تنبيه
ان الدراسات عن قصة «حي بن يقظان» عديدة، سواء كتبت بالعربية او باللغات الاوروبية.
ومن الدراسات التي نشرت بالعربية دراسة الدكتورين جميل صليبا وكامل عياد (1)، ودراسة الدكتور عمر فرّوخ (2)، والاب يوحنا قمير (3)، واحمد امين (4)، ومحمود عبد الحليم (5) واخيرا تيسير شيخ الارض (6).
ونذكر الدراسة الفرنسية التي قام بها المستشرق ليون غوتيه (7)، ما عدا الدراسات الاخرى بالانكليزية، والروسية، واللاتينية، والاسبانية
وليس هدفنا هنا ان نضيف دراسة جديدة الى كل هذه الدراسات، بل ان نضع بين ايدي الطلاب النص الكامل لقصة «حي بن يقظان».
لما كنا من المحبذين لدراسة تاريخ الفلسفة الاسلامية عن طريق النصوص مباشرة،
__________
(1) حي بن يقظان، لابن طفيل الاندلسي قدم له بدراسة وتحليل جميل صليبا وكامل عياد، مكتبة النشر العربي بدمشق طبعة اولى 1354هـ / 1935م طبعة ثانية 1358هـ / 1939م.
(2) الدكتور عمر فروخ: حي بن يقظان.
(3) الاب يوحنا قمير: ابن طفيل مختارات خلاصة تحليلية المطبعة الكاثوليكية 1948، وطبعات اخرى لاحقة.
(4) ذخائر العرب رقم (8) حي بن يقظان لابن سينا وابن طفيل والسهروردي تحقيق احمد امين دار المعارف القاهرة 1952.
(5) محمود عبد الحليم: فلسفة ابن طفيل ورسالة حي بن يقظان.
(6) اعلام الفكر العربي رقم (18) تيسير شيخ الارض: ابن طفيل منشورات دار الشرق الجديد بيروت سنة 1961.
(7):،، 9091، 63912.(1/7)
حاولنا ان نرتب هذا النص بحيث تصبح مطالعته سهلة وواضحة. لذلك وضعنا في بداية الفقرات موجزا لها حتى يتمكن القارئ من ان يتتبع بسهولة القصة خطوة خطوة، ويلاحظ كيف يتقدم ابن طفيل بقصته بطريقة متماسكة ومنطقية. كما اننا حاولنا ان نفصل اقسام القصة الكبرى بعضها عن بعض، تيسيرا لمطالعتها.
ان الابحاث التي حررت حول هذه القصة لا تغني عن مطالعة القصة بكاملها ليقدّر المطالع مجهود المؤلف الاصلي فيها.
ونحن بحاجة الى نشر التراث الفكري العربي اما بطريقة علمية، ان لم يكن قد نشر بعد، واما بطريقة تسهل مطالعته اذا كان النص قد سبق له ونشر نشرة نقدية علمية كما هو الحال بهذه القصة.
البير نصري نادر(1/8)
البير نصري نادر
ابن طفيل حوالى 500هـ 581هـ 1106م؟ 1185م
ولد ابو بكر محمد بن عبد الملك بن محمد بن محمد بن طفيل القيسي في اوائل القرن الثاني عشر للميلاد في مدينة صغيرة، واقعة الى الشمال الشرقي من مدينة غرناطة، تدعى «وادي آش». وكانت ولادته قبل ولادة ابن رشد بخمس عشرة او خمس وعشرين سنة تقريبا، اي بين 504و 494هجرية.
لم يذكر لنا المؤرخون شيئا عن نشأته، ولا عن اخبار اسرته، الا ان علمه الواسع واحاطته بالفلك والرياضيات والطب والشعر والفلسفة، وعبارته الرقيقة واسلوبه الرشيق، كل ذلك يدل على ان ابن طفيل قد تعلم علوم زمانه كلها، وتلقى ثقافة ادبية كاملة.
شغل منصب امين الاسرار لحاكم ولاية غرناطة، ثم عيّن بعد ذلك كاتم اسرار للامير ابي سعيد، احد اولاد عبد المؤمن وحاكم طنجة.
ثم اتصل بأبي يعقوب يوسف، صاحب المغرب، وصحبه حتى صار طبيبه الخاص، ووزيره. وكان ابو يعقوب محبا للعلم والحكمة والفلسفة اكثر من الأدب، فجمع من كتب الحكماء شيئا كثيرا. لذلك كان ابو يعقوب يحب ابن طفيل حبا عظيما، وكان ابن طفيل يقيم في قصره اياما طويلة من غير ان يخرج منه. وكان لابن طفيل اثر في توجيه سياسة خلفاء عبد المؤمن. فلعب دورا كبيرا في بلاط ابي يعقوب. فجمع ابن طفيل الى بلاط الامير كثيرا من العلماء في كل فن ومن جميع الاقطار، منهم ابو الوليد بن رشد. وكان ابو يعقوب قد طلب يوما من ابن طفيل ان يرشده الى رجل خبير بكتب ارسطو، ليظهر له ما خفي عليه من معانيها، فهداه الى ابن رشد. ومما قاله ابن طفيل لابن رشد حينئذ:
«انك اقوى مني عزما، فعليك بكتب ارسطو، واعتقد انك ستأتي عليها لاني اعرف سمو عقلك، ووضوح فكرك وتجلدك. اما انا فان كبر سني واشتغالي بخدمة أمير المؤمنين، وصرف عنايتي، كل ذلك يمنعني من الاقدام على هذا الامر».(1/9)
ثم اتصل بأبي يعقوب يوسف، صاحب المغرب، وصحبه حتى صار طبيبه الخاص، ووزيره. وكان ابو يعقوب محبا للعلم والحكمة والفلسفة اكثر من الأدب، فجمع من كتب الحكماء شيئا كثيرا. لذلك كان ابو يعقوب يحب ابن طفيل حبا عظيما، وكان ابن طفيل يقيم في قصره اياما طويلة من غير ان يخرج منه. وكان لابن طفيل اثر في توجيه سياسة خلفاء عبد المؤمن. فلعب دورا كبيرا في بلاط ابي يعقوب. فجمع ابن طفيل الى بلاط الامير كثيرا من العلماء في كل فن ومن جميع الاقطار، منهم ابو الوليد بن رشد. وكان ابو يعقوب قد طلب يوما من ابن طفيل ان يرشده الى رجل خبير بكتب ارسطو، ليظهر له ما خفي عليه من معانيها، فهداه الى ابن رشد. ومما قاله ابن طفيل لابن رشد حينئذ:
«انك اقوى مني عزما، فعليك بكتب ارسطو، واعتقد انك ستأتي عليها لاني اعرف سمو عقلك، ووضوح فكرك وتجلدك. اما انا فان كبر سني واشتغالي بخدمة أمير المؤمنين، وصرف عنايتي، كل ذلك يمنعني من الاقدام على هذا الامر».
وكان اجتماع ابن رشد بابن طفيل عند الخليفة ابي يعقوب بن عبد المؤمن سنة 1169م وكان ابن طفيل قد بلغ اذ ذاك 63او 68سنة من عمره. ولولا كبر سنه لاقدم بنفسه على شرح كتب ارسطو.
وقد عاش ابن طفيل في قصر ابي يعقوب مكرّما معززا. وكان ابو يعقوب عالما بآرائه في الدين والفلسفة. وفي سنة 1182م عهد ابو يوسف الى ابن رشد في العناية به، واتخذه طبيبا له. اما ابن طفيل فقد احتفظ بالوزارة، وقد بقي في خدمة ابي يعقوب الى ان توفي ابو يعقوب في حرب الافرنج سنة 580هـ. ولما قام بعده بالامر ولده ابو يوسف يعقوب، الملقب بالمنصور، مكث ابن طفيل في خدمته. وكان المنصور محبا للحكمة كأبيه. وقد احب المنصور وزير ابيه، وابقاه في خدمته، واكرمه الى ان مات في مراكش سنة 581هـ / 1185م، وذلك بعد وفاة ابي يعقوب بسنة. فاحتفل بدفنه احتفالا مهيبا، وسار السلطان ابو يوسف يعقوب نفسه في جنازته (1).
__________
(1) المراجع: ابن خلكان: وفيات الاعيان ج 2، 492وما بعدها.
لسان الدين بن الخطيب: مركز الاحاطة بأدباء غرناطة (مخطوطة المكتبة الوطنية) باريس رقم 3347 الورقة 44: ابن طفيل.
جميل صليبا وكامل عياد: حي بن يقظان لابن طفيل دمشق 1935و 1939م::، / 9091.(1/10)
اقسام القصّة
تنقسم قصة «حي بن يقظان» لابن طفيل ثلاثة اقسام كبيرة، وكل قسم عدة اجزاء.
القسم الأول، المقدمات:
بعد البسملة، يبدأ القسم الأول. ويستهله ابن طفيل بالاشارة الى طلب وجه اليه بان يعرض «اسرار الحكمة المشرقية» التي ذكرها ابن سينا. فيقول ان الحقيقة توجد في هذه الحكمة.
ثم يذكر رأيه في فلسفة كل من:
1) ابن الصائغ (ابن باجه) الذي مال الى القول بالفناء، مثل ما فعل المتصوفة.
2) الفارابي، ويأخذ عليه ابن طفيل رأيه في مصير الانفس المختلفة وفي النبوة، وتفضيله الفلسفة عليها.
3) ابن سينا الذي اعتنق مذهب ارسطو وعرض الفلسفة المشرقية، وهي الطريق المؤدي الى الحقيقة.
4) الغزالي الذي يميل الى اعتقاد الصوفية، حسب قول ابن طفيل، والذي كفّر الفلاسفة في بعض المسائل.
وبعد استعراض هذه الآراء يختتم ابن طفيل مقدمته هذه بقوله انه سيصرح بمذهبه الذي هو الحكمة المشرقية، وذلك عن طريق قصة رمزية.
القسم الثاني، القصة:
هذا القسم خاص بحيّ بن يقظان، وينقسم الى ستة اجزاء:
الجزء الأول: يذكر اصل حي في هذه الجزيرة الخالية من كل بشر. وبهذه المناسبة يقدم ابن طفيل آراء جغرافية خاصة بالتولد الذاتي. ثم يعرض رأيا آخر يقول بولادة حيّ ولادة طبيعية.
الجزء الثاني: يتحدث فيه ابن طفيل عن تربية حيّ وعن المعرفة الاولى التي اكتسبها عن طريق الملاحظة الحسيّة والتجربة وذلك عند ما بلغ سبعة اعوام.(1/11)
الجزء الأول: يذكر اصل حي في هذه الجزيرة الخالية من كل بشر. وبهذه المناسبة يقدم ابن طفيل آراء جغرافية خاصة بالتولد الذاتي. ثم يعرض رأيا آخر يقول بولادة حيّ ولادة طبيعية.
الجزء الثاني: يتحدث فيه ابن طفيل عن تربية حيّ وعن المعرفة الاولى التي اكتسبها عن طريق الملاحظة الحسيّة والتجربة وذلك عند ما بلغ سبعة اعوام.
يذكر ابن طفيل هنا كيف تظهر قوى النفس تدريجيا، من تذكر، وقوة الملاحظة، والمقارنة. ويذكر بعض التجارب التي يقوم بها في ميدان التشريح:
يعثر على مختلف اعضاء الجسم، ولا سيما الرئة والقلب. ويميز بين الجسم وبين ما يحرّك الجسم.
ثم يقلد حي الطير في دفن جثة الميت.
يكتشف النار ويستخدمها في الاضاءة والتدفئة، ويلاحظ خصائصها، ولا سيما اتجاهها دائما وابدا الى اعلى.
يتساءل عمّا اذا كان ما يحرك الجسم هو من طبيعة النار، ويلجأ الى التجربة ليتحقق من ذلك.
يستنتج وجود روح حيواني في الجسم، هذا الروح يوحد بين مختلف اجزاء الجسم.
يرتدي حيّ جلود الحيوانات، بعد ما كان يرتدي اوراق الاشجار وريش الطيور.
يستألف بعض الطيور والحيوانات ويستخدمها.
كان ذلك كله، وبلغ حيّ واحدا وعشرين عاما.
الجزء الثالث: حيّ يرتقي من المعرفة عن طريق الحواس والتجربة الى المعرفة العقلية القائمة على الاستنتاج من التجربة التي يجريها في عالم الكون والفساد:
يميز في الكائنات بين الهيولى والصورة: يستنتج ان جميع الكائنات تشترك في شيء واحد وهو المادة والاختلاف يكون في الصور، اي فيما يمنح الكائن طبيعة خاصة به.
ثم يلاحظ حيّ ان الاجسام تنقسم الى ما هو ثقيل وما هو خفيف.
ادرك ان الامتداد معنى زائد على الجسمية، ولا يوجد جسم الا وله امتداد.
ادرك ان كل ظاهرة وكل حادث له علة احدثته.
وانتهى حيّ الى ان هناك علة اولى اصل جميع العلل.
الجزء الرابع: يرتقي حيّ من تفكيره في عالم الكون والفساد الى التأمل في السماء والعالم بأسره:
ففي السماء اجسام كروية متناهية ويأتي حيّ بالبرهان الرياضي ليثبت ذلك.
شكل العالم كروي، ويثبت ذلك ايضا ببرهان فلكي رياضي.(1/12)
ففي السماء اجسام كروية متناهية ويأتي حيّ بالبرهان الرياضي ليثبت ذلك.
شكل العالم كروي، ويثبت ذلك ايضا ببرهان فلكي رياضي.
ثم يتساءل: هل العالم حادث ام قديم؟. وبدل ان يقدم البراهين المباشرة على القدم او الحدوث، يأتي بالاعتراضات التي تعترض كلا من القولين: القول بالحدوث والقول بالقدم. ومن التأمل في الاعتراضات نجد ان الاعتراض على القول بالحدوث اقوى من الاعتراض على القول بالقدم، مما يدل على ميل الفيلسوف (هنا ابن طفيل) الى القول بالقدم، مجاريا في ذلك ابن سينا (والفارابي) القائلين بقدم الفيض في الزمان، مع تأكيد تابعية العالم لعلة قديمة: الفيض قديم في الزمان وحادث بالتبعية.
اما بخصوص فاعل العالم، فنفى عنه حيّ كل صفة من صفات الاجسام، وكل شبه بين صفاته والصفات التي نشاهدها في عالمنا مما يتفق وموقف المعتزلة من الصفات الالهية. وهنا بلغ حيّ خمسة وثلاثين عاما.
الجزء الخامس: استنتج حيّ من كل ما انتهى اليه بواسطة التفكير والتأمل ان له نفسا روحانية، متميزة عن الجسم، اذ انها ادركت حقائق لا مادية، وغير محسوسة ولا يمكن تصورها.
فمصير النفس يختلف عن مصير الجسم.
تشتاق النفس الى واجب الوجود الذي ادركته عن طريق التامل.
تكون سعادتها في مشاهدة واجب الوجود، كما ان شقاوتها تكون، اذا اعرضت عنه بعد ان ادركته، فتحرم المشاهدة.
النفس التي ادركت واجب الوجود تخلد، اما نفس الحيوانات والنباتات والنفس التي لم تدرك واجب الوجود فمصيرها كلها الفناء (قارن بين ذلك وما قاله الفارابي في هذا الشأن).
اقترب حيّ من الفناء الصوفي، ومال الى الزهد.
كاد يعتقد ان ذاته من ذات الحق، لولا ان تداركه الله برحمته واشرق عليه ان ذاته مباينة لذات الحق. (يريد ابن طفيل ان يتجنب مذهب وحدة الوجود) وهو مذهب بعض المتصوفة واراد ان يثبت ان الفلسفة الفيضية اسمى واصح من الفناء الصوفي.
الجزء السادس: يتكلم ابن طفيل هنا عن سلسلة الفيوضات. ويوجز ما ذكره كل من الفارابي وابن سينا عن الفيض: يتكلم عن الفلك الاعلى، ثم فلك الكواكب الثابتة، ففلك الكواكب السيارة: زحل وما يليه. ولكن نلاحظ هنا إشارة أخرى الى مذهب وحدة الوجود.
ثم نلاحظ تنويها بان السعادة في مشاهدة واجب الوجود.
كل ذلك وحيّ اناف على خمسين سنة.(1/13)
كل ذلك وحيّ اناف على خمسين سنة.
القسم الثالث: هذا القسم خاص بسلامان وآسال.
في هذا القسم يدخل ابن طفيل شخصيتين جديدتين في قصته، هما آسال، الذي يمثل من يبحث عن باطن الشرع، وسلامان الذي يرمز الى من يأخذ الشرع على ظاهره.
يأتي آسال الى جزيرة حيّ ويتصل به، ثم يتضح له ان حيا قد ادرك، بواسطة مجهوده العقلي، الحقائق الاساسية من معرفة العلة الاولى للعالم ووجود النفس وروحانيتها وخلودها وسعادتها، مما يتفق وباطن الشرع.
ثم يحاول حيّ أن يقنع سكان الجزيرة التي اتى منها آسال، حتى يبحثوا عن باطن الشرع، ولكن عبثا يحاول، اذ ان فطرتهم لا تساعدهم على ذلك.
ادرك حيّ ان ظاهر الشرع هو لمثل هؤلاء القوم، وهم السواد الاعظم، لذلك تكلم النبي بالامثال والرموز.
اما الباطن فهو للاقلية النادرة التي اذا ما ادركت هذا الباطن عن طريق التفكير والتأمل وجدته متفقا والحقائق الفلسفية الاساسية التي يدركها الفيلسوف عن طريق التفكير المنطقي والتأمل.
فكأن ابن طفيل اراد ان يعرض الحكمة المشرقية ويثبت ان العقل المجتهد ينتهي حتما اليها، وان هذه الحكمة متفقة وباطن الشرع، وان ظاهر الشرع لا بد منه للناس الذين ليسوا اصحاب فطر فائقة، واذهان ثاقبة ونفوس حازمة.(1/14)
فكأن ابن طفيل اراد ان يعرض الحكمة المشرقية ويثبت ان العقل المجتهد ينتهي حتما اليها، وان هذه الحكمة متفقة وباطن الشرع، وان ظاهر الشرع لا بد منه للناس الذين ليسوا اصحاب فطر فائقة، واذهان ثاقبة ونفوس حازمة.
رسالة حي بن يقظان بسم الله الرّحمن الرّحيم الحمد لله العظيم الاعظم، القديم الاقدم، العليم الاعلم، الحكيم الاحكم، الرحيم الارحم، الكريم الاكرم، الحليم الاحلم «{الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ. عَلَّمَ الْإِنْسََانَ مََا لَمْ يَعْلَمْ}»، و «{فَضْلُ اللََّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً}»، احمده على فواضل النعماء، واشكره على تتابع الآلاء.
واشهد ان لا إله الا الله وحده، لا شريك له.
وان محمدا عبده، ورسوله، صاحب الخلق الطاهر، والمعجز الباهر، والبرهان القاهر، والسيف الشاهر. صلوات الله عليه وسلامه، وعلى آله واصحابه اولي الهمم العظائم، وذوي المناقب والمعالم، وعلى جميع الصحابة والتابعين، الى يوم الدين.
وسلم تسليما كثيرا.
القسم الأول مقدّمات
طلب من ابن طفيل ان يعرض حكمة الاشراق. وفي رأيه هذه الحكمة هي الحقيقية.
سألت، ايها الاخ الكريم، الصفي الحميم، منحك الله البقاء الابدي، واسعدك
السعد السرمدي ان ابث اليك ما امكنني بثه من اسرار الحكمة المشرقية (1) التي ذكرها الشيخ الامام الرئيس ابو علي بن سينا. فأعلم ان من اراد الحق الذي لا جمجمة فيه، فعليه بطلبها والجد في اقتنائها.(1/15)
سألت، ايها الاخ الكريم، الصفي الحميم، منحك الله البقاء الابدي، واسعدك
السعد السرمدي ان ابث اليك ما امكنني بثه من اسرار الحكمة المشرقية (1) التي ذكرها الشيخ الامام الرئيس ابو علي بن سينا. فأعلم ان من اراد الحق الذي لا جمجمة فيه، فعليه بطلبها والجد في اقتنائها.
وصف الحالة التي شعر بها ابن طفيل عند ما طلب منه ذلك: يتذكر حال المتصوفة القائلين بالوصول والفناء في الحق.
ولقد حرّك مني سؤالك خاطرا شريفا افضى بي والحمد لله الى مشاهدة حال لم اشهدها قبل، وانتهى بي الى مبلغ هو من الغرابة، بحيث لا يصفه لسان، ولا يقوم به بيان، لانه من طور غير طورهما، وعالم غير عالمهما. غير ان تلك الحال، لما لها من البهجة والسرور، واللذة والحبور، لا يستطيع من وصل اليها، وانتهى الى حد من حدودها، ان يكتم امرها او يخفي سرها، بل يعتريه من الطرب والنشاط والمرح والانبساط، ما يحمله على البوح بها مجملة دون تفصيل وان كان ممن لم تحذقه العلوم قال فيها بغير تحصيل، حتى ان بعضهم قال في هذه الحال: «سبحاني ما اعظم شأني» (2)؟ وقال غيره: «انا الحق». وقال غيره: «ليس في الثوب الا الله» (3)
واما الشيخ ابو حامد الغزالي، رحمة الله عليه، فقال متمثلا عند وصوله الى هذا الحال بهذا البيت:
«فكان ما كان مما لست اذكره ... فظنّ خيرا ولا تسأل عن الخبر» (4)
وانما ادبته المعارف وحذقته العلوم (5).
__________
(1) الحكمة المشرقية: لقد اختلفت الآراء لا سيما بين المستشرقين في تفسير معنى الحكمة المشرقية: فمن قائل يقول انها تعني الحكمة المشرق، وذلك مقابل لكلمة المغاربة، والمقصود بهم اليونان.
او لانها تعني حكمة القسم الشرقي من الدولة الاسلامية، اذ ان ابن سينا فارسي، وفارس تقع في القسم الشرقي من بغداد التي كانت عاصمة الدولة العباسية. ومن قائل يقول انها تعني حكمة الاشراق. فيرد معترض ويقول: لو كانت تعني الاشراق لأطلق عليها اسم الحكمة الاشراقية لا المشرقية. ولكنا نجد انه سواء عنت حكمة المشرق او حكمة الاشراق فالمقصود واحد، وهو الاشراق، هذا المذهب الذي ادخله الفارابي في الفكر الاسلامي واعتنقه من بعده ابن سينا الذي تتلمذ للفارابي عن طريق مؤلفاته الفلسفية.
(2) ينسب هذا الكلام لابي يزيد البسطامي.
(3) هذا الكلام للحلّاج. ومثل هذه الاقوال تدل على مذهب وحدة الوجود.
(4) يذكر الغزالي هذا البيت في كتابه «المنقذ من الضلال» في كلامه عن طرق الصوفية.
(5) الشائع في الاستعمال قولهم «حذق في العلوم» لا حذقته العلوم، كما يذكر هنا ابن طفيل.(1/16)
نقد فلسفة ابن الصائغ (ابن باجه)، متصوف قائل بالفناء حال الوصول والفناء الصوفي لا يمكن وصفها، وهي هبة من الله في رأي المتصوفة.
وانظر الى قول ابي بكر بن الصائغ (1)، المتصل كلامه في صفة الاتصال، فانه يقول: «اذا فهم المعنى المقصود من كتابه ذلك، ظهر عند ذلك انه لا يمكن ان يكون معلوم من العلوم المتعاطاة في رتبة، وحصل متصوره، يفهم ذلك المعنى في رتبة يرى نفسه فيها مباينا لجميع ما تقدم مع اعتقادات أخر ليست هيولانية، وهي اجلّ من ان تنسب الى الحياة الطبيعية، بل هي احوال من احوال السعداء، منزهة عن تركيب الحياة الطبيعية، بل هي احوال من احوال السعداء، خليقة ان يقال لها احوال إلهية يهبها الله، سبحانه وتعالى، لمن يشاء من عباده.
وهذه الرتبة التي اشار اليها ابو بكر ينتهى اليها بطريق العلم النظري والبحث الفكري. ولا شك انه بلغها ولم يتخطاها.
حكمة الاشراق، تختلف عن المذهب الصوفي القائل بالوصول والفناء.
ابن سينا نبه على حال الوصول بقوله ان الصوفي الواصل يرى الحق في كل شيء ويعتبر نفسه مرآة للحق.
واما الرتبة التي اشرنا اليها نحن اوّلا، فهي غيرها، وان كانت اياها بمعنى انه لا ينكشف فيها امر على خلاف ما انكشف في هذه، وانما تغايرها بزيادة الوضوح، ومشاهدتها بأمر لا نسميه قوة الاعلى المجاز. اذ لا نجد في الالفاظ الجمهورية (2)، ولا في الاصطلاحات الخاصة، اسماء تدل على الشيء الذي يشاهد به ذلك النوع من المشاهدة. وهذه الحال التي ذكرناها، وحركنا سؤالك الى ذوق منها، هي من جملة الاحوال التي نبه عليها الشيخ ابو علي، حيث يقول: «ثم اذا بلغت به الارادة والرياضة حدا ما عنت له خلسات من اطلاع نور الحق لذيذة كأنها بروق تومض اليه، ثم تخمد عنه، ثم انه تكثر عليه هذه الغواشي اذا امعن في الارتياض، ثم انه ليوغل في ذلك حتى يغشاه في غير الارتياض. فكلما لمح شيئا عاد منه الى جنات القدس، فيذكر من امره امرا، فيغشاه غاش، فيكاد يرى الحق في كل شيء.
__________
(1) ابو بكر بن الصائغ هو ابن باجه.
(2) الالفاظ الجمهورية هي التي يستعملها الجمهور، عامة الناس، وهم ايضا يعرفون بالخطابيين.
ثم انه لتبلغ به الرياضة مبلغا ينقلب له وقته سكينة». فيصير المخطوف مألوفا، والوميض شهابا بينا، وتحصل له معارفه مستقرة، كأنها صحبة مستمرة (1) «الى ما وصفه من تدريج المراتب، وانتهائها الى النيل بأن يصير سره مرآة مجلوة، يحاذى بها شطر الحق. وحينئذ تدر عليه اللذات العلى، ويفرح بنفسه لما (يرى) بها من اثر الحق، ويكون له من هذه الرتبة نظر الى الحق، ونظر الى نفسه، وهو بعد متردد. ثم انه ليغيب عن نفسه، فيلحظ جناب القدس فقط. وان لحظ نفسه، فمن حيث هي لاحظة، وهناك يحق الوصول».(1/17)
ثم انه لتبلغ به الرياضة مبلغا ينقلب له وقته سكينة». فيصير المخطوف مألوفا، والوميض شهابا بينا، وتحصل له معارفه مستقرة، كأنها صحبة مستمرة (1) «الى ما وصفه من تدريج المراتب، وانتهائها الى النيل بأن يصير سره مرآة مجلوة، يحاذى بها شطر الحق. وحينئذ تدر عليه اللذات العلى، ويفرح بنفسه لما (يرى) بها من اثر الحق، ويكون له من هذه الرتبة نظر الى الحق، ونظر الى نفسه، وهو بعد متردد. ثم انه ليغيب عن نفسه، فيلحظ جناب القدس فقط. وان لحظ نفسه، فمن حيث هي لاحظة، وهناك يحق الوصول».
لا تدرك هذه الحال عن طريق المنطق
بل هي ذوق ويأتي بمثل من ولد اعمى واستطاع ان يتعرف على كلّ شيء بحيث انه لما فتح بصره لم يجد فرقا بين ما ادرك وما يشاهده الآن.
فهذه الاحوال التي وصفها انما اراد بها ان تكون له ذوقا، لا على سبيل الادراك النظري المستخرج بالمقاييس وتقديم المقدمات وانتاج النتائج. وان اردت مثالا يظهر لك به الفرق بين ادراك هذه الطائفة وادراك سواها، فتخيل حال من خلق مكفوف البصر، الا انه جيد الفطرة، قوي الحدس، ثابت الحفظ، مسدد الخاطر، فنشأ منذ كان في بلدة من البلدان، وما زال يتعرف اشخاص الناس بها، وكثيرا من انواع الحيوان والجمادات وسكك المدينة ومسالكها وديارها واسواقها، بما له من ضروب الادراكات الأخر، حتى صار يمشي في تلك المدينة بغير دليل، ويعرف كل من يلقاه ويسلم عليه بأول وهلة. وكان يعرف الالوان وحدها بشروح اسمائها، وبعض حدود تدل عليها. ثم انه بعد ان حصل على هذه الرتبة، فتح بصره، وحدثت له الرؤية البصرية، فمشى في تلك المدينة كلها وطاف بها، فلم يجد امرا على اختلاف ما كان يعتقده، ولا انكر من امرها شيئا. وصادف الالوان على نحو صدق الرسوم عنده التي كانت رسمت له بها، غير انه في ذلك كله حدث له امران عظيمان، احدهما تابع للاخر، وهما: زيادة الوضوح، والانبلاج واللذة العظيمة.
__________
(1) هذا كلام ابن سينا، والمتصوفة اجمالا مجمعون على وصولهم الى هذه الحالة، حالة الكشف والاتصال بالله الذي يطلقون عليه اسم «الحق» اي الموجود الحقيقي، اذ في رأيهم كل موجود آخر سواه ليس له وجود حقيقي بذاته.(1/18)
وابن باجه يقول ان الله يهب من يشاء هذه المعرفة فهي الهام وهؤلاء هم الاولياء.
فحال الناظرين الذين لم يصلوا الى طور الولاية، هي حالة الاعمى الاولى، والالوان التي في هذه الحال معلومة بشروح اسمائها، هي تلك الامور التي قال ابو بكر انها أجل من ان تنسب الى الحياة الطبيعية، يهبها الله لمن يشاء من عباده.
وحال النظار الذين وصلوا الى طور الولاية، ومنحهم الله تعالى ذلك الشيء الذي قلنا انه لا يسمى قوة الا على سبيل المجاز، هي الحالة الثانية.
ما يعنيه ابن طفيل ب «ادراك اهل النظر».
وقد يوجد في النادر من (هو بمنزلة من) كان ابدا ثاقب البصيرة، مفتوح البصر، غير محتاج النظر. ولست اعني اكرمك الله بولايته بادراك اهل النظر (1) هاهنا، ما يدركونه من عالم الطبيعة، وبادراك اهل الولاية (2)، ما يدركونه مما بعد الطبيعة، فان هذين المدركين متباينان جدا بانفسهما، ولا يلتبس احدهما بالآخر. بل الذي نعنيه بادراك اهل النظر، ما يدركونه مما بعد الطبيعة، مثل ما ادركه ابو بكر. ويشترط في ادراكهم هذا ان يكون حقا صحيحا. وحينئذ يقع النظر بينه وبين ادراك اهل الولاية الذين يعتنون بتلك الأشياء بعينها، مع زيادة وضوح، وعظيم التذاذ. وقد عاب ابو بكر (ذكر) هذا الالتذاذ على القوم، وذكر انه للقوة الخيالية، ووعد بان يصف ما ينبغي ان يكون حال السعداء عند ذلك، بقول مفسر مبين. وينبغي ان يقال له (هاهنا): «لا تستحل طعم شيء لم تذق، ولا تتخط رقاب الصديقين»! ولم يفعل الرجل شيئا من ذلك، ولا وفى بهذه العدة. وقد يشبه ان منعه عن ذلك ما ذكره من ضيق الوقت واشتغاله بالنزول الى (وهران) رأى انه ان وصف تلك الحال اضطره القول الى اشياء فيها قدح عليه في سيرته، وتكذيب لما اثبته من الحث على الاستكثار من المال والجمع له، وتصريف وجوه الحيل في اكتسابه.
وقد خرج بنا الكلام الى غير ما حرّكتنا اليه بسؤالك بعض خروج، بحسب ما دعت الضرورة اليه، وظهر بهذا القول ان مطلوبك لم يتعد احد غرضين:
اصحاب المشاهدة والاذواق لا يستطيعون ان يعبروا عن هذه الحالة بالالفاظ.
1 - اما ان تسأل عما يراه اصحاب المشاهدة والاذواق والحضور، في طور
__________
(1) الفلاسفة.
(2) المتصوفة.(1/19)
الولاية، فهذا مما لا يمكن اثباته على حقيقة امره في كتاب. ومتى حاول احد ذلك وتكلفه بالقول او الكتب، استحالت حقيقته، وصار من قبيل القسم الآخر النظري، لانه اذا كسى الحروف والاصوات، وقرب من عالم الشهادة، لم يبق على ما كان عليه بوجه ولا حال، واختلفت العبارات فيه اختلافا كثيرا، وزلت به اقدام قوم عن الصراط المستقيم، وظن بآخرين ان اقدامهم زلّت وهي لم تزل، وانما كان ذلك لانه امر لا نهاية له في حضرة متسعة الاكناف، محيطة غير محاط بها.
اما غير المتصوفة الذين لم يلهموا، فانهم اهل النظر ولكنهم قلة نادرة جدا.
2 - والغرض الثاني من الغرضين اللذين قلنا ان سؤالك لن يتعدى احدهما، هو ان تبتغي التعريف بهذا الامر على طريقة اهل النظر. وهذا اكرمك الله بولايته شيء يحتمل ان يوضع في الكتب وتتصرف به العبارات، ولكنه اعدم من الكبريت الاحمر، ولا سيما في هذا الصقع (1) الذي نحن فيه، لانه من الغرابة في حد لا يظفر باليسير منه الا الفرد بعد الفرد. ومن ظفر بشيء منه لم يكلم الناس الا رمزا. فان الملة الحنيفة والشريعة المحمدية قد منعت من الخوض فيه، وحذرت عنه.
ذوو الفطرة الفائقة بالاندلس كانوا يتعاطون العلوم التجريبية قبل ان يتعاطوا الفلسفة والمنطق.
ولا تظنن ان الفلسفة التي وصلت الينا في كتب ارسطوطاليس، وابي نصر (2)، وفي كتاب «الشفاء» (3) تفي بهذا الغرض الذي اردته، ولا ان احدا من اهل الاندلس كتب فيه شيئا فيه كفاية، وذلك ان من نشأ بالاندلس من اهل الفطرة الفائقة قبل شيوع علم المنطق والفلسفة فيها قطعوا اعمارهم بعلوم التعاليم (4)، وبلغوا فيها مبلغا رفيعا، ولم يقدر على اكثر من ذلك. ثم خلف من بعدهم خلف زادوا عليهم بشيء من علم المنطق، فنظروا فيه ولم يفض بهم الى حقيقة الكمال، فكان فيهم من قال:
برّح بي أنّ علم الورى ... اثنان ما إن فيهما من مزيد
حقيقة يعجز تحصيلها ... وباطل تحصيله ما يفيد
__________
(1) هذا الصقع: يريد بلاد الاندلس.
(2) ابو نصر هو الفارابي.
(3) كتاب لابن سينا، شامل لفلسفته، وله ملخص يعرف بعنوان «النجاة».
(4) علوم التعاليم: العلوم التجريبية التي تتطلب مشاهدة واختبارا.(1/20)
اما ابن باجه فانه اول من تكلم بالوصول والاتصال
ولكن شغلته الدنيا عن ذلك، وهو اول من ادخل التعليم الصوفي الى الاندلس.
ثم خلف من بعدهم خلف آخر احذق منهم نظرا واقرب الى الحقيقة. ولم يكن فيهم اثقب ذهنا، ولا اصحّ نظرا، ولا اصدق روية، من ابي بكر بن الصائغ.
غير انه شغلته الدنيا حتى اخترمته المنية قبل ظهور خزائن علمه، وبث خفايا حكمته.
واكثر ما يوجد له من التأليف، انما هي كاملة ومجزومة من اواخرها، ككتابه «في النفس» و «تدبير المتوحد». وما كتبه في المنطق وعلم الطبيعة. واما كتبه الكاملة، فهي كتب وجيزة، ورسائل مختلسة. وقد صرح هو نفسه بذلك، وذكر ان المعنى المقصود برهانه في «رسالة الاتصال»، ليس يعطيه ذلك القول عطاء بينا الّا بعد عسر واستكراه شديد. وان ترتيب عبارته في بعض المواضع على غير الطريق الاكمل، ولو اتسع له الوقت مال لتبديلها. فهذا حال ما وصل الينا من علم هذا الرجل، ونحن لن نلقى شخصه.
واما من كان معاصرا له ممن لم يوصف بانه في مثل درجته، فلم نر له تأليفا.
واما من جاء بعدهم من المعاصرين لنا، فهم بعد في حد التزايد او الوقوف على غير كمال، او ممن لم تصل الينا حقيقة امره.
نقد فلسفة الفارابي
الفارابي: يذكر مصير الانفس الشريرة: يقول تارة انها تتألم وتارة انها تنحلّ وتعدم. والنفس الفاضلة باقية فقط. ثم يعود ويقول بفناء جميع الانفس، ويقول ان النبوة من عمل القوة الخيالية وان الفيلسوف في مرتبة اسمى من مرتبة النبي.
واما ما وصل الينا من كتب ابي نصر، فأكثرها في المنطق، وما ورد منها في الفلسفة، فهي كثيرة الشكوك فقد اثبت في كتابه «الملة الفاضلة» بقاء النفوس الشريرة بعد الموت في آلام لا نهاية لها، وبقاء لا نهاية له. ثم صرح في «السياسة المدنية» بانها منحلة وسائرة الى العدم، وانه لا بقاء الا للنفوس الفاضلة الكاملة. ثم وصف في شرح «كتاب الاخلاق» شيئا من امر السعادة الانسانية وانها انما تكون في هذه الحياة التي في هذه الدار. ثم قال عقب ذلك، كلاما هذا معناه: «وكل ما يذكر غير هذا فهو هذيان وخرافات عجائز». فهذا قد ايأس الخلق جميعا من رحمة الله تعالى، وصيّر الفاضل والشرير في رتبة واحدة، اذ جعل مصير الكل الى
العدم. وهذه زلة لا تقال، وعثرة ليس بعدها جبر. هذا مع ما صرح به من سوء معتقده في النبوة، وانها بزعمه للقوة الخيالية خاصة. وتفضيله الفلسفة عليها، الى اشياء ليس بنا حاجة الى ايرادها.(1/21)
واما ما وصل الينا من كتب ابي نصر، فأكثرها في المنطق، وما ورد منها في الفلسفة، فهي كثيرة الشكوك فقد اثبت في كتابه «الملة الفاضلة» بقاء النفوس الشريرة بعد الموت في آلام لا نهاية لها، وبقاء لا نهاية له. ثم صرح في «السياسة المدنية» بانها منحلة وسائرة الى العدم، وانه لا بقاء الا للنفوس الفاضلة الكاملة. ثم وصف في شرح «كتاب الاخلاق» شيئا من امر السعادة الانسانية وانها انما تكون في هذه الحياة التي في هذه الدار. ثم قال عقب ذلك، كلاما هذا معناه: «وكل ما يذكر غير هذا فهو هذيان وخرافات عجائز». فهذا قد ايأس الخلق جميعا من رحمة الله تعالى، وصيّر الفاضل والشرير في رتبة واحدة، اذ جعل مصير الكل الى
العدم. وهذه زلة لا تقال، وعثرة ليس بعدها جبر. هذا مع ما صرح به من سوء معتقده في النبوة، وانها بزعمه للقوة الخيالية خاصة. وتفضيله الفلسفة عليها، الى اشياء ليس بنا حاجة الى ايرادها.
ابن سينا: اعتنق مذهب ارسطو: ومن اراد الحق فعليه بكتابه في «الفلسفة المشرقية».
واما كتب «ارسطوطاليس» فقد تكفل الشيخ ابو علي بالتعبير عما فيها، وجرى على مذهبه، وسلك طريق فلسفته في كتاب «الشفاء»، وصرح في اول الكتاب بان الحق عنده غير ذلك، وانه انما الف ذلك الكتاب على مذهب المشائين، وان من اراد الحق الذي لا جمجمة فيه فعليه بكتابه في «الفلسفة المشرقية». ومن عني بقراءة كتاب «الشفاء» وبقراءة كتب ارسطوطاليس ظهر له في اكثر الامور انها تتفق، وان كان في كتاب «الشفاء» اشياء لم تبلغ الينا عن ارسطو. واذا اخذ جميع ما تعطيه كتب ارسطوطاليس وكتاب «الشفاء» على ظاهره دون ان يتفطن لسره وباطنه، لم يوصل به الى الكمال، حسبما نبّه عليه الشيخ ابو علي في كتاب «الشفاء».
نقد فلسفة الغزالي
اما كتب الغزالي فانها تربط في موضع وتحل في آخر. ويميل الغزالي الى اعتقاد الصوفية ويكفر الفلاسفة في مسائل. والغزالي ليس مستقرا على رأي مثلا قوله بعدم بعث الاجساد بعد تكفيره الفلاسفة بهذا القول.
واما كتب الشيخ ابي حامد الغزالي، فهي بحسب مخاطبته للجمهور، تربط في موضع وتحل في آخر، وتكفر باشياء ثم تنتحلها. ثم انه من جملة ما كفر به الفلاسفة في كتاب «التهافت» انكارهم لحشر الاجساد، واثباتهم الثواب والعقاب للنفوس خاصة. ثم قال في اول كتاب «الميزان»: «ان هذا الاعتقاد هو اعتقاد شيوخ الصوفية على القطع». ثم قال في كتاب «المنقذ من الضلال والمفصح بالاحوال»:
«ان اعتقاده هو كاعتقاد الصوفية، وان امره انما وقف على ذلك بعد طول البحث».
وفي كتبه من هذا النوع كثير، يراه من تصفحها وأمعن النظر فيها. وقد اعتذر عن هذا الفعل في آخر كتاب «ميزان العمل»، حيث وصف ان الآراء ثلاثة اقسام:
1 - رأي يشارك فيه الجمهور فيما هم عليه.(1/22)
وفي كتبه من هذا النوع كثير، يراه من تصفحها وأمعن النظر فيها. وقد اعتذر عن هذا الفعل في آخر كتاب «ميزان العمل»، حيث وصف ان الآراء ثلاثة اقسام:
1 - رأي يشارك فيه الجمهور فيما هم عليه.
ب ورأي يكون بحسب ما يخاطب به كل سائل ومسترشد.
ج ورأي يكون بين الانسان وبين نفسه لا يطلع عليه الا من هو شريكه في اعتقاده.
ثم قال بعد ذلك: «ولو لم يكن في هذه الا ما يشكك في اعتقادك الموروث، لكفى بذلك نفعا. فان من لم يشك لم ينظر، ومن لم ينظر لم يبصر، ومن لم يبصر بقي في العمى والحيرة. ثم تمثل بهذا البيت:
خذ ما تراه ودع شيئا سمعت به ... في طلعة الشمس ما يغنيك عن زحل
ذكر الغزالي انه له كتب مضنون بها على اهلها، ضمنها صريح الحق.
فهذه صفة تعليمه، واكثره انما هو رمز واشارة لا ينتفع بها الا من وقف عليها ببصيرة نفسه، او لامام سمعها منه ثانيا، او من كان معدا لفهمها فائق الفطرة، فهو يكتفي بأيسر اشارة. وقد ذكر في «كتاب الجوهر» ان له كتبا مضنونا بها على اهلها، وانه ضمنها صريح الحق.
ولكن هذه الكتب لم تصل الى الاندلس.
ولم يصل الى الاندلس في علمنا منها شيء، بل وصلت كتب يزعم بعض الناس انها هي تلك المضنون بها، وليس الامر كذلك. وتلك الكتب هي كتاب «المعارف العقلية» وكتاب «النفخ والتسوية» و «مسائل مجموعة» وسواها.
وهذه الكتب، وان كانت فيها اشارات، فانها لا تتضمن عظيم زيادة في الكشف على ما هو مبثوث في كتبه المشهورة.
وقد يوجد في كتاب «المقصد الاسنى» (1) ما هو اغمض مما في تلك. وقد صرح هو بان كتاب «المقصد الاسنى» ليس مضنونا به، فيلزم من ذلك ان هذه الكتب الواصلة ليست هي المضنون بها.
__________
(1) يذكر الغزالي في كتابه «المنقذ من الضلال»، في الفصل الخاص بالمتصوفة: «وعلى الجملة، ينتهي الامر الى قرب يكاد يتخيل منه طائفة الحلول، وطائفة الاتحاد، وطائفة الوصول، وكل ذلك خطأ.
وقد بينا وجه الخطأ فيه في كتاب: المقصد الاسنى».(1/23)
وقد توهم بعض المتأخرين من كلامه الواقع في آخر «كتاب المشكاة» امرا عظيما اوقعه في مهواة لا مخلص له منها، وهو قوله بعد ذكر اصناف المحجوبين بالانوار، ثم انتقاله الى ذكر الواصلين انهم وقفوا على ان هذا الوجود العظيم متصف بصفة تنافي الوحدانية المحضة، فاراد ان يلزمه من ذلك انه يعتقد ان الأول الحق سبحانه في ذاته كثرة ما تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا.
ولا شك عندنا في ان الشيخ ابا حامد ممن سعد السعادة القصوى، ووصل تلك المواصل الشريفة المقدسة.
لكن كتبه المضنون بها المشتملة على عدم المكاشفة، لم تصل الينا.
تمهيد لفلسفة ابن طفيل
ابن طفيل سيصرح برأيه لمن سأله هذا السؤال:
اعني ان يبث اليه اسرار الحكمة المشرقية.
ولم يتخلص لنا نحن الحق الذي انتهينا اليه، وكان مبلغنا من العلم تتبع كلامه وكلام الشيخ ابي علي وصرف بعضها الى بعض، واضافة ذلك الى الآراء التي نبغت في زماننا هذا، ولهج بها قوم من منتحلي الفلسفة، حتى استقام لنا الحق اولا بطريق البحث والنظر، ثم وجدنا منه الآن هذا الذوق اليسير بالمشاهدة. وحينئذ رأينا انفسنا اهلا لوضع كلام يؤثر عنا، وتعين علينا ان تكون ايها السائل اول من اتحفناه بما عندنا، واطلعناه على ما لدينا لصحيح ولائك وزكاء صفاتك.
غير اننا ان القينا اليك بغايات ما انتهينا اليه من ذلك من قبل ان نحكم مباديها معك، لم يفدك ذلك شيئا اكثر من امر تقليدي مجمل. هذا ان انت حسنت ظنك بنا، بحسب المودة والمؤالفة لا بمعنى انا نستحق ان يقبل قولنا.
ونحن لا نرضى لك هذه المنزلة، ونحن لا نقنع لك بهذه الرتبة، ولا نرضى لك الا ما هو اعلى منها، اذ هي غير كفيلة بالنجاة، فضلا عن الفوز على الدرجات.
وانما نريد ان نحملك على المسالك التي قد تقدم عليها سلوكنا، ونسبح بك في البحر الذي قد عبرناه اولا، حتى يفضي بك الى ما افضى بنا اليه، فتشاهد من ذلك ما شاهدناه، وتتحقق ببصيرة نفسك كل ما تحققناه، وتستغني عن ربط معرفتك بما عرفناه.
وهذا يحتاج الى مقدار معلوم من الزمان، غير يسير، وفراغ من الشواغل، واقبال
بالهمة كلها على هذا الفن. فان صدق منك هذا العزم، وصحت نيتك للتشمير في هذا المطلب، فستحمد عند الصباح مسراك، وتنال بركة مسعاك، وتكون قد ارضيت ربك، وارضاك، وانا لك حيث تريده من املك، وتطمح اليه بهمتك وكليتك.(1/24)
وهذا يحتاج الى مقدار معلوم من الزمان، غير يسير، وفراغ من الشواغل، واقبال
بالهمة كلها على هذا الفن. فان صدق منك هذا العزم، وصحت نيتك للتشمير في هذا المطلب، فستحمد عند الصباح مسراك، وتنال بركة مسعاك، وتكون قد ارضيت ربك، وارضاك، وانا لك حيث تريده من املك، وتطمح اليه بهمتك وكليتك.
وارجو ان اصل من السلوك بك على اقصر الطريق وآمنها من الغوائل والآفات، وان عرضت الآن الى لمحة يسيرة على سبيل التشويق والحث على دخول الطريق. فانا واصف لك «قصة حي بن يقظان» و «آسال وسلامان» اللذين سماهما الشيخ ابو علي. ففي «{قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبََابِ}» (1) و «{لَذِكْرى ََ لِمَنْ كََانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ}» (2).
__________
(1) قرآن كريم، سورة (يوسف) 12الآية 111
(2) قرآن كريم، سورة (ق) 50الآية 37(1/25)
القسم الثاني قصّة حي بن يقظان
الجزء الأول: اصل حي بن يقظان
ولادة حي الرأي الأول: التولد الذاتي.
ذكر سلفنا الصالح رضي الله عنهم ان جزيرة من جزائر الهند التي تحت خط الاستواء، وهي الجزيرة التي يتولد بها الانسان من غير اب ولا ام، وبها شجر يثمر نساء، وهي التي ذكر المسعودي انها جزيرة الواقواق، لان تلك الجزيرة اعدل بقاع الارض هواء، واتمها، لشروق النور الاعلى عليها استعدادا، وان كان ذلك على خلاف ما يراه جمهور الفلاسفة وكبار الاطباء، فانهم يرون ان اعدل ما في المعمورة الاقليم الرابع. فان كانوا قالوا ذلك لانه صح عندهم انه ليس على خط الاستواء عمارة، لمانع من الموانع الارضية. فلقولهم ان الاقليم الرابع اعدل بقاع الارض الباقية وجه، وان كانوا انما ارادوا بذلك ان ما على خط الاستواء شديد الحرارة، كالذي يصرح به اكثرهم، فهو خطأ، يقوم البرهان على خلافه.
آراء جغرافية: تدل على التولد الذاتي. ويجوز ان يكون حي قد تولد تولدا ذاتيا.
وذلك انه قد تبرهن في العلوم الطبيعية، انه لا سبب لتكوّن الحرارة الا الحركة، او ملاقاة الاجسام الحارة والاضاءة. وتبين فيها ايضا ان الشمس بذاتها غير حارة، ولا متكيفة بشيء من هذه الامور المزاجية. وقد تبين فيها ايضا ان الاجسام التي تقبل الاضاءة اتم القبول
هي الاجسام الصقيلة، غير الشفافة، ويليها في قبول ذلك الاجسام الكثيفة، غير الصقيلة.(1/26)
وذلك انه قد تبرهن في العلوم الطبيعية، انه لا سبب لتكوّن الحرارة الا الحركة، او ملاقاة الاجسام الحارة والاضاءة. وتبين فيها ايضا ان الشمس بذاتها غير حارة، ولا متكيفة بشيء من هذه الامور المزاجية. وقد تبين فيها ايضا ان الاجسام التي تقبل الاضاءة اتم القبول
هي الاجسام الصقيلة، غير الشفافة، ويليها في قبول ذلك الاجسام الكثيفة، غير الصقيلة.
فأما الاجسام الشفافة التي لا شيء فيها من الكثافة، فلا تقبل الضوء بوجه. وهذا وحده مما برهنه الشيخ ابو علي (وحده) خاصة، ولم يذكره من تقدمه. فاذا تم وصحت هذه المقدمات، فاللازم عنها، ان الشمس لا تسخن الارض كما تسخن الاجسام الحارة اجساما أخر تماسها، لان الشمس، في ذاتها، غير حارة، ولا الارض ايضا تسخن بالحركة، لانها ساكنة، وعلى حالة واحدة في وقت شروق الشمس عليها وفي وقت مغيبها عنها. واحوالها في التسخين والتبريد ظاهرة الاختلاف للحس في هذين الوقتين. ولا الشمس ايضا تسخن الهواء اولا، ثم تسخن بعد ذلك الارض بتوسط سخونة الهواء. وكيف يكون ذلك، ونحن نجد ان ما قرب من الهواء من الارض في وقت الحر، اسخن كثيرا من الهواء الذي يبعد منه علوا؟ فيبقى ان تسخين الشمس للارض انما هو على سبيل الاضاءة لا غير. فان الحرارة تتبع الضوء ابدا حتى ان الضوء اذا افرط في المرآة المقعرة اشعل ما حاذاها. وقد ثبت في علوم التعاليم بالبراهين القطعية، ان الشمس كروية الشكل، وان الارض كذلك، وان الشمس اعظم من الارض كثيرا، وان الذي يستضيء من الارض بالشمس ابدا هو اعظم من نصفها، وان هذا النصف المضيء من الارض في كل وقت اشد ما يكون الضوء في وسطه، لانه ابعد المواضع من الظلمة عند محيط الدائرة، ولانه يقابل من الشمس اجزاء اكثر وما قرب من المحيط كان اقل ضوءا حتى ينتهي الى الظلمة عند محيط الدائرة الذي ما اضاء موقعه من الارض قط وانما يكون الموضع وسط دائرة الضياء، اذا كانت الشمس على سمت رءوس الساكنين فيه وحينئذ تكون الحرارة في ذلك الموضع اشد ما يكون. فان كان الموضع مما تبعد الشمس فيه عن مسامتة، رءوس اهله، كان شديد البرودة جدا وان كان مما تدوم فيه المسامتة، كان شديد الحرارة. وقد ثبت في علم الهيأة ان بقاع الارض التي على خط الاستواء لا تسامت الشمس رءوس اهلها، سوى مرتين في العام: عند حلولها برأس الحمل، وعند حلولها برأس الميزان. وهي في سائر العام ستة اشهر جنوبا منهم، وستة اشهر شمالا منهم. فليس عندهم حر مفرط، ولا برد مفرط. واحوالهم بسبب ذلك متشابهة.
وهذا القول يحتاج الى بيان اكثر من هذا، لا يليق بما نحن بسبيله، وانما نبهناك عليه لانه من الامور التي تشهد بصحة ما ذكر من تجويز تولد الانسان بتلك البقعة من غير ام ولا اب.
فمنهم من بتّ الحكم، وجزم القضية بأن (حي بن يقظان) من جملة من تكوّن في تلك البقعة، من غير ام ولا اب.(1/27)
فمنهم من بتّ الحكم، وجزم القضية بأن (حي بن يقظان) من جملة من تكوّن في تلك البقعة، من غير ام ولا اب.
الرأي الثاني في ولادة حي: حي ولد من اميرة تزوجت سرا بقريب لها اسمه يقظان. اذ ان اخاها الملك منعها الزواج.
ومنهم من انكر ذلك، وروى من امره خبرا، نقصه عليك. فقال:
انه كان، بازاء تلك الجزيرة، جزيرة عظيمة، متسعة الاكناف، كثيرة الفوائد، عامرة بالناس، يملكها رجل منهم شديد الانفة والغيرة. وكانت له اخت ذات جمال وحسن باهر، فعضلها (1) ومنعها الازواج اذ لم يجد لها كفوا.
وكان له قريب يسمى يقظان. فتزوجها سرا، على وجه جائز في مذهبهم المشهور في زمنهم. ثم انها حملت منه، فوضعت طفلا.
حي يوضع في تابوت ويلقى في اليم.
فلما خافت ان يفتضح امرها وينكشف سرها، وضعته في تابوت احكمت زمه، بعد ان اروته من الرضاع. وخرجت به في اول الليل في جملة من خدمها وثقاتها الى ساحل البحر، وقلبها يحترق صبابة به، وخوفا عليه. ثم انها ودعته وقالت:
«اللهم انك قد خلقت هذا الطفل ولم يكن شيئا مذكورا، ورزقته في ظلمات الاحشاء وتكلفت به حتى تم واستوى. وانا قد سلمته الى لطفك، ورجوت له فضلك، خوفا من هذا الملك الغشوم الجبار العنيد. فكن له، ولا تسلمه، يا ارحم الراحمين».
ثم قذفت به في اليم. فصادف ذلك جري الماء بقوة المد، فاحتمله من ليلته الى ساحل الجزيرة الاخرى المتقدم ذكرها.
التابوت يصل الى جزيرة ليس فيها انسان قط
وكان المد يصل في ذلك الوقت الى موضع لا يصل اليه الا بعد عام. فادخله الماء بقوته الى اجمة ملتفة الشجر، عذبة التربة، مستورة عن الرياح والمطر، محجوبة عن الشمس، تزورّ عنها اذا طلعت، وتميل اذا غربت. ثم اخذ الماء في النقص والجزر، عن التابوت الذي فيه الطفل، وبقي التابوت في ذلك الموضع، وعلت الرمال بهبوب الرياح، وتراكمت بعد ذلك حتى سدت باب الاجمة على التابوت، وردمت مدخل
__________
(1) عضلها: منعها الزواج ظلما وعدوانا.(1/28)
الماء الى تلك الاجمة. فكان المد لا ينتهي اليها. وكانت مسامير التابوت قد قلقت، والواحه قد اضطربت عند رمي الماء اياه في تلك الاجمة. فلما اشتد الجوع بذلك الطفل بكى واستغاث وعالج الحركة، فوقع صوته في أذن ظبية فقدت طلاها (1)، خرج من كناسه فحمله العقاب.
الظبية تلتقط حي من التابوت وتبدأ عنايتها به
فلما سمعت الصوت ظنته ولدها. فتتبعت الصوت وهي تتخيل طلاها حتى وصلت الى التابوت. ففحصت عنه باظلافها وهو ينوء ويئن من داخله، حتى طار عن التابوت لوح من اعلاه. فحنّت الظبية وحنت عليه ورئمت به والقمته حلمتها، واروته لبنا سائغا. وما زالت تتعهده وتربيه وتدفع عنه الاذى.
رجوع الى الرأي القائل بالتولد الذاتي، وعرض حججه. لما يتهيأ الجسم تعلق به الروح الذي هو فيض من الله.
هذا ما كان من ابتداء امره عند من ينكر التولد.
ونحن نصف هنا كيف انتقل في احواله، حتى بلغ المبلغ العظيم.
واما الذين زعموا انه تولد من الارض، فانهم قالوا ان بطنا من ارض تلك الجزيرة تخمرت فيه طينة على مرّ السنين والاعوام حتى امتزج فيها الحار بالبارد، والرطب باليابس، امتزاج تكافؤ وتعادل في القوى، وكانت هذه الطينة المتخمرة كبيرة جدا، وكان بعضها يفضل بعضا في اعتدال المزاج والتهيؤ لتكوّن الامشاج (2) وكان الوسط منها اعدل ما فيها واتمه مشابهة بمزاج الانسان فتمخضت تلك الطينة وحدث فيها شبه نفخات الغليان لشدة لزوجتها. وحدث في الوسط منها لزوجة ونفاخة صغيرة جدا منقسمة بقسمين بينهما حجاب رقيق، ممتلئة بجسم لطيف هوائي في غاية من الاعتدال اللائق به. فتعلق به عند ذلك الروح الذي هو «من امر الله» تعالى وتشبث به تشبثا يعسر انفصاله عنه عند الحس وعند العقل، اذ قد تبين ان هذا الروح دائم الفيضان من عند الله عزّ وجلّ وانه بمنزلة نور الشمس الذي هو دائم الفيضان على العالم.
__________
(1) الطلا: ولد الظبي، والكناس: بيتهما.
(2) نطفة أمشاج: مختلطة.(1/29)
نظرية الفيض. لا تستطيع جميع الاجسام ان تقبل الروح الفائض من الله بل الاجسام المعدة لذلك.
فمن الاجسام ما لا يستضاء به، وهو الهواء الشفاف جدا، ومنها ما يستضاء به بعض الاستضاءة، وهي الاجسام الكثيفة غير الصقيلة، وهذه تختلف في قبول الضياء، وتختلف بحسب ذلك الوانها. ومنها ما يستضاء به غاية الاستضاءة، وهي الاجسام الصقيلة، كالمرآة ونحوها.
فاذا كانت هذه المرآة مقعرة، على شكل مخصوص، حدثت فيها النار لافراط الضياء. وكذلك الروح الذي هو «من امر» (1) الله تعالى، فياض ابدا على جميع الموجودات. فمنها ما لا يظهر اثره فيه لعدم الاستعداد، وهي الجمادات التي لا حياة لها، وهذه بمنزلة الهواء في المثال المتقدم. ومنها ما يظهر اثره فيه، وهي انواع النبات بحسب استعداداتها. وهذه بمنزلة الاجسام الكثيفة في المثال المتقدم. ومنها ما يظهر اثره ظهورا كثيرا، وهي انواع الحيوان، وهذه بمنزلة الاجسام الصقيلة في المثال المتقدم.
تكوين جسم الانسان وحلول الروح فيه. الاعضاء الرئيسة والاعضاء المرءوسة.
ومن هذه الاجسام الصقيلة ما يزيد على شدة قبوله لضياء الشمس، انه يحكي صورة الشمس ومثالها. وكذلك ايضا من الحيوان ما يزيد على شدة قبوله للروح، انه يحكي الروح ويتصور بصورته، وهو الانسان خاصة. واليه الاشارة بقوله (صلعم):
«ان الله خلق آدم على صورته» (2). فان قويت فيه هذه الصورة حتى تتلاشى جميع الصور في حقها، وتبقى هي وحدها، وتحرق سبحات نورها كل ما ادركته، كانت حينئذ بمنزلة المرآة المنعكسة على نفسها، المحرقة لسواها. وهذا لا يكون الا للانبياء صلوات الله عليهم اجمعين. وهذا كله مبين في مواضعه اللائقة به.
فليرجع الى تمام ما حكوه من وصف ذلك التخلق.
قالوا: فلما تعلق هذا الروح بتلك القرارة، خضعت له جميع القوى، وسجدت له، وسخرت بأمر الله تعالى في كمالها، فتكوّن بإزاء تلك القرارة نفّاخة اخرى منقسمة
__________
(1) الآية: {«وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ، قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي، وَمََا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلََّا قَلِيلًا»}
قرآن: سورة 17، آية 85.
(2) هذه الجملة من حديث اخرجه البخاري عن ابي هريرة (العيني ج 10ص 471).(1/30)
ثلاث قرارات، بينها حجب لطيفة ومسالك نافذة، وامتلأت بمثل ذلك الهوائي الذي امتلأت منه القرارة الاولى، الا انه الطف منه.
وسكن في هذه البطون الثلاثة المنقسمة من واحدة، طائفة من تلك القوى التي خضعت له، وتوكلت بحراستها والقيام عليها، وانهاء ما يطرأ فيها من دقيق الأشياء وجليلها الى الروح الأول المتعلق بالقرارة الاولى.
وتكوّن ايضا بازاء هذه القرارة من الجهة المقابلة للقرارة الثانية نفّاخة ثالثة، مملوءة جسما هوائيا، الا انه اغلظ من الاولين. وسكن في هذه القرارة فريق من تلك القوى الخاضعة، وتوكلت بحفظها والقيام عليها. فكانت هذه القرارة الاولى والثانية والثالثة اول ما تخلّق من تلك الطينة المتخمرة الكبرى، على الترتيب الذي ذكرناه.
قارن بين ذلك وما ذكره الفارابي في (المدينة الفاضلة)
الفصل العشرين (في اجزاء النفس الانسانية وقواها). لقد ذكر ابن طفيل في المقدمة انه اطلع على كتاب الفارابي.
واحتاج بعضها الى بعض: فالاولى منها حاجتها الى الأخريين حاجة استخدام وتسخير، والأخريان حاجتهما الى الاولى حاجة المرءوس الى الرئيس، والمدبّر الى المدبّر، وكلاهما لما يتخلق بعدها من الاعضاء رئيس لا مرءوس.
واحدهما، وهو الثاني، اتم رئاسة من الثالث، فالاول منهما لما تعلق به الروح، واشتعلت حرارته، تشكل بشكل النار الصنوبري، وتشكل ايضا الجسم الغليظ المحدق به على شكله، وتكوّن لحما صلبا، وصار عليه غلاف صفاقي يحفظه.
القلب
وسمي العضو كله قلبا، واحتاج لما يتبع الحرارة من التحليل وإفناء الرطوبات الى شيء يمده ويغذوه، ويخلف ما تحلل منه على الدوام، والا لم يطل بقاؤه، واحتاج ايضا الى ان يحس بما يلائمه فيجتذبه، وبما يخالفه فيدفعه. فتكفل له العضو الواحد بما فيه من القوى التي اصلها منه بحاجته الواحدة وتكفل له العضو الآخر بحاجته الاخرى.(1/31)
وسمي العضو كله قلبا، واحتاج لما يتبع الحرارة من التحليل وإفناء الرطوبات الى شيء يمده ويغذوه، ويخلف ما تحلل منه على الدوام، والا لم يطل بقاؤه، واحتاج ايضا الى ان يحس بما يلائمه فيجتذبه، وبما يخالفه فيدفعه. فتكفل له العضو الواحد بما فيه من القوى التي اصلها منه بحاجته الواحدة وتكفل له العضو الآخر بحاجته الاخرى.
الدماغ الكبد:
يلاحظ ان اهمية الاعضاء هي حسب الترتيب الذي ذكره الفارابي (المدينة الفاضلة) الفصل 20والفصل 21 وكان المتكفل بالحس هو الدماغ، والمتكفل بالغذاء هو الكبد. واحتاج كل واحد من هذين اليه في ان يمدهما بحرارته وبالقوى المخصوصة بهما التي اصلها منه.
فانتسجت بينهما لذلك كله مسالك وطرق بعضها اوسع من بعض، بحسب ما تدعو اليه الضرورة، فكانت الشرايين والعروق.
ثم ما زالوا يصفون الخلقة كلها والاعضاء بجملتها على حسب ما وصفه الطبيعيون في خلقة الجنين في الرحم، لم يغادروا من ذلك شيئا، الى ان كمل خلقه، وتمت اعضاؤه، وحصل في حد خروج الجنين من البطن. واستعانوا في وصف كمال ذلك بتلك الطينة الكبيرة المتخمرة، وأنها كانت قد تهيأت لان يتخلق منها كل ما يحتاج اليه في خلق الانسان من الاغشية المجللة لجملة بدنه وغيرها. فلما كمل انشقت عنه تلك الاغشية بشبه المخاض، وتصدع باقي الطينة، اذ كان قد لحقه الجفاف.
الجزء الثاني: تربية حي والمعرفة الاولى عن طريق الملاحظة الحسية والتجربة.
الاستمرار في عرض القصة.
ثم استغاث ذلك الطفل عند فناء مادة غذائه، واشتداد جوعه. فلبته ظبية فقدت طلاها. ثم استوى ما وصفه هؤلاء بعد هذا الموضع، وما وصفته الطائفة الاولى في معنى التربية، فقالوا جميعا:
كيف تربي حي بن يقظان: عناية الظبية بالطفل وحنانها عليه.
ان الظبية التي تكفلت به وافقت خصبا ومرعى اثيثا، فكثر لحمها ودرّ لبنها، حتى قامت بغذاء ذلك الطفل احسن قيام. وكانت معه لا تبعد عنه الا لضرورة الرعي. والف الطفل تلك الظبية حتى كان بحيث اذا هي ابطأت عنه اشتد بكاؤه، فطارت اليه.
ولم يكن بتلك الجزيرة شىء من السباع العادية، فتربى الطفل ونما واغتذى بلبن
تلك الظبية الى ان تم له حولان (1)، وتدرج في المشي واثغر (2)، فكان يتبع تلك الظبية. وكانت هي ترفق به وترحمه، وتحمله الى مواضع فيها شجر مثمر. فكانت تطعمه ما تساقط من ثمارها الحلوة النضيجة، وما كان منها صلب القشر كسرته له بطواحنها. ومتى عاد الى اللبن اروته، ومتى ظمئ الى الماء اوردته، متى ضحا (3)
ظللته، ومتى خصر (4) ادفأته. واذا جن الليل صرفته الى مكانه الأول، وجللته بنفسها، وبريش كان هناك، مما ملئ به التابوت اولا في وقت وضع الطفل فيه.(1/32)
ولم يكن بتلك الجزيرة شىء من السباع العادية، فتربى الطفل ونما واغتذى بلبن
تلك الظبية الى ان تم له حولان (1)، وتدرج في المشي واثغر (2)، فكان يتبع تلك الظبية. وكانت هي ترفق به وترحمه، وتحمله الى مواضع فيها شجر مثمر. فكانت تطعمه ما تساقط من ثمارها الحلوة النضيجة، وما كان منها صلب القشر كسرته له بطواحنها. ومتى عاد الى اللبن اروته، ومتى ظمئ الى الماء اوردته، متى ضحا (3)
ظللته، ومتى خصر (4) ادفأته. واذا جن الليل صرفته الى مكانه الأول، وجللته بنفسها، وبريش كان هناك، مما ملئ به التابوت اولا في وقت وضع الطفل فيه.
وكان في غدوّهما ورواحهما قد الفهما ربرب يسرح ويبيت معهما حيث مبيتهما.
المحاكاة غريزة في الانسان والحيوان. قوى النفس تظهر تدريجيا: التذكر والنزوع والكراهية.
فما زال الطفل مع الظباء على تلك الحال، يحكي نغمتها بصوته، حتى لا يكاد يفرق بينهما. وكذلك كان يحكي جميع ما يسمعه من اصوات الطير وانواع سائر الحيوان، محاكاة شديدة لقوة انفعاله لما يريده. واكثر ما كانت محاكاته لاصوات الظباء في الاستصراخ والاستئلاف والاستدعاء والاستدفاع، اذ للحيوانات في هذه الاحوال المختلفة اصوات مختلفة. فألفته الوحوش وألفها، ولم تنكره ولا انكرها.
فلما ثبت في نفسه امثلة الأشياء بعد مغيبها عن مشاهدته، حدث له نزوع الى بعضها، وكراهية لبعض.
الملاحظة والمقارنة.
وكان في ذلك كله ينظر الى جميع الحيوانات فيراها كاسية بالاوبار والاشعار والريش. وكان يرى ما لها من سرعة العدو وقوة البطش، وما لها من الاسلحة المعدة لمدافعة من ينازعها، مثل القرون والانياب والحوافر والصياصي (5) والمخالب.
ثم يرجع الى نفسه، فيرى ما به من العري، وعدم السلاح، وضعف العدو، وقلة
__________
(1) حولان: سنتان.
(2) اثغر: ظهرت اسنانه.
(3) ضحا: تعرض للشمس.
(4) خصر: برد.
(5) الصياصي: شوك الديك، وقرن البقر والظباء، وكل ما يتسلح به.(1/33)
البطش، عند ما كانت تنازعه الوحوش اكل الثمرات، وتستبد بها دونه، وتغلبه عليها، فلا يستطيع المدافعة عن نفسه ولا الفرار عن شيء منها. وكان يرى اترابه من اولاد الظباء قد نبتت لها قرون، بعد ان لم تكن، وصارت قوية بعد ضعفها في العدو.
ولم ير لنفسه شيئا من ذلك كله. فكان يفكر في ذلك ولا يدري ما سببه. وكان ينظر الى ذوي العاهات والخلق الناقص، فلا يجد لنفسه شبيها فيهم. وكان ايضا ينظر الى مخارج الفضول من سائر الحيوان، فيراها مستورة. اما مخرج اغلظ الفضلتين فبالاذناب واما مخرج أرقهما فبالاوبار وما اشبهها، ولانها كانت ايضا اخفى قضبانا منه.
لما بلغ حي سبعة اعوام كان يستخدم الكساء من اوراق الشجر والسلاح من اغصان الشجر للدفاع عن نفسه ضد الحيوان
فكان ذلك كله يكربه ويسوءه. فلما طال همه في ذلك كله، وهو قد قارب سبعة اعوام، ويئس من ان يكمل له ذلك، وما قد اضرّ به نقصه، اتخذ من اوراق الشجر العريضة شيئا، جعل بعضه خلفه، وبعضه قدامه، وعمل من الخوص والحلفاء (شبه) حزام على وسطه، علق به تلك الاوراق. فلم يلبث الا يسيرا حتى ذوى ذلك الورق، وجف وتساقط عنه. فما زال يتخذ غيره ويخصف بعضه ببعض طاقات مضاعفة، وربما كان ذلك اطول لبقائه، الا انه على كل حال قصير المدة.
شعوره بانه اسمى من الحيوان.
واتخذ من اغصان الشجر عصيّا، سوى اطرافها وعدل متنها. وكان يهش بها على الوحوش المنازعة له، فيحمل على الضعيف منها، ويقاوم القوي منها، فنبل بذلك قدره عند نفسه بعض نبالة. ورأى ان ليده فضلا كثيرا على ايديها، اذ امكن له بها ستر عورته، واتخاذ العصي التي يدافع بها عن حوزته ما استغنى به عما اراده من الذنب والسلاح الطبيعي.
وفي خلال ذلك ترعرع واربى على السبع سنين، وطال به العناء في تجديد الاوراق التي كان يستتر بها.(1/34)
وفي خلال ذلك ترعرع واربى على السبع سنين، وطال به العناء في تجديد الاوراق التي كان يستتر بها.
شعوره بعراه وستر عراه بريش الطيور.
فكانت نفسه عند ذلك تنتزعه الى اتخاذ ذنب من اذناب الوحوش الميتة، ليعلقه على نفسه. الا انه كان يرى احياء الوحوش تتحامى ميتها، وتفرّ عنه، فلا يتأتى له الاقدام على ذلك الفعل الى ان صادف في بعض الايام نسرا ميتا فهدي الى نيل امله منه، واغتنم الفرصة فيه، اذ لم ير للوحوش عنه نفرة، فأقدم عليه، وقطع جناحيه وذنبه صحاحا كما هي، وفتح ريشها وسواها، وسلخ عنه سائر جلده، وفصله على قطعتين: ربط احداهما على ظهره، والاخرى على سرّته وما تحتها، وعلّق الذنب من خلفه، وعلق الجناحين على عضديه، فأكسبه ذلك سترا ودفئا ومهابة في نفوس جميع الوحوش، حتى كانت لا تنازعه ولا تعارضه.
موت الظبية.
فصار لا يدنو اليه شيء منها، سوى الظبية التي كانت ارضعته وربته. فانها لم تفارقه ولا فارقها الى ان اسنت وضعفت، فكان يرتاد بها المراعي الخصبة، ويجتني لها الثمرات الحلوة ويطعمها.
وما زال الهزال والضعف يستولي عليها ويتوالى، الى ان ادركها الموت، فسكنت حركاتها بالجملة، وتعطلت جميع افعالها. فلما رآها الصبي على تلك الحالة، جزع جزعا شديدا، وكادت نفسه تفيض أسفا عليها. فكان يناديها بالصوت الذي كانت عادتها ان تجيبه عند سماعه، ويصيح بأشد ما يقدر عليه، فلا يرى لها عند ذلك حركة ولا تغييرا.
لا تبدل ظاهر.
فكان ينظر الى اذنيها والى عينيها، فلا يرى بها آفة ظاهرة، وكذلك كان ينظر الى جميع اعضائها فلا يرى بشيء منها آفة. فكان يطمع ان يعثر على موضع الآفة فيزيلها عنها، فترجع الى ما كانت عليه، فلم يتأت له شيء من ذلك، ولا استطاعه. وكان الذي ارشده لهذا الرأي ما كان قد اعتبره في نفسه قبل ذلك، لانه كان يرى انه اذا غمّض عينيه، او حجبهما بشيء، لا يبصر شيئا، حتى يزول ذلك العائق.
وكذلك كان يرى انه اذا ادخل اصبعيه في اذنيه وسدهما، لا يسمع شيئا حتى يزول ذلك العارض. واذا امسك انفه بيده، لا يشم من الروائح شيئا حتى يفتح انفه.(1/35)
فكان ينظر الى اذنيها والى عينيها، فلا يرى بها آفة ظاهرة، وكذلك كان ينظر الى جميع اعضائها فلا يرى بشيء منها آفة. فكان يطمع ان يعثر على موضع الآفة فيزيلها عنها، فترجع الى ما كانت عليه، فلم يتأت له شيء من ذلك، ولا استطاعه. وكان الذي ارشده لهذا الرأي ما كان قد اعتبره في نفسه قبل ذلك، لانه كان يرى انه اذا غمّض عينيه، او حجبهما بشيء، لا يبصر شيئا، حتى يزول ذلك العائق.
وكذلك كان يرى انه اذا ادخل اصبعيه في اذنيه وسدهما، لا يسمع شيئا حتى يزول ذلك العارض. واذا امسك انفه بيده، لا يشم من الروائح شيئا حتى يفتح انفه.
فاعتقد من اجل ذلك ان جميع ما لها من الادراكات والافعال قد تكون لها عوائق تعوقها، فاذا ازيلت تلك العوائق عادت الافعال.
اول استنتاج: العلة غير ظاهرة ولكنها موجودة حتما
فلما نظر الى جميع اعضائها الظاهرة ولم ير فيها آفة ظاهرة، وكان يرى مع ذلك العطلة قد شملتها، ولم يختص بها عضو دون عضو، وقع في خاطره ان الآفة التي نزلت بها انما هي في عضو غائب عن العيان، مستكن في باطن الجسد، وان ذلك العضو لا يغني عنه في فعله شيء من هذه الاعضاء الظاهرة. فلما نزلت به الآفة عمت المضرّة وشملت العطلة، وطمع بانه لو عثر على ذلك العضو وازال عنه ما نزل به، لاستقامت احواله، وفاض على سائر البدن نفعه، وعادت الافعال الى ما كانت عليه.
ما الذي جعله يفكر ان العلة في الصدر
وكان قد شاهد قبل ذلك في الاشباح الميتة من الوحوش وسواها ان جميع اعضائها مصمتة، لا تجويف بها الا القحف والصدر والبطن، فوقع في نفسه ان العضو الذي بتلك الصفة لن يعدوا احد هذه المواضع الثلاثة. وكان يغلب على ظنه غلبة قوية، انه انما هو في الموضع المتوسط من هذه المواضع الثلاثة، اذ كان قد استقر في نفسه ان جميع الاعضاء محتاجة اليه، وان الواجب بحسب ذلك ان يكون مسكنه في الوسط.
وكان ايضا اذا رجع الى ذاته شعر بمثل هذا العضو في صدره، ولانه كان يعترض سائر اعضائه، كاليد والرجل والاذن والانف والعين، ويقدر مفارقتها. فيتأتى له انه كان يستغنى عنها. وكان يقدر في رأسه مثل ذلك، ويظن انه يستغني عنه، فاذا فكر في الشيء الذي يجده في صدره لم يتأت له الاستغناء عنه طرفة عين. وكذلك كان عند محاربته الوحوش، اكثر ما كان يتقي من صياصيهم على صدره، لشعوره بالشيء الذي فيه.
فلما جزم الحكم بان العضو الذي نزلت به الآفة انما هو في صدرها، اجمع على
البحث عليه والتنقير عنه، لعله يظفر به، ويرى آفته فيزيلها. ثم انه خاف ان يكون نفس فعله هذا اعظم من التي نزلت بها اولا، فيكون سعيه عليها.(1/36)
فلما جزم الحكم بان العضو الذي نزلت به الآفة انما هو في صدرها، اجمع على
البحث عليه والتنقير عنه، لعله يظفر به، ويرى آفته فيزيلها. ثم انه خاف ان يكون نفس فعله هذا اعظم من التي نزلت بها اولا، فيكون سعيه عليها.
الحيوان الذي يتوقف عن الحركة لا تعود اليه الحياة ثانية
ثم انه فكر، هل رأى من الوحوش وسواها من صار في مثل تلك الحال، ثم عاد الى مثل حاله الأول؟ فلم يجد شيئا. فحصل له من ذلك اليأس من رجوعها الى حالها الأول ان هو تركها، وبقي له بعض رجاء في رجوعها الى تلك الحال ان هو وجد ذلك العضو، وازال الآفة عنه.
حي يشق صدر الظبية.
فعزم على شق صدرها وتفتيش ما فيه، فاتخذ من كسور الاحجار الصلدة وشقوق القصب اليابسة اشباه السكاكين، وشق بها بين اضلاعها، حتى قطع اللحم الذي بين الاضلاع، وافضى الى الحجاب المستبطن للاضلاع، فرآه قويا، فقوي ظنه بان مثل ذلك الحجاب لا يكون الا لمثل ذلك العضو. وطمع بانه اذا تجاوزه الذي مطلوبه. فحاول شقه، فصعب عليه لعدم الآلات، ولانها لم تكن الا من الحجارة والقصب.
عثوره على الرئة.
فاستجدها ثانية، واستحدها، وتلطف في خرق الحجاب حتى انخرق له، فافضى الى الرئة، فظن اولا انها مطلوبه. فما زال يقلبها ويطلب موضع الآفة بها.
عثوره على القلب.
وكان أولا انما وجد منها نصفها الذي هو في الجانب الواحد. فلما رآها مائلة الى
جهة واحدة، وكان قد اعتقد ان ذلك العضو لا يكون الا في الوسط، في عرض البدن، كما هو في الوسط في طوله. فما زال يفتش في وسط الصدر حتى ألفى القلب وهو مجلل بغشاء في غاية القوة، مربوط بمعاليق في غاية الوثاقة، والرئة مطيفة به من الجهة التي بدأ بالشق منها. فقال في نفسه: «ان كان لهذا العضو من الجهة الاخرى مثل ما له من هذه الجهة، فهو في حقيقة الوسط، ولا محالة انه مطلوبي، لا سيما مع ما ارى له من حسن الوضع وجمال الشكل وقلة التشتت وقوة اللحم، وانه محجوب بمثل هذا الحجاب الذي لم ار مثله لشيء من الاعضاء».(1/37)
وكان أولا انما وجد منها نصفها الذي هو في الجانب الواحد. فلما رآها مائلة الى
جهة واحدة، وكان قد اعتقد ان ذلك العضو لا يكون الا في الوسط، في عرض البدن، كما هو في الوسط في طوله. فما زال يفتش في وسط الصدر حتى ألفى القلب وهو مجلل بغشاء في غاية القوة، مربوط بمعاليق في غاية الوثاقة، والرئة مطيفة به من الجهة التي بدأ بالشق منها. فقال في نفسه: «ان كان لهذا العضو من الجهة الاخرى مثل ما له من هذه الجهة، فهو في حقيقة الوسط، ولا محالة انه مطلوبي، لا سيما مع ما ارى له من حسن الوضع وجمال الشكل وقلة التشتت وقوة اللحم، وانه محجوب بمثل هذا الحجاب الذي لم ار مثله لشيء من الاعضاء».
فبحث عن الجانب الآخر من الصدر، فوجد فيه الحجاب المستبطن للاضلاع.
ووجد الرئة على ما وجده من هذه الجهة. فحكم بان ذلك العضو هو مطلوبه.
فحاول هتك حجابه وشق شغافه، فبكد واستكراه ما، قدر على ذلك، بعد استفراغ مجهوده.
فحصه القلب وشقه إياه
وجرد القلب، فرآه مصمتا من كل جهة. فنظر هل يرى فيه آفة ظاهرة. فلم ير فيه شيئا. فشد عليه يده، فتبين له ان فيه تجويفا. فقال: «لعل مطلوبي الاقصى انما هو في داخل هذا العضو، وانا حتى الآن لم اصل اليه».
تجويفان في القلب: دم منعقد في التجويف الايمن والتجويف الايسر فارغ
فشق عليه. فالفى فيه تجويفين اثنين: احدهما من الجهة اليمنى، والآخر من الجهة اليسرى. والذي من الجهة اليمنى مملوء بعلق منعقد، والذي من الجهة اليسرى خال، لا شيء فيه. فقال: «لن يعدو مطلوبي ان يكون مسكنه احد هذين البيتين».
ثم قال: «اما هذا البيت الايمن فلا أرى فيه غير هذا الدم المنعقد. ولا شك انه لم ينعقد حتى صار الجسد كله الى هذا الحال، اذ كان قد شاهد ان الدماء كلها متى سالت وخرجت انعقدت وجمدت، ولم يكن هذا الا دما كسائر الدماء. وانا ارى ان هذا الدم موجود في سائر الاعضاء، لا يختص به عضو دون آخر، وانا ليس
مطلوبي شيئا بهذه الصفة، انما مطلوبي الشيء الذي يختص به هذا الموضع الذي اجدني لا استغنى عنه طرفة عين، واليه كان انبعاثه من اول.(1/38)
ثم قال: «اما هذا البيت الايمن فلا أرى فيه غير هذا الدم المنعقد. ولا شك انه لم ينعقد حتى صار الجسد كله الى هذا الحال، اذ كان قد شاهد ان الدماء كلها متى سالت وخرجت انعقدت وجمدت، ولم يكن هذا الا دما كسائر الدماء. وانا ارى ان هذا الدم موجود في سائر الاعضاء، لا يختص به عضو دون آخر، وانا ليس
مطلوبي شيئا بهذه الصفة، انما مطلوبي الشيء الذي يختص به هذا الموضع الذي اجدني لا استغنى عنه طرفة عين، واليه كان انبعاثه من اول.
يلاحظ هنا تفكيره المنطقي: لكل عضو وظيفة حتما، فالتجويف الايسر الفارغ كان يحوي، بلا شك، ما يطلبه حي
واما هذا الدم، فكم مرة جرحتني الوحوش والحجارة، فسال مني كثير منه، فما ضرني ذلك، ولا افقدني شيئا من افعالي. فهذا بيت ليس فيه مطلوبي. واما هذا البيت الايسر فأراه خاليا، لا شيء فيه. وما ارى ذلك لباطل. فان رأيت كل عضو من الاعضاء انما هو لفعل يختص به، فكيف يكون هذا البيت على ما شاهدت من شرفه باطلا؟ ما ارى الا ان مطلوبي كان فيه، فارتحل عنه واخلاه. وعند ذلك طرأ على هذا الجسد من العطلة ما طرأ، ففقد الادراك وعدم الحراك.
فلما رأى ان الساكن في ذلك البيت قد ارتحل قبل انهدامه، وتركه وهو بحاله، تحقق انه احرى ان لا يعود اليه بعد ان حدث فيه من الخراب والتخريق ما حدث.
احتقاره الجسد: يتساءل عن الشيء الذي ترك التجويف الايسر.
فصار عنده الجسد كله خسيسا، لا قدر له بالاضافة الى ذلك الشيء الذي اعتقد في نفسه انه يسكنه مدة ويرحل عنه بعد ذلك. فاقتصر على الفكرة في ذلك الشيء، ما هو؟ وكيف هو؟ وما الذي ربطه بهذا الجسد؟ والى اين صار؟ ومن اي الابواب خرج عند خروجه من الجسد؟ وما السبب الذي ازعجه ان كان خرج كارها؟ وما السبب الذي كرّه اليه الجسد حتى فارقه، ان كان خرج مختارا؟
بدأ يميز بين الجسم وشيء آخر في الجسم علة الحركة والعطف والحنان دون ان يدري ما هو هذا الشيء الآخر
وتشتّت فكره في ذلك كله، وسلا عن ذلك الجسد، وطرحه، وعلم ان امه التي عطفت عليه وارضعته، انما كانت ذلك الشيء المرتحل وعنه كانت تصدر تلك
الافعال كلها، لا هذا الجسد العاطل. وان هذا الجسد بجملته انما هو كالآلة لذلك، وبمنزلة العصا التي اتخذها هو لقتال الوحوش. فانتقلت علاقته عن الجسد الى صاحب الجسد ومحركه، ولم يبق له شوق الا اليه.(1/39)
وتشتّت فكره في ذلك كله، وسلا عن ذلك الجسد، وطرحه، وعلم ان امه التي عطفت عليه وارضعته، انما كانت ذلك الشيء المرتحل وعنه كانت تصدر تلك
الافعال كلها، لا هذا الجسد العاطل. وان هذا الجسد بجملته انما هو كالآلة لذلك، وبمنزلة العصا التي اتخذها هو لقتال الوحوش. فانتقلت علاقته عن الجسد الى صاحب الجسد ومحركه، ولم يبق له شوق الا اليه.
كيف أتته فكرة دفن الجثة (1)
وفي خلال ذلك نتن ذلك الجسد، وقامت منه روائح كريهة، فزادت نفرته عنه، وود ان لا يراه. ثم انه سنح لنظره غرابان يقتتلان، حتى صرع احدهما الآخر ميتا. ثم جعل الحي يبحث في الارض، حتى حفر حفرة، فوارى فيها ذلك الميت بالتراب. فقال في نفسه: «ما احسن ما صنع هذا الغراب في مواراة جيفة صاحبه، وان كان اساء في قتله اياه. وانا كنت احق بالاهتداء الى هذا الفعل بأمي». فحفر حفرة وألقى فيها جسد امه، وحثا عليها التراب، وبقي يتفكر في ذلك الشيء المصرف للجسد ولا يدري ما هو.
لم يجد شبيها له في هذه الجزيرة
غير انه كان ينظر الى اشخاص الظباء كلها فيراها على شكل امه، وعلى صورتها. فكان يغلب على ظنه ان كل واحد منها انما يحركه ويصرفه شيء هو مثل الشيء الذي كان يحرك امه ويصرفها. فكان يألف الظباء ويحن اليها لمكان ذلك الشبه.
وبقي على ذلك برهة من الزمان، يتصفح انواع الحيوان والنبات، ويطوف بساحل تلك الجزيرة، ويتطلب هل يرى او يجد لنفسه شبيها حسبما يرى لكل واحد من اشخاص الحيوان والنبات اشباها كثيرة. فلا يجد شيئا من ذلك. وكان يرى البحر قد احدق بالجزيرة من كل جهة، فيعتقد انه ليس في الوجود سوى جزيرته تلك.
__________
(1) قارن بين ذلك وما جاء في القرآن سورة 5آية 30وما بعدها: «{فَبَعَثَ اللََّهُ غُرََاباً يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوََارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ. قََالَ يََا وَيْلَتى ََ أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هََذَا الْغُرََابِ فَأُوََارِيَ سَوْأَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النََّادِمِينَ}».(1/40)
اندلاع النار في الجزيرة واستخدامه لها
واتفق في بعض الاحيان ان انقدحت نار في اجمة قلخ (1) على سبيل المحاكّة.
فلما بصر بها رأى منظرا هاله، وخلقا لم يعتده قبل، فوقف يتعجب منها مليا. وما يزال يدنو منها شيئا فشيئا، فرأى ما للنار من الضوء الثاقب والفعل الغائب، حتى لا تعلق بشيء الا اتت عليه واحالته الى نفسها. فحمله العجب بها وبما ركب الله تعالى في طباعه من الجرأة والقوة على ان يمد يده اليها، واراد ان يأخذ منها شيئا. فلما باشرها احرقت يده، فلم يستطع القبض عليها، فاهتدى الى ان يأخذ قبسا لم تستولى النار على جميعه. فأخذ بطرفه السليم والنار في طرفه الآخر، فتأتى له ذلك، وحمله الى موضعه الذي كان يأوي اليه. وكان قد خلا في جحر استحسنه للسكنى قبل ذلك.
استخدمها في الاضاءة والتدفئة: النار تطلب العلو دائما فهي في رأيه من الجواهر السماوية.
ثم ما زال يمد تلك النار بالحشيش والحطب الجزل، ويتعهدها ليلا ونهارا استحسانا لها وتعجبا منها. وكان يزيد انسه بها ليلا لانها كانت تقوم له مقام الشمس في الضياء والدفء. فعظم بها ولوعه، واعتقد انها افضل الأشياء التي لديه. وكان دائما يراها تتحرك الى جهة فوق، وتطلب العلو. فغلب على ظنه انها من جملة الجواهر السماوية التي كان يشاهدها.
وكان يختبر قوتها في جميع الأشياء بان يلقيها فيها، فيراها مستولية عليها اما بسرعة واما ببطء، بحسب قوة استعداد الجسم الذي كان يلقيه للاحتراق او ضعفه.
شيّ الحيوان: مبتدئا بالسمك.
وكان من جملة ما ألقى فيها، على سبيل الاختبار لقوتها، شيء من اصناف الحيوانات البحرية كان قد القاه البحر الى ساحله فلما انضجت ذلك الحيوان وسطع قتاره (2)، تحركت شهوته اليه. فأكل منه شيئا، فاستطابه. فاعتاد بذلك اكل اللحم. فصرّف الحيلة في صيد البر والبحر، حتى مهر في ذلك.
__________
(1) قلخ: القصب الاجوف.
(2) قتاره: رائحة الشواء.(1/41)
هل الشيء الذي فارق التجويف الايسر من قلب الظبية هو من طبيعة النار؟
وزادت محبته للنار اذ تأتى له بها من وجود الاغتذاء الطيّب شيء لم يتأت له قبل ذلك. فلما اشتد شغفه بها لما رأى من حسن آثارها وقوة اقتدارها، وقع في نفسه ان الشيء الذي ارتحل من قلب امه الظبية، التي انشأته، كان من جوهر هذا الموجود، او من شيء يجانسه. واكد ذلك في ظنه ما كان يراه من حرارة الحيوان طول مدة حياته، وبرودته من بعد موته. وكل هذا دائم لا يختل، وما كان يجده في نفسه. من شدة الحرارة عند صدره بازاء الموضع الذي كان قد شق عليه من الظبية، فوقع في نفسه انه لو اخذ حيوانا حيا وشق قلبه ونظر الى ذلك التجويف الذي صادفه خاليا عند ما شق عليه في امه الظبية، لرآه في هذا الحيوان الحي وهو مملوء بذلك الشيء الساكن فيه، وتحقق هل هو من جوهر النار؟ وهل فيه شيء من الضوء والحرارة ام لا؟
القيام بتجربة للتأكد من ذلك
فعمد الى بعض الوحوش، واستوثق منه كتافا، وشقه على الصفة التي شق بها الظبية، حتى وصل الى القلب. فقصد اولا الى الجهة اليسرى منه، وشقها. فرأى ذلك الفراغ مملوءا بهواء بخاري يشبه الضباب الابيض. فأدخل اصبعه فيه، فوجده من الحرارة في حد كاد يحرقه. ومات ذلك الحيوان على الفور.
اول استنتاج عن طبيعة الحياة
فصحّ عنده ان ذلك البخار الحار هو الذي كان يحرك هذا الحيوان، وان في كل شخص من اشخاص الحيوانات مثل ذلك، ومتى انفصل عن الحيوان مات.
الرغبة في معرفة اعضاء الحيوان
ثم تحركت في نفسه الشهوة للبحث عن سائر اعضاء الحيوان وترتيبها واوضاعها
وكمياتها وكيفية ارتباط بعضها ببعض وكيف تستمد من هذا البخار الحار حتى تستمر لها الحياة به، وكيف بقاء هذا البخار المدة التي يبقى، ومن اين يستمد، وكيف لا تنفد حرارته؟(1/42)
ثم تحركت في نفسه الشهوة للبحث عن سائر اعضاء الحيوان وترتيبها واوضاعها
وكمياتها وكيفية ارتباط بعضها ببعض وكيف تستمد من هذا البخار الحار حتى تستمر لها الحياة به، وكيف بقاء هذا البخار المدة التي يبقى، ومن اين يستمد، وكيف لا تنفد حرارته؟
تشريح الجسم لمعرفة ذلك.
الروح توحّد بين مختلف الاعضاء وذلك من البراهين التي ذكرها ابن سينا على ان النفس توحد بين مختلف اعضاء البدن.
فتتبع ذلك كله بتشريح الحيوانات الاحياء والاموات. ولم يزل ينعم النظر فيها، ويجيد الفكرة، حتى بلغ في ذلك كله مبلغ كبار الطبيعيين. فتبين له ان كل شخص من اشخاص الحيوان، وان كان كثيرا باعضائه وتفنن حواسه وحركاته، فانه واحد بذلك الروح الذي مبدؤه من قرار واحد، وانقسامه في سائر الاعضاء منبعث منه.
مختلف الاعضاء في خدمة الروح. هذه الاعضاء آلات متنوعة تخدم الروح
وان جميع الاعضاء انما هي خادمة له، او مؤدية عنه، وان منزلة ذلك الروح في تصريف الجسد كمنزلة من يحارب الاعداء بالسلاح التام، ويصيد جميع صيد البحر والبر، فيعد لكل جنس آلة يصيده بها، والتي حارب بها تنقسم الى ما يدفع به نكاية غيره، والى ما ينكس بها غيره.
وايضا مختلف الحواس في خدمة الروح كل حس يقوم بعمل خاص به
وكذلك آلات الصيد، تنقسم الى ما يصلح لحيوان البحر، والى ما يصلح لحيوان البر. وكذلك الأشياء التي يشرح بها، تنقسم الى ما يصلح للشق والى ما يصلح للكسر والى ما يصلح للثقب. والبدن واحد، وهو يصرف ذلك انحاء من التصريف بحسب ما تصلح له كل آلة، وبحسب الغايات التي تلتمس بذلك التصريف. كذلك، ذلك الروح الحيواني واحد، واذا عمل بآلة العين كان فعله ابصارا، واذا عمل بآلة الانف كان فعله شما، واذا عمل بآلة اللسان كان فعله ذوقا، واذا عمل بالجلد واللحم كان فعله لمسا، واذا عمل بالعضو كان فعله حركة، واذا عمل بالكبد كان فعله غذاء واغتذاء(1/43)
وكذلك آلات الصيد، تنقسم الى ما يصلح لحيوان البحر، والى ما يصلح لحيوان البر. وكذلك الأشياء التي يشرح بها، تنقسم الى ما يصلح للشق والى ما يصلح للكسر والى ما يصلح للثقب. والبدن واحد، وهو يصرف ذلك انحاء من التصريف بحسب ما تصلح له كل آلة، وبحسب الغايات التي تلتمس بذلك التصريف. كذلك، ذلك الروح الحيواني واحد، واذا عمل بآلة العين كان فعله ابصارا، واذا عمل بآلة الانف كان فعله شما، واذا عمل بآلة اللسان كان فعله ذوقا، واذا عمل بالجلد واللحم كان فعله لمسا، واذا عمل بالعضو كان فعله حركة، واذا عمل بالكبد كان فعله غذاء واغتذاء
والروح الحيواني منبث في مختلف اجزاء الجسم
واذا فارق عضوا اصبح هذا العضو عاطلا واذا فارق كل الجسم اصبح الجسم كله عاطلا.
ولكل واحد من هذه اعضاء تخدمه، ولا يتم لشيء من هذه فعل الا بما يصل اليها من ذلك الروح على الطرق التي تسمى عصبا. ومتى انقطعت تلك الطرق او انسدت تعطل فعل ذلك العضو. وهذه الاعصاب انما تستمد الروح من بطون الدماغ، والدماغ يستمد الروح من القلب. والدماغ فيه ارواح كثيرة، لانه موضع تتوزع فيه اقسام كثيرة. فاي عضو عدم هذا الروح بسبب من الاسباب تعطل فعله، وصار بمنزلة الآلة المطرحة، التي لا يصرفها الفاعل ولا ينتفع بها. فان خرج هذا الروح بجملته عن الجسد او فني، او تحلل بوجه من الوجوه، تعطل الجسد كله، وصار الى حالة الموت.
فانتهى به هذا النحو من النظر الى هذا الحد من النظر على رأس ثلاثة اسابيع من منشئه. وذلك احد وعشرون عاما.
حي يرتدي جلود الحيوانات ويوصلها بعضها ببعض بالخيوط.
وفي خلال هذه المدة المذكورة تفنن في وجود حيلة، واكتسى بجلود الحيوانات التي كان يشرحها، واحتذى بها، واتخذ الخيوط من الاشعار ولحا قصب الختمية، والخبّازى، والقنّب، وكل نبات ذي خيط.
حي يهتدي الى البناء.
وكان اصل اهتدائه الى ذلك انه اخذ من الخلفاء وعمل خطاطيف من الشوك القوي والقصب المحدد على الحجارة، واهتدى الى البناء بما رأى من فعل الخطاطيف.
فاتخذ مخزنا وبيتا لفضلة غذائه، وحصن عليه بباب من القصب المربوط بعضه الى بعض، لئلا يصل شيء من الحيوانات عند مغيبه عن تلك الجهة في بعض شؤونه.(1/44)
فاتخذ مخزنا وبيتا لفضلة غذائه، وحصن عليه بباب من القصب المربوط بعضه الى بعض، لئلا يصل شيء من الحيوانات عند مغيبه عن تلك الجهة في بعض شؤونه.
يستألف بعض الطيور والحيوانات.
واستألف جوارح الطير ليستعين بها في الصيد، واتخذ الدواجن لينتفع ببيضها وفراخها. واتخذ من صياصي البقر الوحشية شبه الأسنة وركبها في القصب القوي وفي عصي الزان وغيرها. واستعان في ذلك بالنار وبحروف الحجارة حتى صارت شبه الرماح.
واتخذ ترسه من جلود مضاعفة. كل ذلك لما رأى من عدمه السلاح الطبيعي.
ويستخدمها في مطاردة الحيوانات الاخرى.
ولما رأى ان يده تفي له بكل ما فاته من ذلك وكان لا يقاومه شيء من الحيوانات على اختلاف انواعها، الا انها كانت تفرّ عنه، فتعجزه هربا، فكر في وجه الحيلة في ذلك، فلم ير شيئا انجح له من ان يتألف بعض الحيوانات الشديدة العدو، ويحسن اليها باعداد الغذاء الذي يصلح لها حتى يتأتى له الركوب عليها، ومطاردة سائر الاصناف بها. وكان بتلك الجزيرة خيل برية، وحمر وحشية. فاتخذ منها ما يصلح له، وراضها حتى كمل له بها غرضه، وعمل عليها من الشرك والجلود امثال الشكائم والسروج. فتأتى له بذلك ما امّله من طرد الحيوانات التي صعبت عليه الحيلة في اخذها. وانما تفنن في هذه الامور كلها في وقت اشتغاله بالتشريح وشهوته في وقوفه على خصائص اعضاء الحيوان، وبماذا تختلف، وذلك في المدة التي حددنا منتهاها بأحد وعشرين عاما.
الجزء الثالث: حي يرتقي من المعرفة عن طريق الحواس والتجربة الى معرفة عقلية قائمة على الاستنتاج من التجربة في عالم الكون والفساد
طبيعة المادة: الهيولى والصورة.
ثم انه بعد ذلك اخذ في مآخذ أخر، فتصفح جميع الاجسام التي في عالم الكون والفساد (1): من الحيوانات على اختلاف انواعها، والنبات، والمعادن، واصناف الحجارة، والتراب، والماء، والبخار، والثلج، والبرد، والدخان، والجليد، واللهيب، والحر. فرأى لها اوصافا كثيرة، وافعالا مختلفة، وحركات متفقة ومتضادة.
__________
(1) الكون: تحول الشيء من حال ادنى الى حال اسمى (تحول البذرة الى شجرة، مثلا) الفساد تحول الشيء من حال اسمى الى حال ادنى (تحول الشجرة الى رماد، مثلا).(1/45)
الأشياء تختلف بصفات وتشترك بصفات.
وانعم النظر في ذلك، وتثبت. فرأى انها تتفق ببعض الصفات، وتختلف ببعض، وانها من الجهة التي تتفق بها واحدة، ومن الجهة التي تختلف فيها متغايرة ومتكثرة. فكان تارة ينظر خصائص الأشياء وما ينفرد به بعضها عن بعض، فتكثر عنده كثرة تخرج عن الحصر، وينتشر له الوجود انتشارا لا يضبط.
لا حظ حي ايضا ان ذاته مع كثرة الاعضاء ووظائفها هي واحدة: الروح الحيواني واحد ولكن فعله يختلف باختلاف الاعضاء.
وكانت تتكثر عنده ايضا ذاته، لانه كان ينظر الى اختلاف اعضائه، وان كل واحد منها منفرد بفعل وصفة تخصه. وكان ينظر الى كل عضو منها، فيرى انه يحتمل القسمة الى اجزاء كثيرة جدا، فيحكم على ذاته بالكثرة، وكذلك على ذات كل شيء. ثم كان يرجع الى نظر آخر من طريق ثان، فيرى ان اعضاءه، وان كانت كثيرة، فهي متصلة كلها بعضها ببعض، لا انفصال بينها بوجه، فهي في حكم الواحد، وانها لا تختلف الا بحسب اختلاف افعالها، وان ذلك الاختلاف انما هو بسبب ما يصل اليها من قوة الروح الحيواني، الذي انتهى اليه نظره اولا، وان ذلك الروح واحد في ذاته، وهو ايضا حقيقة الذات، وسائر الاعضاء كلها كالآلات.
فكانت تتحد عنده ذاته بهذا الطريق.
في النوع الواحد توجد اشخاص عديدة.
ثم كان ينتقل الى جميع انواع الحيوان، فيرى كل شخص منها واحدا بهذا النوع من النظر. ثم كان ينظر الى نوع منها كالظباء، والخيل، والحمر، واصناف الطير صنفا صنفا،، فكان يرى اشخاص كل نوع يشبه بعضه بعضا في الاعضاء الظاهرة والباطنة، والادراكات، والحركات، والمنازع. ولا يرى بينها اختلافا الا في اشياء يسيرة بالاضافة الى ما اتفقت فيه.
الروح واحد، والاختلاف ناتج من الاجسام، فاذا ارتفعت الاجسام اتحدت جميع الارواح واصبحت روحا واحدا.
وكان يحكم بان الروح الذي لجميع ذلك النوع شيء واحد، وانه لم يختلف
الا انه انقسم على قلوب كثيرة، وانه لو امكن ان يجمع جميع الذي افترق في تلك القلوب منه ويجعل في وعاء واحد، لكان كله شيئا واحدا، بمنزلة ماء واحد أو شراب واحد، يفرق على اوان كثيرة، ثم يجمع بعد ذلك. فهو في حالتي تفريقه وجمعه شيء واحد، وانما عرض له التكثر بوجه ما. فكان يرى النوع كله بهذا النظر واحدا، ويجعل كثرة اشخاصه بمنزلة كثرة اعضاء الشخص الواحد التي لم تكن كثيرة في الحقيقة.(1/46)
وكان يحكم بان الروح الذي لجميع ذلك النوع شيء واحد، وانه لم يختلف
الا انه انقسم على قلوب كثيرة، وانه لو امكن ان يجمع جميع الذي افترق في تلك القلوب منه ويجعل في وعاء واحد، لكان كله شيئا واحدا، بمنزلة ماء واحد أو شراب واحد، يفرق على اوان كثيرة، ثم يجمع بعد ذلك. فهو في حالتي تفريقه وجمعه شيء واحد، وانما عرض له التكثر بوجه ما. فكان يرى النوع كله بهذا النظر واحدا، ويجعل كثرة اشخاصه بمنزلة كثرة اعضاء الشخص الواحد التي لم تكن كثيرة في الحقيقة.
الحيوان: جميع انواع الحيوان تشترك في انها تحس وتغتذي وتتحرك وهذه هي خصائص الروح الحيواني.
ثم كان يحضر انواع الحيوان كلها في نفسه، ويتأملها، فيراها تتفق في انها تحس وتتغذى، وتتحرك بالارادة الى اي جهة شاءت. وكان قد علم ان هذه الافعال هي اخص افعال الروح الحيواني، وان سائر الأشياء التي تختلف بها بعد هذا الاتفاق، ليست شديدة الاختصاص بالروح الحيواني. فظهر له بهذا التأمل، ان الروح الحيواني الذي لجميع جنس الحيوان واحد بالحقيقة، وان كان فيه اختلاف يسير، اختص به نوع دون نوع، بمنزلة ماء واحد مقسوم على اوان كثيرة، بعضه ابرد من بعض، وهو في اصله واحد. وكل ما كان في طبقة واحدة من البرودة، فهو بمنزلة اختصاص ذلك الروح الحيواني بنوع واحد. وبعد ذلك، فكما ان ذلك الماء كله واحد، فكذلك الروح الحيواني واحد، وان عرض له التكثر بوجه ما. فكان يرى جنس الحيوان كله واحدا بهذا النوع من النظر.
النبات: جميع انواع النبات مشتركة ببعض الافعال.
ثم كان يرجع الى انواع النبات على اختلافها، فيرى كل نوع منها تشبه اشخاصه بعضها بعضا في الاغصان، والورق، والزهر، والثمر، والافعال. فكان يقيسها بالحيوان، ويعلم ان لها شيئا واحدا اشتركت فيه، هو لها بمنزلة الروح للحيوان، وانها بذلك الشيء واحد. وكذلك كان ينظر الى جنس النبات كله، فيحكم باتحاده بحسب ما يراه من اتفاق فعله في انه يتغذى وينمو.(1/47)
ثم كان يرجع الى انواع النبات على اختلافها، فيرى كل نوع منها تشبه اشخاصه بعضها بعضا في الاغصان، والورق، والزهر، والثمر، والافعال. فكان يقيسها بالحيوان، ويعلم ان لها شيئا واحدا اشتركت فيه، هو لها بمنزلة الروح للحيوان، وانها بذلك الشيء واحد. وكذلك كان ينظر الى جنس النبات كله، فيحكم باتحاده بحسب ما يراه من اتفاق فعله في انه يتغذى وينمو.
النبات والحيوان: فيما يتشابهان، وفيما يختلفان:
هما متفقان في الاغتذاء والنمو. الحيوان يزيد على النبات بالحس والحركة والادراك، هناك شيء من ذلك في النبات: تحول الزهرة الى جهة الشمس
ثم كان يجمع في نفسه جنس الحيوان وجنس النبات، فيراهما جميعا متفقين في الاغتذاء والنمو. الا ان الحيوان يزيد على النبات بفضل الحس والادراك والتحرك.
وربما ظهر في النبات شيء شبيه به، مثل تحول وجوه الزهر الى جهة الشمس، وتحرك عروقه الى جهة الغذاء، واشباه ذلك. فظهر له بهذا التأمل ان النبات والحيوان شيء واحد، بسبب شيء واحد مشترك بينهما، هو في احدهما اتم واكمل، وفي الآخر قد عاقه عائق. وان ذلك بمنزلة ماء واحد قسم قسمين: احدهما جامد والآخر سيال.
فيتحد عنده النبات والحيوان
الجماد: لاحظ التحول في الجماد: الماء مثلا يصير بخارا او جليدا. يمر الجماد بحالات عديدة وهو شيء واحد.
ثم ينظر الى الاجسام التي لا تحس ولا تتغذى ولا تنمو، من الحجارة، والتراب، والماء، والهواء، واللهب فيرى انها اجسام مقدر لها طول وعرض وعمق، وانها لا تختلف، الا ان بعضها ذو لون، وبعضها لا لون له، وبعضها حار، وبعضها بارد، ونحو ذلك من الاختلافات. وكان يرى ان الحار منها يصير باردا، والبارد يصير حارا.
وكان يرى الماء يصير بخارا، والبخار يصير ماء والأشياء المحترقة تصير جمرا ورمادا ولهيبا ودخانا والدخان اذا وافق في صعوده قبة حجر انعقد فيه، وصار بمنزلة سائر الأشياء الارضية. فيظهر له بهذا التأمل، ان جميعها شيء واحد في الحقيقة، وان لحقتها الكثرة بوجه عام. فذلك مثل ما لحقت الكثرة للحيوان والنبات.
الأشياء المختلطة. الوجود كله واحد، ولكن يبدو كثرة لحي.
ثم ينظر الى الشيء الذي اتحد به عنده النبات والحيوان، فيرى انه جسم ما مثل هذه الاجسام، له طول وعرض وعمق، وهو اما حار واما بارد، كواحد من هذه الاجسام التي تحس ولا تتغذى، وانما خالفها بافعاله التي تظهر عنه بالآلات الحيوانية والنباتية لا غير. ولعل تلك الافعال ليست ذاتية، وانما تسري اليه من شيء آخر،
ولو سرت الى هذه الاجسام الأخر لكانت مثله. فكان ينظر اليه بذاته مجردا عن هذه الافعال التي تظهر ببادئ الرأي انها صادرة عنه، فكان يرى انه ليس الا جسما من هذه الاجسام. فيظهر له بهذا التأمل ان الاجسام كلها شيء واحد: حيها وجمادها متحركها وساكنها. الا انه يظهر ان لبعضها افعالا بآلات، ولا يدري هل تلك الافعال ذاتية لها، او سارية اليها من غيرها. وكان في هذه الحال لا يرى شيئا غير الاجسام.(1/48)
ثم ينظر الى الشيء الذي اتحد به عنده النبات والحيوان، فيرى انه جسم ما مثل هذه الاجسام، له طول وعرض وعمق، وهو اما حار واما بارد، كواحد من هذه الاجسام التي تحس ولا تتغذى، وانما خالفها بافعاله التي تظهر عنه بالآلات الحيوانية والنباتية لا غير. ولعل تلك الافعال ليست ذاتية، وانما تسري اليه من شيء آخر،
ولو سرت الى هذه الاجسام الأخر لكانت مثله. فكان ينظر اليه بذاته مجردا عن هذه الافعال التي تظهر ببادئ الرأي انها صادرة عنه، فكان يرى انه ليس الا جسما من هذه الاجسام. فيظهر له بهذا التأمل ان الاجسام كلها شيء واحد: حيها وجمادها متحركها وساكنها. الا انه يظهر ان لبعضها افعالا بآلات، ولا يدري هل تلك الافعال ذاتية لها، او سارية اليها من غيرها. وكان في هذه الحال لا يرى شيئا غير الاجسام.
فكان بهذا الطريق يرى الوجود كله شيئا واحدا. وبالنظر الأول يرى الوجود كثرة لا تنحصر ولا تتناهى. وبقي بحكم هذه الحالة مدة.
الاجسام كلها: منها ما يتحرك الى جهة العلو، ومنها ما يتحرك الى جهة السفل. وحركة الجسم لا تقف الا اذا اعترضها عائق.
ثم انه تأمل جميع الاجسام، حيها وجمادها، وهي التي عنده تارة شيء واحد، وتارة كثيرة كثرة لا نهاية لها. فرأى ان كل واحد منها لا يخلو من احد امرين: اما ان يتحرك الى جهة العلو، مثل الدخان واللهب والهواء، اذا حصل تحت الماء، واما ان يتحرك الى الجهة المضادة لتلك، وهي جهة السفل، مثل الماء واجزاء الارض، واجزاء الحيوان، والنبات، وان كل جسم من هذه الاجسام لن يعرى عن احدى هاتين الحركتين، وانه لا يسكن الا اذا منعه مانع يعوقه عن طريقه، مثل الحجر النازل يصادف وجه الارض صلبا، فلا يمكنه ان يخرقه، ولو امكنه ذلك لما انثنى عن حركته فيما يظهر. ولذلك اذا رفعته وجدته يتحامل عليك بميله الى جهة السفل، طالبا للنزول.
وكذلك الدخان في صعوده، لا ينثني الا ان صادف قبة صلبة تحبسه، فحينئذ ينعطف يمينا وشمالا، ثم اذا تخلص من تلك القبة، خرق الهواء صاعدا، لان الهواء لا يمكنه ان يحبسه.
وكان يرى الهواء اذا ملئ به زق جلد، وربط، ثم غوّص تحت الماء، طلب الصعود، وتحامل على من يمسكه تحت الماء، ولا يزال يفعل ذلك حتى يوافي موضع الهواء، وذلك بخروجه من تحت الماء، فحينئذ يسكن ويزول عنه ذلك التحامل والميل الى جهة العلو الذي كان يوجد منه قبل ذلك.
لا يوجد جسم خال من الثقل او الخفة.
ونظر، هل يجد جسما يعرى عن احدى هاتين الحركتين او الميل الى احداهما
في وقت ما؟ فلم يجد ذلك في الاجسام التي لديه، وانما طلب ذلك لانه طمع ان يجده، فيرى طبيعة الجسم من حيث هو جسم، دون ان يقترن به وصف من الاوصاف التي هي منشأ التكثر.(1/49)
ونظر، هل يجد جسما يعرى عن احدى هاتين الحركتين او الميل الى احداهما
في وقت ما؟ فلم يجد ذلك في الاجسام التي لديه، وانما طلب ذلك لانه طمع ان يجده، فيرى طبيعة الجسم من حيث هو جسم، دون ان يقترن به وصف من الاوصاف التي هي منشأ التكثر.
الثقل والخفة ليسا بجسم هما لمعنى زائد على الجسمية:
لو كانا جسما لوجدا معا له ولكن شاهد ان الثقيل لا توجد فيه الخفة والخفيف لا يوجد فيه الثقل.
فلما اعياه ذلك، ونظر الى الاجسام التي هي اقل الاجسام حملا للاوصاف، فلم يرها تعرى عن احد هذين الوصفين بوجه: وهما اللذان يعبر عنهما بالثقل والخفة.
فنظر الى الثقل والخفة، هل هما للجسم من حيث هو جسم؟ او هما لمعنى زائد على الجسمية؟ فظهر له انهما لمعنى زائد على الجسمية لانهما لو كانا للجسم من حيث هو جسم، لما وجد جسم الا وهما له. ونحن نجد الثقيل لا توجد فيه الخفة والخفيف لا يوجد فيه الثقل، وهما لا محالة جسمان، ولكل واحد منهما معنى منفرد به عن الآخر، زائد على جسميته، وذلك المعنى هو الذي به غاير كل واحد منهما الآخر.
ولولا ذلك لكانا شيئا واحدا من جميع الوجوه.
الاجسام مشتركة بالجسمية واختلافها بالثقل او الخفة.
فتبين له ان حقيقة كل واحد من الثقيل والخفيف مركبة من معنيين: احدهما ما يقع فيه الاشتراك منهما جميعا، وهو معنى الجسمية، والآخر ما تنفرد به حقيقة كل واحد منهما عن الآخر، وهما اما الثقل في احدهما واما الخفة في الآخر، المقترنان بمعنى الجسمية، اي المعنى الذي يحرك احدهما علوّا والآخر سفلا.
جميع الاجسام الجامدة والحية مركبة من الجسمية وشيء آخر زائد على الجسمية هذا الشيء الزائد هو الصورة وهي طبيعة الشيء
وبها يتميز كل جسم عن باقي الاجسام. وذلك ترديد لنظرية ارسطو في الهيولى والصورة وكذلك نظر الى سائر الاجسام من الجمادات والاحياء، فرأى ان حقيقة وجود كل
واحد منهما مركبة من معنى الجسمية ومن شيء آخر زائد على الجسمية، اما واحد، واما اكثر من واحد. فلاحت له صور الاجسام على اختلافها، وهو اول ما لاح له من العالم الروحاني، اذ هي صور لا تدرك بالحس، وانما تدرك بضرب (ما) من النظر العقلي. ولاح له في جملة ما لاح من ذلك ان الروح الحيواني الذي مسكنه القلب وهو الذي تقدم شرحه اولا لا بد له ايضا من معنى زائد على جسميته يصلح بذلك المعنى لان يعمل هذه الاعمال الغريبة، التي تختص به من ضروب الاحساسات، وفنون الادراكات، واصناف الحركات. وذلك المعنى هو صورته وفصله الذي انفصل به عن سائر الاجسام وهو الذي يعبر عنه النظّار بالنفس الحيوانية.(1/50)
وبها يتميز كل جسم عن باقي الاجسام. وذلك ترديد لنظرية ارسطو في الهيولى والصورة وكذلك نظر الى سائر الاجسام من الجمادات والاحياء، فرأى ان حقيقة وجود كل
واحد منهما مركبة من معنى الجسمية ومن شيء آخر زائد على الجسمية، اما واحد، واما اكثر من واحد. فلاحت له صور الاجسام على اختلافها، وهو اول ما لاح له من العالم الروحاني، اذ هي صور لا تدرك بالحس، وانما تدرك بضرب (ما) من النظر العقلي. ولاح له في جملة ما لاح من ذلك ان الروح الحيواني الذي مسكنه القلب وهو الذي تقدم شرحه اولا لا بد له ايضا من معنى زائد على جسميته يصلح بذلك المعنى لان يعمل هذه الاعمال الغريبة، التي تختص به من ضروب الاحساسات، وفنون الادراكات، واصناف الحركات. وذلك المعنى هو صورته وفصله الذي انفصل به عن سائر الاجسام وهو الذي يعبر عنه النظّار بالنفس الحيوانية.
وكذلك ايضا للشيء الذي يقوم للنبات مقام الحار الغريزي للحيوان، شيء يخصه، هو فصله، وهو الذي يعبر عنه النظّار بالنفس النباتية. وكذلك لجميع اجسام الجمادات، وهي ما عدا الحيوان والنبات معا، في عالم الكون والفساد شيء يخصها به، يفعل كل واحد منها فعله الذي يختص به، مثل صنوف الحركات وضروب الكيفيات المحسوسة عنها. وذلك الشيء هو فصل كل واحد منها، وهو الذي يعبر النظّار عنه بالطبيعة.
الروح الحيواني سار في مختلف الاجسام. بدأ حي يهتم بهذا الروح الحيواني ويزدري الجسم.
فلما وقف بهذا النظر على ان حقيقة الروح الحيواني، الذي كان تشوقه اليه ابدا، مركبة من معنى الجسمية، ومن معنى آخر زائد على الجسمية، وان معنى هذه الجسمية مشترك ولسائر الاجسام، والمعنى الآخر المقترن به ينفرد به هو وحده، هان عنده معنى الجسمية، فاطرحه، وتعلق فكره بالمعنى الثاني، وهو الذي يعبر عنه بالنفس. فتشوق الى التحقق به. فالتزم الفكرة فيه، وجعل مبدأ النظر في ذلك تصفح الاجسام كلها، لا من جهة ما هي اجسام، بل من جهة ما هي ذوات صور تلزم عنها خواص ينفصل بها بعضها عن بعض.
فتتبع ذلك، وحصره في نفسه فرأى جملة من الاجسام تشترك في صورة ما يصدر عنها فعل ما، او افعال ما. ورأى فريقا من تلك الجملة، مع انه يشارك الجملة بتلك الصورة، يزيد عليها بصورة اخرى، يصدر عنها افعال ما. ورأى طائفة من ذلك الفريق في الصورة الاولى والثانية تزيد عليه بصورة ثالثة تصدر عنها افعال ما خاصة
بها مثال ذلك ان الاجسام الارضية كلها: مثل التراب، والحجارة، والمعادن، والنبات والحيوان، وسائر الاجسام الثقيلة، هي جملة واحدة تشترك في صورة واحدة، تصدر عنها الحركة الى اسفل، ما لم يعقها عائق عن النزول. ومتى حركت الى جهة العلو بالقسر، ثم تركت، تحركت بصورتها الى اسفل. وفريق من هذه الجملة، وهو النبات والحيوان، مع مشاركته الجملة المتقدمة في تلك الصورة، يزيد عليها صورة اخرى، يصدر عنها التغذي والنمو.(1/51)
فتتبع ذلك، وحصره في نفسه فرأى جملة من الاجسام تشترك في صورة ما يصدر عنها فعل ما، او افعال ما. ورأى فريقا من تلك الجملة، مع انه يشارك الجملة بتلك الصورة، يزيد عليها بصورة اخرى، يصدر عنها افعال ما. ورأى طائفة من ذلك الفريق في الصورة الاولى والثانية تزيد عليه بصورة ثالثة تصدر عنها افعال ما خاصة
بها مثال ذلك ان الاجسام الارضية كلها: مثل التراب، والحجارة، والمعادن، والنبات والحيوان، وسائر الاجسام الثقيلة، هي جملة واحدة تشترك في صورة واحدة، تصدر عنها الحركة الى اسفل، ما لم يعقها عائق عن النزول. ومتى حركت الى جهة العلو بالقسر، ثم تركت، تحركت بصورتها الى اسفل. وفريق من هذه الجملة، وهو النبات والحيوان، مع مشاركته الجملة المتقدمة في تلك الصورة، يزيد عليها صورة اخرى، يصدر عنها التغذي والنمو.
وظيفة النفس النباتية: معنى التغذي: الاستعاضة عما تحلل من الجسم.
والتغذي، هو ان يخلف المغتذي بدل ما تحلل بالفعل منه بواسطة القوة الغاذية التي تحيل ما حصل له كمال الاستعداد بسبب القوة الهاضمة من الغذاء بالقوة الواصلة بواسطة الجاذبة، الى مشاكلة جوهر المغتذي، حفظا لشخصه، وتكميلا لمقداره.
معنى النمو: الزيادة في اقطار الجسم حسب التناسب الطبيعي.
والنمو، هو الزيادة بواسطة القوة النامية، وهي التي تزيد في اقطار الجسم، اعني الطول والعرض والعمق، على التناسب الطبيعي، بما تدخل في اجزائه من الغذاء فهذان الفعلان عامان للنبات والحيوان، وهما لا محالة صادران عن صورة مشتركة لهما، وهي المعبر عنها بالنفس النباتية.
وطائفة من هذا الفريق، وهو الحيوان خاصة، مع مشاركته الفريق المتقدم في الصورة الاولى والثانية، تزيد عليه بصورة ثالثة، يصدر عنها الحس، والتنقل من حيز الى آخر.
الاجسام البسيطة (العناصر الأربعة) معرفتها عن الاجسام المركبة.
ورأى ايضا كل نوع من انواع الحيوان له خاصية ينحاز بها عن سائر الانواع، وينفصل بها، متميزا عنها. فعلم ان ذلك صادر له عن صورة تخصه، هي زائدة
عن معنى الصورة المشتركة له ولسائر الحيوان، وكذلك لكل واحد من انواع النبات مثل ذلك. فتبين له ان الاجسام المحسوسات التي في عالم الكون والفساد، بعضها تلتئم حقيقته عن معان كثيرة زائدة على معنى الجسمية، وبعضها من معان اقل.(1/52)
ورأى ايضا كل نوع من انواع الحيوان له خاصية ينحاز بها عن سائر الانواع، وينفصل بها، متميزا عنها. فعلم ان ذلك صادر له عن صورة تخصه، هي زائدة
عن معنى الصورة المشتركة له ولسائر الحيوان، وكذلك لكل واحد من انواع النبات مثل ذلك. فتبين له ان الاجسام المحسوسات التي في عالم الكون والفساد، بعضها تلتئم حقيقته عن معان كثيرة زائدة على معنى الجسمية، وبعضها من معان اقل.
وعلم ان معرفة الاقل اسهل من معرفة الأكثر. فطلب اولا الوقوف على حقيقة صورة الشيء الذي تلتئم حقيقته من اقل الأشياء. ورأى ان الحيوان والنبات لا تلتئم حقائقهما الا من معان كثيرة، لتفنن افعالهما، فاخر التفكير في صورهما. وكذلك رأى ان اجزاء الارض، بعضها ابسط من بعض، فقصد منها الى ابسط ما قدر عليه. وكذلك رأى ان الماء شيء قليل التركيب، لقلة ما يصدر عن صورته من الافعال. وكذلك رأى النار والهواء.
وقد كان سبق الى ظنه اولا ان هذه الأربعة يستحيل بعضها الى بعض، وان لها شيئا واحدا تشترك فيه، وهو معنى الجسمية، وان ذلك الشيء ينبغي ان يكون خلوا من المعاني التي تميز بها كل واحد من هذه الأربعة عن الآخر فلا يمكن ان يتحرك الى فوق، ولا الى اسفل، ولا ان يكون حارا، ولا ان يكون رطبا، ولا يابسا، لان كل واحد من هذه الاوصاف لا يعم جميع الاجسام فليست اذن للجسم بما هو جسم. فاذا امكن وجود جسم لا صورة فيه زائدة على الجسمية، فليس تكون فيه صفة من هذه الصفات، ولا يمكن ان تكون فيه صفة الا وهي تعم سائر الاجسام المتصورة بضروب الصور.
الصفة المشتركة لجميع الاجسام: الامتداد يعم الاجسام.
فنظر، هل يجد وصفا واحدا يعم جميع الاجسام، حيها وجامدها؟ فلم يجد شيئا يعم الاجسام كلها الا معنى الامتداد الموجود في جميعها في الاقطار الثلاثة التي يعبر عنها بالطول والعرض والعمق. فعلم ان هذا المعنى هو للجسم من حيث هو جسم.
لكنه لم يتأت له بالحس وجود جسم بهذه الصفة وحدها حتى لا يكون فيه معنى زائد على الامتداد المذكور، ويكون بالجملة خلوا من سائر الصور.
الامتداد معنى آخر زائد على الجسمية. لا يوجد امتداد بدون جسم ولا جسم بدون امتداد.
ثم تفكر في هذا الامتداد الى الاقطار الثلاثة، هل هو معنى الجسم بعينه،
وليس ثم معنى آخر، او ليس الامر كذلك؟ فرأى ان وراء هذا الامتداد معنى آخر، هو الذي يوجد فيه هذا الامتداد وحده، لا يمكن ان يقوم بنفسه كما ان ذلك الشيء الممتد لا يمكن ان يقوم بنفسه دون امتداد.(1/53)
ثم تفكر في هذا الامتداد الى الاقطار الثلاثة، هل هو معنى الجسم بعينه،
وليس ثم معنى آخر، او ليس الامر كذلك؟ فرأى ان وراء هذا الامتداد معنى آخر، هو الذي يوجد فيه هذا الامتداد وحده، لا يمكن ان يقوم بنفسه كما ان ذلك الشيء الممتد لا يمكن ان يقوم بنفسه دون امتداد.
لا يمكن ان يتعرى الجسم عن الامتداد لذلك اعتقد حي ان الامتداد من حقيقة الجسم (قارن بين ذلك وقول ديكارت: الجسم امتداد)
واعتبر ذلك ببعض هذه الاجسام المحسوسة، ذوات الصور، الطين مثلا. فرأى انه اذا عمل منه شكل ما كالكرة مثلا، كان له طول وعرض وعمق على قدر ما.
ثم ان تلك الكرة بعينها، لو اخذت وردت الى شكل مكعب او بيضي، لتبدل ذلك الطول وذلك العرض وذلك العمق، وصارت على قدر آخر، غير الذي كانت عليه.
والطين واحد بعينه، لم يتبدل، غير انه لا بد له من طول وعرض وعمق، على اي قدر كان، ولا يمكن ان يعرى عنها غير انها لتعاقبها عليه تبين له انها معنى على حياله ولكونه لا يعرى بالجملة عنها تبين له انها من حقيقته.
لا يفهم الجسم الا مركبا من الجسمية والامتداد
ولكن الامتداد بمثابة الصورة بالنسبة الى الجسم: فالاشياء مكونة من مادة وصورة، والصورة هي طبيعة الجسم فهي ما يجعل من هذا الكائن كائنا معينا ومتميزا عن باقي الكائنات.
فلاح له بهذا الاعتبار ان الجسم، بما هو جسم مركب على الحقيقة من معنيين:
احدهما، يقوم منه مقام الطين للكرة، في هذا المثال والآخر، يقوم مقام طول الكرة وعرضها وعمقها، او المكعب، او اي شكل كان به وانه لا يفهم الجسم الا مركبا من هذين المعنيين وان احدهما لا يستغني عن الآخر. لكن الذي يمكن ان يتبدل ويتعاقب على اوجه كثيرة، وهو معنى الامتداد، يشبه الصورة التي لسائر الاجسام ذوات الصور، والذي يثبت على حال واحدة، وهو الذي ينزل منزلة الطين المتقدم، يشبه معنى الجسمية التي لسائر الاجسام ذوات الصور. وهذا الشيء الذي هو بمنزلة الطين، في هذا المثال، هو الذي يسميه النظّار المادة والهيولى، وهي عارية عن الصورة جملة.
فلما انتهى نظره الى هذا الحد، وفارق المحسوس بعض مفارقة، واشرق على تخوم العالم العقلي، استوحش وحنّ الى ما ألفه من عالم الحس. فتقهقر قليلا، وترك الجسم
على الاطلاق، اذ هذا الامر لا يدركه الحس، ولا يقدر على تناوله. واخذ ابسط الاجسام المحسوسة التي شاهدها، وهي تلك الأربعة التي كان قد وقف نظره عليها.(1/54)
فلما انتهى نظره الى هذا الحد، وفارق المحسوس بعض مفارقة، واشرق على تخوم العالم العقلي، استوحش وحنّ الى ما ألفه من عالم الحس. فتقهقر قليلا، وترك الجسم
على الاطلاق، اذ هذا الامر لا يدركه الحس، ولا يقدر على تناوله. واخذ ابسط الاجسام المحسوسة التي شاهدها، وهي تلك الأربعة التي كان قد وقف نظره عليها.
لكل حادث محدث. الماء من طبيعته يطلب النزول. اما اذا سخن فيتحول الى بخار يطلب الصعود.
فأول ما نظر الى الماء. فرأى انه اذا خلي وما تقتضيه صورته، ظهر منه برد محسوس، وطلب النزول الى اسفل. فاذا سخن اولا، اما بالنار، واما بحرارة الشمس، زال عنه البرد اولا، وبقي فيه طلب النزول. فاذا افرط عليه بالتسخين، زال عنه طلب النزول الى اسفل، وصار يطلب الصعود الى فوق، فزال عنه بالجملة الوصفان اللذان كانا ابدا يصدران عنه وعن صورته، ولم يعرف من صورته اكثر من صدور هذين الفعلين عنها. فلما زال هذان الفعلان اذن بطل حكم الصورة، فزالت الصورة المائية عن ذلك الجسم، عند ما ظهرت منه افعال من شأنها ان تصدر عن صورة اخرى. وحدثت له صورة اخرى، بعد ان لم تكن، وصدر عنه بها افعال لم يكن من شأنها ان تصدر عنه، وهو بصورته الاولى.
فعلم بالضرورة ان كل حادث لا بد له من محدث. فارتسم في نفسه بهذا الاعتبار فاعل للصورة، ارتساما على العموم، دون تفضيل.
الصورة استعداد في الجسم والصورة تتأثر بمؤثر متميز عنها. فاذن هي حادته، ولها فاعل او علة اولى.
ثم انه تتبع الصور التي كان قد علمها قبل ذلك، صورة صورة، فرأى انها كلها حادثة، وانها لا بد لها من فاعل. ثم انه نظر الى ذوات الصور، فلم ير انها شيء اكثر من استعداد الجسم لان يصدر عنه ذلك الفعل، مثل الماء، فانه اذا افرط عليه التسخين، استعد للحركة الى فوق وصلح لها. فذلك الاستعداد هو صورته اذ ليس هاهنا الا جسم، واشياء تحس عنه، بعد ان لم تكن، مثل الكيفيات، والحركات وفاعل يحدثها بعد ان لم تكن. فصلوح الجسم لبعض الحركات دون بعض، هو استعداده بصورته. ولاح له مثل ذلك في جميع الصور. فتبين له ان الافعال الصادرة عنها ليست في الحقيقة لها، وانما هي لفاعل يفعل بها الافعال المنسوبة
اليها. وهذا المعنى الذي لاح له، هو قول رسول الله (صلعم): «كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به (1)»، وفي محكم التنزيل: «{فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ، وَلََكِنَّ اللََّهَ قَتَلَهُمْ، وَمََا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ، وَلََكِنَّ اللََّهَ رَمى ََ}» (2).(1/55)
ثم انه تتبع الصور التي كان قد علمها قبل ذلك، صورة صورة، فرأى انها كلها حادثة، وانها لا بد لها من فاعل. ثم انه نظر الى ذوات الصور، فلم ير انها شيء اكثر من استعداد الجسم لان يصدر عنه ذلك الفعل، مثل الماء، فانه اذا افرط عليه التسخين، استعد للحركة الى فوق وصلح لها. فذلك الاستعداد هو صورته اذ ليس هاهنا الا جسم، واشياء تحس عنه، بعد ان لم تكن، مثل الكيفيات، والحركات وفاعل يحدثها بعد ان لم تكن. فصلوح الجسم لبعض الحركات دون بعض، هو استعداده بصورته. ولاح له مثل ذلك في جميع الصور. فتبين له ان الافعال الصادرة عنها ليست في الحقيقة لها، وانما هي لفاعل يفعل بها الافعال المنسوبة
اليها. وهذا المعنى الذي لاح له، هو قول رسول الله (صلعم): «كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به (1)»، وفي محكم التنزيل: «{فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ، وَلََكِنَّ اللََّهَ قَتَلَهُمْ، وَمََا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ، وَلََكِنَّ اللََّهَ رَمى ََ}» (2).
اشتياقه الى العلة الاولى والسعي الى معرفتها.
فلما لاح له من امر هذا الفاعل ما لاح على الاجمال دون تفصيل، حدث له شوق حثيث الى معرفته على التفصيل، وهو بعد لم يكن فارق عالم الحس. فجعل يطلب هذا الفاعل المختار على جهة المحسوسات، وهو لا يعلم بعد هل هو واحد او كثير.
جميع الاجسام قابلة للكون والفساد.
فتصفح جميع الاجسام التي لديه، وهي التي كانت فكرته ابدا فيها، فرآها كلها تتكون تارة، وتفسد اخرى. وما لم يقف على فساد جملته، وقف على فساد اجزائه مثل الماء، والارض، فانه رأى اجزاءهما تفسد بالنار، وكذلك الهواء رآه يفسد بشدة البرد حتى يتكون منه ثلج، فيسيل ماء وكذلك سائر الاجسام التي كانت لديه، لم ير منها شيئا بريئا عن الحدوث والافتقار الى الفاعل المختار. فاطرحها كلها، وانتقلت فكرته الى الاجسام السماوية.
وانتهى الى هذا النظر على رأس اربعة اسابيع من منشئه، وذلك ثمانية وعشرون عاما.
الجزء الرابع: حي يرتقي من تفكيره في عالم الكون والفساد الى التأمل في السماء والعالم بأسره
السماء اجسام متناهية، كروية. يستحيل ان يكون جسم لا نهاية له.
فعلم ان السماء وما فيها من الكواكب، اجسام، لانها ممتدة في الاقطار الثلاثة:
__________
(1) قطعة من حديث قال فيه الحافظ بن رجب: «هذا الحديث تفرد باخراجه البخاري دون بقية اصحاب الكتب».
(2) قرآن كريم سورة الانفال الآية 17.(1/56)
الطول، والعرض، والعمق، لا ينفك شيء منها عن هذه الصفة، وكل ما لا ينفك عن هذه الصفة، فهو جسم. فهي اذن كلها اجسام. ثم تفكر هل هي ممتدة الى غير نهاية، وذاهبة ابدا الى الطول والعرض والعمق الى غير نهاية؟ او هي متناهية محدودة بحدود تنقطع عندها، ولا يمكن ان يكون وراءها شيء من الامتداد؟ فتحير في ذلك بعض حيرة. ثم انه بقوة نظره، وذكاء خاطره، رأى ان جسما لا نهاية له امر باطل، وشيء لا يمكن، ومعنى لا يعقل. وتقوى هذا الحكم عنده بحجج كثيرة، سنحت له بينه وبين نفسه، وذلك انه قال: اما هذا الجسم السماوي فهو متناه من الجهة التي تليني والناحية التي وقع عليها حسي، فهذا لا اشك فيه، لانني ادركه ببصري. واما الجهة التي تقابل هذه الجهة (1)، وهي التي يداخلني فيها الشك، فاني ايضا اعلم انه من المحال ان تمتد الى غير نهاية، لاني ان تخيلت ان خطين اثنين
__________
(1) انظر الرسم الموضح لهذه الحجة: لما كان الفلك محدودا من طرف، ولما كان الفلك جسما، وكل جسم محدود في الطول والعرض والعمق، استنتج حي ان جميع الافلاك محدودة ايضا من الطرف الآخر.
الافتراض:
اذا افترضنا الخطين وب لا متناهيين وهما يبدءان من جسم الكوكب المشاهد.
اذا قطع من الخط ب جزء وهو ب ج واطبق الباقي ح على الخط الأول.
اما ان يكون ج لا متناهيا مثل (الذي افترضناه لا متناهيا).
وفي هذه الحالة يكون الخط الذي قطع منه جزء (اي ب ج) والباقي ج لا متناهيا، مثل الخط الأول الذي لم يقطع منه شيء والذي افترضناه لا متناهيا.
وهذا يستحيل: اذ يكون الجزء مثل الكل.
واما ان لا يمتد ح (وهو الخط الناقص) الى ما لا نهاية، فيكون متناهيا.
وفي هذه الحالة اذا رد اليه الجزء الذي قطع منه، اعني ب ج وهو جزء متناه، فيكون الجملة ب ح ح متناهيا. وحينئذ يكون ايضا متناهيا اذ افترضناه مساويا الى ب.
ملاحظة: هذا البرهان الذي اتى به ابن طفيل قريب من البرهان الذي ذكره الكندي في «ايضاح تناهي جوهر العالم» (انظر رسائل الكندي الفلسفية ص 185وما يليها) نشرها ابو ربدة، القاهرة 1950.(1/57)
يبتدئان من هذه الجهة المتناهية، ويمران في سمك الجسم الى غير نهاية حسب امتداد الجسم، ثم تخيلت ان احد هذين الخطين قطع منه جزء كبير من ناحية طرفه المتناهي ثم اخذ ما بقي منه واطبق طرفه، الذي كان فيه موضع القطع، على طرف الخط الذي لم يقطع منه شيء، وذهب الذهن كذلك معهما الى الجهة التي يقال انها غير متناهية، فاما ان نجد الخطين ابدا يمتدان الى غير نهاية، ولا ينقص احدهما عن الآخر، فيكون الذي قطع منه جزء مساويا للذي لم يقطع منه شيء، وهو محال كما ان الكل مثل الجزء محال. واما ان لا يمتد الناقص معه ابدا، بل ينقطع دون مذهبه، ويقف عن الامتداد معه، فيكون متناهيا فاذا رد عليه القدر الذي قطع منه اولا، وقد كان متناهيا، صار كله ايضا متناهيا، وحينئذ لا يقصر عن الخط الآخر الذي لم يقطع منه شيء، ولا يفضل عليه، فيكون اذن مثله، وهو متناه فذلك ايضا متناه. فالجسم الذي تفرض فيه هذه الخطوط متناه، وكل جسم يمكن ان تفرض فيه هذه الخطوط. فكل جسم متناه. فاذا فرضنا ان جسما غير متناه، فقد فرضنا باطلا ومحالا.
يبحث عن شكل العالم
الفلك على شكل الكرة ودليله رجوع الكواكب الى المشرق بعد مغيبها.
وهي تبدو على حجم واحد لكل كوكب منذ شروقه الى غروبه.
فلما صحّ عنده بفطرته الفائقة التي تنبهت لمثل هذه الحجة، ان جسم السماء متناه، اراد ان يعرف على اي شكل هو، وكيفية انقطاعه بالسطوح التي تحده.
فنظر اولا الى الشمس والقمر وسائر الكواكب فرآها كلها تطلع من جهة المشرق، وتغرب من جهة المغرب. فما كان منها يمرّ على سمت رأسه رآه يقطع دائرة عظمى، وما مال عن سمت رأسه الى الشمال، او الى الجنوب رآه يقطع دائرة اصغر من تلك.
وما كان ابعد عن سمت الرأس الى احد الجانبين، كانت دائرته اصغر من دائرة ما هو اقرب، حتى كانت اصغر الدوائر التي تتحرك عليها الكواكب دائرتين اثنتين:
احداهما حول القطب الجنوبي، وهي مدار سهيل، والاخرى حول القطب الشمالي، وهي مدار الفرقدين. ولما كان مسكنه على خط الاستواء الذي وصفناه اولا، كانت هذه الدوائر كلها قائمة على سطح افقه ومتشابهة الاحوال في الجنوب والشمال، وكان القطبان معا ظاهرين له، وكان يترقب اذا طلع كوكب من الكواكب على دائرة كبيرة، وطلع كوكب آخر على دائرة صغيرة، وكان طلوعهما معا، فكان يرى غروبهما معا.
واطرد له ذلك في جميع الكواكب، وفي جميع الاوقات. فتبين له بذلك ان الفلك على شكل الكرة. وقويّ ذلك في اعتقاده ما رآه من رجوع الشمس والقمر وسائر الكواكب الى المشرق بعد مغيبها بالمغرب، وما رآه ايضا من انها تظهر لبصره على قدر واحد من العظم في حال طلوعها وتوسطها وغروبها وانها لو كانت حركتها على غير شكل الكرة، لكانت لا محالة في بعض الاوقات اقرب الى بصره منها في وقت آخر ولو كانت كذلك، لكانت مقاديرها واعظامها تختلف عند بصره، فيراها في حال القرب اعظم مما يراها في حال البعد، لاختلاف ابعادها عن مركزه حينئذ بخلافها على الأول، فلما لم يكن شيء من ذلك، تحقق عنده كروية الشكل) (1).(1/58)
احداهما حول القطب الجنوبي، وهي مدار سهيل، والاخرى حول القطب الشمالي، وهي مدار الفرقدين. ولما كان مسكنه على خط الاستواء الذي وصفناه اولا، كانت هذه الدوائر كلها قائمة على سطح افقه ومتشابهة الاحوال في الجنوب والشمال، وكان القطبان معا ظاهرين له، وكان يترقب اذا طلع كوكب من الكواكب على دائرة كبيرة، وطلع كوكب آخر على دائرة صغيرة، وكان طلوعهما معا، فكان يرى غروبهما معا.
واطرد له ذلك في جميع الكواكب، وفي جميع الاوقات. فتبين له بذلك ان الفلك على شكل الكرة. وقويّ ذلك في اعتقاده ما رآه من رجوع الشمس والقمر وسائر الكواكب الى المشرق بعد مغيبها بالمغرب، وما رآه ايضا من انها تظهر لبصره على قدر واحد من العظم في حال طلوعها وتوسطها وغروبها وانها لو كانت حركتها على غير شكل الكرة، لكانت لا محالة في بعض الاوقات اقرب الى بصره منها في وقت آخر ولو كانت كذلك، لكانت مقاديرها واعظامها تختلف عند بصره، فيراها في حال القرب اعظم مما يراها في حال البعد، لاختلاف ابعادها عن مركزه حينئذ بخلافها على الأول، فلما لم يكن شيء من ذلك، تحقق عنده كروية الشكل) (1).
الكواكب كلها ضمن فلك واحد هو اعلاها وهو يحرك الكل من المشرق الى المغرب:
اعتنق ابن طفيل المدرسه الفيضية التي قال بها ابن سينا، وحسب هذه الفلسفة العالم محاط بفلك يعرف بالفلك المحيط.
وما زال يتصفح حركة القمر، فيراها آخذة من المغرب الى المشرق، وحركات الكواكب السيارة كذلك، حتى تبين له قدر كبير من عالم الهيئة، وظهر له ان حركاتها لا تكون الا بافلاك كثيرة كلها مضمنة في فلك واحد، هو اعلاها، وهو الذي يحرك الكل، من المشرق الى المغرب، في اليوم والليلة وشرح كيفية انتقاله ومعرفة ذلك يطول وهو مثبت في الكتب، ولا يحتاج منه في غرضنا الا للقدر الذي اوردناه.
__________
(1) لا حظ حي ان الكوكب منذ شروقه حتى غروبه يبدو له على حجم واحد، فهو يرسم دائرة في السماء واعتبر حي جزيرته مركزا لهذه الدائرة فتكون جميع النقط متساوية في الحجم والمسافة. وذلك لا يتحقق الا في الدوائر اما اذا كانت حركة الافلاك غير كروية لبدت له حينا كبيرة وحينا صغيرة ولكن الامر خلاف ذلك.(1/59)
هل العالم حادث ام قديم؟ الفلك بجملته شيء واحد متصل بعضه ببعض: هو بمثابة حيوان كبير
فلما انتهى الى هذه المعرفة، ووقف على ان الفلك بجملته وما يحتوي عليه، كشيء واحد متصل بعضه ببعض، وان جميع الاجسام التي كان ينظر فيها اولا، كالارض والماء والهواء والنبات والحيوان وما شاكلها، هي كلها في ضمنه وغير خارجة عنه، وانه كله اشبه شيء بشخص من اشخاص الحيوان، وما فيه من الكواكب المنيرة هي بمنزلة حواس الحيوان وما فيه من ضروب الافلاك، المتصل بعضها ببعض، هي بمنزلة اعضاء الحيوان وما في داخله من عالم الكون والفساد هي بمنزلة ما في جوف الحيوان من اصناف الفضول والرطوبات، التي كثيرا ما يتكون فيها ايضا حيوان، كما يتكون في العالم الاكبر.
فلما تبين له انه كله كشخص واحد في الحقيقة، قائم محتاج الى فاعل مختار، واتحدت عنده اجزاؤه الكثيرة، بنوع من النظر الذي اتحدت به عنده الاجسام التي في عالم الكون والفساد، تفكر في العالم بجملته، هل هو شيء حدث بعد ان لم يكن، وخرج الى الوجود بعد العدم؟ او هو امر كان موجودا فيما سلف، ولم يسبقه العدم بوجه من الوجوه؟ فتشكك في ذلك، ولم يترجح عنده احد الحكمين على الآخر.
اعتراضات ضد القول بالقدم. الوجود لا يخلو من الحدوث، ولا يمكن ان يتقدم على الحوادث. هذا اعتراض ضعيف.
وذلك انه كان اذا ازمع على اعتقاد القدم، اعترضته عوارض كثيرة، من استحالة وجود ما لا نهاية له، بمثل القياس الذي استحال عنده به وجود جسم لا نهاية له. وكذلك كان يرى ان هذا الوجود لا يخلو من الحوادث، فهو لا يمكن تقدمه عليها، وما لا يمكن ان يتقدم على الحوادث، فهو ايضا محدث.
اعتراضات ضد القول بالحدوث وهي اقوى من الاولى:
مما يدل على الميل الى القول بالقدم. اذا كان لهذا العالم محدث قديم لما يحدثه الآن ولم يحدثه معه منذ الازل؟
واذا ازمع على اعتقاد الحدوث، اعترضته عوارض اخرى، وذلك انه كان يرى
ان معنى حدوثه، بعد ان لم يكن، لا يفهم الا على معنى ان الزمان تقدمه، والزمان من جملة العالم وغير منفك عنه. فاذن لا يفهم تأخر العالم عن الزمان. وكذلك كان يقول: «اذا كان حادثا، فلا بد له من محدث. وهذا المحدث الذي احدثه، لم احدثه الآن ولم يحدثه قبل ذلك؟ الطارئ طرأ عليه، ولا شيء هناك غيره؟ ام لتغير حدث في ذاته؟ فان كان، فما الذي احدث ذلك التغير؟(1/60)
واذا ازمع على اعتقاد الحدوث، اعترضته عوارض اخرى، وذلك انه كان يرى
ان معنى حدوثه، بعد ان لم يكن، لا يفهم الا على معنى ان الزمان تقدمه، والزمان من جملة العالم وغير منفك عنه. فاذن لا يفهم تأخر العالم عن الزمان. وكذلك كان يقول: «اذا كان حادثا، فلا بد له من محدث. وهذا المحدث الذي احدثه، لم احدثه الآن ولم يحدثه قبل ذلك؟ الطارئ طرأ عليه، ولا شيء هناك غيره؟ ام لتغير حدث في ذاته؟ فان كان، فما الذي احدث ذلك التغير؟
وما زال يفكر في ذلك عدة سنين، فتتعارض عنده الحجج ولا يترجح عنده احد الاعتقادين على الآخر.
فاعل العالم لا يدرك بالحس:
والا كان جسما فيدخل في نطاق العالم، فيكون حادثا ايضا، ويحتاج الى محدث.
فلما اعياه ذلك، جعل يتفكر ما الذي يلزم عن كل واحد من الاعتقادين، فلعل اللازم عنهما يكون شيئا واحدا. فرأى انه ان اعتقد حدوث العالم وخروجه الى الوجود بعد العدم، فاللازم عن ذلك ضرورة انه لا يمكن ان يخرج الى الوجود بنفسه، وانه لا بد له من فاعل يخرجه الى الوجود. وان ذلك الفاعل لا يمكن ان يدرك بشيء من الحواس، لانه لو ادرك بشيء من الحواس لكان جسما من الاجسام ولو كان جسما من الاجسام لكان من جملة العالم، وكان حادثا، واحتاج الى محدث. ولو كان ذلك المحدث الثاني ايضا جسما، لاحتاج الى محدث ثالث، والثالث الى رابع، ويتسلسل ذلك الى غير نهاية وهو باطل. فاذن لا بد للعالم من فاعل ليس بجسم.
فهو ليس بجسم: ولا يمكن تخيله. لا يوصف بصفات الاجسام. فاعل العالم عالم به قادر عليه
واذا لم يكن جسما فليس الى ادراكه بشيء من الحواس سبيل، لان الحواس الخمس لا تدرك الا الاجسام، او ما يلحق الاجسام. واذا كان لا يمكن ان يحسّ فلا يمكن ان يتخيل، لان التخيل ليس شيئا الا احضار صور المحسوسات بعد غيبها.
واذا لم يكن جسما، فصفات الاجسام كلها تستحيل عليه. واول صفات الاجسام هو الامتداد في الطول والعرض والعمق، وهو منزه عن ذلك، وعن جميع ما يتبع هذا الوصف من صفات الاجسام. واذا كان فاعلا للعالم، فهو لا محالة قادر عليه وعالم به «الا يعلم من خلق، وهو اللطيف الخبير» (سورة الملك، آية 14).(1/61)
واذا لم يكن جسما، فصفات الاجسام كلها تستحيل عليه. واول صفات الاجسام هو الامتداد في الطول والعرض والعمق، وهو منزه عن ذلك، وعن جميع ما يتبع هذا الوصف من صفات الاجسام. واذا كان فاعلا للعالم، فهو لا محالة قادر عليه وعالم به «الا يعلم من خلق، وهو اللطيف الخبير» (سورة الملك، آية 14).
فاعل العالم لا يمكن ان يكون قوة سارية في جسم والا انقسمت بانقسام الجسم
ولما كانت الاجسام متناهية كانت هذه القوة متناهية ايضا. ولكن للفلك حركة لا نهاية لها فمحرك العالم ليس بجسم.
ورأى ايضا انه ان اعتقد قدم العالم، وان العدم لم يسبقه، وانه لم يزل كما هو، فان اللازم عن ذلك ان حركته قديمة، لا نهاية لها من جهة الابتداء، اذ لم يسبقها سكون يكون مبدأها منه. وكل حركة فلا بد لها من محرك ضرورة. والمحرك اما ان يكون قوة سارية في جسم من الاجسام اما جسم المتحرك نفسه، واما جسم آخر خارج عنه واما ان يكون قوة ليست سارية ولا شائعة في جسم. وكل قوة سارية في جسم وشائعة فيه، فانها تنقسم بانقسامه، وتتضاعف بتضاعفه، مثل الثقل في الحجر مثلا، المحرك له الى اسفل: فانه ان قسم الحجر نصفين، انقسم ثقله نصفين، وان زيد عليه آخر مثله، زاد في الثقل آخر مثله، فان امكن ان يتزايد الحجر ابدا الى غير نهاية، كان تزايد هذا الثقل الى غير نهاية وان وصل الحجر الى حد ما من العظم ووقف، وصل الثقل الى ذلك الحد ووقف. لكنه قد تبرهن ان كل جسم لا محالة متناه، فاذن كل قوة في جسم لا محالة متناهية فإن وجدنا قوة تفعل فلا لا نهاية له، فهي قوة ليست في جسم. وقد وجدنا الفلك يتحرك ابدا حركة لا نهاية لها ولا انقطاع، اذ فرضناه قديما لا ابتداء له فالواجب على ذلك ان تكون القوة التي تحركه ليست في جسمه، ولا في جسم خارج عنه. فهي اذن لشيء بريء من الاجسام، وغير موصوف بشيء من اوصاف الجسمية. وقد كان لاح له، في نظره الأول في عالم الكون والفساد، ان حقيقة وجود كل جسم انما هي من جهة صورته التي هي استعداده لضروب الحركات وان وجوده الذي له من جهة مادته وجود ضعيف لا يكاد يدرك. فاذن وجود العالم كله انما هو من جهة استعداده لتحريك هذا المحرك البريء عن المادة، وعن صفات الاجسام، المنزه عن ان يدركه حس، او يتطرق اليه خيال سبحانه واذا كان فاعلا لحركات الفلك، على اختلاف انواعها، فعلا لا تفاوت فيه ولا فتور، * فهو لا محالة قادر عليه وعالم به.
النتيجة: فما يتعلق بالقدم او الحدوث، لا يرجح قولا على قول.
فانتهى نظره بهذا الطريق الى ما انتهى اليه بالطريق الأول، ولم يضره في ذلك تشككه في قدم العالم او حدوثه. وصحّ له على الوجهين جميعا وجود فاعل غير جسم، ولا متصل بجسم، ولا منفصل عنه، ولا داخل فيه، ولا خارج عنه اذ الاتصال، والانفصال، والدخول، والخروج، هي كلها من صفات الاجسام وهو منزه عنها.(1/62)
فانتهى نظره بهذا الطريق الى ما انتهى اليه بالطريق الأول، ولم يضره في ذلك تشككه في قدم العالم او حدوثه. وصحّ له على الوجهين جميعا وجود فاعل غير جسم، ولا متصل بجسم، ولا منفصل عنه، ولا داخل فيه، ولا خارج عنه اذ الاتصال، والانفصال، والدخول، والخروج، هي كلها من صفات الاجسام وهو منزه عنها.
تنويه بالفيض. قريب مما ذكره الفارابي في الفيض.
ولما كانت المادة من كل جسم مفتقرة الى الصورة، اذ لا تقوم الا بها، ولا تثبت لها حقيقة دونها، وكانت الصورة لا يصح وجودها الا من فعل هذا الفاعل (المختار)، تبين له افتقار جميع الموجودات في وجودها الى هذا الفاعل، وانه لا قيام لشيء منها الا به. فهو اذن علة لها، وهي معلولة له، سواء كانت محدثة الوجود، بعد ان سبقها العدم، او كانت لا ابتداء لها من جهة الزمان، ولم يسبقها العدم قط. فانها على كلا الحالين معلولة، ومفتقرة الى الفاعل، متعلقة الوجود به، ولولا دوامه لم تدم، ولولا وجوده لم توجد، ولولا قدمه لم تكن قديمة. وهو ذاته غنيّ عنها وبريء منها.
وكيف لا يكون ذلك كذلك وقد تبرهن ان قدرته وقوته غير متناهية، وان جميع الاجسام.
وما يتصل بها او يتعلق بها، ولو بعض تعلق، هو متناه منقطع؟ فاذن العالم كله بما فيه من السماويات والارض والكواكب، وما بينها، وما فوقها، وما تحتها، فعله وخلقه ومتأخر عنه بالذات، وان كانت غير متأخرة بالزمان.
تنويه آخر بالفيض.
كما انك اذا اخذت في قبضتك جسما من الاجسام، ثم حركت يدك فان ذلك الجسم لا محالة يتحرك تابعا لحركة يدك، حركة متأخرة عن حركة يدك، تأخرا بالذات وان كانت لم تتأخر بالزمان عنها، فكان ابتداؤهما معا. فكذلك العالم كله معلول ومخلوق لهذا الفاعل بغير زمان «{إِنَّمََا أَمْرُهُ إِذََا أَرََادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ}» (1).
فلما رأى ان جميع الموجودات فعله، تصفحها من بعد ذا تصفحا على طريق الاعتبار في قدرة فاعلها، والتعجب من غريب صنعته، ولطيف حكمته، ودقيق علمه. فتبين له في اقل الأشياء الموجودة فضلا عن اكثرها من آثار الحكمة وبدائع الصنعة، ما قضى منه كل العجب، وتحقق عنده ان ذلك لا يصدر الا عن فاعل مختار في غاية الكمال، وفوق الكمال «{لََا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقََالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمََاوََاتِ وَلََا فِي الْأَرْضِ، وَلََا أَصْغَرُ مِنْ ذََلِكَ وَلََا أَكْبَرُ}» (2).
__________
(1) قرآن كريم سورة يس آية 82
(2) قرآن كريم سورة سبأ آية 3(1/63)
من صفات فاعل العالم: أنه فاعل مختار.
ثم تأمل في جميع اصناف الحيوان كيف «{أَعْطى ََ كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ، ثُمَّ هَدى ََ}» (1)
لاستعماله. فلولا انه هداه لاستعمال تلك الاعضاء التي خلقت له في وجوه المنافع المقصودة بها، لما انتفع بها الحيوان، وكانت كلّا عليه. فعلم بذلك انه اكرم الكرماء وارحم الرحماء.
لا نسبة بين صفاته وصفات الكائنات في هذا العالم.
ثم انه مهما نظر شيئا من الموجودات له حسن، او بهاء، او كمال، او قوة، او فضيلة من الفضائل اي فضيلة كانت تفكر وعلم انها من فيض ذلك الفاعل المختار جل جلاله ومن جوده، ومن فعله. فعلم ان الذي هو في ذاته اعظم منها واكمل، واتم واحسن، وابهى واجمل وأدوم. وانه لا نسبة لهذه الى تلك. فما زال يتتبع صفات الكمال كلها، فيراها له وصادرة عنه، ويرى انه احق بها من كل ما يوصف بها دونه.
وتتبع صفات النقص كلها، فرآه بريئا منها، ومنزها عنها، وكيف لا يكون بريئا منها وليس معنى النقص الا العدم المحض، او ما يتعلق بالعدم وكيف يكون العدم تعلق او تلمس بمن هو الموجود المحض الواجب الوجود بذاته، المعطي لكل ذي وجود وجوده.
فلا وجود الا هو: فهو الوجود، وهو الكمال، وهو التمام، وهو الحسن، وهو البهاء، وهو القدرة، وهو العلم، وهو هو، و «كل شيء هالك الا وجهه» (2).
وكان ذلك وله 35عاما
فانتهت به المعرفة الى هذا الحد على رأس خمسة اسابيع من منشئه، وذلك خمسة وثلاثون عاما.
__________
(1) قرآن كريم سورة طه آية 50
(2) قرآن كريم سورة القصص الآية 88 ملاحظة: رد ابن طفيل الصفات الى الذات، وهنا يتفق مع المعتزلة.(1/64)
تحوله نحو الصانع. واعراضه عن العالم المحسوس.
وقد رسخ في قلبه من امر الفاعل ما شغله عن الفكرة في كل شيء الا فيه. وذهل عما كان فيه من تصفح الموجودات والبحث عنها، حتى صار بحيث لا يقع بصره على شيء من الأشياء الا ويرى فيه اثر الصنعة من حينه. فينتقل بفكره على الفور الى الصانع، ويترك المصنوع حتى اشتد شوقه اليه وانزعج قلبه بالكلية عن العالم الادنى المحسوس، وتعلق بالعالم الارفع المعقول.
الجزء الخامس: حي يتساءل كيف ادرك هذه الحقائق؟
روحانية النفس:
انتهى الى نتائج غير محسوسة، فلا بد وان تكون له قوة متميزة عن الجسم: هي الروح، لا تتصف بصفة من صفات الاجسام يردد ابن طفيل براهين ابن سينا الخاصة بروحانية النفس وبخلودها.
فلما حصل له العلم بهذا الموجود الرفيع، الثابت الوجود، الذي لا سبب لوجوده، وهو سبب لوجود جميع الأشياء، اراد ان يعلم بأي شيء حصل له هذا العلم، وبأي قوة ادرك هذا الموجود. فتصفح حواسه كلها، وهي السمع والبصر والشم والذوق واللمس. فرأى انها كلها لا تدرك شيئا الا جسما، او ما هو في جسم. وذلك ان السمع انما يدرك المسموعات، وهي ما يحدث من تموج الهواء عند تصادم الاجسام.
والبصر انما يدرك الالوان. والشم يدرك الروائح. والذوق يدرك الطعوم. واللمس يدرك الامزجة والصلابة واللين والخشونة والملاسة. وكذلك القوة الخيالية، لا تدرك شيئا الا ان يكون له طول وعرض وعمق. وهذه المدركات كلها من صفات الاجسام، وليس لهذه الحواس ادراك شيء سواها. وذلك لانها قوى شائعة في الاجسام، ومنقسمة بانقسامها. فهي لذلك لا تدرك الا جسما منقسما لان هذه القوة اذا كانت شائعة في شيء منقسم، فلا محالة اذا ادركت شيئا من الأشياء فانه ينقسم بانقسامها. فاذن كل قوة في جسم فانها لا محالة لا تدرك الا جسما، او ما هو في جسم.
حقيقة ذاته (ذات حي) الروح الذي ادرك بها واجب الوجود.
وقد تبين ان هذا الموجود الواجب الوجود بريء من صفات الاجسام، من جميع
الجهات. فاذن لا سبيل الى ادراكه الا بشيء ليس بجسم، ولا هو قوة في جسم، ولا تعلق له بوجه من الوجوه بالاجسام ولا هو داخل فيها، ولا خارج عنها، ولا متصل بها، ولا منفصل عنها. وقد كان تبين له انه ادركه بذاته، ورسخت المعرفة به عنده. فتبين له بذلك ان ذاته التي ادركه بها امر غير جسماني، لا يحوز عليه شيء من صفات الاجسام. وان كل ما يدركه من ظاهر ذاته من الجسميات، فانها ليست حقيقة ذاته وانما حقيقة ذاته ذلك الشيء الذي ادرك به الموجود المطلق الواجب الوجود.(1/65)
وقد تبين ان هذا الموجود الواجب الوجود بريء من صفات الاجسام، من جميع
الجهات. فاذن لا سبيل الى ادراكه الا بشيء ليس بجسم، ولا هو قوة في جسم، ولا تعلق له بوجه من الوجوه بالاجسام ولا هو داخل فيها، ولا خارج عنها، ولا متصل بها، ولا منفصل عنها. وقد كان تبين له انه ادركه بذاته، ورسخت المعرفة به عنده. فتبين له بذلك ان ذاته التي ادركه بها امر غير جسماني، لا يحوز عليه شيء من صفات الاجسام. وان كل ما يدركه من ظاهر ذاته من الجسميات، فانها ليست حقيقة ذاته وانما حقيقة ذاته ذلك الشيء الذي ادرك به الموجود المطلق الواجب الوجود.
مصير النفس: مصيرها لا يتبع مصير الجسم. هذا من براهين ابن سينا على روحانية النفس
فلما علم ان ذاته ليست هذه المتجسمة التي يدركها بحواسه، ويحيط بها اديمه، هان عنده بالجملة جسمه وجعل يتفكر في تلك الذات الشريفة التي ادرك بها ذلك الموجود الشريف الواجب الوجود. ونظر في ذاته تلك الشريفة هل يمكن ان تبيد او تفسد وتضمحل، او هي دائمة البقاء؟
معنى الفساد
فرأى ان الفساد والاضمحلال انما هو من صفات الاجسام، بان تخلع صورة وتلبس اخرى، مثل الماء اذا صار هواء، والهواء اذا صار ماء والنبات اذا صار ترابا او رمادا، والتراب اذا صار نباتا. فهذا هو معنى الفساد.
واما الشيء الذي ليس بجسم، ولا يحتاج في قوامه الى الجسم، وهو منزه بالجملة عن الجسميات، فلا يتصور فساده البتة.
يميز بين القوى التي تدرك بالقوة، والقوى التي تدرك بالفعل
فلما ثبت له ان ذاته الحقيقية لا يمكن فسادها، اراد ان يعلم كيف يكون حالها اذا طرحت البدن، وتخلت عنه. وقد كان تبين له انها لا تطرحه الا اذا لم يصلح آلة لها. فتصفح جميع القوى المدركة: فرأى ان كل واحدة منها، تارة تكون مدركة بالقوة، وتارة تكون مدركة بالفعل، مثل العين في حال تغميضها او اعراضها عن المبصر،
فانها تكون مدركة بالقوة. ومعنى مدركة بالقوة انها لا تدرك الآن وتدرك في المستقبل وفي حال فتحها واستقبالها للمبصر تكون مدركة بالفعل. ومعنى مدركة بالفعل، انها الآن تدرك. وكذلك كل واحدة من هذه القوى تكون مدركة بالقوة، وتكون مدركة بالفعل. وكل واحدة من هذه القوى، ان كانت لم تدرك قط بالفعل، فهي ما دامت بالقوة لا تتشوق الى ادراك الشيء المخصوص بها، لانها لم تتعرف به بعد، مثل من خلق مكفوف البصر. وان كانت قد ادركت بالفعل تارة، ثم صارت بالقوة، فانها ما دامت بالقوة تشتاق الى الادراك بالفعل، لانها قد تعرفت بذلك المدرك، وتعلقت به، وحنت اليه، مثل من كان بصيرا ثم عمي، فانه لا يزال يشتاق الى المبصرات.(1/66)
فلما ثبت له ان ذاته الحقيقية لا يمكن فسادها، اراد ان يعلم كيف يكون حالها اذا طرحت البدن، وتخلت عنه. وقد كان تبين له انها لا تطرحه الا اذا لم يصلح آلة لها. فتصفح جميع القوى المدركة: فرأى ان كل واحدة منها، تارة تكون مدركة بالقوة، وتارة تكون مدركة بالفعل، مثل العين في حال تغميضها او اعراضها عن المبصر،
فانها تكون مدركة بالقوة. ومعنى مدركة بالقوة انها لا تدرك الآن وتدرك في المستقبل وفي حال فتحها واستقبالها للمبصر تكون مدركة بالفعل. ومعنى مدركة بالفعل، انها الآن تدرك. وكذلك كل واحدة من هذه القوى تكون مدركة بالقوة، وتكون مدركة بالفعل. وكل واحدة من هذه القوى، ان كانت لم تدرك قط بالفعل، فهي ما دامت بالقوة لا تتشوق الى ادراك الشيء المخصوص بها، لانها لم تتعرف به بعد، مثل من خلق مكفوف البصر. وان كانت قد ادركت بالفعل تارة، ثم صارت بالقوة، فانها ما دامت بالقوة تشتاق الى الادراك بالفعل، لانها قد تعرفت بذلك المدرك، وتعلقت به، وحنت اليه، مثل من كان بصيرا ثم عمي، فانه لا يزال يشتاق الى المبصرات.
كلما كان الشيء المدرك اتم يكون الشوق اليه اكثر، والمدرك الاسمى هو الله، ولما كان الله اكمل الموجودات فشوق حي اليه عظيم.
وبحسب ما يكون الشيء المدرك اتم وابهى واحسن، يكون الشوق اليه اكثر، والتألم لفقده اعظم. ولذلك كان تألم من يفقد بصره بعد الرؤية، اعظم من تألم من يفقد شمه، اذ الأشياء التي يدركها البصر اتم واحسن من التي يدركها الشم. فان كان في الأشياء شيء لا نهاية لكماله، ولا غاية لحسنه وجماله، وبهائه، وهو فوق الكمال والبهاء والحسن، وليس في الوجود كمال ولا حسن ولا بهاء ولا جمال الا صادر من جهته، وفائض من قبله. فمن فقد ادراك ذلك الشيء بعد ان تعرف به، فلا محالة انه ما دام فاقدا له يكون في آلام لا نهاية لها، كما ان كان مدركا له على الدوام فانه يكون في لذة لا انفصام لها، وغبطة لا غاية وراءها، وبهجة وسرور لا نهاية لهما.
اذا كانت النفس عند اتصالها بالبدن لم تدرك واجب الوجود
فانها لا تشتاق اليه بعد الموت، ولا تتألم لفقده. هذا قريب من قول الفارابي بان النفس الجاهلة لا تخلد.
وقد كان تبين له ان الموجود الواجب الوجود متصف باوصاف الكمال كلها، ومنزه عن صفات النقص وبريء منها وتبين له ان الشيء الذي به يتوصل الى ادراكه امر لا يشبه الاجسام، ولا يفسد لفسادها فظهر له بذلك ان من كانت له مثل هذه الذات، المعدة لمثل هذا الادراك، فانه اذا اطرح البدن بالموت، فاما ان يكون قبل ذلك في مدة تصريفه للبدن لم يتعرف قط بهذا الموجود الواجب الوجود، ولا اتصل به، ولا سمع عنه، فهذا اذا فارق البدن لا يشتاق الى ذلك الموجود، ولا يتألم لفقده.(1/67)
وقد كان تبين له ان الموجود الواجب الوجود متصف باوصاف الكمال كلها، ومنزه عن صفات النقص وبريء منها وتبين له ان الشيء الذي به يتوصل الى ادراكه امر لا يشبه الاجسام، ولا يفسد لفسادها فظهر له بذلك ان من كانت له مثل هذه الذات، المعدة لمثل هذا الادراك، فانه اذا اطرح البدن بالموت، فاما ان يكون قبل ذلك في مدة تصريفه للبدن لم يتعرف قط بهذا الموجود الواجب الوجود، ولا اتصل به، ولا سمع عنه، فهذا اذا فارق البدن لا يشتاق الى ذلك الموجود، ولا يتألم لفقده.
ملاحظة: كأن ابن طفيل متفق هنا مع رأي الفارابي القائل بزوال الانفس الجاهلة بعد الموت.
واما جميع القوى الجسمانية فانها تبطل ببطلان الجسم، فلا تشتاق ايضا الى مقتضيات تلك القوى، ولا تحن اليها، ولا تتألم بفقدها. وهذه حال البهائم غير الناطقة كلها، سواء كانت من صورة الانسان او لم تكن.
الشقاء: من ادرك واجب الوجود واعرض عنه يحرم المشاهدة، وفي ذلك عذاب له (الانفس الفاسقة عند الفارابي)
واما ان يكون قبل ذلك في مدة تصريفه للبدن وقد تعرف بهذا الموجود وعلم ما هو عليه من الكمال والعظمة والسلطان والقدرة والحسن، الا انه اعرض عنه، واتبع هواه، حتى وافته منيته وهو على تلك الحال فيحرم المشاهدة، وعنده الشوق اليها. فيبقى في عذاب طويل وآلام لا نهاية لها. فاما ان يتخلص من تلك الآلام بعد جهد طويل، ويشاهد ما تشوق اليه قبل ذلك واما ان يبقى في آلامه، بقاء سرمديا بحسب استعداده لكل واحد من الوجهين في حياته الجسمانية.
السعادة: شرطها الاشتياق الى واجب الوجود والسعادة تكون بمشاهدته.
واما من تعرف بهذا الموجود الواجب الوجود، قبل ان يفارق البدن، واقبل بكليته عليه، والتزم الفكرة في جلاله وحسنه وبهائه، ولم يعرض عنه حتى وافته منيته، وهذا على حال من الاقبال والمشاهدة بالفعل، فهذا اذا فارق البدن بقي في لذة لا نهاية لها، وغبطة وسرور وفرح دائم، لاتصال مشاهدته لذلك الموجود الواجب الوجود وسلامة تلك المشاهدة من الكدر والشوائب ويزول عنه ما تقتضيه هذه القوى الجسمانية من الامور الحسية التي هي بالاضافة الى تلك الحال آلام وشرور وعوائق.
مشاهدة واجب الوجود: التشبهات الثلاثة
فلما تبين له ان كمال ذاته ولذتها انما هو بمساعدة ذلك الموجود الواجب الوجود
على الدوام، مشاهدة بالفعل ابدا، حتى لا يعرض عنه طرفة عين، لكي توافيه منيته وهو في حال المشاهدة بالفعل، فتتصل لذته دون ان يتخللها ألم.(1/68)
فلما تبين له ان كمال ذاته ولذتها انما هو بمساعدة ذلك الموجود الواجب الوجود
على الدوام، مشاهدة بالفعل ابدا، حتى لا يعرض عنه طرفة عين، لكي توافيه منيته وهو في حال المشاهدة بالفعل، فتتصل لذته دون ان يتخللها ألم.
واليه اشار الجنيد، شيخ الصوفية وامامهم، عند موته بقوله لاصحابه: «هذا وقت يؤخذ منه: الله اكبر واحرم الصلاة.
ثم جعل يتفكر كيف يتأتى له دوام المشاهدة بالفعل، حتى لا يقع منه اعراض فكان يلازم الفكرة في ذلك الموجود كل ساعة. فما هو الا ان يسنح لبصره محسوس ما من المحسوسات، او يخرق سمعه صوت بعض الحيوان، او يعترضه خيال من الخيالات، او يناله ألم في احد اعضائه، او يصيبه الجوع او العطش، او البرد او الحر، او يحتاج الى القيام لدفع فضوله، فتختل فكرته، ويزول عما كان فيه، ويتعذر عليه الرجوع الى ما كان عليه من حال المشاهدة الا بعد جهد. وكان يخاف ان تفجأه منيته وهو في حال الاعراض، فيفضي الى الشقاء الدائم وألم الحجاب. فساءه حاله ذلك واعياه الدواء.
الحيوانات لا تسعى وراء واجب الوجود: هي صائرة الى العدم
فجعل يتصفح انواع الحيوانات كلها، وينظر افعالها، وما تسعى فيه، لعله ينظر في بعضها انها شعرت بهذا الموجود، وجعلت تسعى نحوه فيتعلم منها ما يكون سبب نجاته. فرآها كلها انما تسعى في تحصيل غذائها ومقتضى شهواتها من المطعوم والمشروب والمنكوح والاستظلال والاستدفاء، وتجد في ذلك ليلها ونهارها، الى حين مماتها وانقضاء مدتها. ولم ير شيئا منها ينحرف عن هذا الرأي ولا يسعى لغيره في وقت من الاوقات. فبان له بذلك انها لم تشعر بذلك الموجود ولا اشتاقت اليه، ولا تعرفت به بوجه من الوجوه وانها كلها صائرة الى العدم، او الى حال شبيه بالعدم.
فلما حكم بذلك على الحيوان، علم ان الحكم له على النبات اولى، اذ ليس للنبات من الادراكات الا بعض ما للحيوان.
وكذلك حال النبات: نفس الحيوان ونفس النبات لا تخلدان
واذا كان الاكمل ادراكا لم يصل الى هذه المعرفة، فالانقص ادراكا احرى ان لا يصل، مع انه رأى ايضا ان افعال النبات كلها لا تتعدى الغذاء والتوليد.(1/69)
واذا كان الاكمل ادراكا لم يصل الى هذه المعرفة، فالانقص ادراكا احرى ان لا يصل، مع انه رأى ايضا ان افعال النبات كلها لا تتعدى الغذاء والتوليد.
العقول المفارقة في الكواكب والافلاك، تدرك واجب الوجود، وتشاهده على الدوام (مثل ما قال الفارابي في العقول المفارقة عقول الافلاك).
ثم انه بعد ذلك نظر الى الكواكب والافلاك، فرآها كلها منتظمة الحركات، جارية على نسق ورآها شفافة ومضيئة، بعيدة عن قبول التغير والفساد. فحدس حدسا قويا ان لها ذوات سوى اجسامها تعرف ذلك الموجود الواجب الوجود وان تلك الذوات العارفة ليست باجسام، ولا منطبعة في اجسام، مثل ذاته هو، العارفة. وكيف لا يكون لها مثل تلك الذوات البريئة عن الجسمانية ويكون لمثله هو على ما به من الضعف وشدة الاحتياج الى الامور المحسوسة، وانه من جملة الاجسام الفاسدة؟ ومع ما به من النقص فلم يقعه ذلك عن ان تكون ذاته شيئا بريئا عن الاجسام، لا تفسد.
فتبين له بذلك ان الاجسام السماوية اولى بذلك. وعلم انها تعرف ذلك الموجود الواجب الوجود، وتشاهده على الدوام بالفعل لان العوائق التي قطعت به هو عن دوام المشاهدة من العوارض المحسوسة، لا يوجد مثلها للاجسام السماوية.
ثم انه تفكر: لم اختص هو من بين سائر انواع الحيوان بهذه الذات التي اشبه بها الاجسام السماوية، وقد كان تبين له اولا من امر العناصر، واستحالة بعضها الى بعض، وان جميع ما على وجه الارض، لا يبقى على صورته بل الكون والفساد متعاقبان عليه ابدا، وان اكثر هذه الاجسام مختلطة، مركبة من اشياء مضادة، ولذلك تؤول الى الفساد، وانه لا يوجد منها شيء صرفا، وما كان منها قريبا من ان يكون صرفا خالصا، لا شائبة فيه، فهو بعيد عن الفساد جدا، مثل جسد الذهب والياقوت وان الاجسام السماوية بسيطة صرفة، ولذلك هي بعيدة عن الفساد، والصور لا تتعاقب عليها.
وتبين له هنالك ان جميع الاجسام التي في عالم الكون والفساد منها ما تقوم حقيقتها بصورة واحدة زائدة على معنى الجسمية، وهذه هي الاسطقسات (1) الأربعة ومنها ما تتقوم حقيقتها بأكثر من ذلك، كالحيوان والنبات. فما كان قوام حقيقته بصور اقل كانت افعاله اقل، وبعده عن الحياة اكثر. فان عدم الصورة جملة لم يكن فيه الى الحياة طريق، وصار في حال شبيهة بالعدم. وما كان من قوام حقيقته بصور اكثر كانت افعاله اكثر، ودخوله في حال الحياة ابلغ وان كانت تلك الصور بحيث لا سبيل الى مفارقتها لمادتها التي اختصت بها، كانت الحياة حينئذ في غاية الظهور والدوام والقوة. فالشيء العديم الصورة جملة هو الهيولى، والمادة ولا شيء من الحياة
__________
(1) الاسطقسات، جمع اسطقس، لفظ يوناني بمعنى العنصر. والعناصر الأربعة هي: النار، الهواء، الماء، التراب.(1/70)
فيها، وهي شبيهة بالعدم. والشيء المتقوم بصورة واحدة من الاسطقسات الأربعة، وهي في اول مراتب الوجود، في عالم الكون والفساد، ومنها تتركب الأشياء ذوات الصور الكثيرة. وهذه الاسطقسات ضعيفة الحياة جدا، اذ ليست تتحرك الا حركة واحدة، وانما كانت ضعيفة الحياة لان لكل واحد منها ضدا ظاهر العناد، يخالفه في مقتضى طبيعته، ويطلب ان يغير صورته. فوجوده لذلك غير متمكن، وحياته ضعيفة، فالنبات اقوى حياة منه، والحيوان اظهر حياة منه.
وذلك ان ما كان من هذه المركبات تغلب عليه طبيعة اسطقس واحد، فلقوته فيه يغلب طبائع الاسطقسات الباقية، ويبطل قواها. ويصير ذلك المركب في حكم الاسطقس الغالب، فلا يستأهل، لاجل ذلك من الحياة الا شيئا يسيرا، كما ان ذلك الاسطقس لا يستأهل من الحياة الا يسيرا ضعيفا. وما كان من هذه المركبات لا تغلب عليه طبيعة اسطقس واحد منها، فان الاسطقسات تكون فيه متعادلة متكافئة.
فاذن لا يبطل احدها قوة الآخر بأكثر مما يبطل ذلك الآخر قوته بل يفعل بعضها في بعض فعلا متساويا فلا يكون فعل احد الاسطقسات اظهر فيه ولا يستولي عليه احدها، فيكون بعيد الشبه من كل واحد من الاسطقسات، فكأنه لا مضادة لصورته فيستأهل للحياة بذلك. ومتى زاد هذا الاعتدال، وكان اتم وابعد من الانحراف، كان بعده عن ان يوجد له ضد اكثر، وكانت حياته اكمل.
الروح الحيواني الساري في جسمه شديد الشبه بالاجسام السماوية
ولما كان الروح الحيواني الذي مسكنه القلب، شديد الاعتدال، لانه الطف من الارض والماء، واغلظ من النار والهواء، صار في حكم الوسط، ولم يضاده شيء من الاسطقسات مضادة بينة، فاستعد بذلك لصورة الحيوانية. فرأى ان الواجب على ذلك ان يكون اعدل ما في هذه الارواح الحيوانية مستعدا لاتم ما يكون من الحياة في عالم الكون والفساد وان يكون ذلك الروح قريبا من ان يقال انه لا ضد لصورته فيشبه لذلك هذه الاجسام السماوية التي لا ضد لصورها. ويكون روح ذلك الحيوان وكأنه وسط بالحقيقة، بين الاسطقسات التي لا تتحرك الى جهة العلو على الاطلاق، ولا الى جهة السفل بل لو امكن ان يجعل في وسط المسافة التي بين المركز واعلى ما تنتهي اليه النار في جهة العلو، ولم يطرأ عليه فساد، لثبت هناك، ولم يطلب الصعود ولا النزول. ولو تحرك في المكان لتحرك حول الوسط، كما
تتحرك الاجسام السماوية ولو تحرك في الوضع لتحرك على نفسه، وكان كروي الشكل، اذ لا يمكن غير ذلك. فاذن هو شديد الشبه بالاجسام السماوية.(1/71)
ولما كان الروح الحيواني الذي مسكنه القلب، شديد الاعتدال، لانه الطف من الارض والماء، واغلظ من النار والهواء، صار في حكم الوسط، ولم يضاده شيء من الاسطقسات مضادة بينة، فاستعد بذلك لصورة الحيوانية. فرأى ان الواجب على ذلك ان يكون اعدل ما في هذه الارواح الحيوانية مستعدا لاتم ما يكون من الحياة في عالم الكون والفساد وان يكون ذلك الروح قريبا من ان يقال انه لا ضد لصورته فيشبه لذلك هذه الاجسام السماوية التي لا ضد لصورها. ويكون روح ذلك الحيوان وكأنه وسط بالحقيقة، بين الاسطقسات التي لا تتحرك الى جهة العلو على الاطلاق، ولا الى جهة السفل بل لو امكن ان يجعل في وسط المسافة التي بين المركز واعلى ما تنتهي اليه النار في جهة العلو، ولم يطرأ عليه فساد، لثبت هناك، ولم يطلب الصعود ولا النزول. ولو تحرك في المكان لتحرك حول الوسط، كما
تتحرك الاجسام السماوية ولو تحرك في الوضع لتحرك على نفسه، وكان كروي الشكل، اذ لا يمكن غير ذلك. فاذن هو شديد الشبه بالاجسام السماوية.
استنتج حي
اولا: ان له جسما يشترك فيه مع باقي الكائنات.
ثانيا: ان له نفسا يشترك بها مع انفس الكواكب.
ثالثا: وان له روحا عاقلة اعتقد انها من روح الله (هنا اقترب حي من التصوف).
ولما كان قد اعتبر احوال الحيوان، ولم ير فيها ما يظن به انه شعر بالموجود الواجب الوجود، وقد كان علم من ذاته انها قد شعرت به، قطع بذلك على انه هو الحيوان المعتدل الروح، الشبيه بالاجسام السماوية كلها وتبين له انه نوع مباين لسائر انواع الحيوان وانه انما خلق لغاية اخرى، واعد لامر عظيم، لم يعد له شيء من انواع الحيوان وكفى به شرفا ان يكون اخس جزأيه وهو الجسماني اشبه الأشياء بالجواهر السماوية، الخارجة عن عالم الكون والفساد، المنزهة عن حوادث النقص والاستحالة والتغير. واما اشرف جزأيه، فهو الشيء الذي به عرف الموجود الواجب الوجود، وهذا الشيء العارف امر رباني إلهي، لا يستحيل، ولا يلحقه الفساد، ولا يوصف بشيء مما توصف به الاجسام ولا يدرك بشيء من الحواس ولا يتخيل ولا يتوصل الى معرفته بآلة سواه، بل يتوصل اليه به. فهو العارف والمعروف والمعرفة، وهو العالم والمعلوم والعلم لا يتباين في شيء من ذلك، اذ التباين والانفصال من صفات الاجسام ولواحقها ولا جسم هنالك، ولا صفة جسم، ولا لاحق بجسم.
وعند ما وصل الى هذه المرحلة تداركه الله برحمته
وافهمه ان ذاته مباينة لذات الحق وكان ذلك عن طريق الاشراق. فيحاول ان يتشبه بواجب الوجود.
فلما تبين له الوجه الذي اختص به من بين سائر اصناف الحيوان، بمشابهة الاجسام السماوية، رأى ان الواجب عليه ان يتقبلها ويحاكي افعالها، ويتشبه بها جهده.
وكذلك رأى انه بجزئه الاشرف الذي به عرف الموجود الواجب الوجود، فيه شبه ما منه، من حيث هو منزه عن صفات الاجسام كما ان الواجب الوجود منزه عنها.
ورأى ايضا انه يجب عليه ان يسعى في تحصيل صفاته لنفسه، من اي وجه امكن وان يتخلق باخلاقه، ويقتدي بافعاله، ويجد في تنفيذ ارادته، ويسلم الامر له، ويرضى بجميع حكمه رضا من قلبه ظاهرا وباطنا، بحيث يسر به وان كان مؤلما لجسمه، وضارا به، ومتلفا لبدنه بالجملة.(1/72)
ورأى ايضا انه يجب عليه ان يسعى في تحصيل صفاته لنفسه، من اي وجه امكن وان يتخلق باخلاقه، ويقتدي بافعاله، ويجد في تنفيذ ارادته، ويسلم الامر له، ويرضى بجميع حكمه رضا من قلبه ظاهرا وباطنا، بحيث يسر به وان كان مؤلما لجسمه، وضارا به، ومتلفا لبدنه بالجملة.
ولكن ادرك ايضا ان له بدنا، لذلك انتهى الى انه عليه ان يتشبه بثلاثة اشياء هو مركب من مثيلاتها:
1) الحيوان (جسمه). 2) الاجسام السماوية (الروح الحيواني). 3) واجب الوجود (نفسه التي ادرك واجب الوجود بها).
وكذلك ايضا رأى ان فيه شبها من سائر انواع الحيوان بجزئه الخسيس الذي هو من عالم الكون والفساد وهو البدن المظلم الكثيف الذي يطالبه بانواع المحسوسات من المطعوم والمشروب والمنكوح ورأى ايضا ان ذلك البدن لم يخلق له عبثا، ولا قرن به لامر باطل وانه يجب عليه ان يتفقده ويصلح من شأنه. وهذا التفقد لا يكون منه الا بفعل يشبه افعال سائر الحيوان فاتجهت عنده الاعمال التي يجب عليه ان يفعلها نحو ثلاثة اغراض:
1 - اما عمل يتشبه به بالحيوان غير الناطق، 2واما عمل يتشبه به بالاجسام السماوية، 3واما عمل يتشبه بالموجود الواجب الوجود.
فالتشبيه الأول: يجب عليه، من حيث له البدن المظلم ذو الاعضاء المنقسمة والقوى المختلفة والمنازع المتفننة.
والتشبيه الثاني: يجب عليه، من حيث له الروح الحيواني، الذي مسكنه القلب وهو مبدأ لسائر البدن، ولما فيه من القوى.
والتشبيه الثالث: يجب عليه، من حيث هو هو، اي من حيث هو الذات التي بها عرف ذلك الموجود الواجب الوجود.
وكان اولا قد وقف على ان سعادته وفوزه من الشقاء، انما هما في دوام المشاهدة لهذا الموجود الواجب الوجود، حتى يكون بحيث لا يعرض عنه طرفة عين.
ثم انه نظر في الوجه الذي يتأتى له به هذا الدوام، فاخرج له النظر انه يجب عليه الاعتمال في هذه الاقسام الثلاثة من التشبيهات.
هذا التشبيه الأول حجاب بينه وبين واجب الوجود
اما التشبيه الأول: فلا يحصل له به شيء من هذه المشاهدة، بل هو صارف عنها وعائق دونها اذ هو تصرف في الامور المحسوسة، والامور المحسوسة كلها حجب
معترضة دون تلك المشاهدة وانما احتيج الى هذا التشبيه لاستدامة هذا الروح الحيواني الذي يحصل به التشبه الثاني بالاجسام السماوية. فالضرورة تدعو اليه من هذا الطريق، ولو كان لا يخلو من تلك المضرة.(1/73)
اما التشبيه الأول: فلا يحصل له به شيء من هذه المشاهدة، بل هو صارف عنها وعائق دونها اذ هو تصرف في الامور المحسوسة، والامور المحسوسة كلها حجب
معترضة دون تلك المشاهدة وانما احتيج الى هذا التشبيه لاستدامة هذا الروح الحيواني الذي يحصل به التشبه الثاني بالاجسام السماوية. فالضرورة تدعو اليه من هذا الطريق، ولو كان لا يخلو من تلك المضرة.
هذا التشبيه الثاني يبعده عن الاستغراق في واجب الوجود، اذ انه يشاهد نفسه
واما التشبيه الثاني: فيحصل له به حظ عظيم من المشاهدة على الدوام، لكنها مشاهدة يخالطها شوب، اذ من يشاهد ذلك النحو من المشاهدة على الدوام، فهو مع تلك المشاهدة يعقل ذاته ويلتفت اليها حسبما يتبين بعد هذا.
هذا التشبيه الثالث يجعله يستغرق تماما في واجب الوجود
واما التشبيه الثالث: فتحصل به المشاهدة الصرفة، والاستغراق المحض الذي لا التفات فيه بوجه من الوجوه الا الى الموجود الواجب الوجود. والذي يشاهد هذه المشاهدة قد غابت عنه ذات نفسه، وفنيت، وتلاشت.
وهذا قريب من الفناء الصوفي
وكذلك سائر الذوات، كثيرة كانت او قليلة، الا ذات الواحد الحق الواجب الوجود جل وتعالى وعز.
فلما تبين له ان مطلوبه الاقصى هو هذا التشبه الثالث، وانه لا يحصل له الا بعد التمرن والاعتمال مدة طويلة في التشبه الثاني، وان هذه المدة لا تدوم له الا بالتشبه الأول وعلم ان التشبه الأول وان كان ضروريا، فانه عائق بذاته، وان كان معينا بالعرض لا بالذات، لكنه ضروري الزم نفسه ان لا يجعل لها حظا من هذا التشبه الأول الا بقدر الضرورة، وهي الكفاية التي لا بقاء للروح الحيواني بأقل منها.
ووجد ما تدعو اليه الضرورة في بقاء هذا الروح امرين:
احدهما: ما يمده به من داخل، ويخلف عليه بدل ما يتحلل منه، وهو الغذاء.(1/74)
ووجد ما تدعو اليه الضرورة في بقاء هذا الروح امرين:
احدهما: ما يمده به من داخل، ويخلف عليه بدل ما يتحلل منه، وهو الغذاء.
والآخر: ما يقيه من خارج، ويدفع عنه وجوه الاذى، من البرد والحر والمطر ولفح الشمس والحيوانات المؤذية، ونحو ذلك. ورأى انه ان تناول ضرورية من هذه جزافا كيفما اتفق، ربما وقع في السرف واخذ فوق الكفاية. فكان سعيه على نفسه من حيث لا يشعر. فرأى ان الحزم له ان يفرض لنفسه فيها حدودا لا يتعداها، ومقادير لا يتجاوزها.
ولكن له جسم فاهتم به الى ادنى حد، حتى لا يكون عائقا له في استغراقه (الزهد)
وبان له ان الفرض يجب ان يكون في جنس ما يتغذى به، واي شيء يكون، وفي مقداره، وفي المدة التي تكون بين العودات اليه.
فنظر اولا في اجناس ما به يتغذى، فرآها ثلاثة اضرب:
1 - اما نبات لم يكمل بعد نضجه ولم ينته الى غاية تمامه، وهي اصناف البقول الرطبة التي يمكن الاغتذاء بها.
2 - واما ثمرات النبات الذي قد تم وتناهى واخرج بزره ليتكون منه آخر من نوعه حفظا له، وهي اصناف الفواكه رطبها ويابسها.
3 - واما حيوان من الحيوانات التي يتغذى بها، اما البرية واما البحرية.
وكان قد صحّ عنده ان هذه الاجناس كلها من فعل ذلك الموجود الواجب الوجود، الذي تبين له ان سعادته في القرب منه، وطلب التشبيه به ولا محالة ان الاغتذاء بها مما يقطعها عن كمالها، ويحول بينها وبين الغاية القصوى المقصودة بها. فكان ذلك اعتراض على فعل الفاعل. وهذا الاعتراض مضاد لما يطلبه من القرب منه والتشبه به فرأى ان الصواب كان له، لو امكن ان يمتنع عن الغذاء جملة واحدة. لكنه لما لم يمكنه ذلك، ورأى انه ان امتنع عنه، آل ذلك الى فساد جسمه، فيكون ذلك اعتراضا على فاعله اشد من الأول، اذ هو اشرف من تلك الأشياء الاخر التي يكون فسادها سببا لبقائه. فاستسهل ايسر الضررين، وتسامح في اخف الاعتراضين، ورأى ان يأخذ من هذه الاجناس، اذا عدمت، ايها تيسر له، بالقدر الذي يتبين له بعد هذا.(1/75)
وكان قد صحّ عنده ان هذه الاجناس كلها من فعل ذلك الموجود الواجب الوجود، الذي تبين له ان سعادته في القرب منه، وطلب التشبيه به ولا محالة ان الاغتذاء بها مما يقطعها عن كمالها، ويحول بينها وبين الغاية القصوى المقصودة بها. فكان ذلك اعتراض على فعل الفاعل. وهذا الاعتراض مضاد لما يطلبه من القرب منه والتشبه به فرأى ان الصواب كان له، لو امكن ان يمتنع عن الغذاء جملة واحدة. لكنه لما لم يمكنه ذلك، ورأى انه ان امتنع عنه، آل ذلك الى فساد جسمه، فيكون ذلك اعتراضا على فاعله اشد من الأول، اذ هو اشرف من تلك الأشياء الاخر التي يكون فسادها سببا لبقائه. فاستسهل ايسر الضررين، وتسامح في اخف الاعتراضين، ورأى ان يأخذ من هذه الاجناس، اذا عدمت، ايها تيسر له، بالقدر الذي يتبين له بعد هذا.
نوع طعامه: اقتصر طعامه على الفواكه مع العناية ببزورها
او بزر بعض الثمر مثل الجوز. او الحيوان او بيض الحيوان شرط ان يأخذ ما هو اكثر وجودا حتى لا يفنى نوعه.
فاما ان كانت كلها موجودة، فينبغي له حينئذ ان يتثبت ويتخير منها ما لم يكن في اخذه كبير اعتراض على فعل الفاعل وذلك مثل لحوم الفواكه التي قد تناهت في الطيب، وصلح ما فيها من البزر لتوليد المثل على شرط التحفظ بذلك البزر، بان لا يأكله ولا يفسده ولا يلقيه في موضع لا يصلح للنبات، مثل الصفاة (1)
والسبخة ونحوهما. فان تعذر عليه وجود مثل هذه الثمرات ذات اللحم الغاذي، كالتفاح والكمثرى والاجاص ونحوها، كان له عند ذلك ان يأخذ اما من الثمرات التي لا يغذو منها الا نفس البزر، كالجوز والقسطل، واما من البقول التي لم تصل بعد حد كمالها.
والشرط عليه في هذين ان يقصد اكثرها وجودا واقواها توليدا، وان لا يستأصل اصولها ولا يفني بزرها. فان عدم هذه، فله ان يأخذ من الحيوان او من بيضه، والشرط عليه في الحيوان ان يأخذ من اكثره وجودا، ولا يستأصل منه نوعا بأسره.
هذا ما رآه في جنس ما يتغذى به.
المقدار: ما يسد خلة الجوع
الزمان: يأكل لما يشعر بضعف من قلة الطعام
واما المقدار، فرأى ان يكون بحسب ما يسد خلة (2) الجوع، ولا يزيد عليها.
واما الزمان الذي بين كل عودتين فرأى انه اذا اخذ حاجته من الغذاء، ان يقيم عليه ولا يتعرض لسواه، حتى يلحقه ضعف يقطع به عن بعض الاعمال التي تجب عليه في التشبه الثاني، وهي التي يأتي ذكرها بعد هذا.
فاما ما تدعو اليه الضرورة في بقاء الروح الحيواني مما يقيه من خارج، فكان الخطب فيه عليه يسيرا، اذ كان مكتسيا بالجلود، وقد كان له مسكن يقيه مما يرد عليه من خارج. فاكتفى بذلك، ولم ير الاشتغال به والتزم في غذائه القوانين التي رسمها لنفسه، وهي التي تقدم شرحها.
__________
(1) الصفاة: الحجر الضخم الشديد الذي لا ينبت.
(2) خلة: حاجة.(1/76)
التشبه بالاجسام السماوية:
اعتقد حي ان الافلاك تسبح الله في حركاتها الدائرية فاخذ يدور حول الجزيرة ثم ان الافلاك تدور حول نفسها، فاخذ يدور حول نفسه حتى يغشى عليه كما وانه لاحظ ان الافلاك براقة فاخذ ينظف نفسه.
ثم اخذ في العمل الثاني، وهو التشبه بالاجسام السماوية والاقتداء بها، والتقبل لصفاتها، وتتبع اوصافها. فانحصرت عنده في ثلاثة اضرب:
الضرب الأول: اوصاف لها بالاضافة الى ما تحتها من عالم الكون والفساد، وهي ما تعطيه اياه من التسخين بالذات، او التبريد بالعرض، والاضاءة والتلطيف والتكثيف، الى سائر ما تفعل فيه من الامور التي بها يستعد لفيضان الصور الروحانية عليه من عند الفاعل الواجب الوجود.
فأخذ يقلد حركات الاجسام السماوية
والضرب الثاني: اوصاف لها في ذاتها، مثل كونها شفافة ونيرة وطاهرة، منزهة عن الكدر وضروب الرجس، ومتحركة بالاستدارة، بعضها على مركز نفسها، وبعضها على مركز غيرها.
وله نفس تحاول ان تستغرق في واجب الوجود
والضرب الثالث: اوصاف لها بالاضافة الى الموجود الواجب الوجود، مثل كونها تشاهده مشاهدة دائمة، ولا تعرض عنه، وتتشوق اليه، وتتصرف بحكمه، وتتسخر في تتميم ارادته، ولا تتحرك الا بمشيئته وفي قبضته. فجعل يتشبه بها جهده في كل واحد من هذه الاضرب الثلاثة.
اعتناؤه بالكائنات اذ ان الاجسام السماوية تمد هذه الكائنات بالحياة
اما الضرب الأول: فكان تشبهه بها فيه ان الزم نفسه ان لا يرى ذا حاجة او عاهة او مضرة، او ذا عائق من الحيوان او النبات، وهو يقدر على ازالتها عنه، الا ويزيلها. فمتى وقع بصره على نبات قد حجبه على الشمس حاجب، او تعلق به نبات آخر يؤذيه، او عطش عطشا يكاد يفسده، ازال عنه ذلك الحاجب
ان كان مما يزال وفصل بينه وبين ذلك المؤذي بفاصل لا يضرّ المؤذي وتعهده بالسقي ما امكنه. ومتى وقع بصره على حيوان قد ارهقه ضبع او نشب به ناشب، او تعلق على شوك، او سقط في عينيه او اذنيه شيء يؤذيه، او مسه ظمأ او جوع، تكفل بازالة ذلك كله عن جهده، واطعمه وسقاه.(1/77)
اما الضرب الأول: فكان تشبهه بها فيه ان الزم نفسه ان لا يرى ذا حاجة او عاهة او مضرة، او ذا عائق من الحيوان او النبات، وهو يقدر على ازالتها عنه، الا ويزيلها. فمتى وقع بصره على نبات قد حجبه على الشمس حاجب، او تعلق به نبات آخر يؤذيه، او عطش عطشا يكاد يفسده، ازال عنه ذلك الحاجب
ان كان مما يزال وفصل بينه وبين ذلك المؤذي بفاصل لا يضرّ المؤذي وتعهده بالسقي ما امكنه. ومتى وقع بصره على حيوان قد ارهقه ضبع او نشب به ناشب، او تعلق على شوك، او سقط في عينيه او اذنيه شيء يؤذيه، او مسه ظمأ او جوع، تكفل بازالة ذلك كله عن جهده، واطعمه وسقاه.
ومتى وقع بصره على ماء يسيل الى سقي نبات او حيوان، وقد عاقه عن ممره عائق، من حجر سقط فيه، او جرف انهار عليه، ازال ذلك كله عنه. وما زال يمعن في هذا النوع من ضروب التشبه حتى بلغ فيه الغاية.
اعتناؤه بنظافة نفسه، اذ ان الاجسام السماوية تتلألأ نورا وجمالا
واما الضرب الثاني: فكان تشبهه بها فيه، ان الزم نفسه دوام الطهارة، وازالة الدنس والرجس عن جسمه، والاغتسال بالماء في اكثر الاوقات، وتنظيف اظفاره واسنانه ومغابن (1) بدنه، وتطييبها بما امكنه من طيب النبات وصنوف الدواهن العطرة، وتعهد لباسه بالتنظيف والتطييب، حتى كان يتلالأ حسنا وجمالا ونظافة وطيبا.
وتقليده لحركاتها بدورانه حول الجزيرة وحول نفسه
والتزم مع ذلك ضروب الحركة على الاستدارة: فتارة كان يطوف بالجزيرة، ويدور على ساحلها، ويسيح باكنافها. وتارة كان يطوف ببيته او ببعض الكدى (2)
ادوارا معدودة، اما مشيا، واما هرولة. وتارة يدور على نفسه حتى يغشى عليه.
تركيز تفكيره في واجب الوجود واعتراض الجسم له
واما الضرب الثالث: فكان تشبهه بها فيه ان كان يلازم الفكرة في ذلك الموجود الواجب الوجود، ثم يقطع علائق المحسوسات، ويغمض عينيه ويسد اذنيه، ويضرب جهده عن تتبع الخيال، ويروم بمبلغ طاقته ان لا يفكر في شيء سواه، ولا يشرك به احدا، ويستعين على ذلك بالاستدارة على نفسه والاستحثاث فيها. فكان اذا
__________
(1) مغابن: الابط وكل مجمع قذارة في الجسم.
(2) الكدى: جمع كدية: الارض الصلبة الغليظة.(1/78)
اشتد في الاستدارة غابت عنه جميع المحسوسات، وضعف الخيال، وسائر القوى التي تحتاج الى الآلات الجسمانية وقوي فعل ذاته، التي هي بريئة من الجسم. فكانت في بعض الاوقات فكرته تخلص عن الشوب، ويشاهد بها الموجود الواجب الوجود، ثم تكر عليه القوى الجسمانية فيفسد عليه حاله، وترده الى اسفل السافلين، فيعود من ذي قبل، فان لحقه ضعف يقطع به عن غرضه، تناول بعض الاغذية عن الشرائط المذكورة.
مجاهدته للجسم، وتفكيره في واجب الوجود
ثم انتقل الى شأنه من التشبه بالاجسام السماوية بالاضرب الثلاثة المذكورة ودأب على ذلك مدة، وهو يجاهد قواه الجسمانية وتجاهده، وينازعها وتنازعه في الاوقات التي يكون له عليها الظهور وتتخلص فكرته عن الشوب، يلوح له شيء من احوال اهل التشبه الثالث. ثم جعل يطلب التشبه الثالث، ويسعى في تحصيله. فينظر في صفات الموجود الواجب الوجود. وقد كان تبين له، اثناء نظره العلمي قبل الشروع في العمل، انها على ضربين: اما صفة ثبوت، كالعلم والقدرة والحكمة واما صفة سلب، كتنزهه عن الجسمانية ولواحقها، وما يتعلق بها، ولو على بعد.
وان صفات الثبوت يشترط فيها التنزيه، حتى لا يكون فيها شيء من صفات الاجسام التي من جملتها الكثرة، فلا تتكثر ذاته بهذه الصفات الثبوتية، ثم ترجع كلها الى معنى واحد هي حقيقة ذاته. فجعل يطلب كيف يتشبه به في كل واحد من هذين الضربين.
يرد جميع صفات الواجب الوجود (الله) الى ذاته:
فمثلا علم الله هو هو، وقدرته هي هو وهذا هو رأي المعتزلة في الصفات.
اما صفات الايجاب، فلما علم انها كلها راجعة الى حقيقة ذاته، وانه لا كثرة فيها بوجه من الوجوه، اذ الكثرة من صفات الاجسام وعلم ان علمه بذاته ليس معنى زائدا على ذاته، بل ذاته هي علمه بذاته، وعلمه بذاته هو ذاته تبين له انه، ان امكنه هو ان يعلم ذاته، فليس ذلك العلم الذي علم به ذاته معنى زائدا
على ذاته، بل هو هو. فرأى ان التشبه به في صفات الايجاب، هو ان يعلمه فقط دون ان يشرك بذلك شيئا من صفات الاجسام. فأخذ نفسه بذلك.(1/79)
اما صفات الايجاب، فلما علم انها كلها راجعة الى حقيقة ذاته، وانه لا كثرة فيها بوجه من الوجوه، اذ الكثرة من صفات الاجسام وعلم ان علمه بذاته ليس معنى زائدا على ذاته، بل ذاته هي علمه بذاته، وعلمه بذاته هو ذاته تبين له انه، ان امكنه هو ان يعلم ذاته، فليس ذلك العلم الذي علم به ذاته معنى زائدا
على ذاته، بل هو هو. فرأى ان التشبه به في صفات الايجاب، هو ان يعلمه فقط دون ان يشرك بذلك شيئا من صفات الاجسام. فأخذ نفسه بذلك.
واما صفات السلب، فانها كلها راجعة الى التنزه عن الجسمية. فجعل يطرح اوصاف الجسمية عن ذاته. وكان قد اطرح منها كثيرا في رياضته المتقدمة، التي كان ينحو بها التشبه بالاجسام السماوية. الا انه ابقى منها بقايا كثيرة، كحركة الاستدارة والحركة من اخص صفات الاجسام وكالاعتناء بأمر الحيوان والنبات، والرحمة لها، والاهتمام بازالة عوائقها. فان هذه ايضا من صفات الاجسام، اذ لا يراها اولا الا بقوة جسمانية. ثم يكدح في امرها بقوة جسمانية ايضا. فأخذ في طرح ذلك كله عن نفسه، اذ هي بجملتها مما لا يليق بهذه الحالة التي يطلبها الآن. وما زال يقتصر على السكون في قصر مغارته مطرقا، غاضا بصره، معرضا عن جميع المحسوسات والقوى الجسمانية، مجتمع الهم والفكرة في الموجود الواجب الوجود وحده دون شركة. فمتى سنح لخياله سانح سواه، طرده عن خياله جهده، ودافعه وراض نفسه على ذلك، ودأب فيه مدة طويلة، بحيث تمرّ عليه عدة ايام لا يتغذى فيها، ولا يتحرك.
قارن بين ذلك والفناء الصوفي
يلاحظ استخدامه للفظ «الحق» وهو لفظ صوفي. فناؤه عن نفسه، بعد ما فني عن كل شيء الا نفسه. لا يستطيع الصوفي ان يصف حالة الفناء هذه.
وفي خلال شدة مجاهدته هذه، ربما كانت تغيب عن ذكره وفكره جميع الذوات الا ذاته فانها كانت لا تغيب عنه في وقت استغراقه بمشاهدة الموجود الأول الحق الواجب الوجود. فكان يسوءه ذلك، ويعلم انه شوب في المشاهدة المحضة، وشركة في الملاحظة. وما زال يطلب الفناء عن نفسه، والاخلاص في مشاهدة الحق، حتى تأتى له ذلك، وغابت عن ذكره وفكره السماوات والارض وما بينهما وجميع الصور الروحانية والقوى الجسمانية، وجميع القوى المفارقة للمواد، والتي هي الذوات العارفة بالموجود وغابت ذاته في جملة تلك الذوات، وتلاشى الكل واضمحل، وصار هباء منثورا ولم يبق الا الواحد الحق الموجود الثابت الوجود. وهو يقول بقوله الذي ليس معنى زائدا على ذاته: «لمن الملك اليوم؟ لله الواحد القهار» (1). ففهم كلامه وسمع نداءه، ولم يمنعه عن فهمه كونه لا يعرف الكلام ولا يتكلم. واستغرق في حالته
__________
(1) قرآن كريم سورة ابراهيم الآية 48(1/80)
هذه وشاهد ما لا عين رأت، ولا اذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر. فلا تعلق قلبك بوصف امر لم يخطر على قلب بشر، فان كثيرا من الامور التي قد تخطر على قلوب البشر يتعذر وصفها، فكيف بأمر لا سبيل الى خطوره على القلب، ولا هو من عالمه ولا من طوره؟ ولست اعني بالقلب جسم القلب ولا الروح التي في تجويفه بل اعني به صورة تلك الروح الفائضة بقواها على بدن الانسان. فان كل واحد من هذه الثلاثة قد يقال له «قلب»، ولكن لا سبيل لخطور ذلك الامر على واحد من هذه الثلاثة، ولا يتأتي التعبير الا عما خطر عليها.
ومن رام التعبير عن تلك الحال، فقد رام مستحيلا وهو بمنزلة من يريد ان يذوق الالوان المصبوغة من حيث هي الوان، ويطلب ان يكون السواد مثلا حلوا او حامضا. لكنا مع ذلك، لا نخليك عن اشارات نومئ بها الى ما شاهده من عجائب ذلك المقام، على سبيل ضرب المثل، لا على سبيل قرع باب الحقيقة اذ لا سبيل الى التحقيق بما في ذلك المقام الا بالوصول اليه.
فاصغ الآن بسمع قلبك، وحدق ببصر عقلك الى ما اشير به اليه، لعلك ان تجد منه هديا يلقيك على جادة الطريق. وشرطي عليك ان لا تطالب مني في هذا الوقت مزيد بيان بالمشافهة على ما اودعه هذه الاوراق فان المجال ضيق والتحكم بالالفاظ على امر ليس من شأنه ان يلفظ به خطر.
وحدة الوجود. اعتقد حي بن يقظان ان ذاته من ذات الحق وان ليس شيء الا ذات الحق
فأقول: انه لما فني عن ذاته وعن جميع الذوات، ولم ير في الوجود الا الواحد الحيّ القيوم، وشاهد ما شاهد ثم عاد الى ملاحظة الاغيار، عند ما افاق من حاله تلك التي هي شبيهة بالسكر، خطر بباله انه لا ذات له يغاير بها ذات الحق تعالى، وان حقيقة ذاته هي ذات الحق، وان الشيء الذي كان يظن اولا انه ذاته المغايرة لذات الحق، ليس شيئا في الحقيقة، بل ليس ثم شيء إلا ذات الحق، وان ذلك بمنزلة نور الشمس الذي يقع على الاجسام الكثيفة فتراه يظهر فيها.
فانه وان نسب الى الجسم الذي ظهر فيه، فليس هو في الحقيقة شيئا سوى نور الشمس، وان زال ذلك الجسم زال نوره وبقي نور الشمس بحاله لم ينقص عند حضور ذلك الجسم، ولم يزد عند مغيبه.
ومتى حدث جسم يصلح لقبول ذلك النور قبله، فاذا عدم الجسم ذلك القبول
ولم يكن له معنى. وتقوى عنده هذا الظن بما قد كان بان له من ان ذات الحق عز وجل لا تتكثر بوجه من الوجوه، وان علمه بذاته هو ذاته بعينها. فلزم عنده من هذا ان من حصل عنده العلم بذاته، فقد حصلت عنده ذاته، وقد كان حصل عنده العلم، فحصلت عنده الذات. وهذه الذات لا تحصل الا عند ذاتها، ونفس حصولها هو الذات، فاذن هو الذات بعينها.(1/81)
ومتى حدث جسم يصلح لقبول ذلك النور قبله، فاذا عدم الجسم ذلك القبول
ولم يكن له معنى. وتقوى عنده هذا الظن بما قد كان بان له من ان ذات الحق عز وجل لا تتكثر بوجه من الوجوه، وان علمه بذاته هو ذاته بعينها. فلزم عنده من هذا ان من حصل عنده العلم بذاته، فقد حصلت عنده ذاته، وقد كان حصل عنده العلم، فحصلت عنده الذات. وهذه الذات لا تحصل الا عند ذاتها، ونفس حصولها هو الذات، فاذن هو الذات بعينها.
وكذلك جميع الذوات المفارقة للمادة العارفة بتلك الذات الحقة التي كان يراها اولا كثيرة، وصارت عنده بهذا الظن شيئا واحدا.
الاشراق. يتدارك وحدة الوجود، وذلك بفضل هداية اشرقها الله عليه: ففهم ان ذاته مغايرة لذات الحق
وكادت هذه الشبهة ترسخ في نفسه لولا ان تداركه الله برحمته، وتلافاه بهدايته:
فعلم ان هذه الشبهة انما ثارت عنده من بقايا ظلمة الاجسام، وكدورة المحسوسات.
فان الكثير والقليل، والواحد والوحدة، والجمع والاجتماع، والافتراق، هي كلها من صفات الاجسام. وتلك الذوات المفارقة العارفة بذات الحق، عزّ وجلّ، لبراءتها عن المادة، لا يجب ان يقال انها كثيرة، ولا واحدة، لان الكثرة انما هي مغايرة الذوات بعضها لبعض، والواحدة ايضا لا تكون الا بالاتصال. ولا يفهم شيء من ذلك الا في المعاني المركبة الملتبسة بالمادة.
الكثرة لا تكون الا في افراد النوع الواحد او الجنس الواحد والمادة هي سبب الكثرة وكل ما هو خال من المادة لا يشترك مع غيره في النوع او الجنس
غير ان العبارة في هذا الموضع قد تضيق جدا، لانك ان عبرت عن تلك الذوات المفارقة بصيغة الجمع، حسب لفظنا هذا، او هم ذلك معنى الكثرة فيها، وهي بريئة عن الكثرة. وان انت عبرت بصيغة الافراد، اوهم ذلك معنى الاتحاد، وهو مستحيل عليها. وكأني بمن يقف على هذا الموضع من الخفافيش، الذين تظلم الشمس في اعينهم، يتحرك في سلسلة جنونه، ويقول: لقد افرطت في تدقيقك حتى انك قد انخلعت عن غريزة العقلاء، واطرحت حكم المعقول، فان من احكام العقل ان الشيء اما
واحد واما كثير. فليتئد في غلوائه، وليكف من غرب لسانه، وليتهم نفسه، وليعتبر بالعالم المحسوس الخسيس الذي هو بين اطباقه، بنحو ما اعتبر به «حيّ بن يقظان»، حيث كان ينظر فيه بنظر آخر، فيراه كثيرا كثرة لا تنحصر، ولا تدخل تحت حد. ثم ينظر فيه بنظر آخر، فيراه واحدا.(1/82)
غير ان العبارة في هذا الموضع قد تضيق جدا، لانك ان عبرت عن تلك الذوات المفارقة بصيغة الجمع، حسب لفظنا هذا، او هم ذلك معنى الكثرة فيها، وهي بريئة عن الكثرة. وان انت عبرت بصيغة الافراد، اوهم ذلك معنى الاتحاد، وهو مستحيل عليها. وكأني بمن يقف على هذا الموضع من الخفافيش، الذين تظلم الشمس في اعينهم، يتحرك في سلسلة جنونه، ويقول: لقد افرطت في تدقيقك حتى انك قد انخلعت عن غريزة العقلاء، واطرحت حكم المعقول، فان من احكام العقل ان الشيء اما
واحد واما كثير. فليتئد في غلوائه، وليكف من غرب لسانه، وليتهم نفسه، وليعتبر بالعالم المحسوس الخسيس الذي هو بين اطباقه، بنحو ما اعتبر به «حيّ بن يقظان»، حيث كان ينظر فيه بنظر آخر، فيراه كثيرا كثرة لا تنحصر، ولا تدخل تحت حد. ثم ينظر فيه بنظر آخر، فيراه واحدا.
الكثرة في الوحدة من خصائص العالم المحسوس، وليست من خصائص العالم الالهي
وبقي في ذلك مترددا، ولم يمكنه ان يقطع بأحد الوصفين دون الآخر.
هذا، فالعالم المحسوس منشأه الجمع والافراد، وفيه تفهم حقيقته، وفيه الانفصال والاتصال، والتحيز والمغايرة، والاتفاق والاختلاف. فما ظنه بالعالم الالهي الذي لا يقال فيه كل ولا بعض، ولا ينطق في امره بلفظ من الالفاظ المسموعة، الا وتوهم فيه شيء على خلاف الحقيقة، فلا يعرفه الا من شاهده ولا تثبت حقيقته، الا عند من حصل فيه.
واما قوله: «حتى انخلعت عن غريزة العقلاء، واطرحت حكم المعقول»، فنحن نسلم له ذلك، ونتركه مع عقله وعقلائه. فان العقل الذي يعنيه هو وامثاله، انما هو القوة الناطقة التي تتصفح اشخاص الموجودات المحسوسة، وتقتنص منها المعنى الكلي. والعقلاء الذين يعنيهم، هم ينظرون بهذا النظر. والنمط الذي كلامنا فيه فوق هذا كله، فليسد عنه سمعه من لا يعرف سوى المحسوسات وكلياتها، وليرجع الى فريقه الذين «{يَعْلَمُونَ ظََاهِراً مِنَ الْحَيََاةِ الدُّنْيََا، وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غََافِلُونَ}» (1).
فان كنت ممن يقتنع بهذا النوع من التلويح والاشارة الى ما في العالم الالهي، ولا تحمل الفاظا من المعاني على ما جرت العادة بها في تحميلها اياه، فنحن نزيدك شيئا مما شاهده «حي بن يقظان» في مقام الصدق الذي تقدم ذكره، فنقول:
الجزء السادس: سلسلة الفيوضات
الفلك الاعلى
انه بعد الاستغراق المحض، والفناء التام، وحقيقة الوصول، شاهد الفلك الاعلى الذي لا جسم له، ورأى ذاتا بريئة عن المادة، ليست هي ذات الواحد الحق،
__________
(1) سورة الروم الآية 7(1/83)
ولا هي نفس الفلك، ولا هي غيرها وكأنها صورة الشمس التي تظهر في مرآة من المرائي الصقيلة، فانها ليست هي الشمس، ولا المرآة، ولا هي غيرهما.
ورأى لذات ذلك الفلك المفارقة من الكمال والبهاء والحسن، ما يعظم عن ان يوصف بلسان، ويدق عن ان يكسى بحرف او صوت ورآه في غاية من اللذة والسرور والغبطة والفرح، بمشاهدته ذات الحق جل جلاله.
فلك الكواكب الثابتة
وشاهد ايضا للفلك الذي يليه، وهو فلك الكواكب الثابتة، ذاتا بريئة عن المادة ايضا، وليست هي ذات الواحد الحق، ولا ذات الفلك الاعلى المفارقة، ولا نفسه، ولا هي غيرها. وكأنها صورة الشمس التي تظهر في مرآة قد انعكست اليها الصورة من مرآة اخرى مقابلة للشمس. ورأى لهذه الذات ايضا من البهاء والحسن واللذة، مثل ما رأى لتلك التي للفلك الاعلى.
فلك زحل وباقي الكواكب المتحركة
وشاهد ايضا للفلك الذي يلي هذا، وهو فلك زحل، ذاتا مفارقة للمادة، ليست هي شيئا من الذوات التي شاهدها قبله، ولا هي غيرها، وكأنها صورة الشمس التي تظهر في مرآة قد انعكست اليها الصورة من مرآة مقابلة للشمس. ورأى لهذه الذات ايضا مثل ما رأى لما قبلها من البهاء واللذة.
وما زال يشاهد لكل فلك ذاتا مفارقة بريئة عن المادة، ليست هي شيئا من الذوات التي قبلها، ولا هي غيرها وكأنها صورة الشمس التي تنعكس من مرآة على مرآة، على رتب مرتبة، بحسب ترتيب الافلاك. وشاهد لكل ذات من هذه الذوات من الحسن والبهاء واللذة والفرح، ما لا عين رأت، ولا اذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، الى ان انتهى الى عالم الكون والفساد، وهو جميعه حشو فلك القمر.
فرأى له ذاتا بريئة عن المادة، ليست شيئا من الذوات التي شاهدها قبلها، ولا هي سواها.(1/84)
فرأى له ذاتا بريئة عن المادة، ليست شيئا من الذوات التي شاهدها قبلها، ولا هي سواها.
وحدة الوجود
ولهذه الذات سبعون الف وجه، في كل وجه سبعون الف فم، وفي كل فم سبعون الف لسان، يسبح بها ذات الواحد الحق، ويقدسها ويمجدها، لا يفتر.
ورأى لهذه الذات التي توهم فيها الكثرة، وليست كثيرة، من الكمال واللذة، مثل الذي رآه لما قبلا. وكأن هذه الذات صورة الشمس التي تظهر في ماء مترجرج، قد انعكست اليها الصورة من آخر المرايا التي انتهى اليها الانعكاس، على الترتيب المتقدم من المرآة الاولى، التي قابلت الشمس بعينها.
ثم شاهد لنفسه ذاتا مفارقة، لو جاز ان تتبعض ذات السبعين الف وجه، لقلنا انها بعضها.
مشاهدته الانفس التي وصلت مثله الى هذه المعرفة. كل هذه الانفس متحدة كأنها نفس واحدة
ولولا ان هذه الذات حدثت بعد ان لم تكن، لقلنا انها هي ولولا اختصاصها ببدنه عند حدوثه، لقلنا انها لم تحدث. وشاهد في هذه الرتبة ذواتا مثل ذاته لاجسام كانت ثم اضمحلت، ولاجسام لم تزل معه في الوجود، وهي من الكثرة في حد بحيث لا تتناهى، ان جاز ان يقال لها كثيرة او هي كلها متحدة، ان جاز ان يقال لها واحدة.
لا يمكن وصف سعادة هذه الانفس
ورأى لذاته ولتلك الذوات، التي في رتبته، من الحسن والبهاء واللذة غير المتناهية، ما لا عين رأت ولا اذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، ولا يصفه الواصفون، ولا يعقله الا الواصلون العارفون.
يردد هنا تقسيم الأنفس عند ابن سينا: اللاحقون اهل الميمنة اهل الميسرة
وشاهد ذواتا كثيرة مفارقة للمادة، كأنها مرايا صدئة، قد ران عليها الخبث،
وهي مع ذلك مستديرة للمرايا الصقيلة التي ارتسمت فيها صورة الشمس، ومولية عنها بوجوهها. ورأى لهذه الذوات من القبح والنقص، ما لم يقم قط بباله. ورآها في آلام لا تنقضي، وحسرات لا تنمحي قد احاط بها سرادق العذاب، واحرقتها نار الحجاب ونشرت بمناشير بين الانزعاج والانجذاب.(1/85)
وشاهد ذواتا كثيرة مفارقة للمادة، كأنها مرايا صدئة، قد ران عليها الخبث،
وهي مع ذلك مستديرة للمرايا الصقيلة التي ارتسمت فيها صورة الشمس، ومولية عنها بوجوهها. ورأى لهذه الذوات من القبح والنقص، ما لم يقم قط بباله. ورآها في آلام لا تنقضي، وحسرات لا تنمحي قد احاط بها سرادق العذاب، واحرقتها نار الحجاب ونشرت بمناشير بين الانزعاج والانجذاب.
عودته الى العالم المحسوس بعد مشاهدته عالم الأنفس
وشاهد هنا ذواتا سوى هذه المعذبة تلوح، ثم تضمحل، وتنعقد ثم تنحل فتثبت فيها.
وانعم النظر اليها: فرأى هولا عظيما، وخطبا جسيما، وخلقا حثيثا، واحكاما بليغة، وتسوية ونفخا وانشاء ونسخا. فما هو الا ان تثبت قليلا، فعادت اليه حواسه، وتنبه من حاله تلك التي كانت شبيهة بالغشي، وزلت قدمه عن ذلك المقام، ولاح له العالم المحسوس، وغاب عنه العالم الالهي اذ لم يكن اجتماعهما في حال واحدة كضرتين: ان ارضيت احداهما اسخطت الاخرى. فان قلت: يظهر مما حكيته من هذه المشاهدة ان الذوات المفارقة، ان كانت لجسم دائم الوجود لا يفسد كالافلاك، كانت هي دائمة الوجود وان كانت لجسم يؤول الى الفساد، كالحيوان الناطق، فسدت هي واضمحلت وتلاشت حسبما مثلت به في مرايا الانعكاس. فان الصورة لا ثبات لها الا بثبات المرآة، فاذا فسدت المرآة صحّ فساد الصورة واضمحلت هي. فأقول لك: ما اسرع ما نسيت العهد، وحلت عن الربط. ألم نقدم اليك ان مجال العبارة هنا ضيق، وان الالفاظ على كل حال توهم غير الحقيقة. وذلك الذي توهمته انما اوقعك فيه ان جعلت المثال والممثل به على حكم واحد، من جميع الوجوه.
ولا ينبغي ان يفعل ذلك في اصناف المخاطبات المعتادة فكيف هاهنا والشمس ونورها، وصورتها وتشكلها، والمرايا والصور الحاصلة فيها، كلها امور غير مفارقة للاجسام، ولا قوام لها الا بها وفيها؟ فلذلك افتقرت في وجودها اليها، وبطلت ببطلانها.
واما الذوات الالهية، والارواح الربانية، فانها كلها بريئة عن الاجسام ولواحقها، ومنزهة غاية التنزيه عنها ولا ارتباط ولا تعلق لها بها وسواء بالاضافة اليها بطلان الاجسام او ثبوتها، ووجودها او عدمها. وانما ارتباطها وتعلقها بذات الواحد الحق الموجود الواجب الوجود، الذي هو اولها ومبدأها، وسببها وموجدها، وهو يعطيها
الدوام، ويمدها بالبقاء والتسرمد، ولا حاجة بها، بل الاجسام محتاجة اليها. ولو جاز عدمها، لعدمت الاجسام، فانها هي مباديها، كما انه لو جاز ان تعدم ذات الواحد الحق تعالى وتقدس عن ذلك، لا إله إلا هو لعدمت هذه الذوات كلها، ولعدمت الاجسام، ولعدم العالم الحسي بأسره، ولم يبق موجود، اذ الكل مرتبط بعضه ببعض. والعالم المحسوس، وان كان تابعا للعالم الالهي، شبيه الظل له والعالم الالهي مستغن عنه وبريء منه، فانه مع ذلك يستحيل فرض عدمه، اذ هو لا محالة تابع للعالم الالهي. وانما فساده ان يبدل، لا ان يعدم بالجملة. وبذلك نطق الكتاب العزيز حيثما وقع هذا المعنى في تغير الجبال وتصييرها كالعهن (1)، والناس كالفراش، وتكوير الشمس والقمر، وتفجير البحار «{يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمََاوََاتُ}».(1/86)
واما الذوات الالهية، والارواح الربانية، فانها كلها بريئة عن الاجسام ولواحقها، ومنزهة غاية التنزيه عنها ولا ارتباط ولا تعلق لها بها وسواء بالاضافة اليها بطلان الاجسام او ثبوتها، ووجودها او عدمها. وانما ارتباطها وتعلقها بذات الواحد الحق الموجود الواجب الوجود، الذي هو اولها ومبدأها، وسببها وموجدها، وهو يعطيها
الدوام، ويمدها بالبقاء والتسرمد، ولا حاجة بها، بل الاجسام محتاجة اليها. ولو جاز عدمها، لعدمت الاجسام، فانها هي مباديها، كما انه لو جاز ان تعدم ذات الواحد الحق تعالى وتقدس عن ذلك، لا إله إلا هو لعدمت هذه الذوات كلها، ولعدمت الاجسام، ولعدم العالم الحسي بأسره، ولم يبق موجود، اذ الكل مرتبط بعضه ببعض. والعالم المحسوس، وان كان تابعا للعالم الالهي، شبيه الظل له والعالم الالهي مستغن عنه وبريء منه، فانه مع ذلك يستحيل فرض عدمه، اذ هو لا محالة تابع للعالم الالهي. وانما فساده ان يبدل، لا ان يعدم بالجملة. وبذلك نطق الكتاب العزيز حيثما وقع هذا المعنى في تغير الجبال وتصييرها كالعهن (1)، والناس كالفراش، وتكوير الشمس والقمر، وتفجير البحار «{يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمََاوََاتُ}».
فهذا القدر هو الذي امكنني الآن ان أشير اليك به فيما شاهده «حي بن يقظان» في ذلك المقام الكريم فلا تلتمس الزيادة عليه من جهة الالفاظ، فان ذلك كالمتعذر.
وأما تمام خبره، فسأتلوه عليك ان شاء الله تعالى، وهو انه لما عاد الى العالم المحسوس، وذلك بعد جولانه حيث جال، سئم تكاليف الحياة الدنيا، واشتد شوقه الى الحياة القصوى، فجعل يطلب العود الى ذلك المقام بالنحو الذي طلبه اولا، حتى وصل اليه بأيسر من السعي الذي وصل به اولا ودام فيه ثانيا مدة اطول من الاولى.
ثم عاد الى عالم الحس. ثم تكلف الوصول الى مقامه بعد ذلك فكان ايسر عليه من الاولى والثانية، وكان دوامه اطول.
اصبح من السهل على حي مشاهدة العالم الروحاني
وما زال الوصول الى ذلك المقام الكريم يزيد عليه سهولة، والدوام يزيد فيه طولا بعد مدة، حتى صار بحيث يصل اليه متى شاء، ولا ينفصل عنه الا متى شاء.
فكان يلازم مقامه ذلك، ولا ينثني عنه الا لضرورة بدنه التي كان قد قللها، حتى كان لا يوجد اقل منها.
__________
(1) العهن: الصوف.(1/87)
وتمنى لو خلص من جسده ليسعد بالمشاهدة دون عائق
وهو في ذلك كله يتمنى ان يريحه الله من كل بدنه الذي يدعوه الى مفارقة مقامه ذلك، فيتخلص الى لذته تخلصا دائما، ويبرأ عما يجده من الألم عند الاعراض عن مقامه ذلك الى ضرورة البدن.
وبقي على حالته تلك حتى أناف على سبعة أسابيع من منشئه، وذلك خمسون عاما. وحينئذ اتفقت له صحبة أسال، وكان من قصته معه ما يأتي ذكره بعد هذا ان شاء الله تعالى.(1/88)
وبقي على حالته تلك حتى أناف على سبعة أسابيع من منشئه، وذلك خمسون عاما. وحينئذ اتفقت له صحبة أسال، وكان من قصته معه ما يأتي ذكره بعد هذا ان شاء الله تعالى.
القسم الثالث سلامان وآسال
ذكروا ان جزيرة قريبة من الجزيرة التي ولد بها «حيّ بن يقظان»، على احد القولين المختلفين في صفة مبدأه، انتقلت اليها ملة من الملل الصحيحة، المأخوذة عن بعض الانبياء المتقدمين، صلوات الله عليهم، وكانت ملة محاكية لجميع الموجودات الحقيقية بالامثال المضروبة التي تعطي خيالات تلك الأشياء، وتثبت رسومها في النفوس، حسبما جرت به العادة في مخاطبة الجمهور. فما زالت تلك الملة تنتشر بتلك الجزيرة، وتقوى وتظهر، حتى قام بها ملكها وحمل الناس على التزامها.
وكان قد نشأ بتلك الجزيرة فتيان من اهل الفضل والرغبة في الخير، يسمى احدهما آسال، والآخر سلامان. فتلقيا تلك الملة، وقبلاها احسن قبول، واخذا على انفسهما بالتزام جميع شرائعها، والمواظبة على جميع اعمالها، واصطحبا على ذلك.
آسال يبحث عن باطن الشرع وسلامان يحتفظ بظاهره
وكانا يتفقهان في بعض الاوقات فيما ورد من الفاظ تلك الشريعة في صفة الله عز وجل وملائكته، وصفات المعاد والثواب والعقاب. فأما آسال، فكان اشد غوصا على الباطن، واكثر عثورا على المعاني الروحانية، واطمع في التأويل. واما سلامان صاحبه، فكان اكثر احتفاظا بالظاهر، واشد بعدا عن التأويل، واوقف عن التصرف والتأمل. وكلاهما مجد في الاعمال الظاهرة، ومحاسبة النفس، ومجاهدة الهوى. وكان في تلك الشريعة اقوال تحمل على العزلة والانفراد، وتدل على ان الفوز والنجاة فيهما واقوال أخر تحمل على المعاشرة، وملازمة الجماعة.(1/89)
وكانا يتفقهان في بعض الاوقات فيما ورد من الفاظ تلك الشريعة في صفة الله عز وجل وملائكته، وصفات المعاد والثواب والعقاب. فأما آسال، فكان اشد غوصا على الباطن، واكثر عثورا على المعاني الروحانية، واطمع في التأويل. واما سلامان صاحبه، فكان اكثر احتفاظا بالظاهر، واشد بعدا عن التأويل، واوقف عن التصرف والتأمل. وكلاهما مجد في الاعمال الظاهرة، ومحاسبة النفس، ومجاهدة الهوى. وكان في تلك الشريعة اقوال تحمل على العزلة والانفراد، وتدل على ان الفوز والنجاة فيهما واقوال أخر تحمل على المعاشرة، وملازمة الجماعة.
آسال يطلب العزلة
فتعلق آسال بطلب العزلة، ورجح القول فيها، لما كان في طباعه من دوام الفكرة، وملازمة العبرة، والغوص على المعاني. واكثر ما كان يتأتى له امله من ذلك بالانفراد.
وتعلق سلامان بملازمة الجماعة، ورجح القول فيها، لما كان في طباعه من الجبن عن الفكرة والتصرف. فكانت ملازمته الجماعة عنده مما يدرأ الوسواس، ويزيل الظنون المعترضة، ويعيذ من همزات الشياطين.
وكان اختلافهما في هذا الرأي سبب افتراقهما.
آسال يسعى في الذهاب الى الجزيرة التي فيها حي
وكان آسال قد سمع عن الجزيرة التي ذكر ان حي بن يقظان تكوّن بها وعرف ما بها من الخصب والمرافق والهواء المعتدل وان الانفراد بها يتأتى لملتمسه. فأجمع على ان يرتحل اليها ويعتزل الناس بها بقية عمره. فجمع ما كان له من المال، واكترى ببعضه مركبا تحمله الى تلك الجزيرة، وفرق باقيه على المساكين، وودع صاحبه سلامان، وركب متن البحر. فحمله الملاحون الى تلك الجزيرة، ووضعوه بساحلها وانفصلوا عنها.
فبقي آسال بتلك الجزيرة يعبد الله عز وجل ويعظمه ويقدسه، ويفكر في اسمائه الحسنى، وصفاته العليا فلا ينقطع خاطره ولا تتكدر فكرته. واذا احتاج الى الغذاء تناول من ثمرات تلك الجزيرة وصيدها ما يسد به جوعته. واقام على تلك الحال مدة هو في اتم غبطة، واعظم انس، بمناجاة ربه. وكان كل يوم يشاهد من الطافه ومزايا تحفه، وتيسيره عليه في مطلبه وغذائه، ما يثبت يقينه، ويقر عينه.
وكان في تلك المدة حي بن يقظان شديد الاستغراق في مقاماته الكريمة. فكان لا يبرح عن مغارته الا مرة في الاسبوع لتناول ما سنح من الغذاء. فلذلك لم يعثر عليه آسال بأول وهلة، بل كان يتطوف باكناف تلك الجزيرة، ويسيح في ارجائها، فلا يرى انسيا، ولا يشاهد اثرا. فيزيد بذلك انسه وتنبسط نفسه، لما كان قد عزم عليه من التناهي في طلب العزلة والانفراد الى ان اتفق في بعض تلك الاوقات ان خرج حي بن يقظان لالتماس غذائه، وآسال قد ألم بتلك الجهة. فوقع بصر كل واحد منهما على الآخر.(1/90)
وكان في تلك المدة حي بن يقظان شديد الاستغراق في مقاماته الكريمة. فكان لا يبرح عن مغارته الا مرة في الاسبوع لتناول ما سنح من الغذاء. فلذلك لم يعثر عليه آسال بأول وهلة، بل كان يتطوف باكناف تلك الجزيرة، ويسيح في ارجائها، فلا يرى انسيا، ولا يشاهد اثرا. فيزيد بذلك انسه وتنبسط نفسه، لما كان قد عزم عليه من التناهي في طلب العزلة والانفراد الى ان اتفق في بعض تلك الاوقات ان خرج حي بن يقظان لالتماس غذائه، وآسال قد ألم بتلك الجهة. فوقع بصر كل واحد منهما على الآخر.
آسال يلتقي بحي
فاما آسال فلم يشك انه من العباد المنقطعين، وصل الى تلك الجزيرة لطلب العزلة عن الناس، كما وصل هو اليها. فخشي ان هو تعرض له، وتعرف به، ان يكون ذلك سببا لفساد حاله، وعائقا بينه وبين امله. واما حي بن يقظان فلم يدر ما هو، لانه لم يره على صورة شيء من الحيوانات التي كان قد عاينها قبل ذلك. وكان عليه مدرعة سوداء من شعر وصوف فظن انها لباس طبيعي. فوقف يتعجب منه مليا.
وولى آسال هاربا منه، خيفة ان يشغله عن حاله فاقتفى حي بن يقظان اثره لما كان في طباعه من البحث عن حقائق الأشياء. فلما رآه يشتد في الهرب، خنس عنه وتوارى له، حتى ظن آسال انه قد انصرف عنه، وتباعد من تلك الجهة.
فشرع آسال في الصلاة والقراءة، والدعاء والبكاء، والتضرع والتواجد، حتى شغله ذلك عن كل شيء. فجعل حي بن يقظان يتقرب منه قليلا قليلا، وآسال لا يشعر به، حتى دنا منه بحيث يسمع قراءته وتسبيحه، ويشاهد خضوعه وبكاءه. فسمع صوتا حسنا، وحروفا منظمة، ولم يعهد مثلها من شيء من اصناف الحيوان. ونظر الى اشكاله وتخطيطه، فرآه على صورته وتبين له ان المدرعة التي عليه ليست جلدا طبيعيا، وانما هي لباس متخذ مثل لباسه هو. ولما رأى حسن خشوعه وتضرعه وبكائه، لم يشك في انه من الذوات العارفة بالحق فتشوق اليه، واراد ان يرى ما عنده، وما الذي اوجب بكاءه وتضرعه. فزاد في الدنو منه حتى احس به آسال، فاشتد في العدو واشتدّ حي بن يقظان في اثره، حتى التحق به لما كان اعطاه الله من القوة والبسطة في العلم والجسم فالتزمه وقبض عليه، ولم يمكنه من البراح.
فلما نظر اليه آسال، وهو مكتس بجلود الحيوانات ذوات الاوبار، وشعره قد طال حتى جلل كثيرا منه ورأى ما عنده من سرعة الحضر وقوة البطش، فرق منه فرقا شديدا، وجعل يستعطفه، ويرغب اليه بكلام لا يفهمه حي بن يقظان، ولا يدري ما هو. غير انه كان يميز فيه شمائل الجزع. فكان يؤنسه بأصوات كان قد تعلمها من بعض الحيوانات، ويجر يده على رأسه، ويمسح اعطافه، ويتملق اليه، ويظهر البشر والفرح به، حتى سكن جأش آسال، وعلم انه لا يريد به سوءا. وكان آسال قديما، لمحبته في علم التأويل، قد تعلم اكثر الألسن، ومهر فيها، فجعل يكلم حي ابن يقظان، ويسأله عن شأنه بكل لسان يعلمه، ويعالج افهامه، فلا يستطيع. وحي ابن يقظان في ذلك كله يتعجب مما يسمع، ولا يدري ما هو غير انه يظهر له البشر والقبول. فاستغرب كل واحد منهما امر صاحبه.
وكان عند آسال بقية من زاد كان قد استصحبه من الجزيرة المعمورة. فقربه الى
حي بن يقظان، فلم يدر ما هو، لانه لم يكن شاهده قبل ذلك. فأكل منه آسال واشار اليه ليأكل. ففكر حي بن يقظان فيما كان عقد على نفسه من الشروط في تناول الغذاء ولم يدر اصل ذلك الشيء الّذي قدم له: ما هو، وهل يجوز له تناوله ام لا؟ فامتنع عن الأكل. ولم يزل آسال يرغب اليه ويستعطفه. وقد كان اولع به حي بن يقظان، فخشي ان دام على امتناعه ان يوحشه فأقدم على ذلك الزاد وأكل منه.(1/91)
وكان عند آسال بقية من زاد كان قد استصحبه من الجزيرة المعمورة. فقربه الى
حي بن يقظان، فلم يدر ما هو، لانه لم يكن شاهده قبل ذلك. فأكل منه آسال واشار اليه ليأكل. ففكر حي بن يقظان فيما كان عقد على نفسه من الشروط في تناول الغذاء ولم يدر اصل ذلك الشيء الّذي قدم له: ما هو، وهل يجوز له تناوله ام لا؟ فامتنع عن الأكل. ولم يزل آسال يرغب اليه ويستعطفه. وقد كان اولع به حي بن يقظان، فخشي ان دام على امتناعه ان يوحشه فأقدم على ذلك الزاد وأكل منه.
حي يعرض على آسال امره
فلما ذاقه واستطابه بدا له سوء ما صنع من نقض عهوده في شرط الغذاء، وندم على فعله، واراد الانفصال عن آسال، والاقبال على شأنه من طلب الرجوع الى مقامه الكريم. فلم تتأت له المشاهدة بسرعة. فرأى ان يقيم مع آسال في عالم الحس، يقف على حقيقة شأنه، ولا يبقى في نفسه نزوع اليه وينصرف بعد ذلك الى مقامه دون ان يشغله شاغل. فالتزم صحبة آسال. ولما رأى آسال ايضا انه لا يتكلم، امن من غوائله على دينه، ورجا ان يعلمه الكلام والعلم والدين فيكون له بذلك اعظم اجر وزلفى عند الله. فشرع آسال في تعليمه الكلام اولا، بان كان يشير له الى اعيان الموجودات، وينطق باسمائها، ويكرر ذلك عليه، ويحمله على النطق فينطق بها مقترنا بالاشارة حتى علمه الاسماء كلها، ودرجه قليلا قليلا حتى تكلم في اقرب مدة. فجعل آسال يسأله عن شأنه، ومن اين صار الى تلك الجزيرة. فاعلمه حي بن يقظان انه لا يدري لنفسه ابتداء، ولا ابا ولا اما، اكثر من الظبية التي ربته.
ووصف له شأنه كله، وكيف ترقى بالمعرفة، حتى انتهى الى درجة الوصول.
تطابق العقل والشرع
فلما سمع آسال منه وصف تلك الحقائق، والذوات المفارقة لعالم الحس، العارفة بذات الحق عز وجل ووصفه ذات الحق تعالى وجل، باوصافه الحسنى، ووصف له ما امكنه وصفه مما شاهده عند الوصول من لذات الواصلين وآلام المحجوبين، لم يشك آسال في ان جميع الأشياء التي وردت في شريعته من امر الله عز وجل، وملائكته
وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وجنته وناره، هي امثلة هذه التي شاهدها حي ابن يقظان. فانفتح بصر قلبه، وانقدحت نار خاطره، وتطابق عنده المعقول والمنقول، وقربت عليه طرق التأويل، ولم يبق عليه مشكل في الشرع الا تبين له، ولا مغلق الا انفتح، ولا غامض الا اتضح. وصار من أولي الالباب. وعند ذلك نظر الى حي بن يقظان بعين التعظيم والتوقير. وتحقق عنده انه من اولياء الله الذين لا خوف عليهم، ولا هم يحزنون (1).(1/92)
فلما سمع آسال منه وصف تلك الحقائق، والذوات المفارقة لعالم الحس، العارفة بذات الحق عز وجل ووصفه ذات الحق تعالى وجل، باوصافه الحسنى، ووصف له ما امكنه وصفه مما شاهده عند الوصول من لذات الواصلين وآلام المحجوبين، لم يشك آسال في ان جميع الأشياء التي وردت في شريعته من امر الله عز وجل، وملائكته
وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وجنته وناره، هي امثلة هذه التي شاهدها حي ابن يقظان. فانفتح بصر قلبه، وانقدحت نار خاطره، وتطابق عنده المعقول والمنقول، وقربت عليه طرق التأويل، ولم يبق عليه مشكل في الشرع الا تبين له، ولا مغلق الا انفتح، ولا غامض الا اتضح. وصار من أولي الالباب. وعند ذلك نظر الى حي بن يقظان بعين التعظيم والتوقير. وتحقق عنده انه من اولياء الله الذين لا خوف عليهم، ولا هم يحزنون (1).
فالتزم خدمته والاقتداء به والأخذ باشاراته فيما تعارض عنده من الاعمال الشرعية التي كان قد تعلمها في ملته.
آسال يصف لحي شأن اهل جزيرته
وجعل حي بن يقظان يستفحصه عن امره وشأنه. فجعل آسال يصف له شأن جزيرته وما فيها من العالم وكيف كانت سيرهم قبل وصول الملة اليهم وكيف هي الآن بعد وصولها اليهم. ووصف له جميع ما ورد في الشريعة من وصف العالم الإلهي، والجنة والنار، والبعث والنشور، والحشر والحساب، والميزان والصراط. ففهم حي ابن يقظان ذلك كله ولم ير فيه شيئا على خلاف ما شاهده في مقامه الكريم.
يتأكد حي من صدق رسالة النبي الذي اتى الى هذه الجزيرة، ويعتنق مذهب اسال
فعلم ان الذي وصف ذلك، وجاء به، محق في وصفه، صادق في قوله، رسول من عند ربه. فآمن به وصدقه، وشهد برسالته.
ثم جعل يسأله عما جاء به من الفرائض ووضعه من العبادات. فوصف له الصلاة والزكاة والصيام والحج وما اشبهها من الاعمال الظاهرة. فتلقى ذلك والتزمه واخذ نفسه بادائه، امتثالا للامر الذي صحّ عنده صدق قائله. الا انه بقي في نفسه امران كان يتعجب منهما ولا يدري وجه الحكمة فيهما:
احدهما: لم ضرب هذا الرسول الامثال للناس في اكثر ما وصفه من امر العالم الإلهي، واضرب عن المكاشفة، حتى وقع الناس في امر عظيم من التجسيم، واعتقاد
__________
(1) قرآن كريم 2/ 36، 264، 275(1/93)
اشياء في ذات الحق، هو منزه عنها وبريء منها؟ وكذلك في امر الثواب والعقاب؟
والامر الآخر: لم اقتصر على هذه الفرائض، ووظائف العبادات، وأباح الاقتناء للاموال، والتوسع في المأكل، حتى يفرغ الناس للاشتغال بالباطل، والاعراض عن الحق؟
وكان رأيه هو ان لا يتناول احد شيئا الا ما يقيم به الرمق. واما الاموال فلم تكن عنده معنى.
وكان يرى ما في الشرع من الاحكام في امر الاموال، كالزكاة وتشعبها، والبيوع والربا والحدود والعقوبات. فكان يستغرب ذلك كله، ويراه تطويلا. ويقول: «ان الناس لو فهموا الامر على حقيقته، لا عرضوا عن هذه البواطل، واقبلوا على الحق، استغنوا عن هذا كله. ولم يكن لاحد اختصاص بمال يسأل عن زكاته او تقطع الايدي على سرقته، او تذهب النفوس على اخذه مجاهرة».
اعتقد حي ان الناس كلهم ذو وفطر فائقة
وكان الذي أوقعه في ذلك كله أن الناس كلهم ذوو فطر فائقة، واذهان ثاقبة، ونفوس حازمة. ولم يكن يدري ما هم عليه من البلادة والنقص، وسوء الرأي، وضعف العزم، وانهم «{كَالْأَنْعََامِ، بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا}!». (قرآن كريم 25/ 46).
حي يريد ان يعظ سكان الجزيرة بالّا يتقيدوا بظاهر الشرع
فلما اشتد اشفاقه على الناس، وطمع ان تكون نجاتهم على يديه، حدثت له نية في الوصول اليهم. وايضاح الحق لديهم، وتبينه لهم. ففاوض في ذلك صاحبه آسال، وسأله هل تمكنه حيلة في الوصول اليهم؟ فأعلمه آسال بما هم عليه من نقص الفطرة، والاعراض عن امر الله. فلم يتأت له فهم ذلك. وبقي في نفسه تعلق بما كان قد امله.
وطمع آسال ان يهدي الله على يديه طائفة من معارفه المريدين الذين كانوا اقرب الى التخلص من سواهم. فساعده على رأيه، ورأيا ان يلتزما ساحل البحر، ولا يفارقاه ليلا ولا نهارا لعل الله ان يسنّي لهما عبور البحر.
فالتزما ذلك، وابتهلا الى الله تعالى بالدعاء ان يهيئ لهما من امرهما رشدا. فكان
من امر الله، عز وجل، ان سفينة في البحر ضلّت مسلكها، ودفعتها الرياح وتلاطم الامواج الى ساحلها. فلما قربت من البر، رأى اهلها الرجلين على الشاطئ. فدنوا منهما. فكلمهم آسال، وسألهم ان يحملوهما معهم. فأجابوهما الى ذلك، وادخلوهما السفينة. فارسل الله اليهم ريحا رخاء حملت السفينة، في اقرب مدة، الى جزيرة التي املاها.(1/94)
فالتزما ذلك، وابتهلا الى الله تعالى بالدعاء ان يهيئ لهما من امرهما رشدا. فكان
من امر الله، عز وجل، ان سفينة في البحر ضلّت مسلكها، ودفعتها الرياح وتلاطم الامواج الى ساحلها. فلما قربت من البر، رأى اهلها الرجلين على الشاطئ. فدنوا منهما. فكلمهم آسال، وسألهم ان يحملوهما معهم. فأجابوهما الى ذلك، وادخلوهما السفينة. فارسل الله اليهم ريحا رخاء حملت السفينة، في اقرب مدة، الى جزيرة التي املاها.
فنزلا بها، ودخلا مدينتها، واجتمع اصحاب آسال به فعرفهم شأن حي بن يقظان. فاشتملوا عليه اشتمالا شديدا، واكبروا امره، واجتمعوا اليه واعظموه وبجلوه.
واعلمه آسال ان تلك الطائفة هم اقرب الى الفهم والذكاء من جميع الناس، وانه ان عجز عن تعليمهم فهو عن تعليم الجمهور اعجز.
اصحاب الظاهر لم يفهموا حيا
وكان رأس تلك الجزيرة وكبيرها سلامان، وهو صاحب آسال الذي كان يرى ملازمة الجماعة، ويقول بتحريم العزلة. فشرع حي بن يقظان في تعليمهم، وبث أسرار الحكمة اليهم. فما هو الا ان ترقى عن الظاهر قليلا، واخذ في وصف ما سبق الى فهمهم خلافه، فجعلوا ينقبضون منه، وتشمئز نفوسهم مما يأتي به ويتسخطونه في قلوبهم، وان اظهروا له الرضى في وجهه، اكراما لغربته فيهم، ومراعاة لحق صاحبهم آسال.
وذلك لنقص فطرتهم
وما زال حي بن يقظان يستلطفهم ليلا ونهارا، ويبين لهم الحق سرا وجهارا فلا يزيدهم ذلك الا نبوا ونفارا، مع انهم كانوا محبين للخير، راغبين في الحق. الا انهم لنقص فطرتهم، كانوا لا يطلبون الحق من طريقه، ولا يأخذونه بجهة تحقيقه، ولا يلتمسونه من بابه بل كانوا لا يريدون معرفته من طريق اربابه. فيئس من اصلاحهم وانقطع رجاؤه من صلاحهم لقلة قبولهم.
وتصفح طبقات الناس بعد ذلك: فرأى {كُلُّ حِزْبٍ بِمََا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} (1)، قد
__________
(1) قرآن كريم 23/ 55و 30/ 31(1/95)
{اتَّخَذَ إِلََهَهُ هَوََاهُ} (1)، ومعبودهم شهواتهم، وتهالكوا في جمع حطام الدنيا، {أَلْهََاكُمُ التَّكََاثُرُ حَتََّى زُرْتُمُ الْمَقََابِرَ} (2)، لا تنجع فيهم الموعظة، ولا تعمل فيهم الكلمة الحسنة.
ولا يزدادون بالجدل الا اصرارا. واما الحكمة فلا سبيل لهم اليها، ولا حظ لهم منها قد غمرتهم الجهالة، و {رََانَ عَلى ََ قُلُوبِهِمْ مََا كََانُوا يَكْسِبُونَ} (3) «{خَتَمَ اللََّهُ عَلى ََ قُلُوبِهِمْ وَعَلى ََ سَمْعِهِمْ وَعَلى ََ أَبْصََارِهِمْ غِشََاوَةٌ وَلَهُمْ عَذََابٌ عَظِيمٌ} [4]».
فلما رأى سرادق العذاب قد احاط بهم، وظلمات الحجب قد تغشتهم، والكل منهم الا اليسير لا يتمسكون من ملتهم الا بالدنيا «وقد نبذوا اعمالهم على خفتها وسهولتها وراء ظهورهم، واشتروا بها ثمنا قليلا (5)، وألهاهم عن ذكر الله تعالى التجارة والبيع، ولم يخافوا {يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصََارُ} (6)، بان له، وتحقق على القطع، ان مخاطبتهم بطريق المكاشفة لا تمكن وان تكليفهم من العمل فوق هذا القدر لا يتفق، وان حظ اكثر الجمهور من الانتفاع بالشريعة انما هو في حياتهم الدنيا، ليستقيم له معاشه، ولا يتعدى عليه سواه فيما اختص هو به، وانه لا يفوز منهم بالسعادة الاخروية الا الشاذ النادر وهو «من اراد حرث الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن» (7)
{فَأَمََّا مَنْ طَغى ََ وَآثَرَ الْحَيََاةَ الدُّنْيََا فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوى ََ} (8). واي تعب اعظم وشقاوة اطم، ممن اذا تصفحت اعماله من وقت انتباهه من نومه الى حين رجوعه الى الكرى، لا تجد منها شيئا الا وهو يلتمس به تحصيل غاية من هذه الامور المحسوسة الخسيسة: اما مال يجمعه او لذة ينالها، او شهوة يقضيها، او غيظ يتشفى به، او جاه يحرزه، او عمل من اعمال الشرع يتزين به، او يدافع عن رقبته، وهي كلها «ظلمات بعضها فوق بعض» {فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ} (9)، «{وَإِنْ مِنْكُمْ إِلََّا وََارِدُهََا كََانَ عَلى ََ رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيًّا}» (10).
فهم حي ان ظاهر الشرع جعل لمثل هؤلاء القوم وهم الاكثرية الساحقة
فلما فهم أحوال الناس، وان أكثرهم بمنزلة الحيوان غير الناطق، علم ان الحكمة كلها، والهداية والتوفيق فيما نطقت به الرسل، ووردت به الشريعة، لا يمكن غير
__________
(1) قرآن كريم 25/ 45
(2) قرآن كريم 102/ 1و 2
(3) قرآن كريم 83/ 14
(4) قرآن كريم 2/ 6
(5) قرآن كريم 3/ 184
(6) قرآن كريم 24/ 37
(7) قرآن كريم 27/ 20
(8) قرآن كريم 79/ 3937
(9) قرآن كريم 24/ 40
(10) قرآن كريم 19/ 72(1/96)
ذلك، ولا يحتمل المزيد عليه، فلكل عمل رجال، وكل ميسر لما خلق له «{سُنَّةَ اللََّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ، وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللََّهِ تَبْدِيلًا}» (1).
فحثهم على التمسك بهذا الظاهر
فانصرف الى سلامان واصحابه فاعتذر عما تكلم به معهم، وتبرأ اليهم منه واعلمهم انه قد رأى مثل رأيهم، واهتدى بمثل هديهم واوصاهم بملازمة ما هم عليه من التزام حدود الشرع والاعمال الظاهرة، وقلة الخوض فيما لا يعنيهم، والايمان بالمتشابهات والتسليم لها، والاعراض عن البدع والأهواء، والاقتداء بالسلف الصالح، والترك لمحدثات الامور. وامرهم بمجانبة ما عليه جمهور العوام من اهمال الشريعة والاقبال على الدنيا، وحذرهم عنه غاية التحذير وعلم هو وصاحبه آسال ان هذه الطائفة المريدة القاصرة، لا نجاة لها الا بهذا الطريق وانها ان رفعت عنه الى يفاع الاستبصار اختلّ ما هي عليه، ولم يمكنها ان تلحق بدرجة السعداء، وتذبذبت وانتكست وساءت عاقبتها. وان هي دامت على ما هي عليه حتى يوافيها اليقين، فازت بالامن، وكانت من اصحاب اليمين. واما «{السََّابِقُونَ السََّابِقُونَ أُولََئِكَ الْمُقَرَّبُونَ}» (2).
فودعاهم وانفصلا عنهم، وتلطفا في العود الى جزيرتهما، حتى يسر الله، عز وجل، عليهما العبور اليها. وطلب حي بن يقظان مقامه الكريم بالنحو الذي طلبه اولا، حتى عاد اليه. واقتدى به آسال حتى قرب منه او كاد. وعبدا الله بتلك الجزيرة حتى اتاهما اليقين.
خاتمة الرسالة
هذا ايدنا الله واياك بروح منه ما كان من نبأ حي بن يقظان وآسال وسلامان وقد اشتمل على حظ من الكلام لا يوجد في كتاب ولا يسمع في معتاد خطاب، وهو من العلم المكنون الذي لا يقبله الا اهل المعرفة بالله، ولا يجهله الا اهل الغرة بالله. وقد خالفنا فيه طريق السلف الصالح في الضنانة به والشح عليه. الا ان الذي
__________
(1) قرآن كريم 48/ 23
(2) قرآن كريم 56/ 1110(1/97)
سهل علينا افشاء هذا السر، وهتك الحجاب، ما ظهر في زماننا هذا من آراء مفسدة، نبغت بها متفلسفة العصر، وصرحت بها، حتى انتشرت في البلدان، وعم ضررها وخشينا على الضعفاء الذين اطرحوا تقليد الانبياء، صلوات الله عليهم، وارادوا تقليد السفهاء والاغبياء، ان يظنوا ان تلك الآراء هي المضنون بها على غير اهلها، فيزيد بذلك حبهم فيها، وولوعهم بها. فرأينا ان نلمع اليهم بطرف من سر الاسرار، لنجتذبهم الى جانب التحقيق، ثم نصدهم عن ذلك الطريق. ولم نخل مع ذلك ما اودعناه هذه الاوراق اليسيرة من الاسرار عن حجاب رقيق وستر لطيف، ينهتك سريعا لمن هو اهله، ويتكاثف لمن لا يستحق تجاوزه حتى لا يتعداه. وانا أسأل اخواني الواقفين على هذا الكلام، ان يقبلوا عذري فيما تساهلت في تبيينه وتسامحت في تثبيته فلم افعل ذلك الا لاني تسنمت شواهق يزل الطرف عن مرآها. واردت تقرب الكلام فيها على وجه الترغيب والتشويق في دخول الطريق. واسأل الله التجاوز والعفو، وان يوردنا من المعرفة به الصفو انه منعم كريم.
والسلام عليك، ايها الاخ المفترض اسعافه، ورحمة الله وبركاته.
فهرست(1/98)
فهرست
الصفحة 7تنبيه 9ابن طفيل: حياته 11اقسام قصة حي بن يقظان 15قصة (او رسالة) حي بن يقظان 15القسم الأول، مقدمات 26القسم الثاني: الجزء الأول: اصل حي بن يقظان الرأي الأول: التولد الذاتي.
28 - الرأي الثاني: ولادة حي.
30 - نظرية الفيض 32الجزء الثاني: تربية حي، والمعرفة الأولى عن طريق الملاحظة الحسية والتجربة 45الجزء الثالث: حي يرتقي من المعرفة عن طريق الحواس والتجربة الى معرفة عقلية قائمة على الاستنتاج من التجربة.
56 - الجزء الرابع: حي يرتقي من تفكيره في عالم الكون والفساد الى النظر في السماء والعالم بأسره.
65 - الجزء الخامس: حي يتساءل كيف ادرك هذه الحقائق؟ روحانية النفس ومصيرها.
83 - الجزء السادس: سلسلة الفيوضات.
89 - القسم الثالث: سلامان وآسال.
97 - خاتمة الرسالة.
99 - جدول بما يرمز اليه اشخاص القصة.(1/101)