المجلد الاول
كلمة الناشر
تميزت هذه الرسالة بكثرة النتائج والاعتماد على الدراسات الإحصائية التي قلّ أن توجد في الدراسات الشرعية المماثلة، ولذا يجد القارئ لهذه الرسالة العلمية فهرسا خاصا في آخر الكتاب لنتائج البحث، زاد عدد هذه الفوائد والنتائج على أربعمائة فائدة ونتيجة لم يسبق الباحث لكثير منها.(1/5)
هذا الكتاب:
رسالة علمية تقدم بها المؤلف لنيل شهادة الدكتوراة من جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية كلية أصول الدين قسم القرآن وعلومه.
وكانت هذه الرسالة تحت إشراف فضيلة الدكتور: سعود بن عبد الله الفنيسان.
وقد منح صاحبها درجة الدكتوراة بتقدير ممتاز مع مرتبة الشرف والإيصاء بطباعتها والتبادل مع الجامعات الأخرى.(1/7)
المقدمة
إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله.
{يََا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللََّهَ حَقَّ تُقََاتِهِ وَلََا تَمُوتُنَّ إِلََّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} (1) {يََا أَيُّهَا النََّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وََاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهََا زَوْجَهََا وَبَثَّ مِنْهُمََا رِجََالًا كَثِيراً وَنِسََاءً وَاتَّقُوا اللََّهَ الَّذِي تَسََائَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحََامَ إِنَّ اللََّهَ كََانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} (2).
{يََا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللََّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيداً (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمََالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللََّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فََازَ فَوْزاً عَظِيماً} (3).
الحمد لله الذي شرفنا على الأمم بالقرآن المجيد، ودعا فيه إلى الأمر الرشيد، وقوم به نفوسنا بين الوعد والوعيد، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد، أحمده على التوفيق للتحميد، وأشكره على الإتمام والتسديد، وأسأله من فضله المزيد.
أما بعد: فإن للمعارف على تعدد أنواعها، واختلاف مشاربها فوائد لا تجحد، وثمرات لا تنكر، وأهم ذلك وأشرفه ما قرّب العبد إلى مولاه، وكان سببا في نيل رضاه.
__________
(1) سورة آل عمران: آية (102).
(2) سورة النساء: آية (1).
(3) سورة الأحزاب: آية (70، 71).(1/9)
وإن أولى ما صرفت فيه الأوقات والسنون، وكدت فيه العقول والفهوم، علم كتاب الله المصون، الذي هو حبل الله المتين، والسراج المبين، من تمسك به هدي، ومن اهتدى بنوره رشد.
ولقد منّ الله عليّ بدراستي هذا العلم الشريف، علم التفسير، وأصبح لديّ ممارسة واشتغال بكتبه، ومؤلفاته، وذلك منذ أن وقفت إلى اختيار قسم القرآن وعلومه أولا، ثم بعد اختيار دراسة تفسير أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ثانيا، والذي عشت فيه مرحلة الماجستير، وانتهيت منه بحمد الله، ولقد دار في ذهني منذ ذلكم الوقت، أن أجعل موضوع الدكتوراة في نفس المسيرة المباركة مع تفسير مناهج الأصحاب، لأستنير بأقوالهم، وأدرس طرائقهم، فوجدت أحد الباحثين الفضلاء قد سبقني إليه (1)، وما زالت الفكرة تعتلج في خاطري، وتختلج في نفسي، فسكنت النفس بعد، واستقر الاختيار على موضوع مقارب سميته: تفسير التابعين عرض ودراسة.
أهمية الموضوع:
أوجد الله في هذه الأمة رجالا، وقفوا حياتهم لحفظ شريعة ربهم، والذود عنها، فدأبوا على ذلك زمانهم، واستفرغوا فيه جهدهم، فحفظت بهم الرسالة، حتى وصلت كما أنزلها الله تعالى، لا اعوجاج فيها ولا انحراف فهم دعامتها وحماتها، ولم يكن لهم غاية من ذلك إلا ابتغاء رضوان الله تعالى، فرضي الله عنهم، وبلّغهم مناهم.
ولذا كان من الواجب علينا أن نعرف سيرتهم، ونقف على مسالكهم، وننظر في آرائهم، فننهل من معينهم الصافي الذي لا كدر فيه، وننهل من زلال نبعهم الفيّاض الذي لم تشبه شائبة، فهم خير القرون بعد قرن الرسول صلى الله عليه وسلم، وأصحابه الكرام، يقول
__________
(1) هو الباحث ناصر بن محمد الحميد في رسالته المسماة (التفسير في عهد الصحابة).(1/10)
الحق سبحانه: {وَالسََّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهََاجِرِينَ وَالْأَنْصََارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسََانٍ رَضِيَ اللََّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنََّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهََارُ خََالِدِينَ فِيهََا أَبَداً ذََلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} (1).
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية عند هذه الآية: فجعل التابعين لهم بإحسان مشاركين لهم فيما ذكر من الرضوان والجنة، وقد قال تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهََاجَرُوا وَجََاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولََئِكَ مِنْكُمْ} (2)، وقال تعالى: {وَالَّذِينَ جََاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنََا وَلِإِخْوََانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونََا بِالْإِيمََانِ وَلََا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنََا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنََا إِنَّكَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ} (3)، وقال تعالى: {وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمََّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} (4).
فمن اتبع السابقين الأولين كان منهم. وهو خير الناس بعد الأنبياء، فإن أمة محمد خير أمة أخرجت للناس، وأولئك خير أمة محمد، كما ثبت في الصحاح من غير وجه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «خير القرون القرن الذي بعثت فيهم، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم» (5)، ولهذا كان معرفة أقوالهم في العلم والدين وأعمالهم خيرا وأنفع من معرفة أقوال المتأخرين وأعمالهم في جميع علوم الدين وأعماله، كالتفسير، وأصول الدين، وفروعه، والزهد، والعبادة، والأخلاق، والجهاد، وغير ذلك.
__________
(1) سورة التوبة: آية (100).
(2) سورة الأنفال: آية (75).
(3) سورة الحشر: آية (10).
(4) سورة الجمعة: آية (3).
(5) رواه البخاري في صحيحه، كتاب الشهادات، باب لا يشهد على شهادة جور إذا شهد (3/ 151)، ومسلم في صحيحه، كتاب فضائل الصحابة، باب فضل الصحابة (4/ 1964)، والترمذي في سننه، كتاب الفتن، باب ما جاء في القرن الثالث (4/ 500)، والنسائي في سننه (7/ 170)، والطحاوي في شرح معاني الآثار (4/ 151).(1/11)
فإنهم أفضل ممن بعدهم، كما دل عليه الكتاب، والسنة، فالاقتداء بهم خير من الاقتداء بمن بعدهم، ومعرفة إجماعهم ونزاعهم في العلم والدين خير وأنفع من معرفة ما يذكر من إجماع غيرهم ونزاعهم وذلك أن إجماعهم لا يكون إلا معصوما، وإذا تنازعوا فالحق لا يخرج عنهم، فيمكن طلب الحق في بعض أقاويلهم. ولا يحكم بخطإ قول من أقوالهم، حتى يعرف دلالة الكتاب والسنة على خلافه. قال تعالى: {أَطِيعُوا اللََّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنََازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللََّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللََّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذََلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} (1).
دواعي اختيار الموضوع:
1 - حملت لنا تلك الحقبة الزمنية خيرة من المفسرين، فرغبت في دراسة مناهجهم للتعرف على مسالكهم، فهم الذين ذلّلوا هذا الطريق، وتركوا فيه معالم خير وهدى للسالكين.
فأردت أن أقتبس من أنوارهم، وأقتطف من أزهارهم، وألقط من نثارهم، وأقيد من شواردهم، وأنتقي من فرائدهم، وأنظر في مسالكهم، وأقفو آثارهم، لتكون اللبنة الأولى في تسهيل الطريق أمامي لمعرفة كتاب الله، وضبط خطاي على أصول علمية دقيقة أتأسى فيه بذلك الجيل، فقرأت تراثهم مرات ومرات، وأعدت النظر في منتقاه كرات.
2 - سعة الموضوع، وتنوع مباحثه، وتعدد مداخله، وتداخل علومه، مما يتيح لي فرصة الوقوف على جل علوم القرآن الكريم، والرجوع إلى أمهات كتب التفسير، والاطلاع على أهم مصادر علوم القرآن، والمقارنة بين تفاسير الأئمة، والوقوف على أقوالهم، ورصد مناهجهم المختلفة لاختلاف مداركهم ومفهومهم فإن لكل واحد منهم وزنه وقدره.
__________
(1) سورة النساء: آية (59)، مجموع فتاوى شيخ الإسلام (13/ 2523).(1/12)
3 - طرافة الموضوع وجدته، فإنه لم يتعرض للخوض فيه إلا النزر القليل، على أن من تعرض له نأى بنفسه عن الغوص في أهم مزية في الموضوع، وهي عقد المقارنات، وبيان أوجه الاختلاف، والاتفاق.
فكان من الأسباب: عدم إفراد هذا التفسير بدراسة مستقلة من قبل الباحثين المعاصرين، فأردت أن أشارك بجهد المقل، وأسهم في خدمة تاريخ التفسير، فكانت هذه الدراسة.
منهج البحث:
وقد اقتضت طبيعة البحث في هذا الموضوع أن يقسم إلى: تمهيد وأربعة أبواب، وخاتمة.
أما التمهيد: فقد بينت فيه بإيجاز ما يلي:
1 - مفهوم التفسير بالمأثور عند أهل اللغة، والاصطلاح.
2 - التفسير في مراحله الأولى.
أما الباب الأول: فقد تحدثت فيه عن مدخل إلى تفسير التابعين وضمنته فصلين:
الفصل الأول: بينت فيه المراد بالتابعي، وحكم تفسيره.
الفصل الثاني: تكلمت فيه عن مصادر تفسير التابعين، وكان الحديث فيه عن نوعين من المصادر هما:
1 - كتب السنن، والآثار، وقد أشرت فيه بإيجاز إلى نماذج لأهمها.
2 - كتب التفسير بالمأثور، وقد ذكرت كثيرا من كتب التفسير المصنفة وبيان مدى عنايتها بتفسير التابعين.
أما الباب الثاني: فتناولت فيه بالتفصيل مدارس التفسير في عصر التابعين، وخصائص تلك المدارس، وقسمته إلى ثلاثة فصول:(1/13)
الفصل الأول: ترجمت فيه لأشهر رجال مدارس التفسير في عصر التابعين، وتوسعت في بيان أهم المعالم، والسمات المتعلقة بكل مفسر من حيث كونه مفسرا.
الفصل الثاني: خصصته للحديث عن المدارس التالية:
1 - المدرسة المكية.
2 - المدرسة البصرية.
3 - المدرسة المدنية.
4 - المدرسة الكوفية.
وختمت الفصل بإشارة موجزة للتفسير في الشام، واليمن، ومصر.
الفصل الثالث: فقد عقدته لدراسة خصائص التفسير في تلك المدارس.
أما الباب الثالث: فقد عقدته لبيان مصادر التابعين ومناهجهم في التفسير، وفيه فصلان:
الفصل الأول: مصادر التابعين في التفسير، وفيه خمسة مباحث:
المبحث الأول: القرآن الكريم.
المبحث الثاني: السنة النبوية.
المبحث الثالث: أقوال الصحابة.
المبحث الرابع: اللغة العربية.
المبحث الخامس: الاجتهاد.
الفصل الثاني: منهج التابعين في التفسير، وفيه أربعة مباحث:
المبحث الأول: منهجهم في القراءات.
المبحث الثاني: منهجهم في آيات الاعتقاد.
المبحث الثالث: منهجهم في استنباط آيات الأحكام.
المبحث الرابع: منهجهم في تلقي ورواية الإسرائيليات.(1/14)
أما الباب الرابع: فقد خصصته لبيان قيمة تفسير التابعين، وأثره، وتوزع هذا على ثلاثة فصول هي:
الفصل الأول: قيمة تفسير التابعين رواية.
الفصل الثاني: قيمة تفسير التابعين دراية، وتناولت هذا الفصل في ثلاثة مباحث:
المبحث الأول: نوع الاختلاف بين مفسري التابعين.
المبحث الثاني: مميزات تفسير التابعين.
المبحث الثالث: منزلة تفسير التابعين عند العلماء.
الفصل الثالث: أثر التابعين في التفسير وأصوله، وفيه مبحثان:
المبحث الأول: أثر التابعين في كتب التفسير عند أهل السنة وغيرهم.
المبحث الثاني: أثر التابعين في كتب أصول التفسير.
أما الخاتمة: فقد ضمنتها أهم النتائج التي توصلت إليها في هذا البحث.
وكنت قبل تسجيل الموضوع أحسب أن الأمر سهل المنال، قريب المدرك، لا سيما أن تفاسير مشاهير التابعين قد جمع جلّها في رسائل علمية، فقدرت أن هذا يسهل المهمة، ويقصر عمل الباحث على جمع المتفرق وترتيبه وتبويبه، وقد حاولت الاستفادة من هذه الرسائل في تسهيل مهمة الجمع (1) فتعذر ذلك لأسباب منها:
__________
(1) رجعت إلى الرسائل العلمية التالية: «مجاهد بن جبر ومنهجه في التفسير» للباحثة جميلة الغزاني، و «عطاء بن أبي رباح وجهوده في التفسير» للباحث عبد الواحد بكر إبراهيم عايد، و «كعب الأحبار مروياته وأقواله في التفسير» للباحث يوسف العامري، و «إبراهيم النخعي وآثاره الواردة في تفسير سورة الفاتحة، والبقرة، وآل عمران» للباحثة نوال اللهيبي، و «آراء إبراهيم النخعي التفسيرية من سورة النساء إلى آخر القرآن» للباحث عبد الرحمن أحمد الخريصي، و «تفسير محمد بن كعب القرظي، من سورة الفاتحة حتى نهاية سورة الناس» للباحث محمد أيوب محمد يوسف، ورسالة «قتادة السدوسي وتفسيره، من اول سورة الفاتحة إلى نهاية سورة النحل» للباحث عمر يوسف محمد كمال، و «تفسير سعيد بن جبير» للباحث محمد أيوب محمد يوسف، و «مرويات الحسن البصري في القرآن من أول سورة الإسراء إلى(1/15)
1 - أن الباحثين يختلفون في إيرادهم، ومناهجهم، وقدرة تتبعهم، واستقصائهم فمنهم سابق في هذا الباب، ومنهم مقتصد، وآخر مقصر، فخشيت إن اعتمدت ذلك أن يحصل الخلل والزلل، والتفاوت في الاستقصاء تبعا لما سبق.
2 - تبين لي أن معظم الباحثين إنما كان جل همهم، وغاية جهدهم، جمع المروي وتحقيقه، وبعد الانتهاء يورد خلاصة في مقدمة بحثه أو خاتمته، ذاكرا فيها ترجمة المفسر، وساردا نماذج من مصادر التفسير التي استعان بها، وقلّ من عقد موازنة، ودرس دراسة تحليل وتدقيق.
3 - أن هذه الرسائل كانت وما زالت حبيسة الأدراج، ويصعب حصرها لكثرتها، وتعدد مراكز البحث الجامعة لها.
ولما لم أجد طلبتي في تلك المصادر، اتجهت إلى كتب علوم القرآن ومناهج المفسرين، مفتشا فيها، ومراجعا لها، لعلي أجد ما ييسر الأمر ويعين عليه، فلم أجد من تعرض فيها لتفسيرهم، وتحدث عن مناهجهم، فانتقلت بعد هذا كله إلى الأخذ من تفاسيرهم، والنقل عنها مباشرة، ومن هنا بدأ عملي، وقد جعلته على مراحل.
المرحلة الأولى:
استعنت بالله على جمع الأقوال من موسوعة واحدة ذات منهج في الإيراد، والاستيعاب في هذا الباب، فاخترت أوسع كتب التفسير بالأثر، جامع البيان لإمام المفسرين محمد بن جرير الطبري، وبدأت في استقرائه أثرا أثرا، أخرج تفسير كل إمام بمفرده.
__________
آخر سورة الناس» للباحث شير علي شاه، و «تفسير عكرمة جمعا ودراسة من أول سورة الروم إلى آخر القرآن الكريم» للباحث سليمان الصغير، و «تفسير عكرمة من أول القرآن إلى آخر سورة الأنفال» للباحث عبد اللطيف هائل، و «تفسير الربيع بن أنس جمعا وتحقيقا» للباحث عبد الرحمن العبادي، و «مرويات زيد بن أسلم في التفسير» للباحث صلاح الدين زيطرة، وغيرها من الرسائل.(1/16)
ثم لاح لي أن أضيف إلى ذلك الإحصاء جمع تفسير مشاهير الصحابة كابن عباس، وابن مسعود، وغيرهم من الصحابة، وزدت على ذلك استخراج تفسير مشاهير أتباع التابعين: كالضحاك، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم، وذلك لتمييز مدارس المفسرين ومعرفة طبقاتهم في القرون المفضلة، وبيان خصائص كل مدرسة مع إبراز منزلة تفسير التابعين.
المرحلة الثانية:
قمت بعد استخراجي لكل أثر جاهدا في تصنيفه وتبويبه، فما كان منه في تفسير القرآن بالقرآن بينته، وما كان منه في بيان القرآن بالسنة وضحته، وكذا ما كان بقول الصاحب، وما جاء من ذلك في أسباب النزول، أو الرواية عن أهل الكتاب، أو الاعتماد على لغة العرب، أو بيان مشكل، أو حكم فقهي، إلى غير ذلك من الأنواع، مع الإشارة عند كل أثر إلى من رواه، وبيان المكرر من الروايات.
وبعد هذا قمت بجمع ما تحصل من تلك الأنواع، وبأي الأبواب كانت عناية ذلك التابعي، وكثرة درايته.
وحرصا على تأكيد ما توصلت إليه في ذلك الجمع عكفت على دراسة الكتب المصنفة في أبواب مفردة في علوم القرآن، كأسباب النزول، والناسخ والمنسوخ، وكتب المبهمات والمعرب في القرآن وغيره، فسجلت ما تعلق بكل نوع منها، ومن أكثر التابعين تعرضا لهذه الأنواع:
وقد استغرق العمل في هاتين المرحلتين حولين كاملين، وقاربت الأوراق التي جمعت فيها تلك التفاسير وصنفت خمسة آلاف ورقة، كل ذلك بعد تتبع دقيق لما يقارب أربعين ألف أثر عند ابن جرير.(1/17)
المرحلة الثالثة:
لما انتهيت من الجمع، والتصنيف، بدأت بكتب التراجم والتواريخ والعلل، ومعرفة الرجال، وطالعت جلها قدر استطاعتي، فأحفاني وأجهدني التتبع والتنقيب حرصا على الاستعانة بأقوال الأئمة والاستئناس بآرائهم لمعرفة بعض مناهج الرجال وأحوالهم.
المرحلة الرابعة:
وهي مرحلة الموازنة والمقارنة، فبعد الانتهاء من المراحل السابقة اجتمع لي الشيء الكثير الطيب، فاستعنت بالله، وبدأت في المقارنة حيث اقتضى مني ذلك أن أوازن بين تفسير كل إمام وآخر، وقد كان العمل في ذلك شاقا وممتعا في الوقت نفسه، ويحسن بي أن أورد شيئا منه: فقد عمدت إلى كل تابعي، وقارنت نسب ما أحصيته في كل نوع من الأنواع المذكورة في المرحلة الثانية مع نسب المروي عن التابعي الآخر، فتحصل عندي ميزان راجح، ونتائج دقيقة عن معالم تفسير كل تابعي.
وبعد الانتهاء من المقارنة بين مشاهير التابعين، حرصت على إتمام ذلك أيضا بالنسبة للمدارس حيث أسندت تفسير كل تابعي إلى مدرسته، فتجمع لدي في كل مدرسة عدة أئمة يشكلون ملامح تلك المدرسة، ثم قمت بعد ذلك بالعمل نفسه، من حيث نسبة رواية كل مدرسة، وبروزها، وبأي نوع كان؟ ومصادرها، وفي أي الأبواب كانت عنايتها؟ والحق أني حسبت الأمر سهلا، إلا إنه كان غير ذلك، ويمكن تلخيص الصعوبات التي واجهتني في هذا البحث في عدة نقاط:
1 - جدة الموضوع، فمثل هذا البحث لم يطرق بالبحث والدرس فيما أعلم، ولم أجد من درس وقارن، كما أني لم أجد دراسات مفردة لتلك المدارس، وأغلب ما رأيته مسطورا في هذا الباب دراسات وصفية تهتم بالجمع وتحقيقه دون عناية بالمقارنات،
والموازنات.(1/18)
1 - جدة الموضوع، فمثل هذا البحث لم يطرق بالبحث والدرس فيما أعلم، ولم أجد من درس وقارن، كما أني لم أجد دراسات مفردة لتلك المدارس، وأغلب ما رأيته مسطورا في هذا الباب دراسات وصفية تهتم بالجمع وتحقيقه دون عناية بالمقارنات،
والموازنات.
2 - كثرة الآثار وغزارة المادة العلمية، فقد استدعى البحث (في غير تفسير ابن جرير الطبري) مسحا شاملا لكتب التفسير بالمأثور كتفسير عبد الرزاق، والثوري، وسعيد بن منصور، وابن الجوزي، وابن كثير، والسيوطي وغيرها، ومراجعة كتب علوم القرآن، ومناهج المفسرين، كما أفدت من كتب غريب الحديث، واللغة وغيرها من كتب السنة.
وأتاح لي العمل في البحث أن استقصي كتب التراجم، والسير فقد طالعت كثيرا من التراجم فيها، كما نقبت في كتب العلل ومعرفة الرجال التي أفادتني كثيرا في بيان مسلك بعض الأئمة، ومناهجهم.
3 - طول البحث وتشعبه، فقد أضناني ذلك الكم الهائل من الأقوال والآثار، مما جعلني أتحير في الاختيار والانتقاء.
4 - صعوبة الاستقراء، إذ إن بعض الآثار يكتنفها الغموض، فتحتاج إلى تأمل ونظر، ثم إن بعضها الآخر لطوله، تتداخل فيه العديد من الأنواع.
5 - ومما زاد في صعوبة البحث: كثرة النتائج التي توصلت إليها، والتي قد يوافق الباحث عليها، وقد يخالف، فحرصت على كثرة الاستدلال، وألا أدوّن ملحوظة، أو نتيجة إلا بعد التحري، والاستقراء والمتابعة، وقد انكشف الغطاء عن كثير من مناهجهم بهذه المقارنات، ولاح الفرق بين مسالكهم، فوقفت على حقيقة الأمر في كثير من المسالك، وتذلل ما كان وعرا، وسهل ما كان حزنا، فاستوى المسلك، وانقاد ما صعب من الأمر وتيسر.
وكان من أبرز النتائج التي توصلت إليها:
أولا: تبين لي أن هناك ميلا إلى التخصص في عموم المدارس التفسيرية، وكذا
خصوص الأفراد، أما من حيث العموم فقد تخصصت المدرسة المدنية بالعلم بالسير، والأخبار، ورواية الأحاديث، والسنن وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم عاش بين ظهرانيهم، فنقل الصحابة ومن جاء بعدهم كابرا عن كابر ما تعلق به من سيرة وطرائق.(1/19)
أولا: تبين لي أن هناك ميلا إلى التخصص في عموم المدارس التفسيرية، وكذا
خصوص الأفراد، أما من حيث العموم فقد تخصصت المدرسة المدنية بالعلم بالسير، والأخبار، ورواية الأحاديث، والسنن وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم عاش بين ظهرانيهم، فنقل الصحابة ومن جاء بعدهم كابرا عن كابر ما تعلق به من سيرة وطرائق.
وبلغت المدرسة المكية شأوا بعيدا في تتبع مسائل الحج، ودراسة آيات الأحكام الخاصة به نظرا لقربهم من المشاعر، وكثرة سؤال الوافدين عنها.
كما اشتهرت المدرسة البصرية باللغة، والفصاحة، ومعرفة الغريب لوقوعها على حدود البادية، ووفرة القادمين إليها من الموالي الذين يفشو اللحن في ألسنتهم، فهدوا إلى حفظ اللغة العربية من اللحن بالسبق في تدوينها.
أما المدرسة الكوفية فقد تخصصت في استنباط آيات الأحكام والإكثار منها، بينما عنيت مدرسة الشام بأحكام الجهاد لأنهم أهل غزو وجهاد.
وأما من حيث خصوص الأفراد فوجدت أن مجاهدا قد تخصص وتفرغ لعلم القرآن، حتى بلغ فيه الغاية، ولم يقاربه أحد في كثرة المروي من التفسير (1).
وغلب الوعظ والتوجيه على تفسير الحسن البصري، حتى إنه ربما خالف الظاهر من النص القرآن منفردا من بين التابعين بتأويل يوافق مشربه (2).
وأما ابن المسيب فقد عني بآيات الأحكام، وبوجه أخص ما تعلق منها بمسائل
__________
(1) حيث بلغ عدد المروي عنه في تفسير الطبري (6109) أقوال، وكان يقول: استفرغ علمي القرآن.
(2) نص على ذلك الأوزاعي، وغيره حيث قال: ذهب عليهم الحسن بالمواعظ، ومن الآيات التي أولها لأجل ذلك، ما جاء عند قوله تعالى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ} قال رحمه الله:
كان الرجلان من بني إسرائيل، ولم يكونا ابني آدم لصلبه، وعند قوله سبحانه: {وَنََادى ََ نُوحٌ ابْنَهُ}: كان الحسن يحلف أنه ليس ابنه لصلبه. وغيرها من الأمثلة تراجع في موضعها من ترجمة الحسن ص (230).(1/20)
الطلاق (1).
وإذا جئنا إلى عطاء ألفيناه إماما في فقه المناسك، وشاهد ذلك وفرة المروي عنه فيها (2).
ثانيا: تميز بعض التابعين بالبروز في أصل من أصول التفسير، فأكثر من الاعتماد عليه.
فهذا عكرمة فاق غيره من التابعين في رواية أسباب النزول (3)، وكان لمجاهد قصب السبق في التعرض لمشكل القرآن (4).
وأما تفسير القرآن بالسنة فقد أكثر فيه قتادة، والحسن، وسبقا غيرهما فيه (5).
__________
(1) ذكر الأئمة أن سعيدا من أعلم التابعين بالطلاق، وبعد رجوعي لتفسيره وجدت أن ما يزيد على ثلث تفسيره كان حول آيات الأحكام، وكان نصيب مسائل الطلاق وأحكام النكاح النصيب الأوفى حيث بلغ (70، 0) من مجموع تلك الروايات.
(2) كانت حال عطاء قريبة مما ذكر عن حال سعيد بن المسيب فعطاء اشتغل في تفسيره كثيرا بتأويل آيات الأحكام، وخصوصا ما تعلق بأحكام المناسك، وكان الأوزاعي يقول: ذهب عليهم عطاء بالمناسك، والمروي عنه في تأويل آيات الأحكام بلغ (33، 0) من مجموع تفسيره، (60، 0) منها في تأويل آيات الحج.
(3) هو أكثر التابعين على الإطلاق اعتمادا على أسباب النزول في تفسيره حيث بلغ نسبة إيراده للأسباب في تفسيره (14، 0) في حين كانت نسبة المروي عن ابن جبير وقتادة (07، 0) من مجموع تفسيرهما، ولم تزد هذه النسبة عند مجاهد وعطاء عن (05، 0) وعند الحسن عن (03، 0) من مجموع تفسيرهم.
(4) اتضح لي هذا بعد مراجعة الآيات المشكلة في ظاهرها، فوجدت أكثر من تعرض لها بالبيان والتفسير مجاهدا، ورجعت إلى من كتب في المشكل كابن قتيبة فوجدت ما يؤيد الذي توصلت إليه.
(5) بعد مراجعة تفسير الطبري وجدت أن قتادة اعتمد على التفسير النبوي في (200) موضع من تفسيره، وجاء بعده الحسن حيث قال بالتفسير النبوي في (81) موضعا من تفسيره.
بينما نجد مجاهدا اعتمد التفسير النبوي في (25) موضعا فقط، وعكرمة في (9) مواضع، وابن جبير في (22) موضعا، وعطاء في (10) مواضع(1/21)
وتميز الشعبي بالاعتماد على أقوال الصحابة في تفسيره (1).
كما برز إبراهيم النخعي في القدرة على استنباط الحكم الفقهي من الآية، وأكثر من ذلك (2).
ثالثا: ظهرت لي نتيجة مهمة، أحسب أني لم أسبق إليها، وهي أن هناك إغفالا كبيرا غير متعمد لفضل المدرسة البصرية في التفسير وسبقها، مع أن نسبة المروي عنها يفوق كثيرا ما جاء عن المدرسة الكوفية التي يستروح المصنفون في علوم القرآن بإيرادها في مقدمة المدارس بعد المكية (3).
رابعا: لاح لي أن المشيخة العلمية أبلغ أثرا في بعض التابعين من البيئة المكانية التي عاشوا فيها، فهذا أبو العالية (مثلا) بصري المولد والمربي، ومع ذلك فهو مكي المنهج والمسلك، ومثله سعيد بن جبير الذي عاش زمنا طويلا في الكوفة، لكنه مكي المشرب،
__________
وخلاصة القول أن مجموع ما روي عن قتادة والحسن بلغ (70، 0) من مجموع ما روي عن التابعين.
(1) كان الشعبي أكثر التابعين اعتمادا على أقوال الصحابة في تفسيره حيث بلغ نسبة ما روى عنهم (05، 0) من مجموع تفسيره، في حين كان الذي يليه من مشاهير مفسري التابعين إبراهيم النخعي، فقد بلغ نسبة ما روى عنهم في هذا (023، 0) من مجموع تفسيره، وغيرهم من التابعين دونهم في ذلك.
(2) إبراهيم النخعي كان أكثر التابعين (على الإطلاق) تعرضا لتأويل آيات الأحكام حيث بلغ نسبة المروي عنه (38، 0) من مجموع تفسيره.
(3) وجدت كثيرا ممن صنف في علوم القرآن عند تعرضهم للمدارس يذكرون مدرسة مكة ثم الكوفة فالمدينة، وقلّ منهم من أفرد مدرسة البصرة بالذكر، مع أني بعد تتبعي لعدد المروي عن الجميع تبين لي أن المروي عن المدرسة المكية بلغ (46، 0) من مجموع تفسير التابعين، وعن المدرسة البصرية بلغ (38، 0) وعن الكوفية (14، 0)، وعن المدرسة المدنية (02، 0) من مجموع تفسيرهم.
وجلي من هذه النسب تفوق المدرسة البصرية على الكوفية.(1/22)
والطريقة، وكلاهما ممن تتلمذ على يد حبر الأمة ابن عباس رضي الله عنهما (1).
خامسا: قد انكشف لي أن بعض التابعين ليس له في التفسير من أثر إلا العناية بالرواية عن شيوخه، ومن أبرز هؤلاء: الربيع بن أنس الذي نقل جل تفسيره عن شيخه أبي العالية، ولم يجاوزه، ومثله السدي الذي قال بقول ابن عباس ورواه ولم يتعداه (2).
سادسا: لاحظت اهتمام مفسري الأثر من الأئمة بإيراد أقوال التابعين أكثر من غيرهم، حتى إن كثيرا منهم كان معظم ما رواه هو من أقوالهم (3).
سابعا: تتبعت أسانيد الروايات المأثورة عن الرسول صلى الله عليه وسلم، وعن مشاهير الصحابة، وعن التابعين وأتباعهم، فوجدت أن أقوى الأسانيد وأصحها ما جاء عن التابعين كمجاهد، وقتادة (4).
ثامنا: ويجدر بي أن أذكر أن هناك نتائج مهمة أخرى وقفت عليها من خلال البحث أشير إليها إشارة سريعة، منها: أن التقارب المكاني بين البصرة والكوفة لم يكن
__________
(1) انظر تفصيل هذا المبحث في فصل أشهر رجال مدارس التفسير عند ترجمة أبي العالية ص (288)، وسعيد بن جبير ص (137)، والسدي ص (299).
(2) يأتي بيان ذلك مفصلا عند الحديث عن تلاميذ المدرسة البصرية.
(3) فهذا سفيان الثوري اعتمد على تفسير التابعين في أكثر من (56، 0) من مجموع تفسيره، وهذا عبد الرزاق الصنعاني أكثر من النقل والرواية عنهم حتى إن تفسيرهم بلغ ما يزيد على (65، 0) من مجموع تفسيره.
وكان جل المأثور عند ابن جرير الطبري، وابن أبي حاتم في تفسيرهما هو من أقوال التابعين حيث زادت نسبة ما جاء من روايتهم عن (60، 0) من مجموع تفسيرهما.
(4) فالطريق إلى مجاهد وقتادة وهما من أكثر التابعين تعرضا للتفسير حيث زاد مجموع ما جاء عنهما عند الطبري على (11488)، رواية أقوى سندا من المروي عن ابن عباس، وهو من أكثر الصحابة تفسيرا إذ بلغ مجموع ما جاء عنه في تفسير الطبري (5809) رواية، وسوف يأتي تفصيل ذلك في مبحث قيمة المروي عنهم رواية ص (918).(1/23)
له كبير أثر في التقارب المنهجي فالكوفة تأثرت بالمدرسة المكية، وكان بينهما شيء من التجانس والاتفاق في كثير من المسائل، في حين كانت المدرسة البصرية إلى المدرسة المدنية أقرب (1).
ومن تلك النتائج: أن الورع الذي غلب على مدرستي المدينة والكوفة كان سببا رئيسا في إقلالهما في باب التفسير، وهذا ما يجده المراجع لكتب التفسير، وفضائل القرآن حيث كان غالب المنقول في التحذير عن التفسير، والأمر بالإقلال منه عن التابعين من الكوفيين والمدنيين (2)، وجاء شاهده من واقعهم حيث لم يرد عنهم إلا القليل من الروايات في التفسير.
تنبيهات متممة للمنهج:
1 - نظرا لكثرة الأعلام الواردة في الرسالة، فإني رأيت أن تكون التراجم في فهرس خاص في آخر الرسالة، عدا نذر قليل قد ترجم لهم خلال البحث.
2 - اعتمدت تفسير الطبري بطبعتيه. فما ذكرت منه رقم الجزء والصفحة والأثر فهو من النسخة التي حققها الشيخان أحمد ومحمد شاكر، وما اكتفيت فيه بذكر الجزء والصفحة، فهو مما بقي من الأجزاء طبعة مصطفى البابي الحلبي.
3 - اعتمدت في نقلي للأمثلة على ما رواه الأئمة في كتب التفسير موثقا النص بالإحالة إلى كتاب من كتب التفسير، وأكتفي بالإحالة إلا إذا نصّ على ضعفه فأبينه.
4 - اختصرت أسماء بعض المراجع المشهورة، اكتفاء بالتفصيل الوارد في ثبت المراجع.
__________
(1) ينظر تفصيل ذلك في مبحث: المدرسة المدنية، وأثرها ص (520).
(2) ينظر بيان ذلك في مبحث: المدرسة الكوفية والمدنية وأسباب إقلالهما في التفسير ص (492)، وص (516).(1/24)
ومع هذا الجهد المضني في الجمع، والتثبت، والتمحيص، والصياغة، إلا أن الله يأبى العصمة لكتاب غير كتابه، يقول الإمام الشافعي: لقد ألفت هذه الكتب ولم آل فيها، ولا بد أن يوجد منها الخطأ لأن الله تعالى يقول: {وَلَوْ كََانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللََّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلََافاً كَثِيراً} (1)، فما وجدتم في كتبي هذه مما يخالف الكتاب والسنة فقد رجعت عنه (2).
وصدق من قال:
كم من كتاب قد تصفحته ... وقلت في نفسي أصلحته
حتى إذا طالعته ثانيا ... وجدت تصحيفا فصححته
وفي الختام: أتوجه بدعائي وخالص ثنائي لخالقي ورازقي، فالحمد لله الذي بفضله تتم الصالحات، وأثني بالشكر لمن كانا السبب في وجودي بعد الله، امتثالا لأمر الله {أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوََالِدَيْكَ}، فأسأل الله العلي القدير، أن يغفر لهما ويرحمهما كما ربياني صغيرا.
كما أتوجه بالشكر وعاطر الثناء لأستاذي وشيخي الفاضل الأستاذ الدكتور: سعود ابن عبد الله الفنيسان الذي أشرف عليّ في رحلة الدكتوراة والذي أفادني من علمه الجم، فهذه الرسالة، وما فيها من جهد وتوفيق، فالفضل لله أولا ثم لتوجيهات أستاذي متعه الله بالصحة والعافية، وأسأل الله أن يمدّ في عمره، ويبارك في ولده، فجزاه الله عني خير الجزاء.
كما لا يسعني إلا مواصلة الشكر الجزيل لجامعتي المباركة: جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، التي أتاحت لي الفرصة لإكمال دراستي الجامعية، وما بعدها من
__________
(1) سورة النساء آية (82).
(2) المقاصد الحسنة (15).(1/25)
دراسات، وأخص بذلك كلية أصول الدين ممثلة في عميدها ووكيليها، وقسم القرآن وعلومه، ممثلا برئيسه ووكيله، وأتقدم بالشكر سلفا لمن سيتحمل قراءة هذا البحث، ليقف بي على ما له وعليه، ورحم الله امرأ أهدى إلي عيوبي.
ثم إن ذكر المعروف واجب، وشكره أوجب فأشكر كل من أسدى إليّ معروفا، وسددني بنصح، أو توجيه، أسأل الله أن يجزي الجميع عني أفضل الجزاء إنه ولي ذلك والقادر عليه.
ثم أما بعد
فما كان في هذه الرسالة من جهد وتوفيق وسداد فمن الله وحده، فله الحمد في الآخرة، والأولى، وما كان من زلل، وخطأ، فمن نفسي والشيطان، وقد أفرغت جهدي في هذا البحث وبذلت فيه فكري، ولم يكن في ظني أن أصل إلى ما وصلت إليه، ولا أتعرض لما سطرته، وذلك لعلمي بعجزي عن الخوض في مثل تلك المسالك، ولكن عزائي فيما قاله بعض الحكماء:
أسير خلف ركاب النجب ذا عرج ... مؤملا كشف ما لاقيت من عوج
فإن لحقت بهم من بعد ما سبقوا ... فكم لرب الورى في ذاك من فرج
وإن بقيت بظهر الأرض منقطعا ... فما على عرج في ذاك من حرج
* * *(1/26)
التمهيد
أولا: مفهوم التفسير.
ثانيا: التفسير في مراحله الأولى.(1/27)
1 - مفهوم التفسير بالمأثور
تعريف الأثر في اللغة:
الأثر محركة: بقية الشيء (1)، والجمع آثار وأثور (2).
والأثر: نقل الحديث من القوم، وروايته (3).
والأثر: مصدر قولك أثرت الحديث آثره إذا رويته عن غيرك (4).
أثر الحديث: ذكره عن غيره فهو (آثر) بالمد، وبابه نصر، ومنه حديث مأثور، أي ينقله خلف عن سلف، وأنا آثر قال الأعشى:
إن الذي فيه تماريتما ... بيّن للسامع والأثر (5)
قال الخليل: والأثر: الاستقفاء والاتباع (6)، ويقال: فلان من حملة الآثار (7).
قال أبو عبيد: المأثرة هي المكرمة، ويقال: إنها سميت مأثرة لأنها تؤثر، ويأثرها
__________
(1) تهذيب اللغة (15/ 119)، ولسان العرب (4/ 5)، والقاموس المحيط (1/ 375)، وتاج العروس (10/ 12).
(2) لسان العرب (4/ 5).
(3) اللسان (4/ 6)، وتاج العروس (10/ 15).
(4) تهذيب الصحاح (1/ 253)، واللسان (4/ 6)، ومجمل اللغة (1/ 86).
(5) ينظر: اللسان (4/ 6)، والتاج (10/ 16)، ومختار الصحاح (5)، وروايته البيت في ديوان الأعشى ص 141هكذا:
لتأتينه منطق سائر ... مستوسق للمسمع الأثر
(6) معجم مقاييس اللغة (1/ 54).
(7) تاج العروس (10/ 13)، وأساس البلاغة (ص 2).(1/29)
قرن عن قرن أي يتحدث بها، كقولك: أثرت الحديث آثره أثرا ولهذا قيل: حديث مأثور (1).
وقال أبو عبيد في حديث النبي صلى الله عليه وسلم: إنه سمع عمر رضي الله عنه يحلف بأبيه فنهاه عن ذلك قال: فما حلفت بها ذاكرا ولا آثرا (2) (3).
وقوله: «ولا آثرا» يريد ولا مخبرا عن غيري (4). ومن هذا قيل: حديث مأثور، أي يخبر به الناس بعضهم بعضا (5).
وقال ابن الأثير في تفسير قول عمر: ولا رويت عن أحد أنه حلف بها (6).
فيكون قد وضع المأثور وضع المأثور عنه (7).
قال الراغب: وأثرت العلم: رويته، آثره أثرا، وإثارة، وأثرة، وأصله تتبعت أثره. وأثارة من علم، وقرئ أثرة، وهو ما يروى أو يكتب فيبقى له أثر (8).
قال الزجاج: أثارة في معنى علامة، ويجوز أن يكون على معنى بقية من علم، ويجوز أن يكون على ما يؤثر من العلم (9)، ويقال: أو شيء مأثور من كتب
__________
(1) غريب الحديث لأبي عبيد القاسم بن سلام (1/ 288).
(2) غريب الحديث لأبي عبيد (2/ 59)، والفائق (1/ 23)، والنهاية (1/ 22).
(3) صحيح البخاري، كتاب الإيمان: باب لا تحلفوا بآبائكم (7/ 221)، وصحيح مسلم، كتاب الأيمان باب النهي عن الحلف بغير الله (3/ 1266)، ومسند أحمد (1/ 36)، (2/ 7، 8).
(4) غريب الحديث لأبي عبيد (2/ 59)، وغريب الحديث لابن الجوزي (1/ 10)، وقنعة الأديب في تفسير الغريب لابن قدامة (45).
(5) غريب الحديث لأبي عبيد (2/ 59).
(6) النهاية في غريب الحديث، والأثر (1/ 22).
(7) النهاية (1/ 23)، ولسان العرب (4/ 7).
(8) المفردات في غريب القرآن (9).
(9) معاني القرآن للزجاج (4/ 438).(1/30)
الأولين (1).
مما سبق يتضح أن المأثور: يدور حول معنى الخبر المروي، والمنقول عن السلف، ومنه معنى الاتباع والاستقفاء.
وأما معناه في الاصطلاح:
فالمشهور عن المحدثين أن الأثر يشمل ما رفع إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وما أضيف إلى الصحابي، وما وقف به على التابعي (2).
وخالف في ذلك بعض فقهاء خراسان، فقالوا: إن الأثر هو الموقوف على الصحابي بإطلاق، أو على التابعي بتقييد، ذكر ذلك ابن الصلاح (3)، وابن كثير (4)، والعراقي (5).
والمعتمد هو ما عليه المحدثون أن يسمى كل هذا أثرا لأنه مأخوذ من أثرت الحديث أي: رويته (6).
وأما معناه في اصطلاح كتب أصول التفسير:
فذهب كثير من الأئمة إلي أن المراد به: هو المنقول، والمروي من التفسير عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعن الصحابة، والتابعين، وأتباعهم (7).
ولذا نجد ابن حجر عند ما تعرض لكتب التفسير بالمأثور ذكر أنها: الناقلة للآثار
__________
(1) تاج العروس (10/ 18).
(2) ظفر الأماني (54) عن حاشية كتاب قواعد في علوم الحديث (25)، ولمحات في أصول الحديث (43).
(3) التقييد والإيضاح شرح مقدمة ابن الصلاح (66)، والنكت على ابن الصلاح (1/ 513).
(4) اختصار علوم الحديث (45).
(5) التبصرة والتذكرة (1/ 123)، وفتح المغيث (1/ 104).
(6) تدريب الراوي (1/ 185)، ومنهج النقد في علوم الحديث (28).
(7) مقدمة ابن خلدون (439)، والبرهان في علوم القرآن (2/ 172)، ينظر كلام الشريف الجرجاني في كتاب: بين الشيعة والسنة دراسة مقارنة في التفسير وأصوله (19)، وكتاب:
التعريف بالقرآن والحديث (164)، والمدخل لدراسة القرآن والسنة (2/ 223)، ورسالة ضبط(1/31)
المسندة، سواء من المرفوع، أو الموقوف على الصحابة، أو المقطوع عن التابعين (1).
ورجح البعض أن مفهومه ينحصر في التفسير النقلي عن المصطفى صلى الله عليه وسلم، والصحابة (2)، أو قاله كبار التابعين متلقى من الصحابة، وصح سنده (3).
وأورد بعض من قال بهذا القول الخلاف في مسألة إدخال تفسير التابعين، ومال إلى عدم ذلك مستدلا بأنهم لم يشاهدوا عصر النبي صلى الله عليه وسلم، فيغلب على الظن أن تفسيرهم من قبيل الرأي، والاجتهاد، وأنهم مع عنايتهم الشديدة بالنقل عن الصحابة قد أكثروا من النقل عن أهل الكتاب (4).
وذهب البعض الآخر إلى أكثر من ذلك، فقصر التفسير بالمأثور على ما كان متعلقا بالسماع عن النبي صلى الله عليه وسلم، وأما الأقوال المنقولة عن الصحابة والتابعين مما يتصل بالاجتهاد، والاستنباط فليست من التفسير بالمأثور (5).
وفي ذلك يقول الشيخ محمد الصباغ: إن الرأي الصحيح أن ما جاء عن الصحابة، والتابعين العدول فيما ليس من باب الاجتهاد والاستنباط، وإنما هو متوقف على السماع من النبي صلى الله عليه وسلم يعتبر من التفسير بالمأثور، وهو ملزم إن صح سنده، وأما المنقول عنهم مما يتصل بالاجتهاد والاستنباط، فليس من المأثور (6).
__________
القرآن (112)، وكتاب اللآلئ الحسان (344)، وكتاب في علوم القرآن دراسات ومحاضرات (157) وكتاب مناهج المفسرين من العصر الأول إلى العصر الحديث (69).
(1) مقدمة كتاب العجاب في بيان الأسباب، عن كتاب الدر المنثور (8/ 699).
(2) مدخل إلى علوم القرآن والتفسير (217، 223)، وأصول التفسير وقواعده (111)، وعلوم القرآن مدخل إلي تفسير القرآن وبيان إعجازه (403، 404).
(3) مباحث في علوم القرآن (347).
(4) دراسات إسلامية في علوم القرآن د. شكر محمد أحمد، د. محمد مصطفى النجار (59، 61)، ومناهل العرفان (1/ 481).
(5) علوم القرآن مدخل لتفسير القرآن (403)، دراسات في التفسير وأصوله (46).
(6) لمحات في علوم القرآن، واتجاهات التفسير (180).(1/32)
والمتأمل لقول من استبعد دخول تفسير التابعين في المأثور أنه خلط بين أمرين هما:
المراد بالتفسير بالمأثور، وحكمه من حيث القبول أو الرد، وأن إدخاله في المأثور يعني قبوله، والحق أن بين الأمرين تمايزا، فكونه مأثورا لا يلزم منه الأخذ، أو الرد.
ولعل مما يرجح القول بأنه من المأثور، ما شهدت به اللغة في أصل اشتقاق الكلمة، وكذا ما اختاره جمهور المحدثين، والفقهاء، ثم ما شهد به واقع كتب التفسير بالمأثور فإنه قد جمعت الكثير من المروي، سواء كان عن الرسول صلى الله عليه وسلم أو عن الصحابة، أو عن التابعين.
* * *
2 - التفسير في مراحله الأولى(1/33)
* * *
2 - التفسير في مراحله الأولى
نزل القرآن الكريم على نبيّ أميّ، وقوم أميين، نزل بلغة العرب، وعلى أساليب بلاغتهم، فكانوا يفهمون القرآن، ويدركون معانيه ومراميه بمقتضى سليقتهم العربية، فهما لا تعكره عجمة ولا يشوبه تكدير، وكانوا يعلمون ظواهره، وأحكامه، ومن هنا جاء قول ابن خلدون: إن القرآن نزل على العرب بلغتهم، فكانوا كلهم يفهمونه، ويعلمون معانيه وتراكيبه. ثم يقرر بعد ذلك أن في القرآن إشارات لم يتح لكثير من العرب أن يفهموها، ومن هنا دعت الحاجة إلى فهمها وبيان مراميها (1).
ومن المعلوم أن أكثر آيات القرآن واضحة المعنى وخصوصا ما يتعلق بأصول الدين، وأصول الأحكام، وهذا النوع يفهمه جمهور المسلمين، ولا سيما العرب منهم.
أما ما كان من الآيات التي يصعب فهمها على عموم المسلمين، فلا يقف على معناها إلا الراسخون في العلم منهم، وإمامهم في ذلك المصطفى صلى الله عليه وسلم الذي أمر بالبيان {وَأَنْزَلْنََا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنََّاسِ مََا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} (2).
ولذا نشأ التفسير بالمأثور، وكان مقصورا في أول أمره على ما ورد عنه صلى الله عليه وسلم، فكان الصحابة يقرءونه ويتسابقون للعمل بما يعلمون، وقد يشكل بعضه على أحدهم فيسأل النبي صلى الله عليه وسلم، ويجيبه النبي صلى الله عليه وسلم في سهولة ويسر، وكانت حياته صلى الله عليه وسلم تطبيقا عمليا لأوامر القرآن ونواهيه (3).
والمتأمل لعصر النبي صلى الله عليه وسلم يجد صدق الإيمان في قلوبهم، والفهم الخالي من كل شبهة وشهوة، كل ذلك جعلهم لا يقولون في التفسير إلا ما روي عنه صلى الله عليه وسلم توقيفا، وهذا كان في أول الأمر، ولما انتقل صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى، وانتشر الصحابة في الآفاق، ازدادت الحاجة إلى
__________
(1) دراسات في القرآن (111).
(2) سورة النحل: آية (44).
(3) مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية (13/ 363).(1/34)
علمهم، فهم أدرى الناس بذلك، لما شاهدوه من القرائن والأحوال التي اختصوا بها، ولما لهم من الفهم التام، والعلم الصحيح، والعمل الصالح، لا سيما علماؤهم (1).
وهم مع فضلهم وسبقهم رضي الله عنهم وأرضاهم كانوا يتفاوتون في فهم القرآن، وبيان معانيه وأسراره، وذلك راجع إلى اختلافهم في أدوات الفهم، فمنهم من كان واسع الاطلاع في اللغة ملما بغريبها، ومنهم من كان دون ذلك، ومنهم من كان يلازم النبي صلى الله عليه وسلم، فيعرف من أسباب النزول ما لا يعرفه غيره، بالإضافة إلى ما بينهم من التمايز في الدرجة العلمية، والمواهب العقلية (2).
يقول مسروق: جالست أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم فوجدتهم كإخاذ يعني الغدير فالإخاذ يروي الرجل، والإخاذ يروي الرجلين، والإخاذ يروي العشرة، والإخاذ يروي المائة، والإخاذ لو نزل به أهل الأرض لأصدرهم (3).
ولما فتح الله على المسلمين كثيرا من البلاد، نتج عن ذلك انتقال الصحابة مجاهدين بالسنان، وباللسان، فحملوا معهم ما حفظوه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجلس إليهم كثير من التابعين يأخذون العلم عنهم، وينقلونه لما بعدهم، فقامت في هذه الأمصار مدارس علمية، أساتذتها الصحابة، وتلاميذها التابعون (4).
وقد دخل في هذا الدين عناصر أجنبية على حظ كبير من الحضارة المادية، وكانوا يستخدمون الكتابة في كثير من شئون حياتهم، ويعتمدون عليها في تدوين علومهم، ولم يألفوا حفظها عن طريق الذاكرة، من هنا أخذ الموقف يتحرك قليلا، فبدأنا نرى جماعة من التابعين يكتبون لأنفسهم (5)، وإنما استباحوا ذلك اقتداء بأولئك الصحابة (6) الذين أباح لهم
__________
(1) مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية (13/ 363).
(2) التفسير والمفسرون (1/ 35).
(3) طبقات ابن سعد (2/ 343)، والمعرفة والتاريخ (2/ 542).
(4) التفسير والمفسرون (1/ 100).
(5) أورد. محمد مصطفى الأعظمي في كتاب دراسات في الحديث النبوي، الأدلة على أن (53) من كبار التابعين كتبوا (1/ 167143)، وأن (99) من صغار التابعين كتبوا (1/ 220144).
(6) وأورد أيضا الدليل على أن (52) صحابيا كتبوا، ينظر كتاب دراسات في الحديث النبوي (1/ 14292).(1/35)
النبي صلى الله عليه وسلم الكتابة، بينما كان البعض من التابعين لا يكتب.
ولعل من الأسباب التي دعت للكتابة أيضا، أن الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم قد كثر في عهد التابعين بسبب بداية ظهور الفرق الإسلامية، وبسبب من دخل في الإسلام ممن لا يرجو له وقارا، ولا لأهله استقرارا.
ولذا يقول الإمام الزهري: لولا أحاديث تأتينا من قبل المشرق ننكرها لا نعرفها، ما كتبت حديثا، ولا أذنت في كتابة (1).
ثم قال أيضا: يا أهل العراق، يخرج الحديث من عندنا شبرا، ويصير عندكم ذراعا (2).
إذن فالتفسير بالمأثور أخذ أول الأمر بطريق الرواية التي اهتم بها كثير من الصحابة، والتابعين، وأما مرحلة التدوين فقد تحرج منها البعض في بداية الأمر، ثم انشرحت صدور الكثير منهم فكتبوا وأمروا بالكتابة، ولعل الذي يعنينا إبرازه في هذه المرحلة والتأكيد عليه، ذلك الدور المهم للتابعين في تدوين ما حفظوه وقالوه، في التفسير خاصة، وفي غيره عامة، في زمن مبكر، مما يؤكد عنايتهم بهذا العلم، وسبقهم في هذا الجانب.
فعن ابن أبي مليكة قال: رأيت مجاهدا يسأل ابن عباس عن تفسير القرآن، ومعه ألواحه فقال ابن عباس: اكتب، حتى سأل عن التفسير كله (3).
ولذا يعتبر مجاهد من أول (4) من دون أقوال ابن عباس، فأدى بذلك دورا مهما في نشر فكر المدرسة المكية وتخليده، وقد قيل: إن أول التعليقات المفسرة للقرآن هي التي أثبتها مجاهد. وتعتبر تدوينات مجاهد من أقدم مصنفات الجمع (5).
وقد عثر على مخطوطة لتفسير مجاهد نسخت في القرن السادس (6).
__________
(1) تقييد العلم (108).
(2) تاريخ الإسلام (5/ 143).
(3) تفسير الطبري (1/ 90)، ومقدمة في أصول التفسير لابن تيمية (28)، وتقييد العلم (105).
(4) تلخيص البيان في مجازات القرآن (1/ 45)، ودراسات في التفسير وأصوله (36).
(5) دراسات في التفسير وأصوله (56)، والفهرست (33)، وتاريخ آداب اللغة العربية (1/ 221).
(6) بين الشيعة والسنة (67).(1/36)
وهذا التفسير رواية أبي القاسم عبد الرحمن بن أحمد بن محمد بن عبيد الهمذاني، وينتهي سنده في معظمه إلى مجاهد عن طريق إبراهيم، عن آدم، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد (1).
وكان لسعيد بن جبير كتاب في تفسير القرآن، وكتاب في نزول القرآن (2).
وقد أشار ابن النديم إلى أن هذا الكتاب كان موجودا بعد سعيد ثم فقد (3).
وكان رحمه الله يقول عن نفسه: كنت أسأل ابن عمر في صحيفة، ولو علم بها كانت الفيصل بيني وبينه (4).
ويقول أيضا: كنت أكتب عند ابن عباس في ألواحي حتى أملأها، ثم أكتب في نعلي (5).
ويقول أيضا: كنت أسير بين ابن عمر وابن عباس، فكنت أسمع الحديث منهما فأكتبه على واسطة الرحل، حتى أنزل فأكتبه (6).
وقد روى ابن سعد: أن عزرة بن يحيى كان يختلف إلى سعيد بن جبير معه التفسير في كتاب، ومعه الدواة يغير (7).
وكان عبد الملك بن مروان قد سأل سعيد بن جبير أن يكتب إليه تفسير القرآن، فكتب سعيد بهذا التفسير، فوجده عطاء بن دينار في الديوان، فأخذه فأرسله عن سعيد ابن جبير (8).
وكتب عمرو بن عبيد شيخ المعتزلة تفسيرا للقرآن عن الحسن البصري
__________
(1) ويأتي بسط الحديث عنه في فصل مصادر تفسير التابعين ص (60).
(2) الفهرست لابن النديم (51)، وتاريخ التراث (1/ 184).
(3) الفهرست (51).
(4) طبقات ابن سعد (6/ 258).
(5) تقييد العلم (102)، وطبقات ابن سعد (6/ 257).
(6) تقييد العلم (103)، وجامع بيان العلم (1/ 72).
(7) الطبقات (6/ 266).
(8) الجرح (3/ 332)، والمراسيل (58)، والتهذيب (7/ 198).(1/37)
رحمه الله (1). وكان عند زيد بن أسلم كتاب في التفسير (2).
وألف إسماعيل بن عبد الرحمن السدي تفسيرا للقرآن (3).
وكان لقتادة كتاب في التفسير (4)، والناسخ والمنسوخ في القرآن (5)، وعواشر القرآن (6).
وكان عطاء بن أبي رباح يكتب لنفسه، ويأمر ابنه أحيانا أن يكتب له، وكان طلابه يكتبون بين يديه (7).
وقد نشطت الحركة العلمية في عصر التابعين نشاطا كان من آثاره بدء مرحلة التدوين الرّسمي للسنة، بأمر من الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز رحمه الله يقول عبد الله بن دينار: كتب عمر بن عبد العزيز إلى أهل المدينة: أن انظروا حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فاكتبوه، فإني خفت دروس العلم وذهاب أهله (8)، ولم يكن أمره هذا مقصورا على أهل المدينة فحسب، بل كتب بذلك إلى سائر الأمصار (9).
وكان أول من قام بتدوين السنة بأمر من عمر بن عبد العزيز: ابن شهاب
__________
(1) وفيات الأعيان (3/ 132)، ومما ينبغي التنبيه عنه هنا، أن هذا التفسير المروي عن عمرو بن عبيد، أفاد منه الثعلبي في تفسيره الكشف والبيان (ص 6ب) ينظر تاريخ التراث (1/ 72).
ونقل البغوي تفسير الحسن عن هذا الطريق كما صرح به في مقدمة كتابه (1/ 26). ولكن الطبري لم ينقل من هذا الكتاب شيئا، إنما اعتمد طرقا أخرى.
(2) التذكرة (3/ 132).
(3) حاشية تفسير الطبري (1/ 160156)، ودراسات في القرآن لأحمد خليل (111).
(4) الفهرست (34)، ودراسات في الحديث النبوي (1/ 196).
(5) طبقات ابن سعد (7/ 33)، والبرهان (2/ 28).
(6) طبقات ابن سعد (7/ 2).
(7) سنن الدارمي (1/ 129).
(8) سنن الدارمي (1/ 104)، وتقييد العلم (106).
(9) فتح الباري (1/ 194).(1/38)
الزهري (1).
والتفسير في مرحلته الأولى اتخذ شكل الحديث، بل كان جزءا منه، وبابا من أبوابه، ومن المعلوم أن الحديث كان هو المادة الواسعة التي شملت جميع المعارف، والعلوم الشرعية لأنه يقوم على الرواية التي هي الأصل في نقل جميع العلوم الدينية (2).
وقد تبع مرحلة التدوين، مرحلة التصنيف، والتي بدأها ابن جريج المكي (3)، الذي يعد من أول من صنف الكتب (4)، وله كتاب في التفسير (5).
وابن أبي عروبة والذي يعد من أول من صنف في العراق، وله تفسير القرآن والسنن (6).
ثم جاء بعدهم سفيان بن سعيد الثوري، والإمام الأوزاعي، بالشام، ومعمر بن راشد باليمن (7).
__________
(1) جامع بيان العلم وفضله (1/ 88).
(2) بتصرف، ينظر علوم القرآن د. عدنان زرزور (404).
(3) وابن جريج هو عبد الملك بن عبد العزيز المتوفى سنة (150هـ)، وقد حفظ بتصنيفه هذا تراث المدرسة المكية لأنه من أكثر الرواة لتفسير عطاء، وعكرمة، وهو ثاني أصحاب مجاهد، وسيأتي تفصيل ذلك ص (453).
(4) تاريخ بغداد (10/ 400).
(5) الفهرست (282)، والتهذيب (2/ 205)، (4/ 244)، ودراسات في الحديث النبوي (1/ 286).
(6) هو سعيد بن أبي عروبة البصري المتوفى سنة (156) هـ، ينظر: الفهرست (283)، وفتح الباري (9/ 464)، ودراسات في الحديث (1/ 254).
(7) المحدث الفاصل (611)، وتدريب الراوي (1/ 89)، ومعمر بن راشد كان لانتقاله من البصرة إلى اليمن، وتدوينه العلم بها، أثره البالغ في إكثار عبد الرزاق من آثار وأقوال البصريين، لا سيما ما جاء عن قتادة والحسن، وسيأتي ذلك مفصلا في أثر المدرسة البصرية على بقية المدارس ص (504).(1/39)
وامتدادا لتلك المرحلة جاء بعد ذلك: التصنيف على الأبواب، كما صنع عبد الرزاق الصنعاني، وابن أبي شيبة في مصنفيهما، وغيرهما. وبدأ علم التفسير يستقل في مصنفات خاصة سنأتي على ذكر شيء منها بعد ورقات.
* * *
الباب الأول مدخل إلى تفسير التابعين(1/40)
* * *
الباب الأول مدخل إلى تفسير التابعين
وفيه فصلان:
الفصل الأول: المراد بالتابعي، وحكم تفسيره.
المبحث الأول: المراد بالتابعي.
المبحث الثاني: حكم تفسير التابعي.
الفصل الثاني: مصادر تفسير التابعين.
المبحث الأول: كتب السنن، والآثار.
المبحث الثاني: كتب التفسير بالمأثور.(1/41)
الفصل الأول المراد بالتابعي، وحكم تفسيره(1/43)
الفصل الأول المراد بالتابعي، وحكم تفسيره
المبحث الأول المراد بالتابعي
التابع ويقال: التابعي، وكذا التبع، ويجمع عليه أيضا كذا على أتباع (1).
اختلف العلماء في حده، وتعريفه:
فذهب الخطيب البغدادي إلى أن التابعي من صحب الصحابي (2). فلا يكفي عنده مجرد اللقي، بل لا بد من شرط زائد وهو وجود الصحبة بينهما.
ومال ابن كثير (3) إلى قول الخطيب لأنه ذهب إلى تعليل اشتراط الصحبة، وعدم الاكتفاء باللقي.
فتبين أن أهل هذا القول لم يكتفوا بمجرد رؤية التابعي للصحابي، كما اكتفوا بذلك حين قرروا أن رؤية رسول الله صلى الله عليه وسلم كافية لمن آمن به ثم مات على ذلك في إطلاق اسم الصحابي عليه (4) لأن هنالك فرقا فرؤيته صلى الله عليه وسلم لها أثرها في النفس، والسلوك.
__________
(1) فتح المغيث (3/ 140)، وفتح الباقي (3/ 45).
(2) الكفاية (59).
(3) اختصار علوم الحديث (201).
(4) صحيح البخاري أول كتاب فضائل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم (4/ 188)، والإصابة (1/ 3).(1/45)
وذهب الحاكم إلى القول باشتراط المشافهة عن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم (1).
واختار ابن حجر رحمه الله قول الجمهور في ذلك، وزاد قيد الإيمان، ثم قال:
خلافا لمن اشترط في التابعي طول الملازمة، أو صحبة السماع.
فتحصل مما سبق أن تعريف التابعي المختار: هو من لقي الصحابي مؤمنا، ومات على الإسلام (2).
وذهب كثير من المحدثين إلى القول بأن المراد به: من لقي واحدا من الصحابة فأكثر (3).
فيكفي عن هؤلاء مجرد اللقي وإن لم تكن الصحبة، وإلى ذلك ذهب بن الصلاح (4)
والنووي (5)، ورجحه العراقي (6) فقال: وعليه عمل الأكثرين من أهل الحديث (7). ثم ساق الأدلة الدالة على صحة هذا القول، فقال: ذكر مسلم، وابن حبان، سليمان بن مهران الأعمش في طبقة التابعين، وقال ابن حبان: أخرجناه في هذه الطبقة لأن له لقيا وحفظا، رأى أنس بن مالك، وإن لم يصح له سماع المسند من أنس (8).
وقال علي بن المديني: لم يسمع من أنس، وإنما رآه رؤية بمكة يصلي خلف المقام (9).
__________
(1) معرفة علوم الحديث (42)، ومنهج النقد في علوم الحديث (147).
(2) شرح قصب السكر نظم نخبة الفكر (106)، وشرح النخبة لعلي القاري (184، 185).
وقد توسع التهانوي في تعريفه، فقال: هو من لقي الصحابي، ولو غير مؤمن بالنبي صلى الله عليه وسلم، ومات على الإسلام، ولو تخللت ردة، ينظر: قواعد في علوم الحديث (48).
(3) تدريب الراوي (2/ 234).
(4) مقدمة ابن الصلاح (272).
(5) تدريب الراوي (2/ 234).
(6) التبصرة والتذكرة (3/ 45)، والتقييد والإيضاح (317).
(7) التبصرة والتذكرة (3/ 45)، والتقييد والإيضاح (317).
(8) الثقات (6/ 270).
(9) المراسيل لابن أبي حاتم (82).(1/46)
وقال أبو حاتم: إنه لم يسمع منه (1)، وقال الترمذي: إنه لم يسمع من أحد من الصحابة (2).
ثم قال العراقي: وعدّه أيضا عبد الغني بن سعيد في التابعين، وعدّ فيهم يحيى بن أبي كثير، لكونه لقي أنسا، وعدّ فيهم موسى بن أبي عائشة لكونه لقي عمرو بن حريث، وعدّ فيهم جرير بن حازم لكونه رأى أنسا، وهذا مصير منهم إلى أن التابعي من رأى الصحابي (3).
وقد قيد ابن حبان الرؤية بأن تكون في سن من يحفظ عنه، كما صرح بذلك في ترجمة خلف بن خليفة، الذي قال البخاري فيه: يقال: إنه مات في سنة إحدى وثمانين ومائة، وبذلك جزم ابن حبان (4).
قال السخاوي في إيضاحه لهذا التعريف: هو اللاقي لمن قد صحب النبي صلى الله عليه وسلم واحدا فأكثر، سواء كانت الرؤية من الصحابي نفسه، حيث كان التابعي أعمى أو بالعكس، أو كانا جميعا كذلك يصدق أنهما تلاقيا، وسواء كان مميزا أم لا (5). وختم السخاوي هذا المبحث بقوله: (مرجحا القول المكتفي باللقاء): ثم إنه قد يستأنس لهذا القول بقوله صلى الله عليه وسلم: «طوبى لمن رآني وآمن بي، وطوبى لمن رأى من رآني» (6).
__________
(1) المرجع السابق (82)، والتبصرة (3/ 45).
(2) التبصرة (3/ 46).
(3) المرجع السابق.
(4) الثقات (6/ 270).
(5) فتح المغيث (3/ 140).
(6) رواه الطبراني عن عبد الله بن بسر، بزيادة: «طوبى لهم وحسن مآب».
قال نور الدين الهيثمي في المجمع (10/ 20): رواه الطبراني، وفيه بقية، وقد صرح بالسماع فزالت الدلسة، وبقية رجاله ثقات.
قال الألباني: في السلسلة الصحيحة (3/ 253) ما نصه: وقد وقفت على إسناده، أخرجه الضياء في «المختارة» (ق 113/ 2) من طريق أبي يعلى والطبراني بإسناديهما عن بقية، ثم قال:(1/47)
__________
وهو إسناد حسن، ورجاله معروفون غير اليحصبي هذا، فقد ترجمه ابن أبي حاتم (3/ 2/ 316) برواية جماعة عنه، ولم يذكر فيه جرحا، ولا تعديلا، ثم قال: والظاهر أنه وثقه ابن حبان يدل عليه كلام الهيثمي السابق.
قال كاتبه: لم يوثقه ابن حبان، بل قال: لا يحتج بحديثه ما كان من رواية بقية بن الوليد، بل يعتبر من حديثه ما رواه الثقات عنه، فتحصل مما سبق تضعيف ابن حبان له، وخاصة في رواية بقية عنه. ينظر: الثقات (5/ 377).
وأخرجه الحاكم (4/ 86) من طريق عبد الله بن بسر أيضا بزيادة: «ولمن رأى من رأى من رآني وآمن بي».
ثم قال رحمه الله: هذا حديث قد روي بأسانيد قريبة عن أنس بن مالك، وأقرب هذه الروايات إلى الصحة ما ذكرنا، وتعقبه الذهبي بقوله، قلت: جميعه واه.
وأما أسانيد الحديث إلى أنس، التي أشار إليها الحاكم فقد أخرجها الخطيب في تاريخه (3/ 49)، (3/ 306)، (6/ 200)، (8/ 258، 259) وفيها ضعف شديد، كما أشار إليه الشيخ الألباني، ثم قال: وللحديث شاهد من حديث أبي سعيد الخدري مرفوعا به، ولكنه واه جدا، أخرجه عبد بن حميد في المنتخب من المسند (2/ 110) من طريق إبراهيم بن أبي إسحاق عن أبي نضرة عنه ثم قال: وهذا إسناد ضعيف جدا، إبراهيم هذا هو ابن الفضل، وهو متروك كما في «التقريب».
قال كاتبه: ولست أدري من أين استنبط الشيخ حفظه الله أن إبراهيم هذا هو ابن الفضل لأن إبراهيم هنا هو ابن يزيد أبو إسحاق الكوفي، كما يوضحه ما رواه البخاري في تاريخه (1/ 335) عند ترجمة إبراهيم ابن أبي يزيد أبو إسحاق الكوفي، وذكر في ترجمته روايته لهذا الحديث عن أبي نصير سمع أبا سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «طوبى لمن رآني» الحديث، وساقه بأكثر من ثلاثة طرق عن إبراهيم بن يزيد عن أبي نصير به.
وإبراهيم بن يزيد الكوفي ذكره البخاري (1/ 335)، وابن أبي حاتم في الجرح (2/ 146)، وسكتا عنه، وقال ابن حبان: شيخ يروي عن أبي نضرة عن أبي سعيد الخدري، ينظر: الثقات (6/ 25).
وأخرجه الطبراني في المعجم الكبير (22/ 20) 29، من طريق وائل بن حجر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
«طوبى لمن رآني ومن رأى من رآني» قال الهيثمي في المجمع (10/ 20): وفيه من لم أعرفهم.
ثم قال الشيخ الألباني: وبالجملة فالحديث حسن إن شاء الله من أجل طريق بقية التي أخرجها الضياء في المختارة.
قال كاتبه: لعل الأقرب أن الحديث حسن لغيره، بمجموع طرقه الضعيفة.(1/48)
المبحث الثاني حكم تفسير التابعي
لقد حظيت أقوال التابعين في سائر فروع العلم بمزيد اهتمام، فروي الكثير منها، وجمعت فتاويهم، وآراؤهم.
وقد وقع الخلاف بين الأئمة في قبول قول التابعي:
فعن شعبة قال: رأي التابعين من قبل أنفسهم ريح لا يعتمد عليه، فكيف في كتاب الله (1).
وفي الرجوع إلى قول التابعي روايتان عن أحمد، واختار ابن عقيل المنع (2).
وذهب أبو حنيفة، والشافعي إلى عدم الأخذ بقوله، وقد صرح أبو حنيفة فقال:
إذا جاء الأمر إلى إبراهيم، والحسن فهم رجال، ونحن رجال (3).
وإن كان الإمام الشافعي قد يأخذ أحيانا بقول التابعي، وقد صرح في أكثر من موضع بأنه قال ذلك تقليدا، كما وقع ذلك منه مثلا في تقليده لبعض ما ذهب إليه عطاء ابن أبي رباح.
__________
(1) مجموع فتاوى شيخ الإسلام (13/ 370)، ونقله ابن كثير في مقدمة تفسيره (1/ 15)، وذكره شيخ الإسلام ابن تيمية بلفظ: أقوال التابعين في الفروع ليست بحجة، فكيف تكون حجة في التفسير، وينظر: الإرشاد في معرفة علماء الحديث (1/ 396).
(2) المسودة في أصول الفقه (176)، والبرهان في علوم القرآن (2/ 158)، والإتقان (2/ 229).
(3) تاريخ المذاهب الفقهية (83).(1/49)
قال ابن القيم: وهذا من كمال علمه، وفقهه رضي الله عنه فإن لم يجد في المسألة غير قول عطاء كان عنده أقوى ما وجد في المسألة، ونجده يقول عند بعض المسائل: وهذا يخرج على قول عطاء (1).
وأما مالك، فإنه لم يصرح باتباع قول التابعي على أنه حجة، ولكن رأيناه في الموطأ كثيرا ما يروي عن التابعين أقوالا، ويأخذ بها (2).
وأما أحمد فيأخذ بقول التابعي في رواية، كما يأخذ بقول الصحابي إذا لم يكن هناك قول الصحابي، وإذا اختلف التابعون لم يوازن بين أقوالهم ويتخير فيها، بل يكون قول كل تابعي عنده حجة، ويكون الاختلاف بينهم اختلافا في مذهبه (3).
وقد ذكر الدهلوي في بيان الفرق بين أهل الحديث، وأصحاب الرأي، أن المحدثين إذا فرغوا جهدهم في تتبع الأحاديث، ولم يجدوا في المسألة حديثا، أخذوا بأقوال جماعة من الصحابة، والتابعين (4).
يقول ابن تيمية: من عدل عن مذاهب الصحابة، والتابعين، وتفسيرهم، إلى ما يخالف ذلك، كان مخطئا في ذلك، بل مبتدعا، وإن كان مجتهدا مغفورا له خطؤه (5).
هذا في جانب القول بعامة، وأما في جانب التفسير، فقد درج كثير من المفسرين على الاستشهاد بأقوال التابعين، وجاءت روايات كثيرة لا يحصيها العد، ذكر منها ابن جرير في تفسيره كثرة كاثرة، والسيوطي في الدر، والبغوي، وابن كثير، وغيرهم (6).
ولذا ذهب أكثر المفسرين إلى أنه يؤخذ بقول التابعي في التفسير لأنهم نقلوا غالب
__________
(1) أعلام الموقعين (1/ 20).
(2) تاريخ المذاهب الفقهية (84)، وكتاب مالك حياته، وعصره، لأبي زهرة (268).
(3) تاريخ المذاهب الفقهية (84).
(4) الحجة البالغة (1/ 118).
(5) مقدمة في أصول التفسير (91).
(6) الإسرائيليات لأبي شهبة (57)، وسيأتي تفصيله في الفصل التالي ص (8060).(1/50)
تفسيراتهم عن الصحابة، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: إذا لم تجد التفسير في القرآن، ولا في السنة، ولا وجدته عن الصحابة، فقد رجع كثير من الأئمة في ذلك إلى أقوال التابعين (1).
وقد ذكر الزركشي طرق التفسير الأربع: النقل عن النبي صلى الله عليه وسلم، ثم الصحابة، ثم أورد عند ذلك مسألة الرجوع إلى أقوال التابعين، وحكى الخلاف فيه، وذكر أقوال بعض المانعين، ثم قال: لكن عمل المفسرين على خلافه، وقد حكوا في كتبهم أقوالهم كابن جبير، ومجاهد، وقتادة (2).
وذكر ابن الأنباري أن من قال في مشكل القرآن بما لا يعرف من مذاهب الأوائل من الصحابة والتابعين فهو متعرض لسخط الله (3).
ومن الضوابط التي أشار إليها المفسرون، وينبغي للمتعرض لتفسير القرآن مراعاتها: عدم التسارع إلى تفسير القرآن بظاهر العربية من غير استظهار بالسماع، والنقل فيما يتعلق بغرائب القرآن، وما فيه من الألفاظ المبهمة.
وفي هذا يقول القرطبي: فمن لم يحكم ظاهر التفسير، وبادر إلى استنباط المعاني بمجرد فهم العربية كثر غلطه، ودخل في زمرة من فسر القرآن بالرأي والعقل، والسماع لا بد له منه في ظاهر التفسير أولا، ليتقي به مواضع الغلط. ثم قال رحمه الله: والغرائب التي لا تفهم إلا بالسماع كثيرة ولا مطمع في الوصول إلى الباطن قبل إحكام الظاهر. ألا ترى أن قوله تعالى: {وَآتَيْنََا ثَمُودَ النََّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهََا} (4)، معناه: آية مبصرة فظلموا أنفسهم بقتلها، فالناظر إلى ظاهر العربية يظن أن المراد به أن الناقة كانت مبصرة (5).
__________
(1) مجموع الفتاوى (13/ 368)، وتفسير ابن كثير (1/ 15).
(2) البرهان (2/ 158)، والإتقان (2/ 229)، وتفسير القاسمي (1/ 8).
(3) تفسير القرطبي (1/ 25).
(4) سورة الإسراء: آية (59).
(5) تفسير القرطبي (1/ 26)، وهذا المعنى مروي عن مجاهد، وقتادة، في تفسير هذه الآية، ينظر تفسير الطبري (15/ 109)، والدر المنثور (5/ 307).(1/51)
الفصل الثاني مصادر تفسير التابعين(1/53)
الفصل الثاني مصادر تفسير التابعين المصدر: هو المرجع، مأخوذ كما يقول ابن فارس من قولهم: صدر عن الماء وصدر عن البلاد (1).
ويقول ابن منظور: أصدرته فصدر، أي: رجعته فرجع، والموضع مصدر، ومنه مصادر الأفعال.
وقيل: الصّدر عن كل شيء الرّجوع، وفي التنزيل: {حَتََّى يُصْدِرَ الرِّعََاءُ} (2).
ولذا فالمصادر هي المراجع التي تجمع وتنقل مأثورهم، ويرجع إليها. وقد وجدت كثيرا من تلك المصادر تورد العديد من الأقوال المروية من تفسيرهم، وبسبب كثرة تلك الكتب، حرصت على انتقاء نماذج من أهم تلك المصادر التي نقلت تفسيرهم، وركزت في هذه الدراسة على نوعين من الكتب: كتب السنن والآثار، وكتب التفسير بالمأثور.
وقد لاحظت من خلال مطالعتي لبعض الجهود المعاصرة في جمع تفسير أولئك الأئمة قلة عناية كثير من الباحثين ببعض هذه المصادر، إما لعدم معرفة أهميتها، أو لصعوبة البحث فيها عن آثار التابعين، فحاولت في هذا الفصل إبراز نماذج لأهم تلك
__________
(1) معجم مقاييس اللغة (3/ 337).
(2) لسان العرب (4/ 448)، وتاج العروس (12/ 330)، والآية من سورة القصص: (23).(1/55)
المصادر، وبيان مدى عنايتها بتفسير التابعين، مع بيان مدى التفاوت بين المصنفين في الاستشهاد بأقوالهم في التفسير، مما كان السبب وراء ظن البعض أن كتب السنة لا تروي كثيرا من ذلك.
* * *
المبحث الأول كتب السنن والآثار(1/56)
* * *
المبحث الأول كتب السنن والآثار
جمعت كتب الصحاح والسنن مقادير مختلفة من التفسير بالمأثور، حتى إننا لنرى في صحيح البخاري كتابين هما: كتاب تفسير القرآن، وكتاب فضائل القرآن، وهما يشغلان حيزا واضحا من الكتاب ربما كان نحو الثمن منه (1).
صحيح البخاري:
من أهم مصادر تفسير التابعين صحيح الإمام البخاري رحمه الله فقد روى كثيرا من تفسيرهم، وخصوصا في كتاب التفسير من صحيحه، وكتاب أحاديث الأنبياء، يقول الأستاذ عبد المجيد محمود: والحق أن البخاري من بين محدثي القرن الثالث هو الذي اهتم بالقرآن في صحيحه، وهو الذي تفرد بالعناية بذكر الآيات المناسبة للأبواب المختلفة (2). وقد رجعت إلى كتابه التفسير في صحيحه فوجدت ما يلي:
1 - يقدم أغلب الأبواب في التفسير بذكر ما ورد عن الأئمة من الصحابة والتابعين، وخاصة ما جاء عن مجاهد رحمه الله.
__________
(1) دائرة المعارف الإسلامية، مادة تفسير (5/ 349).
في حين أن هناك كتبا أخرى من الصحاح والسنن كصحيح مسلم الذي جعل كتابا مستقلا للتفسير، لكنه لم يذكر فيه إلا أربعة وثلاثين حديثا، كلها من المرفوع عنه صلى الله عليه وسلم وبعضهم لم يبوب كتابا للتفسير في كتابه، كسنن أبي داود، وابن ماجة، وموطأ الإمام مالك، وغيرها من كتب المسانيد والمعاجم.
(2) الاتجاهات الفقهية عند أصحاب الحديث، في القرن الثالث (195).(1/57)
2 - ما يورده عن التابعين أكثره معلق، بخلاف ما يروي عن الصحابة فإنه في الغالب يكون مسندا (1)، وأكثره في أسباب النزول (2).
3 - يورد جملة من الأقوال غير المنسوبة معلقة، وغالبها مأخوذ من تفسير التابعين (3).
4 - أكثر المعلقات المنسوبة وغير المنسوبة وصلها ابن حجر في الفتح والتغليق (4).
5 - في إيراده لأقوال التابعين قل أن يذكر خلافا (5)، وكأنه بذلك يختار القول المترجح عنده ويذكره.
6 - أكثر من النقل عن تلاميذ المدرسة المكية، وخصوصا مجاهد، ثم ابن جبير، ثم عكرمة، ثم أورد بعض أقوال تلاميذ المدرسة العراقية، أما نقله عن المدرسة المدنية فكان قليلا (6).
7 - يورد في النادر بعضا من الروايات عن أتباع التابعين وخاصة سفيان بن عينية (7).
__________
(1) قد يورد بعض التفاسير المسندة عن التابعين، ولكنها قليلة، من هذا ينظر صحيح البخاري (5/ 161)، (5/ 215)، (5/ 191).
(2) وغالب ما يورده عن التابعين في بيان غامض مفردات الآيات.
(3) وهذا كثير يتضح من خلال مراجعة فتح الباري الصفحات: (8/ 161، 162، 164، 169، 170، 172).
(4) ولذا يعد هذان الكتابان من المصادر الأساسية لمعرفة المروي في التفسير عن التابعين، وقد أغفلهما كثير من الباحثين في جمع المروي عنهم في التفسير.
(5) ينظر صحيح البخاري (5/ 211).
(6) روى عن زيد بن أسلم، وابن المسيب في موضع واحد فقط، ينظر صحيح البخاري (5/ 211)، (5/ 191).
(7) من الأمثلة الدالة على ذلك، ينظر صحيح البخاري، الصفحات (5/ 185)، (5/ 186)، (5/ 199)، (5/ 201)، (5/ 219)، (5/ 221)، (5/ 236، 241، 242)، (6/ 10، 14).(1/58)
8 - اعتمد في تلك المعلقات على تفسير ابن عباس، ومجاهد، وكان رحمه الله يقدم الباب في الغالب بذكر ما يختاره من تفسير مجاهد.
9 - يأتي بعد ابن عباس ومجاهد بمراحل، إيراده لتفسير ابن مسعود رضي الله عنه، وقتادة، وكان اعتماده على تفسير الحسن قليلا.
10 - قل أن يورد تفسير سورة بدون إيراد قول، أو أقوال لمجاهد رحمه الله.
وخلاصة القول أن صحيح البخاري يعد من أهم كتب الصحاح والسنن التي جمعت الكثير من أقوال التابعين ولذا عرضت له بشيء من التفصيل. وقد لاحظ ابن حجر رحمه الله أهمية هذا الكتاب في جانب التفسير بالذات فجرد التفسير من صحيحه (1).
ومما زاد من أهمية الصحيح، ما قام به ابن حجر من شرح وبيان، وإيراد للكثير من آثار التابعين، فصار كتابه الفتح، وقبله التغليق من أهم كتب شروح السنة في جمعها لكثير من آثار التابعين في التفسير (2)، ولذا فسوف أصل الحديث عن هذين الكتابين، مبينا أهميتهما في هذا الباب.
تغليق التعليق:
__________
4*
تتضح أهمية هذا الكتاب في سياقه لعدد كبير من الطرق والأسانيد التفسيرية، وقد اعتمد مؤلفه في تصنيفه على ما يزيد على ثلاثمائة وخمسين مصنفا (3)، بعض هذه
(1) في كتاب سماه تجريد التفسير من صحيح البخاري، ينظر: المنهل الصافي (2/ 24).
(2) أحسب أن كتاب ابن حجر «الفتح» يأتي في الأهمية بين كتب التفسير بالمأثور بعد كتاب «الدر المنثور».
(4) * لأحمد بن علي بن محمد بن محمد بن علي بن حجر العسقلاني، المتوفى سنة (852) هـ، ينظر إنباء الغمر (1/ 3)، والضوء اللامع (2/ 36)، ونظم العقيان (45)، والمنهل الصافي (2/ 17)، وذيل تذكرة الحفاظ (226)، والجواهر والدرر في ترجمة ابن حجر، للسخاوي.
(3) مقدمة التغليق (1/ 243)، (5/ 443).(1/59)
المصنفات مفقود، وجزء منها صعب المنال من مخطوط، أو مبثوث في الكتب، فكان بمثابة اللبنة الأولى لوصل تلك المعلقات، وقد اعتمده ابن حجر عند ما أراد التعرض لشرح الصحيح وزاد عليه، يقول رحمه الله: وقد أغنى عن تعب كبير (1)، وهو كتاب كثير الفوائد، لا سيما في وصل تلك الآثار المعلقة عن التابعين، وقد سار المصنف في الكتاب على نسق ترتيب صحيح البخاري، فيذكر الكتاب، ثم ما تحته من أبواب، حسب منهج صاحب الصحيح.
ومما يزيد في أهمية هذا الكتاب ما ذكره رحمه الله عند ما أشار في المقدمة لتغليق المعلقات في كتاب التفسير من الصحيح (2) فقال: وكتاب التفسير هذا يتكرر النقل فيه من كتب، وذكر أسانيده إلى هذه الكتب، وأسانيد هذه الكتب إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، والصحابة والتابعين، فذكر من هذه الكتب تفسير عبد بن حميد الذي لا يزال مفقودا، وتفسير ابن أبي حاتم، وتفسير ابن جرير، وتفسير الفريابي (3). إلى أن قال: وأما تفسير عبد الرزاق بن همام، وتفسير سعيد بن منصور، وتفسير أبي بكر بن أبي شيبة، وغيرها، فلم أنقل منها إلا القليل، بالنسبة إلى النقل من تلك الكتب الأربعة (4).
فتح الباري شرح صحيح البخاري:
أورد الإمام البخاري رحمه الله في صحيحه روايات كثير من التابعين في تفسيرهم، ولكنها جاءت في أغلب الأحيان معلقة.
فلما تعرض ابن حجر لشرحها، وصل الكثير منها، ووضح المبهم، وشرح الغريب، وأورد الشواهد على صحة كثير منها، من قول المصطفى صلى الله عليه وسلم، أو من قول
__________
(1) مقدمة التغليق (1/ 219).
(2) التغليق (4/ 169).
(3) التغليق (4/ 170169).
(4) التغليق (4/ 171).(1/60)
الصحابي، أو التابعي. وهذا الكتاب جاء حافلا بالكثير من الروايات المسندة الزائدة على ما في الصحيح، ولعله بذلك يكون من أجمع كتب الحديث التي استوعبت التفسير عن الأئمة التابعين، بل فاق كثيرا من كتب التفسير بالأثر، وقد ذكر ابن حجر في نهاية كتاب التفسير من الفتح، إحصاء لما اشتمل عليه كتاب التفسير في صحيح البخاري، فقال: اشتمل كتاب التفسير على خمسمائة حديث، وثمانية وأربعين حديثا من الأحاديث المرفوعة، وما في حكمها (1).
وذكر أن الكثير من هذه الأحاديث من رواية ابن عباس رضي الله عنهما وعددها ستة وستون حديثا (2)، ثم ذكر أن عدد الآثار في التفسير عن الصحابة، ومن بعدهم، خمسمائة وثمانون أثرا (3).
وقد جاء تأليفه متأخرا عن التغليق ولذا فقد تميز عنه بالعديد من المزايا منها:
1 - في الفتح يورد أكثر من رواية لوصل المعلق من تفسير التابعي، وأما في التغليق فيصله من طريق واحد (4).
2 - في الفتح يعنى بألفاظ الرواية، فربما ذكر أكثر من لفظة ووجه لتفسير التابعي نفسه، أما في التغليق فيذكر وجها واحدا (5).
3 - يصل المعلق من تفسير التابعين ويورد الشواهد له، أما في التغليق فيكتفي بوصله فقط (6).
__________
(1) الفتح (8/ 743).
(2) المرجع السابق (8/ 743).
(3) المرجع السابق (8/ 744).
(4) ينظر الفتح (8/ 179، 180، 199، 200، 208، 209، 252، 274).
(5) ينظر الفتح (8/ 161، 179، 191، 198، 208، 252).
(6) ينظر الفتح (8/ 179، 199، 252، 305).(1/61)
4 - امتازت نسخة صحيح البخاري التي اعتمدها في الفتح بزيادات مفيدة (1).
5 - يورد الخلاف عند ذكر تفسير التابعي بأسانيد الأئمة من الصحابة والتابعين في الفتح، أما في التغليق لا يورد خلافا لأنه ليس من غرض الكتاب إنما غرضه وصل المعلقات فحسب (2).
6 - في الفتح يتعرض للمعلقات المبهمة فيوضحها، أما في التغليق فيكتفي بالمعلقات المسماة.
سنن سعيد بن منصور:
__________
5*
هو من المصنفات التي تضم أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، وما ورد عن الصحابة، والتابعين، مرتبة على الأبواب.
وشبه سنن سعيد في الجملة بمصنفي عبد الرزاق، وابن أبي شيبة ظاهر (3).
وقد تضمن ستة كتب في فضائل القرآن، وآخر في التفسير (4).
(1) لأنها جاءت من نسخة الأصيلي، والمستملي، ينظر الفتح (8/ 161، 162) عند قوله تعالى:
{صِبْغَةَ اللََّهِ}، و {يَجْعَلُونَ أَصََابِعَهُمْ}، و {يَكََادُ الْبَرْقُ}، و {فُومِهََا}.
(2) ينظر الفتح (8/ 179، 210، 252، 274).
(5) * سعيد بن منصور بن شعبة الخرساني ثم المكي، المتوفى سنة سبع وعشرين ومائتين، ينظر طبقات ابن سعد (5/ 502)، وكتاب تسمية ما انتهى إلينا من الرواة عن سعيد بن منصور عاليا (26)، وتاريخ وفاة الشيوخ (47)، والمعجم المشتمل (129).
(3) مقدمة سنن سعيد للدكتور سعد الحميد (1/ 205).
لكن من المفارقات الرئيسة بينهما أن عبد الرزاق أفرد كتابا صنفه في التفسير، وقد طبع بتحقيق د. مصطفى مسلم، وسيأتي الحديث عنه ص (70).
وكذا صنع ابن أبي شيبة، فقد أفرد التفسير بمصنف خاص، قال عنه السيوطي في مقدمة تفسيره (ق 1): وله تفسير لكن لم أره، وهو في بطن تفسير ابن المنذر بسند منه، فإذا عزوت إليه فمنه.
(4) قال السيوطي: سعيد بن منصور له السنن، وفيها باب عظيم في التفسير يجيء نحو مجلد، ينظر المقدمة (ق 1).(1/62)
وبعد مراجعتي لكتاب التفسير في سننه (1)، وجدت أنه يكثر من النقل عن مجاهد وابن عباس، وبعدهما الحسن وإبراهيم، ثم ابن جبير وعكرمة، فعطاء والشعبي، وغيرهم دونهم في ذلك.
سنن الترمذي:
أطال في كتاب التفسير (2)، وغالبه من التفسير النبوي، والقليل منه موقوف على الصحابة، وغالب هذا الموقوف في بيان أسباب النزول، وقد يورد في النادر عند نهاية ذكره الحديث أثرا مسندا عن تابعي (3).
وكتاب الإمام الترمذي على سعة كتاب التفسير فيه، فإن ما نقله عن التابعين كان قليلا.
سنن الدارمي:
عقد كتابا في فضائل القرآن أورد فيه أحاديث كثيرة عن الرسول صلى الله عليه وسلم، وأكثر فيه من النقل عن الصحابة رضوان الله تعالى عليهم، وجاء عنه في هذا الكتاب بعضا من الآثار عن التابعين (4).
__________
(1) رجعت في تفسيره إلى نهاية سورة النساء، فوجدت أنه روى عن مجاهد في (54) موضعا أي:
ما يقارب (10، 0) من مجموع تفسيره، وعن ابن عباس رضي الله عنهما في (52) موضعا، وعن الحسن وإبراهيم في (33) موضعا، وعن ابن جبير في (17) موضعا، وعن عكرمة في (16) موضعا، وعن عطاء في (14) موضعا، وعن الشعبي في (13) موضعا، وغيرهم دونهم في ذلك، وبلغ المرفوع من الآثار للنبي صلى الله عليه وسلم (17) حديثا.
(2) أورد فيه أكثر من أربعمائة حديث (5/ 453199).
(3) من ذلك ينظر السنن (5/ 200) 2952، (5/ 206) 2958، (5/ 237) 3022، (5/ 295) 3119.
وقد أورد قبل هذا الكتاب كتابا في فضائل القرآن، وآخر في القراءات، ومنهجه في هذين الكتابين مثل منهجه في كتاب التفسير.
(4) من ذلك ينظر سنن الدارمي: (2/ 434، 436، 438، 440، 452، 455، 458، 459، 466، 467، 468، 470).(1/63)
ومع هذا فإن المروي فيه من تفسير التابعين كان قليلا، إذا ما قورن بالمروي عن الرسول صلى الله عليه وسلم وعن الصحابة.
كتب الزهد والرقائق:
__________
2*
وهذا من المصادر التي قد يغفل عنها بعض الباحثين، وقد حوت كثيرا من الآثار التفسيرية عن التابعين، ومن المعلوم أن القرآن كتاب هداية، ودلالة، وإرشاد، وجاء كثير من آياته في الوعد والوعيد، والترغيب، والترهيب، وقد كان بعض من مفسري التابعين يفسرون تلك الآيات واعظين به الناس، وهذه الكتب تعد مصادر مهمة لتفسير المهتمين بهذا المسلك، والمكثرين منه، ومن أشهر هؤلاء: الحسن البصري.
وقد حوت تلك الكتب ما يزيد على ربع مادتها من أقوال التابعين وتفاسيرهم رحمهم الله.
وفيما يلي ذكر نماذج لأهم هذه الكتب:
كتاب الزهد والرقائق لابن المبارك:
وهذا الكتاب من أوسعها مادة، وأكثرها رواية عن التابعين، وقد أكثر من النقل عن الحسن، وبعده مجاهد، فالنخعي، فابن جبير، وغيرهم دونهم في ذلك (1).
(2) * عبد الله بن المبارك بن واضح، أبو عبد الرحمن الحنظليّ مولاهم التركي، ثم المروزي، توفي سنة إحدى وثمانين ومائة، ينظر ترتيب المدارك (1/ 300)، وخلاصة صفوة الصفوة (194)، والديباج المذهب (130).
(1) بعد مراجعتي لكتابه، وجدته قد روى عن الحسن في (94) موضعا، وعن مجاهد في (42) موضعا، وعن إبراهيم النخعي في (16) موضعا، وعن عمر بن عبد العزيز في (14) موضعا، وعن قتادة في (9) مواضع، وعن عطاء بن أبي رباح في (7) مواضع، وعن الزهري وابن المسيب في (6) مواضع.(1/64)
كتاب الزهد لهناد:
__________
3*
نقل فأكثر عن الحسن، ثم مجاهد، فالنخعي، فابن جبير، وغيرهم من التابعين (1).
كتاب الزهد لوكيع:
4* *
وهو من أخصر هذه الكتب، وقد نقل عن الحسن، ثم مجاهد، فالنخعي، وغيرهم من التابعين أقل منهم في ذلك (2).
المصنف لابن أبي شيبة:
5* * *
هو من الكتب التي جمعت العديد من الآثار التفسيرية عن التابعين وخصوصا ما يتعلق منها بتفسير آيات الأحكام، والمتتبع لتفسير التابعين لا بد له من الرجوع لهذا المصنف، وخاصة أن تفسير ابن أبي شيبة مفقود، وإلى هذا أشار السيوطي في مقدمة
(3) * هو هناد بن السري بن مصعب التميمي، أبو السري، توفي سنة (243هـ)، ينظر الثقات (9/ 246)، والمعجم المشتمل (313)، والخلاصة (414).
(1) بعد مراجعتي لكتابه وجدت المنقول فيه عن الحسن بلغ (71) رواية، وعن مجاهد (61) رواية، وعن النخعي (27) رواية، وعن ابن جبير (19) رواية، وعن مسروق والشعبي (14) رواية، وعن عكرمة (13) رواية، وعن قتادة رواية واحدة.
(4) * * هو وكيع بن الجراح بن مليح، أبو سفيان الرؤاسي، توفي سنة سبع وتسعين ومائة. ينظر التاريخ الصغير (2/ 281)، الجرح (1/ 219)، الحلية (8/ 368).
(2) بعد مراجعتي لكتابه وجدت المروي فيه عن الحسن بلغ (43) رواية وعن مجاهد (38) رواية، وعن النخعي (22) رواية، وعن عطاء بن أبي رباح (9)، روايات، وعن ابن جبير (8) روايات، وعن علقمة (6) روايات، وعن قتادة (5) روايات.
(5) * * * ابن أبي شيبة، هو عبد الله بن محمد بن إبراهيم بن عثمان، أبو بكر العبسي مولاهم. توفي سنة خمس وستين ومائتين.
ينظر التذكرة (2/ 432)، وتهذيب التهذيب (6/ 2)، والخلاصة (212).(1/65)
الدر، وذكر عدم اطلاعه عليه، وأن ما نقله منه، أخذه من بطن تفسير ابن المنذر (1).
والمصنف كثير من أسانيده من تفسير وكيع عن سفيان الثوري.
ومما ينبغي الإشارة إليه هنا أن الإمام ابن جرير، وابن أبي حاتم لم ينقلا كثيرا من طريق ابن أبي شيبة، كما صنعا في نقلهما من طريق عبد الرزاق، ولعل السبب في ذلك هو أخذهما هذه التفاسير من طرق أخرى.
ومما يؤكد هذا أن السيوطي في نقله عن هذا التفسير لم يرجع كما رجع في غيره إلى تفسير ابن جرير، إنما رجع إلى الأخذ من ابن المنذر لأن ابن جرير لم ينقل عنه (2).
غريب الحديث للحربي:
__________
8*
هذا الكتاب ليس قاصرا كما هو ظاهر اسمه على غريب الحديث، بل اشتمل على بيان غريب القرآن وقراءاته، وبيان أسباب النزول، وذكر من خلاف المفسرين الشيء الكثير (3)، ويعد من المصادر المهمة في تفسير التابعين، التي يغفلها كثير من الباحثين.
ومما امتاز به إيراده للعديد من الآثار التفسيرية المسندة عن التابعين، وخاصة عن مجاهد (4)، ثم الحسن (5)، فقتادة (6)، والسدي (7)، وغيرهم.
(1) انظر مقدمة السيوطي (ق 1).
(2) المرجع السابق (ق 1).
(8) * مؤلفه: هو إبراهيم بن إسحاق الحربي، المتوفى سنة خمس وثمانين ومائتين، ينظر طبقات الحنابلة لابن أبي يعلى (1/ 86)، وفوات الوفيات (1/ 14)، والمنهج الأحمد (1/ 383)، والمقصد الأرشد في ذكر أصحاب أحمد (1/ 211).
(3) ينظر مقدمة محقق الكتاب د. سليمان بن إبراهيم العائد (1/ 106).
(4) ينظر غريب الحديث (1/ 4، 25، 29، 59، 74، 86، 87، 95، 160، 189، 217).
(5) المرجع السابق (1/ 74، 86، 87، 88، 91، 203، 207، 233، 290، 292).
(6) المرجع السابق (1/ 4، 25، 29، 75، 87، 88).
(7) المرجع السابق (1/ 24، 87، 292).(1/66)
مما سبق يتضح تفاوت كتب السنة في مدى الاعتماد على تفسير التابعين، وإن كان الغالب عليها العناية بالمرفوع والموقوف (1).
* * * __________
(1) باستثناء الإمام البخاري كما سبق بيانه.
وقد راجعت بعضا من كتب السنة التي عقدت كتبا للتفسير في جوامعها، فلم أجدها تروي شيئا من تفسير التابعين. فهذا مسلم في صحيحه جعل كتابا للتفسير في آخر كتابه لم يتوسع فيه، والمنقول فيه كله عن النبي صلى الله عليه وسلم، وعن الصحابة، ولم ينقل عن التابعين شيئا.
بل هذا الحاكم في مستدركه الذي يعد كتاب التفسير عنده من أوسع الكتب (2/ 541220)، ومع هذا لم يورد فيه عن التابعين شيئا.(1/67)
المبحث الثاني كتب التفسير بالمأثور
ليس في طاقة باحث أن يقوم بحصر واستقصاء جميع الكتب التي ألفت في التفسير بالمأثور، والرجوع إليها وذلك لكثرتها، ولفقد البعض منها، وقد اخترت في هذا المبحث نماذج لأهمها، وبينت مناهج الأئمة في إيراد أقوال التابعين.
تفسير مجاهد:
يعد تفسير مجاهد من أقدم المصادر التفسيرية، وجاء هذا التفسير برواية أبي القاسم عبد الرحمن بن أحمد بن محمد بن عبيد الهمذاني من طريق إبراهيم عن آدم، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، ومن هذا الطريق جاء معظم التفسير عن مجاهد (1).
وقد اعتمد محقق الكتاب في طبعه على نسخة وحيدة مصورة بدار الكتب المصرية (2)، واستفاد في تصحيح هذه المخطوطة من تفسير الطبري وفي ذلك يقول: فإذا وجدنا فيه ما يوضح عبارة أصلنا الناقصة لم نلتفت بعده إلى تفسير آخر إلا قليلا (3).
وهذه النسخة فيها نقص كثير، ولذا عمد المحقق إلى تفسير بن جرير، وأخذ ما فيه من زيادات، وأثبتها في حاشية الكتاب (4).
__________
(1) ينظر مقدمة تفسير مجاهد (1/ 58).
(2) رقم 1075نسخت في سنة 544هـ عن مقدمة تفسير مجاهد (1/ 56).
(3) المرجع السابق (1/ 60).
(4) والمروي في هذا الكتاب لا يعادل نصف المروي عند ابن جرير الطبري في تفسيره.(1/68)
وفي ذلك يقول: الزيادات التفسيرية عن مجاهد التي أضفناها إلى أصلنا فإن معظمها من تفسير الطبري، ثم قال: والزيادات التفسيرية نوردها في تعليقاتنا حسب ترتيب الآيات (1).
وهذا التفسير كما هو واضح من مسماه مروي عن مجاهد، وقد يروي فيه عن غيره من التابعين (2).
تفسير سفيان الثوري:
__________
7*
من المصادر المهمة في تفسير التابعين لا سيما المروي عن مجاهد، وقد جاء غالب رواياته عن مفسري مكة، وكان رحمه الله يدعو إلى الأخذ عنهم فيقول: خذوا التفسير عن أربعة: عن سعيد بن جبير، ومجاهد، وعطاء، وعكرمة (3)، وكان يقول:
إذا جاءك التفسير عن مجاهد فحسبك به (4).
والمراجع لهذا التفسير يجد أن الثوري اعتمد تفسير التابعين في أكثر من نصف المروي عنه رحمه الله (5) واحتل مجاهد المرتبة الأولى بين عموم التابعين (6).
(1) المرجع السابق (1/ 60).
(2) في تفسير سورة البقرة، ورد عن غير مجاهد أكثر من عشرين رواية للتابعين.
ينظر ج 1/ (85، 87، 88، 90، 93، 97، 99، 101، 105، 106، 110، 111، 112، 118).
(7) * سفيان بن سعيد بن مسروق بن حبيب الثوري الكوفي، توفي سنة إحدى وستين ومائة، ينظر المعارف (217)، ومشاهير علماء الأمصار (169)، وطبقات المفسرين للداودي (1/ 186)، وكتاب سفيان الثوري، وأثره في التفسير تأليف هاشم المشهداني.
وقد طبع تفسيره بعناية الأستاذ امتياز علي عرشي، دار الكتب العلمية بيروت.
(3) تفسير الطبري (1/ 91) 109، مقدمة في أصول التفسير (103).
(4) المقدمة (103).
(5) بلغ عدد المروي في تفسيره (911) رواية، منها (511) رواية عن التابعين أي: ما يعادل (56، 0) عن التابعين، ينظر كتاب سفيان الثوري وأثره في التفسير (466).
(6) بلغ المروي عن مجاهد (206) روايات، وعن ابن جبير (56) رواية، وعن إبراهيم النخعي (43) رواية، وعن عكرمة (24) رواية، وعن عطاء (20) رواية، ينظر كتاب سفيان الثوري، وأثره في التفسير (471468).(1/69)
تفسير سفيان بن عيينة:
__________
7*
وهذا التفسير من المحاولات التفسيرية المتقدمة (1)، وقد رآه ابن حجر وقرأه (2)، ورجع إليه السيوطي ونقل منه في الدر (3)، لكنه فقد كغيره من كتب التفسير بالمأثور بعد ذلك، وقد جمع تفسيره أحد الباحثين المعاصرين في رسالة علمية (4)، وبعد الرجوع إلى ما جمع وجدت أن كثيرا من تفسيره كان عن ابن عباس رضي الله عنهما، وأصحابه (5)، ولم ينقل عن غيرهم إلا في مواطن قليلة من تفسيره.
تفسير عبد الرزاق الصنعاني:
8* *
من التفاسير المتقدمة، والتي عنيت في المقام الأول بتفسير التابعين (6)، وقدمته على غيره، لا سيما ما جاء عن مدرسة البصرة، فقد استغرق المروي عنهم ما يزيد على
(7) * هو سفيان بن عيينة بن أبي عمران، ميمون مولى محمد بن مزاحم، الكوفي ثم المكي، توفي سنة ثمان وتسعين ومائة، وهو من أعلم الناس بحديث الحجاز، قال عبد الله بن وهب: لا أعلم أحدا أعلم بتفسير القرآن من ابن عيينة، ينظر التاريخ الصغير (2/ 283)، والسير (8/ 400)، (8/ 403)، والعقد الثمين (4/ 591).
(1) الفهرست (282)، ودراسات في الحديث النبوي (261).
(2) ذكر ذلك ابن حجر في كتابه تجريد أسانيد الكتب المشهورة، المسمى بالمعجم المفهرس، والكتاب مصور في الجامعة الإسلامية بالمدينة برقم 897 (86).
(3) مقدمة كتاب الدر المنثور (ق 1).
(4) جمعه الباحث أحمد صالح محايري، وقد بلغ مجموع ما ورد فيه (222) رواية.
(5) بلغ المروي من تفسير النبي صلى الله عليه وسلم (11) رواية، وعن ابن عباس (25) رواية، وعن ابن مسعود (13)، وعن مجاهد (25) رواية، وعن عكرمة (10) روايات، وعن طاوس، وابن جبير (3) روايات، وعن قتادة روايتين فقط، ولم يرد فيه عن الحسن شيء.
(8) * * عبد الرزاق بن همام بن نافع، أبو بكر الحميري، المتوفى سنة (211هـ)، ينظر طبقات ابن سعد (5/ 548)، والتاريخ الكبير (6/ 130)، والسير (9/ 563).
(6) ورد في تفسيره ما يقارب (3770) رواية، منها (2451) رواية عن التابعين أي: ما نسبته (65، 0) من مجموع تفسيره.(1/70)
نصف الآثار الواردة في هذا التفسير (1)، والمراجع لتفسيره يجد أنه لا تخلو ورقة منه من أثر عن قتادة، حتى كاد تفسيره يكون كله لقتادة، وجاء بعده الحسن فنقل عنه وأكثر، ثم مجاهد (2).
ومع قلة أسفار الإمام عبد الرزاق الصنعاني إلا إنه استفاد كثيرا ممن قدم إلى اليمن، وأخذ كثيرا من علم المشاهير من أتباع التابعين، فنشر علمهم وتفسيرهم في مدرسة اليمن، وقد لازم معمر بن راشد سبع سنين (3)، والتقى بعبد الملك بن جريج قبل ذلك، وأخذ عنه بعض تفسير عطاء وغيره من المكيين (4).
تفسير آدم بن أبي إياس:
__________
5*
وهو من التفاسير التي فقدت، وقد روى جملة منه ابن جرير، وابن أبي حاتم في تفسيرهما.
(1) جاء عن قتادة أكثر من (1509) أقوال، وعن الحسن (203) أقوال، أي ما نسبته (45، 0) من مجموع تفسيره، في حين كان المروي من تفسير الرسول صلى الله عليه وسلم (107) روايات، ومن تفسير ابن عباس (109) روايات، وعن ابن مسعود (46) رواية، وعن علي بن أبي طالب (31) رواية.
(2) روى من تفسير مجاهد (178) قولا، وعن محمد بن شهاب الزهري (84) قولا، ويعد عبد الرزاق من أهم المصادر لمعرفة تفسير الزهري، وروى عن عكرمة (60) قولا، وعن طاوس (45) قولا، وعن ابن جبير (37) قولا، وغيرهم أقل منهم في ذلك.
(3) تذكرة الحفاظ (1/ 364)، مقدمة تفسير عبد الرزاق (1/ 8).
وقد رجعت إلى تفسير عبد الرزاق، فوجدت أثر تلك الملازمة إذ كان ما يزيد عن (2471) رواية جاءت من طريق معمر، أي ما نسبته (66، 0) من مجموع تفسير عبد الرزاق، وينظر رسالة الإمام عبد الرزاق مفسرا للباحث محمد بن عبده بن هادي أزيني في جامعة أم القرى (118).
(4) التقى بعبد الملك بن جريج، لكن نقله عنه في التفسير كان قليلا حيث لم يتجاوز (43) رواية.
(5) * آدم بن أبي إياس المروزي، أبو الحسن العسقلاني، توفي سنة عشرين ومائتين، ينظر تاريخ بغداد (7/ 27) والمعرفة (1/ 205)، والتاريخ الكبير (2/ 39).(1/71)
يقول السيوطي: آدم بن أبي إياس له التفسير، لكني لم أره، وهو في بطن ابن جرير (1)، ويمكن من خلال التتبع لبعض كتب التفسير بالمأثور أن نلحظ منهجه، ونعرف طريقته، ويمكن بذلك أن يجمع قطعة كبيرة من تفسيره.
ومما لاحظته عند مراجعتي لتفسير ابن أبي حاتم عناية ابن أبي حاتم بتفسيره، واعتماده عليه أكثر من عنايته بتفسير الثوري، وابن عيينة.
وهذا التفسير يعتبر من أهم المصادر في إيراد تفسير أبي العالية (2).
تفسير يحيى بن سلام:
__________
5*
وهو من التفاسير القديمة، ومن أوائل من جمع بين الرواية، والدراية، وتميز في ذلك بين مفسري عصره (3).
يقول ابن حجر: تفسير يحيى بن سلام المغربي هو تفسير كبير في نحو ستة أسفار أكثر فيه النقل عن التابعين، وغيرهم (4).
(1) ينظر مقدمة الدر (ق 1).
(2) من خلال مراجعة الجزء الأول من تفسير سورة البقرة في تفسير ابن أبي حاتم لاحظت ما يلي:
أأن ما يزيد عن (13، 0) من الأسانيد المروية في تفسير ابن أبي حاتم لهذا الجزء كلها جاء من تفسير آدم بن أبي إياس.
ب كان معظم هذا التفسير عن أبي العالية، وأن عدد الروايات المأخوذة من تفسير آدم (171) رواية، منها (143) كلها من تفسير أبي العالية.
والباقي موزع بين عطاء الخراساني (6) روايات، وقتادة (5) روايات، وعكرمة (4) روايات، وغيرهم.
(5) * يحيى بن سلام بن أبي ثعلبة، التيمي، مولاهم البصري، المتوفى سنة (200هـ)، ينظر طبقات علماء إفريقية لأبي العرب (111)، ورياض النفوس (1/ 188)، ومعالم الإيمان (1/ 326)، والتفسير ورجاله لابن عاشور (22)، ومقدمة كتاب التصاريف لهند شلبي (67).
(3) مقدمة رسالة (مختصر تفسير يحيى بن سلام) للباحث عبد الله المديميغ (1/ 3).
(4) العجاب في بيان الأسباب، عن كتاب الدر المنثور (8/ 701).(1/72)
ابتدأ يحيى طلبه للعلم على شيوخ البصرة، فأخذ القراءات، وروى الحروف عن أصحاب الحسن البصري، وروى عن مشايخ أهل البصرة وسمع منهم (1)، وهذا ما نلاحظه على منهجه في الإكثار من الرواية عن الحسن، وقتادة، وجاء بعدهما بمراحل ما رواه عن ابن عباس، ومجاهد (2).
وهذا التفسير عرفت روايته في إفريقية، والمغرب، والأندلس، وكانوا يهتمون به جدا، حتى كان منهم من يحفظه، وقد تناقلوه بالأسانيد (3).
تفسير عبد بن حميد:
__________
5*
وهو من التفاسير المسندة المفقودة، ويمكننا أن نأخذ صورة إجمالية لمنهجه في إيراد تفسير التابعين، من خلال الاستفادة من مصدر ثانوي نقل عنه كثيرا، وهو الدر المنثور في التفسير بالمأثور، فبعد مراجعة ما أورده السيوطي من طريق عبد بن حميد، وجدت إكثاره من الرواية عن قتادة، ومجاهد، ثم ابن عباس، والحسن وأما ما روى عن غيرهم فقليل (4).
(1) السير (9/ 396)، وغاية النهاية (2/ 373).
(2) رجعت إلى مختصره لابن أبي زمنين، فوجدت المروي عن الحسن حتى نهاية سورة آل عمران (111) قولا، وعن قتادة (109) أقوال، في حين كان عن ابن عباس (30) قولا، وعن مجاهد (27) قولا.
وينظر في بيان منهج يحيى، مقدمة تحقيق تفسير كتاب الله العزيز، لهود الهواري (1/ 29).
(3) معالم الإيمان (2/ 284)، وفهرست ابن خير (56)، ومقدمة مختصر تفسير يحيى (1/ 4).
(5) * عبد بن حميد بن نصر أبو محمد الكسي مصنف المسند الكبير، والتفسير، روى عن عبد الرزاق الصنعاني وغيره، مات سنة تسع وأربعين ومائتين، ينظر التذكرة (2/ 534)، وتبصير المنتبه بتحرير المشتبه (3/ 1218) والرسالة المستطرفة (50).
(4) بعد مراجعتي لسورتي البقرة، وآل عمران، في الدر المنثور، وجدت أن المروي عن قتادة بلغ (249) قولا، وعن مجاهد بلغ (235) قولا، وعن ابن عباس رضي الله عنهما بلغ (122) قولا، وعن الحسن بلغ (62) قولا.(1/73)
تفسير ابن جرير الطبري:
__________
4*
وهو الكتاب الرئيس، والأساس الذي اعتمد عليه في استخلاص كثير من النتائج، وفي عقد العديد من المقارنات، والسبب في ذلك يرجع إلى جملة من الأمور من أهمها:
1 - أن تفسيره من أضخم، وأوسع كتب التفسير بالأثر، وقد فاق غيره من مفسري المتقدمين (1)، والمعاصرين له (2)، والمتأخرين عنه (3)، في إيراد العدد الكبير من الآثار في تفسيره.
يقول السيوطي: وله التصانيف العظيمة، منها: تفسير القرآن، وهو أجل التفاسير لم يؤلف مثله وذلك لأنه جمع فيه بين الرواية، والدراية، ولم يشاركه في ذلك أحد
وقد كان جل اهتمامه بالمروي عن التابعين، فإن ما رواه من المرفوع عنه صلى الله عليه وسلم بلغ (32) رواية، وعن ابن مسعود رضي الله عنه بلغ (31) قولا، وعن عكرمة بلغ (35) قولا، وعن ابن جبير (31) قولا، وعن عطاء (25) قولا، وعن النخعي (21) قولا، وعن الشعبي (19)، قولا، وعن طاوس (9) أقوال، وغيرهم دونهم في ذلك.
(4) * مؤلفه هو محمد بن جرير بن يزيد بن كثير الطبري، المتوفى سنة عشر وثلاثمائة، واسم كتابه جامع البيان عن تأويل آي القرآن، ينظر معجم الأدباء (18/ 9440)، وطبقات الشافعية للسبكي (3/ 120)، والوافي بالوفيات (2/ 284)، وطبقات المفسرين للداودي (2/ 106).
(1) كتفسير سفيان الثوري، وتفسير عبد الرزاق الصنعاني، وتفسير يحيى بن سلام، وغيرهم.
(2) كتفسير ابن أبي حاتم (324هـ)، ولعقد مقارنة سريعة بينهما، رجعت إلى تفسير ابن أبي حاتم حتى نهاية الجزء الأول من القرآن، فوجدت الآثار المروية فيه بلغت (1331) أثرا، في حين كانت عند ابن جرير (2141) أثرا.
(3) من أهم وأشهر كتب التفسير بالمأثور عند المتأخرين كتاب السيوطي: الدر المنثور، وبعد الرجوع إليه، وجدت أن ابن جرير فاقه في كم ونوع المروي من الآثار، ففي العديد من الجوانب، كانت الآثار المروية عند ابن جرير في تفسيره كله بلغت ما يقارب (38397) أثرا، في حين كانت عند السيوطي (37060) أثرا، كما أن ابن جرير امتاز بإيراد الآثار التفسيرية ذات الصلة المباشرة ببيان الآية، في حين أن السيوطي عني كثيرا بإيراد، وحشد العديد من الآثار الواردة في فضائل القرآن من ترغيب، وترهيب، ونحوه.(1/74)
لا قبله ولا بعده.
2 - ثناء الأئمة وتقديمهم لتفسيره، وفي ذلك يقول النووي، والخطيب البغدادي:
له كتاب في التفسير لم يصنف أحد مثله (1).
ويقول ابن عطية: ابن جرير جمع على الناس أشتات التفسير وقرب البعيد، وشفى في الإسناد (2).
ويقول ابن تيمية: تفسير ابن جرير من أجلّ التفاسير المأثورة وأعظمها قدرا (3).
3 - عنايته بأقوال الأئمة مسندة، فقد شفى الغليل رحمه الله في جانب المتن والإسناد، فلا يورد قولا إلا ويسنده، ويرويه بنصه بمنطوق قائله، بخلاف حال كثير من المفسرين الذين أوردوا أقوال التابعين بمعناها، أو غير مسندة.
4 - عنايته بتفسير التابعين، فقد استغرق تفسير التابعين أكثر من نصف مادته المروية، كما اعتنى بنقل تفاسير شيوخ التابعين من الصحابة بالإسناد (4).
لهذا وغيره، فقد اعتمدت كتاب الطبري مصدرا أصيلا أستقصي منه تفسيرات التابعين، وكان الأساس في دراستي، ومادة أصيلة لعملي.
وقد عني رحمه الله في تفسيره بإيراد تفسير مجاهد وقتادة في المقام الأول، وبعدهما السدي، ثم الحسن البصري، فابن جبير، وعكرمة، وغيرهم (5).
__________
(1) تهذيب الأسماء واللغات (1/ 78)، وتاريخ بغداد (2/ 163).
(2) تفسير ابن عطية (1/ 19)، والوجيز في فضائل الكتاب العزيز (129).
(3) مقدمة في أصول التفسير (90).
(4) المروي عن ابن عباس رضي الله عنهما بلغ (5809) أقوال، وعن ابن مسعود رضي الله عنه (856) قولا، وغيرهم من الصحابة أقل منهم في ذلك.
(5) بعد مراجعتي لتفسير الطبري كله، وجدت أن المروي عن:
مجاهد بلغ (6109) أقوال.
وعن قتادة (5379) قولا.
وعن السدي (1682) قولا.
وعن الحسن البصري (1487) قولا.
وعن سعيد بن جبير (1010) أقوال.
وعن عكرمة (943) قولا.
وعن إبراهيم النخعي (608) أقوال.
وعن عطاء ابن أبي رباح (480) قولا.
وعن عامر الشعبي (461) قولا.
وعن أبي العالية (244) قولا.
وعن سعيد بن المسيب (181) قولا.
وعن محمد بن كعب القرظي (153) قولا.
وعن زيد بن أسلم (117) قولا.
تفسير ابن المنذر:(1/75)
تفسير ابن المنذر:
__________
3*
من التفاسير المسندة المفقودة (1)، وقد رجعت إلى الدر المنثور واستخرجت ما أورده عنه من روايات، فوجدت أن كثيرا منها جاء عن ابن عباس رضي الله عنهما ثم مجاهد، فقتادة، ثم عكرمة، وابن جبير، والحسن (2).
ولقد كانت عناية ابن المنذر بالموقوف من التفسير على الصحابة أكثر من عنايته بما
(3) * هو محمد بن إبراهيم بن المنذر، نزيل مكة، مات سنة ثماني عشرة وثلاثمائة. ينظر طبقات الشافعية لابن قاضي شهبة (1/ 60)، وطبقات الفقهاء للعبادي (1/ 67)، وطبقات السبكي (3/ 102)، وطبقات الشافعية لابن هداية الله (59).
(1) يقول الذهبي: لابن المنذر تفسير كبير في بضعة عشر مجلدا، يقضي له بالإمامة في علم التأويل، السير (14/ 492).
وقد رآه السيوطي ووقف عليه. ينظر طبقات المفسرين للسيوطي (91).
(2) بعد مراجعة الدر حتى نهاية سورة آل عمران، وجدت أن المروي عن ابن عباس رضي الله عنهما بلغ (281) رواية، في حين بلغ المروي عن مجاهد (91) قولا، وعن قتادة (61) قولا، وعن عكرمة (20) قولا، وعن ابن جبير (16) قولا، وعن الحسن (15) قولا، وعن عطاء والسدي (11) قولا، وعن الشعبي (9) أقوال، وعن النخعي (6) أقوال، وعن طاوس (5) أقوال، وغيرهم أقل منهم في ذلك.(1/76)
جاء عن التابعين.
تفسير ابن أبي حاتم:
__________
4*
من أوسع كتب التفسير المسندة بعد ابن جرير، وقد اختصره فحذف منه الطرق والشواهد، والحروف، والروايات، وتنزيل السور، وقصد إلى إخراج التفسير مجردا دون غيره، فلا يترك حرفا من القرآن يوجد له تفسير، إلا أخرج ذلك كله بأصح الأحاديث عنده إسنادا وأشبعها متنا (1).
وكان أكثر تفسيره عن التابعين (2)، وعني بإيراد تفسير قتادة في المقام الأول، ثم السدي، فمجاهد، فالحسن، فأبي العالية، فابن جبير، ثم الربيع بن أنس، ثم عكرمة (3).
ومن ذلك يتضح عناية ابن أبي حاتم بتفسير المدرسة البصرية أكثر من عناية ابن جرير بها.
(4) * هو عبد الرحمن بن أبي حاتم محمد بن إدريس بن المنذر الحنظلي، توفي سنة سبع وعشرين وثلاثمائة. ينظر التدوين في أخبار قزوين (3/ 153)، والتقييد لابن نقطة (331)، والمختصر في أخبار البشر (2/ 86)، وفوات الوفيات (2/ 287)، وطبقات الشافعية للأسنوي (1/ 200).
(1) مقدمة تفسير ابن أبي حاتم، تفسير سورة البقرة (ص 1).
(2) بعد مراجعتي للروايات المسندة في تفسيره حتى نهاية الجزء الأول من سورة البقرة، وجدت أن عدد الآثار المروية (1331) أثرا، منها (795) أثرا عن التابعين أي ما يقارب (60، 0) من مجموع تفسيره عن التابعين.
(3) بعد مراجعة الأجزاء المطبوعة من تفسيره، حتى نهاية الجزء الأول من البقرة، وتفسير سورة آل عمران، وجدت أن المروي من تفسير التابعين عن قتادة (230) رواية، وعن السدي (212) رواية، وعن مجاهد (197) رواية، وعن الحسن (188) رواية، عن أبي العالية (179) رواية، وعن ابن جبير (113) رواية، وعن الربيع بن أنس (82) رواية، وعن عكرمة (50) رواية.(1/77)
تفسير الماوردي:
__________
6*
يعتبر كتاب ابن جرير الطبري من أهم مصادره في التفسير بالمأثور (1)، وقد عني بتفسير ابن عباس، وأصحابه، ونقل عن التابعين من البصريين فأكثر (2).
تفسير ابن عطية:
7* *
من التفاسير التي نقلت عن ابن جرير كثيرا (3)، وقد مدحه شيخ الإسلام بقوله:
وتفسير ابن عطية أتبع للسنة والجماعة، وأسلم من البدعة من تفسير الزمخشري (4).
وقد تأثر في كتابه بتفسير يحيى بن سلام، فنقل ما جاء عن تابعي المدرسة البصرية، كقتادة، والحسن، ونقل عن مجاهد، والسدي وغيرهم من التابعين (5).
(6) * هو علي بن محمد بن حبيب البصري، أبو الحسن الماوردي الشافعي، واسم تفسيره: النكت والعيون، مات رحمه الله سنة خمسين وأربعمائة، ينظر طبقات الشافعية للسبكي (5/ 267)، وطبقات الشافعية للأسنوي (2/ 206)، وهداية العارفين (1/ 689).
(1) مقدمة كتابه التفسير (1/ 7).
(2) بعد مراجعتي لتفسيره حتى نهاية سورة البقرة، وجدت أنه عني بنقل أقوال، وتفسيرات ابن عباس، وأصحابه فأورد عنه ما يزيد على (178) قولا، وعن مجاهد (128) قولا، وعن قتادة (106) أقوال، وعن السدي (98) قولا، وعن الحسن البصري (71) قولا، وعن عطاء بن أبي رباح (35) قولا، وعن الربيع بن أنس (32) قولا، وعن ابن مسعود (28) قولا، وعن عكرمة (26) قولا، وعن ابن جبير (25) قولا، وعن أبي العالية (22) قولا، وعن الشعبي (21) قولا، وعن ابن المسيب (16) قولا، وعن النخعي (7) أقوال.
(7) * * ابن عطية هو: عبد الحق بن غالب بن عطية المحاربي الغرناطي المتوفى سنة إحدى وأربعين وخمسمائة، واسم كتابه في التفسير: المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز، ينظر بغية الملتمس (389)، المعجم لابن الأبار (261)، والديباج المذهب (2/ 57)، وفوات الوفيات (2/ 256)، وفهرس بن عطية (59).
(3) مقدمة في أصول التفسير (90).
(4) المرجع السابق (90).
(5) بعد مراجعتي لتفسيره حتى نهاية تفسير سورة البقرة، وجدت أن المروي عن مجاهد بلغ (133) قولا، وعن قتادة (128) قولا، وعن الحسن (113) قولا، وعن السدي (89) قولا، وعن(1/78)
وإن كان في الجملة لم يتوسع في النقل عن السلف رحمه الله (1).
تفسير البغوي:
__________
5*
وهو مختصر لتفسير الثعلبي الكشف والبيان، قال شيخ الإسلام ابن تيمية:
والبغوي تفسيره مختصر من الثعلبي، لكنه صان تفسيره عن الأحاديث الموضوعة، والآراء المبتدعة (2).
وذكر في مقدمة تفسيره أسانيد تلك الروايات التي أوردها في كتابه، فقال: وما نقلت فيه من التفسير عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما حبر هذه الأمة، ومن بعد عن التابعين، وأئمة السلف مثل: مجاهد وعكرمة، والحسن رضي الله عنهم، وقتادة وأبي العالية، ومحمد ابن كعب، وزيد بن أسلم وغيرهم ثم ذكر أسانيده في كل إمام منهم (3).
وقد اهتم رحمه الله بإيراد ما روي عن مجاهد، وقتادة، ويليهما الحسن، وعطاء ثم ابن جبير، وعكرمة (4).
عطاء (62) قولا، وعن الربيع بن أنس (54) قولا، وعن النخعي (36) قولا، وعن ابن شهاب الزهري، وابن جبير، (35) قولا، وعن عكرمة (34) قولا، وعن أبي العالية (20) قولا، وعن ابن المسيب (16) قولا، وعن طاوس (9) أقوال، وعن زيد بن أسلم (5) أقوال.
(1) مقدمة في أصول التفسير (90). وينظر كتاب مدرسة التفسير في الأندلس (95).
(5) * هو أبو محمد الحسين بن مسعود بن محمد بن الفراء البغوي توفي سنة ست عشرة وخمسمائة، واسم كتابه في التفسير: معالم التنزيل، ينظر طبقات الشافعية لابن قاضي شهبة (1/ 310)، والمختصر في أخبار البشر (2/ 240)، والتقييد لمعرفة رواة المسانيد (251)، وطبقات الشافعية للأسنوي (1/ 101).
(2) مجموع فتاوى شيخ الإسلام (13/ 354).
(3) مقدمة تفسيره (1/ 28).
(4) بعد مراجعتي لتفسيره حتى نهاية سورة البقرة، وجدت أن المروي عن مجاهد (137) قولا، وعن قتادة (123) قولا، وعن الحسن (74) قولا، وعن عطاء (60) قولا، وعن ابن جبير (41)، وعن عكرمة (36) قولا، وغيرهم من التابعين دونهم في ذلك.(1/79)
زاد المسير:
__________
5*
صنف ابن الجوزي في التفسير المغني، وهو كتاب كبير، ثم اختصره في كتاب سماه زاد المسير (1).
وقد حوى الكثير من الروايات عن أئمة التابعين. وعني بنقل تفسير ابن عباس، ثم مجاهد، فقتادة، فأبي العالية، فالحسن، وغيرهم من التابعين (2).
تفسير ابن كثير:
6* *
اهتم رحمه الله بالمأثور عنه صلى الله عليه وسلم، وأكثر منه (3)، ونقل عن ابن عباس فأكثر وأطاب (4)، وعدّ الأخذ بأقوال التابعين في المرتبة الرابعة بعد الأخذ بأقوال الصحابة، وقدمه في ذلك على الفهم والاجتهاد، وفي ذلك يقول: إذا لم تجد في القرآن، ولا في السنة، ولا وجدته عن الصحابة، فقد رجع كثير من الأئمة في ذلك إلى أقوال التابعين، كمجاهد، وسعيد بن جبير، وعكرمة مولى ابن عباس، وعطاء بن أبي رباح، والحسن البصري وغيرهم.
(5) * مؤلفه: عبد الرحمن بن علي بن محمد أبو الفرج ابن الجوزي، المتوفى سنة سبع وتسعين وخمسمائة، ينظر التقييد (343)، وذيل تاريخ بغداد (19/ 155) والتكملة لوفيات النقلة (1/ 394).
(1) السير (21/ 368).
(2) بعد مراجعتي لتفسيره حتى نهاية الجزء الأول من تفسيره سورة البقرة وجدت أن المروي عن ابن عباس بلغ (221) رواية، وعن مجاهد (91) رواية، وعن قتادة (77) رواية، وعن أبي العالية (42) رواية، وعن عكرمة (23) رواية، وعن ابن جبير (19) رواية.
(6) * * المسمى تفسير القرآن العظيم، مؤلفه هو إسماعيل بن عمر بن كثير بن ضوي بن كثير أبو الفداء، المتوفى سنة أربع وسبعين وسبعمائة. ينظر أنباء الغمر (1/ 39)، والبدر الطالع (1/ 153)، والدرر الكامنة (1/ 339)، وذيل تذكرة الحفاظ (57).
(3) أورد من الأحاديث جملة كبيرة، كثير منها في الفضائل، وقد بلغت الأحاديث المروية في تفسيره كله (2252) حديثا. ومن المفارقات الرئيسة بينه وبين ابن جرير الطبري أن ابن كثير اهتم بإيراد المرفوع من الأحاديث وغالبه في الفضائل، وقد لا يكون له علاقة مباشرة ببيان معنى الآية في حين اقتصر ابن جرير على الأحاديث التي لها ارتباط واضح بالآية.
(4) عني بنقل تفسير ابن عباس في المقام الأول حيث بلغ مجموع ما رواه عنه في تفسيره (1716) أثرا، وبعده ابن مسعود حيث بلغ مجموع ما رواه عنه (340) أثرا.(1/80)
وقد أورد قطعة كبيرة من تفسير مجاهد، وقتادة، ثم عكرمة والسدي، وابن جبير وبعدهم الحسن البصري، فالربيع بن أنس، فأبى العالية (1).
الدر المنثور:
__________
5*
بين السيوطي الباعث على تأليفه هذا التفسير بقوله: وقد جمعت كتابا مسندا فيه تفاسير النبي صلى الله عليه وسلم، منه بضعة عشر ألف حديث، ما بين مرفوع، وموقوف، وقد تم ولله الحمد في أربع مجلدات، وسميته ترجمان القرآن، فكان ما أوردته فيه من الآثار بأسانيد الكتب المخرجة منها، ثم رأيت قصور أكثر الجهد عن تحصيله، ورغبتهم في الاختصار على متون الأحاديث، فلخصت منه هذا المختصر، وسميته الدر المنثور في التفسير بالمأثور (2).
ومن هذا البيان يتضح لنا مدى عناية السيوطي بالمرفوع من التفسير، فقد أورد في تفسيره العديد من الأحاديث سواء كانت ذات صلة مباشرة في إيضاح معنى الآية، أو كانت في الفضائل من ترغيب، وترهيب (3).
ولذا فقد استغرق المرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم أكثر من ثلث تفسيره (4)، وكان تفسيره من
(1) بعد مراجعتي لتفسيره كله وجدت أن المنقول عن مجاهد بلغ (742) قولا، وعن قتادة (716) قولا، وعن عكرمة (578) قولا وعن السدي (576) قولا، وعن ابن جبير (534) قولا، وعن الحسن البصري (488) قولا، وعن الربيع بن أنس (382) قولا، وعن أبي العالية (294) قولا، وعن ابن المسيب (138) قولا، وعن إبراهيم النخعي (84) قولا، وغيرهم من التابعين دونهم في ذلك.
(5) * لجلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر بن محمد بن سابق الدين الخضيري الأسيوطي، المتوفى سنة (911هـ)، ينظر الكواكب السائرة (1/ 226)، والضوء اللامع (4/ 65).
(2) الدر (1/ 9)، والإتقان (2/ 183).
(3) وقد سبق الإشارة إلى الفرق بينهما قبل ورقات، ص (69).
(4) بلغت الأحاديث الواردة في تفسير (14164) حديثا، أي ما نسبته (38، 0) من مجموع تفسيره البالغ (60، 370)، في حين كان المرفوع في تفسير ابن جرير لا يزيد عن (08، 0) من مجموع المروي عنه.(1/81)
أكثر التفاسير عناية بالمرفوع، وجاء بعده بمراحل العناية بالموقوف على الصحابة (1)، ثم المنسوب إلى التابعين.
وقد أورد عن ابن عباس وأكثر، وجاء بعده مجاهد وقتادة، ثم ابن جبير والحسن، فالسدي، وأبو العالية، فعكرمة، وعطاء، ثم النخعي، فالربيع، ثم الشعبي (2)
* * * __________
(1) بلغ المروي عن ابن عباس (3680) رواية، وعن ابن عمر (910) رواية، وعن ابن مسعود (680) رواية وغيرهم من الصحابة أقل منهم في ذلك، وكانت نسبة المروي من تفسير الصحابة تمثل (17، 0) من مجموع تفسيره.
(2) بعد مراجعتي لتفسيره، وجدت أن المروي عن مجاهد بلغ (2440) قولا، وعن قتادة (2225) قولا، وعن ابن جبير (781) قولا، وعن الحسن (608) أقوال، وعن السدي (568) قولا، وعن أبي العالية (520) قولا، وعن عكرمة (421) قولا، وعن عطاء (3821) قولا، وعن النخعي (347) قولا، وعن الربيع (232) قولا، وعن الشعبي (220) قولا، وعن زيد بن أسلم (187) قولا، وعن ابن المسيب (165) قولا، وعن محمد بن كعب (90) قولا، وعن مسروق (64) قولا، وغيرهم من التابعين دونهم في ذلك.(1/82)
الباب الثاني مدارس التفسير في عصر التابعين، وخصائصها
وفيه ثلاثة فصول:
الفصل الأول: أشهر رجال مدارس التفسير في عصر التابعين.
الفصل الثاني: عرض مدارس التفسير في عصر التابعين.
المبحث الأول: المدرسة المكية.
المبحث الثاني: المدرسة البصرية.
المبحث الثالث: المدرسة الكوفية.
المبحث الرابع: المدرسة المدنية.
المبحث الخامس: التفسير في الشام واليمن ومصر.
الفصل الثالث: خصائص مدارس التفسير.(1/83)
الفصل الأول أشهر رجال مدارس التفسير في عصر التابعين(1/85)
الفصل الأول أشهر رجال مدارس التفسير في عصر التابعين مادة الشين، والهاء، والراء تدل في الأصل على الظهور، والوضوح وعدم الخفاء، يقال: شهره يشهره شهرا، وشهرة فاشتهر، وشهّره تشهيرا، واشتهره فاشتهر، إذا أظهره ووضحه.
وسمي القمر شهرا لوضوحه، وظهوره، وسمي سل السيف وإخراجه من غمده شهرا لأنه بذلك يبرز، ويظهر، ويتضح (1).
وقولي في ترجمة هذا الفصل: أشهر رجال المدارس لا يخرج عن مدلول هذه المادة في أصلها اللغوي ذلك أني عنيت به من برز من التابعين، وظهر فضله في مجال التبيان، وبان علمه في مضمار تأويل القرآن، لكثرة تعرضه له بالبيان، ووفرة المروي عنه في هذا الميدان، فاشتهر من بين سائر الأقران، إما بالنسبة لعموم التابعين، أو صار يشار إليه في مدرسته بالبنان.
وقد انتقيت من كل مدرسة أكثر التابعين فيها رواية ودراية في التفسير، وجعلته ممثلا لتلك المدرسة. وهذا الفصل يعد من أطول فصول هذا البحث، وأهمها، فقد درست فيه تفسير أولئك المشاهير من خلال النظر في كلامهم، واختياراتهم لأن في ذلك استقراء لأفكارهم، وتتبعا لمناهجهم، حتى يكون الإدراك لمناهجهم مقاربا للتمام والإنصاف، ويكون الحكم على آرائهم حكما صحيحا، وتكون مقارنته ومقابلته لغيره
__________
(1) لسان العرب (4/ 433431)، وتاج العروس (12/ 266262).(1/87)
على أساس مستقيم.
وقبل الشروع في الحديث عن تراجم أشهر هؤلاء الأعلام أحب التنبيه على بعض المسائل:
1 - رتبت المدارس، ورجالها حسب كثرة المروي عنهم غالبا مبتدئا بمدرسة مكة، مقدما مجاهدا، ثم ابن جبير، ثم عكرمة، فعطاء.
وفي مدرسة البصرة بدأت بالحديث عن إمامها الحسن البصري، ثم قتادة، فأبي العالية.
وعند الحديث عن مدرسة الكوفة، قدمت السدي، ثم النخعي فالشعبي.
وختمت ذلك بمشاهير المدرسة المدنية: سعيد بن المسيب، ثم محمد بن كعب القرظي، فزيد بن أسلم.
2 - حرصت حال التعرض لتراجمهم إبراز المعالم المنهجية في شخصيتهم، والتي تبينت لي من خلال النظر في تفسيرهم ومروياتهم، أو من خلال ما جاء في سيرتهم وترجمتهم، حين تضن مادة التفسير، ولا تفي بما أنا بصدده، وذلك لجبر الخلل وسد النقص.
ولذا يجد الناظر في هذه التراجم بعضا من الاختلاف في المنهج مرده إلى ذلك ولأن الهدف الرئيس في هذا الفصل هو تسجيل أبرز الملاحظات التي يمكن أن تتضح بدون تكلف في إظهار أهم المعالم في شخص التابعي.
3 - اعتمدت في الحديث عن المشاهير على ثلاثة جوانب:
الأول: الدراسة التاريخية من خلال قراءة كتب التراجم.
الثاني: الاستقراء، والتتبع لمروياته في التفسير.(1/88)
الثالث: مقارنة ما استقر عندي مما سبق مع غيره من مشاهير مفسري التابعين.
4 - أطلت في تراجم بعض المشاهير وهم: مجاهد، وقتادة، والحسن وذلك لسبقهم، وفضلهم، فإن ما يزيد على ثلث التفسير بالمأثور جاء عنهم.
5 - حرصت على بيان مدى متابعة التابعي لأقوال مدرسته، فإن بعض التابعين خالف منهج أصحابه، وسار في مسلك مدرسة أخرى، فحاولت جاهدا بيان ذلك وسببه.
6 - حرصت حال تدوين النتائج على التدليل، والمقارنة بين كل تابعي وآخر، واعتماد النّسب مقارنا بمجموع ما روي عنه، ومما حدا بي إلى ذلك: تحري صدق النتائج، ودقتها في الدراسات الإحصائية، وإبراز الجوانب المتميزة في شخص كل تابعي بلا مبالغة، ثم حاولت جاهدا دراسة ما ظهر لي من نتائج، وأثرها على مسلك ذلك المفسر ومنهجه.
7 - قمت بمراجعة الكتب المفردة في بعض أنواع علوم القرآن، ككتب أسباب النزول، والمبهمات، والمشكل، والأمثال، والإسرائيليات، وغيرها من الكتب، فتابعت فيها صدق وصحة ما وصلت إليه من نتائج، فوجدت ما يسر النفس ويطمئن القلب.
وبفضل الله ورحمته وجدت أن كثيرا من تلك النتائج لم أسبق إليها فلله الحمد والمنة.
وبعد هذه التقدمة التي وضعتها بين يدى هذا الفصل أعود إلى المقصد الأساس فأقول:
* * *
مجاهد بن جبر(1/89)
* * *
مجاهد بن جبر
هو أبو الحجاج مجاهد بن جبر المكي الأسود، مولى السائب بن أبي السائب المخزومي، ويقال: مولى عبد الله بن السائب القاري (1).
روى عن ابن عباس، وعنه أخذ القرآن، والتفسير، وروى عن أبي هريرة، وعائشة، وسعد بن أبي وقاص، وعبد الله بن عمرو، وابن عمر ورافع بن خديج
وغيرهم (2).
مكانة مجاهد بين أصحاب ابن عباس رضي الله عنهما:
كان مجاهد من أكثر تلاميذ ابن عباس أخذا عنه، مع أنه من أقلهم رواية لتفسيره (3).
فعن الفضل بن ميمون قال: سمعت مجاهدا يقول: عرضت القرآن على ابن عباس ثلاثين عرضة (4).
وعنه أنه قال: ختمت على ابن عباس تسع عشرة ختمة (5).
__________
(1) طبقات ابن سعد (5/ 466)، وطبقات الفقهاء (69)، وطبقات علماء الحديث (1/ 162)، والسير (4/ 449)، والكنى لأحمد (121).
(2) تهذيب الكمال (3/ 1305)، وتهذيب التهذيب (4210)، والتاريخ الكبير (7/ 411).
(3) سيأتي مزيد بيان لذلك إن شاء الله.
(4) ينظر الطبقات الكبرى لابن سعد (5/ 466)، والجرح (8/ 319)، والحلية (3/ 280)، وتهذيب الأسماء (2/ 83)، وتهذيب الكمال (3/ 1305)، والعبر (1/ 95).
(5) غاية النهاية في طبقات القراء (2/ 42).(1/90)
قرأ عليه ابن كثير، وأبو عمرو بن العلاء، وابن محيصن والأعمش (1).
بل إن ابن كثير الذي انتهت إليه إمامة القراءة بمكة، لم يكن يخالف مجاهدا في شيء (2).
وقد أخرج الطبري بسنده، أن مجاهدا كان يقرأ القرآن على خمسة أحرف (3).
وقد ظلت قراءة مجاهد تتلقى بالسند، ويتناقلها الرواة حتى عصر البيهقي، فقد ذكر البيهقي أنه تلقى قراءة مجاهد بالسند (4).
وقد استفاد من ابن عباس رضي الله عنهما في الجانب التفسيري وأخذ عنه، فعن مجاهد قال: عرضت القرآن على ابن عباس ثلاث عرضات أقفه على كل آية، أسأله فيم نزلت، وكيف نزلت (5)؟.
قال ابن عطية: قرأ مجاهد على ابن عباس قراءة تفهّم ووقف عند كل آية (6)، وساق الطبري بسنده عن ابن أبي مليكة قال: رأيت مجاهدا يسأل ابن عباس عن تفسير القرآن، ومعه ألواحه، فيقول له ابن عباس: اكتب، قال: حتى سأله عن التفسير كلّه (7).
ولعل هذا من أهم الأسباب التي ساعدت في إبراز شخصية مجاهد رحمه الله وقدمته في باب العلم بالتأويل، فصار من أكثر التابعين (8) على الإطلاق تعرضا له،
__________
(1) المرجع السابق (2/ 41)، وطبقات المفسرين (2/ 306)، وفضائل القرآن لأبي عبيد (217).
(2) الحجة في القراءات السبع، لابن مجاهد (64).
(3) تفسير الطبري (1/ 53) 52.
(4) الأسماء والصفات للبيهقي (1/ 411).
(5) الحلية (3/ 280)، وكتاب السنة للخلال (323) 265، وفضائل القرآن لأبي عبيد (216).
(6) المحرر الوجيز (1/ 19).
(7) تفسير الطبري (1/ 90) 107.
(8) له في تفسير الطبري (6109) أقوال، ولقتادة (5379) قولا، وللسدي (1682) قولا، وللحسن البصري (1487) قولا، ولسعيد بن جبير (1010) أقوال، ولعكرمة (943) قولا، ولإبراهيم النخعي (608) أقوال، ولعطاء بن أبي رباح (480) قولا.(1/91)
وعلما به.
يقول خصيف (1): كان أعلمهم بالتفسير مجاهد، وبالحج عطاء (2).
وعن أسود بن عامر (3) قال: قلت لشريك (4): أي الرجلين كان أعلم بالتفسير مجاهد، أو سعيد بن جبير؟ قال: كان مجاهد (5).
وقال قتادة: أعلم من بقي بالتفسير مجاهد (6).
وقد أثنى عليه جمع من الأئمة في التفسير، فقال شيخ الإسلام ابن تيمية: إنه آية في التفسير (7).
وقال الإمام الذهبي: مجاهد شيخ القراء، والمفسرين (8).
خصائص تفسير مجاهد:
إن للتكوين الشخصي، والمدرك العقلي أثرا كبيرا على المنهج العلمي، أضف إلى
__________
وله في تفسير ابن كثير (1062) قولا، ولقتادة (1009) أقوال، وللحسن البصري (626) قولا، وللسدي (572) قولا، وقد سبق في مبحث كتب التفسير بالمأثور أن أكثر الأئمة اعتمدوا تفسير مجاهد في الدرجة الأولى.
(1) خصيف مصغرا: ابن عبد الرحمن الجزري، أبو عون، رأى أنسا، وثقه ابن معين، ينظر لسان الميزان (7/ 210)، والكواكب النيرات (462)، ونهاية الاغتباط (109).
(2) الجرح والتعديل (8/ 319)، والتاريخ الكبير (7/ 412)، والشذرات (125/ 1).
(3) أسود بن عامر الشامي، أبو عبد الرحمن، شاذان، وثقه ابن المديني، ينظر الخلاصة (37)، والكاشف (1/ 131).
(4) شريك بن عبد الله النخعي، قال وكيع: لم يكن في الكوفيين أروى من شريك. ينظر الجرح (3/ 366)، والكواكب النيرات (250)، ونهاية الاغتباط (170).
(5) فضائل الصحابة لأحمد (2/ 958) 867.
(6) طبقات علماء الحديث (1/ 163)، والتذكرة (1/ 92).
(7) مقدمة في أصول التفسير (103).
(8) السير (4/ 449).(1/92)
ذلك طبيعة المدرسة التي حصل منها التلقي، ومع اختلاف المدارس والأشخاص تبرز العديد من المعالم في شخص هذا المفسر أو ذاك، ومن المعالم البارزة في تفسير مجاهد رحمه الله والتي أكسبته شخصية متميزة عن غيره من المفسرين ما يلي:
أولا: توسعه في باب النظر، والاجتهاد:
وهذا مما جعل البعض يعده من أوائل من أدخل التفسير العقلي للقرآن العظيم (1).
وقد أدى به سلوك هذا السبيل إلى تأويل آيات على غير ظاهر السياق بل قد جاء في بعضها بما يستغرب، ويستنكر فمن ذلك:
1 - تأويله للمسخ الواقع على اليهود:
ومن التأويل الذي خالف فيه الظاهر من السياق، ولم يقل به غيره (2) ما روي عنه في تفسير قوله تعالى: {فَقُلْنََا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خََاسِئِينَ} (3).
قال مسخت قلوبهم، ولم يمسخوا قردة، وإنما هو مثل ضربه الله لهم كمثل الحمار يحمل أسفارا (4).
قال ابن جرير بعد أن ساق هذا التأويل: وهذا القول الذي قاله مجاهد، قول لظاهر ما دل عليه كتاب الله مخالف، ثم ذكر أنه لا دليل عليه، وختم بقوله: هذا مع خلاف قول مجاهد قول جميع الحجة التي لا يجوز عليها الخطأ والكذب فيما نقلته
__________
(1) القرآن العظيم هدايته وإعجازه (197).
(2) تفسير القرطبي (1/ 300).
(3) سورة البقرة: آية (65).
(4) تفسير الطبري (2/ 172) 1144، 1143، وتفسير ابن أبي حاتم (1/ 209) 677، وأورده ابن كثير عن ابن جرير، وابن أبي حاتم عن مجاهد به (1/ 150)، وأورده السيوطي في الدر، وعزاه إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم (1/ 185)، وينظر فتح القدير (1/ 96)، وتفسير ابن عطية (5/ 237)، وتفسير البغوي (2/ 79).(1/93)
مجمعة عليه، وكفى دليلا على فساد قول، إجماعها على تخطئته (1).
2 - تأويله لمعنى المائدة المنزلة على عيسى:
عند تأويله لقوله تعالى: {قََالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللََّهُمَّ رَبَّنََا أَنْزِلْ عَلَيْنََا مََائِدَةً مِنَ السَّمََاءِ} (2).
قال رحمه الله: مثل ضرب، لم ينزل عليهم شيء (3). وفي رواية قال: مائدة عليها طعام، أبوها حين عرض عليهم العذاب إن كفروا، فأبوا أن تنزل عليهم (4).
وقد صحح ابن كثير (5) هذه الروايات عن مجاهد.
__________
(1) تفسير الطبري (2/ 173)، وقد أورد ابن كثير قول مجاهد، وحكم بجودة إسناده وغرابة معناه، وخلافه للظاهر من السياق، ينظر تفسير ابن كثير (1/ 151)، وأورده ابن الجوزي في تفسيره واستبعده، ينظر زاد المسير (1/ 95)، تفسير الماوردي (1/ 135)، وتفسير ابن عطية (1/ 253)، وتفسير البحر المحيط (1/ 246).
(2) سورة المائدة: آية (114).
(3) تفسير الطبري (11/ 230) 13019، وينظر تفسير ابن كثير (3/ 225)، وتفسير ابن عطية (5/ 237) وتفسير القرطبي (6/ 238)، وتفسير البغوي (2/ 79)، والبحر المحيط (4/ 57)، والسيوطي في الدر، وعزاه إلى ابن أبي حاتم، وعبد بن حميد (3/ 237).
(4) تفسير الطبري (7/ 133)، وقد عدل الأستاذ محمود شاكر الرواية الواردة في نسخته على هذا النحو «مائدة عليها طعام، أتوا بها، حين عرض عليهم العذاب إن كفروا، ألوان من طعام ينزل عليهم»، ثم علق عليها في الحاشية بقوله في المطبوعة: غير هذه العبارة (يعني: الطابع) تغييرا شاملا مزيلا لمعناها، فكتب مائدة عليها (وساق العبارة). ثم قال محمود: وأثبت ما في المخطوطة 10هـ، ينظر تفسير الطبري (11/ 228) 13009.
قلت: والصحيح ما في المطبوعة ويشهد لصحة العبارة ما ورد في تفسير بن كثير (3/ 225)، والدر (3/ 237)، ولعل الأستاذ اجتهد في قراءة المخطوطة فلم يحالفه الصواب، أو لم يتضح له المعنى، ولم يتسق في ورد هذا الأثر عن مجاهد، فغير، ولم يرجع لمصادر أخرى للتثبت من صحة العبارة! وجل من لا يخطئ، وينظر تفسير البغوي (2/ 79)، وتفسير ابن عطية (5/ 237)، والبحر المحيط (4/ 57)، وتفسير القرطبي (6/ 238).
(5) تفسير ابن كثير (3/ 225).(1/94)
فهذا المثال، قد خالف فيه الجمهور، وخالف الظاهر من النص القرآني (1).
3 - تأويله لمعنى الورود على النار:
وانفرد فيما يروى عنه في تفسير قوله جل وعلا: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلََّا وََارِدُهََا} (2).
فقال: الحمى حظ كلّ مؤمن من النار، ثم قرأ: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلََّا وََارِدُهََا} (3).
ولعله قال بهذا مستأنسا بما روى أبو هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عاد مريضا من وعك به، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «أبشر فإن الله تبارك وتعالى يقول: هي ناري أسلطها على عبدي المؤمن لتكون حظه من النار» (4).
وبما ورد في الحديث: «الحمّى حظ المؤمن من النار» (5)، ثم إن قوله هذا لا يلزم منه نفي ما سواه، بل غاية ما يدل عليه التفسير بالمثال واللازم والله أعلم.
4 - تأويله لمعنى قوله: {ثُمَّ اجْعَلْ عَلى ََ كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً}
(6):
قال مجاهد: ثم اجعلهن أجزاء على كل جبل، ثم ادعهن يأتينك سعيا، كذلك
__________
(1) اعتذر عنه ابن كثير بقوله: وقد يتقوى ذلك بأن خبر المائدة لا تعرفه النصارى، وليس في كتابهم، ولو كانت قد نزلت لكان ذلك مما يتوفر الدواعي على نقله، وكان يكون موجودا في كتابهم متواترا، ولا أقل من الآحاد والله أعلم، ولكن الذي عليه الجمهور أنها نزلت، وهو الذي اختاره ابن جرير قال: لأنه تعالى أخبر بنزولها بقوله: {إِنِّي مُنَزِّلُهََا}، قال: ووعد الله ووعيده حق وصدق اهـ، ينظر تفسير ابن كثير (2/ 225).
(2) سورة مريم: آية (71).
(3) تفسير الطبري (16/ 111)، وأورده ابن كثير عن ابن جرير به، (5/ 251).
وينظر تفسير الماوردي (3/ 384)، وتفسير ابن عطية (11/ 49)، وزاد المسير (5/ 257).
(4) أخرجه أحمد في مسنده (2/ 440)، وابن أبي شيبة في المصنف (3/ 329) وابن ماجة في سننه (2/ 1149) 3470، والحاكم في مستدركه، وصححه ووافقه الذهبي (1/ 345).
(5) أخرجه أحمد في مسنده (5/ 252، 264)، والبخاري في تاريخه (7/ 63) والطبراني في الكبير (8/ 110) 7468، والعقيلي في الضعفاء (3/ 448).
وقال في مجمع الزوائد: إسناده حسن (2/ 306).
(6) سورة البقرة: آية (260).(1/95)
يحيي الله الموتى. هو مثل ضربه الله لإبراهيم (1).
5 - ما روي عنه في تأويل معنى اهتزاز العرش:
زعم جولد زيهر: أن مجاهدا فسر (العرش) في حديث اهتزاز العرش لموت سعد ابن معاذ، فقال: قال مجاهد: إن المراد به السرير، الذي حمل عليه سعد إلى قبره، فقد اهتز من انفساخ الخشب من الحرارة (2).
واعتمد في ذلك على ما رواه ابن سعد في طبقاته والحاكم في مستدركه عن مجاهد عن ابن عمر، قال: اهتز العرش لحب لقاء الله سعدا، قال: إنما يعني السرير: قال إنما تفسخت أعواده (3).
وعند الحاكم عن مجاهد عن ابن عمر بلفظ: «اهتز لحب لقاء الله العرش يعني:
السرير، قال: ورفع أبويه على العرش، تفسخت أعواده» (4).
فهذه الروايات قد توهم أن القائل مجاهد، والحق أن هذا من قول ابن عمر، كما حقق ذلك ابن حجر فقال: وقد أنكر ابن عمر ما أنكره البراء (5)، فقال إن العرش لا يهتز لأحد، ثم رجع عن ذلك، وجزم بأنه اهتز له عرش الرحمن.
__________
(1) تفسير الطبري (5/ 508) 6022، 6023.
وقد يعتذر عنه رحمه الله بأن التمثيل قد يكون تصويريا وقد يكون حقيقيا، بمعنى: أن ضرب المثل قد يكون ببيان الحقيقة ذاتها، وقد يكون بمشهد يقربها للذهن، فلم لا يكون ذلك من هذا القبيل؟! والله أعلم.
(2) كتاب مذاهب التفسير (131130).
(3) طبقات ابن سعد (3/ 433).
(4) مستدرك الحاكم (3/ 206)، وقد صححه الحاكم، ووافقه الذهبي.
(5) روى إنكار البراء، وقوله: إن المراد اهتزاز السرير، البخاري في صحيحه من حديث جابر رضي الله عنه: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «اهتز العرش لموت سعد بن معاذ»، فقال رجل لجابر:
فإن البراء يقول: اهتز السرير، فقال: إنه كان بين هذين الحيّين ضغائن، سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «اهتز عرش الرحمن لموت سعد بن معاذ». ينظر صحيح البخاري، كتاب مناقب الأنصار، باب مناقب سعد ابن معاذ (4/ 227)، وأسد الغابة في معرفة الصحابة (2/ 376).(1/96)
أخرج ذلك ابن حبان من طريق مجاهد عنه، والمراد باهتزاز العرش استبشاره، وسروره بقدوم روحه، يقال لكل من فرح بقدوم قادم عليه: اهتز له، ثم قال: ووقع ذلك من حديث ابن عمر عند الحاكم بلفظ: «اهتز العرش فرحا به» لكنه تأوله كما تأوله البراء بن عازب، فقال: اهتز العرش فرحا بلقاء الله سعدا حتى تفسخت أعواده على عواتقنا، قال ابن عمر: يعني عرش سعد الذي حمل عليه (1) اهـ. وليس ما يمنع أن يقع من العرش اهتزاز حقيقي، ويكون لازمه الفرح والاستبشار، وعلى كل فقد اتضح من هذا أن القول لابن عمر وليس من تفسير مجاهد، والله أعلم.
ثانيا: الدقة في التفريق بين الكلمات المتشابهة:
كان رحمه الله من أكثر التابعين دقة في اختيار الكلمات لتفسير الآيات، وكان ينبه في بعض المواضع على الكلمات المتشابهة مع إيضاح الفروق المعنوية بينها، فمن ذلك ما جاء عند قوله سبحانه: {وَظَلَّلْنََا عَلَيْكُمُ الْغَمََامَ} (2).
قال: ليس بالسحاب، هو الغمام الذي يأتي الله فيه يوم القيامة لم يكن إلا لهم (3).
__________
(1) فتح الباري (7/ 124)، وقد أخرج هذا القول الأخير لابن عمر، الحربي بسنده في غريب الحديث (1/ 173) من طريق عطاء عن مجاهد عن ابن عمر به، وعلق ابن حجر على هذه الرواية بقوله: ورواية عطاء بن السائب عن مجاهد عن ابن عمر، في حديث عطاء مقال لأنه ممن اختلط في آخر عمره (ثم قال): ويعارض روايته أيضا، ما صححه الترمذي من حديث أنس قال: «لما حملت جنازة سعد بن معاذ قال المنافقون: ما أخف جنازته، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الملائكة كانت تحمله» قال الحاكم: الأحاديث التي تصرح باهتزاز عرش الرحمن مخرجة في الصحيحين، وليس لمعارضها في الصحيح ذكر ينظر الفتح (7/ 124)، وسنن الترمذي (5/ 690)، كتاب المناقب، باب مناقب سعد بن معاذ، وفضائل الصحابة للإمام أحمد (2/ 818) والمستدرك (3/ 207).
(2) سورة البقرة: آية (57).
(3) تفسير الطبري (2/ 90) 963. وينظر تفسير الماوردي (1/ 134)، وتفسير ابن عطية (1/ 227).(1/97)
وعند قوله تعالى: {وَلََكِنْ كُونُوا رَبََّانِيِّينَ} (1) قال: (الربانيون) الفقهاء العلماء، وهم فوق الأحبار (2).
وعند قوله تبارك وتعالى: {فَلََا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ} (3).
عن العوام بن حوشب قال: قلت لمجاهد: الشفق، قال: لا تقل الشفق، إن الشفق من الشمس، لكن قل: حمرة الأفق (4).
وعند قوله تعالى: {وَالْأَرْضِ ذََاتِ الصَّدْعِ} (5)، قال: الصدع: مثل المأزم، غير الأودية، وغير الجرف (6).
ثالثا: تفسير بعض الألفاظ بما يخالف المعنى القريب:
فكان يصرف بعض الألفاظ عن معناها القريب، ويؤولها تأويلا بعيدا عن المعنى الظاهر المتبادر من اللفظ، ومن أمثلة ذلك: ما جاء عنه عند تأويل قوله سبحانه:
{وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ} (7)، قال: الوزن: القضاء (8).
__________
(1) سورة آل عمران: آية (79).
(2) تفسير الطبري (6/ 541) 7312، وينظر تفسير الماوردي (1/ 405)، وتفسير ابن عطية (3/ 140)، وزاد المسير (1/ 413)، والبحر المحيط (2/ 506)، وتفسير القرطبي (4/ 79).
(3) سورة الانشقاق: آية (16).
(4) تفسير الطبري (30/ 119).
(5) سورة الطارق آية (12).
(6) تفسير الطبري (30/ 149)، وينظر تفسير ابن عطية (16/ 279)، وتفسير القرطبي (20/ 9).
ولمزيد من الأمثلة يراجع الطبري الآثار: 1501، 4164، 4282، (29/ 93)، (29/ 130)، (29/ 210)، (29/ 217)، (29/ 218)، (29/ 237)، (30/ 98)، (30/ 292).
(7) سورة الأعراف: آية (8).
(8) تفسير الطبري (12/ 309) 14328، وقد انفرد مجاهد بهذا التفسير، ورده ابن جرير (12/ 311). وينظر تفسير الماوردي (2/ 201)، وتفسير البغوي (2/ 149)، وتفسير القرطبي (7/ 107).(1/98)
ومنها ما ورد عنه في تأويل قوله جل وعلا: {يَنْزِعُ عَنْهُمََا لِبََاسَهُمََا} (1) فسر اللباس بالتقوى (2).
وعند قوله تعالى: {فَلََا أُقْسِمُ بِمَوََاقِعِ النُّجُومِ} (3)، قال: هو محكم القرآن (4).
وعند قوله سبحانه: {وَكََانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقََالَ لِصََاحِبِهِ وَهُوَ يُحََاوِرُهُ} (5) قال: ذهب وفضة (6).
وعند تفسير قوله جل وعلا: {وَالنَّجْمِ إِذََا هَوى ََ} (7) فسر النجم بنجوم القرآن (8).
وفي رواية: {وَالنَّجْمِ} قال: القرآن إذا نزل (9).
رابعا: اهتمامه بالمبهمات:
يعد رحمه الله من متقدمي التابعين في تتبع المبهم، والحرص على بيانه، والناظر
__________
(1) سورة الأعراف: آية (27).
(2) تفسير الطبري (12/ 375) 14457، 14458، 14459، وانفرد رحمه الله بهذا القول.
وينظر تفسير الماوردي (2/ 215)، وزاد المسير (3/ 184)، والبحر المحيط (4/ 283).
(3) سورة الواقعة: آية (75).
(4) فضائل القرآن لابن الضريس (130)، وتفسير الطبري (27/ 203)، وأورده السيوطي في الدر، وعزاه إلى ابن نصر، وابن الضريس، عن مجاهد به (8/ 26).
(5) سورة الكهف: آية (34).
(6) تفسير الطبري (15/ 245)، ورواه البخاري معلقا في كتاب التفسير (5/ 229)، ووصله ابن حجر من رواية الفريابي الفتح، ينظر (8/ 406)، وزاد المسير (5/ 141)، وتفسير ابن عطية (10/ 406)، وتفسير البغوي (3/ 162).
(7) سورة النجم: آية (1).
(8) تفسير الماوردي (5/ 389)، وتفسير ابن عطية (15/ 254)، وزاد المسير (8/ 63)، وأورده السيوطي في الدر، وعزاه إلى سعيد بن منصور، وابن المنذر عن مجاهد به (7/ 642).
(9) تفسير الطبري (27/ 40)، والفتح (8/ 604)، وتفسير ابن كثير (7/ 417)، وتفسير الماوردي (5/ 389)، وزاد المسير (8/ 63)، وتفسير ابن عطية (15/ 254)، والبحر المحيط (8/ 214)، وتفسير القرطبي (17/ 55).(1/99)
في كتب التفسير، والمبهمات (1)، يجد شاهد ذلك، وقد حرص على بيان نوع المبهم في مواضع كثيرة، فبين نوع الشجرة في قوله: {وَلََا تَقْرَبََا هََذِهِ الشَّجَرَةَ} (2) بأنها التينة (3)، وبين المبهم في قوله سبحانه: {فَقُلْنََا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهََا} (4) بأنه الذي بين الكتفين (5) وبيّن نوع الطير الذي أخذه إبراهيم في تأويله لقوله سبحانه: {فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ} (6).
قال إنه الديك، والطاوس، والغراب، والحمام (7).
وحرص على بيان أسماء بعض من أبهموا، فعند قوله تبارك وتعالى: {كَيْفَ يَهْدِي اللََّهُ قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمََانِهِمْ} (8). سمى مجاهد منهم الحارث بن سويد الأنصاري (9).
وعند تأويله لقوله عز وجل: {وَقََالُوا لِإِخْوََانِهِمْ إِذََا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ} (10)، وقال: ذلك عبد الله ابن أبي (11).
__________
(1) رجعت إلى كتاب السيوطي مفحمات الأقران في مبهمات القرآن، فوجدت أن مجاهدا أكثر من اهتم بذلك حيث روي عنه أكثر من (71) قولا، في حين كان عن قتادة (68) قولا، ثم عن عكرمة (40) قولا، وعن ابن جبير (25) قولا، وعن الحسن (22) قولا.
(2) سورة البقرة: آية (35).
(3) مفحمات الأقران (12).
(4) سورة البقرة: آية (73).
(5) المرجع السابق (14).
(6) سورة البقرة: آية (260).
(7) المرجع السابق ص (23)، ولمزيد من الأمثلة تراجع الصفحات (17، 33، 38).
(8) سورة آل عمران: آية (86).
(9) المرجع السابق (24).
(10) سورة آل عمران (156).
(11) المرجع السابق ص (27)، ولمزيد من الأمثلة تراجع الصفحات (21، 27، 39).(1/100)
الرأي، التأويل، وأثرهما على المنهج العقدي عند مجاهد:
وهذه المسألة في الحقيقة من أهم القضايا التي يجب العناية بها والوقوف عندها، وتحقيق أبرز ما يمكن أن يروى فيها.
من المعلوم أن مجاهدا رحمه الله ممن تربى في مدرسة حبر الأمة وترجمان القرآن، وممن شهد له بالسبق في تأويل القرآن بين التابعين، وكان يأمر بتدبر القرآن وفهمه، ويحث على تعلم معانيه وما دلت عليه ألفاظه، وكان يرى أن الراسخين يعلمون المتشابه منه، فقد أخرج ابن جرير عن طريق ابن أبي نجيح عن مجاهد، قال:
{وَالرََّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} يعلمون تأويله، ويقولون آمنا به (1).
وأورد البخاري في صحيحه تعليقا عن مجاهد في قوله: {مِنْهُ آيََاتٌ مُحْكَمََاتٌ}
قال: الحلال والحرام، {وَأُخَرُ مُتَشََابِهََاتٌ}: يصدق بعضها بعضا، كقوله تعالى:
{وَمََا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفََاسِقِينَ}، وكقوله جل ذكره: {وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لََا يَعْقِلُونَ}، وكقوله: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زََادَهُمْ هُدىً وَآتََاهُمْ تَقْوََاهُمْ} ثم قال:
{وَالرََّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} يعلمون تأويله و {يَقُولُونَ آمَنََّا بِهِ} (2).
إضافة إلى هذا كله كان رحمه الله يرى أن الرأي الحسن في القرآن من أفضل العبادة (3). فأمضى وقته، واستفرغ جهده في مدارسة كتاب الله، وتفهم معانيه، والكشف عن دلالاته ومراميه، فكان من المكثرين في تفسير القرآن، بل عدّه ابن خلدون (4) من أكثر تلاميذ ابن عباس تحررا وتوسعا في التفسير.
__________
(1) تفسير الطبري 6633 (6/ 203)، وينظر تأويل مشكل القرآن (99)، وتفسير ابن عطية (3/ 21)، والبحر المحيط (2/ 384)، وزاد المسير (1/ 354)، وتفسير القرطبي (4/ 12).
(2) صحيح البخاري كتاب التفسير، باب منه آيات محكمات (5/ 165).
وقد وصل ابن حجر هذا المعلق في التغليق (4/ 190)، وفي الفتح (8/ 209)، من رواية عبد بن حميد، وينظر إيضاح الوقف لابن الأنباري (2/ 565)، والمكتفي في الوقف والابتداء (196).
(3) كتاب الإيمان لابن أبي شيبة (16)، وتأويل مختلف الحديث لابن قتيبة (74).
(4) عن كتاب دراسات في القرآن لأحمد خليل (112).(1/101)
ولما سافر إلى العراق، واستقر في الكوفة، كان من أسهلهم في الرأي والقياس (1).
ولقد كان لتعلمه في المدرسة المكية الأثر الواضح في بعده عن كثير من الأهواء والبدع، بل كان رحمه الله يقول: ما أدري أيّ النعمتين أعظم، أن هداني للإسلام، أو عافاني من هذه الأهواء (2).
يقول الذهبي معلقا على قوله: «الأهواء»: مثل الرفض، والقدر، والتجهم (3).
واتضح هذا المنهج في تفسيره أكثر حيث حمل بشدة على المرجئة والقدرية بخاصة وعلى سائر أهل الأهواء بعامة.
والذي تبين من خلال مراجعة تفسيره، سلامته من مخالفة أصول أهل السنة والجماعة في اعتقادهم، وبعده عن كثير من الأهواء والبدع المنتشرة في ذلك الوقت.
فسلم من بدعة الإرجاء، فكان يقول: إن الإيمان يزيد وينقص (4)، وإنه قول، وعمل (5).
ومما اشتهر من تفسيره ما ورد عنه عند تأويله لقوله سبحانه: {إِنِّي أَعْلَمُ مََا لََا تَعْلَمُونَ} (6)، قال: علم من إبليس المعصية وخلقه لها (7). وفي رواية أخرى: وعلم
__________
(1) تأويل مختلف الحديث (74).
(2) السير (4/ 455).
(3) السير (4/ 455).
(4) رواه عبد الله ابن الإمام أحمد في السنة (83)، واللالكائي في شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة (5/ 951) 1727.
(5) المرجع السابق (5/ 952) 1728.
(6) سورة البقرة: آية (30).
(7) تفسير الطبري (1/ 479477) 637628، وتفسير ابن أبي حاتم (1/ 114) 338، وشرح أصول اعتقاد أهل السنة (3/ 546) 959، وزاد المسير (1/ 16) والبحر المحيط (1/ 145).(1/102)
من آدم الطاعة، وخلقه لها (1)، وهذا منه رد على القدرية القائلين: إن كل شيء خلق بقدر إلا المعاصي.
بل إنه استشعر خطر الانحراف العقدي على الأمة، فكان يحذر من هذه الأهواء أشد التحذير، ويقول عن هؤلاء المبتدعة: يبدءون فيكم مرجئة، ثم يكونون قدرية، ثم يصيرون مجوسا (2).
وفي جانب آيات الوعيد، والتهديد، لزم منهج أهل السنة، من ذلك ما ورد عنه في تفسير قوله تعالى: {وَلِلََّهِ عَلَى النََّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطََاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللََّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعََالَمِينَ} (3)، عن منصور عن مجاهد قال: سألته ما هذا الكفر؟ قال: من كفر بالله واليوم الآخر (4). وفي رواية: من كفر بالحج فلم ير حجّه برا، ولا تركه مأثما (5).
ولورعه وحرصه على سلامة معتقده بقي شهرا كاملا يريد أن يسأل ابن عباس عن مسألة من مسائل الوعيد فيقول: سألت ابن عباس شهرا عن رجل يصوم النهار، ويقوم الليل، ولا يحضر جمعة، ولا جماعة؟ قال: هو من أهل النار (6).
ولو لم يسلم من هذه الأهواء لما بقي هذه المدة ينتظر الجواب من ابن عباس رضي الله عنهما.
__________
(1) تفسير الطبري (1/ 478) 636.
(2) شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة (5/ 988) 1803.
(3) سورة آل عمران: آية 97.
(4) تفسير الثوري (37)، وتفسير الطبري (7/ 49) 7513، 7514، وتفسير ابن أبي حاتم (427) 1033، وأورده السيوطي في الدر، وعزاه إلى ابن جرير وعبد بن حميد، به (2/ 277).
(5) أخرجه الشافعي من طريق ابن جريج عن مجاهد بنحوه (1/ 112)، والطبري من طريق عبد الله ابن مسلم عن مجاهد به (7/ 48) 7509، والبيهقي في السنن من طريق ابن أبي نجيح عن مجاهد به (4/ 324)، وينظر تفسير البغوي (1/ 330)، وتفسير ابن عطية (3/ 175)، والبحر المحيط (3/ 12)، وزاد المسير (1/ 428).
(6) شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة (8/ 1456) 2808.(1/103)
بل تعدى ذلك إلى مخالفة شيخه (1) في مسألة توبة القاتل المتعمد، فقد روى ابن جرير عن الحكم عن سعيد بن جبير قال: سألت ابن عباس عن قوله: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزََاؤُهُ جَهَنَّمُ} (2). قال: إن الرجل إذا عرف الإسلام، وشرائع الإسلام، ثم قتل مؤمنا متعمدا، فجزاؤه جهنم، ولا توبة له، قال الحكم: فذكرت ذلك لمجاهد، فقال: إلا من ندم (3).
ومن خلال ما سلف يتبين أن مجاهدا رحمه الله وإن وجد عنده شيء من التأويل الذي حاد فيه عن الجادة، وخالف الصواب، فهو من أهل السنة والجماعة، يدور في فلكهم، وينهج طريقهم، وما وقع فيه من المخالفة في مسألة الرؤية (4) وغيرها، فمن طبيعة النقص البشري، فلا يحكم عليه من خلاله إذ ليس ذلك بمنهج له، بل هو عارض عرض في مسائل مخصوصة، والله أعلم.
ولا بد بعد هذا من عرض لأبرز المسائل المنتقدة في التفسير المروي عن مجاهد عند أهل السنة والجماعة، دون ما نسبه إليه أهل الأهواء المخالفون (5) إذ لا عبرة بهم، ولا وزن لمروياتهم. فمن ذلك:
__________
(1) أكثر المروي عن ابن عباس هو قوله بعدم قبول توبة القاتل العمد، وينظر تفسير ابن جرير الآثار 10187، 10188، 10189، 10190، 10191، 10192، 10193، 10194إلى 10204 (9/ 6762).
وسنن أبي داود 4275 (4/ 105).
(2) سورة النساء: آية (93).
(3) تفسير الطبري (9/ 62) 10187، وتفسير الماوردي (1/ 520)، وتفسير ابن عطية (4/ 215)، وتفسير البغوي (1/ 465)، والبحر المحيط (3/ 326)، وزاد المسير (2/ 167)، وتفسير القرطبي (5/ 214).
(4) سيأتي تفصيل على هذه المسألة بعد ورقات إن شاء الله.
(5) من مثل الربيع بن حبيب الفراهيدي الإباضي في مسنده (3/ 27، 33، 34، 35، 36، 43)، وكذا ما يرويه عبد الجبار المعتزلي في المغني (4/ 216212) وغيرهم.(1/104)
1 - ما جاء عنه عند تفسير قوله تعالى: {فَأَيْنَمََا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللََّهِ} (1) من طريق النضر عنه قال: {فَثَمَّ وَجْهُ اللََّهِ}: قبلة الله (2).
وقد أورد ابن خزيمة هذه الآية (3) على أنها إثبات صفة الوجه لله تعالى، وتبعه على ذلك البيهقي في الأسماء والصفات (4)، وتعقبه شيخ الإسلام ابن تيمية بكلام مهم وطويل، ونظرا لأهمية، واحتياج هذا الموضع وغيره مما قد يقع اللبس فيه، إلى الكشف والبيان، وإزالة الالتباس لما قد يعلق بأذهان بعض الناس، أسوق كلامه رحمه الله بطوله حيث يقول: هذه الآية أدخلها في آيات الصفات طوائف من المثبتة والنفاة، حتى عدّها «أولئك» كابن خزيمة، مما يقرر إثبات الصفة، وجعل «النافية» تفسيرها بغير الصفة لهم في موارد النزاع، ولهذا لما اجتمعنا في المجلس المعقود (5)، وكنت قد قلت: أمهلت كل من خالفني ثلاث سنين، إن جاء بحرف واحد عن السلف يخالف شيئا مما ذكرته كانت له الحجة، وفعل، وفعلت، وجعل المعارضون يفتشون الكتب، فظفروا بما ذكره البيهقي في كتاب «الأسماء والصفات» في قوله تعالى: {وَلِلََّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمََا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللََّهِ}، فإنه ذكر عن مجاهد، والشافعي أن المراد: قبلة الله، فقال أحد كبرائهم في المجلس الثاني قد أحضرت نقلا عن السلف بالتأويل، فوقع في قلبي ما أعد، فقلت: لعلك قد ذكرت ما روي عن مجاهد في قوله تعالى: {فَأَيْنَمََا تُوَلُّوا فَثَمَّ}
__________
(1) سورة البقرة: آية (115).
(2) أخرجه الطبري في تفسيره، من طريق النضر، عن مجاهد به (2/ 536) 1848، والبيهقي في الأسماء والصفات، باب ما جاء في إثبات الوجه، وساق الرواية من طريق النضر عن مجاهد:
فثم وجه الله: قبلة الله، أينما كنت في شرق أو غرب فلا توجهن إلا إليها (2/ 35)، وأخرجها البيهقي أيضا في السنن الكبرى، بسنده من طريق النضر عن مجاهد، باللفظ السابق (2/ 13) وينظر تفسير الماوردي (1/ 177)، وتفسير البغوي (1/ 108)، والبحر المحيط (1/ 361)، وزاد المسير (1/ 135).
(3) في باب ذكر إثبات وجه الله، كتاب التوحيد (1/ 25).
(4) كتاب الأسماء والصفات للبيهقي (2/ 35).
(5) أي المجلس الذي عقد له في المناظرة حول «الواسطية».(1/105)
{وَجْهُ اللََّهِ}؟ قال: نعم، قلت: المراد بها: قبلة الله، فقال: قد تأولها مجاهد والشافعي (1) وهما من السلف، قلت: هذه الآية ليست من آيات الصفات أصلا ولا تندرج في عموم قول من يقول، لا تؤول آيات الصفات.
قال: أليس فيها ذكر الوجه؟!، فلما قلت: المراد بها: قبلة الله. قال: أليست هذه من آيات الصفات؟ قلت: لا، ليست من موارد النزاع، فإني إنما أسلم أن المراد بالوجه هنا القبلة فإن «الوجه» هو الجهة في لغة العرب، وهذا كثير مشهور، فالوجه هو الجهة، وهو الوجه: كما في قوله تعالى: {وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهََا}، أي متوليها، فقوله تعالى: {وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهََا} كقوله: {فَأَيْنَمََا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللََّهِ}، كلا الآيتين في اللفظ والمعنى متقاربتان، وكلاهما في شأن القبلة، والوجه والجهة، هو الذي ذكر في الآيتين: إنا نوليه: نستقبله. (ثم قال) قلت: والسياق يدل عليه لأنه قال: {فَأَيْنَمََا تُوَلُّوا}، وأين من الظروف وتولوا أي: تستقبلوا فالمعنى: أي موضع استقبلتموه فهنالك وجه الله، فقد جعل وجه الله في المكان الذي يستقبله هذا بعد قوله: {وَلِلََّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ} وهي الجهات كلها، كما في الآية الأخرى: {قُلْ لِلََّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشََاءُ إِلى ََ صِرََاطٍ مُسْتَقِيمٍ}.
فأخبر أن الجهات له، فدل على أن الإضافة إضافة تخصيص، وتشريف كأنه قال:
جهة الله، وقبلة الله، ولكن من الناس من يسلم أن المراد بذلك جهة الله أي: قبلة الله، ولكن يقول: هذه الآية تدل على الصفة وعلى أن العبد يستقبل ربه، كما جاء في الحديث: «إذا قام أحدكم إلى الصلاة فإن الله قبل وجهه»، وكما في قوله: «لا يزال الله مقبلا على عبده بوجهه ما دام مقبلا عليه، فإذا انصرف صرف وجهه عنه»، ويقول: إن الآية دلت على المعنيين. فهذا شيء آخر ليس هذا موضعه، ثم ختم بقوله رحمه الله: والغرض أنه إذا قيل: «فثم قبلة الله» لم يكن هذا من التأويل المتنازع فيه
__________
(1) أحكام القرآن للشافعي (1/ 64)، والأسماء والصفات للبيهقي (2/ 35).(1/106)
الذي ينكره منكر وتأويل آيات الصفات، ولا هو مما يستدل به عليهم المثبتة، فإن هذا المعنى صحيح في نفسه، والآية دالة عليه، وإن كانت دالة على ثبوت صفة فذاك شيء آخر، ويبقى دلالة قولهم: {فَثَمَّ وَجْهُ اللََّهِ} على «فثم قبلة الله»، هل هو من باب تسمية القبلة وجها باعتبار أن الوجه والجهة واحد؟ أو باعتبار أن من استقبل وجه الله فقد استقبل قبلة الله؟ فهذا فيه بحوث ليس هذا موضعها (1) اهـ.
2 - ومما أخذ عليه تفسيره للمقام المحمود، في قوله تعالى: {عَسى ََ أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقََاماً مَحْمُوداً} (2). فقد روى ابن جرير في تفسيره من طريق ليث عن مجاهد عند قوله تعالى: {عَسى ََ أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقََاماً مَحْمُوداً}، قال: يجلسه معه على عرشه (3).
وقد اعتذر ابن جرير بعد إيراده للقول الراجح الموافق لما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم عما روي عن مجاهد عن طريق الليث بقوله: فإن ما قاله مجاهد من أن الله يقعد محمدا صلى الله عليه وسلم على عرشه قول غير مدفوع صحته لا من جهة خبر ولا نظر وذلك لأنه لا خبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا عن أحد من أصحابه، ولا عن التابعين بإحالة ذلك (4).
وأورد أبو بكر الخلال في كتاب السنة عددا من الأسانيد المروية من طريق الليث عن
__________
(1) مجموع الفتاوى (6/ 1715).
(2) سورة الإسراء: آية (79).
(3) تفسير الطبري (15/ 145)، وأخرجه أبو عمرو الداني في المكتفى في الوقف عن طريق الليث عن مجاهد بنحوه (363)، وأورده ابن حجر في الفتح، وعزاه إلى عبد بن حميد عن مجاهد بنحوه، الفتح (8/ 400)، والسيوطي في الدر، وعزاه إلى ابن جرير عن مجاهد به، (5/ 328)، وتفسير الماوردي (3/ 265)، وتفسير ابن عطية (10/ 336)، والبحر المحيط (6/ 72)، وتفسير القرطبي (10/ 201).
(4) تفسير الطبري (15/ 147)، واستحسن هذا القول ابن تيمية، ينظر مجموع الفتاوى (4/ 374).(1/107)
مجاهد بهذا التفسير (1)، ورجح هذا القول، وأيده، وأتبع ذلك بكلام بعض أهل العلم الذين طعنوا فيمن لم يقل بهذا التفسير، أورده وذكر أنهم عدوه جهميا، أو كافرا، أو زنديقا (2)، وأمروا بهجره (3)، بل حكم بعضهم بقتله (4)، ثم أيد ذلك بمنامات ذكر أن أصحابها رأوا النبي صلى الله عليه وسلم في المنام، وأخبرهم أن الله يقعده على العرش (5).
وقد أنكر هذا القول جماعة من أهل العلم منهم ابن عبد البر حيث قال: ومجاهد وإن كان أحد المقدمين في العلم بتأويل القرآن، فإن له قولين في تأويل آيتين هما مهجوران عند العلماء، مرغوب عنهما، فذكر تأويله للمقام المحمود، ثم عقب عليه بقوله: وهذا قول مخالف للجماعة من الصحابة، ومن بعدهم، فالذي عليه العلماء في تأويل هذه الآية أن المقام المحمود، الشفاعة (6). وتبعه على ذلك القرطبي (7).
وقال الواحدي: وهذا قول رذل موحش فظيع، ونص الكتاب ينادي بفساد هذا التفسير ثم ذكر أدلته على ذلك (8).
والذي يظهر أن المروي عن مجاهد غير معتبر إذ قد جاء من طريق الليث بن أبي
__________
(1) ينظر كتاب السنة لأبي بكر الخلال، الآثار ذوات الأرقام: 239، 241، 242، 243، 244، 246، 247، 248، 252، 253، 254، 266، 267، 275، 277، 278، 279، 282، 286، 287، 288، 290، 298، 299، 300، 301، 302، 303، 304، 310.
(2) المرجع السابق وينظر الآثار ذوات الأرقام: 243، 244، 246، 247، 250، 253، 254، 269، 270، 271، 272، 273، 274، 275، 276، 279، 284، 285، 305.
(3) المرجع السابق الآثار ذوات الأرقام: 266، 269، 271، 272، 274، 276، 283، 314.
(4) المرجع السابق الآثار ذوات الأرقام 254، 273.
(5) المرجع السابق أثر رقم: 256، 257.
(6) التمهيد (7/ 157).
(7) تفسير القرطبي (10/ 201).
(8) تفسير القاسمي (10/ 270).(1/108)
سليم، وهو ضعيف (1).
ثم هو معارض بروايات أصح منه، فيها التصريح بأن مجاهدا يرى أن المراد بالمقام المحمود: هو شفاعة محمد صلى الله عليه وسلم يوم القيامة (2). خرجها ابن جرير، وغيره عن طريق ابن أبي نجيح، قال الألباني: هو الثابت عن مجاهد نفسه من طريقين عنه عند ابن جرير، وأما رواية الجلوس على العرش فليس لها طريق معتبر لأنها من رواية الليث، وعطاء ابن السائب (3)، وأبي يحيى القتات (4)، وجابر بن يزيد (5)، والأولان مختلطان،
__________
(1) قال ابن حجر في التقريب: صدوق اختلط جدا ولم يتميز حديثه فترك، التقريب (464)، وقال الذهبي بعد أن ساق أقوال أهل العلم فيه قلت: بعض الأئمة يحسّن الليث، ولا يبلغ حديثه مرتبة الحسن، بل عداده في مرتبة الضعيف المقارب، فيروى في الشواهد والاعتبار، وفي الرغائب والفضائل أما الواجبات فلا اهـ. السير (6/ 184)، والضعفاء للنسائي (209) والكواكب النيرات (493) والضعفاء لابن الجوزي (3/ 29)، ونهاية الاغتباط بمن رمى من الرواة بالاختلاط (295).
قلت: وإذا ثبت هذا الرأي، أي: ضعف الليث فلا يسوغ الأخذ عنه في هذه الرواية، لا سيما وقد روي ما يخالفها مما هو أصح منها.
(2) تفسير الطبري (15/ 144)، وأورده ابن كثير في تفسيره من رواية ابن جرير (5/ 101)، وابن الجوزي في تفسيره (5/ 76).
(3) من رواية شريك عن عطاء عن مجاهد، ينظر كتاب السنة لأبي بكر بن الخلال الأثر ذو الرقم (294، 297)، وعطاء بن السائب، أبو محمد الثقفي، صدوق اختلط. التقريب (391).
وقال ابن معين: حديثه ضعيف إلا ما كان عن شعبة وسفيان. تاريخ ابن معين (2/ 403)، وينظر الضعفاء للعقيلي (3/ 398)، ولسان الميزان (7/ 305)، وشرح علل الترمذي (308)، والكواكب النيرات (319).
(4) من رواية شريك قال حدثنا أبو يحيى القتات عن مجاهد به. ينظر كتاب السنة لأبي بكر بن الخلال الأثر ذو الرقم (296). وأبو يحيى القتات لين الحديث والتقريب (684)، وقد ضعفه أحمد وابن معين، ينظر الاستغناء (2/ 1000)، والكنى للدولابي (2/ 165)، والميزان (4/ 586).
(5) من رواية شريك، قال حدثنا جابر بن يزيد، عن مجاهد به، ينظر كتاب السنة أثر (297)، وجابر بن يزيد بن الحارث الجعفي، ضعيف رافضي قال البخاري: متروك، التقريب (137)، الضعفاء الصغير (28)، والمغني في الضعفاء (1/ 126)، الكامل في الضعفاء (2/ 537)، والضعفاء والمتروكين للدارقطني (168)، والمجروحين (1/ 208).(1/109)
والآخران ضعيفان، بل الأخير متروك متهم (1) اهـ.
وبهذا يتضح أن المروي عن مجاهد من قوله: إن المقام المحمود هو الشفاعة أولى القولين بالصواب، وهو الموافق لما صح به الخبر (2) عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال عن النبي صلى الله عليه وسلم {عَسى ََ أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقََاماً مَحْمُوداً}: «هي الشفاعة» (3).
3 - ومما أبعد فيه النجعة، وخالف أهل السنة، وأتى فيه بما يستغرب ويستنكر ما ورد عنه في تفسير آية الرؤية حيث أوّلها تأويلا خالف فيه مذهب أهل السنة، والجماعة من الصحابة، ومن بعدهم، فقد روى ابن جرير عنه في تفسير قوله تعالى:
{وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نََاضِرَةٌ (22) إِلى ََ رَبِّهََا نََاظِرَةٌ} (4)، قال: تنتظر الثواب (5)، لا يراه من خلقه شيء (6)، وفي رواية أنه سئل فقيل له: إن ناسا يقولون: إنه يرى، قال: يرى ولا يراه شيء (7).
__________
(1) مختصر العلو للعلي الغفار ص (17)، وينظر تفسير القاسمي (10/ 273).
(2) حسنه الترمذي في كتاب التفسير، باب تفسير سورة الإسراء (5/ 303) 3137، وصححه ابن جرير في تفسيره (15/ 145).
(3) أخرجه أحمد في مسنده (2/ 444، 478)، والترمذي في سننه (5/ 303)، والطبري في تفسيره (15/ 145)، والبيهقي في دلائل النبوة (5/ 484).
(4) سورة القيامة: آية (22، 23).
(5) أخرجه ابن جرير من طريق منصور بن المعتمر، عن مجاهد به، بثلاثة أسانيد، ينظر تفسير الطبري (29/ 192)، وأورده ابن حجر في الفتح، وعزاه إلى عبد بن حميد، وصححه (13/ 425)، وأورده السيوطي في الدر، وعزاه إلى بن جرير (8/ 360)، وينظر تفسير الماوردي (6/ 156)، وتفسير القرطبي (19/ 70).
(6) وهذه الزيادة أخرجها ابن جرير من طريق منصور، عن مجاهد به (29/ 192).
(7) وهذه الرواية أخرجها ابن جرير من طريق منصور أيضا عن مجاهد به (29/ 193).(1/110)
وقد أورد ابن كثير هذا القول، ثم عقب عليه بقوله: وقد أبعد النجعة، وأبطل فيما ذهب إليه، وأين هو من قوله تعالى: {كَلََّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} (1)، قال الشافعي رحمه الله: ما حجب الفجار إلا وقد علم أن الأبرار يرونه عز وجل (2).
وقد ثبتت رؤية المؤمنين لربهم عز وجل في الدار الآخرة من طرق متواترة عند أئمة الحديث، لا يمكن دفعها، ولا تأويلها، منها: ما أخرجه البخاري في صحيحه، عن جرير بن عبد الله قال: كنا جلوسا عند النبي صلى الله عليه وسلم إذ نظر إلى القمر ليلة البدر، قال:
«إنكم سترون ربكم كما ترون هذا القمر لا تضامون في رؤيته» الحديث (3)، وفي رواية عند البخاري عن جرير قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إنكم سترون ربكم عيانا» (4)، ومنها ما روى مسلم في صحيحه عن صهيب، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا دخل أهل الجنة الجنة، قال: يقول الله تبارك وتعالى: تريدون شيئا أزيدكم؟ فيقولون: ألم تبيض وجوهنا؟ ألم تدخلنا الجنة وتنجّنا من النّار؟ قال: فيكشف الحجاب، فما أعطوا شيئا أحبّ إليهم من النظر إلى ربهم عزّ وجلّ» (5).
وبسنده أيضا عن صهيب وزاد (6). ثم تلا هذ الآية: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى ََ وَزِيََادَةٌ} (7) (8).
__________
(1) سورة المطففين: آية (15).
(2) تفسير ابن كثير (8/ 305).
(3) المرجع السابق (8/ 304).
(4) صحيح البخاري كتاب التوحيد، باب قول الله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نََاضِرَةٌ (22) إِلى ََ رَبِّهََا نََاظِرَةٌ} ينظر الفتح (8/ 179).
(5) المرجع السابق (8/ 179).
(6) صحيح مسلم، كتاب الإيمان، باب إثبات رؤية المؤمنين في الآخرة ربهم سبحانه وتعالى (1/ 163).
(7) المرجع السابق (1/ 163).
(8) سورة يونس: آية (26).(1/111)
قال ابن عبد البر في تعليقه على هذا الحديث: والآثار في هذا المعنى كثيرة جدا، فإن قيل: فقد روى سفيان الثوري، عن منصور، عن مجاهد في قول الله عز وجل:
{وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نََاضِرَةٌ} قال: حسنة، {إِلى ََ رَبِّهََا نََاظِرَةٌ} قال: تنتظر الثواب، ذكره وكيع، وغيره عن سفيان فالجواب: قول مجاهد: هذا مردود بالسنة الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وأقاويل الصحابة، وجمهور السلف، وهو قول عند أهل السنة مهجور، والذي عليه جماعتهم ما ثبت في ذلك عن نبيهم صلى الله عليه وسلم، وليس من العلماء أحد إلا وهو يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومجاهد وإن كان أحد المقدمين في العلم بتأويل القرآن فإن قوله هذا مهجور غير مرغوب فيه عند العلماء (1).
وقد اعتذر له ابن حزم بعدم بلوغ الخبر إليه (2)، والله أعلم.
ومما ورد عنه في مسألة الرؤية تفسيره لقوله تعالى: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى ََ وَزِيََادَةٌ} (3) فقد روى ابن جرير من طريق ابن أبي نجيح عن مجاهد {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى ََ} مثلها حسنى، وزيادة: مغفرة ورضوان (4). وهذه الرواية جاءت من طريق ابن أبي نجيح، وابن أبي نجيح وإن كان من الأئمة الثقات كما قال الذهبي (5) إلا إنه كان
__________
(1) التمهيد (7/ 157).
(2) الفصل في الملل (3/ 2).
(3) سورة يونس: آية (26).
(4) تفسير الطبري، (15/ 70) 17640، وتفسير مجاهد (293)، وأورد البخاري في صحيحه هذه الرواية معلقة عن مجاهد، في كتاب التفسير، تفسير سورة يونس (5/ 211)، وأشار ابن حجر في الفتح إلى وصلها من طريق الفريابي وعبد بن حميد من طريق ابن أبي نجيح، الفتح (8/ 347)، وأوردها السيوطي في الدر وعزاها إلى ابن أبي شيبة، وابن المنذر، وابن جرير وابن أبي حاتم عن مجاهد به (4/ 359)، وتفسير الماوردي (2/ 433)، وتفسير البغوي (2/ 351)، والبحر المحيط (5/ 146)، وزاد المسير (4/ 25)، وتفسير القرطبي (8/ 211).
(5) الميزان (2/ 515).(1/112)
يرى الاعتزال، كما قاله ابن المديني (1)، بل قال أحمد: أفسدوه بأخرة، وكان جالس عمرو بن عبيد (2) وقال القطان: كان ابن أبي نجيح من رءوس الدعاة (3)، قلت: فلا يعتد بالرواية عنه في هذا الباب لأنه داعية لبدعته وهذا مما يؤيدها، فالذي يظهر أن هذه الرواية لا تصح عن مجاهد، وقد صح عن المصطفى صلى الله عليه وسلم تفسير الزيادة بالنظر إلى الله تعالى (4).
وقال ابن الجوزي: روي تفسير (الزيادة) بالنظر إلى وجه الله الكريم، عن أبي بكر، وأبي موسى الأشعري، وحذيفة، وابن عباس، وعكرمة، وقتادة، والضحاك، وابن أبي ليلى، والسدي، ومقاتل (5). وزاد ابن كثير (6): عطاء، وابن المسيب، والحسن
وغيرهم، وذكر أن منهم مجاهدا رحمه الله ولعله اعتمد ما روي عنه من طريق حماد ابن سلمة عن ليث عن مجاهد {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى ََ}، قال: الحسنى: الجنة، والزيادة: النظر إلى الرب (7).
وفي سند هذه الرواية الليث بن أبي سليم، وهو ضعيف، مرّ (8).
__________
(1) السير (6/ 125).
(2) تهذيب التهذيب (6/ 54)، والتاريخ لابن معين (3/ 74).
(3) الميزان (2/ 515).
(4) كما رواه ابن أبي عاصم في السنة في باب: في الزيادة بعد ذكر الحسنى، فساق الحديث بسنده عن صهيب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في هذه الآية: «إذا دخل أهل الجنة الجنة» الحديث، وقال في ختام الرواية: «فما شيء أعطوه أحب إليهم من النظر إليه وهي الزيادة».
وينظر كتاب السنة (205)، وأخرج الحديث أيضا مسلم في صحيحه بلفظ مقارب كما مرّ، وأبو عوانة في مستخرجه (1/ 156)، وابن ماجة في سننه (1/ 67) 187، وأحمد في مسنده (4/ 332/ 333)، والآجري في الشريعة (261).
(5) زاد المسير (4/ 25).
(6) تفسير ابن كثير (4/ 198).
(7) أوردها اللالكائي في شرح أصول اعتقاد أهل السنة، والجماعة (3/ 463) 797.
(8) وسيأتي لذلك مزيد بسط في مبحث منهج التابعين في آيات الاعتقاد ص (875).(1/113)
أثره في علوم القرآن:
اهتم رحمه الله بكل علم يخدم القرآن، أو يستند إليه ولذا نجد الأثر البين له في كثير من علوم القرآن، وليس ذلك بمستغرب عليه فهو القائل عن نفسه: استفرغ علمي القرآن (1)، فقد استفرغ جهده، وبذل وسعه لخدمة القرآن، وعلمه، فتعرض للعديد من أنواع علومه، ولإيضاح أثره في هذا الجانب، أعرض لنماذج من أهم أقواله فيه:
أولا: معرفة أول ما نزل من القرآن:
اهتم رحمه الله بهذا النوع من علوم القرآن، فتكلم في أول ما نزل من القرآن عموما وخصوصا، فأوضح أول ما نزل منه بمكة وأول ما نزل بالمدينة، وآخر ما نزل بهما، بل وأوضح أول الآيات نزولا في بعض السور، فعنه قال: أول ما نزل من القرآن {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} و {ن وَالْقَلَمِ} (2).
بل ورد عنه تحديد آخر ما نزل في مكة من القرآن حيث قال: هي {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ} (3).
وجاء عنه القول بأن أول ما نزل في المدينة: سورة البقرة (4).
وعنه قال: أول ما نزل من براءة: {لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللََّهُ فِي مَوََاطِنَ كَثِيرَةٍ}، قال:
يعرّفهم نصره، ويوطنهم لغزوة تبوك (5).
__________
(1) المعرفة والتاريخ (1/ 712).
(2) فضائل القرآن لأبي عبيد (220)، وأنساب الأشراف للبلاذري (108).
(3) البرهان (1/ 194).
(4) زاد المسير (1/ 20).
(5) تفسير الطبري (14/ 270) 16759، وأورده السيوطي في الإتقان، وعزاه إلى الفريابي (1/ 76).(1/114)
ثانيا: أسباب النزول:
لم يعتن مجاهد رحمه الله بهذا النوع من علوم القرآن عناية غيره به (1)، بل إن من المعالم البارزة في تفسيره ميله إلى القول بعموم معنى الآية في كثير من تأويلاته.
فعند قوله سبحانه: {ظَهَرَ الْفَسََادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمََا كَسَبَتْ أَيْدِي النََّاسِ} (2).
قال: أما والله ما هو بحركم هذا، ولكن كل قرية على ماء جار فهو بحر (3).
وعند قوله جل ثناؤه: {يُرِيدُ اللََّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ} (4)، قال: في نكاح الأمة، وفي كل شيء فيه يسر (5).
وعند قوله تعالى: {فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللََّهِ} (6)، قال القاسم بن أبي بزة (7)، أمرني مجاهد أن أسأل عكرمة عنها، فقال عكرمة: هو الخصاء، فأخبرت مجاهدا، فقال أخطأ {فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللََّهِ} دين الله (8).
وعند قوله سبحانه: {كَمَثَلِ الشَّيْطََانِ إِذْ قََالَ لِلْإِنْسََانِ اكْفُرْ فَلَمََّا كَفَرَ قََالَ إِنِّي بَرِيءٌ}
__________
(1) يعد من أقل مفسري التابعين اعتمادا على أسباب النزول، فقد بلغ نسبة اعتماده على أسباب النزول (05، 0) فقط من مجموع تفسيره، في حين كانت عند محمد بن كعب القرظي (17، 00) من مجموع تفسيره، وعن عكرمة (14، 0)، وعن عامر الشعبي (13، 0)، وعن السدي (11، 0)، وعن سعيد بن جبير وقتادة (07، 0).
(2) سورة الروم: آية (41).
(3) تفسير الطبري (4/ 240) 3985، وتفسير ابن عطية (12/ 265)، وتفسير القرطبي (14/ 28).
(4) سورة النساء: آية (28).
(5) تفسير الطبري (8/ 215) 9135، وتفسير ابن عطية (4/ 90)، وتفسير القرطبي (5/ 98).
(6) سورة النساء: آية (119).
(7) القاسم بن أبي بزة: المكي، مولى بني مخزوم، القارئ، ثقة من الخامسة، روى عن مجاهد.
التقريب (449)، والخلاصة (311).
(8) تفسير عبد الرزاق (1/ 173)، وتفسير الطبري (9/ 216) 10455.(1/115)
{مِنْكَ إِنِّي أَخََافُ اللََّهَ رَبَّ الْعََالَمِينَ} (1).
قال ابن جرير الطبري: اختلف أهل التأويل في الإنسان الذي قال فيه الله جلّ ثناؤه {إِذْ قََالَ لِلْإِنْسََانِ اكْفُرْ} هو إنسان بعينه، أم أريد به المثل لمن فعل الشيطان ذلك به؟ ثم ساق رحمه الله عن علي، وابن مسعود، وابن عباس رضي الله عنهم وعن طاوس أن المراد بذلك إنسان بعينه، وذكر الروايات عنهم (2).
وانفرد بإيراد الأثر عن مجاهد، أن المراد الناس كلهم، فعن ابن أبي نجيح عن مجاهد قال: عامّة الناس (3).
ثالثا: تأويله لمشكل القرآن:
هو من أكثر التابعين تعرضا لحل ما أشكل وبيان ما غمض من القرآن (4) فكان رحمه الله كلما عرضت له مشكلة تفسيرية سعى في كشف مشكلها وإيراد المعنى الصحيح الموضح لتأويلها، فمن ذلك ما ورد عنه في تفسير قوله سبحانه: {قُلْ إِنْ كََانَ لِلرَّحْمََنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعََابِدِينَ} (5).
قال مجاهد: يريد إن كان لله ولد في قولكم، فأنا أول من عبد الله ووحده،
__________
(1) سورة الحشر: آية (16).
(2) تفسير الطبري (28/ 5149).
(3) المرجع السابق (28/ 51)، وتفسير الماوردي (5/ 509)، وزاد المسير (8/ 219). وعند المقارنة بين مجاهد، وقتادة، وهما من أكثر التابعين تعرضا للتفسير، نجد أن مجاهدا بعد مراجعة تفسير الطبري قال بعموم معنى الآية صريحا في أكثر من (60) موضعا، بينما ورد هذا عن قتادة في (30) موضعا فقط.
(4) وذلك من خلال مراجعة كتاب ابن قتيبة تأويل مشكل القرآن، فقد روى عن مجاهد في أكثر من عشرين موضعا، وعن الحسن في أربعة مواضع، وعن قتادة وابن جبير في موضعين.
(5) سورة الزخرف: آية (81).(1/116)
وكذبكم بما تقولون (1).
وعند قوله سبحانه: {وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذََلِكَ دَحََاهََا} (2)، وقد أشكل تفسير الآية مع آيات أخرى، منها خلق الأرض قبل ذلك، فأجاب عنه بقوله: {بَعْدَ ذََلِكَ} مع ذلك (3).
وعند قوله سبحانه: {وَمََا كََانَ اللََّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمََا كََانَ اللََّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} (4) وجه إشكال قبول استغفار المشركين، وكونه دافعا للعذاب عنهم، مع أنهم على الشرك، بقوله: علم أن في أصلابهم من سيستغفر (5).
وعند قوله تعالى: {هََؤُلََاءِ بَنََاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ} (6)، أشكل ظاهر هذه الآية، فقيل: كيف يدعو نبي الله هؤلاء الفسقة إلى بناته بدل ضيوفه؟! فوجّه الإشكال وبيّن المراد بقوله: أمرهم أن يتزوجوا النساء لم يعرض عليهم سفاحا (7).
والأمثلة الواردة عنه في هذا كثيرة (8).
__________
(1) تأويل مشكل القرآن (373)، وتفسير عبد الرزاق (2/ 203)، وتفسير ابن كثير (7/ 229)، وتفسير الماوردي (5/ 241)، وتفسير ابن عطية (14/ 278)، والبحر المحيط (8/ 28)، وزاد المسير (7/ 331)، وتفسير القرطبي (16/ 79).
(2) سورة النازعات: آية (30).
(3) تأويل مشكل القرآن (68)، وتفسير الطبري (30/ 46)، وكتاب الأسماء والصفات للبيهقي (2/ 123)، وتفسير الماوردي (6/ 199)، وتفسير ابن عطية (16/ 225).
(4) سورة الأنفال: آية (33).
(5) تأويل مشكل القرآن (72)، وتفسير البغوي (2/ 246)، وتفسير ابن عطية (8/ 54)، وزاد المسير (3/ 351)، وتفسير القرطبي (7/ 253).
(6) سورة هود: آية (78).
(7) تفسير الطبري (15/ 414) 18376.
(8) لمزيد من الأمثلة يراجع تفسير الطبري الآثار: 2317، 2318، 4136، 6771، 7123، 7342، 7343، 7346، 7347، 7348، 7614، 7615، 13050، 13080، 14334،(1/117)
رابعا: موقفه من النسخ:
كان رحمه الله من أكثر التابعين تضييقا لدائرة النسخ، فلم ير التوسع فيه، فنجده كثيرا ما يشير إلى إحكام الآية، وإعمال نصها وعدم نسخها، بخلاف منهج غيره من معاصريه (1).
وكان يقصر النسخ في كثير من الأحيان على آيات الأمر والنهي فقط (2).
وقد تنوع مفهوم النسخ عنده، فعند تأويل قوله سبحانه: {مََا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ} (3)
قال: نزيل حكمها، ونثبت خطها (4)، وكأنه بذلك يشير إلى ما تغير حكمه، وثبت خطه في المصحف، أي: نسخ الحكم، وبقاء التلاوة، وأشار إلى نوع آخر عند تفسير قوله سبحانه: {أَوْ نُنْسِهََا} (5) فقال: نرجئها ونؤخرها (6)، وكأنه بذلك يشير إلى منسوخ
__________
14337، 14755، 14756، 14757، 15102، 15103، 15104، 15105، (28/ 64)، (28/ 168)، (29/ 71)، (29/ 91)، (29/ 184)، (29/ 210)، (30/ 56)، (30/ 177)، و (30/ 249).
(1) بعد مراجعة كتاب الناسخ والمنسوخ لأبي جعفر النحاس، وكتاب الإيضاح لناسخ القرآن ومنسوخه لمكي، وجدت أن مجاهدا من أكثر التابعين قولا بإحكام آيات القرآن، وعند المقارنة بينهم يظهر الفرق، فمثلا: المروي عن ابن عباس رضي الله عنه القول بنسخ (38) آية، وإحكام (3) آيات، وعن قتادة رحمه الله القول بنسخ (33) آية وإحكام (8) آيات، وأما مجاهد رحمه الله فروي عنه القول بنسخ (5) آيات وإحكام (31) آية، ويأتي لذلك مزيد بحث، عند الحديث عن أثرهم في أصول التفسير.
ينظر الناسخ والمنسوخ لأبي جعفر النحاس في الصفحات التالية: 17، 34، 36، 85، 89، 104، 115، 118، 125، 129، 143، 144وغيرهما.
(2) الناسخ والمنسوخ لابن سلام (8)، والنسخ في القرآن د. مصطفى زيد (1/ 359).
(3) سورة البقرة: آية (106).
(4) أخرجه أبو جعفر النحاس في الناسخ بسنده عن مجاهد به (7)، وابن جرير في تفسيره (2/ 473) 1749، وابن أبي حاتم في تفسيره (1/ 322) 1062.
(5) سورة البقرة: آية (106).
(6) تفسير الطبري (2/ 477) 1765، وتفسير ابن كثير (1/ 216).(1/118)
التلاوة والحكم.
خامسا: رأيه في المحكم والمتشابه:
اختلف في تعيين المحكم، والمتشابه على عدة أقوال، فقد أورد البخاري (1)، عن مجاهد عند قوله: {مِنْهُ آيََاتٌ مُحْكَمََاتٌ} (2) قال: الحلال والحرام، {وَأُخَرُ مُتَشََابِهََاتٌ} (3) يصدق بعضها بعضا، كقوله تعالى: {وَمََا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفََاسِقِينَ} (4)، وكقوله جل ذكره: {وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لََا يَعْقِلُونَ} (5). {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زََادَهُمْ هُدىً وَآتََاهُمْ تَقْوََاهُمْ} (6).
ولذا فمجاهد ممن يقول بإمكان علم المتشابه، للراسخين في العلم فقد أخرج ابن قتيبة بسنده عن ابن أبي نجيح عن مجاهد قال في قوله: {وَالرََّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} (7):
تعلمونه وتقولون آمنا به (8).
وكان رحمه الله يرى أن الواو في قوله: {وَالرََّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} عاطفة (9)،
__________
(1) رواه البخاري في صحيحه معلقا، كتاب التفسير، باب (منه آيات محكمات) (5/ 165).
(2) سورة آل عمران: آية (7).
(3) سورة آل عمران: آية (7).
(4) سورة البقرة: آية (26).
(5) سورة يونس: آية (100).
(6) سورة محمد: آية (17)، وهذا الأثر ذكر ابن حجر أنه موصول من رواية عبد بن حميد من طريق ابن أبي نجيح عن مجاهد به، ينظر التغليق (4/ 189)، والفتح (8/ 209)، وذكر العيني في العمدة طريقا آخر عن ابن جريح من رواية ابن المنذر عن مجاهد به (18/ 138).
(7) سورة آل عمران: آية (7).
(8) تأويل مشكل القرآن (ص 100)، وأخرجه ابن جرير الطبري من طريق ابن أبي نجيح بإسنادين، بلفظ: يعلمونه يقولون آمنا به، تفسير الطبري (6/ 203) 6633، 6634، وذكره أبو جعفر النحاس في معاني القرآن (1/ 353) وأورده السيوطي في الإتقان، وعزاه إلى عبد بن حميد (2/ 7).
(9) القطع والاستئناف (215)، والمكتفى في الوقف والابتداء (196)، والفتح (8/ 210)، والإتقان (2/ 7).(1/119)
وليست للاستئناف.
وأما الأكثرون من الصحابة والتابعين وأتباعهم فذهبوا إلى أن الواو للاستئناف (1).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: وهذا الذي حمل مجاهدا، ومن وافقه كابن قتيبة (2)
على أن جعلوا الوقف عند قوله: {وَالرََّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} فجعلوا الراسخين يعلمون التأويل لأن مجاهدا تعلم من ابن عباس تفسير القرآن كله، وبيان معانيه، فظن أن هذا هو التأويل المنفي عن غير الله (3).
سادسا: كليات القرآن:
حرص رحمه الله على استقصاء الألفاظ القرآنية، مع إيضاح ما دلت عليه، وإدراج المتشابه منها في صعيد واحد، سواء اتحد لفظه ومعناه، أو اتحد اللفظ واختلف المعنى، وهو ما يعرف بعلم الأشباه والنظائر، أو كليات القرآن، ومن أمثلة ذلك:
قوله: كل ظن في القرآن يقين {إِنِّي ظَنَنْتُ}، {وَظَنُّوا} (4)، وعنه أيضا: كل ظن في القرآن فهو علم (5).
ومنها قوله: كل ما كان في القرآن «كذا، فمن لم يجد فكذا» فالأول فالأول، وكل ما كان في القرآن «أو كذا» «أو كذا» فهو فيه بالخيار (6).
__________
(1) الإتقان (2/ 7).
(2) في المشكل (100).
(3) مجموع الفتاوى (13/ 284).
وقد ذكر شيخ الإسلام في موضع آخر تعليقا على هاتين القراءتين فقال: وكلتا القراءتين حق، ويراد بالأولى (أي: الاستئناف) المتشابه في نفسه الذي استأثر الله بعلم تأويله، ويراد بالثانية (أي العاطفة) المتشابه الإضافي الذي يعرف الراسخون تفسيره اه. مجموع الفتاوى (17/ 381).
(4) تفسير الطبري (2/ 19) 862، وتفسير ابن كثير (1/ 126).
(5) المرجع السابق (2/ 19) 863.
(6) المرجع السابق (4/ 75) 3380.(1/120)
ومنها قوله: كل شيء في القرآن «عسى»: فإن «عسى» من الله واجب (1).
ومنها قوله: كل شيء في القرآن «إن» فهو إنكار (2).
وقد تميز رحمه الله بالدقة في التفريق بين المفردات المتشابهة، من ذلك ما روي عنه عند قوله سبحانه: {وَكََانَ لَهُ ثَمَرٌ}، قال: ما كان في القرآن ثمر بالضم فهو المال، وما كان بالفتح فهو النبات (3).
سابعا: الاشتقاق عند مجاهد:
أكثر رحمه الله من بيان أصول الكلمات، واشتقاقها، ويتضح هذا عنده في تعليل التسميات، وبيان وجه المسميات، فمن ذلك:
قوله: إنما سميت الكعبة لأنها مربعة، وإنما سميت البدن من أجل السمانة (4)، وإنما سمي الميسر لقولهم أيسروا، وأجزروا (5).
وعند قوله سبحانه: {عَيْناً فِيهََا تُسَمََّى سَلْسَبِيلًا} (6) قال سميت بذلك لسلاسة سبيلها، وحدة جريها (7).
وعند قوله سبحانه: {أَوْ مِسْكِيناً ذََا مَتْرَبَةٍ} (8) قال: المطروح في التراب ليس له
__________
(1) أورده السيوطي في الدر المنثور، وعزاه لابن المنذر (1/ 587).
(2) تفسير ابن كثير (5/ 326).
(3) أورده ابن حجر في الفتح، وعزاه إلى الفراء عن مجاهد به (8/ 406)، وأورده النحاس في معاني القرآن عن مجاهد بنحوه (4/ 239).
(4) المصنف لابن أبي شيبة (4/ 112).
(5) تفسير الطبري (4/ 322) 4106.
(6) سورة الإنسان: آية (18).
(7) تفسير ابن كثير (8/ 317)، وتفسير ابن عطية (16/ 190).
(8) سورة البلد: آية (16).(1/121)
بيت (1). وفي لفظ آخر: المطروح في الأرض، الذي لا يقيه شيء دون التراب (2).
وعند قوله سبحانه: {لِإِيلََافِ قُرَيْشٍ} (3) قال: إيلافهم ذلك فلا يشق عليهم رحلة شتاء، ولا صيف (4).
وفي تفسير قوله جل وعلا: {فَذََلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ} (5)، قال: يدعّ: يوضع عن حقه، يقال: هو من دععت، يدعّون أي: يدفعون (6).
ثامنا: الاعتماد على لغة العرب:
وكان رحمه الله من أهل العلم باللغة واللسان (7)، فوظف ذلك لخدمة كتاب الله، ولم ير لغير أهل اللسان الخوض في معاني القرآن، بل كان يقول: لا يحل لأحد يؤمن بالله، واليوم الآخر، أن يتكلم في كتاب الله إذا لم يكن عالما بلغات العرب (8).
فعند قوله تعالى: {وَلََا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ} (9). قال: لا تضعف أن تستكثر من الخير، قال: تمنن في كلام العرب: تضعف (10).
__________
(1) أورده ابن حجر في الفتح، وعزاه إلى الفريابي عن مجاهد به (8/ 704).
(2) تفسير الطبري (30/ 205)، وتفسير الماوردي (6/ 279)، وتفسير البغوي (4/ 490)، وتفسير القرطبي (20/ 47).
(3) سورة قريش: آية (1).
(4) تفسير الطبري (30/ 306)، والفتح (8/ 730)، وتفسير البغوي (4/ 529).
(5) سورة الماعون: آية (2).
(6) صحيح البخاري كتاب التفسير (6/ 92)، والفتح (8/ 730)، وتفسير الطبري (30/ 310)، وتفسير الماوردي (6/ 351).
(7) المغني لعبد الجبار (4/ 215).
(8) البرهان (1/ 292)، ومفتاح السعادة (2/ 585).
(9) سورة المدثر: آية (6).
(10) تفسير الطبري (29/ 149)، وتفسير ابن كثير (8/ 290)، وتفسير الماوردي (6/ 138)، وتفسير ابن عطية (16/ 156)، وتفسير البغوي (4/ 414)، وزاد المسير (8/ 402)، وتفسير القرطبي (19/ 45).(1/122)
وعند قوله تعالى: {فِي جِيدِهََا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ} (1) قال: أي: طوق من حديد، ألا ترى أن العرب تسمي البكرة (2) مسدا (3).
وفي تفسير قوله جل وعلا: {لَيْسَ لَهُمْ طَعََامٌ إِلََّا مِنْ ضَرِيعٍ} (4) قال: الضريع نبت يقال له: الشبرق يسميه أهل الحجاز الضريع إذا يبس، وهو سم (5).
والمتأمل لتفسيره يجده قد ضمّ توضيحات كثيرة، ذات طابع لغوي أحرى بها أن تسمى: دراسة في المفردات الغريبة في القرآن (6).
بل كان يوجه من يسأله بقوله: إذا سألتموني عن غريب القرآن فالتمسوه في الشعر، فإن الشعر ديوان العرب (7) ولذا فقد ورد عنه ما يستوعب غريب القرآن وأتى على جملة صالحة منه (8).
تاسعا: معرفة ما وقع في القرآن من المعرب:
إضافة إلى ما سبق في هذا الجانب، فقد كان على دراية بالألفاظ الأعجمية التي تعربت باستعمال العرب لها، أو كانت مما اتفقت فيه اللغات.
ومجاهد رحمه الله ممن قال بوقوع المعرب في القرآن، بل كان أكثر التابعين قولا
__________
(1) سورة المسد: آية (5).
(2) البكرة التي يستقى عليها الماء، وهي خشبة مستدير في وسطها محزّ للحبل وفي جوفها محور تدور عليه، لسان العرب (4/ 80).
(3) تفسير ابن كثير (8/ 536)، وتفسير ابن عطية (16/ 380)، وتفسير البغوي (4/ 544).
(4) سورة الغاشية: آية (6).
(5) صحيح البخاري، كتاب التفسير (6/ 82)، وتفسير ابن كثير (8/ 407)، وتفسير البغوي (4/ 478)، وزاد المسير (9/ 96)، وتفسير القرطبي (20/ 21).
(6) تاريخ التراث (177).
(7) تفسير القرطبي (1/ 24).
(8) الإتقان (1/ 150).(1/123)
به (1).
ومن أمثلة ذلك: ما ورد عنه في تفسير: (الأواه) قال: الموقن بلسان الحبشة (2).
وفي قوله تعالى: {سَرِيًّا} (3)، قال: نهرا بالسريانية (4)، وفي تفسير الطور قال:
الجبل بالسريانية (5)، وفي تفسير (العرم) قال: بالحبشية هي المسناة التي تجمع فيها الماء، ثم ينبثق (6)، وفي تفسير (الفردوس) قال: بستان بالرومية (7)، وفي تأويل (القسطاس) قال: العدل بالرومية (8)، وعند قوله: (مشكاة) قال: الكوة بلغة الحبشة (9)، وفي
__________
(1) يتضح ذلك من خلال مراجعة كتاب المهذب، فيما وقع في القرآن من المعرب، فقد جمع السيوطي ما ورد من آثار عن الصحابة والتابعين، وغيرهم فاستقصى، ومن خلال مراجعة ما جمع وجدت أن مجاهدا من أكثر من يروى عنه من التابعين في هذا الشأن، وبعده عكرمة، ثم ابن جبير، ينظر المهذب والإتقان (1/ 378369).
(2) أورده السيوطي في المهذب (75)، والإتقان (1/ 370) وعزاه إلى ابن أبي حاتم.
(3) سورة مريم: آية (24).
(4) أورده السيوطي في الدر (5/ 503) والمهذب (99)، وعزاه إلى ابن المنذر، وابن أبي حاتم عن مجاهد به.
(5) أخرجه الطبري في تفسيره (2/ 158) 1116، 1117، وأورده السيوطي في المهذب، وعزاه إلى الفريابي عن مجاهد به (113).
(6) أورده السيوطي في المهذب، والدر، وعزاه إلى ابن أبي حاتم عن مجاهد به، ينظر المهذب (118)، والدر (6/ 690).
(7) أورده السيوطي في المهذب، والدر، وعزاه إلى ابن أبي حاتم عن مجاهد به، ينظر المهذب (120)، والإتقان (1/ 375).
(8) أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه (10/ 471)، وابن جرير في تفسيره (15/ 85)، وأورده السيوطي في المهذب، والدر وعزاه إلى ابن أبي حاتم وابن المنذر، وابن أبي شيبة، ينظر المهذب (125124)، والدر (4/ 182).
(9) أورده ابن كثير في تفسيره (6/ 62)، وذكره السيوطي في المهذب، وعزاه إلى ابن أبي حاتم في تفسيره، عن مجاهد به (144)، ينظر المعرب للجواليقي (351).(1/124)
تأويل (المقاليد) قال: المفاتيح بالفارسية (1).
عوامل السبق عند مجاهد:
ولإيضاح هذا الجانب لا بد من الإشارة إلى أبرز الأسباب التي ساعدت مجاهدا رحمه الله فصار السابق في علم القرآن وتفسيره. من أهم هذه الأسباب ما يلي:
1 - ملازمته، وصحبته لابن عباس رضي الله عنهما:
كان لابن عباس أصحاب غير مجاهد، ولكن مما ميز مجاهدا عن أصحابه كثرة العرض، والسؤال، والمراجعة لابن عباس في القراءة والتفسير خاصة، حتى إنه قرأ عليه القرآن أكثر من ثلاثين مرة، وعرض عليه التفسير ثلاث مرات يستوقف شيخه عند كل آية، ويسأله عنها.
ولم يكتف بهذا، بل كان رحمه الله يكتب كل ما سمعه، وفي هذا يقول:
عرضت القرآن على ابن عباس ثلاثين عرضة (2) ويقول أيضا: عرضت المصحف على ابن عباس ثلاث عرضات، من فاتحته إلى خاتمته أقفه عند كل آية منه وأسأله عنها (3).
ويقول ابن أبي مليكة: رأيت مجاهدا يسأل ابن عباس عن تفسير القرآن، ومعه ألواحه، فيقول له ابن عباس: اكتب، قال: حتى سأله عن التفسير كله (4).
ولذا عدّه ابن كثير من أخص أصحاب ابن عباس (5).
__________
(1) أورده ابن كثير في تفسيره (7/ 102)، وذكره السيوطي في المهذب والدر، وعزاه إلى الفريابي، وعبد بن حميد، وابن المنذر، عن مجاهد به، ينظر المهذب (145)، والدر (7/ 243)، والمعرب للجواليقي (362).
(2) طبقات ابن سعد (5/ 466)، والحلية (3/ 280)، والجرح (8/ 319)، وتهذيب الكمال (27/ 233).
(3) تفسير الطبري (1/ 90) 108، والحلية (3/ 279)، والتهذيب (10/ 43).
(4) تفسير الطبري (1/ 90) 107.
(5) البداية والنهاية (9/ 250).(1/125)
2 - تعدد مصادره:
امتاز مجاهد رحمه الله عن أقرانه من تلاميذ المدرسة بتعدد مصادره، فمع انقطاعه لابن عباس خلال حياته، إلا إن بعض الروايات تشير إلى أخذه عن غيره، واتصاله بفكر أصحاب المدارس الأخرى (1)، كما في قوله: لو كنت قرأت قراءة ابن مسعود لم أحتج أن أسأل ابن عباس عن كثير من القرآن مما سألت (2).
وقد صحب ابن عمر رضي الله عنهما وفي ذلك يقول: صحبت ابن عمر إلى المدينة فما سمعته يحدث عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا حديثا واحدا (3).
فعن عبيد الله بن عمران قال: سمعت مجاهدا يقول: صحبت ابن عمر وأنا أريد أن أخدمه، فكان هو الذي يخدمني (4)، وكان رحمه الله يحدث من صحيفة جابر رضي الله عنه (5).
هذا مع أنه أسند، وروى عن جملة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، منهم: علي بن أبي طالب، وسعد بن أبي وقاص، والعبادلة الأربعة، وأسيد بن ظهير، وأبو سعيد
__________
(1) دراسات في التفسير وأصوله د. محيي الدين بلتاجي (56).
(2) رواه الترمذي في سننه، كتاب تفسير القرآن، باب ما جاء في الذي يفسر القرآن برأيه (5/ 200).
وقد وجدت مجاهدا من أكثر المكيين اتصالا بالكوفة بعد سعيد بن جبير، بل فاق سعيدا في الإفادة من قراءات ابن مسعود، وبعد رجوعي لتفسير ابن مسعود وجدت أن مجاهدا جاء من طريقه خمس روايات في تفسير ابن مسعود، منها أربع في القراءة، وهو بهذا أكثر حتى من سعيد بن جبير، والآثار التي رواها مجاهد عن ابن مسعود في تفسير الطبري هي: 9211، 13431، 14632، (25/ 17)، (30/ 161).
(3) تاريخ أبي زرعة (1/ 557)، والتهذيب (10/ 43)، والسير (4/ 454).
(4) الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع (2/ 241) 1728، والسير (4/ 452).
(5) طبقات ابن سعد (5/ 467).(1/126)
الخدري، وعائشة، وأم سلمة، وجويرية بنت الحارث، وأبو هريرة، وأم هانئ بنت أبي طالب، وجابر بن عبد الله، وعطية القرظي، وسراقة بن مالك، وغيرهم (1).
ومن المصادر التي اعتمد عليها: الرواية عن أهل الكتاب، وقد تساهل في الرواية عنهم مما جعل بعض أصحاب المدارس الأخرى يتقي تفسيره (2).
يقول الأعمش (3) لما سئل: ما بالهم يتقون تفسير مجاهد؟ قال: كانوا يرون أنه يسأل أهل الكتاب (4).
وقد أكثر من الرواية عن بني إسرائيل (5)، وجاءت عنه بعض التفاصيل المنكرة، والغريبة، فعند تأويله لقوله سبحانه: {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهََا لَوْلََا أَنْ رَأى ََ بُرْهََانَ رَبِّهِ} (6)، قال: حلّ السراويل، حتى أليتيه واستلقت له (7).
وعند قوله تعالى: {قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمََّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ}
__________
(1) تهذيب الكمال (3/ 1305)، والتهذيب (10/ 42)، والجرح (8/ 319)، وتهذيب الأسماء (2/ 83).
(2) كمدرسة الكوفة خاصة فهي من أكثر المدارس بعدا وحذرا من الرواية عن بني إسرائيل، ويقال:
إن مجاهدا سكنها في آخر عمره، السير (4/ 452).
(3) الأعمش سليمان بن مهران الأسدي، أبو محمد الكوفي، ثقة حافظ عارف بالقراءات، التقريب (254).
(4) طبقات ابن سعد (5/ 467)، وطبقات المفسرين للداودي (2/ 307).
(5) هو أكثر المكيين بعد سعيد بن جبير في روايته عن بني إسرائيل كما يأتي تفصيل ذلك إن شاء الله عند الحديث عن المدرسة المكية.
(6) سورة يوسف: آية (24).
(7) تفسير الطبري (16/ 36) 19023، وفي رواية عند ابن جرير عنه بلفظ: حلّ سراويله، حتى وقع على أليته (16/ 36) 19024، وفي رواية: جلس منها مجلس الرجل من امرأته 19025، وأورده السيوطي في الدر بلفظ مقارب، وعزاه إلى عبد الرزاق، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبي الشيخ (4/ 521).(1/127)
{سََاقَيْهََا} (1)، قال: الصرح بركة من ماء ضرب عليها سليمان قوارير ألبسها، قال:
وكانت بلقيس هلباء شعراء، قدمها كحافر الحمار، وكانت أمها جنية (2).
وفي رواية أخرى عنه: فإذا هما شعراوان فقال: ألا شيء يذهب هذا؟! قالوا الموسى، قال: لا، الموسى له أثر، فأمر بالنورة فصنعت (3).
3 - تخصصه، وانقطاعه لعلم التفسير:
تفرغ مجاهد لهذا العلم، فبذل فيه وسعه، واستنفذ طاقته، وغاية جهده، وفي ذلك يقول: استفرغ علمي القرآن (4).
وهذا واضح من تتبع المروي عنه رحمه الله، فعلى جلالة قدره وتمكنه في باب العلوم الأخرى، إلا أن المروي عنه في غير التفسير قليل (5) في جنب ما روي عنه في ذلك.
أما القرآن وعلومه فقد غاص في بحوره، واستخرج الدر من مكنونه، وتعدى ذلك فعرض لأمور دقيقة تتعلق بآياته، وحروفه، وكلماته.
فقد جاءت الروايات عنه في بيان عدد كلمات القرآن حيث قال: عددها تسع
__________
(1) سورة النمل: آية (44).
(2) تفسير الطبري (19/ 169).
(3) المرجع السابق (190/ 169).
ولمزيد من الأمثلة يراجع الطبري: 897، 1689، 5672، 5673، 5674، 5675، 11660، 11661، (23/ 150)، (23/ 157).
(4) المعرفة والتاريخ (1/ 712)، والسير (4/ 452)، وغاية النهاية (2/ 42).
(5) ولذا نجد أنه من أقل التابعين تعرضا للأحكام الفقهية، فالمروي عن عطاء في تفسير آيات الأحكام مثلا استغرق (33، 0) من تفسيره، وعن ابن جبير (09، 0)، وعن مجاهد (03، 0) من مجموع تفسيره.(1/128)
وسبعون ألف كلمة ومائتان وسبع وسبعون كلمة (1)، وحروف القرآن عددها ثلاثمائة ألف حرف وأحد وعشرون ألف حرف (2).
فهذه العناية والاهتمام، والتفرغ لعلم القرآن، كانا من أسباب سبقه وكثرة الرواية عنه.
4 - سبقه في علم القراءات:
مما أعان مجاهدا رحمه الله على فهم كثير من الآيات تقدمه في معرفة القراءة، حتى عدّ إماما من أئمة هذا الشأن.
قال ابن جرير: وكان قارئا عالما (3)، وقال عنه الذهبي: شيخ القراء (4)، ومما يؤكد ذلك أنه كان يتعمد القراء، ويقصدهم للقراءة عليهم، ويقول في هذا: كنت أتحدى القراء فأقرأ (5).
وقد قرأ عليه شيخ مكة ابن كثير، ولم يخالفه في شيء من القراءة (6)، وكان يقرأ القرآن على خمسة أحرف (7)، ولحرصه على هذا الجانب عرض القرآن على ابن عباس ثلاثين عرضة (8).
__________
(1) عجائب علوم القرآن لابن الجوزي (131).
(2) البرهان في علوم القرآن (1/ 249)، وفنون الأفنان (236)، والتفسير القرآني للقرآن (1/ 15).
(3) التهذيب (10/ 44).
(4) السير (4/ 450)، وقال الذهبي في التذكرة (1/ 92)، والميزان (3/ 439): المقرئ المفسر.
(5) النهاية في غريب الحديث (1/ 355)، وغريب الحديث لابن الجوزي (1/ 197)، والفائق (1/ 268).
(6) السبعة في القراءات لابن مجاهد (64).
(7) تفسير الطبري (1/ 53) 52.
(8) طبقات ابن سعد (5/ 466)، والحلية (3/ 280)، والسير (4/ 456).(1/129)
وفي رواية عنه قال: ختمت على ابن عباس تسع عشرة ختمة كلها يأمرني أكبر فيها (1).
5 - شغفه بالسفر والترحال وحبه لرؤية العجائب والغرائب:
إن مما لا شك فيه أن التغرب عن الأوطان، والتنقل بين البلدان ذو أثر مفيد على المتلقي لتعدد المصادر بكثرة من يلقاهم خلال ترحاله، ورحم الله الإمام الشافعي حيث يقول:
__________
(1) غاية النهاية (2/ 42)، وإبراز المعاني (735)، والنشر (2/ 415).
مسألة التكبير: ورد فيها حديث مرفوع ساقه الحاكم في مستدركه (3/ 304) وصحح إسناده، ولم يوافقه الذهبي حيث قال: فيه البزي وقد تكلم فيه، وكذا قال ابن الملقن في مختصره (4/ 1958) 688، وحكم أبو حاتم بالنكارة على هذا الحديث، ينظر العلل لابن أبي حاتم (2/ 77) 1721، وأخرجه البيهقي في الشعب، وساقه بخمسة أسانيد من 20812077، كلها من طريق البزي، ينظر شعب الإيمان (2/ 371370).
وأخرجه بسنده ابن الباذش في الإقناع في القراءات السبع (819)، من طريق البزي أيضا، ثم قال أبو جعفر (ابن الباذش): والتكبير موقوف على ابن عباس، ولم يرفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم غير البزي. وكذا رواه أبو شامة المقدسي في إبراز المعاني (735) بإسنادين، من طريق البزي، ونقلا قولا لأبي العلاء أن الرواية والإجماع في ذلك عن ابن عباس ومجاهد.
وذكر ابن الجزري في النشر (2/ 414)، والتقريب (191) عن أبي العلاء الهمداني أن التكبير لم يرفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم إلا البزي، والناس وقفوه على ابن عباس ومجاهد.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: والتكبير المأثور عن ابن كثير ليس هو مسندا عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يسنده أحد إلى النبي صلى الله عليه وسلم إلا البزي، وخالف بذلك سائر من نقله، فإنهم إنما نقلوه اختيارا ممن هو دون النبي صلى الله عليه وسلم وانفرد هو برفعه، وضعفه نقلة أهل العلم بالحديث والرجال من علماء القراءة وعلماء الحديث، ينظر مجموع الفتاوى (17/ 130).
والبزي: هو أحمد بن محمد بن عبد الله البزي، قال الذهبي: مقرئ مكة ثقة في القراءة، وأما في الحديث فقال العقيلي: منكر الحديث، وضعفه أبو حاتم، ينظر المغني في الضعفاء (1/ 55)، والضعفاء الكبير (1/ 127)، والجرح (2/ 71)، والضعفاء لابن الجوزي (1/ 86).(1/130)
تغرب عن الأوطان في طلب العلا ... وسافر، ففي الأسفار خمس فوائد
تفريج هم، واكتساب معيشة ... وعلم، وآداب، وصحبة ماجد (1)
وقد كان مجاهد مولعا بكثرة الترحال، وحب الأسفار، متطلعا إلى الوقوف على حقائق الأخبار، شغوفا بمعاينة ما يسمعه عن عجائب الآثار أخذا بقول القائل:
يا ابن الكرام ألا تدنو فتبصر ما ... قد حدثوك فما راء كمن سمعا
وفي ذلك يقول الأعمش: كان مجاهد لا يسمع بأعجوبة إلا ذهب ينظر إليها، قال: وذهب إلى حضرموت إلى بئر برهوت، قال: وذهب إلى بابل، قال: عليها وال صديق لمجاهد، قال: فقال مجاهد: تعرض على هاروت وماروت، قال: فدعا رجلا من السحرة، فقال: اذهب بهذا، واعرض عليه هاروت وماروت. فقال اليهودي:
بشرط ألا تدعو الله عندهما، قال مجاهد: فذهب بي إلى قلعة، فبلغ (2) منها حجرا، قال: ثم قال: خذ برجلي فهوى حتى انتهى إليهما، فإذا هما معلقان منكسان كالجبلين العظيمين فلما رأيتهما قلت: سبحان الله خالقكما! فاضطربا، قال فكأن جبال الدنيا قد تدكدكت، قال: فغشي عليّ، وعلى اليهودي، قال: ثم أفاق اليهودي قبلي، فقال:
قم، قد أهلكت نفسك وأهلكتني (3).
يضاف إلى ذلك أنه رحمه الله كان كثير الأسفار، وفي هذا يقول الإمام الذهبي:
وكان كثير الأسفار، والتنقل (4).
__________
(1) ديوان الشافعي ص (41).
(2) وفي رواية الذهبي في السير «فقطع» (4/ 456).
(3) الحلية (3/ 288)، والسير (4/ 456).
وقد ساق هذه الرواية الذهبي في موضع آخر مختصرا (4/ 455)، وينظر التذكرة (1/ 92)، والبداية والنهاية (9/ 252).
(4) السير (4/ 452).(1/131)
6 - كتابته للتفسير:
كان رحمه الله حريصا على تدوين ما يسأل عنه من الآيات، وقد ساعد ذلك على حفظ تفسيره، وبقائه، فعن ابن أبي مليكة قال: رأيت مجاهدا يسأل ابن عباس عن تفسير القرآن، ومعه ألواحه، فيقول له ابن عباس: اكتب، قال: حتى سأله عن التفسير كله (1).
وعبيد المكتب قال: رأيتهم يكتبون التفسير عند مجاهد (2).
ولهذا عدّ مجاهد من أوائل من دوّن التفسير (3).
7 - عناية أصحابه بنقل تفسيره:
يعد التلميذ صورة لشيخه، ووسيلة من وسائل بث علمه، فإذا قيض الله للعالم تلاميذ بررة، حفظوا أثره، ونشروا خبره، كثرت الرواية عنه، وهذا سر حفظ تراث بعض السلف دون بعض، ولقد كان مجاهد رحمه الله من أولئك الأئمة الذين تيسر لهم أصحاب عنوا بالأخذ عنهم وتفرغوا، وتخصصوا في نقل تراثهم، ومن أبرز تلاميذه: ابن أبي نجيح.
وهو عبد الله بن أبي نجيح الثقفي، قال الإمام الذهبي: هو من أخص الناس بمجاهد (4)، وبتتبع المروي عن مجاهد، تبين أن ابن أبي نجيح تخصص في نقل معظم المروي من تفسير مجاهد (5).
__________
(1) تفسير الطبري (1/ 90) 107.
(2) تقييد العلم للخطيب (105)، وسنن الدارمي (1/ 128)، وتاريخ ابن معين (2/ 550).
(3) إحياء علوم الدين (1/ 79)، وتاريخ التمدن الإسلامي (1/ 221).
(4) السير (6/ 126).
(5) بعد مراجعتي لتفسير الطبري، وجدت أن ابن أبي نجيح روى (56، 0) من مجموع تفسيره، وابن جريج روى (15، 0) من مجموع تفسيره.(1/132)
ويأتي في المرتبة الثانية في العناية بتفسير مجاهد ابن جريج عبد الملك بن عبد العزيز ابن جريج القرشي، قال الإمام الذهبي: أخذ عن مجاهد حرفين من القراءات (1).
وكان ابن جريج يقول: لأن أكون سمعت عن مجاهد، فأقول سمعت مجاهدا أحبّ إلي من أهلي، ومالي (2).
8 - التوسع في الاجتهاد، والقدرة على الاستنباط:
استفاد مجاهد كثيرا من شيخه ابن عباس، وأخذ عنه التفسير كله، فانشغل في توظيف هذا المستفاد، مع ما عنده من ملكة عقلية وقدرة اجتهادية في التصدي للتفسير، وقد اشتغل بالدراية أكثر من الرواية (وقد سبقت الإشارة إلى أن مجاهدا من أقل تلاميذ ابن عباس رواية عنه مع إنه من أكثرهم أخذا عنه).
وامتاز مجاهد عن سائر أقرانه من المفسرين بأنه أعطى لفهمه وعقله كثيرا من حرية النظر، والتأمل، وهو من أوائل من أدخل التفسير بالاجتهاد في التفسير المأثور (3).
وقد أخرج أبو نعيم بسنده، عن الأعمش، عن مجاهد قال: أفضل العبادة الرأي الحسن (4) ولما قدم الكوفة، واستقر فيها، كان من أسهلهم في القياس، والرأي:
مجاهد، ومن أشدهم الشعبي (5).
وكان دائم التفكر والتأمل، حتى إن الناظر له يحسبه مغتما يقول الأعمش: كنت
__________
(1) السير (6/ 326).
(2) المرجع السابق (4/ 451).
(3) القرآن العظيم هدايته وإعجازه في أقوال المفسرين (197)، وينظر ما ذكره الذهبي في التفسير والمفسرون (1/ 106)، ود. محيي الدين بلتاجي، في كتابه دراسات في التفسير وأصوله (57).
(4) الحلية (3/ 293)، وتأويل مختلف الحديث (69)، والبداية (9/ 252).
(5) تأويل مختلف الحديث (69).(1/133)
إذا رأيت مجاهدا ازدريته متبذلا، كأنه خربندج ضل حماره وهو مغتم (1)، ثم قال:
فإذا نطق خرج من فيه اللؤلؤ (2).
فهذا الاهتمام، والنظر الدائم عنده جعله من أكثر التابعين على الإطلاق توسعا في الاجتهاد، ومن أكثرهم إعمالا للرأي في التفسير، ولذا كان من أكثرهم تعرضا لحل مشكل القرآن، فكثر المروي عنه في ذلك، حتى أغرب في بعضه، وهذا مما جعل بعض الأئمة يعتب عليه، فقد قال الإمام الذهبي في معرض ترجمته: لمجاهد أقوال وغرائب في العلم والتفسير تستنكر (3).
ولقد كان في بعض تفاسيره مستمسك لبعض الفرق الضالة، وفي ذلك يقول الأستاذ موسى لاشين: وهذا مما جعل بعض الفرق الضالة كالمعتزلة تستأنس برأيه في بعض تلك الأقوال (4).
9 - حافظته:
ومما تميز به رحمه الله قدرته على حفظ ما يسمعه، فلقد وهبه الله من ملكة الحفظ ما ساعده على استيعاب ما يسمع، وقياس غيره عليه.
فعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: وددت أن ابني سالما، وغلامي نافعا، يحفظان حفظك (5).
__________
(1) طبقات ابن سعد (5/ 466)، والمعرفة (1/ 711)، والحلية (3/ 279)، وصفوة الصفوة (2/ 117)، والمراد كأنه فلاح ضل حماره فاغتم لذلك والله أعلم.
(2) ميزان الاعتدال (3/ 440)، والتذكرة (1/ 92).
(3) السير (4/ 455).
(4) اللآلي الحسان في علوم القرآن (336).
(5) تاريخ ابن معين (2/ 551)، والعبر (1/ 95)، وطبقات الحفاظ (35)، ورواه الإمام أحمد في العلل بلفظ مقارب (1/ 362) 687.(1/134)
وعن مجاهد قال: كنت أتحدى الناس بالحفظ (1).
10 - عدم دخوله في الفتن:
كان رحمه الله يكره الدخول في الفتن (2)، ويؤثر السلامة منها، ولما عاب عليه بعضهم عدم شهوده موقعة الجماجم قال رحمه الله: من الخير تخلفت عنها (3).
11 - تأخر وفاته:
إن طول العمر مع حسن العمل عامل من عوامل السبق، وقد جاوز مجاهد الثمانين، فكان لذلك أثر على التلقي عنه، والنهل من معينه، فحاز بذلك قصب السبق في التفسير.
فعن ابن جريج قال: بلغ مجاهد ثلاثا وثمانين سنة (4).
وقد اختلف في سنة وفاته، فقال الهيثم بن عدي: مات سنة مائة، وقال يحيى بن بكير: مات سنة إحدى ومائة، وقال أبو نعيم: مات سنة اثنتين (5)، وقال أحمد: مات سنة ثلاث (6).
وقال ابن حبان: مات بمكة سنة اثنتين، أو ثلاث ومائة، وهو ساجد وكان مولده سنة إحدى وعشرين في خلافة عمر (7)، وقال يحيى القطان: مات سنة أربع ومائة (8)، وهو
__________
(1) تاريخ مصر وولاتها للكندي (39)، والمستدرك (3/ 495)، وتاريخ دمشق (16/ 458).
(2) العلل لأحمد (2/ 78) 1607.
(3) المعرفة والتاريخ (1/ 711)، ومختصر تاريخ دمشق (24/ 90).
(4) طبقات ابن سعد (5/ 467)، والكامل في التاريخ (5/ 76)، ومرآة الجنان (1/ 243)، والشذرات (1/ 125).
(5) تهذيب التهذيب (10/ 43).
(6) طبقات خليفة (280)، والتاريخ الكبير (7/ 411)، والتاريخ الصغير (1/ 242)، والعبر (1/ 94)، ومرآة الجنان (1/ 243)، والشذرات 1/ 125).
(7) مشاهير علماء الأمصار (82)، والثقات (5/ 419).
(8) تاريخ خليفة (330)، والتهذيب (10/ 43).(1/135)
ساجد (1)، تغمده الله بواسع رحمته.
لهذه الأسباب وغيرها كان مجاهد رحمه الله من أكثر التابعين تعرضا للتفسير، والله أعلم
* * * __________
(1) الثبات عند الممات (138).(1/136)
سعيد بن جبير
هو سعيد بن جبير بن هشام الأسدي، مولى بني والبة (1)، أبو عبد الله (2). روى عن أنس بن مالك، وعبد الله بن الزبير، وابن عباس، وعبد الله بن عمر، وعدي بن حاتم، وأبي سعيد الخدري، وأبي موسى الأشعري، وأبي هريرة، وعائشة (3).
وقد اختلفت عبارات أهل العلم في نسبته المكانية، فمنهم من نسبه إلى الكوفة، وهم الأكثرون، قاله ابن سعد (4)، وابن معين (5)، وأبو زرعة الرازي (6)، والعجلي (7)، والكلاباذي (8)، وابن القيم (9)، وابن الجوزي (10)، وابن الجزري (11)، وابن حجر (12).
__________
(1) وفيات الأعيان (2/ 371)، والأنساب للسمعاني (3/ 188)، واللباب في تهذيب الأنساب (3/ 35).
(2) الكنى لمسلم (ق 60)، والكنى للدولابي (2/ 56)، وتهذيب الأسماء واللغات (1/ 216).
(3) تهذيب الكمال (10/ 358)، والتهذيب (4/ 11).
(4) طبقات ابن سعد (6/ 256).
(5) تاريخ ابن معين (2/ 197).
(6) الجرح (4/ 10).
(7) تاريخ الثقات (181).
(8) رجال صحيح البخاري (1/ 282).
(9) أعلام الموقعين (1/ 20).
(10) كتاب القصص (248).
(11) غاية النهاية (1/ 305).
(12) التهذيب (4/ 11)، والتقريب (234).(1/137)
وذهب آخرون إلى عده مكيا، منهم خليفة بن خياط (1)، وابن عبد البر (2)، وابن حبان (3)، وابن كثير (4)، والذي يهمنا هنا النظر إلى مسلكه، ومنهجه، ولأي المدارس يمكن أن يضاف بهذا الاعتبار.
فعند الرجوع لتفسيره نلمس تأثره البالغ بإمام المدرسة المكية ابن عباس رضي الله عنهما وغلبة المنهج المكي على مسلكه عموما، ويتضح هذا من خلال ما يلي:
1 - كثرة روايته لتفسير ابن عباس:
كان من أكثر مفسري التابعين اهتماما ونقلا عن ابن عباس (5) رضي الله عنهما وقد لاحظ ابن عباس رضي الله عنهما هذا الاهتمام والتوجه، فكان يوصيه بقوله:
انظر كيف تحدث عني، فإنك قد حفظت عني حديثا كثيرا (6).
ولذا قال ابن خلكان: سمع من ابن عباس التفسير، وأكثر روايته عنه (7). وقال الذهبي وابن الأثير: روى عن ابن عباس فأكثر وجوّد (8) وعدّه ابن كثير: من أكابر أصحاب ابن عباس (9)، وكان رحمه الله من أكثر تلاميذ ابن عباس دقة، وتحريا في نقله عن شيخه، يقول علي بن المديني: وأصحاب ابن عباس، الذين يذهبون مذهبه،
__________
(1) طبقات خليفة (280).
(2) العقد الثمين (4/ 550).
(3) مشاهير علماء الأمصار (82).
(4) البداية (9/ 108).
(5) بعد مراجعتي للطبري، وجدت أن المروي عن ابن عباس بلغ (5809) روايات كان نصيب ابن جبير ما نسبته (12، 0) من مجموع تفسيره، في حين كان نسبة ما رواه عنه عكرمة (09، 0)، وما رواه مجاهد (03، 0)، وما رواه عطاء (02، 0) من مجموع تفسيره.
(6) طبقات ابن سعد (6/ 257).
(7) وفيات الأعيان (2/ 371)، والشذرات (1/ 108).
(8) السير (4/ 322)، واللباب في تهذيب الأنساب (3/ 350).
(9) البداية (9/ 109).(1/138)
ويسلكون طريقه: عطاء، وطاوس، ومجاهد، وجابر بن زيد، وعكرمة، وسعيد، فأعلم هؤلاء سعيد بن جبير، وأثبتهم فيه (1).
ويقول أيضا: ليس في أصحاب ابن عباس مثل سعيد بن جبير قيل: ولا طاوس؟
قال: ولا طاوس، ولا أحد (2).
وفي مقابل هذا الاهتمام بنقل تفسير ابن عباس، نلحظ قلة روايته لتفسير ابن مسعود رضي الله عن الجميع (3).
2 - محبته لابن عباس، وحرصه على كتابة حديثه:
أحب سعيد شيخه ابن عباس حبا شديدا، فكان يقول: إن كان ابن عباس ليحدثني الحديث، فلو يأذن لي أن أقبل رأسه لفعلت (4). وكان حريصا على حفظ، وتدوين كل ما يسمعه من أستاذه، فعن أبي حصين قال: سألت سعيد بن جبير، قلت: أكل ما أسمعك تحدث سألت عنه ابن عباس؟ فقال: لا، كنت أجلس ولا أتكلم حتى أقوم، فيتحدثون فأحفظ (5).
وقد بلغت عنايته بالكتابة عن ابن عباس أن كتب عنه ودوّن علمه، فعن سعيد: أنه
__________
(1) العلل لابن المديني (49).
(2) المعرفة والتاريخ (2/ 147).
(3) بعد مراجعتي لتفسير الطبري، وجدت أن المروي عن ابن مسعود (856) رواية، جاء من طريق مرة الهمذاني (216) رواية، وعن مسروق (86) رواية، وعن إبراهيم النخعي (77) رواية، وعن أبي عبيدة (45) رواية، وعن شقيق بن سلمة، وعن زر بن حبيش (34)، ولم أجد لسعيد ابن جبير سوى أربع روايات هي الآثار: 14632، 14690، 17937 (30/ 226)، بل إن قتادة، ومجاهدا، كانا أكثر منه.
(4) طبقات ابن سعد (2/ 370)، وفضائل الصحابة لأحمد (2/ 951) 1841، والمعرفة والتاريخ (1/ 533، 540).
(5) طبقات ابن سعد (6/ 257).(1/139)
كان يسأل ابن عباس قبل أن يعمى، فلم يستطع أن يكتب معه، فلما عمي ابن عباس كتب، فبلغ ذلك ابن عباس، فغضب (1).
وكان يقول عن نفسه: ربما أتيت ابن عباس، فكتبت في صحيفتي حتى أملأها، وكتبت في نعلي حتى أملأها، وكتبت في كفي (2).
3 - كثرة تردده على مكة:
فمع عيشه في الكوفة، فقد كان كثير التردد، والترحال إلى مكة، يقول هلال بن خباب: خرجت مع سعيد بن جبير في أيام مضين من رجب فأحرم من الكوفة بعمرة، ثم رجع من عمرته، ثم أحرم بالحج في النصف من ذي القعدة، وكان يخرج كل سنة مرتين: مرة للحج، ومرة للعمرة (3).
بلغ به الحرص على التلقي عن ابن عباس أن كان يرحل إليه في المسألة، فعنه قال:
آية اختلف فيها أهل الكوفة فرحلت فيها إلى ابن عباس، فسألته عنها فقال: نزلت هذه الآية: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً} هي آخر ما نزل، وما نسخها شيء (4).
4 - الأثر المكي على منهجه في التفسير:
ومن الأدلة كذلك، ما نجده من التقارب، بل والتطابق في المنهج بين ابن جبير، وتابعي المدرسة المكية، ويتضح هذا التقارب، والتوافق في العديد من الجوانب التفسيرية، منها:
__________
(1) وفيات الأعيان (2/ 371)، ومرآة الجنان (1/ 225)، والبداية (9/ 108) والشذرات (1/ 108).
(2) العلل لأحمد (1/ 231) 89، وتاريخ أبي زرعة (1/ 619) وتقييد العلم (102).
(3) الزهد لأحمد (443)، والحلية (4/ 275)، والمنتظم (7/ 6)، وتهذيب الكمال (10/ 365)، والبداية (9/ 109).
(4) صحيح البخاري، كتاب التفسير، باب ومن يقتل مؤمنا متعمدا (5/ 182) وصحيح مسلم، كتاب التفسير (4/ 2317)، والرحلة للخطيب البغدادي (139).(1/140)
1 - التوسع في الرواية عن بني إسرائيل، على عكس المنهج الكوفي الحذر والبعيد عن هذا المصدر في التفسير (1).
2 - القول بوقوع المعرب في القرآن، وتفسير بعض الكلمات القرآنية بما علم من اللغات الأعجمية (2).
3 - عند تعرضه لحل مشكل القرآن، قال بقول المدرسة المكية في جل تأويلاته، ولم يقل بقول الكوفية إلا في القليل النادر.
4 - نقله للقراءات القرآنية: اهتم بقراءة ابن عباس، وبما روي عنه من توضيح للمعنى، وقال بقول ابن عباس وتلاميذه في أكثرها.
5 - في الجانب الفقهي الذي قد يظن فيه تأثره بمدرسة الرأي في الكوفة فإن الواقع كان غير هذا، فقد وجدت أنه يميل في تأويل آيات الأحكام في جملة كبيرة من تفسيره إلى قول ابن عباس.
هذه بعض أوجه الشبه، والتقارب، بين ابن جبير والمدرسة المكية، ومن خلال هذا وغيره، يقطع بأنه مكي المنهج، والمسلك، وأن إضافته على هذا الاعتبار لمدرسة الكوفة فيها بعد، وإن كان لا ينكر التأثير الذي أحدثه عيشه فترة من الزمن في الكوفة، ولعل من آثار ذلك:
أتميزه عن تلاميذ المدرسة المكية في العناية بالقراءات، حتى عدّ الثاني بين التابعين في ذلك بعد أبي العالية.
__________
(1) يأتي لذلك مزيد بحث بعد ورقات.
(2) لم يرد عن المدرسة الكوفية القول بوقوع المعرب إلا في القليل، وأما سعيد فأكثر من ذلك، كما صنع المكيون.(1/141)
ب تميز عن أقرانه المكيين بالاهتمام، والتقدم في الجانب الفقهي، فقد شغل هذا الاهتمام جزءا كبيرا من تأويلاته (1).
وهاتان الميزتان من أهم جوانب الأثر الكوفي في تفسير سعيد (2).
بعد هذا الاستعراض المجمل يحسن بنا تفصيل المقال بعض التفصيل مع الإفاضة في إيضاح أبرز المعالم المنهجية في تفسيره رحمه الله:
ابرز المناهج فى تفسيره
1 - تقدمه في معرفة القراءة:
وقد سبق أن ذكرنا أنه قرأ على ابن عباس رضي الله عنهما وعدّ من المتقدمين في القراءة، فعن أبي بكر بن أبي داود قال: ليس أحد بعد الصحابة أعلم بالقراءة من أبي العالية، وبعده سعيد بن جبير، ثم السدي، ثم سفيان الثوري (3).
وقال إسماعيل بن عبد الملك: كان سعيد يؤمنا في رمضان، فيقرأ ليلة بقراءة ابن مسعود، وليلة بقراءة زيد (4).
وعن سالم الأفطس، أن سعيد بن جبير كان يقرأ القرآن على حرفين (5).
وقد قرأ عليه أبو عمرو، والمنهال بن عمرو (6).
__________
(1) المكيون لم يكن لهم كبير عناية بالفقه والإقراء، كما هي الحال عند الكوفيين.
(2) ويأتي لذلك مزيد بسط إن شاء الله.
(3) تهذيب التهذيب (3/ 385)، والعبر (1/ 81)، ومرآة الجنان (1/ 214)، والشذرات (1/ 102).
(4) مصنف عبد الرزاق (4/ 266)، وغاية النهاية (1/ 305)، ومعرفة القراء الكبار (1/ 57)، ومرآة الجنان (1/ 225)، وطبقات المفسرين للداودي (1/ 182).
(5) تفسير الطبري (1/ 53) 53.
(6) غاية النهاية (1/ 305)، ومعرفة القراء (1/ 56)، وطبقات المفسرين للداودي (1/ 181).(1/142)
والمتأمل فيما روي عنه من قراءة (1) في التفسير يجد أن غالبه جاء في بيان معنى الآية، وإيضاح تأويلها. وكانت عنايته بهذا أكثر من عنايته بتصحيح نطقها.
وعلى الرغم من أنه كان يقرأ بقراءة زيد، وابن مسعود، إلا أن تأثره بقراءة ابن مسعود كان قليلا، ومال إلى ترجيح معاني كثير من الآيات بما ورد من قراءة عن ابن عباس (2).
ويلاحظ من خلال النظر، والتتبع لما ورد عنه من قراءات، أنه قل أن يسندها لأحد، إنما تروى على أنها من قراءته. من ذلك ما جاء عنه عند قوله تبارك وتعالى:
{وَكَذََلِكَ نُصَرِّفُ الْآيََاتِ وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ} (3). فعن أبي بشر، عن سعيد بن جبير أنه قرأ: «دارست»، وقال: قارأت (4).
وعند قوله جل وعلا: {وَلََا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتََّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيََاطِ} (5)، قرأ سعيد «حتى يلج الجمّل» بضم الجيم وتشديد الميم، وقال سعيد بعد أن قرأ: الجمّل:
يعني قلوس السفن، يعني: الحبال الغلاظ (6). وكان يراجع ابن عباس رضي الله عنهما
__________
(1) رجعت إلى تفسير الطبري، فوجدت أن المروي عنه (24) رواية.
(2) وللوقوف على بعض المواطن التي وافق فيها ابن عباس تنظر الآثار التالية في تفسير الطبري:
2770، 8137، 8327، 9043، 11675، 13721، 13722، 13723، 14642، 18380، والصفحات (13/ 257)، (18/ 109)، (18/ 133).
(3) سورة الأنعام: آية (105).
(4) تفسير الطبري (12/ 29) ت 13721، وتفسير الماوردي (2/ 154)، وتفسير القرطبي (7/ 39)، وتفسير ابن كثير (3/ 305)، وقد تبع في ذلك ابن عباس حيث قرأها «دارست» وفسرها بقوله: قارأت وتعلمت، ينظر تفسير الطبري (12/ 28) الآثار من 13713إلى 13719.
(5) سورة الأعراف: آية (40).
(6) تفسير الطبري (12/ 432) 14642، وتفسير الماوردي (2/ 223)، وتفسير القرطبي (7/ 133)، والبحر المحيط (4/ 297)، وتفسير ابن كثير (3/ 410).
وقد تبع في ذلك ابن عباس، كما هي عند الطبري (12/ 431) 1437، وخالف ابن مسعود، حيث قرأ: «حتى يلج الجمل الأصفر»، ينظر تفسير الطبري (12/ 430) 14632.(1/143)
في قراءة أصحاب عبد الله، فعنه قال: قلت لابن عباس: إن أصحاب عبد الله يقرءون «وإذ أخذ ربك من الذين أوتوا الكتاب ميثاقهم» (1) قال: من النبيين على قومهم (2).
2 - الاهتمام بتفسير آيات الأحكام والإكثار من ذلك:
لعل عيشه في الكوفة كان من الأسباب التي أظهرت هذا الاهتمام في نفسه، حتى تميز بين مفسري مكة بهذا الجانب (3) ومما يلمحه الناظر في تأويله، أنه مع عيشه في الكوفة، وعد بعض الأئمة إياه من فقهائها، فإنه مال إلى ترجيح، واختيار أقوال ابن عباس رضي الله عنهما ومال إلى مذهب المكيين أكثر من ميله إلى قول الكوفيين (4).
ولم يقل بقولهم إلا في القليل النادر (5).
بل إنه تقدم في هذا الجانب على غيره من تلاميذ ابن عباس، وعد في هذا أعلم منهم (6). وكان بعضهم يرجع عن قوله إلى قول سعيد، فعند قوله تعالى: {أَوْ يَعْفُوَا}
__________
(1) عند قوله جل وعلا: {وَإِذْ أَخَذَ اللََّهُ مِيثََاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتََابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنََّاسِ} سورة آل عمران: آية (187).
(2) تفسير الطبري (7/ 461) 8327، وفي رواية أخرى عند الطبري عن سعيد قال: قلت لابن عباس: {وَإِذْ أَخَذَ اللََّهُ مِيثََاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتََابَ}، {وَإِذْ أَخَذَ اللََّهُ مِيثََاقَ النَّبِيِّينَ}، قال: فقال:
أخذ الله ميثاق النبيين على قومهم. المصدر السابق (7/ 461) 8328.
(3) يأتي سعيد في المرتبة الثانية في المدرسة المكية بعد عطاء بن أبي رباح من حيث الإكثار في تأويل آيات الأحكام، فقد روى عنه عند الطبري أكثر من (82) رواية، أي: ما نسبته (09، 0) من مجموع تفسيره.
(4) لمزيد من الأمثلة تراجع الآثار في الطبري: 2613، 2880، 2887، 3195، 3208، 4220، 4438، 4445، 4523، 4818، 7467، 8606، 8610، 8615، 8619، 8665، 8698، 8703، 9420، 11399، 11839، 11843، 12631، 12634، 12646، 12647، وغيرها.
(5) كما جاء ذلك في الآثار 3216، 3368، 3369، 12400، 12401.
(6) الجرح (4/ 10).(1/144)
{الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكََاحِ} (1) قال سعيد: هو الزوج، وقال مجاهد، وطاوس: هو الولي، فقال أبو بشر لسعيد: فإن مجاهدا وطاوسا يقولان: هو الولي؟ قال سعيد:
أرأيت لو أن الولي عفا وأبت المرأة، أكان يجوز ذلك؟ فرجعت إليهما، فحدثتهما، فرجعا عن قولهما، وتابعا سعيدا (2).
بل كان هو المقدم، حتى في الكوفة، فعن جعفر بن أبي المغيرة قال: كان ابن عباس بعد ما ذهب بصره إذا أتاه أهل الكوفة يسألونه يقول: أليس فيكم ابن أم الدهماء؟! يعني: سعيد بن جبير (3).
وقال مغيرة بن مقسم: ما كان مفتي الناس بالكوفة قبل الجماجم إلا سعيد بن جبير كان قبل إبراهيم (4).
وكان ابن عمر يسأل عن الفرائض، فيحيل السائل على سعيد (5).
وكان إبراهيم النخعي يقول بعد وفاة سعيد: ما خلف سعيد بعده مثله (6). وقال ميمون بن مهران: لقد مات سعيد، وما على الأرض أحد إلا وهو محتاج إلى علمه (7). ولذا كان يعد في زمانه جهبذ العلماء (8).
__________
(1) سورة البقرة: آية (237).
(2) تفسير الطبري (5/ 155)، 5346، 5348، 5349، والمصنف لابن أبي شيبة (4/ 281)، والجرح (4/ 10)، والسنن الكبرى للبيهقي (8/ 251)، وأورده السيوطي في الدر، وعزاه إلى ابن أبي شيبة بنحوه (1/ 699).
(3) الجرح (4/ 9)، وتهذيب الأسماء (1/ 216)، وتهذيب الكمال (10/ 364)، والعقد الثمين (4/ 550)، وطبقات الحفاظ (31).
(4) المعرفة (1/ 713).
(5) المعرفة (1/ 713).
(6) طبقات ابن سعد (6/ 258)، وأخبار القضاة (2/ 411)، والجرح (4/ 9)، وتهذيب الأسماء (1/ 216).
(7) تاريخ الإسلام (ح 95هـ / 367).
(8) المعرفة (1/ 712)، وتاريخ ابن معين (2/ 197)، وفيات الأعيان (2/ 374)، وطبقات الحفاظ (31)، والعقد الثمين (4/ 550).(1/145)
وأختم هذا المبحث بالتنبيه على أن سعيدا وإن عاش في الكوفة فقد غلب الأثر في تأويله لآيات الأحكام على الرأي (1)، ولذا نجد بعض أئمة الحديث مثل سفيان الثوري، يقدم فقهه، وآراءه على فقه إبراهيم النخعي (2).
3 - تساهله في الرواية عن بني إسرائيل:
كان رحمه الله من أكثر مفسري مكة توسعا في ذلك (3)، وكان محبا للقص، والتحديث بالأخبار، فعن أبي شهاب قال: كان سعيد بن جبير يقص لنا كل يوم مرتين بعد صلاة الفجر، وبعد العصر (4).
وقد أفضى به ذلك إلى إيراد شيء من الروايات الغريبة والمنكرة فمن ذلك ما جاء عند تأويله قوله تعالى: {لَوْلََا أَنْ رَأى ََ بُرْهََانَ رَبِّهِ} (5) قال: رأى صورة فيها وجه يعقوب، عاضا على أصابعه، فدفع في صدره فخرجت شهوته من أنامله، فكل ولد يعقوب ولد له اثنا عشر رجلا، إلا يوسف، فإنه نقص بتلك الشهوة، ولم يولد له غير أحد عشر (6).
وعند قوله تبارك وتعالى: {وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغََاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنََادى ََ}
__________
(1) الجرح (4/ 10)، وتاريخ أسماء الثقات لابن شاهين (98)، والتذكرة (1/ 76)، وطبقات المفسرين للداودي (1/ 181).
(2) التاريخ الكبير (3/ 461)، وتهذيب الأسماء (1/ 216).
(3) بعد مراجعة تفسير الطبري، وجدت أن نسبة ما رواه سعيد بن جبير من ذلك بلغت (06، 0) من مجموع تفسيره، في حين بلغ المروي عن مجاهد وعكرمة (03، 0) من مجموع تفسيريهما، وعن عطاء ما نسبته (01، 0) من مجموع تفسيره.
(4) طبقات ابن سعد (6/ 259)، والمنتظم (7/ 6)، والزهد لأحمد (5/ 2)، وكتاب القصاص لابن الجوزي (249)، والحلبية (4/ 249).
(5) سورة يوسف: آية (24).
(6) تفسير الطبري (16/ 43) 19052، وتفسير الماوردي (3/ 25)، وتفسير البغوي (2/ 420)، وزاد المسير (4/ 208)، وتفسير القرطبي (9/ 112)، وأورده السيوطي في الدر، وعزاه إلى ابن أبي جرير، وابن أبي حاتم، وأبي الشيخ، عن سعيد به 4/ 521).(1/146)
{فِي الظُّلُمََاتِ أَنْ لََا إِلََهَ إِلََّا أَنْتَ سُبْحََانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظََّالِمِينَ} (1) قال: بعثه الله يعني:
يونس إلى أهل قريته فردّوا عليه ما جاءهم به، وامتنعوا منه، فلما فعلوا ذلك أوحى الله إليه إني مرسل عليهم العذاب في يوم كذا وكذا، فاخرج من بين أظهرهم فأعلم قومه الذي وعده الله من عذابه إياهم، فقالوا: ارمقوه فإن خرج من بين أظهركم، فهو والله كائن ما وعدكم، فلما كانت الليلة التي وعدوا بالعذاب في صبحها أدلج ورآه القوم، فخرجوا من القرية إلى براز من أرضهم وفرّقوا بين كل دابة، وولدها، ثم عجوا إلى الله، فاستقالوه، فأقالهم، وتنظّر يونس الخبر عن القرية، وأهلها، حتى مرّ به مار، فقال: ما فعل أهل القرية؟ فقال: فعلوا أن نبيهم خرج من بين أظهرهم، عرفوا أنه صدقهم ما وعدهم من العذاب، فخرجوا من قريتهم إلى براز، فخرج يونس ينظر العذاب فلم ير شيئا قال: جرّبوا على كذبا، فذهب مغاضبا لربه حتى أتى البحر (2).
ومع أن ابن جبير عاش في الكوفة زمنا، إلا أنه لم يتأثر بمدرستها في هذا الجانب إلا قليلا حيث إنها من أكثر المدارس بعدا عن نقل أخبار بني إسرائيل.
ولعل ابن جبير قد تأثر في هذا بشيخه ابن عباس رضي الله عنهما لا سيما وأنه من أكثر الناقلين عن ابن عباس للإسرائيليات بل إن جلّ المروي في الإسرائيليات عن ابن عباس جاء من رواية ابن جبير وكان من أكثر المكيين رواية وعناية بها (3).
__________
(1) سورة الأنبياء: آية (87).
(2) تفسير الطبري (17/ 77).
وللمزيد من الأمثلة تراجع الآثار: 13451، 15364، 15365، 15366، 15511، 17359، 18341، 19045، 19066، 19078، 19079، 19082، 19431، 19432، 19433، 19436، 19731، (13/ 145)، (15/ 35)، (16/ 222)، (17/ 26)، (22/ 51)، (23/ 103)، (23/ 104)، (30/ 294).
(3) المروي عن ابن عباس من أخبار بني إسرائيل أكثر من (352) رواية، جاء ما يزيد عن (26، 0) منها من رواية ابن جبير، في حين بلغ المروي من طريق عكرمة (10، 0) ومن طريق مجاهد (03، 0) فقط.(1/147)
وابن جبير يعد الثاني بعد مجاهد في المدرسة المكية، ومن أهل الأسباب التي أعانته على التقدم في باب التأويل ما يلي:
اهم الاسباب التى اعانته على التقدم فى باب التاويل
1 - قربه من ابن عباس:
فكان من أكثر مفسري المدرسة المكية كتابة، وحفظا، وإتقانا لما يرويه عنه (1).
وقد بلغ من اطمئنان ابن عباس إليه أنه كان يأمره بالحديث وهو شاهد حاضر، فعن مجاهد قال: قال ابن عباس لسعيد بن جبير: حدّث، فقال: أحدث وأنت هاهنا، فقال: أوليس من نعمة الله عليك أن تتحدث وأنا شاهد، فإن أصبت فذاك، وإن أخطات علمتك (2).
2 - حرصه على نشر علمه:
كان رحمه الله محبا لتبليغ ما علم، ويتحزن حين لا يسأل، فعن عطاء بن السائب، قال: قال لي سعيد بن جبير، ألا تعجب أن أمكث من الجمعة إلى الجمعة ما يسألني أحد عن شيء (3).
وكان يقول: سلوني يا معشر الشباب، فإني قد أوشكت أن أذهب من بين أظهركم (4).
وكان يقول: وددت أن الناس أخذوا ما عندي من العلم، فإنه مما يهمني (5).
__________
(1) سبق الإشارة إلى ذلك.
(2) طبقات ابن سعد (6/ 256)، والجرح (4/ 9)، وتهذيب الأسماء (1/ 216)، ووفيات الأعيان (2/ 371)، ومرآة الجنان (1/ 225).
(3) العلل لأحمد (1/ 182) 144، ورواه ابن سعد مختصرا (6/ 259)، وابن أبي شيبة في المصنف (9/ 46) 6466، وطبقات المحدثين بأصبهان (1/ 318).
(4) مصنف عبد الرزاق (5/ 105)، والمعرفة (1/ 713).
(5) الحلية (4/ 283)، وتهذيب الكمال (10/ 367)، والبداية (9/ 109).(1/148)
ولما أنكر عليه بعض فقهاء الكوفة حرصه هذا، أخبر بأن ذلك أحب إليه من كتمه، وذهابه به معه إلى قبره فعن حبيب قال: كان أصحاب سعيد بن جبير يعذلونه (1)
يحدث، فقال: إني أحدثك وأصحابك، أحب إلي من أن أذهب به معي إلى حفرتي (2).
وعن كثير بن كثير قال: كنت أنا وعثمان بن أبي سليمان في أناس مع سعيد بن جبير ليلا، فقال سعيد بن جبير للقوم: سلوني قبل ألا تسألوني، فسأله القوم، فأكثروا (3).
3 - قربه من عكرمة:
فقد أفاد سعيد من تلك العلاقة بينه، وبين عكرمة، الذي كان متزوجا بأم سعيد (4)، ولذا نجد تقاربا كبيرا بينهما في كثير من التأويلات (5).
4 - كتابته للتفسير:
وهذا مما ساعد على حفظ تفسيره، فكان رحمه الله يكتب ويحرص على تدوين ما يسمعه، خشية نسيانه، مع أن الكتابة عن الصحابة كانت قليلة، وكان بعضهم لا يرضى أن يكتب رأيه وعلمه، وكان يكتب عن ابن عمر في صحيفة، ويقول: لو علم بها كانت الفيصل بيني، وبينه (6).
__________
(1) عذل: عذلت الرجل: إذا لمته، ينظر مجمل اللغة (3/ 656)، والمصباح المنير (1/ 474).
(2) طبقات ابن سعد (6/ 258).
(3) تفسير الطبري (13/ 232).
(4) مشاهير علماء الأمصار (82)، والثقات (5/ 130)، وتاريخ دمشق (11/ 771) والسير (5/ 16).
(5) سوف يأتي تفصيل ذلك، عند الحديث عن أصحاب ابن عباس، والمقارنة بينهم في المدرسة المكية ص (402).
(6) طبقات بن سعد (6/ 258)، والمصنف لابن أبي شيبة (9/ 54) 6501، والسير (4/ 335).(1/149)
وكان بعض تلاميذه يكتبون عنه التفسير، فيقرهم على ذلك، فكان ابن يحيى يختلف إلى سعيد بن جبير، معه التفسير في كتاب، ومعه الدّواة يغير (1).
وقد كتب تفسيرا للقرآن، أرسل بنسخة منه إلى عبد الملك بن مروان بناء على طلبه، وقد انتشر تفسيره هذا في الشام ومصر، رواه عطاء بن دينار بعد أن أخذه من ديوان عبد الملك فأرسله عن سعيد (2).
ومع هذا القرب من ابن عباس، والحرص على نشر تراث تلك المدرسة إلا أن ثمة أسبابا وعوامل، كان لها الأثر في تقدم بعض أصحاب ابن عباس عليه، من أهمها:
اسباب وعوامل تقدم ابن جبير على ابن عباس
1 - عدم تخصصه في التفسير:
فمع تقدم سعيد في مدرسة مكة، إلا أن عدم تخصصه، وتفرغه لعلم التفسير، كحال مشاهير أقرانه (3)، كان له أثره في قلة نتاجه في علم التأويل خاصة، فقد اعتنى بعلوم أخرى حتى بلغ فيها شأوا لا يضاهى، مع اشتغاله بعلم التفسير.
وعند الرجوع إلى كتب التراجم نجد شاهد ذلك في تصدير كثير من الأئمة ترجمته، بأبرز العلوم التي تقدم فيها واهتم بها.
يقول أبو نعيم في صدر ترجمته: الفقيه البكاء (4).
وقال فيه ابن حيان: من عباد وفقهاء التابعين (5). وقدم الذهبي ترجمته بقوله:
المقرئ الفقيه (6).
__________
(1) طبقات ابن سعد (6/ 266)، والمعرفة (3/ 326)، والتاريخ الصغير (1/ 227).
(2) الجرح (6/ 332)، والتهذيب (7/ 198)، والفهرست لابن النديم (34)، ودراسات في الحديث النبوي (1/ 149).
(3) كمجاهد وعكرمة.
(4) الحلية (4/ 272).
(5) مشاهير علماء الأمصار (82).
(6) تذكرة الحفاظ (1/ 76).(1/150)
وقد أثنى عليه جمع من الأئمة لتميزه بين التابعين بجمع العديد من العلوم، والتقدم فيها، فعن خصيف بن عبد الرحمن قال: كان أعلمهم بالحج: عطاء، وأعلمهم بالطلاق: سعيد بن المسيب، وأعلمهم بالحلال والحرام: طاوس، وأجمعهم لهذا كله: سعيد بن جبير (1).
وقال النووي في ترجمته: سعيد من كبار أئمة التابعين ومتقدميهم في التفسير والحديث والفقه والعبادة (2).
وأثنى عليه ابن كثير بقوله: كان من ائمة الإسلام في التفسير والفقه وأنواع العلوم والتفسير (3).
وقال اليافعي: هو المقرئ الفقيه المحدث المفسر (4).
ومما لا شك فيه أن جمعه لهذه العلوم كان له الأثر في عدم تفرغه لعلم التفسير واشتغاله به.
2 - اشتغاله بالرواية عن ابن عباس رضي الله عنهما:
اهتم بنقل تفسير شيخه وروايته أكثر من اهتمامه بالدراية، وقد كان سعيد من أكثر مفسري مكة كتابة، وحفظا، وإتقانا لما يروي عنه أستاذها. ومن أكثرهم نقلا رواية لتفسير ابن عباس (5)، مع أنه من أقلهم بقاء في مكة! (6) بسبب رحلته إلى الكوفة،
__________
(1) تاريخ أبي زرعة (1/ 515)، ووفيات الأعيان (2/ 372)، ومرآة الجنان (1/ 225) والشذرات (1/ 108).
(2) تهذيب الأسماء واللغات (1/ 216).
(3) البداية (9/ 109).
(4) مرآة الجنان (1/ 225).
(5) روى ما نسبته (12، 0) من مجموع تفسير ابن عباس، في حين بلغ نسبة المروي من طريق عكرمة (09، 0)، وعن مجاهد (03، 0)، وعن عطاء (02، 0) من مجموع تفسيره رضي الله عنهما.
(6) خصوصا إذا ما قورن بمجاهد وعكرمة وعطاء.(1/151)
وبقائه فيها زمنا، ثم اشتراكه في فتنة ابن الأشعث، وغيرها، واختفائه طويلا عن الحجاج، ومع هذا كان من أكثر التلاميذ حرصا على رواية تفسير ابن عباس، وقد تميز منهجه في ذلك بالدقة، وشدة التحري في الرواية عامة، وعن شيخه خاصة، ولذا عده ابن المديني من أعلم تلاميذ ابن عباس، وأثبتهم فيه (1).
ومما يدل على شدة إتقانه، وضبطه في رواية السنن، والآثار، تقديم بعض الأئمة مراسيله على مراسيل غيره من أصحابه، وفي ذلك يقول يحيى بن سعيد: مرسلات سعيد بن جبير أحب إلي من مرسلات عطاء ومجاهد (2).
ولعله استفاد هذا المنهج الدقيق في التحري من مدرسة الكوفة التي عاش فيها، فإن الكوفيين من أكثر المدارس شدة، وتحريا في الرواية.
ومع أنه روى عن كثير من الصحابة، فقد كان يقدم ابن عباس على غيره في التفسير، ويقول: كان ابن عمر حسن السرد للرواية عن النبي صلى الله عليه وسلّم، ولم يبلغ في الفقه، والتفسير شأو ابن عباس (3).
وبلغ من كثرة روايته عن ابن عباس انفراده بين التابعين بإطلاق اسم عبد الله على ابن عباس، وأما إذا روى عن غيره فيقيد (4).
وكان يميل إلى رواية التفسير عن ابن عباس، ويعتني بها أكثر من عنايته بالاجتهاد، فقد سأله رجل أن يكتب له تفسير القرآن من تأويله، فغضب وقال: لأن يسقط شقي
__________
(1) العلل (49).
(2) التهذيب (4/ 14).
(3) الإرشاد في معرفة علماء الحديث (1/ 184).
(4) ذكر ذلك الإمام أحمد في كتاب العلل ومعرفة الرجال (2/ 1147) 1821.
وقد تميز بذلك بين التابعين لأن الغالب أن عبد الله إذا أطلق فإنما يراد به ابن مسعود رضي الله عن الجميع.(1/152)
أحب إليّ من ذلك (1).
وسأله رجل عن آية من كتاب الله، فقال سعيد: الله أعلم، فقال الرجل: قل فيها أصلحك الله برأيك، فقال: أقول في كتاب الله برأيي؟ فردد ذلك مرتين (2).
والناظر في تفسيره، يجد قلة مخالفته لأقوال شيخه (3) ولذا قل أن نجد لسعيد رأيا انفرد به واستغرب عليه.
3 - قلة المعتنين برواية تفسيره:
وهذا من الأسباب المشتركة بين جلة من التابعين، في قلة المروي عنهم، وهي عدم تفرغ، أو اشتغال، بعض التلاميذ في تدوين ورواية تفاسيرهم مما أفقدنا الكثير منها (4).
4 - ما وقع له من الفتن:
كان رحمه الله من جملة من خرج مع ابن الأشعث على الحجاج، فلما ظهر الحجاج، هرب سعيد إلى أصبهان، ثم كان يتردد في كل سنة إلى مكة مرتين، وربما دخل الكوفة في بعض الأحيان، فحدّث بها، واستمر على هذا الحال مختفيا من الحجاج قريبا من ثنتي عشرة سنة، ثم أرسله خالد القسري من مكة إلى الحجاج (5).
قال الذهبي: طال اختفاؤه، فإن قيام القراء على الحجاج كان سنة اثنتين
__________
(1) وفيات الأعيان (2/ 371).
(2) شعب الإيمان (2/ 425) 2285.
(3) يتضح ذلك عند مقارنة ذلك بمخالفات مجاهد، وعكرمة لابن عباس، وقلة ذلك عند سعيد.
(4) فمجاهد وقتادة وعطاء والسدي وجدوا من تخصص في العناية، بنقل ورواية تفاسيرهم، في حين أن آخرين: كعكرمة، وسعيد، وطاوس لم نجد من انقطع وتفرغ لنقل تفاسيرهم.
(5) البداية (9/ 109)، وكتاب المتوارين الذين اختفوا خوفا من الحجاج (58)، وكتاب الثبات عند الممات، ونهاية الأرب (21/ 322).(1/153)
وثمانين، وما ظفروا بسعيد إلا سنة خمس وتسعين (1)، فقتله الحجاج ظلما سنة 94 (2) هـ وقيل: 95هـ (3) وهو قول الجمهور، وهو ابن 49سنة (4)، ودفن بواسط رحمه الله (5).
* * * __________
(1) السير (4/ 337).
(2) رجال صحيح البخاري (1/ 283)، ورجال صحيح مسلم (1/ 238)، والمعارف (197)، ومروج الذهب (3/ 173).
(3) علل ابن المديني (89)، ومصنف ابن أبي شيبة (13/ 67) 15781، والتاريخ الصغير (1/ 210)، وتاريخ خليفة (307)، والوفيات لابن قنفذ (101)، وتاريخ الخميس (2/ 313)، ودول الإسلام (65).
(4) العلل لأحمد (2/ 441) 2951، وأخبار أصبهان (1/ 324)، وطبقات علماء الحديث (1/ 150)، وطبقات المحدثين الواردين على أصبهان (1/ 317)، وأخبار القضاة (2/ 412).
(5) معرفة القراء الكبار (1/ 56)، والغاية (1/ 306)، والشذرات (1/ 110)، ومرآة الجنان (1/ 226).(1/154)
عكرمة
هو عكرمة القرشي الهاشمي مولاهم، أبو عبد الله (1)، مولى لابن عباس، أصله من بربر المغرب، كان لحصين بن أبي الحر العنبري، فوهبه لابن عباس لما ولي البصرة لعلي ابن أبي طالب (2).
وعكرمة من أعلام المدرسة المكية، وقد نال من ثناء الأئمة من معاصريه، ومن بعدهم حظا لم ينله عالم قبله، ولا سيما في باب العلم بتفسير كتاب الله.
وفي ذلك يقول الشعبي: ما بقي أحد أعلم بكتاب الله من عكرمة (3).
وقال قتادة: أعلم الناس بالتفسير عكرمة (4).
وقيل لسعيد بن جبير: تعلم أحدا أعلم منك؟ قال: نعم! عكرمة (5).
ويقول جابر بن زيد: هذا عكرمة مولى ابن عباس، هذا البحر فسلوه (6).
__________
(1) الكنى للإمام مسلم (ق 60)، والكنى للدولابي (2/ 58).
(2) تهذيب الأسماء (1/ 341)، وتهذيب الكمال (20/ 264)، ووفيات الأعيان (3/ 265)، ورجال صحيح مسلم (2/ 109)، وتهذيب التهذيب (7/ 263).
(3) طبقات علماء الحديث (1/ 168)، والمنتظم (7/ 102)، والميزان (3/ 95)، وطبقات المفسرين للداودي (1/ 381)، ومعجم الأدباء (12/ 186).
(4) المعرفة والتاريخ (1/ 701)، والتمهيد (2/ 31)، ورياض النفوس (1/ 145)، وصفة الصفوة (2/ 104)، والبداية (9/ 275).
(5) رياض النفوس (1/ 145)، والحلية (3/ 326)، والتذكرة (1/ 96)، ووفيات الأعيان (3/ 265).
(6) طبقات ابن سعد (5/ 288)، والتاريخ الكبير (7/ 49)، والتمهيد (2/ 29)، وتهذيب الكمال (20/ 271).(1/155)
وقال أبو حاتم: أصحاب ابن عباس عيال في التفسير على عكرمة (1).
وعده ابن عبد البر من المقدمين بين سائر التابعين في التفسير والسير (2).
وكان لهذا التفوق أسباب من أهمها:
1 - طول ملازمته لابن عباس رضي الله عنهما وحبه له:
فقد لمس ابن عباس في عكرمة مخايل الذكاء والنجابة، فكان يحثه ويحرضه على التعلم، وبلغ من شدة حرصه على ذلك أن كان يقيده لتعلم العلم.
قال عكرمة: كان ابن عباس يضع في رجلي الكبل على تعليم القرآن، والسنن (3).
حتى إذا اطمأن إلى علمه، وفقهه، أمره بالانطلاق لإفتاء الناس، وفي ذلك يقول عن نفسه: قال ابن عباس رضي الله تعالى عنه لي: انطلق فأفت الناس، وأنا لك عون. قال: قلت: لو أن مع الناس مثلهم مرتين لأتيتهم، قال: انطلق فأفتهم، فمن جاءك يسألك عما يعنيه فأفته، ومن سألك عما لا يعنيه فلا تفته، فإنك تطرح ثلثي مؤنة الناس (4).
وعن عبد الرحمن بن حسان قال: سمعت عكرمة يقول: طلبت العلم أربعين سنة، وكنت أفتي بالباب، وابن عباس في الدار (5).
__________
(1) الجرح (7/ 9)، وتاريخ دمشق (11/ 779)، والتعديل والجرح (3/ 1023)، وتهذيب الأسماء واللغات (1/ 341).
(2) جامع بيان العلم وفضله (2/ 155).
(3) المعرفة والتاريخ (1/ 527)، وتاريخ دمشق (11/ 767)، والمنتظم (7/ 102)، وطبقات المفسرين للداودي (1/ 381)، والتحفة اللطيفة (3/ 206).
(4) الجرح (7/ 8)، وتاريخ دمشق (11/ 768)، والبداية (9/ 275).
(5) تاريخ دمشق (11/ 768)، والسير (5/ 14)، وطبقات الحفاظ (37).(1/156)
وكان لكثرة ملازمته لابن عباس يعرف ما يتقدم فيه ابن عباس على غيره، وما يتقدم فيه غيره عليه.
فكان يقول: ابن عباس أعلم بالقرآن من علي بن أبي طالب، وكان علي أعلم بالمبهمات (1).
2 - تقدمه في معرفة أسباب النزول:
من أبرز المعالم في تفسير عكرمة، عنايته، واهتمامه بعلم أسباب النزول، هذا العلم الذي يعد من أقوى الطرق لفهم معاني آيات القرآن. وقد تميز في ذلك عن غيره من التابعين (2).
وقد صرف عكرمة إلى هذا العلم معظم عنايته، وغاية جهده وطاقته، بل وجاء كثير مما روي عن ابن عباس في أسباب النزول من روايته ومن طريقه (3).
وبعد الرجوع إلى المصنفات في أسباب النزول، وجدت أن عكرمة من أكثر التابعين عناية، واعتمادا على معرفة الأسباب في تفسيره (4).
ومما يدل على اهتمامه بهذا، ما جاء عن حبيب بن أبي ثابت، قال: اجتمع عندي خمسة لا يجتمع مثلهم أبدا: عطاء، وطاوس، ومجاهد، وسعيد بن جبير،
__________
(1) طبقات ابن سعد (2/ 122)، والمعرفة (1/ 495، 527).
(2) بعد مراجعة تفسير الطبري، وجدت أن (14، 0) من مجموع تفسير عكرمة كان في بيان أسباب النزول، في حين بلغ عن سعيد بن جبير وقتادة (07، 0)، وعن مجاهد وعطاء (05، 0)، وعن الحسن (035، 0).
(3) المروي من تفسير ابن عباس في أسباب النزول جاء (25، 0) منه من رواية عكرمة، و (19، 0) من رواية سعيد بن جبير، و (02، 0) من رواية عطاء.
(4) بعد مراجعة كتابي أسباب النزول للواحدي، ولباب النقول للسيوطي، وجدت أن المروي عن عكرمة فيهما (127) رواية، في حين بلغت عن ابن جبير (104) روايات، وعن قتادة (86) رواية، وعن مجاهد، والسدي كل واحد منهما (72) رواية، وعن عطاء (33) رواية.(1/157)
وعكرمة، فأقبل مجاهد وسعيد يلقيان على عكرمة التفسير، فلم يسألاه عن آية إلا فسرها لهما، فلما نفد ما عندهما جعل يقول: أنزلت آية كذا في كذا، وآية كذا في كذا (1).
وعن أيوب السختياني قال: سألت عكرمة عن آية ونحن بالمدينة، فقال: نزلت في سفح ذلك الجبل، وأشار إلى سلع (2).
كما أنه فاق غيره من المكيين في معرفة المكي والمدني، وجاءت عنه العديد من الروايات في ذلك (3). وقد أعانه على هذا تقدمه في معرفة السير، والمغازي، وإتقانه لأحداث السيرة النبوية، على صاحبها أفضل الصلاة، وأتم التسليم.
فعن قتادة قال: كان عكرمة أعلمهم بسيرة النبي صلى الله عليه وسلم (4).
وعن عمرو بن دينار قال: كنت إذا سمعت عكرمة يحدث عنهم، كأنه مشرف عليهم ينظر إليهم (5).
وقال سفيان بن عيينة: والوجه الذي غلب فيه عكرمة: المغازي، وكان إذا تكلم، فسمعه إنسان قال: كأني به مشرف عليهم يراهم (6).
__________
(1) الحلية (3/ 326)، والسير (5/ 18)، وتهذيب الكمال (20/ 273)، وتهذيب التهذيب (7/ 266)، وتاريخ دمشق (11/ 772)، والبداية (9/ 275).
(2) العلل ومعرفة الرجال لأحمد (2/ 387) 2724، والحلية (3/ 327)، وتاريخ دمشق (11/ 773)، والبداية (9/ 275).
(3) جاء في المرتبة الثالثة بعد قتادة، والحسن حيث روي عنه في هذا بعد مراجعة زاد المسير (26) رواية، في حين كان المروي عن مجاهد (19) رواية، وعن عطاء (14) رواية، وعن سعيد بن جبير (3) روايات فقط.
(4) المعرفة والتاريخ (2/ 16)، والسير (5/ 17)، وتاريخ دمشق (11/ 771)، وطبقات الحفاظ (37).
(5) الحلية (3/ 327)، والمعرفة (2/ 6)، والبداية (9/ 275).
(6) الكامل لابن عدي (9/ 1906)، وتاريخ دمشق (11/ 770)، والسير (5/ 16)، والتهذيب (7/ 266).(1/158)
وكان هذا التقدم نتاج حرص، وجهد، ورغبة بذلها لمعرفة ما نزل، وما سببه، ومن نزلت فيه، ولنذكر واحدة من هذه الحوادث التي تكشف وتجلي ما ذكرنا.
يقول عن نفسه: طلبت اسم هذا الرجل الذي خرج من بيته مهاجرا أربع عشرة سنة حتى وجدته (1).
وهو مع هذا أيضا يعد من المقدمين بين التابعين في معرفة المبهمات، والعناية بها (2).
3 - قدرته على الاجتهاد، والفهم، والاستنباط:
فإلى جانب حرصه على الرواية عن شيخه، والأخذ عنه، فقد رزقه الله نظرا ثاقبا، وقدرة عقلية لاستنباط المعاني، مما أعان على تفوقه وتقدمه في علم القرآن وتفسيره، وكان يقول عن نفسه: إني لأخرج إلى السوق فأسمع الرجل يتكلم بالكلمة فينفتح لي خمسون بابا من العلم (3).
وقد فطن ابن عباس إلى هذا الذكاء وتلك النجابة، فكان يضع رجله في الكبل ليجلسه على التعلم والعلم (4). وحين اطمأن إليه أمره بالانطلاق إلى الناس وإفتائهم (5).
وقد جمع رحمه الله بين المأثور، والمعقول، وإن كان أكثر حاله تغليب المأثور
__________
(1) تفسير القرطبي (1/ 21)، ومفتاح السعادة (2/ 553).
(2) أورد السيوطي في مفحمات الأقران (70) قولا عن مجاهد وقتادة، وكان الذي يليهما في الاعتماد على أقواله عكرمة حيث روى عنه أكثر من أربعين (40) قولا، وعند ما تنسب هذه الأقوال إلى تفسيرهم، نجد أن عكرمة في ذلك أكثر اهتماما منهما.
(3) طبقات ابن سعد (5/ 288)، وتاريخ دمشق (11/ 773)، وتهذيب الكمال (20/ 274)، وتذكرة الحفاظ (1/ 96)، وطبقات المفسرين للداودي (1/ 381).
(4) سبقت قبل ورقات.
(5) سبقت قبل ورقات.(1/159)
على الرأي (1)، بل والتحري في حديثه، ومذاكرته، وتمييز هذا من ذاك.
فعن القاسم بن معن بن عبد الرحمن قال: حدثني أبي عن عبد الرحمن قال:
حدث عكرمة بحديث فقال: سمعت ابن عباس يقول كذا، وكذا، فقلت: يا غلام! هات الدواة والقرطاس، فقال: أعجبك؟ قلت: نعم، قال: إنما قلته برأيي (2).
4 - تفرغه لعلم التفسير:
وقد تخصص في علم التفسير رواية عن شيخه ودراية، حتى كان من أكثر التابعين اشتغالا بهما (3)، ولعل هذا من الأسباب الرئيسة في تفوق هذا الإمام، وسبقه لغيره، والناظر في تفسيره يجد شاهد هذا الانقطاع، فإنه تفرغ لهذا العلم، ولم يشتغل بغيره.
ولذا نجد أن المروي عنه في الفقه كان قليلا (4) بل إن حظه من بعض العلوم المساعدة للتفسير كعلم القراءات كان قليلا أيضا (5)، مما يدل على أن جل اهتمامه كان في بيان أسباب النزول، وإيضاح مشكل الآيات، وبيان معاني المفردات.
ولذا نجد أن من ترجم له، أشار في صدر ترجمته إلى أهم علم اشتهر به، وفاق غيره.
__________
(1) وأما مجاهد فإن الرأي عنده أكثر من عكرمة.
(2) تاريخ دمشق (11/ 781)، وتهذيب الكمال (20/ 286)، والسير (5/ 29)، وهدي الساري (426).
(3) بعد مجاهد، وهذه ميزة، امتاز بها مجاهد في المقام الأول وتلاه بلا منازع عكرمة، وأما غيرهم من التابعين، فقل من تخصص واستفرغ علمه التفسير.
(4) المروي عنه في تفسير آيات الأحكام بلغ (04، 0) من مجموع تفسيره، في حين بلغ عن سعيد (09، 0)، وعن عطاء (33، 0) من مجموع تفسيرهما.
(5) وخاصة إذا ما قورن بغيره كمجاهد، وسعيد بن جبير، وغيرهما، فهو من أقلهم في هذا، ولم يترجم له الذهبي في كتاب القراء الكبار، وذكره ابن الجزري، ولم يثن عليه في هذا الجانب.
ولذا لا نجد أحدا من القراء أو رواتهم أخذ عنه القراءة.(1/160)
فقال أبو حاتم: أصحاب ابن عباس في التفسير عيال على عكرمة (1).
وقال أبو نعيم: مفسر الآيات المحكمة (2).
وقال الذهبي: الحافظ المفسر (3).
وقال ابن كثير: أحد التابعين، والمفسرين المكثرين (4).
وقال ابن حجر: ثقة، ثبت، عالم بالتفسير (5).
فأنت تجد هؤلاء الأئمة افتتحوا ترجمة هذا الإمام بأهم علم تميز به وتقدم فيه (6)، بل ومن قبل أثنى عليه قتادة فقال: لا تسألوا العبد إلا عن القرآن (7). مما يدل على تخصصه فيه، وانقطاعه له.
5 - معرفته الواسعة بلغات قبائل العرب، وأشعارها:
ومن المصادر التي اعتمد عليها عكرمة في تفسيره، وكانت من أسباب نبوغه وتقدمه في التفسير، معرفته بلغات قبائل العرب، وما دخل في تلك اللغة من كلمات معربة، والاعتماد عليها في إيضاح بعض المفردات القرآنية (8).
__________
(1) الجرح (7/ 9).
(2) الحلية (3/ 326).
(3) السير (5/ 12).
(4) البداية (9/ 275).
(5) التقريب (397).
(6) قارن ذلك بما قدمت به ترجمة سعيد بن جبير، حيث قال عنه الذهبي: المقرئ الفقيه، ينظر التذكرة (1/ 76)، وقال في ترجمة مجاهد: المقرئ المفسر، ينظر التذكرة (1/ 62)، وقال في ترجمة عطاء: مفتي الحرم، ينظر السير (5/ 78).
(7) المعرفة (2/ 12)، وتاريخ دمشق (11/ 772).
(8) هو من أكثر التابعين عناية بذلك، بل ومن أدقهم فيه، ذكر الزركشي أن مذهب ابن عباس وعكرمة، أنه وقع في القرآن ما ليس من لغتهم، ينظر البرهان (1/ 288).(1/161)
ولعل لكثرة رحلاته، وتنقله بين البلدان الأثر الكبير في إثراء هذا الجانب عنده (1)، والناظر في تفسيره يجد عنايته وحرصه في رد كثير من الكلمات القرآنية إلى أصل اشتقاقها، وكيف كانت العرب تستعملها ولذا نجده في بيان الاشتقاق كثيرا ما يربط بين وضع اللفظ وأصل استعماله.
هذا ما يجده المراجع لتأويله، من حرصه على الرجوع لديوان العرب، وهو الشعر فإنه من أكثر التابعين نصيبا في هذا (2).
ولعلنا في هذا المقام نذكر بعض الأمثلة لما سبق:
فمن أمثلة ما ورد عنه في الاعتماد على لغات قبائل العرب، ما جاء عند تأويل قوله سبحانه: {وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ} (3).
قال عكرمة: المشيد المجصص، والجص بالمدينة: يسمى المشيد (4).
وعند قوله جل ثناؤه: {أَتَدْعُونَ بَعْلًا} (5) قال: أتدعون ربا، وهي لغة أهل اليمن، تقول: من بعل هذا الثور؟ أي: من ربّه (6)؟
وعند قوله سبحانه: {لَيْسَ لَهُمْ طَعََامٌ إِلََّا مِنْ ضَرِيعٍ} (7). قال: هي شجرة ذات
__________
(1) هو من أكثر مفسري التابعين على الإطلاق جولانا في البلاد، كما سيأتي بيان ذلك بعد ورقات إن شاء الله.
(2) يراجع كتاب إيضاح الوقف والابتداء (1/ 6962)، وقد أورد العديد من الأمثلة عن عكرمة.
(3) سورة الحج: آية (45).
(4) تفسير الطبري (17/ 181).
(5) سورة الصافات: آية (125).
(6) تفسير الطبري (23/ 92)، وتفسير ابن كثير (7/ 32)، وأورده السيوطي في الدر، وعزاه إلى عبد بن حميد عن عكرمة بلفظ: بعلا: ربا باليمانية. يقول الرجل للرجل: من بعل الثوب؟
(7/ 119).
(7) سورة الغاشية: آية (6).(1/162)
شوك، لاطئة بالأرض، فإذا كان الربيع سمتها قريش الشبرق، فإذا هاج العود سمتها الضريع (1).
ومن أمثلة ما جاء عنه في معرب القرآن، تفسيره لقوله تعالى: {قُلْ مَنْ كََانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى ََ قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللََّهِ} (2).
عن عكرمة قال: جبر: عبد، إيل: الله، وميكا قال: عبد، إيل: الله (3).
وعند قوله جل وعلا {طه}، قال: يا رجل! كلمة بالنبطية (4). وفي لفظ قال: طه بالحبشية: يا رجل! (5).
ومن الأمثلة التي تدل على معرفته الواسعة بتلك اللغات، بل والتقدم في هذا على غيره من التابعين، ما جاء عنه في تأويل قوله تعالى: {كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ (50) فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ} (6) قال: {«قَسْوَرَةٍ»} الرماة، فقال رجال لعكرمة: هو الأسد بلسان
__________
(1) تفسير الطبري (30/ 162)، وأورده السيوطي في الدر، وعزاه إلى ابن جرير وابن أبي حاتم عن عكرمة بلفظ مختصر (8/ 492).
(2) سورة البقرة: آية (97).
(3) تفسير الطبري (2/ 391) 1628، وأخرجه الطبري بلفظ مقارب (2/ 390) 1624، ورواه البخاري عن عكرمة معلقا في صحيحه، ووصله ابن حجر في الفتح (8/ 165)، والتغليق (4/ 174) من رواية ابن جرير.
(4) تفسير الطبري (16/ 136)، وأخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه عن عكرمة به (10/ 472)، 10025، ورواه البخاري في صحيحه معلقا، وأشار إلى وصله بن حجر في الفتح (8/ 432)، والتغليق (4/ 251)، وأورده السيوطي في الدر، وعزاه إلى ابن أبي شيبة عن عكرمة به (5/ 550).
(5) المصنف لابن أبي شيبة 10/ 470) 10017، وأشار ابن حجر في التغليق إلى وصل هذه الرواية من طريق ابن أبي شيبة (4/ 252)، وأوردها السيوطي في المهذب في معرفة ما وقع في القرآن من المعرب (110)، وذكرها في الدر، وعزاها إلى ابن أبي شيبة، وعبد بن حميد وابن أبي حاتم عن عكرمة بنحوه (5/ 550).
(6) سورة المدثر: آية (51).(1/163)
الحبشة (1). فقال عكرمة: اسم الأسد بلسان الحبشة: عنبسة (2).
ومما جاء عنه في معرفة أصل استعمال الكلمة، وبيان كيفية اشتقاقها، ما روي عنه عند قوله جل وعلا: {وَالسَّمََاءِ ذََاتِ الْحُبُكِ} (3) قال: ذات الحبك: ذات الخلق الحسن، ألم تر إلى النساج إذا نسج الثوب قال: ما أحسن ما حبكه (4)؟!.
وعند قوله عز وجل: {يَوْمَ هُمْ عَلَى النََّارِ يُفْتَنُونَ} (5) قال: يعذبون في النار يحرقون فيها، ألم تر أن الذهب إذا ألقي في النار قيل: فتن (6)؟.
وعند قوله سبحانه: {وَالْعََادِيََاتِ ضَبْحاً} (7) قال: ألم تر إلى الفرس إذا جرى كيف يضبح (8)!، وعنى رحمه الله (الحمحمة).
ومما فاق به غيره من التابعين كثرة استشهاده بالشعر، والاعتماد عليه في إيضاح معنى الآية وقد تأثر في ذلك بشيخه ابن عباس الذي روى عنه قوله: إذا سألتموني عن غريب اللغة فالتمسوه في الشعر، فإن الشعر ديوان العرب (9).
__________
(1) وهذا القول مروي عن أبي هريرة، وابن عباس في رواية، وزيد بن أسلم وغيرهم، ينظر تفسير الطبري (29/ 170)، والتغليق (4/ 352).
(2) تفسير الطبري (29/ 169)، وأخرجه الفراء في معاني القرآن بسنده عن عكرمة بنحوه (3/ 206)، وأشار ابن حجر إلي رواية الفراء في الفتح (8/ 676)، وللمزيد من الأمثلة يراجع تفسير الطبري، الآثار ذوات الأرقام 6000، 13445، 17395، 18972، والصفحات (27/ 82، 83)، (30/ 240).
(3) سورة الذاريات: آية (7).
(4) تفسير الطبري (26/ 190)، وتفسير البغوي (4/ 229).
(5) سورة الذاريات: آية (13).
(6) تفسير الطبري (26/ 193).
(7) سورة العاديات: آية (1).
(8) تفسير الطبري (30/ 271)، ولمزيد من الأمثلة يراجع تفسير الطبري (19/ 14)، (27/ 167)، (29/ 124، 203)، (30/ 121).
(9) البرهان في علوم القرآن (1/ 293)، سنن البيهقي (10/ 241).(1/164)
ومما جاء عنه في هذا: تأويله لقوله جل ثناؤه: {ذََلِكَ أَدْنى ََ أَلََّا تَعُولُوا} (1).
قال عكرمة لداود بن أبي هند: {أَلََّا تَعُولُوا}: ألا تميلوا، ثم قال: أما سمعت إلى قول أبي طالب:
... بميزان قسط وزنه غير عائل (2)
وفي رواية عنه أنشد فقال:
بميزان قسط لا يخسّ شعيرة ... ووازن صدق وزنه غير عائل (3)
وعند قوله تبارك وتعالى: {ذَوََاتََا أَفْنََانٍ} (4) قال: ظل الأغصان على الحيطان.
قال الشاعر:
ما هاج شوقك من هديل حمامة ... تدعو على فنن الغصون حماما
تدعوا أبا فرخين صادف ضاريا ... ذا نخليين من الصقور قطاما (5)
وعند قوله سبحانه وتعالى: {فَإِذََا هُمْ بِالسََّاهِرَةِ} (6) قال: الساهرة: الأرض، أما
__________
(1) سورة النساء: آية (3).
(2) تفسير الطبري (7/ 549) 8490.
(3) تفسير الطبري (7/ 550) 8491، وأخرجه سعيد بن منصور في سننه في كتاب التفسير عن عكرمة بنحوه (3/ 1145) 557، وابن أبي حاتم في تفسيره (2/ ل 105/ أ). وأورده السيوطي في الدر، وعزاه إلى سعيد بن منصور، وعبد بن حميد وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن عكرمة بنحوه. الدر (2/ 430).
(4) سورة الرحمن: آية (48).
(5) تفسير الطبري (27/ 147)، وأخرجه ابن الأنباري في إيضاح الوقف والابتداء عن عكرمة به (1/ 65) وأبو عمرو الداني في المكتفى مختصرا (549)، وأورده السيوطي في الدر، وعزاه إلى عبد بن حميد، وابن المنذر، وأبي بكر بن حبان في الفنون، وابن الأنباري في الوقف عن عكرمة بنحوه (7/ 709).
(6) سورة النازعات: آية (14).(1/165)
سمعت:
لهم صيد بحر وصيد ساهرة (1)
في رواية عنه قال: أولم تسمعوا ما قال أمية بن أبي الصلت:
لهم وفيها لحم ساهر وبحر (2).
6 - كثرة رحلاته:
هو من أكثر مفسري التابعين تنقلا بين الأقاليم، ورحلة إلى البلدان، وقد أفاد من ذلك، وكان هذا من أسباب تفوقه، وتعدد مصادره.
يقول الإمام أحمد: ولم يدع موضعا إلا خرج إليه: خراسان، والشام، واليمن، ومصر، وإفريقية (3).
وصدر ابن كثير ترجمته بقوله: أحد التابعين، المفسرين المكثرين، والرحالين الجوالين (4).
وقال ابن خلكان: كان عكرمة كثير التطواف، والجولان في البلاد (5)، وأشار إلى كثرة دورانه في البلاد: الحاكم النيسابوري (6)، والذهبي (7)، وابن حجر (8)،
__________
(1) تفسير الطبري (30/ 36)، وأورده السيوطي في الدر، وعزاه إلى عبد بن حميد، وابن المنذر عن عكرمة بنحوه (8/ 408).
(2) تفسير الطبري (30/ 36)، (30/ 37) والبيت لأمية. ينظر الديوان (54)، وفرائد القلائد (ص 32)، ولمزيد من الأمثلة ينظر تفسير الطبري (29/ 145)، (30/ 399).
(3) السير (5/ 30).
(4) البداية (9/ 275).
(5) وفيات الأعيان (3/ 266).
(6) نقله ياقوت في معجم الأدباء (12/ 182).
(7) السير (5/ 15)، والعبر (100/ 1)، وتاريخ الإسلام (176).
(8) التهذيب (7/ 265).(1/166)
واليافعي (1) وغيرهم.
قال يحيى بن معين: كان عكرمة جوالا في البلاد، قدم البصرة فسمع منه أهلها، والكوفة فحمل عنه كثير ممن بها، واليمن فكتب عنه بها كثير من أهلها، والمغرب فسمع منه به جماعة من أهله، والمشرق فكتب عنه به (2).
وقد ترك الحسن البصري كثيرا من تفسيره حين دخل عكرمة البصرة (3).
7 - حرصه على نشر علمه:
ومن أسباب بروزه، وظهور علمه، وتفوقه حرصه على نشر علمه في حله وترحاله، فعن أبي سلمة سعيد بن يزيد البصري قال: سمعت عكرمة يقول: ما لكم لا تسألونني! أفلستم (4)؟
قال ابن سعد: يعني لا أراكم تسألونني.
وعن أيوب السختياني قال: كان خالد الحذاء يسأل عكرمة، فسكت خالد! فقال عكرمة: مالك أجبلت (أي: أكديت). قال: إني تعبت (5).
وساق أحمد بسنده، عن أيوب السختياني، قال: كنا نأتي عكرمة (في البصرة) فيحلف بالله ألا يحدثنا، فما نكون قط بأطمع منه في الحديث عند ذلك، فيحدثنا، فنقول: ألم تحلف بالله؟ فقال: ما يدريكم كفارة يميني أن أحدثكم (6).
__________
(1) مرآة الجنان (1/ 254).
(2) تاريخ الطبري الذيل (3/ 2485).
(3) تهذيب الكمال (20/ 273)، والسير (5/ 18).
(4) سنن الدارمي (1/ 137) بلفظ: أفشلتم، والتصحيح من كتاب العلل ومعرفة الرجال لأحمد (2/ 193) 1979، وابن سعد (2/ 386)، ومصنف ابن أبي شيبة (9/ 45) 6464.
(5) المعرفة والتاريخ (2/ 10)، والحلية (3/ 328)، زاد ابن سعد: أكديت: أي نفد ما عندك (5/ 291)، وتاريخ دمشق (11/ 774).
(6) العلل لأحمد (2/ 128) 1775، و (2/ 455) 3027.(1/167)
هذه هي أهم الأسباب، التي أحسب أنه كان لها الأثر الكبير في تفوق هذا الإمام في التفسير، واعتبار بعض الأئمة أن المدرسة المكية وتلاميذ ابن عباس عيال في التفسير عليه. ولكن ثمة فرق واضح في الواقع العملي بينه، وبين مجاهد عند مراجعة كتب التفسير (1) حيث اعتمد كثير من المفسرين على تفسير مجاهد، وكان المنقول عن عكرمة قليلا إذا ما قورن بمجاهد، وبعد النظر، والمراجعة، وجدت أن ثمة أسبابا كانت وراء هذا النقص الكبير في المروي عنه، ولعل من أهمها: اتهامه بالكذب، وانتحاله بعض مقالة الخوارج، وسيأتي مناقشة ذلك قريبا.
وأخيرا لقد كان عكرمة رحمه الله من أعلم أصحاب ابن عباس بالتفسير، وقد شهد له بذلك أبو حاتم. بل إنه قام رحمه الله بتفسير القرآن الكريم كله، كما أخبر بذلك عن نفسه: لقد فسرت ما بين اللوحين (2).
أهم أسباب نقصان تفسيره عن مجاهد:
ومع ما سبق فإن ما وصل إلينا من نتاج هذا الإمام كان قليلا، ويرجع ذلك لعدة أسباب من أهمها: اتهامه بالكذب، وانتحاله بعض مقالة الخوارج، مع ما يضاف إلى ذلك من كثرة اشتغاله بالرواية عن شيخه، وقلة المتخصصين في نقل تفسيره.
وقد أطال بعض أهل العلم الكلام في السببين الأولين، بل وصنف في ذلك جماعة، منهم: إمام المفسرين ابن جرير الطبري، ومحمد بن نصر المروزي، وابن منده، وأبو حاتم بن حبان، وقد لخص الحافظ ابن حجر ما ورد في تلك الكتب، ولا سيما ما اتهم به من الكذب، وأطال في رده. ولأهمية هذه النقطة سأبسط القول فيها لأني أشعر أنه لولا ذلك لكان المأثور عنه قريبا من المروي عن مجاهد.
__________
(1) المروي عن مجاهد عند الطبري (6109) قولا، وعن عكرمة (943) قولا.
(2) الحلية (3/ 327)، وتاريخ دمشق (11/ 772)، والبداية (9/ 275).(1/168)
أولا: اتهامه بالكذب:
من أشد ما جاء في ذلك، ما روي عن ابن عمر أنه قال لنافع: لا تكذب علي كما كذب عكرمة على ابن عباس (1).
وقد نفى ابن حجر صحة هذا الأثر وقال: لم يثبت لأنه من رواية أبي خلف الخزاز عن يحيى البكاء، ويحيى البكاء متروك الحديث. ثم أورد قول ابن حبان: من المحال أن يجرح العدل بكلام المجروح (2).
وقد سأل إسحاق بن الطباع مالكا: هل بلغك أن ابن عمر قاله لنافع؟ قال: لا! ولكن بلغني أن سعيد بن المسيب قال ذلك لبرد مولاه (3).
ثم نقل ابن حجر (4) قول ابن جرير: إن ثبت هذا عن ابن عمر، فهو محتمل لأوجه كثيرة، لا يتعين منه القدح في جميع روايته، فقد يمكن أن يكون أنكر عليه مسألة من المسائل كذبه فيها، ثم قال: كان ابن حبان وأهل الحجاز يطلقون «كذب» في موضع «أخطأ» (5).
وعن عطاء الخراساني قال: قلت لسعيد بن المسيب: إن عكرمة يزعم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوج ميمونة، وهو محرم، فقال: كذب مخبثان (6).
__________
(1) الميزان (3/ 97)، والسير (5/ 22)، والتهذيب (7/ 267).
(2) هدي الساري (427). ويحيى البكاء: تركه النسائي، والأزدي، ينظر الضعفاء لابن الجوزي (3/ 203). وقال عنه ابن حبان في كتاب المجروحين: ينفرد بالمناكير عن المشاهير، وضعفه إذا انفرد (3/ 115).
(3) العلل ومعرفة الرجال لأحمد (2/ 70) 1582، 1583، والمعرفة والتاريخ (2/ 5)، والتمهيد (2/ 27)، وتهذيب الكمال (20/ 280).
(4) هدي الساري (427).
(5) الثقات (6/ 114).
(6) هدي الساري (426)، والميزان (3/ 94)، والسير (5/ 23).(1/169)
وقال فطر بن خليفة: قلت لعطاء إن عكرمة يقول: سبق الكتاب الخفين، فقال:
كذب! سمعت ابن عباس يقول: امسح على الخفين وإن خرجت من الخلاء (1).
وقد نقل ابن حجر ما قاله ابن جرير في رده علي قول سعيد وعطاء، فقال: وأما قول سعيد بن المسيب، فليس ببعيد أن يكون الذي حكي عنه نظير الذي حكي عن ابن عمر، قلت يعني: ابن حجر وهو كما قال، فقد تبين ذلك من حكاية عطاء الخراساني عنه في تزويج النبي صلى الله عليه وسلم بميمونة، ولقد ظلم عكرمة في ذلك، فإن ذلك مروي عن ابن عباس من طرق كثيرة، أنه كان يقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم تزوجها، وهو محرم. ومثله ما جاء عن عطاء، ويقوي صحة ما حكاه ابن حبان أنهم يطلقون الكذب في موضع الخطأ (2).
وأما ما جاء عن ابن سيرين، عند ما سئل عن عكرمة فقال: ما يسوؤني أن يدخل الجنة، ولكنه كذاب (3)، فقد قال ابن حجر (4): إنه طعن عليه من حيث الرأي، وإلا فقد أخرج عنه كما قال خالد الحذاء: كل ما قال محمد بن سيرين: ثبت عن ابن عباس، فإنما أخذه عن عكرمة، وكان لا يسميه، لأنه لم يكن يرضاه (5).
وأما ما جاء من تكذيب يحيى بن سعيد الأنصاري، وعدم رضى مالك عليه، بل وتكذيبه له، والأمر بعدم الأخذ عنه (6)، فإن هذا كما قال ابن حجر: أما ما روي عن يحيى بن سعيد في ذلك، فالظاهر أنه قلد فيه سعيد بن المسيب (7).
__________
(1) الكامل لابن عدي (5/ 1905)، وتاريخ الإسلام (ح 106هـ / 179)، والتهذيب (7/ 268).
(2) هدي الساري (427).
(3) الكامل (5/ 1905)، وتاريخ الإسلام (179)، وتهذيب الكمال (20/ 282).
(4) هدي الساري (427).
(5) المرجع السابق (427)، والمعرفة (1/ 233)، و (2/ 55)، وتهذيب التهذيب (7/ 269).
(6) السير (5/ 26)، والهدي (426).
(7) هدي الساري (427)، والتمهيد (2/ 27).(1/170)
وأما ذم مالك، فقد بيّن سببه، وأنه لأجل ما رمي به من القول ببدعة الخوارج، وقد جزم بذلك أبو حاتم، قال ابن أبي حاتم: سألت أبي عن عكرمة، فقال: ثقة، قلت: يحتج بحديثه، قال: نعم، إذا روى عنه الثقات، والذي أنكر عليه مالك إنما هو بسبب رأيه (1).
وأما ما روي عن يزيد بن أبي زياد قال: دخلت على علي بن عبد الله بن عباس، وعكرمة مقيد عنده، فقلت: ما لهذا. قال: إنه يكذب على أبي (2).
فقد رد هذه الرواية ابن حجر بقوله: إن رواية يزيد بن أبي زياد ردها أبو حاتم، وابن حبان لضعف يزيد، وقال: إن يزيد لا يحتج بنقله، قال ابن حجر: وهو كما قال (3).
هذا أهم ما جاء من الروايات في اتهامه بالكذب وردها، والذي يظهر مما سبق أن اتهامه بالكذب على مصطلح المحدثين لم يثبت، والصواب في ذلك أن عكرمة قد وثقه، وأثنى عليه كثير من الأئمة المعتبرين، بل إن شيخه ابن عباس نفسه قد أثنى عليه.
فعن محمد بن فضل عن عثمان بن حكيم قال: كنت جالسا مع أبي أمامة بن سهل ابن حنيف، إذ جاء عكرمة، فقال: يا أبا أمامة: أذكرك الله، هل سمعت ابن عباس يقول: ما حدثكم عني عكرمة فصدقوه، فإنه لم يكذب علي؟ فقال أبو أمامة: نعم (4).
وعن أيوب السختياني قال: اجتمع حفاظ ابن عباس على عكرمة، منهم سعيد بن جبير، وعطاء، وطاوس، فكان كلما يحدث بحديث قال سعيد بن جبير هكذا (يعني
__________
(1) الجرح (7/ 9)، وتهذيب الأسماء (1/ 341)، وأشار إليه ابن عبد البر في التمهيد (2/ 27).
(2) الميزان (3/ 94)، ووفيات الأعيان (3/ 265)، والسير (5/ 23).
(3) الثقات (5/ 230)، وهدي الساري (427).
(4) تاريخ دمشق (11/ 768)، وتاريخ ابن معين (2/ 413)، وقال ابن حجر في الهدي: وإسناده صحيح (428)، والتمهيد (2/ 31).(1/171)
أصاب) حتى أتى على حديث الحوت، فقال سعيد بن جبير: أشهد علي ابن عباس أنه قال: كان يسايرهما في مكتل. قال أيوب السختياني: وأرى ابن عباس كان يقول القولين جميعا (1).
وعن حماد بن زيد قال: قال لي أيوب: لو لم يكن عندي عكرمة ثقة لم أكتب عنه (2).
وقد احتج الإمام البخاري بحديثه، وأخرج له في الصحيح (3)، وقال عنه: ليس أحد من أصحابنا إلا احتج بعكرمة (4).
وقال ابن معين: إذا رأيت إنسانا يقع في عكرمة، فاتهمه على الإسلام (5).
ووثقه أبو حاتم (6)، والعجلي (7)، والنسائي، وقال: ثقة من أعلم الناس (8).
وقال أبو عبد الله محمد بن نصر المروزي: أجمع عامة أهل العلم على الاحتجاج بحديث عكرمة، واتفق على ذلك رؤساء أهل العلم بالحديث من أهل عصرنا، منهم أحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه، وأبو ثور، ويحيى بن معين، ولقد سألت إسحاق عن الاحتجاج بحديثه، فقال: عكرمة عندنا إمام أهل الدنيا. وتعجب من
__________
(1) العلل ومعرفة الرجال لأحمد (3/ 379) 5667، والمعرفة والتاريخ (2/ 7).
(2) الجرح (7/ 8)، والميزان (3/ 93)، والسير (5/ 18).
(3) أخرج له البخاري في صحيحه ما يزيد عن (130) حديثا بالمكرر، و (63) حديثا بغير المكرر، ينظر رسالة عكرمة مولى ابن عباس وتتبع مروياته في صحيح البخاري، إعداد الباحث مرزوق الزهراني. جامعة أم القرى.
(4) التاريخ الكبير (7/ 49).
(5) تهذيب الأسماء (1/ 341)، والسير (5/ 31).
(6) الجرح (7/ 8).
(7) تاريخ الثقات (339).
(8) عمل اليوم والليلة للنسائي (202) 141.(1/172)
سؤالي إياه (1).
وقال ابن حبان: كان من علماء زمانه بالفقه، والقرآن، ولا أعلم أحدا ذمه بشيء (2).
قال المروزي: وعكرمة قد ثبتت عدالته بصحبة ابن عباس، وملازمته إياه، وبأن غير واحد من أهل العلم رووا عنه، وعدلوه (3).
ثانيا: اتهامه بالميل لرأي الخوارج:
وكما اتهم عكرمة بالكذب، فقد اتهم أيضا بالميل لرأي الخوارج وانتحال بعض مقالاتهم.
فعن عطاء قال: إن عكرمة كان إباضيا (4). واتهمه أحمد (5)، وابن المديني بذلك (6).
وقال ابن المديني (7)، في رواية عنه: كان يرى رأي نجدة (8).
__________
(1) التمهيد (2/ 33)، وهدي الساري (429).
(2) الثقات لابن حبان (5/ 229)، ورجال صحيح مسلم (2/ 110).
(3) التمهيد (2/ 33).
(4) تاريخ الإسلام (ح / 181)، والميزان (3/ 96)، والتهذيب (7/ 267)، والإباضية: هم أتباع عبد الله بن إباض المقاعسي التميمي المتوفى سنة (86هـ)، قال الإباضية: إن مخالفيهم من أهل القبلة كفار غير مشركين، ودار مخالفيهم من أهل الإسلام دار توحيد، إلا معسكر السلطان، فإنه دار بغي، وأجمعوا على أن من ارتكب كبيرة من الكبائر كفر كفر النعمة، لا كفر الملة، ينظر الملل والنحل (1/ 134)، ومقالات الإسلاميين (1/ 108)، والفرق بين الفرق (103)، والفصل في الملل (5/ 51)، والمواقف في علم الكلام (424)، والإباضية يقولون بخلق القرآن وإنكار الرؤية وتخليد عصاة الموحدين في النار.
(5) السير (5/ 21)، وتهذيب الكمال (20/ 278)، والتهذيب (7/ 267)، وتاريخ دمشق (11/ 789).
(6) تاريخ الإسلام (ح 180)، وتهذيب الكمال (20/ 278)، والتهذيب (7/ 267).
(7) المعرفة (2/ 7)، والميزان (3/ 96)، وذكر أسماء من تكلم فيه، وهو موثق (137)، وتهذيب التهذيب (7/ 267).
(8) نجدة بن عامر الحنفي المتوفى سنة (69هـ)، وكان من أتباع نافع بن الأزرق، ثم خالفه واستقل بمذهبه، ينظر مقالات الإسلاميين (1/ 156)، والفرق بين الفرق (9087)، والملل والنحل (1/ 122)، والفصل (5/ 53)، والمواقف (434).(1/173)
وقال الجوزجاني (1)، قلت لأحمد بن حنبل: أكان عكرمة إباضيا؟ فقال: إنه كان صفريا (2).
وقال أبو طالب عن أحمد: كان يرى رأي الخوارج الصفرية، وعنه أخذ ذلك أهل إفريقية (3).
وقال ابن معين: كان ينتحل مذهب الصفرية (4)، ولأجل هذا تركه مالك (5).
وقال أبو سعيد بن يونس في تاريخ الغرباء: وبالمغرب إلى وقتنا هذا قوم على مذهب الإباضية، يعرفون بالصفرية، يزعمون أنهم أخذوا ذلك عن عكرمة (6).
وقال ابن قتيبة: كان عكرمة يرى رأي الخوارج (7).
ومما نسب إليه من أقوال الخوارج، ما روي عن خالد بن أبي عمران قال: كنا بالمغرب، وعندنا عكرمة في وقت الموسم، فقال عكرمة: وددت أن بيدي حربة،
__________
(1) تاريخ دمشق (11/ 777)، والسير (5/ 21)، والهدي (426)، وذكر أسماء من تكلم فيه وهو موثق (137)، والتهذيب (7/ 267).
(2) الصفرية: هم أتباع زياد بن الأصفر، وقولهم في الجملة كقول الأزارقة في أن أصحاب الذنوب مشركون، غير أن الصفرية لا يرون قتل أطفال مخالفيهم ونسائهم، ينظر الفرق بين الفرق (9390)، والملل والنحل (1/ 137)، ومقالات الإسلاميين (1/ 101)، والمواقف (424).
(3) تهذيب الكمال (20/ 278)، والميزان (3/ 96)، وتاريخ الإسلام (179)، وينظر المدارس الكلامية بإفريقية إلى ظهور الأشعرية (80).
(4) السير (5/ 21)، وهدي الساري (426).
(5) التمهيد (2/ 27)، والكامل (5/ 1905)، والتعديل (3/ 1023).
(6) هدي الساري (426).
وقد ذكرت أكثر المراجع، أن مبدأ دخول الفكر الخارجي، إنما حدث أول ما حدث عند مقدم عكرمة، وكان له دور كبير في نشر المذهب الإباضي، راجع المدارس الكلامية بإفريقية (8179).
(7) المعارف (201)، والشذرات (1/ 130)، ومقالات الإسلاميين (120)، ووفيات الأعيان (3/ 265).(1/174)
أعترض بها من شهد الموسم. قال: فرفضه أهل إفريقية (1).
وقال ابن المديني: حكي عن يعقوب الحضرمي، عن جده قال: وقف عكرمة على باب المسجد فقال: ما فيه إلا كافر. وكان يرى رأي الإباضية (2).
وروى ابن عبد البر قصة عن أبي العرب، عن قدامة بن محمد، قال: كان خلفاء بني أمية، يرسلون إلى المغرب، يطلبون جلود الخرفان التي لم تولد بعد العسلية، قال: فربما ذبحت المائة شاة، فلا يوجد في بطنها إلا واحد عسلي، كانوا يتخذون منها الفراء، فكان عكرمة يستعظم ذلك ويقول: هذا كفر، هذا شرك، فأخذ ذلك عنه الصفرية، والإباضية، فكفّروا الناس بالذنوب (3).
ولما سئل عن نبيذ الجر، قال عكرمة: حرام. قال: فما تقول فيمن يشربه؟ قال:
أقول إن من شربه كفر (4).
وكان يرى كفر تارك الحج (5).
هذا وقد برأه من هذه التهمة جمع من أهل العلم منهم: العجلي، وابن عبد البر، وابن حجر، وغيرهم.
قال العجلي: ثقة بريء مما يرميه الناس به من الحرورية (6).
__________
(1) الميزان (3/ 95)، وتاريخ دمشق (20/ 278)، والتهذيب (7/ 267)، وتهذيب الكمال (20/ 278).
(2) تاريخ دمشق (11/ 788)، والسير (5/ 22)، وتهذيب الكمال (20/ 278).
(3) التمهيد (2/ 32).
(4) هدي الساري (426).
(5) أحكام القرآن للشافعي (1/ 111، 112)، وكتاب الإمام للشافعي (2/ 109)، ومعرفة السنن والآثار (7/ 8)، والسنن الكبرى للبيهقي (4/ 324).
(6) تاريخ الثقات (339)، وتهذيب الأسماء (1/ 341)، وطبقات المفسرين للداودي (1/ 381).(1/175)
وقال ابن عبد البر: ويحتمل أن مالكا رده لما نسب إليه من رأي الخوارج، وكل ذلك باطل عليه إن شاء الله (1).
وقال ابن حجر: والذي أنكر عليه مالك إنما هو بسبب رأيه، على أنه لم يثبت عنه من وجه قاطع أنه كان يرى ذلك، وإنما كان يوافق في بعض المسائل، فنسبوه إليهم.
ثم أورد أي: ابن حجر قول ابن جرير الطبري: لو كان كل من ادعي عليه مذهب من المذاهب الرديئة ثبت عليه ما ادعي به، وسقطت عدالته وبطلت شهادته بذلك، للزم ترك أكثر محدثي الأمصار لأنه ما منهم إلا وقد نسبه قوم إلى ما يرغب به عنه (2).
واختصر عبارته ابن حجر في التقريب، وقال: ثقة، ثبت، عالم بالتفسير، ولا تثبت عليه بدعة (3).
وقال البيهقي: هو عند أكثر الأئمة من الثقات الأثبات (4).
والذي تحصل من هذا أن ما رمي به من تهمة الكذب لم تصح ولم تثبت عنه، وهو أجل، وأعلى من ذلك، وأما الأخرى فقد يغضى فيها العين على قذى، ويجر الذيل على أذى، ويقال: لعل وعسى.
وقد لمست من الإمام الذهبي في كتبه ترددا في تبرئة عكرمة من هذا الرأي، ولذا قال عنه في ختام ترجمته في السير: فالذين أهدروه كبار، والذين احتجوا به كبار، والله أعلم بالصواب (5).
__________
(1) التمهيد (2/ 27).
(2) هدي الساري (428)، والتهذيب (7/ 270).
(3) تقريب التهذيب (397)، وتبعه على ذلك الداودي في طبقات المفسرين (1/ 381).
(4) السنن الكبرى (1/ 135)، (8/ 303).
(5) السير (5/ 34).(1/176)
وقال في موضع آخر: تكلموا فيه لرأيه لا لحفظه، اتهم برأي الخوارج (1).
وقال أيضا: ثبت، لكنه إباضي يرى السيف (2).
وخلاصة القول كما قال ابن منده: أما حال عكرمة في نفسه، فقد عدله أمة من التابعين، منهم زيادة على سبعين رجلا من خيار التابعين ورفعائهم، وهذه منزلة لا تكاد توجد فيهم لكبير أحد من التابعين، على أن من جرحه من الأئمة لم يمسك عن الرواية عنه، ولم يستغن عن حديثه (3).
وهو كما قال فإن من أشدهم رأيا فيه ابن سيرين، ومع ذلك أخذ عنه، ولذا لما سئل ابن معين، فقيل له: ابن سيرين! سمع ابن عباس؟ فقال: لا! سمع من عكرمة (4)، لكنه أسقط عكرمة، وكان يقول: نبئت عن ابن عباس، أخذه عن عكرمة، لقيه أيام المختار بالكوفة (5).
فروايته عنه تدل على قبوله في نفسه، ولكنه لم يرض أن يصرح باسمه بسبب رأيه، وهذا ما فعله مالك (6).
__________
(1) المغني في الضعفاء (2/ 438)، والميزان (3/ 93).
(2) الكاشف (2/ 276).
(3) التهذيب (7/ 272)، هدي الساري (429).
(4) معرفة الرجال لابن معين (1/ 122، 132).
(5) تاريخ دمشق (11/ 776)، المعرفة والتاريخ (1/ 233)، (2/ 55)، طبقات ابن سعد (5/ 291)، والحلية (3/ 328).
(6) الموطأ (1/ 384) 155، 157، علل الدارقطني (2/ 9)، وشرح علل الترمذي لابن رجب (195)، وتاريخ دمشق (11/ 785)، وقال أبو بكر عبد الله بن محمد المالكي: أدخله مالك في موطئه، وكنى عن اسمه فقال: أخبرني مخبر عن ابن عباس. وهو عكرمة.(1/177)
ويقول سعيد بن جبير: لو كف عكرمة عن بعض حديثه لشدت إليه المطايا (1).
وعن طاوس قال: لو ترك من حديثه، واتقى الله، لشد إليه الرحال (2).
وقد أطلت في هذه المسألة لأني أحسب أن ما نسب إليه من رأي الخوارج كان من القواصم في سيرته، التي قللت من تداول روايات هذا الإمام، وجعلت بعض الأئمة يتوقى الرواية عنه في التفسير، مع تقدمه في العلم، والرواية، في مدرسة مكة، حتى إن الإمام الثوري قدمه على غيره من تلاميذ ابن عباس.
إلا إن هذه التهمة قد كان لها الأثر السلبي في الواقع العملي لمرويات عكرمة، سواء ما كان عن طريق شيخه، أو من تفسيره، فبعضهم كان يرد كثيرا من أحاديثه، كما صنع مسلم.
وآخرون كانوا يسقطون اسمه، كما نجده عند ابن سيرين ومالك (3).
بل إن بعض تلاميذه كان يأخذ عنه، ويتحرج من الرواية أو التصريح باسمه.
فعن رجاء بن أبي سلمة قال: سمعت ابن عون يقول: ما تركوا أيوب حتى استخرجوا منه ما لم يكن يريد (يعني: الرواية عن عكرمة) (4).
وقال ضمرة: قيل لداود بن أبي هند: هل تروي عن عكرمة؟ قال: هذا عمل أيوب قال: عكرمة، فقلنا: عكرمة (5).
__________
(1) طبقات ابن سعد (5/ 288)، والتمهيد (2/ 29)، والكامل لابن عدي (5/ 1905)، وتهذيب الكمال (20/ 287)، وتاريخ دمشق (11/ 780).
(2) التعديل والجرح (3/ 1024)، وطبقات علماء الحديث (1/ 168)، وتهذيب التهذيب (7/ 269) (11/ 780).
(3) وقد سبق بيان ذلك.
(4) المعرفة والتاريخ (2/ 5)، والسير (5/ 25)، وتاريخ دمشق (11/ 786).
(5) المعرفة والتاريخ (2/ 8).(1/178)
وحكى البخاري عن عمرو بن دينار قال: أعطاني جابر بن زيد صحيفة فيها مسائل عن عكرمة، فجعلت كأني أتباطأ، فانتزعها من يدي، وقال: هذا عكرمة مولى ابن عباس، هذا أعلم الناس (1).
بل كان جابر بن زيد يحدث أحيانا عن عكرمة ويقول: أخبرني عين عن ابن عباس (2).
ولعل هذا مما يفسر لنا شيئا من قلة روايات عكرمة عن ابن عباس، خاصة وأنه من أكثر تلاميذ ابن عباس أخذا ورواية عنه رضي الله عنه (3).
بل ويفسر لنا أيضا قلة تفسير عكرمة مقارنة بغيره من تلاميذ المدرسة (4)، كما أن هناك أسبابا أخرى نشير إليها:
ثالثا: إكثاره من الرواية عن شيخه:
اشتغل برواية حديث أستاذه ابن عباس رضي الله عنهما فقد اشتغل عكرمة بالرواية عنه أكثر من الدراية (5). وكان عكرمة من أكثر مفسري التابعين في مكة عناية
__________
(1) التاريخ الكبير (7/ 49)، والجرح (7/ 8)، والحلية (3/ 336)، والمعرفة (2/ 9)، والتمهيد (2/ 29)، وتاريخ دمشق (11/ 770).
(2) المعرفة والتاريخ (2/ 10)، والكامل لابن عدي (5/ 1907، 1908).
(3) بعد مراجعة الطبري، وجدت أن المروي من تفسير ابن عباس كان نصيب عكرمة من روايته (09، 0)، في حين كان المروي عن طريق علي بن أبي طلحة (25، 0)، وعن سعيد بن جبير (12، 0).
(4) روي عن مجاهد من خلال تفسير الطبري (6109) أقوال، وعن سعيد (1010) أقوال في حين كان المروي عن عكرمة (943) قولا.
(5) هذا من المفارقات بينه، وبين صاحبه مجاهد، الذي أخذ كثيرا عن ابن عباس لكنه لم يشتغل كثيرا بالرواية ونقل تفسير ابن عباس، كما اشتغل بذلك عكرمة.
بل إن الكثير من التابعين، ومن بعدهم حرصوا على لقاء عكرمة لأخذ تفسير ابن عباس، لاهتمام عكرمة بنقل رواية تفسير شيخه.(1/179)
بنشر علم شيخه، والتحديث به.
يقول أبو بكر المالكي: كان كثير الرواية عن مولاه وعليه معتمده (1).
وساق ابن عدي بسنده، عن سماك بن حرب، عن عكرمة قال: كل شيء حدثتك في التفسير، فهو عن ابن عباس (2).
وأخرج ابن سعد عن أيوب قال: حدثني صاحب لنا قال: كنت جالسا إلى سعيد، وعكرمة، وطاوس وأظنه قال: وعطاء في نفر، قال: فكان عكرمة صاحب الحديث عن ابن عباس (3).
ولذا فقد كان حفاظ ابن عباس يجتمعون عند عكرمة يسألونه عن حديث ابن عباس (4).
ولما سئل يحيى بن معين عن عكرمة، وعن نافع، قال: كان عكرمة أعلمهم بابن عباس، ونافع أعلمهم بابن عمر (5).
وكان مجاهد أكثر ما يذكر عن ابن عباس مما فاته عنه، أخذه عن عكرمة (6).
ولما قدم عكرمة على طاوس باليمن، حمله طاوس على نجيب، وأعطاه ثمانين دينارا، فقيل لطاوس في ذلك، فقال: ألا أشتري علم ابن عباس لعبد الله بن طاوس بنجيب وثمانين دينارا (7).
__________
(1) رياض النفوس (1/ 145).
(2) الكامل (5/ 1908)، والإتقان (2/ 243).
(3) طبقات ابن سعد (5/ 290)، والتمهيد (2/ 30)، وتاريخ دمشق (11/ 772).
(4) تاريخ دمشق (11/ 772)، وطبقات الحفاظ (37).
(5) رياض النفوس (1/ 145).
(6) الإرشاد (1/ 323).
(7) تاريخ دمشق (11/ 775)، والتمهيد (2/ 31)، والعلم لأبي خيثمة (140)، وطبقات ابن سعد (5/ 289)، وتهذيب الكمال (20/ 270).(1/180)
ولما مات ابن عباس وعكرمة عبد، باعه علي بن عبد الله بن عباس، فقيل له: تبيع علم أبيك؟ فاسترجعه (1).
ومع هذا فقد كان تحديثه عمن دونه أو مثله قليلا، فإن أكثر حديثه عن ابن عباس، والصحابة.
يقول أحمد بن زهير: ولم يحدث عكرمة عمن دونه أو مثله، حديثه أكثره عن الصحابة (2)، وكان هذا من الأسباب التي تلتمس في قلة المروي من تفسير عكرمة، فقد صرف جهده ووسعه في رواية علم وتفسير حبر الأمة وترجمان القرآن رضي الله عنه (3).
رابعا: قلة المتخصصين في نقل تفسيره:
وهناك سبب رابع قد يضاف إلى ما سبق ألا وهو: قلة التلاميذ الذين تخصصوا لرواية تفسيره، والعناية به، وقد يكون لكثرة أسفاره وجولاته في البلاد أثرا في ذلك ولذا قلّ عدد المروي عنه (4).
__________
(1) التمهيد (2/ 31)، والمعارف (201)، ورياض النفوس (1/ 145)، والمنتظم (7/ 102)، والشذرات (1/ 130).
(2) الكامل لابن عدي (5/ 1907)، وتاريخ دمشق (11/ 780)، والسير (5/ 30)، وهدي الساري (429).
(3) وعند المقارنة نجد أن عكرمة، قد فاق مجاهدا، وعطاء في نسبة ما روى من تفسير ابن عباس، فقد روى عكرمة ما نسبته (09، 0) في حين لم يرو مجاهد إلا (03، 0)، وعطاء (02، 0) من مجموع تفسيره، ومع أن سعيد بن جبير قد روى عنه (12، 0) من مجموع تفسير ابن عباس وفاق عكرمة، فلعل السبب الرئيس في ذلك أن بعض الأئمة اتقى روايات عكرمة. وقد شهد لعكرمة بالتقدم في التفسير جمع من الأئمة، وقد فضله بعضهم على مجاهد.
(4) بعد المقارنة وجدت أن مجاهدا تخصص في رواية تفسيره ابن أبي نجيح، فروى ما يزيد عن (56، 0) من تفسيره، وروى ابن جريج (15، 0)، في حين روى ابن جريج (50، 0) من تفسير عطاء، وجعفر بن أبي المغيرة روى (12، 0) من تفسير سعيد.
وأما عكرمة فكان أكثر من روى عنه ابن جريج، ولم تزد نسبة ما رواه عنه عن (08، 0) من مجموع تفسيره.(1/181)
وفاته:
استقر عكرمة في آخر حياته بالمدينة، وسكن بها، ولم يرض أهل المدينة عنه، ويشهد لهذا عزوف الكثير منهم عن حضور جنازته.
فقد روى إسماعيل بن أبي أويس عن مالك بن أنس عن أبيه قال: أتي بجنازة عكرمة مولى ابن عباس، وكثير عزة، بعد العصر، فما علمت أن أحدا من أهل المسجد حل حبوته إليهما (1).
قال الذهبي: ولم يفعلوا ذلك إلا عن بلية كبيرة في نفوسهم له رضي الله عنه (2).
وقد روى البخاري، وابن المديني قالا: مات عكرمة بالمدينة سنة أربع ومائة. وزاد الفسوي في تاريخه: فما حمله أحد، اكتروا له أربعة (3).
وقد اختلف في سنة وفاته، فذهب الأكثرون إلى أنه توفي سنة 107هـ، قاله أبو نعيم، واختاره الذهبي، وابن كثير، وغيرهم (4).
وذهب ابن المديني، والبخاري، والفسوي إلى أنه توفي سنة أربع ومائة (5).
ورجح خليفة، وابن قتيبة، وابن قنفذ، وابن الجوزي، أنه توفي سنة خمس
__________
(1) تهذيب الكمال (20/ 290)، والسير (5/ 33)، وتاريخ دمشق (11/ 790)، وتاريخ الإسلام (181).
(2) السير (5/ 34).
(3) التاريخ الصغير (1/ 257)، والمعرفة (2/ 6)، والسير (5/ 34).
(4) التاريخ الصغير (1/ 243) / 258)، ودول الإسلام (1/ 75)، والعبر (1/ 100)، وتاريخ الخميس (2/ 319).
(5) التاريخ الصغير (1/ 257)، والمعرفة (2/ 6).(1/182)
ومائة (1).
وقال ابن حبان: وكان عمره أربعا وثمانين سنة (2).
* * * __________
(1) طبقات خليفة (280)، وتاريخ خليفة (336)، والمعارف (201)، والوفيات لابن قنفذ (106)، والمنتظم (7/ 102).
(2) مشاهير علماء الأمصار (84)، ورجال مسلم (2/ 110).(1/183)
عطاء بن أبي رباح
هو أبو محمد القرشي، مولاهم المكي (1)، ويقال: ولاؤه لبني جمح (2)، كان من مولّدي الجند (3)، ولد في أثناء خلافة عثمان، ونشأ بمكة (4).
قال علي بن المديني: اسم أبي رباح: أسلم مولى حبيبة بنت ميسرة ابن أبي خثيم (5)، وعطاء معدود من كبار التابعين، أدرك مائتين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم (6).
أسباب قلة الرواية عند عطاء:
ومع أن عطاء من مشاهير مدرسة مكة، إلا إنه من أقلهم خوضا في التفسير دراية،
__________
(1) طبقات ابن سعد (5/ 468)، وطبقات خليفة (280)، والمعارف (196)، والتاريخ الكبير (6/ 463)، والجرح (6/ 330)، والحلية (3/ 310)، والثقات (5/ 198)، وتهذيب الأسماء (1/ 333)، ذيل المذيل (13/ 120).
(2) طبقات ابن سعد (5/ 467)، وطبقات خليفة (280)، ووفيات الأعيان (3/ 261)، والعقد الثمين (6/ 84)، وصفة الصفوة (2/ 211)، والجمع بين رجال الصحيحين (1/ 385).
وبنو جمح بطن من قريش، انظر اللباب في تهذيب الأنساب (1/ 291)، وأنساب القرشيين (54).
(3) بلدة مشهورة باليمن، بينها وبين صنعاء ثمانية وخمسون فرسخا، ينظر معجم ما استعجم (1/ 397)، ومعجم البلدان (2/ 170).
(4) طبقات ابن سعد (5/ 467)، والجرح (6/ 330)، ومشاهير علماء الأمصار (81)، والثقات (5/ 199)، ووفيات الأعيان (3/ 261)، وتهذيب الأسماء (1/ 333)، والتذكرة (1/ 98).
(5) تهذيب الكمال (20/ 75)، والسير (5/ 80)، وتاريخ ابن معين (2/ 403)، وتهذيب التهذيب (7/ 202)، ورجال صحيح البخاري (2/ 566).
(6) التاريخ الكبير (6/ 464)، والبداية (9/ 343)، وتهذيب الكمال (20/ 77)، وتهذيب التهذيب (7/ 200)، وتاريخ دمشق (11/ 631)، وطبقات الحفاظ (39).(1/184)
ورواية (1)، ولعل من أهم الأسباب في ذلك:
1 - تحرجه من تفسير القرآن برأيه:
كان من الأسباب الرئيسة لإقلال عطاء في التفسير، تحرجه من القول فيه برأيه، وقد اتضح ذلك في منهجه، ومسلكه، وتميز بهذا بين مشاهير أصحاب ابن عباس رضي الله عنهما.
ويروي لنا ذلك أقرب الناس إليه، وأعرفهم بحاله، تلميذه ابن جريج فيقول:
كنت أسأل عطاء عن كل شيء يعجبني، فلما سألته عن البقرة، وآل عمران، أو عن البقرة، قال: أعفني عن هذا، أعفني عن هذا (2).
وكان يغلب الأثر، والسماع، على الرأي، فيتحرج في كثير من المسائل أن يقول فيها برأيه.
فعن عبد العزيز بن رفيع قال: سئل عطاء عن شيء، قال: لا أدري. قال: قيل له: ألا تقول فيه برأيك؟ قال: إني أستحي من الله أن يدان في الأرض برأي (3).
وكان يقول: لا أدري نصف العلم (4).
ومما جاء عنه أنه سأله ابن جريج عن قوله: {يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرََامِ قِتََالٍ فِيهِ} (5). فيمن نزلت؟ قال: لا أدري (6).
__________
(1) المروي عن مجاهد (6109) أقوال، وعن سعيد (1010) أقوال، وعن عكرمة (943) قولا، وعن عطاء (480) قولا: ومع هذا فثلث المروي منها جاء في تأويل آيات الأحكام.
(2) العلل لأحمد (2/ 131) 1782.
(3) سنن الدارمي (1/ 47)، وتهذيب الكمال (20/ 82)، وتاريخ دمشق (11/ 645)، والتهذيب (7/ 202).
(4) السير (5/ 85).
(5) سورة البقرة: آية (217).
(6) تفسير الطبري (4/ 310) 4091.(1/185)
وعن حبيب بن أبي ثابت قال: أرسلت إلى عطاء أسأله عن المولي (1)، فقال: لا علم لي به (2).
وما كان قوله: لا أدري، عن عجز مطلق كما يتوهم ولكن يقول: لا أدري، عند ما يكون الذي وصل إليه ظنا، لا ينبغي عنده إعلانه.
والمتتبع لما روي عنه يجد أن كثيرا من تفسيره جاء من طريق صاحبه ابن جريج (3)، وأن غالب ما ورد عنه من الآراء والتفاسير التي أخذها منه، كان جوابا لما يسأل عنه، ولم يتحدث به عن عطاء ابتداء (4).
وقد ذكر أبو بكر بن عياش، أن عطاء كان لا يتكلم حتى يسأل (5).
وكان رحمه الله من أكثر أصحاب ابن عباس أخذا وتفسيرا للآية بظاهر نصها، من ذلك ما روي عنه في تفسيره لقوله جل ثناؤه: {أَيََّاماً مَعْدُودََاتٍ فَمَنْ كََانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى ََ سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيََّامٍ أُخَرَ} (6).
قال عطاء: يفطر من المرض كله كما قال الله تعالى (7).
__________
(1) المولي: الحالف الذي يحلف على اعتزال امرأته. ينظر تفسير الطبري (4/ 465456).
(2) تفسير الطبري (4/ 497) 4663، وتاريخ أبي زرعة (1/ 449).
(3) حيث روى (50، 0) من تفسير عطاء، ولازمه أكثر من ثماني عشرة سنة.
(4) هذا من المفارقات بينه، وبين أقرانه من تلاميذ ابن عباس حيث نجد ابن جريج يروي عن مجاهد، وعكرمة، وسعيد، ولكننا نلاحظ أنه في الرواية عن أولئك يقول: سمعت مجاهدا وعكرمة وسعيدا، أما في كثير مما يرويه عن عطاء فيقول: سألت عطاء عن كذا، فقال: كذا.
(5) طبقات ابن سعد (6/ 275).
(6) سورة البقرة: آية (185).
(7) رواه البخاري تعليقا في كتاب التفسير، باب قوله: {أَيََّاماً مَعْدُودََاتٍ} *، وأشار ابن حجر إلى وصله في التغليق من طريق عبد الرزاق عن عطاء بنحوه. وينظر التغليق (4/ 176) 6568، والفتح (8/ 179)، والمصنف لعبد الرزاق (4/ 219).(1/186)
وعند قوله جل وعلا: {فَلََا جُنََاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمََا} (1).
عن ابن جريج قال: قال عطاء: لو أن حاجا أفاض بعد رمي جمرة العقبة، فطاف بالبيت ولم يسع فأصابها يعني امرأته لم يكن عليه شيء، لا حج ولا عمرة من أجل قول الله في مصحف ابن مسعود: «فمن حج البيت، أو اعتمر، فلا جناح عليه أن لا يطوف بهما» فعاودته بعد ذلك فقلت: إنه قد ترك سنة النبي صلى الله عليه وسلم، قال: ألا تسمعه يقول: {وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً} فأبي أن يجعل عليه شيئا» (2).
وعن ابن جريج قال: قلت لعطاء: قوله تعالى ذكره: {وَعَلَى الْوََارِثِ مِثْلُ ذََلِكَ} (3)؟ قال: مثل ما ذكره الله تعالى ذكره (4).
وعنه قال: سئل عطاء عن رجل صلى ولم يتمضمض، قال: ما لم يسمّ في الكتاب يجزئه (5).
وقد ذكر النووي شيئا من غريب إفتائه يدل على ما سبق.
من ذلك قوله: إذا أراد الإنسان سفرا، فله القصر قبل خروجه. ومنها: إذا كان العيد يوم الجمعة وجبت صلاة العيد، ولا يجب بعدها لا جمعة ولا ظهر، ولا صلاة بعد العيد إلا العصر (6).
ومع هذا الإقلال في إعمال الرأي، فإنه كان إذا قال في المسألة من اجتهاده، بيّنه
__________
(1) سورة البقرة: آية (158).
(2) تفسير الطبري (3/ 241) 2356، وأورده السيوطي في الدر، وعزاه إلى عبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر عن عطاء مختصرا (1/ 387).
(3) سورة البقرة: آية (233).
(4) تفسير الطبري (5/ 65) 5040، وأورده السيوطي في الدر، وعزاه إلى عبد بن حميد عن ابن جريج عن عطاء بزيادة في آخره (1/ 689).
(5) تفسير الطبري (10/ 29) 11362.
(6) تهذيب الأسماء واللغات (1/ 344)، والعقد الثمين (6/ 86).(1/187)
ووضحه، فعند قوله تعالى: {أَوْ عَدْلُ ذََلِكَ صِيََاماً} (1) قال ابن جريج: قلت لعطاء:
ما عدل ذلك صياما؟ قال: عدل الطعام من الصيام. قال: لكل مدّ يوما، يأخذ زعم بصيام رمضان، وبالظهار. وزعم أن ذلك رأي يراه، ولم يسمعه من أحد، ولم تمض به سنة (2).
ولعل هذا البعد عن الرأي، كان بسبب كثرة اشتغاله بعلم الأثر والحديث، فاستغنى بمحفوظه عن الرأي في كثير مما يعرض له.
ولذا قال الشافعي: ليس من التابعين أحد أكثر اتباعا للحديث من عطاء (3).
وكان لاتصاله برجالات مدرسة المدينة، أكبر الأثر في تأكيد هذا المعنى في نفسه، فقد رحل إلى مدينة الحديث والأثر، على صاحبها أفضل الصلاة وأتم التسليم، وتأثر بها، ويدل لذلك ما رواه عمرو بن دينار قال: لم يزالوا متناظرين (يعني: أصحاب ابن عباس) حتى خرج عطاء بن أبي رباح إلى المدينة، فلما رجع إلينا، استبان فضله علينا (4).
ولعل مما يؤكد حبه للأثر والحديث. وكثرة اشتغاله بهما، توسعه في الرواية وأخذه عن كل من حدثه ولذا اعتبر العلماء مراسيله من أضعف المراسيل لأنه يأخذ عن كل أحد.
يقول يحيى بن سعيد القطان: مرسلات مجاهد أحب إلينا من مرسلات عطاء
__________
(1) سورة المائدة: آية (95).
(2) تفسير الطبري (11/ 45) 12630.
(3) تهذيب الأسماء واللغات (1/ 333)، وتاريخ دمشق (11/ 644)، وترتيب المدارك (1/ 63).
(4) المعرفة والتاريخ (1/ 443)، وتاريخ دمشق (11/ 639)، وتهذيب الكمال (20/ 78)، والسير (5/ 82).(1/188)
بكثير، كان عطاء يأخذ من كل ضرب (1).
وقال أحمد: ليس في المرسل أضعف من مرسل الحسن، وعطاء كانا يأخذان عن كل أحد (2).
2 - اشتغاله بالفقه، والإفتاء:
كانت عناية عطاء القصوى متجهة إلى الفقه، والفتوى، لا سيما ما يتعلق بأحكام الحج ومناسكه (3)، وقد غلب هذا على منهجه، ومسلكه، بل تميز بين أصحاب ابن عباس بذلك، وفاقهم فيه (4).
يقول ربيعة الرأي: فاق عطاء أهل مكة في الفتوى (5).
بل كان ابن عباس رضي الله عنه يقول لأهل مكة: تجتمعون عليّ وعندكم عطاء (6)؟!.
__________
(1) الميزان (3/ 70)، والتهذيب (7/ 202)، والعقد الثمين (6/ 85)، وقواعد في علوم الحديث للتهانوي (156).
(2) المعرفة والتاريخ (3/ 239)، والسنن الكبرى للبيهقي (6/ 137)، وميزان الاعتدال (3/ 70)، وبحر الدم فيمن تكلم فيه الإمام أحمد بمدح أو ذم (64).
(3) بعد مراجعة تفسير الطبري وجدت مجموع ما روي عنه (480) قولا، منها (160) رواية في تفسير آيات الأحكام، (96) قولا منها في آيات الحج، أي: أن ما نسبته (60، 0) من تفسيره الفقهي كان عن الحج، ومناسكه.
(4) إذ بلغت نسبة ما روى عنه في تفسير آيات الأحكام (33، 0) من مجموع ما روى عنه في التأويل. في حين بلغت عن مجاهد ما يقرب من (03، 0) وعن عكرمة (04، 0) وعن سعيد (09، 0) من مجموع تفسيرهم.
(5) الجرح (6/ 330)، والتعديل والتجريح (3/ 1002)، وتهذيب الأسماء (334/ 1)، وتهذيب الكمال (20/ 78)، والعقد الثمين (6/ 85).
(6) التذكرة (1/ 98)، وتهذيب الكمال (20/ 77)، وطبقات علماء الحديث (1/ 172)، والتهذيب (7/ 201)، والسير (5/ 81).(1/189)
وكان ابن عمر يقول: تجمعون لي المسائل، وعندكم عطاء (1)؟!.
ويقول ابن سعد: وقد انتهت فتوى أهل مكة إليه (2).
وكان قتادة يقول: إذا اجتمع لي أربعة لم ألتفت إلى غيرهم، ولم أبال من خالفهم: الحسن، وابن المسيب، وإبراهيم، وعطاء، هؤلاء أئمة الأمصار (3).
ويقول الإمام الأوزاعي: ذهب عليهم الحسن بالمواعظ، وذهب عطاء بالمناسك (4).
وعن أبي جعفر قال: ما بقي على ظهر الأرض أحد أعلم بمناسك الحج من عطاء (5)، وكانوا يأمرون مناديا يصيح في موسم الحج: لا يفتي الناس إلا عطاء بن أبي رباح (6). بل بلغ من رفعة شأنه في هذا أن خالد بن عبد الله القسري لما أمر بفقهاء أهل مكة أن يلقوا في السجن: عطاء، وعمرو بن دينار، وطلق بن حبيب، وصهيب مولى ابن عامر، فكلّم في عطاء أن يخرج في أيام الموسم ليفتي الناس، فلما رآه أهل مكة كبّروا (7).
وتميز منهجه في تأويله لآيات الحج ومناسكه، باليسر والسهولة، والقول بعموم
__________
(1) الحلية (3/ 311)، والجرح (6/ 330)، والمعرفة (1/ 703)، وتهذيب الأسماء (1/ 334)، والبداية (9/ 346)، وتاريخ دمشق (11/ 637).
(2) طبقات ابن سعد (5/ 470)، ووفيات الأعيان (3/ 261)، والعقد الثمين (6/ 85)، ورجال صحيح مسلم (2/ 100)، وطبقات الحفاظ (39).
(3) تهذيب الأسماء (1/ 333)، وتهذيب الكمال (20/ 79)، وتاريخ دمشق (11/ 640)، وتاريخ الإسلام (ح 114هـ / 422)، والبداية (9/ 344)، وطبقات الحفاظ (39).
(4) العلل لأحمد (1/ 492) 1140.
(5) العلل لأحمد (3/ 444) 5888، والمعرفة (1/ 703)، وطبقات ابن سعد (2/ 386)، (5/ 468)، والتعديل (3/ 1002)، ومعرفة علماء الحديث (1/ 172).
(6) المعرفة (1/ 702)، والتاريخ الكبير (6/ 464)، والمنتظم (7/ 165)، والبداية (9/ 344)، وتاريخ دمشق (11/ 639637)، ومرآة الجنان (1/ 270).
(7) العلل لأحمد (2/ 468) 3070.(1/190)
لفظ الآية، وترك كثير من القيود التي كان يحتاط بها الفقهاء من التابعين ومن بعدهم.
ومن أمثلة ذلك: ما جاء عنه، عند قوله سبحانه: {فَلََا جُنََاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمََا} (1).
فعن ابن جريج قال: قال عطاء: لو أن حاجا أفاض بعد رمي جمرة العقبة، فطاف بالبيت، ولم يسع، فأصابها يعني: امرأته لم يكن عليه شيء، لا حج ولا عمرة (2).
فكان عطاء يرى أن سعي الإفاضة تطوع، ولا شيء على من تركه.
وعن أحمد بن محمد الشافعي قال: كانت الحلقة في الفتيا بمكة في المسجد الحرام لابن عباس، وبعد ابن عباس عطاء بن أبي رباح (3).
ومما يشهد لهذا البروز في الفتيا والنبوغ في الفقه، اعتماد كثير من كتب الفروع على أقواله الفقهية، وإكثارهم في إيراد آرائه، فنجده مثلا يأتي في المرتبة الأولى من بين تابعي المدرسة المكية في مغني ابن قدامة من حيث كثرة المروي عنه، وفي المرتبة الثانية من بين التابعين عموما (4)، وكان أكثر حديثه في الحج، ومناسكه، فقد حج أكثر من سبعين حجة (5).
وشهد له كثير من الأئمة بالإمامة في هذا الباب، يقول عبد العزيز بن أبي حازم عن
__________
(1) سورة البقرة: آية (158).
(2) تفسير الطبري (3/ 241) 2356، وتقدم قريبا.
(3) الحلية (3/ 311)، وصفة الصفوة (2/ 212)، والبداية (9/ 345)، وتاريخ دمشق (11/ 640).
(4) جاء عطاء في المرتبة الثانية بعد الحسن في عموم ما جاء عن التابعين في المغني، فقد ورد ذكر الحسن في (912) موضعا، في حين ذكر عن عطاء (738) موضعا، ثم إبراهيم النخعي في (696) موضعا، ثم الشعبي في (501) موضع، وغيرهم أقل منهم في ذلك.
(5) وفيات الأعيان (3/ 263)، وتهذيب التهذيب (1/ 333)، وتاريخ دمشق (11/ 641)، وغاية النهاية (1/ 513)، والعقد الثمين (6/ 86).(1/191)
أبيه: ما أدركت أحدا أعلم بالحج من عطاء (1).
وقال قتادة: أعلم الناس بالحلال والحرام الحسن، وأعلمهم بالمناسك عطاء بن أبي رباح، وأعلمهم بالتفسير عكرمة (2).
وعنه قال: عطاء أعلم أهل زمانه بالمناسك (3).
وكان يتأول الإحصار في قوله: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} (4). بأن الإحصار: كل شيء يحبسه (5).
ومن ذلك أيضا أنه لما سأله ابن جريج عن قوله: {فَمَنْ كََانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ} (6)، ما {«أَذىً مِنْ رَأْسِهِ»}؟ قال: القمل وغيره، والصداع، وما كان في رأسه (7).
هذه صور ونماذج لما روي عن عطاء تدل علي تسهيله، وبعده عن التشديد في آيات الأحكام، وأخذ الحكم من ظاهر الآية، وكان هذا المنهج سمة غالبة على تلاميذ ابن عباس، ولا سيما في مسائل الحج والعمرة وأحكامهما.
__________
(1) المعرفة (1/ 702)، وتهذيب الكمال (20/ 78)، وتهذيب التهذيب (7/ 201)، وتاريخ دمشق (11/ 638).
(2) المعرفة (1/ 702)، ووفيات الأعيان (2/ 261)، وتاريخ دمشق (11/ 638).
(3) تاريخ دمشق (11/ 638)، وطبقات ابن سعد (5/ 468).
(4) سورة البقرة: آية (196).
(5) تفسير الطبري (4/ 22) 3229، وأخرجه البخاري معلقا في صحيحه، في كتاب أبواب العمرة باب المحصر، عن عطاء بنحوه، وأشار ابن حجر في الفتح إلى وصله من طريق عبد بن حميد عن عطاء بنحوه (4/ 3)، وأخرجه الثوري في تفسيره عن عطاء بنحوه (61).
(6) سورة البقرة: آية (196).
(7) تفسير الطبري (4/ 54) 3323، وأورده السيوطي في الدر، وعزاه إلى وكيع وعبد بن حميد وابن جرير، عن عطاء بنحوه (1/ 15)، ولمزيد من الأمثلة يراجع تفسير الطبري الآثار ذوات الأرقام: 1992، 3303، 3401، 3478، 3511، 3929، وغيرها.(1/192)
وهذا الاشتغال بالفقه، والإفتاء، كان من أسباب قلة تفرغه لعلم التفسير، مع ما كان عنده من الهيبة والورع في جانب التأويل، ولذا يجد المراجع لترجمته، أن كثيرا ممن ترجم له قدم ترجمته بإبراز المعالم الواضحة في شخصيته، فاتفقت كلمة كثير من المحققين، والمؤرخين، في تصدير ترجمته بقولهم: فقيه الحرم (1)، مفتي أهل مكة (2)، فقيه الحجاز (3).
كما نجد في المقابل أن من تعرض لبيان طبقات المفسرين من التابعين، ومن بعدهم، لم يعرض لترجمة عطاء، مع تعرضه لترجمة غيره من أصحاب ابن عباس (4).
3 - قلة الناقلين لتفسيره:
كان مجلس عطاء من مجالس العلم التي قلّ الحاضرون فيها، والشاهدون لها، فما كان يشهد مجلسه إلا تسعة، أو ثمانية، كما ذكر ذلك غير واحد من أهل العلم (5).
يقول الإمام الأوزاعي: كان عطاء من أرضى الناس عند الناس، وما كان ينهد (6)
إلى مجلسه إلا سبعة، أو ثمانية (7).
__________
(1) الحلية (3/ 310)، والسير (5/ 78).
(2) تاريخ الثقات (332)، وتهذيب الأسماء (1/ 333)، وطبقات علماء الحديث (1/ 170).
(3) دول الإسلام (79)، والعبر (1/ 108)، ومرآة الجنان (1/ 270)، وتاريخ الخميس (2/ 319).
(4) كما نجد ذلك عند مراجعة كتاب طبقات المفسرين للداودي حيث ذكر ترجمته لمجاهد، وعكرمة، وسعيد، وغيرهم، ولم يذكر عطاء لعده من الفقهاء.
(5) الحلية (3/ 311)، وتاريخ أبي زرعة (1/ 449)، والمعرفة (1/ 702)، وتهذيب الأسماء (1/ 333)، والتذكرة (1/ 98)، وتهذيب الكمال (20/ 80)، والبداية (9/ 306).
(6) ينهد أي: ينهض، النهاية في غريب الحديث (5/ 134).
(7) تاريخ أبي زرعة (2/ 721)، وأبو نعيم في الحلية بلفظ: وكان أكثر من يسند إليه (3/ 311)، وذكره ابن عساكر في تاريخ دمشق باللفظين (11/ 642).(1/193)
وزاد في رواية عنه: وما كان أكثرهم من يهتدي إليه (1).
قلت: ولكن ابن جريج ممن اهتدى إليه، وأطال في ملازمته، واستخرج كثيرا من علمه بالسؤال، وأحسب أنه لولا هذا المسلك الذي سلكه ابن جريج مع عطاء لضاع كثير من علمه.
وابن جريج قد حدث عن عطاء فأكثر وجود (2)، ولازمه أكثر من ثماني عشرة سنة (3).
وعده الإمام أحمد من أثبت الناس في عطاء، هو وعمرو بن دينار (4).
وبلغ من شدة إتقانه لحديث عطاء، أن قال الثوري عنه: ما ترك ابن جريج أحدا سمع من عطاء إلا فضحه (5).
فعناية ابن جريج وإتقانه في روايته عن عطاء، وكثرة سؤاله له، أبقت على بقية من علم عطاء.
4 - ضعف اعتماده على اللغة في تفسيره:
قد يكون هذا من الأسباب المفضية إلى قلة الوارد، وندرة المروي عنه، فإن المتأمل لتفسيره يلحظ أن اتكاءه على لغة العرب كان قليلا، فإن رمت شاهدا من أشعار البلغاء، أو حجة من كلام الفصحاء، لم تكد تظفر بطائل، كما إنه لم يرد عنه القول بوقوع المعرب في الفرقان إلا في موضع فذ (6).
__________
(1) المعرفة (1/ 702)، وتاريخ دمشق (11/ 642).
(2) السير (6/ 326).
(3) المعرفة (1/ 703)، والحلية (3/ 310)، وتاريخ دمشق (11/ 643)، وصفة الصفوة (2/ 213).
(4) العلل لأحمد (2/ 496) 3272، (3/ 219) 4950.
(5) تاريخ أبي زرعة (1/ 450)، والمعرفة (2/ 21).
(6) لم يرد عنه إلا رواية واحدة في تفسير «أواه» قال: الموقن بلغة الحبشة، ينظر تفسير الطبري (14/ 528) 17395.(1/194)
ولم يكن هذا الشح في الأشعار، والندر في لغة العرب زهدا منه في ذلك، بل كان لعدم تضلعه في العربية، وقد عرف ذلك من نفسه رحمه الله وأقرّ به، فقال: وددت أني أحسن العربية. قال ذلك وهو يومئذ ابن تسعين سنة (1).
ما انفرد به من أمور في منهجه:
وبعد هذا البيان لأهم الأسباب التي كانت وراء قلة المروي عن عطاء في التفسير، أحب أن أشير إلى جملة من الأمور في منهجه، انفرد بها عن أصحاب ابن عباس منها:
1 - قلة اعتماده على روايات بني إسرائيل:
تميز رحمه الله بمنهج فريد بين سائر التابعين، وعلى الأخص بين المكيين فالمدرسة المكية من أكثر المدارس توسعا في الرواية عن بني إسرائيل ولكن عطاء خالفها مخالفة بينة واضحة في كم المروي ونوعه (2).
فعند مراجعة ما روي عنه في التفسير، نجده في كثير من المواضع التي روي فيها شيء من الإسرائيليات عن التابعين قد أعرض عنها، فعند مروره بتأويل سورة البقرة في قصة عداوة آدم وإنزاله إلى الأرض ضرب صفحا عما جاء في قصة البقرة من روايات، ولما مرّ بقوله: {وَاتَّبَعُوا مََا تَتْلُوا الشَّيََاطِينُ عَلى ََ مُلْكِ سُلَيْمََانَ} (3) تلك الآية التي ورد فيها العديد من الروايات عن الصحابة والتابعين (4)، قال عندها: نراه: ما
__________
(1) تهذيب الكمال (20/ 84)، والسير (5/ 87)، والعقد الثمين (6/ 86)، وتاريخ دمشق (11/ 649).
(2) حيث روي عنه ما نسبته (01، 0) من مجموع تفسيره، في حين روي عن مجاهد، وعكرمة (03، 0) من مجموع تفسيرهما، وروي عن سعيد (06، 0) من مجموع تفسيره.
(3) سورة البقرة: آية (102).
(4) ورد في ذلك العديد من الروايات عن الصحابة كعلي، وابن مسعود، وابن عمر، وابن عباس، وغيرهم من التابعين مثل مجاهد، وسعيد، والربيع، والسدي، وقتادة. وكثير من هذه الروايات فيها من نكارة الخبر ما يوجب رده. ينظر تفسير الطبري (2/ 436405).(1/195)
تحدّث. ولم يزد على ذلك (1).
بل ويتضح منهجه المتميز أكثر عند ما مرّ بقصة الذين خرجوا من ديارهم، نجد أنه تعامل مع القصة على ظاهرها القرآني، ولم يرض عما جاء فيها من روايات، ولم يعتمده، ولذا خالف جمهور المفسرين (2)، عند ما فسر قوله تعالى {فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ} (3) قال: ما يعرفون من الآيات، يسكنون إليها (4).
وعند ما مرّ بقوله تعالى: {وَبَقِيَّةٌ مِمََّا تَرَكَ آلُ مُوسى ََ وَآلُ هََارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلََائِكَةُ} (5) قال في تفسير البقية: العلم والتوراة (6).
في حين روي عن كثير من التابعين أن البقية هي: عصا موسى ورضاض الألواح (7).
__________
(1) تفسير الطبري (2/ 410) 1653.
(2) قال علي بن أبي طالب: هي ريح هفافة، لها وجه كوجه الإنسان، ينظر تفسير الطبري (5/ 326) 56715665، وزاد المسير (1/ 294).
وقال مجاهد: السكينة: لها رأس كرأس الهر وجناحان، ينظر تفسير الطبري (5/ 327) 56755672، وزاد المسير (1/ 294).
وقال ابن عباس، والسدي: هي طست من ذهب من الجنة، كان يغسل فيه قلوب الأنبياء.
ينظر تفسير الطبري (5/ 328) 5678، 5679، وزاد المسير (1/ 294).
قال ابن جرير معلقا على هذا الخلاف: وأولى هذه الأقوال بالحق في معنى الآية ما قاله عطاء ابن أبي رباح (5/ 329).
(3) سورة البقرة: آية (248).
(4) تفسير الطبري (5/ 329) 5682.
(5) سورة البقرة: آية (248).
(6) تفسير الطبري (5/ 334) 5699، وزاد المسير (1/ 295).
(7) قاله ابن عباس، وقتادة، والسدي، والربيع، تفسير الطبري (5/ 331)، (56915685)، وزاد المسير (1/ 295).
وانظر بعض الأقوال القريبة من ذلك في تفسير الطبري (5/ 332)، (56985694)، وزاد المسير (1/ 295).(1/196)
وعند ما مرّ بقوله سبحانه: {وَإِذْ قََالَ إِبْرََاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى ََ} (1)، لم يذكر شيئا من الإسرائيليات المروية في ذلك (2)، إنما قال: دخل قلب إبراهيم بعض ما يدخل قلوب الناس، فقال: {رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى ََ} (3).
وعطاء رحمه الله لم يرد عنه سوى خمس روايات إسرائيلية، أربع منها في قصة بناء الكعبة (4)، مع أنه رحمه الله عاش في وسط الشيوخ والأقران الذين أكثروا من النقل، والرواية عن أهل الكتاب، ومع ذلك كله تميز منهجه بالإعراض، والتحرز الشديد من قبول شيء منها أو روايته.
كما أن مما يشار إليه هنا، أن تلميذه الخاص الذي عني بنقل جل تفسيره ابن جريج، والذي صحبه ثمانية عشر عاما، كان من المهتمين والمكثرين من الرواية عن بني إسرائيل، ولو وجد شيئا من ذلك عن شيخه، وعن أقرب الناس إليه لكان به أسعد، وله أروى، ولكنه لم يجد من ذلك شيئا. مما يدل على أن إعراض عطاء كان نتاج منهج، ومسلك اتخذه لنفسه.
ذكرت هذا للتأكيد على نقطة تميز بها عطاء عن غيره من التابعين، كعامر الشعبي الذي قاربه في هذا المسلك، لكن يظل هناك فارق رئيس بينهما، ألا وهو أن عامرا الشعبي في مدرسة كانت بعيدة كل البعد عن الرواية عن بني إسرائيل، على عكس البيئة، والمدرسة التي تتلمذ فيها عطاء، واستفاد منها.
2 - قلة الملازمة والمصاحبة لابن عباس رضي الله عنهما:
فعند الرجوع لكتب التراجم، والسير، والتاريخ، لا نجد شيئا من الإشارة إلى
__________
(1) سورة البقرة: آية (260).
(2) تفسير الطبري (5/ 490486).
(3) تفسير الطبري (5/ 490) 5972، وزاد المسير (1/ 313).
(4) تفسير الطبري (3/ 6157) 2037، 2041، 2045، 2047.(1/197)
طول ملازمة أو كثرة رواية من عطاء (1) لابن عباس، إلا ما قيل أن ابن عباس رضي الله عنهما قال: يا أهل مكة تجتمعون علي وعندكم عطاء.
أما غير ذلك فلا نجد شيئا، بخلاف ما ذكر من أحوال بقية أصحابه، كمجاهد، وعكرمة، وسعيد، وغيرهم، من طول مصاحبة، وكثرة تردد، ومجالسة، ومساءلة، ولعل هذا مما يفسر الفرق والتباين في المنهج بين عطاء وغيره من أصحاب ابن عباس الذين كان تأثرهم به أكثر.
بل إن مما ظهر لي أن بعض كبار التابعين كأبي العالية البصري مع أنه بصري فإنه تأثر بأقوال ابن عباس وتفسيره أكثر من تأثر عطاء.
كما أن هذا مما يفسر، ويوضح قصر باع عطاء في التفسير، وقلة المروي عنه، إذا ما قورن بغيره من المكيين.
3 - توسعه في الفقه، والإفتاء:
فقد سبق في ماضي القول أن أشرت إلى تقدمه في هذا الجانب، حتى إنه فاق غيره من المكيين في الفتوى بعامة وفي المناسك بخاصة.
ومما يسجل هنا أن مدرسة مكة لم تعن كثيرا بالفقه كعنايتها بالتفسير، وخالف عطاء منهج المدرسة في هذا، وانفرد بطول الباع في الرواية، والعناية بالفقه، والإفتاء، وقد شغله هذا عن التفسير والإقراء (2).
__________
(1) وجدت ذلك عند مراجعة تفسير ابن عباس، فإن عطاء كان من أقل مفسري المدرسة المكية رواية لتفسير ابن عباس فقد روى سعيد بن جبير (12، 0) من مجموع تفسير ابن عباس، وروى عكرمة (09، 0) من مجموع تفسيره، ومجاهد (03، 0)، وعطاء روى (02، 0) فقط من مجموع تفسيره.
(2) المروي عن مجاهد بلغ (6109) رواية، وعن سعيد (1010) رواية، وعن عكرمة (943) رواية، وعن عطاء (480) رواية، فهو من أقلهم رواية في التفسير.(1/198)
وقد امتد به الأجل، فبارك الله له في عمره، فقارب التسعين عند وفاته عام خمسة عشر ومائة على قول الجمهور (1).
وذهب بعضهم إلى أنه توفي سنة أربع عشرة ومائة، واختار هذا القول جمع من المؤرخين (2). وكان مولده سنة سبع وعشرين (3)، وعاش ثمانيا وثمانين سنة (4).
* * * __________
(1) التاريخ الكبير (6/ 464)، وتاريخ خليفة (346)، والمصنف لابن أبي شيبة (13/ 69) 15781، والمعارف (196)، والعلل لأحمد (2/ 173) 1908، والجمع بين رجال الصحيحين (1/ 385)، ورجال صحيح مسلم (2/ 100)، ورجال صحيح البخاري (2/ 566)، والوفيات لابن قنفذ (112)، والكامل في التاريخ (5/ 179)، ومروج الذهب (3/ 215)، وفيات الأعيان (3/ 263).
(2) التذكرة (1/ 98) ودول الإسلام (79)، وطبقات علماء الحديث (1/ 172)، والبداية (9/ 343)، والنجوم الزاهرة (1/ 273)، ومرآة الجنان (1/ 270)، وتاريخ الخميس (1/ 319).
(3) الثقات (5/ 199)، ورجال صحيح مسلم (2/ 100)، والتهذيب (7/ 202)، والعقد الثمين (6/ 86).
(4) الجمع بين رجال الصحيحين (1/ 385)، ووفيات الأعيان (3/ 262)، والكامل (5/ 179)، وغاية النهاية (1/ 513)، وطبقات الحفاظ (39).(1/199)
الحسن البصري
الحسن بن أبي الحسن يسار (1) أبو سعيد مولى زيد بن ثابت، ويقال: مولى أبي اليسر كعب بن عمرو السّلمي (2).
ولد الحسن في بيت أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلّم بالمدينة سنة إحدى وعشرين للهجرة النبوية لسنتين بقيتا من خلافة عمر رضي الله عنه (3). وكانت أم الحسن مولاة لأم سلمة أم المؤمنين (4).
نشأ الحسن بوادي القرى، وكان فصيحا (5).
روى عن عمر، وعثمان، وعلي، وابن عمر، وابن عمرو، وابن عباس، وأنس بن مالك، وعمرو بن العاص، وعمران بن حصين، وأسامة بن زيد، وجابر بن عبد الله، وثوبان، وغيرهم (5).
قدم البصرة مع أنس بن مالك رضي الله عنه (6).
عوامل السبق عند الحسن:
هناك عاملان رئيسان كانا وراء تفوق الحسن، وسبقه في علم التأويل.
__________
(1) التاريخ الكبير (2/ 289)، والحلية (2/ 131)، والتذكرة (1/ 66).
(2) الجرح (2/ 40)، والمعرفة والتاريخ (2/ 32)، والتهذيب (1/ 133).
(3) طبقات ابن سعد (7/ 156)، والثقات (4/ 123)، والعبر (1/ 103)، والتهذيب (2/ 261)، والتحفة اللطيفة (1/ 476)، وتهذيب الأسماء (1/ 162).
(4) تهذيب الكمال (6/ 97).
(5) تهذيب الكمال (6/ 9897)، وتهذيب التهذيب (1/ 134).
(6) السير (4/ 564).(1/200)
أولهما: تقدمه في علوم اللغة العربية، يتضح هذا من خلال ما يلي:
أفصاحته:
كان لنشأته في البادية (1)، حيث الفصاحة، واللسان العربي المبين البعيد عن لوثة المدن، وما يخالطها من عجمة الرقيق، ثم نشأته منذ نعومة أظفاره في بيت من بيوتات النبوة على صاحبها أفضل الصلاة والسلام في بيت أم المؤمنين أم سلمة رضي الله عنها (2)، ثم تتلمذه المبكر علي يد جلة من أكابر الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين، كان لذلك الأثر الأكبر على منطقه وحسن عبارته، مما يجعل القارئ لتفسيره (3)، يلحظ ذلك التفوق، والتميز، وتلكم الفصاحة التي فاق بها الحسن أقرانه من التابعين، ومن بعدهم.
إن السبك القوي في نظم الكلام، والقدرة الفائقة في اختيار أعذب الألفاظ، وأخصرها، وأبلغها وقعا في نفوس السامعين، وأشدها تأثيرا في أحاسيسهم، كان من الأسباب الرئيسة في قبول، وانتشار أقواله وتفاسيره، وحرص الناس على روايتها، وحفظها.
لقد عني رحمه الله بمنطقة فانتقى ألفاظه، واختار كلماته حتى قال الأعمش عنه:
ما زال الحسن يعتني بالحكمة حتى نطق بها، وسمعه آخر وهو يعظ فقال: لله دره إنه لفصيح إذا لفظ، نصيح إذا وعظ (4).
__________
(1) الطبقات لابن سعد (7/ 157)، والسير (4/ 564).
(2) قال ابن سعد: يذكرون أن أمه (وهي مولاة لأم سلمة) كانت ربما غابت فيبكي الصبي، فتعطيه أم سلمة ثديها تعلله به، إلى أن تجيء أمه، فدرّ عليه ثديها فشربه، فيرون أن تلك الحكمة، والفصاحة من بركة ذلك، ينظر طبقات ابن سعد (7/ 157)، والمنتظم (7/ 136)، وتاريخ الإسلام (ح 110هـ / 51).
(3) ولجميع كلماته من مواعظ وأحكام وخطب وآداب.
(4) الحسن البصري لابن الجوزي (14).(1/201)
وكان الحسن إذا ذكر عند أبي جعفر الباقر قال: ذاك الذي يشبه كلامه كلام الأنبياء (1).
وبلغ من فصاحته رحمه الله أن قال عنه أبو عمرو بن العلاء (2): ما رأيت أفصح من الحسن، والحجاج، فقيل له: فأيهما كان أفصح؟ قال: الحسن (3).
وقال ابن عون: كنت أشبه لهجة الحسن بلهجة رؤبة بن العجاج (4)، يعني في الفصاحة (5).
وقال ابن الجزري: روينا عن الشافعي قوله: لو أشاء أقول: إن القرآن نزل بلغة الحسن لقلت، لفصاحته (6).
وعن خالد بن صفوان قال: ليس أحد يتكلم إلا وكلامه يحتاج بعضه إلى بعض، إلا الحسن فإن الكلمة الواحدة منه تجزئ (7).
وعن أيوب قال: ما سمع أحد كلام الحسن إلا ثقل عليه غيره (8).
__________
(1) حلية الأولياء (2/ 147)، وتهذيب الكمال (6/ 118)، وإحياء علوم الدين (1/ 77)، وتاريخ الإسلام للذهبي (ح 110هـ / ص 56).
(2) أبو عمرو بن العلاء المازني، النحوي القارئ البصري، من علماء العربية، ينظر معرفة القراء الكبار للذهبي (1/ 83).
(3) وفيات الأعيان (2/ 70)، والكامل لابن الأثير (4/ 132)، والسير (4/ 578)، والتهذيب (2/ 270)، والبيان والتبيين (1/ 163).
(4) رؤبة بن عبد الله العجاج التميمي، من مخضرمي الدولتين الأموية والعباسية، وكانوا يحتجون بشعره ويقولون بإمامته في اللغة، ولما مات قال الخليل: دفنا الشعر واللغة والفصاحة، ينظر وفيات الأعيان (1/ 187)، وخزانة الأدب (1/ 43)، والبداية (10/ 96).
(5) طبقات ابن سعد (7/ 166)، والتهذيب (2/ 270)، وخزانة الأدب (1/ 90)، والشذرات (1/ 138)، ومفتاح السعادة (2/ 164)، والأغاني (20/ 366).
(6) غاية النهاية (1/ 235)، ومفتاح السعادة (2/ 24).
(7) أخبار القضاة (2/ 12).
(8) المرجع السابق (2/ 13)، والمعرفة والتاريخ (2/ 51).(1/202)
وعن أيوب قال: كان الحسن يتكلم بكلام كأنه الدرّ فتكلم قوم من بعده بكلام يخرج من أفواههم كأنه القيء (1).
ومما روي عنه أن يزيد بن أبان الرقاشي تكلم، ثم تكلم الحسن البصري بعده، وأعرابيان حاضران، فقال أحدهما لصاحبه: كيف رأيت الرجلين؟ فقال: أما الأول فقاصّ مجيد، وأما الآخر فعربي محكّك (2).
وقد شهد له كثير من الأئمة بالسبق، والإمامة في الفصاحة، حتى فاق أهل زمانه (3).
والمطالع لتفسيره يجده من أحسن التابعين كلاما في تفسير القرآن الكريم (4).
هذا ما يتعلق بجانب الفصاحة، وجزالة الألفاظ، والإمامة في البلاغة.
ب تقدمه في النحو، وعدم لحنه:
فما عرف عن الحسن لحن، بل إن رجلا قال له: يا أبا سعيد: والله ما أراك تلحن، فقال يا ابن أخي، سبقت اللحن (5).
وكان رحمه الله يلحّن الفرزدق، والكميت، وذا الرمة (6).
ولم ير اللّحنة أهلا لأن يتقدم الناس، فقد سئل عن إمام يلحن، فقال أخّروه (7).
__________
(1) السير (4/ 577).
(2) البيان والتبيين (1/ 204).
(3) قال عنه ابن حبان، والذهبي، وابن حجر: إنه من أفصح أهل البصرة، ينظر الثقات (4/ 123)، والسير (4/ 565)، والتهذيب (2/ 270).
(4) التسهيل (1/ 10).
(5) مصنف ابن أبي شيبة (10/ 458) 9969.
(6) خزانة الأدب (1/ 6)، والسير (4/ 577)، والبيان والتبيين (2/ 219).
(7) غريب الحديث للخطابي (1/ 61)، والتذكار في أفضل الأذكار (124)، وشعب الإيمان (2/ 430) 2303.(1/203)
وكان يقول: تعلموا وفقكم الله العلم للأديان، والطب للأبدان، والنحو لتقويم اللسان (1).
وكان يحث على تعلم اللغة، فعند ما سئل عن قوم يتعلمون العربية قال: أحسنوا، يتعلمون لغة نبيهم صلى الله عليه وسلم (2).
قال يحيى بن عتيق: سألت الحسن، فقلت: أريت الرجل يتعلم العربية يطلب بها حسن المنطق، ويتلمس أن يقيم قراءته؟ قال: حسن يا ابن أخي فتعلمها، فإن الرجل يقرأ الآية، فيعياه توجيهها، فيهلك فيها (3)، وعنه أيضا قال: أهلكتكم العجمة، تتأولون القرآن على غير تأويله (4).
ولحرصه على حسن التلاوة، وخوفه من وقوع اللحن، والتحريف في القرآن، كان ممن يرى جواز نقط المصاحف خوفا من اللحن والتحريف، فقد سأل أبو رجاء ابن سيرين عن نقط المصاحف فقال: إني أخاف أن تزيدوا في الحروف، أو تنقصوا منها، وسألت الحسن فقال: ما بلغك ما كتب به عمر: أن تعلموا العربية، وحسن العبارة، وتفقهوا في الدين؟! (5).
هذا بالإضافة إلى ما كان عليه رحمه الله من الاطلاع الواسع، وحفظ لغات العرب، وكلامهم، ومن أمثلة ذلك:
ما ورد عنه عند تأويل قوله تعالى: {وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنََاتٍ} (6) الآية، قال:
__________
(1) الحسن البصري لابن الجوزي (37).
(2) التذكار في أفضل الأذكار (124)، ومفتاح السعادة (2/ 585).
(3) الاعتصام (2/ 239)، والإتقان (1/ 488)، ومفتاح السعادة (2/ 585).
(4) المحرر الوجيز (1/ 15)، والاعتصام (2/ 239).
(5) المصنف لابن أبي شيبة (10/ 458) 9971وفضائل القرآن لأبي عبيد (240)، وكنز العمال (2/ 365)، ومفتاح السعادة (2/ 375).
(6) سورة الأنعام: آية (100).(1/204)
خرقوا بالتخفيف كلمة عربية، كان الرجل إذا كذب في النادي قيل: خرقها ورب الكعبة (1).
ومنها ما ورد عنه عند تفسير قوله سبحانه: {حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفاً فَمَرَّتْ بِهِ} (2)، فعن أيوب قال: سألت الحسن عن هذه الآية، فقال: لو كنت امرأ عربيا لعرفت ما هي، إنما هي فاستمرت به (3).
وروي عنه عند قوله جل وعلا: {كَلََّا لََا وَزَرَ} (4) عن قتادة، قال: قال الحسن:
كانت العرب في الجاهلية إذا خشوا عدوا قالوا: عليكم الوزر: أي عليكم الجبل (5).
ج سبقه في معرفة الغريب من اللغة:
وكان من نتاج تلك الفصاحة، والتقدم في معرفة لسان العرب ولغاتها، أن اتخذه كثير من الأئمة حجة في اللغة، واستشهدوا بجمل من كلماته في ذلك، منهم: ابن قتيبة (6)، والزمخشري (7)، وأبو عيسى المديني الأصفهاني (8)، وابن الأثير (9)، وابن
__________
(1) تفسير القرطبي (7/ 36)، وأورده السيوطي في الدر، عن أبي الشيخ عن الحسن بلفظ مقارب (3/ 335).
(2) سورة الأعراف: آية (189).
(3) تفسير الطبري (13/ 304) 15500، وتفسير ابن عطية (7/ 223)، وأورده السيوطي في الدر وعزاه إلى ابن جرير، وأبي الشيخ عن أيوب، عن الحسن به (3/ 625).
(4) سورة القيامة: آية (11).
(5) تفسير الطبري (29/ 182)، وأورده السيوطي في الدر، وعزاه إلى عبد بن حميد عن الحسن بلفظ: كانت العرب إذا نزل بهم الأمر الشديد قالوا: الوزر الوزير، فلما أن جاء الله بالإسلام قال: {كَلََّا لََا وَزَرَ}، قال: لا جبل (8/ 345).
(6) في غريب الحديث حيث استشهد بقول الحسن في (16) موضعا.
(7) في الفائق في غريب الحديث حيث استشهد بقوله في (72) موضعا.
(8) في المجموع المغيث في غريبي القرآن والحديث حيث استشهد بقوله في (46) موضعا.
(9) في النهاية في غريب الحديث والأثر حيث استشهد بقوله في (150) موضعا.(1/205)
منظور (1) وغيرهم.
وكان الحسن رحمه الله من أكثر التابعين (2) معرفة، واستخداما للكلمات الغريبة في وعظه، وحديثه، وفي إجابته لمن يستفتيه، ومن أمثلة ذلك:
ما ورد عنه في مقام الوعظ حيث قال: ما تشاء أن ترى أحدهم أبيض بضّا يملخ في الباطل ملخا، ينفض مذرويه، ويضرب أسدريه، يقول: ها أنا ذا فاعرفوني! قد عرفناك، فمقتك الله، ومقتك الصالحون (3).
ومنها ما روي عنه في فتنة ابن الأشعث حيث قال: «والله إنها لعقوبة فما أدري أمستأصلة أم مجحجحة» (4).
ومنها ما ورد عنه في بعض مواعظه حيث قال: «حادثوا هذه القلوب بذكر الله،
__________
(1) في لسان العرب حيث استشهد بقوله في (261) موضعا.
(2) من خلال النظر، والمقارنة، لما روي عن التابعين في هذا، وبالتتبع والمراجعة لكتب هؤلاء الأئمة الخمسة، تبين أن أكثر من استشهد بقوله في الغريب هو الحسن حيث بلغ مجموع ما روي عنه في هذه الكتب (545) رواية، في حين بلغ مجموع ما روي عمن يليه، وهو مجاهد (242) رواية، ثم الشعبي (228) رواية، ثم قتادة (181) رواية، ثم النخعي (157) رواية، ثم ابن سيرين (127) رواية، وعطاء (127)، رواية، ثم ابن المسيب (109) رواية، ثم ابن جبير (86) رواية، ثم عكرمة (62) رواية.
(3) أورده الزمخشري في الفائق (1/ 116)، وقال في شرحه: والبضّ: الرقيق البشرة الرّخص الجسد، والملخ: الإسراع، والمرّ السهل، يقال: بكرة ملوخ: أي: سريع، والمذروان: فرعا الأليتين، والأسدران: العطفان أي يضرب بيديه عليهما، عن ابن الأعرابي: وهو مثل للفارغ، ونفض المذروين للمختال اه.
وأورد هذا الأثر مختصرا ابن الأثير في النهاية (1/ 132)، وابن منظور في اللسان (7/ 119).
(4) النهاية في غريب الحديث (1/ 240)، والمجموع المغيث في غريبي القرآن والحديث (1/ 298)، والفائق (1/ 191)، وقال الزمخشري: أراد متوقفة كافة عن الاستئصال، يقال:
جحجح عن الأمر، وجحجح عليه، إذا لم يقدم عليه.(1/206)
فإنها سريعة الدّثور، واقدعوا هذه الأنفس فإنها طلعة» (1).
ونجد هذا أيضا في حديثه العابر، وخبره، فمن ذلك قوله: كان أول من عرف بالبصرة صعد المنبر، فقرأ البقرة، وآل عمران، ففسّرها حرفا، حرفا، وكان مثجّا يسيل غربا (2).
ومنها قوله: جشأت الروم على عهد عمر رضي الله عنه (3).
وأما ما ورد عنه من غريب الألفاظ في فتاويه فكثير، من ذلك: أنه سئل عن كسب التّيّاس، فقال الحسن: لا بأس به ما لم يبسر ولم يمصر (4).
__________
(1) غريب الحديث لأبي عبيد (4/ 459)، وغريب الحديث لابن الجوزي (2/ 47)، والمجموع المغيث (2/ 361)، وكتاب القصاص والمذكرين (125)، والنهاية في غريب الحديث (1/ 268).
قال ابن الأثير: الطّلعة: التي تطلّع إلى هواها، وشهواتها، وينظر لسان العرب (8/ 260)، وأخبار النحويين البصريين لأبي سعيد السيرافي (ص 90)، وزاد أن عبد الله بن أبي إسحاق (أحد النحويين) أخرج ألواحه فكتبها، وقال: استفدناها منك يا أبا سعيد، وأورد الأثر الجاحظ في البيان (1/ 297)، وزاد أن أبا عمرو بن العلاء حدث بهذا فتعجب، وينظر أمالي المرتضى (1/ 155).
ولمزيد من الأمثلة الدالة على كثرة استعماله للغريب في الوعظ ينظر النهاية (1/ 92)، (1/ 131)، و (1/ 232) وغيرها.
(2) غريب الحديث لابن قتيبة (2/ 104)، والفائق (1/ 163)، والنهاية (1/ 207)، والبيان (231)، قال الزمخشري: شبه فصاحته وغزارة منطقه بماء يثج ثجا، الغرب: ما سال بحدّة واتصال، بغير انقطاع اه، وأورد الأثر ابن الجوزي مختصرا (1/ 119).
(3) النهاية (1/ 272)، والمجموع المغيث (1/ 329)، قال ابن الأثير: جشأت: أي نهضت، وأقبلت من بلادها، ولمزيد من الأمثلة الدالة على كثرة استعماله للغريب في الأخبار، ينظر:
الفائق (1/ 158)، و (1/ 353)، والنهاية (1/ 69)، و (2/ 6).
(4) الفائق (1/ 109)، والنهاية (1/ 126)، ولسان العرب (4/ 57)، قال ابن الأثير: البسر:
ضرب الفحل الناقة قبل أن تطلب. يقول: لا تحمل على الناقة والشاة قبل أن تطلب الفحل، وقال الزمخشري، والمصر: أن يحلب بإصبعين، أراد ما لم يسترق اللبن.(1/207)
ومنها أنه سئل: أيدالك الرجل امرأته؟ قال: نعم إذا كان ملفجا (1).
بل كان رحمه الله قد يجيب السائل، فلا يدري ما يقول لغرابة مقاله، فمن ذلك، أنه سئل عن القيء يذرع الصائم، فقال: هل راع منه شيء؟.
فقال السائل: ما أدري ما تقول، فقال: هل عاد منه شيء (2).
وقد تميز رحمه الله بعناية كبيرة ودراية في التفريق بين مشتبه الألفاظ القرآنية، حتى إن كان ليصحح لبعض كبار معاصريه. من ذلك ما أخرجه عبد الرزاق بسنده، أن أبا العالية سئل عن قول الله عز وجل: {الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلََاتِهِمْ سََاهُونَ} (3)، ما هو؟
فقال أبو العالية: هو الذي لا يدري عن كم انصرف: عن شفع، أو عن وتر؟ فقال الحسن: مه، ليس كذلك، {الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلََاتِهِمْ سََاهُونَ}، الذي يسهو عن ميقاتها حتى تفوت (4).
قال الزركشي: لم يتدبر أبو العالية حرف (في) و (عن) وتنبه له الحسن، لو كان المراد ما فهم أبو العالية لقال: «في صلاتهم»، فلما قال: {عَنْ صَلََاتِهِمْ} دلّ على أن المراد به الذهاب عن الوقت (5).
وروى أبو حيان عن عبد الله بن أبي إسحاق الحضرمي، أنه تكلم عند الحسن
__________
(1) غريب الحديث لأبي عبيد (4/ 459)، والفائق (1/ 437)، والنهاية (2/ 130)، ولسان العرب (10/ 428)، وطبقات النحويين، واللغويين (166)، وقال أبو عبيد: قوله: يدالك يعني المطل بالمهر، وكل مماطل فهو مدالك، والملفج، المعدم الذي لا شيء له.
ولمزيد من الأمثلة ينظر الفائق (1/ 424)، والنهاية (1/ 220)، (1/ 230)، و (1/ 428)، وغيرها.
(2) غريب الحديث لأبي عبيد القاسم بن سلام (4/ 458).
(3) سورة الماعون: آية (5).
(4) تفسير عبد الرزاق (2/ 400)، وأورده السيوطي في الدر، وعزاه إلى عبد الرزاق، وابن المنذر عن مالك بن دينار، به (8/ 643).
(5) البرهان (1/ 294)، (2/ 105).(1/208)
فقال: رعفت، فقال الحسن: تقول رعفت، وأنت رأس في العربية؟ قل: رعفت (1).
ثانيا: إمامته في باب الوعظ والتذكير:
من أهم المميزات التي تميز بها تأويل الحسن عن غيره من التابعين ميله إلى الوعظ في تفسيره، والإكثار من ذلك، وقد عني رحمه الله بانتقاء الكلمات البليغة في لفظها، المؤثرة في سامعها ولذا يجد الناظر في كتب التفسير، والزهد، والرقائق (2)، بل والأدب (3) أنها عنيت بإيراد أقوال هذا الإمام وتفسيراته أكثر من غيره، وقد حاز قصب السبق في الوعظ، فلا يجارى فيه، ولا يدانى في مبلغ تأثيره في قلوب سامعيه.
وقد سلك رحمه الله في تفسيره المسلك الوعظي التذكيري، فكلما سنحت له فرصة للوعظ، من خلال تفسير آية، وعظ وذكر، ولا يجد مجالا من مجالات الدعوة، والنصح، والإرشاد، والأمر، والنهي، إلا دعا، ووعظ، وأرشد، ونصح، وحذر.
__________
(1) تذكرة النحاة لأبي حيان محمد بن يوسف الغرناطي (158).
(2) القارئ في كتب الزهد، والرقائق، والتي عني مصنفوها باختيار أبلغ الألفاظ وأجزلها عبارة، وأحسنها صياغة يجد أن تفسير الحسن، وأقواله، احتلت المرتبة الأولى في مرويات هذه الكتب، بل كانت هي مادة تلك الكتب الرئيسة.
وقد رجعت في ذلك إلى أهم كتب الزهد، ككتاب الزهد لابن المبارك ولوكيع، ولهناد، فكان مجموع ما روي فيها عن الحسن ما يقارب (464) رواية، وكان الذي يليه في عدد المروي مجاهد، وبلغ ما روي عنه ما مجموعه (171) رواية، ثم الربيع بن خثيم (72) رواية
وهكذا.
ومما يجدر التنبيه عليه أنه مع هذا الفارق بين الحسن، ومجاهد، في عدد المروي، فإن هناك فارقا آخر في طريقة تفسير الآية، فالحسن يغلب على تفسيره اختيار العبارة البليغة في لفظها، المؤثرة على سامعها، أما مجاهد: فقد كان جلّ المروي عنه في هذه المرويات توضيح الغامض من الآية بعبارة قصيرة موجزة، ولم يتجه الوجهة الوعظية التربوية العاطفية كما فعل الحسن عند مروره بتلك الآيات.
(3) وعند الرجوع لكتب الأدب نجد الكثير من الروايات عن الحسن، ولا سيما في الوعظ والتذكير، وفي بيان أحوال الناس، وما ينبغي أن يكونوا عليه من الأدب مع الله، ومع عباد الله.(1/209)
والناظر في سيرته يجد الأثر البالغ لنشأته في المدينة في سني شبابه الأولى، فقد تأثر بأحوال أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، فأمه كانت مولاة لأم سلمة أم المؤمنين كما تقدم (1).
يقول رحمه الله: كنت أدخل بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم في خلافة عثمان، فأتناول سقفها بيدي (2).
هذا بالإضافة إلى كون والده وأمه كانا يعلمان الناس (3)، فعن أسامة بن زيد، عن أمه قالت: رأيت أم الحسن تقص على النساء (4).
مع ما لصحبته لأنس بن مالك رضي الله عنه وقدومه معه إلى البصرة من أثر (5)، ثم تأثره بعابد البصرة وزاهدها عامر بن عبد القيس (6).
لهذا وغيره غلب على منهجه الوعظ، والتذكير، وكان طويل الحزن كثير البكاء، رحمه الله تعالى.
فعن إبراهيم بن عيسى اليشكري قال: ما رأيت أحدا أطول حزنا من الحسن، ما رأيته إلا حسبته حديث عهد بمصيبة (7).
وساق ابن الجوزي بسنده عن مسمع قال: لو رأيت الحسن، لقلت: قد بث عليه حزن الخلائق من طول تلك الدمعة، وكثرة ذلك النشيج (8)، وكان من أحسن الناس
__________
(1) السير (4/ 564)، وتهذيب الكمال (6/ 96)، وأخبار القضاة (2/ 4).
(2) المصنف لابن أبي شيبة (13/ 240) 16223، والأدب المفرد، باب التطاول في البنيان (66).
(3) أخبار القضاة (2/ 5).
(4) المرجع السابق (2/ 5).
(5) السير (4/ 564).
(6) الحلية (2/ 93).
(7) تهذيب الكمال (7/ 112)، وزهد الثمانية من التابعين (64)، وتاريخ الإسلام، (حوادث 110هـ / ص 57).
(8) المنتظم (7/ 136).(1/210)
بكاء، وكان إذا بكى يبكي ببكائه (1).
وقد تميز عن أقرانه من التابعين بهذه الصفة، وتلكم الحالة، فضلا عن تأثيرها عليه في حديثه، وتفسيره.
أخرج ابن سعد بسنده عن الأشعث قال: كنا إذا أتينا الحسن لا نسأل عن خبر، ولا نخبر بشيء، وإنما كان في أمر الآخرة، قال: وكنا نأتي محمد بن سيرين، فيسألنا عن الأخبار، والأشعار (2).
وعن يونس قال: كان الحسن رجلا محزونا، وكان ابن سيرين صاحب ضحك، ومزاح (3).
قال رجل ليونس، تعلم أحدا يعمل بعمل الحسن؟ قال: والله ما أعرف أحدا يقول بقوله، فكيف يعمل بعمله؟! قيل له: فصفه لنا قال: كان إذا أقبل، فكأنه أقبل من دفن حميمه، وإذا جلس فكأنه أسير أمر بضرب عنقه، وإذا ذكرت النار، فكأنها لم تخلق إلا له (4).
وعن الأوزاعي قال: ذهب عليهم الحسن بالمواعظ، وذهب عطاء بالمناسك (5).
وقد بلغ في مقام الزهد والوعظ مرتبة جعلت كثيرا من النساك والزهاد والعباد يأتون إليه، ويسمعون كلامه، قال أبو سعيد الأعرابي «في طبقات النساك»: كان عامة من ذكرنا من النساك يأتون الحسن، ويسمعون كلامه، ويذعنون له بالفقه، في هذه المعاني خاصة، وكان له مجلس خاص في منزلة، لا يكاد يتكلم فيه إلا في معاني الزهد
__________
(1) العلل لأحمد (3/ 227) 4994.
(2) طبقات أحمد بن سعد (7/ 167).
(3) المرجع السابق (7/ 162)، وأورده الفسوي بلفظ مقارب، ينظر المعرفة (2/ 33).
(4) عيون الأخبار (2/ 355).
(5) العلل لأحمد (1/ 492) 1140.(1/211)
والنسك، فإن سأله إنسان غيرها تبرم به، وقال: إنما خلونا مع إخواننا نتذاكر (1).
ولقد كان لتذوقه المرهف لنصوص كتاب الله، وما تتركه الآية من عبر في نفسه فيدفعه ذلك إلى التعبير عنها بأسلوب مؤثر يترجم إحساسا صادقا في نفسه، مما يدل على رهافة حسه، فعن جعفر بن سليمان قال: سمعت حوشبا يقول: سمعت الحسن يقول: والله يا ابن آدم، لئن قرأت القرآن، ثم آمنت به، ليطولنّ في الدنيا حزنك، وليشتدّنّ في الدنيا خوفك، وليكثرن في الدنيا بكاؤك (2).
من أساليب الوعظ في تفسيره:
والقارئ لتفسيره يجد شاهد هذا من حاله رحمه الله وقد حرص على نشر تلك التوجيهات القرآنية، والتذكير بها، حتى غلب هذا على منهجه، وقد اختص بخصائص في هذا المسلك قلّ أن توجد عند غيره، من أهمها:
1 - أسلوب المخاطبة في تفسيره الوعظي:
فالمخاطبة، والحوار، والوعظ المباشر الموجه للسامعين كان من الأساليب التي كثرت في تفسيره الوعظي (3)، ومن أمثلة ذلك ما ورد عنه عند قوله جل وعلا: {وَأُتُوا بِهِ مُتَشََابِهاً} (4).
فعن أبي رجاء قال: قرأ الحسن آيات في البقرة، فأتى على هذه الآية: {وَأُتُوا بِهِ مُتَشََابِهاً} قال: ألم تروا إلى ثمار الدنيا كيف ترذلون بعضه؟ وإن ذلك ليس فيه رذل (5).
__________
(1) السير (4/ 579)، وتاريخ الإسلام (ح 110هـ / 62).
(2) الزهد لأحمد (2/ 226)، والحلية (2/ 133)، وتهذيب الكمال (7/ 111).
(3) وقد تأثر به تلميذه قتادة، ومما ينبغي الإشارة إليه، والتأكيد عليه، هو أن أسلوب المخاطبة في التأويل الوعظي للآيات، قد تميز به الحسن في تفسيره، وتبعه على ذلك قتادة، وقلّ أن نجد هذا عند غيرهما.
(4) سورة البقرة: آية (25).
(5) تفسير الطبري (1/ 389) 520، وزاد المسير (1/ 53)، وأورده السيوطي في الدر بزيادة في أوله، ثم ساقه بلفظه عن الحسن، وعزاه إلى عبد بن حميد، وابن جرير (1/ 96).(1/212)
ومنها ما ورد عند قوله سبحانه: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} (1)، قال: اعلموا وأبشروا، فإنه حقّ على الله أن يستجيب للذين آمنوا وعملوا الصالحات، ويزيدهم من فضله (2).
ومنها ما ورد عنه عند قوله تعالى: {تُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ} (3)، قال: هل علمتم أن الكافر يلد مؤمنا، وأن المؤمن يلد كافرا؟ فقال: هو كذلك (4).
ومنها ما ورد عنه عند قوله سبحانه: {بَلى ََ قََادِرِينَ عَلى ََ أَنْ نُسَوِّيَ بَنََانَهُ} (5) قال:
جعلها يدا، وجعلها أصابع يقبضهنّ، ويبسطهنّ، ولو شاء لجمعهنّ، فاتقيت الأرض بفيك، ولكن سوّاك خلقا حسنا (6)، إلى غير ذلك من الأمثلة الكثيرة عنه في هذا الباب (7).
ومما اختص به في تفسيره الوعظي:
2 - أسلوب القسم:
وقد كثر في تفسيره الوعظي هذا الأسلوب، مما يدل على اهتمامه بتأكيد تلك
__________
(1) سورة غافر: آية (60).
(2) تفسير الطبري (3/ 486) 2919.
(3) سورة آل عمران: آية (27).
(4) تفسير الطبري (6/ 308)، 6822، وتفسير الماوردي (1/ 385)، وتفسير ابن عطية (3/ 51)، والبحر المحيط (2/ 421)، وزاد المسير (1/ 370)، وتفسير القرطبي (4/ 37)، وأورده السيوطي في الدر بلفظ مقارب عن الحسن، وعزاه إلى ابن جرير، وأبي الشيخ (2/ 174).
(5) سورة القيامة: آية (4).
(6) تفسير الطبري (29/ 175)، وأورده السيوطي في الدر بنحوه عن الحسن، وعزاه إلى عبد بن حميد، وابن المنذر (8/ 344).
(7) ولمزيد من الأمثلة ينظر تفسير الطبري الآثار 261، 2134، 7629، 7867، 8043، 11801، 13061، (15/ 53)، (26/ 159) وغيرها.(1/213)
المعاني الواردة في الآية، من ذلك: ما ورد عنه عند قوله سبحانه: {فَمََا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النََّارِ} (1)، قال: والله ما لهم عليها من صبر، ولكن ما أجرأهم على النار (2).
ومنها: ما ورد عند قوله تعالى: {وَمَنْ أَحْيََاهََا فَكَأَنَّمََا أَحْيَا النََّاسَ جَمِيعاً} (3)، قال: عظّم والله في الوزر كما تسمعون، ورغّب والله في الأجر كما تسمعون! إذا ظننت يا ابن آدم، أنك لو قتلت الناس جميعا، فإن لك من عملك ما تفوز به عن النار!!، كذبتك والله نفسك، وكذبك الشيطان (4).
ومنها: أنه قرأ هذه الآية يوما: {وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} (5)، ثم وقف فقال:
إنه والله ما أمسى على ظهر الأرض عالم إلا فوقه من هو أعلم منه، حتى يعود العلم إلى الذي علّمه (6).
__________
(1) سورة البقرة: آية (175).
(2) تفسير الطبري (3/ 331) 2502، وتفسير البغوي (1/ 142)، وزاد المسير (1/ 176)، وتفسير القرطبي (2/ 159).
(3) سورة المائدة: آية (32).
(4) تفسير الطبري (10/ 239) 11801، وتفسير الماوردي (2/ 32).
(5) سورة يوسف: آية (76).
(6) تفسير الطبري (16/ 193)، 19593، وأورده السيوطي في الدر بلفظ مختصر، وعزاه إلى ابن جرير، وأبي الشيخ عن الحسن (4/ 562).
ولمزيد من الأمثلة تراجع الآثار التالية في تفسير الطبري: 1934، 2134، 4494، 8455، 10514، 10798، 11800، 12178، 12179، 17276، 18209، 1821، 18214، 18221، 18246، 19733، 20113، (15/ 119)، (15/ 121)، (18/ 51)، (18/ 142)، (19/ 34)، (20/ 134)، (22/ 88)، (23/ 101)، (23/ 156)، (25/ 68)، (26/ 159)، (26/ 205)، (30/ 259).
ولمزيد من الأمثلة يراجع كتاب الزهد للإمام أحمد: (2/ 251225) في جميع مواعظه يبدؤها بهذا القسم مؤكدا المعنى المراد.(1/214)
أثر الوعظ في تفسيره:
أشدة عبارته على المخالفين:
إن القارئ لتفسيره يجد أثر ذلك المنهج الوعظي في شدة عبارته وحدتها على المخالفين لأمر الله عز وجل، وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم.
فمن ذلك: ما ورد عنه عند قوله تعالى: {وَلَقَدْ عَفََا عَنْكُمْ وَاللََّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} (1)، قال الحسن وصفق بيديه: وكيف عفا عنهم، وقد قتل منهم سبعون، وقتل عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكسرت رباعيته، وشج في وجهه؟ قال: ثم يقول: قال الله عز وجل: «قد عفوت عنكم إذ عصيتموني ألا أكون استأصلتكم». ثم قال: هؤلاء مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سبيل الله، غضاب لله، يقاتلون أعداء الله، نهوا عن شيء فصنعوه فو الله ما تركوا حتى غمّوا بهذا الغم، فأفسق الفاسقين اليوم يتجر ثم (2) كل كبيرة، ويركب كل داهية، ويسحب عليها ثيابه، ويزعم أن لا بأس عليه! فسوف يعلم (3).
ومنها: ما ورد عنه عند قوله سبحانه: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللََّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبََادِهِ وَالطَّيِّبََاتِ مِنَ الرِّزْقِ} (4)، قال الحسن: هذا نبيي، هذا خياري، استنوا به، خذوا في سننه، وسبيله، لم تغلق دونه الأبواب، ولم تقم دونه الحجبة، ولم يغد عليه بالجفان، ولم يرجع عليه بها، وكان يجلس بالأرض ويأكل طعامه بالأرض، ويلعق يده، ويلبس الغليظ، ويركب الحمار، ويردف بعده، وكان يقول: «من رغب عن سنتي فليس مني».
__________
(1) سورة آل عمران: آية (152).
(2) يتجر ثم الرجل، تجرثم: إذا سقط من علو إلى سفل، ينظر لسان العرب (12/ 95)، والنهاية في غريب الحديث (1/ 254).
(3) تفسير الطبري (7/ 298) 8043، وأورده السيوطي في الدر بلفظه عن الحسن وعزاه إلى ابن جرير (2/ 349).
(4) سورة الأعراف: آية (32).(1/215)
ثم قال الحسن: فما أكثر الراغبين عن سننه التاركين لها! ثم إنّ علوجا فسّاقا أكلة الربا والغلول، قد سفّههم ربي ومقتهم، زعموا أن لا بأس عليهم فيما أكلوا، وشربوا، وزخرفوا هذه البيوت، يتأولون هذه الآية: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللََّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبََادِهِ وَالطَّيِّبََاتِ مِنَ الرِّزْقِ}.
وإنما جعل ذلك لأولياء الشيطان، قد جعلها ملاعب لبطنه وفرجه (1).
ومنها ما ورد عنه عند تأويل قوله عز وجل: {فَاقْرَؤُا مََا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ} (2).
فعن أبي رجاء قال: قلت للحسن: يا أبا سعيد، ما تقول في رجل قد استظهر القرآن كله عن ظهر قلبه، فلا يقوم به، إنما يصلي المكتوبة؟ قال: يتوسد القرآن، لعن الله ذاك، قال الله للعبد الصالح: {وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِمََا عَلَّمْنََاهُ} (3).
قلت: يا أبا سعيد، قال الله: {فَاقْرَؤُا مََا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ}، فقال: نعم ولو خمسين آية (4).
ب سلوك الوعظ من خلال إيضاحه لآيات الأحكام:
وكان للمنهج الذي سلكه الحسن أثره في تأويله لآيات الأحكام، حيث سلك في بعضها مسلك التوجيه، والإرشاد، فعند قوله سبحانه: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبََاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدََاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسََانٍ} (5).
قال: على هذا الطالب أن يطلب بالمعروف، وعلى هذا المطلوب أن يؤدي
__________
(1) تفسير الطبري (12/ 396)، 14537، وأورده أبو نعيم في الحلية عن الحسن بلفظ مقارب (2/ 153).
وقد أبعد النجعة في تأويل هذه الآية، فهي عامة، وليست خاصة، وهذا منه رحمه الله انسياق وراء الأسلوب الوعظي، الذي خالط شغاف قلبه، فملك تفسيره وأصبح لسانه أسيره.
(2) سورة المزمل: آية (20).
(3) سورة يوسف: آية (68).
(4) تفسير الطبري (29/ 141).
(5) سورة البقرة: آية (178).(1/216)
بإحسان (1).
وقال أيضا: أخذ الدية عفو حسن (2).
وعند تأويل قوله جل وعلا: {وَإِذََا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُوا الْقُرْبى ََ وَالْيَتََامى ََ وَالْمَسََاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفاً} (3). قال: هي ثابتة، ولكن الناس بخلوا، وشحّوا (4).
ج دقة استنباط الفوائد الدعوية:
كما كان لهذا المسلك أثره في دقة استنباطه لكثير من الفوائد الدعوية عند تفسيره لبعض الآيات.
فمن ذلك ما ورد عنه، عند تأويله لقوله جل ثناؤه: {وَشََاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} (5).
قال: قد علم الله أنه ما به إليهم من حاجة، ولكن أراد أن يستن به من بعده (6).
وقال أيضا: ما تشاور قوم قط إلا هدوا لأرشد أمورهم (7).
__________
(1) تفسير الطبري (3/ 368) 2579.
(2) تفسير الطبري (3/ 369) 2588.
(3) سورة النساء: آية (8).
(4) تفسير الطبري (8/ 8) 8667، 8668، وتفسير الماوردي (1/ 456)، وتفسير ابن عطية (4/ 27)، وزاد المسير (2/ 21)، وتفسير القرطبي (5/ 33).
(5) سورة آل عمران: آية (159).
(6) تفسير ابن أبي حاتم (ص 632) 1745، وروضة العقلاء (191)، والبيهقي في السنن بلفظ:
ولكن أراد أن يستن بذلك الحكام بعده (7/ 46)، وأشار إلى هذه الرواية النووي في تهذيب الأسماء (1/ 163)، وأوردها السيوطي في الدر، وعزاها إلى سعيد بن منصور، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والبيهقي عن الحسن به (2/ 358).
(7) تفسير الطبري (7/ 344) 8130، وابن أبي شيبة في مصنفه (9/ 10)، وابن أبي حاتم في تفسيره، بلفظ: والله ما تشاور قوم قط، إلا عزم الله لهم بالرشد وبالذي ينفع (632) 1743، وينظر تفسير الماوردي (1/ 433)، وتفسير ابن عطية (3/ 281)، وزاد المسير (1/ 488)، وأورده السيوطي في الدر، وعزاه إلى ابن أبي شيبة، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن الحسن به (2/ 359).(1/217)
ومنها: أن الحسن تلا هذه الآية: {يََا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لََا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} (1).
فقال: الحمد لله بها، والحمد لله عليها، ما كان مؤمن فيما مضى، ولا مؤمن فيما بقي، إلا وإلى جانبه منافق يكره عمله (2).
وعند تأويله قوله جل وعلا: {وَلَوْ شََاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النََّاسَ أُمَّةً وََاحِدَةً وَلََا يَزََالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118) إِلََّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذََلِكَ خَلَقَهُمْ} (3).
قال الحسن: {وَلِذََلِكَ خَلَقَهُمْ}: أما أهل رحمة الله، فإنهم لا يختلفون اختلافا يضرّهم (4).
وقال أيضا: الناس كلهم مختلفون على أديان شتى، إلا من رحم ربك، فمن رحم غير مختلف (5).
ومما يحسن ذكره في ختام هذا المبحث:
ما تميز به هذا الإمام رحمه الله في الجانب الوعظي، من الدقة في معرفة أحوال الناس، وجمال العبارة في وصفهم، مما جعل مقولته في هذا الجانب مادة لكثير من كتب الأدب (6).
وصارت أقواله حكما، ومواعظ تحفظ، وتروى، وتسير بها الركبان، وعدّت
__________
(1) سورة المائدة: آية (105).
(2) تفسير الطبري (11/ 148)، 12868، وأورده السيوطي في الدر، وعزاه إلى ابن جرير عن الحسن به (3/ 219).
(3) سورة هود: آية (118، 119).
(4) تفسير الطبري (15/ 535)، 18725، وأورد الفسوي في المعرفة بلفظ مقارب (2/ 41).
(5) تفسير الطبري (15/ 532)، 18706، وأورده السيوطي في الدر، وعزاه إلى ابن جرير، وابن أبي حاتم، وأبي الشيخ، عن الحسن به (4/ 491)، ولمزيد من الأمثلة. ينظر تفسير الطبري الآثار 2158، 4162، 7605، 7860، 17316، وغيرها.
(6) بعد مراجعة بعض كتب الأدب، كعيون الأخبار لابن قتيبة، والعقد الفريد لابن عبد ربه،(1/218)
من عيون الأخبار.
ومن النماذج المأثورة عنه في هذا المقام قوله: إن قوما جعلوا تواضعهم في ثيابهم، وكبرهم في صدورهم، حتى لصاحب المدرعة بمدرعته، أشد فرحا من صاحب المطرف بمطرفه (1).
ويقول أيضا: كان من قبلكم أرقّ منكم قلوبا وأصفق ثيابا، وأنتم أرق منهم ثيابا أصفق منهم قلوبا (2).
ومن ذلك: ما ورد عنه رحمه الله في وصف قراء القرآن حيث قال: قراء القرآن ثلاثة: رجل اتخذه بضاعة ينقله من مصر إلى مصر، يطلب به ما عند الناس، وقوم حفظوا حروفه، وضيعوا حدوده، واستدروا به الولاة واستطالوا به على أهل بلادهم، وقد كثر الله هذا الضرب في حملة القرآن لا كثرهم الله، ورجل قرأ القرآن فبدأ بما يعلم من دواء القرآن فوضعه على داء قلبه، فسهر ليله وهملت عيناه، تسربلوا الخشوع، وارتدوا بالحزن، وكدوا في محاريبهم، وجثوا في برانسهم، فبهم يسقي الله الغيث، وينزل النّصر، ويرفع البلاء، والله لهذا الضّرب في حملة القرآن أقلّ من الكبريت الأحمر (3).
ويقول رحمه الله في الحث على التواضع: إن خفق النعال خلف الرجال قل ما
__________
والبيان والتبيين للجاحظ، وجدت أن أكثر من روي عنه من التابعين في هذه الكتب: الحسن حيث بلغ مجموع ما روي عنه (229) رواية، وجاء بعده في عدد المروي: عامر الشعبي حيث بلغ مجموع ما روي عنه (132) رواية، ثم محمد بن سيرين حيث بلغ مجموع ما روي عنه (62) رواية، ثم سعيد بن المسيب حيث بلغ (34) رواية، ثم محمد بن شهاب الزهري حيث بلغ (31) رواية، ثم قتادة حيث بلغ (26) رواية.
(1) المطرف: رداء من خز مربع، له أعلام، البيان والتبيين (3/ 153)، وعيون الأخبار (2/ 372).
(2) البيان والتبيين (3/ 170).
(3) جمال القراء (1/ 106)، وكنز العمال (1/ 623)، وعيون الأخبار (2/ 123).(1/219)
تلبث الحمقى (1).
أسباب كثرة المروي عنه:
هذا من أهم ما تميز به الحسن، وكان له الأثر البالغ في كثرة المروي عنه، فسبق غيره في هذا الباب مع وجود أسباب أخرى، كان لها الأثر في كثرة الرواية عنه في باب التفسير، منها:
1 - التساهل في الرواية:
ومن أسباب كثرة المروي عنه تساهله في الرواية متنا، وسندا.
ففي جانب السهولة في رواية النص، والمتن، كان الحسن ممن يرى جواز الرواية بالمعنى، ويرى جواز التقديم، والتأخير في الألفاظ، وكذا الزيادة والنقصان إن كان قد أصاب المعنى.
فعن مهدي بن ميمون قال: قلت للحسن: الرجل يحدث بالحديث لا يألو، فيكون فيه الزيادة، والنقصان؟ قال: ومن يطيق ذلك؟! (2).
وعن مبارك بن فضالة، قال: سمعت الحسن يقول: لا بأس بالحديث أن تقدّم أو تؤخر إذا أصيب المعنى (3).
وعن جرير بن حازم قال: كان الحسن يحدث بالحديث الأصل واحد، والكلام مختلف (4).
__________
(1) سنن الدارمي (1/ 134)، وعيون الأخبار (2/ 372).
(2) العلم لأبي خيثمة (139)، طبقات ابن سعد (7/ 159)، والمحدث الفاصل (542)، (713)، والكفاية (208)، وتهذيب الكمال (6/ 121).
(3) سنن الدارمي (1/ 93)، والمحدث الفاصل (541) 708، والكفاية (207)، والجامع لأخلاق الراوي (2/ 32).
(4) سنن الدارمي (1/ 93)، والكفاية (207)، والجامع لأخلاق الراوي (2/ 31)، وعيون الأخبار (2/ 136).(1/220)
ولذا فقد عده أهل العلم ممن يرى جواز الرواية بالمعنى، وممن يرخص في ذلك.
فعن ابن عون قال: كان القاسم بن محمد، وابن سيرين، ورجاء بن حيوة، يحدثون الحديث على حروفه، وكان الحسن، وإبراهيم، والشعبي، يحدثون بالمعاني (1).
واحتج على ما ذهب إليه من جواز الرواية بالمعنى بقوله: يحكي الله تعالى عن القرون السالفة بغير لغاتها، أفكذب هذا؟ (2).
وقد عرف بهذا المنهج واشتهر به بين معاصريه، فهذا محمد بن سيرين إمام التأويل في زمانه يقول في تعبير رؤيا عرضت عليه حيث قال له رجل: رأيت في المنام حمامة التقمت لؤلؤة فخرجت منها أعظم مما دخلت، ورأيت حمامة أخرى التقمت لؤلؤة، وخرجت منها أصغر مما دخلت، ورأيت حمامة أخرى التقمت لؤلؤة، فخرجت مثلما دخلت سواء.
فقال ابن سيرين: أما الحمامة التي التقمت اللؤلؤة فخرجت أعظم مما دخلت، فهو الحسن يسمع الحديث فيجوده بمنطقه، وأما التي خرجت أصغر مما دخلت، فذاك محمد ابن سيرين يسمع الحديث فيشك فيه وينقص منه، وأما التي خرجت كما دخلت، فذاك قتادة أحفظ الناس (3).
وبالجملة، فالحسن من أكثر التابعين تساهلا في هذا، ولعل هذا من أهم الأسباب التي جعلت المروي من أقواله كثيرا.
وأما تساهله في جانب الإسناد، فيتضح جليا في إرساله لجملة من الأحاديث، والآثار، عن كثير من الصحابة، والتابعين، ولذا نجد إطالة الأئمة ممن كتب في المراسيل
__________
(1) العلم لأبي خيثمة (141)، والعلل لأحمد (2/ 266) 2206، (3/ 198) 3859، والكفاية (206)، (186)، والمحدث الفاصل (535)، وجامع بيان العلم وفضله (1/ 133).
(2) المحدث الفاصل (531).
(3) العلل لأحمد (2/ 315) 2395.(1/221)
عند تعرضهم لإرسال الحسن خاصة (1).
وكان يقول عن نفسه رحمه الله: كنت إذا اجتمع لي أربعة نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم تركتهم وقلت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (2).
وقال رجل للحسن يا أبا سعيد، إنك تحدثنا فتقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلو كنت تسنده لنا إلى من حدثك؟ فقال الحسن: أما أيها الرجل ما كذبنا ولا كذبنا، ولقد غزونا غزوة إلى خراسان، ومعنا فيها ثلاثمائة من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم (3).
وعن علي بن زيد قال: كنت أحدث الحسن بالحديث، فأسمعه يحدث به فأقول:
من حدثك فيقول: لا أدري، إلا أنه ثقة (4).
ومن مظاهر تساهله، أخذه عن كل أحد، ولذا ردّ بعض الأئمة مراسيله، وفي ذلك يقول ابن سيرين: ثلاثة كانوا يصدقون من حدثهم، وذكر منهم الحسن (5).
وكان ابن سيرين يقول لعاصم الأحول: لا تحدثني عن الحسن، ولا عن أبي العالية فإنهما لا يباليان عمن أخذا الحديث (6).
وعد الإمام أحمد مراسيل الحسن من أضعف المراسيل، وقال: إنه كان يأخذ عن
__________
(1) ينظر في ذلك المراسيل لابن أبي حاتم (من ص 31ص 46)، وجامع التحصيل للعلائي (من ص 162ص 166).
(2) جامع التحصيل ص (87، 94)، وأصول السرخسي (1/ 361).
(3) تدريب الراوي (1/ 204).
(4) الكفاية (373)، وتهذيب الكمال (6/ 122).
(5) المعرفة والتاريخ (2/ 35)، والكفاية (373)، والعلل لأحمد (1/ 442) 989، وكذا أخرجه الدارقطني في السنن (1/ 171) بلفظ: أربعة يصدقون من حدثهم.
(6) المعرفة (2/ 36)، والكفاية (392)، وتاريخ دمشق (6/ 273)، وتهذيب تاريخ دمشق (5/ 329).(1/222)
كل أحد (1).
وكان رحمه الله يتساهل في صيغ التحمل عنه، فكان يرى أن القراءة عليه هي بمقام التحديث عنه، عند الإجازة.
فعن عوف قال: أتى رجل الحسن، فقال: يا أبا سعيد، إن منزلي ناء، وإن الاختلاف يشق علي، ومعي أحاديث من أحاديثك، فإن لم تكن ترى بالقراءة بأسا قرأت، قال: ما أبالي أقرأت علي فأخبرتك أنه حديثي أو حدثتك به؟ قال: فأقول:
حدثني الحسن؟، قال: نعم قل: حدثني الحسن (2).
وكان رحمه الله يعد أصح السماع القراءة على العالم (3).
وسئل مرة عن أحاديث حدث بها عمن؟ فقال: صحيفة وجدناها (4).
ولعل من أسباب هذا التساهل عنده، وعدم الاعتناء بالإسناد، اشتهاره بالدعوة، والمواعظ، والتدريس، ومن كان هذا شأنه لا ينتظر منه في موطن التأثير على الناس أن يأتي بالسند، بل يأتي بالمتن خاليا من السند لضرورة الخطبة والموعظة (5)، وقد درج على ذلك الخطباء، والوعاظ.
قال الخطيب البغدادي: ربما أرسلوها اقتصارا، وتقريبا على المتعلم لمعرفة أحكامها كما يفعل الفقهاء (6).
__________
(1) بحر الدم فيمن تكلم فيه الإمام أحمد بمدح أو ذم (ص 64)، والكفاية (386)، وسنن البيهقي (6/ 42).
(2) تاريخ ابن معين (2/ 110)، والفتح (1/ 150).
(3) الإلماع (80).
(4) المعرفة والتاريخ (2/ 45).
(5) الحسن البصري، وحديثه المرسل د. عمر الجغيبر (347).
(6) الكفاية (396).(1/223)
والحسن معلم وداع إلى الله، وفقيه جالس العوام وأثر فيهم، واشتهر بمليح وعظه وقصه، فقد يثقل عليه في كثير من الأحيان إيراد الإسناد، فكان بعض إرساله من هذا.
حدث مرة بحديث فقال له رجل: يا أبا سعيد، عمن؟، قال: وما يصنع بعمن؟ أما أنت فقد نالتك موعظته وقامت عليك حجته (1).
وعن علي بن زيد، قال: حدثت الحسن بحديث، وهو عندي متوار في منزلي، فاستعاده ست مرات، فلما أن ظهر جعل يحدث بذاك الحديث، فقلت: يا أبا سعيد:
من حدثك بهذا؟ قال: دعنا منك، فلما أكثرت عليه قال: أنت حدثتنيه (2).
ولعل من الأسباب التي جعلت الحسن يرسل في بعض الأحيان، الجانب السياسي، فسكوت الحسن عن الرواية عن بعض الصحابة في ذلك الوقت كعلي بن أبي طالب رضي الله عنه مثلا قطعا للفتنة، فكان يفضل الإرسال بزمن الأمويين، والحجاج سيفهم على البصرة (3).
فعن يونس بن عبيد أنه قال: سألت الحسن، قلت: يا أبا سعيد: إنك تقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنك لم تدركه؟ فقال: يا ابن أخي، لقد سألتني عن شيء ما سألني عنه أحد قبلك، ولولا منزلتك مني ما أخبرتك إني في زمان كما ترى وكان في زمن الحجاج كل شيء سمعتني أقواله: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهو عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه غير أني في زمان لا أستطيع أن أذكر فيه عليا (4).
__________
(1) عيون الأخبار (2/ 137).
(2) المعرفة والتاريخ (2/ 36).
وهذا يدل على ضبط الحسن، وإتقانه رحمه الله لكنه أضرب عن إيراد الإسناد لضرورة ما يصبو إليه من وعظ الناس، وإرشادهم، وفيهم عوام لا قيمة للإسناد عندهم، غاية قصدهم ما دل عليه النص من حكم، ومواعظ، والله أعلم.
(3) الحسن البصري وحديثه المرسل (349).
(4) تدريب الراوي (1/ 204)، ولمعرفة المزيد من الأسباب، يراجع كتاب الحسن البصري وحديثه المرسل (351346).(1/224)
إلى غير ذلك من الأسباب التي أدت إلى تساهل الحسن رحمه الله في جانب الرواية سندا ومتنا.
2 - حرصه على نشر العلم، وتأثمه من كتمانه:
فعن يونس بن عبيد قال: قال الحسن احتسابا، وسكت محمد بن سيرين احتسابا (1).
وعن قتادة، عن الحسن قال: لولا الميثاق الذي أخذه الله على أهل العلم ما حدثتكم بكثير مما تسألون عنه (2).
وقد أكثر من التحديث حرصا على البلاغ، حتى بلغ حدا كره ذلك منه بعض التابعين.
فعن الشعبي قال: لو لقيت هذا (يعني: الحسن) لنهيته عن قوله: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، صحبت ابن عمر ستة أشهر فلم أسمعه يقول: قال رسول الله: إلا في حديث واحد (3).
3 - حرصه على الكتابة:
فقد كانت له كتب يراجعها، وكان يرى أن من أهم ما يحفظ العلم الكتاب.
فعن الأعمش عن الحسن قال: إن لنا كتبا نتعاهدها (4).
__________
(1) طبقات ابن سعد (7/ 162)، والعلل ومعرفة الرجال لأحمد (3/ 137) 4601.
(2) طبقات ابن سعد (7/ 158).
(3) العلل ومعرفة الرجال لأحمد (3/ 367) 5614.
(4) العلم لأبي خثيمة (1/ 125)، وتقييد العلم (101)، والمحدث الفاصل (371)، وجامع بيان العلم وفضله (1/ 124).(1/225)
ويقول أيضا: إنما نكتبه لنتعاهده (1)، وعنه قال: ما قيد العلم بمثل الكتاب (2)، وكان يأمر بنيه وبني أخيه بالكتابة.
فعن شرحبيل بن سعيد قال: دعا الحسن بنيه، وبني أخيه، فقال: يا بني، وبني أخي، إنكم صغار قوم يوشك أن تكونوا كبار آخرين، فتعلموا العلم، فمن لم يستطع منكم أن يرويه أو قال: يحفظه فليكتبه وليضعه في بيته (3).
وقد أملى رحمه الله التفسير فكتبه الناس (4).
ولم يكتف بهذا، بل كتب لهم (5).
4 - اهتمامه بمعرفة أسباب النزول، وتقدمه في هذا:
يقول عن نفسه: ما أنزل الله آية إلا أحب أن أعلم فيم أنزلت وماذا عني بها (6).
ولذا كان لا يخرج من سورة إلى أخرى، حتى يعرف تأويلها وفيم أنزلت (7).
ومما تميز به الحسن في هذا الجانب: ميله إلى القول بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، يحدوه إلى ذلك ما عني به من التعليم، والدعوة والوعظ والتذكير، فقد ورد عنه عند تأويل قوله سبحانه: {مِنْ أَجْلِ ذََلِكَ كَتَبْنََا عَلى ََ بَنِي إِسْرََائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ} الآية (8)، قيل للحسن: أهي لنا يا أبا سعيد، كما كانت لبني إسرائيل؟
__________
(1) تقييد العلم (101).
(2) المرجع السابق (101)، والمحدث الفاصل (375).
(3) سنن الدارمي (1/ 130).
(4) جامع بيان العلم وفضله (1/ 124).
(5) تقييد العلم (102).
(6) زاد المسير (1/ 4)، والمحرر الوجيز (1/ 15)، ومجموع فتاوى شيخ الإسلام (13/ 114، 284).
(7) شذرات الذهب (1/ 137).
(8) سورة المائدة: آية (32).(1/226)
فقال: إي والذي لا إله غيره، كما كانت لبني إسرائيل! وما جعل دماء بني إسرائيل أكرم على الله من دمائنا (1).
وعند قوله جل وعلا: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمََا أَنْزَلَ اللََّهُ فَأُولََئِكَ هُمُ الْكََافِرُونَ} (2).
قال الحسن: نزلت في اليهود، وهي علينا واجبة (3).
5 - كثرة الاجتهاد، وقوة الاستنباط:
لقد كان للقدرة العلمية، والقدرة العقلية التي تمتع بها الحسن رحمه الله أثر على كثرة المروي عنه حيث كثر اجتهاده لكثرة ما يعرض عليه، وقد أعمل رأيه في الاستنباط لبعض ما يعرض له، واجتهد فيما يرد عليه، لا سيما وأنه إمام عامة وخاصة، وقد غشيه الناس، وأكثروا عليه السؤال، حتى قال ثابت البناني: لولا أن تصنعوا بي ما صنعتم بالحسن لحدثتكم أحاديث مونقة، ثم قال: منعوه القائلة، منعوه النوم (4)، وهذا الإقبال من الناس جعله من أكثر التابعين تعرضا للسؤال في بيان مشكل الآيات (5)، فأعطى لفهمه وعقله، شيئا من السعة في النظر والتأمل، حتى إن بعض معاصريه نصحه، ونهاه عن ذلك فعن أبي نضرة قال: قدم أبو سلمة البصرة، فأتيته أنا والحسن، فقال للحسن: ما كان أحد بالبصرة أحب إليّ لقاء منك وذلك أنه بلغني أنك تفتي برأيك،
__________
(1) تفسير الطبري (10/ 239) 11800، وتفسير البغوي (1/ 32)، وتفسير ابن كثير (3/ 87)، وأورده السيوطي في الدر، وعزاه إلى ابن جرير عن الحسن به (3/ 65).
(2) سورة المائدة: آية (44).
(3) تفسير الطبري (10/ 357) 12060، وتفسير ابن كثير (3/ 110)، والبحر المحيط، وأورد هذه الرواية السيوطي في الدر، وعزاها إلى عبد بن حميد، وابن جرير عن الحسن، به (3/ 88).
(4) السير (4/ 584).
(5) وإن كان مجاهد ممن سبق الحسن في هذا، ولكن كان لكل واحد منهما منهج يأتي تفصيله فيما بعد.(1/227)
فلا تفت برأيك إلا أن تكون سنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم أو كتاب منزل (1).
وجاء عنه أيضا أنه لما قدم البصرة، ورأى تعظيم أهلها للحسن، قال: يا أبا سعيد، إني أرى قوما (يعني: أنهم يأخذون برأيه): فاتق رأيك (4).
ولما سئل طاوس بن كيسان عن الحسن، قال: ذاك رجل جريء (2)، وقد تعجب بعض من يستفتيه من إفتائه، فقيل له: ما تفتي به الناس، شيئا سمعته، أو تقوله برأيك؟ قال: لا والله ما كل ما نفتي به سمعنا، ولكن رأينا خير لهم (3).
وكان رحمه الله يقول: ما أنزل الله آية، إلا وهو يحب أن يعلم في ماذا أنزلت، وماذا عنى بها، وما استثنى من ذلك لا متشابها ولا غيره (5).
وهذه نماذج لبعض تلك الآيات المشكلة، والتي تعرض لها الحسن بالتفسير والبيان:
فمن ذلك: ما ورد عنه عند قوله جل وعلا: {وَإِنْ كََانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبََالُ} (6).
قال الحسن: أربع في القرآن {وَإِنْ كََانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبََالُ}: ما كان مكرهم لتزول منه الجبال، وقوله: {لَاتَّخَذْنََاهُ مِنْ لَدُنََّا إِنْ كُنََّا فََاعِلِينَ} (7): ما كنا فاعلين، وقوله: {إِنْ كََانَ لِلرَّحْمََنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعََابِدِينَ} (8): ما كان للرحمن ولد، وقوله: {وَلَقَدْ مَكَّنََّاهُمْ فِيمََا إِنْ مَكَّنََّاكُمْ فِيهِ} (9).
__________
(1) سنن الدارمي (1/ 58).
(2) المعرفة والتاريخ (2/ 44).
(3) تهذيب الكمال (6/ 108).
(4) تهذيب الكمال (6/ 109).
(5) مجموع فتاوى (13/ 284).
(6) سورة إبراهيم: آية (46).
(7) سورة الأنبياء: آية (17).
(8) سورة الزخرف: آية (81).
(9) سورة الأحقاف: آية (26).(1/228)
وفي رواية عنه زاد خامسة فقال: {فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ} (1): ما كنت في شك {مِمََّا أَنْزَلْنََا إِلَيْكَ} (2).
ومن ذلك: ما ورد عنه عند قوله تعالى: {وَإِذْ قُلْنََا لِلْمَلََائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلََّا إِبْلِيسَ أَبى ََ وَاسْتَكْبَرَ وَكََانَ مِنَ الْكََافِرِينَ} (3).
فعن الحسن قال: ما كان إبليس من الملائكة طرفة عين قط، وإنه لأصل الجن، كما أن آدم أصل الإنس (4).
ومما ورد عنه أيضا: ما جاء عند تأويله لقوله تبارك وتعالى: {يََا مُوسى ََ لََا تَخَفْ إِنِّي لََا يَخََافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ} (5).
عن الحسن قال: قال الله: إني إنما أخفتك لقتلك النفس، ثم قال: كانت الأنبياء تذنب فتعاقب (6).
ومنه ما نقل عنه عند تفسير قوله عز وجل: {يَوْمَ لََا يُخْزِي اللََّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعى ََ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمََانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنََا أَتْمِمْ لَنََا نُورَنََا وَاغْفِرْ لَنََا إِنَّكَ عَلى ََ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (7)، حيث قال: ليس أحد إلا يعطى نورا يوم القيامة يعطى المؤمن والمنافق، فيطفأ نور المنافق، فيخشى المؤمن أن يطفأ نوره، فذلك قوله:
{رَبَّنََا أَتْمِمْ لَنََا نُورَنََا} (8). قال: يدعونه تقريبا إليه، كقوله: {وَاسْتَغْفِرْ}
__________
(1) سورة يونس: آية (94).
(2) تفسير الطبري (13/ 247).
(3) سورة البقرة: آية (34).
(4) تفسير الطبري (1/ 506) 696، وأورده ابن كثير في تفسيره، وصحح إسناده (1/ 110).
(5) سورة النمل: آية (10).
(6) تفسير الطبري (19/ 136)، وتفسير القرطبي (13/ 109).
(7) سورة التحريم: آية (8).
(8) تفسير الطبري (28/ 169)، والبحر المحيط (8/ 294).(1/229)
{لِذَنْبِكَ} (1)، وهو مغفور له (2).
وقد بلغ الحسن في هذا العلم شأنا كبيرا، حتى إن التابعين من المدرسة المكية، كانوا يسألونه عن بعض ما أشكل عليهم، عند ما قدم إلى مكة يقول ابن سعد: إن الحسن لما قدم مكة أجلسوه على سرير، واجتمع الناس إليه فحدثهم، وكان فيمن أتاه مجاهد، وعطاء، وطاوس، وعمرو بن شعيب، فقالوا، أو قال بعضهم: لم نر مثل هذا قط (3).
ويقول عقبة بن أبي حمزة: شهدت الحسن بمكة، قال: وجاءه طاوس، وعطاء ومجاهد، فسألوه عن قول الله تبارك وتعالى: {لَوْ أَرَدْنََا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً لَاتَّخَذْنََاهُ} (4)، قال الحسن: اللهو المرأة (5).
وقد أفضى به هذا التوسع في بيان مشكل الآية إلى مخالفة الظاهر من النص القرآني، وصرفه عن المعنى القريب إلى معنى بعيد غير ظاهر، ولعل من أسباب ذلك أن الحسن إمام غلب على حسه وفهمه الجانب الوعظي، مما جعله يصرف بعض معاني الآيات عن الظاهر خشية أن يحدث إشكال في أذهان سامعيه للمعنى القريب الظاهر.
ومن أبرز الأمثلة على ذلك، ما ورد عنه عند تأويل قوله سبحانه: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ} (6).
__________
(1) سورة محمد: آية (19).
(2) البحر المحيط (8/ 294).
(3) طبقات ابن سعد (7/ 158)، وتهذيب الأسماء (1/ 162)، وتهذيب الكمال (6/ 125).
(4) سورة الأنبياء: آية (17).
(5) تفسير الطبري (17/ 10)، وتفسير القرطبي (11/ 183)، ولمزيد من الأمثلة الدالة على اهتمامه ببيان المشكل وإيضاحه، يراجع تفسير الطبري الآثار: 1680، 1697، 2502، 3498، 5609، 5610، 7022، 7135، 7140، 7351، 7629، 11802،
وغيرها.
(6) سورة المائدة: آية (27).(1/230)
قال رحمه الله: كان الرجلان اللذان في القرآن، اللذان قال الله: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ}، من بني إسرائيل، ولم يكونا ابني آدم لصلبه، وإنما كان القربان في بني إسرائيل، وكان آدم أول من مات (1).
ومنها: ما ورد عنه عند تفسير قوله جل ثناؤه: {قََالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللََّهُمَّ رَبَّنََا أَنْزِلْ عَلَيْنََا مََائِدَةً مِنَ السَّمََاءِ} (2) الآية. عن قتادة قال: كان الحسن يقول: لما قيل لهم:
{فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ}، إلى آخر الآية، قالوا: لا حاجة لنا فيها! فلم تنزل (3).
وعن منصور بن زاذان، عن الحسن: إنه قال في المائدة: لم تنزل (4).
ومنها: ما نقل عنه عند تأويل قوله تبارك وتعالى: {إِذْ يُرِيكَهُمُ اللََّهُ فِي مَنََامِكَ قَلِيلًا} (5)، قال {فِي مَنََامِكَ}: بعينك (6).
ومنها: ما جاء عنه في تفسير قوله جل وعلا: {وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً} (7)، قال الحسن: لم يكن سجودا، لكنه سنة كانت فيهم، يومئون برءوسهم
__________
(1) تفسير الطبري (10/ 208) 11719، وتاريخ الطبري (1/ 71)، وزاد المسير (2/ 331)، والمحرر الوجيز (5/ 77)، وأورده السيوطي في الدر، وعزاه إلى عبد بن حميد، وابن جرير عن الحسن به (3/ 56).
وقد انفرد بهذا القول، وخالفه أخص تلاميذه: قتادة.
(2) سورة المائدة: آية (114).
(3) تفسير الطبري (11/ 231) 13020)، وأورده ابن كثير في تفسيره، وصحح إسناده (3/ 225)، وأورده السيوطي في الدر، وعزاه إلى عبد بن حميد، وابن جرير وابن أبي حاتم، وابن الأنباري، عن الحسن به (3/ 237).
(4) تفسير الطبري (11/ 231) 13021، تفسير ابن كثير (3/ 225).
(5) سورة الأنفال: آية (43).
(6) أورده ابن كثير في تفسيره من رواية ابن أبي حاتم، ثم قال: وهذا القول غريب، وقد صرح بالمنام هنا، فلا حاجة إلى التأويل، الذي لا دليل عليه اه. (4/ 13)، وقد ضعف هذا القول كثير من المفسرين منهم الزمخشري، وأبو حيان، ينظر البحر المحيط (4/ 501).
(7) سورة يوسف: آية (100).(1/231)
إيماء (1)، وجعل الضمير في قوله: (وخروا له) عائدا على الله (2).
وروي عنه في تفسير قوله سبحانه: {وَنََادى ََ نُوحٌ ابْنَهُ} (3)، أنه كان يحلف أنه ليس ابنه لصلبه، قال قتادة: فقلت له: إن الله حكى عنه: {إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي}، وأنت تقول: لم يكن ابنه، وأهل الكتاب لا يختلفون في أنه كان ابنه، فقال: ومن يأخذ دينه من أهل الكتاب؟! ثم قال: يقول: من أهلي، ولم يقل: مني (4).
وكان رحمه الله يرى أن الإسراء كان بالروح دون الجسد، ويستدل بقوله سبحانه: {وَمََا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنََاكَ إِلََّا فِتْنَةً لِلنََّاسِ} (5)، ويستدل بقول الله في الخبر عن إبراهيم، إذ قال لابنه: {يََا بُنَيَّ إِنِّي أَرى ََ فِي الْمَنََامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مََا ذََا تَرى ََ} (6)، ثم يقول: فعرفت أن الوحي يأتي للأنبياء من الله أيقاظا، ونياما (7).
هذه جملة من أبرز الأمثلة المروية عنه في ذلك، ومع هذا فإن المستقرئ، والمتتبع لتفسيره رحمه الله يجد أن أكثره، كان بالمأثور، وأما تفسيره بالرأي فقد كان قليلا.
6 - عدم دخوله في الفتن:
وهذا من المعالم البارزة في شخصية هذا الإمام، فإنه قد عاصر منذ صباه الاضطرابات الداخلية التي أصابت دولة الخلافة، وانتهت بمقتل عثمان رضي الله عنه
__________
(1) تفسير ابن عطية (9/ 378)، وتفسير القرطبي (9/ 173).
(2) المرجعان السابقان.
(3) سورة هود: آية (42).
(4) البحر المحيط (5/ 226)، وأشار إلى هذه الرواية ابن عطية في المحرر بلفظ مختصر (9/ 161).
(5) سورة الإسراء: آية (60).
(6) سورة الصافات: آية (102).
(7) تفسير الطبري (15/ 16)، وتفسير ابن كثير (5/ 41).(1/232)
وفي ذلك يقول: كنت بالمدينة يوم قتل عثمان وأنا ابن أربع عشرة سنة (1)، ثم نشأ وعاصر أحداث هذه الثورة، وما تلاها من انشقاق وفتن، وعاش فتنة ابن الأشعث في البصرة، التي خرج فيها عامة القراء، والزهاد، والعلماء، التي هزم فيها ابن الأشعث وأصحابه (2).
هذا وغيره مما جعل الحسن يبتعد عن هذه الفتن، وينهى عنها.
ولم يكن ذلك جبنا، وخوفا، فهو الذي شغل في صباه بالجهاد عن طلب العلم (3)، وهو الواعظ المشهور الذي كان يأتي الحكام فيأمرهم، وينهاهم ويذكرهم بالله، ولا يخاف في الله لومة لائم، وإنما كان هذا البعد من الفتن منهجا اختطه هذا الإمام عن قصد، وتوجه ولذا عده بعض الأئمة من رءوس العلماء في الفتن، والدماء (4).
ومما جاء من خبره في هذه الفتن، أن الناس أشاروا على ابن الأشعث إن أراد أن يخرج الناس معه أن يخرج الحسن، يقول ابن عون: استبطأه الناس أيام ابن الأشعث، فقالوا له: أخرج هذا الشيخ (يعني: الحسن)، قال ابن عون: فنظرت إليه بين الجسرين، وعليه عمامة سوداء، قال: فغفلوا عنه، فألقى نفسه في بعض تلك الأنهار حتى نجا منهم، وكاد يهلك يومئذ (5).
ولما سئل عن الحجاج، فقيل له، يا أبا سعيد، ما تقول في قتال هذا الطاغية الذي سفك الدم الحرام، وأخذ المال الحرام، وترك الصلاة، وفعل وفعل؟
__________
(1) السير (4/ 569)، وأخبار القضاة (2/ 6).
(2) يقول شيخ الإسلام ابن تيمية في هذه الفتنة: فهزموا، وهزم أصحابهم، فلا أقاموا دينا ولا أبقوا دنيا، والله تعالى لا يأمر بأمر لا يحصل به صلاح الدين والدنيا، وإن كان فاعل ذلك من أولياء الله المتقين ومن أهل الجنة، ينظر منهاج السنة (4/ 528).
(3) السير (4/ 572).
(4) طبقات ابن سعد (7/ 163)، والسير (4/ 575).
(5) طبقات ابن سعد (7/ 163)، وتاريخ الإسلام (ح 110هـ / 53).(1/233)
فقال الحسن: أرى ألا تقاتلوه، فإنها إن تكن عقوبة من الله، فما أنتم برادي عقوبة الله بأسيافكم، وإن يكن بلاء، فاصبروا حتى يحكم الله، وهو خير الحاكمين (1).
وكان يقول: الحجاج عذاب الله، فلا تدفعوا عذاب الله بأيديكم، ولكن عليكم بالاستكانة، والتضرع، فإن الله تعالى يقول: {وَلَقَدْ أَخَذْنََاهُمْ بِالْعَذََابِ فَمَا اسْتَكََانُوا لِرَبِّهِمْ وَمََا يَتَضَرَّعُونَ} (2).
وسأله رجل (وأناس من أهل الشام عنده)، فقال: يا أبا سعيد: ما تقول في الفتن مثل يزيد بن المهلب، وابن الأشعث؟ فقال: لا تكن مع هؤلاء ولا مع هؤلاء، فقال رجل من أهل الشام: ولا مع أمير المؤمنين يا أبا سعيد، فقال: نعم، ولا مع أمير المؤمنين (3).
ولذا فقد احتاج الناس إلى علم الحسن، لبعده عن هذه الفتن، يقول عبد الله بن عون: كان مسلم بن يسار (4) أرفع عند أهل البصرة من الحسن، حتى خف مع ابن الأشعث، وكف الحسن، فلم يزل أبو سعيد في علو منها بعد، وسقط الآخر (5).
وعن مالك بن دينار، قال: لقيت معبدا الجهني بمكة، بعد ابن الأشعث وهو جريح، وقد قاتل الحجاج في المواطن كلها، فقال: لقيت الفقهاء والناس، لم أر مثل الحسن، يا ليتنا أطعناه! (6).
بل وكان رحمه الله ينهى عن الدخول في الفتن، ويغلظ القول في ذلك.
__________
(1) طبقات ابن سعد (7/ 164).
(2) سورة المؤمنون: آية (76)، منهاج السنة (4/ 529)، وتاريخ الإسلام (110هـ / 54).
(3) طبقات ابن سعد (7/ 164).
(4) مسلم بن يسار البصري، أبو عبد الله الفقيه، ثقة عابد مات سنة مائة، قال عنه قتادة: خامس خمسة من فقهاء البصرة، ينظر التقريب (531)، المعرفة (2/ 88).
(5) طبقات ابن سعد (7/ 165)، والسير (4/ 513).
(6) التاريخ الصغير (1/ 204).(1/234)
فعن شعبة قال: انتهيت إلى الحسن البصري، قال: كلما نعر كلب أو ديك تبعتموه (1).
ولذا نجد أن بعض الفرق كرهوا الحسن، وشنعوا عليه من هذا الباب، وفي ذلك يقول قتادة: والله لا يبغضه إلا حروري (2).
7 - تقدمه، وجمعه لفروع عديدة من العلم:
يقول ابن سعد: وكان الحسن جامعا عالما عاليا رفيعا كبير العلم فصيحا (3).
وعن الحجاج بن الأسود، قال: تمنى رجل فقال: ليتني بزهد الحسن، وورع ابن سيرين، وعبادة عامر بن عبد قيس، وفقه سعيد بن المسيب! فنظروا ذلك، فوجدوه كلاما كله في الحسن (4).
ويقول عنه ابن حبان: كان من علماء التابعين، بالقرآن والفقه والأدب (5).
والمطالع في تفسيره يجد شاهد ذلك، في كثرة تعرضه لآيات الأحكام والقراءات والغريب وغير ذلك، مما يدل على تقدمه في كثير من فروع العلم، مما كثر المنقول عنه في هذه الفروع، وكان من الأسباب في كثرة المروي عنه في التفسير وغيره.
وقد كانت حلقته في المسجد يمر فيها الحديث، والفقه، وعلم القرآن، واللغة،
__________
(1) المرجع السابق (1/ 247).
(2) طبقات ابن سعد (7/ 174)، وتهذيب الكمال (6/ 108).
الحرورية: نسبة إلى حروراء، قرية من قرى الكوفة، تجمع بها المحكمة الأولى الذين خرجوا على أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه، بعد تحكيم الحكمين، فكفروا عليا وتبرئوا منه فحاربهم بالنهروان، ومنهم افترقت فرق الخوارج كلها. يراجع مقالات الإسلاميين (1/ 128) والفرق بين الفرق ص (75)، والملل والنحل (1/ 115).
(3) طبقات ابن سعد (7/ 157).
(4) طبقات ابن سعد (7/ 165)، والمعرفة (2/ 61).
(5) مشاهير علماء الأمصار (88)، وطبقات علماء الحديث (1/ 142).(1/235)
وسائر العلوم، وكان ربما يسأل عن التصوف فيجيب، وكان منهم من يصحبه للحديث، ومنهم من يصحبه للقرآن، والبيان، ومنهم من يصحبه للبلاغة (1).
بل كان رحمه الله يستثنى من كل غاية فيقال: فلان أزهد الناس إلا من الحسن، وأفقه الناس إلا من الحسن، وأفصح الناس إلا من الحسن، وأخطب الناس إلا من الحسن (2).
8 - تقدمه في القراءة:
يعد الحسن أحد القراء الأربعة (3)، الذين تنسب إليهم القراءات الزائدة على العشر (4).
ولذا نجد الأئمة من المفسرين يعتنون بإيراد قراءته والترجيح بها.
ومما تميز به بين عموم مفسري التابعين في هذا الباب، عنايته بتصحيح الأداء، والنطق في القراءة (5).
ولذا كان له اختيار في القراءة، وقد جعله الحجاج رئيس اللجنة في كتابة
__________
(1) السير (4/ 579).
(2) المستطرف (1/ 157).
(3) القراء الأربعة هم: الحسن البصري (110هـ)، وابن محيصن (123هـ)، ويحيى اليزيدي (202هـ)، والشنبوذي (388هـ).
(4) العشرة هم: القراء السبعة: ابن عامر (118هـ)، وابن كثير (120هـ)، وعاصم (127هـ)، وأبو عمرو (154هـ)، وحمزة (188هـ)، ونافع (169هـ)، والكسائي (189هـ)، والثلاثة الباقون: هم أبو جعفر (130هـ) ويعقوب (225هـ)، وخلف (229هـ).
(5) من الأمثلة الدالة على ذلك، ينظر تفسير الطبري الآثار 2792، 8047، 8151، 13731، 14626، 18812، 19170، 20548، 20549، والصفحات ذوات الأرقام (16/ 12)، (16/ 206)، (23/ 73)، (23/ 117)، (28/ 18)، (28/ 30)، (28/ 160)، (29/ 240)، (30/ 39)، (30/ 215)، (30/ 218)، (30/ 294).(1/236)
المصحف (1).
مع ما سبقت الإشارة إليه من فصاحة الحسن، وقدرته الفائقة على الإيضاح، والبيان بأجمل عبارة، وأقواها، وكذا سعة علمه بمعرفة الغريب من كلام العرب، هذا، وغيره من العوامل التي ساعدت على نشر تفسيره رحمه الله وروايته.
9 - إكثاره في باب الوعظ، والتذكير:
فالحسن جمع بين التعليم، والدعوة، فكثر توجيهه، وتعليمه، وقد أوتي حظا وافرا من الفصاحة والبيان والقدرة على التأثير، حتى كان فردا في زمانه في هذا الباب (2).
يقول عنه الإمام الذهبي: كان مليح التذكير، بليغ الموعظة، رأسا في أنواع الخير (3).
وقد نقل عنه كثير من هذه المواعظ والحكم، في آيات الوعد والوعيد، وآيات الترغيب، والترهيب، لما لتفسيره من أثر بالغ على قلب السامعين ولذا حرص المفسرون على نقل تلك الكلمات، وروايتها، فكان هذا من أسباب كثرة المروي عنه.
سئل الأوزاعي: أي الناس أعلم؟ قال: ذهب عليهم الحسن بالمواعظ، وذهب عليهم عطاء بالمناسك (4).
وقد أقر له بعض معاصريه من أئمة التابعين بهذا التقدم في باب الوعظ، روى معمر قال: جاء رجل إلى ابن سيرين، فقال: رأيت حمامة التقمت لؤلؤة، فخرجت منها أعظم مما دخلت، ورأيت حمامة أخرى التقمت لؤلؤة، فخرجت أصغر مما
__________
(1) نكتب الانتصار، لنقل القرآن (396).
(2) صبح الأعشى (1/ 517)، وقد سبقت الإشارة إلى ذلك.
(3) تذكرة الحفاظ (1/ 72).
(4) العلل لأحمد (1/ 197).(1/237)
دخلت، ورأيت حمامة أخرى التقمت لؤلؤة، فخرجت كما دخلت سواء، فقال ابن سيرين: الحمامة الأولى الحسن يسمع الحديث فيجوده بمنطقه، ثم يصل فيه من مواعظه، والثانية: ابن سيرين يشك فيه فينقص منه، والثالثة: قتادة فهو أحفظ الناس (1).
العوامل التي أدت إلى تقليل نتاجه مقارنة بغيره:
ومع هذه الأسباب التي أدت إلى كثرة المروي عنه إلا أن هناك عوامل أخرى أدت إلى تقليل هذا النتاج مقارنة بغيره، وإلا لكان المروي عنه أكثر من هذا، من هذه العوامل:
1 - عدم تخصص أحد من تلاميذ الحسن لرواية تفسيره والانقطاع لذلك:
فالناظر في المروي عنه في التفسير، يلاحظ عدم تفرغ أحد من تلاميذه لنقل مروياته، فقتادة وهو من أكثر الملازمين له، بل ومن أكثر التلاميذ رواية عنه، لم يرو إلا نسبة قليلة من تفسيره (2)، مع ما يلاحظ من أن بعض من روى تفسير الحسن غير مرضي
__________
(1) تهذيب الأسماء (2/ 57)، وسبق قريبا.
(2) حيث بلغ ما نقله عنه (180) رواية من مجموع تفسيره (في تفسير الطبري)، البالغ (1487) رواية أي ما نسبته (12، 0)، وكان الذي يليه في العناية بنقل تفسير الحسن، معمر بن راشد حيث روى (172) رواية، أي ما نسبته (5، 11، 0)، وغيرهم دونهم في ذلك.
في حين أن مجاهدا، وقتادة، وغيرهم، وجد من تلاميذهم من يعنى ويتخصص في نقل تفسيرهم، فهذا مجاهد عني بنقل تفسيره ابن أبي نجيح، فروى ما يزيد على نصفه حيث بلغ نسبة ما رواه (56، 0) من مجموع ما ورد عنه في تفسير الطبري البالغ (6109) أثرا، وعني بجزء من الباقي ابن جريح حيث نقل ما نسبته (15، 0) من مجموع تفسيره.
ومثله قتادة حيث تفرغ لنقل تفسيره سعيد بن أبي عروبة، فروى ما نسبته (62، 0) من مجموع تفسيره، البالغ (5379) رواية، وقريبا منه ما رواه معمر بن راشد حيث روى عنه ما نسبته (30، 0) من مجموع تفسيره.
وأحب هنا أن أسجل نتيجة ظهرت لي، وترجحت عندي، وهي أن قطعة كبيرة من تفسير(1/238)
الحال كعمرو بن عبيد (1)، وواصل بن عطاء (2) لذا فقد أعرض كثير (3) من المفسرين عن نقل ما جاء من طريقهم، كعبد الرزاق، وابن جرير، وابن أبي حاتم
وغيرهم.
2 - اشتغاله بالفقه، وتصدره للفتوى:
كان رحمه الله إماما في هذا، وممن تصدى لتدريس العامة والخاصة، ووعظهم، وتعليمهم، ومن كانت هذه حاله فإن من أحوج ما يحتاج إليه الناس السؤال عن
__________
الحسن نقلها المفسرون عن قتادة، وهي في الأصل من تفسير الحسن، يشهد لذلك ويؤيده جملة من القرائن والأدلة من أهمها:
1 - أن قتادة تتلمذ على الحسن، ولازمه أكثر من اثنتي عشرة سنة، كما سيأتي إن شاء الله.
2 - كان قتادة ممن يحرص على الآثار بعامة، وبخاصة ما يتعلق منها بالتفسير، وكان يقول: ما من آية إلا وسمعت فيها شيئا، مع ما يعلم من حاله من كرهه للاجتهاد بالرأي.
3 - مع ما يلاحظه القارئ لتفسيره (أعني: قتادة) من التشابه، والتطابق مع تفسير الحسن في كثير من الأحيان، مما يؤكد أن كثيرا من تفسيره مستفاد من تفسير الحسن، ورواه قتادة من تأويله، لا سيما وأن قتادة كان آية في الحفظ بين التابعين، بل كان مضرب المثل في ذلك.
4 - ومما يؤكد هذا أن المراجع لكتب الفقه، والوعظ، والأدب، يجدها مليئة بكم كبير من فتاوى الحسن، في حين أن كتب التفسير بالمأثور قل فيها الرواية عنه، وخصوصا ما كان منها في تلك الجوانب، ولم ينقل إلا شطر منها، وأغلب الظن بعد التتبع، والمقارنة، أن جزءا كبيرا من تأويلات الحسن وصلت إلينا في كتب التفسير منسوبة إلى تلاميذه، وخاصة، ما كان من تفسير قتادة.
(1) عمرو بن عبيد أبو عثمان البصري، كبير المعتزلة، مات سنة (144هـ)، ينظر الخلاصة (109)، ومروج الذهب (3/ 313)، وغاية النهاية (1/ 602).
(2) واصل بن عطاء أبو حذيفة، مولاهم البصري، وكان رأسا في الاعتزال، مات سنة (131هـ)، ينظر معجم الأدباء (19/ 243)، والفرق بين الفرق (117)، وميزان الاعتدال (4/ 329).
(3) تاريخ التراث (1/ 72). وأما الثعلبي في الكشف فقد نقل تفسير الحسن من طريق عمرو بن عبيد، وتبعه على ذلك البغوي في المعالم.
ينظر مقدمة تفسير البغوي (1/ 28)، وتاريخ التراث (1/ 72).(1/239)
الأحكام العملية التي ترتبط بعباداتهم وعلاقاتهم، وسلوكهم، فاشتغل رحمه الله بهذا، وكان له الأثر في عدم تفرغه، وانقطاعه لعلم التفسير (1).
وقد أثنى عليه قتادة وهو أقرب الناس إليه، وأخصهم بمعرفة حاله أثنى عليه في الجانب الفقهي، وقدم غيره عليه في الجانب التفسيري.
فعنه قال: أعلم الناس بالحلال والحرام الحسن، وأعلمهم بالمناسك عطاء بن أبي رباح، وأعلمهم بالتفسير عكرمة (2).
ولذا عدّ الحسن فقيه البصرة بلا منازع (3)، وقد أثنى عليه الأئمة في هذا.
فعن علي بن زيد قال: أدركت عروة بن الزبير، ويحيى بن جعدة، والقاسم بن محمد، فلم أر فيهم مثل الحسن، ولو أن الحسن أدرك أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وهو رجل لاحتاجوا إلى رأيه (4).
وكان قتادة يقول: ما جالست فقيها قط، إلا رأيت فضل الحسن عليه (5).
وقال بكر بن عبد الله: الحسن أفقه من رأينا (6).
وقد بلغ من كثرة المروي عنه في الفقه، أن جمع بعض العلماء (7) فتاواه في سبعة
__________
(1) بخلاف ما كان عليه مجاهد، وقتادة حيث تفرغا لهذا العلم، ولم ينقل عنهم في العلوم الأخرى من الروايات مثل ما نقل عنهما في التفسير.
(2) المعرفة (1/ 701)، (2/ 16)، والسير (5/ 17).
(3) شذرات الذهب (1/ 137).
(4) طبقات ابن سعد (7/ 161)، والمعرفة (2/ 32)، وطبقات الفقهاء (87).
(5) تهذيب الكمال (6/ 107).
(6) تهذيب الأسماء واللغات (1/ 162)، والتحفة اللطيفة (1/ 477).
(7) وهو محمد بن أحمد بن يحيى بن مفرج القاضي، قال: الحميدي في جذوة المقتبس: وصنف محمد بن أحمد في فقه التابعين منها «فقه الحسن البصري» في سبع مجلدات، الجذوة (40).(1/240)
أسفار ضخمة (1).
وقد فاق غيره من التابعين في سعة علمه، وإحاطته بسائر الأحكام.
فعن مطر، قال: كان علم عطاء في المناسك، وكان علم إبراهيم في الصلاة، وكان علم صاحبنا في كل، يعني الحسن (2).
وشاهد ذلك ما يجده المراجع لتفسيره، من كثرة تعرضه لتأويل آيات الأحكام، وبيان ما فيها من الأحكام، والفوائد الفقهية (3).
وهذا الاشتغال كان من أهم الأسباب في عدم تفرغه لعلم التفسير، وانصرافه عنه، مما كان له الأثر الأكبر في قلة المروي عنه.
3 - ضعف حافظته وإحراقه لكتبه:
فكان علمه رحمه الله في صحيفة (4).
وكان يقول عن نفسه: لولا النسيان كان العلم كثيرا (5).
__________
(1) أعلام الموقعين (1/ 19).
ويشهد لكون الحسن من أكثر التابعين اهتماما بالفقه، ما نجده من عناية الفقهاء بأقواله في كتبهم، فمن ذلك ما ورد في كتاب المغني في الفقه لابن قدامة حيث روى عن الحسن (912) رواية، في حين كان المروي عن مجاهد أقل من ذلك بكثير، روى عنه (257) رواية، وعن قتادة (334) رواية.
(2) تاريخ أبي زرعة (2/ 683)، وتاريخ دمشق (11/ 638).
(3) حيث بلغ المروي عنه في ذلك ما نسبته (11، 0) من تفسيره، في حين بلغ ذلك عن مجاهد ما نسبته (028، 0) من تفسيره، وعند قتادة ما نسبته (02، 0) من تفسيره، والمراجع لكتاب الجامع لأحكام القرآن للقرطبي يجد ما يؤكد سبقه وتقدمه في هذا.
(4) تاريخ الإسلام (ح 110هـ / ص 52).
(5) المعرفة (2/ 33)، وتهذيب الكمال (6/ 121)، والسير (569).
حيث لا يمكن أن يقارن الحسن في حافظته مع صاحبه ابن سيرين، ولا مع تلميذه قتادة. رحمة الله عليهم أجمعين.(1/241)
ومع أن كثيرا من علمه كان في صحيفة إلا أنه أمر بها فأحرقت، فعن سهل بن الحصين الباهلي، قال: بعثت إلى عبد الله بن الحسن البصري: ابعث إلي بكتب أبيك، فبعث إلي: أنه لما ثقل والدي، قال: لي: اجمعها لي، فجمعتها له، وما أدري ما يصنع بها، فأتيت بها، فقال للخادم: اسجري التنور، ثم أمر بها فأحرقت غير صحيفة واحدة (1).
4 - قلة أسفاره، ورحلاته:
الحسن قضى سني عمره الأولى بالمدينة منذ الطفولة إلى سن الاحتلام، ولم يغادرها إلا بعد هذا السن، ثم لم يرجع إليها، وقد سأله أبو رجاء، فقال له: متى عهدك بالمدينة؟ قال: ليالي صفين (2).
ثم إنه اشتغل في شبابه وصباه بالجهاد، فلم يطلب العلم، ولم يرحل فيه (3).
فعن أبي معتمر قال: كان الحسن قد أفنى عمره في الغزو (4).
وأما المرحلة الأخيرة من عمره وهي أطول المراحل (5) فقد استقر في البصرة، ولم يخرج منها، بل إن خروجه إلى الأماكن المقدسة قليل، فلم يخرج إلا حاجا، ولم يحج إلا مرتين (6).
__________
(1) طبقات ابن سعد (7/ 174)، والمنتخب من ذيل المذيل (639).
(2) العلل لأحمد (3/ 176، 182) 4784، وطبقات ابن سعد (7/ 157)، والثقات (4/ 123)، والتذكرة (1/ 71)، والبداية (7/ 259)، والتحفة اللطيفة (1/ 477)، وليلة صفين كانت في غرة صفر سنة (37) هـ.
(3) السير (4/ 572).
(4) العلل لأحمد (3/ 227) 4994.
(5) والتي كانت بين (53هـ 110).
(6) طبقات ابن سعد (7/ 175)، وتاريخ الإسلام (ح 110هـ / ص 56).(1/242)
5 - هيبته في قلوب تلاميذه:
فقد قذف الله الهيبة في قلوب تلاميذ هذا الإمام، فكان الواحد منهم يبقى الأيام، بل السنين لا يسأله عن المسألة مهابة له، يقول أيوب السختياني: كان الرجل يجلس إلى الحسن ثلاث حجج ما يسأله عن المسألة هيبة له (1).
6 - قلة اهتمام المشارقة بتفسيره:
كان اهتمام وعناية المفسرين من المشرق، بنقل ورواية ما جاء عن مجاهد، وعكرمة، وعموم تلاميذ المدرسة المكية، أكثر من اهتمامهم وعنايتهم بتفسير الحسن (2).
هذه بعض العوامل والأسباب التي كان لها الأثر في تقليل النقل عن هذا الإمام رحمه الله رحمة واسعة.
أثره في بعض علوم القرآن:
أولا: موقفه من النسخ:
عني رحمه الله بمعرفة الناسخ، والمنسوخ، ومال كثيرا إلى القول بإعمال، وإحكام كثير من الآيات (3).
والناظر في تفسيره يجد ترادف عبارة النسخ والاستثناء عنده، وهذا التساهل كان
__________
(1) تهذيب الكمال (6/ 107)، وتاريخ الإسلام (ح 110هـ / 57)، والسير (4/ 573).
(2) على عكس المغاربة الذين كانت عنايتهم في الدرجة الأولى بتفسير الحسن، وقد سبق الإشارة إلى ذلك في مبحث كتب التفسير بالمأثور ص 73.
(3) بعد مراجعة كتاب الناسخ والمنسوخ لأبي جعفر النحاس، وكتاب الإيضاح لناسخ القرآن ومنسوخه لمكي، وجدت أن الحسن ممن مال إلى إعمال كثير من الآيات، ولذا روي عنه القول بإحكام (15) آية، ونسخ (7) آيات.(1/243)
دارجا في عبارات المتقدمين من السلف.
فعند قوله سبحانه: {وَلََا تَأْكُلُوا مِمََّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللََّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ} (1) قال:
فنسخ، واستثنى من ذلك (2) فقال: {وَطَعََامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتََابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعََامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ} (3).
وعند قوله تبارك وتعالى: {مَنْ كَفَرَ بِاللََّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمََانِهِ إِلََّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمََانِ وَلََكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللََّهِ وَلَهُمْ عَذََابٌ عَظِيمٌ} (4).
ثم قال: ثم نسخ واستثنى من ذلك (5)، فقال:
{ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هََاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مََا فُتِنُوا ثُمَّ جََاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهََا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} (6).
ثانيا: معرفة المكي، والمدني:
كما كان رحمه الله من المهتمين بمعرفة المكي، والمدني، وقد عني بتحديد كثير من السور المكية، والمدنية، وفاق غيره من التابعين (7) في هذا المضمار، ومما يدل على اهتمامه بهذا الجانب عنايته بتحديد بعض المستثنى من سور محدودة، ولم يتوسع في ذلك (8).
__________
ينظر بعض الأمثلة في كتاب الإيضاح الصفحات التالية: (148)، (169)، (270)، (272)، (283)، (287)، (295)، (360)، (386)، (405)، (411).
(1) سورة الأنعام: آية (121).
(2) تفسير الطبري (12/ 87) 13835.
(3) سورة المائدة: آية (5).
(4) سورة النحل: آية (106).
(5) تفسير الطبري (14/ 184).
(6) سورة النحل: آية (114).
(7) باستثناء قتادة فإنه قد فاق شيخه في هذا الباب، وجاء الحسن بعده.
(8) ينظر زاد المسير (6/ 315)، (8/ 427).(1/244)
فمن ذلك ما جاء عنه عند تفسير سورة غافر حيث قال: وهي مكية إلا قوله:
{وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ} (1) لأن الصلوات نزلت في المدينة (2).
وكذلك عند تفسيره لسورة لقمان قال: هي مكية إلا آية نزلت في المدينة، وهي قوله: {الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلََاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكََاةَ} (3) لأن الصلاة والزكاة مدنيتان (4).
كما عني رحمه الله بالإشارة إلى بعض الضوابط العامة في معرفة المكي من المدني فكان يقول: ما في القرآن {يََا أَيُّهَا النََّاسُ} *، فهو مكي، وما كان {يََا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} * فبالمدينة (5).
ثالثا: المعرب في تفسيره:
يعد الحسن ممن قال بوقوع المعرب في القرآن، ولكنه امتاز عن غيره من التابعين (6)
بعدم التوسع في ذلك، حتى إنه لم يرد عنه القول بوقوع المعرب إلا في موضع واحد من القرآن، وذلك عند تأويل قوله تعالى: {هَيْتَ لَكَ} (7).
قال: كلمة بالسريانية، أي: عليك (8).
__________
(1) سورة غافر: آية (55).
(2) فتح القدير (4/ 479).
(3) سورة لقمان: آية (4).
(4) زاد المسير (6/ 314).
(5) البرهان (1/ 191).
(6) كمجاهد، وعكرمة، وسعيد بن جبير وغيرهم.
(7) سورة يوسف آية (23).
(8) تفسير الطبري (16/ 27) 18976، وتفسير ابن كثير (4/ 307)، وأورده السيوطي في المهذب فيما وقع في القرآن من المعرب، وعزاه ابن جرير إلى الحسن به (157)، وأشار إليه السيوطي في الإتقان (1/ 378).(1/245)
رابعا: موقفه من الإسرائيليات:
ومما تميز به تفسير الحسن عن سائر التابعين (1)، بعده وإعراضه عن كثير من روايات بني إسرائيل، مع أنه من الوعاظ والمذكرين، إلا أنه لم يرض عن كثير من تلك الروايات، بل ضرب عنها صفحا فنجده مثلا في سورة البقرة التي روي فيها مئات الروايات عن التابعين (2) لا نجد له شيئا، بل إن المروي عنه في ذلك يوضح عدم الرضى، فعند تفسير قوله سبحانه: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيََارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ} (3).
قال: خرجوا فرارا من الطاعون، فأماتهم قبل آجالهم، ثم أحياهم إلى آجالهم (4).
وعند قوله جل ثناؤه: {فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ} (5) خاض كثير من التابعين في المراد بها (6)، وأعرض الحسن عن هذا كله، وقال في تفسيرها: شيء تسكن إليه النفوس (7).
وكان رحمه الله يرد وينكر، بعض الروايات الواردة في حق الأنبياء، ويفسر الآية بتفسير بعيد عن كل هذا.
__________
(1) تميز حتى عن أقرب الناس إليه، فتلميذه قتادة مع أنه من أكثر الناس تأثرا بمنهجه، وبعدا عن روايات بني إسرائيل، إلا أنه قد وقع في شيء منها.
(2) من خلال تفسير ابن جرير الطبري.
(3) سورة البقرة: آية (243).
(4) تفسير الطبري (5/ 274) 5609، وقارن ذلك بما روي عن غيره من التابعين عند هذه الآية.
(5) سورة البقرة: آية (248).
(6) فقيل في تفسير السكينة: إنها برأس كرأس الهرة، وجناحان، وقيل: لها جناحان وذنب، وقيل: لها جناحان وذنب مثل ذنب الهرة، رويت هذه الأقوال عن مجاهد كما في تفسير الطبري في الآثار: 5672، 5673، 5674، 5675، وقيل: السكينة: طست من ذهب من الجنة، كان يغسل فيه قلوب الأنبياء أعطاه الله موسى، وفيها وضع الألواح، وكانت الألواح من در، وياقوت وزبرجد، ينظر الأثر 5679.
(7) أورده السيوطي في الدر، وعزاه إلى ابن أبي حاتم عن الحسن به (1/ 758).(1/246)
فعند قوله جل وعلا: {فَلَمََّا آتََاهُمََا صََالِحاً جَعَلََا لَهُ شُرَكََاءَ فِيمََا آتََاهُمََا} (1).
انفرد الحسن بالقول: بأن هذا كان في بعض الملل، ولم يكن بآدم (2).
وفي رواية له، قال: عني بهذا ذرية آدم. ومن أشرك منهم بعده (3)، وورد عنه أيضا قاله: هم اليهود، والنصارى، رزقهم الله أولادا فهوّدوا ونصّروا (4).
وقال أيضا: هذا في الكفار، يدعون الله، فإذا آتاهما صالحا هوّدا ونصّرا، ثم قال: قال الله:
{أَيُشْرِكُونَ مََا لََا يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ} يقول: يطيعون ما لا يخلق شيئا، وهي الشياطين (5).
ومما ورد عنه من إنكار لروايات بني إسرائيل، ما جاء عند تفسير قوله جل ثناؤه:
{وَلَقَدْ فَتَنََّا سُلَيْمََانَ وَأَلْقَيْنََا عَلى ََ كُرْسِيِّهِ جَسَداً ثُمَّ أَنََابَ} (6)، أنكر على من قال: إن سليمان كان يأتي نساءه، وهن حيض، بعد تلك الفتنة (7)، وقال: ما كان الله يسلطه (يعني: الشيطان) على نسائه (8).
__________
(1) سورة الأعراف: آية (190).
(2) تفسير الطبري (13/ 314) 15516، وتفسير ابن كثير (3/ 529).
(3) تفسير الطبري (13/ 314) 15527، وتفسير ابن كثير (3/ 530)، وأورده السيوطي في الدر، وعزاه إلى ابن جرير عن الحسن به. (30/ 626).
(4) تفسير الطبري (13/ 315) 15528، وتفسير ابن كثير (3/ 530)، وأورده السيوطي في الدر، وعزاه إلى عبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن قتادة، عن الحسن، بلفظه (3/ 626).
قال ابن كثير بعد سوق تلك الروايات عن الحسن: وهذه أسانيد صحيحة عن الحسن رحمه الله أنه فسر الآية بذلك، وهو أحسن التفاسير، وأولى ما حملت عليه الآية (3/ 530).
(5) أورده السيوطي في الدر، وعزاه إلى عبد بن حميد، وأبي الشيخ عن الحسن به (3/ 627).
(6) سورة ص: آية (34).
(7) روي ذلك عن سعيد بن المسيب، وغيره كما في الدر (7/ 184).
(8) أورده السيوطي في الدر، وعزاه إلى عبد بن حميد، والحكيم الترمذي، عن علي بن زيد عن سعيد بن المسيب، وساقها عن سعيد بطولها، ثم ذكر في آخرها سؤال علي بن زيد للحسن: عن إتيان سليمان نساءه فأنكره (7/ 184).(1/247)
ومما يلفت النظر عند استعراض ما ورد عنه من آثار عن بني إسرائيل مع قلتها إلا أن المتأمل فيها يجد اختصارا عجيبا في إيرادها تميز به الحسن عن غيره من التابعين، فهو يورد الشاهد من القصة بعبارة موجزة: مكتفيا بما يزيل الغموض الظاهر في الآية دون إسهاب أو إطالة بذكر مشاهد القصة، وأحداثها (1).
وفي ختام هذا المبحث، فبالتتبع (2) لم أجد له من الروايات الغريبة، أو المنكرة، إلا رواية واحدة، جاءت عند تأويل قوله سبحانه: {وَظَنَّ دََاوُدُ أَنَّمََا فَتَنََّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رََاكِعاً وَأَنََابَ} (3)، فعنه قال: إن داود جزأ الدهر أربعة أجزاء: يوما لنسائه، ويوما لعبادته، ويوما لقضاء بني إسرائيل، ويوما لبني إسرائيل يذاكرهم ويذاكرونه، ويبكيهم ويبكونه، فلما كان يوم بني إسرائيل قال: ذكروا، فقالوا: هل يأتي على الإنسان يوم لا يصيب فيه ذنبا؟ فأضمر داود في نفسه أنه سيطيق ذلك: فلما كان يوم عبادته، أغلق أبوابه، وأمر ألا يدخل عليه أحد، وأكبّ على التوراة، فبينما هو يقرؤها، فإذا حمامة من ذهب فيها من كل لون حسن، قد وقعت بين يديه، فأهوى إليها ليأخذها، قال: فطارت فوقعت غير بعيد، من غير أن تؤيسه من نفسها، قال: فما زال يتبعها، حتى أشرف على امرأة تغتسل، فأعجبه خلقها، وحسنها، قال: فلما رأت ظله في الأرض، جللت نفسها بشعرها، فزاده ذلك أيضا إعجابا
__________
(1) ومن يراجع تلك الآثار، ويقارن بينها، وبين غيرها مما ورد عن أئمة التابعين وغيرهم، يلحظ تلك المزية التي امتاز بها الحسن من الاختصار الشديد في الإيراد، وهذه أرقام جميع ما روي عنه من خلال تفسير ابن جرير، الآثار: 14814، 14815، 14963، 14964، 18135، 18854، 18864، 19048، 19049، 19070، 19073، 19075، 19075، 19081، 19438، 19733، 19813، 19922.
والصفحات التالية: (14/ 90)، (16/ 6)، (16/ 59)، (20/ 62)، (20/ 115)، (22/ 69)، (22/ 84)، (23/ 87).
(2) بعد تتبع تفاسير: ابن جرير الطبري، وابن كثير، والسيوطي.
(3) سورة ص: آية (24).(1/248)
بها، وكان قد بعث زوجها على بعض جيوشه، فكتب إليه أن يسير إلى مكان كذا وكذا مكان إذا سار إليه لم يرجع، قال: ففعل، فأصيب، فخطبها، فتزوجها (1).
* * * __________
(1) تفسير الطبري (23/ 148)، وأورده السيوطي في الدر بزيادة قصة في آخره نسبها للحسن، وهي من قول قتادة، وعزى الأثر لعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر (7/ 158).
ولعل الحسن رحمه الله اعتمد في هذه الرواية الوحيدة عنه على ما روي مرفوعا من طريق أنس، ولكن الحديث لا يصح لأنه من رواية يزيد الرقاشي، كما ذكر ذلك ابن كثير (7/ 51)، والسيوطي (7/ 156).(1/249)
قتادة
هو قتادة بن دعامة بن قتادة بن عزيز (1)، وقيل: قتادة بن دعامة بن عكابة (2)، أبو الخطاب (3)، السدوسي البصري الضرير الأكمه (4).
وسدوس هو ابن شيبان بن ذهل بن ثعلبة بن بكر بن وائل (5).
قال ابن خلكان: وكان تابعيا، وعالما كبيرا (6).
قال الإمام أحمد: ما أعلم قتادة روى عن أحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلّم إلا عن أنس (7).
قال شعبة: نصصت على قتادة سبعين حديثا كلها يقول: سمعت أنس بن مالك (8).
__________
(1) الجرح (7/ 133)، والثقات (5/ 321)، وطبقات علماء الحديث (1/ 195).
(2) الجرح (7/ 133)، والثقات (5/ 322)، والتاريخ الكبير (7/ 185).
(3) الكنى لأحمد (66) والكنى لمسلم (ق 33)، والكنى للدولابي (1/ 166).
(4) نكتب الهميان (230).
(5) الإنباه على قبائل الرواة، لابن عبد البر (87)، ونسب عدنان وقحطان، للمبرد (ص 38) ضمن مجموعة الرسائل الكمالية، والأنساب للسمعاني (7/ 57)، واللباب لابن الأثير (2/ 109)، ولباب الألباب في تحرير الأنساب، للسيوطي (2/ 14)، ونهاية الأرب في معرفة أنساب العرب (261).
(6) وفيات الأعيان (4/ 85)، وعده ابن عبد الهادي الصالحي من الطبقة الثالثة من طبقات التابعين، وينظر كتاب طبقات علماء الحديث (1/ 195).
(7) بحر الدم فيمن تكلم فيه الإمام أحمد بمدح أو ذم (129)، والمراسيل (168)، وجامع التحصيل (254)، وتهذيب التهذيب (8/ 355)، والجمع بين رجال الصحيحين (2/ 422).
(8) السير (5/ 277).(1/250)
وصحح أبو زرعة سماعه من عبد الله بن سرجس (1)، وزاد ابن المديني أبا الطفيل (2).
روى عن سعيد بن المسيب، والحسن البصري، وأبي العالية، وصفوان بن محرز، وأبي عثمان النهدي، والنضر بن أنس، وعكرمة مولى ابن عباس، وبكر بن عبد الله المزني، وهلال بن يزيد، وعطاء بن أبي رباح، ومعاذة العدوية، وبشير بن كعب، وأبي الشعثاء جابر بن زيد، وخالد بن عرفطة، وخلاس الهجري، وعبد الله بن شقيق، وعامر الشعبي، وخلق كثير (3).
وقد أخذ عن الحسن فأكثر، يقول معمر: قال قتادة: جالست الحسن اثنتي عشرة سنة، أصلي معه الصبح ثلاث سنين، قال: ومثلي يأخذ عن مثله (4).
والناظر في تفسيره يجد أثر ذلك الإكثار في الأخذ عن الحسن وتأثره به (5).
كما أخذ عن سعيد بن المسيب وتأثر به أيضا (6).
__________
(1) العلل لأحمد (3/ 284) 5264.
عبد الله بن سرجس المزني صحابي سكن البصرة، ينظر كتاب تسمية أصحاب النبي صلى الله عليه وسلّم (66)، وأسد الغابة (3/ 256)، وتجريد أسماء الصحابة (1/ 313)، والإصابة (2/ 315).
(2) هو عامر بن واثلة بن عبد الله الليثي، ولد عام أحد، ورأى النبي صلى الله عليه وسلّم وعمر إلى أن مات سنة (110) هـ ينظر كتاب تسمية أصحاب النبي صلى الله عليه وسلّم (75)، وأسد الغابة (6/ 179)، والتجريد (1/ 180)، والإصابة (2/ 261).
(3) تهذيب الكمال (23/ 499)، والسير (5/ 270)، والتهذيب (8/ 352).
(4) طبقات ابن سعد (7/ 229)، والمعرفة (2/ 279)، والتاريخ الكبير (7/ 186)، وتهذيب الأسماء واللغات (2/ 57).
وقتادة من أكثر الرواة الذين نقلوا لنا تفسير الحسن حيث روى (12، 0) من مجموع تفسيره.
(5) لا سيما في الجانب الوعظي، ويأتي لذلك مزيد بحث إن شاء الله بعد ورقات.
(6) وقد كان قتادة من أكثر تلاميذ سعيد عناية بنقل تفسيره حيث روى ما نسبته (37، 0) من مجموع تفسيره، وقد تأثر به في الحرص على الأثر، والبعد عن الرأي، في حين جاء الذي يليه يحيى بن سعيد، فلم تزد نسبة ما روى عنه عن (16، 0) من مجموع تفسيره.(1/251)
ما تميز به قتادة مما أثر في تفسيره:
كان رحمه الله أكثر التابعين أقوالا في التفسير، وقد سبق مجاهدا في عدد الآيات التي تعرض لها (1).
وقد تميز رحمه الله بين مفسري التابعين بعدد من المميزات من أهمها ما يلي:
أولا: قوة حافظته:
اتفقت كلمة الأئمة على الثناء عليه في هذا الجانب، وكان مضرب المثل في عصره (2) ولعلنا نسوق طرفا من هذه الشهادات، التي تدل على ذلك:
فعن معمر قال: قال محمد بن سيرين: قتادة أحفظ الناس (3).
وعن سعيد بن المسيب قال: ما أتاني عراقي أحفظ من قتادة (4).
وكان ابن المسيب، يسأله فيقول: تحفظ كل ما سألتني عنه؟ قال: نعم، سألتك عن كذا، فقلت: كذا، وسئلت عن كذا، فقلت فيه: كذا، وقال فيه: ما كنت أظن الله خلق مثلك (5).
وعن معمر قال: قال قتادة لسعيد بن المسيب: يا أبا النضر: خذ المصحف، قال:
__________
(1) بعد مراجعتي لتفسير الطبري، وجدت أن المروي عن قتادة في التفسير بلغ (5379) قولا، وكان المروي عنه بغير المكرر (4443) قولا، في حين بلغ المروي عن مجاهد بالمكرر (6109) أقوال، وبغير المكرر (3343) قولا.
(2) السير (5/ 270) وهدي الساري (436)، وغاية النهاية (2/ 26)، وتاريخ الخميس (2/ 319)، ونكت الهميان (230).
(3) الجرح (7/ 134)، والعبر (1/ 112)، والبداية (9/ 352)، وطبقات المفسرين (2/ 43).
(4) الجرح (7/ 133)، والتذكرة (1/ 123)، وتهذيب الأسماء (2/ 57)، وطبقات الحفاظ (47).
(5) تهذيب الأسماء واللغات (2/ 58)، وتهذيب التهذيب (8/ 352)، وكتاب الحث على الحفظ، وذكر كبار الحفاظ (105).(1/252)
فعرض عليه سورة البقرة، فلم يخط فيها حرفا، قال: فقال: يا أبا النضر، أحكمت؟
قال: نعم، قال: لأنا لصحيفة جابر بن عبد الله أحفظ مني لسورة البقرة (1).
وقال الإمام أحمد: كان قتادة أحفظ أهل البصرة، لا يسمع شيئا إلا حفظه، قرئ عليه صحيفة جابر مرة واحدة فحفظها (2).
وعن بكر المزني قال: من سره أن ينظر إلى أحفظ من أدركنا فلينظر إلى قتادة (3).
وكان من قوة حافظته يرغب عن تكرار الحديث، وفي ذلك يقول: تكرير الحديث في المجلس يذهب نوره، وما قلت لأحد قط: أعد علي (4).
عن معمر قال جاء رجل إلى ابن سيرين، فقال: رأيت حمامة التقمت حمامة أخرى التقمت لؤلؤة فخرجت أصغر مما دخلت، ورأيت حمامة التقمت لؤلؤة فخرجت كما دخلت سواء، فقال ابن سيرين: الحمامة الأولى: الحسن يسمع الحديث، فيجوده بمنطقه، ثم يصل فيه من مواعظه، والثانية: ابن سيرين يشك فيه فينقص منه، والثالثة: قتادة فهو أحفظ الناس (5).
ولقد بلغ من شدة حفظه كما يقول عن نفسه أنه ما سمع بشيء إلا حفظه (6).
ومع هذه الحافظة الفطرية فقد كانت عنده الرغبة القوية، والحرص الشديد على
__________
(1) طبقات ابن سعد (7/ 229)، والمعرفة والتاريخ (2/ 279)، والتاريخ الكبير (7/ 186).
(2) بحر الدم فيمن تكلم فيه الإمام أحمد بمدح أو ذم (129)، والتهذيب (8/ 355)، وتهذيب الأسماء (2/ 58)، وطبقات الحفاظ (47)، والبداية (9/ 352).
(3) الجرح (7/ 133)، والتذكرة (1/ 123)، وتهذيب الأسماء (2/ 57)، وطبقات علماء الحديث (1/ 197)، وطبقات المفسرين (2/ 44).
(4) تاريخ الإسلام (ح / 101هـ / 454)، والتهذيب (8/ 354)، ونكت الهميان (230)، ومرآة الجنان (1/ 277).
(5) تهذيب الأسماء واللغات (2/ 58)، والجرح (7/ 134)، والسير (5/ 276).
(6) السير (5/ 271)، وتاريخ الخميس (2/ 319).(1/253)
حفظ ما يسمع، واستيعابه، فعن مطر قال: كان قتادة إذا سمع الحديث يختطفه اختطافا، يأخذه العويل والزويل (1) حتى يحفظه (2).
وكان من اهتمامه بالحفظ وحرصه أن جعله مقدما على العبادة، وفي ذلك يقول:
باب من العلم يحفظه الرجل لصلاح نفسه، وصلاح من بعده، أفضل من عبادة حول (3).
وكان واعيا لهذا المحفوظ، فعنه قال: ما سمعت أذناي شيئا قط إلا وعاه قلبي (4).
ولذا عده الإمام الذهبي حافظ العصر، وقال عنه: يضرب به المثل في قوة الحفظ (5).
وقال ابن ناصر الدين: قتادة مفسر الكتاب آية في الحفظ (6).
وقال الزيلعي: هو أحفظ أهل زمانه (7).
أثر حافظته على تفسيره: إنما أكثرت من إيراد أقوال العلماء في سياق توكيد أهم صفة تميز بها هذا الإمام، لما ترتب على ذلك من آثار في جوانب عديدة من منهجه في التفسير، يتضح ذلك فيما يلي:
__________
(1) الزويل أي: القلق والانزعاج، ينظر اللسان (11/ 315).
(2) المعرفة (2/ 282)، والبداية (9/ 352)، والسير (5/ 272)، وتهذيب التهذيب (8/ 353).
(3) السير (5/ 575)، والبداية (9/ 352).
(4) العبر (1/ 112)، وكتاب الحث على الحفظ، وذكر كبار الحفاظ (105)، وطبقات المفسرين (2/ 43)، ومرآة الجنان (1/ 277).
(5) السير (5/ 270).
(6) شذرات الذهب (1/ 153).
(7) نصب الراية (1/ 214، 352).(1/254)
أبعده عن مخالفة الظاهر، وقلة الاجتهاد، والرأي في تفسيره (1):
كان لهذه الحافظة أثر واضح في إبعاد كثير من تأويلات هذا التابعي عن التفسير المخالف لظاهر النص القرآني، وقد استغنى رحمه الله بمحفوظه، ومسموعه، عن القول برأيه، واجتهاده في كثير من المسائل، فعن أبي هلال قال: سألت قتادة عن مسألة فقال: لا أدري، فقلت: قل برأيك، قال: ما قلت برأيي منذ أربعين سنة، فقلت: ابن كم هو يومئذ؟ قال: ابن خمسين سنة (2).
وعن همام بن يحيى قال: سمعت قتادة يقول: ما أفتيت بشيء من رأيي منذ عشرين سنة (3).
ولذا فمن أقوى الأسباب فيما أحسب التي قللت الرأي عنده تلك الحافظة القوية، يضاف إلى ذلك ما اشتهر به من الحرص على السماع، ولا سيما فيما يتعلق بالقرآن، فعن معمر قال: سمعت قتادة يقول: ما في القرآن آية إلا قد سمعت فيها بشيء (4).
ومن كانت هذه حاله من قوة الحافظة، وكثرة المحفوظ، فإنه يصعب عليه أن يتحرر مما حفظ، بل نجد أثر ذلك واضحا في تفسيره، فقتادة قلّ ما يخرج عن الأثر، فتفسيره يغلب عليه المسلك النقلي الأثري، وهذا يفسر لنا قلة تعرضه واعتماده على الاجتهاد، وقلة
__________
(1) وهذا من المفارقات الرئيسة بينه، وبين شيخه الحسن، الذي كان أسهل منه في هذا بكثير.
(2) طبقات ابن سعد (7/ 229)، وسنن الدارمي (1/ 47)، والمعرفة (2/ 280)، والعلل لأحمد (2/ 233) 5021، والسير (5/ 273).
(3) الجرح (7/ 134)، والتذكرة (1/ 123)، وتاريخ الإسلام (ح 101هـ / 454)، وطبقات المفسرين (2/ 44).
(4) سنن الترمذي كتاب تفسير القرآن، باب ما جاء في الذي يفسر القرآن برأيه (5/ 200)، والجرح (7/ 134)، وتاريخ الإسلام (ح 101هـ / 454)، وأوردها صاحب تاريخ الخميس (2/ 319) بلفظ: ما في القرآن آية إلا وقد سمعت فيها شيئا من النكت.(1/255)
تعرضه للآيات المشكلة، وإنما كان جلّ همه في حفظ الآثار والاعتماد عليها في تأويله.
ولذا فمن الطبعي ما يلحظه القارئ لتفسيره من الاعتماد الكبير على المصادر النقلية، فرجوعه إلى المصدر الثاني وهو السنة (1)، وكذا قول الصاحبي (2)، بل وقول التابعي (3) كثير، وفاق غيره فيه.
ب اهتمامه برواية أسباب النزول:
وهذه الحافظة قد أعانته على استحضار أسباب النزول، والاعتماد عليها في تأويله (4).
وكان لهذا الاهتمام أثره في قوله بخصوص المعنى، في جملة من المنقول عنه (5).
ثانيا: إقلاله من الرواية عن بني إسرائيل:
ومما ينبغي الإشارة إليه عند بيان منهجه رحمه الله أنه مع حرصه على الرواية،
__________
(1) رجعت إلى تفسير الطبري، وقارنت بين مجاهد وقتادة في اعتماد هذه المصادر، فوجدت أن المروي عن مجاهد في اعتماد الحديث جاء في (25) رواية، في حين كان اعتماد قتادة عليه في (205) روايات.
(2) المروي عن مجاهد في الاعتماد على قول الصاحبي، جاء فيما يزيد عن (26) رواية، في حين كان المروي عن قتادة يزيد عن (100) رواية.
(3) أما الاعتماد على قول التابعي، فهذا قليل جدا عند مجاهد، ولعل ما بينهما من الفارق الزمني قد قلل هذا عند مجاهد، وكثره عند قتادة حتى إننا نجد أن (37، 0) من تفسير سعيد بن المسيب جاء من رواية قتادة، و (12، 0) من تفسير الحسن كان من طريق قتادة وغيرهم من التابعين.
(4) بعد مراجعة تفسير الطبري، وجدت أن اعتماده على أسباب النزول بلغ ما نسبته (07، 0) من مجموع تفسيره، في حين بلغ عند مجاهد ما نسبته (05، 0) من مجموع تفسيره.
وقد رجعت إلى كتب أسباب النزول، ككتاب الواحدي، فوجدت أنه أورد عن قتادة ما يزيد عن (41) رواية، في حين بلغت عن مجاهد (36) رواية، وفي كتاب السيوطي لباب النقول، روي عن قتادة (45) رواية، في حين كان المروي عن مجاهد (37) رواية.
(5) بخلاف مجاهد، الذي كان يميل إلى القول بعموم اللفظ في كثير مما روي عنه.(1/256)
ونقل الأخبار، وحب الآثار، إلا أنه في جانب الرواية عن أهل الكتاب تميز منهجه بميزات لعل من أهمها:
أقلة تعرضه للرواية عن أهل الكتاب:
فعند مراجعة كثير من المواطن، التي سبق فيها العديد من الروايات الإسرائيلية لم نجد لقتادة حين مر بها شيئا يذكر (1).
ب مخالفته لكثير من تفسيرات التابعين بالروايات الإسرائيلية، وإيراده تفسيرا بعيدا عن تلك الروايات:
فمن ذلك ما ورد عنه عند قوله سبحانه: {فِيهِ ظُلُمََاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ} (2).
قال: الرعد خلق من خلق الله، سامع مطيع لله جل وعز (3).
وعند قوله جل وعلا: {فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ} (4)، قال: وقار (5).
وعند قوله تعالى: {قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمََّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ}
__________
(1) ولذا نجد أن ابن جرير لم يورد عنه شيئا في قصة البقرة، وفي قصة الزهرة عند تأويل قوله تعالى:
{وَمََا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبََابِلَ هََارُوتَ وَمََارُوتَ} سورة البقرة آية (102) التي خاض فيها كثير من التابعين بأقوال منكرة وغريبة، وفي قصة بناء البيت، بل وعند كل الآيات الواردة في سورة آل عمران في شأن مريم وعيسى عليهما الصلاة والسلام، وينظر في ذلك الآيات: (35، 37، 40، 49)، وعند قصة تحريم القرية على بني إسرائيل أربعين سنة الواردة في سورة المائدة، آية (26)، وغيرها من المواطن.
(2) سورة البقرة: آية (19).
(3) تفسير الطبري (1/ 340) 430.
(4) سورة البقرة: آية (248).
(5) تفسير الطبري (5/ 329) 5684، تفسير عبد الرزاق (1/ 98)، وتفسير الماوردي (1/ 316)، وتفسير البغوي (1/ 229)، وأورده السيوطي في الدر، وعزاه إلى عبد الرزاق به (1/ 758).(1/257)
{سََاقَيْهََا} (1).
قال: وكان من قوارير، وكان الماء من خلفه فحسبته لجة (2).
ولم يدخل في شيء من الإسرائيليات في ماهية الرعد، أو في بيان المراد بالسكينة، أو ذكر السبب الذي من أجله جعل سليمان هذا الصرح من القوارير.
ج تحرجه من رواية الإسرائيليات:
ويظهر ذلك للمتأمل في طريقة إيراده لها حيث يقدمها، ويصدرها بقوله: ذكر لنا والله أعلم. ثم يسوقها مختصرة، مع أن الغالب على تفسيره، ورواياته، الطول، والشرح، والبيان، ومع هذا يختصر من هذا المحفوظ، ويحتاط، ويسوق طرفا منه كشاهد، وهذا يؤكد لنا أن فعله هذا كان نتاج منهج اختطه، وطريقة سلكها عن قصد، ولم يقتصر عمله في هذه المنقولات على الرواية فحسب، ولعلي أسوق طرفا من الأمثلة المبينة لذلك:
فقد روي عنه عند تأويل قوله جل ثناؤه: {وَاتَّبَعُوا مََا تَتْلُوا الشَّيََاطِينُ عَلى ََ مُلْكِ سُلَيْمََانَ وَمََا كَفَرَ سُلَيْمََانُ} (3)، قال: من الكهانة والسحر، وذكر لنا والله أعلم أن الشياطين ابتدعت كتابا فيه سحر، وأمر عظيم، ثم أفشوه في الناس وعلّموهم إياه (4).
وعند قوله سبحانه: {إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التََّابُوتُ} (5) قال: كان موسى تركه عند فتاه يوشع بن نون، وهو بالبرية، وأقبلت به الملائكة تحمله حتى وضعته في دار طالوت، فأصبح في داره (6).
__________
(1) سورة النمل: آية (44).
(2) تفسير الطبري (19/ 169)، (2/ 82)، وتفسير القرطبي (13/ 139).
(3) سورة البقرة: آية (102).
(4) تفسير الطبري (2/ 410) 1652، ثم قارن ذلك بما روي عن غيره.
(5) سورة البقرة: آية (248).
(6) تفسير الطبري (5/ 324) 5662، وأخرجه عبد الرزاق في تفسيره بلفظ مختصر (1/ 98)، وعند المقارنة بما روي عن غيره في هذا الأثر يتضح الفرق واضحا جليا.(1/258)
وعند ما جاء إلي تفسير قوله سبحانه: {قََالُوا يََا مُوسى ََ إِنَّ فِيهََا قَوْماً جَبََّارِينَ} (1)، لم يستطرد في بيان عظيم خلقهم، وما نقل في ذلك من روايات أهل الكتاب، إنما قال:
ذكر لنا أنهم كانت لهم أجسام، وخلق، ليست لغيرهم (2).
وعند تفسيره لقوله تعالى: {وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمََا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ} (3).
قال: ذكر لنا أن طول السفينة ثلاثمائة ذراع، وعرضها خمسون ذراعا، وطولها في السماء ثلاثون ذراعا، وبابها في عرضها (4).
ومما يشار إليه في هذا الباب أنه رحمه الله قد روى شيئا من الروايات الغريبة، وقد تبين لي من خلال التأمل أنه قلما يوردها إلا عند ما لا يجد شيئا من المرفوع للنبي صلى الله عليه وسلّم وبعضا من الموقوف على الصحابة رضوان الله عليهم فيستأنس بهذا أو ذاك فيروي شيئا منها.
من ذلك ما ورد عنه عند تأويل قول الحق تبارك وتعالى: {فَلَمََّا آتََاهُمََا صََالِحاً جَعَلََا لَهُ شُرَكََاءَ فِيمََا آتََاهُمََا فَتَعََالَى اللََّهُ عَمََّا يُشْرِكُونَ} (5) قال: ذكر لنا أنه كان لا يعيش لهما ولد، فأتاهما الشيطان، فقال لهما: سمياه (عبد الحارث)! وكان من وحي الشيطان،
__________
(1) سورة المائدة: آية (22).
(2) تفسير الطبري (10/ 173) 11658، وزاد المسير (2/ 324)، وأورده السيوطي في الدر، وعزاه إلى ابن جرير، وابن المنذر عن قتادة به (3/ 48).
(3) سورة هود: آية (38).
(4) تفسير الطبري (15/ 311) 18134، وتفسير ابن عطية (9/ 146)، وزاد المسير (4/ 103)، وتفسير القرطبي (9/ 22)، وللمزيد من الأمثلة تنظر الآثار في تفسير الطبري، 942، 1663، 5688، 11696وغيرها.
(5) سورة الأعراف: آية (190).(1/259)
وأمره، وكان شركا في طاعة، ولم يكن شركا في عبادة (1).
وورد عنه عند قوله سبحانه وتعالى: {إِنَّ هََذََا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وََاحِدَةٌ فَقََالَ أَكْفِلْنِيهََا وَعَزَّنِي فِي الْخِطََابِ} الآية (2)، قال قتادة: بلغنا أنها
__________
(1) تفسير الطبري (13/ 312) 15521، وفي لفظ عند الطبري 15520، عن قتادة قال: فأشركا في الاسم، ولم يشركا في العبادة، وينظر تفسير الماوردي (2/ 287)، وزاد المسير (3/ 303)، وأورده السيوطي في الدر، وعزاه إلى عبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن قتادة به (3/ 626).
وروي عن الحسن من طريق قتادة عند هذه الآية، قال: كان الحسن يقول: هم اليهود، والنصارى، رزقهم الله أولادا، فهوّدوا، ونصّروا، ينظر تفسير الطبري (13/ 315)، 15528.
وقد روي من طريق قتادة عن الحسن، عن سمرة بن جندب، عن النبي صلى الله عليه وسلّم قال: «كانت حواء لا يعيش لها ولد، فنذرت لئن عاش لها ولد لتسمينه عبد الحارث، فعاش لها ولد فسمته عبد الحارث، وإنما كان ذلك عن وحي الشيطان»، ينظر الطبري (13/ 309) 15513، وهذا الحديث أخرجه أحمد في مسنده (5/ 11)، والترمذي في سننه وحسنه (5/ 267) 3077، وابن جرير الطبري في تفسيره (13/ 309) 15513، والحاكم في مستدركه، وصححه ووافقه الذهبي (2/ 545)، وابن عدي في الكامل، وضعفه (5/ 1700)، وأورده السيوطي في الدر، وعزاه إلى ابن أبي حاتم، وأبي الشيخ، وابن مردويه عن سمرة به (3/ 623).
والحديث جاء من رواية سمرة، من طريق عمر بن إبراهيم، عن قتادة، عن الحسن، عن سمرة، وفي إسناده عمر بن إبراهيم العبدي البصري، ضعيف الحديث إذا روى عن قتادة، أشار إلى ذلك الإمام أحمد، وابن حبان، وابن عدي، وابن حجر، ينظر تهذيب الكمال (21/ 270)، والمجروحين (2/ 89)، والكامل (5/ 1700) والتقريب (410).
وقد أعلّ هذا الحديث الحافظ ابن كثير بقوله: إن الحسن البصري الذي روى الحديث، صح عنه تفسير الآية بغير هذا، ثم قال: ولو كان هذا الحديث عنده محفوظا عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم لما عدل عنه هو، ولا غيره، ولا سيما مع تقواه لله وورعه، ثم ذكر أن الحديث موقوف على الصحابي، يعني سمرة، ويحتمل أنه تلقاه من بعض أهل الكتاب، ينظر تفسير ابن كثير (3/ 529، 530)، وقد أطال المباركفوري في إيراد الشواهد والأقوال الدالة على ضعف هذا الحديث فتراجع في تحفة الأحوذي (8/ 466459).
(2) سورة (ص): آية (23).(1/260)
أم سليمان، قال: فبينما هو في المحراب، إذا تسوّر الملكان عليه، وكان الخصمان إذا أتياه يأتيانه من باب المحراب، ففزع منهم حين تسوروا المحراب، فقالوا: {لََا تَخَفْ خَصْمََانِ بَغى ََ بَعْضُنََا عَلى ََ بَعْضٍ} حتى بلغ: {وَلََا تُشْطِطْ} أي: لا تمل {وَاهْدِنََا إِلى ََ سَوََاءِ الصِّرََاطِ} أي: أعدله وخيره {إِنَّ هََذََا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً}، وكان لداود تسع وتسعون امرأة {وَلِيَ نَعْجَةٌ وََاحِدَةٌ} (1) قال: وإنما كان للرجل امرأة واحدة وذكر الخبر، ثم قال قتادة: فعلم داود إنما صمد له، أي: عني به ذلك (2).
وعند قوله تعالى: {وَلَقَدْ فَتَنََّا سُلَيْمََانَ وَأَلْقَيْنََا عَلى ََ كُرْسِيِّهِ جَسَداً ثُمَّ أَنََابَ} (3).
قال: إن سليمان أمر ببناء بيت المقدس، فقيل له: ابنه، ولا يسمع فيه صوت حديد، قال: فطلب ذلك فلم يقدر عليه، فقيل له: إن شيطانا في البحر يقال له: صخر شبه المارد، قال: فطلبه، وكانت عين في البحر يردها في كلّ سبعة أيام مرّة، فنزح ماؤها وجعل فيها خمر، فجاء يوم وروده فإذا هو بالخمر، فقال: إنك لشراب طيب، إلا أنك تصيبين الحليم، وتزيدين الجاهل جهلا، قال: ثم رجع، حتى عطش عطشا
__________
(1) سورة ص: آية (23).
(2) تفسير الطبري (23/ 148). وقد أورد السيوطي في الدر حديثا مرويا من طريق أنس، عن النبي صلى الله عليه وسلّم قال: «إن داود النبي صلى الله عليه وسلّم حين نظر إلى المرأة قطع على بني إسرائيل، فأوصى صاحب البعث، فقال: إذا حضر العدو، فقرب فلانا بين يدي التابوت، وكان التابوت في ذلك الزمان يستنصر به من قدم بين يدي التابوت لم يرجع حتى يقتل، أو ينهزم عنه الجيش، فقتل زوج المرأة ونزل الملكان على داود يقصان عليه قصته، ففطن داود فسجد، فمكث أربعين ليلة ساجدا»
الحديث، وقد عزاه السيوطي إلى الحكيم الترمذي في نوادر الأصول، وابن أبي حاتم، وضعف إسناده (7/ 156).
وقال ابن كثير رحمه الله عن رواية ابن أبي حاتم لهذا الحديث: لا يصح سنده لأنه من رواية يزيد الرقاشي، عن أنس، ويزيد وإن كان من الصالحين لكنه ضعيف الحديث عند الأئمة، اه.
(7/ 51).
(3) سورة (ص): آية (34).(1/261)
شديدا حتى غلبت على عقله، قال: فأرى الخاتم، أو ختم به بين كتفيه، فذل، قال:
فكان ملكه في خاتمه، فأتي به سليمان، فقال: إنا قد أمرنا ببناء هذا البيت، وقيل لنا:
لا يسمعنّ فيه صوت حديد، قال: فأتى ببيض الهدهد، فجعل عليه زجاجة، فجاء الهدهد، فدار حولها، فجعل يرى بيضه، ولا يقدر عليه، فذهب فجاء بالماس، فوضعه عليه، فقطعها به حتى أفضى إلى بيضه، فأخذ الماس، فجعلوا يقطعون به الحجارة، فكان سليمان إذا أراد أن يدخل الخلاء، أو الحمام، لم يدخلها بخاتمه فانطلق يوما إلى الحمام، وذلك الشيطان صخر معه، وذلك عند مقارنة ذنب قارف فيه بعض نسائه، قال: فدخل الحمام، وأعطى الشيطان خاتمه، فألقاه في البحر، فالتقمته سمكة، ونزع ملك سليمان منه، وألقي على الشيطان شبه سليمان، قال: فجاء فقعد على كرسيه وسريره، وسلّط على ملك سليمان كله غير نسائه، فجعل يقضي بينهم، وجعلوا ينكرون منه أشياء حتى قالوا: لقد فتن نبي الله، وكان فيهم رجل يشبهونه بعمر ابن الخطاب في القوة، فقال: والله لأجربنه، قال: فقال له: يا نبي الله وهو لا يرى إلا أنه نبي الله أحدنا تصيبه الجنابة في الليلة الباردة، فيدع الغسل عمدا حتى تطلع الشمس، أترى عليه بأسا؟. قال لا، قال: فبينا هو كذلك أربعين ليلة، حتى وجد نبي الله خاتمه في بطن سمكة، فأقبل فجعل لا يستقبله جنيّ، ولا طير، إلا سجد له، حتى انتهى إليهم {وَأَلْقَيْنََا عَلى ََ كُرْسِيِّهِ جَسَداً} قال: هو الشيطان صخر (1).
__________
(1) تفسير الطبري (23/ 157)، وأورده السيوطي في الدر وعزاه إلى عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن المنذر عن قتادة بنحوه (7/ 180)، وأخرجه عبد الرزاق في تفسيره بلفظ مقارب عن قتادة (2/ 164). وأورد هذه الرواية، وغيرها ابن كثير في تفسيره (7/ 158)، ثم قال: ومن أنكرها ما قال ابن أبي حاتم وساق رواية عن ابن عباس (سندها قوي كما قال)، والسبب في شدة نكارتها أن هذه الرواية ذكر فيها إتيان الشيطان نساء سليمان، بخلاف المروي عن قتادة(1/262)
ثالثا: الوعظ في تفسيره:
ومن أبرز المعالم في تفسيره وضوح الجانب الدعوي، والتربوي، والأثر البالغ لتتلمذه على الحسن البصري رحمه الله فنجده في كثير من جوانب تفسيره لا يكاد يدع مجالا للوعظ والتذكير إلا وعظ وذكّر، ولا يجد مناسبة للدعوة إلا دعا، وقد اتضح هذا النهج في تفسيره فأصبح من أكثر التابعين اهتماما بهذا المسلك، وتوجها إليه (1).
وهذا المعلم في تفسيره، قد استغرق أكثر اهتمام هذا الإمام (2).
خصائص تفسيره:
من خلال تتبع تأويله للآيات في ذلك، نجد أنه اختص بخصائص استفادها من أستاذه الحسن البصري، وقلّ أن توجد عند غيره، من أهمها:
1 - أسلوب المخاطبة والحوار في تفسيره:
فالقارئ لتفسيره يشعر بتلك الصلة الحية بينه، وبين قارئه، أو المستمع إليه، وكأن القارئ لهذا التفسير يشعر بتلك الرابطة، وبذلك الحرص من هذا الإمام على تلاميذه، وسامعيه، للتأثير عليهم وتربيتهم بهذا القول، والتوجه بالحديث، والتفسير إليهم، ووعظهم به.
__________
حيث صرح رحمه الله بقوله: وسلّط على ملك سليمان كله غير نسائه.
وأورد السيوطي الرواية عن ابن عباس، وقال: أخرج النسائي وابن جرير وابن أبي حاتم بسند قوي عن ابن عباس، ثم ساق الرواية بطولها ونكارتها وفيها فأرسلوا إلى نساء سليمان عليه السلام فقالوا لهن: أيكون من سليمان شيء؟ قلن: نعم إنه يأتينا ونحن حيض، وما كان يأتينا قبل ذلك، الدر (7/ 179).
(1) استفاد هذا الأسلوب، والمسلك من شيخه الحسن البصري.
(2) حيث بلغ ما يزيد على (17، 0) من مجموع تفسيره، والناظر في تفسيره يجد أنه قد فاق شيخه الحسن في عدد ما روي عنه في جانب الوعظ في التفسير، والذي بدا لي أن كثيرا من هذه الآثار التفسيرية الوعظية هي من محفوظات قتادة عن شيخه الحسن، حفظها ورواها من تفسيره، والله أعلم.(1/263)
ومن أمثلة ذلك، ما ورد عنه عند قوله تعالى: {وَلََا تَجْعَلُوا اللََّهَ عُرْضَةً لِأَيْمََانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا} (1)، بقول: لا تعتلّوا بالله، أن يقول أحدكم: إنه تألّى ألا يصل رحما، ولا يسعى في صلاح، ولا يتصدق من ماله، مهلا مهلا، بارك الله فيكم، فإن هذا القرآن إنما جاء بترك أمر الشيطان، فلا تطيعوه، ولا تنفذوا له أمرا في شيء من نذوركم ولا أيمانكم (2).
وعند تأويل قوله سبحانه: {وَلََا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ} (3)، قال: يرغبكم في المعروف، ويحثكم على الفضل (4).
وعند قوله تعالى: {يََا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتََابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمََانِكُمْ كََافِرِينَ} (5)، قال: قد تقدم الله إليكم فيهم كما تسمعون، وحذركم، وأنبأكم بضلالتهم، فلا تأتمنوهم على دينكم، ولا تنتصحوهم على أنفسكم، فإنهم الأعداء الحسدة الضلّال، كيف تأتمنون قوما كفروا بكتابهم، وقتلوا رسلهم، وتحيّروا في دينهم، وعجزوا عن أنفسهم؟ أولئك والله هم أهل التهمة، والعداوة! (6).
__________
(1) سورة البقرة: آية (224).
(2) تفسير الطبري (4/ 420) 4354، وتفسير الماوردي (1/ 285)، وزاد المسير (1/ 254).
(3) سورة البقرة: آية (237).
(4) تفسير الطبري (5/ 165) 5370، وأورده السيوطي في الدر، وعزاه إلى عبد بن حميد، وابن جرير عن قتادة بنحوه (1/ 700).
(5) سورة آل عمران: آية (100).
(6) تفسير الطبري (7/ 60) 7531، وأورده السيوطي في الدر، وعزاه إلى عبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر عن قتادة به (2/ 280).
ولمزيد من الأمثلة تراجع الآثار الواردة في تفسير الطبري: 572، 2980، 3062، 3063، 4104، 4316، 5547، 5761، 5746، 6146، 6158، 6264، 6369، 6525، 6603، 7389، 7391، 7575، 7582، 7591، 7601، 7643، 7840، 7858، 7885، 7903، 7932، 8099، 8355، وغيرها.(1/264)
2 - أسلوب القسم لتأكيد المعنى المراد:
وهذا ما يدل على اهتمامه بذلكم التفسير الوعظي التذكيري، فكثيرا ما يؤكد المعنى بقوله: إي والله، بلى والله، نعم والله، وغيرها من ألفاظ القسم.
من ذلك ما ورد عنه عند قوله: {وَلَهُمْ فِيهََا أَزْوََاجٌ مُطَهَّرَةٌ} (1)، قال: إي والله! من الإثم، والأذى (2).
وعند قوله: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مََا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً} (3)، قال: نعم والله! سخر لكم ما في الأرض (4).
وعند قوله سبحانه: {لََا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلََادِ} (5)، قال: والله ما غرّوا نبي الله، ولا وكل إليهم شيئا من أمر الله حتى قبضه الله على ذلك (6)، والأمثلة على ذلك كثيرة (7).
3 - شدة عباراته على المخالفين:
إضافة إلى ما سبق، فإن مما تميز به تفسيره الوعظي، قسوته في العبارة على
__________
(1) سورة البقرة: آية (25).
(2) تفسير الطبري (1/ 396) 546.
(3) سورة البقرة: آية (29).
(4) تفسير الطبري (1/ 427) 587.
(5) سورة آل عمران: آية (196).
(6) تفسير الطبري (7/ 493) 8372، وأورده السيوطي في الدر، وعزاه إلى ابن جرير، وابن أبي حاتم عن قتادة بمثله (2/ 415).
(7) يراجع تفسير الطبري الآثار: 574، 1475، 2405، 5736، 6570، 6966، 7533، 7582، 7696، 7840، 7903، 7994، 8120، 8177، 8256، (29/ 43)، (29/ 74)، (29/ 101)، (29/ 107)، (29/ 127)، (29/ 137)، (29/ 185)، (29/ 209)، (30/ 82)، (30/ 82)، (30/ 99)، (30/ 189)، (30/ 283)، وقد استفاد ذلك من شيخه الحسن رحمه الله.(1/265)
المخالفين، فنجد عند مروره بآيات وصف الكافرين والمنافقين، وغيرهم من المخالفين يشتد أكثر من غيره عليهم في وصفهم وتأنيبهم، وزجرهم.
من ذلك مثلا ما ورد عنه عند قوله تعالى: {وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصََامِ} (1) قال:
شديد القسوة في معصية الله، جدل بالباطل، وإذا شئت رأيته عالم اللسان، جاهل العمل، يتكلم بالحكمة، ويعمل بالخطيئة (2).
وعند تأويله لقوله سبحانه: {فَقََالَ لِصََاحِبِهِ وَهُوَ يُحََاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مََالًا وَأَعَزُّ نَفَراً} (3) قال:
تلك والله أمنية الفاجر، كثرة المال، وعزة النفر (4).
ثم قال عند قوله: {وَدَخَلَ جَنَّتَهُ}: كفور لنعم الله، مكذب بلقائه، متمن على الله (5).
وعند قوله سبحانه: {لَوْ أَنْزَلْنََا هََذَا الْقُرْآنَ عَلى ََ جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خََاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللََّهِ} قال:
يعذر الله الجبل الأصم، ولم يعذر شقي بن آدم، هل رأيتم أحدا قط تصدعت جوانحه من خشية الله؟، {وَتِلْكَ الْأَمْثََالُ نَضْرِبُهََا لِلنََّاسِ} (6) يقول تعالى ذكره: وهذه الأشياء نشبهها للناس، وذلك تعريفه جل ثناؤه إياهم أن الجبال أشد تعظيما لحقه منهم مع قساوتها وصلابتها (7).
__________
(1) سورة البقرة: آية (204).
(2) تفسير الطبري (4/ 235) 3974، وتفسير الماوردي (1/ 265)، وتفسير البغوي (1/ 180).
(3) سورة الكهف: آية (34).
(4) تفسير الطبري (15/ 246).
(5) تفسير الطبري (15/ 247).
(6) سورة الحشر: آية (21).
(7) تفسير الطبري (28/ 53).(1/266)
وعند قوله جل وعلا: {يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ مََا قَدَّمَتْ يَدََاهُ وَيَقُولُ الْكََافِرُ يََا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرََاباً} (1) قال:
هو الهالك المفرط العاجز، وما يمنعه أن يقول ذلك، وقد راج عليه عورات عمله، وقد استقبل الرحمن، وهو عليه غضبان، فتمنى الموت يومئذ، ولم يكن في الدنيا شيء أكره عنده من الموت (2).
4 - جمال العبارة، وصدقها، وتأثيرها في وعظه:
وعند تعرضه لآيات ذم الدنيا. يرد عنه ذلك بأجمل عبارة، وأكثرها تأثيرا، فمن ذلك ما ورد عنه عند قوله سبحانه: {كَذََلِكَ يُبَيِّنُ اللََّهُ لَكُمُ الْآيََاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (219) فِي الدُّنْيََا وَالْآخِرَةِ} (3) قال:
وإنه من تفكر فيهما عرف فضل إحداهما على الأخرى، وعرف أن الدنيا دار بلاء، ثم دار فناء، وأن الآخرة دار جزاء، ثم دار بقاء، فكونوا ممن يصرم حاجة الدنيا لحاجة الآخرة (4).
ومنه أيضا ما جاء عنه عند قوله تعالى: {كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِمََا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيََّامِ الْخََالِيَةِ} (5) قال:
__________
(1) سورة النبأ: آية (40).
(2) تفسير الطبري (30/ 26).
ولمزيد من الأمثلة ينظر تفسير الطبري الآثار ذات الأرقام: 1359، 1645، 1823، 6243، 6264، 6603، 6836، 7285، 7292، 7373، 7691، 7696، 7699، 8087، 8177، 8200، 8256، 8350، وغيرها.
(3) سورة البقرة: آية (219، 220).
(4) تفسير الطبري (4/ 348)، 4181، وأورده السيوطي في الدر وعزاه إلى عبد بن حميد عن قتادة بمثله (1/ 611).
(5) سورة الحاقة: آية (24).(1/267)
إن أيامكم هذه أيام خالية هي أيام فانية، تؤدي إلى أيام باقية، فاعملوا في هذه الأيام، وقدموا فيها خيرا إن استطعتم، ولا قوة إلا بالله (1).
5 - الوعظ في آيات الأحكام:
وقد اتضح هذا المنهج الوعظي عنده في تأويله لآيات الأحكام، فما كان رحمه الله يفسر تلك الآيات مبينا الحكم الفقهي المستنبط، والرأي المختار فحسب، بل كان يزيد على ذلك بربطه بالجانب الدعوي التذكيري، فمن ذلك ما ورد عند تأويل قوله جل وعلا:
{وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجََالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونََا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتََانِ} (2) قال:
علم الله أن ستكون حقوق، فأخذ لبعضهم من بعض الثقة، فخذوا بثقة الله، فإنه أطوع لربكم، وأدرك لأموالكم، ولعمري لئن كان تقيا لا يزيده الكتاب إلا خيرا، وإن كان فاجرا فبالحري أن يؤدي إذا علم أنّ عليه شهودا (3).
وعند قوله: {وَلََا يُضَارَّ كََاتِبٌ وَلََا شَهِيدٌ} (4) قال:
اتقى الله شاهد في شهادته لا ينقص منها حقا، ولا يزيد فيها باطلا، اتقى الله كاتب في كتابه، فلا يدعنّ منه حقا، ولا يزيدنّ فيه باطلا (5).
__________
(1) تفسير الطبري (29/ 61)، وأورده السيوطي في الدر، وعزاه إلى عبد بن حميد عن قتادة به (8/ 272). ولمزيد من الأمثلة تراجع الآثار في تفسير الطبري 1593، 3884، (29/ 1)، (30/ 50)، (30/ 182) وغيرها.
(2) سورة البقرة: آية (282).
(3) تفسير الطبري (6/ 67) 6362.
(4) سورة البقرة: آية (282).
(5) تفسير الطبري (6/ 86) 6410، وتفسير البغوي (1/ 270)، والبحر المحيط (2/ 353)، وتفسير القرطبي (3/ 261)، ولمزيد من ذلك تراجع الآثار في تفسير الطبري: 4976، 4977، 5370، 6338، 6369وغيرها.(1/268)
6 - الدقة في استنباط الفوائد الدعوية:
وهذا المنهج الوعظي جعله يتميز بدقة استنباط كثير من الفوائد الدعوية من الآيات، مما يدل على تقدمه في معرفة أحوال الدعوة والمدعوين، فمن ذلك ما ورد عنه في تفسير قوله تعالى: {فَقَلِيلًا مََا يُؤْمِنُونَ} (1) قال:
فلعمري لمن رجع من أهل الشرك أكثر ممن رجع من أهل الكتاب، إنما آمن من أهل الكتاب رهط يسير (2).
وعند قوله جل وعلا: {لََا إِكْرََاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ} (3) قال:
أكره عليه هذا الحيّ من العرب لأنهم كانوا أمة أمية ليس لهم كتاب يعرفونه، فلم يقبل منهم غير الإسلام، ولا يكره عليه أهل الكتاب إذا أقروا بالجزية، أو بالخراج، ولم يفتنوا عن دينهم، فيخلّى عنهم (4).
وعند قوله سبحانه: {وَشََاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذََا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللََّهِ} (5) قال:
أمر الله عز وجل نبيه صلى الله عليه وسلّم أن يشاور أصحابه في الأمور، وهو يأتيه وحي السماء لأنه أطيب لأنفس القوم، وأنّ القوم إذا شاور بعضهم بعضا، وأرادوا بذلك وجه الله، عزم لهم على أرشده (6).
__________
(1) سورة البقرة: آية (88).
(2) تفسير الطبري (2/ 329) 1514، وتفسير الماوردي (1/ 157)، والبحر المحيط (1/ 302)، وزاد المسير (1/ 113).
(3) سورة البقرة: آية (256).
(4) تفسير الطبري (5/ 412) 5827، وتفسير الماوردي (1/ 327)، وتفسير البغوي (1/ 240)، والبحر المحيط (2/ 281)، وتفسير القرطبي (3/ 182)، وأورده السيوطي في الدر عن قتادة بلفظ مقارب، وعزاه إلى عبد بن حميد وأبي داود في ناسخه، وابن جرير (2/ 21).
(5) سورة آل عمران: آية (159).
(6) تفسير الطبري (7/ 343) 8126، وتفسير الماوردي (1/ 433)، وتفسير البغوي (1/ 365)، وزاد المسير (1/ 488)، وتفسير القرطبي (4/ 161)، وأورده السيوطي في الدر، وعزاه إلى ابن جرير وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن قتادة به (2/ 358).(1/269)
وعند قوله جل وعلا: {وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرََابِ مُنََافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفََاقِ لََا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ} (1)، قال:
فما بال أقوام يتكلفون علم الناس؟ فلان في الجنة، وفلان في النار! فإذا سألت أحدهم عن نفسه قال: لا أدري! لعمري أنت بنفسك أعلم منك بأعمال الناس، ولقد تكلفت شيئا ما تكلفته الأنبياء قبلك! قال نبي الله نوح عليه السلام: {وَمََا عِلْمِي بِمََا كََانُوا يَعْمَلُونَ} (2)، وقال نبي الله شعيب عليه السلام: {بَقِيَّتُ اللََّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَمََا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ} (3)، وقال لنبيه عليه السلام: {لََا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ} (4).
وعند قوله تعالى: {وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوََالٍ وَبَنِينَ} (5)، قال: رأى نوح قوما تجزّعت أعناقهم حرصا على الدنيا، فقال: هلموا إلى طاعة الله، فإن فيها درك الدنيا، والآخرة (6).
7 - اهتمامه بأمثال القرآن:
وهذا المعلم التربوي والدعوي في تفسيره، جعله أيضا من أكثر التابعين اهتماما
__________
(1) سورة التوبة: آية (101).
(2) سورة الشعراء: آية (112).
(3) سورة هود: آية (86).
(4) تفسير الطبري (14/ 441)، 17121، وتفسير عبد الرزاق (2/ 285)، وتفسير بن كثير (4/ 143)، والبحر المحيط (5/ 93).
(5) سورة نوح: آية (12).
(6) تفسير الطبري (29/ 94)، وأورده السيوطي في الدر، وعزاه إلى عبد بن حميد وابن المنذر عن قتادة به (8/ 290)، ولمزيد من الأمثلة يراجع تفسير الطبري (5830، 7665، 7582، 7625، 8324، والصفحات ذات الأرقام (28/ 47)، (28/ 86)، (28/ 99)، (28/ 127)، (28/ 169)، (29/ 35)، (29/ 101)، (29/ 118)، (29/ 133)، (29/ 141)، (29/ 171) وغيرها من الأمثلة.(1/270)
بأمثال القرآن شرحا، وبيانا، واستنباطا للفائدة والعبرة، بل فاق غيره حتى في عدد الأمثال التي عرض لها بالشرح والتفصيل، وبذلك تميز عن غيره في هذا كما، ونوعا، ونسوق بعض الأمثلة الدالة على ذلك:
فعند قوله سبحانه: {فِيهِ ظُلُمََاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصََابِعَهُمْ فِي آذََانِهِمْ مِنَ الصَّوََاعِقِ} (1)، قال: أجبن قوم لا يسمعون شيئا إلا إذا ظنوا أنهم هالكون فيه حذرا من الموت، والله محيط بالكافرين، ثم ضرب لهم مثلا آخر: فقال: {يَكََادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصََارَهُمْ كُلَّمََا أَضََاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ}، يقول: هذا المنافق، إذا كثر ماله، وكثرت ماشيته، وأصابته عافية قال: لم يصبني منذ دخلت في ديني هذا إلا خير. {وَإِذََا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قََامُوا}، يقول: إذا ذهبت أموالهم، وهلكت مواشيهم، وأصابهم البلاء، قاموا متحيرين (2).
ومنها ما ورد عند قوله عز وجل: {أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنََابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهََارُ} (3)، قال:
أصابها ريح فيها سموم شديد {كَذََلِكَ يُبَيِّنُ اللََّهُ لَكُمُ الْآيََاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ} *، فهذا مثل، فاعقلوا عن الله جل وعز أمثاله فإنه قال: {وَتِلْكَ الْأَمْثََالُ نَضْرِبُهََا لِلنََّاسِ وَمََا يَعْقِلُهََا إِلَّا الْعََالِمُونَ} (4) هذا رجل كبرت سنه، ورق عظمه، وكثر عياله، ثم احترقت جنته على بقية ذلك، كأحوج ما يكون إليه، يقول: أيحب أحدكم أن يضلّ عنه عمله يوم القيامة كأحوج ما يكون إليه (5)؟.
__________
(1) سورة البقرة: آية (19).
(2) تفسير الطبري (1/ 350) 459.
(3) سورة البقرة: آية (266).
(4) سورة العنكبوت: آية (43).
(5) تفسير الطبري (5/ 547) 6099.(1/271)
ومنها أيضا ما ورد عند قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لََا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلََّا كَبََاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمََاءِ لِيَبْلُغَ فََاهُ وَمََا هُوَ بِبََالِغِهِ} (1).
قال: وليس ببالغه حتى يتمزع عنقه، ويهلك عطشا، قال الله تعالى: {وَمََا دُعََاءُ الْكََافِرِينَ إِلََّا فِي ضَلََالٍ} *. هذا مثل ضربه الله، أي: هذا الذي يدعو من دون الله هذا الوثن، وهذا الحجر، لا يستجيب له بشيء أبدا ولا يسوق إليه خيرا، ولا يدفع عنه سوءا حتى يأتيه الموت، كمثل هذا الذي بسط ذراعيه إلى الماء ليبلغ فاه، ولا يبلغ فاه، ولا يصل إليه ذلك حتى يموت عطشا (2).
8 - عنايته بعلم المناسبات:
وكان لهذا النهج الدعوي عنده أثره في اهتمامه ببيان تناسب الآيات، وأسرار ختمها، والربط في تفسيره بين أول الآية وآخرها، عند إيضاحه لمعناها، من ذلك ما ورد عنه عند قوله جل وعلا: {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذََلِكَ فَهِيَ كَالْحِجََارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً} (3).
قال: ثم عذر الحجارة ولم يعذر شقيّ ابن آدم فقال: {وَإِنَّ مِنَ الْحِجََارَةِ لَمََا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهََارُ وَإِنَّ مِنْهََا لَمََا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمََاءُ وَإِنَّ مِنْهََا لَمََا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللََّهِ} (4).
__________
(1) سورة الرعد: آية (14).
(2) تفسير الطبري (16/ 401) 20293، وأورده السيوطي في الدر، وعزاه إلى ابن جرير، وأبي الشيخ، عن قتادة بلفظه (4/ 628).
والمراجع لتفسيره يجد أنه قلّ أن يوجد مثل من أمثلة القرآن، إلا وله وقفة وشرح له، وهو من أكثر التابعين في هذا.
(3) سورة البقرة: آية (74).
(4) تفسير الطبري (2/ 241) 1319، وتفسير ابن عطية (1/ 265)، وتفسير القرطبي (1/ 315)، وأورده السيوطي في الدر، وعزاه إلى عبد بن حميد، وابن جرير عن قتادة، بزيادة في أوله (1/ 197).(1/272)
وعند تأويل قوله سبحانه: {وَإِخْرََاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللََّهِ} (1)، قال:
ثم عير المشركين بأعمالهم أعمال السوء فقال: {وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ}، أي:
الشرك بالله أكبر من القتل (2).
وعند تفسير قوله تعالى: {الشَّيْطََانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشََاءِ وَاللََّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا} (3)، قال:
مغفرة لفحشائكم، وفضلا لفقركم (4).
وعند تفسير قوله سبحانه: {فَذََلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ} (5)، قال:
قال الله تعالى ذكره: {فَذََلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ} فبين الله على من يقع {عَلَى الْكََافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ} (6).
وأختم هذا المبحث بالتأكيد على الأثر الواضح للإمام الحسن البصري في قتادة، وخاصة في جانب التفسير الوعظي الدعوي، فعند المقارنة بين تفسيري هذين الإمامين
__________
(1) سورة البقرة: آية (217).
(2) تفسير الطبري (4/ 311) 4095.
(3) سورة البقرة: آية (268).
(4) تفسير الطبري (5/ 571)، 6169، وأورده السيوطي في الدر، وعزاه إلى عبد بن حميد، وابن جرير عن قتادة به (2/ 65).
(5) سورة المدثر: آية (9).
(6) تفسير الطبري (29/ 152)، وأورده السيوطي في الدر، وعزاه إلى عبد بن حميد، عن قتادة بلفظ مقارب (8/ 328).
ولمزيد من الأمثلة يراجع تفسير الطبري الآثار: 496، 7646، 8087، (28/ 7)، (28/ 65)، (29/ 69)، (29/ 75)، (29/ 79)، (30/ 37)، (30/ 166)، (30/ 203)، (30/ 308).(1/273)
نجد أن من أهم أوجه التشابه بينهما في التفسير الاتفاق في هذا الجانب (1)، فكان لطول الملازمة والمجالسة أثر في ذلك.
فعن معمر قال: قال قتادة: جالست الحسن اثنتي عشرة سنة أصلي معه الصبح ثلاث سنين، ومثلي أخذ عن مثله (2).
وقد ساعدته حافظته على حفظ كثير من أقوال شيخه، وسوقها أو روايتها بعبارة مطابقة، أو مشابهة (3) ولذا عده الأئمة من أكبر أصحاب الحسن (4).
ومع تأثر قتادة الكبير، بهذا الإمام في ذلكم المسلك، إلا أنه خالفه في جملة أخرى من تفسيره، مثل: توسعه في النسخ، والإسرائيليات، وعدم إكثاره منها، وعدم تأويل آيات الأحكام، والتزامه بظاهر النص في تفسيره، وعدم مخالفته، ونلاحظ في المسائل التي قال الحسن فيها برأيه أن قتادة خالفه، وكان محبّا لشيخه غاية المحبة، فقد روى ابن عساكر، عن قتادة، أنه قال: لن تخلو الأرض من أربعين، بهم يغاث الناس، وبهم ينصرون، وبهم يرزقون، كلما مات منهم أحد أبدل الله مكانه رجلا، قال قتادة: والله إني لأرجو أن يكون الحسن منهم (5).
رابعا: أثره في بعض علوم القرآن:
ومن الأمور التي عني بها رحمه الله اهتمامه ببعض المباحث المهمة من علوم
__________
(1) من المعالم البارزة في تفسير الحسن وضوح الجانب الوعظي والتذكيري في تفسيره، وقتادة قد تأثر بالحسن في هذا المسلك حتى إنه نحا منحى إمامه في طريقة تأويله لآيات الوعد والوعيد، من المخاطبة للسامعين، وتأكيد كثير من المعاني بالقسم.
(2) طبقات ابن سعد (7/ 229)، والتاريخ الكبير (7/ 186)، والمعرفة والتاريخ (2/ 279)، والثقات (5/ 322).
(3) وإن كان قتادة رحمه الله يميل إلى الشرح، والإطالة في العبارة.
(4) كما ذكر ذلك الإمام أبو حاتم، وأبو زرعة، ينظر الجرح (7/ 135)، وتهذيب الأسماء (2/ 58).
(5) أورده السيوطي في الدر، وعزاه إلى ابن عساكر (1/ 766).(1/274)
القرآن (1)، وخاصة ما يتعلق بالناسخ والمنسوخ، ومعرفة المكي والمدني، ونزول القرآن.
أتوسعه في النسخ:
قتادة من أوائل من ألف في هذا العلم (2)، ومن أكثرهم توسعا (3) وعناية به، فقد عدّ رفع دلالة العام، والمطلق، والظاهر، وغيرها، إما بتخصيص، أو تقييد، أو حمل مطلق على مقيد، وتفسيره وتبينه عدّها نسخا، حتى إنه توسع في الاستثناء والشرط والصفة فعدها نسخا (4) أيضا. مع أن هذا لم يكن مسلكا لجميع التابعين، بل على العكس من ذلك فأكثر التابعين أعمل الكثير من الآيات (5).
__________
(1) مع العلم أنه رحمه الله لم يهتم ببعض العلوم الأخرى كالحديث عن وقوع المعرب في القرآن، فعند النظر فيما ورد عنه نجده شيئا قليلا، وأقل منه الحديث عن كليات القرآن ومعرفة الأوجه والنظائر، ويمكن ملاحظة هذا عند مقارنة ما روي عنه بما روي عن غيره من التابعين وخاصة تلاميذ ابن عباس كعكرمة، وابن جبير، ومجاهد.
(2) البرهان (2/ 28)، والناسخ والمنسوخ لابن سلامة (106)، وقد طبع هذا الكتاب بتحقيق د.
حاتم الضامن، والكتاب لم يستوف جميع ما روي عن قتادة في النسخ.
(3) هو أكثر التابعين توسعا في هذا الباب، وقد راجعت في ذلك كتابي (الناسخ والمنسوخ) لأبي جعفر النحاس، والإيضاح لناسخ القرآن ومنسوخه، فوجدت أن قتادة روي عنه (33) موضعا، قال في (25) بالنسخ، في حين أن مجاهدا روي عنه (31) موضعا، قال في (5) مواضع بالنسخ، وفي (26) موضعا بالإحكام، وللمزيد من التأمل يراجع كتاب النحاس للنظر في المواضع التي قال فيها قتادة بالنسخ ص (16، 30، 34، 39، 76، 88)، وينظر كتاب مكي:
الإيضاح ص (124، 131، 150، 157، 160، 176، 186، 201، 203، 209، 215، 230، 255، 269، 282، 289، 300، 304، 329، 377، 407، 409)، والفوز الكبير في أصول التفسير ص 83.
(4) أعلام الموقعين (1/ 29).
(5) سيأتي لذلك مزيد بيان إن شاء الله في فصل أثر التابعين في أصول التفسير ص (1081).(1/275)
ومن أكثر الآيات التي توسع في القول بنسخها، آيات الصفح (1)، والعفو (2)، وترك القتال (3)، وعدم المجادلة لأهل الكتاب (4) إذ جعل جميع هذه الآيات منسوخة بآية السيف (5).
وقد يكون للمنهج الوعظي أثره في قول قتادة بنسخ كثير من آيات الصفح، والعفو، فقد سبق أن بينا أن المتأمل لتفسيره يلمس تلك الشدة على المخالفين، لا سيما من الكفار، والمنافقين، فلعل هذا نتاج ذاك (6).
والمراجع لتفسير قتادة لمعنى النسخ يلحظ توسعه في تفسير النسخ الوارد في قوله تبارك وتعالى: {مََا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهََا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهََا أَوْ مِثْلِهََا} (7).
__________
(1) كما في قوله سبحانه: {فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ} المائدة (13)، ينظر الإيضاح (269)، وعند قوله جل وعلا: {فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ} الحجر (85)، ينظر الإيضاح (329)، وعند قوله تعالى:
{فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلََامٌ} الزخرف (89) ينظر الإيضاح (407).
(2) كما في قوله سبحانه: {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ} الأنفال (61)، ينظر الإيضاح لمكي (300)، وعند قوله تعالى: {قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لََا يَرْجُونَ أَيََّامَ اللََّهِ} الجاثية (14)، ينظر الإيضاح (409).
(3) كما في قوله جل وعز: {وَلََا تُقََاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرََامِ} البقرة (191)، ينظر الإيضاح (157)، وعند قوله سبحانه: {يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرََامِ قِتََالٍ فِيهِ} (217)، ينظر الإيضاح (160)، وعند قوله تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلى ََ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثََاقٌ} النساء (90) ينظر الإيضاح (230)، وعند قوله جل وعلا: {لََا تُحِلُّوا شَعََائِرَ اللََّهِ} المائدة (2)، ينظر الإيضاح (255)، {وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً} الأنعام (70) ينظر الإيضاح (282).
(4) كما في قوله جل ثناؤه: {وَلََا تُجََادِلُوا أَهْلَ الْكِتََابِ} العنكبوت (46)، ينظر الإيضاح (377).
(5) وهي قوله سبحانه: {قََاتِلُوا الَّذِينَ لََا يُؤْمِنُونَ بِاللََّهِ وَلََا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ} التوبة (29).
(6) والعجيب في ذلك أنه خالف مسلك شيخه الحسن في ذلك مخالفة بينة واضحة، ولعله تأثر في ذلك بمسلك ابن المسيب، وخاصة أن قتادة قد روى كثيرا من أقوال سعيد بن المسيب، التي قال فيها بالنسخ، كما أن ابن المسيب هو الشيخ الثاني لقتادة.
(7) سورة البقرة: آية (106).(1/276)
قال: آية فيها تخفيف، فيها رخصة، فيها أمر، فيها نهي (1).
وأكثر النسخ ورودا في تفسيره نسخ القرآن بالقرآن، وأما نسخ القرآن بالسنة فلم أجد له قولا في ذلك.
ب أسباب النزول: عني رحمه الله بأسباب النزول (2) عناية كبيرة، وأكثر من إيرادها في تفسيره، ولعل مما أعانه على ذلك، تلك الحافظة التي متع بها. وخاصة أن أسباب النزول علم قائم على الرواية.
ج المكي والمدني:
هو أكثر التابعين تعرضا، وبيانا لهذا النوع من علوم القرآن (3)، بل تميز منهجه بالدقة، والتفصيل في كثير من السور، والآيات، وذلك ببيان نوع السورة، وقدر المستثنى من آياتها إن كان من غير نوعها، وهذا التحديد، والاهتمام بالمستثنى من السورة، قلّ من اهتم به من التابعين غير قتادة.
ومن أمثلة ذلك، ما ورد عنه في تحديد سورة الأعراف حيث قال: آية من الأعراف مدنية، وهي: {وَسْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كََانَتْ حََاضِرَةَ الْبَحْرِ} (4) إلى آخر الآية، وسائرها مكية (5).
__________
(1) تفسير عبد الرزاق (1/ 55)، وتفسير الطبري (2/ 481) 1772، وتفسير ابن أبي حاتم (327) 1077، وتفسير ابن كثير (1/ 217)، وتفسير الماوردي (1/ 171).
(2) نسبة المروي عنه في أسباب النزول (07، 0) من مجموع تفسيره، في حين بلغت عن شيخه الحسن (03، 0) من مجموع تفسيره، وعن مجاهد (05، 0) من مجموع تفسيره.
(3) يتضح ذلك عند مراجعة تفسير زاد المسير لابن الجوزي حيث روى عن قتادة أكثر من (53) قولا في تحديد نوع السورة، في حين جاء بعده الحسن في (34) قولا، ثم عكرمة في (26) قولا، ثم جبر بن زيد في (20) قولا، ثم مجاهد في (19) قولا، فعطاء في (14) قولا، ولم يرد عن ابن جبير إلا قولان في ذلك.
(4) سورة الأعراف: آية (163).
(5) أورده السيوطي في الدر، وعزاه إلى ابن المنذر، وأبي الشيخ عن قتادة به (3/ 412)، وينظر فتح القدير (2/ 187).(1/277)
ومنه ما ورد عنه في تحديد سورة يونس حيث قال: إنها مكية، غير ثلاث آيات من المدني، أولها قوله: {فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ} (1) إلى رأس ثلاث آيات (2)، إلى غير ذلك من الأمثلة (3).
كما ورد عنه التحديد العام لسور القرآن، فعن همام قال: قال قتادة: البقرة، وآل عمران، والنساء، والمائدة، والأنفال، وبراءة، والرعد، والنحل، والحجر، والنور، والأحزاب، ومحمد، والفتح، والحجرات، والرحمن، والحديد إلى {يََا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مََا أَحَلَّ اللََّهُ لَكَ} (4): عشر متواليات، وإذا زلزلت، وإذا جاء نصر الله والفتح، قال: هذا مدني، وسائر القرآن مكي (5)، هذه بعض أهم ما تميز به تفسيره.
أسباب كثرة المنقول عنه في التفسير:
وكما سبق فيما مضى من القول أن قتادة من أكثر من تعرض للتفسير من التابعين، وأحسب أن ثمة أسبابا كانت وراء هذه الكثرة في المروي عنه، من أهمها:
1 - عناية تلاميذه بنقل تفسيره:
تخصص بعض تلاميذه رحمه الله في رواية تفسيره، والعناية به، كسعيد بن أبي عروبة، ومعمر بن راشد، وكان لهذا الاهتمام والعناية أكبر الأثر في انتشار هذا التفسير، وعند المراجعة لتفسيره نجد أن أكثر هذا التأويل جاء من طريق سعيد بن أبي
__________
(1) سورة يونس: آية (94).
(2) زاد المسير (4/ 3).
(3) ولمزيد من الأمثلة التي تدل على عنايته رحمه الله بالمستثنى في السور، يراجع زاد المسير في الصفحات التالية: (3/ 164)، (4/ 256)، (4/ 343)، (4/ 423)، (5/ 1)، (6/ 69)، (7/ 205)، (7/ 271)، (7/ 355)، (8/ 3)، (8/ 63)، (9/ 51).
(4) سورة التحريم: آية (1).
(5) كتاب الناسخ، والمنسوخ لقتادة (52)، والبرهان (1/ 193)، والإتقان (1/ 28).(1/278)
عروبة (1)، الذي عده بعض الأئمة من أحفظ أهل زمانه (2)، بل قال عنه ابن معين: إنه من أثبت الناس في قتادة (3).
وقال عنه أبو حاتم: من أعلم الناس بحديث قتادة (4)، وقال أبو داود الطيالسي:
كان سعيد أحفظ أصحاب قتادة (5).
وقال علي بن المديني: أصحاب قتادة ثلاثة: سعيد، وهشام، وشعبة، فأما سعيد فأتقنهم (6).
وكان قتادة يحس من سعيد هذا الاهتمام والإتقان لحديثه، فقد روى ابن المديني بسنده عن جرير قال: كتب إليّ يعلى بن حكيم أن سل قتادة عن حديث ثم اكتب إلي، فأتيته فقال: ائت سعيد بن أبي عروبة فقد أخذ حديثي، يملي عليك، ثم ائتني بها، فأتيت سعيدا فأملاها عليّ، ثم جئت به قتادة فما غير منها إلا حرفين (7).
__________
(1) بعد المراجعة لتفسير الطبري وجدت أن المروي عن قتادة هو (5379) قولا، منها (3335) قولا من طريق سعيد بن أبي عروبة، و (1613) قولا عن رواية معمر بن راشد، أي (62، 0) جاء من طريق سعيد بن أبي عروبة و (30، 0) من طريق معمر بن راشد.
وفي هذا يقول سزكين: يبدو أن قتادة كان له تفسير كبير الحجم ذلك لأن الطبري ذكر الرواية عن قتادة أكثر من ثلاثة آلاف مرة بهذه الرواية: بشر بن معاذ قال: حدثنا يزيد بن زريع، عن سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة اه. ينظر تاريخ التراث العربي (1/ 52).
(2) كما ذكر ذلك أبو عوانة، حيث قال: لم يكن عندنا في ذلك الزمان أحدا أحفظ من سعيد بن أبي عروبة، الجرح (4/ 65)، والسير (6/ 414).
(3) سؤالات ابن الجنيد لابن معين (349)، والجرح (4/ 65)، وهدي الساري (406)، التهذيب (4/ 64)، والتذكرة (1/ 177).
(4) التهذيب (4/ 64)، وشرح علل الترمذي لابن رجب (283).
(5) الجرح (4/ 65)، وهدي الساري (406)، والسير (6/ 417).
(6) المعرفة والتاريخ (2/ 141)، وفتح الباري (5/ 185).
(7) المعرفة والتاريخ (2/ 89).(1/279)
وأما الراوي الثاني: فهو معمر بن راشد الأزدي الذي سمع من قتادة كما يقول عن نفسه: سمعت وأنا ابن أربع عشرة سنة، فما شيء سمعت في تلك السنين إلا وكأنه مكتوب في صدري (1).
وهذان الراويان هما من أئمة الحفاظ، والرواة في زمانهم، وفي ذلك يقول ابن المديني، نظرت في الأصول من الحديث، فإذا هي عند ستة ممّن مضى من أهل المدينة:
الزهري، ومن أهل مكة: عمرو بن دينار، ومن أهل البصرة: قتادة، ويحيى بن كثير، ومن أهل الكوفة: أبو إسحاق، والأعمش، ثم نظرت فإذا حديث هؤلاء الستة يصير إلى أحد عشر رجلا وذكر منهم سعيد بن أبي عروبة، ومعمر بن راشد (2).
وقد ساعد على حفظ تراث هذا الإمام ونشره، أن هذين التلميذين كانا من أوائل من صنف الكتب، وفي ذلك يقول أبو محمد الرامهرمزي: أول من صنف وبوب الربيع بن صبيح بالبصرة، ثم سعيد بن أبي عروبة بها، ومعمر باليمن، وابن جريج بمكة (3).
ومع هذا التقدم لهذين الراويين في الحفظ، والإتقان بعامة، ولا سيما ما روياه عن قتادة بخاصة، وكذا تفرغهما، واهتمامهما بنشر ما أثر عن قتادة، فإنه يضاف إلى ذلك كله حرصهما على الكتابة، والتصنيف، فهذا مما يجعلنا نؤكد أن هذا الإمام تيسر له من
__________
(1) المعرفة والتاريخ (2/ 142)، والسير (7/ 6).
وقد اعتمد الإمام عبد الرزاق الصنعاني على طريق معمر في جل تفسيره المسند، الذي لا تخلو ورقة منه إلا وفيها أثر أو آثار عن قتادة من طريق معمر، وانظر مثل ذلك ما جاء عنه في المصنف، فقد اعتمد على هذا الطريق كثيرا.
(2) السير (7/ 7).
(3) المحدث الفاصل (611)، والعلل لابن المديني (28، 31)، وشرح علل الترمذي لابن رجب (52، 53)، وتذكرة الحفاظ (1/ 169، 177).(1/280)
عناية تلاميذه بمروياته ما لم يتيسر لغيره، ولذا كثرت الرواية عنه.
2 - حضه على الكتابة:
فعن أبي هلال، قال: قيل لقتادة: يا أبا الخطاب أنكتب ما نسمع؟ قال: وما يمنعك أحد أن تكتب، وقد أنبأك اللطيف الخبير أنه قد كتب، وقرأ: {فِي كِتََابٍ لََا يَضِلُّ رَبِّي وَلََا يَنْسى ََ} (1).
3 - كثرة رحلاته:
ومما ساعد على انتشار علمه كثرة تنقله في البلدان، وحرصه على التلقي، والأخذ عن أئمة تلك الأمصار، فعن معمر قال: أقام قتادة عند سعيد بن المسيب ثمانية أيام، فقال له في اليوم الثامن: ارتحل عني يا أعمى فقد أنزفتني (2).
ولذا كان سعيد بن المسيب يقول: ما أتاني عراقي أحفظ من قتادة (3).
ورحل رحمه الله إلى الكوفة، وفي هذا يقول قيس بن الربيع: قدم علينا قتادة الكوفة، فأردنا أن نأتيه فقيل لنا: إنه يبغض عليا رضي الله عنه فلم نأته، ثم قيل لنا بعد: إنه أبعد الناس من هذا، فأخذ عن رجل عنه (4)، وحرص في ذهابه للكوفة على لقاء الشعبي فلم يجده (5)، ورحل إلى واسط وتوفي بها (6).
__________
(1) سورة طه: آية (52)، وينظر طبقات ابن سعد (7/ 230)، وتقييد العلم (103)، والكفاية (354)، وتهذيب الكمال (23/ 508).
(2) طبقات ابن سعد (7/ 229)، وتاريخ أبي زرعة (1/ 614)، والثقات (5/ 322)، ورجال صحيح مسلم (2/ 150).
(3) الجرح (7/ 133)، والسير (5/ 272)، والبداية (9/ 313)، والتهذيب (8/ 353).
(4) السير (5/ 272)، والقصة في تاريخ أبي زرعة مختصرة (1/ 300).
(5) العلل لأحمد (1/ 365) 699، 700.
(6) التهذيب (8/ 355).(1/281)
4 - تعدد مصادره:
وهذا مما ميز قتادة بين عموم التابعين، ولعل لقوة حافظته، وتأخر وفاته، وكثرة رحلاته، الأثر الكبير في تعدد مصادره وكثرة شيوخه، والمتأمل في كتب التراجم يجد ويلحظ كثرة من سمع منهم، وروى عنهم، فقد زاد عددهم عن مائة وعشرين صحابيا، وتابعيا (1) ولم يقاربه في هذا العدد أحد من التابعين.
وقد كان من أكثر التابعين رواية ونقلا لتفسير عمر بن الخطاب رضي الله عنه (2)، كما كان من أكثرهم نقلا لتفسير الحسن البصري (3) وسعيد بن المسيب (4) بل كان من أكثر التابعين نقلا عن ابن مسعود رضي الله عنه بعد أصحابه من الكوفيين (5).
وحاصل القول أن قتادة فاق غيره من التابعين في تعدد مصادره، وكثرة شيوخه واهتمامه بالنقل عن عدد كبير من الصحابة والتابعين.
ولذا عده كثير من الأئمة من أعلم الناس بالخلاف.
فعن الإمام أحمد قال: كان قتادة عالما بالتفسير، وباختلاف العلماء، وقال: قلما تجد من يتقدمه (6).
__________
(1) تهذيب الكمال (23/ 499).
(2) بعد مراجعتي لتفسير عمر بن الخطاب جمع إبراهيم بن حسن وجدت أن التفسير المسند عن عمر بلغ (329)، وأن قتادة روى (14، 0) من مجموع تفسيره، وعن الحسن (09، 0)، وعن الشعبي (06، 0). وعن زيد بن أسلم (05، 0) وعكرمة، ومجاهد (04، 0)، وعن عطاء، وعن ابن جبير (03، 0)، وغيرهم دونهم في ذلك.
(3) روى (12، 0) من مجموع تفسير الحسن، البالغ (1487) قولا في تفسير الطبري.
(4) روى (37، 0) من مجموع تفسير سعيد البالغ (181) قولا في تفسير الطبري.
(5) روى (02، 0) من مجموع تفسير ابن مسعود رضي الله عنه، وكان غالب هذه الروايات في قراءة ابن مسعود.
(6) السير (5/ 276).(1/282)
وعن سعيد بن المسيب قال: لم أر أحدا أسأل عما يختلف فيه منك (1).
5 - حافظته:
ومن الأسباب التي أدت إلى كثرة المروي عنه قوة حافظته، وبروزه في هذا الجانب، بل وتقدمه على غيره فيه فإن هذه الذاكرة المتقدة ساعدته على حفظ كثير من الأحاديث والآثار، التي استعان بها في تأويله لكثير من الآيات، وقد سبقت الإشارة إلى ذلك.
لذا فقد وجدناه من أكثر التابعين حفظا، واهتماما واعتمادا على المصدر الثاني من مصادر التفسير، وهو تفسير القرآن بالسنة، وكذا اعتماده على المصدر الثالث، وهو تفسيره بما ورد عن الصحابة وكبار التابعين، هذا المحفوظ ساعده في كثرة تعرضه وتفسيره لآيات كتاب الله.
6 - سبقه في علوم اللغة:
ومن الأسباب التي قدمته في علم التفسير تقدمه في معرفة اللغة واطلاعه الواسع على لغات العرب.
أما تقدمه في معرفة اللغة، فقد قال الإمام الذهبي: ومع حفظ قتادة وعلمه بالحديث كان رأسا في العربية، واللغة، وأيام العرب، والنسب (2).
ويثني عليه القفطي (3) بقوله: تابعي بصري مقدم في علم العربية والعرب، عالم بأنسابها، وأيامها، لم يأت عن أحد من ذلك أصح مما أتى عنه في علم العرب اه.
__________
(1) السير (5/ 276).
(2) تذكرة الحفاظ (1/ 123)، والسير (5/ 277)، وطبقات المفسرين للداودي (2/ 44).
(3) استفاد هذا القول من كلام محمد بن سلام الجمحي في كتابه طبقات فحول الشعراء (1/ 61)، وينظر إنباه الرواة (3/ 35)، والمزهر للسيوطي (2/ 334).(1/283)
ويقول أيضا: كان الرجلان من بني أمية يختلفان في البيت من الشعر، فيبردان بريدا إلى قتادة، فيسألانه عن ذلك (1).
وبلغ من شهرته وعلمه في هذا أن أبا عبيدة قال: ما كنا نفقد في كل يوم راكبا، من ناحية بني أمية ينيخ على باب قتادة، فيسأله عن خبر، أو نسب، أو شعر (2).
ويقول همام بن يحيى (3): أعربوا الحديث فإن قتادة لم يكن يلحن (4).
وعن سعيد بن أبي عروبة قال: قيل لقتادة: مالك لا تروي عن نافع ورويت عن غيره؟! قال: إن نافعا كان علجا لحّانا (5).
وعن معمر قال: سألت أبا عمرو بن العلاء (6) عن قوله تعالى: {وَمََا كُنََّا لَهُ مُقْرِنِينَ} (7)، فلم يجبني، فقلت: إني سمعت قتادة يقول: مطيقين، فسكت، فقلت له: ما تقول يا أبا عمرو؟ فقال: حسبك قتادة، فلولا كلامه في القدر، لما عدلت به أحدا من أهل دهره (8).
وعن ابن أبي عروبة قال: كان قتادة، ربما حدثني بالحديث، فينشد بعده بيت شعر أو بيتين (9).
__________
(1) طبقات فحول الشعراء (1/ 61)، وإنباه الرواة (3/ 35)، والسير (5/ 278)، والمزهر (2/ 334)، ومعجم الأدباء (17/ 10).
(2) وفيات الأعيان (4/ 85)، ومعجم الأدباء (17/ 10).
(3) همام بن يحيى بن دينار البصري ثقة ربما وهم، ينظر التقريب (574).
(4) غريب الحديث للخطابي (1/ 61)، وطبقات ابن سعد (7/ 230).
(5) العلل لأحمد (3/ 83)، 4281، وأخبار النحويين لعبد الواحد بن أبي هاشم (15).
(6) أبو عمرو بن العلاء النحوي القارئ شيخ القراء، ومن علماء العربية، ينظر السير (6/ 407)، والتقريب (660).
(7) سورة الزخرف: آية (13).
(8) وفيات الأعيان (4/ 85)، ونكت الهميان (230).
(9) العلل لأحمد (3/ 308) 5372، والجامع لأخلاق الراوي (2/ 129).(1/284)
والمتأمل لتفسيره يجد شاهد ما ذكره الأئمة من تقدمه في معرفة لغات العرب، فمن ذلك ما ورد عنه قوله سبحانه: {قُلْ إِنْ كََانَ لِلرَّحْمََنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعََابِدِينَ} (1)، قال: وهذه كلمة من كلام العرب {إِنْ كََانَ لِلرَّحْمََنِ وَلَدٌ}: أي: إن ذلك لم يكن، ولا ينبغي (2).
وعند قوله سبحانه: {وَثِيََابَكَ فَطَهِّرْ} (3) قال: وهي كلمة عربية كانت العرب تقولها: طهر ثيابك، أي من الذنب (4)، وفي رواية عنه قال: طهرها من المعاصي، فكانت العرب تسمي الرجل إذا نكث ولم يف بعهد أنه دنس الثياب، وإذا وفى وأصلح قالوا: مطهّر الثياب (5).
وعند قوله جل وعلا: {وَأَمََّا مَنْ خَفَّتْ مَوََازِينُهُ (8) فَأُمُّهُ هََاوِيَةٌ} (6). فعنه قال:
أمه هاوية: هي كلمة عربية، وكان الرجل إذا وقع في أمر شديد قالوا: هوت به أمه (7).
وكان رحمه الله من أكثر التابعين اهتماما ببيان اشتقاق الأسماء، فعند قوله جل وعلا:
__________
(1) سورة الزخرف: آية (81).
(2) تفسير الطبري (25/ 101)، وأورده ابن حجر في الفتح (8/ 569)، والسيوطي في الدر، وعزاه لابن جرير (7/ 395)، وينظر تفسير ابن كثير (7/ 228)، وتفسير الماوردي (5/ 240).
(3) سورة المدثر: آية (4).
(4) تفسير عبد الرزاق (2/ 327)، وتفسير الطبري (29/ 145).
(5) تفسير الطبري (29/ 145)، وتفسير البغوي (4/ 413)، وزاد المسير (8/ 400)، وتفسير القرطبي (19/ 42)، وتفسير ابن كثير (8/ 289)، وأورده السيوطي في الدر، وعزاه إلى عبد الرزاق، وعبد ابن حميد، وابن جرير، وابن المنذر عن قتادة بلفظ مقارب (8/ 325).
(6) سورة القارعة: آية (8/ 9).
(7) تفسير عبد الرزاق (2/ 392)، وتفسير الطبري (30/ 282)، وتفسير البغوي (4/ 519)، وزاد المسير (9/ 215)، وأورده السيوطي في الدر، وعزاه إلى ابن المنذر عن قتادة به (8/ 606).(1/285)
{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هََادُوا وَالنَّصََارى ََ} (1)، قال: إنما سموا نصارى لأنهم كانوا بقرية يقال لها: ناصرة، ينزلها عيسى بن مريم، فهو اسم تسموا به ولم يؤمروا به (2).
وعند قوله جل ثناؤه: {أَنَّ اللََّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيى ََ} (3)، قال: إنما سمي يحيى لأن الله أحياه بالإيمان (4).
وعند قوله تعالى: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنََّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ} (5)، قال: فإن الله بكّ به الناس جميعا، فيصلي النساء قدام الرجال، ولا يصلح ببلد غيره (6).
وبالإضافة إلى ما سبق فمن أسباب الكثرة:
7 - عنايته وحرصه على بيان وتفسير آيات الوعد والوعيد:
فقلّ أن توجد آية فيها وعظ، إلا ويعظ بها ويذكر، ويأتي عنه فيها العديد من
__________
(1) سورة البقرة: آية (62).
(2) تفسير الطبري (2/ 145)، 1097، وأورده السيوطي في الدر، وعزاه إلى ابن المنذر عن قتادة به (1/ 182).
(3) سورة آل عمران: آية (39).
(4) تفسير الطبري (6/ 370) 6950، وتفسير ابن أبي حاتم (2/ 235) 458، وتفسير ابن عطية (3/ 73)، والبحر المحيط (2/ 447)، وتفسير البغوي (1/ 298). وأورده السيوطي في الدر، وعزاه إلى عبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر وابن أبي حاتم، عن قتادة به (2/ 188).
(5) سورة آل عمران: آية (96).
(6) تفسير الطبري (7/ 24)، 7441، 7442، وتفسير ابن أبي حاتم (2/ 405)، 969، ورواه عبد الرزاق في تفسيره بلفظ: وبكة يبك الناس بعضهم بعضا الرجال والنساء، يصلي بعضهم بين يدي بعض، ويمر بعضهم بين يدي بعض لا يصلح ذلك إلا بمكة. تفسير عبد الرزاق (1/ 127)، ورواه البيهقي في شعب الإيمان عن قتادة به (3/ 444) 4015.
وأورده السيوطي في الدر، وعزاه إلى عبد بن حميد، وابن جرير، والبيهقي في الشعب، عن قتادة به (2/ 266).(1/286)
الأقوال (1).
8 - عدم دخوله في الفتن:
والمراجع لسيرته، يجد أنه لم يرد عنه في الناحية السياسية شيء، بل عاش حياة سالمة هادئة، ولم يرد عنه أي ذكر في فتنة قط، ولا خروج ولا ثورة، مع أن العصر الذي عاش فيه كان عصرا يموج بالفتن، ولكنه عاش بعيدا عن هذا كله، وليس هذا بمستغرب على قتادة، فهو تلميذ الحسن البصري الذي عاصر الفتن، وكان له منهج متميز بين سائر التابعين في البعد عنها (2).
وقد وهب نفسه رحمه الله للعلم والدرس، يقول مطر الوراق: ما زال قتادة متعلما حتى مات (3).
9 - تأخر وفاته:
وهذا مما ساعده على انتشار علمه، وكثرة الآخذين لتفسيره، فقد توفي سنة سبع عشرة ومائة (4)، وهو معدود في صغار التابعين رحمه الله رحمة واسعة.
* * * __________
(1) وقد كان جلّ تفسيره في الوعظ والدعوة حيث بلغ (17، 0) من مجموع تفسيره كما سبق بيانه.
(2) كما جاء بيان ذلك فيما مضى من ترجمة الحسن ص (232).
(3) التهذيب (8/ 353).
(4) طبقات خليفة (213)، والتاريخ الصغير (1/ 129)، والعلل لابن المديني (89)، وتهذيب الكمال (23/ 517)، وتاريخ الخميس (2/ 319).(1/287)
أبو العالية
هو أبو العالية، رفيع الرياحي (1) بكسر الراء نسبته إلى قبيلة رياح، بطن من تميم، وأبو العالية الرياحي ينسب إليها ولاء، واسمه رفيع بن مهران، مولى امرأة من يربوع من بني رياح (2)، وهو من كبار التابعين بالبصرة المخضرمين، أدرك الجاهلية، وأسلم بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلّم بسنتين (3).
إمامته في القراءة:
حاز أبو العالية قصب السبق في القراءة، حتى عدّه بعض الأئمة من أكثرهم علما في هذا يقول أبو بكر بن أبي داود في كتابه شريعة القارئ: ليس أحد بعد الصحابة أعلم بالقرآن من أبي العالية، وبعده سعيد بن جبير، ثم السدي، ثم سفيان الثوري (4).
__________
(1) الكنى لأحمد (75)، والكنى لمسلم (83)، والكنى للدولابي (2/ 20)، والكنى لابن عبد البر المسمى بالاستغناء (2/ 836).
(2) الأنساب (6/ 199)، واللباب في تهذيب الأنساب (2/ 46)، وتاريخ دمشق (6/ 260)، وبغية الطلب في تاريخ حلب (8/ 3679).
(3) تهذيب الأسماء (2/ 251)، والاستغناء (2/ 836)، والثقات للعجلي (503)، والمعين في طبقات المحدثين (33)، وتاريخ دمشق (6/ 263)، والإصابة (4/ 144)، وذكر أسماء التابعين (2/ 81)، وطبقات المحدثين بأصبهان (1/ 313)، والتعديل والتجريح (2/ 578)، وبغية الطلب (8/ 3681).
(4) تهذيب الأسماء (2/ 251)، ودول الإسلام (1/ 64)، وغاية النهاية (1/ 285)، وطبقات المفسرين للداودي (1/ 173)، وعند ابن حجر في التهذيب بلفظ: ليس أحد بعد الصحابة أعلم بالقراءة (3/ 285).(1/288)
ولعل من أسباب ذلك، أنه قرأ على سيد القراء أبي بن كعب (1)، ولازمه (2).
وأبي من أقرأ الأمة، كما شهد بذلك الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلّم بقوله: «وأقرؤهم لكتاب الله أبي بن كعب» (3).
وقرأ على عمر أكثر من مرة تقول حفصة بنت سيرين: قال لي أبو العالية: قرأت القرآن على عمر ثلاث مرات (4).
وأخذ القراءة عرضا عن زيد بن ثابت، وابن عباس (5).
وقرأ عليه أبو عمرو بن العلا (6) وروى عنه القراءة عرضا الأعمش والربيع بن أنس (7).
وهو من أقدم مفسري التابعين تلقّيا للقراءة، وأعلاهم سندا، وفي ذلك يقول:
قرأت القرآن بعد وفاة نبيكم صلى الله عليه وسلّم بعشر سنين (8)، ويقول أيضا: قرأنا القرآن قبل أن
__________
(1) التاريخ الصغير للبخاري (1/ 225)، ومعرفة القراء الكبار (1/ 50)، وتاريخ دمشق (6/ 266)، ومرآة الجنان (1/ 214)، وتاريخ الخميس (2/ 313).
(2) وقد عني بنقل قراءته وتفسيره، وفي ذلك يقول السيوطي: ثمة نسخة كبيرة في التفسير رواها أبو جعفر الرازي، عن الربيع، عن أبي العالية، عن أبي بن كعب، أخرج منها ابن جرير الطبري في تفسيره، وابن أبي حاتم كثيرا، كما أخرج منها الحاكم في المستدرك وأحمد في مسنده، ينظر الإتقان (2/ 242).
(3) أخرجه الترمذي في سننه، كتاب المناقب، باب رقم (33)، وقال: حديث حسن صحيح، (5/ 665) 3791.
(4) معرفة القراء الكبار (1/ 50)، وغاية النهاية (1/ 285)، وتاريخ دمشق (6/ 265)، والإصابة (1/ 528)، وصحح الجميع هذه الرواية، وأشار إليها العلائي في جامع التحصيل (212)، والأصبهاني في المبسوط في القراءات العشر بلفظ أربع مرات (77).
(5) المبسوط في القراءات العشر (77)، والسير (4/ 208)، وتاريخ الإسلام (ح 93هـ / 530).
(6) السير (4/ 207)، ومرآة الجنان (1/ 214).
(7) السير (4/ 208)، وتاريخ الإسلام (ح 93هـ / 530).
(8) طبقات ابن سعد (7/ 113)، وأخبار أصبهان (1/ 314)، والمعرفة (1/ 237)، وتاريخ دمشق (6/ 265)، وطبقات المحدثين بأصبهان (1/ 313)، والتذكرة (1/ 61)، وطبقات المفسرين للداودي (1/ 173).(1/289)
يقتلوا صاحبهم، ويفعلوا ما فعلوا، باثني عشرة سنة (يعني: قبل أن يقتلوا عثمان) (1).
قال البخاري معلقا على هذه الرواية: وقد قرأ القرآن، قبل أن يولد الحسن بسنة (2).
ويعد رحمه الله من المتقدمين بين قراء البصرة، ولذا فقد اختاره الحجاج عند ما أراد عدّ سور القرآن وآياته وكلماته وحروفه (3).
وشاهد ما ذكرت تقديم بعض الأئمة له ممن صنف في طبقات القراء حيث جعلوه في طبقة متأخري الصحابة، وصغارهم، ولم يذكروا أحدا من مفسري التابعين معه (4).
والناظر فيما روي عنه من القراءة في تأويله، يجد أنه اهتم في إيراد تلك القراءات بجانب المعنى، فأورد القراءة شاهدا لإيضاحه، وكان هذا واضحا في تفسيره، أكثر من الاهتمام بإيراد منطوق القراءة، كما نجده عند غيره من التابعين (5).
ومن أمثلة ذلك، ما ورد عنه عند قوله سبحانه: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلََّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللََّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمََامِ وَالْمَلََائِكَةُ} (6).
قال: في قراءة أبي بن كعب: «هل ينظرون إلّا أن يأتيهم الله والملائكة في ظلل من
__________
(1) التاريخ الصغير (1/ 225)، والمعرفة (3/ 26).
(2) التاريخ الصغير (1/ 225).
(3) البرهان (1/ 249).
(4) كما نجد ذلك عند الإمام الذهبي في كتاب معرفة القراء الكبار حيث عدّ أبا العالية في الطبقة الثانية، ولم يذكر في هذه الطبقة أحدا من المكثرين من مفسري التابعين، وإنما ذكر في الطبقة الثالثة سعيد بن جبير فحسب، وهذا يدل على علو إسناده وتقدمه في هذا العلم (أعني: علم القراءات)، ينظر: معرفة القراء الكبار (1/ 50).
(5) كالحسن، وقتادة، وغيرهم.
(6) سورة البقرة: آية (210).(1/290)
الْغَمََامِ»، قال: تأتي الملائكة في ظلل من الغمام، ويأتي الله عز وجل فيما شاء (1).
وكان يقرأ قوله سبحانه: {وَإِنْ كُنْتُمْ عَلى ََ سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كََاتِباً} (2) «فإن لم تجدوا كتابا» ثم يقول: توجد الدواة، ولا توجد الصحيفة (3).
وعند قوله تعالى: {وَإِذََا أَرَدْنََا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنََا مُتْرَفِيهََا} (4)، قال: «أمّرنا» مثقلة جعلنا عليها مترفيها: مستكبريها (5).
تأثره بالمنهج المكي:
ومما يلفت النظر عند قراءة تفسيره، أن أبا العالية مع أنه من مفسري البصرة، وممن عاش ومات فيها، إلا أن تأثره بها كان قليلا، إذا ما قورن بأثر المدرسة المكية فيه، فقد قال بقولها، ومال إلى رأيها في كثير من تأويلاته.
ولعل من العوامل، والأسباب التي أثرت عليه، كثرة تردده على مكة فقد حج إليها ستا وستين حجة (6). وكان ابن عباس يدنيه ويقربه منه، يقول عن نفسه: كنت ألزم
__________
(1) تفسير الطبري (4/ 261) 4032، وكتاب الأسماء والصفات للبيهقي (2/ 194)، وأورده السيوطي في الدر، وعزاه إلى أبي عبيد، وابن المنذر، وابن جرير، وابن أبي حاتم، عن أبي العالية بنحوه (1/ 580).
(2) سورة البقرة: آية (283).
(3) تفسير الطبري (6/ 96) 6442، وأورده السيوطي في الدر، وعزاه إلى عبد بن حميد عن أبي العالية به (2/ 125)، وأورد القرطبي في تفسيره هذه القراءة عن أبي العالية، وأورد قراءة أخرى حكاها عنه المهدوي أن أبا العالية قرأ (كتبا)، ينظر تفسير القرطبي (3/ 263)، ومختصر في شواذ القرآن من كتاب البديع (18).
(4) سورة الإسراء: آية (16).
(5) تفسير الطبري (15/ 55)، وأورده السيوطي في الدر، وعزاه إلى ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن أبي العالية بلفظ مقارب (5/ 255).
(6) المعارف لابن قتيبة (200)، وشذرات الذهب (1/ 102). قارن هذا بحال الحسن الذي لم يحج إلا مرتين، ولم يلق ابن عباس، كما سبق بيانه.(1/291)
ابن عباس، فيرفعني على السرير فتغامزت بي قريش، وهم أسفل من السرير، يقولون: يرفع هذا المولى على السرير، ففطن بهم ابن عباس، فقال: إن هذا العلم يزيد الشريف شرفا، ويجلس المملوك على الأسرة (1).
وكان يقول: كان ابن عباس يعلمنا اللحن (يعني: الإعراب) لأنه به يظهر الحق (2).
ولا ريب أن هذا جعله يستقل بكثير من الآراء عن مدرسته، فكان له شخصيته المتميزة، وبعد تفسيره عن السمة الغالبة على تفسير أصحابه من البصريين، لا سيما ما تعلق بالتفسير الوعظي.
بل إن المراجع لترجمته يلمس منه رحمه الله عدم الرضى التام عن منهج المدرسة البصرية بإكثارها من الوعظ والتذكير، على يد الحسن خاصة أو من تبعه في ذلك.
ولذا لما سئل مرة عن الحسن قال: رجل مسلم يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، وأدركنا الخير، وتعلمنا قبل أن يولد الحسن (3).
وكان رحمه الله ينتقد منهج بعض الزهاد، فعند ما زاره عبد الكريم أبو أمية (4)، وعليه ثياب صوف، قال له: هذا زي الرهبان! إن المسلمين إذا تزاوروا تجملوا (5).
__________
(1) الجرح والتعديل (3/ 510)، وتهذيب الكمال (9/ 217)، والتذكرة (1/ 62)، وطبقات المفسرين للداودي (1/ 173)، وتهذيب تاريخ دمشق (5/ 328)، وبغية الطلب (8/ 3682).
(2) مختصر تاريخ دمشق لابن منظور (8/ 329)، وتهذيب تاريخ دمشق (5/ 328).
(3) المعرفة (2/ 52)، وتاريخ دمشق (6/ 265)، وتاريخ الإسلام (ح 93هـ / 530).
(4) أبو أمية عبد الكريم بن أبي المخارق البصري المعلم صاحب تعبد وخشوع، الخلاصة (242)، والتاريخ الكبير (6/ 89)، والسير (6/ 83).
(5) فضل الله الصمد شرح الأدب المفرد (1/ 441) 348، وطبقات ابن سعد (7/ 115)، وبغية الطلب (8/ 3686).(1/292)
وخالف منهج المدرسة في الحرص على كثرة التذكير بنصوص الوعيد والتخويف، وذكّر بنصوص الوعد والرجاء ولذا كان يقول: إني لأرجو ألا يهلك عبد بين نعمتين:
نعمة يحمد الله عليها، وذنب يستغفر الله منه (1).
وهذا وغيره من الأسباب التي ميزت تفسير أبي العالية، وجعلت له منهاجا خاصا انفرد به عن أصحابه.
جوانب تأثره بالمنهج المكي:
ولعلي بعد هذا أذكر أهم الجوانب التي تأثر فيها أبو العالية بالمدرسة المكية:
1 - اهتمامه بتأويل مشكل الآيات وقوله بقول المكيين في تبيين مشكلها:
من ذلك ما جاء عنه عند تأويل قوله عز وجل: {فَلَمََّا أَفََاقَ قََالَ سُبْحََانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ} (2)، قال: كان قبله مؤمنون، ولكن يقول: أنا أول من آمن بأنه لا يراك أحد من خلقك إلى يوم القيامة (3).
وعند قوله جل ثناؤه: {قََالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمََا فَاسْتَقِيمََا وَلََا تَتَّبِعََانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لََا يَعْلَمُونَ} (4)، قال: دعا موسى، وأمّن هارون (5). إلى غير ذلك من الأمثلة (6).
__________
(1) الحلية (2/ 219)، ومختصر تاريخ دمشق (8/ 331)، وبغية الطلب (8/ 3686).
(2) سورة الأعراف: آية (143).
(3) تفسير الطبري (13/ 102) 15092، 15093، وتفسير ابن كثير (3/ 469)، وأورده السيوطي في الدر، وعزاه إلى عبد بن حميد، وأبي الشيخ، عن أبي العالية به (3/ 547)، وهذا قول ابن عباس، ومجاهد، ولم يرد عند الطبري عن غيرهم هذا التأويل، ينظر الآثار (من 15094إلى 15105).
(4) سورة يونس: آية (89).
(5) تفسير الطبري (15/ 186) 17851، وأورده السيوطي في الدر، وعزاه إلى ابن جرير عن أبي العالية به، (4/ 385).
(6) من ذلك يراجع الطبري في تفسيره الآثار ذوات الأرقام: 7344، 7377، 7378، 7380، 7381، وهذه جل الأمثلة الواردة عنه في تأويل المشكل، وقلّ أن يشابهه فيها أحد من البصريين لا سيما الحسن.(1/293)
2 - عنايته، ومتابعته لأشباه القرآن وكلياته:
فعند تأويله لقوله تبارك، وتعالى: {وَلَهُمْ عَذََابٌ أَلِيمٌ} (1) قال: الأليم: الموجع في القرآن كله (2).
وعند قوله جل وعلا: {الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلََاقُوا رَبِّهِمْ} (3)، قال: إن الظن هاهنا يقين (4).
وعند قوله سبحانه: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصََارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ} (5)، قال: كل فرج ذكر حفظه في القرآن فهو من الزنا، إلا هذه {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنََاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصََارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ} (6)، فإنه يعني: الستر (7).
3 - قلة تعرضه لتفسير آيات الأحكام:
ومال في هذا القليل المروي عنه إلى رأي المكيين (8)، فعند قوله تبارك وتعالى:
{فَلََا رَفَثَ} (9).
__________
(1) سورة البقرة: آية (10).
(2) تفسير ابن أبي حاتم (49) 119، وأورده السيوطي في الدر، وعزاه إلى ابن أبي حاتم عن أبي العالية به (1/ 76).
(3) سورة البقرة: آية (46).
(4) تفسير الطبري (2/ 19) 861، وتفسير ابن أبي حاتم (157) 497.
(5) سورة النور: آية (30).
(6) سورة النور: آية (31).
(7) تفسير الطبري (18/ 116)، جاء سياق الآية في غض الأبصار، فرجح بعض المفسرين أن المراد هنا الستر لتناسب السياق، وإلى هذا مال ابن جرير الطبري (18/ 116).
(8) بينما كان المروي عن البصريين وخاصة الحسن كثيرا.
(9) سورة البقرة: آية (117).(1/294)
قال: لا يكون رفث إلا ما واجهت به النساء (1).
وعند تأويله لقوله سبحانه: {وَمَنْ كََانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كََانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ} (2)، قال في تفسير المعروف: القرض (3)، وأجاز الاستقراض من مال اليتيم.
4 - تساهله في رواية الإسرائيليات:
كان عدد المنقول عنه كثيرا إذا ما نسب إلى مجموع تفسيره، وإن كان غالب ما جاء عنه في هذا من الروايات المقبولة، وحرص في نقلها على الاختصار (4).
5 - بعده عن الأهواء:
تميز رحمه الله ببعده عن الأهواء، والنحل، التي كانت منتشرة بالبصرة كالحرورية، والقدرية (5)، وكان يقول: تعلموا القرآن، فإذا تعلمتموه فلا ترغبوا عنه، وإياكم وهذه الأهواء فإنها توقع العداوة والبغضاء بينكم، فإنا قد قرأنا القرآن قبل أن
__________
(1) تفسير الطبري (4/ 128) 3583، وإلى هذا ذهب ابن عباس في أكثر من رواية عنه. انظر الآثار ذوات الأرقام 3571، 3573، 3574، بخلاف مذهب ابن عمر، ومحمد بن كعب القرظي الذين ذهبوا إلى أن الرفث هو التكلم بذلك للرجال والنساء، وإن ذكروا ذلك بأفواههم، ينظر الآثار (3575، 3576).
(2) سورة النساء: آية (6).
(3) تفسير الطبري (7/ 585) 8617، وهو مذهب ابن عباس 8598، 8604، 8605، وسعيد ابن جبير ومجاهد، وغيرهم، ولم ينقل ابن جرير عن أحد من البصريين وغيرهم هذا القول.
(4) تراجع الآثار في تفسير الطبري 745، 779، 820، 893، 940، 1284، 1312، 1470، 1474، 1479، 15138، (17/ 88) (18/ 1)، وغيرها، ولم ينقل عنه السرد، والإطالة، إلا في أثرين هما 914، 1173.
(5) تأثر الحسن البصري برأي القدرية في أول أمره ثم رجع، وقال بقولهم قتادة في بعض المسائل.
ويأتي لذلك مزيد بحث عند الحديث عن منهجهم في آيات الاعتقاد ص (814).(1/295)
يقتل (يعني: عثمان) بخمس عشرة سنة (1).
وكان رحمه الله كثيرا ما يوصي بلزوم الاتباع، ويحذر من الإحداث والابتداع (2).
ومما جاء عنه أيضا قوله: قرأت المحكم بعد وفاة نبيكم بعشر سنين فقد أنعم الله علي بنعمتين لا أدري أيتهما أفضل، أن هداني للإسلام، أم لم يجعلني حروريا (3).
هذه بعض أوجه الشبه بين أبي العالية وابن عباس وأصحابه، ومما ظهر لي أن أبا العالية كان في منهجه أقرب إلى منهج المدرسة المكية من بعض أصحاب ابن عباس، كعطاء بن أبي رباح. والله أعلم.
أسباب قلة المروي عنه في التفسير:
ومع هذا التقدم في السن، وفي علم القرآن، نجد أن المروي عنه في التفسير كان قليلا إذا ما قورن بغيره من التابعين، لا سيما أصحابه من البصريين (4)، ولعل من الأسباب الرئيسة في ذلك ما يلي:
1 - قلة الرواة عن أبي العالية:
فقد ذهب كثير من علمه بسبب ذلك، فعن أبي داود قال: ذهب علم أبي العالية لم يكن له رواة (5).
__________
(1) مختصر تاريخ دمشق (8/ 328)، وبغية الطلب (8/ 3685)، والحلية بلفظ مقارب (2/ 218).
(2) الحلية (2/ 217)، وتاريخ دمشق (6/ 265، 266)، وبغية الطلب (8/ 3681).
(3) طبقات ابن سعد (7/ 113، 114)، والحلية (2/ 218)، وتاريخ دمشق (6/ 265)، والسير (4/ 212).
(4) بعد مراجعتي لتفسير الطبري، وجدت أن المروي عن أبي العالية (244) قولا، في حين كان عن قتادة (5379)، قولا، وعن الحسن البصري (1487) قولا.
(5) تهذيب الكمال (9/ 217)، والتهذيب (3/ 284)، والإصابة (1/ 528).(1/296)
2 - جل تفسيره جاء من رواية الربيع بن أنس (1):
وفي هذا يقول الإمام الذهبي: سمع أبا العالية، وأكثر عنه (2) بل إن كثيرا من الأقوال المروية من تفسير الربيع، هي في الحقيقة من تفسير أبي العالية، وليست من تفسير الربيع (3).
ولذا فإنه لو أضيف كثير من تفسير الربيع لأبي العالية لكان من أكثر التابعين بعد المشاهير منهم (4).
3 - حبه للخفاء:
فقد كان رحمه الله يؤثر عدم الظهور ويحب الخفاء، ويكره جلبة الناس، وكثرة السائل، والمتعلم، ويؤثر الإقلال من الفتوى، والبعد عن مجالس العامة، وكان إذا جلس إليه أربعة قام (5)، وعنه قال: تعلمت الكتاب، والقرآن، فما شعر بي أهلي، ولا رئي في ثوبي مداد قط (6).
4 - كراهيته لكتابة العلم:
فعن أبي خلدة قال: قلت لأبي العالية: أعطني بعض كتبك، قال: لو كتبت شيئا
__________
(1) رجعت لتفسير أبي العالية عند الطبري فكان (78، 0) من مجموع ما روى عنه من طريق الربيع ابن أنس يقول الداودي: لأبي العالية تفسير رواه عنه الربيع، طبقات المفسرين (1/ 173).
(2) السير (6/ 170).
(3) من خلال تتبعي ومقارنتي بين المروي عن أبي العالية والربيع، وجدت أن (71، 0) من تفسير الربيع هو في الحقيقة من أقوال وتفاسير أبي العالية، لكن الربيع نسبها لنفسه، ولأهمية هذه النقطة فقد أفردتها بمزيد بحث ومقارنة ومتابعة، يأتي الحديث عنها مفصلا في مدرسة البصرة، عند الحديث عن المقارنة بين الربيع بن أنس وأبي العالية.
(4) كمجاهد، والحسن، وقتادة.
(5) العلل لأحمد (2/ 447) 2984، والعلم لأبي خيثمة (118)، والمنتظم (6/ 297)، وتاريخ دمشق (6/ 272).
(6) الحلية (2/ 217)، وتاريخ دمشق (6/ 267)، وبغية الطلب (8/ 3684).(1/297)
لأعطيتك وأكرمتك (1).
5 - تشدده في قبول الرواية:
فقد كان من أشد البصريين (2) في قبول الأخبار، وفي هذا يقول عن نفسه: كنا نسمع الرواية بالبصرة عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم نرض حتى ركبنا إلى المدينة، فسمعناها من أفواههم (3).
وعنه قال: كنت أرحل إلى الرجل مسيرة أيام، فأول ما أتفقد من أمره صلاته، فإن وجدته يقيمها ويتمها، أقمت، وسمعت منه، وإن وجدته يضيعها رجعت ولم أسمع منه، وقلت: هو لغير الصلاة أضيع (4).
وفاته:
ذهب كثير من أهل العلم إلى أنه توفي سنة ثلاث وتسعين (5)، وقيل: إنه توفي سنة تسعين (6)، وصحح القول الأول جماعة من المؤرخين كالصالحي (7)، والذهبي (8)، وابن كثير (9)، وابن عساكر (10)، وغيرهم (11).
__________
(1) العلل لأحمد (3/ 441) 5875.
(2) بعد محمد بن سيرين، وسوف يأتي تفصيل ذلك عند الحديث عن مدرسة البصرة إن شاء الله ص (422).
(3) سنن الدارمي (1/ 140)، وتاريخ أبي زرعة (1/ 402)، والكفاية (402)، والرحلة في طلب الحديث (93).
(4) الحلية (2/ 220)، والرحلة في طلب الحديث (93).
(5) التاريخ الكبير (3/ 326)، والتاريخ الصغير (1/ 225)، والثقات (4/ 239)، والأنساب (6/ 199)، وبغية الطلب (8/ 3690).
(6) تاريخ أبي زرعة (1/ 292)، وتاريخ ابن معين (2/ 166)، والكامل (4/ 548)، والوفيات لابن قنفذ (99).
(7) طبقات علماء الحديث (1/ 124).
(8) التذكرة (1/ 62).
(9) البداية (9/ 88).
(10) تاريخ دمشق (6/ 275).
(11) طبقات المفسرين (1/ 173).(1/298)
إسماعيل السدي
هو إسماعيل بن عبد الرحمن بن أبي كريمة السدي، مولى زينب بنت قيس بن مخرمة (1)، وقيل: مولى بني هاشم (2)، أبو محمد القرشي (3)، الأعور (4)، أصله حجازي، سكن الكوفة (5)، وكان يقعد في سدة باب الجامع بالكوفة، فسمي السدي (6).
رأى أبا هريرة (7)، والحسن بن علي (8)، وابن عمر (9)، وسمع أنس بن مالك، ومرة الهمداني (10)، وفي سماعه من ابن عباس نظر، وإنما قيل: إنه رآه (11).
__________
(1) التاريخ الصغير (1/ 312)، ورجال صحيح مسلم (1/ 60)، والإكمال (4/ 568)، واللباب في تهذيب الأنساب (5/ 21).
(2) المعرفة والتاريخ (3/ 186)، وتاريخ ابن معين (2/ 35)، ومعرفة الرجال لابن معين (1/ 144)، (2/ 147)، والإكمال (4/ 567).
(3) أخبار أصبهان (1/ 204)، وتهذيب الكمال (3/ 132)، والسير (5/ 264).
(4) العلل ومعرفة الرجال لأحمد (2/ 343) 2522.
(5) رجال صحيح مسلم (1/ 60)، والجمع بين رجال الصحيحين (1/ 28)، واللباب في تهذيب الأنساب (2/ 110)، وطبقات المفسرين للداودي (1/ 109).
(6) الإكمال (4/ 568)، واللباب في تهذيب الأنساب (2/ 110)، ولباب الألباب في تحرير الأنساب (2/ 14).
(7) تهذيب الكمال (3/ 133)، والميزان (1/ 236)، وكتاب من تكلم فيه وهو موثق (46)، والسير (5/ 264).
(8) السير (5/ 264)، وتاريخ الإسلام (ح 127هـ / 37)، وتهذيب الكمال (3/ 133).
(9) مختصر سنن أبي داود للمنذري (4/ 251)، والثقات (5/ 21)، واللباب (2/ 110).
(10) التاريخ الصغير (1/ 312)، والتاريخ الكبير (1/ 361)، ومختصر سنن أبي داود (4/ 251)، وأخبار أصبهان (1/ 204)، ونصب الراية (3/ 445)، والضعفاء لابن الجوزي (1/ 115).
(11) مختصر سنن أبي داود (4/ 251)، ونصب الراية (3/ 445).(1/299)
ساق أبو نعيم بسنده عن محمد بن أبان عن السدي، قال: رأيت نفرا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلّم، منهم: أبو سعيد الخدري، وأبو هريرة، وابن عمر (1).
وعداده في صغار التابعين (2).
وثقه العجلي (3)، وأحمد (4)، وقال أحمد في رواية عنه: مقارب الحديث، وقال النسائي: صالح الحديث، وقال يحيى بن سعيد: لا بأس به (5).
والسدي ينسب إلى المدرسة الكوفية، التي عاش فيها واستقر بها (6)، وهذه المدرسة من أكثر المدارس ورعا، وإحجاما في التفسير، إلا أنه كان من المكثرين بين التابعين في التفسير، بل كان من أكثر تابعي الكوفة رواية، ودراية فيه (7).
وقد نهج منهجا انفرد به عن غيره من أصحابه الكوفيين، ولعل من أبرز معالم هذا المنهج ما يلي:
مميزات تفسيره، التي أدت إلى انتشاره:
1 - إكثاره في باب التفسير (8):
من حيث الرواية في المقام الأول ثم من حيث الدراية في المقام الثاني، وقد بلغ
__________
(1) أخبار أصبهان (1/ 205)، وطبقات المحدثين بأصبهان (1/ 333)، وتهذيب الكمال (3/ 137).
(2) طبقات ابن سعد (6/ 323)، والمعين في طبقات المحدثين (44)، والنجوم الزاهرة (1/ 308).
(3) تاريخ الثقات (66).
(4) بحر الدم فيمن تكلم فيه الإمام أحمد بمدح أو ذم (24).
(5) الجرح (2/ 184)، والكامل (1/ 276).
(6) أخبار أصبهان (1/ 204).
(7) سيأتي مزيد بسط لهذا، عند الحديث عن مدرسة الكوفة ص (457، 579).
(8) جاء في المرتبة الثالثة بعد مجاهد، وقتادة حيث بلغ مجموع ما روي من تفسيره عند الطبري (1682) رواية.(1/300)
من إكثاره أن أنكر عليه بعض معاصريه من التابعين وعلى رأسهم إمام الكوفة في زمانه عامر الشعبي، فكان يمر به، وحوله شباب يفسر لهم القرآن، فقام عليه، وقال: ويحا للآخر لو كنت نشوان يضرب على استك بالطبل، خيرا لك مما أنت فيه (1).
وعن عبد الله بن حبيب بن أبي ثابت قال: سمعت الشعبي، وقيل له: إنّ إسماعيل السدي قد أعطي حظا من علم بالقرآن، فقال: إنّ إسماعيل قد أعطي حظا من جهل بالقرآن (2).
وقد رد على ذلك إسماعيل بن أبي خالد (وهو من أعلم الناس بالشعبي وأثبتهم فيه) (3)، بقوله: كان السدي أعلم بالقرآن من الشعبي (4).
وقال الذهبي: ما أحد إلا وما جهل من القرآن أكثر مما علم (5).
قلت: ولعل ما أنكره الشعبي على السدي هو توسعه في التفسير وإكثاره فيه.
ولذا نجد السدي يرد هذا بقوله: هذا التفسير أخذته عن ابن عباس، فإن كان صوابا فهو قاله، وإن كان خطأ فهو قاله (6).
2 - تعدد مصادره:
كان جل اهتمام أصحاب ابن مسعود رضي الله عنه ومن جاء بعدهم من تابعي الكوفة هو نقل، ورواية تفسيره، وانفرد السدي بإضافة مصدر آخر مهم، وهو النقل،
__________
(1) الكامل لابن عدي (1/ 274)، وتهذيب الكمال (3/ 135)، وأشار إلى هذه الرواية مختصرة الطبري في تفسير (1/ 92) 114، وابن عطية في المحرر (1/ 19).
(2) العلل لأحمد (2/ 334) 2477، والضعفاء الكبير (1/ 87)، والكامل (1/ 274)، وتهذيب الكمال (3/ 136)، والميزان (1/ 236)، والسير (5/ 265).
(3) طبقات ابن سعد (6/ 240)، وتهذيب الكمال (3/ 73)، والجرح (2/ 175).
(4) أخبار أصبهان (1/ 205)، والتاريخ الكبير (1/ 361)، والسير (5/ 265).
(5) السير (5/ 265)، وتاريخ الإسلام (ح 127هـ / 38).
(6) أخبار أصبهان (1/ 204)، ومعجم الأدباء (7/ 16).(1/301)
والرواية من أقوال ابن عباس، لا سيما ما كان منها في التفسير، فنقل وأكثر حتى أنكر البعض توسعه، فكان يبين لهم أن عمله في هذا إنما هو النقل، فصنيعه ذاك مرشد إلى تعدد مصادره، وتنوعها، ولا ريب أن ذلك أثرى جانب التفسير عنده.
3 - الاهتمام بالتفسير الروائي:
برز السدي بين أصحابه في جانب العناية بالآثار المروية في التفسير، وأكثر من النقل عن الصحابة كابن عباس، وابن مسعود، وعن كبار التابعين من الكوفيين، كأبي مالك غزوان الغفاري، وغيره، كما دأب على رواية قصص بني إسرائيل، وأكثر من نقل أسباب النزول.
وحري بنا أن نشير هنا إلى أن السدي من أكثر التابعين على الإطلاق اعتمادا على تفسير الصحابة فقد روى الكثير منه، وغلب جانب الرواية في تأويله على الدراية (1).
ومن خلال التتبع، والاستقراء اتضح لي جليا أن جانب الرواية كان أغلب على تفسيره من جانب الدراية وأظهر، وقد أشار بعض من ترجم له إلى هذا المعلم في شخصيته.
فهذا العجلي يقول: عالم بالتفسير راوية له (2).
ويقول حاجي خليفة: تفسير السدي على طريق الرواية (3).
ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية: وغالب ما يرويه إسماعيل بن عبد الرحمن السدي في تفسيره عن هذين الرجلين: ابن مسعود وابن عباس (4).
__________
(1) اجتهاده في التفسير كان قليلا، وقل أن ينفرد بشيء من التفسير، لم يسبق إليه.
(2) تاريخ الثقات (66).
(3) كشف الظنون (1/ 310).
(4) مقدمة في أصول التفسير (98)، ومجموع الفتاوى (13/ 366).(1/302)
ولذا كان السدي أكثر العراقيين (1) رواية لتفسير ابن مسعود، وابن عباس، وقد روى ما يزيد عن ربع التفسير المسند عن ابن مسعود، وروى الكثير من تفسير ابن عباس، وقد بالغ في حبه للمسند من تفسير هؤلاء، حتى عاب بعض الأئمة من المحدثين صنيعه ذلك.
فقال الإمام أحمد: إنه ليحسن الحديث إلا أن هذا التفسير الذي يجيء به قد جعل له إسنادا، استكلفه (2).
4 - عناية تلاميذه بنقل آثاره:
مما ميز السدي من بين عموم التابعين، تخصص أحد تلاميذه بنقل تفسيره، وانقطاعه لذلك، وهو أسباط بن نصر، فقد تفرغ للرواية عنه، وكان يوصف برواية السدي (3) حيث جاء من طريقه جل المروي عنه في التفسير.
5 - انقطاعه للتفسير، واشتغاله به:
ومما ميزه، وأهّله للسبق على أصحابه في مدرسة الكوفة، تفرغه للتفسير، واشتغاله به، وقلة اهتمامه بالعلوم الأخرى، وشاهد ذلك، نجده في تصدير كثير من الأئمة ترجمته بإبراز تقدمه وعلمه في التفسير، وذكر إمامته فيه فهذا العجلي صدر ترجمته بقوله: عالم بتفسير القرآن (4).
وقال ابن سعد: السدي صاحب التفسير (5).
__________
(1) سواء من البصريين أو الكوفيين.
(2) تهذيب التهذيب (1/ 314)، وشرح علل ابن رجب (351).
(3) طبقات ابن سعد (6/ 376)، روى أسباط بن نصر ما يقارب (95، 0) من مجموع تفسيره.
(4) تاريخ الثقات (66).
(5) طبقات ابن سعد الجزء المتمم (127)(1/303)
وميز الذهبي السدي بقوله: المفسر المشهور (1).
ومع هذه الشهرة والتقدم في التفسير، نجد أن حظه من العلوم الأخرى قليل، لا سيما علم الفقه الذي صرف التابعون من الكوفيين جل جهدهم وعلمهم فيه، مما أهل مدرسة الكوفة أن تكون من أشهر المدارس، ولم يكن نصيبه في هذا الباب إلا أقل من القليل (2) لانقطاعه للتفسير، وعدم اشتغاله بغيره.
6 - اهتمامه بنقل أسباب النزول:
اهتم السدي رحمه الله بمعرفة أسباب النزول اهتماما كبيرا، واعتنى بذلك عناية شديدة، وأطال في إيرادها بما لا تكاد تجده عند غيره، ورجح على ضوء ذلك كثيرا من المعاني القرآنية، معتمدا على دراية واسعة، بالمغازي وأيام العرب، ووقائعهم.
يقول الأتابكي: السدي صاحب التفسير والمغازي والسير، كان إماما عارفا بالوقائع، وأيام الناس (3).
وقد اعتمد في تفسيره على معرفة أسباب النزول اعتمادا جعله في عداد المكثرين بين التابعين في هذا الباب (4).
ويشهد لهذا أنه كان يطيل في سرد السبب، ويحرص إذا جاء في الآية نهي أن يبين سببه (5)، وإن كان للآية قصة أوردها (6)، ولعل من مظاهر حرصه على التفصيل،
__________
(1) العبر (1/ 127)، وتاريخ الإسلام (127هـ / 37).
(2) رجعت إلى كتاب المغني لابن قدامة، فلم أجد له إلا رواية واحدة في الفقه، في حين بلغت عن إبراهيم النخعي (696) رواية، وعن عامر الشعبي (501) رواية.
(3) النجوم الزاهرة (1/ 308)، وتاريخ التراث (1/ 77).
(4) بلغ نسبة ما روي عنه في أسباب النزول (11، 0) من تفسيره، فكان الرابع بين عموم التابعين في عنايته بالأسباب.
(5) تراجع الآثار في تفسير الطبري: 1738، 3085، 3838، 3866، 3874، 4195.
(6) من ذلك الآثار ذوات الأرقام: 1401، 1527، 1472، 1834، 2563، 2721، 4147، 7183، 7233، 7717، 7723، 8101، 8237.(1/304)
والإطالة في ذلك: العناية بذكر الأسماء والأماكن (1).
بل وذهب إلى أبعد من ذلك، فكان يجزم بأن الآية نزلت في كذا، وكذا، ويقطع بذلك، وكأن القارئ لتفسيره لتلك الآية يشعر أن هذا السبب أو ذاك كان وراء نزول هذه الآية فحسب (2).
7 - إكثاره من الرواية عن أهل الكتاب:
هو أكثر التابعين على الإطلاق في اتخاذ رواية أهل الكتاب مصدرا ومعتمدا في التفسير، ولم يشاركه بل لم يقاربه أحد في هذا، والعجيب من أمر السدي أنه عاش واستقر في الكوفة، التي كانت من أكثر المدارس حذرا وبعدا عن روايات بني إسرائيل، ولكنه خالف منهج تلك المدرسة، وأورد العديد من الروايات المنكرة، وكان من أكثر التابعين تساهلا في ذلك (3).
وأحسب أن هذا التوسع، والخوض في التفسير بعامة، والإكثار من النقل عن بني إسرائيل بخاصة، هو من أهم أسباب إنكار الشعبي عليه.
وقد فاق السدي في تساهله هذا، حتى المشاهير من رواة الإسرائيليات كوهب بن منبه، وكعب الأحبار، وعبد الله بن سلام، وقد تتبعت المروي عنهم جميعا، وحاولت استقراء العديد من كتب التفسير كالطبري، وابن أبي حاتم، وابن كثير، والسيوطي، فوجدت أن السدي أكثر منهم عددا، وأكثر تفصيلا وإغرابا، بل إن المروي عن هؤلاء
__________
(1) ينظر في هذا تفسير الطبري الآثار ذوات الأرقام: 2721، 2949، 3961، 4083، 4147، 4225، 4234، 4920، 4939، 6258، 6302، 7163، 7183، 7364، 7943، 8003، 8195، 8201، 8302.
(2) من ذلك: 2418، 2702.
(3) بلغ نسبة المروي عنه (16، 0) من مجموع تفسيره، في حين جاء الذي يليه محمد بن كعب القرظي بنسبة (07، 0).(1/305)
المشاهير الذين تخصصوا في نقل روايات بني إسرائيل يعد قليلا إذا ما نسب إلى ما نقله السدي ورواه.
واختص في كثير من روايته بالرغبة في إيراد تفاصيل القصص والاستطراد في السرد، والقص، وهذه صفة عامة في أغلب ما يرويه، ولم أجد من شابهه أو قاربه من مفسري التابعين في هذا المسلك، وهذا المنهج من أهم ما يلاحظه الناظر في تفسيره.
ولذا سوف أعرض بشيء من التفصيل بعضا من الشواهد الموضحة لمنهجه في هذا، فمن ذلك ما جاء عنه عند قوله تعالى: {فَلَمََّا أَحَسَّ عِيسى ََ مِنْهُمُ الْكُفْرَ قََالَ مَنْ أَنْصََارِي إِلَى اللََّهِ قََالَ الْحَوََارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصََارُ اللََّهِ آمَنََّا بِاللََّهِ وَاشْهَدْ بِأَنََّا مُسْلِمُونَ} (1)، أورد الطبري قصة سبب استنصار عيسى عليه السلام من استنصر من الحواريين، فساق عن السدي قوله: لما بعث الله عيسى، فأمره بالدعوة، نفته بنو إسرائيل وأخرجوه، فخرج هو وأمه يسيحون في الأرض، فنزل في قرية على رجل فضافهم وأحسن إليهم.
وكان لتلك المدينة ملك جبار معتد، فجاء ذلك الرجل يوما وقد وقع عليه هم وحزن، فدخل منزله ومريم عند امرأته، فقالت مريم لها: ما شأن زوجك؟ أراه حزينا! قالت: لا تسألي! قالت: أخبريني! لعل الله يفرج كربته! قالت: فإن لنا ملكا يجعل على كل رجل منا يوما يطعمه هو، وجنوده، ويسقيهم من الخمر، فإن لم يفعل عاقبه، وإنه قد بلغت نوبته اليوم الذي يريد أن نصنع له فيه، وليس لذلك عندنا سعة!
قالت: فقولي له لا يهتم، فإني آمر ابني فيدعو له، فيكفي ذلك. قالت مريم لعيسى في ذلك، قال عيسى: يا أمّه إني إن فعلت كان في ذلك شر. قالت: فلا تبال، فإنه قد أحسن إلينا وأكرمنا! قال عيسى: فقولي له: إذا اقترب ذلك، فاملأ قدورك وخوابيك ماء، ثم أعلمني. قال: فلما ملأهنّ أعلمه، فدعا الله فتحول ما في القدر لحما، ومرقا، وخبزا، وما في الخوابي خمرا لم ير الناس مثله قط، وإياه طعاما.
__________
(1) سورة آل عمران: آية (52).(1/306)
فلما جاء الملك أكل، فلما شرب الخمر سأل: من أين هذا الخمر؟ قال له: هي من أرض كذا، وكذا. قال الملك فإن خمري أوتى بها من تلك الأرض، فليس هي مثل هذه! قال: هي من أرض أخرى. فلما خلط على الملك اشتد عليه، قال: فأنا أخبرك، عندي غلام لا يسأل الله شيئا إلا أعطاه إياه، وإنه دعا الله فجعل الماء خمرا. قال الملك وكان له ابن يريد أن يستخلفه، فمات قبل ذلك بأيام، وكان أحب الخلق إليه فقال: إن رجلا دعا الله حتى جعل الماء خمرا، ليستجابن له، حتى يحيى ابني!
فدعا عيسى فكلمه، فسأله أن يدعو الله فيحيي ابنه، فقال عيسى: لا تفعل، فإنه إن عاش كان شرا، فقال الملك: لا أبالي، أليس أراه؟ فلا أبالي ما كان. فقال عيسى عليه السلام: فإن أحييته تتركوني أنا وأمي نذهب أينما شئنا؟ قال الملك: نعم. فدعا الله فعاش الغلام. فلما رآه أهل مملكته قد عاش، تنادوا بالسلاح، وقالوا: أكلنا هذا، حتى إذا دنا موته يريد أن يستخلف ابنه، فيأكلنا كما أكلنا أبوه!! فاقتتلوا.
وذهب عيسى، وأمه، وصحبهما يهودي. وكان مع اليهودي رغيفان ومع عيسى رغيف، فقال له عيسى: شاركني، فقال اليهودي: نعم، فلما رأى أنه ليس مع عيسى إلا رغيف ندم، فلما ناما جعل اليهودي يريد أن يأكل الرغيف، فلما أكل لقمة، قال له عيسى: ما تصنع؟ فيقول: لا شيء! فيطرحها، حتى فرغ من الرغيف كله. فلما أصبحا قال له عيسى: هلمّ طعامك! فجاء برغيف، فقال عيسى: أين الرغيف الآخر؟
قال: ما كان معي إلا واحد. فسكت عنه عيسى، فانطلقوا، فمروا براعي غنم، فنادى عيسى: يا صاحب الغنم، أجزرنا شاة من غنمك.
قال: نعم أرسل صاحبك يأخذها. فأرسل عيسى اليهودي، فجاء بالشاة فذبحوها، وشووها، ثم قال لليهودي: كل ولا تكسرن عظما. فأكلا. فلما شبعوا، قذف عيسى العظام في الجلد ثم ضربها بعصاه وقال: قومي بإذن الله، فقامت الشاة تثغو! فقال: يا صاحب الغنم، خذ شاتك. فقال له الراعي: من أنت؟ فقال: أنا عيسى ابن مريم. قال: أنت الساحر! وفرّ منه. قال عيسى لليهودي: بالذي أحيا هذه الشاة
بعد ما أكلناها، كم كان معك رغيفا؟ فحلف ما كان معه إلا رغيف واحد، فمروا بصاحب بقر، فنادى عيسى فقال: يا صاحب البقر، أجزرنا من بقرك هذه عجلا، قال: ابعث صاحبك يأخذه.(1/307)
قال: نعم أرسل صاحبك يأخذها. فأرسل عيسى اليهودي، فجاء بالشاة فذبحوها، وشووها، ثم قال لليهودي: كل ولا تكسرن عظما. فأكلا. فلما شبعوا، قذف عيسى العظام في الجلد ثم ضربها بعصاه وقال: قومي بإذن الله، فقامت الشاة تثغو! فقال: يا صاحب الغنم، خذ شاتك. فقال له الراعي: من أنت؟ فقال: أنا عيسى ابن مريم. قال: أنت الساحر! وفرّ منه. قال عيسى لليهودي: بالذي أحيا هذه الشاة
بعد ما أكلناها، كم كان معك رغيفا؟ فحلف ما كان معه إلا رغيف واحد، فمروا بصاحب بقر، فنادى عيسى فقال: يا صاحب البقر، أجزرنا من بقرك هذه عجلا، قال: ابعث صاحبك يأخذه.
قال: انطلق يا يهودي فجئ به. فانطلق فجاء به. فذبحه وشواه وصاحب البقر ينظر، فقال له عيسى: كل ولا تكسرن عظما فلما فرغوا، قذف العظام في الجلد، ثم ضربه بعصاه، وقال: قم بإذن الله. فقام وله خوار، قال: خذ عجلك. قال: ومن أنت؟ قال: أنا عيسى قال: أنت السحّار! ثم فرّ منه.
قال اليهودي: يا عيسى أحييته بعد ما أكلناه! قال عيسى: فبالذي أحيا الشاة بعد ما أكلناها، والعجل بعد ما أكلناه، كم كان معك رغيفا؟ فحلف بالله ما كان معه إلا رغيف واحد. فانطلقا، حتى نزلا قرية، فنزل اليهودي أعلاها، وعيسى في أسفلها، وأخذ اليهودي عصا مثل عصا عيسى، وقال: أنا الآن أحيي الموتى! وكان ملك تلك المدينة مريضا شديد المرض، فانطلق اليهودي ينادي: من يبتغي طبيبا؟ حتى أتى ملك تلك القرية، فأخبر بوجعه، فقال: أدخلوني عليه فأنا أبرئه، وإن رأيتموه قد مات فأنا أحييه.
فقيل له: إن وجع الملك قد أعيى الأطباء قبلك، ليس من طبيب يداويه، ولا يفيء دواؤه شيئا إلا أمر به فصلب. قال: أدخلوني عليه، فإني سأبرئه. فأدخل عليه فأخذ برجل الملك فضربه بعصاه حتى مات، فجعل يضربه بعصاه، وهو ميت، ويقول: قم بإذن الله! فأخذ ليصلب، فبلغ عيسى، فأقبل إليه وقد رفع على الخشبة، فقال: أرأيتم إن أحييت لكم صاحبكم، أتتركون لي صاحبي؟ قالوا: نعم، فأحيا الله الملك لعيسى.
فقام وأنزل اليهودي فقال: يا عيسى أنت أعظم الناس عليّ منة، والله لا أفارقك أبدا. قال عيسى فيما حدثنا به محمد بن الحسين بن موسى قال: حدثنا أحمد بن المفضل قال: حدثنا أسباط، عن السدي لليهودي: أنشدك بالذي أحيا الشاة والعجل
بعد ما أكلناهما، وأحيا هذا بعد ما مات، وأنزلك من الجذع بعد ما رفعت عليه لتصلب، كم كان معك رغيفا؟ قال فحلف بهذا كله ما كان معه إلا رغيف واحد، قال: لا بأس! فانطلقا، حتى مرا على كنز قد حفرته السباع، والدواب، فقال اليهودي: يا عيسى، لمن هذا المال؟ قال عيسى: دعه، فإن له أهلا يهلكون عليه. فجعلت نفس اليهودي تطلع إلى المال، ويكره أن يعصي عيسى، فانطلق مع عيسى.(1/308)
فقام وأنزل اليهودي فقال: يا عيسى أنت أعظم الناس عليّ منة، والله لا أفارقك أبدا. قال عيسى فيما حدثنا به محمد بن الحسين بن موسى قال: حدثنا أحمد بن المفضل قال: حدثنا أسباط، عن السدي لليهودي: أنشدك بالذي أحيا الشاة والعجل
بعد ما أكلناهما، وأحيا هذا بعد ما مات، وأنزلك من الجذع بعد ما رفعت عليه لتصلب، كم كان معك رغيفا؟ قال فحلف بهذا كله ما كان معه إلا رغيف واحد، قال: لا بأس! فانطلقا، حتى مرا على كنز قد حفرته السباع، والدواب، فقال اليهودي: يا عيسى، لمن هذا المال؟ قال عيسى: دعه، فإن له أهلا يهلكون عليه. فجعلت نفس اليهودي تطلع إلى المال، ويكره أن يعصي عيسى، فانطلق مع عيسى.
ومر بالمال أربعة نفر، فلما رأوه اجتمعوا عليه، فقال: اثنان لصاحبيهما: انطلقا فابتاعا لنا طعاما، وشرابا، ودواب نحمل عليها هذا المال. فانطلق الرجلان، فابتاعا دواب وطعاما وشرابا، وقال أحدهما لصاحبه: هل لك أن نجعل لصاحبينا في طعامهما سما، فإذا أكلا ماتا، فكان المال بيني، وبينك؟ فقال الآخر: نعم! ففعلا، وقال الآخران: إذا ما أتيانا بالطعام، فليقم كل واحد إلى صاحبه فيقتله، فيكون الطعام والدواب بيني، وبينك.
فلما جاءا بطعامهما قاما فقتلاهما، ثم قعدا على الطعام فأكلا منه، فماتا. وأعلم ذلك عيسى، فقال لليهودي: أخرجه حتى نقتسمه، فأخرجه فقسمه عيسى بين ثلاثة، فقال اليهودي: يا عيسى، اتق الله ولا تظلمني، فإنما هو أنا، وأنت!! وما هذه الثلاثة؟
قال له عيسى: هذا لي، وهذا لك، وهذا الثلث لصاحب الرغيف. قال اليهودي: فإن أخبرتك بصاحب الرغيف، تعطيني هذا المال؟ فقال: عيسى: نعم. قال: أنا هو. قال عيسى: خذ حظي وحظك، وحظ صاحب الرغيف، فهو حظك من الدنيا، والآخرة.
فلما حمله مشى به شيئا، فخسف به. وانطلق عيسى بن مريم، فمر بالحواريين، وهم يصطادون السمك، فقال: ما تصنعون؟ فقالوا: نصطاد السمك. فقال: أفلا تمشون حتى نصطاد الناس؟ قالوا: ومن أنت؟ قال: أنا عيسى بن مريم. فآمنوا به، وانطلقوا معه. فذلك قول الله عز وجل: {مَنْ أَنْصََارِي إِلَى اللََّهِ قََالَ الْحَوََارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصََارُ اللََّهِ آمَنََّا بِاللََّهِ وَاشْهَدْ بِأَنََّا مُسْلِمُونَ} (1).
__________
(1) سورة آل عمران: آية (52). ينظر تفسير الطبري (6/ 444) 7122.(1/309)
ومع هذا التساهل والإغراق في إيراد تلك التفاصيل، والسرد الذي لا طائل تحته، ولا حاجة للناس به، كان السدي ممن تجاوز إلى رواية بعض القصص، والحكايات المنكرة، فمن هذا ما جاء عنه عند قوله سبحانه: {وَهَلْ أَتََاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرََابَ} (1).
قال: كان داود قد قسم الدهر ثلاثة أيام: يوم يقضي فيه بين الناس، ويوم يخلو فيه لعبادة ربه، ويوم يخلو فيه لنسائه، وكان له تسع وتسعون امرأة، وكان فيما يقرأ من الكتب أنه كان يجد فيه فضل إبراهيم، وإسحاق، ويعقوب، فلما وجد ذلك فيما يقرأ من الكتب قال: يا رب إن الخير كله قد ذهب به آبائي الذين كانوا قبلي، فأعطني مثل ما أعطيتهم، وافعل بي مثل ما فعلت بهم، قال: فأوحى الله إليه: إن آباءك ابتلوا ببلايا، لم تبتل بها: ابتلي إبراهيم بذبح ابنه، وابتلي إسحاق بذهاب بصره، وابتلي يعقوب بحزنه على يوسف، وإنك لم تبتل من ذلك بشيء.
قال: يا رب ابتلني بمثل ما ابتليتهم به، وأعطني مثل ما أعطيتهم، قال: فأوحى إليه: إنك مبتلى فاحترس قال: فمكث بعد ذلك ما شاء الله أن يمكث إذ جاءه الشيطان قد تمثل في صورة حمامة من ذهب، حتى وقع عند رجليه، وهو قائم يصلي، فمد يده ليأخذه، فتنحى فتبعه، فتباعد حتى وقع في كوة، فذهب ليأخذه، فطار من الكوة، فنظر أين يقع، فيبعث في أثره، قال: فأبصر امرأة تغتسل على سطح لها، فرأى امرأة من أجمل الناس خلقا، فحانت منها التفاتة، فأبصرته، فألقت شعرها، فاستترت به، قال: فزاده ذلك فيها رغبة، قال: فسأل عنها، فأخبر أن لها زوجا، وأن زوجها غائب بمسلحة كذا وكذا قال: فبعث إلى صاحب المسلحة أن يبعث «أهريا» إلى
__________
ولمزيد من الأمثلة الدالة على حبه السرد، والتفصيل في قصه وتحديثه، تراجع الآثار التالية في تفسير الطبري: 895، 937، 991، 1142، 1174، 1646، 1686، 1696، 5602، 5635، 5638، 5744، 6904، 11656، 11694، 15525، 19013، (23/ 147)، (23/ 158).
(1) سورة ص: آية (21).(1/310)
عدو كذا وكذا، قال: فبعثه، ففتح له، قال: وكتب إليه بذلك، قال: فكتب إليه أيضا: أن ابعثه إلى عدو كذا وكذا، أشد منهم بأسا، قال: فبعثه ففتح له أيضا. قال:
فكتب إلى داود بذلك، قال: فكتب إليه أن ابعثه إلى عدو كذا وكذا، فبعثه فقتل المرة الثالثة، قال: وتزوج امرأته.
قال: فلما دخلت عليه، قال: لم تلبث عنده إلا يسيرا، حتى بعث الله ملكين في صورة إنسيين، فطلبا أن يدخلا عليه، فوجداه في يوم عبادته، فمنعهما الحرس أن يدخلا، فتسوروا عليه المحراب، قال: فلما شعر وهو يصلي، إذ هو بهما بين يديه جالسين، قال: ففزع منهما فقالا: {لََا تَخَفْ}، إنما نحن {خَصْمََانِ بَغى ََ بَعْضُنََا عَلى ََ بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنََا بِالْحَقِّ وَلََا تُشْطِطْ} يقول: لا تخف {وَاهْدِنََا إِلى ََ سَوََاءِ الصِّرََاطِ}:
إلى عدل القضاء. قال: فقال: قصا عليّ قصتكما، قال: فقال: أحدهما: {إِنَّ هََذََا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وََاحِدَةٌ} فهو يريد أن يأخذ نعجتي، فيكمل بها نعاجه مائة. قال فقال للآخر: ما تقول؟ فقال: إن لي تسعا وتسعون نعجة، ولأخي هذا نعجة واحدة، فأنا أريد أن آخذها منه، فأكمل بها نعاجي مائة، قال: وهو كاره؟
قال: وهو كاره، قال: وهو كاره؟
قال: إذن لا ندعك، وذاك، قال: ما أنت على ذلك بقادر، قال: فإن ذهبت تروم ذلك، أو تريد، ضربنا منك هذا، وهذا، وهذا، وفسر أسباط: طرف الأنف، وأصل الأنف، والجبهة، قال: يا داود أنت أحق أن يضرب مثل هذا، وهذا، وهذا حيث لك تسع وتسعون نعجة امرأة، ولم يكن لأهريا إلا امرأة واحدة، فلم تزل به تعرضه للقتل حتى قتلته، وتزوجت امرأته قال: فنظر فلم ير شيئا، فعرف ما قد وقع فيه، وما قد ابتلي به. قال: فخر ساجدا. قال: فبكى. قال: مكث يبكي ساجدا أربعين يوما لا يرفع رأسه إلا لحاجة منها، ثم يقع ساجدا يبكي، ثم يدعو حتى نبت العشب من دموع عينيه، قال:
فأوحى الله إليه بعد أربعين يوما: يا داود، ارفع رأسك فقد غفرت لك، فقال: يا رب
كيف أعلم أنك قد غفرت لي، وأنت حكم عدل لا تحيف في القضاء، إذا جاءك أهريا يوم القيامة آخذا رأسه بيمينه، أو بشماله، تشخب أوداجه دما قبل عرشك يقول:(1/311)
فأوحى الله إليه بعد أربعين يوما: يا داود، ارفع رأسك فقد غفرت لك، فقال: يا رب
كيف أعلم أنك قد غفرت لي، وأنت حكم عدل لا تحيف في القضاء، إذا جاءك أهريا يوم القيامة آخذا رأسه بيمينه، أو بشماله، تشخب أوداجه دما قبل عرشك يقول:
يا رب، سل هذا فيم قتلني؟ قال: فأوحى إليه: إذا كان ذلك دعوت أهريا فأستوهبك منه، فيهبك لي، فأثيبه بذلك الجنة، قال: رب الآن علمت أنك قد غفرت لي، قال: فما استطاع أن يملأ عينيه من السماء حياء من ربه، حتى قبض صلى الله عليه وسلّم (1).
والسدي قد سلك طريقة مغايرة لطريقة غيره من مشاهير مفسري التابعين، فكان كثيرا ما يورد الآيات القرآنية في ثنايا حديثه وروايته، وكأنه بذلك يرد على المنكرين لصنيعه في إكثاره، وكأنه يشعر بشيء من عدم الرضى من معاصريه، فكان يذكر الآيات القرآنية في تضاعيف تلك الروايات لدعم موقفه، والرد على مخالفيه، والاحتجاج بتلك الإطالة والتفصيل، ومن أمثلة ذلك ما جاء عنه عند تأويل قوله جل ثناؤه: {وَأَنْزَلْنََا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى ََ} (2).
قال السدي: لما تاب الله على قوم موسى، وأحيا السبعين الذين اختارهم موسى بعد ما أماتهم، أمرهم الله بالسير إلى أريحا، فساروا، حتى إذا كانوا قريبا منهم، بعث موسى اثني عشر نقيبا، فكان من أمرهم، وأمر الجبارين، وأمر قوم موسى، ما قد قص الله في كتابه، فقال قوم موسى لموسى: {فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقََاتِلََا إِنََّا هََاهُنََا قََاعِدُونَ} (3)
، فغضب موسى، فدعا عليهم فقال: {رَبِّ إِنِّي لََا أَمْلِكُ إِلََّا نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنََا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفََاسِقِينَ} (4)، فكانت عجلة من موسى عجلها، فقال الله تعالى: {فَإِنَّهََا}
__________
(1) تفسير الطبري (23/ 147).
ولمزيد من الأمثلة تراجع الآثار التالية في تفسير الطبري (1686، 15525، 19013، (23/ 158)، وغيرها.
(2) سورة البقرة: آية (57).
(3) سورة المائدة: آية (24).
(4) سورة المائدة: آية (25).(1/312)
{مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ} (1)، فلما ضرب عليهم التيه، ندم موسى، وأتاه قومه الذين كانوا معه يطيعونه فقالوا له: ما صنعت بنا يا موسى؟، فلما ندم.
أوحى الله إليه: أن لا تأس على القوم الفاسقين أي: لا تحزن على القوم، الذين سميتهم فاسقين فلم يحزن، فقالوا: يا موسى، كيف لنا بماء هاهنا؟ أين الطعام؟
فأنزل الله عليهم المن فكان يسقط على شجر الترنجبين، والسلوى وهو طير يشبه السمان فكان يأتي أحدهم، فينظر إلى الطير، إن كان سمينا ذبحه وإلا أرسله، فإذا سمن أتاه. فقالوا: هذا الطعام فأين الشراب؟
فأمر موسى فضرب بعصاه الحجر، فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا، فشرب كل سبط من عين. فقالوا: هذا الطعام، والشراب؟ فأين الظل؟ فظلل عليهم الغمام، فقالوا: هذا الظل، فأين اللباس؟ فكانت ثيابهم تطول معهم كما تطول الصبيان، ولا يتخرق لهم ثوب، فذلك قوله: {وَظَلَّلْنََا عَلَيْكُمُ الْغَمََامَ وَأَنْزَلْنََا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى ََ} (2)، وقوله: {وَإِذِ اسْتَسْقى ََ مُوسى ََ لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصََاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتََا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنََاسٍ مَشْرَبَهُمْ} (3).
وخلاصة القول: إن مما يؤخذ على السدي هذا التساهل، والإكثار في الأخذ والرواية عن بني إسرائيل.
8 - توسعه في القول بالنسخ:
نأى السدي عن أصحابه الكوفيين، فتساهل في القول بالنسخ، وادعى نسخ كثير من الآيات (4)، ولم يرتض بعض الأئمة هذا الصنيع فرده عليه.
__________
(1) سورة المائدة: آية (26).
(2) سورة البقرة: آية (57).
(3) سورة البقرة: آية (60).
تفسير الطبري (2/ 97) 991، ولمزيد من الأمثلة تنظر الآثار: 937، 955، 956، 958، 991، 1142، 1174، 5637، 6904، 7001، 7107، 7132وغيرها.
(4) من أمثلة هذا، يراجع تفسير الطبري الآثار ذوات الأرقام 1800، 2204، 2260، 4068،(1/313)
يقول ابن الجوزي: ومن نظر في كتاب الناسخ والمنسوخ للسدي رأى من التخليط العجائب (1) إلى أن يقول:
وإني أعرضت عن ذكر آيات ادعى عليها النسخ من حكاية لا تحصل إلا تضييع الزمان أفحش تضييع، كقول السدي: {وَآتُوا الْيَتََامى ََ أَمْوََالَهُمْ} (2) نسخها {وَلََا تُؤْتُوا السُّفَهََاءَ أَمْوََالَكُمُ} (3)، وقوله: {وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوََالَهُمْ رِئََاءَ النََّاسِ} (4) نسخها {قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً} (5)، وقوله: {إِذََا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنََانِ} (6)
نسخها {أَوْ آخَرََانِ مِنْ غَيْرِكُمْ} (7)، وقوله: {ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللََّهِ مَوْلََاهُمُ الْحَقِّ} (8)
نسخها: {ذََلِكَ بِأَنَّ اللََّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا} (9).
وقوله: {وَلَذِكْرُ اللََّهِ أَكْبَرُ} (10) نسخها {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ} (11) ثم قال: لا أدري أي الأخلاط الغالبة حملته على هذا التخليط، فلما كان مثل هذا ظاهر الفساد، وريت (12) عنه غيرة على الزمان أن يضيع، وإن كنت قد ذكرت مما يقاربه طرفا، لأنبه
__________
4176، 5580، 5819، 7559، 8827، 10974، 11995، 13397، 14029، 14032، 14267، 15544، 15673، 16281، 16337، 16488، (26/ 40).
(1) نواسخ القرآن لابن الجوزي (76).
(2) سورة النساء: آية (2).
(3) سورة النساء: آية (5).
(4) سورة النساء: آية (38).
(5) سورة التوبة: آية (53).
(6) سورة المائدة: آية (106).
(7) سورة المائدة: آية (106).
(8) سورة الأنعام: آية (62).
(9) سورة محمد: آية (11).
(10) سورة العنكبوت: آية (45).
(11) سورة البقرة: آية (152).
(12) ورّى الشيء تورية عن كذا، أي: أراده، وأظهر غيره، ينظر القاموس المحيط (1730).(1/314)
بمذكوره على مغفله (1).
9 - عنايته بعلم القراءات:
فاق السدي المتأخرين من الكوفيين في علم القراءات حتى عدّ من المقدمين في هذا الشأن في زمانه، فعن أبي بكر بن أبي داود قال: ليس أحد بعد الصحابة أعلم بالقرآن من أبي العالية، وبعده سعيد بن جبير، ثم السدي، ثم سفيان الثوري (2).
والذي روي عنه من القراءات في تفسيره قليل، وكان رحمه الله يستعين بالقراءة ليوضح بها معنى قراءة أخرى، فعند قوله سبحانه: {وَجََاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرََابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ} (3).
قال: من قرأها خفيفة هم بنو مقرن، ومن قرأها بالتشديد، أي الذين اعتذروا بشيء ليس لهم عذر بحق (4).
10 - تأخر وفاته:
وأحسب أن مما ساعد على انتشار تفسير السدي في الكوفة خصوصا، قلة المتعرضين فيها للتفسير، وندرة المكثرين فيه، مع ما صاحب هذا من تأخر وفاته. فقد اتفقت كلمة كثير من الأئمة على أنه توفي سنة سبع وعشرين ومائة (5).
* * * __________
(1) نواسخ القرآن (77).
(2) تهذيب الأسماء واللغات (2/ 251)، وتاريخ الخميس (2/ 313)، وغاية النهاية (1/ 285)، وعند ابن حجر في التهذيب بلفظ: ليس أحد بعد الصحابة أعلم بالقراءة (3/ 285).
(3) سورة التوبة: آية (90).
(4) أورده السيوطي في الدر، وعزاه إلى ابن أبي حاتم (4/ 261).
(5) طبقات ابن سعد (6/ 323)، وطبقات خليفة (163)، وتاريخ خليفة (378)، والجمع بين رجال الصحيحين (1/ 28)، وطبقات المحدثين بأصبهان (1/ 335)، والثقات (5/ 21)، واللباب (2/ 110)، ومرآة الجنان (1/ 294)، وطبقات المفسرين للداودي (1/ 109).(1/315)
عامر الشعبي
هو عامر بن شراحيل بن عبد بن ذي كبار (1)، أبو عمرو (2)، الهمداني (3) ثم الشعبي (4)، ولد في أواسط خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه (5)، وكانت أمه من سبي جلولاء (6).
وعده غير واحد من الأئمة في الطبقة الثانية، من تابعي مدرسة الكوفة (7).
أدرك خمسمائة من الصحابة (8)، وروى عن خمسين ومائة منهم (9)، وسمع من
__________
(1) العلل لأحمد (2/ 522) 3444، (3/ 468) 5977، والسير (4/ 294).
(2) الكنى للدولابي (2/ 43)، والكنى لمسلم (ق 75)، والمعارف (199)، والجمع بين رجال الصحيحين (1/ 377).
(3) رجال صحيح البخاري (2/ 556)، ورجال صحيح مسلم (2/ 84).
(4) الأنساب (7/ 341)، واللباب في تهذيب الأنساب (2/ 198)، وطبقات ابن سعد (6/ 246)، والمعارف (199).
(5) تهذيب الكمال (14/ 28)، ورجال صحيح مسلم (2/ 84)، والمنتظم (7/ 93)، وطبقات الحفا (33).
(6) طبقات خليفة (157)، والتاريخ الكبير (6/ 450)، وتاريخ بغداد (12/ 227)، والأنساب (7/ 342)، ووفيات الأعيان (3/ 15).
وجلولاء: قرية بناحية فارس، كانت بها الوقعة المشهورة على الفرس، والتي انتصر فيها المسلمون سنة 16هـ، قتل من الفرس فيها مائة ألف فجلّلت القتلى، فسميت جلولاء لما جللها من قتلاهم، ينظر معجم البلدان (2/ 156)، ومعجم ما استعجم (1/ 390).
(7) طبقات ابن سعد (6/ 246)، وتاريخ دمشق (8/ 687).
(8) التاريخ الكبير (6/ 451)، والحلية (4/ 323)، والثقات (5/ 186)، وتهذيب تاريخ دمشق (7/ 142)، ومرآة الجنان (1/ 245).
(9) الثقات (5/ 186)، ومشاهير علماء الأمصار (102)، والأنساب (7/ 341).(1/316)
ثمانية وأربعين صحابيا (1).
وكان لهذا الإدراك وكثرة السماع الأثر البالغ في تميز الشعبي بمنهج أثري روائي، حتى صار من أكثر العراقيين تتبعا، واقتداء، وإفتاء بالأثر، بل صار من أبعدهم عن الرأي والقياس (2).
أسباب قلة المروي عنه:
المدرسة الكوفية التي عاش فيها الشعبي، من المدارس التي تورعت عن الخوض في التفسير، وعظمت القول فيه فقلّ نتاجها، واشتغلت بعلوم أخرى غيره، وكان عامر ممن تورع في هذا، فكان من المقلين بين مشاهير المفسرين من التابعين (3).
ومن خلال النظر في أخباره، وتتبع آثاره، يظهر أن ثمة أسبابا كانت وراء ذلك من أهمها ما يلي:
1 - شدة ورعه، وكراهيته الإكثار من التحديث، والفتيا:
فقد بلغ الشعبي رحمه الله الغاية في الاحتياط، والورع، وكان من أكثر التابعين ورعا في هذا الباب، مع تقدمه في العلم.
وعند النظر والمراجعة والتأمل لما ورد عنه من أقوال في سائر فروع العلوم الشرعية، نجد أن هذا الاحتياط والورع كان سمة بارزة من سماته، بل كان رحمه الله ينكر على غيره من الأئمة إكثارهم من التحديث، والفتيا.
__________
(1) تاريخ الثقات للعجلي (243)، والسير (4/ 301)، وتهذيب تاريخ دمشق (7/ 142).
(2) يأتي مزيد بسط لهذه المسألة إن شاء الله.
(3) هو من أقلهم عددا في المروي عنه، بين المكيين، والبصريين، والكوفيين، فقد بلغ مجموع ما روي عنه في تفسير الطبري (461) قولا.(1/317)
فعن توبة العنبري (1) قال: قال لي الشعبي: أرأيت حديث الحسن (2) عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقاعدت ابن عمر قريبا من سنتين، أو سنة ونصف، فلم أسمعه يحدث عن النبي صلى الله عليه وسلم غير هذا.
وذكر حديث الضب، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «كلوا وأطعموا فإنه حلال» (3).
وعن داود بن أبي هند عن الشعبي قال: لو لقيت هذا يعني الحسن لنهيته عن قوله:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم صحبت ابن عمر ستة أشهر فلم أسمعه يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا في حديث واحد (4).
ولما سئل عن قتادة، لم يرض عنه بسبب كثرة تحديثه، وقال: حاطب ليل (5).
وكان يقول: كره الصالحون الأولون الإكثار من الحديث، ولو استقبلت من أمري ما استدبرت، ما حدثت إلا بما أجمع عليه أهل الحديث (6).
ولعله يضاف إلى ذلك: خوفه من الخطأ في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلّم، فعن عاصم العدوي قال: سألت الشعبي عن حديث فحدثنيه، فقلت: إنه يرفع إلى النبي صلى الله عليه وسلّم، فقال: لا، على من دون النبي صلى الله عليه وسلّم أحب إلينا، فإن كان فيه زيادة أو نقص، كان على
__________
(1) توبة العنبري: البصري أبو المورع. ثقة من الرابعة، ينظر التقريب (131)، والخلاصة (55).
(2) قال ابن حجر في تعليقه على قول الشعبي (أرأيت حديث الحسن): كان الشعبي ينكر على من يرسل الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم، إشارة إلى أن الحامل لفاعل ذلك طلب الإكثار من التحديث عنه، وإلا كان يكتفي بما سمعه موصولا، ينظر الفتح (13/ 243).
وقال الكرماني: مراد الشعبي أن الحسن مع كونه تابعيا كان يكثر الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلّم، وابن عمر مع كونه صحابيا يحتاط، ويقل مهما أمكن، ينظر الفتح (13/ 243).
(3) الحديث أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب أخبار الآحاد، باب خبر المرأة الواحدة (8/ 137)، ومسلم في صحيحه، كتاب الصيد، باب إباحة الضب (3/ 1543)، والدارمي في سننه (1/ 84).
(4) العلل لأحمد (2/ 198) 1999، (3/ 367) 5614.
(5) المعرفة (2/ 277)، والسير (5/ 272).
(6) التذكرة (1/ 83).(1/318)
من دون النبي صلى الله عليه وسلّم (1).
وكان من طبع الشعبي الانبساط في الحديث مع تلاميذه، وأصحابه، فإذا جاءت المسألة والفتيا انقبض، على عكس إبراهيم النخعي، الذي يكون منقبضا، فإذا وقعت الفتوى انبسط (2).
يقول ابن عون: كان الشعبي إذا جاءه شيء اتقاه، وكان إبراهيم يقول، ويقول (3).
وذكر الشعبي وإبراهيم عند ابن عون، فقال: كان إبراهيم يسكت، فإذا جاءت الفتيا انبرى لها، وكان الشعبي يتحدث، ويذكر الشعر، وغير ذلك، فإذا جاءت الفتيا أمسك (4).
وكان الشعبي يكره كثرة السؤال، ويقول: لو أن هؤلاء كانوا على عهد النبي صلى الله عليه وسلّم لنزلت عامة القرآن: يسألونك يسألونك (5).
وعن داود بن أبي هند قال: سألت الشعبي: كيف كنتم تصنعون إذا سئلتم؟ قال:
على الخبير وقعت، كان إذا سئل الرجل، قال لصاحبه: أفتهم، فلا يزال حتى يرجع إلى الأول (6).
وكان رحمه الله كثيرا ما يقول: لا أدري (7).
__________
(1) سنن الدارمي (1/ 82).
(2) تاريخ دمشق (8/ 699)، ومختصر تاريخ دمشق (11/ 254).
(3) تاريخ دمشق (8/ 699)، ومختصر تاريخ دمشق (11/ 254).
(4) تاريخ دمشق (8/ 697).
(5) سنن الدارمي (1/ 66).
(6) سنن الدارمي (1/ 53).
(7) سنن الدارمي (1/ 52، 63)، وطبقات ابن سعد (6/ 250)، والمعرفة (2/ 603)، والتذكرة (1/ 85)، وتاريخ دمشق (8/ 698).(1/319)
ولما قيل له: أما تستحي من كثرة ما تسأل، فتقول: لا أدري. قال: أكثر ملائكة الله المقربين لم يستحيوا حيث سئلوا عما لا يعلمون أن قالوا: لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم (1).
وكان إذا سئل عن مسألة شديدة قال: زباذات (2)، وبر، لا تنقاد، ولا تنساق، لو سئل عنها أصحاب محمد صلى الله عليه وسلّم لعضلت بهم (3).
وأحسب أن المروي عنه سيكون كثيرا لولا غلبة هذا الجانب على نفسه، ومنهجه، مما جعله يؤثر جانب الإقلال في الرواية بعامة، وفي التفسير بخاصة، مع أنه من المقدمين بين التابعين في معرفة غريب اللغة وشعرها، ومن أفصحهم لسانا، وأكثرهم حفظا بل إنه ما من آية إلا وسمع فيها شيئا من التفسير، ومع هذا فقد أحجم، وتحرج عن نقل مسموعه وروايته، فضلا عن الدراية والاجتهاد.
يقول عن نفسه: والله ما من آية إلا قد سألت عنها، ولكنها الرواية عن الله (4).
وكان من شدة ورعه، أنه كان كثيرا ما يقول: يا ليتني أنفلت من علمي كفافا لا عليّ ولا لي (5).
2 - كراهيته للرأي والقياس، وإقلاله في باب النظر والاجتهاد:
إضافة إلى ما ذكر سابقا من إقلاله في الرواية، وشدة ورعه فيها فإنه كان أكثر
__________
(1) أخبار القضاة (2/ 423)، والمزهر (2/ 315)، وتذكرة النحاة لأبي حيان الغرناطي (699)، وتاريخ دمشق (8/ 699).
(2) زباذات: قال ابن شبرمة: مسألة شاقة وصعبة.
(3) الحلية (4/ 319)، والمعرفة (2/ 593)، تاريخ دمشق (8/ 700).
(4) تفسير الطبري (1/ 87) 102، ومجموع الفتاوى (13/ 374)، والمعرفة (2/ 603)، وتاريخ دمشق (8/ 698)، وتفسير ابن كثير (1/ 17).
(5) المعرفة (2/ 592، 602)، وتاريخ أبي زرعة (1/ 660)، والمنتظم (7/ 93)، وتهذيب وتاريخ دمشق (7/ 143).(1/320)
تحرجا في جانب الدراية، وكان شديد الكراهية للرأي، والقياس.
الظاهر أن الشعبي قد استغنى بمحفوظه، وما عنده من الآثار والسنن عن كثرة النظر، والاستنباط، والاجتهاد، ومما ساعده على ذلك إدراكه لخمسمائة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلّم، وروايته عن خمسين ومائة منهم، وسماعه من ثمانية وأربعين صحابيا.
هذا مع ما كان عنده من قدرة فائقة، وحافظة نادرة، فعن ابن شبرمة قال: سمعت الشعبي يقول: ما كتبت سوداء في بيضاء، ولا استعدت حديثا من إنسان (1).
وعن عبد الملك بن عمير قال: مرّ ابن عمر على الشعبي وهو يحدث بالمغازي، فقال: لقد شهدت القوم فلهو أحفظ لها، وأعلم بها (2).
ومع أنه عاش في مدرسة الكوفة، وكان الغالب على منهجها التساهل في الرأي والقياس، إلا أنه كان من أشد العراقيين كراهية لذلك (3).
فعن مالك بن مغول، قال: قال لي الشعبي: ما حدثوك عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلّم فخذ به، وما حدثوك برأيهم فألقه في الحش (4).
وعن محمد بن جحادة أن عامرا الشعبي سئل عن شيء فلم يكن عنده فيه شيء، فقيل له: قل برأيك قال: وما تصنع برأيي؟ بل على رأيي (5).
ولما جاءه رجل، فسأله عن شيء فقال: كان ابن مسعود، يقول كذا أو كذا، قال:
__________
(1) سنن الدارمي (1/ 125)، والعلم لأبي خيثمة (116)، وتاريخ بغداد (12/ 229)، وكتاب الحث على الحفظ وذكر كبار الحفاظ (96)، وطبقات علماء الحديث (1/ 155).
(2) تهذيب الكمال (14/ 34)، والتعديل والتجريح (3/ 993)، ووفيات الأعيان (3/ 12)، والتذكرة (1/ 82)، وطبقات الحفاظ (33).
(3) تأويل مختلف الحديث (74).
(4) العلل لأحمد (1/ 283) 454، وسنن الدارمي (1/ 67)، وتأويل مختلف الحديث (75)، والمعرفة والتاريخ (2/ 592)، وجامع بيان العلم وفضله (1/ 40).
(5) طبقات ابن سعد (6/ 250)، وشرف أصحاب الحديث (74)، وتاريخ دمشق (8/ 701).(1/321)
أخبرني أنت برأيك، فقال: ألا تعجبون من هذا، أخبرته عن ابن مسعود، ويسألني عن رأيي، وديني عندي آثر من ذلك، والله لأن أتغنى أغنية أحب إلى من أن أخبرك برأيي (1).
وكان يقول: ثلاث لا أقول فيهن حتى أموت: القرآن، والروح، والرأي (2).
وكان ينكر على أصحاب الرأي ويقول: إنما هلكتم أنكم تركتم الآثار، وأخذتم المقاييس (3).
وعن مجاهد، عن الشعبي قال: لعن الله أرأيت (4).
وعنه قال: والله لئن أخذتم بالمقاييس لتحرّمنّ الحلال، ولتحلّن الحرام (5).
وكان يستدل على بطلان القياس، بمثل قوله لأبي بكر الهذلي: أرأيتم لو قتل الأحنف، وقتل معه صغير، أكانت ديتهما سواء؟ أم يفضل الأحنف لعقله وحلمه؟
قلت: بل سواء، قال: فليس القياس بشيء (6).
وعن صالح بن مسلم، قال: لقيت الشعبي فمشيت معه، حتى حاذينا أبواب المسجد، فنظر إليه، فقال: الله يعلم لقد بغّض إليّ هؤلاء هذا المسجد، حتى لهو أبغض لي من كناسة داري، فقلت: من يا أبا عمرو، قال: هؤلاء الرائيون أصحاب الرأي (7).
__________
(1) سنن الدارمي (1/ 47).
(2) تفسير الطبري (1/ 87) 103.
(3) الحلية (4/ 320).
(4) الحلية (4/ 320)، وتاريخ ابن معين (2/ 286)، وتاريخ الإسلام (ح 104هـ / 130).
(5) سنن الدارمي (1/ 65)، وتأويل مختلف الحديث (75).
(6) الحلية (4/ 320)، والتذكرة (1/ 84).
(7) تاريخ دمشق (8/ 697).(1/322)
بل إنه رحمه الله لما تولى القضاء، كان يقول: ما قضيت لي رأيا (1).
3 - ورعه في التفسير:
وإذا كانت تلك حاله في الفتيا والفقه وكراهيته للرأي والقياس، فكيف ستكون حاله في التفسير؟!!، لقد كان رحمه الله شديد الورع والتوقي للتفسير، وكان ينكر على كل من يتعرض لتفسير القرآن برأيه، أو يكثر من الرواية فيه، وكان يقول: إن الذي يفسر القرآن برأيه إنما يرويه عن ربه (2).
ويقول: من كذب على القرآن، فقد كذب على الله (3).
وكان ينكر أشد الإنكار على السدي وأبي صالح لأنه كان يراهما مقصرين في النظر (4)، وأنهما أكثرا من التفسير، فعن صالح بن مسلم قال: مررت مع الشعبي على السدي، وحوله شباب يفسر لهم القرآن، فقام عليه الشعبي، فقال: ويحك! لو كنت نشوان يضرب على استك بالطبل كان خيرا لك مما أنت فيه (5).
وعن عبد الله بن حبيب بن أبي ثابت قال: سمعت الشعبي وقيل له: إن إسماعيل قد أعطي حظا من علم القرآن، قال: إن إسماعيل قد أعطي حظا من جهل القرآن (6).
وكان يمر بأبي صالح فيأخذ بأذنه فيعركها، ويقول: تفسر القرآن، وأنت لا تقرأ القرآن (7).
__________
(1) الشرح والإبانة (127).
(2) الحلية (4/ 312).
(3) الحلية (4/ 321).
(4) تفسير القرطبي (1/ 28)، والوجيز في فضائل الكتاب العزيز (127).
(5) تهذيب الكمال (3/ 136)، والكامل في الضعفاء (1/ 274).
(6) تهذيب الكمال (3/ 136)، والضعفاء الكبير (1/ 87)، والكامل في الضعفاء (1/ 274).
(7) تفسير الطبري (1/ 91) 112، وتاريخ ابن معين (2/ 287)، والمعرفة (2/ 285)، وأبو صالح هو باذام مولى أم هانئ بنت أبي طالب، ينظر: تاريخ أسماء الثقات لابن شاهين (47)، وتاريخ الثقات للعجلي (77).(1/323)
4 - اشتغاله بالآثار والسنن والأحكام الفقهية:
فقد كان جل همه رحمه الله تتبع الروايات، والسنن، والآثار ومعرفتها، فصرف غاية جهده وعلمه في تمحيص الروايات، ونقدها، ثم رواية ما خلص منها، وتميز في هذا بين أقرانه، ومعاصريه في الكوفة، وفي سائر الأمصار.
فعن عاصم بن سليمان قال: ما رأيت أحدا أعلم بحديث أهل الكوفة والبصرة، والحجاز، والآفاق من الشعبي (1).
وقال مكحول الشامي: ما رأيت أحدا أعلم بسنة ماضية من الشعبي (2).
ويقول ابن عوف: إن كنا نتذاكر الشيء ما نرى أن فيه أثرا، فيحدثنا الشعبي فيه بحديث (3).
وعن ابن شبرمة قال: قال الشعبي: ما جالست أحدا منذ عشرين سنة فحدث بحديث، إلا أنا أعلم به منه (4).
ولذا يقول حماد بن زيد: لم يكن بالكوفة رجل أحسن اتباعا، ولا أحسن اقتداء من الشعبي، وذلك لكثرة ما سمع (5).
وكان من المفارقات بينه وبين أشهر معاصريه في مدرسة الكوفة، أن الشعبي عدّ
__________
(1) تاريخ دمشق (8/ 696)، والسير (45/ 302)، والتذكرة (1/ 85).
(2) أخبار القضاة (2/ 427)، وطبقات ابن سعد (6/ 254)، والبداية (9/ 258)، والأنساب (7/ 342).
(3) أخبار القضاة (2/ 422).
(4) المعرفة (3/ 372)، وتاريخ أبي زرعة (1/ 661)، والمنتظم (7/ 93)، والتعديل والتجريح (3/ 993).
(5) تهذيب تاريخ دمشق (7/ 139).(1/324)
صاحب آثار، وعدّ إبراهيم النخعي صاحب قياس (1).
ومع ميله للأثر، وانصرافه إلى رواية السنن، والآثار، والمغازي، والسير فقد عني بالفقه، واشتغل به، ويتضح ذلك الاهتمام الفقهي في عنايته بآيات الأحكام، والإكثار من التطرق إليها (2).
وقد عده غير واحد من الأئمة من أفقه التابعين.
فعن أبي مجلز قال: ما رأيت أحدا أفقه من الشعبي، لا ابن المسيب، ولا طاوس، ولا عطاء، ولا الحسن، ولا ابن سيرين، فقد رأيتهم كلهم (3).
وعدّه ابن عيينة من أفقه أهل زمانه (4).
وكان ابن سيرين يأمر أصحابه بملازمة الشعبي، ويقول: لقد رأيته يستفتى والصحابة متوافرون (5).
وصدر كثير من أهل التراجم والسير ترجمته بقولهم: كان إماما حافظا فقيها (6).
__________
(1) سنن الدارمي (1/ 47)، والحلية (4/ 320)، وأخبار القضاة (2/ 428)، والتذكرة (1/ 82).
(2) بلغت نسبة ما روي عنه من تأويل آي الأحكام (23، 0) من مجموع تفسيره، وهو بهذا يأتي في المرتبة الرابعة، بعد كل من: النخعي، الذي بلغت نسبة المروي عنه (38، 0) من مجموع تفسيره، وابن المسيب حيث بلغ ما نسبته (34، 0) من مجموع تفسيره، وعطاء حيث بلغ ما نسبته (33، 0) من مجموع تفسيره.
(3) طبقات علماء الحديث (1/ 156)، وتاريخ بغداد (12/ 230)، والتعديل (3/ 993)، والتذكرة (1/ 81).
(4) التاريخ الكبير (6/ 451)، وأخبار القضاة (2/ 421)، وتهذيب تاريخ دمشق (7/ 142)، وشذرات الذهب (1/ 128).
(5) أخبار القضاة (2/ 421)، والإرشاد (2/ 556)، وتاريخ بغداد (12/ 229)، والتعديل (3/ 993).
(6) التذكرة (1/ 79)، وطبقات علماء الحديث (1/ 155)، والبداية (9/ 258)، النجوم الزاهرة (1/ 253).(1/325)
5 - قلة الرواة عنه:
كان من الأسباب المؤدية إلى قلة المأثور عن هذا الإمام، قلة الرواة عنه، وضآلة عدد الناقلين لعلمه من أصحابه، على عكس ما كان الأمر عليه عند أشهر معاصريه، كالنخعي مثلا، فقد عني أصحابه برواية ونقل آثاره وأخباره، وقد كان هذا من الفوارق الجلية بينهما، وكان الشعبي يشير إلى ذلك فيقول لما مات إبراهيم، وجلس حماد بن أبي سليمان يبث علمه قال: إبراهيم ميتا أفقه منه حيا (1).
ونجد شاهد ما قال عند النظر في المنقول من تفسيرهما حيث اهتم أصحاب إبراهيم بنشر تفسيره وعلمه، أكثر من اهتمام الملازمين للشعبي (2).
6 - ما تعرض له من الفتن:
وهذا سبب رئيس من الأسباب المشتركة بين الطبقة المتوسطة من تابعي مدرسة الكوفة (3) حيث تعرض كثير منهم لفتنة ابن الأشعث، فنتج عن ذلك اختفاء بعضهم، وسجن آخرين، وفرار الباقين.
وعامر الشعبي كان أحد المتعرضين لهذه الفتنة حيث كان ممن خرج على الحجاج في فتنة ابن الأشعث، فتوعده الحجاج، فاختفى تسعة أشهر مغلقا عليه بابه، ثم لحق
__________
(1) العلل لأحمد (3/ 206)، 4884، والمعرفة (2/ 608)، وطبقات ابن سعد (6/ 284).
(2) عند النظر والمقارنة بين الشعبي، والنخعي في هذا، نجد أن الشعبي، كان من أبرز أصحابه الناقلين لتفسيره اثنان: الأول: داود بن أبي هند، روى ما نسبته (23، 0) من مجموع تفسيره، والثاني:
مغيرة بن مقسم، روى ما نسبته (11، 0) من مجموع تفسيره وغيرهم من التلاميذ كان أقل منهم.
في حين كان من أبرز أصحاب إبراهيم اثنان: الأول: مغيرة بن مقسم حيث روى ما نسبته (36، 0) من مجموع تفسيره، والثاني: منصور بن المعتمر حيث روى (26، 0) من مجموع تفسيره.
(3) بخلاف غيرهم من تلاميذ المدارس الأخرى، وخاصة أقربها إليهم مدرسة البصرة حيث لم يشارك أحد من مشاهير مفسري التابعين في هذه الفتنة، فاستقرت الأمور عندهم، وتفرغوا لنشر علمهم.(1/326)
مختفيا بعسكر قتيبة بن مسلم إلى خراسان، ثم بلغ خبره الحجاج، فأرسل في طلبه، فبعثه قتيبة بن مسلم إليه.
يقول الشعبي: فلما دنوت من واسط، استقبلني ابن أبي مسلم فقال: يا أبا عمرو، إني لأضنّ بك عن القتل، إذ دخلت على الأمير فقل كذا وقل كذا. فلما أدخلت عليه ورآني قال: لا مرحبا، ولا أهلا، جئتني ولست في الشرف من قومك، ولا عريفا، ففعلت وفعلت، ثم خرجت عليّ وأنا ساكت! فقال: تكلم. فقلت: أصلح الله الأمير، كل ما قلته حق، ولكنا قد اكتحلنا بعدك السهر، وتحلسنا الخوف، ولم نكن مع ذلك بررة أتقياء، ولا فجرة أقوياء، فهذا أوان حقنت لي دمي، واستقبلت بي التوبة.
قال: قد فعلت ذلك (1).
خصائص تفسيره:
ومع قلة المروي عنه في التفسير، فإنه من خلال تتبع تفسيره وجدت أنه تميز بجملة من الخصائص، التي انفرد بها عن أصحابه الكوفيين، أو أنه عني بها أكثر من عنايتهم بها، ومن أهمها:
1 - غلبة الجانب الأثري على أقواله وآرائه أكثر من غيره:
فقد ذكرنا في ماضي القول، أنه أدرك الكثير من الصحابة، وسمع منهم أكثر من سماع غيره، كما أن مما ميزه أن مصادره تعددت بسبب كثرة أسفاره ورحلاته، فقد سافر إلى الحجاز، وصحب ابن عمر وتأثر به، ولقي غيره من الصحابة، وقد أشار ابن المديني إلى هذا فقال: وكان أصحاب عبد الله الذين يقرءون بقراءته، ويفتون الناس ستة: علقمة والأسود ومسروق وكان أعلم أهل الكوفة بأصحاب عبد الله وطريقتهم ومذهبهم: إبراهيم والشعبي، إلا أن الشعبي كان يذهب مذهب مسروق،
__________
(1) ينظر السير (4/ 304، 305).(1/327)
يأخذ عن علي وأهل المدينة وغيرهم، وكان إبراهيم يذهب مذهب أصحابه (1).
وكان الشعبي إلى فقهاء الأثر أقرب منه إلى فقهاء الرأي (2).
والمراجع لكتب التراجم والسير يجد أن أهل الآثار والسنن من أتباع التابعين وغيرهم، يقدمون الشعبي على سائر فقهاء الكوفة، لغلبة هذا الجانب عنده ولذا يقول الزهري: العلماء أربعة: ابن المسيب في المدينة، والشعبي في الكوفة، والحسن بالبصرة، ومكحول بالشام (3).
بل كان من حبه للآثار والاحتياط في روايتها أنه عدّ أول من زكى وجرح بعد انقراض الصحابة (4).
وكان لذلك الميل إلى الأثر أثره في التفسير، فقد تبين لي أنه أكثر التابعين اعتمادا على أقوال الصحابة في تفسيره (5). كما أن هذا المسلك قد أثر في حرصه على معرفة أسباب النزول، وروايتها، حتى إنه احتل المرتبة الثانية بعد عكرمة من بين مشاهير المفسرين من التابعين (6)، ومن المعلوم أن علم أسباب النزول يعتمد في الدرجة الأولى على علم الرواية والأثر.
وأحسب أن الشعبي من أوائل من نشر هذا المنهج والمسلك في المدرسة الكوفية، ولكن الغلبة والظهور كان لمنهج مدرسة الرأي، الذي أسسه إبراهيم، وانتشر بعده.
__________
(1) العلل لابن المديني (252).
(2) أبو حنيفة، لأبي زهرة (68).
(3) المعرفة والتاريخ (2/ 362)، وفيات الأعيان (3/ 13)، ومرآة الجنان (1/ 245).
(4) قول من يعتمد في الجرح والتعديل للذهبي ص 159.
(5) احتل المرتبة الأولى بين التابعين في الاعتماد على هذا المصدر، فكان نصيب هذا المصدر من نسبة ما روي عنه (5، 0) ولم يقاربه أحد من التابعين في ذلك.
(6) حيث بلغ نسبة ما روي عنه في أسباب النزول (13، 0) من مجموع تفسيره، في حين كانت النسبة عن عكرمة (14، 0) من مجموع تفسيره.(1/328)
2 - تقدمه في علوم اللغة من غريب وفصيح وشعر:
وهاهنا أمثلة دالة على ذلك، منها ما جاء منه في قوله: اجتمع جوار فأرنّ وأشرن ولعبن الحزقّة (1).
قال ابن الأثير في بيان معنى غريب حديثه: فأرنّ أي نشطن، من الأرن:
النشاط (2)، وأشرن من الأشر، وهو البطر (3).
ولعبن الحزقّة: هي لعبة من اللعب، أخذت من التحزق: التجمّع (4).
ولما سئل عن حكم الشعر قال: إنما نهينا عن الشعر، إذا أبّنت فيه النساء، وتزوزئت فيه الأموال: أي استجلبت به الأموال (5).
ولما سئل عن رجل قبّل أم امرأته، قال: أعن صبوح ترقّق؟ حرمت عليه امرأته.
قال ابن الأثير في بيان معنى فتوى الشعبي: هذا مثل للعرب، يقال لمن يظهر شيئا وهو يريد غيره، كأنه أراد أن يقول: جامع أم امرأته، فقال: قبّل.
وأصله أن رجلا نزل بقوم فبات عندهم، فجعل يرقّق كلامه، ويقول: إذا أصبحت غدا فاصطبحت فعلت كذا، يريد إيجاب الصبوح عليهم، فقال بعضهم:
أعن صبوح ترقق: أي تعرض بالصبوح، وحقيقته أن الغرض الذي يقصده كأن عليه ما يستره، فيريد أن يجعله رقيقا شفافا ينمّ على ما وراءه، وكأن الشعبي اتهم السائل، وأراد بالقبلة ما يتبعها، فغلظ عليه الأمر (6) اه.
وإن المراجع لكتب الغريب في اللغة والحديث، يجد أنه حاز قصب السبق في
__________
(1) النهاية في غريب الحديث (379).
(2) المرجع السابق (1/ 41).
(3) المرجع السابق (1/ 51).
(4) المرجع السابق (1/ 379).
(5) المرجع السابق (1/ 218).
(6) النهاية في غريب الأثر (2/ 253).(1/329)
استعمال الغريب، وتشبعه بالفصيح، وجاء في هذا بعد الحسن البصري (1).
ومما يدل على تقدمه، وحفظه لكثير من دواوين الشعر المختلفة ما ذكره عن نفسه حيث يقول: ما أروي أقل من الشعر، ولو شئت لأنشدتكم شهرا لا أعيد (2).
ومن كثرة حفظه صار يقرضه وهو ابن سبع وسبعين سنة (3).
وأبان ذلك ابن حبان في ترجمته بقوله: وكان فقيها شاعرا، وأخباره في ذكر الشعر ونظمه كثيرة (4).
ومما روي عنه في ذلك ما ذكره عند تفسيره لقوله جل ثناؤه: {فَإِذََا هُمْ بِالسََّاهِرَةِ} (5) قال: إذا هم بالأرض، ثم تمثل ببيت أمية بن أبي الصلت:
وفيها لحم ساهرة وبحر ... وما فاهو به أبدا مقيم (6).
وأحسب أن الشعبي كان من أحفظ التابعين للشعر.
وفاته:
ذهب الأكثرون من أهل العلم (7)، إلى أنه توفي سنة أربع ومائة (8)، وقيل: ثلاث ومائة (9)، وقد بلغ من العمر اثنتين وثمانين سنة (10).
رحمه الله رحمة واسعة.
__________
(1) بعد مراجعة كتب غريب الحديث لابن قتيبة، والزمخشري، والأصفهاني، وابن الأثير، ولسان العرب لابن منظور، وجدت أن مجموع ما جاء عن الحسن (545) رواية، في حين بلغت عن مجاهد الذي جاء في المرتبة الثانية (242) رواية، وعن الشعبي (228) رواية، وإن كان العدد متقاربا بين مجاهد والشعبي إلا أن الفرق بينهما نوعي حيث كان استعمال الشعبي للغريب أكثر وأبلغ وأفصح.
(2) أخبار القضاة (2/ 420)، وطبقات علماء الحديث (1/ 156)، وتاريخ بغداد (12/ 229)، والتذكرة (1/ 84)، ومرآة الجنان (1/ 245).
(3) طبقات ابن سعد (6/ 255).
(4) الثقات (5/ 185)، والأنساب (7/ 341).
(5) سورة النازعات: آية (14).
(6) الدر المنثور، وعزاه إلى ابن أبي حاتم، وعبد بن حميد، عن الشعبي به (8/ 408).
(7) المنتظم (7/ 94)، وطبقات علماء الحديث (1/ 156)، والنجوم الزاهرة (1/ 253).
(8) طبقات خليفة (157)، والتاريخ الصغير (1/ 423)، وأخبار القضاة (2/ 426)، والمصنف لابن أبي شيبة (13/ 67)، 15781، والبداية (9/ 258).
(9) طبقات ابن سعد (6/ 256)، والكامل (5/ 105).
(10) التاريخ الكبير (6/ 450)، ورجال صحيح البخاري (2/ 557)، دول الإسلام (73)، وتاريخ الإسلام (ح 104هـ / 132).(1/330)
إبراهيم النخعي
إبراهيم بن يزيد بن الأسود بن ربيعة بن ذهل بن ربيعة النخعي (1)، أبو عمران (2).
كانت أمه مليكة بنت قيس، أخت علقمة بن قيس، وهي عمة الأسود بن يزيد (3).
قال أحمد: علقمة عم أم إبراهيم، والأسود خال إبراهيم، وعلقمة عم الأسود (4). وكان إبراهيم يحج مع عمه، وخاله، علقمة، والأسود (5).
لم يحدث عن أحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلّم وإن كان قد أدرك منهم جماعة، ورأى عائشة (6).
فعن أبي معشر أن النخعي حدثهم أنه دخل على عائشة رضي الله عنها فرأى عليها ثوبا أحمر، فقال له أيوب: كيف دخل عليها؟ قال: كان يحج مع عمه، وخاله، فدخل عليها، وهو غلام (7).
__________
(1) تاريخ أبي زرعة (1/ 293)، (1/ 667)، والأنساب (5/ 473) ط الجديدة، واللباب في تهذيب الأنساب (3/ 304)، ولباب الألباب في تحرير الأنساب (2/ 294).
(2) الكنى لأحمد (117)، والكنى لمسلم (ق 80).
(3) الثقات (4/ 8)، والمعرفة (2/ 644) (3/ 216)، واللباب (3/ 304)، ووفيات الأعيان (1/ 25).
(4) الكنى لأحمد (103).
(5) طبقات ابن سعد (6/ 271)، والتاريخ الكبير (1/ 334)، والثقات للعجلي (4/ 9).
(6) تاريخ الثقات للعجلي (57)، والعلل لابن المديني (75)، والمراسيل لابن أبي حاتم (9)، وجامع التحصيل (142)، ونصب الراية (4/ 363).
(7) طبقات ابن سعد (6/ 271)، والتاريخ الكبير (1/ 334)، والثقات (4/ 9).(1/331)
قال أبو حاتم: إبراهيم أدرك أنسا، ولم يسمع منه (1).
وقال الذهبي: ولم نجد له سماعا من الصحابة المتأخرين، الذين كانوا معه بالكوفة، كالبراء، وأبي جحيفة، وعمرو بن حريث، ثم قال: مع عدّهم كلهم لإبراهيم في التابعين، ولكنه ليس من كبارهم، وكان بصيرا بعلم ابن مسعود (2)، ولم يلقه، إنما أخذه عن كبار أصحابه (3). وعدّه أهل التراجم والسير في الطبقة الثانية الوسطى من طبقات التابعين، مع طبقة الحسن، ومجاهد (4).
وقال ابن الجوزي: أدرك إبراهيم أبا سعيد الخدري، وعائشة، وعامة ما يروي عن التابعين، كعلقمة، ومسروق، والأسود (5).
وكان (رحمه الله) أعلم الناس بابن مسعود برأيه (6). وفتياه، وألزم الناس بمذهبه، كما كان من أعلمهم بمذهب أصحابه الملازمين له.
يقول ابن المديني: كان إبراهيم عندي من أعلم الناس بأصحاب عبد الله وأبطنهم به (7).
وقد عرف له قدره عند أصحاب عبد الله، وعند تلاميذ المدرسة الكوفية (8).
ومدرسة الكوفة في جملتها تورعت، وعظمت القول في التفسير، فقل نتاجها،
__________
(1) المراسيل لابن أبي حاتم (9)، والجرح (2/ 144).
(2) السير (4/ 520).
(3) الفتح (4/ 175).
(4) عده الذهبي في الطبقة الثانية. ينظر المعين في طبقات المحدثين (37)، والتذكرة (73)، وطبقات الحفاظ (29).
(5) المنتظم (7/ 22)، وصفة الصفوة (3/ 89).
(6) نصب الراية (4/ 358)، وقواعد في علوم الحديث للتهانوي (136).
(7) العلل لابن المديني (43)، والجرح (2/ 145).
(8) التعديل والتجريح (1/ 358).(1/332)
ولم أجد مادة من تفسير أصحاب ابن مسعود المعاصرين له، إلا النزر اليسير الذي يصعب الاعتماد عليه، أو استخراج منهج من خلال النظر فيه (1).
إلا إنني وجدت الذين جاءوا بعد أصحاب ابن مسعود، ومن أشهرهم: إبراهيم النخعي، والشعبي، كان لهم بعض الأثر في علم التأويل ولذا آثر اختيارهما لتمثيل هذه المدرسة.
وإبراهيم كان أقرب إلى منهج شيخ المدرسة، وأصحابه لقلة أسفاره، ولعنايته وملازمته أصحاب عبد الله، لا سيما علقمة الذي كان أشبه الناس بابن مسعود هديا، وسمتا، ودلا (2)، والذي انتهى في علمه وفتواه إلى قول عبد الله (3).
ومع عدم إدراك إبراهيم والشعبي لعبد الله بن مسعود، إلا إنهما من أعلم أهل الكوفة بمذهبه، كما أشار إلى ذلك ابن المديني (4).
أسباب قلة المروي عنه في التفسير:
وعند الرجوع إلى تفسيره، ومقارنته بغيره، نجد أن اهتمامه بل وتعرضه لعلم التفسير كان قليلا (5)، وأحسب أن ثمة أسبابا كانت وراء قلة المروي عنه في هذا الباب، ولعل من أهمها:
1 - هيبته وتورعه عن القول في تفسير القرآن:
فقد تأثر إبراهيم في ذلك بأصحابه من الكوفيين، وكان يقول: كان أصحابنا
__________
(1) المروي من تفسير إبراهيم عند ابن جرير بلغ (608) أقوال، وعن الشعبي (461) قولا، في حين كان المروي عن أصحاب ابن مسعود والملازمين له، لم يبلغ عند أكثرهم (40) قولا. وسيأتي مزيد بيان لذلك عند الحديث عن مدرسة الكوفة.
(2) طبقات ابن سعد (6/ 86)، والمعرفة (2/ 553، 554)، وتاريخ بغداد (12/ 297).
(3) المعرفة (2/ 557).
(4) العلل لابن المديني (52)، والسنن الكبرى للبيهقي (6/ 255).
(5) إذا ما قورن بالمكثرين من التابعين: كمجاهد، وقتادة، والسدي.(1/333)
يكرهون تفسير القرآن، ويهابونه (1).
والمراجع لتفسيره يلمس هذا، فكثيرا ما كان يصدّر تأويله للآية بقوله: كان يقال كذا، أو يقولون كذا، ويكرهون كذا.
ويشهد لذلك ما جاء عنه في تأويل قوله تبارك وتعالى: {وَمَنْ كََانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كََانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ} (2). قال: كان يقال: ليس المعروف بلبس الكتان والحلل، ولكن المعروف ما سدّ الجوع ووارى العورة (3).
ومن ذلك أيضا ما جاء عنه عند قول الحق سبحانه: {إِنَّمَا الصَّدَقََاتُ لِلْفُقَرََاءِ} (4)
قال إبراهيم: كان يقال: إنما الصدقات لفقراء المهاجرين (5).
ومنه أيضا ما ذكره عند تفسيره لقوله جل ثناؤه: {لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ} (6). قال: كانوا يكرهون أن يقول الرجل: لعمري، يرونه كقوله:
وحياتي (7).
ومما يشهد لما سبق أيضا، ما أثر عنه من كراهيته للسؤال، وحب الخفاء، والبعد عن
__________
(1) الحلية (4/ 222)، ومجموع الفتاوى (13/ 374)، وتفسير ابن كثير (1/ 17)، وشعب الإيمان للبيهقي (2/ 435) 2286.
(2) سورة النساء: آية (6).
(3) تفسير الطبري (7/ 587) 8627، وتفسير البغوي (1/ 396) وتفسير ابن عطية (4/ 25).
(4) سورة التوبة: آية (60).
(5) تفسير الطبري (14/ 307) 16829، 16832، وتفسير الماوردي (2/ 374)، وتفسير البغوي (2/ 303)، وتفسير ابن عطية (8/ 210)، والبحر المحيط (5/ 58)، وزاد المسير (3/ 456).
(6) سورة الحجر: آية (72).
(7) تفسير الطبري (14/ 44)، وأورده السيوطي في الدر، وعزاه إلى ابن جرير عن إبراهيم به (5/ 90)، وينظر تفسير ابن عطية (10/ 143)، وتفسير القرطبي (10/ 28)، ولمزيد من الأمثلة، يراجع تفسير الطبري الآثار: 8864، 12654، 17749، (27/ 83).(1/334)
الشهرة، يقول الإمام الذهبي في صدر ترجمته: وكان عجبا في الورع والخير، متوقيا للشهرة (1).
وعن أبي حصين قال: أتيت أسأل إبراهيم فقال: ما كان بيني وبينك أحد تسأله غيري (2).
وعن منصور بن المعتمر قال: ما سألت إبراهيم قط عن مسألة إلا رأيت الكراهية في وجهه، يقول: أرجو أن تكون، وعسى (3). وكان كثيرا ما يحتقر نفسه، ويزدريها فعنه قال: وددت أني لم أكن تكلمت، ولو وجدت بدا من الكلام ما تكلمت، إن زمانا صرت فيه فقيها لزمان سوء (4).
وكان من شدة تواضعه رحمه الله يكره الاستناد إلى سارية، ويرى أن ذلك للعلماء، وليس له، يقول الأعمش: جهدنا بإبراهيم أن نجلسه إلى سارية فأبى (5).
2 - تشدده في قبول الرواية:
ولم يكن ورعه وخوفه هذا، في التفسير، والفقه فحسب، بل نجد هذه الصفة أكثر ما تكون وضوحا عند روايته لحديث المصطفى صلى الله عليه وسلّم، فقد كان من أكثر الناس نقدا وشدة في قبول الأخبار، وروايتها، يقول الأعمش: كان إبراهيم صيرفيا في الحديث (6) ولذا
__________
(1) الكاشف (1/ 96)، والتذكرة (1/ 74).
(2) العلم لأبي خيثمة (140)، والحلية (4/ 226)، وصفة الصفوة (3/ 88).
(3) الحلية (4/ 220)، والعلم لأبي خيثمة (127).
(4) الحلية (4/ 223)، وسنن الدارمي (1/ 66)، والمنتظم (7/ 21).
(5) العلل لأحمد (1/ 178)، 131، 132، وطبقات ابن سعد (6/ 273)، وتاريخ أبي زرعة (1/ 664)، والمعرفة (2/ 606).
(6) العلل لأحمد (1/ 428) 946، والحلية (4/ 220)، والمعرفة (2/ 607)، والإرشاد (2/ 556)، وطبقات علماء الحديث (1/ 146)، وطبقات الحفاظ (29).(1/335)
كان الأعمش إذا سمع الحديث عن بعض أصحابه عرضه على إبراهيم (1).
وكان يقول عنه: ما رأيت أحدا أردّ لحديث لم يسمعه من إبراهيم (2).
ويشهد لذلك، أنه رد كثيرا من أحاديث أبي هريرة، إلا ما جاء عن طريق أبي صالح (السّمان) (3).
وكان شديدا في قبول الرواة، وقد ترك ما جاء من حديث أصحاب علي لاتهامه إياهم فقد سئل مرة وقيل له: أدركت أصحاب عبد الله وأصحاب علي، فكيف أخذت عن أصحاب عبد الله، وتركت أصحاب علي؟ قال: أتهم أصحاب علي (4).
وعن الأعمش قال: قال إبراهيم: إنما سئل عن الإسناد أيام المختار، وسبب هذا أنه كثر الكذب على علي في تلك الأيام (5).
ومما يدل على حرصه في انتقاء الرجال، وتشدده في قبولهم، أنه على الرغم من عدم إدراكه لأحد من الصحابة، وكثرة إرساله، إلا أن الأئمة عدّوا مراسيله من أقوى المراسيل لأنه لا يأخذ عن كل أحد، إنما ينتقي في رواياته لذا فقد قبل الإمام أحمد مراسيله، وعدّ مراسيل غيره، كالحسن وعطاء، من أضعف المراسيل (6).
بل إن ابن معين فضل مراسيل إبراهيم على مراسيل أشهر التابعين كابن المسيب، والقاسم بن محمد، وسالم بن عبد الله بن عمر (7).
__________
(1) الحلية (4/ 220)، وطبقات علماء الحديث (1/ 146).
(2) الحلية (4/ 221)، والجرح (2/ 145)، والسير (4/ 528).
(3) العلل لأحمد (1/ 428) 946، والحلية (4/ 219).
(4) المعرفة (3/ 117).
(5) العلل لأحمد (3/ 380) 5673، وشرح علل الترمذي لابن رجب (63).
(6) سبقت الإشارة إلى ذلك في ترجمة الحسن، وعطاء.
(7) معرفة الرجال لابن معين (1/ 120)، وشرح علل الترمذي لابن رجب (181)، والنكت على ابن الصلاح (2/ 555، 556)، وقواعد في علوم الحديث للتهانوي (150).(1/336)
ومع شدة الاحتياط عنده في تمحيص الروايات، فإنه كان يفضل رواية آثار الصحابة على نقل أحاديث المصطفى صلى الله عليه وسلّم، ويرجع سبب ذلك إلى خوفه من الخطأ في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلّم فعن حماد بن زيد عن أبي هاشم قال: قلت لإبراهيم: يا أبا عمران، أما بلغك حديث عن النبي صلى الله عليه وسلّم تحدثنا؟ قال: بلى، ولكن أقول: قال عمر، وقال عبد الله، وقال علقمة، وقال الأسود، أجد ذاك أهون عليّ (1).
3 - انصرافه للفقه وعنايته بالأحكام الفقهية:
فقد عني إبراهيم بالفقه والإفتاء، عناية كبيرة أكثر من اهتمامه بالتفسير، فاستنفد فيهما وسعه، وأفرغ فيهما جهده، حتى عدّ فقيه العراق في زمنه بالاتفاق.
والمراجع لترجمته في كتب السير، والتراجم، يجد أن كثيرا من الأئمة يصدرون ترجمته بقولهم: فقيه العراق (2)، فقيه الكوفة (3) ومفتيها (4).
يقول النووي: وقد أجمعوا على جلالته، وبراعته في الفقه (5).
وقد أثنى عليه الشعبي عند وفاته بقوله: والله ما ترك بعده مثله، قال ابن عون:
قلت: بالكوفة؟ قال: لا بالكوفة، ولا بالبصرة، ولا بالشام، ولا بكذا، ولا بكذا (6).
وعند النظر في تفسيره نجد شاهد ذلك فقد اهتم رحمه الله اهتماما بيّنا بتفسير
__________
(1) طبقات ابن سعد (6/ 272).
(2) العبر (1/ 85)، والشذرات (1/ 111).
(3) التعديل والتجريح (1/ 358)، ودول الإسلام (65)، وطبقات الحفاظ (29).
(4) تاريخ الثقات للعجلي (57)، والتهذيب (1/ 177)، ووفيات الأعيان (1/ 25).
(5) تهذيب الأسماء واللغات (1/ 104).
(6) طبقات ابن سعد (6/ 284)، والحلية (4/ 220)، والتاريخ الكبير (1/ 334)، والمعرفة (1/ 222)، (2/ 608).(1/337)
آيات الأحكام، حتى إنها زادت على ثلث المنقول عنه في التفسير (1)، وكان بذلك من أكثر التابعين على الإطلاق عناية بآيات الأحكام تفسيرا وتفصيلا لها، مما يؤكد أن من أسباب انصرافه عن التفسير هو الاشتغال بعلم الفقه ولذا فقد عني الأئمة من الفقهاء بنقل آثاره في كتبهم (2).
ومما تبين لي بعد مراجعتي للمروي عنه في تفسير آيات الأحكام، أنه تبع ابن مسعود في كثير من المسائل الفقهية، ونقل آراءه عند تأويله لتلك الآيات، بل وعني بنقل تفسيره عموما أكثر من عناية الشعبي بذلك (3).
4 - كراهيته للكتابة:
فقد كره رحمه الله الكتابة، وكان ينهى عنها خشية أن يشتبه بالمصاحف، وكان يقول: ما كتبت شيئا قط (4).
ويقول: ما كتب إنسان كتابا إلا اتكل عليه (5).
وكان يكره الكتابة في الكراريس (6) ويقول: يشبه بالمصاحف (7).
__________
(1) بعد مراجعتي لتفسير الطبري، بلغت نسبة المروي عنه في تفسير آيات الأحكام (38، 0) من مجموع تفسيره، في حين كانت عن سعيد بن المسيب ما نسبته (34، 0)، وعن عطاء بن أبي رباح (33، 0)، وعن الشعبي (23، 0)، وعن الحسن (11، 0)، وعن سعيد بن جبير (09، 0) من مجموع تفسيرهم، وغيرهم من التابعين دونهم في هذا.
(2) وقد رجعت إلى كتاب المغني فوجدت أن إبراهيم قد احتل المرتبة الثالثة بعد الحسن وعطاء في كثرة ما روي عنه من مسائل فقهية.
(3) بعد مراجعتي لتفسير ابن مسعود عند الطبري وجدت أن (09، 0) من مجموع تفسيره جاء من رواية إبراهيم، في حين بلغ المروي من طريق الشعبي (02، 0) فقط من مجموع تفسيره.
(4) طبقات ابن سعد (6/ 270)، وتاريخ ابن معين (2/ 16)، والمعرفة (2/ 609).
(5) طبقات ابن سعد (6/ 271)، والسير (4/ 522).
(6) العلل لأحمد (1/ 217) 248، (1/ 532) 1253، وتقييد العلم (48).
(7) سنن الدارمي (1/ 120، 121).(1/338)
وقد أثر هذا في حديثه، وعلمه، حتى إن منصور بن المعتمر سأل إبراهيم فقال:
إن سالما أتمّ منك حديثا، قال: إن سالما كان يكتب (1).
5 - ورود اللحن في كلامه:
ولعل هذا من الأسباب الرئيسة التي جعلت إبراهيم قليل التعرض لتفسير آيات الكتاب العزيز كثرة لحنه إذ لا يخفى أن من يكثر اللحن في كلامه يخشى أن يتسرب اللحن منه إلى القرآن الكريم.
قال خالد بن سلمة المخزومي: لقد رأيت إبراهيم النخعي، فرأيت رجلا لحانا (2).
وعن عاصم بن بهدلة قال: كان إبراهيم رجل صدق، ولو سمعته يقرأ، قلت: ما يحسن هذا شيئا (3).
ولذا قال الذهبي عنه: وكان لا يحكم العربية، وربما لحن (4).
6 - ما وقع له من الفتن، وتقدم وفاته:
لقي إبراهيم من ظلم الحجاج ما لقي، واختفى عن أعين الناس بسبب بحث الحجاج عنه، حتى إنه رحمه الله كان لا يصلي في جماعة، مخافة سطوة ذاك الظالم (5)، وكان يفسر قوله تعالى: {وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلََاةَ} (6)، بقوله: خافوا فأمروا أن يصلوا في بيوتهم (7).
__________
(1) سنن الدارمي (1/ 123)، ومعرفة الرجال (2/ 25)، والمحدث الفاصل (374)، وبغية الطلب في تاريخ حلب (9/ 4122).
(2) العلل لأحمد (1/ 348) 648.
(3) العلل لأحمد (1/ 348) 649، (2/ 249) 2148.
(4) الميزان (1/ 75).
(5) كتاب المتوارين الذين اختفوا خوفا من الحجاج (50).
(6) سورة يونس: آية (87).
(7) الحلية (4/ 231).(1/339)
ولما توفي دفن ليلا، ولم يحضر جنازته إلا سبعة (1).
وكانت وفاته سنة ست وتسعين (2)، وعمره ثمان وأربعون، وقيل: تسع وأربعون سنة (3).
خصائص تفسيره:
بعد استعراض أهم الأسباب التي كانت وراء قلة المنقول عنه في التفسير، ومع قلتها إلا أننا نجد عند قراءة سيرته، وتتبع آثاره، أن ثمة خصائص، وصفات تميز بها هذا الإمام بين أصحابه، كان لها الأثر في حفظ ونقل بعض آثاره التي وصلت إلينا، ومن أهمها:
1 - جمعه بين الرواية، والدراية:
فمدرسة الكوفة قد غلب عليها الرأي، والقياس، ولم يخرج إبراهيم النخعي عن النهج، فقد كان إلى فقهاء الرأي أقرب، لكنه مع هذا تميز بالجمع بين العلمين، فكان يقول: لا يستقيم رأي إلا برواية، ولا رواية إلا برأي (4).
ولما بلغ الشعبي موت إبراهيم، قال عنه: ما خلف بعده مثله، ثم قال: والعجب أنه يفضل ابن جبير على نفسه، وسأخبركم عن ذلك، إنه نشأ في أهل بيت فقه، فأخذ فقههم، ثم جالسنا فأخذ صفوة حديثنا إلى فقه أهل بيته، فمن كان مثله (5)؟.
__________
(1) المعارف (204)، وتهذيب الكمال (2/ 238)، والشذرات (1/ 111).
(2) طبقات ابن سعد (2/ 284)، والتاريخ الكبير (1/ 334)، وتاريخ أبي زرعة (1/ 93)، وتاريخ الثقات للعجلي (57)، وطبقات خليفة (157)، ومصنف ابن أبي شيبة (13/ 66) 15781، وطرح التثريب (1/ 33).
(3) مصنف ابن أبي شيبة (13/ 58) 15755، ورجال صحيح البخاري (1/ 60)، وتهذيب الكمال (2/ 238)، والمنتظم (7/ 22).
(4) الحلية (4/ 225)، وصفة الصفوة (3/ 88).
(5) العلم لأبي خيثمة (116)، وتاريخ ابن معين (2/ 413)، والحلية (4/ 221)، وتاريخ دمشق (11/ 771).(1/340)
2 - تفوقه في الاجتهاد، وقدرته على الاستنباط:
فقد كان إبراهيم من أوائل التابعين، الذي سلكوا هذا المسلك، وتوسعوا فيه، ساعده على ذلك تمتعه بدرجة عالية من الذكاء والفطنة والأخذ بأدوات الاجتهاد، مما رسخ عنده القدرة على الاستنباط، والقياس.
يقول الإمام أحمد: وكان إبراهيم ذكيا حافظا (1).
ويقول حماد بن أبي سليمان: ما رأيت أحدا قط كان أحضر قياسا من إبراهيم (2).
ولما سأل الحسن بن عبد الله النخعي، قال: قلت لإبراهيم: كل ما تفتي به سمعته؟! قال: لا، ولكن سمعت، فقست ما لم أسمع بما قد سمعته (3).
ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية: كان أفقههم في زمانه إبراهيم النخعي، كان بمنزلة سعيد بن المسيب في أهل المدينة، وكان يقول: إني لأسمع الحديث الواحد، فأقيس به مائة حديث (4).
وقد حمل عنه العلم في سن مبكرة من عمره، وهو ابن ثماني عشرة سنة (5). وقد سما بهذه العقلية إلى أن صار فقيه العراق بلا منازع، ففاق أقرانه في استنباط الأحكام الشرعية مما لم يرد فيه نص.
فهو بحق المرسي الأول لقواعد مدرسة الرأي بالكوفة، التي وضعت أساس مذهب مستقل لمنهج البحث الفقهي.
ولذا كان أصحابه يرجعون إليه لأخذ رأيه فيما يجدّ من حوادث ومسائل، فعن
__________
(1) السير (4/ 529)، وتاريخ الإسلام (ح 96هـ / 282).
(2) العلل لأحمد (1/ 253) 355.
(3) المعرفة والتاريخ (2/ 609)، والفقيه والمتفقه (1/ 203).
(4) الفتاوى الكبرى (3/ 227)، والرفع والتكميل (87).
(5) المعارف (204)، وعيون الأخبار (1/ 230)، والمنتظم (7/ 20).(1/341)
إسماعيل بن أبي خالد قال: كان الشعبي، وإبراهيم، وأبو الضحى يجتمعون في المسجد، فإذا جاءهم شيء، ليس عندهم فيه رواية، رموا إبراهيم بأبصارهم (1).
وقد جاءت عامة اجتهاداته في تأويل آيات الحلال والحرام، فمن ذلك ما جاء عند تأويله لقوله تبارك وتعالى: {أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلََافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ} (2) قدم ذلك بقوله: فيما أرى، في الرجل يخرج محاربا، قال: إن قطع الطريق وأخذ المال: قطعت يده ورجله، وإن أخذ المال وقتل: قتل، وإن أخذ المال وقتل ومثّل: صلب (3).
وأحسب أن كثرة اشتغال إبراهيم بالرأي، والقياس، جعلت حظه من الاشتغال بالأثر والنقل قليلا ولذا نجد هذا واضحا في تفسيره إذ كان من أقل التابعين اعتمادا على تفسير القرآن بالسنة، أو بأسباب النزول (4).
3 - حرص أصحابه على نشر علمه:
وهذا مما ميز إبراهيم على غيره من أقرانه في الكوفة، وقد أشار الشعبي إلى هذا، فعن ابن شبرمة قال: لما مات إبراهيم جلس حماد بن أبي سليمان يبث علمه، فقال:
قال إبراهيم، قال إبراهيم، فقال عامر الشعبي: والله لإبراهيم ميتا أفقه منه حيا (5).
وقد بلغ حرص أصحابه على نشر علمه إلى حد أن تخصص بعضهم في النقل
__________
(1) تاريخ ابن معين (2/ 17)، والجرح (2/ 144)، والحلية (3/ 221)، والإرشاد (2/ 557).
(2) سورة المائدة: آية (33).
(3) تفسير الطبري (10/ 258) 11831، وتفسير البغوي (2/ 33)، وتفسير القرطبي (6/ 99).
(4) بعد مراجعتي لتفسيره عند الطبري، وجدته من أقل التابعين اعتمادا على هذين المصدرين، فقد كان المروي عنه في ذلك أقل من (01، 0) من مجموع تفسيره، وقريبا من هذا كانت حاله في الاعتماد على أسباب النزول حيث بلغت نسبة المروي عنه (01، 0) من مجموع تفسيره، مسجلا بذلك أقل نسبة بين التابعين.
(5) العلل لأحمد (3/ 206) 4884.(1/342)
والرواية لجل تفسيره، ومن أبرزهم مغيرة بن مقسم الذي نقل ما يزيد عن ثلث تفسيره، وكان من أعلم الناس بإبراهيم. كما قال ابن المديني (1).
ونقل ما يزيد عن ربع تفسيره من رواية منصور بن المعتمر، الذي كان من أثبت الناس في حديثه عن إبراهيم. قاله يحيى بن سعيد (2).
وكان لهذا الحرص من أصحابه الأثر البالغ في كثرة المروي عنه.
4 - إعراضه عن الرواية عن أهل الكتاب:
وهذه سمة ظاهرة عند مفسري الكوفة إلا أن إبراهيم تميز بمزيد حذر وبعد، فلم أجد له بعد مراجعتي لتفسيره في هذا شيئا يذكر (3).
هذه بعض أهم الأسباب التي أثرت في نتاج الرواية عنه، وكذا أهم المميزات، التي امتاز بها إبراهيم، وفاق فيها غيره.
* * * __________
(1) المعرفة (3/ 14).
(2) المعرفة (3/ 12)، وشرح علل الترمذي لابن رجب (293).
(3) ورد عنه رواية واحدة عند الطبري عند قوله تعالى: {فَخَرَجَ عَلى ََ قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ} القصص: آية (79)، قال: في ثياب حمر (20/ 115).(1/343)
سعيد بن المسيب
هو سعيد بن المسيب بن حزن بن أبي وهب بن عمرو بن عائذ بن عمران بن مخزوم القرشي المدني (1)، يكنى أبا محمد (2).
ولد لسنتين خلتا من خلافة عمر رضي الله عنه (3)، وعداده في الطبقة الأولى من كبار التابعين (4).
روى عن أبي بكر مرسلا، وعن عمر، وعثمان، وعلي، وسعد بن أبي وقاص، وحكيم بن حزام، وابن عباس، وابن عمر، وابن عمرو بن العاص، وأبي ذر، وأبي الدرداء، وزيد بن ثابت، وأبي موسى، وأبي سعيد، وأبي هريرة، وعائشة، وأسماء بنت عميس وغيرهم (5).
وعن الزهري قال: أخذ سعيد علمه عن زيد بن ثابت، وجالس سعد بن أبي وقاص، وابن عباس، وابن عمر، ودخل على أزواج النبي صلى الله عليه وسلّم: عائشة، وأم سلمة،
__________
(1) طبقات خليفة (244)، والأنساب (8/ 331)، واللباب في تهذيب الأنساب (2/ 307)، والتحفة اللطيفة (2/ 158).
(2) الكنى لأحمد (117)، والكنى لمسلم (95ق)، والكنى للدولابي (2/ 96)، ومعرفة الرجال لابن معين (2/ 165).
(3) تاريخ خليفة (134)، والعلل لأحمد (1/ 150) 48، ورجال صحيح البخاري (1/ 292)، والجمع بين رجال الصحيحين (1/ 169)، والتبيين في أنساب القرشيين (396)، وطبقات علماء الحديث (1/ 112).
(4) طبقات ابن سعد (5/ 119)، والمعين في طبقات المحدثين (33)، والنجوم الزاهرة (1/ 228).
(5) تهذيب الكمال (11/ 67)، وتهذيب التهذيب (4/ 84).(1/344)
وكان قد سمع من عثمان، وعلي، وصهيب (1)، وجل روايته المسندة عن أبي هريرة (2)، وكان زوج ابنته (3).
وكان سعيد يختلف ويتردد على أبي هريرة بالشجرة (4)، وكان أعلمهم بحديثه (5)، وأثبتهم فيه (6).
وكان يقال له: راوية عمر لأنه كان أحفظ الناس لأحكامه وأقضيته (7).
وكان ابن عمر يرسل إليه في أحاديث عمر لأن سعيدا قد نصب نفسه لقول عمر فلم يجزه (8).
وسئل الإمام مالك عن سعيد بن المسيب: هل أدرك عمر؟ قال: لا، ولكنه ولد في زمان عمر، فلما كبر أكب على المسألة عن شأنه، وأمره، حتى كأنه رآه (9).
وعن إبراهيم بن سعد عن أبيه، عن سعيد بن المسيب قال: ما بقي أحد أعلم بكل قضاء قضاه رسول الله صلى الله عليه وسلّم، وكل قضاء قضاه أبو بكر رضي الله عنه وكل قضاء قضاه
__________
(1) طبقات ابن سعد (5/ 121)، ووفيات الأعيان (2/ 375)، ومرآة الجنان (1/ 124).
(2) التعديل (3/ 1082)، والتذكرة (1/ 55)، والشذرات (1/ 103).
(3) المعارف (193)، ورجال صحيح مسلم (1/ 237)، وتهذيب الأسماء (1/ 220)، والجمع بين رجال الصحيحين (1/ 168).
(4) المعرفة والتاريخ (1/ 469)، والرحلة للخطيب (58)، وقال الخطيب: والشجرة هي ذو الحليفة.
(5) رجال صحيح مسلم (1/ 237)، وتهذيب الأسماء (1/ 220)، وإعلام الموقعين (1/ 17) ومرآة الجنان (1/ 215).
(6) تهذيب الكمال (11/ 74)، والبداية (9/ 111)، وطبقات الحفاظ (18).
(7) طبقات ابن سعد (5/ 121)، والمعرفة (1/ 471)، وتهذيب الكمال (11/ 74)، والتهذيب (4/ 86).
(8) تاريخ أبي زرعة (1/ 404)، وتهذيب الكمال (11/ 74)، والبداية (9/ 11).
(9) المعرفة (1/ 468)، وتاريخ أبي زرعة (1/ 404)، والتهذيب (4/ 86).(1/345)
عمر رضي الله عنه وكل قضاء قضاه عثمان رضي الله عنه مني (1).
وقد قرأ القرآن الكريم على ابن عباس، وأبي هريرة (2).
أسباب قلة المروي عنه في التفسير:
ومن خلال النظر في تفسير سعيد، وقراءة سيرته، نجد أنه من أقل مشاهير التابعين تعرضا للتفسير (3)، ولعل من أهم الأسباب التي كانت وراء ذلك ما يلي:
1 - تعظيمه للتفسير، وشدة ورعه فيه:
فبالرغم من سبق هذا الإمام في علم الفقه، والأثر إلا أنه أحجم عن الخوض في هذا الباب، وتورع فيه غاية التورع، فعن يزيد بن أبي يزيد قال: كنا نسأل سعيدا عن الحلال، والحرام، وكان أعلم الناس، فإذا سألناه عن تفسير آية من القرآن، سكت كأن لم يسمع (4).
بل كان يصرح بذلك فعن يحيى بن سعيد القطان، عن سعيد بن المسيب: أنه كان إذا سئل عن تفسير آية من القرآن، قال: أنا لا أقول في القرآن شيئا (5).
قال الإمام الذهبي: ولهذا قلّ ما نقل عنه في التفسير (6).
__________
(1) طبقات ابن سعد (5/ 120)، والمعرفة (1/ 468)، والتاريخ الكبير (3/ 511)، والمنتظم (6/ 320)، والشذرات (1/ 102).
(2) الغاية (1/ 308).
(3) بعد مراجعتي لتفسير الطبري، بلغ مجموع ما روي عنه (181) قولا، منها (72) قولا في تفسير آيات الأحكام، أي: ما نسبته (34، 0) من مجموع تفسيره فلم يبق إلا (109) أقوال.
(4) تفسير الطبري (1/ 86) 100، ومجموع الفتاوى (13/ 373)، وتفسير ابن كثير (1/ 17).
(5) تفسير الطبري (1/ 85) 94، وطبقات ابن سعد (5/ 137)، وفضائل القرآن لأبي عبيد (228)، ومجموع الفتاوى (13/ 373)، وتفسير ابن كثير (1/ 17).
(6) السير (4/ 242).(1/346)
وكان رحمه الله لا يتكلم إلا في المعلوم من القرآن (1).
وكان ينكر على المكثرين في التفسير لما قدم عكرمة المدينة، ورأى سعيد توسعه، أنكر عليه يقول عمرو بن مرة: سأل رجل سعيد بن المسيب عن آية من القرآن، فقال:
لا تسألني عن القرآن، وسل من يزعم أنه لا يخفى عليه منه يعني عكرمة (2).
وكان رحمه الله ورعا، حتى عند إفتائه لسائله فلا يكاد يفتي فتيا، ولا يقول شيئا إلا قال: اللهم سلمني وسلّم مني (3).
2 - اشتغاله بالفقه، والإفتاء:
بذل رحمه الله في هذا الباب من العلم جلّ جهده، وصرف فيه كثيرا من طاقته، حتى عدّ بين التابعين فقيه الفقهاء (4)، وكان رأس من بالمدينة في دهره، والمقدم عليهم في الفتوى (5).
وقال غير واحد من أهل العلم: إنه أفقه أهل الحجاز (6)، وقال عنه مكحول: سعيد عالم العلماء (7)، وكان يقول: طفت الأرض كلها، فما رأيت أعلم من سعيد (8).
__________
(1) تفسير الطبري (1/ 86) 95، وتفسير ابن كثير (1/ 17).
(2) تفسير الطبري (1/ 86) 101، وفضائل القرآن لأبي عبيد (228)، وتفسير ابن كثير (1/ 17)، وجامع بيان العلم وفضله (2/ 29)، وتاريخ دمشق (11/ 784).
(3) التاريخ الكبير (3/ 511)، وتهذيب الأسماء (1/ 220)، وتهذيب الكمال (11/ 72).
(4) طبقات ابن سعد (5/ 121)، وتهذيب الأسماء (1/ 220)، والمنتظم (6/ 321)، والتبيين في أنساب القرشيين (396)، والبداية (9/ 111)، وطبقات الحفاظ (18)، والنجوم (1/ 228).
(5) طبقات ابن سعد (5/ 121)، وتهذيب الأسماء (1/ 220)، وتهذيب الكمال (11/ 71)، وطبقات الحفاظ (18).
(6) المعارف (193)، والثقات (4/ 274)، والمنتظم (6/ 319)، والتهذيب (4/ 87).
(7) طبقات ابن سعد (5/ 121)، والمنتظم (6/ 321)، والتبيين في أنساب القرشيين (396)، والنجوم الزاهرة (1/ 228).
(8) العلل لأحمد (3/ 320) 5424، والتاريخ الكبير (3/ 511)، والجرح (4/ 60)، والعبر (1/ 82)، والتحفة اللطيفة (2/ 159).(1/347)
وكان رحمه الله يفتي وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلّم أحياء (1). وقال نافع، عن ابن عمر رضي الله عنهما: هو والله أحد المفتين (2).
وعن عمرو بن ميمون بن مهران، عن أبيه قال: قدمت المدينة فسألت عن أعلم أهل المدينة، فدفعت إلى سعيد بن المسيب (3).
وقال قتادة: ما رأيت أحدا أعلم بالحلال والحرام من سعيد (4).
وعن سليمان بن موسى قال: سعيد بن المسيب أفقه التابعين (5).
وقد اتضح اهتمامه بالأحكام الفقهية في عنايته بتأويل آيات الأحكام خاصة حيث بلغ ذلك أكثر من ثلث تفسيره (6)، وهو يدور بوجه أخص حول أحكام النساء، ومسائل الطلاق (7).
فعن خصيف بن عبد الرحمن قال: كان أعلمهم بالحج عطاء، وأعلمهم بالطلاق
__________
(1) طبقات ابن سعد (5/ 121)، والمنتظم (6/ 320).
(2) طبقات علماء الحديث (1/ 113)، وتهذيب الكمال (11/ 70)، والتذكرة (1/ 54)، ووفيات الأعيان (2/ 375)، ومرآة الجنان (1/ 215).
(3) طبقات ابن سعد (5/ 122)، وتاريخ أبي زرعة (1/ 403)، والتعديل والتجريح (3/ 1082)، وتهذيب الكمال (11/ 70).
(4) الجرح (4/ 60)، وتهذيب الأسماء (1/ 220)، والعبر (1/ 82)، وطبقات الحفاظ (18).
(5) تاريخ أبي زرعة (2/ 712)، وتهذيب الأسماء (1/ 220)، والتهذيب (4/ 85).
(6) جاء في المرتبة الثانية بعد النخعي حيث بلغ نسبة ما روى عنه (34، 0) من مجموع تفسيره، في حين كان عن إبراهيم (38، 0) من مجموع تفسيره، وغيرهم من التابعين أقل منهم في ذلك.
(7) حيث بلغ (70، 0) من مجموع تفسيره لآيات الأحكام، حول مسائل النكاح.(1/348)
سعيد بن المسيب (1).
ومما تميز به في هذا الجانب. أنه جمع بين الرأي، والأثر يقول زين العابدين علي ابن الحسين: سعيد بن المسيب أعلم الناس بما تقدمه من الآثار، وأفقههم في رأيه (2).
وليس هذا بمستغرب على مثل هذا الإمام، فإنه قد جمع السنن والآثار بملازمته لأبي هريرة، وإكثاره من الرواية عنه، حتى كان من أعلمهم بحديثه، ثم أضاف إلى ذلك علم عمر وفقهه رضي الله عنه حتى كأنه رآه، لكثرة ما كان يعلم من حاله وشأنه وقضائه، بل وصار ابن عمر يرسل إليه يسأله عن حديث عمر وقضائه رضي الله عن الجميع (3).
3 - قلة تحديثه، وهيبة الناس له:
ومما قلل نتاجه في التفسير وغيره، هيبته وشدته، يقول الإمام مالك: وكان ابن المسيب رجلا شديدا (4)، وكان لا يتجرأ عليه (5).
وكان ابن شهاب الزهري يقول: لقد كنا نجلس إلى ابن المسيب، فما يستطيع أحد منا أن يسأله عن شيء إلا أن يبتدئ الحديث، أو يأتي رجل، فيسأله عن أمر قد نزل به، وقد طالت مجالستنا إياه حتى ما كنا نسمع منه إلا الجواب (6).
ويقول أيضا: لم نكن نقدر منه على الحديث إلا أن نأتيه فنقول: قالوا: كذا وكذا (7).
__________
(1) تاريخ أبي زرعة (1/ 515).
(2) طبقات ابن سعد (5/ 121)، والمعرفة (1/ 471، 475، 622)، ومرآة الجنان (1/ 214).
(3) التحفة اللطيفة (2/ 159)، والتبيين في أنساب القرشيين (396).
(4) تاريخ أبي زرعة (1/ 406)، والمعرفة (1/ 549).
(5) المعرفة (1/ 549).
(6) المعرفة (1/ 624).
(7) العلل لأحمد (3/ 153) 4675، وتاريخ أبي زرعة (1/ 517).(1/349)
4 - عدم تركه كتبا:
وهذا مما جعلنا نفقد بعض علمه رحمه الله يقول الإمام مالك: ومات ابن المسيب، والقاسم، ولم يتركوا كتابا، ومات أبو قلابة، فبلغني أنه ترك حمل بغل كتبا (1).
فهذا المنهج كان غالبا في المدينة، فهذا يحيى بن سعيد أحد رواة تفسير سعيد يقول: أدركت الناس يهابون الكتب، ولو كنا نكتب يومئذ لكتبنا من علم سعيد ورأيه، شيئا كثيرا (2).
5 - النهي عن مجالسته:
امتنع سعيد عن بيعة سليمان بن عبد الملك مع بيعة الوليد، وكره أن يبايع بيعتين، فأمر به عبد الملك، وجلد مائة سوط، وحلق رأسه ولحيته، وألبسه ثيابا من شعر (3)، ومنع الناس من مجالسته. فعن أبي يونس القزي، قال: دخلت مسجد المدينة، فإذا سعيد جالس وحده، فقلت: ما شأنه؟ قال: نهي أن يجالسه أحد (4).
هذه الأسباب مجتمعة كانت وراء قلة المروي عنه في التفسير وغيره.
الجانب الأثري الروائي عند سعيد، وأثره في التابعين:
ومما ينبغي تسجيله، والإشارة إليه عند الحديث عن هذا الإمام، أن ثمة معالم بارزة في شخصيته اتصف بها، وانفرد، وكان لها الأثر فيمن جاء بعده من مشاهير مفسري التابعين: كالحسن، وقتادة، ومكحول، وغيرهم.
__________
(1) المعرفة (1/ 478).
(2) طبقات ابن سعد (5/ 141)، والمعرفة (1/ 649).
(3) المنتظم (6/ 322).
(4) الحلية (2/ 172)، وطبقات ابن سعد (5/ 128)، والمعرفة (1/ 478)، والتحفة اللطيفة (2/ 159).(1/350)
فقد كان لغلبة الجانب الأثري: والحديثي على منهجه بعد ملازمته الطويلة لأبي هريرة، ثم تقدمه في معرفة قضاء النبي صلى الله عليه وسلّم، وأبي بكر، وعمر، وعثمان، بل وكثرة رحلاته في سماع الحديث (1) كان لذلك كله الأثر في اتفاق كلمة الأئمة على أنه من أفضل التابعين على الإطلاق (2).
ولذا فالناظر في سيرته يجد أثره الواضح على العديد من أقرانه وأصحابه.
فهذا أحد أقرانه القاسم بن محمد، يقول عنه الإمام مالك: كان القاسم يسأل عن الشيء، فيقول للذي يسأله: من سألت؟، فيقول الرجل: سألت عروة بن الزبير، وسألت فلانا، وسألت فلانا، فيقول له القاسم: هل سألت سعيد بن المسيب؟ فيقول:
نعم. فيقول: ما قال؟، فيقول: قال كذا وكذا، فيقول له القاسم: فأطعه، فذلك سيدنا وأعلمنا (3).
ولم يقتصر هذا الأثر على أصحابه، بل تجاوزهم ليشمل غيرهم من مشاهير مفسري المدارس الأخرى، ولا سيما مدرستا البصرة والشام، فقد كان لمنهجه، ومسلكه، وعلمه انتشار واسع في تلك البلاد، أكثر من غيره.
فهذا إمام البصرة الحسن بن أبي الحسن البصري: كان إذا أشكل عليه شيء، كتب فيه إلى سعيد بن المسيب (4).
ويقول علي بن زيد: كنت إذا خرجت إلى مكة قال لي الحسن: سل لي سعيدا عن كذا، وسل لي سعيدا عن كذا، يعني ابن المسيب (5).
__________
(1) تهذيب الأسماء (1/ 220)، والتعديل والتجريح (3/ 1083)، والبداية (9/ 111)، ومرآة الجنان (1/ 215).
(2) البداية (9/ 111).
(3) المعرفة (1/ 469)، وتاريخ أبي زرعة (1/ 404)، ومرآة الجنان (1/ 214).
(4) تهذيب الكمال (7/ 107)، والتهذيب (4/ 86)، ومرآة الجنان (1/ 214).
(5) العلل لأحمد (3/ 321) 5429.(1/351)
ولذا فقد اتفق الحسن مع سعيد في كثير من المسائل الفقهية، فعن سلام بن مسكين قال: سمعت عمران يقول: قلّ ما كانا يختلفان في الفتيا وفي الشيء (1).
وممن كان في مقدمة من تأثر به أيضا قتادة، حتى إنه كان من أكثر التابعين رواية لتفسيره، وجاء ما يزيد عن ثلث المروي عنه في التفسير من رواية قتادة (2).
وقد رحل قتادة إلى سعيد بالمدينة، وأخذ عنه، حتى قال عنه سعيد: ما أتاني عراقي أحفظ من قتادة، وكان سعيد يثني عليه فيقول: ما كنت أظن الله خلق مثلك (3).
وقد تأثر به قتادة، فتوسع في باب الناسخ والمنسوخ، وقال بنسخ كثير من آيات العفو والصفح (4).
وكان قتادة يقدم سعيدا في الفقه والحديث على غيره، فيقول: ما رأيت أحدا قط أعلم بالحلال والحرام من سعيد بن المسيب (5)، وما رأيت أعلم من سعيد بن المسيب ولا أجدر أن يتبع: فلان عن فلان يعني: يسند كل حديث (6).
وقد تأثر به مكحول، وهو من أئمة المدرسة الشامية، وممن نشر العلم والأثر المدني في تلك البقاع، فعن الأوزاعي قال: سئل الزهري ومكحول: من أفقه من أدركتما؟
__________
(1) تهذيب الكمال (7/ 108).
(2) بعد مراجعتي لتفسير الطبري، وجدت أن (37، 0) من تفسير سعيد هو من رواية قتادة، وكان قتادة أكثر عناية بنقل تفسيره من أصحاب سعيد المدنيين أنفسهم حيث كان الذي يليه في هذا يحيى بن سعيد المدني، فقد روى (16، 0) من تفسيره، وغيرهما من أصحاب سعيد أقل منهما.
(3) مرّ في ترجمة قتادة ص (252).
(4) مع أن الحسن البصري، وهو شيخ قتادة كان ممن ضيق دائرة النسخ، فقد خالفه قتادة في ذلك متأثرا بسعيد بن المسيب، وقتادة من أكثر التابعين توسعا في هذا الباب.
(5) الجرح (4/ 60).
(6) المرجع السابق.(1/352)
فقالا: سعيد بن المسيب (1).
ومع ما أبرزته من أثره الجلي في المدرستين البصرية والشامية، إلا أن تأثيره أو تأثره بالمنهج المكي كان ضعيفا، مع كثرة أسفاره، ورحلاته إلى مكة إذ يروى أنه حج أكثر من أربعين حجة (2)، ومرد ذلك فيما أرى أمران اثنان:
أحدهما: استغناء المدرسة المكية بعبد الله بن عباس رضي الله عنهما.
الثاني: اختلاف منهجي المدرستين المكية والمدنية، فكان جل اهتمام المكيين منصبا على التفسير، بينما نجد أن معظم اشتغال المدنيين كان في السنن، والآثار، والسير.
وفاته:
اختلفوا في وفاته على أقوال من أقواها أنه توفي سنة (3) أربع وتسعين (3)، وقال بعضهم: سنة ثلاث وتسعين (4)، عن تسعة وسبعين عاما (5).
* * * __________
(1) تاريخ أبي زرعة (1/ 403)، والمعرفة (1/ 479)، والجرح (4/ 61)، ووفيات الأعيان (2/ 375)، ومرآة الجنان (1/ 214).
(2) التاريخ الكبير (3/ 511)، وتهذيب الأسماء (1/ 220)، ووفيات الأعيان (2/ 375)، والشذرات (1/ 103).
(3) تاريخ خليفة (306)، والعلل لأحمد (3/ 472) 6016، ومصنف ابن أبي شيبة (13/ 66) 15781، ودول الإسلام (65)، والتذكرة (1/ 56)، وطبقات علماء الحديث (1/ 113)، والكامل (4/ 582)، وغاية النهاية (1/ 308)، والشذرات (1/ 102).
(4) التاريخ الصغير (1/ 209)، والجمع بين رجال الصحيحين (1/ 169)، والتعديل والتجريح (3/ 1082)، ومشاهير علماء الأمصار (63)، وتهذيب الأسماء (1/ 220).
(5) الكاشف (1/ 373)، وغاية النهاية (1/ 308)، وتاريخ الخميس (2/ 313).(1/353)
محمد بن كعب القرظي
محمد بن كعب بن حبان بن سليم بن أسد القرظي (1)، يكنى أبا حمزة (2)، منسوب إلى بني قريظة الطائفة المعروفة من اليهود، كان أبوه من سبي قريظة (3)، وكان لم ينبت يوم قريظة فترك (4).
عداده في الطبقة الثالثة من التابعين (5)، سمع زيد بن أرقم، وابن عباس (6)، ورأى ابن عمر (7). وروايته عن علي، وابن مسعود مرسلة (8).
نشأ بالكوفة، ثم تحول به أبوه إلى المدينة (9)، فهو في عداد تابعي أهل المدينة (10).
__________
(1) طبقات ابن سعد، الجزء المتمم لطبقات أهل المدينة (134)، وتهذيب الأسماء (1/ 90)، والأنساب (10/ 102)، واللباب (3/ 26).
(2) طبقات خليفة (264)، والكنى للدولابي (1/ 156)، والكنى لمسلم (ق 27).
(3) الجمع بين رجال الصحيحين (2/ 448)، ورجال صحيح مسلم (2/ 204)، والتهذيب (9/ 420).
(4) التاريخ الكبير (1/ 216)، والأنساب (10/ 102)، والتهذيب (9/ 421).
(5) طبقات ابن سعد الجزء المتمم لطبقات أهل المدينة (134)، وعده الذهبي في كتابه المعين في الطبقة الثانية مع الحسن ومجاهد (42).
(6) التاريخ الكبير (1/ 216)، والكنى لمسلم (ق 7)، والجمع بين رجال الصحيحين (2/ 448).
(7) تهذيب الأسماء واللغات (1/ 90)، ورجال صحيح البخاري (2/ 675)، والتهذيب (9/ 421).
(8) العلل لأحمد (1/ 527) 1236، والتهذيب (9/ 422)، والتحفة اللطيفة (3/ 720).
(9) الجرح (8/ 67)، والسير (5/ 65)، والتحفة اللطيفة (3/ 719)، وتهذيب الكمال (26/ 340).
(10) الجرح (8/ 67)، وتهذيب الكمال (26/ 343)، والثقات (5/ 351)، والتحفة اللطيفة (3/ 720)، ومشاهير علماء الأمصار (65).(1/354)
والقرظي مع أنه كوفي المولد والمنشأ (1)، ومدني المستقر، ومنهج هاتين المدرستين مشهور بقلة التعرض لتأويل القرآن، فقد فاق أصحابه من المدنيين، وتوسع قليلا في باب التفسير، فكان من أكثرهم علما فيه (2)، يقول سفيان بن عيينة: لم يكن بالمدينة أحد يفسر القرآن بعد محمد بن كعب مثله يعني: زيد بن أسلم (3).
ويقول عون بن عبد الله: ما رأيت أحدا أعلم بتأويل القرآن من القرظي (4).
وقد أثنى عليه غير واحد ممن ترجم له، فقال العجلي: مدني تابعي عالم بالقرآن (5).
وقال ابن حبان: من عباد المدينة، وعلمائهم بالقرآن (6).
وقال الذهبي: هو من أئمة التفسير (7).
وقال ابن كثير: كان عالما بتفسير القرآن (8).
ومما أعانه وساعده على التقدم في هذا، كثرة تأمله وتدبره للقرآن، فكان لا يشبع من النظر والتفكر فيه، ينقضي الليل عليه، وهو لم يفرغ من حاجته منه، يقول عن نفسه: وعجائب القرآن تورد علي أمورا حتى إنه لينقضي الليل ولم أفرغ من حاجتي
__________
(1) العبر (1/ 102)، والشذرات (1/ 136).
(2) بمقارنة المروي عنه مع غيره من أصحابه، نجد أن المروي عن سعيد بن المسيب على قلته، كان جله في تأويل آيات الأحكام، في حين كان تعرض محمد بن كعب للتفسير أكثر.
(3) فتح الباري (13/ 111).
(4) تاريخ أبي زرعة (1/ 245)، والمعرفة (1/ 564)، والسير (5/ 68)، وتاريخ الإسلام (ح 108هـ / 252)، والغاية (1/ 233).
(5) تاريخ الثقات (411).
(6) مشاهير علماء الأمصار (65).
(7) السير (5/ 67).
(8) البداية (9/ 289).(1/355)
منه (1).
ويقول أيضا: لأن أقرأ في ليلتي حتى أصبح بإذا زلزلت والقارعة ولا أزيد عليهما، وأتردد فيهما وأتفكر، أحب إليّ من أن أهذّ القرآن ليلتي هذه هذا، أو قال: أنثره نثرا (2).
وقد فسر بعض الأئمة ما ورد عنه صلى الله عليه وسلّم: «سيخرج من الكاهنين رجل يدرس القرآن دراسة لا يدرسه أحد بعده» (3).
فقال ربيعة: كنا نقول: هو محمد بن كعب القرظي، والكاهنان قريظة، والنضير (4).
__________
(1) الحلية (3/ 214)، والمنتظم (7/ 124)، والبداية (9/ 290)، والسير (5/ 66)، وتهذيب الكمال (26/ 346).
(2) الزهد لابن المبارك (97) 287، ومختصر قيام الليل للمروزي (60)، والحلية (3/ 214)، والغاية (1/ 223)، والبداية (9/ 289).
(3) الحديث أخرجه ابن سعد في طبقاته (7/ 500)، وطبقات ابن سعد الجزء المتمم لطبقات أهل المدينة (134)، ورواه أحمد في مسنده (6/ 11)، والطبراني في المعجم الكبير (22/ 197) 518، (22/ 314) 794، والفسوي في المعرفة (1/ 563)، والبيهقي في دلائل النبوة (6/ 498)، وابن حجر في تعجيل المنفعة (158)، وعزاه إلى ابن منده، والطبراني، وأورد هذه الرواية الهندي في الكنز، وعزاها إلى ابن سعد، وابن منده، والطبراني، وابن عساكر، عن عبد الله بن مغيث، ينظر كنز العمال (11/ 378) 31809.
(4) دلائل النبوة للبيهقي (6/ 499)، تهذيب الكمال (26/ 345)، وغاية النهاية (1/ 233)، قال الهيثمي في المجمع: عبد الله بن مغيث ذكره ابن أبي حاتم، وبقية رجاله ثقات (70/ 167).
قلت: عبد الله بن مغيث ذكره البخاري، وابن أبي حاتم وسكتا عنه، وذكره ابن حبان في الثقات، ينظر التاريخ الكبير (5/ 201)، والجرح (5/ 174)، والثقات (7/ 43).
وروى الحديث كما عند البيهقي من طريق ربيعة بن أبي عبد الرحمن عن النبي صلى الله عليه وسلّم بلفظ مقارب.
وعن موسى بن عقبة قال: بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم وذكر الحديث بنحوه. وكلا الطريقين فيهما علة الإرسال، كما ذكره البيهقي في الدلائل (6/ 499498).(1/356)
وقال سفيان الثوري: يرون أنه محمد بن كعب (1).
مميزات تفسيره:
ومما تميز به تفسيره رحمه الله إبرازه للجانب الوعظي والتذكيري للآيات، فقد كان محبا للوعظ والقص، وكان يؤثر ويبكي بقصه وتذكيره (2).
وكان له جلساء من أعلم الناس بالتفسير (3)، وكان يقص عليهم (4).
والناظر في تفسيره يجد شاهد ذلك.
قال صاحب الحلية: قال محمد بن كعب القرظي: لو رخص لأحد في ترك الذكر، لرخص لزكريا عليه السلام. قال الله تعالى: {آيَتُكَ أَلََّا تُكَلِّمَ النََّاسَ ثَلََاثَةَ أَيََّامٍ إِلََّا رَمْزاً وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيراً} (5)، ولو رخص لأحد في ترك الذكر لرخص للذين يقاتلون في سبل الله، قال الله تعالى: {يََا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذََا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللََّهَ كَثِيراً} (6).
وعند قوله تعالى: {اصْبِرُوا وَصََابِرُوا وَرََابِطُوا} قال: {اصْبِرُوا} على دينكم، {وَصََابِرُوا} لوعدي الذي وعدتكم، {وَرََابِطُوا} عدوي: {اتَّقُوا اللََّهَ} فيما بينكم
__________
(1) ذكر جمع ممن ترجم لمحمد بن كعب هذا الحديث وتفسيره، ينظر المعارف (202)، وتهذيب الكمال (26/ 435344)، والتهذيب (9/ 421)، وتاريخ الإسلام (ح 108هـ / 252)، والسير (5/ 68)، والغاية (1/ 233).
(2) طبقات ابن سعد الجزء المتمم لطبقات أهل المدينة (136).
(3) المعرفة (1/ 564)، وتهذيب الكمال (26/ 346)، وتاريخ الإسلام (ح 108هـ / 253).
(4) كتاب القصاص والمذكرين (235)، والمعارف (202)، تاريخ ابن معين (2/ 536)، ورجال صحيح مسلم (2/ 204)، والثقات (4/ 351)، وتهذيب الكمال (26/ 346)، والغاية (1/ 233).
(5) سورة آل عمران: آية (41).
(6) الأنفال: آية 45، ينظر الحلية (3/ 215)، البداية (9/ 289).(1/357)
{لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (1) إذا لقيتموني (2).
وعن داود بن قيس قال: سمعت ابن كعب يقول: إن الأرض لتبكي من رجل، وتبكي على رجل، تبكي لمن كان يعمل على ظهرها بطاعة الله تعالى، وتبكي ممن يعمل على ظهرها بمعصية الله تعالى قد أثقلها. ثم قرأ: {فَمََا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمََاءُ وَالْأَرْضُ وَمََا كََانُوا مُنْظَرِينَ} (3).
وعن عمرو بن دينار قال: سألت محمد بن كعب القرظي عن هذه الآية: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقََالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقََالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} (4) قال: من يعمل مثقال ذرة من خير من كافر، يرى ثوابها في نفسه وأهله، وماله، حتى يخرج، وليس له خير. ومن يعمل مثقال ذرة من شر من مؤمن يرى عقوبتها في نفسه، وأهله، وماله حتى يخرج، وليس له شر (5).
وقد تميز رحمه الله من بين عموم التابعين بالعناية، والاعتماد على أسباب النزول في تفسيره، حتى صار من أكثرهم إيرادا، واستشهادا بالأسباب (6).
ومع هذا التقدم، فلم يكن يحصر المعنى في السبب، بل يذكر السبب ويبين أن الأصل عموم المعنى لا خصوص السبب.
فعن أبي معشر نجيح قال: سمعت سعيدا المقبري يذاكر محمد بن كعب فقال سعيد: إن في بعض الكتب أن لله عبادا ألسنتهم أحلى من العسل، وقلوبهم أمرّ من
__________
(1) سورة آل عمران: آية (200).
(2) الحلية (3/ 215)، والبداية (9/ 289).
(3) سورة الدخان: آية (29)، وينظر الحلية (3/ 213)، والبداية (9/ 290).
(4) سورة الزلزلة: الآيتان (7، 8).
(5) الحلية (3/ 213)، والبداية (9/ 290).
(6) بعد مراجعتي لتفسير الطبري، وجدت المروي عن محمد بن كعب (153) قولا، بلغ نسبة ما جاء عنه في أسباب النزول (17، 0) من مجموع تفسيره، فكان من أكثر التابعين في هذا الباب.(1/358)
الصبر، لبسوا للناس مسوك الضأن من اللين، يجترّون الدنيا بالدين، قال الله تبارك وتعالى: أعلي يجترئون وبي يغترّون!! وعزتي لأبعثن عليهم فتنة تترك الحليم منهم حيران!!»، فقال محمد بن كعب: هذا في كتاب الله جل ثناؤه. فقال سعيد:
وأين هو من كتاب الله؟ قال: قول الله عز وجل: {وَمِنَ النََّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيََاةِ الدُّنْيََا وَيُشْهِدُ اللََّهَ عَلى ََ مََا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصََامِ (204) وَإِذََا تَوَلََّى سَعى ََ فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهََا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللََّهُ لََا يُحِبُّ الْفَسََادَ} (1).
فقال سعيد: قد عرفت فيمن أنزلت هذه الآية! فقال محمد بن كعب: إن الآية تنزل في الرجل، ثم تكون عامة بعد (2).
ومما يدل على اهتمامه بالسير، وأسباب النزول أيضا، أن محمد بن إسحاق نقل كثيرا من القصص والحوادث عن طريق محمد بن كعب، وفي هذا يقول سزكين:
ويتضح من الروايات التي ذكرها الطبري في تاريخه أن ابن إسحاق استخدم كتابا للقرظي ذا مضمون تاريخي (3).
وأحسب أن مما ساعده على التقدم في باب التفسير سماعه، ولقاءه بابن عباس، كما أنه في المقابل لم يلق أحدا من فقهاء المدينة الذين كانوا يتورعون عن التفسير، هذا وغيره جعل لهذا التابعي الصدارة في مدرسة التفسير بالمدينة.
وأحسب أنه لو عاش في غير هذه المدرسة لكان نتاجه أكثر، لكنه عاش في المجتمع المدني، الذي تأثر بشيوخه المقلين في باب التأويل، والمشتغلين بعلوم أخرى:
__________
(1) سورة البقرة: آية (204).
(2) تفسير الطبري (4/ 231) 3964، وسنن سعيد بن منصور (3/ 381) 361، وأورده السيوطي في الدر، وعزاه إلى سعيد بن منصور، وابن جرير، والبيهقي في الشعب، عن محمد به (1/ 572).
(3) تاريخ التراث (1/ 76).(1/359)
كالحديث، والمغازي، والسير، فكان هذا هو الغالب على الناقلين من الرواة بالمدينة (1).
وفاته:
ذهب كثير من الأئمة والمؤرخين إلى أنه توفي سنة ثمان ومائة (2)، وذهب البعض أنه مات سنة سبع عشرة ومائة (3).
* * * __________
(1) يأتي لذلك مزيد بحث عند الحديث عن المدرسة المدنية إن شاء الله ص (516).
(2) تاريخ ابن معين (2/ 536)، وتاريخ أبي زرعة (1/ 245)، والمعارف (202)، والتاريخ الكبير (1/ 216)، والتاريخ الصغير (1/ 243)، وتهذيب الأسماء (1/ 90)، والمنتظم (7/ 124)، والكامل (5/ 141)، والعبر (1/ 102)، ودول الإسلام (76)، والأنساب (10/ 102).
(3) تاريخ خليفة (348)، وطبقات ابن سعد، الجزء المتمم لطبقات أهل المدينة (137)، ورجال صحيح مسلم (2/ 204)، والجمع بين رجال الصحيحين (2/ 448)، والتعديل والتجريح (2/ 636).(1/360)
تابع الباب الثاني
الباب الثاني(1/361)
تابع الباب الثاني
الباب الثاني
مدارس التفسير في عصر التابعين، وخصائصها الفصل الثاني: عرض مدارس التفسير في عصر التابعين.
المبحث الأول: المدرسة المكية.
المبحث الثاني: المدرسة البصرية.
المبحث الثالث: المدرسة الكوفية.
المبحث الرابع: المدرسة المدنية.
المبحث الخامس: التفسير في الشام واليمن ومصر.(1/363)
الفصل الثاني عرض لمدارس التفسير في عصر التابعين(1/365)
الفصل الثاني
عرض لمدارس التفسير في عصر التابعين أرسل الله نبيه محمدا صلى الله عليه وسلّم رحمة للعالمين، وأنزل كتابه الذي هدى به من اتبع رضوانه سبل السلام، وأخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه، وهداهم إلى صراط مستقيم، وسعد المسلمون بهذا الكتاب، وأيقنوا بصدق أنه {يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} (1)، وأنه حبله المتين، وكتابه المبين، لا يشبع منه العلماء، ولا تنقضي عجائبه، فأخذوا في تدبره وتعلمه، والوقوف على ما فيه من مواعظ، وعبر، ثم أخذوا في دعوة الناس إليه، وتعليمهم إياه ولا سيما بعد أن تتابعت الفتوحات الإسلامية، واتسعت، ودخل الناس في دين الله أفواجا، فانتشر صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلّم بين الناس يعلمونهم دينهم، وكتاب ربهم، ومما لا شك فيه أن هؤلاء الصحب الكرام رضوان الله عليهم لم يكونوا في درجة علمية واحدة بالنسبة لفهم معاني القرآن، بل كانت مراتبهم متفاوتة، ومن ثم تفاوتت طرائقهم المنهجية التي ساروا عليها في تعليم الناس.
يقول مسروق: لقد جالست أصحاب محمد صلى الله عليه وسلّم فوجدتهم كالإخاذ، فالإخاذ يروي الرجل، والإخاذ يروي الرجلين، والإخاذ يروي العشرة، والإخاذ يروي المائة، والإخاذ لو نزل به أهل الأرض لأصدرهم (2).
وكان من أولئك الذين لو نزل بهم أهل الأرض لأصدرهم ثلة من الصحابة رضوان الله
__________
(1) سورة الإسراء: آية (9).
(2) طبقات ابن سعد (2/ 343)، والمعرفة (2/ 542).(1/367)
عليهم، ومن أشهرهم كما يقول عامر الشعبي: كان علماء هذه الأمة بعد نبيها صلى الله عليه وسلّم ستة: عمر، وعبد الله، وزيد بن ثابت، فإذا قال عمر قولا، وقال هذان قولا، كان قولهما لقوله تبعا، وعلي، وأبي بن كعب، وأبو موسى الأشعري، فإذا قال علي قولا، وقال هذان قولا، كان قولهما لقوله تبعا (1).
وقد قيض لبعض هؤلاء الأئمة من الأصحاب تلاميذ، اختصوا به ولازموه وأخذوا بقوله، ونشروا علمه، وتيسر له من هذا، ما لم يتيسر لآخرين، ومن هنا نجد بدايات الظهور لتلك المدارس، التي كان الصحابة أساتذتها، والتابعون روادها، فنهلوا من معين علمهم الصافي، ثم فاضوا بالخير العميم على الناس من بعدهم.
فكانوا كالنهر لما اشتد واديه ... فاضت جوانبه تسقي روابيه
يقول علي بن المديني: لم يكن من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلّم من له أصحاب يذهبون مذهبه، ويفتون فتواه، ويسلكون طريقته، إلا ثلاثة: عبد الله بن مسعود، وزيد بن ثابت، وابن عباس (2).
وقد ورث التابعون علمهم، وطرائقهم في البحث، والاستنباط، وكانوا طرائق قددا، فمنهم من توسع في التفسير تبعا لتوسع شيخه، ومنهم من كان يحمله التورع، والاحتياط على الإقلال خوفا من عدم الإصابة اقتداء بنهج كثير من الصحابة الذين نقل العلم عنهم.
وقد أطلت الحديث في فصل أشهر رجال المدارس، واستعرضت كل واحد من أولئك المشاهير، لأنطلق بعد ذلك إلى الحديث عن مدارسهم، التي نهلوا منها وأخذوا عنها، فأردت في هذا الفصل أن أبين المنهج العام لكل مدرسة، وأعقد مقارنات بين
__________
(1) طبقات ابن سعد (2/ 351)، ومثل ذلك ما رواه مسروق، ينظر العلل لأحمد (2/ 162) 1873، وطبقات الفقهاء للشيرازي (45).
(2) العلل (43)، ومقدمة ابن الصلاح (431).(1/368)
أصحاب كل إمام، وأجمع تلك النتائج والملاحظات، التي برزت في حياة كل مفسر، مبينا الفروق بين تلاميذ كل مدرسة، مشيرا إلى أوجه الاتفاق والاختلاف بينهم، وأسباب ذلك، وقد اعتمدت كثيرا على تلك الإحصائيات لكونها أكثر دقة في نتائجها ومؤشراتها.
والحديث عن المدارس التفسيرية يكتنفه جملة من الأمور لا بد من بيانها في هذه المقدمة من أهمها: أن مصطلح، المدارس التفسيرية لم يتعرض له كثير ممن كتب في المناهج، وتاريخ التشريع، وأما المشهور فهو ما دون في معرفة المدارس الفقهية، وسار من جاء بعد هؤلاء على هذا المصطلح، ولعل من أهم النتائج التي توصلت لها في هذا المبحث هو إبراز قيمة المدرسة البصرية في التفسير، وإظهار أثرها لأن كثيرا من الباحثين يفردون المدرسة الكوفية بالحديث، ويغفلون مدرسة البصرة، أو يدخلونها ضمنا، مع أنها ثاني المدارس بعد المدرسة المكية في التفسير، وكان ما يزيد على ثلث المروي عن التابعين قد جاء عن أصحابها. ولذا فسوف يكون ترتيب إيراد المدارس حسب كثرة المروي عنها.
ثم إنه في مقابل هذه الحال، فقد كانت المدرسة المدنية من أقل المدارس اشتغالا بالتفسير، ومن أكثرها هيبة، وتعظيما له، فقلّ نتاجها وسبقها غيرها، ورغم هذه القلة فقد أفردتها بالحديث كمدرسة مستقلة لوضوح المنهج الاستقلالي في تفسيرها رغم قلته، وعدم تأثرها كثيرا بغيرها، في حين أنها أثرت في كل المدارس الأخرى، فالحسن وقتادة وعطاء، والشعبي ومكحول وغيرهم، تأثرهم واستفادتهم من المنهج المدني واضحة ولا سيما أخذهم عن سعيد بن المسيب.
ومما ينبغي بيانه في هذه المقدمة أن الشام واليمن ومصر لن أدرسها كمدارس، وإنما سوف أدرسها كبقاع بها بعض الآثار، لكن لم يكن لها منهج مستقل، وآثار كثيرة حتى
تجعل كمدرسة مستقلة.(1/369)
ومما ينبغي بيانه في هذه المقدمة أن الشام واليمن ومصر لن أدرسها كمدارس، وإنما سوف أدرسها كبقاع بها بعض الآثار، لكن لم يكن لها منهج مستقل، وآثار كثيرة حتى
تجعل كمدرسة مستقلة.
وبعد هذه المقدمة أعود إلى مقصودي في هذا الفصل، فأبدأ الحديث عن أهم هذه المدارس وأعلمها في التفسير.
* * *
المبحث الأول
المدرسة المكية(1/370)
* * *
المبحث الأول
المدرسة المكية
احتلت هذه المدرسة المكانة في قلوب المؤمنين، الساكنين، والثائبين إلى بلد الله الحرام، الحجاج، والعمار، والزوار، بل أخذت مكة بألباب كل مؤمن رآها، أو تمنى أن يراها.
ولقد كان العلم بمكة يسيرا زمن الصحابة، ثم كثر في أواخر عصرهم وكذلك في أيام التابعين، وزمن أصحابهم، كابن أبي نجيح، وابن جريج (1).
إلا أن مكة اختصت زمن التابعين بحبر الأمة وترجمان القرآن ابن عباس رضي الله عنهما الذي صرف جل همه، وغاية وسعه إلى علم التفسير، وربى أصحابه على ذلك، فنبغ منهم أئمة كان لهم قصب السبق بين تلاميذ المدارس في علم التفسير.
وقد تأثر بالمدرسة أيضا رجال وأئمة لم يكونوا بمكة، لكن كانوا كثيري الترداد والمثابة لها: كأبي العالية، وطاوس بن كيسان، وغيرهم، فنشاط المدرسة المكية كان أوسع من أن يقتصر على بقعة واحدة.
وبعد أن رحل ابن عباس عن مكة، لم يختف نوره فيها، وإنما قلّ نتاج تلاميذه، وزادت هيبتهم من التفسير ورحل بعضهم للآفاق، حتى جاء عصر أتباع التابعين، فدفعوا العجلة، وأكثروا من الرواية عن شيوخهم وظل العطاء يتواصل حتى الطبقة التي تليهم، وفيما يلي بيان لأهم الأسباب التي أدت إلى تفوق المدرسة، أهم هذه الأسباب والأساس فيها إمامة ابن عباس رضي الله عنهما وأستاذيته لها، ولذا فسوف أعرض لترجمته بشيء من التفصيل، ثم أبين بعض معالم منهجه التي كان لها الأثر في نفوس أصحابه وتلاميذه، فأقول وبالله التوفيق:
__________
(1) الإعلان والتوبيخ لمن ذم التاريخ (292).(1/371)
عبد الله بن عباس رضي الله عنهما:
اسمه ونسبه:
هو عبد الله بن عباس بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف، أبو العباس الهاشمي (1)، ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلّم، وأمه لبابة بنت الحارث بن حزن الهلالية (2).
مولده:
ولد والنبي صلى الله عليه وسلّم وأهل بيته بالشعب من مكة، فأتي به النبي صلى الله عليه وسلّم فحنكه بريقه، وذلك قبل الهجرة بثلاث سنين (3)، فيكون له عند وفاة النبي صلى الله عليه وسلّم ثلاث عشرة سنة (4).
وعن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: توفي رسول الله صلى الله عليه وسلّم وقد قرأت المحكم من القرآن (أي: المفصل) (5).
وصحب النبي صلى الله عليه وسلّم نحوا من ثلاثين شهرا (6) وأحصي ما قال فيه ابن عباس رضي الله عنهما:
سمعت النبي صلى الله عليه وسلّم، ورأيت النبي صلى الله عليه وسلّم، وبت عند النبي صلى الله عليه وسلّم، فإذا هو ثمانون أو نيف وسبعون (7).
وقد روى عن النبي صلى الله عليه وسلّم ألف حديث وستمائة وستين حديثا (8)، صرح في عشرة منها بالتحديث (9).
يعد ابن عباس رضي الله عنهما في طبقة صغار الصحابة، ومع هذا فقد سبق
__________
(1) تسمية أصحاب النبي صلى الله عليه وسلّم (97)، وأسد الغابة (3/ 290)، والإصابة (2/ 330).
(2) أسد الغابة (3/ 290)، والإصابة (2/ 330).
(3) المرجعان السابقان.
(4) فتح الباري (11/ 90).
(5) المعجم الكبير للطبراني (10/ 289) 10577، ومنحة المعبود (2/ 148).
(6) السير (3/ 332).
(7) العلل لأحمد (2/ 107) 1717.
(8) تجريد أسماء الصحابة (1/ 320)، والفصل في الملل (4/ 152)، وتدريب الراوي (2/ 217)، ومقدمة مسند بقى بن مخلد (80).
(9) التحفة اللطيفة (2/ 338).(1/372)
غيره من الصحابة رضوان الله عليهم في علم التفسير حتى صار من أعلمهم فيه (1).
يقول ابن أبي نجيح: كان أصحاب ابن عباس يقولون: ابن عباس أعلم من عمر، ومن علي، ومن عبد الله، ويعدون ناسا، فيثب عليهم الناس، فيقولون: لا تعجلوا علينا، إنه لم يكن أحد من هؤلاء إلا وعنده من العلم ما ليس عند صاحبه، وكان ابن عباس قد جمعه كله (2).
وكان ابن مسعود يقول: لو بلغ ابن عباس أسناننا ما عاشره منا رجل، نعم ترجمان القرآن ابن عباس (3).
وأثنى عليه ابن عمر رضي الله عنهما بقوله: هو أعلم أمة محمد صلى الله عليه وسلّم بما أنزل على محمد (4).
وقال عبد الله بن عمرو بن العاص: ابن عباس أعلمنا بما مضى وأفقهنا فيما نزل مما لم يأت فيه شيء (5)، بل كان عمر رضي الله عنه يأمر الناس بأخذ القرآن عنه، وسؤاله، فيقول: من كان سائلا عن شيء من القرآن، فليسأل عبد الله بن عباس (6).
وكان بعض التابعين يترك الأكابر من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلّم ويجلس للأخذ عن ابن عباس.
__________
(1) الفتح (7/ 100).
(2) إعلام الموقعين (1/ 15)، وشذرات الذهب (1/ 76).
(3) العلم لأبي خيثمة (120)، وطبقات ابن سعد (2/ 366)، والمعرفة (1/ 494)، ودلائل النبوة للبيهقي (6/ 193)، قال الحربي في غريب الحديث: ما عاشره منا أحد: أي لو كان في السن مثلنا ما بلغ أحد منا عشره في العلم. اه. (1/ 156).
(4) تاريخ أبي زرعة (1/ 616)، والإصابة (2/ 332).
(5) طبقات ابن سعد (2/ 371).
(6) فضائل الصحابة لأحمد (2/ 967) 1893.(1/373)
فعن ليث بن أبي سليم قال: قيل لطاوس: أدركت أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلّم وانقطعت إلى هذا الغلام من بينهم؟!
قال: أدركت سبعين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلّم فكلهم إذا اختلفوا في شيء، انتهوا فيه إلى قول ابن عباس (1).
ويقول ابن أبي مليكة وقد أدرك ثلاثين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلّم: كان ابن عباس إذا أخذ في الحلال والحرام، أخذ الناس معه، وإذا أخذ في القرآن، لم يتعلق الناس معه بشيء (2).
أسباب تقدم ابن عباس في التفسير:
ولا شك أن ثمة أسبابا أهلّت ابن عباس رضي الله عنهما وقدمته على غيره من الصحابة في فهم كتاب الله، والقدرة على تأويله، وهي على الإجمال:
1 - دعاء النبي صلى الله عليه وسلّم له بالفقه في الدين والعلم بالتأويل:
رأى النبي صلى الله عليه وسلّم فيه النجابة، والفطنة، والذكاء، فدعا له، ومن ذا الذي يدعو له النبي صلى الله عليه وسلّم بدعوة فلا تصيبه؟ وابن عباس من هؤلاء الذين أصابتهم دعوته صلى الله عليه وسلّم حينما دعا له بقوله صلى الله عليه وسلّم: «اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل» (3).
__________
(1) طبقات ابن سعد (2/ 366)، والإصابة (2/ 333)، وأسد الغابة (3/ 292)، والمحدث الفاصل (239)، والمطالب العالية (4/ 115).
(2) فضائل الصحابة لأحمد (2/ 967) 1900، والاستيعاب (2/ 357).
(3) أخرجه الإمام أحمد في مسنده (1/ 266، 314، 328، 335)، وفي فضائل الصحابة (2/ 955) 1856، وابن حبان في صحيحه، ينظر الإحسان في تقريب صحيح ابن حبان (15/ 531) 7055، والبيهقي في دلائل النبوة (6/ 193)، والطبراني في الكبير (10/ 320) 10614، والأوسط (2/ 249) 1444، وأورده الهيثمي في مجمع البحرين في زوائد المعجمين، من رواية الطبراني في الكبير، وصححها (6/ 394).
والحديث أخرجه البزار في مسنده بلفظ: «اللهم علمه تأويل القرآن»، ينظر كشف الأستار(1/374)
بل دعا له بالحكمة مرتين (1)، فاستجيبت تلك الدعوات المباركات الزكيات، فكانت فتحا لقلبه، ونبوغا في عقله، وصوابا في رأيه، وحين نرجع إلى تأويله، نرى أثر هذه الدعوة النبوية جليا، واضحا في تقدمه بين الأصحاب، وسبقه في ميدان العلم بالقرآن، وتفسيره (2)، كما نشهد أثر ذلك في كثرة تعرضه للقرآن وتأويله (3).
2 - قرب منزلته من عمر رضي الله عنه:
ولعل السبب الثاني الذي أعان ابن عباس رضي الله عنهما وحثه، وشجعه على التقدم في التفسير، هو تلك العلاقة، والعناية الخاصة التي حظي بها ابن عباس من عمر
__________
(3/ 247) 2674، والحاكم في مستدركه، وصححه، ووافقه الذهبي (3/ 537).
وجاء الحديث عند أبي نعيم، وأحمد بلفظ: «اللهم أعط ابن عباس الحكمة وعلمه التأويل» ينظر الحلية (1/ 316)، والمسند (1/ 269)، وفضائل الصحابة لأحمد (2/ 964) 1883.
ورواه ابن ماجة بلفظ: «اللهم علمه الحكمة وتأويل الكتاب» (1/ 58) 166، وصحح الألباني هذه الرواية في صحيح ابن ماجة (1/ 33) 137.
وجاء في صحيح البخاري في عدة مواضع بلفظ: «اللهم علمه الكتاب»، ينظر كتاب العلم من الصحيح، باب قول النبي صلى الله عليه وسلّم: «اللهم علمه الكتاب»، ينظر الفتح (1/ 169) 75، وكتاب فضائل الصحابة، باب ذكر ابن عباس رضي الله عنهما ينظر الفتح (7/ 100) 3756، وفي أول كتاب الاعتصام من الصحيح، ينظر الفتح (13/ 245) 7270.
(1) أخرجه الإمام أحمد في فضائل الصحابة (2/ 846) 1561، (2/ 972) 1910، وابن سعد في طبقاته (2/ 365، 370)، والنسائي في فضائل الصحابة ص (95) 75، والترمذي في سننه كتاب المناقب، باب مناقب عبد الله بن عباس، وحسن إسناده (5/ 679) 3822، 3823.
والفسوي في تاريخه (1/ 519)، والبلاذري في أنساب الأشراف (3/ 28).
(2) الفتح (7/ 100).
(3) بعد مراجعتي لتفسير الطبري، وجدت أن المروي عن ابن عباس رضي الله عنهما بلغ (5809) روايات، في حين كان عن ابن مسعود رضي الله عنه (856) رواية، وغيرهما من الصحابة أقل منهم.
بل إن المروي عن الصحابة مجتمعين لا يبلغ مجموع ما روي عنه رضي الله عنهما.(1/375)
رضي الله عن الجميع فقد لمس عمر رضي الله عنه فيه مخايل النجابة، والذكاء، والفطنة، فكان يدنيه من مجلسه، ويقربه إليه، ويشاوره، ويأخذ برأيه فيما أشكل من الآيات، وابن عباس ما زال شابا غلاما، فكان لذلك الأثر البالغ في دفعه وحثه على التحصيل والتقدم، بل والإكثار في باب التفسير وغيره من أبواب العلم.
فعن عامر الشعبي عن ابن عباس قال: قال لي أبي: يا بني، أرى أمير المؤمنين يقربك، ويخلو بك، ويستشيرك مع ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلّم فاحفظ عني ثلاثا: اتق الله لا تفشين له سرا، ولا يجربن عليك كذبة، ولا تغتابن عنده أحدا (1).
وكان عمر رضي الله عنه يدخله مع أكابر الصحابة، وما ذلك إلا لأنه وجد فيه قوة الفهم، وجودة الفكر، ودقة الاستنباط.
قال: كان عمر يسألني مع أصحاب محمد صلى الله عليه وسلّم، فكان يقول لي: لا تكلم حتى يتكلموا، فإذا تكلمت قال: غلبتموني أن تأتوا بما جاء به هذا الغلام الذي لم تجتمع شئون رأسه (2)؟.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان عمر يدخلني مع أشياخ بدر، فقال بعضهم (3): لم يدخل هذا الفتى معنا، ولنا أبناء مثله؟ فقال: إنه من قد علمتم، فدعاهم ذات يوم، ودعاني معهم، قال: وما أريته دعاني يومئذ إلا ليريهم مني (4)،
__________
(1) الحلية (1/ 318)، والمعرفة (1/ 533)، والمعجم الكبير (10/ 322) 10619، والمنتقى من كتاب مكارم الأخلاق (148) 325.
(2) فضائل الصحابة لأحمد (2/ 970) 1904، المعرفة (1/ 519)، والمستدرك (3/ 539)، وصحح إسناده الحاكم، ووافقه الذهبي، وكتاب الفقيه والمتفقه (2/ 133).
(لم تجتمع شئون رأسه): قال الحربي: الشئون واحد شأن مجتمع قبائل الرأس، فكأن عمر قال إنه صغير لم يتلاقيا، غريب الحديث (2/ 876)، وتهذيب اللغة (11/ 416).
(3) القائل هو: عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه كما صرح به البخاري في صحيحه، كتاب المغازي، باب مرض النبي صلى الله عليه وسلّم ووفاته، ينظر الفتح (8/ 130) 4430.
(4) قال ابن حجر: وعند ابن سعد (أما إني سأريكم اليوم منه ما تعرفون به فضله) الفتح (8/ 736).(1/376)
فقال: ما تقولون في: {إِذََا جََاءَ نَصْرُ اللََّهِ وَالْفَتْحُ (1) وَرَأَيْتَ النََّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللََّهِ أَفْوََاجاً} حتى ختم السورة؟ فقال بعضهم: أمرنا أن نحمد الله، ونستغفره إذا نصرنا وفتح علينا، وقال بعضهم: لا ندري، أو لم يقل بعضهم شيئا، فقال لي: يا ابن عباس، أكذلك تقول؟ قلت: لا. قال: فما تقول؟ قلت: هو أجل رسول الله صلى الله عليه وسلّم أعلمه الله له، {«إِذََا جََاءَ نَصْرُ اللََّهِ، وَالْفَتْحُ»} فتح مكة، فذاك علامة أجلك، {«فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كََانَ تَوََّاباً»}، قال عمر: ما أعلم منها إلا ما تعلم (1).
وكان ابن عباس لشدة أدبه، إذا جلس في مجلس فيه من هو أسن منه لا يتحدث إلا إذا أذن له، فكان عمر يلمس ذلك منه، فيحثه، ويحرضه على الحديث تنشيطا لنفسه، وتشجيعا له في العلم.
فعن عبيد بن عمير قال: قال عمر رضي الله عنه يوما لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلّم: فيم ترون هذه الآية نزلت {أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ} (2)؟ قالوا: الله أعلم، فغضب عمر فقال: قولوا: نعلم أو لا نعلم. فقال ابن عباس: في نفسي منها شيء يا أمير المؤمنين، قال عمر: يا ابن أخي قل ولا تحقر نفسك. قال ابن عباس: ضربت مثلا
__________
(1) أخرجه البخاري في صحيحه كتاب المغازي، باب منزل النبي صلى الله عليه وسلّم يوم الفتح، ينظر الفتح (8/ 30) 4294، ورواه أيضا في كتاب التفسير، باب قوله: {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كََانَ تَوََّاباً}، ينظر الفتح (8/ 734) 4970.
ورواه مختصرا في كتاب المغازي، باب مرض النبي صلى الله عليه وسلّم ووفاته 4430، ينظر الفتح (8/ 130).
قال ابن حجر في شرح هذا الأثر: وفيه فضيلة ظاهرة لابن عباس وتأثير لإجابة دعوة النبي صلى الله عليه وسلّم أن يعلمه الله التأويل. اه. ينظر الفتح (8/ 736).
والأثر أخرجه أحمد في مسنده (1/ 337)، والطبراني في المعجم الكبير (10/ 321) 10617، والبيهقي في الدلائل (5/ 446).
وجاء عند ابن سعد (2/ 365)، وأحمد (1/ 337)، بزيادة «كيف تلومونني على ما ترون».
(2) سورة البقرة: آية (266).(1/377)
لعمل، قال عمر: أيّ عمل (1)؟. قال ابن عباس: لعمل. قال عمر: لرجل غني يعمل بطاعة الله عز وجل ثم بعث الله له الشيطان، فعمل بالمعاصي، حتى أغرق أعماله (2).
وقال ابن حجر في شرحه لهذا الأثر: وفيه قوة فهم ابن عباس، وقرب منزلته من عمر، وتقديمه له مع صغره، وتحريض العالم تلميذه على القول بحضرة من هو أسن منه، إذا عرف فيه الأهلية لما فيه من تنشيطه، وبسط نفسه، وترغيبه في العلم (3).
وكان لعمر رضي الله عنه مجلس يسمع فيه من الشباب ويعلمهم، وكان ابن عباس من المقدمين عند عمر.
فعن عبد الرحمن بن زيد قال: كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه إذا صلى السّبحة، وفرغ، دخل مربدا له (4)، فأرسل إلى فتيان قد قرءوا القرآن، منهم ابن عباس، قال: فيأتون فيقرئون القرآن ويتدارسون، فإذا كانت القائلة انصرف. قال فمروا بهذه الآية: {وَإِذََا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللََّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ}، و {وَمِنَ النََّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغََاءَ مَرْضََاتِ اللََّهِ وَاللََّهُ رَؤُفٌ بِالْعِبََادِ} (5)، فقال ابن عباس لبعض من
__________
(1) قال ابن حجر: أخرج هذا الأثر ابن المنذر في تفسيره بلفظ: أي عمل؟ قال ابن عباس: شيء ألقي في روعي، فقال: صدقت يا ابن أخي، يراجع الفتح (8/ 202).
(2) أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب التفسير، باب (أيود أحدكم أن تكون له جنة) 4538، وينظر الفتح (8/ 201)، وعمدة القاري (18/ 129)، وابن جرير في تفسيره (5/ 545) 6096، والحاكم في مستدركه كتاب التفسير (2/ 283)، وأورده السيوطي في الدر، عن ابن عباس بنحوه، وعزاه إلى ابن المبارك في الزهد، وعبد بن حميد، والبخاري، وابن جرير، وابن أبي حاتم والحاكم (2/ 47).
(3) فتح الباري (8/ 202).
(4) السبحة: الدعاء وصلاة التطوع، والنافلة: يقال فرغ فلان من سبحته، أي من صلاة النافلة، ينظر تاج العروس (6/ 449).
والمربد: قال أبو عبيد: هو الذي يجعل فيه التمر عند الجذاذ قبل أن يدخل إلى المدينة، ويصير في الأوعية، ينظر غريب الحديث (3/ 96)، والنهاية (2/ 182).
(5) سورة البقرة: آية (206).(1/378)
كان إلى جنبه: اقتتل الرجلان، فسمع عمر ما قال، فقال: وأي شيء قلت؟ قال: لا شيء يا أمير المؤمنين!، قال: ماذا قلت؟ اقتتل الرجلان؟، قال: فلما رأى ذلك ابن عباس قال:
أرى هاهنا من إذا أمر بتقوى الله أخذته العزة بالإثم، وأرى من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله، يقوم هذا فيأمر هذا بتقوى الله، فإذا لم يقبل، وأخذته العزة بالإثم، قال هذا: وأنا أشتري نفسي! فقاتله، فاقتتل الرجلان! فقال عمر: لله تلادك، يا ابن عباس (1).
وكان عمر رضي الله عنه يسأل ابن عباس عن الشيء من القرآن ثم يقول: غص غوّاص (2).
بل كان عمر إذا جاءته الأقضية المعضلة، يقول لابن عباس: يا أبا عباس قد طرأت علينا أقضية عضل، وأنت لها، ولأمثالها، ثم يأخذ برأيه، وما كان يدعو لذلك أحدا سواه إذا كانت العضل (3).
وعن سعد بن أبي وقاص قال: ما رأيت أحدا أحضر فهما، ولا ألب لبّا، ولا أكثر علما، ولا أوسع حلما من ابن عباس، ولقد رأيت عمر بن الخطاب يدعوه للمعضلات، ثم يقول: عندك قد جاءتك معضلة، ثم لا يجاوز قوله، وإن حوله لأهل بدر من المهاجرين، والأنصار (4).
وكان عمر يصفه بقوله: ذاكم فتى الكهول، إن له لسانا سئولا، وقلبا عقولا (5).
__________
(1) تفسير الطبري (4/ 245) 3999، وأورده السيوطي في الدر مختصرا، وعزاه إلى ابن جرير، وقال في آخره: لله درك يا ابن عباس (1/ 578).
(2) فضائل الصحابة لأحمد (2/ 981) 1940.
(3) المرجع السابق (2/ 973) 1913، وأسد الغابة (3/ 193)، والشذرات (1/ 75).
(4) طبقات ابن سعد (2/ 369)، والسير (3/ 347)، وأورده صاحب كنزل العمال، وعزاه لابن سعد (13/ 456) 37182.
(5) فضائل الصحابة لأحمد (2/ 844) 1555، والإصابة (2/ 332)، والمدخل للبيهقي (290) 426، ورواه عبد الرزاق في مصنفه وفي أوله قصة (4/ 376) 8123.
ورواه الحاكم في مستدركه، وسكت عنه، وقال الذهبي: منقطع (3/ 539).(1/379)
يقول طلحة بن عبيد الله: ما كنت أرى عمر بن الخطاب يقدم على ابن عباس أحدا (1).
وكان ابن عباس رضي الله عنهما كثير الملازمة لعمر، حريصا على سؤاله، والأخذ عنه.
فعنه قال: مكثت سنة أريد أن أسأل عمر بن الخطاب عن آية فما أستطيع أن أسأله هيبة له، حتى خرج حاجا فخرجت معه، فلما رجعت وكنّا ببعض الطريق، عدل إلى الأراك لحاجة له، قال: فوقفت له حتى فرغ، ثم سرت معه فقلت له: يا أمير المؤمنين، من اللتان تظاهرتا على النبي صلى الله عليه وسلّم من أزواجه؟ فقال: تلك حفصة، وعائشة. قال:
قلت: والله إن كنت لأريد أن أسألك عن هذا منذ سنة، فما أستطيع هيبة لك. قال: فلا تفعل، ما ظننت أن عندي من علم فاسألني، فإن كان لي علم خبّرتك به (2).
ولذا كان ابن عباس رضي الله عنهما من أكثر الصحابة نقلا ورواية لتفسير عمر وعلمه رضي الله عنهم (3).
__________
(1) طبقات ابن سعد (2/ 370).
(2) أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب التفسير باب «تبتغي مرضاة أزواجك» ينظر الفتح (8/ 657) 4913، ومسلم في صحيحه، كتاب الطلاق، باب في الإيلاء واعتزال النساء (2/ 1108) 31، والترمذي في سننه، كتاب التفسير، باب ومن سورة التحريم (5/ 420) 3318، وابن حبان في صحيحه، ينظر الإحسان في تقريب صحيح ابن حبان (6/ 229) 4254، والطبري في تفسيره (28/ 161).
(3) المراجع لتفسير عمر المأثور عنه يجد أن جلّ المروى من الآثار المسندة عنه في التفسير كانت من رواية ابن عباس، ولم يقاربه في ذلك أحد من الصحابة، فبعد مراجعتي للتفسير المأثور عن عمر رضي الله عنه وجدت أن ابن عباس رضي الله عنهما روى من الآثار عن عمر رضي الله عنه (26، 0) من مجموع تفسيره، في حين كان الذي يليه في العناية برواية تفسير عمر هو قتادة، حيث روى (14، 0) من تفسيره، وبعدهما أنس رضي الله عنه حيث روى (12، 0)، وبعدهما الحسن حيث روى (09، 0) من تفسيره.(1/380)
وقد أشار بعض أهل العلم إلى أن عامة علم ابن عباس أخذه من عمر رضي الله عن الجميع (1).
هذا بعض ما لقيه ابن عباس رضي الله عنهما من عناية عمر وتقريبه له رضي الله عنه وأحسب أن هذا مما أعان ابن عباس وشجعه للمضي قدما في طريق العلم بعامة، والتفسير بخاصة.
ولعل مما يضاف إلى ما سبق، ويتممه أن أشير إلى طرف من شهادة بعض الصحابة لابن عباس، وثنائهم عليه في مجال سبقه، وتقدمه في العلم.
فعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: إنه لينظر إلى الغيب من ستر رقيق لعقله وفطنته (2).
ولما مات زيد بن ثابت رضي الله عنه قال أبو هريرة رضي الله عنه: مات حبر هذه الأمة، ولعل الله أن يجعل في ابن عباس خلفا (3).
وكان ابن عباس رضي الله عنهما عند أبيّ بن كعب، فلما قام من عنده قال أبيّ:
هذا يكون حبر هذه الأمة، أوتي عقلا وفهما (4).
3 - الأخذ عن كبار الصحابة:
رأينا فيما مضى ذلك الأثر، وتلك الصلة بين ابن عباس وعمر رضي الله عنهم وابن عباس لم يكتف بالأخذ عن عمر فحسب، وإنما حرص على سؤال بقية الصحابة.
__________
(1) قاله معمر بن راشد، ينظر المعرفة (1/ 541)، والسير (1/ 398)، وأورده الهندي في الكنز، ونسبه لابن عساكر في تاريخه (13/ 457).
(2) الإصابة (2/ 332)، وفيض القدير (1/ 44)، وأورده الهندي في الكنز، وعزاه للدينوري (13/ 459) 37192.
(3) الإصابة (2/ 333).
(4) طبقات ابن سعد (2/ 370).(1/381)
فعنه رضي الله عنهما قال: لما قبض رسول الله صلى الله عليه وسلّم، قلت لرجل من الأنصار:
هلمّ فلنسأل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلّم، فإنهم اليوم كثير. قال: فقال: واعجبا لك يا ابن عباس! أترى الناس يفتقرون إليك، وفي الناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلّم من فيهم؟
قال: فتركت ذلك، وأقبلت أسأل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلّم عن الحديث، فإن كان ليبلغني الحديث عن الرجل، فآتي بابه وهو قائل فأتوسّد ردائي على بابه تسفي الريح عليّ التراب، فيخرج، فيراني، فيقول لي: يا ابن عم رسول الله، ما جاء بك؟ ألا أرسلت إليّ فآتيك؟ فأقول: لا، أنا أحق أن آتيك! فأسأله عن الحديث فعاش ذلك الرجل الأنصاري حتى رآني وقد اجتمع الناس حولي ليسألوني، فيقول: هذا الفتى كان أعقل مني (1).
ويقول رضي الله عنهما عن نفسه: كنت ألزم الأكابر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلّم من المهاجرين والأنصار، فأسألهم عن مغازي رسول الله صلى الله عليه وسلّم، وما نزل من القرآن في ذلك، وكنت لا آتي أحدا إلا سرّ بإتياني لقربي من رسول الله صلى الله عليه وسلّم، فجعلت أسأل أبيّ ابن كعب في العلم عما نزل من القرآن بالمدينة، فقال: نزل بها سبع وعشرون سورة وسائرها بمكة (2).
بل كان رحمه الله من حرصه على السماع كما يقول معمر أنه يقول لأخ له من الأنصار: اذهب بنا إلى أصحاب محمد صلى الله عليه وسلّم فلعله أن يحتاج إلينا، فقال: وكان ابن عباس إذا صلى أجلس غلمانه خلفه، فإذا مرّ بآية لم يسمع فيها شيئا رددها فكتبوها، فإذا خرج سأل عنها (3).
__________
(1) المرجع السابق (2/ 367)، وسنن الدارمي (1/ 141)، والمعجم الكبير للطبراني (10/ 299) 10592، والمعرفة (1/ 540)، وجامع بيان العلم وفضله (1/ 115)، وأورده ابن حجر في المطالب العالية، وعزاه إلى أحمد بن منيع، ومسدد (4/ 115).
(2) طبقات ابن سعد (2/ 371).
(3) فضائل الصحابة لأحمد (2/ 960) 1874، والمعرفة (1/ 548).(1/382)
وكان رضي الله عنه يسأل عن الأمر الواحد ثلاثين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلّم (1)، فكثرة سؤاله، وأخذه عن كبار الصحابة، جعله يستدرك ما فاته من العلم زمن النبي صلى الله عليه وسلّم، فلحق من سبقه، وسبق من كان مثله.
4 - قوة اجتهاده، وقدرته على الاستنباط:
كان رحمه الله يرجع في فهمه لمعاني الآيات للقرآن أولا، فإن لم يكن رجع إلى أقوال المصطفى صلى الله عليه وسلّم، فإن لم يكن رجع إلى ما تلقاه من كبار الصحابة رضي الله عنهم فإن لم يكن اجتهد رأيه، وقد منّ الله عليه بحظ وافر من أدوات الاجتهاد، جعلته يتبوأ تلك المنزلة الرفيعة بين المفسرين من الصحابة، والتي تتمثل فيما يلي:
1 - فهمه لتراكيب اللغة، وأسرارها.
2 - معرفته بأيام العرب، وعاداتهم، وأنسابهم، وأشعارهم.
3 - قوة الفهم، وسعة الإدراك ببركة دعاء النبي صلى الله عليه وسلّم له، ولذا كان ابن عباس يسمى البحر لكثرة علومه (2).
فجمع رضي الله عنه بين العلمين: الرواية، والدراية، وكان له نصيب وافر من كليهما، ولذا لما سئل عن علمه كيف حصله؟ قال: بلسان سئول وقلب عقول (3).
وعن عبيد الله بن أبي يزيد قال: كان ابن عباس إذا سئل عن الأمر فإن كان في القرآن أخبر به، وإن لم يكن في القرآن، وكان عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم أخبر به، فإن لم يكن في القرآن، ولا عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم، وكان عن أبي بكر وعمر أخبر به، فإن لم يكن في شيء من ذلك اجتهد رأيه (4).
__________
(1) السير (3/ 344).
(2) الحلية (1/ 316)، والجرح (5/ 116)، وتاريخ بغداد (1/ 174).
(3) فضائل الصحابة لأحمد (2/ 970) 1903، و (2/ 961) 1877.
(4) طبقات ابن سعد (2/ 366)، وسنن الدارمي (1/ 59)، والإصابة (2/ 333).(1/383)
وعن عبيد الله بن عتبة، قال: كان ابن عباس قد فات الناس بخصال: بعلم ما سبقه، وفقه فيما احتيج إليه، وما رأيت أحدا كان أعلم بما سبقه من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلّم منه، ولا أعلم بقضاء أبي بكر، وعمر وعثمان منه، ولا أفقه في رأي منه، ولا أعلم بشعر، ولا عربية، ولا بتفسير القرآن، ولا بحساب ولا بفريضة منه، ولا أعلم بما مضى، ولقد كان يجلس يوما ما يذكر فيه إلا الفقه، ويوما التأويل، ويوما المغازي ويوما الشعر، ويوما أيام العرب، وما رأيت عالما قط جلس إليه إلا خضع له، وما رأيت سائلا قط سأله إلا وجد عنده علما (1).
وعن عطاء قال: كان ناس يأتون ابن عباس للشعر، وناس للأنساب وناس لأيام العرب، ووقائعها، فما منهم من صنف إلا يقبل عليهم بما شاءوا (2).
وعنه قال: ما رأيت مجلسا أكرم من مجلس ابن عباس، كان يجيء أصحاب القرآن، فيسألونه، ثم يجيء أهل العلم فيسألونه، ثم يجيء أصحاب الشعر فيسألونه (3)، وعنده أصحاب النحو يسألونه، كلهم يصدر عن واد واسع (4).
وعن عمرو بن دينار، قال: ما رأيت مجلسا أجمع لكل خير من مجلس ابن عباس لحلال وحرام، وتفسير القرآن، والعربية، وأنساب الناس والطعام (5).
وكان رضي الله عنه وأرضاه يستشهد بالشعر في تفسيره.
فعن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة قال: شهدت ابن عباس، وهو يسأل عن عربية
__________
(1) طبقات ابن سعد (2/ 368)، وأسد الغابة (3/ 291)، وشذرات الذهب (1/ 75).
(2) طبقات ابن سعد (2/ 367)، والاستيعاب (2/ 357)، والعقد الثمين (5/ 191)، وذخائر العقبى (230).
(3) فضائل الصحابة لأحمد (2/ 978) 1929.
(4) والزيادة، ينظر المعرفة (1/ 520)، وتاريخ بغداد (1/ 174).
(5) فضائل الصحابة لأحمد (2/ 954)، 1852، والاستيعاب (2/ 253)، والعقد الثمين (5/ 191).(1/384)
القرآن فينشد الشعر (1).
وكان رضي الله عنهما يقول، إذا سألتموني عن غريب اللغة فالتمسوه في الشعر، فإن الشعر ديوان العرب (2).
وقال سعيد بن جبير، ويوسف بن مهران: ما نحصي كم سمعنا ابن عباس يسأل عن الشيء من القرآن، فيقول: كذا وكذا، أما سمعت الشاعر يقول: كذا وكذا (3).
وعن عكرمة قال: كان ابن عباس إذا سئل عن الشيء من عربية القرآن ينشد الشعر (4).
بل كان رضي الله عنه وأرضاه إذا سئل عن شيء من إعراب القرآن قال الشعر (5).
ومن أشهر ما يروى عنه رضي الله عنه في ذلك، ما رواه الضحاك بن مزاحم في مساءلة نافع بن الأزرق لابن عباس وإجابته عن غريب ما سأله بما حضره من شعر العرب.
فعن الضحاك بن مزاحم الهلالي قال: خرج نافع بن الأزرق، ونجدة بن عويمر في نفر من رءوس الخوارج لينقروا من العلم ويطلبوه، حتى قدموا مكة، فإذا هم بعبد الله ابن عباس قاعدا قريبا من زمزم، وعليه رداء له أحمر، وقميص، وإذا ناس قيام يسألونه عن التفسير يقولون: يا ابن عباس، ما تقول في كذا، وكذا؟ فيقول: هو كذا
__________
(1) سنن سعيد بن منصور كتاب التفسير (2/ 316) 91، وإيضاح الوقف والابتداء (1/ 62)، والجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع (2/ 98) 1602.
(2) السنن الكبرى للبيهقي (10/ 241)، إيضاح الوقف (1/ 101)، والجامع لأخلاق الراوي (2/ 198) 1603.
(3) فضائل الصحابة لأحمد (2/ 963) 1880.
(4) المرجع السابق (2/ 974) 1916.
(5) المرجع السابق (2/ 981) 1938.(1/385)
وكذا: فقال له نافع بن الأزرق: ما أجرأك يا ابن عباس على ما تجريه منذ اليوم. فقال له ابن عباس: ثكلتك أمك يا نافع، وعدمتك، ألا أخبرك من هو أجرأ مني؟ قال: من هو يا ابن عباس؟ قال: رجل تكلم بما ليس به علم، ورجل كتم علما عنده، قال:
صدقت، يا ابن عباس، أتيتك لأسألك، قال: هات يا ابن الأزرق، فسل.
قال: أخبرني عن قول الله عز وجل: {يُرْسَلُ عَلَيْكُمََا شُوََاظٌ مِنْ نََارٍ} ما الشواظ؟
قال: اللهب الذي لا دخان فيه. قال: وهل كانت العرب تعرف ذلك قبل أن ينزل الكتاب على محمد صلى الله عليه وسلّم؟ قال: نعم! أما سمعت قول أمية بن أبي الصّلت.
ألا من مبلغ حسان عني ... مغلغلة تدب إلى عكاظ
أليس أبوك قينا كان فينا ... إلى القينات فسلا في الحفاظ
يمانيا يظل يشب كيرا ... وينفخ دائبا لهب الشواظ
قال: صدقت، فأخبرني عن قوله: {وَنُحََاسٌ فَلََا تَنْتَصِرََانِ} ما النحاس؟ قال:
الدخان الذي لا لهب فيه، قال: وهل كانت العرب تعرف ذلك؟ قال: نعم! أما سمعت قول نابغة بني ذبيان يقول:
يضيء كضوء السراج السليط ... لم يجعل الله فيه نحاسا
قال: صدقت، فأخبرني عن قول الله عز وجل: {أَمْشََاجٍ نَبْتَلِيهِ} قال: ماء الرجل، وماء المرأة، إذا اجتمعا في الرحم كان مشجا، قال: وهل كانت العرب تعرف ذلك قبل أن ينزل الكتاب على محمد صلى الله عليه وسلّم؟ قال: نعم! أما سمعت قول أبي ذؤيب الهذلي وهو يقول:
كان الفصل والفوقين منه ... خلال الريش سيط به مشيج
قال: صدقت (1).(1/386)
كان الفصل والفوقين منه ... خلال الريش سيط به مشيج
قال: صدقت (1).
5 - اهتمامه بالتفسير:
ومع كثرة علوم ابن عباس رضي الله عنهما وتعدد معارفه إلا أنه صرف في علم التفسير عنايته، وأفرغ فيه جهده، وبدا ذلك واضحا في شهرة مدرسته به، ثم باشتغال أكثر أصحابه به.
والناظر في كتب الآثار يجد المروي عنه كثيرا في التفسير خاصة، مما يدل على عظيم احتفائه به، وكثرة اشتغاله بهذا العلم، وهذا من أسباب تقدمه وسبقه في هذا الفن.
وقد كان أقرانه من الصحابة يحيلون السائل عن مشكل القرآن إلى ابن عباس.
فهذا ابن عمر رضي الله عنهما عند ما سئل عن قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضَ كََانَتََا رَتْقاً فَفَتَقْنََاهُمََا} (2).
قال: اذهب إلى ذلك الشيخ فاسأله، ثم تعال فأخبرني ما قاله. فذهب إلى ابن عباس فسأله، فقال ابن عباس: كانت السموات رتقا لا تمطر، وكانت الأرض رتقا لا تنبت، ففتق هذه بالمطر، وفتق هذه بالنبات، فرجع الرجل إلى ابن عمر فأخبره، فقال:
إن ابن عباس قد أوتي علما، صدق هكذا كانتا. ثم قال ابن عمر: قد كنت أقول: ما يعجبني جرأة ابن عباس على تفسير القرآن، فالآن قد علمت أنه قد أوتي علما (3).
__________
(1) ينظر الأثر بطوله في المعجم الكبير للطبراني (10/ 312304) 10597، قال الهيثمي في المجمع: رواه الطبراني، وفيه جويبر، وهو ضعيف (9/ 284)، وينظر إيضاح الوقف والابتداء (1/ 9776).
(2) سورة الأنبياء: آية (30).
(3) الحلية (1/ 320)، وأورده السيوطي في الدر عن ابن عمر، بلفظ مختصر وعزاه إلى ابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبي نعيم في الحلية (5/ 625)، وأشار إلى هذا الأثر ابن حجر في الإصابة (2/ 332)، والسيوطي في الإتقان (2/ 531).(1/387)
وعن عمرو بن حبشي (1) قال: قلت لابن عمر: {إِنَّ الصَّفََا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعََائِرِ اللََّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلََا جُنََاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمََا} (2)، قال: انطلق إلى ابن عباس فاسأله، فإنه أعلم من بقي بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلّم. فأتيته فسألته، فقال: إنه كان عندهما أصنام، فلما حرّمن أمسكوا عن الطواف بينهما، حتى أنزلت: {إِنَّ الصَّفََا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعََائِرِ اللََّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلََا جُنََاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمََا} (3).
وعن سعيد بن مرجانة (4)، قال: سمعت عبد الله بن عمر تلا هذه الآية: {لِلََّهِ مََا فِي السَّمََاوََاتِ وَمََا فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مََا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ} (5) الآية، فقال: والله لئن آخذنا الله بهذا لنهلكنّ! ثم بكى ابن عمر حتى سمع نشيجه، فقال ابن مرجانة:
فقمت حتى أتيت ابن عباس فذكرت له ما تلا ابن عمر، وما فعل حين تلاها، فقال ابن عباس: يغفر الله لأبي عبد الرحمن، لعمري لقد وجد المسلمون منها حين أنزلت مثل ما وجد عبد الله بن عمر، فأنزل الله بعدها: {لََا يُكَلِّفُ اللََّهُ نَفْساً إِلََّا وُسْعَهََا} إلى آخر السورة، قال ابن عباس: فكانت هذه الوسوسة مما لا طاقة للمسلمين بها، وصار الأمر إلى أن قضى الله عز وجل أن للنفس ما كسبت، وعليها ما اكتسبت في القول، والفعل (6).
__________
(1) عمرو بن حبشي الزبيدي، ذكره ابن حبان في الثقات (5/ 173)، وينظر الجرح والتعديل (6/ 226).
(2) سورة البقرة: آية (158).
(3) تفسير الطبري (3/ 223) 2340، وأورده السيوطي في الدر، وعزاه لابن جرير عن ابن عمر به (1/ 385).
(4) سعيد بن مرجانة: هو سعيد بن عبد الله، ومرجانة أمه، وأبو عثمان الحجازي ثقة مات قبل المائة بثلاث سنين من الثالثة، ينظر التقريب (240).
(5) سورة البقرة: آية (284).
(6) تفسير الطبري (6/ 106) 6459، وتفسير عبد الرزاق (1/ 112)، والمعرفة والتاريخ (1/ 404)، وزاد المسير (1/ 342)، والإصابة (2/ 332).(1/388)
ولذا كان سعيد بن جبير الذي صحب ابن عمر، وابن عباس رضي الله عن الجميع يقول: كان ابن عمر حسن السرد للرواية عن النبي صلى الله عليه وسلّم ولم يبلغ في الفقه والتفسير شأو ابن عباس (1).
وعن المطلب بن عبد الله (2) قال: قرأ ابن الزبير آية فوقف عندها، أسهرته حتى أصبح، فلما أصبح قال: من حبر هذه الأمة؟ قال: قلت: ابن عباس فبعثني إليه فدعوته، فقال له: إني قرأت آية كنت لا أقف عندها، وإني وقفت الليلة عندها، فأسهرتني حتى أصبحت {وَمََا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللََّهِ إِلََّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} (3)، فقال ابن عباس: لا تسهرك فإنا لم نعن بها، إنما عني بها أهل الكتاب {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللََّهُ} (4)، {قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلََا يُجََارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (88) سَيَقُولُونَ لِلََّهِ} (5). فهم يؤمنون هاهنا، وهم يشركون بالله (6).
هذا كله يشهد له رضي الله عنه بالسبق والشهرة في علم التفسير، وكان رضي الله عنهما يحرص في المجامع العامة على تعليم الناس التفسير.
فعن أبي وائل شقيق بن سلمة قال: حججت أنا وصاحب لي وابن عباس على الحج، فجعل يقرأ سورة النور، ويفسرها، فقال صاحبي: يا سبحان الله! ماذا يخرج
__________
(1) الإرشاد في معرفة علماء الحديث (1/ 185).
(2) المطلب بن عبد الله بن حنطب المخزومي المدني، وثقة الفسوي، والدارقطني، وذكره ابن حبان في الثقات، ينظر المعرفة (2/ 472)، وسؤالات البرقاني للدارقطني (44)، والثقات (5/ 450).
(3) سورة يوسف: آية (106).
(4) سورة لقمان: آية (25).
(5) سورة المؤمنون: آية (88).
(6) فضائل الصحابة لأحمد (2/ 953) 1849.(1/389)
من رأس هذا الرجل، لو سمعت هذا الترك لأسلمت (1).
ومما يبين اشتغاله بالتفسير، ما نجده من كثرة المروي عنه، وعدم مقاربة أحد من الصحابة له في هذا العلم (2)، بينما نجد سبق بعضهم له أو مقاربتهم له في علوم أخرى:
كالحديث (3) والفقه (4) مثلا.
6 - منهج ابن عباس رضي الله عنهما التعليمي مع أصحابه (5):
تميز رضي الله عنهما بمنهج تعليمي خاص مع أصحابه، اتسم بالحرص على بث روح الثقة في نفوسهم، والتشجيع لهم للتصدي لأداء ما علموه وإبلاغه، وقد انفرد في هذا المنهج بالعديد من الأساليب، من أهمها:
أالحرص على تحصيلهم، وتلقيهم للعلم، وإلزامهم بذلك، فكان يربط في رجل مولاه عكرمة الكبل على تعليمه العلم (6).
ب تدريبهم بحضرته على الأداء، والإفتاء للاطمئنان عليهم، فبعد أن علم أهليتهم كان يحرضهم على الإفتاء بحضرته لما فيه من تشجيعهم، وتنشيطهم على تحصيل العلم، وإبلاغه.
__________
(1) أخرجه الحاكم في مستدركه، وقال: صحيح الإسناد، ولم يخرجاه. ووافقه الذهبي (3/ 537)، ورواه الفسوي في تاريخه بلفظ مقارب (1/ 495)، وأبو نعيم في الحلية، وفيه:
فجعل يقرأ سورة البقرة (1/ 324)، وينظر الاستيعاب (2/ 353)، والإصابة (2/ 333)، والفتح (7/ 100).
(2) حيث بلغ المروي عنه عند ابن جرير (5809) أقوال، في حين جاء بعده ابن مسعود فبلغ مجموع ما جاء عنه عند ابن جرير (856) قولا، وعن عمر بن الخطاب (324) قولا.
(3) حيث سبقه أبو هريرة فروى (5374) حديثا.
(4) سبقه عمر بن الخطاب، حيث جاء عنه عند ابن قدامة في المغني (924) قولا وماثله ابن عمر، حيث أورد عنه ابن قدامة (857) قولا، وعن ابن عباس (858) قولا، رضي الله عن الجميع.
(5) وهذا المنهج أدى بالتالي إلى تقدم الشيخ في التفسير لكثرة مسائل التلاميذ.
(6) سنن الدارمي (1/ 139)، والمعرفة (2/ 5)، وسنن البيهقي (6/ 209).(1/390)
فعن مجاهد عن ابن عباس أنه قال لابن جبير: حدث، قال: أحدث وأنت شاهد؟
قال: أوليس من نعمة الله عز وجل عليك أن تحدث وأنا شاهد؟ فإن أخطأت علمتك (1).
ج وكان بعد الاطمئنان على علمهم، يأمرهم بالانطلاق لتعليم الناس وإفتائهم، فعن عكرمة قال: قال ابن عباس لي: انطلق فأفت الناس وأنا لك عون. قلت: لو أن مع الناس مثلهم مرتين لأفتيتهم، ثم قال: قال ابن عباس: انطلق، فأفتهم فمن جاءك يسألك عما يعنيه فأفته، ومن سألك عما لا يعنيه فلا تفته، فإنك تطرح عنك ثلثي مؤنة الناس (2).
وكان يقول لسعيد بن جبير: انظر كيف تحدث عني، فإنك قد حفظت عني كثيرا (3).
د وكان من أساليبه رضي الله عنهما توجيه الناس للأخذ عنهم، مشيرا إلى عظيم قدرهم، فكان لذلك الأثر الكبير في حرص الناس على سؤالهم، والأخذ عنهم، فكان إذا أتاه أهل الكوفة يسألونه يقول: أليس فيكم ابن أم الدهماء؟، يعني سعيد بن جبير (4)، وكان يقول: يا أهل مكة أتجتمعون علي وعندكم عطاء؟! (5).
ولذا نجد أن تلاميذ ابن عباس تميزوا عن غيرهم من مفسري التابعين بالتوسع في علم الرواية، والدراية (6) فكانت مدرستهم من أكثر المدارس قولا، ورأيا في التفسير،
__________
(1) الجرح (4/ 9)، وطبقات ابن سعد (6/ 256)، وتهذيب الأسماء (1/ 216).
(2) تهذيب الكمال (20/ 269)، وفيات الأعيان (3/ 265).
(3) طبقات ابن سعد (6/ 257).
(4) تهذيب الكمال (10/ 364)، وطبقات الحفاظ (31).
(5) السير (5/ 81)، وطبقات علماء الحديث (1/ 172).
(6) عند مقارنة أصحاب ابن عباس بأصحاب ابن مسعود نجد أن من المفارقات الرئيسة بينهما أن أصحاب ابن مسعود الملازمين: كعلقمة، ومرة، ومسروق اشتغلوا برواية علم شيخهم، وقلّ(1/391)
بل إن من ثمار تلك التربية أن أصحابه كانوا يفتون الناس بحضرته.
فعن مجاهد قال: بينما نحن أصحاب عبد الله بن عباس جلوس في المسجد، طاوس، وسعيد بن جبير، وعكرمة، وابن عباس يصلي، إذ وقف علينا (يعني واقفا) فقال: هل من مفتي؟ فقلنا: سل، فقال: ما تقولون في رجل إذا بال، اتبعه الماء الدافق؟ قلنا: الذي يكون منه الولد؟ قال: نعم. قلنا: عليه الغسل، فولى الرجل يرجع، وخفف ابن عباس في صلاته، فلما سلم قال لعكرمة: علي بالرجل، ثم أقبل علينا، فقال: أرأيتم ما أفتيتم به هذا الرجل، أعن كتاب الله؟ قلنا: لا. قال: فعن رسول الله صلى الله عليه وسلّم؟ قلنا: لا. قال: فعمن؟ قلنا: عن رأينا، قال: لذلك يقول رسول الله صلى الله عليه وسلّم:
«فقيه واحد أشد على الشيطان من ألف عابد» (1).
فلما جاء الرجل أقبل عليه ابن عباس، فقال: أرأيت إذا كان ذلك منك شهوة في قلبك؟ قال: لا، قال: فحدرا؟ يعني في جسدك، قال: لا. قال: هذه إبردة (2)، يجزيك فيها الوضوء (3).
__________
عندهم التوسع في باب الدراية، ونجد المنقول عنهم في هذا نزرا يسيرا، ويأتي لذلك مزيد بسط ص (548).
(1) أخرجه ابن ماجة في سننه، باب فضل العلماء (1/ 81) 222، والترمذي في سننه، كتاب العلم، باب ما جاء في فضل الفقيه، وقال الترمذي: هذا حديث غريب، ولا نعرفه إلا من هذا الوجه (5/ 48) 2681، وابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله (1/ 52)، والبيهقي في شعب الإيمان (2/ 267) 1715، وذكره السخاوي في كتاب المقاصد الحسنة، وقال: سنده ضعيف. وذكر أن سنده يتقوى بما روي من طرق أخرى (336)، وذكره الألباني في ضعيف الجامع الصغير (3/ 96) 3991، وفي تخريجه لأحاديث مشكاة المصابيح، وقال: آفته روح بن جناح، وهو ضعيف جدا. (1/ 75) 217.
(2) الإبردة: علة معروفة من غلبة البرد والرطوبة تفتّر عن الجماع، وهمزتها زائدة، ورجل به إبردة، وهو تقطير البول، ينظر لسان العرب (4/ 49).
(3) الأثر أخرجه بطوله ابن المنذر في الأوسط (1/ 135) 24، وأورده الهندي في الكنز، وعزاه إلى ابن عساكر، وحسن إسناده (9/ 484) 27083.(1/392)
وعن عكرمة قال: كنت أفتي بالباب، وابن عباس في الدار (1).
وكان أصحابه يراجعونه، وقد يفتحون عليه بعض المعاني، فيسرّ بذلك.
فعن عكرمة قال: قرأ ابن عباس هذه الآية: {لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللََّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذََاباً شَدِيداً} (2).
قال: ما أدري أنجى الذين قالوا: {لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللََّهُ مُهْلِكُهُمْ} أم لا؟ قال: فلم أزل به، حتى عرفته أنهم قد نجوا فكساني حلة (3).
وبلغ ببعضهم أن كان يراجع شيخه، ويخالفه صراحة، فعند تأويل قوله تعالى:
{وَمَنْ دَخَلَهُ كََانَ آمِناً} (4)، قال ابن عباس: إذا أصاب الرجل الحدّ: قتل، أو سرق، فدخل الحرم، لم يبايع، ولم يؤو، حتى يتبرم فيخرج من الحرم، فيقام عليه الحد، قال مجاهد لابن عباس: ولكني لا أرى ذلك، أرى أن يؤخذ برمته، ثم يخرج من الحرم، فيقام عليه الحد، فإن الحرم لا يزيده إلا شدة (5).
هذا شيء من حاله ومنهجه رضي الله عنه مع أصحابه، وأحسب أن هذا المسلك التربوي، الذي تميز به ابن عباس مع أصحابه كان من أسباب تفوق أصحابه، وسبقهم، وكثرة اجتهادهم.
7 - حرصه على نشر علمه:
يقول ابن أبي مليكة: دخلت على ابن عباس رضي الله عنهما فقال: إني
__________
(1) الميزان (3/ 95)، وطبقات الحفاظ (37).
(2) سورة الأعراف: آية (164).
(3) تفسير الطبري (13/ 187) 15269، وطبقات ابن سعد (5/ 287)، وأورده السيوطي في الدر، وعزاه إلى عبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، عن عكرمة به (3/ 590)، وفتح القدير (2/ 259).
(4) سورة آل عمران: آية (97).
(5) تفسير الطبري (7/ 30) 7459.(1/393)
أصبحت طيب النفس، فسلوني عن أشياء من سورة البقرة وسورة يوسف، يخصهما من بين السور، قال: فولينا المسألة رجلا، فلم يكن عنده شيء (1).
وكان رضي الله عنهما يتمنى لو علم جميع الناس ما يعلم من القرآن (2).
وكان يرغب أصحابه في كتابة العلم، والأخذ عنه، يقول رضي الله عنه: قيدوا العلم بالكتاب، من يشتري مني علما بدرهم (3).
ويقول رضي الله عنهما لسعيد بن جبير: إن لم تذاكروا هذا الحديث ينفلت منكم، ولا يقولن أحدكم: حدثت أمس فلا أحدث اليوم، بل حدث أمس، ولتحدث اليوم، ولتحدث غدا (4).
8 - رحلاته وأسفاره:
تنقّل رضي الله عنه في البلاد مبلغا، مجاهدا باللسان والسنان، فسافر إلى العراق، واستعمله علي بن أبي طالب رضي الله عنه على البصرة (5).
وكان رضي الله عنه يغشى الناس بالبصرة في شهر رمضان فما ينقضي حتى يفقههم (6).
فعن الحسن قال: كان ابن عباس من الإسلام بمنزل، وكان من القرآن بمنزل، وكان يقوم على منبرنا هذا، فيقرأ سورة البقرة وآل عمران فيفسرها آية آية (7).
__________
(1) المعرفة والتاريخ (1/ 494).
(2) حلية الأولياء (1/ 322).
(3) العلم لأبي خيثمة (144).
(4) سنن الدارمي (1/ 147)، وشرف أصحاب الحديث (95).
(5) تهذيب الأسماء (1/ 276)، وأسد الغابة (3/ 292)، والعقد الثمين (5/ 191).
(6) الإصابة (2/ 334).
(7) السير (3/ 344)، وأخرج هذا الأثر ابن سعد في طبقاته بلفظ مقارب مختصر (2/ 367)، وكان من نتاج هذه الرحلة ما رأيناه من أثر واضح على المدرسة البصرية، وأنها من أكثر المدارس تعرضا للتفسير بعد مكة، وكان من نتاجها ما ذكرنا من الأثر البالغ الذي أحدثه ابن عباس في(1/394)
ورحل إلى مصر، فروى عنه من أهلها خمسة عشر نفسا (1).
وسافر إلى إفريقية مجاهدا، وقسم الفيء بين المسلمين في فتح إفريقية، وكان الأمير عبد الله بن سعد بن أبي سرح رضي الله عنه (2).
وهذا مما نشر علمه، وكثر الناقلين لعلمه، وتفسيره.
9 - تأخر وفاته:
توفي رضي الله عنه وأرضاه في الطائف (3)، سنة ثمان وستين (4). فحصل الكثير من العلم، وزاد من الحاجة إليه، ولا سيما في مكة، التي كان العلم بها يسيرا في زمن كبار الصحابة، وكثر في عهد صغارهم (5).
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية بعد أن ساق ثناء ابن مسعود على ابن عباس رضي الله عنهم وقوله: نعم الترجمان للقرآن ابن عباس، قال رحمه الله: فهذا إسناد صحيح إلى ابن مسعود أنه قال عن ابن عباس هذه العبارة، وقد مات ابن مسعود في سنة ثلاث وثلاثين على الصحيح وعمّر بعده ابن عباس ستا وثلاثين سنة، فما ظنك بما كسبه من العلوم بعد ابن مسعود (6).
__________
نفوس ومناهج بعض مفسريها وعلى رأسهم أبو العالية، الذي مال إلى منهج المدرسة المكية، وتأثر بها أكثر من تأثره بمنهج المدرسة البصرية، ويأتي لذلك مزيد بسط إن شاء الله.
(1) السير (3/ 336)، وحسن المحاضرة في أخبار من دخل مصر والقاهرة (1/ 214).
(2) رياض النفوس في طبقات علماء القيروان وإفريقية (1/ 61)، ومعالم الإيمان في معرفة أهل القيروان (1/ 111)، والإصابة (2/ 330).
(3) المصنف لابن أبي شيبة (3/ 328)، والمعرفة (1/ 518)، والمعجم الكبير (10/ 288)، والمستدرك (3/ 544).
(4) تاريخ أبي زرعة (1/ 238)، والمعرفة (3/ 330)، وتاريخ بغداد (1/ 175)، وتجريد أسماء الصحابة (1/ 320).
(5) الأمصار ذوات الآثار (156).
(6) مقدمة في أصول التفسير (97).(1/395)
مقارنة بين أصحاب ابن عباس بين مجاهد، وعكرمة:
مجاهد وعكرمة رحمهما الله من أكثر مفسري التابعين تعرضا للتأويل، واجتهادا فيه، فقد تفرغا وانقطعا له، وكان بينهما أوجه من الشبه والاتفاق، وبعض أوجه من الاختلاف والتباين، وفيما يلي بيان ذلك:
أولا: أوجه الشبه والاتفاق:
فمما تشابها فيه: طول ملازمتهما، ومصاحبتهما لحبر الأمة ابن عباس رضي الله عنهما وأخذهما عنه، وكذا سبقهما لكثير من التابعين في باب النظر والاجتهاد في التفسير، فقد كانا من أكثر التابعين تساهلا وتوسعا في بيان ما غمض من الآي وأشكل، ولذا نجد الأئمة قد اختلفوا في تقديم أحدهما على الآخر، فمنهم من قدم مجاهدا، كما روي ذلك عن قتادة حيث قال: أعلم من بقي بالتفسير مجاهد (1)، وقال خصيف:
أعلمهم بالتفسير مجاهد (2).
ومنهم من قدم عكرمة، كما روي ذلك عن أبي حاتم حيث قال: أصحاب ابن عباس عيال في التفسير على عكرمة (3).
كما أن من أوجه التقارب بينهما ما تبين لي من تفرغهما وتخصصهما في علم القرآن وتأويله، فإن مما قلل نتاج الكثير من التابعين جمعهم لكثير من العلوم، أو اشتغالهم
__________
(1) التذكرة (1/ 92).
(2) تهذيب الكمال (27/ 233).
(3) الجرح (7/ 9).(1/396)
بعلوم أخرى مع علم التفسير، وتقديمهم لهذه العلوم عليه، أما مجاهد وعكرمة فقد صرفا جل عنايتهما، وغاية اهتمامهما إلى التفسير وأصوله، وكل علم يخدم القرآن، لذلك كان حظهما من العلوم الأخرى أقل من التفسير.
ثانيا: بعض أوجه التباين والاختلاف:
1 - تعرضا جميعا للآيات المشكلة، وتوسعا في باب النظر والاجتهاد، إلا أن مجاهدا كان أكثر من عكرمة في هذا، وكان أسهل منه في باب الرأي والقياس، وقد عدّه ابن خلدون من أكثر تلاميذ ابن عباس تحررا في التفسير (1).
وقد أعطى مجاهد لعقله، وفهمه حرية أوسع في فهم بعض النصوص القرآنية التي يبدو ظاهرها بعيدا (2)، وكان من أكثر تلاميذ ابن عباس في ذلك. بل يعتبر من أوائل من أدخل التفسير بالاجتهاد في التفسير بالمأثور (3)، وكان أكثر مخالفة لظاهر اللفظ القرآني من عكرمة، بل من التابعين كلهم، مع ما كان من مخالفته لإمام المدرسة ابن عباس (4).
وأما عكرمة فإنه، وإن كان ممن اجتهد، وبلغ في ذلك شأوا كبيرا من العلم بالتأويل، واستحق بتلك العقلية التي كانت تسمع الكلمة من الناس فينفتح لها خمسون بابا من العلم (5) أن يتبوأ تلك المنزلة الرفيعة بين المفسرين فقد غلّب جانب الأثر والرواية، والإفادة من محفوظه.
2 - ولعل مما أهل مجاهدا للسبق في باب النظر، تعدد مصادره، وتنوع موارده،
__________
(1) دراسات في القرآن أحمد خليل (112).
(2) دراسات في التفسير وأصوله د. محيي الدين بلتاجي (57).
(3) القرآن العظيم هدايته وإعجازه (197).
(4) وقد مرّ هذا بشيء من التفصيل في ترجمته ص (133).
(5) تاريخ دمشق (11/ 773)، والتذكرة (1/ 96).(1/397)
وتأتى له من ذلك ما لم يتأت لعكرمة، فقد رحل إلى الكوفة، وتلقى قراءة ابن مسعود، وكان يقول: لو كنت قرأت قراءة ابن مسعود لم أحتج أن أسأل ابن عباس عن كثير من القرآن مما سألت (1).
وكان رحمه الله يقول: ما رأيت مسجدا أحرى أن نسمع فيه علما لم نسمعه من مسجد الكوفة (2). ويضاف إلى ذلك أنه صحب ابن عمر رضي الله عنهما، وتأثر به في جانب الإقلال من رواية حديث المصطفى صلى الله عليه وسلّم، وفي هذا يقول: صحبت ابن عمر إلى المدينة، فما سمعته يحدث عن النبي صلى الله عليه وسلّم إلا حديثا واحدا (3).
3 - وهذا يقودنا إلى الحديث عن وجه آخر من أوجه الخلاف بينهما، فإن عكرمة كان يعتمد على العلوم النقلية أكثر من العقلية، في حين كان مجاهد من أقل المكيين في ذلك، فلا غرو إذا أن نجد عكرمة قد فاق صاحبه وتقدم عليه في معرفة أسباب النزول، ويتبين هذا واضحا في نسبة ما روي عنه (4).
كما فاق عكرمة أيضا في العناية والاهتمام بالرواية عن ابن عباس رضي الله عنهما مما حدا بمجاهد إلى أن يأخذ كثيرا مما فاته عن ابن عباس من عكرمة (5)، ويبدو هذا جليا من مقارنة ما روي عن ابن عباس من طريق عكرمة، وما روي عنه من طريق مجاهد (6).
__________
(1) سنن الترمذي، كتاب تفسير القرآن، باب ما جاء في الذي يفسر القرآن برأيه (5/ 200).
(2) تاريخ أبي زرعة (2/ 678).
(3) السير (4/ 454)، والتهذيب (10/ 43).
(4) كان نسبة أسباب النزول عند عكرمة (14، 0)، في حين بلغت عن مجاهد (05، 0) فقط.
(5) الإرشاد في معرفة علماء الحديث (1/ 323).
(6) المروي عن ابن عباس من طريق عكرمة بلغ (09، 0) من مجموع تفسيره، في حين بلغ المروي من طريق مجاهد (03، 0) فقط.(1/398)
وفي ذلك يقول عكرمة: كل شيء أحدثكم في القرآن، فعن ابن عباس (1).
ويشهد لذلك أن حفاظ ابن عباس كانوا يسألون عكرمة عن مذهب ابن عباس أكثر من سؤالهم مجاهدا (2).
4 - توسع مجاهد وتساهله في الرواية عن بني إسرائيل أكثر من عكرمة، فمع أن عكرمة كان من المقدمين بين المكيين في معرفة المغازي والسير وفي أسباب النزول إلا أنه قل أن يعتمد عليها، وهذا ما دفع بعض الكوفيين إلى التحرز من تفسير مجاهد بسبب أخذه عن أهل الكتاب (3).
5 - ومما تميز به مجاهد عن عكرمة، وانفرد به، كثرة المروي عنه في علم التفسير، واعتماد الأئمة عليه في التأويل، ويدل على ذلك أن ما رواه الإمام الطبري مثلا عن عكرمة لا يزيد عن سدس ما رواه عن مجاهد (4)، ومنشأ ذلك فيما أحسب يعود إلى سببين أولهما: دخول عكرمة في شيء من الأهواء، والقول ببعض أقوال أهل الأهواء (5)، والثاني: أنه تهيأ لمجاهد من أسباب نشر علمه، ونقل تراثه ما لم يتهيأ مثله لعكرمة (6).
6 - ومما تميز به مجاهد سبقه في علم القراءات، فقد تقدم على عكرمة ولذا عدّه
__________
(1) العلل لأحمد (3/ 366) 5611، ووفيات الأعيان (1/ 319)، والتهذيب (7/ 263).
(2) العلل لأحمد (3/ 379) 5667، (3/ 369) 5622.
(3) طبقات ابن سعد (5/ 467).
(4) بعد مراجعة تفسير الطبري بلغ المروي من تفسير مجاهد (6109) أقوال، وعن عكرمة (943) قولا.
(5) سبق تفصيل ذلك في ترجمة عكرمة ص (168).
(6) تخصص ابن أبي نجيح في رواية ونقل تفسير مجاهد، حيث روى (56، 0) من مجموع تفسيره.
وابن جريج حيث روى (15، 0)، في حين كان من أشهر أصحاب عكرمة ابن جريج، ولم يرو عنه إلا (08، 0) من مجموع تفسيره، ويزيد النحوي ولم يرو إلا (07، 0) من مجموع تفسيره.(1/399)
الإمام الذهبي شيخ القراء (1)، ولم لا وقد كان يقرأ القرآن على خمسة أحرف (2)، ولم يبلغ عكرمة مبلغه في هذا.
وخلاصة القول: إن عكرمة قارب مجاهدا في كثير من التفسير، فكان أتباع التابعين في مكة يعرضون أقوال عكرمة على مجاهد، ويعدون اتفاقهما علامة على صحة القول وقوته، فقد جاء عن عكرمة في تفسير قوله تعالى: {وَإِذِ ابْتَلى ََ إِبْرََاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمََاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ} (3).
قال الله لإبراهيم: إني مبتليك بأمر فما هو؟ قال: تجعلني للناس إماما! قال: نعم.
قال: ومن ذريتي. قال: لا ينال عهدي الظالمين، قال: تجعل البيت مثابة للناس قال:
نعم، قال: وأمنا. قال: نعم، قال: وتجعلنا مسلمين لك، ومن ذريتنا أمة مسلمة لك.
قال: نعم، قال: وترينا مناسكنا وتتوب علينا، قال نعم، قال: وتجعل هذا البلد آمنا، قال: نعم، قال: وترزق أهله من الثمرات من آمن منهم، قال: نعم.
يقول ابن أبي نجيح: أخبرني به عكرمة، فعرضته على مجاهد فلم ينكره (4).
وقال ابن جريج: فاجتمع على هذا القول مجاهد وعكرمة جميعا (5).
وعن ابن أبي نجيح، قال: سمعت عكرمة قال: قال الله: {وَمَنْ كَفَرَ} * فإني أرزقه من الدنيا حين استرزق إبراهيم لمن آمن، ثم قال ابن أبي نجيح: سمعت هذا من عكرمة، ثم عرضته على مجاهد فلم ينكره (6).
__________
(1) السير (4/ 449).
(2) تفسير الطبري (1/ 53) 52.
(3) سورة البقرة: آية (124).
(4) تفسير الطبري (3/ 11) 1919.
(5) تفسير الطبري (3/ 11) 1920.
(6) تفسير ابن أبي حاتم (1/ 379) 1235.(1/400)
وعند قوله تعالى: {ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلى ََ عَذََابِ النََّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} عن ابن أبي نجيح، عن عكرمة قال: ثم مصير الكافر إلى النار، فعرضته على مجاهد، فلم ينكره (1).
ومع هذا فكأني ألمس أن مجاهدا لم يكن يرضى عن عكرمة تمام الرضى، بل كان يخطئه، ويصفه بالكذب أحيانا (2).
فعن القاسم بن أبي بزة قال: قال لي مجاهد: سل عنها عكرمة: {وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللََّهِ} (3)، فسألته، فقال: الإخصاء.
قال مجاهد: ما له، لعنه الله! فو الله لقد علم أنه غير الإخصاء، ثم قال: سله، فسألته فقال عكرمة: ألم تسمع إلى قول الله تبارك وتعالى: {فِطْرَتَ اللََّهِ الَّتِي فَطَرَ النََّاسَ عَلَيْهََا لََا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللََّهِ} (4) قال: لدين الله، فحدثت به مجاهدا، فقال: ما له أخزاه الله (5).
وكان رحمه الله يرسل أحيانا من يسأله، فإذا أصاب بين ذلك، فعن ليث بن أبي سليم قال: أرسل مجاهد رجلا يقال له قاسم إلى عكرمة يسأله عن قول الله لأيوب:
{وَآتَيْنََاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ} (6) فقال: قيل له: إن أهلك لك في الآخرة، فإن شئت عجلناهم لك في الدنيا، وإن شئت كانوا لك في الآخرة، وآتيناك مثلهم في الدنيا، فقال: يكونون لي في الآخرة، وأوتي مثلهم في الدنيا، قال: فرجع إلى مجاهد فقال:
__________
(1) المرجع السابق (1/ 379) 1237.
(2) المغني في الضعفاء (2/ 439)، ولعل مراده بالكذب الخطأ كما هو كثير في مصطلح السلف، أو بسبب تلبس عكرمة ببعض رأي أهل الأهواء.
(3) سورة النساء: آية (119).
(4) سورة الروم: آية (30).
(5) تفسير الطبري (9/ 216) 10455، وتفسير عبد الرزاق (1/ 173).
(6) سورة الأنبياء: آية (84).(1/401)
أصاب (1).
بين عكرمة، وسعيد بن جبير:
كان بين عكرمة وسعيد أوجه من التقارب، والاتفاق، وأوجه أخرى من التباين، والاختلاف، فأما أوجه التقارب فسببها أن عكرمة تزوج بأم سعيد (2)، وكان لذلك أثره في تقاربهما في كثير من الآراء (3)، فقد تقاربا في عدد المروي عنهما في التفسير عامة (4)، وكانا كفرسي رهان في الرواية لتفسير ابن عباس رضي الله عنهما (5).
وأما أوجه الاختلاف، فعكرمة أعلم بالتفسير، وأكثر تفرغا من سعيد. يتضح هذا من خلال ما يلي:
1 - كانت عناية عكرمة بالعلوم الخادمة للقرآن أكثر، ففاق صاحبه في معرفة أسباب النزول، وكان اعتماده عليها أكثر (6)، ويتضح هذا ويتأكد، عند مراجعة المروي من تفسير ابن عباس، فقد عني عكرمة بأسباب النزول الواردة عنه رضي الله عنه أكثر من عناية سعيد (7).
__________
(1) تفسير الطبري (17/ 72)، وأورده السيوطي في الدر، وعزاه إلى ابن جرير عن ليث بمثله (5/ 656).
(2) مشاهير علماء الأمصار (82)، والثقات (5/ 230)، وتاريخ دمشق (11/ 771).
(3) هما من أكثر المكيين تقاربا في المناهج والأقوال.
(4) تشابها في هذا الجانب، فقد روى سعيد بن جبير (12، 0) من مجموع تفسير ابن عباس، في حين كان نسبة ما رواه عكرمة (09، 0) من مجموع تفسيره، وأما غيرهم من أصحابهم، فإن مجاهدا لم يرو إلا (03، 0)، وعطاء (02، 0) وغيرهم أقل منهم في ذلك.
(5) تقاربا في عدد المروي عنهما في التفسير عامة، فإن مجموع ما روي عن سعيد بن جبير بلغ (1010) أقوال، وعن عكرمة (943) قولا.
(6) كانت نسبة ما روي عن عكرمة في أسباب النزول (14، 0)، في حين بلغت عند سعيد ما نسبته (07، 0) من مجموع تفسيره.
(7) كان المروي عن ابن عباس في أسباب النزول (485) رواية، منها (25، 0) من طريق عكرمة، (19، 0) من طريق سعيد.(1/402)
2 - وفي باب معرفة المكي والمدني تقدم عكرمة كثيرا على صاحبه، واستشهد الأئمة من المفسرين بأقوال عكرمة في هذا، وقل أن نجد لسعيد شيئا من الروايات في هذا الباب (1).
3 - كان عكرمة أكثر تساهلا من سعيد في باب الاجتهاد والنظر، وكان أكثر منه تعرضا للمشكل من الآيات، ولعل سعيدا تأثر في هذا بالمدرسة الكوفية، التي كانت من أشد المدارس ورعا وخوفا من التفسير، فعن مروان الأصفر قال: كنت جالسا عند سعيد بن جبير، فسأله رجل عن آية من كتاب الله عز وجل، فقال له سعيد: الله أعلم، فقال له الرجل: قل فيها أصلحك الله برأيك، فقال: أقول في كتاب الله برأيي؟! فردده مرتين، أو ثلاثا، ولم يجبه بشيء (2).
4 - توسع عكرمة في القول بالنسخ، وكان في ذلك أكثر من سعيد (3).
5 - كان عكرمة رحمه الله أكثر عناية بمبهمات القرآن من سعيد (4).
6 - كان عكرمة أكثر اعتمادا على اللغة من سعيد، فكان استشهاده بالشعر، ودقته في التفريق بين الكلمات القرآنية، ومعرفة المعرب من الألفاظ القرآنية، مميزات تقدم فيها على صاحبه (5).
7 - وفي الجملة، فقد كان تفرغ عكرمة وانقطاعه لعلم التفسير أكثر من سعيد، وقد لاحظنا فيما سبق أن ثناء الأئمة على عكرمة جاء في التفسير خصوصا، فهذا أبو حاتم
__________
(1) وفي تحديد المكي، والمدني، استشهد ابن الجوزي بما روي عن عكرمة في (26) موضعا، في حين لم يعتمد قول سعيد بن جبير إلا في موضعين فقط.
(2) سنن سعيد بن منصور كتاب التفسير (1/ 174) 41، وشعب الإيمان للبيهقي (5/ 231) 2088.
(3) يأتي تفصيل ذلك في مبحث النسخ ص (1081).
(4) سبق الإشارة إلى ذلك في ترجمة عكرمة ص (158).
(5) سبق تفصيل ذلك في ترجمة عكرمة ص (161).(1/403)
عند ما سئل: أيهما أعلم بالتفسير عكرمة أو سعيد؟، قال أصحاب ابن عباس عيال في التفسير على عكرمة (1).
بل إن سعيدا لما سئل فقيل له: تعلم أحدا أعلم منك، قال: نعم. عكرمة، في حين ورد الثناء على سعيد في جمعه لعديد من العلوم (2).
8 - كان لرحلات عكرمة، وكثرة أسفاره في البلاد، الأثر البالغ في نشر تراث المدرسة المكية، وأما سعيد فكان أقل منه في ذلك.
وفي مقابل هذا نجد أن سعيدا فاق عكرمة فيما يلي:
1 - كان سعيد رحمه الله أكثر إتقانا وضبطا في الرواية من عكرمة. وقد عدّه ابن المديني من أثبت أصحاب ابن عباس (3).
وعد ابن معين مراسيله أقوى من مراسيل عطاء، ومجاهد، وطاوس (4). بل كان سعيد يتابع عكرمة، ويسمع منه، ويصحح ما يراه صوابا.
فعن أيوب السختياني قال: اجتمع حفاظ ابن عباس على عكرمة، منهم سعيد بن جبير، وعطاء، وطاوس، فكان كلما حدث بحديث، قال سعيد بن جبير: هكذا، وعقد أبو صالح ثلاثين يعني: أصاب حتى أتى على حديث الحوت، فقال عكرمة:
كان يسايرهم في ضحضاح من ماء، فقال سعيد بن جبير: أشهد على ابن عباس أنه قال: كان يسايرهما في مكتل (5).
وأحسب أن مما أهله لذلك اتصاله بمشاهير مدرسة الكوفة، والذين كانوا من أشد
__________
(1) الجرح (917)، والتعديل والتجريح (3/ 1023)، وتاريخ الإسلام (ح 107هـ / 178).
(2) التاريخ الكبير (7/ 412)، ووفيات الأعيان (2/ 372).
(3) العلل لابن المديني (49)، والمعرفة (2/ 147).
(4) جامع التحصيل (90).
(5) العلل لأحمد (3/ 379) 5667، (3/ 369) 5622.(1/404)
التابعين نقدا وشدة في قبول الروايات، مع ما كان عنده من الحرص على الكتابة رحمه الله.
2 - كان سعيد أكثر عناية بالآثار، وبعدا عن الآراء من عكرمة، فقد غلّب الرواية على الدراية، وقد اتضح هذا من خلال ما روي عنهما في التفسير، ومن خلال طول مصاحبة سعيد لابن عمر (1)، بخلاف ما كان من حال عكرمة (1).
3 - كان اهتمام سعيد بالقراءات وتقدمه فيها أكثر من عكرمة، واتضح هذا الاهتمام كذلك بعد تتبع المروي عن ابن عباس في القراءات، حيث حاز سعيد قصب السبق في ذلك (2).
4 - كان سعيد أكثر تساهلا في التحديث عن بني إسرائيل من عكرمة (3).
5 - كانت عناية سعيد بآيات الأحكام وتفسيرها أكثر من عكرمة (4).
6 - المروي، والمنقول من تفسير ابن عباس عن سعيد أكثر (5)، مع أن عكرمة كان أكثر ملازمة، وأطول بقاء عنده، وأحسب أن السبب الرئيس في ذلك دخول عكرمة في شيء من الأهواء، مما عكر صفو المروي عنه، حيث رد بعض الأئمة روايته بسبب ذلك. بخلاف سعيد الذي لم يتردد أحد في الأخذ منه والنقل عنه (6).
__________
(1) العلل لأحمد (2/ 147) 1821.
(2) عني سعيد بنقل (20، 0) من مجموع ما جاء عن ابن عباس في القراءات، في حين بلغت نسبة ما جاء عن عكرمة (13، 0)، وعن مجاهد (07، 0)، وعن عطاء (03، 0).
(3) بلغ نسبة المروي عن سعيد في الإسرائيليات (06، 0) من مجموع تفسيره، في حين لم تتجاوز (03، 0) من تفسير عكرمة.
(4) بلغ نسبة المروي عن سعيد (09، 0) من مجموع تفسيره، في حين بلغت عن عكرمة (04، 0).
(5) حيث بلغ المروي عنه في ذلك (12، 0) من مجموع تفسيره، وعن عكرمة (09، 0).
(6) سبق تفصيل ذلك في ترجمة عكرمة ص (168).(1/405)
بين عطاء بن أبي رباح، وأصحاب ابن عباس:
فارق عطاء رحمه الله أصحابه في بعض المسالك، بل هو من أكثر الأربعة المشاهير اختلافا ومفارقة، وكان وراء ذلك العديد من الأسباب:
1 - قلة المروي عنه في التفسير: فهو من أقل المشهورين رواية في التفسير (1)، ومن أكثرهم تحرجا فيه، بل كان يطلب من تلميذه ابن جريج أن يعفيه إذا سأله عن التفسير (2). مع ما كان عنده من الورع في بلاغ علمه، ولذا فإن أكثر علمه إنما أخذ منه بالسؤال، وأيضا فقد كان الحاضرون لحلقته قليل، ومن ثمّ قل المروي عنه (3).
2 - كان رحمه الله من أكثرهم عناية بالفقه، والإفتاء، بل إنه فاقهم في الفتوى (4)، وصار أعلمهم بالمناسك (5).
والمكيون عموما لم يهتموا بالفقه والأحكام الفرعية كاهتمامهم بالتفسير إلا أن عطاء خالفهم في هذا.
3 - هو أقلهم رواية عن بني إسرائيل، مع أن المدرسة المكية من أكثر المدارس رواية عن أهل الكتاب.
4 - كان رحمه الله من أقلهم ملازمة لابن عباس، يتضح هذا عند قراءة سيرته، ومقارنتها بغيره من أصحابه، ولذا فهو من أقلهم رواية عنه (6).
__________
(1) بلغ المروي عنه عند ابن جرير (480) قولا.
(2) العلل لأحمد (2/ 131) 1782.
(3) اللآلئ الحسان (336).
(4) الجرح (6/ 330)، وتهذيب الأسماء (1/ 334)، والعقد الثمين (6/ 85).
(5) العلل لأحمد (3/ 444) 5888.
(6) روى سعيد بن جبير (12، 0) من مجموع تفسير ابن عباس، في حين بلغت النسبة عن عكرمة (09، 0)، وعن مجاهد (03، 0)، وعن عطاء (02، 0).(1/406)
5 - كان من أكثرهم حرصا على الآثار، وروايتها، وكان من أكثر أصحاب المدرسة المكية تساهلا في روايته للمراسيل، وكان يأخذ عن كل أحد، حتى عدّت مراسيله من أضعف المراسيل (1).
ولذا فهو من أبعدهم عن الرأي، بل إن مما ميزه عن غيره، سفره إلى المدينة، وأخذه الحديث عن أئمتها.
يقول مجاهد وغيره من المكيين: لم يزل شأننا متشابها متناظرين، حتى خرج عطاء ابن أبي رباح إلى المدينة، فلما رجع إلينا استبان فضله علينا (2).
ولذا يقول الإمام الشافعي: ليس من التابعين أحد أكثر اتباعا للحديث من عطاء (3).
وخلاصة القول: إن عطاء رحمه الله كان من أكثر المشاهير من مفسري مكة مخالفة لمنهج شيخه، ومسلك أصحابه، وكان من أشدهم ورعا، ولذا فإنه قلّ أن يتعرض للمشكل من الآيات. وكان رحمه الله من أضعفهم في معرفة لغات أهل قبائل العرب، وغيرها من معرب القرآن (4).
أسباب كثرة المروي عنهم:
تميزت المدرسة المكية من بين سائر المدارس بكثرة تناولها للآيات وتفسيرها، وأسهمت إسهاما قيما في الإبانة عن كثير من المعاني التي يحتاج إليها، ويرجع ذلك لأسباب عديدة من أهمها:
__________
(1) الجرح (1/ 243)، والمعرفة (3/ 239)، وتهذيب الكمال (20/ 83).
(2) المعرفة (1/ 443).
(3) تهذيب الأسماء واللغات (1/ 333).
(4) وقد سبق ذلك في ترجمته ص (194).(1/407)
1 - إمامة ابن عباس رضي الله عنهما للمدرسة:
وقد سبق أن بينا تقدم ابن عباس رضي الله عنهما بين الصحابة في علم التفسير، ببركة دعائه صلى الله عليه وسلّم، وما كان من حاله في كثرة اشتغاله بالتفسير، وتأخر وفاته، وغير ذلك، مما كان وراء كثرة المروي عنه في علم التأويل.
كل ذلك كان له الأثر المباشر في نفوس أصحابه، ولذا يتبين للناظر في مرويات تلاميذه، أن من أهم أسباب كثرة المروي عنهم أخذهم العلم عنه رضي الله عن الجميع وكان أصحابه يفاخرون غيرهم من التابعين بتلك الإمامة.
فهذا مجاهد رحمه الله يقول: نحن أهل مكة نفخر على الناس بأربعة:
بفقيهنا، وقاصّنا، ومؤذننا، وقارئنا، فأما فقيهنا فابن عباس، وأما مؤذننا فأبو محذورة، وأما قارئنا فعبد الله بن السائب، وأما قاصّنا فعبيد بن عمير (1).
وحق لهذه المدرسة أن تفاخر بابن عباس الذي كان من أعلم الصحابة، وأكثرهم قولا في التفسير حتى إن الذي يليه من الصحابة في كثرة المروي عنه، وهو ابن مسعود رضي الله عنه لا يعادل المروي عنه في التفسير سدس المروي عن ابن عباس رضي الله عنهما.
2 - الأثر المكاني على المدرسة:
فمكة هي البلد الحرام، وفيها بيته الذي جعله الله مثابة للناس وأمنا، فالثائبون له من الحجاج والعمار، يترددون عليه المرة تلو الأخرى، تأتي مواكب الحجيج من كل فج عميق، لحج بيته، وليشهدوا منافع لهم، وليتعلموا العلم النافع، فإذا قضوا مناسكهم حملوا ما منّ الله به عليهم من العلم، لينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم.
__________
(1) طبقات ابن سعد (5/ 445)، وفضائل الصحابة لأحمد (2/ 977) 1926، (2/ 981) 1941، ومعرفة القراء الكبار (1/ 43).(1/408)
فعن معتمر بن سليمان قال: كانوا يجتمعون على عطاء في المواسم، فكان سليمان ابن موسى هو الذي يسأل لهم (1).
وقد كان كثير من الأئمة ممن ليسوا من المكيين لعيشهم، ونشأتهم في حواضر، ومدن بعيدة عن مكة، إلا أنه كان لترددهم عليها مرات عديدة الأثر البالغ في منهجهم، فأصبحوا إلى المدرسة المكية أقرب منهم إلى مدارسهم، فهذا أبو العالية حج أكثر من ست وستين حجة (2).
وكان سعيد بن جبير يتردد على مكة في العام مرتين: مرة حاجا ومرة معتمرا (3)، وحج طاوس أكثر من أربعين حجة (4).
3 - كثرة رحلاتهم، وأسفارهم:
فمع أن المركز الرئيس لهذه المدرسة هو مكة، التي كان يشع منها نور العلم، فيستفيد منه الحجاج، والوافدون إلى بيت الله إلا أن أصحاب هذه المدرسة لم يكتفوا بهذا، بل حرصوا على التنقل، والتجوال في الأقطار والبلدان، لينتشر هذا العلم في أصقاع المعمورة.
ولعل من أبرز من يمثل هذا بين المكيين عكرمة مولى ابن عباس، فقد رحل إلى البصرة، وكانت رحلة خير وبركة، حتى إن إمامها الحسن البصري ترك كثيرا من التفسير، لما قدم عكرمة (5).
وكان مجاهد قريبا منه، فكان لا يسمع بأعجوبة إلا ذهب، ونظر إليها، وقد رحل
__________
(1) العلل لأحمد (2/ 233) 2108.
(2) المعارف (200)، وشذرات الذهب (1/ 102)، سبق بيانه في ترجمته ص (291).
(3) الزهد لأحمد (443)، والحلية (4/ 275)، سبق بيانه في ترجمته ص (140).
(4) المعرفة (1/ 706).
(5) تهذيب الكمال (20/ 273)، والسير (5/ 18).(1/409)
إلى الكوفة، وأفاد من قراءة ابن مسعود رضي الله عنه، ورحل إلى رودس (1)، وأقام بها سبع سنين، وسافر إلى المدينة في صحبة ابن عمر رضي الله عنهما.
أما عطاء بن أبي رباح، فقد سافر إلى المدينة، فاستبان فضله على أصحابه بعد رجوعه، وفاقهم في علم الآثار، والسنن.
وأحسب أن المدرسة المكية من أكثر المدارس عناية بالرحلات والأسفار، لما تعطيه للعالم من مادة وفيرة، هي بطبيعتها تفتق الذهن وتنمي المدارك، وتعطي الفكر مادة من الصور توسع تصوره، وتفتح له مجالا رحبا لنشر علمه.
4 - حرصهم على نشر علمهم:
كان للمنهج التعليمي عند ابن عباس في تدريب أصحابه، وأمرهم بالانطلاق، وإفتاء الناس، وحثهم على الأخذ منهم (2)، أثر بالغ في تشجيع هؤلاء التلاميذ على التقدم، والإكثار من البلاغ والنشر لكل ما علموه حتى إننا نجد سعيد بن جبير عند ما يذهب إلى الكوفة يحزن ويتألم أن يبقى أياما لا يأتي أحد لسؤاله (3).
وكان يأمرهم أن يسألوه (4)، ويقول: إن مما يهمني أن يؤخذ ما عندي من العلم (5).
وهذا عكرمة لما رحل إلى البصرة ينكر عليهم عدم سؤالهم إياه، ويقول: ما لكم لا تسألونني أفلستم (6).
__________
(1) سبق تفصيل هذا في ترجمته ص (130).
(2) سبق بيانه في منهج ابن عباس التعليمي مع أصحابه ص (390).
(3) طبقات المحدثين بأصبهان (1/ 318)، والبداية (9/ 98).
(4) المعرفة (1/ 713).
(5) الحلية (4/ 283)، والسير (4/ 327).
(6) سنن الدارمي (1/ 137)، والعلل لأحمد (2/ 193) 1979.(1/410)
وكان يقسم أحيانا ألا يحدثهم، ثم يحدثهم بعد ذلك (1).
وكان مجاهد يتأول هذه الآية من قوله سبحانه: {وَجَعَلَنِي مُبََارَكاً أَيْنَ مََا كُنْتُ} (2)
فيقول: جعلني معلما للخير (3).
وسعيد بن جبير يتأول قوله تعالى: {وَيَأْمُرُونَ النََّاسَ بِالْبُخْلِ} (4) قال: هذا من العلم (5).
5 - التصنيف، والتدوين المبكر لآثار المدرسة:
كان للمدرسة المكية القدح المعلى في سبق غيرها في التصنيف في هذا الباب (6).
وقد تصدر لهذا العلم ابن جريج، الذي كان أحد الملازمين لعطاء بن أبي رباح (7)، فأخذ كثيرا من تفسير مجاهد، وروى عنه (8).
ثم تفرد بعد طبقة التابعين بالإمامة في مكة، فدوّن العلم، وحمله عنه الناس (9)، ولذا كان رحمه الله يقول: ما صنف أحد العلم تصنيفي (10).
__________
(1) العلل لأحمد (2/ 128) 1775، و (2/ 455) 3027.
(2) سورة مريم: آية (31).
(3) العلم لأبي خيثمة (116).
(4) سورة النساء: آية (37).
(5) العلم لأبي خيثمة (118).
(6) جاءت المدرسة البصرية بعدها في هذا، وإن كان هناك فرق ينبغي الإشارة إليه: أن راوية البصرة سعيد بن أبي عروبة غلبت عليه الصناعة الحديثية، فكان دوره الرواية فحسب، وأما ابن جريج فإنه كان أحد الأئمة المشهورين بالرواية والدراية، لا سيما في التفسير، وله كتاب في التفسير.
ينظر تاريخ التراث (1/ 130)، ومعجم المؤلفين (6/ 184).
(7) سبق الإشارة إلى ذلك في ترجمة عطاء ص (194)، وقد روى ابن جريج نصف تفسير عطاء أي ما يقارب (240) قولا.
(8) وروى من تفسير مجاهد ما نسبته (15، 0) من مجموع تفسيره، أي ما يقارب (916) قولا.
(9) السير (6/ 332).
(10) العلل لأحمد (2/ 311) 2383، والسير (6/ 327).(1/411)
قال عبد الرزاق الصنعاني: أول من صنف الكتب ابن جريج (1).
وقال ابن الأهدل: هو أول من صنف الكتب في الإسلام (2).
وكان يرحمه الله غاية في الدقة، والتحري.
فعن يحيى بن سعيد قال: كنا نسمي كتب ابن جريج، كتب الأمانة (3).
6 - قلة العلم في مكة زمن كبار الصحابة:
وهذا سبب آخر من أسباب كثرة مرويات المدرسة المكية، حيث كان العلم قليلا زمن الصحابة، ثم كثر في أواخر عصرهم (4).
فعن ابن الأبجر عبد الملك بن سعيد الكوفي، قال: إنما فقه أهل مكة حين نزل ابن عباس بين أظهرهم (5).
ولعل هذا مما زاد من الحاجة إلى علمهم، فبلغوه، ونشروه، بخلاف تلك المدارس التي كثرت فيها السنن عنه صلى الله عليه وسلّم، أو عن أصحابه، فاستغنى الناس بأولئك زمانا، ولم يحتج الناس إلى كثير من علمهم.
7 - كثرة اشتغالهم بالتفسير:
تميز المكيون بالانصراف لعلم تأويل الكتاب، فصرفوا فيه غاية الجهد، وبرز من
__________
(1) الجرح (5/ 357)، وشرح علل الترمذي لابن رجب (50).
(2) الشذرات (1/ 226).
(3) تاريخ بغداد (10/ 404)، وتهذيب الكمال (18/ 348).
(4) الأمصار ذوات الآثار للذهبي (156)، على عكس المدينة التي كان العلم بها وافرا زمن الصحابة، ينظر المرجع السابق (151).
(5) فضائل الصحابة لأحمد (2/ 968) 1894، والعلل لأحمد (3/ 239) 5051، والجرح (4/ 351).(1/412)
المكيين في هذا مجاهد، الذي قال عن نفسه: استفرغ علمي القرآن (1).
بل إنه رحمه الله مع إمامته في التفسير، وكونه آية في فهمه وعلمه، كان لا يحسن الفرائض (2)، ولم يشتغل كثيرا بالحديث، أو الفقه.
وقريبا منه عكرمة، الذي برز في هذا العلم، حتى عدّه بعضهم إمام مدرسة مكة، ومن أعلم أصحاب ابن عباس في التفسير (3).
وقد انعكس ذلك عليهم في علوم أخرى، فقلّ إسهامهم فيها، ففي علم المغازي والسير الذي شغلت به كثير من المدارس، كانت مكة من أقلهم حظا فيه، ولذا يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: فأعلم الناس بالمغازي أهل المدينة، ثم الشام، ثم العراق (4).
ومما يدل على انقطاع هذه المدرسة لهذا العلم، وتخصصهم فيه، أنها من أكثر المدارس حديثا عن كليات القرآن، ومبهماته، وأسباب نزوله، وبلغ اهتمام بعضهم أن عدّ كلمات القرآن، وحروفه، وغير ذلك من العلوم الخادمة للقرآن.
8 - الاجتهاد، والقدرة على الاستنباط:
هابت كثير من المدارس الخوض في التفسير، والإكثار من القول في التأويل، وكثرت النصوص والآثار المنقولة عنهم في التحذير من هذا، وكانت مدرستا الكوفة والمدينة من أكثر المدارس بعدا عن التأويل وحذرا منه.
وفي المقابل كانت المدرسة المكية أكثرهم توسعا في باب التأويل، ولعل الفضل في هذا بعد الله يعود لأستاذهم ابن عباس رضي الله عنهما الذي كان يأمرهم بالتعلم
__________
(1) المعرفة (1/ 712).
(2) العلل لأحمد (3/ 85) 4292.
(3) الجرح (7/ 9).
(4) مقدمة في أصول التفسير (60).(1/413)
منه، ثم الإفتاء بحضرته، ثم الانطلاق بعد ذلك لتعليم الناس، وقد كان جل ما أخذوه وعلموه من شيخهم متعلقا بتفسير كتاب الله تعالى.
على أنه لم يرض بعض الصحابة المعاصرين لابن عباس هذا المسلك منه، فكان ابن عمر رضي الله عنهما يقول: لم تكن تعجبني جرأة ابن عباس (1).
وقد سلك أصحابه مسلكه، ونهجوا سبيله، فكانوا يتنقلون في البلدان، معلمين، وناشرين لعلم التأويل، فعكرمة لما قدم المدينة، واستقر بها، وأخذ في نشر بضاعته من علم التفسير لم يلق اجتهاده، وعلمه رواجا، لا سيما وأن إمام المدرسة في عصره سعيد ابن المسيب كان ينكر عليه صنيعه هذا، وعند ما يسأل عن شيء من القرآن يقول: لا تسألني، وسل من يزعم أنه لا يخفى عليه شيء (2).
وكان عكرمة يقول: إني لأسمع بالكلمة الواحدة، فينفتح لي بها خمسون بابا من العلم (3).
ولما رحل مجاهد إلى الكوفة، وكانوا أهل قياس كان من أسهلهم فيه (4).
9 - كتابة التفسير:
المدرسة المكية من أقل المدارس تحرجا في باب تدوين العلم بعامة والتفسير بخاصة، ولذا فأصحابها من أكثر التابعين عناية بكتابة التفسير.
وقد أفادوا هذا المنهج من شيخهم ابن عباس رضي الله عنهما الذي كان يأمرهم بالكتابة.
__________
(1) سبق تفصيل هذه القصة في ترجمة ابن عباس رضي الله عنهما.
(2) فضائل القرآن لأبي عبيد (228)، وتفسير الطبري (1/ 86) 101.
(3) تاريخ دمشق (11/ 773)، والتذكرة (1/ 96).
(4) تأويل مختلف الحديث (74).(1/414)
فعن ابن أبي مليكة قال: رأيت مجاهدا سأل ابن عباس عن تفسير القرآن، ومع ألواحه، فيقول له ابن عباس: اكتب. حتى سأل عن التفسير كله (1).
وعن عبيد بن مهران قال: رأيتهم يكتبون التفسير عند مجاهد (2). وقد ألف مجاهد كتابا في التفسير، رواه عنه القاسم بن أبي بزة، وأفاد منه ابن أبي نجيح، وابن جريج (3).
وهذا سعيد بن جبير، كان حريصا أشد الحرص على الكتابة، فيقول عن نفسه:
ربما أتيت ابن عباس، فكتبت في صحيفتي حتى أملأها، وكتبت في نعلي حتى أملأها، وكتبت في كفي (4).
وعن ورقاء بن إياس قال: رأيت عزرة يختلف إلى سعيد بن جبير، معه التفسير في كتاب، ومعه الدواة يغير (5).
وقد كتب تفسيرا كاملا للقرآن طلبه منه عبد الملك بن مروان، وأرسله إليه، وأفاد منه أهل الشام، ووجده عطاء بن دينار المصري، فأخذه معه إلى مصر، وأفاد منه.
ولذا يقول أبو حاتم: عطاء بن دينار صالح الحديث، إلا أن تفسيره أخذه من الديوان، فإن عبد الملك بن مروان كتب يسأل سعيد بن جبير أن يكتب إليه بتفسير القرآن، فكتب سعيد بهذا التفسير إليه، فوجده عطاء بن دينار في الديوان، فأخذه، فأرسله عن سعيد بن جبير (6).
__________
(1) تفسير الطبري (1/ 90) 107، ومقدمة في أصول التفسير (28).
(2) سنن الدارمي (1/ 128)، وتقييد العلم (105).
(3) الفهرست (33)، ومشاهير علماء الأمصار (146).
(4) طبقات ابن سعد (6/ 257)، والسير (4/ 335).
(5) التاريخ الصغير (1/ 227).
(6) الجرح (6/ 332)، والميزان (3/ 70)، والتهذيب (9/ 198).(1/415)
وكان عطاء بن أبي رباح رحمه الله يسأل، فيكتب الجواب بين يديه، وبحضرته، فلا يمنع ذلك (1).
وكان عكرمة مولى ابن عباس رحمه الله كتب كتابا نسخه عبد الله بن الأسوار، ونزل به إلى صنعاء، فأخذه عنه ابن عمرو بن عبد الله، فلما قدم عكرمة اليمن، وكان ينزل عند أبيه، جعل عمرو يسأل عكرمة، فعلم أنه أخذه من كتابه، فقال له: علمت أن عقلك لم يبلغ هذا (2).
هؤلاء هم أئمة المدرسة المكية، وقد كانوا جميعا يكتبون، أو يكتب عندهم، فلا ينكرون، وأما غيرهم من مشاهير المدارس الأخرى، فقد كان بعضهم يكره أن يكتب شيئا، أو يكتب عنده، كما نجد ذلك في طبقة كبار مدرسة الكوفة، ومتوسطيها وغيرهم.
10 - البعد عن الفتن:
كانت مكة أكثر استقرارا من غيرها من البلاد، فكان العلماء يهرعون إليها فارين بعلمهم من الفتن.
ولذا وفد إلى مكة الكثير من العلماء، ومن أشهر هؤلاء سعيد بن جبير، الذي بقي فيها زمنا طويلا، وكان ذلك من أسباب كثرة المروي عنه، ومن أسباب تأثره بالمدرسة المكية، حتى عدّ من المكيين.
أثرها:
كانت المدرسة المكية من أكثر المدارس تأثيرا في مفسري التابعين ومدارسهم، وقد تهيأ ذلك بسبب إمامة ابن عباس رضي الله عنهما وسبقه في علم التفسير، مع ما
__________
(1) سنن الدارمي (1/ 129).
(2) الجرح (6/ 244)، والميزان (3/ 295)، والتهذيب (8/ 61).(1/416)
صاحب ذلك من حرص أصحابه على نشر علمه في بقية البلدان.
أثرها على المدرسة الكوفية:
مثّل سعيد بن جبير حلقة اتصال مهمة بين المدرستين (1)، مما كان له الأثر في تقارب المدرستين الكوفية، والمكية، حتى صارتا من أكثر المدارس تقاربا، واتفاقا.
ومن المعلوم أن الكوفة كانت تتجنب الخوض في التفسير والإكثار فيه، إلا أن سعيد ابن جبير الذي كان من أكثر تلاميذ ابن عباس رواية عنه في التفسير أكثر من نقل رواية تفسير شيخه، وبثه بين طبقة متوسطي التابعين، فتناقله تلاميذه من صغار التابعين، ومن بعدهم.
وكان رحمه الله يحرص على تدارس آثار ابن عباس، ونشرها في مساجد الكوفة، وحلقها.
فعن مسلم البطين قال: رأيت أبا يحيى الأعرج وكان عالما بحديث ابن عباس اجتمع هو وسعيد بن جبير في المسجد فتذاكرا حديث ابن عباس (2)، وكان سعيد رحمه الله يجمع المسائل المختلف فيها عند أهل الكوفة، ويبعث بها إلى شيخه ابن عباس رضي الله عنهما أو يرحل إليه ليسأله عنها.
فعنه قال: آية اختلف فيها أهل الكوفة، فرحلت فيها إلى ابن عباس، فسألته عنها فقال:
نزلت هذه الآية {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً} (3)، وهي آخر ما نزل وما نسخها شيء (4).
__________
(1) سبق بيان اختلاف أهل العلم في نسبة ابن جبير، فعده الأكثرون كوفيا، وعده بعضهم مكيا ص (137).
(2) المعرفة (2/ 16).
(3) سورة النساء: آية (93).
(4) تفسير الطبري (9/ 66) 10197، والرحلة في طلب الحديث (139)، وتفسير عبد الرزاق (1/ 167)، وأورده السيوطي في الدر، وعزاه إلى عبد بن حميد، والبخاري، ومسلم، وأبي داود، وابن جرير، والطبراني عن سعيد بنحوه (2/ 623)، وفتح القدير (1/ 499).(1/417)
وكان إمام الكوفة في الفقه إبراهيم النخعي كثيرا ما يسأل سعيدا عن قول ابن عباس، ويدارسه إياه، لا سيما ما كان في تأويل آيات الحج.
فعن إبراهيم عن علقمة قال: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلََّهِ} (1).
قال: هو في قراءة عبد الله (وأقيموا الحج والعمرة إلى البيت)، قال: لا تجاوزوا بالعمرة البيت، قال إبراهيم: فذكرت ذلك لسعيد بن جبير فقال: كذلك قال ابن عباس (2).
وعن إبراهيم، عن علقمة قال: إذ أهلّ الرجل بالحج فأحصر، بعث بما استيسر من الهدي: شاة، قال إبراهيم: فذكرت ذلك لسعيد بن جبير فقال: كذلك قال ابن عباس (3).
وعن إبراهيم عن علقمة قال: إذ أهل الرجل بالحج فأحصر، بعث بما استيسر من الهدي: شاة، فإن عجل قبل أن يبلغ الهدي محله، فحلق رأسه، أو مس طيبا، أو تداوى، كان عليه فدية من صيام أو صدقة أو نسك، قال إبراهيم: فذكرت ذلك لسعيد ابن جبير فقال: كذلك قال ابن عباس (4).
وسأل إبراهيم سعيد بن جبير عن هذه الآية: {فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيََامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} (5).
__________
(1) سورة البقرة: آية (196).
(2) تفسير الطبري (4/ 7) 3185.
(3) المرجع السابق (4/ 28) 3254، وأورده السيوطي في الدر، وعزاه إلى سعيد بن منصور، وعبد بن حميد، وابن أبي حاتم، عن إبراهيم، بزيادة في أوله (1/ 512)، وفتح القدير (1/ 198).
(4) المرجع السابق (4/ 55) 3325.
(5) سورة البقرة: آية (196).(1/418)
فأجاب بقوله: يحكم عليه إطعام، فإن كان عنده اشترى شاة، فإن لم تكن قوّمت الشاة دراهم، فجعل مكانه طعاما، فتصدّق، وإلا صام لكل نصف صاع يوما، فقال إبراهيم: كذلك سمعت علقمة يذكر (1).
وقد اتضح أثر المنهج المكي في طبقة صغار التابعين من بعدهم، فقد اهتموا بنقل أقوال ابن عباس، وروايتها أكثر من اهتمامهم بأقوال أصحابهم، ومشايخهم في الكوفة.
فالسدي، الذي يعد من مشاهير مفسري التابعين، ومن أكثر الكوفيين رواية وتفسيرا (2) كان جل علمه في التفسير مأخوذا عن ابن عباس، وفي ذلك يقول: هذا التفسير أخذته عن ابن عباس (3).
وكان الضحاك بن مزاحم أحد مشاهير مفسري أتباع التابعين ومكثريهم (4) في الكوفة. نجد أن تفسيره كله كان عن ابن عباس، لقي سعيد بن جبير، فأخذه عنه (5).
وامتد هذا الأثر في عصر أتباع التابعين، فهذا سفيان الثوري، الذي يعد من أعلم الناس بمذهب أهل الكوفة، وكان يذهب مذهبهم، ويفتي بفتواهم، كما يقول ابن المديني، تأثر في التفسير بأصحاب ابن عباس، ونقل عنهم جلّ تفسيره (6). بل كان يقدمهم في التفسير على أصحابه من الكوفيين، وفي ذلك يقول: خذوا التفسير عن
__________
(1) تفسير الطبري (4/ 74) 3376.
(2) بعد مراجعة تفسير الطبري، وجدت أن المروي عن السدي (1682) قولا، في حين كان عن إبراهيم النخعي (608) أقوال، وعن عامر الشعبي (461) قولا.
(3) أخبار أصبهان (1/ 204)، ومعجم الأدباء (7/ 16).
(4) بعد مراجعتي لتفسير الطبري، وجدت أن المروي عنه كان (1214) قولا.
(5) تاريخ أبي زرعة (1/ 307) (2/ 677)، والمعرفة (2/ 148).
(6) وقد سبق بيان ذلك في فصل مصادر تفسير التابعين، ص (69).(1/419)
أربعة: عن سعيد بن جبير، ومجاهد، وعطاء، وعكرمة (1).
فعدهم جميعا من أصحاب ابن عباس، ولم يقدم عليهم أحدا من أصحابه الكوفيين.
أثرها على المدرسة البصرية:
كان الأثر المكي على الكوفة أكثر منه على البصرة، وإن كانت البصرة قد تأثرت بتولي ابن عباس رضي الله عنهما إمارة البصرة من قبل علي بن أبي طالب رضي الله عنه وبقائه بها أربع سنين (2) فأخذ عنه بعض أئمة المفسرين من البصرة، ومن أشهر هؤلاء أبو العالية، الذي صحب ابن عباس رضي الله عنهما وكان يدنيه ويجلسه على السرير معه، وكان أبو العالية كثير التردد على مكة، فقد حج ما يزيد عن ست وستين حجة، وكان إلى المنهج المكي أقرب منه إلى البصري (3).
وتتلمذ على ابن عباس جابر بن زيد، وأخذ عنه كثيرا من المسائل الفقهية حتى عدّ من أصحابه (4).
ولم يكن تأثر المدرسة البصرية بالمدرسة المكية مختصا بابن عباس، بل إن عكرمة مولى ابن عباس رحل إليها، فأعجب الحسن بعلمه، وبتقدمه في باب العلم بالقرآن، وتفسيره، فكان يسكت عن التفسير إجلالا له، واعترافا بقدره في هذا العلم، بل ترك كثيرا من التفسير لما دخل عكرمة البصرة (5).
__________
(1) تفسير الطبري (1/ 91)، ومقدمة في أصول التفسير (103).
(2) البداية والنهاية (8/ 327).
(3) سبق بيان ذلك في فصل أشهر رجال المدارس عند ترجمة أبي العالية ص (291).
(4) يأتي تفصيل ذلك عند الحديث عن مدرسة البصرة ص (441).
(5) طبقات المفسرين للداودي (1/ 381).(1/420)
وكان عكرمة يجالس البصريين فيحدثهم، ثم يقول: يحسن حسنكم مثل هذا (1).
وقد أخذ عنه غير واحد من البصريين، فنقل عنه قتادة بعضا من تفسيره (2).
بل كان يقدمه في علم التفسير على شيخه فيقول: أعلم الناس بالتفسير عكرمة (3).
كما أن عكرمة رحمه الله كان من أكثر أصحاب ابن عباس نشرا لتراثها، فقد رحل إلى المدينة، والكوفة، ومصر، والمغرب، وطاف غالب البلدان، فكان لذلك أثره البالغ في تلك الأمصار (4).
* * * __________
(1) تاريخ أبي زرعة (1/ 680).
(2) بعد مراجعتي لتفسير عكرمة عند الطبري، وجدت أن (30) رواية في التفسير جاءت من طريق قتادة، وقتادة سمع عن عكرمة، ولم يسمع من مجاهد وابن جبير شيئا، ولذا قلّ أن يروي عنهما، ينظر سؤالات ابن الجنيد لابن معين (317، 362).
(3) التمهيد (2/ 31)، ورياض النفوس (1/ 145).
(4) سيأتي عند بحث التفسير في مصر بيان أثر المدرسة المكية على التفسير في مصر بشيء من التفصيل، ينظر ص 542.(1/421)
المبحث الثاني المدرسة البصرية
أول من مصّر البصرة عتبة بن غزوان رضي الله عنه، اختطها سنة أربع عشرة (1)، بأمر عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وهي أقدم من الكوفة بثلاث سنين (2).
وهي منافسة لمدرسة الكوفة في كل الفنون، وقد نزلها من الصحابة جمع كثير (3)، منهم أبو موسى الأشعري، وعمران بن حصين رضي الله عنهما، وعدة من الصحابة كان خاتمتهم أنس بن مالك رضي الله عنه (4).
ومن أشهر من نزل البصرة أبو موسى الأشعري، وأنس بن مالك.
فأما أبو موسى رضي الله عنه فيمني قدم مكة، وأسلم، وهاجر إلى الحبشة مع من هاجر، وكان يعد من أعلم الصحابة، وقد قدم البصرة، وعلم بها. سأل عمر بن الخطاب أنس بن مالك: كيف تركت الأشعري؟ فقال: تركته يعلم الناس
__________
(1) المعارف (245)، وأسد الغابة (3/ 566)، والإصابة (2/ 455).
(2) المعارف (246).
(3) عدّ ابن حبان أكثر من خمسين صحابيا من المشاهير الذين دخلوا البصرة، ينظر مشاهير علماء الأمصار (4237).
(4) طبقات ابن سعد (7/ 26)، وطبقات الفقهاء (53)، ورجال صحيح مسلم (1/ 65)، وتهذيب تاريخ دمشق (3/ 144).(1/422)
القرآن (1).
أما أنس فهو ابن مالك: بن النضر بن ضمضم بن زيد بن حرام، أبو حمزة (2)
النجاري الخزرجي (3)، خادم رسول الله صلى الله عليه وسلّم، كان يتسمى بذلك ويفتخر به وحق له ذلك (4).
يقول رضي الله عنه: خدمت النبي صلى الله عليه وسلّم عشر سنين وأنا غلام (5).
ويقول أيضا: قدم رسول الله صلى الله عليه وسلّم المدينة وأنا ابن عشر سنين ومات وأنا ابن عشرين سنة (6).
وقد دعا له النبي صلى الله عليه وسلّم بكثرة المال، والولد، والمباركة في العمر فقال عليه الصلاة والسلام: «اللهم أكثر ماله وولده وبارك له فيه» (7).
قال الذهبي، وقد سرد صاحب التهذيب نحو مائتي نفس من الرواة عن أنس (8)، وروى ألفي حديث ومائتين وستة وثمانين حديثا، اتفق البخاري ومسلم على مائة وثمانين حديثا، وانفرد البخاري بثمانين حديثا، ومسلم بتسعين (9).
__________
(1) فجر الإسلام (184).
(2) الاستيعاب (1/ 109)، وتجريد أسماء الصحابة (1/ 31)، وأسد الغابة (1/ 151)، والثقات (3/ 4)، والإصابة (1/ 84).
(3) النسب لأبي عبيد (280)، وجمهرة أنساب العرب (350).
(4) تهذيب الأسماء واللغات (1/ 127).
(5) مسند أحمد (3/ 195، 227، 255)، ومعرفة الصحابة لأبي نعيم (2/ 202).
(6) صحيح مسلم (3/ 1603) 2029، ومسند الحميدي (2/ 499) 1182، وتاريخ أبي زرعة (1/ 565)، ومعرفة الصحابة (2/ 201) 795.
(7) صحيح مسلم (1/ 457، 458) (4/ 1928)، والمعجم الكبير (1/ 221)، وتهذيب الأسماء (1/ 127).
(8) السير (3/ 397).
(9) مقدمة مسند بقي (79)، وتهذيب الأسماء (1/ 127)، والسير (3/ 406)، وتدريب الراوي (2/ 217).(1/423)
ولقد تأثرت البصرة بالمنهج المدني، وأحسب أن السبب في ذلك يرجع إلى نشأة الحسن هناك وتربيته في بيت أم سلمة رضي الله عنها، فلقد رسخ الحسن علاقته بسعيد ابن المسيب، وكان يكاتبه ونهج منهجه في البعد عن الفتن (1).
وقد درج قتادة على هذا النحو، ولا سيما بعد رحلته للمدينة، وتحمله عن سعيد، كما أننا نلمح الطابع المدني في اهتمام قتادة بالآثار وإن كان الإرسال كثيرا في رواياته، وروايات شيخه الحسن قبله، وتساهلا في الرواية بالمعنى أيضا.
ولم تتأثر البصرة بالمدرسة الكوفية إلا فيما يتعلق بنقل قراءة ابن مسعود، أما في باقي التفسير فلم أر لهما نقلا عن ابن مسعود إلا في موضعين وكلاهما في الوعظ (2).
وأما المدرسة المكية، فمع تأثر بعض البصريين بمنهج المكيين، كأبي العالية الذي كان قد حج ستا وستين حجة (3)، وكان ابن عباس يقدره، ومع ذلك لم ينقل علم المكيين عن أبي العالية لقلة تلاميذه وحبه للخفاء وبعده عن التصدر والإفتاء والتدريس، بل على الرغم من أن ابن عباس كان أميرا على البصرة أيام علي رضي الله عنه إلا أن تأثيره لم يتعد إلى كل البصريين، فإمام البصرة الحسن لم يلق ابن عباس، يقول ابن المديني: لم يسمع من ابن عباس ما رآه قط، كان الحسن بالمدينة أيام كان ابن عباس بالبصرة، استعمله عليها علي رضي الله عنه وخرج إلى صفين (4).
وكذلك لم يحج الحسن إلا مرتين (5) ولم يلق فيهما ابن عباس، ولم يرو قتادة عن
__________
(1) سيرة الإمام مالك لأبي زهرة (56).
(2) عند قوله تعالى: {يََا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ} المائدة: آية (105)، ينظر تفسير الطبري (11/ 139)، 12849، وعند شرح مثل المهل في قوله تعالى: {وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغََاثُوا بِمََاءٍ كَالْمُهْلِ} سورة الكهف: آية (29)، تفسير الطبري (15/ 239).
(3) المعارف (200).
(4) المعارف (33)، ويراجع في ولاية ابن عباس على البصرة تاريخ الطبري (5/ 224، 236)، (6/ 90)، والإصابة (2/ 325).
(5) الحسن البصري لإحسان عباس (21).(1/424)
ابن عباس أيضا، ولم يسمع من سعيد بن جبير، ولا من مجاهد (1) ولا من الشعبي ولا من النخعي (2)، ولذا لم تتأثر البصرة بمنهج المكيين.
إلا أن المدرسة البصرية أخذت جانبا من علوم المدرسة المكية بعد أن زارها عكرمة وحدث بها، حتى إن قتادة قال: أعلم الناس بالحلال والحرام الحسن، وأعلمهم بالتفسير عكرمة (3).
وكان الحسن لا يفسّر ما دام عكرمة بالبصرة.
ولنحفظ هنا أمرا آخر، وهو أن المدرسة البصرية لم تسر على نهج المدينة في جهة الرأي والأهواء، فهم وإن كانوا بعيدين عن كثير من الأهواء رغم التهمة ببعضها، إلا أنهم كانوا مكرمين، ومحتفين بعكرمة، في حين كان لا يقبله ابن المسيب والمدنيون، بل لم يحفلوا بتشييع جنازته (4).
لقد كثر نتاج المدرسة البصرية، وهي ثاني المدارس بعد المكية أثرا في التفسير، واعتمدت على اجتهادات الحسن الذي أفاد من فقه عمر وأنس، وغلب عليها الوعظ، حتى كان أهلها أكثر الناس هيبة لانتهاك الحرمات (5)، وأكثر من استفاد من هذه المدرسة أهل اليمن بعد نزول معمر بن راشد بها، ويحيى بن سلام، الذي نشر تفسيره في بلاد المغرب فتأثر المغاربة بتفسير الحسن، وقتادة، وأكثروا من النقل عنهم (6).
__________
(1) العلل لأحمد (3/ 284) 5263، وسؤالات ابن الجنيد لابن معين (317، 362).
(2) المعرفة (2/ 124، 661).
(3) المعرفة (1/ 701)، (2/ 216)، والسير (5/ 217).
(4) التمهيد (2/ 27).
(5) قال ابن جبير: ما رأيت أحدا أرعى لحرمة هذا البيت، ولا أحرص عليه من أهل البصرة، ينظر الحلية (4/ 1276).
(6) كأبي حيان، وابن جزي، وابن عطية، والزركشي وغيرهم، يراجع كتاب التسهيل (10)، والبحر المحيط (1/ 13)، والبرهان (2/ 158)، وينظر تفسير كتاب الله العزيز لهود الهواري (1/ 22، 32، 33).(1/425)
وفيمل يلي دراسة مقارنة لأعلام هذه المدرسة التي أغفلها الكثيرون رغم تقدمها وثراء نتاجها، وتأثيرها الواسع في التفسير.
* * *
مقارنة بين البصريين(1/426)
* * *
مقارنة بين البصريين
بين الحسن، وقتادة:
هذه مقارنة بين التلميذ وشيخه، فقد جالس قتادة أستاذه الحسن ما يزيد على ثنتي عشرة سنة، فنما بإذن ربه، وآتى أكله طيبا، بل فاق شيخه في كثرة المروي عنه في التفسير، حتى صار المروي عن الأستاذ لا يعادل إلا قريبا من ربع المروي عن تلميذه (1).
نعقد هذه المقارنة بين علمين من أعلام البصرة، كان لهما الأثر البالغ في التفسير، واللذين بسببهما احتلت البصرة المرتبة الثانية بعد المكية في التفسير، وقد تشابها رحمهما الله في كثير من أوجه الشبه، واختلفا في بعض المسائل، وسنعرض في هذا المقام بعضا من ذلك.
فمن أبرز ما تشابها فيه: التوجيه الدعوي والوعظي لآيات الكتاب العزيز، وإن كان قتادة في هذا ناقلا لكثير من علم أستاذه الحسن، ومتأثرا بأسلوبه البديع المؤثر، فقد تشابها في هذا حتى إن القارئ لتفسيرهما ليخال أنه خرج من مشكاة واحدة، وتأثر به قلب واحد، ونطق به لسان واحد.
كما أن من أوجه الشبه بينهما في التفسير، والتي اتضحت من خلال التأمل لتأويلهما قلة عنايتهما بمبهمات القرآن، وندرة الاعتماد على ما جاء عن أهل الكتاب (2)، وكذا قلة الاشتغال بمعرب القرآن وكلياته، وغير ذلك من أوجه الشبه.
__________
(1) المروي عن الحسن كما وجدته عند الطبري (1487) قولا، وعن قتادة (5379) قولا، أي: ما نسبته (28، 0) من مجموع تفسيره.
(2) مقارنة بالمكيين الذين أكثروا.(1/427)
هذه مقدمة أشرع بعدها في بيان ما هو أهم ألا وهو التماس بعض أوجه الافتراق والاختلاف بينهما لأن الناظر في أحوالهما وأقوالهما قد لا يلاحظ تلك المفارقات، لكن بعد طول نظر وتأمل تبين لي ما يلي:
1 - تفوق الحسن في المسلك الوعظي، والتوجيه الدعوي لتفسيره، وأثر ذلك تأثيرا مباشرا على قتادة، فحذا حذوه، ونهج سبيله، واقتفى أثره، ومما هو مقرر سلفا أن الحسن بلغ في هذا الباب مبلغا صار به فردا بين التابعين (1)، وذهب على أهل زمانه بالمواعظ، والرقائق (2)، فكان نصيحا إذا وعظ، فصيحا إذا لفظ، حتى شبه كلامه بكلام الأنبياء (3) لبلاغته، وتأثيره في السامعين، وصار يضرب به المثل في الوعظ والتذكير. فهل كان قتادة كذلك؟!.
بعد رجوعي لتفسيره، وجدت أن ما يزيد عن ألف رواية في التفسير كانت في الوعظ والتذكير، وأن كثيرا منها شابه كلامه فيها كلام الحسن، لدرجة أنه قد يصعب التفريق بين كلام كل واحد منهما.
ومما يستغرب هنا أنه مع كثرة مروياته، وتقدمه في هذا الجانب فإنني لم أجد في كتب التراجم من أشار إلى تقدمه في الوعظ، كما صنع مع الحسن، فوقع في روعي أن ما روي عنه هنا إنما استفاد جله من شيخه الحسن، ولم تكن تلك الكلمات من بنات أفكاره، لا سيما أن قتادة متع بحافظة نادرة انفرد بها بين التابعين.
وحين أردت استيضاح الأمر، رجعت إلى كتب الزهد والرقائق ككتاب ابن المبارك، وأحمد، ووكيع، وهنّاد، فوجدت ما يؤكد ما ذهبت إليه، فالمروي عن قتادة في هذه الكتب قليل جدا، إذا ما قورن بالحسن، بل إنه لم يجاوز عشر المروي عن
__________
(1) صبح الأعشى (1/ 517).
(2) العلل لأحمد (1/ 492) 1140.
(3) الحلية (2/ 147).(1/428)
الحسن (1).
2 - ما روي عن الحسن في باب الفقه والإفتاء (2)، وتناول آيات الأحكام (3) أكثر بكثير من صاحبه، الذي لم ينقل عنه في هذا الباب إلا القليل. ولعل من أهم الأسباب التي جعلت قتادة لا يقلد شيخه في هذا كراهيته للرأي، وإيثاره للنقل والأثر، ويدل على ذلك ما روي عنه حين سئل عن مسألة وقيل له: قل فيها برأيك، قال: ما قلت برأي منذ أربعين سنة (4).
وأما شيخه رحمه الله فكان يتساهل في هذا، فحين سأله أبو سلمة بن عبد الرحمن فقال له: ما تفتي به الناس شيء سمعته، أو شيء تقوله برأيك؟ قال: لا، والله ما كل ما نفتي به سمعناه، ولكن رأينا خير لهم (5).
ولذا كان أبو سلمة يقول له: يا أبا سعيد، إني أرى قوما (يعني أنهم يأخذون برأيه) فاتق رأيك (6).
3 - تقدم الحسن في جمعه للعديد من أنواع العلوم، فكان من أعلمهم بالقرآن، والفقه، والأدب، وكان بعض أصحابه يصحبه للتفسير، وبعضهم للفقه، وآخرون للبيان والبلاغة، ولذا نجد أن كثيرا من الأئمة كانوا يستثنون الحسن من كل غاية، فيقال: فلان أزهد إلا من الحسن، وأفقه إلا من الحسن، وأقرأ إلا من الحسن، وكان
__________
(1) مجموع ما روي عن الحسن في هذه الكتب بلغ (464) رواية، في حين بلغ عن قتادة (37) رواية، مع أن جانبا كبيرا من الآثار الواردة عنهما كانت حول تفسير آيات الوعد والوعيد.
(2) المروي عن الحسن في كتاب المغني أكثر من (912) قولا، وعن قتادة (334) قولا.
(3) بعد مراجعة تفسير الطبري، وجدت أن ما نسبته (11، 0) من مجموع تفسير الحسن كان حول تأويل آيات الأحكام، في حين بلغت هذه النسبة عن قتادة (02، 0) فقط من مجموع تفسيره.
(4) الجرح (7/ 134).
(5) تهذيب الكمال (6/ 108).
(6) المرجع السابق (6/ 109).(1/429)
تلاميذه يفاخرون بهذا فيقولون: كان علمه في كل شيء (1).
4 - كان الحسن أكثر إعمالا للرأي في تفسيره من قتادة، فقد تعرض للعديد من مشكل الألفاظ، وفسرها، بل إننا نلاحظ في بعض المروي عنه ما يخالف الظاهر من النص القرآني، بخلاف حال صاحبه، الذي كان مع كثرة المروي عنه، يندر أن تجد منقولا عنه يخالف فيه ظاهر النص القرآني.
فإنه قد يخالف شيخه أحيانا، ولا سيما إذا رأى مخالفته للظاهر من الآية القرآنية.
فعن عمران القطان قال: سمعت الحسن يقول في قوله: {فَلَوْلََا أَنَّهُ كََانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ} (2) قال: فو الله ما كانت إلا صلاة أحدثها في بطن الحوت، قال عمران: فذكرت ذلك لقتادة، فأنكر ذلك وقال: كان والله يكثر الصلاة في الرخاء (3).
وحين سئل عن موت الجن قال الحسن: الجن لا يموتون (4)، اعترض عليه قتادة بقوله تعالى: {أُولََئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كََانُوا خََاسِرِينَ} (5).
5 - وفي مقابل ما سبق من حال الحسن، فإن قتادة كان إلى الأثر أقرب منه، وساعده على ذلك أنه كان يملك حافظة قوية، مكنته من حفظ وإتقان المنقول من أقوال المصطفى صلى الله عليه وسلّم.
__________
(1) تاريخ أبي زرعة (2/ 683).
(2) سورة الصافات: آية (143).
(3) تفسير الطبري (23/ 101)، وزاد المسير (7/ 87)، وأورده السيوطي في الدر، وعزاه لأحمد، وابن أبي حاتم، وابن جرير، عن الحسن بنحوه (7/ 126).
(4) تفسير الطبري (26/ 20).
(5) سورة الأحقاف: آية (18).(1/430)
قال ابن سيرين: قتادة أحفظ الناس (1)، وكان لا يسمع بشيء إلا حفظه (2).
بل إن هذه الحافظة ساعدته ومكنته من التقدم أيضا في العلوم النقلية الخادمة للتفسير، كعلم أسباب النزول (3) وغيره (4).
بخلاف حال شيخه، الذي كان أقل منه إتقانا لمحفوظه، يقول عن نفسه: لولا النسيان كان العلم كثيرا (5)، فأصبح يرى جواز الرواية بالمعنى، ويرى جواز التقديم والتأخير، والزيادة والنقصان إذا كان المعنى واحدا.
6 - وقد فاق قتادة شيخه أيضا في تعدد مصادره، وكثرة رحلاته، فقد أخذ وروى عن أكثر من مائة وعشرين نفسا (6)، ولذا كان أعلم بالخلاف من أستاذه.
وفي هذا يقول الإمام أحمد: كان عالما بالتفسير، وباختلاف العلماء، وقلما تجد من تقدمه (7).
7 - توسع قتادة في القول بنسخ جملة كبيرة من الآيات، وكان من أوائل من ألف في هذا (8)، وقد تأثر في هذا بشيخه الثاني سعيد بن المسيب.
__________
(1) سنن الدارمي (2/ 43)، والبداية (9/ 352).
(2) تاريخ الخميس (2/ 319).
(3) بعد مراجعتي لتفسير الطبري، وجدت أن (035، 0) من مجموع تفسير الحسن كان في بيان أسباب النزول، في حين بلغت النسبة عن قتادة (07، 0) من مجموع تفسيره.
(4) مثل الاعتماد على أقوال الصحابة. فبعد مراجعتي للمسند المجموع من تفسير عمر بن الخطاب وجدت أن (14، 0) من مجموع تفسيره من رواية قتادة، في حين كان (09، 0) من مجموع تفسيره من رواية الحسن.
(5) المعرفة (2/ 33).
(6) تهذيب الكمال (23/ 499).
(7) السير (5/ 276).
(8) البرهان (2/ 28)، ويراجع تفصيل ذلك في ترجمة قتادة ص (275)، وسيأتي له مزيد بيان إن شاء الله في مبحث الحديث عن أثرهم في أصول التفسير ص (1081).(1/431)
كما أن من العلوم التي تعرض لها أكثر من تعرض شيخه علم مناسبات الآيات، وأكثر من الحديث عن أمثال القرآن، وتناولها بالشرح والبيان (1).
8 - ومما تميز به قتادة أيضا: تخصص بعض أصحابه في نقل تفسيره وروايته كما سبق بيان ذلك.
بين الحسن وابن سيرين:
انتهت إلى هذين الإمامين إمامة البصرة، ورئاسة العلماء فيها، وكانا كفرسي رهان في الفضل والعلم والورع.
فعن سوار بن عبد الله قال: كان محمد والحسن سيدي أهل هذا المصر عربيها ومولاها (2).
ويقول عمرو بن مرة: إني لأغبط أهل البصرة بذينك الشيخين: الحسن، ومحمد (3)، وقد تشابها في كثير من السجايا والصفات، فاجتمعا في كونهما بصريين متعاصرين، كل واحد منهما من الموالي، فكان ابن سيرين مولى أنس بن مالك رضي الله عنه (4)، وكانت أم ابن سيرين كأم الحسن، مولاة خدمت في بيوت أصحاب النبي صلى الله عليه وسلّم، وهي مولاة أبي بكر الصديق، وكلاهما أخذ وروى عن أنس بن مالك رضي الله عنه، كما تشابها في العيش في المدينة في سني عمرهما الأولى، ثم الانتقال إلى البصرة، ومع كل هذا فإنه كان بينهما كثير من المفارقات في المنهج والسلوك، وقد أشار كثير من الأئمة إلى تلك المفارقات، وعقدوا بينهما المقارنات.
وسأعرض في هذا المقام أهم تلك الفروق الرئيسة بينهما مبينا السبب في قلة
__________
(1) سبق تفصيل ذلك في ترجمة قتادة ص (270).
(2) طبقات ابن سعد (7/ 197).
(3) مختصر تاريخ دمشق (22/ 221).
(4) طبقات ابن سعد (7/ 193).(1/432)
المروي من تفسير القرآن عن ابن سيرين رحمه الله.
فمن أهم الأسباب التي تطالعنا عند الرجوع إلى سيرة هذا الإمام ما يلي:
1 - الورع، وحب الخفاء، والخوف من الشهرة:
كان ابن سيرين رحمه الله كثير الورع، يقول عنه سفيان الثوري: لم يكن كوفي ولا بصري في مثل ورع ابن سيرين (1).
وعن مورق العجلي قال: ما رأيت أحدا أفقه في ورعه، ولا أورع في فقهه من محمد بن سيرين (2).
ويقول هشام الدستوائي: ما رأيت أحدا أفضل من الحسن، ولا أورع من ابن سيرين (3).
وعن يونس بن عبيد قال: أما الحسن، فإني لم أر رجلا أقرب قولا من فعل، من الحسن.
وأما ابن سيرين، فإنه لم يعرض له أمران في دينه، إلا أخذ بأوثقهما (4).
وعن الحجاج بن الأسود قال: تمنى رجل فقال: ليتني بزهد الحسن، وورع ابن سيرين (5).
وكان من شدة ورعه أنه يدع الحلال تأثما (6)، وكان يقول: نفسي تكلفني أشياء،
__________
(1) السير (4/ 610).
(2) طبقات ابن سعد (7/ 196)، والمعرفة (2/ 56)، ومختصر تاريخ دمشق (22/ 221).
(3) تاريخ أبي زرعة (2/ 683).
(4) المرجع السابق (2/ 684).
(5) المعرفة (2/ 61)، وطبقات ابن سعد (7/ 165).
(6) مختصر تاريخ دمشق (22/ 223).(1/433)
وددت أنها لا تكلفني (1).
وعن ابن عون قال: كان محمد يغتسل كل يوم (2)، وقد علق الذهبي على هذا بقوله: كان محمد مشهورا بالوسواس (3).
وكان لهذا الورع أثره عليه، في بث علمه، وبلاغه، فكان يكره الشهرة ويؤثر الخفاء، وكان يقول: لم يكن يمنعني عن مجالستكم إلا مخافة الشهرة (4).
وكان رحمه الله يبقى مستخفيا في البصرة (5)، وأقام في دمشق أربع سنين لا يعرف (6). وكان من أشد الناس إزراء على نفسه (7).
يقول ابن شبرمة: لم أر أجبن من فتوى منه (8).
ويقول عبد الله بن عون: ما لقيت آلف من ثلاثة: رجاء بن حيوة بالشام، والقاسم ابن محمد بالحجاز، وابن سيرين بالعراق (9).
وكان رحمه الله إذا أراد أن يحدث كأنه يتقي شيئا، وكأنه يحذر شيئا (10).
وكان من المفارقات الرئيسة بينه وبين الحسن، أن الحسن تكلم وبلّغ العلم احتسابا، وسكت ابن سيرين احتسابا (11).
__________
(1) طبقات ابن سعد (7/ 200).
(2) المرجع السابق (7/ 203)، والسير (4/ 618).
(3) السير (4/ 618).
(4) الحلية (2/ 271)، وتاريخ بغداد (5/ 335).
(5) المعرفة (2/ 67)، ومختصر تاريخ دمشق (22/ 217).
(6) مختصر تاريخ دمشق (22/ 217).
(7) تاريخ بغداد (5/ 335)، والسير (4/ 615).
(8) السير (4/ 614).
(9) المعرفة (2/ 368).
(10) طبقات ابن سعد (7/ 194)، ومختصر تاريخ دمشق (22/ 221).
(11) العلل لأحمد (3/ 137) 4601، وتهذيب الأسماء (2/ 58).(1/434)
وكان رحمه الله يجلس فيحدث أصحابه بالأخبار والأشعار، وينبسط إليهم، فإذا سئل عن شيء من الفقه والحلال والحرام تغير لونه وتبدل، حتى كأنه ليس بالذي كان (1).
وكان من شدة ورعه رحمه الله لا يفتي في الفرج بشيء فيه اختلاف (2).
وكان يقول لما سمع ما روي عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه يفتي الناس أحد ثلاثة: من يعلم ما نسخ من القرآن، أو أمير لا يجد بدا، أو أحمق متكلف، فكان ابن سيرين يقول: فلست بواحد من هذين، ولا أحب أن أكون الثالث (3).
2 - كراهيته للرأي، وقلة الاجتهاد عنده:
فقد كان رحمه الله لا يقول برأيه في شيء إلا ما سمعه (4)، وكان يقول: ما دام على الأثر، فهو على الطريق (5).
وعن قتادة قال: حدث ابن سيرين رجلا بحديث عن النبي صلى الله عليه وسلّم، فقال رجل: قال فلان كذا وكذا، فقال ابن سيرين: أحدثك عن النبي صلى الله عليه وسلّم، وتقول: قال فلان كذا وكذا، لا أكلمك أبدا (6).
أما الحسن فإنه كما قال طاوس رجل جريء (7)، وقد سأله رجل، فقال له: ما تفتي به الناس شيئا سمعته أو تقول برأيك؟ قال: لا والله ما كل ما نفتي به سمعناه،
__________
(1) الحلية (2/ 264)، وطبقات ابن سعد (7/ 195)، والفقيه والمتفقه (2/ 167).
(2) سنن الدارمي (1/ 56).
(3) أعلام الموقعين (1/ 28).
(4) العلل لأحمد (3/ 490) 6101، وسنن الدارمي (1/ 47).
(5) سنن الدارمي (1/ 54).
(6) المرجع السابق (1/ 117).
(7) المعرفة (2/ 44).(1/435)
ولكن رأينا خير لهم (1).
ولذا نجد التقارب بين أهل الأثر من الكوفة مع ابن سيرين، وعدم رضاه على أهل الرأي في الكوفة، فكان الشعبي يوصي أصحابه بالذهاب إلى ابن سيرين (2)، ونجد ابن سيرين يحب الشعبي، ويثني عليه (3)، ولا يرضى عن صنيع إبراهيم النخعي، وأصحابه (4).
3 - اشتغاله بالحديث، وتشدده في روايته متنا وإسنادا:
كان رحمه الله محبا للآثار، مشتغلا برواية السنن، والتحديث بها إلا أنه كان من أشد التابعين في الرواية، فكان يعيد الحديث بحروفه، ولا يرى روايته بالمعنى.
يقول ابن عون: كان إبراهيم، والشعبي، والحسن، يأتون بالحديث على المعاني، وكان القاسم، وابن سيرين، ورجاء بن حيوة، يعيدون الحديث على حروفه (5).
ويقول هشام الدستوائي: كان ابن سيرين إذا حدث لم يقدم ولم يؤخر، وكان الحسن إذا حدث قدم وأخر (6).
وكان من شدته وحرصه في هذا أنه يتكلف الحديث كما يسمع، وكان يروي الحديث ملحونا، إذا كان سمعه كذلك ولا يغيره (7).
ولما أخبر أن الحسن، وإبراهيم، والشعبي، يحدثون بالحديث مرة هكذا، ومرة
__________
(1) تهذيب الكمال (6/ 108).
(2) السير (4/ 608)، ومختصر تاريخ دمشق (22/ 222).
(3) أخبار القضاة (2/ 421)، والتذكرة (1/ 82).
(4) العلل لأحمد (2/ 449) 2993.
(5) طبقات ابن سعد (7/ 454)، والمعرفة (2/ 368).
(6) سنن الدارمي (1/ 93).
(7) جامع بيان العلم (1/ 133)، والكفاية (186)، والجامع لأخلاق الراوي (2/ 21).(1/436)
هكذا، قال: أما إنهم لو كانوا يحدثون كما سمعوه كان خيرا لهم (1).
هذا في جانب متن الحديث ونصه، أما في إسناده فكان ابن سيرين من أوائل من نقد الرجال (2)، وكان أيوب السختياني يقول عنه: كان الرجل يحدث محمدا بالحديث، فلا يقبل عليه ذاك الإقبال، قال: فيقول: إني والله ما أتهمك، ولا أتهم ذاك، ولكني أتهم من بينكما (3).
وكان رحمه الله يعيب على من يتساهلون في تصديق الأخبار، فكان يقول:
ثلاثة يصدقون من حدثهم: أنس، وأبو العالية، والحسن البصري (4).
قال الخطيب البغدادي: أراد ابن سيرين أنهم كانوا يأخذون الحديث عن كل أحد، ولا يبحثون عن حاله لحسن ظنهم به، وهذا الكلام قاله ابن سيرين على سبيل التعجب منهم في فعلهم وكراهته لهم ذلك (5) اه.
ومن الفوارق بينهما كما قال ابن معين: كان الحسن أنبل الرجلين ورجال ابن سيرين أنقى من حديث الحسن (6)، ومع أن الحسن أدرك ما يزيد عن مائة صحابي، وابن سيرين لم يدرك إلا ثلاثين منهم (7) فإن الأئمة صححوا مراسيله لأنه كان يتشدد، ولا يسمع إلا من ثقة (8)، وعدوا مراسيل الحسن من أوهى المرسلات (9).
وكان من احتياطه وشدته في هذا أنه كان يقول: إن هذا العلم دين فانظروا عمن تأخذون دينكم (10).
__________
(1) العلل لأحمد (2/ 391) 2746، والمحدث الفاصل (534)، والكفاية (206).
(2) شرح علل الترمذي (63).
(3) العلل لأحمد (2/ 386) 2721.
(4) الكفاية (373).
(5) الكفاية (373).
(6) تاريخ ابن معين (2/ 112).
(7) تهذيب الأسماء واللغات (1/ 83)، ومختصر تاريخ دمشق (22/ 220).
(8) التمهيد (1/ 30)، والنكت على ابن الصلاح (2/ 557).
(9) الموقظة (40).
(10) صحيح مسلم المقدمة (1/ 14)، والحلية (2/ 278).(1/437)
وكان من شدته أنه روى عن عكرمة، ولم يكن يسميه لأنه لم يكن يرضاه (1).
وكان يقول: نبئت عن ابن عباس (2). بخلاف حال الحسن الذي كان يترك التفسير إذا دخل عكرمة البصرة (3).
4 - كراهيته للكتابة:
وهذا من أوجه الخلاف بينه وبين صاحبه الحسن، فكان ابن سيرين يكره الكتابة (4)، وكان لا يكتب، والحسن يكتب (5)، بل كان ابن سيرين يحذر أصحابه من الكتابة، ويقول: إياكم والكتب، فإنما تاه من كان قبلكم، أو قال: ضل من كان قبلكم بالكتب (6).
وعن ابن عون قال: سمعت محمدا يقول: لو كنت متخذا كتابا لا تخذت رسائل النبي صلى الله عليه وسلّم (7).
ولما جاءه عاصم الأحول بكتاب يريد أن يضعه عنده، فقال له: لا يبيت عندي (8).
كان ما سبق بيانا للفوارق الرئيسة بين هذين الإمامين، وذلك من الأسباب التي قللت نتاج هذا الإمام في العلم بعامة، وفي التفسير بخاصة (9).
__________
(1) سبق ذلك في ترجمة عكرمة (ص 178).
(2) تهذيب الكمال (20/ 273)، والسير (5/ 30)، وطبقات المفسرين للداودي (1/ 381).
(3) سبق بيان ذلك ص (175).
(4) العلل لأحمد (2/ 392) 2752، والعلم لأبي خيثمة (31).
(5) سنن الدارمي (1/ 121)، والعلم لأبي خيثمة (125).
(6) طبقات ابن سعد (7/ 194)، والعلم لأبي خيثمة (145).
(7) طبقات ابن سعد (7/ 194).
(8) العلل لأحمد (3/ 241) 5061، والمعرفة (2/ 55)، والكفاية (353).
(9) رجعت إلى تفسير ابن كثير، فلم أجد له إلا خمسين رواية، جلها منقول عنه في بيان حكم فقهي.(1/438)
ولم يكن يكتفي بذلك الإقلال من نفسه، بل كان يدعو إليه، ويعتب على الحسن كثرة تحدثه في التفسير فيقول: تفسر القرآن وكأنك شهدت التنزيل (1).
وقبل أن أختم هذه المقارنة بين هذين العلمين في مدرسة البصرة أحب أن أذكر طرفا من بقية الخلاف بينهما في الأحوال، والمناهج.
فعن الأشعث قال: أنا أصفهما لكم يعني: الحسن وابن سيرين كنا ندخل على الحسن فإنما هو النار، وأمر الآخرة، والموت، وكنا ندخل على ابن سيرين، فكان يمزح، ويضحك، ويتحدث، فإذا أردته على شيء من أمر دينه، كنت إلى أن تنال السماء أقرب منك إلى ما تريد (2).
ويقول أيضا: كنا إذا أتينا الحسن، لا نسأل عن خبر، ولا نخبر بشيء، وإنما كان في أمر الآخرة.
قال: وكنا نأتي محمد بن سيرين، فيسألنا عن الأخبار والأشعار (3).
وعن يونس بن عبيد قال: كان الحسن رجلا محزونا، وكان ابن سيرين صاحب ضحك، ومزاح (4)، بل كان ابن سيرين رحمه الله يضحك حتى يستلقي (5).
وقد كان لذلك الأثر الواضح في تباين مناهجهما الدعوية، فكانوا يقولون: خذوا بحلم ابن سيرين، ولا تأخذوا بغضب الحسن (6).
وكان لهذا الحلم عند ابن سيرين أثره في منهجه ومسلكه، وفي ذلك يقول أيوب
__________
(1) بهجة المجالس (1/ 95).
(2) مختصر تاريخ دمشق (22/ 224).
(3) طبقات ابن سعد (7/ 167).
(4) المرجع السابق (7/ 162).
(5) الحلية (2/ 274)، والمعرفة (2/ 63).
(6) طبقات ابن سعد (7/ 195)، والسير (4/ 615).(1/439)
السختياني، وهشام الدستوائي: ما رأينا أحدا أعظم رجاء لأهل القبلة من ابن سيرين (1).
وكان من منهج الحسن أن يجيء إلى السلطان، ويعيبهم، وكان ابن سيرين لا يجيء إلى السلطان، ولا يعيبهم (2).
وقد بعث عمر بن عبد العزيز بعد أن تولى الخلافة إلى الحسن فقبل، وبعث إلى ابن سيرين فلم يقبل (3).
وكان ابن سيرين أعلم بالقضاء من الحسن، لدقة معرفته بأحوال الناس (4)، وكان ابن سيرين أفطن من الحسن في أشياء (5)، ولذا لما تولى الحسن القضاء لم يحمد (6).
يقول إياس بن معاوية قاضي البصرة: لست بخب، ولا يغبنني، ولا يغبن ابن سيرين، ولكن يغبن الحسن (7).
ومن الموافقات في الأقدار، أن ابن سيرين توفي بعد الحسن بمائة يوم (8)، فقد مات لتسع مضين من شوال سنة عشر ومائة (9).
وقد سئل ابن سيرين عن تعبير رؤيا فقال له رجل: رأيت كأن الجوزاء تقدّمت الثريا، قال: الحسن يموت قبلي، ثم أتبعه، وهو أرفع مني (10).
__________
(1) طبقات ابن سعد (7/ 197)، وتهذيب الأسماء (1/ 84).
(2) المعرفة (2/ 64)، والسير (4/ 615).
(3) طبقات ابن سعد (7/ 202).
(4) تهذيب الأسماء (1/ 84).
(5) السير (4/ 608).
(6) أخبار القضاة (2/ 8، 11).
(7) إحياء علوم الدين (2/ 80).
(8) طبقات ابن سعد (7/ 206)، ومختصر تاريخ دمشق (22/ 218، 233).
(9) السير (4/ 621).
(10) الحلية (2/ 277)، والسير (4/ 618).(1/440)
قال الإمام الذهبي: وكان ابن سيرين له عجائب يطول ذكرها في تعبير الرؤيا، وكان له في ذلك تأييد إلهيّ (1).
وبعد هذا العرض الموجز لأوجه الخلاف بين إمامين عاشا في مدرسة واحدة، وتعاصرا وأخذا عن صحابي واحد، فكان بينهما من التشابه والاختلاف ما كان، فكان من نتاج ذلك الخلاف في المنهج أن ظهر أثر الحسن في المدرسة في التفسير، وأثرى البصرة في مجال التأويل، وقل أثر ابن سيرين وانحسر.
أنتقل بعد ذلك إلى الحديث عن إمام آخر، هو ثالث الأئمة إذا عدّ العلماء من البصرة أعني جابر بن زيد، مبينا سبب ندرة المروي عنه في التفسير، ومبرزا أهم ما انفرد به عن أصحابه.
جابر بن زيد والبصريون:
هو جابر بن زيد الأزدي البصري (2)، أبو الشعثاء (3)، من كبار التابعين بالبصرة يقول عنه الذهبي: كان عالم أهل البصرة في زمانه، يعدّ مع الحسن، وابن سيرين، وهو من كبار أصحاب ابن عباس (4).
قال الإمام أحمد: أصحاب ابن عباس ستة: طاوس ومجاهد وسعيد بن جبير، وعطاء، وجابر بن زيد، وعكرمة آخر هؤلاء (5).
وجابر من أكثر البصريين تأثرا بابن عباس (6) إلا أن جلّ هذا التأثر كان في معرفة
__________
(1) السير (4/ 618).
(2) المعارف (200)، والأنساب للسمعاني (3/ 374)، والغاية (1/ 189)، والنجوم الزاهرة (1/ 252).
(3) طبقات ابن سعد (7/ 179)، وتهذيب الأسماء (1/ 141).
(4) السير (4/ 481).
(5) العلل لأحمد (1/ 294) 477، (2/ 500) 3296.
(6) مقارنة بصاحبيه: الحسن وابن سيرين.(1/441)
الأحكام الفرعية، أما في التفسير فقد كان رحمه الله من المقلين، ولم أجد له في كتب التفسير إلا القليل من الروايات (1)، ومرد ذلك والله أعلم أنه قد صرف جهده واستفرغ علمه في الفقه والإفتاء، فكان مفتي البصرة، فقد كان الحسن يغزو، وكان مفتي الناس جابر (2).
وكان ابن عباس رضي الله عنهما يقول لأهل البصرة: تسألونني وفيكم ابن زيد؟! (3).
ويثني عليه بقوله: لو أن أهل البصرة نزلوا عند قول جابر بن زيد لأوسعهم علما عمّا في كتاب الله (4).
ولما سئل أيوب السختياني: هل رأيت جابر بن زيد؟ قال: نعم، كان لبيبا لبيبا لبيبا (5).
ولعل من أهم الأسباب التي قللت نتاجه في التفسير، اشتغاله بعلم معرفة الأحكام الشرعية الفرعية، وتصدره للإفتاء، مع ما كان عنده من الورع، فكان كما يصفه صالح الدهان أحد أصحابه بقوله: ما سمعت جابرا قط يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم (6).
__________
(1) بعد مراجعتي لتفسير ابن كثير، وجدت له (22) قولا فقط، منها (17) قولا في تفسير آيات الأحكام، وله عند القرطبي (34) قولا كلها في معرفة الأحكام الفقهية العملية.
(2) طبقات ابن سعد (7/ 180).
(3) الحلية (3/ 85)، والجرح (2/ 495)، والتذكرة (1/ 72)، وطبقات الحفاظ (28).
(4) المعرفة (2/ 12)، وطبقات الفقهاء (88)، وطبقات علماء الحديث (1/ 143)، والشذرات (1/ 101).
(5) طبقات ابن سعد (7/ 180)، والمعرفة (2/ 14)، والعلل لأحمد (2/ 376) 2676، والتذكرة (1/ 72).
(6) المعرفة (2/ 15).(1/442)
فإذا كانت هذه حاله في نقل حديث رسول الله صلى الله عليه وسلّم، فإن حاله في تفسير كتاب الله أشد، بل كان رحمه الله مع تقدمه في الفتوى ينهى عن كتابة رأيه.
فعن عمرو بن دينار قال: قيل لجابر بن زيد: يا أبا الشعثاء إنهم يكتبون عنك.
قال: إنا لله! يكتبون عني رأيي أرجع عنه غدا (1).
وأما ما انفرد به عن صاحبيه: الحسن ومحمد، أنه صحب ابن عباس وتأثر به، لا سيما في الجانب التشريعي، بينما الحسن ومحمد لم يسمعا من ابن عباس رضي الله عنهما.
وخلاصة القول: إن لكل إمام ميزة تميز بها، وخاصية انفرد بها، فمحمد بن سيرين برع في الجانب الحديثي، ولم يتقدمه أحد، وجابر تفرغ لعلم الفقه، والإفتاء، والحسن كان جامعا للعديد من العلوم، ومن أكثرهم حديثا في التفسير.
أقف عند هذا لأنتقل بعد ذلك إلى الحديث عن واحد من صغار التابعين في هذه المدرسة كان له الأثر في التفسير، ولم أتعرض له في فصل أشهر رجال المدارس مع أنه من المكثرين، لما سيأتي، وآثرت أن أعرض له هاهنا بشيء من الاختصار مبينا السبب الرئيس في ترك تفصيل حاله وهو:
الربيع بن أنس البكري:
هو من بكر بن وائل ومن أنفسهم، كان من أهل البصرة (2)، سمع أنس بن مالك (3)،
__________
(1) المرجع السابق (2/ 14)، وطبقات ابن سعد (7/ 181).
(2) طبقات ابن سعد (7/ 369)، والمعارف (205)، وتهذيب الكمال (9/ 61).
(3) التاريخ الكبير (3/ 271)، ومشاهير علماء الأمصار (126)، والسنن الكبرى للبيهقي (2/ 201).(1/443)
وروى عنه (1)، ولقي جابر بن عبد الله، وابن عمر رضي الله عنهم (2)، وجالس الحسن، وأخذ عنه، وفي ذلك يقول: اختلفت إلى الحسن عشر سنين، أو ما شاء الله، ما من يوم إلا أسمع منه ما لم أسمع قبله (3).
ولكن تأثره في التفسير كان بأبي العالية أكثر منه بالحسن (4)، وعدّه ابن حبان راوية أبي العالية (5)، وقال عنه الذهبي: أكثر عن أبي العالية (6).
وقد عني رحمه الله بتفسير أبي العالية رواية ودراية، ولذا فسوف أعقد مقارنة بينه وبين شيخه أبي العالية مبينا بعض أوجه التشابه بينهما.
بين الربيع، وأبي العالية:
أما في الجانب الروائي: فإن جلّ المروي عن أبي العالية كان من طريق الربيع ومن روايته (7).
وأهم من هذا ما كان من تأثر الربيع بشيخه أبي العالية في جانب الدراية، فالقارئ لتفسير الربيع يلحظ التقارب الواضح، بل والتطابق في كثير من الأحيان بين تفسير أبي العالية والربيع، حتى إن القارئ لتفسيرهما يشعر في بعض الأحيان أنهما تفسير واحد (8). وإخال أن ذلك كذلك، وأن الربيع اقتصر دوره على الرواية دون الدراية.
__________
(1) الثقات (4/ 228)، وتهذيب الكمال (9/ 61).
(2) المعارف (205)، وطبقات ابن سعد (7/ 369)، وتهذيب الكمال (9/ 61).
(3) تهذيب الأسماء (1/ 162)، والجرح (3/ 42)، وتهذيب الكمال (6/ 111).
(4) كان أثر الحسن عليه في التفسير قليلا.
(5) مشاهير علماء الأمصار (126).
(6) السير (6/ 170).
(7) بعد مراجعتي لتفسير الطبري، وجدت أن ما نسبته (78، 0) من مجموع تفسير أبي العالية هو من رواية الربيع بن أنس.
(8) بعد مراجعة ومقارنة ما روي من تفسير الربيع عند ابن جرير من خلال الجزء الأول من سورة(1/444)
وقد روى الإمام ابن جرير من تفسير الربيع فأكثر عنه (1)، ولكني وجدت أن جله كان من تفسير أبي العالية، وليس من اجتهادات الربيع، وإن كان مسوقا على أنه له (2)،
__________
البقرة لاحظت هذا التشابه، والتطابق بين المروي عن الشيخ وصاحبه، وهذه بعض أرقام الآثار الدالة على ذلك:
706، 894، 915، 1134، 1137، 1191، 1203، 1213، 1227، 1251، 1261، 1353، 1380، 1468، 1539، 1543، 1558، 1563، 1585، 1588، 1598، 1602، 2117.
(1) بعد مراجعتي لتفسير الطبري، وجدت أن المروي من تفسير الربيع (596) قولا، كلها من طريق أبي جعفر الرازي.
(2) السبب الذي جعلني أجزم بهذا أنه تبين لي من خلال مقارنة المروي من تفسير الربيع عند ابن جرير، مع المروي من تفسير أبي العالية عند ابن أبي حاتم أني وجدت ما نسب للربيع عند ابن جرير هو من تفسير أبي العالية عند ابن أبي حاتم، وإليك أرقام الآثار، التي يمكن من خلالها المقارنة.
ملحوظة: الرقم الأصغر (الأيسر)، هو عند ابن أبي حاتم من تفسير أبي العالية، والأكبر (الأيمن) عند ابن جرير، هو من تفسير الربيع:
243: 49، 276: 67، 281: 87، 298: 93، 318: 105، 327: 113، 333:
115، 334: 119، 340: 121، 345: 130، 356: 140، 369: 147، 379:
150، 386: 159، 414: 181، 460: 211، 471: 213، 477: 222، 527:
263، 556: 271، 564: 277، 573: 289، 588: 309، 589: 311، 602:
323، 765: 405، 1149: 679، 1153: 680، 1155: 682، 1170: 690، 1271: 741، 1428: 827، 1440: 833، 1574: 940، 1619: 960، 1632:
964، 1671: 1005، 1719: 1040، 1792: 1094، 1801: 1099، 1803:
1102، 1807: 1103، 1810: 1106، 1812: 1112، 1816: 1116، 1858:
1142، 1864: 1148، 1871: 1151، 1942: 1182، 1944: 1186، 1977:
1200، 1982: 1203، 2076: 1265، 2084: 1280، 2088: 1288، 2106:
1310، 2111: 1320، 2135: 1328.
فتحصل من هذا: أن المروي عنه، والمنسوب إليه عند ابن جرير على أنه من تفسيره أكثر من (114) قولا، منها (23) قولا، مطابقة لما روي عن أبي العالية، و (58) قولا من تفسيره عند ابن جرير، ولكنها عند ابن أبي حاتم من رواية أبي العالية، وتفسيره بنصها تماما، فلم يبق من تفسيره إلا (33) قولا، أي: ما يقارب (29، 0) من مجموع تفسيره، وهذا الذي انفرد فيه عن أبي العالية، وغالبه فيما يرويه عن بني إسرائيل.(1/445)
ولعله لو صنف المكثرون من مفسري التابعين، لعدّ الربيع بن أنس من الرواة، ولم يعد من المفسرين (1).
وهذا ما تبين لي من حاله أن عمله اقتصر في أكثر المنسوب إليه على الأخذ عن أبي العالية، وحفظ هذه الأقوال، وروايتها على أنها من تفسيره.
وهذا من أهم الأسباب التي جعلتني أرجئ الحديث عن الربيع إلى هذا الموضع مع أنه من المكثرين، ولكنها كما اتضح كانت من تفسيره غيره.
وأما ما انفرد فيه الربيع، وهو ما يقارب ثلث المروي عنه، فإن غالبه دار حول آيات القصص، وبدء الخليقة، وقد ساق فيها الربيع الكثير من الرواية عن بني إسرائيل، لكن المروي فيها لا يطابق المروي عن أبي العالية، وإن كان من حيث المنهج قد تأثر فيه به لأن أبا العالية من أكثر البصريين تساهلا في الرواية عن بني إسرائيل (2).
بين الحسن، وأبي العالية:
ومع أن هذين الإمامين عاشا في البصرة، إلا أن أوجه الاتفاق في المنهج بينهما كانت قليلة، ومن أبرز نقاط الاختلاف بينهما ما يلي:
1 - تقدم أبي العالية على الحسن في علم القراءة، فقد قرأ على أبي بن كعب، وقرأ
__________
(1) لم يذكره الداودي في طبقات المفسرين، والأحرى بحال الربيع أن يعد من الرواة، كابن أبي نجيح، وسعيد بن أبي عروبة، وغيرهم. والله أعلم.
ومما يستأنس به هنا ما ذكره الذهبي في ترجمة الربيع حيث قال عنه: روى كثيرا في التفسير والمقاطيع، ينظر تاريخ الإسلام (ح 139/ 417).
فأنت ترى أنه قال عنه: روى كثيرا، ولم يقل: إنه مفسر، كما قال عن غيره.
(2) المروي عن أبي العالية في الإسرائيليات أكثر من (06، 0) من مجموع تفسيره، في حين بلغت هذه النسبة عن الحسن، وقتادة (03، 0) من مجموع تفسيرهما.(1/446)
على عمر ثلاث مرات (1)، وهو معدود في طبقات كبار القراء (2)، والحسن رحمه الله وإن كان من المهتمين بالقراءة، إلا أنه لم يبلغ مرتبة أبي العالية.
2 - الحسن البصري كان إمام عامة وخاصة، وكانت حلقات الوعظ عنده يجتمع فيها الكثير من الناس، بخلاف حال أبي العالية الذي كان يكره اجتماع الناس عليه، ويؤثر الخفاء، فإذا اجتمع إليه أربعة قام (3).
3 - ونتيجة لما سبق فقد كثر تلاميذ الحسن، والناقلون لتفسيره، على عكس أبي العالية الذي ضاع كثير من علمه بسبب قلة تلاميذه (4).
4 - تأثر الحسن بالمنهج المدني، في حين مال أبو العالية في كثير من مسالكه إلى المنهج المكي، وليس بمستغرب عليهما ذلك، فالحسن عاش أول سني عمره في المدينة، وكان تردده على مكة بعد أن انتقل إلى العراق قليلا، حتى إنه لم يحج إلا مرتين (5)، ولم يسمع من ابن عباس (6)، في حين أن أبا العالية سمع من ابن عباس، وحج ستا وستين حجة (7). فصار إلى المنهج المكي أقرب في قلة التعرض لآيات الأحكام، والتساهل في الرواية عن بني إسرائيل، والعناية بمشكل القرآن، والاهتمام بالأشباه والنظائر، إلى غير ذلك من أوجه الشبه بين المكيين وأبي العالية، وقد سبق بيان ذلك وتفصيله (8).
__________
(1) سبق تفصيل ذلك في ترجمة أبي العالية، ص (289).
(2) ذكر الذهبي أبا العالية في كتاب معرفة القراء (1/ 50)، ولم يذكر الحسن، وعده أبو بكر بن أبي داود من أعلم الناس بالقراءة بعد الصحابة، ينظر التهذيب (3/ 285).
(3) العلل لأحمد (2/ 447) 2984، والعلم لأبي خيثمة (118).
(4) تهذيب الكمال (9/ 217).
(5) طبقات ابن سعد (7/ 158).
(6) سؤالات ابن الجنيد لابن معين (315).
(7) المعارف (200)، والشذرات (1/ 102).
(8) في ترجمة أبي العالية ص (291).(1/447)
5 - الناظر في سيرة أبي العالية يلمس عدم رضاه التام عن المنهج الوعظي للحسن، ولذلك كان يقول لما سئل عنه: رجل مسلم يأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر، وأدركنا الخير، وتعلمنا قبل أن يولد الحسن (1).
هذه بعض أوجه الاختلاف بين هذين الإمامين:
وخلاصة القول في أصحاب مدرسة البصرة: إن الحسن البصري كان إمامهم في التفسير والفقه، وأنه كان من أكثرهم استقلالا، ومن أشدهم تأثيرا في المدرسة، ويأتي بعده في التفسير قتادة الذي هو امتداد للحسن، وثمرة من غرس يده، لكنه تميز بحافظة قوية، مما كثر نتاجه في العلم بعامة، وفي التفسير بخاصة، حتى كان الثاني بين عموم التابعين.
وبعد هؤلاء في التفسير رفيع بن مهران (أبو العالية)، وإن كان أثره في المدرسة محدودا، وتأثره بها أقل من ذلك.
أما الربيع بن أنس، وإن وجد له بعض من الأثر في التفسير، فإن جلّ تفسيره نقله عن أبي العالية، ودوره الرواية فحسب، والله تعالى أعلم.
أسباب كثرة المروي عنهم:
كما أسهمت المدرسة المكية إسهاما قيما في كثرة تناولها للآيات وتفسيرها، فإن المدرسة البصرية كان لها اهتمام بارز، ودور مميز في تناول آيات الكتاب الكريم، وتفسيرها، وأسباب ذلك كثيرة من أهمها:
1 - كثرة رواياتهم للأحاديث، وتساهلهم في ذلك:
كان من الفوارق الرئيسة بين البصريين والكوفيين، أن الكوفيين كانوا يتشددون في نقل السنن، ويحتاطون غاية الاحتياط، وكان إمامهم في ذلك ابن مسعود، الذي كان
__________
(1) المعرفة (2/ 52)، وتاريخ دمشق (6/ 265).(1/448)
من أكثر الصحابة إقلالا في باب الرواية، وتحذيرا لأصحابه من الخطأ فيها (1).
بينما كانت البصرة على العكس من هذا المنهج، وخصوصا ما كان من رواية الحسن البصري إمام مفسري التابعين في البصرة، ولعله استفاد بعض هذا من تساهل شيخه في البصرة أنس بن مالك رضي الله عنه، فقد كان أكثر تساهلا من ابن مسعود رضي الله عن الجميع.
فعنه قال: ليس كل ما نحدثكم عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم سمعناه منه، ولكن حدثنا أصحابنا، ونحن قوم لا يكذب بعضهم بعضا (2).
يقول ابن سيرين: ثلاثة كانوا يصدقون من حدثهم: أنس، وأبو العالية، والحسن البصري (3).
قال الخطيب البغدادي في بيان معنى قول ابن سيرين: أراد أنهم كانوا يأخذون الحديث عن كل أحد، ولا يبحثون عن حاله، لحسن ظنهم به (4).
وأنس بن مالك رضي الله عنه يعد من المكثرين بين الصحابة في رواية الحديث، فقد ذكر بقي بن مخلد: أنه روى ألف حديث، ومائتي حديث، وستة وثمانين حديثا (5).
وكان الحسن البصري من أكثر التابعين تساهلا في الرواية، فكان يجيز التحديث بالمعنى (6)، ويرخص بالزيادة أو النقصان في الحديث، إذا كان المتحدث يصيب
__________
(1) سيأتي لذلك مزيد بحث في المدرسة الكوفية ص (462).
(2) الكفاية (386).
(3) العلل لأحمد (1/ 442) 989، والمعرفة (2/ 35).
(4) الكفاية (373).
(5) مقدمة مسند بقي بن مخلد (79)، تدريب الراوي (2/ 217).
(6) العلم لأبي خيثمة (141)، والعلل لأحمد (2/ 266) 2206.(1/449)
المعنى (1).
ولم يكن تساهله هذا في جانب المتن فحسب، بل شمل التساهل في الإسناد، ولذا نجده من أكثر التابعين، الذي أفاضت كتب المراسيل في تتبع إرساله، والحديث عن حكم تلك المراسيل (2).
وقريبا من ذلك كان منهج قتادة، فإنه كان كثيرا ما يورد الرواية بلاغا دون إسناد، وكان رحمه الله يكثر إرسال الحديث، يقول شعبة: كنت أتفطن إلى فم قتادة إذا حدث، فإذا حدث بما قد سمع قال: حدثنا سعيد بن المسيب، وحدثنا أنس، وحدثنا الحسن، وحدثنا مطرف، وإذا حدث بما لم يسمع قال: حدث سليمان بن يسار، وحدث أبو قلابة (3).
ولذا فقد كان الأئمة من الكوفيين ينكرون على البصريين، فقد أنكر الشعبي على الحسن إكثاره (4)، وقال لما سئل عن قتادة: حاطب ليل (5).
2 - تقدمها في معرفة اللغة:
استخدمت هذه المدرسة الفصيح استخداما واسعا في تفسيرها، وسبقت بقية المدارس في القدرة على معرفة الغريب من كلام العرب، فقد كان الحسن البصري لا يقاربه في هذا الباب أحد، ولذا كثر النقل عنه في كتب تفسير غريب الحديث والأثر.
وكان هو وقتادة من أفصح أهل الكوفة، وممن نالوا من ثناء الأئمة ما لم ينل أحد
__________
(1) سنن الدارمي (1/ 93)، والمحدث الفاصل (541) 708.
(2) المراسيل لابن أبي حاتم (4631)، وجامع التحصيل للعلائي (166162). وقد سبق تفصيل ذلك في ترجمة الحسن ص (220).
(3) العلل لأحمد (3/ 242) 5068.
(4) العلل لأحمد (3/ 366) 5614، والكفاية (392).
(5) المعرفة (2/ 277)، وتهذيب الكمال (23/ 510)، والسير (5/ 272).(1/450)
مثله، والمتأمل في تفسيرهما يجد شاهد هذا في جزالة اللفظ، وقوة سبك العبارة، وجمال الأسلوب، واستخدام الأفصح في كلام العرب في تفسير الآيات، مما جعل الكثير من أقوالهم وآثارهم حكما وأمثالا تحفظ، لبديع عبارتهم، وجمال وقعها في النفوس، وصدق تأثيرها في القلوب.
3 - بعد المدرسة عن الفتن:
نعمت البصرة بكثير من الاستقرار مقارنة بغيرها من الحواضر والمدن المجاورة كالكوفة.
ويعد المشاهير من مفسري التابعين فيها من أبعد التابعين عن الفتن (1) بل إن الناظر في منهجهم يجد تميزا في هذا، يستحق أن يفرد بالدرس والبحث، ليس هذا مقام الاستطراد فيه.
فهذا إمامهم الحسن البصري يقول محذرا أصحابه من الدخول في الفتن: كلما نعر كلب، أو صاح ديك تبعتموه (2).
وكان يحذر من الاشتراك في الفتن، ولذا كرهه بعض الخوارج، فكان قتادة يقول عنه رحمه الله: والله لا يبغض الحسن إلا حروري (3)، وكان يأمر الناس بالصبر، والكف، والضراعة إلى الله، ويرى أن الموعظة بالحسنى، والرفق في الإنكار، أجدى من الثورة، والدعوة إلى الفتنة (4).
ولم يكن ذلك سمة خاصة بالحسن فقط، بل إن الإمام محمد بن سيرين البصري كان يبارك هذا الرأي للحسن، ويؤكده بقوله لأصحابه: هاجت الفتنة، وأصحاب
__________
(1) اشترك من الكوفة في فتنة ابن الأشعث سعيد بن جبير، وإبراهيم النخعي، وعامر الشعبي.
(2) التاريخ الصغير (1/ 247).
(3) طبقات ابن سعد (7/ 174)، وتهذيب الكمال (6/ 108).
(4) سبق تفصيل ذلك عند الحديث عن الحسن ص (232).(1/451)
رسول الله صلى الله عليه وسلّم عشرة آلاف فما خف فيها منهم مائة، بل لم يبلغوا ثلاثين (1).
وأما قتادة رحمه الله فقد قفا أثر شيخه الحسن في ذلك، وكان رجلا أعمى، فلم ينقل عنه دخول أو مشاركة في فتنة.
ولذا كثر علم هؤلاء، وتناقل الناس آثارهم في التفسير وغيره.
4 - التدوين المبكر لآثار المدرسة:
وهذا مما حفظ آثار هذه المدرسة، وعلمها، وميزها عن غيرها (2). فسعيد بن أبي عروبة الذي يعد من أحفظ أهل زمانه (3)، وكان من أحفظ أصحاب قتادة (4)، كان أول من صنف الكتب، قال الإمام أحمد: أول من صنف الكتب: ابن جريج، وابن أبي عروبة (5).
وعدّه ابن العماد: من أول من صنف الكتب بالعراق (6).
5 - إقدام المدرسة على اقتحام باب التفسير، والإكثار فيه:
الحق أن المدرسة البصرية جاءت بعد المكية في هذا الباب، في توسعها في باب الاجتهاد، وكثرة النظر في التفسير، في حين غلب جانب الهيبة والورع على مدارس أخرى كمدرستي المدينة والكوفة (7).
وقد أكثر في ذلك الإمامان: الحسن وقتادة، وتوسعا فيه حتى ظهر أثر ذلك جليا
__________
(1) العلل لأحمد (3/ 182) 4787، والبداية (7/ 253).
(2) كانت في هذا أسبق من الكوفة والمدينة.
(3) الجرح (4/ 65).
(4) هدي الساري (406)، نقل من تفسير قتادة أكثر من (3335) قولا.
(5) السير (6/ 327).
(6) شذرات الذهب (1/ 226).
(7) سيأتي مزيد بيان لهذا إن شاء الله في الحديث عن هاتين المدرستين.(1/452)
في قتادة، فغزر علمه في التفسير، بيد أن حظه من العلوم الأخرى كان قليلا، وهذا التوسع لم يرضه بعض المشاهير من الكوفيين خاصة.
فكان عامر الشعبي يصف قتادة الذي كان مضرب المثل في عصره بالحفظ فيقول: قتادة حاطب ليل. وبعد مراجعتي لتراجم الأئمة المشاهير من مفسري تلك المدارس، لم أجد عند البصريين ذلك الحرج والخوف الذي وجدت في تراجم غيرهم من الكوفيين، والمدنيين.
كما أن قتادة وهو من عني بنشر تراث هذه المدرسة كان جل همه النقل والرواية والدراية في التفسير، وأما ما نقل عنه في العلوم الأخرى فقد كان قليلا.
6 - أثر ابن عباس عليها:
وأحسب أن مما أهلها لاحتلال هذه المرتبة المتقدمة بين مدارس التابعين بعد المكية، تولي ابن عباس الإمارة فيها، وبقاءه زمنا بها (1).
7 - قلة الصحابة فيها:
وهذا سبب يمكن أن يلاحظ، وخصوصا إذا قورنت هذه المدرسة بغيرها من مدارس التابعين (2)، ولذا احتاج الناس إلى علمهم أكثر من غيرهم.
يقول مسروق: كان القضاء في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلّم في ستة: عمر، وعلي، وابن مسعود، وأبي بن كعب، وزيد بن ثابت، وأبي موسى الأشعري، فكان نصفهم لأهل الكوفة علي، وابن مسعود، وأبو موسى الأشعري (3)، وكان النصف الآخر لأهل المدينة.
__________
(1) المستدرك (2/ 273).
(2) مقارنة بالكوفة والمدينة.
(3) المعرفة (1/ 481).(1/453)
8 - الحرص على إبلاغ العلم، ونشره:
حرص أئمة البصرة على التحديث بما علموه، وأكثروا من ذلك، وكان الحسن رحمه الله يتكلم ويعلم احتسابا، في حين كان غيره يسكت احتسابا (1)، أو ينكر عليه إكثاره، كما جاء في إنكار الشعبي على الحسن (2)، وكان الحسن رحمه الله يقول:
لولا الميثاق الذي أخذه الله على أهل العلم ما حدثتكم بكثير مما تسألون عنه (3).
وتبعه في ذلك تلميذه قتادة الذي متع بحافظة كانت مضرب المثل في عصره، مما جعلته أهلا ليحتل المرتبة الأولى بين صغار التابعين ومن بعدهم، فدار الإسناد في جميع الأمصار على ستة، كان قتادة أحدهم (4). حتى قيل: بث العلم في الدنيا أربعة، وكان من أولهم قتادة (5).
ومن المعلوم أن أسانيد قتادة وعلمه الذي بثه كان جله في علم التفسير، وروايته، فكان هذا سببا رئيسا في انتشار آثار هذه المدرسة، وكثرة الرواية عنها.
مع العلم أنه وجد في المدرسة بعض المتورعين كابن سيرين، وبعده أبو العالية، إلا أن الغلبة كانت لمنهج الحسن، وصاحبه قتادة.
أثرها:
احتلت المدرسة البصرية المرتبة الثانية بعد المكية في التفسير (6) إلا أن الأثر المكي في
__________
(1) المعرفة (2/ 56).
(2) العلل لأحمد (3/ 367) 5614.
(3) طبقات ابن سعد (7/ 158).
(4) العلل لابن المديني (21)، وهؤلاء الستة كما ذكرهم ابن المديني: محمد بن شهاب الزهري، وعمرو بن دينار، وقتادة، وأبو إسحاق السبيعي، وسليمان بن مهران الأعمش، ويحيى بن أبي كثير، ينظر العلل (17، 24).
(5) البيان والتبيين (1/ 242).
(6) بلغ نسبة ما جاء عنها في التفسير بعد مراجعتي للمروي من تفسير مشاهير أصحاب المدارس عند ابن جرير (38، 0) من مجموع تفاسير التابعين، في حين كان عن المكية ما نسبته (46، 0)، وعن الكوفية (14، 0)، وعن المدنية فقط (02، 0).(1/454)
التفسير بدا واضحا مبكرا في عصر التابعين (1)، في حين كان الأثر الواسع والبالغ، الذي أحدثته المدرسة البصرية بدأ في الظهور في أواخر زمن التابعين، وبالذات في عصر أتباعهم ومن بعدهم.
فهذا معمر بن راشد البصري الذي عني بتفسير الحسن، وقتادة رحل إلى اليمن (2)، ونشر في مدرستها تفسير هذين الإمامين البصريين، حتى إننا نجد أقدم التفاسير المسندة، كتفسير عبد الرزاق الصنعاني يعتمد في تفسيره على هذين المفسرين، أكثر من اعتماده على شيوخ المدرسة المكية (3).
كما نجد أثر هذه المدرسة يمتد، ليشمل بلاد المغرب الإسلامي، حتى إن مفسري المغاربة يعتمدون على تفسير الحسن وقتادة أكثر من اعتمادهم على تفسير مجاهد، وعكرمة، ولعل السبب الرئيس في هذا ما نقله يحيى بن سلام الذي عاش في البصرة وأخذ التفسير وعلم القراءة عن أصحاب الحسن (4)، مع ما صاحب هذا قبول لأقوال
__________
(1) سبق تفصيل ذلك في أثر المدرسة المكية، ص (416، 421).
(2) السير (7/ 5)، وقد لازم عبد الرزاق الصنعاني معمرا ثماني سنين، ينظر الجرح (6/ 38)، وكان (66، 0) من مجموع تفسيره من طريق معمر عن قتادة، وسيأتي لذلك مزيد بيان عند التعرض للتفسير في اليمن ص (536).
(3) بلغ عدد الأقوال الواردة في تفسيره عن قتادة (1509) أقوال، وعن الحسن (203) أقوال، في حين كانت عن مجاهد (178) قولا، بل كان المروي عن ابن عباس رضي الله عنهما لم يجاوز (109) أقوال، وسبق تفصيل ذلك في فصل مصادر تفسير التابعين ص (70).
(4) السير (9/ 397396)، وغاية النهاية (2/ 373).
بلغ المروي في تفسير يحيى بعد مراجعة مختصر تفسيره لابن أبي زمنين في سورتي البقرة وآل عمران، عن الحسن (111) قولا، وعن قتادة (109) أقوال، وعن مجاهد (27) قولا، وهذا التفسير عني به أهل إفريقية والمغرب والأندلس، وكانوا يهتمون به حتى كان منهم من يحفظه، فقد ذكر الدباغ في معالم الإيمان (2/ 248)، في ترجمة أبي عبد الله محمد بن عبد الرحمن الفارسي أنه كان يحفظ تفسير يحيى بن سلام كما يحفظ القرآن، ينظر مقدمة مختصر تفسير يحيى لأبي زمنين (1/ 4).(1/455)
الحسن وصاحبه عند المغاربة، وذلك لقربهم في كثير من الآراء من المدرسة المدنية، التي ينتمي لها معظم بلاد المغرب الإسلامي (1)، فصارت المدارس في شمال إفريقية والقيروان والأندلس تعني بتفسير الحسن وصاحبه، وامتد الأثر فرأيناه حتى في كتب المصنفين من متأخري مفسري المغاربة.
* * * __________
(1) سيأتي تفصيل الأثر المدني على مدرسة البصرة إن شاء الله عند الحديث عن أثر المدرسة المدنية على بقية المدارس ص (521).(1/456)
المبحث الثالث المدرسة الكوفية
لما نزل المسلمون المدائن، طال بها مكثهم، آذاهم الغبار، فكتب عمر إلى سعد بن أبي وقاص أن يختار منزلا آخر بحريا، فإن العرب لا يصلحها من البلدان إلا ما أصلح الشاة، والبعير، فسأل من قبله عن هذه الصفة، فأشار عليه من رأى العراق من وجوه العرب باللسان، وهو ظهر الكوفة، وكان نزولهم الكوفة سنة سبع عشرة (1).
وقد هبط الكوفة ثلاثمائة من أصحاب الشجرة، وسبعون من أهل بدر رضي الله عنهم أجمعين (2).
وكتب عمر بن الخطاب إلى أهل الكوفة قائلا: يا أهل الكوفة، أنتم رأس العرب، وجمجمتها، وسهمي الذي أرمي به إن أتاني شيء من هاهنا، وهاهنا، قد بعثت إليكم بعبد الله وخرت لكم، وآثرتكم به على نفسي. وفي رواية عنه قال: أما بعد فإني بعثت إليكم عمارا أميرا، وعبد الله معلما ووزيرا، وهما من النجباء من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلّم، فاسمعوا لهما، واقتدوا بهما، وإني قد آثرتكم بعبد الله على نفسي إثرة (3).
وكان الحسن البصري إذا سئل: أيهما خير أهل الكوفة، أم أهل البصرة؟ قال: كان يبدأ بأهل الكوفة (4).
__________
(1) المعارف (246).
(2) طبقات ابن سعد (6/ 9).
(3) المرجع السابق (6/ 7).
(4) المعرفة (2/ 550).(1/457)
ومدرسة الكوفة من أكثر المدارس عناية بآثار شيخها ابن مسعود.
يقول ابن جرير: ولم يكن أحد له أصحاب معروفون حرروا فتياه ومذاهبه في الفقه غير ابن مسعود (1).
ويقول مسروق بن الأجدع: حدثنا عبد الله، ولو لم يحدثنا عبد الله من كان يحدثنا (2).
ومدرسة الكوفة هي ثالث المدارس رتبة في العناية والاهتمام بعلم التفسير (3)، وقد أثرت الإقلال والورع فيه، متأثرة بمنهج شيخها ابن مسعود رضي الله عنه وتربيته، حتى إن الملازمين له من أصحابه لم يرد عنهم في التفسير إلا أقل القليل، فكانوا بذلك من أقل التابعين على الإطلاق تعرضا للتأويل.
ننتقل بعد هذا البيان الموجز إلى تفصيل المقال في حياة هذا الصحابي الجليل رضي الله عنه وأرضاه.
عبد الله بن مسعود رضي الله عنه:
هو عبد الله بن مسعود بن غافل بن حبيب بن شمخ بن قار بن مخزوم أبو عبد الرحمن (4) الهذلي حليف بني زهرة (5). وأم عبد الله بنت عبد ود بن سواءه من هذيل أيضا (6).
__________
(1) إعلام الموقعين (1/ 16).
(2) العلل لأحمد (2/ 450) 2999.
(3) سبقتها مدرستا مكة والبصرة.
(4) الاستيعاب (2/ 316)، وطبقات ابن سعد (3/ 150)، وأسد الغابة (3/ 384)، والإصابة (2/ 368)، والمعجم الكبير للطبراني (9/ 57).
(5) أسد الغابة (3/ 384)، والمعارف (109)، والمعجم الكبير (9/ 57) 8401، والمغازي للواقدي (1/ 155).
(6) الاستيعاب (2/ 316)، والإصابة (2/ 368).(1/458)
وكان إسلامه قديما، يقول رضي الله عنه: لقد رأيتني سادس ستة ما على ظهر الأرض مسلم غيرنا (1).
وكان رضي الله عنه أول من جهر بالقرآن بمكة (2).
وقد شهد بدرا وبيعة الرضوان والمشاهد كلها (3)، وهو قاتل أبي جهل عدو الله (4).
روى عن النبي صلى الله عليه وسلّم ثمانمائة حديث، وثمانية وأربعين حديثا (5)، منها أربعة وستون حديثا في الصحيحين، انفرد له البخاري بإخراج واحد وعشرين حديثا، ومسلم بإخراج خمسة وثلاثين حديثا (6).
وكان رضي الله عنه صاحب وسادة النبي صلى الله عليه وسلّم وسواكه، ونعليه وطهوره (7).
يقول أبو موسى الأشعري رضي الله عنه: قدمت أنا وأخي من اليمن، فمكثنا حينا ما نرى إلا أن عبد الله بن مسعود رجل من أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلّم، لما نرى من دخوله، ودخول أمه على النبي صلى الله عليه وسلّم (8).
__________
(1) المستدرك (3/ 312)، وكشف الأستار (1/ 303)، ومجمع الزوائد (9/ 287).
(2) السيرة لابن هشام (1/ 314)، وطبقات ابن سعد (3/ 151)، وأسد الغابة (3/ 385).
(3) المعارف (109)، والمستدرك (3/ 312)، والمنتظم (5/ 30).
(4) المغازي للواقدي (1/ 90)، وتاريخ الثقات (278)، وأسد الغابة (3/ 386)، والمعجم الكبير للطبراني (9/ 81).
(5) مقدمة مسند بقي بن مخلد (80)، وتجريد أسماء الصحابة (1/ 334)، والسير (1/ 462).
(6) السير (1/ 462).
(7) الحلية (1/ 126)، وطبقات ابن سعد (3/ 153)، والمعرفة (2/ 550)، والمستدرك (3/ 314).
(8) أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب فضائل الصحابة، باب مناقب عبد الله، ينظر الفتح (7/ 102) 2763، ومسلم في صحيحه بلفظ مختصر، كتاب فضائل الصحابة، باب من فضائل عبد الله (4/ 1911) 2460، والترمذي في سننه، كتاب المناقب، باب مناقب عبد الله (5/ 672) 3806، والنسائي في فضائل الصحابة (149)، وابن سعد في طبقاته (3/ 154).(1/459)
وعن شقيق بن سلمة قال: سمعت حذيفة يقول: إن أشبه الناس دلا وسمتا، وهديا برسول الله صلى الله عليه وسلّم، لابن أم عبد، من حين يخرج من بيته إلى أن يرجع إليه، لا ندري ما يصنع في أهله إذا خلا (1).
وعن أبي الأحوص قال: كان نفر من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلّم، أو قال: عدة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلّم في دار أبي موسى يعرضون مصحفا، قال: فقام عبد الله بن مسعود فخرج، فقال أبو مسعود البدري: هذا أعلم من بقي بما أنزل الله على محمد صلى الله عليه وسلّم، فقال أبو موسى: إن يكن كذلك فقد كان يؤذن له إذا حجبنا ويشهد إذا غبنا (2).
وعن زيد بن وهب، قال: كنت جالسا في القوم عند عمر، إذ جاء رجل نحيف قليل، فجعل عمر ينظر إليه ويتهلل وجهه، ثم قال: كنيف ملئ علما، كنيف ملئ علما، كنيف ملئ علما، فإذا هو ابن مسعود (3).
وكان علي رضي الله عنه لما سئل عنه، قال: علم القرآن والسنة، ثم انتهى (4).
وكان أبو موسى الأشعري يقول لمن يسأله: لا تسألوني عن شيء ما دام هذا الحبر
__________
(1) أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الأدب، باب الهدي الصالح، ينظر الفتح (10/ 509) 6097، ورواه أيضا مختصرا في كتاب فضائل الصحابة، باب مناقب عبد الله، ينظر الفتح (7/ 102) 2762، ورواه أحمد في مسنده (5/ 401، 402)، والترمذي في سننه، كتاب المناقب، باب مناقب عبد الله (5/ 673) 3807، وكتاب فضائل الصحابة للنسائي (150)، والمعرفة (2/ 540)، والحلية (1/ 127)، والمعجم الكبير للطبراني (9/ 82، 83، 84، 87).
(2) طبقات ابن سعد (2/ 343)، وفضائل الصحابة للنسائي (148)، والمعرفة (2/ 541، 544)، والحلية (1/ 129)، والمستدرك (3/ 316)، والمعجم الكبير للطبراني (9/ 90).
(3) طبقات ابن سعد (3/ 156)، والحلية (1/ 129)، والمعرفة (2/ 543)، والمعجم الكبير (9/ 85).
(4) المستدرك (3/ 318)، والحلية (1/ 129)، وصفة الصفوة (1/ 401).(1/460)
بين أظهركم، يعني: ابن مسعود (1).
وعن مسروق قال: قال عبد الله رضي الله عنه: والله الذي لا إله غيره، ما أنزلت سورة من كتاب الله إلا أنا أعلم أين أنزلت، ولا أنزلت آية من كتاب الله إلا أنا أعلم فيمن أنزلت، ولو أعلم أحدا أعلم مني بكتاب الله تبلغه الإبل لركبت إليه (2).
وقد كتب عمر بن الخطاب لأهل الكوفة أني قد بعثت إليكم عمار بن ياسر أميرا، وعبد الله بن مسعود معلما ووزيرا، وهما من النجباء من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلّم من أهل بدر فاسمعوا، وقد جعلت ابن مسعود على بيت مالكم، فاسمعوا، وتعلموا منهما، واقتدوا بهما، وقد آثرتكم بعبد الله على نفسي (3).
وعن مسروق قال: كان عبد الله وحذيفة وأبو موسى الأشعري في منزل أبي موسى، فقال حذيفة: أما أنت يا عبد الله بن مسعود، فبعثت إلى أهل الكوفة معلما، فأخذوا من أدبك، ولغتك، ومن قراءتك (4).
ولقد كان لهذا المعلم الأثر البالغ في نفوس أصحابه الملازمين له أو من جاء بعدهم، فقد توجهت المدرسة متأثرة بأستاذها للعلوم التي أكثر منها وفيها.
__________
(1) مسند أحمد (1/ 464)، وطبقات ابن سعد (2/ 343)، والمعرفة (2/ 541)، والمعجم الكبير (9/ 92).
(2) رواه البخاري في صحيحه، كتاب فضائل القرآن، باب القراء من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلّم، ينظر الفتح (9/ 47) 5002، ومسلم في صحيحه، كتاب فضائل الصحابة، باب من فضائل عبد الله (4/ 1913) 2463، وأحمد في مسنده (1/ 421)، وابن أبي داود في المصاحف (21، 23)، والخطيب البغدادي في الرحلة في طلب الحديث (95).
(3) المستدرك (3/ 388)، والمعرفة (2/ 533، 542)، والمعجم الكبير (9/ 85)، وأسد الغابة (3/ 388).
(4) المصاحف لابن أبي داود (21).(1/461)
أسباب قلة نتاج ابن مسعود التفسيري:
ومدرسة الكوفة كانت من أكثر المدارس اقتداء ومتابعة لأستاذها حتى بعد موته، فإن تأثيره قد بقي في الكوفة بعده مدة طويلة، وأحسب أن من أهم أسباب إقلال المدرسة في التفسير هو اشتغال المدرسة بالعلوم التي اشتغل بها إمامها رضي الله عنه وهذا بدوره يجعلنا نوجه الحديث إلى إظهار أهم الأسباب التي قللت نتاج هذا الإمام في التفسير (1)، وأهم من ذلك بيان السبب في إقلال أصحابه من بعده، وإليك توضيح ذلك مفصلا:
1 - التحرج والورع عند ابن مسعود رضي الله عنه:
كان شديد الورع في التحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم، وقد تأثر في هذا بمسلك عمر رضي الله عنه الذي كان يأمر بالإقلال من الحديث خشية الخطأ في نقل حديثه صلى الله عليه وسلّم.
فعن قرظة بن كعب رضي الله عنه قال: قدمنا على عمر بن الخطاب في وفد من أهل الكوفة، قال: فقضى من حوائجنا ما قضى، حتى إذا ودعنا وخرجنا، لحقنا عمر وهو ينادي، يعلق نعله في يديه، قال: فلما رأيناه، وقفنا له حتى إذا جاء، قال: إني ذكرت أنكم تقدمون غدا على قوم، فأقلوا الرواية على رسول الله صلى الله عليه وسلّم وأنا شريككم (2).
وعن رجاء بن أبي سلمة قال: إن معاوية كان يقول: عليكم من الحديث بما كان في عهد عمر، فإن عمر قد كان أخاف الناس في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم (3). وكان عمر رضي الله عنه ينهى المكثرين من الصحابة عن التحديث، فكان يقول لأبي هريرة:
__________
(1) المروي عن ابن عباس في التفسير عند الطبري (5809) أقوال، في حين بلغ المروي عن ابن مسعود (856) قولا، أي: ما يقارب سدس المروي عن ابن عباس.
(2) العلل لأحمد (1/ 258) 373، وسنن ابن ماجة (1/ 12) 28، وجامع بيان العلم (2/ 120).
(3) العلل لأحمد (3/ 183) 4789، والمسند لأحمد (4/ 99).(1/462)
لتتركن الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم أو لألحقنك بأرض دوس.
وقال لكعب الأحبار: لتتركن الأحاديث أو لألحقنك بأرض القردة (1).
وقد تأثر ابن مسعود بهذا المنهج، ولا غرو في ذلك، فهو الذي كان يدع قوله لقول عمر. فقد روى العجلي في تاريخه قال: ثلاثة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلّم يدعون قولهم لقول ثلاثة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلّم: كان ابن مسعود يدع قوله لقول عمر، وكان أبو موسى الأشعري يدع قوله لقول علي، وزيد بن ثابت يدع قوله لقول أبيّ (2).
وكان رضي الله عنه يقول: لو أن علم عمر بن الخطاب رضي الله عنه وضع في كفة الميزان، ووضع علم أهل الأرض في كفة لرجح علم عمر بن الخطاب رضي الله عنه (3).
وقد بلغ عبد الله مرتبة عظيمة من الورع والخشية عند التحديث عنه صلى الله عليه وسلّم.
فعن عمرو بن ميمون قال: صحبت عبد الله ثمانية عشر شهرا، فما سمعته يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم إلا حديثا واحدا، فرأيته يعرق، ثم غشيه بهر ثم قال نحو هذا أو شبهه (4).
وكان رضي الله عنه يقول لأصحابه: إن استطعت أن تكون أنت المحدّث،
__________
(1) تاريخ أبي زرعة (1/ 544)، مسند أحمد (4/ 99)، وشرف أصحاب الحديث (90)، والمحدث الفاصل (554).
(2) تاريخ الثقات (278).
(3) العلم لأبي خيثمة (123).
(4) المعرفة (2/ 548)، والمعجم الكبير للطبراني (9/ 130)، وسنن الدارمي (1/ 83)، وأخرجه ابن سعد بلفظ مقارب عن علقمة، ومسروق (3/ 156، 157)، ورواه ابن ماجة في سننه (1/ 10)، والحاكم في المستدرك (1/ 111)، و (3/ 314)، وينظر المحدث الفاصل (549)، والإلماع (177)، والكفاية (205).(1/463)
فافعل (1).
وكان ينهى عن كثرة التحديث (2)، وكان يحدث في الشهر بالحديث والحديثين (3).
وعد بعض أصحابه حديثه، فلم يجاوز الخمسين حديثا (4).
وكان يقول رضي الله عنه: إن الذي يفتي الناس في كل شيء لمجنون (5).
ولما سئل رضي الله عنه عن قوله تبارك وتعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلََّهِ}.
قال: والله لولا التحرج، وأني لم أسمع من رسول الله صلى الله عليه وسلّم فيها شيئا، لقلت: إن العمرة واجبة مثل الحج (6).
وكان يقول: القرآن كلام الله، فمن قال فليعلم ما يقول على الله (7)، وكان رضي الله عنه ينهى عن القصص، والتكلف (8).
ولما سئل عن شيء قال: إني لأكره أن أحل لك شيئا حرمه الله عليك، أو أحرم ما أحله الله لك (9).
وعن مسروق قال: كنا عند عبد الله جلوسا، وهو مضطجع بيننا، فأتاه رجل، فقال: يا أبا عبد الرحمن، إن قاصا عند أبواب كندة يقص، ويزعم أن آية الدّخان تجيء، فتأخذ بأنفاس الكفار، ويأخذ المؤمنين منه كهيئة الزكام، فقال عبد الله وجلس
__________
(1) العلم لأبي خيثمة (113).
(2) المرجع السابق (133).
(3) سنن الدارمي (1/ 84).
(4) تاريخ أبي زرعة (1/ 613)، والمحدث (557).
(5) سنن الدارمي (1/ 61)، والعلم لأبي خيثمة (111)، والمعجم الكبير للطبراني (9/ 211).
(6) تفسير الطبري (4/ 13) 3213، والسنن الكبرى للبيهقي (4/ 351).
(7) شعب الإيمان للبيهقي (2/ 424) 2280.
(8) العلم لأبي خيثمة (125).
(9) سنن الدارمي (1/ 55).(1/464)
وهو غضبان: يا أيها الناس، اتقوا الله، من علم منكم شيئا فليقل بما يعلم، ومن لم يعلم فليقل: الله أعلم، فإنه أعلم لأحدكم أن يقول لما لا يعلم الله أعلم، فإن الله عز وجل قال لنبيه صلى الله عليه وسلّم: {قُلْ مََا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمََا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ} (1).
2 - الاشتغال بالقراءة:
برز ابن مسعود رضي الله عنه وأرضاه بين الصحابة، وسبق في علم القراءة، وقد تلقى من في رسول الله صلى الله عليه وسلّم بضعا وسبعين سورة من القرآن، فعن شقيق بن سلمة قال:
خطبنا عبد الله بن مسعود، فقال: والله لقد أخذت من في رسول الله صلى الله عليه وسلّم بضعا وسبعين سورة، والله لقد علم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلّم أني من أعلمهم بكتاب الله، وما أنا بخيرهم (2).
وعن مسروق قال: ذكر عبد الله عند عبد الله بن عمرو، فقال: ذاك رجل لا أزال أحبّه بعد ما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلّم يقول: «استقرءوا القرآن من أربعة: من عبد الله بن مسعود فبدأ به، وسالم مولى أبي حذيفة، وأبي بن كعب، ومعاذ بن جبل» (3).
__________
(1) سورة ص: آية (86)، والأثر أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب صفات المنافقين (4/ 2155) 2798، والبخاري في صحيحه مختصرا، كتاب التفسير، باب {وَمََا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ}، ينظر الفتح (8/ 547) 4809، ورواه البغوي بسنده عن مسروق مختصرا، ينظر تفسير البغوي (4/ 70)، وابن كثير في تفسيره (7/ 73). وأورده السيوطي في الدر، وعزاه للبخاري، ومسلم، والترمذي، والنسائي، وابن المنذر، وابن مردويه عن مسروق بنحوه (7/ 208).
(2) أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب فضائل القرآن، باب القراء من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلّم، ينظر الفتح (9/ 46) 5000، وينظر طبقات ابن سعد (2/ 342، 3/ 151)، والمعرفة (2/ 537، 539)، والمستدرك (2/ 228).
(3) أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب فضائل الصحابة، باب مناقب سالم مولى أبي حذيفة، ينظر الفتح (7/ 101) 3758. ورواه أيضا في كتاب فضائل القرآن، باب القراء من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلّم بلفظ مقارب، ينظر الفتح (9/ 46) 4999، ورواه في كتاب فضائل الصحابة، باب مناقب عبد الله بن مسعود (7/ 102) 3760، وباب مناقب معاذ بن جبل (7/ 125) 3806.
وأخرجه مسلم في صحيحه في كتاب فضائل الصحابة، باب من فضائل عبد الله (4/ 1913) 2464. وأخرجه النسائي في فضائل الصحابة (147)، والطبراني في المعجم الكبير (9/ 60)، وأبو(1/465)
وقد مدحه النبي صلى الله عليه وسلّم بقوله: «من أحب أن يقرأ القرآن غضا كما أنزل، فليقرأ قراءة ابن أم عبد» (1).
وكان رضي الله عنه يقول: لو أعلم أحدا أعلم مني بكتاب الله تبلغه الإبل لركبت إليه (2).
وقد عرف عمر الفاروق رضي الله عنه لابن مسعود قدره في علم القراءة والإقراء.
فعن علقمة قال: جاء رجل إلى عمر، وهو بعرفة، فقال: يا أمير المؤمنين، جئت من الكوفة، وتركت بها من يملي المصاحف عن ظهر قلبه، قال: فغضب عمر، وانتفخ، حتى كاد يملأ ما بين شعبتي الرجل، ثم قال: ويحك من هو؟ قال: عبد الله بن مسعود، فما زال يطفئ، ويسري الغضب، حتى عاد إلى حاله التي كان عليها، ثم قال: ويحك، والله ما أعلمه بقي أحد من المسلمين هو أحق بذلك منه (3).
وقد عظم على ابن مسعود رضي الله عنه تقديم زيد عليه في جمع القرآن، فعن عبيد الله بن عبد الله أن عبد الله بن مسعود كره لزيد نسخ المصاحف، وقال: يا معشر المسلمين، أعزل عن نسخ المصاحف، ويتولاها رجل غيري، والله لقد أسلمت وإنه
__________
داود الطيالسي 1894، وأبو عبيد في فضائل القرآن (347)، وأبو شامة في المرشد الوجيز (36).
(1) مسند أحمد (1/ 7، 26، 38، 445، 454)، وسنن ابن ماجة (1/ 49) 138، ومسند الطيالسي، ينظر فتح المعبود (2/ 15)، وفضائل الصحابة للنسائي (146)، والمصنف لابن أبي شيبة (2/ 163)، والمستدرك للحاكم، وصححه ووافقه الذهبي (3/ 318)، والمعجم الكبير للطبراني (9/ 67)، والسنن الكبرى للبيهقي (1/ 452)، وأورده الألباني في صحيح سنن ابن ماجة (1/ 29) 114.
(2) سبق تخريجه قبل ورقات.
(3) المستدرك للحاكم وصححه، ووافقه الذهبي (2/ 227)، ومسند أحمد (1/ 25، 26)، والحلية (1/ 124)، وفضائل الصحابة للنسائي (147)، والمعجم الكبير للطبراني (9/ 64، 65)، والمعرفة (2/ 538).(1/466)
لفي صلب أبيه، يا أهل الكوفة: اكتموا المصاحف التي عندكم وغلوها (1).
وقد بدا واضحا عناية ابن مسعود بالقراءة في تفسيره، فإنه من أكثر الصحابة الذين اعتنوا بذلك، ونقل عنه العديد من الروايات في ذلك (2).
ومما يدل على أثر هذا على أصحابه، ما نراه من عدّ ثلاثة من القراء الكبار، كلهم
__________
(1) أخرجه الترمذي في سننه، كتاب التفسير، باب ومن سورة التوبة، وقال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح (5/ 285) 3104، ورواه الطبراني في المعجم الكبير (9/ 70)، وينظر المصاحف لابن أبي داود (17)، وأشار إلى هذه الرواية الإمام الذهبي في السير (1/ 488)، وقال معلقا: إنما شقّ على ابن مسعود لكون عثمان ما قدمه على كتابة المصحف، وقدّم في ذلك من يصلح أن يكون ولده، وإنما عدل عنه عثمان لغيبته عنه في الكوفة، ولأن زيدا كان يكتب الوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلّم فهو إمام في الرسم، وابن مسعود إمام في الأداء، ثم إن زيدا هو الذي ندبه الصديق لكتابة المصحف، وجمع القرآن، فهلا عتب على أبي بكر؟ وقد ورد أن ابن مسعود رضي وتابع عثمان، ولله الحمد.
وفي مصحف ابن مسعود أشياء أظنها نسخت، وأما زيد فكان أحدث القوم بالعرضة الأخيرة التي عرضها النبي صلى الله عليه وسلّم عام توفي على جبريل اه.
ويقول أبو بكر بن الأنباري: ولم يكن الاختيار لزيد من جهة أبي بكر وعمر وعثمان على عبد الله بن مسعود في جمع القرآن، وعبد الله أفضل من زيد، وأقدم في الإسلام، وأكثر سوابق، وأعظم فضائل، إلا لأن زيدا كان أحفظ للقرآن من عبد الله إذ وعاه كله، ورسول الله صلى الله عليه وسلّم حي، والذي حفظ منه عبد الله في حياة الرسول صلى الله عليه وسلّم نيف وسبعون سورة، ثم تعلم الباقي بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلّم، والذي ختم القرآن وحفظه ورسول الله صلى الله عليه وسلّم حي أولى بجمع المصحف، وأحق بالإيثار، والاختيار اه. ينظر الوجيز في فضائل الكتاب العزيز (169).
وقد أخرج البخاري في صحيحه، في كتاب فضائل الصحابة، باب القراء من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلّم، عن أنس قال: مات النبي صلى الله عليه وسلّم ولم يجمع القرآن غير أربعة: أبو الدرداء، ومعاذ، وزيد بن ثابت، وأبو زيد. قال: ونحن ورثناه اه.، ينظر الفتح (9/ 47) 5004، ويأتي لذلك مزيد بسط في مبحث منهجهم في القراءات ص (748).
(2) بعد مراجعتي لتفسيره رضي الله عنه عند الطبري وجدت أن (11، 0) من تفسيره، كان آثار في إيضاح التفسير بالقراءة. ولم يقاربه في هذه النسبة أحد من الصحابة، أو مفسري التابعين.(1/467)
من الكوفة: الأسود بن يزيد (1)، وعلقمة بن قيس (2)، وأبو عبد الرحمن السلمي (3).
بل كان مجاهد يتحسر على عدم معرفته لقراءة ابن مسعود، ويقول: لو كنت قرأت قراءة ابن مسعود لم أحتج أن أسأل ابن عباس عن كثير من القرآن مما سألت (4).
ومما يدل على تقدمه أيضا أن بعض مفسري التابعين من المدارس الأخرى حينما نقلوا تفسير ابن مسعود، كان أكثر ما أخذوه عنه ما كان في القراءات، فمجاهد مثلا لم يرو عنه إلا في خمسة مواضع، كان أربعة منها في القراءات (5).
وكذلك روى عنه قتادة في تفسيره في سبعة عشر موضعا، ستة عشر منها كانت في القراءة (6).
ووجدت هذا حتى عند المتأخرين من الكوفيين، فهذا السدي يروي عن ابن مسعود خمس روايات، أربع منها في القراءة (7).
وقريبا من هذا ما جاء عن الضحاك، الذي روى عن ابن مسعود تسع روايات، ست منها في القراءة (8).
من ذلك يتضح لنا أن ابن مسعود رضي الله عنه اشتغل بالقراءة، والإقراء،
__________
(1) معرفة القراء الكبار (1/ 43).
(2) المرجع السابق (1/ 44).
(3) المرجع السابق (1/ 45).
(4) سنن الترمذي، كتاب تفسير القرآن، باب ما جاء في الذي يفسر القرآن برأيه (5/ 200).
(5) تراجع الآثار التالية في تفسير الطبري: 13431، 14632، (25/ 17)، (30/ 161).
(6) ينظر الآثار: 19595، 19953، (13/ 246)، (15/ 62)، (15/ 209)، (15/ 230)، (16/ 2)، (16/ 3)، (16/ 123)، (16/ 208)، (17/ 165)، (17/ 173)، (25/ 136)، (27/ 206).
(7) الآثار في تفسير الطبري: (23/ 23)، (23/ 65)، (25/ 77).
(8) ينظر الآثار في تفسير الطبري 15666، (13/ 246)، (19/ 67)، (22/ 21)، (22/ 30)، (25/ 77).(1/468)
وفاق غيره من الصحابة في هذا، حتى صار التابعون من المدارس الأخرى يفيدون من قراءته، أكثر من إفادتهم من قراءة أصحابهم، لا سيما ما كان منها في التفسير.
3 - اشتغاله بالفقه والإفتاء:
وكان اشتغاله رحمه الله بالفقه والإفتاء أكثر من تعرضه للقرآن وتأويله، وقد تميز في هذا من بين أصحاب النبي صلى الله عليه وسلّم، حتى إن بعض التابعين عدّه من أفقه الصحابة، وفي ذلك يقول عامر الشعبي: ما كان أحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلّم أفقه من صاحبنا عبد الله، يعني ابن مسعود (1).
ونجد شاهد هذا الاتجاه الفقهي، والميل إلى الإفتاء، في الأثر الذي خلفه فيمن بعده، فكان عامة أصحابه، ومن جاء بعدهم، أكثر شغلهم في الإفتاء، وبيان الأحكام الشرعية، وعند ما نراجع الحديث عن أصحابه نجد أن الأئمة يقدمون الحديث عنهم بقولهم: الذين يفتون ويقرءون، وأحسب أن سبب ذلك، وعلته، أن الكوفة كانت تحتاج إلى بيان الحلال والحرام، وإيضاح كثير من المسائل العلمية العملية أكثر من حاجتها للتفسير.
4 - تقدم وفاته رضي الله عنه:
فقد توفي رضي الله عنه وأرضاه سنة ثلاث وثلاثين على الصحيح (2).
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: وعمّر بعده ابن عباس ستا وثلاثين سنة، فما ظنك بما كسبه من العلوم بعد ابن مسعود (3)!.
__________
(1) طبقات ابن سعد (6/ 10).
(2) مقدمة في أصول التفسير (97)، والسير (1/ 499).
(3) مقدمة في أصول التفسير (97).(1/469)
أصحاب عبد الله:
بعد أن تفرق أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلّم في الأمصار، صار لكل واحد منهم مدرسة، وأصحاب، وقد تهيأ لبعض الصحابة تلاميذ أخذوا علمه وحفظوه، ونشروه في حياته، وبعد مماته، وابن مسعود هو أحد الصحب الكرام الذين تيسرت لهم تلك الصفوة من التابعين الذين اتبعوه بإحسان، فكانوا كما وصفهم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب بقوله: أصحاب عبد الله سرج هذه القرية (1).
ويقول العجلي: ليس أحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلّم أنبل صاحبا من ابن مسعود (2).
وكان سعيد بن جبير يقول: كان أصحاب عبد الله شيوخ هذه الأمة (3).
والكوفة واحدة من المدارس الثلاث التي قام أصحابها بنشر علم شيخهم.
يقول ابن المديني: لم يكن من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلّم أحد له أصحاب حفظوا عنه، وقاموا بقوله في الفقه إلا ثلاثة: زيد بن ثابت، وعبد الله بن مسعود، وابن عباس (4).
ويبين الشعبي رحمه الله الفقهاء من أصحاب عبد الله فيذكر أربعة هم: علقمة بن قيس، وعبيدة السلماني، وشريح، ومسروق (5).
ويفصل حالهم الشعبي بقوله: كان علقمة أبطن القوم بابن مسعود، وكان مسروق قد خلط منه، ومن غيره، وكان الربيع بن خثيم أشد القوم اجتهادا، وكان عبيدة يوازي شريحا في العلم، والقضاء (6).
__________
(1) المعرفة (1/ 353).
(2) تاريخ الثقات (279)، قلت: وليس قول العجلي هذا ببعيد، فإني لم أجد أحدا يساويهم في عبادتهم وورعهم مع كثرة علمهم وفقههم رحمة الله عليهم.
(3) المعرفة (2/ 558).
(4) العلل (43)، والمعرفة (1/ 714).
(5) السير (4/ 56).
(6) المرجع السابق (4/ 55).(1/470)
ويوسع إبراهيم النخعي نطاق التعريف بأصحاب عبد الله، فيعد من كان يقرأ، ويفتي من أصحاب عبد الله، فيقول: كان أصحاب عبد الله الذين يقرءون الناس القرآن، ويعلمونهم السنة، ويصدر الناس عن رأيهم ستة: علقمة، والأسود، ومسروق، وعبيدة، وأبو ميسرة بن شرحبيل، والحارث بن قيس (1).
وأيد هذا القول ابن المديني، وذكر قولا لابن سيرين: أنه زاد الحارث الأعور (2)، وتعقبه بقوله: الحارث الأعور كان في غير طريق أصحاب عبد الله، كانت روايته ومذهبه إلى علي بن أبي طالب، وما أعلمه روى عن عبد الله إلا حديثين، مختلف عنه في أحدهما (3).
وبعد أن عدّ ابن المديني أصحاب عبد الله الستة قال: بعد هؤلاء الستة، كان أعلم أهل الكوفة بأصحاب عبد الله وطريقتهم ومذهبهم إبراهيم، والشعبي إلا أن الشعبي كان يذهب مذهب مسروق، يأخذ عن علي، وأهل المدينة، وغيرهم، وكان إبراهيم يذهب مذهب أصحابه (4).
ويقول عنهم البيهقي: هم أعلم الناس بمذهب عبد الله، وإن لم يرياه (5).
وإنما عرضت لبيان أشهر أصحاب عبد الله في هذا المقام لأني لم أعرج عليهم في فصل أشهر رجال مدارس التفسير، وأغفلت ذكرهم هناك لندرة المروي عنهم في مضمار التفسير، وضآلة الوارد عنهم في علم التأويل، فإنك تجد المروي عن كثير منهم في التفسير لا يكاد يجاوز الآثار العشرة. ومع هذا فسأقتطف من ترجمة كل واحد من
__________
(1) الحلية (4/ 170)، وتاريخ أبي زرعة (1/ 651)، والمعرفة (2/ 553)، والزهد لوكيع (2/ 521)، وفضائل القرآن لأبي عبيد (226).
(2) السير (4/ 56)، والمعرفة (2/ 557).
(3) العلل (43)، والمعرفة (1/ 714).
(4) العلل (52).
(5) سنن البيهقي (6/ 255).(1/471)
أولئك الستة ما تدعو إليه الحاجة مضيفا نبذة من ترجمة مرة الهمذاني، لعنايته بتفسير ابن مسعود رضي الله عنه مع بيان شيء من الفوارق بينهم.
ثم أختم هذا المبحث بما يجود به الرحمن من بيان أوجه الاتفاق والاختلاف بين أعلم أهل الكوفة بعد أولئكم الستة، أعني الشعبي والنخعي (1).
1 - علقمة بن قيس:
هو أبو شبل: علقمة بن قيس بن عبد الله بن مالك النخعي الكوفي (2)، كان رحمه الله من أكبر أصحاب ابن مسعود وأنبلهم (3)، وهو فقيه الكوفة، وعالمها، ومقرئها (4)، وهو عم الأسود بن يزيد، وخال فقيه العراق إبراهيم النخعي (5).
هاجر في طلب العلم والجهاد، ونزل الكوفة (6) ولازم ابن مسعود (7) حتى صار من أعلم أصحابه به، وقد انتهى إلى علم ابن مسعود، ولم يجاوزه (8)، وعدّ من أخص أصحاب عبد الله وأبطنهم به (9)، وكان يقال: إذا رأيت علقمة فلا يضرك ألا ترى ابن
__________
(1) بعد مراجعتي لتفسير ابن كثير، وجدت أن أصحاب ابن مسعود الستة: مع ما روي عن مرة الهمذاني، وزر بن حبيش. هؤلاء الثمانية مجتمعون، مجموع ما روى عنهم في تفسير ابن كثير (65) أثرا فقط، منها (29) أثرا عن مسروق، والبقية يشترك فيها هؤلاء السبعة.
(2) طبقات خليفة (147)، والمعارف (190)، والتاريخ الكبير (7/ 41)، وطبقات ابن سعد (6/ 86).
(3) اللباب (3/ 304)، والتذكرة (1/ 48).
(4) السير (4/ 53).
(5) العلل لأحمد (2/ 300) 2334، وتاريخ بغداد (12/ 296).
(6) السير (4/ 54).
(7) المعرفة (2/ 553)، والكاشف (2/ 277).
(8) المعرفة (2/ 557)، والسير (4/ 308).
(9) تاريخ أبي زرعة (1/ 655)، وطبقات الحفاظ (13).(1/472)
مسعود (1)، وكان يشبه بابن مسعود في هديه، ودله، وسمته (2).
قرأ القرآن على ابن مسعود (3)، وكان ابن مسعود رضي الله عنه يقول: ما أقرأ شيئا، وما أعلم شيئا، إلا وعلقمة يقرؤه، ويعلمه (4).
وكان من أقرئهم في الكوفة (5).
وكان رحمه الله ممن غلب جانب الورع والإقلال في العلم بعامة، وفي التفسير بخاصة، فلم يأت عنه فيه إلا القليل (6).
وكان على جانب كبير من العبادة والنسك، يقول عنه مرة: كان علقمة من الربانيين (7).
وقد كان الربيع بن خثيم، وهو من أشد الكوفيين اجتهادا في العبادة يأتي علقمة فيقول: ما أزور أحدا ما أزورك (8).
توفي رحمه الله سنة ثنتين وستين (9).
__________
(1) التهذيب (7/ 177).
(2) العبر (1/ 49)، والمستدرك (3/ 320)، والمعرفة (2/ 553)، واللباب (3/ 304)، وتاريخ أبي زرعة (1/ 650).
(3) معرفة القراء الكبار (1/ 45)، والسير (4/ 54).
(4) التذكرة (1/ 48)، ومعرفة القراء الكبار (1/ 45)، وتهذيب الكمال (20/ 305).
(5) السير (4/ 59)، ومختصر تاريخ دمشق (17/ 169).
(6) رجعت إلى تفسير ابن كثير فلم أجد له إلا سبع (7) روايات، وعند القرطبي (66) قولا، جلها في تفسير آيات الأحكام.
(7) تاريخ أبي زرعة (1/ 650)، والعلل لأحمد (1/ 446) 1003، والمعرفة (2/ 556).
(8) السير (4/ 59).
(9) المعارف (190)، ومعرفة القراء الكبار (1/ 45)، والتذكرة (1/ 48).(1/473)
2 - مسروق:
هو مسروق بن الأجدع بن مالك بن أمية (1)، أبو عائشة الوادعي الهمداني (2).
يقول الخطيب البغدادي: يقال: إنه سرق وهو صغير، ثم وجد فسمي مسروقا (3).
عداده في كبار التابعين، وفي المخضرمين الذين أسلموا في حياة النبي صلى الله عليه وسلّم (4).
يقول فيه الشعبي: كان مسروق أعلم بالفتوى من شريح، وكان شريح أعلم بالقضاء من مسروق، وكان شريح يستشير مسروقا، وكان مسروق لا يستشير شريحا (5).
وكان الشعبي يقول: ما رأيت أحدا أطلب للعلم في أفق من الآفاق من مسروق (6).
وكان رحمه الله قد أخذ عن ابن مسعود، وعن غيره، وفي ذلك يقول ابن المديني: مسروق صلى خلف أبي بكر، ولقي عمر وعليا (7)، وقدم المدينة وسأل عن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلّم فدل على زيد بن ثابت، يقول: قدمت المدينة فسألت عن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلّم فإذا زيد من الراسخين (8).
__________
(1) تاريخ بغداد (13/ 232)، والتذكرة (1/ 49)، والإصابة (3/ 492)، وطبقات الحفاظ (4)، والخلاصة (374).
(2) تاريخ الثقات (426)، والكنى لأحمد (109).
(3) تاريخ بغداد (13/ 232)، ومختصر تاريخ دمشق (24/ 244).
(4) السير (4/ 64)، والإصابة (3/ 492).
(5) المعرفة (2/ 588)، والإصابة (3/ 492).
(6) العلم لأبي خيثمة (117)، والعلل لأحمد (2/ 451) 3003، وتاريخ أبي زرعة (1/ 652).
(7) العلل (76).
(8) المعرفة (1/ 484)، وتاريخ أبي زرعة (1/ 654).(1/474)
وقد مرّ معنا بعض قول الشعبي في ذلك وتمامه: أحدثك عن القوم كأنك شهدتهم، كان شريح أعلمهم بالقضاء، وكان عبيدة يوازي شريحا في علم القضاء، وأما علقمة فانتهى إلى علم عبد الله لم يجاوزه، وأما مسروق فأخذ عن كلّ (1).
وقد أخذ التفسير عن عبد الله، وفي ذلك يقول: كان عبد الله يقرأ علينا السورة، ثم يحدثنا فيها، ويفسرها عامة النهار (2).
وكان رحمه الله من أكثر أصحاب عبد الله الستة نقلا عنه في التفسير (3)، ومن أكثرهم تعرضا للتفسير. على أن المروي عنه قليل إذا ما قورن بغيره من التابعين (4).
وقد غلب عليه جانب الورع في هذا العلم، فكان يحذر أصحابه من التعرض للتفسير، ويقول: اتقوا التفسير، فإنما هو الرواية عن الله (5)، توفي رحمه الله سنة ثلاث وستين (6).
بين مسروق، وعلقمة:
كان هذان الإمامان من أكبر أصحاب عبد الله الملازمين له، ومن المقدمين في العلم، والفضل، ولعلي بعد هذا الإيجاز في ترجمتهما أبين بعض أوجه الاختلاف بينهما، فمن ذلك:
__________
(1) العلل لابن المديني (52)، وتاريخ أبي زرعة (1/ 655)، والمعرفة (2/ 557)، ومختصر تاريخ دمشق (24/ 245).
(2) تفسير الطبري (1/ 81) 84، والتذكرة (1/ 49)، والتهذيب (10/ 110).
(3) نقل (10، 0) من تفسير ابن مسعود، في حين جاء المروي من طريق علقمة (04، 0) فقط، وإن كان قد سبقه مرة حيث روى (25، 0)، لكني ذكرت أنه المقدم بين أصحاب عبد الله الستة.
(4) هو من أكثر المقلين من أصحاب عبد الله الستة أثرا وتعرضا للتفسير، فقد جاء عنه في تفسير ابن كثير (29) قولا، وعند القرطبي (103) أقوال، فيعد على قلة ما روي عنه من مكثريهم.
(5) فضائل القرآن لأبي عبيد (229).
(6) المعارف (191)، والوفيات لابن قنفذ (96)، والنجوم الزاهرة (1/ 161)، ودول الإسلام (1/ 47)، والشذرات (1/ 71).(1/475)
1 - كان علقمة أعلم بالحلال والحرام، ولا عجب في ذلك، فإنه كان من بيت علم وفقه، وكان يسأل والصحابة متوافرون (1) بالكوفة، وعدّ فقيه الكوفة وعالمها.
2 - كان علقمة أكثر اهتماما بالقراءة، والإقراء، فقد جود القرآن على ابن مسعود (2).
وكان ابن مسعود رضي الله عنه يرسل إليه ويقول له: رتل فداك أبي وأمي، فإنه زين القرآن (3).
وكان مشتغلا بالقرآن كثيرا، فكان يختم القرآن في خمس ليال (4).
3 - وكان مع هذا أطول ملازمة لابن مسعود وأكثر مشابهة، وأقرب مسلكا من مسروق، فلم يجاوز علم ابن مسعود، وكان أشبه الناس بهديه، وأعلمهم به، حتى إن ابن مسعود كان يحيل عليه، ويشهد له بقوله: ما أعلم شيئا إلا علقمة يعلمه ويقرؤه، وقلّ أن يخالفه في شيء (5).
ولما سافر علقمة إلى مكة أرسل ابن عباس رضي الله عنهما لعلقمة، وأصحاب عبد الله، فكان ابن عباس يسأل وهم بحضرته يقول علقمة: يسأل فيخطئ ويصيب، فيفحش في أنفسنا أن نرد عليه ونحن على طعامه (6).
__________
(1) المحدث الفاصل (238)، والعلم لأبي خيثمة (114)، والعبر (1/ 49)، ومعرفة القراء الكبار (1/ 45).
(2) السير (4/ 54)، ومختصر تاريخ دمشق (17/ 168).
(3) فضائل القرآن لأبي عبيد (89)، والمصنف لابن أبي شيبة (10/ 534)، والسنن الكبرى للبيهقي (2/ 54)، وشعب الإيمان للبيهقي (5/ 124) 1973.
(4) المصنف لابن أبي شيبة (2/ 501)، وسنن سعيد بن منصور، كتاب فضائل القرآن (2/ 455)، وفضائل القرآن للفريابي (223)، وتاريخ أبي زرعة (1/ 651).
(5) سبق بيان ذلك، ص (473).
(6) تاريخ أبي زرعة (1/ 654).(1/476)
4 - ومع هذا التقدم في العلم، وطول الملازمة، فإن حالة من الورع والزهد، والخوف من الشهرة منعته من نشر هذا العلم، وقللت من نتاجه، قيل له: ألا تغشى المسجد فتجلس وتفتي الناس؟ قال: تريدون أن يطأ الناس عقبي ويقولون: هذا علقمة (1)!.
وكان الشعبي يقول في وصف حال ذاك البيت الذي نشأ فيه علقمة: إن كان أهل بيت خلقوا للجنة، فهم أهل هذا البيت علقمة والأسود (2).
وكان من ورعه رحمه الله كراهيته للكتابة، قال له مسروق: اكتب لي النظائر، قال: أما علمت أن الكتاب يكره (3).
يقول مسلم بن صبيح (أبو الضحى): أتيت علقمة فسألته عن قول الله تعالى: {مََا جَعَلَ اللََّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلََا سََائِبَةٍ وَلََا وَصِيلَةٍ وَلََا حََامٍ} (4) فقال: وما تصنع بهذا؟ إنما هذا شيء من فعل الجاهلية! قال: فأتيت مسروقا فسألته، فقال: (البحيرة)، كانت الناقة إذا ولدت بطنا خمسا أو سبعا شقوا أذنها، وقالوا: هذه بحيرة، قال: (ولا سائبة)، قال:
كان الرجل يأخذ بعض ماله فيقول: هذه سائبة، قال: (ولا وصيلة)، قال: كانوا إذا ولدت الناقة الذكر أكله الذكور دون الإناث، وإذا ولدت ذكرا وأنثى في بطن قالوا:
(وصلت أخاها)، فلا يأكلونهما، قال: فإذا مات الذكر، أكله الذكور دون الإناث، قال: (ولا حام)، قال: كان البعير إذا ولد وولد ولده، قالوا: (قد قضى هذا الذي عليه) فلم ينتفعوا بظهره، قالوا: (هذا حمى) (5).
__________
(1) الزهد لابن المبارك (488)، والمعرفة (2/ 555)، وسنن الدارمي (1/ 132)، وتهذيب الكمال (20/ 306).
(2) السير (4/ 60)، ومختصر تاريخ دمشق (17/ 170).
(3) العلل لأحمد (1/ 216) 242.
(4) سورة المائدة: آية (103).
(5) تفسير الطبري (11/ 126) 12829.(1/477)
5 - وفي مقابل ما سبق، فإننا نجد مسروقا أقل التزاما لقول عبد الله من علقمة لاتصاله بمدرسة المدينة، والشام، وغيرهما من الأقطار، فعلقمة لم يجاوز علم شيخه، ومسروق أخذ عن كل من رحل إليه.
ومع هذا فكان محبا لأقوال إمام المدرسة الكوفية رضي الله عنه مقدما لها، وفي هذا يقول: شاممت أصحاب محمد صلى الله عليه وسلّم، فوجدت علمهم انتهى إلى ستة: إلى عمر، وعلي، وعبد الله بن مسعود، ومعاذ بن جبل وأبي الدرداء، وزيد بن ثابت، ثم شاممت الستة، فوجدت علمهم انتهى إلى علي، وعبد الله (1).
ويقول أيضا: لقد جالست أصحاب محمد صلى الله عليه وسلّم فوجدتهم كالإخاذ، والإخاذ يروي الرجل، والإخاذ يروي الرجلين، والإخاذ يروي العشرة، والإخاذ يروي المائة، والإخاذ لو نزل به أهل الأرض لأصدرهم، فوجدت عبد الله من ذلك الإخاذ (2).
وكان يقول: وقد سألت عمر، وعثمان، وعليا، فلما لقيت عبد الله كفاني (3).
6 - وكان من المفارقات بينهما، أن مسروقا كان أحرص على إبلاغ ما علمه، وأكثر اهتماما بنشر ما سمعه من علقمة، ولا شك أن لتنقله في البلاد، وكثرة أسفاره الأثر في ظهور هذا الحرص عنده، وكان يقول، لأن أفتي يوما بعدل وحق أحب إلي من أن أغزو في سبيل الله سنة (4).
ولذا نجده من أكثر أصحاب عبد الله رواية ودراية في التفسير.
7 - ومما لاحظته أن مسروقا كان أقرب إلى الأثر من علقمة، مما جعل الشعبي صاحب الأثر يقدمه، ويفضله على علقمة، بل إن جلّ المروي عن مسروق جاء من
__________
(1) المعجم الكبير للطبراني (9/ 96)، وتاريخ أبي زرعة (1/ 647)، والمعرفة (1/ 444).
(2) المعرفة (2/ 542)، والعلم لأبي خيثمة (123).
(3) العلل لابن المديني (43).
(4) تاريخ الإسلام (ح 61هـ / 239).(1/478)
رواية الشعبي (1) في حين كان المروي عن علقمة من طريق إبراهيم (2).
وكان مسروق يكره الرأي والقياس، يقول رحمه الله: إني أخاف وأخشى أن أقيس (3).
3 - عبيدة السلماني:
هو عبيدة بن عمرو السلماني المرادي (4)، أحد كبار التابعين، أدرك النبي صلى الله عليه وسلّم ولم يره، قال رحمه الله: صليت قبل وفاة النبي صلى الله عليه وسلّم بسنتين ولم أره (5).
قال الشعبي: كان عبيدة يوازي شريحا في القضاء (6) وقد برع رحمه الله في الفقه (7).
وكان كثير الورع والتوقي، يقول ابن سيرين: ما رأيت رجلا كان أشد توقيا من عبيدة (8).
وكان من توقيه أن دعا بكتبه عند موته فمحاها، وقال: أخشى أن تضعوها على غير موضعها (9).
__________
(1) من أمثلة ذلك انظر الآثار الواردة في تفسير الطبري: 3206، 4244، 4245، 4447، 4451، 4514، 4585، 4909.
(2) من ذلك الآثار: 3185، 3187، 3254، 3376، 3422، 4520، 4564.
(3) سنن الدارمي (1/ 65).
(4) تهذيب الأسماء واللغات (1/ 317)، والأنساب (3/ 276)، وطبقات الفقهاء (80).
(5) التاريخ الكبير (6/ 82)، والجرح (6/ 91)، وتاريخ بغداد (11/ 118)، والاستيعاب (2/ 444).
(6) تاريخ بغداد (11/ 119)، وتاريخ الإسلام (ح 61هـ / 482)، والتهذيب (7/ 84).
(7) النجوم الزاهرة (1/ 189)، والسير (4/ 40)، والتهذيب (7/ 85)، والشذرات (1/ 78).
(8) تهذيب الأسماء (11/ 317)، والأنساب (3/ 277)، وتاريخ الإسلام (ح 61هـ / 483).
(9) العلم لأبي خيثمة (136)، وسنن الدارمي (1/ 121)، وطبقات ابن سعد (6/ 94).(1/479)
وكان رحمه الله يأتي إلى ابن مسعود كل خميس، فيسأله عن أشياء غاب عنها، فكان عامة ما يحفظ عن عبد الله مما يسأله عبيدة عنه (1).
قال ابن سيرين: كان أصحاب عبد الله منهم من يقدم عبيدة ومنهم من يقدم علقمة (2).
وكان رحمه الله من المقلين في التفسير، شأنه في ذلك شأن أصحاب عبد الله الملازمين له رحمة الله عليهم (3).
توفي رحمه الله سنة اثنتين وسبعين (4).
4 - أبو ميسرة بن شرحبيل:
هو عمرو بن شرحبيل الهمداني (5)، أبو ميسرة الكوفي (6)، أحد المشهورين بالزهد والتقوى، يقول فيه الذهبي: كان من العباد الأولياء (7).
وعن شقيق بن سلمة، قال: ما رأيت همدانيا قط أحب إلى أن أكون في مسلاخه من عمرو بن شرحبيل (8).
__________
(1) سنن الدارمي (1/ 137).
(2) طبقات ابن سعد (6/ 94)، وتهذيب الأسماء (1/ 317)، وتاريخ بغداد (11/ 119).
(3) وجدت بعد مراجعتي لتفسير ابن كثير، أن المروي عنه (7) روايات فقط، وعند القرطبي (24) رواية.
(4) تهذيب الأسماء (1/ 317)، والنجوم الزاهرة (1/ 189)، والشذرات (1/ 78).
(5) الثقات لابن حبان (5/ 168)، والجمع بين رجال الصحيحين (1/ 365)، والتهذيب (8/ 47).
(6) الكنى للدولابي (2/ 135)، والجرح (6/ 237)، والإصابة (3/ 114).
(7) السير (4/ 135)، وقال ابن حجر في التقريب: ثقة عابد (422)، وقال ابن الجزري في الغاية:
صالح عابد (1/ 601).
(8) طبقات ابن سعد (6/ 106)، وتهذيب الكمال (22/ 61)، والسير (4/ 135).(1/480)
وعنه قال: ما اشتملت همدانية على مثل أبي ميسرة، قيل: ولا مسروق، قال:
ولا مسروق (1).
وكان محبا لعلقمة مؤثرا له، فيقول لأصحابه: انطلقوا بنا إلى أشبه الناس هديا ودلا وأمرا بعبد الله بن مسعود، فيدخل بهم على علقمة (2).
وكان من المقلين في التفسير (3).
ومما جاء عنه قوله لزوجته: ليت أمي لم تلدني، فقالت له امرأته: لم يا أبا ميسرة؟! قال: لأني أوعدت أني وارد، ولم أوعد أني صادر (4)، يتأول قوله سبحانه:
{وَإِنْ مِنْكُمْ إِلََّا وََارِدُهََا} (5).
توفي بالكوفة، في ولاية عبيد الله بن زياد (6) سنة إحدى أو اثنتين وستين (7)، وأوصى أن يصلي عليه شريح (8).
5 - الأسود بن يزيد:
هو الأسود بن يزيد بن قيس، أبو عمرو النخعي الكوفي (9)، وكان ابن أخي علقمة ابن قيس، وخال إبراهيم النخعي، وأخا عبد الرحمن بن يزيد، ووالد عبد الرحمن بن
__________
(1) التاريخ الكبير (6/ 342)، وطبقات ابن سعد (6/ 106)، وتهذيب الكمال (22/ 61).
(2) الحلية (2/ 98)، والمعرفة (2/ 554)، وتاريخ بغداد (12/ 298).
(3) له في تفسير ابن كثير (9) روايات فقط، وفي تفسير القرطبي (13) رواية.
(4) المعرفة (2/ 562).
(5) سورة مريم: آية (71).
(6) طبقات ابن سعد (6/ 109)، وغاية النهاية (1/ 601).
(7) طبقات خليفة (149).
(8) تاريخ أبي زرعة (1/ 653)، وغاية النهاية (1/ 601).
(9) التاريخ الكبير (1/ 449)، وتاريخ ابن معين (2/ 39)، وطبقات خليفة (148)، والجرح (2/ 291)، والتذكرة (1/ 51).(1/481)
الأسود، فهؤلاء أهل بيت من رءوس العلم والعمل (1).
قال الذهبي: وهو نظير مسروق في الجلالة، والعلم، والثقة، والسن، يضرب بعبادتهما المثل (2).
قال إبراهيم: كان يختم القرآن في رمضان كل ليلتين، وكان يختم القرآن في غير رمضان في كل ست ليال (3).
وعن الشعبي قال: كان الأسود بن يزيد صواما قواما حجاجا (4).
وكان يجتهد في العبادة، ويصوم حتى يخضر ويصفر (5).
وعن الحكم قال: إن الأسود كان يصوم الدهر (6)، قال الذهبي: وهذا صحيح عنه، وكأنه لم يبلغه النهي في ذلك، أو تأول (7).
وقد نقل العلماء في تاريخ وفاته أقوالا أرجحها أنه توفي سنة خمس وسبعين (8).
ومن كان مثل هذا الإمام في الانصراف إلى العبادة، والانقطاع إلى القرآن فإن
__________
(1) التاريخ الكبير (1/ 449).
(2) السير (4/ 50).
(3) الحلية (2/ 102)، والمصنف لابن أبي شيبة (2/ 501)، وفضائل القرآن للفريابي (223)، وشعب الإيمان للبيهقي (5/ 149) 2000.
(4) طبقات ابن سعد (6/ 70)، والحلية (2/ 103)، والتاريخ الكبير (1/ 449)، وغاية النهاية (1/ 171).
(5) الحلية (2/ 103)، وتاريخ الإسلام (ح 61هـ / 361)، والسير (4/ 52).
(6) طبقات ابن سعد (6/ 70)، والسير (4/ 52).
(7) السير (4/ 52)، ورد عنه صلى الله عليه وسلّم من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص أنه قال: «لا صام من صام الأبد، لا صام من صام الأبد، لا صام من صام الأبد»، ينظر صحيح مسلم، كتاب الصيام، باب النهي عن صوم الدهر لمن تضرر به (2/ 815) 1159.
(8) طبقات ابن سعد (6/ 75)، والتاريخ الكبير (1/ 449)، ومشاهير علماء الأمصار (100)، والثقات (4/ 31)، وغاية النهاية (1/ 171)، وشذرات الذهب (1/ 82).(1/482)
المتوقع أن يكون المروي عنه قليلا، فإني لم أجد له في كتب التفسير إلا النزر القليل من الآثار رحمه الله رحمة واسعة (1).
6 - الحارث الجعفي:
هو الحارث بن قيس الجعفي، الكوفي (2) العابد الفقيه، وقلما روى (3).
يقول فيه الذهبي: كان كبير القدر، ذا عبادة وتأله، يذكر مع علقمة والأسود (4).
وعن خيثمة بن عبد الرحمن: كان الحارث بن قيس من أصحاب عبد الله بن مسعود، وكانوا معجبين به، وكان يجلس إليه الرجل والرجلان فيحدثهما، فإذا كثروا قام وتركهم (5).
روى القراءة عن ابن مسعود (6).
ويقول فيه ابن حبان: من خيار الكوفيين، وقدماء مشايخهم. مات في ولاية معاوية بن أبي سفيان (7)، سنة أربع وخمسين (8)، وصلى عليه أبو موسى الأشعري رضي الله عنه (9).
وكان رحمه الله من أقل أصحاب ابن مسعود تعرضا للقول في التفسير رواية
__________
(1) ليس له عند ابن كثير في تفسيره، إلا ثلاث روايات فقط، وعند القرطبي (17) رواية.
(2) الجرح (3/ 86)، وتهذيب الكمال (5/ 272)، وتاريخ بغداد (8/ 206)، والوافي بالوفيات (11/ 241)، والتهذيب (2/ 154)، والخلاصة (68).
(3) السير (4/ 75).
(4) المرجع السابق (4/ 75).
(5) المعرفة (3/ 142)، وتهذيب الكمال (5/ 273).
(6) غاية النهاية (1/ 201).
(7) مشاهير علماء الأمصار (108).
(8) التاريخ الصغير (1/ 92).
(9) المرجع السابق (1/ 92)، والسير (4/ 76).(1/483)
ودراية، فقد رجعت إلى بعض كتب التفسير فلم أجد له قولا (1).
7 - مرة الهمداني:
هو مرة بن شراحيل الهمداني (2)، المعروف بمرة الطيب، ومرة الخير، لقب بذلك لعبادته وخيره (3).
وبلغ من كثرة تعبده أنه سجد لله حتى أكل التراب جبهته (4).
وعن عطاء بن السائب قال: رأيت مصلى مرة الهمداني، مثل مبرك البعير (5)، ونقل عنه أن مرة كان يصلي في اليوم والليلة ست مائة ركعة (6).
قال الذهبي معلقا على هذه الآثار: ما كان هذا الولي يكاد يتفرغ لنشر العلم، ولهذا لم تكثر روايته (7).
قلت: وهو كما قال، فإن المروي عنه في التفسير قليل (8)، وإنما برز رحمه الله بين أصحابه في نقل ورواية تفسير شيخه ابن مسعود رضي الله عنهما فكان أكثر أصحاب عبد الله نقلا لتفسيره، ونشرا لعلمه، فإن أغلب المروي عن ابن مسعود في
__________
(1) رجعت إلى تفسير ابن كثير والقرطبي وأضفت إليهم المغني في الفقه فلم أجد له أي قول.
(2) رجال صحيح البخاري (2/ 766)، والجمع بين رجال الصحيحين (2/ 517)، والتذكرة (1/ 67).
(3) الموضح لأوهام الجمع والتفريق (2/ 414)، وتهذيب الكمال (27/ 380)، والسير (4/ 74)، والتهذيب (10/ 88).
(4) صفة الصفوة (3/ 34)، وتهذيب الكمال (27/ 381)، وطبقات المفسرين للداودي (2/ 318).
(5) تاريخ أبي زرعة (1/ 549)، والحلية (4/ 162)، والثقات لابن حبان (5/ 146).
(6) الحلية (4/ 162)، وصفة الصفوة (3/ 34)، والمنتظم (5/ 276).
(7) السير (4/ 74).
(8) له في تفسير ابن كثير خمس روايات فقط، وفي تفسير القرطبي (17) رواية.(1/484)
التفسير جاء من روايته ولم يتجاوز عمله هذا النقل (1).
توفي سنة ست أو سبع وسبعين رحمه الله (2).
وخلاصة القول: إن أصحاب عبد الله الملازمين له كانوا بين مقلّ، وورع متقي، أو عابد منشغل بالعبادة، وقد تقدم من بين هؤلاء علقمة ومسروق، فكانا من أعلم أصحابه، ومع كل هذا فإنه لم يرو عنهم في العلم والتفسير إلا النزر القليل، بل إنهم من أقل أصحاب المدارس رواية ودراية.
وأحسب أن مما يضاف إلى ما سبق، أنهم عاشوا في وقت مبكر والصحابة متوافرون، ولم يحتج الناس لعلمهم، فكثير منهم عاش ما بين الستين والسبعين وقليل منهم من جاوز الثمانين، أما غيرهم فإن الكثير منهم بلغ التسعين، وعاش إلى نهاية القرن الأول الهجري.
هذا بدوره مما جعلني أختار الإمامين الجليلين في الكوفة الشعبي والنخعي لأني وجدت لهم مادة تفسيرية يمكن من خلالها استخلاص شيء من مناهجهم سائلا الله عز وجل السداد والرشاد.
وسبق أن تحدثت في فصل أشهر رجال المدارس باستفاضة عن هذين الإمامين، ولعلي أختم هذا المبحث المتعلق بأصحاب عبد الله ببيان أهم أوجه الشبه والاتفاق، وأوجه الاختلاف والافتراق.
مقارنة بين الشعبي، والنخعي:
كان عامر الشعبي، وإبراهيم النخعي من أعلم الناس بمذهب عبد الله وأصحابه،
__________
(1) المروي عن طريق مرة من تفسير ابن مسعود قارب (25، 0) من مجموع تفسيره، أي (214) رواية، في حين لم يرو الذي يليه من أصحاب عبد الله، وهو مسروق إلا (10، 0) من تفسير عبد الله، وبعدهما علقمة حيث روى (04، 0) من مجموع تفسيره.
(2) طبقات خليفة (149)، ومشاهير علماء الأمصار (102)، والتهذيب (10/ 89).(1/485)
وإن لم يرياه (1)، وكان لهما الأثر الكبير في نشر تراث مدرسة الكوفة، وقد تعاصرا وأخذ كل واحد منهما بحظ من علم ابن مسعود وأصحابه رضي الله عن الجميع، ولكن مما ينبغي تسجيله هنا ما لمسته من مفارقات وتباين بينهما في المناهج وأثر ذلك على تفسيرهما لكتاب الله العزيز. فمن أهم ذلك:
1 - أن الشعبي كان أقرب للأثر من النخعي: فقد أدرك الجم الغفير من الصحابة، وسمع من ثمانية وأربعين منهم، وصار من أعلم أهل الكوفة والبصرة والحجاز بالحديث (2).
يقول ابن عوف: إن كنا نتذاكر الشيء ما نرى أن فيه أثرا، فيحدثنا الشعبي فيه بحديث (3).
ويقول حماد بن زيد: ما كان بالكوفة رجل أوحش ردا للآثار من إبراهيم، وذلك لقلة ما سمع من حديث النبي صلى الله عليه وسلّم، ولا كان بالكوفة رجل أحسن اتباعا، ولا أحسن اقتداء من الشعبي، وذلك كثرة ما سمع (4)، ولقد كان يعد الشعبي صاحب آثار، والنخعي صاحب قياس (5).
وكانت طريقة فقهاء الرأي مبغضة له ولم يرتضها (6)، وكان الأئمة يصنفون الشعبي مع علماء الأثر، وفي ذلك يقول ابن المديني: كان الشعبي، وعروة بن الزبير، وعبيد الله بن عبد الله والزهري أمرهم واحد (7).
__________
(1) السنن الكبرى للبيهقي (6/ 255).
(2) تاريخ دمشق (8/ 696).
(3) أخبار القضاة (2/ 422).
(4) تاريخ دمشق (8/ 697)، والفتح (4/ 39، 410).
(5) الحلية (4/ 320)، والتذكرة (1/ 82).
(6) أبو حنيفة حياته وعصره لأبي زهرة (68).
(7) المعرفة (3/ 17).(1/486)
وكان الشعبي يوصي أصحابه بإتيان المحدثين من أئمة الأمصار، فعن شعيب بن الحبحاب، قال: قال لنا الشعبي: عليكم بذاك الأصم يعني محمد بن سيرين (1).
وكان ينهاهم عن مجالسة أصحاب إبراهيم النخعي (2).
وكان رحمه الله من أوائل من اهتم بعلم الجرح والتعديل، فعدل وجرح (3).
وكانت مراسيله أقوى من مراسيل إبراهيم (4).
وكان لهذا الفرق أثره في عناية الشعبي بالعلوم النقلية، الخادمة لعلم التفسير، كعلم أسباب النزول (5)، وتفسير القرآن بالسنة (6)، وبقول الصاحب (7)، فإن الشعبي كان أسبق في هذا كله، وأعلم من إبراهيم.
2 - إذا كان الشعبي قد فاق النخعي في معرفة الآثار والسنن، فإن إبراهيم قد سبق وتقدم على عامر الشعبي في المعرفة والاهتمام بآراء وأقوال شيخ المدرسة ابن مسعود رضي الله عنه، فقد ترسم خطاه في كثير من الآراء، وحذا حذوه في العديد من التأويلات.
فعن علي بن المديني قال: كان إبراهيم عندي من أعلم الناس بأصحاب عبد الله،
__________
(1) طبقات ابن سعد (7/ 195)، والعلل لأحمد (2/ 469) 3077، والمعرفة (2/ 56).
(2) العلل لأحمد (3/ 34) 4050، (2/ 555) 3628، والبداية (8/ 109).
(3) المعرفة (2/ 581)، وقول من يعتمد في الجرح (159).
(4) قواعد في علوم الحديث (148)، والتهذيب (5/ 67).
(5) بلغت نسبة أسباب النزول في تفسير الشعبي (13، 0) من مجموع تفسيره، في حين كانت عن إبراهيم أقل من (03، 0).
(6) بلغت نسبة المروي عن الشعبي في تفسير القرآن بالسنة (24، 0) من مجموع تفسيره، في حين كانت عند إبراهيم أقل من (01، 0) من مجموع تفسيره.
(7) بلغت نسبة المروي عن الشعبي في تفسير القرآن بقول الصحابي (05، 0) من مجموع تفسيره، في حين كانت عن إبراهيم (02، 0) فقط من مجموع تفسيره.(1/487)
وأبطنهم به (1).
ويقول أيضا: وكان أصحاب عبد الله الذين يقرءون بقراءته، ويفتون الناس بسننه علقمة، والأسود، ومسروق وكان أعلم أهل الكوفة بأصحاب عبد الله، وطريقتهم، ومذهبهم: إبراهيم، والشعبي، إلا أن الشعبي كان يذهب مذهب مسروق يأخذ عن علي، وأهل المدينة، وغيرهم، وكان إبراهيم يذهب مذهب أصحابه (2)، وليس هذا بمستغرب على إبراهيم، فإن علقمة عم أم إبراهيم، والأسود خال إبراهيم، وعلقمة عم الأسود (3).
وكان يقال: ما رأينا رجلا قط أشبه هديا بعلقمة من النخعي، ولا رأينا رجلا أشبه هديا بابن مسعود من علقمة (4).
وقد كان لتلك الصلة بين إبراهيم وعلقمة، وبين علقمة وابن مسعود الأثر في اهتمام إبراهيم بآثار ابن مسعود أكثر من اهتمام الشعبي، ونجد شاهد هذا عند مراجعة تفسير ابن مسعود، فقد كان نقل إبراهيم وروايته لتفسير ابن مسعود أكثر من نقل الشعبي وروايته (5).
وكان إبراهيم لا يعدل بقول عمرو ابن مسعود إذا اجتمعا، فإن اختلفا كان قول عبد الله أعجب إليه.
ولعل من أوجه الاختلاف بينهما التي يمكن بيانها هنا أن صلة إبراهيم بعلقمة
__________
(1) العلل (46).
(2) المرجع السابق (52).
(3) الكنى لأحمد (103).
(4) العلل لأحمد (2/ 194) 1983.
(5) بعد مراجعتي لتفسير ابن مسعود عند الطبري، وجدت أن المروي من طريق إبراهيم عن ابن مسعود بلغ (09، 0) من مجموع تفسيره، في حين بلغ المروي عن طريق الشعبي (02، 0) فقط من مجموع تفسيره، في حين نجد اهتمام الشعبي بتفسير عمر واضحا حيث روى من طريق الشعبي أكثر من (20) رواية، في حين كان المروي من تفسير عمر عن النخعي روايتين فقط.(1/488)
كانت أكثر من صلته بمسروق، وأما الشعبي فكانت صلته بمسروق أكثر، وهذا من العوامل التي جعلت إبراهيم أكثر تقليدا لابن مسعود لأن علقمة كان أكثر عناية واهتماما بآثار ابن مسعود من مسروق، والنخعي لم يسمع من مسروق شيئا (1).
وكما سبق أن أشرنا فإن مسروقا كان ممن أخذ عن ابن مسعود، وعلي، وأهل المدينة، في حين اقتصر علقمة، وبعده إبراهيم على علم ابن مسعود وأصحابه، فتبين من ذلك تعدد مصادر الشعبي بخلاف حال إبراهيم النخعي.
يقول الشعبي في وصف أصحاب عبد الله: كان علقمة أعلمهم، وكان عبيدة يوازي شريحا في الفتوى والقضاء، وكان مسروق أطلبهم للعلم (2).
3 - إذا كانا قد اهتما ببيان آيات الأحكام، واعتنيا كلاهما بما ورد فيها من مسائل فقهية، فإن اهتمام إبراهيم بذلك كان أكثر، وكان في مجال الاستنباط أفقه من الشعبي، وقد شهد له بذلك الشعبي نفسه، فلما بلغه موت إبراهيم قال: إنه نشأ في أهل بيت فقه، فأخذ فقههم، ثم جالسنا فأخذ صفوة حديثنا إلى فقه أهل بيته فمن كان مثله (3)؟!.
يقول الإمام الذهبي: فأفقه أهل الكوفة علي، وابن مسعود، وأفقه أصحابهما علقمة، وأفقه أصحابه إبراهيم، وأفقه أصحاب إبراهيم حماد (4).
ونجد شاهد هذا في كتب التفسير (5)، والفقه (6)، فقد كانت عناية إبراهيم أكثر من
__________
(1) جامع التحصيل (142)، والميزان (1/ 75).
(2) تاريخ أبي زرعة (1/ 651)، وطبقات الحفاظ (14).
(3) العلم لأبي خيثمة (116)، والحلية (4/ 221)، وتاريخ ابن معين (2/ 413).
(4) السير (5/ 236).
(5) رأينا فيما سبق أن ما نسبته (38، 0) من مجموع تفسير إبراهيم كان حول آيات الأحكام وما يرد من مسائل فقهية، في حين بلغ نسبة هذا عند الشعبي (23، 0) من مجموع تفسيره.
(6) رجعت إلى المغني لابن قدامة، فكان المروي عن إبراهيم (696) قولا، في حين بلغ عن عامر الشعبي (501) قول.(1/489)
الشعبي في استنباط الأحكام الفقهية.
وكان الكوفيون يتذاكرون العلم، ومسائل الفقه، فإذا جاءت الفتوى ليس عندهم فيها دليل، أحالوها لإبراهيم، يقول إسماعيل بن أبي خالد: كان الشعبي وأبو الضحى، وإبراهيم، وأصحابنا، يجتمعون في المسجد فيتذاكرون الحديث، فإذا جاءتهم فتيا ليس عندهم فيها شيء رموا بأبصارهم إلى إبراهيم النخعي (1).
وأحسب أن مما منع الشعبي في كثير من الأحيان من التحدث والإفتاء بالإضافة لما سبق الورع.
فعن ابن عون قال: ذكر الشعبي وإبراهيم فقال: كان إبراهيم يسكت فإذا جاءت الفتيا انبرى لها، وكان الشعبي يتحدث، ويذكر الشعر، وغير ذلك، فإذا جاءت الفتيا أمسك (2).
وعن ابن عون قال: كان الشعبي إذا جاءه شيء اتقى، وكان إبراهيم يقول ويقول ويقول (3).
4 - ومن أوجه الاختلاف بينهما أن الشعبي كان أطول باعا في علوم العربية من النخعي، بل هو من أكثر الكوفيين استخداما للغريب والشعر (4)، فكان من أفصحهم في ذلك، ولذلك قيل: أربعة لم يلحنوا في جد ولا هزل، وذكر منهم الشعبي (5).
وأما إبراهيم فكان كثير اللحن، وفي ذلك يقول عاصم بن أبي بهدلة: كان إبراهيم
__________
(1) الحلية (4/ 221)، والجرح (2/ 144)، وتاريخ ابن معين (2/ 17).
(2) تاريخ دمشق (8/ 697).
(3) سنن الدارمي (1/ 52)، وتاريخ دمشق (8/ 697)، والتذكرة (1/ 85).
(4) سبق الإشارة إلى ذلك وتفصيله في أهم خصائص تفسير الشعبي في ترجمته ص (329).
(5) تاريخ الخلفاء (206).(1/490)
رجل صدق، ولو سمعته يقرأ قلت: ما يحسن هذا شيئا (1).
وعن خالد بن سلمة المخزومي قال: لقد رأيت إبراهيم فرأيت رجلا لحانا (2).
ونجد شاهد تقدم الشعبي في كثرة النقل عنه في كتب غريب الحديث واللغة.
ومع هذا كله فقد عني تلاميذ إبراهيم على قلتهم بنشر تراثه أكثر من أصحاب الشعبي.
5 - ومن أوجه الاختلاف الواضحة بينهما: كثرة تلاميذ الشعبي ووفرة الآخذين عنه.
فكان يحضر مجالسه خلق كثير، وفي ذلك يقول ابن سيرين: «قدمت الكوفة، وللشعبي حلقة عظيمة، وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلّم يومئذ كثير» (3).
بيد أنه لم يكن يجالس النخعي إلا النزر القليل (4)، ومنشأ ذلك أنه كان مهيبا (5)
قليل المزاح (6).
يقول ابن عون: كان الشعبي منبسطا، وإبراهيم منقبضا، فإذا وقعت الفتيا انقبض الشعبي، وانبسط إبراهيم (7).
وعن عاصم قال: تبعت الشعبي، فمررنا بإبراهيم، فقام له إبراهيم عن مجلسه فقال له الشعبي: أما إني أفقه منك حيّا، وأنت أفقه مني ميتا، وذاك أن لك أصحابا
__________
(1) العلل لأحمد (1/ 348) 649، (2/ 250) 2148.
(2) العلل لأحمد (1/ 348) 648.
(3) تهذيب تاريخ دمشق (7/ 139).
(4) العلل لأحمد (3/ 39) 4070.
(5) المرجع السابق (3/ 124) 4522، 4525.
(6) تاريخ أبي زرعة (1/ 666).
(7) المرجع السابق (1/ 665)، والسير (4/ 303).(1/491)
يلزمونك فيحيون علمك (1).
وكانا إذا اجتمع الشعبي وإبراهيم سكت إبراهيم (2).
وخلاصة القول: إن اهتمام الشعبي، وعنايته بالتفسير كانت أكثر من عناية صاحبه، ويدلك على هذا ما ذكرناه آنفا من مفارقات، ومقارنات بين نصيب كل واحد منهما من روايات في التأويل، أو نصيب كل واحد منهما من العلوم ذات الصلة المباشرة بالتفسير، كعلم أسباب النزول وغيره. كل هذا يجعلنا نقدم الشعبي على النخعي في علم التأويل، بل إنه لولا الورع الذي لازمه، ومنعه من التقدم أكثر في هذا العلم، لكان له شأن في مدرسة الكوفة وغيرها. والله أعلم.
أسباب قلة المروي عن المدرسة في التفسير:
لعل من أهم أسباب إقلال هذه المدرسة ما يلي:
1 - الهيبة والورع في التفسير:
وهذا من أبرز الأسباب التي كانت وراء إقلال المدرسة، وقد كان لتربية ابن مسعود لأصحابه الأثر البالغ في تحذيرهم من الخوض في التفسير، وحثهم على الإقلال من القول فيه ما أمكن، وقد سبق الإشارة إلى طرف من أحواله رضي الله عنه في هذا (3).
وكان لهذه التربية وهذا المنهج أثر كبير على أصحابه الملازمين له والذين صحبوه وأخذوا عنه مباشرة، وكانوا من أقل التابعين على الإطلاق نتاجا في التفسير (4)، وكان دور بعضهم يقتصر في أحسن أحواله على الرواية عن شيخه ابن مسعود رضي الله عنه
__________
(1) السير (4/ 526)، وطبقات ابن سعد (6/ 284)، وتاريخ الإسلام (ح 96هـ / 282).
(2) السير (4/ 303)، والتذكرة (1/ 82).
(3) ينظر ص (511).
(4) المروي عن مسروق، وعلقمة، ومرة، والحارث، قليل جدا. فقد رجعت لتفسير ابن كثير فلم أجد إلا (65) قولا لهم جميعا.(1/492)
فيه ولا يتعدى هذا (1).
وكان أصحاب عبد الله مع إدراكهم وتقدمهم في العلم، يجتنبون الخوض في التفسير تورعا واحتياطا لأنفسهم.
ولذا يقول مسروق: اتقوا التفسير فإنما هو الرواية عن الله (2).
وعن محمد بن سيرين قال: سألت عبيدة السلماني عن شيء من القرآن؟ فقال:
اتق الله وعليك بالسداد، فقد ذهب الذين يعلمون فيم أنزل القرآن (3).
وكان أبو وائل: إذا سئل عن شيء قال: قد أصاب الله ما أراد (4).
ويقول عامر الشعبي: أدركت أصحاب عبد الله وأصحاب علي وليس هم لشيء من العلم أكره منهم لتفسير القرآن (5).
وكان إبراهيم النخعي يقول: كان أصحابنا يتقون التفسير ويهابونه (6).
ثم جاءت الطبقة الوسطى من تابعي المدرسة، وهم الذين أخذوا عن أصحاب عبد الله بن مسعود، ولا زالت الهيبة والتعظيم باقية في نفوسهم، فهذا عامر الشعبي كان من أكثر من روي عنه الورع في التفسير، فعنه قال: والله ما من آية إلا سألت عنها، ولكنها الرواية عن الله (7).
__________
(1) كما نجد ذلك عند مرة خاصة، وقد مرّ ذلك قريبا ص (484).
(2) فضائل القرآن لأبي عبيد (228)، ومجموع فتاوى شيخ الإسلام (13/ 374)، وتفسير ابن كثير (1/ 17).
(3) المصنف لابن أبي شيبة (10/ 511) 10148، وشعب الإيمان (2/ 424) 2282، وتفسير ابن كثير (1/ 17).
(4) المصنف لابن أبي شيبة (10/ 513) 10157.
(5) المرجع السابق (10/ 512) 10152.
(6) فضائل القرآن لأبي عبيد (229)، والحلية (4/ 222)، وشعب الإيمان (2/ 425) 2286.
(7) تفسير الطبري (1/ 87) 102، ومجموع الفتاوى (13/ 373).(1/493)
ويقول أيضا: ثلاث لا أقول فيهن حتى أموت: القرآن، والروح، والرأي (1)، ويقول: من كذب على القرآن فقد كذب على الله (2).
ويقول: الذي يفسر القرآن برأيه إنما يرويه عن ربه (3).
وكان رحمه الله ينكر على من تساهل وتوسع في التفسير، ولذا لما قيل له: إن السدي أوتي حظا من العلم بالقرآن، قال: إنه قد أعطي حظا من جهل بالقرآن (4).
وكان ينهاه عند ما يمر به وهو يفسر القرآن (5).
وكان عند ما يرى أبا صالح (باذام) يفسر القرآن يأخذ بإذنه ويعركها ويقول: تفسر القرآن وأنت لا تقرأ القرآن (6).
ولما قدم شيخ المفسرين مجاهد إلى الكوفة، كان الكوفيون يتقون بعض تفسيره (7).
كان من مظاهر الورع التي برزت في الكوفة ما يراه القارئ لسيرهم من انصراف الكثير منهم للعبادة، مع سابق فضلهم وعلمهم.
فكانوا مضرب المثل في ذلك (8).
وخاف بعضهم الشهرة، أو آثر السلامة مخافة الزلل والخطأ، فعلقمة على فضله
__________
(1) تفسير الطبري (1/ 87) 103.
(2) الحلية (4/ 321).
(3) المرجع السابق (4/ 312).
(4) العلل لأحمد (2/ 334) 2477.
(5) المحرر الوجيز (1/ 19)، وتهذيب الكمال (3/ 135).
(6) تفسير الطبري (1/ 91) 112، والتهذيب (1/ 417).
(7) سبق تفصيله في ترجمة مجاهد ص (127).
(8) السير (4/ 50).(1/494)
وعلمه كان لا يجاوز علم ابن مسعود، ولا يخرج عنه، وكان متوقيا للشهرة، قيل له:
ألا تغشى هذا المسجد، وتفتي الناس؟ فقال رحمه الله: تريدون أن يطأ الناس عقبي، ويقولون: هذا علقمة بن قيس!! (1).
بل كان رحمه الله مع أنه من أخص أصحاب ابن مسعود، وأشبههم به هديا ودلا أكثر علمه المروي عنه إنما أخذه منه بالسؤال، ولم يتحدث به ابتداء (2).
ومرّة، وهو من أكثر من روى عن ابن مسعود في التفسير، ما كان يكاد يتفرغ لنشر العلم، فقد انقطع واشتغل بالعبادة، ولهذا لم تكثر روايته.
يقول الشعبي: ما رأيت قوما قط أكثر علما، ولا أعظم حلما، ولا أكف عن الدنيا من أصحاب عبد الله (3).
وهذا إبراهيم النخعي الذي جاء بعد هؤلاء، قد تأثر بهم، فمع إمامته لأهل العراق في الفقه بالاتفاق لم يكن يتكلم حتى يسأل (4)، وكان يكره كبر الحلقة، ويخاف الشهرة، وكان عدد الحاضرين في مجلسه لا يزيد عن الخمسة (5)، حتى إن الإمام الذهبي صدر ترجمته بقوله: كان عجبا في الورع والتوقي من الشهرة (6).
وكان من أثر هذا الإقلال عند الطبقتين المتقدمة والمتوسطة من الكوفيين، أن أكثرت الطبقة المتأخرة من التابعين، ومن بعدهم في التفسير، وأفاضوا في علم التأويل، سدا لما لمسوه من حاجة الكوفة إلى علم القرآن، وتعويضا لما رأوه من نقص في مجال التفسير.
__________
(1) الزهد لابن المبارك (488)، والمعرفة (2/ 555).
(2) كما سبق بيانه في ترجمته.
(3) السير (4/ 262).
(4) الحلية (4/ 226)، وطبقات ابن سعد (6/ 275)، والتذكرة (1/ 74).
(5) العلل لأحمد (3/ 38) 4070، والإرشاد (2/ 557)، وصفة الصفوة (3/ 89).
(6) الكاشف (1/ 96)، والتذكرة (1/ 74).(1/495)
وكان معظم مادتهم في هذا الإكثار مستقى من نبع المدرسة المكية، ومستمدا من بحر حبر الأمة رضي الله عنه.
فإن السدي حين أنكر عليه الكوفيون إكثاره من التفسير أجابهم بقوله: إن هذا التفسير أخذته عن ابن عباس، فإن كان صوابا فهو قاله، وإن كان خطأ فهو قاله (1).
وهذا الضحاك بن مزاحم (2) نجد أنه أخذ جل تفسيره عن سعيد بن جبير عن ابن عباس.
ولم يقتصر ورع الكوفيين على دراية التفسير، بل تعدى ذلك إلى الحذر حتى من روايته.
فتفسير عمر رضي الله عنه كان جله من روايات البصريين، وتفسير ابن عباس كان أكثره من رواية المكيين، وتقدم قبل قليل إيراد إنكارهم على السدي حينما رأوا إكثاره في تناول التفسير، فرد عليهم بقوله: إنه ليس من اجتهاده بل من تفسير ابن عباس.
2 - التشدد في نقل الأحاديث، والسنن:
لم يكن ما أسلفته من بيان حالهم في شدة الورع وكثرة الحذر مقتصرا على الخوف في القرآن، والتعرض له بالبيان بل كان ذلك منهجا غلب على أتباع هذه المدرسة، فشمل التشدد في نقل الروايات والأخبار الواردة عنه صلى الله عليه وسلّم، فكانت المدرسة الكوفية من أقل المدارس اعتمادا على السنن في تفسيرها لقلة الحديث فيها من جهة، وخوفهم من الوقوع في الخطأ عند نقل حديث المصطفى صلى الله عليه وسلّم من جهة أخرى، مما جعلهم يميلون إلى الاعتماد على أقوال شيخهم ابن مسعود، أو أصحابه.
__________
(1) أخبار أصبهان (1/ 204)، ومعجم الأدباء (7/ 16).
(2) كان من المكثرين بين مفسري أتباع التابعين في الكوفة.(1/496)
فعن عاصم العدوي قال: سألت الشعبي عن حديث فحدثنيه، فقلت: إنه يرفع إلى النبي صلى الله عليه وسلّم؟ فقال: لا، على من دون النبي صلى الله عليه وسلّم أحب إلينا. فإن كان فيه زيادة أو نقصان كان على من دون النبي صلى الله عليه وسلّم (1).
وقيل لإبراهيم النخعي: يا أبا عمران، أما بلغك حديث عن النبي صلى الله عليه وسلّم تحدثنا؟
قال: بلى، ولكن أقول: قال عمر، وقال عبد الله، وقال علقمة، وقال الأسود، أجد ذلك أهون عليّ (2).
وعامر الشعبي كان أكثر حديثا من الحسن (3)، ولكن الحسن كان أسهل منه في التحديث لأنه كان يأخذ عن كل أحد، ولذا كثرت الروايات عن الحسن فكان الشعبي يغلظ عليه في الإنكار بقوله: لو لقيت هذا الكبش يعني الحسن لنهيته عن قوله: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم. قال: صحبت ابن عمر ستة أشهر، فلم أسمعه يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم، إلا في حديث واحد (4).
وكان من نتاج هذا الورع أن كان الأئمة من مدرسة الكوفة من أشد التابعين تمحيصا للروايات، فكان الشعبي من أول من زكى وجرح عند انقراض عصر الصحابة (5).
وكان إبراهيم النخعي يعد صريفا للحديث لكثرة ما كان يرد (6).
ونتج عن تلك الحيطة والحذر في الرواية، أن عد الأئمة مراسيلهم من أصح المراسيل لأنهم يتشددون في قبول الرواة.
__________
(1) سنن الدارمي (1/ 83)، والسير (4/ 307).
(2) طبقات ابن سعد (6/ 272)، ورواه الدارمي في سننه بلفظ مقارب (1/ 83).
(3) السير (4/ 312).
(4) العلل لأحمد (2/ 198) 1999.
(5) قول من يعتمد في الجرح والتعديل (159).
(6) طبقات علماء الحديث (1/ 146)، والسير (4/ 521)، وطبقات الحفاظ (29).(1/497)
فهذا ابن معين يصحح مراسيل إبراهيم، ويعتبرها أصح من مراسيل سعيد بن المسيب، ويفضلها على مراسيل القاسم بن محمد، وسالم بن عبد الله بن عمر (1).
وقال العجلي: مرسل الشعبي صحيح، لا يكاد يرسل إلا صحيحا (2).
والكوفة كانت أسبق من البصرة في إسناد الأخبار، فعن حماد بن سلمة قال: كنا نأتي قتادة فيقول: بلغنا عن النبي عليه السلام، وبلغنا عن عمر، وبلغنا عن علي، ولا يكاد يسند، فلما قدم حماد بن أبي سليمان (3) البصرة، جعل يقول: حدثنا إبراهيم، وفلان، وفلان، فبلغ قتادة ذلك، فجعل يقول: سألت مطرفا، وسألت سعيد بن المسيب، وحدثنا أنس بن مالك، فأخبرنا بالإسناد (4).
3 - كراهية الكتابة:
كتابة العلم، وتدوين الحديث، والتفسير، وغيرها من فروع العلم، كانت من المسائل التي كرهها بعض السلف، وأجازها آخرون.
وكان الكوفيون من أكثر المدارس كراهية للكتابة (5)، خشية أن تشبه بالمصاحف، فحين بلغ ابن مسعود رضي الله عنه أن عند أناس كتابا يعجبون به، لم يزل بهم حتى أتوه به فمحاه، ثم قال: إنما هلك أهل الكتاب قبلكم أنهم أقبلوا على كتب علمائهم وتركوا كتاب ربهم (6).
__________
(1) معرفة الرجال (1/ 120)، والنكت على ابن الصلاح (2/ 555).
(2) تاريخ الثقات (244)، والتهذيب (5/ 68).
(3) قال الذهبي: حماد بن أبي سليمان معدود في صغار التابعين، تفقه بإبراهيم وهو من أصحابه، السير (5/ 231).
(4) طبقات ابن سعد (7/ 231)، والمعرفة (2/ 282).
(5) قارن حالهم بالمكيين، أو البصريين، أو المدنيين، مجاهد، وسعيد بن جبير، وعكرمة، وعطاء، وغيرهم، كلهم كتبوا، أو أمروا بالكتابة.
(6) سنن الدارمي (1/ 122)، المصنف لابن أبي شيبة (9/ 53) 6498، وتقييد العلم (56).(1/498)
بل كان رضي الله عنه يقول: إن ناسا يسمعون كلامي، ثم ينطلقون فيكتبونه، وإني لا أحل لأحد أن يكتب إلا كتاب الله (1).
وقد تأثر أصحابه به، فكان عبيدة السلماني ينهى أن يخلد بعده كتابا (2)، بل دعا بكتبه فمحاها عند الموت (3).
وكان إبراهيم النخعي يكره الكتابة وينهى عنها (4)، ويخشى أن يشبه بالمصاحف (5)، وأن يتكل عليه كاتبه (6)، بل صرح رحمه الله أن من أسباب ضبط سالم بن أبي جعفر، وأنه أتم حديثا منه، كتابته (7).
4 - اشتغال المدرسة بالفقه، والإفتاء:
مدرسة الكوفة من أكثر المدارس عناية، واهتماما بمعرفة الأحكام الشرعية، وقد اتضح هذا في تفسيرهم، فإننا نجد المشاهير منهم كإبراهيم النخعي من أكثر التابعين على الإطلاق عناية بآيات الأحكام (8)، وقاربه في ذلك عامر الشعبي (9).
وقد نزل بالكوفة جمع من الصحابة، وحظيت بالفقهاء والقضاة، قال مسروق:
كان القضاء في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلّم في ستة عمر، وعلي، وابن مسعود، وأبي بن كعب، وزيد بن ثابت، وأبي موسى الأشعري، فكان نصفهم لأهل الكوفة: علي،
__________
(1) سنن الدارمي (1/ 124).
(2) سنن الدارمي (1/ 120)، وتاريخ أبي زرعة (1/ 655)، وتقييد العلم (46).
(3) سنن الدارمي (1/ 121)، وعلل أحمد (1/ 215) 240.
(4) سنن الدارمي (1/ 120)، والعلل لأحمد (1/ 217) 248، وتقييد العلم (48).
(5) سنن الدارمي (1/ 121).
(6) طبقات ابن سعد (6/ 271)، والسير (4/ 522).
(7) معرفة الرجال لابن معين (2/ 25)، والمحدث الفاصل (374).
(8) بلغ نسبة تعرضه لآيات الأحكام (38، 0) من مجموع تفسيره.
(9) بلغ نسبة تعرضه لآيات الأحكام (23، 0) من مجموع تفسيره.(1/499)
وابن مسعود، وأبو موسى الأشعري (1).
وكان التابعون يقدمونهم في الفقه على أصحاب ابن عباس (2).
بلغ من افتخار هذه المدرسة بالتقدم في الفقه أن حماد بن أبي سليمان (3)، كان يقول لأهل الكوفة: أبشروا! فإني قدمت على أهل الحجاز فرأيت عطاء، وطاوسا، ومجاهدا، فصبيانكم، بل صبيان صبيانكم أفقه منهم (4). وقد علق مغيرة بن مقسم على قول حماد بقوله: فرأينا أن ذاك بغي منه (5).
والناظر في كتب التراجم يجد أن من أهم العلوم التي اشتغل بها أصحاب عبد الله الإفتاء، والإقراء.
يقول ابن المديني: كان أصحاب عبد الله الذين يقرءون ويفتون، ستة: علقمة، والأسود، ومسروق، وعبيدة، وعمرو بن شراحيل، والحارث بن قيس (6).
5 - الفتن وأثرها على المدرسة:
فالمدرسة الكوفية كانت من أقل المدارس استقرارا، لا سيما في طبقة متوسطي التابعين، حيث تعرض الكثير منهم للفتن، كفتنة القراء بقيادة عبد الرحمن بن الأشعث، فقد دخل فيها الإمامان إبراهيم النخعي وعامر الشعبي (7).
6 - تقدم وفاة أصحاب عبد الله:
ومما قلل نتاج أصحاب عبد الله، تقدم وفاتهم، فعلقمة توفي سنة اثنتين
__________
(1) المعرفة (1/ 481)، والعلل لابن المديني (41)، وتاريخ أبي زرعة (1/ 649).
(2) تاريخ أبي زرعة (1/ 650) لأن أصحاب ابن عباس صرفوا جل همهم إلى القرآن وتأويله.
(3) وهو من صغار التابعين كما مرّ.
(4) السير (5/ 235).
(5) السير (5/ 235).
(6) العلل (46).
(7) بخلاف البصرة التي كانت أكثر استقرارا، لا سيما أن الأئمة فيها كالحسن وأبي العالية، وابن سيرين وقتادة، لم يدخلوا في تلك الفتن، بل حذروا من الدخول فيها. ينظر كتاب مدرسة الكوفة ومنهجها في دراسة اللغة (14).(1/500)
وستين (1)، ومسروق توفي سنة ثلاث وستين (2)، وعبيدة توفي سنة اثنتين وسبعين (3)، والأسود توفي سنة خمس وسبعين (4).
أثرها:
من المقرر سلفا أن المدرسة الكوفية من المدارس التي هابت التفسير وتورعت فيه كثيرا، واشتغلت بعلوم أخرى، حازت فيها قصب السبق، لا سيما علما القراءة، والفقه، فكان الأئمة من التابعين يأتون هذه المدرسة لتحصيل ما فاتهم في هذين العلمين.
أثرها على المدرسة المكية:
أكثر من استفاد من هذه المدرسة في علم القراءة والفقه: هم أصحاب ابن عباس، لا سيما ابن جبير، ومجاهد. ومما يدل على تأثر المدرسة المكية بالكوفية ذاك التقارب في بعض المسالك، والمناهج، مع أن ابن عباس لم يرو عن ابن مسعود، إنما بدأ الأثر والتقارب، واتضح في عصر التابعين، وكان من الأسباب الرئيسة في ذلك الصلة الوثيقة بين ابن جبير وأصحاب ابن مسعود، وكثرة تردده على الكوفة (5).
وقد أثرت المدرسة الكوفية في سعيد فتوجه إلى علمي القراءة والفقه، اللذين كان حظ المدرسة المكية منهما قليلا، فكان من المكثرين فيهما (6).
__________
(1) الوفيات لابن قنفذ (95)، وطبقات الفقهاء (79)، ودول الإسلام (47)، والشذرات (1/ 70).
(2) الوفيات (96)، وطبقات الفقهاء (79)، ودول الإسلام (47)، والشذرات (1/ 71).
(3) الوفيات (97)، وطبقات الفقهاء (79)، ودول الإسلام (54)، والشذرات (1/ 78).
(4) طبقات الفقهاء (79)، ودول الإسلام (55)، والعبر (1/ 63).
(5) سبق تفصيل ذلك في أثر المدرسة المكية على الكوفية ص (417).
(6) سبق بيان ذلك في ترجمة سعيد ص (142، 144).(1/501)
وأما مجاهد فإنه تأثر بقراءة ابن مسعود رضي الله عنه وكان يتحسر على ما فاته منها ويقول: لو كنت قرأت قراءة ابن مسعود لم أحتج أن أسأل ابن عباس عن كثير من القرآن ما سألت (1).
وكان مجاهد يقول: ما رأيت مسجدا أحرى أن نسمع فيه علما لم نسمعه من مسجد الكوفة (2).
وقد تأثر رحمه الله بقراءة ابن مسعود، فكان يرجح بعض المعاني بها، ويقدمها على غيرها، فمن ذلك ما جاء عند قوله: {وَإِذْ أَخَذَ اللََّهُ مِيثََاقَ النَّبِيِّينَ لَمََا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتََابٍ وَحِكْمَةٍ} (3)، قال: هي خطأ من الكاتب، وهي في قراءة ابن مسعود: (وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب) (4).
وعند قوله سبحانه: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيََامُ ثَلََاثَةِ أَيََّامٍ} (5). قال: في قراءة عبد الله:
(فصيام ثلاثة أيام متتابعات) (6).
وعند قوله تعالى: {أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ} (7) قال: كنا لا ندري ما الزخرف حتى رأيناه في قراءة ابن مسعود: (أو يكون لك بيت من ذهب) (8).
__________
(1) سنن الترمذي، كتاب التفسير، باب ما جاء في الذي يفسر القرآن برأيه (5/ 200).
(2) تاريخ أبي زرعة (2/ 678).
(3) سورة آل عمران: آية (81).
(4) تفسير الطبري (6/ 553) 7323، 7324، وزاد المسير (2/ 415)، وأورده السيوطي في الدر، وعزاه إلى عبد بن حميد، والفرياني، وابن جرير، وابن المنذر، عن مجاهد به (2/ 25)، وسوف يأتي مزيد بحث لهذه المسألة عند الحديث عن منهجهم في القراءات ص (748).
(5) سورة المائدة: آية (89).
(6) تفسير الطبري (10/ 560) 12499، وزاد المسير (2/ 415).
(7) سورة الإسراء: آية (93).
(8) تفسير الطبري (15/ 163)، وتفسير عبد الرزاق (2/ 390)، وزاد المسير (5/ 88).(1/502)
وعند قوله تبارك وتعالى: {فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمََا} (1) قال: كنا نرى أن قوله:
{فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمََا} شيء هين، حتى سمعت قراءة ابن مسعود: (إن تتوبا إلى الله فقد زاغت قلوبكما) (2).
ومجاهد قد نقل عن ابن مسعود في تفسيره شيئا من الآثار، معظمها في علم القراءة (3).
أثرها على المدرسة البصرية:
مع التقارب المكاني بين الكوفة، والبصرة، إلا أن الأثر الكوفي على البصرة كان قليلا، مقارنة بالأثر المدني عليها، وإن كان من أثر يذكر على مفسري البصرة، فقد كان ذلك في نقل بعضهم لقراءة ابن مسعود، والإفادة منها في تفسيره، فإن قتادة استفاد من قراءة ابن مسعود وروى شيئا من ذلك (4).
فعند قوله تعالى: {وَكَذََلِكَ نُصَرِّفُ الْآيََاتِ وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ} (5)، قال قتادة:
(درست) قرأت، وفي حرف ابن مسعود (درس) (6).
__________
(1) سورة التحريم: آية (4).
(2) تفسير الطبري (28/ 161)، وزاد المسير (8/ 310).
(3) سبق بيان ذلك في ترجمة مجاهد عند الحديث عن تعدد مصادره ص (126)، ومما ينبغي الإشارة إليه أنه بعد التتبع لأقوال مجاهد، وجدته يعتمد على أقوال الصحابة في بعض الآثار، إلا أن اعتماده على ابن مسعود لم أجده إلا في أثر واحد، ينظر تفسير الطبري (30/ 273).
في حين كانت عنايته أكثر بقراءة ابن مسعود، مما يدل على أهمية قراءة ابن مسعود بين التابعين، وأثرها في بيان كثير من المعاني التفسيرية.
(4) بعد مراجعتي لتفسير ابن مسعود عند الطبري، وجدت أن قتادة روى عنه سبع عشرة رواية، ست عشرة منها في القراءات.
(5) سورة الأنعام: آية (105).
(6) تفسير الطبري (12/ 30) 13730، وينظر زاد المسير (3/ 101)، وفتح القدير (2/ 150).(1/503)
وعند قوله سبحانه: {إِذََا نُودِيَ لِلصَّلََاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلى ََ ذِكْرِ اللََّهِ} (1)
قال: في حرف ابن مسعود: (فامضوا إلى ذكر الله) (2).
وعند قوله سبحانه: {إِنَّهََا عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ (8) فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ} (3) قال: في قراءة عبد الله: (إنها عليهم مؤصدة بعمد ممددة) (4).
* * * __________
(1) سورة الجمعة: آية (9).
(2) تفسير الطبري (28/ 101)، وينظر تفسير عبد الرزاق (3/ 291)، وزاد المسير (8/ 264).
(3) سورة الهمزة: آية (9).
(4) تفسير الطبري (30/ 295).(1/504)
المبحث الرابع مدرسة المدينة
كانت المدينة دار الهجرة، ومركز الخلافة، ومقر كبار الصحابة، فإن النبي صلى الله عليه وسلّم بعد رجوعه من حنين ترك بها اثني عشر ألفا من الصحابة، مات بها عشرة آلاف، وتفرق ألفان في سائر أقطار الإسلام (1).
فكانت مهد السنن، وموطن الفتاوى المأثورة، يتلقى فيها حديث المصطفى صلى الله عليه وسلّم وتؤخذ منها آثار الصحابة، فأصبحت من أكثر المدارس اشتغالا بالمغازي والسير، والسنن والآثار، فصارت السنة شعار أهلها، والحديث وروايته محط اهتمام أصحابها.
يقول زيد بن ثابت رضي الله عنه: إذا رأيت أهل المدينة على شيء فاعلم أنه السنة (2).
وفي مقابل هذه الحال فقد كانت من أقل المدارس اشتغالا بالتفسير (3)، ومن أكثرها هيبة وتعظيما له، فقلّ نتاجها، وسبقها غيرها.
وأشهر من تفرغ في المدينة للحياة العلمية زيد بن ثابت رضي الله عنه، فقد استبقاه عمر بن الخطاب رضي الله عنه في المدينة، فكثر أصحابه، يقول ابن عمر
__________
(1) الفكر السامي (1/ 311).
(2) المعرفة والتاريخ (1/ 438).
(3) بلغ نسبة ما روي عنها ما يقارب (02، 0) من مجموع التفسير المروي عن مشاهير مفسري التابعين، في حين كان عن المدرسة المكية (46، 0)، وعن البصرية (38، 0)، وعن الكوفية (14، 0).(1/505)
رضي الله عنهما: فرق عمر الصحابة في البلدان، وحبس زيد بن ثابت بالمدينة يفتي أهلها (1).
ويقول حميد بن الأسود: ما تقلد أهل المدينة قولا بعد زيد بن ثابت كما تقلدوا قول مالك (2).
وكان أحد الصحابة الثلاثة الذين قيض الله لهم أصحابا حفظوا أقوالهم، ونشروا علمهم، وآثارهم (3).
ولذا فسوف أعرض بشيء من الاختصار لأهم ما في سيرة هذا الإمام رضي الله عنه مبينا أبرز العلوم التي سبق فيها، مع بيان أثر أصحابه في بقية تلاميذ المدارس.
زيد بن ثابت:
هو زيد بن ثابت بن الضحاك بن زيد بن لوزان بن النجار (4) أبو سعيد، وأبو خارجة الأنصاري النجاري (5).
قدم النبي صلى الله عليه وسلّم المدينة وزيد بن إحدى عشرة سنة.
فعنه رضي الله عنه قال: قدم النبي صلى الله عليه وسلّم المدينة وأنا ابن إحدى عشرة سنة، وأمرني أن أتعلم كتاب يهود، فكنت أقرأ إذا كتبوا إليه. فتعلم تلك الكتب وحذقها في نصف
__________
(1) تهذيب تاريخ دمشق (5/ 450)، أورده الهندي في الكنز، وعزاه لابن سعد (13/ 393) 37051، وينظر طبقات ابن سعد (2/ 359)، تاريخ الإسلام، (ح 41هـ / 54).
(2) العلل لأحمد (3/ 259) 5145.
(3) المعرفة (1/ 353، 714).
(4) طبقات ابن سعد (2/ 358)، والاستيعاب (1/ 551)، وكتاب النسب (278)، وتجريد أسماء الصحابة (1/ 197)، والتاريخ الكبير (3/ 380)، وتاريخ الصحابة الذين روي عنهم الأخبار (105)، والإصابة (1/ 562).
(5) أخبار القضاة لوكيع (1/ 107)، والجرح (3/ 558)، والكنى للدولابي (1/ 71).(1/506)
شهر (1).
وقد نال رحمه الله شرف جمع المصحف حين عهد إليه أبو بكر الصديق رضي الله عنه بذلك، وقد استدعاه أبو بكر رضي الله عنه وقال له: إنك شاب عاقل لا نتهمك، قد كنت تكتب الوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلّم فتتبع القرآن فاجمعه، فقلت: كيف تفعلون شيئا لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلّم؟! قال: هو والله خير، فلم يزل يراجعني حتى شرح الله صدري لذلك (2)، وكذا نال شرف نسخه في عهد عثمان رضي الله عنه فعن ابن شهاب أن أنس بن مالك حدثه أن حذيفة بن اليمان قدم على عثمان، وكان يغازي أهل الشام في فتح إرمينية، وأذربيجان مع أهل العراق، فأفزع حذيفة اختلافهم في القراءة، فقال حذيفة لعثمان: يا أمير المؤمنين، أدرك هذه الأمة قبل أن يختلفوا في الكتاب اختلاف اليهود والنصارى، فأرسل عثمان إلى حفصة أن أرسلي إلينا بالصحف ننسخها في المصاحف ثم نردها إليك.
فأرسلت بها حفصة إلى عثمان، فأمر زيد بن ثابت، وعبد الله بن الزبير، وسعيد ابن العاص، وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام، فنسخوها في المصاحف، وقال عثمان للرّهط القرشيين الثلاثة: إذا اختلفتم أنتم وزيد بن ثابت في شيء من القرآن، فاكتبوه بلسان قريش، فإنما نزل بلسانهم ففعلوا (3).
__________
(1) مسند أحمد (5/ 186)، وسنن أبي داود، كتاب العلم، باب رواية حديث أهل الكتاب، (3/ 318) 3645، وسنن الترمذي، كتاب الاستئذان، باب ما جاء في تعليم السريانية، (5/ 67) 2715، والمعجم الكبير للطبراني (5/ 133) 4856، 4857، والمستدرك للحاكم، وصححه (1/ 75).
(2) صحيح البخاري، كتاب فضائل القرآن، باب جمع القرآن، ينظر الفتح (9/ 10) 4986، ومسند أحمد (5/ 188)، وفضائل الصحابة للنسائي (165)، وفضائل القرآن للنسائي (63)، والمصاحف لأبي داود (12).
(3) صحيح البخاري، كتاب فضائل القرآن، باب جمع القرآن، ينظر الفتح (9/ 11)، 4987، وفضائل القرآن للنسائي (57).(1/507)
وقد عرض عليه ابن عباس القراءة (1).
وكان ابن عباس يجله، ويقدره، ولما قدم إلى زيد أخذ بركابه، فقال له زيد: تنح يا ابن عم رسول الله، قال: إنا هكذا أمرنا أن نفعل بعلمائنا وكبرائنا (2).
وعن ابن عمر رضي الله عنهما أنه أراد أن يقرأ على عثمان بن عفان رضي الله عنه فقال له: إنك إذا تشغلني عن النظر في أمور الناس، فامض إلى زيد بن ثابت، فإنه أفرغ لهذا الأمر، فاقرأ عليه (3).
يقول عامر الشعبي رحمه الله: غلب زيد الناس على اثنين، على الفرائض، والقرآن (4).
ويقول العجلي: الناس على قراءة زيد، وفرض زيد (5).
وكيف لا وقد شهد له النبي صلى الله عليه وسلّم بهذا؟! يقول النووي (6): أعلم الصحابة بالفرائض زيد، لحديث «أفرضكم زيد» (7).
يقول قبيصة بن ذؤيب: كان زيد بن ثابت مترئسا بالمدينة في القضاء، والفتوى،
__________
(1) تاريخ الإسلام (ح 41هـ / 54)، ومعرفة القراء الكبار (1/ 36).
(2) طبقات ابن سعد (2/ 360)، والمستدرك للحاكم، وصححه، ووافقه الذهبي (3/ 423)، والمعجم الكبير للطبراني (5/ 107) 4746، وأورده الهيثمي في المجمع وقال: رجاله رجال الصحيح (9/ 345)، وذكره صاحب الكنز، وعزاه لابن عساكر (13/ 396) 37061.
(3) أورده الهندي في الكنز، وعزاه لابن الأنباري في المصاحف (13/ 394) 37053.
(4) تهذيب الكمال (10/ 29)، وتهذيب تاريخ دمشق (5/ 449).
(5) تاريخ الثقات (170).
(6) تهذيب الأسماء واللغات (1/ 201).
(7) سنن الترمذي، كتاب المناقب، باب مناقب معاذ بن جبل، قال الترمذي: حديث حسن صحيح (5/ 665) 3791، وينظر مسند أحمد (3/ 281)، وصحيح ابن حبان، ينظر الإحسان (9/ 131) 7087ط كمال الحوت، وشرح السنة للبغوي (14/ 131).(1/508)
والفرائض، في عهد عمر، وعثمان، وعلي، في مقامه بالمدينة وبعد ذلك (1).
ويقول سليمان بن يسار: ما كان عمر وعثمان يقدمان أحدا على زيد بن ثابت في القضاء، والفتوى، والفرائض، والقراءة (2).
وكان عمر رضي الله عنه يستخلفه على المدينة في كل سفر (3).
وعن مالك بن أنس رحمه الله قال: كان إمام الناس عندنا بعد عمر زيد، وكان إمام الناس بعد زيد ابن عمر (4).
وفي هذا يقول ابن جرير الطبري: كان ابن عمر وجماعة ممن عاشوا بالمدينة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلّم إنما كانوا يفتون بمذاهب زيد بن ثابت، مما كانوا أخذوا عنه مما لم يكونوا حفظوا فيه عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قولا (5).
وكان عالم العلماء، وفقيه الفقهاء بعد طبقة الصحابة سعيد بن المسيب يرد بعض أقوال الصحابة إذا خالفت ما جاء عن زيد في المسائل المشهورة (6).
وزيد رضي الله عنه فاق غيره من الصحابة في علم القراءة والفرائض، ثم الفتوى، وأما علوم الحديث، والتفسير، فكان اشتغاله بها قليلا، فلم يرد عنه من أحاديث سوى اثنين وتسعين حديثا، منها خمسة أحاديث متفق عليها، وأربعة انفرد بها البخاري، وواحد رواه مسلم (7).
__________
(1) طبقات ابن سعد (2/ 360)، وتهذيب تاريخ دمشق (5/ 450).
(2) طبقات ابن سعد (2/ 359)، وتهذيب تاريخ دمشق (5/ 450)، وأورده الهندي في الكنز، وعزاه لابن سعد (13/ 393) 37050.
(3) أخبار القضاة (1/ 108)، والإصابة (1/ 562).
(4) المعرفة (1/ 486).
(5) إعلام الموقعين (1/ 16).
(6) طبقات ابن سعد (2/ 360)، وتهذيب تاريخ دمشق (5/ 451).
(7) مقدمة مسند بقي (83)، وتهذيب الأسماء واللغات (1/ 201).(1/509)
وأما علم التفسير فإنه من أقل الصحابة رواية واشتغالا به، وبعد البحث والمراجعة، وجدت أن المروي عنه في تفسير ابن كثير والقرطبي، لا يتجاوز مجموعه خمسة وعشرين قولا (1).
وفاته:
ذهب كثير من أهل العلم إلى أنه توفي سنة خمس وأربعين (2).
قال أبو هريرة رضي الله عنه (وقد شهد جنازة زيد): مات حبر الأمة، ولعل الله أن يجعل في ابن عباس منه خلفا (3).
أصحاب زيد بن ثابت:
صحب زيدا عدد من فقهاء المدينة، وقد اشتهر من أصحابه والآخذين عنه ستة من التابعين.
يقول ابن المديني: فأما من لقي زيدا، وتثبت عندنا لقيه فهم: سعيد بن المسيب (4)، وعروة بن الزبير، وقبيصة بن ذؤيب، وخارجة بن زيد، وأبان بن عثمان، وسليمان بن يسار (5).
__________
(1) رجعت إلى تفسير ابن كثير، فوجدت المروي عنه (12) قولا، منها خمسة أقوال في مسائل فقهية.
ورجعت أيضا إلى تفسير القرطبي، فوجدت المروي عنه (13) قولا، منها عشرة أقوال في مسائل فقهية، والثلاثة الباقية في بيان القراءة.
(2) الإصابة (1/ 562)، وتهذيب تاريخ دمشق (5/ 453)، والاستيعاب (1/ 553)، والمستدرك (3/ 421)، والوفيات لابن قنفذ (61)، والوافي بالوفيات (15/ 24، 25).
(3) طبقات ابن سعد (2/ 362)، والمستدرك (3/ 427)، والإصابة (1/ 562)، وتهذيب تاريخ دمشق (5/ 453).
(4) سعيد بن المسيب مرت ترجمته ص (344).
(5) العلل (51)، وتهذيب تاريخ دمشق (5/ 452).(1/510)
عروة بن الزبير:
هو عروة بن الزبير بن العوام بن خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصي القرشي (1).
ولد سنة ثلاث وعشرين (2)، وأمه أسماء بنت أبي بكر الصديق (3)، وخالته عائشة أم المؤمنين رضي الله عنهما فحدث عن عائشة ولازمها، وجالس زيد بن ثابت، وأبا هريرة، وغلب أصحابه بكثرة الدخول على عائشة (4).
ولذا فقد كان من أكثر أصحابه من المدنيين حديثا، يقول ابن شهاب: جالست سعيد بن المسيب فكان يعيد الرجيع من حديثه، وكان عروة بحرا ما تكدره الدلاء (5).
وعدّه ابن القيم من أغزرهم، وأكثرهم حديثا (6).
يقول عنه ابنه هشام وهو من أكثر الرواة عنه: ما تعلمناه جزء من ألف جزء من أحاديثه (7).
ولذا كان رحمه الله لا يقول في شيء برأيه، وفي ذلك يقول ابنه هشام: ما رأيت عروة يسأل عن شيء قط فقال فيه برأيه (8).
__________
(1) طبقات ابن سعد (5/ 178)، وتهذيب الأسماء (1/ 331)، ووفيات الأعيان (3/ 255).
(2) السير (4/ 422)، ومختصر تاريخ دمشق (17/ 5)، وطبقات الحفاظ (23).
(3) طبقات ابن سعد (5/ 178)، وتهذيب الأسماء (1/ 331)، ووفيات الأعيان (3/ 255).
(4) السير (4/ 424)، ومختصر تاريخ دمشق (17/ 7).
(5) تاريخ أبي زرعة (1/ 418)، والإرشاد (1/ 191)، وتاريخ الخميس (2/ 313)، والشذرات (1/ 104).
(6) إعلام الموقعين (1/ 17).
(7) التاريخ الكبير (7/ 32)، وتهذيب الأسماء (1/ 332)، وطبقات الحفاظ (23).
(8) مختصر تاريخ دمشق (17/ 9).(1/511)
وكان رحمه الله يتمنى أن يكون ممن يروى عنه هذا العلم (1)، ويقول لبنيه: يا بني سلوني، فلقد تركت حتى كدت أن أنسى، وإني لأسأل عن الحديث، فينفتح حديث يومي (2).
وكان رحمه الله من حرصه على التحديث يتألف الناس على علمه (3)، وكان يعد من فقهاء المدينة الأربعة مع سعيد بن المسيب، وقبيصة بن ذؤيب، وعبد الملك بن مروان (4).
ومع هذا كله فقد كان من أورع الناس في التفسير، ومن أقلهم تعرضا له، وخوضا فيه، حتى قال عنه ابنه هشام: ما سمعت أبي يتناول آية من كتاب الله قط (5).
توفي رحمه الله سنة أربع وتسعين، على قول الجمهور كما ذكره النووي وغير واحد (6).
سليمان بن يسار:
هو أبو عبد الله المدني (7)، مولى أم المؤمنين ميمونة (8)، عالم المدينة وفقيهها، وهو أحد
__________
(1) وفيات الأعيان (3/ 258)، ومختصر تاريخ دمشق (17/ 12).
(2) طبقات ابن سعد (5/ 179)، والمعرفة (1/ 552)، والسير (4/ 431).
(3) تاريخ أبي زرعة (1/ 521)، والعلم لأبي خيثمة (114)، ومختصر تاريخ دمشق (17/ 9).
(4) الجرح (6/ 396)، والعلل لأحمد (2/ 410) 2836، وتاريخ ابن معين (2/ 208).
(5) فضائل القرآن لأبي عبيد (229).
(6) تهذيب الأسماء (1/ 332)، وطبقات ابن سعد (5/ 182)، وطبقات الفقهاء (58)، ووفيات الأعيان (3/ 258)، والشذرات (1/ 104).
(7) الحلية (2/ 190)، وطبقات ابن سعد (5/ 174)، وتهذيب التهذيب (4/ 228)، والنجوم الزاهرة (1/ 252).
(8) طبقات ابن سعد (5/ 174)، ومختصر تاريخ دمشق (10/ 192).(1/512)
الفقهاء السبعة (1)، من المدنيين، وكان نظير سعيد بن المسيب (2)، وفضله بعضهم عليه.
فعن الحسن بن محمد بن الحنفية، قال: سليمان بن يسار عندنا أفهم (3) من ابن المسيب (4).
وكان سعيد بن المسيب، يقول: اذهبوا إليه، فإنه أعلم من بقي اليوم (5).
وعدّه الإمام مالك بعد ابن المسيب (6).
وفاته:
ذهب كثير من أهل العلم إلى أنه توفي سنة سبع ومائة (7)، وهو ابن ثلاث وسبعين سنة (8).
وسبق في ماضي القول أن أشرنا إلى ستة من أصحاب زيد مرّ الحديث على ثلاثة منهم، وأما قبيصة بن ذؤيب، فسوف يأتي الحديث عنه في المدرسة الشامية لأثره على
__________
(1) تهذيب الأسماء واللغات (1/ 234)، ودول الإسلام (75)، ومرآة الجنان (1/ 256)، وشذرات الذهب (1/ 134).
(2) مختصر تاريخ دمشق (10/ 193).
(3) رجح البخاري في تاريخه: أن الرواية الصحيحة عن الحسن بن محمد أنه قال: «أقيس»، ولم يقل: أفهم، ولا أفقه (4/ 41).
(4) طبقات ابن سعد (5/ 174)، والمعرفة (1/ 549)، وطبقات الفقهاء (61)، والتذكرة (1/ 91)، والعبر (1/ 100)، وشذرات الذهب (1/ 134). وجاء عند العجلي بلفظ أفقه (207).
(5) طبقات الفقهاء (60)، والتذكرة (1/ 91)، ومرآة الجنان (1/ 256)، وشذرات الذهب (1/ 134).
(6) المعرفة (1/ 549)، وطبقات الفقهاء (61).
(7) طبقات ابن سعد (5/ 175)، وطبقات الفقهاء (60)، ودول الإسلام (75)، والعبر (1/ 100)، ومرآة الجنان (1/ 256).
(8) طبقات ابن سعد (5/ 175)، وطبقات الفقهاء (60)، وشذرات الذهب (1/ 134).(1/513)
تلك المدرسة (1).
وخامس أصحاب زيد ابنه خارجة أحد الفقهاء السبعة (2)، والذي كان جل شغله بعلم الفرائض (3)، ولم يكن من المكثرين (4).
ومثله أبان بن عثمان بل هو أقل منه، فليس له إلا أحاديث قليلة (5).
بين أصحاب زيد:
يتضح مما سبق أن أصحاب زيد: عروة، وسعيدا، وسليمان بن يسار، كانوا مهتمين بعلمي الفقه، والحديث، وصارفين إلى ذلك جل عنايتهم، وكان بينهم تمايز، واختلاف، فأعلمهم بالحديث، وأكثرهم رواية له عروة بن الزبير، وأكثرهم جمعا بين العلمين سعيد بن المسيب، وأكثرهم اشتغالا بالفقه سليمان بن يسار، وقد مرّ معنا ما ذكره البخاري في تاريخه من قول الحسن بن محمد: إن سليمان بن يسار كان أقيس من سعيد.
ومما جاء عنهم، ما رواه مالك في وصف حالهم قال: كان سليمان بن يسار يقول في مجلسه، فإذا كثر فيه الكلام، وسمع اللغط أخذ نعليه ثم قام عنهم، وكان ابن المسيب رجلا شديدا يحصب الناس بالحصا (6).
قال ابن وهب: وحدثني مالك قال: كان سليمان بن يسار كثيرا ما يوافق سعيدا،
__________
(1) ينظر ص (528).
(2) السير (4/ 437).
(3) مختصر تاريخ دمشق (7/ 323).
(4) السير (4/ 438).
(5) السير (4/ 352).
(6) المعرفة والتاريخ (1/ 549).(1/514)
قال: وكان سعيد لا يجترأ عليه (1).
هذا شيء من كثير عن أصحاب زيد، إلا أن مما ينبغي الإشارة إليه وذكره في هذا المقام، أن أصحاب زيد كان جل اهتمامهم منصبا على القراءة، والفرائض، والإفتاء، وبعد ذلك الحديث، وكان نصيبهم من علم التفسير قليلا.
وقد بدأت الحاجة إلى علم التفسير تزداد في المجتمع المدني كلما تقادم الزمان بأهلها، وبعد عن العصر النبوي، فتعرض بعض المتأخرين من التابعين للتفسير، ومن أوائلهم محمد بن كعب القرظي، وكان من أعلمهم فيه (2)، وتبعه بعد ذلك زيد بن أسلم، فكان من المقدمين بين المدنيين في علم التأويل، يقول سفيان بن عيينة: لم يكن بالمدينة أحد يفسر القرآن بعد محمد بن كعب مثله يعني زيد بن أسلم (3).
وأثنى عليه غير واحد من الأئمة بالعلم والتقدم في هذا الشأن كيعقوب بن شيبة (4)، وشيخ الإسلام ابن تيمية (5) وغيرهما.
وذكر بعض الأئمة أن له تفسيرا رواه عنه ابنه عبد الرحمن (6)، ويظهر والله أعلم أن الموجود بين أيدينا من تفسيره قليل (7)، وأن كثيرا منه جاء من رواية ابنه عبد الرحمن منسوبا له (8).
__________
(1) المعرفة والتاريخ (1/ 549).
(2) سبق تفصيل حاله ص (354).
(3) فتح الباري (13/ 111).
(4) تهذيب تاريخ دمشق (5/ 443)، وبغية الطلب (9/ 3994).
(5) مقدمة في أصول التفسير (71).
(6) السير (5/ 316)، والتحفة اللطيفة (2/ 92)، وطبقات المفسرين للداودي (1/ 177)، والفهرست (33).
(7) المروي من تفسيره عند الطبري (117) قولا فقط.
(8) المروي عن عبد الرحمن في تفسير ابن كثير، أضعاف ما روي عن أبيه، فقد بلغ (323) قولا.(1/515)
أسباب قلة المروي عنهم:
ومن الأسباب الرئيسة التي قللت نتاج المدرسة المدنية في التفسير ما يلي:
1 - الورع من التعرض لتأويل القرآن:
المدنيون من أكثر التابعين إحجاما عن التفسير خشية الخطأ فيه، اقتداء بنهج كثير من الصحابة، فهذا ابن عمر رضي الله عنهما لم يكن يرضى عن منهج ابن عباس، ولم يعجبه توسعه في التفسير، حتى سمعه يفسر معنى قوله تعالى في وصف السموات والأرض: {كََانَتََا رَتْقاً فَفَتَقْنََاهُمََا} فقال رضي الله عنه: قد كنت أقول ما يعجبني جرأة ابن عباس على تفسير القرآن، فالآن قد علمت أنه قد أوتي علما (1).
وكانت هذه سمة عامة لفقهاء المدينة، فكانوا يخشون من القيل في تأويل القرآن، حذرا ألا يبلغ أداء ما كلف من إصابة صواب القول فيه (2).
فعن عبيد الله بن عمر قال: لقد أدركت فقهاء المدينة، وإنهم ليعظمون القول في التفسير، منهم سالم بن عبد الله، والقاسم بن محمد، وسعيد بن المسيب، ونافع (3).
فسعيد بن المسيب الذي عدّه غير واحد من الأئمة من أعلم التابعين على الإطلاق (4)، وفقيه الفقهاء (5).
يقول فيه يزيد بن أبي يزيد: كنا نسأل سعيد بن المسيب عن الحلال والحرام، وكان
__________
(1) الحلية (1/ 320)، والخبر بتمامه قد سبقت الإشارة إليه عند الحديث عن ابن عباس رضي الله عنهما ص (419) والآية من سورة الأنبياء (30).
(2) تفسير الطبري (1/ 89).
(3) المرجع السابق (1/ 85) 92، والعلل لأحمد (2/ 374) 2663، ومجموع فتاوى شيخ الإسلام (13/ 374).
(4) تاريخ أبي زرعة (1/ 404).
(5) طبقات ابن سعد (5/ 121)، والسير (4/ 224).(1/516)
أعلم الناس، فإذا سألناه عن تفسير آية من القرآن سكت كأن لم يسمع (1). بل إنه لما سأله رجل عن تفسير آية من القرآن قال: أنا لا أقول في القرآن شيئا (2).
قال الإمام الذهبي معلقا على هذا الأثر: ولهذا قلّ ما نقل عنه في التفسير (3). وهذا عروة بن الزبير الذي قال فيه الإمام الزهري: إنه بحر لا تكدره الدلاء (4). ويقول فيه ابنه هشام: ما تعلمناه جزءا من ألف جزء من أحاديثه (5) وكان أكثر حديثا من سعيد بن جبير (6).
ومع هذا يقول فيه ابنه هشام: ما سمعت أبي تأول آية من كتاب الله قط (7).
والقاسم بن محمد لم يحد عن هذا المنهج، فمع مجالسته لابن عباس لم يتأثر به، بل تأثر بابن عمر، فغلب عليه جانب الورع.
وفي ذلك يقول: كنت أجالس البحر ابن عباس، وقد جلست مع أبي هريرة وابن عمر فأكثرت، فكان هنا يعني: ابن عمر ورع، وعلم جم، ووقوف عما لا علم له به (8).
يقول عبيد الله بن عمر: كان القاسم لا يفسر القرآن (9)، وكان سالم لا يفسر القرآن (10).
__________
(1) تفسير الطبري (1/ 86) 100.
(2) المرجع السابق (1/ 85) 94، وفضائل القرآن لأبي عبيد (228)، وطبقات ابن سعد (5/ 137).
(3) السير (4/ 242).
(4) مختصر تاريخ دمشق (17/ 8)، والشذرات (1/ 130).
(5) التاريخ الكبير (7/ 32)، والمعرفة (1/ 551)، والفقيه والمتفقه (2/ 141).
(6) السير (4/ 425).
(7) فضائل القرآن لأبي عبيد (229)، وتفسير ابن كثير (1/ 17).
(8) السير (5/ 55).
(9) طبقات ابن سعد (2/ 381)، والسير (5/ 59).
(10) طبقات ابن سعد (5/ 200).(1/517)
وفضلا عن ذلك الإحجام، فقد كان التابعون في المدينة ينكرون على من يكثر في التفسير، ولذا لما قدم عكرمة إلى المدينة، كان سعيد بن المسيب ينكر عليه كثرة تحديثه في التفسير.
فعن عمرو بن مرة قال: سأل رجل سعيد بن المسيب عن آية من القرآن؟ قال: لا تسلني عن القرآن، وسل عنه من يزعم أنه لا يخفى عليه منه شيء يعني عكرمة (1).
وأنكروا على زيد بن أسلم، فعن حماد بن زيد قال: قدمت المدينة، وزيد بن أسلم حي، فسألت عبيد الله بن عمر، فقلت: إن الناس يتكلمون في زيد، فقال: ما أعلم به بأسا إلا أنه يفسر القرآن برأيه (2)
2 - الاشتغال برواية السنن، والآثار، والسير:
كان جل اهتمام المدنيين الاشتغال بالحديث، ومدارسته رواية ودراية، ولذا فقد كانوا من أعلم الناس بالمغازي، والسنن، والآثار عنه صلى الله عليه وسلّم.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: أعلم الناس بالمغازي أهل بالمدينة، ثم أهل الشام، ثم أهل العراق فأهل المدينة أعلم بها لأنها كانت عندهم (3).
هذا هو الاهتمام الغالب على التابعين من أهل المدينة، تناقل الحديث ومعرفة المغازي والسير، مع علم الفقه المعتمد على الأثر، والذي يأتي بعد علم الحديث، وهذا ليس بمستغرب على مدينة عاش فيها المصطفى صلى الله عليه وسلّم وتوفي فيها ودفن بها، وبقي فيها الكثير من أصحابه رضي الله عنهم، الذين حفظوا أقواله، وأفعاله، وتقريراته، بل
__________
(1) فضائل القرآن لأبي عبيد (228)، وجامع بيان العلم (2/ 29)، وتاريخ دمشق (11/ 784)، وتهذيب الكمال (20/ 282).
(2) الجرح (3/ 555)، والكامل في الضعفاء (3/ 1064)، وبغية الطلب (9/ 3988)، وتهذيب تاريخ دمشق (5/ 445).
(3) مقدمة في أصول التفسير (60).(1/518)
وصفاته الخلقية والخلقية، فكانت حلق العلم تعج بتلك السيرة العطرة، على صاحبها أفضل الصلاة والسلام، ثم جاء من بعدهم الأتباع الذين تناقلوا ما ورثوه من علم الرواية والأثر، وقد أغناهم هذا المحفوظ عن كثرة الاشتغال بالرأي والاجتهاد، مع ما يضاف إلى ذلك من قلة المسائل الواردة والحادثة في المجتمع المدني البعيد عن الثقافات الوافدة، أو الفتن الحادثة، فكان التابعون فيها لا يأخذون بالرأي إلا اضطرارا، ولا يفرعون المسائل، ولا يستخرجون أحكاما لمسائل لم تقع، بل لا يفتون إلا فيما وقع.
كل هذا وغيره صرف معظم اهتمام التابعين في المدينة إلى الحديث والمغازي، وكان نصيبهم من العلوم الأخرى قليلا.
وقد كان للمكثرين من الصحابة ممن عاشوا في المدينة الأثر البالغ في توجيه التابعين، فابن عمر رضي الله عنهما كان أحسن سردا للرواية من ابن عباس، أما التفسير فكان ابن عباس أعلم به (1).
3 - قلة الكتابة:
لم يعتن أهل المدينة عناية كاملة بتدوين علمهم وكتابته، وقد توفي الكثير منهم ولم يدون كتابا، يقول الإمام مالك: ولقد هلك ابن المسيب ولم يترك كتابا، ولا القاسم بن محمد، ولا عروة بن الزبير، ولا ابن شهاب (2).
ويرجع عدم الاعتناء هذا إلى كراهية بعضهم له خشية أن يشابه صنيعهم هذا صنيع أهل الكتاب، أو أن تختلط كتبهم مع كتاب الله تعالى.
فعن عبد الله بن العلاء قال: سألت القاسم أن يملي علي أحاديث فمنعني، وقال:
__________
(1) الإرشاد (1/ 184).
(2) تاريخ أبي زرعة (1/ 517)، والمعرفة (1/ 478).(1/519)
إن الأحاديث كثرت على عهد عمر، فناشد الناس أن يأتوا بها، فلما أتوه بها أمر بتحريقها، ثم قال: مثناة كمثناة أهل الكتاب. قال: فمنعني القاسم يومئذ أن أكتب حديثا (1).
وهذا عروة بن الزبير كان عنده كتب، وكان يكتب عن عائشة، ولكنه تأثر بحال الغالب من فقهاء أهل المدينة، فجمع كتبه وأحرقها (2).
وقد ندم عروة على ذلك وتأسف، وتمنى أن تكون عنده، وأنه لم يحرقها، وفي ذلك يقول: كنا نقول: لا نتخذ كتابا مع كتاب الله، فمحوت كتبي، فو الله لوددت أن كتبي عندي، إن كتاب الله قد استمرت مريرته (3).
وقال أيضا: لوددت لو أني فديتها بأهلي، ومالي (4).
وقد استمرت الكراهية للكتابة حتى في عهد صغار التابعين وأتباعهم.
فعن يحيى بن سعيد قال: أدركت الناس يهابون الكتب، ولو كنا نكتب يومئذ لكتبنا من علم سعيد بن المسيب ورأيه شيئا كثيرا (5).
أثرها:
مع قلة المروي عنها في التفسير، إلا أنها من أكثر المدارس تأثيرا في مناهج التابعين عموما، فالمدينة مثلت الحديث وروايته، وكانت عاصمة الخلافة، وبقي لها الأثر
__________
(1) طبقات ابن سعد (5/ 188). قول: مثناة كمثناة أهل الكتاب: هو كتاب وضعه أحبار بني إسرائيل بعد موسى عليه السلام فيما بينهم على ما أرادوا من غير كتاب. ينظر السير (5/ 59).
(2) الكفاية (205).
(3) الحلية (2/ 176)، واستمرت مريرته: أي قوي واستحكم. السير (4/ 436).
(4) طبقات ابن سعد (5/ 179)، ومختصر تاريخ دمشق (17/ 10)، والتهذيب (7/ 183).
(5) طبقات ابن سعد (5/ 141)، والمعرفة (1/ 649).(1/520)
والريادة في علم الأثر والدراية، فأثرت بذلك على كثير من مدارس التابعين.
أثرها على البصرة:
كانت البصرة من أكثر المدارس تأثرا بالمدينة، وكان بينهما من التواصل والترابط ما جعل إمام البصرة الحسن البصري يرسل بالمسائل المشكلة إلى إمام التابعين بالمدينة سعيد ابن المسيب.
فعن علي بن زيد قال: كنت إذا خرجت إلى مكة قال لي الحسن: سل سعيدا عن كذا، وسل لي سعيدا عن كذا يعني: سعيد بن المسيب (1).
ويقول قتادة: ما جمعت علم الحسن إلى علم أحد من العلماء، إلا وجدت له فضلا عليه، غير أنه كان إذا أشكل عليه شيء، كتب فيه إلى سعيد بن المسيب يسأله (2).
ولذا قلّ ما كان الحسن وسعيد يختلفان في الفتيا (3).
وكان الحسن لا يدع شيئا من فعله لقول أحد حتى يقولوا: إن سعيد بن المسيب قد قال خلافه فيأخذ به، ويدع قوله (4).
والحسن قد نشأ في سني عمره الأولى في المدينة، ولذا نجد أثر هذه النشأة في تفسيره، فكان يستدل بلغتهم في تفسيره، فمن ذلك ما جاء عنه عند تأويل قوله تعالى:
{قَدْ شَغَفَهََا حُبًّا} (5)، قال: بطنها حبا، وأهل المدينة يقولون ذلك (6).
__________
(1) العلل لأحمد (3/ 321) 5429.
(2) التذكرة (1/ 55)، والتهذيب (4/ 86)، ومرآة الجنان (1/ 214).
(3) تهذيب الكمال (6/ 108).
(4) أنساب القرشيين (1/ 396)، والمنتظم (6/ 320).
(5) سورة يوسف: آية (30).
(6) تفسير الطبري (16/ 64) 19148، وأورده السيوطي في الدر، وعزاه لابن أبي شيبة، وابن جرير، وابن أبي حاتم وابن المنذر، وأبي الشيخ، عن الحسن بنحوه (4/ 528).(1/521)
وعند تفسير قوله سبحانه: {مُتَّكِئِينَ عَلى ََ رَفْرَفٍ خُضْرٍ} (1) قال: هي البسط، أهل المدينة يقولون: هي البسط (2).
ولما رأى قتادة ذاك التأثر والتقدير من شيخه لأئمة التابعين في المدينة لا سيما سعيد، حرص على السفر للمدينة، والأخذ عنهم، فرحل إلى سعيد، فجعل يسأله أياما، وأكثر من المسألة، فقال سعيد: أكل ما سألتني عنه تحفظه؟ قال: نعم سألتك عن كذا، فقلت فيه كذا، وسألتك عن كذا، فقلت فيه كذا، حتى رد عليه حديثا كثيرا، فقال سعيد: ما كنت أظن أن الله تعالى خلق مثلك (3).
وكان يقول: ما أتاني عراقي أحفظ منك.
ولما رأى قتادة الحسن يرسل إليه في مسائل من العلم مشكلة تأثر به في الجانب الفقهي أكثر من تأثره بشيخه الحسن، وقد عني بنقل تفسيره أكثر من عناية المدنيين بذلك (4)، ونشر علمه، وفتواه في البصرة، وكان جل ما أخذ عنه في التفسير هو ما ورد في تفسير آيات الأحكام (5).
وقد تأثر به قتادة في هذا فتوسع في القول بنسخ كثير من الآيات (6)، بل إنه نقل
__________
(1) سورة الرحمن: آية (76).
(2) تفسير الطبري (27/ 163)، وفتح القدير (5/ 145).
(3) كتاب الحث على الحفظ وذكر كبار الحفاظ (105).
(4) كان قتادة من أكثر الناقلين لتفسير سعيد بن المسيب، حيث روى ما نسبته (37، 0) من مجموع تفسيره، في حين تلاه يحيى بن سعيد حيث روى ما نسبته (16، 0) من مجموع تفسيره.
(5) وبمراجعة تفسير سعيد، وجدت أن (56، 0) من تفسيره لآيات الأحكام كان من رواية قتادة، ينظر تفسير الطبري الآثار ذوات الأرقام: 4522، 4626، 4628، 4646، 5092، 5217، 5218، 5266، 5338، 5339، 5343، 11223، 11284، 11309، 11310، 12744، (18/ 78)، (18/ 79)، (28/ 9)، (28/ 10).
(6) يعد سعيد بن المسيب وقتادة من أكثر التابعين توسعا في النسخ، ويأتي لذلك مزيد بحث في فصل أثرهم في أصول التفسير ص (1081).(1/522)
جل ما جاء عن سعيد في هذا الباب (1)، وكان يعرض ما عنده على ابن المسيب، فقد عرض عليه صحيفة جابر بن عبد الله (2).
وقد كان للمدنيين الأثر البالغ في ميل مدرسة البصرة للسنن والآثار في تفسيرها، حتى صارت من أكثر المدارس اعتمادا على السنة في تأويلها (3).
يقول قتادة: ما رأيت أعلم من سعيد، ولا أجدر أن يتبع فلان عن فلان يعني يسند (4).
أثرها على التفسير في الشام:
الأثر المدني على التفسير في الشام أشهر من أن يذكر، فإن كثيرا من فقهاء المدينة رحلوا إلى الشام، ونقلوا ما علموه من السنن والآثار إلى هناك، ولعل من أهم أسباب تلك الرحلة والصلة، وجود عبد الملك بن مروان الذي يعد من فقهاء المدينة الأربعة الذي ولي الخلافة فسافر إليه قبيصة بن ذؤيب، وغيرهم من فقهاء المدينة، ثم تولى عمر ابن عبد العزيز الخلافة، واهتم بآثار أهل المدينة وعلمهم (5).
__________
(1) أورد الطبري في تفسيره عن سعيد القول بالنسخ في عشر روايات، سبع منها من رواية قتادة، وهي الآثار ذوات الأرقام: 5219، 5220، 8674، 8675، 8676، (22/ 19) (22/ 20).
(2) العلل لأحمد (3/ 470) 6007.
(3) بعد مراجعتي لتفسير الطبري، وجدت أن مجاهدا اعتمد على ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلّم في (25) رواية، وعكرمة في (9) روايات، وابن جبير في (22) رواية، وعطاء في (10) روايات، في حين كان اعتماد قتادة على ذلك في أكثر من (200) رواية، وبلغ عن الحسن أكثر من (81) رواية.
(4) الجرح (4/ 60).
(5) وسيأتي مزيد بحث لذلك عند الحديث عن المدرسة الشامية.(1/523)
أثرها على المدرسة المكية:
كان جل اهتمام أصحاب ابن عباس متعلقا بعلم التفسير رواية ودراية، وكانت الصلة بينهم وبين المدينة قليلة، فلم يكن للمدينة أثر يذكر في المدرسة المكية، إلا ما كان من تأثر أحد أئمة المكيين وهو عطاء بالمنهج المدني لأنه رحل إلى مدينة المصطفى صلى الله عليه وسلّم فاستبان فضله على أصحابه (1) في هذا الجانب، فقد كان للمدينة الأثر البالغ في منهجه وانصرافه لعلمي الفقه والحديث ولذا نجد من المفارقات الرئيسة بينه وبين أصحابه، اتباع عطاء للدليل، وميله للفقه الأثري، ولذا عدّه الشافعي من أكثر التابعين اتباعا للأثر، بسبب اتصاله بالمدينة.
* * * __________
(1) المعرفة (1/ 443)، وترتيب المدارك (1/ 63).(1/524)
المبحث الخامس التفسير في الشام واليمن ومصر
أولا: التفسير في الشام:
لقد حظي الشام بعدد من علماء الصحابة، وتخرج على يدهم عدد كبير من التابعين، فقد أرسل عمر بن الخطاب رضي الله عنه ثلاثة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلّم يعلمون الناس، فأرسل معاذ بن جبل رضي الله عنه إلى أهل فلسطين (1)، وأرسل عبادة ابن الصامت رضي الله عنه إلى أهل حمص (2).
وأما أبو الدرداء رضي الله عنه فأرسله إلى دمشق (3)، وكان من أكثرهم أتباعا، فقد كانت له حلقة عظيمة في مسجد دمشق يحضرها ما يزيد على ألف وستمائة شخص، يقرءون عشرة عشرة، ويتسابقون عليه، وأبو الدرداء واقف يفتي الناس في حروف القرآن (4).
ويعد أبو الدرداء أكثر الصحابة أثرا في الشام ودمشق، يقول الذهبي: وكان أبو الدرداء
__________
(1) طبقات ابن سعد (7/ 387)، والتاريخ الكبير (4/ 359)، والجرح والتعديل (4/ 1/ 244)، والسير (21/ 344).
(2) طبقات ابن سعد (7/ 387)، وتهذيب تاريخ دمشق (7/ 209)، وتهذيب الأسماء واللغات (1/ 256)، والإصابة (2/ 268)، وشذرات الذهب (1/ 40)، والسير (2/ 344).
(3) أسد الغابة (5/ 185)، وتهذيب الأسماء (2/ 228)، والتذكرة (1/ 24)، والإصابة (3/ 45)، والشذرات (1/ 39)، والسير (2/ 344).
(4) غاية النهاية (1/ 607).(1/525)
عالم أهل الشام، ومقرئ أهل دمشق، وفقيههم وقاضيهم (1).
وكان رضي الله عنه من قراء الصحابة المعدودين، فعن أنس بن مالك قال: مات النبي صلى الله عليه وسلّم ولم يجمع القرآن غير أربعة من الصحابة: أبو الدرداء، ومعاذ، وزيد بن ثابت، وأبو زيد (2).
كما كان له الإمامة في العلم يقول مسروق: وجدت علم الصحابة انتهى إلى ستة: عمر، وعلي، وأبي، وزيد، وأبي الدرداء، وابن مسعود (3).
وبعث عمر أيضا عبد الرحمن بن غنم الأشعري إلى الشام يفقه الناس (4).
ومن شيوخ الشاميين أيضا الصحابي الجليل تميم الداري (5).
وعلى يد هؤلاء الصحب الكرام تعلم التابعون بالشام، وكانوا كثيرين (6) إلا أن أشهرهم:
عائد الله بن عبد الله أبو إدريس الخولاني (7)، وهو عالم الشام بعد أبي الدرداء (8)،
__________
(1) التذكرة (1/ 24).
(2) رواه البخاري في صحيحه كتاب الفضائل، باب القراء من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلّم، ينظر الفتح (9/ 47) 5004، وأبو زيد: هو أحد عمومة أنس، وقد ذكر ابن المديني أن اسمه أوس، وعده يحيى بن معين ثابت بن زيد.
وهذا الحصر في هؤلاء الأربعة إضافي، بمعنى أنهم جمعوه عرضا على النبي صلى الله عليه وسلّم، وقد أطال ابن حجر في بيان توجيه ذلك في الفتح (9/ 51).
(3) طبقات ابن سعد (2/ 351)، والسير (2/ 343).
(4) طبقات ابن سعد (7/ 441)، والمعرفة (2/ 309)، والشذرات (1/ 84).
(5) تذكرة الحفاظ (1/ 51)، والسير (4/ 46).
(6) مفتاح السعادة (2/ 24)، والإعلان والتوبيخ (295)، فجر الإسلام (184، 185)، والتعريف بالقرآن والحديث (166).
(7) طبقات ابن سعد (7/ 448)، وطبقات الفقهاء (74).
(8) تذكرة الحفاظ (1/ 57)، والسير (4/ 274).(1/526)
وكان يقرأ، ويعلم، ويقص، ويعظ (1)، ويعني كثيرا بالمغازي والسير، توفي سنة (80هـ) (2)، إلا أن المروي عنه في التفسير قليل جدا (3).
ومن هؤلاء مكحول أبو عبد الله الدمشقي مولى لامرأة من هذيل، وكان نوبيا، وقيل من سبى كابل، وقيل من سلالة الأكاسرة (4).
وكان رحمه الله من أفقه أهل الشام (5)، وكل ما قال بالشام قبل منه (6).
يقول سليمان بن موسى. إن جاءنا العلم من الحجاز عن الزهري قبلناه، وإن جاءنا من الشام عن مكحول قبلناه، وإن جاءنا من الجزيرة عن ميمون قبلناه، وإن جاءنا من العراق عن الحسن قبلناه (7).
وعن الزهري قال: العلماء أربعة: ابن المسيب بالمدينة، والشعبي بالكوفة، والحسن بالبصرة، ومكحول بالشام (8).
وقال سعيد بن عبد العزيز: كان أفقه أهل الشام، وكان أفقه من الزهري (9).
وعليه تتلمذ إمام الشام في زمانه الأوزاعي (10).
__________
(1) الحلية (5/ 120)، وتهذيب تاريخ دمشق (7/ 322)، والشذرات (1/ 288).
(2) السير (4/ 275).
(3) رجعت إلى تفسير ابن كثير، فلم أجد له إلا ثلاث روايات فقط.
(4) التاريخ الكبير (8/ 21)، والبداية والنهاية (9/ 317)، والسير (5/ 155).
(5) تاريخ أبي زرعة (1/ 245)، والمعرفة (1/ 640)، وطبقات علماء الحديث (1/ 180).
(6) المعرفة (2/ 117)، والسير (5/ 159).
(7) تاريخ أبي زرعة (1/ 315)، ويلاحظ أن الجامع بين هؤلاء الأئمة، هو اتباعهم الأثر.
(8) السير (5/ 158).
(9) السير (5/ 159)، والبداية والنهاية (9/ 317).
(10) قال الأوزاعي في الإيلاء: ونحن على قول أصحابنا الزهري، ومكحول، أنها تطليقة، تفسير الطبري (4/ 488) 4610.(1/527)
وقد جاء عنه جملة طيبة في التفسير، وغالبها في الفقه، والوعظ (1).
بين الشام والمدينة:
لقد استفاد الشام من كبار التابعين الذين نزلوا به، وبثوا علمهم فيه، وأكثرهم من علماء المدينة الكبار، مما يؤكد الأثر المدني في الشام ولا سيما أنه كان منهم خليفتان عبد الملك بن مروان الذي عده ابن ذكوان رابع أربعة فقهاء في المدينة بعد ابن المسيب، وعروة، وابن ذؤيب (2)، ثم الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز الذي آلت إليه الخلافة في آخر المائة الأولى، وقد نزل الشام قبله الإمام قبيصة بن ذؤيب، فقيه المدينة (3)، ومن كبار أصحاب زيد بن ثابت روى عنه الفرائض، وكان أعلم الناس بقضائه (4).
قال ابن حبان: قبيصة بن ذؤيب الخزاعي من فقهاء أهل المدينة وعبادهم، كان كثير السفر إلى الشام في تجارة وغزو، فحديثه عند أهل الشام والمدينة معا، توفي سنة ست وثمانين، وقال السيوطي عنه: المدني سكن الشام (5).
ثم انتقل إلى الشام أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز، وقد كان أميرا على المدينة، وكان ممن يجالس سعيد بن المسيب، ويصدر عن رأيه، وكان سعيد لا يأتي أحدا من الأمراء غير عمر، أرسل إليه عبد الملك فلم يأته، وأرسل إليه عمر فأتاه، وكان عمر
__________
(1) يراجع في ذلك تفسير الطبري، الآثار ذوات الأرقام: 3997، 4129، 4371، 4431، 4604، 4610، 4711، 4712إلخ، وينظر تفسير ابن كثير: (1/ 333)، (1/ 342)، (1/ 375)، (1/ 392)، (1/ 395)، و (1/ 397)، (1/ 436)، و (2/ 94)، (2/ 192)، (2/ 221)، (3/ 29)، (3/ 36)، (3/ 164) إلى غير ذلك من الأمثلة التي زادت في تفسير ابن كثير عن ثلاثين أثرا.
(2) العلل لأحمد (2/ 410)، 2836، و (2/ 594) 3820، وطبقات الفقهاء (62).
(3) العلل لأحمد (2/ 66) 1565، 1566، والعلل لابن المديني (49، 51، 53).
(4) المعرفة (1/ 354)، ومشاهير علماء الأمصار (64).
(5) طبقات الحفاظ (21).(1/528)
يكتب إلى سعيد في علمه (1)، ويركب إليه في المسألة (2)، وكان معظما له جدا حتى قال: ما كان في المدينة عالم يأتيني بعلمه إلا وأوتى بما عند سعيد بن المسيب (3).
فلما استخلف عمر بن عبد العزيز حمل معه علم سعيد إلى الشام، بل وكان معه عدة من علماء المدينة، فكان معه سالم بن عبد الله، وأبو قلابة ومحمد بن كعب، وعراك بن مالك (4)، وابن شهاب (5)، وكان معه أيضا وزير الخلفاء رجاء بن حيوة الذي كان مكحول إذا سئل يقول: سلوا شيخنا وسيدنا رجاء بن حيوة (6). إلا أنه كان قليل الحديث والرواية لانشغاله بالوزارة، وتشدده حتى عدّ من أكف ثلاثة عن الحديث، مع فضلهم (7).
ورحل إلى عمر بن عبد العزيز، زيد بن أسلم (8)، وكل هؤلاء ممن نشر علم المدينة بالشام.
لقد أدرك علماء الشام فضل علم المدنيين، فأخذوا ينهلون من علومهم، فها هو مكحول يرحل ليطلب علم المدينة، ويبقى بها حتى سمع من جل علمائها، يقول مكحول: قدمت المدينة، فما خرجت منها حتى ظننت أنه ليس بها من علم إلا وقد سمعته (9).
__________
(1) تاريخ أبي زرعة (1/ 404، 518).
(2) تاريخ أبي زرعة (1/ 405).
(3) المنتظم (6/ 321).
(4) تاريخ أبي زرعة (1/ 421)، (2/ 714).
(5) سيأتي بيان دور ابن شهاب في اتصال الشام والمدينة بشيء من التفصيل.
(6) البداية والنهاية (9/ 315).
(7) المعرفة (2/ 368)، والسير (4/ 609).
(8) بغية الطلب (9/ 3990).
(9) العلم لأبي خيثمة (118)، وطبقات ابن سعد (7/ 453).(1/529)
وصرح بأن عامة ما يحدث به هو ما أخذه عن ابن المسيب (1)، وقد أبدى إعجابه بسعيد بن المسيب حتى قال: طفت الأمصار فما لقيت رجلا أعلم من ابن المسيب (2).
وكان يقول عن سعيد: عالم العلماء (3)، وإذا سئل عن أفقه من أدرك قال: سعيد ابن المسيب (4).
ويمكن عد الزهري شاهدا آخر في حلقات الاتصال بين الشام والمدينة، فمحمد بن مسلم بن شهاب الزهري هو من طبقة صغار التابعين (5)، وقد قرأ القرآن على أنس بن مالك (6)، وسمع منه (7).
وقد أخذ العلم عن كبار التابعين في المدينة، وصار أعلم أهل زمانه بحديثهم، فبعد أن ذكر علي بن المديني العشرة الذين كان لهم علم بزيد بن ثابت قال: وكان أعلم الناس بقولهم وحديثهم ابن شهاب (8).
وقد لازم الزهري سعيد بن المسيب سبع حجج، وكان يميل في فتياه إلى قوله (9).
ولما سئل عن أفقه من أدرك قال: سعيد بن المسيب (10).
__________
(1) العلل لأحمد (2/ 449) 2995، (3/ 81) 4272، وتاريخ دمشق (8/ 696)، وطبقات ابن سعد (5/ 121).
(2) العلل لأحمد (2/ 400) 2786، (3/ 320) 5424، والتهذيب (4/ 285).
(3) طبقات ابن سعد (5/ 121).
(4) تاريخ أبي زرعة (1/ 403)، والمعرفة (1/ 479)، والجرح (4/ 61)، ومرآة الجنان (1/ 214)، ووفيات الأعيان (2/ 375).
(5) النكت على ابن الصلاح (2/ 558).
(6) غاية النهاية (2/ 262).
(7) العلل لأحمد (2/ 226) 2088، و (3/ 293) 5301.
(8) المعرفة (1/ 353)، (1/ 714)، والعلل لابن المديني (53).
(9) التاريخ الصغير (1/ 224)، والتعديل والتجريح (3/ 1082).
(10) تاريخ أبي زرعة (1/ 403)، والمعرفة (1/ 479)، والجرح (4/ 61).(1/530)
والزهري يعد من أبرز التابعين الذين بثوا علم المدينة في الشام، فهو يقول عن نفسه: اختلفت من الحجاز إلى الشام، ومن الشام إلى الحجاز خمسا وأربعين سنة ما استطرقت حديثا واحدا، وقال أيضا: ما وجدت أحدا يفيدني في ترددي إلى الشام (1).
وهذا يعني أنه نقل علم المدينة إلى الشام، ولم يجد زيادة علم بالشام حتى ينقله للمدينة.
وقد انتفع أهل العلم بالشام والمدينة بعلومه، ولذا لقب بعالم الشام والحجاز (2).
قال عنه الذهبي: المدني نزيل الشام (3).
وكان الزهري مع مكحول كفرسي رهان بالشام، وإن كان مكحول أكثر اشتغالا بالفقه من الزهري، والزهري أعلم منه بالحديث والسير (4).
ولتقاربهما وإمامتهما في مكان وزمان واحد جمعت أقوالهما، وصنفت كتب في اختلافهما (5).
وكان مكحول يعرف له فضله، ويقدمه ولا يتقدم عليه، ولما سئل: من أعلم الناس؟ قال: ابن شهاب (6).
وقد نقل عن الزهري روايات عديدة في التفسير كان أكثر من ثلثها في تفسير آيات
__________
(1) تاريخ أبي زرعة (1/ 409).
(2) التهذيب (9/ 445).
(3) السير (5/ 326).
(4) تاريخ أبي زرعة (1/ 245)، وطبقات علماء الحديث (1/ 180)، والعلل لأحمد (1/ 184) 150.
(5) ينظر مقدمة كتاب الزهري لابن عساكر (19)، وهي ترجمة مأخوذة من تاريخ دمشق، طبعت بتحقيق د. شكر الله بن نعمة الله قوجاني، مؤسسة الرسالة 1982م.
(6) تاريخ أبي زرعة (1/ 411)، وقد أفاض ابن عساكر في ترجمة الزهري في تاريخ دمشق.(1/531)
الأحكام، وكثير منها مما يرويه عن سعيد بن المسيب (1).
وقد ورث علم هذين العلمين مكحول والزهري، الإمام الأوزاعي عبد الرحمن ابن عمرو بن محمد (2)، المولود في حياة الصحابة (3)، والذي يعد أول من دون العلم في الشام (4)، فنشر علم التابعين في تلك المنطقة، قال مالك: الأوزاعي إمام يقتدى به (5).
وقال الذهبي: كان له مذهب مستقل مشهور عمل به فقهاء الشام مدة، وفقهاء الأندلس ثم فني (6).
وكان الأوزاعي معظما لمكحول، والزهري، ويذكرهما في أصحابه الذين يفتي بقولهم (7).
وقال عن الزهري، ما داهن ابن شهاب لملك قط دخل عليه، ولا أدركت خلافة هشام أحدا من التابعين أفقه منه (8).
بين الشام والعراق:
وقع الخصام بين أهل العراق والشام مبكرا في القراءات، وذلك أن أهل كل مصر قد تلقوا القرآن عن الصحابي الذي نزل عندهم بقراءته، وحرفه الذي تلقاه من
__________
(1) بعد مراجعة تفسير الطبري، وجدت المروي عنه (148) رواية، بلغ نصيب آيات الأحكام منها (37، 0) من مجموعها، وقد بلغت رواياته عن سعيد بن المسيب (16، 0) من جملة الروايات الواردة عن سعيد بن المسيب في التفسير.
(2) السير (7/ 107).
(3) تاريخ أبي زرعة (1/ 440).
(4) السير (7/ 128).
(5) تاريخ أبي زرعة (1/ 440)، والسير (7/ 112).
(6) السير (7/ 117).
(7) تفسير الطبري (4/ 488) 4610.
(8) تاريخ أبي زرعة (1/ 410).(1/532)
رسول الله صلى الله عليه وسلّم، واشتد خصام أهل العراق في القراءة في غزوة أرمينية سنة ثلاثين، حتى كفر بعضهم بعضا، فقد روى ابن جرير الطبري بإسناده عن زيد بن ثابت في خبر جمع القرآن أنه قال: «إن حذيفة بن اليمان قدم من غزوة كان غزاها مرج أرمينية، فلم يدخل بيته حتى أتى عثمان بن عفان فقال: يا أمير المؤمنين، أدرك الناس! فقال عثمان:
وما ذاك؟ قال: غزوت مرج أرمينية، فحضرها أهل العراق وأهل الشام، فإذا أهل الشام يقرءون بقراءة أبي بن كعب، فيأتون بما لم يسمع أهل العراق، فتكفرهم أهل العراق، وإذا أهل العراق يقرءون بقراءة ابن مسعود، فيأتون بما لم يسمع أهل الشام، فتكفرهم أهل الشام».
ولم يقتصر الاختلاف في القراءة في غزوة أرمينية على أهل العراق وأهل الشام، فقد كان أهل كل جند أو مصر منهم يعتقدون أن قراءتهم أصح القراءات وأعلاها، ادعى ذلك أهل حمص، ونافسهم فيه أهل دمشق، وادعاه أيضا أهل الكوفة، ونافسهم فيه أهل البصرة، قال ابن الأثير في ذكر غزو حذيفة وأمر المصاحف: «فيها صرف حذيفة عن غزو الري إلى غزو الباب مددا لعبد الرحمن بن ربيعة، وخرج معه سعيد بن العاص، فبلغ معه أذربيجان، وكانوا يجعلون الناس ردءا، فأقام حتى عاد حذيفة ثم رجعا. فلما عاد حذيفة قال لسعيد بن العاص: لقد رأيت في سفرتي هذه أمرا لئن ترك الناس ليختلفن في القرآن، ثم لا يقومون عليه أبدا، قال: وما ذاك؟ قال: رأيت أناسا من أهل حمص يزعمون أن قراءتهم خير من قراءة غيرهم، وأنهم أخذوا القرآن عن المقداد. ورأيت أهل دمشق يقولون: إن قراءتهم خير من قراءة غيرهم، ورأيت أهل الكوفة يقولون مثل ذلك، وأنهم قرءوا على ابن مسعود، ورأيت أهل البصرة يقولون مثل ذلك، وأنهم قرءوا على أبي موسى، ويسمون مصحفه لباب القلوب» (1).
__________
(1) تفسير الطبري (1/ 62)، والكامل في التاريخ (3/ 111).(1/533)
وظل أهل دمشق وأهل حمص يختلفون في القراءة، ويتنافسون فيها بعد أن جمع عثمان بن عفان الناس على مصحف واحد، كل منهم يتمسك بقراءته ويصوّبها، ولا يحيد عنها (1).
ولكن هذا التنافس لم يصل بالطبع إلى درجة التكفير التي كانت قبل أن يجمعهم عثمان رضي الله عنه على مصحف واحد، إلا أنه بقي في أهل الشام نفرة من العراق، ولا سيما الكوفة بسبب اعتماد الكوفيين على الرأي والقياس أكثر من اعتمادهم على الأثر والرواية، ونظرا للمنهج الأثري المدني الذي ساد بالشام، لذا نفر بعض الأئمة الشاميين من أهل العراق، باستثناء الأثريين من الكوفيين كالشعبي (2).
بل قد وجدت عبارات للأوزاعي فيها نكير شديد على أهل القياس والرأي من معاصريه (3).
قال الأوزاعي موضحا المنهج الشامي: كانت الخلفاء بالشام، فإذا كانت بلية سألوا عنها علماء أهل الشام، وأهل المدينة، وكانت أحاديث أهل العراق لا تجاوز جدار بيوتهم، فمتى كان علماء أهل الشام يحملون عن خوارج أهل العراق (4).
وفي المقابل حصل شيء من تأثر الشام بالبصرة، ويرجع ذلك إلى أسباب لعل من أبرزها أثرية أئمة البصرة.
__________
(1) القراءات في بلاد الشام (82، 88).
(2) كان مكحول يقول: عامة ما أحدثكم من علم الشعبي، وسعيد بن المسيب، ينظر العلل لأحمد (2/ 449) 2995، (3/ 81) 4272.
وكان الشعبي ينعي على أهل الرأي تركهم السنن، يراجع ص (320) في ترجمة الشعبي.
(3) من ذلك كلامه عن أبي حنيفة، ينظر العلل لأحمد (2/ 546) 389، وكتاب السنة (1/ 187)، وتاريخ بغداد (13/ 389)، وكتاب المجروحين لابن حبان (3/ 64)، وتاريخ أبي زرعة (1/ 256)، وتاريخ بغداد (13/ 384).
(4) المعرفة (2/ 757)، وتاريخ دمشق (1/ 70).(1/534)
فقد تتلمذ الحسن، وقتادة على يد سعيد بن المسيب، وكان الأوزاعي من رواة قتادة (1).
وكان يقارن بين مكحول، وقتادة، قيل للزهري: أقتادة أعلم عندكم أو مكحول؟
قال: لا، بل قتادة، ما كان عند مكحول إلا شيء يسير (2).
في حين كان الزهري يقول: العلماء أربعة: سعيد بن المسيب بالحجاز، والحسن بالبصرة، والشعبي بالكوفة، ومكحول بالشام (3).
ومن الواضح أن الجامع لهؤلاء هو الأثرية، وترك الرأي، وثمة سبب آخر يجعل الشام يتأثر بالبصرة، وهو بعد البصرة عن الرفض حتى عدّها أهل العراق قطعة من الشام نزلت العراق (4).
ولذا كثرت رحلات الأمويين إلى البصرة، حتى قال البصريون: ما كنا نفقد في كل يوم راكبا من ناحية بني أمية ينيخ (5).
وكان الرجلان من بني أمية يختلفان في البيت من الشعر، فيرسلان إلى قتادة (6).
وقد أدى هذا التقارب بين المدرستين، أن ابتلي بعض أهل الشام بالقول بالقدر موافقة للبصريين، فقد رمي مكحول به (7)، واشتهر ذلك عنه، حتى أنكر عليه علماء الشام كرجاء بن حيوة (8).
__________
(1) السير 5/ 270.
(2) طبقات ابن سعد (7/ 230)، والسير (5/ 271).
(3) البداية والنهاية (9/ 317)، والسير (5/ 159).
(4) كتاب تفسير الحسن البصري (1/ 49).
(5) وفيات الأعيان (4/ 85).
(6) أنباه الرواة (3/ 35)، والمزهر (2/ 334)، والسير (5/ 278)، ومعجم الأدباء (17/ 10).
(7) السير (5/ 159).
(8) العلل لأحمد (3/ 280) 5247.(1/535)
ومن جهة أخرى اكتفى كثير من أهل العلم بالشام عن العراق، قال ابن المبارك: ما رحلت إلى الشام إلا لأستغني عن حديث أهل الكوفة (1).
وفي الجملة كان التفسير في الشام صورة من المنهج المدني، أصولا وفكرا واتجاها، لذا مع قلة نتاجه لم أدرسه كمدرسة مستقلة لها تميزها في التفسير، والله تعالى أعلم.
ثانيا: التفسير في اليمن:
لم يلق التفسير في اليمن من الاهتمام ما لقيه في غيرها من بلاد الإسلام في الحجاز، والعراق، ولم ينشط أهل اليمن في علوم التفسير، إلا في عصر أتباع التابعين، وذلك يرجع إلى أسباب، لعل من أهمها: نزول عدد قليل من الصحابة بها (2)، ولذا فهي من أقل المدارس تابعا (3). إلا أنه قد نزلها بعض كبار التابعين مما نشّط الحركة العلمية فيها قليلا، ومن هؤلاء.
طاوس بن كيسان، أبو عبد الرحمن الفارسي (4).
سمع طاوس من عدة من الصحابة، وتحمل عنهم، فسمع من زيد بن ثابت، وعائشة، وأبي هريرة، وزيد بن أرقم، وأكثر سماعه كان من ابن عباس، وكان طاوس معدودا في كبراء أصحابه (5)، وهو يعد من أصحابه الستة (6)، وكان ابن عباس يدخله
__________
(1) المعرفة (2/ 757).
(2) ذكر ابن حبان من مشاهير الصحابة في اليمن (16) صحابيا فقط، في حين بلغ من عدهم من مشاهير الصحابة بالمدينة (152) صحابيا، وبالبصرة (55) صحابيا، وبالكوفة مثل ذلك، وبالشام عدّ (22) صحابيا، ومثلهم بمصر
(3) عدّ ابن حبان من مشاهير المدنيين (169) تابعيا، ومن مشاهير الكوفيين (117)، ومن مشاهير البصريين (91)، ومن مشاهير الشاميين (72)، ومن مشاهير المصريين (32)، ومن مشاهير اليمنيين (27) تابعيا فقط.
(4) طبقات ابن سعد (5/ 537)، وتاريخ خليفة (236)، والتاريخ الصغير (1/ 252).
(5) السير (4/ 39)، وطبقات فقهاء اليمن (56)، وطبقات علماء الحديث (1/ 159).
(6) أي مع مجاهد، وعكرمة، وعطاء، وابن جبير، وجابر بن زيد.(1/536)
على الخواص (1)، ولم يسمع طاوس من معاذ بن جبل، لتقدم وفاته بالشام (2)، وقد اشتغل طاوس بالفقه والإفتاء، وغلب ذلك عليه حتى برع فيه، وفاق أقرانه.
يقول خصيف بن عبد الرحمن وهو يعدد فضائل التابعين: كان أعلمهم بالحج عطاء، وأعلمهم بالطلاق سعيد بن المسيب، وأعلمهم بالحلال والحرام طاوس، وأجمعهم لذلك كله سعيد بن جبير (3).
وقد كان هذا الفقه واضحا فيما نقل عنه من تفسير، فقد كان جل المروي عنه على قلته في بيان آيات الأحكام (4)، وكان شديد التأثر بتفسير ابن عباس لملازمته له، فقد كان كثير الترداد على مكة إذ حج ما يزيد على أربعين حجة (5)، وقد غلبه الورع مع كثرة علمه، وشمل ورعه الحديث والتفسير، فكان يعد الحديث حرفا حرفا (6)، حتى قال عنه قيس بن سعد لأحد البصريين: كان طاوس فينا مثل ابن سيرين فيكم (7).
وكان ابن سيرين معروفا بالورع، وأنه لا يروي بالمعنى (8).
__________
(1) المحدث الفاصل (569)، والسير (5/ 46).
(2) علل ابن المديني (288)، والفتح (3/ 312)، (11/ 32)، وقد توفي معاذ في طاعون عمواس سنة 17هـ.
(3) تاريخ أبي زرعة (1/ 515)، ووفيات الأعيان (2/ 372)، ومرآة الجنان (1/ 225).
(4) بعد مراجعتي لتفسير ابن كثير كله، وجدت المروي عن طاوس (58) قولا في التفسير، منها (31) قولا في تفسير آيات الأحكام في سورتي البقرة والنساء.
وقد راجعت تفسير القرطبي فوجدت المنقول عنه حتى نهاية سورة آل عمران (51) قولا، منها (45) في بيان آيات الأحكام، أي ما يزيد عن (87، 0) من مجموع تفسيره كان في بيان آيات الأحكام، واتضحت لي عنايته بالحلال والحرام عند مراجعة كتب الفقه، فقد سبق عامة أصحاب ابن عباس في عدد المنقول عنه، ففي المغني لابن قدامة نقل عنه (322) قولا، في حين كان المنقول عن مجاهد (257)، وعن ابن جبير (212)، وعن عكرمة (144) قولا فقط.
(5) العلل لأحمد (2/ 463) 305، والمعرفة (1/ 706).
(6) المحدث الفاصل (539)، وطبقات ابن سعد (5/ 541)، والمعرفة (1/ 706).
(7) طبقات ابن سعد (5/ 541)، المعرفة (1/ 709).
(8) سبق تفصيل ذلك في المقارنة بينه وبين الحسن، ص (432).(1/537)
وعن عبد الله بن حبيب بن أبي ثابت قال: سألت طاوسا عن تفسير هذه الآية: {يََا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهََادَةُ بَيْنِكُمْ إِذََا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ} (1) فأراد أن يبطش بي كراهية لتفسير القرآن (2).
ولقد غلب على طاوس الطابع المكي في الاستنباط والدلالة ولذا كان تفسيره أقرب إلى المكيين منه للبصريين (3).
ومن أئمة التابعين في اليمن أيضا:
وهب بن منبه بن كامل أبو عبد الله (4)، من مسلمة أهل الكتاب، له روايات في التفسير، ومواعظ بليغة، وعلم غزير، أكثره عن أهل الكتاب، قال الذهبي: وإنما غزارة علمه في الإسرائيليات، ومن صحائف أهل الكتاب (5)، وقال أيضا: وعنده من علم أهل الكتاب شيء كثير، فإنه صرف عنايته إلى ذلك وبالغ (6).
وقال وهب عن نفسه: «لقد قرأت ثلاثين كتابا نزلت على ثلاثين نبيا» (7).
ولذا كان كثيرا ما يحدث عن التوراة، وأخبار بني إسرائيل (8)، والقصص (9)،
__________
(1) سورة المائدة: آية (106).
(2) المصنف لابن أبي شيبة (10/ 512) 10153.
(3) بعد مراجعة تفسير القرطبي وجدت أن (27) قولا لطاوس من أصل (45) قولا في تفسير آيات الأحكام حتى نهاية سورة آل عمران وافق فيها المدرسة المكية، أي (60، 0) من تفسيره لآيات الأحكام يتوافق مع المكيين.
(4) التاريخ الكبير (8/ 164)، والمعارف (239)، ومشاهير علماء الأمصار (122).
(5) السير (4/ 545).
(6) تذكرة الحفاظ (1/ 101).
(7) طبقات ابن سعد (5/ 543)، الحلية (4/ 24).
(8) من ذلك ما رواه الطبري عنه أنه قال في الشجرة التي نهي آدم عن الأكل منها: وأهل التوراة يقولون: هي البر، تفسير الطبري (1/ 518) 726.
(9) طبقات فقهاء اليمن (57)، والأسماء والصفات للبيهقي (1/ 283)، والإسرائيليات لأبي شهبة (105).(1/538)
ونتاجه في التفسير في غير ذلك نادر، ولذا رأيت أن ترجمته في منهج التابعين في الإسرائيليات ألصق، لذا نوهت بذكره هناك (1).
ويعد معمر بن راشد البصري أول من رحل إلى اليمن (2)، ونشر علمه هناك، حتى قال عبد الرزاق الصنعاني من رءوس أتباع التابعين باليمن: كتبت عن معمر عشرة آلاف حديث (3)، ولازمه سبع سنين (4)، وجل تفسيره إنما يرويه عنه (5).
وبذلك نجد التشابه الواضح بين اتجاه التفسير في اليمن مع المدرسة البصرية.
كما يعد عبد الملك بن جريج أيضا ممن أسهم في نشاط حركة التفسير في اليمن، فقد رحل إليها، وبث علمه فيها، قال: قدمت بلدا داثرا فنثرت لهم عيبة علم، (يعني:
اليمن) (6).
إلا أنه لم يلق طاوسا فلم يرو عنه (7).
ومع هذا كله فإن استفادة أهل اليمن من معمر كانت أشد، ولذا قلت الرواية عن ابن جريج في تفاسيرهم (8)، في حين كان للزهري المدني أثر أكبر في تفسيرهم (9).
__________
(1) ينظر ص (911).
(2) السير نقلا عن الإمام أحمد بن حنبل (7/ 7).
(3) السابق (7/ 11).
(4) تذكرة الحفاظ (1/ 364).
(5) روى عنه ثلثي التفسير، ينظر الكلام على تفسير عبد الرزاق ص (70).
(6) طبقات ابن سعد (5/ 492).
(7) العلل لأحمد (2/ 302) 2338.
(8) لم تتجاوز مرويات عبد الرزاق من طريق ابن جريج في تفسيره (43) رواية، في حين روى من طريق معمر (2471) رواية، ينظر ص (70).
(9) بلغت الروايات التي وجدتها لأهل اليمن عن الزهري (163) رواية، منها (84) رواية عن الزهري في تفسير عبد الرزاق الذي يعد من أهم المصادر في معرفة تفسير الزهري.(1/539)
ومن هنا كان أثر المدرسة البصرية ثم المدنية أكبر من أثر المكية في اليمن، أما المدرسة الكوفية، فلم أر لها أثرا على اتجاه التفسير في اليمن، والله تعالى أعلم.
التفسير في مصر:
فتحت مصر في عهد الخليفة الراشد عمر بن الخطاب، على يد عمرو بن العاص رضي الله عنه، وكان في جيش الفاتحين الكثير من الصحابة، إلا أننا يمكن أن نعد عقبة ابن عامر رضي الله عنه هو أكثر الصحابة تأثيرا في مصر في جانب التفسير وغيره، فلقد دخل مصر، ومعه مصحفه الذي صار إماما للناس يرجعون إليه (1).
وأحب أهل مصر عقبة، ورووا عنه، ولازموه، حتى قال سعد بن إبراهيم: كان أهل مصر يحدثون عن عقبة بن عامر، كما يحدث أهل الكوفة عن عبد الله (2).
ولئن كان ابن مسعود قد نشر الورع والهيبة من التفسير في نفوس تلاميذه الكوفيين، فبالمقابل نجد أهل مصر قد ورثوا عن عقبة هيبة التفسير، والورع من الخوض فيه، فها هو يزيد بن أبي حبيب يروي عن أبي الخير مرثد بن عبد الله اليزني، عن عقبة بن عامر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلّم يقول: «هلاك أمتي في الكتاب، واللبن، قالوا: يا رسول الله، ما الكتاب واللبن؟ قال: يتعلمون فيتأولون على غير ما أنزله الله عز وجل، ويحبون اللبن ويدعون الجمع، والجماعات» (3).
لقد تأثر عقبة ومن بعده المصريون بهذا الحديث، وتورعوا عن التفسير، بل غلب عليهم الورع في شتى شئونهم، حتى قال يحيى بن سعيد الأنصاري المدني (وهو من
__________
(1) القرآن وعلومه في مصر (14).
(2) العلل لأحمد (2/ 442) 2958.
(3) العلل لأحمد (3/ 452) 5918، واللبن جمع لبنة، والمراد الانشغال بالبناء، وصحح إسناده محقق الكتاب د. وصي الله عباس.(1/540)
صغار التابعين): ما أعلم الورع اليوم إلا في أهل المدينة، وأهل مصر (1).
وتلقى المصريون العلم عن الصحابة على قلتهم بمصر (2)، وكان من أشهرهم أبو الخير مرثد بن عبد الله اليزني (90هـ)، فقد أخذ العلم وتتلمذ على يد عقبة، وعمرو بن العاص (3)، وجاءت الطبقة التي تلي كبار التابعين فنشطت في العلم، ولا سيما يزيد بن أبي حبيب الذي بث العلم بمصر ونشره، يقول أبو سعيد بن يونس: كان مفتي أهل مصر في أيامه يزيد، وكان حليما عاقلا، وكان أول من أظهر العلم بمصر، والكلام في الحلال والحرام (4)، ويزيد هو إمام الديار المصرية في زمانه كما قاله ابن كثير (5)، ويقول عنه الليث بن سعد: هو سيدنا، وعالمنا (6).
إلا أنه كان ذا حظ قليل في علم التأويل، فقد كان يغلب عليه الطابع المدني في التحديث والانشغال به عن التفسير، فأكثر في الحديث وروى عن جملة من التابعين أمثال نافع وسالم (7)، كما أنه انشغل بما انشغل به أهل مصره من المغازي والسير، حتى ما رأيت له في التفسير على قلتها كان حول مسائل في السيرة (8)، ولم ينتشر التفسير
__________
(1) المعرفة (2/ 484).
(2) سيرة الإمام مالك لأبي زهرة (84).
(3) حسن المحاضرة (1/ 296).
(4) تهذيب الكمال (32/ 105)، والتهذيب (11/ 318)، والنجوم الزاهرة (1/ 308)، وحسن المحاضرة (1/ 299).
(5) تفسير ابن كثير (4/ 10).
(6) تهذيب الكمال (32/ 105)، وحسن المحاضرة (1/ 299)، والشذرات (1/ 175).
(7) طبقات ابن سعد (7/ 513).
(8) بعد مراجعة تفسير ابن كثير، وجدت له ثلاثة آثار كلها حول ذلك (3/ 570)، (4/ 10)، (8/ 274)، والمواضع التي وجدت النقل عنه فيها عند أبي زرعة في تاريخه كانت أيضا حول مسائل في المغازي والسير، ينظر تاريخ أبي زرعة (1/ 219، 290، 386، 413، 431، 524، 537، 594، 630، 635، 636).(1/541)
بمصر إلا في عصر أتباع التابعين، فقد ظهر الليث بعد سعد، ونشر العلم بمصر، وكان ذا حافظة قوية وفقه دقيق حتى قال عنه الشافعي: «الليث أفقه من مالك إلا أن أصحابه لم يقوموا عليه» (1)، وانتشر في عهد أتباع التابعين تفسير ابن عباس الذي رواه علي بن أبي طلحة، وكانت نسخة منه موجودة عند أبي صالح كاتب الليث (2)، وكذلك تفسير سعيد بن جبير، الذي رواه عطاء بن دينار، وهو من ثقات أتباع التابعين، وقد أخذه من ديوان عبد الملك بن مروان (3)، ومع عدم وجود مادة علمية في المراجع بين أيدينا تدل على رواية المصريين للتفسير، إلا أني أميل إلى ظهور التفسير في عصر التابعين في مصر، بمنهج المدرسة المكية، ولكن لم ينقل بسبب الورع الذي تلقوه عن شيخهم عقبة، والتأثر بالمنهج المدني في رواية الآثار والسير، يدل على ذلك ما يلي:
1 - مرور ابن عباس بمصر، فقد رحل إليها، وروى عنه من أهل مصر خمسة عشر نفسا (4).
2 - رحلة عكرمة إلى مصر عام (58هـ) (5)، وأخذ يزيد، وروايته عنه (6).
3 - رحلة مجاهد إلى مصر، التي روى فيها عن مسلمة بن مخلد، وروى عنه فيها خلق كثير (7).
4 - المراسلات التي كانت بين يزيد بن أبي حبيب، وبين عطاء بن أبي رباح، وإن
__________
(1) وهذا يؤكد ما قاله أبو زهرة: إن الشافعي درس فقه الليث فانتهى إلى هذه النتيجة، ينظر كتاب سيرة الإمام مالك لأبي زهرة (84).
(2) الإتقان (2/ 532) ط بيروت، دراسات في التفسير وأصوله (307).
(3) الجرح (6/ 332)، والمراسيل (58)، والتهذيب (7/ 198)، وتاريخ التراث (1/ 76).
(4) السير (3/ 336).
(5) طبقات ابن سعد (5/ 343)، والنجوم الزاهرة (1/ 133)، وغاية النهاية (2/ 41).
(6) الكامل (5/ 107).
(7) طبقات المفسرين للداودي (2/ 306).(1/542)
كان الظاهر أن أكثرها في الفقه، وإن كان المصريون كتبوا عن مجاهد ولم يكتبوا عن عكرمة، إلا أن المنهج المكي كان هو الغالب في هذه الفترة، ولو قدّر بقاء شيء من التفسير، ووصوله إلينا، لما اختلف عن المدرسة المكية نهجا ومسلكا فيما أحسب، والله تعالى أعلم.
* * *
الفصل الثالث خصائص مدارس التفسير في عصر التابعين(1/543)
* * *
الفصل الثالث خصائص مدارس التفسير في عصر التابعين(1/545)
الفصل الثالث خصائص مدارس التفسير في عصر التابعين لا شك أن القول بتعدد المدارس يستلزم ضرورة القول بتعدد المناهج، واختلاف المسالك والمشارب، فلكل مدرسة سماتها وخصائصها التي انفردت بها أو اعتنت بها اعتناء أكثر من اعتناء غيرها، لذلك استحقت أن تكون مدرسة قائمة بذاتها، وإلا فإن مجرد الاختلاف المكاني ليس له كبير اعتبار في هذا الصدد.
وفي هذا الفصل أحاول تحديد تلك السمات والخصائص في منهج كل مدرسة، وبدهي أن هذا لا يعني البحث عن حدود وحواجز تمنع من التقاء مدرستين أو أكثر، فهذا لا يمكن تصوره في مدارس تتوارد على علم واحد، وهو علم التفسير، المتعلق بكتاب واحد، هو كتاب الله تعالى. إلا أن هذا التداخل والاشتراك لا يمنع من القول بوجود تمايز وتباين بين مدرسة وأخرى، وأشبه ما يكون ذلك بالإنسان، فإنك تجد قدرا مشتركا من الصفات والسمات بين جميع أفراده، وذلك ليس بحائل دون وجود خصائص ومميزات تفصل بين إنسان وآخر، وهكذا الشأن في المدارس.
كما أننا نلاحظ تعدد المناهج والخصائص في المدرسة الواحدة، إلا أن أوجه الاتفاق تمثل القدر الأكبر، وبجمع تلك الأوجه، وضم الأشباه والنظائر، يمكن إبراز السمات والخصائص لكل مدرسة على حدة.
* * *
خصائص المدرسة المكية(1/547)
* * *
خصائص المدرسة المكية
المدرسة المكية مدرسة عظيمة النتاج، نقل إلينا من علمهم الشيء الكثير، حتى لقد فاق المنقول عنها ما نقل عن سواها من المدارس، وقد تميزت بخصائص كثيرة، انفردت في بعضها عن المدارس الأخرى، وهذه هي محل البحث والدراسة، وقد تحصل لي من هذه الخصائص ما يلي:
1 - كثرة الاجتهاد والاستنباط.
2 - التخصص في علم التفسير.
3 - اهتمام أصحابها بالعلوم الأخرى مقارنة بالتفسير.
4 - التوسع في الإسرائيليات.
وفيما يلي بيان لهذه الخصائص:
الخصيصة الأولى: كثرة الاجتهاد والاستنباط:
تفسير القرآن مطلب مهم، وغاية قصوى لأنه كتاب هداية وحكمة ونور، والتفسير هو شرح لمراده سبحانه، وتطبيق لأوامر الشرع ونواهيه، ولقد حفلت المصنفات في علوم القرآن بكثير من الآثار والروايات، تحذر من خوض غمار التفسير، إلا لمن هو أهل لأن من قال في القرآن برأيه، وعلى غير هدى فليتبوأ مقعده من النار.
ومن الملاحظ أن هذه الآثار، أو أكثرها، التي تحذر من الخوض في التأويل، مدارها على رجال المدرسة المدنية، والكوفية، في حين قلّ المروي عن المكيين في ذلك، فكثر في المقابل عندهم الاجتهاد، والاستنباط.(1/548)
وقد يلحظ الباحث أسبابا أخرى لهذه الكثرة في المنقول، اجتهادا عنهم، لعل أبرزها هو شخصية شيخ المدرسة حبر الأمة عبد الله بن عباس رضي الله عنهما.
فلقد كان ترجمان القرآن ابن عباس ممن فتح الله عليه استجابة لدعوة نبينا محمد صلى الله عليه وسلّم، عند ما دعا له بالفقه، والحكمة، ولقد أعمل رضي الله عنه الفكر والاستنباط في استخراج المعاني العظيمة، والاجتهادات القيمة من الآيات، ولا أدل على ذلك من قول شقيق بن سلمة، قال: خطب ابن عباس وهو على الموسم، فافتتح سورة البقرة، فجعل يقرأها ويفسرها، فجعلت أقول: ما رأيت، ولا سمعت كلام رجل مثله، لو سمعته فارس والروم لأسلمت (1).
أضف إلى ذلك ما حباه الله من قوة حافظة، وذكاء فطري، ونظر ثاقب، كل هذا أثر في شخصية الآخذين عنه.
وإذا عرفنا أن ابن عباس رضي الله عنه لم يكتف فقط بإلقاء العلم على تلاميذه حتى أضاف إلى ذلك المنهج التربوي (2). اتضح لنا بذلك مدى الأثر الذي تركه في نفوس المكيين من تلامذته، بل وسواهم ممن تتلمذ عليه من أهل الآفاق كأبي العالية، وغيره.
لقد كان ابن عباس يأمر أصحابه بالانطلاق في الاجتهاد، والتصدي لإفتاء الناس بما علموه منه وسمعوه، فقد ذكر سعيد بن جبير أنه لما جلس مع ابن عباس، وجاء سائل أمر ابن عباس سعيدا أن يفتيه بحضرته مدربا له ومربيا على الاجتهاد، في حين توقف التابعون عن الفتيا بحضرة شيوخهم في سائر المدارس التفسيرية الأخرى.
__________
(1) وقد سبق تفصيل ذلك، وإيراد العديد من النصوص المبينة لمدى علمه بالتأويل وتقدمه فيه رضي الله عنهما ينظر ص (383).
(2) سبق بيانه في ترجمته رضي الله عنهما ص (390).(1/549)
وثمة أمر آخر، وهو أن ابن عباس رضي الله عنه أكثر من التفسير في حين أن شيوخ المدارس الأخرى كانوا يتحاشونه في الجملة ولم يفسحوا المجال لتلاميذهم للانطلاق، فقلّ المروي عنهم في ذلك، أما المكيون وخصوصا مجاهدا، وعكرمة، وسعيد بن جبير، فقد انطلقوا يقيسون ما لم يسمعوا على ما سمعوه، بل وفتح ابن عباس لهم باب الحوار والنقاش، بعد أن اطمأن إلى تحصيلهم وأهليتهم، فجعلوا يراجعونه ويعارضونه مما شجعهم على التوسع في مجال الاجتهاد.
لقد كان ابن عباس، نعم المربي رضي الله عنه فلقد كان ذا شخصية فريدة في زمانه، قال يوما لأصحابه: أتدرون ما ذهاب العلم من الأرض؟، قلنا: لا، قال: أن يذهب العلماء (1).
فلا غرو إذا أن يكون لهذا التوسع في الاجتهاد في المدرسة المكية، وبعدها البصرية، الأثر البالغ على مدارسهم، فقد سد هذا التوسع كثيرا من الحاجة الملحة في طبقة التابعين في تينك المدرستين، ولذا نجد أن أتباع التابعين في مكة والبصرة اقتصر دورهم على الرواية، والنقل، إذ لم يدع لهم شيوخهم بابا للاجتهاد إلا وسبقوهم إليه.
أما المدارس التي تورعت فقد كان لهذا الإحجام على الاجتهاد أثره في طبقة صغار التابعين، وتابعيهم، إذ توسعوا وكثرت أقوالهم تبعا لكثرة الحاجة لمعرفة وبيان معاني كثير من الآيات، فتوسع السدي، وبعده الضحاك في الكوفة، ومثلهم عبد الرحمن بن زيد بن أسلم في المدينة وغيرهم.
ولقد ظهرت قوة اجتهاد واستنباطات مدرسة التابعين المكية في نواح كثيرة منها:
__________
(1) العلم لأبي خيثمة (121).(1/550)
1 - الدقة اللغوية:
لقد فاقت هذه المدرسة سائر مدارس التابعين في الدقة اللغوية، وسيأتي أن لمدرسة البصرة جانبا مهما في استعمال الفصيح، والبليغ من اللغة، وأن المنقول عن الحسن البصري إمام المدرسة أكثر من غيره مطلقا، إلا أن هذا المنقول لم يستوعب جميع الآيات، في حين أن المنقول عن مجاهد مثلا يعتبر أقل بكثير من المنقول عن الحسن إلا أنه استوعب الغريب كله في القرآن.
يقول السيوطي: وأولى ما يرجع إليه في معرفة الغريب، ما ثبت عن ابن عباس، وأصحابه الآخذين عنه، فإنه ورد عنهم ما يستوعب غريب القرآن (1).
وقد جاء بناء عليه أكثر تفسير غريب مفردات القرآن عن المدرسة المكية (2).
وثمة شيء آخر تميزت به المدرسة المكية، وهو الدقة في التفريق بين المفردات القرآنية، والكلمات المتشابهة، فمجاهد مثلا عند ما يتعرض لتفسير (الربانيين) يربطها بكلمة أخرى، ويبين النسبة بينهما، فيقول: الربانيون: الفقهاء العلماء، وهم فوق الأحبار.
فلم يكتف رحمه الله ببيان معنى (الربانيين) حتى بين نسبتهم للأحبار، أي:
أنهم أعلى منهم شأنا، وقدرا.
ولما فسر قوله تعالى: {وَالْأَرْضِ ذََاتِ الصَّدْعِ}، قال: الصدع مثل المأزم غير الأودية والجرف.
__________
(1) الإتقان (1/ 150).
(2) جاء (46، 0) من مجموع المروي عن مشاهير التابعين عن المدرسة المكية، في حين بلغ عن البصرية (38، 0) من مجموعه، ولم يزد في الكوفية عن (14، 0) وعند المدنية بلغ (02، 0) فقط.(1/551)
وهنا نلحظ الدقة لأن المأزم هو الطريق بين جبلين، وقد يكون واديا أو جرفا أو غير ذلك، فبين رحمه الله أن الصدع هو ما كان كذلك ولم يكن واديا ولا جرفا (1).
وعند قوله سبحانه: {فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللََّهُ} (2).
قال مجاهد: (فأتوهن من حيث أمركم الله)، أمروا أن يأتوهن من حيث نهوا عنه (3).
2 - معالجة مشكل القرآن:
تميزت المدرسة المكية بدخولها في مجال المشكل، والمشكل علم صعب المنال، بعيد الغور، لا يلج بحره إلا العلماء الأفذاذ، ومع كثرة علوم التابعين وغزارتها، إلا أنهم لإحجامهم عن التوسع في الاستنباط اقتصروا على تفسير اللفظ، وبيان المعنى العام، أما المكيون فلخوضهم غمار الاستنباط والاجتهاد تعرضوا لذلك، وأكثروا (4).
فنجد مثلا مجاهدا يوجه الإشكال الذي عرض لقوله تعالى: {هََؤُلََاءِ بَنََاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ}، بأنه أمرهم أن يتزوجوا النساء ولم يعرض عليهن سفاحا (5).
وعند قوله سبحانه: {قُلْ فِيهِمََا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنََافِعُ لِلنََّاسِ} (6)، قال أيضا:
منافعهما قبل أن يحرما (7).
__________
(1) وقد سبق ذكر العديد من الأمثلة في ترجمة مجاهد ص (97، 122).
(2) سورة البقرة: آية (222).
(3) تفسير الطبري (4/ 389) 4282.
(4) في كتاب تأويل مشكل القرآن لابن قتيبة ورد أكثر من (20) أثرا عن مجاهد، في حين كان نصيب الحسن (4) آثار، وأما قتادة، وابن جبير فلم يرد عنهما إلا أثران. وعموما فإن المكيين من أكثر التابعين تعرضا لمشكل الآيات.
(5) تفسير الطبري (15/ 414) 18376.
(6) سورة البقرة: آية (289).
(7) تفسير الطبري (4/ 328) 4136.(1/552)
وعند قوله تعالى: {فَلَمََّا أَحَسَّ عِيسى ََ مِنْهُمُ الْكُفْرَ} (1) قال: كفروا وأرادوا قتله، فذلك حين استنصر قومه {قََالَ مَنْ أَنْصََارِي إِلَى اللََّهِ قََالَ الْحَوََارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصََارُ اللََّهِ} (2).
وعند قوله جل ثناؤه: {وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضِ} (3)، وجه مجاهد معنى الإسلام هنا فقال: هو كقوله: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللََّهُ} (4).
3 - تفسير آيات الصفات:
لقد نحت المدرسة المكية منحى انفردت به عن باقي المدارس في باب الاجتهاد، ألا وهو تعرضها لآيات الصفات، ونحوها، بالتفسير والشرح، وهي مدرسة سلفية النزعة، أثرية المنهج، ولما كان التابعون كلهم بحمد الله على هذا المنهج، لم يكن إثبات الصفات ميزة للمدرسة المكية، وإنما الذي تميزت به هذه المدرسة، هو تعرضها لتفسير آيات الصفات تفسيرا واضحا لا غموض فيه، ولا لبس، في حين تهيب أصحاب المدارس الأخرى من الخوض في ذلك، فاقتصر المنقول عنهم على الإثبات، وإمرارها كما جاءت، فإنهم لما كانوا قد تورعوا عن الاجتهاد في سائر الآيات، كان تورعهم في آيات الصفات أشد.
ولما كان المتعرض لتفسير آيات الصفات يحتاج أحيانا إلى عبارة تبين اللازم من الآية، فقد جاء في تفسير الآيات عند المكيين ما يوضح هذا اللازم ويقرره، حتى يظن من لا كبير علم له أنه تأويل للصفة، وليس الأمر كذلك (5).
__________
(1) سورة آل عمران: آية (52).
(2) تفسير الطبري (6/ 449) 7123.
(3) سورة آل عمران: آية (83).
(4) سورة الزمر: آية (38)، والأثر أخرجه الطبري في تفسيره (6/ 565) 7342.
(5) والكلام حول هذه المسألة يطول، وسوف يأتي بيانها مفصلا إن شاء الله في مبحث منهج آيات الاعتقاد ص (781).(1/553)
4 - اتساع دائرة التفسير:
لقد كان التفسير مقتصرا على المنقول وما يضم إليه من علم بالعربية والآثار والسير، ولم يكن ثمة من يجرؤ على مخالفة هذا المنهج للآثار المحذرة من القول في القرآن بلا علم، فلما قام الحبر الأعظم ابن عباس بتدريس القرآن منهج علم، وهداية، وظهر الأثر الحميد لذلك في الناس، اتجهت الأنظار حينئذ إلى لون جديد من ألوان التفسير، وهو التفسير المبني على الاستنباط، والاجتهاد، ولا سيما وقد اتسعت معارف العرب، وخالطوا أهل الكتاب، وتنوعت ثقافاتهم، فبدأ المفسرون يعملون فكرهم في الآيات، ولقد كانت المدرسة المكية كما سبق قريبا رائدة ذلك الأمر للأسباب التي أسلفتها، إلا أن بعضهم دفعه هذا المنهج إلى مخالفة ظاهر القرآن القريب لما يعرض له من الحجة، والاجتهاد.
وليس مخالفة ظاهر القرآن القريب مقتصرا على المدرسة المكية، فإن هذا قد وجد أيضا في المدرسة البصرية، فقد خالف الحسن ظواهر بعض الآيات، لكن الباعث ليس واحدا، فمخالفة أهل البصرة كان سببها غلبة الجانب الوعظي عليهم كما سيأتي بيانه (1)، أما مخالفة المكيين، فكانت بسبب الاجتهاد، والاستنباط، وقد سبقت بعض الأمثلة لذلك (2).
وبذلك خرج علم التفسير من دائرة ما يسمى التفسير الأثري إلى دائرة أخرى امتزج فيها النقل بالنظر، وعدها بعض المصنفين بداية التفسير العقلي (3)، وهذا المصطلح وإن كان قد حدث له بعد ذلك ما يعيبه ويشينه، إلا أن المقصود به آنذاك هو الخروج عن مقتضى التفسير القائم في ذاك العصر، ولا معارض لذلك فيما أعلم.
__________
(1) سيأتي ذلك ص (574).
(2) عند الحديث عن ترجمة مجاهد ص (93)، وعكرمة ص (159).
(3) انظر دراسات في التفسير ص (117)، وكتاب القرآن العظيم هدايته وإعجازه ص (197).(1/554)
وعلى كل فقد اختصت المدرسة المكية بهذه الخصيصة وامتازت بها عن باقي المدارس الأخرى، وهذا بين واضح، والله أعلم.
الخصيصة الثانية: التخصص في علم التفسير:
التخصص ظاهرة عصرية نسبيا، والمراد بذلك أن العالم أو الباحث يأخذ بطرف من علوم كثيرة، مع التميز، والاعتناء بعلم واحد، أو فرع واحد من العلوم، وهذا هو الذي درجت عليه النظم الحديثة في التعليم.
وهذا التخصص يتيح الفرصة الأكبر للإبداع والعطاء لأن العلوم جميعها لا يمكن أن يحيط بها إنسان واحد، والأعمار أقل من أن تمنح هذا العطاء الواسع، واحتياجات الأمم تتنوع في شتى العلوم، والفنون.
والتخصص لم يكن بعيدا عن العهد الأول، فأعلم الناس بالحلال والحرام معاذ، وأفرض الصحابة زيد، إلا أن التخصص في التفسير وعلوم القرآن لم يظهر بصورة واضحة إلا على يد المدرسة المكية التي صرفت همتها، واستفرغت وسعها في كتاب الله تعالى شرحا، وبيانا، وتوضيحا، وتفسيرا، ولغة، وفقها، وهذا الاهتمام الواسع أقعدهم عن مسابقة الأقران في علوم أخرى من وجه، ودفع بهم إلى المقدمة في التفسير، وعلوم القرآن من وجه آخر، فبزوا الأقران في ذلك، وكثر المنقول عنهم فيه، أكثر من غيرهم في الجملة.
ولما كان علم التفسير يحتاج إلى علوم أخرى خادمة له، نجدهم قد تخصصوا أيضا في هذه العلوم التي تخدم علم التفسير، وتسير في ركابه.
وأدى بهم هذا التخصص إلى أن تعرضوا، وتوسعوا في فروع من علوم القرآن لم يتوسع فيها أحد قبلهم.
فمن ذلك: علم الأشباه والنظائر، وهو الذي يبحث في الآيات المتناظرة التي يشبه
بعضها بعضا في دلالة الأحكام والبيان، وهذا لا يستغني عنه مفسر، حتى لا يختلف قوله في موضعين من باب واحد.(1/555)
فمن ذلك: علم الأشباه والنظائر، وهو الذي يبحث في الآيات المتناظرة التي يشبه
بعضها بعضا في دلالة الأحكام والبيان، وهذا لا يستغني عنه مفسر، حتى لا يختلف قوله في موضعين من باب واحد.
وقد يسمى أيضا بكليات القرآن، وهو منهج استقرائي دقيق يدل على سعة علم صاحبه، وخبرته التامة بالآيات، فمن أمثلة ذلك ما جاء عن ابن عباس أن كل شيء في القرآن عسى، فإن عسى من الله واجب (1).
أو ما جاء عن مجاهد وهو قوله: (كل ظن في القرآن فهو علم) (2).
وهذا المنهج الاستقرائي من الدقة بمكان، وهو يساعد كثيرا على فهم التفسير، ولم يخض في خضم هذا العلم في عصر التابعين كما أسلفت آنفا إلا أئمة المدرسة المكية نتيجة لتخصصهم.
وكما أضفى التخصص على هذه المدرسة ثوبا من الاستعراض العلمي والاستيعاب ما ليس لغيرها من المدارس فهي من أوائل المدرسة التي قامت بعد حروف القرآن وكلماته (3).
كما أن أقوالها في الغريب قد استوعب كامل القرآن، وقد اعتنى أصحاب هذه المدرسة ببيان الألفاظ (المعربة) في القرآن، فقد تبنوا هذا المذهب.
فعن مجاهد، وعكرمة إن في القرآن من غير لسان العرب.
وعن سعيد بن جبير قال: ما في الأرض لغة إلا أنزلها الله تعالى في القرآن (4).
وقد ساعدهم في معرفة ذلك اختلاطهم بالوافدين من الحجاج، كما أن للموقع
__________
(1) سيأتي بيانه وتفصيله ص (1036).
(2) ينظر ترجمة مجاهد ص (120).
(3) ترجمة مجاهد ص (128).
(4) فنون الأفنان (341).(1/556)
الجغرافي لمكة ملتقى الشرق بالغرب ما يجعلهم يسمعوا العديد من لغات الناس، ويتعلموا عنهم تلك الكلمات فحملهم هذا على تفسير (المعرب) من القرآن (1).
ولقد بلغت في هذا شأوا بعيدا لم تبلغه مدرسة أخرى، وقد اهتموا أيضا ببيان المبهمات الواردة في القرآن وتفسيرها، وقد يكون في ذلك نوع من التكلف أحيانا، لعدم ثبوت الرواية فيها، وقد تكون من الإسرائيليات، إلا أنه يبقى لهم السبق في هذا الاستيعاب الذي شمل غالب القرآن (2).
فكثرة المروي عنهم بالنسبة لغيرهم في الأشباه والنظائر (الكليات) والغريب، والمعرب، والمبهمات، وغيرها، دليل واضح على تفرغهم للتفسير، والتخصص فيه، حيث تعرضوا، وأكثروا في هذه العلوم والفنون، وكدوا فيها الفهوم، لمعرفة أشرف معلوم.
الخصيصة الثالثة: قلة اهتمام أصحابها بالعلوم الأخرى مقارنة بالتفسير:
إن هذه الخصيصة تكاد تعتبر نتيجة لخصيصة التخصص، وإنما أفردتها بالذكر لتتضح لنا صورة المدرسة المكية من جميع جوانبها.
فلقد كان أئمة هذه المدرسة تميزوا بالسبق في علم التفسير، وخاصة مجاهد، وعكرمة، ثم ابن جبير، بل إن عطاء الذي نقلت عنه فتاوى فقهية دقيقة، كان جل علمه الفقهي في الحلال والحرام مختصا بمسائل الحج، فهو لم يخرج من حيز التخصص، فقد كان المكيون أكثر الناس تعرضا لآيات الحج، مما أكسبهم فقها دقيقا في
__________
(1) بعد مراجعة كتاب المهذب في بيان المعرب للسيوطي، وجدت المروي عن ابن عباس (55) رواية، وعن عكرمة (24) رواية، وعن سعيد (22) رواية، وغيرهم دونهم في ذلك.
(2) بعد تتبع المروي في كتاب مفحمات الأقران في مبهمات القرآن للسيوطي، نجد أن المنسوب لأعلام المدرسة المكية في ذلك (مجاهد، وعكرمة، وابن جبير) هو (136) قولا، في حين جاءت المدرسة البصرية في المرتبة الثانية حيث نسب للحسن وقتادة (90) قولا فقط.(1/557)
مسائل الحج، وهذا أمر ضروري تستدعيه الحاجة إلى إفتاء الناس الوافدين من حجاج ومعتمرين على مكة في كل وقت وموسم، ولاشتغالهم به حث الأئمة على أخذ المناسك عن المكيين (1).
يقول ابن عيينة: خذوا المناسك عن أهل مكة، والقراءة عن أهل المدينة، والحلال والحرام عن أهل الكوفة (2).
وتقول عائشة في شيخهم ابن عباس رضي الله عنهما: أعلم من بقي بالمناسك (3).
وسيأتي مزيد بحث لهذه المسألة عند تناول منهج التابعين في آيات الأحكام إن شاء الله (4).
والمقصود هنا بيان قلة المروي عنهم في غير التفسير.
ومن العجيب أن ابن عباس رضي الله عنهما كان علما في علوم شتى من فقه، وتفسير، وعربية، وغيرها، ومع ذلك فلم ينقلوا عنه في علم مثل ما نقلوا عنه التفسير، فقد تأثروا به، وساروا على منهجه في التفسير دون غيره (5).
الخصيصة الرابعة: التوسع في الإسرائيليات:
مما يبدو واضحا للمطالع في كتب التفسير أن المدرسة المكية أكثر المدارس تساهلا في الرواية عن بني إسرائيل (6)، وبدأ هذا المنحى عن شيخ المدرسة ابن عباس رضي الله
__________
(1) البداية (9/ 276).
(2) معجم البلدان (4/ 493).
(3) تاريخ أبي زرعة (1/ 616).
(4) سيأتي ذلك في ص (845).
(5) كما سبق بيانه في ترجمته رضي الله عنهما ص (387).
(6) بلغ نسبة المروي عن مشاهير المكيين في الإسرائيليات (35، 0) من مجموع الآثار المنقولة عن(1/558)
عنهما حيث تعرض للنقل والرواية عن كعب الأحبار، مستدلا في ذلك بحديث إباحة الحديث عن بني إسرائيل (كما سيأتي بيانه) (1)، وقد درج على هذا الأمر تلامذته وأصحابه (سعيد ومجاهد وعكرمة)، فتوسعوا في النقل عن أهل الكتاب.
وكان هذا أيضا دأب كل من كان مكي المنهج، والمشرب وإن لم يكن من قاطنيها، يدلك على ذلك ما تراه جليا في تفسير أبي العالية، والسدي.
وبهذا تكون المدرسة المكية قد أدخلت هذا العنصر الأخباري في مجال التفسير لفهم محتوى النص، وما يتبعه من عرض للتاريخ، وكشف لأحوال الأمم السابقة للعظة والعبرة، وهذا كله لم تشاركها مدرسة أخرى فيه، وقد عد ذلك بعض الباحثين بداية مرحلة جديدة من مراحل تطور التفسير، انتقل فيها من التفسير الأثري الذي يعتمد على الرواية، إلى التفسير الأثري النظري الذي يعتمد على الرواية والدراية، وتلك نقلة مهدت لظهور التفاسير الجامعة التي ظهرت في القرنين الثاني، والثالث، على يدي يحيى بن سلام، ومحمد بن جرير الطبري (2).
* * * __________
التابعين، كما بلغت نسبة المروي عن الناقلين لتفسير ابن عباس المتأثرين بمنهج ابن عباس (36، 0) من مجموع الآثار المنقولة عن التابعين من الإسرائيليات، (وأعني بهم السدي، وأبا العالية، وغيرهم) أي: إن مجموع ما روي عنهم (71، 0) من مجموع المنقول في الإسرائيليات.
(1) سيأتي مبحث الإسرائيليات، إن شاء الله تعالى ص (875).
(2) دراسات في التفسير وأصوله (73).(1/559)
خصائص المدرسة البصرية
تميزت المدرسة البصرية بخصائص كثيرة أدت إليها عوامل شتى، وقد حاولت في هذا الفصل أن أستعرض أهم الخصائص التي تميزت بها، مركزا في كثير منها على المقارنة بينها وبين غيرها من المدارس، ولا سيما صنوها المدرسة الكوفية التي كانت تحاذيها في المكان.
وقد تحصل من هذه الخصائص ما يلي:
الخصيصة الأولى: الجوانب اللغوية:
المقصود بهذا: بيان تقدّم هذه المدرسة على غيرها من المدارس في تخير الأساليب البلاغية، وانتقاء العبارات الجميلة عند الإفصاح عن تفسير الآيات، وما يدخل تحت هذا من جودة سبك العبارة، ولطافة الأسلوب، وهذه الخصيصة، وإن كان يشاركها في شيء منها بعض المدارس الأخرى إلا أن اجتماعها بهذا الوضوح والشمول، لم أجده في غير مدرسة البصرة، ولعل ذلك راجع إلى ما يأتي:
أأن البصرة سبقت مدائن العالم الإسلامي في وضع قواعد النحو، حتى إنها سبقت قرينتها الكوفة التي كثيرا ما تقرن بها في جانب النحو، فيقال: (مذهب البصريين، ومذهب الكوفيين) لأن الكوفة كانت بعيدة عن الحركة التجارية الواسعة التي كانت تعج بها أسواق البصرة، والتي أدت إلى اختلاط اللسان العربي بغيره من اللغات، ولا سيما اللغات التي كانت منتشرة في الهند، والمشرق، في حين كانت الكوفة مقرا للعنصر العربي ولم يحصل لها هذا الاختلاط، فحافظ ذلك على
لسانها (1).(1/560)
أأن البصرة سبقت مدائن العالم الإسلامي في وضع قواعد النحو، حتى إنها سبقت قرينتها الكوفة التي كثيرا ما تقرن بها في جانب النحو، فيقال: (مذهب البصريين، ومذهب الكوفيين) لأن الكوفة كانت بعيدة عن الحركة التجارية الواسعة التي كانت تعج بها أسواق البصرة، والتي أدت إلى اختلاط اللسان العربي بغيره من اللغات، ولا سيما اللغات التي كانت منتشرة في الهند، والمشرق، في حين كانت الكوفة مقرا للعنصر العربي ولم يحصل لها هذا الاختلاط، فحافظ ذلك على
لسانها (1).
وكان من المتوقع والحالة هذه أن يتقدم الكوفيون على البصريين في اللغة، إلا أن العكس هو الذي حدث لأن أهل البصرة لما شعروا بخطورة هذا الاختلاط على اللغة، بادروا فقعدوا القواعد التي من شأنها حفظ اللسان والتزموا بها في غالب مناحي الفكر، وعامة نتاج العقل، حفظا للسانهم من الدخيل الوارد ولأجل هذا نجد أن هذه الخصيصة اللغوية تعدت إلى غير التفسير من العلوم الأخرى.
ب لقد عاش في البصرة الكثير من الموالي الذين دخلوا في الإسلام طواعية، وأحبوا لغة القرآن وتأدبوا بها، ورأوا تقدمها على لغاتهم الأصلية، وألسنتهم الأولى، فانكبوا على دراستها والاعتناء بها، بل وتقيدوا بها في أمورهم العامة والخاصة، لما شعروا بحاجتهم إليها واعتماد فهم الدين، واستنباط الأحكام على هذه اللغة العظيمة.
وظهر ذلك في نبوغ الكثير من الموالي في مجال اللغة والأدب، فإذا ذكر النحو مثلا انصرفت الأذهان إلى سيبويه، وإذا ذكر الوعظ والعبارات الوعظية المؤثرة، أسرع إلى المخيلة اسم الحسن البصري، وهكذا يحاول الإنسان دائما أن يعوض ما فقده مما يحبه، ويقدمه على غيره، فلما أحب الموالي الإسلام ولغة القرآن اشتغلوا بها، كما أنه لما أحب العرب الجهاد تفانوا فيه، وقد ترتب على هذه المحبة أن تشدد البصريون في شأن القياس اللغوي، فصاروا لا يقيسون إلا على ما كثر، ولا يقيسون على الشاهد الواحد، ولا النادر، في حين لم يتشدد الكوفيون وهم عرب أقحاح مثل هذا التشدد، فيقيسون على ما ورد، ولو نادرا، ويقيسون على الشاهد الواحد، ولو لم يأت في الباب غيره (2).
ج لقد ساعد موقع البصرة الجغرافي من اتصال البصريين بأهل اللسان، والنهل
__________
(1) كتاب الشافعي لأبي زهرة ص (57).
(2) ينظر مقالة بيئة البصرة من مجلة الأزهر العدد (1/ محرم سنة 1366هـ) ص (86).(1/561)
من معين العربية الأصيل، ألا وهم الأعراب الذين كانوا يفدون على البصرة من الجزيرة للتجارة وغيرها، فصارت منتديات البصرة الفكرية مرتعا واسعا للتباري في اللغة.
يقول الرياشي البصري وهو يصف الفرق بين المنبع البصري في اللغة والمنبع الكوفي: نحن نأخذ اللغة عن حرشة الضباب، وأكلة اليرابيع، وهؤلاء يأخذون اللغة عن أهل السواء أصحاب الكواميخ، وأكلة الشواريز (1).
يقول اليزيدي البصري وهو يلمز أهل الكوفة.
كنا نقيس النحو فيما مضى ... على لسان العرب الأول
فجاء أقوام يقيسونه ... على لغى أشياخ قطربل
فكلهم يعمل في نقض ما ... به يصاب الحق لا يأتلي
إن الكسائي وأصحابه ... يرقون في النحو إلى أسفل (2)
د وثمة عامل آخر مهد الطريق أمام البصرة للزيادة اللغوية والتقدم في الخصائص التي تعنى بهذا الجانب، ألا وهو الاستقرار السياسي والاجتماعي الذي أضفى ظلالا على أهل البصرة، فزاد نتاجهم، وغزرت مادتهم.
فقد صار ما يشبه الاندماج بين العناصر المختلفة، عربية وغير عربية، وتلاشى الكثير من الفوارق بين الطبقات، ولم تحفل بالثورات السياسية، التي كانت تعج بها الكوفة (3).
__________
(1) الكواميخ جمع كامخ: نوع من الأدم، معرب. ينظر اللسان (3/ 49)، والشواريز جمع شيز، والشيز خشب أسود تتخذ منه الأمشاط وغيرها، الشيزي: شجر تعمل منه القصاع والجفان.
ينظر اللسان (5/ 363).
(2) انظر مقالة بيئة البصرة (87).
(3) مدرسة الكوفة ومنهجها في دراسة اللغة (14).(1/562)
ولا غرو حينئذ أن نجد الحسن البصري قد نشأ، وعاصر أحداث الفتن والثورات منذ مقتل عثمان، ثم لم تتلطخ يده ولا لسانه بشيء من ذلك، بل كان ينهى عن الدخول في الفتن، مما جعل أمر الناس مستقرا، فانصرفوا للعلوم.
ومن هنا نجد أن هذه الحقيقة قد ساعدت في تقدم البصريين في علوم شتى، ومنها اللغة، والتفسير (1).
وبهذه الأسباب وغيرها، ظهرت البصرة منارة في أفق علوم اللغة تشع على سائر الأقطار نور العلم والهداية، وقد قامت البصرة بعبء هذا العلم من نشأته حتى استوى على سوقه، ومرّ زمن طويل قبل أن تشارك الكوفة فيه، وهي إنما أخذته من البصرة (2).
ومهما يكن من شيء فقد سبق العراق سائر أقطار الإسلام، وسبقت البصرة خاصة سائر أمصار العراق في وضع النحو، وذهبت بفخر ذلك، وكان لها السبق والتقدم، وكان لعلمائها الفضل في ابتداء النحو وتبويبه، ووضع قواعده، وتفريع فروعه.
ولا يخفى أن أول من وضع العربية من العلماء هو أبو الأسود الدؤلي البصري، الذي صار علما على العربية، وما زال الناس يلهجون بالثناء عليه، ومن ثم نبغ في البصرة بعده كثير من علماء اللغة، فبرز من الموالي بها: عبد الله بن أبي إسحاق الحضرمي الذي قيل فيه: إنه أول من علم النحو ومد القياس. وتتلمذ عليه عيسى بن عمرو الثقفي شيخ الخليل بن أحمد الفراهيدي مؤسس علم العروض، ثم أخذ عن الخليل سيبويه، وعنه روى جل ما أودعه في الكتاب (3).
__________
(1) سبق تفصيل ذلك في مبحث المدرسة البصرية، في أسباب كثرة المروي عنها ص (451).
(2) فهرست ابن النديم ص (96).
(3) ينظر مقالة بيئة البصرة، في مجلة الأزهر ص (83).(1/563)
وإذا كان لنا وقفة لبيان مكانة البصرة النحوية، فإنها تكون مع سيبويه فلقد وضع كتابه (الكتاب)، وقد أحاط فيه بقواعد النحو وأصوله، وكثير من فروعه، وعلله، وحكمة الواضع فيما وضع، وكثير من أقيسته، وقد سار الكتاب سير الشمس في جميع الأقطار الإسلامية، واشتغل الناس به درسا، وتمحيصا، وفهما، وشرحا، واختصارا، بل إنه لم يخدم كتاب في العربية مثل ما خدم كتاب (الكتاب) لسيبويه، وقد كان العلماء المتقدمون لا يرونه يعلم النحو فقط، وإنما يعلم الابتكار والاستنتاج أيضا، وقد كانوا يستكثرون على قدرة عالم واحد أن ينتج مثل (الكتاب) فتخيلوه لاثنين وأربعين عالما، قال ثعلب: اجتمع على صنعة كتاب سيبويه اثنان وأربعون إنسانا منهم سيبويه (1).
وقد تكون هذه مبالغة، إلا أن هذا الأمر على فرض وقوعه، فهو يدل على تقدم علماء البصرة في النحو حتى اجتمع منهم أكثر من أربعين نفسا، وهو عدد كبير له دلالاته وأبعاده (2).
وقد برزت الخصيصة اللغوية في النتاج الكثير المنقول عن المدرسة البصرية في التفسير، فامتلأت تفسيراتهم بالعبارات الجزلة، والألفاظ الفصيحة، بل إن الإنسان قد يصيب كبد الحقيقة إذا قال: إن اللغة حفظت من جانب المدرسة البصرية أكثر من باقي المدارس مجتمعة.
ومما يدل على ذلك أن المروي عن المدرسة البصرية في كتب غريب الحديث والمعاجم أكثر بكثير من باقي المروي عن المدارس مجتمعة، فقارب ما روي عن الحسن وحده مجموع ما روي عن المكثرين غيره في المدارس الأخرى، كما تقدم الإشارة إليه
__________
(1) ينظر مقالة بيئة البصرة ص (84)، ومدرسة الحديث في الكوفة (60).
(2) مدرسة الكوفة ومنهجها في دراسة اللغة (36).(1/564)
في ترجمة الحسن رحمه الله (1).
ثم إن تناول المدرسة البصرية للغريب والفصيح، كان تناولا دقيقا جميلا، فتميزت بهذا أيضا المدرسة البصرية عن غيرها.
فالإمام مجاهد مثلا درج على النمط العلمي في تفسير الغريب، بأن يبين للكلمة المعنى المرادف، أو الموافق، ونحوه، ويقتصر على ذلك، في حين أن التابعين من البصرة كانوا يضعون معنى الكلمة الغريبة في قالب أدبي، وأسلوب رشيق، بعبارة وعظية، أو أدبية راقية. والناس تميل نفوسهم لمثل هذا البيان المؤثر، ولذا تناقل الناس الغريب والفصيح، عن البصرة أكثر مما تناقلوه عن غيرهم، حتى إننا لنجد كتب الأدب تعتمد على كلامهم أكثر من سواهم، فمجموع ما روي عن الحسن في (عيون الأخبار، والعقد الفريد، والبيان والتبيين) كان أكثر مما روى عن غيره من التابعين مجتمعين كما سبق ذكره (2).
هذا حال البصرة في مجال اللغة، فإذا انتقلنا إلى المدارس الأخرى، فإننا نلمح اختلافا بينا عن المدرسة البصرية، فلقد قيل مثلا عن عطاء وهو من أئمة المدرسة المكية:
إنه ضعيف في اللغة، وكان النخعي شيخ الكوفة يلحن، حتى لو سمعته يقرأ لقلت: لا يحسن شيئا، وها هو إسماعيل بن أبي خالد راوية الشعبي يلحن اللحن الفاحش فيحدث (بقوله عن أبو) وهكذا، وقلّ أن نجد مثل هذا في المدرسة البصرية.
ولذا فقد امتازت البصرة بهذه الخصيصة، وتميزت بها، وصار هذا مشهودا في ألفاظها، وكلامها وعباراتها، وارتقت به عن غيرها من المدارس.
__________
(1) ينظر ص (205) من هذا البحث.
(2) ينظر ص (450).(1/565)
الخصيصة الثانية: الجانب الوعظي في التفسير:
ومما تميزت به هذه المدرسة أيضا، اعتماد أئمتها على الجانب الوعظي في التفسير، وصوغهم عبارات التفسير في قوالب الحكمة والعظة، وصونهم كلامهم عن العبارات الجافة التي لا تؤثر في المخاطب، ولا تهز المشاعر، وتعتبر مدرسة البصرة رائدة المدارس الوعظية التي جمعت بين العلم، وصحة الحديث من جانب، وبين الأساليب الراقية التي تؤثر في الوجدان، وتهيج النفوس، وتشوق الأرواح من جانب آخر، وهذا ما نجده في تفسير الحسن، كما هو في تفسير قتادة.
وللباحث أن يلحظ عدة أسباب، يمكن أن نعتبرها المحور الأساس الذي أثر في اتجاه هذه المدرسة.
فمن ذلك ما عرفت به البصرة آنذاك من الانفتاح التجاري على المشرق، وما أدى إليه ذلك من مظاهر الترف، فصار لزاما على العلماء والشيوخ أن يدرءوا هذا الخطر الداهم بتزهيد الناس في الدنيا، وبيان حقيقتها، وأنها معبر للآخرة، ليست بدار إقامة.
وهذا يكاد يكون أمرا مطردا في كثير من البلدان التي يتسلل إليها روح التنعم، والدعة.
وقد يرد على هذا أن أهل مكة لا يظهر هذا واضحا في مناهجهم العلمية، سواء كانت تفسيرا أو غير ذلك، إلا أنه يمكن القول بأن أهل مكة لم يصلوا في ترفهم ما وصل إليه أهل البصرة، ومن جانب آخر فإن المناخ الجغرافي والحرارة الشديدة في مكة لم تكن تدع النعيم يصفو لأهلها، وعلى كل فالمنهج أغلبي في الجملة.(1/566)
أما المدرسة المدنية فاستغنت بالوارد عن النبي صلى الله عليه وسلّم، وكثرة المروي من الحديث فيها، فاتجهت للوعظ بالحديث والأثر، في حين أن المدرسة العراقية التي كان نصيبها من الحديث قليلا اتجهت فيها الهمم إلى ما روي عن التابعين من مواعظ وآثار فجمعت، وتناقلتها الألسن.
وتبعا لذلك فقد انتشر الزهد عند العراقيين، وصارت الكتب المؤلفة في الزهد عراقية المبدأ، والمشرب، وظهرت كتب الزهد، لوكيع، وهناد، وابن المبارك، وهي عراقية، في حين قل أن تجد مرويات في الزهد عن أئمة الحجاز (كابن المسيب، والزهري) وغيرهما في عامة كتب الوعظ والرقائق، بل يمكن القول بأن بذرة التصوف (وكان في أول الأمر خاضعا للزهد فحسب) قد نبتت، وترعرعت في أرض العراق، وفي البصرة بالذات.
وقد يكون من الأسباب أيضا اتباع أئمة المدارس لشيوخهم. فالمدرسة العراقية كثر في كلامها الزهد أكثر من المدرسة المكية بكثير، وقد يكون ذلك تبعا لاختلاف المروي عن شيوخ المدارس، فابن مسعود أكثر من ذلك، فكان المروي عنه في كتب الزهد يزيد على ثلاثة أضعاف ما روي عن ابن عباس رضي الله عن الجميع (1).
ومن الأسباب كذلك أن أئمة هذه المدرسة كانت لهم أسباب خاصة أدت بهم إلى هذا الاتجاه، فالحسن رحمه الله كما مرّ معنا في ترجمته نشأ في بيت النبوة، ورضع من أم سلمة، وكان أبواه من القصاص، كما كانت لسكناه البصرة أثرا من وجه آخر، إذ كانت البصرة متأثرة بأبي موسى الأشعري رضي الله عنه في حياة الزهد، كما تأثر كذلك تأثرا واضحا بعابد البصرة وزاهدها عامر بن عبد القيس (2). فدرجت أذنه على
__________
(1) بعد تتبع ما روي في كتب الزهد للأئمة أحمد، ووكيع وابن المبارك وهناد، وجدت المنقول فيها (367) أثرا عن ابن مسعود، في حين كان المنقول عن ابن عباس (120) أثرا، وعن أنس (120) أثرا، وعن عمر (148) أثرا، وعن علي (67) أثرا، وعن أبي الدرداء (136).
(2) كتاب الحسن البصري مفسرا (14).(1/567)
سماع الموعظة حتى تشرب بها، ولما فتح الله عليه بالعلم أثر فيه هذا الجانب حتى صاغ جل أساليبه، ودفع بها في هذا المضمار.
ومن الأسباب كذلك تمكن أصحاب هذه المدرسة من اللغة، مما جعلهم يتأنقون في تدبيج عباراتهم، وتخير الكلمات المعبرة، والتفنن في الألفاظ الفصيحة المؤثرة، فجاءت حكمهم ومواعظهم كالماء الزلال، بل هي السحر الحلال، فلم تقف عند الآذان، بل ولجت القلوب بدون استئذان.
هذه الأسباب وغيرها هي التي دفعت بهذه المدرسة إلى الجانب الوعظي، فصار تفسيرها تغلب عليه هذه الصفة، ودخل فيه أسلوب القص كذلك، وتوسعت فيه توسعا ملحوظا، فلم يقاربها في ذلك أحد، ومع أن المكيين قد كان المروي عنهم في التفسير كثيرا، إلا أن المروي عنهم في آيات الوعظ ليس كثيرا، ثم إن منهجهم في صوغ عباراتهم لم يكن يضاهي منهج الوعظ عند المدرسة البصرية، بل غلب على عباراتهم البيان الموجز في عبارة علمية معرفية أكثر منها جمالية عاطفية.
ومن أمثلة ذلك ما ورد عن مجاهد في تفسير قوله تعالى: {وَأُتُوا بِهِ مُتَشََابِهاً} (1)
قال: وأتوا به متشابها لونه مختلفا طعمه، مثل الخيار من القثاء (2). في حين أنه لما تناول الحسن هذه الآية بالتفسير قال فيها: ألم تروا إلى ثمار الدنيا كيف ترذلون بعضه؟ وإن ذلك ليس فيه رذل (3).
ومن ذلك ما جاء عن مجاهد في تفسير قوله سبحانه: {وَإِذََا سَأَلَكَ عِبََادِي عَنِّي}
__________
(1) سورة البقرة: آية (25).
(2) تفسير الطبري (1/ 390) 526، تفسير عبد الرزاق (1/ 41)، وزاد المسير (1/ 53)، وأورده السيوطي في الدر، وعزاه إلى وكيع، وعبد الرزاق، وعبد بن حميد، عن مجاهد به (1/ 96)، وفتح القدير (1/ 55).
(3) تفسير الطبري (1/ 389) 520، وتفسير عبد الرزاق (1/ 40)، وزاد المسير (1/ 53)، وأورده السيوطي في الدر وعزاه إلى عبد بن حميد، وابن جرير، عن الحسن به (1/ 96).(1/568)
{فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدََّاعِ} قال: قوله: {فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي} (1) فليطيعوا، الاستجابة: الطاعة (2).
في حين قال الحسن: اعملوا وأبشروا، فإنه حق على الله أن يستجيب للذين آمنوا وعملوا الصالحات، ويزيدهم من فضله (3).
وهذا يؤكد مدى المبلغ الذي وصلت إليه المدرسة البصرية والذي لا يدانيه منهج من مناهج المدارس الأخرى سواء كانت من المدارس المكثرة كالمكية أو المقلة كالمدنية (4).
وقد غلب هذا اللون من القص والزهد على حلقات العلم في البصرة (5)، حتى صارت أكثر الحلقات تعنى بهذا الجانب، ويقول عبد الله بن عون: أدركت هذا المسجد مسجد البصرة وما فيه حلقة تنسب إلى الفقه إلا حلقة واحدة تنسب إلى مسلم ابن يسار، وسائر المسجد قصاص (6).
فهذا كله مما يؤكد تميز المدرسة البصرية بهذا الجانب الوعظي وتفوقها على مثيلاتها من المدارس التفسيرية.
__________
(1) سورة البقرة: آية (186).
(2) تفسير الطبري (3/ 484) 2913، وأورده السيوطي في الدر، وعزاه إلى ابن جرير عن مجاهد به (1/ 474).
(3) تفسير الطبري (3/ 486) 2919، ولمزيد من الأمثلة تراجع الآثار التالية من تفسير الطبري:
1934، 4006، 6071، 6694، 6815، 6843، 8223، 8329ويقارن تفسير الحسن بتفسير غيره.
(4) كتاب القصاص والمذكرين (254).
(5) بعد تتبع كتب الزهد (لابن المبارك، وأحمد، وهناد، ووكيع) واستخراج آثار التابعين منها، تبين أن المصنفين اعتمدوا في كتبهم عن الزهد على روايات شيخ هذه المدرسة الحسن أكثر مما نقلوه عن غيره، فقد بلغت مروياته في هذه الكتب (464) أثرا، في حين بلغت عن مجاهد شيخ مكة (171) أثرا، ويليهما في ذلك الربيع بن خثيم (72) أثرا، وعن سعيد بن جبير (57) أثرا، وغيرهم دونهم في ذلك.
(6) كتاب القصاص والمذكرين (170).(1/569)
ومما يذكر أيضا في هذا الجانب أن المدرسة البصرية استخدمت أسلوب الوعظ حتى في تفسيرها لآيات الأحكام كما سبق الإشارة إليه (1).
وقد أدى التوسع في الجانب الوعظي إلى نتائج كثيرة، لعل من أبرزها ما يلي:
1 - كثرة العباد والزهاد في مدرسة البصرة، وتميزها في ذلك عن بقية الأمصار، فقد أثر الوعظ في سلوكياتهم، واتسعت فكرة الزهد منذ ذلك الحين (2).
قال ابن أبي ليلى: طفت الأمصار، فما رأيت مصرا أكبر متهجدا من أهل البصرة (3).
ويقول سعيد بن جبير: ما رأيت أرعى لحرمة هذا البيت، ولا أحرص عليه من أهل البصرة، لقد رأيت جارية ذات ليلة تعلقت بأستار الكعبة تدعو وتتضرع وتبكي حتى ماتت (4).
يقول ابن عون: إنما بزّ الناس الحسن بالزهادة في الدنيا، فأما العلم فقد شاركه فيه الناس (5).
2 - تقبل الأسلوب القصصي في الوعظ، والرضى عنه.
كان الفقهاء والمتكلمون والأدباء يسمون أهل الذكر والوعظ قصاصا (6)، وكان الأسلوب القصصي غير مرضي عند علماء السلف لغلبة الدخيل عليه، فلا يكاد يخلو من آثار واهية، وأحاديث موضوعة، ولقد تفنن القصاص في ذلك حتى إن بعضهم كان
__________
(1) في ترجمة الحسن وقتادة ص (216)، (268).
(2) تذكر دائرة المعارف الإسلامية في مادة (زهد) أن فكرة الزهد اتسعت منذ عصر الحسن.
(3) المصنف لابن أبي شيبة (12/ 189) 12503.
(4) السير (4/ 334)، وصحح الذهبي إسناد هذا الخبر.
(5) المعرفة (2/ 50).
(6) معالم القربة في أحكام الحسبة (180).(1/570)
يعترف بأنه وضع الأحاديث حسبة زعموا فقيل لأبي عصمة نوح بن أبي مريم: من أين لك ذلك عن عكرمة عن ابن عباس في فضائل القرآن سورة سورة، وليس عند أصحاب عكرمة هذا؟ فقال: إني رأيت الناس قد أعرضوا عن القرآن واشتغلوا بفقه أبي حنيفة ومغازي ابن إسحاق، فوضعت هذا الحديث حسبة (1).
ومن هنا ندرك أسباب انصراف السلف عن القصص والقصاصين، بل والتحذير منهم، ومع ذلك فإننا نجد المدرسة البصرية توسعت فيه، ولم تر فيه غضاضة، لما فيه من السرد المعبر والوعظ المؤثر، فها هو الحسن يجيزه فيقول: القصص بدعة، ونعمت البدعة، كم من دعاء يستجاب، وأخ مستفاد (2).
وكان الحسن يجلس في مجلس القصاص بكل إجلال. قال الأوزاعي: كان الحسن إذا قص القاص لم يتكلم، فقيل له في ذلك فقال: إجلالا لذكر الله (3).
ولم يغلب الجانب القصصي على العامة من أهل البصرة فحسب، بل غلب على شيوخ المدرسة نفسها، فكان الحسن يقص حتى في مواقع العبادة، واحتياج الناس فيها إلى الذكر، فإنه لما حج ودخل الحرم، جعل يقص في موسم الحج، فمرّ به علي بن الحسين رضي الله عنه فقال له: يا شيخ أترضى نفسك للموت؟ قال: لا، قال: فلله في أرضه معاد غير هذا البيت؟ قال: لا، قال: فثم دار العمل غير هذه الدار؟ قال: لا، قال: فعملك للحساب؟ قال: لا، قال: فلم تشغل الناس عن طواف البيت؟ قال: فما قصّ الحسن بعدها (4).
ولم يختلف منهج قتادة عن الحسن كثيرا في ذلك، فقد اقتفى سبيل شيخه، واتخذ
__________
(1) تدريب الراوي (1/ 282، 283).
(2) كتاب القصاص (1/ 85)، والآداب الشرعية (2/ 92).
(3) المرجعين السابقين.
(4) وفيات الأعيان (2/ 70).(1/571)
وقال قتادة: فالمنافق إذا رأى في الإسلام رخاء أو طمأنينة، أو سلوة من عيش قال: أنا معكم وأنا معكم، وإذا أصابته شديدة حقحق والله عندها، فانقطع به، فلم يصبر على بلائها، ولم يحسب أجرها، ولم يرج عاقبتها (1).
ومن ذلك أيضا ما جاء في بيان المثل الذي ضربه جل ثناؤه في قوله: {أَنْزَلَ مِنَ السَّمََاءِ مََاءً فَسََالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهََا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رََابِياً وَمِمََّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النََّارِ ابْتِغََاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتََاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ} (2).
قال مجاهد في بيان المثل: {فَسََالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهََا}، قال: بملئها، {فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رََابِياً}، قال: الزبد: السيل، {ابْتِغََاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتََاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ} قال: خبث الحديد والحلية إلخ ما قال (3) رحمه الله في بيان مفردات المثل.
بينما نجد قتادة يتوسع في بيان المثل وشرحه فيقول: هذه ثلاثة أمثال ضربها الله في مثل واحد، يقول: كما اضمحل هذا الزبد فصار جفاء لا ينتفع به، ولا ترجى بركته، كذلك يضمحل الباطل عن أهله، كما اضمحل هذا الزبد، وكما مكث هذا الماء في الأرض، فأمرعت هذه الأرض، وأخرجت نباتها، كذلك يبقى الحق لأهله كما بقي هذا الماء في الأرض، فأخرج الله به ما أخرج من النبات، وقوله: {وَمِمََّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النََّارِ}، الآية، كما يبقى خالص الذهب والفضة حين أدخل النار، وذهب خبثه، كذلك يبقى الحق لأهل، وقوله: {أَوْ مَتََاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ}.
يقول: هذا إلى الحديد والصفر الذي ينتفع به فيه منافع، يقول: كما يبقى خالص
__________
(1) تفسير الطبري (1/ 350) 458، وأورده السيوطي في الدر، وعزاه إلى عبد بن حميد، وابن جرير، عن قتادة بلفظ مقارب (1/ 83).
(2) سورة الرعد: آية (17).
(3) تفسير الطبري (16/ 412) 20318، وأورده السيوطي في الدر، وعزاه إلى أبي عبيد، وابن أبي شيبة، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم وأبي الشيخ عن مجاهد بنحوه (4/ 634).(1/573)
خصائص المدرسة الكوفية
الخصيصة الأولى: الاهتمام بتفسير آيات الأحكام:
ومما قام عليه منهج المدرسة الكوفية واختصت به، العناية الفائقة بالأحكام الفقهية المستنبطة من النصوص القرآنية.
فقد تناولت في تفاسيرها الأحكام بالعرض، والتفصيل، والتوجيه، فصارت من أكثر المدارس عناية بهذا الجانب (1).
وقد تأثرت في ذلك بمسلك إمامها ابن مسعود رضي الله عنه وأرضاه الذي عدّ من قضاة الصحابة، ومن المكثرين في الفتوى، واعتبره ابن حزم سابع سبعة من كبار الصحابة الذين يمكن أن يجمع من فتوى كل واحد منهم سفر ضخم (2).
وكان رضي الله عنه معدودا سادس ستة من مفتي الصحابة (3).
فعن مسروق قال: كان القضاء في أصحاب النبي صلى الله عليه وسلّم في ستة: في عمر، وعلي، وابن مسعود، ومعاذ بن جبل، وأبي بن كعب، وزيد بن ثابت، وكان نصفهم لأهل
__________
(1) بعد مراجعتي لتفاسير المشاهير من كل مدرسة، وجدت أن نسبة ما روي عن الكوفيين في تفسير آيات الأحكام بلغ (31، 0) من مجموع تفسيرهم، في حين بلغ عند المدنيين (19، 0)، ولم يزد عند المكيين عن (05، 0)، وعند البصريين عند (04، 0) من مجموع تفسيرهم.
(2) الأحكام لابن حزم (4/ 176)، وإعلام الموقعين (1/ 12).
وقد جمع د. محمد رواس قلعجي قدرا كبيرا من آراء عبد الله بن مسعود، وفقهه، واجتهاداته، في موسوعة فقه عبد الله بن مسعود، نشرها مركز البحث العلمي وإحياء التراث الإسلامي بجامعة أم القرى.
(3) تهذيب الكمال (10/ 30).(1/579)
أكذب الناس في المرويات. والكوفة أرض دارت فيها كثير من الفتن، فشاع الوضع في الحديث تأييدا للمذاهب السياسية، وهذا بدوره جعل التابعين فيها يقلون الرواية من الحديث عنه صلى الله عليه وسلّم، فكانت الأحاديث التي يعول عليها لديهم قليلة، وهذا يدعوهم عند النظر في المسائل إلى القول بالرأي، حيث لا نص.
4 - اختلاف بيئة الحجاز عن بيئة العراق، فقد كان العراق متاخما للفرس، واتصل بالحضارة الفارسية اتصالا وثيقا، وذلك من شأنه أن يحدث كثيرا من المسائل الجزئية، والمشاكل المتعددة، فكان من الضروري أن يقضى فيها بحكم شرعي، وقد لا يكون هناك نص في هذه الواقعة، فكان لا بد من الاجتهاد في الرأي، فوسع هذا من دائرة العمل به.
ولذا نجد ابن عمر يقول عنهم: يا أهل العراق تأتون بالمعضلات (1). وكان ابن المسيب إذا سئل عن مسألة شائكة قال للسائل: أعراقي أنت (2)؟.
الخصيصة الثانية: كثرة الاشتغال بالقراءة:
وهذا مما اختصت به مدرسة الكوفة، وسبقت فيه، فقد حرص الكوفيون أشد الحرص على هذا العلم، فقلما تجد مفسرا بينهم يخلو تفسيره من الاعتماد على القراءات في إيضاح المعاني القرآنية لأنها السبيل الموصل إلى فهم بعض المعاني، وبيان المراد بها.
وقد جعلوا القراءة أصلا من الأصول التي اعتمدوا عليها في منهجهم في التفسير، حتى إن كثيرا من الأئمة تمنى أن لو كان يقرأ بقراءة شيخهم.
وقد ذكر السيوطي أن عدد القراءة في الكوفة، كان يزيد على عدد القراء في كل من المدينة، ومكة، والشام، والبصرة (3).
__________
(1) المعرفة (2/ 759).
(2) المعرفة (2/ 759).
(3) الإتقان (1/ 73).(1/582)
وكان القراء كتيبة خاصة في فتنة عبد الرحمن بن الأشعث (1).
وعدّ الذهبي من القراء الكبار ثلاثة من الكوفيين، في حين لم يذكر من البصريين إلا واحدا (2).
وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يوصي أصحابه ممن أراد السفر إلى الكوفة بقوله: إنكم تأتون أهل قرية لهم دوي بالقرآن كدوي النحل، فلا تصدوهم بالأحاديث فتشغلوهم، جرّدوا القرآن، وأقلوا الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم (3).
هذه حال الكوفة، لهم دويّ بالقرآن كدوي النحل، وليس هذا بمستغرب على مدرسة تولى إمامتها ابن أم عبد رضي الله عنه الذي أخذ من فيّ رسول الله صلى الله عليه وسلّم سبعين سورة، والذي كان من أكثر الصحابة اشتغالا بالقراءة واعتمادا عليها في تفسيره (4).
ولقد كان لابن مسعود الأثر البالغ على أصحابه، وعلى غيرهم من تلاميذ المدارس الأخرى ممن أقام أو مرّ بالكوفة (5).
ونجد أن هذا الأثر امتد في الكوفة إلى ما بعد عصر التابعين، ففيها من أئمة القراءات السبع ثلاثة، هم أعلام القراءة في الأمصار الإسلامية، وهم عاصم بن أبي النّجود، وحمزة بن حبيب الزيات، وعلي بن حمزة الكسائي، ومرجع هؤلاء جميعا أبو عبد الرحمن السّلمي، وزرّ بن حبيش (6).
وقد انعكست قراءات ابن مسعود التفسيرية هذه على فقه أهل العراق، الذين
__________
(1) تاريخ الطبري (6/ 350).
(2) معرفة القراء الكبار (1/ 8242)، ذكر منهم سعيد بن جبير، وسعيد كما سبق في ترجمته مختلف في نسبته، والأكثرون على أنه كوفي الموطن.
(3) طبقات ابن سعد (6/ 7)، وسنن الدارمي (1/ 85)، وسنن ابن ماجة (1/ 12).
(4) سبق بيان ذلك وتفصيله عند الحديث عن تقدمه رضي الله عنه في علم القراءة ص (465).
(5) كما نجد ذلك عند ابن جبير، ومجاهد، وقتادة، وقد سبق إيضاح ذلك.
(6) مدرسة الكوفة ومنهجها في دراسة النحو (22)، وكتاب قراءة عبد الله بن مسعود (32).(1/583)
فعن مسروق (1) قال: حدثنا عبد الله، ولو لم يحدثنا عبد الله من كان يحدثنا (2)؟!.
وعن مسروق قال: سألنا عبد الله عن أرواح الشهداء، فلولا عبد الله ما أخبرنا به أحد! قال: أرواح الشهداء عند الله في أجواف طير خضر في قناديل تحت العرش، تسرح في الجنة حيث شاءت، ثم ترجع إلى قناديلها، فيطلع إليها ربها فيقول: ماذا تريدون؟ فيقولون: نريد أن نرجع إلى الدنيا فنقتل مرة أخرى (3).
وعن إبراهيم النخعي قال: كان عبيدة السلماني يأتي عبد الله كل خميس فيسأله عن أشياء غاب عنها، فكان عامة ما يحفظ عن عبد الله مما يسأله عبيدة عنه (4).
وعن شعبة قال: قلت لأبي إسحاق: كيف كان أبو الأحوص (عوف بن مالك) يحدثكم، قال: كان يسكبها علينا في المسجد، يقول: قال عبد الله، قال عبد الله (5).
وعن الشعبي قال: تجالس شتير بن شكل، ومسروق، فقال شتير: إما أن تحدث ما سمعت من ابن مسعود فأصدقك، وإما أن أحدث فتصدقني؟ قال مسروق: لا، بل حدث فأصدقك، فقال: سمعت ابن مسعود يقول: إن أكبر آية في القرآن تفوضا {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللََّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} قال مسروق: صدقت (6).
وجاء رجل إلى الشعبي يسأله عن شيء، فقال الشعبي: كان ابن مسعود يقول فيه
__________
(1) مع أن مسروق من أكثر أصحاب عبد الله بن مسعود تنقلا في البلاد كما سبق بيانه، وينظر ص (474).
(2) العلل لأحمد (2/ 450) 2999.
(3) تفسير الطبري (7/ 387) 8208، وأصل الحديث أخرجه مسلم في صحيحه كتاب الإمارة، باب بيان أن أرواح الشهداء في الجنة (3/ 1502) 1887، والترمذي في سننه، كتاب التفسير، باب ومن سورة آل عمران (5/ 231) 3011.
(4) سنن الدارمي (1/ 137).
(5) العلل لأحمد (3/ 344) 5076.
(6) تفسير الطبري (28/ 140).(1/586)
الخصيصة الثانية: الانشغال عن التفسير بالحديث، والمغازي، والسير، والفقه الأثري:
انشغل أهل المدينة بالحديث والأثر، بسبب توافر عدد كبير من الصحابة بها، كلهم يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم، فتلقف التابعون بالمدينة حديث رسول الله صلى الله عليه وسلّم من أفواه الصحابة، واهتموا به، واعتنوا بحفظه ونشره، ولا سيما الأنصار، حتى شهد لهم ابن عباس رضي الله عنهما بقوله: وجدت أكثر حديث رسول الله صلى الله عليه وسلّم عند هذا الحي من الأنصار (1).
ولأجل هذا الاهتمام قبل كثير من أهل العلم رأي أهل المدينة وعلمهم، وجعلوه حجة، قال زيد بن ثابت: إذا رأيت أهل المدينة على شيء فاعلم أنه السنة (2).
وما ذاك إلا لاهتمامهم بالسنة والحديث، فهم أكثر اهتماما بذلك من مدرسة الكوفة مثلا، التي أقلت من رواية الحديث، وأكثرت من الآثار عن الصحابة (3).
وترتب على ذلك أن الأئمة كانوا يقدمون أهل المدينة على أهل العراق في الحديث (4).
كما اهتم أهل المدينة أيضا بالمغازي والتاريخ، بل كانوا المقدمين في ذلك، يقول شيخ الإسلام: إن أعلم الناس أهل المدينة، ثم أهل الشام، ثم أهل العراق، فأهل المدينة أعلم بها لأنها كانت عندهم (5).
ولذا نجد الزهري من صغار التابعين قد برز في علم المغازي، وكان ابن إسحاق
__________
(1) سنن الدارمي (1/ 141).
(2) المعرفة (1/ 438).
(3) الرفع والتكميل (87).
(4) المعرفة (1/ 438).
(5) مجموع الفتاوى (13/ 346).(1/595)
الجزء الثاني
الباب الثالث مصادر التابعين ومناهجهم فى التفسير(2/601)
بين يدي الباب:
بعد استعراض مدارس التفسير عند التابعين، وبيان أشهر أئمة كل مدرسة.
وبعد دراسة خصائص مدارس التفسير، وبيان مميزات كل واحدة منها.
كان لزاما على من يدرس تفسير التابعين، أن يبين مصادرهم ومناهجهم، ويعد هذا الباب والذي يليه، خلاصة دراسة متوسعة، وغوص متعمق في خضم الآثار التفسيرية الواردة عنهم، إذ لم أجد مع كثرة البحث مادة علمية مجتمعة يمكن أن أعتمد عليها في ذلك، وكثير من الرسائل والبحوث التي وضعت في التفسير عامة، أو في بعض المفسرين من التابعين خاصة لم تبحث مصادر التابعين ومناهجهم وفق الخطة التي رسمتها كي أسير عليها.
ولذا لم يكن ثمة بد من أن أدرس كل مجموعة على حدة لأستخلص المنحى السائد فيها، وبيان اختلاف المدارس أو اتفاقها في كل مسألة من تلك المسائل.
وقد جعلت الفصل الأول خاصا بمصادر التابعين في التفسير، ذكرت فيه أهم المصادر التي رأيت أنها مستقى التابعين، ومنهلهم فيه.
وكان الفصل الثاني مخصصا لدراسة منهج التابعين في التفسير، واخترت أربعة مباحث رأيت أنها تمثل أهم المباحث التي ظهرت فيها مناهج التابعين، وتميزت فيها مشاربهم.
كل ذلك مع التوضيح بالأمثلة، والمقارنة، والترجيح فيما يحتاج إلى ترجيح، ونحو ذلك، محاولة مني لصياغة المباحث صياغة تدلّ على المصادر والمناهج، دون غموض أو لبس.(2/603)
الفصل الأول مصادر التابعين في التفسير
الفصل الأول مصادر التابعين في التفسير
المقصود بهذا الفصل بيان مصادر التابعين التي اعتمدوا عليها في التفسير، ومنها استقوا مادة تفسيرهم، وقد تلخص لي من ذلك عدة مصادر هي:
القرآن والسنة وأقوال الصحابة واللغة العربية والاجتهاد وقوة الاستنباط.
وكنت قد جعلت مبحث الرواية عن أهل الكتاب ضمن مصادرهم في التفسير في بادئ الأمر، ولما توسعت في البحث لم أجد مادة علمية كافية للجزم بأن الرواية عن أهل الكتاب كانت مصدرا للتابعين في التفسير.
وقد يكون منهم من روى شيئا من الإسرائيليات، إلا أن هذا ليس كافيا في تحقيق كون الإسرائيليات مصدرا للمسلمين في تفسير القرآن إبان عصر التابعين.
ولأجل ذلك رأيت أن بحث الإسرائيليات ألصق بالمناهج منه بالمصادر ولذا اكتفيت ببحثه في الفصل الثاني المخصص لمناهج التابعين في التفسير، ولم أتعرض له في هذا الفصل ضمن مصادر التفسير، والله تعالى أعلم.(2/607)
المبحث الأول القرآن الكريم
لا ريب أن أعظم ما يفسر به القرآن الكريم هو القرآن نفسه لأن الله تعالى أعلم بمراده، وقد أجمع العلماء على أن أشرف أنواع التفسير وأجلها، تفسير كتاب الله بكتاب الله جلّ وعلا.
وقد حوى القرآن الكريم بين سوره وآياته غايات عظيمة، وحكما باهرة، مع ما ورد فيه من الدقة الباهرة، والتشريع الحكيم المعجز، ومن المميزات العجيبة في هذا الكتاب: أن آياته مثاني تثنى في القراءة، وتتشابه في الإعجاز، والإحكام، وإن كان بعضها أعظم من بعض، كما هو شأن آية الكرسي.
وقد تكررت في هذه الآيات المواعظ، والقصص، والأحكام، فلا يصل إلى غور تفسيره إلا من تأمل هذه الآيات، وتكرارها، فهي وإن تكرر بعضها بلفظه، أو بمعناه، فإن له في كل موضع حكمة، ودقيق علم، لا يبلغه إلا من وفقه الله سبحانه لمعرفة ذلك لهبة ربانية، ومنحة إلهية، بمزيد علم ومعرفة، وليس المراد في تفسير القرآن بالقرآن، ملاحظة تكرار الآية، أو القصة فحسب، بل قد يكون التفسير من باب بيان إجمال، بسبب اشتراك، أو إبهام، أو بجواب سؤال، أو بتوضيح سبب آخر لقضية ما، أو بذكر ظرف المكان، أو الزمان لشيء ذكر في موضع آخر، أو التفسير بالأعم الأغلبي باستقراء المعاني الثابتة في أكثر الآيات، أو أن تشير الآية إلى طريقة برهانية، لها نظائرها في آيات أخرى، ومن ذلك أيضا العموم في آيات، وبيان بعض أفرادها في
آيات أخر، وبيان المنطوق بالمفهوم، والموصوف بالصفات، وغير ذلك كثير (1).(2/608)
وقد تكررت في هذه الآيات المواعظ، والقصص، والأحكام، فلا يصل إلى غور تفسيره إلا من تأمل هذه الآيات، وتكرارها، فهي وإن تكرر بعضها بلفظه، أو بمعناه، فإن له في كل موضع حكمة، ودقيق علم، لا يبلغه إلا من وفقه الله سبحانه لمعرفة ذلك لهبة ربانية، ومنحة إلهية، بمزيد علم ومعرفة، وليس المراد في تفسير القرآن بالقرآن، ملاحظة تكرار الآية، أو القصة فحسب، بل قد يكون التفسير من باب بيان إجمال، بسبب اشتراك، أو إبهام، أو بجواب سؤال، أو بتوضيح سبب آخر لقضية ما، أو بذكر ظرف المكان، أو الزمان لشيء ذكر في موضع آخر، أو التفسير بالأعم الأغلبي باستقراء المعاني الثابتة في أكثر الآيات، أو أن تشير الآية إلى طريقة برهانية، لها نظائرها في آيات أخرى، ومن ذلك أيضا العموم في آيات، وبيان بعض أفرادها في
آيات أخر، وبيان المنطوق بالمفهوم، والموصوف بالصفات، وغير ذلك كثير (1).
ولقد قطع التابعون شوطا كبيرا في ذلك، وبرزت آراؤهم شاملة مضيئة بين أقوال المفسرين على مر العصور.
ولقد ظهر لي في ذلك بعض الاختلافات في تناولهم لهذا الأمر، وهو اختلاف متوافق مع خصائص المدارس، التي سبق بحثها، وهو ما سيتضح لنا عند تناول بعض النماذج لذلك.
ومما ينبغي الإشارة إليه هنا، أن تفسير القرآن بالقرآن يدخل فيه تفسير الآية بما ورد فيها من القراءات الأخرى، ولقد عني التابعون بذلك أشدّ العناية، وسأتناول ذلك بالدراسة في مبحث مستقل (2).
ولذا سأشير لذلك إشارات سريعة هنا، تاركا التفصيل في موطنه.
لقد كان مفسرو التابعين قد حصلوا علوما جمة أهلتهم لخوض تفسير القرآن بالقرآن، فإن تفسير القرآن بالقرآن لا يتأهل له إلا من كان كذلك.
قال الشيخ محمد الذهبي: وليس هذا العمل عملا آليا لا يقوم على شيء من النظر، وإنما هو عمل يقوم على كثير عن التدبر، والتعقل، إذ ليس حمل المجمل على المبين، أو المطلق على المقيد، أو العام على الخاص، أو إحدى القراءتين على الأخرى بالأمر الهين الذي يدخل تحت مقدور كل إنسان، وإنما هو أمر يعرفه أهل العلم، والنظر خاصة (3).
مسالك التابعين في تفسير القرآن بالقرآن:
لقد سلك التابعون مسالك شتى في تفسير القرآن بالقرآن، وقد يظن لأول وهلة أن هذا المبحث مما لا يختلف فيه التابعون، ولا تؤثر اتجاهاتهم التفسيرية على تناولهم له،
__________
(1) مقدمة كتاب أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن (1/ 9569).
(2) سيأتي ذلك في مبحث منهج التابعين في القراءات ص (748).
(3) التفسير والمفسرون (1/ 41).(2/609)
ومع ذلك، وبعد إحصاء ما ورد عنهم في هذا الباب، وجدتهم قد اختلفت مناهجهم في ذلك، وتباينت مسالكهم فيه.
فإذا جئنا إلى المدرسة المكية نجد تباينا بين أفرادها في اعتمادهم على هذا المصدر من مصادر التفسير.
فمجاهد مثلا أكثر هذه المدرسة نتاجا في هذا الباب، وكثير من تفسيره هذا كان من هذا الباب، فهو يأتي بالآية، ويفسرها بآية أخرى ليزيل إشكالا واقعا فيها، أو ليوضح حكما أصوليا من عموم، أو خصوص، أو غير ذلك، وكل هذا يحتاج فيه إلى الاجتهاد، وقريب من ذلك كان منهج عكرمة إلا أنه أقل نتاجا من مجاهد.
فإذا جئنا إلى سعيد بن جبير، فإننا نلحظ أن عامة ما قام بتفسيره هو من الآيات بالقرآن كان من آيات الأحكام، وهو موافق لمنهجه الذي مر ذكره (1).
وكذلك كان الأمر بالنسبة لعطاء، وزد على ذلك أن أكثر المنقول عنه كان في آيات الحج بخصوصها، لما كان له من باع طويل في ذلك.
أما مدرسة البصرة، فقد غلب على أئمتها الوعظ، وانعكس ذلك على تناولهم لتفسير الآيات بالقرآن، فجل المنقول عن الحسن في ذلك كان مما له مساس وتعلق بالوعظ وأدل شيء على ذلك آيات الوعد والوعيد، ولذا كثر عنده الاهتمام بتفصيل إجمال الآيات، وإزالة مشكلها، وبيان العموم والخصوص في آيات الوعد والوعيد، وكثير من المنقول عنه من باب الإشارة، أي يذكر الآية، ويشير لمعناها في آية أخرى دون أن يذكرها صراحة، وربما تلاها ولم يذكر أنها تفسير للأولى، وكل هذا يتناسب مع منهج الوعظ الذي سلكه.
ولم يبتعد قتادة عن هذا المنهج كثيرا، إلا أنه ربما أضاف إلى ذلك اهتمامه بجمع المعاني الكثيرة من القرآن في تفسير آية، كما جاء عنه في تفسير قوله تعالى:
__________
(1) كما مرّ معنا ذلك في ترجمته (144).(2/610)
{وَعَلََامََاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ} (1).
فقد قال في تفسيرها: والعلامات: النجوم، وإن الله تبارك وتعالى إنما خلق هذه النجوم، لثلاث خصلات جعلها زينة للسماء، وجعلها يهتدى بها، وجعلها رجوما للشياطين (2).
فقد أشار بقوله: زينة، وبقوله: رجوما للشياطين إلى الآيات التي ذكر الله تعالى فيها ذلك نحو قوله: {إِنََّا زَيَّنَّا السَّمََاءَ الدُّنْيََا بِزِينَةٍ الْكَوََاكِبِ (6) وَحِفْظاً مِنْ كُلِّ شَيْطََانٍ مََارِدٍ} (3)، وهي في غير ما آية.
طرق التابعين وأساليبهم في تفسير القرآن بالقرآن:
لقد تعددت طرق التابعين، وأساليبهم في تفسير القرآن، وأوضح فيما يلي عدة طرق توصلت إلى تجميعها، وترتيبها.
وقد تحصل لي من ذلك اثنتا عشرة طريقة، أبين في كل منها بعضا من الأمثلة التطبيقية لذلك النوع، مع الإشارة لسائرها طلبا للاختصار.
1 - نظائر القرآن:
أتفسير الآية بآية أخرى متقاربة معها في بعض اللفظ، والمعنى، وهنا يلحظ المفسر تناظر الآيتين، ويلمح أنه لا فارق بينهما، فيجعل تفسير هذه تفسير هذه، فمن ذلك ما ورد عن مجاهد في تفسير قوله تعالى: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللََّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوََاتاً فَأَحْيََاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ} (4)، الآية، قال: لم تكونوا شيئا حين خلقكم، ثم
__________
(1) سورة النحل: آية (16).
(2) تفسير الطبري (14/ 91).
(3) سورة الصافات: آية (6، 7).
(4) سورة البقرة: آية (28).(2/611)
يميتكم الموتة الحق، ثم يحييكم، وقوله: {أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ} (1) مثلها (2).
وهذا صريح في أنه يرى أن هذه الآية مثل تلك.
وقد يشير المفسر إلى الآية الأخرى دون أن يصرح أنها تفسير الآية التي مصدرها، وهذا ينزل منزلة أنه يراها مثلها.
فمن ذلك ما ورد عن قتادة في تفسير قوله تعالى: {لََا يَمْلِكُونَ الشَّفََاعَةَ إِلََّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمََنِ عَهْداً} (3): أي بطاعته، وقال في آية أخرى: {لََا تَنْفَعُ الشَّفََاعَةُ إِلََّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمََنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا} (4)، ليعلموا أن الله يوم القيامة يشفع المؤمنين بعضهم في بعض (5).
ب تفسير الآية بآية أخرى تحمل الموضوع نفسه، وإن اختلف اللفظ، وهنا يكون الاجتهاد أوضح من الطريقة التي قبلها، وقد أكثر التابعون من ذلك جدا، بل يعتبر هذا الطريق أكثر الطرق التي وقفت عليها من طرق التابعين في تفسير القرآن بالقرآن، ولأجل ذلك أذكر لكل مفسر مثالا أو مثالين محيلا على باقي الأمثلة في مظانها.
فمما ورد عن مجاهد في ذلك ما جاء في تفسير الكلمات في قوله تعالى: {فَتَلَقََّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمََاتٍ} (6)، قال: قوله: {قََالََا رَبَّنََا ظَلَمْنََا أَنْفُسَنََا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنََا}
__________
(1) سورة غافر: آية (11).
(2) تفسير الطبري (1/ 419) 580، وأورده السيوطي في الدر، وعزاه لابن جرير عن مجاهد به (1/ 106).
(3) سورة مريم: آية (87).
(4) سورة طه: آية (109).
(5) تفسير الطبري (16/ 128).
لمزيد من الأمثلة ينظر تفسير الطبري الآثار: 4445، 8174، 9879، 13401، 13610، 13610، 17554، (16/ 116)، (19/ 6)، (23/ 101)، (30/ 55).
(6) سورة البقرة: آية (37).(2/612)
{وَتَرْحَمْنََا} (1) حتى فرغ منها (2)، ومثله جاء عن قتادة (3)، ولما تعرض مجاهد لتفسير قوله تعالى: {إِنْ كََانَ هََذََا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ} (4) الآية، قال: {سَأَلَ سََائِلٌ بِعَذََابٍ وََاقِعٍ (1) لِلْكََافِرينَ} (5).
وجاء عن عكرمة، والحسن في تفسير قوله تعالى: {وَلََا تَجْهَرْ بِصَلََاتِكَ وَلََا تُخََافِتْ بِهََا وَابْتَغِ بَيْنَ ذََلِكَ سَبِيلًا} (6)، قالا: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلى يجهر بصلاته، فآذى ذلك المشركين بمكة حتى أخفى صلاته هو وأصحابه، فلذلك قال: {وَلََا تَجْهَرْ بِصَلََاتِكَ وَلََا تُخََافِتْ بِهََا وَابْتَغِ بَيْنَ ذََلِكَ سَبِيلًا}، وقال في الأعراف: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصََالِ وَلََا تَكُنْ مِنَ الْغََافِلِينَ} (7).
وعن عكرمة أيضا في تفسير قوله تعالى: {فَمِنْهُمْ ظََالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ} (8)، قال: الاثنان في الجنة، وواحد في النار، وهي بمنزلة التي في الواقعة: وأصحاب اليمين ما أصحاب اليمين وأصحاب الشمال ما أصحاب الشمال، والسابقون السابقون (9).
وعند قوله تعالى: {وَإِذِ ابْتَلى ََ إِبْرََاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمََاتٍ} (10)، قال الحسن: ابتلاه بالكوكب، فرضي عنه، وابتلاه بالقمر، فرضي عنه، وابتلاه بالشمس فرضي عنه،
__________
(1) سورة الأعراف: آية (23).
(2) تفسير الطبري (1/ 545) 787، 789، وزاد المسير (1/ 69)، وفتح القدير (1/ 71).
(3) تفسير الطبري (1/ 546) 791، تفسير عبد الرزاق (1/ 44).
(4) سورة الأنفال: آية (32).
(5) سورة المعارج: آية (1)، والأثر أخرجه الطبري في تفسيره (13/ 507) 15987، ولمزيد من الأمثلة يراجع تفسير الطبري الآثار ذوات الأرقام (7392، 7614، 210502، 12095، (30/ 100).
(6) سورة الإسراء: آية (110).
(7) سورة الأعراف: آية (205)، والأثر أخرجه الطبري في تفسيره (15/ 187).
(8) سورة فاطر: آية (32).
(9) تفسير الطبري (22/ 135)، ولمزيد من الأمثلة عن عكرمة تنظر الآثار في تفسيره الطبري:
7900، 9517، (17/ 19).
(10) سورة البقرة: آية (124).(2/613)
وابتلاه بالنار فرضي عنه، وابتلاه بالهجرة، وابتلاه بالختان (1).
ويلاحظ أن الحسن رحمه الله لم يذكر الآيات وإنما أشار إليها، وسبق أن هذا كان منهجه نتيجة للمنهج الوعظي الذي ارتضاه، وأكثر منه (2).
وجاء عن قتادة في تفسير قوله تعالى: {يَمْحُوا اللََّهُ مََا يَشََاءُ وَيُثْبِتُ} (3)، قال: هي مثل قوله: {مََا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهََا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهََا أَوْ مِثْلِهََا} (4)، وقوله: {وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتََابِ}: أي جملة الكتاب وأصله (5).
وهذا مما يؤكد أن التابعين كانوا يجتهدون في تفسير الآية بالآية الأخرى، وإلا فالمحو والإثبات قيل إنه في الصحف التي بأيدي الملائكة، وقيل هو نسخ الشرائع (6)، وهو الذي أشار إليه قتادة رحمه الله.
وفي تفسير قوله تعالى: {قُلْ إِنْ كََانَتْ لَكُمُ الدََّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللََّهِ خََالِصَةً مِنْ دُونِ النََّاسِ} (7)، قال قتادة: وذلك أنهم قالوا: {لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلََّا مَنْ كََانَ هُوداً أَوْ نَصََارى ََ} (8)، وقالوا: {نَحْنُ أَبْنََاءُ اللََّهِ وَأَحِبََّاؤُهُ} (9)، فقيل لهم: {فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صََادِقِينَ} (10).
__________
(1) تفسير الطبري (3/ 14) 1933، 1934، وتفسير عبد الرزاق (1/ 57)، وزاد المسير (1/ 140)، وفتح القدير (1/ 139).
(2) ينظر المزيد من الأمثلة عن الحسن في تفسير الطبري: 9734، 10723، (15/ 113)، (15/ 187)، (30/ 248).
(3) سورة الرعد: آية (39).
(4) سورة البقرة: آية (106).
(5) تفسير الطبري (16/ 486) 20490، وتفسير عبد الرزاق (2/ 337)، وأورده السيوطي في الدر، وعزاه إلى ابن جرير، عن قتادة به (4/ 664).
(6) شرح العقيدة الطحاوية (151، 152).
(7) سورة البقرة: آية (94).
(8) سورة البقرة: آية (111).
(9) سورة المائدة: آية (18).
(10) تفسير الطبري (2/ 364) 1572، وأورده السيوطي في الدر، وعزاه إلى ابن جرير، عن قتادة بمثله (1/ 220)، وفتح القدير (1/ 116)، وينظر المزيد من الآثار عن قتادة في تفسير الطبري: 1797، (13/ 246)، (14/ 8) (14/ 176)، (15/ 44)، (16/ 106)، (21/ 8)، (29/ 239).(2/614)
واستدل بورود ذلك في آيات متشابهة في القرآن تدل على هذا الجزء الخاص من المعنى، وإلا فليس معنى: {وَلََا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} هو من (سلموا على أنفسكم) كما هو ظاهر، وإنما التشابه في معنى (النفس)، وأنها استخدمت بمعنى (الغير)، ويلحظ عكرمة أنه قد جاء في غير آية من القرآن بيان أن اليوم عند الله كألف يوم مما نعدّ، فجمع تلك الآيات المتشابهات في هذه القضية، وخلص إلى أن المقصود بذلك هي أيام الآخرة واستدل على ذلك، فعنه أنه قال في قوله تعالى: {وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ} (1)، قال: هذه أيام الآخرة، وفي قوله: {ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كََانَ مِقْدََارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمََّا تَعُدُّونَ} (2)، قال:
يوم القيامة، وقرأ: {إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً (6) وَنَرََاهُ قَرِيباً} (3).
وبنحو ما قاله عكرمة، جاء عن مجاهد رحمه الله (4).
ب تفسير الآية بالآيات التي تحمل بعض معناها واللفظ مختلف، فمن ذلك ما جاء عن مجاهد في تفسير قوله تعالى: {وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوََاتِ}، قال: الزنا {أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيماً} (5)، قال: يزني أهل الإسلام كما يزنون، قال: هي كهيئة {وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ} (6).
فلم يرد مجاهد رحمه الله هنا أن المشركين أرادوا من النبي أن يزل في الفاحشة فيزلوا، بل أراد أن ينبه على تشابه أهل الباطل في أنهم يودون أن يكون أهل الخير منحرفين عن الطريق المستقيم، فيكونوا جميعا سواء.
__________
(1) سورة الحج: آية (47).
(2) سورة السجدة: آية (5).
(3) سورة المعارج: آية (6، 7). والأثر أخرجه الطبري في تفسيره (17/ 184).
(4) تفسير الطبري (17/ 173)، وفتح القدير (3/ 461)، ومن الأمثلة أيضا عن مجاهد في هذا الطريق من طرق تفسير القرآن بالقرآن، ينظر تفسير الطبري الأثر رقم 20610م.
(5) سورة النساء: آية (27).
(6) سورة القلم آية (9)، والأثر أخرجه الطبري في تفسيره (8/ 213) 9131.(2/616)
3 - الدلالة على التفسير بالسياق:
وفي هذا النوع يلحظ المفسّر منهم سياق الآية فيربطها بما قبلها، أو بما بعدها، سواء كان ذلك في الآية نفسها، أو في مجموعة من الآيات، ومن أمثلة ذلك ما جاء عن مجاهد رحمه الله في تفسير قوله تعالى: {وَإِذِ ابْتَلى ََ إِبْرََاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمََاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ} (1)، قال:
ابتلي بالآيات التي بعدها {إِنِّي جََاعِلُكَ لِلنََّاسِ إِمََاماً قََالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قََالَ لََا يَنََالُ عَهْدِي الظََّالِمِينَ} (2)، وجاء عنه في رواية أخرى أنه قال: {وَإِذِ ابْتَلى ََ إِبْرََاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمََاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ}، قال الله لإبراهيم: إنّي مبتليك بأمر، فما هو قال: تجعلني للناس إماما! قال:
نعم. قال: ومن ذريتي. قال: لا ينال عهدي الظالمين. قال: تجعل البيت مثابة للناس.
قال: نعم [قال]: وأمنا. قال: نعم. [قال]: وتجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك. قال: نعم. [قال]: وترينا مناسكنا وتتوب علينا. قال: نعم. قال: وتجعل هذا البلد آمنا. قال: نعم. قال: وترزق أهله من الثمرات من آمن منهم. قال: نعم (3).
وجاء عن الربيع بن أنس في الآية نفسها أنه قال: فالكلمات: {إِنِّي جََاعِلُكَ لِلنََّاسِ إِمََاماً} (4)، وقوله: {وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثََابَةً لِلنََّاسِ} (5) وقوله: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقََامِ إِبْرََاهِيمَ مُصَلًّى} (5)، وقوله: {وَعَهِدْنََا إِلى ََ إِبْرََاهِيمَ وَإِسْمََاعِيلَ} (5)، وقوله: {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرََاهِيمُ الْقَوََاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ} (6) الآية، قال: فذلك كله من الكلمات التي ابتلي بها إبراهيم (7).
__________
(1) سورة البقرة: آية (124).
(2) تفسير الطبري (3/ 11) 192، وزاد المسير (1/ 140)، وفتح القدير (1/ 137، 139).
(3) تفسير الطبري (3/ 11) 1917، 1918، 1919.
(4) سورة البقرة: آية (124).
(5) سورة البقرة: آية (125).
(6) سورة البقرة: آية (127).
(7) تفسير الطبري (3/ 11) 1922، وفتح القدير (1/ 137).(2/617)
هنا ما كان منه تفسيرا للقرآن بالقرآن، ومن ذلك ما جاء في تفسير قوله تعالى: {فَمََا كََانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمََا كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ} (1)، قال مجاهد: هو كقوله: {وَلَوْ رُدُّوا لَعََادُوا لِمََا نُهُوا عَنْهُ} (2).
فالآية الماضية لم تقيد التكذيب بنوع واحد، فأراد مجاهد أن يفسّر هذا التكذيب بإحدى صوره الواردة في آية أخرى، وهو التكذيب بما نهى الله عنه، وهو أحد أنواع التكذيب، ولكن لشناعته اختاره مجاهد دون غيره فذكره، ثم يقاس عليه بقية ألوان التكذيب الواردة عنهم.
وعند تفسير قوله تبارك وتعالى: {وَلََا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مََا آتَيْتُمُوهُنَّ} (3).
قال مجاهد: ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن أن ينكحن أزواجهن كالعضل في سورة البقرة (4).
فهنا فسّر مجاهد عضل المرأة بإحدى صوره، وهو العضل عن نكاح الأزواج للآية الأخرى.
ب حمل المجمل على المبين:
ومن ذلك ما ورد عن مجاهد في تفسير قوله تعالى: {خَلَقَكُمْ أَطْوََاراً} (5) قال:
من تراب، ثم من نطفة، ثم من علقة، ثم ما ذكر حتى يتم خلقه (6).
__________
(1) سورة الأعراف: آية (101).
(2) سورة الأنعام: آية (28)، والأثر أخرجه الطبري في تفسيره (13/ 9) 14904.
(3) سورة النساء: آية (19).
(4) أي قوله سبحانه: {فَلََا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوََاجَهُنَّ إِذََا تَرََاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ} سورة البقرة (232)، والأثر عن مجاهد أخرجه الطبري في تفسيره: (8/ 112) 8890.
(5) سورة نوح: آية (14).
(6) تفسير الطبري (29/ 96)، والدر المنثور (8/ 291).(2/619)
فأشار رحمه الله بقوله إلى الآيات التي فيها ذكر ذلك (1).
ونحو ذلك جاء عن قتادة وختمه بقول الله: {فَتَبََارَكَ اللََّهُ أَحْسَنُ الْخََالِقِينَ} (2).
ومن ذلك ما جاء عن الحسن، وقتادة عند تفسير قوله تعالى: {ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ} (3). قالا: يعطون الجزية عن يد وهم صاغرون (4).
ومن ذلك ما جاء عن عكرمة عند ما بين المجمل في الأجر في قوله تعالى: {وَآتَيْنََاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيََا} (5)، قال: إن الله فضله بالخلة حين اتخذه خليلا، فسأل الله فقال:
{وَاجْعَلْ لِي لِسََانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ} (6) حتى لا تكذبني الأمم، فأعطاه الله ذلك، فإن اليهود آمنت بموسى، وكفرت بعيسى، وإن النصارى آمنت بعيسى، وكفرت بمحمد صلى الله عليه وسلم، وكلهم يتولى إبراهيم، قالت اليهود: هو خليل الله وهو منا، فقطع الله ولايتهم منه بعد ما أقروا له بالنبوة، وآمنوا به، فقال: {مََا كََانَ إِبْرََاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلََا نَصْرََانِيًّا وَلََكِنْ كََانَ حَنِيفاً مُسْلِماً وَمََا كََانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} (7)، ثم ألحق ولايته بكم، فقال: {إِنَّ أَوْلَى النََّاسِ بِإِبْرََاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهََذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللََّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ} (8)، فهذا أجره
__________
(1) نحو قوله تبارك وتعالى: {يََا أَيُّهَا النََّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنََّا خَلَقْنََاكُمْ مِنْ تُرََابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ} سورة الحج: الآية (5).
(2) تفسير الطبري (29/ 96)، أشار قتادة إلى قوله سبحانه: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسََانَ مِنْ سُلََالَةٍ مِنْ طِينٍ (12) ثُمَّ جَعَلْنََاهُ نُطْفَةً فِي قَرََارٍ مَكِينٍ (13) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظََاماً فَكَسَوْنَا الْعِظََامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْنََاهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبََارَكَ اللََّهُ أَحْسَنُ الْخََالِقِينَ} سورة المؤمنون: من آية (1412).
(3) سورة آل عمران: آية (112).
(4) إشارة لقوله سبحانه: {حَتََّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صََاغِرُونَ} سورة التوبة: آية (29)، والأثر أخرجه الطبري في تفسيره (2/ 137) 1088.
(5) سورة العنكبوت: آية (27).
(6) سورة الشعراء: آية (84).
(7) سورة آل عمران: آية (67).
(8) سورة آل عمران: آية (68).(2/620)
الذي عجل له، وهي الحسنة، إذ يقول: {وَآتَيْنََاهُ فِي الدُّنْيََا حَسَنَةً} (1)، وهو اللسان الصدق الذي سأل ربه له (2).
ج إرجاع الشيء إلى قاعدته العامة وأصله الكلي:
من أمثلة بيان المجمل أن يتكلم المفسّر منهم على آية، فيبين أنها تفسير وبيان لإجمال آية أخرى.
فمن ذلك قوله تعالى: {إِنَّ اللََّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السََّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ} (3) قال مجاهد:
هي مفاتح الغيب التي قال الله عنها: {وَعِنْدَهُ مَفََاتِحُ الْغَيْبِ لََا يَعْلَمُهََا إِلََّا هُوَ} (4).
ومن ذلك ما جاء في تفسير قوله تعالى: {وَإِذََا تَوَلََّى سَعى ََ فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهََا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ} (5).
قال مجاهد: إذا تولى سعى في الأرض بالعدوان والظلم، فيحبس الله بذلك القطر، فيهلك الحرث، والنسل، والله لا يحب الفساد، ثم قرأ مجاهد: {ظَهَرَ الْفَسََادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمََا كَسَبَتْ أَيْدِي النََّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} (6).
5 - تفسير العام بالخاص:
وفي هذا الطريق يعمد المفسّر منهم إلى آية ظاهرها العموم فيحملها على معنى آية أخرى ذكرت فردا من أفراد العموم.
__________
(1) سورة النحل: آية (122).
(2) تفسير الطبري (19/ 86)، وينظر عن عكرمة في هذا الباب أيضا تفسير الطبري (9/ 216) 10455.
(3) سورة لقمان: آية (34).
(4) سورة الأنعام: آية (59)، والأثر أخرجه الطبري في تفسيره (21/ 88).
(5) سورة البقرة: آية (205).
(6) سورة الروم آية (41)، والأثر أخرجه الطبري في تفسيره (4/ 240) 3985، (21/ 49).(2/621)
ومن ذلك ما جاء في تفسير قوله تعالى: {لَنْ تَنََالُوا الْبِرَّ حَتََّى تُنْفِقُوا مِمََّا تُحِبُّونَ} (1)، فهذه الآية لم تحدد ما الذي ينفق، وإنما عممت بالاسم الموصول (ما) (2)، فلما فسرها مجاهد قال: وهي مثل قوله: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعََامَ عَلى ََ حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً} (3) الآية، ومثل قوله: {وَيُؤْثِرُونَ عَلى ََ أَنْفُسِهِمْ} (4).
فذكر أفرادا من العموم، وهي الإطعام، وما يؤثر به الغير، وقريب من ذلك ما ذكره مجاهد أيضا في تفسير قوله تبارك وتعالى: {مِنْ أَجْلِ ذََلِكَ كَتَبْنََا عَلى ََ بَنِي إِسْرََائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسََادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمََا قَتَلَ النََّاسَ جَمِيعاً} (5)، قال: هي كالتي في النساء {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزََاؤُهُ جَهَنَّمُ}، في جزائه (6).
ففي الآية الأولى جاءت كلمة (نفس) نكرة في سياق الشرط فأفادت العموم، ورأى مجاهد تخصيصها بالمؤمن (7).
ومثال آخر في تفسير قوله عز وجل: {مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ} (8) قال الحسن:
الكافر ثم قرأ: {وَهَلْ نُجََازِي إِلَّا الْكَفُورَ} (9) قال: من الكفار (10).
__________
(1) سورة آل عمران: آية (92).
(2) (ما) من صيغ العموم على الراجح عند الأصوليين، يراجع شرح الكوكب المنير (3/ 120).
(3) سورة الإنسان: آية (8).
(4) سورة الحشر: آية (9)، والأثر أخرجه الطبري في تفسيره (6/ 588) 7392، 7393.
(5) سورة المائدة: آية (32).
(6) سورة النساء: آية (93).
(7) تفسير الطبري (10/ 236) 11784، 11785، وأورده السيوطي في الدر، وعزاه إلى عبد بن حميد، وابن المنذر، عن مجاهد بنحوه (1/ 64)، ويراجع في كون النكرة في سياق الشرط من صيغ العموم: شرح الكوكب المنير (3/ 140).
(8) سورة النساء: آية (123).
(9) سورة سبأ: آية (17).
(10) تفسير الطبري (9/ 237) 10511، 10512، وزاد المسير (2/ 210)، والدر (2/ 703).(2/622)
وفي رواية عنه قال: {وَهَلْ نُجََازِي إِلَّا الْكَفُورَ}، يعني بذلك الكفار، لا يعني بذلك أهل الصلاة (1).
فالآية الأولى جاء فيها العموم في لفظة (من) ليعم المؤمن والكافر، فجاء الحسن فبين أنها خاصة بالكافر مستدلا بأسلوب الحصر في الآية الثانية، وهذا متوافق مع منهجه الوعظي المشار إليه سابقا (2).
وأصرح من ذلك ما جاء عنه أيضا في تفسير الآية نفسها أنه قال: {مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ} (3)، إنما ذلك لمن أراد الله هوانه، فأما من أراد كرامته، فإنه من أهل الجنة، {وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كََانُوا يُوعَدُونَ} (4).
6 - التفسير باللازم:
المراد بالتفسير باللازم أن المفسّر لا يذكر صراحة تفسيرا للآية التي هو بصددها، بل يذكر شيئا من لوازم ذلك، ويربطه بآية أخرى، فمن ذلك ما جاء عن سعيد بن جبير في تفسير قوله تعالى: {إِنََّا لِلََّهِ وَإِنََّا إِلَيْهِ رََاجِعُونَ} (5)، فقد قال: لو أعطيها أحد لأعطيها يعقوب، ألم تسمع: {يََا أَسَفى ََ عَلى ََ يُوسُفَ} (6).
فقد لاحظ سعيد رحمه الله أنه يلزم من قول يعقوب عليه السلام {يََا أَسَفى ََ عَلى ََ يُوسُفَ} أنه لم يكن يعرف {إِنََّا لِلََّهِ وَإِنََّا إِلَيْهِ رََاجِعُونَ}، وإلا لقالها، بدلا من تأسفه على ذهاب يوسف.
__________
(1) المرجع السابق (9/ 238) 10513.
(2) ينظر ترجمة الحسن ص (212).
(3) سورة النساء: آية (123).
(4) سورة الأحقاف: آية (16)، والأثر أخرجه الطبري في تفسيره (9/ 238) 10516.
(5) سورة البقرة: آية (156).
(6) سورة يوسف: آية (84)، والأثر أخرجه الطبري في تفسيره (3/ 224) 2331، وابن الجوزي في الزاد (1/ 162)، والسيوطي في الدر (1/ 377).(2/623)
ومن ذلك أيضا ما جاء في تفسير قوله جل وعلا: {وَلََا يُسْئَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ} (1)، فقد قال مجاهد عنها: إنها كقوله: {يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمََاهُمْ} (2)
زرقا سود الوجوه، والملائكة لا تسأل عنهم قد عرفتهم (3).
فبين مجاهد أنه يلزم من عدم سؤال المجرمين عن ذنوبهم أن يكونوا معلمين بعلامة كي لا تحتاج الملائكة أن تسأل عنهم.
وقريب منه ما ورد في تفسير قوله تعالى: {وَلَوْلََا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكََانَ لِزََاماً وَأَجَلٌ مُسَمًّى} (4)، قال قتادة: وهذه من مقاديم الكلام، يقول: لولا كلمة سبقت من ربك إلى أجل مسمى لكان لزاما، والأجل المسمى: الساعة لأن الله تعالى يقول:
{بَلِ السََّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسََّاعَةُ أَدْهى ََ وَأَمَرُّ} (5).
فهنا لاحظ قتادة أنه لا تكون الآية لولا كلمة من الله لكان لهم أجل يرجعون فيه لأن ذلك يخالف ما ثبت في الآية الأخرى من ضرب الموعد لهم، فيلزم من ذلك أن تكون الآية الأولى من باب التقديم والتأخير.
7 - توضيح المبهم:
ومن طرق التفسير التي اتبعها التابعون أيضا إيضاح مبهم آية بآية أخرى لإزالة الإبهام.
فمن ذلك ما جاء عن مجاهد في تفسير سورة (براءة) عند قوله تعالى: {وَآخَرُونَ}
__________
(1) سورة القصص: آية (78).
(2) سورة الرحمن: آية (41).
(3) تفسير الطبري (20/ 114)، وزاد المسير (6/ 243)، وفتح القدير (4/ 187).
(4) سورة طه: آية (129).
(5) سورة القمر: آية (46)، والأثر أخرجه الطبري في تفسيره (16/ 232)، وأورده السيوطي في الدر وعزاه لابن أبي حاتم عن قتادة بلفظ مقارب (5/ 610).(2/624)
{مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللََّهِ} (1)، قال: {الثَّلََاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا} (2) هم الذين أرجئوا في أوسط براءة، هلال بن أمية، ومرارة بن ربيع، وكعب بن مالك (3) فأزال مجاهد الإبهام الحاصل في كلمة (آخرون) بأن وضح المراد منهم، وأنهم الثلاثة الذين تخلفوا في غزوة تبوك.
ومثل ذلك: ما ورد عنه أيضا عند تفسير قوله تعالى: {نَكََالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولى ََ}، قال: فذلك قوله: {مََا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلََهٍ غَيْرِي} (4)، والآخرة {أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى ََ} (5).
فوضح رحمه الله الإبهام في (الآخرة) و (الأولى) بأنهما كلمتان قالهما فرعون وبينهما من الآيات الأخرى.
ولما أراد عكرمة أن يرفع الإبهام الواقع في لفظة (الحين) استدل بالآية التي تبين أن المراد منه سنة.
فعنه أنه قال: أرسل إلي عمر بن عبد العزيز، فقال: يا مولى ابن عباس: إني حلفت ألا أفعل كذا وكذا حينا، فما الحين الذي تعرف به قلت: إن من الحين حينا لا يدرك، ومن الحين حين يدرك، فأما الحين الذي لا يدرك فقول الله: {هَلْ أَتى ََ عَلَى الْإِنْسََانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً} (6)، والله ما يدري كم أتى له إلى أن
__________
(1) سورة التوبة: آية (106).
(2) سورة التوبة: آية (118).
(3) تفسير الطبري (14/ 545) 17436، 17437، وتفسير عبد الرزاق (2/ 287)، وأورده السيوطي في الدر، وعزاه إلى ابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبي الشيخ عن مجاهد بنحوه (4/ 284).
(4) سورة القصص: آية (38).
(5) سورة النازعات: آية (25)، والأثر أخرجه الطبري في تفسيره (30/ 41).
ومما جاء عنهم في ذلك ما ورد عن سعيد بن جبير في الأثر: 13800، وعن عطاء في الأثر: 1442.
(6) سورة الإنسان: آية (1).(2/625)
خلق، وأما الذي يدرك فقوله: {تُؤْتِي أُكُلَهََا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهََا} (1)، فهو ما بين العام إلى العام المقبل، فقال: أصبت يا مولى ابن عباس، ما أحسن ما قلت (2). وفي أثر آخر أنه استدل على ذلك بقوله تعالى: {لَيَسْجُنُنَّهُ حَتََّى حِينٍ} (3).
8 - بيان معنى (لفظ)، أو إيضاح مشكلة:
وقد كثر هذا النوع في تفسير التابعين، فصاروا يتناولون آيات القرآن بالتفسير بآيات أخرى تبين هذا المعنى، وتلكم الألفاظ.
فقد جاء عن مجاهد في تفسير قوله تعالى: {رَفَعَ سَمْكَهََا} (4)، قال: رفع بناءها بغير عمد (5).
إشارة منه إلى مثل قوله تعالى: {بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهََا} (6).
ولما فسر كذلك قوله تعالى: {لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ} (7)، قال: بجبار (8).
إشارة أيضا إلى قوله تعالى: {وَمََا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبََّارٍ} (9).
ولما أراد الحسن أن يفسّر قوله تعالى: {يَوْمَ تَرْجُفُ الرََّاجِفَةُ} (10)، قال: هما
__________
(1) سورة إبراهيم: آية (25).
(2) تفسير الطبري (16/ 581) 20731.
(3) سورة يوسف: آية (35)، والأثر أخرجه الطبري في تفسيره (16/ 579) 20726.
(4) سورة النازعات: آية (28).
(5) تفسير الطبري (30/ 43)، وأورده السيوطي في الدر، وعزاه إلى عبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، عن مجاهد به (8/ 411).
(6) سورة لقمان: آية (10).
(7) سورة الغاشية: آية (22).
(8) تفسير الطبري (30/ 166)، وأورده السيوطي في الدر، وعزاه إلى عبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، عن مجاهد به (8/ 495).
(9) سورة (ق): آية (45).
(10) سورة النازعات: آية (6).(2/626)
المبحث الثاني السنة النبوية
لا شك أن السنة مبينة للقرآن موضحة له، يقول الشاطبي: وهي راجعة في معناها إلى الكتاب، فهي تفصيل مجمله، وبيان مشكله، وبسط مختصره (1).
وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم هو أعلم بكلام الله، وأكثر قدرة على فهم نصوص الآيات من غيره، مع ما أوحاه الله تعالى من المعاني فهو صلى الله عليه وسلم: {وَمََا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى ََ (3) إِنْ هُوَ إِلََّا وَحْيٌ يُوحى ََ} (2).
وجاء في الحديث الشريف أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه» (3).
والمراد بذلك ما سنه للناس، وبينه مما أعطاه الله، وقد يكون ذلك أيضا من اجتهاده صلى الله عليه وسلم في فهم نصوص القرآن، فإنه كان يجتهد ويوفّق صلى الله عليه وسلم.
ولأجل ذلك كله برزت السنة بوصفها مصدرا من مصادر التفسير.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: فإن قال قائل: فما أحسن طرق التفسير فالجواب:
أن أصح الطرق في ذلك أن يفسّر القرآن بالقرآن إلى أن يقول فإن أعياك ذلك
__________
(1) الموافقات (4/ 12).
(2) سورة النجم: آية (3).
(3) رواه أبو داود في كتاب السنة، باب في لزوم السنة (4/ 200) 4604، وأورده التبريزي في المشكاة، وعزاه إلى أبي داود والدارمي وابن ماجة، ينظر مشكاة المصابيح (1/ 57) 163، وكتاب الإيمان لابن تيمية (37).(2/628)
فعليك بالسنة فإنها شارحة للقرآن وموضحة له، بل قال الإمام أبو عبد الله محمد بن إدريس الشافعي: كل ما حكم به رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو مما فهمه من القرآن، قال الله تعالى: {إِنََّا أَنْزَلْنََا إِلَيْكَ الْكِتََابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النََّاسِ بِمََا أَرََاكَ اللََّهُ وَلََا تَكُنْ لِلْخََائِنِينَ خَصِيماً} (1).
وقال تعالى: {وَأَنْزَلْنََا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنََّاسِ مََا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} (2).
وقال تعالى: {وَمََا أَنْزَلْنََا عَلَيْكَ الْكِتََابَ إِلََّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} (3).
وقال رحمه الله أيضا في موضع آخر: يجب أن يعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم بين لأصحابه معاني القرآن، كما بين لهم ألفاظه، فقوله تعالى: {لِتُبَيِّنَ لِلنََّاسِ مََا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} يتناول هذا وهذا، وقد قال أبو عبد الرحمن السلمي: حدثنا الذين كانوا يقرءوننا القرآن كعثمان بن عفان، وعبد الله بن مسعود، وغيرهما أنهم كانوا إذا تعلموا من النبي صلى الله عليه وسلم عشر آيات لم يتجاوزوها حتى يتعلموا ما فيها من العلم والعمل، قالوا: فتعلمنا القرآن، والعلم، والعمل جميعا (4).
وقد اتفق العلماء على أن الأخذ بالسنة واجب، والعمل بها حتم وتحكيمها فرض، بل جاء عن مكحول التابعي أنه قال: القرآن أحوج إلى السنة من السنة إلى القرآن (5).
وجاء عن يحيى بن أبي كثير أن السنة قاضية على الكتاب، وليس الكتاب بقاض
__________
(1) سورة النساء: آية (105).
(2) سورة النحل: آية (44).
(3) سورة النحل: آية (64)، وينظر مجموع الفتاوى (13/ 363).
(4) مجموع الفتاوى (3/ 331).
(5) تفسير القرطبي (1/ 30).(2/629)
على السنة (1).
والمراد أنه لا يمكن لأحد أن يكتفي بالقرآن عن السنة، في حين أن من لم يبلغه كثير من أحكام القرآن فإنه يمكن أن يعبد الله بما شرعه له نبيه صلى الله عليه وسلم، فهو لم يقل ما قال، ولم يذكر ما ذكر، إلا بفهم لكتاب الله واتباع له.
وأما طرق بيان القرآن بالسنة، فقد ذكر الإمام الشافعي جملة من الأمثلة الواردة في الكتاب (2)، والتي جاءت السنة ببيانها على أكمل وجه، وقد جمع الشيخ أبو زهرة هذه الأمثلة، وقسمها إلى ثلاث طوائف هي (3):
أولا: أن يكون الكلام محتملا احتمالين، فتعين السنة أحدهما، ومن ذلك قوله تعالى في شأن المطلقة طلقة ثالثة: {فَإِنْ طَلَّقَهََا فَلََا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتََّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ} (4)، فاحتمل ذلك أن يتزوجها غيره ولو لم يدخل بها، وأن عقد النكاح كاف لإحلالها للأول، واحتمل ألا يحلها حتى يدخل بها، لأن اسم النكاح يقع بالإصابة، ويقع بالعقد، فلما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تحل لك حتى تذوق العسيلة» (5)، تعين أن الإحلال لا يكون إلا بنكاح حصل فيه دخول.
ثانيا: يكون القرآن مجملا فيذكر النبي صلى الله عليه وسلم المفصل، وكذلك شأن أكثر الفرائض،
__________
(1) المرجع السابق (1/ 30)، ولما سئل الإمام أحمد عن هذا القول، قال: ما أجسر على هذا أن أقوله، ولكني أقول: إن السنة تفسر الكتاب وتبينه، ينظر تفسير القرطبي (1/ 30).
(2) الرسالة (64).
(3) ابن حنبل لأبي زهرة (225).
(4) سورة البقرة: آية (230).
(5) رواه البخاري في صحيحه، كتاب الشهادات، باب شهادة المختبئ، ينظر الفتح (5/ 249) 2639، ومسلم في صحيحه، كتاب النكاح، باب لا تحل المطلقة ثلاثا لمطلقها حتى تنكح زوجا غيره (1/ 111) 1433، وأبو داود في سننه، كتاب الطلاق، باب المبتوتة (2/ 731) 2309.(2/630)
فالصلاة مفروضة في القرآن إجمالا في مثل قوله تعالى: {إِنَّ الصَّلََاةَ كََانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتََاباً مَوْقُوتاً} (1) والزكاة مفروضة إجمالا في قوله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوََالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهََا} (2)، وكذلك الحج، وهكذا. ولقد بين رسول الله صلى الله عليه وسلم عدد الصلوات، وكيف تكون في السفر، وفي الحضر. وكذلك الزكاة، قد بينت السنة المقادير الواجبة في كل نوع من أنواع الأموال، وشروط هذا الوجوب، وبينت السنة مناسك الحج ومواقيته، وما يتبع ذلك، فكانت السنة في هذا تفسيرا للقرآن.
ثالثا: بيان الخصوص في العام، فإذا كان لفظ القرآن عاما، وجاء من السنة ما يدل على خصوصه كان ذلك الخصوص تفسيرا له، وبيان أنه أريد به الخاص، ومن عام القرآن الذي أريد به الخاص، ودلت السنة على ذلك التخصيص قوله تعالى:
{وَالسََّارِقُ وَالسََّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمََا جَزََاءً بِمََا كَسَبََا نَكََالًا مِنَ اللََّهِ} (3)، فهذه الآية الكريمة بعمومها تفيد أن من يسرق شيئا تقطع يده، سواء أكان قليلا أم كثيرا، ومهما يكن نوع المسروق، ولكن سن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا قطع في ثمر ولا كثر (4)، وألا يقطع إلا من بلغت سرقته ربع دينار فصاعدا، فكان لفظ القرآن عاما، وظاهره الدلالة على العموم، وأريد الخصوص بتخصيص السنة وهو أنه لا قطع إلا من سرقة محرز، وبلغت سرقته ربع دينار.
__________
(1) سورة النساء: آية (103).
(2) سورة التوبة: آية (103).
(3) سورة المائدة (38).
(4) رواه مالك في الموطأ، كتاب الحدود، باب ما لا قطع فيه (2/ 839) 32، وأحمد في مسنده (4/ 140)، والدارمي في سننه (2/ 174)، والنسائي في سننه، كتاب قطع السارق، باب ما لا قطع فيه (8/ 86)، وابن ماجة في سننه، كتاب الحدود، باب لا يقطع في ثمر ولا كثر (2/ 865) 2594.(2/631)
ومن العام الذي جاء في القرآن وأريد به الخاص آية المواريث، فقد قال تعالى:
{يُوصِيكُمُ اللََّهُ فِي أَوْلََادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِسََاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثََا مََا تَرَكَ وَإِنْ كََانَتْ وََاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وََاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمََّا تَرَكَ إِنْ كََانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوََاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كََانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ} ثم قال تعالى: {وَلَكُمْ نِصْفُ مََا تَرَكَ أَزْوََاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كََانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمََّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهََا أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمََّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كََانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمََّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهََا أَوْ دَيْنٍ وَإِنْ كََانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلََالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وََاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كََانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذََلِكَ فَهُمْ شُرَكََاءُ فِي الثُّلُثِ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصى ََ بِهََا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللََّهِ وَاللََّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ} (1).
وهذه الآيات بظاهر عمومها تفيد أن الوصية مقدمة على الميراث أيا كان مقدارها، فجاءت السنة، وبينت أن الوصية المقدمة على الميراث هي الوصية التي لا تزيد عن الثلث، فكانت الآيات بذلك مخصصة أريد بها كلها الخاص، وإن كان اللفظ عاما (2).
أسباب قلة المروي عنهم في هذا الباب عموما:
ومع وجود أبواب التفسير في كتب السنة، ككتاب التفسير في صحيحي البخاري ومسلم، وما في بقية كتب السنة، إلا أن المنقول عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الباب يعدّ قليلا بالنسبة لما نقل عنه صلى الله عليه وسلم من بيان الحلال والحرام، والمنقول في كتب التفسير أقل من ذلك.
بل قد قال الإمام أحمد: ثلاثة أمور ليس لها إسناد: التفسير، والملاحم، والمغازي، ويروي ليس لها أصل، أي إسناد (3).
__________
(1) سورة النساء: آية (12).
(2) ابن حنبل، لأبي زهرة (226).
(3) مجموع الفتاوى (13/ 436).(2/632)
والمقصود بذلك هو التفسير النبوي، وتفسير الصحابة لقلة المروي فيه، لا التفسير المنقول عن التابعين، فإنه كثير وأسانيده مستقيمة، ويعتمد أحمد رحمه الله عليه كثيرا (1).
أما المنقول من التفسير النبوي في كتب التفسير فالغالب عليه المراسيل (2) (بلغني، ذكر لنا، حدّثنا) وما أشبه هذه الصيغ، بل كثير من تفسير التابعين المعتمد فيه على السنة قد نقل بهذه الطريقة أي دون ذكر الإسناد المتصل، ولعل السر في ذلك أنها من المنقولات التي لا يحتاج إليها في الدين حاجة ماسة، وإنما جاءت في باب الفضائل، على أن الكثير منها قد تعددت طرقه، وخلت عن المواطأة فهي صحيحة بهذا الاعتبار (3).
اختلاف التابعين في الاعتماد على هذا المصدر:
لقد اختلف المنقول عن التابعين في هذا الباب، فمن مقل ومن مكثر نسبيا، كما اختلفت طريقتهم في رفع الحديث للنبي إرسالا ووصلا، كما وقع الاختلاف في نوعية الآيات التي يتناولون تفسيرها معتمدين على السنة، هل هي من آيات الوعظ أو الأحكام أو غير ذلك.
ولعلي أبرز فيما يلي هذا الاختلاف مبينا وجهه وأسبابه، وذلك بالنسبة للمدارس أو أئمتها.
تعد المدرسة المدنية من أكثر المدارس عناية بالسنة رواية في المقام الأول ثم دراية، إلا أن المنقول عنهم في هذا الباب حفلت به كتب السنة أكثر مما حفلت به كتب التفسير،
__________
(1) وسوف يأتي تفصيل ذلك في مبحث قيمة المروي عنهم رواية، ص (917).
(2) مجموع الفتاوى (13/ 436).
(3) أشار إلى هذا المعنى شيخ الإسلام في مجموع الفتاوى (13/ 346، 347).(2/633)
وأكثره من الموصولات المسندات، وأما المدرسة التي كثر النقل عنها في كتب التفسير مما اعتمدت فيه على مصدر السنة فهي المدرسة البصرية، فكان إماما البصرة (الحسن وقتادة) يكثران من ذلك (1)، إلا أن أكثر ما يوردانه في هذا الباب يكون بأداء الإرسال لا الوصل، وكثير منه فيما يتعلق بالوعظ، ولعل السبب في ذلك هو ميل هذه المدرسة للمنهج الوعظي كما سبق تقريره (2) وهو منهج يهتم بالمعنى أكثر من اهتمامه بالطريق الموصلة له.
بل من الملاحظ أن هذه المدرسة وهي مقلة في جانب الإسرائيليات جدا إذا جاء الأثر عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما توافق مع الإسرائيليات فإنهم يحدثون به وربما يطيلون في ذلك (3).
أما المدرسة الكوفية: فقد غلب عليها جانب الورع في هذا الباب فقلت روايتها عن النبي صلى الله عليه وسلم في التفسير (4)، ولعل ذلك يرجع إلى: تشددها في قبول الأخبار، وتحذير ابن مسعود رضي الله عنه من التوسع في الحديث، والتفسير بغير علم (5)، وبعض التفسير بالسنة يدخله الاجتهاد في أن هذه الآية تفسر بهذا الحديث، أو ذاك.
وأما المدرسة المكية: فقد قلّ نتاجها في هذا الباب مع تقدمها في باب الاجتهاد، ولعل السبب في ذلك يرجع إلى توسع بعض أئمتها في تفسير القرآن بالقرآن كمجاهد، كما أن مما أعانهم أخذهم لكثير من التفسير عن ابن عباس، مما جعلهم لا يتوسعون في
__________
(1) بلغ عدد الروايات التي اعتمد فيها التابعون ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم (392) رواية منها (287) رواية عن المدرسة البصرية أي ما نسبة (73، 0) من مجموع المروي جاء عن البصريين، في حين كانت نسبة المروي عن المكيين لم يزد عن (16، 0) وعن الكوفيين (06، 0) فقط.
(2) وقد سبق بيان ذلك في أسباب كثرة المروي عن المدرسة البصرية، ص (448)، وعند الحديث عن ترجمة الحسن وقتادة، ص (212)، (263).
(3) ويأتي تفصيل ذلك في مبحث منهجهم في الرواية عن بني إسرائيل ص (875).
(4) سبق بيان ذلك في مبحث أسباب قلة المروي عنها، ص (492).
(5) وقد سبق تفصيل ذلك في مبحث المدرسة الكوفية في ترجمة ابن مسعود، ص (462).(2/634)
التفسير بالمصدر الثاني وهو السنة.
ويمكن رد أسباب اختلاف كثرة المروي أو قلته عن التابعين إجمالا إلى ما يلي:
1 - الموهبة الفطرية:
يبرز في هذا الجانب قتادة إذ يعتبر من أكثر التابعين تفسيرا للقرآن بالسنة (1)، وذلك لما وهبه الله تعالى من الحافظة القوية، والشغف العظيم بالسنة، فجاء تفسيره حافلا بالنصوص الحديثية التي تنوعت فشملت معرفة لأسباب النزول، والمكي والمدني، وغيرها من علوم القرآن المحتاجة إلى الحفظ، والرواية.
2 - الورع والاحتياط:
وهذا سبب أثر على تفسير التابعين بهذا المصدر، فقلت المرويات في التفسير بالسنة، وكثر في المقابل منقولهم عن أقرانهم، فالنقل عن علقمة وإبراهيم أبعد عن الخلل، وأقرب للسلامة من النقل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم خشية الخطأ في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وبرزت مدرسة الكوفة في ذلك، فكان الشعبي، وابن سيرين يتشددان في الرواية (2)، بل وربما أنكر الشعبي على الحسن توسعه في رواية السنن والأحاديث (3).
ونجد إبراهيم يميل لإعمال الرأي والعقل مع أنه صيرفي الحديث هيبة من وقوع الخطأ في الحديث النبوي، فيقع تحت طائلة الوعيد على من كذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ونتج عن تلك الحيطة والحذر الشديدين في الكوفة أن كانت مراسيلها من أصح
__________
(1) حيث بلغ مجموع ما روي عنه (200) رواية اعتمد فيها الحديث النبوي، أي: ما نسبته (51، 0) من مجموع ما روي عن التابعين كان كله من رواية قتادة.
(2) كما سبق بيانه في ترجمتهما.
(3) العلل لأحمد (3/ 367) 5614.(2/635)
المراسيل، في حين كانت مراسيل البصرة من أضعفها (1).
3 - قلة السماع:
وهو سبب آخر في قلة المروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في التفسير، قال حماد: ما كان بالكوفة أوحش ردا للآثار من إبراهيم لقلة ما سمع (2).
بقي أن يقال: إن ابن جبير، وعطاء، ورد عنهما شيء من الاعتماد على السنة في تفسيرهم، إلا أن غالبه كان في آيات الأحكام، وهو متوافق مع منهجهم الذي سبق الكلام عنه (3)، أما عكرمة فقد كان من المقلين في هذا الباب.
منزلة هذا المصدر عند التابعين:
فمع اختلاف التابعين في تناولهم لهذا المصدر، فكان منهم المقل، وكان منهم المكثر، فإنه مما ينبغي التنبيه عليه أن عامة ذلك الاختلاف كان في تفسير القرآن بالسنة على وجه الاجتهاد، أي أن يكون للرأي مدخل في أن هذا الحديث يفسّر تلك الآية، أما إن كان الحديث نصا صريحا في تفسير الآية، فإن التابعين لا يخالفونه، ولا يتعدونه، فلا قول لأحد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ولذلك كان بعضهم يسأل بعضا في تفسيره (أرأى، أم علم) (4).
وكثرت عنهم كذلك النقول التي تدل على شدة متابعتهم للسنة، قال ربيعة للزهري: إذا سئلت عن مسألة فكيف تصنع قال: أحدث فيها بما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم،
__________
(1) يراجع في ذلك: الميزان (3/ 70)، والتهذيب (7/ 212)، وتاريخ دمشق (11/ 649)، والعقد الثمين (6/ 85)، وقواعد في علوم الحديث للتهانوي (156)، وبحر الدم (64)، والسنن الكبرى (6/ 137)، والمعرفة (3/ 239).
(2) تاريخ الإسلام (ح 96هـ / 283)، والميزان (1/ 75).
(3) ينظر ترجمة سعيد بن جبير ص (144)، وعطاء بن أبي رباح ص (189).
(4) مصنف عبد الرزاق (3/ 9)، والمحلى (7/ 160، 258)، (8/ 298).(2/636)
فإن لم يكن عن النبي صلى الله عليه وسلم فعن أصحابه، فإن لم يكن عن أصحابه اجتهدت رأيي (1).
وجاء في تفسير قوله تعالى: {يََا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهََادَةُ بَيْنِكُمْ إِذََا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ} (2)، قال ابن شهاب: لم نسمع في هذه الآية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا عن أئمة العامة سنة أذكرها، وقد كنا نتذاكرها أناسا من علمائنا أحيانا، فلا يذكرون فيها سنة معلومة، ولا قضاء من إمام عادل، ولكنه يختلف فيها رأيهم (3).
فقد بين الزهري بذلك منهجا عاما للتابعين في تقديم السنة على ما سواها، وليس هذا مما انفرد به الزهري، فهذا عطاء قال: كنّا قبل أن نسمع هذا الحديث نقول في من أحرم، وعليه قميص أو جبة، فليخرقها عنه، فلما بلغنا هذا الحديث يعني حديث يعلى بن أمية (4) أخذنا به وتركنا ما كنا نفتي به قبل ذلك (5).
وبلغ من حرصهم على الاعتماد على هذا المصدر أن الحسن مثلا يتشدد في رواية الإسرائيليات، وقلّ أن يقبل شيئا منها أو يرويه، لكن تلك الرواية مؤيدة بحديث مرفوع عن النبي صلى الله عليه وسلم تساهل في روايتها، وسيأتي مزيد بيان لذلك (6).
__________
(1) جامع بيان العلم وفضله (2/ 75).
(2) سورة المائدة: آية (106).
(3) تفسير الطبري (11/ 168) 12940، وأورده السيوطي في الدر، وعزاه إلى ابن جرير، وابن أبي حاتم، عن ابن شهاب به (3/ 224).
(4) حديث يعلى بن أمية أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، كيف ترى في رجل أحرم بعمرة في جبة، بعد ما متمضّخ بطيب فنظر إليه النبي صلى الله عليه وسلم ساعة، ثم سكت، فجاءه الوحي، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «أما الطيب الذي بك فاغسله، وأما الجبة فانزعها»، والحديث رواه البخاري في صحيحه كتاب الحج، باب ما يفعل في العمرة ما يفعل في الحج (3/ 6)، ومسلم في صحيحه، كتاب الحج، باب ما يباح للمحرم لحج، أو عمرة (2/ 836)، وأبو داود في سننه، كتاب المناسك، باب الرجل يحرم في ثيابه (1/ 422).
(5) المغني (5/ 109)، وآداب الشافعي للرازي (206).
(6) في مبحث منهجهم في رواية الإسرائيليات، ص (875).(2/637)
ومما يدل على عظيم احتفائهم وعنايتهم بالمروي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قل أن نجدهم يخالفون ما صح عنه صلى الله عليه وسلم من تفسيره، وفيما يلي بعض الأمثلة الدالة على ذلك:
فمن هذا ما جاء عنه صلى الله عليه وسلم في تفسير قوله تعالى: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضََّالِّينَ} (1)، قال صلى الله عليه وسلم: «اليهود مغضوب عليهم، والنصارى ضلال» (2).
وبذلك فسرها: مجاهد (3)، وسعيد بن جبير (4)، وغيرهما.
قال ابن أبي حاتم: لا أعلم خلافا بين المفسرين في تفسير «المغضوب عليهم» باليهود، و «الضالين» بالنصارى (5).
ومنه أيضا ما صح عنه صلى الله عليه وسلم في بيان قوله تعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتََّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} (6)، قال صلى الله عليه وسلم: «هو سواد الليل وبياض النهار» (7)، ولم يخالف في ذلك أحد من التابعين، وبه قال: الحسن (8)، والسدي (9)، وقتادة (10).
__________
(1) سورة الفاتحة: آية (6).
(2) سنن الترمذي كتاب التفسير، باب ومن سورة فاتحة الكتاب (5/ 9204)، ومسند أحمد (4/ 378)، وموارد الظمآن في زوائد ابن حبان (224)، وتفسير الطبري (1/ 195185).
(3) تفسير الطبري (1/ 188) 202، والدر المنثور (1/ 41)، وفتح القدير (1/ 25).
(4) أورده السيوطي في الدر، وعزاه إلى عبد بن حميد عن سعيد به (1/ 41).
(5) تفسير ابن أبي حاتم (22)، وفتح الباري (8/ 159)، والدر المنثور (1/ 42).
(6) سورة البقرة: آية (187).
(7) صحيح البخاري، كتاب التفسير باب «كلوا واشربوا»، ينظر الفتح (8/ 182)، وسنن الترمذي كتاب التفسير باب (ومن سورة البقرة) (5/ 211) 2970، 2971، وتفسير النسائي (1/ 222) 41، 42، ومسند أحمد (5/ 207).
(8) تفسير الطبري (3/ 510) 2982.
(9) تفسير الطبري (3/ 510) 2983.
(10) تفسير الطبري (3/ 510) 2984.(2/638)
ومن ذلك ما جاء عنه عليه الصلاة والسلام في تفسير معنى الظلم الذي ورد في قوله تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمََانَهُمْ بِظُلْمٍ} (1) قال صلى الله عليه وسلم حين شق على أصحابه فقالوا: أيّنا لم يلبس إيمانه بظلم فقال: «ليس بذلك، ألم تسمعوا قول لقمان: إن الشرك لظلم عظيم» (2).
وهذا هو المنقول عن التابعين، فقد قال به: إبراهيم النخعي (3) وقتادة (4)، ومجاهد (5)، والسدي (6)، وسعيد بن جبير (7).
ومن ذلك ما صح عنه صلى الله عليه وسلم في بيان الأشهر الحرم من قوله تعالى: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللََّهِ اثْنََا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتََابِ اللََّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهََا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ} (8)، قال صلى الله عليه وسلم: «إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض، السنة اثنا عشر شهرا، منها أربعة حرم: ثلاث متواليات ذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم، ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان» (9).
__________
(1) سورة الأنعام: آية (82).
(2) صحيح البخاري، كتاب التفسير، باب «ولم يلبسوا إيمانهم بظلم»، ينظر فتح الباري (8/ 294) 4629، وسنن الترمذي، كتاب التفسير باب «ومن سورة الأنعام» (5/ 48) 3067، وتفسير النسائي (1/ 474) 186.
(3) تفسير الطبري (11/ 496) 13482، 113500.
(4) تفسير الطبري (11/ 501) 13501، وتفسير عبد الرزاق (2/ 213).
(5) تفسير الطبري (11/ 501) 13503، وأورده السيوطي في الدر، وعزاه إلى عبد بن حميد، وأبي الشيخ، عن مجاهد بنحوه (3/ 309).
(6) تفسير الطبري (11/ 501) 13505.
(7) أورده السيوطي في الدر، وعزاه إلى ابن أبي حاتم، عن سعيد بنحوه (3/ 309).
(8) سورة التوبة: آية (36).
(9) صحيح البخاري، كتاب التفسير، باب «إن عدة الشهور»، ينظر الفتح (8/ 324) 4662، وصحيح ابن حبان (7/ 585)، وشرح السنة للبغوي (7/ 215).(2/639)
ولم يخالف في ذلك أحد من التابعين، وبه قال السدي (1) ومجاهد (2)، قال ابن جرير: وهو قول عامة أهل التأويل (3).
ومن ذلك أيضا ما صح عنه صلى الله عليه وسلم في تفسير قوله تعالى: {إِنَّ الْحَسَنََاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئََاتِ} (4)، قال صلى الله عليه وسلم: «الصلوات الخمس يغفرن ما كان بينهن» (5).
وفي الحديث أن عثمان بن عفان رضي الله عنه دعا بماء فتوضأ، ثم قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ وضوئي هذا، ثم قال: «من توضأ وضوئي هذا، ثم قام فصلى صلاة الظهر، غفر له ما كان بينه وبين صلاة الصبح، ثم صلى العصر، غفر له ما بينه وبين صلاة الظهر، ثم صلى المغرب، غفر له ما بينه وبين صلاة العصر، ثم صلى العشاء، غفر له ما بينه وبين صلاة المغرب، ثم لعله يبيت ليلته يتمرغ، ثم إن قام فتوضأ وصلى الصبح، غفر له ما بينها وبين صلاة العشاء، وهن الحسنات يذهبن السيئات» (6).
وبه قال أهل التأويل، منهم: محمد بن كعب القرظي، ومجاهد والحسن، وسعيد ابن المسيب، وقتادة (7).
ومنه ما جاء عنه صلى الله عليه وسلم في تفسيره للسبع المثاني في قوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنََاكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثََانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ}، قال صلى الله عليه وسلم لأبي سعيد بن المعلى: «ألا أعلمك أعظم سورة
__________
(1) تفسير الطبري (14/ 236) 16690.
(2) تفسير الطبري (14/ 236) 16691، والدر (4/ 186).
(3) تفسير الطبري (14/ 236).
(4) سورة هود: آية (114).
(5) صحيح ابن حبان (3/ 116) (4/ 65)، ومسند البزاز، ينظر كشف الأستار (1/ 174)، وأورده الهيثمي في مجمع البحرين (1/ 416).
(6) رواه أحمد في مسنده، وصحح أحمد شاكر إسناده، ينظر مسند أحمد (1/ 513) 513، وأورده الهيثمي في مجمع الزوائد (1/ 297) وقال: رجاله رجال الصحيح.
(7) تفسير الطبري (15/ 510) 18651، 18653، 18654، 18657، زاد المسير (4/ 168).(2/640)
في القرآن قبل أن أخرج من المسجد فذهب النبي صلى الله عليه وسلم ليخرج، فذكرته، فقال: الحمد لله رب العالمين، هي السبع المثاني، والقرآن العظيم الذي أوتيته» (1).
وهذا التأويل هو المروي عن أبي العالية (2)، وسعيد بن جبير وإبراهيم، والحسن، ومجاهد، وقتادة (3).
ومن ذلك أيضا بيانه صلى الله عليه وسلم لمعنى الأمة الوسط، التي وردت في قوله تعالى:
{وَكَذََلِكَ جَعَلْنََاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدََاءَ عَلَى النََّاسِ} (4).
ففي الحديث عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: {وَكَذََلِكَ جَعَلْنََاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً}، قال: «عدولا» (5)، وبهذا التفسير قال أهل التأويل، منهم: مجاهد (6)، وقتادة (7)، وعطاء (8).
ومنه أيضا ما بينه لابن عباس بالمراد بقوله تعالى: {وَأَدْبََارَ السُّجُودِ} (9)، قال صلى الله عليه وسلم لابن عباس: «يا ابن عباس ركعتان بعد المغرب أدبار السجود» (10).
__________
(1) سورة الحجر: آية (87)، والحديث أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب التفسير، باب: «ولقد آتيناك سبعا من المثاني»، ينظر الفتح (8/ 381)، والمستدرك (1/ 533)، ومشكل الآثار (1/ 467) (2/ 77)، وينظر كتاب المأثور في تفسير الفاتحة (34).
(2) تفسير الطبري (14/ 55).
(3) المرجع السابق (14/ 56)، وزاد المسير (4/ 413)، وفتح القدير (3/ 141).
(4) سورة البقرة: آية (143).
(5) سنن الترمذي، كتاب تفسير القرآن، باب (ومن سورة البقرة «3») (5/ 207) 2961، ومسند أحمد (3/ 9، 32)، وذكره الهيثمي في المجمع (6/ 316)، وقال: رواه أحمد، ورجاله رجال الصحيح.
(6) تفسير الطبري (3/ 144) 2170، 2171، 2177، وزاد المسير (1/ 154).
(7) تفسير الطبري (3/ 144) 2172، 2173، وتفسير عبد الرزاق (1/ 60).
(8) تفسير الطبري (3/ 145) 2177.
(9) سورة (ق): آية (40).
(10) تفسير الطبري (26/ 181)، وأورده السيوطي في الدر، وعزاه للترمذي، وابن جرير، وابن أبي حاتم، وابن مردويه، والحاكم وصححه، عن ابن عباس بنحوه (7/ 160).(2/641)
وهذا هو المأثور عن التابعين وبه قال مجاهد، والشعبي، وإبراهيم، والحسن، وعطاء، وقتادة (1).
ولما وردت الرواية عنه صلى الله عليه وسلم عند تفسير قوله تعالى: {لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ} (2)، قال ابن عباس: حالا بعد حال، قال هذا نبيكم صلى الله عليه وسلم (3).
وبهذا قال أهل التأويل: كعكرمة، والحسن، وسعيد، ومجاهد، وقتادة، والشعبي (4).
مسالك التابعين في تفسيرهم للقرآن بالسنة:
لم يكن تفسير التابعين للآيات التي يتناولونها بالتفسير بالسنة محصورا في كيفية واحدة، بل تعددت طرقهم في ذلك وتنوعت، ويمكن لدارس تفسيرهم أن يلحظ ستة طرق واضحة، سلكها التابعون في استفادتهم من السنة لتفسير القرآن، وهي:
1 - اعتماد الحديث الوارد في تفسير الآية صراحة
، وهنا لا نجد اختلافا يذكر بين التابعين لأن الحديث نص في تفسير الآية، ومن هذا الباب ما سبق ذكره في المبحث السابق من آيات اتفق التابعون على تفسيرها، ومن أمثلته أيضا سوى ما ذكر.
ما ورد عن الحسن عند تفسير قوله عز وجل: {مَنِ اسْتَطََاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا}، قال: بلغنا أن نبي الله صلّى الله عليه وسلّم قال له قائل أو رجل: يا رسول الله ما السبيل إليه قال: «من وجد زادا وراحلة» (5).
__________
(1) تفسير الطبري (26/ 182180)، وزاد المسير (7/ 24)، والدر (7/ 611).
(2) سورة الانشقاق: آية (19).
(3) صحيح البخاري، كتاب التفسير، باب (لتركبن طبقا عن طبق)، ينظر الفتح (8/ 698) 4940، وزاد المسير (9/ 67)، وأورده السيوطي في الدر، وعزاه إلى البخاري عن ابن عباس (8/ 459).
(4) تفسير الطبري (30/ 123)، وزاد المسير (9/ 68)، والدر (8/ 460).
(5) سورة آل عمران: آية (97)، والحديث أخرجه الطبري في تفسيره (7/ 41، 42) 7488، 7490، ينظر سنن الترمذي، كتاب المناسك (2/ 967) 2896، ومستدرك الحاكم (1/ 442)، وسنن الدارقطني (2/ 216)، والسنن الكبرى للبيهقي (4/ 330)، وأورده الزيلعي في تخريج أحاديث الكشاف (1/ 201) 212، والمناوي في الفتح السماوي (1/ 382) 277.(2/642)
وعنه في تفسير قوله تعالى: {يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمََاوََاتُ} (1)، قال: قالت عائشة: يا رسول الله {يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ} فأين الناس يومئذ قال: «إن هذا الشيء ما سألني عنه أحد، قال: على الصراط يا عائشة» (2)، وجاء مثله عن مسروق، والشعبي وقتادة مرسلا (3).
وعن الحسن أيضا قال: بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قفل من غزوة العسرة، ومعه أصحابه بعد ما شارف المدينة قرأ: {يََا أَيُّهَا النََّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السََّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ (1) يَوْمَ تَرَوْنَهََا}، الآية، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أتدرون أي يوم ذلكم قيل: الله ورسوله أعلم، قال: إنه لم يكن رسولان إلا كان بينهما فترة من الجاهلية، فهم أهل النار، وإنكم بين ظهراني خليقتين لا يعادهما أحد من أهل الأرض إلا كثروهم، وهم يأجوج ومأجوج، وهم أهل النار، وتكمل العدة من المنافقين» (4).
ومثل هذه الأمثلة عن الحسن تؤكد ما سبق من منهجه في الإرسال، وكونه يحرص على إيراد الشواهد من تفسيره صلى الله عليه وسلم على مواعظه وتذكيره (5).
2 - تفسير الآية بحديث يتشابه معها في بعض الألفاظ:
وهنا يربط المفسّر بين الألفاظ التي وقعت في آية، فيرى أن الحديث يفسرها
__________
(1) سورة إبراهيم: آية (48).
(2) تفسير الطبري (13/ 253)، وسنن الترمذي (5/ 296) 3121، ومسند الحميدي (1/ 132)، وصحيح ابن حبان (9/ 237)، والمستدرك (2/ 352)، وشرح السنة للبغوي (15/ 107 108).
(3) تفسير الطبري (13/ 253)، وتفسير عبد الرزاق (2/ 344).
(4) سورة الحج: آية (1)، والأثر في تفسير الطبري (17/ 111)، ومسند الحميدي (2/ 367)، وصحيح ابن حبان (9/ 224)، وموارد الظمآن (434)، ومستدرك الحاكم (2/ 234).
(5) لمزيد من الأمثلة عن التابعين في هذا تراجع الآثار في تفسير الطبري 201، 235، 236، 2526، 8805، 8808، 9377، 2773، 7269، 7270، 12323، 17704، 19403، (30/ 321) (30/ 200).(2/643)
لتشابه بعض ألفاظه بألفاظ الآية، فمن ذلك ما جاء في تفسير قوله تعالى: {يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لََا تَخْفى ََ مِنْكُمْ خََافِيَةٌ} (1)، فقد أسند الحسن عن أبي موسى الأشعري قال:
تعرض الناس ثلاث عرضات، فأما عرضتان فجدال ومعاذير، وأما الثالثة فعند ذلك تطير الصحف في الأيدي، فآخذ بيمينه، وآخذ بشماله (2).
وعن قتادة في الآية نفسها قال: ذكر لنا أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول فذكر الحديث (3).
فهنا ربط الحسن وقتادة، بين (العرض) في الآية، و (العرض) في الحديث، ففسرا الآية بالحديث.
وعند قوله عز وجل: {فَكُّ رَقَبَةٍ} (4)، قال الحسن: ذكر لنا أنه ليس مسلم يعتق رقبة مسلمة، إلا كانت فداءه من النار (5).
وعن قتادة قال: ذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم سئل عن الرقاب أيها أعظم أجرا قال:
«أكثرها ثمنا» (6).
وعن الحسن في قوله تعالى: {إِنَّ اللََّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمََانََاتِ إِلى ََ أَهْلِهََا} (7)،
__________
(1) سورة الحاقة: آية (18).
(2) تفسير الطبري (29/ 59)، وأورده السيوطي عن أبي موسى يرفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم بنحوه، وعزاه إلى أحمد، وعبد بن حميد، والترمذي، وابن ماجة، وابن أبي حاتم، وابن مردويه (8/ 271).
(3) تفسير الطبري (29/ 60)، تفسير عبد الرزاق (3/ 314)، وأورده السيوطي في الدر، وعزاه إلى عبد بن حميد عن قتادة به (8/ 270).
(4) سورة البلد: آية (13).
(5) تفسير الطبري (30/ 202)، وأورده السيوطي في الدر، وعزاه إلى ابن جرير، وعبد بن حميد، عن الحسن به (8/ 523).
(6) تفسير الطبري (30/ 202)، وأورده السيوطي في الدر، وعزاه إلى ابن جرير عن قتادة به (8/ 523).
(7) سورة النساء: آية (58).(2/644)
قال: إن نبي الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: «أدّ الأمانة إلى من ائتمنك، ولا تخن من خانك» (1)، وجاء عن الحسن أيضا في تفسير قوله سبحانه: {وَمَنْ كََانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ} (2)، قال: قال رجل للنبي صلى الله عليه وسلم: إن في حجري يتيما أفأضربه قال: «فيما كنت ضاربا منه ولدك قال: أفأصيب من ماله قال: بالمعروف، غير متأثّل مالا (3)، ولا واق مالك بماله» (4).
فهنا لاحظ الحسن أن الآية والحديث في موضوع اليتيم، ثم لاحظ أن الآية ذكرت الأكل من مال اليتيم (بالمعروف)، وتكرر ذلك اللفظ في الحديث (بالمعروف)، فذكر الحديث تفسيرا للآية.
3 - استنباط تفسير الآية من حديث يتشابه معها في موضوعها.
ويقوم المفسّر هنا بالربط بين ما في الآية وما في الحديث، فيفسّر الآية بالحديث اجتهادا منه أن ذلك القول النبوي مما يدخل في تفسير هذه الآية.
فمن ذلك ما جاء في تفسير قوله سبحانه: {إِذْ قََالَ اللََّهُ يََا عِيسى ََ إِنِّي مُتَوَفِّيكَ} (5)، قال الربيع: يعني وفاة المنام، رفعه الله في منامه، قال الحسن: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
__________
(1) تفسير الطبري (8/ 493، 494) 9850، قال ابن كثير: وفي حديث الحسن عن سمرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال وذكر الحديث، (2/ 298)، والحديث رواه أحمد في مسنده (3/ 414)، والدارقطني في سننه (3/ 35)، والطبراني في المعجم الصغير (188) 466.
(2) سورة النساء: آية (6).
(3) قال ابن الأثير: غير متأثل مالا، أي غير جامع، يقال مال مؤثّل، ومجد مؤثّل أي مجموع ذو أصل، اه، ينظر النهاية (1/ 23)، وغريب الحديث لأبي عبيد (1/ 192).
(4) تفسير الطبري (7/ 593) 8648، والسنن الكبرى للبيهقي (6/ 4)، وتفسير عبد الرزاق (1/ 148)، والمصنف لابن أبي شيبة (6/ 379).
(5) سورة آل عمران: آية (55).(2/645)
لليهود: «إن عيسى لم يمت، وإنه راجع إليكم قبل يوم القيامة» (1).
فهنا ربط الربيع بين الحديث، وفيه النص القاطع أن عيسى لم يمت فحمل آية التوفي على النوم.
وبنحو ذلك فسرها كعب الأحبار حيث قال: ما كان الله عز وجل ليميت عيسى ابن مريم، إنما بعثه الله داعيا ومبشرا يدعو إليه وحده، فلما رأى عيسى قلة من اتبعه وكثرة من كذّبه، شكا ذلك إلى الله عز وجل، فأوحى الله إليه: {إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرََافِعُكَ إِلَيَّ}، وليس من رفعته عندي ميتا، وإني سأبعثك على الأعور الدجّال فتقتله، ثم تعيش بعد ذلك أربعا وعشرين سنة، ثم أميتك ميتة الحيّ. قال كعب الأحبار: وذلك يصدّق حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال: «كيف تهلك أمة أنا في أولها، وعيسى في آخرها» (2).
وفي تفسير قوله عز وجل: {وَلََا تُؤْتُوا السُّفَهََاءَ أَمْوََالَكُمُ} (3)، قال الحسن:
السفهاء: ابنك السفيه، وامرأتك السفيهة، ولقد ذكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «اتقوا الله في الضعيفين اليتيم والمرأة» (4).
فهنا أيضا نجد الحسن قد ربط بين الآية والحديث في أن كلا منهما مما يعود على مصلحة الضعيف، ففسر السفهاء بالمرأة والولد.
__________
(1) تفسير الطبري (6/ 455) 7133، وساقه ابن كثير بإسناد ابن أبي حاتم، ونسب الأثر كله للحسن، ينظر تفسير ابن كثير (2/ 38).
(2) تفسير الطبري (6/ 456) 7137، وأورده السيوطي في الدر، وعزاه إلى ابن جرير، وصحح إسناده عن كعب بنحوه (2/ 225)، وأورده ابن الأثير في جامع الأصول عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جده، بزيادة في أوله، وعزاه إلى رزين (9/ 202) 6772.
(3) سورة النساء: آية (5).
(4) تفسير الطبري (7/ 561) 8527، وتفسير عبد الرزاق (1/ 146).(2/646)
وفي تفسير قوله سبحانه: {وَلََا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللََّهِ أَمْوََاتٌ بَلْ أَحْيََاءٌ وَلََكِنْ لََا تَشْعُرُونَ} (1)، قال قتادة: كنا نحدّث أن أرواح الشهداء تعارف في طير بيض يأكلن من ثمار الجنة (2).
وجاء نحو ذلك عن عكرمة، ومجاهد، والربيع (3).
4 - اقتباس تفسير الآية من لفظ الحديث دون أن يرفعه للرسول صلى الله عليه وسلم:
وفي هذا الطريق يأتي المفسّر إلى الآية فيلحظ فيها معنى من المعاني الثابتة في السنة، فيفسّر الآية بعبارات الحديث دون أن يذكر أنه من كلام النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا يدلّ على تشبعهم بالألفاظ النبوية، حتى إنهم ليفسّرون بها، وتكون كلماتهم وحروفهم إذا تكلموا أو فسروا.
فمن ذلك ما جاء عن عطاء في تفسير قوله تعالى: {وَلََا تَجْعَلُوا اللََّهَ عُرْضَةً لِأَيْمََانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النََّاسِ} (4)، قال: الإنسان يحلف أن لا يصنع الخير، والأمر الحسن، يقول: (حلفت) قال الله: افعل الذي هو خير، وكفّر عن يمينك، ولا تجعل الله عرضة (5).
فقوله: (افعل الذي هو خير وكفّر عن يمينك) هو معنى حديث قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم:
«من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليأت الذي هو خير، وليكفّر عن يمينه» (6).
__________
(1) سورة البقرة: آية (154).
(2) تفسير الطبري (3/ 215) 2319، 2320، وتفسير عبد الرزاق (1/ 63)، وفتح القدير (1/ 159).
(3) تنظر الآثار في تفسير الطبري (3/ 215) 23222317.
(4) سورة البقرة: آية (224).
(5) تفسير الطبري (4/ 421) 4356، وزاد المسير (1/ 254)، وفتح القدير (1/ 231).
(6) رواه مسلم في صحيحه، كتاب الإيمان، باب ندب من حلف يمينا فرأى غيرها خيرا منها أن(2/647)
وهذا هو الذي قاله عطاء: (افعل الذي هو خير وكفّر عن يمينك)، وجاء نحوه عن سعيد بن جبير، وإبراهيم النخعي في تفسير قوله تعالى: {لََا يُؤََاخِذُكُمُ اللََّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمََانِكُمْ} (1)، ومنه ما جاء عن عكرمة في تفسير قوله تعالى: {وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثََاقاً غَلِيظاً} (2)، قال: أخذتموهن بأمانة الله، واستحللتم فروجهن بكلمة (3) الله، وهذا اقتباس من حديث جابر رضي الله عنه في صفة الحج، وذلك في خطبة الوداع (4) ولم يرفعه عكرمة للنبي صلى الله عليه وسلم، ومن ذلك أيضا ما جاء في تفسير قوله تعالى: {وَاضْرِبُوهُنَّ} (5)، فقد جاء عن سعيد بن جبير، والشعبي، وعكرمة، والحسن، وقتادة، وعطاء، والسدي، ومحمد بن كعب، في تفسير الضرب أنه ضرب غير مبرح (6).
5 - استنباط معنى الآية بمعرفة حكم مقرر في السنة:
ونجد المفسّر في هذا الطريق يربط بين حكم الآية، والحكم المقرر المعروف عنده، فيحمل الآية على الحديث الذي ثبت به الحكم، فمن ذلك ما ورد عن الحسن في تفسير قوله تعالى: {يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيََاتِ رَبِّكَ لََا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمََانُهََا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمََانِهََا خَيْراً} (7).
__________
يأتي الذي هو خير (3/ 1272) 1650، وأخرجه الطيالسي في مسنده، ينظر منحة المعبود (1/ 247) 1218، وأحمد في مسنده (4/ 256، 257، 258).
(1) سورة البقرة: آية (225)، ينظر تفسير الطبري (4/ 422) 4364.
(2) سورة النساء: آية (21).
(3) تفسير الطبري (8/ 129) 8934، وأورده السيوطي في الدر، وعزاه لابن أبي شيبة عن عكرمة، ومجاهد به (2/ 468)، وفتح قدير (1/ 443).
(4) رواه مسلم، في كتاب الحج، باب حجة النبي صلى الله عليه وسلم (2/ 886) 147، وأحمد في مسنده (5/ 73)، وابن ماجة، في كتاب المناسك، باب حجة رسول الله صلى الله عليه وسلم (2/ 1022) 3074.
(5) سورة النساء: آية (34).
(6) تفسير الطبري (8/ 311) 9377، 9378، 9379، 9383، 9384، 9385، 9390، 9391، 9393، 9394، 9395، والدر المنثور (2/ 523521).
(7) سورة الأنعام: آية (158).(2/648)
قال الحسن: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بادروا بالأعمال ستا: طلوع الشمس من مغربها، والدجال، والدخان، ودابة الأرض، وخويصة أحدكم (1)، وأمر العامة» (2).
فهنا كان حكم المبادرة ثابتا عن الحسن من هذا الحديث، فلحظ أن الآية تحض على الإيمان، والعمل به قبل مجيء الآيات، فربط الحسن بينهما، فجعل الآيات المذكورة في الآية هي من المذكورات في الحديث، والله أعلم.
وبنحوه جاء في تفسيرها عن مجاهد أنه قال: طلوع الشمس من مغربها (3).
6 - معرفة تفسير الآية بسبب النزول:
وهنا يتجه المفسّر إلى الحديث، فيستفيد منه معرفة سبب النزول مما يعين على فهم الآية.
فمن ذلك ما ورد عن الحسن في تفسير قوله تعالى: {وَلََا تَتَّخِذُوا آيََاتِ اللََّهِ هُزُواً} (4)، قال: إن الناس كانوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يطلّق الرجل أو يعتق فيقال:
ما صنعت فيقول: إنما كنت لاعبا! قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من طلّق لاعبا، أو أعتق لاعبا، فقد جاز عليه»، قال الحسن: وفيه نزلت: {وَلََا تَتَّخِذُوا آيََاتِ اللََّهِ هُزُواً} (5).
__________
(1) (وخويصة أحدكم) يريد حادثة الموت، التي تخص كل إنسان، وهي تصغير خاصة، وصغرت لاحتقارها في جانب ما بعدها من البعث والعرض والحساب، ينظر حاشية كتاب الإيمان لابن مندة (2/ 921).
(2) تفسير الطبري (12/ 265) 14248، وكتاب الإيمان لابن مندة (2/ 921) 10111007، ومستدرك الحاكم (4/ 516)، وشرح السنة للبغوي (15/ 44) 4249، وأورده الزيلعي في أحاديث الكشاف (1/ 45) 23.
(3) تفسير الطبري (12/ 263) 14240، وزاد المسير (3/ 156).
(4) سورة البقرة: آية (231).
(5) تفسير الطبري (5/ 13) 4924، وتفسير ابن كثير (1/ 414)، وأورده السيوطي في الدر، وعزاه إلى ابن أبي شيبة، وابن جرير، وابن أبي حاتم، عن الحسن بنحوه (1/ 683)، وأورده ابن حجر في المطالب العالية بلفظ مقارب (3/ 306) 3539، وذكره الهيثمي وعزاه للطبراني، وقال: فيه عمرو بن عبيد، وهو من أعداء الله (4/ 288).(2/649)
ومن ذلك أيضا ما جاء عن الحسن في تفسير قوله تعالى: {وَإِذََا طَلَّقْتُمُ النِّسََاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلََا تَعْضُلُوهُنَّ} (1). إلى آخر الآية، قال: نزلت هذه الآية في معقل بن يسار. قال الحسن: حدثني معقل بن يسار أنها نزلت فيه، قال: زوّجت أختا لي من رجل فطلّقها، حتى إذا انقضت عدتها جاء يخطبها، فقلت له: زوّجتك وفرشتك أختي وأكرمتك، ثم طلّقتها، ثم جئت تخطبها! لا تعود إليك أبدا! قال: وكان رجل صدق لا بأس به، وكانت المرأة تحب أن ترجع إليه، قال الله تعالى ذكره: {وَإِذََا طَلَّقْتُمُ النِّسََاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلََا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوََاجَهُنَّ إِذََا تَرََاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ}، قال:
فقلت: الآن أفعل يا رسول الله! فزوجتها منه (2).
وبنحوه قال قتادة (3)، ومجاهد (4)، وذكر السدي أنها نزلت في جابر بن عبد الله الأنصاري (5).
فهنا اعتمد الأئمة في تفسير الآية على حديث معقل الذي منع زوج أخته من ردها لما أو شكت عدتها أن تنقضي، فنزلت الآية تمنع من هذا العضل، وتبين الحكم الشرعي في ذلك، وسيأتي مزيد بسط لذلك عند التعرض لأسباب النزول (6).
__________
(1) سورة البقرة: آية (232).
(2) تفسير الطبري (5/ 19) 4931، وتفسير عبد الرزاق (1/ 94)، والسنن الكبرى للبيهقي (7/ 138)، والمستدرك (2/ 174)، والفتح (8/ 143)، وزاد المسير (1/ 268)، وفتح القدير (1/ 244).
(3) تفسير الطبري (5/ 19) 4930، 4937، وتفسير عبد الرزاق (1/ 94).
(4) تفسير الطبري (5/ 20) 4922، 4934، والدر المنثور (1/ 685).
(5) تفسير الطبري (5/ 21) 4939، وزاد المسير (1/ 268)، وفتح القدير (1/ 244).
(6) في مبحث أثرهم في أصول التفسير، ص (1049).(2/650)
المبحث الثالث أقوال الصحابة
لعل المصدر الواضح التأثير الذي تلقى منه التابعون التفسير هو الأخذ من الصحابة لأنه يشتمل على أصول المصادر الأخرى، فإن التابعين ما علموا كيفية التلقي من الكتاب والسنة، وكذلك الاجتهاد، ونحو ذلك إلا بسبب تربيتهم على أيد الصحابة، وخبرتهم بمناهجهم الاستدلالية، وتعلمهم لطرق الاستنباط، وتلقيهم الرواية النبوية، ورؤيتهم التطبيق العملي لذلك كله.
ولا غرو أن يرجع المعدن الطيب الفضل لذوي الفضل، وتنقل عبارات المدح والإعجاب، والثناء والترحم على هذا الجيل من الصحابة الذي اضطلع بالمسئولية فأداها، وحملها إلى أصحابها غير متكاسل، ولا هياب، لقد وضع ابن مسعود رضي الله عنه حجر الأساس في تقويم جيل الصحابة، وبيان منزلتهم حيث قال: من كان منكم متأسيا، فليتأس بأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنهم كانوا أبر هذه الأمة قلوبا، وأعمقها علما (1).
لقد استوعب التابعون هذه الرسالة، وعرفوا فضل الصحابة، فها هو مجاهد يقول: العلماء أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم (2).
ويفسر قتادة قوله تعالى: {وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ}
__________
(1) علوم الحديث لابن الصلاح (263).
(2) انظر إعلام الموقعين (1/ 15).(2/651)
{الْحَقَّ} (1) فيقول: أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم (2).
ويقول مسروق: سألنا عبد الله عن أرواح الشهداء، ثم يعقب فيقول: ولولا عبد الله ما أخبرنا به أحد! قال: أرواح الشهداء عند الله في أجواف طير خضر في قناديل تحت العرش، تسرح في الجنة حيث شاءت، ثم ترجع إلى قناديلها، فيطلع إليها ربها فيقول:
ماذا تريدون فيقولون: نريد أن نرجع إلى الدنيا فنقتل مرة أخرى (3).
لقد تعدى حب التابعين للصحابة مرحلة الإعجاب، إلى مرحلة الإجلال والتقدير، يظهر ذلك من نقولهم من الصحابة، وتقديم قول الصحابة على آرائهم، فالشعبي، عند ما سأله سائل بأمر قاله له: كان ابن مسعود يقول فيه كذا. فيستزيد السائل علما منه، فيقول: أخبرني أنت برأيك، فيتعاظم ذلك عند الشعبي، فهو وإن كان أحد أوعية العلم فإنه لا يرى لنفسه رأيا مع صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم فيزجر السائل قائلا: ألا تعجبون من هذا! أخبرته عن ابن مسعود، ويخبرني عن رأيي (4).
ويسأل صالح بن مسلم الشعبي عن مسألة فيجيبه الشعبي: قال فيها عمر رضي الله عنه كذا، وقال عليّ رضي الله عنه فيها كذا، فقال له: ما ترى قال: وما تصنع برأيي بعد قولهما إذا أخبرتك برأيي فبل عليه (5).
ويعمم الشعبي هذا الحكم فيقول لبعض أصحابه: ما قالوا لك برأيهم فبل عليه، وما حدثوك عن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم فخذ به (6)، وينعي الشعبي على أهل عصره
__________
(1) سورة سبأ: آية (6).
(2) إعلام الموقعين (1/ 15)، وزاد المسير (6/ 433)، وفتح القدير (4/ 314).
(3) تفسير الطبري (7/ 387) 8208، والعلل لأحمد (2/ 450) 2999.
(4) سنن الدارمي (1/ 47)، وقواعد التحديث (340).
(5) حلية الأولياء (4/ 319).
(6) طبقات ابن سعد (6/ 251)، وسنن الدارمي (1/ 67)، والحلية (4/ 319).(2/652)
بقوله: إنما هلكتم بأنكم تركتم الآثار، وأخذتم بالمقاييس (1).
ويقول الشعبي: إذا اختلف الناس في شيء فانظر كيف صنع عمر فإن عمر لم يكن يصنع شيئا حتى يشاور، فقال أشعث راوي الأثر، فذكرت ذلك لابن سيرين، فقال: إذا رأيت الرجل يخبرك أنه أعلم من عمر فاحذره (2).
ومجاهد يتحدث عن ابن عباس بحديث بليغ، يملؤه الإعزاز والإكبار، فيقول: كان ابن عباس إذا فسر الشيء رأيت عليه نورا (3). ويضع الحق في موضعه عند ما يقول: ما سمعت فتيا أحسن من فتيا ابن عباس إلا أن يقول قائل: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (4).
وها هو مسروق يقرر أهلية الصحابة، ومنزلتهم العالية في الاجتهاد والاستنباط فيقول: ما نسأل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شيء إلا وجدناه في كتاب الله، إلا أن رأينا يقصر عنه (5).
بل إن العجب لا يزال يأخذنا عند ما نرى تقدير التابعين للصحابة، حتى إن النخعي مع قلة روايته عن ابن عباس إلا أنه لما مرّ بقوله تعالى: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سََاقٍ} (6)، اعتمد قول ابن عباس (7).
بل نجد من التابعين من يتوقف في التفسير، ولا يقدم على الاجتهاد لسبب توقف الصحابة، فإنه لما سئل سعيد بن جبير عن قوله: {وَحَنََاناً مِنْ لَدُنََّا} (8)، قال: سألت
__________
(1) الحلية (4/ 320).
(2) الحلية (4/ 320).
(3) فضائل الصحابة لأحمد (2/ 980) 1935.
(4) الاستيعاب (2/ 344).
(5) شعب الإيمان (2/ 425) 2284، والعلم لأبي خيثمة (120).
(6) سورة القلم: آية (42).
(7) تفسير الطبري (29/ 38).
(8) سورة مريم: آية (13).(2/653)
عنها ابن عباس فلم يجب شيئا (1).
ويتضح موقف التابعين من أقوال الصحابة عند وقوع الخلاف بينهم في التفسير، فإنهم سرعان ما يفزعون إلى الصحابة يتلقون عنهم ما يحسم خلافهم، كما اختلفوا في الصلاة الوسطى، فأرسلوا إلى ابن عمر فقال الغلام عن ابن عمر: هي الظهر، فشككنا في قول الغلام، فقمنا جميعا فسألناه فقال: هي الظهر (2).
ولما اختلف عكرمة، وابن جبير، وعطاء بن أبي رباح، وعبيد بن عمير في الملامسة، فقال سعيد، وعطاء: الملامسة ما دون الجماع، وقال عبيد: هو النكاح، فخرج عليهم ابن عباس فسألوه فقال: أخطأ الموليان، وأصاب العربي، الملامسة النكاح (3)، وفي قوله: أصاب العربي إشارة إلى ضرورة معرفة لغة العرب للتفسير، فهو نوع من التربية بالإيماء.
ويروي لنا سعيد بن منصور أن الشعبي قال: أكثروا علينا في هذه الآية: {قُلْ لََا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى ََ} (4)، فكتبت إلى ابن عباس أسأله عنها فكتب:
إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان واسط النسب في قريش، لم يكن حي من أحياء قريش إلا ولده، فقال الله: {قُلْ لََا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى ََ}، تودون بقرابتي منكم، وتحفظون في ذلك (5).
__________
(1) أورده السيوطي في الدر، وعزاه إلى ابن جرير عن سعيد به (5/ 485)، ولم أجده في تفسير ابن جرير عند هذه الآية.
(2) تاريخ أبي زرعة (1/ 619)، وأورده السيوطي في الدر، وعزاه البيهقي، وابن عساكر، عن سعيد بن المسيب بنحوه (1/ 721).
(3) تفسير الطبري (8/ 390) 9584، 9585، وفتح القدير (1/ 473).
(4) سورة الشورى: آية (23).
(5) فتح الباري (8/ 565)، وأورده السيوطي في الدر، وعزاه لسعيد بن منصور، وابن سعد، وعبد بن حميد، والحاكم وصححه، وابن مردويه عن الشعبي به (7/ 346)، وفتح القدير (4/ 536).(2/654)
ولم يكن تلقي التابعين مقتصرا على السماع فقط من الصحابة، بل تعدى ذلك إلى تتبع أفعالهم والاقتداء بها، ولا سيما فيما يتعلق بالتفسير، كما سبق في توقف سعيد عن تفسير ما توقف فيه ابن عباس، وأصرح من ذلك لما سئل مجاهد عن السجدة في سورة (ص)، قال: سئل ابن عباس فقال: {أُولََئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللََّهُ} (1)، وكان ابن عباس يسجد فيها (2).
لقد بلغت متابعة التابعين للصحابة مبلغ الملازمة الطويلة حرصا على التثبت، فعلقمة (مثلا) اختلف إلى عبد الله شهرا في امرأة توفي عنها زوجها، ولم يدخل بها، ولم يفرض لها صداقا، فقال: لها مثل صداق نسائها، وعليها العدة، ولها الميراث (3).
ويفعل ذلك مجاهد فيسأل ابن عباس شهرا عن رجل يصوم النهار، ويقوم الليل، ولا يحضر جمعة ولا جماعة قال: هو من أهل النار (4).
ومما يدل على عظيم قدر تفسير الصحابة عند التابعين، أن بعض أئمة المدارس التي هابت التفسير، ولم تتعرض للاجتهاد فيه، وقد وجد من أصحابها المتأخرين من اشتغل به، فأنكر عليه، وعيب بذلك، كان من أبلغ ما رد به على منتقديه أن ذكرهم بأن تفسيره إنما هو عن بعض الصحابة، وأنه لم يأت بجديد من عنده، كما كان يفعل السدي فقد أنكروا عليه توسعه، وإكثاره في باب التفسير، فأشار إلى أن تفسيره إنما هو صدى تفسير ابن عباس وأقواله، فإن كان قد أخطأ، أو أكثر، فإنه من ابن عباس أخذ، وعنه روى (5)، ولكثرة أخذه عن ابن عباس عده الأئمة رواية له (6).
__________
(1) سورة الأنعام: آية (90).
(2) رواه البخاري في صحيحه، كتاب التفسير، سورة ص، ينظر الفتح (8/ 544) 4806.
(3) المعرفة (2/ 637).
(4) شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة (7/ 1456) 2808.
(5) أخبار أصبهان (1/ 204).
(6) تاريخ العجلي (66)، ومجموع الفتاوى (13/ 366).(2/655)
والإمام أحمد قد وثق السدي، وإنما عاب عليه تكلفه في المجيء بالإسناد لتفسيره (1).
وهذا لا يعني أن السدي كان يضع الأسانيد كذبا على الصحابة، حاشاه ذلك، وإلا فمثل هذا لا يوثقه أحمد، ولا غيره، ولكن المراد والله أعلم أن السدي لما رأى حرص التابعين على الأخذ من الصحابة، صار يحدث عن الصحابة فيما يعلمه، وأخذه منهم، وما لم يسمعه مباشرة فإنه يأخذه بنزول عمن يحدث عن الصحابي، ولربما كان في هذا النزول ضعف لأن الراوي الذي يأخذ منه السدي يكون ضعيفا، فلحرص السدي رحمه الله على الإسناد عن الصحابة كان لا يبالي عمن أخذ التفسير، ما دام في الإسناد عن فلان الصحابي رضي الله عنه.
وقد حرص التابعون على نقل هذا المنهج لتلاميذهم من أتباع التابعين، وذلك بتوجيههم حين السؤال، أو برواية المأثور حينما يسألون، فقد سئل عبيدة عن آية من كتاب الله فقال للسائل: عليك بتقوى الله والسداد، فقد ذهب الذين كانوا يعلمون فيم أنزل القرآن (2).
وفهم التلاميذ هذا المنهج، ودرجوا عليه لكثرة ما سمعوه من شيوخهم، فعند ما كان يسأل عطاء تلاميذه، وخاصة ابن جريج عن المسألة فيقول له ابن جريج: هل بلغك في هذا الشيء شيء ما عن النبي، أو أحد أصحابه (3)، وها هو إبراهيم يسأل مجاهدا عن قوله عز وجل: {الْجَوََارِ الْكُنَّسِ} (4).
ويقول له: قل فيها ما سمعت، قال مجاهد: كنا نسمع أنها النجوم (5).
__________
(1) تهذيب التهذيب (1/ 314).
(2) المصنف لابن أبي شيبة (10/ 511) 10148.
(3) المصنف لعبد الرزاق (5/ 40، 73، 77) 8923، 9037، 9053.
(4) سورة التكوير: آية (16).
(5) تفسير الطبري (30/ 76).(2/656)
ويقول مجاهد في قوله تعالى: {فَلََا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ (15) الْجَوََارِ الْكُنَّسِ} (1)، قال: كنا نقول: الظباء، حتى زعم سعيد بن جبير أنه سأل ابن عباس عنها، فأعاد عليه قراءتها (2).
ومع قلة أخذ مجاهد عن ابن مسعود، فإنه في المسائل المهمة يعتمد قوله ولا يتعداه، فقد بين الكبائر بقوله: قال ابن مسعود: الكبائر ثلاث: اليأس من روح الله، والقنوط من رحمة الله، والأمن من مكر الله (3).
منهج التابعين في الأخذ عن الصحابة:
لقد سبق معرفة حال التابعين من تفسير الصحابة، وكيف كانوا يعظمون أقوالهم واجتهاداتهم، ولكن هذا لم يكن يمنعهم من الاجتهاد والاستنباط، وسيأتي في مبحث الاجتهاد من مصادر التابعين في التفسير ما يدل على تقدمهم في مجال الاجتهاد التفسيري أكثر من غيرهم (4).
ولأجل ذلك كان لزاما أن أبين هنا كيف تعامل التابعون مع أقوال الصحابة، ما اجتمعوا عليه، وما اختلفوا فيه، وما كان من اجتهادهم، وما كان من مروياتهم، ولقد ظهر لي أن غالب فعل التابعين يدور حول ما يلي:
1 - إذا كان تفسير الصحابي يرفعه للنبي صلى الله عليه وسلم، فهذا هو المطلب الرئيس، والغاية القصوى، وليس بعده قول، وكذلك ما كان من تفسير الصحابي، وهو وارد في سبب النزول بالصيغة الصريحة (5). وكذلك فيما لا مجال للرأي فيه، فهذا يقف عنده
__________
(1) سورة التكوير: آية (15، 16).
(2) تفسير الطبري (30/ 76).
(3) سيأتي تفصيل ذلك في مبحث الاجتهاد ص 708.
(4) سيأتي ذلك ص (709).
(5) أي سبب نزول كذا هو كذا وكذا، أو حدث كذا فنزل كذا.(2/657)
التابعون لا يجاوزونه لأن الصحابي شاهد التنزيل، ومثال ذلك ما جاء في تفسير قوله تعالى: {حَتََّى إِذََا جََاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنََا وَهُمْ لََا يُفَرِّطُونَ} (1)، فقد قال فيها ابن عباس رضي الله عنهما: إن لملك الموت أعوانا من الملائكة، رواه عنه إبراهيم (2)، ولذا جاءت الرواية من تفسير إبراهيم نفسه بالاقتصار على قول ابن عباس، ولم يزد عليه شيئا، فقال: أعوان ملك الموت (3)، وكذا جاء عن قتادة (4)، ومجاهد (5)، والربيع (6).
2 - وإذا كان التفسير الوارد عن الصحابي من باب الاجتهاد، وجار على مقتضى اللغة، فإنهم في الغالب لا يخالفونه، فإن الصحابة أهل اللسان، والبيان، والفهم.
ولأجل ذلك اعتمد مجاهد تفسير ابن عباس دون غيره عند ما تعرض لتفسير قوله تعالى: {فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ} (7).
فقد قال ابن عباس: المستقر بالأرض، والمستودع: عند الرحمن (8) وقال مجاهد:
المستقر الأرض: والمستودع عند ربك (9).
وجاءت رواية عن ابن عباس: أن المستقر في الرحم، والمستودع في الصلب (10).
__________
(1) سورة الأنعام: آية (61).
(2) تفسير الطبري (11/ 410) 13325، 13329، 13335، وزاد المسير (3/ 55).
(3) المرجع السابق (11/ 410) 13327، 13328، 13334، 13336، 13338.
(4) المرجع السابق (11/ 410) 13332، وأورده السيوطي في الدر، وعزاه إلى عبد الرزاق، وابن جرير، وابن المنذر، عن مجاهد بنحوه (3/ 281).
(5) المرجع السابق (11/ 411) 13333.
(6) المرجع السابق (11/ 412) 13334.
(7) سورة الأنعام: آية (98).
(8) تفسير الطبري (11/ 564) 13623، وزاد المسير (3/ 92).
(9) تفسير الطبري (11/ 565) 3624، وزاد المسير (3/ 92).
(10) تفسير الطبري (11/ 570) 13654، وزاد المسير (3/ 92)، وفتح القدير (2/ 146).(2/658)
وتأتي الرواية عن مجاهد أيضا أن المستقر الرحم، والمستودع الصلب (1) موافقة للرواية الثانية لشيخه، وهكذا كان حال ابن جبير في تفسير هذه الآية (2).
3 - وبلغ من حرصهم على اتباع الصحابة في التفسير أنهم ربما فسروا الآية بتفسيرين مختلفين لورود ذلك عن الصحابي في مكانين.
فقتادة يذكر في تفسير قوله تعالى: {وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبََاناً} (3) أي يدوران في حساب (4).
وفي رواية أخرى نجده يقول: حسبانا أي ضياء (5).
وإذا أردنا أن نعرف سبب الاختلاف، فإننا نرجع لما روي عن الصحابي، فنجد ابن عباس يقول فيها: يجريان إلى أجل جعل لهما (6).
توافقه الرواية الأولى عن قتادة، ويقول في تفسير قوله تعالى: {وَيُرْسِلَ عَلَيْهََا حُسْبََاناً مِنَ السَّمََاءِ} (7)، قال: نارا، فنقل قتادة ذلك إلى آية الأنعام.
قال الطبري في آية الأنعام: وأحسب أن قتادة في تأويل ذلك بمعنى الضياء، ذهب إلى شيء يروى عن ابن عباس في قوله: {وَيُرْسِلَ عَلَيْهََا حُسْبََاناً مِنَ السَّمََاءِ} (8) قال:
نارا فوجّه تأويله قوله: {وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبََاناً} إلى ذلك التأويل، وليس هذا من
__________
(1) تفسير الطبري (11/ 570) 13651، وزاد المسير (3/ 92).
(2) المرجع السابق (11/ 563) 13620، 13622، 13627، 13658، وزاد المسير (3/ 92).
(3) سورة الأنعام: آية (96).
(4) تفسير الطبري (11/ 558) 13609، وتفسير عبد الرزاق (2/ 214).
(5) تفسير الطبري (11/ 559) 13611، وزاد المسير (3/ 91).
(6) تفسير الطبري (11/ 558) 13606، وزاد المسير (3/ 91).
(7) سورة الكهف: آية (40).
(8) سورة الكهف: آية (40).(2/659)
ذلك المعنى في شيء (1).
4 - إذا تعارضت الأقوال المنقولة عن الصحابة، فإن التابعين يسلكون مسلك الترجيح بينها، والترجيح قد يكون باللغة، أو بالحديث، أو بقول صحابي آخر يجمع به بين الأقوال.
فمن الأول ما جاء في تفسير قوله تعالى: {أَقِمِ الصَّلََاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} (2)، جاء عن ابن عباس في تفسيرها أن دلوكها غروبها (3)، وجاء عنه أن دلوكها: زيغها بعد نصف النهار (4).
وجاء عن ابن مسعود أن دلوكها غروبها (5)، وجاء عنه أيضا أن دلوكها ميلها، يعني: الزوال (6).
فاختار قتادة أن دلوكها زوالها، ففسرها به (7)، مع أنه نقل القول بغروبها عن ابن مسعود (8)، ولعل سبب هذا الاختيار هو أن اللغة تدل على أن الدلوك هو الميل، فيكون المراد صلاة الظهر، ورجحه ابن جرير، وناقش الأول (9).
وقد يكون الترجيح لأثر مرفوع، ومنه ما جاء عن قتادة، وهو يحدث عن سعيد بن المسيب، قال: كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم مختلفين في الصلاة الوسطى، وشبك بين
__________
(1) تفسير الطبري (11/ 560).
(2) سورة الإسراء: آية (78).
(3) تفسير الطبري (15/ 134)، وتفسير عبد الرزاق (2/ 348)، وفتح القدير (3/ 254).
(4) تفسير الطبري (15/ 136)، وفتح القدير (3/ 254).
(5) المرجع السابق (15/ 174)، وزاد المسير (5/ 72)، وفتح القدير (3/ 254).
(6) المرجع السابق (15/ 135)، وفتح القدير (3/ 254).
(7) المرجع السابق (15/ 136)، وزاد المسير (5/ 72)، وفتح القدير (3/ 250).
(8) المرجع السابق (15/ 134)، وزاد المسير (5/ 72)، وفتح القدير (3/ 254).
(9) تفسير الطبري (15/ 136، 137).(2/660)
أصابعه (1)، فرجح الحسن أنها صلاة العصر (2) متابعا في ذلك عددا من الصحابة رضي الله عنهم، والمرجح هنا هو الأثر المرفوع الذي رواه الحسن عن سمرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
«الصلاة الوسطى صلاة العصر» (3).
وقد يكون الترجيح بقول صحابي آخر، ويقدّم به عموم الآية على ما ورد في خصوصها، ويجمع به بين الأقوال، فمن ذلك تفسيرهم لقوله تعالى: {إِنََّا أَعْطَيْنََاكَ الْكَوْثَرَ} (4) فقد جاء تفسير الكوثر عن جمع من الصحابة أنه نهر في الجنة (5)، وعن ابن عباس أنه الخير الكثير الذي أعطاه الله إياه (6)، وتابعه على ذلك سعيد بن جبير (7)، فقال أبو بشر لسعيد: إنا كنا نسمع أنه نهر في الجنة، فقال: هو الخير الذي أعطاه الله إياه (8)، وفي رواية فقال سعيد: النهر الذي في الجنة من الخير الذي أعطاه الله إياه (9)، فهنا رجح ابن جبير العموم في الآية مستندا لقول ابن عباس، ولم يذهب إلى خصوص الأثر الوارد في ذلك
أما إذا لم يكن ثمة مروي عن الصحابة في ذلك، فعندئذ يدخل منهم من يدخل في باب الاجتهاد.
__________
(1) تفسير الطبري (5/ 221) 5492، وفتح الباري (8/ 147)، وزاد المسير (1/ 282).
(2) تفسير الطبري (5/ 194) 5419، وزاد المسير (1/ 282)، والدر المسير (1/ 724).
(3) تفسير الطبري (5/ 194) 5438.
(4) سورة الكوثر: آية (1).
(5) تنظر الآثار في تفسير الطبري (30/ 320)، وتفسير عبد الرزاق (3/ 401)، وزاد المسير (9/ 248)، وفتح القدير (5/ 503).
(6) تفسير الطبري (30/ 321)، وزاد المسير (9/ 248)، والدر (8/ 647)، وفتح القدير (5/ 504).
(7) المرجع السابق (30/ 322).
(8) المرجع السابق (30/ 322)، وفتح القدير (5/ 54).
(9) المرجع السابق (30/ 321)، والدر المنثور (8/ 649).(2/661)
فعن ابن جريج قال: سألت عطاء عن قوله سبحانه: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقََامِ إِبْرََاهِيمَ مُصَلًّى} (1) فقال: سمعت ابن عباس قال: أما مقام إبراهيم الذي ذكر هاهنا فمقام إبراهيم هذا الذي في المسجد. قال: ومقام إبراهيم يعدّ كثير، مقام إبراهيم الحج كله.
ثم فسر لي عطاء فقال: التعريف، وصلاتان بعرفة، والمشعر، ومنى، ورمي الجمار، والطواف بين الصفا، والمروة.
فقلت: أفسره ابن عباس: قال: لا، ولكن قال: مقام إبراهيم الحج كله.
قلت: أسمعت ذلك لهذا أجمع قال: نعم. سمعته منه (2).
اختلاف مناهج المدارس في الأخذ عن الصحابة:
لم تتفق مدارس التابعين على منهج واحد في هذا المصدر من مصادر التلقي للتفسير، فإن الصحابة لم يكونوا مجتمعين في مكان واحد، فلقد انطلق أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة في طليعة الجيوش الفاتحة للبلاد، ونزل منهم من نزل في الأمصار معلما، ومربيا، وراويا ما أخذه عن النبي صلى الله عليه وسلم، ومجتهدا بما لا يعرف فيه آية محكمة، أو سنة سالفة، وجلس الناس إليهم يسمعون، ومن علمهم ينهلون، ويتلقون الفهم الشافي من ذلكم النبع الصافي الشامل لأصول الدين، وفروعه.
وكان الناس يأخذون عنهم شتى فروع العلم، وكان على رأس تلك العلوم علم الكتاب، والسنة، علم الكتاب تلاوة، وحفظا، وتدبرا، وفهما، ولاختلاف المكان، واختلاف الشيوخ، واختلاف التلاميذ، وغير ذلك، ظهرت ملامح عامة لكل مدرسة في طريقة تناولها لهذا المصدر من مصادر التفسير، وفيما يلي بيان لأهم المدارس.
فقد تبين لي أنه يمكن ترتيب المدارس من حيث اهتمامها بهذا الأصل، واتخاذها إياه مصدرا من مصادر التفسير على النحو التالي:
__________
(1) سورة البقرة: آية (125).
(2) تفسير ابن أبي حاتم (1/ 371) 1206، وتفسير ابن كثير (1/ 243)، وزاد المسير (1/ 141).(2/662)
1 - المدرسة الكوفية.
2 - المدرسة المكية.
3 - المدرسة المدنية.
4 - المدرسة البصرية.
أما المدرسة الكوفية
: فكانت من أكثر المدارس تعظيما لقدر ابن مسعود، ومن أكثرها تقليدا، فقد شعروا بفضله وعظم قدره رضي الله عنه وكانت هذه حالهم مع سائر أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم.
يقول مسروق: ما نسأل أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم عن شيء إلا وعلمه في القرآن، إلا أن علمنا يقصر عنه (1).
لقد اشتدت عناية الكوفيين بأقوال شيخهم ابن مسعود، وكثرت النقول عنهم في تعظيم أقواله وآرائه (2)، ليس في التفسير فحسب بل تعدى ذلك إلى ضبط رواياته في القراءة، والفقه، ونجد ذلك الالتزام عند جل الكوفيين، ولا سيما أصحاب عبد الله الملازمون له، فقلّ أن يخرجوا عن أقواله، وخاصة مرة، ومسروقا، وعلقمة، بل اقتصر دورهم في التفسير في أغلب أحواله على النقل عن ابن مسعود رضي الله عنه.
أما المدرسة المكية
: فهي التالية للمدرسة الكوفية في هذا الباب، فقد كانت من أكثر المدارس عناية واهتماما بأقوال شيخها ابن عباس رضي الله عنه، ومن أكثر المدارس عناية بأقوال غيره في التفسير لأن شيخهم اهتم بالتفسير فساروا على نهجه، بل إن بعضهم اقتصر على الرواية عن شيخه في أكثر أحيانه، وعلى نشر تفسير أستاذه، وقد
__________
(1) سبق بيانه ص (653).
(2) العلل لأحمد (1/ 217)، والعلل لابن المديني (52)، والسير (4/ 262)، وتفسير الطبري (28/ 140)، وتاريخ أبي زرعة (1/ 649)، والإتقان (4/ 204، 205).(2/663)
أخذ أئمة هذه المدرسة التفسير عن ابن عباس، ثم عرضوه عليه، ولكنهم لم يقفوا عند هذا الحد من الحظ الوافر الذي تلقوه عن ابن عباس رضي الله عنهما بل انطلقوا في الاجتهاد كما سيأتي بيانه (1)، يحدوهم في ذلك ترغيب شيخهم في تعويدهم على ذلك.
وممن برز في هذه المدرسة في الجانب الروائي عن شيخه: عكرمة، فهو لم يحدث عمن دونه أو من هو مثله من أقرانه، بل أكثر حديثه عن الصحابة، وخاصة ابن عباس (2).
وكذلك كانت حال سعيد بن جبير، وحتى مجاهد وإن قلت روايته عن شيخه، إلا أنه سمع منه القراءة والتفسير عدة مرات، وتبنى أقواله، وقال بها، وإن لم يشر إلى أنها من تفسير شيخه، لكن الكثير منها متطابق مع ما قاله رضي الله عنه.
أما المدرسة المدنية
: فقد اشتغلت برواية الأحاديث والسنن، عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانوا يحفظون آراء أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأقضيتهم، فهذا ابن المسيب لما أخذ الفقه والحديث وروى عن عمر وأبي هريرة لم يكن يتعد قول عمر، سواء كان في التفسير، أو غيره، حتى عدّ أعلم الناس بقضايا عمر، وحفظ لنا قدرا كبيرا من تلك الأحكام والأقضية (3).
وإذا انتقلنا إلى المدرسة البصرية: نجد أن البصريين اهتموا كذلك بالنقول عن الصحابة، إلا أن ما وصلهم كان قليلا بالنسبة إلى ما وصل إلى غيرهم، فأخذوا ما جاءهم من روايات عن الصحابة، ثم اجتهدوا فيما لم يصلهم، ولأجل هذا فهي تعتبر أقل المدارس اهتماما بالجانب الروائي، مع وجود قتادة فيها المشهور بحافظته القوية، بل
__________
(1) سيأتي بيانه في مبحث الاجتهاد ص (708).
(2) الكامل لابن عدي (5/ 1907)، والسير (5/ 30).
(3) سبق بيان ذلك في ترجمته ص (387).(2/664)
إن قتادة مع قلة المنقول للبصرة من الآثار، وكونه من صغار التابعين فإن تفسيره يكشف لنا بوضوح عن اتجاهه النقلي في تفسير آيات الأحكام، سيما وقد اهتم بنقل التفسير عن عمر (1).
بل قال: ما في القرآن آية إلا وقد سمعت فيها بشيء (2)، وهذا يدل على سعة مروياته.
ولكن ثمة خلاف بين حال قتادة البصري، والشعبي الكوفي، إذ إن الأخير فاقه في الالتزام بأقوال الصحابة، ولا سيما ابن مسعود شيخ المدرسة، فقد كان قتادة يروي إلا أنه ربما أخذ عن شيخه الحسن، أو انتقى من محفوظه، واجتهد فيه.
وأما الحسن فقد أكثر من الرواية عن الصحابة إلا أن أكثرها مرسلات لا مسندات، فهو يعطي مؤشرا باهتمام هذا التابعي بما يروى عن الصحابة، إلا أنه نقل غير مباشر لقلة من سكن البصرة من الصحابة كما تقدم.
وهذا من المفارقات الرئيسة، فإن المكيين اهتموا بنقل أقوال ابن عباس، وتفسيراته، واعتمدوا على أقواله في بعض ما أشكل عليهم، وكذلك الحال في مدرسة الكوفة.
إلا أن البصريين لم يتخصصوا في واحد من الصحابة، وإن كان لتفسير عمر بن الخطاب عندهم المنزلة العظيمة فهم من أكثر التابعين رواية، ونقلا عنه.
__________
(1) ينظر ترجمته ص (282).
(2) سنن الترمذي (5/ 200).
ومما يذكر في هذا الباب ما ورد عن قتادة أنه قال لسعيد بن المسيب: يا أبا النضر خذ المصحف، قال: فعرض عليه سورة البقرة، فلم يخطئ منها حرفا قال: فقال: يا أبا النضر أحكمت قال:
نعم، قال: لأنا لصحيفة جابر بن عبد الله أحفظ مني لسورة البقرة، السير (5/ 272).
وقال الإمام أحمد: قرئ على قتادة صحيفة جابر مرة واحدة فحفظها، السير (5/ 277)، وهذا يدل على حرص قتادة على النقل عن الصحابة أيضا.(2/665)
أسباب تفاوت التابعين في الأخذ عن الصحابة:
لقد ظهر لي عدة عوامل أدت إلى اختلاف التابعين في نقلهم عن الصحابة، فمن ذلك:
1 - كثرة الصحابة أو قلتهم في الأمصار:
لا شك أن كثرة عدد الصحابة في مصر من الأمصار يؤدي إلى كثرة المنقول عنهم في باب التفسير، والعكس بالعكس، فنجد على سبيل المثال: الشعبي أدرك خمسمائة من الصحابة، وسمع من ثمانية وأربعين منهم، مما أدى إلى إكثاره في النقل عن الصحابة، سواء كان ذلك في التفسير (1) أو في غيره، في حين نجد قلة الآثار المسندة عند البصريين لقلة الصحابة في هذا المصر، بل نجد النخعي وهو من مدرسة الشعبي نفسها لما لم يدرك إلا القليل لم يحفل تفسيره بكبير نقل عن الصحابة.
2 - حال الصحابي:
مما أدى لاختلاف التابعين، وتفاوتهم في باب الرواية، تأثرهم بشخصية الصحابي الذي تلقوا عنه العلم، فإن الصحابة كانوا متفاوتين كما قال مسروق: لقد جالست أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم فوجدتهم كالإخاذ يروي الرجل، والإخاذ يروي العشرة، والإخاذ لو نزل به أهل الأرض لأصدرهم (2).
ومن أمثلة هذا التأثر ما نجده من حال ابن مسعود، فهو عند ما عني بالقراءة والإفتاء كان هذا هو الشاغل لتلك المدرسة الآخذة عنه، ولا سيما أصحابه الملازمون له، وبالنظر في تراجم كتب كبار القراء، نجد أن نصيب الكوفة من التابعين القراء كان أكبر من
__________
(1) وقد سبق بيان أن عامرا الشعبي كان من أكثر الصحابة اعتمادا على هذا المصدر، فقد صرح بالنقل عنهم في أكثر من (05، 0) من تفسيره، في حين كان الذي يليه في هذه النسبة إبراهيم ولم تزد نسبة ما أخذه صراحة عنهم عن (02، 0)، وغيرهم من التابعين دونهم في ذلك.
(2) المعرفة (2/ 542)، والعلم لأبي خيثمة (123).(2/666)
نصيب غيرهم (1)، وكذلك لما كان ابن مسعود معظما للقول في التفسير، نجد أن المدرسة سارت وراءه في ذلك، فعظمت القول في التفسير، ولأجل ذلك رأينا أن ما روي عن مدرسة الكوفة من التفسير كان كله عمن جاء بعد ابن مسعود من طبقة متوسطي الكوفة، ومتأخريهم كالشعبي، والنخعي، ومن مرّ بها كسعيد والسدي، وأما النقل عن الصحابة، ولا سيما ابن مسعود فقد كثر عندهم، وكان ذلك من أبرز خصائص هذه المدرسة وسماتها التي اتسمت بها (3).
وإذا انتقلنا إلى المدرسة المكية وجدنا تأثير ابن عباس واضحا في أصحابها لأن ابن عباس وإن كان قد اشتغل بالعديد من العلوم فإنه صرف جل همه وجهده للتفسير، فتبعته المدرسة في ذلك، ولا سيما مجاهد وعكرمة اللذين كانا من أكثر التابعين تخصصا في ذلك، مما جعلهم من أكثر التابعين نقلا عن شيخهم في التفسير.
فنجد مجاهدا يعرض القراءة على شيخه ثلاثين مرة، ويأخذ عنه التفسير ثلاث مرات يسأله عن كل آية (4).
وأما عكرمة فقد قال: كل شيء أحدثكم في القرآن فهو عن ابن عباس (5).
وعلى الجانب الآخر في المدرسة المدنية نجد أثر أبي هريرة على سعيد بن المسيب في اهتمامه بالرواية، وأثر عمر عليه في اهتمامه بالفقه (6)، وكان يسمى راوية عمر،
__________
(1) سبق بيان ذلك في خصائص المدرسة ص (582).
(2) سنن الدارمي (1/ 83، 84).
(3) سبق بيان ذلك في خصائص المدرسة ص (585).
(4) العلل لأحمد (3/ 366) 5611، والميزان (2/ 28)، والحلية (3/ 279، 280)، وطبقات ابن سعد (5/ 466).
(5) العلل لأحمد (3/ 366) 5611، والميزان (2/ 208)، والإتقان (2/ 243)، والتهذيب (7/ 263).
(6) البداية (9/ 111).(2/667)
وحامل علمه، لكثرة ما يحفظه من فتواه وأقضيته (1)، بل كان ابن عمر يرسل إليه في أحاديث عمر لأن سعيدا كان قد نصب نفسه لقول عمر فلم يجزه (2)، وكان كذلك أعلم الناس في عصره بقضاء الرسول صلى الله عليه وسلم وأبي بكر، وعمر، وعثمان رضوان الله عليهم هذا من أنه لم يدرك عمر، مما يؤكد تأثره به حتى بعد موته لما كان يسمعه من أحاديث عمر وقضاياه.
قال ابن وهب: سمعت مالكا، وسئل عن سعيد بن المسيب، هل أدرك عمر قال: لا، ولكنه ولد في زمان عمر ولما كبر أكب على المسألة من شأنه وأمره حتى كأنه رآه (4).
ويتضح مدى تأثر التابعين بالصحابة في موقف سعيد بن المسيب، فقد كان كل قضاء، أو فتوى جليلة ترد عليه تحكي له عن بعض من هو غائب عن المدينة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وغيره إلا قال: فأين زيد بن ثابت من هذا (5).
وقريب من ذلك ما قاله مجاهد: إذا اختلف الناس في شيء فانظروا ما صنع عمر فخذوا به (6).
وبالجملة، فقد أخذ التابعون عن ابن عباس التفسير فأكثروا، ثم أخذوا عن ابن مسعود القراءة فأفادوا منها.
3 - شخصية التابعي:
لا شك أن شخصية أحد التلاميذ تؤدي إلى اختلافات بينه وبين صاحب له شخصية
__________
(1) إعلام الموقعين (1/ 23).
(2) تاريخ أبي زرعة (1/ 404)، وتهذيب الكمال (11/ 74)، والبداية (9/ 111).
(3) طبقات ابن سعد (5/ 121)، والمعرفة (1/ 471)، وطبقات الحفاظ (18).
(4) المعرفة (1/ 468).
(5) التبيين في أنساب القرشيين (396).
(6) إعلام الموقعين (1/ 20).(2/668)
أخرى، في كثرة المروي، أو قلته، وهذا ليس خاصا بمكان دون مكان، بل قد يكون الاختلاف في المدرسة الواحدة، حيث الشيخ الواحد، والبيئة الواحدة، تبعا لاختلاف الميول، والاهتمامات.
فمثلا لما كان عكرمة يميل إلى معرفة أسباب النزول، لذا لاحظنا بروز ذلك، وتأثره به في رواياته عن شيخه ابن عباس في هذا الجانب، فأكثر من ذلك، في حين اهتم سعيد بن جبير بالقراءة، والإسرائيليات، فروى عن ابن عباس الكثير من ذلك، فكل واحد منهما تأثر بشيخه في جانب فأكثر من الرواية عنه فيه.
وكذلك كان لغلبة الورع على رجل منهم الأثر في كثرة الاحتياط عنها في رواية السنة، فيروي، ويفتي بقول الصحابة، أو من دونهم.
مثل إبراهيم النخعي عند ما سئل في مسألة فقيل له: أما تحفظ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثا، قال: بلى، ولكن أقول: قال عبد الله. قال علقمة أحب إليّ (1).
وقد يكون حب التابعي للشيخ، وشغفه بهديه ودله، مفضيا به إلى تتبع مروياته خاصة، فمن الأسباب التي قللت نتاج بعض المدارس شدة الحرص على التلقي، والأخذ عن الصحابة، والاشتغال بالرواية دون الدراية، ومن أبرز الأمثلة على ذلك ما يجده الناظر في حال أصحاب ابن مسعود، ولا سيما علقمة الذي كان من أوضح أسباب قلة المروي عنه أنه عني فقط بقول ابن مسعود، وكان علقمة انتهى إلى قول عبد الله، ولم يجاوزه (2).
لقد تشبث علقمة بهدي ابن مسعود حتى لقد قيل عنه: إذا رأيت علقمة فلا يضرك أن لا ترى ابن مسعود (3).
__________
(1) سنن الدارمي (1/ 83).
(2) المعرفة (2/ 557).
(3) التهذيب (7/ 177)، والعلل لابن المديني (47).(2/669)
وكان علقمة يشبه بعبد الله في هديه (1).
وكذلك فما كان من التابعين محبا للفقه فإنه يروي عن الصحابي الفقه، ويكثر من ذلك في التفسير، كما نجد ذلك في رواية الحسن وإكثاره عن عمر في التفسير، ونجده كذلك عن الشعبي والنخعي، اللذين عدّا من أعلم الناس بابن مسعود، وإن لم يرياه.
4 - الرحلات والكتابة:
من أسباب كثرة الرواية عن الصحابة ما قام به بعض التابعين من الرحلة للأصحاب للأخذ عنهم، وكذلك تدوين ما سمعوه منهم، والكتابة طريقة مشهورة في التدوين، وكان أشهر من كتب الزهري، فإنه كتب السنن، وكتب ما جاء عن الصحابة.
فعن صالح بن كيسان قال: اجتمعت أنا والزهري ونحن نطلب العلم فقلت:
نكتب السنن، فكتبنا ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم ثم قال: نكتب ما جاء عن الصحابة فإنه سنة، فقلت له: إنها ليست سنة، فلا نكتبه، قال: فكتبه ولم نكتبه، فأنجح، وضيعنا (2).
وبلغ حرص التابعين على الكتابة عن شيوخهم، وتدوين ذلك ما جاء عن سعيد بن جبير، فإنه كتب عن ابن عمر وابن عباس، مع عدم رضاهما وعلمهما (3).
بل إن سعيدا كان يملأ ألواحه، فإذا لم يجد ما يكتب عليه كتب على نعله (4).
ومعلوم أن الكتابة أوثق من الحفظ، ولذلك كان سعيد يرحل يكتب قول أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيان آية، وتفسيرها، فكان يرحل لابن عباس يسأله عن توبة القاتل، وكانت لرحلاته الأثر الكبير في تدوين العلم عن ابن عباس خاصة، فهو لم يكن يرحل
__________
(1) المعرفة (2/ 553)، وتاريخ بغداد (12/ 297)، وطبقات ابن سعد (6/ 86).
(2) تاريخ أبي زرعة (1/ 412).
(3) سبق بيان ذلك في ترجمة سعيد ص (139).
(4) سبق بيان ذلك في ترجمة سعيد ص (140).(2/670)
إليه خالي الذهن، بل كان يدوّن ما سيسأله.
عن حكيم بن جبير، عن سعيد بن جبير قال: قال يهودي بالكوفة لي وأنا أتجهز للحج: إني أراك تتبع العلم، أخبرني أي الأجلين قضى موسى قلت: لا أعلم، وأنا قادم على حبر العرب يعني ابن عباس فسائله عن ذلك، فلما قدمت مكة سألت ابن عباس عن ذلك، وأخبرته بقول اليهودي، فقال ابن عباس: قضى أكثرهما وأطيبهما، إن النبي إذا وعد لم يخلف، قال سعيد: فقدمت العراق فلقيت اليهودي، فأخبرته، فقال: صدق، وما أنزل على موسى هذا (1).
وكذا كان حاله مع ابن عمر رضي الله عنهما فقد جاء عنه أنه قال: كنا إذا اختلفنا بالكوفة في شيء كتبته عندي حتى ألقى ابن عمر فأسأله عنه (2).
بل كان أحدهم إذا أراد أن يخرج ويسافر إلى بلد فيها أحد من الصحابة أعلم الناس بذلك حتى يجمعوا له المسائل (3).
وأبلغ من ذلك أن سعيدا رحل إلى ابن عباس الأيام والليالي في المسألة الواحدة، فعنه قال: اختلف أهل الكوفة في قتل المؤمن فرحلت إلى ابن عباس فقال: نزلت في آخر ما نزل، ولم ينسخها شيء (4).
ولم يكن هذا منهجا خاصا بسعيد، فقد جاء هذا أيضا عن عكرمة، الذي كان جوالا في الأقاليم، والبلدان، ولاهتمامه ببث تفسير شيخه في مختلف البلدان قلّ نتاجه التفسيري، كما أن الأقاليم التي كان يحل بها ضيفا كانت تؤثر أخذ تفسير ابن عباس منه، وتقدمه على الأخذ من قوله وتأويله، ولذا فإن عكرمة يعتبر أكثر رواية عن
__________
(1) تفسير الطبري (20/ 68)، ودراسات في التفسير وأصوله (50).
(2) طبقات ابن سعد (6/ 258)، والزهد لأحمد (443)، والحلية (4/ 275).
(3) المعرفة (2/ 816).
(4) الرحلة في طلب الحديث (139)، ونواسخ القرآن لابن الجوزي (289).(2/671)
ابن عباس من مجاهد، مع أن مجاهدا أكثر ملازمة، وذلك لسفر عكرمة، وحاجة الناس في مختلف البلدان لتفسيره، وكثرة اشتغال عكرمة به.
نتائج الأخذ عن الصحابة، وآثارها:
لقد أدت الرواية عن الصحابة، والاعتماد عليها في التفسير إلى ظهور نتائج وآثار ترتبت على ذلك، فمنها:
1 - حفظ أخبار الصحابة، ومعرفة دقيق أحوالهم، والتمييز بينهم.
لقد ظهرت الفروقات بين اجتهادات الصحابة من خلال مروياتهم، فاتضح للتابعين تميز كل صحابي في مجال من مجالات العلم، فلقد بلغ من حرص التابعين، وشدة ملازمتهم للصحابة، واستقراء أحوالهم أن صاروا يعقدون المقارنات بينهم.
فنجد على سبيل المثال الشعبي يذكر من الصحابة ستة كان يقدمهم في العلم على غيرهم، فيقول: كان يؤخذ العلم عن ستة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فكان عمر، وعبد الله، وزيد، يشبه علمهم بعضهم بعضا، وكان يقتبس بعضهم من بعض، وكان علي، وأبيّ، والأشعري، يشبه علمهم بعضهم بعضا، وكان يقتبس بعضهم من بعض (1).
ويقارن الشعبي بين بعضهم فيقول: غلب زيد بن ثابت بالقرآن والفرائض (2).
ويعقد عكرمة المقارنة بين ابن عباس وعلي في التفسير خاصة فيقول: كان ابن عباس أعلم بالقرآن من عليّ، وكان علي أعلم بالمبهمات من ابن عباس (3).
ومما جاء في هذا الباب أيضا عن سعيد بن جبير أنه قال: كان ابن عمر حسن السرد
__________
(1) العلم لأبي خيثمة (131)، والعلل لابن المديني (42).
(2) القواعد والإشارات (39)، ومعرفة القراء الكبار (1/ 36).
(3) المعرفة (1/ 527)، (1/ 495)، وطبقات ابن سعد (2/ 122).(2/672)
للرواية عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يبلغ في الفقه والتفسير شأو ابن عباس (1).
ولذا فأصحاب ابن عباس يقدمونه على ابن عمر في العلم، وهو فقيه أهل مكة (2).
بل تعدت خبرة التابعين بأحوال الصحابة إلى غير العلم والتفسير، فها هو الشعبي يقول: كان أبو بكر شاعرا، وكان عمر شاعرا، وكان علي يقول الشعر، وهو أشعرهم (3).
2 - حفظ أقوال الصحابة:
وهذه النتيجة ترجع في الجملة إلى ما قبلها، إلا أن النتيجة الأولى هي أن التابعي عرف من عموم أقوال الصحابة وأحوالهم، تفاضلهم في العلوم، أما المقصود بهذه النتيجة، فهي الأقوال نفسها، فإن اهتمام التابعين بنقلها قد حفظها لنا، ولا سيما أنهم في نقلهم كانوا ينقلون بفهم، فقد نقلوا الخلاف أيضا مفرقين بين قول الصاحبين فأكثر، ثم هذا النقل للاختلاف أثر فيهم من جانب آخر، وهو اختيار بعض الأقوال، أو التوقف، وهم كانوا أئمة الاجتهاد، فلا شك أن اختياراتهم هي بمثابة العلم لنا، فنأتم بها في الجملة.
فنجد قتادة مثلا يذكر الإيلاء، فيذكر قولا لعلي رضي الله عنه ولعبد الله، وقولا آخر عن غيرهم، ثم يقول: وقول علي، وعبد الله أعجب إلى في الإيلاء (4).
وعطاء على جلالته في العلم، وخاصة في مسائل الحج نجده يتوقف في بعض المسائل لاختلاف الصحابة فيها، فيفتي ذاكرا آراء الصحابة فحسب، فعند ما سئل عن
__________
(1) المستدرك (3/ 535)، والحلية (1/ 316)، والسير (13/ 357).
(2) الإرشاد (1/ 184).
(3) العلل لأحمد (2/ 244)، 2125.
(4) تفسير الطبري (4/ 478) 4558.(2/673)
التمتع في قوله تعالى: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} (1)، قال: كان ابن الزبير يقول: المتعة لمن أحصر، وقال ابن عباس: هي لمن أحصر، ومن خليت سبيله (2).
يعني أن قول ابن عباس أعم من قول ابن الزبير.
ولأجل وجود الصحابة بينهم، حرص التابعون على مراجعة أكثر من صحابي في المسألة، فمجاهد مثلا قال: كنت عند ابن عمر فقال: {وَإِنْ تُبْدُوا مََا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحََاسِبْكُمْ بِهِ اللََّهُ} (3) فبكى، فدخلت على ابن عباس فذكرت له ذلك، فضحك ابن عباس، فقال: يرحم الله ابن عمر، أو ما يدري فيم أنزلت إن هذه الآية حين أنزلت غمت أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم غما شديدا، وقالوا: يا رسول الله هلكنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قولوا: سمعنا وأطعنا»، فنسختها {آمَنَ الرَّسُولُ بِمََا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللََّهِ وَمَلََائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ} إلى قوله {وَعَلَيْهََا مَا اكْتَسَبَتْ} (4)
فتجوز لهم من حديث النفس، وأخذوا بالأعمال (5).
وينقل لنا سعيد بن المسيب قصة اجتماع مفسرين من الصحابة وهما: ابن عباس، وابن عمرو فقال: «اتّعد عبد الله بن عباس، وعبد الله بن عمرو أن يجتمعا، قال:
ونحن يومئذ شببة، فقال أحدهما لصاحبه: أي آية في كتاب الله أرجى لهذه الأمة
__________
(1) سورة البقرة: آية (196).
(2) تفسير الطبري (4/ 88) 3420، 3421، وأورده السيوطي في الدر، وعزاه لابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن عطاء بمثله (1/ 516).
(3) سورة البقرة: آية (284).
(4) سورة البقرة: آية (286).
(5) تفسير الطبري (6/ 107) 6461، وأورده السيوطي في الدر، وعزاه إلى عبد الرزاق، وأحمد وابن المنذر عن مجاهد بنحوه (2/ 127).(2/674)
فقال عبد الله بن عمرو: {قُلْ يََا عِبََادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى ََ أَنْفُسِهِمْ} (1) حتى ختم الآية، فقال ابن عباس: أمّا إن كنت تقول: إنها، وإن أرجى منها لهذه الأمة قول إبراهيم صلى الله عليه وسلم:
{رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى ََ قََالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قََالَ بَلى ََ وَلََكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} (2).
وعن قتادة أن عليا وابن مسعود، كانا يجعلانها تطليقة (أي في الإيلاء) إذا مضت أربعة أشهر فهي أحق بنفسها، قال قتادة: وقول عليّ وعبد الله، أعجب إليّ في الإيلاء (3).
3 - الالتزام بمناهج الصحابة، والإفادة منها (4):
لقد تبين لي من خلال النظر في تفسير التابعين أن مصدر الأخذ عن الصحابة احتل المرتبة الأولى في التأثير على مسالك التابعين ومناهجهم وأخذهم في القراءات، والاعتقاد، وآيات الأحكام، والإسرائيليات، والاجتهاد وغير ذلك، وفيما يلي سأبين شيئا من ذلك، وسيأتي بعد ذلك بحث كل قضية بالتفصيل عند التعرض لباقي المصادر والمناهج.
وعند استعراض المدارس الأساسية في التفسير، نجد أن المدرسة المكية لقربها من ابن عباس، وكثرة الأخذ عنه، اعتنوا بالعلم الذي أكثر فيه، وهو التفسير، وكان
__________
(1) سورة الزمر: آية (53).
(2) سورة البقرة: آية (260)، الأثر في الطبري (5/ 489، 490) 5971، فابن عمرو نظر لحال أهل الشهوات، وابن عباس نظر لحال أهل الشبهات، والله أعلم.
(3) تفسير الطبري (4/ 478) 4558.
وقد استوفى الطبري الآثار عن الصحابة والتابعين في الإيلاء بما لم يشابهه أحد في ذلك.
(4) قد يكون هناك نوع من التشابه بين هذا المطلب، وما سبق في مطلب شخصية الصحابي من أسباب التابعين في الأخذ عن الصحابة، إلا أن بحثه هناك كان من باب أن هذا عامل من عوامل اختلاف وتفاوت التابعين في النقل والرواية، أما بحثه هنا فهو من باب أنه نتيجة وأثر لكثرة أو قلة الرواية عن الصحابة أو قلتها، فهو وإن كان متشابها فإن الفرق باق بين السبب والأثر، والله أعلم.(2/675)
أكثرهم في ذلك مجاهد، وعكرمة، ثم سعيد، ولما كان عطاء من أقل المكيين صلة بابن عباس كان من أقلهم تفسيرا.
ثم إن الحرص على رواية تفسير ابن عباس والإكثار منه، شغل بعض أصحاب هذه المدرسة عن الاجتهاد في التفسير، كسعيد، وعكرمة، في حين أدى تميز ابن عباس في مجال الاجتهاد أن أصحابه الملازمين له أخذوا هذا المنهج، وساروا عليه فاجتهدوا، بل حتى فيما يخالفون به شيخهم.
فها هو ابن جبير يقول: قلت لابن عباس: ألمن قتل مؤمنا متعمدا من توبة قال:
لا، قال: فتلوت عليه الآية التي في الفرقان: {وَالَّذِينَ لََا يَدْعُونَ مَعَ اللََّهِ إِلََهاً آخَرَ وَلََا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللََّهُ إِلََّا بِالْحَقِّ} (1) قال: هذه مكية نسختها آية مدنية (2)، ثم لا يكتفي ابن جبير بهذا، فيسأل مجاهدا، فيجيبه مجاهد قائلا: إلا من ندم (3).
ومما ورد عن المدرسة المكية أيضا من المخالفة لشيخهم مخالفة مجاهد لشيخه ابن عباس في معرفة نزول قوله تعالى: {فَمَنِ اعْتَدى ََ عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ} (4)، قال فيها ابن عباس: فهذا ونحوه نزل بمكة والمسلمون يومئذ قليل، وقال مجاهد: {فَمَنِ اعْتَدى ََ عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى ََ عَلَيْكُمْ}: فقاتلوهم فيه كما قاتلوكم (5).
وكذلك ما ورد في قوله تعالى: {وَادْعُوا شُهَدََاءَكُمْ} (6)، قال ابن عباس:
أعوانكم على ما أنتم عليه إن كنتم صادقين، وقال مجاهد مخالفا لابن عباس: قوم
__________
(1) سورة الفرقان: آية (68).
(2) صحيح مسلم، كتاب التفسير، (5/ 2318)، وسنن النسائي (7/ 85)، (8/ 62) 4863 4864.
(3) تفسير الطبري (9/ 62) 10187.
(4) سورة البقرة: آية (194).
(5) تفسير الطبري (3/ 580) 3142، 3143.
(6) سورة البقرة: آية (23).(2/676)
يشهدون لكم، ورجح الطبري قول ابن عباس (1).
بل قد تكون المخالفة في مجلس الشيخ نفسه، وهذا يبدو فيما رواه عكرمة قال:
قال ابن عباس: قال ابن مسعود: البطشة الكبرى: يوم بدر، وأنا أقول: هي يوم القيامة، فيقول مجاهد لابن عباس، ولكني لا أرى ذلك، ثم يذكر قوله (2).
أما بالنسبة للمدرسة الكوفية فقد نسجت على منوال عبد الله بن مسعود، فكثرة أخذهم عنه طبع فيهم الفقه، والقراءة، وترك الاجتهاد في التفسير تبعا لشيخهم، ولذا قل جدا التفسير عن أصحابه الملازمين له كمسروق، ومرة، وحتى بالطبقة الوسطى التي لم تبلغه كالنخعي والشعبي، بل عامة متقدميهم كذلك، وكذا حال المدنية التي تورعت عن التفسير تأثرا بابن عمر.
4 - تبني أقوال الصحابة:
إن الأخذ عن الصحابة من أكثر المصادر، وأهمها التي عني بها التابعون، واعتمدوا عليها، واستفادوا منها، والمراجع لكثير من تأويلاتهم يجد أن جانبا كبيرا منها مأخوذ من الصحابة، سواء صرح بذلك التابعي فرواه وتبناه أولم يصرح به وهو في أصله قول الصحابي.
ولا غرو في ذلك فإن غالب أقوال قدماء المفسرين كالحسن، وعطاء، والقرظي، وأبي العالية، وقتادة تلقوها عن الصحابة (3).
وكذلك فإن أكثر ما يرويه إسماعيل السدي في تفسيره، هو ما كان عن ابن مسعود، وابن عباس (4).
__________
(1) تفسير الطبري (1/ 378).
(2) تفسير الطبري (25/ 117)، وأورده السيوطي في الدر، وعزاه إلى عبد بن حميد، وابن جرير، وصحح إسناده (7/ 409)، وفتح القدير (4/ 573).
(3) الإتقان (2/ 243).
(4) مجموع الفتاوى (13/ 366).(2/677)
بل كان غالب ما يعتني به بعضهم ويحفظه، هو مما أخذه من أستاذ مدرسته، كما نجده عند عبيدة الذي نشر علم علي بن أبي طالب، وقد كان يسأله كل خميس (1).
ومما يؤكد ذلك أيضا أن بعضهم أخذ كامل التفسير عن شيخه كالسدي، ومجاهد الذي عرض التفسير ثلاث مرات على ابن عباس، ثم نجد مروياته عن ابن عباس قليلة، ونجد كثيرا من أقواله تشابه أقوال ابن عباس المروية من طريق آخر كطريق عكرمة، أو سعيد، فمن ذلك ما جاء في تفسير قوله تعالى: {وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسََارِبٌ بِالنَّهََارِ} (2)، قال ابن عباس: و {سََارِبٌ بِالنَّهََارِ}: ظاهر، كما في رواية ابن جريج عنه، وقال مجاهد فيه: و {سََارِبٌ بِالنَّهََارِ}: ظاهر بالنهار (3).
5 - الرواية عن كبار التابعين والأقران:
من نتائج الرواية عن الصحابة أيضا، حب التابعين لإسناد الأقوال والمرويات فيروي بعضهم عن بعض مع الإجلال، والتوقير، يقول ابن عيينة: سمعت مالكا يقول: قال الشعبي: ما رأيت قوما قط أكثر علما، ولا أعظم حلما، ولا أكف عن الدنيا من أصحاب عبد الله، ولولا ما سبقهم به الصحابة ما قدمنا عليهم أحدا (4).
وعطاء على سعة علمه ودقة نظره في فقه أحكام الحج نجده بعد أن يفتي في مسألة منه يورد الخلاف عن كبار التابعين، فقد سئل عن صوم المتمتع الذي لا يجد الهدي فقال: يصوم في العشر إلى يوم عرفة، قال: وسمعت مجاهدا وطاوسا يقولان: إذا صامهن في أشهر الحج أجزأه (5).
__________
(1) سنن الدارمي (1/ 137).
(2) سورة الرعد: آية (10).
(3) ينظر تفسير الطبري (16/ 367) 20203، (16/ 368) 20209، وتفسير عبد الرزاق (2/ 332)، وزاد المسير (4/ 310).
(4) السير (4/ 262)، والشعبي مشهور بالرواية عن كبار التابعين كعلقمة، ومسروق.
(5) تفسير الطبري (4/ 65) 3446.(2/678)
ويتضح هذا المنهج أكثر في حال التابعين الذين لم يلقوا كثيرا من الصحابة كالحسن، فإنه لما قدم عكرمة عليهم ترك الحسن كثيرا من التفسير لقول عكرمة.
ويتجلّى هذا الأخذ أيضا في طبقة صغار التابعين حيث اعتمدوا قول كبارهم، كما نجده خاصة عند الربيع، ثم قتادة، وقد سبق تفصيل حال الربيع، وبيان أن جلّ تفسيره عن أبي العالية (1).
وأما قتادة فمع تقدمه في باب التأويل فإنه أخذ كثيرا عن الحسن، وتأثر به في مسلك الوعظ، وكان كثير من الروايات المنسوبة إليه في هذا، إنما هي من قول الحسن (2)، إلا أنه مما ينبغي التنبيه عليه أن أخذ التابعين عن الصحابة كان أكثر بكثير، بل إن بعضهم كان لا يحدث عن أقرانه بشيء كعكرمة، فأكثر حديثه كان عن الصحابة (3).
ومن أمثلة ما جاء في أخذ بعضهم عن بعض: ما ورد عن سعيد بن جبير عند تفسير قوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنََاكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثََانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ} (4)، قال: قال مجاهد:
هن السبع الطول، وقال: يقال: هن القرآن العظيم (5).
وعن الشعبي قال: أناس يزعمون أن شاهدا من بني إسرائيل على مثله عبد الله بن سلام، وإنما أسلم عبد الله بن سلام بالمدينة وقد أخبرني مسروق أن آل حم، إنما نزلت بمكة، وإنما كانت محاجة رسول الله صلى الله عليه وسلم قومه، فقال: {أَرَأَيْتُمْ إِنْ كََانَ مِنْ عِنْدِ اللََّهِ}
يعني القرآن {وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شََاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرََائِيلَ عَلى ََ مِثْلِهِ فَآمَنَ} (6) موسى
__________
(1) ينظر ص (444).
(2) ينظر ص (273).
(3) السير (5/ 30)، والكامل (5/ 1907).
(4) سورة الحجر: آية (87).
(5) تفسير الطبري (14/ 52).
(6) سورة الأحقاف: آية (10).(2/679)
ومحمد عليهما الصلاة والسلام على الفرقان (1).
وعند قوله تعالى: {وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ} (2)، عن قتادة قال: قال عكرمة: عرفة وتر، والنحر شفع، عرفة يوم التاسع، والنحر يوم العاشر (3).
وقتادة رحمه الله كان كثر الأخذ عن شيخه الحسن، فعند قوله تبارك وتعالى:
{وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ} (4)، قال قتادة: قال الحسن: التين تينكم، والزيتون زيتونكم هذا (5).
__________
(1) تفسير الطبري (26/ 9).
(2) سورة الفجر: آية (3).
(3) تفسير الطبري (30/ 170).
(4) سورة التين: آية (1).
(5) تفسير الطبري (30/ 239)، والأمثلة في أخذ قتادة عن الحسن كثيرة، ومن أمثلة ما جاء عنه في تفسير الطبري الآثار التالية: (29/ 163)، (29/ 173)، (29/ 177)، (29/ 196)، (30/ 55)، (30/ 172)، (30/ 237)، (30/ 245)، (30/ 353).(2/680)
المبحث الرابع اللغة العربية
الحديث في هذا المبحث سيرتكز على اللغة العربية كمصدر من مصادر التفسير عند التابعين.
لا شك أن العناية باللغة العربية تعطي للباحث قدرة عظيمة على تفهم آيات الله، وتذوق بلاغة القرآن، فينتج من هذا علم غزير، وفهم مستقيم لآيات كتاب الله.
وقد سبق في دراسة خصائص مدارس التفسير في عصر التابعين، تناول اللغة العربية على أنها ميزة ظهرت في بعض المدارس بصورة أوسع أو أوضح من غيرها (1).
وليس مرادي الآن تكرار ما سبق، بل المقصد بيان استمداد التابعين مادة لتفسيرهم من اللغة، ولذا فلن يكون الحديث في فروقات المدارس بعضها عن بعض، بقدر ما سيتناول التطبيق الفعلي لاستخدامات اللغة في التفسير، فإن دراسة أثر اللغة، وواقعها في تفسيرهم يساعد على تفهمها مصدرا من مصادرهم في التفسير.
ولقد ظهرت اللغة العربية بوصفها مصدرا رئيسا من مصادر التفسير في وقت مبكر.
ومما يدل على ذلك ما جاء عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قسم التفسير إلى أربعة أقسام، وجعل قسما مما تعرفه العرب من لغتها (2).
__________
(1) ينظر ص (560).
(2) تفسير الطبري (1/ 75) 71.(2/681)
وقال: لا أوتى برجل غير عالم بلغات العرب يفسر كتاب الله، إلا جعلته نكالا (1).
وليس لغير العالم بحقائق اللغة ومفهوماتها تفسير شيء من الكتاب، ولا يكون في حقه تعلم اليسير منها، فقد يكون اللفظ مشتركا، وهو يعلم أحد المعنيين دون الآخر.
قال ابن جرير في الوجوه التي من قبلها يوصل إلى معرفة تأويل القرآن: وأن منه ما يعلم تأويله كل ذي علم باللسان الذي نزل به القرآن. وذلك إقامة إعرابه، ومعرفة المسميات بأسمائها اللازمة غير المشترك فيها، والموصوفات بصفاتها الخاصة دون ما سواها، فإن ذلك لا يجهله أحد منهم، وذلك كسامع منهم لو سمع تاليا يتلو: {وَإِذََا قِيلَ لَهُمْ لََا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قََالُوا إِنَّمََا نَحْنُ مُصْلِحُونَ (11) أَلََا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلََكِنْ لََا يَشْعُرُونَ} (2)، لم يجهل أن معنى الإفساد هو ما ينبغي تركه مما هو مضرّة، وأن الإصلاح هو ما ينبغي فعله مما فعله منفعة، وأن جهل المعاني التي جعلها الله إفسادا، والمعاني التي جعلها الله إصلاحا (3).
وقد جعل الزركشي الأخذ بمطلق اللغة المرتبة الثالثة للمفسّر (4) لما لها من كبير أهمية، وتقدمها على غيرها بعد مصدري الكتاب والسنة.
يقول الشاطبي: من أراد تفهم القرآن فمن جهة لسان العرب يفهم، ولا سبيل إلى تطلب فهمه من غير هذه الجهة (5).
وقد اهتم التابعون بهذا المصدر، وأولوه اهتمامهم، وإن كانوا متفاوتين في هذا
__________
(1) البرهان (2/ 160).
(2) سورة البقرة: آية (11، 12).
(3) تفسير الطبري (1/ 75).
(4) الإتقان (2/ 229).
(5) الموافقات (2/ 64).(2/682)
الجانب.
ولا أدل على ذلك الاهتمام من قول مجاهد: لا يحل لأحد يؤمن بالله واليوم الآخر أن يتكلم في كتاب الله إذا لم يكن عالما بلغات العرب (1).
ولما سأل يحيى بن عتيق، الحسن وقال له: يا أبا سعيد، الرجل يتكلم العربية يلتمس بها حسن المنطق ويقيم بها قراءته قال الحسن: يا ابن أخي فإن الرجل يقرأ الآية فيعيى بوجهها فيهلك فيها، (أي: فيصعب عليه فهمها لعدم فهم اللغة فيهلك) (2).
ولما سأل أيوب السختياني الحسن عن قوله تعالى: {حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفاً فَمَرَّتْ بِهِ} (3)، قال: لو كنت امرأ عربيا لعرفت إنما هي فاستمرت به (4).
وهذا مما يدل على أهمية هذا المصدر في التفسير، فمن عرف اللغة استغنى بمعرفتها عن السؤال عن الكثير من الآيات.
ومما شجع مفسري التابعين على الاهتمام باللغة أنهم كانوا يلتمسون في إقامة حروف القرآن الأجر.
فعن مكحول قال: بلغني أن من قرأ القرآن بإعراب كان له من الأجر ضعفان (5).
اختلاف التابعين في مدى اعتمادهم اللغة مصدرا من مصادر التفسير:
لقد تنوعت مشارب التابعين في اعتمادهم على اللغة، وجعلها مصدرا من مصادر
__________
(1) البرهان (1/ 292).
(2) الإتقان (1/ 179)، والاعتصام (2/ 239).
(3) سورة الأعراف: آية (189).
(4) تفسير الطبري (13/ 304) 15500، وأورده السيوطي في الدر، وعزاه إلى ابن جرير، وأبي الشيخ عن أيوب أنه قال: سئل الحسن، وساق الأثر بنحوه (3/ 625)، وفتح القدير (2/ 276).
(5) التذكرة للقرطبي (123).(2/683)
التفسير، وظهر لذلك أثر كبير في تفسيرهم، وقبل الخوض في أسباب ذلك، رأيت أنه من المفيد أن أشير إلى أنني لم أستطع أن أقسم المدارس التفسيرية في هذا المبحث لأن الاختلاف لم يظهر جليا بين مدارس التفسير بقدر ما ظهر بين أئمة تلك المدارس.
فإذا جزمنا مثلا بأن المدرسة المكية هي أكثر المدارس تناولا لهذا المنهج، واستفادة من هذا المصدر، لم نجد لدينا دليلا على ذلك إلا كثرة المنقول عن مجاهد فقط، في حين لم يكن هذا دأب عكرمة، وسعيد بن جبير، بل يقل هذا كثيرا عند عطاء، الذي لم يكن مبرزا في اللغة، حتى لقد تمنى أن لو كان متقدما في علم اللغة، قال ذلك، وهو في التسعين من عمره (1).
فإذا انتقلنا إلى البصرة، فإننا نجد أن هذا المصدر نهل منه إمامان من أئمة البصرة، وهما الحسن، وقتادة، ومع ذلك لم يكن المنقول عنهما يوازي المنقول عن مجاهد كما، وكذلك لم يساوه كيفا، فإن مجاهدا قد استخدم اللغة بمهارة فائقة في استخراج المادة العلمية للتفسير، في حين ظهرت اللغة في تفسير الحسن وقتادة في جانب الفصاحة أكثر منه في جانب الاعتماد عليها في معرفة المشتق، والإيجاز، والتقديم، والتأخير، وغير ذلك مما برع فيه مجاهد.
ولذا فلا نستطيع أن نجعل البصرة هي المدرسة المتميزة في ذلك. فإذا جئنا إلى الكوفة مثلا: نجد الشعبي الذي يعد من أشعر التابعين، إلا أنه لم يعتمد على الشعر في التفسير، في حين أن إبراهيم لم يكن ذا تعمق في اللغة.
ولأجل ذلك كله رأيت إبراز اللغة بوصفها مصدرا من مصادرهم في التفسير، جاعلا مناط هذه الدراسة الأفراد لا المدارس.
وإذا نظرنا للنتاج التفسيري باللغة نستطيع أن نميز بعض المفسرين ممن اختص ببعض
__________
(1) وقد سبق بيان ذلك في ترجمته ص (194).(2/684)
الخصائص في هذا الباب، فممن برز في ذلك:
مجاهد: لقد تأثر مجاهد بابن عباس فأخذ عنه اللغة، والفصاحة، والمقدرة على الاجتهاد، فبرع في الاستفادة من ذلك في تفسيره.
يقول القاضي عبد الجبار: ابن عباس ومجاهد، من أهل اللسان، أي العلم باللغة (1).
ونقل الزركشي عن مجاهد قوله: لا يحل لأحد يؤمن بالله واليوم الآخر أن يتكلم في كتاب الله إذا لم يكن عالما بلغة العرب (2).
لقد كان العلم باللغة ودلالتها، من بين الأصول التي اعتمد عليها مجاهد في دعوته إلى تأويل المتشابه من الآيات دون تحرج أو تأثم، ما دام العلم باللغة قد استوفيت أسبابه (3).
ولا غرو بعد هذا أن نجده أكثر التابعين اجتهادا إذ كانت اللغة من العوامل الرئيسة التي أثرت في اتجاهه للاجتهاد في التفسير (4).
وساعدت لغة مجاهد على بروز تفسيره محتويا على توضيحات كثيرة ذات طابع لغوي، أحرى بها أن تسمى دراسة للمفردات (5).
كما أن تفسيره جاء مناسبا لا يطيل في موضع الاختصار، كما أنه لا يختصر غالبا
__________
(1) المغني لعبد الجبار (4/ 215).
(2) البرهان (1/ 292).
(3) دراسات في القرآن أحمد خليل (138).
(4) ينظر مبحث الاجتهاد (708).
(5) تاريخ التراث (177).(2/685)
في موضع الإطالة، وإن كان الإيجاز أغلب عليه.
الحسن، وقتادة: تميز الحسن وقتادة بالأسلوب الوعظي كما سبق تقرير ذلك (1).
وهذا المنهج كان من لوازمه المعرفة التامة باللغة حتى تبرز المعاني العظيمة في قوالب مؤثرة، فتميز تفسير الحسن وقتادة بانتقاء الكلمات، وسبك العبارات، حتى تقارب هذا النتاج من تفسيرهم مع نتاج مجاهد، وإن كان تفسير مجاهد غلبت عليه الصنعة اللغوية، وتفسير الحسن وقتادة غلب عليه الفصاحة، والوعظ.
لقد تقدم الحسن في اللغة حتى صار لا يلحن، ولما سأله رجل، وقال له: ما أراك تلحن، قال: يا ابن أخي: إني سبقت اللحن (2).
بل كان الحسن يلحن كبار الشعراء والبلغاء كالفرزدق، والكميت، وذي الرمة (3).
وكان يشبه برؤبة بن العجاج وكان من أفصح العرب في عربيته، ولهجته، وفصاحته (4).
ومما أعطى الحسن قوة في اللغة، وصقل علمه بلسان العرب، تقدمه في معرفة القراءات، ويمكن ملاحظة ذلك في المنقول عنه، ولا سيما في كتب التفسير عند المغاربة (5).
__________
(1) كما سبق بيانه ص (209، 265).
(2) المصنف لابن أبي شيبة (10/ 458).
(3) خزانة الأدب (1/ 6)، والبيان والتبيين (2/ 219)، والسير (4/ 577)، والعقد الفريد (3/ 303).
(4) مفتاح السعادة (2/ 24)، والنهاية (1/ 235).
(5) أكثر المغاربة من نقل ذلك عن الحسن، كتفسير ابن عطية، والقرطبي، وأبي حيان، وغيرهم.(2/686)
بل قال الشافعي في قراءة الحسن: لو أشاء أقول: إن القرآن نزل بلغة الحسن لقلت، لفصاحته (1).
وقال أبو عمرو بن العلاء: ما رأيت أفصح من الحسن، والحجاج، فقيل له:
فأيهما كان أفصح قال: الحسن (2).
ولم يكن قتادة بعيدا عن شيخه في ذلك المضمار، فلقد كان على علم بالعربية، والشعر، والأنساب (3).
ويشهد لذلك قول الذهبي فيه: كان قتادة رأسا في اللغة (4).
ولأجل ذلك كثر نتاج هذين الإمامين، وظهر أثر اللغة، والاعتماد عليها في الأقوال المنسوبة إليهما ظهورا واضحا.
الشعبي: لقد كان الشعبي على علم واسع باللغة، وأشعار العرب، وكان له دور كبير في تفسيره الغريب، إلا أن الوارد عنه في ذلك كان قليلا، ولعل سبب ذلك أنه كان لا ينشد الشعر، فلقد كانت المدرسة الكوفية تتحرج من أن تجتهد في تفسير الآيات بما يكون من شعر العرب، بخلاف موقف ابن عباس الذي كان يحض على الاستفادة من الشعر في التفسير لأنه ديوان العرب (5).
أما عن التابعين الذين قلّ اعتمادهم على اللغة في تعرضهم لتفسير القرآن، فلم تكن وجهتهم واحدة، فمنهم من انشغل بغير التفسير، ومنهم من تعلق ببعض فروع
__________
(1) غاية النهاية (1/ 235).
(2) البيان والتبيين (1/ 163)، وإيضاح الوقف والابتداء (1/ 27).
(3) السير (5/ 277).
(4) التذكرة (1/ 122).
(5) الإتقان (1/ 119).(2/687)
اللغة، ومنهم من لم يكن متضلعا في معرفتها.
فالسدي وإن كان متأثرا بلغة ابن عباس رضي الله عنهما، واقتدى به في كثير من اجتهاده في التفسير المعتمد على اللغة، فإنه لم يكن من المكثرين في اتخاذ اللغة مصدرا في تفسيره (1).
وأما إبراهيم النخعي، فلقد انشغل بالفقه، وأكثر منه، مما قلل من عنايته بعلوم اللغة، فلربما لحن، أو خالف الفصيح (2).
وأما عكرمة فقد برز في تفسير نوع من أنواع اللغة، وهو معرفة ما ورد في القرآن من المعرب، وبيان أصوله، ولعل السبب في ذلك هو كثرة تردد الناس إلى مكة قاصدين البيت الحرام (3).
وإذا جئنا إلى عطاء، لم نجد للغة كبير صدى في تفسيره، ومرد ذلك وعلته، أنه لم يكن على علم كبير بلغة العرب.
فعن حجاج قال عطاء: وددت أني أحسن العربية، قال ذلك وهو يومئذ ابن تسعين سنة (4).
وربما كان من الأسباب التي أدت ببعض التابعين إلى الضعف اللغوي هو: عدم وضع الضوابط، والأسس اللغوية التي تسهل وتيسر تناولها، فلقد كانت معرفة اللغة تعتمد أكثر ما يكون على خلطة الأعراب، وحفظ الأشعار والأمثال، ونحو ذلك، فلما تقعدت القواعد، ووضعت الضوابط اللغوية، برز أتباع التابعين في معرفة اللغة، ولا سيما ابن زيد الذي كان تمكنه اللغوي بارزا في تفسيره.
__________
(1) سبق بيان ذلك في ترجمته ص (302).
(2) ينظر كتاب العلل لأحمد الآثار رقم (645، 648، 763، 467، 649، 771).
(3) سبق بيان ذلك في ترجمته ص (161).
(4) السير (5/ 87)، وتهذيب الكمال (20/ 84)، والعقد الثمين (6/ 86).(2/688)
أهم الأسباب التي ساعدت التابعين على الاستفادة من اللغة:
وإذا أردنا أن نتعرف على كيفية استفادة التابعين من هذا المصدر في التفسير، فإنه ينبغي علينا أن نتعرف على مدى استيعاب التابعين لهذا المصدر، وتأثرهم به، وأثر ذلك في تفسيرهم.
وفيما يلي بيان بأهم الأسباب التي ساعدت التابعين على الاستفادة من هذا المصدر في التفسير.
1 - معرفة لسان العرب:
لقد كان لمعرفة لسان العرب الأثر الواضح في تفسير جل التابعين، وظهر ذلك في تفسيرهم للمشكل، والغريب، إلا أنه ينبغي التنبيه هنا على أن المنقول عن أئمة العراق في باب بيان الغريب أكثر من المنقول عن الحجازيين، ولعل السبب في ذلك اختلاط العراقيين بالأعاجم حتى استغلقت بعض الكلمات والعبارات على بعضهم، في حين احتفظت مكة والمدينة نسبيا باللغة، فلم يحتج فيها إلى تفسير الكلمات التي ربما أشكلت على العراقيين.
بل ربما أحال الحسن في معرفة المشكل على أهل المدينة، فقد تعرض لتفسير قوله تعالى: {مُتَّكِئِينَ عَلى ََ رَفْرَفٍ} (1) قال: هي البسط، أهل المدينة يقولون ذلك (2).
وعنه أيضا في قوله: {قَدْ شَغَفَهََا حُبًّا} (3) قال: قد بطنها حبا، أهل المدينة يقولون ذلك (4).
__________
(1) سورة الرحمن: آية (76).
(2) تفسير الطبري (27/ 163).
(3) سورة يوسف: آية (30).
(4) تفسير الطبري (16/ 64) 19148، وأورده السيوطي في الدر، وعزاه لابن أبي شيبة، وابن جرير، وابن أبي حاتم، وابن المنذر، وأبي الشيخ عن الحسن به (4/ 528).(2/689)
لقد تعلم التابعون لغة العرب، وظهر أثر ذلك في التفسير، فكم من آية نجد فيها تفسيرا للتابعين، وهو يقول: هذا من لغة العرب، هذا من لغة بني فلان، أو لغة قبيلة كذا، وجلّ ذلك في المفردات، وهي أساس الكلام، ولذا اعتبر العلماء الشرح بالمفردات شرحا لكل المعنى، وعليه درج بعض أئمة التفسير (1).
فمما نسبه التابعون صراحة للعرب، ما جاء عن مجاهد في تفسير قوله تعالى:
{وَلََا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ} (2)، قال: لا تضعف أن تستكثر من الخير، قال: (تمنن) في كلام العرب: تضعف (3).
وجاء عنه في تفسير قوله تعالى: {فِي جِيدِهََا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ} (4)، قال: طوق من حديد، ألا ترى أن العرب تسمى البكرة (5) مسدا (6).
وفي تفسير قوله تعالى: {قُلْ إِنْ كََانَ لِلرَّحْمََنِ وَلَدٌ} (7).
قال زيد بن أسلم: هذا قول العرب معروف (إن كان): ما كان (8)، وفي تفسير قوله تعالى: {ظَهَرَ الْفَسََادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} (9)، قال عكرمة: إن العرب تسمي الأمصار بحرا (10).
__________
(1) كتفسير الجلالين، والنسفي، وغيرها، والتي اعتمدت تفسير المفردات بيانا للمعنى.
(2) سورة المدثر: آية (6).
(3) تفسير الطبري (29/ 149)، وتفسير ابن كثير (8/ 290)، وزاد المسير (8/ 402).
(4) سورة المسد: آية (5).
(5) البكرة التي يستقى عليها، بفتح الكاف، ينظر المصباح المنير (1/ 75).
(6) تفسير ابن كثير (8/ 536).
(7) سورة الزخرف: آية (81).
(8) تفسير الطبري (25/ 102)، وأورده السيوطي في الدر، وعزاه إلى ابن جرير بلفظ: هذا مقول العرب، إن كان هذا الأمر قط، أي ما كان (7/ 395).
(9) سورة الروم: آية (41).
(10) تفسير الطبري (21/ 49)، وزاد المسير (6/ 305)، وفتح القدير (4/ 228).(2/690)
وعند ما تعرض الحسن لتفسير قراءة من قرأ: {سَرََابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرََانٍ} (1)، قال:
كانت العرب تقول للشيء إذا انتهى حره: قد أنى حر هذا، قد أوقدت عليه جهنم منذ خلقت فأنى حرّها (2).
وبلغ من علم التابعين باللغة أن كانوا يفرقون بين الألفاظ المتشابهة المتفقة في الرسم، والمختلفة في الشكل، فعند تفسير قوله تعالى: {انْظُرُوا إِلى ََ ثَمَرِهِ إِذََا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ} (3). قال مجاهد: الثّمر هو المال، والثمر: ثمر النخل (4).
وفي تفسير قوله تعالى: {وَالَّذِينَ لََا يَجِدُونَ إِلََّا جُهْدَهُمْ} (5).
قال الشعبي: (الجهد) و (الجهد): الجهد في العمل، والجهد في القوت (6).
وربما فسّر التابعون الكلمة ويرجعون ذلك لإحدى لغات العرب، ففي تفسير قوله تعالى: {وَيَمْنَعُونَ الْمََاعُونَ} (7)، قال ابن المسيب: الماعون بلسان قريش: المال (8).
وفي تفسير قوله تعالى: {وَكََانُوا قَوْماً بُوراً} (9) قال مجاهد: البور في لغة عمان:
الفاسد (10).
__________
(1) سورة إبراهيم: آية (50).
(2) تفسير الطبري (13/ 257).
(3) سورة الأنعام: آية (99).
(4) تفسير الطبري (11/ 579) 13672.
(5) سورة التوبة: آية (79).
(6) تفسير الطبري (14/ 393) 17020، 17021، وأورده السيوطي في الدر، وعزاه إلى أبي شيبة، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبي الشيخ، عن الشعبي بنحوه (4/ 252).
(7) سورة الماعون: آية (7).
(8) تفسير الطبري (2/ 319)، وزاد المسير (9/ 246).
(9) سورة الفرقان: آية (18).
(10) مشكل القرآن (49)، والإتقان (1/ 176).(2/691)
وفي تفسير قوله تعالى: {وَأَنْتُمْ سََامِدُونَ} (1)، قال عكرمة: يتغنون بالحمرية (2).
وقال الحسن في قراءة: {وَإِنْ كََانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلى ََ مَيْسَرَةٍ} (3) بسكون الظاء:
وهي لغة تميم (4).
وعند تفسير قوله تعالى: {لَيْسَ لَهُمْ طَعََامٌ إِلََّا مِنْ ضَرِيعٍ} (5) قال عكرمة: هي شجرة ذات شوك، لاطئة بالأرض، فإذا كان الربيع سمتها قريش الشّبرق، فإذا هاج العود سمتها الضّريع (6).
2 - معرفة عادات العرب وأخبارهم:
من العوامل التي ساعدت التابعين على الاعتماد على اللغة العربية واتخاذها مصدرا من مصادر التفسير معرفتهم بعادات العرب في أفعالها ومجارى أحوالها (7)، فإذا كانت الآية تنكر على الجاهليين أمرا ما، فإن المفسر يدرك المقصود منها إذا كان على علم بحالهم في ذلك الأمر، فمن ذلك ما جاء في تفسير قوله عز وجل: {يََا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لََا تُحِلُّوا شَعََائِرَ اللََّهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرََامَ وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلََائِدَ} (8).
قال قتادة: كان الرجل في الجاهلية إذا خرج من بيته يريد الحج تقلد من السمر فلم
__________
(1) سورة النجم: آية (61).
(2) تفسير الطبري (27/ 82)، وزاد المسير (8/ 86).
(3) سورة البقرة: آية (280).
(4) تفسير القرطبي (3/ 241)، وفتح القدير (1/ 298).
(5) سورة الغاشية: آية (6).
(6) تفسير الطبري (30/ 162)، وزاد المسير (9/ 96)، وأورده السيوطي في الدر، وعزاه إلى عبد بن حميد، وابن جرير، وابن أبي حاتم، عن عكرمة، بلفظ مختصر (8/ 492).
(7) الموافقات (3/ 351).
(8) سورة المائدة: آية (2).(2/692)
يعرض له أحد، فإذا رجع تقلد قلادة شعر، فلم يعرض له أحد (1).
وجاء في تفسير قوله تعالى: {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزََّادِ التَّقْوى ََ} (2). أن أناسا كانوا يحجون ولا يتزودون ويقولون: نتوكل على الله، فنزلت الآية، جاء هذا عن عكرمة، وإبراهيم، ومجاهد، وغيرهم (3).
وفي تفسير قوله تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنََاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ} (4)، أن العرب كانوا يحجون، ولا يتجرون، فنزلت الآية، جاء ذلك عن مجاهد، وقتادة، والربيع بن أنس، وغيرهم (5).
وفي تفسير قوله سبحانه: {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفََاضَ النََّاسُ} (6)، كانت قريش تقول: نحن الحمس أهل الحرام ولا نخلف الحرم، ونفيض عن مزدلفة، فأمروا أن يبلغوا عرفة، جاء هذا عن مجاهد، وقتادة، والسدي، والربيع، وغيرهم (7).
وفي تفسير قوله تعالى: {فَإِذََا قَضَيْتُمْ مَنََاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللََّهَ كَذِكْرِكُمْ آبََاءَكُمْ أَوْ}
__________
(1) تفسير الطبري (9/ 468) 10950، 109951، 10952، وتفسير عبد الرزاق (1/ 82)، وزاد المسير (2/ 273)، وأورده السيوطي في الدر، وعزاه إلى عبد الرزاق، وعبد بن حميد، وابن جرير، والنحاس في ناسخه، عن قتادة بنحوه (3/ 8).
(2) سورة البقرة: آية (197).
(3) تفسير الطبري (4/ 157، 158) 3733، 3737، 3739، تفسير عبد الرزاق (1/ 77)، وفتح القدير (1/ 203).
(4) سورة البقرة: آية (198).
(5) تفسير الطبري (4/ 169162) 3762، 3777، 3781، 3787، وتفسير عبد الرزاق (1/ 77)، وأورده السيوطي في الدر، وعزاه إلى ابن أبي شيبة، وابن جرير، عن مجاهد بنحو (1/ 535)، وأورده أيضا في الدر، عن قتادة بنحوه، وعزاه إلى عبد بن حميد (1/ 537).
(6) سورة البقرة: آية (199).
(7) تفسير الطبري (4/ 187) 38393835، وتفسير عبد الرزاق (1/ 78)، وزاد المسير (1/ 214)، وفتح القدير (1/ 206).(2/693)
{أَشَدَّ ذِكْراً} (1).
جاء أن القوم في جاهليتهم، بعد فراغهم من حجهم، ومناسكهم، يجتمعون فيتفاخرون بمآثر آبائهم، فأمرهم الله في الإسلام أن يكون ذكرهم بالثناء، والشكر، والتعظيم لربهم، دون غيره، وأن يلزموا أنفسهم الإكثار من ذكره.
جاء هذا عن مجاهد، وقتادة، وسعيد بن جبير، وعكرمة، وغيرهم (2).
وفي تفسير قوله تعالى: {وَإِذََا فَعَلُوا فََاحِشَةً قََالُوا وَجَدْنََا عَلَيْهََا آبََاءَنََا وَاللََّهُ أَمَرَنََا بِهََا} (3).
جاء في تفسيرها عن مجاهد أنه قال: كانوا يطوفون بالبيت عراة، يقولون: نطوف كما ولدتنا أمهاتنا، فتضع المرأة على قبلها النسعة أو الشيء، فتقول:
اليوم يبدو بعضه أو كله ... فما بدا منه فلا أحلّه (4)
وجاء عن سعيد بن جبير نحوه (5).
وفي تفسير قوله تعالى: {وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنََاتٍ} (6)، قال الحسن: خرقوا بالتخفيف كلمة عربية، كان الرجل إذا كذب في النادي قيل: خرقها ورب الكعبة (7).
__________
(1) سورة البقرة: آية (200).
(2) تفسير الطبري (4/ 197) 38573851، وتفسير عبد الرزاق (1/ 79)، وزاد المسير (1/ 215)، وفتح القدير (1/ 206).
(3) سورة الأعراف: آية (28).
(4) تفسير الطبري (12/ 377) 14462، والنسعة: قطعة جلد مضفورة توضع على صدر البعير.
(5) تفسير الطبري (12/ 392) 14521، وزاد المسير (3/ 184)، فتح القدير (2/ 199).
(6) سورة الأنعام: آية (100).
(7) تفسير القرطبي (7/ 53)، وأورده السيوطي في الدر، وعزاه إلى أبي الشيخ عن الحسن بلفظ مقارب (3/ 353).(2/694)
وعند قوله سبحانه: {فَمَنِ اعْتَدى ََ بَعْدَ ذََلِكَ فَلَهُ عَذََابٌ أَلِيمٌ} (1)، قال الحسن:
كان الرجل إذا قتل قتيلا في الجاهلية فرّ إلى قومه، فيجيء قومه فيصالحون عنه بالدية، قال: فيخرج الفارّ، وقد أمن على نفسه، قال: فيقتل، ثم يرمى إليه بالدية، فذلك الاعتداء (2).
وعند تفسير قوله سبحانه: {إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلََّا إِنََاثاً} (3)، قال الحسن: كان لكل حي من أحياء العرب صنم، يسمونها: أنثى بني فلان، فأنزل الله {إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلََّا إِنََاثاً} (4).
3 - الإلمام بأشعار العرب:
الاحتجاج بالشعر في اللغة دأب النحاة والبلاغيين، ولم يكن فعلهم هذا بدعا لأن الصحابة والتابعين سلكوا هذا السبيل في تفسيرهم لكتاب الله، حتى صار الشعر العربي من مصادرهم في فهم آيات الكتاب العزيز ولذا لا نتعجب عند ما يروي لنا عكرمة عن ابن عباس الأمر بذلك بقوله: إذا سألتموني عن غريب اللغة فالتمسوه في الشعر فإن الشعر ديوان العرب (5).
وعن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة قال: شهدت ابن عباس وهو يسأل عن عربية القرآن فينشد الشعر (6).
__________
(1) سورة البقرة: آية (178).
(2) تفسير الطبري (3/ 377) 2606، 2607، وأورده السيوطي في الدر، وعزاه إلى وكيع، وعبد بن حميد، وابن جرير، عن الحسن به (1/ 421).
(3) سورة النساء: آية (117)، وزاد المسير (2/ 203)، وفتح القدير (1/ 518).
(4) تفسير الطبري (9/ 209) 10438، 10439.
(5) البرهان (1/ 293)، وتكلم بعدها عن أجوبة مسائل نافع بن الأزرق الخارجي لابن عباس، وأجوبته له بالشعر.
(6) فضائل الصحابة (2/ 981) 1938.(2/695)
وعن سعيد بن جبير، ويوسف بن مهران قالا: ما نحصي كم سمعنا ابن عباس يسأل عن الشيء من القرآن فيقول: هو كذا وكذا، ما سمعت الشاعر يقول: كذا وكذا (1).
فإذا كان الشعر مما يصح الاستدلال به على غريب القرآن، فإنه يصح الاستدلال به على صحة مذهب النحاة فيما ذهبوا إليه.
قال أبو بكر بن الأنباري: فقد جاء عن الصحابة والتابعين كثير الاحتجاج على غريب القرآن ومشكله بالشعر (2).
وقال أيضا: وجاء عن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وتابعيهم رضوان الله عليهم من الاحتجاج على غريب القرآن، ومشكله باللغة والشعر ما بّين صحة مذهب النحويين في ذلك (3).
بل نجد أن بعض التابعين كان شاعرا كالشعبي (4).
ولما كان الحسن رحمه الله يتحرج من إنشاد الشعر لئلا يذهب الناس به عن القرآن (5)، نجد في المقابل من ينكر هذا التحرج.
فقد قال الأصمعي لسعيد بن المسيب: هاهنا قوم نساك يعيبون إنشاد الشعر، قال:
نسكوا نسكا أعجميا (6).
__________
(1) فضائل الصحابة لأحمد (2/ 963) 1880، 1916.
(2) الإتقان (1/ 157).
(3) تفسير القرطبي (1/ 20).
(4) ينظر ترجمة الشعبي ص (361).
(5) البيان والتبيين (1/ 119)، حتى قيل: إنه لم ينشد إلا بيتا واحدا، وهو قول عدي الغساني:
ليس من مات فاستراح بميت ... إنما الميت ميت الأحياء
وكان يتمثل به كثيرا، ينظر خزانة الأدب (4/ 187)، وكتاب الحيوان (6/ 508).
(6) البيان والتبيين (1/ 202)، وذكر بعضهم أن المراد به الحسن.(2/696)
ويروى هذا الخبر أيضا عن ابن أنعم أنه قال: قلت لابن المسيب: إن عندنا رجلا من الأنصار يقال له: إسماعيل بن عبيد من العباد، إذا سمعنا نذكر شعرا صاح علينا، فقال سعيد: ذاك رجل نسك نسك العجم (1).
والظاهر أن أكثر التابعين لم يتحرجوا من الاعتماد على الشعر كمصدر من مصادر التفسير، بل حتى الحسن ورد عنه ذلك، ففي تفسير قوله تعالى: {وَالْتَفَّتِ السََّاقُ بِالسََّاقِ} (2)، قال الحسن: لفت ساق الآخرة بساق الدنيا، وذكر قول الشاعر:
وقامت الحرب بنا على ساق (3).
والمطالع في كتب التفسير يجد المزيد من الأمثلة، بل ترجم ابن أبي شيبة في كتاب فضائل القرآن من المصنف فقال: ما فسر بالشعر من القرآن (4).
فمما جاء عن التابعين في ذلك ما روي عند تفسير قوله تعالى: {فَإِذََا هُمْ بِالسََّاهِرَةِ} (5)، قال الشعبي: بالأرض، ثم أنشد أبياتا لأمية وفيها:
لحم ساهرة وبحر (6)
وفي تفسير قوله تعالى: {الْقََانِعَ وَالْمُعْتَرَّ} (7)، قال سعيد بن جبير: القانع السائل، ثم أنشد أبياتا لشماخ:
__________
(1) رياض النفوس (1/ 107).
(2) سورة القيامة: آية (29).
(3) أورده السيوطي في الدر، وعزاه إلى عبد بن حميد (8/ 362).
(4) المصنف لابن أبي شيبة (10/ 474).
(5) سورة النازعات: آية (14).
(6) المصنف لابن أبي شيبة (10/ 475) 10034، وأورده السيوطي في الدر، وعزاه لابن أبي شيبة، وعبد بن حميد عن الشعبي (8/ 408).
(7) سورة الحج: آية (36).(2/697)
لمال المرء يصلحه فيفنى ... معافره أعف من القنوع (1)
4 - معرفة فقه اللغة:
المقصود بمعرفة فقه اللغة هو معرفة البنية الأساس للكلمات وأساس الألفاظ، وما اشتق منها، وما كان من باب الإيجاز، أو التقديم والتأخير وما إلى ذلك.
وأحاول هنا أن أبرز مدى استيعاب التابعين لهذه الأمور، ومن ثم الاستفادة منها في التفسير.
أالاشتقاق:
لاحظ التابعون اشتقاق الكلمات في اللغة، فقاموا بالتفسير بناء على ما فهموه من الاشتقاق، وقد شمل ذلك الاشتقاق من الأسماء، وصيغ الأفعال، وغير ذلك، ومن أمثلة ذلك.
ما جاء عن مجاهد في تفسير الكعبة قال: إنما سميت الكعبة لأنها مربعة (2)، وكذا قال عكرمة (3).
وقال مجاهد: وإنما سميت البدن من أجل السمانة (4).
__________
(1) المرجع السابق (10/ 475) 10035، وأورده السيوطي في الدر، وعزاه لابن أبي شيبة، وعبد ابن حميد، عن سعيد بنحوه (6/ 55).
(2) تفسير الطبري (11/ 90) 12780، والمصنف لابن أبي شيبة (4/ 112)، وزاد المسير (2/ 429).
(3) تفسير الطبري (11/ 90) 12781، وزاد المسير (2/ 429)، وأورده السيوطي في الدر، وعزاه إلى ابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر عن عكرمة بنحوه (3/ 201).
(4) المصنف لابن أبي شيبة (4/ 112)، وأورده السيوطي في الدر، وعزاه إلى ابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن مجاهد بنحوه (6/ 50).(2/698)
وقال مجاهد في تفسير الإيلاف: ألفوا ذلك فلا يشق عليهم في الشتاء، أو الصيف (1)، وفي قوله: {أَوْ مِسْكِيناً ذََا مَتْرَبَةٍ} (2) قال: قال مجاهد: المطروح في التراب ليس له بيت (3).
وعن الحسن قال: إنما سمي الحج الأكبر من أجل أنه حج أبو بكر الحجة التي حجها، واجتمع فيها المسلمون، والمشركون، ووافق أيضا عيد اليهود، والنصارى (4).
وقال أبو العالية: إنما سمي العجل لأنهم عجلوا فاتخذوه قبل أن يأتيهم موسى (5).
وقال قتادة: إنما سمى الله يحيى لأن الله أحياه بالإيمان (6).
وعن إبراهيم النخعي قال: سمي المسيح لأنه مسح من الذنوب (7).
وقال مجاهد في قوله: {عَيْناً فِيهََا تُسَمََّى سَلْسَبِيلًا} (8)، قال: سميت بذلك لسلاسة سبيلها وحدة جريها (9).
__________
(1) فتح الباري (8/ 730)، وأورده السيوطي في الدر، وعزاه إلى الفريابي، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن مجاهد بلفظ مقارب (8/ 635).
(2) سورة البلد: آية (16).
(3) فتح الباري (8/ 704)، وأورده السيوطي في الدر، وعزاه إلى الفريابي، وعبد بن حميد عن مجاهد به (8/ 525).
(4) تفسير الطبري (14/ 128) 16459، وزاد المسير (3/ 396)، وتفسير عبد الرزاق (2/ 266)، وفتح القدير (2/ 335).
(5) تفسير الطبري (1/ 68) 924، وتفسير ابن أبي حاتم (1/ 164) 516.
(6) تفسير الطبري (6/ 370) 6950، وتفسير ابن أبي حاتم (2/ 235) 408، وزاد المسير (1/ 382).
(7) تفسير الطبري (6/ 414) 7064، 7065.
(8) سورة الإنسان: آية (18).
(9) تفسير ابن كثير (8/ 317)، وزاد المسير (8/ 438)، وتفسير عبد الرزاق (3/ 338).(2/699)
وعن السدي في اسم (إبليس) قال: إنما سمي إبليس حين أبلس متحيرا (1).
وعن مجاهد قال: إنما سمي الميسر لقولهم أيسروا وأجزروا (2).
وعن سعيد قال: إنما سموا الحواريين ببياض ثيابهم (3).
وعطاء مع أنه لم يكن متقدما في اللغة إلا أنه أثر عنه أيضا شيء من ذلك، والمتوقع أن يكون في المناسك، لما عرف عنه من اهتمام بذلك.
فقد قال: إنما سميت عرفة أن جبريل كان يري إبراهيم عليه السلام المناسك، فيقول: عرفت عرفت، فسميت عرفات (4).
وعن سعيد بن جبير: في سبب اشتقاق آدم قال: خلق آدم من أديم الأرض (5).
وقال قتادة في النصارى: إنما سموا نصارى لأنهم كانوا بقرية يقال لها ناصرة، ينزلها عيسى بن مريم، فهو اسم تسموا به، ولم يؤمروا به (6).
ب الإيجاز والحذف:
لقد اهتم التابعون بمعرفة التراكيب العربية، وما يتعلق بها والمفهوم من كل تركيب، وما إلى ذلك، ولقد جاءت النصوص عنهم بتفسير الآيات بإيضاح موضع الإيجاز، أو الحذف والزيادة، مما يؤكد أن النواة الأولى لهذا العلم قد غرست في عهد التابعين، ولم تكن هذه الأدوار مقعدة في قواعد، أو مضبوطة بضوابط، إلا أنهم كانوا يفهمونها بالسليقة العربية، ولذا لم يكن الاهتمام منصبا على تحديد القواعد بقدر ما كان الهدف
__________
(1) تفسير الطبري (1/ 509) 704، وتفسير ابن أبي حاتم (1/ 122) 365، 366.
(2) تفسير الطبري (4/ 322) 4106.
(3) تفسير الطبري (6/ 449) 7124، وزاد المسير (1/ 394).
(4) تفسير الطبري: (4/ 174) 3796.
(5) تفسير الطبري: (1/ 481) 462، 463.
(6) تفسير الطبري: (2/ 145) 1097، 1098.(2/700)
هو فهم الآيات، وفيما يلي بعض الأمثلة الدالة على ذلك: فعن قتادة عند تفسير قوله سبحانه: {فَبِمََا رَحْمَةٍ مِنَ اللََّهِ لِنْتَ لَهُمْ} (1) قال: فبرحمة من الله لنت لهم (2)
إشارة إلى أن الميم زائدة.
وعند قوله تعالى: {ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنََا مَعَ نُوحٍ} (3) أشار مجاهد إلى حذف حرف النداء فقال: هو على النداء: يا ذرية من حملنا مع نوح (4)، وفي قوله تعالى: {تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ} (5)، قال مجاهد: بثمره (6)، أي بثمر الدهن، فجعله من باب حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه، وهو ضرب من أضرب الإيجاز.
وعند تفسير قوله تعالى: {لََا أُقْسِمُ بِهََذَا الْبَلَدِ} (7)، قال مجاهد: (لا): رد عليهم أقسم بهذا البلد (8).
وهنا أيضا نجده قد قدّر المنفي ب (لا) غير القسم الموجود.
ج التقديم والتأخير:
من الأساليب التي عني بها المفسرون أيضا أسلوب التقديم والتأخير، وهذا لا يكاد يعرفه ويجزم به إلا من كان متضلعا من اللغة، وأساليبها.
__________
(1) سورة آل عمران: آية (159).
(2) تفسير الطبري (7/ 341) 8119، ويقال في مثل هذا: إن الميم زائدة للتوكيد.
(3) سورة الإسراء: آية (3)، ينظر فتح القدير (1/ 395).
(4) تفسير مجاهد (1/ 357)، وزاد المسير (5/ 9)، وأورده السيوطي في الدر، وعزاه إلى ابن أبي حاتم (5/ 236)، وفتح القدير (3/ 208).
(5) سورة المؤمنون: آية (20).
(6) تفسير الطبري (18/ 10).
(7) سورة البلد: آية (1).
(8) تفسير ابن كثير (8/ 424)، وأورده السيوطي في الدر، وعزاه إلى الفريابي وابن أبي حاتم عن مجاهد به (8/ 517)، وفتح القدير (5/ 442)، وزاد المسير (9/ 126).(2/701)
ولذا لم نجده يكثر في تفسير التابعين ككثرة كلامهم في الاشتقاق، وقد وجدت جملة صالحة من ذلك مبثوثة في التفسير أحاول أن أبرز شيئا منها: فمما ورد عنهم:
في تفسير قوله تعالى: {وَلَوْلََا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكََانَ لِزََاماً وَأَجَلٌ مُسَمًّى} (1).
قال مجاهد: الأجل المسمى الموت، وفيه تقديم وتأخير، يقول: لولا كلمة سبقت من ربك، وأجل مسمى لكان لزاما (2).
وفي تفسير قوله تعالى: {لَهُمْ عَذََابٌ شَدِيدٌ بِمََا نَسُوا يَوْمَ الْحِسََابِ} (3).
قال عكرمة: هذا من التقديم والتأخير، يقول: لهم يوم الحساب عذاب شديد بما نسوا (4).
وعند السدي في قوله تعالى: {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرََافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} (5). قال: أما {(وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ)} فيقول:
اغسلوا وجوهكم، واغسلوا أرجلكم، وامسحوا برءوسكم، فهذا من التقديم والتأخير (6).
5 - معرفة اشتراك اللغات (المعرب):
اختلف أهل العلم في وجود الكلمات الأعجمية في القرآن فأثبت بعضهم ذلك،
__________
(1) سورة طه: آية (129).
(2) تفسير مجاهد (1/ 406)، وأورده السيوطي في الإتقان، وعزاه لابن أبي حاتم عن مجاهد به (2/ 17).
(3) سورة (ص): آية (26).
(4) تفسير الطبري (23/ 152)، وزاد المسير (7/ 124)، وأورده السيوطي في الدر والإتقان، عن ابن جرير عن عكرمة به (7/ 170)، (2/ 17)، وفتح القدير (4/ 430).
(5) سورة المائدة: آية (6).
(6) تفسير الطبري (10/ 55) 11462.(2/702)
واستدلوا على ذلك بأمثلة كثيرة، ورأى آخرون أن هذه الأمثلة لا تعدو أن تكون مما اشتركت فيه اللغات، ولكل فريق أدلته واستنباطاته (1).
ومما يلاحظ في هذا أن المفسرين الذين كانوا عربا أصلا لم يولوا هذا الجانب اهتماما، ولعل أكثر المهتمين بذلك هم من غير العرب، ولذلك نجد الفرق في هذا الباب بين المروي عن عكرمة مثلا ويعد من أكثرهم في هذا الباب، وهو من الموالي وبين المروي عن قتادة السدوسي العربي الأصل، بل يقارن في ذلك ما كان مرويا عن الصحابة بما كان عن التابعين.
وإذا نظرنا إلى بعض الكلمات التي قيل عنها أعجمية فإننا لا نجد ما يدل على أنها ليس لها أصل في العربية بوجه، وهذا ما يؤكد أن هذه الكلمات مما توافقت فيه اللغات، بدليل أنهم يقولون في شرح الكثير منها: إن معناه في الفارسية أو الحبشية كذا، وكذا.
وقد يكون المراد أن العرب قد أخذت هذه الكلمات، وهضمتها، وأجرت عليها قوانينها، فكأن الحديث إنما هو عن أصل هذه الكلمات، لا عن أفرادها الموجودة في القرآن (2).
وعلى ذلك يحمل ما ورد عن السلف في الكلام على هذا الباب، فمن ذلك ما جاء عن سعيد بن جبير وأبي ميسرة عمرو بن شرحبيل أن القرآن نزل بكل لسان (3).
وعن سعيد قال: قالت قريش: لولا أنزل هذا القرآن أعجميا وعربيا فأنزل الله تعالى ذكره: {وَلَوْ جَعَلْنََاهُ قُرْآناً أَعْجَمِيًّا لَقََالُوا لَوْلََا فُصِّلَتْ آيََاتُهُءَ أَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ}
__________
(1) يراجع في هذه المسألة تفسير القرطبي (1/ 49)، والبرهان (1/ 287)، وفتح الباري (8/ 252)، والإتقان (1/ 178)، والمهذب فيما وقع في القرآن من المعرب (6657).
(2) تفسير الطبري، المقدمة (1/ 2013)، وينظر علوم القرآن لعدنان زرزور (399).
(3) المصنف لابن أبي شيبة (10/ 469).(2/703)
{لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفََاءٌ} (1)، فأنزل الله بعد هذه الآية في القرآن بكل لسان فيه:
{بِحِجََارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ} (2)، قال: فارسية أعربت (سنك وكل) (3).
فهذه الآثار وما شابهها تحمل على ما سبق تقريره.
فإذا جئنا إلى المدارس التفسيرية، نجد أن المدرسة المكية حظيت بأكبر نتاج من أمثلة المعرب، وقد حاولت أن أستخلص أسباب ذلك فتبين لي ما يلي:
1 - مكة وموقعها المعظم، مما جعل الناس يثوبون إليها من كل مكان للحج، والعمرة، وفيهم من أسلم، ولم يكن من العرب.
2 - قرب مكة من القبائل العربية المتاخمة للحجاز، وأخذ أئمتها عن أهل هذه القبائل.
3 - اعتمدت المدرسة المكية في الدرجة الأولى على الموالي من غير العرب، ولهم معرفة باللغات الأعجمية، فقد كان كل من عكرمة، ومجاهد، وسعيد، وعطاء من الموالي، في حين كانت المدارس الأخرى كالكوفة مثلا، أئمتها من العرب كالشعبي، والنخعي، حتى الحسن البصري، وإن كان من الموالي فقد نشأ في المجتمع العربي الصرف الذي قلّ الموالي فيه، وهو المجتمع المدني لذا لم يكثر عندهم الاهتمام بالمعرب، بل إن شئت فقل: لم يلحظوا أن في القرآن ما هو غير عربي!! (4).
ومما يلاحظ أيضا أن من كان يفسّر المعرب كان يكثر من لغته التي يعرفها من غير
__________
(1) سورة فصلت: آية (44).
(2) سورة الفيل: آية (4).
(3) تفسير الطبري (1/ 14)، وأورده السيوطي عن عبد بن حميد، وابن جرير، عن سعيد بنحوه (7/ 333).
(4) هذا الأعم الأغلب، وإلا فقد يجد القارئ أن منهم من يشر إلى (المعرب) لكنه نادر، أو قليل بالنسبة للمدنيين، والله أعلم.(2/704)
العربية كما كانت أكثر اللغات الدائرة في تفسير عكرمة النبطية، والحبشية (1).
4 - ومن الأسباب أيضا أن ابن عباس شيخ المدرسة قد تكلم في ذلك، فقد سئل مثلا عن القسورة فقال: ما أعلمه بلغة أحد من العرب: الأسد هي عصب الرجال (2).
فإذا كان شيخ المدرسة ابن عباس قد تكلم في ذلك فليس غريبا أن يكون التلاميذ من المكثرين فيه.
وفيما يلي بعض الأمثلة الدالة على وجود القول بالمعرب عند التابعين، واعتمادهم على اللغة في ذلك، وتأثرهم به في التفسير.
فعن عكرمة قال: (طه) بالحبشية: يا رجل (3)، وقيل بالنبطية (4).
وعن عكرمة: (حصب جهنم): حطب بالحبشية (5).
وعن مجاهد: {وَزِنُوا بِالْقِسْطََاسِ الْمُسْتَقِيمِ} (6) قال: العدل بالرومية (7).
وعن مجاهد: (الطور) الجبل بالسريانية (8).
وعن عكرمة: (الجبت) بلسان الحبشة: شيطان، و (الطاغوت): الكاهن (9).
__________
(1) المصنف لابن أبي شيبة (10/ 473472)، وفنون الأفنان (341).
(2) تفسير الطبري (29/ 169)، والدر المنثور (8/ 339).
(3) المصنف لابن أبي شيبة (10/ 470)، والدر المنثور (5/ 550)، وزاد المسير (5/ 269).
(4) تغليق التعليق (4/ 251)، وزاد المسير (5/ 269)، وفتح القدير (3/ 355).
(5) تغليق التعليق (4/ 257).
(6) سورة الشعراء: آية (182).
(7) المصنف لابن أبي شيبة (10/ 470)، وزاد المسير (5/ 35)، وفتح القدير (3/ 229).
(8) رواه البخاري معلقا في كتاب التفسير، باب سورة (والطور)، ينظر الفتح (8/ 601)، وفتح القدير (5/ 94).
(9) رواه البخاري معلقا في كتاب التفسير، باب: (وإن كنتم مرضى)، ينظر الفتح (8/ 251)، وزاد المسير (2/ 107).(2/705)
وعن ابن جبير مثله (1).
ومما يدل على تقدم عكرمة في اللسان الحبشي أنهم كانوا يراجعونه في ذلك، ويستفصلونه.
فقد قيل له: (القسورة) بالحبشية: الأسد، فقال: القسورة: الرماة، والأسد بالحبشية عنبسة (2).
ومن الأمثلة أيضا ما جاء عند تفسير قوله تبارك وتعالى: {وَكَذََلِكَ نُرِي إِبْرََاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضِ} (3).
قال عكرمة عن (الملكوت): هو الملك غير أنه بكلام النبط ملكوتا (4).
وعن عكرمة: قال: جبريل اسمه عبد الله، وميكائيل اسمه عبيد الله «إيل»:
الله (5).
ومما يدل على تقدم معرفتهم باللغة الأعجمية، أن الحسن كان يفسر قوله تعالى:
{حَتََّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيََاطِ} (6)، بأنه الجمل الحيوان المعروف، وكان منهم من
__________
(1) تفسير الطبري (8/ 463) 9773، وفتح الباري (8/ 252).
(2) فتح الباري (8/ 676).
(3) سورة الأنعام: آية (75).
(4) تفسير الطبري (11/ 471) 13444، 13445، وأورده السيوطي في الدر، وعزاه إلى عبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن عكرمة بنحوه (3/ 301).
(5) تفسير الطبري (2/ 390) 1624، 1626، 1628، وزاد المسير (1/ 119)، وأورده السيوطي في الدر، وعزاه إلى ابن المنذر، عن عكرمة بزيادة في آخره (1/ 225)، وأورده أيضا بلفظ: جبر عبد، وإيل الله، وميك عبد، وإيل الله، وإسراف عبد، وإيل الله، وعزاه إلى وكيع، وابن جرير (1/ 226).
(6) سورة الأعراف: آية (40).(2/706)
يرى أنه الحبل الغليظ (1)، فذهب بعضهم يستفهمه فقال له: أشتر أشتر، أي: الجمل بالفارسية (2).
وفي تفسير قوله تعالى: {يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ} (3).
قال ابن جبير: هو قول أهل الشرك بعضهم لبعض إذا عطس: (زه هزار سال) (4).
__________
(1) وهو مروي عن ابن عباس وغيره، يراجع في ذلك تفسير الطبري (12/ 431) 14640.
(2) تفسير الطبري (12/ 429) 14626.
(3) سورة البقرة: آية (96).
(4) تفسير الطبري (2/ 373) 1592، وزاد المسير (1/ 117)، وتفسير ابن كثير (1/ 128) وزه أي عش، هزار: ألف، سال: سنة.(2/707)
المبحث الخامس
الاجتهاد
الاجتهاد هو بذل الوسع (1)، والاجتهاد في التفسير بذل الوسع في استخراج المعاني، واستنباط الفوائد، والاستنارة بالحكمة، وتتبع المعنى، والتطبيق الفعلي لأمر الله بالتدبر {أَفَلََا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ} (2) {كِتََابٌ أَنْزَلْنََاهُ إِلَيْكَ مُبََارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيََاتِهِ} (3)، ولأمر الله بالاستنباط {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلى ََ أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} (4)، {وَمََا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللََّهُ وَالرََّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} (5).
وفي مجال الاجتهاد والنظر، تتفاوت الأفهام، وتختلف الأذهان، وتتسابق العقول فيه مسابقة الفرسان، فمنهم حز العظم، وطبق المفصل، ومنهم من سدد، وقارب، وآخر رمى فأخطأ، {يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشََاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً} (6).
فكلما كان المفسّر متمكنا من علومه، متعمقا في تفكيره، ممعنا في تدبره، قادرا على استحضار النصوص المتشابهة، كان أقدر على النظر الصحيح الذي يجلو
__________
(1) مختار الصحاح (101).
(2) سورة النساء: آية (82).
(3) سورة (ص): آية (29).
(4) سورة النساء: آية (83).
(5) سورة آل عمران: آية (7)، والشاهد في ذلك قراءة مجاهد بالوصل، لا الوقف على لفظ الجلالة، والمراد معرفتهم التفسير.
(6) سورة البقرة: آية (269).(2/708)
الغوامض، ويزيل الالتباس، ويكشف مشكل المعاني، وهذا لا يبلغه كل واحد لأن هذا لا يتم إلا بمنحة من الله للعبد بالفطنة، وسرعة البديهة، وسعة الأفق، والتوفيق للأوفق، ولا بد من وسائل معينة قبل الغوص وراء درر المعاني.
اجتهاد التابعين في التفسير:
لقد اجتهد التابعون في التفسير اجتهادا عظيما، يدلنا على ذلك كثرة المنقول عنهم، مع اختلاف مدارسهم، وتنوع مشاربهم، وقد تلقوا التفسير عن الصحابة، وإن كانوا يتكلمون في بعض ذلك بالاستنباط والاستدلال (1).
والاجتهاد كما هو معلوم منه ما هو محمود، ومنهم ما هو مذموم، فالمذموم ما كان تابعا للهوى، وهو الذي جاءت النصوص بالنهي عنه، والتحذير من التورط فيه (2).
وأما المحمود فما كان بعد استجماع الأدوات، والاطلاع على اللغات واللهجات، ومعرفة الأمارات، والدلالات.
وقد كان تفسير التابعين من هذا الباب، ولذا قال الإمام الترمذي رحمه الله:
وأما الذي روي عن مجاهد، وقتادة، وغيرهما من أهل العلم أنهم فسروا القرآن، فليس الظن بهم أنهم قالوا في القرآن وفسروه بغير علم، أو من قبل أنفسهم، وقد روي عنهم ما يدل على ما قلنا، أنهم لم يقولوا من قبل أنفسهم، بغير علم. اه.
وعقب شيخ الإسلام بعد نقله كلام الترمذي هذا فقال: فمن قال في القرآن برأيه فقد تكلف ما لا علم له به، وسلك غير ما أمر به، فلو أنه أصاب المعنى في نفس الأمر لكان قد أخطأ لأنه لم يأت الأمر من بابه، كمن حكم بين الناس على جهل فهو في النار، وإن وافق حكمه الصواب في نفس الأمر، لكن يكون أخف جرما ممن أخطأ، والله أعلم (3).
__________
(1) مقدمة ابن تيمية في التفسير (38).
(2) ينظر الآثار الواردة في ذلك في مجموع الفتاوى (13/ 373).
(3) مجموع الفتاوى (13/ 37)، وتحفة الأحوذي (4/ 64).(2/709)
وقال أيضا بعد أن ذكر الآثار عن السلف في تعظيم التجرؤ على التفسير: فهذه الآثار الصحيحة وما شاكلها من أئمة السلف محمولة على تحرجهم عن الكلام في التفسير بما لا علم لهم به، فأما من تكلم بما يعلم من ذلك لغة وشرعا فلا حرج عليه، ولهذا روي عن هؤلاء وغيرهم أقوال في التفسير، ولا منافاة لأنهم تكلموا فيما علموه وسكتوا عما جهلوه، وهذا هو الواجب على كل أحد، فإنه كما يجب السكوت عما لا علم له به، فكذلك يجب القول فيما سئل عنه مما يعلمه، لقوله تعالى: {لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنََّاسِ وَلََا تَكْتُمُونَهُ} (1).
ويؤكد هذا أيضا ما ورد عن ابن عباس أنه قال: «التفسير على أربعة أوجه: وجه تعرفه العرب من كلامها، وتفسير لا يعذر أحد بجهالته، وتفسير يعلمه العلماء، وتفسير لا يعلمه إلا الله تعالى ذكره» (2).
فهذا يدل على تفاوت مراتب التفسير، وأن العلماء يعرفون من التفسير ما لا يعرفه غيرهم، ولو لم يكن الاجتهاد والأثر، لم يكن فرق بينهم، وبين غيرهم، والله أعلم.
مواطن الاجتهاد في تفسير التابعين:
ومع كثرة المنقول عن النبي صلى الله عليه وسلم، وعن صحابته في التفسير، إلا أن هذه الروايات الكثيرة لم تستوعب بيان كل آي القرآن، ولم تحط بها، ولا غرو فإن القرآن الكريم معين لا ينضب، وما زال القرآن غضا طريا حتى يومنا هذا، لا تشبع منه العلماء، ولا يخلق مع كثرة الترديد.
ولذا فقد ظهرت اجتهادات التابعين في التفسير، حتى إبان عهد الصحابة، وشملت اجتهاداتهم مواطن كثيرة، غالبها مما سكت عنه الصحابة ومن أهمها:
__________
(1) مجموع الفتاوى (3/ 374).
(2) تفسير الطبري (1/ 75) 71.(2/710)
1 - بيان المراد من النص، وذلك إذا كان النص خفي الدلالة بسبب إجمال في اللفظ، أو التركيب.
2 - رفع التعارض بين النصوص التي يوهم ظاهرها التعارض، وهذا من أكثرها (1).
3 - استنباط بعض الأحكام من النصوص القرآنية.
4 - بيان الفروقات بين ما تشابه من الكلمات، والمعاني، والتفسير بين النظائر.
5 - العناية الفائقة بدقائق من علم الكتاب العزيز، كمباحث عد الآي والكلمات في القرآن، وغيرها.
قيمة اجتهاد التابعين:
ولما كان ذلك كذلك، عظم اجتهاد التابعين، وتنوع، حتى عدّ بعض أهل العلم إجماعهم في التفسير حجة.
يقول شيخ الإسلام: قال شعبة بن الحجاج وغيره: أقوال التابعين في الفروع، ليست حجة، فكيف تكون حجة في التفسير، يعني أنها لا تكون حجة على غيرهم ممن خالفهم، وهذا صحيح، أما إذا أجمعوا على الشيء فلا يرتاب في كونه حجة، فإن اختلفوا فلا يكون قول بعضهم حجة على بعض، ولا على من بعدهم (2).
ولقد كانت قدرة التابعين على الاجتهاد والاستنباط تفوق قدرة من جاء بعدهم من صغار التابعين، ومن بعدهم.
فمثلا نجد مجاهدا من أكثرهم اجتهادا، في حين أن من أخذ عنه كان عمله النقل فحسب، كما هو حال ابن أبي نجيح، وغيره.
__________
(1) سيأتي مزيد بيان لهذا في فصل منزلة تفسير التابعين ص (968).
(2) مجموع الفتاوى (13/ 370).(2/711)
وكذا كان حال سعيد بن أبي عروبة، ومعمر مع قتادة، والربيع بن أنس مع أبي العالية، والأمثلة كثيرة، ولهذا كان اجتهاد التابعين مقدما في الجملة على اجتهاد من جاء بعدهم، ولا أدل على ذلك من اعتماد الأئمة من مفسري السلف على أقوالهم، حتى إن المروي عنهم في التفسير فاق المروي عن الصحابة وعن أتباع التابعين (1).
أدوات الاجتهاد عندهم:
أما عن أدوات الاجتهاد عندهم، فيمكن أن نلحظ منها أربعا بوضوح:
1 - معرفة أوضاع اللغة العربية وأسرارها: فإن ذلك يعين على فهم الآيات، يقول مجاهد: لا يحل لأحد يؤمن بالله واليوم الآخر أن يتكلم في كتاب الله إذا لم يكن عالما بلغات العرب (2).
2 - معرفة عادات العرب في أقوالها، وأفعالها، والوقوف على مجاري أحوالها.
3 - معرفة أسباب النزول، وهو من أقوى الطرق في فهم معاني القرآن (3)، وكان من أعلمهم وأكثرهم إعمالا لهذا عكرمة.
4 - قوة الفهم، وسعة الإدراك، وهذا فضل الله يؤتيه من يشاء.
ومن هنا ندرك فضلهم، وعلمهم، فإنهم ما دخلوا التفسير إلا من بابه، وما عالجوا الأمر إلا عن علم، ودراية، وهذا شأن الربانيين من العلماء في كل عصر.
مميزات اجتهاد التابعين:
لقد تميز اجتهاد التابعين بعدة ميزات جعلته أهلا لأن يكون السابق في الميدان،
__________
(1) وقد سبق تفصيل ذلك في فصل مصادر تفسير التابعين ص (8255).
(2) البرهان (1/ 292).
(3) مجموع الفتاوى (13/ 336/ 337).(2/712)
والمقدم على اجتهادات من بعدهم.
ولقد تبين لي بعد البحث، والجمع، ومراجعة تفاسيرهم، أن اجتهادهم تميز بعدة مميزات، بيانها كالتالي:
1 - تنوع عبارات الاجتهاد وتعددها:
لقد اختلف مسلك التابعين في باب الاجتهاد، فنجد منهم أحيانا من يفسر بالقاعدة، والكلية، وأحيانا منهم من يفسر بالمثل، والقصة، وإذا دققنا البحث نجد أن من كان منهم لا يتوسع في الاجتهاد، يعتمد على التفسير بالمثال، ولذا تتنوع عباراتهم، ومؤداها واحد، وغالب ما يصح عنهم من الخلاف يرجع إلى اختلاف تنوع، لا اختلاف تضاد (1).
ولما كان الكثير من آيات القرآن له صفة العموم، فقد كثر هذا النوع من الاختلاف عندهم، وكل وجه يصدق عليه الكثير من الأوجه والاحتمالات، بل إن الآيات التي لها سبب نزول خاص، قد نص فيها العلماء على أن العبرة بعموم اللفظ، فنقل عنهم الاختلاف فيها، وهو من هذا الضرب، فإنه قد يقول المفسر: إن هذه الآية نزلت في كذا، ولا يريد اختصاصها به، كما في آية الظهار نزلت في امرأة أوس بن الصامت وآية اللعان نزلت في عويمر العجلاني، أو هلال بن أمية، والآية التي لها سبب معين فهي تتناول ذلك الشخص، وغيره ممن كان في منزلته، ولذا فإن قولهم: نزلت هذه الآية في كذا يراد به تارة أنه سبب النزول، ويراد به تارة أن ذلك داخل في الآية، وإن لم يكن السبب، كما تقول: عني بهذه الآية كذا (2).
وقد تختلف عبارة المفسر الواحد أحيانا، وينقل عنه أكثر من عبارة لتغير اجتهاده،
__________
(1) سيأتي تفصيل ذلك في مبحث نوع الاختلاف في التفسير بين مفسري التابعين ص (943).
(2) مجموع الفتاوى (13/ 339).(2/713)
كما ورد عن مجاهد مثلا، فإنه قد أكثر من الاجتهاد فنقلت عنه العديد من الروايات مختلفة في الآية الواحدة أحيانا، ومتقاربة في أحيان أخرى، هذا إن دل على شيء فإنما يدل على كثرة تعرضه للآيات، وتفسيرها، والاجتهاد في بيان معناها، وتوضيحه.
فمن ذلك ما ورد عنه عند تأويل قوله تعالى: {خَتَمَ اللََّهُ عَلى ََ قُلُوبِهِمْ} (1). قال الأعمش: أرانا مجاهد بيده فقال: كانوا يرون أن القلب في مثل هذا يعني الكفّ فإذا أذنب العبد ذنبا ضمّ منه وقال بإصبعه الخنصر هكذا فإذا أذنب ضم وقال بإصبع أخرى فإذا أذنب ضمّ وقال بإصبع أخرى هكذا، حتى ضم أصابعه كلها، قال: ثم يطبع عليه بطابع (2).
وفي رواية قال رحمه الله: الران أيسر من الطبع، والطبع أيسر من الإقفال، والإقفال أشد ذلك كله (3).
2 - الإيجاز غير المخل:
غلب على تفسير التابعين العبارات الموجزة، والتي تحمل في ثناياها المعاني العظيمة، ولا يظهر في أسلوبهم الإطناب والاستطراد، الذي نجده في عبارات الكثير ممن جاء بعدهم، ولذلك يجد المطالع لكتب التفسير بيان المعنى عندهم في كلمات معدودة.
وهذا من المفارقات الرئيسة بين التابعين، وأتباعهم، فإننا نجد التابعين لا سيما في طبقة كبارهم ومتوسطيهم (4)، يغلب على عباراتهم السبك والإيجاز غير المخل المؤدي
__________
(1) سورة البقرة: آية (7).
(2) تفسير الطبري (1/ 258) 300.
(3) تفسير الطبري (1/ 259) 303.
(4) أما صغار التابعين كقتادة، وبعده السدي، فلم تكن حالهم كحال من سبقهم، إنما كان في(2/714)
لإيضاح المعنى بأبلغ عبارة وأقصرها، فكانت غالب كلماتهم جامعة، لم يرق إلى مستواها من جاء بعدهم من أتباعهم.
3 - عمق التأمل ودقة التفسير:
لقد عرف التابعون عظمة القرآن، وتشربت به قلوبهم، وعظم في أعينهم تناول الصحابة الكرام للآيات، فأعملوا النظر ودققوا الفكرة، فبان لهم أن كتاب الله بحر لا تنقضي عجائبه، فاتخذوا ثاقب العقول سفنا خاضوا بها لججه، فاستخلصوا درر المعاني من جواهر ألفاظه، واستنبطوا لآلئ الأحكام من بديع آياته.
ولا تعجب إن رأيت منهم مهموما من كثرة تأمله في كلماته، مغموما من التفكر في سوره، كأنه خربندج ضل حماره، كما وصف شيخ المفسرين مجاهد بهذا (1).
أو إن رأيت من يبيض ليله في تأمل آى الذكر، ويطلع عليه الصبح ولم يفرغ من تدبره، والنظر فيه، كمحمد بن كعب القرظي (2).
وحق لمثل هؤلاء أن يكون منهم من يسمع الكلمة الفذة، واللفظة النادرة، فينفتح له خمسون بابا من العلم كما هو حال عكرمة (3).
ومما يدل على ما سبق ما نجده من تفسير قتادة لقوله تعالى: {يُعَلِّمُونَ النََّاسَ السِّحْرَ وَمََا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبََابِلَ هََارُوتَ وَمََارُوتَ} (4). قال: فالسحر سحران:
سحر تعلمه الشياطين، وسحر يعلمه هاروت وماروت (5).
__________
عبارتهم طول نسبي، زاد هذا في عصر أتباعهم.
(1) طبقات ابن سعد (5/ 466)، والمعرفة (1/ 711).
(2) مضى تفصيل ذلك في ترجمته ص (355).
(3) مضى تفصيل ذلك في ترجمته ص (159).
(4) سورة البقرة: آية (102).
(5) تفسير الطبري (2/ 421) 1674، وأورده السيوطي في الدر، وعزاه إلى ابن جرير، عن قتادة به(2/715)
ويعمل مجاهد نظره في ربط الآيات الكونية بالآيات القرآنية فيقول: كل حجر يتفجر منه الماء، أو يتشقق منه الماء، أو يتردى من رأس جبل فهو من خشية الله عز وجل نزل بذلك القرآن (1).
وها هو قتادة يسمع قوله تعالى: {وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ} (2). فيعلم أنه ليس حبا عاديا، بل هو حب شديد، فيقول في بيان معنى الآية: أشربوا حبّه حتى خلص ذلك إلى قلوبهم (3).
4 - قوة الاستنباط:
وهذه الميزة لا تختلف كثيرا عن الميزة السابقة، وإنما أردت أن أفردها بالحديث إظهارا لها ولمنزلة تفسير التابعين لأنهم لم يمروا على التفسير مرور النقلة فحسب، أو اكتفوا بالنقول بدون إعمال العقول، بل ذهبوا يتلمسون من الآيات فرائد الدراية، ويقتبسون من معانيه قبس الهداية.
يقول سعيد بن جبير: ما أعطي أحد ما أعطيت هذه الأمة، وقرأ قوله تعالى:
{الَّذِينَ إِذََا أَصََابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قََالُوا إِنََّا لِلََّهِ وَإِنََّا إِلَيْهِ رََاجِعُونَ (156) أُولََئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوََاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ} (4) ثم قال: لو أعطيها أحد لأعطيها يعقوب عليه السلام، ألم تسمع إلى
__________
(1/ 235).
(1) تفسير الطبري (2/ 240) 1317، وأورده السيوطي في الدر، وعزاه إلى عبد بن حميد، وابن جرير، عن مجاهد به (1/ 197).
(2) سورة البقرة: آية (93).
(3) تفسير الطبري (2/ 357) 1561، وتفسير عبد الرزاق (1/ 52)، وأورده السيوطي في الدر، وعزاه إلى عبد الرزاق، وابن جرير، عن قتادة به (1/ 219).
(4) سورة البقرة: آية (156، 157).(2/716)
قوله: {يََا أَسَفى ََ عَلى ََ يُوسُفَ} (1).
ويقرأ قتادة قوله: {فَقَلِيلًا مََا يُؤْمِنُونَ} (2)، فيقول مستنبطا الفرق بين أهل الكتاب، والمشركين من هذه الآية: فلعمري لمن رجع من أهل الشرك أكثر ممن رجع من أهل الكتاب. ثم يدل على ذلك فيقول: إنما آمن من أهل الكتاب رهط يسير (3).
ونجد أن للتابعين قدرة فائقة في استخراج المعاني، واستنباطها من الآيات مباشرة والفتوى بمقتضاها، بل قد لا يزيدون أحيانا في ذلك على قراءة الآية.
فها هو الشعبي يسأل: هل على الرجل حق في ماله سوى الزكاة، قال: نعم! وتلا هذه الآية: {وَآتَى الْمََالَ عَلى ََ حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبى ََ وَالْيَتََامى ََ وَالْمَسََاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسََّائِلِينَ وَفِي الرِّقََابِ وَأَقََامَ الصَّلََاةَ وَآتَى الزَّكََاةَ} (4).
ويسأل خالد الحذاء الحسن فيقول: يا أبا سعيد، آدم للسماء خلق أم للأرض، قال: أما تقرأ القرآن: {إِنِّي جََاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} (5)، لا، بل للأرض خلق (6).
5 - الدقة في التفريق بين الألفاظ ذات المعاني المتقاربة:
لقد كان لعيشهم وقربهم من الصحابة الأثر البالغ في سلامة لغتهم، ودقة فهمهم لألفاظ القرآن والتفريق بين معانيها، فنقلت عنهم هذه التفاسير، واعتمدها العلماء
__________
(1) سورة يوسف: آية (84)، وينظر تفسير الطبري (3/ 224) 2331، وزاد المسير (1/ 162)، وأورده السيوطي في الدر، وعزاه إلى وكيع، وعبد بن حميد، وابن جرير، والبيهقي في شعب الإيمان، عن سعيد بلفظ مقارب (1/ 377).
(2) سورة البقرة: آية (88).
(3) تفسير الطبري (2/ 329) 1514.
(4) سورة البقرة: آية (177)، والأثر أخرجه الطبري في تفسيره (3/ 342) 2525.
(5) سورة البقرة: آية (30).
(6) تفسير ابن أبي حاتم (108) 319.(2/717)
بعدهم.
فهذا أبو جعفر بن جرير الطبري رحمه الله كثيرا ما يجتهد في انتقاء القول الراجح عنده من بين أقوال المفسرين، وربما خرج عن أقوالهم إلى ما يستنبطه هو، إلا أننا نجده في كثير من الأحيان يعتمد قول التابعي، وربما لا ينقل غيره، ومثال ذلك ما جاء في قوله تعالى: {إِنَّمََا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشََاءِ} (1).
ينقل ابن جرير عن السدي قوله: السوء: المعصية، وأما الفحشاء فالزنا. اه، ولا يورده عن غير السدي ثم يقبله ويرتضيه (2).
ولما تعرض سعيد بن جبير لقوله تعالى: {لََا يُؤََاخِذُكُمُ اللََّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمََانِكُمْ وَلََكِنْ يُؤََاخِذُكُمْ بِمََا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمََانَ} (3)، قال في لغو اليمين: هي اليمين في المعصية، ثم قال للذي سأله: أولا تقرأ فتفهم، قال الله: {لََا يُؤََاخِذُكُمُ اللََّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمََانِكُمْ وَلََكِنْ يُؤََاخِذُكُمْ بِمََا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمََانَ}، وقرأ الآية ثم قال: فلا يؤاخذه بالإلغاء، ولكن يؤاخذه بالتمام عليها (4).
وتنقل لنا كتب التفسير، ما ورد عن التابعين عند قوله سبحانه: {فَمَنْ خََافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثْماً} (5) فنجد المنقول عن عطاء، والسدي، ومجاهد، والربيع، وإبراهيم (6) أنهم قالوا: الجنف: الخطأ، والإثم: العمد، وهذا هو الأليق بسياق الآية،
__________
(1) سورة البقرة: آية (169).
(2) تفسير الطبري (3/ 303) 2445، وزاد المسير (1/ 173)، وأورده السيوطي في الدر، وعزاه إلى ابن جرير، عن السدي به (1/ 404)، وفتح القدير (1/ 168).
(3) سورة المائدة: آية (89).
(4) تفسير الطبري (4/ 441) 4445.
(5) سورة البقرة: آية (182).
(6) تفسير الطبري (3/ 406) 2709، 2710، 2711، 2712، 2714، وأورده السيوطي في الدر، وعزاه إلى سفيان بن عيينة، وعبد بن حميد، عن مجاهد بنحوه (1/ 426).(2/718)
مع أن الجنف يفسره أهل اللغة بالميل (1)، ويفسرون الإثم بالذنب (2).
فتفسير التابعين لا يتجاوز المعنى اللغوي، ولكنه فتح يفتح الله به على من يشاء.
اختلاف مدارس التابعين في تناول الاجتهاد في التفسير:
لم يكن التابعون على قدر واحد من الاجتهاد في التفسير، بل ولم يكونوا متقاربين في هذا الباب، ويمكن أن نلحظ تفاوتا بينا في المنقول عنهم بحيث يمكننا أن نقسم ذلك إلى ثلاثة أقسام، وسأحاول هنا إبراز هذه الأقسام، مقعدا لذلك، دون الدخول في ضرب الأمثلة، ونقل النصوص لأنني أحسب أن فيما سبق إيراده الكفاية، والمقصود هنا الجانب النظري لدراسة مصادرهم في التفسير.
لقد جاءت أحوال التابعين في هذا الباب على أضرب:
الضرب الأول: تجنب الخوض في التفسير:
فنجد بعض مدارسهم عظمت القول في التفسير، فأغلقت هذا الباب، أو كادت، في وجه كل مريد للتفسير، وأنكرت أشد الإنكار على كل من حاول خشية الخطأ في كتاب الله، وهذا نجده واضحا عند المدنيين، والكوفيين، فمع إمامة سعيد بن المسيب، وعده عالم العلماء في التابعين، إلا أنه لم يكن يتكلم إلا في المعلوم من القرآن، وعند ما كان يسأل، كان يقول: لا أقول في القرآن شيئا (3).
وأما عروة فمع سعة علمه، وكونه بحرا لا تكدره الدلاء، فلم يكد يسمع منه ابنه رواية واحدة في التفسير (4).
__________
(1) مختار الصحاح (100).
(2) المرجع السابق (5).
(3) مرّ ذلك في ترجمة سعيد ص (346).
(4) مر ذلك في خصائص المدرسة المدنية ص (593).(2/719)
ولم يقتصر فعل المدرسة المدنية على الإحجام فحسب، بل تعدى ذلك إلى الإنكار كما أشرت إليه آنفا، فإنه لما قدم إمام مكة في التفسير عكرمة، والذي قيل فيه: إن تلاميذ ابن عباس عيال عليه، جلس يحدث الناس بالتفسير أنكر سعيد بن المسيب عليه، وقال لمن يسأله: لا تسألوني وسلوا من يزعم أنه لا يخفى عليه شيء (1).
وترتب على هذا الورع الذي كان عند علماء المدينة، أننا لم نلحظ المحاولات التفسيرية الأولى إلا في الطبقة الثانية التي تلي طبقة كبار التابعين كطبقة محمد بن كعب، وزيد بن أسلم، على قلة التفسير المنقول عنهم، مع تقدمهم في تحصيل علومه، وأحسب أن من أهم الأسباب التي أدت إلى ذلك أن المحيط المدني كثر فيه الحديث، والأثر والفقه، فغلب على رجالاته كما سبق دراسته في خصائص المدرسة المدنية (2).
ولا تخرج المدرسة الكوفية عن محيط هذا الضرب أيضا، فقد قل نصيبها في باب الاجتهاد في التفسير، ولم نجد من المحاولات التفسيرية إلا ما كان عند متأخري التابعين، كالسدي ذي الأصل الحجازي، فقد تصدر هذا الميدان وأكثر فيه، مما جعل الشعبي إمام الطبقة الوسطى من التابعين في هذه المدرسة ينهاه ويعيب تفسيره، فما وجد السدي بدا من أن يحتمي لرد ذلك ببيان حاله وأنه لم يجتهد في هذا التفسير، إنما هو منقول عن ابن عباس، فإن كان صوابا فهو قاله، وإن كان خطأ فهو قاله (3).
ومع ذلك فقد نقلت جملة صالحة عن مدرسة الكوفة في طبقة الشعبي والنخعي، في باب الاجتهاد، ولا سيما في تفسير آيات الأحكام واستنباط الأحكام الشرعية منها (4).
__________
(1) مرّ ذلك في ترجمة سعيد ص (347).
(2) ينظر ص (595).
(3) ينظر في ذلك ترجمة السدي ص (301).
(4) تراجع ترجمة الشعبي ص (324)، وترجمة إبراهيم ص (337).(2/720)
الضرب الثاني التوسط في مجال التفسير:
ويمثل هذا الضرب المدرسة البصرية بمفردها، فقد تحرر أصحابها من شدة الورع الذي لازم مدرستي المدينة والكوفة نسبيا، فظهرت محاولات مبكرة في التفسير والاجتهاد، إلا أن هذه المحاولات كلها، أو جلها كانت تابعة للمنهج الوعظي الذي اتخذه أئمتها في التفسير كما سبق بيانه (1).
ولهذا جاء الاجتهاد عندهم مرتبطا بالجانب الدعوي الذي يربط الناس بجانب التزكية، والسمو الروحي، ويدعو إلى مكارم الأخلاق. وكذلك ظهر هذا المنهج عند تناولهم للآيات التي تذكر بعض أفعال الأنبياء، أو ما يترتب عليه القول في عصمتهم، فنجد تناولهم لذلك أشد حذرا من تناول غيرهم له (1).
وأما الضرب الثالث فهو التوسع الاجتهادي في التفسير:
وتمثله المدرسة المكية بلا منازع، فقد أسهمت في باب الاجتهاد في التفسير وتوسعت فيه عن علم ولم ينقل عن أحد من أصحابها إنكار ذلك أو كراهيته، مع كثرة الروايات، والاجتهادات المنقولة عنهم، ساعد في ذلك وجود ابن عباس رضي الله عنهما بين أيديهم، ونشره العلم في جنبات تلكم المدرسة حتى لقد كان التفسير العلم المقدم في مكة.
وإذا كان لا بد من اجتهاد في ترتيب مدارس التفسير المختلفة في باب التوسع الاجتهادي فإنه يمكن أن يكون على النحو التالي:
أولا: المدرسة المكية:
وأكثرهم تناولا في هذا الجانب مجاهد، يليه عكرمة، ثم سعيد بن جبير.
وأما عطاء وطاوس، فمع أنهما مكيان، إلا أنهما قلّ أن يتعرضا للمشكل، وإنما
__________
(1) كما سبق الإشارة إليه في ترجمة الحسن ص (209)، وقتادة ص (265)، وفي مبحث خصائص المدرسة البصرية ص (566).(2/721)
يكتفون بما معهم من أثر فيفسرون به، قال الشافعي: ليس من التابعين أحد أكثر اتباعا للحديث من عطاء (1).
ولكن مما ينبغي التنويه به، أن عطاء وإن كان مقلا في الاجتهاد، إلا أنه مكثر في التفسير بالنسبة لأهل المدينة، فتميز عنهم، كما تميز عن الشعبي الكوفي الذي كان مقلا في الاجتهاد، ومكثرا من الرواية في التفسير بأن عطاء لم ينقل عنه، ولا عن أحد من مدرسته إنكار الاجتهاد، في حين نقل عن الكوفيين الإحجام، والإنكار، بينما أحجم عطاء، ولم ينكر، فافترقت المناهج في هذا.
ثانيا: المدرسة البصرية:
وجاء في طليعتهم الحسن البصري الذي نقلت عنه آراء اجتهادية تفسيرية كثيرة، ولكنها كما سبق تدور غالبا حول المنهج الوعظي الدعوي، ثم جاء أبو العالية فاجتهد وفسر، ويليهما في ذلك قتادة الذي اكتفى بمحفوظه عن مجهوده، وكان اعتماده على الروايات والآثار أكثر من اجتهاده.
ويعد الربيع بن أنس من أقلهم في هذا الجانب فقد اكتفى بالنقل عن أبي العالية كما سبق بيانه (2).
ثالثا: المدرسة الكوفية:
وهم من المقلين كما سبق، إلا أنه جاء عن النخعي جملة في هذا أكثر من غيره، يليه عامر الشعبي، وأما أصحاب عبد الله الملازمون له فإنهم كانوا من أقل التابعين على الإطلاق اجتهادا في التفسير (3).
__________
(1) تهذيب الأسماء واللغات (1/ 333).
(2) كما سبق في مبحث المدرسة البصرية ص (444).
(3) وقد مرّ عند الحديث عن أصحاب عبد الله في مبحث المدرسة الكوفية ص (492470).(2/722)
رابعا: المدرسة المدنية:
ولم يأت عن كبارها شيء يذكر في هذا الباب، وأكثر من نقل عنهم الطبقة التي تليهم من محمد بن كعب القرظي، يليه زيد بن أسلم.
أما الشامية، والمصرية، واليمنية، فلم أجد لهم ما يمكن أن يقال: إنه منهج عام للاجتهاد، بل هم غالبا أتبع للمدارس السابقة لا يخرجون عن اجتهاداتهم، ولم يظهر لهم شخصية اجتهادية متميزة (1).
أسباب تفاوتهم في باب الاجتهاد:
وإذ قد أفضى بي الحديث والحديث ذو شجون إلى بيان أن أئمة التابعين كانوا في معترك الاجتهاد متفاوتين، وفي مضمار الاستنباط متباينين، فإن الأهم من ذلك كشف النقاب عن أسباب ذلك التفاوت، وإماطة الحجاب عن علل ذلك التباين، وهذه هي الأسباب كما ظهرت لي:
1 - أثر الشيوخ في تلاميذهم:
إذا كان التأثر والتأثير من الأمور الجبلية، فإن من البدهي أن يكون تأثير الشيخ في التلميذ أكبر، وتأثر التلميذ بالأستاذ أكثر، إذا فلا عجب أن يكون من أسباب تفاوت التابعين في الاجتهاد تأثرهم بشيوخهم لهذا كان نتاج المكيين في هذا المجال أكثر من غيرهم، فقد تأثروا بشيخهم وأستاذهم حبر الأمة ابن عباس رضي الله عنهما وكان تأثرهم به في عدة أمور منها:
أسعة علمه العظيم بالتفسير: حتى لقد كان يحدث بنعمة الله عليه فيقول عند تفسير قوله سبحانه: {مََا يَعْلَمُهُمْ إِلََّا قَلِيلٌ} (2)، قال: أنا من أولئك القليل (3).
__________
(1) يراجع التفسير في الشام ص (525)، وفي اليمن ص (536)، وفي مصر ص (540).
(2) سورة الكهف: آية (22).
(3) طبقات ابن سعد (2/ 366).(2/723)
ويقول كما نقل عنه في تفسير قوله تعالى: {وَمََا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللََّهُ وَالرََّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} (1): أنا ممن يعلم تأويله (2).
وكان يقول: كل القرآن أعلم إلا أربعا: غسلين، وحنانا، والأواه، والرقيم (3).
ولم ينفرد ابن عباس رضي الله عنهما بين الصحابة بذلك، بل شاركه ابن مسعود رضي الله عنه في هذا حيث قال: والله الذي لا إله غيره، ما أنزلت سورة من كتاب الله إلا أنا أعلم أين أنزلت، ولا نزلت آية من كتاب الله إلا أنا أعلم فيمن أنزلت، ولو أعلم أحدا أعلم مني بكتاب الله تبلغه الإبل لركبت إليه (4).
إلا أن اتجاه ابن عباس في التفسير كان هو الإكثار، وإعمال العقل، وتوسيع دائرة الاجتهاد، في حين كان ابن مسعود يميل للورع الشديد في هذا الباب لذا تبعه أهل الكوفة في ذلك، ثم إن ابن مسعود توفي قديما (5)، في حين تأخرت وفاة ابن عباس
__________
(1) سورة آل عمران: آية (7).
(2) تفسير الطبري (6/ 203) 6632، وزاد المسير (1/ 354)، وفتح القدير (1/ 319).
(3) تأويل مشكل القرآن (99).
(4) رواه البخاري في صحيحه، كتاب فضائل القرآن، باب القراء من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وينظر الفتح (9/ 47) 5002، وقد سبق تفصيل تخريجه في مبحث المدرسة الكوفية، في ترجمة ابن مسعود رضي الله عنه ص (461)، وهذا الأثر الأظهر تنزيله على التفوق والسبق من ابن مسعود رضي الله عنه في علم القراءة لا علم التفسير لأن المنقول عنه رضي الله عنه في التفسير قليل ولأن الخبر إنما جاء من باب التحدث بنعمة الله في علم القراءة، بدليل ما جاء في بعض الزيادات الصحيحة، ولو أعلم أحد أعلم مني بالعرضة الأخيرة، ثم مما يؤكد ذلك صنيع الإمام البخاري في صحيحه حيث جعله في باب القراء من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ثم إن هذا الأثر من ابن مسعود، إنما جاء في معرض عدم الرضى عن فعل عثمان (رضي الله عنهم أجمعين) عند ما قدم زيدا عليه.
ولذا فالذي أميل إليه هنا أن الأثر جاء في القراءة لا في التفسير، والله تعالى أعلم.
(5) سنة 32هـ.(2/724)
بعده (1)، فاحتاج الناس إلى علمه، فكان سماع المكيين أكثر بخلاف أهل الكوفة فكان سماعهم أقل.
ومن هنا يظهر عمق تأثير ابن عباس في أصحابه في باب الاجتهاد.
ب قوة حجة ابن عباس: لم يكن ابن عباس واسع العلم فحسب، بل كان قوي الحجة، واضح التأثير في نفوس السامعين.
قال طاوس: ما سمعت أحدا خالف ابن عباس، فيتركه حتى يقرره (2).
ج المنهج التربوي: اهتم ابن عباس بتربية تلاميذه على الاجتهاد، ففتح لهم باب السؤال، بل والكتابة عنه، وسمح لهم بالفتوى بحضوره، وفي غير حضوره، مدربا إياهم على الاستقلالية، حتى كان بعضهم يفتح عليه في المسألة بعد البحث، والمراجعة معه، بل وصل الحال ببعضهم إلى معارضته، ومخالفته صراحة في مجلسه، كما سبق تفصيله، والتدليل عليه (3).
أما ابن مسعود شيخ الكوفة فقد كان محجما عن الانطلاق في التفسير، محذرا أصحابه من التوسع في هذا الباب، وقد تأثرت به الطبقة الملازمة له، فما ورد عنهم كبير مسائل في الاجتهاد التفسيري، وكان ابن مسعود معلما بارعا أثر بسمته ودله، وعلمه، وفضله، أثر على المدرسة كلها فأحبوه، واتخذوا سبيله.
بقى أن يقال: إن كثرة الشيوخ في المصر الواحد يقل معه الاجتهاد وتنفتح أبواب الرواية.
وبالجملة، فإن تأثر التابعين بشيوخهم في الإقدام، أو الإحجام عن الاجتهاد
__________
(1) سنة 68هـ.
(2) العلل لأحمد (2/ 61) 1554، وفضائل الصحابة لأحمد (2/ 967) 1892.
(3) سبق تفصيله في منهج ابن عباس التعليمي مع أصحابه في مقدمة الحديث عن المدرسة المكية ص (390).(2/725)
التفسيري من أعظم الأسباب في تفاوتهم رضي الله عنهم في الاجتهاد.
2 - الميول والاهتمامات:
خلق الله الناس مختلفين في ميولهم الفطرية، واهتماماتهم الفكرية، وقد قسم الله العلوم، والفهوم، كما قسم الأرزاق، والأموال.
ونتيجة طبيعية لذلك فقد كان اهتمام كل إنسان بما يوافق ميوله وفكره، فيجتهد في ذلك حتى يبرع فيه.
وقد صار المفسرون من التابعين على هذا النحو، فاجتهد كل منهم فيما يوافق ميله الفطري.
ولاختلاف مشاربهم واهتماماتهم، جاء هذا النتاج الوفير شاملا كل أوجه الاجتهاد التفسيري. من مباحث الفقه، والوعظ، وبيان المشكل، وغير ذلك.
وأحاول في السطور القليلة أن أبرز شيئا من ذلك مبينا أثره في الاجتهاد بوصفه من مصادر التابعين في التفسير.
أالميول الفقهية: عند النظرة العامة للمدارس التفسيرية، نجد أن العراقيين في الجملة كانوا أكثر اهتماما بتفسير آيات الأحكام من غيرهم، لا سيما أهل الكوفة، وإن كان قد شاركهم أفراد من مدارس أخرى، فتصدرت مدرسة الكوفة قائمة المجتهدين في تأويل آيات الأحكام عامة، فكثر المنقول عنها فيه لا سيما ما نقل عن إبراهيم النخعي، وعامر الشعبي (1).
ثم تلا هؤلاء عطاء بن أبي رباح المكي، الذي مكنه تفوقه في علم المناسك من التوسع في آيات أحكام الحج خاصة، فجاء ثلث المنقول عنه في تأويل آيات الأحكام،
__________
(1) سبق بيان ذلك في خصائص المدرسة الكوفية (ص 579).(2/726)
وثلثا هذه الآيات كانت في بيان وتفصيل آيات الحج، لحاجة المكان لذلك (1).
ومثال آخر من أفراد المدارس، وهو سعيد بن المسيب إمام مدرسة الورع في التفسير (مدرسة المدينة)، نجد أن ما يزيد على ثلث المنقول عنه في التفسير جاء في شرح وتوضيح آيات النكاح، وما يتعلق به من أحكام، وكما سبق بيان الأثر الذي أحدثه علمه وحفظه لأقضية الرسول صلى الله عليه وسلم، وعمر، وعثمان، فصب ذلك كله في بيان آيات الطلاق والنكاح في غالب المروي عنه (2).
ب الميول الدعوية: إذا نظرنا للحسن البصري نجد رهافة الحس الدعوي، وشدة الحرص على وعظ الناس وتذكيرهم، هذا كان له أثره في غزارة الإنتاج الاجتهادي في الجانب الدعوي خاصة، ونتج عن هذا أمور منها:
1 - الاهتمام بآيات الوعد والوعيد، وكثرة التعرض لها بالبيان والشرح، واستنباط الفوائد، والعبر، والعظات منها.
فمن ذلك ما جاء عنه في تفسير قوله تبارك وتعالى: {فَمََا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النََّارِ} (3).
قال: والله ما لهم عليها من صبر، ولكن ما أجرأهم على النار (4).
وعند قوله سبحانه: {رَبَّنََا آتِنََا فِي الدُّنْيََا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً} (5).
فسر بعض الأئمة الحسنة في الدنيا أنها المال (6)، وخالف في ذلك الحسن وفسر
__________
(1) مضى تفصيل ذلك في ترجمة عطاء ص (189).
(2) مضى تفصيل ذلك في ترجمة سعيد بن المسيب ص (348).
(3) سورة البقرة: آية (175).
(4) تفسير الطبري (3/ 331) 2502، وزاد المسير (1/ 176)، وفتح القدير (1/ 172)، وأورده عبد الرزاق في تفسيره عن قتادة بنحوه (1/ 66).
(5) سورة البقرة: آية (201).
(6) تفسير الطبري (4/ 205) 3881، 3882، 3883، وزاد المسير (1/ 561).(2/727)
الآية: بأن الحسنة: العبادة في الدنيا (1)، وفي رواية قال: الحسنة في الدنيا: العلم والعبادة (2).
وعند قوله تعالى: {زُيِّنَ لِلنََّاسِ حُبُّ الشَّهَوََاتِ} (3). قال الحسن: يقول من زينها، ما أحد أشد لها ذما من خالقها (4).
وعند قوله سبحانه: {وَمََا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهََا وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً} (5) يبين الحسن فائدة وعظية في حال المستلذ والقريب من الشهوات في الدنيا، فيقول عند تأويل هذه الآية: يسر أحدهم أن لا يلقى علمه ذاك أبدا، يكون ذلك مناه، وأما في الدنيا فقد كانت خطيئة يستلذها (6).
2 - الاهتمام ببيان الإشكال الوارد على الآيات والذي من شأنه أن يؤدي بالناس إلى التواني، والترخص، والاجتهاد في رفع هذا الإشكال.
فقد خالف الحسن رحمه الله كثيرا من المفسرين (7)، وأنكر أن إبليس من الملائكة، فعن عوف بن عبد الرحمن، قال: قال الحسن: ما كان إبليس من الملائكة
__________
(1) تفسير الطبري (4/ 205) 3879، وزاد المسير (1/ 216).
(2) المرجع السابق (4/ 205) 3878، وزاد المسير (1/ 216)، وأورده السيوطي في الدر، وعزاه لابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن جرير، والذهبي في فضل العلم، والبيهقي في الشعب (1/ 560)، وفتح القدير (1/ 402).
(3) سورة آل عمران: آية (14).
(4) تفسير الطبري (6/ 243) 6694، وأورده السيوطي في الدر، وعزاه إلى عبد بن حميد، وابن جرير، وابن أبي حاتم، عن الحسن به (2/ 161).
(5) سورة آل عمران: آية (30).
(6) تفسير الطبري (6/ 321) 6843، وزاد المسير (1/ 372)، وفتح القدير (1/ 332).
(7) خالف قول ابن عباس، وابن مسعود، وسعيد بن المسيب، وقتادة، وغيرهم، ينظر تفسير الطبري (1/ 506502) 685، 686، 687، 688، 689، 690، 691، 692، 693، 694، 695.(2/728)
طرفة عين قط، وإنه لأصل الجن، كما أن آدم أصل الإنس (1).
وعند قوله سبحانه: {وَمََا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبََابِلَ هََارُوتَ وَمََارُوتَ} (2)، ينكر الحسن كونهما من الملائكة، معللا ذلك بقوله: لأن الملائكة لا يعلمون السحر (3).
ومن هنا أود أن أؤكد أن الحسن كما سبق من أكثر التابعين حرصا على إيضاح المشكل هو ومجاهد، إلا أن الحسن توجه إلى إيضاح مشكل آيات القصص، وخاصة ما كان منها عن الأنبياء أو الملائكة مبينا عصمتهم، واهتم ببيان مشكل الترغيب، والترهيب، وآيات الوعد، والوعيد، في حين كان مجاهد يهتم بالمشكل في ظاهره.
وعند ما تمر الروايات عن بني إسرائيل، نجد الحسن لا ينسى الأمر الذي أهمه في شأن تنزيه الملائكة، وتتكرر الآية عند قوله تعالى: {وَاتَّبَعُوا مََا تَتْلُوا الشَّيََاطِينُ عَلى ََ مُلْكِ سُلَيْمََانَ} (4) قال: أخذ عليهما الميثاق أن يقولا ذلك (5).
وهذا حتى لا يتوهم متوهم أن الملائكة علمت الناس ذلك، فيترخصوا في باب السحر.
3 - وكان مما يترتب على هذا الميل الاجتهادي عند الحسن، مخالفة ظاهر بعض النصوص القرآنية محتجا بظواهر أخرى خشية منه رحمه الله أن يؤدي فهم الظاهر من البعض إلى خطأ في التصور أو الترخص في أمر، يدفعه في أكثر مخالفاته، التنزيه لساحة الأنبياء كما سبق، وكذلك التصحيح لبعض المفاهيم الدعوية، فمن ذلك انفراده
__________
(1) تفسير الطبري (1/ 506) 696، وزاد المسير (1/ 65)، وأورده السيوطي في الدر، وعزاه إلى ابن جرير، وابن الأنباري وأبي الشيخ في العظمة، عن الحسن به (5/ 402).
(2) سورة البقرة: آية (102).
(3) تفسير البغوي (1/ 99).
(4) سورة البقرة: آية (102).
(5) تفسير الطبري (2/ 443) 1700، وهذا القول مروي عن قتادة أيضا، ينظر تفسير الطبري (2/ 443) 1698، 1699، وتفسير عبد الرزاق (1/ 53).
ولم يرو هذا القول إلا عنهما، وعن ابن جريج.(2/729)
رحمه الله ومخالفة ظاهر النص القرآني عند تفسير قوله عز وجل: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ} (1) قال: كان الرجلان اللذان في القرآن اللذان قال الله فيهما: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ} من بني إسرائيل، ولم يكونا ابني آدم لصلبه (2).
وعند تأويل قوله جل وعلا: {وَنََادى ََ نُوحٌ ابْنَهُ} (3) يقول قتادة: كنت عند الحسن فقال: (نادى نوح ابنه) لعمر الله ما هو ابنه! قال: قلت: يا أبا سعيد، يقول: {وَنََادى ََ نُوحٌ ابْنَهُ}! ليس بابنه! قال: أفرأيت قوله: {إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ} (4) قال: قلت:
إنه ليس من أهلك الذين وعدتك أن أنجيهم معك، ولا يختلف أهل الكتاب أنه ابنه.
قال: إن أهل الكتاب يكذبون (5).
ولعل الدافع لهذا الاجتهاد هو حرصه على تنزيه الأنبياء لأن القول بأنهم أبناء الأنبياء، قد يوهم القدح في عصمتهم، ومما ينبغي التأكيد عليه أن الحسن لم يكن يخالف الظاهر بهوى منه حاشاه من ذلك فإنه وإن خالف الظاهر، فإنه يستدل بظاهر آية أخرى يدفع به ظاهر الأولى.
ج الميول الاجتهادية لإيضاح مشكل الآيات: كان من أهم الأمور التي برزت عند بعض التابعين هو الميل إلى بيان غامض بعض الآيات، وإيضاح مشكلها، والغوص وراء معانيها، ويعد مجاهد من أبرز التابعين في ذلك، فقد انقطع لهذا العلم، وكدّ ذهنه فيه، واستفرغ جهده وعلمه في تأمل آياته، فصار عنده هذا الحرص فكثر إيضاحه للمشكل من المعاني مبينا الفروقات الدقيقة بين الكلمات، وكان رحمه الله
__________
(1) سورة المائدة: آية (27).
(2) تفسير الطبري (10/ 208) 11719، وزاد المسير (2/ 331)، وفتح القدير (2/ 30).
(3) سورة هود: آية (42).
(4) سورة هود: آية (46).
(5) تفسير الطبري (15/ 341) 18213، وتفسير عبد الرزاق (2/ 306)، والبحر المحيط (5/ 226).(2/730)
يرى أن الرأي الحسن من أفضل العبادة، ولما سافر إلى الكوفة أهل الفقه والقياس كان من أسهلهم في قبول القياس، والعمل به، مع ما غلب على حاله من كثرة التأمل، والتفكير.
وقد امتاز رحمه الله عن بقية تلاميذ ابن عباس، بل عن سائر أقرانه من المفسرين بإعطاء العقل بعض الحرية في النظر، والتأمل، فعده البعض من أوائل من أدخل التفسير بالاجتهاد في التفسير بالمأثور (1)، ولذا قال فيه الذهبي: لمجاهد أقوال وغرائب في العلم والتفسير تستنكر (2).
وكما يشهد لذلك ما سبق بيانه من تأويله للمسخ الواقع على بني إسرائيل، أنه لم يكن حقيقة، إنما المسخ وقع على قلوبهم، وعلل تلك المخالفة بأن هذا مثل ضربه الله، وانفرد بهذا بين عموم التابعين، وخالف عفا الله عنه في إنكار نزول المائدة، وقال:
مثل ضرب لم ينزل عليهم شيء، ومثل ذلك ما جاء عنه في تأويل قوله تعالى: {ثُمَّ اجْعَلْ عَلى ََ كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً} (3)، قال: هو مثل ضربه الله لإبراهيم (4).
وبهذا يتضح لنا مدى الاجتهاد الاستقلالي الذي سار فيه مجاهد، وأنه مع تلقيه عن ابن عباس إلا أن الاستقلال بدا واضحا في منهجه، ونتج عن ذلك أمور منها:
1 - قلة روايته عن شيخه ابن عباس رضي الله عنهما ومجاهد، مع أنه من أكثر أصحاب عبد الله بن عباس أخذا عنه، فقد كان من أقلهم رواية لتفسير شيخه (5).
__________
(1) القرآن الكريم هدايته وإعجازه (197، 198).
(2) السير (4/ 455).
(3) سورة البقرة: آية (260).
(4) سبق تفصيل هذه الأمثلة في ترجمته ص (93).
(5) بعد مراجعتي لتفسير الطبري، وجدت أن عدد المروي عن ابن عباس (5809) روايات، منها (684) رواية جاءت من طريق سعيد بن جبير، و (513) رواية جاءت من طريق عكرمة، و (179) رواية فقط جاءت من طريق مجاهد.(2/731)
وأحسب أن مجاهدا قد جمع العلمين: علم الرواية، والدراية، فجمع ما حفظه من ابن عباس، مع ما عنده من الفهم، والقدرة الفائقة على الاستنباط والقياس، فكان هذا النتاج العظيم الذي زاد في عدده على ما عنده شيخه رضي الله عن الجميع.
2 - وترتب عن هذا الإمعان الشديد في الاجتهاد، أن كان رحمه الله حريصا على تنويع مصادر تلقيه، فاتصل بشيوخ المدارس الأخرى، وأخذ منهم، مما كان له الأثر في وضوح استقلاليته في المنهج عن بقية أصحابه، كما كان لذلك الأثر الإيجابي في تأهله لمرتبة عالية من الاجتهاد.
ويضاف إلى ذلك حرصه رحمه الله على رؤية ومعرفة كثير من الأخبار، والعجائب التي ذكرت في القرآن، فكان كما يقول الأعمش: لا يسمع بأعجوبة إلا ذهب ينظر إليها، ثم ذكر قصة ذهابه لرؤية هاروت وماروت (1).
3 - اهتمامه بالمشكل وكثرة اجتهاده فيه. فقد كان من أكثر التابعين حرصا على بيان مشكل الآي (2).
ومن المعلوم أن علم حل مشكل الآيات يحتاج إلى إمامة في باب الاجتهاد، وقدرة على الجمع بين ما يتوهم أنه اختلاف وليس كذلك، فمن أمثلة ذلك ما جاء في تفسيره لقوله تعالى: {بَلْ أَحْيََاءٌ وَلََكِنْ لََا تَشْعُرُونَ} (3)، قال: يرزقون من ثمر الجنة ويجدون ريحها وليسوا فيها (4).
__________
(1) سبق ذكر القصة كاملة في ترجمته ص (130).
(2) وقد سبق بيان ذلك في أثر مجاهد في علوم القرآن، ينظر ذلك في ترجمته ص (114).
(3) سورة البقرة: آية (154).
(4) تفسير الطبري (3/ 215) 2317، وأورده السيوطي في الدر، وعزاه إلى عبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن مجاهد به (1/ 376).(2/732)
وعند تفسير قوله تعالى: {قُلْ فِيهِمََا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنََافِعُ لِلنََّاسِ} (1)
قال مجاهد: منافعهما قبل أن يحرّما (2).
4 - بعده عن المعنى الظاهر القريب، لاستخراج معان جديدة واستنباطات لطيفة (3).
5 - مخالفته لشيخه، فمجاهد من أكثر التابعين أخذا عن شيخه ابن عباس رضي الله عنه فقد قرأ عليه التفسير أكثر من ثلاث مرات يسأله ويستوقفه عند كل آية، ومع هذا كله فهو من أكثر التابعين مخالفة لشيخه رضي الله عنهما، وكما سبق أن أشرنا أن تربية ابن عباس، ومنهجه التعليمي لأصحابه كان من الأسباب الرئيسة في توجيههم تلك الوجهة.
فمن ذلك أن سعيد بن جبير قال: سألت ابن عباس عن قوله: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزََاؤُهُ جَهَنَّمُ} (4)، قال: إن الرجل إذا عرف الإسلام وشرائع الإسلام، ثم قتل مؤمنا متعمدا، فجزاؤه جهنم، ولا توبة له، فذكرت ذلك لمجاهد فقال: إلا من ندم (5).
وبعد هذا البيان لأثر الميول والاهتمامات في قدرات المفسر على الاجتهاد، يمكن أن نضيف إلى ذلك مقدار تمكن المفسر من علم ما أو عدمه، فهذا يعد أيضا سببا لاختلافهم، فإنه لما كان بعضهم قد تمكن من القراءات والفقه ظهر فيهم الاجتهاد في القراءات كحال سعيد، وأبي العالية، ومجاهد، والسدي، ولما كان آخرون قد برزوا في الفقه، كان اجتهادهم في التفسير من باب الفقه، كحال ابن المسيب، والنخعي،
__________
(1) سورة البقرة: آية (219).
(2) تفسير الطبري (4/ 328) 4136.
(3) وقد سبق الإشارة إلى ذلك في مبحث خصائص تفسير مجاهد في ترجمته ص (92).
(4) سورة النساء: آية (93).
(5) تفسير الطبري (9/ 63) 10187، وشرح أصول اعتقاد أهل السنة (6/ 1055).(2/733)
وعطاء، والشعبي.
وكانت اجتهادات الحسن أقرب للوعظ والتدريس لتمكنه من ذلك وتبعه قتادة في كثير منه.
3 - أثر الرواية في تفاوت الاجتهاد عند التابعين:
الأصل أن الرواية جزء من الاهتمامات والميول الفطرية، إلا أنني وجدت تأثير الرواية على اجتهادات المفسرين يفوق بكثير غيره من الاهتمامات، أو الميول، لذا رأيت أن أفرده بشيء من الدراسة لأوضح أثره في الاجتهاد بوصفه مصدرا من مصادر التفسير عند التابعين.
وبعد الاستعراض السريع لأحوال التابعين في التفسير، فإننا نلحظ أنه بصورة عامة كلما زاد نصيب المفسّر من الأثر قلّ حظه أو حرصه في التعرض للمشكل، وقلّ الرأي عنده بعامة، ومال للرواية المجردة، وإذا نظرنا للمدرسة المكية فإننا نجد أن مجاهدا على سبيل المثال، كان متشددا في جانب الرواية، فقلت الرواية عنده، وبالتالي غلب على منهجه الجانب العلمي البحت، الذي يهتم ببيان المشكل وتوضيح المراد، وبيان دلالات الآيات.
في حين أن عطاء تساهل في الرواية، فترجح الجانب الروائي عنده على الجانب الاستنباطي، والاجتهادي، وقد أثر هذا في طرق التلقي عن الرجلين من وجه آخر، فاعتماد الأئمة على مراسيل مجاهد أكثر من اعتمادهم على مراسيل عطاء، بل أطلقوا القول بأن مراسيل عطاء ضعيفة لأنه يحمل عن كل ضرب، بينما مراسيل مجاهد أصح (1).
فإذا جئنا إلى المدرسة البصرية فإننا نجد أن الحسن كثر عنده الاجتهاد، وإيضاح المعاني والمواعظ أكثر من قتادة تلميذه وذلك لأن الحسن لم يكن يضبط الرواية كقتادة،
__________
(1) تهذيب الكمال (27/ 233)، والتاريخ الكبير (7/ 412).(2/734)
ثم إنه لم يعن بطرق التحمل والأداء كعناية قتادة، فقد غلب عليه الجانب الوعظي، وقد أثر ذلك في الاعتماد على مراسيله، حيث لم يقبلها كثير من أهل العلم، وجعلوها كالريح.
أما قتادة فقد سبق أنه أحد الأوعية الذي حفظ كثيرا من الآثار والسنن ولذلك غلب عليه الجانب الروائي، فكان من أقل التابعين بالبصرة إعمالا للرأي في التفسير.
فقد استغنى رحمه الله بمحفوظه، وبما أعطاه الله من قدرة على الحفظ عن مجهوده وأكثر النقل عن النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة، وعن كبار التابعين، فأغناه عن إعمال فكره في الاجتهاد، ولا سيما أنه لكثرة محفوظه يختار من أقوال أهل العلم ما يشاء، ويدع ما يشاء، فلقد كان من أعلمهم باختلاف العلماء كما قال ذلك سعيد بن المسيب، وأحمد بن حنبل (1).
ولقد غلب حب الآثار على نفس قتادة، فلم يكتف بالنقل عن الحسن وأنس، بل تعدى حيث روى عن المدنيين، وخاصة ابن المسيب، وعن الكوفيين: الشعبي، والنخعي، وغيرهم، ثم هو مع هذه الحافظة القوية، كان يختار منها ما يكون أقرب للجانب التربوي عند تفسير الآيات، أو استنباط المعاني والمواعظ، متأثرا في ذلك بشيخه الحسن الذي تابعه متابعة شديدة، وتأثر به في ذلك، مع أنه لم يتأثر به في جانب الرأي والاجتهاد كما مرّ معنا، بل خالفه في ذلك ولأجل ذلك أثرت عن الحسن بعض الاجتهادات التي فيها نظر لأهل العلم كما مرّ ذلك (2)، إلا أن شيئا من ذلك لم يؤثر عن قتادة، بل قد ينقل عنه صراحة ما يدل على خلافه، مثل ما قاله الحسن في قوله تعالى:
{إِلََّا إِبْلِيسَ كََانَ مِنَ الْجِنِّ} (3)، حيث قال: ما كان إبليس من الملائكة طرفة عين قط،
__________
(1) السيرة (5/ 276).
(2) ينظر ترجمة الحسن ص (230).
(3) سورة الكهف: آية (50).(2/735)
وإنه لأصل الجن، كما أن آدم عليه السلام أصل الإنس (1). فخالفه قتادة، واستدل على مخالفته بطريق الرواية فأسند إلى ابن عباس أنه قال: لو لم يكن من الملائكة لم يؤمر بالسجود، وكان على خزانة السماء الدنيا (2).
وإذا جئنا للمدرسة الكوفية نجد المفارقة واضحة بين الشعبي الذي قيل فيه: أحد أوعية العلم، وبين النخعي الذي كان دون ذلك، فالاعتماد في تفسيره على السنة، وأقوال الصحابة، وأسباب النزول، أشد وضوحا في تفسير الشعبي عنه عما هو عند النخعي (3).
وإذا نزلنا طبقة نجد السدي قد غلب على تفسيره النقل والأثر، بل والرواية عن بني إسرائيل، لكثرة محفوظه في ذلك، في حين قلّ الاجتهاد والاستنباط عنده.
أما المدرسة المدنية فكان الاهتمام فيها بالأحاديث النبوية والآثار عن كبار الصحابة عظيما، حتى إن عروة بن الزبير الذي قيل فيه: بحر لا تكدره الدلاء، من كثرة محفوظه لا نجده يروى عنه شيء في التفسير (4).
ولما غلبت عليهم الرواية، والأثر وتشربوا بها، قلّ عندهم في المقابل الاجتهاد، والرأي في الآيات، مع الآثار التي كانوا يروونها في ذلك، والتي تحذر من الرأي، والهوى، ومنها ما جاء عن عمر أنه قال: إياكم وأصحاب الرأي فإنهم أعداء السنة، أعيتهم الأحاديث أن يحفظوها، فقالوا بالرأي فضلوا، وأضلوا (5).
__________
(1) سبق عزوه ص (229).
(2) تفسير الطبري (15/ 260)، وزاد المسير (1/ 65)، وفتح القدير (1/ 66، 67).
(3) وقد سبق تفصيل ذلك في مبحث المقارنة بين الشعبي والنخعي ص (485).
(4) فضائل القرآن لأبي عبيد (229)، وقد سبق بيان ذلك في خصائص المدرسة المدنية ص (592).
(5) الفقيه والمتفقه (1/ 180)، وجامع بيان العلم (2/ 135)، وإعلام الموقعين (1/ 55).(2/736)
وعن ابن مسعود قال: لا يأتي عام إلا وهو شر من الذي قبله، ويجيء قوم يقيسون الأمور برأيهم (1).
وقد استوعب أهل المدينة هذه الآثار فهابوا التفسير، وانشرحت صدورهم للرواية المجردة عن الرأي، وظل هذا الأمر مدة من الزمان.
قال الليث بن سعد: جئت ابن شهاب الزهري يوما بشيء من الرأي، فقبض وجهه، وقال: الرأي! كالنكارة له ثم جئته بعد ذلك يوما آخر بأحاديث من السنن فتهلل وجهه، وقال: إذا جئتني فأتني بمثل هذا (2).
وذكر ابن وهب عن ابن شهاب أنه قال وهو يذكر ما وقع فيه الناس من هذا الرأي وتركهم السنن: إن اليهود والنصارى إنما انسلخوا من العلم الذي بأيديهم حين اتبعوا الرأي، وأخذوا فيه (3).
وقال أيضا: دعوا السنة تمضي لا تعرضوا لها بالرأي (4).
فهذا كان دأب أهل المدينة، ولأجل ذا قلّ عنهم الاجتهاد، والاستنباط، بل والكلام في التفسير، وقد تقدم شيء من ذلك (5).
4 - المواهب الإلهية:
المقصود بالمواهب الإلهية هنا ما حباه الله للإنسان من ملكات وقدرات فكرية ونفسية، مما له أثر كبير على الاجتهاد في التفسير.
ولعل أبرز ما ظهر لي أثناء التتبع أن الأئمة اعتمدوا على موهبتين أكثر من غيرهما:
__________
(1) الفقيه والمتفقه (1/ 182)، وجامع بيان العلم (1/ 95).
(2) المعرفة والتاريخ (1/ 625)، وتاريخ دمشق (15/ 509).
(3) جامع بيان العلم وفضله (2/ 168)، وإعلام الموقعين (1/ 74).
(4) إعلام الموقعين (1/ 74).
(5) ينظر مبحث خصائص المدرسة المدنية ص (592).(2/737)
الأولى: الذكاء الفطري القادر على التحليل والتوجيه والاستنباط.
الثانية: الحافظة القوية التي تتسع للكثير من المسائل والآثار.
وكون أحد الأئمة اجتهد في إعمال أحد الصفتين لا ينفي أن له نصيبا من الصفة الأخرى، بل وغيرهما من الصفات، إلا أن المقصود أن الأئمة لما برز لأحدهم مجال لإعمال ما وهبه الله له من عقل أو ذكاء أو حفظ، فإنه يتجه به إلى استغلاله على النحو الأوفق، في حين لو كانت هذه الصفة لغيره لما استفاد كثيرا منها، هذا من جهة.
ومن جهة تأثير هذه الصفات في الاجتهاد فهو ظاهر، فمجاهد على سبيل المثال لم يرزق حافظة ابن المسيب، أو قتادة مثلا، لكن رزقه الله ذكاء وفطنة، فأعمل فكره ووسع دائرة تدبره لسد ما فاته في جانب الحافظة، وربما ظهر وكأنه مغتم ضل حماره من شدة التركيز والتفكير في الاستنباط (1)، فشمل بتدبره الكثير من الغامض والمشكل، والفرق بين المفردات المتشابهة، فبلغ فيه شأوا لم يصل إليه غيره، واحتاج الناس إلى علمه، وقريب منه في هذا الباب الحسن البصري رحمه الله، فقد نقلت عنه من الاستنباطات والتفسيرات البليغة بالألفاظ الفصيحة ما لم ينقل عن غيره.
وقد أثنى أهل العلم على علم هذين الرجلين خصوصا في مجال المحكم والمتشابه، فقد ذكر شيخ الإسلام في الكلام على قوله تعالى: {إِنََّا جَعَلْنََا عَلى ََ قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ} (2)، قال: قوله: {أَنْ يَفْقَهُوهُ} يعود إلى القرآن كله، فعلم أن الله يحب أن يفقه، ولهذا قال الحسن البصري: ما أنزل الله آية إلا وهو يحب أن يعلم في ماذا أنزلت، وماذا عني بها، وما استثنى من ذلك لا متشابها ولا غيره (ثم تكلم عن مجاهد) وقال:
ومجاهد إمام التفسير، قال الثوري إذا جاءك التفسير عن مجاهد فحسبك به (3).
__________
(1) ينظر ص (134) من هذا البحث.
(2) سورة الكهف: آية (57).
(3) مجموع الفتاوى (13/ 285284).(2/738)
وبرع مجاهد في استخراج الكليات، وبيان المشكل، وتفسير الغريب، مما يؤكد حسن استخدامه لهذه المنحة الإلهية له بالعقل والفطنة، يلمس ذلك من يقرأ له في مجال بيان الآيات المشكلة خصوصا.
أما صفة الحفظ، فهي من الصفات التي اختص الله بها بعض الناس دون بعض، ويتفاوت الحفاظ فيما يحفظونه، كما سبق القول عن قتادة ونحوه، فلربما كان قتادة أقل ذكاء من مجاهد، ولكن لم يمنعه ذلك من أن يبرز وينتشر علمه انتشار علم مجاهد، بل وأكثر بالنسبة للعراق لأن الله وهبه الحافظة القوية، فحفظ كثيرا وجمع شيئا عظيما، فلما كان دور الرواية انتقى من محفوظه، واختار من مجموعه، وألقاه للناس في عبارة جميلة، وأساليب فصيحة بليغة أحيانا، بسبب تأثره بالحسن، وبعبارة فقهية دقيقة في آثار أخرى، بسبب تأثره بسعيد بن المسيب، ولذا حمل الناس عنه العلم، وتناقلت أقواله الألسن، وانتفع به القريب والبعيد إلى يومنا هذا، وهذا كله من نتاج الاستخدام الجيد للصفة الفطرية، والمنحة الربانية، التي ما منا إلا وله نصيب منها، ولكن فضل الله في استخدامها والانتفاع بها يؤتيه من يشاء.
5 - الورع:
الورع من الصفات الحميدة التي يتصف بها المؤمن، وإذا كان الورع محمودا في شيء، فإنه يكون أشد فضلا وأعظم قدرا في مجال الدين والقرآن والسنة، للنصوص الواردة في ذم التكلف والفتيا بغير علم ولذا كان جمهور السلف يعظم شأن التفسير.
وليس المراد هنا إعادة ما سبق تقريره من ورع هذه المدرسة أو تلك، وإنما المراد بيان أثر هذه الصفة على التفسير، مع التأكيد أن من اجتهد في التفسير لم يكن مقدما على محرم، ومن ترك الاجتهاد لم يكن تاركا للأفضل، وإنما هي السلامة ينظر إليها هذا بنظرة شاملة لما حوله من عوامل فيخرج لنا برأي، وينظر إليها ذاك فيرى أن الإمساك بها
هو قلة الاجتهاد، وكلهم كان على خير وفضل.(2/739)
وليس المراد هنا إعادة ما سبق تقريره من ورع هذه المدرسة أو تلك، وإنما المراد بيان أثر هذه الصفة على التفسير، مع التأكيد أن من اجتهد في التفسير لم يكن مقدما على محرم، ومن ترك الاجتهاد لم يكن تاركا للأفضل، وإنما هي السلامة ينظر إليها هذا بنظرة شاملة لما حوله من عوامل فيخرج لنا برأي، وينظر إليها ذاك فيرى أن الإمساك بها
هو قلة الاجتهاد، وكلهم كان على خير وفضل.
إن وجود مثل هذا في الأمة يدل على ظاهرة طيبة، فلولا وجود ورع سعيد بن المسيب وهو عالم العلماء والنخعي، لأقدم من لا علم له على الخوض في كتاب الله بالحق تارة وبالباطل تارات، وفي المقابل لولا إقدام مجاهد والحسن لضاع علينا فرصة الاستفادة من علوم هؤلاء، ولجاء من بعدهم فأفتى في كتاب الله بغير علم فضل وأضل.
إن الكلام على ورع ابن المسيب وعروة لا يعني أنهم كانوا لا يفقهون شيئا من القرآن، بل قد احتفظت لنا كتب التفسير بالكثير من اجتهاداتهم ورواياتهم في تفسير القرآن، إلا أنها في الغالب لا تتعدى المعلوم والمعروف، فاكتفوا بالآثار التي نقلوها عن النبي وصحابته، وما عز عليهم فهمه وكلوه لعالمه، ولم يتجرءوا على الخوض فيه ورعا، وخاض غيرهم طلبا للأجر، فالكل مصيب من وجه، فالحسن مثلا تكلم احتسابا، أما ابن سيرين فقد سكت احتسابا وكلاهما ينتمي لمدرسة واحدة (1).
وحفل لنا التراث التفسيري بهذه النماذج الخيرة حتى ننسج على منوالهم، فلا يترفع عالم عن ورع ولا يقدم طالب عن جرأة.
وصفة الورع يمكن أن تبحث مع المطلب السابق (الصفات الفطرية) إلا أنه لأهميتها كما بينتها رأيت أن أفردها باعتبارها سببا رئيسا لتفاوت الاجتهاد عند التابعين، ونحاول هنا أن نتعرف على حالهم في هذه الصفة وأثر ذلك على الاجتهاد والتفسير.
قال ابن عطية: إذ كان جلة من السلف كابن المسيب، والشعبي، وغيرهما يعظمون تفسير القرآن (2).
__________
(1) وقد سبق بيان الفرق بين هذين الإمامين في مبحث المقارنة بين البصريين ص (432).
(2) تفسير القرطبي (1/ 27).(2/740)
وها هو عطاء مع أنه من المدرسة المكية قد سئل عن شيء، فقال: لا أدري، قيل:
ألا تقول برأيك قال: إني أستحيي من الله أن يدان في الأرض برأيي (1).
وقد نتج من ذلك قلة المنقول عن هؤلاء، فلا نكاد نجد لعطاء مثلا في حل المشكل أثرا أو رواية.
ونحن إذ نرى عكرمة وقد خاض غمار الاجتهاد يقول عن نفسه: كنت أسمع الكلمة فينفتح لي خمسون بابا من العلم (2).
نجد في المقابل قتادة، راوية العراق يقول: ما قلت في شيء برأيي منذ خمسين سنة (3).
ونجد موقفا آخر من مواقف الورع والإحجام عن الاجتهاد، ألا وهو موقف طاوس إمام أهل اليمن، والذي درس على يد ابن عباس رضي الله عنه، نراه يقول عن الحسن وقد ذكر له: «ذاك رجل جريء» (4).
في حين نجد الحسن نفسه يسأل: أرأيت ما تفتي به الناس شيئا سمعته، أو تقوله برأيك قال: لا والله ما كل ما نفتي به سمعنا، ولكن رأينا خير لهم (5).
ويقول أيضا: «نعم وزير العلم الرأي الحق» (6).
فهذه النصوص تبين الواقع لهؤلاء في الاجتهاد، كما أن تلك النصوص بينت الواقع لأولئك في الإحكام، وقد زخر التراث بذلك كله، وما زالت كلمات أولئك
__________
(1) السير (5/ 86)، وتهذيب الكمال (20/ 82)، والتهذيب (7/ 202).
(2) ينظر ترجمة عكرمة ص (159).
(3) سبق بيان ذلك في ترجمة قتادة (274).
(4) المعرفة (2/ 44).
(5) تهذيب الكمال (6/ 108)، إعلام الموقعين (1/ 87).
(6) جامع البيان العلم (2/ 177).(2/741)
غضة طرية، وعبارات هؤلاء لطيفة قوية، والكل ينظم في سلك واحد.
6 - أثر البيئة:
دأب الباحثون في علم الاجتماع على تعظيم أمر البيئة، وأثرها في الإنسان، ودائما يضعونها في المرتبة الأولى من الأسباب، هذا إن ذكروا معها غيره، ولكني رأيت أن الإنسان وإن كان له تأثر ملموس بالبيئة المحيطة به إلا أن تأثيره غالبا ما يكون أقوى إذا جمع مؤهلات التأثير.
ولم يكن ثمة موانع، ولأجل ذا أخرت الكلام على هذا الجانب، مقدما عليه ما يلوح لي أنه أعظم تأثيرا، وأبعد أثرا في مسألة الاجتهاد في التفسير، وأضرب هنا مثالين: أحدهما في تأثير البيئة على الإنسان، والثاني عكسه، فأما الأثر الواضح للبيئة فهو أثر المقام في مكة المكرمة في علم الرجل بالمناسك، وهذا أمر لا بد منه لأن زوّار البيت والعمّار والحجاج يفدون إلى مكة في كل السنة، وكل منهم يحتاج إلى سؤال، أو أكثر، فكثرة الأسئلة، وابتلاء أحوال الناس يؤدي إلى تفتح المسائل، وصقل القريحة، وتفتق الاجتهادات.
ومن هذا الباب قالوا: إن علم عطاء كان في المناسك (1)، مع قلة المروي عنه في باب الاجتهاد، في حين كان علم إبراهيم في الصلاة. قال مطر الوراق: وكان علم صاحبنا الحسن في كل (1).
وها هو عكرمة يحدث فيقول لغلامه: يا غلام هات الدواة والقرطاس، فقال: أعجبك قلت: نعم، قال: إنما قلته برأيي (2)، هذا مع أن عكرمة أكثر حديثه عن الصحابة (3).
__________
(1) تاريخ أبي زرعة (2/ 683).
(2) السير (5/ 29)، وتهذيب الكمال (2/ 286)، والتهذيب (7/ 269).
(3) الكامل لابن عدي (5/ 1907)، والسير (5/ 30)، وهدى الساري (429).(2/742)
ومن باب تأثير الإنسان في البيئة ما كان من أمر مجاهد في المدرسة المكية، فقد سافر إلى العراق واستقر في الكوفة، وقد مر بنا أنه من أكثر التابعين اجتهادا وقدرة على الاستنباط، فهل تغير مجاهد عند ما وضع رحاله بالعراق، الظاهر أن مجاهدا لم يتغير كثيرا، بل لربما أثر في المحيط الجديد الذي نزل به، ولهذا نجد أن ابن قتيبة يقول: كان أشد أهل العراق في الرأي والقياس الشعبي، وأسهلهم فيه مجاهد (1).
__________
(1) تأويل مختلف الحديث لابن قتيبة (74).(2/743)
الفصل الثاني منهج التابعين في التفسير(2/745)
الفصل الثاني منهج التابعين في التفسير
الفصل الثاني منهج التابعين في التفسير
لكل عالم أو كاتب أو مفكر منهج يلتزمه في علمه، أو كتابته، أو تفكيره، وبقدر وضوح ذلك المنهج تكون الفكرة، والعبارة، والمعلومة، واضحة للناس، سامعين وقارئين.
ولقد كان التابعون على منهج واضح المعالم في تناولهم لآيات الكتاب يتسم بالدقة والفهم وغزارة النتاج وقوة الاستنباط إلخ، برز من برز منهم في علم أو فن، فكان هذا منهجه في ذلك الفن، وبرز آخر في باب أو مسألة، فكان هذا منهجه في ذلك الوجه، ولأجل تقارب المناهج العامة، وتشابهها، رأيت أنه من المناسب دراسة الوجوه، والأبواب التي تباينت فيها الاتجاهات، واختلفت دون ما كان سمة عامة للجميع، ومنحى واحدا لكل المفسرين.
وسوف أتناول في هذا الفصل بيان منهجهم، وطرائقهم فيما يلي:
المبحث الأول: منهجهم في القراءات.
المبحث الثاني: منهجهم في آيات الصفات، والاعتقاد.
المبحث الثالث: منهجهم في استنباط آيات الأحكام.
المبحث الرابع: منهجهم في تلقي ورواية الإسرائيليات.
وسأعرض لكل منها بالدراسة المقارنة، سائلا الله السداد والتوفيق.(2/747)
المبحث الاول
منهج التابعين في القراءات:
عرف الزركشي القراءات بقوله: القراءات: اختلاف ألفاظ الوحي المذكور في الحروف وكيفيتها من تخفيف وتشديد وغيرها (1).
فخص القراءة بما اختلف فيه من ألفاظ الوحي، مع أن علماء القراءات يتوسعون في دائرة شمول القراءات للمختلف فيه والمتفق عليه.
فيقول ابن الجوزي: القراءات علم بكيفية أداء كلمات القرآن واختلافها معزوا لناقله (2).
وعرفها الدمياطي بقوله: القراءات علم يعلم منه اتفاق الناقلين لكتاب الله تعالى، واختلافهم في الحذف والإثبات والتحريك والتسكين والفصل والوصل، وغير ذلك من هيئة النطق والإبدال وغيره من حيث السماع (3).
ولمعرفة أسباب اختلاف القراءات لا بدّ من نظرة لتاريخ المصحف الشريف، قال البخاري رحمه الله: باب أنزل القرآن على سبعة أحرف ثم ساق الإسناد عن ابن عباس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أقرأني جبريل على حرف، فراجعته فلم أزل أستزيده ويزيدني حتى انتهى إلى سبعة أحرف» (4).
وساق بإسناده عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: سمعت هشام بن حكيم يقرأ سورة الفرقان في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاستمعت لقراءته فإذا هو يقرأ على حروف
__________
(1) البرهان (1/ 31)، والإتقان (1/ 105).
(2) منجد المقرئين (91)، وإتحاف فضلاء البشر (1/ 67).
(3) إتحاف فضلاء البشر (1/ 67).
(4) صحيح البخاري، كتاب فضائل القرآن، باب أنزل القرآن على سبعة أحرف، ينظر الفتح (9/ 23) 4991، وتفسير الطبري (1/ 29)، والمصنف لعبد الرزاق (11/ 218)، ومسند أحمد، وينظر الفتح الرباني (18/ 53)، وكتاب الأحرف السبعة لأبي عمرو الداني (13) 2.(2/748)
كثيرة لم يقرئنيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكدت أساوره في الصلاة، فتصبرت حتى سلم، فلببته بردائه فقلت: من أقرأك هذه السورة التي سمعتك تقرأ قال: أقرأنيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: كذبت، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقرأنيها على غير ما قرأت، فانطلقت به أقوده إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: إني سمعت هذا يقرأ بسورة الفرقان على حروف لم تقرئنيها.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أرسله، اقرأ يا هشام، فقرأ عليه القراءة التي سمعته يقرأ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كذلك أنزلت، ثم قال: اقرأ يا عمر، فقرأت القراءة التي أقرأني، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كذلك أنزلت، إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف، فاقرءوا ما تيسر منه» (2).
وحديث الأحرف هذا من الأحاديث المتواترة (3).
وقد اختلف الناس في معنى الحروف السبعة على أقوال، لعل من أرجحها: أن الأحرف السبعة هي تأدية المعني باللفظ المرادف، ولو كان من لغة واحدة، فيكون القرآن قد أنزل أولا بلسان قريش، ومن جاورهم من العرب الفصحاء، ثم أبيح للعرب أن يقرءوه بلغاتهم التي جرت عادتهم باستعمالها على اختلافهم في الألفاظ، والإعراب، ولم يكلف أحد منهم الانتقال من لغته إلى لغة أخرى، للمشقة، ولما كان فيهم من الحمية، ولطلب تسهيل فهم المراد، كل ذلك مع اتفاق المعنى، وعلى هذا يتنزل اختلافهم في القراءة كما تقدم في حديث عمر وتصويب رسول الله صلى الله عليه وسلم كلا (1) صحيح البخاري، كتاب فضائل القرآن، باب أنزل القرآن على سبعة أحرف، ينظر الفتح (9/ 23) 4991، والمصنف لعبد الرزاق (11/ 218)، وكتاب الأحرف السبعة (12) 2.
__________
(2) الفتح (9/ 23) 4992.
(3) ووجه إنكار عمر على هشام أن هشاما كان من مسلمة الفتح، فخشي عمر ألا يكون أتقن القراءة، ولأن هشاما قد أقرأه الرسول صلى الله عليه وسلم على ما نزل أخيرا، فنشأ الاختلاف بينه وبين ما قرأ عمر أولا، ينظر الفتح (9/ 26).(2/749)
منهم، لكن ينبغي أن يتنبه أن الإباحة المذكورة لم تقع بالتشهي، أي أن كل أحد يغير الكلمة بمرادفها في لغته، بل المراعى في ذلك السماع من النبي صلى الله عليه وسلم، ويشير إلى ذلك قول كل من عمر، وهشام في حديث الباب: أقرأني النبي صلى الله عليه وسلم (1).
ولما مات النبي صلى الله عليه وسلم، واستحرّ القتل في القرّاء في حروب الردة، أشار عمر رضي الله عنه على أبي بكر بجمع القرآن، ثم شرح الله صدر أبي بكر لذلك، وأوكلوه إلى زيد بن ثابت (2) فجمعه، وأثبت منه ما كان متوافقا مع العرضة الأخيرة، فما سواها يكون منسوخا، وكان يتثبت في ذلك بإقامة شاهدين على كل آية يكتبها أنها مما كتب في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في العرضة الأخيرة، فلم يكتف بحفظه هو، ولذلك نراه يقول:
«فتتبعت القرآن أجمعه من العسب، واللخاف (3)، وصدور الرجال، حتى وجدت آخر سورة التوبة مع أبي خزيمة الأنصاري لم أجدها مع أحد غيره، {لَقَدْ جََاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مََا عَنِتُّمْ} (4)» حتى خاتمة براءة، فكانت الصحف عند أبي بكر حتى توفاه الله، ثم عند عمر حياته، ثم عند حفصة بنت عمر رضي الله عنهما (5).
ولما رأى حذيفة بن اليمان رضي الله عنه اختلاف الناس في القراءة، أشار على عثمان بجمع الناس على مصحف واحد، فأمر زيد بن ثابت، وعبد الله بن الزبير، وسعيد بن العاص، وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام، فنسخوا المصاحف، وبعث
__________
(1) فتح الباري (9/ 27).
(2) وبين أبو بكر رضي الله عنه سبب اختيار زيد، وهو اجتماع أربع مميزات فيه، وهي: العقل، والشباب، وعدم التهمة، وأنه من كتاب الوحي، ينظر الفتح (9/ 10).
(3) تراجع الآثار الدالة على ذلك، والكلام عليها في الفتح (9/ 14، 15).
العسب: جمع عسيب، وهو جريد النخل، كانوا يكشطون الخوص ويكتبون في الطرف العريض، واللخاف: جمع لخفة وهي الحجارة الرقاق، ينظر الفتح (9/ 14).
(4) سورة التوبة: آية (128).
(5) صحيح البخاري كتاب فضائل القرآن: باب جمع القرآن، ينظر الفتح (9/ 10) 4986.(2/750)
بها في الآفاق، وأمر بما سواه من القرآن في كل صحيفة أو مصحف أن يحرق (1).
والظاهر أن الجمع الأخير هذا كان على بعض الحروف السبعة لا كلها لأن الأمة أمرت بحفظ القرآن، وخيرت في قراءته وحفظه بأي تلك الأحرف السبعة شاءت (2).
يقول أبو شامة: «فالحق أن الذي جمع في المصحف هو المتفق على إنزاله، المقطوع به، المكتوب بأمر النبي صلى الله عليه وسلم، وفيه بعض ما اختلف فيه من الأحرف السبعة لا جميعها، كما وقع في المصحف المكي (تجري من تحتها الأنهار) في آخر براءة، وفي غيره بحذف (من)، وكذا ما وقع من اختلاف مصاحف الأمصار من عدة واوات ثابتة في بعضها دون بعض، وعدة هاءات، وعدة لامات ونحو ذلك، وهو محمول على أنه نزل بالأمرين معا، وأمر النبي صلى الله عليه وسلم بكتابته لشخصين، أو أعلم بذلك شخصا واحدا وأمره بإثباتهما على الوجهين، وما عدا ذلك من القراءات مما لا يوافق الرسم، فهو مما كانت القراءة جوزت به توسعة على الناس، وتسهيلا، فلما آل الحال إلى ما وقع من الاختلاف في زمن عثمان، وتكفير بعضهم بعضا، اختاروا الاقتصار على اللفظ المأذون في كتابته، وتركوا الباقي اهـ (3).
فضابط المأذون في قراءته ما وافق رسم المصحف، فما خالف رسم المصحف فهو في حكم المنسوخ والمرفوع، كسائر ما نسخ، فليس لأحد أن يعدو في اللفظ إلى ما هو خارج عن المصحف (4).
وأما السبب في اختلاف الناس في القراءات مع أنها على مصحف واحد فيرجع إلى أن الجهات التي وجهت إليها المصاحف كان بها من الصحابة من حمل عنه أهل
__________
(1) المرشد الوجيز لأبي شامة (138، 139)، وفتح الباري (9/ 30).
(2) الفتح (9/ 10).
(3) المرشد الوجيز (128)، وفتح الباري (9/ 30).
(4) المرشد الوجيز (144، 145)، وفتح الباري (9/ 30).(2/751)
تلك الجهة، وكانت المصاحف خالية من النقط والشكل، فثبت أهل كل ناحية على ما تلقوه سماعا من الصحابة بشرط موافقة الخط، وتركوا ما يخالف الخط امتثالا لأمر عثمان الذي وافقه عليه الصحابة، لما رأوا في ذلك من الاحتياط للقرآن، فمن ثم نشأ الاختلاف بين قراء الأمصار مع كونهم متمسكين بحرف واحد من السبعة، أو ببعض الحروف (1).
فمن أمثلة الاختلاف في النقط قوله تعالى: {يََا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جََاءَكُمْ فََاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} (2)، وقرئ فتثبتوا (3)، ونحو (ننشزها) وقرئت (ننشرها) (4).
ومن أمثلة الاختلاف في الشكل فقط قوله تعالى: {يُضَلُّ بِهِ} في سورة التوبة في قراءة: حفص، وحمزة، والكسائي، {وَيُضِلُّ} في قراءة الباقين (5).
وما كان فيه الاختلاف في النقط كقوله تعالى: {هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ} (6) فقد قرأ سعيد بن جبير (هل تستطيع ربك).
فالحاصل أن الاختلاف في القراءة كان هذا مرجعه، ولم يكن على سبيل التشهي.
__________
(1) فتح الباري (9/ 31).
(2) سورة الحجرات: آية (6).
(3) تفسير الطبري (26/ 123)، قال ابن جرير: والصواب من القول في ذلك أنهما قراءتان معروفتان متقاربتا المعنى فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب.
قرأ حمزة، والكسائي، وخلف: (فتثبتوا) بثاء مثلثة بعدها باء موحدة، بعدها ياء مثناة فوقية، وقرأ الباقون بباء موحدة، وياء مثناة، ينظر الغاية (136)، والنشر (2/ 251)، والسبعة (236)، والكشف (1/ 394).
(4) قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو «ننشرها» بضم النون الأولى وبالراء، وقرأ عاصم، وابن عامر، وحمزة، والكسائي (ننشزها)، بالزاي. ينظر السبعة (189) والوافي في شرح الشاطبية (233).
(5) الوافي في شرح الشاطبية (282)، ومعاني القرآن للفراء (1/ 437).
(6) سورة المائدة: آية (112).(2/752)
ويؤكد ذلك ما ورد عن الصحابة والتابعين من وجوب الاتباع في ذلك، فعن ابن مسعود أنه قرأ {هَيْتَ لَكَ} (1) فقال شقيق: إنا نقرؤها (هيت لك) فقال ابن مسعود:
أقرؤها كما علّمت أحبّ إليّ (2).
ودرج على ذلك أصحابه، فقال الشعبي: القراءة سنة، فاقرءوا كما قرأ أولكم (3).
وعن زيد قال: القراءة سنة (4) وزيد إمام أهل المدينة. وعن محمد بن المنكدر قال:
قراءة القرآن سنة يأخذه الآخر عن الأول (5).
وعن ابن عباس قال: أقرأني أبي كما أقرأه رسول الله صلى الله عليه وسلم (6).
وحتى البصرة التي توسعت في التقعيد النحوي كان الاهتمام بالقراءة فيهم واضحا.
فكان أبو العالية إذا قرأ عنده رجل، لم يقل: ليس كما يقرأ، يقول: أما أنا! فأقرأ كذا وكذا (7)، يعني مخافة أن يرد قراءة صحيحة، وقد انتشرت القراءات وضبطها في أواخر عصر التابعين (8)، وساعد على ذلك اهتمام الأئمة بالقرآن، وكثرة تلاوته، وترديده.
فعن إبراهيم قال: كان علقمة يقرأ القرآن في خمس، والأسود في ست،
__________
(1) سورة يوسف: آية (23).
(2) سنن أبي داود (4/ 38) 4004، وتفسير الطبري (16/ 30) 18998، وإعراب القرآن للنحاس (2/ 322).
(3) الغاية (1/ 350).
(4) الجامع لأخلاق الراوي (2/ 196) 1596.
(5) تاريخ أبي زرعة (1/ 435)، والجامع لأخلاق الراوي (2/ 196) 1597.
(6) جزء فيه قراءات النبي صلى الله عليه وسلم (124).
(7) تاريخ دمشق (6/ 297).
(8) العلل لأحمد (3/ 204) 4876.(2/753)
وعبد الرحمن بن يزيد في سبع (1).
وإذا أردنا أن نأخذ لمحة عامة عن الفروق بين كيفية تلقي الصحابة للقراءات ومن بعدهم، نجد الفرق واضحا، فلم يكن الحذر والخوف عند الصحابة في مسألة القراءات كحال التابعين لأنهم يعلمون أن النبي صلى الله عليه وسلم أقرأ الجميع على ذلك.
وإنما اختار عثمان رضي الله عنه، وأجمع الصحابة على فعله أن يجمع الناس للاختلاف الذي أدى ببعضهم لتكفير بعض، أو لتفسيقه، في حين لم يكن هذا شأن الصحابة، ولذا لم يكن التشدد معروفا عندهم، كما كان يقرأ ابن مسعود، وأبيّ، وزيد، وغيرهم.
أما التابعون فقد وجدت فيهم هذه الحساسية، وهي في متأخريهم أكثر.
فها هو سعيد بن جبير يؤم في شهر رمضان، فيقرأ ليلة بقراءة عبد الله بن مسعود، وليلة بقراءة زيد، وليلة بقراءة غيرهما (2).
ويقرأ كذلك مرة (تنبئ أخبارها) في الصلاة، ويوما {تُحَدِّثُ أَخْبََارَهََا} (3)، ولكن عند ما يعلّم تلاميذه يأمرهم بالالتزام بشيء واحد، فعن أبي عمرو قال: سمع ابن جبير قراءتي فقال: الزم قراءتك هذه (4).
وكان كبار التابعين غالبا يعنون بالقراءات في جانب إيضاح معنى الآية، في حين كان المتأخرون منهم يعتنون بالنطق والنسبة أكثر.
__________
(1) تاريخ أبي زرعة (1/ 651).
(2) معرفة القراء الكبار (1/ 57)، وغاية النهاية (1/ 305)، وفيات الأعيان (2/ 371)، وطبقات المفسرين للداودي (1/ 182).
(3) تفسير الطبري (30/ 266)، وأورده السيوطي في الدر، وعزاه لابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، عن سعيد بلفظ مقارب (8/ 593).
(4) السبعة في القراءات (84).(2/754)
ويتضح هذا بالمقارنة بين مجاهد، وقتادة مثلا.
بل ربما أدى تشدد التابعين في الالتزام برسم المصحف إلى أن يردوا ما لم يوافق الرسم العثماني.
روى البخاري في صحيحه عن علقمة قال: «دخلت في نفر من أصحاب عبد الله الشام فسمع بنا أبو الدرداء، وأتانا فقال: أفيكم من يقرأ فقلنا: نعم، قال: فأيكم أقرأ فأشاروا إليّ فقال: اقرأ: فقرأت: (والليل إذا يغشى والنهار إذا تجلى والذكر والأنثى) (1)، قال: أنت سمعتها من فيّ صاحبك، قلت: نعم، قال: وأنا سمعتها من فيّ النبي صلى الله عليه وسلم وهؤلاء يأبون علينا» (2)، فإذا قيل: هل لنا وقد صح عندنا الخبر أن نقرأ (والذكر والأنثى)!، فالجواب: أنه ليس لنا ذلك لأن القرآن يتلقى من الأفواه، بإشارة الحديث السابق (من فيّ صاحبك) (من فيّ النبي)، فعلقمة تلقاها هكذا من فيّ ابن مسعود فله أن يقرأ بها، وأبو الدرداء تلقاها هكذا من فيّ رسول الله صلى الله عليه وسلم فله أن يقرأ بها.
وأما الآن فلا يوجد من عنده الإسناد المتصل بأخذ الثقة عن فيّ الثقة إلا بما هو موافق للمصحف بالقراءات الواردة على الرسم العثماني المتعددة، فيقتصر في الأداء عليها دون غيرها، ولقد كانت الأوجه كثيرة فيما مضى، لكن اختارت الأمة بعضها فوصل إلينا بالنقل بالشرط المذكور سابقا، فليس لنا أن نقرأ بخلافه، قال الكواشي: كل ما صح سنده، واستقام وجهه في العربية، ووافق لفظه خط المصحف الإمام، فهو من السبعة المنصوصة، فعلى هذا الأصل وبني قبول القراءات عن سبعة كانوا أو سبعة آلاف، ومتى فقد شرط من الثلاثة فهو الشاذ (3).
__________
(1) سورة الليل: الآيات (31)، وقراءة في مصحفنا {وَمََا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى ََ}.
(2) صحيح البخاري، كتاب التفسير، باب (وما خلق الذكر والأنثى)، ينظر الفتح (8/ 707) 4944، وتفسير الطبري (30/ 217)، والسير (4/ 56)، ومختصر في شواذ القرآن (174)، وكتاب إعراب ثلاثين سورة من القرآن (107).
(3) فتح الباري (9/ 32).(2/755)
ثم القراءات السبعة المشهورة المنقولة بالسند الصحيح لا يعني أن كل ما نقل عنهم فهو بهذه الصفة، بل فيه الضعيف لخروجه عن الأركان الثلاثة، فالاعتماد في غير ذلك على الضابط المتفق عليه (1).
منهج المدرسة الكوفية:
اشتهرت الكوفة بالقراء الكبار، وبرز منها الكثيرون (2)، وقد يرجع ذلك إلى توسع شيخ المدرسة ابن مسعود رضي الله عنه في القراءة، ولا سيما ما يمكن أن نطلق عليه القراءة التفسيرية، أو ما أطلق عليه قراءة على سبيل الاتساع اللغوي.
وقد توسع في ذلك أيضا أبيّ بن كعب، لكن ليس كتوسع ابن مسعود رضي الله عنهم جميعا، فقد كان ابن مسعود رضي الله عنه حريصا على ضبط القرآن وحفظه، ولذا فعند مراجعتنا كتب فضائل القرآن نجد أن جلّ المروي فيها عن ابن مسعود، وفي الكثير منها يحث على حفظ القرآن، وضبطه، والنهي عن الاختلاف فيه، بل كان ينهى عن الاختلاف حتى في القراءات، مع أنه لم يرض بادئ ذي بدء عن جمع عثمان رضي الله عنه الناس على حرف زيد بن ثابت (3).
ومن أجمع ما نقل عنه في ذلك ما أخبر به علقمة أنه قال: لما خرج عبد الله بن مسعود من الكوفة اجتمع إليه أصحابه فودعهم، ثم قال: لا تنازعوا في القرآن، فإنه لا يختلف ولا يتلاشى، ولا يتغير لكثرة الرد، وإن شريعة الإسلام، وحدوده وفرائضه فيه واحدة، ولو كان شيء من الحرفين ينهى عن شيء يأمر به الآخر، كان ذلك الاختلاف، ولكنه جامع ذلك كله، لا تختلف فيه الحدود ولا الفرائض، ولا شيء من شرائع
__________
(1) فتح الباري (9/ 33).
(2) عند مراجعة كتب تراجم القراء الكبار، نجد أن المشهورين من الكوفة هم أكثر قراء الأمصار ينظر في ذلك كتاب الذهبي معرفة القراء الكبار.
(3) وسيأتي لذلك مزيد بيان في آخر هذا المبحث إن شاء الله.(2/756)
الإسلام، ولقد رأيتنا نتنازع فيه عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيأمرنا فنقرأ عليه، فيخبرنا أن كلّنا محسن، ولو أعلم أحدا أعلم بما أنزل الله على رسوله مني لطلبته، حتى أزداد علمه إلى علمي، ولقد قرأت من لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم سبعين سورة، وقد كنت علمت أنه يعرض عليه القرآن في كل رمضان، حتى كان عام قبض، فعرض عليه مرتين، فكان إذا فرغ أقرأ عليه فيخبرني أني محسن، فمن قرأ علي قراءتي فلا يدعنّها رغبة عنها، ومن قرأ علي بشيء من هذه الحروف فلا يدعنّه رغبة عنه، فإنه من جحد بآية جحد به كله (1).
ولقد درج أصحابه رضي الله عنه على ذلك فاحتفظوا بقراءته.
فعن الأعمش في قوله تعالى: {يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفََالِ} (2)، قال: كان أصحاب عبد الله يقرءونها يسألونك الأنفال (3)، وهي كذلك في قراءة ابن مسعود (4).
ولقد تجاوز تأثير قراءة ابن مسعود مدرسة الكوفة، فأثر في المدارس الأخرى، فالبصرة مثلا، لم يرو قتادة فيها عن ابن مسعود في التفسير إلا بضع عشرة رواية، فإذا دققنا في تلك الروايات نجد أنها كلها في القراءة إلا رواية واحدة فقط في التفسير، وكذلك كان حال مجاهد، فقد وجدت له خمس روايات عن ابن مسعود، أربع منها في القراءات، وواحدة فقط في تفسير الكبائر (5).
ومثله السدي، فقد روى عن ابن مسعود خمسا أيضا، واحدة في التفسير، وسائرها في القراءات (6).
__________
(1) تفسير الطبري (1/ 28) 18، والنشر في القراءات العشر (1/ 51).
(2) سورة الأنفال: آية (1).
(3) تفسير الطبري (13/ 378)، وأورده السيوطي في الدر، وعزاه لعبد بن حميد، وابن جرير، عن الأعمش به (4/ 10).
(4) المرجع السابق (13/ 378) 15666، ومختصر في شواذ القرآن (48)، البحر المحيط (4/ 456)، والمحتسب (1/ 272).
(5) سبق بيان تلك المواضع في ص (468).
(6) وسبق ذكر مواضعها ص (468).(2/757)
وهذا كله يدل على تقدّم ابن مسعود في القراءة على غيره من الصحابة، إلا أن قراءته لم يجمعها أصحابه في مكان واحد.
منهج المدرسة المكية:
أما المدرسة المكية فقد تأثرت في القراءة بشيخها ابن عباس، ثم صار أئمة هذه المدرسة شيوخا للطبقة التي تليها من القراء المشهورين.
قال ابن مجاهد: قرأ سعيد على ابن عباس، وقرأ ابن عباس على أبي بن كعب، وقرأ أبي على النبي صلى الله عليه وسلم (1).
وعن أبي العباس أحمد بن محمد الليثي قال: سألت أبا عمرو: على من قرأت فقال: على مجاهد، وسعيد بن جبير (2).
وقد كثرت موافقة أئمة هذه المدرسة لشيخهم ابن عباس، وقلّت مخالفتهم، فمجاهد مثلا اهتم بالقراءة، فقد ختم على ابن عباس ثلاثين مرة وهذا أدعى لتحقيقه وفهمه لقراءة ابن عباس أكثر من غيره، وكان رحمه الله يقرأ القرآن على خمسة أحرف، ولا شك أن مجاهدا كان من أعلم أصحاب ابن عباس، ولذا فنحن نجد في المرويات التي بين أيدينا بعض مخالفات مجاهد للقراءة الموافقة للمصحف، ونجد أن هذه المخالفة أيضا رواية عن ابن عباس، الذي أخذها عن أبي بن كعب المدني، وعليه فنحن نرى توافق المدرسة المكية مع المدرسة المدنية.
ومما نلحظه أيضا أن أئمة المدرسة المكية مع أنهم توسعوا في الاجتهاد، إلا أنهم لم يخالفوا في القراءات إلا باختيار بعض القراءات من الوارد، فإن علم القراءات علم تلق
__________
(1) السبعة في القراءات لابن مجاهد (72).
(2) المرجع السابق (73).
(3) تفسير الطبري (1/ 53) 52.(2/758)
ورواية.
ومن هذه الأمثلة التي خالف فيها المكيون تبعا لشيخهم قوله تعالى: {فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً} (1).
فعن أبي نضرة قال: سألت ابن عباس عن متعة النساء، قال: أما تقرأ سورة النساء قال: قلت: بلى! قال: فما تقرأ فيها (فما استمتعتم به منهن إلى أجل مسمى) قلت: لا! لو قرأتها هكذا ما سألتك! قال: فإنها كذا (2) ولذا نجد سعيد بن جبير يقرأ (فما استمتعتم به منهن إلى أجل مسمى فآتوهن أجورهن) (3).
بل ويذهب تلاميذ هذه المدرسة إلى القراءة المفسرة لبعض الأحكام تبعا للوارد عن ابن عباس، من ذلك ما جاء في تفسير قوله تعالى: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ} (4)، فقد ذكر ابن جرير الأقوال في ذلك ثم قال: وقال بعضهم: إن الآية محكمة وليست منسوخة، واعتمدوا على قراءة ابن عباس (يطوّقونه) (5).
وكان عكرمة، وسعيد بن جبير، وعطاء بن أبي رباح، ومجاهد، يقرءونها كذلك، ولم يذكر الطبري ذلك إلا عن تلاميذ المدرسة المكية (6).
وكان أئمة هذه المدرسة مجتهدين في القراءة، والسؤال عنها، يدل على ذلك سؤال عطاء لابن عباس: كيف تقرأ: (واتبعوا) (6) أو (ابتغوا) قال: أيهما شئت، ثم
__________
(1) سورة النساء: آية (24).
(2) تفسير الطبري (8/ 177) 9036، كتاب المصاحف لابن أبي داود (88، 91).
(3) تفسير الطبري (8/ 178) 9043.
(4) سورة البقرة: آية (184).
(5) تفسير الطبري (3/ 430) 2765، 2766، 2767، 2775، وزاد المسير (1/ 186).
(6) تفسير الطبري (3/ 430) 2769، 2770، 2771، 2773.(2/759)
قال: عليك بالأولى (1).
ومما ينبغي الإشارة إليه أنه لم تتأثر هذه المدرسة بقراءة ابن مسعود في أول أمرها، فلم أعثر على أثر يفيد استفادة ابن عباس من قراءة ابن مسعود، ويؤكد ذلك أن مجاهدا لما رحل إلى الكوفة، وسمع قراءة ابن مسعود قال مقالة تبين أنه لو كان قد قرأ قراءة ابن مسعود لما سأل ابن عباس عن كثير من الآيات التي أشكلت عليه لأنه وجد تفسيرها في قراءة ابن مسعود رضي الله عنه.
منهج المدرسة البصرية:
مع أن المدرسة البصرية عراقية فقد خالفت المدرسة الكوفية في كثيرة من أبواب القراءات وأشكالها، إلا ما كان من قتادة، فقد استفاد من قراءة ابن مسعود رضي الله عنه (2)، ولا سيما في القراءة التفسيرية التي اهتم بها أكثر من تحقيق النطق، والأداء، وقد تقدم في البصرة أبو العالية الذي قرأ على أبي وعلى عمر ثلاث مرات، واهتم بذلك حتى عدّه الذهبي من الكبار، ومن أعلم التابعين بالقراءة، وقدمه على سعيد بن جبير، والسدي (3).
وقال ابن أبي داود: ليس أحد بعد الصحابة أعلم بالقراءة من أبي العالية، وبعده سعيد بن جبير، وبعده السدي، وبعده الثوري (4).
وقد تعدى تأثير أئمة البصرة في القراءة حدود مصرهم، فكثرت الرواية عن الحسن
__________
(1) سنن سعيد بن منصور، كتاب التفسير (2/ 575)، والآية: {وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مََا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ}.
(2) تفسير قتادة (86).
(3) معرفة القراء الكبار (1/ 49).
(4) التهذيب (3/ 285)، ومرآة الجنان (1/ 214)، وتاريخ الإسلام (532)، وتهذيب الأسماء (2/ 251)، والعبر (1/ 81)، والشذرات (1/ 102)، وطبقات المفسرين للداودي (1/ 173)، والتذكرة (1/ 62)، وطبقات الحفاظ (22)، ودول الإسلام (1/ 64).(2/760)
في بلاد المغرب، فوجد في تفسير المغاربة الكثير من قراءات الحسن، فقد اهتم الحسن ببيان منطوق الكلمة في الآية من حيث حركتها الفرعية، وقراءتها، وربما نسب القراءة لمن أخذها منه، ولربما سردها فتنسب إليه.
وعلى كل فلم يقرأ أحد من التابعين حرفا إلا بأثر.
عن أبي رجاء قال: قلت: يا أبا سعيد {وَقُرْآناً فَرَقْنََاهُ} فثقلها أبو رجاء، فقال الحسن: ليس فرّقناه، ولكن فرقناه، فقرأ الحسن مخففة. قلت: من يحدثك هذا يا أبا سعيد أصحاب محمد، قال: فمن يحدثنيه! (1).
منهج المدرسة المدنية:
اهتمت المدرسة المدنية بتحقيق النطق أكثر من اهتمامها بالقراءة التفسيرية، ولذا فهي تشبه المدرسة البصرية من هذا الجانب، ولا سيما مع وجود زيد وأبيّ فيها (2).
قال الطبري في تفسير قوله تعالى: {فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ} (3): قرأ عامة قراء المدينة، والبصرة: {فِي عَمَدٍ} وقرأ عامة قراء الكوفة {فِي عَمَدٍ} (4).
ولما كان منهج المدنيين تحقيق النطق، والحركة، فإننا لا نعجب أن نرى من تشدد في القراءات يوصي بأخذ القراءة عن المدرسة المدنية.
قال سفيان بن عيينة: خذوا القراءة من أهل المدينة (5).
ونجد شاهد هذا في قلة المنقول عنهم من القراءات الشاذة بخلاف غيرهم (6).
__________
(1) تفسير الطبري (15/ 179).
(2) سبق بيان ذلك في خصائص المدرسة المدنية ص (562).
(3) سورة الهمزة: آية (9).
(4) تفسير الطبري (30/ 295)، وزاد المسير (9/ 230).
(5) تأويل مشكل القرآن (60)، والسير (1/ 488).
(6) بعد مراجعتي لكتاب مختصر في شواذ القرآن، وجدت أن المدنيين من أقل التابعين إيرادا للقراءة(2/761)
مناهج التابعين في الاستفادة من القراءات:
وبعد أن استعرضت مناهج المدارس التفسيرية في تلقي القراءات، بقي أن أتحدث عن بعض مناهجهم في الاستفادة من القراءات.
1 - منهجهم في قبول القراءة، أو ردها:
سبق أن بينت أن الحساسية في القراءات كانت قليلة عند الصحابة، وأنها زادت في عصر التابعين، ولا سيما المتأخرون منهم، ومع ذلك فقد عرف التابعون اختلاف قراءات الصحابة، لذا تورعوا في باب الإنكار على المخالف، فكان أبو العالية إذا قرأ عنده رجل لم يقل: ليس كما قرأ، بل يقول: أما أنا فأقرأ كذا، وكذا، قال الراوي:
فذكرت ذلك لإبراهيم النخعي فقال: أرى صاحبك قد سمع أن من كفر بحرف منه فقد كفر به كله (1).
وعن الأعمش قال: كنت أقرأ على إبراهيم فإذا مرّ بالحرف ينكره لم يقل ليس كذا، ولكن يقول: كان علقمة يقرأ كذا وكذا (2).
2 - توجيه القراءة:
لم يكن التابعون يقرءون دون تدبر لما يقرءونه، بل كانوا يتفهمون القراءة، ويوجهون معناها.
__________
الشاذة اقتداء بشيوخهم من الصحابة، لا سيما زيد بن ثابت، فإن زيدا لم يرو عنه في هذا الكتاب إلا ست روايات، في حين بلغ عن ابن مسعود (304) روايات، وعن ابن عباس (140) رواية، وعن علي بن أبي طالب (76) رواية، ولذا فإن ابن المسيب، والقرظي، وزيد، من أقل التابعين في ذلك.
(1) شعب الإيمان (2/ 422) 2273، وتفسير الطبري (1/ 54) 56.
(2) غاية النهاية (1/ 29)، تاريخ الإسلام (ح 96هـ / 283).(2/762)
فعن مجاهد أنه قرأ {وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} (1) فنصبها، وقال رجع إلى الغسل (2).
وقرأ زر بن حبيش قوله تعالى: {وَمََا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ} (3) فقرأها بالظاء (بظنين) ثم قال: في قراءتنا بمتهم (4)، ومن قرأها (بضنين) يقول: ببخيل (5).
وكان الشعبي يقرأ، (ولا نكتم شهادة آلله إنا إذا لمن الآثمين) (6).
قال ابن جرير: وكأن الشعبي وجه معنى الكلام إلى أنهما يقسمان بالله لا نشتري به ثمنا، ولا نكتم شهادة عندنا، ثم ابتدأ يمينا باستفهام (7)، وهذا ليس معناه أنه صح عن الشعبي معنى فقرأ به دون أن يتلقاه، حاشاه ذلك، بل المراد أن هذا اختياره مما ورد القراءة به لنظرته إلى هذا المعنى دون ذاك، والله أعلم.
ومن ذلك أيضا ما جاء عن ابن كثير أنه سمع مجاهدا يقول في قراءة ابن مسعود (له أصحاب يدعونه إلى الهدى بيّنا) (8) قال: الهدى الطريق إنه بين (9)، وهذا توجيه منه لصحة القراءة بزيادة البينة.
وفي قوله تعالى: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ} (10)، قرأ عكرمة (يطوقونه) قال:
__________
(1) سورة المائدة: آية (6)، قرأ نافع، وابن عامر، والكسائي، وحفص، بالنصب، وقرأ الباقون بالخفض، ينظر الكشف (1/ 406)، والسبعة (242)، وسراج القاري (198).
(2) تفسير الطبري (10/ 57) 1470.
(3) سورة التكوير: آية (24).
(4) البحر المحيط (8/ 435)، وإعراب القرآن للنحاس (5/ 163)، والدر المنثور (8/ 435).
(5) تفسير الطبري (30/ 82)، والدر المنثور (8/ 435).
(6) سورة المائدة: آية (106).
(7) تفسير الطبري (11/ 178)، وزاد المسير (2/ 448).
(8) سورة الأنعام: آية (71).
(9) تفسير الطبري (11/ 455) 31431، والبحر المحيط (4/ 158)، وتفسير القرطبي (7/ 14).
(10) سورة البقرة: آية (184).(2/763)