أنبياء 54. ومسلم: لباس 49.(1/531)
«بينا رجل يمشى قد أعجبته جمته وبرداه، إذ خسف الله به الأرض فهو يتجلجل فيها حتى تقوم الساعة».
الهلابع:
بضم الهاء الذئب، من قولهم: رجل هلابع أي حريص على الأكل.
الهلال:
بكسر الهاء الحية مطلقا، وقيل: الذكر من الحيات، والهلال أيضا الجمل الذي جرب حتى أداه ذلك إلى الهزال، والهلال الهلال المعروف.
الهيثم:
بفتح الهاء فرخ الحبارى، ومنه سمي الرجل هيثما، وقال الجوهري: إنه فرخ العقاب، وقيل: فرخ النسر أيضا، قاله في كفاية المتحفظ.
الهيجمانة:
الذر، وقد تقدم لفظ الذر في باب الذال المعجمة.
الهيطل:
الثعلب، وقد تقدم لفظ الثعلب في باب الثاء المثلثة.
الهيعرة:
الغول والمرأة الفاجرة والخفة والطيش.
الهيق:
بفتح الهاء وسكون الياء المثناة تحت قبل القاف: ذكر النعام وكذلك الهيقم، والميم زائدة قال الراجز:
أشمّ من هيق وأهدى من جمل
وقال آخر:
وهو يشمّ كاشتمام الهيق
الهيكل:
بفتح الهاء الفرس الطويل الضخم.
أبو هارون:
طير في حنجرته أصوات شجية تفوق النوائح، وتروق فوق كل مغن، لا يسكت بالليل البتة، يصيح إلى وقت الصباح، ويجتمع عليه الطير لا لتذاذها بسماع صوته، وربما يمر به العاشق فلا يستطيع المرور بل يقعد ويبكي على صوته الشجي، والله أعلم.
باب الواو
الوازع:
الكلب لأنه يزع الذئب عن الغنم، أي يطرده. وقد تقدم ما فيه في باب الكاف.
الواق واق:
تقدم في بابا السين مهملة، في الكلام على السعلاة عن الجاحظ، أنه نتاج ما بين بعض النبات وبعض الحيوان، والله تعالى أعلم.
الواقي:
كالقاضي: الصرد ويقال له: الواق بكسر القاف، سمي بذلك لحكاية صوته، وأنشد (1) ابن قتيبة لبعض الشعراء، وهو المرقش السدوسي:
ولقد عدوت وكنت لا ... أعدو على واق وحاتم
__________
(1) الأبيات في عيون الأخبار: 1/ 232. والمرقّش الأكبر هو عوف بن سعد بن مالك. شاعر جاهلي عاشق.(1/532)
فإذا الأشائم كالأيا ... من والأيامن كالأشائم
وكذاك لا خير ولا ... شرّ على أحد بدائم
لا يمنعنك من بغا ... ء الخير تعقاد التمائم
قد خطّ ذلك في السطو ... ر الأوليات القدائم
الواقي الصرد، والحاتم الغراب، وقال خيثم بن عدي (1):
وليس بهياب إذا شدّ رحله ... يقول عداني اليوم واق وحاتم
ولكنه يمضي على ذاك مقدّما ... إذا صد عن تلك الهناة الخثارم
يعني بالخثارم العاجز الضعيف الرأي المتطير، والواق أيضا طير من طير الماء أبيض ينطق بهذه الحروف.
وفي حله
الخلاف في طير الماء الأبيض، وقد تقدم أن الأصح حلها، إلا اللقلق كما قاله الرافعي.
الوبر:
بفتح الواو وتسكين الباء الموحدة دويبة أصغر من السنور طحلاء اللون لا ذنب لها تقيم في البيوت، وجمعها وبورو وبارو وبارة، والأنثى وبرة، وقول الجوهري: لا ذنب لها أي لا ذنب طويل، وإلا فالوبر له ذنب قصير جدا والناس يسمون الوبر بغنم بني اسرائيل، ويزعمون أنها مسخت لأن ذنبها مع صغره، يشبه ألية الخروف، وهو قول شاذ لا يلتفت إليه ولا يعول عليه.
فائدة
: روى (2) البخاري، في كتاب الجهاد، عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو بخيبر بعدما افتتحوها، فقلت: يا رسول الله أسهم لي، فقال بعض بني سعيد بن العاص: لا تسهم له يا رسول الله فقال أبو هريرة رضي الله تعالى عنه: هذا قاتل ابن قوقل. فقال ابن سعيد بن العاص: واعجبا لوبر تدلى علينا من قدوم ضان، ينعي علي قتل رجل مسلم، أكرمه الله على يدي، ولم يهنّى على يديه. قال: فلا أدري أسهم له أم لم يسهم له. وابن سعيد المذكور هو أبان، كما سيأتي إن شاء الله تعالى.
قال بعض شراح البخاري: الوبر دويبة يقال إنها تشبه السنور، وأحسب أنها تؤكل. وضان اسم جبل ويروى ضال باللام. قوله: ينعى معناه يعيب، يقال: نعيت على فلان فعله إذا عبته عليه، وخرجه البخاري أيضا في غزوة خيبر، فقال: إن أبان بن سعيد أقبل إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فسلم عليه فقال أبو هريرة: يا رسول الله هذا قاتل ابن قوقل، فقال أبان لأبي هريرة: وا عجبا لك وبر تردى من قدوم ضان ينعي عليّ امرءا أكرمه الله تعالى بيدي ومنعه أن يهينني بيده.
قال بعض الشارحين: قدوم جبل لدوس، وهي قبيلة أبي هريرة رضي الله تعالى عنه.
__________
(1) البيتان في عيون الأخبار: 1/ 233.
(2) رواه البخاري: الجهاد 28، المغازي 38.(1/533)
قال البكري، في معجمه: هكذا رواه الناس عن البخاري قدوم ضان بالنون إلا الهمداني فإنه رواه من قدوم ضال بالكلام، وهو الصواب إن شاء الله تعالى، والضال السدر البري. وأما إضافة هذه النسبة إلى الضان فلا أعلم لها معنى، وكذلك قال شيخ الإسلام الشيخ تقي الدين بن دقيق العيد في شرح الإلمام.
وقال ابن الأثير، في النهاية: والوبر دويبة على قدر السنور وجمعها وبر وبار، وإنما شبهه بالوبر تحقيرا له. ورواه بعضهم بفتح الباء من وبر الإبل تحقيرا له أيضا. والصحيح الأول. وابن قوقل بقافين مفتوحين، اسمه النعمان رجل مسلم قتله أبان بن سعيد في حال كفره وكان اسلام أبان بين الحديبية وخيبر، وهو الذي أجار عثمان رضي الله تعالى عنه يوم الحديبية حين بعثه النبي صلى الله عليه وسلم إلى مكة.
وحكمه
: حل الأكل لأنه يفدى في الإحرام والحرم، وهو كالأرنب يعتلف النبات والبقول.
وقال الماوردي والروياني: إنه حيوان في عظم الجرذ إلا أنه أنبل منه وأكبر، والعرب تأكله. وقيل:
هو دويبة سوداء على قدر الأرنب وأكبر من ابن عرس، وعبارة الرافعي قريبة من ذلك. وقال مالك: لا بأس بأكله، وبه قال عطاء ومجاهد وطاووس وعمرو بن دينار وابن المنذر وأبو يوسف.
وكرهه الحكم وابن سيرين وحماد وأبو حنيفة والقاضي من الحنابلة، وقال ابن عبد البر: لا أحفظ في الوبر شيئا عن أبي حنيفة وهو عندي مثل الأرنب لا بأس بأكله، لأنه يقتات البقول والنبات والله أعلم.
الوج:
كوج الطائف، القطا والنعام وقد تقدم ما فيهما في بابيهما القاف والنون.
الوحرة:
بفتح الواو والحاء والراء دويبة حمراء تلزق بالأرض كالعظاء، والجمع وحر، قاله الجوهري.
وقال غيره: هي بفتح الحاء وسكونها وهي وزغة شبيهة بسام أبرص تلصق بالأرض، أو ضرب من العظاء لا تطأ طعاما ولا شرابا إلا سمته، وهي على شكل سام أبرص. روى (1)
الترمذي، عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «تهادوا فإن الهدية تذهب وحر الصدور لا تحقرن جارة لجارتها ولو فرسن شاة». ثم قال: غريب من هذا الوجه، وقوله: «لا تحقرن جارة لجارتها» إلى آخره رواه البخاري في صحيحه، عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أيضا بزيادة «يا نساء المسلمات» ووحر الصدر غشه ووساوسه. وقيل: الحقد والغيظ، وقيل: العداوة، وقيل: أشد الغضب، وقيل: الغل اللاصق به كما تلصق الوحرة بالأرض. وكذلك رواه (2)
البخاري، في كتاب الأدب، والبيهقي من حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه بإسناد جيد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «تهادوا تحابوا فإنه يضعف الحب ويذهب بغوائل الصدور». وفي حديث (3)
__________
(1) رواه الترمذي: ولاء 6. والبخاري: هبة 1، أدب 30. مسلم: زكاة 91.
(2) رواه البخاري: أدب 30.
(3) رواه البخاري: تفسير 124، طلاق 30، حدود 43.(1/534)
الملاعنة «إن جاءت به أحمر قصيرا مثل الوحرة فقد كذب عليها». وفي الحديث (1): «من أحب أن يذهب كثيرا من وحر صدره فليصم شهر الصبر وثلاثة أيام من كل شهر».
الوحش:
كل شيء من دواب البر مما لا يستأنس، والجمع وحوش، يقال: حمار وحش وثور وحش، وكل شيء لا يستأنس من الناس فهو وحش. وقد تقدم في أول الباب الذي قبله، الحديث الذي رواه (2) مسلم عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن لله عز وجل مائة رحمة، قسم منها رحمة بين جميع الخلائق، فبها يتراحمون، وبها يتعاطفون، وبها تعطف الوحش على أولادها، وأخر تسعة وتسعين رحمة يرحم بها عبادة يوم القيامة» وإنما خص النبي صلى الله عليه وسلم الوحش بالذكر، لنفورها وعدم استئناسها. وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يقول الله سبحانه وتعالى: ابن آدم وعزتي وجلالي لئن رضيت بما قسمت لك أرحتك وأنت محمود، وإن لم ترض بما قسمت لك سلطت عليك الدنيا تركض فيها كركض الوحش ثم لا يكون لك إلا ما قسمت لك وأنت مذموم». وروى الترمذي من حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله تعالى عنه مرفوعا: «من سعادة ابن آدم رضاه بما قسم الله».
وفي الإحياء: أن الله تعالى أوحى إلى داود عليه الصلاة والسلام: يا داود تريد وأريد ولا يكون إلا ما أريد، فإن سلمت لما أريد كفيتك ما تريد، وإن لم تسلم لما أريد أتعبتك فيما تريد، ثم لا يكون إلا ما أريد. وقال أبو القاسم الأصبهاني، في الترغيب والترهيب: قال قيس بن عبادة: بلغني أن الوحش كانت تصوم عاشوراء، وقال الفتح بن سخرب، وكان من الزهاد:
كنت أفتت للنمل خبزا في كل يوم فإذا كان يوم عاشوراء لم تأكله.
تتمة مشتملة على فوائد حسنة
: قال شيخ الإسلام محي الدين النووي، في الأذكار، في باب أذكار المسافر، عند إرادة الخروج من بيته: يستحب له عند ارادته الخروج من بيته أن يصلي ركعتين، لحديث المقطم بن المقدام الصحابي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ما خلف أحد عند أهله أفضل من ركعتين يركعهما عندهم حين يريد السفر». رواه الطبراني. قال بعض أصحابنا:
يستحب أن يقرأ في الأولى منهما بعد الفاتحة قل أعوذ برب الفلق، وفي الثانية قل أعوذ برب الناس، وإذا سلم قرأ آية الكرسي، فقد جاء أن من قرأ آية الكرسي، قبل خروجه من منزله، لم يصبه شيء يكرهه حتى يرجع ويستحب أن يقرأ سورة لايلاف قريش فقد قال السيد الجليل، أبو الحسن القزويني، الفقيه الشافعي صاحب الكرامات الظاهرة والأحوال الباهرة، والمعارف المتظاهرة: إنه أمان من كل سوء. وقال أبو طاهر بن جحشويه: أردت سفرا، وكنت خائفا منه فدخلت على القزويني، أسأله الدعاء، فقال لي ابتداء من قبل نفسه: من أراد سفرا ففزع من عدو أو وحش، فليقرأ لإيلاف قريش، فإنها أمان من كل سوء. فقرأتها فلم يعرض لي عارض حتى الآن انتهى. قوله المقطم الصحابي وهم، لا يعرف في الصحابة من اسمه المقطم.
والحديث المذكور مرسل، فإن راويه إنما هو المقطم بن المقدام الصنعاني رواه الطبراني في كتاب المناسك، وقد وقع هذا الاسم في الأذكار مصحفا كما ترى صحف الصنعاني فجعله
__________
(1) رواه ابن حنبل: 785.
(2) رواه مسلم: توبة 19. ابن ماجه: زهد 35.(1/535)
الصحابي وربما ظن أن ذلك تصحيف من النساخ، حتى وجد كذلك بخط الشيخ محي الدين النووي. هكذا أفادنا هذه الفائدة شيخنا الحافظ العلامة زين الدين بن عبد الرحيم العراقي رحمه الله وأحسن إليه قال: والصنعاني المذكور نسبة إلى صنعاء الشام لا إلى صنعاء اليمن.
تتمة أخرى
: قوله (1) تعالى: {وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ} أي جمعت وقوله (2) تعالى: {مََا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلََا طََائِرٍ يَطِيرُ بِجَنََاحَيْهِ إِلََّا أُمَمٌ أَمْثََالُكُمْ مََا فَرَّطْنََا فِي الْكِتََابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلى ََ رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ} اختلف العلماء في حشر البهائم والوحش والطيّر فقال عكرمة: حشرها موتها.
وقال أبي بن كعب: حشرت أي اختلطت. وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: حشر كل شيء الموت، غير الجن والإنس فإنهما يوفيان يوم القيامة. وقال الجمهور: الجميع تحشر وتبعث حتى الذباب ويقتص لبعضها من بعض، فيقتص للجماء من القرناء، ثم يقول الله تعالى: كوني ترابا فعند ذلك يتمنى الكافر أن يكون ترابا فذلك قوله عز وجل حكاية عن الكافر: {يََا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرََاباً} (3) قاله أبو هريرة وعمرو بن العاص وعبد الله بن عمرو ابن عباس رضي الله تعالى عنهم في إحدى الروايات والحسن البصري ومقاتل وغيرهم.
ورأيت في بعض التفاسير أن المراد بالكافر هنا إبليس لعنه الله وذلك أنه عاب آدم عليه السلام كونه خلق من تراب، وافتخر عليه كونه خلق من نار، فإذا عاين يوم القيامة ما فيه آدم وبنوه المؤمنون من الثواب والراحة والرحمة، ورأى ما هو فيه من الشدة والعذاب، تمنى أن يكون ترابا كالبهائم والوحش والطير.
قال أبو هريرة رضي الله تعالى عنه: فيقول التراب للكافر: لا ولا كرامة لك من جعلك مثلي، ثم يجول ذلك التراب في وجوه الكفار فذلك قوله (4) تعالى: {وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهََا غَبَرَةٌ تَرْهَقُهََا قَتَرَةٌ} أي ظلمة وكآبة وكسوف وسواد، فإن قيل: ما الفرق بين الغبرة والقترة؟ قيل: إن القترة ما ارتفع من الغبار فلحق بالسماء، والغبرة ما كان أسفل في الأرض قاله ابن زيد.
روى الجماعة (5): من حديث رافع بن خديج، قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر، فند منّا بعير، فرماه رجل بسهم، فقال صلى الله عليه وسلم: «إن لهذه البهائم أوابد كأوابد الوحش فما غلبكم منها فاصنعوا به هكذا».
تتمة أخرى
: قال الشيخ قطب الدين القسطلاني: مما حفظت من دعاء والدتي أم محمد آمنة، ووفاتها في صفر سنة ست وخمسين وستمائة، وهو ينفع للوقاية من الأعداء، وممن يخاف شره: اللهم بتلألؤ نور بهاء حجب عرشك من أعدائي احتجبت، وبسطوة الجبروت ممن يكيدني استترت، وبطول حول شديد قوتك من كل سلطان تحصنت، وبديموم قيوم دوام أبديتك من كل شيطان استعذت، وبمكنون السر من سرسرك من كل هم وغم تخلصت، يا حامل العرش عن
__________
(1) سورة التكوير: آية 5.
(2) سورة الأنعام: آية 38.
(3) سورة النبأ: آية 40.
(4) سورة عبس: آية 40.
(5) رواه البخاري: جهاد 191، شركة 163، ذبائح 1815. ومسلم أضاحي 20.(1/536)
حملة العرش، يا شديد البطش يا حابس الوحش، احبس عني من ظلمني. واغلب من غلبني، {كَتَبَ اللََّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللََّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} (1) اهـ.
وقد فكرت في معنى قولها يا حابس الوحش، فظهر لي فيه أنها أرادت قوله (2) صلى الله عليه وسلم، في قصة الحديبية، «حبسها الفيل»، والقصة في ذلك مشهورة، وقد تقدمت.
وقال الشيخ قطب الدين أيضا: ومما حفظته من دعاء والدتي، وهو من الأدعية التي تنفع في الحجب من الأعداء: اللهم إني أسألك بسر الذات بذات السر، هو أنت أنت هو لا إله إلا أنت احتجبت بنور الله، وبنور عرش الله، وبكل اسم من أسماء الله، من عدوي وعدو الله، ومن شر كل خلق الله، بمائة ألف ألف لا حول ولا قوة إلا بالله، ختمت على نفسي وديني وأهلي ومالي وولدي، وجميع ما أعطاني ربي، بخاتم الله القدوس المنيع، الذي ختم به أقطار السموات والأرض، حسبنا الله ونعم الوكيل حسبنا الله ونعم الوكيل، حسبنا الله ونعم الوكيل، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
ومما جرب في الحجب عن الأعداء أيضا ويمنع من شر كل سلطان وشيطان، وسبع وهامة، أن يقول: سبع مرات عند طلوع الشمس: أشرق نور الله وظهر كلام الله وأثبت أمر الله ونفذ حكم الله استعنت بالله وتوكلت على الله، ما شاء الله، لا حول ولا قوة إلا بالله، تحصنت بخفي لطف الله، وبلطيف صنع الله، وبجميل ستر الله، وبعظيم ذكر الله، وبقوة سلطان الله، دخلت في كنف الله، واستجرت برسول الله صلى الله عليه وسلم، برئت من حولي وقوتي، واستعنت بحول الله وقته، اللهم استرني في نفسي وديني وأهلي ومالي وولدي، بسترك الذي سترت به ذاتك، فلا عين تراك، ولا يد تصل إليك، يا رب العالمين احجبني عن القوم الظالمين بقدرتك يا قوي يا متين، وصلى الله على سيدنا محمد خاتم النبيين وعلى آله وصحبه أجمعين، وسلم تسليما كثيرا دائما أبدا إلى يوم الدين، والحمد رب العالمين.
الودع:
واحدته ودعة وهو حيوان في جوف البحر، إذا قذف إلى البرمات، وله بريق ولون حسن، وتصلب كصلابة الحجر، فيثقب ويؤخذ منه القلائد، يتحلى بها النساء والصبيان. وفي داله الفتح والسكون قال الشاعر:
إن الرواة بلا فهم لما حفظوا ... مثل الجمال عليها يحمل الودع
لا الودع ينفعه حمل الجمال له ... ولا الجمال بحمل الودع تنتفع
واسمها مشتق من ودعته أي تركته، لأن البحر ينضب عنها ويدعها، فهي ودع بالتحريك وإذا قلت الودع بالتسكين، فهو من باب ما سمي بالمصدر.
الوراء:
ولد البقرة وقد تقدم ما في البقرة في باب الباء الموحدة.
الورد:
الأسد قيل له ذلك تشبيها بلون الورد الذي يشم، ولذلك قيل للفرس ورد، وهو
__________
(1) سورة المجادلة: آية 21.
(2) رواه البخاري: شروط 15. وأبو داود جهاد 156.(1/537)
بين الكميت الأشقر. والأنثى وردة والجمع ورد بالضم مثل جون وجون.
ومن الأحاديث الموضوعة، ما ذكره ابن عدي وغيره، في ترجمة الحسن بن علي بن زكريا بن صالح العدوي البصري، الملقب بالذئب، عن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (1): «ليلة أسري بي إلى السماء سقط إلى الأرض من عرقي فنبت منه الورد، فمن أراد أن يشم رائحتي فليشم الورد».
الورداني:
بالراء المهملة طائر متولد بين الورشان والحمام، وله غرابة لون وظرافة قد قاله الجاحظ.
الورشان:
بالشين المعجمة هو ساق حر المتقدم في باب السين المهملة، وهو ذكر القمارى، والجمع وراشين ويجمع أيضا على ورشان بكسر الراء ككروان جمع للطائر، وقيل: إنه طائر يتولد بين الفاختة والحمامة وبعضهم يسميه الورشين وفي ذلك يقول ابن عنين (2) ملغزا:
يا علماء القريض إني ... أعجزني في القريض كشف
فخبروني عن اسم طير ... النصف ظرف والنصف حرف
وكنيته أبو الأخضر وأبو عمران وأبو النائحة. وهو أصناف منها: النوبي وهو أسود حجازي، إلا أنه أشجى صوتا منه، ومزاجه بارد رطب بالنسبة إلى مزاج الحجازيات، وصوته بين أصواتها كصوت العود بين الملاهي، والورشان يوصف بالحنو على أولاده، حتى إنه ربما قتل نفسه إذا رآها في يد القانص. قال عطاء: إنه يقول: لدوا للموت، وابنوا للخراب. وهذه لام العاقبة مجازا قال الشاعر:
له ملك ينادي كلّ يوم ... لدوا للموت وابنوا للخراب
حكى القشيري، في رسالته، في باب كرامات الأولياء، أن عتبة الغلام كان يقعد فيقول: يا ورشان إن كنت أطوع لله مني فتعال فاقعد على كفي فيجيء الورشان فيقعد على كفه.
وحكمه
: حل الأكل لأنه من الطيبات.
تتمة
: كان عثمان بن سعيد أبو سعد المقرىء المصري المعروف بورش، قصيرا سمينا أشقر أزرق العينين، شديد البياض، حسن الصوت بالقراءة، ولذلك لقبه شيخه نافع بالورشان، فكان يقول له: اقرأ يا ورشان افعل يا ورشان وكان لا يكرهه ويعجبه، ويقول: استاذي نافع سماني به فغلب عليه، ثم حذف بعض الاسم فقيل له ورش. قال ورش: خرجت من مصر لأقرأ على نافع فلما دخلت المدينة، فإذا به لا يطيق أحد القراءة عليه لكثرة الطلبة، وكان لا يقرىء أحدا إلا ثلاثين آية.
قال: فتوسلت إليه ببعض أصحابه، فجئت إليه معه، فقال: هذا رجل جاء من مصر ليقرأ
__________
(1) الكامل لابن عدي: 2/ 754.
(2) ابن عنين: محمد بن نصر الله. توفى سنة 630هـ.(1/538)
عليك خاصة، لم يجىء تاجرا ولا حاجا، فقال له نافع: أنت ترى ما ألقى من أبناء المهاجرين والأنصار، فقال: أريد أن تحتال له في وقت، فقال لي نافع: يا أخي يمكنك أن تبيت في المسجد؟
قلت: نعم. فبت فيه. فلما كان الفجر جاء نافع فقال: ما فعل الغريب؟ فقلت: نعم ها أنا ذا يرحمك الله. فقال: اقرأ فقرأت، وكنت حسن الصوت بالقراءة، فاستفتحت أقرأ فملأ صوتي مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما انتهيت إلى رأس الثلاثين آية، أشار إليّ أن أسكت، فسكت، فقام إليه شاب من الحلقة فقال: يا معلم الخير نحن معك بالمدينة، وهذا هاجر إليك ليقرأ عليك، وقد وهبته من نوبتي عشر آيات، وأنا أقتصر على عشرين. فقال: اقرأ، فقرأتها. ثم قام فتى أخر فقال كقول صاحبه، فقرأت عشر آيات وقعدت حتى إذا لم يبق أحد ممن له قراءة، قال لي: اقرأ فقرأت خمسين آية حتى قرأت عليه ختمات قبل أن أخرج من المدينة.
وتوفي ورش بمصر سنة سبع وتسعين ومائة ومولده سنة عشرين ومائة.
الأمثال
: قالوا: «بعلة الورشان يأكل رطب المشان» بالإضافة، «ولا تقبل الرطب المشان» وهو نوع من التمر، والمشان ضرب من الرطب، والسبب في ذلك أن قوما استحفظوا عبدا لهم رطب نخلهم، فكان يأكله، فإذا عوتب على سوء الأثر فيه يقول: أكله الورشان، فقيل ذلك يضرب لمن يظهر شيئا، والمراد منه شيء آخر.
الخواص
: دمه يقطر في العين التي أصابتها طرفة أو ضربة فيحلل دمها المجتمع، وكذلك يفعل دم الحمام أيضا وقال هرمس: من داوم على أكل بيضه زاد جماعه وأورثه العشق.
التعبير
: الورشان رجل غريب مهين، ويدل على أخبار ورسل، لأنه أخبر نوحا عليه الصلاة والسلام بنقص الماء، لما كان في السفينة. وقيل: الورشان امرأة صدوق والله أعلم.
الورقاء:
الحمامة التي يضرب لونها إلى خضرة، والورقة سواد في غبرة، ومنه قيل للرماد:
أورق وللذئبة ورقاء والجمع ورق كأحمر وحمر.
وفي الصحيحين (1) وغيرهما من حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، قال: جاء رجل من بني فزارة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إن امرأتي ولدت غلاما أسود فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «هل لك من إبل؟» قال: نعم. قال: «فما ألوانها»؟ قال: حمر. قال: «فهل فيها من أورق؟» قال: إن فيها الورقاء قال: «فأنى أتاها ذلك؟» قال: عسى أن يكون نزعه عرق، قال: «هو ذاك».
قال السهيلي، في قصة سواد بن قارب: ومن هذا الباب خبر سوداء بنت زهرة بن كلاب، وذلك أنها حين ولدت ورآها أبوها ورقاء، أمر بوأدها، وكانوا يئدون من البنات ما كان على هذه الصفة، فأرسلها إلى الحجون لتدفن هناك. فلما حفر لها الحافر، واراد دفنها سمع هاتفا يقول: لا تدفن الصبية وخلها في البرية، فالتفت فلم ير شيئا فعاد لدفنها، فسمع الهاتف فعاد إلى أبيها وأخبره بما سمع، فقال: إن لها لشأنا وتركها. فكانت كاهنة قريش. فقالت يوما: يا بني زهرة إن
__________
(1) رواه البخاري: طلاق 26، حدود 41. ومسلم: لعان 18. وأبو داود: طلاق 28.(1/539)
فيكم نذيرة تلد نذيرا، فاعرضوا عليّ بناتكم. فعرضوا عليها، فقالت في كل واحدة منهن قولا ظهر عليها بعد حين، حتى عرضت عليها آمنة بنت وهب، فقالت: هذه النذيرة وستلد نذيرا. وهو خبر طويل ذكر الزبير بن بكار منه يسيرا. وقال الغزالي، في الإحياء: روي أن أبا الحسين النوري كان مع جماعة في دعوة فجرت بينهم مسألة في العلم، وأبو الحسين ساكت ثم رفع رأسه وأنشدهم:
ربّ ورقاء هتوف في الضحي ... ذات شجو هتف في فنن
ذكرت إلفا وخدنا صالحا ... فبكت حزنا فهاجت حزني
فبكاي ربما أرقها ... وبكاها ربما أرقني
ولقد تشكو فما أفهمها ... ولقد أشكو فما تفهمني
غير أني بالجوى أعرفها ... وهي أيضا بالجوى تعرفني
قال: فما بقي أحد من القوم، إلا قام وتواجد، ولم يحصل لهم هذا الوجد من العلم، الذي خاضوا فيه وإن كان العلم حقا، وقد شبه بها الرئيس أبو علي الحسين بن عبد الله بن الحسين بن سينا النفس حيث قال:
هبطت إليك من المحلّ الأرفع ... ورقاء ذات تعزز وتمنع
محجوبة عن كل مقلة عارف ... وهي التي سفرت ولم تتبرقع
وصلت على كره إليك وربما ... كرهت فراقك وهي ذات تفجع
أنفت وما ألفت فلما واصلت ... ألفت مجاورة الخراب البلقع
وأظنها نسيت عهودا بالحمى ... ومنازلا بفراقها لم تقنع
حتى إذا اتصلت بهاء هبوطها ... من ميم مركزها بذالت الأجرع
علقت بها ثاء الثقيل فأصبحت ... بين المعالم والطلول الخضع
تبكي وقد نسيت عهودا بالحمى ... بمدامع تهمي ولما تقلع
حتى إذا قرب المسير إلى الحمى ... ودنا الرحيل إلى الفضاء الأوسع
وغدت تغرد فوق ذروة شاهق ... والعلم يرفع كلّ من لم يرفع
وتعود عالمة بكلّ خفية ... في العالمين فخرقها لم يرقع
فهبوطها إذا كان ضربة لازب ... لتكون سامعة لما لم تسمع
فلأي شيء أهبطت من شاهق ... سام إلى قعر الحضيض الأوضع
إن كان أهبطها الإله لحكمة ... طويت عن الفطن اللبيب الأروع
أو عاقها الشرك الكثيف وصدّها ... قفص عن الأوج الفسيح الأرفع
فكأنها برق تألّق بالحمى ... ثم انطوى فكأنه لم يلمع
وكان الرئيس أبو علي نادرة عصره وعلامة دهره وهو أحد فلاسفة المسلمين وله وصايا في الطب، كثيرة، نظما ونثرا فمن المنسوب إليه من ذلك:
اسمع بني وصيتي واعمل بها ... فالطبّ معقود بنص كلامي
لا تشربن عقيب أكل عاجلا ... فتقود نفسك للأذى بزمام
واجعل غذاءك كل يوم مرة ... واحذر طعاما قبل هضم طعام
واحفظ منيك ما استطعت فإنه ... ماء الحياة يراق في الأرحام
وينسب إليه أيضا:(1/540)
هبطت إليك من المحلّ الأرفع ... ورقاء ذات تعزز وتمنع
محجوبة عن كل مقلة عارف ... وهي التي سفرت ولم تتبرقع
وصلت على كره إليك وربما ... كرهت فراقك وهي ذات تفجع
أنفت وما ألفت فلما واصلت ... ألفت مجاورة الخراب البلقع
وأظنها نسيت عهودا بالحمى ... ومنازلا بفراقها لم تقنع
حتى إذا اتصلت بهاء هبوطها ... من ميم مركزها بذالت الأجرع
علقت بها ثاء الثقيل فأصبحت ... بين المعالم والطلول الخضع
تبكي وقد نسيت عهودا بالحمى ... بمدامع تهمي ولما تقلع
حتى إذا قرب المسير إلى الحمى ... ودنا الرحيل إلى الفضاء الأوسع
وغدت تغرد فوق ذروة شاهق ... والعلم يرفع كلّ من لم يرفع
وتعود عالمة بكلّ خفية ... في العالمين فخرقها لم يرقع
فهبوطها إذا كان ضربة لازب ... لتكون سامعة لما لم تسمع
فلأي شيء أهبطت من شاهق ... سام إلى قعر الحضيض الأوضع
إن كان أهبطها الإله لحكمة ... طويت عن الفطن اللبيب الأروع
أو عاقها الشرك الكثيف وصدّها ... قفص عن الأوج الفسيح الأرفع
فكأنها برق تألّق بالحمى ... ثم انطوى فكأنه لم يلمع
وكان الرئيس أبو علي نادرة عصره وعلامة دهره وهو أحد فلاسفة المسلمين وله وصايا في الطب، كثيرة، نظما ونثرا فمن المنسوب إليه من ذلك:
اسمع بني وصيتي واعمل بها ... فالطبّ معقود بنص كلامي
لا تشربن عقيب أكل عاجلا ... فتقود نفسك للأذى بزمام
واجعل غذاءك كل يوم مرة ... واحذر طعاما قبل هضم طعام
واحفظ منيك ما استطعت فإنه ... ماء الحياة يراق في الأرحام
وينسب إليه أيضا:
لقد طفت في تلك المعاهد كلها ... وسرحت طرفا بين تلك المعالم
فلم أر إلا واضعا كفّ حائر ... على ذقن أو قارعا سنّ نادم
قال الشيخ كمال الدين بن يوسف: إن مخدومه سخط عليه، فاعتقله ومات في السجن سنة ثمان وعشرين وأربعمائة.
الورل:
بفتح الواو والراء المهملة وباللام في آخره، دابة على خلقة الضب إلا أنه أعظم منه، والجمع أورال وورلان والأنثى ورلة. كذا قاله ابن سيده.
وقال القزويني: إنه العظيم من الوزغ، وسام أبرص طويل الذنب سريع السير، خفيف الحركة. وقال عبد اللطيف البغدادي: الورل والضب والحرباء، وشحمة الأرض والوزغ، كلها متناسبة في الخلق، فأما الورل وهو الحرذون فليس في الحيوان أكثر سفادا منه، وبينه وبين الضب عداوة، فيغلب الورل الضب ويقتله، لكنه لا يأكله كما يفعل بالحية، وهو لا يتخذ بيتا لنفسه ولا يحفر له جحرا بل يخرج الضب من جحره صاغرا، ويستولي عليه، وإن كان أقوى براثن منه، لكن الظلم يمنعه من الحفر، ولهذا يضرب بالورل المثل في الظلم، ويكفي في ظلمه أنه يغصب الحية جحرها ويبلعها، وربما قتل فوجد في جوفه الحية العظيمة، وهو لا يبتعلها حتى يشدخ رأسها ويقال إنه يقاتل الضب.
والجاحظ يقول: إن الحرذون غير الورل، ووصفه بأنه دابة تكون غالبا بناحية مصر، مليحة موشاة بألوان كثيرة، ولها كف ككف الإنسان مقسومة أصابعها إلى الأنامل، وهو يقوى على الحيات ويأكلها أكلا ذريعا، ويخرجها من جحرها ويسكن فيه وهو أظلم ظالم.
فائدة
: قال أهل اللغة: لا تلتقي الراء مع اللام إلا في أربع كلمات: الورل، وهو هذا الحيوان المذكور، وأرل اسم جبل، وغرلة وهي القلفة، وجرل وهو ضرب من الحجارة.
الحكم
: مقتضى ما تقدم من أكله الحيات أنه يحرم، وهذا هو الظاهر من قول الأقدمين، ورجح الرافعي أنه يرجع فيه إلى استطابة العرب وعدمها، لقوله (1) تعالى: {يَسْئَلُونَكَ مََا ذََا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبََاتُ}، وليس المراد الحلال وإن كان قد ورد الطيب بمعنى الحلال، فإن الحمل عليه يخرج الآية عن الافادة، والعرب أولى باعتبار ذلك لأن الدين عربي والنبي صلى الله عليه وسلم عربي، وإنما يرجع في ذلك إلى سكان البلاد والقرى، دون أجلاف البوادي، الذين يأكلون مادب ودرج
__________
(1) سورة المائدة: آية 4.(1/541)
من غير تمييز، مع اعتبار حالة اليسار والثروة دون المحتاجين. وأصحاب الضرورات، وحالتي الخصب والرفاهية دون حالتي الجدب والشدة.
وقال بعضهم: المعتبر هنا العرب الذين كانوا في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأن الخطاب كان لهم. وقال ابن عبد البر، في التمهيد: ذكر عبد الرزاق قال: أخبرني رجل من ولد سعيد بن المسيب قال: أخبرني يحيى بن سعيد قال: كنت عند سعيد بن المسيب، فجاءه رجل من غطفان، فسأله عن الورل فقال: لا بأس به، وإن كان معكم منه شيء فاطعمونا منه. قال عبد الرزاق:
والورل يشبه الضب اهـ.
وقد ذكر في كتاب رفع التمويه فيما يرد على التنبيه، ما حاصله أنه فرخ التمساح، وقال:
لأن التمساح يبيض في البر فإذا خرجت فراخه نزل بعضها في البحر، وبقي بعضها في البر فما نزل إلى البحر صار تمساحا، وما بقي في البر صار ورلا. قال: فعلى هذا يكون في حله الوجهان كما في التمساح اهـ.
وهذا الذي قاله لا أعتقد صحته، وذلك لأن الورل ليس على صفات التمساح، لأن جلده يخالف جلده في النعومة وأيضا فإنه لو كان من التمساح لأخذ في الكبر حتى يصير في حجمه، والورل في المقدار لا يزيد على ذراع ونصف أو ذراعين، والتمساح يبلغ عشرة أذرع وأكثر.
تنبيه مهم
: إعلم أنه تقدم في هذا الكتاب حيوانات لم تتعرض الأصحاب لها بالحل ولا بالحرمة، وذلك نحو البلنصى والدبل والقرعبلان والقرز والقنفشة والورل وغير ذلك، إلا أنهم أعطوا قواعد كلية عامة وقواعد خاصة، وذلك لما أيسوا من الطمع في حصر أنواع الحيوانات.
فمن قواعدهم الخاصة: تحريم كل ذي ناب من السباع، ومخلب من الطير، وكل ما يقتات من النجاسات والخبائث، وكل ما نهي عن قتله أو أمر بقتله، أو تولد بين مأكول وغيره، وكل نهاش والحشرات بأسرها، إلا الضب واليربوع والقنفذ وابن عرس والدلدل.
ومن قواعدهم الخاصة أيضا تحليل كل ذات طوق ولقاط وطيور الماء كلها، إلا اللقلق كما تقدم. ومن هذه القواعد يؤخذ تحريم الورل لأنه من الحشرات، ولم يستثنوه. وكذا غيره من الحشرات كالخلد والربارب وفأرة البيش والإيل ومما يدل على منع أكل الورل قول الجاحظ وغيره:
إن الورل يقوي على الحيات ويأكلها أكلا ذريعا ويخرجها من جحرها ويسكن فيه قال: وبراثن الورل أقوى من براثن الضب إلا أن الورل يخرج الحية من جحرها، ولا يحفر خوفا منه على براثنه.
ثم المعنى بقولهم ما أمر بقتله لمعنى فيه كالفواسق الخمس أما ما أمر بقتله لمعنى في غيره فلا يحرم، ومن ذلك الدابة المأكولة إذا وطئت فإنه يجب ذبحها ولا يحرم أكلها على الصحيح، وإن ورد الأمر بقتلها لأن ذلك ليس لمعنى فيها، بل هو في غيرها وهو تعبير الزاني وتذكره الفاحشة برؤيتها.
وقد أمر عمر رضي الله تعالى عنه بقتل الديكة لأنهم كانوا يتهارشون بها وأمر بقتل الحمام لأنهم كانوا يلعبون بها، ويؤذون الناس بصعودهم الأسطحة والرمي بالأحجار.
وقولهم: ما نهي عن قتله فحرام، يعنون به ما نهي عن قتله إكراما له. قال (1): الخطابي:(1/542)
وقد أمر عمر رضي الله تعالى عنه بقتل الديكة لأنهم كانوا يتهارشون بها وأمر بقتل الحمام لأنهم كانوا يلعبون بها، ويؤذون الناس بصعودهم الأسطحة والرمي بالأحجار.
وقولهم: ما نهي عن قتله فحرام، يعنون به ما نهي عن قتله إكراما له. قال (1): الخطابي:
نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن قتل الهدهد كرامة له، لأنه أطاع نبيا لا أنه حرام ونقله عنه العبادي وقضيته ترجيح وجه القائل بحل الصرد لأن النهي عن قتله لأمر خارج عنه لا لمعنى فيه، ولما كانت هذه القواعد غير تامة لجميع الحيوان، ذكر الأصحاب قاعدة عامة وهي الاستطابة والاستخباث، وعليها مدار الباب. قال الرافعي: من الأصول المرجوع إليها في التحريم والتحليل الاستطابة والاستخباث. ورآه الشافعي والأصل العظيم المعتمد فيه قوله (2) تعالى: {يَسْئَلُونَكَ مََا ذََا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبََاتُ} وليس المراد بالطيب هنا الحلال. وإن كان قد يرد الطيب بمعنى الحلال، لأن الحمل عليه يخرج الآية عن الإفادة.
قال الأئمة: ويبعد الرجوع إلى طبقات الناس، وتنزيل كل قوم على ما يستطيبونه ويستخبثونه، لأن ذلك يوجب اختلاف الأحكام في الحلال والحرام، وذلك يخالف موضوع الشرع في حمل الناس على شرع واحد، ورأوا العرب أولى الأمم بأن يؤخذ باستطابتهم واستخبائهم، لأنهم المخاطبون أولا والدين عربي والنبي صلى الله عليه وسلم عربي، وإنما يرجع إلى سكان البلاد والقرى دون أجلاف سكان البوادي الذين يأكلون مادب ودرج من غير تمييز، مع اعتبار حالة اليسار والثروة دون المحتاجين وأصحاب الضرورات، وحالتي الخصب والرفاهية دون حالتي الجدب والشدة.
وقال بعضهم: المعتبر الرجوع إلى عادة العرب الذين كانوا في عهد سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم لأن الخطاب كان لهم.
ويشبه أن يقال: يرجع في كل زمان إلى العرب الموجودين فيه. ويدل لهذا التوجيه ما تقدم، في باب العين المهملة، في لفظ العضاري، عن أبي عاصم العبادي، أنه حكى عن الأستاذ أبي طاهر الزيادي أنه قال: كنا نرى العضاري حراما ونفتي بتحريمه، حتى ورد علينا الأستاذ أبو الحسن الماسرجيني فقال: إنه حلال، فبعثنا منه جوابا إلى البادية وسألنا العرب عنه فقالوا: هذا هو الجراد المبارك، فرجعوا إلى قول العرب فيه. وإذا اختلف المرجوع إليهم فاستطابته طائفة واستخبثته طائفة اتبعنا الاكثرين، فإن استوت الطائفتان، قال المارودي في الحاوي، وأبو الحسن العبادي: إنه يتبع قريش، لأنهم قطب العرب وفيهم النبوة، فإن اختلفت قريش أو لم يحكموا بشيء، اعتبر أقرب الحيوانات شبها به. والشبه يكون تارة في الصورة وتارة في الطبع من السلامة والعدوان، وأخرى في طعم اللحم، فإن تساوى الشبه أو لم يوجد ما يشبه ففيه وجهان انتهى.
زاد في الحاوي هما من اختلاف أصحابنا في أصول الأشياء، قبل ورود الشرع هل هي على الإباحة أو الحظر؟ أحد الوجهين أنها على الإباحة حتى يرد الشرع بالحظر انتهى. قال أبو العباس: إذا وجد حيوان لا يعرف حاله عرض على العرب، فإن سموه باسم ما يحل حل، وإن سموه باسم ما يحرم حرم، وإن لم يكن له اسم عندهم اعتبر بأقرب الأشياء شبها من الذي يحل أو يحرم. وعلى هذا نص الشافعي، رحمه الله تعالى.
وقال الرافعي: وفي استصحاب حكم ما ثبت تحريمه في شرع من قبلنا قولان أحدهما: نعم
__________
(1) رواه أبو داود: أدب 164. وابن ماجه صيد 10.
(2) سورة المائدة: آية 4.(1/543)
أخذا بما كان إلى أن يظهر ناسخ، والثاني لا بل اعتماد ظاهر الآية المقتضية للحل أولى، والخلاف على ما ذكر الموفق بن طاهر رحمه الله تعالى، مبني على أن شرع من قبلنا هل هو شرع لنا فيه اختلاف أصولي، والأوفق لسياق كلام الأصحاب أنه لا يستصحب حكم شرع من قبلنا، وعلى هذا فلا تفريع. وعلى القول بالاستصحاب فذلك إذا ثبت بالكتاب أو السنة، أنه كان حراما في شرع من قبلنا، أو شهد به اثنان أسلما منهم، ممن يعرف التبديل، ولا يعتمد فيه قول أهل الكتاب انتهى كلام الرافعي.
قال في الحاوي: ولو كان الحيوان ببلاد العجم، اعتبر في أقرب بلاد العرب عند من جمع الأوصاف المعتبرة فإن اختلفوا فيه اعتبر حكمه في أقرب بلاد الشرائع للإسلام، وهي النصرانية فإن اختلفوا فيه فعلى ما ذكرناه من الوجهين يعني في الأشياء قبل ورد الشرع انتهى.
قلت: ولا بد من التنبيه هنا على أمرين: أحدهما أنا إذا قلنا باستصحاب شرع من قبلنا، كما هو اختيار ابن الحاجب وغيره من الأصوليين، فله شرطان أحدهما: ألا يختلف في تحريمه وتحليله شريعتان، فإن اختلفتا بأن كان حراما في شريعة إبراهيم عليه السلام وحلالا في شريعة غيره، فيحتمل أن نأخذ بالشريعة المتأخرة، ويحتمل التخيير، إن لم نقل بأن الثانية ناسخة للأولى، فإن ثبت كون الثانية ناسخة للأولى، وجهل كونه حراما في الشريعة السابقة أو اللاحقة، وقف.
ويحتمل الرجوع إلى الإباحة الأصلية فيأتي الوجهان السابقان. الأمر الثاني أن يكون التحريم أو التحليل ثابتا قبل تحريفهم وتبديلهم، فإن استحلوا أو حرموا بعد النسخ، فلا عبرة به والله أعلم.
الأمثال
: قالوا: «أجبر من ورل» و «أسرع من تملظ الورل» (1) وهو الأكل بطرف اللسان، وكذلك يأكل الورل وقالوا: «أشرد (2) وأضل (3) وأظلم (4) من ورل».
الخواص
: شعره إذا شد على عضد امرأة لم تحمل ما دام ذلك عليها، ولحمه وشحمه يسمن النساء، وفيه قوة جذب الشوك من البدن، وجلده يحرق ويخلط رماده بدردي الزيت ويطلى به العضو الخدر يذهب خدره، وزبله ينفع من الكلف والنمش طلاء.
التعبير
: الورل في المنام يدل على عدو خسيس الهمة ذي مهانة وقصور حجة الله تعالى أعلم.
الوزغة:
بفتح الواو والزاي والغين المعجمة دويبة معروفة، وهي وسام أبرص جنس، فسام أبرص كباره واتفقوا على أن الوزغ من الحشرات المؤذيات، وجمع الوزغة وزغ وأوزاغ ووزغان وازغان على البدل حكاه ابن سيده.
روى (5) البخاري ومسلم والنسائي وابن ماجه، عن أم شريك رضي الله تعالى عنها، أنها
__________
(1) جمهرة الأمثال: 1/ 430.
(2) مجمع الأمثال: 1/ 388.
(3) جمهرة الأمثال: 2/ 9.
(4) جمهرة الأمثال: 2/ 27.
(5) رواه مسلم: سلام 143. ابن حنبل: 6/ 421.(1/544)
استأمرت النبي صلى الله عليه وسلم في قتل الوزغان، «فأمرها بذلك». وفي الصحيحين (1) أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بقتل الوزغ، وسماه فويسقا. وقال: «كان ينفخ النار على إبراهيم عليه الصلاة والسلام». وكذلك رواه الإمام أحمد في مسنده.
وفي الحديث (2) الصحيح، من رواية أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من قتل وزغة من أول ضربة فله كذا وكذا حسنة، ومن قتلها في الضربة الثانية، فله كذا وكذا حسنة دون الأولى، ومن قتلها في الثالثة فله كذا وكذا حسنة دون الثانية». وفيه أيضا «إن من قتلها في الأولى فله مائة حسنة، وفي الثانية دون ذلك، وفي الثالثة دون ذلك».
وروى الطبراني عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أقتلوا الوزغة ولو في جوف الكعبة» لكن في اسناده عمر بن قيس المكي، وهو ضعيف. وفي حديث عائشة رضي الله تعالى عنها، لما أحرق بيت المقدس وكانت الأوزاغ تنفخه.
وفي سنن ابن ماجه (3) عن عائشة رضي الله تعالى عنها أنه كان في بيتها رمح موضوع، فقيل لها: ما تصنعين بهذا؟ فقالت: أقتل به الوزغ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم اخبرنا أن إبراهيم عليه الصلاة والسلام، لما ألقي في النار لم يكن في الأرض دابة إلا أطفأت عنه النار غير الوزغ، فإنه كان ينفخ عليه النار، فأمر صلى الله عليه وسلم بقتله. وكذلك رواه الإمام أحمد في مسنده.
وفي تاريخ ابن النجار في ترجمة عبد الرحيم بن أحمد بن عبد الرحيم الفقيه الشافعي عن عائشة رضي الله تعالى عنها، أنها قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من قتل وزغة محا الله عنه سبع خطيآت».
وفي الكامل، في ترجمة وهب بن حفص، عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من قتل وزغة فكأنما قتل شيطانا».
وروى (4) الحاكم في كتاب الفتن والملاحم من المستدرك، عن عبد الرحمن بن عوف رضي الله تعالى عنه، أنه قال: كان لا يولد لأحد مولود إلا أتي به للنبي صلى الله عليه وسلم فيدعو له، فأدخل عليه مروان بن الحكم فقال: «هو الوزغ ابن الوزغ الملعون ابن الملعون». ثم قال: صحيح الإسناد.
وروى بعده بيسير عن محمد بن زياد قال: لما بايع معاوية لابنه يزيد قال مروان: سنة أبي بكر وعمر، فقال عبد الرحمن بن أبي بكر: سنة هرقل وقيصر! فقال له مروان: أنت الذي أنزل الله فيك والذي قال لوالديه أف لكما! فبلغ ذلك عائشة رضي الله عنها فقالت: كذب والله ما هو به، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم، لعن أبا مروان ومروان في صلبه.
__________
(1) رواه البخاري: بدء الخلق 15، أنبياء 8. مسلم: سلام 142. أبو داود 163.
النسائي: مناسك 115. ابن ماجه: صيد 12. الدارمي: أضاحي 27. ابن حنبل 1/ 176.
(2) رواه مسلم: سلام 146. الترمذي: صيد 14.
(3) رواه ابن ماجه: صيد 12. وابن حنبل 6/ 83.
(4) رواه أبو داود: طلاق 34. وابن حنبل 1/ 59.(1/545)
ثم روى الحاكم عن عمرو بن مرة الجهني رضي الله تعالى عنه، وكانت له صحبة، قال: إن الحكم بن أبي العاص استأذن على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعرف صوته فقال صلى الله عليه وسلم: «ائذنوا له لعنة الله عليه وعلى من يخرج من صلبه إلا المؤمن منهم، وقليل ما هم يشرفون في الدنيا، ويضيعون في الآخرة ذوو مكر وخديعة يعطون في الدنيا وما لهم في الآخرة من خلاق» قال ابن ظفر. وكان الحكم بن أبي العاص يرمى بالداء العضال وكذلك أبو جهل.
وأما تسمية الوزغ فويسقا، فنظيره الفواسق الخمس التي تقتل في الحل والحرم، وأصل الفسق الخروج، وهذه المذكورات خرجت عمن خلق معظم الحشرات ونحوها بزيادة الضرر والأذى.
وأما تقييد الحسنات في الضربة الأولى بمائة، وفي الثانية بسبعين، كما في بعض الروايات، فجوابه أنه كقوله في صلاة الجماعة بسبع وعشرين وبخمس وعشرين، وأن مفهوم العدد لا يعمل به فذكر السبعين لا يمنع المائة فلا تعارض بينهما. أو لعله صلى الله عليه وسلم أخبر أولا بالسبعين، ثم تصدق الله تعالى بالزيادة علينا، فأعلم به صلى الله عليه وسلم حين أوحى الله إليه بعد ذلك، أو أنه يختلف باختلاف قاتلي الوزغ، بحسب نياتهم وإخلاصهم، وكمال أحوالهم ونقصها، فتكون المائة للأكمل منهم والسبعون لغيره.
قال يحيى بن يعمر: لأن أقتل مائة وزغة أحب إليّ من اعتق مائة رقبة، وإنما قال ذلك لأنها دابة سوء، زعموا أنها تسقى من الحيات وتمج في الإناء فينال الإنسان المكروه العظيم بسبب ذلك، وسبب كثرة الحسنات في المبادرة أن تكرر ضربات في القتل، يدل على عدم الاهتمام بأمر صاحب الشرع، إذ لو قوي عزمه وأشتدت حميته، لقتلها في المرة الأولى لأنه حيوان لطيف لا يحتاج إلى كثرة مؤنة في الضرب، فحيث لم يقتلها في المرة الأولى دل ذلك على ضعف عزمه، فلذلك نقص أجره من المائة إلى السبعين. وعلل عز الدين بن السلام (1) كثرة الحسنات في الأولى بأنه إحسان في القتل فيدخل تحت قوله (2) صلى الله عليه وسلم «إذا قتلتم فأحسنوا القتلة». أو أنه مبادرة إلى الخير فيدخل تحت (3) قوله تعالى: {فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرََاتِ} * قال: وعلى كلا المعنيين فالحية والعقرب أولى بذلك لعظم مفسدتهما.
وذكر أصحاب الآثار أن الوزغ أصمّ قالوا: والسبب في صممه ما تقدم من نفخه النار على إبراهيم عليه الصلاة والسلام، فصم لأجل ذلك وبرص. ومن طبعه أنه لا يدخل بيتا فيه رائحة الزعفران، وتألفه الحيات كما تألف العقارب الخنافس، وهو يلقح بفيه ويبيض كما تبيض الحيات، ويقيم في جحره زمن الشتاء، أربعة أشهر لا يطعم شيئا.
وقد تقدم في حرف السين المهملة ما يتعلق بأحكامها وخواصها وقد أحسن في وصف الوزغة وغيرها الأديب الشاعر كمال الدين علي بن محمد بن المبارك الشهير بابن الأعمى، صاحب
__________
(1) ابن عبد السلام: عبد العزيز، فقيه شافعي ولد في دمشق زار بغداد استقر في القاهرة. مات سنة 660هـ.
(2) رواه أبو داود: أضاحي 12. والنسائي: ضحايا 22.
(3) سورة المائدة: آية 48.(1/546)
المقامة البحرية، ووفاته في المحرم سنة اثنتين وتسعين وستمائة. وكان والده خطيب بيت المقدس حيث قال يذم دار سكناه:
دار سكنت بها أقلّ صفاتها ... أن تكثر الحشرات في حجراتها
الخير عنها نازح متباعد ... والشرّ دان من جميع جهاتها
من بعض ما فيها البعوض عدمته ... كم أعدم الأجفان طيب سناتها
وتبيت تسعدها براغيث متى ... غنت لها رقصت على نغماتها
رقص بتنقيط ولكن قافه ... قد قدمت فيه على أخواتها
وبها ذباب كالضباب يسد ... عين الشمس ما طربي سوى غناتها
أين الصوارم والقنا من فتكها ... فينا وأين الأسد من وثباتها
وبها من الخطاف ما هو معجز ... أبصارنا عن حصر كيفياتها
تغشى العيون بمرها ومجيئها ... وتصم سمع الخلد من أصواتها
وبها خفافيش تطير نهارها ... مع ليلها ليست على عاداتها
شبهتها بقنافذ مطبوخة ... نزع الطهاة بنضجها شوكاتها
فاقت على سمر القنا في لونها ... وسماتها وشياتها وصفاتها
وبها من الجرذان ما قد قصرت ... عنه العتاق الجرد في حملاتها (1)
فترى أبا غزوان منها هاربا ... وأبا الحصين يروغ عن طرقاتها
وبها خنافس كالطنافس أفرشت ... في أرضها وعلت على جنباتها
لو شمّ أهل الحرب منتن فسوها ... أردى الكماة الصيد عن صهواتها
وبنات وردان وأشكال لها ... مما يفوت العين كنه ذواتها
متزاحم متراكم متحارب ... متراكب في الأرض مثل نباتها
وبها قراد لا اندمال لجرحها ... لا يفعل المشراط مثل أداتها
أبدا تمص دماءنا فكأنها ... حجامة لبدت على كاساتها
وبها من النمل السليماني ما ... قد قل ذر الشمس عن ذراتها
لا يدخلون مساكنا بل يحطمون ... جلودنا فالعفو من سطواتها
ما راعني شيء سوى وزغاتها ... فنعوذ بالرحمن من نزغاتها
سجعت على أوكارها فظننتها ... ورق الحمام سجعن في سحراتها
وبها زنابير تظن عقاربا ... لا برء للمسموم من لدغاتها
وبها عقارب كالأقارب رتعا ... فينا حمانا الله لدغ حماتها
وكأنما حيطانها كغرابل ... أطلعن أرؤسهن من طاقاتها
كيف السبيل إلى النجاة ولا نجا ... ة ولا حياة لمن رأى حياتها
__________
(1) العتاق: النوق الكريمة.(1/547)
السمّ في نفساتها والمكر في ... لفتاتها والموت في لسعاتها
منسوجة بالعنكبوت سماؤها ... والأرض قد نسجت ببراقاتها
فلقد رأينا في الشتاء سماءها ... والصيف لا تنفك من صعقاتها
فضجيجها كالرعد في جنباتها ... وترابها كالوبل من حسياتها
والبوم عاكفة على أرجائها ... والآل يلمع في ثرى عرصاتها (1)
والنار جزء من تلهب حرها ... وجهنم تعزى إلى لفحاتها
قد رممت من قبل يلقى آدم ... مع أمنا حواء في عرفاتها
شاهدت مكتوبا على أرجائها ... ورأيت مسطورا على عتباتها
لا تقربوا منها وخافوها ولا ... تلقوا بأيديكم إلى هلكاتها
أبدا يقول الداخلون ببابها ... يا رب نج الناس من آفاتها
قالوا: إذا ندب الغراب منازلا ... يتفرق السكان من ساحاتها
وبدارنا ألفا غراب ناعق ... كذب الرواة فأين صدق رواتها
دار تبيت الجنّ تحرس نفسها ... فيها وتنذر باختلاف لغاتها
صبرا لعلّ الله يعقب راحة ... للنفس إذ غلبت على شهواتها
كم بتّ فيها مفردا والعين شو ... قا للصباح تسحّ من عبراتها
وأقول: يا ربّ السموات العلا ... يا رازقا للوحش في فلواتها
أسكنتني بجهنم الدنيا ففي ... أخراي هب لي الخلد في جناتها
واجمع بمن أهواه شملي عاجلا ... يا جامع الأرواح بعد شتاتها
والوزغ في الرؤيا
رجل معتزلي يأمر بالمنكر وينهي عن المعروف، خامل الذكر، وكذلك العظاء.
وربما دل الوزغ على العدو المجاهر بالشر، والكلام السوء، والتنقل من الأمكنة.
الوصع:
بفتح الواو والصاد المهملة، وبالعين المهملة في آخره الصعوة، وقد تقدم الكلام عليها، في باب الصاد المهملة. وقيل: هو طائر أصغر من العصفور.
وفي الحديث أن إسرافيل عليه الصلاة والسلام له جناح بالمشرق وجناح بالمغرب، وإن العرش على منكب إسرافيل، وإنه ليتضاءل الأحيان من عظمة الله تعالى، حتى يصير مثل الوصع. يروى بفتح الصاد المهملة وسكونها. وقال ابن الأثير: إنه أصغر من العصفور والجمع وصعان.
وفي أول التعريف والاعلام للسهيلي، أن أول من سجد من الملائكة لآدم إسرافيل عليه الصلاة والسلام، ولذلك جوزي بولاية اللوح المحفوظ. قاله محمد بن الحسن النقاش.
الوطواط:
الخفاش وقد تقدم ما فيه في باب الخاء المعجمة.
__________
(1) الآل: السراب. العرصات: الساحات.(1/548)
وروى الحافظ بن عساكر، في تاريخه بسنده إلى حماد بن محمد، أنه قال: كتب رجل إلى ابن عباس، يسأله عن شيء ليس له لحم ولا دم تكلم، وعن شيء ليس له لحم ولا دم سعى، وعن شيء ليس له لحم ولا دم تنفس، وعن اثنين ليس لهما لحم ولا دم خوطبا وأجابا، وعن رسول بعثه الله ليس من الجن ولا من الإنس ولا من الملائكة، وعن نفس ماتت ثم عاشت بها نفس غيرها، وعن موسى عليه السلام كم أرضعته أمه قبل أن تلقيه في اليم، وفي أي بحر، وفي أي يوم ألقته، وكم كان طول آدم عليه السلام، وكم عاش، ومن كان وصيه، وعن طير لا يبيض ويحيض.
فقال: الأول النار قالت: {هَلْ مِنْ مَزِيدٍ} (1)، والثاني عصا موسى عليه السلام، والثالث الصبح، والرابع السماء والأرض، {قََالَتََا أَتَيْنََا طََائِعِينَ} (2)، والخامس الغراب الذي بعثه الله إلى ابن آدم، والسادس البقرة التي ذكرها الله تعالى في القرآن، وأرضعت موسى أمه قبل أن تلقيه في اليم ثلاثة أشهر، وألقته في بحر القلزم، وكان ذلك يوم الجمعة، وكان طول آدم عليه السلام ستين ذراعا، وعاش ألف سنة إلا ستين سنة، وكان وصيه شيث. والطير الوطواط الذي نفخ فيه عيسى عليه السلام، فكان طائرا بإذن الله عز وجل.
وحكمه
: تحريم الأكل للنهي عن قتله كما تقدم في باب الخاء المعجمة.
الأمثال
: قالوا: «أبصر من الوطواط بالليل» (3) أي أعرف ويسمون الجبان وطواطا.
التعبير
: الوطواط تدل رؤيته على الغي والضلالة عن الحق، وربما دلت رؤيته على ولد الزنا لأنه من الطير، وليس بطائر، وهو يرضع كما يرضع الآدمي، وربما دلت رؤيته على زوال النعم، والبعد من المألوفات، لأنه من الممسوخين، وهذا بعيد. وربما دلت رؤيته على إقامة الحجة والبينة لقوله (4) تعالى: {وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهََا} الآية. وهذا أظهر الأقاويل عندي والله أعلم.
الوعوع:
ويقال له أيضا الوع، ابن آوى، وقد تقدم الكلام عليه في أواخر باب الهمزة.
الوعل:
بفتح الواو وكسر العين المهملة، الأروى المتقدم في باب الهمزة وهو التيس الجبلي، والأنثى تسمى أروية وهي شاة الوحش، والجمع أوعال ووعول.
وذكر ابن عدي، في كامله، في ترجمة محمد بن اسماعيل بن طريح، أنه قال: حدثني أبي، عن جدي، أنه حضر أمية بن أبي الصلت حين حضرته الوفاة، فأغمي عليه ثم أفاق فرفع رأسه فنظر حيال باب البيت، وقال: لبيكما لبيكما ها أنا ذا لديكما، لا عشيرتي تحميني، ولا مالي يفديني، ثم أغمي عليه ثم أفاق فرفع رأسه وقال (5):
كلّ حي وإنّ تطاول دهرا ... آيل أمره إلى أن يزولا
ليتني كنت قبل ما قد بدا لي ... في رؤوس الجبال أرعى الوعولا
ثم فاضت نفسه.
__________
(1) سورة ق: آية 30.
(2) سورة فصلت: آية 11.
(3) جمهرة الأمثال: 1/ 195.
(4) سورة المائدة: آية 110.
(5) الشعر والشعراء: 301.(1/549)
وعن شهر بن حوشب، قال: لما حضرت عمرو بن العاص الوفاة، قال له ابنه: يا أبتاه إنك كنت تقول لنا: ليتني كنت ألقى رجلا عاقلا لبيبا عند نزول الموت به، حتى يصف لي ما يجد، وأنت ذلك الرجل، فصف لي الموت، فقال: يا بني والله كأن السماء قد أطبقت على الأرض، وكأن جنبي في تخت، وكأني أتنفس من سم إبرة، وكأن غصن شوك يجذب من قدمي إلى هامتي، ثم أنشأ يقول:
ليتني كنت قبل ما قد بدا لي ... في رؤوس الجبال أرعى الوعولا
ومن غريب ما اتفق
. أن عبد الملك بن مروان لما احتضر، وكان قصره يشرف على بردى، فنظر إلى غسال يغسل الثياب، فقال: ليتني كنت مثل هذا الغسال، أكتسب ما أعيش به يوما بيوم، ولم أل الخلافة. وتمثل بقول (1) أمية بن أبي الصلت:
كلّ حي وإنّ تطاول دهرا.
البيتين المتقدم ذكرهما.
فاتفق له كما اتفق لأمية من الموت عقب ذلك، فلما بلغ ذلك أبا حازم، قال: الحمد لله الذي جعلهم في وقت الموت يتمنون ما نحن فيه، ولم يجعلنا نتمنى ما هم فيه.
وفي الاستيعاب، في ترجمة الفارعة بنت أبي الصلت، أخت أمية بن أبي الصلت، أنها قدمت على النبي صلى الله عليه وسلم، بعد فتحه للطائف، وكانت ذات لب وعفاف وجمال، وكان صلى الله عليه وسلم يعجب بها، فقال لها صلى الله عليه وسلم يوما: «هل تحفظين من شعر أخيك شيئا؟» فأخبرته خبره، وما رأت منه، وقصت قصته في شق جوفه، وإخراج قلبه، ثم عوده إلى مكانه وهو قائم، وأنشدت له شعره الذي أوله:
باتت همومي تسري طوارقها ... أكف عيني والدمع سابقها
نحو ثلاثة عشر بيتا منها قوله:
ما أرغّب النفس في الحياة وإن ... تحيا طويلا فالموت لاحقها
يوشك من فرّ من منيته ... يوما على غرة يوافقها
من لم يمت غبطة يمت هرما ... للموت كأس والمرء ذائقها
ثم قالت: وإنه قال عند وفاته:
إن تغفرّ اللهم تغفر جما ... وأي عبد لك ما ألما
ثم قال:
كلّ حي وإن تطاول دهرا
__________
(1) الشعر والشعراء: 301.(1/550)
البيتين ثم مات. فقال صلى الله عليه وسلم: «إنّ مثل أخيك كمثل الذي آتاه الله آياته فانسلخ منها فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين».
وفي طباع الوعل أنه يأوي إلى الأماكن الوعرة الخشنة، ولا يزال مجتمعا، فإذا كان وقت الولادة تفرق، وإذا اجتمع في ضرع أنثى لبن امتصته. والذكر إذا ضعف عن النزو أكل البلوط فتقوى شهوته، وإذا لم يجد الأنثى انتزع المني بالامتصاص بفيه، وذلك إذا جد به الشبق، وفي طبعه أنه إذا أصابه جرح، طلب الخضرة التي في الحجارة فيمتصها ويجعلها على الجرح فيبرأ. وإذا أحس بالقناص، وهو في مكان مرتفع، استلقى على ظهره ثم يزج نفسه فينحدر، ويكون قرناه، وهما في رأسه، إلى عجزه يقيانه ما يخشى من الحجارة ويسرعان به لملوستهما على الصفا.
وفي الحديث عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أنه قال عن المدينة: «لو رأيت الوعول تجرش ما بينها ماهجتها». أراد لو رأيتها ترعى كلأها ماهجتها لأن النبي صلى الله عليه وسلم حرم صيدها.
وفي الترغيب والترهيب، وغريب أبي عبيدة وغيره من حديث أبي هريرة أيضا أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: «والذي نفسي بيده لا تقوم الساعة حتى يظهر الفحش والبخل ويخون الأمين ويؤتمن الخائن وتهلك الوعول وتظهر التحوت». قالوا: يا رسول الله ما الوعول وما التحوت؟
قال: «الوعول وجوه الناس وأشرافهم والتحوت الذين كانوا تحت أقدام الناس لا يعلم بهم» وبعضه في الصحيح، وإنما شبههم بالوعول وضرب بها المثل لأنها تأوي رؤوس الجبال والله تعالى أعلم.
وروى (1) الإمام أحمد وأبو داود والترمذي. عن العباس بن عبد المطلب رضي الله تعالى عنه، قال: كنا جلوسا بالبطحاء، في عصابة فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فمرت سحابة، فنظر إليها فقال صلى الله عليه وسلم: «أتدرون ما اسم هذه؟» قلنا: نعم، هذا السحاب. قال صلى الله عليه وسلم: «وهو المزن والعنان».
ثم قال عليه الصلاة والسلام. «أتدرون كم بعد ما بين السماء والأرض؟» قلنا: لا. قال صلى الله عليه وسلم:
«إما واحدة، وإما اثنتان، وإما ثلاث وسبعون سنة، والسماء فوقها، كذلك». حتى عد عليه الصلاة والسلام سبع سموات، وفوق السماء السابعة بحر بين أسفله وأعلاه، كما بين سماء إلى سماء، وفوق البحر ثمانية أوعال بين أضلافها وركبها، كما بين سماء إلى سماء، ثم على ظهورهن العرش، من أسفله إلى أعلاه، مثل ما بين سماء إلى سماء»، قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب. قال الجاحظ الذهبي: وهو كما قال الترمذي حسن غريب، وقد أخرجه الحافظ الضياء أيضا، في كتاب المختار له، ورواه الحاكم في المستدرك عن سماك بن حرب، وقرأ {إِنَّ اللََّهَ لََا يَخْفى ََ عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلََا فِي السَّمََاءِ} (2).
وفي التمهيد لابن عبد البر، عن أسد بن موسى، عن حماد بن سلمة، عن هشام بن عروة، عن أبيه عروة بن الزبير رضي الله تعالى عنهما، قال: حملة العرش أحدهم على صورة إنسان، والثاني
__________
(1) رواه أبو داود: سنة 18. الترمذي: تفسير سورة 69. ابن ماجه: مقدمة 13. وابن حنبل: 1/ 206.
(2) سورة آل عمران: آية 5.(1/551)
على صورة ثور، والثالث على صورة نسر، والرابع على صورة أسد. وفي تفسير الثعلبي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «هم اليوم أربعة، فإذا كان يوم القيامة أمدهم الله بأربعة آخرين».
وفي سنن (1) أبي داود، من حديث جابر رضي الله تعالى عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أذن لي أن أحدث عن ملك من ملائكة الله من حملة العرش، ما بين شحمة أذنه إلى عاتقه مسيرة سبعمائة عام».
وحكمه
: الحل بالإجماع، قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: في الوعل إذا قتله المحرم، أو قتل في الحرم شاة. وذكر القزويني، في الأشكال، عن ابن الفقيه، أنه قال: رأيت بجزيرة رانج حيوانات غريبة الأشكال، من ذلك وعول كالتيوس الجبلية، ألوانها حمر منقطعة ببياض، ولحمها حامض انتهى.
فإن صح هذا القول، فالذي يظهر الحل إلحاقا بمماثله من المأكول، عملا بالمشاكلة الصورية، والله تعالى أعلم.
الأمثال
: قالوا: «أزهى (2) من وعل» و «أحمق من ناطح الصخرة» أي الوعل، وأنشدوا قول (3) الأعشى:
كناطح صخرة يوما ليوهنها ... فلم يضرّها وأوهى قرنه الوعل
أراد كوعل ناطح، فحذف الموصوف وأبقى الصفة.
وخواصه
: تقدمت في باب الهمزة، في لفظ الأروى، لكن منها أيضا أن مخ جيد للمرأة التي بها نزف الدم، تتحمل به في صوفة. ولحمه وشحمه يسحقان ويلقى عليهما صبر وسعد وقرنفل وزعفران وعسل، يخلط الجميع ويسقى منه وزن مثقال، بماء الكرفس لمن به حصاة في مثانته يبرأ بإذن الله تعالى.
الوقواق:
كفطفاط طائر حكاه ابن سيده ولعله القاق المتقدم في باب القاف.
بنات وردان:
بفتح الواو وتسمى فالية الأفاعي، وهي دويبة تتولد في الأماكن الندية وأكثر ما تكون في الحمامات والسقايات، ومنها الأسود والأحمر والأبيض والأصهب، وإذا تكونت تسافدت وباضت بيضا مستطيلا، وهي تألف الحشوش واحدها حش بفتح الحاء المهملة وضمها.
قال الجاحظ: أصل الحش القطعة من النخل، وهي الحشان بكسر الحاء المهملة وتشديد الشين، وذلك أن أهل المدينة، كانوا إذا أراد أحدهم قضاء الحاجة، دخل النخل. فكنوا عن مكان الخراء بالحش، كما كنوا عنه بالخلاء، وقالوا لمن يذهب إلى الخراء: ذهب إلى البزار، وذهب إلى المستراح وإلى الحش والخلاء والمخرج والمتوضأ والمذهب والغائط وقضاء الحاجة. وقالوا: ذهب
__________
(1) رواه أبو داود: سنة 18. وابن حنبل 2/ 26.
(2) جمهرة الأمثال: 1/ 413.
(3) ديوان الأعشى: 61.(1/552)
ينجو، كما قالوا: ذهب يتغوط كل ذلك هربا من أن يقولوا ذهب إلى الخراء. وقد وصف بعض الشعراء بنات وردان حيث قال:
بنات وردان جنس ليس ينعته ... خلق كنعتي في وصفي وتشبيهي
كمثل أنصاف بسر أحمر تركت ... من بعد تشقيقه أقماعه فيه
وحكمها
: تحريم الأكل لاستقذارها، ولا يصح بيعها كسائر الحشرات التي لا ينتفع بها، لكنها إذا وقعت في الماء الطهور لا تنجسه، ويعفى عن ذلك، وكذا كل ما ليست له نفس سائلة أي دم يسيل عند قتله وقد تقدم في الذباب هذا الحكم.
فرع
: قال الأصحاب: ما لا يظهر فيه منفعة ولا مضرة، كبنات وردان والخنافس والجعلان والدود والسرطان والرحم والنعامة والعصافير والذباب يكره قتله ولا يحرم، وعدّ الرافعي رحمه الله منه: الكلب غير العقور، قال: ولا يجوز قتل النمل والنحل والخطاف والضفدع، وقد تقدم شيء من هذا الحكم في أماكنه.
الخواص
: قال ارسطاطاليس: إذا طبخت بنات وردان بزيت وقطر منه في الأذن الوجعة سكن ألمها وتبرأ من ذلك، وينفع هذا الزيت من القروح، التي في الساقين، وفي جميع الأعضاء، والله تعالى أعلم.
باب الياء
يأجوج ومأجوج:
يهمزان ولا يهمزان، لغتان قرىء بهما، فمن همزهما جعلهما مشتقين من أجة الحر وهي شدته وقوته، ومنه أجيج النار وهو توقدها وحرارتها، والتقدير في ياجوج يفعول، وفي ماجوج مفعول إذا ترك همزهما، قاله الأزهري. ويحتمل أن يكونا مفعولين، وإنما لم يصرفا للتعريف والتأنيث، لأنهما اسما القبيلتين، والأكثرون على أنهما اسمان أعجميان غير مشتقين، ولذلك لا يهمزان ولا يصرفان للعجمة والتعريف.
قال سعيد الأخفش: ياجوج من يج وماجوج من مج، وقال قطرب: من لم يهمز فياجوج فاعول مثل داود وجالوت، ويكون من يج، وماجوج فاعول من مج، والأسماء الأعجمية مثلها لا تهمز نحو هاروت وماروت وجالوت وطالوت وقارون. قال: ويجوز أن يكون الأصل الهمز، فخففا إذا لم يهمزا كسائر ما يهمز، وإن كانا أعجميين، فإن العرب تلفظ بألفاظ مختلفة، ويجوز أن يكونا من الأجة، وهي الاختلاط كما قال تعالى في صفتهم: {وَتَرَكْنََا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ} (1) جاء في تفسيره: أي مختلطين، ولعل يج الذي ذكره الأخفش وقطرب مخفف الهمز من أج وإلا فإن يج لا يعرف في كلام العرب لعزة مخرج الجيم والياء، والحاصل أنه يجوز همزهما وتركه كما تقدم. وبهما قرىء في السبع والأكثرون على ترك الهمز كما تقدم.
وسموا بذلك لكثرتهم وشدتهم وقيل: من الأجاج وهو الماء الشديد الملوحة، قال مقاتل:
__________
(1) سورة الكهف: آية 99.(1/553)
هم من ولد يافث بن نوح عليه الصلاة والسلام. وقال الضحاك: هم من الترك، وقال كعب الأحبار: احتلم آدم عليه السلام فاختلط ماؤه بالتراب فأسف فخلقوا من ذلك.
قلت: وفيه نظر، لأن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام لا يحتلمون.
وروى الطبراني، من حديث حذيفة بن اليمان رضي الله تعالى عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
«يأجوج أمة لها أربعمائة أمير، وكذلك مأجوج، لا يموت أحدهم حتى ينظر إلى ألف فارس من ولده، صنف منهم كالأرز طولهم مائة وعشرون ذراعا، وصنف منهم يفترش أذنه ويلتحف بالأخرى، لا يمرون بفيل ولا خنزير إلا أكلوه، ويأكلون من مات منهم، مقدمتهم بالشام وساقتهم بخراسان، يشربون أنهار المشرق وبحيرة طبرية، ويمنعهم الله من مكة والمدينة وبيت المقدس».
وقال وهب بن منبه: يأجوج ومأجوج يأكلون الحشيش والشجر والخشب، وما ظفروا به من الناس ولا يقدرون أن يأتوا مكة والمدينة وبيت المقدس. وقال علي رضي الله تعالى عنه:
يأجوج ومأجوج صنف منهم في طول الشبر وصنف منهم مفرط الطول، لهم مخالب الطير، وأنياب كأنياب السباع، وتداعي الحمام، وتسافد البهائم، وعواء الذئب، وشعورهم تقيهم الحر والبرد، ولهم آذان عظام إحداهما وبرة يشتون فيها، والأخرى جلدة يصيفون فيها، يحفرون السد الذي بناه ذو القرنين، حتى إذا كادوا ينقبونه يعيده الله كما كان، حتى يقولوا: ننقبه غدا إن شاء الله، فينقبونه ويخرجون وتتحصن الناس منهم بالحصون، فيرمون إلى السماء فيرد إليهم السهم ملطخا بالدم، ثم يهلكهم الله بالنغف في رقابهم. والنغف هو الدود كما تقدم.
فائدة
: سئل شيخ الإسلام محي الدين النووي رحمه الله تعالى عن يأجوج ومأجوج هل هم من ولد آدم وحواء، وكم يعيش كل واحد منهم؟ فأجاب أنهم أولاد حواء وآدم عند أكثر العلماء، وقيل: إنهم من ولد آدم من غير حواء، فيكونون اخوتنا من الأب، ولم يثبت في قدر أعمارهم شيء انتهى.
وقد تقدم في الكركند ما نقله الحافظ أبو عمر بن عبد البر، من الإجماع على أنهم من ولد يافث بن نوح عليه السلام، وأن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن يأجوج ومأجوج، هل بلغتهم دعوتك، فقال صلى الله عليه وسلم: «جزت عليهم ليلة أسري بي فدعوتهم فلم يجيبوا».
وروى (1) الشيخان والنسائي، من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه، قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يقول الله تعالى يوم القيامة: يا آدم، فيقول: لبيك وسعديك الخير في يديك، فيقول عز وجل: أخرج بعث النار، قال: وما بعث النار؟ قال: من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون إلى النار، وواحد إلى الجنة. قال: فذلك حين يشيب الصغير، وتضع كل ذات حمل حملها، وترى الناس سكارى وما هم بسكارى، ولكن عذاب الله شديد»، قال: فاشتد ذلك على أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فقالوا: يا رسول الله أينا ذلك الرجل؟ فقال صلى الله عليه وسلم: «أبشروا فإن من يأجوج
__________
(1) رواه البخاري: أنبياء 7، تفسير سورة 22، توحيد 32. ومسلم: إيمان 378، فتن 16.(1/554)
ومأجوج تسعمائة وتسعة وتسعين ومنكم رجل» الحديث.
قال العلماء إنما خص آدم عليه السلام بالذكر لأنه أب للجميع.
وروى (1) الجماعة إلا أبا داود، من حديث زينب بنت جحش رضي الله تعالى عنها، أنها قالت: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما فزعا محمرا وجهه الشريف، يقول: «لا إله إلا الله، ويل للعرب من شر قد اقترب، فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه وحلق بأصبعيه الابهام والتي تليها». قالت: يا رسول الله أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: «نعم إذا كثر الخبث». أشار صلى الله عليه وسلم بذلك إلى أن الذي فتحوا من السد قليل، وهم مع ذلك لا يلهمهم الله أن يقولوا غدا نفتحه إن شاء الله تعالى، فإذا قالوها خرجوا. وقوله صلى الله عليه وسلم: «ويل للعرب» كلمة تقولها العرب، لكل من وقع في هلكة.
وفي مسند (2) الإمام أحمد من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ويل واد في جهنم يهوي الكافر فيه أربعين خريفا قبل أن يبلغ قعره» وقيل:
الويل الشر، وقوله صلى الله عليه وسلم: «فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج» (3).
الردم هم الحاجز الحصين المتراكم الذي جعل بعضه فوق بعض، والمراد به الردم الذي عمله الإسكندر بين الصدفين وهما الجبلان. وقوله في هذا الحديث إن زينب رضي الله تعالى عنها قالت: أنهلك؟ هو بكسر اللام على اللغة الفصيحة المشهورة، وحكي فتحها وهو ضعيف أو فاسد، قاله النووي رحمه الله وقوله صلى الله عليه وسلم: نعم لأن ما استفهم عنه بإثبات كان جوابه نعم وما استفهم عنه بنفي كان جوابه بلى. ولذلك كانت {بَلى ََ} (4) في جواب {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ} (5)
و {نَعَمْ} (6) في جواب {فَهَلْ وَجَدْتُمْ} فلذلك قال صلى الله عليه وسلم لزينب رضي الله تعالى عنها: «نعم» حين قالت:
أنهلك وفينا الصالحون.
وقوله صلى الله عليه وسلم: «إذا كثر الخبث» (7) هو بفتح الخاء المعجمة والباء الموحدة. وفسره الجمهور بالفسوق والفجور، وقيل: المراد به الزنا خاصة، وقيل: أولاد الزنا، والظاهر أن المراد به المعاصي مطلقا ومعناه أن الخبث إذا كثر فقد يحصل الهلاك العام، وإن كان هناك صالحون، والله تعالى أعلم.
وروى البزار، من حديث يوسف ابن مريم الحنفي قال: بينما أنا قاعد مع أبي بكرة، إذا جاء رجل فسلم عليه ثم قال: أما تعرفني؟ فقال أبو بكرة: ومن أنت؟ قال: تعلم رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره أنه رأى الردم؟ فقال له أبو بكرة: أنت هو؟ وقال: نعم. فقال: اجلس فحدثنا، قال رضي الله تعالى عنه: انطلقت إلى أرض ليس لأهلها إلا الحديد يعملونه، فدخلت
__________
(1) رواه البخاري: فتن 4، 28. ومسلم: فتن 1، 2. الترمذي: فتن 21، 23. وابن ماجه: فتن 9. الموطأ:
كلام 22. ابن حنبل 6، 428.
(2) رواه ابن حنبل: 3، 75.
(3) رواه البخاري: فتن 4/ 24، أنبياء 7، مناقب 25، طلاق 24. ومسلم: فتن 21.
(4) سورة الأعراف: آية 172.
(5) سورة الأعراف: آية 172.
(6) سورة الأعراف: آية 44.
(7) رواه البخاري: فتن 4، 28. مسلم فتن 21.(1/555)
بيتا فاستلقيت فيه على ظهري، وجعلت رجلي على جداره، فلما كان غروب الشمس، سمعت صوتا لم أسمع مثله، فرعبت فقال لي رب البيت: لا تذعرن فإن هذا لا يضرك، هذا صوت قوم ينصرفون هذه الساعة من عند هذا السد، أفيسرك أن تراه؟ قلت: نعم. قال: فغدوت إليه، فإذا لبنه من حديد، كل واحدة مثل الصخرة، وإذا كأنه البرد المحبرة، وإذا المسامير مثل الجذوع فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته، فقال: «صفه لي». فقلت: كأنه البرد المحبرة. فقال صلى الله عليه وسلم: «من سره أن ينظر إلى رجل قد أتى الردم فلينظر إلى هذا». فقال أبو بكرة: صدق انتهى.
وهذا الردم هو الذي بناه الاسكندر على يأجوج ومأجوج كما تقدم، وذلك أنه لما بلغ الجبلين وجد من دونهما قوما، كما قال (1) الله تعالى: {لََا يَكََادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا} بفتح الياء والقاف أو يفقهون بفتح الياء وكسر القاف على اختلاف القراءتين، فعلى الأولى لا يفقهون عن أحد لغته ولا يعرفون غير لغتهم، وعلى الثانية لا يفهم لغتهم غيرهم، فشكوا إليه إفساد يأجوج ومأجوج في الأرض، وذلك أنهم كانوا يخرجون إلى أرض هؤلاء المساكين، فلا يدعون فيها شيئا أخضر إلا أكلوه ولا يابسا إلا احتملوه.
وقيل: إنهم كانوا يلوطون، وقيل: إنهم كانوا يأكلون الناس، فقالوا له: نحن نجعل لك خرجا، أي جعلا من أموالنا، على أن تجعل بيننا وبينهم سدا فرد عليهم جعلهم، وطلب منهم المعونة بالعمل بأبدانهم، ثم انصرف إلى ما بين الصدفين، فقاس ما بينهما فوجد بعد ما بينهما مائة فرسخ، فأمر بحفر الأساس حتى بلغ الماء، ثم جعل عرضه خمسين فرسخا، وجعل حشوه الصخر، وطبقه بالنحاس المذاب، فصار كأنه عرق من جبل تحت الأرض.
وقيل إنه حشا ما بين الصدفين قطع الحديد، ونسج بين طبقات الحديد الحطب والفحم ووضع المنافيخ، فلما حمي الحديد أفرغ عليه النحاس المذاب، فاختلط والتصق بعضه ببعض حتى صار جبلا صلدا من حديد وقطر، وشرفه بزبر الحديد والنحاس المذاب، وجعل خلاله عرقا من نحاس أصفر، فصار كأنه بردة محبرة من صفرة النحاس وحمرته، وسواد الحديد، فلم يطيقوا الظهور عليه لملاسته ولا قدروا على نقبه لشدته وتماسكه. ومن وراء السد البحر، فهم بين السد والبحر محصورون وهم يمطرون التنانين في أيام الربيع، كما يمطرنا الغيث لحينه فيأكلونها إلى مثله من القابل وتعمهم على كثرتهم والله تعالى أعلم.
اليامور:
قال ابن سيده: هو جنس من الأوعال أو شبيه به له قرن واحد متشعب في وسط رأسه. وقال غيره: إنه الذكر من الأيل له قرنان كالمنشارين، أكثر أحواله تشبه أحوال البقر الوحشي يأوي إلى المواضع التي التفت أشجارها، وإذا شرب الماء ظهر به نشاط فيعدو ويلعب بين الأشجار، وربما ينشب قرناه في شعب الأشجار فلا يقدر على خلاصهما فيصيح، والناس، إذا سمعوا صياحه ذهبوا إليه وصادوه، وقد تقدم ما فيه. وهو حلال كالأيل، ومن خواص جلده أنه إذا جلس عليه صاحب البواسير زالت عنه.
__________
(1) سورة الكهف: آية 93.(1/556)
اليؤيؤ:
طائر كنيته أبو رياح، وهو الجلم وهو من جوارح الطير يشبه الباشق، وقد تقدم الكلام عليه، في باب الصاد المهملة، في لفظ الصقر والجمع اليآيىء وكذا جاء في الشعر قال (1)
أبو نواس في طريدته:
حفظ المهيمن يؤيؤي ورعاه ... ما في اليآيىء يؤيؤ شرواه
كذا استدل به الجوهري واعترض عليه بأنه مولد.
وكان محمد بن زياد الزيادي يلقب باليؤيؤ، وهو من أئمة أهل البصرة، روى عن حماد بن زيد وغيره، وروى له ابن ماجه والبخاري كالمقرون بغيره توفي في حدود سنة خمسين ومائتين، وضعفه ابن منده، وذكره ابن حبان في الثقات، وقال: كان يؤيؤ الحديث.
وهذا بناء غريب، لم يحفظ منه إلا خمسة: اليؤيؤ والجؤجؤ وهو صدر السفينة والطائر واليؤيؤ وهو الأصل يقال: فلان يؤيؤ الكرم أي أصله، والدؤدؤ ليلة خمس وست وسبع وعشرين.
واللؤلؤ وفيه أربع لغات قرىء بهن في السبع لؤلؤ بهمزتين، ولولو بغير همز، وبهمز أوله دون ثانيه، وعكسه.
وحكمه
: تحريم الأكل كما تقدم.
الخواص
: دماغه يجفف ويسحق مع السكر الطبرزذي، ويخلط معه بعر الضب ويكتحل به، يزيل البياض الذي في العين بإذن الله تعالى. ومرارته تداف بماء الشهدانج، ويسعط بها من به الصداع ينفعه نفعا بينا إن شاء الله تعالى.
اليحبور:
ولد الحبارى، وقد تقدم ما في الحبارى، وفي باب الحاء المهملة.
اليحمور:
دابة وحشية نافرة، لها قرنان طويلان كأنهما منشاران، ينشر بهما الشجر، فإذا عطش وورد الفرات، يجد الشجر ملتفة، فينشرها بهما. وقيل: إنه اليامور نفسه، وقرونه كقرون الأيل يلقيها في كل سنة وهي صامتة لا تجويف فيها، ولونه إلى الحمرة، وهو أسرع من الأيل.
وقال الجوهري: اليحمور حمار الوحش.
وحكمه
: الحل كيف كان.
الخواص
: دهنه ينفع من الاسترخاء الحاصل في أحد شقي الإنسان إذا استعمل مع دهن البلسان.
فائدة
: في كتاب العرائس، للإمام العلامة أبو الفرج بن الجوزي، قال: إن بعض طلبة العلم خرج من بلاده، فرافق شخصا في الطريق، فلما كان قريبا من المدينة التي قصدها قال له ذلك الشخص: قد صار لي عليك حق وذمام، وأنا رجل من الجان، ولي إليك حاجة، فقال: وما هي؟ قال: إذا أتيت إلى مكان كذا وكذا، فإنك تجد فيه دجاجا بينها ديك، فاسأل عن صاحبه
__________
(1) ديوان أبي نواس: 689.(1/557)
واشتره منه واذبحه، فهذه حاجتي إليك. فقال له: يا أخي، وأنا أيضا أسألك حاجة، قال: وما هي؟ قال: إذا كان الشيطان ماردا لا تعمل فيه العزائم، وألح بالآدمي منا، ما دواؤه؟ قال:
دواؤه أن يؤخذ له وتر قدر شبر من جلد يحمور، ويشد به إبهاما المصاب من يديه شدا وثيقا، ثم يؤخذ له من دهن السذاب البري فيقطر في أنفه الأيمن أربعا وفي الأيسر ثلاثا، فإن الماسك به يموت ولا يعود إليه أحد بعده.
قال: فلما دخلت المدينة، أتيت ذلك المكان فوجدت الديك لعجوز فسألتها بيعه، فأبت فاشتريته منها بأضعاف ثمنه، فلما اشتريته وملكته، تمثل لي من بعيد، وقال لي بالأشارة: اذبحه فذبحته. فعند ذلك خرج علي رجال ونساء، فجعلوا يضربونني ويقولون: يا ساحر! فقلت:
لست بساحر. فقالوا: إنك منذ ذبحت الديك، أصيبت عندنا شابة بجني، وأنه منذ مسكها لم يفارقها، فطلبت منهم وترا قدر شبر من جلد يحمور، وشيئا من دهن السذاب البري، فأتوا بهما فشددت إبهامي يدي الشابة شدا وثيقا، فلما فعلت بها ذلك صاح، وقال: أنا علمتك على نفسي! ثم قطرت من الدهن في أنفها الأيمن أربعا، وفي الأيسر ثلاثا، فخر ميتا من وقته وساعته، وشفى الله تلك الشابة، ولم يعاودها بعده شيطان انتهى.
اليحموم:
طائر حسن اللون، يشبه لون الحبرة الموشاة، وهو كثير بنخلة من أرض الحجاز، وأظنه من نوع اليعاقيب والحجل.
وحكمه
: حل الأكل، لأنه مستطاب، واليحموم أيضا اسم فرس النعمان بن المنذر، واليحموم أيضا الدخان الأسود، وقيل: هو المراد بقوله تعالى: {وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ} (1) تقول العرب:
أسود يحموم، إذا كان شديد السواد، وقيل: اليحموم جبل في جهنم يستظل به أهل النار لا بارد ولا كريم، أي لا بارد الثرى ولا كريم المنظر، وقيل: اليحموم اسم من أسماء النار. وقال الضحاك: النار سوداء وأهلها سود، وكل شيء فيها أسود نعوذ بالله من شرها.
اليراعة:
طائر صغير إذا طار بالنهار كان كبعض الطير، وإذا طار بالليل كان كأنه شهاب ثاقب، أو مصباح طيار، وقال أبو عبيدة: اليراع الهمج بين البعوض والذباب، يركب الوجه ولا يلدغ واليراعة أيضا النعامة.
الأمثال
: قالوا: «أخف (2) من يراعة»، فيجوز أن يراد به الطائر الذي يطير بالليل، وأن يراد به القصبة، والجمع يراع فيهما.
اليربوع:
بفتح الياء المثناة تحت، ويسمى الدرص، بفتح الدال وكسرها واسكان الراء المهملتين وبالصاد المهملة آخره، وذا الرميح كما تقدم في آخر باب الراء المهملة، حيوان طويل الرجلين قصير اليدين جدا، وله ذنب كذنب الجرذ يرفعه صعدا في طرفه شبه النوارة، لونه كلون الغزال. قال أصحاب الكلام في طبائع الحيوان: إن كل دابة حشاها الله خبثا فهي قصيرة اليدين، لأنها إذا خافت شيئا، لاذت بالصعود، فلا يلحقها شيء وهذا الحيوان يسكن بطن
__________
(1) سورة الواقعة: آية 43.
(2) جمهرة الأمثال: 1/ 347.(1/558)
الأرض، لتقوم رطوبتها له مقام الماء، وهو يؤثر النسيم ويكره البحار أبدا، يتخذ جحره في نشز من الأرض، ثم يحفر بيته في مهب الرياح الأربع ويتخذ فيه كوى، وتسمى النافقاء والقاصعاء والراهطاء، فإذا طلب من إحدى هذه الكوى نافق أي خرج من النافقاء، وإن طلب من النافقاء خرج من القاصعاء، وظاهر بيته تراب وباطنه حفر، وكذلك المنافق ظاهره إيمان وباطنه كفر.
قال الجاحظ وغيره: واسم المنافق لم يكن في الجاهلية لمن أسر الكفر وأظهر الإيمان، ولكن الباري جل وعلا اشتق له هذا الاسم من هذا الأصل من نافقاء اليربوع، لأنه لما أبطن الكفر وأظهر الإيمان وورى بشيء عن شيء، ودخل في باب الخديعة، وأوهم الغير خلاف ما هو عليه، أشبه في ذلك فعل اليربوع انتهى.
وفي طبعه، أنه يطأ في الأرض اللينة، حتى لا يعرف أثر وطئه كما يفعل الأرنب، وهو يجتر ويبعر، وله كرش وأسنان وأضراس، في الفك الأعلى والأسفل، قال الجاحظ والقزويني: اليربوع من نوع الفأر. زاد القزويني: هو من الحيوان الذي له رئيس مطاع ينقاد إليه، وإذا كان فيها يكون من بينها في مكان مشرف، أو على صخرة ينظر إلى الطريق، من كل ناحية، فإن رأى ما يخافه عليها صر بأسنانه وصوت، فإذا سمعته انصرفت إلى أجحرتها، فإن قصر الرئيس حتى أدركها أحد وصاد منها شيئا، اجتمعت على الرئيس فقتلته وولت غيره. وهي إذا خرجت لطلب المعاش، خرج الرئيس أولا يتشوف، فإن لم ير شيئا يخافه، صر بأسنانه وصوت إليها فتخرج.
والواو والياء في اليربوع زائدتان، فكان ينبغي أن يكتب في باب الراء المهملة، لكنه قد يخفى على بعض الناس فكتب هنا.
الحكم
: يحل أكله لأن العرب تستطيبه وتحله، قال عطاء وأحمد وابن المنذر وأبو ثور وقال أبو حنيفة: لا يؤكل لأنه من الحشرات، دليلنا أن الصحابة رضي الله عنهم أوجبوا فيه جفرة إذا قتله أو أصابه المحرم، وأن الأصل الإباحة إلا ما خص بالتحريم.
الأمثال
: قالوا: «أضل من ولد اليربوع» (1) وقالوا: «كالمشتري القاصعاء باليربوع» يضرب للذي يدع العين ويتبع الأثر، لأن القاصعاء جحر اليربوع الذي يقصع فيه أي يدخل والجمع قواصع.
الخواص
: دم اليربوع يؤخذ فيطلى على الشعر الذي ينبت في الجفن، بعد أن ينتف يذهب بإذن الله تعالى.
التعبير
: اليربوع في الرؤيا يدل على رجل حلاف كذاب، فمن نازعه نازع إنسانا كذلك.
اليرقان:
هو دود يكون في الزرع ثم ينسلخ، فيكون فراشا، يقال: زرع ميروق قاله ابن سيده.
اليسف:
الذباب، وقد تقدم في باب الذال المعجمة مستوفى.
__________
(1) جمهرة الأمثال: 2/ 10.(1/559)
اليعر:
بفتح الياء المثناة تحت، وبالعين المهملة الجدي يشد عند زبية الأسد، وعند مأوى الذئب ويغطي رأسه، فإذا سمع الضبع صوته جاء في طلبه فوقع في الزبية، ومنه قولهم: «فلان أذل من اليعر» (1)، واليعر أيضا دابة تكون بخراسان تسمن على الكد، وقيل: هي بالغين المعجمة.
قالوا في أمثالهم
: «أسمن من يغر» (2). ذكره حمزة وغيره.
اليعفور:
الخشف وولد البقرة الوحشية أيضا، وقال بعضهم: اليعافير تيوس الظباء، قال بشر بن أبي حازم:
وبلدة ليس بها أنيس ... إلا اليعافير وإلا العيس
وفي حديث سعد بن عبادة رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم، خرج على حماره يعفور ليعوده. قيل:
سمي يعفور للونه، وهي العفرة، كما قيل في أخضر يخضور، وقيل: سمي به تشبيها في عدوه باليعفور وهو الظبي والله تعالى أعلم.
اليعقوب:
ذكر الحجل قال الجواليقي: وهو عربي صحيح، وأما يعقوب اسم نبي الله صلى الله عليه وسلم فهو أعجمي كيوسف ويونس واليسع. وقال الجوهري: يعقوب اسم رجل لا ينصرف في المعرفة للعجمة والتعريف، واليعقوب ذكر الحجل مصروف، لأنه عربي لم يغير، وإن كان مزيدا في أوله فليس على وزن الفعل، ويوصف اليعقوب بكثرة العدو وشدته قال الشاعر:
عاد يقصّر دونه اليعقوب
والجمع اليعاقيب، قال الشاعر:
أودى الشباب الذي مجد عواقبه ... فيه نلذ ولا لذات للشيب
ويروى أيضا:
أودى الشباب حميدا ذو التعاجيب ... أودى وذلك شأو غير مطلوب
ولّى حثيثا وهذا الشيب يطلبه ... لو كان يدركه ركض اليعاقيب
يروى ركض بالرفع والنصب، فمن رفعه جعله فاعل يدركه، وأراد به أن هذا الطائر، على سرعة طيرانه لا يدرك الشباب إذا ولى، فكيف يدركه غيره؟ ومن نصبه نصبه بفعل مضمر تقديره ولى يركض ركض اليعاقيب، وجعله من جملة صفة الشباب، وجعل فاعل يدركه ضمير الشيب المستتر فيه، ويصير في البيت تقديم وتأخير، وتقديره: ولى الشباب حثيثا يركض ركض اليعاقيب، وهذا الشيب يطلبه لو كان يدركه، والمراد باليعاقيب: ذكور القبج، وقال بعضهم: إنه هنا العقاب، والمشهور الأول. واليعقوب والقبج والحجل راجع إلى نوع واحد، ووصفه أبو علي بن رشيق (3)
__________
(1) جمهرة الأمثال: 1/ 381.
(2) جمهرة الأمثال: 1/ 438.
(3) ابن رشيق: الحسن بن رشيق الفيرواني، أبو علي أديب ناقد. مات سنة 463هـ.(1/560)
بأبيات منها:
ما أغربت في زيها ... إلا يعاقيب الحجل
جاءتك مثقلة الترا ... ئب بالحلى وبالحلل
صفر العيون كأنها ... باتت بتبر تكتحل
وتخالها قد وكلت ... بالنوت والصوت الزجل
وكأنما باتت ... أصابعها بحناء تعل
من يستحل لصيدها ... فأنا امرؤ لا أستحل
ومن حكمه
: أنه يجب الجزاء بقتل المتولد بين اليعقوب والدجاج، قاله الرافعي، في الحج.
وهذا يرد قول من قال: إن المراد في البيتين الأولين هو العقاب، فإن التناسل لا يقع بين الدجاج والعقاب، وإنما يقع التناسل بين حيوانين بينهما تشاكل وتقارب في الخلق كالحمار الوحشي والأهلي، والظبي والشاة، فإذا عرف هذا فالمراد الدجاج البري، وهو في الشكل واللون قريب من الدجاج الإنسي.
اليعملة:
الناقة النجيبة المطبوعة على العمل، والجمع يعملات، ومنه قول عبد الله بن رواحة لزيد بن أرقم (1) رضي الله تعالى عنهما:
يا زيد زيد اليعملات الذبل ... تطاول الليل هديت فانزل (2)
وقيل: بل قال ذلك في غزوة مؤتة لزيد بن حارثة رضي الله تعالى عنه.
اليمام:
قال الأصمعي: هو الحمام الوحشي، الواحدة يمامة، وقال الكسائي: هي التي تألف البيوت، واليمامة اسم جارية زرقاء، كانت تبصر الراكب من مسيرة ثلاثة أيام، قال الجاحظ: إنها كانت من بنات لقمان بن عاد، وأن اسمها عنز، وكانت هي زرقاء، وكانت الزباء زرقاء، وكانت البسوس زرقاء، وهي أول من اكتحل بالإثمد من العرب وهي التي ذكرها النابغة في قوله (3):
واحكم كحكم فتاة الحي إذ نظرت ... إلى حمام شراع وارد الثمد
وقد تقدم في حرف الحاء.
فائدة
: قال في ابتلاء الأخيار بالنساء الأشرار: النساء اللاتي يضرب بهن المثل خمس وهي:
زرقاء اليمامة والبسوس ودغة وظلمة وأم قرفة. أما الزرقاء فيقال (4): «أبصر من زرقاء اليمامة»، وهي امرأة من بني نمير، كانت باليمامة تبصر الشعرة البيضاء في الليل، وتنظر الراكب من مسيرة ثلاثة أيام، وكانت تنذر قومها بالجيوش إذا غزتهم، فلا يأتيهم جيش إلا وقد استعدوا له، فاحتال عليها بعض من غزاهم، فأمر أصحابه فقطعوا شجرا وأمسكوها بأيديهم، أمام معسكره فنظرت
__________
(1) عبد الله بن رواحة وزيد بن أرقم: صحابيان.
(2) اليعملات: جمع اليعملة: الناقة النشيطة.
(3) ديوان النابغة 26.
(4) جمهرة الأمثال: 1/ 196.(1/561)
الزرقاء فقالت: إني أرى الشجر قد أقبلت إليكم! فقال لها قومها: قد خرفت، وذهب عقلك، ورق بصرك، كيف تأتي الشجر؟ قالت: هو ما أقول لكم. فكذبوها فصبحتهم الخيل، وأغاروا عليهم، وقتلوا الزرقاء، وقوروا عينيها، فوجدوا عروق عينيها قد غرقت في الإثمد من كثرة ما تكتحل به.
وأما البسوس فيقال: «أشأم من البسوس» (1)، وهي خالة جساس بن مرة بن ذهل بن شيبان، ولها كانت الناقة التي قتل من أجلها كليب بن وائل، وبها ثارت حرب بكر وتغلب التي يقال لها حرب البسوس.
وأما دغة فيقال: «أحمق من دغة» (2) وهي امرأة من بني عجل تزوجت من بني العنبر.
وأما ظلمة فيقال: «أزنى من ظلمة» وهي امرأة من هذيل زنت أربعين سنة، وقادت أربعين عاما، فلما عجزت عن الزنا والقيادة، اتخذت تيسا وعنزا، فكانت تنزي التيس على العنزة، فقيل لها: لم تفعلين ذلك؟ قالت: لأسمع أنفاس الجماع بينهما.
وأما أم قرفة، فيقال: «أمنع من أم قرفة» (3)، وهي امرأة مالك بن حذيفة بن بدر الفزاري، وكانت تعلق في بيتها خمسين سيفا، كل سيف منها لذي محرم لها.
وقد سئل ابن سيرين عن النساء فقال: مفاتيح أبواب الفتن ومخازن الحزن، إن أحسنت المرأة إليك منت عليك، تفشي سرك وتهمل أمرك، وتميل إلى غيرك. وقيل: النساء ريحان بالليل شوك بالنهار. وقيل لبعض الحكماء: مات عدوك! فقال: وودت أنكم قلتم تزوج. وقيل: العجز في ثلاث خصال: قلة اكتراثه في مصلحته، وقلة مخالفته لشهوته، وقبوله من امرأته فيما لا يعلمه.
وقال بعض الحكماء: لا تأمنن قارئا على صحيفة، ولا شابا على امرأة. وقال غيره: لا مصيبة أعظم من الجهل، ولا شر أشر من النساء انتهى.
الحكم
: يحل أكل اليمام وبيضه بالاتفاق، وقد تقدم في باب الحاء المهملة في الحمام.
الأمثال
: قالوا: «كن مع الناس يمامة» يعني ارفق بهم ولا تنفرهم. وخواصه وتعبيره كالحمام.
اليهودي:
حوت في البحر، وقد تقدم الكلام عليه في باب الشين المعجمة.
اليوصي:
بفتح الياء والواو وكسر الصاد المهملة المشددة، طائر بالعراق أطول جناحا من الباشق، وأخبث صيدا وهو الحر.
وحكمه
: الحرمة كما تقدم، في باب الحاء المهملة.
__________
(1) جمهرة الأمثال: 1/ 454.
(2) جمهرة الأمثال: 1/ 313.
(3) مجمع الأمثال: 2/ 323. وأم قرفة هي فاطمة بنت ربيعة بن بدر، قتلت سنة 6هـ، لها خبر في تاريخ الطبري 2/ 643.(1/562)
اليعسوب:
اسم مشترك يقع على طائر نحو الجرادة، له أربعة أجنحة لا يقبض له جناحا أبدا ولا يرى أبدا يمشي إنما يرى واقفا على رأس عود، أو طائرا وقال الجوهري: هو أطول من الجرادة لا يضم جناحه، إذا وقع شبهت به الخيل المضمرة قال بشير:
أبو ظبية شعث تطيف بشخصه ... كوالح أمثال اليعاسيب ضمرا
ثم قال: والياء فيه زائدة، لأنه ليس في الكلام فعلول غير صعفوق.
وذكر ابن خلكان، في ترجمة (1) الحسن بن عبد الله العسكري، قال: مرض صخر بن عمرو بن الشريد، وطال مرضه وكانت أمه وزوجته سليمى يمرضانه فسئلت زوجته يوما عن حاله، وكانت قد ضجرت منه، فقالت: لا هو حي فيرجى ولا ميت فيبكى، فسمعها صخر فأنشد (2) قائلا:
أرى أمّ صخر لا تملّ عيادتي ... وملت سليمى مضجعي ومكاني
وما كنت أخشى أن أكون جنازة ... عليك ومن يغترّ بالحدثان
لعمري لقد نبهت من كان نائما ... وأسمعت من كانت له أذنان
وأي امرىء ساوى بأمّ حليلة ... فلا عاش إلا في شقا وهوان
أهمّ بأمر الحزم لو أستطيعه ... وقد حيل بين العير والنزوان
فللموت خير من حياة كأنها ... معرس يعسوب برأس سنان
وفي حديث مصعب: «لولا ظمأ الهواجر ما باليت أن أكون يعسوبا». قال ابن الأثير: المراد ههنا فراشة مخضرة تطير في الربيع، وقيل: وهو طائر أعظم من الجرادة، ولو قيل: إنه النحل لجاز، واليعسوب اسم فرس للنبي صلى الله عليه وسلم وأخرى للزبير رضي الله تعالى عنه، وقيل: إنها إحدى الأفراس الثلاثة التي كانت للمسلمين يوم بدر على اختلاف فيه. واليعسوب يطلق على الغرة المستطيلة في وجه الفرس، وعلى دائرة عند مربض الفرس، وعلى ضرب من الحجلان، حكاه الدمياطي، في كتاب الخيل. والمربض بكسر الميم وبالضاد المعجمة مكان الفرس.
وفي الحديث (3): «صلوا في مرابض الغنم ولا تصلوا في أعطان الإبل». والمرابض المبارك، وربض الأسد أي رقد. وقال الجاحظ: اليعاسب هي كبار الذباب انتهى.
واليعسوب ملك النحل وأميرها الذي لا يتم لها رواح ولا إياب ولا عمل ولا مرعى إلا به، فهي مؤتمرة بأمره سامعة له مطيعة، وله عليها تكليف وأمر ونهي وهي منقادة لأمره، متبعة لرأيه، يدبرها كما يدبر الملك أمر رعيته، حتى إنها إذا أوت إلى بيوتها، وقف على باب البيت فلا يدع واحدة تزاحم أخرى، ولا تتقدم عليها، في العبور بل تعبر بيوتها واحدة بعد واحدة بعد واحدة بغير تزاحم ولا تصادم، ولا تراكم كما يفعل الأمير إذا انتهى بعسكره إلى معبر ضيق لا يجوزه إلا
__________
(1) وفيات الأعيان: 2/ 84.
(2) وفيات الأعيان: 2/ 84.
(3) رواه ابن ماجه: طهارة 67. ابن حنبل: 2/ 451.(1/563)
واحد بعد واحد. وأعجب من ذلك أن أميرين منهما، لا يجتمعان في بيت، ولا يتأمران على جمع واحد، بل إذا اجتمع منها جندان وأميران قتلوا أحد الأميرين وقطعوه واتفقوا على الأمير الواحد من غير معاداة منهم، ولا أذى من بعضهم لبعض، بل يصيرون يدا واحدة.
روى ابن السني، في عمل اليوم والليلة، عن أبي أمامة الباهلي رضي الله تعالى عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن أحدكم إذا أراد أن يخرج من المسجد، تداعت جنود إبليس واجتمعت كما تجتمع النحل على يعسوبها، فإذا قام أحدكم على باب المسجد، فليقل: اللهم إني أعوذ بك من إبليس وجنوده، فإنه إذا قالها لم تضره».
ومن لفظ اليعسوب، قيل للسيد يعسوب قومه. وقال علي رضي الله تعالى عنه، لما رأى عبد الرحمن بن عتاب بن أسيد مقتولا، يوم الجمل: هذا يعسوب قريش، ثم قال: جدعت أنفي وشفيت نفسي. وكان عبد الرحمن يقاتل ذلك اليوم ويقول:
أنا ابن عتاب بسيف ولول ... والموت دن الجمل المجلل
وقاتل قتالا شديدا في ذلك اليوم، وقطعت يده يومئذ، وكان فيها خاتم، فاختطفها نسر فطرحها باليمامة، فعرفت بخاتمه فصلوا عليه. وبالجملة، فقد اتفقوا على أن يده احتملها طائر في وقعة الجمل، فألقاها بالحجاز، فصلوا عليها ودفنوها.
واختلفوا في الطائر ما هو وفي أي مكان ألقاها؟ فقيل: حملها نسر وألقاها باليمامة في ذلك اليوم كما تقدم. وقال ابن قتيبة: حملتها عقاب، فألقتها في ذلك اليوم باليمامة. وقال الحافظ أبو موسى وغيره: ألقاها بالمدينة. وقال الشيخ، في شرح المهذب: ألقاها بمكة.
وفي صحيح (1) مسلم، من حديث النواس بن سمعان الطويل، أن الدجال تتبعه كنوز الأرض، كيعاسيب النحل أي تظهر له وتجتمع عنده كما تجتمع النحل على يعسوبها.
ولما مات أبو بكر الصديق رضي الله تعالى عنه، قام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه، على باب البيت الذي هو مسجى فيه، فقال: كنت والله يعسوبا للمؤمنين، وكنت كالجبل لا تحركه العواصف، ولا تزيله القواصف. فمثله علي كرم الله وجهه باليعسوب في سبقه للإسلام غيره، لأن اليعسوب يتقدم النحل إذا طارت فتتبعه، والعواصف الريح المهلكة في البر، والقواصف الريح المهلكة في البحر. قال (2) الله تعالى: {وَلِسُلَيْمََانَ الرِّيحَ عََاصِفَةً} وقال (3) الله تعالى: {فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قََاصِفاً مِنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُمْ بِمََا كَفَرْتُمْ}.
وفي كامل ابن عدي، في ترجمة عبد الله بن واقد الواقفي، وفي ترجمة عيسى بن عبد الله بن محمد بن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعلي رضي الله تعالى عنه:
«أنت يعسوب المؤمنين والمال يعسوب الكفار». وفي رواية: يعسوب الظلمة وفي رواية: يعسوب
__________
(1) رواه مسلم: فتن 110. والترمذي فتن 59.
(2) سورة الأنبياء: آية 81.
(3) سورة الإسراء: آية 69.(1/564)
المنافقين، أي يلوذ بك المؤمنون، ويلوذ الكفار والظلمة والمنافقون بالمال كما تلوذ النحل بيعسوبها.
ومن هنا قيل لأمير المؤمنين علي كرم الله وجهه أمير النحل.
وهذا ما انتهى إليه الغرض، مما يحصل به في هذا الشأن الاكتفاء، وختم بملك النحل الذي استخرج الله من لعابه الشمع والعسل، وجعل أحدهما ضياء والآخر شفاء وابتدىء بملك الوحش الذي منه الشجاعة تقتفى. وصلى الله وسلم على سيدنا محمد المصطفى، ورضي الله عن آله وعترته وصحبه أهل الفضل والوفا، وحسبنا الله وكفى.
قال مؤلفه، فقير رحمة الله تعالى: وكان الفراغ من مسودته في شهر رجب الفرد سنة ثلاث وسبعين وسبعمائة جعل الله ذلك خالصا لوجهه الكريم، وموجبا للفوز في دار النعيم، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.(1/565)
ثبت المراجع والمصادر
الأذكياء / ابن الجوزي / مكتبة الغوالي /
الأعلام / الزركلي / دار العلم للملايين / بيروت ط 7/ 1986
الأدب في العصر المملوكي / محمد زغلول سلام / دار المعارف بمصر / لا ط
بدائع الزهور / ابن إياس الحنفي / الهيئة المصرية العامة / لا ط
جمهرة الأمثال / أبو هلال العسكري / دار الكتب العلمية / بيروت ط 1/ 1988
الحيوان / الجاحظ / نسخة مصورة عن الطبعة المصرية /
ديوان الأعشى الأكبر / / /
ديوان امرىء القيس / / دار صادر / بيروت
ديوان أبي نواس / / دار الكتب العلمية / بيروت
ديوان أبي تمّام / / دار الكتب العلمية / بيروت
ديوان أبي العتاهية / / دار صادر / بيروت
ديوان جرير / / دار المعارف بمصر / القاهرة
ديوان جرير / / دار صادر / بيروت
ديوان جميل بثينة / / دار الآفاق الجديدة / بيروت
ديوان حسان بن ثابت / / /
ديوان الخرنق بنت هفان / / دار الكتب العلمية / بيروت
ديوان ذي الرمة / / دار الحياة / بيروت لا ط
ديوان ذي الرمة / / المكتب الإسلامي / بيروت لا ط
ديوان سلامة بن جندل / / دار الكتب العلمية / بيروت
ديوان الإمام الشافعي / / دار الكتب العلمية / بيروت
ديوان طرفة بن العبد / / دار صادر / بيروت
ديوان الإمام علي / / دار الكتب العلمية / بيروت
ديوان عنترة بن شداد / / دار صادر / بيروت(1/567)
ديوان عدي بن الرقاع / / دار الكتب العلمية / بيروت
ديوان عباس بن مرداس / / دار الرسالة / بيروت
ديوان الفرزدق / / دار الكتب العلمية / بيروت
ديوان لبيد بن ربيعة / / دار صادر / بيروت
ديوان المعلقات السبع / شرح الزوزني / دار صادر / بيروت لا ط
ديوان المتنبي / شرح العكبري / دار المعرفة / بيروت لا ط
الشعر والشعراء / ابن قتيبة / دار الكتب العلمية / بيروت ط 2/ 1985
الضوء اللامع / شمس الدين السخاوي / دار الحياة / بيروت لا ط
طبقات فحول الشعراء / ابن سلام / دار الكتب العلمية / بيروت ط 2/ 1988
العقد الثمين في / تقي الدين الفاسي / الرسالة / بيروت ط 2/ 1986
تاريخ البلد الأمين / / /
عيون الأخبار / ابن قتيبة / دار الكتب العلمية / بيروت
فوات الوفيات / محمد بن شاكر الكتبي / دار صادر / بيروت
القاموس المحيط / الفيروز آبادي / /
الكامل في ضعفاء الرجال / ابن عدي / دار الفكر / بيروت 1984
المعجم المفهرس لألفاظ الحديث النبوي / / /
مجمع الأمثال / الميداني / دار القلم / بيروت
المستقصى في الأمثال / الزمخشري / دار الكتب العلمية / بيروت
مطالعات في الشعر المملوكي والعثماني / بكري شيخ أمين / دار الآفاق الجديدة / بيروت ط 3/ 1980
مجمل اللغة / أحمد بن فارس / دار الرسالة / بيروت ط 2/ 1986
معجم الأدباء / ياقوت الحموي / دار الكتب العلمية / بيروت 1/ 1991
معجم البلدان / ياقوت الحموي / دار صادر / بيروت
وفيات الأعيان / ابن خلكان / دار صادر / بيروت 1977(1/568)
فهرس الجزء الثاني من حياة الحيوان الكبرى(1/569)
الفهرس
باب الزاي
الزاغ 3
الزاقي 5
الزامور 6
الزبابة 6
الزبزب 7
الزخارف 7
الزرزور 7
الزرق 8
الزرافة 8
الزرياب 10
الزغبة 10
الزغلول 10
الزغيم 11
الزلال 11
الزقة 11
الزّماج 12
الزّمّج 12
زمج الماء 13
الزنبور 13
الزندبيل 15
الزهدم 15
أبو زريق 15
أبو زيدان 15
أبو زياد 15
باب السين المهملة
سابوط 15
ساق حر 16
السالخ 16
سامّ أبرص 16
السانح 17
السّبد 17
السّبع 17
السبنتي والسبندي 23
السبيطر 23
السحلة 23
السحيلة 23
السحا 23
سحنون 24
السخلة 24
السّرحان 26
السرطان 27
السرّعوب 28
السرفوت 28
السرّفة 28
السرمان 28
السروة 28
السرماح 29
السعدانة 29
السعلاة 29
السفنج 32(1/571)
السقب 32
السقر 32
السقنقور 32
السلحفاة البرية 33
السلحفاة البحرية 34
السّلفان 35
السلق 35
السلك 35
السلكوت 35
السلوى 35
السماني 36
السمحج 37
السّمح 37
السمائم 38
السمسم 39
السمسمة 39
السمك 39
السمندل 45
السمّور 46
السميطر 47
السمندر والسميدر 47
السنجاب 47
السنداوة 48
السنة 48
السندل 48
السّنّور 48
السنونو 51
السودانية والسوادية 52
السوذنيق 52
السوس 52
السّيد 54
السّيدة 54
سيفنة 55
أبو سيراس 55
باب الشين المعجمة
الشادن 55
شادهوار 55
الشارف 55
الشاة 56
الشامرك 65
الشاهين 66
الشبب 67
الشبث 67
الشبثان 67
الشبدع 67
الشبربص 68
الشبل 68
الشبوة 68
الشبّوط 68
الشّجاع 68
الشحرور 69
شحمة الأرض 70
الشذا 70
الشران 70
الشرشق 70
الشرشور 70
الشرغ 70
الشرنبي 70
الشصر 70
الشعراء 71
الشغواء 73
الشفدع 73
الشفنين 73
الشق 73
الشقحطب 76
الشقدان 76
الشقراق 76(1/572)
الشمسية 77
الشنقب 77
شه 77
الشهام 77
الشهرمان 77
الشوحة 77
الشوف 77
الشوشب 77
الشوط 77
شوط براح 77
الشول 77
شولة 77
الشيخ اليهودي 78
الشيذمان 78
الشيصبان 78
الشيع 78
الشيم 78
الشيهم 78
أبو شبقونة 79
باب الصاد المهملة
الصؤابة 79
الصارخ 80
الصافر 80
الصدف 80
الصدى 81
الصّرّاخ 83
صرّار الليل 83
الصّرّاح 83
الصّرد 83
الصرصر 86
الصرصران 87
الصعب 87
الصّعوة 87
الصّفّارية 88
الصفر 88
الصفرد 89
الصقر 89
الصل 96
الصلب 96
الصلنباج 96
الصلصل 96
الصناجة 96
الصوار 97
الصومعة 97
الصيبان 97
الصيد 97
الصيدح 104
الصيدن 104
الصيدناني 104
الصير 104
باب الضاد المعجمة
الضأن 105
الضؤضؤ 107
الضب 107
الضبع 111
أبو ضبة 115
الضرغام 115
الضريس 116
الضغبوس 117
الضفدع 117
الضوع 120
الضيب 121
الضئيلة 121
الضيّون 121(1/573)
باب الطاء المهملة
طامر بن طامر 121
الطاوس 121
الطائر 126
الطبطاب 130
الطبوع 130
الطثرج 130
الطحن 130
الطرسوح 131
طرغلودس 131
الطرف 131
الطغام 131
الطفل 131
ذو الطيفتين 131
الطلع 132
الطيلا 132
الطلى 132
الطمروق 132
الطمل 132
الطنبور 132
الطوراني 133
الطوبالة 133
الطول 133
الطوطي 133
الطير 133
طير العراقيب 138
طير الماء 138
الطيطوي 139
الطيهوج 140
بنت طبق وأم طبق 140
باب الظاء المعجمة
الظبي 140
الظربان 147
الظليم 148
باب العين المهملة
العاتق 149
العاتك 150
عتاق الطير 150
العاضة والعاضهة 150
العاسل 150
العاطوس 150
العافية 150
العائذ 151
العبقص والعبقوص 151
العبور 151
العترفان 151
العتود 151
العثة 152
العثمثمة 152
العثمان 152
العثوثج 152
العجروف 152
العجل 152
العجمجمة 157
أم عجلان 157
العجوز 157
عدس 157
العذفوط 158
العربج 158
العريض 158
العسجدية 158
العربد 158
العربض والعرباض 158
العرس 158
العريقطة والعريقطان 158(1/574)
العزة 158
العسا 158
العساعس 158
العساس 158
العساهيل 158
العسبار 158
العسبور 158
العسلق 159
العسنج 159
العشراء 159
العصاري 159
العصفور 160
العضل 166
العرفوط 166
العريقطة 166
العضمجة 167
العضرفوط 167
عطار 167
العطاط 167
العطرف 167
العظاءة 167
العفر 168
العفريت 168
العفر 172
العقاب 172
العقد 185
العقال 185
العقرب 185
العقربان 202
العقف 202
العقعق 202
العقيب 203
العكاش 203
العكرشة 203
العكرمة 203
العلج 204
العل 204
العلجوم 204
العلام 204
العلوش 204
العلهان 204
العلس 204
العلامات 204
العلهز 205
العلعل 205
العلق 205
العلهب 210
العمروس 210
العملس 210
العميثل 210
العناق 211
عناق الأرض 213
العنبس 214
العنس 214
العنبر 214
العنتر 216
العندليب 216
العندل 217
العنز 217
العنظب 221
العنظوانة 221
عنقاء مغرب ومغربة 221
العنكبوت 224
العود 228
العواساء 228
العوس 228
العومة 228
العوهق 228(1/575)
العلا 228
العلام 228
العيثوم 228
العير 228
العير 231
عين السراة 231
العيس 232
العيساء 232
العيلام 232
العيثوم 232
العين 232
العيهل 232
عيجلوف 232
ابن عرس 232
أم عجلان 234
أم عويف 234
أم العيزار 234
باب الغين المعجمة
الغاق 234
الغداف 235
الغذي 235
الغراب 235
الغر 247
الغرنيق 247
الغرغر 250
الغرناق 251
الغزال 251
الغضارة 254
الغضب 254
الغضف 254
الغضوف 254
الغضيض 254
الغطرب 254
الغطريف 254
الغطلس 254
الغطاطا 254
الغفر 254
الغماسة 254
الغنافر 254
الغنم 255
الغواص 262
الغوغاء 263
الغول 263
الغيداق 267
الغيطلة 267
الغيلم 267
الغيهب 267
باب الفاء
الفاختة 267
الفأر 270
فأرة البيش 272
ذات النطاق 272
فأرة المسك 272
فأرة الإبل 272
وإما الفأرة التي خربت سد مأرب 273
الفادر 275
الفازر 275
الفاشية 275
الفاعوس 275
الفاطوس 275
الفالج 276
فالية الأفاعي 276
فتّاح 276
الفتح 276(1/576)
الفحل 276
الفدس 280
الفرأ 280
الفراش 280
الفرافصة 282
الفرخ 282
الفرس 285
فرس البحر 300
الفرش 301
الفرانق 302
الفرفر 302
الفرفور 302
الفرع 302
الفرعل 303
الفرقذ 303
الفرنب 303
الفرهود 303
الفروج 303
الفرير والفرار 304
فساغس 304
الفصيل 304
الفلحس 305
الفلو 305
الفناة 305
الفنك 305
الفهد 306
الفور 308
الفولع 308
الفيصور 309
الفويسقة 309
الفياد 309
الفيل 309
الفينة 323
أبو فراس 323
باب القاف
القادحة 323
القارة 323
القارية 323
القاق 324
القاقم 324
القاوند 324
القبج 324
القبرة 325
القبعة 328
القبيط 328
القتع 329
ابن قترة 329
القدان 329
القراد 329
القردوح 335
القرش 335
القرقس 337
القرشام والقرشوم والقراشم 337
القرعبلانة 337
القرعوش 337
القرقف 337
القرقفنة 337
القرلي 338
القرمل 338
القرميد 338
القرمود 338
القرنبى 338
القرهب 339
القرهب 339
القذر 339
القرم 339
القرة 340
القسورة 340(1/577)
القشعمان 341
القشبة 341
القصيري 341
القط 341
القطا 342
القطّا 348
القطامي 348
قطرب 348
القشعبان 349
القعود 349
القعيد 349
القعقع 349
القلو 349
القلقاني 349
القلوص 349
القليب 351
القمري 351
القمعة 353
القمعوط والقمعوطة 353
القمل 353
القمقام 359
قندر 359
القندس 360
القنعاب 360
القنفذ 360
القنفذ البحري 362
القنفشة 362
القهيى 362
القهيبة 363
القوافر 363
القواع 363
القوب 363
قوبع 363
القوثع 363
القوق 363
قوقيس 363
قوقي 363
قيد الأوابد 363
قيق 363
أم قشعم 364
أبو قير 364
أم قيس 364
باب الكاف
الكاسر 364
كاسر العظام 364
الكبش 364
الكبعة 370
الكتفان 370
الكتع 370
الكدر 370
الكركر 370
الكركند 370
الكركي 371
الكروان 375
الكسعوم 376
الكعيت 376
الككم 377
الكلب 377
الكلثوم 424
الكلكسة 424
الكميت 424
الكندارة 424
الكنعبة 424
الكعند والكعند 424
الكندش 424
الكهف 424(1/578)
الكودن 424
الكوسج 425
الكهول 425
باب اللام
لأي 425
اللباد 425
اللبؤة 426
اللجأ 429
اللحكاء 429
اللخم 430
اللعوس 430
اللعوة 430
اللقحة 430
اللقاط 432
اللقلق 433
اللهق 434
اللهم 434
اللوب والنوب 434
اللوشب 434
اللياء 434
الليث 434
الليل 437
باب الميم
مارية 437
المازور 437
الماشية 437
مالك الحزين 438
المجثمة 439
المثا 439
المربع 439
المرء 439
المرزم 439
المرعة 439
مسهر 439
المطية 440
المعراج 444
المعز 444
ابن مقرض 444
المقوقس 445
المكاء 446
المكلفة 447
الملكة 447
المنارة 447
المنخنقة 447
المنشار 448
الموقوذة 448
الموق 448
المول 449
المها 449
المهر 450
ملاعب ظله 451
أبو مزينة 451
ابنة المطر 451
أبو المليح 451
ابن ماء 452
باب النون
الناب 452
الناس 452
الناضح 452
الناقة 453
الناموس 460
الناهض 461
النباج 461(1/579)
النبر 461
النجيب 461
النحام 462
النحل 463
النحوص 474
النسر 474
النساف 479
النسناس 479
النسنوس 481
النضو 481
النعاب 482
النعام 483
النعثل 488
النعجة 488
النعبول 490
النعرة 490
النعم 490
النغر 492
النغض 494
النغف 494
النفار 494
النقاز 494
النقاقة 494
النقد 494
النكل 495
النمر 495
النمس 497
النمل 497
النهار 504
النهاس 504
النهس 504
النهام 505
النهشل 505
النهسر 505
النواح 505
النوب 505
النورس 505
النوص 505
النون 505
باب الهاء
الهالع 509
الهامة 509
الهبع 513
الهجاة 513
الهجرس 513
الهجرع 514
الهجين 514
الهدهد 514
الهدي 519
الهديل 520
الهرماس 520
الهر 520
الهرنصانة 528
هرثمة 528
الهرهير 528
الهرزون والهرزان 528
الهزار 528
الهزبر 528
الهرعة 529
الهف 529
الهقل 529
الهقلس 530
الهمج 530
الهمع 530
الهمل 530(1/580)
الهملع 530
الهمم 531
الهنبر 531
الهودع 531
الهوذة 531
الهوزن 531
الهلابع 532
الهلال 532
الهيثم 532
الهيجمانة 532
الهيطل 532
الهيعرة 532
الهيق 532
الهيكل 532
أبو هارون 532
باب الواو
الوازع 532
الواق واق 532
الواقي 532
الوبر 533
الوج 534
الوحدة 534
الوحش 535
الودع 537
الورء 537
الورد 537
الورداني 538
الورشان 538
الورقاء 539
الورل 541
الوزغة 544
الوصع 548
الوطواط 548
الوعوع 549
الوعل 549
الوقواق 552
بنات وردان 552
باب الياء
يأجوج ومأجوج 553
اليامور 556
اليؤيؤ 557
اليحبور 557
اليحمور 557
اليحموم 558
اليراعة 558
اليربوع 558
اليرقان 559
اليسف 559
اليعر 560
اليعفور 560
اليعقوب 560
اليعملة 561
اليمام 561
اليهودي 562
اليوصي 562
اليعسوب 563
ثبت المراجع والمصادر 566(1/581)
الجزء الأول
بسم الله الرّحمن الرّحيم
المقدّمة
عصر (1) المؤلف
أولا:
عاش المؤلف كمال الدين الدّميري، في عصرين متجاورين، هما عصر دولة المماليك البحرية والمماليك البرجية، وقد عاصر من سلاطين الفترتين اثني عشر سلطانا ابتداء من عهد الملك الصالح إسماعيل بن محمد بن قلاوون الذي تقلد السلطنة سنة 743هـ حتى 745هـ، وانتهاء بالملك الناصر فرج بن برقوق المتوفى سنة 814هـ.
الحال السياسية:
وإذا كانت الفترة الأولى قد تميّزت بنوع من الاستقرار السياسي، خصوصا في بداياتها أيام بيبرس وقلاوون وابنه حسن، فإن هذا الأمر لم يكن متاحا دائما في الدولة الثانية، ولو أن العصر شهد سلاطين أقوياء مثل برقوق، وبرسباي، وغيرهما. ولكن الاضطرابات الداخلية لم تتوقف طيلة العصر، بسبب الشهرة إلى السلطة والتنافس عليها والحسد، وكثيرا ما كان يثور حاكم المنطقة ضد سلطانه، وكذلك القواد وكبار الأمراء، وكان الاستيلاء على السلطة في أي وقت أمر متاح للقادة الكبار في الجيش لأن السلطة شبه عسكرية، مركزية، والقواد العسكريون، يتمتعون بنفوذ واسع. والخليفة لا يملك إلا الاسم والتوقيع فحسب. وكذلك عامة الناس كانوا أبعد ما يكونون عن المتغيرات السياسية، وهم الذين يتحملون أوزار الانقلابات العسكرية والثورات دائما.
الحروب والأوضاع العسكرية:
خاض المماليك، في الدولة البحرية، ومنذ قيامها، حروبا عدة مشرفة، كان أولها معركة عين جالوت سنة 662هـ التي أوقفت الزحف المغولي ووضعت له حدا، بل تراجع المغول بعد تلك المعركة منهزمين نحو الشرق، وتوالت المواجهات بعد ذلك، أيام الظاهر بيبرس الذي أمضى
__________
(1) الدولة المملوكية الأولى (البحرية): 648هـ 784هـ.
الدولة الثانية (البرجية): 784هـ 922هـ.(2/3)
سبعة عشر عاما، وهي مدة سلطنته، مجاهدا مقاتلا ضد الصليبيين والمغول، واستطاع أن يحرر الكثير من المواقع التي احتلها الفرنجة على سواحل الشام. والواقع إن هذه الفترة من حكم المماليك قد انقذت ما تبقى من بلاد الإسلام، وتصدت بشجاعة للغزوين المغولي والصليبي. وقد أعاد السلطان الظاهر بيبرس الخلافة العباسية إلى سابق مجدها وجعل القاهرة مقر الخلافة بعد سنة 656هـ حيث سقطت بغداد بأيدي المغول، واستمر الوضع العسكري على هذا المنوال في الدولة الثانية، حيث كان الفرنجة يحاولون النزول على سواحل الشام أو مصر بين وقت وآخر، فكانوا يتصدون لهم، وببسالة، حتى إن برسباي تعدى ذلك إلى أن غزا قبرس وأسر ملكها وغنم الغنائم العظيمة.
أما الحجاز، أيام الدولة الثانية، فكان يخضع للسلطة المركزية، في القاهرة، وكان السلاطين، يتدخلون عند الضرورة، لفض النزاعات على الحكم في مكة وما يليها. كما امتدت سلطة الدولة المملوكية إلى اليمن والسواحل الشرقية لشبه الجزيرة العربية.
الحال الاجتماعية:
إن التنافس على السلطة، والمعارك الجانبية التي كانت تشب هنا وهنالك في مصر والشام، بالإضافة إلى المواجهات العنيفة ضد المغول ومن بعدهم الفرنجة الصليبيين، كانت تستنزف الطاقات المالية والاقتصادية في مصر، مما دفع الكثير من الملوك لفرض ضرائب جديدة كلما دعت الحاجة، مما أثقل كاهل الناس، خصوصا في مصر. ولم يقتصر الأمر، على الإنفاق الحربي، لكن اشتركت عوامل أخرى في تعقيد الأحوال المعيشية، من ذلك: الطاعون (1) والأوبئة الأخرى التى كانت تتفشى من وقت لآخر فيذهب آلاف الناس ضحية لذلك، وبالتالي ينعكس الأمر سلبا على البلاد لفقدان الأيدي العاملة في الزراعة وفي الحرف الأخرى، وأكثر ما يلاحظ ذلك في الدولة الثانية، حيث تفاقمت الضرائب (2)، وازدادت المصادرات، وتغلب الجند على مقدّرات البلاد والعباد، وكثرت ثورات الأعراب، خصوصا في صعيد مصر. ويضاف على ذلك، ما كان يسببه انخفاض النيل من أزمة في ري المزروعات فتقل المواسم وترتفع الأسعار، ويكثر السلب والنهب والمصادرات.
أما طبقات الشعب، فكانت الطبقة الحاكمة، طبقة المماليك السلاطين، والأمراء، والجنود ومعظمهم كانوا يتحدرون من أصول غير عربية، وبعضهم لم يكن يتكلم العربية. وعامة الشعب، وتنقسم إلى تجار متوسطي الحال، والسواد الأعظم من الناس من المزارعين والفقراء.
الحال الثقافية:
إن الأوضاع السياسية، غير المستقرة، والأحوال الاقتصادية المتدهورة، والحروب التي لا
__________
(1) مطالعات في الشعر المملوكي: 46.
(2) بدائع الزهور: 3/ 59.(2/4)
تكاد تتوقف، حتى تشتعل في غير مكان، كل ذلك كان عائقا في وجه أي نهضة علمية شاملة، ولم يكن من السهل تخطي ذلك الواقع، خصوصا وأن بغداد عاصمة العلم والحضارة في المنطقة كلها قد سقطت وضاع بسقوطها تراث أجيال، في العلوم المختلفة، وتشتت أهل العلم، فمنهم من قضى نحبه، ومنهم من هام على وجهه ينشد الأمن والنجاة، وكان لحسن حظ بعضهم أن يمموا شطر مصر، فأفادوا منها وأعطوها من غزير علومهم، وبذلك تحوّلت الحركة العلمية إلى القاهرة فتوافد أهل العلم من جميع الأقطار الإسلامية، والعربية، إلى عاصمة الخلافة، نظرا لما تحتله هذه العاصمة من مكانة في قلوب أهل الإسلام باعتبارها ترفع راية الجهاد ضد قوى الطغيان والغزو، فضلا عن الرعاية التي لقيها أهل العلم في العهود المختلفة وفي الدولتين.
ورعاية المماليك للعلم والعلماء، تتمثل بإقامتهم للمدارس، وقد اوقفوا لها الأوقاف، واجروا الرواتب على المعلمين والمتعلمين، واهتموا بالمساجد، فعينوا لها الخطباء والأئمة حتى غدت هي أيضا مراكز علمية مشعة، فمن المساجد التي لعبت دورا بارزا في النهضة، الجامع الأزهر وقد ساهم في إحياء العلوم المختلفة، علوم اللغة والطب والرياضيات والموسيقى والحديث النبوي وعلوم القرآن وغير ذلك من علوم العصر، ومن المساجد التي لعبت الدور نفسه، جامع العطارين بالاسكندرية، وجامع دمياط، وجامع اسيوط، وقوص، وقفط. كما رعى السلاطين المدارس الدينية التي كانت تدرس الفقه على المذاهب الأربعة، وجامع عمرو بن العاص الذي كان يضم أربعين حلقة.
ومن الجدير بالذكر، أن ديوان الإنشاء كان من المؤسسات التي ساهمت في الإبقاء على العربية كلغة للتأليف والكتابة، باعتبار أن هذا الديون، هو الأكثر نشاطا في حقل الكتابة، فهو السجل الرسمي للدولة وفيه تدون كافة الوثائق الصادرة، والواردة، وكان يقوم بذلك كتاب أدباء بلغاء عملوا على إغناء العربية بأساليبهم الرفيعة، ولو طغى عليها بعض التصنع في بعض الأحيان.
ولا يفوتنا أن ننوه بما كان للقضاء من دور مميز، هو الآخر، حمل عبئا غير قليل في التّمكين للعربية ولأساليب التعبير من خلال ما يدونه القضاة من عهود ومواثيق وأحكام. ونظرا لما تقدم، فباستطاعتنا أن نرصد مئات الأعلام، علماء وأدباء، فمن المؤرخين أبو المحاسن، يوسف بن تغري بردي المتوفى سنة 874هـ، وشمس الدين السخاوي المتوفى سنة 902هـ، وتقي الدين المقريزي المتوفى سنة 845هـ. وابن إياس المتوفى سنة 930هـ. وفي اللغة والأدب: جلال الدين السيوطي المتوفى سنة 911هـ والذي تعد مؤلفاته بالعشرات في كل علم وفن: في التفسير والحديث والفقه واللغة والنحو، وابن تيميه المتوفى سنة 728هـ.
ومن الجدير بالذكر أن أهل السلطة كانوا يقربون أهل المعرفة والأدب، ولكنهم تشددوا مع المنحرفين عن الدين، ومع أهل الفلسفة، ومن أهل الفلسفة التفتازاني سعد الدين، وعبد الرحمن الإيجي ونصير الدين الطوسي، وغيرهم.
وقد تنافس أهل العلم في اقتناء الكتب وجمعها، حتى ليقال إن نجم الدين بن حجي (1)
ترك بعد وفاته ثلاثة آلاف مجلد من الكتب النفيسة. وذكر المقريزي، في القاهرة وحدها أربع عشرة مكتبة عامة. ولم تكن دمشق تقل شأنا في هذا المجال، وعرف فيها من المدارس العمرية والناصرية، وخزانة للكتب.(2/5)
ومن الجدير بالذكر أن أهل السلطة كانوا يقربون أهل المعرفة والأدب، ولكنهم تشددوا مع المنحرفين عن الدين، ومع أهل الفلسفة، ومن أهل الفلسفة التفتازاني سعد الدين، وعبد الرحمن الإيجي ونصير الدين الطوسي، وغيرهم.
وقد تنافس أهل العلم في اقتناء الكتب وجمعها، حتى ليقال إن نجم الدين بن حجي (1)
ترك بعد وفاته ثلاثة آلاف مجلد من الكتب النفيسة. وذكر المقريزي، في القاهرة وحدها أربع عشرة مكتبة عامة. ولم تكن دمشق تقل شأنا في هذا المجال، وعرف فيها من المدارس العمرية والناصرية، وخزانة للكتب.
وفي حلب عرفت نهضة علمية، تمثلت بعدد المدارس التي كانت فيها حتى اجتياح تيمور لنك لها سنة 803هـ. إذ بلغ عدد مدارسها ثلاثمائة مدرسة، دمرها الغزو المغولي في ذلك الوقت، ولكن نشأت مدارس أخرى منها: الشعبانية، والعثمانية، والمنصورية، والخسروية (2)، وكانت لها أوقاف جارية.
وعلى وجه العموم، فإن العصر المملوكي، بفترتيه، عرف نشاطا ثقافيا ملحوظا، في سائر العلوم والفنون، للأسباب التي أشرنا إليها حتى عدّت المؤلفات بعشرات الآلاف في مدة زمنية لم تتجاوز ثلاثمائة عام، تعاقب خلالها على الحكم سلاطين أشدّاء، وجهوا همهم إلى الحرب والجهاد، ولكنهم لم يغفلوا أبدا عن تشجيع العلوم وتقريب العلماء، فلا يخلو عصر أحد منهم من بناء جامع أو مدرسة، أو مكتبة كما فعل قلاوون، وابنه الناصر، والملك الظاهر جقمق، وبيبرس وقايتباي وقانصوه الغوري. وبعضهم كان مثقفا كالمؤيد شيخ الذي كان «يركز الفن وينظم الشعر، وله أشياء كثيرة من الفن دائرة بين المغنين الآن» (3).
ترجمة المؤلف (4)
اسمه ونسبه:
محمد بن موسى بن عيسى بن علي الكمال أبو البقاء، الدّميري الأصل، القاهري الشافعي. كان اسمه كمالا بغير إضافة، وكان يكتبه كذلك بخطه في كتبه ثم تسمّى محمدا، وصار يكشط الأول، وكأنه، لتضمنه نوعا من التزكية مع هجر اسمه الحقيقي.
نشأته وشيوخه:
ولد في القاهرة سنة 742هـ، وتكسّب بالخياطة، ثم أقبل على العلم، فسمع جامع الترمذي على مظفّر الدين العطار المصري، وعلى علي بن أحمد العرضي الدمشقي. كما سمع بالقاهرة من عبد الرحمن بن علي الثعلبي، ومن محمد بن علي الخزاوي: كتاب «الخيل» للحافظ
__________
(1) فقيه وقاض توفي في القاهرة سنة 888هـ. انظر: مطالعات في الشعر المملوكي: 67.
(2) المصدر السابق: 65.
(3) تاريخ ابن إياس: 2/ 9.
(4) انظر ترجمة المؤلف في: الضوء اللامع للسخاوي: 10/ 59. وفيه: أن اسم المؤلف كان «كمالا» بغير إضافة ثم تسمّى محمدا». العقد الثمين: 2/ 372. الأعلام: 7/ 118.(2/6)
شرف الدين الدمياطي عنه. كما سمع «العلم» للمرهبي، ومن غيرهما شيوخهما.
وفي مكة المكرمة، سمع من الجمال محمد بن أحمد بن عبد المعطي: صحيح ابن حبّان، وغير ذلك. وسمع فيها سنن ابن ماجه، ومسند الطيالسي، ومسند الشافعي، ومعجم ابن قانع، وأسباب النزول للواحدي، والمقامات الحريرية وغير ذلك، على كمال الدين محمد بن عمر بن حبيب الحلبي.
وممن أخذ عنهم الشيخ بهاء الدين أحمد بن الشيخ تقي الدين السّبكي، وقد أجاز له النويري أبو الفضل كمال الدين بالفتوى والتدريس بناء على طلب السبكي.
ومن شيوخه في الفقه جمال الدين عبد الرحيم الإسنائي، وفي الأدب الشيخ برهان الدين القيراطي.
مؤلفاته:
وقد برع الدميري، في التفسير والحديث والفقه وأصوله، والعربية والأدب، وله تصانيف في العلوم المختلفة منها:
1 - الديباجة، في شرح سنن ابن ماجه، وهو في خمس مجلدات.
2 - النجم الوهّاج، في شرح المنهاج للنواوي.
3 - حياة الحيوان الكبرى، وقد اختصره التقي (1) الفاسي سنة 822هـ.
4 - أرجوزة في الفقه.
5 - التذكرة.
6 - شعر ونظم.
7 - مختصر شرح لامية العجم للصفدي.
سيرته وطلابه:
كان خيّرا عابدا، صائما، وكان تصدى للتدريس والإفتاء في أماكن كثيرة من القاهرة منها:
الجامع الأزهر وكانت له حلقة ودرس أسبوعي. ودرّس الفقه في القبّة من خانقاه بيبرس بالقاهرة.
من أهم تلاميذه، الذين أخذوا عنه الحديث التقي الفاسي، في مصر والإمام صلاح الدين خليل بن الأقفهي، في مكة المكرمة.
وقد ذكّر ووعظ في مدرسة ابن البقري، وجامع الظاهر بالحسينية، كما درّس وأفتى أثناء مجاوراته في مكة المكرمة، وكان نزلها لأول مرة سنة 762هـ، فجاور ثم حج وكرر ذلك مرارا وتزوّج ورزق اولادا، وكان حجه الأخير سنة 800هـ، وانصرف من حجه ذلك إلى القاهرة حيث مات فيها سنة 808هـ، ودفن في مقابر الصوفية بسعيد السعداء.
__________
(1) تقي الدين محمد بن أحمد الحسيني الفاسي المتوفى سنة 832هـ.(2/7)
منهج المؤلف
إن الدميري، قد رتّب كتابه على حروف المعجم، وضمنه من أسماء الحيوانات ما تنامى إلى سمعه، ومن مصادر كثيرة ومختلفة تتراوح ما بين كتب يونانية وعربية قديمة أو ما كان قريبا لعهد المؤلف، الذي اطلع على تلك الكتب، المتخصصة في عالم الطب والحيوان، ووعى ما فيها، ونقّحها، وطرح جانبا ما لم يقتنع به، وأقرّ ما رأى عليه إجماعا لدى العلماء، ومع حذره الشديد، فإنه قد أبقى على معلومات كثيرة، غريبة وعجيبة، ولكنه نقلها على ذمة أصحابها وناقليها، فأيّد كل مروياته بإسنادها إلى رواتها، بالتسلسل المعروف وصولا إلى المنشإ الأساس، ولم يفته أن يرد، حيث يقتضي الأمر، على الأغاليط.
أما طريقته في عرض المعلومات، فإنه يبدأ بوصف الحيوان، بعد أن يضبط اسمه ضبطا تاما بالشكل، ويعرّف بالأصل اللغوي له، ويقدم بعد ذلك عرضا لبعض الأخبار والمرويات التي تدل على طبائع ذلك الحيوان، وفي هذا الإطار يستحضر طائفة من الأحاديث النبوية الشريفة، والآيات القرآنية الكريمة التي لها علاقة بالموضوع، فضلا عما جاء حوله من أشعار قديمة، وأمثال وحكم. ثم يورد ما قاله الفقهاء في شأن الحيوان المذكور من حيث الحكم الشرعي في أكله أو عدمه، يؤيد ذلك بالأقوال المختلفة، وبأحاديث نبوية وآيات كريمة، وينتهي إلى ذكر الخواص الطبية من المنافع والمضار من لحم ذلك الحيوان أو غيره.
منهج التحقيق
اعتمدت في تحقيق الكتاب، الطبعة المصرية، التي توزعها مكتبة محمود توفيق الكتبي بمصر، وهي طبعة قديمة، لا تخلو من الأخطاء، وتقع في مجلدين كبيرين، وصفحاتها كبيرة يزيد عدد الأسطر في كل صفحة على ثلاثين سطرا، وعدد كلمات كل سطر يتراوح ما بين خمس عشرة إلى عشرين كلمة.
ولقد قمت بضبط نصوص الكتاب، بوضع علامات الوقف، والحركات المناسبة في أواخر الكلمات حيث يلزم. ثم حددت بدايات: للمقاطع والفقرات، وانتقلت بعد ذلك إلى تحقيق الكتاب، بتخريج الأبيات الشعرية من مصادرها في الدواوين، وفي أمهات كتب الأدب والتاريخ، وخرّجت الآيات، والأحاديث النبوية ما أمكنني، ولم اهتد إلى بعض الأحاديث فتركتها، ولم أشر إلى ذلك. كما خرّجت أمثال الكتاب، وعرّفت بأعلامه وخصوصا الشعراء، بإشارات سريعة، ولم اتوقف على الدقائق، والتفاصيل لغير حاجة.
وبعد، فإن ما قمت به، ما هو إلا محاولة متواضعة، أرجو أن أكون قد وفقت في مسعاي، لإخراج هذا الكتاب في حلة جديدة تليق به، داعيا المولى عز وجل أن ينفعنا به، إنه سميع مجيب.
والله الموفق أحمد حسن بسج بيروت في 17جمادى الأولى 1414هجرية الموافق 1/ 11/ 1993رومية(2/8)
بسم الله الرّحمن الرّحيم الحمد لله الذي شرف نوع الإنسان، بالأصغرين: القلب واللسان، وفضله على سائر الحيوان بنعمتي المنطق والبيان، ورجحه بالعقل الذي وزن به قضايا القياس في أحسن ميزان، فأقام على وحدانيته البرهان. أحمده حمدا يمدنا بمواد الإحسان، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الذي لا يدرك كنه ذاته بالحدود والرسوم ذوو الأذهان، وأشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله المخصوص بالآيات البينات كل البيان، صلّى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه، صلاة وسلاما يدومان ما دام الملوان، ويبقيان في كل زمان وأوان.
وبعد، فهذا كتاب لم يسألني أحد تصنيفه، ولا كلفت القريحة تأليفه، وإنما دعاني إلى ذلك أنه وقع في بعض الدروس، التي لا مخبأ فيها لعطر بعد عروس، ذكر مالك الحزين والذيخ المنحوس، فحصل في ذلك ما يشبه حرب البسوس، ومزج الصحيح بالسقيم، ولم يفرق بين نسر وظليم، وتحككت العقرب بالأفعى، واستنت الفصال حتى القرعى، وصيروا الأروى مع النّعام ترعى، وقضوا باجتماع الحوت والضب قطعا، واتخذ كل أخلاق الضبع طبعا، ولبس (1) جلد النمر أهل الإمامة، وتقلدها الجميع طوق الحمامة.
والقوم إخوان وشتى في الشيم ... وقيل في شأنهم: اشتدي زيم (2)
وظن الكبير أنه «أصدق من القطا (3) وأن الصغير كالفاختة غلطا، وصار الشيخ الأفيق، كذات التحيين والمعبد ذو التحقيق كالراجع بخفي حنين (4) والمقيد كالأشقر تحيرا، والطالب كالحباري تحسرا، والمستمع يقول: كل الصيد في جوف الفرا (5) والنقيب كصافر يكرر «أطرق كرا» (6) فقلت عند ذلك في بيته يؤتى الحكم، وبإعطاء القوس باريها (7) تتبين الحكم، وفي الرهان سابق الخيل يرى، «وعند الصباح يحمد القوم السّرى» (8) واستخرت الله تعالى وهو الكريم
__________
(1) لبس جلد النمر:
كناية عن المجاهرة بالعداوة.
(2) زيم: إسم فرس.
(3) جمهرة الأمثال: 1/ 479.
(4) يضرب لمن يرجع خائبا.
(5) جمهرة الأمثال: 2/ 135.
(6) جمهرة الأمثال: 1/ 158.
(7) جمهرة الأمثال: 1/ 66.
والمثل: أعط القوس باريها.
(8) جمهرة الأمثال: 2/ 38.(2/9)
المنان، في وضع كتاب في هذا الشأن وسميته حياة الحيوان، جعله الله موجبا للفوز في دار الجنان، ونفع به على ممر الأزمان، إنه الرحيم الرحمن ورتبته على حروف المعجم، ليسهل به من الأسماء ما استعجم.
باب الهمزة
الأسد
: من السباع معروف، وجمعه أسود وأسد وآسد وآساد والأنثى أسدة وفي حديث (1) أم زرع: «زوجي إن دخل فهد، وإن خرج أسد». وله أسماء كثيرة، قال ابن خالويه: للأسد خمسمائة اسم وصفة. وزاد عليه علي بن قاسم بن جعفر اللغوي مائة وثلاثين اسما فمن أشهرها: أسامة والبيهس والنآج والجخدب والحارث وحيدرة والدوّاس والرئبال وزفر والسبع والصّعب والضّرغام والضّيغم والطيثار والعنبس والغضنفر والفرافصة والقسورة وكهمس والليث والمتأنّس والمتهيّب والهرماس والورد. وكثرة الأسماء تدل على شرف المسمى. ومن كناه أبو الأبطال وأبو حفص وأبو الأخياف وأبو الزعفران وأبو شبل وأبو العباس وأبو الحارث.
وإنما ابتدأنا به لأنه أشرف الحيوان المتوحش إذ منزلته منها منزلة الملك المهاب، لقوته وشجاعته وقساوته وشهامته وجهامته وشراسة خلقه، ولذلك يضرب به المثل في القوّة والنجدة والبسالة وشدّة الإقدام والجراءة والصّولة. ومنه قيل لحمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه: أسد الله ويقال: من نبل الأسد أنه اشتق لحمزة بن عبد المطلب من اسمه، وكذلك لأبي قتادة، فارس النبي صلى الله عليه وسلم. ففي صحيح مسلم، في باب إعطاء القاتل سلب المقتول. فقال (2) أبو بكر رضي الله عنه: «كلا والله لا يعطيه أضيبعا من قريش، ويدع أسدا من أسد الله تعالى يقاتل عن الله ورسوله». وسيأتي إن شاء الله تعالى في باب الضاد المعجمة.
وهو أنواع كثيرة، قال أرسطو: رأيت نوعا منها يشبه وجه الإنسان، وجسده شديد الحمرة، وذنبه شبيه بذنب العقرب، ولعل هذا هو الذي يقال له الورد. ومنه نوع على شكل البقر له قرون سود نحو شبر، وأما السبع المعروف فإن أصحاب الكلام في طبائع الحيوان، يقولون: إن الأنثى لا تضع إلّا جروا واحدا تضعه لحمة ليس فيه حسّ ولا حركة، فتحرسه كذلك ثلاثة أيام، ثم يأتي أبوه بعد ذلك فينفخ فيه، المرة بعد المرة، حتى يتنفس ويتحرك وتنفرج أعضاؤه، وتتشكل صورته، ثم تأتي أمه فترضعه، ولا يفتح عينيه إلّا بعد سبعة أيام من تخلقه، فإذا مضت عليه بعد ذلك ستة أشهر، كلّف الاكتساب لنفسه بالتعليم والتدريب. قالوا: وللأسد من الصبر على الجوع، وقلة الحاجة إلى الماء، ما ليس لغيره من السباع. ومن شرف نفسه: أنه لا يأكل من فريسة غيره، فإذا شبع من فريسته تركها، ولم يعد إليها، وإذا جاع ساءت أخلاقه، وإذا امتلأ من الطعام ارتاض، ولا يشرب من ماء ولغ فيه كلب: وقد أشار إلى ذلك الشاعر بقوله:
__________
(1) رواه البخاري في النكاح: 82. ومسلم في الفضائل: 92.
(2) رواه مسلم في الجهاد: 42. والبخاري في الأحكام: 21.(2/10)
وأترك حبّها من غير بغض ... وذاك لكثرة الشركاء فيه ... إذا وقع الذباب على طعام ... رفعت يدي ونفسي تشتهيه ... وتجتنب الأسود ورود ماء ... إذا كان الكلاب ولغن فيه
وقد ألغز بعضهم في القلم فقال (1):
وأرقش مرهوف الشباة مهفهف ... يشتّت شمل الخطب وهو جميع ... تدين له الآفاق شرقا ومغربا ... وتعنو له ملاكها وتطيع ... حمى الملك مفطوما كما كان تحتمي ... به الأسد في الآجام وهو رضيع
وإذا أكل نهس من غير مضغ، وريقه قليل جدا، ولذلك يوصف بالبخر، ويوصف بالشجاعة والجبن، فمن جبنه أنه يفزع من صوت الديك، ونقر الطست، ومن السنور، ويتحير عند رؤية النار، وهو شديد البطش، ولا يألف شيئا من السباع لأنه لا يرى فيها ما يكافئه، ومتى وضع جلده على شيء من جلودها تساقطت شعورها، ولا يدنو من المرأة الحائض ولو بلغ الجهد، ولا يزال محموما، يعمّر كثيرا وعلامة كبره سقوط أسنانه روى ابن سبع السبتي، في شفاء الصدور، عن عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما، أنه خرج في بعض أسفاره، فبينما هو يسير إذ هو بقوم وقوف، فقال: ما لهؤلاء القوم؟ قالوا: أسد على الطريق قد أخافهم، فنزل عن دابته ثم مشى إليه حتى أخذ بأذنه، ونحاه عن الطريق، ثم قال له: ما كذب عليك رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله:
«إنما سلطت على ابن آدم لمخافته غير الله، ولو أن ابن آدم لم يخف إلا الله تعالى لم تسلط عليه ولو لم يرج إلا الله تبارك وتعالى لما وكله إلى غيره.
وفي سنن أبي داود، من حديث (2) عبد الرحمن بن آدم، وليس له عنده سواه، عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ينزل عيسى بن مريم عليه الصلاة والسلام إلى الأرض وكأن رأسه يقطر، ولم يصبه بلل، وأنه يكسر الصليب ويقتل الخنزير، ويفيض المال وتقع الأمنة في الأرض، حتى يرعى الأسد مع الإبل، والنمر مع البقر، والذئاب مع الغنم، ويلعب الصبيان بالحيات ولا يضر بعضهم بعضا ثم يبقى في الأرض أربعين سنة، ثم يموت ويصلي عليه المسلمون ويدفنونه.
وفي الحلية لأبي نعيم، في ترجمة ثور بن يزيد، قال: بلغني أن الأسد لا يأكل إلّا من أتى محرّما. وقصة سفينة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، مع الأسد مشهورة، رواه البزار والطبراني وعبد الرزاق والحاكم وغيرهم.
وذكر البخاري في تاريخه أنه بقي إلى زمن الحجاج، روى محمد بن المنكدر عنه أنه قال:
__________
(1) وفيات الأعيان: 5/ 374. وقائله مجهول.
(2) رواه أبو داود في الملاحم: 14. والبخاري في المظالم: 31.(2/11)
«ركبت سفينة في البحر فانكسرت، فركبت لوحا فأخرجني إلى أجمة فيها أسد، فأقبل إلي فقلت:
أنا سفينة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنا تائه فجعل يغمزني بمنكبه حتى أقامني على الطريق، ثم همهم، فظننت أنه السلام».
وفي دلائل النبوة للبيهقي، عن ابن المنكدر أيضا، أن سفينة، مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، أخطأ الجيش بأرض الروم، وأسر في أرض الروم، فانطلق هاربا يلتمس الجيش، فإذا هو بالأسد فقال له: «يا أبا الحارث أنا سفينة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان من أمري كيت وكيت، فأقبل الأسد يبصبص، حتى قام إلى جنبه، فلم يزال كذلك حتى بلغ الجيش، فرجع الأسد».
واختلف في اسم سفينة رضي الله عنه فقيل رومان وقيل مهران وقيل طعمان وقيل عمير.
روى مسلم له حديثا واحدا والترمذي والنسائي وابن ماجه.
ودعا النبي صلى الله عليه وسلم، على عتبة بن أبي لهب، فقال: «اللهم سلّط عليه كلبا من كلابك» فافترسه الأسد بالزرقاء من أرض الشأم. رواه الحاكم من حديث أبي نوفل بن أبي عقرب عن أبيه وقال صحيح الإسناد.
وروى الحافظ أبو نعيم بسنده إلى الأسود بن هبّار قال: تجهز أبو لهب وابنه عتبة نحو الشأم، فخرجت معهما فنزلنا الشراة قريبا من صومعة راهب، فقال الراهب: ما أنزلكم ههنا؟
هنا سباع فقال أبو لهب: أنتم عرفتم سني وحقي، قلنا: أجل. قال: إن محمدا دعا على ابني فاجمعوا متاعكم على هذه الصومعة، ثم افرشوا لابني عليه، وناموا حوله، ففعلنا ذلك وجمعنا المتاع حتى ارتفع، ودرنا حوله، وبات عتبة فوق المتاع، فجاء الأسد فشم وجوهنا ثم وثب فإذا هو فوق المتاع فقطع رأسه فقال: سيفي يا كلب ولم يقدر على غير ذلك وفي رواية فوثب الأسد فضربه بيده ضربة واحدة فخدشه فقال: قتلني فمات لساعته وطلبنا الأسد فلم نجده. وإنما سماه النبي صلى الله عليه وسلم كلبا لأنه يشبهه في رفع رجله عند البول.
فائدة: روى البخاري في صحيحه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (1): «فر من المجذوم فرارك من الأسد».
وفي حديث آخر أنه صلى الله عليه وسلم أخذ بيد مجذوم وقال (2): «بسم الله ثقة بالله وتوكلا عليه وأدخلها معه الصّحفة».
قال الشافعي رحمه الله في عيوب الزوجين: إن الجذام والبرص يعدي وقال: إن ولد المجذوم قلما يسلم منه. قلت ومعنى قول الشافعي رضي الله عنه إنه يعدي، أي بتأثير الله تعالى لا بنفسه، لأن الله تعالى أجرى العادة بابتلاء السليم عند مخالطة المبتلي، وقد يوافق قدرا وقضاء، فيظن أنه عدوى. وقد قال (3) صلى الله عليه وسلم: «لا عدوى ولا طيرة»، كما سيأتي ذلك إن شاء الله تعالى. وأما
__________
(1) رواه البخاري في الطب: 19، وفيه: «كما تفر من».
(2) رواه الترمذي في الأطعمة: 19.
(3) رواه البخاري في البيوع: 36. ومسلم في السلام: 109102.(2/12)
قوله في الولد: «قلما يسلم منه» فقد قال الصيدلاني: معناه أن الولد قد ينزعه عرق من الأب فيصير أجذم. وقد قال (1) صلى الله عليه وسلم لرجل قال له: إن امرأتي قد ولدت غلاما أسود «لعل عرقا نزعه» وبهذا الطريق يحصل الجمع بين هذه الأحاديث.
وجاء في الحديث أنه صلى الله عليه وسلم (2): «لا يورد ذو عاهة على مصح» وإنه صلى الله عليه وسلم أتاه مجذوم ليبايعه، فلم يمد يده إليه بل قال (3) له: «أمسك يدك فقد بايعتك».
وفي مسند الإمام أحمد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا تطيلوا النظر إلى المجذوم، وإذا كلمتموه فليكن بينكم وبينه قدر رمح».
وقد ذكر الشيخ صلاح الدين العراقي، في القواعد، أن الأم، إذا كان بها جذام أو برص، سقط حقها من الحضانة، لأنه يخشى على الولد من لبنها ومخالطتها، واستدل بقوله (4): صلى الله عليه وسلم: «لا يورد ذو عاهة على مصح». والذي ذكره ظاهر وهو المختار. ويؤيد ما أفتى به ابن تيمية (5)
صاحب المحرر، من الحنابلة رحمه الله وصرح به أئمة المالكية، أن المبتلي لو أراد مساكنة الأصحاء في رباط أو غيره، منع إلّا بإذنهم. ولو كان ساكنا وابتلي أزعج وأخرج. وأما أصحابنا فصرّحوا بأن الأمة إذا كان سيدها مجذوما وجب عليها تمكينه من الاستمتاع وهذا مع إشكاله قد أورد في الروضة في الزوجة المختارة للمقام مع الزوج المجذوم، وقد يفرق بينهما بقوة الملك. والله أعلم.
وقد جاء في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال لامرأة: «أكلك الاسد فأكلها».
وروى الطبراني وأبو منصور الديلي، والحافظ المنذري، عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أتدرون ما يقول الأسد في زئيره؟» قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: «إنه يقول:
اللهم لا تسلطني على أحد من أهل المعروف».
فائدة أخرى: روى ابن السني، في عمل اليوم والليلة، من حديث داود بن الحصين، عن عكرمة عن ابن عباس عن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم أنه قال: «إذا كنت بواد تخاف فيه الأسد، فقل: أعوذ بدانيال وبالجب من شر الأسد اهـ. (6)
أشار بذلك إلى ما رواه البيهقي في الشعب: أن دانيال عليه السلام طرح في جب وألقيت
__________
(1) رواه الترمذي في الولاء: 4. وابن ماجه في النكاح: 58.
(2) رواه مسلم في السلام: 104. والبخاري في الطب: 53وفيه: «لا يورد ممرض».
(3) رواه مسلم في السلام: 126. وابن ماجه في الطب: 44، وروايته: إنا قد بايعناك».
(4) رواه الإمام أحمد: 1/ 23378.
(5) هو أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن عبد الله بن أبي القاسم الخضر النميري الحراني الدمشقي الحنبلي، أبو العباس. اشتغل في الفقه، أقام في دمشق، وطلب إلى مصر وسجن فيها لفتوى أفتاها، ثم عاد إلى دمشق فاعتقل ثم اطلق ثم اعتقل ومات في السجن سنة 728هـ. له مؤلفات كثيرة. الأعلام: 1/ 144.
(6) ما ورد في سنن أبي داود: «أعوذ بالله من شر كل أسد وأسود. وكذا رواه الإمام أحمد: 2/ 132.(2/13)
عليه السباع، فجعلت السباع تلحسه وتبصبص إليه، فأتاه ملك فقال: يا دانيال فقال: من أنت؟ فقال: أنا رسول ربك أرسلني إليك بطعام. فقال دانيال: الحمد لله الذي لا ينسى من ذكره. اهـ.
وروى ابن أبي الدنيا أن بختنصر ضرّى أسدين، وألقاهما في جب، وأمر بدانيال فألقي عليهما، فمكث ما شاء الله، ثم إنه اشتهى الطعام والشراب، فأوحى الله تعالى إلى أرمياء، وهو بالشأم، أن يذهب إلى دانيال بطعام وشراب، وهو بأرض العراق، فذهب به إليه، حتى وقف على رأس الجب، وقال: دانيال دانيال، فقال: من هذا؟ فقال: إرميا فقال: ما جاء بك؟ قال:
أرسلني إليك ربك فقال دانيال: الحمد لله الذي لا ينسى من ذكره، والحمد لله الذي لا يخيب من رجاه، والحمد لله الذي من وثق به لا يكله إلى سواه، والحمد لله الذي يجزي بالإحسان إحسانا، والحمد لله الذي يجزي بالصبر نجاة وغفرانا، والحمد لله الذي يكشف ضرنا بعد كربنا، والحمد لله الذي هو ثقتنا حين يسوء ظننا بأعمالنا والحمد لله الذي هو رجاؤنا حين تنقطع الحيل منا.
ثم روى ابن أبي الدنيا من وجه آخر أنّ الملك الذي كان دانيال في سلطانه، جاءه المنجمون وأصحاب العلم، فقالوا له: إنه يولد في ليلة كذا وكذا غلام يفسد ملكك، فأمر بقتل كل من يولد في تلك الليلة. فلما ولد دانيال ألقته أمه في أجمة أسد ولبوة، فبات الأسد ولبوته يلحسانه، فنجاه الله تعالى بذلك حتى بلغ ما بلغ، وكان من أمره ما قدره العزيز العليم.
ثم روى بإسناده عن عبد الرحمن بن أبي الزناد، عن أبيه أنه قال: رأيت في يد أبي بردة بن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه خاتما نقش فصّه أسدان، بينهما رجل، وهما يلحسان ذلك الرجل، فقال أبو بردة: هذا خاتم دانيال، أخذه أبو موسى حين وجده ودفنه فسأل أبو موسى علماء تلك البلدة عن ذلك، فقالوا: إن دانيال نقش صورته وصورة الأسدين، وهما يلحسانه، في فص خاتمه كما ترى لئلا ينسى نعمة الله عليه في ذلك. اهـ. فلما ابتلي دانيال عليه السلام بالسباع، أوّلا وآخرا، جعل الله تعالى الإستعاذة به في ذلك تمنع شر السباع التي لا تستطاع.
وفي المجالسة للدينوري، عن معاذ بن رفاعة، قال: مر يحيى بن زكريا عليهما السلام بقبر دانيال النبي عليه السلام فسمع صوتا من القبر يقول: سبحان من تعزز بالقدرة، وقهر العباد بالموت، فمضى فإذا هو بصوت من السماء أنا الذي تعززت بالقدرة، وقهرت العباد بالموت، من قالهن استغفرت له السموات السبع، والأرضون السبع، ومن فيهن. وكان دانيال عليه السلام، قد أتاه الله تعالى النبوة والحكمة، وكان في أيام بختنصر. قال أهل التاريخ: إن بختنصر أسر دانيال مع من أسر من بني إسرائيل، وحبسهم ثم رأى بختنصر رؤيا أفزعته وعجز الناس عن تعبيرها ففسرها دانيال فأعجبه وأكرمه، قالوا: وقبره بنهر السوس (1) ووجده أبو موسى الأشعري رضي الله عنه فأخرجه وكفنه وصلّى، ثم قبره في نهر السوس وأجرى عليه الماء.
وفي المجالسة أيضا، قال عبد الجبار بن كليب: كنا مع إبراهيم بن أدهم في سفر فعرض لنا
__________
(1) السّوس: بلدة في خوزستان فيها قبر دانيال عليه الصلاة والسلام.(2/14)
الأسد فقال إبراهيم: قولوا: اللهم احرسنا بعينك التي لا تنام، واحفظنا بركنك الذي لا يرام وارحمنا بقدرتك علينا، لا نهلك وأنت رجاؤنا يا ألله يا ألله يا الله. قال فولى الأسد عنا هاربا.
قال: فأنا أدعو به عند كل أمر مخوف فما رأيت إلا خيرا.
فائدة: قال بعض العلماء المحققين: ومما جرب لإذهاب الخوف والهم والغم أن يكتب هاتين الآيتين، ويحملهما فإن الله تعالى يبارك له في جميع أحواله، وينصره على أعدائه، وهما ينفعان للأمراض الباطنة، وكل ألم يحدث في بدن الإنسان، وكل آية منهما تجمع الحروف المعجمة بأسرها، وتكتب في إناء نظيف وتمحى بدهن ورد، أو زيت طيب، أو شيرج يطلى به الألم كالدمل والطلوع والحرارة والريح والثآليل والنفخ والقروحات بأسرها فإنه يزول ويبرأ من يومه في الغالب كما جرب مرارا وهما من الأسرار المخزونة كذا قاله شيخنا اليافعي رحمه الله.
الآية الأولى من سورة آل عمران قوله (1) تعالى: {ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعََاساً} إلى قوله تعالى: {عَلِيمٌ بِذََاتِ الصُّدُورِ} *. الآية الثانية من سورة الفتح قوله تعالى:
{مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللََّهِ} إلى آخر السورة انتهى. وذكر بعض أهل التاريخ، أن ملكا من الملوك خرج يدور في ملكه فوصل إلى قرية عظيمة فدخلها منفردا فأخذه العطش فوقف بباب دار من دور القرية، وطلب ماء فخرجت إليه امرأة جميلة بكوز فيه ماء، وناولته إياه فلما نظرها افتتن بها فراودها عن نفسها، وكانت المرأة عارفه به فعلمت أنها لا تقدر على الامتناع منه، فدخلت وأخرجت له كتابا وقالت انظر في هذا إلى أن أصلح من أمري ما يجب وأعود فأخذ الملك الكتاب ونظر فيه فإذا فيه الزجر عن الزنا، وما أعد الله تعالى لفاعله من العذاب الأليم، فاقشعر جلده، ونوى التوبة، وصاح بالمرأة، وأعطاها الكتاب، ومر ذاهبا وكان زوج المرأة غائبا فلما حضر زوجها أخبرته الخبر، فتحير الزوج في نفسه، وخاف أن يكون وقع غرض الملك فيها، فلم يتجاسر على وطئها بعد ذلك ومكث على ذلك مدة، فأعلمت المرأة أقاربها بحالها مع زوجها فرفعوه إلى الملك فلما مثل بين يدي الملك، قال أقارب المرأة: أعز الله مولانا الملك، إن هذا الرجل قد استأجر منا أرضا للزراعة، فزرعها مدة ثم عطلها فلا هو يزرعها ولا هو يتركها لنؤجرها لمن يزرعها، وقد حصل الضرر للأرض، ونخاف فسادها بسبب التعطيل لأن الأرض إذا لم تزرع فسدت، فقال الملك لزوج المرأة ما يمنعك من زرع أرضك؟ فقال: أعز الله مولانا الملك إنه قد بلغني أن الأسد دخل أرضي، وقد هبته، ولم أقدر على الدنو منها لعلمي بأن لا طاقة لي بالأسد ففهم الملك القصة فقال: يا هذا إن أرضك أرض طيبة صالحة للزرع فازرعها بارك الله لك فيها، فإن الأسد لن يعود إليها ثم أمر له ولزوجته بصلة حسنة وصرفه.
وفي تاريخ ابن خلكان أنه لما دخل المازيار على المعتصم وكان قد اشتد غضبه عليه فقيل له يا أمير المؤمنين لا تعجل، فإن عنده أموالا جمة، فأنشد المعتصم بيت أبي تمام (2):
__________
(1) سورة آل عمران: الآية 154.
(2) أبو تمام: حبيب بن أوس الشاعر العباسي المشهور توفي سنة 232.(2/15)
إنّ الأسود أسود الغاب همتها ... يوم الكريهة في المسلوب لا السلب (1)
وقد أحسن خالد الكاتب (2) حيث قال:
علم الغيث الندى حتى إذا ... ما وعاه علم البأس الأسد ... فإذا الغيث مقرّ بالندى ... وإذا الليث مقر بالجلد
ومن شعره:
ظفر الحب بقلب دنف ... بك والسقم بجسم ناحل (3)
... وبكى العاذل لي من رحمتي ... فبكائي لبكاء العاذل (4)
وكان خالد شيخا كبيرا تأخذه السوداء أيام الباذنجان، وكان الصبيان يتبعونه ويصيحون به يا خالد يا بارد فأسند ظهره يوما إلى قصر المعتصم وقال لهم: كيف أكون باردا وأنا الذي أقول:
بكى عاذلي من رحمتي فرحمته ... وكم مسعد من مثله ومعين (5)
... ورقّت دموع العين حتى كأنها ... دموع دموعي لا دموع جفوني
وفي روضة العلماء، أن نوحا عليه السلام، لما غرس الكرمة، جاءه إبليس فنفخ فيها فيبست، فاغتم نوح لذلك وجلس متفكرا في أمرها، فجاءه إبليس وسأله عن تفكيره؟ فأخبره فقال له يا نبي الله إن أردت أن تحضر الكرمة، فدعني أذبح عليها سبعة أشياء فقال: افعل، فذبح أسدا ودبا ونمرا وابن آوى وكلبا وثعلبا وديكا، وصب دماءهم في أصل الكرمة فاخضرت من ساعتها، وحملت سبعة ألوان من العنب، وكانت قبل ذلك تحمل لونا واحدا فمن أجل ذلك يصير شارب الخمر شجاعا كالأسد وقويا كالدب وغضبان كالنمر، ومحدثا كابن آوى، ومقاتلا كالكلب، ومتملّقا كالثعلب، ومصوتا كالديك، فحرمت الخمر على قوم نوح. ونوح اسمه عبد الجبار، وإنما سمي نوحا لنوحه على ذنوب أمته، وأخوه صابىء بن لامك وإليه ينسب دين الصابئين فيما ذكروا والله أعلم.
(تذنيب) كان أبو مسلم (6) الخراساني واسمه عبد الرحمن بن مسلم بعد فراغه من أمر بني أمية ينشد كل وقت:
أدركت بالحزم والكتمان ما عجزت ... عنه ملوك بني مروان إذ حشدوا
__________
(1) ديوان أبي تمام: 17.
(2) هو خالد بن يزيد البغدادي المعروف بالكاتب. شاعر غزل. عاش وتوفي في بغداد سنة 262هـ.
(3) الأغاني: 20/ 281. وقلب دنف: قلت مريض.
(4) البيتان في وفيات الأعيان: 2/ 234وفي الثاني: «من رحمته».
(5) وفيات الأعيان: 2/ 236وفيه «وكم مثله من».
(6) أبو مسلم هو عبد الرحمن بن مسلم الخراساني، القائم بالدعوة العباسية، وهو من ولد بزرجمهر. وكان ملكا مهيبا جوادا. قتله المنصور غيلة سنة 137هـ. وفيات الأعيان: 3/ 145. والأبيات مع ترجمته في وفيات الأعيان: 3/ 152.(2/16)
ما زلت أسعى بجهدي في دمارهم ... والقوم في غفلة بالشأم قد رقدوا ... حتى ضربتهمو بالسيف فانتبهوا ... من نومة لم ينمها قبلهم أحد ... ومن رعى غنما في أرض مسبعة ... ونام عنها تولى رعيها الأسد
قال (1) ابن خلكان في ترجمته: وكان أبو العباس السفاح شديد التعظيم لأبي مسلم، لما صنعه ودبره، فلما مات السفاح وولي أخوه المنصور، صدرت من أبي مسلم أشياء أوغرت صدر المنصور عليه وهم بقتله، وبقي حائرا بين الاستبداد برأيه في أمره، والاستشارة، فقال يوما لمسلم بن قتيبة: ما ترى في أمر أبي مسلم؟ فقال: يا أمير المؤمنين: {لَوْ كََانَ فِيهِمََا آلِهَةٌ إِلَّا اللََّهُ لَفَسَدَتََا} (2) فقال: حسبك يا ابن قتيبة لقد أودعتها أذنا واعية ولم يزل المنصور يخدعه حتى أحضره إليه، والمنصور بالمدائن فأمر بإدخاله عليه، وكان المنصور قد رتب جماعة لقتله، وقال لهم: إذا رأيتموني قد مسحت بيدي وجهي فاضربوه، فلما أدخل عليه، أخذ المنصور يقرعه بما صدر منه ثم مسح وجهه، فبادروه فصاح استبقني لأعدائك يا أمير المؤمنين، فقال له المنصور وأي عدو أعدى منك يا عدو الله فلما قتل هاج أصحابه، فأمر المنصور بنثر الدراهم والدنانير عليهم فسكنوا! ورمى برأسه إليهم، ثم أدرج في بساط فدخل على المنصور جعفر بن حنظلة، فرأى أبا مسلم في البساط، فقال: يا أمير المؤمنين عد هذا اليوم أول خلافتك فأنشد المنصور متمثلا:
فألقت عصاها واستقرّ بها النّوى ... كما قر عينا بالإياب المسافر (3)
ثم أقبل المنصور على من حضره وأبو مسلم طريح بين يديه وأنشد:
زعمت أن الدين لا يقتضي ... فاستوف بالكيل أبا مجرم (4)
... اشرب بكأس كنت تسقي بها ... أمر في الحلق من العلقم
وكان يقال له أبو مجرم أيضا وفيه يقول أبو دلامة (5):
أبا مجرم ما غيّر الله نعمة ... على عبده حتى يغيرها العبد ... أفي دولة المنصور حاولت غدره ... ألا إن أهل الغدر آباؤك الكرد ... أبا مجرم خوفتني القتل فانتحي ... عليك بما خوفتني الأسد الورد
ولما قتله المنصور، خطب الناس فذكر أن أبا مسلم أحسن أولا وأساء آخر. ثم قال في آخر خطبته: وما أحسن ما قال النابغة الذبياني (6) للنعمان بن المنذر (7):
__________
(1) وفيات الأعيان: 3/ 152.
(2) سورة الانبياء: الآية 22.
(3) وفيات الأعيان: 1/ 234و 3/ 154.
(4) وفيات الأعيان: 3/ 154.
(5) أبو دلامة هو زند بن الجون الأسدي بالولاء شاعر مطبوع ظريف له: أخبار مع الخلفاء العباسيين. مات سنة 161. الأعلام: 3/ 49. والأبيات مع ترجمته في الشعر والشعراء 524. وفيها: «أفي دولة المهدي».
(6) شاعر جاهلي من أصحاب المعلقات، إسمه زياد بن معاوية بن ضباب. توفي سنة 18ق. هـ.
(7) هو النعمان الثالث ابن المنذر بن امرىء القيس اللخمي أبو قابوس من أشهر ملوك الحيرة في الجاهلية. توفي سنة 15ق. هـ.(2/17)
فمن أطاعك فانفعه لطاعته ... كما أطاعك وأدلله على الرّشد ... ومن عصاك فعاقبه معاقبة ... تنهي الظلوم ولا تقعد على ضمد (1)
والضمد بفتح الضاد المعجمة والميم الحقد. وكان قتله في شعبان سنة ست أو سبع وثلاثين ومائة. قال ابن خلكان وغيره: وكان أبو مسلم قد سمع الحديث وروي عنه، وأنه خطب يوما فقام إليه رجل فقال ما هذا السواد الذي أراه عليك؟ فقال أبو مسلم: حدثني أبو الزبير، عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل مكة يوم الفتح، وعلى رأسه عمامة سوداء، وهذه ثياب الهيبة وثياب الدولة. يا غلام اضرب عنقه. قلت: حديث جابر هذا في صحيح مسلم قال ابن الرفعة: وفي الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم صعد المنبر، وعلى رأسه عمامة سوداء، قد أرخى طرفها بين كتفيه، وهو أيضا في صحيح مسلم (2). قال ابن الرفعة: ومن ثم كان شعار بني العباس في الخطبة السواد اهـ.
قيل: أحصي من قتله أبو مسلم صبرا وفي حروبه، فكانوا ستمائة ألف واختلف في نسبه فقيل من العرب، وقيل من العجم، وقيل من الأكراد، وروي (3) أنه قيل لعبد الله بن المبارك رحمه الله: أبو مسلم خير أم الحجاج؟ فقال: لا أقول إن أبا مسلم كان خيرا من أحد ولكن كان الحجاج شرا منه اهـ. وكان أبو مسلم فصيحا عالما بالأمور ولم يرقط مازحا ولم يظهر عليه سرور ولا غضب، ولا يأتي النساء إلّا مرّة في السنة، وكان يقول: الجماع جنون ويكفي الإنسان أن يجن في السنة مرة واحدة، وروي أنه قيل لأبي مسلم: ما كان سبب خروج الدولة عن بني أمية؟ قال:
لأنهم أبعدوا أولياءهم ثقة بهم، وادنوا أعداءهم تألفا لهم، فلم يصر العدو صديقا بالدنو، وصار الصديق عدوا بالإبعاد. وكان أبو مسلم مميت دولة بني أمية، ومحيي دولة بني العباس.
وذكر ابن الأثير وغيره أن أبا جعفر المنصور لما حاصر ابن هبيرة قال: إن ابن هبيرة يخندق على نفسه مثل النساء. فبلغ ذلك ابن هبيرة، فأرسل إليه أنت القائل كذا وكذا فابرز إلي لترى.
فأرسل إليه المنصور: ما أجد لي ولك مثلا في ذلك إلا كأسد لقي خنزيرا فقال له الخنزير: بارزني فقال له الأسد: ما أنت لي بكفء فإن نالني منك سوء كان ذلك عارا علي وإن قتلتك قتلت خنزيرا فلم أحصل على حمد، ولا في قتلي لك فخر. فقال له الخنزير: إن لم تبارزني لأعرفن السباع، إنك جبنت عني. فقال الأسد: احتمال عار كذبك أيسر من تلطخ راحتي بدمك.
(الحكم): قال الشافعي وأبو حنيفة وأحمد وداود والجمهور: يحرم أكل الأسد لما روى (4)
مسلم في صحيحه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «كل ذي ناب من السباع فأكله حرام». قال أصحابنا:
المراد بذي الناب ما يتقوى بنابه ويصطاد. وفي الحاوي للماوردي قال: الشافعي:
__________
(1) البيتان في ديوان النابغة الذبياني: 24.
(2) رواه مسلم في الحج: 454451.
(3) وفيات الأعيان: 3/ 148.
(4) الصيد: 1512. ورواه البخاري في الذبائح: 28، 29.(2/18)
إنه ما قويت أنيابه فعدا بها على الحيوان طالبا غير مطلوب، فكان عدوه بأنيابه علة تحريمه. وقال أبو إسحاق المروزي: هو ما كان عيشه بأنيابه فإن ذلك علة تحريمه. وقال أبو حنيفة:
هو ما افترس بأنيابه وإن لم يبتدىء بالعدو، وإن عاش بغير أنيابه فهذه ثلاث علل: أعمها علة أبي حنيفة، وأوسطها علة الشافعي، وأخصها علة المروزي، فعلى العلتين الأوليين، يحل الضبع لأنه يتناوم حتى يصطاد، وتحل السنانير على قول الشافعي لأنها لم تتقو بأنيابها، وتكون مطلوبة لضعفها، لكن قد صحح الأصحاب تحريمها، كما سيأتي إن شاء الله تعالى، في باب السين المهملة. ويحل ابن آوى على ما علله الإمام الشافعي لأنه لا يبتدىء بالعدو، ويحرم على ما علله المروزي لأنه يعيش بنابه، وهذا هو الأصح كما سيأتي قريبا إن شاء الله تعالى. وقال مالك: يكره أكل كل ذي ناب من السباع ولا يحرم، واحتج بقوله تعالى: {قُلْ لََا أَجِدُ فِي مََا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى ََ طََاعِمٍ يَطْعَمُهُ} الآية (1). واحتج أصحابنا بالحديث المذكور، قالوا: والآية ليس فيها إلّا الإخبار بأنه لم يجد في ذلك الوقت محرما إلا المذكورات في الآية، ثم أوحي إليه بتحريم كل ذي ناب من السباع فوجب قبوله والعمل به. قال الشافعي رضي الله عنه: ولأن العرب لم تأكل أسدا ولا ذئبا ولا كلبا ولا نمرا ولا دبا، ولا كانت تأكل الفأر ولا العقارب ولا الحيات ولا الحدأ ولا الغربان ولا الرخم ولا البغاث ولا الصقور ولا الصوائد من الطير ولا الحشرات. وأما بيع الأسد فلا يصح لأنه لا ينتفع به وحرم الله أكل فريسته.
(الأمثال): إنما كانت العرب أكثر أمثالها مضروبة بالبهائم، فلا يكادون يذمون ولا يمدحون إلّا بذلك لأنهم جعلوا مساكنهم بين السباع والأحناش والحشرات، فاستعملوا التمثيل بها لذلك. روى الإمام أحمد بإسناد حسن والحسن بن عبد الله العسكري، عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: حفظت من رسول الله صلى الله عليه وسلم ألف مثل، فلذلك ذكر العسكري في كتابه الأمثال ألف حديث مشتملة على ألف مثل من كلام النبي صلى الله عليه وسلم فما يخص الأسد من ذلك أنهم قالوا: «أكرم من الأسد» (2) «وأبخر من الأسد» (3) وأكبر من الأسد و «أشجع من الأسد» (4) و «أجرأ من الأسد» (5). وضربوا المثل بالخوف من الأسد. قال مجنون ليلى (6) واسمه عامر بن قيس على خلاف فيه:
يقولون لي يوما وقد جئت حيهم ... وفي باطني نار يشب لهيبها (7)
__________
(1) سورة الأنعام: الآية 145.
(2) جمهرة الأمثال: 1/ 460.
(3) المستقصى: 1/ 10.
(4) جمهرة الأمثال: 1/ 460ولفظه أشجع من أسامة.
(5) جمهرة الأمثال: 1/ 266ولفظه: أجرأ من أسامة.
(6) مجنون ليلى هو قيس بن الملوّح أو عامر بن قيس، بن مزاحم العامري شاعر غزل من المتيمين لم يكن مجنونا ولكنه لقب لهيامه في حب ليلى بنت سعد. مات سنة 68هـ. الأعلام: 5/ 208.
(7) البيتان ليسا في ديوان المجنون.(2/19)
أما تختشي من أسدنا فأجبتهم ... هوى كل نفس أين حل حبيبها
وضربوا المثل أيضا بأسد الشرى وهو طريق بسلمى كثيرة الأسد، قال الفرزدق (1):
وإن الذي يسعى ليفسد زوجتي ... كساع إلى أسد الشرى يشتبيلها (2)
قيل: معنى يشتبيلها: يأخذ أولادها وينسب إلى الفرزدق مكرمة يرجى له بها الجنة، وهي أنه لما حج هشام بن عبد الملك، في أيام أبيه، طاف بالبيت، وجهد أن يصل إلى الحجر الأسود ليستلمه فلم يقدر على ذلك، لكثرة الزحام، فنصب له كرسي وجلس عليه ينظر إلى الناس، ومعه جماعة من أعيان أهل الشأم، فبينما هو كذلك إذ أقبل زين العابدين علي بن الحسين بن علي رضي الله تعالى عنهم، وكان من أجمل الناس وجها، وأطيبهم أرجا فطاف بالبيت، فلما انتهى إلى الحجر تنحى له الناس حتى استلم الحجر، فقال رجل من أهل الشام لهشام: من هذا الذي هابه الناس هذه الهيبة؟ فقال هشام: لا أعرفه، مخافة أن يرغب فيه أهل الشأم، وكان الفرزدق حاضرا فقال أنا أعرفه: فقال الشامي من هو يا أبا الفوارس؟ فقال (3) الفرزدق:
هذا ابن خير عباد الله كلهم ... هذا التقي النقيّ الطاهر العلم ... هذا الذي تعرف البطحاء وطأته ... والبيت يعرفه والحل والحرم ... إذا رأته قريش قال قائلها ... إلى مكارم هذا ينتهي الكرم ... ينمى إلى ذروة العز التي قصرت ... عن نيلها عرب الإسلام والعجم ... يكاد يمسكه عرفان راحته ... ركن الحطيم إذا ما جاء يستلم ... في كفه خيزران ريحه عبق ... من كف أروع في عرنينه شمم ... يغضي حياء ويغضى من مهابته ... فما يكلم إلا حين يبتسم ... ينشق نور الهدى من نور غرّته ... كالشمس ينجاب عن إشراقها القتم ... مشتقة من رسول الله نبعته ... طابت عناصره والخيم والشّيم ... هذا ابن فاطمة إن كنت جاهله ... بجدّه أنبياء الله قد ختموا ... الله شرّفه قدما وعظّمه ... جرى بذاك له في لوحه القلم ... وليس قولك من هذا بضائره ... العرب تعرف من أنكرت والعجم ... كلتا يديه غياث عمّ نفعهما ... يستوكفان ولا يعروهما عدم ... سهل الخليقة لا تخشى بوادره ... يزينه اثنان حسن الخلق والشيم ... حمال أثقال أقوام إذا اقترحوا ... حلوا الشمائل يحلو عنده نعم ... ما قال لاقط إلا في تشهده ... لولا التشهد كانت لاؤه نعم ... عم البرية بالإحسان فانقشعت ... عنها الغيابة والإملاق والعدم
__________
(1) الفرزدق هو همام بن غالب بن صعصعة الدارمي، أحد شعراء النقائض في العصر الأموي مات سنة 110هـ.
(2) ديوان الفرزدق: 417.
(3) ديوانه: 511.(2/20)
من معشر حبهم دين وبغضهمو ... كفر وقربهمو منجى ومعتصم ... إن عد أهل التقى كانوا أئمتهم ... أو قيل من خير أهل الأرض قيل همو ... لا يستطيع جواد بعد غايتهم ... ولا يدانيهمو قوم وإن كرموا ... هم الغيوث إذا ما أزمة أزمت ... والأسد أسد الشرى والبأس محتدم ... لا ينقص العسر بسطا من أكفهم ... سيان ذلك إن أثروا وإن عدموا ... مقدم بعد ذكر الله ذكرهمو ... في كل بدء ومختوم به الكلم ... أي الخلائق ليست في رقابهم ... لأولية هذا أوله نعم ... من يعرف الله يعرف أولية ذا ... فالدين من بيت هذا ناله الأمم
فغضب هشام على الفرزدق، وأمر بحبسه، فأنفذ له زين العابدين اثني عشر ألف درهم فردّهاد وقال: مدحته لله تعالى لا للعطاء فأرسل إليه زين العابدين وقال له: إنا أهل بيت إذا وهبنا شيئا لا نستعيده، والله عزّ وجلّ يعلم نيتك ويثيبك عليها فشكر الله لك سعيك، فلما بلغته الرسالة قبلها.
والفرزدق، اسمه همام بن غالب، والفرزدق لقب غلب عليه، والفرزدق قطع العجين، الواحدة فرزدقة وإنما لقب به لأنه أصابه جدري وبرىء منه فبقي وجهه جهما محمرا منتفخا، وقيل لقب به لغلظه وقصره. وقال ابن خلكان ومحمد بن سفيان: أحد أجداد الفرزدق هو أحد الثلاثة الذي سموا بمحمد في الجاهلية، فإنه لا يعرف أحد سمي بهذا الإسم قبله صلى الله عليه وسلم إلّا ثلاثة كان آباؤهم قد وفدوا على بعض الملوك، وكان عنده علم من الكتاب الأول فأخبرهم بمبعث النبي صلى الله عليه وسلم وباسمه، وكان كل منهم قد خلف زوجته حاملا، فنذر كل منهم إن ولد له ذكر، أن يسميه محمدا، ففعلوا ذلك. وهم محمد بن سفيان بن مجاشع جد الفرزدق، والآخر محمد بن أحيحة بن الجلاح أخو عبد المطلب لأمه، والآخر محمد بن حمران بن ربيعة وأما أحمد فلم يتسم به أحد قبله صلى الله عليه وسلم.
فائدة: قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي قال: حدثنا عبد الله بن صالح قال: حدثنا الليث قال: حدثني هشام بن سعد، عن زيد بن أسلم عن أبيه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (1): «لما حمل نوح عليه السلام، في السفينة، من كل زوجين اثنين، قال له أصحابه: وكيف نطمئن أو تطمئن مواشينا ومعنا الأسد؟. فسلط الله عليه الحمى، فكانت أول حمى نزلت في الأرض، فهو لا يزال محموما. ثم شكوا الفأرة، فقالوا: الفويسقة تفسد علينا طعامنا وشرابنا ومتاعنا، فأوحى الله تعالى إلى الأسد فعطس، فخرجت الهرة منه، فتخبأت الفأرة منها». وهذا مرسل.
وفي الحلية لأبي نعيم في ترجمة وهب بن منبه أنه قال لما أمر نوح عليه السلام، أن يحمل من كل زوجين اثنين قال يا رب كيف أصنع بالأسد والبقر؟ وكيف أصنع بالعناق (2) والذئب؟ وكيف
__________
(1) رواه الإمام أحمد: 6، 285. وفيه أنه أمر بقتل الفأرة.
(2) العناق: الأنثى من أولاد المعز.(2/21)
أصنع بالحمام والثعلب؟ فأوحى الله تعالى إليه: «من ألقى بينهم العداوة؟ فقال: أنت يا رب. قال عزّ وجلّ فإني أؤلف بينهم فلا يتضررون».
الخواص: قال عبد الملك بن زهير، صاحب الخواص المجربة: من لطخ بشحم الأسد جميع بدنه، هربت منه السباع، ولم ينله منها مكروه، وصوته يقتل التماسيح إذا سمعته ومرارة الذكر منه تحل المعقود عن النساء، إذا سقي منها في بيضة في مستهل الشهر، ومن علق عليه قطعة من جلده بشعرها أبرأته من الصرع، قبل البلوغ، فإن كان الصرع قد أصابه بعده، لم تنفعه. وإذا أحرق من شعره في مكان، هربت منه سائر السباع، ولحمه ينفع من الفالج وإذا وضعت قطعة من جلده، في صندوق مع ثياب، لم يصبها السوس ولا الأرضة، وسنه إذا استصحبها إنسان معه، أمن من وجع الأسنان، وشحمه إذا طلي به اليدان والرجلان، أمنت من مضرة البرد وإذا طلي به البدن لم يقر به القمل وذنبه إذا استصحبه إنسان لا تؤثر فيه حيلة محتال، وقال هرمس:
الجلوس على جلد الأسد يذهب البواسير والنقرس. قال: ومن أخذ من شحم جبهته وذوبه بدهن ورد، ومسح به وجهه، هابه الملوك وجميع الناس. وقال الطبري: الاكتحال بمرارة الأسد يحد البصر. قال: ومرارة الأسد إذا سقي منها وزن دانق لليرقان، بماء برز قطونا ونعنع نفع نفعا بينا وخصيته إذا ملحت ببورق أحمر ومصطكى، وجفّفت وسحقت، وخلطت بسويق وشربت، نفعت من جميع الأوجاع التي في الجوف مثل المغص والقولنج والبواسير والزحير ووجع الأرحام، وتشرب بماء حار على الريق. ودماغ الأسد يداف بزيت عتيق، ويدهن به الاختلاج والارتعاش، يذهبهما ومن دهن وجهه، وجميع بدنه بشحم الأسد، ذهب عنه الكسل والكلف وكل عيب يكون في الوجه. وزبله إذا جفف وخلط به الدلوك الذي يتدلك به، نفع من البهق الظاهر، وهو نافع لذلك جدا. وإن سقي منه أي من زبله إنسان لا يصبر عن الخمر ولا يعلم به وزن دانق، ابغضه حتى لا يشربه ولا يشتهي أن يراه ومرارته تداف بالعسل، ويجعل منها على الخنازير تزول.
وشحمه إذا دق بالثوم وطلى به إنسان جسده لم تقربه السباع والله أعلم.
التعبير: الأسد في المنام سلطان شديد البطش والبأس، ظالم غاشم مجاهر، متسلط بجرأته، لا يأمنه صديق ولا عدو، ويعبر أيضا بعدو مسلط، وربما دل على الموت، لأنه يقبض الأرواح، وربما دلت رؤيته على عافية المريض، فمن رأى أسدا من حيث لا يراه وهرب منه الرائي، فإنه ينجو مما يخاف، وينال حكما وعلما، لقوله (1): {فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمََّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ}. فإن كان قد استقبله وهرب منه، نال هما من ذي سلطان، ثم ينجو من الهلاك والمرض. ومن رأى أن أسدا صرعه ولم يقتله، فإنه يحم حمى دائمة لأن الأسد لا تفارقه الحمى كما تقدم أو يسجن، لأن الحمى سجن المؤمن، وربما دلت مصارعته على المرض.
ومن رأى أنه أخذ شيئا من شعره أو عظمه أو لحمه، نال مالا من سلطان، أو من عدوّ. ومن رأى أنه ركب أسدا وهو يخافه، فإنه يقع في بلية، فإن كان لا يخافه قهر عدوّا فإن ضاجعه وهو لا يخافه أمن من عدوّه. ومن رأى أسدا يثب على الناس، فإن السلطان يظلم رعيته. ومن رأى أنه أكل
__________
(1) سورة الشعراء: 21.(2/22)
رأس أسد، نال ملكا ومن رأى أنه يرعى أسدا فإنه يؤاخي ملكا ظالما. ومن رأى أنه أخذ جرو أسد في حجره، فإن امرأته تضع غلاما، إن كانت حاملا، وإلّا فإنه يحمل ولد أمير في حجره، كما عبره ابن سيرين رحمه الله. ومن رأى أن أسدا قد زاره فإنه يمرض. ومن رأى أن الأسد قد قتله، فإن كان عبدا فإنه يعتق، وإلّا حصل له خوف من سلطان. وصوت الأسد يدل على تهدد من سلطان. ومن رأى أن أسدا يتملق له، جرى على يديه أمور عجيبة وربما دل على قهر عدوّ والله أعلم.
تتمة: قال الإمام الشافعي رضي الله تعالى عنه: لو يعلم الناس، ما في علم الكلام، من الأهواء لفروا منه، فرارهم من الأسد. قال في الإحياء: فإن قلت تعلم الجدال والكلام مذموم كتعلم النجوم، أو هو مباح أو مندوب إليه، فاعلم أن للناس في هذا غلوا وإسرافا، فمن قائل إنه بدعة وحرام، وإن العبد إن لقي الله تعالى بكل ذنب سوى الشرك، خير له من أن يلقاه بالكلام، ومن قائل إنه واجب وفرض: إما على الكفاية، أو فرض عين وإنه من أفضل الأعمال، وأعلى القربات، فإنه تحقيق لعلم التوحيد، ونضال عن دين الله تعالى.
وممن ذهب إلى التحريم الشافعي ومالك والإمام أحمد وسفيان وأهل الحديث قاطبة، قال ابن عبد الأعلى: سمعت الشافعي يوم ناظر حفصا الفرد، وكان من متكلمي المعتزلة يقول: لأن يلقى الله تبارك وتعالى العبد، بكل ذنب، ما خلا الشرك، خير له من أن يلقاه بشيء من علم الكلام. وقال أيضا: قد اطلعت لأهل الكلام، على شيء ما ظننته قط، ولأن يبتلى العبد بكل ما نهى الله عنه، ما عدا الشرك، خير له من أن ينظر في الكلام. وحكى الكرابيسي أن الشافعي سئل عن شيء من الكلام فغضب وقال: يسأل عن هذا حفص الفرد وأصحابه أخزاهم الله. ولما مرض الشافعي رضي الله عنه دخل عليه حفص الفرد، فقال له من أنا؟ فقال: أنت حفص الفرد لا حفظك الله ولا رعاك، حتى تتوب مما أنت فيه. وقال أيضا: إذا سمعت الرجل يقول: الإسم هو المسمى، أو غير المسمى، فأشهد أنه من أهل الكلام ولا دين له، وقال أيضا حكمي في أهل الكلام أن يضربوا بالجريد، ويطاف بهم في العشائر، والقبائل ويقال: هذا جزاء من ترك الكتاب والسنة، وأخذ في الكلام. وقال الإمام أحمد رحمه الله: لا يفلح صاحب الكلام أبدا، ولا تكاد ترى أحدا ينظر في الكلام إلا وفي قلبه مرض وبالغ في ذمه حتى هجر الحارث المحاسبي، مع زهده وورعه، لتصنيفه كتابا في الرد على المبتدعة، وقال له: ويحك ألست تحكي بدعتهم أولا ثم ترد عليهم؟ ألست تحمل الناس، بتصنيفك على مطالعة كلام أهل البدعة، والتفكير فيه، فيدعوهم ذلك إلى الرأي والبحث؟ وقال أحمد أيضا: علماء الكلام زنادقة. وقال مالك: لا تجوز شهادة أهل البدع والأهواء. قال بعض أصحابه في تأويل ذلك: إنه أراد بأهل الأهواء أهل الكلام، على أي مذهب كانوا. وقال أبو يوسف: من طلب العلم بالكلام تزندق. وقد اتفق أهل الحديث من السّلف على هذا، ولا يحصر ما نقل عنهم من التشديدات فيه.
وأما الفرقة الأخرى، فاحتجوا بأن المحظور من الكلام، إن كان هو لفظ الجوهر والعرض، وهذه الاصطلاحات الغريبة، التي لم يعهدها الصحابة رضي الله عنهم فالأمر في ذلك قريب، إذ
ما من علم، إلا وقد أحدث فيه اصطلاحات، لأجل التفهيم، كالحديث والتفسير، وتصنيف الفقه، من موضع الصور النادرة التي لا تتفق، إلا على الندور إما إدخارا ليوم وقوعها. وإن كان نادرا أو تشحيذا للخاطر فنحن أيضا نرتب طريق المحاجة لتوقع الحاجة بثوران شبهة، أو هيجان مبتدع، أو لتشحيذ الخاطر، أو لإدخار الحجة، حتى لا يعجز عنها عند الحاجة إليها على البديهة والارتجال، كمن يعد السلاح قبل القتال ليوم القتال. قال: فإن قلت فما المختار فيه عندك؟ فاعلم أن الحق فيه: أن إطلاق القول بذمه في كل حال، أو بمدحه في كل حال خطأ، بل لا بد فيه من التفصيل: فاعلم أوّلا أن الشيء قد يحرم لذاته، كالخمر والميتة وأعني بقولي لذاته أن علة تحريمه وصف في ذاته وهو الإسكار والموت، وهذا إذا سئلنا عنه، أطلقنا القول بأنه حرام، ولا يلتفت إلى إباحة الميتة عند الاضطرار وإباحة تجرع الخمر لإساغة ما يغص به الإنسان من الطعام، إذا لم يجد ما يسيغه به سوى الخمر وقد يحرم لغيره كالبيع على بيع أخيك المسلم، في وقت الخيار، والبيع وقت النداء، وكآكل الطين، فإنه يحرم لما فيه من الأضرار. وهذا ينقسم إلى ما يضر قليله وكثيره، فيطلق القول عليه بأنه حرام كالسم الذي يقتل قليله وكثيره، وإلى ما يضر عند الكثرة، فيطلق القول عليه بالإباحة، كالعسل فإن كثرته تضر بالمحرور، وكآكل الطين، وكان إطلاق التحريم على الخمر، والتحليل على العسل، التفات إلى أغلب الأحوال، فإن تصدى لشيء تقابلت فيه الأحوال، فالأولى أن نفصل فنرجع إلى علم الكلام، ونقول: إن فيه منفعة، وفيه مضرة، فهو باعتبار منفعته، في وقت الانتفاع حلال، أو مندوب إليه، أو واجب كما يقتضيه الحال، وهو باعتبار مضرته، في وقت الإضرار، حرام. فأما مضرته فإثارة الشبهات، وتحريك العقائد، وإزالتها عن الجزم والتصميم، وذلك مما يحصل في حالة الابتداء ورجوعها بالدليل مشكوك فيه وتختلف فيه الأشخاص، فهذا ضرره في الاعتقاد، وله ضرر أيضا في تأكيد اعتقاد المبتدعة للبدعة، وتثبيته في صدورهم، بحيث تنبعث دعاويهم ويشتد حرصهم على الإصرار عليه، ولكن هذا الضرر، يحصل بواسطة التعصب، الذي يثور من الجدل.(2/23)
وأما الفرقة الأخرى، فاحتجوا بأن المحظور من الكلام، إن كان هو لفظ الجوهر والعرض، وهذه الاصطلاحات الغريبة، التي لم يعهدها الصحابة رضي الله عنهم فالأمر في ذلك قريب، إذ
ما من علم، إلا وقد أحدث فيه اصطلاحات، لأجل التفهيم، كالحديث والتفسير، وتصنيف الفقه، من موضع الصور النادرة التي لا تتفق، إلا على الندور إما إدخارا ليوم وقوعها. وإن كان نادرا أو تشحيذا للخاطر فنحن أيضا نرتب طريق المحاجة لتوقع الحاجة بثوران شبهة، أو هيجان مبتدع، أو لتشحيذ الخاطر، أو لإدخار الحجة، حتى لا يعجز عنها عند الحاجة إليها على البديهة والارتجال، كمن يعد السلاح قبل القتال ليوم القتال. قال: فإن قلت فما المختار فيه عندك؟ فاعلم أن الحق فيه: أن إطلاق القول بذمه في كل حال، أو بمدحه في كل حال خطأ، بل لا بد فيه من التفصيل: فاعلم أوّلا أن الشيء قد يحرم لذاته، كالخمر والميتة وأعني بقولي لذاته أن علة تحريمه وصف في ذاته وهو الإسكار والموت، وهذا إذا سئلنا عنه، أطلقنا القول بأنه حرام، ولا يلتفت إلى إباحة الميتة عند الاضطرار وإباحة تجرع الخمر لإساغة ما يغص به الإنسان من الطعام، إذا لم يجد ما يسيغه به سوى الخمر وقد يحرم لغيره كالبيع على بيع أخيك المسلم، في وقت الخيار، والبيع وقت النداء، وكآكل الطين، فإنه يحرم لما فيه من الأضرار. وهذا ينقسم إلى ما يضر قليله وكثيره، فيطلق القول عليه بأنه حرام كالسم الذي يقتل قليله وكثيره، وإلى ما يضر عند الكثرة، فيطلق القول عليه بالإباحة، كالعسل فإن كثرته تضر بالمحرور، وكآكل الطين، وكان إطلاق التحريم على الخمر، والتحليل على العسل، التفات إلى أغلب الأحوال، فإن تصدى لشيء تقابلت فيه الأحوال، فالأولى أن نفصل فنرجع إلى علم الكلام، ونقول: إن فيه منفعة، وفيه مضرة، فهو باعتبار منفعته، في وقت الانتفاع حلال، أو مندوب إليه، أو واجب كما يقتضيه الحال، وهو باعتبار مضرته، في وقت الإضرار، حرام. فأما مضرته فإثارة الشبهات، وتحريك العقائد، وإزالتها عن الجزم والتصميم، وذلك مما يحصل في حالة الابتداء ورجوعها بالدليل مشكوك فيه وتختلف فيه الأشخاص، فهذا ضرره في الاعتقاد، وله ضرر أيضا في تأكيد اعتقاد المبتدعة للبدعة، وتثبيته في صدورهم، بحيث تنبعث دعاويهم ويشتد حرصهم على الإصرار عليه، ولكن هذا الضرر، يحصل بواسطة التعصب، الذي يثور من الجدل.
وأما منفعته، فقد يظن أن فائدته كشف الحقائق، ومعرفتها على ما هي عليه، وهيهات هيهات، بل منفعته شيء واحد وهو حراسة العقيدة على العوام، وحفظها عن تشويشات المبتدعة، بأنواع الجدل إذ العامي ضعيف، يستفزه جدل المبتدع، والناس متعبدون بصحة العقيدة، التي أجمع السلف عليها، والعلماء متعبدون بحفظ ذلك على العوام، من تلبيسات المبتدعة، وهو من فروض الكفاية، كالقيام بحراسة الأموال وسائر الحقوق: كالقضاء والولاية وغيرهما، وما لم تستعد العلماء لنشر ذلك، والتدريس فيه، والبحث عنه، لا يدوم ولو ترك بالكلية، لا ندرس. وليس في مجرد الطباع كفاية لحل شبه المبتدعة، ما لم يتعلم فينبغي أن يكون التدريس فيه أيضا، من فروض الكفاية، لكن ليس من الصواب تدريسه على العوام، كتدريس الفقه والتفسير، فإن هذا مثل الدواء، والفقه مثل الغذاء، وضرر الغذاء لا يحذر وضرر الدواء محذور، فإن قيل: قد جعل جماعة التوحيد عبارة عن صناعة الكلام، ومعرفة طريق المجادلة، والإحاطة بمناقضات الخصوم، والقدرة على التشدق فيها، بكثرة الأسئلة، وإثارة الشبهات، وتأليف الإلزامات، حتى لقب طوائف منهم أنفسهم بأهل العدل والتوحيد. فاعلم أن التوحيد، عبارة عن أمر آخر لا يفهمه أكثر
المتكلمين وإن فهموه، لم يتصفوا به، وهو أن ترى الأمور كلها، من الله رؤية تقطع الالتفات إلى الأسباب والوسائط، فلا ترى الخير والشر إلا منه تبارك وتعالى.(2/24)
وأما منفعته، فقد يظن أن فائدته كشف الحقائق، ومعرفتها على ما هي عليه، وهيهات هيهات، بل منفعته شيء واحد وهو حراسة العقيدة على العوام، وحفظها عن تشويشات المبتدعة، بأنواع الجدل إذ العامي ضعيف، يستفزه جدل المبتدع، والناس متعبدون بصحة العقيدة، التي أجمع السلف عليها، والعلماء متعبدون بحفظ ذلك على العوام، من تلبيسات المبتدعة، وهو من فروض الكفاية، كالقيام بحراسة الأموال وسائر الحقوق: كالقضاء والولاية وغيرهما، وما لم تستعد العلماء لنشر ذلك، والتدريس فيه، والبحث عنه، لا يدوم ولو ترك بالكلية، لا ندرس. وليس في مجرد الطباع كفاية لحل شبه المبتدعة، ما لم يتعلم فينبغي أن يكون التدريس فيه أيضا، من فروض الكفاية، لكن ليس من الصواب تدريسه على العوام، كتدريس الفقه والتفسير، فإن هذا مثل الدواء، والفقه مثل الغذاء، وضرر الغذاء لا يحذر وضرر الدواء محذور، فإن قيل: قد جعل جماعة التوحيد عبارة عن صناعة الكلام، ومعرفة طريق المجادلة، والإحاطة بمناقضات الخصوم، والقدرة على التشدق فيها، بكثرة الأسئلة، وإثارة الشبهات، وتأليف الإلزامات، حتى لقب طوائف منهم أنفسهم بأهل العدل والتوحيد. فاعلم أن التوحيد، عبارة عن أمر آخر لا يفهمه أكثر
المتكلمين وإن فهموه، لم يتصفوا به، وهو أن ترى الأمور كلها، من الله رؤية تقطع الالتفات إلى الأسباب والوسائط، فلا ترى الخير والشر إلا منه تبارك وتعالى.
وهذا مقام شريف، فالتوحيد جوهر نفيس، له قشران: أحدهما أبعد عن اللب من الآخر، وهو أن تقول بلسانك: لا إله إلا الله، وهذا يسمى توحيدا مناقضا للتثليث، الذي تصرح به النصارى. لكنه قد يصدر من المنافق الذي يخالف سره جهره. وأما القشر الثاني فأن لا يكون في القلب مخالفة وإنكار لمفهوم هذا القول بل يشتمل القلب على اعتقاد ذلك والتصديق به، وهذا توحيد عوام الخلق والمتكلمون كما سبق حراس هذا القشر عن تشويش المبتدعة، فخصص الناس الاسم بهذين القشرين، وتركوا لبابهما وأهملوه بالكلية. واللباب هو التوحيد المحض، وهو أن ترى الأمور كلها من الله تعالى رؤية تقطع الالتفات إلى الأسباب والوسائط، وأن تعبده عبادة تفرده بها فلا تعبد غيره واتباع الهوى يخرج عن هذا التوحيد فكل متبع هواه، قد اتخذ هواه معبوده. قال (1) الله تعالى: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلََهَهُ هَوََاهُ}. وقال (2) صلى الله عليه وسلم: «أبغض إله عبد في الأرض عند الله هو الهوى». وعلى التحقيق من تأمل عرف أن عابد الصنم ليس يعبد الصنم إنما يعبد هواه، إذ نفسه مائلة إلى دين آبائه، فيتبع ذلك الميل. وميل النفس إلى المألوفات أحد المعاني التي يعبر عنها بالهوى ويخرج عن هذا التوحيد السخط على الخلق والالتفات إليهم. فإن من يرى الكل، من الله تعالى، كيف يسخط على غيره، فالتوحيد عبارة عن هذا المقام، وهو من مقامات الصديقين. فانظر إلى ماذا حول وبأي قشر قنع فالموحّد هو الذي لا يرى إلّا الواحد، ولا يتوجّه وجهه إلا إليه، أي يكون قلبه متوجها إلى الله تعالى على الخصوص. اهـ.
وقد تكلمت على هذا المقام في كتابنا الجوهر الفريد في علم التوحيد، بكلام يشفي النفس، ويزيل اللبس، وهو كلام طويل مشبع، جمعت فيه غالب أقوال الصحابة والعلماء، فليراجع وهو في الجزء الثامن، من الباب الخامس، من كتاب التوحيد فليراجع.
واعلم أنه قد تقدم أن تعلم علم النجوم مذموم. فنقول قد روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إذا ذكر القدر فأمسكوا، وإذا ذكر النجوم فأمسكوا وإذا ذكر أصحابي فأمسكوا».
وقال (3) صلى الله عليه وسلم: «أخاف على أمتي بعدي ثلاثا: حيف الأئمة، والإيمان بالنجوم والتكذيب بالقدر».
وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: «تعلموا من النجوم ما تهتدون به في البحر والبر ثم أمسكوا» وإنما زجر عنه من ثلاثة أوجه:
أحدها أنه مضر بأكثر الخلق، فإنه إذا ألقي إليهم أن هذه الآثار تحدث عقب سير الكواكب، وقع في نفوسهم أن الكواكب هي المؤثرة، وأنها الآلهة المدبرة، لأنها جواهر شريفة سماوية يعظم وقعها في القلوب، فيبقى القلب ملتفتا إليها، ويرى الشر والخير محذورا من جهتها،
__________
(1) سورة الجاثية: الآية 23.
(2) رواه الترمذي في القيامة: 17ولفظه: «بئس العبد عبد هوى يضله».
(3) رواه أحمد: 5، 90ولفظه: «ثلاث أخاف على أمتي».(2/25)
ومرجوا منها، وينمحي ذكر الله تعالى من القلب، فإن الضعيف يقصر نظره على الوسائط، والعالم الراسخ هو الذي يطلع على أن الشمس، والقمر، والنجوم، مسخرات بأمره سبحانه وتعالى.
الوجه الثاني: إن أحكام النجوم تخمين محض، وليس يدرك في حق آحاد الأشخاص، لا يقينا ولا ظنا فالحكم به حكم بجهل، فيكون ذمه على هذا من حيث إنه جهل، لا من حيث إنه علم. وقد كان ذلك علما لإدريس عليه السلام فيما يحكى، وقد اندرس ذلك العلم وانمحق وما يتفق من إصابة المنجم على ندور فهو اتفاق، لأنه قد يطلع على بعض الأسباب، ولا يحصل المسبب عقبها إلا بعد شروط كثيرة، ليس في قدرة البشر الاطلاع عليها. فإن اتفق أن قدر الله تعالى بقية الأسباب، وقعت الإصابة. وإن لم يقدر أخطأ. ويكون ذلك كتخمين الإنسان في أن السماء تمطر اليوم، مهما رأى الغيم يجتمع، وينبعث من الجبال، فيتحرك ظنه بذلك وربما يحمى النهار بالشمس، ويتبدد الغيم وربما يكون بخلافه، فإن مجرد الغيم ليس كافيا في مجيء المطر، وبقية الأسباب لا تدرى. وكذلك تخمين الملاح، أن السفينة تسلم، اعتمادا على ما ألفه من العادة في الرياح، ولتلك الرياح أسباب خفية، لا يطلع عليها الملاح، فتارة يصيب في تخمينه، وتارة يخطىء. ولهذه العلة يمنع القوم عن النجوم.
الوجه الثالث أنه لا فائدة فيه، فأقل أحواله أنه خوض في فضول لا يعني، وتضييع للعمر الذي هو أنفس بضائع الإنسان بغير فائدة، وغايته الخسران، فقد مرّ رسول الله صلى الله عليه وسلم برجل، والناس مجتمعون عليه، فقال: «ما هذا»؟ قالوا: رجل علّامة فقال: بماذا؟ قالوا: بالشعر وأنساب العرب. فقال: «علم لا ينفع، وجهل لا يضر» وقال (1) صلى الله عليه وسلم: «إنما العلم آية محكمة، أو سنة قائمة، أو فريضة عادلة» فإذا الخوض في النجوم إنما يشبه اقتحام خطر وخوض جهالة من غير فائدة فإن ما قدر كائن، والاحتراز غير ممكن، بخلاف الطب، فإن الحاجة إليه ماسّة، وأكثر أدلته مما يطلع عليه، وبخلاف التعبير، وإن كان تخمينا لأنه جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة، ولا خطر فيه. ولذلك أكثرنا في كتابنا هذا من النقل من هذين العلمين لضرورة الحاجة إليهما، ولقلة الخطأ فيهما لإمكان الاطلاع على أكثر أدلتهما، والله الموفق للصواب.
الإبل
: بكسر الباء الموحدة، وقد تسكن للتخفيف: الجمال وهو اسم واحد يقع على الجمع، وليس بجمع، ولا اسم جمع، إنما هو دال على الجنس، كذا قاله ابن سيده. وقال الجوهري: ليس لها واحد من لفظها وهي مؤنثة لأن أسماء الجموع، التي لا واحد لها من لفظها إذا كالنت لغير الآدميين فالتأنيث لها لازم، وإذا صغرتها أدخلت عليها الهاء فقلت: أبيلة وغنيمة ونحو ذلك، وربما قالوا للإبل: إبل بإسكان الباء كما تقدم، والجمع آبال والنسبة إبلي بفتح الباء.
روى ابن ماجه، عن عروة البارقي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم (2) قال: «الإبل عز لأهلها، والغنم بركة، والخير معقود في نواصي الخيل إلى يوم القيامة» وفي حديث وهب «تأبل آدم على ابنه المقتول
__________
(1) رواه أبو داود في الفرائض: وابن ماجه في المقدمة: 8.
(2) رواه ابن ماجه في التجارات: 69.(2/26)
كذا وكذا عاما لم يصب حوّاء أي امتنع من غشيانها أعواما، وتوحش عنها. ويقال للإبل بنات الليل، ويقال للذكر والأنثى منها بعير إذا أجذع ويجمع على: أبعرة وبعران والشارف: الناقة المسنة وجمعها شرف والعوامل: الإبل ذوات السنامين. والإبل من الحيوانات العجيبة وإن كان عجبها سقط من أعين الناس لكثرة رؤيتهم لها، وهو أنها حيوان عظيم الجسم، سريع الانقياد، ينهض بالحمل الثقيل، ويبرك به، وتأخذ زمامه فأرة فتذهب به إلى حيث شاءت، ويتخذ على ظهره بيت يقعد الإنسان فيه، مع مأكوله ومشروبه وملبوسه وظروفه ووسائده، كأنه في بيته ويتخذ للبيت سقف وهو يمشي بكل هذه. ولهذا قال (1) تعالى: {أَفَلََا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ}.
وقد جعلها الله تعالى طوال الأعناق لتثور بالأثقال، وعن بعض الحكماء، أنه حدث عن الإبل وعن بديع خلقها وكان قد نشأ بأرض لا إبل فيها، ففكر ساعة ثم قال: يوشك أن تكون طوال الأعناق، وحيث أراد الله تعالى بها أن تكون سفائن البر، صبرها على احتمال العطش، حتى إن ظمأها ليرتفع إلى العشر. وجعلها ترعى كل شيء نابت في البراري والمفاوز، مما يرعاه سائر البهائم. وروي عن سعيد بن جبير أنه قال: لقيت شريحا القاضي ذاهبا فقلت له: أين تريد؟
فقال: أريد الكناسة. فقلت: وما تصنع بالكناسة قال: انظر إلى الإبل كيف خلقت. وقال (2)
تعالى: {وَعَلَيْهََا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ} * قرنها بالفلك التي هي السفائن لأنها سفن البر قال ذو الرّمة (3):
سفينة بر تحت خدي زمامها.
يريد صيدح التي يخاطبها بقوله:
سمعت الناس ينتجعون غيثا ... فقلت لصيدح انتجعي بلالا
وصيدح اسم ناقته. وهذا البيت أنشده سيبويه (4) ورواه برفع الناس على الحكاية، أي:
سمعت هذه الكلمة. ورواه غيره بالنصب، وكل له وجه. وسيأتي إن شاء الله تعالى ذكر الصيدح في باب الصاد المهملة. وربما تصبر الإبل عن الماء عشرة أيام وإنما جعل الله تعالى أعناقها طوالا، لتستعين بها على النهوض، بالحمل الثقيل، وفي الحديث: «لا تسبوا الإبل فإن فيها رقوء الدم، ومهر الكريمة». أي أنها تعطى في الديات فتحقن بها الدماء وتمنع من أن يهراق دم القاتل. هذه عبارة الفصيح وفي الحديث لا تسبوا الإبل فإنها من نفس الله تعالى أي مما يوسع الله تعالى به على الناس حكاه ابن سيده. والذي نعرفه «لا تسبوا الريح فإنها من نفس الرحمن جل وعلا (5)» وفي
__________
(1) سورة الغاشية: الآية 17.
(2) سورة المؤمنون: الآية 12.
(3) ذو الرّمة: هو غيلان بن عقبة بن نهيس بن مسعود العدوي من فحول الشعراء في العصر الأموي. توفي سنة 117هـ. والشعر في ديوانه: 70.
(4) سيبويه: هو عمرو بن عثمان بن قنبر الحارثي بالولاء، أبو بشر، إمام النحاة وأول من بسط علم النحو. ولد في شيراز وأقام في البصرة وأخذ عن الخليل. توفي سنة 180هـ.
(5) رواه الترمذي في الفتن: 65. وابن ماجه في الأدب: 29. وغيرهما.(2/27)
الصحيحين، عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم (1) قال: «تعاهدوا القرآن، فوالذي نفس محمد بيده، لهو أشد تفلتا من الإبل في عقلها». وفيهما عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إنما مثل القرآن مثل الإبل المعقلة إن تعاهدها صاحبها على عقلها أمسكها، وإن أغفلها ذهبت، إذا قام صاحب القرآن بقراءته بالليل والنهار، ذكره وإذا لم يقرأه نسيه». (2)
وفيهما عنه أيضا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (3): «الناس كإبل مائة لا تجد فيها راحلة». وسيأتي بيان معناه إن شاء الله تعالى في باب الراء المهملة في لفظ الراحلة.
والإبل أنواع: الأرحبية منسوبة إلى بني أرحب من همدان. وقال ابن الصلاح: إنها من إبل اليمن والشذقية إبل منسوبة إلى شذقم، وهو فحل كريم كان للنعمان بن المنذر، والعيدية بكسر العين المهملة، إبل منسوبة إلى بني العيد وهم فخذ من بني مهرة، قاله صاحب الكفاية. والمجدية إبل باليمن منسوبة إلى المجد وهو الشر. والشدنية إبل منسوبة إلى فحل أو بلد قاله في الكفاية.
والمهرية إبل منسوبة إلى مهرة بن حيدان وهو أبو قبيلة والجمع المهاري، قاله ابن الصلاح (4). وما قاله الغزالي من أن المهرية هي الرديئة من الإبل، ليس كذلك ومنها إبل وحشية تسمى إبل الوحش، يقولون إنها بقايا إبل عاد وثمود. ومن لقب الإبل العيس وهي الشديدة الصلبة والشملال وهي الخفيفة واليعملة وهي التي تعمل والوجناء وهي الشديدة أيضا، والناجية وهي السريعة، والعوجاء وهي الضامرة، والشمردلة وهي الطويلة، والهجان وهي الإبل الكريمة، والكوماء بضم الكاف وهي الناقة العظيمة السنام والحرف وهي الناقة الضامرة قال كعب بن زهير (5).
حرف أبوها أخوها من مهجّنة ... وعمها خالها قوداء شمليل (6)
والقوداء الطويلة العنق، والشمليل السريعة، وقوله: من مهجنة أي من إبل كرام هجان.
وقوله: أبوها أخوها أي إنها من جنس واحد في الكرم، وقيل: إنها من فحل حمل على أمه فجاءت بهذه الناقة فهو أبوها وأخوها، وكانت الناقة التي هي أم هذه بنت أخرى من الفحل الأكبر فعمها خالها على هذا، وهو عندهم من أكرم النتاج. والقول الأول ذكره أبو علي القالي عن أبي سعيد ومما يستحسن ويستجاد من كلام كعب رضي الله عنه قوله (7):
__________
(1) رواه البخاري في فضائل القرآن: 23. ورواه مسلم في المسافرين: 228، 229وغيرهما.
(2) رواه ابن ماجه في الأدب: 52وأحمد: 2، 20.
(3) هو في مجمع الأمثال: 2/ 340.
(4) ابن الصلاح هو عثمان بن عبد الرحمن بن عثمان بن موسى بن أبي النصر النصري الشهرزوري الكردي، عالم في التفسير والحديث والفقه وأسماء الرجال، تولى التدريس في بيت المقدس ثم في دمشق وفيها توفي سنة 643هـ.
الأعلام: 4/ 207.
(5) كعب بن زهير بن أبي سلمى المزني، شاعر إسلامي له صحبة. توفي سنة 26هـ.
(6) ديوان كعب: 63.
(7) ديوانه: 37. وفيه: «ليس مدركها والنفس».(2/28)
لو كنت أعجب من شيء لأعجبني ... سعي الفتى وهو مخبوء له القدر ... يسعى الفتى لأمور ليس يدركها ... فالنفس واحدة والهم منتشر ... والمرء ما عاش ممدود له أمل ... لا تنتهي العين حتى ينتهي الأثر
قال أصحاب الكلام: في طبائع الحيوان ليس لشيء من الفحول، مثل ما للجمل عند هيجانه إذ يسوء خلقه، ويظهر زبده ورغاؤه فلو حمل عليه ثلاثة أضعاف عادته حمل ويقل أكله، ويخرج الشقشقة وهي الجلدة الحمراء التي يخرجها من جوفه، وينفخ فيها فتظهر من شدقه لا يعرف ما هي. قال الليث: ولا تكون إلا لعربي: وفيه نظر قال علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه: «إن الخطب من شقاشق الشيطان». شبّه الفصيح المنطيق بالفحل الهادر، ولسانه بشقشقته.
وروى الحاكم في حديث فاطمة بنت قيس رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (1) لها: «أما معاوية فصعلوك، وأما أبو الجهم فإني أخاف عليك من شقاشقه».
والفحل لا ينزو إلا مرّة واحدة في السنة، ويطول فيها مكثه، وينزل فيها مرارا كثيرة، ولذلك يعقبه فتور ووهن والأنثى تلقح إذا مضى لها ثلاث سنين، ولذلك سميت حقة لأنها استحقت ذلك قالوا: والجمل أشد الحيوان حقدا، وفي طبعه الصبر والصولة. وذكر صاحب المنطق أنه لا ينزو على أمه. قال: وقد كان رجل في سالف الدهر ستر ناقة بثوب، ثم أرسل ولدها عليها، فلما عرف ذلك قطع ذكره، ثم حقد على الرجل حتى قتله. وآخر فعل مثل ذلك فلما عرف أنها أمه قتل نفسه. وكل الحيوان له مرارة إلا الإبل، ولذلك كثر صبرها وانقادت وكني الجمل بأبي أيوب. وإنما يوجد على كبدها شيء يشبه المرارة وهي جلدة فيها لعاب يكتحل به ينفع من العشاء العتيق. ومن طبعها أنها تستطيب الشجر الذي له شوك وتهضمه أمعاؤها، ولا تستطيع في غالب الأوقات أن تهضم الشعير. ومن عجيب ما ذهبت إليه العرب أنها إذا أصاب إبلها العرّ كووا السليم ليشفى العليل. وفي هذا المعنى قال (2) النابغة:
وحملتني ذنب امرىء وتركته ... كذا العر يكوي غيره وهو راتع
وأخذ منه غيره فقال:
غيري جنى وأنا المعاقب فيكم ... فكأنني سبابة المتندم
وأنكر أبو عبيد القاسم بن سلام ذلك.
وروى الجماعة من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، قال: «جاء رجل من بني فزارة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: إن امرأتي ولدت غلاما أسود فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «هل لك من إبل»؟
قال: نعم فما ألوانها؟ قال: حمر. قال صلى الله عليه وسلم: «هل فيها من أورق»؟ قال: إن فيها لورقا. قال: هو
__________
(1) رواه أبو داود في الطلاق: 39. ومسلم في الرضاع: 101.
(2) ديوان النابغة الذبياني: 83. وفيه لكلفتني كذي العر(2/29)
ذاك. قال: فأنى أتاها ذلك قال (1) صلى الله عليه وسلم «عسى أن يكون نزعه عرق».
وقد تقدمت الإشارة إلى هذا الحديث في الكلام على لفظ الأسد وإنما قال صلى الله عليه وسلم: «عسى أن يكون نزعه عرق» ولم يرخص له النبي صلى الله عليه وسلم في الانتفاء عنه.
والرجل المذكور في هذا الحديث: ضمضم بن قتادة العجلي، ولم يذكره أبو عمر بن عبد البر في الاستيعاب وليس له سوى هذا الحديث، وهو مسمى في بعض المسندات. وذكره عبد الغني في الحديث بزيادة حسنة فقال (2) فقال: «كانت المرأة من بني عجل، فقدم المدينة عجائز من بني عجل، فسئلن عن المرأة التي ولدت الغلام الأسود فقلن: كان في آبائها رجل أسود». قال: والرجل اسمه ضمضم بن قتادة العجلي. وقال الخطيب أبو بكر: قلن: كان للمرأة جدة سوداء.
والحكم: يحل أكل الإبل بالنص والإجماع. قال (3) الله تعالى: {أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعََامِ} وأما تحريم إسرائيل، وهو يعقوب عليه السلام على نفسه أكل لحوم الإبل، وشرب ألبانها، فكان ذلك باجتهاد منه على الصحيح. والسبب في ذلك أنه كان يسكن البدو فاشتكى عرق النساء، فلم يجد شيئا يؤلمه إلا لحوم الإبل وألبانها فلذلك حرمهما. وإسرائيل لفظة عبرانية.
وقد اختلف العلماء في انتقاض الوضوء بأكل لحومها: فذهب الأكثرون إلى أنه لا ينتقض الوضوء بأكل لحومها، وذهب الباقون إلى أنه ينتقض الوضوء به. فمن ذهب إلى الأول: الخلفاء الأربعة أبو بكر وعمر وعثمان وعلي، وابن مسعود وأبي بن كعب وابن عباس وأبو الدرداء وأبو طلحة الأنصاري وأبو أمامة الباهلي وعامر بن ربيعة رضي الله عنهم، وجماهير التابعين ومالك وأبو حنيفة والشافعي وأصحابهم رحمهم الله. وممن ذهب إلى انتقاض الوضوء به: أحمد وإسحق بن راهويه ويحيى بن يحيى وابن المنذر وابن خزيمة واختاره البيهقي من أصحاب الشافعي، وهو قول الشافعي القديم، وسيأتي إن شاء الله تعالى ذكر دليله في باب الجيم في الجزور.
وعن أحمد في أكل سنامها روايتان، ولأصحابه في شرب ألبانها وجهان. وتكره الصلاة في أعطانها وهي الأمكنة التي تأوي إليها بعد الشرب. روى أبو داود والترمذي وابن ماجه، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن البراء بن عازب قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الوضوء من لحوم الإبل؟ فقال: «توضأوا منها» (4) وسئل عن لحوم الغنم؟ فقال: «لا تتوضؤا منها (5)». وسئل عن الصلاة في مبارك الإبل؟ فقال (6): «لا تصلوا في مبارك الإبل فإنها مأوى الشياطين» وسئل عن
__________
(1) رواه الترمذي في الولاء: 4وابن ماجة في النكاح: 58.
(2) رواه مسلم في اللعان: 19.
(3) سورة المائدة: الآية 1.
(4) رواه مسلم في الحيض: 97. وأبو داود في الطهارة 71. وغيرهما.
(5) رواه أحمد: 4، 352.
(6) رواه مسلم في الحيض: 97. والصلاة: 50.(2/30)
الصلاة في مرابض الغنم؟ فقال: «صلوا فيها فإنها مباركة (1)» وروى النسائي وابن حبان من حديث عبد الله بن مغفل رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الإبل خلقت من الشياطين (2)».
وأما زكاتها فالواجب في كل خمس منها سائمة شاة، وفي عشر شاتان وفي خمسة عشر ثلاث شياه، وفي عشرين أربع شياه، ثم في خمس وعشرين بنت مخاض، وفي ست وثلاثين بنت لبون، وفي ست وأربعين حقة، وفي إحدى وستين جذعة، وفي ست وسبعين بنتا لبون، وفي إحدى وتسعين حقتان، وفي مائة وإحدى وعشرين ثلاث بنات لبون، ثم في كل أربعين بنت لبون، وفي كل خمسين حقة. وبنت المخاض لها سنة، وبنت اللبون لها سنتان، والحقة لها ثلاث سنين، والجذعة لها أربع سنين، والشاة الواجبة لها جذعة ضأن وهي ما لها سنة، أو ثنية معز وهي ما لها سنتان، وبقية أحكام الزكاة معروفة.
تتمة: قال المتولي إذا أوصي لشخص بإبل، جاز أن يعطى ذكرا أو أنثى، فإن أعطي فصيلا أو ابن مخاض لم يلزمه قبوله لأنه لا يسمى إبلا.
الأمثال: روى مسلم والترمذي عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
«الناس كإبل مائة، ليس فيها راحلة (3)» يعني أن المرضى من الناس قليل وسيأتي معناه إن شاء الله تعالى في باب الراء المهملة في الراحلة. وقال الأزهري: معناه أن الزاهد في الدنيا الكامل في الزهد فيها والرغبة في الآخرة قليل، كقلة الراحلة في الإبل. وقالوا: أشبعهم سبا وراحوا بالإبل قيل:
أول من قاله كعب بن زهير بن أبي سلمى يضرب لمن لم يكن عنده إلا الكلام وقالوا: «ما هكذا يا سعد تورد الإبل» يضرب لمن تكلف أمرا لا يحسنه. وتمثل بذلك علي رضي الله عنه في حديث رواه البيهقي وغيره. وقالوا «يا إبل عودي إلى مباركك (4)». يضرب لمن يفر من الشيء الذي لا بد منه.
الخواص: قال ابن زهير وغيره: إذا وقع بصر الجمل على سهيل مات لوقته. ولحوم الإبل والكباش الحولية الجبلية رديئة كلها، وإذا أحرق وبر الإبل وذر على الدم السائل قطعه. وقراده يربط في كم العاشق فيزول عشقه وإذا شرب السكران من بول الجمل أفاق من ساعته، ولحمه يزيد في الباه والأنعاظ بعد الجماع. وبول الإبل ينفع من ورم الكبد ويزيد في الباه، ومخ ساق الجمل إذا تحملت به المرأة في قطنة أو صوفة بعد الطهر ثلاثة أيام وجومعت فإنها تحمل وإن كانت عاقرا. وسيأتي إن شاء الله تعالى قريبا في الكلام على لفظ الإنسان قاعدة ذكرها حذاق الأطباء تعرف بها العاقر من النساء.
التعبير: قال أهل التعبير من رأى أنه ملك منها هجمة في منامه فإنه يدل على أنه يحكم على جماعة ذوي أقدار ويملك مالا طائلا. وكذلك إذا رأى أنه نال ثلة أو ثاغية أو راغية والهجمة مائة
__________
(1) رواه البخاري في الوضوء: 66. والصلاة 48. ومسلم في المساجد: 9، 10. وغيرهما.
(2) رواه ابن ماجه في المساجد: 12. وابن حنبل: 5، 54، 55، 57.
(3) رواه الترمذي في الآداب: 82. ومسلم في فضائل الصحابة: 532. وغيرهما.
(4) المستقصى: 2/ 404وفيه: «يا إبلي».(2/31)
من الإبل والثلة قطيع من الغنم والثاغية الشاة والراغية الإبل. قالوا: ومن رأى أنه ملك إبلا في منامه، نال عقبى حسنة وسلامة في دينه ومعتقده لقوله (1) تعالى: {أَفَلََا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ} فإن قال: رأيت جمالا فربما دل على الأعمال السيئة لقوله تعالى: {وَلََا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتََّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيََاطِ} ولقوله (2) تعالى: {إِنَّهََا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ كَأَنَّهُ جِمََالَتٌ صُفْرٌ} وإن قال: رأيت انعاما وأنا أسرحها في المنام، فإنه يدل على تذلل الأمور الصعاب وظهور النعمة عليه لقوله (3) تعالى: {وَالْأَنْعََامَ خَلَقَهََا لَكُمْ فِيهََا دِفْءٌ وَمَنََافِعُ وَمِنْهََا تَأْكُلُونَ}، إلى قوله تسرحون. ومن رأى أنه يرعى إبلا عرابا ولي على قوم من الأعراب ومن رأى إبلا كثيرة في بلد فإنها تدل على أمراض وحروب. وقال الجيلي (4): من رأى أنه يملك إبلا نال مقدرة وسطوة. وقال أرطاميدوس:
من أكل لحم الإبل في منامه مرض. وقال محمد بن سيرين إمام المعبرين: ومن أعلام التابعين لا بأس بأكل لحم الإبل لقوله (5) تعالى: {وَالْأَنْعََامَ خَلَقَهََا لَكُمْ فِيهََا دِفْءٌ وَمَنََافِعُ وَمِنْهََا تَأْكُلُونَ}.
وستأتي بقيته إن شاء الله تعالى في باب الجيم في لفظ الجمل والله أعلم.
الأبابيل
: واحدته ابالة وقال أبو عبيد القاسم بن سلام: لا واحد لها من لفظها. وقيل:
واحدها أبول كعجول وقيل: إبيل كسكّيت. وقيل: إيبال كدينار، ودنانير، وذكر الفارسي أنه سمع في واحده ابالة بالتشديد. وحكى الفرّاء إبالة بالتخفيف. واختلفوا في قوله (6) تعالى:
{وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبََابِيلَ} فقال سعيد بن جبير: هي طير تعشش بين السماء والأرض وتفرخ، ولها خراطيم كخراطيم الطير، وأكف كأكف الكلاب وعن عكرمة أنها طيور خضر خرجت من البحر لها رؤوس كرؤوس السباع. وقال ابن عباس رضي الله عنهما بعث الله الطير على أصحاب الفيل كالبلسان وقيل: كانت كالوطاويط. وقال عبادة بن الصامت: أظنا الزرازير.
وقالت عائشة رضي الله تعالى عنها، هي أشبه شيء بالخطاطيف. وسيأتي إن شاء الله تعالى في باب السين أنها السنونو الذي يأوي الآن في المسجد الحرام الواحدة سنونة، والأبيل راهب النصارى وكانوا يسمون عيسى بن مريم عليهما السلام أبيل الأبيليين قال الشاعر:
أما ودماء مائرات تخالها ... على قنة العزى وبالنّسر عندما ... وما سبح الرهبان في كل بيعة ... أبيل الأبيليين عيسى بن مريما ... لقد ذاق منا عامر يوم لعلع ... حساما إذا ما هزّ بالكف صمما
والإبالة بالكسر الحزمة من الحطب. وفي المثل: «ضغث على إبالة (7) أي بلية على أخرى كانت قبلها والله الموفق.
الأتان:
بفتح الهمزة وبالتاء المثناة فوق الحمارة، ولا تقل أتانة، ويقال ثلاث آتن مثل عناق
__________
(1) سورة الغاشية: الآية 17.
(2) سورة المرسلات: الآية 32.
(3) سورة النحل: الآية 5.
(4) هو عبد الكريم بن إبراهيم بن عبد الكريم الجيلي، متصوف، له مؤلفات كثيرة. توفي سنة 832هـ.
(5) سورة النحل: الآية 5.
(6) سورة الفيل: الآية 3.
(7) جمهرة الأمثال: 2/ 6.(2/32)
وأعنق، والكثير أتن وأتن. واستأتن الرجل أي اشترى أتانا، واتخذها لنفسه. قال محمد بن سلام: حدثني رجل من قريش قال: خرج خالد بن عبد الله القسري (1) يوما يتصيد، وهو أمير العراق فانفرد عن أصحابه فإذا هو بأعرابي على أتان له هزيل ومعه عجوز فقال له خالد ممن الرجل فقال من أهل المآثر والحسب والمفاخر قال: فأنت إذن من مضر فمن أيها أنت؟ قال من الطاعنين على الخيول، المعانقين عند النزول. قال: فأنت إذن من عامر، فمن أيها أنت؟ قال: من أهل الرفادة، والكرم والسيادة، قال فأنت إذن من جعفر، فمن أيها أنت؟ قال: من بدورها وشموسها وليوثها، في خميسها قال: فأنت إذن من الخواص. فما أقدمك هذه البلاد؟ قال: تتابع السنين وقلة رفد الرافدين. قال فمن أردت بها؟ قال: أميركم هذا الذي رفعته أمرته وحطته أسرته. قال: فما أردت منه؟ قال: كثرة ماله لا كرم آبائه. قال: ما أراك إلا قد قلت فيه شعرا فقال لامرأته:
أنشديه، فقال:
كم تجشمنا مدح اللئيم ... ة اليوم إن مدح الئيم ذل
قال: أنشديه فأنشدته:
إليك ابن عبد الله بالجد أرقلت ... بنا البيدعيس كالقسي سواهم ... عليها كرام من ذؤابة عامر ... أضربهم جدب السنين العوارم ... يردن امرءا يعطي على الحمد ماله ... وهانت عليه في الثناء الدراهم ... فإن تعط ما تهوى فهذا ثناؤنا ... وإن تكن الأخرى فما ثمّ لا ثم
فقال له خالد: يا عبد الله، ما أعجبك وشعرك، جئت على أتان هزيل، وتزعم إنك جئت على عيس وقد ذكرت الرجل في شعرك، بخلاف ما ذكرت في كلامك. فقال: يا ابن أخي ما تجشمنا من مدح اللئيم، كان أشد من الكذب في شعرنا فقال له خالد: أتعرف خالدا؟ قال: لا قال: فأنا هو خالد. قال: أسألك بالله هو أنت خالد؟ قال إي والذي سألتني به أنا خالد، وأنا معطيك غير مكافئك، فقال: يا أم جحش اصرفي وجه أتانك فقال لها خالد: لا تفعلي وأقيمي أنت وزوجك فقال الرجل: لا والله لا رزأت امرءا درهما بعد أن أسمعته ما يكره، وصرف وجه أتانه ومضى. فقال خالد: بمثل هذا الفعل نال هذا وآباؤه ما نالوا.
وروى البيهقي عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من لبس الصوف، وحلب الشاة، وركب الأتن، فليس في جوفه من الكبر شيء». وهو كذلك في الكامل في ترجمة عبد الرحمن بن عمار بن سعد.
وعن جابر وأبي هريرة رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «براءة من الكبر لباس الصوف ومجالسة فقراء المؤمنين وركوب الحمار واعتقال العنز وأكل أحدكم مع عياله». وفي الاستيعاب وغيره أن زرارة بن عمرو النخعي قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم في النصف من رجب سنة تسع «فقال:
__________
(1) خالد القسري هو ابن عبد الله بن يزيد بن أسد، من بجيلة، من خطباء العرب ومن أجوادهم توفي سنة 126هـ.(2/33)
يا رسول الله إني رأيت في طريقي رؤيا هالتني! قال: وما هي؟ قال: رأيت أتانا خلفتها في أهلي، قد ولدت جديا أسفع أحوى، ورأيت نارا خرجت من الأرض فحالت بيني وبين ابن لي، يقال له عمرو، وهي تقول لظى لظى بصير وأعمى. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: أخلفت في أهلك أمة مسرة حملا؟ قال: نعم قال صلى الله عليه وسلم: فإنها قد ولدت غلاما وهو ابنك قال: فأنى له أسفع أحوى؟ قال: ادن مني، فدنا منه، فقال: أبك برص تكتمه؟ قال: والذي بعثك بالحق نبيا ما علمه أحد قبلك.
قال: فهو ذاك وأما النار فإنها فتنة تكون بعدي. قال: وما الفتنة يا رسول الله؟ قال صلى الله عليه وسلم: يقتل الناس إمامهم، ويشتجرون اشتجار أطباق الرأس، وخالف بين أصابعه، دم المؤمن عند المؤمن، أحلى من الماء، يحسب المسيء، أنه محسن، إن مت أدركت ابنك، وإن مات ابنك أدركتك. قال فادع الله لي أن لا تدركني فدعا له». (1) وقد قال العلماء: إن هذه الفتنة هي التي قتل فيها عثمان رضي الله تعالى عنه. والأسفع الأحوى الأبلق.
الأمثال: قالوا: «كان حمارا فاستأتن (2)» يضرب لمن يهون بعد العز.
التعبير: الحمارة امرأة معينة على المعيشة، كثيرة الخير، ذات ربح متواتر ونسل. ولفظ الأتان من الإتيان.
الأخطب:
كالأحمر يقال إنه الصرد وأنشد:
ولا أنثني من طيرة عن مريرة ... إذا الأخطب الداعي على الدوح صرصرا
والأخطب حمار يعلو ظهره خضرة، وقال الفراء: الخطباء الأتان التي لها خط أسود في ظهرها، والذكر أخطب.
الأخيضر
: ذباب أخضر على قدر الذباب الأسود قاله ابن سيده.
الأخيل:
طائر أخضر فيه على أجنحته لمع تخالف لونه وسمي بذلك لخيلان فيه. وقيل:
الأخيل
الشقراق الآتي في باب الشين المعجمة، وهو مشؤوم. ولفظه ينصرف في النكرة لا إذا سميت به ومنهم من لا يصرفه في معرفة ولا نكرة ويجعله في الأصل صفة من التخيل ويحتج بقول الشاعر:
ذريني وعلمي بالأمور وشيمتي ... فما طائري فيها عليك بأخيلا
الأربد:
ضرب من الحيات، يعض فيربد منه الوجه، ومنه ما حكاه عبد الملك بن عمير قال: رأيت زيادا (3) واقفا على قبر المغيرة بن شعبة (4) رضي الله عنه وهو يقول:
__________
(1) الترمذي: فتن 9. وابن ماجه فتن: 25وفيه: لا تقوم الساعة حتى تقتلوا أمامكم
(2) مجمع الأمثال: 2/ 131.
(3) هو زياد بن أبيه والي العراق لمعاوية بن أبي سفيان. توفي سنة 53هـ. وكان من ذوي الحزم والدهاء والشجاعة.
(4) هو المغيرة بن شعبة بن أبي عامر بن مسعود الثقفي، أبو عبد الله، أحد دهاة العرب وقادتهم، صحابي، ولد بالطائف وأسلم سنة 5هـ. شهد فتوح الشام وبلاد فارس تولى البصرة لعمر بن الخطاب رضي الله عنه، ثم تولى الكوفة لمعاوية ومات سنة 50هـ.(2/34)
إن تحت الأحجار حزما وعزما ... وخصيما ألد ذا معلاق ... حيّة في الوجار أربد لا ين ... فع منه السليم نفث الراقي
ثم قال: أما والله لقد كنت شديد العداوة لمن عاديت، شديد الأخوة لمن آخيت، والمعلاق بالعين، المهملة قال الجوهري: يقال رجل ذو معلاق أي شديد الخصومة. ثم أنشد قول الشاعر وهو مهلهل (1):
إن تحت الأحجار حزما وجودا ... وخصيما ألد ذا معلاق
الأرخ:
قال ابن درستويه (2) هي الأنثى الثنية من البقر التي لم ينز عليها الفحل وجمعها أروخ وأراخ. قال: وأنشدني أعرابي من مزينة في طريق مكة لنفسه فقال:
أيام عهدي مي فيك كأنها ... أرخ يرود بروضة مثقال
وقال الجوهري: الأرخ وحش البقر وقال صاحب المغرب: الأرخ ولد البقرة الوحشية.
الأرضة:
بفتح الهمزة والراء والضاد المعجمة دويبة صغيرة كنصف العدسة، تأكل الخشب، وهي التي يقال لها السرفة، بالسين والراء المهملة والفاء. وهي دابة الأرض التي ذكرها الله تعالى في كتابه، وستأتي إن شاء الله تعالى في باب السين المهملة. ولما كان فعلها في الأرض أضيفت إليها. قال القزويني في الأشكال: إذا أتى على الأرضة سنة، تنبت لها جناحان طويلان، تطير بهما. وهي دابة الأرض التي دلت الجن على موت سليمان عليه السلام، والنمل عدوّها، وهو أصفر منها فيأتيها من خلفها فيحملها ويمشي بها إلى جحره، وإذا أتاها مستقبلا، لا يغلبها لأنها تقاومه، انتهى. ومن شأنها أنها تبني لنفسها بيتا حسنا، من عيدان تجمعها مثل غزل العنكبوت، متخرطا من أسفله إلى أعلاه وله في إحدى جهاته باب مربع، وبيتها ناووس ومنها تعلم الأوائل بناء النواويس على موتاهم. وفي الصحيحين وغيرهما «أن قريشا، لما بلغهم إكرام النجاشي لجعفر وأصحابه، كبر ذلك عليهم وغضبوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه وكتبوا كتابا على بني هاشم أن لا يناكحوهم ولا يبايعوهم ولا يخالطوهم. وكان الذي كتب الصحيفة بغيض بن عامر فشلّت يده، وعلقوا الصحيفة في جوف الكعبة، وحصروا بني هاشم في شعب أبي طالب ليلة هلال المحرم سنة سبع من مبعثه صلى الله عليه وسلم، وانحاز إليهم بنو عبد المطلب، وقطعت عنهم قريش الميرة والمادة فكانوا لا يخرجون إلا من موسم إلى موسم، حتى بلغوا الجهد، وأقاموا على ذلك ثلاث سنين، ثم أطلع الله رسوله صلى الله عليه وسلم على أمر الصحيفة، وأن الأرضة قد أكلت ما كان فيها من ظلم وجور.
__________
(1) المهلهل هو عدي بن ربيعة بن مرة بن هبيرة، أبو ليلى، شاعر جاهلي له أخبار في حرب بكر وتغلب، وبطولات. مات سنة 100ق. هـ.
(2) ابن درستويه هو عبد الله بن جعفر بن محمد بن المرزبان فارسي الأصل من علماء اللغة توفي ببغداد سنة 347هـ.(2/35)
وبقي ما كان فيها من ذكر الله تعالى فأخبرهم أبو طالب بذلك، فارتقوا إلى الصحيفة، فوجدوها كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخرجوهم من الشعب».
وروى ابن سعد وابن ماجه في سننه، من حديث أبي بن كعب رضي الله عنه، «أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي إلى جذع، فاتخذ له المنبر، فحن ذلك الجذع إليه حنين العشار، حتى مسحه رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده (1) فسكن». فلما هدم المسجد وغير، أخذ ذلك الجذع أبي بن كعب فكان عنده في داره حتى بلي وأكلته الأرضة وعاد رفاتا. وسيأتي إن شاء الله تعالى للأرضة ذكر في باب الدال المهملة في لفظ الدابة وفي دود الفاكهة.
الحكم:
يحرم أكلها لاستقذارها، وإذا استخرجت من الأرض ترابها قال القاضي حسين:
إن استخرجته من مدر جاز التيمم به، ولا يضر اختلاطه بلعابها، فإنه طاهر فصار كتراب عجن بخل، أو ماء ورد، وإن استخرجت شيئا من الخشب أو الكتب لم يجز لعدم التراب.
الأمثال:
قالوا (2) «أكل من أرضة» و «أصنع من أرضة (3)».
التعبير:
هي في الرؤيا تدل على منازعة في العلم وطلب الجدال.
الأرقم:
الحية التي فيها بياض وسواد، كأنه رقم أي نقش. روى أصحاب الغريب أن رجلا، كسر منه عظم فجاء إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه يطلب منه القود، فأبى أن يقيده، فقال الرجل: هو إذن كالأرقم إن يقتل ينقم، وإن يترك يلقم، أي إن تركته أكلك، وإن قتلته قتلت به. وقال ابن الأثير في النهاية: كانوا في الجاهلية يزعمون أن الجن تطلب بثار الجان، وهي الحية الدقيقة، فربما، مات قاتلها وربما أصابه خبل، وهذا مثل لمن يجتمع عليه شران لا يدري كيف يصنع فيهما. يعني أنه اجتمع عليه كسر العظم وعدم القود وقيل: الأرقم الحية التي فيها حمرة وسواد قال مهذب الملك في ذلك مشبها:
كانون أذهب برده كانوننا ... ما بين سادات كرام حذق ... بأراقم حمر البطون ظهورها ... سود تلغلغ باللسان الأزرق
الأرنب:
واحدة الأرانب، وهو حيوان يشبه العناق، قصير اليدين طويل الرجلين، عكس الزرافة، يطأ الأرض على مؤخر قوائمه. وهو اسم جنس يطلق على الذكر والأنثى وقال الجاحظ:
فإذا قلت أرنب، فليس إلا الأنثى كما أن العقاب لا يكون إلا للأنثى فتقول: هذه العقاب وهذه الأرنب. وقال المبرد في الكامل: إن العقاب يقع على الذكر والأنثى وإنما يميز باسم الإشارة كالأرنب، وذكر الأرنب يقال له الخزز بالخاء المعجمة المضمومة وبعدها زايان وجمعه خزان كصرد وصردان. ويقال للأنثى عكرشة والخرنق ولد الأرنب، فهو أولا خرنق ثم سخلة ثم أرنب.
__________
(1) رواه البخاري في المناقب 25: والجمعة: 26. وفيه: «سمعنا للجذع مثل أصوات العشار».
(2) جمهرة الأمثال: 1/ 164وفيه: «أكل من سوس».
(3) جمهرة الأمثال: 1/ 479وفيه: «أصنع من دودة، وأصنع من سرفة».(2/36)
وقضيب الذكر من هذا النوع كذكر الثعلب: أحد شطريه عظم والآخر عصب، وربما ركبت الأنثى الذكر عند السفاد، لما فيها من الشبق وتسافدو هي حبلى، وتكون عاما ذكرا، وعاما أنثى فسبحان القادر على كل شيء.
غريبة
: ذكر ابن الأثير في الكامل في حوادث سنة ثلاث وعشرين وستمائة، أن صديقا له اصطاد أرنبا، له أنثيان وذكر وفرج أنثى. فلما شقّوا بطنه، رأوا فيه ما يدل على ذلك.
قال: وأعجب من ذلك، أنه كان لنا جار له بنت اسمها صفية، بقيت كذلك نحو خمس عشرة سنة، ثم طلع لها ذكر، ونبت لها لحية، وصار لها فرج رجل وفرج امرأة. وسيأتي إن شاء الله في الضبع نظير ذلك.
والأرنب تنام مفتوحة العين، فربما جاءها القناص، فوجدها كذلك، فيظنها مستيقظة.
ويقال إنها إذا رأت البحر ماتت، ولذا لا توجد في السواحل. وهذا لا يصح عندي. وتزعم العرب، في أكاذيبها، أن الجن تهرب منها لموضع حيضها: قال الشاعر:
وضحك الأرانب فوق الصفا ... كمثل دم الحرب يوم اللقا
فائدة:
الذي يحيض من الحيوان أربعة: المرأة والضبع والخفاش والأرنب. ويقال: إن الكلبة أيضا كذلك.
روى أبو داود في سننه من حديث جابر بن الحويرث عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الأرنب: «إنها تحيض».
وجابر بن الحويرث، قال ابن معين: لا أعرفه وذكره ابن حبان في الثقات ولا يعرف له إلا هذا الحديث.
وروى البيهقي عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما: «أن النبي صلى الله عليه وسلم جيء له بأرنب فلم يأكلها ولم ينه عنها». وزعم أنها تحيض وهي تأكل اللحم وغيره، وتجتر وتبعر، وفي باطن أشداقها شعر، وكذلك تحت رجليها.
الحكم:
يحل أكل الأرنب عند العلماء كافة، إلا ما حكي عن عبد الله بن عمرو بن العاص، وابن أبي ليلى رضي الله عنهم، أنهما كرها أكلها، وحجتنا ما روى الجماعة عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: «أنفجنا أرنبا بمر الظهران، فسعى القوم عليها فغلبوا فأدركتها فأخذتها وأتيت بها أبا طلحة فذبحها، وبعث إلى النبي صلى الله عليه وسلم بوركها وفخذها فقبله (1)».
وفي البخاري في كتاب الهبة (2): «أن النبي صلى الله عليه وسلم قبله وأكل منه». ولفظ أبي داود: «كنت غلاما خرورا فصدت أرنبا فشويتها فبعث معي أبو طلحة رضي الله عنه، بعجزها إلى النبي صلى الله عليه وسلم
__________
(1) رواه البخاري في الهبة: 5، والذبائح: 10، 32ورواه مسلم في الصيد: 53.
(2) رواه ابن ماجه في الصيد: 15، 17، وفيه: «نبئت أنها تدمي».(2/37)
والحزور بالتشديد والتخفيف: المراهق وقد سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عنها فقال: هي حلال».
وروى أحمد والنسائي وابن ماجه والحاكم وابن حبان، عن محمد بن صفوان، «أنه صاد أرنبين فذبحهما بمروتين وأتى النبي صلى الله عليه وسلم، فأمره بأكلهما». وهو في معجم ابن قانع، عن محمد ابن صفوان أو صفوان بن محمد.
واحتج ابن أبي ليلى ومن وافقه بما روى الترمذي عن حبان بن جزء، عن أخيه خزيمة رضي الله عنه قال: «قلت يا رسول الله ما تقول في الأرنب؟ قال صلى الله عليه وسلم: لا آكله ولا أحرمه، قال: فقلت: ولم يا رسول الله؟ قال: إني أحسب أنها تدمي. قال: فقلت: يا رسول الله ما تقول في الضبع؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ومن يأكل الضبيع»؟
قال الترمذي: إسناده ليس بالقوي. ورواه ابن ماجه عن أبي بكر بن أبي شيبة وذكر فيه الثعلب والضب أيضا وفي بعض الروايات: «وسألته عن الذئب فقال: لا يأكل الذئب أحد فيه خير». (1) وليس في شيء من الأحاديث وإن ضعفت ما يدل على تحريم الأرنب وغاية ما في هذين الخبرين استقذارها مع جواز أكلها.
الأمثال:
قالت العرب: «أقطف من (2) أرنب» «وأطعم أخاك من كلية الأرنب». وهو كقولهم (3) «أطعم أخاك من عقنقل الضب». يضربان للمواساة. ومن أمثالهم المشهورة في ذلك قولهم (4): «في بيته يؤتى الحكم». وهو مما زعمته العرب على ألسنة البهائم. قالوا: إن الأرنب التقطت تمرة فاختلسها الثعلب فأكلها فانطلقا يختصمان إلى الضب فقالت الأرنب: يا أبا حسل قال: سميعا دعوت، قالت: أتيناك لنختصم إليك، قال: عادلا حكيما، قالت فأخرج إلينا، قال في «بيته يؤتى الحكم» قالت: إني وجدت تمرة، قال: حلوة فكليها، قالت: فاختلسها الثعلب، قال لنفسه: بغى الخير، قالت: فلطمته، قال: بحقك أخذت، قالت: فلطمني، قال (5) «حر انتصر لنفسه» قالت: فاقض بيننا، قال: قد قضيت. فذهبت أقواله كلها أمثالا.
ومثل هذا أن عدي (6) بن أرطاة أتى شريحا (7) القاضي في مجلس حكمه فقال له: أين أنت؟
قال: بينك وبين الحائط، قال فاسمع مني. قال: للاستماع جلست، قال: إني تزوّجت امرأة،
__________
(1) رواه ابن ماجه في الصيد: 14.
(2) جمهرة الأمثال: 2/ 111.
(3) مجمع الأمثال: 1/ 431.
(4) جمهرة الأمثال: 2/ 87.
(5) جمهرة الأمثال: 1/ 297.
(6) هو عدي بن أرطاة الفزاري، أبو واثلة الدمشقي، من الأمراء الشجعان. توفي سنة 102هـ.
(7) هو شريح بن الحارث بن قيس بن الجهم الكندي أبو أمية، قاض شهير ولي قضاء الكوفة زمن عمر وعثمان وعلي ومعاوية واستعفى أيام الحجاج. مات سنة 78هـ.(2/38)
قال: بالرفاه والبنين، قال: وشرط أهلها أن لا أخرجها من بيتهم، قال: أوف لهم بالشرط، قال:
فأنا أريد الخروج، قال: في حفظ الله، قال: فاقض بيننا، قال: قد فعلت. قال فعلى من حكمت؟ قال: على ابن أمك. قال بشهادة من؟ قال: بشهادة ابن أخت خالك.
وشريح هذا هو ابن الحارث بن قيس الكندي استقضاه عمر رضي الله تعالى عنه على الكوفة، وأقام قاضيا بها خمسا وسبعين سنة، لم يبطل إلا ثلاث سنين، امتنع فيها من القضاء، وذلك أيام فتنة ابن الزبير رضي الله عنهما، فاستعفى الحجاج من القضاء فأعفاه، فلم يقض بين اثنين حتى مات رحمة الله عليه.
وكان شريح من سادات التابعين وأعلامهم، وكان من أعلم الناس بالقضاء، وكان أحد السادات الطلس، وهم أربعة: عبد الله بن الزبير (1)، وقيس (2) بن سعد بن عبادة، والأحنف بن (3) قيس، الذي يضرب بحلمه المثل، ورابعهم شريح هذا والله أعلم.
والأطلس الذي لا شعر بوجهه وروي أن شريحا مرض له ولد، فجزع عليه جزعا شديدا فلما مات لم يجزع. فقيل له في ذلك فقال: إنما كان جزعي رحمة له وإشفاقا عليه، فلما وقع القضاء رضيت بالتسليم. قاله (4) ابن خلكان وغيره.
قال الإمام أبو الفرج بن الجوزي (5) رحمه الله تعالى: كتب زياد بن أبيه إلى معاوية:
يا أمير المؤمنين قد ضبطت لك العراق بشمالي وفرغت يميني لطاعتك فولّني الحجاز.
فبلغ ذلك عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، وهو بمكة، فقال: اللهم اشغل عنا يمين زياد بما شئت فأصابه الطاعون في يمينه فأجمع رأي الأطباء على قطعها، فاستشار شريحا فيما رآه الأطباء، فأشار عليه بعدم القطع، وقال له: لك رزق مقسوم، وأجل معلوم، وإني أكره، إن كانت لك مدة، أن تعيش في الدنيا بلا يمين، وإن كان قد دنا أجلك أن تلقى الله مقطوع اليد، فإذا سألك لم قطعتها؟ قلت: فرارا من قضائك وبغضا في لقائك. قال: فمات زياد من يومه. فلام الناس شريحا على منعه من القطع لبغضهم له، فقال: إنه استشارني، ولولا أن المستشار مؤتمن، لوددت أنه قطع يوما يده ويوما رجله وسائر أعضائه يوما يوما. اهـ.
وفي هذا المعنى قال أبو الفتح البستي من قصيدة طويلة:
__________
(1) هو عبد الله بن الزبير بن العوام القرشي الأسد، أبو بكر، شهد فتح افريقية زمن عثمان، بويع له بالخلافة سنة 64هـ وقتله الحجاج سنة 73هـ.
(2) هو قيس بن سعد بن عبادة بن دليم الأنصاري، وال صحابي من الدهاة. مات سنة 60هـ.
(3) هو الأحنف بن قيس بن معاوية بن حصين المري السعدي، سيد تميم. داهية يضرب به المثل في حمله. شهد فتوح خراسان. واعتزل الفتنة يوم الجمل. توفي سنة 72هـ.
(4) وفيات الأعيان: 2/ 460.
(5) ابن الجوزي هو أبو الفرج عبد الرحمن بن علي بن محمد، القرشي البغدادي، علامة عصره في التاريخ والحديث، كثير التصانيف، مات سنة 597هـ.(2/39)
لا تستشر غير ندب حازم فطن ... قد استوت منه أسرار وإعلان ... فللتدابير فرسان إذا ركضوا ... فيها أبروا كما للحرب فرسان
وسيأتي، إن شاء الله تعالى، ذكر هذه القصيدة في باب الثاء المثلثة في الثعبان، وفي تاريخ ابن خلكان في ترجمة شريح، أنه سئل عن الحجاج أكان مؤمنا؟ قال: نعم بالطاغوت، كافرا بالله تعالى. توفي شريح سنة تسع وسبعين وقيل ثمانين من الهجرة، وهو ابن مائة وعشرين سنة رحمه الله تعالى.
الخواص:
قال الجاحظ (1): كانت العرب في الجاهلية تقول: من علق عليه كعب أرنب، لم تصبه عين ولا سحر وذلك لأن الجن تهرب منها لمكان حيضها وإذا شوي الأرنب البري وأكل دماغه، نفع من الارتعاش العارض من المرض، وإذا شرب من دماغه، وزن حبتين في أوقيتين من لبن البقر، لم يشب شاربه أبدا. ومن أعجب ما في أنفحته أنك إذا طليت بها داء السرطان رأيت العجب. وإذا شربت المرأة أنفحة الأرنب الذكر ولدت ذكرا، وإذا شربت أنفحة الأنثى ولدت أنثى. وإذا علق زبله على المرأة لم تحمل ما دام عليها. قال أبقراط: لحم الأرنب حار يابس، يغسل البطن ويدر البول، وأجوده صيد الكلاب. وهو ينفع من بهظة السمن، لكنه يحدث أرقا ويولد السوداء، والأبازير الرطبة تدفع ضرره، ويوافق أصحاب الأمزجة الباردة، ودماغه يؤكل مشويا بالفلفل ينفع من الرعشة، وإنما صار يابسا لرعيه الغياض لأن كل ما يرعى الغياض فهو أيبس مما يرعى في البيوت. اهـ.
وإن سقي إنسان من دماغ الأرنب دانقا مدافا، بعد أن يلقى عليه وزن حبتي كافور، لم يلقه أحد إلا أحبه ولم تنظر إليه امرأة إلا شغفت به وطلبت معاشرته. ودم الأرنب إذا شربت منه المرأة لم تحبل أبدا، وإذا طلي به البهق والكلف أزالهما. ودماغه إذا أكلت منه المرأة، وتحملت منه، وباشرها زوجها، فإنها تحبل بإذن الله تعالى. وإذا مزج به مواضع أسنان الصبي، أسرع نباتها ودم الأرنب إذا اكتحل به منع من نبات الشعر في العين قاله القزويني في عجائب المخلوقات.
وقال مهرارس: مرارة الأرنب إذا عجنت بسمن، وديفت بلبن المرأة، واكتحل به أزال البياض من العين، وأبرأ القروح وإذا طلي بدمها البهق الأسود أزاله ولحم الأرنب إذا أطعم من يبول في فراشه نفعه إذا أدامه. وقال أرسطو: إذا شربت أنفحة الأرنب بالخل نفعت من سم الأفاعي.
وإذا شرب منها قدر باقلاة أذهب حمى الربع المتناهية. وإذا شرب منها وزن درهم أسقط الأجنة وسهل الولادة، وإن خلطت أنفحة الأرنب بخطمي، ووضعت على النصل، أخرجته وتخرج الشوكة من البدن، بإذن الله تعالى بسهولة. وزبل الأرنب إذا بخر به في الحمام، وقع الضراط على من شمه ولم يتمالك أسفله. وإذا طلي به القوابي والنمش أذهبهما. وخصية الأرنب تبرىء من السم القاتل إذا طلي موضع اللسعة بها، وشحمه إذا وضع تحت وسادة امرأة، تكلمت في نومها بفعلها.
وضرس الأرنب إذا علق على من يشتكي ضرسه سكن وجعه.
__________
(1) الجاحظ هو عمرو بن بحر بن محبوب أبو عثمان، أديب زمانه، كان معتزلي النزعة، كثير المطالعة له مصنفات بالعشرات منها كتاب الحيوان والبخلاء مات في البصرة سنة 255هـ.(2/40)
التعبير:
الأرنب في المنام امرأة حسناء، لكنها غير آلفة، فإن ذبحها فإنها زوجة ليست بباقية. وممن رأى أنه يأكل لحم أرنب مطبوخا فإنه يأتيه رزق من حيث لا يحتسب، ومن صار أرنبا أو أهديت إليه أو ابتاعها، حصل له رزق أو تزوج إن كان عزبا، أو رزق ولدا أو ظفر بغريم.
الأرنب البحري:
قال القزويني (1): هو حيوان رأسه كرأس الأرنب، وبدنه كبدن السمك. وقال الرئيس ابن سينا (2): إنه حيوان صغير صدفي وهو من ذوات السموم إذا شرب منه قتل.
الحكم:
يحرم أكله لسميته، ويستثنى هذا من قولهم: ما أكل شبهه في البر، أكل شبهه في البحر، لأنه ليس يشبهه في الشكل، وإنما هو موافق له في الإسم.
الأروية
: بضم الهمزة وإسكان الراء وكسر الواو وتشديد الياء: الأنثى من الوعول.
والجمع أراوي وبها سميت المرأة، وهي أفعولة في الأصل إلا أنهم قلبوا الواو الثانية ياء وأدغموها في التي بعدها وكسروا الأولى لتسلم الياء، وثلاث أراوي على أفاعيل. فإذا كثرت فهي الأروي بفتح الهمزة على أفعل بغير قياس وقيل الأروي غنم الجبل. وفي الحديث «أنه صلى الله عليه وسلم، أهدي له أروي وهو محرم»، وفيه أن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، لما كان يوم أحد قال: كنت أتوقل كما تتوقل الأروية فانتهيت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو في نفر من أصحابه، وهو يوحى إليه: {وَمََا مُحَمَّدٌ إِلََّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ} (3) وفي جامع الترمذي في الإيمان، عن كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف، عن أبيه عن جده رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الدين ليأرز إلى المدينة، كما تأرز الحية إلى حجرها، وليعقلن الدين من الحجاز معقل الأروية من رأس الجبل، إن الدين بدأ غريبا ويرجع غريبا، فطوبى للغرباء، الذي يصلحون ما أفسد الناس من بعدي من سنتي (4)». قوله: «ليعقلن أي ليمتنعن كما تمتنع الأروية من رؤوس الجبال.
وفي تفسير ابن أبي حاتم، عن أبي هريرة رضي الله عنه، أنه قال: «طرح يونس بن متى عليه السلام بالعراء، فأنبت الله تعالى عليه اليقطينة، وهيأله أروية وحشية ترعى في البرية، وتأتيه فتنفشخ عليه، فترويه من لبنها كل بكرة وعشية، حتى نبت لحمه». وقال ابن عطية أنعشه الله تعالى في ظل اليقطينة، بأروية تراوحه وتغاديه، وقيل: بل كان يتغذى من اليقطينة ويجد منها ألوان الطعام، وأنواع شهواته وهذا من لطف الله تعالى به ونعمته عليه وإحسانه إليه وحكى ابن الجوزي عن الحسن في قوله تعالى: وفديناه بذبح عظيم أنه ذكر من الأروي، أهبط عليه من ثبير. وفي حديث عوف أنه سمع رجلا تكلم فأسقط، فقال: «جمع بين الأروى والنعام». يريد أنه
__________
(1) القزويني: هو الإمام زكريا بن محمد بن محمود، من سلالة أنس بن مالك، مؤرخ جغرافي من القضاة، مات سنة 682هـ. من فؤلفاته عجائب المخلوقات.
(2) ابن سينا هو الحسين بن عبد الله بن سينا أبو علي، الفيلسوف الرئيس، صاحب التصانيف والمنطق والالهيات.
من مصنفاته الإنصاف في الحكمة. مات سنة 428هـ وكان مولده ونشأته في بخارى، ووفاته في همذان.
(3) سورة آل عمران: الآية 144.
(4) رواه الترمذي في الإيمان: 13والإمام أحمد: 2/ 389.(2/41)
جمع بين كلمتين متناقضتين لأن الأروى تسكن شعف الجبال، والنعام يسكن في السهولة من الأرض، وفي طبعها الحنوّ على أولادها، فإذا صيد منها شيء تبعته، ورضيت أن تكون معه في الشرك وفي طبعه البر بأبويه وذلك أنه يختلف إليهما بما يأكلانه، فإن عجزا عن الأكل مضغ لهما وأطعمهما ويقال: إن في قرنيه ثقبين يتنفس منهما فمتى سدا هلك سريعا.
وحكمها:
الحل كما سيأتي إن شاء الله تعالى في الوعل.
الأمثال:
قالوا (1): «إنما فلان كبارح الأروى». وذلك أن مأواها الجبال، فلا يكاد الناس يرونها سانحة ولا بارحة إلا في الدهر مرة، يضرب لمن يرى منه الاحسان في بعض الأحايين.
وقالو: «تكلم فلان فجمع بين الأروى والنعام»، كما تقدم. وقالوا: «ما يجمع بين الأروى والنعام»، يضرب في الشيئين المختلفين جدا أي كيف يتألف الخير والشر.
تنبيه:
روى مسلم أن سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل، أحد العشرة المشهود لهم بالجنة، رضي الله عنهم، خاصمته أروى بنت أويس إلى مروان بن الحكم وهو والي المدينة في أرض في الحيرة، وقالت: إنه قد أخذ حقي واقتطع قطعة من أرضي. فقال سعيد رضي الله عنه: كيف أظلمها وقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم (2) يقول: «من اقتطع شبرا من أرض ظلما، طوقه يوم القيامة من سبع أرضين».
ثم ترك لها الأرض. وقال: دعوها وإياها اللهم إن كانت كاذبة فأعم بصرها واجعل قبرها في بئرها.
فعميت أروى، وجاء سيل فأظهر حدود أرضها. ثم لما أعمى الله تعالى أروى، فكانت تلتمس الجدران، وتقول أصابتني دعوة سعيد (3) بن زيد. فبينما هي تمشي إذ وقعت في البئر فماتت.
وروي أنها سألت سعيدا أن يدعو لها، فقال: لا أرد على الله شيئا اعطانيه قال: وكان أهل المدينة إذا دعا بعضهم على بعض، يقولون: أعماه الله كما أعمى أروى، يريدونها. ثم صار أهل الجهل يقولون أعماه الله كما أعمى الأروى يريدون الأروى التي بالجبل يظنونها شديدة العمى والصواب الأوّل.
الخواص:
إذا أخذ قرنه وظلفه وخلطا في دهن، ومسح به الساعي الذي يمشي كثيرا بدنه وساقيه أزال عنه ضرر التعب حتى كأنه لم يمش شيئا.
الأساريع
: بفتح الهمزة، دود أحمر يكون في البقل ينسلخ فيصير فراشا قال ابن مالك قال ابن السكيت: والأصل يسروع بالفتح إلا أنه ليس في الكلام يفعول. وقال قوم: الأساريع دود
__________
(1) جمهرة الأمثال: 2/ 140.
(2) رواه الترمذي في الديات: 21، ورواه مسلم في المساقاة: 137، 139، 141، 143والبخاري في بدء الخلق: 22، ولفظه: «ومن سرق شبرا طوّقه يوم القيامة». ويروى أيضا بلفظ: «ومن أخذ شبرا من الأرض ظلما فإنه يطوقه».
(3) هو سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل العدوي القرشي، صحابي شهد المشاهد كلها، إلا بدرا توفي بالمدينة المنورة سنة 51هـ.(2/42)
حمر الرؤوس، بيض الأجساد، تكون في الرمل يشبه بها أصابع النساء. اهـ.
وبعض الناس يقول: الأساريع شحمة الأرض. والصواب أنها غيرها، كما سيأتي إن شاء الله تعالى في باب الشين المعجمة. قال في الكفاية الأساريع دود تكون في الرمل بيض طوال، يشبه بها أصابع النساء. ويقال لها بنات النقا، وذكر في أدب الكاتب نحوه وقال الأساريع دود في الرمل بيض ملس يشبه بها أصابع النساء واحدها أسروع. وذكر ابن مالك في شرحه المنتظم الموجز فيما يهمز وما لا يهمز، أن اليسروع والأسروع دود يكون في البقل ينسلخ فيصير فراشا، قال: وهذا قول ابن السكيت. وقال غيره: الأساريع واليساريع دود حمر الرؤوس، بيض الأجساد، تكون في الرمل يشبه بها أصابع النساء. اهـ. وما ذكره عن ابن السكيت ليس كذلك، فقد ذكر ابن السكيت في إصلاح المنطق أنها تكون في الرمل تنسلخ فتصير فراشة ولعله تصحف عليه الرمل بالبقل.
الحكم:
يحرم أكلها لأنها من الحشرات.
الخواص:
إذا سحق هذا الدود وضع على العصب المقطوع نفعه من ساعته منفعة عظيمة.
وقال الرازي (1) في الحاوي: إذا غسلت الأساريع، وجففت وسحقت ناعما، ونقعت في دهن السمسم، وطلي بها الذكر فإنه يغلظ.
التعبير:
اليسروع في المنام يعبر برجل لص يسرق قليلا قليلا، ويتزيا بالورع، ولا يخفى حاله ونفاقه، قال أهل التعبير: وهو دود أخضر يكون في المقاثي والكروم.
الأسفع:
الصقر، والصقور كلها سفع. والسفعة بالضم سواد مشرب بحمرة وهي في الوجه سواد في خدي المرأة. وفي الصحيح (2): «فقامت امرأة سفعاء الخدين». ويقال للحمامة سفعاء لما في عنقها من السفعة.
الاسقنقور:
قال ابن بختيشوع (3): إنه التمساح البري: لحمه حار في الدرجة الثانية. إذا ملح وشرب منه مثقال زاد في الباه، وهيج الشهوة، وسخن الكلى الباردة، ونفع من وجعها. وقال ابن زهر: هي دابة بمصر شكلها كالوزغة على عظم خلقته إذا علقت عينه على من يفزع بالليل أبرأته إذا لم يكن من خلط. وقال أرسطاطاليس، في كتاب الحيوان الكبير: إن شربه يهيج الباه، ويزيد في الإنعاظ في سائر البلاد إلا بمصر. وهو أنفس ما يهدى منها الملوك الهند، فإنهم يذبحونه بسكين من الذهب، ويحشونه من ملح مصر، ويحملونه كذلك إلى أرضهم فإذا وضعوا مثقالا من ذلك الملح على بيض أو لحم وأكل نفع في ذلك نفعا بليغا. وسيأتي إن شاء الله تعالى في التمساح
__________
(1) الرازي: هو محمد بن زكريا الرازي المتوفى سنة 311هـ.
(2) رواه مسلم في العيدين 4والنسائي في العيدين 19. والدارمي في الصلاة 224. ولفظه: «فقالت امرأة من سفلة النساء سفعاء الخدين.
(3) هو يوحنا بن بختيشوع طبيب نقل كتبا كثيرة عن اليونانية إلى السريانية، له مصنفات في الطب. مات سنة 290هـ.(2/43)
أنه يبيض في البر فما وقع من ذلك في الماء صار تمساحا، وما بقي في البر صار اسقنقورا. وسيأتي إن شاء الله في باب السين المهملة حكمه وحكم السقنقور الهندي.
الأسود السالخ:
هو نوع من الأفعوان شديد السواد، سمي بذلك لأنه يسلخ جلده كل عام، يقال أسود سالخ، ولا يقال للأنثى سالخة. وأسودان سالخ، ولا تثنى الصفة في قول الأصمعي وأبي زيد وحكى ابن زيد تثنيتها والأول أعرف. وأساود سالخة وسوالخ قاله ابن سيده.
روى أبو داود والنسائي والحاكم وصححه عن عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما (1)
قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سافر فأقبل الليل، قال: يا أرض، ربي وربك الله، أعوذ بالله من شرك، وشر ما فيك، وشر ما خلق فيك، وشر ما يدب عليك، أعوذ بالله من أسد وأسود، ومن الحيّة والعقرب، ومن ساكن البلد ومن والد وما ولد». ساكن البلد الجن، وقيل الوالد وما ولد إبليس والشياطين.
وفي الصحيحين (2): «أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بقتل الأسودين في الصلاة الحية والعقرب». وأنشد ابن هشام في كتاب التيجان:
ما بال عينك لا تنام كأنما ... كحلت أماقيها بسم الأسود ... حنقا على سبطين حلا يثربا ... أولى لهم بعقاب يوم أسود
وللإمام الشافعي رضي الله عنه من أبيات:
والشاعر المنطيق أسود سالخ ... والشّعر منه لعابه ومجاجه (3)
... وعداوة الشعراء داء معضل ... ولقد يهون على الكريم علاجه
روى (4) البيهقي في الشعب عن عبد الحميد بن محمود، قال: كنت عند ابن عباس رضي الله عنهما، فأتاه رجل فقال: أقبلنا حجاجا حتى إذا كنا في الصفاح توفي صاحب لنا، فحفرنا له فإذا أسود سالخ قد أخذ اللحد كله قال: فحفرنا له قبرا آخر فإذا أسود سالخ قد أخذ اللحد كله قال: فحفرنا له ثالثا فإذا أسود سالخ قد أخذ اللحد كله، قال: فتركناه وأتيناك نسألك ماذا تأمرنا به؟ قال: ذاك عمله الذي كان يعمله، اذهبوا فادفنوه في بعضها فوالله لو حفرتم له الأرض كلها لوجدتم ذلك قال: فألقيناه في قبر منها. فلما قضينا سفرنا أتينا امرأته فسألناها عنه، فقالت:
كان يبيع الطعام، فيأخذ قوت أهله كل يوم، ثم يخلط فيه مثله من قصب الشعير، ثم يبيعه فعذب بذلك.
__________
(1) رواه أبو داود في الجهاد: 75، وابن حنبل: 2/ 132و 3/ 124و 4/ 204.
(2) ورواه أبو داود في الصلاة: 165، والترمذي في المواقيت: 170، وغيرهما.
(3) البيتان في ديوان الشافعي: 44. مجاجة: ما يقذفه من فمه.
(4) رواه البخاري في بدء الخلق: 15بلفظ: «فوجد فيه سلخ حية».(2/44)
وروى الطبراني في معجمه الأوسط، والبيهقي أيضا في كتاب الدعوات الكبير، من حديث عكرمة، عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد الحاجة أبعد، فذهب يوما فقعد تحت شجرة فنزع خفيه، قال: ولبس أحدهما فجاء طائر فأخذ الخف الآخر فحلق به في السماء فانسل منه أسود سالخ فقال (1) صلى الله عليه وسلم: «هذه كرامة أكرمني الله بها، اللهم إني أعوذ بك من شر من يمشي على بطنه، ومن شر من يمشي على رجلين، ومن شر من يمشي على أربع» وسيأتي إن شاء الله تعالى في باب الغين المعجمة في الغراب حديث نظير هذا وهو صحيح الإسناد.
وروى أحمد في كتاب الزهد، عن سالم بن أبي الجعد قال: كان رجل من قوم صالح عليه السلام قد آذاهم فقالوا: يا نبي الله ادع الله عليه، فقال: اذهبوا فقد كفيتموه. قال: وكان يخرج كل يوم يحتطب، قال: فخرج يوما ومعه رغيفان فأكل أحدهما، وتصدق بالآخر، قال:
فاحتطب ثم جاء بحطبه سالما يصيبه شيء. فجاؤوا إلى صالح عليه السلام، وقالوا: قد جاء بحطبه سالما لم يصبه شيء. فدعاه صالح وقال: أي شيء صنعت اليوم؟ قال: خرجت ومعي قرصان فتصدقت بأحدهما وأكلت الآخر، فقال صالح: حل حطبك، فحل فإذا فيه أسود سالخ مثل الجذع، عاض على جزل من الحطب، فقال: بهذا دفع عنك يعني بالصدقة. وسيأتي إن شاء الله تعالى نظير هذا في الذئب في باب الذال المعجمة.
وروى الطبراني في معجمه الكبير، عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: «أن نفرا مروا على عيسى بن مريم عليه السلام فقال عيسى بن مريم: يموت أحد هؤلاء اليوم إن شاء الله تعالى، فمضوا ثم رجعوا عليه بالعشي ومعهم حزم الحطب، فقال: ضعوا، وقال للذي قال إنه يموت اليوم حل حطبك فحله، فإذا فيه حية سوداء. فقال: ما عملت اليوم؟ قال: ما عملت شيئا. قال: انظر ما عملت، قال: ما عملت شيئا إلا أنه كان معي في يدي فلقة من خبز مر بي مسكين فسألني فأعطيته بعضها فقال: بها دفع عنك».
الأصرمان:
الذئب والغراب. قال ابن السكيت: لأنهما انصرما من الناس، أي انقطعا والأصرمان الليل والنهار، لأن كل واحد منهما ينصرم من الآخر.
روى أحمد بإسناد صحيح عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أنه كان يقول: حدثوني عن رجل دخل الجنة ولم يصل قط؟ فإذا لم يعرفه الناس سألوه من هو؟ فيقول أصيرم بن عبد الأشهل.
قال عامر بن ثابت بن قيس فقلت لمحمود بن لبيد كيف كان شأن الأصيرم؟ قال: كان يأبى الإسلام على قومه فلما كان يوم أحد، وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أحد بدا له الإسلام فأسلم، وأخذ سيفه وقاتل حتى قتل فذكروه لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «إنه لمن أهل الجنة» رضي الله عنه.
الأصلة:
بفتح الهمزة والصاد واللام، حية كبيرة الرأس قصيرة الجسم، تثب على الفارس
__________
(1) رواه أبو داود في الجهاد: 75وابن حنبل: 2/ 171132ولفظه: «وأعوذ بك من أسد وأسود ومن الحية والعقرب».(2/45)
فتقتله. قاله ابن الأنباري. وقيل حية خبيثة لها رجل واحدة تقوم عليها ثم تدور ثم تثب والجمع أصل. وأنشد الأصمعي رحمه الله تعالى:
يا رب إن كان يزيد قد أكل ... لحم الصديق عللا بعد نهل ... فاقدر له أصلة من الأصل ... كيساء كالقرصة أو خف الجمل
وقال الجاحظ: الأعراب تقول: إنها لا تمر بشيء إلا احترق وكأنها سميت بذلك لاستهلاكها واستئصالها وفي الحديث (1) في صفة الدجال «كأن رأسه أصلة». وقيل: وجه الأصلة كوجه الإنسان وهو عظيم جدا. ويقال إنها تصير كذلك إذا مر عليها ألف سنة من العمر ومن خواصها أنها تقتل بالنظر إليها وسيأتي إن شاء الله تعالى في باب الحاء المهملة ذكر شيء من ذلك.
الأطلس:
الذئب الذي في لونه غبرة إلى السواد وكل ما كان على لونه فهو أطلس. قال الكميت (2) يمدح محمد بن سليمان الهاشمي (3):
تلقى الأمان على حياض محمد ... ثولاء مخرفة وذئب أطلس ... لا ذي تخاف ولا لهذا جرأة ... تهدي الرعية ما استقام الريس
استشهد به الجوهري على أن الرئيس يقال فيه ريس مثل قيّم.
الأطوم:
كالأنوق السلحفاة البحرية قاله الجوهري وقيل هي سمكة غليظة الجلد تشبه جلد البعير يتخذ منه الخفاف للجمالين. وقيل الأطوم القنفذ وقيل البقرة قيل إنما سميت بذلك على التشبيه بالسمكة لغلظ جلدها قاله ابن سيده.
الأطيش:
طائر قاله ابن سيده، والطيش خفة العقل. قال إمامنا الشافعي رحمه الله تعالى:
ما رأيت أفقه من أشهب لولا طيش فيه. وأشهب المذكور هو ابن عبد العزيز بن داود الفقيه المالكي المصري، ولد في السنة التي ولد فيها الشافعي وهي سنة خمسين ومائة وتوفي بعد الشافعي بثمانية عشر يوما قال ابن عبد الحكم: سمعت أشهب يدعو على الشافعي بالموت فذكر ذلك للشافعي فقال (4):
تمنى رجال أن أموت وإن أمت ... فتلك سبيل لست فيه بأوحد ... فقل للذي يبغي خلاف الذي مضى ... تهيأ لأخرى مثلها فكأن قد
قال: فمات الشافعي، فاشترى أشهب من تركته عبدا فاشتريته من تركته بعد ثلاثين يوما.
وفي مصابيح الظلم قال ابن عبد الحكم: لما حملت أم الشافعي به، رأت كأن المشتري خرج من فرجها، حتى انقض بمصر ووقع في كل بلدة منه شظية، فأوله أصحاب الرؤيا أنه يخرج منها عالم
__________
(1) رواه أحمد: 1/ 313، 240. ولفظه: «هو أعور هجان كأن رأسه أصلة».
(2) الكميت بن زيد الأسدي، من شعراء الشيعة في العصر الأموي، من أهل الكوفة. مات سنة 126هـ.
(3) هو محمد بن سليمان بن علي العباسي، أمير البصرة أيام المهدي والرشيد. مات سنة 164هـ.
(4) ديوان الشافعي: 55.(2/46)
يختص علمه بأهل مصر، ثم يتفرق في سائر البلدان. واتفق العلماء قاطبة على ثقته وورعه وأمانته وزهده، وهو أول من تكلم في أصول الفقه وهو الذي استنبطه، وكان يؤتى بالرطب، فيقول مخاطبا له: ما أطيبك وأحلاك والعلم أطيب منك وأحلى، ولا يناله. واشترى جارية، فلما كان الليل أقبل على الدرس، والجارية تنتظر اجتماعه معها، فلم يلتفت إليها، فصارت إلى النخاس وقالت: حبستموني مع مجنون، فبلغ ذلك الشافعي فقال: المجنون من عرف قدر العلم وضيعه أو توانى فيه حتى فاته. وكان الشافعي جوادا كريما مفضالا، لا يبقي على شيء ولا يدخر شيئا وكان شجاعا، ومناقبة أكثر من أن تحصى. ولد بغزة في سنة خمسين ومائة كما تقدم، وقيل إنها التي توفي فيها أبو حنيفة. وفي تهذيب الأسماء واللغات، قيل توفي سنة إحدى وخمسين وقيل في سنة ثلاث وخمسين. وقال غيره: توفي في اليوم الذي ولد فيه الشافعي لا في السنة. وقيل: ولد الشافعي بعسقلان، وقيل باليمن. قال ابن خلكان: والأصح الأول. وحمل من غزة إلى مكة وهو ابن ست سنين، ووصل إلى مصر سنة تسع وتسعين ومائة وقيل سنة إحدى ومائتين، وأقام بها إلى أن مات سنة أربع ومائتين وقبره بقرافة مصر مشهور وعاش أربعا وخمسين سنة رحمة الله عليه ورضوانه.
الأغثر:
طائر ملتبس الريش طويل العنق وهو من طير الماء قاله ابن سيده.
الأفال والأفائل:
صغار الإبل من بنات المخاض ونحوها، واحدهما أفيل والأنثى أفيلة، وسيأتي ذكره إن تكون أقوى الناس فتوكل على الله وإن أردت أن يوسع الله عليك الرزق طموما كالمطر فلازم الدوام على الطهارة الكاملة وإن أردت أن تكون آمنا من سخط الله فلا تغضب على أحد من خلق الله وإن أردت أن يستجاب دعاؤك فاجتنب الحرام وأكل الربا وأكل السحت وإن أردت أن لا يفضحك الله على رؤوس الخلائق فاحفظ فرجك ولسانك وإن أردت أن يستر الله تعالى عليك عيبك فاستر على عيوب الناس فإن الله تعالى ستار ويحب من عباده الستارين وإن أردت أن تمحي خطاياك فأكثر من الاستغفار والخشوع والخضوع والحسنات في الخلوات وإن أردت الحسنات العظام فعليك بحسن الخلق والتواضع والصبر على البلية وإن أردت السلامة من السيئات العظام فاجتنب سوء الخلق والشح المطاع وإن أردت أن يسكن عنك غضب الجبار فعليك بإخفاء الصدقة وصلة الرحم وإن أردت أن يقضي الله عنك الدين فقل ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم للأعرابي حين سأله وقال عليه الصلاة والسلام له لو كان عليك مثل الجبال دينا أداه الله عنك قل اللهم اكفني بحلالك عن حرامك واغنني بفضلك عمن سواك وفي الحديث لو كان على أحدكم جبل من ذهب دينا فدعا بذلك لقضاه الله عنه وهو اللهم فارج الكرب اللهم كاشف الهم اللهم مجيب دعوة المضطرين رحمن الدنيا والآخرة ورحيمهما أسألك أن ترحمني فارحمني رحمة تغنيني بها عمن سواك وإن أردت أن تنجو إذا وقعت في هلكة فالزم ما في الحديث إذا وقعت في ورطة فقل بسم الله الرحمن الرحيم ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم فإن الله تعالى يصرف عنك ما شاء من أنواع البلاء والورطة بفتح الواو وإسكان الراء الهلاك وإن أردت أن تأمن من قوم خفت شرهم فقل ما ورد في الحديث اللهم إنا نجعلك في نحورهم ونعوذ بك من شرورهم ومنه اللهم اكفناهم بما شئت إنك على كل شيء قدير وإن أردت أن تأمن إن خفت من سلطان فقل ما ورد في
الحديث لا إله إلا الله الحليم الكريم رب السموات السبع ورب العرش العظيم لا إله إلا أنت عز جارك وجل ثناؤك لا إله إلا أنت ويستحب أن يقول ما تقدم اللهم إنا نجعلك في نحورهم إلى آخره وفي الحديث إذا أتيت سلطانا مهابا تخاف أن يسطو عليك فقل الله أكبر الله أكبر الله أعز من خلقه جميعا الله أعز مما أخاف واحذر والحمد لله رب العالمين وإن أردت ثبات القلب على الدين فقد أسند مرفوعا أنه كان من دعائه صلى الله عليه وسلم اللهم ثبت قلبي على دينك وفي رواية يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على دينك.(2/47)
صغار الإبل من بنات المخاض ونحوها، واحدهما أفيل والأنثى أفيلة، وسيأتي ذكره إن تكون أقوى الناس فتوكل على الله وإن أردت أن يوسع الله عليك الرزق طموما كالمطر فلازم الدوام على الطهارة الكاملة وإن أردت أن تكون آمنا من سخط الله فلا تغضب على أحد من خلق الله وإن أردت أن يستجاب دعاؤك فاجتنب الحرام وأكل الربا وأكل السحت وإن أردت أن لا يفضحك الله على رؤوس الخلائق فاحفظ فرجك ولسانك وإن أردت أن يستر الله تعالى عليك عيبك فاستر على عيوب الناس فإن الله تعالى ستار ويحب من عباده الستارين وإن أردت أن تمحي خطاياك فأكثر من الاستغفار والخشوع والخضوع والحسنات في الخلوات وإن أردت الحسنات العظام فعليك بحسن الخلق والتواضع والصبر على البلية وإن أردت السلامة من السيئات العظام فاجتنب سوء الخلق والشح المطاع وإن أردت أن يسكن عنك غضب الجبار فعليك بإخفاء الصدقة وصلة الرحم وإن أردت أن يقضي الله عنك الدين فقل ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم للأعرابي حين سأله وقال عليه الصلاة والسلام له لو كان عليك مثل الجبال دينا أداه الله عنك قل اللهم اكفني بحلالك عن حرامك واغنني بفضلك عمن سواك وفي الحديث لو كان على أحدكم جبل من ذهب دينا فدعا بذلك لقضاه الله عنه وهو اللهم فارج الكرب اللهم كاشف الهم اللهم مجيب دعوة المضطرين رحمن الدنيا والآخرة ورحيمهما أسألك أن ترحمني فارحمني رحمة تغنيني بها عمن سواك وإن أردت أن تنجو إذا وقعت في هلكة فالزم ما في الحديث إذا وقعت في ورطة فقل بسم الله الرحمن الرحيم ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم فإن الله تعالى يصرف عنك ما شاء من أنواع البلاء والورطة بفتح الواو وإسكان الراء الهلاك وإن أردت أن تأمن من قوم خفت شرهم فقل ما ورد في الحديث اللهم إنا نجعلك في نحورهم ونعوذ بك من شرورهم ومنه اللهم اكفناهم بما شئت إنك على كل شيء قدير وإن أردت أن تأمن إن خفت من سلطان فقل ما ورد في
الحديث لا إله إلا الله الحليم الكريم رب السموات السبع ورب العرش العظيم لا إله إلا أنت عز جارك وجل ثناؤك لا إله إلا أنت ويستحب أن يقول ما تقدم اللهم إنا نجعلك في نحورهم إلى آخره وفي الحديث إذا أتيت سلطانا مهابا تخاف أن يسطو عليك فقل الله أكبر الله أكبر الله أعز من خلقه جميعا الله أعز مما أخاف واحذر والحمد لله رب العالمين وإن أردت ثبات القلب على الدين فقد أسند مرفوعا أنه كان من دعائه صلى الله عليه وسلم اللهم ثبت قلبي على دينك وفي رواية يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على دينك.
فائدة:
مجربة لمن دخل على سلطان يخاف شره فليقرأ الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل فانقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء واتبعوا رضوان الله والله ذو فضل عظيم وإن أردت كثرة الخير والرزق فداوم على قراءة ألم نشرح وسورة الكافرون وإن أردت الستر من الناس فداوم على قول اللهم استرني بسترك الجميل الذي سترت به نفسك فلا عين تراك وإن أردت عدم الجوع والعطش فداوم على قراءة لإيلاف قريش إيلافهم وقد جرب ذلك مرارا وصح وإن خفت على تجارتك أو مالك فاكتب سورة الشعراء وعلقها في موضع تجارتك يكثر فيه البيع والشراء ومن كتب سورة القصص وعلقها على من يخاف عليه التلف فإنها أمان له من ذلك وهو سر لطيف مجرب.
فائدة:
عن عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول من قرأ آية الكرسي دبر كل صلاة مكتوبة لم يتول قبض روحه إلا الله تعالى وعن أبي نعيم قال سمعت معروفا الكرخي يقول لما اجتمعت اليهود على قتل عيسى عليه السلام اهبط الله تعالى جبريل عليه السلام مكتوبا في باطن جناحه اللهم إني أعوذ باسمك الأحد الأعز وأدعوك اللهم باسمك الكبير المتعال الذي ملأ الأركان كلها إن تكشف عني ضر ما أمسيت وأصبحت فيه فقال ذلك عيسى فأوحى الله عزّ وجلّ إلى جبريل عليه السلام إن ارفع عبدي إلي.
فائدة:
مما جرب للصداع فصح ما روي عن الإمام الشافعي رضي الله عنه أنه قال وجد في بعض دور بني أمية درج من فضة وعليه قفل من ذهب مكتوب على ظهره شفاء من كل داء وفي داخله مكتوب هذه الكلمات بسم الله الرحمن الرحيم بسم الله وبالله ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم:
ولأن يعادي عاقلا خير له ... من أن يكون له صديق أحمق ... فاربأ بنفسك أن تصادق أحمقا ... إنّ الصديق على الصديق مصدق ... وزن الكلام إذا نطقت فإنما ... يبدي عقول ذوي العقول المنطق ... ومن الرجال إذا استوت أخلاقهم ... من يستشار إذا استشير فيطرق ... حتى يحل بكل واد قلبه ... فيرى ويعرف ما يقول فينطق ... لا ألفينّك ثاويا في غربة ... إن الغريب بكل سهم يرشق ... ما الناس إلّا عاملان فعامل ... قد مات من عطش وآخر يغرق ... والناس في طلب المعاش وإنما ... بالجد يرزق منهم من يرزق
لو يرزقون الناس حسب عقولهم ... ألقيت أكثر من ترى يتصدق ... لكنه فضل المليك عليهم ... هذا عليه موسع ومضيق ... وإذا الجنازة والعروس تلاقيا ... ورأيت دمع نوائح يترقرق ... سكت الذي تبع العروس مبهتا ... ورأيت من تبع الجنازة ينطق ... وإذا امرؤ لسعته أفعى مرة ... تركته حين يجر حبل يفرق ... بقي الذين إذا يقولوا يكذبوا ... ومضى الذين إذا يقولوا يصدقوا
ومن محاسن شعره قوله (1):(2/48)
ولأن يعادي عاقلا خير له ... من أن يكون له صديق أحمق ... فاربأ بنفسك أن تصادق أحمقا ... إنّ الصديق على الصديق مصدق ... وزن الكلام إذا نطقت فإنما ... يبدي عقول ذوي العقول المنطق ... ومن الرجال إذا استوت أخلاقهم ... من يستشار إذا استشير فيطرق ... حتى يحل بكل واد قلبه ... فيرى ويعرف ما يقول فينطق ... لا ألفينّك ثاويا في غربة ... إن الغريب بكل سهم يرشق ... ما الناس إلّا عاملان فعامل ... قد مات من عطش وآخر يغرق ... والناس في طلب المعاش وإنما ... بالجد يرزق منهم من يرزق
لو يرزقون الناس حسب عقولهم ... ألقيت أكثر من ترى يتصدق ... لكنه فضل المليك عليهم ... هذا عليه موسع ومضيق ... وإذا الجنازة والعروس تلاقيا ... ورأيت دمع نوائح يترقرق ... سكت الذي تبع العروس مبهتا ... ورأيت من تبع الجنازة ينطق ... وإذا امرؤ لسعته أفعى مرة ... تركته حين يجر حبل يفرق ... بقي الذين إذا يقولوا يكذبوا ... ومضى الذين إذا يقولوا يصدقوا
ومن محاسن شعره قوله (1):
ما يبلغ الأعداء من جاهل ... ما يبلغ الجاهل من نفسه ... والشيخ لا يترك أخلاقه ... حتى يوارى في ثرى رمسه (2)
... إذا ارعوى عاد إلى جهله ... كذا الضنى عاد إلى نكسه ... وإنّ من أدبته في الصبا ... كالعود يسقى الماء في غرسه ... حتى تراه مورقا ناضرا ... بعد الذي أبصرت من يبسه
قوله: والشيخ لا يترك أخلاقه، البيت والذي يليه، هما كانا سبب قتله وذلك أنّ المهدي اتهمه بالزندقة وأمر بإحضاره، فلما خاطبه أعجبه كلامه، فخلى عنه، فلما ولّى رده، وقال له:
ألست القائل والشيخ لا يترك أخلاقه؟ البيتين المتقدمين، قال: بلى يا أمير المؤمنين. قال: فأنت لا تترك أخلاقك، فأمر به فقتل وصلب على الجسر، وذلك سنة سبع وتسعين ومائة ومن محاسن شعره أيضا قوله (3):
إذا لم تستطع شيئا فدعه ... وجاوزه إلى ما تستطيع
وهو كقول ابن دريد:
من لم يقف عند انتهاء قدره ... تقاصرت عنه فسيحات الخطا
وصالح هذا هو صاحب الفلسفة قتله المهدي على الزندقة. كان يعظ ويقص بالبصرة وحديثه يسير، وليس بثقة. قيل: إنه رؤي في المنام، فقال إني وردت على رب لا تخفى عليه خافية، فاستقبلني برحمته وقال: قد علمت لراءتك مما قذفت به.
وقد أحسن بعض الشعراء في وصف القنديل حيث قال مشبها:
وقنديل كأنّ الضوء منه ... محيا من هويت إذا تجلّى ... أشار إلى الدجا بلسان أفعى ... فشمر ذيله فرقا وولّى
والأفعوان هو الشجاع الأسود يواثب الإنسان وكنيته أبو حيان وأبو يحيى لأنه يعيش ألف سنة وما أحسن قول بعضهم:
__________
(1) الشعر لصالح بن عبد القدوس، راجع العقد الفريد: 2/ 436.
(2) الرمس: القبر.
(3) العقد الفريد: 5/ 480.(2/49)
صرمت حبالك بعد وصلك زينب ... والدهر فيه تغير وتقلّب ... نشرت ذوائبها التي تزهو بها ... سودا ورأسك كالثّغامة أشيب (1)
... واستنفرت لّما رأتك وطالما ... كانت تحن إلى لقاك وترغب ... وكذاك وصل الغانيات فإنه ... آل ببلقعة وبرق خلّب (2)
... فدع الصبا فلقد عداك زمانه ... وازهد فعمرك مر منه الأطيب ... ذهب الشباب فما له من عودة ... وأتى المشيب فأين منه المهرب ... دع عنك ما قد كان في زمن الصبا ... واذكر ذنوبك وابكها يا مذنب ... واذكر مناقشة الحساب فإنه ... لا بد يحصي ما جنيت ويكتب ... لم ينسه الملكان حين نسيته ... بل أثبتاه وأنت لاه تلعب ... والروح فيك وديعة أودعتها ... ستردها بالرغم منك وتسلب ... وغرور دنياك التي تسعى لها ... دار حقيقتها متاع يذهب ... والليل فاعلم والنهار كلاهما ... أنفاسنا فيها تعد وتحسب ... وجميع ما خلفته وجمعته ... حقا يقينا بعد موتك ينهب ... تبا لدار لا يدوم نعيمها ... ومشيدها عما قليل يخرب ... فاسمع هديت نصيحة أولاكها ... برّ نصوح للأمور مجرب ... صحب الزمان وأهله مستبصرا ... ورأى الأمور بما تؤوب وتعقب ... لا تأمن الدهر الخؤون فإنه ... ما زال قدما للرجال يؤدب ... وعواقب الأيام في غصاتها ... مضض يذل له الأعز الأنجب ... فعليك تقوى الله فالزمها تفز ... إن التقي هو البهي الأهيب ... واعمل بطاعته تنل منه الرضا ... إن المطيع له لديه مقرب ... واقنع ففي بعض القناعة راحة ... واليأس مما فات فهو المطلب ... فإذا طمعت كسيت ثوب مذلة ... فلقد كسي ثوب المذلة أشعب ... وتوق من غدر النساء خيانة ... فجميعهن مكايد لك تنصب ... لا تأمن الأنثى حياتك إنها ... كالأفعوان يراع منه الأنيب (3)
... لا تأمن الأنثى زمانك كله ... يوما ولو حلفت يمينا تكذب ... تغري بلين حديثها وكلامها ... وإذا سطت فهي الصقيل الأشطب (4)
... وابدأ عدوّك بالتحية ولتكن ... منه زمانك خائفا تترقب ... واحذره إن لاقيته متبسما ... فالليث يبدو نابه إذ يغضب
__________
(1) الثّغامة: السحابة.
(2) الغانيات: النساء الحسناوات. آل: سراب. برق خلب: كاذب لا مطر فيه.
(3) أنيب: جمع ناب.
(4) الصقيل الأشطب: السيف القاطع.(2/50)
إن العدوّ وإن تقادم عهده ... فالحقد باق في الصدور مغيب ... وإذا الصديق لقيته متملقا ... فهو العدو وحقه يتجنب ... لا خير في ود امرىء متملق ... حلو اللسان وقلبه يتلهب ... يلقاك يحلف أنه بك واثق ... وإذا توارى عنك فهو العقرب ... يعطيك من طرف اللسان حلاوة ... ويروغ منك كما يروغ الثعلب ... وصل الكرام وإن رموك بجفوة ... فالصفح عنهم بالتجاوز أصوب ... واختر قرينك واصطفيه تفاخرا ... إن القرين إلى المقارن ينسب ... إن الغني من الرجال مكرم ... وتراه يرجى ما لديه ويرهب ... ويبش بالترحيب عند قدومه ... ويقام عند سلامه ويقرب ... والفقر شين للرجال فإنه ... حقا يهون به الشريف الأنسب (1)
... واخفض جناحك للأقارب كلهم ... بتذلل واسمح لهم إن أذنبوا ... ودع الكذوب فلا يكن لك صاحبا ... إن الكذوب يشين حرا يصحب ... وزن الكلام إذا نطقت ولا تكن ... ثرثارة في كل ناد تخطب ... واحفظ لسانك واحترز من لفظه ... فالمرء يسلم باللبان ويعطب (2)
... والسر فاكتمه ولا تنطق به ... إن الزجاجة كسرها لا يشعب ... وكذاك سر المرء إن لم يطوه ... نشرته ألسنة تزيد وتكذب ... لا تحرصن فالحرص ليس بزائد ... في الرزق بل يشقي الحريص ويتعب ... ويظل ملهوفا يروم تحيلا ... والرزق ليس بحيلة يستجلب ... كم عاجز في الناس يأتي رزقه ... رغدا ويحرم كيس ويخيب ... وارع الأمانة والخيانة فاجتنب ... واعدل ولا تظلم يطب لك مكسب ... وإذا أصابك نكبة فاصبر لها ... من ذا رأيت مسلما لا ينكب ... وإذا رميت من الزمان بريبة ... أو نالك الأمر الأشق الأصعب ... فاضرع لربك إنه أدنى لمن ... يدعوه من حبل الوريد وأقرب ... كن ما استطعت عن الأنام بمعزل ... إن الكثير من الورى لا يصحب ... واحذر مصاحبة اللئيم فإنه ... يعدي كما يعدي الصحيح الأجرب ... واحذر من المظلوم سهما صائبا ... واعلم بأن دعاءه لا يحجب ... وإذا رأيت الرزق عز ببلدة ... وخشيت فيها أن يضيق المذهب ... فارحل فأرض الله واسعة الفضا ... طولا وعرضا شرقها والمغرب ... فلقد نصحتك إن قبلت نصيحتي ... فالنصح أغلى ما يباع ويوهب
تتمة: ذكر الإمام أبو الفرج بن الجوزي، في الأذكياء، وغيره، قال: لما حضرت نزار بن
__________
(1) شين: عيب.
(2) اللبان: الرضاع.(2/51)
معد (1) الوفاة، قسم ماله بين بنيه، وهم أربعة: مضر وربيعة وأياد وأنمار، وقال يا بني هذه القبة وهي من أدم حمراء وما أشبهها من المال المضر، وهذا الخباء الأسود وما أشبهه من المال لربيعة، وهذه الخادم وما أشبهها من المال لإياد، وهذه البدرة (2) والمجلس لأنمار يجلس فيه. ثم قال لهم:
إن أشكل عليكم الأمر في ذلك واختلفتم في القسمة، فعليكم بالأفعى بن الأفعى الجرهمي. وإنه لما مات نزار توجهوا إلى الأفعى، وكان ملك نجران فبينما هم يسيرون إذ رأى مضر كلا قد رعي، فقال: إن البعير الذي رعى هذا أعور، فقال ربيعة: وهو أزور، وقال أياد: وهو أبتر، وقال أنمار:
وهو شرود فلم يسيروا إلا قليلا حتى لقيهم رجل، فسألهم عن البعير، فقال مضر: أهو أعور؟
قال: نعم، قال ربيعة: أهو أزور؟ قال نعم. قال إياد: أهو أبتر: قال: نعم. قال أنمار: أهو شرود؟ قال: نعم، هذه صفة بعيري دلوني عليه فحلفوا له أنهم ما رأوه، فلزمهم وقال: كيف أصدقكم وأنتم تصفون بعيري بصفته؟! ثم سار معهم، حتى قدموا نجران ونزلوا بالأفعى الجرهمي. فنادى الشيخ صاحب البعير: هؤلاء أصابوا بعيري فإنهم وصفوا لي صفته، ثم قالوا: لم نره أيها الملك، فقال الأفعى: كيف وصفتموه ولم تروه؟ فقال مضر: رأيته رعى جانبا وترك جانبا، فعلمت أنه أعور. وقال ربيعة: رأيت إحدى يديه ثابتة الأثر، فعرفت أنه أفسدها بشدة وطئه لازوراره. وقال إياد: رأيت بعره مجتمعا، فعلمت أنه أبتر، ولو كان ذيالا لمصع به. وقال أنمار:
رأيته رعى الملتف نبته، ثم جاوزه إلى مكان آخر أرق منه، فعلمت أنه شرود. فقال الأفعى للشيخ: ليسوا بأصحاب بعيرك، فاطلبه. ثم سألهم من هم؟ فأخبروه، فرحب بهم. ثم قال أتحتاجون إلي وأنتم كما أرى؟ فدعا لهم بطعام وشراب فأكلوا وشربوا، فقال مضر: لم أر كاليوم خمرا أجود لولا أنها على مقبرة. وقال ربيعة: لم أر كاليوم لحما أجود لولا أنه ربي بلبن كلبة! وقال إياد: لم أر كاليوم رجلا أثرى منه لولا أنه ليس بابن أبيه الذي يدعى إليه! وقال أنمار لم أر كاليوم خبزا أجود لولا أن التي عجنته حائض! وكان الأفعى قد وكل بهم من يستمع كلامهم، فأعلمه بما سمع منهم فطلب صاحب شرابه، وقال له: الخمرة التي جئت بها ما قصتها؟ قال هي من كرمة غرستها على قبر أبيك، لم يكن عندنا شراب أطيب من شرابها. وقال للراعي اللحم ما أمره؟ قال: من لحم شاة أرضعناها بلبن كلبة، ولم يكن في الغنم أسمن منها فدخل داره، وسأل الأمة التي عجنت العجين؟ فأخبرته أنها حائض. ثم أتى أمه وسأل منها عن أبيه؟ فأخبرته أنها كانت تحت ملك لا يولد له، فكرهت أن يذهب الملك، فأمكنت رجلا نزل بهم من نفسها فوطئها، فأتت به. فعجب من أمرهم، ودس عليهم من سألهم عما قالوا؟ فقال مضر: إنما علمت أنها من كرمة غرست على قبر، لأن الخمر إذا شربت أزالت الهم، وهذه بخلاف ذلك، لأنا لما شربناها دخل علينا الغم. وقال ربيعة: إنما علمت أن اللحم لحم شاة رضعت من لبن كلبة، لأن لحم الضأن وسائر اللحوم، شحمها فوق اللحم إلا الكلاب، فإنها عكس ذلك، فرأيته موافقا له فعلمت أنه لحم شاة رضعت من كلبة،
__________
(1) نزار بن معد بن عدنان، من أجداد العرب في الجاهلية. كنيته أبو إياد.
(2) البدرة: الكيس فيه مال.(2/52)
فاكتسب اللحم منها هذه الخاصية. وقال إياد: إنما علمت أن الملك ليس بابن أبيه الذي يدعى إليه لأنه صنع لنا طعاما ولم يأكل معنا، فعرفت ذلك من طباعه، لأن أباه لم يكن كذلك وقال أنمار: إنما علمت أن الخبز عجنته حائض، لأن الخبز إذا فت انتفش في الطعام، وهو بخلاف ذلك فعلمت أنه عجين حائض.
فأخبر الرجل الأفعى بذلك، فقال: ما هؤلاء إلا شياطين، ثم أتاهم فقال لهم: قصوا قصتكم، فقصوا عليه ما أوصاهم به أبوهم، وما كان من اختلافهم. فقال: ما أشبه القبة الحمراء من مال فهو ملضر، فصارت له الدنانير والإبل وهي حمر فسميت مضر الحمراء. ثم قال وما أشبه الخباء الأسود من دابة ومال، فهو لربيعة فصارت له الخيل وهي دهم فسميت ربيعة الفرس. ثم قال: وما أشبه الخادم، وكانت شمطاء، من مال، فهو لإياد، فصارت له الماشية البلق (1) من الخيل وغيرها وقضى لأنمار بالدراهم والأرض. فساروا من عنده على ذلك.
وسيأتي، إن شاء الله تعالى، في باب الكاف في الكلام على الكلب، ما نقله السهيلي من أن ربيعة ومضر كانا مؤمنين.
وفي وفيات الأعيان في ترجمة ابن التلميذ (2) شيخ النصارى والأطباء، أنه كان بينه وبين أوحد الزمان (3) هبة الله الحكيم المشهور تنافس، وكان يهوديا فأسلم في آخر عمره، وأصابه الجذام، فعالج نفسه بتسليط الأفاعي على جسده بعد أن جوّعها، فبالغت في نهشه، فبرىء من الجذام وعمي فعمل (4) فيه ابن التلميذ شعرا:
لنا صديق يهودي حماقته ... إذا تكلم تبدو فيه من فيه ... يتيه والكلب أعلى منه منزلة ... كأنه بعد لم يخرج من التيه
وكان ابن التلميذ متواضعا وأوحد الزمان متكبرا، فعمل فيهما البديع (5) الاسطرلابي شعرا:
أبو الحسن الطبيب ومقتفيه ... أبو البركات في طرفي نقيض ... فهذا بالتواضع في الثريا ... وهذا بالتكبر في الحضيض
وقد ألغز أبو الحسن بن التلميذ في الميزان وأجاد (6):
__________
(1) الماشية البلق: فيها سواد وبياض.
(2) ابن التلميذ هو هبة الله بن صاعد، أبو الحسن، حكيم طبيب وأديب مترسل وله شعر. عاش في بغداد واتصل بالخلفاء العباسيين، وكان نصرانيا، وله مؤلفات كثيرة في الطب وغيره. توفي سنة 560هـ.
(3) أوحد الزمان هو هبة الله بن علي بن ملكا البلدي، أبو البركات، طبيب بغدادي، كان يهوديا وأسلم في أواخر حياته وعاش في خدمة المستنجد بالله العباسي. مات في همذان سنة 560هـ. وترك مؤلفات كثيرة متنوعة.
(4) وفيات الأعيان: 6/ 74.
(5) هو هبة الله بن الحسين بن يوسف الاسطرلابي، أبو القاسم، المعروف بالبديع فيلسوف من علماء الأطباء والفلكيين، من أهل بغداد، له شعر. مات سنة 534هـ. والشعر في وفيات الأعيان: 6/ 75.
(6) وفيات الأعيان: 6/ 69.(2/53)
ما واحد مختلف الأسماء ... يعدل في الأرض وفي السماء ... يحكم بالقسط بلا رياء ... أعمى يرى الإرشاد كل راء ... أخرس لا من علة وداء ... يغني عن التصريح بالإيماء ... يجيب إن ناداه ذو امتراء ... بالرفع والخفض عن النداء
يفصح إن علق في الهواء
وقوله مختلف الأسماء يعني ميزان الشمس للأسطرلاب، وسائر آلات الرصد، وهو معنى قوله يعدل في الأرض وفي السماء.
وميزان الكلام النحو، وميزان الشعر العروض، وميزان المعاني المنطق، وهذه الميزان وغير ذلك. والأسطرلاب بفتح الهمزة وإسكان السين وضم الطاء ومعناه ميزان الشمس. لأن أسطر اسم للميزان، ولاب اسم للشمس بلسان اليونان، وأول من وضعه بطليموس بفتح الباء واللام وإسكان الطاء والياء وضم الميم وله في وضعه قصة عجيبة، تركناها لطولها.
وكان ابن التلميذ قد جمع أنواعا من العلوم، حتى كان يتعجب من أمره كيف حرم الإسلام، مع كمال فهمه وغزارة عقله وعلمه، وهذا سر قوله تعالى: {مَنْ يُضْلِلِ اللََّهُ فَلََا هََادِيَ لَهُ} (1) نسأل الله الوفاة على التوحيد آمين. توفي ابن التلميذ في صفر سنة ستين وخمسمائة.
الخواص:
دمها يكتحل به يجلو البصر، وقلبها يجفف ويشد على الإنسان، فلا يؤثر فيه السحر وإذا علق ضرس الأفعى الأيسر، على من يشتكي ضرسه، نفعه وإن علق على فخذ امرأة لم تحبل ما دام عليها. وقال القزويني، وابن زهر، وابن بختيشوع: إن قلب الأفعى، إذا علق على من به حمى الربع أبرأه. وشحمها ينفع من لسع سائر الهوام دلكا. وإن نتف الشعر من مكان، وطلي ذلك المكان بشحمها، منعه من النبات وإذا أمسك إنسان نوشادرا في فمه، حتى يذوب ثم بصق في فم الحية والأفعى ماتا من وقتهما. وسلخ الأفعى إذا طبخ بالخل، وتمضمض به نفع من وجع الأسنان والأضراس. وإذا سحق بالتراب، واكتحل به نفع من ظلمة البصر. وشحمها ينفع البواسير وبياض العين طلاء وكحلا. ومرارتها سم ساعة. وقال أبقراط: من أكل لحم الأفعى، أمن من الأمراض الصعبة.
حكي: عن عمرو بن يحيى العلوي أنه قال: كنا في طريق مكة فأصاب رجلا منا استسقاء، فاتفق أن العرب سرقوا قطارا منا فيه ذلك الرجل العليل، فلما رجعنا إلى الكوفة، وجدناه معافى، فسألناه عن حاله فقال: إن الأعراب لما انتهوا بي إلى مساكنهم، وهي على فراسخ، طرحوني في أواخر بيوتهم، فكنت أتمنى الموت، إلى أن رأيتهم يوما قد أخرجوا أفاعي اصطادوها، فقطعوا رؤوسها وأذنابها وشووها فقلت في نفسي: هؤلاء اعتادوا أكلها فلا تضرهم فلعلي إن أنا أكلت منها مت واسترحت، فاستطعمتهم فرمى إلي رجل منهم واحدة، فأكلتها فنمت نوما ثقيلا ثم استيقظت وقد عرقت عرقا شديدا واندفعت طبيعتي أكثر من مائة مرة، فلما أصبحت، وجدت
__________
(1) سورة الأعراف: الآية 186.(2/54)
بطني قد ضمر فطلبت منهم مأكولا فأكلت، وأقمت عندهم إلى أن وثقت من نفسي بالشفاء ثم أخذت الطريق مع بعضهم وأتيت الكوفة.
الأقهبان:
الفيل والجاموس قال رؤبة (1) يصف نفسه بالشدة:
ليث يدق الأسد الهموسا ... والأقهبين الفيل والجاموسا (2)
الأملول:
دويبة فتكون في الرمل تشبه القطاة قاله ابن سيده.
الإنس:
البشر الواحد انسي وأنسي أيضا بالتحريك، والجمع أناسي، وإن شئت جعلته إنسانا، ثم جمعته على أناسي فتكون الياء عوضا عن النون. قال (3) تعالى: {وَأَنََاسِيَّ كَثِيراً}
وكذلك الأناسية مثل الصيارفة والصياقلة، ويقال للمرأة أيضا إنسان ولا يقال إنسانة والعامة تقوله قال الجوهري وأنشدوا على ذلك:
إنسانة فتانة ... بدر الدجى منها خجل ... إذا زنت عيني بها ... فبالدموع تغتسل
الإنسان:
نوع العالم، والجمع: الناس. قال الجوهري وتقدير إنسان على فعلان، وإنما زيد في تصغيره ياء. وقيل أنيسيان كما زيد في تصغير رجل، فقيل: رويجل. وقال قوم: أصله إنسيان على وزن افعلان، فحذفت الياء تخفيفا لكثرة ما يجري على الألسنة، وإذا صغروها ردوها لأن التصغير لا يكبر واستدلوا عليه بقول ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: إنه إنما سمي إنسانا لأنه عهد إليه فنسي والأناس لغة في الناس، وهو الأصل فخفف، قال (4) تعالى: {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسََانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ}، وهو اعتداله، وتسوية أعضائه، لأنه خلق كل شيء منكبا على وجهه، وخلقه سويا وله لسان ذلق، ينطق به ويد وأصابع يقبض بها، مزينا بالعقل مؤدبا بالأمر، مهذبا بالتمييز، يتناول مأكوله ومشروبه بيده.
وروى الطبراني في معجمه الأوسط، بإسناد صحيح، عن أبي مزينة الدارمي، وكانت له صحبة، قال: كان الرجلان من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، إذا التقيا لم يفترقا حتى يقرأ أحدهما على الآخر: {وَالْعَصْرِ إِنَّ الْإِنْسََانَ لَفِي خُسْرٍ} (5).
فائدة:
قال ابن عطية: من الدليل على أن القرآن غير مخلوق، أن الله تعالى ذكر القرآن في كتابه العزيز في أربعة وخمسين موضعا، ما فيها موضع صرح فيه بلفظ الخلق، ولا أشار إليه، وذكر الإنسان على الثلث من ذلك في ثمانية عشر موضعا، كلها نصّت على خلقه، وقد افترق ذكرهما على هذا النحو، في قوله (6) تعالى: {الرَّحْمََنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ خَلَقَ الْإِنْسََانَ}. قال القاضي
__________
(1) رؤبة بن عبد الله العجّاج بن رؤبة التميمي السعدي، أبو الجحّاف، راجز من الفصحاء من مخضرمي الدولتين الأموية والعباسية، أكثر مقامه في البصرة. مات سنة 145هـ.
(2) ديوانه: 69.
(3) سورة الفرقان: الآية 49.
(4) سورة التين: الآية 4.
(5) سورة العصر: الآية 2.
(6) سورة الرحمن: الآية 1، 2.(2/55)
أبو بكر بن العربي المالكي الإمام العلامة: ليس لله تعالى خلق أحسن من الإنسان، فإن الله تعالى خلقه حيا عالما قادرا متكلما سميعا بصيرا مدبرا حكيما، وهذه صفات الرب جل وعلا وعنها وقع البيان بقوله صلى الله عليه وسلم: «إن الله تعالى خلق آدم على صورته يعني (1) على صفاته، التي قدمنا ذكرها.
قلت: وهنا مجال رحب لأصحاب الكلام في أصول الدين أضربنا عنه، إذ ليس هو من غرضنا في هذا الكتاب.
وروى أبو بكر المتقدم ذكره، بإسناده أن موسى بن عيسى (2) الهاشمي، كان يحب زوجته حبا شديدا فقال لها يوما: أنت طالق ثلاثا، إن لم تكوني أحسن من القمر، فاحتجبت عنه، وقالت: طلقت. فبات بليلة عظيمة، فلما أصبح أتى المنصور وأخبره بذلك، فاستحضر الفقهاء، وسألهم عن ذلك؟ فأجاب كل منهم بالطلاق، إلا واحدا منهم، فقال: لا تطلق لقوله تعالى (3):
{لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسََانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ}. فقال المنصور: الأمر كما ذكرت، ثم أرسل إلى زوجته بذلك. وهذا الجواب ينقل عن الإمام الشافعي رضي الله تعالى عنه، وعندي في قوله: موسى بن عيسى نظر، والذي أظنه أنه عيسى بن موسى فإنه كان ولي عهد المنصور، ثم خلعه من ولاية العهد لولده المهدي، وقد تقدم أن الشافعي رضي الله تعالى عنه، ولد في سنة خمسين ومائة، والمنصور كانت وفاته على ما ذكره ابن خلكان وغيره في سنة ثمان وخمسين ومائة، فكيف يتصور أن يكون الشافعي المفتي في هذه الواقعة؟ فليتأمل ذلك.
قلت: وقد أذكرتني هذه الحكاية، ما ذكره الزمخشري، عند قوله (4) تعالى: {وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسََاءِ} أن عمران بن حطان (5) الخارجي كان شديد السواد، وكانت امرأته من أجمل النساء، فأطالت نظرها في وجهه يوما وقالت: الحمد لله فقال: ما لك؟ فقالت: حمدت الله تعالى على أني وإياك في الجنة. قال: كيف؟ قالت: لأنك رزقت مثلي فشكرت، ورزقت مثلك فصبرت وقد وعد الله عباده الصابرين والشاكرين الجنة. وذكر (6) ابن الجوزي في الأذكياء وغيره أن عمران بن حطان هذا كان أحد الخوارج، وهو القائل يمدح عبد الرحمن بن ملجم لعنهما الله على قتل علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه:
يا ضربة من تقى ما أراد بها ... إلا ليبلغ من ذي العرش رضوانا ... إني لأذكره يوما فأحسبه ... أوفى البرية عند الله ميزانا
__________
(1) رواه ابن حنبل: 3/ 244، 251، 315، 323، 434، 463. ورواه البخاري في الاستئذان: 1. ومسلم في البر: 115والجنة: 28.
(2) هو موسى بن عيسى بن محمد العباسي الهاشمي من الولاة، وكان جوادا عاقلا، مات سنة 183هـ.
(3) سورة التين: الآية 4.
(4) سورة النساء: الآية 127.
(5) هو عمران بن حطان بن ظبيان السدوسي، من رؤوس الصّفرية من الخوارج خطيب وشاعر. مات سنة 84هـ.
(6) الأذكياء: 210.(2/56)
أكرم بقوم بطون الأرض أقبرهم ... لم يخلطوا دينهم بغيا وعدوانا
فبلغت القاضي أبا الطيب الطبري (1) هذه الأبيات فقال مجيبا له:
إني لأبرأ مما أنت قائله ... في ابن ملجم الملعون بهتانا ... إني لأذكره يوما فألعنه ... دينا وألعن عمران بن حطانا ... عليك ثم عليه الدهر متصلا ... لعائن الله إسرارا وإعلانا ... فأنتم من كلاب النار جاء لنا ... نص الشريعة برها وتبيانا (2)
أشار أبو الطيب إلى قوله صلى الله عليه وسلم «الخوارج كلاب (3) النار».
عجيبة:
رأيت في ذيل تاريخ بغداد لابن النجار، في ترجمة علي بن نصر الفقيه ابن أحمد المالكي، والد القاضي عبد الوهاب، وكان ثقة عدلا قال: زوجت أيام عضد الدولة ابن بويه، بعض غلمانه الأتراك صبية في جوارنا، وكان لها ولوالدتها أنس بدارنا، وكانت من الموصوفات بالستر والعفاف، ومضى على ذلك سنتان فحضر إلي الغلام التركي، وقال: يا سيدي هذه المرأة التي زوجتني بها قد ولدت مني إبنا، ولا أشكو شيئا من أمرها، ولا أنكره، غير أنها ما أرتني ولدي منذ ولدته وكلما طالبتها به دافعتني عنه، وأريد أن تستدعيها وتسألها عن ذلك، قال: فاستدعيت والدتها فحضرت وخاطبتها من وراء الستر، على ما قاله زوج ابنتها فأسرّت إلي وقالت: يا سيدي صدق فيما حكاه، وإنما دافعناه عن هذا لأنا قد بلينا ببلية قبيحة، وذلك أن زوجته ولدت منه ولدا أبلق من رأسه إلى سرته أبيض، وبقية بدنه أسود! قال فسمع التركي قولها أبلق فصاح ابني ابني! وهكذا كان جدي ببلاد الترك وقد رضيت ففرحت المرأة بقوله وانصرفت وأظهرت له الولد.
وافتتح ابن بختيشوع ومعناه عبد المسيح كتابه في الحيوان، بالإنسان وقال: إنه أعدل الحيوان مزاجا، وأكمله أفعالا وألطفه حسا، وأنفذه رأيا، فهو كالملك الملط القاهر لسائر الخليقة، والآمر لها، وذلك بما وهبه الله تعالى له من العقل، الذي به يتميز على كل الحيوان البهيمي، فهو بالحقيقة ملك العالم ولذلك سماه قوم من الأقدمين العالم الأصغر.
فائدة:
نقل الشيخ شهاب الدين أحمد البوني رحمه الله في كتابه المسمى بسر الأسرار عن عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما، أنه قال: من كانت له حاجة فليصم الأربعاء والخميس والجمعة، فإذا كان يوم الجمعة تطهر وراح إلى الجمعة وقال: اللهم إني أسألك باسمك بسم الله الرحمن الرحيم، الذي لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة، هو الرحمن الرحيم، وأسألك باسمك بسم الله الرحمن الرحيم الذي لا إله إلا هو الحي القيوم، لا تأخذه سنة ولا نوم الذي ملأت عظمته السموات والأرض، وأسألك باسمك بسم الله الرحمن الرحيم الذي لا إله إلا هو عنت له
__________
(1) الطبري: طاهر بن عبد الله بن طاهر الطبري، أبو الطيّب، قاض من أعيان الشافعية، عاش ومات في بغداد سنة 450هـ.
(2) الأبيات في الأذكياء: 210. وفي البيت الأخير: «جاء به بيانا وبرهانا».
(3) رواه ابن ماجه مقدمة: 12، 50وابن حنبل: 4/ 35، 382.(2/57)
الوجوه، وخشعت له الأبصار، ووجلت القلوب من خشيته، أن تصلي على محمد وعلى آل محمد وأن تعطيني مسألتي وتقضي حاجتي وتسميها برحمتك، يا أرحم الراحمين. وهو سر لطيف مجرب.
وقال: من كتب: محمد رسول الله، أحمد رسول الله خمسا وثلاثين مرة يوم الجمعة، بعد صلاة الجمعة، على طهارة كاملة وحملها معه، رزقه الله تعالى القوة على الطاعة، ومعونة على البركة، وكفاه همزات الشياطين. وإن هو استدام النظر إلى تلك البطاقة كل يوم عند طلوع الشمس، وهو يصلي على محمد صلى الله عليه وسلم، كثرت رؤيته للنبي صلى الله عليه وسلم. وهو سر لطيف مجرب.
وروى الإمام أحمد بن حنبل رضي الله تعالى عنه، أنه رأى رب العزة في المنام تسعا وتسعين مرة، فقال: إن رأيته تمام المائة لأسألنه، فرآه تمام المائة فسأله وقال: يا رب بماذا ينجو العباد يوم القيامة؟ فقال له: من قال كل يوم، بكرة وعشيا، ثلاث مرات سبحان الأبدي الأبد، سبحان الواحد الأحد، سبحان الفرد الصمد، سبحان من رفع السماء بغير عمد، سبحان من بسط الأرض على ماء جمد، سبحانه لم يتخذ صاحبة ولا ولدا، سبحانه لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد.
وقال الإمام أحمد رضي الله تعالى عنه، من قال كل يوم، بين صلاة الفجر والصبح، أربعين مرة يا حي يا قيوم، يا بديع السموات والأرض، يا ذا الجلال والإكرام، يا ألله لا إله إلا أنت، أسألك أن تحيي قلبي بنور معرفتك، يا أرحم الراحمين. أحيا الله قلبه يوم تموت القلوب.
فائدة أخرى
: في كتاب البستان عن ابن عمر رضي الله عنهما، أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
«من أحب أن يحفظ الله عليه الإيمان، حتى يلقاه يوم القيامة، فليصل كلّ ليلة بعد سنّة المغرب، قيل أن يتكلم، ركعتين يقرأ في كل ركعة فاتحة الكتاب مرة، وقل أعوذ برب الفلق مرة وقل أعوذ برب الناس مرة، ويسلم منهما، فإن الله تعالى يحفظ عليه الإيمان، حتى يوافي ربه يوم القيامة».
قال الراوي وهذه فائدة عظيمة غنيمة.
وذكر النسفي هذا الحديث بسند طويل وزاد فيه: {إِنََّا أَنْزَلْنََاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} [1] قبل الإخلاص، ويسبح خمس عشرة مرة بعد السلام، ويقول عقب التسبيح: اللهم أنت العالم ما أردت بهاتين الركعتين، اللهم اجعلهما لي ذخرا يوم لقائك، اللهم احفظ بهما ديني، في حياتي وعند مماتي، وبعد وفاتي، آمنه الله سلب الإيمان. وهذه فائدة عظيمة من أعظم المهمات. وسئل بعض الحكماء وذوي الفصاحة من العلماء، أي الخصال من الإنسان خير؟ قال: الدين قال: فإذا كانت اثنتين؟ قال: الدين والمال. قال فإذا كانت ثلاثا؟ قال: الدين والمال والحياء. قال: فإذا كانت أربعا؟ قال: الدين والمال والحياء وحسن الخلق. قال: فإذا كانت خمسا؟ قال: الدين والمال والحياء وحسن الخلق والسخاء. فمن اجتمع فيه هذه الخصال الخمس فهو تقي نقي لله ولي، ومن
__________
(1) سورة القدر: الآية 1.(2/58)
الشيطان بري وقال: المؤمن شريف ظريف، لطيف لا لعان ولا نمام، ولا مغتاب ولا قتات، ولا حسود ولا حقود، ولا بخيل ولا مختال، يطلب من الخيرات أعلاها، ومن الأخلاق أسناها، إن سلك مع أهل الآخرة، كان أورعهم، غضيض الطرف سخي الكف، لا يرد سائلا ولا يبخل بنائل، متواصل الأحزان، مترادف الإحسان، يزن كلامه ويحرس لسانه، ويحسن عمله، ويكثر في الحق أمله، متأسف على ما فاته من تضييع أوقاته، كأنه ناظر إلى ربّه مراقب لما خلق له لا يرد الحق على عدوّه، ويبطل الباطل من صديقه، كثير المعونة قليل المؤونة، يعطف على أخيه عند عسرته لما مضى من قديم صحبته فهذه صفات المؤمنين، الخالصين الموحدين لرب العالمين.
وكان رجل من عباد الله الصالحين الموحدين يصحب إبراهيم (1) بن أدهم رضي الله تعالى عنه، فقال له: علمني اسم الله الأعظم الذي إذا دعي به أجاب، وإذا سئل به أعطى فقال: قل هذه الكلمات صباحا ومساء فإنه ما دعا بهن خائف، إلا أمن ولا سائل إلا أعطاه الله مسألته وهي هذه الكلمات: يا من له وجه لا يبلى ونور لا يطفى، واسم لا ينسى، وباب لا يغلق، وستر لا يهتك، وملك لا يفنى، أسألك وأتوسل إليك بجاه محمد صلى الله عليه وسلم أن تقضي حاجتي وتعطيني مسألتي.
وقال بعض العلماء: اسم الله الأعظم الذي إذا دعي به أجاب، وإذا سئل به أعطى هو لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين، اللهم إني أسألك بأني أشهد أنك أنت الله الأحد، اللهم إني أسألك بأن لك الحمد، لا إله إلا أنت، الحنّان المنّان، بديع السموات والأرض، يا ذا الجلال والإكرام يا حي يا قيوم.
وسئل الإمام النووي رحمه الله تعالى، عن اسم الله الأعظم ما هو، وفي أي سورة هو؟
فأجاب رضي الله تعالى عنه: فيه أحاديث كثيرة ففي سنن ابن ماجه، وغيره عن أبي أمامة رضي الله تعالى عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «في ثلاث سور في البقرة وآل عمران وطه». قال بعض الأئمة المتقدمين: هو الحي القيوم، لأنه في البقرة، في آية الكرسي، وفي أول آل عمران، وفي طه في قوله (2) تعالى: {وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ}. وهذا استنباط حسن والله أعلم.
وقد ثبت في صحيح مسلم رضي الله عنه عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم (3)
قال: «لا يزال يستجاب للعبد ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم، ما لم يستعجل» قيل: يا رسول الله ما الاستعجال؟ قال: «يقول قد دعوت فلم يستجب لي، فيستحسر عند ذلك ويدع الدعاء».
فائدة: فيمن يستجاب دعاؤهم قطعا: المضطر، والمظلوم مطلقا، ولو كان فاجرا أو كافرا، أو الوالد على ولده، والإمام العادل، والرجل الصالح، والولد البار بوالديه، والمسافر حتى يرجع، والصائم حتى يفطر، والمسلم للمسلم ما لم يدع بظلم، أو قطيعة رحم، أو يقل دعوت فلم أجب.
ومن الفوائد المجربة:
العظيمة البركة، الكثيرة الخير، لقضاء الحوائج، وتفريج الهم والغم، وهي من الأسرار المخزونة المكنونة، كما قاله شيخنا اليافعي: أن تقرأ بعد صلاة العشاء،
__________
(1) هو إبراهيم بن أدهم بن منصور التميمي البلخي، زاهد مشهور، مات سنة 161هـ.
(2) سورة طه: الآية 111.
(3) رواه مسلم في الذكر: 92.(2/59)
على طهارة كاملة، في جلسة واحدة، اسمه تعالى «لطيف» ست عشرة ألف مرة وستمائة مرة وإحدى وأربعين مرة، والحذر ثم الحذر من الزيادة والنقص فإنه يبطل السر. والحيلة في معرفة ضبط ذلك أن تأخذ سبحة عدتها 129فتقرأ الاسم عليها 129، فيحصل المقصود، وهذه أقرب الطرق المستقيمة لمعرفتها فإن عدة حروفه أربعة وهي ل ط ي ف جملتها 129فاضربها في مثلها، فتكون جملتها ستة عشر ألفا وستمائة وإحدى وأربعين وتسمي حاجتك فإنها تقضى إن شاء الله تعالى لا محالة وفي كل مائة وتسع وعشرين مرة تقول: لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير، وهذه للدعاء على الظالم ومنها لجلب الخير والرزق والبركة، تقول عقب كل صلاة مائة ثم تقول: الله لطيف بعباده يرزق من يشاء وهو القوي العزيز. ومنها لدفع كيد الظلمة لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير. والدعاء بعد تمام قراءة الاسم المبارك:
اللهم وسع علي رزقي، اللهم عطف علي خلقك كما صنت وجهي عن السجود لغيرك، فصنه عن ذل السؤال لغيرك، برحمتك يا أرحم الراحمين.
قال سيدنا الشيخ أبو الحسن الشاذلي رحمه الله تعالى: كن متمسكا بهذه الصفات الحميدة تفز بسعادة الدارين، لا تتخذ من الكافرين وليا ولا من المؤمنين عدوا، وارتحل بزادك من التقوى في الدنيا، وعد نفسك من الموتى، واشهد لله بالوحدانية ولرسوله بالرسالة، وحسبك عمل صالح وإن قل، وقل آمنت بالله وملائكته وكتبه ورسله، وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير. فمن كان متمسكا بهذه الصفات الحميدة، ضمن الله عزّ وجلّ له أربعة في الدنيا:
الصدق في القول والإخلاص في العمل والرزق كالمطر والوقاية من الشر وأربعة في الآخرة المغفرة العظمى، والقربة الزلفى، ودخول جنة المأوى، واللحوق بالدرجة العليا.
وإن أردت الصدق في القول، فداوم على قراءة إنا أنزلناه في ليلة القدر، وإن أردت الرزق كالمطر، فداوم على قراءة قل أعوذ برب الفلق، وإن أردت السلامة من شر الناس فداوم على قراءة قل أعوذ برب الناس، وإن أردت جلب الخير والرزق والبركة، فداوم على قراءة بسم الله الرحمن الرحيم الملك الحق المبين هو نعم المولى ونعم النصير، وقراءة سورة الواقعة وسورة يس فإنه يأتيك الرزق كالمطر وإن أردت أن يجعل الله لك من كل هم فرجا، ومن كل ضيق مخرجا، ويرزقك من حيث لا تحتسب، فالزم الاستغفار وإن أردت أن تأمن مما يروعك ويفزعك، فقل: أعوذ بكلمات الله التامات من غضبه، وعقابه، ومن شر عباده، ومن همزات الشياطين وإن يحضرون.
وإن أردت أن تعرف أي وقت تفتح فيه أبواب السماء، ويستجاب الدعاء فاشهد وقت نداء المنادي فأجبه ففي الحديث (1) «من نزل به كرب أو شدة فليجب المنادي»، والمنادي هو المؤذن. وإن أردت أن تسلم من أمر يكربك، فقل: توكلت على الحي الذي لا يموت أبدا، والحمد لله الذي لم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك، ولم يكن له ولي من الذل، وكبره تكبيرا. ففي الحديث (2)
__________
(1) رواه أحمد: 1/ 91، 94.
(2) رواه البخاري في تفسير سورة: 4، 8ورواه مسلم في الإيمان: 2، 3.(2/60)
«مما كربني أمر إلا تمثل لي جبريل، فقال يا محمد قل توكلت على الحي الذي لا يموت أبدا وقل الحمد لله الذي لم يتخذ ولدا، ولم يكن له شريك في الملك، ولم يكن له ولي من الذل، وكبّره تكبيرا».
وإن أردت أن تنجو من هم أو غم أو خوف يصيبك، فقل: اللهم إني عبدك، وابن عبدك، وابن أمتك، ناصيتي بيدك ماض في حكمك عدل في قضائك، أسألك بكل اسم سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحدا، من خلقك أو استأثرت به في علم الغيب عندك، أن تجعل القرآن ربيع قلبي، ونور صدري وجلاء حزني، وذهاب همي وغمي فيذهب عنك همك وغمك وحزنك. وإن أردت أن يداويك الله من تسعة وتسعين داء، أيسرها اللمم، فقل ما ورد في الحديث (1): «لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم» فإنها دواء مما ذكر. وإن أردت أن تؤجر بما يصيبك من مصيبة، فقل: إنا لله وإنا إليه راجعون، اللهم عندك احتسبت مصيبتي فأجرني فيها وأبدلني خيرا منها. ومنه: حسبنا الله ونعم الوكيل، توكلنا على الله، وعلى الله توكلنا. وإن أردت أن يذهب همّك، ويقضى دينك، فقل، إذا أصبحت وإذا أمسيت: اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن، وأعوذ بك من العجز والكسل، وأعوذ بك من الجبن والبخل، وأعوذ بك من غلبة الدّين، وقهر الرجال. وإن أردت أن توفق للخشوع، فاترك فضول النظر. وإن أردت أن توفق للحكمة، فاترك فضول الكلام. وإن أردت أن توفق لحلاوة العبادة، فاترك فضول الطعام، وعليك بالصوم، وقيام الليل والتهجد فيه. وإن أردت أن توفق للهيبة فاترك المزح والضحك، فإنهما يسقطان الهيبة.
وإن أردت أن توفق للمحبة، فاترك فضول الرغبة في الدنيا. وإن أردت أن توفق لإصلاح عيب نفسك، فاترك التجسس عن عيوب الناس، فإن التجسس من شعب النفاق، كما أن حسن الظن من شعب الإيمان. وإن أردت أن توفق للخشية فاترك التوهم في كيفية ذات الله تعالى تسلم من الشك والنفاق. وأن أردت أن توفق للسلامة من كل سوء، فاترك الظن السيء بكل الناس. وإن أردت العزلة، فاترك الاعتقاد في الناس وتوكل على الله وإن أردت أن لا يموت قلبك، فقل كل يوم أربعين مرة: يا حي يا قيوم لا إله إلا أنت. وإن أردت أن ترى النبي صلى الله عليه وسلم يوم القيامة، يوم الحسرة والندامة، فأكثر من قراءة: إذا الشمس كورت، وإذا السماء انفطرت، وإذا السماء انشقت. وإن أردت أن ينور وجهك، فداوم على قيام الليل. وإن أردت السلامة من عطش يوم القيامة، فلازم الصوم. وإن أردت أن تسلم من عذاب القبر، فاحترز من النجاسات، واترك أكل المحرمات، وارفض الشهوات. وإن أردت أن تكون غنيا فلازم القناعة وإن أردت أن تكون خير الناس، فكن نافعا للناس. وإن أردت أن تكون أعبد الناس، فكن متمسكا بقوله (2) صلى الله عليه وسلم: «من يأخذ عني هذه الكلمات فيعمل بهن، أو يعلّم من يعمل بهن؟ قال أبو هريرة: قلت أنا يا رسول الله فأخذ بيدي، وعد خمسا، قال: اتق المحارم تكن أعبد الناس، وارض بما قسم الله لك، تكن أغنى الناس، وأحسن إلى جارك تكن مؤمنا، وأحب لناس ما تحب لنفسك تكن مسلما، ولا تكثر الضحك، فإن كثرة الضحك تميت القلب».
__________
(1) رواه ابن ماجة في الأدب: 59.
(2) رواه أحمد: 2/ 310، 3/ 425. والترمذي في الزهد: 2.(2/61)
وإن أردت أن تكون من المحسنين الخالصين، فاعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك. وإن أردت أن يكمل إيمانك، فحسن خلقك. وإن أردت أن يحبك الله فاقض حوائج إخوانك المسلمين. ففي الحديث «إذا أحب الله عبدا صير حوائج الناس إليه». وإن أردت أن تكون من المطيعين، فأد ما فرض الله عليك، وإن أردت أن تلقى الله تعالى نقيا من الذنوب، فاغتسل من الجنابة، ولازم غسل الجمعة، تلق الله تعالى يوم القيامة، وما عليك من ذنب. وإن أردت أن تحشر يوم القيامة في النور الهادي، وتسلم من الظلمات، لا تظلم أحدا من خلق الله تعالى. وإن أردت أن تقل ذنوبك، فالزم دوام الاستغفار. وإن أردت أن تكون أقوى الناس فتوكل على الله. وإن أردت أن يوسع الله عليك الرزق طموما كالمطر، فلازم الدوام على الطهارة الكاملة. وإن أردت أن تكون آمنا من سخط الله، فلا تغضب على أحد من خلق الله. وإن أردت أن يستجاب دعاؤك، فاجتنب الحرام، وأكل الربا، وأكل السحت. وإن أردت أن لا يفضحك الله على رؤوس الخلائق، فاحفظ فرجك ولسانك. وإن أردت أن يستر الله تعالى عليك عيبك، فاستر على عيوب الناس فإن الله تعالى ستار ويحب من عباده الستارين. وإن أردت أن تمحي خطاياك، فأكثر من الاستغفار، والخشوع، والخضوع، والحسنات في الخلوات. وإن أردت الحسنات العظام، فعليك بحسن الخلق، والتواضع، والصبر على البلية. وإن أردت السلامة من السيئات العظام، فاجتنب سوء الخلق والشح المطاع. وإن أردت أن يسكن عنك غضب الجبار، فعليك بإخفاء الصدقة، وصلة الرحم. وإن أردت أن يقضي الله عنك الدين، فقل ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم للأعرابي حين سأله، وقال (1) عليه الصلاة والسلام له: «لو كان عليك مثل الجبال دينا، أداه الله عنك، قل اللهم اكفني بحلالك عن حرامك واغنني بفضلك عمن سواك». وفي الحديث: «لو كان على أحدكم جبل من ذهب دينا فدعا بذلك لقضاه الله عنه وهو اللهم فارج الكرب اللهم كاشف الهم اللهم مجيب دعوة المضطرين رحمن الدنيا والآخرة ورحيمهما، أسألك أن ترحمني رحمة تغنيني بها عمن سواك». وإن أردت أن تنجو إذا وقعت في هلكة فالزم ما في الحديث (2)، إذا وقعت في ورطة فقل «بسم الله الرحمن الرحيم ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم». فإن الله تعالى يصرف عنك ما شاء من أنواع البلاء والورطة. بفتح الواو وإسكان الراء الهلاك. وإن أردت أن تأمن من قوم خفت شرهم فقل ما ورد في الحديث (3): «اللهم إنا نجعلك في نحورهم ونعوذ بك من شرورهم». ومنه اللهم اكفناهم بما شئت إنك على كل شيء قدير.
وإن أردت أن تأمن، إن خفت من سلطان، فقل ما ورد في الحديث (4): «لا إله إلا الله الحليم الكريم رب السموات السبع ورب العرش العظيم لا إله إلا أنت عزّ جارك وجل ثناؤك لا إله إلا أنت» ويستحب أن يقول ما تقدم اللهم إنا نجعلك في نحورهم إلى آخره. وفي الحديث: «إذا
__________
(1) رواه الترمذي في الدعاء: 110.
(2) رواه البخاري في الآذان: 7. والتهجد: 21، والقدر: 7، والدعوات: 68. ومسلم في الصلاة: 12، والمساجد: 139، والذكر: 32، 44، 46.
(3) رواه أبو داود في الوتر: 30، وابن حنبل: 4/ 414، 415.
(4) رواه مسلم في الذكر: 1، والترمذي في الطب: 32، وابن ماجه في الدعاء: 2/ 17.(2/62)
أتيت سلطانا مهابا تخاف أن يسطو عليك، فقل الله أكبر الله أكبر الله أعز من خلقه جميعا الله أعز مما أخاف واحذر، والحمد لله رب العالمين». وإن أردت ثبات القلب على الدين، فقد أسند مرفوعا أنه كان من دعائه (1) صلى الله عليه وسلم: «اللهم ثبت قلبي على دينك» وفي رواية (2): «يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على دينك».
فائدة:
مجربة لمن دخل على سلطان يخاف شره، فليقرأ: {الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى ََ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [3] {الَّذِينَ قََالَ لَهُمُ النََّاسُ إِنَّ النََّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزََادَهُمْ إِيمََاناً وَقََالُوا حَسْبُنَا اللََّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللََّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوََانَ اللََّهِ وَاللََّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ} (4). وإن أردت كثرة الخير والرزق، فداوم على قراءة ألم نشرح وسورة الكافرون.
وإن أردت الستر من الناس فداوم على قول اللهم استرني بسترك الجميل، الذي سترت به نفسك، فلا عين تراك. وإن أردت عدم الجوع والعطش، فداوم على قراءة لإيلاف قريش إيلافهم، وقد جرب ذلك مرارا وصح. وإن خفت على تجارتك أو مالك فاكتب سورة الشعراء وعلقها في موضع تجارتك يكثر فيه البيع والشراء. ومن كتب سورة القصص، وعلقها على من يخاف عليه التلف، فإنها أمان له من ذلك وهو سر لطيف مجرب.
فائدة:
عن عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من قرأ آية الكرسي دبر كل صلاة مكتوبة لم يتول قبض روحه إلا الله تعالى». وعن أبي نعيم قال:
سمعت معروفا الكرخي يقول لما «اجتمعت اليهود على قتل عيسى عليه السلام، اهبط الله تعالى جبريل عليه السلام مكتوبا في باطن جناحه اللهم إني أعوذ باسمك الأحد الأعز وأدعوك اللهم باسمك الكبير المتعال، الذي ملأ الأركان كلها أن تكشف عني ضر ما أمسيت وأصبحت فيه.
فقال ذلك عيسى فأوحى الله عزّ وجلّ إلى جبريل عليه السلام أن ارفع عبدي إلي».
فائدة:
مما جرب للصداع فصح ما روي عن الإمام الشافعي رضي الله عنه أنه قال: وجد في بعض دور بني أمية درج من فضة وعليه قفل من ذهب، مكتوب على ظهره: شفاء من كل داء، وفي داخله مكتوب هذه الكلمات: بسم الله الرحمن الرحيم، بسم الله وبالله ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم اسكن أيها الوجع سكنتك بالذي يمسك السماء أن تقع على الأرض إلا بإذنه إن الله بالناس لرؤوف رحيم بسم الله الرحمن الرحيم بسم الله وبالله ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم اسكن أيها الوجع سكنتك بالذي يمسك السموات والأرض أن تزولا ولئن زالتا إن أمسكهما من أحد من بعده إنه كان حليما غفورا قال الإمام الشافعي رضي الله تعالى عنه: فما احتجت معه إلى طبيب قط بإذن الله تعالى فإنه هو الشافي.
ومما جرب للصداع أيضا أن يكتب على ورقة بيضاء، وتلصق على المحل الذي فيه
__________
(1) رواه الترمذي: 7، وابن ماجه في المقدمة: 13.
(2) رواه ابن ماجه في الدعاء: 2، والترمذي في الدعوات: 89، 124. والقدر: 7.
(3) سورة النحل: الآية 99.
(4) سورة آل عمران: الآية 174.(2/63)
الصداع، فإنه يزول بإذن الله تعالى وهو صحيح مجرب دم 5م ل 5. ووجد أيضا في ذخائر بني أمية ترس مربع من ذهب، وعليه أزرار من الزمرد الأخضر مملوء بالمسك والكافور والعنبر الخام، وكان من جعله على رأسه، أزال عنه الصداع البتة في الوقت والساعة ففتقوا الترس فوجدوا في باطن أزراره بطاقة مكتوبا فيها: بسم الله الرحمن الرحيم: {ذََلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ} (1)
بسم الله الرحمن الرحيم: {يُرِيدُ اللََّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ، وَخُلِقَ الْإِنْسََانُ ضَعِيفاً} (2)، بسم الله الرحمن الرحيم: {وَإِذََا سَأَلَكَ عِبََادِي عَنِّي، فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدََّاعِ إِذََا دَعََانِ} [3] بسم الله الرحمن الرحيم: {أَلَمْ تَرَ إِلى ََ رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شََاءَ لَجَعَلَهُ سََاكِناً} [4]. بسم الله الرحمن الرحيم: {وَلَهُ مََا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهََارِ، وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [5]
ومما جرب للصداع أيضا أن تكتب هذه الأحرف على لوح خشب أو مكان طاهر، وتدق في الحرف الأول مسمارا وتقرأ ألم تر إلى ربك كيف مد الظل ولو شاء لجعله ساكنا، وله ما سكن في الليل والنهار وهو السميع العليم، وتدق دقا خفيفا فإن سكن الصداع فبالغ، عليه بالدق إلى قرصه، وإن لم يسكن فانقل المسمار من حرف إلى حرف إلى أن يسكن الصداع فلا بد أن يسكن في حرف منها كما جرب ذلك مرارا وهي هذه اح اك ك ح ع ح ام ح والسواد موضع وضع المسمار ويجمعهما قولك:
إني حملت إليك كل كريمة ... حوراء عن حظ المتيم ما حنت ... فأوائل الكلمات منها مقصدي ... لصداع رأس يا فتى قد جربت
ثم قال أي ابن بختيشوع: ومما ذكر من الخواص، وشهدت به التجربة، ما قاله الحكيم جالينوس: إذا أخذت شعر ابن آدم وأحرقته، وخلطته بماء الورد، ووضعته المرأة على رأسها، عند الطلق تسهل عليها الولادة. وإن طليت البرص والبهق بمني ابن آدم أبرأه. وإذا حططته في البيت، اجتمعت عليه البراغيث. وبصاق ابن آدم سم الحيات فإنك إن بصقت في فم الحية ثلاث مرات تموت من ساعتها. وإذا أوقدت سراجا من دهن ابن آدم، في ليلة ذات رياح، سكنت الرياح. وشعر المرأة بطوله، إذا طرح في ماء البحر بحيث لا يخرج منه، صار حية مائية. وإذا اكتحل الإنسان بلبن النساء مع سكر طبرزذ ينفع لبياض العين. والطفل الأزرق العينين إذا رضع من لبن الجارية الحبشية أربعين يوما اسودت عيناه. وإذا أخذت بول الصبي وخلط برماد حطب الكرم، وحط على القرحة نفعها. وإذا علقت المرأة عليها سن الطفل الذي وقع في أول سنة لا تحبل. قال جالينوس (6) ويحيى (7) بن ماويشه: مرارة ابن آدم سم قاتل، ومن اكتحل بمرارة
__________
(1) سورة البقرة: الآية 198.
(2) سورة النساء: الآية 28.
(3) سورة البقرة: الآية 186.
(4) سورة الفرقان: الآية 45.
(5) سورة الأنعام: الآية 13.
(6) جالينوس: عالم يوناني ظهر بعد ستمائة وخمس وستين سنة من وفاة ابقراط. الفهرست: 402.
(7) هو يحيى بن ماسويه، طبيب مقدم، عالم مصنف خدم المأمون والمعتصم والواثق والمتوكل الفهرست: 411.(2/64)
ابن آدم نفعته من بياض العين. وقال ابن ماويشه: سرة الطفل أول ما تقطع إذا علقتها المرأة على يدها، وبها ألم سكن. وإذا أخذ عظم ابن آدم وأحرق وسحق وخلط معه صبر ونفخ في الأنف الذي فيه البسور أبرأه بإذن الله تعالى. وإذا أخذت الحيات التي تخرج من بطن ابن آدم وجففت وسحقت ناعما، واكتحل بها من في عينه بياض ذهب. وإذا أخذ رجيع ابن آدم يابسا وسحق ونخل وعجن بالخل وعسل النحل وطلي به على الأكلة برئت بإذن الله تعالى. وكذلك إذا طليت به الخوانيق التي في الحلق برئت وشعر ابن آدم إذا علق على من يشتكي الشقيقة سكنت. وإذا بل الشعر بالخل ووضع على عضة الكلب برئت. ودم ابن آدم إذا أخذ وعجن بدقيق الحلبة وبماء السذاب وطلي به كل قرحة تتكون في البدن برئت لوقتها البتة لا سيما التي تكون في الساقين، والقروح الرطبة التي يسيل منها الدم والقيح. وإذا أخذ دم الحيض من جارية بكر أو ثيب، وخلط معه خمر عتيق واكتحل به من في عينه بياض أبرأه. وخرقة الحيض إذا علقت على مؤخر السفينة، لا يدخلها ريح ولا زوبعة. وإذا أصاب المرأة وجع السرة، تأخذ خرقة الحيض، فتحرقها حتى تصير رمادا، ثم تأخذ من ذلك الرماد جزءا ومن الكزبرة جزءا ويدق الجميع بماء فاتر ويطلى به ما حول السرة تبرأ بإذن الله تعالى. وكذلك إذا أصابها عند النفاس، فإنه يسكن بذلك بإذن الله تعالى. ورجيع الطفل عند الولادة يجفف ويسحق ويكتحل به من في عينه بياض فإنه يذهب بإذن الله تعالى. وإذا أخذت قلفة الصبيان، وهي طهارتهم، وجففت وسحقت وخلط معها شيء من المسك وماء الورد وسقي من ذلك صاحب البرص والجذام، وقف عنه بإذن الله تعالى. وإذا أحرقت وسحقت وسقيت لمن غلب عليه البرص ذهب عنه بإذن الله تعالى. ويؤخذ من رجيع ابن آدم مقدار حمصة ويسحق ويذاب بماء فاتر ويسقى لصاحب القولنج يبرأ بإذن الله تعالى. وإذا سحق وديف بالخل كان أبلغ وإذا أخذ رجيع ابن آدم، أول ما يخرج وهو حار ويخلط بخمر عتيق، ويسقى للدابة المريضة تبرأ بإذن الله تعالى. وإذا غسلت وسخ رجلي ابن آدم ويديه بالماء، وأسقيته لمن شئت فإنه يحبك محبة شديدة، ولا يكاد يطيق فراقك، وهو سر عجيب مجرب. ومثله إذا أردت أن يحبك إنسان حبا شديدا فاغسل جيب قميصك واسقه ماءه، وهو لا يعلم، فإنه يحبك حبا شديدا. وإن أردت أن تجمع الحمام في البرج فخذ رأس ابن آدم، وهو ميت قد مضى عليه من السنين مدة، وادفنه في ذلك البرج، فإن الحمام يعمره ويجتمع إليه من كل مكان حتى يضيق به. وإذا أصاب إنسانا اللقوة والفالج يسعط بلبن جارية سوداء أو حبشية، مع شيء من دهن الزنبق فإنه يبرأ بإذن الله تعالى. ومقدار السعوط منه وزن قيراط للرجل الكامل، وللطفل والصبي وزن حبة، ويخلط معه في بعض الأوقات أنزروت أبيض، ويقطر في العين المحمرة تبرأ.
وإذا أخذ الكاشم ودق ناعما وديف ببول صبي لم يبلغ الحلم وسقي للدابة المغولة برئت بإذن الله تعالى وإذا أردت أن لا يقرب المرأة أحدا غيرك، فخذ ما تستخرجه من شعرها من تسريح أو غيره، واحرقه حتى يصير رمادا، ثم اجعل منه على رأس احليلك عند الجماع معها، فلا أحد يجامعها بعد ذلك مثلك، ولا تقبل أحدا غيرك، وهو سر عجيب مجرب، ويؤخذ من مني الرجل جزء ومن الزئبق جزء ويخلط الجميع ويسعط منه صاحب اللقوة ثلاثة أيام متوالية يبرأ بإذن الله تعالى. وإذا أخذ رجيع إنسان، وأحرق وسحق ناعما وخلط معه ملح اندراني وشيء من حزنبل
وخلط الجميع ونفخ في عين الدابة التي فيها البياض برئت، وإذا أخذ بول صبي قبل أن يبلغ الحلم، وجعل في وعاء وترك على النار حتى حمي وغمست صوفة في ذلك البول، وطلي به على العين التي بها ورم أو حمرة برئت. وإذا أخذ مني ابن آدم وهو حار وطلي به البرص غير لونه بقدرة الله تعالى. وإذا أخذ شيء من أبوال، وجعل في قدر نحاس، وطبخ حتى انعقد، ثم جفف وخلط معه ملح الطعام وسحق وعجن بماء الزعفران، وجعل في بودقة وأوقد عليه حتى يدور كما تدور الفضة، فاجعله سبيكة وحكه على المسن بالماء والمسك، وكحل به العين التي غلب عليها البياض، تبرأ بإذن الله تعالى البتة وهو سر لطيف مجرب وكان الحكماء المتقدمون يسمونه الجوهر النفيس ويؤخذ لبن جارية سوداء فيذاب فيه شيء من الزعفران وشيء من لعاب السفرجل ويقطر في العين التي بها الوجع والضربان والنقطة، فإنها تبرأ بإذن الله تعالى. وإذا أردت أن تكون نهود الجارية قائمة لا تنكسر، فخذ دم حيض الجارية من أول حيضها، واطل به رؤوس النهدين، فإنهما لا ينكسران ولا يزالان قائمين، وهذا سر عجيب مجرب. وإذا أخذ دم الحيض وهو حار طري ولطخ به العين يزول ما بها من الحمرة والنقطة والورم. وإن أردت أن تسمن المرأة فخذ شحم وزة أنثى، يدق ويخلط معه بورق وكمون كرماني ودقيق الحلبة يمزج الجميع، ويجعل مثل البنادق، ويبلغ ذلك لدجاجة سوداء سبعة أيام متوالية، ثم تذبح وتصلق (1)، فكل من أكل من تلك الدجاجة، أو من مرقتها يسمن، حتى يكاد يغلب عليه الشحم، من ذكر كان أو أنثى.(2/65)
وإذا أخذ الكاشم ودق ناعما وديف ببول صبي لم يبلغ الحلم وسقي للدابة المغولة برئت بإذن الله تعالى وإذا أردت أن لا يقرب المرأة أحدا غيرك، فخذ ما تستخرجه من شعرها من تسريح أو غيره، واحرقه حتى يصير رمادا، ثم اجعل منه على رأس احليلك عند الجماع معها، فلا أحد يجامعها بعد ذلك مثلك، ولا تقبل أحدا غيرك، وهو سر عجيب مجرب، ويؤخذ من مني الرجل جزء ومن الزئبق جزء ويخلط الجميع ويسعط منه صاحب اللقوة ثلاثة أيام متوالية يبرأ بإذن الله تعالى. وإذا أخذ رجيع إنسان، وأحرق وسحق ناعما وخلط معه ملح اندراني وشيء من حزنبل
وخلط الجميع ونفخ في عين الدابة التي فيها البياض برئت، وإذا أخذ بول صبي قبل أن يبلغ الحلم، وجعل في وعاء وترك على النار حتى حمي وغمست صوفة في ذلك البول، وطلي به على العين التي بها ورم أو حمرة برئت. وإذا أخذ مني ابن آدم وهو حار وطلي به البرص غير لونه بقدرة الله تعالى. وإذا أخذ شيء من أبوال، وجعل في قدر نحاس، وطبخ حتى انعقد، ثم جفف وخلط معه ملح الطعام وسحق وعجن بماء الزعفران، وجعل في بودقة وأوقد عليه حتى يدور كما تدور الفضة، فاجعله سبيكة وحكه على المسن بالماء والمسك، وكحل به العين التي غلب عليها البياض، تبرأ بإذن الله تعالى البتة وهو سر لطيف مجرب وكان الحكماء المتقدمون يسمونه الجوهر النفيس ويؤخذ لبن جارية سوداء فيذاب فيه شيء من الزعفران وشيء من لعاب السفرجل ويقطر في العين التي بها الوجع والضربان والنقطة، فإنها تبرأ بإذن الله تعالى. وإذا أردت أن تكون نهود الجارية قائمة لا تنكسر، فخذ دم حيض الجارية من أول حيضها، واطل به رؤوس النهدين، فإنهما لا ينكسران ولا يزالان قائمين، وهذا سر عجيب مجرب. وإذا أخذ دم الحيض وهو حار طري ولطخ به العين يزول ما بها من الحمرة والنقطة والورم. وإن أردت أن تسمن المرأة فخذ شحم وزة أنثى، يدق ويخلط معه بورق وكمون كرماني ودقيق الحلبة يمزج الجميع، ويجعل مثل البنادق، ويبلغ ذلك لدجاجة سوداء سبعة أيام متوالية، ثم تذبح وتصلق (1)، فكل من أكل من تلك الدجاجة، أو من مرقتها يسمن، حتى يكاد يغلب عليه الشحم، من ذكر كان أو أنثى.
وإن أردت أبلغ من ذلك، فخذ مرارة آدمي وخذ ما تيسر من القمح، وضع تلك المرارة عليه، مع قليل من الماء واصبر على القمح حتى ينتفخ، وبلعه لدجاجة سوداء وافعل ما تقدم ذكره فمن أكل من تلك الدجاجة، رأى العجب العجاب من السمن والشحم حتى لا يستطيع القيام، ذكرا كان أو أنثى، وهو سر لطيف مجرب. وإذا أردت أن تقطع لبن المرأة، فخذ حلبة واسحقها واعجنها بالماء، واطل بها ثدي المرأة ينقطع اللبن البتة بإذن الله تعالى. وإذا أردت أن يدر اللبن، فخذ حنظلة ودقها واعجنها بالزيت، وخذ صوفة زرقاء ولفها على عود واغمسها في الزيت والحنظلة، واطل بها رأس الثدي يدر اللبن بقدرة الله تعالى. وكلاهما صحيح مجرب. ومتى صور صورة صبي حسن الوجه، ونصب قبالة المرأة بحيث تراه وقت الجماع خرج الولد يشبه تلك الصورة في أكثر الأعضاء البتة. قال: وضرس الميت إذا علق على من به وجع الضرس، سكن وجعه. وإذا أخذ ضرس إنسان، وعظم جناح الهدهد الأيمن، وجعلا تحت رأس النائم لم يزل كذلك حتى يؤخذا من تحت رأسه. وبصاق الإنسان ينفع من لدغ الهوام والقوباء والثآليل إذا طلي عليها قبل أن يأكل الإنسان شيئا. ولبن النساء إذا شرب مع عسل، فتت الحصا من المثانة.
وبول الإنسان إذا وضع على عضة الكلب الكلب نفعها نفعا بينا. وقال قوم: إن المكلوب، إذا شرب من دم إنسان شريف، برىء من ساعته وأنشدوا على ذلك قول الشاعر:
أحلامكم لسقام الجهل شافية ... كما دماؤكم تبري من الكلب
وقلامة ظفر الإنسان، إذا أحرقت وسقيت لإنسان آخر، أحبه ذلك الإنسان حبا شديدا.
__________
(1) تصلق: تسلق.(2/66)
وشرب بول الإنسان ينفع من لسع جميع ذوات السموم، وإن طلي به بعد أن يغلى، رجل صاحب النقرس سكن الوجع والضربان، وينفع من جميع القروح الحادثة في أصابع القدم والقروح التي فيها دود خصوصا البول العتيق. وينفع من عضة الإنسان والقرد وجميع الحيوان السمي وإذا بال رجل على الجرح حين يجرح قطع الدم لساعته وأبرأه. وهو صحيح مجرب. وعرق الإنسان إذا أخذ منه وعجن بغبار الرحا، ووضع على الثدي الوارم نفعه وينفع من جمود اللبن في الضرع والثدي، وتعقده بعد الولادة ومني الإنسان إذا أخذ وهو يابس ومعه سذاب (1) مدقوق، وذر على الأكلة أبرأها البتة وإن عجن بعسل وطلي به الحلق من خارج نفع الخناق. وإذا أخذ نجو صبي حين يولد وو جفف وسحق وكحل به بياض العين نفع، وينفع من الغشاوة نفعا جيدا. وإذا أخذ من نجو إنسان قدر حمصة وديف (2) بخل خمر وسقي لصاحب القولنج وعسر البول نفعهما. وهو إذا كان حارا نفع الفرس الحمراء، وينفع من عضة الإنسان من ساعته ولعاب الصائم إذا قطر في الأذن أخرج الدود منها. وإن خلط مع الرازوند ووضع على البواسير أبرأها. وسرة الصبي عندما تقطع إذا أخذ منها شيء، ووضع تحت فص خاتم، فإنه ينفع لابسه من القولنج. وقال ابن زهر: سن الصبي الذكر أول ولد من المرأة إن جعل تحت فص خاتم ذهب أو فضة بحيث يكون فصه منه لم يصب من لبسه من الرجال القولنج البتة. وإن بخرت المرأة بشعر إنسان، نفعها من جميع أوجاع الرحم وإذا طلت المرأة بدنها بدم النفاس من أول ولدها منعها الحبل ما عاشت وإن جعل سن الصبي، أول ما يسقط، قبل أن يصل الأرض تحت فص خاتم وعلق على امرأة منعها الحبل. وعرق النساء يطلى به الجرب يبرأ وبول الصبي الذي لم يبلع عشرين سنة إذا شربه صاحب البرص برىء. وبول الإنسان مع رماد الكرم يوضع على موضع نزف الدم يقف.
ورماد العيشوم ورماد الشونيز (3) مع الزيت العتيق ينبت اللحية. ودم الحيض إذا طلي به عضة الكب الكلب تبرأ. وكذلك البهق والبرص. وقال القزويني في عجائب المخلوقات: إذا رعف الإنسان فليكتب اسمه بدمه على خرقة وتجعل نصب عينيه فإنه ينقطع رعافه ونطفة الإنسان إذا طلي بها البهق والبرص والقوباء أبرأتها، وإذا خلط بها زهر الغبيراء وجفف واسقاه إنسان لامرأة عشقته.
ودم البكارة حين افتضاضها، إذا طلي به الثدي لا يكبر.
قاعدة:
قال الأطباء: إذا أردت أن تعلم هل المرأة عقيم أم لا؟ فمرها أن تتحمل بثومة في قطنة وتمكث سبع ساعات فإن فاح من فمها رائحة الثوم فعالجها بالأدوية، فإنها تحمل بإذن الله تعالى. وإلا فلا قال الرازي: وهي مجربة لذلك والله أعلم.
التعبير:
الإنسان في المنام كل شخص يعرف فهو ذاك بعينه، ذكرا كان أو أنثى، أو سميه أو نظيره. والشاب المجهول عدوّ. والشيخ جد وسعادة، وربما عبر بالصديق فمن رأى شيخا ضعيفا أو صغير الصورة، فذاك نقص في جد الإنسان وسعده. والكهل إذا لم ينق البياض أقوى لجد الإنسان وسعده. والصبي هم إذا كان طفلا يحمل لقوله (4) تعالى: {فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهََا تَحْمِلُهُ}.
__________
(1) السّذاب: من البقول.
(2) ديف: خلط.
(3) الشونيز: الحبة السوداء.
(4) سورة مريم: الآية 27.(2/67)
والبالغ قوة وبشارة لقوله (1) تعالى: {يََا بُشْرى ََ هََذََا غُلََامٌ} والصبي الحسن الصورة، إذا دخل مدينة محاصرة، أو كان بها طاعون أو قحط، فرج عنهم وكذلك إذا نزل من السماء أو خرج من الأرض فهو بشارة لكل ذي هم. ويعبر أيضا بملك من الملائكة، مثال ذلك أن يرى المريض أو يرى له كأن صبيا أمرد أخذه أو ضرب عنقه، فإنه ملك الموت والشاب الأشقر عدو شحيح.
والشاب التركي عدو لا أمان له. والشاب الضعيف عدو ضعيف. والشاب الأسمر عدو غني والشاب الأبيض عدو دين.
والمرأة في المنام دنيا، والمجهولة أقوى من المعروفة، وحسنها أحسن شيء، وقبحها أقبح شيء. والزانية زيادة في الخير والصلاح، لقول (2) النبي صلى الله عليه وسلم: «عرضت على الدنيا ليلة أسري بي في صورة امرأة حاسرة الذراعين، فقال لها: طلقتك ثلاثا». أراد بها الدنيا. والمرأة السوداء تعبر بليلة مظلمة، والبيضاء بالنهار فمن رأى امرأة سوداء غابت عنه، وظهرت له امرأة بيضاء، فإن ذلك دليل الصباح وزوال الظلام. والمرأة التي تكون للسلطان أو هي سلطانة فإنه تعبر بملك ظالم معجب. أو تكون بمنزلة العروس لأهله ومال حرام لغير ذلك. والشابة إذا رأتها المرأة فهي عدو لها، إذا كانت مجهولة. والعجوز المجهولة لها جد وتعبر المرأة بالسنة فإن كانت سمينة فهي خصب، وإن كانت هزيلة فهي جدب. وإنما شبهت المرأة بالسنة لأنها كالأرض. قال (3) الله تعالى: {نِسََاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنََّى شِئْتُمْ} ولأنها ذات نتاج وكذلك الأرض. والمرأة المتنقبة عسر لمن رآها. والمكشوفة الوجه دنيا ليس فيها تعب. والنساء زينة الدنيا، فمن أقبلن عليه، أقبلت عليه الدنيا، ومن أدبرن عنه أدبرت عنه الدنيا. والإنسان القبيح الصورة أمر مكروه، والأسود سوء والخصي المجهول يعبر بملك من الملائكة لانتزاع الشهوة منه. فمن رأى أنه خصي أو كأنه خصي ناله ذل وخضوع. وقالت النصارى: من رأى نفسه خصيا، نال منزلة في العبادة وعفة الفرج. ومن رأى بيده رأس إنسان فإنه ينال ألف دينار أو ألف درهم أو مائة درهم والرؤوس المقطعة في المنام رؤساء الناس، فمن أخذ شيئا من لحمها أو شعرها، نال مالا من قوم رؤساء. ومن رأى رأسه كبيرا حسنا نال رئاسة. ومن قطع رأسه، وكان مملوكا عتق. أو مهموما فرج الله همه. أو مريضا شفي. فإن كان ممن يخدم فارق خدمه. ومن رأى رأسه يرضخ بحجر، فإنه قد نام عن صلاة العشاء. ومن رأى رأسه رأس كلب أو فرس أو جمل أو حمار أو بغل أو غير ذلك من البهائم التي تنالها مشقة التعب والعمل نال تعبا، لأن هذه الحيوانات خلقت للكلف والتعب. وإن رأى رأسه رأس طير، كثر سفره. ومن رأى رأسه بيده، وكان له رأس آخر، فإن ذلك يدل على تدبير الأمور الرديئة وإصلاحها وأكل الرأس من الحيوان مال، لم يكن يرجوه، وطول حياة إذا كان غير نيء. والرأس يعبر بالرئيس، والسيد والأب. ويعبر أيضا برأس
__________
(1) سورة يوسف: الآية 19.
(2) رواه البخاري في بدء الخلق: 7. والانبياء: 24، 48. ورواه مسلم في الإيمان: 267، 272، والفضائل:
164. ورواه الترمذي في تفسير سورة: 17: 1، 2، 5.
(3) سورة البقرة: الآية 223.(2/68)
الممال فما رؤي فيه من زيادة أو نقص أو وجع، فهو عائد إلى ما ذكرناه، ومن رأى رأسه تحوّل رأس أسد، فإنه ينال ملكا إن كان من أهله أو رياسة أو ولاية أو وجاهة. ومن رأى أنه يأكل لحم إنسان فإنه يغتابه. ومن أكل لحم نفسه فإنه يغتاب. وقيل: أكل اللحم النيء خسارة في المال.
واللحوم في الرؤيا أموال إذا كانت مطبوخة ناضجة، وإذا أكلت المرأة لحم امرأة فإنها تساحقها.
وإن أكلت لحم نفسها فإنها تزني. وأكل لحم البقر الهزيل مرض. وانسب كل لحم إلى حيوانه فلحم الحية مال من عدو فإن كان نيئا فهو غيبة. ولحم السبع مال من سلطان. وكذلك لحوم السباع الضواري وجوارح الطير ولحم الخنزير مال حرام والله تعالى أعلم.
إنسان الماء:
يشبه الإنسان، إلا أن له ذنبا. قال القزويني: وقد جاء شخص بواحد منها في زماننا، مقدر كما ذكرنا. وقيل: إن في بحر الشأم، في بعض الأوقات من شكله، شكل إنسان وله لحية بيضاء، يسمونه شيخ البحر، فإذا رآه الناس استبشروا بالخصب. وحكي أن بعض المملوك، حمل إليه إنسان ماء، فأراد الملك أن يعرف حاله فزوجه امرأة، فأتاه منها ولد يفهم كلام أبويه، فقال للولد: ما يقول أبوك؟ قال: يقول أذناب الحيوان كلها في أسفلها، فما بال هؤلاء أذنابهم في وجوههم؟ وسيأتي إن شاء الله تعالى في باب الباء الموحدة في بنات الماء قريب من هذا.
الكم: سئل الليث (1) بن سعد رضي الله عنه عن أكله فقال: لا يؤكل على شيء من الحالات والله تعالى أعلم.
الأنقد:
بالنون الساكنة وفتح القاف وبالدال المهملة القنفذ.
الأمثال:
يقال: «بات فلان بليل انقد»، (2) لأنه لا ينام الليل كله. وسيأتي إن شاء الله تعالى في باب القاف في القنفذ. قال الميداني: أنقد معرفة لا تدخله الألف واللام، يضرب لمن سهر ليله أجمع. قال: وقيل الأنقد الذي يشتكي سنه من النقد، وهو فساد في الأضراس يحركها وصاحبه لا ينام.
فائدة:
ومما جرب لوجع الضرس أن يكتب ويحمل قوله تعالى: {وَضَرَبَ لَنََا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قََالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظََامَ وَهِيَ رَمِيمٌ قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهََا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ} (3)
محوصه سمه ولها، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، جهكر طكفوم طسم طس طسم حم حم حم حم حم حم حم. أسكن أيها الوجع بالذي سكن له ما في الليل والنهار، وهو السميع العليم، اليقس تقس قسا مسقس أن البهر بهر هرا وراب.
ويكتب لوجع الضرس أيضا، على جدار هذه الأحرف وهي ح ب ر ص لا وع م لا وتأمر الموجوع أن يضع اصبعه على الضرس الضارب ويكون ذلك في حال ضربانه، وتضع مسمارا على
__________
(1) هو الليث بن سعد بن عبد الرحمن الفهمي بالولاء، إمام أهل مصر في عصره في الحديث والفقه. مات في القاهرة سنة 175هـ.
(2) جمهرة الأمثال: 1/ 128.
(3) سورة يس: الآية 7978.(2/69)
أول حرف من الحروف المتقدمة، وتدق عليه دقا خفيفا، وأنت تقرأ {وَلَوْ شََاءَ لَجَعَلَهُ سََاكِناً} {وَلَهُ مََا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهََارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [1] في حالتي الدق والكتابة، فإذا علق رأس المسمار يسيرا سله هل سكن الوجع فإن قال نعم فبلغ المسمار بالدق إلى قرصه وإن قال لا، فانقل المسمار إلى الحرف الثاني وافعل ما تقدم ذكره، ولا تزال تنقله حرفا حرفا إلى آخر الحروف ففي أي حرف سكن الوجع، فبلغ المسمار فيه بالدق إلى قرصه فإنه لا بد أن يسكن في حرف منها كما جرب مرارا وما دام المسمار مدقوقا، دام الوجع ساكنا، فإذا قلع المسمار عاد الوجع والنقط الحمر في الحروف موضع وضع المسمار وهو سر عجيب مجرب صحيح. وقد نظم ذلك بعض الفضلاء في أبيات وهي:
وللضرس فاكتب في الجدار مفرقا ... بما جمعه حبر صلاء وعملا ... ومره على الموجوع يجعل اصبعا ... وضع أنت مسمارا على الحرف أولا ... ودق خفيفا ثم سله ترى به ... سكونا نعم إن قال بلغه موصلا ... وإن قال لا فانقله ثاني حروفه ... وفي كل حرف مثل ما قلت فافعلا ... وفي سورة الفرقان تقرأ ساكنا ... كذا آية الإنعام فاتل مرتّلا ... وتترك ذا المسمار في الحيط مثبتا ... مدى الدهر فالأسقام تذهب والبلا ... فخذها أخي كنزا لديك مجربا ... ذخيرة أهل الفضل من خيرة الملا
وقد أحسن الأمير أسامة بن منقذ (2) حيث قال (3) ملغزا في ضرسه وقد قلعه:
وصاحب لا أمل الدهر صحبته ... يشقى لنفعي ويسعى سعي مجتهد ... لم ألقه مذ تصاحبنا فمذ وقعت ... عيني عليه افترقنا فرقة الأبد (4)
وله (5) أيضا في الصبر:
اصبر إذا ناب خطب وانتظر فرجا ... يأتي به الله بعد الريب والياس ... إن اصطبار ابنة العنقود إذ حبست ... في ظلمة القار أداها إلى الكاس
وله أيضا فيه:
من يرزق الصبر نال بغيته ... ولا حظته السعود في الفلك ... إن اصطبار الزجاج حين بدا ... للسبك أدناه من فم الملك (6)
__________
(1) سورة الفرقان: الآية 45.
(2) ابن منفذ: هو أسامة بن مرشد بن علي بن مقلد بن نصر بن منقذ الكناني، من امراء قلعة شيزر في حماة. له تصانيف في الأدب والتاريخ. مات سنة 584هـ.
(3) وفيات الأعيان: 1/ 198.
(4) في الوفيات: «تصاحبنا فحين بدا لناظري افترقنا».
(5) وفيات الأعيان: 1/ 462وفي شطر البيت الأول: «بعد الريب والياس».
(6) في الوفيات: «إن اصطبار الزجاج للسبك وال فيسان أدياه».(2/70)
الإنكليس:
بفتح الهمزة واللام وكسرهما معا سمك شبيه بالحيات، رديء الغذاء وهو الذي يسمى الجري الآتي في باب الجيم إن شاء الله تعالى، ويسمى المارماهي، وسيأتي إن شاء الله تعالى في باب الصاد، في لفظ الصيد، فإن البخاري ذكره في صحيحه. وفي حديث علي رضي الله تعالى عنه أنه بعث عمار إلى السوق فقال: لا تأكلوا الأنكليس من السمك، وإنما كرهه لما تقدم، لا لأنه حرام. وفيه لغتان الأنكليس والأنقليس بفتح الهمزة واللام ومنهم من يكسرهما. قال الزمخشري: وقيل إنه الشلق. وقال ابن سيده: هو على هيئة السمك صغير له رجلان عند ذنبه كرجلي الضفدع، ولا يد له يكون في أنهار البصرة وليس لفظه عربيا.
الأنن:
بضم الهمزة وبالنونين طائر يضرب إلى السواد وله طوق كطوق الدبسي أحمر الرجلين والمنقار مثل الحمامة إلا أنه أسود وصوته أنين أوه أوه حكاه في المحكم.
الأنيس:
وتسميه الرماة الأنيسة طائر حاد البصر، يشبه صوته صوت الجمل، ومأواه قرب الأنهار والأماكن الكثيرة المياه، الملتفة الأشجار، وله لون حسن وتدبير في معاشه. قال ارسطو: إنه يتولد من الشرقراق (1) والغراب، وذلك بين في لونه. وهو طائر يحب الأنس ويقبل الأدب والتربية وفي صفيره وقرقرته أعاجيب: وذلك أنه ربما أفصح بالأصوات كالقمري، وربما ابهم كحمحمة الفرس. وغذاؤه الفاكهة واللحم وغير ذلك ويألف الغياض.
الحكم:
يحمل أكله لأنه من الطيبات، وينبغي أن يخرج فيه وجه بالحرمة لأكله اللحم ولسبب تولده من الغراب والشرقراق.
الأنوق:
على فعول الرخمة أو طائر أسود له شيء كالعرف أو أصلع الرأس أصفر المنقار قيل: إن في أخلاقها أربع خصال: تحضن بيضها، وتحمي فرخها، وتألف ولدها، ولا تمكن من نفسها غير زوجها.
وفي المثل: «أعز من بيض الأنوق (2)» و «أبعد (3) من بيض الأنوق». فلا يكاد يظفر به، لأن أوكارها في رؤوس الجبال والأماكن الصعبة وهي تحمق مع ذلك قال الشاعر:
وذات اسمين والألوان شتى ... وتحمق وهي كيسة الحويل (4)
وقال غيره:
وكنت إذا استودعت سرا كتمته ... كبيض أنوق لا ينال لها وكر
وقال رجل لمعاوية: زوجني هندا، يعني أمه، فقال: إنها قعدت عن الولد فلا حاجة لها إلى الزواج. قال فولى ناحية كذا. فأنشد معاوية رضي الله تعالى عنه:
طلب الأبلق العقوق فلما ... أعجزته أراد بيض الأنوق (5)
__________
(1) الشرقرق: طائر مرقّط ملوّن.
(2) جمهرة الأمثال: 2/ 55.
(3) جمهرة الأمثال: 1/ 194.
(4) الخويل: الشاهد.
(5) في الحيوان للجاحظ: 3/ 522.(2/71)
ومعناه أنه طلب ما لا يكون، فلما لم يجده، طلب ما يطمع في الوصول إليه، وهو مع ذلك بعيد. كذا قاله جماعة ممن تكلم على الأمثال. وهو غلط لأن أم معاوية ماتت في المحرم سنة أربع عشرة. في اليوم الذي مات فيه أبو قحافة والد أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنهما والصواب الذي في نهاية ابن الأثير وغيرها أن رجلا قال لمعاوية رضي الله تعالى عنه: افرض لي قال: نعم قال:
ولولدي: قال: لا، قال: ولعشيرتي، قال: لا. ثم تمثل معاوية رضي الله تعالى عنه بقول الشاعر طلب الأبلق العقوق إلى آخره. والعقوق الخامل من الفوق والأبلق من صفات الذكور، والذكر لا يحمل. فكأنه قال طلب الذكر الحامل وبيض الأنوق، مثل يضرب للذي يطلب المحال الممتنع.
وقال السهيلي في أوائل الروض: الأنوق الأنثى من الرخم يقال في المثل أراد بيض الأنوق إذا طلب ما لا يوجد لأنها تبيض حيث لا يدرك بيضها في شواهق الجبال. وهذا قول المبرد (1) في الكامل ولم يوافق عليه. فقد قال الخليل (2): الأنوق الذكر نت الرخم. وهذا أشبه بالمعنى لأن الذكر لا يبيض، فمن أراد بيض الأنوق فقد أراد المحال، كمن أراد الأبلق العقوق. وقال القالي في الأمالي: الأنوق يقع على الذكر والأنثى من الرخم.
وحكم الأنوق يأتي إن شاء الله تعالى في باب الراء في الرخمة.
تتمة:
السهيلي اسمه عبد الرحمن بن محمد السهيلي الخثعمي الإمام المشهور قال أبو الخطاب (3) بن دحية: أنشدني السهيلي أبياتا وقال ما سأل الله تعالى بها أحد حاجة إلا قضاها، وفي رواية إلا أعطاه الله إياها وكذلك من استعمل إنشادها وهي (4):
يا من يرى ما في الضمير ويسمع ... أنت المعدّ لكل ما يتوقع ... يا من يرجى للشدائد كلها ... يا من إليه المشتكى والمفزع ... يا من خزائن رزقه في قول كن ... امنن فإن الخير عندك أجمع ... ما لي سوى فقري إليك وسيلة ... فبالافتقار إليك فقري أدفع ... ما لي سوى قرعي لبابك حيلة ... فلئن رددت فأي باب أقرع ... ومن الذي أدعو وأهتف باسمه ... إن كان فضلك عن فقيرك يمنع ... حاشا لجودك أن تقنط عاصيا ... فالفضل أجزل والمواهب أوسع
وكان السهيلي مكفوف البصر توفي سنة إحدى وثمانين وخمسمائة رحمه الله تعالى والله الموفق للصواب.
الإوز:
بكسر الهمزة وفتح الواو البط واحدته إوزة وجمعوا بالواو والنون فقالوا: اوزون.
وقد أجاد في وصفها أبو نواس (5) حيث قال:
__________
(1) المبرّد: أبو العباس محمد بن يزيد النحوي المتوفّي سنة 285هـ.
(2) الخليل بن أحمد الفراهيدي اللغوي النحوي صانع علم العروض.
(3) ابن دحية: عمر بن الحسن بن علي بن محمد، أديب مؤرخ محدث من أهل سبتة رحل إلى مراكش ومنها إلى مصر. مات بالقاهرة سنة 633هـ.
(4) وفيات الأعيان: 3/ 143.
(5) أبو نواس: الحسن بن هانىء الشاعر العباسي الماجن مات سنة 194هـ.(2/72)
كأنما يصفرن من ملاعق ... صرصرة لأقلام في المهارق (1)
وأبو نواس شاعر ماهر، وهو من شعراء الدولة العباسية وله أخبار عجيبة، ونكت غريبة، وخمريات أبدع فيها، واسمه الحسن بن هانىء بن عبد الأول. قال ابن خلكان في ترجمة أبي نواس قال المأمون: لو وصفت الدنيا نفسها لما وصفت بمثل قول (2) أبي نواس:
ألا كلّ حي هالك وابن هالك ... وذو نسب في الهالكين عريق ... إذا امتحن الدنيا لبيب تكشفت ... له عن عدو في ثياب صديق
قال (3) ومن أحسن ما أتى به من المغاني وأغربها ويدل على حسن ظنه بالله تعالى قوله:
تكثر ما استطعت من الخطايا ... فإنك بالغ ربا غفورا ... ستبصر إن وردت عليه عفوا ... وتلقى سيدا ملكا كبيرا ... تعض ندامة كفيك مما ... تركت مخافة النار الشرورا
قال محمد بن نافع: رأيت أبا نواس في المنام بعد موته فقلت: يا أبا نواس، فقال: لات حين كنية، فقلت: الحسن بن هانىء قال: نعم، قلت: ما فعل الله بك؟ قال: غفر لي بأبيات قلتها في علتي قبل موتي وهي تحت الوسادة، قال: فأتيت أهله فقلت: هل قال أخي شعرا قبل موته؟ قالوا: لا نعلم، إلا إنه دعا بدواة وقرطاس وكتب شيئا لا ندري ما هو قال: فدخلت ورفعت وسادته فإذا أنا برقعة مكتوب فيها (4):
يا رب إن عظمت ذنوبي كثرة ... فلقد علمت بأن عفوك أعظم ... إن كان لا يرجوك إلا محسن ... فمن الذي يدعو ويرجو المجرم (5)
... أدعوك رب كما أمرت تضرعا ... فإذا رددت يدي فمن ذا يرحم ... ما لي إليك وسيلة إلا الرجا ... وجميل عفوك ثم إني مسلم
قال: وسئل أبو نواس عن نسبه فقال: أغناني أدبي عن نسبي. وتوفي سنة أربع وتسعين ومائة.
والأوز يحب السباحة، وفرخه يخرج من البيضة فيسبح في الحال، وإذا حضنت الأنثى قام الذكر يحرسها لا يفارقها طرفة عين، وتخرج أفراخها في أواخر الشهر. روى الإمام أحمد في المناقب، عن الحسين بن كثير، عن أبيه وكان قد أدرك عليا رضي الله تعالى عنه، قال: خرج علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه، إلى صلاة الفجر فإذا إوز يصحن في وجهه، فطردوهن فقال: دعوهن، فإنهن نوائح، فضربه ابن ملجم، فقلت: يا أمير المؤمنين خل بيننا وبين مراد فلا
__________
(1) المهارق: جمع المهرق: الصحيفة.
(2) ديوان أبي نواس: 465. وفيه: «كل حي هالكا وذا نسب».
(3) ديوانه: 307. وفيه: «فإنك قاصد».
(4) ديوانه: 587.
(5) في الديوان: «فبمن يلوذ ويستجير المجرم».(2/73)
تقوم لهم ثاغية ولا راغية أبدا، فقال: لا ولكن احبسوا الرجل، فإن أنا مت فاقتلوه، وإن أعش فالجروح قصاص. انتهى.
وسبب ذلك، على ما ذكره ابن خلكان وغيره، أنه اجتمع قوم من الخوارج فتذاكروا أصحاب النهروان، وترحموا عليهم، وقالوا ما نصنع بالبقاء بعدهم؟ فتحالف عبد الرحمن بن ملجم، والبرك بن عبد الله، وعمرو بن بكر التميمي على أن يأتي كل واحد منهم واحدا من علي ومعاوية وعمرو بن العاص رضي الله تعالى عنهم، فقال ابن ملجم وهو أشقى الآخرين: أنا أكفيكم علي بن أبي طالب، وقال البرك: وأنا أكفيكم معاوية، وقال ابن بكر: وأنا أكفيكم عمرو بن العاص. ثم سموا سيوفهم وتواعدوا لسبع عشرة ليلة خلت من رمضان. فدخل ابن ملجم الكوفة فرأى امرأة حسناء، يقال لها قطام، كان علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه قد قتل أباها وأخاها يوم النهروان، فخطبها فقالت لا أتزوجك حتى أشترط، قال: وما شرطك؟ قالت:
ثلاثة آلاف وعبد ووصيفة وقتل علي فقال لها: وكيف لي بقتل علي؟ فقالت: تروم ذلك غيلة فإن سلمت أرحت الناس من شره، وأقمت مع أهلك، وإن أصبت خرجت إلى الجنة ونعيم لا يزول فأنعم لها، وقال: ما جئت إلا لقتله. ثم أقبل ابن ملجم حتى جلس مقابل السدة التي يخرج منها علي رضي الله تعالى عنه: فزت ورب الكعبة، شأنكم بالرجل فخذوه، فحمل ابن ملجم علي رضي الله تعالى عنه: فزت ورب الكعبة، شأنكم بالرجل فخذوه، فحمل ابن ملجم على الناس بسيفه، فأفرجوا له، وتلقاه المغيرة بن نوفل بن الحارث بن عبد المطلب بقطيفة فرمى بها عليه واحتمله، فضرب به الأرض وجلس على صدره. قالوا: وأقام علي رضي الله عنه يومين ومات. وقتل الحسن بن علي عبد الرحمن بن ملجم، فاجتمع الناس وأحرقوا جثته.
وأما البرك فإنه ضرب معاوية رضي الله عنه، فأصاب أوراكه، وكان معاوية عظيم الأوراك، فقطع منه عرق النكاح، فلم يولد له بعد ذلك. فلما أخذ قال: الأمان والبشارة، فقد قتل علي في هذه الليلة، فاستبقاه حتى جاءه الخبر بذلك، فقطع معاوية يده ورجله وأطلقه. فرحل إلى البصرة، وأقام بها حتى بلغ زياد ابن أبيه أنه ولد له، فقال: أيولد له وأمير المؤمنين لا يولد له؟
فقتله قالوا: وأمر معاوية رضي الله عنه باتخاذ المقصورة من ذلك الوقت، وأما ابن بكر فإنه رصد عمرو ابن العاص رضي الله تعالى عنه، فاشتكى عمرو بطنه، فلم يخرج للصلاة، فصلى بالناس رجل من بني سهم يقال له خارجة فضربه ابن بكر فقتله فأخذ ابن بكر فلما أدخل على عمرو رضي الله تعالى عنه، ورآهم يخاطبونه بالإمارة قال: أو ما قتلت عمرا قال له: لا وإنما قتلت خارجة. قال:
أردت عمرا وأراد الله خارجة. فقتله عمرو رضي الله تعالى عنه وقيل: إن عليا رضي الله عنه، كان إذا رأى ابن ملجم يتمثل ببيت عمرو (1) بن معد يكرب بن قيس بن مكشوح المرادي وهو قوله (2):
__________
(1) هو عمرو بن معد يكرب بن ربيعة بن عبد الله الزبيدي، فارس اليمن، وصاحب الغارات، اسلم سنة 9هـ. وشهد اليرموك والقادسية، له شعر جيد، مات سنة 21هـ.
(2) العقد الفريد: 2/ 152.(2/74)
أريد حياته ويريد قتلي ... عذيرك من خليلك من مراد
فقيل لعلي رضي الله تعالى عنه: كأنك عرفته وعرفت ما يريد أفلا تقتله؟ قال: كيف أقتل قاتلي؟ ولما انتهى إلى عائشة رضي الله تعالى عنها قتل علي رضي الله تعالى عنه قالت (1):
فألقت عصاها واستقر بها النوى ... كما قر عينا بالإياب المسافر
وعلي رضي الله تعالى عنه، أول إمام خفي قبره. قيل: إن عليا رضي الله عنه أوصى أن يخفى قبره لعمله أن الأمر يصير إلى بني أمية فلم يأمن أن يمثلوا بقبره. وقد اختلف في قبره فقيل: في زاوية الجامع بالكوفة وقيل في قصر الإمارة بها، وقيل بالبقيع وهو بعيد، وقيل: إنه بالنجف في المشهد الذي يزار اليوم وسيأتي إن شاء الله تعالى ما ذكره ابن خلكان في ذلك في باب الفاء في لفظ الفهد والله الموفق.
فائدة أجنبية:
ولما كان الحديث ذا شجون، وإفادة العلم تحقق للطالبين ما يرجون، وتجدد لهم ما ينسى الخليع أيام المجون، أحببت أن أذكر ههنا فائدة غريبة ذكرها المؤرخون، وهو أن كل سادس قائم بأمر الأمة مخلوع، وها أنا أذكر ما ذكروه، وأزيد عليه قدرا يسيرا من سيرة كل واحد منهم، وأيامه وسبب موته ومدة خلافته وعمره، لتكمل بذلك الفائدة، وتحل الجدوى والعائدة.
قال المؤرخون: إن أول قائم بأمر الأمة النبي صلى الله عليه وسلم، بعثه الله تعالى على فترة من الرسل، رحمة للعالمين، فبلغ الرسالة وجاهد في الله حق جهاده، ونصح الأمة وعبد ربه حتى أتاه اليقين، فهو أفضل الخلق وأشرف الرسل، نبي الرحمة وإمام المتقين، وحامل لواء الحمد وصاحب الشفاعة، والمقام المحمود، والحوض المورود. آدم فمن دونه يوم القيامة تحت لوائه، فهو خير الأنبياء، وأمته خير الأمم، وأصحابه أفضل الناس بعد الأنبياء، وملته أشرف الملل له المعجزات الباهرة، والخلق العظيم والعقل الكامل الجسيم، والنسب الأشرف والجمال المطلق، والكرم الأوفر والشجاعة التامة، والحلم الزائد، والعلم النافع، والعمل الأرفع والخوف الأكمل، والتقوى الباهرة، فهو أفصح الخلق وأكملهم في كل صفات الكمال وأبعد الخلق عن الدناآت والنقائص وفيه قال الشاعر:
لم يخلق الرحمن مثل محمد ... أبدا وعلمي أنه لا يخلق
قالت عائشة رضي الله عنها: كان النبي صلى الله عليه وسلم، إذا كان في بيته في مهنة أهله، أي في خدمتهم، وكان يفلي ثوبه ويرقعه، ويخصف نعله ويخدم نفسه، ويعلق ناضحه، ويقم البيت أي يكنسه، ويعقل البعير ويأكل مع الخادم، ويعجن معها، ويحمل بضاعته من السوق، وكان عليه الصلاة والسلام متواصل الأحزان، دائم الفكر، ليست له راحة. وقد قال علي رضي الله تعالى عنه: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن سنته، فقال: «المعرفة رأس مالي والحب أساسي والشوق
__________
(1) البيت في وفيات الأعيان: 1/ 234.(2/75)
مركبي، وذكر الله أنيسي والحزن رفيقي، والعلم سلاحي، والصبر ردائي، والرضا غنيمتي، والفقر فخري، والزهد حرفتي، واليقين قوتي والصدق شفيعي، والطاعة حسبي، والجهاد خلقي وقرة عيني في الصلاة.
وأما حلمه صلى الله عليه وسلم، وجوده وشجاعته، وحياؤه وحسن عشرته، وشفقته ورأفته، ورحمته وبره، وعدله ووقاره، وصبره وهيبته، وثقته وبقية خصاله الحميدة، التي لا تكاد تحصر فكثيرة جدا فقد صنف العلماء رضي الله تعالى عنهم في سيرته وأيامه، ومبعثه وغزواته، وأخلاقه ومعجزاته، ومحاسنه وشمائله، كتبا جمة، ولو أردنا ذكر قدر يسير منها لجاء في مجلدات كثيرة، ولسنا بصدد ذلك في هذا الكتاب، قالوا: وكانت وفاته صلى الله عليه وسلم بعد أن أكمل الله تعالى لنا ديننا وأتم علينا نعمته في وسط يوم الإثنين الثاني عشر من ربيع الأول سنة أحدى عشرة، وله صلى الله عليه وسلم ثلاث وستون سنة وتولى غسله علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه، ودفن صلى الله عليه وسلم في حجرته التي بناها لأم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها.
خلافة أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه
ثم قام بالأمر بعده صلى الله عليه وسلم، خليفته على الصلاة أيام مرضه، وابن عمه الأعلى ونسيبه وصهره ومؤنسه في الغار، ووزيره وصديقه الأكبر، وخير الخلق بعده أبو بكر الصديق رضي الله تعالى عنه. بويع له بالخلافة في اليوم الذي توفي فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم بسقيفة بني ساعدة، ولذلك قصة تركناها لطولها واشتهارها، فقام بالأمر أتم قيام، وفتح في دولته اليسيرة اليمامة وأطراف العراق وبعض مدن الشام. وكان رضي الله عنه كبير الشأن زاهدا خاشعا، إماما حليما، وقورا شجاعا، صابرا رؤوفا، عديم النظير في الصحابة رضي الله تعالى عنهم.
ولما مات النبي صلى الله عليه وسلم ارتدت العرب، ومنعت الزكاة، فلما استخلف الصديق جمع الصحابة رضي الله تعالى عنهم وشاورهم في القتال، فاختلفوا عليه وقال له عمر رضي الله تعالى عنه كيف نقاتل الناس وقد قال (1) رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله؟ فمن قالها فقد عصم مني دمه وماله إلا بحقه وحسابه على الله عزّ وجلّ؟ فقال الصديق رضي الله عنه:
«والله لأقتلن من فرق بين الصلاة والزكاة، فإن الزكاة حق المال والله لو منعوني عناقا كانوا يؤدونها رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم على منعها (2)». قال عمر رضي الله عنه: «فو الله ما هو إلا أن قد شرح الله صدر أبي بكر للقتال، فعرفت أنه الحق». (3) وفي رواية قال عمر رضي الله عنه: فقلت تألف الناس وارفق بهم فقال لي: «أجبار في الجاهلية وخوار في الإسلام يا عمر؟ إنه قد انقطع الوحي وتم الدين أينقص وأنا حي». ثم خرج لقتالهم.
وذكر جماعة من المؤرخين وغيرهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان قد وجه أسامة بن زيد رضي الله عنهما
__________
(1) رواه البخاري في الإيمان: 7. والصلاة: 28. زكاة: 1. ورواه مسلم في الإيمان: 3632.
(2) رواه ابن حنبل: 2/ 529.
(3) رواه النسائي في الزكاة: 3، ومسلم في الإيمان: 32. وأبو داود في الزكاة: 1.(2/76)
في سبعمائة بطل إلى الشام فلما نزل بذي خشب، قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم، وارتدت العرب فاجتمعت الصحابة رضي الله عنهم وقالوا للصديق رضي الله عنه: رد هؤلاء أي أسامة ومن معه، فقال: والله الذي لا إله إلا هو، لو جرت الكلاب بأرجل أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، ما رددت جيشا جهزه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا حللت عقد لواء عقده رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي رواية لو علمت أن السباع تجر برجلي إن لم أرده ما رددتته. وأمر أسامة (1) رضي الله عنه أن يمضي لوجهه وقال له: إن رأيت أن تأذن لعمر رضي الله عنه بالمقام عندي أستأنس به وأستعين برأيه، فقال له أسامة رضي الله عنه: قد فعلت. وسار أسامة رضي الله تعالى عنه، فجعل لا يمر بقبيلة تريد الارتداد، إلا قالوا: لولا أن لهؤلاء قوة ما خرج مثل هذا الجيش من عندهم، فلقوا الروم فقاتلوهم وهزموهم ورجعوا سالمين.
وعن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: خرج أبي يوم الردة شاهرا سيفه، راكبا راحلته، فجاء علي رضي الله تعالى عنه حتى أخذ بزمام راحلته، وقال: أقول لك ما قال لك رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد: «شم سيفك لا تفجعنا بنفسك فو الله لئن أصبنا بك، لا يكون للإسلام بعدك نظام أبدا» ومعنى شم اغمد. وقال ابن قتيبة: ارتدت العرب إلا القليل منهم فجاهدهم الصديق حتى استقاموا وفتح اليمامة وقتل مسيلمة الكذاب بها والأسود العنسي الكذاب بصنعاء. وبعث الجيوش إلى الشأم والعراق وقال أبو رجاء العطاردي: دخلت المدينة فرأيت الناس مجتمعين ورأيت رجلا يقبل رأس رجل ويقول: أنا فداؤك، والله لولا أنت لهلكنا. فقلت: من المقبل والمقبل؟ فقالوا:
عمر يقبل رأس أبي بكر رضي الله تعالى عنهما، من أجل قتال أهل الردة. وقالت عائشة رضي الله تعالى عنها: لما قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم ارتدت العرب، واشرأب (2) النفاق، ونزل بأبي ما لو نزل على الجبال الراسيات لهاضها، وقال أبو هريرة رضي الله تعالى عنه: والله الذي لا إله إلا هو لو لم يستخلف أبو بكر رضي الله تعالى عنه، ما عبد الله تعالى. ثم قال الثانية ثم قال الثالثة. قالوا:
وكان من اللين والتواضع على جانب عظيم. ولما مرض ترك التطبيب تسليما لأمر الله تعالى فعاده الصحابة رضي الله تعالى عنهم، وقالوا ألا ندعو لك طبيبا ينظر إليك؟ فقال: نظر إلي قالوا وما قال لك؟ قال: قال لي إني فعال لما أريد.
توفي رضي الله عنه ليلة الثلاثاء بين المغرب والعشاء لثمان بقين من جمادى الآخرة سنة ثلاث عشرة من الهجرة، وله رضي الله عنه ثلاث وستون سنة وكان سبب موته كمدا لحقه على رسول الله صلى الله عليه وسلم ما زال يذيبه. والكمد الحزن المكتوم ودفن في حجرة عائشة أم المؤمنين مع سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانت خلافته رضي الله عنه سنتين وثلاثة أشهر وثمانية أيام.
__________
(1) أسامة بن زيد بن حارثة، الكناني، صحابي جليل، كان النبي صلى الله عليه وسلم يحبه، مات بالجرف في الحجاز سنة 54هـ.
(2) اشرأب: علا وظهر.(2/77)
خلافة عمر الفاروق رضي الله تعالى عنه
ثم قام بالأمر بعده أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه. بويع له بالخلافة في اليوم الذي مات فيه أبوبكر رضي الله تعالى عنه، بوصية من أبي بكر إليه رضي الله تعالى عنهما.
فقام بعده بمثل سيرته وجهاده وثباته، وصبره على العيش الخشن، وخبز الشعير، والثوب الخام المرقع، والقناعة باليسير، وفتح الفتوحات الكبار، والأقاليم الشاسعة. وهو أول من سمي بأمير المؤمنين، وهو من المهاجرين الأولين صلى إلى القبلتين وشهد بدرا وبيعة الرضوان، وجميع المشاهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولما أسلم رضي الله تعالى عنه أعزّ الله به الإسلام وتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو عنه راض، وبشره بالجنة.
ومناقبه رضي الله عنه كثيرة جدا وحسبك أنه كان وزير سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وعاش حميدا وتوفي فقيرا سعيدا شهيدا. فما يبغضه إلا زنديق أو حمار مفرط الجهل، وهو أول من عس في عمله رضي الله تعالى عنه، أي كان يمشي ليلا لحفظ الدين والناس، وهابه الناس هيبة عظيمة حتى تركوا الجلوس بالأفنية فلما بلغه رضي الله تعالى عنه هيبة الناس له، جمعهم ثم قام على المنبر حيث كان أبو بكر رضي الله تعالى عنه يضع قدميه، فحمد الله تعالى وأثنى عليه بما هو أهله، وصلّى على النبي صلى الله عليه وسلم، ثم قال: بلغني أن الناس قد هابوا شدتي، وخافوا غلظتي وقالوا: قد كان عمر يشتد علينا ورسول الله صلى الله عليه وسلم بين أظهرنا، ثم اشتد علينا وأبو بكر رضي الله تعالى عنه والينا دونه، فكيف الآن وقد صارت الأمور إليه؟ ولعمري من قال ذلك صدق كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكنت عبده وخادمه حتى قبضه الله عزّ وجلّ وهو عني راض، والحمد لله وأنا أسعد الناس بذلك. ثم ولي أمر الناس أبو بكر رضي الله تعالى عنه فكنت خادمه وعونه أخلط شدّتي بلينه، فأكون سيفا مسلولا حتى يغمدني أو يدعني فما زلت معه كذلك حتى قبضه الله تعالى وهو عني راض، والحمد لله وأنا أسعد الناس بذلك. ثم إني وليت أموركم اعلموا أن تلك الشدّة قد تضاعفت، ولكنها إنما تكون على أهل الظلم والتعدي على المسلمين، وأما أهل السلامة والدين والقصد فأنا ألين لهم من بعضهم لبعض، ولست أدع أحدا يظلم أحدا ويتعدى عليه، حتى أضع خده على الأرض، وأضع قدمي على الخد الآخر حتى يذعن بالحق. ولكم علي أيها الناس أن لا أخبأ عنكم شيئا من خراجكم وإذا وقع عندي، أن لا يخرج إلا بحقه ولكم علي أن لا ألقيكم في المهالك وإذا غبتم في البعوث فأنا أبو العيال حتى ترجعوا. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم.
قال سعيد بن المسيب: وفى والله عمر وزاد في الشدة في مواضعها، واللين في مواضعه، وكان رضي الله تعالى عنه أبا العيال، حتى كان يمشي إلى المغيبات أي التي غاب عنهن أزواجهن، ويقول: ألكن حاجة حتى أشتري لكن؟ فإني أكره أن تخدعن في البيع والشراء، فيرسلن بجواريهن معه فيدخل في السوق، ووراءه من جواري النساء غلمانهن ما لا يحصى، فيشتري لهن حوائجهن.
ومن كان ليس عندها شيء، اشترى لها من عنده رضي الله تعالى عنه. وروي أن طلحة، رضي الله تعالى عنه، خرج فرأى عمر رضي الله تعالى عنه، قد دخل بيتا ثم خرج، فلما أصبح طلحة ذهب إلى ذلك البيت، فإذا عجوز عمياء مقعدة، فقال لها طلحة: ما بال هذا الرجل
يأتيك؟ فقالت: إنه يتعاهدني منذ كذا وكذا بما يصلحني ويخرج عني الأذى. تعني القذر.(2/78)
ومن كان ليس عندها شيء، اشترى لها من عنده رضي الله تعالى عنه. وروي أن طلحة، رضي الله تعالى عنه، خرج فرأى عمر رضي الله تعالى عنه، قد دخل بيتا ثم خرج، فلما أصبح طلحة ذهب إلى ذلك البيت، فإذا عجوز عمياء مقعدة، فقال لها طلحة: ما بال هذا الرجل
يأتيك؟ فقالت: إنه يتعاهدني منذ كذا وكذا بما يصلحني ويخرج عني الأذى. تعني القذر.
ولما رجع رضي الله تعالى عنه من الشام إلى المدينة، انفرد عن الناس، ليتعرف أخبار رعيته، فمر بعجوز في خبائها فقصدها فقالت: يا هذا ما فعل عمر؟ قال: قد أقبل من الشام سالما فقالت: لا جزاه الله عني خيرا قال: ولم قالت: لأنه والله ما نالني من عطائه منذ ولي أمر المؤمنين دينار ولا درهم. فقال: وما يدري عمر بحالك وأنت في هذا الموضع؟ فقالت: سبحان الله والله ما ظننت أن أحدا يلي على الناس، ولا يدري ما بين مشرقها ومغربها! فبكى عمر رضي الله تعالى عنه، وقال: واعمراه كل أحد أفقه منك حتى العجائز يا عمر. ثم قال يا أمة الله بكم تبيعيني ظلامتك من عمر، فإني أرحمه من النار، فقالت: لا تهزأ بنا يرحمك الله! فقال: لست بهزاء فلم يزال بها حتى اشترى منها ظلامتها بخمسة وعشرين دينارا، فبينما هو كذلك، إذ أقبل علي بن أبي طالب، وابن مسعود، فقالا: السلام عليك يا أمير المؤمنين، فوضعت العجوز يدها على رأسها، وقالت: وا سوأتاه شتمت أمير المؤمنين في وجهه، فقال لها عمر رضي الله تعالى عنه: لا بأس عليك رحمك الله. ثم طلب رقعة، يكتب فيها فلم يجد، فقطع قطعة من مرقعته وكتب فيها: بسم الله الرحمن الرحيم هذا ما اشترى عمر من فلانة ظلامتها منذ ولي إلى يوم كذا وكذا، بخمسة وعشرين دينارا فما تدعي عند وقوفه في المحشر بين يدي الله تعالى فعمر منه بريء شهد على ذلك علي بن أبي طالب وابن مسعود رضي الله تعالى عنهما، ثم دفع الكتاب إلى ولده، وقال إذا أنا مت فاجعله في كفني، ألقى به ربي وأخباره رضي الله تعالى عنه في مثل هذا كثيرة جدا.
وذكر الفضائلي أن عمر رضي الله تعالى عنه كتب إلى سعد بن أبي وقاص رضي الله تعالى عنه، وهو بالقادسية بأن يوجه نضلة الأنصاري رضي الله تعالى عنه، إلى حلوان العراق ليغير على ضواحيها، فبعث سعد نضلة في ثلاثمائة فارس، فساروا حتى أتوا حلوان العراق، فأغاروا على ضواحيها فأصابوا غنيمة وسبيا، فأقبلوا بذلك حتى أرهقهم العصر، وكادت الشمس تغرب، فألجأ نضلة السبي والغنيمة إلى سفح جبل، ثم قام فأذن فقال الله أكبر الله أكبر فأجابه مجيب من الجبل: كبرت كبيرا يا نضلة، فقال: أشهد أن لا إله إلا الله فقال: كلمة الإخلاص يا نضلة، ثم قال: أشهد أن محمدا رسول الله فقال: هو الذي بشرنا به عيسى بن مريم عليه السلام، وعلى رأس أمته تقوم الساعة، ثم قال: حي على الصلاة فقال: طوبى لمن سعى إليها وواظب عليها، ثم قال: حي على الفلاح، فقال: قد أفلح من أجاب داعي الله، ثم قال: الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله، قال: أخلصت الإخلاص كله يا نضلة، حرم الله بها جسدك على النار. فلما فرغ من أذانه قام فقال: من أنت يرحمك الله أملك أنت أم من الجن، أم طائف من عباد الله قد أسمعتنا صوتك فأرنا شخصك فإن الوفد وفد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ووفد عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه، فانفلق الجبل عن هامة كالرحا، أبيض الرأس واللحية، عليه طمران من صوف فقال: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، فقالوا: عليك السلام ورحمة الله وبركاته، من أنت يرحمك الله؟ قال:
أبا رزين بن برثملا وصي العبد الصالح عيسى بن مريم عليه السلام، أسكنني في هذا الجبل، ودعا لي بطول البقاء إلى حين نزوله من السماء فاقرؤوا عمر مني السلام وقولوا له: يا عمر سدد
وقارب فقد دنا الأمر، وأخبروه بهذه الخصال التي أخبركم بها: يا عمر إذا ظهرت هذه الخصال في أمة محمد صلى الله عليه وسلم، فالهرب الهرب إذا استغنى الرجال بالرجال، والنساء بالنساء، وانتسبوا إلى غير مناسبهم، وإنتموا إلى غير مواليهم، ولم يرحم كبيرهم صغيرهم، ولم يوقر صغيرهم كبيرهم، وترك الأمر بالمعروف، فلم يؤمر به وترك النهي عن المنكر فلم ينه عنه، وتعلم عالمهم العلم ليجلب به الدنيا، وكان المطر قيظا والولد غيظا، وطولوا المنارات وفضضوا المصاحف، وزخرفوا المساجد وأظهروا الرشا وشيدوا البناء، واتبعوا الهوى وباعوا الدين بالدنيا، وقطعت الأرحام ومنعت الأحكام، وأكلوا الرباء وحاز الغني عزا، والفقير ذلا، وخرج الرجل من بيته، فقام إليه من هو خير منه فسلم عليه، وركبت الفروج السروج. ثم غاب عنهم فلم يروه. فكتب نضلة إلى سعد بذلك، فكتب سعد بذلك إلى عمر، رضي الله تعالى عنهم أجمعين، فكتب إليه عمر رضي الله تعالى عنه: سر أنت بنفسك ومن معك، من المهاجرين والأنصار، حتى تنزلوا بهذا الجبل، فإن لقيته فاقرئه مني السلام، فخرج سعد رضي الله تعالى عنه، في أربعة آلاف فارس من المهاجرين والأنصار وأبنائهم، حتى نزلوا بذلك الجبل، ومكث سعد رضي الله تعالى عنه أربعين يوما ينادي بالصلاة، فلا يجد جوابا ولا يسمع خطابا فكتب بذلك إلى عمر رضي الله تعالى عنه.(2/79)
أبا رزين بن برثملا وصي العبد الصالح عيسى بن مريم عليه السلام، أسكنني في هذا الجبل، ودعا لي بطول البقاء إلى حين نزوله من السماء فاقرؤوا عمر مني السلام وقولوا له: يا عمر سدد
وقارب فقد دنا الأمر، وأخبروه بهذه الخصال التي أخبركم بها: يا عمر إذا ظهرت هذه الخصال في أمة محمد صلى الله عليه وسلم، فالهرب الهرب إذا استغنى الرجال بالرجال، والنساء بالنساء، وانتسبوا إلى غير مناسبهم، وإنتموا إلى غير مواليهم، ولم يرحم كبيرهم صغيرهم، ولم يوقر صغيرهم كبيرهم، وترك الأمر بالمعروف، فلم يؤمر به وترك النهي عن المنكر فلم ينه عنه، وتعلم عالمهم العلم ليجلب به الدنيا، وكان المطر قيظا والولد غيظا، وطولوا المنارات وفضضوا المصاحف، وزخرفوا المساجد وأظهروا الرشا وشيدوا البناء، واتبعوا الهوى وباعوا الدين بالدنيا، وقطعت الأرحام ومنعت الأحكام، وأكلوا الرباء وحاز الغني عزا، والفقير ذلا، وخرج الرجل من بيته، فقام إليه من هو خير منه فسلم عليه، وركبت الفروج السروج. ثم غاب عنهم فلم يروه. فكتب نضلة إلى سعد بذلك، فكتب سعد بذلك إلى عمر، رضي الله تعالى عنهم أجمعين، فكتب إليه عمر رضي الله تعالى عنه: سر أنت بنفسك ومن معك، من المهاجرين والأنصار، حتى تنزلوا بهذا الجبل، فإن لقيته فاقرئه مني السلام، فخرج سعد رضي الله تعالى عنه، في أربعة آلاف فارس من المهاجرين والأنصار وأبنائهم، حتى نزلوا بذلك الجبل، ومكث سعد رضي الله تعالى عنه أربعين يوما ينادي بالصلاة، فلا يجد جوابا ولا يسمع خطابا فكتب بذلك إلى عمر رضي الله تعالى عنه.
وعمر رضي الله تعالى عنه أول من أرخ التاريخ وذلك في سنة ست عشرة، وفيها كان فتح بيت المقدس صلحا. وفيها نزل سعد بن أبي وقاص رضي الله تعالى عنه الكوفة ومصرّها، وهو أول من دون الدواوين ومصر الأمصار وحقق كلمته في إعلاء كلمة الله تعالى، ففتح الله تعالى على يديه مواضع عديدة ففتح رضي الله تعالى عنه دمشق ثم الروم ثم القادسية، ثم انتهى الفتح إلى حمص وحلوان والرقة والرها وحران ورأس العين وخابور ونصيبين وعسقلان وطرابلس، وما يليها من الساحل وبيت المقدس وبيسان واليرموك والأهواز وقيسارية ومصر وتستر ونهاوند والري وما يليها، وأصبهان وبلاد فارس واصطخر وهمذان والنوبة والبرلس والبربر وغير ذلك وكانت درته أهيب من سيف الحجاج، وهابه ملوك فارس والروم وغيرهم، ومع ذلك كله بقي على حاله كما كان قبل الولاية في لبسه وزيه وأفعاله وتواضعه يسير منفردا في حضره وسفره من غير حرس ولا حجاب لم تغيره الإمرة، ولم يستطل على مسلم بلسانه، ولا حابى أحدا في الحق، وكان لا يطمع الشريف في حيفه، ولا ييأس الضعيف من عدله، ولا يخاف في الله لومة لائم. ونزّل نفسه رضي الله تعالى عنه، من مال الله تعالى منزلة رجل من المسلمين، وجعل فرضه كفرض رجل من المهاجرين، وكان يقول: أنا في مالكم كولي مال اليتيم، إن استغنيت استعففت، وإن افتقرت أكلت بالمعروف أراد بذلك أنه يأكل ما تقوم به بنيته ولا يتعداه، وقال مجاهدا: تذاكر الناس في مجلس ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، فأخذوا في فضل أبي بكر ثم في فضل عمر رضي الله تعالى عنهما، فلما سمع ابن عباس ذكر عمر رضي الله تعالى عنه، بكى بكاء شديدا حتى أغمي عليه، ثم قال:
رحم الله عمر قرأ القرآن وعمل بما فيه فأقام حدود الله كما أمر لا تأخذه في الله لومة لائم لقد رأيت عمر رضي الله تعالى عنه، وقد أقام الحد على ولده فقتله فيه. وستأتي الإشارة إلى ذلك في باب الدال المهملة في لفظ الديك، وقتل رضي الله عنه في سنة ثلاث وعشرين، قتله أبو لؤلؤة غلام المغيرة بن شعبة، واسمه فيروز، وكان المغيرة رضي الله تعالى عنه، يستغله كل يوم أربعة دراهم،
لأنه كان يصنع الأرحاء، فلقي عمر يوما فقال: يا أمير المؤمنين إن المغيرة قد أثقل على غلتي فكلمه لي ليخفف عني، فقال له عمر رضي الله تعالى عنه اتق الله وأحسن إلى مولاك.(2/80)
رحم الله عمر قرأ القرآن وعمل بما فيه فأقام حدود الله كما أمر لا تأخذه في الله لومة لائم لقد رأيت عمر رضي الله تعالى عنه، وقد أقام الحد على ولده فقتله فيه. وستأتي الإشارة إلى ذلك في باب الدال المهملة في لفظ الديك، وقتل رضي الله عنه في سنة ثلاث وعشرين، قتله أبو لؤلؤة غلام المغيرة بن شعبة، واسمه فيروز، وكان المغيرة رضي الله تعالى عنه، يستغله كل يوم أربعة دراهم،
لأنه كان يصنع الأرحاء، فلقي عمر يوما فقال: يا أمير المؤمنين إن المغيرة قد أثقل على غلتي فكلمه لي ليخفف عني، فقال له عمر رضي الله تعالى عنه اتق الله وأحسن إلى مولاك.
فغضب أبو لؤلؤة وقال: يا عجباه قد وسع الناس عدله غيري، وأضمر على قتله واصطنع له خنجرا له رأسان، وسمه وتحين به عمر رضي الله تعالى عنه، فجاء عمر إلى صلاة الغداة، قال عمرو بن ميمون: إني لقائم في الصلاة، وما بيني وبين عمر إلا ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، فما هو إلا أن كبر فسمعته يقول: قتلني الكلب، حين طعنه، وطار العلج (1) بسكين كان ذات طرفين لا يمر على أحد يمينا أو شمالا إلا طعنه، حتى طعن ثلاثة عشر رجلا، مات سبعة، وقيل تسعة. فلما رأى ذلك رجل من المسلمين طرح عليه برنسا، فلما علم أنه مأخوذ نحر نفسه. فقال عمر رضي الله تعالى عنه: قاتله الله لقد أمرت به معروفا. ثم قال الحمد لله الذي لم يجعل منيتي بيد رجل يدعي الإسلام. وكان أبو لؤلؤة مجوسيا ويقال كان نصرانيا توفي في ذي الحجة لأربع عشرة ليلة مضت منه في السنة المذكورة بعد طعنه بيوم وليلة عن ثلاث وستين سنة، ودفن مع صاحبه في الحجرة النبوية. ولما توفي عمر رضي الله تعالى عنه، أظلمت الأرض فجعل الصبي يقول: يا أماه أقامت القيامة؟ فتقول لا يا بني، ولكن قتل عمر رضي الله تعالى عنه. وسيأتي طرف من هذا، وذكر الشورى في لفظ الديك أيضا قال ابن إسحاق: وكانت خلافته رضي الله تعالى عنه عشر سنين وستة أشهر وخمس ليال وقال غيره وثلاثة عشر يوما والله أعلم.
خلافة أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه
ثم قام بعده بالأمر أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه. اشتور أهل الحل والعقد بعد دفن عمر بثلاثة أيام واتفقوا على مبايعته. وهو ابن عم المصطفى صلى الله عليه وسلم الأعلى، بويع له بالخلافة في أول يوم من سنة أربع وعشرين، قال أهل التاريخ إنه لم يزل اسمه في الجاهلية والإسلام عثمان ويكنى أبا عمرو وأبا عبد الله، والأول أشهر، وينسب إلى أمية بن عبد شمس، فيقال: الأموي، يجتمع مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في عبد مناف، ويدعى بذي النورين، قيل لأنه تزوج بابنتي رسول الله صلى الله عليه وسلم، رقية وأم كلثوم رضي الله تعالى عنهما، ولم يعلم أحد تزوج بابنتي نبي غيره رضي الله تعالى عنه، وقيل لأنه إذا دخل الجنة برقت له برقتين، وقيل لأنه يختم القرآن في الوتر، والقرآن نور وقيام الليل نور، وقيل غير ذلك.
وهو رضي الله تعالى عنه، من السابقين وصلّى إلى القبلتين وهاجر الهجرتين، وهو أول من هاجر إلى الحبشة فارا بدينه، ومعه زوجته رقية رضي الله تعالى عنهما. وعد من البدريين، ومن أهل بيعة الرضوان، ولم يحضرهما، وكان سبب غيبته عن بدر أن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، كانت تحته وهي مريضة، فأذن له رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجلوس عندها ليمرضها، وقال له: لك أجر رجل ممن شهد بدرا، وسهمه. وأما غيبته عن بيعة الرضوان، فلو كان أحد أعزّ منه ببطن مكة، لبعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم مكانه، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال بيده اليمنى هذه يد عثمان. وتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم
__________
(1) العلج: الكافر من كفار العجم.(2/81)
وهو عنه راض، وبشره بالجنة ودعا له بالخصوصية، غير مرة فأثرى وكثر ماله، وكانت له شفقة ورأفة، فلما ولي زاد تواضعه وشفقته ورأفته برعيته، وكان يطعم الناس طعام الإمارة ويأكل الخل والزيت، وجهز جيش العسرة بتسعمائة وخمسين بعيرا بأحلاسها وأقتابها (1)، وأتم الألف بخمسين فرسا، وقال قتادة: حمل عثمان رضي الله تعالى عنه على ألف بعير، وسبعين فرسا، وقال الزهري:
حمل على تسعمائة وأربعين بعيرا وستين فرسا.
وعن حذيفة بن اليمان، قال (2): «بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عثمان رضي الله تعالى عنه في تجهيز جيش العسرة، فبعث إليه عثمان بعشرة آلاف دينار، فصبت بين يديه فجعل صلى الله عليه وسلم يقلبها بيده، ويقول غفر الله لك يا عثمان، ما أسررت وما أعلنت، وما هو كائن إلى يوم القيامة». وفي رواية: «ما يضر عثمان ما فعل بعد اليوم واشترى بئر رومة بخمسة وثلاثين ألفا وسبلها».
وله رضي الله تعالى عنه من الخيرات وأفعال البر ما يطول ذكره. قال ابن قتيبة وافتتح في أيامه الإسكندرية وسابور وإفريقية، وقبرس وسواحل الروم، واصطخر الأخرى وفارس الأولى وخوزستان، وفارس الأخرى وطبرستان، وكرمان وسجستان، والأساورة وإفريقية، من حصون قبرص وساحل الأردن ومرو. ولما عمرت المدينة وصارت وافرة الأنام وقبة الإسلام، وكثرت فيها الخيرات والأموال وجبى إليها الخراج، من الممالك وبطرت الرعية من كثرة الأموال والخيل، والنعم، وفتحوا أقاليم الدنيا واطمأنوا وتفرغوا، أخذوا ينقمون على خليفتهم عثمان رضي الله تعالى عنه، لأنه كان له أموال عظيمة، وكان له ألف مملوك ولكونه يعطي المال لأقاربه ويوليهم الولايات الجليلة، فتكلموا فيه إلى أن قالوا: هذا لا يصلح للخلافة وهموا بعزله وثاروا لمحاصرته وجرت أمور يطول ذكرها فحاصروه في داره أياما وكانوا أهل جفاء، ورؤوس شر، فوثب عليه ثلاثة فذبحوه في بيته، والمصحف بين يديه، وهو شيخ كبير، وكان ذلك أول وهن وبلاء على هذه الأمة بعد نبيهم صلى الله عليه وسلم فإنا لله وإنا إليه راجعون. قتلوه قاتلهم الله، يوم الجمعة الثامن عشر من ذي الحجة الحرام سنة خمس وثلاثين.
ومناقبه رضي الله تعالى عنه كثيرة جدا. شهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجنة وقال: ألا أستحيي ممن تستحيي منه الملائكة وأخبر صلى الله عليه وسلم، بأنه شهيد وأنه يبتلى، وتفرقت الكلمة بعد قتله رضي الله تعالى عنه، وماج الناس واقتتلوا للأخذ بثاره حتى قتل من المسلمين تسعون ألفا، وقال ابن خلكان وغيره: لما بويع عثمان رضي الله تعالى عنه، نفى أباذر الغفاري (3) رضي الله تعالى عنه إلى الربذة (4) لأنه كان يزهد الناس في الدنيا ورد الحكم بن أبي العاص (5) وكان قد نفاه
__________
(1) الحلس: كساء على ظهر البعير. والقتب واحد الأقتاب: الإكاف الصغير على قدر سنام البعير.
(2) رواه: ابن حنبل 6/ 49، 63.
(3) أبو ذر: جندب بن جنادة بن سفيان بن عبيد، الغفاري الكناني، من كبار الصحابة دعا إلى مشاركة الأغنياء أموالهم لصالح الفقراء فنفاه عثمان إلى الربذة. مات سنة 32هـ.
(4) الرّبذة: موضع قرب المدينة المنورة.
(5) الحكم بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس القرشي الأموي، صحابي، نفاه النبي صلى الله عليه وسلم إلى الربذة، وهو عمّ عثمان بن عفان الذي ردّه إلى المدينة. مات سنة 32هـ.(2/82)
رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الربذة ولم يرده أبو بكر ولا عمر فرده عثمان رضي الله تعالى عنهم. قيل: إنما رده بإذن من النبي صلى الله عليه وسلم، قاله غير واحد. ولى مصر عبد الله بن أبي (1) سرح، وأعطى أقاربه الأموال فكان ذلك مما نقم عليه الناس، فلما كانت سنة خمس وثلاثين، قدم المدينة مالك الأشتر (2)
النخعي في مائتي رجل من أهل الكوفة، ومائة وخمسين من أهل البصرة وستمائة من أهل مصر، كلهم مجمعون على خلع عثمان رضي الله تعالى عنه من الخلافة، فلما اجتمعوا في المدينة سير إليهم عثمان رضي الله تعالى عنه المغيرة بن شعبة (3) وعمرو بن العاص رضي الله تعالى عنهما، يدعوهم إلى كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فردوهما أقبح رد، ولم يسمعوا كلامهما. فبعث إليهم عليا رضي الله تعالى عنه فردهم إلى ذلك، وضمن لهم ما يعدهم به عثمان رضي الله تعالى عنه، وكتبوا على عثمان كتابا بإزاحة عللهم، والسير فيهم بكتاب الله عزّ وجلّ، وسنة نبيّه صلى الله عليه وسلم، وأخذوا عليه عهدا بذلك، وأشهدوا على علي رضي الله تعالى عنه أنه ضمن ذلك، واقترح المصريون على عثمان رضي الله تعالى عنه عزل عبد الله بن أبي سرح، وتولية محمد بن أبي بكر فأجابهم إلى ذلك وولاه وافترق الجمع كل إلى بلده، فلما وصل المصريون إلى إيلة وجدوا رجلا على نجيب لعثمان رضي الله تعالى عنه ومعه كتاب مختوم بخاتم عثمان، مصطنع على لسانه، وعنوانه من عثمان إلى عبد الله بن أبي سرح وفيه إذا قدم محمد بن أبي بكر ومعه فلان وفلان فاقطع أيديهم وأرجلهم وارفعهم على جذوع النخل، فرجع المصريون ورجع البصريون والكوفيون لما بلغهم ذلك وأخبروه الخبر فحلف عثمان رضي الله تعالى عنه أنه ما فعل ذلك، ولا أمر به، فقالوا: هذا أشد عليك يؤخذ خاتمك ونجيب من إبلك وأنت لا تعلم. ما أنت إلا مغلوب على أمرك! ثم سألوه أن يعتزل فأبى، فأجمعوا على حصاره فحاصروه في داره، وكان من أكبر المؤلبين عليه محمد بن أبي بكر. وكان الحصار في سلخ شوال، واشتد الحصار، ومنع من أن يصل إليه الماء قال أبو أمامة الباهلي رضي الله تعالى عنه: كنا مع عثمان وهو محصور في الدار، فقال: «وبم يقتلوني؟ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول (4)
لا يحل دم امرىء مسلم إلا بإحدى ثلاث رجل كفر بعد إسلام، أو زنى بعد إحصان، أو قتل نفسا بغير حق فيقتل بها، فو الله ما أحببت بديني بدلا، منذ هداني الله تعالى، ولا زنيت في جاهلية ولا إسلام، ولا قتلت نفسا بغير حق فبم يقتلوني»؟ رواه الإمام أحمد.
وعن شداد بن أوس رضي الله تعالى عنه أنه قال «لما اشتد الحصار بعثمان رضي الله تعالى عنه، يوم الدار رأيت عليا رضي الله تعالى عنه خارجا من منزله معتما بعمامة رسول الله صلى الله عليه وسلم، متقلدا بسيفه وأمامه ابنه الحسن وعبد الله بن عمر في نفر من المهاجرين والأنصار، رضي الله تعالى
__________
(1) هو عبد الله بن سعد بن أبي سرح القرشي فاتح افريقية وفارس بني عامر، ولي مصر سنة 25هـ، اعتزل الفتنة أيام صفين. مات سنة 37هـ في عسقلان.
(2) هو مالك بن الحارث بن عبد يغوث النخعي من الأمراء، شهد اليرموك، وكان فيما بعد ممن حرضوا ضد عثمان وثاروا ضده وشهد صفين والجمل مع علي. له شعر جيد. مات سنة 37هـ.
(3) المغيرة بن شعبة بن أبي عامر بن مسعود الثقفي صحابي من الدهاة. شهد فتح الشام والعراق، وتولى البصرة واعتزل الفتنة أيام صفين. مات سنة 50هـ.
(4) رواه أحمد: 6/ 205.(2/83)
عنهم، فحملوا على الناس وفرقوهم، ثم دخلوا على عثمان رضي الله تعالى عنه، فقال له علي رضي الله تعالى عنه: السلام عليك يا أمير المؤمنين، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يلحق هذا الأمر حتى ضرب بالمقبل المدبر، وإني والله لا أرى القوم إلا قاتليك فمرنا فلنقاتل، فقال عثمان: أنشد الله رجلا رأى لله عزّ وجلّ عليه حقا، وأقرأن لي عليه حقا، أن يهريق بسببي ملء محجمة من دم، أو يهريق دمه في. فأعاد علي عليه القول، فأجابه بمثل ما أجابه، قال فرأيت عليا رضي الله تعالى عنه خارجا من الباب، وهو يقول: اللهم إنك تعلم أنا قد بذلنا المجهود. ثم دخل المسجد فاقتحموا على عثمان رضي الله تعالى عنه الدار، والمصحف بين يديه، فأخذ محمد بن أبي بكر بلحيته، فقال له عثمان رضي الله تعالى عنه: أرسل لحيتي يا بن أخي فو الله لو رأى أبوك مقامك هذا لساءه. فأرسل لحيته وولى، فضربه بتار بن عياض وسودان بن حمران بسيفيهما فنضح الدم على قوله (1) تعالى: {فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللََّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} وجلس عمرو بن الحمق على صدره، وضربه حتى مات. ووطىء عمير بن صابي على بطنه، فكسر له ضلعين من أضلاعه.
وروى الإمام أحمد عن كعب بن عجرة رضي الله تعالى عنه، قال: «ذكر (2) رسول الله صلى الله عليه وسلم فتنة وعظمها وقربها، ثم مر رجل مقنع في ملحفة، فقال: هذا يومئذ على الحق فإذا هو عثمان رضي الله تعالى عنه». وروى (3) الترمذي معناه فقال: «هذا يومئذ على الهدى». وقال إنه حديث حسن صحيح.
وكان لأمير المؤمنين عثمان رضي الله تعالى عنه شيئان ليسا لأبي بكر ولا لعمر رضي الله تعالى عنهما، صبره على نفسه حتى قتل مظلوما، وجمعه الناس على المصحف. قاله ابن مهدي وغيره.
وقال المدائني: قتل رضي الله تعالى عنه يوم الأربعاء بعد العصر، ودفن يوم السبت قبل الظهر. وقيل يوم الجمعة لثمان عشرة خلت من ذي الحجة سنة خمس وثلاثين. وقال المهدوي:
قتل في وسط أيام التشريق وأقام ثلاثة أيام، لم يدفن ولم يصل عليه وقيل صلّى عليه رضي الله تعالى عنه جبير بن مطعم. ودفن رضي الله تعالى عنه ليلا. واختلف في مدة الحصار فقيل: أكثر من عشرين يوما، وقيل تسعة وأربعون يوما، قاله الواقدي، وقال الزبير بن بكار وغيره: ثمانون يوما.
وكانت خلافته رضي الله تعالى عنه اثنتي عشرة سنة إلا اثني عشر يوما، وقتل رضي الله تعالى عنه وهو ابن ثمانين سنة، قاله ابن إسحاق. وقال غيره كانت خلافته إحدى عشرة سنة وأحد عشر شهرا وأربعة عشر يوما وقتل رضي الله تعالى عنه وعمره ثمان وثمانون سنة. وقيل كانت خلافته اثنتي عشرة سنة وقتل وهو ابن اثنتين وثمانين سنة وقيل ابن ثلاث وثمانين سنة وقيل تسعين وقيل غير ذلك والله أعلم.
خلافة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه
ثم قام بعده بالامر أمير المؤمنين علي رضي الله تعالى عنه. بويع له بالخلافة يوم قتل عثمان
__________
(1) سورة البقرة: الآية 137.
(2) رواه الترمذي في المناقب: 18، وابن ماجه في المقدمة: 1. وأحمد: 4/ 226، 243.
(3) رواه الترمذي في المناقب: 18.(2/84)
رضي الله تعالى عنه كما سيأتي أن شاء الله تعالى.
وهو رضي الله تعالى عنه يجتمع مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في عبد المطلب، الجد الأدنى ينسب إلى هاشم فيقال القرشي الهاشمي ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبويه. ولم يزل إسمه في الجاهلية والإسلام عليا، ويكنى أبا الحسن وأبا تراب، كناه به رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان أحب الكنى إليه.
أسلم رضي الله تعالى عنه وهو ابن سبع، وقيل ابن تسع وابن عشر، وقيل خمس عشرة وقيل غير ذلك. وشهد رضي الله تعالى عنه المشاهد كلها إلا تبوك فإنه صلى الله عليه وسلم، خلفه في أهله.
وكان رضي الله تعالى عنه غزير العلم، ولما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم، أقام بعده ثلاث ليال وأيامها، حتى أدى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، الودائع ثم لحق به. ويقال إنه رضي الله تعالى عنه أول من أسلم، وأول من صلى، وزوجه صلى الله عليه وسلم ابنته فاطمة رضي الله تعالى عنها، وبعث معها خميلة ووسادة من أدم حشوها ليف، ورحيين وسقاء وجرتين. وشهد له بالجنة صلى الله عليه وسلم. ومناقبه رضي الله تعالى عنه كثيرة جدا ويكفي منها قوله صلى الله عليه وسلم «أنا مدينة العلم وعلي (1) بابها».
فائدة لطيفة: قال أبو هريرة رضي الله تعالى عنه: سادات الأنبياء خمسة (2) نوح وإبراهيم الخليل وموسى وعيسى ومحمد صلى الله عليه وسلم أجمعين.
ذكر أسماء من ولد من الأنبياء مختونا: عن كعب الأحبار رضي الله تعالى عنه أنه قال: هم ثلاثة عشر: آدم وشيث وإدريس ونوح وسام ولوط ويوسف وموسى وشعيب وسليمان ويحي وعيسى ومحمد صلى الله عليه وسلم وعليهم أجمعين. وقال محمد بن حبيب الهاشمي: هم أربعة عشر: آدم وشيث ونوح وهود وصالح ولوط وشعيب ويوسف وموسى وسليمان وزكريا وعيسى وحنظلة بن صفوان نبي أصحاب الرس، ومحمد صلى الله عليه وسلم وعليهم أجمعين.
ذكر أسماء من كان يكتب لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وأبي بن كعب، وهو أول من كتب له وزيد بن ثابت الأنصاري ومعاوية بن أبي سفيان، وحنظلة بن الربيع الأسدي، وخالد بن سعيد بن العاص. وكان المداوم له على الكتابة زيدا ومعاوية.
ذكر من جمع القرآن حفظا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم: أبي بن كعب ومعاذ بن جبل وأبو يزيد الأنصاري وأبو الدرداء وزيد بن ثابت، وعثمان بن عفان وتميم الداري وعبادة بن الصامت وأبو أيوب الأنصاري.
ذكر من كان يضرب الأعناق بين يديه صلى الله عليه وسلم: علي والزبير ومحمد بن مسلمة والمقداد وعاصم بن أبي الأفلح.
ذكر من كان يحرسه صلى الله عليه وسلم: سعد بن أبي وقاص، وسعد بن معاذ، وعباد بن بشر، وأبو
__________
(1) رواه الترمذي في المناقب: 20ولفظه: «أنا ذر الحكمة».
(2) الأنبياء الخمسة المذكورون هم أولو العزم.(2/85)
أيوب الأنصاري ومحمد بن مسلمة الأنصاري. فلما نزل قوله (1) تعالى: {وَاللََّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النََّاسِ} ترك الحراسة.
ذكر من كان يفتي على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم من أصحابه: أبو بكر وعمر وعثمان وعلي، وعبد الرحمن بن عوف، وأبي بن كعب، وعبد الله بن مسعود، ومعاذ بن جبل، وعمار بن ياسر، وحذيفة وزيد بن ثابت وسلمان وأبو الدرداء وأبو موسى الأشعري.
ذكر من انتهت الفتوى إليهم من التابعين بالمدينة: سعيد بن المسيب وأبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث وقاسم وعبيد الله وعروة وسليمان وخارجة.
ذكر من تكلم في المهد: وهم أربعة: صاحب جريج ببراءته من الزنا، وشاهد يوسف ببراءته من زليخا، وابن الماشطة التي لبنت فرعون حذرها من الكفر، وعيسى بن مريم ببراءة أمه عليهما السلام.
وتكلم بعد الموت أربعة: يحي بن زكريا حين ذبح، وحبيب النجار حيث قال يا ليت قومي يعلمون، وجعفر الطيار حيث قال: {وَلََا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ} [2] اللََّهِ إلخ، والحسين بن علي رضي الله تعالى عنهما حيث قال: {سَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ} [3].
ذكر من حملته أمه أكثر من مدة الحمل: سفيان بن حبان ولد لاربع سنين خلون في بطن أمه، ومحمد بن عبد الله بن حسن الضحاك بن مزاحم، ولد وهو ابن ستة عشر شهرا خلون في بطن أمه، ويحي بن علي بن جابر البغوي كذلك، وسلمان الضحاك ولد ابن سنتين خلتا في بطن أمه.
ذكر النماردة: وهم ستة فالأول نمرود بن كنعان بن حام بن نوح عليه السلام، وهو أحد ملوك الأرض الذين ملكوا الدنيا بأجمعها، وقد كان في أيام إبراهيم عليه السلام، الثاني نمرود بن كوش بن كنعان بن حام بن نوح عليه السلام، وهو صاحب النسور وقصته مشهورة. الثالث نمرود بن ماش بن كنعان بن حام بن نوح عليه السلام. الرابع نمرود بن سنجار بن نمرود ابن كوش بن كنعان بن حام بن نوح عليه السلام. الخامس نمرود بن ساروع بن أرغو بن مالخ السادس نمرود بن كنعان بن المصاص بن نقطا.
ذكر الفراعنة: وهم ثلاثة: فأولهم سنان الأشعل بن علوان بن العميد بن عمليق، وهو فرعون إبراهيم عليه السلام. الثاني الريان بن الوليد، وهو فرعون يوسف عليه السلام. الثالث الوليد بن مصعب، وهو فرعون موسى عليه السلام.
ذكر أصحاب المذاهب المتبعة، ووفاتهم من كتاب علوم الحديث للنووي رحمه الله: سفيان الثوري مات بالبصرة سنة إحدى وستين ومائة، ومولده سنة سبع وعشرين. مالك بن أنس مات بالمدينة سنة تسع وسبعين ومائة، وولد سنة تسعين. وأبو حنيفة النعمان بن ثابت، مات في بغداد
__________
(1) سورة المائدة: الآية 67.
(2) سورة آل عمران: الآية 169.
(3) سورة الشعراء: الآية 227.(2/86)
سنة خمسين ومائة وهو ابن سبعين سنة. وأبو عبد الله محمد بن إدريس الشافعي، مات بمصر آخر رجب سنة أربع ومائتين، وولد سنة خمسين ومائة. وأبو عبد الله أحمد بن حنبل، مات في بغداد في شهر ربيع الآخر سنة أربع وستين ومائة، رضي الله تعالى عنهم أجمعين.
ذكر أصحاب الأحاديث المعتمدة: أبو عبد الله البخاري، ولد يوم الجمعة لثلاث عشرة خلت من شوال سنة أربع وتسعين ومائة، ومات ليلة الفطر سنة ست وخمسين ومائتين. ومسلم مات بنيسابور لخمس بقين من رجب سنة إحدى وستين ومائتين، وهو ابن خمس وخمسين.
وأبو داود مات بالبصرة في شوال سنة خمس وسبعين ومائتين. وأبو عيسى الترمذي مات بترمذ لثلاث عشر مضت من رجب سنة تسع وسبعين ومائتين. وأبو عبد الرحمن النسائي، مات سنة ثلاث وثلاثمائة. وأبو الحسن الدارقطني، مات في بغداد في ذي القعدة سنة خمس وثمانين وثلاثمائة، وولد في سنة ست وثلاثمائة رحمة الله عليهم أجمعين.
قال أهل التاريخ: ولما قتل عثمان رضي الله تعالى عنه، أتى الناس عليا وضربوا عليه الباب ودخلوا فقالوا: إن هذا الرجل قد قتل، ولا بد للناس من إمام، ولا نعلم أحدا أحق بها منك، فردهم عن ذلك فأبوا، فقال: إن أبيتم إلا بيعتي فإن بيعتي لا تكون سرا فأتوا المسجد فحضر طلحة والزبير وسعد بن أبي وقاص والأعيان، وأول من بايعه طلحة، ثم بايعه الناس. واجتمع على بيعته المهاجرون والأنصار، وتخلف عن بيعته نفر فلم يكرههم. وقال قوم قعدوا عن الحق ولم يقوموا مع الباطل. وتخلف عن بيعته أيضا معاوية ومن معه بالشام، إلى أن كان منهم ما كان في صفين. ثم خرج عليه الخوارج فكفروه وكل من معه وأجمعوا على قتاله قاتلهم الله. وشقوا العصا يعني عصا المسلمين، ونصبوا راية الخلاف، وسفكوا الدماء، وقطعوا السبيل، فخرج إليهم بمن معه، ورام رجوعهم، فأبوا إلا القتال، فقاتلهم بالنهروان فقتلهم واستأصل جمهورهم، ولم ينج منهم إلا القليل. وكان أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه قد قال حين طعن: أن ولوها الأجلح سلك بهم الطريق المستقيم، يعني عليا وكان كما قال سلك بهم والله الطريق المستقيم. وكان له رضي الله عنه شفقة على رعيته متواضعا ورعا ذا قوة في الدين. وكان قوته رضي الله تعالى عنه، من دقيق الشعير يأخذ منه قبضة فيضعها في القدح ثم يصب عليها ماء فيشربه.
وكان قد تفرق عليه الخوارج، واعتقد بعض الناس فيه الإلهية فأحرقهم بالنار، وسأل رجل ابن عباس رضي الله عنهما، أكان علي رضي الله تعالى عنه يباشر القتال بنفسه يوم صفين؟ فقال:
والله ما رأيت رجلا أطرح لنفسه في متلفة، مثل علي رضي الله تعالى عنه، ولقد كنت أراه يخرج حاسرا على رأسه، بيده السيف، إلى الرجل الدارع فيقتله. قال في درة الغواص: ومما يؤثر من شجاعة علي رضي الله تعالى عنه، أنه إذا اعتلى قد، وإذا اعترض قط. فالقد قطع الشيء طولا والقط قطعه عرضا. وقد تقدم ذكر قتله رضي الله تعالى عنه ومن قتله، وكان طعن ابن ملجم له في ليلة الجمعة السابعة عشرة من شهر رمضان سنة أربعين من الهجرة. وثب عليه فضربه بخنجر على دماغه فمات بعد يومين. وأخذوا ابن ملجم، فعذبوه وقطعوه إربا إربا بعد موت علي.
وكان أفضل من بقي من الصحابة رضي الله تعالى عنه، ومناقبه كثيرة جدا جمعها الحافظ أبو عبد الله الذهبي في مجلد. وذكر غير واحد أنه رضي الله تعالى عنه، لما ضربه ابن ملجم، قاتله الله أوصى الحسن والحسين وصية طويلة، وفي آخرها يا بني عبد المطلب، لا تخوضوا دماء المسلمين خوضا تقولون: قتل أمير المؤمنين ألا لا يقتلن بي غير قاتلي، اضربوه ضربة بضربة ولا تمثلوا به، فإني سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول (1): «إياكم والمثلة». ولما مات علي رضي الله تعالى عنه، قتل الحسن رضي الله تعالى عنه، عبد الرحمن بن ملجم، فقطع يديه ورجليه وكحل عينيه بمسمار محمى في النار، كل ذلك ولم يتأوه ولم يجزع فلما أرادوا قطع لسانه، تأوه وجزع، فسئل عن ذلك. فقال: والله ما اتأوه فزعا ولا جزعا من الموت، وإنما أتأوه لأن تمر عليّ ساعة من ساعات الدنيا لا أذكر الله تعالى فيها فقطعوا لسانه فمات بعد ذلك وفي الحديث: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعلي رضي الله تعالى عنه: يا علي أتدري من أشقى الأولين؟ قال: الله ورسوله أعلم. قال عاقر ناقة صالح، ثم قال: أتدري من أشقى الآخرين؟ قال: الله ورسوله أعلم. قال: الذي يضربك على هذا فيبل منها هذه، وأخذ بلحيته» وكان علي رضي الله تعالى عنه يقول: والله لوددت لو انبعث أشقاها فضربه ابن ملجم الخارجي قاتله الله كما تقدم. وكانت وفاته رضي الله تعالى عنه في سن سبع وقبل ثمان وخمسين وقيل ثلاث وقيل ثمان وستين. وقال ابن جرير الطبري: مات علي رضي الله تعالى عنه، وعمره خمس وستون سنة. وقال غيره: ثلاث وستون سنة وكانت خلافته أربع سنين وتسعة أشهر ويوما واحدا وكانت مدة إقامته رضي الله تعالى عنه بالمدينة أربعة أشهر ثم سار إلى العراق، وقتل بالكوفة كما تقدم، وللناس خلاف في مدة عمره وفي قدر خلافته رضي الله تعالى عنه والله أعلم.(2/87)
والله ما رأيت رجلا أطرح لنفسه في متلفة، مثل علي رضي الله تعالى عنه، ولقد كنت أراه يخرج حاسرا على رأسه، بيده السيف، إلى الرجل الدارع فيقتله. قال في درة الغواص: ومما يؤثر من شجاعة علي رضي الله تعالى عنه، أنه إذا اعتلى قد، وإذا اعترض قط. فالقد قطع الشيء طولا والقط قطعه عرضا. وقد تقدم ذكر قتله رضي الله تعالى عنه ومن قتله، وكان طعن ابن ملجم له في ليلة الجمعة السابعة عشرة من شهر رمضان سنة أربعين من الهجرة. وثب عليه فضربه بخنجر على دماغه فمات بعد يومين. وأخذوا ابن ملجم، فعذبوه وقطعوه إربا إربا بعد موت علي.
وكان أفضل من بقي من الصحابة رضي الله تعالى عنه، ومناقبه كثيرة جدا جمعها الحافظ أبو عبد الله الذهبي في مجلد. وذكر غير واحد أنه رضي الله تعالى عنه، لما ضربه ابن ملجم، قاتله الله أوصى الحسن والحسين وصية طويلة، وفي آخرها يا بني عبد المطلب، لا تخوضوا دماء المسلمين خوضا تقولون: قتل أمير المؤمنين ألا لا يقتلن بي غير قاتلي، اضربوه ضربة بضربة ولا تمثلوا به، فإني سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول (1): «إياكم والمثلة». ولما مات علي رضي الله تعالى عنه، قتل الحسن رضي الله تعالى عنه، عبد الرحمن بن ملجم، فقطع يديه ورجليه وكحل عينيه بمسمار محمى في النار، كل ذلك ولم يتأوه ولم يجزع فلما أرادوا قطع لسانه، تأوه وجزع، فسئل عن ذلك. فقال: والله ما اتأوه فزعا ولا جزعا من الموت، وإنما أتأوه لأن تمر عليّ ساعة من ساعات الدنيا لا أذكر الله تعالى فيها فقطعوا لسانه فمات بعد ذلك وفي الحديث: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعلي رضي الله تعالى عنه: يا علي أتدري من أشقى الأولين؟ قال: الله ورسوله أعلم. قال عاقر ناقة صالح، ثم قال: أتدري من أشقى الآخرين؟ قال: الله ورسوله أعلم. قال: الذي يضربك على هذا فيبل منها هذه، وأخذ بلحيته» وكان علي رضي الله تعالى عنه يقول: والله لوددت لو انبعث أشقاها فضربه ابن ملجم الخارجي قاتله الله كما تقدم. وكانت وفاته رضي الله تعالى عنه في سن سبع وقبل ثمان وخمسين وقيل ثلاث وقيل ثمان وستين. وقال ابن جرير الطبري: مات علي رضي الله تعالى عنه، وعمره خمس وستون سنة. وقال غيره: ثلاث وستون سنة وكانت خلافته أربع سنين وتسعة أشهر ويوما واحدا وكانت مدة إقامته رضي الله تعالى عنه بالمدينة أربعة أشهر ثم سار إلى العراق، وقتل بالكوفة كما تقدم، وللناس خلاف في مدة عمره وفي قدر خلافته رضي الله تعالى عنه والله أعلم.
خلافة أمير المؤمنين الحسن بن علي رضي الله تعالى عنه
وهو السادس فخلع كما سيأتي. قالوا: ثم قام بالأمر بعده أمير المؤمنين الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه. وكنيته أبو محمد ولقبه الزكي، وأمه فاطمة الزهراء رضي الله تعالى عنهما.
بويع له بالخلافة بعد وفاة والده ثم سار إلى المدائن، واستقربها وبينما هو بالمدائن إذ نادى مناد: إن قيسا قد قتل، فانفروا وكان الحسن رضي الله تعالى عنه قد جعله على مقدمة الجيش، وهو قيس بن سعد بن عبادة رضي الله تعالى عنهما، فلما خرج الحسن رضي الله تعالى عنه، عدا عليه الجراح الأسدي قاتله الله، وهو يسير معه فوجأه بالخنجر في فخذه ليقتله، فقال الحسن رضي الله تعالى عنه: قتلتم أبي بالأمس ووثبتم علي اليوم تريدون قتلي زهدا في العادلين، ورغبة في القاسطين، والله لتعلمن نبأه بعد حين، ثم كتب إلى معاوية رضي الله تعالى عنهما بتسليم الأمر إليه واشترط عليه شروطا، فأجابه معاوية رضي الله تعالى عنه، إلى ما التمسه منه وصير له ما اشترط عليه، فسلم الأمر إلى معاوية وبايع له لخمس بقين من شهر ربيع الأول، وذلك لأنه رأى المصلحة في
__________
(1) رواه البخاري في المظالم: 30والذبائح: 20والمغازي: 36. ورواه أبو داود في الجهاد: 110ورواه أحمد في:
4/ 246.(2/88)
جمع الكلمة وترك القتال. وظهرت المعجزة في قوله صلى الله عليه وسلم: «إن ابني هذا سيد وسيصلح (1) الله به».
وفي رواية «ولعل الله أن يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين». ويقال أنه أخذ منه يعني من معاوية ألف ألف درهم. وقالت فرقة أنه صالحه بأذرح في جمادى الأولى وأخذ منه مائة ألف دينار، ويقال أربعمائة ألف درهم، ويقال إنه شرط عليه أن يمكنه من بيت المال يأخذ منه حاجته، وأن يكون ولي العهد من بعده ففرح معاوية بذلك، وأجاب فخلع الحسن رضي الله تعالى عنه نفسه وسلم الأمر إلى معاوية وصالحه. ودخل هو وإياه الكوفة فسمي عام الجماعة لاجتماع الأمة بعد الفرقة على خليفة واحد. قال الشعبي: شهدت خطبة الحسن رضي الله تعالى عنه حين صالح معاوية، وخلع نفسه من الخلافة، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أما بعد فإن أكيس الكيس التقى، وأحمق الحمق الفجور، وإن هذا الأمر الذي اختلفت أنا ومعاوية فيه، إن كان له فهو أحق مني به وإن كان لي فقد تركته له إرادة لإصلاح الأمة وحقن دماء المسلمين، وأنا أدرى لعله فتنة لكم ومتاع إلى حين.
ثم رجع إلى المدينة، وأقام بها، فعوتب على ذلك فقال رضي الله تعالى عنه: اخترت ثلاثا على ثلاث: الجماعة على الفرقة، وحقن الدماء على سفكها، والعار على النار.
وفي الحديث الصحيح عن أبي بكر رضي الله تعالى عنه قال: «رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر والحسن وإلى جنبه، وهو يقبل على الناس مرة زعليه أخرى، ويقول إن ابني هذا سيد ولعل الله أن يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين (2)».
ويروى عن الحسن رضي الله تعالى عنه أنه قال: إني لأستحيي من ربي عز وجل، أن ألقاه ولم أمش إلى بيته، فمشى عشرين مرة على رجليه من المدينة إلى مكة وإن النجائب لتقاد معه.
وخرج رضي الله تعالى عنه من ماله مرتين، وقاسم الله عز وجل ماله ثلاث مرات، حتى إنه يعطي نعلا ويمسك أخرى. قال ابن خلكان: لما مرض الحسن رضي الله تعالى عنه، كتب مروان بن الحكم إلى معاوية بذلك، فكتب إليه معاوية أن أقبل المطي إلي بخبر الحسن، فلما بلغ معاوية موته سمع تكبيرة من الخضراء، فكبر أهل الشام لذلك التكبير، فقالت فاختة بنت قريظة لمعاوية: أقر الله عينك ما الذي كبرت لأجله؟ فقال: مات الحسن، فقالت أعلى موت ابن فاطمة تكبر؟ فقال:
والله ما كبرت شماتة بموته، ولكن استراح قلبي ودخل عليه ابن عباس رضي الله تعالى عنهما فقال له: يا ابن عباس هل تدري ما حدث في أهل بيتك؟ فقال: لا أدري ما حدث. إلا أني أراك مستبشرا وقد بلغني تكبيرك، فقال: مات الحسن فقال ابن عباس يرحم الله أبا محمد ثلاثا، والله يا معاوية لا تسد حفرته حفرتك، ولا يزيد عمره في عمرك، ولئن كنا قد أصبنا بالحسن، فلقد أصبنا بإمام المتقين وخاتم النبيين، فجبر الله تلك الصدعة، وسكن تلك العبرة، وكان الله الخلف علينا من بعده.
وكان الحسن رضي الله تعالى عنه قد سم، سمته إمرأته جعدة بنت الأشعث، فمكث
__________
(1) رواه البخاري في الصلح: 9. وفضائل الصحابة: 22والفتن: 20والمناقب: 25. ورواه أبو داود في السنة: 12، ورواه الترمذي في المناقب: 30. والنسائي في الجمعة: 27.
(2) رواه البخاري وغيره كما تقدم.(2/89)
شهرين يرفع من تحته في اليوم كذا وكذا مرة طست من دم، وكان رضي الله تعالى عنه يقول:
سقيت السم مرارا ما أصابني فيها ما أصابني في هذه المرة. وكان قد أوصى لأخيه الحسين رضي الله تعالى عنهما. وقال إذا أنا مت فادفني مع جدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، إن وجدت إلى ذلك سبيلا، وإن منعوك فأدفني ببقيع الغرقد. فلما مات رضي الله تعالى عنه، لبس الحسين ومواليه السلاح وخرجوا ليدفنوه مع جده، فخرج مروان بن الحكم في موالي بني أمية، وهو يومئذ عامل على المدينة، فمنع الحسين رضي الله تعالى عنه من ذلك وكانت وفاته في شهر ربيع الأول سنة تسع وأربعين، وقيل سنة خمسين وصلى عليه سعيد بن العاص، ودفن مع أمه فاطمة رضي الله تعالى عنهما، وقيل دفن بالبقيع في قبر في قبة العباس، ودفن في هذا القبر أيضا علي زين العابدين وابنه محمد الباقر وابن ابنه جعفر بن محمد الصادق فهم أربعة في قبر واحد فأكرم به قبرا. وكانت خلافته ستة أشهر وخمسة أيام وقيل ستة أشهر إلا أياما وهي تكملة ما ذكره رسول الله صلى الله عليه وسلم، من مدة الخلافة «ثم يكون ملكا عضوضا، ثم يكون جبروتا وفسادا في الأرض (1)» وكان كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ومات الحسن رضي الله تعالى عنه وعمره سبع وأربعون سنة.
خلافة أمير المؤمنين معاوية بن أبي سفيان رضي الله تعالى عنه
قالوا: ولما خلع الحسن رضي الله تعالى عنه من الخلافة، تم الأمر لمعاوية رضي الله تعالى عنه واستقام له الملك وصفت له الخلافة، وكان قد بويع له بالخلافة يوم التحكيم بايعه أهل الشام واختلف عليه أهل العراق إلى أن صالحه الحسن رضي الله تعالى عنه، فأجمع الناس على بيعته ومولده رضي الله تعالى عنه بالخيف من منى. أسلم قبل أبيه أبي سفيان، وصحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وكتب له، وكان في عسكر أخيه يزيد بن أبي سفيان. وكان عاملا لعمر رضي الله تعالى عنه استعمله على إمرة دمشق فلما احتضر استخلف أخاه عليها، فأقره عمر رضي الله تعالى عنه على ذلك في سنة عشرين، فلم يزل متوليا على الشام عشرين سنة، وذلك بقية خلافة عمر رضي الله تعالى عنه، وخلافة عثمان رضي الله تعالى عنه، وفي خلافة علي رضي الله تعالى عنه متغلبا عليها إلى أن سلم إليه الحسن رضي الله تعالى عنه الخلافة، فاجتمع له الأمر وبعث نوّابه إلى البلاد، وذلك في سنة إحدى وأربعين، فسمي عام الجماعة لأن الأمة اجتمعت فيه بعد الفرقة، على إمام واحد. وكانت امرأة استشارت النبي صلى الله عليه وسلم في أن تتزوج به فقال (2): «إنه صعلوك لا مال له». ثم بعد هذا القول بإحدى عشرة سنة صار نائب دمشق، ثم بعد الأربعين صار ملك الدنيا. وكان مليح الشكل عظيم الهيبة، وافر الحشمة، يلبس الثياب الفاخرة، والعدة الكاملة، ويركب الخيل المسومة، وكان كثير البذل والعطاء، محسنا إلى رعيته كبير الشأن يجتمع مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في عبد
__________
(1) رواه أحمد: 4/ 273ولفظه: «ثم تكون ملكا عافيا، جبرية».
(2) رواه مسلم في الرضاع: 103، والطلاق 36. ورواه أبو داود في الطلاق: 39. والترمذي في النكاح: 38.
والنسائي في النكاح: 22. ورواه مالك في الموطأ: الطلاق: 67، وأحمد: 6/ 412. ولفظه: «وأما معاوية فصعلوك لا مال له».(2/90)
مناف بن قصي، وينسب إلى أمية بن عبد شمس، فيقال: الأموي. وخرج عليه مرة بن نوفل الأشجعي الحروري وورد الكوفة، وهو أول الخوارج، فكتب معاوية إلى أهل الكوفة ألا لا ذمة لكم عندي حتى تكفوني أمره فقاتلوه وقتلوه. وهو أول من اتخذ المقاصير وأقام الحرسي والحجاب. وأول من مشى بين يديه صاحب الشرطة بالحربة، وأول من تنعم في مأكله وملبسه ومشربه. وكان رضي الله عنه حليما، وله في الحلم أخبار كثيرة، ولما حضرته الوفاة جمع أهله فقال: ألتسم أهلي؟ قلوا بلى فداك الله بنا. فقال: وعليكم حزني ولكم كدي وكسبي، قالوا:
بلى، فداك الله بنا، قال فهذه نفسي قد خرجت من قدمي، فردوها علي إن استطعتم، فبكوا وقالوا ما لنا إلى هذا من سبيل. فرفع صوته بالبكاء، ثم قال: فمن تغره الدنيا بعدي؟ وذكر غير واحد أنه لما ثقل في الضعف وتحدث الناس أنه الموت، قال لأهله: احشوا عيني اثمدا واسبغوا رأسي دهنا ففعلوا، وبرقوا وجهه بالدهن ثم مهدوا له مجلسا وأسندوه، وأذنوا للناس فدخلوا وسلموا عليه قياما، فلما خرجوا من عنده أنشد قائلا:
وتجلدي للشامتين أريهم ... أني لريب الدهر لا أتضعضع (1)
فسمعه رجل من العلويين فأجابه:
وإذا المنية أنشبت أظفارها ... ألفيت كل تميمة لا تنفع (2)
ثم أنه أوصى أن تدق قلامة أظفار رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتجعل من منافذ وجهه، وأن يكفن بثوب سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم. وتوفي في دمشق في نصف رجب وقيل في مستهل رجب سنة ستين.
وصلى عليه الضحاك الفهري لغيبة ابنه يزيد ببيت المقدس. واخلف في عمره فقيل ثمانون وقيل خمس وسبعون سنة وقيل خمس وثمانون سنة وقيل ثمان وثمانون سنة وقيل تسعون. وكانت خلافتة منذ خلص له الأمر تسع عشرة سنة وثلاثة أشهر وخمسة أيام. وكان أميرا وخليفة أربعين سنة. منها أربع سنين في خلافة عمر رضي الله تعالى عنه والله تعالى أعلم.
خلافة يزيد بن معاوية
ثو قام بالأمر بعده إبنه يزيد. بويع له بالخلافة يوم مات أبوه، وذلك أن أباه كان قد جعله ولي العهد من بعده وكان بحمص، فقدم منها وبادر إلى قبر أبيه، ثم دخل دمشق إلى الخضراء، وكانت دار السلطنة فخطب الناس بها وبايعوه بالخلافة. وكتب إلى الأقاليم بذلك فبايعوه، ولم يبايعه الحسين بن علي رضي الله تعالى عنهما ولا عبد الله بن الزبير رضي الله تعالى عنه، واختفيا من عامله، الوليد بن عقبة بن أبي سفيان. وأقاما مصرين على الامتناع إلى أن قتل الحسين رضي الله تعالى عنه بكربلاء، وكان الذي باشر قتله الشمر بن ذي الجوشن، وقيل سنان بن أنس النخعي وقيل أن الشمر ضربه على وجهه، وأدركه سنان فطعنه فألقاه عن فرسه، ونزل خولي بن يزيد
__________
(1) البيت لأبي ذؤيب الهذلي وهو في وفيات الأعيان: 6/ 155.
(2) البيت لأبي ذؤيب أيضا، في وفيات الأعيان: 6/ 155.(2/91)
الأصبحي ليحز رأسه، فارتعدت يداه، فنزل أخوه شبل بن يزيد فاحتز رأسه، ودفعه إلى أخيه خولي وكان أمير الجيش عبيد الله بن زياد ابن أبيه، من قبل يزيد بن معاوية. قالوا: ثم إن عبيد الله بن زياد جهز علي بن الحسين، ومن كان مع الحسين من حرمه، بعد أن اعتمدوا ما اعتمدوه، من سبي الحريم وقتل الزراري مما تقشعر من ذكره الأبدان، وترتعد منه الفرائص إلى البغيض يزيد بن معاوية، وهو يومئذ بدمشق مع الشمر بن ذي الجوشن في جماعة من أصحابه فساروا إلى أن وصلوا إلى دير في الطريق، فنزلوا ليلقوا به فوجدوا مكتوبا على بعض جدرانه:
أترجو أمة قتلت حسينا ... شفاعة جده يوم الحساب
فسألوا الراهب عن السطر ومن كتبه؟ فقال إنه مكتوب هنا من قبل أن يبعث نبيكم بخمسمائة عام. وقيل إن الجدار انشق فظهر منه كف مكتوب فيه بالدم هذا السطر. ثم ساروا حتى قدموا دمشق، ودخلوا على يزيد بن معاوية، ومعهم رأس الحسين رضي الله تعالى عنه، فرمي به بين يدي يزيد، ثم تكلم شمر بن ذي الجوشن، فقال: يا أمير المؤمنين ورد علينا هذا يعني الحسين في ثمانية عشر رجلا من أهل بيته، وستين رجلا من شيعته، فسرنا إليهم وسألناهم النزول على حكم أميرنا عبيد الله بن زياد أو القتال فاختاروا القتال، فغدونا عليهم عند شروق الشمس وأحطنا بهم من كل جانب، فلما أخذت السيوف مأخذها جعلوا يلوذون لوذان الحمام من الصقور، فما كان إلا مقدار جزر جزور أو نومة قائل، حتى أتينا على آخرهم فهاتيك أجسادهم مجردة، وثيابهم مزملة وخدودهم معفرة، تسفي عليهم الرياح، زوّارهم العقبان ووفودهم الرخم.
فلما سمع يزيد بذلك، دمعت عيناه، وقال: ويحكم قد كنت أرضى من طاعتكم بدون قتل الحسين، لعن الله ابن مرجانة أما والله لو كنت صاحبه لعفوت عنه ثم قال: يرحم الله أبا عبد الله ثم تمثل بقول (1) الشاعر:
يفلقن هاما من رجال أعزة ... علينا وهم كانوا أعق وأظلما
ثم أمر بالذرية فأدخلوا دار نسائه، وكان يزيد إذا حضر غداؤه، دعا علي بن الحسين وأخاه عمر بن الحسين، فأكلا معه ثم وجه الذرية صحبة علي بن الحسين، إلى المدينة ووجه معه رجلا في ثلاثين فارسا، يسير أمامهم حتى انتهوا إلى المدينة، وكان بين وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبين اليوم الذي قتل فيه الحسين رضي الله تعالى عنه خمسون عاما. وقيل: إن الحسين رضي الله عنه لما وصل إلى كربلاء سأل عن اسم المكان؟ فقيل له: كربلاء فقال ذات كرب وبلاء، لقد مر أبي بهذا المكان عند مسيره إلى صفين، وأنا معه، فوقف وسأل عنه فأخبروه بإسمه، فقال: «ههنا محط رحالهم وههنا مهراق (2) دمائهم». فسئل عن ذلك فقال نفر من آل محمد ينزلون ههنا، ثم أمر باثقاله فحطت في ذلك المكان. وكان قتله رضي الله تعالى عنه يوم عاشوراء في سنة ستين. ذكره أبو حنيفة رضي الله تعالى عنه، في الأخبار الطوال. وسيأتي إن شاء الله تعالى، في باب الكاف في
__________
(1) البيت لحصين بن الحمام المرّي وهو في العقد الفريد: 4/ 382وفيه: «نفلّق هاما».
(2) رواه مسلم في الفتن: 28. ورواه أحمد: 5/ 29، 45.(2/92)
لفظ الكلب، ما ذكره ابن عبد البر في بهجة المجالس وأنس المجالس: أنه قيل لجعفر الصادق:
كم تتأخر الرؤيا؟ فقال خمسين سنة، لأن النبي صلى الله عليه وسلم رأى كأن كلبا أبقع ولغ في دمه، فأوله بأن رجلا يقتل الحسين ابن بنته. فكان الشمر بن ذي الجوشن الكلب، قاتل الحسين رضي الله تعالى عنه، وكان أبرص فتأخرت الرؤيا بعده صلى الله عليه وسلم خمسين سنة.
وفي هذه السنة أي سنة ستين، دعا ابن الزبير رضي الله تعالى عنهما، إلى نفسه بالخلافة بمكة وعاب يزيد بشرب الخمر، واللعب بالكلاب، والتهاون بالدين، وأظهر ثلبه وتنقصه، فبايعه أهل تهامة والحجاز، فلما بلغ يزيد ذلك ندب له الحصين بن نمير السكوني، وروح بن زنباع الجذامي، وضم إلى كل واحد جيشا، واستعمل على الجميع مسلم بن عقبة المري، وجعله أمير الأمراء، ولما ودعهم قال: يا مسلم لا نردن أهل الشام عن شيء يريدونه بعدوهم، واجعل طريقك على المدينة فإن حاربوك، فحاربهم فإن ظفرت بهم فأبحها ثلاثا فسار مسلم بن عقبة حتى نزل الحرة، وخرج أهل المدينة فعسكروا بها، وأميرهم عبد الله بن حنظلة الراهب، وهو غسيل الملائكة، فدعاهم مسلم ثلاثا فلم يجيبوه، فقاتلهم فغلب أهل الشام وقتلوا أمير المدينة عبد الله بن حنظلة وسبعمائة من المهاجرين والأنصار، ودخل مسلم المدينة وأباحها ثلاثة أيام وقد جاء في الحديث عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من أباح حرمي فقد حلّ عليه غضبي» ثم شخص بالجيش إلى مكة وكتب إلى يزيد بما صنع بالمدينة. فلما بلغ مسلم هرشى اعتل ومات، فتولى أمر الجيش الحصين بن نمير السكوني فسار حتى وافى مكة، فتحصن منه ابن الزبير رضي الله تعالى عنهما في المسجد الحرام، بجميع من كان معه، فنصب الحصين المنجنيق على أبي قبيس، ورمى به الكعبة المعظمة، فبينما هم كذلك إذ ورد الخبر إلى الحصين بموت يزيد بن معاوية، فأرسل إلى ابن الزبير يسأله الموادعة، فأجابه إلى ذلك وفتح الأبواب واختلط العسكران يطوفون بالبيت، فبينما الحصين يطوف ليلة بعد العشاء، إذ استقبله ابن الزبير فأخذ الحصين بيده، وقال له سرا: هل لك في الخروج معي إلى الشام، فأدعو الناس إلى بيعتك؟ فإن أمرهم قد مرج، ولا أرى أحدا أحق بها اليوم منك، ولست أعصى هناك. فاجتذب ابن الزبير يده من يده، وقال وهو يجهر بقوله: دون أن أقتل بكل واحد من أهل الحجاز عشرة من أهل الشام؟ فقال الحصين: لقد كذب الذي يزعم إنك من دهاة العرب، أكلمك سرا فتكلمني علانية، وأدعوك إلى الخلافة وتدعوني إلى الحرب.
ثم انصرف بمن معه إلى الشام وتوفي يزيد بن معاوية في شهر ربيع الأول سنة أربع وستين وله تسع وثلاثون سنة ودفن بمقبرة باب الصغير. وكانت خلافته ثلاث سنين وتسعة أشهر، وقد وقع للغزالي والكيا الهراسي فيه كلام وسيأتي إن شاء الله تعالى في باب الفاء في لفظ الفهد.
خلافة معاوية بن يزيد بن معاوية بن أبي سفيان
ثم قام بالأمر بعده ابنه معاوية، وكان خيرا من أبيه، فيه دين وعقل، بويع له بالخلافة يوم موت أبيه، فأقام فيها أربعين يوما، وقيل أقام فيها خمسة أشهر وأياما. وخلع نفسه وذكر غير
واحد، أن معاوية بن يزيد لما خلع نفسه صعد المنبر فجلس طويلا، ثم حمد الله وأثنى عليه بأبلغ ما يكون من الحمد والثناء، ثم ذكر النبي صلى الله عليه وسلم، بأحسن ما يذكر به، ثم قال: يا أيها الناس، ما أنا بالراغب في الإئتمار عليكم، لعظيم ما أكرهه منكم، وإني لأعلم أنكم تكرهوننا أيضا لأنا بلينا بكم وبليتم بنا، إلا أن جدي معاوية رضي الله تعالى عنه، قد نازع في هذا الأمر من كان أولى به منه، ومن غيره لقرابته من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعظم فضله وسابقته، أعظم المهاجرين قدرا، وأشجعهم قلبا، وأكثرهم علما وأولهم إيمانا، وأشرفهم منزلة، وأقدمهم صحبة، ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصهره وأخوه. زوجه صلى الله عليه وسلم ابنته فاطمة، وجعله لها بعلا باختياره لها، وجعلها له زوجة باختيارها له، أبو سبطيه سيدي شباب أهل الجنة وأفضل هذه الأمة تربية الرسول وابني فاطمة البتول، من الشجرة الطيبة الطاهرة الزكية، فركب جدي معه ما تعلمون، وركبتم معه ما لا تجهلون، حتى انتظمت لجدي الأمور، فلما جاءه القدر المحتوم، واخترمته أيدي المنون، بقي مرتهنا بعمله، فريدا في قبره، ووجد ما قدمت يداه، ورأى ما ارتكبه واعتداه، ثم انتقلت الخلافة إلى يزيد أبي فتقلد أمركم لهوى كان أبوه فيه، ولقد كان أبي يزيد بسوء فعله وإسرافه على نفسه، غير خليق بالخلافة على أمة محمد صلى الله عليه وسلم، فركب هواه واستحسن خطاه، وأقدم على ما أقدم من جراءته على الله، وبغيه على من استحل حرمته، من أولاد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت مدته وانقطع أثره، وضاجع عمله، وصار حليف حفرته رهين خطيئته، وبقيت أوزاره وتبعاته، وحصل على ما قدم وندم حيث لا ينفعه الندم، وشغلنا الحزن له، عن الحزن عليه، فليت شعري ماذا قال وماذا قيل له هل عوقب بإساءته؟ وجوزي بعمله وذلك ظني ثم اختنقته العبرة، فبكى طويلا وعلا نحيبه، ثم قال:(2/93)
ثم قام بالأمر بعده ابنه معاوية، وكان خيرا من أبيه، فيه دين وعقل، بويع له بالخلافة يوم موت أبيه، فأقام فيها أربعين يوما، وقيل أقام فيها خمسة أشهر وأياما. وخلع نفسه وذكر غير
واحد، أن معاوية بن يزيد لما خلع نفسه صعد المنبر فجلس طويلا، ثم حمد الله وأثنى عليه بأبلغ ما يكون من الحمد والثناء، ثم ذكر النبي صلى الله عليه وسلم، بأحسن ما يذكر به، ثم قال: يا أيها الناس، ما أنا بالراغب في الإئتمار عليكم، لعظيم ما أكرهه منكم، وإني لأعلم أنكم تكرهوننا أيضا لأنا بلينا بكم وبليتم بنا، إلا أن جدي معاوية رضي الله تعالى عنه، قد نازع في هذا الأمر من كان أولى به منه، ومن غيره لقرابته من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعظم فضله وسابقته، أعظم المهاجرين قدرا، وأشجعهم قلبا، وأكثرهم علما وأولهم إيمانا، وأشرفهم منزلة، وأقدمهم صحبة، ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصهره وأخوه. زوجه صلى الله عليه وسلم ابنته فاطمة، وجعله لها بعلا باختياره لها، وجعلها له زوجة باختيارها له، أبو سبطيه سيدي شباب أهل الجنة وأفضل هذه الأمة تربية الرسول وابني فاطمة البتول، من الشجرة الطيبة الطاهرة الزكية، فركب جدي معه ما تعلمون، وركبتم معه ما لا تجهلون، حتى انتظمت لجدي الأمور، فلما جاءه القدر المحتوم، واخترمته أيدي المنون، بقي مرتهنا بعمله، فريدا في قبره، ووجد ما قدمت يداه، ورأى ما ارتكبه واعتداه، ثم انتقلت الخلافة إلى يزيد أبي فتقلد أمركم لهوى كان أبوه فيه، ولقد كان أبي يزيد بسوء فعله وإسرافه على نفسه، غير خليق بالخلافة على أمة محمد صلى الله عليه وسلم، فركب هواه واستحسن خطاه، وأقدم على ما أقدم من جراءته على الله، وبغيه على من استحل حرمته، من أولاد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت مدته وانقطع أثره، وضاجع عمله، وصار حليف حفرته رهين خطيئته، وبقيت أوزاره وتبعاته، وحصل على ما قدم وندم حيث لا ينفعه الندم، وشغلنا الحزن له، عن الحزن عليه، فليت شعري ماذا قال وماذا قيل له هل عوقب بإساءته؟ وجوزي بعمله وذلك ظني ثم اختنقته العبرة، فبكى طويلا وعلا نحيبه، ثم قال:
وصرت أنا ثالث القوم والساخط علي أكثر من الراضي، وما كنت لأتحمل آثامكم ولا يراني الله جلّت قدرته متقلدا أوزاركم، وألقاه بتبعاتكم، فشأنكم أمركم فخذوه، ومن رضيتم به عليكم فولوه، فلقد خلعت بيعتي من أعناقكم والسلام.
فقال له مروان بن الحكم، وكان تحت المنبر: أسنة عمرية يا أبا ليلى؟ فقال أغد عني أعن ديني تخدعني؟ فو الله ما ذقت حلاوة خلافتكم فأتجرع مرارتها، ائتني برجال مثل رجال عمر رضي الله تعالى عنه، على أنه ما كان من حين جعلها شورى، وصرفها عمن لا يشك في عدالته ظلوما، والله لئن كانت الخلافة مغنما، لقد نال أبي منها مغرما ومأثما، ولئن كانت سوءا فحسبه منهاما أصابه. ثم نزل فدخل عليه أقاربه وأمه فوجدوه يبكي، فقالت له أمه: ليتك كنت حيضة، ولم أسمع بخبرك. فقال: وددت والله ذلك، ثم قال ويلي إن لم يرحمني ربي.
ثم إن بني أمية قالوا لمؤدبه عمر المقصوص: أنت علمته هذا ولقنته إياه، وصددته عن الخلافة، وزينت له حب علي وأولاده، وحملته على ما وسمنا به من الظلم، وحسّنت له البدع، حتى نطق بما نطق، وقال ما قال. فقال: والله ما فعلته، ولكنه مجبول ومطبوع على حب علي. فلم يقبلوا منه ذلك، وأخذوه ودفنوه حيا حتى مات.
وتوفي معاوية بن يزيد رحمه الله بعد خلعه نفسه، بأربعين ليلة وقيل بسبعين ليلة، وكان عمره ثلاثا وعشرين سنة، وقيل إحدى وعشرين سنة وقيل ثماني عشرة ولم يعقب.(2/94)
خلافة مروان بن الحكم
ثم قام بالأمر بعده مروان بن الحكم بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف. بويع له بالخلافة بالجابية، ثم دخل الشام فأذعن أهلها له بالطاعة، ثم دخل مصر بعد حروب كثيرة فبايعه أهلها. وكان يقال له ابن الطريد، لأن النبي صلى الله عليه وسلم، كان قد طرد أباه إلى الطائف، فرده عثمان رضي الله تعالى عنه حين ولي كما تقدم قريبا. وتوفي مروان سنة خمس وستين، وثبت عليه زوجته، لكونه شتمها فوضعت على وجهه مخدة كبيرة، وهو نائم، وقعدت هي وجواريها فوقها حتى مات.
وكان قد لحق النبي صلى الله عليه وسلم وهو صبي وولي نيابة المدينة مرات، وهو قاتل طلحة أحد العشرة رضي الله تعالى عنهم. وكان كاتب السر لعثمان رضي الله تعالى عنه، وبسببه جرى عليه ما جرى.
وكانت خلافته عشرة أشهر وكان عمره ثلاثا وثمانين سنة. روى الحاكم في كتاب الفتن والملاحم من المستدرك، عن عبد الرحمن بن عوف رضي الله تعالى عنه. قال: «كان لا يولد لأحد مولود إلا أتي به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيدعو له فأدخل عليه مروان بن الحكم، فقال (1): «هو الوزغ ابن الوزغ الملعون ابن الملعون». ثم قال صحيح الإسناد.
ثم روي أيضا عن عمرو بن مرة الجهني، وكانت له صحبة، أن الحكم بن أبي العاص، استأذن على النبي صلى الله عليه وسلم، فعرف صوته فقال (2): «ائذنوا له عليه وعلى من يخرج من صلبه لعنة الله إلا المؤمن منهم وقليل ما هم يترفهون في الدنيا، ويضيعون في الآخرة ذوو مكر وخديعة يعطون في الدنيا وما لهم في الآخرة من خلاق». وسيأتي هذا إن شاء الله تعالى في باب الواو في لفظ الوزغ.
خلافة عبد الملك بن مروان
ثم قام بالأمر بعده ابنه عبد الملك. بويع له بالخلافة يوم موت أبيه مروان، وهو أول من سمي بعبد الملك في الإسلام، وأوّل من ضرب الدراهم والدنانير بسكة الإسلام. وكان على الدنانير نقش بالرومية، وعلى الدراهم نقش بالفارسية. قلت: ولهذا سبب وهو أني رأيت في كتاب المحاسن والمساوي، للإمام أبراهيم بن محمد البيهقي ما نصه قال الكسائي: دخلت على الرشيد ذات يوم، وهو في ديوانه، وبين يديه مال كثير، قد شق عنه البدر شقا. وأمر بتفريقه في خدمه الخاصة، وبيده درهم تلوح كتابته، وهو يتأمله وكان كثيرا ما يحدثني، فقال: هل علمت أول من سن هذه الكتابة في الذهب والفضة؟ قلت: يا سيدي هو عبد الملك بن مروان. قال: فما كان السبب في ذلك؟ قلت: لا علم لي، غير أنه أوّل من أحدث هذه الكتابة. فقال: سأخبرك كانت القراطيس للروم وكان أكثر من بمصر نصرانيا على دين ملك الروم، وكانت تطرز بالرومية، وكان طرازها أبا وابنا وروحا، فلم يزل ذلك كذلك صدر الإسلام كله، يمضي على ما كان عليه، إلى
__________
(1) رواه أبو داود في الطلاق: 34. وابن حنبل: 1/ 59، 65، 69.
(2) رواه أحمد: 4/ 5.(2/95)
أن ملك عبد الملك بن مروان فتنبه له، وكان فطنا فبينما هو ذات يوم، إذ مر به قرطاس، فنظر إلى طرازه، فأمر أن يترجم بالعربية، ففعل ذلك فأنكره، وقال: ما أغلظ هذا في أمر الدين والإسلام، أن يكون طراز القراطيس، وهي تحمل في الأواني والثياب، وهما يعملان بمصر وغير ذلك مما يطرز من ستور وغيرها من عمل هذا البلد، على سعته وكثرة ماله، والبلد يخرج منه هذه القراطيس تدور في الآفاق والبلاد، وقد طرزت بسطر مثبت عليها، فأمر بالكتاب إلى عبد العزيز ابن مروان، وكان عامله بمصر، بإبطال ذلك الطراز على ما كان يطرز به من ثوب وقرطاس وستر وغير ذلك، وأن يأمر صناع القراطيس، أن يطرزوها بصورة التوحيد: شهد الله أن لا إله إلا هو، وهذا طراز القراطيس خاصة، إلى هذا الوقت، لم ينقص ولم يزد ولم يتغير، وكتب إلى عمال الآفاق جميعا بإبطال ما في أعمالهم من القراطيس المطرزة بطراز الروم، ومعاقبة من وجد عنده بعد هذا النهي شيء منها بالضرب الوجيع، والحبس الطويل. فلما ثبتت القراطيس بالطراز المحدث بالتوحيد، وحمل إلى بلاد الروم منها انتشر خبرها ووصل إلى ملكهم وترجم له ذلك الطراز، فأنكره وغلظ عليه واستشاط غيظا، فكتب إلى عبد الملك:
أن عمل القراطيس بمصر وسائر ما يطرز هناك للروم، ولم يزل يطرز بطراز الروم، إلى أن أبطلته فإن كان من تقدمك من الخلفاء قد أصاب فقد أخطأت، وإن كنت قد أصبت فقد أخطؤا، فاختر من هاتين الحالتين أيهما شئت وأحببت، وقد بعثت إليك بهدية تشبه محلك، وأحببت أن تجعل رد ذلك الطراز إلى ما كان عليه، في جميع ما كان يطرز من أصناف الأعلاق، حاجة أشكرك عليها، وتأمر بقبض الهدية، وكانت عظيمة القدر.
فلام قرأ عبد الملك كتابه، رد الرسول وأعلمه أنه لا جواب له، ورد الهدية فانصرف بها إلى صاحبه، فلما وافاه أضعف الهدية ررد الرسول إلى عبد الملك، وقال: إني ظننتك استقللت الهدية فلم تقبلها ولم تجبني عن كتابي، فأضعفت الهدية وإني أرغب إليك إلى مثل ما رغبت فيه، من رد الطراز إلى ما كان عليه أولا. فقرأ عبد الملك الكتاب، ولم يجبه ورد الهدية فكتب إليه ملك الروم يقتضي أجوبة كتبه ويقول:
إنك قد استخففت بجوابي وهديتي ولم تسعفني بحاجتي، فتوهمتك استقللت الهدية، فأضعفتها فجريت على سبيلك الأول، وقد أضعفتها ثالثة وأنا أحلف بالمسيح، لتأمرن برد الطراز إلى ما كان عليه، أو لأمرن بنقش الدنانير والدراهم، فإنك تعلم أنه لا ينقش شيء منها إلا ما ينقش في بلادي، ولم تكن الدراهم والدنانير نقشت في الإسلام، فينقش عليها شتم نبيك فإذا قرأته أرفض جبينك عرقا فأحب أن تقبل هديتي، وترد الطراز إلى ما كان عليه، ويكون فعل ذلك هدية تودني بها، ونبقى على الحال بيني وبينك.
فلما قرأ عبد الملك الكتاب، صعب عليه الأمر وغلظ، وضاقت به الأرض، وقال: أحسبني أشأم مولود ولد في الإسلام، لأني جنيت على رسول الله صلى الله عليه وسلم من شتم هذا الكافر ما يبقى غابر الدهر، ولا يمكن محوه من جميع مملكة العرب، إذا كانت المعاملات تدور بين الناس بدنانير الروم ودراهمهم، فجمع أهل الإسلام واستشارهم، فلم يجد عند أحد منهم رأيا يعمل به، فقال له
روح (1) بن زنباع: إنك لتعلم المخرج من هذا الأمر ولكنك تتعمد تركه، فقال: ويحك من؟(2/96)
فلما قرأ عبد الملك الكتاب، صعب عليه الأمر وغلظ، وضاقت به الأرض، وقال: أحسبني أشأم مولود ولد في الإسلام، لأني جنيت على رسول الله صلى الله عليه وسلم من شتم هذا الكافر ما يبقى غابر الدهر، ولا يمكن محوه من جميع مملكة العرب، إذا كانت المعاملات تدور بين الناس بدنانير الروم ودراهمهم، فجمع أهل الإسلام واستشارهم، فلم يجد عند أحد منهم رأيا يعمل به، فقال له
روح (1) بن زنباع: إنك لتعلم المخرج من هذا الأمر ولكنك تتعمد تركه، فقال: ويحك من؟
فقال: عليك بالباقر من أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم! قال: صدقت، ولكنه ارتج علي الرأي فيه فكتب إلى عامله بالمدينة أن أشخص إلى محمد بن علي بن الحسين مكرما ومتعه بمائة ألف درهم لجهازه، وبثلاثمائة ألف لنفقته، وارح عليه في جهازه وجهاز من يخرج معه، من أصحابه، وحبس الرسول قبله إلى موافاة محمد بن علي فلما وافاه، أخبره الخبر، فقال له محمد رحمه الله تعالى: لا يعظم هذا عليك، فإنه ليس بشيء من جهتين: إحداهما أن الله عز وجل، لم يكن ليطلق ما تهدد به صاحب الروم، في رسول الله صلى الله عليه وسلم، والأخرى وجود الحيلة فيه. قال: وما هي؟ قال: تدعو في هذه الساعة بصناع، فيضربون بين يديك سككا للدراهم والدنانير، وتجعل النقش عليها صورة التوحيد، وذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم، أحدهما في وجه الدرهم والدينار، والآخر في الوجه الثاني، وتجعل في مدار الدرهم والدينار ذكر البلد الذي يضرب فيه، والسنة التي يضرب فيها تلك الدراهم والدنانير، وتعمد إلى وزن ثلاثين درهما عددا من الأصناف الثلاثة، التي العشرة منها وزن عشرة مثاقيل، وعشرة منها وزن ستة مثاقيل، وعشرة منها وزن خمسة مثاقيل، فتكون أوزانها جميعا إحدى وعشرين مثقالا، فتجزئها من الثلاثين، فتصير العدة من الجميع وزن سبعة مثاقيل، وتصب صنجات من قوارير لا تستحيل إلى زيادة ولا نقصان، فتضرب الدراهم على وزن عشرة، والدنانير على وزن سبعة مثاقيل. وكانت الدراهم، في ذلك الوقت، إنما هي الكسروية (2)، التي يقال لها اليوم البغلية، لأن رأس البغل ضربها لعمر رضي الله تعالى عنه، بسكة كسروية في الإسلام مكتوب عليها صورة الملك وتحت الكرسي مكتوب بالفارسية «نوش خور» أي كل هنيئا. وكان وزن الدرهم منها، قبل الإسلام، مثقالا والدراهم التي كان وزن العشرة منها وزن ستة مثاقيل، والعشرة وزن خمسة مثاقيل، هي السمرية والخفاف والثقال، ونقشها نقش فارس ففعل ذلك عبد الملك، وأمره محمد بن علي بن الحسين رضي الله تعالى عنه أن يكتب السكك في جميع بلدان الإسلام، وأن يتقدم إلى الناس في التعامل بها. وأن يتهدد بقتل من يتعامل بغير هذه السكة من الدراهم والدنانير وغيرها، وأن تبطل وترد إلى مواضع العمل، حتى تعاد إلى السكك الإسلامية ففعل عبد الملك ذلك.
ورد رسول ملك الروم إليه بذلك بقوله: إن الله عز وجل مانعك مما قد أردت أن تفعله، وقد تقدمت إلى عمالي في أقطار البلاد بكذا وكذا، وبإبطال السكك والطروز الرومية. فقيل لملك الروم إفعل ما كنت تهددت به ملك العرب، فقال: إنما أردت أن أغيظه بما كتبت إليه لأني كنت قادرا عليه، والمال وغيره برسوم الروم، فأما الأن فلا أفعل، لأن ذلك لا يتعامل به أهل الإسلام، وامتنع من الذي قال. وثبت ما أشار به محمد بن علي بن الحسين رضي الله تعالى عنه إلى اليوم.
ثم رمى، يعني الرشيد، بالدرهم إلى بعض الخدم، وتمكن عبد الله بن الزبير، فبايعه أهل الحرمين واليمن والعراق، واستناب على العراق وما يليه أخاه مصعب بن الزبير، وتفرقت الكلمة
__________
(1) هو روح بن زنباع بن روح بن سلامة الجذامي، أمير فلسطين له دهاء وعلم وشجاعة. مات سنة 84هـ.
(2) كسروية: نسبة إلى كسرى ملك الفرس.(2/97)
فبقي في الوقت خليفتان: أكبرهما ابن الزبير رضي الله تعالى عنه، ثم لم يزل عبد الملك إلى أن ظفر به وقتله بعد حروب عظيمة. وذلك أنه سار من دمشق إلى العراق، فبرز إليه نائبها مصعب بن الزبير، وكان عبد الملك قد كاتب جيشه بأمور، فخذلوه وتسللوا عنه، فصار مصعب في نفر يسير، والتحم بينهما القتال، فظهرت من مصعب شجاعة عظيمة، ولم يزل كذلك حتى قتل، فاستولى عبد الملك حينئذ على العراق وخراسان، واستناب عليها أخاه بشر بن مروان، وكر راجعا إلى دمشق، ثم جهز الحجاج بن يوسف الثقفي في جيش لحرب ابن الزبير، فحاصروه وضايقوه ونصبوا المنجنيق على جبل أبي قبيس، فكان يضرب بشجاعته المثل. كان رضي الله تعالى عنه، يحمل عليهم وحده فيهزمهم ويخرجهم، من أبواب المسجد واستمر يقاتلهم أربعة أشهر، ففي آخرها حمل عليهم فسقطت على رأسه شرافة من شراريف المسجد، فخر منها، فبادروا إليه واحتزوا رأسه، رضي الله تعالى عنه. فأمر اللعين الحجاج، أخزاه الله وقبحه، بصلب جسده.
وكان عبد الملك، قبل الخلافة متعبدا ناسكا عالما فقيها واسع العلم، وكان طويل العنق رقيق الوجه مشدود الأسنان بالذهب، حازما لا يكل أمره إلى سواه شديد البخل، يلقب برشح الحجر لبخله، ويلقب أيضا بأبي ذباب لبخره محبا للفخر، ومقداما على سفك الدماء، وكذلك كان عماله: الحجاج بالعراق، والمهلب بن أبي صفرة بخراسان، وهشام بن إسماعيل وعبد الله ابنه بمصر، وموسى بن نصير بالمغرب، ومحمد بن يوسف أخو الحجاج باليمن، ومحمد بن مروان بالجزيرة. وكل من هؤلاء ظلوم غشوم جبار. قاله ابن خلكان.
ومن غريب ما سمع، فيما حكاه ابن خلكان، أن علي بن عبد الله بن عباس ومحمد ابنه، دخلا على عبد الملك بن مروان، وعنده قائف (1) فأجلسهما، ثم قال للقائف: أتعرف هذا؟ قال: لا ولكن أعرف من أمره، إن هذا الفتى الذي معه ابنه، وأنه يخرج من عقبه فراعنة يملكون الأرض، لا يناويهم مناو إلا وقتلوه. فتغير لون عبد الملك. ثم قال: زعم راهب إيليا، وكان قد رآه عنده، أنه يخرج من صلبه ثلاثة عشر ملكا، ووصفهم بصفاتهم. وذكر أبو حنيفة في الأخبار الطوال أن عبد الملك بن مروان، أوصى ابنه الوليد، لما ثقل في مرضه، فقال: يا وليد لا ألفينك إذا وضعتني في حفرتي، تعصر عينيك كالأمة الولهاء، بل اتزر وشمر والبس جلد النمر، وادع الناس إلى البيعة فمن قال برأسه كذا أي لا، فقل بالسيف كذا أي أضرب عنقه.
وكان عبد الملك يلقب بحمامة المسجد، لقبه به ابن عمر رضي الله تعالى عنهما، وجاءته الخلافة وهو يقرأ في المصحف، فطبقه وقال: سلام عليك، هذا فراق بيني وبينك. وقيل إنه قيل لابن عمر رضي الله تعالى عنه: أرأيت لو نفاني أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فمن نسأل بعدهم؟
فقال: سلوا هذا الفتى، يعني عبد الملك، توفي عبد الملك بن مروان في شوال سنة ست وثمانين، وله ثلاث وستون سنة، وقيل ستون. وخلف سبعة عشر ولدا ولي الخلافة منهم أربعة. وكانت خلافته إحدى وعشرين سنة وخمسة عشر يوما، منها ثمان سنين مزاحما لابن الزبير. ثم انفرد بمملكة الدنيا إلى أن مات رحمة الله عليه.
__________
(1) القائف: الذي عنده علم بالأثر.(2/98)
خلافة عبد الله بن الزبير رضي الله تعالى عنهما وهو السادس فخلع وقتل كما سيأتي
قد تقدم، أن معاوية بن يزيد بن معاوية بن أبي سفيان، خلع نفسه من الخلافة، فكيف يكون ابن الزبير رضي الله عنهما سادسا؟ وسبق قبل ذلك أن الحسن رضى الله عنه خلع من الخلافة أيضا. فعلى هذا الحال لا يستقيم أن يكون ابن الزبير رضي الله عنهما سادسا، وبويع له يعني ابن الزبير رضي الله عنهما، بالخلافة بمكة لسبع بقين من رجب سنة أربع وستين في أيام يزيد بن معاوية كما تقدم، وبايعه أهل العراق وأهل مصر وبعض أهل الشام، إلى أن بايعوا المروان بعد حروب، واستمر له العراق إلى سنة إحدى وسبعين، وهي التي قتل فيها عبد الملك بن مروان أخاه مصعب بن الزبير، وهدم قصر الإمارة بالكوفة. سبب هدمه أنه جلس ووضع رأس مصعب بين يديه، فقال له عبد الملك بن عمير: يا أمير المؤمنين، جلست أنا وعبيد الله بن زياد في هذا المجلس، ورأس الحسين بين يديه، ثم جلست أنا والمختار بن أبي عبيد فإذا رأس عبيد الله بن زياد بيت يديه، ثم جلست أنا ومصعب هذا فإذا رأس المختار بين يديه، ثم جلست مع أمير المؤمنين فإذا رأس مصعب بين يديه. وإني أعيذ أمير المؤمنين بالله من شر هذا المجلس، فارتعد عبد الملك، وقام من فوره، وأمر بهدم القصر.
وكان مصعب شجاعا جوادا حسن الوجه، كالقمر ليلة البدر، رحمه الله تعالى. ولما قتل مصعب انهزم أصحابه، فاستدعى بهم عبد الملك بن مروان، فبايعوه وسار إلى الكوفة ودخلها، واستقر له الأمر بالعراق والشام ومصر. ثم جهز الحجاج سنة ثلاث وسبعين، إلى عبد الله بن الزبير رضي الله تعالى عنهما، فحصره بمكة ورمى البيت بالمنجنيق، ثم ظفر به فقتله، واحتز الحجاج رأسه وصلبه منكسا. ثم أنزله ودفنه في مقابر اليهود، وقيل إن الحجاج قال: لا أنزله حتى تتشفع فيه أمه أسماء، فتم على تلك الحال مدة، فمرت به أمه يوما فقالت: أما آن لهذا الفارس أن يترجل! فبلغ الحجاج ذلك، فأمر بإنزاله، وأن يعطى لأمه أسماء بنت أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنهم، فاخذته ودفنته. وسيأتي ذكر قتله أيضا في باب الشين المعجمة في لفظ الشاة. وكانت خلافته رضي الله تعالى عنه بالحجاز والعراق تسع سنين واثنين وعشرين يوما قتل رضي الله تعالى عنه وله من العمر ثلاث وسبعون سنة وقيل اثنتان وسبعون سنة.
خلافة الوليد بن عبد الملك
ثم قام بالأمر بعد عبد الملك بن مروان ابنه الوليد. فإنه كان ولي عهده، وكان دميما سائل الأنف، يختال في مشيته، قليل العلم. وكان يختم القرآن في ثلاث ليال، قال إبراهيم بن أبي عبلة: كان يختم في رمضان سبع عشرة مرة، وكان يعطيني أكياس الدراهم، أقسمها في الصالحين وعن الوليد قال: لولا أن الله عزّ وجلّ ذكر اللواط في كتابه ما ظننت أن أحدا يفعله.
بويع له بالخلافة يوم توفي والده، ولم يدخل المنزل، حتى صعد المنبر فقال: الحمد لله إنا لله وإنا إليه راجعون، والله المستعان على مصيبتنا بأمير المؤمنين، والحمد لله على ما أنعم به علينا من الخلافة، قوموا فبايعوا.
قال الحافظ ابن عساكر: كان الوليد عند أهل الشام من أفضل خلفائهم، بنى المساجد بدمشق وأعطى الناس، وفرض للمجذومين، وقال: لا تسألوا الناس. وأعطى كل مقعد خادما، وكل أعمى قائدا وكان يبرّ حملة القرآن، ويقضي عنهم ديونهم، وبنى الجامع الأموي، وهدم كنيسة مريوحنا، وزادها فيه، وذلك في ذي القعدة سنة ست وثمانين. وذكر أنه كان في الجامع وهو يبنى إثنا عشر ألف مرخم.(2/99)
بويع له بالخلافة يوم توفي والده، ولم يدخل المنزل، حتى صعد المنبر فقال: الحمد لله إنا لله وإنا إليه راجعون، والله المستعان على مصيبتنا بأمير المؤمنين، والحمد لله على ما أنعم به علينا من الخلافة، قوموا فبايعوا.
قال الحافظ ابن عساكر: كان الوليد عند أهل الشام من أفضل خلفائهم، بنى المساجد بدمشق وأعطى الناس، وفرض للمجذومين، وقال: لا تسألوا الناس. وأعطى كل مقعد خادما، وكل أعمى قائدا وكان يبرّ حملة القرآن، ويقضي عنهم ديونهم، وبنى الجامع الأموي، وهدم كنيسة مريوحنا، وزادها فيه، وذلك في ذي القعدة سنة ست وثمانين. وذكر أنه كان في الجامع وهو يبنى إثنا عشر ألف مرخم.
وتوفي الوليد، ولم يتم بناؤه فأتمه سليمان أخوه، فكان جملة ما أنفق على بنائه: أربعمائة صندوق، في كل صندوق ثمانية وعشرون ألف دينار، وكان فيه ستمائة سلسلة ذهب للقناديل، وما زالت إلى أيام عمر بن عبد العزيز رضي الله تعالى عنه، فجعلها في بيت المال، واتخذ عوضها صفرا وحديدا. وبنى قبة الصخرة ببيت المقدس وبنى المسجد النبوي ووسعه، حتى دخلت الحجرة النبوية فيه. وله آثار حسنة كثيرة جدا ومع ذلك فقد روي أن عمر بن عبد العزيز قال: لما الحدت الوليد ارتكض في اكفانه، وغلت يداه إلى عنقه. نسأل الله العافية والسلامة.
وفتح في أيام خلافته الفتوحات العظام، مثل السند والهند والأندلس وغير ذلك من الأماكن المشتهرة. وكان يركب المركوب الحسن الجيد، ويتقي الركوب والسفر والحرب، في هذه الأيام الآتي ذكرها، وينهي عن ذلك، وهي فائدة جليلة عظيمة القدر.
روى علقمة بن صفوان، عن أحمد بن يحي مرفوعا قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «توقوا إثنا عشر يوما في السنة، فإنها تذهب بالأموال، وتهتك الأستار. فقلنا: ما هي يا رسول الله؟ قال:
ثاني عشر المحرم وعاشر صفر ورابع ربيع الأول وثامن عشر ربيع الثاني وثامن عشر جماد الأولى وثاني عشر جمادى الثانية وثاني عشر رجب وسادس عشر شعبان ورابع عشر رمضان وثاني شوّال وثامن عشر ذي القعدة وثامن ذي الحجة».
وقوله أن الوليد بنى قبة الصخرة فيه نظر. وإنما بنى قبة الصخرة عبد الملك بن مروان في أيام فتنة ابن الزبير لما منع عبد الملك أهل الشأم من الحج، خوفا من أن يأخذ منهم ابن الزبير البيعة له، فكان الناس يقفون يوم عرفة بقبة الصخرة إلى أن قتل ابن الزبير رضي تعالى عنهما. كما سيأتي إنشاء الله تعالى عن ابن خلكان وغيره. ولعلها تشعثت فهدمها الوليد وبناها، والله تعالى أعلم.
وتوفي الوليد بن عبد الملك في خامس عشر جمادى الآخرة سنة ست وتسعين بدير مروان، عن ست وأربعين سنة، وقيل ثمان وأربعين وقيل خمسين سنة وترك أربعة عشر ولدا. وحمل على أعناق الرجال، ودفن في مقابر باب الصغير وتولى دفنه عمر بن عبد العزيز. وكانت خلافته تسع سنين وثمانية أشهر وقيل عشر سنين والله أعلم.
خلافة سليمان بن عبد الملك
ثم قام بالأمر بعده أخوه سليمان، وذلك لأن أباهما عقد لهما جميعا بالأمر من بعده. بويع له
بالخلافة يوم موت أخيه الوليد. وكان سليمان بالرملة، فلما جاءته الخلافة عزم على الإقامة بها، ثم توجه إلى دمشق وكمل عمارة الجامع الأموي كما تقدم، وجهز أخاه مسلمة بن عبد الملك في سنة سبع وتسعين إلى غزو الروم، فانتهى إلى القسطنطينية فنازلها. وستأتي الأشارة إلى شيء من ذلك في باب الجيم في لفظ الجراد.(2/100)
ثم قام بالأمر بعده أخوه سليمان، وذلك لأن أباهما عقد لهما جميعا بالأمر من بعده. بويع له
بالخلافة يوم موت أخيه الوليد. وكان سليمان بالرملة، فلما جاءته الخلافة عزم على الإقامة بها، ثم توجه إلى دمشق وكمل عمارة الجامع الأموي كما تقدم، وجهز أخاه مسلمة بن عبد الملك في سنة سبع وتسعين إلى غزو الروم، فانتهى إلى القسطنطينية فنازلها. وستأتي الأشارة إلى شيء من ذلك في باب الجيم في لفظ الجراد.
ومما يحكى من محاسنه رحمة الله تعالى أن رجلا دخل عليه فقال: يا أمير المؤمنين أنشدك الله والآذان. فقال له سليمان: أما أنشدك الله فقد عرفناه، فما الآذان؟ قال: قوله (1) تعالى {فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللََّهِ عَلَى الظََّالِمِينَ} فقال له سليمان: ما ظلامتك؟ قال ضيعتي الفلانية غلبني عليها عاملك فلان، فنزل سليمان رحمه الله عن سريره ورفع البساط ووضع خده بالأرض، وقال:
والله لا رفعت خدي من الأرض، حتى يكتب له برد ضيعته، فكتب الكتاب وهو واضع خده، رحمه الله لما سمع كلام ربه، الذي خلقه وخوله في نعمه، خشي على نفسه من لعنة الله تعالى وطرده. قيل أنه أطلق من سجن الحجاج ثلاثمائة ألف ما بين رجل وامرأة، وصادر آل الحجاج، واتخذ ابن عمه عمر بن عبد العزيز رضي الله تعالى عنه، وزيرا ومشيرا، وإنه أراد أن يستكتب يزيد بن أبي مسلم وزير الحجاج، فقال له عمر بن عبد العزيز: سألتك بالله يا أمير المؤمنين لا تحيي ذكر الحجاج باستكتابك يزيد! فقال له: يا عمر إني لم أجد عنده خيانة في درهم ولا دينار، فقال له: إن إبليس أعف منه في الدرهم والدينار، وقد أغوى الخلق كلهم جميعا فأضرب سليمان عما عزم عليه. وفي كامل المبرد وغيره أن يزيد هذا دخل على سليمان بن عبد الملك، وكان يزيد دميما قبيحا، فقال له سليمان: قبح الله رجلا أجرك رسنه (2)، واشركك في أمانته فقال: يا أمير المؤمنين لا تقل هذا. قال: ولم؟ قال: لأنك رأيتني والأمر عني مدبر ولو رأيتني والأمر علي مقبل لاستحسنت ما استقبحت مني، ولاستعظمت ما استصغرت مني. فقال له سليمان:
ويحك أو قد استقر الحجاج في قعر جهنم بعد أم لا؟ فقال: يا أمير المؤمنين لا تقل ذلك في الحجاج قال:
ولم؟ قال: لأن الحجاج وطأ لكم المنابر، وأذل لكم الجبابر، وإنه يأتي يوم القيامة عن يمين أبيك، ويسار أخيك، فحيثما كانا كان.
وكان سليمان رحمه الله، فصيحا أديبا بليغا، مؤثرا للعدل، محبا للغزو، محسنا لعلم العربية. ويرجع إلى دين وخير واتباع القرآن، واظهار شعائر الإسلام، مترفعا عن سفك الدماء.
وكان شرها نكاحا قال ابن خلكان في ترجمته: إنه كان يأكل في كل يوم نحو مائة رطل شامي، وكان به عرج.
ولما ولي، رد الصلاة إلى ميقاتها الأول، وكان من قبله من خلفاء بني أمية يؤخرونها إلى آخر وقتها، ولذلك قال محمد بن سيرين رحمه الله تعالى: إن سليمان افتتح خلافته بخير واختتمها بخير، افتتحها بإقامة الصلاة لميقاتها الأول، وختمها باستخلافه لعمر بن عبد العزيز رضي الله تعالى
__________
(1) سورة الأعراف: الآية 44.
(2) الرسن: الحبل.(2/101)
عنه. وذكر المفضل وغيره، أن سليمان بن عبد الملك، خرج من الحمام في يوم الجمعة، فلبس حلة خضراء، واعتم بعمامة خضراء، وجلس على فراش أخضر، وبسط ما حوله بالخضرة، ثم نظر في المرآة وكان جميلا، فأعجبه جماله، فشمر عن ذراعيه وقال: كان فينا نبينا محمد صلى الله عليه وسلم نبيا ورسولا، وكان أبو بكر رضي الله تعالى عنه صديقا، وكان عمر رضي الله تعالى عنه فاروقا، وكان عثمان رضي الله تعالى عنه حييا، وكان علي رضي الله تعالى عنه شجاعا، وكان معاوية رضي الله تعالى عنه حليما، وكان يزيد صبورا، وكان عبد الملك سائسا، وكان الوليد جبارا، وأنا الملك الشاب. ثم خرج لصلاة الجمعة فوجد حظية له في صحن الدار فانشدته هذه الأبيات:
أنت نعم المتاع لو كنت تبقى ... غير أن لا بقاء للإنسان ... ليس فيما بدا لنا منك عيب ... عابه الناس غير أنك فاني
فلما فرغ من الصلاة، ودخل داره، قال لتلك الحظية: ما قلت لي في صحن الدار وأنا خارج؟ قالت: ما قلت لك شيئا، ولا رأيتك، وأني لي بالخروج، إلى صحن الدار؟ فقال: إنا لله وإنا إليه راجعون، نعيت إلي نفسي، فما دارت عليه جمعة أخرى حتى مات. وقيل: إنه صعد المنبر وخطب، وإن صوته ليسمع في أقصى المسجد، فأخذته الحمى فما زال صوته يخفى، حتى لم يسمعه من تحته، ثم دخل داره يسحب رجليه بين رجلين، فما دارت عليه جمعة أخرى حتى مات. وقال ابن خلكان: إنه حم ومات في ليلته، وقيل: إنه مات بذات الجنب، وتوفي في صفر في عاشره سنة ثمان وتسعين وقيل سنة تسع وتسعين، بمرج دابق من أرض قنسرين، وله تسع وثلاثون سنة وقيل خمس وأربعون سنة وكانت خلافته سنتين وثمانية شهور رحمة الله تعالى عليه.
خلافة أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز رضي الله تعالى عنه
ثم قام بالأمر بعده الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز رضي الله تعالى عنه. بويع له بالخلافة يوم مات سليمان بن عبد الملك، بعهد له منه بذلك، وكان يقال له: إنه أشج (1) بني أمية، وأمه أم عاصم بنت عاصم بن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنهما فعمر رضي الله تعالى جده من قبل أمه، وهو تابعي جليل، روى عن أنس بن مالك، والسائب بن يزيد رضي الله تعالى عنهما.
وروى عنه جماعة. ومولده رضي الله تعالى عنه، بمصر سنة إحدى وستين. قال الإمام أحمد: ليس أحد من التابعين قوله حجة إلا عمر بن عبد العزيز، وفي طبقات ابن سعد عن عمر بن قيس، أنه قال لما ولي عمر بن عبد العزيز الخلافة، سمع صوت لا يدري قائله:
من الآن قد طابت وقر قرارها ... على عمر المهدي قام عمودها
وكان عمر بن عبد العزيز رضي الله تعالى عنه، عفيفا زاهدا ناسكا عابدا مؤمنا تقيا صادقا.
وهو أول من اتخذ دار الضيافة من الخلفاء، وأول من فرض لأبناء السبيل، وأزال ما كانت بنو أمية
__________
(1) الأشج: أي الذي يبدو على وجهه أثر شجة.(2/102)
تذكر به عليا على المنابر، وجعل مكان ذلك قوله تعالى {إِنَّ اللََّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسََانِ} الآية وقال (1) فيه كثير عزة:
ولّيت ولم تسبب عليا ولم تخف ... مريبا ولم تقبل مقالة مجرم (2)
... وصدّقت القول الفعال مع الذي ... أتيت فأمسى راضيا كلّ مسلم (3)
... فما بين شرق الأرض والغرب كلها ... مناد ينادي من فصيح وأعجم ... يقول أمير المؤمنين ظلمتني ... بأخذك ديناري وأخذك درهمي (4)
... فأربح بها من صفقة لمبايع ... وأكرم بها من بيعة ثم أكرم (5)
وكتب إلى عماله أن لا يقيدوا مسجونا بقيد، فإنه يمنع من الصلاة. وكتب إلى عامله بالبصرة عدي بن ارطاة: عليك بأربع ليال من السنة، فإن الله تبارك وتعالى يفرغ فيها الرحمة إفراغا وهي أول ليلة من رجب، وليلة النصف من شعبان، وليلتا العيدين. وكتب إلى عماله: إذا دعتكم قدرتكم على الناس إلى ظلمهم، فاذكروا قدرة الله تعالى عليكم، ونفاد ما تأتون إليه وبقاء ما يأتي إليكم، من العذاب بسببهم. وذكر غير واحد عن محمد المرزوي قال: أخبرت أن عمر بن عبد العزيز رضي الله تعالى عنه، لما دفن سليمان بن عبد الملك، وخرج من قبره سمع للأرض هدة أورجة، فقال: ما هذه؟ فقيل: هذه مراكب الخلافة قربت إليك يا أمير المؤمنين لتركبها! فقال:
ما لي ولها نحّوها عني وقربوا إلي دابتي! فقربت إليه فركبها، فجاء صاحب الشرطة ليسير بين يديه بالحربة، جريا على عادة الخلفاء قبله، فقال له: تنح عني، ما لي ولك إنما أنا رجل من المسلمين، ثم سار مختلطا بين الناس حتى دخل المسجد، فصعد المنبر فاجتمع الناس إليه، فحمد الله وأثنى عليه، وذكر النبي صلى الله عليه وسلم، ثم قال: أيها الناس إني ابتليت بهذا الأمر من غير رأي مني فيه، ولا طلبة ولا مشورة من المسلمين، وإني قد خلعت ما في أعناقكم من بيعتي، فاختاروا لأنفسكم غيري.
فصاح المسلمون صيحة واحدة قد اخترناك يا أمير المؤمنين، ورضيناك أميرنا باليمن والبركة. فلما سكتوا، حمد الله تعالى، وأثنى عليه، وصل على النبي صلى الله عليه وسلم، ثم قال:
أوصيكم بتقوى الله فإن تقوى الله تعالى خلف من كل شيء، وليس من تقوى الله خلف، واعملوا لآخرتكم، فإنه من عمل لآخرته كفاهه الله أمر دنيه وآخرته، وأصلحوا سرائركم يصلح الله علانيتكم، وأكثروا ذكر الموت، واحسنوا له الإستعداد قبل أن ينزل بكم، فإنه هاذم اللذات، وإني والله لا أعطي أحدا باطلا، ولا أمنع أحدا حقا.
__________
(1) الأبيات في العقد الفريد: 2/ 88.
(2) في العقد: وليت فلم تشتم ولم تخف بريا
(3) في العقد: وصدّقت بالفعل المقال
(4) في العقد: بأخذ لدينار ولا أخذ درهم.
(5) في العقد: وأعظم بها أعظم بها ثم أعظم.(2/103)
يا أيها الناس، من أطاع الله، وجبت طاعته، ومن عصى الله فلا طاعة له، أطيعوني ما أطعت الله، فإن عصيته فلا طاعة لي عليكم.
ثم نزل ودخل دار الخلافة، فأمر بالستور فهتكت، وبالبسط فرفعت، وأمر ببيع ذلك، وادخال أثمانه في بيت المسلمين، ثم ذهب يتبوأ مقيلا، فأتاه ابنه عبد الملك فقال: ما تريد أن تصنع يا أبتاه؟ قال: إي بني أقيل: قال: تقيل ولا ترد المظالم، قال: إي بني إني قد سهرت البارحة في أمر عمك سليمان، فإذا صليت الظهر، رددت المظالم. فقال: يا أمير المؤمنين، من أين لك أن تعيش إلى الظهر؟ فقال: أدن مني يا بني، فدنا منه فقبله بين عينيه، وقال: الحمد لله الذي أخرج من ظهري من يعينني على ديني. فخرج ولم يقل، وأمر مناديه أن ينادي: ألا كل من كانت له مظلمة فليرفعها، فتقدم إليه ذمي من أهل حمص فقال: يا أمير المؤمنين أسألك كتاب الله قال: وما ذاك؟
قال: إن العباس (1) بن الوليد اغتصبني أرضي، والعباس جالس، فقال عمر: ما تقول يا عباس؟
قال: إن أمير المؤمنين الوليد أقطعني إياها، وهذا كتابه. فقال عمر: ما تقول يا ذمي؟ قال: يا أمير المؤمنين أسألك كتاب الله تعالى. فقال عمر: كتاب الله أحق أن يتبع من كتاب الوليد، اردد إليه أرضه يا عباس. فردها إليه ثم جعل لا يدع شيئا، مما كان في يد أهل بيته، من المظالم إلا رده مظلمة مظلمة. فلما بلغ الخوارج سيرته، وما رد من المظالم اجتمعوا وقال: ما ينبغي لنا أن نقاتل هذا الرجل، ولما بلغ عمر (2) بن الوليد رد الضيعة على الذمي، كتب إلى عمر بن عبد العزيز:
إنك قد أزريت على من كان قبلك من الخلفاء، وعبت عليهم، وسرت بغير سيرتهم، بغضا لهم وشينا لمن بعدهم من أولادهم، وقطعت ما أمر الله به أن يوصل، إذ عمدت إلى أموال قريش ومواريثهم، فأدخلتها بيت المال جورا وعدوانا، ولن تترك على هذا الحال والسلام. فلما قرأ كتابه، كتب إليه:
بسم الله الرحمن الرحيم، من عبد الله عمر بن عبد العزيز إلى عمر بن الوليد السلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين. أما بعد فقد بلغني كتابك، أما أوّل شأنك يا ابن الوليد، فأمك بنانة أمة السكون، كانت تطوف في سوق حمص، وتدخل في حوانيتها، ثم الله أعلم بها. ثم اشتراها ذبيان، من بيت مال المسلمين، فأهداها لأبيك، فحملت بك فبئس المولود. ثم نشأت فكنت جبارا عنيدا، تزعم أني من الظالمين، إذ حرمتك وأهل بيتك، مال الله، الذي فيه حق القرابة والمساكين والأرامل، وأنّ أظلم مني وأترك لعهد الله من استعملك صبيا سفيها على جند المسلمين، تحكم فيهم برأيك، ولم يكن له في ذلك نية إلا حب الوالد لولده، فويل لأبيك ما أكثر خصماءه يوم القيامة. وكيف ينجو أبوك من خصمائه؟ وإن أظلم مني وأترك لعهد الله، من استعمل الحجاج يسفك الدم ويأخذ المال الحرام، وإن أظلم مني وأترك لعهد الله، من استعمل قرة أعرابيا جافيا، على مصر وأذن له في المعازف واللهو والشرب، وإن أظلم مني وأترك لعهد الله، من جعل لغالية البربرية في خمس العرب
__________
(1) هو العباس بن الوليد بن عبد الملك.
(2) هو عمر بن الوليد بن عبد الملك.(2/104)
نصيبا فرويدا يا ابن بنانة فلو التقت حلقتا البطان، ورد الفيء إلى أهله لتفرغت لك، ولأهل بيتك فوضعتهم على المحجة البيضاء، فطالما تركتم الحق وأخذتم في الباطل، ومن وراء ذلك ما أرجو أن أكون رأيته من بيع رقبتك، وقسم ثمنك بين اليتامى والمساكين والأرامل، فإن لكل فيك حقا.
والسلام على من اتبع الهدى، ولا ينال سلام الله القوم الظالمين.
وروي أنه وقع في زمانه غلاء عظيم، فقدم عليه وفد من العرب، فاختاروا رجلا منهم لخطابه فتقدم إليه وقال: يا أمير المؤمنين إنا وفدنا إليك من ضرورة عظيمة، وراحتنا في بيت المال، وماله لا يخلو من أن يكون لله أو لعباده أو لك، فإن كان لله فالله غني عنه، وإن كان لعباده فآتهم إياه، وإن كان لك فتصدق به علينا، إن الله يجزي المتصدقين. فتغرغرت عينا عمر رضي الله تعالى عنه بالدموع، وقال: هو كما ذكرت، وأمر بحوائجهم فقضيت فهم الأعرابي بالإنصراف، فقال عمر: أيها الرجل كما أوصلت حوائج عباد الله إليّ، فأوصل حاجتي وأرفع فاقتي إلى الله. فقال الأعرابي: إلهي اصنع بعمر بن عبد العزيز، كصنيعه في عبادك فما استتم كلامه حتى ارتفع غيم عظيم، وأمطرت السماء مطرا كثيرا فجاء في المطر بردة كبيرة، فوقعت على جرة فانكسرت، فخرج منها كاغد مكتوب فيه: هذه براءة من الله العزيز الجبار لعمر بن عبد العزيز من النار.
قال رجاء بن حيوة: كان عمر بن عبد العزيز رضي الله تعالى عنه، من أعظم الناس، وأجملهم في مشيته ولبسه، فلما استخلف قومت ثيابه وعمامته، وقميصه وقباؤه، وخفاه ورداؤه، فإذا هن يعدلن إثني عشر درهما.
وذكر ابن عساكر وغيره، أن عمر بن عبد العزيز رضي الله تعالى عنه، كان قد شدد على أقاربه، وانتزع كثيرا مما في أيديهم، فتبرموا به وسموه، ويروى أنه دعا بخادمه الذي سمه، فقال له: ويحك ما حملك على أن سقيتني السم؟ قال: ألف دينار أعطيتها. قال: هاتها فجاء بها فأمر بطرحها في بيت مال المسلمين، وقال لخادمه: أخرج بحيث لا يراك أحد.
وعن فاطمة بنت عبد الملك، زوج عمر بن عبد العزيز رضي الله تعالى عنه، أنها قالت:
والله ما اغتسل عمر من حلم ولا من جنابة منذ ولي هذا الأمر، وكان نهاره في أشغال الناس، ورد المظالم وليله في عبادة ربه تعالى. قال مسلمة بن عبد الملك: دخلت على أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز رضي الله تعالى عنه، أعوده في مرضه الذي مات فيه، فإذا عليه قميص وسخ، فقلت لفاطمة بنت عبد الملك: يا فاطمة اغسلي قميص أمير المؤمنين، فقالت نفعل إن شاء الله تعالى، ثم عدت فإذا القميص على حاله، فقلت: يا فاطمة ألم آمرك أن تغسلي قميص أمير المؤمنين؟ فإن الناس يعودونه. فقالت: والله ماله قميص غيره. وكان عمر رضي الله تعالى عنه كثيرا ما يتمثل بهذه الأبيات:
نهارك يا مغرور سهو وغفلة ... وليلك نوم والردى لك لازم ... يغرك ما يفنى وتفرح بالمنى ... كما غر بالذات في النوم حالم ... وشغلك فيما تكره غبة ... كذلك في الدنيا تعيش البهائم
واعلم أن مناقب عمر بن عبد العزيز رضي الله تعالى عنه، كثيرة جدا. فمن أراد معرفة ذلك فعليه بسيرة العمرين والحلية، وغيرهما. وكان مرضه رضي الله تعالى عنه، بدير سمعان من أرض حمص، ولما احتضر قال: اجلسوني فاجلسوه فقال: إلهي أنا الذي أمرتني فقصرت، ونهيتني فعصيت، ولكن لا إله إلا الله. وتوفي رضي الله تعالى عنه، لخمس وقيل لست مضين وقيل لعشر بقين من رجب الفرد سنة إحدى ومائة وهو ابن تسع وثلاثين سنة وأشهر، وقيل وهو ابن أربعين سنة.(2/105)
نهارك يا مغرور سهو وغفلة ... وليلك نوم والردى لك لازم ... يغرك ما يفنى وتفرح بالمنى ... كما غر بالذات في النوم حالم ... وشغلك فيما تكره غبة ... كذلك في الدنيا تعيش البهائم
واعلم أن مناقب عمر بن عبد العزيز رضي الله تعالى عنه، كثيرة جدا. فمن أراد معرفة ذلك فعليه بسيرة العمرين والحلية، وغيرهما. وكان مرضه رضي الله تعالى عنه، بدير سمعان من أرض حمص، ولما احتضر قال: اجلسوني فاجلسوه فقال: إلهي أنا الذي أمرتني فقصرت، ونهيتني فعصيت، ولكن لا إله إلا الله. وتوفي رضي الله تعالى عنه، لخمس وقيل لست مضين وقيل لعشر بقين من رجب الفرد سنة إحدى ومائة وهو ابن تسع وثلاثين سنة وأشهر، وقيل وهو ابن أربعين سنة.
وكان رضي الله تعالى عنه، أبيض مليحا جميلا مهيبا، نحيف الجسم حسن اللحية، بجبهته شجة من حافر فرس ضربه وهو صغير وكان إليه المنتهى، في العلم والفضل، والشرف والورع، والتألف ونشر العدل. جدّد الله تعالى به للأمة دينها وسار فيها بسيرة جده لأمه عمر بن الخطاب رضي الله عنه. وكانت دولته في طول مدة أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنهم أجمعين. وقبره رضي الله تعالى عنه، بدير سمعان ظاهر يزار. قال الشافعي رضي الله تعالى عنه: الخلفاء الراشدون خمسة: أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وعمر بن عبد العزيز رضي الله تعالى عنهم أجمعين.
وذكر الحافظ ابن عساكر أنه لما وضع في قبره بدير سمعان هبت ريح شديدة فسقطت منها صحيفة مكتوبة بأحسن خط: بسم الله الرّحمن الرحيم براءة من الله العزيز الجبار لعمر بن عبد العزيز من النار. فأخذوها ووضعوها في أكفانه وكانت خلافته رضي الله تعالى عنه سنتين وخمسة أشهر.
خلافة يزيد بن عبد الملك
ثم قام بالأمر بعده يزيد بن عبد الملك بن مروان. بويع له بالخلافة يوم مات ابن عمه عمر بن عبد العزيز، بعهد له من أخيه سليمان في ذلك. ولما ولي قال: خذوا بسيرة عمر بن عبد العزيز، فساروا بسيرته أربعين يوما، فدخل عليه أربعون رجلا من مشايخ دمشق، وحلفوا له أنه ليس على الخلفاء حساب ولا عقاب في الآخرة، وخدعوه بذلك، فانخدع لهم. وكان طائفة من جهال الشاميين يعتقدون ذلك. وكان أبيض جسيما مليح الوجه، وقال بعض المؤرخون: إن يزيد هذا هو المعروف بالفاسق وهو غلط وإنما الفاسق ولده الوليد كما سيأتي إن شاء الله تعالى. وذكر الحافظ ابن عساكر رحمه الله وغيره، أن يزيد بن عبد الملك كان قد اشترى في أيام أخيه سليمان جارية من عثمان بن سهيل بن حنيف بأربعة آلاف دينار، وكان إسمها حبّابة بتشديد الباء الموحدة، وأحبها حبا شديدا، فبلغ أخاه سليمان ذلك، فقال: هممت أحجر على يزيد، فبلغ ذلك يزيد فباعها خوفا من أخيه سليمان. فلما أفضت الخلافة إليه قالت له زوجته: يا أمير المؤمنين هل بقي في نفسك من الدنيا شيء؟ قال: نعم. قالت: وما هو؟ قال: حبابة. فاشترتها له، وهو لا يعلم، وزينتها وأجلستها من وراء ستر لها، ثم قالت: يا أمير المؤمنين هل بقي في نفسك من الدنيا شيء؟ قال: أو ما أعلمتك إنها حبابة. فرفعت الستر، وقالت: ها أنت وحبابة، وتركته وإياها، فحظيت عنده، وغلبت على عقله، ولم ينتفع به في الخلافة وإنه قال يوما: إن بعض الناس يقولون أنه لن يصفو لأحد من الملوك يوم كامل من الدهر، وإني أريد أن أكذبهم في ذلك.
ثم أقبل على لذاته واختلى مع حبابة، وأمر أن يحجب عن سمعه وبصره كل ما يكره، فبينما هو على تلك الحالة في صفو عيشه وزيادة فرحه وسروره، إذ تناولت حبابة حبة رمان، وهي تضحك، فغصت بها فماتت، فاختل عقل يزيد، وتكدر عيشه وذهب سروره، ووجد عليها وجدا شديدا وتركها أياما، لم يدفنها بل يقبلها ويرتشفها، حتى أنتنت وجافت، فأمر بدفنها ثم نبشها من قبرها ولم يعش بعدها إلا خمسة عشر يوما وكان مرضه بالسل وقال (1) فيها:(2/106)
ثم قام بالأمر بعده يزيد بن عبد الملك بن مروان. بويع له بالخلافة يوم مات ابن عمه عمر بن عبد العزيز، بعهد له من أخيه سليمان في ذلك. ولما ولي قال: خذوا بسيرة عمر بن عبد العزيز، فساروا بسيرته أربعين يوما، فدخل عليه أربعون رجلا من مشايخ دمشق، وحلفوا له أنه ليس على الخلفاء حساب ولا عقاب في الآخرة، وخدعوه بذلك، فانخدع لهم. وكان طائفة من جهال الشاميين يعتقدون ذلك. وكان أبيض جسيما مليح الوجه، وقال بعض المؤرخون: إن يزيد هذا هو المعروف بالفاسق وهو غلط وإنما الفاسق ولده الوليد كما سيأتي إن شاء الله تعالى. وذكر الحافظ ابن عساكر رحمه الله وغيره، أن يزيد بن عبد الملك كان قد اشترى في أيام أخيه سليمان جارية من عثمان بن سهيل بن حنيف بأربعة آلاف دينار، وكان إسمها حبّابة بتشديد الباء الموحدة، وأحبها حبا شديدا، فبلغ أخاه سليمان ذلك، فقال: هممت أحجر على يزيد، فبلغ ذلك يزيد فباعها خوفا من أخيه سليمان. فلما أفضت الخلافة إليه قالت له زوجته: يا أمير المؤمنين هل بقي في نفسك من الدنيا شيء؟ قال: نعم. قالت: وما هو؟ قال: حبابة. فاشترتها له، وهو لا يعلم، وزينتها وأجلستها من وراء ستر لها، ثم قالت: يا أمير المؤمنين هل بقي في نفسك من الدنيا شيء؟ قال: أو ما أعلمتك إنها حبابة. فرفعت الستر، وقالت: ها أنت وحبابة، وتركته وإياها، فحظيت عنده، وغلبت على عقله، ولم ينتفع به في الخلافة وإنه قال يوما: إن بعض الناس يقولون أنه لن يصفو لأحد من الملوك يوم كامل من الدهر، وإني أريد أن أكذبهم في ذلك.
ثم أقبل على لذاته واختلى مع حبابة، وأمر أن يحجب عن سمعه وبصره كل ما يكره، فبينما هو على تلك الحالة في صفو عيشه وزيادة فرحه وسروره، إذ تناولت حبابة حبة رمان، وهي تضحك، فغصت بها فماتت، فاختل عقل يزيد، وتكدر عيشه وذهب سروره، ووجد عليها وجدا شديدا وتركها أياما، لم يدفنها بل يقبلها ويرتشفها، حتى أنتنت وجافت، فأمر بدفنها ثم نبشها من قبرها ولم يعش بعدها إلا خمسة عشر يوما وكان مرضه بالسل وقال (1) فيها:
فإن تسل عنك النفس أو تدع الهوى ... فباليأس تسلو عنك لا بالتجلد ... وكلّ خليل زارني فهو قائل ... من أجلك هذا هالك اليوم أو غد (2)
وسيأتي إن شاء الله تعالى قريب من هذا في باب الدال المهملة في الدابة، عن سليمان بن داود عليهما الصلاة والسلام، وتوفي يزيد بن عبد الملك بإربل من أرض البلقاء وقيل بالجولان، وحمل على أعناق الرجال إلى دمشق، ودفن بين باب الجابية وباب الصغير وذلك لخمس بقين من شعبان سنة خمس ومائة وله تسع وعشرون وقيل ثمان وثلاثون سنة وشهر وكانت خلافته أربع سنين وشهرا.
خلافة هشام بن عبد الملك
ثم قام بالأمر بعده أخوه هشام بن عبد الملك بن مروان. بويع له بالخلافة يوم مات أخوه يزيد بعهد منه إليه. ولما أتته الخلافة، كان بالرصافة فسجد وسجد أصحابه، لما بشر بها وسار إلى دمشق، قال مصعب الزبيري: زعموا أن عبد الملك بن مروان رأى في منامه أنه بال في المحراب أربع مرات، فدس من سأل سعيد بن المسيب، وكان يعبر الرؤيا، فقال: يملك من صلبه أربعة.
فكان آخرهم هشاما انتهى.
وكان هشام حازما عاقلا، صاحب سياسة حسنة، أبيض جميلا، سمينا أحول، يخضب بالسواد. وكان ذا رأي ودهاء وحزم وفيه حلم وقلة شره. وقام بالخلافة أتم قيام وكان يجمع الأموال، ويوصف بالبخل والحرص، يقال: إنه جمع من الأموال مالا ما جمعه خليفة قبله. فلما مات احتاط الوليد بن يزيد على تركته فما غسل وكفن، إلا بالقرض والعارية وكان به حول.
وتوفي بالرّصافة في شهر ربيع الآخر بدمشق سنة خمس وعشرين ومائة وهو ابن ثلاث وخمسين سنة وقيل أربع وخمسين سنة. وكانت خلافته تسع عشرة سنة وتسعة أشهر وقيل عشرين عاما.
خلافة الوليد بن يزيد بن عبد الملك وهو السادس فخلع كما سيأتي
ثم قام بالأمر بعده ابن أخيه الوليد بن يزيد الفاسق. كان أبوه حين احتضر عهد بالأمر إلى هشام أخيه بأن يكون العهد، من بعده لولده الوليد بن يزيد. فلما مات هشام بويع له بالخلافة يوم موت عمه هشام وهو إذ ذاك بالبريّة فارا من عمه هشام لأنه كان بينه وبين عمه منافسة،
__________
(1) البيتان في العقد الفريد لكثير عزه: 6/ 62.
(2) في العقد: هذا هامة اليوم أو غد.(2/107)
لأجل استخفافه بالدين وشربه الخمر، واشتهاره بالفسق. فهم هشام بقتله ففر منه وصار لا يقيم بأرض خوفا من هشام، فلما كانت الليلة التي قدم عليه البريد في صبيحتها بالخلافة، قلق تلك الليلة قلقا شديدا فقال لبعض أصحابه: ويحك إنه قد أخذني الليلة قلق فاركب بنا حتى ننبسط، فسارا مقدار ميلين وهما يتحدثان في أمر هشام وما يتعلق به من كتبه إليه بالتهديد والوعيد، ثم نظرا فرأيا من بعد رهجا وصوتا، ثم انكشف ذلك عن برد يطلبونه، فقال لصاحبه: ويحك إن هذه رسل هشام، اللهم اعطنا غيرهم، فلما قرب البرد منهما وأثبتوا الوليد معرفة، ترجلوا وجاؤوا فسلموا عليه بالخلافة فبهت، وقال: ويحكم أمات هشام؟ قالوا: نعم، ثم أعطوه الكتب فقرأها وسار من فوره إلى دمشق، فأقام في الخلافة سنة واحدة، ثم أجمع أهل دمشق على خلعه وقتله، لاشتهاره بالمنكرات وتظاهره بالكفر والزندقة.
قال الحافظ ابن عساكر وغيره: انهمك وليد في شربه الخمر ولذاته، ورفض الآخرة وراء ظهره، وأقبل على القصف واللهو والتلذذ مع الندماء والمغنين، وكان يضرب بالعود ويوقع بالطبل ويمشي بالدف وكان قد انتهك محارم الله تعالى، حتى قيل له الفاسق. وكان أكمل بني أمية أدبا، وفصاحة، وظرفا، وأعرفهم بالنحو واللغة والحديث، وكان جوادا مفضالا. ومع ذلك لم يكن في بني أمية أكثر إدمانا للشراب والسماع، ولا أشد مجونا وتهتكا واستخفافا بأمر الأمة من الوليد بن يزيد. يقال: إنه واقع جارية له وهو سكران، وجاءه المأذنون يؤذنونه بالصلاة، فحلف أن لا يصلي بالناس إلا هي، فلبست ثيابه وتنكرت وصلت بالمسلمين وهي جنب سكرى.
ويقال: إنه اصطنع بركة من خمر وكان إذا طرب ألقى نفسه فيها وشرب منها حتى يبين النقص في أطرافها. وحكى الماوردي، في كتاب أدب الدين والدنيا، عنه أنه تفاءل يوما في المصحف فخرج له قوله (1) تعالى: {وَاسْتَفْتَحُوا وَخََابَ كُلُّ جَبََّارٍ عَنِيدٍ} فمزق المصحف وأنشأ يقول:
أتوعد كل جبار عنيد ... فها أنا ذاك جبار عنيد ... إذا ما جئت ربك يوم حشر ... فقل يا رب مزقني الوليد
فلم يلبث إلا أياما يسيرة، حتى قتل شر قتلة وصلب رأسه على قصره، ثم على أعلى سور بلده. اه. وسيأتي هذا أيضا إن شاء الله تعالى في باب الطاء المهملة في الكلام على الطيرة في لفظ الطير وأخباره في مثل هذا كثيرة مشهورة في كتب التواريخ، فلا نطيل بذكرها. وقد جاء في الحديث: «ليكونن في هذه الأمة رجل يقال له الوليد، هو شر من فرعون». فتأوله العلماء الوليد ابن يزيد هذا.
ولما خلعه أهل دمشق بايعوا ابن عمه يزيد بن الوليد بن عبد الملك، فقال: من أحضر رأس الوليد فله مائة ألف درهم. وكان الوليد بالبحرة فحصره أصحاب يزيد، فهم أصحاب الوليد بالقتال، فنهاهم عن ذلك فانفلوا من حوله، ثم دخلوا عليه في قصره، فقال: يوم كيوم عثمان؟ فقيل له: ولا سواء. فقطع رأسه، وطيف به في دمشق ونصب على قصره، ثم على أعلى سور دمشق.
__________
(1) سورة إبراهيم: الآية 15.(2/108)
ولما قتل الوليد اضطربت البلاد واستنصر على بني أمية أعداؤهم ولم تقم لهم قائمة بعده.
وقتل في جمادى الأولى سنة ست وعشرين ومائة. وكانت خلافته سنة واحدة وقيل سنة وشهرين.
وكان من أجمل الناس وأحسنهم وأقواهم وأجودهم شعرا وكان فاسقا مشتهرا منهمكا متهتكا فقاموا عليه لفسقه وارتكابه القبائح فخرج عليه تدينا ابن عمه يزيد بن الوليد بن عبد الملك، الملقب بالناقص، وتغلب على دمشق وكان الوليد بناحية تدمر في الصيد فجهز يزيد عسكرا فحاربه إلى أن أحاطوا به بحصن البحرة من أرض تدمر، ثم تسوروا عليه وذبحوه وأتوا برأسه على رمح ثم نصبوه على سور دمشق.
خلافة يزيد بن الوليد بن عبد الملك بن مروان
ثم قام بالأمر بعده يزيد بن الوليد بن عبد الملك. بويع له بالخلافة يوم خلع ابن عمه الوليد بن يزيد، وهو أول خليفة كانت أمه أمة، وكان بنو أمية يتحرزون ذلك تعظيما للخلافة، ولما سقط إليهم أن ملكهم يزول على يد خليفة كانت أمه أمة، وكانوا يتخوفون من ذلك، إلى أن ولي الخلافة الوليد بن يزيد فعلموا أن ملكهم قد انقضى. وكان يزيد يسمى الناقص وإنما سمي بذلك لأنه نقص أعطيات الناس، وردهم إلى ما كانوا عليه أيام هشام، وقيل النقصان كان في أصابع رجليه، وأول من سماه بهذا مروان بن محمد. وأقام يزيد في الخلافة والأمور مضطربة عليه، وكان مظهرا للنسك، وقراءة القرآن، وأخلاق عمر بن عبد العزيز رضي الله تعالى عنه، وكان ذا دين وورع، إلا أنه لم يمتع وبغتته المنية. وتوفي في ثامن عشر جمادى الآخرة من السنة المذكورة وهو ابن أربعين سنة وقيل ست وأربعين وقال الشافعي رحمه الله تعالى: ولي يزيد بن عبد الملك فدعا الناس إلى القدر وحملهم عليه. وكانت خلافته خمسة أشهر ونصفا وقيل ستة أشهر والله أعلم.
خلافة ابراهيم بن الوليد
ولما مات يزيد بويع أخوه إبراهيم بن الوليد، بعهد من أخيه يزيد بن الوليد، ولم يثبت له أمر فكان جمعة يسلم عليه بالخلافة وجمعة بالأمارة وجمعة لا يسلم عليه لا بالخلافة ولا بالإمارة، وما زالت الأمور مضطربة عليه. إلى أن قتله مروان بن محمد وصلبه. وكانت ولايته شهرين وعشرة أيام. وفي هذا نظر لأن مروان بن محمد بن مروان الحمار، لما سمع بمبايعته، وكان نائبا على أذربيجان وتلك النواحي، وصاحب الفتوحات سار لحينه، ودعا إلى نفسه وقدم الشام فجهز له إبراهيم بن الوليد أخويه بشرا ومسرورا، فالتقوا وانتصر عليهم مروان فزحف حتى نزل مرج عذراء فبرز إليه سليمان بن هشام بن عبد الملك، فانكسر فبرز إليه الخليفة إبراهيم بن الوليد وعسكر بظاهر دمشق، فخذله جنده وخامروا عليه بعد أن أنفق عليهم الخزائن فاختفى أمرهم.
فبايع الناس مروان واستوثق له الأمر فظهر إبراهيم ودخل عليه ونزل له عن الخلافة.(2/109)
خلافة مروان بن محمد
ولما قتل إبراهيم بن الوليد، بويع لمروان بن محمد المنبوز بالحمار، بالخلافة. وفي أيامه ظهر أبو مسلم الخراساني صاحب الدعوة وظهر السفاح بالكوفة، وبويع له بالخلافة، وجهز عمه عبد الله بن علي بن عبد الله بن عباس رضي الله تعالى عنهم، لقتال مروان بن محمد فالتقى الجمعان بالزاب، زاب الموصل، واقتتلوا قتالا شديدا فانهزم مروان، وقتل من عسكره وغرق ما لا يحصى. وتبعه عبد الله إلى أن وصل إلى نهر الأردن فلقي جماعة من بني أمية، وكانوا نيفا وثمانين رجلا، فقتلهم عن آخرهم ثم أمر عبد الله بسحبهم فسحبوا، وبسط عليهم بساطا وجلس هو وأصحابه فوقهم واستدعى بالطعام فأكلوا وهم يسمعون أنينهم من تحتهم، فقال عبد الله: يوم كيوم الحسين ولا سواء.
ثم جهز السفاح عمه صالح بن علي على طريق السماوة، فلحق بأخيه عبد الله، وقد نازل دمشق ففتحها عنوة وأباحها ثلاثة أيام، ونقض عبد الله سورها حجرا حجرا، وهرب مروان إلى مصر فتبعه صالح وقتل مروان بأبي صير، قرية من قرى الصعيد كما سيأتي في باب الهاء في لفظ الهر، وكان قد عزم على الدخول إلى الحبشة فبيتوه، فقال حين قتل: انقرضت دولتنا.
وكان بطلا شديدا شجاعا مهابا ذا هيئة أبيض ربعة أشهل ضخما، كث اللحية وكان حازما سائسا. وتمزقت بموته دولة بني أمية. وكان قتل مروان الجعدي في سنة ثلاث وثلاثين ومائة، وهو ابن ست وخمسين سنة، وكانت خلافته خمس سنين قيل وشهرين وعشرة أيام. وهو آخر خلفاء بني أمية وهم أربعة عشر خليفة: أولهم معاوية بن أبي سفيان بن صخر بن حرب بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف، وآخرهم مروان الجعدي المنبوز بالحمار وكانت مدة خلافتهم نيفا وثماني وثمانين سنة، وهي ألف شهر ولما انقضت دولتهم على ما قال الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنهما لما قيل له: تركت الخلافة لمعاوية؟ فقال: ليلة القدر خير من ألف شهر. وبدولة مروان اختل النظام في أن كل سادس يخلع، لأن العدة لم تكتمل، لأن الوليد بن يزيد المخلوع لم يل بعده من بني أمية، سوى ثلاثة يزيد بن الوليد بن عبد الملك ثم أخوه إبراهيم ثم مروان بن محمد بن مروان بن الحكم وبه انقرضت دولة بني أمية، وجاءت الدولة العباسية ثبتها الله تعالى إلى قيام الساعة.
الدولة العباسية خلافة أبي العباس السفاح
قال المؤرخون: ولما أتى الله تعالى بالدولة العباسية، كان أولهم السفاح، وهو أبو العباس عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس الهاشمي، بويع له بالخلافة في سنة اثنتين وثلاثين ومائة يوم الجمعة ثالث عشر شهر ربيع الأول واستوزر أبا سلمة حفصا الخلالي، وهو أول من لقب بالوزير واستمر اللقب لمن بعده إلى زمن الصاحب ابن عباد. وإنما سمي بالصاحب، لأنه صحب
ابن العميد واستمر على هذا الوزراء من بعده، إلى زمننا قال الإمام أبو الفرج بن الجوزي وغيره:(2/110)
قال المؤرخون: ولما أتى الله تعالى بالدولة العباسية، كان أولهم السفاح، وهو أبو العباس عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس الهاشمي، بويع له بالخلافة في سنة اثنتين وثلاثين ومائة يوم الجمعة ثالث عشر شهر ربيع الأول واستوزر أبا سلمة حفصا الخلالي، وهو أول من لقب بالوزير واستمر اللقب لمن بعده إلى زمن الصاحب ابن عباد. وإنما سمي بالصاحب، لأنه صحب
ابن العميد واستمر على هذا الوزراء من بعده، إلى زمننا قال الإمام أبو الفرج بن الجوزي وغيره:
أن السفاح خطب يوما فسقطت العصا من يده، فتطير بذلك، فقام شخص من أصحابه ومسح العصا وناوله إياها وأنشد (1):
فألقت عصاها واستقر بها النوى ... كما قر عينا بالإياب المسافر
فسرّي عنه، وذكر ابن خلكان في ترجمته (2)، أنه نظر يوما في المرآة، وكان من أجمل الناس وجها فقال: اللهم إني لا أقول كما قال سليمان بن عبد الملك، ولكني أقول: اللهم عمرني طويلا في طاعتك، متمتعا بالعافية، قال: فما استتم كلامه، حتى سمع غلاما يقول لغلام آخر:
الأجل بيني وبينك شهران وخمسة أيام، فتطير من كلامه. وقال: حسبي الله ولا حول ولا قوة إلا بالله عليه توكلت وبه استعنت فما مضت الأيام المذكورة حتى أخذته الحمى فمرض ومات، بعد شهرين وخمسة أيام بالجدري، بالأنبار بمدينته التي بناها وسماها الهاشمية. وهو ابن اثنتين وثلاثين سنة ونصف سنة وكانت خلافته أربع سنين وتسعة أشهر. وكان أبيض مليحا جميلا حسن اللحية والهيئة.
خلافة أبي جعفر المنصور
ثم قام بالأمر بعده أخوه أبو جعفر، عبد الله بن محمد المنصور. بويع له بالخلافة يوم وفاة أخيه، بعهد منه. وكان السفاح قد ولاه إمرة الحج فأتته الخلافة بمكان يعرف بالصافية، فقال:
صفا أمرنا إن شاء الله تعالى. فبايعه الناس وحج بهم فلما رجع ودخل الهاشمية بايعه الناس البيعة العامة. وإنه حج ثانيا فلما قرب من مكة رأى على جدار سطرين مكتوبين وهما (3):
أبا جعفر حانت وفاتك وانقضت ... سنوك وأمر الله لا بد واقع ... أبا جعفر هل كاهن أو منجم ... لك اليوم من ريب المنية دافع
فلما قرأهما تيقن انقضاء أجله فمات بعد ثلاثة أيام وكان قد رأى في نومه قبل موته قائلا يقول (4):
كأني بهذا القصر قد باد أهله ... وعّري منه أهله ومنازله ... وصار رئيس القوم من بعد بهجة ... إلى جدث تبنى عليه جنادله
وكانت وفاته في سنة ثمان وخمسين ومائة، ببئر ميمونة على أميال من مكة، وهو محرم بالحج وهو ابن ثلاث وستين سنة. وكانت خلافته إحدى وعشرين سنة وأحد عشر شهرا وأربعة عشر يوما. وأمه بربرية، وكان طويلا أسمر نحيفا، خفيف اللحية رحب الجبهة، كأن عينيه لسانان،
__________
(1) وفيات الأعيان: 1/ 234.
(2) وفيات الأعيان: 1/ 46.
(3) عيون الأخبار: 2/ 335. وفيه: فهل كاهن اعددته أو منجم أبا جعفر عنك المنية دافع.
(4) عيون الأخبار: 2/ 334. وفيه: وصار عميد القوم بعد نعمة إلى(2/111)
ناطقا صارما مهيبا ذا جبروت وسطوة وحزم ورأي وشجاعة، وكمال عقل ودهاء، وعلم وفقه وخبرة بالأمور، تقبله النفوس وتهابه الرجال. وكان يخلط أبهة الملك بزي النسك وكان بخيلا بالمال إلا عند النوائب.
خلافة محمد المهدي
ثم قام بالأمر بعده ابنه أبو عبد الله محمد المهدي بالله. بويع له بالخلافة يوم وفاة أبيه المنصور، بعهد منه وهو يومئذ ببغداد ثم بويع له بها لإحدى عشرة من ذي الحجة البيعة العامة. وتوفي بقرية من قرى ماسبذان ساق خلف صيد، فدخل خربة فدق ظهره باب الخربة، من قوة سوق الفرس فتلف لوقته، وقيل: بل سمته جاريته، قيل: إنها جعلت السم في طعام لضرتها، فدخل ومديده فأكل، فما جسرت أن تقول له هو مسموم.
وكانت وفاته لثمان بقين من المحرم سنة تسع وستين ومائة، ولم يوجد له نعش يحمل عليه، فحمل على باب ودفن تحت شجرة جوز، وله إثنتان وأربعون سنة ونصف، وقيل ثلاث وأربعون سنة وكانت خلافته عشر سنين وشهرا وكان جوادا ممدوحا محببا إلى رعيته حسن الخلق والخلق يقال: إن أباه خلف في الخزائن مائة ألف ألف درهم وستين ألف ألف درهم ففرقها ويقال أنه أجاز شاعرا بمائة ألف درهم.
خلافة موسى الهادي
ثم قام بالأمر بعده ابنه موسى الهادي بويع له بالخلافة يوم موت أبيه، وكان مقيما بجرجان يحارب أهل طبرستان بويع له بماسبذان ثم أخذ له أخوه الرشيد البيعة ببغداد، وبعث إليه يعزيه بوالده ويهنيه بالخلافة، فقدم بغداد على خيل البريد، فتلقاه الناس وبايعوه ثم عزم على خلع أخيه الرشيد من ولاية العهد فعاجله القضاء، وحال بينه وبين مراده. وكانت وفاة الهادي ببغداد رابع عشر شهر ربيع الأول سنة سبعين ومائة وله أربع وعشرون سنة وقيل نحو خمس وعشرين سنة، بقرحة أصابته. وكانت خلافته سنة واحدة وخمسة وأربعين يوما، وقيل سنة وشهرين وكان طويلا مليحا جسيما ذا ظلم وجبروت سامحه الله تعالى.
خلافة هارون الرشيد
ثم قام بالأمر بعده أخوه هارون الرشيد بن محمد المهدي. وكان أبوهما قد أخذلهما ولاية العهد معا. بويع له بالخلافة في الليلة التي توفي فيها أخوه، وولد له في تلك الليلة المأمون، وكانت ليلة عجيبة لم ير مثلها في بني العباس مات فيها خليفة وولد فيها خليفة. ولما بويع الرشيد قلد يحي بن خالد بن برمك وزارته. وسيأتي إن شاء الله تعالى في باب العين المهملة في لفظ العقاب ايقاع الرشيد بالبرامكة، وقتله جعفر بن يحي بن خالد بن برمك، وتخليد يحي وولده في السجن إلى أن ماتا وسبب ذلك مبينا إن شاء الله.
ومن غريب ما اتفق لهارون الرشيد، إن أخاه موسى الهادي، لما ولي الخلافة، سأل عن خاتم عظيم القدر كان لأبيه المهدي فبلغه أن الرشيد أخذه، فطلبه منه فامتنع من إعطائه، فألح عليه فيه، فحنق عليه الرشيد ومر على جسر بغداد فرماه في الدجلة. فلما مات الهادي وولي الرشيد الخلافة أتى ذلك المكان بعينه، ومعه خاتم رصاص، فرماه في ذلك المكان، وأمر الغطاسين أن يلتمسوه، ففعلوا فاستخرجوا الخاتم الأول. فعد ذلك من سعادة الرشيد وإبقاء ملكه. ونظير هذا ما حكاه ابن الأثير في حوادث سنة ستين وخمسمائة، قال: لما فتح السلطان الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب، قلعة بانياس وأخذها من الفرنج، ملأها ذخائر وعدة ورجالا، ثم عاد إلى دمشق، وفي يده خاتم بفص ياقوت، قيمته ألف ومائة دينار، فسقط من يده في شجرة بانياس، وهي كثيرة الأشجار ملتفة الأغصان فلما بعد عن المكان الذي ضاع فيه الخاتم، علم به فأعاد بعض أصحابه في طلبه ودلهم على مكانه، وقال: أظنه هناك سقط فرجعوا إليه فوجدوه.(2/112)
ثم قام بالأمر بعده أخوه هارون الرشيد بن محمد المهدي. وكان أبوهما قد أخذلهما ولاية العهد معا. بويع له بالخلافة في الليلة التي توفي فيها أخوه، وولد له في تلك الليلة المأمون، وكانت ليلة عجيبة لم ير مثلها في بني العباس مات فيها خليفة وولد فيها خليفة. ولما بويع الرشيد قلد يحي بن خالد بن برمك وزارته. وسيأتي إن شاء الله تعالى في باب العين المهملة في لفظ العقاب ايقاع الرشيد بالبرامكة، وقتله جعفر بن يحي بن خالد بن برمك، وتخليد يحي وولده في السجن إلى أن ماتا وسبب ذلك مبينا إن شاء الله.
ومن غريب ما اتفق لهارون الرشيد، إن أخاه موسى الهادي، لما ولي الخلافة، سأل عن خاتم عظيم القدر كان لأبيه المهدي فبلغه أن الرشيد أخذه، فطلبه منه فامتنع من إعطائه، فألح عليه فيه، فحنق عليه الرشيد ومر على جسر بغداد فرماه في الدجلة. فلما مات الهادي وولي الرشيد الخلافة أتى ذلك المكان بعينه، ومعه خاتم رصاص، فرماه في ذلك المكان، وأمر الغطاسين أن يلتمسوه، ففعلوا فاستخرجوا الخاتم الأول. فعد ذلك من سعادة الرشيد وإبقاء ملكه. ونظير هذا ما حكاه ابن الأثير في حوادث سنة ستين وخمسمائة، قال: لما فتح السلطان الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب، قلعة بانياس وأخذها من الفرنج، ملأها ذخائر وعدة ورجالا، ثم عاد إلى دمشق، وفي يده خاتم بفص ياقوت، قيمته ألف ومائة دينار، فسقط من يده في شجرة بانياس، وهي كثيرة الأشجار ملتفة الأغصان فلما بعد عن المكان الذي ضاع فيه الخاتم، علم به فأعاد بعض أصحابه في طلبه ودلهم على مكانه، وقال: أظنه هناك سقط فرجعوا إليه فوجدوه.
انتهى.
وكان الرشيد، مع عظم ملكه، يعتريه خوف الله تعالى، فمن ذلك ما ذكره الإمام العلامة محمد بن ظفر وغيره أن خارجيا خرج عليه فقتل أبطاله، وانتهب أمواله مرارا، ثم إنه جهز إليه مرة جيشا كثيفا، فقاتلوه فغلبوه، بعد جهد وأمسكوه وأتوا به الرشيد فجلس مجلسا عاما، وأمر بإدخاله عليه فلما مثل بين يديه قال له: يا هذا ما تريد أن أصنع بك؟ قال: ما تريد أن يصنع الله بك إذا وقفت بين يديه، فعفا عنه وأمر بإطلاقه. فلما خرج قال بعض جلسائه: يا أمير المؤمنين رجل قتل أبطالك وانتهب أموالك تطلقه بكلمة واحدة تأمل هذا الأمر، فأنه مما يجرىء عليك أهل الشر. فقال الرشيد: ردوه فعلم الرجل أنه قد تكلم في أمره، فقال: يا أمير المؤمنين لا تطعهم، فلو أطاع الله فيك الناس ما ولاك طرفة عين. قال: صدقت. ثم أمر له بصلة وصرفه. وسيأتي إن شاء الله تعالى، ما اتفق له مع الفضيل بن عياض، وسفيان الثوري في باب الباء الموحدة والفاء.
وتوفي الرشيد في سنة ثلاث وتسعين ومائة بطوس ليلة السبت لثلاث خلون من جمادى الآخرة وهو ابن سبع وأربعين سنة وقيل خمس وأربعين. وكانت خلافته ثلاثا وعشرين سنة وشهرا وقيل ثلاثا وعشرين فقط. وولد بالرى وكان جوادا ممدوحا غازيا مجاهدا شجاعا مهيبا مليحا أبيض طويلا عبل (1) الجسم، قد وخطه الشيب يقال إنه منذ استخلف كان يصلي كل يوم وليلة مائة ركعة ويتصدق من خالص ماله بألف درهم وكان له معرفة جيدة بالعلوم.
خلافة محمد الأمين وهو السادس فخلع وقتل كما سيأتي
ثم قام بالأمر بعده ابنه محمد الأمين. بويع له بالخلافة يوم توفي والده بطوس واستناب أخاه المأمون على ممالك خراسان، وهو إذ ذاك ببغداد فورد بها عليه خاتم الخلافة والبردة والقضيب، ثم بويع له بها البيعة العامة وفي سائر الآفاق. وكان الرشيد قد جدد البيعة بطوس بولاية العهد لابنه المأمون بعد الأمين، وأشهد على نفسه أن جميع ما معه من مال وسلاح وغير ذلك، للمأمون وأوصى أن
__________
(1) العبل: الضخم.(2/113)
يكون ما معه من الجيوش مضمومين إليه بخراسان. فلما مات الرشيد، نادى الفضل (1) بن الربيع في عسكر الرشيد بالرحيل إلى بغداد، وخالف وصية الرشيد فعظم ذلك على المأمون، وكتب إلى الفضل يذكره العهود التي أخذها عليه الرشيد، ويحذره البغي ويسأله الوفاء. فلم يلتفت الفضل إليه فكان هذا الأمر سبب ابتداء الوحشة بين والمأمون.
وذكر أبو حنيفة في الأخبار الطوال وغيره عن الكسائي أنه قال: إن الرشيد ولاني تأديب الأمين والمأمون فكنت أشدد عليهما في الأدب، وآخذهما به أخذا شديدا وخاصة الأمين، فأتتني حاجتي ذات يوم خالصة، جارية زبيدة وقالت: يا كسائي إن السيدة تقرأ عليك السلام، وتقول لك: حاجتي إليك أن ترفق بابني محمد فإنه قرة عيني وثمرة فؤادي وأنا أرقّ عليه رقة شديدة.
فقلت لخالصه: إن محمدا مرشح للخلافة بعد أبيه، ولا يجوز التقصير في أمره. فقالت خالصة:
إن لرقة هذه السيدة سببا أنا أخبرك إياه، إنها في الليلة التي ولدته فيها رأت في منامها كأنّ أربع نسوة أقبلن إليه، فاكتنفنه عن يمينه وشماله وأمامه وورائه، فقالت التي بين يديه: ملك قليل العمر عظيم الكبر ضيق الصدر واهي الأمر كبير الوزر شديد الغدر. وقالت التي من ورائه: ملك قصاف مبذر متلاف، قليل الإنصاف كثير الإسراف. وقالت التي عن يمينه.: ملك عظيم الطخم، قليل الحلم، كثير الإثم قطوع للرحم. وقالت التي عن يساره: ملك غدار كثير العثار، سريع الدمار. ثم بكت خالصة وقالت: يا كسائي وهل ينفع الحذر من القدر؟ ثم إن المأمون خلع الأمين من الخلافة، وجهز لقتاله طاهر بن الحسين وهرثمة بن أعين فسارا إليه وحاصراه ببغداد بعد حروب كثيرة ببغداد وتراموا بالمجانيق وجرت بينهم وقائع في أيام متعددة، وعظم الأمر واشتد البلاء، حتى خرب بسبب ذلك منازل المدينة ووثب العيارون على أموال الناس، فانتهبوها وأقام الحصار مدة سنة فتضايق الأمر على الأمين، وفارقه أكثر أصحابه وكتب طاهر إلى وجوه أهل بغداد سرا يعدهم إن أعانوه، ويتوعدهم إن لم يدخلوا في طاعته، فأجابوه وصرحوا بخلع الأمين.
وتفرّق عنه أكثر من معه فالتجأ إلى مدينة أبي جعفر، فحاصره طاهر بها ومنعه من كل شيء حتى كاد هو وأصحابه يموتون جوعا وعطشا، فلما عاين الأمين ذلك كاتب هرثمة بن أعين، وطلب منه أن يؤمنه حتى يأتيه، فأجابه إلى ذلك. فبلغ ذلك طاهرا فشق عليه، كراهية أن يظهر الفتح لهرثمة دونه، فلما كان يوم الخميس لخمس بقين من المحرم سنة ثمان وتسعين ومائة خرج الأمين إلى هرثمة فلقيه هرثمة في حراقة فركب الأمين معه، وكان طاهر قد أكمن للأمين فلما صار الأمين في الحراقة خرج عليه كمين طاهر، ورموا الحراقة بالحجارة فغرق من فيها فشق الأمين ثيابه، وسبح إلى بستان فأدركوه وأخذوه، وحملوه على برذون، وأتوا به طاهرا، فبعث إليه جماعة وأمرهم بقتله، فهجموا عليه وبأيديهم السيوف، فركبوا عليه وذبحوه من قفاه، وأخذوا رأسه وأتوا به طاهرا، فأمر بنصبه. فلما رآه الناس، سكنت الفتنة ثم جهزه طاهر إلى المأمون وصحبته خاتم
__________
(1) الفضل بن الربيع بن يونس، وزير أديب، وزر للرشيد. ومات سنة 208هـ.(2/114)
الخلافة، وبردة رسول الله صلى الله عليه وسلم وقضيبه، فلما وضع الرأس بين يديه خرّ ساجدا شكرا لله تعالى على ما رزقه من الظفر. وأمر للرسول بألف ألف درهم.
وذكر عن الأصمعي أنه قال: دخلت على الرشيد وكنت قد غبت عنه بالبصرة حولا، فسلمت عليه بالخلافة فأومأ إلى بالجلوس قريبا منه فجلست قليلا ثم نهضت، فأومأ إلي أن اجلس فجلست، حتى خف الناس ثم قال لي: يا أصمعي ألا تحب أن ترى محمدا وعبد الله بني؟ قلت:
بلى يا أمير المؤمنين إني لأحب ذلك، وما أردت القصد إلا إليهما لأسلم عليهما، فقال: يكفي ذلك ثم قال: علي بمحمد وعبد الله، فانطلق الرسول إليهما وقال أجيبا أمير المؤمنين فأقبلا كأنهما قمرا أفق، قد قاربا خطاهما ورميا ببصرهما الأرض، حتى وقفا على أبيهما، فسلما عليه بالخلافة، فأومأ إليهما بالجلوس، فجلس محمد عن يمينه وعبد الله عن يساره، ثم أمرني بمطارحتهما الأدب فكنت لا ألقي عليهما شيئا من فنون الأدب إلا أجابا فيه، وأصابا فقال: كيف ترى أدبهما؟ قلت: يا أمير المؤمنين ما رأيت مثلهما في ذكائهما وجودة فهمهما وذهنهما، فأطال الله تعالى بقاءهما، ورزق الأمة من رأفتهما ومعطفتهما فضمهما إلى صدره وسبقته عبرته فبكى حتى تحدرت دموعه على لحيته، ثم أذن لهما في القيام فنهضا حتى إذا خرجا قال لي: يا أصمعي كيف بهما إذا ظهر تعاديهما، وبدا تباغضهما ووقع بأسهما بينهما، حتى تسفك الدماء. ويود كثير من الأحياء أنهم كانوا موتى؟ قلت: يا أمير المؤمنين هذا شيء قضى به المنجمون عند مولدهما، أو شيء أثرته العلماء في أمرهما؟ قال: لا بل شيء أثرته العلماء عن الأوصياء عن الأنبياء في أمرهما. وكان المأمون يقول في خلافته: كان الرشيد سمع جميع ما يجري بيننا من موسى بن جعفر، ولذلك قال ما قال. وذكر صاحب عيون التواريخ وغيره، أن المأمون مرّ يوما على زبيدة أم الأمين، فرآها تحرك شفتيها بشيء لا يفهمه، فقال لها: يا أماه أتدعين علي لكوني قتلت ابنك وسلبته ملكه؟ فقالت: لا والله يا أمير المؤمنين. قال فما الذي قلته؟
قالت: يعفيني أمير المؤمنين، فألح عليها وقال لا بد أن تقوليه، قالت: قلت قبح الله الملاححة.
قال: وكيف ذلك؟ قالت: لأني لعبت يوما مع أمير المؤمنين الرشيد بالشطرنج على الحكم والرضا، فغلبني فأمرني أن أتجرد من أثوابي وأطوف القصر عريانة، فاستعفيته فلم يعفني، فتجردت من أثوابي وطفت القصر عريانة، وأنا حنقة عليه ثم عاودنا اللعب فغلبته، فأمرته أن يذهب إلى المطبخ، فيطأ أقبح جارية وأوشهها خلقة فيه فاستعفاني من ذلك فلم أعفه، فبذل إلى خراج مصر والعراق فأبيت، وقلت: والله لتفعلن ذلك فأبى، فألححت عليه، وأخذت بيده وجئت به للمطبخ، فلم أر جارية أقبح ولا أقذر ولا أشوه خلقة من أمك مراجل، فأمرته أن يطأها فوطئها، فعلقت منه بك فكنت سببا لقتل ولدي وسلبه ملكه. فولى المأمون وهو يقول: لعن الله الملاححة أي التي ألح عليها حتى أخبرته بهذا الخبر.
وقتل الأمين وهو ابن ثمان وعشرين سنة وقيل سبع وعشرين وكان طويلا أبيض بديع الحسن. وكانت خلافة أربع سنين وثمان شهور وقيل ثلاثة أعوام وأياما لأنه خلع في رجب سنة ست. ومن حسب له موته فخلافته خمس سنين خلا أشهرا وكان مبذرا للأموال لعابا لا يصلح للخلافة وكان مشتغلا باللهو والقصف والإقبال على اللذات فقال فيه بعضهم من أبيات:
إذا غدا ملك باللهو مشتغلا ... فاحكم على ملكه بالويل والحرب ... أما ترى الشمس في الميزان هابطة ... لما غدا وهو برج اللهو والطرب(2/115)
وقتل الأمين وهو ابن ثمان وعشرين سنة وقيل سبع وعشرين وكان طويلا أبيض بديع الحسن. وكانت خلافة أربع سنين وثمان شهور وقيل ثلاثة أعوام وأياما لأنه خلع في رجب سنة ست. ومن حسب له موته فخلافته خمس سنين خلا أشهرا وكان مبذرا للأموال لعابا لا يصلح للخلافة وكان مشتغلا باللهو والقصف والإقبال على اللذات فقال فيه بعضهم من أبيات:
إذا غدا ملك باللهو مشتغلا ... فاحكم على ملكه بالويل والحرب ... أما ترى الشمس في الميزان هابطة ... لما غدا وهو برج اللهو والطرب
خلافة عبد الله المأمون
ثم قام بالأمر بعده أخوه عبد الله المأمون. بويع له بالخلافة، البيعة العامة، صبيحة الليلة التي قتل فيها الأمين بإجماع من الأمة على ذلك، خلا ما كان من أمير الأندلس فإنه كان والأمراء قبله وبعده لم يتقيدوا بطاعة العباسيين لبعد الديار. قال في الأخبار الطوال: كان المأمون شهما بعيد الهمة أبي النفس، وكان نجم بني العباس في العلم والحكمة، وكان قد أخذ من العلوم بقسط، وضرب فيها بسهم، وهو الذي استخرج كتاب إقليدس، وأمر بترجمته وتفصيله، وعقد المجالس في خلافته للمناظرة في الأديان والمقالات، وكان أستاذه فيها أبا الهذيل محمد بن الهذيل البصري المعتزلي، الذي يقال له العلاف، وستأتي الإشارة إليه في باب الباء الموحدة في لفظ البرذون وفي أيامه ظهر القول بخلق القرآن. وقال غيره: إن القول بخلق القرآن ظهر في أيام الرشيد، وكان الناس فيه بين أخذ وترك، إلى زمن المأمون، فحمل الناس على القول بخلق القرآن، وكل من لم يقل بخلق القرآن عاقبه أشد عقوبة. وكان الإمام أحمد (1) رضي الله تعالى عنه إمام أهل السنة من الممتنعين من القول بخلق القرآن، فحمل إلى المأمون مقيدا، فمات المأمون قبل وصوله إليه.
وسيأتي ذكر محنته في خلافة المعتصم.
وقالوا: دخل المأمون بلاد الجزيرة والشام، وقام بها مدة طويلة، ثم غزا الروم وفتح فتوحات كثيرة وأبلى بلاء حسنا. وتوفي بنهر بردى لاثنتي عشرة ليلة بقيت من رجب، وقيل لثمان مضين منه سنة ثمان عشرة ومائتين، وهو ابن تسع وأربعين سنة وقيل تسع وثلاثين والأول أصح وقيل ثمان وأربعين، وكانت خلافته عشرين سنة وخمسة أشهر ودفن بطرسوس.
قال ابن خلكان: كان المأمون عظيم العفو جوادا بالمال، عارفا بالنجوم والنحو، وغيرهما من أنواع العلوم، خصوصا علم النجوم، وكان يقول: لو يعلم الناس ما أجد في العفو من اللذة لتقربوا إلي بالذنوب. وقال غيره: إنه لم يكن في بني العباس أعلم من المأمون وكان يشتغل بعلم النجوم كثيرا وفي ذلك يقول الشاعر:
هل علوم النجوم أغنت عن المأ ... مون شيئا أو ملكه المأنوس ... خلفوه بساحتي طرسوس ... مثلما خلفوا أباه بطوس
وكان أبيض مليح الوجه، مربوعا طويل اللحية، دينا عارفا بالعلم، فيه دهاء وسياسة.
خلافة أبي إسحق ابراهيم المعتصم
ثم قام بالأمر بعده أخوه أبو إسحق إبراهيم المعتصم بن هارون الرشيد. بويع له بالخلافة
__________
(1) هو الإمام أحمد بن حنبل صاحب المسند.(2/116)
يوم موت أخيه بعهد منه فأمر بهدم ما بنوا من طوانة وغزا عمورية وأناخ عليها وحاصرها حصارا شديدا. ولم يكن في بني العباس مثله في القوة والشجاعة والإقدام قيل إنه أصبح ذات يوم برد عظيم وثلج فلم يقدر أحد على إخراج يده ولا امساك قوسه فأوتر المعتصم في ذلك اليوم أربعة آلاف قوس، ولم يزل يحاصرها حتى فتحها عنوة واحتوى على ما فيها من الأموال وغيرها، وأخذ أهلها أسرى.
ولما ولي طلب الإمام أحمد، وكان في سجن المأمون كما تقدم، وامتحنه بخلق القرآن كما سنذكره إن شاء الله تعالى. وتلخيص ما كان من أمره أن هارون الرشيد لم يقل بخلق القرآن مدة خلافته، ولهذا السبب كان الفضيل بن عياض يتمنى طول عمر الرشيد، لأنه والله أعلم، كان قد كشف له بأن فتنة تحدث بعد موت الرشيد، ولم تحدث في أيام خلافته فتنة، ولكن كان الأمر في زمن ولايته بين أخذ وترك، كما قدمنا قريبا إلى أن ولي ابنه المأمون، فقال بخلق القرآن، وبقي يقدم رجلا ويؤخر أخرى في دعواه الناس إلى ذلك، إلى أن قوي عزمه في السنة التي مات فيها، فمل الناس على القول بخلق القرآن. وكل من لم يقل بخلقه عاقبه أشد عقوبة. وإنه طلب الإمام أحمد بن حنبل، وجماعة فحمل إليه الإمام أحمد فلما كان ببعض الطريق، توفي المأمون وعهد إلى أخيه المعتصم بالخلافة وأوصاه بأن يحمل الناس على القول بخلق القرآن، واستمر الإمام أحمد محبوسا إلى أن بويع المعتصم، فأحضر الإمام أحمد إلى بغداد، وعقد له مجلسا للمناظرة وفيه عبد الرحمن بن إسحاق، والقاضي أحمد بن أبي دؤاد، وغيرهما فناظروه ثلاثة أيام، ولم يزل معهم في جدال، إلى اليوم الرابع، فأمر بضربه، فضرب بالسياط ولم يزل عن الصراط، إلى أن أغمي عليه، ونخسه عجيف بالسيف، ورمي عليه بارية وديس عليه، ثم حمل وصار إلى منزله وكانت مدة مكثه في السجن ثمانية وعشرين شهرا، ولم يزل بعد ذلك يحضر الجمعة والجماعات ويفتي ويحدث إلى أن مات المعتصم وولي الواثق، فأظهر ما أظهره المأمون والمعتصم من المحنة، وقال للإمام أحمدا: لا تجمعن إليك أحدا ولا تساكني في بلد أنا فيه، فأقام الإمام أحمد مختفيا، لا يخرج إلى صلاة ولا غيرها، حتى مات الواثق وولي المتوكل، فرفع المحنة وأمر بإحضار الإمام أحمد، وإكرامه وإعزازه وأطلق له مالا كثيرا فلم يقبله، وفرقه على الفقراء والمساكين. وأجرى المتوكل على أهله وولده في كل شهر أربعة آلاف درهم، فلم يرضى الإمام أحمد بذلك رحمه الله تعالى وذكر العراقي في مجمع الأخبار وغيره أنه نوظر في الأيام الثلاثة، وأن المعتصم كان يخلو به ويقول له:
ويحك يا أحمد أنا والله عليك شفيق، وإني لا شفق عليك مثل شفقتي على ابني هارون يعني الواثق فأجبني فو الله لئن أجبتني لاطلقن غلك بيدي، ولا طأن عتبتك، ولأركبن إليك بجندي. فيقول:
يا أمير المؤمنين أعطوني شيئا من كتاب الله تعالى أو سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا طال به المجلس، ضجر وقام ورد أحمد في الموضع الذي كان فيه. وتتردد إليه رسل المعتصم يقولون: يا أحمد، أمير المؤمنين يقول لك: ما تقول في القرآن؟ فيرد عليهم كما رد أولا. فلما كان في اليوم الثالث، طلب للمناظرة فأدخل على المعتصم، وعنده محمد بن عبد الملك الزيات، والقاضي أحمد بن أبي دؤاد، فقال المعتصم: كلموه وناظروه فلم يزالوا في جدال إلى أن قالوا: يا أمير المؤمنين اقتله ودمه في أعناقنا. فرفع المعتصم يده ولطم بها وجه الإمام أحمد، فخر مغشيا عليه، فتمعرت وجوه قواد خراسان، وكان عم أحمد فيهم، فخاف الخليفة منهم على نفسه فدعا بماء ورش على وجهه، فلما
أفاق من غشيته، رفع رأسه إلى عمه وقال: يا عم لعل هذا الماء الذي رش على وجهي غصب عليه صاحبه، فقال المعتصم: ويحكم أما ترون ما يتهجم به علي هذا وقرابتي من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ لا رفعت السوط عنه حتى يقول القرآن مخلوق. ثم التفت إلى أحمد وأعاد عليه القول، فرد أحمد كالأول. فلم يزل كذلك حتى ضجر وطال المجلس فعند ذلك قال: عليك لعنة الله، لقد كنت طمعت فيك قبل هذا، خذوه اخلعوه اسحبوه فأخذ وسحب ثم خلع. ثم قال المعتصم:(2/117)
يا أمير المؤمنين أعطوني شيئا من كتاب الله تعالى أو سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا طال به المجلس، ضجر وقام ورد أحمد في الموضع الذي كان فيه. وتتردد إليه رسل المعتصم يقولون: يا أحمد، أمير المؤمنين يقول لك: ما تقول في القرآن؟ فيرد عليهم كما رد أولا. فلما كان في اليوم الثالث، طلب للمناظرة فأدخل على المعتصم، وعنده محمد بن عبد الملك الزيات، والقاضي أحمد بن أبي دؤاد، فقال المعتصم: كلموه وناظروه فلم يزالوا في جدال إلى أن قالوا: يا أمير المؤمنين اقتله ودمه في أعناقنا. فرفع المعتصم يده ولطم بها وجه الإمام أحمد، فخر مغشيا عليه، فتمعرت وجوه قواد خراسان، وكان عم أحمد فيهم، فخاف الخليفة منهم على نفسه فدعا بماء ورش على وجهه، فلما
أفاق من غشيته، رفع رأسه إلى عمه وقال: يا عم لعل هذا الماء الذي رش على وجهي غصب عليه صاحبه، فقال المعتصم: ويحكم أما ترون ما يتهجم به علي هذا وقرابتي من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ لا رفعت السوط عنه حتى يقول القرآن مخلوق. ثم التفت إلى أحمد وأعاد عليه القول، فرد أحمد كالأول. فلم يزل كذلك حتى ضجر وطال المجلس فعند ذلك قال: عليك لعنة الله، لقد كنت طمعت فيك قبل هذا، خذوه اخلعوه اسحبوه فأخذ وسحب ثم خلع. ثم قال المعتصم:
السياط. قال الإمام أحمد: وكان عندي شعرات من شعر النبي صلى الله عليه وسلم، قد صررتها في كم قميصي فجاء بعض القوم إلى قميصي ليحرقه فقال له المعتصم: لا تحرقوه وانزعوه عنه وإنما درىء عن القميص الحرق ببركة شعر النبي صلى الله عليه وسلم. وشدوا يديه فتخلعت. ولم يزل أحمد يتوجع منها حتى مات. ثم قال المعتصم للجلادين: تقدموا ونظر إلى السياط، فقال: ائتوا بغيرها ثم قال لأحدهم:
أذمه (1) وأوجع قطع الله يدك: فتقدم وضربه سوطين، ثم تنحى. ثم قال لآخر: أذمه وشد قطع الله يدك، فتقدم وضربه سوطين، ثم تنحى. ولم يزل يدعو رجلا رجلا فيضربه كل واحد سوطين ويتنحى. ثم قال المعتصم وجاءه، وهم محدقون به، وقال: يا أحمد تقتل نفسك: أجبني حتى أطلق غلك بيدي وجعل بعضهم يقول له: يا أحمد إمامك على رأسك قائم فاجبه، وعجيف ينخسه بالسيف، ويقول أتريد أن تغلب هؤلاء كلهم، وبعضهم يقول: يا أمير المؤمنين اجعل دمه في عنقي، فرجع المعتصم إلى الكرسي، ثم قال للجلاد: أذمه قطع الله يدك ثم جاء المعتصم إليه ثانيا، وقال: يا أحمد أجبني: فقال كالأول. فرجع المعتصم وجلس على الكرسي، ثم قال للجلاد: شد عليه قطع الله يدك. قال أحمد: فذهب عقلي فما عقلت إلا وأنا في حجرة مطلق عني. وكل ذلك وهو صائم لم يفطر رضي الله تعالى عنه. وضرب ثمانية عشر سوطا، فلما كان في أثناء الضرب، انحلت وزرته فهمهم بشفتيه، فخرجت يدان فربطتاها. فسئل عن ذلك بعد اطلاقه. فقال: قلت أللهم إن كنت على الحق فلا تفضحني. ثم وجه المعتصم رجلا ينظر الضرب والجراحات ويعالجه، فنظر إليه وقال: والله لقد رأيت من ضرب ألف سوط، فما رأيت ضربا أشد من هذا. ثم عالجه وبقي أثر الضرب بينا في ظهره إلى أن مات رحمة الله تعالى عليه. وقال صالح: سمعت أبي يقول: والله لقد أعطيت المجهود من نفسي، ولوددت أني أنجو من هذا الأمر كفافا لا علي ولا لي.
وحكي أن الشافعي رضي الله تعالى عنه، لما كان بمصر، رأى في المنام سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم، وهو يقول له: بشر أحمد بن حنبل بالجنة، على بلوى تصيبه فإنه يدعى إلى القول بخلق القرآن فلا يجب إلى ذلك، بل يقول هو منزل غير مخلوق. فلما أصبح الشافعي رضي الله تعالى عنه، كتب صورة ما رآه في منامه، وأرسله مع الربيع إلى بغداد إلى أحمد فلما وصل بغداد، قصد منزل أحمد واستأذن عليه فأذن له، فلما دخل عليه قال له: هذا كتاب أخيك الشافعي، فقال له: هل تعلم ما فيه؟ قال: لا ففتحه وقرأه وبكى. وقال ما شاء الله لا قوة إلا بالله. ثم أخبره بما فيه، فقال:
الجائزة، وكان عليه قميصان أحدهما على جسده، والآخر فوقه. فنزع الذي على جسده ودفعه
__________
(1) أذمه من قولك ذمه: شدّ.(2/118)
إليه. فأخذه ورجع إلى الشافعي. فقال له الشافعي: ما أجازك؟ قال: أعطاني القميص الذي على جسده. فقال: أما أنا فلا أفجعك فيه، ولكن أغسله وائتني بمائة، فغسله وأتاه بالماء، فأفاضه على سائر جسده.
وقال إبراهيم الحربي: جعل الإمام أحمد بن حنبل جميع من ضربه أو حضره أو ساعد عليه في حل، إلا ابن أبي دؤاد. وقال: لولا أنه ذو بدعة لأحللته، ولو تاب من بدعته لأحللته، وقال أحمد بن سنان: بلغنا أحمد بن حنبل جعل المعتصم في حل، يوم فتح بابل أو فتح عمورية.
وقال: هو في حل من ضربي. قال عبد الله بن الورد: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم، في المنام، فقلت له:
يا رسول الله ما شأن أحمد بن حنبل؟ فقال صلى الله عليه وسلم: سيأتيك موسى بن عمران، فاسأله فإذا أنا بموسى بن عمران صلى الله عليه وسلم، فقلت: يا كليم الله ما شأن أحمد بن حنبل، فقال: أحمد بن حنبل بلي في السراء والضراء، فوجد صابرا صادقا، فألحق بالصديقين.
والحكمة في إحالة النبي صلى الله عليه وسلم على موسى عليه السلام أمور: منها بيان فضيلة أمة محمد صلى الله عليه وسلم على الأمم، حتى إن موسى عليه السلام يبين ذلك ويقرره. ومنها بيان فضل الإمام أحمد بن حنبل رضي الله تعالى عنه وما جعل له من الثواب العظيم في المحنة لما جرى عليه، حتى إنه شهد بعظيم فضله وعلو منزلته نبي كريم. ومنها أن محنة الإمام أحمد في كون القرآن مخلوقا، وهو كلام الله تعالى، وموسى بن عمران عليه السلام كليم الله تعالى، كلمه الله تكليما، وهو يعلم أن القرآن كلام الله تعالى ليس بمخلوق. فناسب الإحالة ليعرف الناس ذلك، ليزداد يقينهم بأنه منزل غير مخلوق.
وذكر ابن خلكان في ترجمته (1) أنه ولد في سنة أربع وستين ومائة وتوفي في سنة إحدى وأربعين ومائتين. وحزر من حضر جنازته من الرجال، فكانوا ثمانمائة ألف، ومن النساء ستين ألفا، وأسلم يوم موته عشرون ألفا من اليهود والنصارى والمجوس انتهى.
وقال الإمام النووي في تهذيب الأسماء واللغات: إن المتوكل أمر أن يقاس الموضع، الذي وقف الناس فيه للصلاة على الإمام أحمد، فبلغ مقام ألفي ألف وخمسمائة ألف ووقع المأتم في أربعة أصناف: في المسلمين واليهود والنصارى والمجوس انتهى. قال محمد بن خزيمة: لما بلغني موت الإمام أحمد بن حنبل اغتممت غما شديدا، فرأيت من ليلتي في المنام، وهو يتبختر في مشيته، فقلت: يا أبا عبد الله ما هذه المشية؟ فقال: مشية الخدام في دار السلام. فقلت: ما فعل الله بك؟
فقال: غفر لي وتوجني وألبسني نعلين من ذهب، وقال يا أحمد هذا بقولك القرآن كلامي غير مخلوق، ثم قال تبارك وتعالى: يا أحمد ادعني بتلك الدعوات التي بلغتك عن سفيان (2) التي كنت تدعو بهن في دار الدنيا. قال: فقلت يا رب كل شيء أسألك بقدرتك على كل شيء، لا تسألني عن شيء، واغفر لي كل شيء. فقال جل وعلا: يا أحمد هذه الجنة قم فادخلها فدخلتها فإذا أنا بسفيان الثوري له جناحان أخضران، يطير بهما من نخلة إلى نخلة، وهو يقول: الحمد الله الذي
__________
(1) وفيات الأعيان: 1/ 63.
(2) هو سفيان الثوري الفقيه المتوفى بالبصرة سنة 160هـ.(2/119)
صدقنا وعده، وأورثنا الأرض نتبوأ من الجنة حيث نشاء، فنعم أجر العاملين. قال: قلت ما فعل الله بعبد الوهاب الوراق (1)؟ قال: تركته في بحر من نور، في زورق من نور، يزور ربه الملك الغفور. فقلت: فما فعل ببشر (2) بن الحارث فقال لي: بخ بخ، ومن مثل بشر؟ تركته بين يدي الله جل جلاله، وبين يديه مائدة من الطعام، والجليل جل جلاله مقبل عليه، وهو يقول:
كل يا من لم يأكل، واشرب يا من لم يشرب، وانعم يا من لم ينعم.
وفي سنة سبع وعشرين ومائتين احتجم المعتصم بسر من رأى، فحم ومات، وذلك لإثنتي عشرة ليلة من شهر ربيع الأول وهو ابن ثمان أو سبع وأربعين سنة. وكانت خلافته ثمان سنين وثمانية شهور وثمانية أيام، وهو الثامن من خلفاء بني العباسي. وخلف من الذهب ثمانية آلاف دينار، ومن الدراهم ثمانية عشر ألف درهم، ومن الخيل ثمانية آلاف فرس، ومثلها من الجمال والبغال، ومن المماليك ثمانية آلاف مملوك، وثمانية آلاف جارية، وكان يقال له الثماني لأجل ذلك.
وكان أميا وذلك إنه كان له مملوك صغير، يذهب معه إلى الكتاب فمات فقال له الرشيد:
مات مملوكك يا إبراهيم، فقال: استراح من الكتاب يا أمير المؤمنين، فقال: أو بلغ الكتاب منك إلى هذا الحد؟ اتركوا ولدي لا تعلموه. فكان أميا لذلك وكان أبيض أصهب اللحية، مربوعا وكان شجاعا مهيبا، قوي البدن إلى الغاية فتح الفتوحات الكبار مثل عمورية من أقصى بلاد الروم ودانت له الأمم، وكان فيه ظلم وعنف وبذلك أرهب الأعداد سامحه الله تعالى.
خلافة هارون الواثق بالله
ثم قام بالأمر بعده ابنه هارون الواثق بالله بويع له بالخلافة بسر من رأى يوم موت أبيه، ونفذت البيعة إلى بغداد، واستقر له الأمر ببغداد وغيرها. ولما ولي قتل أحمد بن نصر (3) الخزاعي، على القول بخلق القرآن ونصب رأسه إلى الشرق، فدار إلى القبلة فأجلس رجلا معه رمح أو قصبة، فكان كلما دار الرأس إلى القبلة أداره إلى الشرق. وروي أنه رؤي في المنام فقيل له: ما فعل الله بك؟ فقال: غفر لي ورحمني إلا أني كنت مهموما منذ ثلاث. قيل: ولم؟ قال: لأن النبي صلى الله عليه وسلم مر علي مرتين فأعرض بوجهه الكريم عني، فغمني ذلك، فلما مر علي صلى الله عليه وسلم الثالثة، قلت له:
يا رسول الله ألست على الحق وهم على الباطل؟ قال: بلى. قلت: فما بالك تعرض عني بوجهك الكريم؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: حياء منك إذ قتلك رجل من أهل بيتي.
وقد رأيت حكاية تدل على أن الواثق رجع عن هذا الاعتقاد والامتحان، وذلك فيما ذكره الخطيب البغدادي في تاريخه في ترجمته قال: سمعت طاهر بن خلف يقول: سمعت محمد بن الواثق الذي يقال له المهتدي بالله يقول: كان أبي إذا أراد أن يقتل رجلا أحضرنا ذلك المجلس،
__________
(1) الوراق هو عبد الوهاب بن عبد الحكم الوراق البغدادي، الإمام الحجة المحدّث. توفي سنة 251هـ.
(2) بشر بن الحارث بن عبد الرحمن بن عطاء، الإمام المحدّث المشهور بالحافي. مات سنة 227هـ.
(3) الخزاعي: أحمد بن نصر بن مالك بن الهيثم من أشراف بغداد، من بني العباس، قبض عليه الواثق وقتله لمخالفته القول بخلق القرآن سنة 231هـ.(2/120)
فبينما نحن ذات يوم عنده إذ أتي بشيخ مصفود مقيد، فقال أبي: ائذنوا لأبي عبد الله يعني ابن أبي دؤاد وأصحابه، وأدخل الشيخ في مصلاه، فقال: السلام عليك يا أمير المؤمنين. فقال له: لا سلم الله عليك. فقال: يا أمير المؤمنين، بئسما أدبك مؤدبك قال الله تعالى: {وَإِذََا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهََا أَوْ رُدُّوهََا} (1) والله ما حييتني بها، ولا بأحسن منها، فقال ابن أبي دؤاد: يا أمير المؤمنين الرجل متكلم، فقال: كلمه فقال: يا شيخ ما تقول في القرآن؟ قال: انصفني في السؤال؟
فقال له: سل. فقال الشيخ: ما تقول أنت في القرآن؟ قال: مخلوق. فقال الشيخ: هذا شيء علمه النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله تعالى عنهم، والخلفاء الراشدون، أم شيء لم يعلموه؟
فقال: شيء لم يعلموه فقال: سبحان الله شيء لم يعلمه النبي صلى الله عليه وسلم ولا أبو بكر ولا عمر ولا عثمان ولا علي ولا الخلفاء الراشدون تعلمه أنت؟ فخجل وقال: أقلني فقال: قد فعلت. والمسألة بحالها قال: نعم قال: فما تقول في القرآن. قال: مخلوق. قال: هذا شيء علمه النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر وعثمان وعلي والخلفاء الراشدون أم لم يعلموا. قال: علموه ولم يدعوا الناس إليه. فقال أفلا وسعك ما وسعهم؟ قال: ثم قام أبي فدخل مجلس الخلوة واستلقى على قفاه ووضع إحدى رجليه على الأخرى وهو يقول: هذا شيء لم يعلمه النبي صلى الله عليه وسلم ولا أبو بكر ولا عمر ولا عثمان ولا علي ولا الخلفاء الراشدون، تعلمه أنت! سبحان الله شيء علمه النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر وعثمان وعلي والخلفاء الراشدون ولم يدعوا الناس إليه أفلا وسعك ما وسعهم؟ ثم دعا عمارا الحاجب فأمره أن يرفع القيود عنه، ويعطيه أربعمائة دينار، يأذن له في الرجوع وسقط من عينه ابن أبي دؤاد. ولم يمتحن بعد ذلك أحدا، رحمه الله تعالى عليه.
كذا وقع في هذه الرواية، أن المهتدي بالله بن الواثق إسمه محمد وبذلك سماه الحافظ أبو عبد الله الذهبي، في كتاب دول الإسلام، وذكر المؤلف بعد في ترجمته: أن إسمه جعفر، وقد جاء في رواية غير هذه ما يدل على أن إسمه أحمد، وفيها زيادة ونقص ومغايرة في بعض الألفاظ، والمعنى، وذلك فيما ذكره الحافظ أبو نعيم في حليته، قال: قال الحافظ أبو بكر الآجري بلغني عن المهتدي رحمه الله تعالى، أنه قال ما قطع أبي يعني الواثق إلا شيخ جيء به من المصيصة (2) فمكث في السجن مدة، ثم إن أبي ذكره يوما، فقال: علي بالشيخ فأتي به مقيدا فلما وقف بين يديه، سلم عليه فلم يرد عليه السلام، فقال له الشيخ يا أمير المؤمنين ما استعملت معي أدب الله عز وجل، ولا أدب رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال الله تعالى: {وَإِذََا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهََا أَوْ رُدُّوهََا}
وأمر النبي صلى الله عليه وسلم برد السلام، فقال له أبي: وعليك السلام، ثم قال لابن أبي دؤاد: سله فقال:
يا أمير المؤمنين أنا محبوس مقيد أصلي في الحبس وأتيمم للصلاة، فمر لي بحل القيد وبالوضوء، فأمر بحله وأمر بماء فتوضأ وصلى، ثم قال لابن أبي دؤاد: سله، فقال الشيخ: المسألة لي فمره أن يجيبني، فقال سل: فأقبل الشيخ على ابن أبي دؤاد، فقال: أخبرني عن هذا الأمر الذي تدعو الناس إليه، أشيء دعا إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: لا قال: فشيء دعا إليه أبو بكر رضي الله تعالى
__________
(1) سورة النساء: 86.
(2) المصّيصة: مدينة على شاطىء جيحان من ثغور الشام بين أنطاكية وبلاد الروم.(2/121)
عنه بعده؟ قال: لا قال: فشيء دعا إليه عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه بعدهما؟ قال: لا قال: فشيء دعا إليه عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه بعدهم؟ قال: لا قال: فشيء دعا إليه علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه بعدهم؟ قال لا. قال الشيخ: فشيء لم يدع إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا أبو بكر ولا عمر ولا عثمان ولا علي رضي الله تعالى عنهم، تدعو أنت الناس إليه؟ ليس يخلو أن تقول علموه أو جهلوه فإن قلت: علموه وسكتوا عنه، وسعني وإياك من السكوت، ما وسع القوم. وإن قلت: جهلوه وعلمته أنت! فيالكع بن لكع يجهل النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدون رضي الله تعالى عنهم شيئا وتعلمه أنت وأصحابك؟ قال المهتدي: فرأيت أبي وثب قائما ودخل الحجرة، وجعل ثوبه في فيه وهو يضحك، ثم جعل يقول: صدق ليس يخلو من أن يقول علموه أو جهلوه فإن قلنا علموه وسكتوا عنه وسعنا من السكوت ما وسع القوم، وإن قلنا جهلوه وعلمته أنت، فيالكع بن لكع يجهل النبي صلى الله عليه وسلم شيئا وأصحابه وتعلمه أنت وأصحابك؟ ثم قال: يا أحمد فقلت:
لبيك قال: لست أعنيك إنما أعني المهتدي كان إسمه أحمد لقوله: لست أعنيك لأنه ربما قال قائل: إنما كان استجابة المهتدي لأبيه على طريق الأدب، فقوله إنما أعني ابن أبي دؤاد يبطل، لأن اسمه أحمد وسيأتي إن شاء الله تعالى في ترجمة المهتدي هذه الحكاية بطريقة أخرى، بسياق غير هذا.
وهذا الذي قاله الشيخ إلزام صحيح وبحث لازم للمعتزلة.
وكان الواثق مؤثرا لكثرة الجماع، فقال لطبيبه: اصنع لي دواء للباه، فقال له الطبيب:
يا أمير المؤمنين لا تهدم بدنك بالجماع، واثق الله في نفسك فقال: لا بد من ذلك، فأمره الطبيب أن يأخذ لحم سبع فيغلي عليه سبع غليات بخل خمر، ويتناول منه إذا شرب وزن ثلاثة دراهم ولا يجاوز هذا القدر، فأمر بذبح سبع فذبح وطبخ له من لحمه، وصار يتنقل منه على شرابه فلم يكن إلا قليلا حتى استسقى فأجمع رأي الأطباء على أن لا دواء له إلا أن يبزل بطنه، ثم يترك في تنور قد سجر بحطب زيتون، حتى يصير جمرا، ثم يجلس فيه ففعل ذلك ومنع الماء ثلاث ساعات، فجعل يستغيث ويطلب الماء، فلم يسقوه فصار في جسده نفاطات مثل البطيخ ثم أخرجوه فجعل يقول ردوني في التنور وإلا مت فردوه، فسكن صياحه، ثم انفجرت تلك النفاطات وقطر منها ماء، فأخرج من التنور وقد أسود جسده، ومات بعد ساعة ولما احتضر جعل يقول:
الموت فيه جميع الناس تشترك ... لا سوقة منهم يبقى ولا ملك ... ما ضر أهل قليل في مقابرهم ... وليس يغني عن الملاك ما ملكوا
ثم أمر بالبسط فطويت، وألصق خده بالأرض، وجعل يقول: يا من لا يزول ملكه، إرحم من قد زال ملكه. ولما مات سجي بثوب. واشتغل الناس بالبيعة للمتوكل، فجاء جرذون من البستان، فاستل عينيه وذهب بهما ولم يعلموا به حتى غسلوه وهذا من أغرب ما سمع.
حكي أن ذلك له سبب، وهو أن الواثقي قال: كنت أمرض الواثق إذ لحقته غشية، فما
شككت أنه قد مات فقال بعضنا لبعض: تقدموا فما جسر أحد منا، فتقدمت أنا، فلما أردت أن أضع إصبعي على أنفه، فتح عينيه فكدت أن أموت فزعا، وتأخرت إلى خلفي، فتعلقت قبيعة (1)
السيف بالعتبة، وعثرت فاندق السيف فكاد أن يدخل في لحمي، فخرجت وطلبت سيفا غيره، ثم رجعت فوقفت عنده، فوجدته مات بلا شك. فشددت لحييه، وغمضته وسجيته، وأخذ الفراشون تلك الفرش الثمينة، ليردوها إلى الخزانة، وترك وحده في البيت، فقال لي أحمد بن أبي دؤاد القاضي: إنا نشتغل بعقد البيعة، فاحفظه حتى يدفن، فرجعت وجلست عند الباب، فسمعت بعد ساعة حركة أفزعتني، فدخلت فإذا بجرذون قد جاء فاستل عينيه فأكلهما. فقلت: لا إله إلا الله هذه العين التي فتحها من ساعة، فعثرت واندق سيفي هيبة لها.(2/122)
حكي أن ذلك له سبب، وهو أن الواثقي قال: كنت أمرض الواثق إذ لحقته غشية، فما
شككت أنه قد مات فقال بعضنا لبعض: تقدموا فما جسر أحد منا، فتقدمت أنا، فلما أردت أن أضع إصبعي على أنفه، فتح عينيه فكدت أن أموت فزعا، وتأخرت إلى خلفي، فتعلقت قبيعة (1)
السيف بالعتبة، وعثرت فاندق السيف فكاد أن يدخل في لحمي، فخرجت وطلبت سيفا غيره، ثم رجعت فوقفت عنده، فوجدته مات بلا شك. فشددت لحييه، وغمضته وسجيته، وأخذ الفراشون تلك الفرش الثمينة، ليردوها إلى الخزانة، وترك وحده في البيت، فقال لي أحمد بن أبي دؤاد القاضي: إنا نشتغل بعقد البيعة، فاحفظه حتى يدفن، فرجعت وجلست عند الباب، فسمعت بعد ساعة حركة أفزعتني، فدخلت فإذا بجرذون قد جاء فاستل عينيه فأكلهما. فقلت: لا إله إلا الله هذه العين التي فتحها من ساعة، فعثرت واندق سيفي هيبة لها.
وتوفي الواثق بسر من رأى في رجب سنة اثنتين وثلاثين ومائتين وهو ابن ست وثلاثين سنة وأشهر وكانت خلافته خمس سنين وتسعة أشهر وكان أبيض مليحا، يعلوه اصفرار، حسن اللحية، في عينيه نكتة، عالما أديبا جيد الشعر، شجاعا مهابا حازما، فيه جبروت كأبيه سامحهما الله تعالى.
خلافة جعفر المتوكل
ثم قام بالأمر بعده أخوه جعفر المتوكل. بويع له بالخلافة بسر من رأى، يوم موت أخيه الواثق، بعهد منه في ذي الحجة سنة اثنتين وثلاثين ومائتين، فرفع المحنة بخلق القرآن، وأظهر السنة، وأمر بنشر الآثار النبوية، وذكر (2) ابن خلكان في ترجمته أنه قال: ركبت إلى دار الواثق، في مرضه الذي مات فيه لأعوده، فجلست في الدهليز أنتظر الإذن، فبينما أنا جالس إذ سمعت النياحة عليه، وإذا ايداخ ومحمد بن عبد الملك الزيات (3) يأتمران في أمري، فقال محمد: نقتله في التنور، وقال إيداخ (4). بل ندعه في الماء البارد حتى يموت، ولا يرى عليه أثر القتل، فبينما هما على ذلك، إذا جاء أحمد بن أبي دؤاد القاضي، فدخل وحدثهما كلاما لا أعقله، لما داخلني من الخوف، وشغل القلب بإعمال الحيلة في الهرب. فبينما أنا كذلك، وإذا بالغلمان يتعادون ويقولون: انهض يا مولانا، فلم أشك أني داخل لأبايع ولد الواثق ثم ينفذ في ما قدر، فلما دخلت بايعوني فسألت عن الحال فأعلمت أن ابن أبي دؤاد كان سبب ذلك.
ثم إن المتوكل قتل إيداخ بالماء البارد وابن الزيات في التنور. قال: وهذا من أغرب الاتفاق وعجيب الظفر، ومن العجب أيضا، أن محمد بن عبد الملك الزيات، هو الذي صنع التنور ليعذب فيه الناس، فعذبه الله فيه. وكان التنور من حديد داخله مسامير غير مثنية، وكان يسجر بحطب الزيتون، حتى يصير كالجمر، ثم يدخل الإنسان فيه. نسأل الله العافية في الدنيا والآخرة.
__________
(1) قبيعة السيف: ما على طرف مقبضه من فضة أو حديد.
(2) هو وزير المعتصم ثم الواثق، له معرفة بالأدب والشعر. نكبه المتوكل فمات سنة 233هـ.
(3) إيداخ أو إيتاخ هو حاجب الواثق.
(4) وفيات الأعيان: 1/ 350وما بعد.(2/123)
ولما ولي المتوكل أحيى السنة، وأمات البدعة، وكتب للآفاق برفع المحنة واظهار السنة.
وتكلم في مجلسه بالسنة وأعز أهلها، وأخمد المعتزلة، وكانوا في قوة ونماء إلى أيام المتوكل فخمدوا.
ولم يكن في هذه الملة الإسلامية أهل بدعة أشر منهم، نعوذ بالله من شر مقالتهم، ونسأل الله السلامة من الزيغ والردى. وكان المتوكل يبغض عليا رضي الله تعالى عنه، ويتنقصه، فذكر عليا رضي الله عنه يوما وغض منه فتمعر وجه ابنه المنتصر لذلك فشتمه المتوكل وأنشد مواجها له:
غضب الفتى لابن عمه ... رأس الفتى في حرامه
فحقد عليه، وأغراه ذلك على قتله، لما كان يغلو في بغض علي رضي الله تعالى عنه، ويكثر الوقيعة فيه والاستخفاف به. فبينما المتوكل في قصره، يشرب مع ندمائه، وقد سكر إذا دخل بغا الصغير، وأمر الندماء بالانصراف فانصرفوا، ولم يبق عنده إلا الفتح بن خاقان، فإذا الغلمان الذين عينهم المنتصر لقتل المتوكل قد دخلوا بايديهم السيوف مصلتة، فهجموا عليه فقال الفتح بن خاقان: ويلكم أمير المؤمنين ثم رمى نفسه عليه، فقتلوهما جميعا ثم خرجوا إلى المنتصر، فسلموا عليه بالخلافة.
وكان قتل المتوكل في شوال سنة سبع وأربعين ومائتين وعمره أربعون سنة. وكانت خلافته أربع عشرة سنة وعشرة أشهر وقيل خمس عشرة سنة. وكان أسمر رقيقا، ملج العينين، خفيف اللحية، ليس بالطويل، فيه قصف وانهماك على اللهو والمكاره، لكنه أحيى السنة، وأمات بدعة القول بخلق القرآن، وله كرم زائد وكان قد عزم على خلع ولده المنتصر من ولاية العهد، وتقديم ابنه المعتز عليه، لفرط محبته لأمه، وأخذ يؤذيه ويتهدده إن لم يخلع نفسه، واتفق مصادرته لوصيف (1) وبغا، فعملوا على قتله، فدخل عليه خمسة نصف الليل وهو في مجلس لهو ففتكوا به وضربوه بسيوفهم وقتلوا معه وزيره الفتح بن خاقان كما تقدم.
خلافة محمد المنتصر بالله
ثم قام بالأمر بعده ابنه محمد المنتصر بالله. بويع له بالخلافة في الليلة التي قتل فيها أبوه، وبويع له من الغد البيعة العامة، فلم تطل دولته، ولم يمتع بالملك. روى إنه بسط بين يديه بساطا، فرأى عليه شيئا مكتوبا فلم يعلم ما هو، فأمر بإحضار من قرأه، فإذا كتابته بقلم اليونان، وإذا عليه مكتوب: عمل هذا البساط للملك قباذ بن كسرى قاتل أبيه، وفرش قدامه، فلم يلبث غير ستة أشهر ومات. فتطير المنتصر واغتم لذلك وأمر برفع البساط ومات في آخر الستة أشهر.
وكانت خلافته ستة أشهر وأياما وعمره ست وعشرون سنة وأمه رومية، وكان مربوعا سمينا أعين أقنى الأنف، مليحا مهيبا، كامل العقل يحب الخير. قيل إن أمراء الترك خافوه، فلما حم دسوا إلى الطبيب بكيس فيه ألف دينار، ففصده بريشة مسمومة وقيل بل سم في طعامه، فقال لأمه: ذهبت عني الدنيا والآخرة عاجلت أبي فعوجلت.
__________
(1) وصيف وبغا: حاجبا المتوكل وابنه المنتصر من بعده.(2/124)
خلافة أحمد المستعين بالله وهو السادس فخلع وقتل
ثم قام بالأمر بعده ابن عمه أحمد المستعين بالله بن محمد المعتصم. بويع له بالخلافة ليلة الإثنين لست خلون من شهر ربيع الآخر، وعمره إذ ذاك ثمان وعشرون سنة، وكان كثير الجماع، مغرما يحب النساء وكان له ابنة عم بديعة الحسن والجمال، فطلبها من أبيها فامتنع فأحضر الأصمعي (1) والرقاشي (2) وأبا نواس (3)، وقال: كل من أنشد لي بطبق مرادي في ابنة عمي أعطيته الجائزة العظمى فانشد أبو نواس:
ما روض ريحانكم الزاهر ... وما شذا نشركم العاطر ... وحق وجدي والهوى قاهر ... مذغبتمو لم يبق لي ناظر ... والقلب لا سال ولا صابر ... قالت: ألا لا تلجن دارنا ... وكابد الأشواق من أجلنا ... واصبر على مر الجفا والضنا ... ولا تمرن على بيتنا ... إن أبانا رجل غائر ... فقلت: إني طالب غرة ... يحظى بها القلب ولو مرة ... قالت: بعيد ذاك مت حسرة ... قلت سأقضي غرتي جهرة ... منك وسيفي صارم باتر ... قالت: فإن البحر من بيننا ... فابرح ولا تأت إلى حينا ... واشرب بكأس الموت من هجرنا ... قلت ولو كان كثير العنا ... يكفيك إني سابح ماهر ... قالت: فإن القصر عالي البنا ... قلت: ولو كان عظيم السنا (4)
... أو كان بالجو بلغت المنى ... قالت: منيع في الورى (5) قصرنا ... قلت وإني فوقه طائر ... قالت فعندي لبوة والد ... فقلت إني أسد شارد ... غشمشم مقتنص صائد ... قالت: لها شبل بها لا بد ... قلت: وإني لبثها الكاسر ... قالت فعندي إخوة سبعة ... جمعا إذا ما التقوا عصبة ... قلت ولي يوم اللقا وثبة ... قالت: لهم يوم الوغى سطوة ... قلت: إني قاتل قاهر ... قالت: فإن الله من فوقنا ... يعلم ما نبديه من شوقنا ... نمضي إلى الحق غدا كلنا ... ونختشي النقمة من ربنا ... قلت: وربي ساتر غافر
__________
(1) هو عبد الملك بن قريب بن علي بن أصمع الباهلي، أبو سعيد الأصمعي، راوية، إمام في اللغة والشعر وأيام العرب، مات في البصرة سنة 216هـ.
(2) الرقاشي: الفضل بن عبد الصمد بن الفضل، أبو العباس، شاعر مجيد، مدح البرامكة والخلفاء، مات سنة 200هـ.
(3) أبو نواس: الحسن بن هانىء الشاعر المتهتك، عاش في البصرة، ثم بغداد كالرقاشي، مات سنة 198هـ.
(4) السنا: النور.
(5) الورى: الخلق.(2/125)
قالت فكم أعييتنا حجة ... تجي بها كاملة بهجة ... فيا لها بين الورى خجلة ... إن كنت ما تمهلنا ساعة ... فائت إذا ما هجّع الساهر ... واسقط علينا كسقوط الندى ... إياك أن تظهر حرف الندا ... يستيقظ الواشي ويأتي الردى ... وكن كضيف الطيف مسترصدا ... ساعة لا ناه ولا آمر ... حاججتها عشرا وصافحتها ... على دنان الخمر صافيتها (1)
... رامت مواثيقا فوافيتها ... ملتحفا سيفي ولاقيتها ... آخر ليلى والدجى عاكر ... يا ليلة قضيتها خلوة ... مرتشفا من ريقها قهوة ... تكر من قد يبتغي سكرة ... ظننتها من طيبها لحظة ... يا ليت لا كان لها آخر
فلما أنشد ذلك أبو نواس بحضرة الخليفة، أعجبه ذلك وأمر له بالجائزة العظمى، ووفى بما عهد.
ثم إن المستعين أشهد على نفسه أنه قد خلعها من الخلافة، وأنه قد أحل الناس من بيعته بشروط، وخطب للمعتز بن المتوكل.
فنقل المستعين إلى قصر الحسن بن وهب فاعتقل به تسعة أشهر، ووكل به من يحفظه ثم أحضر به إلى واسط ودس عليه المعتز، سعيدا الحاجب فقتله صبرا في أوّل شهر رمضان سنة إثنتين وخمسين ومائتين وجيء برأسه إلى المعتز، وهو يلعب الشطرنج، فقيل له: هذا رأس المخلوع، فقال: دعوه هناك حتى أفرغ من اللعب. فلما فرغ أحضره ونظره، ثم أمر بدفنه. وكانت خلافته سنتين وتسعة أشهر، وعمره إحدى وثلاثون سنة وكان مربوعا مليح الوجه به أثر جدري، وكان ألثغ يجعل السين ثاء وكان كريما مبذرا للأموال رحمه الله تعالى.
خلافة أبي عبد الله محمد المعتز بالله بن المتوكل
ثم قام بالأمر بعده ابن عمه محمد المعتز بن المتوكل. بويع له بالخلافة لما خلع المستعين نفسه، في أوّل سنة إثنتين وخمسين ومائتين، ثم دبر عليه صالح بن وصيف حاجبه، فجاء إليه ومعه جماعة، وبعثوا إليه أن أخرج، فاعتذر بأنه تناول دواء، فأمر صالح أن يدخل إليه بعضهم، فدخلوا وجروا برجله إلى باب الحجرة، فأقيم في الشمس الحارة، فصار يرفع قدما ويضع أخرى، وهم يلطمونه ويقولون له: اخلعها وهو يتقي بيديه ويأبى، ثم أجابهم وخلع نفسه. فتسلمه صالح بن وصيف، ومنعه من الطعام والشراب ثلاثة أيام، ثم أنزله إلى سرداب مجصص وأطبقه عليه حتى مات. ثم أخرجه وأشهد عليه أنه لا أثر به. وقيل: إنه بعد خلعه بخمسة أيام أدخله الحمام، ومنعه الماء حتى عاين التلف، ثم أتوه بماء
__________
(1) دنان الخمر: أوعية الخمر.(2/126)
مالح فشربه فسقط ميتا. وذلك في رجب سنة خمس وخمسين ومائتين، وكان عمره ثلاثا وعشرين سنة وخلافته أربع سنين وستة أشهر وكان بديع الحسن رحمه الله تعالى.
خلافة جعفر المهتدي بالله بن هارون
ثم قام بالأمر بعده ابن عمه، جعفر بن هارون المعتصم. ورأيت في غير هذا الموضع أن المهتدي إسمه محمد بأبي إسحاق. بويع له بالخلافة يوم خلع ابن عمه المعتز بالله ولما ولي أخرج الملاهي وحرم سماع الغناء والشراب، وأمر بنفي المغنيات وطرد الكلاب، والسباع وألزم نفسه الإشراف على الدواوين، والجلوس للناس، وإزالة المظالم، وتغيير المنكرات. وقال: إني أستحيى من الله أن لا يكون في بني العباس مثل عمر بن عبد العزيز في بني أمية. فتبرم به بابك التركي، وكان ظلوما غشوما، فأمر المهتدي بقتله، ولما قتل هاجت الأتراك، ووقعت الحرب بينهم وبين المغاربة، فقتل من الفريقين أربعة آلاف، وخرج المهتدي والمصحف في عنقه، وهو يدعو الناس إلى نصرته، والمغاربة معه وبعض العامة، فحمل عليهم طيبغا أخو بابك فهزمهم. ومضى المهتدي مهزما، والسيف في يده، وقد جرح جرحين، حتى دخل دار محمد (1) بن يزداد، فتجمعت الأتراك وهجموا عليه وأخذوه أسيرا. وحمله أحمد بن خاقان على دابة وأردف خلفه سائسا بيده خنجر، فأدخل إلى دار أحمد بن خاقان، وجعلوا يصفعونه ويقولون اخلعها، فأبى عليهم فسلم إلى رجل، فوطىء مذاكيره حتى قتله، وذلك في رجب سنة ست وخمسين ومائتين، وهو ابن سبع وثلاثين سنة، وكانت خلافته أحد عشر شهرا، رحمة الله تعالى عليه، وقيل سنة.
وكان أسمر مليح الصورة دينا ورعا عابدا عاد لا حازما شجاعا خليقا للإمارة، لكنه لم يجد ناصرا. يقال: إنه كان يسرد الصوم، وربما كان فطوره في بعض الليالي، على خبز وخل وزيت، وقد كان سد باب اللهو والطرب والغناء، وحسم الأمراء عن الظلم وكان يجلس لحساب الدواوين بنفسه.
ومما يحكى: من محاسنه، ما ذكره الحافظ أبو بكر محمد بن الحسين بن عبد الله البغدادي، في كتابه قال: إن أبا الفضل صالح بن علي بن يعقوب بن المنصور الهاشمي، وكان من وجوه بني هاشم، وأهل الخلافة والسبق منهم، قال: حضرت المهتدي بالله أمير المؤمنين، وقد جلس ينظر في أمور الناس، في دار العامة، فنظرت إلى قصص الناس تقرأ عليه، من أوّلها إلى آخرها، فيأمر بالتوقيع فيها، وإنشاء الكتب لأصحابها، فتختم وتدفع إلى أصحابها بين يديه. فسرني ذلك وجعلت أنظر إليه، ففطن لي ونظر إلي، فغضضت عنه حتى كان ذلك مني ومنه مرارا إذا نظر إلي غضضت، وإذا اشتغل عني نظرت. فقال: يا صالح قلت: لبيك يا أمير المؤمنين، وقمت قائما فقال: أفي نفسك مني شيء تحب أن تقوله؟ فقلت: نعم يا سيدي. فقال لي: عد إلى موضعك، فعدت وعاد في النظر حتى قام وقال للحاجب: لا يبرح صالح فانصرف الناس. ثم أذن لي وقد أهمتني نفسي، فقمت فدخلت ودعوت له، فقال لي: اجلس فجلست، فقال: يا صالح تقول ما
__________
(1) محمد بن يزداد بن سويد المروزي، من كتّاب الإنشاء في الدولة العبّاسية وزر للمأمون. له شعر جيد وقد عاش حتى أيام الواثق ومات سنة 230هـ.(2/127)
دار في نفسك، أو أقول أنا ما دار في نفسي. أنه دار في نفسك. فقلت: يا أمير المؤمنين، ما تعزم عليه وتأمر به، أطال الله بقاءك، فقال: كأني بك، وقد استحسنت ما رأيت منا فقلت: أي خليفة خليفتنا، إن لم يكن يقل القرآن مخلوق؟ فورد على قلبي أمر عظيم وأهمتني نفسي، ثم قلت: يا نفس هل تموتين إلا مرة؟ وهل تموتين قبل أجلك؟ وهل يجوز الكذب في جدّ أو هزل؟
فقلت: والله يا أمير المؤمنين ما دار في نفسي إلا ما قلت. ثم أطرق مليا وقال: ويحك اسمع مني ما أقول: فو الله لتسمعن الحق فسرّي عني. فقلت: يا سيدي من أولى بقول الحق منك، وأنت أمير المؤمنين، وخليفة رب العالمين، وابن عم سيد المرسلين، من الأوّلين والآخرين؟ فقال لي: ما زلت أقول القرآن مخلوق صدرا من خلافة الواثق حتى أقدم علينا أحمد بن أبي دؤاد شيخا من أهل الشام، من أهل أذنة، فأدخل الشيخ على الواثق مقيدا، وهو جميل الوجه، تام القامة، حسن الشيبة، فرأيت الواثق قد استحيا منه ورق له، فما زال يدنيه ويقربه حتى قرب منه، فسلم الشيخ بأحسن السلام، ودعا بأبلغ الدعاء، وأوجز. فقال له الواثق: اجلس ثم قال له: يا شيخ ناظر ابن أبي دؤاد على ما يناظرك عليه، قال الشيخ: يا أمير المؤمنين إن ابن أبي دؤاد يقل ويصغر ويضعف عن المناظرة، فغضب الواثق، وعاد مكان الرقة له غضبا، فقال: أبو عبد الله بن أبي دؤاد يقل ويصغر ويضعف عن مناظرتك أنت؟ فقال الشيخ: هون عليك يا أمير المؤمنين ما بك، وائذن لي في مناظرته، فقال الواثق: ما دعوتك إلا للمناظرة، فقال الشيخ: يا أحمد بن أبي دؤاد (1)
إلام دعوت الناس ودعوتني إليه؟ فقال: إلى أن تقول القرآن مخلوق لأن كل شيء من دون الله مخلوق. فقال الشيخ: يا أمير المؤمنين إني رأيت أن تحفظ علي وعليه ما نقول. قال: افعل. فقال الشيخ: يا أحمد أخبرني عن مقالتك هذه، أواجبة داخلة في عقد الدين، فلا يكون الدين كاملا حتى يقال فيه ما قلت؟ قال: نعم. قال الشيخ: يا أحمد أخبرني عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين بعثه الله عز وجل هل ستر شيئا مما أمره الله به في دينه؟ قال: لا قال الشيخ: فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس إلى مقالتك هذه؟
فسكت ابن أبي دؤاد. فقال الشيخ له: تكلم، فسكت. فالتفت الشيخ إلى الواثق، وقال: يا أمير المؤمنين واحدة. فقال الواثق: واحدة. فقال الشيخ: يا أحمد أخبرني عن آخر ما أنزل الله من القرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلََامَ دِيناً} (2) فقال الشيخ: أكان الله تبارك وتعالى الصادق في اكمال دينه؟ أم أنت الصادق في نقصانه فلا يكون الدين كاملا، حتى يقال فيه بمقالتك هذه؟ فسكت ابن أبي دؤاد. فقال الشيخ: أجب يا أحمد.
فلم يجب فقال الشيخ: يا أمير المؤمنين اثنتان. فقال الواثق. اثنتان فقال الشيخ: يا أحمد أخبرني عن مقالتك هذه، أعلمها رسول الله صلى الله عليه وسلم، أم جهلها؟ فقال ابن أبي دؤاد: علمها. فقال الشيخ: أدعا الناس إليها فسكت ابن أبي دؤاد. فقال الشيخ: يا أمير المؤمنين ثلاث. فقال الواثق: ثلاث. فقال الشيخ: يا أحمد فاتسع لرسول الله صلى الله عليه وسلم كما زعمت، فلم يطالب أمته بها؟ قال: نعم فقال الشيخ: واتسع لأبي بكر رضي الله تعالى عنه، وعمر بن الخطاب، وعثمان بن عفان، وعلي بن أبي طالب رضي الله تعالى
__________
(1) أحمد بن أبي دؤاد بن جرير بن مالك الإيادي، أبو عبد الله، من قضاة المعتزلة المشهورين، ورأس الفتنة بالقول بخلق القرآن. مات ببغداد سنة 240هـ.
(2) سورة المائدة: الآية 3.(2/128)
عنهم؟ قال ابن أبي دؤاد: نعم.
فأعرض الشيخ عنه وأقبل على الواثق فقال: يا أمير المؤمنين قد قدمت القول: إن أحمد يقل ويصغر ويضعف عن المناظرة، يا أمير المؤمنين إن لم يتسع لك من الإمساك عن هذه المقالة ما اتسع لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولأبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله تعالى عنهم، فلا وسع الله على من لم يتسع له ما اتسع لهم من ذلك. فقال الواثق: نعم إن لم يتسع لنا من الإمساك عن هذه المقالة ما اتسع لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولأبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله تعالى عنهم فلا وسع الله علينا، اقطعوا قيد الشيخ، فلما قطعوا قيده ضرب الشيخ بيده إلى القيد ليأخذه، فجذبه الحداد إليه فقال الواثق: دع الشيخ ليأخذه فأخذه الشيخ فوضعه في كمه، فقيل للشيخ: لم جاذبت عليه؟ فقال الشيخ: لأني نوبت أن أتقدم إلى من أوصي إليه، إذا أنا مت، أن يجعله بيني وبين كفني، حتى أخاصم به هذا الظالم عند الله يوم القيامة، وأقول: يا رب سل عبدك هذا لم قيدني وروع أهلي وولدي وإخوتي بلا حق أوجب ذلك علي؟ وبكى الشيخ، وبكى الواثق، وبكيت.
ثم سأله الواثق أن يجعله في حل وسعة مما ناله منه، فقال الشيخ، والله يا أمير المؤمنين قد جعلتك في حل وسعة من أول يوم إكراما لرسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ كنت رجلا من أهله.
فقال الواثق: لي إليك حاجة. فقال الشيخ: إن كانت ممكنة فعلت. فقال الواثق: تقيم قبلنا فتنفع بك فتياننا. فقال الشيخ: يا أمير المؤمنين إن ردك إياي إلى الموضع الذي أخرجني منه هذا الظالم، أنفع لك من مقامي عندك. وأخبرك لم ذلك: أصير إلى أهلي وولدي، فأكف دعاءهم عليك، فقد خلفتهم على ذلك. فقال له الواثق أفتقبل منا صلة تستعين بها على دهرك؟ فقال الشيخ: يا أمير المؤمنين لا تحل لي، أنا عنها غني وذو ثروة. فقال له: أتسأل حاجة؟ قال: أو تقضيها يا أمير المؤمنين؟ قال: نعم. قال: تخلي سبيلي إلى السفر الساعة، وتأذن لي. قال: قد أذنت لك. فسلم عليه الشيخ وخرج. قال صالح: فقال المهتدي بالله: فرجعت عن هذه المقالة منذ ذلك اليوم، وأظن أن الواثق بالله، كان رجع عنها من ذلك الوقت، ولي فيها طرق أخرى، وفيها بعض المغايرة فلهذه وقد سبق في ترجمة الواثق ما يدل على رجوعه والله تعالى أعلم.
خلافة أبي القاسم أحمد المعتمد على الله بن المتوكل
ثم قام بالأمر بعده ابن عمه أحمد، المعتمد على الله بن المتوكل على الله بن المعتصم بالله.
بويع له بالخلافة يوم قتل ابن عمه المهتدي بالله بسر من رأى، وكان له إسم الخلافة ولأخيه الموفق بن المتوكل تدبير الملك ولما مات الموفق، قام بتدبير الملك بعده، ابنه أحمد المعتضد بن الموفق وغلب على عمه المعتمد كما كان أبوه غالبا عليه، فكان المعتمد يطلب الشيء الحقير فلا يناله ولم يكن له سوى الإسم فقال في ذلك:
أليس من العجائب أن مثلي ... يرى ما قل ممتنعا عليه ... وتؤخذ بإسمه الدنيا جميعا ... وما من ذاك شيء في يديه
قيل: إنه شرب يوما على الشط شرابا كثيرا فتغشى ومات. وقيل: إنه اغتم ومات وهو نائم
في بساط. وقيل: إنه سم في لحم وذلك في شوال سنة تسع وسبعين ومائتين وله خمسون سنة.(2/129)
أليس من العجائب أن مثلي ... يرى ما قل ممتنعا عليه ... وتؤخذ بإسمه الدنيا جميعا ... وما من ذاك شيء في يديه
قيل: إنه شرب يوما على الشط شرابا كثيرا فتغشى ومات. وقيل: إنه اغتم ومات وهو نائم
في بساط. وقيل: إنه سم في لحم وذلك في شوال سنة تسع وسبعين ومائتين وله خمسون سنة.
وكانت خلافته ثلاثا وعشرين سنة وتوفي ببغداد. وكان أسمر ربعة، رقيقا مدوّر الوجه مليح العينين، صغير اللحية أسرع إليه الشيب منهمكا على اللهو واللذات يسكر ويعض يده.
خلافة أبي العباس أحمد المعتضد بالله بن الموفق
بويع له بالخلافة يوم مات عمه المعتمد، فاستقل بالأمر وكان شجاعا عادلا ذا هيبة عظيمة مع سطوة وجبروت وحزم ورأي، وذكاء مفرط في أحكامه، وسيأتي ذكر شيء من ذلك. وكان كثير الجماع فاعتراه فساد مزاج وكان ذلك سبب وفاته. وكان محيا للعدل موثرا له، وله فيه حكايات نادرة توفي سنة تسعين ومائتين، لسبع بقين من شهر ربيع الآخر وهو ابن ست وأربعين سنة، وقيل أربعين سنة. وكانت خلافته تسع سنين وتسعة أشهر وقيل عشر سنين وكان أسمر مهيبا معتدل الشكل.
خلافة أبي محمد علي المكتفي بالله بن المعتضد
ثم قام بالأمر بعده ابنه علي أبو محمد المكتفي بالله بن المعتضد بن الموفق بن المتوكل بن المعتصم بويع له بالخلافة يوم توفي أبوه المعتضد. وتوفي ببغداد سنة ثلاث وتسعين ومائتين وهو ابن أربع وثلاثين سنة، وقيل ثلاثين. وخلافته سنتان وثمانية أشهر. هكذا ذكروا وفاته، وعمره وخلافته والذي رأيته في كتب الذهبي (1) أنه كانت وفاته في ذي القعدة سنة تسع وتسعين ومائتين عن إحدى وثلاثين سنة. وكانت خلافته ست سنين ونصفا. وكان وسيما جميلا بديع الحسن، دري اللون معتدل الطول، أسود الشعر، وكان حسن العقيدة، كارها لسفك الدماء.
ووطأ له أبوه المعتضد الأمر، وكان المكتفي مائلا إلى حب علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه، بارا بأولاده يحكى أن يحيى بن علي (2) الشاعر، أنشده بالرقة قصيدة يذكر فيها فضل أولاد العباس على أولاد علي، فقطع المكتفي عليه إنشاده وقال: يا يحيى كأنهم ليسوا بني عم. ما أحب أن يخاطب أهلنا بشيء من ذلك وإن كانوا خلفاء. ولم يسمع القصيدة ولا أجازه عليها رحمة الله عليه.
خلافة أبي الفضل جعفر المقتدر بالله وهو السادس فخلع مرتين كما سيأتي
ثم قام بالأمر بعده، أخوه أبو الفضل جعفر المقتدر بن المعتضد. بويع له بالخلافة ببغداد يوم وفاة أخيه، وهو ابن ثلاث عشرة سنة وأربعين يوما، ولم يل الخلافة بعده. قيل: ولا قبله أصغر منه وضعف دست الخلافة في أيامه، وذكر صاحب النشوان وغيره، عن صافي مولى المعتضد،
__________
(1) الذهبي: هو شمس الدين محمد بن أحمد بن عثمان المتوفّى سنة 748هـ.
(2) علي بن يحيى بن أبي منصور، نديم المتوكل العباسي وكذلك نديم من جاؤوا بعده من الخلفاء العباسيين، وكان شاعرا محسنا توفي بسامراء، سنة 275هـ.(2/130)
أنه قال: مشيت يوما بين يدي المعتضد وهو يريد دار الحرم، فلما بلغ باب دار المقتدر، وقف وتسمع وتطلع من خلل في الستر، فإذا هو بالمقتدر، وله إذ ذاك خمس سنين أو نحوها، وهو جالس وحوله قدر عشر وصائف، من أترابه في قدر سنه، وبين يديه طبق فضة وفيه عنقود عنب، في وقت فيه العنب عزيز جدا، والصبي يأكل عنبة واحدة ثم يطعم الجماعة عنبة عنبة على الدور حتى إذا بلغ الدور إليه، أكل واحدة مثل ما أكلوا، حتى فني العنقود، والمعتضد يتمزق غيظا، ثم رجع ولم يدخل الدار. فرأيته مهموما، فقلت: يا مولاي ما سبب فعلته؟ فقال: يا صافي والله لولا العار والنار لقتلت هذا الغلام اليوم! يعني المقتدر، فإن في قتله صلاحا للأمة. فقلت: يا مولاي ما شأنه وأي شيء عمل؟ أعيذك بالله يا مولاي من هذا. فقال: ويحك أنا أبصر بما أقوله، أنا رجل قد سست الأمور، وأصلحت الدنيا بعد فساد شديد، ولا بد من موتي، وأنا أعلم أن الناس بعدي لا يختارون أحدا على ولدي، وإنهم سيجلسون ابني عليا يعني المكتفي وما أظن أن عمره يطول، للعلة التي به، يعني الخنازير التي كانت في حلقه، فيتلف عن قريب ولا يرى الناس اخراجها عن ولدي، ولا يجدون بعده أمثل من جعفر يعني المقتدر وهو صبي وله من الطبع والسخاء هذا الذي قد رأيته من أنه أطعم الوصائف مثلما أكل، وساوى بينه وبينهم في شيء عزيز في العالم، والشح على مثله في طباع الصبيان غالب، فتحتوي عليه النساء لقرب عهده بهن فيقسم ما جمعته من الأموال كما قسم العنب، ويبدد ارتفاع الدنيا فتضيع الثغور، وتعظم الأمور، وتخرج الخوارج، وتحدث الأسباب التي يكون فيها زوال الملك عن بني العباس رأسا. فقلت: يا مولاي يبقيك الله، حتى ينشأ في حياة منك، ويصير كهلا في أيامك ويتأدب بآدابك، ويتخلق بأخلاقك، ولا يكون هذا الذي ظننت. فقال: ويحك احفظ عني ما أقول لك: فإنه كما قلت: قال: ومكث يومه مغموما مهموما.
وضرب الدهر ضرباته، ومات المعتضد وولي المكتفي فلم يطل عمره ومات. وولي المقتدر فكانت الصورة كما قال مولاي المعتضد بعينها، فكنت كلما ذكرت قوله أعجب منه، فو الله لقد وقفت يوما على رأس المقتدر وهو في مجلس لهوه، فدعا بالأموال فأخرجت إليه ووضعت البدر (1)
بين يديه، فجعل يفرقها على الجواري والنساء، ويلعب بها ويمحقها أو يهبها. فذكرت قول مولاي المعتضد ثم إن الجند وثبوا على العباس وزيره فقتلوه، وأحضروا عبد الله بن المعتز وبايعوه وخلعوا المقتدر.
خلافة عبد الله بن المعتز المرتضي بالله
بويع بالخلافة بعد خلع المقتدر. بعد أن شرط عليهم أن لا يكون في ذلك حرب ولا سفك دم. فلما بويع له كتب إلى المقتدر، يأمره بلزوم دار ابن طاهر (2) بوالدته وجواريه، وأمر الحسن بن حمدان وابن عمرويه، صاحب الشرطة، أن يصير إلى دار المقتدر، فمضيا فخرج إليهما الغلمان
__________
(1) البدر: جمع البدرة وهي الكمية من المال
(2) ابن طاهر: عبيد الله بن عبد الله بن طاهر بن الحسين الخزاعي، صاحب الشرطة في بغداد وكان رفيع المنزلة أيام المعتضد العباسي. له شعر. مات في بغداد سنة 300هـ.(2/131)
ورموهما بالحجارة، وجرى بينهم حرب شديد، آخره أن أصحاب المقتدر ظهروا عليهما فانهزما وانهزم المرتضي بالله، وتفرق أصحابه واستتر عند ابن الجصاص، ولم يتم له أمر غير يوم وليلة، ولذلك يعد المؤرخون خلافته في هذه المدة. ثم عاد المقتدر إلى ما كان عليه، ثم ظفر بالمرتضي بالله فقتله خنقا، وأظهر أنه مات حتف أنفه، وأخرج وهو ميت من دار الخلافة، فدفنوه في خرابة بازاء داره، وكان عمره خمسين سنة.
قال (1) ابن خلكان في ترجمته كان شاعرا ماهرا، فصيحا مجيدا مخالطا للعلماء والأدباء، وهو صاحب التشبيهات التي أبدع فيها ولم يتقدمه من شق غباره، وكان قد اتفق معه جماعة وخلعوا المقتدر وبايعوه ولقبوه بالمرتضي بالله فأقام يوما وليلة، ثم إن اصحاب المقتدر تحزبوا وحاربوا أعوان ابن المعتز وشتتوهم، فاستخفى ابن المعتز ثم أخذ ليلا، فلما ادخل على المقتدر أمر به فطرح على الثلج عريانا، وحشي سراويله ثلجا. فلم يزل كذلك والمقتدر يشرب، إلى أن مات، وذلك في شهر ربيع الآخر سنة ست وتسعين ومائتين رحمه الله.
ليس هو بمعدود في الخلفاء لأنه لم يثبت له أمر. واستمر للمقتدر الأمر إلى أن بلغ مؤنسا الخادم أن المقتدر قد عزم على اغتياله، وكان مؤنس مقدم جيش المقتدر فبلغ المقتدر ما نقل إلى مؤنس فحلف على بطلان ذلك. وأسرها مؤنس في نفسه، ثم جرى بين العامة وبين بعض مماليكه حرب، فظن أن ذلك بأمر المقتدر فوافى مؤنس دار الخلافة في اثني عشر ألف فارس، فدخل إلى المقتدر وقبض عليه وعلى والدته السيدة، وحملهما إلى قصره ونهب الجند دار الخلافة وخلع المقتدر نفسه، من الخلافة وكتب بذلك إلى الآفاق فلما كان ثاني يوم خلعه، شغب الجند وقتلوا صاحب الشرطة، وهرب ابن مقلة الوزير، وهرب الحجاب وجاء المقتدر فجلس، وأحضر أخاه القاهر وأجلسه بين يديه، وقبل ما بين عينيه، وقال: يا أخي لا ذنب لك فجعل القاهر يقول: الله الله في نفسي يا أمير المؤمنين، فقال المقتدر: والله وحق رسول الله صلى الله عليه وسلم لا جرى عليك مني سوء أبدا وعاد ابن مقلة الوزير وكتب إلى الآفاق بخلافة المقتدر، ثم جرى بين المقتدر وبين مؤنس الخادم حرب فاقتحم المقتدر نهر السكران (2) فأحاط به جماعة من البربر فقتله رجل منهم، وأخذوا رأسه وسلبه وثيابه، ومضوا إلى مؤنس الخادم، فمر بالمقتدر رجل من الاكراد فستر عورته بحشيش ودفنه، وأخفى أثره.
وكان قتله يوم الأربعاء لثلاث بقين من شوال سنة ست عشرة وثلاثمائة وهو ابن ثمان وثلاثين سنة وشهر. وكانت خلافته أربعا وعشرين سنة وإحدى عشر شهرا خلع فيها مرتين ثم قتل كما تقدم.
وحكى الذهبي أن خلافته كانت خمسا وعشرين سنة وانه عاش ثمانيا وثلاثين سنة، وإنه كان مسرفا مبذرا للمال ناقص الرأي أعطى جارية له الدرة اليتيمة وكان وزنها ثلاثة مثاقيل، وما كانت تقوم وقيل: إنه محق من الذهب ثمانين ألف ألف دينار في أيامه وإنه خلف من الأولاد عدة منهم الرضي بالله المقتفي بالله وإسحاق والمطيع لله.
__________
(1) وفيات الأعيان: 1/ 8076.
(2) واد بمشارف الشام من جهة نجد.(2/132)
خلافة محمد القاهر بالله
ثم قام بالأمر بعده، أخوه أبو منصور محمد بن المعتضد بالله. بويع له بالخلافة ببغداد لليلتين بقيتا من شوال ولما ولي قبض على ابن أخيه المكتفي، وأمر به فأقيم في بيت وسد عليه بالآجر والجص حتى مات غما. وقبض على السيدة أم المقتدر، وطالبها بمال لم تقدر عليه، فتهددها وضربها بيده، وعذبها بأنواع العذاب، وعلقها منكسة حتى كان يجري بولها على وجهها، وهي تقول له: ألست أمك في كتاب الله؟ وخلصتك من ابني في المرة الأولى؟ وأنت تعاقبني بهذه العقوبة! ولم يبق عندي مال. ثم إنها ماتت عقب ذلك.
ثم إن الجند شغبوا عليه، وجاؤوا إلى داره، وهجموا عليه من سائر الأبواب، فهرب إلى سطح حمام واستتر فيه، فأتو إليه وقبضوا عليه وحبسوه وخلعوه من الخلافة، وسملوا عينيه. وذلك في جمادى الآخرة سنة اثنتين وعشرين وثلاثمائة. قال ابن البطريق في تاريخه: كان القاهر قد ارتكب أمورا قبيحة لم يسمع بمثلها في الإسلام، وذكر منها طرفا طويلا.
حكي أن رجلا قال: صليت في جامع المنصور ببغداد فإذا أنا بانسان عليه جبة عنابية، وقد ذهب وجهها وبقي بعض قطن بطانتها، وهو يقول: أيها الناس تصدقوا علي، بالأمس كنت أمير المؤمنين وأنا اليوم من فقراء المسلمين. فسألت عنه فقيل لي إنه القاهر بالله في هذه الحكاية أعظم عبرة. نعوذ بالله من سخطه وزوال نعمه.
وكانت خلافته ست سنين وستة أشهر وسبعة أيام، وكان أهوج طائشا سفاكا للدماء يدمن السكر، وكان له حربة يأخذها بيده، فلا يضعها حتى يقتل إنسانا ولولا وجود الحاجب سلامة لأهلك الناس.
خلافة أبي العباس أحمد الراضي بالله بن المقتدر
ثم قام بالأمر بعده أخوه، أبو العباس أحمد الراضي بالله بن المقتدر بن المعتضد. بويع له بالخلافة يوم خلع عمه القاهر. واستوزر أبا علي بن مقلة، وأطلق كل من كان في حبس القاهر، ثم استدعى بالأمير محمد بن رائق، وكان بواسط متغلبا عليها، لأن الضرورة ألجأته إلى ذلك، لاضطراب الأمور عليه، ولضعف من يلي الوزارة عن القيام بها.
فقدم ابن رائق بغداد فجعله الراضي أمير الأمراء وفوض إليه تدبير المملكة، وخلع عليه وأعطاه اللواء. ومن ذلك اليوم بطل أمر الوزارة ببغداد، ولم يبق إلا إسمها والحكم للأمراء والملوك المتغلبين. وكان قدومه لخمس بقين من ذي الحجة سنة أربع وعشرين وثلاثمائة ثم دخلت سنة خمس والدنيا في أيدي المتغلبين، وهم ملوك الأرض، وكل من حصل في يده بلد ملكه ومانع عنه، فالبصرة وواسط والأهواز في يد عبد الله البريدي وأخويه، وفارس في يد عماد الدولة بن بويه، والموصل وديار بكر وديار ربيعة وديار مضر في يد بني حمدان، ومصر والشام في يد الأخشيد بن طغج، والمغرب وافريقية في يد المهدي، والأندلس في يد بني أمية، وخراسان وما
والاها في يد نصر بن أحمد الساماني، واليمامة وهجر والبحرين في يد أبي طاهر القرمطي، وطبرستان وجرجان في يد الديلم. ولم يبق في يد الراضي وابن رائق سوى بغداد وما والاها فبطلت دواوين المملكة، ونقص قدر الخلافة وضعف ملكها. وعم الخراب لذلك.(2/133)
فقدم ابن رائق بغداد فجعله الراضي أمير الأمراء وفوض إليه تدبير المملكة، وخلع عليه وأعطاه اللواء. ومن ذلك اليوم بطل أمر الوزارة ببغداد، ولم يبق إلا إسمها والحكم للأمراء والملوك المتغلبين. وكان قدومه لخمس بقين من ذي الحجة سنة أربع وعشرين وثلاثمائة ثم دخلت سنة خمس والدنيا في أيدي المتغلبين، وهم ملوك الأرض، وكل من حصل في يده بلد ملكه ومانع عنه، فالبصرة وواسط والأهواز في يد عبد الله البريدي وأخويه، وفارس في يد عماد الدولة بن بويه، والموصل وديار بكر وديار ربيعة وديار مضر في يد بني حمدان، ومصر والشام في يد الأخشيد بن طغج، والمغرب وافريقية في يد المهدي، والأندلس في يد بني أمية، وخراسان وما
والاها في يد نصر بن أحمد الساماني، واليمامة وهجر والبحرين في يد أبي طاهر القرمطي، وطبرستان وجرجان في يد الديلم. ولم يبق في يد الراضي وابن رائق سوى بغداد وما والاها فبطلت دواوين المملكة، ونقص قدر الخلافة وضعف ملكها. وعم الخراب لذلك.
وتوفي الراضي ليلة السبت خامس عشر ربيع الأول، سنة تسع وعشرين وثلاثمائة بعلة الاستسقاء والتنحنح. وكان أكبر أسباب علته من كثرة الجماع، وهو ابن اثنتين وثلاثين سنة وأشهر، وخلافته ست سنين وعشرة أشهر. وكان سمحا جوادا، واسع الصدر أديبا شاعرا، حسن البيان. وقيل: إن عمره كان اثنتين وثلاثين سنة وخلافته ست سنين وعشرة أيام كان قصيرا أسمر نحيفا، وله شعر جيد مدون. وخطب بالناس في سامرا فأبلغ وأجاد، ومرض أياما ثم قاء دما كثيرا ومات.
خلافة ابراهيم المتقي بالله
ثم قام بالأمر بعده، أخوه أبو العباس إبراهيم المتقي بالله بن المقتدر بن المعتضد. بويع له بالخلافة يوم موت أخيه الراضي، فصلى ركعتين وصعد على السرير. وكان ذا دين وورع، ولهذا لقبوه المتقي بالله، فكان تدبير المملكة إلى الأمير حكم التركي وليس للمتقي إلا الإسم. ثم إن نوروز استولى على بغداد وخلع المتقي بالله وسلمه لابن عمه المستكفي بالله، فأخرجه إلى جزيرة بقرب السندية، وأكحله بعد أن أشهد على نفسه بالخلع. وذلك يوم السبت لعشر بقين من صفر، سنة ثلاث وثلاثين وثلاثمائة. وكانت خلافته ثلاث سنين وأحد عشر شهرا، وقيل: كانت أربع سنين وتوفي سنة سبع وسبعين وثلاثمائة. وكان مولده في سنة سبع وتسعين ومائتين فأبوه أكبر بخمس عشرة سنة. وكان كثير الصوم والتهجد يدمن التلاوة في المصحف ولا يشرب مسكرا وعاش بعد خلعه أربعا وعشرين سنة.
خلافة عبد الله المستكفي بالله بن المكتفي
ثم قام بالأمر بعده، ابن عمه أبو العباس عبد الله المستكفي بالله بن المكتفي بن المعتضد.
بويع له بالخلافة يوم خلع ابن عمه المتقي بالله، ولما ولي الخلافة خلع على نوروز وفوض إليه تدبير المملكة. وفي أيامه قدم معز الدولة ابن بويه بغداد، فخلع عليه وفوض إليه ما وراء بابه، وضرب السكة بإسمه، وأمر أن يخطب له على المنابر، ولقبه بمعز الدولة، ولقب أخاء أبا الحسن عليا بعماد الدولة، وهو أكبر بني بوية، له خبر عجيب سيأتي إن شاء الله تعالى في باب الحاء المهملة، في لفظ الحية. ولقب أخاهم أبا الفتح بركن الدولة، وهو أوسطهم. وله خبر عجيب أيضا يأتي إن شاء الله تعالى في باب الدال المهملة في لفظ الدابة.
وكان قدوم معز الدولة في سنة أربع وثلاثين وثلاثمائة، وفيها كان خلع المستكفي بالله، وسبب ذلك أن معز الدولة بلغه أن المستكفي قد دبر على هلاكه، فدخل على المستكفي وقبل الأرض ثم قبل يديه، فطرح له كرسي فجلس عليه، ثم تقدم لديه جلان من الديلم ومدا أيديهما
إلى المستكفي، فظن أنهما يريدان تقبيل يده، فمدها إليهما، فجذباه من على السرير وجعلا عمامته في عنقه، ثم سحب إلى معز الدولة واعتقل ثم خلع، وسملت عيناه، وانتهبت دار الخلافة حتى لم يبق فيها شيء. وذلك لثمان بقين من جمادى الآخرة سنة أربع وثلاثين وثلاثمائة. وتوفي في دار معز الدولة في سنة ثلاث وأربعين وثلاثمائة وهو ابن ست وأربعين سنة وكانت خلافته سنة وأربعة شهور.(2/134)
وكان قدوم معز الدولة في سنة أربع وثلاثين وثلاثمائة، وفيها كان خلع المستكفي بالله، وسبب ذلك أن معز الدولة بلغه أن المستكفي قد دبر على هلاكه، فدخل على المستكفي وقبل الأرض ثم قبل يديه، فطرح له كرسي فجلس عليه، ثم تقدم لديه جلان من الديلم ومدا أيديهما
إلى المستكفي، فظن أنهما يريدان تقبيل يده، فمدها إليهما، فجذباه من على السرير وجعلا عمامته في عنقه، ثم سحب إلى معز الدولة واعتقل ثم خلع، وسملت عيناه، وانتهبت دار الخلافة حتى لم يبق فيها شيء. وذلك لثمان بقين من جمادى الآخرة سنة أربع وثلاثين وثلاثمائة. وتوفي في دار معز الدولة في سنة ثلاث وأربعين وثلاثمائة وهو ابن ست وأربعين سنة وكانت خلافته سنة وأربعة شهور.
خلافة أبي الفضل المطيع لله ابن المقتدر وهو السادس فخلع
ثم قام بالأمر بعده، ابن عمه أبو الفضل المطيع لله ابن المقتدر بن المعتضد. بويع له بالخلافة وله يومئذ أربع وثلاثون سنة، يوم خلع ابن عمه المستكفي بالله، وتدبير المملكة إلى معز الدولة بن بويه، وفي أيامه توفي معز الدولة ببغداد في سنة ست وخمسين وثلاثمائة. وكانت مدة ملكه بالعراق إحدى وعشرين سنة وأحد عشر شهرا. كان ملكا شجاعا مقداما قوي القلب، إلا أنه كان في أخلاقه شراسة، فما زالت التجارب تحنكه والسعادة تخدمه وترفعه، إلى أن بلغ الغاية التي لم يبلغها قبله أحد في الإسلام، إلا الخلفاء.
ولما توفي قام ولده عز الدولة بختيار بتدبير المملكة، وقلده المطيع لله موضع والده، وخلع عليه واستقل بالأمور. وفي أيامه أيضا توفي كافور الاخشيدي صاحب مصر، في سنة ثمان وخمسين وثلاثمائة، وكانت مدة ملكه اثنتين وعشرين سنة، وفيها قدم جوهر القائد، غلام المعز لدين الله صاحب القيروان، مصر. فأقام الدعوة بها للمعز لدين الله وبايعه بها الناس على ذلك. وانقطعت الخطبة بمصر عن بني العباس، وشرع جوهر القائد في بناء القاهرة لإسكان الجند بها، ثم دخل المعز لدين الله مصر لثمان مضين من شهر رمضان سنة اثنتين وثلاثمائة. وهو أول الخلفا الفاطميين، بمصر.
ولما تغلب سبكتكين التركي على بغداد، وكان أكبر حجاب معز الدولة، ولم تزل منزلته ترتفع عند معز الدولة، حتى عظم أمره ونفذت كلمته، وخاف المطيع لله منه على نفسه، وانضاف إلى ذلك أنه لازمه مرض، فخلع نفسه من الخلافة طائعا، وسلمها لولده عبد الكريم وقيل أبي بكر وقيل إنها كنيته، وسماه الطائع لله وذلك لثلاث عشرة ليلة خلت من ذي القعدة سنة ثلاث وستين وثلاثمائة ثم توفي بدير العاقول (1)، سنة أربع وستين وثلاثمائة وكان بين خلعه وموته شهران.
وكان عمره ثلاثا وستين سنة وكان وطيء الجانب كثير الصدقات، غير أنه كان مغلوبا على أمره وليس له من الخلافة إلا الإسم وكانت خلافته تسعا وعشرين سنة وأربعة شهور رحمة الله تعالى عليه.
خلافة أبي بكر عبد الكريم الطائع لله
ثم قام بالأمر بعده، ولده عبد الكريم أبو بكر الطائع لله، بويع له بالخلافة يوم خلع أبوه
__________
(1) دير العاقول: دير بين مدائن كسرى والنعمانية بالقرب من بغداد.(2/135)
نفسه، من الخلافة وعمره سبع وأربعون سنة، ولم يل الخلافة من بني العباس من هو أكبر سنا. قال صاحب رأس مال النديم: إنه لم يتقلد الخلافة من أبوه حي، سوء الطائع لله والصدّيق رضي الله تعالى عنه، وكلاهما إسمه أبو بكر. وهو السادس، فخلع كما سيأتي إن شاء الله تعالى وذلك إذا لم يعد ابن المعتز وإن عد فالمطيع هو السادس، وقد خلع نفسه لما حصل له من الفالج، ولما ولي، أعني الطائع خلع على سبكتكين التركي، وولاه ما وراء بابه.
وفي أيام الطائع استولى الملك عضد الدولة بن ركن الدولة بن بويه، على بغداد وملكها، فخلع عليه الطائع لله الخلع السلطانية، وتوجه وطوقه وسوره. وعقد له لواءين، وولاه ما وراء بابه.
وتسلم عضد الدولة الوزير أبا طاهر بن بقية (1) وزير عز الدولة وصلبه، فرثاه أبو الحسن بن الأنباري (2) بمرثيه لم يسمع في مصلوب مثلها فلنأت بها وهي هذه (3):
علو في الحياة وفي الممات ... لحق أنت إحدى المعجزات ... كأن الناس حولك إذ أقاموا ... وفود نداك أيام الصّلات (4)
... كانك قائم فيهم خطيبا ... وكلهم قيام للصلاة ... مددت يديك نحوهم احتفاء ... كمدكها إليهم بالهبات (5)
... ولما ضاق بطن الأرض عن أن ... يضم علاك من بعد الممات ... أصاروا الجو قبرك واسعاضوا ... عن الأكفان ثوب السافيات ... لعظمك في النفوس تبيت ترعى ... بحراس وحفاظ ثقات (6)
... وتوقد حولك النيران قدما ... كذلك كنت أيام الحياة (7)
... ركبت مطية من قبل زيد ... علاها في السنين الماضيات ... وتلك قضية فيها تأس ... تباعد عنك تعيير العداة (8)
... ولم أر قبل جذعك قط جذعا ... تمكن من عناق المكرمات ... أسأت إلى النوائب فاشتثارت ... فأنت قتيل ثأر النائبات ... وكنت تجيرنا من صرف دهر ... فعاد مطالبا لك بالترات (9)
... وصير دهرك الإحسان فيه ... إلينا من عظيم السيئات ... وكنت لمعشر سعدا فلما ... مضيت تفرقوا بالمنحسات ... غليل باطن لك في فؤادي ... حقيق بالدموع الجاريات (10)
__________
(1) هو الوزير أبو الطاهر محمد بن محمد بن بقية بن علي ولقبه نصير الدولة، قبض عليه عز الدولة بختيار بن معز الدولة بن بويه، وسمل عينيه سنة 366هـ بمدينة واسط. ثم قتل وصلب أيام عضد الدولة سنة 367هـ. ببغداد
(2) ابن الانباري: أبو الحسن، محمد بن عمر بن يعقوب، من عدول بغداد، شاعر مقل كاتب، صوفي واعظ توفي سنة 390هـ.
(3) الأبيات في وفيات الأعيان: 5/ 120.
(4) في الوفيات: «حين أقاموا».
(5) في الوفيات: «كمدهما إليهم».
(6) في الوفيات: «بحفاظ وحراس ثقات».
(7) في الوفيات: «وتشعل عنك النيران ليلا».
(8) في الوفيات: «وتلك فضيلة فيها».
(9) في الوفيات: «من صرف الليالي». والترات: الانتقام.
(10) في الوفيات: «يخفق بالدموع».(2/136)
ولو أني قدرت على قيام ... بفرضك والحقوق الواجبات ... ملأت الأرض من نظم القوافي ... ونحت بها خلاف النائحات ... ولكني أصبر عنك نفسي ... مخافة أن أعد من الجناة ... ومالك تربة فأقول تسقى ... لأنك نصب هطل الهاطلات ... عليك تحية الرحمن تترى ... برحمات غواد رائحات
وتوفي الملك عضد الدولة بن بويه في ذي الحجة سنة اثنتين وسبعين وثلاثمائة، وهو ابن تسع وأربعين سنة وأحد عشر شهرا أو كان له ملك العراق وكرمان وعمان وخوزستان والموصل وديار بكر وحران ومنيج. وكانت مدة ملكه ببغداد خمس سنين. وكان ملكا فاضلا، جليلا عظيما، مهيبا صارما، كريما شجاعا بطلا ذكيا، وله في الذكاء أخبار عجيبة ونكت غريبة، ليس هذا موضع ذكره. وهو أول من تسمى بملك في الإسلام. ولما احتضر جعل يقول: {مََا أَغْنى ََ عَنِّي مََالِيَهْ هَلَكَ عَنِّي سُلْطََانِيَهْ} (1) ويرددها حتى مات، ولما مات كتم موته ودفن بدار المملكة ببغداد. ثم ظهر موته وأخرج من قبره، وحمل إلى مشهد أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه فدفن به.
وكان عضد الدولة قد بنى المشهد قبل موته، كما سيأتي إن شاء الله تعالى في باب الفاء في لفظ الفهد. ومما يحكى أن عضد (2) الدولة خرج يوما إلى بستان له متنزها فقال: ما أطيب يومنا هذا لو ساعدنا فيه الغيث فجاء المطر في الوقت فقال (3):
ليس شرب الراح إلا في المطر ... وغناء من جوار في السّجر ... ناعمات سالبات للنهى ... ناغمات في تضاعيف الوتر (4)
... مبرزات الكأس من مطلعها ... ساقيات الراح من فاق البشر ... عضد الدولة وابن ركنها ... ملك الأملاك غلاب القدر (5)
... سهل الله له بغيته ... في ملوك الأرض ما دار القمر ... وأراه الخير في أولاده ... ليساس الملك منهم بالغرر
فلم يفلح بعد هذه الأبيات وعوجل بقوله غلاب القدر، ولما مات عضد الدولة قام بتدبير المملكة بعده ولده بهاء الدولة فخلع عليه الطائع لله وقلده ما كان بيد أبيه.
ثم إن بهاء الدولة أمسك الطائع لله واعتقله، ونهب دار الخلافة ثم أشهد على الطائع بخلع نفسه من الخلافة. وذلك في شهر شعبان سنة إحدى وثمانين وثلاثمائة وأقام مخلوعا معتقلا إلى أن
__________
(1) سورة الحاقة: الآية 29.
(2) عضد الدولة، أبو شجاع فناخسرو، الملقب عضد الدولة بن ركن الدولة أبي علي الحسن بن بويه الديلمي، تسلم بلاد فارس بعد عمه عماد الدولة، وكان ممدّحا جوادا.
(3) الأبيات في وفيات الأعيان: 4/ 54.
(4) في الوفيات: غانيات سالبات للنهى ناعمات في».
(5) في البيت فساد في المعنى، فلا راد لقضاء الله وقدره، والله فعّال لما يريد. ويقال، إن عضد الدولة لم يعش بعد هذه الأبيات إلا أياما ومات بالصّرع.(2/137)
توفي في ليلة عيد الفطر سنة ثلاث وتسعين وثلاثمائة وكانت خلافته سبع عشرة سنة وتسعة أشهر.
وعمره ثمان وسبعون سنة وكان مربوعا أشقر كبير الأنف شديد القوة في خلقه حدة، كريما شجاعا بطلا جوادا سمحا إلا أن يده كانت قصيرة مع ملوك بني بويه رحمة الله تعالى عليه.
خلافة أبي العباس أحمد القادر بالله بن إسحاق
ثم قام بالأمر بعده، أبو العباس أحمد بن إسحاق بن المقتدر بن المعتضد. بويع له بالخلافة ليلة خلع الطائع لله وعمره يومئذ أربع وأربعون سنة. وكان كثير البرّ والصدقات، مريدا للفقراء مؤثرا للتبرك بهم، لكنه كان مقهورا على أمره. وتوفي في ذي القعدة، ويقال في ليلة الأضحى، ويقال ليلة الحادي عشر من ذي الحجة سنة اثنتين وعشرين واربعمائة، وهو ابن ست وثمانين سنة وكانت خلافته إحدى وأربعين سنة وشهورا قيل: هي ثلاثة، وقيل إنه كان ابن سبع وثمانين سنة.
وكان أبيض طويل اللحية. كبيرها يخضبها لشيبه. وكان دائم التهجد كثير الصدقات من الديانة على عفة اشتهرت عليه. له مصنف في السنة وذم المعتزلة والروافض. وكان يقرإ القرآن في كل جمعة مرة ويحضره الناس.
خلافة أبي جعفر عبد الله القائم بأمر الله بن القادر بالله
ثم قام بالأمر بعده، ابنه أبو جعفر عبد الله القائم بأمر الله بن القادر. بويع له بالخلافة يوم موت والده. وفي أيامه كان ابتداء دولة السلاطين السلجوقية، وانقراض دولة بني بويه، وكانت مدة ملكهم مائة وسبعا وعشرين سنة، وذلك في سنة ثلاثين وأربعمائة. ذكر ذلك ابن البطريق في تاريخه في حوادث سنة ست وأربعين.
وكان القائم بأمر الله أبيض اللون مليح الوجه مشربا بحمرة، ورعا زاهدا عابدا، مريدا لقضاء حوائج المسلمين موقرا لأهل العلم، معتقدا في الفقراء والصالحين، حسن الطوية. ولم يقم أحد في الخلافة قدر إقامته، وكان كثير الصدقة، له فضل وعلم، من خيار الخلفاء لا سيما بعد عوده للخلافة، في نوبة البساسيري فإنه صار يكثر الصيام والتهجد. وما كان ينام إلا على سجادة وما تجرد من ثيابه لنوم قط. وتوفي القائم بأمر الله في سنة سبع وتسعين وأربعمائة لعشر ليال مضت من شعبان، وكانت خلافته أربعا وأربعين سنة وثمانية أشهر وقيل تسعة أشهر وقيل خمسا وأربعين سنة وأمه أرمنية رحمه الله تعالى.
خلافة أبي القاسم المقتدي بأمر الله بن محمد بن القائم
ثم قام بالأمر بعده ولد ولده أبو القاسم عبد الله المقتدي بأمر الله بن محمد بن القائم بأمر الله. بويع له بالخلافة يوم وفاة جده القائم بأمر الله، في ثالث عشر شعبان سنة سبع وستين وأربعمائة. وذلك أن جده كان لما مرض افتصد، فانفجر فصاده، وخرج منه دم عظيم، فخارت قوته وعجر. فطلب ابن ابنه وعهد إليه بالأمر ولقبه المقتدي بأمر الله بمحضر من الأئمة والعلماء،
وكان ولد بعد موت أبيه ذخيرة الدين، بستة أشهر وعمرت بغداد في أيامه، وخطب له بالحجاز واليمن والشام.(2/138)
ثم قام بالأمر بعده ولد ولده أبو القاسم عبد الله المقتدي بأمر الله بن محمد بن القائم بأمر الله. بويع له بالخلافة يوم وفاة جده القائم بأمر الله، في ثالث عشر شعبان سنة سبع وستين وأربعمائة. وذلك أن جده كان لما مرض افتصد، فانفجر فصاده، وخرج منه دم عظيم، فخارت قوته وعجر. فطلب ابن ابنه وعهد إليه بالأمر ولقبه المقتدي بأمر الله بمحضر من الأئمة والعلماء،
وكان ولد بعد موت أبيه ذخيرة الدين، بستة أشهر وعمرت بغداد في أيامه، وخطب له بالحجاز واليمن والشام.
حكي: أن المقتدي قدم إليه يوما طعام، فتناول منه وغسل يديه، وهو على أكمل حال وأحسن هيئة في نفسه وجسمه، وبين يديه قهرمانته شمس، فقال لها: ما هذه الأشخاص الذين دخلوا بغير إذن؟ فالتفتت فلم تر أحدا، ثم نظرت إليه فرأته قد تغير وجهه، واسترخت يداه وانحلت قواه وسقط إلى الأرض، فظنت أنه قد غشي عليه، فإذا هو قد مات. فأمسكت نفسها عن البكاء، واستدعت الخادم فاستدعى الوزير أبا منصور، فبكيا وأحضرا أبا العباس أحمد المستظهر بن المقتدي وكان قد عهد إليه أبوه فعزياه وهنآه. وكان عمره ثلاثا وثلاثين سنة.
وكانت خلافته تسع عشرة سنة وأشهرا قيل: هي ثلاثة وقيل: إن عمره كان تسعا وثلاثين سنة وكان موته في المحرم سنة سبع وثمانين وأربعمائة ويقال: إن جاريته سمته، وقد كان السلطان صمم على إخراجه من بغداد إلى البصرة وكانت حرمته وافرة بخلاف من كان قبله من الخلفاء رحمه الله تعالى.
خلافة المستظهر بالله أبي العباس أحمد
ثم قام بالأمر بعده، ابنه المستظهر بالله أبو العباس أحمد. بويع له بالخلافة يوم موت أبيه بعهد منه. وكان مولده في سنة سبعين وأربعمائة، وكان المستظهر كريم الأخلاق سخي النفس محبا للعلماء، حافظا للقرآن منكرا للظلم. وكان لين الجانب محبا للخير، جيد الأدب والفضيلة، قوي الكتابة مسارعا في أعمال البر.
توفي لسبع بقين من شهر ربيع الآخر سنة إحدى عشرة وخمسمائة. وله إحدى وأربعون سنة. وقيل اثنتان وأربعون أو ثلاث بعلة التراقي وهي الخوانيق وخلف أولادا عدة، وتوفيت جدته أرجوان بعده بيسير في خلافة ابنه المسترشد وهي سرية محمد الذخيرة. وكانت خلافته أربعا وقيل خمسا وعشرين سنة وثلاثة أشهر رحمه الله تعالى.
خلافة أبي منصور الفضل المسترشد بالله بن المستظهر
ثم قام بالأمر بعده، ابنه أبو منصور الفضل المسترشد بالله بن المستظهر بالله، بويع له بالخلافة يوم موت والده بعهد من أبيه، وسنه يومئذ سبع وعشرون سنة. وروي أنه ورد إليه رسل، فجلس لهم في جماعة من أهل بيته، فلما أحضروهم بين يديه، هجم عليهم الفداوية بالسكاكين فقتلوه وقتلوا معه جماعة من أصحابه. يقال إن مسعودا أخا السلطان محمود جهز عليه الفداوية.
وذلك في سابع عشر ذي القعدة سنة تسع وعشرين وخمسمائة. وكانت خلافته سبع عشرة سنة وثمانية شهور وقيل سبعة أو ستة أشهر وعاش أربعا وأربعين سنة، وقيل خمسا وأربعين ولم يل الخلافة بعد المعتضد بالله أشهم منه. وكان بطلا شجاعا مقداما شديد الهيبة ذا رأي وفطنة وهمة عالية ضبط الأمور وأحيا مجد بني العباس وجاهد غير مرة.(2/139)
خلافة أبي منصور جعفر الراشد بالله
هو السادس، فخلع كما سيأتي هذا إذا لم يعد ابن المعتز، وإلا فالسادس المسترشد، وقد هجم عليه قاعدته أي الباطنة، أرسلهم إليه السلطان سنجر الملقب ذا القرنين، فقتلوه ثم قام بالأمر بعده، يعني المسترشد، ابنه أبو منصور جعفر الراشد بالله بن المسترشد بن المستظهر. بويع له بالخلافة يوم موت أبيه بعهد منه، فمكث ما شاء الله ثم وقع بينه وبين السلطان مسعود.
فاستخدم الراشد أجنادا كثيرة وتهيأ للقائه، فكاتب السلطان مسعود أتابك زنكي واستماله، وكذلك فعل بأرتقش فأشارا على الراشد بالتوقف، وأقبل السلطان مسعود بجيوشه، فدخل بغداد في ذي القعدة، وقيل في ذي الحجة سنة ثلاثين وخمسمائة. فنهب دور الجند، ومنع من نهب البلد.
واستمال الرعية وأحضر القضاة والشهود فقدحوا في الراشد بأنه صدرت منه سيرة قبيحة من سفك الدماء المحرمة، وارتكاب المنكرات، وفعل ما لا يجوز فعله، وشهدوا عليه بذلك فحكم قاضي قضاة الممالك وهو ابن الكرخي، والعلم عند الله تعالى بخلعه، فخلعوه لأربع عشرة من ذي القعدة سنة ثلاثين وخمسمائة.
وكان الراشد قد هرب هو وأتابك زنكي، إلى الموصل فطلبه السلطان مسعود، فهرب إلى فارس ثم دخل أصبهان، فحاصرها وتمرض هناك، فوثب عليه جماعة من الفداوية فقتلوه. وله إحدى وعشرون سنة وقيل ثلاثون سنة. وكانت خلافته إلى أن خلع منها سنة إلا أياما، وكان قتله في سنة اثتنين وثلاثين وخمسمائة وهو صائم، في اليوم السادس والعشرين من شهر رمضان، وقيل:
إنه كان قد سقي أيضا، ودفن في جامع حيي. وخلف بضعا وعشرين ولدا ذكرا، وخطب له بولاية العهد أكثر أيام أبيه، وكان شابا أبيض مليحا تام الشكل شديد البطش، شجاع النفس حسن السيرة شاعرا فصيحا جوادا كريما لم تطل دولته رحمة الله تعالى.
خلافة أبي عبد الله محمد المقتفي لأمر الله
ثم قام بالأمر بعده، عمه أبو عبد الله محمد بن المستظهر بن المقتدي. بويع له بالخلافة يوم خلع ابن أخيه. ولقب بالمقتفي لأمر الله، وسبب لقبه بهذا أنه رأي النبي صلى الله عليه وسلم في المنام، قبل خلافته بستة أشهر، وقيل بسنة، وهو يقول له: إنه سيصل إليك هذا الأمر فاقتف بي، وكان آدم اللون بوجهه أثر جدري، مليح الشيبة عظيم الهيبة، سيدا عالما فاضلا، دينا حليما شجاعا، فصيحا مهيبا خليقا للإمارة، كامل السودد عظيم المملكة بيده أزمة الأمور كان لا يجري في خلافته أمر، وإن صغر إلا بتوقيعه. وكانت أمه حبشية، كتب في أيام خلافته ثلاث ربعات.
وكانت وفاته بالخوانيق، في شهر ربيع الأول سنة خمس وخمسين وخمسمائة. وهو ابن ست وستين سنة، وكانت خلافته ثلاثا وعشرين سنة وقيل: خمسا وعشرين سنة وقد جدد باب الكعبة، وعمل لنفسه من العقيق تابوتا دفن فيه. وقد رأيت فيما نقلته من خط صاحبنا الحافظ صلاح الدين خليل بن محمد الآقفهسي، فيما نقله من خط الصدر عبد الكريم، العلامة ابن العلامة علاء الدين القونوي أن القائم بالأمر بعد المقتفي المستظهر. كذا ذكره ولا أعلم من هذا المستظهر
فليحرر ذلك وقد ذكر الخلفاء كما هنا الذهبي على هذا الترتيب.(2/140)
وكانت وفاته بالخوانيق، في شهر ربيع الأول سنة خمس وخمسين وخمسمائة. وهو ابن ست وستين سنة، وكانت خلافته ثلاثا وعشرين سنة وقيل: خمسا وعشرين سنة وقد جدد باب الكعبة، وعمل لنفسه من العقيق تابوتا دفن فيه. وقد رأيت فيما نقلته من خط صاحبنا الحافظ صلاح الدين خليل بن محمد الآقفهسي، فيما نقله من خط الصدر عبد الكريم، العلامة ابن العلامة علاء الدين القونوي أن القائم بالأمر بعد المقتفي المستظهر. كذا ذكره ولا أعلم من هذا المستظهر
فليحرر ذلك وقد ذكر الخلفاء كما هنا الذهبي على هذا الترتيب.
خلافة أبي المظفر يوسف المستنجد بالله بن المقتفي
ثم قام بالأمر بعده، ابنه أبو المظفر يوسف المستنجد بالله بن المقتفي، وكان أبوه ولاه العهد في سنة سبع وأربعين وخمسمائة. بويع له بالخلافة بعد موت أبيه بيوم وقيل بل يوم مات أبوه، قال ابن خلكان في ترجمته: وهنا نكتة لطيفة وهي أن المستنجد رأى في منامه، في حياة والده المقتفي أن ملكا نزل من السماء، فكتب في كفه أربع خاآت، فطلب معبرا وقص عليه ما رآه، فقال له: تلي الخلافة سنة خمس وخمسين وخمسمائة فكان كذلك. وتوفي في سنة ست وسبعين وخمسمائة في ثامن شهر ربيع الثاني وحبس في حمام، وهو ابن ثمان وأربعين سنة وكانت خلافته إحدى وعشرين سنة وكان موصوفا بالعدل والديانة وأبطل المكوس وقام كل القيام على المفسدين وله شعر وسط وأمه طاوس الكوفية أدركت دولته.
خلافة المستضيء بنور الله بن المستنجد
ثم قام بالأمر بعده، ابنه أبو الحسن علي المستضيء بنور الله بن المستنجد. بويع له بالخلافة يوم وفاة أبيه، وخطب له بالديار المصرية واليمن، وكانت الدولة العباسية منقطعة منهما، من زمن المطيع، وكان جوادا كريما مؤثرا للخير كثير الصدقات معظما للعلم وأهله. وتوفي في سنة خمس وتسعين وخمسمائة، وكانت خلافته تسع عشرة سنة وعاش تسعا وثلاثين. وكان سمحا جوادا محبا للسنة، أمنت البلاد في زمنه، وأبطل مظالم كثيرة، واحتجب عن أكثر الناس ولم يكن يركب إلا مع مماليكه ولم يكن يدخل عليه غير الأمير قيماز (1).
خلافة أبي العباس أحمد الناصر لدين الله
ثم قام بالأمر بعده، ابنه أبو العباس أحمد الناصر لدين الله بن المستضيء. بويع له بالخلافة في بغداد يوم وفاة أبيه، في أول ذي القعدة سنة خمس وتسعين وخمسمائة، وعمره ثلاث وعشرون سنة فبسط العدل وأمر باراقة الخمور وكسر الملاهي وإزالة المكوس والضرائب. فعمرت البلاد، وكثرت الأرزاق، وقصد الناس بغداد، وتبركوا به. توفي سنة اثنتين وعشرين وستمائة، وهو ابن خمسين سنة وذلك في سلخ شهر رمضان، وحمل على أعناق الرجال إلى البدرية ودفن بها رحمة الله تعالى عليه.
وكانت خلافته سبعا وعشرين سنة، وكان أبيض تركي الوجه، أقنى الانف مليحا خفيف العارضين، أشقر اللحية رقيق المحاسن، فيه شهامة وإقدام وله عقل وكان فيه دهاء وفطنة، وتيقظ ونهضة بأعباء الخلافة. وكان في أكثر الليل يشق الدروب والأسواق. وكان الناس يتهيبون
__________
(1) هو أبو منصور قايماز بن عبد الله الزيني، لقبه مجاهد الدين الخادم، وهو من أهل سجستان، وكان كثير الخير والصلاح مات سنة 595هـ.(2/141)
لقاءه، وكان مستقلا بالأمور في العراق، متمكنا من الخلافة، يتولى الأمور بنفسه. وما زال في عز وجلالة، واستظهار وسعادة، أظهر القسي والبندق والحمام في أيامه وهو أطول بني العباس خلافة وكان له عيون على كل سلطان، يأتونه بالأخبار. ويحكى أن بعض الكبار كان يعتقد فيه أن له كشفا، وإطلاعا على المغيبات وفي آخر أيامه أصابه الفالج بقي معه سنتين وذهب عنه وكان فيه عسف للرعية.
خلافة الظاهر بأمر الله بن الناصر لدين الله
ثم قام بالأمر بعده، ابنه محمد الظاهر بأمر الله بن الناصر لدين الله. بويع له بالخلافة يوم موت أبيه، فعمل عزاءه ثلاثة أيام وأحسن إلى الناس وأبطل المكوس وأزال المظالم، وأرسل الخلع إلى أولاد الملك العادل أبي بكر بن أيوب، ثم إن حاجبه قرايغدي بلغه أنه يريد قتله، فهجم عليه وامسكه وأشهد عليه بالخلع، وقتله فعمل له العزاء في البلاد كلها لأجل إحسانه إليهم. وكان ذلك في سنة أربعين وستمائة، وهو ابن ثلاثين سنة. وكانت خلافته ثماني عشرة سنة. هكذا لقيت هذه الترجمة في النسخة التي نقلت منها وفيها تخليط لأنها تحتوي على بعض ترجمة الظاهر بأمر الله وبعض ترجمة المستنصر بالله وأظن أن ذلك من الناسخ. وهذه ترجمة كل واحد منهما على حدته والله الموفق.
فالظاهر بأمر الله، هو أبو النصر محمد بن الناصر لدين الله أبي العباس أحمد بن المستضيء بنور الله حسن بن أبي الحسن المستنجد بالله أبي المظفر يوسف بن المقتفي لأمر الله أبي عبد الله محمد العباسي. كان أبوه قد خطب له بولاية العهد، فلما توفي تسلم الخلافة، وبايعه الكبار في يوم موته.
وكان مولد في سنة إحدى وسبعين وخمسمائة ووفاته في ثالث عشر رجب سنة ثلاث وعشرين وستمائة، وله اثنتان أو ثلاث وخمسون سنة، وكانت خلافته تسعة أشهر، وقيل نصفا.
وكان جميل الصورة أبيض مشربا بحمرة، حلو الشمائل شديد القوى، فيه دين وعقل ووقار، وخير وعدل، حتى بالغ فيه ابن الأثير فقال: لقد أظهر من العدل والإحسان ما أعاد به سنة العمرين. قيل له: ألا تتفسح وتتنزه؟ فقال لقد يبس الزرع. فقيل له يبارك الله في عمرك.
فقال: من فتح دكانه بعد العصرايش يكسب؟ ثم قال: إنه أحسن إلى الرعبة، وبذل الأموال وأزال المظالم، وأبطل المكوس، وكان يقول: الجمع شغل التجار، أنتم إلى إمام فعّال أحوج منكم إلى إمام قوّال، اتركوني أفعل الخير فيكم ما بقيت أعيش. وقد فرق ليلة العيد مائة ألف دينار على العلماء والصالحين.
والمستنصر بالله هو أبو جعفر، منصور بن الظاهر بأمر الله بن الناصر لدين الله العباسي، أمه تركية. ولد في سنة ثمان وثمانين وخمسمائة. وبويع له بالخلافة بعد موت أبيه، بايعه إخوته، وكان أكبرهم، وبنو عمه، وهو إذ ذاك ابن خمس وثلاثين سنة. مات في بكرة يوم الجمعة عاشر جمادى الثانية، سنة أربعين وستمائة. وكان مليح الشكل كأبيه، وكان أشقر ضخما قصيرا، وخطه
الشيب فخضب بالحناء ثم ترك قال ابن الساعي (1): حضرت بيعته فلما رفعت الستارة وشاهدته وقد كمل الله صورته، ومعناه كان أبيض مشربا بحمرة أزج (2) الحاجبين، أدعج (3) العينين سهل الخدين، أقنى الأنف رحب الصدر، عليه ثوب أبيض، وقباء أبيض، وطرحة قصب بيضاء، فجلس إلى الظهر.(2/142)
والمستنصر بالله هو أبو جعفر، منصور بن الظاهر بأمر الله بن الناصر لدين الله العباسي، أمه تركية. ولد في سنة ثمان وثمانين وخمسمائة. وبويع له بالخلافة بعد موت أبيه، بايعه إخوته، وكان أكبرهم، وبنو عمه، وهو إذ ذاك ابن خمس وثلاثين سنة. مات في بكرة يوم الجمعة عاشر جمادى الثانية، سنة أربعين وستمائة. وكان مليح الشكل كأبيه، وكان أشقر ضخما قصيرا، وخطه
الشيب فخضب بالحناء ثم ترك قال ابن الساعي (1): حضرت بيعته فلما رفعت الستارة وشاهدته وقد كمل الله صورته، ومعناه كان أبيض مشربا بحمرة أزج (2) الحاجبين، أدعج (3) العينين سهل الخدين، أقنى الأنف رحب الصدر، عليه ثوب أبيض، وقباء أبيض، وطرحة قصب بيضاء، فجلس إلى الظهر.
وبلغني أن عدة الخلع التي خلعها بلغت ثلاثة آلاف خلعة وخمسمائة خلعة وسبعين خلعة.
وكانت خلافته وافرة الحشمة، وفيه عدل ودين وقمع للمتمردين، ونهضة بأعباء الخلافة، ووقف المدارس والمساجد وبذل الأموال ودانت له الملوك، وكان جده الناصر يحبه ويسميه القاضي لعقله ومحبته للحق. وأنشأ المدرسة التي لا نظير لها في الدنيا، واستخدم عسكرا عظيما إلى الغاية حتى إن جريدة جيشه، بلغت نحو مائة ألف فارس استعدادا لحرب التتار، وقد خطب له بالأندلس وبعض بلاد المغرب.
وكانت خلافته سبع عشرة سنة، فالله يتغمده برحمته ومغفرته فلم يخلع هو ولا أبوه. وبهذا انقضت القاعدة إلا أن التتار كان أمرهم قد عظم في أيامهما، فأخذوا جملة مستكثرة من بلاد الإسلام، وفقد جلال الدين خوارزم شاه في أيام المستنصر في وقعة كانت بينه وبين التتار، وهذا أعظم وأطم من الخلع. ثم لم ينتظم لبني العباس في العراق أمر بحيث إن من ولي بعد هؤلاء لم يكملوا العدة المشروطة، فإن الذي جاء بعدهم واحد وهو المستعصم بالله بن المستنصر وهو الذي قتله التتار. وانقرضت الدولة العباسية من العراق سنة ست وخمسين وستمائة، فإن المستعصم قتل في الثامن والعشرين من المحرم كما ستراه في ترجمته إن شاء الله تعالى.
خلافة المستعصم بالله
ثم قام بالأمر بعده، المستعصم بالله وهو أبو أحمد عبد الله بن المستنصر بالله أبي جعفر منصور بن الظاهر محمد بن الناصر العباسي، آخر الخلفاء العراقيين، وكانت دولتهم خمسمائة سنة وأربعا وعشرين سنة.
وكان مولد أبي أحمد في خلافة جد أبيه، قال المؤلف رحمه الله تعالى: بويع له بالخلافة يوم قتل الظاهر البيعة العامة وذلك في جمادى الأولى سنة أربعين وستمائة فظهر بهذه العبارة أن المؤلف جعل الترجمة السابقة للظاهر، ولم يجعل للمستنصر ترجمة وإن الناسخ نقل ذلك كما وجده.
فالإعتماد على ما ذكرته من ترجمتهما، وهو السادس فخلع وقتل، في أيام هولاكو، لما أخذ بغداد، سنة خمس وخمسين وستمائة وكان ذلك بمواطأة وزيره ابن العلقمي، وسوء تدبير المستعصم، واشتغاله بلعب الحمام، وبما لا يليق به. وكان قد خرج إلى هولاكو ومعه الفقهاء والصوفية فقتلوا عن آخرهم. وأخذ المستعصم فخلع ووضع في جوالق وضرب بالمرازب وقيل بمداق الجص إلى أن
__________
(1) ابن الساعي: علي بن أنجب بن عثمان بن عبد الله، أبو طالب تاج الدين بن الساعي، مؤرخ ولد ومات في بغداد سنة 674هـ.
(2) أزج الحاجبين: طويل الحاجبين مع دقتهما.
(3) أدعج العينين: أسود العينين.(2/143)
مات. ولم ينتظم لبني العباس بعده أمر، وذلك في الثامن والعشرين من المحرم سنة ست وخمسين وستمائة.
وكان السبب في قتله أن الطاغية هولاكو بن قبلاي خان بن جنكز خان المغلي، لما كان في أوائل سنة ست وخمسين وستمائة قصد بغداد بجيش عرمرم، فخرج إليه الدويدار بالعسكر فالتقوا بطلائع هولاكو، وعليهم تايجو فانكسروا لقلتهم ثم أقبل تايجو فنزل غربي بغداد، ونزل هولاكو على شرقيها فأشار الوزير على الخليفة أن يخرج إلى هولاكو في تقرير الصلح، فخرج الكلب وتوثق لنفسه، ثم رجع فقال: إن هولاكو رغب في أن يزوج ابنته بابنك، وأن تكون الطاعة له كالملوك السلجوقية، ويرحل عنك فخرج الخليفة في أكابر الوقت، وأعيان دولته ليحضروا العقد، فضربوا رقاب الجميع، وقتل الخليفة. وكان حليما كريما سليم الباطن، قليل الرأي حسن الديانة، مبغضا للبدعة وبالجملة ختم له بخير. فإن الكافر هولاكو أمر به وبولده أبي بكر فرفسا حتى ماتا. وذلك في حدود آخر المحرم، وكان الأمر أشغل من أن يوجد مؤرخ لموته أو لمواراة جسده. فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. وبقي الوقت بلا خليفة ثلاث سنين فلما كان في شهر رجب سنة تسع وخمسين وستمائة بايع المصريون بمصر المستنصر بالله.
خلافة المستنصر بالله أحمد بن الخليفة الظاهر بالله
هو أحمد بن الخليفة الظاهر بالله بن محمد بن الناصر العباسي الأسود. كانت أمه حبشية وكان بطلا شجاعا، قدم مصر فعرفوه، وهو عم المستعصم المقتول. نهض بإقامة دولته ومبايعته السلطان الملك الظاهر (1) ففوض أمر الأمة إليه. ثم خرجا إلى الشام ثم إن الخليفة فارقه من ثم، وسار بعسكر نحو ألف ليملك بغداد فكان القتال بينه وبين التتار في آخر السنة فعدم في الوقعة، وكان في خدمته الحاكم أبو العباس أحمد فانهزم إلى الشام.
خلافة الحاكم بأمر الله
فلما كان في ثامن المحرم، سنة إحدى وستين وستمائة، عقد مجلس عظيم لعقد البيعة للخليفة، فأحضروا أبا العباس أحمد ابن الأمير أبي علي بن أبي بكر بن المسترشد بالله بن المستظهر بالله العباسي، فأثبت نسبه فعند ذلك مد السلطان الملك الظاهر يده وبايعه بالخلافة، ثم بايعه القضاة والأمراء. ولقب بالحاكم بأمر الله فلما كان من الغد خطب خطبة أولها: الحمد لله الذي أقام لبني العباس ركنا وظهرا، ثم كتب بدعوته وإمامته إلى الأقطار وبقي في الخلافة أربعين سنة وأشهرا وكانت وفاته في جمادى الأولى سنة إحدى وسبعمائة ودفن عند السيدة نفيسة رحمة الله تعالى عليهما.
__________
(1) هو الملك السلطان الظاهر بييرس، تولى حكم مصر سنة 658هـ. وتوفي سنة 676هـ وله المواقع العظيمة مع الإفرنج والتتار والبطولات والفتوحات والجهاد ويكفيه أنه عزز الخلافة.(2/144)
خلافة المستكفي بالله أبي الربيع سليمان بن الحاكم بأمر الله
عهد إليه بالأمر أبوه الحاكم بأمر الله، وقرىء تقليده بعد عزائه بوالده، وخطب له على المنابر في جمادى الأولى سنة إحدى وسبعمائة واستمر في الخلافة تسعا وثلاثين سنة. ومات بقوص في شعبان سنة أربعين وسبعمائة، وهو ابن بضع وخمسين سنة رحمة الله تعالى عليه.
خلافة الحاكم بأمر الله أحمد بن المستكفي بالله
كانت خلافته في المحرم سنة اثنتين وأربعين وسبعمائة بويع للحاكم بأمر الله أحمد بن المستكفي بالله أبي الربيع سليمان بن الحاكم بأمر الله العباسي. وكان ولي عهد أبيه. هكذا ذكره الحسيني في ذيله على العبر، وذكر الذهبي في آخر ذيله عليه في سنة أربعين وسبعمائة أن المستكفي، لما مات بويع لأخيه إبراهيم بغير عهد واستمر الحاكم في الخلافة إلى أن أتاه حمامه وهو بالقاهرة في سنة ثلاث وخمسين وسبعمائة.
خلافة المعتضد بالله
بويع له بالخلافة، بعهد من أخيه الحاكم بأمر الله، ولقب بالمعتضد بالله وهو أبو الفتح أبو بكر بن المستكفي بالله أبي الربيع سليمان بن الحاكم بأمر الله أبي العباس أحمد بن أبي علي بن المسترشد بالله العباسي، فكانت خلافته نحوا من عشرين سنة ومات في رابع جمادي الأولى سنة ثلاث وستين وسبعمائة بالقاهرة.
خلافة المتوكل على الله
بويع له بالخلافة بعد وفاة أبيه بعهد منه، في سابع جمادى الثانية سنة ثلاث وستين وسبعمائة. وكان مولده في سنة نيف وأربعين وسبعمائة أو قريب منها.
وهو أبو عبد الله محمد وقيل حمزة المتوكل على الله بن المعتضد بالله العباسي، فاستقر في الخلافة إلى أن مات في شعبان سنة ثمان وثمانمائة غير أنه تخلل فيها أعوام خلع فيها، وبويع لقريبه زكريا بن إبراهيم في ثالث عشر صفر، سنة تسع وسبعين وسبعمائة ثم أعيد بعد شهر واستمر إلى شهر رجب سنة خمس وثمانين، فخلع وحبس وبويع لعمر بن المعتضد ولقب بالواثق ثم مات، فبويع لأخيه زكريا ولقب بالمستعصم واستمر المتوكل محبوسا إلى صفر سنة إحدى وتسعين، فأفرج عنه ثم ضيق عليه، ومنع الناس من الدخول إليه فلما كان في سابع عشر شهر ربيع الأول أفرج عنه، فلما كان اليوم الأول من جمادى الأولى بويع ونزل إلى داره وفي خدمته الأمراء القضاء وكان يوما مشهودا واستمر إلى أن مات رحمة الله تعالى عليه.
خلافة المستعين بالله
هو أبو الفضل العباس بن المتوكل على الله أبي عبد الله محمد بن المعتضد أبي بكر بن
سليمان بن أحمد العباسي، عهد إليه أبوه بالخلافة، وكان قد عهد قبله لولده الآخر المعتمد على الله أحمد، ثم خلعه وولى هذا واستمر أحمد مخلوعا إلى أن مات، فلما مات المتوكل، بويع ابنه العباس، في شهر رجب سنة ثمان وثمانمائة واستمر في الخلافة إلى أن حوصر الملك الناصر فرج (1) بن برقوق بدمشق، وقيل: بويع له بالسلطنة مضافة إلى الخلافة في يوم السبت خامس عشر المحرم، سنة خمس عشرة وثمانمائة، اجتمع أهل الحل والعقد والقضاة والأمراء ومن حضر، فسألوه في ذلك فامتنع واشتد امتناعه وصمم، ثم إنه أجابهم إلى ذلك بعد أن توثق منهم بالأيمان، ولم يغير لقبه.(2/145)
هو أبو الفضل العباس بن المتوكل على الله أبي عبد الله محمد بن المعتضد أبي بكر بن
سليمان بن أحمد العباسي، عهد إليه أبوه بالخلافة، وكان قد عهد قبله لولده الآخر المعتمد على الله أحمد، ثم خلعه وولى هذا واستمر أحمد مخلوعا إلى أن مات، فلما مات المتوكل، بويع ابنه العباس، في شهر رجب سنة ثمان وثمانمائة واستمر في الخلافة إلى أن حوصر الملك الناصر فرج (1) بن برقوق بدمشق، وقيل: بويع له بالسلطنة مضافة إلى الخلافة في يوم السبت خامس عشر المحرم، سنة خمس عشرة وثمانمائة، اجتمع أهل الحل والعقد والقضاة والأمراء ومن حضر، فسألوه في ذلك فامتنع واشتد امتناعه وصمم، ثم إنه أجابهم إلى ذلك بعد أن توثق منهم بالأيمان، ولم يغير لقبه.
وضربت سكة الذهب والفضة بإسمه وتصرف بالولاية والعزل وفي الحقيقة إنما كانت إليه العلامة والخطبة فلما توجه العسكر إلى مصر كانت الأمراء كلهم في خدمته على هيئة السلطنة ولكن الحل والعقد للأمير شيخ (2). فلما كان اليوم الثامن من شهر ربيع الثاني دخل مصر، فشقها والأمراء بين يديه، وكان يوما مشهودا فاستمر إلى القلعة فنزلها ونزل شيخ في الإصطبل بباب السلسلة فلما كان في اليوم الثامن. () (3) دخل شيخ والأمراء إلى القصر، وجلس الخليفة على تخت المملكة، وخلع على شيخ خلعة عظيمة بطراز لم يعهد مثله، وفوض إليه أمر المملكة، ولقبه بنظام الملك. فكان يدعى لهما على المنابر في الحرمين وغيرهما.
وصار الأمراء إذا فرغوا من الخدمة في القصر، نزلوا إلى خدمة شيخ في الإصطبل، فأعيدت الخدمة عنده ووقع الإبرام والنقض، ثم يتوجه دويداره إلى الخليفة، فيعلم على المناشير والتواقيع، واستمر الأمر على ذلك مدة، وكان شيخ يظن أن الخليفة يتوجه إلى بيته ويستعفي من السلطنة، فلما لم يفعل أعرض عنه، ولم يبق عنده إلا من يخدمه من حاشيته، فلما كان في يوم الإثنين مستهل شعبان أحضر شيخ أهل الحل والعقد والقضاة والأمراء والمباشرين، فبايعوه بالسلطنة ولقبوه بالملك المؤيد أبي النصر ثم إنه صعد القصر وجلس على تخت المملكة فقبل الأمراء الأرض بين يديه وصافحه القضاة وأهل الوظائف، وأرسل إلى الخليفة يسأله أن يشهد عليه بتفويض السلطنة له على عادة من تقدمه، فأجابه بشرط أن يذهب إلى بيته، فلم يوافقه على ذلك أياما ثم إنه نقله من القصر، وأنزله في دار من دور القلعة، ومعه أهله ووكل به من يمنع الناس من الدخول إليه، فلما كان في ذي القعدة قطع الدعاء للخليفة على المنابر. وكان قبل أن يلي السلطنة يدعى له مع السلطان واستمر في الخلافة إلى أن خلع في سنة ست عشرة فلما خرج المؤيد إلى نيروز (4) أرسله إلى
__________
(1) الناصر فرج: هو الملك الناصر فرج بن برقوق بن أنس العثماني من ملوك الجراكسة في مصر بويع له بالسلطنة في مصر سنة 801هـ، قتل سنة 815هـ.
(2) شيخ: هو شيخ بن عبد الله المحمودي الظاهري، أبو النصر، من ملوك الجراكسة في مصر. كان عاقلا شجاعا يقول الشعر، مشيّدا للعمائر. مات سنة 824هـ.
(3) بياض في الأصل.
(4) نيروز الحافظي: نائب الديار الشامية أيام المؤيد الشيخ السالف الذكر، وقد تمرّد نيروز على المؤيد فجهز إليه جيشا وقضى عليه سنة 817هـ وقتل نيروز.(2/146)
الإسكندرية فعقل بها، ولم يزل بها إلى أن استقرططر (1) في المملكة، فأرسل في إطلاقه وأذن له في المجيء إلى القاهرة فاختار الإقامة في الاسكندرية، لأنها لاقت بحاله، واستطابها وحصل له بها مال جزيل، من التجارة فاستمر إلى أن مات فيها شهيدا بالطاعون سنة ثلاث وثلاثين وثمانمائة.
فصل: فيما يجب على من يصحب الخلفاء الراشدين، وأمراء المؤمنين، والملوك والسلاطين.
قال الشعبي: قال لي عبد الله بن عباس، قال لي العباس: اي بني إني أرى هذا الرجل، يعني عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه، يقدمك على كثير من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإني أوصيك بكلمات أربع لا تفشين لهم سرا، ولا تحدثنهم كذبا، ولا تطرين عندهم نصيحة، ولا تغتابن لديهم أحدا. قال الشعبي: فقلت لابن عباس: كل واحدة منهن خير من ألف، قال: إي والله، ومن عشرة آلاف. قال بعض الحكماء: إذا زادك السلطان إكراما، فزده إعظاما وإذا جعلك ولدا فاجعله سيدا، وإذا جعلك أخا فاجعله والدا، ولا تديمن النظر إليه، ولا تكاسر من الدعاء له، ولا تتغير منه إذا سخط، ولا تغتر به إذا رضي ولا تلح في مسألته وقد قيل في المعنى:
قرب الملوك يا أخا البدر السني ... حظ جزيل بين شدقي ضيغم
قال الفضل بن الربيع (2): من كلم الملوك في حاجة في غير وقتها، جهل مقامه وضاع كلامه، وما أشبه ذلك إلا بأوقات الصلاة، التي لا تقبل إلا في وقتها. قال خالد بن صفوان (3): من صحب السلطان بالنصيحة والأمانة، كان أكبر عدو له، ممن صحبه بالفسق والخيانة، لأنه يجتمع على الناصح عدو السلطان وصديقه، بالعداوة والحسد، فعدو السلطان يبغضه لنصيحته، وصديقه ينافسه في مرتبته. قال أفلاطون (4) الحكيم: إذا خدمت ملكا، فلا تطعه في معصية ربك، فإن إحسانه إليك أفضل من إحسانه إليك، وإيقاعه بك أغلظ من إيقاعه بك. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
«من تواضع لغني لأجل غناه، ذهب ثلثا دينه». رواه البيهقي في الشعب من حديث ابن مسعود وأنس بلفظ: «من أصبح حزينا على الدنيا، أصبح ساخطا على ربه، ومن أصبح يشكو مصيبته فإنما يشكو ربه، ومن دخل لغني فتضعضع له، ذهب ثلث دينه».
وأخرج الديلمي، من حديث أبي ذر: «لعن الله فقيرا يتواضع لغني من أجل ماله. من فعل ذلك فقد ذهب ثلثا دينه». وقد قال صلى الله عليه وسلم: «من ترك شيئا لله عوضه الله خيرا منه».
وروى (5) أحمد عن بعض الصحابة مرفوعا «إنك لا تدع شيئا اتقاء الله إلا أعطاك الله خيرا منه».
__________
(1) ططر: الظاهري الجركسي أبو سعيد، من ملوك الجراكسة في مصر، تقلد السلطنة سنة 824هـ، ومات في السنة ذاتها. وكان دينا لينا كريما.
(2) الفضل بن الربيع بن يونس، أبو العبّاس، وزير أديب، على عهد الرشيد العباسي واستقر على الوزارة أيام الأمين. مات سنة 208هـ.
(3) خالد بن صفوان.
(4) افلاطون: فيلسوف اليونان الأول، صاحب الجمهورية الفاضلة.
(5) رواه أحمد: 5/ 78، 79.(2/147)
وقال افلاطون الحكيم: من لم يعتبر بالتجارب، أوقعه الله في المهالك. وقال: كفى بالتجارب تأديبا وبتقلب الأيام عظة. وقال: الملك كالنهر الأعظم تستمد منه الأنهار الصغار، فإن كان عذبا عذبت، وإن كان مالحا ملحت. وسئل عن الرجل العاقل فقال: من اجتمعت فيه خصال الأدب، ولا يقهره الغضب، لأن العقل أصله التثبت في الأمور، وثمرته السلامة. وقال:
السلطان كالسوق ما راج فيه حمل إليه، وصاحب الملك كراكب الأسد تهابه الناس، وهو لمركوبه أهيب. وقال: من عرف ما يطلب، هان عليه ما يبذل. ومن أطلق بصره، طال أسفه، ومن طال أمله ساء عمله. ومن أطلق لسانه، قيد نفسه. ومن أصلح فاسده أرغم حاسده. ومن قاسى الأمور، فهم المستور. ومن أحب المكارم اجتنب المحارم. ومن حسنت به الظنون، رمقته الرجال بالعيون. وقال الأدب ينوب عن الحسب. العفو يفسد اللئيم، بقدر ما يصلح الكريم. من شاور ذوي الألباب، دل على الصواب. من أمل إنسانا هابه، ومن قصر عن شيء عابه. من بالغ في الخصومة أثم، ومن قصر عنها ظلم. ولا يستطيع أن يتقي الله من خاصم. من فرط في الأمانة ضدها عمل. من عرض نفسه لما قصر عنه فعله، فقد نقص في عين غيره. من جاد ساد، ومن ساد قاد، ومن قاد بلغ المراد. ظلم الأيامى واليتامى مفتاح العقر. لا يصلح للصدر إلا من يكون واسع الصدر. ما تاه إلا وضيع، ولا فاخر إلا لقيط، ولا تعصب إلا بخيل، ولا أنصف إلا كريم. الحاجة إلى الأخ المعين، كالحاجة إلى الماء المعين. الكريم يلين إذا استعطف، واللئيم يقسو إذا لوطف. أقرب الناس إلى الله، أكثرهم عفوا عند القدرة. وأنقص الناس عقلا من ظلم من هو دونه. من لم يكن له من نفسه واعظ، لم تنفعه المواعظ. من رضي بالقضاء، صبر على البلاء.
من عمر دنياه ضيع ماله. ومن عمر آخرته بلغ آماله. القناعة عز المعسر، والصدقة كنز الموسر.
من سره فساده ساء معاده. الشقي من جمع لغيره، وبخل على نفسه. الخير أجل بضاعة، والإحسان أفضل صناعة. من استغنى عن الناس، أمن من عوارض الإفلاس. من رفع حاجة إلى الله، استظهر في أمره. ومن رفعها إلى الناس وضع من قدره. من أبدى سر أخيه أبدى الله أسرار مساويه. أعص الجاهل تسلم، وأطع العاقل تغنم. ازدياد الأدب عند الأحمق، كازدياد الماء العذب في أصول الحنظلة، لا يزيدها إلا مرارة. مكتوب في الإنجيل: كما تدين تدان، بالكيل الذي تكيل تكال.
وكان بعض الخلفاء يتلطف في ادخال السرور على إخوانه، فيضع عندهم الصرة فيها ألف درهم، ويقول لبعضهم: امسكها حتى أعود إليك، ثم يرسل إليه بعض غلمانه فيقول له: أنت في حل من ذلك. وقال بعض الحكماء: أحزم الناس: من وقي نفسه بماله، ووفي دينه بنفسه، وأجود الناس: من عاش الناس في فضله. وأفضل اللذات التفضل على الإخوان. وقال: المعروف ذخيرة الأدب، والبر غنيمة الحازم، والخير عطر الأخيار من بذل ماله، استعبد أمثاله. ومن أذل فلسه، أعز نفسه. وإن صاحب المعروف لا يقع وإن وقع وجد متكأ. وقال: إمام عادل خير من مطر وإبل.
وسلطان غشوم خير من فتنة تدوم. وقال: فضل الملوك في الإعطاء، وشرفهم في العفو، وعزهم في العدل. والعدل هو نظام العالم.
وقال (1) صلى الله عليه وسلم: «سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: إمام عادل». فبدأ بالعدل، وقال عليه الصلاة والسلام: «عدل السلطان يوما يعدل عبادة سبعين سنة». وقال عليه الصلاة والسلام: «عدل ساعة في الحكومة خير من عبادة ستين سنة». وقال صلى الله عليه وسلم: «السلطان ظل الله في الأرض، يأوي إليه كل مظلوم من عباده، فإن عدل كان له الأجر وعلى الرعية الشكر، وإن جار كان عليه الإثم وعلى الرعية الصبر».(2/148)
وسلطان غشوم خير من فتنة تدوم. وقال: فضل الملوك في الإعطاء، وشرفهم في العفو، وعزهم في العدل. والعدل هو نظام العالم.
وقال (1) صلى الله عليه وسلم: «سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: إمام عادل». فبدأ بالعدل، وقال عليه الصلاة والسلام: «عدل السلطان يوما يعدل عبادة سبعين سنة». وقال عليه الصلاة والسلام: «عدل ساعة في الحكومة خير من عبادة ستين سنة». وقال صلى الله عليه وسلم: «السلطان ظل الله في الأرض، يأوي إليه كل مظلوم من عباده، فإن عدل كان له الأجر وعلى الرعية الشكر، وإن جار كان عليه الإثم وعلى الرعية الصبر».
خلافة المعتضد بالله أبي الفتح داود
بويع له بالخلافة في سابع عشر ذي الحجة سنة ست عشرة وثمانمائة، عوضا عن أخيه المستعين بالله، لما خلعه الملك السلطان المؤيد، فاستدعاه وأجلسه بينه وبين القاضي الشافعي صالح البلقيني وقرره في الخلافة فاستمر فيها إلى أن مات يوم الأحد الرابع من شهر ربيع الأول سنة خمس وأربعين وثمانمائة وقد قارب السبعين بعد مرض طويل رحمة الله تعالى عليه.
خلافة المستكفي بالله
هو سليمان أبو الربيع بن المتوكل على الله أبي عبد الله محمد بن أبي بكر بن سليمان بن أحمد العباسي. بويع له بالخلافة يوم مات أخيه شقيقه المعتضد بالله بعهد منه في العشر الأول من شهر ربيع الأول من سنة خمس وأربعين وثمانمائة. قال الشيخ صلاح الدين الصفدي (2) في شرح لامية العجم. قلت: وكذلك العبيديون الذين تسموا بالفاطميين، خلفاء مصر، فأول من ملك منهم بالمغرب المهدي، ثم القائم ثم إبنه المنصور ثم المعز وهو أول من ملك مصر منهم كما تقدم، ثم العزيز ثم كان السادس الحاكم فقتلته أخته. وسيأتي له ذكر ان شاء الله تعالى في باب الحاء المهملة في لفظ الحمار. ثم قال: وإنها لما قتلته ولت ابنه الظاهر، ثم كان المستنصر ثم المستعلي ثم الآمر ثم الحافظ، ثم كان السادس الظافر، فخلع وقتل، ثم ولي ابنه الفائز، ثم العاضد وهو آخرهم.
قال: وكذلك بنو أيوب في ملك مصر، فأولهم صلاح الدين الملك الناصر، ثم ابنه العزيز ثم أخوه الأفضل بن صلاح الدين ثم العادل الكبير أخو صلاح الدين، ثم الكامل ولده، ثم كان السادس العادل الصغير، فقبض عليه أرباب دولته وخلعوه، وولوا الملك الصالح نجم الدين أيوب، ثم ولده المعظم تورانشاه، وهو آخرهم.
قال: وكذلك دولة الاتراك، فأولهم: المعز عز الدين أيبك الصالحي، ثم ابنه المنصور، ثم المظفر قطز ثم الظاهر بيبرس، ثم ابنه السعيد محمد، ثم كان السادس العادل سلامش بن الظاهر بيبرس، فخلع. ثم ملك السلطان المنصور قلاوون الألفي انتهى.
__________
(1) رواه البخاري في الآذان: 36، والزكاة: 16، والرفاق: 54، والحدود 19. ورواه مسلم في الزكاة: 91، والترمذي في الزهد 53. والنسائي في القضاء 2.
(2) الصفدي: خليل بن أيبك بن عبد الله الصفدي، أديب مؤرخ. توفي سنة 764هـ.(2/149)
وقد ذكر المؤلف رحمه الله تعالى دولة العبيديين، وغيرهم من ملوك مصر، على الإجمال مختصرا. وها أنا أذكرهم مفصلا مبينا، وذلك أن الحسين بن محمد بن أحمد بن عبد الله القداح، وذلك أنه كان يعالج العيون، ويقدحها ابن ميمون بن محمد بن إسماعيل بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم، قدم إلى سلمية، قبل وفاته، وكان له بها ودائع وأموال، من ودائع جدّه عبد الله القداح، فاتفق أنه جرى بحضرته ذكر النساء، فوصفوا له امرأة يهودي حداد، مات عنها زوجها، وهي في غاية الحسن والجمال، وله منها ولد يماثلها في الجمال، فتزوجها وأحبها وحسن موضعها منه، وأحب ولدها فعلمه فتعلم العلم، وصارت له نفس عظيمة وهمة كبيرة، وكان الحسين يدّعي أنه الوصي، وصاحب الأمر، والدعاة باليمن والمغرب يكاتبونه ويراسلونه، ولم يكن له ولد، فعهد إلى ابن اليهودي الحداد، وهو عبيد الله المهدي أول من ملك من العبيديين. ونسبهم إليه، وعرفه أسرار الدعوة من قول وفعل وأمر الدعاة، وأعطاه الأموال والعلامات، وأمر أصحابه بطاعته وخدمته، وقال: إنه الإمام والوصي، وزوجه بابنة عمه، فوضع حينئذ المهدي لنفسه نسبا: وهو عبيد الله بن الحسين بن علي بن محمد بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه.
بعض الناس يقول: إنه من ولد القداح، فلما توفي الحسين، وقام بعده المهدي، انتشرت دعوته، وأرسل إليه داعية بالمغرب يخبره بما فتح الله عليه من البلاد، وإنهم ينتظرونه فشاع خبره عند الناس، أيام المكتفي، فطلب فهرب هو وولده أبو القاسم نزار الملقب بالقائم، وهو يومئذ غلام ومعهما خاصتهما ومواليهما يريدان المغرب. فلما وصلا إلى افريقية أحضر الأموال منها، واستصحبها معه فوصل إلى رقادة في العشر الأخير من شهر ربيع الآخر، سنة سبع وتسعين ومائتين ونزل في قصر من قصورها، وأمر أن يدعى له في الخطبة يوم الجمعة في جميع تلك البلاد ويلقب بأمير المؤمنين المهدي وجلس للدعاء في يوم الجمعة. فأحضر الناس بالعنف، ودعاهم إلى مذهبه، فمن أجاب أحسن إليه ومن أبي حبسه.
فابتداء دولتهم سنة سبع وتسعين ومائتين، فأولهم المهدي عبيد الله ثم ابنه القائم نزار، ثم ابنه المنصور اسماعيل، ثم ابنه المعز معد، وهو أول من ملك مصر من العبيديين، وكان ذلك في سابع عشر شعبان سنة ثلاث وخمسين وثلاثمائة. ودعي له فيها يوم الجمعة العشرين من شعبان على المنابر، وانقطعت خطبة بني العباس من الديار المصرية من يومئذ، وكان الخليفة العباسي إذ ذاك المطيع لله الفضل بن جعفر، وفي يوم الثلاثاء سادس شهر رمضان سنة اثنتين وستين وثلاثمائة، دخل المعز مصر بعد مضي ساعة من اليوم المذكور، وكل هذا جاء بطريق الاستطراد. فإن المقصود خلافه، ثم العزيز بن المعز، ثم ابنه الحاكم أبو العباس أحمد، وهو السادس من العبيديين، فقتل لأنه خرج عشية يوم الإثنين، سابع عشر شوال سنة احدى عشرة وأربعمائة، وطاف على عادته في البلد، ثم توجه إلى شرقي حلوان، ومعه ركابيان، فردهما، وانتظره الناس إلى ثالث ذي القعدة، ثم خرجوا في طلبه، فبلغوا ذيل القصر، وأمعنوا في الطلب فشاهدوا حماره على ذروة الجبل مضروب اليدين بالسيف، فتتبعوا الأثر فانتهوا إلى بركة هناك، ونزل شخص فيها فوجد سبع حبات مزررة، وفيها أثر السكاكين، فلم يشكوا حينئذ في قتله، ثم ابنه الظاهر أبو الحسن علي ثم
ابنه المستنصر، ثم ابنه المستعلي، ثم ابنه الآمر، ثم الحافظ عبد المجيد بن أبي القاسم محمد بن المستنصر، ثم ابنه الظافر وهو السادس، فقتل، ولم يل الخلافة بعده منهم إلا اثنان: ابنه الفائز، ثم العاضد عبد الله بن يوسف بن الحافظ.(2/150)
فابتداء دولتهم سنة سبع وتسعين ومائتين، فأولهم المهدي عبيد الله ثم ابنه القائم نزار، ثم ابنه المنصور اسماعيل، ثم ابنه المعز معد، وهو أول من ملك مصر من العبيديين، وكان ذلك في سابع عشر شعبان سنة ثلاث وخمسين وثلاثمائة. ودعي له فيها يوم الجمعة العشرين من شعبان على المنابر، وانقطعت خطبة بني العباس من الديار المصرية من يومئذ، وكان الخليفة العباسي إذ ذاك المطيع لله الفضل بن جعفر، وفي يوم الثلاثاء سادس شهر رمضان سنة اثنتين وستين وثلاثمائة، دخل المعز مصر بعد مضي ساعة من اليوم المذكور، وكل هذا جاء بطريق الاستطراد. فإن المقصود خلافه، ثم العزيز بن المعز، ثم ابنه الحاكم أبو العباس أحمد، وهو السادس من العبيديين، فقتل لأنه خرج عشية يوم الإثنين، سابع عشر شوال سنة احدى عشرة وأربعمائة، وطاف على عادته في البلد، ثم توجه إلى شرقي حلوان، ومعه ركابيان، فردهما، وانتظره الناس إلى ثالث ذي القعدة، ثم خرجوا في طلبه، فبلغوا ذيل القصر، وأمعنوا في الطلب فشاهدوا حماره على ذروة الجبل مضروب اليدين بالسيف، فتتبعوا الأثر فانتهوا إلى بركة هناك، ونزل شخص فيها فوجد سبع حبات مزررة، وفيها أثر السكاكين، فلم يشكوا حينئذ في قتله، ثم ابنه الظاهر أبو الحسن علي ثم
ابنه المستنصر، ثم ابنه المستعلي، ثم ابنه الآمر، ثم الحافظ عبد المجيد بن أبي القاسم محمد بن المستنصر، ثم ابنه الظافر وهو السادس، فقتل، ولم يل الخلافة بعده منهم إلا اثنان: ابنه الفائز، ثم العاضد عبد الله بن يوسف بن الحافظ.
وانقرضت دولة العبيديين في سنة سبع وستين وخمسمائة، وذلك في أيام المستضيء بنور الله أبي محمد الحسن بن المستنجد العباسي.
وخلفهم بمصر السلطان السعيد الشهيد الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب، ثم ابنه الملك العزيز عثمان، ثم أخوه الأفضل، ثم الملك العادل الكبير أبو بكر بن أيوب، ثم ابنه الملك الكامل محمد، ثم ابنه الملك العادل الصغير وهو السادس فخلع، ثم الملك الصالح أيوب بن الكامل، ثم ابنه الملك المعظم تورانشاه، ثم أخوه الأشرف يوسف وهو ابن شجرة الدر، ثم المعز أيبك، ثم ابنه المنصور، علي، ثم المظفر قطز وهو السادس فقتل. ثم الظاهر بيبرس، ثم ابنه السعيد محمد بن بركة خان، ثم أخوه العادل سلامش، ثم المنصور قلاون، ثم ابنه الأشرف خليل، ثم القاهر بيدر وهو السادس أقام نصف يوم وقتل، ثم الناصر بن المنصور فخلع مرة بالعادل كتبغا، وخلع نفسه مرة أخرى فتسلطن مملوك أبيه المظفر بيبرس، ثم العادل كتبغا، ثم المنصور لاجين، ثم المظفر بيبرس، ثم المنصور أبو بكر بن الناصر بن المنصور، ثم أخوه الأشرف كجك فخلع ثم قتل وهو السادس، ثم أخوهم الناصر أحمد، ثم أخوهم الصالح إسماعيل، ثم أخوهم الكامل شعبان، ثم أخوهم المظفر حاجي، ثم أخوهم الملك الناصر حسن، ثم أخوهم الملك الصالح صالح وهو السادس فخلع وسجن، وأعيد الملك لمن كان قبله، وهو الملك الناصر حسن، ثم المنصور علي بن الصالح، ثم الأشرف شعبان بن حسين بن الناصر، ثم المنصور علي بن الأشرف شعبان بن حسين بن الناصر، ثم أخوه الصالح حاجي بن الأشرف، ثم الظاهر برقوق، ثم أعيد حاجي ولقّب بالمنصور، ثم أعيد برقوق، ثم ولده الناصر فرج، ثم أخوه العزيز، ثم أعيد فرج فخلع وقتل. ثم الخليفة المستعين بالله العباسي، ثم الملك المؤيد أبو النصر شيخ، ثم ابنه الملك المظفر أحمد فخلع، ثم الملك الظاهر ططر، ثم ولده الملك الصالح محمد فخلع، ثم الملك الأشرف برسباي، ثم ابنه الملك العزيز يوسف فخلع، ثم الملك الظاهر جقمق، ثم ولده الملك المنصور عثمان فخلع، ثم الملك الأشرف أينال، ثم ولده الملك المؤيد أحمد فخلع، ثم الملك الظاهر خشقدم، ثم الملك الظاهر بلباي فخلع، ثم الملك الظاهر تمريغا فخلع، ثم الملك الظاهر خايربك فخلع من ليلته، ثم الملك الأشرف قايتباي، ثم ولده الملك الناصر محمد فقتل، ثم الملك الظاهر قانصوه خال الملك الناصر محمد فخلع، ثم الملك الأشرف جانبلاط فخلع وقتل، ثم الملك العادل طومان باي فخلع وقتل، ثم الملك الأشرف قانصوه الغوري، ثم السلطان سليم بن محمد بن بايزيد بن عثمان، ثم ولده السلطان سليمان، ثم ولده السلطان سليم، ثم ولده السلطان مراد، نصره الله نصرا عزيزا، وفتح له فتحا مبينا، بمحمد وآله صلى الله عليه وسلم والحمد لله وحده، وقد أطلنا الكلام في ذلك ولكن لا يخلو من فائدة أو فوائد.
ولنرجع إلى ما قصدنا من الكتاب، والله تعالى الموفق للصواب، فنقول: وهو أي الأوز يحب السباحة في الماء، وفرخة يخرج من البيض، فيسبح في الحال، وإذا حصنت الأنثى، قام الذكر
يحرسها لا يفارقها طرفة عين وتخرج فراخها في أواخر الشهر. وفي المجالسة للدينوري والأذكياء (1)
لأبي الفرج بن الجوزي عن محمد بن كعب القرظي قال: جاء رجل إلى سليمان بن داود عليهما الصلاة والسلام، فقال: يا نبي الله إن لي جيرانا يسرقون أوزي، فنادى: الصلاة جامعة، ثم خطبهم فقال في خطبته: وأحدكم يسرق أوز جاره، ثم يدخل المسجد والريش على رأسه، فمسح رجل رأسه بيده، فقال سليمان: خذوه فإنه صاحبكم.(2/151)
ولنرجع إلى ما قصدنا من الكتاب، والله تعالى الموفق للصواب، فنقول: وهو أي الأوز يحب السباحة في الماء، وفرخة يخرج من البيض، فيسبح في الحال، وإذا حصنت الأنثى، قام الذكر
يحرسها لا يفارقها طرفة عين وتخرج فراخها في أواخر الشهر. وفي المجالسة للدينوري والأذكياء (1)
لأبي الفرج بن الجوزي عن محمد بن كعب القرظي قال: جاء رجل إلى سليمان بن داود عليهما الصلاة والسلام، فقال: يا نبي الله إن لي جيرانا يسرقون أوزي، فنادى: الصلاة جامعة، ثم خطبهم فقال في خطبته: وأحدكم يسرق أوز جاره، ثم يدخل المسجد والريش على رأسه، فمسح رجل رأسه بيده، فقال سليمان: خذوه فإنه صاحبكم.
وحكمه:
حل الأكل بالإجماع.
الخواص:
لحم الأوز والبط كثير الحرارة والرطوبة، وبقراط (2) الحكيم يقول: إنه أرطب الطير الحضري، وأجودها المخاليف، وهو يخصب الأبدان، لكنه يملؤها فضولا ودفع ضررها نفخ البورق (3) في حلوقها، قبل الذبح، وهو يولد خلطا بلغميا، ويوافق أصحاب الأمزجة الحارة، ويختار أن يطلى لحمها قبل الشي بالزيت، لتذهب زهومته، وفي طبخه أن يكثر من الأبازير الحارة ليزول غلظه وزهومته، لأنه كثير الفضول غير موافق للمعدة لعسر انهضامه، وهو لتكثيره الفضول يسرع إلى توليد الحميات. قال القزويني: إذا شويت خصية الأوز وأكلها الرجل وجامع زوجته من وقته فإنها تعلق بإذن الله تعالى. وفي جوفه حصاة تمنع من الاستطلاق، إذا شربها المبطلون نفعته. ودهنه ينفع من ذات الجنب وداء الثعلب، إذا طليا به. وأكل لسانه ينفع من تقطير البول، إذا ديم عليه وغذاؤه جيد إلا أنه بطيء الهضم. وأما بيضه فمعتدل الحرارة، لكنه غليظ وأنفعه النيمبرشت لكنه يضر بأصحاب القولنج (4)، والرياح والدوار، وأكله بالصعتر والملح يدفع ضرره، وهو يولد دما منتنا، ويوافق أصحاب الأمزجة الحارة. وهو وبيض النعام غليظان بطيآ الانهضام. فمن أحب أكلهما فليقنع بصفرتهما ويجب أن يعلم أن الصفرة، من كل بيض، ألطف من البياض، والبياض أرطب من الصفرة، وأغذى البيض وألطفه ذو الصفرة، وأقله غذاء ما كان من دجاج لا ديك لها، وهذا النوع لا يتولد منه حيوان ولا مما يباض في نقصان القمر على الأكثر، لأن البيض من الاستهلال إلى الإبدار يمتلىء، ويرطب فيصلح للكون، وبالضد من الابدار إلى المحاق وسيأتي إن شاء الله تعالى ذكر بيض الحجل والدجاج في أماكنها.
الإلفة:
السعلاة، وقيل الذئبة، وسيأتيان إن شاء الله تعالى في باب السين المهملة والذال المعجمة.
الإلق:
بالكسر الذئب والأنثى القة وجمعهما الق. وربما قالوا للقردة الالقة ولا يقال للذكر الق ولكن قرد ورباح.
الأودع:
اليربوع. قاله الجوهري: وسيأتي إن شاء الله في باب الياء آخر الحروف.
الأورق
: من الإبل الذي لونه بياض إلى سواد. قاله الجوهري وهو أطيب الإبل لحما وليس بمحمود عندهم في عمله وسيره.
__________
(1) الأذكياء: 17. وأبو الفرج هو عبد الرحمن بن علي الجوزي المتوفّي سنة 597هـ في بغداد.
(2) بقراط: طبيب وعالم يوناني.
(3) البورق: النطرون.
(4) القولنج: ألم الأمعاء.(2/152)
الأوس:
الذئب وبه سمي الرجل. وأويس إسم للذئب جاء مصغرا مثل الكميت واللجين. قال الهذلي:
يا ليت شعري عنك والأمر أمم ... ما فعل اليوم أويس بالغنم
وقال الكميت (1):
كما خامرت في حضنها أم عامر ... لذي الحبل حتى عال أوس عيالها
لأن الضبع، إذا صيدت ولها ولد من الذئب، لم يزل الذئب يطعم ولدها إلى أن يكبر. قاله الجوهري. قال وقوله: لذي الحبل، أي للصائد الذي يعلق الحبل في عرقوبها. وسيأتي هذا إن شاء الله تعالى في العسبار أيضا.
روى الحافظ أبو نعيم بسنده إلى حمزة بن أسد الحارثي، قال: «خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في جنازة رجل من الأنصار إلى بقيع الغرقد، فإذا ذئب مفترش ذراعيه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هذا أويس فافرضوا له فلم يفعلوا» انتهى. وسيأتي إن شاء الله تعالى في باب الذال المعجمة في لفظ الذئب قصة وافد الذئاب على رسول الله صلى الله عليه وسلم. وبهذا سمي أويس بن عامر القرني أدرك النبي صلى الله عليه وسلم ولم يره، وسكن الكوفة وهو من أكبر تابعيها.
روى مسلم عن أسيد بن جابر عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: خير التابعين رجل يقال له أويس القرني، يأتي عليكم في أمداد أهل اليمن لو أقسم على الله لأبره، فإن استطعت أن يستغفر لك فافعل (2)». فلما قدم على عمر رضي الله تعالى عنه سأله أن يستغفر له فاستغفر له الحديث بطوله. وقتل أويس يوم صفين مع علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه.
وروى (3) أحمد بن حنبل رضي الله تعالى عنه في الزهد عن الحسن البصري أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يدخل الجنة بشفاعة رجل من أمتي أكثر من ربيعة ومضر». قال الحسن: هو أويس القرني، وهو منسوب إلى قرن بفتح الراء، قبيلة من مراد. وللجوهري رحمه الله في ذلك غلط مشهور.
وخرج ابن السماك عن يحيى بن جعفر، قال: حدثنا شبابة بن سوار قال: حدثنا جرير بن عثمان عن عبد الله بن ميسرة وحبيب بن عبيد الرحبي، عن أبي أمامة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
«يدخل الجنة بشفاعة رجل من أمتي مثل أحد الحيين ربيعة ومضر. قيل: يا رسول الله وما ربيعة من مضر؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنما أقول ما أقول (4)». قال فكان المشيخة يرون أن ذلك الرجل عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه. وذكر القاضي عياض في الشفاء عن كعب أن لكل رجل من
__________
(1) هو الكميت بن زيد الأسدي المتوفّى سنة والبيت في كتاب الحيوان للجاحظ: 1/ 198.
(2) رواه مسلم في فضائل الصحابة: 224. وابن حنبل: 1/ 38و 3/ 480.
(3) ابن حنبل 4/ 212ورواه مسلم في الزهد: 38.
(4) رواه الترمذي في القيامة: 12وابن ماجه زهد: 37. والدارمي رفاق: 87، وأحمد: 3/ 63، 469(2/153)
الصحابة شفاعة. وذكر ابن المبارك. قال: أخبرنا عبد الرحمن بن يزيد بن جابر أنه بلغه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «يكون في أمتي رجل يقال له صلة بن أشيم يدخل الجنة بشفاعته كذا وكذا».
ايلس:
قال القزويني (1) إنه نوع من السمك عظيم جدا وحيوانات البحر كلها تصاد سواه. ومن خواصه إنه إذا شوي وأكل منه شخصان معا بينهما عداوة وخصومة تبدلت ألفة.
الأيم والأين
: الحية وقال الأزرقي في تاريخ مكة الأيم الحية الذكر ثم روى بإسناده عن طلق بن حبيب قال: كنا جلوسا مع عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنهما في الحجر إذ قلص الظل وقامت المجالس، وإذا نحن ببريق أيم طالع من باب بني شيبة، فأشرأبت له أعين الناس، فطاف بالبيت سبعا وصلى ركعتين وراء المقام. فقمنا إليه وقلنا له: أيها المعتمر قد قضى الله نسكك وإن بأرضنا عبيدا وسفهاء، وإنا نخشى عليك منهم، فمر ذاهبا نحو السماء فلم نره.
وفي الحديث (2): «إنه أمر بقتل الأيم».
قال ابن السكيت أصله أيم فخفف مثل لين ولين وهين وهين والجمع أيوم وسيأتي إن شاء الله تعالى في الكعيب ما ذكره الأزرقي عقب هذا مما يشابهه.
الأيّل:
بتشديد الياء المكسورة ذكر الأوعال والأيل لغة فية ويقال هو الذي سمي بالفارسية كوزن. وأكثر أحواله شبيه ببقر الوحش وهو إذا خاف من الصياد يرمي نفسه من رأس الجبل ولا يتضرر بذلك وعدد سني عمره عدد العقد التي في قرنه وإذا لسعته الحية أكل السرطان. ويصادق السمك فهو يمشي إلى الساحل ليرى السمك. والسمك يقرب من البر ليراه والصيادون يعرفون هذا، فيلبسون جلده ليقصدهم السمك فيصيدوا منه. وهو مولع بأكل الحيات، يطلبها حيث وجدها وربما لسعته فتسيل دموعه إلى نقرتين تحت محاجر عينيه، يدخل الإصبع فيهما فتجمد تلك الدموع، وتصير كالشمس، فيتخذ درياقا (3) لسم الحيات، وهو الباد زهر الحيواني. وأجوده الأصفر وأماكنه بلاد الهند والسند وفارس. وإذا وضع على لسع الحيات والعقارب نفعها، وإن أمسكه شارب السم في فيه نفعه، وله في دفع السموم خاصية عجيبة. وهذا الحيوان لا تنبت له قرون إلا بعد مضي سنتين عن عمره، فإذا نبتت قرناه، نبتا مستقيمين كالوتدين وفي الثالثة يتشعبان ولا يزال التشعب في زيادة إلى تمام ست سنين، فحينئذ يكونان كالشجرتين في رأسه ثم بعد ذلك يلقي قرنيه في كل سنة مرة، ثم ينبتان فإذا نبتا تعرض بهما للشمس ليصلبا، وقال ارسطو: إن هذا النوع يصاد بالصفير والغناء، ولا ينام ما دام يسمع ذلك، فالصيادون يشغلونه
__________
(1) القزويني: زكريا بن محمد بن محمود.
(2) رواه البخاري في بدء الخلق: 14ومسلم في السلام: 128، 130، 137. وأبو داود في الأدب: 162ورواه الترمذي في الصيد: 15وابن ماجه في الطب: 42وابن حنبل: 2/ 9، 3/ 452، 453.
(3) الدرياق: علاج.(2/154)
بذلك ويأتونه من ورائه، فإذا رأوه قد استرخت أذناه أخذوه. وذكره من عصب لا لحم ولا عظم، وقرنه مصمت لا تجويف فيه.
وهو في نفسه جبان دائم الرعب، وهو يأكل الحيات أكلا ذريعا وإذا أكل الحية بدأ بأكل ذنبها إلى رأسها. وهو يلقي قرونه في كل سنة، وذلك الهام من الله تعالى، لما للناس فيها من المنفعة، لأن الناس يطردون بقرنه كل دابة سوء وييسر عسر الولادة وينفع الحوامل، ويخرج الدود من البطن إذا أحرق منه جزء ولعق بالعسل، قاله في النعوت، ويسمن هذا الحيوان سمنا كثيرا فإذا اتفق له ذلك هرب خوفا من أن يصاد.
تتمة: قال الزجاجي سئل ابن دريد (1) عن معنى قول الشاعر:
هجرتك لا قلى مني ولكن ... رأيت بقاء ودك في الصدود ... كهجر الحائمات الورد لما ... رأت أن المنية في الورود ... تغيظ نفوسها ظمأ وتخشى ... حماما فهي تنظر من بعيد ... تصد بوجه ذي البغضاء عنه ... وترمقه بالحاظ الودود
فقال: الحائم الذي يدور حول الماء ولا يصل إليه. ومعنى الشعر أن الأيايل تأكل الأفاعي في الصيف، فتحمى وتلتهب لحرارتها فتطلب الماء، فإذا رأته امتنعت من شربه، وحامت عليه تتنسمه، لأنها لو شربته في تلك الحالة فصادف الماء السم الذي في أجوافها هلكت، فلا تزال تمتنع من شرب الماء، حتى يطول بها الزمان فيذهب ثوران السم ثم تشربه فلا يضرها.
فيقول هذا الشاعر: أنا في تركي وصالك مع شدة حاجتي إليه بمثابة الحائمات التي تدع شرب الماء مع شدة حاجتها إليه، إبقاء على حياتها.
والزجاجي هو عبد الرحمن بن إسحاق أبو القاسم الزجاجي، إمام النحو صحب أبا إسحاق الزجاج، فعرف به ونسب إليه. وصنف كتاب الجمل وطوله بكثرة الأمثلة ولم يشتغل به أحد إلا انتفع به، لأنه صنفه بمكة المشرفة وكان إذا فرغ من باب طاف أسبوعا وسأل الله تعالى أن يغفر له وأن ينفع به قارئه. ومن كلامه ما حرم الله شيئا إلا وأحل بازائه خيرا منه: حرم الميتة وأباح المذكي، وحرم الخمر وأباح النبيذ، وحرم السفاح وأباح النكاح، وحرم الربا وأباح البيع.
توفي سنة سبع أو تسع وثلاثين وثلاثمائة بدمشق، وقيل بطبرية وما أحسن قول أبي منصور موهوب الجواليقي (2) اللغوي:
ورد الورى سلسال جودك فارتووا ... ووقفت حول الورد وقفة حائم ... حيران أطلب غفلة من وارد ... والورد لا يزداد غير تزاحم
وكان الجواليقي إماما في فنون الأدب، وله تصانيف مفيدة وكان إماما للخليفة المقتفي يصلي به الصلوات الخمس. ولما دخل عليه أول دخلة، قال السلام على أمير المؤمنين ورحمة الله
__________
(1) ابن دريد: أبو بكر محمد بن دريد اللغوي صاحب الجمهرة. المتوفى سنة 321هـ.
(2) البيتان مع ترجمته في وفيات الأعيان: 5/ 343.(2/155)
وبركاته، فقال له الطبيب هبة الله بن صاعد بن التلميذ النصراني (1): ما هكذا يسلم على أمير المؤمنين يا شيخ! فلم يلتفت إليه الجواليقي، وقال للمقتفي: يا أمير المؤمنين سلامي هو ما جاءت به السنة النبوية. وروى له خبرا في صورة السلام. ثم قال: يا أمير المؤمنين لو حلف حالف أن نصرانيا أو يهوديا لم يصل إلى قلبه نوع من أنواع العلم على الوجه المعتبر، لما لزمته كفارة الحنث، لأن الله تعالى ختم على قلوبهم، ولن يفك ختمه إلا الإيمان. فقال: صدقت وأحسنت. قال:
فكأنما ألقم ابن التلميذ بحجر مع فضله وغزارة أدبه. ووجدت البيتين لابن الخشاب (2) من أبيات. توفي الجواليقي في سنة تسع وثلاثين وخمسمائة ببغداد.
الحكم:
يحل أكله لأنه مستطاب كالوعل. ولم يذكره الرافعي في باب الأطعمة وإنما ذكره في باب الربا. فقال: وفي لحم الظباء مع الأيل تردد للشيخ أبي محمد، واستقر جوابه على إنهما كالضأن مع المعز، أي فلا يباع أحدهما بالآخر إلا مثلا بمثل. انتهى.
وحكى المتولي في ذلك وجهين من غير ترجيح.
الخواص:
إذا بخر بقرنه طرد الهوام وكل ذي سم، وإذا أحرق قرنه وسحق واستيك به قطع الصفرة والحفر من الأسنان، وشد أصولها، ومن علق عليه شيء من أجزائه لم ينم ما دام عليه وإذا جفف قضيبه وسقي هيج الباه. وإذا شرب دمه فتت الحصاة التي في المثانة والله تعالى أعلم.
ابن آوى:
جمعه بنات آوى وكذلك ابن عرس وابن المخاض وابن اللبون تقول بنات عرس وبنات مخاض وبنات لبون وبنات آوى ولا ينصر قال الشاعر (3):
ان ابن آوى لشديد المقتنص ... وهو إذا ما صيد ريح في قفص
وكنيته أبو أيوب وأبو ذئيب وأبو كعب وأبو رائل وسمي ابن آوى لأنه يأوي إلى عواء أبناء الشجرة كقاضيان ويقال للبزاة والشواهين وغيرهما مما يصيد صقور، ولفظه مشتق من البزوان وهو طويل المخالب والأظفار يعدو على غيره، ويأكل مما يصيد من الطيور وغيرها. وخوف الدجاج منه أشد من خوفها من الثعلب، لأنه إذا مر تحتها وهي على الشجرة أو الجدار تساقطت وإن كانت عددا كثيرا.
الحكم:
الأصح تحريم أكله، لأنه يعدو بنابه ولو قيل إن نابه ضعيف فيكون كالضبع والثعلب لكان مذهبا. وملخص ما فيه عندنا وجهان: الأصح في المحرر والمنهاج والشرح والحاوي الصغيرين التحريم. والثاني وهو اختيار الشيخ أبي حامد الحل. وسئل الإمام أحمد عنه؟ فقال كل ما نهش بأنيابه فهو من السباع. وبحظره قال أبو حنيفة وصاحباه.
__________
(1) ابن صاعد بن التلميذ: هبة الله بن صاعد المتوفى سنة 560هـ.
(2) ابن الخشّاب: عبد الله بن أحمد، من أهل بغداد، فقيه، مات سنة 567هـ.
(3) في وفيات الأعيان: 2/ 119.(2/156)
الخواص:
إذا ترك لسانه في بيت وقعت الخصومة بين أهله. ولحمه ينفع من الجنون والصرع العارض في أواخر الشهر، وإذا علقت عينه اليمنى على من يخاف العين أمن ولم تضره عين عائن. وقلبه إذا علق على شخص أمن من سائر السباع بإذن الله تعالى والله تعالى أعلم.
باب الباء الموحدة
البابوس:
الصغير من أولاد الناس وغيرهم. قال ابن أحمر (1):
حنّت قلوصي إلى بابوسها طربا ... وما حنينك بل ما أنت والذّكر
البازي:
أفصح لغاته بازى مخففة الياء، والثانية باز، والثالثة بازي بتشديد الياء، حكاهما ابن سيده، وهو مذكر لا اختلاف فيه. ويقال في التثنية بازيان، وفي الجمع بزاة كقاضيان وقضاة.
وقضاة. ويقال للبزاة والشواهين وغيرهما مما يصيد صقور، ولفظه مشتق من البزوان وهو الوثب.
وكنيته أبو الأشعث وأبو البهلول وأبو لاحق، وهو من أشد الحيوانات تكبرا وأضيقها خلقا. قال القزويني في عجائب المخلوقات: قالوا إنه لا يكون إلا أنثى وذكرها من نوع آخر كالحدا والشواهين، ولهذا اختلفت أشكالها روينا عن عبد الله بن المبارك إنه كان يتجر ويقول: لولا خمسة (2) ما اتجرت السفيانان وفضيل وابن السماك وابن علية أي ليصلهم فقدم سنة فقيل له: قد ولي ابن علية القضاء فلم يأته ولم يصله بشيء، فأتي إليه ابن علية فلم يرفع رأسه إليه، ثم كتب إليه ابن المبارك يقول (3):
يا جاعل العلم له بازيا ... يصطاد أموال المساكين ... احتلت للدنيا ولذاتها ... بحيلة تذهب بالدين ... فصرت مجنونا بها بعدما ... كنت دواء للمجانين ... أين رواياتك في سردها ... لترك أبواب السلاطين ... أين رواياتك فيما مضى ... عن ابن عوف وابن سيرين (4)
... إن قلت أكرهت فذا باطل ... زل حمار العلم في الطين
فلما وقف إسماعيل بن علية على الأبيات، ذهب إلى الرشيد ولم يزل به إلى أن استعفاه من القضاء فأعفاه.
وعبد الله بن المبارك إمام جليل زاهد عابد جمع بين العلم والعمل. ذكر ابن خلكان في
__________
(1) ابن أحمر: هنيء بن أحمر، شاعر جاهلي من كنانة. والبيت في الشعر والشعراء: 224وفيه: فما حنينك أم ما أنت والذكر.
(2) الخمسة هم: سفيان بن سعيد الثوري المتوفى سنة 161هـ. وسفيان بن عيينة الهلالي المتوفى سنة 198هـ.
والفضيل بن عياض بن مسعود المتوفى سنة 187هـ. وابن علية إسماعيل بن إبراهيم المتوفى سنة 193.
وكلهم محدّثون.
(3) الأبيات في وفيات الأعيان: 3/ 33.
(4) ابن: محمد بن سيرين البصري، إمام وقته في علم الدين أشهر بالحديث والتعبير وفاته سنة 110هـ.(2/157)
ترجمته قال: عطس رجل عند عبد الله بن المبارك فلم يحمد الله عز وجل، فقال له ابن المبارك:
أي شيء يقول العاطس إذا عطس؟ قال الحمد لله. فقال ابن المبارك: يرحمك الله. فجعب الحاضرون من حسن أدبه، وقال أيضا: قدم هارون الرشيد الرقة، فانحفل الناس خلف عبد الله بن المبارك، وتقطعت النعال، وارتفعت الغيرة، فأشرفت أم ولد الرشيد من قصر الخشب، فلما رأت الناس قالت: من هذا؟ قالوا: عالم من أهل خراسان، يقال له عبد الله بن المبارك. فقالت: هذا والله الملك لا ملك هارون الذي لا يجمع الناس إلا بشرط وأعوان. وذكر غيره أن عبد الله بن المبارك استعار قلما من الشام، فعرض له سفر فسافر إلى انطاكية، وكان قد نسي القلم معه فتذكره هناك فرجع من انطاكية إلى الشام ماشيا حتى رد القلم إلى صاحبه وعاد.
وروي أن عند ذكره تنزل الرحمة توفي رحمه الله تعالى سنة إحدى وثمانين ومائة رحمة الله تعالى عليه.
ومن أخبار الرشيد، أنه خرج يوما إلى الصيد فأرسل بازيا أشهب فلم يزل يحلق حتى غاب في الهواء ثم رجع بعد اليأس منه، ومعه سمكة فأحضر الرشيد العلماء وسألهم عن ذلك فقال مقاتل: يا أمير المؤمنين روينا عن جدك ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن الهواء معمور بأمم مختلفة الخلق سكان، فيه دواب بيض تفرخ فيه شيئا على هيئة السمك لها أجنحة ليست بذوات ريش فأجاز مقاتلا على ذلك وأكرمه.
وهو خمسة أصناف البازي والزرق والباشق والبيدق والصقر. والبازي أحرها مزاجا لأنه قليل الصبر على العطش، ومأواه مساقط الشجر العادية الملتفة والظل الظليل وهو خفيف الجناح، سريع الطيران وإناثه أجرأ على عظام الطير من ذكوره، وهذا الصنف تصيبه الأمراض وانحطاط اللحم والهزال. وأحسن أنواعه ما قل ريشه واحمرت عيناه مع حدة فيهما كما قال الناشىء (1):
لو استضاء المرء في ادلاجه ... بعينه كفته عن سراجه
ودونه الأزرق الأحمر العينين والأصفر دونهما ومن صفاته المحمودة: أن يكون طويل العنق، عريض الصدر بعيد ما بين المنكبين، شديد الانخراط إلى ذنبه، وأن تكون فخذاه طويلتين مسرولتين بريش، وذراعاه غليظتين قصيرتين. وفرخ البازي يسمى غطريفا ويضرب بالبازي المثل في نهاية الشرف كما قال الشاعر:
إذا ما اعتز ذو علم بعلم ... فعلم الفقه أولى باعتزاز ... وكم طيب يفوح ولا كمسك ... وكم طير يطير ولا كباز
قال الشيخ الزاهد أبو العباس القسطلاني: سمعت الشيخ أبا شجاع زاهر بن رستم
__________
(1) الناشىء: عبد الله بن محمد، الأنباري، أبو العباس. شاعر مجيد، اصله بغدادي، توفي في مصر سنة 293هـ البيت في وفيات الأعيان 3/ 92.(2/158)
الأصبهاني إمام مقام إبراهيم بمكة يقول: سمعت الشيخ أحمد خادم الشيخ حماد يقول:
دخل الشيخ عبد القادر على الشيخ حماد الدباس يزوره فنظر إليه الشيخ، وكان قد رأى أنه قد اصطاد بازيا فأثرت نظرة الشيخ فيه، فخرج من عنده وتجرد عن أسبابه وكان من أكابر أصحابه انتهى. ولهذا كان الشيخ عبد القادر يقول:
أنا بلبل الأفراح أملأ دوحها ... طربا وفي العلياء باز أشهب
قال الشيخ أبو إسحاق الشيرازي في طبقاته: كان ابن شريح يقال له الباز الأشهب. وقال الوعيظي في أول قصيدته:
ليس المقام بدار الذل من شيمي ... ولا معاشرة الأنذال من هممي ... ولا مجاورة الأوباش تجمل بي ... كذلك الباز لا يأوي مع الرخم
وأما الباشق بفتح الشين وكسرها فأعجمي معرب، وكنيته أبو الآخذ وهو أيضا حار المزاج، يغلب عليه القلق والزعارة، يأنس وقتا ويستوحش وقتا وهو قوي النفس، فإذا أنس منه الصغير، بلغ صاحبه من صيده المراد وهو خفيف المحمل، ظريف الشمائل، يليق بالملوك أن تخدمه، لأنه يصيد أفخر ما يصيده البازي وهو الدراج والحمام والورشان، وهو كثير الشبق وإذا قوي عليه صيده لا يتركه إلا أن يتلف أحدهما. وأحمد صفاته أن يكون صغيرا في المنظر ثقيلا في الميزان، طويل الساقين قصير الفخذين.
وأما البيدق فلا يصيد إلا العصافير، وهو قليل الغناء قريب في الطبع من العقصي قال أبو الفتح كشاجم (1) في المعنى:
حسبي من البزاة والبيادق ... ببيدق يصيد صيد الباشق ... مؤدب مدرب الخلائق ... أصيد من معشوقة لعاشق ... يسبق في السرعة كل سابق ... ليس له في صيده من عائق ... ربيته وكنت غير واثق ... أن الفرازين من البيادق
وأما العقصي فهو أصغر الجوارح نفسا، وأضعفها حيلة، وأشدها ذعرا، وأيبسها مزاجا، يصيد العصفور في بعض الأحايين، وربما هرب منه. وهو يشبه الباشق في الشكل إلا أنه أصغر منه.
الحكم:
يحرم أكله بجميع أنواعه «لنهيه صلى الله عليه وسلم عن أكل كل ذي ناب من السباع ومخلب من الطيور». رواه (2) مسلم عن ميمون بن مهران عن ابن عباس رضي الله عنهما، وبهذا قال أكثر أهل العلم.
__________
(1) كشاجم: أبو الفتح، محمود بن حسين السندي، أديب كاتب شاعر من أهل الرملة بفلسطين. مات سنة 360هـ.
(2) رواه مسلم في الصيد: 12، 15. والبخاري في الذبائح: 28، 29، وغيرهما.(2/159)
وقال مالك والليث والاوزاعي ويحيى بن سعيد لا يحرم من الطير شيء واحتجوا بعموم الآيات المبيحة، ولم يثبت عند مالك حديث النهي عن أكل كل ذي ناب من السباع، فكان على الإباحة. قال الأبهري (1): ليس في ذي المخلب عن النبي صلى الله عليه وسلم نهي صحيح. وقال غيره: لم يثبت حديث النهي عن أكل كل ذي مخلب من الطير لأن ميمون بن مهران رواه عن ابن عباس وسقط بينهما سعيد بن جبير، فصار هذا علة تحطه عن رتبة الصحيح. وقال إمامنا الشافعي رضي الله تعالى عنه: يكره للمحرم استصحاب البازي، وكل صائد من كلب وغيره لأنه ينفر الصيد وربما انفلت فقتل صيدا، فإن حمله فأرسله على صيد فلم يقتله ولم يؤذه فلا جزاء عليه، لكن يأثم كما لو رماه بسهم فأخطأه فإنه يأثم بالرمي لقصده الحرام. ولا ضمان لعدم الإتلاف قال: وما فيه مضرة ومنفعة لا يستحب قتله لما فيه من المنفعة ولا يكره لعدوانه على الناس كالبازي والفهد والصقر والعقاب، ونحوها. ويصح بيع البازي وإجارته بلا خلاف لأنه طاهر منتفع به روى الترمذي عن عدي بن حاتم رضي الله تعالى عنه قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صيد البازي فقال (2): «ما أمسك عليك فكل».
الأمثال
: قالت (3) العرب: «وهل ينهض البازي بغير جناح». يضرب في الحث على التعاون والوفاق قال الشاعر (4):
أخاك أخاك إن من لا أخا له ... كساع إلى الهيجا بغير سلاح ... وان ابن عم المرء فاعلم جناحه ... وهل ينهض البازي بغير جناح
ومن ملح أمثال أبي أيوب سليمان بن أبي مجالد قال خالد بن يزيد الأرقط: بينما أبو أيوب في أمره ونهيه إذ طلبه المنصور فاصفر وارتعد، فلما خرج من عنده تراجع لونه وكان ذلك دأبه، كلما طلبه، فقيل له: إنا نراك مع كثرة دخولك إلى أمير المؤمنين وأنسه بك تتغير إذا دخلت عليه؟
فضرب لذلك مثلا فقال: زعموا أن بازيا وديكا تناظرا فقال البازي للديك: ما أعرف أقل وفاء منك! فقال: وكيف؟ قال: لأنك تؤخذ بيضة فيحضنك أهلك، وتخرج على أيديهم فيطعمونك بأكفهم، حتى إذا كبرت صرت لا يدنو منك أحد إلا طرت ههنا وههنا وصحت، وإن علوت حائط دار، كنت فيها سنين طرت وتركتها وصرت إلى غيرها، وأنا أؤخذ من الجبال، وقد كبر سني فأطعم الشيء القليل، وأونس يوما أو يومين ثم أطلق، على الصيد فأطير وحدي، فآخذه وأجيء به إلى صاحبي، فقال له الديك: ذهبت عنك الحجة، أما لو رأيت بازيين في سفود ما عدت إليهم أبدا، وأنا كل يوم ووقت أرى السفافيد مملوأة ديوكا، وأقيم معهم فأنا أو في منك لو كنت مثلك، وأنتم لو عرفتم من المنصور ما أعرف، لكنتم أسوأ حالا مني عند طلبه إياكم، ثم إنه قتله في سنة
__________
(1) الأبهري: هو المفضل بن عمر بن المفضّل الأبهري السمرقندي، نطقي اشتغل بالحكمة والطبيعيات والفلك. توفي سنة 663هـ.
(2) رواه الترمذي في الصيد: 3. والموطأ في الصيد: 8.
(3) المستقصى: 2/ 392.
(4) البيت لمسكين الدارمي. العقد الفريد: 2/ 304.(2/160)
أربع وخمسين ومائة، بعد أن عذبه وأخذ أمواله وكان قد تمكن من المنصور، غاية التمكن لاحسان فعله مع المنصور قبل خلافته ثم أبغضه، وهم أن يوقع به وتطاول ذلك، وكان كلما دخل عليه ظن أنه سيوقع به ثم يخرج سالما.
قيل: إنه كان معه شيء من الدهن قد عمل فيه سحرا فكان يدهن حاجبيه إذا دخل على المنصور، فصار مثلا في العامة يقولون: دهن أبي أيوب قال في الجواهر الزواهر. وكان المنصور يوده كثيرا ويتبسم إليه وأنشد على ذلك لناصح الدين سعيد بن الدهان (1) سيبويه عصره في النحو قوله: (2)
لا تجعل الهزل دأبا فهو منقصة ... والجد تعلو به بين الورى القيم (3)
... ولا يغرنك من ملك تبسمه ... ما سحت السحب إلا حين تبتسم
ومن محاسن شعره قوله (4):
بادر إلى العيش والأيام راقدة ... ولا تكن لصروف الدهر تنتظر ... فالعمر كالكأس يبدو في أوائله ... صفو وآخره في قعره كدر
وله أيضا (5) ويقال إنه لابن طباطبا الطالبي:
تأمل نحولي والهلال إذا بدا ... لليلته في أفقه أينا أضنى ... على أنه يزداد في كل ليلة ... نموّا وجسمي بالضنى دائما يفنى
وله أيضا:
والله لولا أن يقال تغيرا ... وصبا وإن كان التصابي أجدرا ... لا عدت تفاح الخدود بنفسجا ... لثما وكافور الترائب عنبرا
وكانت وفاته سنة تسع وستين وخمسمائة قال الغزنوي: الترائب جمع تريبة وهو موضع القلادة من الصدر، وزاد الكواشي وقيل: الصدر وقيل: النحر وقيل: أطراف الرجل.
الخواص:
مرارته من اكتحل بها أمن من نزول الماء في عينيه. وإن شربت امرأة من زرق البازي مدافا بماء أعان على الحبل، وإن كانت عاقرا.
وأما الباشق فدماغه ينفع من الخفيقان العارض من السوداء، إذا سقي منه وزن درهم بماء ورد، ومرارته تنفع من ظلمة العين اكتحالا.
__________
(1) ابن الدهان: أبو محمد سعيد بن المبارك، النحوي البغدادي صاحب التصانيف المتوفى سنة 569هـ.
(2) الأبيات جميعها في وفيات الأعيان مع ترجمة ابن الدهان: 2/ 383.
(3) في الوفيات: «والجد تغلوبه». وفي البيت الثاني «ما تصخب السحب».
(4) وفيات الأعيان 2/ 384.
(5) وفيات الأعيان: 1/ 455.(2/161)
التعبير:
البازي في المنام يدل على سلطان لمن هو من أهل الإمارة، فإن ذهب من يديه وبقي منه ساقه، ذهب ملكه وبقي ذكره. وإن بقي في يده شيء من الريش، بقي في يده شيء من المال. وذبح البازي ظفر بلص، وذبح البزاة يدل على موت الملوك، الذين يأخذون الأموال جهارا، ولحوم البزاة أموال السلاطين، والبزاة للرجل السوقي رياسة وشرف. والباشق في المنام لص وقيل ولد ذكر.
البازل:
البعير الذي فطر نابه أي انشق، ذكرا كان أو أنثى، وذلك في السنة الثامنة.
والجمع: بزل وبزل وبوازل.
روى مسلم عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، «أن النبي صلى الله عليه وسلم استقرض بكرا فرد بازلا وقال: خيركم أحسنكم (1) قضاء» وروى الخطابي عن ابن خزيمة قال: سمعت يونس بن عبد الأعلى يقول: سئل ابن عيينة عن معنى قول (2) رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من استجمر فليوتر».
فسكت ابن عيينة فقيل: أترضى بما قاله مالك؟ قال: وما قال مالك؟ قال: قال: الاستجمار الاستطابة بالأحجار. قال فقال ابن عيينة إنما مثلي ومثل مالك كما قال الأوّل:
وابن اللبون إذا ما لزّ في قرن ... لم يستطع صولة البزل القناعيس
الباقعة:
الداهية يقال رجل باقعة، إذا كان ذا دهاء. ونقل الهروي عن أبي عمرو أنه طائر حذر إذا شرب الماء يطير يمنة ويسرة. وفي حديث القبائل أن عليا قال لأبي بكر رضي الله تعالى عنهما: لقد عثرت من الأعراب على باقعة وفي حديث آخر ففاتحته فإذا هو باقعة.
بالام:
روى البخاري ومسلم عن أبي الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «تكون الأرض يوم القيامة خبزة واحدة يكفؤها الجبار بيده، كما يكفأ أحدكم خبزته في السفر، نزلا لأهل الجنة (3)».
قال: فأتى رجل من اليهود، فقال: بارك الرحمن فيك يا أبا القاسم ألا أخبرك بنزل أهل الجنة يوم القيامة؟ قال: بلى. قال: تكون الأرض خبزة واحدة. كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال فنظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلينا ثم ضحك حتى بدت نواجذه، ثم قال: ألا أخبرك بإدامهم؟ قال: بلى. قال:
بالام ونون. قال: وما هما؟ قال: ثور ونون يأكل من زيادة كبدهما سبعون ألفا».
هكذا عند البخاري سبعون بتقديم السين.
وفي صحيح مسلم في كتاب الظهار من حديث ثوبان. قال: «كنت قائما عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاء حبر من أحبار اليهود فقال: السلام عليك يا محمد فدفعته دفعة، كاد يصدع منها فقال لم تدفعني؟ فقلت لم لا تقول رسول الله فقال اليهودي: إنا ندعوه بإسمه الذي سماه به أهله. فقال
__________
(1) رواه ابن ماجه في التجارات: 62والصدقات: 16. ورواه البخاري في الأستقراض: 4، 6، 7وفي الوكالة: 5، 6. ورواه في المساقاة: 118، 122. ورواه الترمذي في البيوع: 73.
(2) رواه البخاري في الوضوء: 25، 26. ومسلم في الطهارة: 22، 24ورواه أبو داود في الطهارة: 19.
والنسائي في الطهارة: 71.
(3) رواه البخاري في الرفاق: 44. ومسلم في المنافقين: 30.(2/162)
رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن إسمي محمد الذي سماني به أهلي. فقال اليهودي: جئت أسألك. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أينفعك شيء إن حدثتك؟ فقال: أسمع بأذني فنكت رسول الله صلى الله عليه وسلم بعود معه وقال: سل. فقال اليهودي أين يكون الناس يوم تبدل الأرض غير الأرض والسموات؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هم في «ظلمة دون (1) الحشر». فقال: فمن أول الناس إجازة يوم القيامة؟
قال صلى الله عليه وسلم: «فقراء المهاجريين». قال اليهودي: فما تحفتهم حين يدخلون الجنة؟ قال: «زيادة كبد النون». قال: فما غذاؤهم على أثرها؟ قال: «ينحر لهم ثور الجنة الذي كان يأكل من أطرافها».
قال: فما شرابهم عليه؟ قال: «من عين فيها تسمى سلسبيلا». قال: صدقت. وجئت أسألك عن شيء لا يعلمه أحد من أهل الأرض إلا نبي أو رجل أو رجلان. قال: «أينفعك إن حدثتك؟ قال:
اسمع بأذني. قال: سل. قال: أسألك عن الولد؟ قال صلى الله عليه وسلم: «ماء الرجل أبيض وماء المرأة أصفر فإذا اجتمعا فعلا مني الرجل مني المرأة، كان ذكرا بإذن الله تعالى، وإذا علا مني المرأة مني الرجل، كان أنثى بإذن الله تعالى (2)». قال: صدقت إنك لنبي، ثم انصرف. فلما ذهب قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قد سألني هذا عن الذي سألني عنه، وما لي علم بشيء منه، حتى أتاني الله عزّ وجلّ».
وفي صحيح البخاري من حديث أنس قريب من هذا، وأن اليهودي هو عبد الله بن (3)
سلام رضي الله عنه هكذا جاء الحديث مفسرا.
أما النون فهو الحوت وبه سمي يونس عليه السلام ذا النون. وأما بالام، فقد تكلفوا له شرحا غير مرضي، ولعل اللفظة عبرانية. كذا قال في النهاية، وقال الخطابي: لعل اليهودي أراد التعمية فقطع الهجاء، وقدّم أحد الحرفين على الآخر وهي لام ألف وياء، يريد لأي بوزن لعي، وهو الثور الوحشي فصحف الراوي الياء بالباء، قال: وهذا أقرب ما يقع لي فيه. اهـ والصحيح أنها لفظة عبرانية. وأما زيادة كبد الحوت، فهي القطعة المنفردة المتعلقة بها، وهي أطيبها وهؤلاء السبعون ألفا يحتمل أنهم الذين يدخلون الجنة بغير حساب، ويحتمل أنه عبر بالسبعين ألفا عن العدد الكثير من غير إرادة حصر ورواه النسائي في عشرة النساء أيضا.
البال: سمكة تكون في البحر الأعظم، يبلغ طولها خمسين ذراعا يقال لها العنبر، وليست بعربية قال الجواليقي: كأنها عربت. وقال في الصحاح: البال الحوت العظيم، من حيتان البحر ليس بعربي. وقال القزويني: البال سمكة طولها خمسمائة ذراع أو أكثر، تظهر في بعض الأوقات، طرف جناحها كالشراع العظيم وأهل المراكب يخافون منها أعظم خوف، فإذا أحسوا بها ضربوا بالطبول لتنفر عنهم، فإذا بغت على حيوان البحر بعث الله سمكة نحو الذراع تلصق بأذنها، فلا خلاص للبال منها، فتطلب قعر البحر وتضرب الأرض برأسها حتى تموت، وتطفو على الماء كالجبل العظيم. ولها أناس من الزنج يرصدونها، فإذا وجدوها طرحوا فيها الكلاليب وجذبوها إلى الساحل، وشقوا بطنها واستخرجوا العنبر منها وسيأتي إن شاء الله تعالى في باب العين المهملة ذكر هذا الحيوان وما يتعلق بالعنبر من الأحكام.
__________
(1) رواه مسلم في الحيض: 34.
(2) رواه مسلم في الحيض: 34.
(3) عبد الله بن سلام بن الحارث الإسرائيلي، أبو يوسف، صحابي، أسلم عند قدوم النبي صلى الله عليه وسلم.
المدينة وفاته سنة 43هـ بالمدينة.
الببر: بباءين موحدتين الأولى مفتوحة والثانية مكسورة ضرب من السباع يعادي الأسد من العدو لا من العدوان. ويقال له: البريد، ويقال له الفرانق بضم الفاء وكسر النون. وهو هندي معرب شبيه بابن آوى، ويقال إنه متولد من الزبرقان واللبوة ومن طبعه أن الأنثى منه تلقح من الريح، ولهذا كان عدوه كالريح ولا يقدر أحد على صيده، وإنما تسرق جراؤه فتجعل في مثل القوارير من زجاج، ويركض بها على الخيول السابقة، فإذا أدركهم أبوها ألقوا إليه قارورة منها فيشتغل بالنظر إليها، والحيلة في إخراج ولده منها فيفوته بقيتها فيربى حينئذ، ويألف الصبيان ويأنس بالأنس، وهو بألف شجرة الكافور كثيرا فإذا كان عندها لم يستطع أحد أن يأخذ منها شيئا لكنه يفارقها في زمن معلوم، فإذا علم أهل تلك النواحي بذلك أتوا إلى الشجرة وأخذوا منها الكافور.(2/163)
الببر: بباءين موحدتين الأولى مفتوحة والثانية مكسورة ضرب من السباع يعادي الأسد من العدو لا من العدوان. ويقال له: البريد، ويقال له الفرانق بضم الفاء وكسر النون. وهو هندي معرب شبيه بابن آوى، ويقال إنه متولد من الزبرقان واللبوة ومن طبعه أن الأنثى منه تلقح من الريح، ولهذا كان عدوه كالريح ولا يقدر أحد على صيده، وإنما تسرق جراؤه فتجعل في مثل القوارير من زجاج، ويركض بها على الخيول السابقة، فإذا أدركهم أبوها ألقوا إليه قارورة منها فيشتغل بالنظر إليها، والحيلة في إخراج ولده منها فيفوته بقيتها فيربى حينئذ، ويألف الصبيان ويأنس بالأنس، وهو بألف شجرة الكافور كثيرا فإذا كان عندها لم يستطع أحد أن يأخذ منها شيئا لكنه يفارقها في زمن معلوم، فإذا علم أهل تلك النواحي بذلك أتوا إلى الشجرة وأخذوا منها الكافور.
الحكم:
يحرم أكله لأنه يتقوى بنابه.
الخواص:
من أصابه سرسام أو برسام، يطلي رأسه بمرارة الببر مضروبة بالماء، ينفعه نفعا بينا. وإذا تحملتها المرأة لا تحمل أبدا وإذا كانت حاملا أسقطت، وكعبه يشد على الزند فلا يتعب حامله أبدا، ولو سار كل يوم عشرين فرسخا. وجلده يجلس عليه من به حب القرع يزول عنه.
وذكر في ربيع الأبرار أن الببر على صورة الأسد الكبير وهو أبيض يلمع بصفرة وخطوط سود وقال ارسطو: الببر سبع مهيب يكون بأرض الحبشة خاصة لا بغيرها.
الببغاء
: بثلاث باآت موحدات أولاهنّ وثالثتهنّ مفتوحتان والثانية ساكنة وبالغين المعجمة وهي هذا الطائر الأخضر المسمي بالدرة، بدال مهملة مضمومة، قاله في العباب وضبطها ابن السمعاني (1) في الأنساب بباءين بفتح الأولى وبإسكان الثانية. وقال: لقب بها أبو الفرج (2) الشاعر لفصاحته، وقال القضاعي: للثغة كانت في لسانه، وهي في قدر الحمام يتخذها الناس للانتفاع بصوتها، كما يتخذون الطاووس للانتفاع بصوته ولونه. ومن الببغاء، نوع أبيض وقد أهدي لمعز (3)
الدولة بن بويه درة بيضاء اللون، سوداء المنقار والرجلين على رأسها ذؤابة فستقية، وجميع أنواعها معدوم سوى الأخضر فهو الموجود الآن.
وهو حيوان دمث الخلق، ثاقب الفهم، له قوة على حكاية الأصوات وقبول التلقين، يتخذه الملوك والأكابر لينم بما يسمع من الأخبار، ويتناول مأكوله برجله، كما يتناول الإنسان الشيء بيده. والناس يحتالون في تعليمه بطرق عدة: قال أرسطاطاليس: إذا أردت تعليم الببغاء الكلام، فخذ مرآة واجعلها أمامها، فترى صورتها أي صورة نفسها، ثم تكلم من ظاهر المرآة وتعاودها،
__________
(1) ابن السمعاني: عبد الكريم بن محمد بن منصور، مؤرخ، رحّالة، فحدّث. توفي سنة 562هـ.
(2) ابو الفرج الببغاء: عبد الواحد بن نصر بن محمد المخزومي. شاعر وكاتب من أهل نصيبين. له منادمات مع الملوك. مات سنة 398هـ.
(3) معز الدولة: أحمد بن بويه بن فناخسرو بن تمام، من سلالة سابور ذي الأكتاف الساساني، ويقال له الأقطع، تولى كرمان وسجستان والأهواز وبغداد لفترة مات في بغداد سنة 356هـ.(2/164)
فإنها تعيد الكلام. وقال ابن الفقيه (1): رأيت بجزيرة رانج حيوانات غريبة الأشكال ورأيت فيها صنفا من الببغاء أحمر وأبيض وأصفر، يعيد الكلام بأي لغة كانت قال أبو إسحاق الصابي (2) في وصفها:
أنعتها صبيحة مليحة ... ناطقة باللغة الفصيحة ... عدت من الأطيار واللسان ... يوهمني بأنها إنسان ... تنهي إلى صاحبها الاخبارا ... وتكشف الاسرار والاستارا ... بكماء إلا أنها سميعه ... تعيد ما تسمعه طبيعة ... زارتك من بلادها البعيدة ... واستوطنت عندك كالقعيدة ... ضيف قراه الجوز والارز ... والضيف في اتيانه يعز ... تراه في منقارها الخلوقي ... كلؤلؤ يلقط بالعقيق ... تنظر من عينين كالفصين ... في النور والظلمة بصاصين ... تميس في حلتها الخضراء ... مثل الفتاة الغادة العذراء ... خريدة خدورها الأقفاص ... ليس لها من حبسها خلاص ... نحبسها وما لها من ذنب ... وإنما ذاك لفرط الحب ... تلك التي قلبي بها مشغوف ... كنيت عنها واسمها معروف ... يشرك فيها شاعر الزمان ... الكاتب المعروف بالبيان ... ذلك عبد الواحد بن نصر ... تقيه نفسي حادثات الدهر
فأجابه أبو الفرج بقوله:
من منصفي من محكم الكتاب ... شمس العلوم قمر الآداب ... أمسى لأصناف العلوم محرزا ... وسام أن يلحق لما برزا ... وهل يجارى السابق المقصر ... أو هل يبارى المدرك المغرر
إلى أن قال في وصفها:
ذات شغا تحسبه ياقوتا ... لا ترتضي غير الأرزقوتا ... كأنما الحبة في منقارها ... حبابة تطفو على عقارها
وقال (3) القاضي ابن خلكان في ترجمة الفضل بن الربيع: إن أحمد بن يوسف الكاتب كتب إلى بعض إخوانه وقد ماتت له ببغاء، وله أخ كثير التخلف يسمى عبد الحميد:
أنت تبقى ونحن طرا فداكا ... أحسن الله ذو الجلال عزاكا
__________
(1) ابن الفقيه: عبد الواحد بن ابراهيم بن الحسن، شاعر، فاضل موصللي مات سنة 636هـ.
(2) الصابىء: ابراهيم بن هلال بن زهرون الحرّاني، أبو إسحاق الصابىء اديب من المقدمين تقلد دواوين الرسائل والمظالم للمطيع العباسي. ومات سنة 384هـ. ولم يسلم وبقي على صابئيته. الأعلام: 1/ 78.
(3) وفيات الأعيان: 4/ 37.(2/165)
فلقد جل خطب دهر أتاكا ... بمقادير أتلفت ببغاكا ... عجبا للمنون كيف أتتها ... وتخطت عبد الحميد أخاكا ... كان عبد الحميد أجمل للمو ... ت من الببغا وأولى بذاكا (1)
... شملتنا المصيبتان جميعا ... فقدنا هذه ورؤية ذاكا
قال الزمخشري: إن الببغاء تقول: ويل لمن كانت الدنيا همه.
الحكم:
يحرم أكلها على الأصح في الرافعي، ونقله في البحر عن الصيمري (2)، وأقره وعلل ذلك بخبث لحمها، وقيل: حلال لأنها تأكل من الطيبات، وليست من ذوات السموم ولا من ذوات المخلب، ولا أمر بقتلها ولا نهي عنه. وقطع المتولي بجواز استئجارها للأنس بصوتها.
وحكى البغوي في ذلك وجهين. وكذا كل ما يستأنس بصوته كالعندليب وغيره.
الخواص:
من أكل لسان الببغاء، صار فصيحا جريئا في الكلام. ومرارتها تثقل اللسان أكلا. ودمها يجفف ويسحق وينثر بين الصديقين، تظهر بينهما العداوة. وذرقها بخلط بماء الحصرم، ينفع من الظلمة والرمد اكتحالا.
التعبير:
الببغاء في المنام رجل نحس كذاب. وقيل رجل فيلسوف، وفرخه ولد فيلسوف وقيل: وهي جارية أو غلام يتيم.
البج:
من طير الماء وسيأتي إن شاء الله تعالى ذكر الجنس أجمع في باب الطاء المهملة.
البجع:
الحوصل. وسيأتي إن شاء الله تعالى في باب الحاء وقد أحسن الشاعر حيث قال فيه ملغزا:
ما طائر في قلبه ... يلوح للناس عجب ... منقاره في بطنه ... والعين منه في الذنب
قال التميمي (3) في منافع القرآن: من كتب على جلد حوصلة البجع بماء ورد أو بماء مطر قوله (4) تعالى: {وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مََا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمََا يُعْلِنُونَ} ثم جعل ذلك على صدر النائم من رجل أو امرأة فإنه يخبر بكل ما عمل.
البخزج:
بالباء الموحدة والزاي والجيم ولد البقرة الوحشية.
البجاق:
كغراب الذئب الذكر.
__________
(1) الأبيات جميعا في وفيات الأعيان: 4/ 40. وفيه: «كان عبد الحميد أصلح للموت».
(2) الصيمري: الحسين بن علي بن محمد بن جعفر، أبو عبد الله، قاض فقيه، وكان شيخ الحنفية في بغداد. مات في بغداد سنة 436هـ.
(3) التميمي: عبد العزيز بن الحارث بن أسد بن الليث فقيه حنبلي مات سنة 371هـ.
(4) سورة القصص: الآية 69.(2/166)
البخت:
من الإبل معرب. وبعضهم يقول: هو عربي الواحد الذكر بختي، والأنثى بختية، وجمعه بخاتي، غير مصروف لأنه بزنة جمع الجمع، ولك أن تخفف الياء فتقول البخاتي.
وكذا كل ما أشبهها مما واحده مشدد يجوز في جمعه التشديد والتخفيف: كالعواري والسواري والعلالي والأواني والأثافي والكراسي والمهاري وشبهها. وممن ذكر هذه القاعدة ابن السكيت (1) في إصلاحه والجوهري (2) في صحاحه، قال ابن السكيت: والأثفية بثاء مثلثة مفرد الأثافي وهي الأعمدة الثلاثة تتخذ لوضع القدر عليها حال الطبخ ومن كلام العرب رماه الله بثالثة الأثافي يعني الجبل لأن الإنسان إذا لم يجد إلا إثنتين جعل الثالثة الجبل، فعبروا بثالثة الأثافي عن الجبل.
والبخاتي جمال طوال الأعناق.
روى أبو داود والترمذي والنسائي وأحمد من حديث جنادة بن أبي أمية قال: كنا مع بسر بن أرطاة في البحر فأتي بسارق قد سرق بختية، فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول (3): «لا تقطع الأيدي في السفر ولولا ذلك لقطعته».
وفي صحيح مسلم من حديث زهير عن جرير بن سهل عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (4) في صفة النساء، اللائي يأتين في آخر الزمان: «رؤوسهن كأسنمة البخت لا يجدن ريح الجنة، وإن ريحها ليوجد من مسيرة خمسمائة عام».
وفي المستدرك، من حديث عبد الله بن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «سيكون في آخر هذه الأمة رجال يركبون على المياثر (5)، حتى يأتوا أبواب مساجدهم نساؤهم كاسيات عاريات على رؤوسهن كأسنمة البخت العجاف، العنوهن فإنهن ملعونات».
وفي الكامل في ترجمة فضل بن مختار البصري عن عبيد الله بن موهب عن عصمة بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن في الجنة طيرا أمثال البخاتي». قال أبو بكر رضي الله تعالى عنه:
إنها لناعمة يا رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أنعم منها من يأكلها وأنت ممن يأكلها يا أبا بكر (6)».
البدنة:
جمعها. بدن بضم الدال وإسكانها جاء القرآن وممن ذكر الضم الجوهري رحمه الله.
وهو ما أشعر من ناقة أو بقرة. سميت بذلك لأنها تبدن أي تسمن. وقال النووي: هي البعير ذكرا كان أو أنثى وشرطها أن تكون في سن الأضحية عند الفقهاء وعند اللغويين، أو أكثرهم، تطلق على الإبل والبقر. وقال الأزهري: تكون في الإبل والبقر والغنم، سميت بذلك لعظم أبدانها ويشهد لاختصاصها بالإبل، ما روى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم
__________
(1) ابن السّكيّت: يعقوب بن إسحاق أبو يوسف إمام في اللغة والأدب. مات سنة 244هـ.
(2) الجوهري: إسماعيل بن حمّاد، أبو نصر، لغوي خطاط. نحوي، وقد حاول الطيران ومات في سبيل ذلك سنة 393هـ. أهم كتبه «الصحاح» معجم لغوي.
(3) رواه أبو داود: في الحدود 19، والنسائي: سارق 16.
(4) رواه مسلم في اللباس: 125وفي الجنة: 52، ورواه أحمد: 2/ 223، 356.
(5) المياثر: الفرش.
(6) رواه أحمد: 3/ 221.(2/167)
قال (1): «من اغتسل يوم الجمعة ثم راح في الساعة الأولى فكأنما قرب بدنة، ومن راح في الساعة الثانية فكأنما قرب بقرة، ومن راح في الساعة الثالثة فكأنما قرب كبشا أقرن، ومن راح في الساعة الرابعة فكأنما قرب دجاجة، ومن راح في الساعة الخامسة فكأنما قرب بيضة».
وفي مسند الإمام أحمد رضي الله تعالى عنه، «في الساعة الرابعة بطة، وفي الخامسة دجاجة، وفي السادسة بيضة».
ووصف الكبش بالقرن لأنه أكمل وأحسن صورة وجمع البدنة بدن. قال تعالى:
{وَالْبُدْنَ جَعَلْنََاهََا لَكُمْ مِنْ شَعََائِرِ اللََّهِ} (2) أي من أعلام دين الله، لكم فيها خير. قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما هي نفع في الدنيا وأجر في الآخرة.
حج صفوان بن سليم وليس معه إلا سبعة دنانير، فاشترى بها بدنة فقيل له في ذلك فقال:
إني سمعت الله تعالى يقول: {وَالْبُدْنَ جَعَلْنََاهََا لَكُمْ مِنْ شَعََائِرِ اللََّهِ لَكُمْ فِيهََا خَيْرٌ} وأول من أهدى البدن إلى البيت الحرام الياس بن مضر، وهو أول من وضع مقام إبراهيم عليه السلام للناس بعد غرق البيت وانهدامه، زمن نوح عليه السلام. فكان الياس أوّل من ظفر به فوضعه في زاوية البيت ولم تزل العرب تعظم الياس بن مضر إلى أن مات. ولما مات أسفت عليه زوجته خندف أسفا شديدا وحرمت الرجال، والطيب ونذرت أن لا تقيم ببلدة مات فيها ولا يأويها بيت، فلم تزل سائحة حتى هلكت حزنا. وكانت وفاته يوم الخميس، فنذرت أن تبكيه كلما طلعت شمس يوم الخميس حتى تغيب الشمس. قال السهيلي: ويذكر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
«لا تسبوا الياس فإنه كان مؤمنا». وذكر أن الياس كان يسمع من صلبه تلبية النبي صلى الله عليه وسلم بالحج.
وروى مسلم عن موسى بن سلمة الهذلي قال: انطلقت أنا وسنان بن سلمة معتمرين، قال وانطلق سنان ومعه بدنة يسوقها فأرجفت عليه بالطريق فغمني شأنها إذ هي أبدعت أي كلّت، فأتينا إلى ابن عباس نسأله فقال: على الخبير سقطت بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بست عشرة بدنة، مع رجل وأمره فيها فقال: يا رسول الله وما أصنع بما أبدع على منها قال (3) صلى الله عليه وسلم: «انحرها ثم اصبغ نعلها في دمها ثم اجعله على صفحتها، ولا تأكل منها أنت ولا أحد من رفقتك». وسيأتي إن شاء الله تعالى في باب الهاء الكلام على الهدى.
وروى البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلا يسوق بدنة فقال له (4): «اركبها قال: يا رسول الله إنها بدنة قال: اركبها،
__________
(1) رواه البخاري في الجمعة: 4، 31. ورواه مسلم في الجمعة: 10، 24. ورواه أبو داود في الطهارة: 127.
والترمذي في الجمعة، والنسائي في الجمعة: 13، 14والدارمي في الصلاة: 193.
(2) سورة الحج: الآية 36.
(3) رواه مسلم في الحج: 348و 34. والبخاري في الحج: 120، 121. وأبو داود في المناسك: 20.
وابن ماجة في المناسك: 97.
(4) رواه النسائي في الحج: 73، 74. وابن ماجه في المناسك: 100. وأحمد في: 3/ 245، 254، 278 والموطأ في الحج: 135.(2/168)
قال: إنها بدنة، قال: اركبها ويلك في الثانية أو في الثالثة وفي رواية ويلك اركبها ويلك اركبها».
وروى الحاكم عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال إذا أردت أن تنحر البدنة فأقمها، ثم قل الله أكبر أللهم منك وإليك ثم سم وانحرها وكذلك في الأضحية.
وفي الصحيحين (1) عن زياد بن جبير قال رأيت ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أتى على رجل قد أناخ بدنة ينحرها فقال: ابعثها قائمة مقيدة سنة محمد صلى الله عليه وسلم. وروى الإمام أحمد وأبو داود عن عبد الله بن قرظ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (2): «أعظم الأيام عند الله يوم النحر ثم يوم القرو قرب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم خمس بدنات أو ست ينحرهن فطفقن يزدلفن إليه أيتهن يبدأ بها».
وفي ركوب البدنة مذاهب للعلماء: فذهب الشافعي إلى أنه يركبها إذا احتاج ولا يركبها من غير حاجة وإنما يركبها بالمعروف من غير اضرار بها. وبهذا قال ابن المبارك وابن المنذر وجماعة.
وقال مالك وأحمد: له ركوبها من غير حاجة. وبه قال عروة بن الزبير وإسحاق بن راهويه. وقال أبو حنيفة: لا يركبها إلا أن لا يجد منه بدا. وحكى القاضي عن بعض العلماء أنه يجب ركوبها لظاهر الأمر ودليل الجمهور أن النبي صلى الله عليه وسلم «أهدي ولم يركب هديه، ولم يأمر الناس بركوب الهدايا». وقول النبي صلى الله عليه وسلم: «ويلك» هذه الكلمة أصلها لمن وقع في هلكة فقال له ذلك لأنه كان محتاجا قد وقع في جهد وتعب وقيل: هذه الكلمة تجري على اللسان وتستعمل من غير قصد إلى ما وضعت له أولا وهي كقولهم لا أم له، لا أب له، تربت يداه، قاتله الله عقري حلقي وما أشبه ذلك.
البذج:
بالذال المعجمة من أولاد الضأن بمنزلة العتود من أولاد المعز وجمعه بدجان قال الشاعر:
قد هلكت جارتنا من الهمج ... وإن تجع تأكل عتودا أو بذج
قال الجوهري ومراده بالهمج، سوء التدبير في المعاش. وفي الحديث «يخرج رجل من النار كأنه بذج ترعد أوصاله» وروى ابن المبارك عن إسماعيل بن مسلم عن الحسن وقتادة عن أنس رضي الله تعالى عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم (3): قال: «يجاء برجل يوم القيامة كأنه بذج من الذل، فيوقف بين يدي الله تعالى، فيقول له: أعطيتك وخوّلتك وأنعمت عليك، فماذا صنعت؟ فيقول:
رب جمعته ونميته وتركته أكثر ما كان فارجعني آتك به، فيقول الله تعالى: أرني ما قدمت فإذا هو عبد لم يقدم خيرا فيمضي به إلى النار». خرجه ابن العربي المالكي في سراج المريدين. وقال:
حديث صحيح من مراسيل الحسن. قال الحافظ المنذري في الترغيب والترهيب، رواه الترمذي عن إسماعيل بن مسلم المكي، وهو رواه عن الحسن، والبذج بباء موحدة مفتوحة وذال معجمة ساكنة ثم جيم من أولاد الضأن شبه به هذا لما يأتي به من الذل والحقارة انتهى.
__________
(1) رواه البخاري في الحج: 118ومسلم في الحج: 358.
(2) رواه أبو داود في المناسك: 19.
(3) رواه الترمذي في القيامة: 6ورواه أحمد: 2/ 105. ولفظه: «يجاء بابن آدم.»(2/169)
وفي مسند أبي يعلى الموصلي، عن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يؤتى بابن آدم يوم القيامة، كأنه بذج من الذل فيقول الله تعالى: أنا خير قسيم يا ابن آدم انظر إلى عملك الذي عملت لي فأنا أجزيك به، وانظر إلى عملك الذي عملت لغيري فإن جزاءك على الذي عملت له». ورواه (1) الحافظ أبو نعيم في ترجمة الربيع بن صبيح مرفوعا.
والبذج كلمة فارسية تكلمت بها العرب وعن بعض الأعراب أنه وجد متعلقا باستار الكعبة وهو يقول أللهم أمتني ميتة أبي خارجة فقيل له: وكيف مات أبو خارجة؟ قال: أكل بذجا وشرب مشعلا ونام شامسا فلقي الله تعالى شبعان ريان دفآن. المشعل أناء ينبذ فيه.
الأمثال:
قالوا (2): «فلان أذل من بذج» لأنه أضعف ما يكون من الحملان.
البراق:
الدابة التي ركبها سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم ليلة الاسراء وركبها الأنبياء عليهم الصلاة والسلام. مشتقة من البرق الذي يلمع في الغيم. كما روي في حديث (3) المرور على الصراط.
«فمنهم من يمر كالبرق الخاطف، ومنهم من يمر كالريح العاصف، ومنهم من يمر كالفرس الجواد».
وفي الصحيح أنه دابة دون البغل وفوق الحمار، أبيض يضع خطوه عند أقصى طرفه، ويؤخذ من هذا أنه أخذ من الأرض إلى السماء في خطوة وإلى السموات السبع في سبع خطوات.
وبه يرد على من استبعد من المتكلمين احضار عرش بلقيس في لحظة واحدة، وقال: إنه أعدم ثم أوجد وعلله بأن المسافة البعيدة لا يمكن قطعها في هذه اللحظة، وهذا أوضح دليل في الرد عليه.
قال السهيلي: ومما يسأل عنه شماس البراق حين ركبه صلى الله عليه وسلم فقال له جبريل عليه السلام: أما تستحي يا براق فما ركبك عبد قبل محمد أكرم على الله منه؟ قال ابن بطال: إنما كان ذلك لبعد عهده بالأنبياء، وطول الفترة بين عيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام. ونقل النووي عن الزبيدي في مختصر العين وعن صاحب التحرير، أنها دابة كان الأنبياء عليهم السلام يركبونها. ثم قال: وهذا الذي قالاه من اشتراك جميع الأنبياء فيها يحتاج إلى نقل صحيح. وقال صاحب المقتفي: والحكمة في كونه على هيئة بغل ولم يكن على هيئة فرس، التنبيه على أن الركوب كان في سلم وأمن لا في حرب وخوف، أو لإظهار الآية في الإسراع العجيب في دابة لا يوصف شكلها بالإسراع فإن قيل: ركب صلى الله عليه وسلم البغلة في الحرب، فالجواب أن ذلك كان لتحقيق نبوّته وشجاعته صلى الله عليه وسلم.
قال: وكان البراق أبيض وكانت بغلته شهباء، وهي التي أكثرها بياض إشارة إلى تخصيصه بأشرف الألوان قال: واختلف الناس هل ركب جبريل عليه السلام معه صلى الله عليه وسلم؟ فقيل: نعم، كان رديفه صلى الله عليه وسلم. قال: والظاهر عندي أنه لم يركب معه لأنه صلى الله عليه وسلم هو المخصوص بشرف الإسراء، لكن روي أن إبراهيم عليه السلام كان يزور ولده إسماعيل على البراق وأنه ركبه هو وإسماعيل وهاجر، حين أتى بهما البيت الحرام. وفي أواخر المستدرك عن عبد الله رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
__________
(1) رواه الترمذي في القيامة: 6وابن حنبل: 2/ 105.
(2) جمهرة الأمثال: 1/ 382.
(3) رواه أحمد: 3/ 178.(2/170)
«أتيت بالبراق فركبت خلف جبريل (1)». إلى أن قال: تفرد به أبو حمزة ميمون الأعور، وقد اختلفوا فيه، وفيه في ذكر مناقب فاطمة الزهراء رضي الله عنها عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «تبعث الأنبياء عليهم السلام يوم القيامة على الدواب ليوافوا بالمؤمنين من قومهم المحشر، ويبعث صالح على ناقته، وأبعث على البراق خطوها عند أقصى طرفها، وتبعث فاطمة أمامي» وقال أبو القاسم إسماعيل بن محمد الأصفهاني، في كتاب الحجة إلى بيان المحجة: إن قيل لم عرج البراق به صلى الله عليه وسلم إلى السماء ولم ينزل عند منصرفه عليه؟ فالجواب أنه عرج به عليه إظهارا لكرامته، ولم ينزل عليه إظهارا لقدرة الله تعالى. وقيل: دل بالصعود على النزول به عليه كقوله (2) تعالى:
{سَرََابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ} يعني: والبرد وكقوله: بيده الخير أي والشر. وقال حذيفة: ما زايل ظهر البراق حتى رجع.
ثم إن البراق يوم القيامة يركبه النبي صلى الله عليه وسلم دون سائر الأنبياء يدل لذلك ما رواه الحاكم قريبا وما رواه أبو الربيع بن سبع السبتي في شفاء الصدور عن سويد بن عمرو أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «حوضي أشرب منه يوم القيامة أنا ومن استسقاني من الأنبياء عليهم السلام، ويبعث الله تعالى لصالح ناقته يحلبها ويشرب هو والذين آمنوا معه، ثم يركبها حتى يوافي بها الموقف ولها رغاء» فقال له رجل يا رسول الله وأنت يومئذ على العضباء؟ قال صلى الله عليه وسلم: «تلك تحشر عليها ابنتي فاطمة، وأنا أحشر على البراق، أخص به دون الأنبياء عليهم الصلاة والسلام».
واختلف الناس في تاريخ الإسراء، فقال ابن الاثير: الصحيح عندي إنه كان ليلة الإثنين لسبع وعشرين من شهر ربيع الأول قبل الهجرة بسنة، وبهذا جزم شيخ الإسلام محي الدين النووي في شرح مسلم وجزم في فتاويه في كتاب الصلاة بأنه كان في شهر ربيع الآخر. وفي سير الروضة أنه كان في رجب وإنما كان ليلا لتظهر الخصوصية بين جليس الملك نهار أو جليسه ليلا.
قال أهل التاريخ: ولد النبي صلى الله عليه وسلم عام الفيل، وأقام في بني سعد خمس سنين ثم توفيت أمه بالأبواء، وهو ابن ست سنين، وكفله جده عبد المطلب. ثم توفي وهو ابن ثمان سنين فكفله عمه أبو طالب، وخرج معه إلى الشام وهو ابن اثنتي عشرة سنة، ثم خرج صلى الله عليه وسلم في تجارة لخديجة وهو ابن خمس وعشرين سنة، وتزوجها في تلك السنة وبنت قريش الكعبة، ورضيت بحكمه فيها وهو ابن خمس وثلاثين سنة وبعث صلى الله عليه وسلم وهو ابن أربعين سنة. وتوفي أبو طالب وهو ابن تسع وأربعين سنة وثمانية أشهر وأحد عشر يوما. وتوفيت خديجة رضي الله تعالى عنها بعد أبي طالب بثلاثة أيام، ثم خرج صلى الله عليه وسلم إلى الطائف ومعه زيد بن حارثة رضي الله عنه بعد ثلاثة أشهر من موت خديجة رضي الله عنها، فأقام به شهرا ثم رجع إلى مكة في جوار المطعم بن عدي. فلما أتت له خمسون سنة قدم عليه جن نصيبين (3) فأسلموا. فلما أتت له إحدى وخمسون سنة وتسعة أشهر أسرى به صلى الله عليه وسلم.
__________
(1) رواه مسلم في الإيمان: 259والنسائي في الصلاة: 10.
(2) سورة النحل: الآية 81.
(3) نصيبين قاعدة ديار ربيعة.(2/171)
وهاجر إلى المدينة وهو ابن ثلاث وخمسين سنة وهي السنة الثالثة عشرة من بعثته صلى الله عليه وسلم، وقيل هاجر في الرابعة عشرة من بعثته صلى الله عليه وسلم، ومعه أبو بكر الصديق ومولاه عامر بن فهيرة ودليلهم عبد الله بن أريقط. وهذه السنة عليها مبني التاريخ الإسلامي وهي سنة أحد.
وفيها آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الصحابة رضي الله عنهم واتخذ علي بن أبي طالب رضي الله عنه أخا. وفيها أتمت صلاة الحضر، وقصرت صلاة السفر، وفيها تزوج علي فاطمة رضي الله تعالى عنهما وفي سنة اثنتين كانت غزوة ودان وهو إسم مكان، وغزوة بواط وهي من ناحية رضوى، وغزوة العشيرة، وغزوة بدر الأولى وكانت في جمادى الآخرة، وغزوة بدر الكبرى وهي التي قتل فيها صناديد قريش، وأعز الله تعالى بها الدين، وكانت يوم الجمعة ثالث عشر رمضان، وغزوة بني سليم، وكانت في ذي الحجة، خرج صلى الله عليه وسلم يريد أبا سفيان فلم يلفه، وفي سنة ثلاث كانت غزوة بني غطفان وغزوة نجران، وغزوة قينقاع وغزوة أحد وغزوة حمراء الأسد. وفي سنة أربع كانت غزوة بني النضير وغزوة ذات الرقاع وفي سنة خمس كانت غزوة دومة الجندل وغزوة الخندق وغزوة بني قريظة، وفي سنة ست كانت غزوة بني لحيان وغزوة بني المصطلق، وفي سنة سبع اتخذ النبي صلى الله عليه وسلم المنبر وغزا غزوة خبيبر، وفيها كانت قصة فدك وهي مشهورة وكانت فدك لرسول الله صلى الله عليه وسلم خالصة.
وفي سنة ثمان كانت غزوة مؤتة وفتح مكة المشرفة، وغزوة حنين وغزوة الطائف، وقسمة أموال هوازن. وفي سنة تسع كانت غزوة تبوك، وفي سنة عشر كانت حجة الوداع، ونحر فيها بيده الشريفة صلى الله عليه وسلم ثلاثا وستين بدنة، وأعتق ثلاثا وستين رقبة هي عدد سني عمره. وفي سنة إحدى عشرة كانت وفاته صلى الله عليه وسلم، وكان ابتداء الوجع في مستهل شهر ربيع الأول وتوفي في الثاني عشر منه.
وعاش صلى الله عليه وسلم ثلاثا وستين سنة وكانت مدة مقامه في المدينة عشر سنين، وقد تقدم ذكر ذلك في باب الهمزة في الكلام على الاوز. وكان أولاده صلى الله عليه وسلم كلهم من خديجة رضي الله تعالى عنها، إلا إبراهيم فإنه من مارية القبطية وهم: الطيب والطاهر والقاسم وفاطمة وزينب ورقية وأم كلثوم وإبراهيم سلام الله ورضوانه عليهم أجمعين. فأما الذكور فماتوا كلهم أطفالا. ولم يتزوج صلى الله عليه وسلم في حياة خديجة غيرها، فلما ماتت تزوج سودة بنت زمعة رضي الله عنها وعائشة رضي الله تعالى عنها.
ولم يتزوج صلى الله عليه وسلم بكرا غيرها وماتت رضي الله تعالى عنها في أيام معاوية رضي الله تعالى عنه، سنة ثمان وخمسين عن سبع وستين سنة. وتزوج صلى الله عليه وسلم حفصة بنت عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنهما سنة ثلاث وتوفيت في أيام عثمان رضي الله تعالى عنه. وتزوج صلى الله عليه وسلم زينب بنت خزيمة وتوفيت في حياته صلى الله عليه وسلم لم يمت عنده من نسائه غيرها، وغير خديجة رضي الله تعالى عنهما. وتزوج صلى الله عليه وسلم أم سلمة رضي الله تعالى عنها سنة أربع، وأمها عاتكة عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتوفيت سنة تسع وخمسين في أيام معاوية أيضا رضي الله تعالى عنده، وقيل توفيت سنة إحدى وستين في يوم عاشوراء، وهو اليوم الذي قتل فيه الحسين رضي الله تعالى عنه. وتزوج صلى الله عليه وسلم زينب بنت جحش في سنة خمس وتوفيت في سنة عشرين في أيام عمر رضي الله عنهما، وهي أول أزواجه صلى الله عليه وسلم لحوقا به. وتزوج أم حبيبة وإسمها رملة بنت أبي سفيان وتوفيت سنة أربع وأربعين في أيام أخيها معاوية رضي الله تعالى
عنهما. وتزوج جويرية بنت الحارث المصطلقية، وتوفيت سنة ست وخمسين في أيام معاوية. وتزوج ميمونة بنت الحارث في سنة سبع، وتوفيت سنة أربعين ومات عليه الصلاة والسلام عن تسع.(2/172)
ولم يتزوج صلى الله عليه وسلم بكرا غيرها وماتت رضي الله تعالى عنها في أيام معاوية رضي الله تعالى عنه، سنة ثمان وخمسين عن سبع وستين سنة. وتزوج صلى الله عليه وسلم حفصة بنت عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنهما سنة ثلاث وتوفيت في أيام عثمان رضي الله تعالى عنه. وتزوج صلى الله عليه وسلم زينب بنت خزيمة وتوفيت في حياته صلى الله عليه وسلم لم يمت عنده من نسائه غيرها، وغير خديجة رضي الله تعالى عنهما. وتزوج صلى الله عليه وسلم أم سلمة رضي الله تعالى عنها سنة أربع، وأمها عاتكة عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتوفيت سنة تسع وخمسين في أيام معاوية أيضا رضي الله تعالى عنده، وقيل توفيت سنة إحدى وستين في يوم عاشوراء، وهو اليوم الذي قتل فيه الحسين رضي الله تعالى عنه. وتزوج صلى الله عليه وسلم زينب بنت جحش في سنة خمس وتوفيت في سنة عشرين في أيام عمر رضي الله عنهما، وهي أول أزواجه صلى الله عليه وسلم لحوقا به. وتزوج أم حبيبة وإسمها رملة بنت أبي سفيان وتوفيت سنة أربع وأربعين في أيام أخيها معاوية رضي الله تعالى
عنهما. وتزوج جويرية بنت الحارث المصطلقية، وتوفيت سنة ست وخمسين في أيام معاوية. وتزوج ميمونة بنت الحارث في سنة سبع، وتوفيت سنة أربعين ومات عليه الصلاة والسلام عن تسع.
البرذون:
بكسر الباء وبالذال المعجمة، والجمع براذين والأنثى برذونة وكنيته أبو الأخطل.
كني به لخطل أذنيه وهو استرخاؤهما، بخلاف أذن الفرس العربي، وهو الذي أبو أعجميان، والأعجمي من الناس الذي لا يفصح الكلام عجميا كان أو عربيا ألا تراهم قالوا زياد (1)
الأعجم، لعجمة كانت في لسانه، وهو عربي قال صلى الله عليه وسلم: «صلاة النهار عجماء لإخفاء القراءة فيها». لكن قال النووي إنه حديث باطل ويطلق العجمي والأعجمي على من ليس من أهل الكلام، قال صلى الله عليه وسلم: «العجماء جرحها جبار» وهي (2) الدابة المنفلتة. وإلا فالإجماع على تضمين السائق والقائد. وقال صاحب منطق الطيران: البرذون يقول كل يوم: أللهم إني أسألك قوت يوم بيوم.
وروى الحاكم عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه قال: «كأني بالترك وقد أتتكم على براذين مجدّعة الآذان حتى تربطها بشط الفرات». وروي أيضا عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أنه مر بمروان وهو يبني في داره بالمدينة، قال: فجلست إليه، والعمال يعملون فقلت ابنوا مشيدا وأملوا بعيدا وموتوا قريبا. فقال مروان إن أبا هريرة يحدث العمال فماذا تقول لهم يا أبا هريرة؟ قال: قلت ابنوا مشيدا وأملوا بعيدا وموتوا قريبا، يا معشر قريش ثلاث مرات اذكروا كيف كنتم أمس، وكيف أصبحتم اليوم تخدمون، أرقاؤكم فارس والروم، كلوا خبز السميذ واللحم السمين، لا يأكل بعضهم بعضا، ولا تكادموا تكادم البراذين، وكونوا اليوم صغارا تكونوا غدا كبارا، والله لا يرتفع رجل منكم في الدنيا درجة إلا وضعه الله يوم القيامة درجة وانشد السراج الوراق في مناهج الفكر في أوصاف الخيل المذمومة:
لصاحب الأحباس برذونة ... بعيدة العهد عن القرط ... إذا رأت خيلا على مربط ... تقول سبحانك يا معطي ... تمشي إلى خلف إذا ما مشت ... كأنما تكتب بالقبطي
قال الجاحظ: سألت بعض الأعراب أي الدواب آكل؟ قال: برذونة رغوث.
وفي أواخر الجزء الخامس من الغيلانيات، وفي المستدرك في كتاب اللباس عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: أتي رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على برذون وعليه عمامة وقد أرخى طرفها
__________
(1) زياد الأعجم: هو زياد بن سليمان، أبو أمامة العبدي من شعراء الدولة الأموية جزل الشعر، مات في خراسان سنة 100هـ.
(2) رواه البخاري في الديات: 28، 29والزكاة: 66. ورواه مسلم في الحدود: 45، 46. وأبو داود في الديات: 27. والترمذي في الزكاة: 16والنسائي في الزكاة: 28، 40.(2/173)
بين كتفيه، فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عنه؟ فقال: «هل رأيته»؟ قلت نعم. قال (1): «ذاك جبريل أمرني أن أمضي إلى بني قريظة». وقال في الكامل، في حوادث سنة خمس عشرة. لما افتتح عمر رضي الله تعالى عنه بيت المقدس، وقدم إلى الشام أربع مرات: الأولى على فرس، والثانية على بعير، والثالثة رجع لأجل الطاعون، والرابعة على حمار، وكتب إلى امراء الأجناد أن يوافوه بالجابية (2)، فركب فرسه فرأى به عرجا فنزل عنه، وأتى ببزدون فركبه، فجعل يتجلجل به أي يزهو في مشيته، فنزل عنه وصرف عنه وجهه، وقال: لا علّم الله من علّمك هذه الخيلاء. ثم ركب ناقته ولم يركب برذونا بعده ولا قبله أبدا.
وكان عمر رضي الله تعالى عنه لما أراد الخروج إلى الشام، استخلف على المدينة علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه، فقال له علي: أنت تخرج بنفسك إلى هذا العدوّ الكلب؟ فقال عمر رضي الله تعالى عنه: أبادر بالجهاد قبل موت العباس رضي الله تعالى عنه، إنكم إذا فقدتم العباس رضي الله تعالى عنه انتقض بكم الشر، كما ينتقض الحبل، فمات العباس رضي الله تعالى عنه لست سنين من خلافة عثمان رضي الله تعالى عنه وانتقض بالناس الشر كما قال عمر رضي الله تعالى عنه.
وفي وفيات الأعيان في ترجمة (3) أبي الهذيل محمد بن الهذيل العلاف البصري شيخ البصريين في الاعتزال، قال: خرجت من البصرة على برذون أريد المأمون ببغداد، فسرت إلى دير هرقل، فإذا رجل مشدود في حائط الدير، فسلمت عليه فرد علي السلام، وحملق إلي وقال: أمعتزلي أنت؟
قلت: نعم. قال: وأمامي أنت؟ قلت: نعم. قال: أنت إذن أبو الهذيل العلاف! قلت: أنا ذاك. قال: فهل للنوم لذة؟ قلت: نعم. قال: ومتى يجدها صاحبها؟ فقلت لقلبي: إن قلت مع النوم أخطأت، فإنه ذاهب العقل، وإن قلت قبل النوم أخطأت أيضا، لأنك أحلت على عدم، وإن قلت بعد النوم غلطت، لأنه شيء قد انقضى، قال: فتحير فهمي، وجال في الخاطر وهمي، وقلت له: قل أنت حتى أسمع منك وأنقل عنك؟ فقال: بشرط أن تسأل امرأة صاحب هذا الدير أن لا تضر بني يومي هذا. فسألتها فاجابت. فقال: إعلم أن النعاس داء يحل بالبدن ودواؤه النوم. فاستحسنت ذلك منه، وهممت بالإنصراف، فقال: يا أبا الهذيل قف وإسمع مسألة عظمى، قال: ما تقول في رسول الله صلى الله عليه وسلم أمين هو في السماء والأرض؟ قلت: نعم. قال: أتحب أن يكون الخلاف في أمته أم الوفاق؟ قلت: بل الوفاق والاتفاق: فقال: قال تعالى (4): {وَمََا أَرْسَلْنََاكَ إِلََّا رَحْمَةً لِلْعََالَمِينَ} فما باله صلى الله عليه وسلم حين مرض مرض موته ما قال: هذا خليفتكم من بعدي؟ وقد نص صلى الله عليه وسلم على الوصية وحث عليها وحرض. قال أبو الهذيل: فلم أحر جوابا. وسألته الجواب فتنكرت حاله، فقتلت عنان برنوني وانصرفت عنه. فوصلت إلى المأمون فاستخبرني عن طريقي،
__________
(1) رواه ابن حنبل: 6/ 148، 152.
(2) الجابية: موضع بالشام.
(3) وفيات الأعيان: 4/ 265. وتوفي أبو الهذيل سنة 227هـ.
(4) سورة الأنبياء: الآية 107.(2/174)
فأخبرته بما جرى، فأمر بإحضاره على حالته التي هو عليها، فأحضر فقال له المأمون، أعد السؤال الذي سألت عنه أبا الهذيل؟ فاعاده، وكان في المجلس جماعة من العلماء الأفاضل فما منهم من أجاب، فقال له المأمون: ما الجواب؟ فقال: سبحان الله أكون سائلا ومجيبا في حالة واحدة؟ فقال المأمون: وما عليك أن تفيدنا؟ فقال: نعم يا أمير المؤمنين، إعلم أن الله عز وجل حكم في سالف أزله، وقضى وقدر في سابق علمه، وأطلع نبيه صلى الله عليه وسلم من ذلك على حكمه، فلم يكن له أن يتعداه ولا أن يتخطاه، فترك الأمر على ما قدره الله تعالى وقضاه إذ لا راد لأمره، ولا معقب لحكمه، فاستحسن المأمون ذلك، وعرض له شغل فقام داخلا إلى داره فقال له المجنون: يا ابن اللخناء أخذت منفوعنا وفررت منا! فعاد المأمون وقال له: ما تشتهي؟ فقال: ألف دينار. وقال: وما تصنع بها؟ قال: آكل بها كسبا وتمرا، فأمر له بها وحمله إلى أهله وهو على حاله، وتوفي أبو الهذيل العلاف سنة سبع وعشرين ومائتين وذكروا أن السّنة في الرأس، والنعاس في العين، والنوم في القلب، وهو غشية ثقيلة تقع على القلب، تمنعه المعرفة بالأشياء. وقد نفى الله ذلك عن نفسه، بقوله (1) تعالى: {لََا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلََا نَوْمٌ} لأنه آفة، وهو سبحانه وتعالى منزه عن الآفات. ولأنه تغير ولا يجوز عليه تبارك وتعالى.
وذكر (2) الإمام أبو الفرج بن الجوزي في كتاب الأذكياء، عن خالد بن صفوان التيمي، أنه دخل على أبي العباس السفاح، وليس عنده أحد فقال: يا أمير المؤمنين إني والله ما زلت منذ قلدك الله الخلافة، أطلب أن أصير إلى مثل هذا الموقف في الخلوة، فإن رأى أمير المؤمنين أن يأمر بإمساك الباب، حتى أفرغ فليفعل فأمر الحاجب بذلك، فقال: يا أمير المؤمنين إني فكرت في أمرك، وأجلت الفكر فيك، فلم أر أحدا له قدرة واتساع على الاستمتاع بالنساء مثلك، ولا أضيق فيهن عيشا منك، إنك ملكت نفسك امرأة من نساء العالمين، فاقتصرت عليها، فإن مرضت مرضت، وإن غابت غبت، وإن عركت عركت، وحرمت نفسك يا أمير المؤمنين التلذذ باستطراق الجواري، ومعرفة اختلاف أحوالهن، والتلذذ بما يشتهى منهنّ، فإن منهنّ الطويلة التي تشتهى لجسمها، والبيضاء التي تحب لرؤيتها، والسمراء اللعساء، والصفراء الذهبية، ومولدات المدينة، والطائف واليمامة، ذوات الألسن العذبة والجواب الحاضر، وبنات سائر الملوك، وما يشتهى من نضارتهنّ ونظافتهنّ. وتخلل خالد بلسانه فأطنب في صفات ضروب الجواري وشوقه إليهن، فلما فرغ من كلامه قال له السفاح: ويحك ملأت مسامعي بما شغل خاطري، والله ما سلك مسامعي كلام أحسن من هذا، فأعد علي كلامك فقد وقع مني موقعا فأعاد إليه خالد كلامه بأحسن مما ابتدأه، ثم قال له انصرف فانصرف.
وبقي أبو العباس مفكرا فدخلت عليه أم سلمة زوجته، وكان قد حلف لها أن لا يتخذ عليها زوجة ولا سرية، ووفى لها بذلك، فلما رأته على تلك الحالة قالت له: إني لأنكرك يا أمير
__________
(1) سورة البقرة: الآية 255.
(2) كتاب الأذكياء 116.(2/175)
المؤمنين، فهل حدث شيء تكرهه؟ أو أتاك خبرا رتعت له؟ قال لا فلم تزل حتى أخبرها بمقالة خالد، فقالت: وما قلت لابن الفاعلة؟ فقال لها: أينصحني وتشتمينه؟ فخرجت إلى مواليها وأمرتهم بضرب خالد.
قال خالد: فخرجت من الدار مسرورا بما ألقيت إلى أمير المؤمنين، ولم أشك في الصلة، فبينما أنا واقف، إذ أقبلوا يسألون عني فحققت أنه أمر لي بالجائزة، فقلت لهم: ها أناذا، فاستبق إلي أحدهم بخشبة فغمزت برذوني، فلحقني وضرب كفل البرذون، فركضت ففتهم، واستخفيت في منزلي أياما ووقع في قلبي أني أتيت من أم سلمة. فبينما أنا ذات يوم جالس في المجلس، فلم أشعر إلا بقوم قد هموا علي وقالوا: أجب أمير المؤمنين، فسبق إلى قلبي أنه الموت، فقلت: إنا لله وإنا إليه راجعون، والله لم أر دم شيخ أضيع من دمي، فركبت إلى دار أمير المؤمنين فأصبته جالسا، ولحظت في المجلس بيتا عليه ستور رقاق، وسمعت حسا من خلف الستر فأجلسني، ثم قال:
ويحك يا خالد وصفت لأمير المؤمنين صفة فأعدها فقلت: نعم يا أمير المؤمنين، أعلمتك أن العرب إنما اشتقت إسم الضرتين من الضرر، وإن أحدا يكون عنده من النساء أكثر من واحدة إلا كان في ضر وتنغيص! فقال السفاح: لم يكن هذا كلامك أولا. قلت: بلى يا أمير المؤمنين، وأخبرتك أن الثلاث من النساء يدخلن على الرجل البؤوس، ويشبن الرؤوس! فقال السفاح: برئت من رسول الله صلى الله عليه وسلم، إن كنت سمعت هذا منك أو مر في حديثك. قلت: بلى يا أمير المؤمنين، وأخبرتك أن الأربع من النساء شر مجموع لصاحبهن، يشيبنه ويهرمنه. قال: والله ما سمعت هذا منك أولا. قلت: بلى والله. قال: أتكذبني؟ قلت: أفتقتلني؟ نعم والله يا أمير المؤمنين إن أبكار الإماء رجال، إلا أنهن ليس لهن خصى، قال خالد: فسمعت ضحكا من خلف الستر ثم قلت:
والله وأخبرتك أن عندك ريحانة قريش، وأنت تطمح بعينيك إلى النساء والجواري؟ فقيل لي من وراء الستر: صدقت والله يا عماه، بهذا حدثته، ولكنه غير حديثك، ونطق بما في خاطره عن لسانك، فقال له السفاح: قاتلك الله. قال خالد: فانسللت وخرجت. فبعثت إلي أم سلمة بعشرة آلاف درهم وبرذون وتخت ثياب.
الحكم
: هو كعموم الخيل.
الخواص:
إذا شربت امرأة دم برذون لم تحمل أبدا وزبله يخرج المشيمة والجنين الميت لخاصية فيه. وإذا جفف، وذر منه في الأنف حبس الرعاف. وإذا ذر على الجراحات حبس الدم.
التعبير:
البرذون في المنام خصومة، وقيل غلام، ويعبر أيضا برجل عجمي. والبراذين رجال أعاجم، ويعبر أيضا بامرأة فمن سرق برذونه طلق زوجته وضياعه فجور المرأة والله أعلم.
البرغش:
بفتح الباء والغين المعجمة نوع من البعوض. وأنشد الحافظ زكي الدين عبد العظيم لشيخه الحافظ أبي الحسن المقدسي شيخ والد الشيخ تقي الدين بن دقيق العيد ووفاته في مستهل شعبان سنة إحدى وعشرين وستمائة بالقاهرة:
ثلاث باآت بلينا بها ... البق والبرغوث والبرغش (1)
__________
(1) البيتان في وفيات الأعيان: 3/ 291.(2/176)
ثلاثة أوحش ما في الورى ... يا ليت شعري أيها أوحش (1)
البرغن:
بفتح الباء والغين المعجمة وضمهما ولد البقرة الوحشية.
البرغوث:
بالثاء المثلثة واحد البراغيث. وضم بائه أشهر من كسرها وقولهم: أكلوني البراغيث لغة طيىء، وهي لغة ثابتة خرجوا عليها قوله (2) تعالى: {وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا} على أحد المذاهب وقوله (3) عز وجل {خُشَّعاً أَبْصََارُهُمْ} ومثل: يتعاقبون فيكم ملائكة، وقوله في صحيح مسلم وغيره: «حتى احمرتا عيناه» واشباهه كثيرة معروفة. وقال سيبويه:
لغة أكلوني البراغيث ليست في القرآن قال والضمير في وأسروا النجوى فاعل والذين بدل منه.
وكنية البرغوث أبو طافر وأبو عدي وأبو الوثاب، ويقال له طامر بن طامر. وهو من الحيوان الذي له الوثب الشديد ومن لطف الله تعالى به، أنه يثب إلى ورائه ليرى من يصيده، لأنه لو وثب إلى أمامه، لكان ذلك أسرع إلى حمامه. وحكى الجاحظ (4) عن يحيى (5) البرمكي، أن البرغوث من الخلق الذي يعرض له الطيران، كما يعرض للنمل. وهو يطيل السفاد، ويبيض ويفرخ بعد أن يتولد، وهو ينشأ أولا من التراب، لا سيما في الأماكن المظلمة، وسلطانه في أواخر فصل الشتاء وأول فصل الربيع، وهو أحدب نزاء. ويقال: إنه على صورة الفيل له أنياب يعض بها وخرطوم يمص به.
وحكمه:
تحريم الأكل واستحباب قتله للحلال والمحرم، ولا يسب لما روى الإمام أحمد والبزار والبخاري في الأدب والطبراني في الدعوات عن أنس رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سمع رجلا يسب برغوثا. فقال: لا تسبه فإنه أيقظ نبيا لصلاة الفجر.
وفي معجم الطبراني عن أنس رضي الله تعالى عنه. قال: ذكرت البراغيث عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «إنها توقظ للصلاة أي لصلاة الفجر». وفيه عن علي رضي الله تعالى عنه قال: نزلنا منزلا فآذتنا البراغيث فسببناها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لا تسبوها فنعمت الدابة فإنها أيقظتكم لذكر الله تعالى».
ويعفى عن قليل دمها في الثوب والبدن لعموم البلوى به وعسر الاحتراز. وقال أبو عمر بن عبد البر: أجمع العلماء على التجاوز والعفو عن دم البراغيث، ما لم يتفاحش. قال أصحابنا: ولا خلاف في العفو عن قليله إلا إذا حصل بفعله كما إذا قتله في ثوبه أو بدنه ففي العفو عنه وجهان:
أصحهما العفو أيضا. وكذلك كل ما ليس له نفس سائلة كالبق والبعوض وشبههما. وسئل شيخ الإسلام عز الدين بن عبد السلام عن ثوب فيه دم البراغيث هل يجوز للإنسان أن يلبسه رطبا ثم يصلي فيه؟ وإذا عرق فيه هل يصلي فيه؟ وهل يتنجس بذلك بدنه أو يعفي عنه؟ وهل يندب له غسله قبل وقته المعتاد؟ فأجاب نعم ينجس الثوب والبدن بذلك ولا يؤمر بغسله إلا في الأوقات المعتادة وغسله في غير ذلك ورع خارج عما كان السلف عليه. وكانوا أحرص على حفظ أديانهم من غيرهم. وأما الكثير من دم البراغيث فالأصح عند المحققين، كما قاله النووي، العفو عنه مطلقا
__________
(1) في الوفيات «لست أدري أيها».
(2) سورة الأنبياء: الآية 3.
(3) سورة القمر: الآية 7.
(4) الأديب الكبير عمرو بن بحر بن محبوب أبو عثمان المتوفى سنة 255هـ.
(5) البرمكي: يحيى بن خالد، وزير هارون الرشيد، أبو الفضل، وكان من العقلاء البلغاء. مات في سجنه سنة 190هـ بعد نكبة البرامكة.(2/177)
سواء انتشر بعرق أم لا.
فائدة:
مجربة صحيحة، للبراغيث وهو أن تأخذ قصبة فارسية، وتلطخها بلبن حمارة وشحم تيس وتغرسها في وسط الدار ثم تقول 25مرة: أقسمت عليكم أيها البراغيث، إنكم جند من جنود الله من عهد عاد وثمود، وأقسمت عليكم بخالق الوجود، الفرد الصمد المعبود، أن تجتمعوا إلى هذا العود، ولكم علي المواثيق والعهود، إن لا أقتل منكم والدا ولا مولود، فإنها تجتمع فإذا اجتمعت إلى العود فخذها وارمها إلى مكان آخر ولا تقتل منها أحدا يبطل السر ثم تكنس البيت وتقول عليه 40مرة {وَمََا لَنََا أَلََّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللََّهِ وَقَدْ هَدََانََا سُبُلَنََا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلى ََ مََا آذَيْتُمُونََا وَعَلَى اللََّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ} [1] فإن فعل ذلك، لم يدخل البيت برغوث أبدا وهو سر لطيف مجرب.
فائدة:
سئل مالك رحمة الله عليه، عن البراغيث أملك الموت يقبض أرواحها؟ فأطرق مليا، ثم قال ألها نفس؟ قالوا: نعم. قال: ملك الموت يقبض أرواحها. ثم قرأ قوله (2) تعالى:
{اللََّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهََا} الآية. ويدل له ما يأتي في البعوض.
الأمثال:
قالوا (3): «أطمر من برغوث». «وأطير من برغوث».
وخاصيته:
اللسع والأذى. قال بعض (4) الأعراب يصف البراغيث وقد سكن مصر:
تطاول في الفسطاط ليلي ولم يكن ... بأرض الفضا ليل عليّ يطول ... ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة ... وليس لبرغوث عليّ سبيل
وقد أجاد مجد الدين أبو الميمون الكناني حيث قال ملغزافي البراغيث:
ومعشر يستحل الناس قتلهم ... كما استحلوا دم الحجاج في الحرم ... إذا سفكت دما منهم فما سفكت ... يداي من دمه المسفوك غير دمي
وقال أبو الحسن بن سكرة الهاشمي في مليح يعرف بابن برغوث:
بليت ولا أقول بمن لاني ... متى ما قلت من هو يعشقوه ... حبيب قد نفى عني رقادي ... فإن أغمضت أيقظني أبوه
ومن محاسن شعره:
كأن خالا لاح في خده ... للعين في سلسلة من عذار ... أسود يستخدم في جنة ... قيده مولاه خوف الفرار
وله (5) أيضا:
وما عشقي له وحشا لأني ... كرهت الحسن واخترت القبيحا ... ولكن غرت أن أهوى مليحا ... وكل الناس يهوون المليحا
__________
(1) سورة إبراهيم: الآية 12.
(2) سورة الزمر: الآية 42.
(3) مجمع الأمثال: 1/ 441.
(4) هو أبو الرمّاح الأسدي. والبيتان في الحيوان للجاحظ: 5/ 389.
(5) وفيات اللأعيان: 3/ 389ونسبته إلى ابن أفلح الشاعر المتوفى سنة 537هـ.(2/178)
وله (1) أيضا:
تحمّل عظيم الذنب ممن تحبه ... وإن كنت مظلوما فقل أنا ظالم ... فإنك إن لم تغفر الذنب في الهوى ... يفارقك من تهوى وأنفك راغم
وقيل: إن هذين البيتين للعباس بن الأحنف. توفي ابن سكرة سنة خمس وثمانين وثلاثمائة.
فائدة:
روى ابن أبي الدنيا في كتاب التوكل إن عامل افريقية كتب إلى عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه يشكو إليه الهوام والعقارب. فكتب إليه وما على أحدكم إذا أمسى وأصبح أن يقول {وَمََا لَنََا أَلََّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللََّهِ} الآية. قال: زرعة عبد الله أحد رواته. وينفع من البراغيث وسيأتي إن شاء الله تعالى في باب الهاء آية أخرى نظير هذه، ذكرها في فردوس الحكمة.
وفي كتاب الدعوات للمستغفري عن أبي الدرداء رضي الله تعالى عنه، وشرح المقامات للمسعودي عن أبي ذر رضي الله تعالى عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا آذاك البرغوث، فخذ قدحا من ماء، واقرأ عليه سبع مرات {وَمََا لَنََا أَلََّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللََّهِ} (2) الآية. ثم تقول إن كنتم مؤمنين فكفوا شركم وأذاكم عنا، ثم ترشه حول فراشك، فإنك تبيت آمنا من شرها. وقال حسين بن إسحاق: والحيلة في طرد البراغيث أن يؤخذ شيء من الكبريت والرواند، فيدخن بهما في البيت، فإنهن يهربن أو يمتن، أو يحفر في البيت حفيرة، ويلقي فيها ورق الدفلى، فإنهن يأوين إليها كلهن فيقعن فيها. وقال الرازي: يرش البيت بطبيخ الشونيز فإنه يقتل براغيثه. وقال غيره:
إذا نقع السذاب في ماء ورش في بيت ماتت براغيثه. وإذا بخر البيت بمشاق الكتان القديم وقشور النارنج لا تعود البراغيث إليه أبدا. وإذا دخل البرغوث في أذن الإنسان اليمنى، فليمسك بيده اليمنى خصية نفسه اليسرى، وإذا دخل في أذنه اليسرى فليسمك بيده اليسرى خصية نفسه اليمنى، فإنه يخرج سريعا.
التعبير:
البراغيث في المنام اعداء ضعاف طعانون، وتعبر أيضا بأوباش الناس، وقال جاماسب: من قرصه برغوث نال مالا.
البرا:
بضم الباء طائر يسمى السمويل وسيأتي إن شاء الله تعالى في باب السين المهملة.
البرقانة:
الجرادة المتلونة وجمعها برقان قاله ابن سيده.
البرقش:
بكسر الباء الموحدة ثم راء مهملة فقاف فشين معجمة، طائر صغير مثل العصفور، ويسميه أهل الحجاز الشرشور وأما أبو براقش، فسيأتي في آخر الباب إن شاء الله تعالى. وبراقش إسم كلبة ضرب بها المثل فقالوا «على أهلها دلت براقش». لأنها سمعت وقع حوافر الدواب، فنبحت فاستدلوا بنباحها على القبيلة فاستباحوهم.
__________
(1) وفيات الأعيان: 7/ 240ونسبته إلى العباس بن الأحنف الشاعر المتغزل المتوفى سنة 192هـ.
(2) سورة إبراهيم: الآية 12وتمامها: {وَمََا لَنََا أَلََّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللََّهِ وَقَدْ هَدََانََا سُبُلَنََا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلى ََ مََا آذَيْتُمُونََا وَعَلَى اللََّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ}.(2/179)
البركة:
بالضم طائر من طيور الماء والجمع برك. قال زهير (1) يصف قطاة فرت من صقر إلى ماء جار على وجه الأرض:
حتى استغاثت بماء لا رشاء له ... بين الأباطح في حافاته البرك
قال ابن سيده: البركة من طير المساء، والجمع برك وأبراك وبركان. وعندي إن ابراكا وبركانا جمع الجمع، والبركة أيضا الضفدع، وقد فسر به بعضهم قول زهير في حافاته البرك انتهى كلامه. قال: والبرك: جماعة الإبل الباركة الواحد بارك والأنثى باركة قاله في العباب.
البشر:
الإنسان الواحد والجمع والمذكر والمؤنث في ذلك سواء. وقد يثنى وفي التنزيل أنؤمن لبشرين مثلنا والجمع أبشر.
البط:
طائر الماء الواحدة بطة، وليست الهاء للتأنيث وإنما هي للواحد من الجنس يقال:
هذه بطة للذكر والأنثى جميعا مثل حمامة ودجاجة وليس بعربي محض والبط عند العرب صغاره وكباره أوز وحكمه، وخواصه كالاوز.
وفي مسند الإمام أحمد عن عبد الله بن رويس، قال: دخلت على عليّ بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه في يوم نحر فقرب إلينا خزيرة، فقلنا: أصلحك الله لو قربت إلينا من هذا البط. يعنون الأوز فإن الله تعالى قد أكثر الخير. فقال: يا ابن رويس سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول (2): «لا يحل لخليفة من مال الله تعالى إلا قصعتان: قصعة يأكلها، وقصعة يضعها بين أيدي الناس».
وفي كامل ابن عدي في ترجمة علي بن زيد بن جدعان قال سفيان بن عيينة: سمعت علي بن زيد بن جدعان سنة سبع وستين يقول: مثل النساء إذا اجتمعن بمنزلة البط إذا صاحت واحدة صحن جميعا.
فرع:
قال الماوردي: البط الذي لا يطير من الاوز لا جزاء فيه إذا قتله المحرم، لأنه ليس بصيد، وقال غيره: الطيور المائية التي تغوص في الماء، وتخرج منه محرمة على المحرم، ومثلوه بالبط. أما الذي لا يعيش إلا في الماء كالسمك فلا يحرم صيده. ولا جزاء فيه والجراد من صيد البريجب الجزاء بقتله على الصحيح.
ومن الأمثال الساشرة بين العامة: «أو للبط تهددين بالشط» قلت: وقد أذكرني هذا ما حكاه القاضي أحمد بن خلكان رحمه الله في ترجمة (3) السلطان نور الدين محمود بن زنكي رحمه الله، وكان بينه وبين أبي الحسن سنان بن سنان بن سليمان بن محمد الملقب براشد الدين صاحب القلاع الاسماعيلية مكاتبات، فكتب السلطان إليه كتابا يهدده فيه فكتب سنان جوابه أبياتا ورسالة وهما:
يا للرجال لأمر هال مفظعه ... ما مر قط على سمعي توقعه
__________
(1) هو زهير بن أبي سلمى الشاعر الجاهلي الحكيم. والبيت في ديوانه: 50. وفيه: «من الأباطح».
(2) رواه أحمد: 1/ 78.
(3) وفيات الأعيان: 5/ 187186.(2/180)
يا ذا الذي بقراع السيف هدّدنا ... لا قام قائم جنبي حين تصرعه (1)
... قام الحمام إلى البازي يهدده ... واستيقظت لأسود الغاب اضبعه (2)
... أضحى يسد فم الأفعى بإصبعه ... يكفيه ما قد تلاقي منه إصبعه
وقفنا على تفصيله وجمله، وعلمنا ما تهددنا به من قوله وعمله، فيالله العجب من ذبابة تطن في إذن فيل، وبعوضه تعد في التماثيل، ولقد قالها قبلك آخرون، فدمرنا عليهم وما كان لهم ناصرون، أو للحق تدحضون، وللباطل تنصرون، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون، وأما ما صدرت به من قولك من قطع راسي وقلعك لقلاعي من الجبال الرواسي، فتلك أماني كاذبة، وخيالات غير صائبة، فإن الجواهر لا تزول بالأعراض، كما أن الأرواح لا تضمحل بالأمراض. كم بين قوي وضعيف، ودني وشريف؟ وإن عدنا إلى الظواهر والمحسوسات، وعدلنا عن البواطن والمعقولات، قلنا اسوة برسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله (3) «ما أوذي نبي ما أوذيت».
وقد علمتم ما جرى على عترته، وأهل بيته وشيعته، والحال ما حال والأمر ما زال، ولله الحمد في الآخرة والأولى، إذ نحن مظلومون لا ظالمون، ومغصوبون لا غاصبون. وقل جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا، وقد علمتم ظاهر حالنا، وكيف قتال رجالنا، وما يتمنونه من الفوت، ويتقربون به إلى حياض الموت، قال: {فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صََادِقِينَ وَلََا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَداً بِمََا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللََّهُ عَلِيمٌ بِالظََّالِمِينَ} (4).
وفي أمثال العامة السائرة: «أو للبط تهددين بالشط».
فهي للبلايا جلبابا، وتدرع للرزايا أثوابا، فلأظهرن عليك منك، ولأفنينهم فيك عنك، ولا تكونن كالباحث عن حتفه بظلفه، والجادع مارن أنفه بكفه، وإذا وقفت على كتابنا فكن لأمرنا بالمرصاد، ومن حالك على اقتصاد، واقرأ أوّل النحل وآخر صاد، ثم اختتمها بهذين البيتين (5).
بنا نلت هذا الملك حتى تأثلت ... بيوتك فيه واستقرّ عمودها ... فأصبحت ترمينا بنبل بنا استوى ... مغارسها قد ما وفينا جديدها
ويشبه هذا ما حكاه أيضا في ترجمة يعقوب بن يوسف بن عبد المؤمن صاحب بلاد المغرب، وكان بينه وبين الأدفونش صاحب طليطلة، مكاتبات قال: بعث الأدفونش رسولا إلى الأمير يعقوب يتوعده ويتهدده، ويطلب منه بعض الحصون، وكتب إليه رسالة من إنشاء وزيره ابن النجار وهي:
__________
(1) في الوفيات: «لا قام مصرع».
(2) في الوفيات: «لأسود البر».
(3) رواه الترمذي في القيامة: 34. وابن ماجه في المقدمة: 11. ورواه ابن حنبل: 3/ 120، 286.
(4) سورة الجمعة: الآية 76.
(5) وفيات الأعيان: 5/ 187. وفي البيت الأول: «بيوتك فيها واشمخر» وفي البيت الثاني «مغارسها منا وفينا حديدها».(2/181)
بإسمك أللهم فاطر السموات والأرض، وصلى الله على السيد المسيح روح الله وكلمته الرسول الفصيح.
أما بعد: فإنه لا يخفى على ذي ذهن ثاقب، ولا ذي عقل لازب، أنك أمير الملة الحنيفية، كما أني أمير الملة النصرانية، وقد عملت الآن ما عليه رؤساء الأندلس من التخاذل، والتواكل والتكاسل، واهمالهم أمر الرعية، واخلادهم إلى الراحة والأمنية، وأنا أسوسهم بحكم القهر وجلاء الديار، وأسبي الذراري وامثل بالرجال، وأذيقهم عذاب الهون وشديد النكال، ولا عذر لك في التخلف عن نصرتهم إذا أمكنتك يد القدرة، وساعدك من عساكرك وجنودك ذو رأي وخبرة، وأنتم تزعمون أن الله تعالى قد فرض عليكم قتال عشرة منا بواحد منكم، والآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا رحمة منه ومنا، ونحن الآن نقاتل عشرة منكم بواحد منا لا تستطيعون دفاعا، ولا تملكون امتناعا، وقد حدثنا عنك إنك أخذت في الاحتفال، وأشرفت على ربوة القتال، وتماطل نفسك سنة بعد أخرى، وتقدم رجلا وتؤخر أخرى، فلا أدري أكان الجبن أبطأ بك، أم التكذيب بوعد ربك؟ ثم قيل لي: إنك لا تجد إلى جواز البحر سبيلا، ولعله لا يسوغ لك التقحم فيه سبيلا، وها أنا أقول لك، ما فيه الراحة لك، واعتذر عنك ولك، على أن تفي بالعهود والمواثيق، والاستكثار من الرهان، وترسل إلي جملة من عبيدك بالمراكب والشواني، والطرائد والمسطحات، وإلا جزت بجملتي إليك، فأقاتلك في أعز الأماكن لديك، فإن كانت لك فغنيمة كبيرة جلبت إليك، وهدية عظيمة مثلت بين يديك وإن كانت لي كانت لي اليد العليا عليك، واستحقيت إمارة الملتين، والحكم على البرين، والله يوفق للسعادة، ويسهل الإرادة لا رب غيره، ولا خير إلا خيره.
فمزق يعقوب الكتاب وكتب على قطعة منه {ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لََا قِبَلَ لَهُمْ بِهََا، وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْهََا أَذِلَّةً وَهُمْ صََاغِرُونَ} (1) الجواب ما ترى لا ما تسمع واستشهد ببيت المتنبي:
ولا كتب إلا المشرفيّة عنده ... ولا رسله إلا الخميس العرموم (2)
ثم أمر بكتب الاستنفار، واستدعى الجيوش من الأمصار، وضربت السرادقات من يومه بظاهر البلد، وسار إلى البحر المعروف بزقاق سبته فعبر فيه إلى الأندلس، ودخل بلاد الفرنج فكسرهم كسرة شنيعة، وعاد بغنائمهم. وكان الأمير يعقوب متمسكا بالشرع يأمر بالمعروف، ويقيم الحدود في أهل بيته، كما يقيمها في الناس أجمعين وأمر برفض فروع الفقه، وأن الفقهاء لا يفتون إلا بالكتاب العزيز والسنة النبوية، ولا يقلدون أحدا، وأن تكون أحكامهم بما يؤدّي إليه اجتهادهم، من استنباطهم القضايا من الكتاب والحديث، والإجماع والقياس.
وقد وصل إلينا من المغرب جماعة على تلك الطريقة منهم: أبو عمرو وأبو الخطاب ابنا دحية ومحيي الدين بن عربي الصوفي، «صاحب الفصوص». «والفتوحات المكية». «وعنقاء مغرب». وغيرهم. وتوفي الأمير يعقوب في سنة تسع أو عشر وستمائة رحمة الله تعالى عليه.
__________
(1) سورة النحل: الآية 37.
(2) البيت في ديوان المتنبي: 2/ 352وفيه: «ولا رس».(2/182)
ولنعد إلى ذكر السلطان محمود، قال ابن الأثير: بلغ من عدل نور الدين الشهيد، أنه أوّل من بنى دارا لكشف الظلامات، وسماها دار العدل، وسببه أنه لما أقام بدمشق بأمرائه وفيهم أسد الدين (1) شيركوه، تعدى كل منهم على من جاوره، فكثرت الشكاوى إلى القاضي كمال الدين السّهروردي (2)، فأنصف بعضهم من بعض، ولم يقدر على الإنصاف من شيركوه، لأنه كان أكبر الأمراء فبلغ ذلك نور الدين الشهيد، فأمر ببناء دار العدل، فلما سمع شيركوه قال لنوّابه: ما بنى نور الدين هذه الدار إلا بسببي، وإلا فمن يمتنع على القاضي كمال الدين؟ والله لئن أحضرت إلى دار العدل بسبب أحد منكم لأصلبنه! فامضوا إلى كل من كان بينكم وبينه شيء فافصلوا الحال معه، وأرضوه، ولو أتى على جميع ما بيدي. قال: فظلم رجل بعد موت نور الدين الشهيد فشق ثوبه واستغاث: يا نور الدين فاتصل خبره بالسلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب، فأزال ظلامته فبكى الرجل أشد من الأول، فسئل عن ذلك فقال: أبكي على سلطان عدل فينا بعد موته.
وتوفي نور الدين الشهيد في شوّال سنة تسع وستين وخمسمائة بقلعة دمشق بعلة الخوانيق، وكان الأطباء قد أشاروا عليه بالفصد فامتنع، وكان مهيبا فما روجع ودفن بالقلعة. ثم نقل إلى تربته بمدرسته التي أنشأها عند باب سوق الخوّاصين. والدعاء عند قبره مستجاب وقد جرب، وكان رحمه الله، ملكا عادلا عابدا ورعا متمسكا بالشريعة، مائلا إلى أهل الخير مجاهدا، كثير الصدقات بنى المدارس بجميع بلاد الشأم، والمارستان بدمشق، ودار الحديث بها وبنى بمدينة الموصل الجامع النوري، وبحماة الجامع الذي على نهر العاصي، وبني الرباطات للصوفية والفنادق في المنازل، وأثر في الإسلام آثارا حسنة لم يسبق إليها وانتزع من أيدي الكفار نيفا وخمسين مدينة، ومحاسنه كثيرة رحمه الله تعالى.
وتوفي السلطان الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب في صفر سنة تسع وثمانين وخمسمائة بها، قال (3) ابن خلكان: ولما مات كتب القاضي الفاضل (4) ساعة موته بطاقة إلى ولده الملك الظاهر صاحب حلب، مضمونها: لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة إن زلزلة الساعة شيء عظيم، كتبت إلى مولانا السلطان الملك الظاهر أحسن الله عزاءه، وجبر مصابه، وجعل فيه الخلف في الساعة المذكورة وقد زلزل المسلمون زلزالا شديدا وقد حفرت الدموع المحاجر، وبلغت القلوب الحناجر، وقد ودّعت أباك مخدومي وداعا لا تلاقي بعده وقبلت عني وعنك خده وأسلمته إلى الله عز وجل مغلوب الحيلة، ضعيف القوّة راضيا عن الله ولا حول ولا قوّة إلا بالله، وبالباب من الأجناد المجندة والأسلحة والأعمدة ما لا يردّ البلاء، ولا يملك دفع القضاء وتدمع العين ويحزن القلب، ولا نقول إلا ما يرضي الرب وإنا عليك لمحزونون يا يوسف، وأما الوصايا فلا
__________
(1) هو أبو الحارث شيركوه بن شاذي بن مروان ولقبه أسد الدين الملك المنصور وهو عم صلاح الدين الأيوبي تولى الوزارة في مصر ومات سنة 564هـ بالقاهرة.
(2) السّهروردي: يحيى بن حبش بن أميرك، أبو الفتوح، قتل في حلب سنة 587هـ.
(3) وفيات الأعيان: 7/ 139.
(4) القاضي الفاضل، أبو علي عبد الرحيم بن القاضي الأشرف بهاء الدين، اللخمي العسقلاني وزر للسلطان الناصر صلاح الدين، وبرز في صناعة الإنشاء وله شعر. مات سنة 596هـ.(2/183)
يحتاج إليها، والآراء فقد شغلتني المصائب عنها، وأما لائح الأمر فإنه إن وقع الاتفاق فما عدمتم إلا شخصه الكريم. وإن كان غيره فالمصائب المستقبلة أهونها موته، وهو البلاء العظيم، والسلام. وكان رحمه الله مع سعة ملكه كثير التواضع، قريبا من الناس، رحيم القلب، كثير الاحتمال والمداراة يميل لأهل الفضل ويستحسن الأشعار الجيدة ويرددها في مجلسه وكان كثيرا ما ينشد قول محمد بن الحسين الحميري (1):
وزارني طيف من أهوى على حذر ... من الوشاة وداعي الصبح قد هتفا (2)
... فكدت أوقظ من حولي به فرحا ... وكاد يهتك ستر الحب بي شغفا ... ثم انتبهت وآمالي تخيل لي ... نيل المتى فاستحالت غبطتي أسفا
وكان رحمه الله كثيرا ما يتمثل بهذين البيتين وهما (3):
عجبت لمبتاع الضلالة بالهدى ... وللمشتري دنياه بالدين أعجب ... وأعجب من هذين من باع دينه ... بدنيا سواه فهو من ذين أخيب
وعمر رحمه الله ستا وخمسين سنة وشهورا.
البطس:
أنواع من السمك لها مرارات يكتب بها الكتب فإذا جففت قرئت في الظلام كما نقرأ بالنهار في ضوء الشمس ذكر ذلك صاحب المعطار.
البعوض:
دويبة. قال الجوهري: إنه البق الواحدة بعوضة وهو وهم والحق أنه صنفان، وهو يشبه القراد لكن أرجله خفيفة، ورطوبته ظاهرة ويسمى بالعراق والشأم الجرجس. قال الجوهري: وهو لغة في القرقس، وهو البعوض الصغار، والبعوض على خلقة الفيل إلا أنه أكثر أعضاء من الفيل فإن للفيل أربع أرجل وخرطوما وذنبا. وله مع هذه الأعضاء رجلان زائدتان، وأربعة أجنحة وخرطوم الفيل مصمت، وخرطومه مجوّف نافذ للجوف، فإذا طعن به جسد الإنسان استقى الدم وقذف به إلى جوفه فهو له كالبلعوم والحلقوم، ولذلك اشتد عضها وقويت على خرق الجلود الغلاظ قال الراجز:
مثل السّفاة دائما طنينها ... ركّب في خرطومها سكينها (4)
ومما ألهمه الله تعالى إنه إذا جلس على عضو من أعضاء الإنسان، لا يزال يتوخى بخرطومه المسام التي يخرج منها العرق، لأنها أرق بشرة من جلدة الإنسان فإذا وجدها وضع خرطومه فيها، وفيه من الشره أن يمص الدم إلى أن ينشق ويموت أو إلى أن يعجز عن الطيران، فيكون ذلك سبب هلاكه. ومن عجيب أمره أنه ربما قتل البعير وغيره، من ذوات الأربع، فيبقى طريحا في
__________
(1) هو محمد بن الحسين بن أحمد بن الحسين بن إسحاق الحميري.
(2) الأبيات الثلاثة في وفيات الأعيان: 7/ 207.
(3) وفيات الأعيان: 6/ 170دون عزو لأحد.
(4) الأمالي: 3/ 129. وفيه: «مثل السفاة دائم» والبيت عن ابن الأعرابي.(2/184)
الصحراء، فتجتمع السباع حوله والطير التي تأكل الجيف فمن أكل منها شيئا مات لوقته. وكان بعض الجبابرة من الملوك بالعراق يعذب بالبعوض، فيأخذ من يريد قتله فيخرجه مجردا إلى بعض الآجام التي بالبطائح ويتركه فيها مكتوفا، فيقتل في أسرع وقت، وأقرب زمان وما أحسن قول أبي الفتح البستي (1) في هذا المعنى:
لا تستخفن الفتى بعداوة ... أبدا وإن كان العدو ضئيلا ... إن القذى يؤذي العيون قليله ... ولربما جرح البعوض الفيلا
وما ألطف ما قال بعضهم:
لا تحقرن صغيرا في عداوته ... إن البعوضة تدمي مقلة الأسد
ونحوه قول أبي نصر السعدي (2):
ولا تحقرن عدوا رماك ... وإن كان في ساعديه قصر ... فإن الحسام يحز الرقاب ... ويعجز عما تنال الإبر
وله أيضا وقيل إنه لجمال الدين بن مطروح (3):
يا من لبست عليه أثواب الضنا ... صفرا موشحة بحمر الأدمع (4)
... أدرك بقية مهجة لو لم تذب ... أسفا عليك رميتها عن أضلعي
ومن محاسن شعره أيضا قوله (5):
لما وقفنا للوداع وصارما ... كنا نظن من النوى تحقيقا ... نثروا على ورق الشقائق لؤلؤا ... ونثرت من ورق البهار عقيقا (6)
ونحوه قول إبراهيم علي القيرواني صاحب (7) زهر الأدب وغيره وكان كلفا بالمعذرين:
ومعذرين كأن نبت خدودهم ... أقلام مسك تستمد خلوقا
__________
(1) أبو الفتح علي بن محمد الكاتب البستي الشاعر. صاحب الطريقة الأنيقة في التجنيس، مات سنة 400هـ في بخارى.
(2) أبو النصر السعدني، هو عبد العزيز بن عمر بن محمد بن أحمد بن نباتة السعدي الشاعر المدّاح ومن أهم ممدوحيه سيف الدولة الحمداني. مات ببغداد سنة 405هـ.
(3) ابن مطروح: هو أبو الحسن يحيى بن عيسى بن إبراهيم بن الحسين، الملقب جمال الدين من أهل صعيد مصر، اتصل بنجم الدين أيوب سلطان مصر. مات سنة 649هـ.
(4) في الوفيات: «صفرا موشقة» و «أسفا عليك نفيتها».
(5) وفيات الأعيان: 7/ 51.
(6) في الوفيات: ونثرت من فوق.
(7) وصاحب زهر الآداب هو إبراهيم الحصري بن علي بن تميم، أبو إسحاق القيرواني الشاعر المتوفى سنة 453هـ.(2/185)
نظموا البنفسج بالشقيق ونضدوا ... تحت الزبرجد لؤلؤا وعقيقا (1)
وروى (2) الترمذي، وقال حديث حسن صحيح عن سهل بن سعد رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة، ما سقى منها كافرا شربة ماء».
وكذلك رواه الحاكم وصححه.
وقال الشاعر في ذلك:
إذا كان شيء لا يساوي جميعه ... جناح بعوض عند من كنت عبده ... وأشغل جزء منه كلك ما الذي ... يكون على ذا الحال قدرك عنده
ومعنى هوان الدنيا على الله تعالى أنه سبحانه لم يجعلها مقصودة لنفسها، بل جعلها طريقا موصلة إلى ما هو المقصود بنفسه. وإنه لم يجعلها دار إقامة ولا جزاء إنما جعلها دار محنة وبلاء وإنه ملكها في الغالب الجهلة والكفرة، وحماها الأنبياء والأولياء والأبدال. وحسبك بها هوانا على الله أنه سبحانه وتعالى، صغرها وحقرها وأبغضها، وأبغض أهلها ومحبيها، ولم يرض لعاقل فيها، إلا بالتزود منها، والتأهب للإرتحال عنها.
ويكفي في ذلك ما رواه الترمذي عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «الدنيا ملعونة ملعون ما فيها إلا ذكر الله تعالى وما والاه أو عالم أو متعلم». وهو (3) حديث حسن غريب. ولا يفهم من هذا اباحة لعن الدنيا وسبها مطلقا. لما روى أبو موسى الأشعري، رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا تسبوا الدنيا فنعمت مطية المؤمن عليها يبلغ الخير وبها ينجو من الشر، إن العبد إذا قال: لعن الله الدنيا قالت الدنيا لعن الله أعصانا لربه». خرجه الشريف أبو القاسم زيد بن عبد الله بن مسعود الهاشمي وهذا يقتضي المنع من سب الدنيا ولعنها. ووجه الجمع بينهما أن المباح لعنه من الدنيا ما كان منها مبعدا عن ذكر الله وشاغلا عنه، كما قال بعض السلف كل ما يشغلك عن ذكر الله من مال وولد فهو مشؤوم عليك، وهو الذي نبه عليه الله تعالى بقوله (4): {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيََاةُ الدُّنْيََا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفََاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكََاثُرٌ فِي الْأَمْوََالِ وَالْأَوْلََادِ} وأما ما كان من الدنيا، يقرب من الله ويعين على عبادته، فهو المحمود بكل لسان المحبوب لكل إنسان، فمثل هذا لا يسب، بل يرغب فيه ويحب، وإليه الإشارة بالاستثناء حيث قال: إلا ذكر الله وما والاه أو عالم أو متعلم، وهو المصرح به في قوله «نعمت مطية المؤمن عليها يبلغ الخير وبها ينجو من الشر»، وبهذا يرتفع التعارض بين الحديثين وفي الإحياء للغزالي في الباب السادس من أبواب العلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (5): «إن العبد لينشر له من الثناء ما بين
__________
(1) البيتان في وفيات الأعيان: 7/ 50وفيه: «قرنوا البنفسج».
(2) رواه الترمذي في الزهد: 13. وابن ماجه من الزهد: 3.
(3) رواه الترمذي في الزهد: 14. وابن ماجه في الزهد: 3.
(4) سورة الحديد: الآية 20.
(5) رواه البخاري في تفسير سورة: 618. ومسلم في صفات المنافقين: 18. ورواه الترمذي في الزهد:
13، وابن ماجه في الزهد: 3.(2/186)
المشرق والمغرب ولا يزن عند الله جناح بعوضة». وفي الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (1): «ليأتي الرجل السمين العظيم يوم القيامة لا يزن عند الله جناح بعوضة اقرؤوا إن شئتم فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا». رواه البخاري في التفسير، ومثله في التوبة. قال العلماء: معنى هذا الحديث أنهم لا ثواب لهم وأعمالهم مقابلة بالعذاب فلا حسنة لهم توزن في موازين القيامة ومن لا حسنة له فهو في النار. وقال أبو سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه: يؤتى بأعمال كجبال تهامة فلا تزن عند الله شيئا، وقيل: المراد المجاز والاستعارة كأنه قال لا قدر لهم عندنا يوم القيامة وفيه من الفقه ذم السمن لمن تكلفه لما في ذلك من تكلف المطاعم الزائدة على قدر الكفاية وقد قال صلى الله عليه وسلم: «إن أبغض الرجال إلى الله الحبر السمين». قال وهب بن منبه لما أرسل الله تعالى البعوض على النمروذ، اجتمع منه في عسكره ما لا يحصى عددا، فلما عاين النمروذ ذلك، انفرد عن جيشه ودخل بيته وأغلق الأبواب وأرخى الستور ونام على قفاه مفكرا، فدخلت بعوضة في أنفه وصعدت إلى دماغه فعذب بها أربعين يوما حتى إنه كان يضرب برأسه الأرض وكان أعز الناس عنده من يضرب رأسه ثم سقطت منه كالفرخ وهي تقول كذلك يسلط الله رسله على من يشاء من عباده ثم هلك حينئذ. وقال محمد بن العباس (2) الخوارزمي الطبرخزي في الوزير أبي القاسم المزني لما قبض عليه:
لا تعجبوا من صيد صعوبازيا ... إن الأسود تصاد بالخرفان ... قد غرقت أملاك حمير فأرة ... وبعوضة قتلت بني كنعان
وروى جعفر (3) الصادق بن محمد الباقر، عن أبيه قال: نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ملك الموت عليه السلام، عند رأس رجل من الأنصار فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ارفق بصاحبي فإنه مؤمن».
قال: «إني بكل مؤمن رفيق وما من أهل بيت إلا أتصفحهم في كل يوم خمس مرات ولو أني أردت قبض روح بعوضة ما قدرت حتى يكون من الله تعالى الأمر بقبضها». قال جعفر بن محمد بلغني أنه يتصفحهم عند مواقيت الصلاة انتهى.
ومن هذا وما تقدم عن مالك في البراغيث، يعلم أن ملك الموت هو الموكل بقبض كل ذي روح والبعوضة على صغر جرمها قد أودع الله تعالى في دماغها قوة الحفظ وفي وسطه قوة الفكر وفي مؤخره قوة الذكر. وخلق لها حاسة البصر وحاسة اللمس وحاسة الشم، وخلق لها منفذا اللغذاء ومخرجا للفضلة، وخلق لها جوفا وأمعاء وعظاما. فسبحان من قدر فهدى ولم يخلق شيئا من المخلوقات سدى وأنشد الزمخشري (4) في تفسير سورة البقرة:
__________
(1) رواه البخاري في تفسير السورة: 618. ورواه مسلم في المنافقين: 18.
(2) هو محمد بن العباسي الخوارزمي، أبو بكر، كاتب شاعر عالم، توفي في نيسابور سنة 383هـ.
(3) جعفر بن محمد الباقر بن علي زين العابدين بن الحسين السبط، سادس الأئمة الإثني عشر عند الإمامية، مات سنة 148هـ.
(4) الزمخشري: هو محمود بن عمر بن محمد بن أحمد الخوارزمي الزمخشري، جار الله أبو القاسم، عالم مفسّر لغوي أديب، من مؤلفاته اللغوية «أساس البلاغة» وفي التفسير «الكشّاف». توفي سنة 538هـ. والأبيات في وفيات الأعيان: 5/ 172.(2/187)
يا من يرى مد البعوض جناحها ... في ظلمة الليل البهيم الأليل ... ويرى مناط عروقها في نحرها ... والمخ في تلك العظام النحل (1)
... امنن علي بتوبة تمحو بها ... ما كان مني في الزمان الأول (2)
ونقل ابن خلكان عن بعض الفضلاء، أن الزمخشري أوصى أن تكتب هذه الأبيات على قبره. ويروي عوض امنن علي بتوبة كما قال بعضهم:
اغفر لعبد تاب من فرطاته ... ما كان منه في الزمان الأول
وفي تاريخ (3) ابن خلكان وغيره أن الزمخشري كان يعتقد الاعتزال ويتظاهر به، وكان إذا استأذن على صاحب له بالدخول، يقول: أبو القاسم المعتزلي بالباب. وأول ما صنف من الكتب الكشاف فكتب في أول خطبته: الحمد لله الذي خلق القرآن فقيل له: إن تركته على هذه الهيئة، هجره الناس فغيره، وقال: الحمد لله الذي جعل القرآن وجعل عندهم بمعنى خلق. ويوجد في كثير من النسخ الحمد لله الذي أنزل القرآن وهو من إصلاح الناس لا من إصلاح المصنف فافهم. توفي الزمخشري ليلة عرفة سنة ثمان وثلاثين وخمسمائة وقد تكلم في الإحياء في باب المحبة على خلق البعوضة وصفتها وما أودعه الله تعالى فيها من الأسرار.
فائدة:
رأيت في كتاب الدعاء للشيخ الإمام العلامة أبي بكر محمد بن الوليد الفهري الطرطوشي (4)، ويعرف بابن أبي رنده بالراء المهملة المفتوحة وتسكين النون، وهو إمام ورع أديب متقلل، وفاته بالأسكندرية سنة اثنتين وخمسمائة، عن مطرف بن عبد الله بن أبي مصعب المدني أنه قال: دخلت على المنصور فوجدته مغموما حزينا قد امتنع من الكلام، لفقد بعض أحبته فقال لي: يا مطرف طرقني من الهم ما لا يكشفه إلا الله الذي بلا به، فهل من دعاء أدعو به عسى يكشفه الله عني؟ فقلت: يا أمير المؤمنين حدثني محمد بن ثابت عن عمر بن ثابت البصري قال:
دخلت في أذن رجل من أهل البصرة بعوضة حتى وصلت إلى صماخه فأنصبته وأسهرته ليله ونهاره، فقال له رجل من أصحاب الحسن البصري: يا هذا ادع بدعاء العلاء بن الحضرمي صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي دعا به في المفازة وفي البحر فخلصه الله تعالى. فقال له الرجل: وما هو رحمك الله؟ فقال قال أبو هريرة رضي الله تعالى عنه: بعث العلاء بن الحضرمي في جيش، كنت فيهم، إلى البحرين فسلكنا مفازة فعطشنا عطشا شديدا حتى خفنا الهلاك، فنزل العلاء وصلى ركعتين ثم قال: يا حليم يا عليم يا علي يا عظيم اسقنا، فجاءت سحابة كأنها جناح طائر، فقعقعت علينا وأمطرتنا حتى ملأنا الانية، وسقينا الركاب ثم انطلقنا حتى أتينا على خليج من البحر، ما خيض قبل ذلك اليوم، ولا خيض بعده، فلم نجد سفنا فصلى العلاء ركعتين، ثم
__________
(1) في الوفيات: «ويرى عروق نياطها في نحرها».
(2) في الوفيات: «اغفر لعبد تاب من فرطاته ما كان منه».
(3) وفيات الأعيان: 5/ 172.
(4) هو محمد بن الوليد بن محمد بن خلف القرشي الفهري الأندلسي، أديب فقيه مالكي من أهل طرطوشة بشرقي الأندلس. مات سنة 502هـ.(2/188)
قال: يا حليم يا عليم يا علي يا عظيم أجرنا، ثم أخذ بعنان فرسه ثم قال بسم الله جوزوا. قال أبو هريرة رضي الله تعالى عنه: فمشينا على الماء فو الله ما ابتل لنا قدم ولا خف ولا حافر. وكان الجيش أربعة آلاف. قال فدعا الرجل بها فو الله ما برحنا حتى خرجت من أذنه لها طنين، حتى صكت الحائط وبرأ الرجل.
قال: فاستقبل المنصور القبلة ودعا بهذا الدعاء ساعة ثم أقبل بوجهه إلي وقال: يا مطرف قد كشف الله عني ما كنت أجده من الهم، ودعا بالطعام فأجلسني فأكلت معه. ويقرب من هذا ما حكاه ابن خلكان في ترجمة موسى (1) الكاظم بن جعفر الصادق أن هارون الرشيد حبسه في بغداد ثم دعا صاحب شرطته ذات يوم فقال له: رأيت في منامي حبشيا أتاني، ومعه حربة، وقال: إن لم تخل عن موسى بن جعفر وإلا نحرتك بهذه الحربة فإذهب فخلّ عنه وأعطه ثلاثين ألف درهم، وقل له إن أحببت المقام عندنا فلك عندي ما تحب، وإن أحببت المضي إلى المدينة فامض. قال صاحب الشرطة: ففعلت ذلك وقلت له: لقد رأيت من أمرك عجبا فقال: أنا أخبرك بينما أنا نائم إذ أتاني رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا موسى حبست مظلوما، فقل هذه الكلمات فإنك لا تبيت هذه الليلة في السجن، قل: يا سامع كل صوت ويا سابق كل فوت ويا كاسي العظام لحما ومنشرها بعد الموت، أسألك بأسمائك العظام وبإسمك الأعظم الأكبر المخزون المكنون الذي لم يطلع عليه أحد من المخلوقين يا حليما ذا أناة لا يقدر على اناته يا ذا المعروف الذي لا ينقطع معروفه أبدا، ولا نحصي له عددا، فرّج عني. فكان ما ترى.
وتوفي موسى الكاظم في رجب سنة ثلاث وقيل سنة سبع وثمانين ومائة ببغداد مسموما، وقيل إنه توفي في الحبس وكان الشافعي يقول قبر موسى الكاظم الترياق المجرب، وقد أذكرتني هذه الحكاية ما حكاه الخطيب أبو بكر في تاريخه وابن خلكان أيضا في ترجمة يعقوب (2) بن داود أن المهدي حبسه في بئر وبنى عليها قبة فمكث فيها خمس عشرة سنة وكان يدلي له فيها كل يوم رغيف خبز وكوز ماء، ويؤذن بأوقات الصلاة قال فلما كان في رأس ثلاث عشرة سنة أتاني آت في منامي فقال:
قد حن يوسف إلى رب فأخرجه ... من قعر جب وبيت حوله غمم (3)
قال: فحمدت الله تعالى وقلت: أتاني الفرج، فمكثت حولا لا أرى شيئا، ففي رأس الحول أتاني ذلك الآتي فأنشدني:
عسى فرج يأتي به الله إنه ... له كل يوم خليقته أمر
__________
(1) هو أبو الحسن موسى الكاظم بن جعفر الصادق بن محمد الباقر. وكان يدعى العبد الصالح كان يقيم بالمدينة حتى أيام الرشيد حيث حبسه في بغداد ومات في حبسه سنة 183هـ. قاله ابن خلكان في ترجمته في وفيات الأعيان: 5/ 308.
(2) يعقوب بن داود أبو عبد الله وزير المهدي العباسي. مات سنة 187هـ.
(3) البيت وما يليه في ترجمة يعقوب. وفيات الأعيان: 7/ 25. وفيه: «حسنّ علي يوسف رب فأخرجه.(2/189)
قال: ثم أقمت حولا آخر لا أرى شيئا، ثم أتاني ذلك الآتي في رأس الحول فأنشدني:
عسى الكرب الذي أمسيت فيه ... يكون وراءه فرج قريب ... فيأمن خائف ويفك عان ... ويأتي أهله النائي الغريب
قال: فلما أصبحت نوديت فظننت أني أوذن بالصلاة فأدلي لي حبل، فربطت نفسي به ونشلت من البئر فانطلق بي، فأدخلت على الرشيد فقيل لي: سلم على أمير المؤمنين، فقلت السلام عليك يا أمير المؤمنين المهدي فقال لي: لست به. فقلت: السلام عليك يا أمير المؤمنين الهادي. فقال لي: لست به. فقلت: السلام عليك يا أمير المؤمنين، فقال: الرشيد، فقلت الرشيد.
فقال: يا يعقوب، ما شفع فيه إلى أحد غير أني حملت الليلة صبية لي على عنقي فذكرت حملك إياي على عنقك، فرثيت لك وأخرجتك. وكان يعقوب يحمل الرشيد على عنقه وهو صغير يلاعبه ثم أمر له بجائزه وصرفه.
الحكم:
يحرم أكلها لاستقذارها.
فائدة:
روى البخاري في الأدب والترمذي في مناقب الحسن والحسين رضي الله تعالى عنهما، من حديث عبد الرحمن بن أبي نعيم قال: كنت عند ابن عمر رضي الله تعالى عنهما، فسأله رجل عن دم البعوض فقال: ممن أنت؟ قال: من أهل العراق. فقال ابن عمر رضي الله عنهما أنظروا إلى هذا يسألني عن دم البعوض وقد قتلوا ابن بنت الرسول الله صلى الله عليه وسلم، وسمعته صلى الله عليه وسلم يقول (1): «هما ريحانتاي من الدنيا». قال: ولم يكن أحد أشبه برسول الله صلى الله عليه وسلم، من الحسن والحسين رضي الله تعالى عنهما. وروى ابن حبان والترمذي عن علي رضي الله تعالى عنه، قال: «كان الحسن أشبه برسول الله صلى الله عليه وسلم ما بين الصدر والرأس والحسين أشبه برسول الله صلى الله عليه وسلم ما كان أسفل من ذلك (2)».
فائدة أخرى:
ذكر في الروض الزاهر عن الشعبي، قال: لما بلغ الحجاج أن يحيى بن يعمر يقول: إن الحسن والحسين رضي الله تعالى عنهما من ذرية رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان يحيى (3) بن يعمر بخراسان. فكتب الحجاج إلى قتيبة بن مسلم والي خراسان أن ابعث إلي يحيى بن يعمر، فبعث به إليه قال الشعبي: وكنت عند الحجاج حين أتي به إليه، فقال له الحجاج: بلغني أنك تزعم أن الحسن والحسين من ذرية رسول الله صلى الله عليه وسلم! قال: أجل يا حجاج. قال الشعبي: فعجبت من جراءته بقوله يا حجاج! فقال له الحجاج: والله إن لم تخرج منها، وتأتني بها مبينة واضحة من كتاب الله تعالى، لألقين الأكثر منك شعرا. ولا تأتني بهذه الآية {نَدْعُ أَبْنََاءَنََا وَأَبْنََاءَكُمْ وَنِسََاءَنََا وَنِسََاءَكُمْ} (4) قال: فإن خرجت من ذلك، وأتيتك بها واضحة مبينة من كتاب الله تعالى، فهو أماني؟ قال: نعم. فقال: قال الله تعالى: {وَوَهَبْنََا لَهُ إِسْحََاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنََا وَنُوحاً هَدَيْنََا}
__________
(1) رواه البخاري في فضائل الصحابة: 22والأدب: 18، ورواه الترمذي في المناقب: 30.
(2) رواه الترمذي في المناقب: 30.
(3) يحيى بن يعمر الوشقي العدواني، أبو سليمان تابعي عالم بالحديث والفقه واللغة وكان تلميذا لأبي الأسود الدؤلي. مات سنة 129هـ.
(4) سورة آل عمران: الآية 61.(2/190)
{مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دََاوُدَ وَسُلَيْمََانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسى ََ وَهََارُونَ وَكَذََلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ وَزَكَرِيََّا وَيَحْيى ََ وَعِيسى ََ وَإِلْيََاسَ} (1) ثم قال يحيى بن يعمر: فمن كان أبا عيسى وقد ألحقه الله بذرية إبراهيم؟ وما بين عيسى وإبراهيم أكثر مما بين الحسن والحسين. ومحمد صلوات الله عليه وسلامه.
فقال له الحجاج: ما أراك إلا قد خرجت، وأتيت بها مبينة واضحة، والله لقد قرأتها وما علمت بها قط، وهذا من الاستنباطات البديعة. ثم قال له الحجاج: أخبرني عني هل ألحن؟ فسكت. فقال:
أقسمت عليك. فقال: أما إذ أقسمت علي أيها الأمير، فإنك ترفع ما يخفض وتخفض ما يرفع.
فقال: ذاك والله اللحن السيء. ثم كتب إلى قتيبة بن مسلم: إذا جاءك كتابي هذا فاجعل يحيى بن يعمر على قضائك والسلام. وقيل: إن الحجاج قال ليحيى: أسمعتني ألحن؟ قال: في حرف واحد. قال: في أي؟ قال: في القرآن. قال: ذلك أشنع ما هو! قال: تقول {قُلْ إِنْ كََانَ آبََاؤُكُمْ وَأَبْنََاؤُكُمْ} (2) إلى قوله: {أَحَبَّ إِلَيْكُمْ} فتقرأها بالرفع. فقال له الحجاج: لا جرم تسمع لي لحنا. وألحقه بخراسان. قال الشعبي: كان الحجاج لما طال عليه الكلام نسي ما ابتدأ به.
وذكره ابن خلكان في ترجمة يحيى بن يعمر (3)، وفيه بعض مخالفة. قلت: في كلام يحيى تصريح بأن الضمير في ومن ذريته، يعود على إبراهيم والذي في الكواشي والبغوي وغيرهما أن الضمير يعود إلى نوح، لأن الله تعالى ذكر من جملتهم يونس ولوطا فقال: {وَزَكَرِيََّا وَيَحْيى ََ وَعِيسى ََ وَإِلْيََاسَ كُلٌّ مِنَ الصََّالِحِينَ وَإِسْمََاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطاً وَكلًّا فَضَّلْنََا عَلَى الْعََالَمِينَ} [4] ويونس ولوط من ذرية نوح لا من ذرية إبراهيم، لكن استدلاله صحيح على القول الثاني أيضا. قال ابن خلكان: كان يحيى بن يعمر تابعيا عالما بالقرآن والنحو، وكان شيعيا من الشيعة الأول، يتشيع تشيعا حسنا، يقول بتفضيل أهل البيت من غير تنقيص لأحد من الصحابة رضي الله تعالى عنهم. قال ابن خلكان: خطب أمير بالبصرة فقال: اتقوا الله فإنه من يتق الله فلا هوارة عليه.
فلم يدروا ما قال الأمير فسألوا أبا سعيد يحيى بن يعمر العدواني، فقال: الهوارة الضياع، كأنه قال من اتقى الله فلا ضياع عليه. والهورات المهالك واحدها هورة. وحدث الأصمعي بهذا الحديث، فقال: إن الغريب لواسع، لم أسمع بهذا قط. وتوفي يحيى بن يعمر سنة تسع وعشرين ومائة ويعمر بفتح الياء والميم بينهما عين مهملة ساكنة وقيل بضم الميم والأول أصح انتهى.
تتمة:
قال نصر الله بن يحيى، وكان من الثقات وأهل السنة: رأيت علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه في المنام، فقلت له: يا أمير المؤمنين تفتحون مكة فتقولون: من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ثم يتم على ولدك الحسين ما تم فقال لي: أما سمعت أبيات ابن الصيفي في هذا؟ فقلت: لا. فقال: إسمعها منه. ثم انتبهت فبادرت إلى حيص بيص، فذكرت له الرؤيا فشهق وبكى وحلف بالله لم تخرج من فمه ولا خطه إلى أحد وما نظمها إلا في ليلته ثم أنشدني قوله (5):
ملكنا فكان العفو منا سجية ... فلما ملكتم سال بالدم أبطح
__________
(1) سورة الأنعام: الآية 868584.
(2) سورة التوبة: الآية 24.
(3) وفيات الأعيان: 6/ 173.
(4) سورة الأنعام: الآية 85.
(5) الأبيات مع ترجمة حيص بيص: 2/ 365.(2/191)
وحللتمو قتل الأسارى وطالما ... عدونا على الأسرى فنعفو ونصفح (1)
... وحسبكمو هذا التفاوت بيننا ... وكل إناء بالذي فيه ينضح (2)
وإسم الحيص بيص سعد بن محمد أبو الفوارس التميمي شاعر مشهور، ويعرف بابن الصيفي ولقب بالحيص بيص لأنه رأى الناس يوما في حركة مزعجة وأمر شديد، فقال: ما للناس في حيص بيص؟ فبقي عليه هذا اللقب. ومعنى هاتين الكلمتين الشدة والاختلاط، وتفقه على مذهب الإمام الشافعي وغلب عليه الأدب ونظم الشعر وكان مجيدا فيه وكان إذا سئل عن عمره يقول: أنا أعيش في الدنيا مجازفة لأنه كان لا يحفظ مولده وتوفي سنة أربع وسبعين وخمسمائة.
ومن محاسن شعره:
يا طالب الرزق في الآفاق مجتهدا ... أقصر عناك فإن الرزق مقسوم ... الرزق يسعى إلى من ليس يطلبه ... وطالب الرزق يسعى وهو محروم
وله أيضا:
يا طالب الطب من داء أصيب به ... إن الطبيب الذي أبلاك بالداء ... هو الطبيب الذي يرجى لعافية ... لا من يذيب لك الترياق في الماء
وله أيضا:
إله عما استأثر الله به ... أيها القلب ودع عنك الحرق ... فقضاء الله لا يدفعه ... حول محتال إذا الأمر سبق
وله أيضا:
أنفق ولا تخش إقلالا فقد قسمت ... على العباد من الرحمن ارزاق ... لا ينفع البخل مع دنيا مولية ... ولا يضر مع الإقبال إنفاق
الأمثال: قالوا (3): «أعز من مخ البعوض» وقالوا (4): «كلفتني مخ البعوض»، يضرب لمن يكلف الأمور الشاقة. «وأضعف من بعوضة (5)».
فائدة:
قوله تعالى: {إِنَّ اللََّهَ لََا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مََا بَعُوضَةً فَمََا فَوْقَهََا} (6). قال الحسن وغيره: سبب نزولها أن الكفار أنكروا ضرب الأمثال، في غير هذه السورة بالذباب والعنكبوت، وقيل لما ضرب الله تعالى المثلين، في أول السورة للمنافقين، يعني قوله (7) تعالى:
{مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نََاراً} وقوله تعالى: {أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمََاءِ} (8) قالوا: والله أجل وأعلى من أن يضرب الأمثال. فأنزل الله تعالى هذه الآية. قال الكسائي وأبو عبيدة وغيرهما:
__________
(1) في الوفيات: «نعف ونصفح».
(2) «فحسبكم هذا».
(3) جمهرة الأمثال: 2/ 56.
(4) مجمع الأمثال: 2/ 147.
(5) جمهرة الأمثال: 2/ 8.
(6) سورة البقرة: الآية 26.
(7) سورة البقرة: الآية 17.
(8) سورة البقرة: الآية 19.(2/192)
المعنى فما فوقها في الصغر. وقال قتادة وابن جريج وغيرهما: المعنى في الكبر. قال ابن عطية: الكل محتمل والله أعلم.
البعير:
سمي بعيرا لأنه يبعر، يقال: بعر البعير بفتح العين فيهما بعرا بإسكان العين كذبح يذبح ذبحا، قاله ابن السكيت وهو إسم على الذكر والأنثى وهو من الإبل بمنزلة الإنسان من الناس، فالجمل بمنزلة الرجل، والناقة بمنزلة المرأة، والقعود بمنزلة الفتى، والقلوص بمنزلة الجارية، وحكي عن بعض العرب: صرعتني بعيري، أي ناقتي، وشربت من لبن بعيري. وإنما يقال له بعيرا إذا أجذع، والجمع أبعرة وأباعر وبعران. قال مجاهد في قوله (1) تعالى: {وَلِمَنْ جََاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ} أراد بالبعير الحمار، لأن بعض العرب يقول للحمارا بعير، وهذا شاذ، ولو أوصى ببعير تناول الناقة على الأصح. وهو كالخلاف في تناول الشاة الذكر، وإن كان عكسه في الصورة.
والوجه الثاني عدم التناول. وهو المحكي عن النص، والمعروف في كلام الناس خلاف كلام العرب تنزيلا للبعير منزلة الجمل. قال الرافعي: وربما أفهمك كلامهم توسطا بين تنزيل النص، على ما إذا عم العرف باستعمال البعير بمعنى الجمل، والعمل بما تقتضيه اللغة إذا لم يعم لا جرم.
قال الشيخ الإمام السبكي: إن تصحيح خلاف النص في مثل هذه المسائل بعيد، لأن الشافعي رضي الله عنه اعرف باللغة، فلا يخرج عنها إلا لعرف مطرد، فإن صح عرف بخلاف قوله اتبع، وإلا فالأولى اتباع قوله.
فرع:
لو وقع بعيران في بئر، أحدهما فوق الآخر، فطعن الأعلى ومات الأسفل بثقله، حرم الأسفل لأن الطعنة لم تصبه، فإن أصابتها حلا جميعا. فإذا شك هل مات بالثقل أم بالطعنة النافذة، وقد علم أنها اصابته قبل مفارقة الروح حل. وإن شك هل أصابته قبل مفارقة الروح أم بعدها؟ قال البغوي في الفتاوى: يحتمل وجهين، بناء على أن العبد الغائب المنقطع خبره هل يجزىء اعتاقه عن الكفارة أم لا؟ ومن ذلك ما لو رمى غير مقدور عليه، فصار مقدورا عليه، ثم أصاب غير مذبحه لم يحل. ولو رمى مقدورا عليه فصار غير مقدور عليه، فأصاب غير مذبحه لم يحل. فإن أصاب مذبحه حل. وفي سنن أبي داود النسائي وابن ماجه، عن عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا تزوج أحدكم امرأة أو اشترى جارية أو غلاما أو دابة، فليأخذ بناصيتها وليقل: أللهم إني أسألك خيره وخير ما جبل عليه، وأعوذ بك من شره وشر ما جبل عليه. وإذا اشترى بعيرا فليأخذ بذروة سنامه وليدع بالبركة وليقل مثل (2) ذلك».
فائدة:
قال ابن الأثير: «خرج خلاد بن رافع وأخوه رضي الله عنهما إلى بدر على بعير أعجف، فلما انتهيا إلى قرب الروحاء، برك البعير. قال فقلنا: أللهم لك علينا، إن انتهينا إلى بدر، أن ننحره فرآنا النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «ما بالكما». فأخبرناه، فنزل النبي صلى الله عليه وسلم فتوضأ ثم بزق في وضوئه ثم أمرهما ففتحا فم البعير فصب في جوفه، ثم على رأسه، ثم على عنقه، ثم على غاربه، ثم على سنامه، ثم على عجزه، ثم على ذنبه، ثم قال صلى الله عليه وسلم: «أللهم احمل رفاعة وخلادا». فقمنا نرحل،
__________
(1) سورة يوسف: الآية 72.
(2) رواه أبو داود في النكاح: 45. وابن ماجه في النكاح: 27. والموطأ في النكاح: 52.(2/193)
فأدركنا أول الركب فلما انتهينا إلى بدر برك فنحرناه وتصدقنا بلحمه.
فائدة أخرى:
روى أبو القاسم الطبراني، في كتاب الدعوات، عن زيد بن ثابت رضي الله تعالى عنه، قال: غزونا غزوة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى إذا كنا في مجمع طرق المدينة، فبصرنا بأعرابي أخذ بخطام بعير حتى وقف على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونحن حوله فقال: السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، فرد النبي صلى الله عليه وسلم عليه السلام، وقال: «كيف أصبحت»؟ فجاء رجل كأنه حرسي فقال: يا رسول الله هذا الأعرابي سرق بعيري هذا، فرغا البعير وحن ساعة، فأنصت له النبي صلى الله عليه وسلم يسمع رغاءه وحنينه، فلما هدأ البعير أقبل النبي صلى الله عليه وسلم على الحرسي وقال: «انصرف عنه، فإن البعير يشهد عليك أنك كاذب». فانصرف الحرسي وأقبل النبي صلى الله عليه وسلم على الأعرابي، وقال:
«أي شيء قلت حين جئتني»؟ فقال: بأبي أنت وأمي يا رسول الله قلت: اللهم صلّ على محمد حتى لا تبقى صلاة، اللهم وبارك على محمد حتى لا تبقى بركة، اللهم وسلم على محمد حتى لا يبقى سلام، اللهم وارحم محمدا حتى لا تبقى رحمة. فقال صلى الله عليه وسلم: «إن الله تبارك وتعالى أبداها لي، والبعير ينطق بقدرته، وإن الملائكة قد سدوا أفق السماء». وفيه أيضا عن نافع عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: «جاؤوا برجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فشهدوا عليه أنه سرق ناقة لهم فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يقطع، فولى الرجل وهو يقول: اللهم صلّ على محمد حتى لا يبقى من صلواتك شيء، وبارك على محمد حتى لا يبقى من بركاتك شيء، وسلم على محمد حتى لا يبقى من سلامك شيء.
فتكلم البعير وقال يا محمد إنه بريء من سرقتي. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «من يأتي بالرجل فابتدر إليه سبعون من أهل بدر، فجاؤوا به إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا هذا ما قلت آنفا؟ فأخبره بما قال، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «لأجل ذلك رأيت الملائكة يخترقون سكك المدينة، حتى كادوا يحولون بيني وبينك، ثم قال صلى الله عليه وسلم: لتردن على الصراط ووجهك أضوأ من القمر ليلة البدر». اه. وسيأتي، إن شاء الله تعالى، في الناقة حديث رواه الحاكم في هذا المعنى.
وروى (1) ابن ماجه عن تميم الداري رضي الله تعالى عنه قال: «كنا جلوسا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ أقبل علينا بعير يعدو حتى وقف على هامة رسول الله صلى الله عليه وسلم ورغا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أيها البعير اسكن فإن تك صادقا فلك صدقك، وإن تك كاذبا فعليك كذبك، مع أن الله قد أمن عائذنا، وليس بخائب لائذنا». فقلنا: يا رسول الله ما يقول هذا البعير؟
فقال صلى الله عليه وسلم: «هذا بعير قد هم أهله بنحره وأكل لحمه، فهرب منهم واستغاث بنبيكم». فبينما نحن كذلك، إذ أقبل أصحابه يتعادون فلما نظر إليهم البعير، عاد إلى هامة رسول الله صلى الله عليه وسلم فلاذ بها، فقالوا: يا رسول الله هذا بعيرنا هرب منذ ثلاثة أيام فلم نلقه إلا بين يديك. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أما أنه يشكو إلي ويبث الشكاية» فقالوا: يا رسول الله ما يقول؟ قال: يقول:
«إنه ربي في أمنكم أحوالا، وكنتم تحملون عليه في الصيف إلى موضع الكلأ فإذا كان الشتاء، حملتم عليه إلى موضع الدفء فلما كبر استفحلتموه، فرزقكم الله تعالى منه إبلا سائمة، فلما أدركته هذه السنة الخصبة هممتم بنحره وأكل لحمه». فقالوا: يا رسول الله قد والله كان ذلك: فقال
__________
(1) الحديث بتمامه رواه ابن حنبل: 4/ 172، 173.(2/194)
عليه الصلاة والسلام: «ما هذا جزاء المملوك الصالح من مواليه». فقالوا: يا رسول الله فإنا لا نبيعه ولا ننحره. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «كذبتم فقد استغاث بكم فلم تغيثوه، وأنا أولى بالرحمة منكم، فإن الله تعالى قد نزع الرحمة من قلوب المنافقين، وأسكنها في قلوب المؤمنين» فاشتراه عليه الصلاة والسلام منهم بمائة درهم، وقال: «أيها البعير انطلق فأنت حر لوجه الله تعالى». قال: فرغا البعير على هامة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال عليه الصلاة والسلام. «آمين»، ثم رغا الثانية فقال: «آمين» ثم رغا الثالثة فقال: «آمين» ثم رغا الرابعة فبكى عليه الصلاة والسلام. فقلنا: يا رسول الله ما يقول هذا البعير؟ قال صلى الله عليه وسلم: «قال جزاك الله أيها النبي عن الإسلام والقرآن خيرا فقلت: آمين.
ثم قال: سكن الله رعب أمتك إلى يوم القيامة كما سكنت رعبي، فقلت: آمين. ثم قال: حقن الله دماء أمتك من أعدائها كما حقنت دمي. فقلت: آمين. ثم قال: لا جعل الله بأسها بينها، فبكيت. فإن هذه الخصال سألتها ربي فأعطانيها، ومنعني هذه وأخبرني جبريل عليه السلام، عن الله عزّ وجلّ، أن فناء أمتي بالسيف جرى القلم بما هو كائن».
تتمة:
قال الطرطوشي في سراج الملوك، وابن بلبان (1)، والمقدسي في شرح الأسماء الحسنى، وغيرهم عن الفضل بن الربيع قال: حج الرشيد، فبينما أنا نائم ذات ليلة إذ سمعت قرع الباب فقلت: من هذا؟ قيل: أجب أمير المؤمنين: فخرجت مسرعا فوجدت الرشيد، فقلت: يا أمير المؤمنين لو أرسلت إلي أتيتك. فقال: ويحك قد حاك في نفسي أمر لا يخرجه إلا عالم، فانظر لي رجلا اسأله عنه. فقلت: يا أمير المؤمنين، ههنا سفيان بن عيينة، قال: فامض بنا إليه، فأتيناه فقرعنا عليه الباب فقال: من هذا؟ فقلت: أجب أمير المؤمنين، فخرج مسرعا وقال: يا أمير المؤمنين لو أرسلت إلي أتيتك. قال: جد لما جئنا له، فحادثه ساعة، ثم قال له: أعليك دين؟ قال: نعم.
قال: يا عباس اقض دينه. ثم انصرفنا فقال: ما أغنى عني صاحبك هذا شيئا. فانظر لي رجلا أسأله. قال: فقلت: ههنا الفضيل بن عياض، قال: امض بنا إليه. فأتيناه فإذا هو قائم يصلي، يتلو آية من كتاب الله عزّ وجلّ ويرددها فقرعت الباب، فقال: من هذا؟ فقلت: أجب أمير المؤمنين فقال: ما لي ولأمير المؤمنين؟ فقلت: سبحان الله أما تجب عليك طاعته؟ فقال: أو ليس قد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ليس لمؤمن أن يذل نفسه (2)». وفتح الباب ثم ارتقى إلى أعلى الغرفة مسرعا، فأطفأ السراج والتجأ إلى زاوية من زوايا الغرفة، فجعلنا نجول عليه بأيدينا فسبقت كف الرشيد إليه فقال: أواه ما ألينها من يد، إن نجت غدا من عذاب الله! فقلت في نفسي ليكلمنه الليلة بكلام نقي من قلب تقي، فقال: جد لما جئنا له، قال: وفيم جئت حملت على نفسك، وجميع من معك حملوا عليك، حتى لو سألتهم عند انكشاف الغطاء عنك وعنهم، أن يحملوا عنك شقصا من ذنب ما فعلوا، ولكان أشدهم حبا لك، أشدهم هربا منك. ثم قال: إن عمر بن عبد العزيز، لما ولي
__________
(1) هو علي بن عبد الله علاء الدين الفارسي فقيه حنفي سكن القاهرة، له مصنفات منها «الأحاديث العوالي» توفي سنة 739هـ.
(2) رواه ابن ماجه في الفتن 21، والترمذي في الفتن 66، وابن حنبل: 5/ 405. ولفظه: «لا ينبغي لمؤمن».(2/195)
الخلافة، دعا سالم (1) بن عبد الله بن عمرو محمد بن كعب القرظي (2) ورجاء بن (3) حيوة، وقال لهم: إني قد ابتليت بهذا البلاء، فأشيروا علي؟ فعد الخلافة بلاء وعددتها أنت وأصحابك نعمة.
فقال له سالم بن عبد الله: إن أردت النجاة غدا من عذاب الله، فصم عن الدنيا، وليكن إفطارك فيها على الموت. وقال له محمد بن كعب: إن أردت النجاة غدا من عذاب الله، فليكن كبير المسلمين لك أبا، وأوسطهم لك أخا، وأصغرهم لك ولدا، فبر أباك، وارحم أخاك، وتحنن على ولدك. وقال له رجاء بن حيوة: إن أردت النجاة غدا، من عذاب الله، فأحب للمسلمين ما تحب لنفسك، واكره لهم ما تكره لنفسك، ثم متى شئت مت، وإني لأقول لك هذا، وإني لأخاف عليك أشد الخوف، يوم تزل الاقدام، فهل معك، يرحمك الله، مثل هؤلاء القوم، من يأمرك بمثل هذا؟ قال: فبكى هارون الرشيد بكاء شديدا حتى غشي عليه. فقلت: يا أمير المؤمنين بلغني أن عاملا لعمر بن عبد العزيز شكا إليه السهر، فكتب إليه عمر يقول: يا أخي اذكر سهر أهل النار في النار، وخلود الآباد فيها، فإن ذلك يطرد بك إلى ربك نائما ويقظان، وإياك أن تزل قدمك عن هذا السبيل، فيكون آخر العهد بك، ومنقطع الرجاء منك، والسلام. فلما قرأ كتابه طوى البلاد حتى قدم عليه، فقال له عمر: ما أقدمك؟ قال: خلعت قلبي بكتابك، لا وليت لك ولاية أبدا حتى ألقى الله سبحانه وتعالى. فبكى هارون بكاء شديدا، ثم قال: زدني يرحمك الله، فقال: يا أمير المؤمنين، إن جدك العباس رضي الله عنه عم النبي صلى الله عليه وسلم جاءه، فقال: يا رسول الله أمرني على إمارة، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «يا عباس يا عم النبي نفس تحييها خير من إمارة تحصيها إن الإمارة حسرة وندامة يوم القيامة فإن استطعت أن لا تكون أميرا فافعل (4)». فبكى هارون بكاء شديدا. ثم قال: زدني يرحمك الله، فقال: يا حسن الوجه أنت الذي يسألك الله عزّ وجلّ يوم القيامة عن هذا الخلق، فإن استطعت أن تقي هذا الوجه من النار فافعل، وإياك أن تصبح أو تمسي وفي قلبك غش لرعيتك، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «من أصبح لهم غاشا لم يرح رائحة الجنة (5)». فبكى هارون بكاء شديدا ثم قال:
أعليك دين؟ قال: نعم دين لربي يحاسبني عليه، فالويل لي إن سألني، والويل لي إن لم يلهمني حجتي. فقال: هارون إنما أعني دين العباد. فقال: إن ربي لم يأمرني بهذا، وإنما أمرني أن أصدق وعده، وأطيع أمره، فقال (6) تعالى: {وَمََا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلََّا لِيَعْبُدُونِ مََا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمََا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ إِنَّ اللََّهَ هُوَ الرَّزََّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} فقال له الرشيد: هذه ألف دينار، خذها فأنفقها على عيالك، وتقو بها على عبادة ربك. فقال فضيل: سبحان الله أنا أدلك على النجاة
__________
(1) رواه البخاري في الأحكام: 7. والنسائي في البيعة 39، والقضاة: 5وابن حنبل: 2/ 448، 476.
(2) سالم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب، من فقهاء المدينة السبعة. توفي بالمدينة سنة 106هـ.
(3) محمد بن كعب بن سليم القرظي، عالم بتفسير القرآن مات سنة 108هـ. وقيل سنة 117هـ.
(4) رجاء بن حيوة بن جرول الكندي أبو المقدام، شيخ أهل الشام في عصره، لازم عمر بن عبد العزيز وكتب لسليمان بن عبد الملك. مات سنة 112هـ.
(5) رواه البخاري في الجزية: 5، والديات 30، والأحكام 8، ورواه أبو داود في الترجل: 20ورواه الترمذي في الطلاق: 11، والديات: 11، ورواه النسائي في الزينة: 15.
(6) سورة الذاريات: الآية 56.(2/196)
وتكافئني بمثل هذا سلمك الله! ثم صمت فلم يكلمنا، فخرجنا من عنده، فقال لي الرشيد: إذا دللتني على رجل فدلّني على مثل هذا فإن هذا سيد المؤمنين اليوم. ويروى أن امرأة من نسائه دخلت عليه فقالت: يا هذا قد ترى ما نحن فيه من ضيق الحال، فلو قبلت هذا المال لانفرجنا به. فقال:
إن مثلي ومثلكم كمثل قوم كان لهم بعير، يأكلون من كسبه، فلما كبر نحروه وأكلوا لحمه. موتوا يا أهلي جوعا ولا تنحروا فضيلا. فلما سمع الرشيد ذلك، قال: ادخل بنا فعسى أن يقبل المال.
قال: فدخلنا فلما علم بنا الفضيل خرج فجلس على السطح، فوق التراب. فجاء هارون الرشيد فجلس إلى جنبه، فكلمه فلم يرد عليه، فبينما نحن كذلك، إذ خرجت جارية سوداء فقالت: يا هذا قد أذيت الشيخ منذ أتيته، فانصرف يرحمك الله راشدا. فانصرفنا. وقال القاضي ابن خلكان في ترجمة (1) الفضيل رحمه الله: فبلغ ذلك سفيان الثوري، فجاء إليه وقال له: يا أبا علي قد أخطأت في ردك البدرة ألا أخذتها وصرفتها في وجوه البر. فأخذ بلحيته وقال: يا أبا محمد أنت فقيه بالبلد والمنظور إليه وتغلط مثل هذا الغلط! لو طابت لأولئك لطابت لي. اهـ.
ولعل المذكور إنما كان سفيان بن عيينة لا سفيان الثوري والله أعلم.
وقال الرشيد لفضيل بن عياض: يرحمك الله ما أزهدك! فقال: أنت أزهد مني لأني أزهد في الدنيا وأنت تزهد في الآخرة والدنيا فانية والآخرة باقية! وقيل إن الفضيل، كانت له ابنة صغيرة، فوجع كفها فسألها يوما وقال: يا بنية ما حال كفك؟ فقالت: يا أبت بخير والله لئن كان الله تعالى ابتلى مني قليلا، فلقد عافى مني كثيرا ابتلى كفي وعافى سائر بدني فله الحمد على ذلك. فقال: يا بنية أريني كفك فأرته فقبّله، فقالت: يا أبت أناشدك الله هل تحبني؟ قال:
اللهم نعم. فقالت: سوأة لك من الله، والله ما ظننت أنك تحب مع الله سواه. فصاح الفضيل وقال: يا سيدي صبية صغيرة، تعاتبني في حبي لغيرك. وعزتك وجلالك لا أحببت معك سواك.
وشكا رجل إلى الفضيل بن عياض حاله فقال له: يا أخي هل من مدبر غير الله تعالى؟ فقال: لا.
قال: فارض به مدبرا. وقال: إني لأعصى الله تعالى، فأعرف ذلك في خلق حماري وخادمي.
وقال: إذا أحب الله تعالى عبدا أكثر غمه. وإذا أبغضه وسع عليه دنياه. وقال النووي في أذكاره:
قال السيد الجليل فضيل بن عياض رضي الله تعالى عنه: ترك العمل لأجل الناس رياء، والعمل لأجل الناس شرك، والإخلاص أن يعافيك الله منهما. وسئل الفضيل بن عياض رضي الله تعالى عنه عن المحبة فقال: هي أن تؤثر الله عزّ وجلّ على ما سواه وقال رضي الله تعالى عنه: لو كان لي دعوة مستجابة لم أجعلها إلا للإمام لأن الله تعالى إذا أصلح الإمام، أمن البلاد والعباد. وقال رضي الله تعالى عنه: لأن يلاطف الرجل أهل مجلسه، ويحسن خلقه معهم، خير له من قيام ليله وصيام نهاره. وقال رضي الله تعالى عنه: ربما قال الرجل: لا إله إلا الله، أو سبحان الله، فأخشى عليه النار. فقيل له: كيف ذلك؟ قال: يغتاب بين يديه أحد فيعجبه ذلك، فيقول: لا إله إلا الله، أو سبحان الله، وليس هذا موضعهما، وإنما هو موضع أن ينصح له في نفسه، ويقول: اتق الله. وبلغه رضي الله تعالى عنه أن ابنه عليا قال: وددت أن أكون بمكان أرى فيه الناس ولا
__________
(1) وفيات الأعيان: 4/ 47.(2/197)
يروني. فقال: ويح علي لو أتمها فقال: بمكان لا أرى فيه الناس، ولا يروني. وكان رضي الله تعالى عنه، قد جاور بمكة وأقام بها وتوفي في المحرم سنة سبع وثمانين ومائة.
وفي تاريخ ابن خلكان أن سفيان الثوري بلغه مقدم الأوزاعي، فخرج إلى ملتقاه فلقيه بذي طوى، فحل سفيان خطام بعيره من القطار ووضعه على رقبته، فكان إذا مر بجماعة قال:
الطريق للشيخ. والأوزاعي اسمه عبد الرحمن بن عمرو بن بحمد أبو عمرو الأوزاعي، إمام أهل الشأم. قيل: إنه أجاب في سبعين ألف مسألة. وكان يسكن بيروت وبحمد بضم الباء الموحدة وسكون الحاء المهملة. وقال النووي في تهذيب الأسماء واللغات: بضم الياء المثنات تحت وكسر الميم. والأوزاعي من تابع التابعين. قال الأوزاعي رحمه الله تعالى: رأيت رب العزة في المنام، فقال لي: يا عبد الرحمن أنت الذي تأمر بالمعروف، وتنهى عن المنكر. قلت: بفضلك يا رب. ثم قلت: يا رب أمتني على الإسلام. فقال عزّ وجلّ: وعلى السنة أيضا. وتوفي رحمه الله، في شهر ربيع الأول سنة سبع وخمسين ومائة، وكان سبب موته أنه دخل حمام بيروت، وكان لصاحب الحمام شغل، فأغلق الباب عليه، وذهب ثم جاء وفتح الباب، فوجده ميتا قد وضع يده اليمنى تحت خده، وهو مستقبل القبلة. وقيل: إن امرأته فعلت ذلك به ولم تكن عامدة لذلك. والأوزاع قرية بدمشق، ولم يكن أبو عمرو منهم، وإنما نزل فيهم، فنسب إليهم.
وهو من سبي اليمن. وقال النووي: إنه ولد ببعلبك سنة ثمان وثمانين، وهو مدفون في قبلة مسجد قرية حنتوس، وهي على باب بيروت. وأهل القرية لا يعرفونه، بل يقولون: ههنا قبر رجل صالح ينزل عليه النور، ولا يعرفه إلا الخواص من الناس رحمة الله عليه.
الحكم:
البعير تقدم حكمه في الإبل. ويستحب عند ركوب الإبل، أن يذكر اسم الله تعالى عليها، لما روى أحمد والطبراني عن أبي لاس الخزاعي قال: حملنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على إبل من الصدقة ضعاف للحج، فقلنا: يا رسول الله ما نرى أن تحملنا هذه! فقال (1): «ما من بعير إلا وفي ذروته شيطان، فإذا ركبتموها، فاذكروا اسم الله عليها كما أمركم الله، ثم امتهنوها لأنفسكم، فإنما يحمل الله عزّ وجلّ». وقد أشار البخاري، في صحيحه في أبواب الزكاة، إلى بعض هذا الحديث ولم يذكره بتمامه.
الأمثال:
قالوا (2): «أخف حلما من بعير». وقالوا (3): «هما كركبتي بعير» إشارة إلى الاستواء. كما قالوا (4): «هما كفرسي رهان». والمثل لهرم بن قطية الفزاري، وقد أطال فيه الميداني
__________
(1) رواه البخاري في الاستئذان: 38، وابن حنبل: 3/ 494. 4/ 221.
(2) جمهرة الأمثال: 1/ 347.
(3) جمهرة الأمثال: 2/ 281.
(4) جمهرة الأمثال: 2/ 289.(2/198)
وغيره. وقالوا (1) «كالحادي وليس له بعير». يضرب للمتشبع بما لم يعط، وأحسن من هذا وأوجز قوله (2) صلى الله عليه وسلم: «المتشبع بما لم يعط كلابس ثوبي زور».
وقال بعض المعمرين:
أصبحت لا أحمل السلاح ولا ... أملك رأس البعير إذ نفرا ... والذئب أخشاه إن مررت به ... وحدي وأخشى الرياح والمطرا ... من بعد ما قوة أصيب بها ... أصبحت شيخا أعالج الكبرا
تذنيب:
قال الإمام أبو الفرج بن الجوزي، في الأذكياء (3) وغيره، روي أن الحسن بن هانىء، الشهير بأبي نواس، قال استقبلتني امرأة في هودج على بعير، ولم تكن تعرفني، فأسفرت عن وجهها، فإذا هو في غاية الحسن والجمال، فقالت: ما اسمك؟ فقلت: وجهك.
فقالت: الحسن إذن. ومما يشبه هذا الذكاء، ما نقل أن المأمون غضب على عبد الله بن طاهر، وشاور أصحابه في الإيقاع به، وكان قد حضر ذلك المجلس صديق له، فكتب له كتابا فيه «بسم الله الرحمن الرحيم يا موسى»، فلما فضه ووجد ذلك فعجب وبقي يطيل النظر إليه ولا يفهم معناه، وكانت له جارية واقفة على رأسه، فقالت له: يا سيدي إني أفهم معنى هذا. فقال: وما هو؟ فقالت: إنه أراد قوله (4) تعالى: {يََا مُوسى ََ إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ} وكان قد عزم على الحضور إلى المأمون، فثنى العزم عن ذلك واعتذر للمأمون في عدم الحضور. فكان ذلك سبب سلامته. وأحسن من هذا ما ذكره ابن خلكان فقال: إن بعض الملوك غضب على بعض عماله، فأمر وزيره أن يكتب إليه كتابا يشخصه به، وكان للوزير بالعامل عناية فكتب إليه كتابا، وكتب في آخره إن شاء الله تعالى، وجعل في صدر النون شدة، فتعجب العامل كيف وقعت هذه الحركة من الوزير، إذ من عادة الكتاب أن لا يشكلوا كتبهم، ففكر في ذلك فظهر له أنه أراد {إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ}، فكشط الشدة وجعل مكانها ألفا، وختم الكتاب وأعاده للوزير. فلما وقف عليه الوزير سر بذلك وفهم أنه أراد: {إِنََّا لَنْ نَدْخُلَهََا أَبَداً مََا دََامُوا} [5] فِيهََا والله تعالى أعلم.
البغاث:
بفتح الباء الموحدة وكسرها وضمها ثلاث لغات، وبالغين المعجمة، طائر أغبر دون الرخمة بطيء الطيران، وهو من شرار الطير، ومما لا يصيد منها، وقال يونس: من جعل البغاث واحدا فجمعه بغثان مثل غزال وغزلان. ومن قال للذكر والأنثى بغاثة فالجمع بغاث مثل نعامة ونعام. وبغاث الطير شرارها وما لا يصيد منها. قال الشيخ أبو إسحق في المهذب في باب
__________
(1) جمهرة الأمثال: 2/ 124.
(2) رواه مسلم في اللباس: 127. وأبو داود في الأدب: 83، وابن حنبل: 6/ 90، 167، 345.
(3) الأذكياء: 219.
(4) سورة القصص: الآية 20.
(5) سورة المائدة: الآية 24.(2/199)
الحجر: لا يسافر الولي بمال المحجور عليه، لما روي أن المسافر وماله لعلي. قلت أي هلاك. ومنه قول العباس بن مرداس السّلمي (1):
بغاث الطير أكثرها فراخا ... وأم الصقر مقلات نزور
وقوله مقلات بكسر الميم، والمقلات من النساء التي لا يعيش لها ولد، ومن النوق من تلد ولدا واحدا ولا تلد بعده. وقيل: المقلات التي تعمل وكرها في المهالك. والنزور بفتح النون القليلة الأولاد والنزر القليل.
الحكم:
تحريم الأكل لخبثه.
الأمثال:
قالت العرب: «البغاث بأرضنا يستنسر (2)» أي من جاورنا عز بنا. وقيل: معناه إن الضعيف يستضعفنا، ويظهر قوته علينا.
البغل:
معروف، وكنيته أبو الأشحج وأبو الحرون وأبو الصقر وأبو قضاعة وأبو قموص وأبو كعب وأبو مختار وأبو ملعون. ويقال له ابن ناهق وهو مركب من الفرس والحمار، ولذلك صار له صلابة الحمار وعظم آلات الخيل. وكذلك شحيجه أي صوته مولد من صهيل الفرس ونهيق الحمار، وهو عقيم لا يولد له، لكن في تاريخ ابن البطريق، في حوادث سنة أربع وأربعين وأربعمائة، أن بغلة بنابلس ولدت في بطن حجرة سوداء بغلا أبيض. قال: وهذا أعجب ما سمع. اهـ.
وشر الطباع ما تجاذبته الأعراق المتضادة، والأخلاق المتباينة، والعناصر المتباعدة، وإذا كان الذكر حمارا، يكون شديد الشبه بالفرس، وإذا كان الذكر فرسا، يكون شديد الشبه بالحمار. ومن العجب أن كل عضو فرضته منه يكون بين الفرس والحمار، وكذلك أخلاقه ليس له ذكاء الفرس ولا بلادة الحمار. ويقال: إن أول من أنتجها قارون وله صبر الحمار وقوة الفرس، ويوصف برداءة الأخلاق والتلون لأجل التركيب وينشد في ذلك قوله:
خلق جديد كل يو ... م مثل أخلاق البغال
لكنه، مع ذلك، يوصف بالهداية في كل طريق يسلكه مرة واحدة، وهو مع ذلك مركب الملوك في أسفارها، وقعيدة الصعاليك (3) في قضاء أوطارها، مع احتماله للأثقال، وصبره على طول الإيغال، وفي ذلك يقال:
__________
(1) العباس بن مرداس بن أبي عامر السلمي، أبو الهيثم، شاعر فارسي أمه الخنساء الشاعرة، أدرك الجاهلية والإسلام. مات سنة 18هـ.
(2) جمهرة الأمثال: 1/ 188.
(3) الصعاليك: جمع الصعلوك: الفقير.(2/200)
مركب قاض وإمام عدل ... وعالم وسيد وكهل
يصلح للرحل وغير الرحل.
وفي الكامل لأبي العباس المبرد، قال العباس بن الفرج: نظر إلى عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنه وهو على بغلة قد شمط وجهها هرما، فقيل له: أتركب هذه وأنت على أكرم باحرة بمصر؟ فقال: إنه لا ملل عندي لدابتي ما حملت رجلي، ولا لامرأتي ما أحسنت عشرتي، ولا لصديقي ما حفظ سري. إن الملل من كواذب الأخلاق وفيه أيضا أن رجلا من أهل الشام قال: دخلت المدينة فرأيت رجلا راكبا على بغلة، لم أر أحسن وجها ولا سمتا ولا دابة منه، فمال قلبي إليه، فسألت عنه فقيل لي: هذا علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنهم، فأتيته، وقد امتلأ قلبي له بغضا، فقلت له: أنت ابن أبي طالب؟ فقال لي بل أنا ابن ابنه.
فقلت: بك وبأبيك أسب عليا، فلما انقضى كلامي، قال: أحسبك غريبا قلت: أجل قال: فمل بنا إلى الدار فإن احتجت إلى منزل أنزلناك، أو إلى مال واسيناك، أو إلى حاجة عاوناك على قضائها، فانصرفت من عنده وما على وجه الأرض أحب إلي منه. اهـ.
قلت: وكان علي بن الحسين رضي الله تعالى عنهما، يلقب بزين العابدين، وأمه سلامة، وكان له أخ أكبر منه يسمى عليا أيضا، قتل مع أبيه بكر بلاء، روى الحديث عن أبيه وعن عمه الحسن وجابر وابن عباس والمسور بن مخرمة وأبي هريرة وصفية وعائشة وأم سلمة، أمهات المؤمنين رضي الله عنهم. قال ابن خلكان: كانت أمه سلامة بنت يزدجرد آخر ملوك الفرس، وذكر الزمخشري في ربيع الأبرار، أن يزدجرد كان له ثلاث بنات، سبين في زمن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه، فحصلت واحدة منهن لعبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما، فأولدها سالما. والأخرى لمحمد بن أبي بكر رضي الله تعالى عنهما، فأولدها قاسما. والأخرى للحسين بن علي رضي الله تعالى عنهما فأولدها عليا زين العابدين رضي الله تعالى عنهم، فكلهم بنو خالة.
وكان زين العابدين مع أبيه بكر بلاء فاستبقي لصغر سنه، لأنهم قتلوا كل من أنبت، كما يفعل بالكفار قاتل الله فاعل ذلك وأخزاه ولعنه، وكان قد هم عبيد الله بن زياد بقتله ثم صرفه الله تعالى عنه. وأشار بعض الفجرة، على يزيد بن معاوية بقتله أيضا، فحماه الله منه. ثم إن يزيد بن معاوية صار يكرمه ويعظمه ويجلسه معه، ولا يأكل إلا وهو معه ثم بعثه إلى المدينة، فكان بها محترما معظما. قال ابن عساكر ومسجده بدمشق معروف، وهو الذي يقال له مشهد علي بجامع دمشق. قال الزهري: ما رأيت قرشيا أفضل منه. وقال محمد بن سعد: كان زين العابدين ثقة مؤمونا، كثير الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، عالما، ولم يكن في أهل البيت مثله. وقال الأصمعي: لم يكن للحسين رضي الله عنه عقب إلا من ابنه زين العابدين، ولم يكن لزين العابدين نسل إلا من ابنة عمه الحسن رضي الله تعالى عنه، فجميع الحسينيين من نسله. وكان إذا توضأ يصفر لونه فإذا قام إلى الصلاة أرعد من الفرق أي الخوف، فقيل له في ذلك فقال: أتدرون بين يدي من أقوم ولم أناجي؟ ويروى أنه احترق البيت الذي هو فيه، وهو قائم يصلي، فلما انصرف، قيل له: ما بالك لم تنصرف حين وقعت النار؟ فقال: إني اشتغلت عن هذه النار بالنار الأخرى ويروى أنه لما حج، وأراد أن يلبي أرعد واصفر وخر مغشيا عليه، فلما أفاق، سئل عن ذلك فقال: إني لأخشى أن
أقول لبيك اللهم لبيك، فيقول: لا لبيك ولا سعديك، فشجعوه قالوا: لا بد من التلبية، فلما لبى غشي عليه حتى سقط عن راحلته. وكان يصلي في كل يوم وليلة ألف ركعة، وكان كثير الصدقات، وكان أكثر صدقته بالليل، وكان يقول: «صدقة الليل تطفىء غضب الرب» وكان كثير البكاء، فقيل له في ذلك فقال: إن يعقوب عليه السلام بكى حتى ابيضت عيناه على يوسف، ولم يتحقق موته، فكيف لا أبكي وقد رأيت بضعة عشر رجلا يذبحون من أهلي في غداة واحدة؟(2/201)
وكان زين العابدين مع أبيه بكر بلاء فاستبقي لصغر سنه، لأنهم قتلوا كل من أنبت، كما يفعل بالكفار قاتل الله فاعل ذلك وأخزاه ولعنه، وكان قد هم عبيد الله بن زياد بقتله ثم صرفه الله تعالى عنه. وأشار بعض الفجرة، على يزيد بن معاوية بقتله أيضا، فحماه الله منه. ثم إن يزيد بن معاوية صار يكرمه ويعظمه ويجلسه معه، ولا يأكل إلا وهو معه ثم بعثه إلى المدينة، فكان بها محترما معظما. قال ابن عساكر ومسجده بدمشق معروف، وهو الذي يقال له مشهد علي بجامع دمشق. قال الزهري: ما رأيت قرشيا أفضل منه. وقال محمد بن سعد: كان زين العابدين ثقة مؤمونا، كثير الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، عالما، ولم يكن في أهل البيت مثله. وقال الأصمعي: لم يكن للحسين رضي الله عنه عقب إلا من ابنه زين العابدين، ولم يكن لزين العابدين نسل إلا من ابنة عمه الحسن رضي الله تعالى عنه، فجميع الحسينيين من نسله. وكان إذا توضأ يصفر لونه فإذا قام إلى الصلاة أرعد من الفرق أي الخوف، فقيل له في ذلك فقال: أتدرون بين يدي من أقوم ولم أناجي؟ ويروى أنه احترق البيت الذي هو فيه، وهو قائم يصلي، فلما انصرف، قيل له: ما بالك لم تنصرف حين وقعت النار؟ فقال: إني اشتغلت عن هذه النار بالنار الأخرى ويروى أنه لما حج، وأراد أن يلبي أرعد واصفر وخر مغشيا عليه، فلما أفاق، سئل عن ذلك فقال: إني لأخشى أن
أقول لبيك اللهم لبيك، فيقول: لا لبيك ولا سعديك، فشجعوه قالوا: لا بد من التلبية، فلما لبى غشي عليه حتى سقط عن راحلته. وكان يصلي في كل يوم وليلة ألف ركعة، وكان كثير الصدقات، وكان أكثر صدقته بالليل، وكان يقول: «صدقة الليل تطفىء غضب الرب» وكان كثير البكاء، فقيل له في ذلك فقال: إن يعقوب عليه السلام بكى حتى ابيضت عيناه على يوسف، ولم يتحقق موته، فكيف لا أبكي وقد رأيت بضعة عشر رجلا يذبحون من أهلي في غداة واحدة؟
وكان إذا خرج من منزله قال: اللهم إني أتصدق اليوم أو أهب عرضي اليوم لمن يغتابني. ومات لرجل ولد مسرف على نفسه، فجزع عليه، فقال له علي بن الحسين إن من وراء ولدك خلالا ثلاثة: شهادة أن لا إله إلا الله، وشفاعة رسول الله، ورحمة الله. واختلف أهل التاريخ في السنة التي توفي فيها زين العابدين والمشهور عند الجمهور أنه توفي سنة أربع وتسعين في أولها. وقال ابن الفلاس: وفيها مات سعيد بن المسيب، وسعيد بن جبير، وعروة بن الزبير، وأبو بكر بن عبد الرحمن. وقال بعضهم: توفي في سنة اثنتين أو ثلاث وتسعين. وأغرب المدائني في قوله إنه توفي سنة مائة وقيل توفي في سنة تسع وتسعين. وكان عمره ثمانيا وخمسين سنة، ودفن في قبر عمه الحسن رضي الله عنهما، وعن آبائهم الكرام، وعن أصحاب رسول الله أجمعين. وفي وفيات الأعيان في ترجمة جلال الدولة ملك شاه أن المقتدي بأمر الله، جهز الشيخ أبا إسحاق الشيرازي الفيروز أبادي، صاحب التنبيه والمهذب وغيرهما، إلى نيسابور سفيرا له، في خطبة ابنة الملك جلال الدولة فنجز الشغل، وناظر إمام الحرمين هناك، فلما أراد الانصراف من نيسابور، خرج إمام الحرمين إلى وداعه، وأخذ بركابه حتى ركب أبو إسحاق بغلته، وظهر له في خراسان منزلة عظيمة، وكانوا يأخذون التراب الذي وطئته بغلته فيتبركون به. وكان رحمه الله إماما عالما عاملا ورعا زاهدا عابدا. توفي في سنة ست وسبعين وأربعمائة، وتوفي إمام الحرمين في سنة ثمان وسبعين وأربعمائة وغلقت الأسواق يوم موته، وكسر منبره بالجامع، وكانت تلامذته قريبا من أربعمائة نفر، فكسروا محابرهم وأقلامهم وأقاموا على ذلك عاما كاملا. وفي تاريخ بغداد ووفيات الأعيان أن أبا حنيفة كان له جار اسكافي يعمل نهاره فإذا رجع إلى منزله ليلا تعشى ثم شرب فإذا دب الشراب فيه أنشد يغني ويقول: (1)
أضاعوني وأيّ فتى أضاعوا ... ليوم كريهة وسداد ثغر
ولا يزال يشرب ويردد هذا البيت، حتى يأخذه النوم وأبو حنيفة يسمع جلبته كل ليلة.
وكان أبو حنيفة يصلي الليل كله ففقد أبو حنيفة صوته، فسأل عنه فقيل له: أخذه العسس منذ ليال، فصلى أبو حنيفة الفجر من غده، ثم ركب بغلته وأتى دار الأمير، فاستأذن عليه فقال:
ائذنوا له وأقبلوا به راكبا ولا تدعوه ينزل حتى يطأ البساط، ففعل به ذلك، فوسع له الأمير من مجلسه، وقال له: ما حاجتك؟ فشفع في جاره. فقال الأمير: اطلقوه وكل من أخذ في تلك الليلة إلى يومنا هذا فأطلقوهم أيضا فذهبوا فركب أبو حنيفة بغلته، وخرج والإسكافي معه يمشي وراءه، فقال له أبو حنيفة: يا فتى هل أضعناك؟ فقال: بل حفظت ورعيت، فجزاك الله خيرا عن حرمة الجوار. ثم تاب الرجل ولم يعد إلى ما كان يفعل. واسم أبي حنيفة النعمان بن ثابت بن زوطى بن
__________
(1) البيت في الأغاني: 1/ 413وهو للعرجي.(2/202)
ماه، وكان عالما عاملا. قال الشافعي: قيل لمالك هل رأيت أبا حنيفة؟ قال: نعم رأيت رجلا لو كلمك في هذه السارية أن يجعلها ذهبا، لقام بحجته! وكان الشافعي يقول: الناس عيال على أبي حنيفة في الفقه، وعلى زهير بن أبي سلمى (1) في الشعر، وعلى محمد بن إسحاق (2) في المغازي، وعلى الكسائي (3) في النحو، وعلى مقاتل بن سليمان (4) في التفسير. وكان أبو حنيفة إماما في القياس، وداوم على صلاة الفجر بوضوء العشاء أربعين سنة. وكان عامة ليلة يقرأ القرآن في ركعة واحدة، وكان يبكي في الليل حتى يرحمه جيرانه. وختم القرآن في الموضع الذي توفي فيه سبعة آلاف مرة. ولم يفطر منذ ثلاثين سنة، ولم يكن يعاب بشيء سوى قلة العربية. حكي أن أبا عمرو بن العلاء، سأله عن القتل بالمثقل، هل يوجب القود؟ قال: لا، على قاعدة مذهبه خلافا للشافعي. فقال له أبو عمرو: لو قتله بحجر المنجنيق؟ فقال: ولو قتله بأبا قبيس: يعني الجبل المطل على مكة. وقد اعتذر عن أبي حنيفة بأنه قال ذلك على لغة من يعرب الأسماء الستة بالألف في الأحوال الثلاثة وأنشدوا على ذلك:
إن أباها وأبا أباها ... قد بلغا في المجد غايتاها
وهي لغة الكوفيين، وأبو حنيفة من أهل الكوفة. وتوفي أبو حنيفة في السجن ببغداد سنة خمسين ومائة، وقيل غير ذلك، وقيل لم يمت في السجن، وقيل مات في اليوم الذي ولد فيه الشافعي، وقيل في العام لا في اليوم كما تقدم. وقال النووي في تهذيب الأسماء واللغات: توفي في سنة إحدى وقيل ثلاث وخمسين ومائة والله أعلم قلت: البيت المذكور في حكاية الإسكافي المتقدمة، للعرجي عبد الله بن عمرو بن عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنهم. وقد استشهد به النضر بن شميل على المأمون، قال ابن خلكان: دخل النضر (5) بن شميل على المأمون ليلة، فتفاوضا الحديث فروى المأمون عن هشيم بسنده إلى ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، أنه قال:
قال (6) رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا تزوج الرجل المرأة لدينها وجمالها، كان فيه سداد من عوز» بفتح السين. فقال النضر: يا أمير المؤمنين صدق هشيم حدثنا فلان عن فلان إلى علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه، قال: قال (7) رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا تزوج الرجل المرأة لدينها وجمالها، فهو سداد من عوز» بكسر السين. قال: وكان المأمون متكئا، فاستوى جالسا وقال: كيف قلت
__________
(1) زهير بن أبي سلمى المزني. الشاعر الجاهلي الحكيم.
(2) محمد بن إسحاق بن يسار بن خيار، أبو بكر، إمام في المغازي والسير وثقة في الحديث، توفي ببغداد سنة 151هـ.
(3) الكسائي أبو الحسن علي بن حمزة بن عبد الله بن بهمن، أحد القراء السبعة، إمام في النحو واللغة والقراءات. مات بطوس سنة 183هـ وقيل سنة 189هـ بالري.
(4) مقاتل بن سليمان بن بشير، أبو الحسن، الأزدي بالولاء، المفسّر المشهور والمحدث في بغداد. وقد ساق ابن خلكان الخبر بتمامه في ترجمته لمقاتل. توفي مقاتل سنة 150هـ في البصرة. وفيات الأعيان: 5/ 255.
(5) النضر بن شميل بن خرشة بن يزيد بن كلثوم بن عبدة بن زهير السّكب، الشاعر النحوي، له دراية في الفقه واللغة وأيام العرب. توفي سنة 203هـ بمرو. والخبر في ترجمته في وفيات الأعيان: 5/ 399.
(6) رواه مسلم في الرضاع 54، والترمذي في النكاح 4. وابن ماجه في النكاح 6.
(7) رواه مسلم في الرضاع 54، والترمذي في النكاح 4. وابن ماجه في النكاح 6.(2/203)
سداد؟ قال: قلت لأن السداد ههنا لحن. فقال المأمون: أتلحنني قلت إنما لحن هشيم، فتبع أمير المؤمنين لفظه. فقال ما الفرق بينهما؟ قلت: السّداد بالفتح القصد في الدين والسبيل والسّداد بالكسر البلغة وكل ما سددت به شيئا فهو سداد. فقال المأمون: أو تعرف العرب ذلك؟ قال:
قلت: نعم هذا العرجي يقول: (1):
أضاعوني وأيّ فتى أضاعوا ... ليوم كريهة وسداد ثغر
فأخذ المأمون القرطاسي وكتب فيه، ثم قال لخادمه: ابلغ معه إلى الفضل (2) بن سهل فلما قرأ الفضل الرقعة قال: يا نضر قد أمر لك أمير المؤمنين بخمسين ألف درهم، فما كان السبب؟
فأخبرته فأمر لي بثلاثين ألف درهم أخرى. فأخذت ثمانين ألف درهم بحرف واحد استفيد مني.
وتوفي النضر بن شمبل في سنة أربع ومائتين بمرو رحمه الله تعالى. وفي تاريخ بغداد عن أبي يوسف (3) صاحب أبي حنيفة واسمه يعقوب أنه قال: أويت ذات ليلة إلى فراشي وإذا بالباب يدق دقا عنيفا، فخرجت فإذا هرثمة بن أعين (4) فقال: أجب أمير المؤمنين. فركبن بغلتي ومضيت خائفا، إلى أن وصلت دار أمير المؤمنين، فإذا أنا بمسرور فسألته من عند أمير المؤمنين؟ فقال:
عيسى بن (5) جعفر فدخلت فإذا هو جالس وعن يمينه عيسى بن جعفر فسلمت عليه، وجلست فقال الرشيد: أظن أننا روّعناك؟ فقلت: أي والله ومن خلفي كذلك. فسكت ساعة ثم قال:
أتدري يا يعقوب لم دعوتك؟ قلت: لا، قال: دعوتك لأشهدك على هذا، أن عنده جارية، وقد سألته أن يهبها لي، فأبي وو الله لئن لم يفعل لأقتله! قال: فالتفت إلى عيسى وقلت له ما بلغ من قدر الجارية حتى إنك تمنعها من أمير المؤمنين، وتنزل نفسك هذه المنزلة من أجلها؟ ثم هي ذاهبة من يدك على كل حال؟ فقال: عجلت علي بالتوبيخ من قبل أن تعرف ما عندي، قلت: وما هو؟
قال: إن علي يمينا بالطلاق والعتاق، وصدقة ما أملكه لا أبيع هذه الجارية ولا أهبها. فالتفت إليّ الرشيد وقال: هل لك في هذه من مخرج؟ قلت: نعم: وما هو؟ قلت: يهبك نصفها ويبيعك نصفها، فيكون لم يهبها ولم يبعها قال عيسى أو يجوز ذلك؟ قلت: نعم. قال فاشهد، أني وهبته نصفها، وبعته نصفها الباقي بمائة ألف دينار. فقال الرشيد: قد قبلت الهبة، واشتريت النصف بمائة ألف دينار. ثم قال: علي بالجارية والمال فأتي بالجارية والمال. فقال: خذها يا أمير المؤمنين، بارك الله لك فيها. فقال الرشيد: يا يعقوب بقيت واحدة؟ فقلت: وما هي؟ قال: إنها مملوكة ولا
__________
(1) الأغاني: 1/ 413.
(2) الفضل بن سهل السّرخسي، وزير المأمون، لقبه ذو الرياستين، الوزارة والسيف، قتل سنة 203هـ بسرخس.
(3) أبو يوسف القاضي أبو يوسف يعقوب بن إبراهيم بن حبيب بن خنيس بن سعد ابن حبتة الأنصاري، صاحب أبي حنيفة النعمان، حافظ محدث فقيه عالم بالسير. توفي سنة 172هـ.
(4) ابن أعين هرثمة بن أعين، أمير من القادة، تولى مصر أيام الرشيد، وشمالي افريقية، ثم خراسان، أخلص للمأمون، وقتل في الحبس سنة 200هـ.
(5) عيسى بن جعفر بن المنصور العباسي، أمير عباسي ابن عم هارون الرشيد. قتل سنة 185هـ.(2/204)
بد أن تستبرأ وو الله لئن لم أبت معها ليلتي هذه، أظن أن نفسي تخرج! فقلت: يا أمير المؤمنين تعتقها وتتزوّجها، فإن الحرة لا تستبرأ. قال: فإني قد أعتقتها. فمن يزوّجنيها؟ قلت له: أنا.
فدعا بمسرور وحسين، فخطبت وحمدت الله تعالى، وزوّجته بها على عشرين ألف دينار، ثم قال:
علي بالمال، فجيء به فدفعه إليها ثم قال لي: يا يعقوب انصرف، وقال لمسرور: احمل إلى يعقوب مائتي ألف درهم، وعشرين تختا من الثياب فحمل ذلك إليه. اهـ.
وكان أبو يوسف يحفظ التفسير والمغازي وأيام العرب فمضى يوما ليسمع المغازي، وأخل بمجلس أبي حنيفة اياما فلما أتاه قال له: يا أبا يوسف من كان صاحب راية جالوت؟ فقال له أبو يوسف: إنك إمام، وإن لم تمسك عن هذا سألتك على رؤوس الناس، أيما كان أول وقعة بدر أو أحد؟ فإنك لا تدري ذلك، وهي أهون مسائل التاريخ، فأمسك عنه. قيل: كان يجلس إلى أبي يوسف رجل فيطيل الصمت ولا يتكلم فقال له أبو يوسف يوما: ألا تتكلم؟ فقال: بلى. متى يفطر الصائم؟ قال: إذا غابت الشمس. قال: فإن لم تغب إلى نصف الليل كيف يصنع؟ فضحك أبو يوسف وقال له: أصبت في صمتك، وأخطأت أنا في استدعائي نطقك وأنشد (1):
عجبت لإزراء الغبي بنفسه ... وصمت الذي قد كان بالقول أعلما ... وفي الصمت ستر للغبي وإنما ... صحيفة لب المرء أن يتكلما
وروي أن رجلا كان يجلس إلى بعض العلماء ولا يتكلم، فقيل له يوما: ألا تتكلم؟ قال:
نعم أخبرني لأي شيء يستحب صيام الأيام البيض من كل شهر؟ فقال: لا أدري: فقال الرجل:
لكني أدري. قال: وما هو؟ قال لأن القمر لا ينكسف إلا فيهن، فأحب الله تعالى أن لا يحدث في السماء آية، إلا حدث في الأرض مثلها. وهذا أحسن ما قيل فيه. وذكر (2) ابن خلكان أن رجلا كان يجالس الشعبي ويطيل الصمت فقال له الشعبي يوما ألا تتكلم؟ فقال: أصمت فأسلم، وأسمع فأعلم، إن حظ المرء في أذنه له، وفي لسانه لغيره. وتكلم شاب يوما عند الشعبي بكلام، فقال الشعبي: ما سمعنا بهذا. فقال الشاب: أكل العلم سمعت؟ قال: لا. قال فشطره؟ قال:
نعم. قال: فاجعل هذا في الشطر الذي لم تسمعه. فأفحم الشعبي. وأبو يوسف هو أول من دعي بقاضي القضاة، وأول من غير لباس العلماء إلى هذه الهيئة التي هم عليها إلى هذا الزمان، وكان ملبوس الناس قبل ذلك، شيئا واحدا لا يتميز أحد عن أحد بلباسه وحكي أن عبد الرحمن بن مسهر، كان قاضيا على بليدة، بين بغداد وواسط، يقال لها المبارك، فبلغه خروج الرشيد إلى البصرة، ومعه أبو يوسف القاضي في الحراقة. فقال عبد الرحمن لأهل المبارك:
اثنوا علي عندهما، فأبوا عليه. فلبس ثيابه وتلقاهما، وقال نعم القاضي قاضينا، ثم مضى إلى موضع آخر وأعاد عليهما هذا القول فالتفت الرشيد إلى أبي يوسف وقال: يا يعقوب قاض في موضع لا
__________
(1) البيتان في وفيات الأعيان: 6/ 383دون عزو.
(2) وفيات الأعيان: 3/ 14، والشعبي هو: أبو عمرو عامر بن شراحيل بن عبد بن ذي كبار، يمني الأصل، من حمير وهو كوفي تابعي عالم بالمغازي والسير والحديث. مات سنة 105هـ بالكوفة.(2/205)
يثني عليه إلا رجل واحد بئس القاضي. فقال أبو يوسف: والعجب يا أمير المؤمنين أنه هو القاضي، وهو يثني على نفسه. فضحك الرشيد وقال: هذا أظرف الناس هذا لا يعزل أبدا توفي أبو يوسف في شهر ربيع الأول سنة اثنتين وثمانين ومائة، وقيل غير ذلك. وأنشد أبو السعادات (1)
المبارك بن الأثير لصاحب الموصل وقد زلت به بغلته:
إن زلت البغلة من تحته ... فإنّ في زلتها عذرا ... حملها من علمه شاهقا ... ومن ندى راحتيه بحرا
وروى الحافظ أبو القاسم بن عساكر في تاريخ دمشق، عن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه، أن البغال كانت تتناسل، وكانت من أسرع الدواب في نقل الحطب لنار إبراهيم، خليل الرحمن عليه الصلاة والسلام، فدعا عليها فقطع الله نسلها.
فائدة غريبة:
روي عن إسماعيل بن حماد بن أبي حنيفة، قال: كان عندنا طحان رافضي، له بغلان، سمي أحدهما أبا بكر والآخر عمر، فرمحه أحدهما فقتله. فأخبر جدي أبو حنيفة بذلك، فقال: انظروا الذي رمحه فإنه الذي سماه عمر فنظروا فوجدوه كذلك. وفي كامل ابن عدي في ترجمة خالد بن يزيد العمري المكي، عن سفيان بن أبان، عن أنس رضي الله تعالى عنه «أن النبي صلى الله عليه وسلم ركب بغلة فحادت به، فحبسها» وأمر (2) رجلا أن يقرأ عليها {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} [3] فسكنت وسيأتي، إن شاء الله تعالى، هذا في الدابة. وفيه عنه أيضا أنه روى عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من ولد له ثلاثة ولم يسم أحدهم محمدا فهو من الجفاء، وإذا سميتموه محمدا فلا تسبوه ولا تعيبوه ولا تضربوه وشرفوه وكرموه وعظموه وبروا قسمه».
فائدة:
روى أبو داود والنسائي، عن عبد الله بن زرير الغافقي المصري، عن علي رضي الله تعالى عنه قال: «أهديت لرسول الله صلى الله عليه وسلم بغلة، فركبها فقالوا: لو حملنا الحمير على الخيل لكان لنا مثل هذه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنما يفعل ذلك الذين لا يعلمون (4)» قال ابن حبان: معناه الذين لا يعلمون النهي عنه وقال الخطابي: يشبه أن يكون المعنى في ذلك، والله أعلم، أن الحمير، إذا حملت على الخيل، تعطلت منافع الخيل وقل عددها، وانقطع نماؤها، والخيل يحتاج إليها للركوب والعدو والركض والطلب، وعليها يجاهد العدوّ، وبها تحرز الغنائم.
ولحمها مأكول، ويسهم للفرس كما يسهم للرجل. وليس للبغل شيء من هذه الفضائل، فأحب النبي صلى الله عليه وسلم، أن ينمو عدد الخيل ويكثر نسلها، لما فيها من النفع والصلاح، فإذا كانت الفحول خيلا، والأمهات حميرا فيحتمل أن لا يكون داخلا في النهي إلا أن يتأوّل متأوّل أن المراد بالحديث
__________
(1) المبارك بن محمد بن محمد بن عبد الكريم الشيباني الجزري، أبو السعادات المحدث اللغوي الأصولي. توفي في قرية بالموصل سنة 606هـ.
(2) رواه ابن حنبل: 1/ 453، 5/ 190. ورواه مسلم في الجنة: 67.
(3) سورة الفلق: الآية 1.
(4) رواه ابن حنبل: 1/ 78، 100، 158. وأبو داود في الجهاد: 53. والنسائي في الطهارة: 105.(2/206)
صيانة الخيل عن مزاوجة الحمير، وكراهة اختلاط مائها بمائها لئلا يكون منها الحيوان المركب من نوعين مختلفين. فإن أكثر الحيوانات المركبة من نوعين من الحيوان أخبث طبعا من أصولها التي تتولد منها، وأشد شراسة كالسّمع والعسبار ونحوهما. ثم إن البغل حيوان عقيم ليس له نسل ولا نماء ولا يذكى ولا يزكى ثم قال: ولا أرى لهذا الرأي طائلا، فإن الله تعالى قال: {وَالْخَيْلَ وَالْبِغََالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهََا وَزِينَةً}. (1) فذكر البغال وامتن علينا بها، كامتنانه بالخيل والحمير، وأفرد ذكرها بالاسم الخاص الموضوع لها، ونبه على ما فيها من الأرب والمنفعة. والمكروه من الأشياء مذموم، لا يستحق المدح ولا يقع الامتنان به، وقد استعمل صلى الله عليه وسلم البغل واقتناه وركبه حضرا وسفرا، ولو كان مكروها لم يقتنه ولم يستعمله، انتهى.
وروى مسلم عن يزيد بن ثابت رضي الله تعالى عنه قال: بينما النبي صلى الله عليه وسلم في حائط لبني النجار، على بغلة، ونحن معه، إذ حادت به فكادت أن تلقيه، وإذا أقبر ستة أو خمسة أو أربعة، فقال صلى الله عليه وسلم: «من يعرف أصحاب هذه الأقبر» فقال رجل: أنا فقال: «متى مات هؤلاء»؟ قال: ماتوا على الإشراك. فقال صلى الله عليه وسلم: «إن هذه الأمة تبتلى في قبورها، فلولا أن لا تدافنوا لدعوت الله عزّ وجلّ أن يسمعكم من عذاب القبر الذي أسمع منه». ثم أقبل النبي صلى الله عليه وسلم علينا بوجهه الكريم، فقال: «تعوّذوا بالله من عذاب القبر». فقالوا: نعوذ بالله من عذاب القبر. فقال:
«تعوّذوا بالله من عذاب النار». فقالوا: نعوذ بالله من عذاب النار. فقال: «تعوّذوا بالله من الفتن ما ظهر منها وما بطن». فقالوا: نعوذ بالله من الفتن ما ظهر منها وما بطن. فقال: «تعوّذوا بالله من فتنة الدجال». (2) فقالوا: نعوذ بالله من فتنة الدجال.
فائدة أخرى
: كانت بغلة رسول الله صلى الله عليه وسلم الدلدل، التي يركبها في الأسفار، أنثى كما أجاب به ابن الصلاح وغيره. وعاشت بعده حتى كبرت وزالت أضراسها، فكان يحش لها الشعير إلى أن ماتت بالبقيع، في زمن معاوية رضي الله تعالى عنه، وكانت شهباء، ونقل الحافظ قطب الدين في شرح السيرة، عن شرح الجامع الكبير، أنه لو حلف لا يركب بغلا فركب ذكرا أو أنثى يحنث، لأنه اسم جنس. وكذلك البغلة والهاء فيها للإفراد، وهاء الإفراد تقع على الذكر والأنثى، كالجرادة والتمرة. وكذا لو حلف لا يركب بغلة فركب ذكرا أو أنثى حنث أيضا. ثم قال: وأجمع أهل الحديث على أن بغلة رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت ذكرا لا أنثى ثم عد للنبي صلى الله عليه وسلم، خمس بغال. وقال السهيلي: ومما ذكر في غزوة حنين، أن النبي صلى الله عليه وسلم، «أخذ وهو على بغلته حفنة من البطحاء، فرمى بها في وجوه الكفار، وقال: شاهت الوجوه فانهزموا». وكانت البغلة ضربت ببطنها الأرض، حتى أخذ الحفنة، ثم قامت. قال: وتلك البغلة هي التي تسمى البيضاء. وهي التي أهداها له فروة بن نعامة وفي معجم الطبراني الأوسط، من حديث أنس رضي الله تعالى عنه، قال: لما انهزم المسلمون
__________
(1) سورة النحل: الآية 8.
(2) الحديث بتمامه رواه البخاري في الوضوء: 37، والأذان: 149، والكسوف: 10، وتفسير سورة: 116 والدعوات 37، والفتن: 26، ورواه مسلم في المساجد: 33، 127، والمسافرين: 251والكسوف: 8، 11، 12، 22. ورواه أبو داود في الفتن: 24/ 149. كما رواه آخرون.(2/207)
يوم حنين، ورسول الله صلى الله عليه وسلم، على بغلته الشهباء، التي يقال لها الدلدل، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم:
«دلدل أسدى فألصقت بطنها بالأرض حتى أخذ النبي صلى الله عليه وسلم حفنة من تراب، فرمى بها وجوههم وقال: {حم} * (1) لا ينصرون قال: فانهزم القوم وما رميناهم بسهم، ولا طعناهم برمح، ولا ضربناهم بسيف». وفيه من حديث شيبة بن عثمان أن النبي صلى الله عليه وسلم قال يوم حنين لعمه العباس:
«ناولني من البطحاء»، فأفقه الله تعالى البغلة كلامه فانخفضت به حتى كاد بطنها يمس الأرض، فتناول رسول الله صلى الله عليه وسلم من الحصباء، فنفخ في وجوههم، وقال: «شاهت الوجوه حم لا ينصرون».
تتمة:
روى الطبراني وأبو نعيم من طرق صحيحه عن خزيمة بن أوس، قال: هاجرت إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقدمت عليه عند منصرفه من تبوك فأسلمت، فسمعته يقول (2): «هذه الحيرة قد رفعت لي وإنكم ستفتحونها، وهذه الشيماء بنت نفيل الأزدية، على بغلة شهباء معتجرة بخمار أسود». فقلت: يا رسول الله إن نحن دخلنا الحيرة، فوجدناها على هذه الصفة، فهي لي. قال عليه الصلاة والسلام: «هي لك» فأقبلنا مع خالد بن الوليد نريد الحيرة، فلما دخلناها كان أول من تلقانا الشيماء بنت نفيل، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «على بغلة شهباء معتجرة بخمار أسود» فتعلقت بها، وقلت هذه وهبها لي رسول الله صلى الله عليه وسلم. فطلب مني خالد عليها البينة فأتيته بها، فسلمها لي، ونزل إلينا أخوها عبد المسيح فقال لي: أتبيعينها؟ فقلت: نعم، فقال: احتكم ما شئت فقلت: والله لا أنقصها عن ألف درهم. فدفع لي ألف درهم. فقيل لي: لو قلت مائة ألف درهم لدفعها إليك فقلت: لا أحسب مالا أكثر من ألف درهم. قال الطبراني: وبلغني أن الشاهدين كانا محمد ابن مسلمة وعبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهم.
الحكم:
يحرم أكل المتولد منها بين الحمار الأهلي والفرس، لما روى جابر قال: «ذبحنا يوم حنين البغال والحمير والخيل فنهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الحمير والبغال، ولم ينهنا عن الخيل ولأنه متولد بين ما يحل وما يحرم» (3). فغلب جانب التحريم، فإن تولد بين حمار وحشي وفرس حل.
وأما الحديث الذي رواه البزار، بإسناد صحيح، عن أبي واقد «أن قوما لهم بغل، ولم يكن لهم شيء غيره، فجاؤوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، «فرخص لهم فيه» فهذا محمول على أنهم كانوا مضطرين، يحل لهم أكل الميتة.
فرع:
وإذا أوصى لزيد ببغلة، لا تتناول الذكر على الأصح. كما لا تتناول البقرة الثور والثاني تتناوله والهاء للوحدة كبقرة وزبيبة.
الأمثال:
«قيل للبغل: من أبوك؟ قال الفرس خالي (4)». يضرب للمخلط في أمره. وقالوا:
__________
(1) حم من افتتاحيات السور: الشورى، فصلت، غافر، الزخرف، الدخان الجاثية، الأحقاف.
(2) رواه البخاري في المدينة: 5. والموطأ: مدينة 7. ولفظه: «وتفتح العراق».
(3) رواه الترمذي في الصيد: 11. وأبو داود في الأطعمة: 3225. والنسائي في الصيد: 69، 71، ورواه ابن ماجه في الذبائح: 14. وابن حنبل: 3/ 323، 356، 362.
(4) جمهرة الأمثال: 2/ 87.(2/208)
«أعقر من بغل وأعقم من (1) بغلة». وقالوا: «أعيب من بغلة أبي دلامة»، واسمه زند بن الجون كوفي أسود، كان مولى لبني أسد، وكان صاحب نوادر: فمنها أنه مرض له ولد، فاستدعى طبيبا ليداويه وشرط له جعلا معلوما، فلما برىء ولده، قال له: والله ما عندنا شيء نعطيك إياه، ولكن إدّع على فلان اليهودي بمقدار الجعل، وكان ذا مال كثير، وأنا وولدي نشهد لك بذلك. فمضى الطبيب إلى محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى وحمل إليه اليهودي وادعى عليه بذلك المبلغ، فأنكر.
فقيل: ألك بينة؟ قال: نعم، قال: أحضرها، فدخل أبو دلامة وهو ينشد والقاضي يسمع شعره (2):
إن الناس غطوني تغطيت عنهم ... وإن بحثوا عني ففيهم مباحث ... وإن نبئوا بئري نبئت بئارهم ... ليعلم قوم كيف تلك النبائث
فلما شهدا عند القاضي، قال لهما: شهادتكما مقبولة وكلامكما مسموع. ثم غرم المبلغ من عنده وجمع بين المصلحتين. ومنها أنه خاصم رجلا إلى عافية بن يزيد القاضي فقال:
لقد خاصمتني غواة الرجال ... وخاصمتهم سنة وافية ... فما أدحض الله لي حجة ... وما خيّب الله لي قافية ... فمن كنت من جوره خائفا ... فلست أخافك يا عافية
فقال له عافية: لأشكونك لأمير المؤمنين، قال ولم؟ قال: لأنك هجوتني. قال: أبو دلامة إن شكوتني ليعزلنك قال: ولم؟ قال: لأنك لا تعرف الهجاء من المدح. ومنها ما قاله الإمام أبو الفرج ابن الجوزي: روي أن أبا دلامة دخل على المهدي، فأنشده قصيدة فقال له: سلني حاجتك، فقال:
يا أمير المؤمنين هب لي كلبا، فغضب المهدي وقال: أقول لك سلني حاجتك، فتقول: هب ليي كلبا!. فقال: يا أمير المؤمنين الحاجة لي أم لك؟ قال: بل لك قال: فإني أسألك أن تهب لي كلب صيد، فأمر له بكلب. فقال: يا أمير المؤمنين هبني خرجت إلى الصيد، أفأعدو على رجلي؟ فأمر له بدابة. فقال: يا أمير المؤمنين فمن يقوم عليها؟ فأمر له بغلام. فقال يا أمير المؤمنين هبني صدت صيدا فأتيت به المنزل فمن يطبخه لي؟ فأمر له بجارية. فقال: يا أمير المؤمنين هؤلاء أين يبيتون؟
فأمر له بدار. فقال: يا أمير المؤمنين قد صار في عنقي جماعة من العيال، فمن أين لي ما يقوت هؤلاء؟ قال: فإن أمير المؤمنين قد أقطعك ألف جريب عامرا وألف جريب غامرا. فقال: أما العامر فقد عرفت. فما الغامر؟ قال: الخراب الذي لا شيء فيه. فقال: أنا أقطع أمير المؤمنين مائة ألف جريب غامرة بالبدو، ولكني أسأل أمير المؤمنين من ألف جريب جريبا واحدا عامرا.
قال: من أين؟ قال: من بيت المال. فقال المهدي حوّلوا المال وأعطوه جريبا. فقال: يا أمير المؤمنين إذا حوّلوا منه المال صار غامرا فضحك المهدي منه وأرضاه.
قلت: وقد أذكرتني هذه الحكاية ما ذكره أبو الفرج بن الجوزي في الأذكياء، بسنده عن محمد بن إسحاق السراج، قال: أنبأنا داود بن رشيد قال: قلت للهيثم بن عدي: بأي شيء استحق سعيد بن عبد الرحمن أن ولاه المهدي القضاء وأنزله منه تلك المنزلة الرفيعة؟ قال: إن
__________
(1) مجمع الأمثال: 2/ 44، وفيه: أعقر من بغلة.
(2) البيتان في وفيات الأعيان: 2/ 325.(2/209)
خبره لظريف، فإن أحببت شرحته لك؟ قلت: قد والله أحببت ذلك. قال: اعلم أنه وافى الربيع (1) الحاجب حين أفضت الخلافة إلى المهدي، فقال: استأذن لي علي أمير المؤمنين فقال له الربيع: من أنت؟ وما حاجتك؟ قال: أنا رجل قد رأيت لأمير المؤمنين رؤيا صالحة، وقد أحببت أن تذكرني له. فقال له الربيع: يا هذا إن القوم لا يصدقون ما يرونه لأنفسهم، فكيف ما يراه لهم غيرهم؟ فاحتل بحيلة غير هذه، تكون أدر عليك من هذه. فقال: إن لم تخبره بمكاني وإلا سألت من يوصلني إليه وأخبره إني سألتك الإذن عليه فلم تفعل. فدخل الربيع على المهدي وقال له: يا أمير المؤمنين إنكم قد أطمعتم الناس في أنفسكم وقد احتالوا لكم بكل ضرب. فقال له المهدي: هكذا صنع الملوك فماذا؟ قال: رجل بالباب يزعم أنه رأى لأمير المؤمنين رؤيا صالحة، وقد أحب أن يقصها على أمير المؤمنين، فقال له المهدي: ويحك يا ربيع إني والله قد أرى الرؤيا لنفسي فلا تصح لي، فكيف إذا ادعاها لي من لعله افتعلها؟ قال: قد قلت له والله مثل هذا فلم يقبل: قال فهات الرجل. فأدخل عليه سعيد بن عبد الرحمن، وكان له رواء وجمال وثروة ظاهرة ولحية عظيمة ولسان طلق، فقال له المهدي: هات بارك الله عليك ما رأيت قال: يا أمير المؤمنين، رأيت كأن آتيا أتاني في منامي، فقال لي أخبر أمير المؤمنين أنه يعيش ثلاثين سنة في الخلافة، وآية ذلك أن يرى في ليلته هذه في منامه، كأنه يقلب ياقوتا فيعده فيجده ثلاثين ياقوتة، كأنها قد وهبت له. فقال له المهدي: ما أحسن ما رأيت! ونحن نمتحن رؤياك في ليلتنا المقبلة، على ما أخبرتنا به، فإن كان الأمر كما ذكرته أعطيناك ما تريد، وإن كان الأمر بخلاف ذلك لم نعاقبك لعلمنا أن الرؤيا ربما صدقت وربما اختلقت. فقال له سعيد: يا أمير المؤمنين فماذا أصنع أنا الساعة إذا صرت إلى منزلي وعيالي، وأخبرتهم أني كنت عند أمير المؤمنين ثم رجعت صفر اليدين. فقال له المهدي:
فكيف نصنع؟ فقال: تعجل لي يا أمير المؤمنين ما أحب، وأحلف لك بالطلاق أني صادق في رؤياي فأمر له بعشرة آلاف درهم، وأمر أن يؤخذ منه كفيل فمد عينيه فرأى خادما واقفا على رأس المهدي، حسن الوجه والزي، فقال: هذا يكفلني. فقال له المهدي: أتتكفل به؟ فاحمر وجهه وخجل، وقال: نعم أتكفله. وانصرف سعيد بالمال. فلما كان في تلك الليلة رأى المهدي ما ذكره له سعيد حرفا بحرف. وأصبح سعيد فوافى الباب قائما واستأذن فأذن له، فلما وقعت عين المهدي عليه، قال له: أين مصداق ما قلت؟ فقال له سعيد: أو ما رأى أمير المؤمنين شيئا؟ فتلجلج في جوابه فقال له سعيد امرأته طالق أن لم تكن رأيت شيئا، فقال له المهدي: ويحك ما أجرأك على الحلف بالطلاق، قال لأني أحلف على صدق. فقال المهدي: قد والله رأيت ذلك بينا. فقال سعيد: الله أكبر أنجز لي يا أمير المؤمنين ما وعدتني. فقال له: حبا وكرامة ثم أمر له بثلاثة آلاف دينار، وعشرة تخوت ثياب، وثلاثة مراكب من أنفس دوابه. وقال غيره: ثلاث بغال شهب. فأخذ ذلك وانصرف، فلحقه الخادم الذي كان تكفل به، وقال له: سألتك بالله الذي لا إله إلا هو هل كان لتلك الرؤيا التي ذكرت حقيقة؟ فقال له سعيد: لا والله. فقال له: وكيف ذلك وقد رأى أمير المؤمنين ما ذكرته؟ فقال: هذه من المخاريق الكبار التي لا يأبه لها أمثالكم، وذلك أني لما
__________
(1) الربيع: هو أبو الفضل الربيع بن يونس بن محمد بن عبد الله بن أبي فروة وإسمه كيسان، كان حاجبا لأبي جعفر المنصور ثم للمهدي، مات سنة 170هـ.(2/210)
ألقيت إليه هذا الكلام، خطر بباله وحدث به نفسه واشرأب به قلبه، واشتغل به فكره، فساعة ما نام خيل له ما كان في قلبه، مما شغل به فكره، فرآه في منامه. فقال له الخادم: فقد حلفت بالطلاق قال: طلقت واحدة وبقيت معي على اثنتين فأزيد في المهر عشرة دراهم وأحصل على عشرة آلاف درهم وثلاثة آلاف دينار وعشرة تخوت من أصناف الثياب وثلاثة مراكب. فبهت الخادم في وجهه وتعجب من أمره فقال له سعيد: قد والله صدقتك، وجعلت صدقي لك مكافأتك على كفالتك لي، فاستر ذلك علي ففعل. ثم إن المهدي طلبه لمنادمته، فجعل ينادمه وحظي عنده وقلده القضاء على عسكره، فلم يزل كذلك حتى مات المهدي ثم قال ابن الجوزي: هكذا رويت لنا هذه الحكاية وإني لمرتاب من صحتها وما أبعد هذا أن يحكى عن قاض من القضاة.
قلت: وقد سئل الإمام أحمد عن سعيد بن عبد الرحمن هذا فقال: ليس به بأس. وقال يحيى بن معين: هو ثقة، وإنما اتهم بهذا الهيثم بن عدي، فقد قال يحيى بن معين: الهيثم ليس بثقة، كان يكذب. وقال علي بن المديني: لا أرضاه في شيء. وقال أبو داود العجلي: الهيثم كذاب. وقال إبراهيم بن يعقوب الجرجاني:
الهيثم ساقط قد كشف قناعه. وقال أبو زرعة: ليس بشيء. وفي كتاب الفرج بعد الشدة، عن رجل من الجند قال: خرجت من بعض بلدان الشأم، أريد قرية من قراها، فلما صرت في بعض الطريق، وقد سرت عدة فراسخ، لحقني التعب وكان معي بغلة عليها خرجي وقماشي، وكان قد قرب المساء، فإذا بدير عظيم، وفيه راهب في صومعة، فنزل إلي واستقبلني وسألني المبيت عنده، وأن يضيفني ففعلت فلما دخلت الدير لم أجد فيه غيره، فأخذ بغلتي وطرح لها شعيرا، وعزل رحلي في بيت، وجاءني بماء حار، وكان الزمان شديد البرد والثلج يسقط، وأوقد بين يدي نارا عظيمة، وجاء بطعام طيب فأكلت ومضت قطعة من الليل، فأردت النوم، فسألته عن طريق المستراح، فدلني عليه، وكنا في غرفة، فنزلت ومشيت، فلما صرت على باب المستراح، إذا بارية عظيمة، فلما صارت رجلاي عليها، سقطت فإذا أنا بالصحراء، وإذا البارية كانت مطروحة على غير سقف، وكان الثلج يسقط سقوطا عظيما، فصحت بالراهب، فلم يكلمني.
فقمت وقد تجرح بدني إلا أني سالم، فجئت فاستظللت بطق باب الدير من الثلج. فإذا حجارة قد أتتني لو تمكنت من دماغي لطحنته. فخرجت أعدو وأصيح فشتمني. فعلمت أني أتيت من جانبه، وأنه طمع في رحلي فلما خرجت من ظل الدير، وقع الثلج عليّ وبل ثيابي، فنظرت فإذا أنا تالف من البرد والثلج، فولد لي الفكر أن أخذت حجرا قريبا من الثلاثين رطلا، فوضعته على عاتقي وجعلت أعدو به في الصحراء شوطا طويلا، حتى يأخذني التعب، فإذا تعبت وحميت وعرقت طرحت الحجر، وجلست أستريح، فإذا سكنت وأخذني البرد تناولت الحجر وعدوت به فلم أزل على تلك الحالة إلى الصبح. فلما كان قبل طلوع الشمس، وأنا خلف الدير، إذ سمعت حس باب الدير وقد فتح وإذا بالراهب قد خرج وجاء إلى الموضع الذي سقطت منه فلم يرني، فقال: يا قوم ما فعل؟ وأنا أسمعه، ثم مشى فخالفته إلى باب الدير، ودخلت الدير وهو دائر يطلبني حول الدير، ووقفت خلف الباب، وكان في وسطي خنجر لم يشعر به الراهب، فطاف حول الدير فلما لم يقف لي على علم ولا خبر، ولا عرف لي أثرا، عاد ودخل الدير وأغلق الباب،
فجئت عليه ووجأته بالخنجر، فصرعته وذبحته، وأغلقت باب الدير وصعدت إلى الغرفة، واصطليت بنار كانت موقودة هناك، وطرحت عليّ من رحلي ثيابا كثيرة، وأخذت كساء الراهب فنمت فيه، فما أفقت إلا قرب العصر، فلما انتبهت طفت الدير حتى وقفت على طعام فأكلت منه، وسكنت نفسي. ووقعت بمفاتيح بيوت الدير، فوقفت أفتح بيتا بيتا، فإذا أموال عظيمة، من عين وورق، وأمتعة وثياب، وآلات ورحال قوم، وأخراجهم وحمولاتهم، وإذا الراهب كان من عادته ذلك، مع كل من يجتاز به وحيدا ويتمكن منه. قال: فتحيرت في نفسي ولم أدر كيف أعمل في نقل المال فلبست من ثياب الراهب شيئا، وأقمت في صومعته أياما، أتراءى لمن يجتاز بي من بعيد لئلا يشكوا أني أنا هو فإذا قربوا مني لم أبرز إليهم وجهي إلى أن خفي أثري، فنزعت ثياب الراهب، وأخذت جوالقين كانا في الدير من تلك الأمتعة، وجعلتهما على ظهر البغلة وذهبت إلى قرية قريبة من الدير فاكتريت بها منزلا ولم أزل أنقل إليه على البغلة حتى أخذت الصامت كله مما خف حمله وكثرت قيمته ولم أدع فيه إلا الأمتعة الثقيلة، فاكتريت عدة دواب ورجال، وجئت بهم دفعة واحدة، وحملت كل ما قدرت عليه، وسرت في قافلة عظيمة بغنيمة هائلة حتى قدمت على بلدي، وقد حصلت على مال عظيم. وقد ذكر هذه الحكاية الحافظ ابن شاكر في تاريخه عن أبي محمد البطال وفيها بعض مخالفة.(2/211)
فقمت وقد تجرح بدني إلا أني سالم، فجئت فاستظللت بطق باب الدير من الثلج. فإذا حجارة قد أتتني لو تمكنت من دماغي لطحنته. فخرجت أعدو وأصيح فشتمني. فعلمت أني أتيت من جانبه، وأنه طمع في رحلي فلما خرجت من ظل الدير، وقع الثلج عليّ وبل ثيابي، فنظرت فإذا أنا تالف من البرد والثلج، فولد لي الفكر أن أخذت حجرا قريبا من الثلاثين رطلا، فوضعته على عاتقي وجعلت أعدو به في الصحراء شوطا طويلا، حتى يأخذني التعب، فإذا تعبت وحميت وعرقت طرحت الحجر، وجلست أستريح، فإذا سكنت وأخذني البرد تناولت الحجر وعدوت به فلم أزل على تلك الحالة إلى الصبح. فلما كان قبل طلوع الشمس، وأنا خلف الدير، إذ سمعت حس باب الدير وقد فتح وإذا بالراهب قد خرج وجاء إلى الموضع الذي سقطت منه فلم يرني، فقال: يا قوم ما فعل؟ وأنا أسمعه، ثم مشى فخالفته إلى باب الدير، ودخلت الدير وهو دائر يطلبني حول الدير، ووقفت خلف الباب، وكان في وسطي خنجر لم يشعر به الراهب، فطاف حول الدير فلما لم يقف لي على علم ولا خبر، ولا عرف لي أثرا، عاد ودخل الدير وأغلق الباب،
فجئت عليه ووجأته بالخنجر، فصرعته وذبحته، وأغلقت باب الدير وصعدت إلى الغرفة، واصطليت بنار كانت موقودة هناك، وطرحت عليّ من رحلي ثيابا كثيرة، وأخذت كساء الراهب فنمت فيه، فما أفقت إلا قرب العصر، فلما انتبهت طفت الدير حتى وقفت على طعام فأكلت منه، وسكنت نفسي. ووقعت بمفاتيح بيوت الدير، فوقفت أفتح بيتا بيتا، فإذا أموال عظيمة، من عين وورق، وأمتعة وثياب، وآلات ورحال قوم، وأخراجهم وحمولاتهم، وإذا الراهب كان من عادته ذلك، مع كل من يجتاز به وحيدا ويتمكن منه. قال: فتحيرت في نفسي ولم أدر كيف أعمل في نقل المال فلبست من ثياب الراهب شيئا، وأقمت في صومعته أياما، أتراءى لمن يجتاز بي من بعيد لئلا يشكوا أني أنا هو فإذا قربوا مني لم أبرز إليهم وجهي إلى أن خفي أثري، فنزعت ثياب الراهب، وأخذت جوالقين كانا في الدير من تلك الأمتعة، وجعلتهما على ظهر البغلة وذهبت إلى قرية قريبة من الدير فاكتريت بها منزلا ولم أزل أنقل إليه على البغلة حتى أخذت الصامت كله مما خف حمله وكثرت قيمته ولم أدع فيه إلا الأمتعة الثقيلة، فاكتريت عدة دواب ورجال، وجئت بهم دفعة واحدة، وحملت كل ما قدرت عليه، وسرت في قافلة عظيمة بغنيمة هائلة حتى قدمت على بلدي، وقد حصلت على مال عظيم. وقد ذكر هذه الحكاية الحافظ ابن شاكر في تاريخه عن أبي محمد البطال وفيها بعض مخالفة.
الخواص:
إذا جفف قلب البغل ونحت وسقي من نحاتته امرأة لم تحبل أبدا. وكذلك وسخ أذنه إذا تحملت به المرأة لم تحبل أبدا. وإن علقته في جلد بغل عليها لم تحبل أبدا ما دام عليها.
ورماد حافره إذا سحق وعجن بدهن الآس، وجعل على رأس الأقرع أو الموضع الذي لا ينبت فيه شعر، نبت الشعر. وإذا دفن حافر البغلة السوداء، أو دمها تحت عتبة باب لم يقربه فار. وإذا بخر البيت بحافر بغلة ذكر هرب منه الفأر وسائر الهوام. ونقل ابن زهر عن سقراطيس أن من كان عاشقا وأحب أن يزول عشقه، فليتمرغ في مراغة بغل ذكر إن كان عشقه من ذكر، وإن كان عشقه من أنثى ففي مراغة بغل أنثى. وزبله إذا شمه المزكوم وتفل عليه ورماه على الطريق، فمن تخطاه انتقل الزكام إليه وبرىء التافل عليه. وقال هرمس: إذا أخذ وسخ أذن البغل في بندقة من فضة، وعلق على الحبالى منعهن الولادة ما دام عليهن. وإذا سقي منه إنسان في نبيذ، سكر من وقته. وإن شربت امرأة من بول بغل مقدار ثلاثين درهما لم تحبل أبدا. وإن سقيت المرأة الحامل من دماغ بغل شيئا جاء ولدها مجنونا. وقال ابن بختيشوع: عرق البغلة إذا تحملت به امرأة في قطنة لم تحبل أبدا.
التعبير:
البغل في المنام يدل على السفر براكبه، وعلى طول العمر، ويعبر أيضا بولد زنا لا أصل له. فمن ركب بغلا ولم يكن من المسافرين، فإنه يقهر رجلا شديدا. والبغلة مرتبة. وقيل امرأة عاقر فالسوداء ذات مال والبيضاء ذات حسب. وقيل: البغلة سفر، فمن نزل عن بغلته نزول مفارقة نزل عن مرتبته أو فارق زوجته التي هي مركبه أو يطول سفره والله أعلم.
البغيبغ:
تيس الظباء السمين. وسيأتي إن شاء الله تعالى ما فيه في الظبي في حرف الظاء.
البقر الأهلي:
اسم جنس يقع على الذكر والأنثى وإنما دخلته الهاء للوحدة والجمع
بقرات. قال (1) الله تعالى: {سَبْعَ بَقَرََاتٍ سِمََانٍ} * قال المبرد في الكامل: إذا أردت التمييز قلت:(2/212)
اسم جنس يقع على الذكر والأنثى وإنما دخلته الهاء للوحدة والجمع
بقرات. قال (1) الله تعالى: {سَبْعَ بَقَرََاتٍ سِمََانٍ} * قال المبرد في الكامل: إذا أردت التمييز قلت:
هذا بقرة للذكر وهذه بقرة للأنثى كما تقول: هذا بطة للذكر وهذه بطة للأنثى. والبقير والبقران والباقر جماعة البقر. مع رعاتها. والبيقور الجماعة. قال (2) الشاعر:
أجاعل أنت بيقورا مسلعة ... ذريعة لك بين الله والمطر
وأهل اليمن يسمون البقرة باقورة. كتب النبي صلى الله عليه وسلم إليهم كتاب الصدقة: «في كل ثلاثين باقورة بقرة (3)» واشتق هذا الإسم من بقر إذا شق لأنها تشق الأرض بالحراثة ومنه قيل لمحمد بن علي زين العابدين بن الحسين الباقر، لأنه بقر العلم أي شقه ودخل فيه مدخلا بليغا. وفي الحديث «أنه عليه الصلاة والسلام ذكر فتنة كوجوه (4) البقر». أي يشبه بعضها بعضا ذهبوا إلى قوله (5) تعالى: {إِنَّ الْبَقَرَ تَشََابَهَ عَلَيْنََا} وفيه أيضا «رجال بأيديهم سياط كأذناب البقر يضربون بها الناس (6)».
وروى الحاكم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول (7): «إن طابت بك حياة يوشك أن ترى قوما يغدون في سخط الله، ويروحون في لعنته في أيديهم مثل أذناب البقر». وفيه أيضا «بينما رجل يسوق بقرة، إذ تكلمت فقالوا سبحان الله بقرة تتكلم! قال: آمنت بذلك أنا وأبو بكر وعمر».
وفي سنن أبي داود الترمذي عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله يبغض البليغ من الرجال الذي يتخلل بلسانه كما تتخلل البقرة (8)». قال الترمذي: حديث حسن وهو الذي يتشدق في الكلام ويفخم به لسانه، ويلفه كما تلف البقرة الكلأ بلسانها لفا.
وفي سنن أبي داود من حديث عطاء الخراساني، عن نافع عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا تبايعتم بالعينة، وأخذتم أذناب البقر، ورضيتم بالزرع، وتركتم الجهاد، سلط الله عليكم ذلا لا ينزعه عنكم حتى ترجعوا إلى دينكم (9)». وفي نهاية الغريب في باب السين المهملة في الحديث: «ما دخلت السكة دار قوم إلا ذلوا». والسكة هي التي يحرث بها
__________
(1) سورة يوسف: الآية 43وتمامها: {وَقََالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرى ََ سَبْعَ بَقَرََاتٍ سِمََانٍ}.
(2) الحيوان للجاحظ: 4/ 468، ونسبته فيه إلى ورل الطائي.
(3) رواه أبو داود في الزكاة: 5، 12والنسائي في الزكاة: 8. وأحمد: 5، 230، 233، 240.
(4) رواه أحمد: 5، 391.
(5) سورة البقرة: الآية 70.
(6) رواه مسلم في الجنة: 5، 54وأحمد: 2، 308، 323، 356، 440، 5، 250.
(7) رواه مسلم في الفضائل: 9. الموطأ سوا: 2أحمد: 2، 298، 299، 5، 238.
(8) رواه الترمذي في الأدب: 72.
(9) رواه أبو داود في البيوع: 54. والملاحم: 10، ورواه أحمد: 2، 42.(2/213)
الأرض أي إن المسلمين إذا أقبلوا على الزراعة شغلوا عن الغزو، فيأخذهم السلطان بالمطالبات والجبايات. وقريب من هذا الحديث قوله صلى الله عليه وسلم: «العزفي نواصي الخيل والذل في أذناب البقر (1)». والبقر حيوان شديد القوة كثير المنفعة، خلقه الله ذلولا ولم يخلق له سلاحا شديدا كما للسباع، لأنه في رعاية الإنسان، فالإنسان يدفع عنه ضرر عدوه فلو كان له سلاح لصعب على الإنسان ضبطه. والبقر الأجم يعلم أن سلاحه في رأسه فيستعمله في محل القرن كما يرى في العجاجيل قبل نبات قرونها، تنطح برؤوسها تفعل ذلك طبعا وهي أجناس: فمنها الجواميس وهي أكثرها ألبانا وأعظمها أجساما، قال الجاحظ: الجواميس ضأن البقر وهذا يقتضي أنها أطيب وأفضل من العراب، حتى إنها تكون مقدمة عليها في الأضحية، كما يقدم الضأن فيها على المعز وقال الزمخشري في ربيع الأبرار: أشراف السباع ثلاثة: الأسد والنمر والببر وأشراف البهائم ثلاثة:
الفيل والكركدن والجاموس. ومنها العراب وهي جرد ملس الألوان. ومنها نوع آخر يقال له الدربانة بدال مهملة ثم راء ثم باء موحدة ثم نون وهي التي تنقل عليها الأحمال، وربما كانت لها أسمنة.
والبقر ينزو ذكورها على إناثها، إذا تم لها سنة من عمرها في الغالب. وهي كثيرة المني. وكل الحيوان إناثه أرق صوتا من ذكوره إلا البقر، فإن الأنثى أفخم وأجهر، وهي تقلق إذا ضربها الذكر وتتلوى تحته لا سيما إذا أخطأ المجرى لصلابة ذكره، وهي إذا اشتاقت للذكر، نفرت وأتبعت الرعاة. وبأرض مصر بقر يقال لها بقر الخيس، طوال الرقاب قرونها كالأهلة، وهي كثيرة اللبن.
وقال المسعودي: رأيت بالري بقرا تبرك كما تبرك الإبل، وتثور بحملها كما تثور. وليس لجنس البقر ثنايا عليا فهي تقطع الحشيش بالسفلى.
فائدة:
في آخر كتاب المجالسة لأحمد بن مروان المالكي (2) الدينوري بإسناده إلى عكرمة عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: «مر عيسى عليه السلام ببقرة قد اعترض ولدها في بطنها، فقالت: يا كلمة الله ادع الله أن يخلصني، فقال: يا خالق النفس من النفس ويا مخرج النفس من النفس خلصها فألقت ما في بطنها» قال: فإذا عسر على المرأة ولدها فليكتب لها هذا.
وأسند عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: إذا عسر على المرأة ولدها فليكتب لها بسم الله الرحمن الرحيم لا إله إلا الله الحليم الكريم، سبحان الله رب العرش العظيم، الحمد لله رب العالمين، كأنهم يوم يرون ما يوعدون لم يلبثوا إلا ساعة من نهار بلاغ فهل يهلك إلا القوم الفاسقون. قلت: وهذا بعض حديث رواه الطبراني عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم (3)
قال: «إذا طلبت حاجة وأحببت أن تنجح فقل لا إله إلا الله وحده لا شريك له العلي العظيم، لا
__________
(1) رواه البخاري في الجهاد: 43ومسلم في الإمامة: 100، والنسائي في الخيل: 6، وابن ماجه في التجارات: 69. وأحمد: 3، 114، 127، 171، 4، 184، 188وفيه: «البركة في نواصي».
(2) الدّينورّي: أحمد بن مروان، المالكي أبو بكر، قاضي محدّث. مات بالقاهرة سنة 333هـ.
(3) رواه مسلم في الإيمان: 46، وفي الطهارة: 17والجمعة: 46. ورواه البخاري في الأذان: 155. وفي التهجد: 21، والعمرة: 12والقدر: 12والاعتصام: 3والآحاد: 5والجهاد 158والديات 17. ورواه الترمذي في الصلاة: 42، 108ورواه النسائي في السهو: 83، 86.(2/214)
إله إلا الله وحده لا شريك له الحليم الكريم، لا إله إلا الله وحده لا شريك له رب السموات والأرض ورب العرش العظيم، الحمد لله رب العالمين، كأنهم يوم يرون ما يوعدون لم يلبثوا إلا ساعة من نهار بلاغ فهل يهلك إلا القوم الفاسقون، كأنهم يوم يرونها لم يلبثوا إلا عشية أو ضحاها، اللهم إني أسألك موجبات رحمتك، وعزائم مغفرتك، والسلامة من كل إثم، والغنيمة من كل بر، والفوز بالجنة، والنجاة من النار، اللهم لا تدع لنا ذنبا إلا غفرته، ولا هما إلا فرّجته، ولا حاجة هي لك رضا إلى قضيتها، برحمتك يا أرحم الراحمين». ومما جرب لعسر الولادة، أن يكتب ويسقى للمطلقة وهو: بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين إلى آخرها. بسم الله الرحمن الرحيم قل هو الله أحد إلى آخرها. بسم الله الرحمن الرحيم قل أعوذ برب الفلق إلى آخرها. بسم الله الرحمن الرحيم قل أعوذ برب الناس إلى آخرها {بِسْمِ اللََّهِ الرَّحْمََنِ الرَّحِيمِ إِذَا السَّمََاءُ انْشَقَّتْ وَأَذِنَتْ لِرَبِّهََا وَحُقَّتْ وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ وَأَلْقَتْ مََا فِيهََا وَتَخَلَّتْ} [1] اللهم يا مخلص النفس من النفس، ويا مخرج النفس من النفس، يا عليم يا قدير، خلص فلانة مما في بطنها من ولدها، خلاصا في عافية إنك أرحم الراحمين.
فائدة أخرى:
روى صاحب (2) الترغيب والترهيب والبيهقي في الشعب، عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن ملكا من الملوك خرج من بلده يسير في مملكته وهو مستخف من الناس، فنزل على رجل له بقرة، فراحت عليه تلك الليلة البقرة، فحلبت مقدار ثلاثين بقرة، فعجب الملك من ذلك، وحدث نفسه بأخذها، فلما كان من الغد غدت البقرة إلى مرعاها، ثم راحت فحلبت نصف ذلك، فدعا الملك صاحبها وقال له: أخبرني عن بقرتك هذه لم نقص حلابها؟ ألم يكن مرعاها اليوم مرعاها بالأمس؟ قال: بلى، ولكن أرى الملك أضمر لبعض رعيته سوءا فنقص لبنها فإن الملك إذا ظلم أو همّ بظلم ذهبت البركة قال: فعاهد الملك ربه أن لا يأخذها ولا يظلم أحدا. قال: فغدت فرعت ثم راحت فحلبت حلابها في اليوم الأول فاعتبر الملك بذلك وعدل، وقال: إن الملك إذا ظلم أو هم بظلم ذهبت البركة. لا جرم لأعدلن ولأكونن على أفضل الحالات.
وذكرها ابن الجوزي في كتاب مواعظ الملوك والسلاطين، على غير هذا الوجه، فقال: خرج كسرى في بعض الأيام للصيد فانقطع عن أصحابه وأظلته سحابة فأمطرت مطرا شديدا، حال بينه وبين جنده فمضى لا يدري أين يذهب، فانتهى إلى كوخ فيه عجوز، فنزل عندها وأدخلت العجوز فرسه، فأقبلت ابنتها ببقرة قد رعتها فاحتلبتها، ورأى كسرى لبنها كثيرا فقال: ينبغي أن نجعل على كل بقرة خراجا فهذا حلاب كثير، ثم قامت البنت في آخر الليل لتحلبها، فوجدتها لا لبن فيها، فنادت: يا أماه قد أضمر الملك لرعيته سوءا. قالت أمها: وكيف ذلك؟ قالت: إن البقرة ما تبز بقطرة من لبن، فقالت لها أمها: اسكتي فإن عليك ليلا فأضمر كسرى في نفسه
__________
(1) سورة الأنشقاق: الآية 41.
(2) صاحب الترغيب والترهيب هو الإمام المحدّث أبو محمد، عبد العظيم بن عبد القوي المنذري الشامي ثم المصري، له تصانيف كثيرة. مات سنة 656هـ.(2/215)
العدل والرجوع عن ذلك العزم. فلما كان آخر الليل، قالت لها أمها: قومي احلبي، فقامت فوجدت البقرة حافلا، فقالت: يا أماه قد والله ذهب ما في نفس الملك من السوء. فلما ارتفع النهار، جاء أصحاب كسرى فركب وأمر بحمل العجوز وابنتها إليه، فأحسن إليهما، وقال: كيف علمتما ذلك؟ فقالت العجوز: أنا بهذا المكان منذ كذا وكذا ما عمل فينا بعدل إلا أخصبت أرضنا، واتسع عيشنا، وما عمل فينا بجور إلا ضاق عيشنا، وانقطعت مواد النفع عنا. وذكر الإمام الطرطوشي، في سراج الملوك، أنه كان بصعيد مصر نخلة تحمل عشرة أرادب تمرا ولم يكن في ذلك الزمان نخلة تحمل نصف ذلك فغصبها السلطان، فلم تحمل في ذلك العام ولا تمرة واحدة. قال الطرطوشي: وقال لي شيخ من أشياخ الصعيد: أعرف هذه النخلة في الغربية تجني عشرة أرادب ستين ويبة، وكان صاحبها يبيع في سني الغلاء كل ويبة بدينار. وذكر ابن خلكان، في ترجمة جلال (1) الدولة ملك شاه السلجوقي، أن واعظا دخل عليه، فكان من جملة ما وعظه به أن بعض الأكاسرة اجتاز منفردا عن عسكره، على باب بستان، فتقدّم إلى الباب وطلب ماء يشربه، فخرجت له صبية بإناء، فيه ماء قصب السكر والثلج، فشربه فاستطابه فقال لها: هذا كيف يعمل؟ فقالت: إن القصب يزكو عندنا حتى نعصره بأيدينا فيخرج منه هذا الماء. فقال: ارجعي واعصري شيئا آخر، وكانت الصبية غير عارفة به، فلما ولت قال في نفسه: الصواب أن أعوضهم غير هذا المكان واصطفيه لنفسي، فما كان بأسرع من خروجها باكية وقالت: إن نية سلطاننا قد تغيرت: قال: ومن أين علمت ذلك؟ قالت: كنت آخذ من هذا ما أريد بغير تعب، والآن قد اجتهدت في عصره فلم أستطع، فرجع عن تلك النية، ثم قال لها: ارجعي الآن فإنك تبلغين الغرض، وعقد في نفسه، أن لا يفعل ما نواه. فذهبت ثم جاءت ومعها ما شاءت من ماء القصب، وهي مستبشرة. قال: وكان ملك شاه من أحسن الملوك سيرة، حتى لقب بالملك العادل، وكان قد أبطل المكوس والخفارات في جميع البلاد فكثر الأمن في زمانه، وكان قد ملك ما لم يملكه أحد من ملوك الإسلام. وكان لهجا بالصيد، قيل إنه ضبط ما اصطاده بيده فكان عشرة آلاف، فتصدق بعشرة آلاف دينار وقال: إني خائف من الله تعالى من إزهاق الأرواح لغير مأكله، وكان كلما اصطاد صيدا يتصدق بدينار. وقيل إنه خرج مرة من الكوفة، فاصطاد في طريقه وحشا كثيرا فبنى هناك منارة من حوافر حمر الوحش وقرون الظباء التي صادها في تلك الطريق. قال: يعني ابن خلكان والمنارة باقية إلى الآن تعرف بمنارة القرون.
وكانت وفاته ببغداد سادس عشر شوّال سنة خمس وثمانين وأربعمائة. ومن عجيب الإتفاق أنه المقتدي بالله كان قد بايع لولده المستظهر بولاية العهد من بعده، فلما دخل ملك شاه بغداد المرة الثالثة ألزم المقتدي أن يعزل ولده المستظهر ويجعل ولده جعفر، الذي رزقه من ابنته ولي العهد ويخرج المقتدي إلى البصرة. فشق ذلك على المقتدي، وبالغ في استنزال ملك شاه عن هذا الرأي فلم يفعل، فسأله المهلة عشرة أيام ليتجهز، فأمهله فجعل المقتدي يصوم ويطوى، وإذا
__________
(1) ملكشاه السلجوقي، جلال الدولة، أبو الفتح بن ألب أرسلان محمد بن داود بن ميكائيل بن سلجوق بن دقاق، اتسعت مملكته حتى خطب له في جميع بلاد ما وراء النهر وباب الأبواب والروم وديار بكر والجزيرة والشام، وكان حسن السيرة ويلقب بالعادل. مات في بغداد سنة 485هـ. وفيات الأعيان: 5/ 283.(2/216)
أفطر جلس على الرماد للإفطار، وهو يدعو على السلطان، ملك شاه فمرض ملك شاه ومات في تلك الأيام، ولم تشهد له جنازة، ولا صلّى عليه أحد في الصورة الظاهرة، وحمل في تابوته إلى أصبهان ودفن بها.
أما البقرة التي أمر الله تعالى بني إسرائيل بذبحها، فقصتها مشهورة وستأتي الإشارة إلى شيء منها في باب العين في لفظ العجل إن شاء الله تعالى، فسبحان من فاوت بين الخلق. قيل لإبراهيم عليه الصلاة والسلام: اذبح ولدك، فتله للجبين. وقيل لبني إسرائيل: اذبحوا بقرة {فَذَبَحُوهََا، وَمََا كََادُوا يَفْعَلُونَ} [1]. وخرج أبو بكر الصديق رضي الله عنه من جميع ماله.
وبخل ثعلبة بن حاطب بالزكاة، وجاد حاتم في حضرة وأسفاره. وبخل الحباحب بضوء ناره، وكذلك فاوت بين الفهوم، فسبحان أنطق متكلم، وباقل أعجز من أخرس. وفاوت بين الأماكن فزرود تشكو العطش، والبطائح تشكو الغرق.
غريبة
: كانت العرب إذا أرادت الاستسقاء في السنة الأزمة جعلت النيران في أذناب البقر وأطلقوها فتمطر السماء لأن الله تعالى يرحمها بسبب ذلك قال (2) الشاعر في ذلك:
أجاعل أنت بيقورا مسلّعة ... ذريعة لك بين الله والمطر
وقال أمية بن أبي الصلت (3) الثقفي يذكر ذلك:
سنة أزمة تخيل بالنا ... من ترى للعضاه فيها صريرا (4)
... لا على كوكب ينوء ولا ري ... ح جنوب ولا ترى طخرورا (5)
... ويسوقون باقرا لسهل للطو ... دمها زيل خشية أن تبورا (6)
... عاقدين النيران في هلب الأذ ... ناب منها لكي تهيج البحورا (7)
... سلع مّا ومثله عشر ما ... عائل ما وعالت البيقورا (8)
وحكى في الإحياء أن شخصا كانت له بقرة يحلبها ويخلط في لبنها الماء ويبيعه، فجاء سيل فغرق البقرة فقال له بعض أولاده: إن تلك المياه المتفرقة التي صببناها في اللبن اجتمعت دفعة واحدة وأخذت البقرة. وروى الخلال، في المجلس التاسع من مجالسه، عن جابر بن عبد الله
__________
(1) سورة البقرة: الآية 71.
(2) البيت في الحيوان: 4/ 468. ونسبته لورل الطائي.
(3) أمية بن أبي الصلت، شاعر جاهلي حكيم أدرك النبي صلى الله عليه وسلم. مات بالطائف سنة 5هـ.
(4) البيت في الحيوان للجاحظ: 4/ 466. وفيه: «تخيل بالنا» العضاة: شجر له شوك.
(5) هذا البيت لم يرد في الحيوان. الطخرور: السحاب القليل.
(6) في الحيوان: «ويسوقون باقرا يطرد السهد».
(7) في الحيوان: «في شكر الأذناب عمدا كيما».
(8) في الحيوان: «وعالت البنقورا».(2/217)
رضي الله تعالى عنهما أن بقرة انفلتت على خمر، فشربت منه فذبحوها. ثم أتوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبروه فقال: «كلوها أولا بأس بها».
الحكم:
يحل أكلها وشرب ألبانها إجماعا. وفي الصحيح عن عائشة رضي الله تعالى عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «سمن البقر وألبانها شفاء ولحمها داء». ورواه (1) ابن عدي في ترجمة محمد بن زياد الطحان عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما بمعناه. وفي الصحيح عن عائشة رضي الله تعالى عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم «ضحى عن نسائه بالبقر». وروى (2) الطبراني عن زهير قال: حدثتني امرأة من أهلي، عن مليكة بنت عمرو الزيدية من ولد زيد بن عبد الله بن سعد، قالت: اشتكيت وجعافي حلقي فأتيتها تعني مليكة بنت عمرو فوصفت لي سمن بقر، وقالت: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
«ألبانها شفاء وسمنها دواء ولحمها داء». والمرأة التابعية لم تسم وبقية رجاله ثقات. وفي المستدرك من حديث ابن مسعود رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (3) «عليكم بألبان البقر وأسمانها، وإياكم ولحومها، فإن ألبانها وأسمانها دواء ولحومها داء». ثم قال: صحيح الإسناد. وروى الحاكم أيضا وابن حبان عن ابن مسعود أيضا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (4): «ما أنزل الله داء إلا وأنزل له دواء، جهله من جهله، وعلمه من علمه، وفي ألبان البقر شفاء من كل داء، فعليكم بألبان البقر، فإنها ترم من كل الشجر؟ أي تأكل وفي رواية ترتم، وهي بمعناها. ورواه ابن ماجه عن أبي موسى خلا ذكر ألبان البقر ورواه بتمامه البزار وفيه محمد بن جابر بن سيار وهو صدوق عند الأكثرين، وضعيف عند غيرهم وبقية رجاله ثقات. ورواه الحاكم أيضا في تاريخ نيسابور من حديث عبد الله بن المبارك عن أبي حنيفة، عن قيس بن مسلم عن طارق بن شهاب، عن عبد الله بن مسعود.
وفي كتاب ابن السني عن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه أنه قال: لم يستشف الناس بشيء أفضل من السمن وإذا أوصى ببقرة لم يتناول الثور على الأصح. لأن لفظها موضوع للأنثى، والثاني يتناوله والهاء للوحدة. قال الرافعي: وقياس تكميل البقر بالجواميس في الزكاة، دخولها هنا وفي العمدة والكفاية لا تدخل إلا إذا قال من بقري وليس له إلا الجواميس ولو لم يكن إلا بقرات وحش فوجهان كما ذكرنا في الظباء والإيل. وأما زكاتها ففي كل ثلاثين منها سائمة تبيع ابن سنة وفي كل أربعين مسنة لها سنتان. لما روى مالك عن طاوس، أن معاذ بن جبل رضي الله تعالى عنه أخذها كذلك وأتى بما دون ذلك، فلم يأخذ منها شيئا وسمي تبيعا لأنه يتبع أمه في المسرح وقيل لأن قرنه يتبع أذنه ولو أخرج تبيعة أجزأته، بل هي أولى للأنوثة، وسميت مسنة لتكامل سنها.
__________
(1) الكامل في ضعفاء الرجال لابن عدي: 6/ 2141.
(2) رواه مسلم في الحج: 356، 357، ورواه الدارمي في المناسك: 62. وابن حنبل: 3، 378، 6، 165، 164، 219، 273.
(3) رواه أحمد: 4/ 215.
(4) رواه مسلم في السلام: 69، وفي فضائل الصحابة: 92. ورواه البخاري في الطب. ورواه أبو داود في الطب: 1، 11. وابن ماجه في الطب: 1وأحمد: 1/ 377، 413، 443، 446.(2/218)
فلو أخرج عن أربعين تبيعين أجزأه على الصحيح. وقال البغوي: لا، لأن العدد لا يقوم مقام السن.
فائدة:
في الحلية، ترجمة عكرمة، قال: كانت القضاة في بني إسرائيل، ثلاثة: فمات أحدهم، فولّى غيره مكانه، ثم قضوا ما شاء الله أن يقضوا، ثم بعث الله لهم ملكا يمتحنهم فوجد رجلا يسقي بقرة على ماء، وخلفها عجلة فدعاها الملك وهو راكب فرسا، فتبعتها العجلة فتخاصما فجاء إلى القاضي الأوّل فدفع إليه الملك درة كانت معه، وقال له: احكم بأن العجلة لي، قال: بماذا أحكم؟ قال ارسل الفرس والبقرة والعجلة فإن تبعت الفرس فهي لي فأرسلها فتبعت الفرس فحكم له بها. وأتيا القاضي الثاني فحكم كذلك. وأخذ درة وأما القاضي الثالث فدفع له الملك درة وقال: احكم بيننا قال: إني حائض. قال الملك سبحان الله أيحيض الذكر؟
قال: سبحان الله أتلد الفرس بقرة؟ وحكم بها لصاحبها. قلت: هؤلاء كما قال نبينا صلى الله عليه وسلم:
«قاضيان في النار وقاض في الجنة (1)».
الأمثال:
قالوا: «تركت زيدا بملاحس البقر أولادها (2)» أي بحيث تلحس البقر أولادها، يعنون المكان القفر. وقالوا: «الكلاب على البقر (3)». وسيأتي معناه في باب الكاف إن شاء الله تعالى.
الخواص:
شحم البقر إذا بخر به البيت مع زرنيخ أحمر طرد العقارب والحيات وسائر الهوام. وإذا طلي به إناء اجتمعت إليه البراغيث. وقرنه إذا سحق وجعل في طعام صاحب حمى الربع زالت عنه. وإذا شرب زاد في الإنعاظ. ودمه يحبس الدم السائل وإذا طلي بمرارتها مع ماء الكراث البواسير نفعها وسكنها وأزال وجعها. وإذا طلي به الآثار السود من البدن قلعها وأزالها.
وإذا خلطت مع العسل واكتحل بها أزالت الظلمة. وإذا طلي بها مع النطرون والعسل وشحم الحنظل المقعد نفعه. وقال أرسطو: مرارة البقر السوداء إذا اكتحل بها أحدّت البصر وقال كيماس:
إذا فقئت عين البقرة، أو قلعت وكتب بمائها على كاغد لم تبن بالنهار وتقرأ بالليل. وشعورها إذا أحرقت وشربت نفعت من وجع الأسنان. وإذا شربت بالسكنجبين، أزالت الطحال. وإن شربت بالعسل أخرجت حب القرع من البطن. وقال يونس: إذا طليت التواكيل بخثى البقر تناثرت وبرئت من وقتها. وإذا طليت به الأورام الصلبة لينها وإن بخربه قرية النمل، قبل ظهورها لم تظهر. وإن وضع على النقرس نفع صاحبه. وإن بخر به الحامل سهل الولادة، وأخرج الجنين حيا وميتا والمشيمة وإن أحرق في بيت طرد هوامه. وإن سحق المحرق منه ونفخ في الأنف حبس الرعاف. وإن طلي به على البدن مرارا وترك حتى يجف أخرج السهم والشوكة منه. وإن طلي به مع الكبريت، على خرقة كتان، وبسطت على جميع البطن نشف الماء الأصفر. وقال هرمس: إذا طليت منخر البقرة بدهن ورد دهشت وشردت.
__________
(1) رواه أبو داود في الأقضية: 2. وابن ماجه في الأحكام: 3.
(2) مجمع الأمثال: 1/ 135ولفظه: تركته بملاحس البقر أولادها.
(3) جمهرة الأمثال: 2/ 141.(2/219)
التعبير:
البقر في المنام يعبر بالسنين، كما عبرها يوسف الصديق صلى الله عليه وسلم، فالسمان خصب، والضعاف جدب، هذا إذا كانت بيضا أو سودا. وإذا كانت صفرا أو حمرا وهي تنطح الشجر بقرونها فتقلعها أو الأبنية فتسقطها، فإنها فتن تحل بذلك المكان الذي دخلته لقوله (1) عليه الصلاة والسلام: «إن الفتن تكون في آخر الزمان كصياصي البقر وكعيون البقر» والبقرة الصفراء سنة فيها سرور. والغبرة في البقر شدة في أوّل السنة والبلقة في أعجازها شدة في آخر السنة. والنصف من البقرة مصيبة في أخت أو بنت. وكذلك كل سهم ينسب إلى من يرثه كالربع والثمن. ومن حلب بقرة غيره فإنه يخون رجلا في امرأته. ومهما رأى الإنسان ببقرته فذلك عائد إلى زوجته أو بنته.
وحليب البقرة مال حلال جزيل وأصواتها تدل على ناس معروفين بالأدب. وخدشها مرض. ومن وثب عليه بقرة أو ثور ولم يفلته فإنه يموت في تلك السنة، والبقرة في المنام للفلاحين خير وانسب البقر في ألوانها إلى ما تنسب إليه الخيل. ويأتي بيان ذلك إن شاء الله تعالى في باب الخاء المعجمة.
ومن رأى بقرة دخلت داره ونطحته فإنه يرى خسرانا في ماله. وقالت النصارى: من أكل لحم بقر في نومه تقدم إلى حاكم. والشحم مال لمن حواه خالص لا يغادره منه شيء وهو بلا تعب. وأما شواء البقر فهو أمن للخائف. ومن كانت له زوجة وهي حامل بشر بولد ذكر.
والشواء بشارة في معيشته فإن كان غير ناضج فهو هم من قبل امرأة. وقيل لحم البقر رزق وخصب لمن أكله مطبوخا أو مشويا. ومن الرؤيا المعبرة قول عائشة رضي الله تعالى عنها: رأيت كأني على تل وحولي بقر ينحر، فقصصتها على مسروق، فقال: إن صدقت رؤياك فإنه يكون حولك ملحمة قتال. فكان كذلك يوم الجمل. ومن رأى بقرة تمص لبن عجلها فإن امرأته تقود على ابنتها. ومن رأى عبدا يحلب بقرة مولاه فإنه يتزوّج امرأة المولى والله تعالى أعلم.
البقر الوحشي
هذا النوع أربعة أصناف: المها والأيل واليحمور والثيتل. وكلها تشرب الماء في الصيف إذا وجدته، وإذا عدمته صبرت عنه، وقنعت باستنشاق الريح، وفي هذا الوصف يشاركها الذئب والثعلب وابن آوى والحمر الوحشية والغزلان والأرانب. فأما الأيل فتقدم ذكره واليحمور وسيأتي إن شاء الله تعالى في باب الياء آخر الحروف.
والكلام الآن في المها فمن طبعه الشبق والشهوة، فلذلك إذا جملت الأنثى هربت من الذكر خوفا من عبثه بها وهي حامل. ولفرط شهوته يركب الذكر ذكرا آخر، وإذا ركب واحد منها شم الباقي منه رائحة الماء فيثبن عليه. وقرون البقر الوحشي مصمتة بخلاف قرون سائر الحيوانات فإنها مجوّفة كما تقدم والبقر الوحشي أشبه شيء بالمعز الأهلية وقرونها صلاب جدا تمنع بها عن نفسها وأولادها كلاب الصيد والسباع التي تطيف بها.
فائدة
: لما أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد إلى أكيدر دومة الجندل، وهو أكيدر (2) بن
__________
(1) رواه ابن حنبل: 5/ 391.
(2) أكيدر الكندي، ملك دومة الجندل المعروف اليوم بالجوف، عاهد النبي صلى الله عليه وسلم، ونقض من بعده فقتله خالد بن الوليد سنة 12هـ.(2/220)
عبد الملك رجل من كندة، كان ملكا عليها، وكان نصرانيا، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لخالد: «إنك تجده يصيد بقر الوحش (1)». فلما وصل إليه كان في ليلة مقمرة، فأذن الله تعالى للبقر الوحشية أن تأتيه من كل جانب، تحك قصره بقرونها، فأشرف عليها وقال: ما رأيت أكثر منها الليلة ولقد كنت أكمن لها اليومين والثلاثة ولا أجدها. ولكن قدر الله وما شاء فعله. ثم أمر بفرسه فأسرج وركب هو وأخوه حسان، وعليه قباء من الديباج المخوص بالذهب. فلما نزل وافته خيل رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذته أسيرا وأرسلوه بقبائه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتعجب منه بعض أصحابه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: المناديل سعد في الجنة خير من هذا ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم عرض عليه الإسلام فأبى، فأقره بالجزية في أرضه في شهر رجب سنة تسع من الهجرة. وأشار إلى هذه البقرات الوحشية بجير بن بجرة الطائي بقوله:
تبارك سائق البقرات إني ... رأيت الله يهدي كل هادي ... فمن يك حائدا عن ذي تبوك ... فإنا قد أمرنا بالجهاد
وسيأتي مزيد كلام في المها في باب الميم إن شاء الله تعالى.
الحكم:
يحل أكلها بجميع أنواعها بالإجماع لأنها من الطيبات.
الأمثال:
قالت العرب: «تتابعي (2) بقر». زعموا أن بشر بن الحارث الأسدي خرج في سنة جهد فيها قومه، فمروا ببقر فنفرت منهم، فقام على رأس جبل فرماها بقوسه، فجعلت تلقي نفسها وهو يقول: «تتابعي بقر» حتى تكسرت ثم رجع إلى قومه، فدعاهم لأكلها. يضرب عند تتابع الأمر وسرعته.
الخواص:
مخه يطعم لصاحب الفالج، ينفعه نفعا شديدا. ومن استصحب معه شعبة من قرونه نفرت منه السباع وإذا دخن بقرنه أو جلده أو ظلفه في بيت نفرت منه الحيات. ورماده يذر على السن المتأكلة المتألمة يسكن وجعها. وشعره يبخر به البيت يهرب منه الفأر والخنافس. وقرنه يحرق ويجعل في طعام صاحب حمى الربع تزول عنه. ويشرب في شيء من الأشربة يزيد في الباه ويقوي العصب ويزيد في الإنعاظ. وينفخ في أنف الراعف يقطع دمه ويحرق قرناه حتى يصيرا رمادا. ويداف في الخل، ويطلى به موضع البرص مستقبلا به الشمس، فإنه يزول ويسف منه مقدار مثقال فإنه لا يخاصم أحدا إلا غلبه.
بقر الماء
: قال القزويني: زعموا أن بقرا يطلع من الماء يرعى الزرع وروثها العنبر، والله أعلم بصحة ذلك، فإن الناس ذكروا أن العنبر نبت بقعر البحر فإن صح ما قالوه فروث هذا الحيوان ينفع الدماغ والحواس والقلب والله أعلم.
بقرة بني إسرائيل:
هي التي يقال لها أم قيس وأم عويف وهي دابة صغيرة لها قرنان تكون
__________
(1) رواه البخاري في الهبة: 28، وبدء الخلق 8، واللباس: 25، والإسكان: 3ومسلم في فضائل الصحابة:
126، 127، ورواه الترمذي في اللباس: 3وفي المناقب: 50وابن ماجه في المقدمة: 11.
(2) مجمع الأمثال: 1/ 127.(2/221)
في الرمل فإذا أردت أن تخرجها فاطرح في موضعها قملة فتخرج فتأخذها فإذا صارت في يدك فشق ظهرها، وأدخل فيه ميلا واكحل به من بعينيه بياض ثلاث مرات، فإنه يذهب وإذا دلك بهذه الدابة موضع القرع نبت فيه الشعر.
البق:
قال الجوهري: البقة البعوضة والجمع البق. وأنشد في باب العين والياء واللام لزفر بن الحارث (1) الكلابي:
ألا إنما قيس بن عيلان بقة ... إذا وجدت ريح العصير تغنت
والبق المعروف هو الفسافس الآتي في باب الفاء إن شاء الله تعالى. يقال إنه يتولد من النفس الحار، ولشدة رغبته في الإنسان، لا يتمالك إذا شم رائحته إلا رمى نفسه عليه، وهو كثير بمصر وما شاكلها من البلاد.
وحكمه
: تحريم الأكل لاستقذاره كالبعوض. وهو من الحيوان الذي لا نفس له سائلة أصلا، كما قاله الرافعي رحمه الله في الدم. والدم الذي فيه يمتصه من بني آدم، كما يمتصه القمل والبرغوث. ووقع في كلام الرافعي والنووي وغيرهما تمثيل ما لا نفس له سائلة، بالبعوض والبق.
قال الشيخ: وفي ذكر البق المعروف في بلادنا فيما لا نفس له سائلة نظر. وقد رأيت بعض الناس يذكر أنه في كثير من البلاد اسم للبعوض فلعل من أطلقه أراد به البعوض.
الخواص:
قال القزويني في عجائب المخلوقات وغرائب الموجودات: إذا بخر البيت بالقلقند والشونيز (2) لم يدخله البق بالكلية، وكذلك إذا بخر بنشارة الصنوبر طرده أيضا. وقال حنين (3) بن إسحاق: إذا بخر البيت بحب المحلب هرب منه البق أجمع. وكذلك إذا بخر بالعلق أو العاج أو بجلد جاموس أو بأغصان شجر السرو. وقال غيره. إذا نقع ورق الحرمل في خل ونضح به البيت هرب منه، وإذا وضع الحرمل (4) عند رأس الإنسان أو رجليه لم يقرب منه البق.
وإذا نقع السداب (5) في خل ونضح به البيت هرب منه. وإذا أخذ كندر وكبريت ودقا وديفا بماء وطلي بذلك قضيب قنب ووضعه إنسان عند رأسه حيث ينام لم يقربه بق البتة. وقال ابن جميع في الإرشاد: دخان الكمون والآس اليابس والترمس يطرد البق والبعوض. ومما جرب فوجد نافعا لطرد البق أن يكتب على أربع ورقات ويلصق في الحيطان الأربع ما صورته 111212.
تذنيب:
قد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم البق في حديث رواه الطبراني، بإسناد جيد، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت أذناي هاتان وأبصرت عيناي هاتان رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو آخذ بكفيه
__________
(1) زفر بن الحارث بن عبد عمرو بن معاذ الكلابي، أبو الهذيل، تابعي، كان زعيم قيس في زمانه، شهد وقعة مرج راهط. مات سنة 75هـ.
(2) الشونيز: الحبة السوداء.
(3) حنين بن إسحاق العبّادي، كنيته أبو زيد، والعباد نصارى الحيرة وكان فاضلا في صناعة الطب فصيحا في اليونانية والسريانية والعربية. مات سنة 260هـ. له كتب من تأليفه، غير ذلك التي نقلها.
(4) الحرمل والسذاب: من النباتات.
(5) الحرمل والسذاب: من النباتات.(2/222)
جميعا حسنا أو حسينا وقدماه على قدمي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول: «حزقة حزقة، ترق عين بقة» فيرقى الغلام فيضع قدميه على صدر رسول الله صلى الله عليه وسلم. ثم قال صلى الله عليه وسلم: «افتح فاك» ثم قبله ثم قال:
«اللهم من أحبه فإني أحبه (1)» ورواه البزار ببعض هذا اللفظ. والحزقة الضعيف المتقارب الخطو ذكر ذلك له على سبيل المداعبة والتأنيس. وترق معناه اصعد وعين بقة كناية عن صغر العين مرفوع على أنه خبر مبتدإ محذوف. وفي كامل ابن عدي وتاريخ ابن النجار في ترجمة محمد بن علي بن الحسين بن محمد عن الأصبغ بن نباتة الحنظلي قال: سمعت علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه يقول في خطبته: ابن آدم وما ابن آدم تؤلمه بقه، وتنتنه عرقه، وتقتله شرقه.
والأصبغ بن نباتة الحنظلي المذكور يروي عن علي رضي الله تعالى عنه أشياء لم يتابعه عليها أحد فاستحق من أجلها الترك روى له ابن ماجه حديثا واحدا: «نزل جبريل عليه السلام على النبي صلى الله عليه وسلم بحجامة الأخدعين والكاهل (2)».
الحكم:
يحرم أكل البق لاستقذاره كالبعوض.
الأمثال:
قالوا: «أضعف من بقة (3)».
التعبير
: البق في المنام أعداء ضعاف طعانون، وهم جندلا وفاء لهم ولا جلد. ويدل أيضا على الهم والحزن لأن البق يمنع النوم والهم والحزن يمنعان النوم والله أعلم.
البكر
: الفتى من الإبل والأنثى بكرة. والجمع بكار مثل فرخ وفراخ وقد يجمع في القلة على ابكر. قال أبو عبيدة: البكر من الإبل بمنزلة الفتى من الناس، والبكرة بمنزلة الفتاة والقلوص بمنزلة الجارية، والبعير بمنزلة الإنسان، والجمل بمنزلة الرجل، والناقة بمنزلة المرأة.
روى مسلم عن أبي رافع أن النبي صلى الله عليه وسلم استلف من رجل بكر، فلما جاءت إبل الصدقة أمرني أن أقضي الرجل بكرا فقلت: لم أجد في الإبل إلا جملا خيارا رباعيا، فقال (4) صلى الله عليه وسلم: «أعطه فإن خياركم أحسنكم قضاء». وفي رواية بازلا بدل رباعيا. وروى الحاكم عن العرباض بن سارية رضي الله عنه قال: بعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم بكرا فجئت أتقاضاه فقلت: يا رسول الله اقضني ثمن بكري. قال: «نعم ثم قضاني فأحسن قضائي». ثم جاءه أعرابي فقال: يا رسول الله اقضني بكري فقضاه بعيرا مسنا، فقال يا رسول الله هذا أفضل من بكري! فقال صلى الله عليه وسلم: «هو لك إن خير القوم خيرهم (5) قضاء». ثم قال صحيح الإسناد.
__________
(1) رواه الترمذي في المناقب 30، وابن ماجه في المقدمة 11، وابن حنبل: 4/ 173.
(2) رواه ابن ماجه في الطب: 21.
(3) جمهرة الأمثال: 2/ 8.
(4) رواه البخاري في الوكالة: 5، 6. وفي الاستقراض: 4، 6، 7. وفي الهبة: 23، 25. ورواه مسلم في المساقاة: 118، 122. وأبو داود في البيوع: 11والترمذي بيوع: 73، 75والنسائي بيوع: 64، 103 وابن ماجه صدقات: 16.
(5) رواه أحمد: 2/ 377، 393، 416، 431، 456، 476، الموطأ بيوع: 89. ورواه الدارمي في البيوع:
31.(2/223)
وروى الحافظ أبو يعلى بإسناده إلى ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: حج رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما أتى وادي عسفان قال: «يا أبا بكر أي واد هذا»؟ قال وادي عسفان. قال صلى الله عليه وسلم:
«لقد مرّ بهذا الوادي نوح وهود وإبراهيم على بكرات لهم حمر خطمهم الليف وأزرهم العباء وأرديتهم النمار يحجون البيت العتيق (1)». وروى مسلم عن سيرين بن معبد الجهني رضي الله تعالى عنه أنه غزا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في فتح مكة قال: «فأذن لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في المتعة».
فانطلقت أنا ورجل إلى امرأة من بني عامر كأنها بكرة عيطاء أي شابة طويلة العنق في اعتدال فعرضنا عليها أنفسنا فقالت ما تعطيني؟ فقلت: ردائي. وقال صاحبي ردائي. وكان رداء صاحبي أجود من ردائي وكنت أشب منه، فكانت إذا نظرت إلى رداء صاحبي أعجبها، وإذا نظرت إلي أعجبتها، ثم قالت: أنت ورداؤك تكفيني. فمكثت معها ثلاثا ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من كان عنده شيء من هذه النساء التي يتمتع بهن فليخل سبيلها» (2). وفي رواية فلم أخرج عنها حتى حرمها رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وروى أبو داود والنسائي والترمذي والحاكم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن أعرابيا أهدى لرسول الله صلى الله عليه وسلم ناقة، فعوّضه منها ست بكرات فتسخطها، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: «إن فلانا أهدى إلي ناقة فعوضته منها ست بكرات، فظل ساخطا لقد هممت أن لا أقبل هدية إلا من قرشي أو أنصاري أو ثقفي أو دوسي (3)». وفي حديث علي رضي الله تعالى عنه «صدقني سن بكره». وهو مثل تضربه العرب للصادق في خبره. ويقوله الإنسان على نفسه وإن كان ضارا له وأصله أن رجلا ساوم رجلا في بكر يشتريه، فسأل صاحبه عن سنه فأخبره بالحق، فقال المشتري: «صدقني سن بكره». وفي مسند الشافعي عن مولى لعثمان قال: بينما أنا مع عثمان رضي الله تعالى عنه في يوم صائف إذ رأى رجلا يسوق بكرين، وعلى الأرض مثل الفراش من الحر، فقال: ما على هذا لو أقام بالمدينة حتى يبرد ثم يروح. فدنا الرجل فقال: انظر فنظرت، فإذا هو عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه. فقلت: هذا أمير المؤمنين، فقام عثمان رضي الله تعالى عنه فأخرج رأسه من الباب فآذاه نفح السموم، فأعاد رأسه حتى إذا حاذاه قال: ما أخرجك في هذه الساعة؟ قال: بكران من إبل الصدقة تخلفا، وقد مضى بإبل الصدقة فأردت أن ألحقهما بالحمى خشية أن يضيعا فيسألني الله عنهما فقال عثمان: هلم إلى الماء والظل فقال: عد إلى ظلك، فقال: عندنا من يكفيك فقال: عد إلى ظلك ثم مضى. فقال عثمان: من أحب أن ينظر إلى القوي الأمين فلينظر إلى هذا.
الأمثال:
في الحديث (4): «جاءت هوازن على بكرة أبيها» وقالوا (5): «جاؤوا على بكرة أبيهم» يصفونهم بالقلة أي جاؤوا بحيث تحملهم بكرة أبيهم قلت: وأصله أن قوما قتلوا وحملوا
__________
(1) رواه أحمد: 1/ 232.
(2) رواه أبو داود في النكاح: 13، ورواه الترمذي في النكاح: 28. وأحمد: 3/ 404.
(3) رواه الترمذي في المناقب: 73. وأحمد: 2/ 292.
(4) رواه أبو داود في الجهاد: 16.
(5) مجمع الأمثال: 1/ 176.(2/224)
على بكرة أبيهم، فقيل فيهم ذلك، ثم صار مثلا لقوم جاؤوا مجتمعين. وقال أبو عبيدة: معناه جاؤوا جميعا لم يتخلف منهم أحد، وليس هناك بكرة في الحقيقة. وقال بعضهم: البكرة ههنا هي التي يستقى عليها أي جاؤوا بعضهم في إثر بعض كدوران البكرة على نسق واحد. وقال قوم أراد بالبكرة الطريقة، أراد أنهم جاؤوا على طريقة أبيهم أي يقتفون أثره وقيل: هو ذم ووصف بالقلة والذلة أي يكفيهم للركوب بكرة واحدة وذكر الأب احتقار وتصغير لهم.
وحكمه وخواصه وتعبيره كالإبل.
البلبل:
من أنواع العصافير. ويقال له الكعيت والجميل مصغرات، وهو النغر وسيأتي في بابه وقد أحسن من ألعز فيه بقوله:
وما طائر نصفه كله ... له في ذرا الدوح سير ولبث ... رأينا ثلاثة أرباعه ... إذا صحفوها غدت وهي ثلث
وقد أجاد علي بن المظفر أبو الفضل الآمدي (1) قاضي واسط حيث قال:
وأهاله ذكر الحمى فتأوّها ... ودعا به داعي الصبا فتوّلها ... هاجت بلابله البلابل فانثلت ... أشجانه تثني عن الحلم النهى (2)
... فشكا جوا وبكى أسى وتنبه ال ... وجد القديم ولم يزل متنبها ... لا تكرهوه على السلو فطالما ... حمل الغرام فكيف يسلو مكرها (3)
... لا عبت يا سعدى عليك فسامحي ... وصلي فقد بلغ السقام المنتهى (4)
وما أحسن قول يوسف (5) بن لؤلؤ حيث يقول:
باكر إلى الروضة تستجلها ... فثغرها في الصبح بسام ... والنرجس الغض اعتراه الحيا ... فغض طرفا فيه أسقام ... وبلبل الدوح فصيح ... على الأيكة والشحرور تمتام ... ونسمة الصبح على ضعفها ... لها بنا مرّ وإلمام ... فعاطني الصهباء، مشمولة ... عذراء فالواشون نوّام ... واكتم أحاديث الهوى بيننا ... ففي خلال الروض نمّام
__________
(1) الآمدي: أبو الفضائل علي بن أبي المظفر يوسف بن أحمد بن محمد بن عبيد الله بن الحسين، وهو من بيت معروف بواسط بالصلاح والرواية والعدالة مات سنة 608هـ. والأبيات مع ترجمته في وفيات الأعيان:
3/ 397.
(2) في الوفيات: «البلابل فانثنت».
(3) في الوفيات: «السلوّ فطائعا».
(4) في الوفيات: «يا عتب لا عتب».
(5) يوسف بن لؤلؤ بدر الدين الدمشقي الشاعر مات سنة 680هـ. والأبيات مع ترجمته في فوات الوفيات:
4/ 378.(2/225)
ومن محاسن شعره أيضا قوله:
سقى الله أرضا نور وجهك شمسها ... وأحيا بلادا أنت في افقها بدر ... وروّى بقاعا جود كفك غيثها ... ففي كل قطر من نداك بها قطر
وله أيضا:
تسلسل دمعي وهو لا شك مطلق ... وصح حقيقا حين قالوا: تكسرا ... وفي قلب مائي للقلوب مسرة ... وقالوا سيجزى بالهنا وكذا جرى
وله أيضا:
بعيني رأيت الماء ألقى بنفسه ... على رأسه من شاهق فتكسرا ... وقام على إثر التكسر جاريا ... ألا فاعجبوا ممن تكسر قد جرى
وله أيضا:
أنفقت كنز مدائحي في ثغره ... وجمعت فيه كل معنى شارد ... وطلبت منه جزاء ذلك قبلة ... فأبى وراح تغزلي في البارد
والعرب تقول: البلبل يعندل، أي يصوّت وروى الحافظ أبو نعيم وصاحب الترغيب والترهيب من حديث مالك بن دينار أن سليمان بن داود صلى الله عليهما وسلم، مر على بلبل فوق شجرة يصفر ويحرك رأسه ويميل ذنبه فقال لأصحابه: أتدرون ما يقول؟ قالوا: لا، قال: إنه يقول:
أكلت نصف تمرة فعلى الدنيا العفاء. وهو بالمد أي على الدنيا الدروس، وذهاب الأثر. وقيل: العفاء التراب. وسيأتي إن شاء الله تعالى في باب العين في لفظ العقعق. عن الزمخشري أنه ذكر في تفسير قوله (1) تعالى: {وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لََا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللََّهُ يَرْزُقُهََا} عن بعضهم أن البلبل يحتكر القوت. حكى البويطي عن الشافعي رضي الله تعالى عنه أنه كان في مجلس مالك بن أنس رضي الله تعالى عنه وهو غلام، فجاء رجل إلى مالك فاستفتاه، فقال: إني حلفت بالطلاق الثلاث إن هذا البلبل لا يهدأ من الصياح. فقال له مالك: قد حنثت. فمضى الرجل، فالتفت الشافعي رضي الله تعالى عنه إلى بعض أصحاب مالك فقال: إن هذه الفتيا خطأ فأخبر مالك بذلك، وكان مالك رضي الله تعالى عنه مهيب المجلس لا يجسر أحد أن يراده، وربما جاء صاحب الشرطة فوقف على رأسه إذا جلس في مجلسه، فقالوا لمالك: إن هذا الغلام يزعم أن هذه الفتيا إغفال وخطأ! فقال له مالك: من أين قلت هذا؟ فقال له الشافعي أليس أنت الذي رويت لنا عن النبي صلى الله عليه وسلم، في قصة فاطمة بنت قيس رضي الله تعالى عنها، أنها قالت للنبي صلى الله عليه وسلم أن «أبا جهم ومعاوية خطباني، فقال صلى الله عليه وسلم: «أما أبو جهم فلا يضع العصا عن عاقته، وأما معاوية فصعلوك لا مال له (2)». فهل كانت عصا أبي جهم دائما على عاتقه؟ وإنما أراد من ذلك الأغلب. فعرف مالك
__________
(1) سورة العنكبوت: الآية 60.
(2) رواه: أبو داود في الطلاق: 39. ومسلم في الرضاع: 101. والموطأ طلاق: 67. وأحمد: 6/ 412.(2/226)
محل الشافعي ومقداره. قال الشافعي: فلما أردت أن أخرج من المدينة جئت إلى مالك فودّعته، فقال لي مالك حين فارقته: يا غلام اتق الله تعالى ولا تطفىء هذا النور الذي أعطاكه الله بالمعاصي يعني بالنور: العلم، وهو قوله (1) تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللََّهُ لَهُ نُوراً فَمََا لَهُ مِنْ نُورٍ}
هكذا جاء في هذه الرواية: البلبل. وجاء في رواية أخرى: القمري. وسيأتي إن شاء الله تعالى.
التعبير
: هو في الرؤيا رجل موسر، وقيل امرأة موسرة وقيل ولد قارىء لكتاب الله لا يلحق.
البلح:
بضم الباء وفتح اللام قال ابن سيده: إنه طائر أغبر اللون أعظم من النسر محترق الريش لا تقع ريشة منه وسط ريش طائر آخر إلا أحرقته وقيل: هو النسر القديم الهرم والجمع بلحان.
البلشون:
هو مالك الحزين. وسيأتي إن شاء الله تعالى في باب الميم.
البلّصوص:
بضم الباء واللام المشددة طائر وجمعه البلنصي على غير قياس. وقال سيبويه النون زائدة لأنك تقول للواحد البلصوص. والعامة تسمية أبو لصيص. قال البطليوسي في الشرح: وقد اختلف اللغويون في هذين الإسمين أيهما الواحد وأيهما الجمع. فقال قوم:
البلصوص هو الواحد والبلنصي هو الجمع وعكس ذلك آخرون وقال قوم: البلصوص الذكر والبلنصي الأنثى ذكره ابن ولاد (2) وأنشد:
والبلصوص يتبع البلنصي.
قال: وقياس جمع البلصوص بلا صيص. ولم أدر ما حكم هذا الطائر.
بنات الماء:
قال ابن أبي الأشعث: هي سمك ببحر الروم، شبيهة بالنساء ذوات شعر سبط، ألوانهن إلى السمرة، ذوات فروج عظام وثدي، وكلام لا يكاد يفهم، ويضحكن ويقهقهن. وربما وقعن في أيدي بعض أهل المراكب، فينكحونهن ثم يعيدونهن إلى البحر. وحكي عن الروياني صاحب البحر، أنه كان إذا أتاه صياد بسمكة على هيئة المرأة، حلفه أنه لم يطأها.
وذكر القزويني أنه صيد لبعض الملوك رجل إذا تكلم، لا يفهم ما يقول، فزوجه بامرأة فرزق منها ولدا فصار يتكلم بلغة أبيه ولغة أمه. وقد تقدم هذا في باب الهمزة في إنسان الماء.
بنات وردان:
يأتي ذكرها في آخر باب الواو إن شاء الله تعالى.
البهار
: بضم الباء حوت أبيض طيب من حيتان البحر، قال الجوهري: والبهار بالضم شيء يوزن به، وهو ثلاثمائة رطل وقال عمرو بن العاص: إن ابن الصعبة يعني طلحة بن عبيد الله ترك مائة بهار في كل بهار ثلاثة قناطير ذهب فجعله وعاء. قال أبو عبيد القاسم بن سلام والبهار في كلامهم ثلاثمائة رطل وأحسبها غير عربية وأراها قبطية.
__________
(1) سورة النور: الآية 40.
(2) ابن ولّاد: أحمد بن محمد بن ولّاد التميمي أبو العباس، نحوي مصري. مات سنة 332هـ.(2/227)
البهثة
: بالضم، البقرة الوحشية وقد تقدم ذكرها.
البهرمان: ضرب من العصفور قاله ابن سيده.
البهمة:
بفتح الباء، الصغير من أولاد الغنم والبقر والوحش وغيرها. الذكر والأنثى فيه سواء والجمع بهم وبهم وبهام وبها مات. قال الأزهري في شرح ألفاظ المختصر: أما أسنان الغنم فساعة تضعها أمها من الضأن والمعز، ذكرا كان أو أنثى سخلة، وجمعها سخال، ثم هي بهمة فإذا بلغت أربعة أشهر وفصلت عن أمها، فما كان من أولاد المعز فهو جفار واحدها جفر. فإذا رعى وقوي فهو عريض وعتود وجمعها عرضان وعتدان. وهو في كل ذلك جدي، والأنثى عناق ما لم يأت عليها الحول، وجمعها عنق والذكر تيس إذا أتى عليه الحول والأنثى عنز ثم نجذع في السنة الثانية فالذكر جذع والأنثى جذعة فعلم منه أن ما نقله النووي رحمه الله، عنه في عناق فيه نوع خلل، والله أعلم. وروى الشافعي وابن خزيمة وابن حبان والحاكم وأصحاب السنن الأربعة، من حديث لقيط بن صبرة، واللفظ لأبي داود، قال: كنت وافد بني المنتفق، أو في وفد بني المنتفق إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما قدمنا عليه لم نجده في منزله، فصادفنا عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها فأمرت لنا بحريرة، أو قال بعصيدة، فصنعت لنا وأتينا بقناع، والقناع طبق فيه تمر ثم جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال (1): «هل أصبتم شيئا أو آمر لكم بشيء: قلنا: نعم يا رسول الله. قال:
فبينما نحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ دفع الراعي غنمه إلى المراح، ومعه سخلة تبعر، فقال صلى الله عليه وسلم: ما ولدت يا غلام»؟ قال بهمة قال: فاذبح لنا مكانها شاة». ثم قال صلى الله عليه وسلم: «لا تحسبن أنا من أجلك ذبحناها، لنا غنم مائة ما نريد أن تزيد فإذا ولدت لنا بهمة ذبحنا مكانها شاة». قلت:
يا رسول الله إن لي امرأة وإن في لسانها شيئا يعني البذاءة. قال: فطلقها إذن». قلت:
يا رسول الله إن لها صحبة وإن لي منها ولدا. قال: «فعظها فإن يك فيها خير فستفعل، ولا تضرب ظعينتك ضربك لأمتك». قال: قلت: يا رسول الله أخبرني عن الوضوء، قال: أسبغ الوضوء وخلل الأصابع وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائما».
وفي سنن أبي داود من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم صلى إلى جدار اتخذه قبلة ونحن خلفه، فجاءت بهمة تمر بين يديه، فما زال صلى الله عليه وسلم «يدرؤها حتى لصق بطنه بالجدار، فمرت من ورائه». وسيأتي في الجدي نحو ذلك. وفي صحيح (2) مسلم وسنن أبي داود والنسائي وابن ماجه من حديث يزيد بن الأصم عن ميمونة «أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا سجد جافى بين يديه، حتى لو أن بهمة أرادت أن تمر بين يديه مرت».
البهيمة:
كل ذات أربع من دواب البر والبحر. قاله ابن سيده. والجمع بهائم.
قال (3) صلى الله عليه وسلم: «إن لهذه البهائم أوابد كأوابد الوحش». سميت بهيمة لإبهامها، من جهة نقص
__________
(1) الحديث بتمامه رواه أحمد: 4، 33.
(2) رواه مسلم في الصلاة: 237. وأبو داود في الصلاة: 110، 154. والنسائي تطبيق: 52. ورواه ابن ماجه في الإقامة: 19. والدارمي في الصلاة: 79وأحمد: 6/ 331.
(3) رواه البخاري في الجهاد: 191، والشركة: 3، 16والذبائح: 15، 36، ورواه أبو داود في الأضاحي: 7، 15. والترمذي في الصيد: 19والنسائي الصيد: 17والدارمي أضاحي: 15، أحمد: 4/ 140.(2/228)
نطقها وفهمها، وعدم تمييزها وعقلها. ومنه باب مبهم أي مغلق، وليل بهيم. قال (1) الله تعالى:
{أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعََامِ} فأضاف الجنس إلى ما هو أخص منه، وذلك أن الأنعام هي الثمانية الأزواج وما أضيف إليها من سائر الحيوان. يقال له أنعام مجموعة معها وكأن المفترس كالأسد وكل ذي ناب خارج عن حد الأنعام فبهيمة الأنعام هي الراعي من ذوات الأربع.
وروي عن عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما أنه قال: بهيمة الأنعام الأجنة التي تخرج عند الذبح من بطون الأمهات، فهي تؤكل من غير ذكاة. ونقل عن ابن عباس، رضي الله تعالى عنهما أيضا، وفيه بعد: لأن الله تعالى قال (2): {إِلََّا مََا يُتْلى ََ عَلَيْكُمْ} * وليس في الأجنة ما يستثنى.
وحل بهيمة الأنعام من حكم الله تعالى، إذ لولا الليل ما عرف قدر النهار، ولولا المرض لم يتنعم الأصحاء بالصحة، ولولا النار ما عرف أهل الجنة قدر النعمة. كما أن فداء أرواح الإنس بأرواح البهائم، وتسليطهم على ذبحها ليس بظلم، بل تقديم الكامل على الناقص عين العدل. وكذلك تفخيم النعم على سكان الجنان، بتعظيم العقوبة على أهل النيران، فداء لأهل الإيمان بأهل الكفر هو عين العدل. وما لم يخلق الناقص لم يعرف الكامل، فلولا خلق البهائم لما ظهر شرف الإنسان.
روى البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجه عن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه أنه دخل دار الحكم بن أيوب، فإذا قوم قد نصبوا دجاجة يرمونها، فقال أنس: «نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تصبر البهائم وهو أن يمسك من ذوات الروح شيء حي ثم يرمي بشيء حتى يموت».
وفي الصحيحين (3) وغيرهما: «أن النبي صلى الله عليه وسلم لعن فاعل ذلك». ولأنه تعذيب للحيوان، وإتلاف لنفسه، وتضييع لماليته، وتفويت لذكاته، إن كان يذكى. وفي الحديث (4) أنه صلى الله عليه وسلم «نهى عن المجثمة» وهي كل حيوان ينصب ويرمى ليقتل. إلا أنها تكثر في الطير والأرانب ونحو ذلك مما يجثم في الأرض أي يلزمها ويلتصق بها. وجثم الطائر جثوما، وهو بمنزلة البروك للإبل. وروى أبو داود والترمذي عن مجاهد عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم «نهى عن التحريش بين البهائم (5)». وفي شفاء الصدور، لابن سبع، عن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أجل البهائم وخشاش الأرض والقمل والبراغيث والجراد والخيل والبغال والدواب والبقر وما سوى ذلك في التسبيح، فإذا انقضى تسبيحها قبض الله عزّ وجلّ أرواحها».
فائدة
: قال ابن دحية، في كتاب الآيات البينات: اختلف الناس في حشر البهائم، وفي جريان القصاص بينها فقال الشيخ أبو الحسن الأشعري: لا يجري القصاص بين البهائم لأنها غير مكلفة وما ورد في ذلك من الأخبار نحو قوله صلى الله عليه وسلم: «يقتص للجماء من القرناء ويسأل العود لم
__________
(1) سورة المائدة: الآية 1.
(2) سورة المائدة: الآية 1.
(3) رواه البخاري في الذبائح: 25. ومسلم في الصيد: 58، والأضاحي: 12. والنسائي ضحايا: 41 وابن ماجه ذبائح: 10وابن حنبل: 2، 94، 60، 3، 117، 180، 191.
(4) رواه النسائي في الصيد: 128، والضحايا: 41، 44. والبخاري في الذبائح: 25، ورواه أبو داود في الأشربة: 14. والترمذي صيد: 9وأطعمة: 24. والدارمي أضاحي: 13، 18، 27. وأحمد: 1/ 226.
(5) رواه أبو داود في الجهاد: 51. والترمذي في الجهاد: 30.(2/229)
خدش العود (1)» فعلى سبيل المثل والإخبار عن شدة التقصي في الحساب. وأنه لا بد من أن يقتص للمظلوم من الظالم وقال الأستاذ أبو إسحاق الإسفرايني: يجري القصاص بينها، ويحتمل أنها كانت تعقل هذا القدر في دار الدنيا. قال ابن دحية وهذا جار على مقتضى العقل والنقل لأن البهيمة تعرف النفع والضر، فتنفر من العصا وتقبل للعلف، وينزجر الكلب إذا انزجر وإذا أشلى استشلى. والطير والوحش تفر من الجوارح، استدفاعا لشرها. فإن قيل: القصاص انتقام والبهائم ليست بمكلفة فالجواب أنها غير مكلفة، إلا أن الله يفعل في ملكه، ما أراد كما سلط عليها في الدنيا التسخير لبني آدم، والذبح لما يؤكل منها فلا اعتراض عليه سبحانه وتعالى. وأيضا فإن البهائم إنما يقتص منها لبعضها من بعض إلا أنها لا تطالب بارتكاب نهي ولا بمخالفة أمر لأن هذا مما خص الله به العقلاء، ولما كثر التنازع رجعنا لما أمرنا به ربنا بقوله: {فَإِنْ تَنََازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللََّهِ وَالرَّسُولِ} (2) ووجدنا القرآن العظيم يدل على الإعادة في الجملة:
قال (3) الله تعالى: {وَمََا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلََا طََائِرٍ يَطِيرُ بِجَنََاحَيْهِ إِلََّا أُمَمٌ أَمْثََالُكُمْ} إلى قوله:
{ثُمَّ إِلى ََ رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ} وقال (4) وقال تعالى: {وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ} والحشر في اللغة الجمع. وفي الصحيحين. عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يحشر الناس على ثلاث طرائق راغبين، وراهبين، وإثنان على بعير، وثلاثة على بعير، وعشرة على بعير، وتحشر بقيتهم النار تقيل معهم حيث قالوا، وتبيت معهم حيث باتوا، وتصبح معهم حيث أصبحوا، وتمسي معهم حيث أمسوا.
فهذا يدل على حشر الإبل مع الناس. وروى الإمام أحمد بسند صحيح إلى أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يقتص للخلق بعضهم من بعض، حتى للجماء من القرناء، حتى للذرة من (5) الذرة» فإذا كانت البهائم والذر يقتص منها فكيف يغفل من هو مكلف مأمور؟
ونسأل الله السلامة من شرور أنفسنا وسيآت أعمالنا.
وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، أيضا أن رسول صلى الله عليه وسلم قال: «لتؤدين الحقوق إلى أهلها يوم القيامة حتى يقاد للشاة الجلحاء من الشاة القرناء». وفيه أيضا وفي غيره:
«ما من صاحب إبل لا يؤدي منها حقها إلا إذا كان يوم القيامة بطح لها بقاع قرقر. ثم يؤتى بها أوفر ما كانت، لا يفقد منها فصيل واحد تطؤه بأخفافها، وتعضه بأفواهها». الحديث (6) بطوله.
وفي صحيح البخاري: «ليأتين أحدكم يوم القيامة بشاة، يحملها على رقبته لها ثغاء، فيقول: يا محمد فأقول لا أملك لك من الله شيئا قد بلغت». وصح عنه صلى الله عليه وسلم أيضا أنه قال (7): «ما
__________
(1) رواه أحمد: 2/ 235، 323، 363، 442، 1/ 72.
(2) سورة النساء: الآية 59.
(3) سورة الأنعام: الآية 38.
(4) سورة التكوير: الآية 5.
(5) رواه أحمد: 2/ 35، 323، 363، 442، 1/ 72.
(6) رواه مسلم في الزكاة: 245، 26، 27، 28. وأبو داود في الزكاة: 325. والنسائي في الزكاة: 2/ 9، والدارمي في الزكاة: 3. وأحمد: 2/ 262، 383، 490، 3/ 321.
(7) الموطأ في الجمعة: 16. والنسائي الجمعة: 45.(2/230)
من دابة إلا وهي مصيخة يوم الجمعة فرقا من قيام الساعة إلا الجن والإنس». وإصاختها بإلهام الله إياها في ذلك اليوم، محمول على ما جبلها الله تعالى عليه من توقيها لما يضرها، وانقيادها إلى ما ينفعها جبلة لا عقلا وإحساسا حيوانيا، لا إدراكا فهميا. وإذا جبل الله النملة على حمل قوتها وإدّخاره لزمن الشتاء فجبله البهيمة على الإصاخة محاذرة يوم القيامة أولى. ومن استقرى أحوال الحيوانات، رأى حكمة الله فيها لما سلبها العقل جعل لها حسا تفرق به بين الضار لها والنافع، وجبلها على أشاء وألهمها إياها لا توجد في الإنسان إلا بعد التعلم وتدقيق النظر فمنها النحلة المحكمة لتسديس مخزن قوتها، حين يتعجب منه أهل الهندسة. والعنكبوت المتقنة لخيوط بيوتها وتناسب دوائرها. وكذلك السرفة في إحكام بيتها مربعا من عيدان وقد ظهرت من البهائم الصنائع العجيبة، والأفاعيل الغريبة، ولم يسلبها رب العالمين سوى العبارة عن ذلك، والنطق به ولو شاء أنطقها كما أنطق النملة في عهد سليمان على نبينا وعليه أفضل الصلاة والسلام. والبهيم من الخيل الذي لا شية فيه الذكر والأنثى فيه سواء. والبهم من النعاج السود التي لا بياض فيها وأما قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث (1): «يحشر الناس يوم القيامة بهما» فمعناه أنه ليس بهم شيء مما كان في الدنيا نحو البرص والعرج والعمى والعور وغير ذلك. وإنما هي أجساد مصححة لخلود الأبد في الجنة أو النار. وقيل: بل عراة ليس عليهم من متاع الدنيا شيء وهذا يخالف الأول من حيث المعنى ومن شعر مسعر بن (2) كدام أحد الأعلام:
نهارك يا مغرور سهو وغفلة ... وليلك نوم والردى لك لازم ... وتتعب فيما سوف تكره غبه ... كذلك في الدنيا تعيش البهائم
فرع:
اختلف أصحابنا في نقض الوضوء بمس فرج البهيمة على وجهين: أحدهما ينقض لعموم النقض بمس الفرج. والأصح أنه لا ينقض، إذ لا حرمة لها ولا تعبد عليها. وأما دبرها فلا ينقض قطعا، قال الدارمي: ولا فرق في الخلاف بين البهائم والطير.
الأمثال:
قالوا: «ما الإنسان لولا اللسان إلا صورة ممثلة أو بهيمة مهملة» يضرب في مدح القدرة على الكلام.
البوم والبومة
: بضم الباء طائر يقع على الذكر والأنثى حتى تقول: صدى أو فياد فيختص بالذكر وكنية الأنثى أم الخراب وأم الصبيان ويقال لها أيضا غراب الليل. قال (3) الجاحظ:
وأنواعها الهامة والصدى والضوع والخفاش وغراب الليل والبومة. وهذه الأسماء كلها مشتركة أي تقع على كل طائر من طير الليل يخرج من بيته ليلا قال وبعض هذه الطيور يصيد الفأر وسام أبرص والعصافير وصغار الحشرات وبعضها يصيد البعوض. ومن طبعها أن تدخل على كل طائر
__________
(1) رواه أحمد 3/ 495.
(2) هو مسعر بن كدام بن ظهير الهلالي العامري الرواسي، أبو سلمة، محدّث كوفي، كان من المرجئة. توفي بمكة سنة 152هـ.
(3) كتاب الحيوان: 2/ 298.(2/231)
في وكره وتخرجه منه وتأكل فراخه وبيضه. وهي قوية السلطان بالليل لا يحتملها شيء من الطير ولا تنام بالليل، فإذا رآها الطير بالنهار قتلنها ونتفن ريشها، للعداوة التي بينهن، وبينها ومن أجل ذلك صار الصيادون يجعلونها تحت شباكهم ليقع لهم الطير. ونقل المسعودي عن الجاحظ أن البومة لا تظهر بالنهار، خوفا من أن تصاب بالعين لحسنها وجمالها ولما تصور في نفسها أنها أحسن الحيوان لم تظهر إلا بالليل. وتزعم العرب في أكاذيبهم أن الإنسان إذا مات أو قتل، تتصور نفسه في صورة طائر، تصرخ على قبره، مستوحشة لجسدها، والطائر ذكر البوم وهو الصدى. وفي ذلك يقول توبة الحميري (1) أحد عشاق العرب:
ولو أن ليلى الأخيلية سلمت ... علي ودوني جندل وصفائح ... لسلمت تسليم البشاشة أوزقا ... إليها صدى من جانب القبر صائح
فيقال: إنها مرت بقبره فأنشدت ذلك فارتفع شيء من القبر كالطائر، نفرت منه ناقتها فسقطت ميتة ودفنت إلى جانبه. والبوم أصناف وكلها تحب الخلوة بأنفسها والتفرد وفي أصل طبعها عداوة الغربان. وفي تاريخ ابن النجار أن كسرى قال لعامل له: صد لي شر الطير، واشوه بشر الوقود، وأطعمه شر الناس، فصاد بومة وشواها بحطب الدفلى وأطعمها ساعيا. وفي سراج الملوك للإمام أبي بكر الطرطوشي، في الباب السابع والأربعين أن عبد الملك بن مروان، أرق ليلة فاستدعى سميرا له يحدثه، فكان فيما حدثه به أن قال: يا أمير المؤمنين كان بالموصل بومة وبالبصرة بومة، فخطبت بومة الموصل إلى بومة البصرة بنتها لابنها، فقالت بومة البصرة: لا أفعل إلا أن تجعلي لي صداقها مائة ضيعة خراب. فقالت بومة الموصل: لا أقدر على ذلك الآن ولكن إن دام والينا، سلمه الله علينا، سنة واحدة فعلت لك ذلك. قال: فاستيقظ لها عبد الملك، وجلس للمظالم وأنصف الناس بعضهم من بعض، وتفقد أمور الولاة. ورأيت في بعض المجاميع، بخط بعض العلماء الأكابر، أن المأمون أشرف يوما من قصره فرأى رجلا قائما وبيده فحمة وهو يكتب بها على حائط قصره، فقال المأمون لبعض خدمه: اذهب إلى ذلك الرجل، وانظر ما يكتب وائتني به. فبادر الخادم إلى الرجل مسرعا وقبض عليه وتأمل ما كتبه فإذا هو:
يا قصر جمع فيك الشوم واللوم ... متى يعشش في أركانك البوم ... يوم يعشش فيك البوم من فرحي ... يكون أول من ينعيك مرغوم
ثم إن الخادم قال له: أجب أمير المؤمنين: فقال له الرجل: سألتك بالله لا تذهب بي إليه.
فقال الخادم: لا بد من ذلك. ثم ذهب به فلما مثل بين يدي المأمون، أعلمه الخادم بما كتب.
فقال المأمون: ويلك ما حملك على هذا؟ فقال: يا أمير المؤمنين إنه لن يخفى عليك ما حواه قصرك هذا من خزائن الأموال والحلى والحلل والطعام والشراب والفراش والأواني والأمتعة والجواري والخدم وغير ذلك، مما يقصر عنه وصفي ويعجز عنه فهمي، وإني يا أمير المؤمنين قد مررت الآن
__________
(1) توبة بن الحمير بن حزم بن كعب بن خفاجة العقيلي العامري أبو حرب: شاعر من عشاق العرب، كان يهوى ليلى الأخيلية ولم يتزوجها، وتغزل بها، قتل سنة 85هـ. والبيتان في الحيوان للجاحظ: 2/ 299.(2/232)
عليه وأنا في غاية من الجوع والفاقة، فوقفت مفكرا في أمري، وقلت في نفسي: هذا القصر عامر عال، وأنا جائع ولا فائدة لي فيه، فلو كان خرابا ومررت به لم أعدم منه رخامة أو خشبة أو مسمارا أبيعه، وأتقوت بثمنه أو ما علم أمير المؤمنين ما قال الشاعر؟ قال: وما قال الشاعر؟ قال:
إذا لم يكن للمرء في دولة امرىء ... نصيب ولا حظ تمنى زوالها ... وما ذاك من بغض لها غير أنه ... يرجي سواها فهو يهوى انتقالها
فقال المأمون: اعطه يا غلام ألف دينار. ثم قال له: هي لك في كل سنة ما دام قصرنا عامرا بأهله وأنشدوا في معنى ذلك:
إذا كنت في أمر فكن فيه محسنا ... فعما قليل أنت ماض وتاركه ... فكم دحت الأيام أرباب دولة ... وقد ملكوا أضعاف ما أنت مالكه
الحكم:
يحرم أكل جميع أنواعها. قال الرافعي: ذكر أبو عاصم العبادي أن البوم حرام كالرخم، وكذلك الضوع. وعن الشافعي رحمه الله قول إنه حلال، وهذا يقتضي أن الضوع غير البوم. لكن في الصحاح أن الضوع طائر من طير الليل من جنس الهام. وقال المفضل: إنه ذكر البوم فعلى هذا إذا كان في الضوع قول، لزم إجراؤه في البوم لأن الأنثى والذكر من الجنس الواحد لا يختلفان في الحل والحرمة اهـ. وقال في الروضة: الأشهر أن الضوع من جنس الهام فنحكم بتحريمه.
فائدة:
روى ابن السني عن الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من ولد له مولود فأذن في أذنه اليمنى وأقام في أذنه اليسرى لم تضره أم الصبيان (1)». وكان عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى يفعله. واختلف في أم الصبيان فقيل البومة كما تقدم، وقيل: التابعة من الجن.
الخواص:
إذا ذبح البوم بقيت إحدى عينيه مفتوحة والأخرى مضمومة، فالمفتوحة إذا جعلت تحت فص خاتم، من لبسه سهر ما دام عليه، والأخرى بالعكس.
قال الطبري: فإذا اشتبه عليك المنومة من المسهرة فاجعلهما في الماء فالتي ترتفع على الماء هي المسهرة، والتي ترسب هي المنومة. وقال هرمس: إذا أخذ قلب بومة وجعل على اليد اليسرى من المرأة في حال نومها تكلمت بكل ما فعلته في يومها. والاكتحال بمرارتها ينفع من ظلمة البصر.
وقلب البومة الكبيرة إذا قلع وشد في جلد ذئب وعلق على العضد أمن حامل ذلك من اللصوص وسائر الهوام ولم يخف أحدا من الناس. وإن اكتحل بمذاب شحمها فأي مكان دخله بالليل رآه ميضأ. وهي تبيض بيضتين إحداهما تخلق والأخرى لا تخلق، فإن أردت معرفة التي تخلق من التي لا تخلق فأدخل فيها ريشة فالتي تخلق تبين لك تخلقها الريشة.
التعبير
: البوم في المنام لص مكار، وقيل ملك مهيب تشق مرائر الرعية هيبته. ويدل على البطالة وذهاب الخوف لأنه من طيور الليل والله أعلم.
__________
(1) رواه البخاري في بدء الخلق: 11. والترمذي في النكاح: 8. والدارمي في النكاح: 29.(2/233)
البوّة:
بضم الباء وتشديد الواو طائر يشبه البوم إلا أنه أصغر منه والأنثى بوهة ويشبه بها الرجل الأحمق قال امرؤ القيس:
أيا هند لا تنكحي بوهة ... عليه عقيقته أحسبا (1)
الأحسب من الناس الذي في شعره شقرة وصفه باللؤم والشح، يقول كأنه لم تخلق عقيقته في صغره حتى شاخ. وقيل: إنه الرجل الضعيف الطائش. والبوهة ما أطارته الريح والبوه ذكر البوم وقيل البوه الكبير من اليوم قال (2) رؤبة يذكر كبره:
كالبوة تحت الظلمة المرشوش.
وقيل: البوه طائر يشبه البوم وقيل: الأحسب الذي ابيض جلده من داء ففسدت شعرته فصار أحمر وأبيض ويكون ذلك في الناس والإبل. وقيل الأحسب الأبرص. وحكمه وخواصه وتعبيره كالبوم في جميع ما تقدم.
بوقير
: قال القزويني: إنه طائر أبيض تجيء منه طائفة كل سنة، في وقت معلوم، إلى جبل يقال له جبل الطير بصعيد مصر بقرب انصنا بلدة مارية أم إبراهيم ابن النبي صلى الله عليه وسلم، فتتعلق على هذا الجبل، وفيه كوة يأتي كل واحد منها ويدخل رأسه فيها ثم يخرجه ويلقي نفسه في النيل ثم يخرج ويذهب من حيث جاء. ولم تزل هكذا حتى يدخل واحد منها رأسه فيها فيقبض عليه شيء من تلك الكوة فيضطرب ويبقى معلقا حتى يتلف ثم يسقط بعد مدة فإذا تعلق ذلك الطائر انصرف الباقون في الحال فلا يرى شيء من ذلك الطير في ذلك الجبل إلى مثل ذلك الزمان من العام المقبل. قال أبو بكر الصولي (3): سمعت من أعيان تلك البلاد أنه إذا كان العام مخصبا قبضت تلك الكوة على طائرين وإن كان متوسطا قبضت على طائر واحد وإن كان مجدبا لم تقبض على شيء.
البينيب:
على وزن فيعيل سمك بحري معروف عند أهل البحر.
البياح:
بكسر الباء مخففا ضرب من السمك وربما فتح وشدد قاله الجوهري.
أبو براقش:
طائر كالعصفور يتلون ألوانا قال الشاعر:
كأبي براقش كل يو ... م لونه يتخيل
يضرب به المثل في التنقل والتحول. وقال القزويني: إنه طائر حسن الصوت، طويل الرقبة والرجلين، أحمر المنقار في حجم اللقلق، يتلون في كل ساعة يكون أحمر وأزرق وأخضر وأصفر.
قال: ولم يحضرني شيء من خواصه.
__________
(1) ديوان امرىء القيس: 74.
(2) ديوانه: 79. وشطره: في هبريات الكرسف المنقوش.
(3) محمد بن يحيى بن عبد الله، أبو بكر الصولي، الشطرنجي، عالم أديب، نادم ثلاثة من الخلفاء العباسيين. له مصنفات كثيرة. مات سنة 335هـ.(2/234)
أبو برا:
طائر يسمى السموأل وسيأتي في باب السين المهملة إن شاء الله تعالى.
أبو بريص:
بفتح الباء هو الوزغ الذي يسمى سام أبرص. وسيأتي الكلام عليه في باب السين والواو في لفظ الوزغ وسام أبرص إن شاء الله تعالى.
باب التاء المثناة
التالب:
الوعل والأنثى تالبة حكاه ابن سيده. وسيأتي الكلام عليه في باب الواو وفي لفظ الوعل إن شاء الله تعالى.
التبيع:
ولد البقرة أول سنة. وبقرة تبيع معها ولدها والأنثى تبيعة والجمع تباع وتبائع مثل أفيل وافال وأفائل. وقد تقدم في باب الهمزة روى الإمام مالك في الموطأ وأبو داود الترمذي والنسائي وآخرون عن معاذ بن جبل رضي الله تعالى عنه، قال: «بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليمن وأمرني أن آخذ من كل أربعين بقرة بقرة، ومن كل ثلاثين مسنة تبيعا أو تبيعة (1)». قال الترمذي:
حديث حسن، وروي مرسلا وهو أصح. والمسنة: ما استكملت سنتين ودخلت في الثالثة.
والتبيع هو الذي يتبع أمه، وإن كان له دون سنة. قال الرافعي: وحكى جماعة أن التبيع الذي له ستة أشهر والمسنة التي لها سنة وهذا غلط ليس معدودا من المذهب.
التبشر
: في أدب الكاتب لابن قتيبة أنه بفتح التاء المثناة من فوق وبالباء الموحدة ثم بالشين المعجمة وقيل بضم التاء وفتح الباء الموحدة وتشديد الشين المعجمة طائر يقال له الصفارية، والتاء فيه زائدة وسيأتي الكلام عليه في باب الصاد المهملة إن شاء الله تعالى.
التثفل:
بضم التاء أوله وسكون الثاء المثلثة كقنفذ ولد الثعلب والتاء فيه زائدة.
التدرج
: كحبرج طائر كالدراج، يغرد في البساتين بأصوات طيبة، يسمن عند صفاء الهواء وهبوب الشمال، ويهزل عند، كدورته وهبوب الجنوب. يتخذ داره في التراب اللين ويضع البيض فيها لئلا يتعرض للآفات. وقال ابن زهر هو طائر مليح يكون بأرض خراسان وغيرها من بلاد فارس.
وحكمه
: الحل لعدم استخباثه، وإن كان نوعا من الدراج وسيأتي في بابه إن شاء الله تعالى.
الخواص
: لحمه من أفضل لحوم الطير يزيد في الفهم والباه. وإذا أخذت مرارته وسعط بها من به خبل أو وسواس نفعه وإن شوي لحمه وأطعم منه وهو حار ثلاثة أيام أبرأه.
التخس:
كصرد الدلفين وسيأتي في باب الدال المهملة إن شاء الله تعالى.
التفلق:
كزبرج طائر من طير الماء قاله في العباب.
__________
(1) رواه مالك في الموطأ: زكاة 24والنسائي زكاة 8والدارمي زكاة 5.(2/235)
التفه
: ويسمى عناق الأرض، والغنجل: نوع من السباع نحو الكلب الصغير على شكل الفهد، وصيده في غاية الجودة والملاحة، وربما واثب الإنسان فيعقره ولا يطعم غير اللحوم. وربما صاد الكركي وما قاربه من الطير، فيفعل به فعلا حسنا. وقد وصفه الناشيء (1) في أبيات منها:
حلو الشمائل في أجفانه وطف ... صافي الأديم هضيم الكشح ممسود (2)
... فيه من البدر أشباه توافقه ... منها له سفع في وجهه سود ... كوجه ذا وجه هذا في تدوره ... كأنه منه في الأجفان معدود ... له من الليث ناباه ومخلبه ... ومن غرير الظباء النحر والجيد (3)
... إذا رأى الصيد أخفى شخصه أدبا ... وقلبه باقتناص الطير مزؤود (4)
الحكم:
يحرم أكله لعموم النهي عن أكل كل ذي ناب ومخلب من السباع. وقال بعض أصحابنا: إنه السنور البري وإنه قريب من الثعلب وإنه على شكل السنور الأهلي وفي حكمه وجهان: أصحهما التحريم لأنه يأكل الفأر.
الأمثال:
قالت (5) العرب: «أغنى من التفه عن الرفه». والرفه التبن. والأصل فيهما رفهة وتفهة قال حمزة: وجمعهما تفات ورفات قال الشاعر:
غنينا عن حديثكم قديما ... كما غنى التفات عن الرفات
ويقال (6) أيضا: «استغنت التفه عن الرفه». وذلك أن التفه سبع لا يقتات الرفه أصلا، وإنما يغتذي باللحم فهو يستغني عن التبن، والمعروف في التفه والرفه تخفيف الفاء وقال الأستاذ أبو بكر: هما مشددتان. وقد أوردهما الجوهري في باب الهاء فقال: التفه والرفه، وفي الجامع مثله، إلا أنه قال: ويخففان. وأما الأزهري (7) فإنه أورد الرفه في باب الرفت، بمعنى الكسر. وقال ثعلب عن ابن الأعرابي: الرفت التبن: وفي المثل: «أغنى من التفه عن الرفت» قال الأزهري:
والتفه تكتب بالهاء، والرفت بالتاء قال الميداني: وهذا من أصح الأقوال لأن التبن مرفوت أي مكسور.
التم:
طائر نحو الإوز في منقاره طول وعنقه أطول من عنق الأوز.
وحكمه
: الحل لأنه من الطيبات.
__________
(1) عبد الله بن محمد، الناشيء الأنباري أبو العباس سكن مصر ومات فيها سنة 293هـ.
(2) هضيم الكشح: ضامر البطن.
(3) غرير الظباء: الظباء الصغار. النحر: الصدر.
(4) مزؤود: فزع.
(5) جمهرة الأمثال: 2/ 75.
(6) جمهرة الأمثال: 2/ 75.
(7) الأزهري: محمد بن أحمد بن الأزهر الهروي، أبو منصور. إمام في اللغة والأدب مولده ووفاته بخراسان سنة 370هـ. من مؤلفاته تهذيب اللغة وغريب الألفاظ.(2/236)
التمساح:
اسم مشترك بين الحيوان المعروف والرجل الكذاب، قال القزويني: وهذا الحيوان على صورة الضب وهو من أعجب حيوان الماء، له فم واسع وستون نابا في فكه الأعلى وأربعون في فكه الأسفل، وبين كل نابين سن صغيرة مربعة ويدخل بعضها في بعض عند الانطباق. وله لسان طويل، وظهر كظهر السلحفاة لا يعمل الحديد فيه، وله أربع أرجل وذنب طويل، وهذا الحيوان لا يكون إلا في نيل مصر خاصة. وزعم قوم أنه في بحر السند أيضا، وهو شديد البطش في الماء لا يقتل إلا من إبطيه، ويعظم حتى يكون طوله عشرة أذرع في عرض ذراعين وأكثر. ويفترس الفرس. وإذا أراد ألسفاد خرج هو والأنثى إلى البر فيلقي الأنثى على ظهرها ويستبطها فإذا فرغ قلبها لأنها لا تتمكن من الإنقلاب لقصر يديها ورجليها ويبس ظهرها.
وهو إذا تركها على تلك الحال، لم تزل كذلك حتى تقلب. وتبيض في البر، فما وقع من ذلك في الماء صار تمساحا وما بقي صار سقنقورا.
ومن عجائب أمره أنه ليس له مخرج فإذا امتلأ جوفه بالطعام خرج إلى البر وفتح فاه، فيجيء طائر يقال له القطقاط فيلقط ذلك من فيه. وهو طائر أرقط صغير يأتي لطلب المطعم، فيكون في ذلك غذاء له وراحة للتمساح، ولهذا الطائر في رأسه شوكة، فإذا أغلق التمساح فمه عليه نخسه بها فيفتحه. وسيأتي ذكر هذا الطائر إن شاء الله تعالى. وزعم بعض الباحثين عن طبائع الحيوان، أن للتمساح ستين سنا وستين عرقا. ويسفد ستين مرة، وتبيض الأنثى ستين بيضة ويعيش ستين سنة. وقال أبو حامد الأندلسي: إن له ثمانين نابا أربعون نابا في الفك الأعلى وأربعون في الفك الأسفل وهو أبدا يحرك فكه الأعلى وفكه الأسفل. عظمه متصل بصدره وليس له دبر وله فرج ينسل منه. وهو شر من كل سبع في الماء. ومن شأنه أنه يغيب في باطن الماء أربعة أشهر، مدة الشتاء كله ولا يظهر. والكلب البحري عدوه فإذا نام فتح فاه فيطرح كلب الماء نفسه في الطين ويتجفف ثم يأتيه مفاجأة فيدخل فاه ويأكل أمعاءه ويخرج من مراق بطنه بعد أن يقتله وكذلك يفعل معه ابن عرس أيضا.
وحكمه
: تحريم الأكل للعدو بنابه كذا علله جماعة من الأصحاب. وقال الشيخ محب الدين الطبري، في شرح التنبيه: القرش حلال. ثم قال: فإن قلت أليس هو مما يتقوى بنابه؟ فهو كالتمساح. والصحيح تحريم التمساح. قلت لا نسلم أن ما يتقوى بنابه من حيوان البحر حرام. وإنما حرم التمساح كما قال الرافعي في الشرح للخبث والضرر نعم كلام التنبيه يقتضي أن تحريمه لكونه مما يتقوى بنابه ولا ينبغي تعليل تحريمه بذلك فإن في البحر حيوانا كثيرا يفترس بنابه كالقرش وغيره وهو حلال ولا ريب في أن البحري مخالف للبري. اهـ وهو الظاهر والله أعلم.
الأمثال:
قالوا (1) «أظلم من تمساح» و «كافأه مكافأة التمساح».
الخواص:
عينه تشد على صاحب الرمد، يسكن وجعه في الحال، اليمنى لليمنى واليسرى لليسرى. وإذا عجن شحمه بشمع وجعل فتيلة وأسرج في نهر لم تصح ضفادعه. وإذا
__________
(1) جمهرة الأمثال: 2/ 28.(2/237)
قطر شحمه في الأذن الوجعة شفاها. وإذا أدمن تقطيره في الأذن نفع الصمم. ومرارته يكتحل بها للبياض الذي في العين فيذهب. وإذا علق شيء من أسنانه التي في الجانب الأيمن على الرجل، زاد جماعه. وقال القزويني، في عجائب المخلوقات: أول سن من الجانب الأيسر يشد على صاحب القشعريرة يذهبها. وكبده يبخر به صاحب الصرع يزول صرعه. وقطعة من جلده تشد على جبهة الكبش يغلب الكباش. وزبله الذي يوجد في بطنه يزيل البياض الحادث والقديم اكتحالا، ورائحته كرائحة المسك وتقول القبط إنه المسك إلا أنه فيه سهوكة.
التعبير:
التمساح في المنام عدوّ مسلط وهو نظير الأسد وقيل: التمساح لص مكابر ذو مكر وغدر وخديعة.
التميلة:
دويبة بالحجاز على قدر الهرة والجمع تملان قاله ابن سيده.
التنوّط:
في الكفاية لابن الرفعة أنه بضم التاء وكسر الواو ويجوز فتح التاء المشددة وفتح النون وضم الواو المشددة. وقال غيره: هو طائر يجوز في واوه الضم والفتح قال الأصمعي: إنما سمي بذلك لأنه يدلي خيطا من شجرة يفرخ فيها الواحدة تنوطة. ومن شأن هذا الطائر أنه إذا أقبل عليه الليل يتنقل في زوايا بيته ويدور فيها ولا يأخذه قرار إلى الصبح خوفا على نفسه وهذا الطائر هو الصفا. وسيأتي في بابه إن شاء الله تعالى.
وحكمه:
الحل لأنه من نوع العصافير.
الخواص:
قال القزويني في عجائب المخلوقات: يذبح التنوط بسكين ويسقى دمه لمن يعربد في سكره فلا يعود إلى ذلك أبدا ومرارته تطبخ بالسكر وتسقى لصبي فيحسن خلقه.
وعظمه يعلق على الصبي وقت زيادة القمر فيبقى محبوبا إلى الناس ولو كان كريه اللقاء.
التنين:
ضرب من الحيات كأكبر ما يكون منها وكنيته أبو مرداس وهو أيضا نوع من السمك. وقال القزويني في عجائب المخلوقات: إنه شر من الكوسج، في فمه أنياب مثل أسنة الرماح. وهو طويل كالنخلة السحوق، أحمر العينين مثل الدم، واسع الفم والجوف، براق العينين يبتلع كثيرا من الحيوان، يخافه حيوان البر والبحر، إذا تحرك يموج البحر لشدة قوته وأول أمره يكون حية متمردة تأكل من دواب البر ما ترى، فإذا كثر فسادها، احتملها ملك وألقاها في البحر، فتفعل بدواب البحر ما كانت تفعله بدواب البر، فيعظم بدنها فيبعث الله إليها ملكا يحملها ويلقيها إلى يأجوج ومأجوج. روي عن بعضهم أنه رأى تنينا طوله نحو من فرسخين، ولونه مثل لون النمر مفلسا مثل فلوس السمك بجناحين عظيمين، على هيئة جناحي السمك، ورأسه كرأس الإنسان لكنه كالتل العظيم، وأذناه طويلتان وعيناه مدورتان كبيرتان جدا. روى ابن أبي شيبة عن أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يسلط الله على الكافر في قبره تسعة وتسعين تنينا تنهشه وتلدغه، حتى تقوم الساعة لو أن تنينا منها نفخ على الأرض ما نبتت خضرا».
ورواه (1) الترمذي عنه مطولا. قال: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم مصلاه، فرأى ناسا كأنهم يكشرون
__________
(1) رواه الدارمي في الرفاق: 94، وابن حنبل: 3/ 38.(2/238)
فقال: أما أنكم لو أكثرتم ذكر هاذم اللذات لشغلكم عما أرى، أكثروا ذكر هاذم اللذات فإنه لم يأت على القبر يوم إلا تكلم فيه فيقول: أنا بيت الغربة، أنا بيت الوحدة، أنا بيت التراب، أنا بيت الدود والهوام. فإذا دفن العبد المؤمن قال له القبر: مرحبا وأهلا، أما إن كنت لمن أحب من يمشي على ظهري إلي فمذ وليتك اليوم وصرت إلي فسترى صنيعي بك قال: فيتسع له قبره مد بصره، ويفتح له باب إلى الجنة وإذا دفن العبد الكافر أو الفاجر، يقول له القبر: لا مرحبا ولا أهلا أما إن كنت لمن أبغض من يمشي على ظهري إلي فمذ وليتك اليوم وصرت إلي فسترى صنيعي بك، فيلتئم عليه حتى يلتقي وتختلف أضلاعه. قال: وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بأصابع يديه هكذا وشبكها. ثم يقيض له تسعون تنينا أو تسعة وتسعون تنينا لو أن واحدا منها نفخ في الأرض ما أنبتت شيئا ما بقيت الدنيا فتنهشه وتخدشه حتى يبعث إلى الحساب (1)». قال: وقال (2)
رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنما القبر روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النار». وروى الأئمة أن موسى عليه الصلاة والسلام لما قال لشعيب عليه الصلاة والسلام: {أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ} (3) الآية.
أمره لما جن الليل أن يدخل بيتا عينه له، ويأخذ منه عصا من العصي التي فيه دخل موسى البيت، وأخذ العصا التي أخرجها آدم معه من الجنة، وكانت من آس الجنة، فتوارثها الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، حتى صارت إلى شعيب عليه السلام، فأمره أن يلقيها في البيت ويدخل ويأخذ عصا أخرى فدخل وأخرجها، كذلك سبع مرات فعلم شعيب أن لموسى شأنا، فلما أصبح قال له سق الأغنام إلى مفرق الطريق، ثم خذ عن يمينك، وليس بها عشب كثير، ولا تأخذ عن يسارك فإنها وإن كان بها عشب كثير، ففيها تنين كبير يقتل المواشي فساق موسى الأغنام إلى مفرق الطريق، فأخذت نحو اليسار ولم يقدر على ردها فسرحها في الكلأ، ثم نام فخرج التنين فحاربته العصا حتى قتلته فلما انتبه موسى رأى العصا مخضوبة بالدم والتنين مقتولا، فعاد إلى شعيب فأخبره الخبر فسر بذلك، وقال: كل ما ولدت هذه المواشي ذا لونين في هذه السنة فهو لك. فقدر الله تعالى أن ولدت كلها في تلك السنة ذا لونين. فعلم شعيب أن لموسى عند الله مكانة، فأقام عنده ثمانيا وعشرين سنة إلى أن تمت له أربعون سنة ثم خرج عنه بأهله.
وأما حكمه
: فعلى ما قال القزويني أكله حرام لكونه من جنس الحيات وعلى أنه سمك يؤذي بنابه فالظاهر التحريم أيضا كالتمساح.
الخواص:
زعموا أن أكل لحمه يورث الشجاعة ودمه إذا طلي به على الذكر وجامع امرأته حصل لها لذة عظيمة.
التعبير:
التنين في المنام ملك فإن كان له رأسان أو ثلاثة فهو أشد لشره. والمريض إذا رأى تنينا دل على موته. ومن الرؤيا المعبرة أن امرأة رأت في منامها كأنها وضعت تنينا فولدت ولدا زمنا وذلك لأن التنين يجر نفسه إذا مشى وكذلك الزمن يجر نفسه.
__________
(1) رواه الترمذي في القيامة: 26، والدارمي في الرفاق: 94، وأحمد: 3، 38.
(2) رواه الترمذي في القيامة: 26.
(3) سورة القصص: الآية 28. وتمامها: أيما الأجلين قضيت فلا عدوان عليّ.(2/239)
التورم:
القطقاط: قال ابن بختيشوع: هو على شكل الحمامة، ويقال له طير التمساح قال: وفي جناحه شوكتان هما سلاحه إذا أطبق عليه التمساح فمه تخسه، فيفتح فاه فيخرج كما تقدم قال: ومن خواصه إذا أخذتا يعني الشوكتين أو إحداهما وصيرتا في موضع قد بال فيه إنسان مرض ذلك الإنسان، ولم يزل مريضا حتى تنزع الشوكة من ذلك المكان الذي بال فيه، وإذا علق قلبه على من به وجع المعدة أبرأه الله تعالى.
التولب:
الجحش قالوا (1) «أطوع من تولب». قال سيبويه: هو مصروف لأنه فوعل.
ويقال للأتان أم تولب وسيأتي حكمه في باب الحاء المهملة إن شاء الله تعالى.
التيس:
الذكر من المعز والوعول والجمع تيوس وأتياس قال الهذلي:
من فوقه أنسر سود وأغربة ... وتحته أعنز كلف وأتياس
والتياس الذي يمسكه، ويقال: في فلان تيسية وناس يقولون تيوسية. قال الجوهري: ولا أعرف صحتها. ويقال للذكر من الضباء أيضا تيس ويقال نب التيس ينب نبيبا إذا صاح وهاج وقد مثل النبي صلى الله عليه وسلم بذلك فيما روى مسلم عن جابر بن سمرة رضي الله تعالى عنه قال (2): «أتي رسول الله صلى الله عليه وسلم برجل قصير أشعث، ذي عضلات عليه إزار قد زنى فرده مرتين ثم أمر به فرجم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم كلما نفرنا غازين في سبيل الله تخلف أحدكم ينب نبيب التيس يمنح إحداهن الكثبة إن الله لا يمكنني من أحد منهم إلا جعلته نكالا أو نكلته». وفي كامل ابن عدي في ترجمة إبراهيم بن إسماعيل بن أبي حبيبة من حديث عائشة رضي الله تعالى عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث إلى سعد بن أبي وقاص رضي الله تعالى عنه بقطيع من غنم يقسمها بين أصحابه فبقي منها تيس فضحى به. وفيه في ترجمة أبي صالح كاتب الليث بن سعد واسمه عبد الله بن صالح عن عقبة بن عامر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ألا أخبركم بالتيس المستعار هو المحلل». ثم قال: «لعن الله المحلل والمحلل له». (3) والحديث المذكور رواه الدارقطني وابن ماجه عن كاتب الليث بن سعد عن مشرح بن هاعان المصري عن عقبة بن عامر بإسناد حسن. وكذلك رواه الحاكم وقال: صحيح الإسناد. قيل: إنما لعنه النبي صلى الله عليه وسلم مع حصول التحليل لأن التماس ذلك هتك للمروءة والملتمس ذلك هو المحلل له، وإعارة التيس للوطء. لغرض الغير أيضا رذيلة. ولذلك شبهه بالتيس المستعار وإنما يكون كالتيس المستعار إذا سبق التماس من المطلق، والعرب تعير بإعارة التيس قال الشاعر:
وشر منيحة تيس معار.
وفي آخر شفاء الصدور لابن سبع السبتي عن علي بن عبد الله بن عباس رضي الله تعالى
__________
(1) جمهرة الأمثال: 1/ 150، ولفظه: «أتبع من تولب».
(2) رواه مسلم في الحدود: 17، 18، 20. وأبو داود في الحدود: 23، والدارمي في الحدود: 12ورواه ابن حنبل: 5، 86، 87، 102، 103.
(3) رواه ابن ماجه في النكاح: 33. وأبو داود في النكاح: 15. والترمذي في النكاح: 28ورواه النسائي في الطلاق: 13، والدارمي في النكاح: 53.(2/240)
عنهم قال: كنت مع أبي بعد ما كف بصره وهو بمكة فمررنا على قوم من أهل الشام في صفة زمزم، فسبوا علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه فقال لسعيد بن جبير وهو يقوده: ردني إليهم فرده فقال: أيكم الساب لله ولرسوله فقالوا: سبحان الله ما فينا أحد سب الله ورسوله. فقال: أيكم الساب لعلي؟ قالوا: أما هذا فقد كان. فقال ابن عباس إني أشهد لسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول (1): «من سب عليا فقد سبني ومن سبني فقد سب الله ومن سب الله كبه الله تعالى على منخريه في النار». ثم ولى عنهم فقال: يا بني ما رأيتهم صنعوا فقلت يا أبت:
نظروا إليك بأعين محمرة ... نظر التيوس إلى شفار الجازر
فقال زدني يا بني فقلت:
شزر العيون منكسي أذقانهم ... نظر الذليل إلى العزيز القاهر
اه وفي تهذيب الكمال، في ترجمة عبد العزيز بن منيب القرشي، وكان طويل اللحية أن علي بن حجر السعدي نظر إليه وقال:
ليس بطول اللحى ... تستوجبون القضا ... إن كان هذا كذا ... فالتيس عدل رضا
قال: ومكتوب في التوراة لا يغرنك طول اللحى فإن التيس له لحية. وسيأتي في المعز بيان حكمه. وفي تاريخ الإسلام للعلامة الذهبي أن في سنة تسع وتسعين ومائتين وردت هدايا مصر على المقتدر فيها خمسمائة ألف دينار وتيس له ضرع يحلب لبنا وضلع إنسان عرض شبر في طول أربعة عشر شبرا، وفي كتاب الترغيب والترهيب في باب ذم الحاسد من حديث نافع عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يأتي على أمتي زمان يحسد فيه الفقهاء بعضهم بعضا ويغار بعضهم على بعض كتغاير التيوس بعضها على بعض» وفي الحلية عن مالك بن دينار أنه قال: تجوز شهادة القراء في كل شيء إلا شهادة بعضهم على بعض فإنهم أشد تحاسدا من التيوس في الزرب. اهـ. قال الجوهري: الزرب والزربية حظيرة الغنم من خشب. وفي مروج الذهب للمسعودي وشرح السيرة للحافظ قطب الدين وغيرهما أن أم الحجاج بن يوسف، وهي الفارعة بنت همام، كانت تحث الحارث بن كلدة الثقفي (2)، حكيم العرب، فدخل عليها ليلة في السحر فوجدها، تتخلل فطلقها، فسألته عن سبب ذلك؟ فقال: دخلت عليك في السحر فوجدتك تتخللين، فإن كنت بادرت الغداء فأنت شرهة، وإن كنت بت والطعام بين أسنانك فأنت قذرة.
فقالت: كل ذلك لم يكن، لكني تخللت من شظايا السواك. فتزوجها بعده يوسف بن الحكم بن أبي عقيل الثقفي، فأولدها الحجاج وكان الحجاج مشوها لا دبر له فثقب دبره وأبى أن يقبل ثدي أمه وغيرها فأعياهم أمره فيقال: إن الشيطان تصور لهم في صورة الحارث بن كلدة فقال: ما خبركم
__________
(1) رواه أحمد: 6/ 323.
(2) الحارث بن كلدة الثقفي: طبيب، حكيم، من الطائف. اختلف في إسلامه. مات سنة 50هـ.(2/241)
فقالوا: لنا ولد ليوسف من الفارعة، وقد أبى أن يقبل ثدي أمه. فقال: اذبحوا له تيسا أسود وألعقوه دمه. ثم ذبحوا له أسود سالحا وأولغوه من دمه، وأطلوا به وجهه ثلاثة أيام فإنه يقبل الثدي في اليوم الرابع. ففعلوا به كذلك فقبل الثدي. وكان لا يصبر عن سفك الدماء وكان يخبر عن نفسه أن أكبر لذاته سفك الدماء. وارتكب أمورا لا يقدر عليها غيره. وفي تاريخ (1) ابن خلكان أن عبد الملك بن مروان كتب إلى الحجاج كتابا يتهدده في آخره بهذه الأبيات:
إذا أنت لم تترك أمورا كرهتها ... وتطلب رضاي بالذي أنا طالبه (2)
... وتخش الذي يخشاه مثلك هاربا ... إليّ فها قد ضيع الدر جالبه ... فإن ترمني غفلة قرشية ... فيا ربما قد غصّ بالماء شاربه ... وإن ترمني وثبة أموية ... فهذا وهذا كله أنا صاحبه ... فلا تأمنني والحوادث جمة ... فإنك تجزي بالذي أنت كاسبه (3)
فأجابه الحجاج وقال في آخر جوابه: وأما ما أتاني من أمريك فألينهما غرة، وأصعبهما محنة، وقد عبأت للغرة الجلد وللمحنة الصبر، فلما قرأ عبد الملك كتابه قال: خاف أبو محمد صولتي ولن أعود إلى ما يكره. وكان الحجاج كثيرا ما يسأل القراء، فدخل عليه يوما رجل فقال له الحجاج: ما قبل قوله تعالى: {أَمَّنْ هُوَ قََانِتٌ} (4)؟ فقال له الآخر: قوله تعالى (5) {قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا إِنَّكَ مِنْ أَصْحََابِ النََّارِ} فما سأل أحدا بعدها. وقال الحجاج لرجل من أصحاب عبد الرحمن بن الأشعث (6): والله إني لأبغضك. فقال الرجل: أدخل الله أشدنا بغضا لصاحبه الجنة. وكان أول ما ظهر من كفاءة الحجاج أنه كان في شرطة روح بن زنباع (7) وزير عبد الملك بن مروان، وكان عسكر عبد الملك لا يرحل برحيله ولا ينزل بنزوله. فشكا عبد الملك ذلك لروح بن زنباع فقال له: يا أمير المؤمنين في شرطتي رجل يقال له الحجاج بن يوسف، لو ولاه أمير المؤمنين أمر العسكر، لأرحل الناس برحيل أمير المؤمنين وأنزلهم بنزوله. فولاه عبد الملك أمر العسكر فأرحل الناس برحيل عبد الملك وأنزلهم بنزوله. فرحل يوما عبد الملك ورحل الناس، وتأخر أصحاب روح بن زنباع عن الرحيل، فمرّ عليهم الحجاج وهم يأكلون، فقال لهم: ما بالكم لن ترحلوا مع العسكر؟ فقالوا له: انزل وتغد ودع عنك هذا الكلام يا ابن اللخناء. فقال: هيهات ذهب ما هناك ثم أمر بهم فضربت أعناقهم، وبخيل روح فعرقبت، وبالفساطيط فأحرقت فبلغ ذلك
__________
(1) وفيات الأعيان: 2/ 35.
(2) في الوفيات: «طلبت رضاي بالذي أنت طالبه».
(3) في الوفيات: «فإنك مجزي».
(4) سورة الزمر: الآية 9.
(5) سورة الزمر: الآية 8.
(6) ابن الأشعث: عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث بن قيس الكندي، أمير من القادة الدهاة، سيره الحجاج إلى سجستان فافتتح بعض قلاعها ولم يتوغل إلى داخلها، فاتهمه الحجاج بالضعف، فعاد إليه وقاتل جيشه وظفر، ولكن، وبعد مواقع كثيرة قضي على ثورته وقتل سنة 85هـ.
(7) روح بن زنباع بن روح بن سلامة الجذامي، أبو زرعة، أمير فلسطين لعبد الملك بن مروان. مات سنة 84هـ.(2/242)