مقدمة الطبعة الثانية
هذا كتاب عن تأريخ القرآن الكريم، تسبق هذا التاريخ كلمة عن حياة الرسول، صلّى الله عليه وسلّم.
وقد صدرت منه الطبعة الأولى سنة 1384هـ (1964م)، أى منذ نحو من ستة عشر عاما، ولقد كنت حريصا على أن أعيد طبعه بعد نفاد طبعته الأولى منذ أعوام، ولكن الأيام سوّفت.
وها أنا ذا أقدمه في طبعته الثانية لكل من هم معنيون بالدراسات الإسلامية، بعد أن نظرت فيه نظرة صحّحت ما كان قد وقع في طبعته الأولى من هنات، وبعد أن زدت فى هذه الطبعة الثانية كثيرا.
وعساى، بما فعلت أولا وثانيا، أن أكون قد أدّيت واجبا للتّراث العربى الإسلامي.
والله ولى التوفيق؟
إبراهيم الأبيارى القاهرة:
جمادى الثانية سنة 1401هـ أبريل سنة 1981م(1/5)
جمادى الثانية سنة 1401هـ أبريل سنة 1981م
مقدمة الطبعة الأولى
رسالة ورسول تلقّتهما الجزيرة العربية منذ أربعة عشر قرنا، فبادهتهما بالتأبّى أولا، ثم لم يمض غير قليل حتى تفتّحت لهما القلوب ليّنة طيّعة، وإذا عداة الرسالة حماة الرسالة، وإذا خصوم الرسول يستأمرون بأمر الرسول، وإذا هم داعون لهما فى مشارق الأرض ومغاربها.
وإذا مع البيئة العربية بيئات وبيئات تؤمن بتلك الرسالة وتؤمن بذلك الرسول، وإذا رسالة هذا الرسول يستظل بظلّها اليوم نحو من أربعمائة مليون ينتشرون فى أنحاء العالم شرقا وغربا وشمالا وجنوبا، يحفظ عليهم هذه الرسالة الكريمة قرآن كريم فيه بيان وتفصيل.
ولم يكن شىء أحبّ إلى المسلم من أن يعرف رسوله، ويعرف هذا الكتاب الجامع لرسالته من أجل هذا شغف المسلمون منذ أن عرفوا الإسلام بجمع كلّ ما يتّصل بالرسول، ثم مضوا يتدارسون هذا الذى جمعوه، يفيضون فيه ويستوعبون، كما جمعوا حول القرآن دراسات وعلوما تجلّ عن أن تحصى، وتكثر عن أن تعدّ.
وأصبح عزيزا أن تجد فى خضمّ هذا الفيض المستوعب كلمات عن الرسول مجموعات، تصلك بحياته صلّى الله عليه وسلّم فى إيجاز جامع، يعلو عن الاختصار المفوّت، ويهبط عن الاسترسال المشتّت.
كما أصبح عزيزا أن تجد بين هذه الكثرة الكثيرة من علوم القرآن كتابا يلخص لك هذا كلّه فى يسر، ويلمّ به فى غير عسر.
وقل أن تجد من ناشئتنا اليوم بعد أن بعدت بهم ثقافتهم شيئا ما من يملك أن يجيب نفسه بله سائله عن الكثير ممّا يتّصل بالرسول ورسالته.(1/7)
كما أصبح عزيزا أن تجد بين هذه الكثرة الكثيرة من علوم القرآن كتابا يلخص لك هذا كلّه فى يسر، ويلمّ به فى غير عسر.
وقل أن تجد من ناشئتنا اليوم بعد أن بعدت بهم ثقافتهم شيئا ما من يملك أن يجيب نفسه بله سائله عن الكثير ممّا يتّصل بالرسول ورسالته.
لهذا أردت أن أقدّم هذا الكتاب ألخّص فيه شيئين:
1 - حياة الرسول، صلّى الله عليه وسلّم، تلخيصا يقف عند الإجمال الجامع، ولا يعرض للتّفصيل المشتّت.
2 - وأن أجعل هذا تمهيدا لتلخيص ثان ميسّر مبيّن، يجمع كلّ ما يتّصل بالقرآن الكريم.
وإنّ الحرص الذى جمع السلف على قراءة هذه المطوّلات لواجد حرصا مثله سوف يجمع الخلف على قراءة هذه المختصرات، فالناس بخير، ما علموا فإن هم جهلوا ضلّوا، وما أرغب الناس عن أن يجهلوا فيضلّوا، وهم يملكون أن يعلموا فيسلموا.
وأرجو أن أكون بالذى صنعت قد وفّيت وأرضيت.
إبراهيم الأبيارى القاهرة: شعبان 1384هـ ديسمبر 1964م(1/8)
إبراهيم الأبيارى القاهرة: شعبان 1384هـ ديسمبر 1964م
الباب الأوّل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم(1/9)
1 - رسول الله
هو: محمد بن عبد الله بن عبد المطلب «شيبة» بن هاشم «عمرو» ابن عبد مناف «المغيرة» بن قصىّ «زيد» بن كلاب بن مرّة بن كعب ابن لؤىّ بن غالب بن فهر بن مالك بن النّضر بن كنانة بن خزيمة ابن مدركة «عامر» بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان.
إلى هنا ينتهى النّسب الصّحيح، وما فوق ذلك فهو من صنع النسّابين.
وقد حكى عن النبى صلّى الله عليه وسلّم أنه كان إذا انتسب لم يتجاوز فى نسبه عدنان ثم يمسك ويقول: كذب النسّابون.
وأمه: آمنة بنت وهب بن عبد مناف بن زهرة بن كلاب بن مرّة ابن كعب بن لؤىّ بن غالب بن فهر.
يلتقى نسبها مع نسب أبيه، صلّى الله عليه وسلّم، عند جدّهما الأعلى:
كلاب بن مرّة.
ولقد مات أبوه عبد الله بالمدينة، وأمّه حامل به لشهرين، وكان قد خرج فى تجارة، فمرض، فعرّج بالمدينة يلم بأخواله من بنى النجّار.
فأقام عندهم شهرا، مات بعده، عن خمسة وعشرين عاما.
فلقد كان هاشم بن عبد مناف قدم المدينة، فتزوج سلمى بنت عمرو، أحد بنى عدى بن النجّار.
فولدت لهاشم: شيبة، فتركه هاشم عندها حتى كان وصيفا، أى غلاما دون المراهقة، أو فوق ذلك.
ثم خرج إليه عمّه المطلب ليقبضه فيلحقه ببلده وقومه، وكانت مشادّة بين الأم والعم، انتهت برضى الأم، وأذنت لابنها أن يرحل مع عمّه.(1/11)
فولدت لهاشم: شيبة، فتركه هاشم عندها حتى كان وصيفا، أى غلاما دون المراهقة، أو فوق ذلك.
ثم خرج إليه عمّه المطلب ليقبضه فيلحقه ببلده وقومه، وكانت مشادّة بين الأم والعم، انتهت برضى الأم، وأذنت لابنها أن يرحل مع عمّه.
فاحتمله المطلب، ودخل به مكة مردفه معه على بعيره، فقالت قريش: عبد المطلب ابتاعه، فبها سمّى شيبة: عبد المطلب.
فقال المطلب: ويحكم! إنما هو ابن أخى هاشم، قدمت به من المدينة.
ومن هنا كانت هذه الخؤولة (1).
وكان مولده، صلّى الله عليه وسلم، يوم الاثنين التاسع من شهر ربيع الأول. عام الفيل (2) «20أبريل 571»، على الصحيح (3)، بالدّار التى عند الصّفا (4)، والتى كانت بعد لمحمد بن يوسف أخى الحجّاج، وقد بنتها زبيدة مسجدا حين حجّت.
وكانت قابلته، التى نزل على يديها: الشّفاء، أم عبد الرحمن بن عوف.
وأرضعته امرأة من بنى سعد بن بكر بن هوازن، يقال لها: حليمة بنت أبى ذؤيب.
واسم أبيه فى الرّضاعة: الحارث بن عبد العزّى، من بنى سعد بن بكر بن هوازن.
__________
(1) السيرة لابن هشام (1: 145144) طبعة الحلبى.
(2) رسالة محمود حمدى الفلكى (1033هـ) الترجمة العربية طبعة بلاق سنة 1889م.
(3) وفد الفيل لسبع عشرة ليلة خلت من المحرم سنة ثمانمائة واثنتين وثمانين للاسكندر، وسنة عشر ومائتين من تاريخ العرب الذى أوله حجة الغدر، وسنة أربع وأربعين من ملك أنوشروان (البدء والتاريخ: 4: 132).
(4) الصفا: جبل بين بطحاء مكة والمسجد.(1/12)
وكان إخوته من الرّضاعة: عبد الله بن الحارث، وأنيسة بنت الحارث، والشّيماء حذافة بنت الحارث.
وكانت حليمة بنت أبى ذؤيب تحدّث:
أنها خرجت من بلدها مع زوجها، وابن لها صغير ترضعه، فى نسوة من بنى سعد بن بكر، تلتمس الرّضعاء.
قالت حليمة: وكان ذلك فى سنة شهباء لم تبق لنا شيئا، ومعنا شارف (1) لنا، والله ما تبضّ (2) بقطرة، وما ننام ليلنا أجمع من صبيّنا الذى معنا، من بكائه من الجوع، ما فى ثديى ما يغنيه، وما فى شارفنا ما يغذيه.
وتقول: حتى قدمنا مكة نلتمس الرّضعاء، فما منّا امرأة إلا وقد عرض عليها رسول الله، صلّى الله عليه وسلم، فتأباه، إذا قيل لها: إنه يتيم، وذلك أننا إنما كنا نرجو المعروف من أبى الصبى، فكنا نقول: يتيم، وما عسى أن تصنع أمه أو يصنع جده! وكنا نكرهه لذلك.
فما بقيت امرأة قدمت معى إلا أخذت رضيعا غيرى.
فلما أجمعنا الانطلاق قلت لصاحبى: والله إنى لأكره أن أرجع من بين صواحبى ولم آخذ رضيعا، والله لأذهبن إلى ذلك اليتيم فلآخذنه.
قال: لا عليك أن تفعلى، عسى الله أن يجعل لنا فيه بركة.
__________
(1) شارف: ناقة مسنة.
(2) تبض: ترشح.(1/13)
قالت: فذهبت إليه فأخذته، وما حملنى على ذلك إلا أنى لم اجد غيره.
ثم قالت: فلما أخذته رجعت به إلى رحلى، فلما وضعته فى حجرى أقبل عليه ثدياى بما شاء من لبن، فشرب حتى روى، وشرب معه أخوه حتى روى، ثم ناما، وقام زوجى إلى شارفنا تلك فإذا إنها لحافل، فحلب منها ما شرب، وشربت معه حتى انتهينا ريّا وشبعا، فبتنا بخير ليلة.
قالت: يقول صاحبى، حين أصبحنا: فاعلمى والله يا حليمة لقد أخذت نسمة مباركة.
قالت: فقلت: والله أنى لأرجو ذلك.
قالت: ثم قدمنا منازلنا من بنى سعد، وما أعلم أرضا من أرض الله أجدب منها، فكانت غنمى تروح علىّ لبّنا حين قدمنا به معنا شباعا، فنحلب ونشرب.
فلم نزل نتعرف من الله الزيادة والخير حتى مضت سنتاه ففصلته، فقدمنا به على أمه، ونحن أحرص شىء على مكثه فينا، لما كنا نرى من بركته (1).
وحين بلغ محمد ستّ سنين توفيت أمه آمنة بنت وهب بالأبواء موضع بين مكة والمدينة وعمرها ثلاثون عاما.
__________
(1) السيرة لابن هشام (1: 173171).(1/14)
فحملته أم أيمن، وهى خاضنته ومولاة أبيه، إلى مكة.
فكان فى حجر عبد المطلب (1).
وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلم مع جده عبد المطلب بن هاشم، وكان يوضع لعبد المطلب فراش فى ظل الكعبة، فكان بنوه يجلسون حول فراشه ذلك حتى يخرج إليه، لا يجلس عليه أحد من بنيه إجلالا له.
فكان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يأتى وهو غلام حتى يجلس عليه، فيأخذه أعمامه ليؤخّروه عنه، فيقول عبد المطلب، إذا رأى ذلك منهم:
دعوا ابني، فو الله إن له لشأنا، ثم يجلسه معه على الفراش، ويمسح ظهره بيده، ويسره ما يراه يصنع (2).
وبعد وفاة آمنة بسنتين توفى جده عبد المطلب، وكان يكفله، وعمر محمد عندها ثمانى سنين.
فكان محمد بعد وفاة جدّه عبد المطلب مع عمّه أبى طالب. وأبو طالب وعبد الله أبو رسول الله أخوان لأب وأم، وأمهما: فاطمة بنت عمرو ابن عائذ بن عمران بن مخزوم.
ولقد كان لعبد المطلب من الأولاد عشرة نفر وستّ نسوة:
العباس، وحمزة، وعبد الله، وأبو طالب واسمه عبد مناف
__________
(1) البدء والتاريخ للبلخى (4: 133).
(2) السيرة لابن هشام (1: 178).(1/15)
والزّبير، وهو أكبر أعمام النبى، صلّى الله عليه وسلم، وهو الذى كان يرقصه ويقول:
محمد بن عبدم ... عشت بعيش أنعم
والحارث، وحجل، والمقوّم، وضرار، وأبو لهب، واسمه عبد العزّى، وكنّى أبا لهب، لإشراق وجهه.
ثم صفية، وأم حكيم البيضاء، وعاتكة، وأميمة، وأروى، وبرّة.
وكانت أم عبد الله وأبى طالب، كما قلت قبل، والزّبير، وجميع النساء غير صفيّة: فاطمة بنت عمرو بن عائذ بن عمران بن مخزوم (1).
ثم إن أبا طالب خرج فى ركب تاجرا إلى الشام، فلما تهيأ للرحيل، وأجمع المسير، تعلق به رسول الله، صلّى الله عليه وسلم، فلما تهيأ للرحيل، وأجمع المسير، تعلق به رسول الله، صلّى الله عليه وسلم، فرقّ له أبو طالب، وقال: والله لأخرجن به معى ولا يفارقنى ولا أفارقه أبدا، فخرج به معه، فلما نزل الرّكب بصرى، من أرض الشام، وبها راهب يقال له:
بحيرى، فى صومعة له، وكان إليه علم أهل النصرانية، فلما نزلوا به قريبا من صومعته، صنع لهم طعاما، وكان رأى رسول الله، صلّى الله عليه وسلم، وهو فى صومعته، وغمامة تظله بين القوم، فلما رأى ذلك بحيرى نزل من صومعته، ثم أرسل إليهم: إنى قد صنعت لكم طعاما يا معشر قريش، وأنا أحب أن تحضروا كلكم، صغيركم وكبيركم.
ولما رأى بحيرى رسول الله، صلّى الله عليه وسلم، جعل يلحظه لحظا شديدا، وينظر إلى أشياء من جسده، قد كان يجدها عنده من صفته.
__________
(1) السيرة لابن هشام (1: 115113).(1/16)
فلما فرغ أقبل على عمّه أبى طالب، فقال له: ما هذا الغلام منك؟
قال: ابني.
قال له بحيرى: ما هو بابنك، وما ينبغى لهذا الغلام أن يكون أبوه حيّا: قال أبو طالب: إنه ابن أخى. قال بحيرى: فما فعل أبوه؟ قال أبو طالب: مات وأمه حبلى به. قال بحيرى: صدقت، فارجع بابن أخيك لى بلده، فإنه كائن لابن أخيك هذا شأن عظيم (1).
وحين بلغ محمد أربعة عشر عاما أو خمسة عشر كانت حرب الفجار، بين قريش ومن معهم من كنانة، وبين قيس عيلان. ولقد شهد محمد بعض أيامها، أخرجه أعمامه معهم ينبل عليهم، أى يرد عليهم نبل عدوهم إذا رموهم به.
وسميت هذه الحرب: حرب الفجار، وكانت وقعات، لما صنعوا فيها من الفجور فى الشهر الحرام، وذلك أن النعمان بن المنذر، عامل أبرويز على الحيرة، كان يبعث كل سنة بلطيمة (2) إلى سوق عكاظ، فى جوار رجل من العرب، فلما كان فى هذه السنة، قال: من يجير هذه العير؟ قال عروة الرّحال بن عقبة بن جعفر بن كلاب بن ربيعة بن عامر ابن صعصعة بن معاوية بن بكر بن هوازن: أنا أيها الملك. فقال له البرّاض ابن قيس، أحد بنى ضمرة بن بكر بن عبد مناة بن كنانة: أتجيرها على كنانة؟ قال: نعم، وعلى الخلق جميعا.
__________
(1) السيرة لابن هشام (1: 195191).
(2) اللطيمة: الجمال التى تحمل التجارة.(1/17)
فسلّم النعمان اللطيمة إلى عروة، وتبعه البرّاض يطلب غفلته، حتى إذا كان بتيمن ذى طلال (1) أصاب فرصة من عروة، فوثب عليه وقتله فى الشهر الحرام.
وتسامع الناس به، فخرجت كنانة وقريش يطلبون بثأر عروة، وخرجت قيس عيلان لأجل البراض، واقتتلوا قتالا شديدا بعكاظ فى الشهر الحرام، ثم تحاجزوا وتداعوا إلى الصلح.
ثم اجتمعت قريش بدار عبد الله بن جدعان، وتحالفوا على أن يكونوا يدا واحدة حتى يأخذوا للمظلوم حقه، فسمّته قريش: حلف الفضول.
ولقد شهده رسول الله، صلّى الله عليه وسلم، وفيه يقول: لقد شهدت فى دار عبد الله بن جدعان ما أحبّ أنّ لى به حمر النعم (2)، ولو أدعى به فى الإسلام لأجبت (3).
ولما بلغ محمد خمسة وعشرين عاما تزوّج خديجة بنت خويلد ابن أسد بن عبد العزّى بن قصىّ، بن كلاب بن مرّة، يلتقى نسبها مع نسبه فى جدّهما الأعلى قصىّ، كما يلتقى نسبها مع نسب أمه آمنة فى كلاب بن مرّة.
وكانت خديجة أول امرأة تزوجها محمد، ولم يتزوج غيرها حتى ماتت.
__________
(1) تيمن ذو طلال: واد إلى جانب فدك (معجم البلدان).
(2) أى لا أحب نقضه وإن وضع حمر النعم فى مقابل ذلك.
(3) البدء والتاريخ (4: 13715).(1/18)
وقد عرفت خديجة محمدا حين خرج فى تجارة لها إلى الشام فى رحلته الثانية، مع غلامها ميسرة. وكانت رحلته الأولى إلى الشام حين خرج مع عمّه أبى طالب، وسنّه اثنا عشر عاما، حدّثها ميسرة عن صدقه وأمانته فرغبت فيه وسعت إلى الزواج منه.
وولدت خديجة لمحمد أولاده كلّهم، إلا إبراهيم، فإنه من مارية القبطيّة، فولدت له القاسم، وبه كان يكنى، والطّيب «الطاهر»، ورقية، وزينب، وأم كلثوم، وفاطمة.
ومات القاسم والطّيب فى الجاهلية. وأدركت بناته كلهن الإسلام وأسلمن.
وحين بلغ محمد خمسة وثلاثين أخذت قريش فى تجديد بناء الكعبة، وكانت قد أصابها حريق، ومن بعد الحريق سيل. وحين بلغت قريش موضع الحجر الأسود اختلفوا فيمن يكون له الشّرف فى وضعه موضعه، وكاد الخلاف يثير بينهم حربا، ثم انتهوا إلى أن يكون الفصل بينهم إلى أوّل داخل عليهم من باب بنى شيبة. وكان محمد أول داخل عليهم من هذا الباب. فارتضوه حكما فيما شجر بينهم، فبسط محمد رداءه ووضع الحجر عليه، وأمر كلّ قبيلة أن تأخذ بطرف من أطراف الرّداء، حتى إذا ما استووا رفع الحجر بيديه ووضعه مكانه.
ولقد عرفت قريش محمدا صبيّا فلم تعهد عليه ما تعهد مثله على الصّبيان من إسفاف أو تدنّ، وعرفته يافعا فلم تعدّ له نزوة أو زلّة، ثم عرفته زوجا فى سنّ مبكرة، فعرفته أطهر الأزواج ذيلا.
وهو منذ أن درج بين أهله ووعى كان الصادق الأمين، لا يقول إلا
صدقا، ولا يعطى أو يأخذ، إلا أمينا حين يعطى، أمينا حين يأخذ.(1/19)
وهو منذ أن درج بين أهله ووعى كان الصادق الأمين، لا يقول إلا
صدقا، ولا يعطى أو يأخذ، إلا أمينا حين يعطى، أمينا حين يأخذ.
أمينا حين يستشار ويشير، والنفس إن ملكت الصّدق والأمانة ملكت ما بعدهما من كل ما هو محمود من الصّفات، وهكذا كان محمد قبل أن يبعثه الله رسولا.
ولقد حبّب إلى محمد التّحنّث والتّحنّف، شأن الصادفين عن متاع الحياة، العازفين عن لينها المفضى إلى الاستنامة إليها، فكان يعتكف فى حراء جبل من جبال مكة على ثلاثة أميال منها شهرا من كل سنة، يجعله خالصا لعبادة ربه، على ما رسم إبراهيم، ومن بعده إسماعيل، عليهما السلام.
وبقى محمد على هذا الذى أخذ به نفسه، يختلف إلى غار حراء، شهرا من كل عام، إلى أن كانت السنة التى اختاره الله فيها رسولا لرسالته، وكان عندها فى الأربعين من عمره.(1/20)
وبقى محمد على هذا الذى أخذ به نفسه، يختلف إلى غار حراء، شهرا من كل عام، إلى أن كانت السنة التى اختاره الله فيها رسولا لرسالته، وكان عندها فى الأربعين من عمره.
2 - الجزيرة العربية قبل الرسالة
ولننظر فيما كانت عليه الجزيرة العربية قبل رسالة محمد:
فإلى الغرب والشّمال من الجزيرة العربية كانت المملكة البيزنطيّة «الروم»، وفى يديها مصر والشام، وإلى الشرق والجنوب من الجزيرة العربية كانت مملكة الفرس، وفى يديها العراق واليمن، وكلتا المملكتين كانت طامعة فى السّيطرة على الجزيرة العربية، وكانت بينهما بسبب ذلك حروب طاحنة، امتدت حقبة طويلة.
ولقد أظلّ الإسلام الجزيرة والحرب قائمة، لم تخمد نارها إلا مع العام الثامن والثلاثين بعد السّتمائة.
وحين أخفق الرّوم فى بسط نفوذهم على الجزيرة حربا أخذوا ينفذون إليها سلما، فمدّوا أيديهم إلى الغساسنة فى شمالى الجزيرة، يجعلون منهم أعوانهم على هذا الغزو السّلمى وكما فعل الرّومان فعل الفرس، فإذا هم الآخرون يمدون أيديهم إلى المناذرة، ملوك الحيرة فى الشرق، يجعلون منهم أعوانهم على الوقوف أمام الغزو الرّومانى.
وإذ كان الرّوم نصارى لقن الغساسنة طرفا من النّصرانيّة، وإذ كان الفرس مجوسا أخذ المناذرة بطرف من المجوسية، وإذا النّصرانية تعرف طريقها إلى الجزيرة العربية عن طريق الشام، كما التمست المجوسيّة طريقها إلى الجزيرة العربية عن طريق الحيرة. وإذا الحرب التى كان يلتقى فيها السيف بالسيف تصبح وقد التقى فيها الرّأى بالرّأى، يقف المجوس، ومن ورائهم اليهود، للنّصارى، ويقف النّصارى للمجوس واليهود، والجزيرة تشهد هذا الصراع فى الرّأى فتشارك فيه، موزّعة بين
المجوسية واليهودية والنّصرانية، ويزيد البيئة العربية توزّعا توزع اليهود إلى ربّانيين وقرّائين وسامريّين، وتوزّع النّصارى إلى يعاقبة ونساطرة وأريوسيين، هذا إلى توزّع الجزيرة العربية توزعا آخر بين عبادة الكواكب وعبادة الأصنام، وإذا العرب أوزاع فى الرّأى، أشتات فى الفكر.(1/21)
وإذ كان الرّوم نصارى لقن الغساسنة طرفا من النّصرانيّة، وإذ كان الفرس مجوسا أخذ المناذرة بطرف من المجوسية، وإذا النّصرانية تعرف طريقها إلى الجزيرة العربية عن طريق الشام، كما التمست المجوسيّة طريقها إلى الجزيرة العربية عن طريق الحيرة. وإذا الحرب التى كان يلتقى فيها السيف بالسيف تصبح وقد التقى فيها الرّأى بالرّأى، يقف المجوس، ومن ورائهم اليهود، للنّصارى، ويقف النّصارى للمجوس واليهود، والجزيرة تشهد هذا الصراع فى الرّأى فتشارك فيه، موزّعة بين
المجوسية واليهودية والنّصرانية، ويزيد البيئة العربية توزّعا توزع اليهود إلى ربّانيين وقرّائين وسامريّين، وتوزّع النّصارى إلى يعاقبة ونساطرة وأريوسيين، هذا إلى توزّع الجزيرة العربية توزعا آخر بين عبادة الكواكب وعبادة الأصنام، وإذا العرب أوزاع فى الرّأى، أشتات فى الفكر.
يمسك كلّ بما يحلو له ويطيب، وإذا هم قد نبذوا الكثير ممّا توارثوه من شريعة إبراهيم وإسماعيل، لا يستمسكون منها إلا ببقيّة قليلة كانت تتمثل فى تعظيم الكعبة والحج إلى مكة، وإذا هم بعد هذا أمة أضلّتها الضّلالات، واستهوتها الموبقات، واستحوذت على عقولها الخرافات. تذلّ للأصنام، وتستنيم للكهّان، وتستملى الأزلام، وإذا أخلاقها تراق، تهون على موائد الخمر والميسر، وإذا عدلها يفوّته عليها بغى الأقوياء، وإذا أمنها ليس لها منه إلا هباء.(1/22)
يمسك كلّ بما يحلو له ويطيب، وإذا هم قد نبذوا الكثير ممّا توارثوه من شريعة إبراهيم وإسماعيل، لا يستمسكون منها إلا ببقيّة قليلة كانت تتمثل فى تعظيم الكعبة والحج إلى مكة، وإذا هم بعد هذا أمة أضلّتها الضّلالات، واستهوتها الموبقات، واستحوذت على عقولها الخرافات. تذلّ للأصنام، وتستنيم للكهّان، وتستملى الأزلام، وإذا أخلاقها تراق، تهون على موائد الخمر والميسر، وإذا عدلها يفوّته عليها بغى الأقوياء، وإذا أمنها ليس لها منه إلا هباء.
3 - الإرهاص بميلاد الرسول
وشخصت أبصار القلّة الواعية من رجالات الجزيرة الرّاشدين إلى السماء، تنشد العون وتستمطر الرّحمة، وجمعت البلبلة الفكرية بين أربعة من هذه القلّة الواعية هم: ورقة بن نوفل، وعبيد الله بن جحش، وعثمان بن الحويرث، وزيد بن عمرو بن نفيل ينظرون لأنفسهم ولأمتهم، فما انتهوا إلى رأى، ولا أجمعوا على ما يختارون، وإذا هم أشتات حين انفضّوا، كما كانوا أشتاتا حين اجتمعوا، لم يقرّوا على شىء، لأن الأمر كان أجلّ من أن يحمل عبأه غير رسول مؤيّد من السماء.
وكانت الإرهاصات تشير إلى ميلاد هذا الرسول، وإلى أن هذا الرّسول هو محمد.
فلقد سعدت مرضعته حليمة به، وانتقلت من شقاوة إلى نعيم، ومن شدّة إلى لين، ولقد شبّ لا يأخذ فيما يأخذ فيه لداته من لعب، وما عهدت عليه كذبة ولا زلة، وما عكف على صنم، ولا شرب خمرا، ولا وضع يده فى ميسر، ولا استنام لترّهة، ولا شارك فى قبيحة بل عاش عفّا صادقا أمينا حليما رحيما، تجر لخديجة قبل أن يصبح لها زوجا فبهرتها أمانته، ورأى للقرشيّين حين اختلفوا فى وضع الحجر، وكادت تثور بينهم الحرب، فكان نعم الرّائى، ونفر ممّا كانت تفعله العرب من وأد لبناتهم، وكان حربا عليه، واشمأز ممّا كانت تستمتع به العرب من موبقات، وكان حربا على نفسه قبل أن يكون حربا عليهم، وحين برز بهذه الصفات فى بيئته، وبين قومه، برز الناظرون فى الكتب المقدّسة
يعرضون ما يجدونه مكتوبا على ما يجدونه مرئيا ومسموعا، فإذا هم يرون فى محمد، هذا الرسول المرتقب.(1/23)
فلقد سعدت مرضعته حليمة به، وانتقلت من شقاوة إلى نعيم، ومن شدّة إلى لين، ولقد شبّ لا يأخذ فيما يأخذ فيه لداته من لعب، وما عهدت عليه كذبة ولا زلة، وما عكف على صنم، ولا شرب خمرا، ولا وضع يده فى ميسر، ولا استنام لترّهة، ولا شارك فى قبيحة بل عاش عفّا صادقا أمينا حليما رحيما، تجر لخديجة قبل أن يصبح لها زوجا فبهرتها أمانته، ورأى للقرشيّين حين اختلفوا فى وضع الحجر، وكادت تثور بينهم الحرب، فكان نعم الرّائى، ونفر ممّا كانت تفعله العرب من وأد لبناتهم، وكان حربا عليه، واشمأز ممّا كانت تستمتع به العرب من موبقات، وكان حربا على نفسه قبل أن يكون حربا عليهم، وحين برز بهذه الصفات فى بيئته، وبين قومه، برز الناظرون فى الكتب المقدّسة
يعرضون ما يجدونه مكتوبا على ما يجدونه مرئيا ومسموعا، فإذا هم يرون فى محمد، هذا الرسول المرتقب.
فلقد جاء على لسان موسى فى وصيته ما يبشّر بعيسى، ثم بمحمد من بعده، حين قال: «جاء الربّ من سيناء، وأشرق من ساعير، واستعلن من فاران».
والمراد بساعير: جبال فلسطين حيث ظهر عيسى، وبفاران مكة (1).
وفى الإصحاح الثامن عشر من سفر التثنية (الآية: 15): إن الله تعالى قال لموسى عليه السلام: «قل لبنى إسرائيل إنى أقيم لهم آخر الزمان نبيّا مثلك من بنى إخوتهم».
ولقد جاء بعد موسى عيسى، وهو من بنى إسرائيل، وكان مقتضى قول الرب لموسى أن يكون ثمّة نبىّ مرتقب بعد عيسى. ولقد كان محمد من ولد إسماعيل، وإسماعيل أخو إسحاق، وإسحاق جد بنى إسرائيل، فإخوتهم هم بنو إسماعيل.
تزكّى هذه الآية (18) من الإصحاح (25) تكوين: «وسكنوا أى أبناء إسماعيل من حويلة إلى شور التى أمام مصر حينما تجىء نحو آشور أمام جميع إخوته نزل».
كما تزكيه الآية (12) من الإصحاح (16) تكوين: «وأمام إخوته يسكن».
__________
(1) انظر معجم البلدان لياقوت. صفة جزيرة العرب للهمدانى. الإعلام بأعلام بيت الله الحرام للنهروانى.(1/24)
ثم جاء على لسان يوحنا حكاية عن المسيح (ص 14ف 15) و (ص 16ف 5) ما يشير إلى إتيان (الفارقليط). ومعنى الفارقليط: الكثير الحمد. وهذا المعنى هو ما تعطيه كلمة «أحمد» التى هى من أسماء النبى.
وجاء فى كتاب الرؤيا المنسوب إلى يوحنا الإنجيلى (ص 11ف 11):
«ثم رأيت السماء مفتوحة وإذا فرس أبيض والجالس عليه يدعى أمينا صادقا وبالعدل يحكم».
ولقد دعى محمد: الأمين الصادق.
وجاء فى رؤيا يوحنا اللاهوتى (ص 19ف 15): «ومن فمه يخرج سيف ماض لكى يضرب به الأمم وهو يدوس معصرة خمر».
والقرآن الكريم فى مضاء السيف، أذعنت له الأمم، ومحمد حرّم الخمر، وما حرمها عيسى، فلقد روى أنه صير الماء خمرا فى عرس قانا، كما حكى عنه أنه قال عن الخمر: إنها دمه (1).
__________
(1) انظر كتاب: البشارات التى جاءت عن رسول الله فى العهدين، لمؤلفه رحمة الله الهندى.(1/25)
4 - رسالة محمد صلّى الله عليه وسلم
وهكذا كان محمد، حين دبّت قدماه على أرض مكة من الجزيرة العربية، محطّ الأبصار، وشغل الأفكار، حاطه ربّه باليمن وليدا، إيذانا منه لعباده بما سيؤهّله له، وصانه عن اللهو العابث صبيّا ليرتفع به عما يتدنّى فيه غيره، كى يمهّد لإجلاله، وأجرى الصّدق على لسانه، وبسط بالأمانة يديه، وملأ بالرحمة قلبه، وبالحكمة رأسه، ليرى الناس فيه ما يفقدون من صفات، فيلتفّوا حوله اليوم تمهيدا لالتفافهم حوله فى غد.
وحين استوى محمد شابّا، واستوت باستوائه صفات الكمال كلها فيه، رأى الناس أنهم بين يدى عجب استعصى على عامتهم تأويله، ولم يستعص على خاصتهم من أولى الكتاب، فعرفوا أنه النبىّ المرتقب.
ومضى محمد فى طريقه المرسوم، يهيئه الله لتلقّى ما سوف يوحى به إليه.
فغدا لا يرى فى منامه رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصّبح، وغدت الخلوة محبّبة إلى نفسه، يقضى فى غار حراء الليالى ذوات العدد خاليا لعبادته، ولا يعود إلى أهله إلا لكى يتزوّد لمثلها.
وفيما كان محمد فى غار حراء، خاليا يتحنّث، تمثّل له جبريل يحمل إليه الوحى من ربه ويؤذنه بدعوة قومه إلى الله الواحد الأحد، وترك عبادة الأوثان.
وكان ابتداء الوحى فى شهر رمضان وفى السابع عشر منه (1). يشير إلى الأولى قوله تعالى فى سورة البقرة: {شَهْرُ رَمَضََانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} (2)، ويشير إلى الثانية قوله تعالى فى سورة الأنفال: {إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللََّهِ وَمََا أَنْزَلْنََا عَلى ََ عَبْدِنََا يَوْمَ الْفُرْقََانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعََانِ} (3).(1/26)
وفيما كان محمد فى غار حراء، خاليا يتحنّث، تمثّل له جبريل يحمل إليه الوحى من ربه ويؤذنه بدعوة قومه إلى الله الواحد الأحد، وترك عبادة الأوثان.
وكان ابتداء الوحى فى شهر رمضان وفى السابع عشر منه (1). يشير إلى الأولى قوله تعالى فى سورة البقرة: {شَهْرُ رَمَضََانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} (2)، ويشير إلى الثانية قوله تعالى فى سورة الأنفال: {إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللََّهِ وَمََا أَنْزَلْنََا عَلى ََ عَبْدِنََا يَوْمَ الْفُرْقََانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعََانِ} (3).
وكان التقاء الجمعين أعنى المسلمين والمشركين يوم بدر فى السّابع عشر من رمضان من السنة الثانية للهجرة.
وكان أوّل ما نزل عليه من الوحى: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} (4).
ولقد تلقّاه الرسول مجهودا، وانصرف به مشدوها، ووقف فى مكانه بعد خروجه من حراء ناظرا فى آفاق السماء، لا يتقدم أمامه، ولا يرجع إلى الوراء. إلى أن ارتدت إليه نفسه، وانتهى إلى خديجة وهو يحس هزّة المقرور، فقص عليها القصة.
فقالت: أبشر، فإنك تطعم الطعام، وتصل الرّحم، وتصدق الحديث، وتؤدّى الأمانة، لا يصنع الله بك إلا خيرا.
ثم جمعت عليها ثيابها وانطلقت إلى ابن عمها ورقة بن نوفل بن أسد ابن عبد العزّى بن قصىّ وكان نصرانيا قد قرأ الكتب، وقد مرّ بك أنه كان بين أربعة من القلة الواعية ذات الرأى والفكر فقصّت عليه
__________
(1) يقول البلخى فى كتابه البدء والتاريخ (4: 13): «وهو الخامس والعشرون من أبان ماه، التاسع من شباط، وذلك فى سنة عشرين من ملك أبرويز».
(2) البقرة: 185.
(3) الأنفال: 41.
(4) العلق: 1.(1/27)
خديجة الخبر، فقال: لئن كنت صدقتنى فقد جاء الناموس الأكبر الذى كان يأتى موسى بن عمران، ولئن أنا أدركت ذلك اليوم لأنصرن الله نصرا يعلمه.
ولكن ورقة بن نوفل هلك قبل إظهار النبى، صلّى الله عليه وسلم، الدعوة (1).
ثم تتامّ الوحى إلى رسول الله، صلّى الله عليه وسلم، ومضى رسول الله صلّى الله عليه وسلم، على أمر الله، على ما يلقى من قومه من الخلاف والأذى.
وآمنت به خديجة بنت خويلد وصدّقت بما جاءه من عند الله، وآزرته على أمره، وكانت أول من آمن بالله ورسوله وصدّق بما جاء منه.
وفتر الوحى فترة (2) كانت لتلك النفس البشرية المختارة بمثابة الفترة التى سبقت الوحى، وحبّب فيها إلى الرسول أن يتحنّث، فلقد هيّأ هذا التّحنّث نفس محمد لهذا التّلقّى، وقارب بها منه، وإذا هى على الرّغم من هذا التّقريب وذاك الإعداد تهتزّ لجلال ما ترى وتسمع، وإذا هى بهذا قد انتهت من مرحلة لتبدأ فى مرحلة، وإذا المرحلة الجديدة فى حاجة إلى زاد، كما كانت المرحلة الأولى فى حاجة إلى زاد، وإذا هذا الزّاد الجديد فترة يخلو فيها محمد إلى نفسه بما شاهد، يتمثّله مرة ومرة لتراح إليه روحه، وليأنس به روعه، حتى إذا ما تلقّاه بعدها تلقّاه متهيّئا له.
وهكذا كانت تلك الفترة خلوة ثانية، بعد تلك الخلوة الأولى فى
__________
(1) البدء والتاريخ (4: 143).
(2) كانت فترة الوحى أعواما ثلاثة.(1/28)
غار حراء، هيأت الأولى نفسه لتلقّى الوحى، وهيأت الثانية نفسه للأنس بالوحى.
وحرّكت فترة الوحى ألسنة أهل مكة بالقول، فاسترسلوا يقولون:
ودّعه ربّه وقلاه، يردّدها لسان الضّلال شماتة بلسان الحق، ويحاول العقل الغافل أن يخدع بها العقل الواعى، ليصرفه عن الدّعوة الجديدة.
وانضمت هذه التى خلا بها الخصوم من شماتة، إلى تلك التى خلا بها الرسول من لهفة، فإذا هو بعد هذه وتلك أحزن ما يكون على انقطاع الوحى، أشوق ما يكون إلى اتّصاله.
ومع هذا التهيّؤ الكامل لهذه النّفس البشرية المختارة، اتّصل الوحى، ونزل على محمد قوله تعالى: {وَالضُّحى ََ. وَاللَّيْلِ إِذََا سَجى ََ. مََا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمََا قَلى ََ. وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولى ََ. وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى ََ. أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى ََ. وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى ََ. وَوَجَدَكَ عََائِلًا فَأَغْنى ََ. فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلََا تَقْهَرْ. وَأَمَّا السََّائِلَ فَلََا تَنْهَرْ. وَأَمََّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} (1)، يرد على المتقوّلين.
ويقال إن رسول الله صلّى الله عليه وسلم حين سمع صوت الملك بعد تلك الفترة التى استطالها حشى رعبا، فرجع إلى أهله، فقال: زمّلونى.
فألقوا عليه قطيفة، فنزل عليه قوله تعالى: {يََا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ. قُمْ فَأَنْذِرْ} (2)
يأمره أن يكون رسول ربه إلى الناس، يدعوهم إليه وإلى الحق، ويصرفهم عن الأوثان وعن الباطل.
__________
(1) سورة الضحى: 111.
(2) المدثر: 21.(1/29)
5 - بدء الدعوة
وأخذ محمد يدعو إلى ربه، وإلى هذا الدين الجديد الذى اصطفاه ربّه له، فى بيئة قد عرفت لها إيغالها فى الباطل، واستكانتها إليه، وبين قوم أشربوا الضّلال فعاندوا عليه، فاقتضت الحكمة الحكيمة أن تأخذ الدعوة طريقها سرّا لا علانية، وخفية لا جهرا، تضمّ إليها الآنس بها، وتجمع عليها من تفتّح قلبه لها.
وكان أقرب الناس إلى الرّسول من الرّجال أبو بكر، وكان له صديقا وإلفا، ومن الصّبيان علىّ بن أبى طالب، فى ظله نشأ، وبين يديه شبّ، ومن النّساء زوجته خديجة، وكانت كالئته فى خلواته، وملاذه فى فزعاته، ومن الموالى زيد بن حارثة، وكان حبّ رسول الله، وهبته خديجة له قبل النبوة، وكان عمره إذ ذاك ثمان سنين، فأعتقه الرسول وتبنّاه، ومن العبيد بلال بن رباح الحبشىّ، وكان قريبا من أبى بكر غير بعيد عما يرى.
فكان هؤلاء جميعا أول من آمنوا بمحمد، وأول من صدّقوه.
ثم أسلم بدعوة أبى بكر: عثمان بن عفان، والزبير بن العوام، وعبد الرحمن بن عوف، وسعد بن أبى وقاص، وطلحة بن عبيد الله، جاء بهم أبو بكر إلى رسول الله، صلّى الله عليه وسلم، حين استجابوا له، فأسلموا وصلوا، وكانت الصلاة قد فرضت ركعتين.
ثم أسلم بعد هؤلاء نفر غيرهم، ودخل الناس فى الإسلام أرسالا، من الرجال والنساء.
وبقى الرسول بمن آمن معه يدعو الناس خفية، وما سلم الرسول، وما سلم من معه على الرّغم من عدم مجاهرتهم بالدّعوة من أذى كبير، حملوه راضين، حتى إذا ما أفصحت الدعوة عن نفسها شيئا، وغدت حديث البيئة، لم يكن بد من أن يقف محمد، ومن حوله القليلون المستضعفون، للناس جهرا، يدعون، بعد أن قضوا نحوا من أعوام ثلاثة يسرّون.(1/30)
ثم أسلم بعد هؤلاء نفر غيرهم، ودخل الناس فى الإسلام أرسالا، من الرجال والنساء.
وبقى الرسول بمن آمن معه يدعو الناس خفية، وما سلم الرسول، وما سلم من معه على الرّغم من عدم مجاهرتهم بالدّعوة من أذى كبير، حملوه راضين، حتى إذا ما أفصحت الدعوة عن نفسها شيئا، وغدت حديث البيئة، لم يكن بد من أن يقف محمد، ومن حوله القليلون المستضعفون، للناس جهرا، يدعون، بعد أن قضوا نحوا من أعوام ثلاثة يسرّون.
وكان هذا عن أمر الله عزّ وجلّ لرسوله بإظهار الدعوة، وهذا حيث يقول تعالى: {فَاصْدَعْ بِمََا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ} (1)، وحيث يقول تعالى: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ. وَاخْفِضْ جَنََاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ.} {وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ} (2).
وكان الصّدام بين الحق والباطل، وما جبلت النفوس الغافلة أن تخرج من غفلتها فى يسر، لا سيما إذا كانت تلك الغفلة تظلّها عقيدة، ويحميها تقليد، وكانت تلك العقيدة وذلك التقليد إرث قرون.
ومشت قريش إلى الرسول تساومه على أن يطلب ما يشاء من ملك أو سيادة أو مال، على أن يترك ما يدعو إليه، فعادوا بغير ما كانوا يأملون، ولقد كانت لهم فيها عظة لو كانوا يتدبّرون.
من أجل هذا عنف هذا الصّدام وقسا، وذاق دعاة الحق من عنفه ومن قسوته الشيء الكثير، وكان ما ذاقوا ابتلاء لهذا الحق، وابتلاء لهم،
__________
(1) الحجر: 94.
(2) الحجر: 8987.(1/31)
إذ لو كان هو زيفا ما ضمّهم إليه على عسره، ولو كانوا هم على غير اليقين به ما انضمّوا إليه حاملين ما يمرّ.
ومضى محمد يشق الطريق بمن تبعه وسط هو جاء عاصفة، يدبر للدعوة بتدبير السماء، وكان حين يصبر على الأذى يصيبه يأسى للأذى يصيب أصحابه.
فلقد كان رسولا، وكان فى عافية بمكانه من رسالته، لا يخشى أن يزلزل إيمانه بها ترغيب أو ترهيب، وكان أتباعه على حسن إيمانهم، وعظيم صبرهم، بشرا يجوز عليهم ما يجوز على البشر، مع الوعد والإيعاد، ولقد وفى أكثرهم لمعتقده، فلم يصرفه إيذاء كما لم يحوّله إعطاء، وهلك نفر منهم تحت سوط البلاء، كما لان نفر منهم فأعطوا بألسنتهم، وما نظنهم أعطوا بقلوبهم.
فلقد تتبّع مشركو مكة من يسلمون بالوان الأذى كلها لا يقصدون، فآذوهم فى أموالهم، وآذوهم فى أهليهم، وآذوهم فى أجسادهم. وعزّ على رسول الله ما يلقى أصحابه، وكانوا كلهم قد تخلّت قبائلهم عن حمايتهم، فمن كان منهم ذا بأس هابوه، ومن كان منهم مستضعفا حملوا عليه.
وهنا يرى الرسول رأيا، ويراه معه الذين استضعفوا أمرا. لقد رأى الرسول لهؤلاء أن يهاجروا إلى الحبشة، بعد أن سمع عن النجاشى عدله وإنصافه، فخرج إلى الحبشة نفر من المسلمين، على ما فى هذه الرّحلة من ألم الفراق، ووعثاء الطريق، وعذاب الغربة.
ولكن قريش لم ترض لمسلم أن يقرّ آمنا، وإن كان على أرض غير أرضه، فحين بلغهم أن المسلمين أصابوا بالحبشة دارا وقرارا،
بعثوا فى إثرهم رجلين من رجالهم، وحمّلوهما هدايا للنجاشى وبطارقته، وكاد الرجلان أن يكيدا للمسلمين عند النجاشى، ولكن النجاشى حين استمع لهما واستمع للمسلمين، ردّ الرجلين خائبين، وترك المسلمين آمنين.(1/32)
ولكن قريش لم ترض لمسلم أن يقرّ آمنا، وإن كان على أرض غير أرضه، فحين بلغهم أن المسلمين أصابوا بالحبشة دارا وقرارا،
بعثوا فى إثرهم رجلين من رجالهم، وحمّلوهما هدايا للنجاشى وبطارقته، وكاد الرجلان أن يكيدا للمسلمين عند النجاشى، ولكن النجاشى حين استمع لهما واستمع للمسلمين، ردّ الرجلين خائبين، وترك المسلمين آمنين.
ويسلم حمزة بن عبد المطلب، ويسلم عمر بن الخطّاب، وكانا رجلى بأس، ففرح لإسلامهما المسلمون، وأسى لإسلامهما المشركون، لما رأوه من انتشار الإسلام على الرّغم ممّا يفعلون، وخال المشركون أنهم لم يبلغوا فى الأذى ما يريدون، فائتمروا بينهم أن يمنعوا فى الإيذاء إلى حدّ لا يقوى المسلمون له، فكتبوا فيما بينهم كتابا تعاقدوا فيه على بنى هاشم وبنى المطلب، على أن يقطعوا ما بينهم وبينهم، فلا تكون ثمة صلات من زواج أو بيع أو شراء، غير أن ذلك لم يجد شيئا.
ويفقد الرسول نصيرين عزيزين إلى نفسه، كريمين عليه، الواحد بعد الآخر، قبل أن يهاجر إلى المدينة، بنحو من ثلاث سنين، فلقد فقد عمّه أبا طالب، وكان نعم العون له، كفله بعد وفاة جدّه عبد المطلب، ووقف إلى جانبه منذ بعث، يناصره ويرد عند كيد المشركين، وكان المشركون يهابون أبا طالب فلم يقدموا على كثير ممّا كانوا يريدون.
ولا ننسى ما كان من أبى طالب لوفد قريش حين جاء يطلب من أبى طالب أن يسلم إليهم محمدا ويأخذ مكانه عمارة بن الوليد، وكان أنهد فتى فى قريش وأجمله، وإذا أبو طالب يقف لهم ناهرا ويقول:
تعطونى ابنكم أغذوه لكم، وأعطيكم ابني تقتلونه، هذا ما لا يكون أبدا (1).(1/33)
ولا ننسى ما كان من أبى طالب لوفد قريش حين جاء يطلب من أبى طالب أن يسلم إليهم محمدا ويأخذ مكانه عمارة بن الوليد، وكان أنهد فتى فى قريش وأجمله، وإذا أبو طالب يقف لهم ناهرا ويقول:
تعطونى ابنكم أغذوه لكم، وأعطيكم ابني تقتلونه، هذا ما لا يكون أبدا (1).
ثم لا ننسى لأبى طالب وقفته مع محمد حين طلب إليه وفد قريش أن يكفه عن الدعوة وعن سبّ آلهتهم، وما ظنه محمد بعمه من خذلان له وقعود عن نصرته، حين قال له: أبق علىّ وعلى نفسك، فإذا محمد يقول لعمه: والله لو وضعوا الشمس فى يمينى، والقمر فى يسارى، على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره الله أو أهلك فيه ما تركته، ثم يستعبر ويقوم موليا، فإذا عمه أبو طالب يناديه ويقول: أقبل يا ابن أخى، فلما أقبل رسول الله، صلّى الله عليه وسلم، قال أبو طالب: اذهب يا ابن أخى، فقل ما أحببت، فو الله لا أسلمك لشىء أبدا (2).
وبعد أيّام ثلاثة فقد زوجته خديجة، بعد زواج دام أربعا وعشرين سنة وستة أشهر.
ولقد علمت موقف خديجة من الرسول، قبل أن يبعث وبعد أن بعث، كانت أول مسلمة، وأول مناصرة، رعت الرسول، وقامت فى عونه أيام لا عون.
وكما حزن المشركون لإسلام حمزة وعمر، فرحوا لموت أبى طالب وخديجة، واشتطّوا يمعنون فى الأذى، غير أنّ الرسول ما أبه لأذى المشركين، وما قعد عن لقاء الناس فى الأسواق يدعو لعقيدته.
__________
(1) البدء والتاريخ (4: 148)، والسيرة (1: 285).
(2) المرجعان السابقان.(1/34)
وكان الإسراء الذى تم ليلا، من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، ثم المعراج إلى السماء.
وفى تلك الليلة فرضت الصلاة كاملة على المسلمين.
وكان ذلك قبل الهجرة بسنة.
ولسنا نحب أن نخوض فيما خاض فيه المجتهدون من قبل حول الإسراء والمعراج، أكان بالجسد أم أكان بالرّوح، واختلافهم دليل على أنه ليس ثمة قول قاطع، وعندى أن الخير فى مثل هذه تقبّل الصورة على إجمالها، فنحن ملزمون بالتّصديق بالإسراء والمعراج، وأنهما وقعا حقّا، ولكنّا غير ملزمين أن نؤمن بالصورة التى وقعا بها، ما دمنا لا نجد أثرا يملى إملاء صريحا، وثمة حقائق دينيّة منها هذه، يجب أن نقف عند مدلولها ولا نناقش صورها، وأى شىء يعنى المؤمن عن الرسول فى هذه إلا أن يصدّق بأنه أسرى به، وأنه مع هذا الإسراء والمعراج فرضت الصلاة كاملة، وأين نفوسنا وما تملك من نفوس الرّسل وما تملك، وأين بصائرنا وما تحوز من بصائر الرسل وما تحوز، ثم أين مكان المغمور فى حمأة المادة من مكان السابح فى شفافية المعنويّات.
لقد أسرى بالرسول وعرّج به، ما فى ذلك شكّ، ولقد فرضت الصلاة فى تلك الليلة، ما فى ذلك شك، بهذا حدّثنا الرسول ونطق القرآن.
ولو شاءا تفصيلا لزادا، ولكنهما أعطيانا مانعى، وما يعنينا، وحجبا عنّا ما بعد ذلك.
ولعلّ نظرة المشركين للإسراء والمعراج يناقشون صورتهما التى وقعت بها هى التى حفزت المسلمين بعد على أن يكدّوا أنفسهم فى هذا الخلاف.
وليست صورة الوحى تبعد كثيرا عن صورة الإسراء والمعراج، ومن آمن بالأولى يؤمن بالثانية، فكما اتصل محمد بربّه فى تلك اتصل محمد بربه فى هذه، وكما تلقى محمد عن ربه فى الأولى تلقى محمد عن ربه فى الثانية.(1/35)
ولعلّ نظرة المشركين للإسراء والمعراج يناقشون صورتهما التى وقعت بها هى التى حفزت المسلمين بعد على أن يكدّوا أنفسهم فى هذا الخلاف.
وليست صورة الوحى تبعد كثيرا عن صورة الإسراء والمعراج، ومن آمن بالأولى يؤمن بالثانية، فكما اتصل محمد بربّه فى تلك اتصل محمد بربه فى هذه، وكما تلقى محمد عن ربه فى الأولى تلقى محمد عن ربه فى الثانية.
يروى ابن هشام فى سيرته أن رسول الله، صلّى الله عليه وسلم، حين أصبح (1) غدا على قريش فأخبرهم الخبر، فقال أكثر الناس:
هذا والله الأمر البيّن (2)، والله إن العير لتطرد شهرا من مكة إلى الشام مدبرة وشهرا مقبلة، أفيذهب ذلك محمد فى ليلة واحدة، ويرجع إلى مكة.
ثم يقول ابن هشام: فارتد كثير ممّن كان أسلم، وذهب الناس إلى أبى بكر، فقالوا له: هل لك يا أبا بكر فى صاحبك، يزعم أنه قد جاء هذه الليلة بيت المقدس وصلى فيه ورجع إلى مكة.
فقال لهم أبو بكر: إنكم تكذبون عليه.
فقالوا: بلى، فهو ذا فى المسجد يحدّث به الناس.
فقال أبو بكر: والله لئن كان قاله لقد صدق، فما يعجبكم من ذلك! فو الله إنه ليخبرنى أن الخبر ليأتيه من الله من السماء إلى الأرض فى ساعة من ليل أو نهار فأصدقه، فهذا أعجب ممّا تعجبون منه.
ثم أقبل أبو بكر حتى انتهى إلى رسول الله، صلّى الله عليه وسلم،
__________
(1) فلقد كان الإسراء ليلا.
(2) الإمر، بكسر الهمزة: العجب المنكر.(1/36)
فقال: يا نبى الله، أحدثت هؤلاء القوم أنك جئت بيت المقدس هذه الليلة؟ قال: نعم. قال: يا نبى الله، فصفه لى، فإنى قد جئته.
فجعل رسول الله، صلّى الله عليه وسلم، يصفه لأبى بكر، ويقول أبو بكر: صدقت، أشهد أنك رسول الله، كلما وصف له منه شيئا، قال: صدقت، أشهد أنك رسول الله.
حتى إذا انتهى، قال رسول الله، صلّى الله عليه وسلم، لأبى بكر: وأنت يا أبا بكر: الصديق.
فيومئذ سمّاه: الصديق (1).
ويروى عن معاوية بن أبى سفيان أنه كان إذا سئل عن مسرى رسول الله صلّى الله عليه وسلم، قال: كانت رؤيا من الله تعالى صادقة (2).
ويروى عن الحسن قوله: كانت رؤيا، ويحتج بقوله تعالى:
{وَمََا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنََاكَ إِلََّا فِتْنَةً لِلنََّاسِ} (3).
أما عن المعراج فرقيّه صلّى الله عليه وسلم إلى السماء، فإن ابن إسحاق يروى عمن لا يتهم، عن أبى سعيد الخدرى، رضى الله عنه، أنه قال:
سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول: لما فرغت ممّا كان فى بيت المقدس أتى بالمعراج.
ثم ساق ما وقع (4).
__________
(1) السيرة (2: 4093).
(2) السيرة (2: 41).
(3) الإسراء: 60.
(4) السيرة (2: 44).(1/37)
وهذا يعنى أن المعراج كان بعد الفراغ من الإسراء.
ولكنا نرى البلخى فى كتابه البدء والتاريخ (1) يقول، نقلا عن الواقدى: إن المعراج كان قبل ذلك أى قبل الإسراء بثمانية عشر شهرا.
وبعد أن يروى البلخى ما كان فى المعراج نقلا عن الواقدى، يقول:
وأما ابن إسحاق ثم يذكر ما سقناه قبل عن ابن إسحاق، من أن المعراج كان بعد الفراغ ممّا كان فى بيت المقدس.
__________
(1) البدء والتاريخ (4: 159).(1/38)
6 - الأنصار
وحين ازداد المشركون إيذاء ازداد الرسول تعرّضا للقبائل، يعرض عليها ما نزل عليه من السماء، وبينما هو عند العقبة، قريبا من مكة، لقى نفرا من الخزرج، فعرض عليهم الإسلام، فأجابوه وأسلموا، ورجعوا إلى قومهم فى المدينة بالإسلام، يدعونهم إليه.
حتى إذا كان العام المقبل لقى الرسول من الأنصار رجالا آخرين، فبايعوه على الإيمان به.
وفى اللّقية الثانية كان الاتفاق بين الأنصار والرسول على خروج الرسول إلى المدينة، واستوثق الرّسول، واستوثق له عمّه العبّاس، وكان حاضرا هذا الاجتماع، وكانت الهجرة إلى المدينة. خرج إليها المسلمون، وأقام الرسول بمكة يدبّر لأمر خروجه.
وكانت قريش قد دبّرت لقتل رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وأخذوا من كل قبيلة فتى شابّا جلدا، نسيبا شريفا، ومع كل فتى سيفه، ليعرضوا للرسول، صلى الله عليه وسلم، فيضربوه ضربة رجل واحد، كى يتفرق دمه صلى الله عليه وسلم فى القبائل جميعا، فلا تقدر بنو عبد مناف على حرب قومهم جميعا.
واجتمع هؤلاء النفر على باب الرسول، صلى الله عليه وسلم، يرصدونه، فلما رأى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، مكانهم، أمر عليّا بأن ينام على فراشه، ويتعطى ببرده.
وخرج عليهم الرسول، صلى الله عليه وسلم، منصرفا إلى بيت أبى بكر، وقد أغشاهم الله فهم لا يبصرون.(1/39)
واجتمع هؤلاء النفر على باب الرسول، صلى الله عليه وسلم، يرصدونه، فلما رأى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، مكانهم، أمر عليّا بأن ينام على فراشه، ويتعطى ببرده.
وخرج عليهم الرسول، صلى الله عليه وسلم، منصرفا إلى بيت أبى بكر، وقد أغشاهم الله فهم لا يبصرون.
وكانوا كلما جعلوا يتطلعون، فيرون عليّا على فراش رسول الله، صلى الله عليه وسلم، متسجّيا ببرده، يخالون أن محمدا لا يزال نائما.
ولم يزالوا كذلك حتى قام علىّ، رضى الله عنه، عن الفراش، فعلموا حقيقة ما كان.
وعلى الرغم من حيطة قريش خرج الرسول ومعه أبو بكر، وركبا إلى المدينة، خرجت قريش فى إثرهما تطلبهما. ففوّت الله عليهم ما يطلبون.
وكان خروج الرسول من مكة يوم الخميس فى اليوم الأول من ربيع الأول، وكان بلوغه المدينة لاثنتى عشرة ليلة خلت منه، وكان ذلك ظهر يوم اثنين، وكان ذلك بعد أن بعثه الله، عزّ وجل، بثلاث عشرة سنة، وكان عمره إذ ذاك ثلاثا وخمسين سنة.
ولقد علم المسلمون أول ما علموا، أن هذا البلاء زاد المسلم إلى الجنة، وصفحته يوم الميعاد، وما على الرسول إلا البيان، وأنّ عليهم التّمكين لهذا البيان، ونصر الله صنو جهاد العبد وكفاحه وصبره، على هذا رسالات السماء، وعلى هذا رسل السماء إلى العباد، يهبط الهدى حين تشيع الظلمة، ويتلقّف الهدى رسول مختار، يصطفيه الله صادقا جلدا صبورا، فإذا الناس معه على الطريق، لهم مثل صدقه وجلده وصبره، همّهم مثل همّه، نصراء للحق، ينصرونه بصدقهم وجلدهم
وصبرهم، لا يحرصون على الحياة، ولا يغريهم متاعها، وإذا هم حين يؤيّدون رسالة السماء، قد أيّدتهم رسالة السماء، وإذا الدنيا معهم على هذا الحق، وإذا هم سادة الدّنيا بهذا الحق.(1/40)
ولقد علم المسلمون أول ما علموا، أن هذا البلاء زاد المسلم إلى الجنة، وصفحته يوم الميعاد، وما على الرسول إلا البيان، وأنّ عليهم التّمكين لهذا البيان، ونصر الله صنو جهاد العبد وكفاحه وصبره، على هذا رسالات السماء، وعلى هذا رسل السماء إلى العباد، يهبط الهدى حين تشيع الظلمة، ويتلقّف الهدى رسول مختار، يصطفيه الله صادقا جلدا صبورا، فإذا الناس معه على الطريق، لهم مثل صدقه وجلده وصبره، همّهم مثل همّه، نصراء للحق، ينصرونه بصدقهم وجلدهم
وصبرهم، لا يحرصون على الحياة، ولا يغريهم متاعها، وإذا هم حين يؤيّدون رسالة السماء، قد أيّدتهم رسالة السماء، وإذا الدنيا معهم على هذا الحق، وإذا هم سادة الدّنيا بهذا الحق.
على هذا عرف المسلمون محمدا، وبهذا قدّم محمد نفسه للمسلمين، لم يطمعوا فى أن تكشف السماء عنهم ضرّا لم يشمّروا هم لكشفه، ولا فى أن تزيح عنهم السماء بلاء لم يتهيّئوا هم لإزاحته، كما لم يجعلوا كلمة التوحيد وحدها سلاحهم على أعدائهم، وعدّتهم التى بها يقوون، بل جعلوا هذه الكلمة هى اللّبنة الأولى فى صرح إيمانهم، وانضم بها بعضهم إلى بعض، يتناصحون، والرسول من بينهم يملى عليهم ويشير.
على هذا عاهد المسلمون الله، وعلى هذا عاهد المسلمون الرّسول، عاهدوا الله على أن يناصروا رسوله، وعاهدوا الرّسول على أن يناصروا رسالته، ثم عاهدوا أنفسهم على البذل للتّمكين للرسالة، لا يسألون الله نصرا قبل أن يسألوا أنفسهم بذلا.
وعلى هذا عاش منهم فى مكة من أنس فى نفسه قوة على احتمال الأذى، ولم يخش أن يفتن فى دينه، وهاجر منهم إلى الحبشة من لم يقو على احتمال الأذى، وخاف أن يفتن فى دينه، حتى إذا كانت الهجرة إلى المدينة، لم ينظر المهاجرون إلى وطن عزيز عليهم، وأهل أقرباء، إلى نفوسهم، ومال هو قوام حياتهم، وإنما نظروا إلى عقيدة هى لهم الحياة كلها، وطنا وأهلا ومالا.
وسرعان ما لحق بهم الرسول إلى المدينة، ليبدأ بالمهاجرين معه من مكة، وبالأنصار أهل المدينة، مرحلة جديدة من مراحل الدعوة،
كانت معها حروب، وكانت معها تضحيات، وكان نصر الله صنو نصر المسلمين لرسوله ولرسالته.(1/41)
وسرعان ما لحق بهم الرسول إلى المدينة، ليبدأ بالمهاجرين معه من مكة، وبالأنصار أهل المدينة، مرحلة جديدة من مراحل الدعوة،
كانت معها حروب، وكانت معها تضحيات، وكان نصر الله صنو نصر المسلمين لرسوله ولرسالته.
وكتب الله بجهاد المجاهدين لهذه الدعوة أن تستقرّ، وكتب لها أن تدخل بهم مكة فاتحين، ليمحوا كلمة الإثم، ويردوا أهلها إلى الهدى.(1/42)
وكتب الله بجهاد المجاهدين لهذه الدعوة أن تستقرّ، وكتب لها أن تدخل بهم مكة فاتحين، ليمحوا كلمة الإثم، ويردوا أهلها إلى الهدى.
7 - غزوات الرسول صلى الله عليه وسلم
وغزا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمسلمين سبعا وعشرين غزوة، كما بعث بعوثا، وأرسل سرايا، بلغت جميعها ثمانيا وثلاثين.
وكانت هذه البعوث والسّرايا والغزوات كلها دفاعا عن النفس، وذيادا عن الحق، فلقد لبث الرسول بالمسلمين، منذ بدأت الدّعوة، ثلاث عشرة سنة داعيا إلى الله بالمعروف، يعرّض به كما يعرّض بالمسلمين، فلا يعنيه ولا يعنيهم هذا التّعريض، ويؤذى المسلمون بين يديه، فيدعوهم إلى الصّبر ولا يهيجهم إلى الشّر، وكان ذلك يظن عن ضعف، حين كان المسلمون قلّة، فما بالك بهم بعد أن أصبحوا كثرة، وكم من أيّام آب فيها الصحابة إلى الرسول وهم ما بين مشجوج ومضروب، يستأذنونه فى أن يردّوا عن أنفسهم، أو يثأروا من ضاربيهم، فما كان جواب الرّسول لهم إلا قوله: اصبروا، فإنّى لم أومر بقتالهم.
وكانت حكمة السّماء فى هذا الصّبر أن يخرج الرسول بالأمة العربية من بعده، على ودّ لم يعكّره عداء أو عدوان، وكانت حكمتها فى الإرخاء فيه إلى أن بلغ ثلاثة عشر عاما، أن تعذر إلى من لم يسلموا، ولم يكونوا غير أهل وإخوان، الإعذار كلّه، فلا تذر فى أيديهم سببا من أسباب اللّوم، ثم كانت حكمة السّماء فى هذا الصّبر الطويل أن تخلق فى المسلمين قوة الاحتمال والجلد والأناة والتّرفّق، إلى غير ذلك من صفات تعوز النفوس المقبلة على مهامّ جسيمة، وهل كانت رسالة الاسلام إلا رسالة جسيمة.
حتى إذا ما أعذر المسلمون إلى إخوانهم، وأبلغوا فى الإعذار، وصبروا وأمعنوا فى الصّبر، لم يكن بدّ من أن تتولّى حكمة السماء هؤلاء الصابرين بتدبير، يحفظ عليهم صبرهم من أن ينفد، ويحفظ عليهم وجودهم من أن يستذلّ، وترعى لهم كيانهم من أن يهان، وما جاءت الدّعوة الجديدة إلا لتحمى لهؤلاء وجودهم وكيانهم، لهذا أذن للرّسول فى أن يدفع عن نفسه وعن المسلمين.(1/43)
وكانت حكمة السّماء فى هذا الصّبر أن يخرج الرسول بالأمة العربية من بعده، على ودّ لم يعكّره عداء أو عدوان، وكانت حكمتها فى الإرخاء فيه إلى أن بلغ ثلاثة عشر عاما، أن تعذر إلى من لم يسلموا، ولم يكونوا غير أهل وإخوان، الإعذار كلّه، فلا تذر فى أيديهم سببا من أسباب اللّوم، ثم كانت حكمة السّماء فى هذا الصّبر الطويل أن تخلق فى المسلمين قوة الاحتمال والجلد والأناة والتّرفّق، إلى غير ذلك من صفات تعوز النفوس المقبلة على مهامّ جسيمة، وهل كانت رسالة الاسلام إلا رسالة جسيمة.
حتى إذا ما أعذر المسلمون إلى إخوانهم، وأبلغوا فى الإعذار، وصبروا وأمعنوا فى الصّبر، لم يكن بدّ من أن تتولّى حكمة السماء هؤلاء الصابرين بتدبير، يحفظ عليهم صبرهم من أن ينفد، ويحفظ عليهم وجودهم من أن يستذلّ، وترعى لهم كيانهم من أن يهان، وما جاءت الدّعوة الجديدة إلا لتحمى لهؤلاء وجودهم وكيانهم، لهذا أذن للرّسول فى أن يدفع عن نفسه وعن المسلمين.
ونحن إذا تتبعنا الغزوات غزوة غزوة، والسّرايا سريّة سريّة، والبعوث بعثا بعثا، لا نجدها خرجت جميعها إلا لتدفع غزوا، أو لترهب حتى تمنع غزوا.
فلقد خرج حمزة على أول بعث بعد سبعة أشهر من الهجرة، ليلقى عيرا لقريش فيها أبو جهل، قادمة من الشام، وكان هذا البعث الأول نذيرا لقريش، علّه يكفّها عن غيّها، لم يقصد فيه المسلمون إلا إلى هذا، فحين دخل بين الفريقين رجل صلح كفّ المسلمون أيديهم، ولم يدخلوا فى قتال.
وبعد شهر من هذا البعث خرجت سريّة لتلقى أبا سفيان فى نفر من أصحابه، وكانت بين الفريقين مناوشة، أصيب فيها سعد بن أبى وقّاص، بسهم من سهام المشركين، فكان أول سهم أصيب به مسلم فى الإسلام.
ثم كانت سريّة سعد بن أبى وقاص، التى خرجت تعترض عيرا لقريش، فمرّت العير ولم تقع عليها السريّة.
وعلى رأس اثنى عشر شهرا من الهجرة خرج رسول الله وجمع من
المسلمين يريدون ودّان الأبواء حيث عير لقريش، وحيث بنو ضمرة الذين كانوا يعينون عليه، ورجع رسول الله بمن معه من هذه الغزوة، بعد أن صالحته بنو ضمرة على ألا تعين عليه. ولقد فاتته عير قريش فى هذه الغزوة، كما فاتته فى غزوة بعدها، هى غزوة بواط (1)، وكانت بعد شهر من غزوة ودّان.(1/44)
وعلى رأس اثنى عشر شهرا من الهجرة خرج رسول الله وجمع من
المسلمين يريدون ودّان الأبواء حيث عير لقريش، وحيث بنو ضمرة الذين كانوا يعينون عليه، ورجع رسول الله بمن معه من هذه الغزوة، بعد أن صالحته بنو ضمرة على ألا تعين عليه. ولقد فاتته عير قريش فى هذه الغزوة، كما فاتته فى غزوة بعدها، هى غزوة بواط (1)، وكانت بعد شهر من غزوة ودّان.
وبعد غزوة بواط كانت غزوة بدر الأولى، التى خرج فيها رسول الله ليدرك كرز بن جابر الفهرىّ، وكان قد أغار على المدينة واستاق سرحا لها، غير أن كرزا فات جيش المسلمين فلم يدركوه.
وعلى رأس ستة عشر شهرا من الهجرة خرج حمزة بن عبد المطلب فى نفر من المسلمين، يريدون عيرا لقريش، قافلة من الشام، وحين أدركوا العشيرة (2)، وجدوا أن العير فاتتهم.
وبعد شهر خرجت سرية فى اثنى عشر رجلا تبغى نخلة، وهو مكان بين مكة والطائف، لترصد قريش وتعرف ما عندها، غير أن تلك السّريّة التقت بعير لقريش، فكان بينهما عدوان، تورّط فيه المسلمون وعادوا بغنائم وأسرى، وكانوا فى رجب، وهو شهر حرام، فعاتبهم الرسول عليها حين عادوا إليه.
ثم كانت غزوة بدر الثانية، فى السابع عشر من رمضان، فى السنة الثانية من الهجرة، وكانت بسبب تلك العير التى فاتت المسلمين فى
__________
(1) بواط: من جبال جهينة قرب ينبع (معجم البلدان: 1: 750).
(2) العشيرة: من ناحية ينبع، بين مكة والمدينة (معجم البلدان: 3:
681).(1/45)
العشيرة، وفيها كانت الحرب بين المسلمين والمشركين، وفيها انتصف المسلمون من المشركين، على الرّغم من قلّة عدد المسلمين، وكثرة عدد المشركين.
وبعد ليال سبع من مرجع المسلمين من بدر، خرج الرسول يريد بنى سليم. وكانوا يعينون على المسلمين، وحين أحسّ بنو سليم بالمسلمين يطلبونهم ولّوا هاربين.
وهكذا بدأت رهبة المسلمين تدبّ فى قلوب المشركين، وبعد أن كانوا قلّة مستضعفين غدوا كثرة مرهوبين.
وهنا أحبّ أن أقف بك وقفة قصيرة، فالحديث عن هذه الغزوات والسّرايا والبعوث ذو شقّين، ينتهى شقّه الأول إلى ما قبل بدر الثانية، ثم هو منذ بدر الثانية ذو شقّ آخر.
ولقد مرّ بك فى هذا الشّق الأول عرض لكل ما كان فيه من هذه السّرايا والبعوث والغزوات، ولقد رأيت فيها المسلمين قد شمّروا لإثبات وجودهم، وليظهروا فى مظهر القوىّ، بعد أن عاشوا فى مظهر المستضعف، وأن ذلك كان منذ أن استقرّت أقدامهم فى المدينة بقليل، وأنهم لم يلبثوا غير سبعة أشهر فى المدينة، كان بعدها خروجهم لهذا الإعلان عن قوتهم.
والدّعوات عجلة بقدر ما هى مستأنية، تستأنى وتطيل الاستئناء ما وجدت فى هذا الاستئناء الخير، وتعجل فتسرع إلى العجلة ما وجدت فى هذه العجلة الخير. ولقد تلبّث الرسول بمن معه من المسلمين ثلاثة
عشر عاما كما قلت لك لا يحب أن يخرج بالمسلمين عن الصبر والاحتمال، لأسباب بينتها لك، حتى إذا ما نفدت حكمة الصبر كانت حكمة الخروج عن الصّبر.(1/46)
والدّعوات عجلة بقدر ما هى مستأنية، تستأنى وتطيل الاستئناء ما وجدت فى هذا الاستئناء الخير، وتعجل فتسرع إلى العجلة ما وجدت فى هذه العجلة الخير. ولقد تلبّث الرسول بمن معه من المسلمين ثلاثة
عشر عاما كما قلت لك لا يحب أن يخرج بالمسلمين عن الصبر والاحتمال، لأسباب بينتها لك، حتى إذا ما نفدت حكمة الصبر كانت حكمة الخروج عن الصّبر.
ولقد خرج المسلمون من المدينة فى تلك السّرايا والبعوث والغزوات ليثبتوا للملإ من حولهم أنهم خرجوا عن صبرهم، وليثبتوا للملإ من حولهم أنهم قوة تملك أن ترهب.
ولا غرو أنّ نرى هذا الشّقّ الأول كلّه يمضى فى التعرّض لعير بعد عير، فلقد كان هذا أسلوب ذلك العصر فى الإرهاب، وما أراد المسلمون غير أن يهابوا ويرهبوا، وأن يبادلوا جيرانهم هذا الأسلوب الإرهابىّ.
ولم يكن فيه عليهم غضاضة، فلقد رأيتهم فى كل ما فعلوا لم يقصدوا إلا الإعلان عن خروجهم، ولقد فاتتهم العير فى الكثير من خرجاتهم، وحين التقوا بخصومهم مرة كان هذا الصّلح الذى تمّ بين حمزة وأبى جهل فى البعث الأول، ثم لقد رأيت كيف عاتب الرسول أصحابه على ما كان منهم فى نخلة.
إذا لم يكن صحيحا ما اتّهم به المغرضون محمدا وأصحابه عن هذا الشّق الأول من الحروب بأنها كانت للسّلب، فلقد رأيت معى كم سلب المسلمون فيها، وكم عيرا لقوا.
والصّحيح، كما ثبت لك، أن هذه الحروب إن صح أنها كانت حروبا لم يقصد فيها المسلمون إلا إلى الذى حدّثتك عنه، وأنها لم تكن عير وثبة بعد صبر طويل، وكانت وثبة تحكى وثبات العصر
شىء وتخالفه فى شىء، تحكيه فى مظهرها الإرهابى، وتخالفه فى مظهرها السّلبىّ.(1/47)
والصّحيح، كما ثبت لك، أن هذه الحروب إن صح أنها كانت حروبا لم يقصد فيها المسلمون إلا إلى الذى حدّثتك عنه، وأنها لم تكن عير وثبة بعد صبر طويل، وكانت وثبة تحكى وثبات العصر
شىء وتخالفه فى شىء، تحكيه فى مظهرها الإرهابى، وتخالفه فى مظهرها السّلبىّ.
ومنذ أن دخل المسلمون مع المشركين فى غزوة بدر الثانية، بدأ الشّقّ الثانى من الحروب. فلقد أخذت الحرب فى هذا الشّقّ الثانى مظهرها الحق، فنشبت تمليها الخصومة القائمة بين عقيدة وعقيدة، وكان الخروج إليها خروجا من أجل إثبات عقيدة ومحو أخرى، واختفت تلك الأسباب الأولى التى أثارت حروب الشّقّ الأول، اختفى مظهر الإرهاب وما إليه، من تتبّع عير أو التعرّض لها، وبدأ مظهر التطاحن من أجل العقيدة، ومن أجل نشر العقيدة، وعلى هذا توالت غزوات الشّقّ الثانى.
فكانت غزوة بنى سليم، التى حدثتك عنها، ثم غزوة بنى قينقاع يهود المدينة، وكانوا على غير صفاء مع المسلمين، وبعد هذه الغزوة كانت غزوة السّويق، التى خرج فيها أبو سفيان ليثأر ليوم بدر.
وحين رجع الرسول من غزوة السّويق، خرج يغزو غطفان، وكان قد بلغه أنهم أعدّوا العدّة لغزوه.
ثم كانت غزوة أحد (1)، التى خرج فيها المشركون ليثأروا من المسلمين بيوم بدر، وفيها خالف المسلمون أمر الرّسول وتدبيره، فكانت الغلبة للمشركين.
__________
(1) أحد: جبل بينه وبين المدينة قرابة ميل، فى شمالها. (معجم البلدان 1: 142).(1/48)
وبلغ رسول الله، عقب قفوله من «أحد»، أنّ المشركين يهمّون بالرّجوع إلى المدينة، بعد أن كسبوا شيئا من النصر فى «أحد»، فخرج الرسول بأصحابه، الذين كانوا معه فى «أحد» وحدهم، إلى حمراء الأسد، على ثمانية أميال من المدينة، حتى لا يطمع فيه عدوّه.
وفى ربيع الأول من السّنة الرابعة للهجرة كانت غزوة بنى النّضير، من يهود المدينة، وكانوا قد كادوا للرسول وهمّوا بقتله.
وبعد هذه الغزوة بنحو من شهرين خرج رسول الله إلى غزوة ذات الرّقاع (1)، ليغزو قوما من غطفان، كان قد بلغه عنهم أنهم جمعوا جموعا لمحاربته.
ثم كانت غزوة بدر الأخيرة، وقد كان أبو سفيان حدّد موعدها بعد بدر الثانية، غير أنه خشى بأس المسلمين فلم ينهض إليهم.
ولمثل ما خرج إليه الرّسول يوم ذات الرّقاع، كان خروجه إلى دومة الجندل مدينة بينها وبين دمشق خمس ليال، وتبعد عن المدينة خمس عشرة ليلة فلقد بلغ الرسول أن قوما يعسفون، وأنهم على أن يمتدّوا بعسفهم إلى المدينة، فخرج إليهم، فإذا هم يفرون، فعاد المسلمون وقد غنموا شيئا.
ولمثل هذا أيضا كان خروج الرسول إلى المريسيع (2).
واتّفقت كلمة اليهود مع كلمة المشركين على أن يغزوا محمدا فى
__________
(1) ذات الرقاع: موضع بنجد (معجم البلدان: 2: 798).
(2) المريسيع: ماء فى ناحية قديد (معجم البلدان. 4: 525).
المدينة مجتمعين، فكانت غزوة الخندق، التى حفر فيها الرسول خندقا حول المدينة، يحميها من هذا الهجوم، ولقد كتب فيها النّصر للمسلمين، وارتدّ المشركون عن المدينة مدحورين.(1/49)
المدينة مجتمعين، فكانت غزوة الخندق، التى حفر فيها الرسول خندقا حول المدينة، يحميها من هذا الهجوم، ولقد كتب فيها النّصر للمسلمين، وارتدّ المشركون عن المدينة مدحورين.
ولم يكن بدّ من أن يأخذ المسلمون اليهود لمناصرتهم لقريش فى غزوة الخندق، فما كاد المشركون يرتدّون عن المدينة حتى خرج المسلمون لغزو بنى قريظة، وإملاء شروطهم عليهم.
وكانت بعد هذه غزوات وسرايا، كان الخروج إليها لمثل تلك الأسباب التى مرت بك، إلى أن كان أمر الحديبية (1) حين خرج رسول الله يريد مكة، بعد ست سنوات من الهجرة، وحيث كانت المصالحة بينه وبين قريش، على أن يرجع عنهم عامهم هذا.
وفى السّنة السابعة من الهجرة كانت غزوة خيبر (2)، حيث اجتمع اليهود على حرب المسلمين، ثم فتحها.
وبين غزوة خيبر سنة سبع، وفتح مكة سنة ثمان، كانت سرايا وغزوات، لردّ عدوان أو كبت خصومة.
وبفتح مكة عاد الإسلام إلى مواطن الرّسالة ومكان البيت، وقضى على كلمة الشّرك القضاء الأخير، بعد أن اقتحم عليه معقله.
ولقد خاض المسلمون بعد فتح مكة حربين، حملوا عليهما،
__________
(1) الحديبية: موضع بينه وبين مكة مرحلة، وبينه وبين المدينة تسع مراحل (معجم البلدان: 2: 222).
(2) خيبر: موضع على ثمانية برد من المدينة (معجم البلدان: 4:
503).(1/50)
كانت أولى هاتين الحربين غزوة حنين (1)، التى تهيأت فيها هوازن لحرب الرسول، وكانت بينهم وبين المسلمين حرب طاحنة، كتب فيها النصر أخيرا للمسلمين.
وتبعت هذه الحرب حرب ثانية، كانت امتدادا للحرب الأولى، وهى غزوة الطائف.
وكانت بعد غزوة الطائف سرايا من نوع ما سبق من سرايا، إلى أن كانت غزوة تبوك (2) سنة تسع، وكانت آخر غزواته، صلى الله عليه وسلم، وكان قد خرج فيها للقاء الرّوم، ولم يكن لقاء.
وإنّ نظرة إلى جيش المجاهدين المسلمين، عند أول بعث خرجوا له، وعند آخر جيش تعبئوا له، ندرك كيف بدأ المسلمون وكيف انتهوا، فلقد كان بعث حمزة ثلاثين راكبا، وكان جيش تبوك ثلاثين ألفا، وكانت الخيل فيه عشرة آلاف.
وهكذا خلقت العقيدة من القلّة كثرة، ومن الضّعف قوّة، وبعد أن كان المؤمنون قلّة مستضعفين، غدوا كثرة مرهوبين. وكان نصر الله فى ظل راياتهم أنّى تخفق، ومع خطوات جيوشهم أنى تسير.
__________
(1) حنين: موضع قريب من مكة، بينه وبينها ثلاث ليال (معجم البلدان: 2: 351).
(2) تبوك: موضع بين وادى القرى والشام (معجم البلدان: 1: 8).(1/51)
8 - عرض لحياة الرسول صلى الله عليه وسلم
وفى ذى الحجّة من السنة العاشرة للهجرة، حجّ الرسول بالمسلمين حجّة الوداع، وفيها خطب الناس خطبته البلقاء، التى رسم للناس فيها الحدود، وذكّرهم بمعالم الدّين، وفيها ودّع الناس، وكأنه يحس أنه ملاق ربّه.
وفى أواخر صفر من السنة الحادية عشر للهجرة، أخذ المرض رسول الله، ولبث مريضا أياما، يقدّرها بعضهم بسبعة أيام، ويقدّرها بعضهم بثلاثة عشر يوما.
وفى يوم الاثنين، الثانى عشر من ربيع الأول، من تلك السّنة أعنى السنة الحادية عشرة للهجرة قبض رسول الله عن ثلاث وستين سنة قمريّة.
وكانت سنو بعثته، منذ بعثه الله إلى أن قبضه إليه، نحوا من ثلاثة وعشرين عاما، قضى أكثرها، وما يزيد على نصفها فى مكّة، تسانده زوجته خديجة، إلى أن ماتت قبل الهجرة إلى المدينة، بنحو من أعوام ثلاثة.
وفى المدينة عاش الرسول نحوا من أحد عشر عاما، وقعت فيها الغزوات كلها، والسّرايا والبعوث كلها، وعلى الصّحيح فى تسع منها، لأن أول بعث كان فى السنة الثانية من الهجرة. وإذا علمنا أن مجموع تلك الحروب كان نحوا من خمس وستّين، علمنا أنّ نصيب كلّ عام من تلك الأعوام من هذه الحروب بلغ الثمانى، أى إنه، صلى الله عليه وسلم، كان له فى كل شهر تدبير جيش، ولقاء عدوّ، هذا إلى تلك التّشريعات
الكثيرة التى وضعها عن أمر ربّه، والحدود التى بيّنها بوحى من ربّه، ثم ما بين هذا وذاك من لقاء وفود، ولقاء أفراد، وكتب إلى الملوك والأمراء، وقيام بأمور المسلمين جميعا، وما كان أكثرها.(1/52)
وفى المدينة عاش الرسول نحوا من أحد عشر عاما، وقعت فيها الغزوات كلها، والسّرايا والبعوث كلها، وعلى الصّحيح فى تسع منها، لأن أول بعث كان فى السنة الثانية من الهجرة. وإذا علمنا أن مجموع تلك الحروب كان نحوا من خمس وستّين، علمنا أنّ نصيب كلّ عام من تلك الأعوام من هذه الحروب بلغ الثمانى، أى إنه، صلى الله عليه وسلم، كان له فى كل شهر تدبير جيش، ولقاء عدوّ، هذا إلى تلك التّشريعات
الكثيرة التى وضعها عن أمر ربّه، والحدود التى بيّنها بوحى من ربّه، ثم ما بين هذا وذاك من لقاء وفود، ولقاء أفراد، وكتب إلى الملوك والأمراء، وقيام بأمور المسلمين جميعا، وما كان أكثرها.
ترى فى ظلّ هذا كلّه كيف كان الرسول يفرغ لشأنه، وكم من ساعات يومه كانت له خالصة، ونحن نعلم، إلى هذا الذى ذكرناه له من واجبات، واجبات أخرى، كانت لربّه يختصها بالعبادة.
هذه هى حياة أعوام تسعة، رأيت كيف ملأت الواجبات الثّقال صفحاتها، ورأيت كيف شغل فيها الرسول بتدبير شئون العقيدة شغلا متّصلا.
ومن الغريب أن هذه الأعوام التسعة، التى لا نكاد نجد فيها بين ساعاتها ساعة كانت للرسول خاصة، هى الأعوام التى يتطاول المتقوّلون فيقولون: إن الرسول عاش فيها لمتاعه، وإنه بنى فيها بأربع عشرة امرأة.
وهذا التّطاول يردّه ما قدّمت، ويردّه أن الرسول فى شبابه لم تعهد عليه ريبة، وقد بنى بخديجة وهو فى الخامسة والعشرين، وبقى معها إلى أن توفاها الله قبل الهجرة بأعوام ثلاثة، كما مرّ بك. وكان عمره إذ ذاك خمسين سنة.
وكانت أول امرأة تزوّجها بعد وفاة خديجة هى سودة بنت زمعة، وكانت تحت ابن عمّها السّكران بن عمرو، وكان السكران هو وزوجته من مهاجرة الحبشة، وحين رجع بزوجه من الحبشة إلى مكة مات بها، ولم يكن له عقب يرعى سودة، فتزوّجها الرسول.
ولم يتزوج رسول الله بكرا غير عائشة بنت أبي بكر، وبنى بها بالمدينة، كما تزوج حفصة بنت عمر بن الخطاب، وكانت تحت خنيس بن حذافة السّهمي، ثم مات خنيس فعرضها عمر على أبي بكر فلم يجب، ثم عرضها على عثمان فسكت، ورأى الرسول الأسى في وجه عمر فضم حفصة إليه.(1/53)
وكانت أول امرأة تزوّجها بعد وفاة خديجة هى سودة بنت زمعة، وكانت تحت ابن عمّها السّكران بن عمرو، وكان السكران هو وزوجته من مهاجرة الحبشة، وحين رجع بزوجه من الحبشة إلى مكة مات بها، ولم يكن له عقب يرعى سودة، فتزوّجها الرسول.
ولم يتزوج رسول الله بكرا غير عائشة بنت أبي بكر، وبنى بها بالمدينة، كما تزوج حفصة بنت عمر بن الخطاب، وكانت تحت خنيس بن حذافة السّهمي، ثم مات خنيس فعرضها عمر على أبي بكر فلم يجب، ثم عرضها على عثمان فسكت، ورأى الرسول الأسى في وجه عمر فضم حفصة إليه.
وضم إليه الرسول زينب بنت خزيمة، بعد أن قتل عنها زوجها عبد الله بن جحش، يوم أحد.
وضمّ إليه بنت عمته زينب بنت جحش، وكانت من قبله زوجة لمولاه زيد بن حارثة.
وبعد زينب ضم إليه الرسول رملة بنت أبي سفيان، وكانت هاجرت مع زوجها عبيد الله بن جحش إلى الحبشة، بعد أن أسلما، ثم تنصّر زوجها هناك في الحبشة، ومات بها، وأبت هي أن تتنصّر، وبقيت على إسلامها، فتزوجها الرسول وهي بالحبشة.
وضم إليه الرسول هند بنت أبي أمية، وكانت هي الأخرى من مهاجرات الحبشة، توفي عنها زوجها، وخلّف لها ولدين وبنتين.
وضم إليه الرسول خالة خالد بن الوليد، ميمونة بنت الحارث، وكانت قبله عند أبي رهم العامريّ.
وضم إليه رسول الله صفيّة بنت حيّ بن أخطب، وكانت زوجة لسلّام بن مشكم اليهوديّ، ثم لكنانة بن أبي الحقيق، فقتل عنها كنانة يوم خيبر.
وضم إليه رسول الله جويرية بنت الحارث بن أبى ضرار، وكانت فى سبى غزوة المصطلق، وما إن علم المسلمون بزواج الرسول منها حتى أطلقوا ما فى أيديهم من بنى المصطلق، وقد بلغ عدد من أعتقوا مائة.(1/54)
وضم إليه رسول الله صفيّة بنت حيّ بن أخطب، وكانت زوجة لسلّام بن مشكم اليهوديّ، ثم لكنانة بن أبي الحقيق، فقتل عنها كنانة يوم خيبر.
وضم إليه رسول الله جويرية بنت الحارث بن أبى ضرار، وكانت فى سبى غزوة المصطلق، وما إن علم المسلمون بزواج الرسول منها حتى أطلقوا ما فى أيديهم من بنى المصطلق، وقد بلغ عدد من أعتقوا مائة.
ثم ضم إليه خولة بنت حكيم، التى وهبت نفسها له.
وثمة امرأتاه هما: عمرة، وأميمة، بانتا عنه قبل أن يبنى بهما.
فهن جميعا، بما فيهن خديجة خمس عشرة امرأة، دخل الرسول بثلاث عشرة منهن، وقد تمّ هذا قبل أن ينزل الوحى بتحريم الجمع بين ما زدن على أربع.
وأنت ترى أن اثنتين منهن، وهما عائشة وحفصة، كانتا لابنى صحابيين جليليين، هما أبو بكر وعمر، وأنّ ثلاثا منهن كن من المهاجرات إلى الحبشة اللاتى فقدن أزواجهن، وهن: سودة، ورملة، وهند وأنّ واحدة منهن، وهى زينب بنت خزيمة، قتل عنها زوجها يوم أحد، وأنّ واحدة أخرى كانت خالة لخالد بن الوليد الفارس المعروف، وكان بناء الرسول بها مع دخول خالد فى الإسلام، وأنّ واحدة منهن، وهى جويرية بنت الحارث، قرّب الرسول ببنائه بها ما بين بنى المصطلق والمسلمين، وأن واحدة منهن، وهى بنت عمته، زينب بنت جحش، كان بناؤه بها تشريعا فى الإسلام فى إبطال جعل المولى له حكم الابن، وأنّ واحدة منهن، وهى خولة بنت حكيم، كانت قد وهبت نفسها للنبى.
وأما عن صفيّة بنت حيىّ اليهودية فلقد كادت تثير لجاجا بين المسلمين، حين وقعت فى نصيب دحية بن خليفة الكلبىّ، فحسم الرسول هذا الخلاف ببنائه بها، وكانت من بيت رئاسة فى اليهود.(1/55)
وأنت ترى أن اثنتين منهن، وهما عائشة وحفصة، كانتا لابنى صحابيين جليليين، هما أبو بكر وعمر، وأنّ ثلاثا منهن كن من المهاجرات إلى الحبشة اللاتى فقدن أزواجهن، وهن: سودة، ورملة، وهند وأنّ واحدة منهن، وهى زينب بنت خزيمة، قتل عنها زوجها يوم أحد، وأنّ واحدة أخرى كانت خالة لخالد بن الوليد الفارس المعروف، وكان بناء الرسول بها مع دخول خالد فى الإسلام، وأنّ واحدة منهن، وهى جويرية بنت الحارث، قرّب الرسول ببنائه بها ما بين بنى المصطلق والمسلمين، وأن واحدة منهن، وهى بنت عمته، زينب بنت جحش، كان بناؤه بها تشريعا فى الإسلام فى إبطال جعل المولى له حكم الابن، وأنّ واحدة منهن، وهى خولة بنت حكيم، كانت قد وهبت نفسها للنبى.
وأما عن صفيّة بنت حيىّ اليهودية فلقد كادت تثير لجاجا بين المسلمين، حين وقعت فى نصيب دحية بن خليفة الكلبىّ، فحسم الرسول هذا الخلاف ببنائه بها، وكانت من بيت رئاسة فى اليهود.
أرأيت إلى الرسول ومن بنى بهن، وكيف بنى بهن، ثم أرأيت إلى أن هذا كلّه كان فى تلك الأعوام التى أحيطت بالشدائد، وكان عبء تدبير هذا كله على عاتقه. ثم استمع لتعلم كيف كان الرسول فى حياته، لقد كان زاهدا فى دنياه، غليظا على نفسه فى مسكنه ومأكله ومشربه وملبسه، وكثيرا ما كان يجتزئ بالخبز والماء.
وكم كانت الشهور تمضى دون أن توقد فى داره نار لطهى، وكثيرا ما رئي وهو يرفو ثوبه بيده.
وكان صلى الله عليه وسلم يرقد ليس بينه وبين الأرض إلا حصير قد أثّر بجنبه، وتحت رأسه وسادة من أدم محشوة ليفا، وكانت بيوته من لبن، والحجر من جريد النخل، على أبوابها المسوح من شعر أسود.
ولقد دخلت امرأة من الأنصار على عائشة فرأت فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم عباءة مثنية، فانطلقت فبعثت إليها بفراش حشوه صوف، فدخل عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ما هذا فأخبرته، فأمرها بردها ثلاثا، فلم تفعل، فقال لها صلى الله عليه وسلم؟
يا عائشة، لو شئت لأجرى الله معى جبال الذهب والفضة.
ثم هو بعد هذا كان القوّام الصوّام المتبتل. فأية دنيا تلك التى أرادها الرسول بهذا الزواج؟ وإن حياة الرسول الأولى لتملى عليه حياته
الثانية، ولقد كان الرسول عفّا فى شبابه، أثقل أعباء مع عفته فى حياته الأخيرة.(1/56)
ثم هو بعد هذا كان القوّام الصوّام المتبتل. فأية دنيا تلك التى أرادها الرسول بهذا الزواج؟ وإن حياة الرسول الأولى لتملى عليه حياته
الثانية، ولقد كان الرسول عفّا فى شبابه، أثقل أعباء مع عفته فى حياته الأخيرة.
صفحات من جهاد طويل متصل أخرج بها محمد الجزيرة العربية من عماية الضلال إلى نور الحقيقة، ومن رجس الشرك إلى طهر الإيمان، ومن آثام الباطل إلى صالحات الأعمال.
فإذا الجزيرة العربية على دين الإسلام، تؤمن بربّ واحد حقّ، بعد أن كانت موزّعة بين أرباب كثرة زائفة، برئت من الأوثان والأصنام، وكانت آفة العقل، واطرحت وأد البنات، وكان سبة الأبد، وعفّت عن الآثام، وكانت غارقة فيها للأذقان، واستقامت على الطريق لتحمل راية الدعوة، تبشّر بها فى الآفاق، فإذا هى بعد قليل قد أظلّت برايتها بقاعا لا تحصى، وخلقا لا يعد.
تلك حياة الرسول أجملت لك مآثرها وما تمّ منها، وما تم هذا كلّه بعيدا عن تدبير السماء، وما تمّ هذا كله إلا عن وحى متصل يملى على الرسول بكرة وعشيّا، فيمليه هو على قومه بكرة وعشيّا.(1/57)
تلك حياة الرسول أجملت لك مآثرها وما تمّ منها، وما تم هذا كلّه بعيدا عن تدبير السماء، وما تمّ هذا كله إلا عن وحى متصل يملى على الرسول بكرة وعشيّا، فيمليه هو على قومه بكرة وعشيّا.
9 - كتاب الله
وهذا الوحي الذي تلقّاه الرسول عن ربّه، وتلقّاه المسلمون عن رسولهم، إلى أن قبضه الله إليه، هو هذا الكتاب الكريم الذي جمع للمسلمين دينهم، وجمعهم على دينهم، وحفظ لهم حياتهم أمّة مسلمة، وحفظهم على حياتهم إخوة مسلمين.
وما من شك في أن هذا الكتاب الكريم يحمل معجزة ثانية خالدة بخلوده، فلقد كانت معجزته الأولى فى بيانه الذي خرست معه الألسنة فما تنطق، وفي فصاحته التي شدهت معها الأفئدة فما تعي، وسوف يظل هذا البيان، وتلك الفصاحة، حجة على العالمين.
تلك كانت معجزة القرآن الأولى، يوم طالع الرسول العرب، وهم ما هم بيانا وفصاحة، فخرّوا لها ساجدين، وأذعنوا لها مسلمين.
أما عن معجزته الثانية فهي في حمايته أمة من أن تشيع في أمم، ولغة من أن تذوب في لغات.
فما نعرف شيئا حمى اللغة العربية من الضّياع مع تلك الأزمات العاصفة التي مرّت بها، والتي كم أودت مثيلات لها بلغات وبلبلت من ألسنة غير هذا الكتاب الكريم. أبعدت ما أبعدت الشعوب العربية عن الكلام بلغتها العربية، وكان هو مردّها إليها، كلما أوشكت أن تنفصم صلتها بها ربطها هو بها.
وهكذا عاشت الأمة العربية بعيدة بكل ما فى يديها عن لغتها، قريبة بهذا الكتاب وحده إلى لغتها.(1/58)
فما نعرف شيئا حمى اللغة العربية من الضّياع مع تلك الأزمات العاصفة التي مرّت بها، والتي كم أودت مثيلات لها بلغات وبلبلت من ألسنة غير هذا الكتاب الكريم. أبعدت ما أبعدت الشعوب العربية عن الكلام بلغتها العربية، وكان هو مردّها إليها، كلما أوشكت أن تنفصم صلتها بها ربطها هو بها.
وهكذا عاشت الأمة العربية بعيدة بكل ما فى يديها عن لغتها، قريبة بهذا الكتاب وحده إلى لغتها.
وحين حمى هذا الكتاب اللغة لأهلها، حمى هؤلاء العرب من أن يتفرّقوا أبدى سبا، فلو أنّ الزمن بلبل ألسنتهم أمما مختلفة، ذات ألسنة مختلفة، ما وجدت بينهم هذه الصّلة الضامة من اجتماع على تراث خالد، كان هو بمثابة الأب الرّوحى، الذى يصل بين الأرواح والنفوس والقلوب.
ويكذبك من ينكر عليك أثر اللغة فى التقريب بين شعوب مختلفة الجنس، فما بالك بشعوب يكاد يجمعها جنس واحد.
وكما حفظ هذا الكتاب الكريم هذا المقوّم للأمة العربية، حفظ مقوما آخر هو الدين، فلقد عاش هذا الكتاب على الألسنة وفى القلوب، فوق ما هو مكتوب يسمع ويتلى فى أوقات متلاحقة متصلة، لا يكاد الناس ينسون حتى يتذكروا، ولا يكادون يبعدون حتى يقربوا، فإذا هم على دينهم كما هم على لغتهم، وإذا هذه اللغة وذاك الدين يمسكان الأمة العربية فلا تضل عنها لغتها، ولا تضل هى عن دينها.
ولا غرو أن كانت للمسلمين به عنايات متصلة طالت وتنوعت، وهذا أو ان ضم هذا كله فى سرد مختصر جامع، يعرف به المسلم ما يتصل بقرآنه فى يسر يسير، دون أن يفوته شىء، أو يبهم عليه أمر.(1/59)
ولا غرو أن كانت للمسلمين به عنايات متصلة طالت وتنوعت، وهذا أو ان ضم هذا كله فى سرد مختصر جامع، يعرف به المسلم ما يتصل بقرآنه فى يسر يسير، دون أن يفوته شىء، أو يبهم عليه أمر.
الباب الثاني القرآن الكريم(1/61)
1 - أمية الرسول
لقد كان محمد أميّا، لا يعرف أن يقرأ، ولا يعرف أن يكتب، ما فى ذلك شكّ، يدلّك على ذلك اتخاذه، بعد أن أوحى إليه، كتّابا يكتبون عنه الوحى، منهم: أبو بكر الصدّيق، وعمر بن الخطاب، وعثمان بن عفان، وعلىّ بن أبى طالب، والزّبير بن العوّام، وأبىّ بن كعب بن قيس، وزيد بن ثابت، ومعاوية بن أبى سفيان، ومحمد ابن مسلمة، والأرقم بن أبى الأرقم، وأبان بن سعيد بن العاص، وأخوه خالد بن سعيد، وثابت بن قيس، وحنظلة بن الرّبيع، وخالد بن الوليد، وعبد الله بن الأرقم، والعلاء بن عتبة، والمغيرة بن شعبة، وشرحبيل بن حسنة.
وكان أكثرهم كتابة عنه: زيد بن ثابت، ومعاوية (1).
ويقال: إن علىّ بن أبى طالب، وعثمان بن عفان، كانا يكتبان الوحى، فإن غابا كتبه أبىّ بن كعب، وزيد بن ثابت.
وكان خالد بن سعيد بن العاص ومعاوية بن أبى سفيان يكتبان بين يديه، صلى الله عليه وسلم، فى حوائجه.
وكان المغيرة بن شعبة، والحصين بن تمير، يكتبان ما بين الناس.
وكان عبد الله بن الأرقم بن عبد يغوث، والعلاء بن عقبة، يكتبان بين القوم فى قبائلهم ومياههم، وفى دور الأنصار بين الرجال والنساء.
__________
(1) الوزراء والكتاب للجهشيارى (1412) تاريخ الطبرى (7:
173 - طبعة دار المعارف) العقد الفريد لابن عبد ربه (4: 161طبعة لجنة التأليف) شرح المواهب اللدنية للزرقانى (3: 311).(1/63)
وكان زيد بن ثابت يكتب إلى الملوك، مع ما يكتبه من الوحى.
وكان معيقيب بن أبى فاطمة، حليف بنى أسد، يكتب مغانم رسول الله، صلى الله عليه وسلم.
وكان حنظلة بن الربيع بن المرقّع بن صيفى الأسيدى، خليفة كل كاتب من كتاب النبى، صلى الله عليه وسلم، إذا غاب عن عمله، فغلب عليه اسم الكاتب.
وكان عبد الله بن سعد بن أبى سرح يكتب للنبى، صلى الله عليه وسلم، ثم ارتد ولحق بالمشركين (1).
كما يدلك على هذا ما كان عند صلح الحديبية، حين دعا رسول الله، صلى الله عليه وسلم، علىّ بن أبى طالب ليكتب ما صالح عليه رسول الله، صلى الله عليه وسلم، سهيل بن عمرو، رسول قريش إليه فى ذلك الصلح (2).
كما يدلك على ذلك أيضا ما ذكره المؤرخون، عند الكلام على غزوة «أحد»، أن العبّاس، وهو بمكة، كتب إلى النبى كتابا يخبره فيه بتجمع قريش وخروجهم، وأن العبّاس أرسل هذا الكتاب مع رجل من بنى غفار، وأن النبى، حين جاءه الغفارىّ بكتاب العبّاس، استدعى أبىّ بن كعب وكان كاتبه ودفع إليه الكتاب يقرؤه عليه، وحين انتهى «أبى» من قراءة الكتاب استكتمه النّبىّ.
ولو كان النبى غير أمىّ لكفى نفسه دعوة «أبىّ» لقراءة كتاب العبّاس فى أمر ذى بال.
__________
(1) الوزراء والكتاب للجهشيارى (1413).
(2) السيرة لابن هشام (3: 332331).(1/64)
وثمة رابعة تزيدك دليلا رابعا، يذكرها المؤرخون أيضا مع وفود وفد ثقيف على النبى، فلقد سألوا النبى، حين أسلموا، أن يكتب لهم كتابا فيه شروط، فقال لهم: اكتبوا ما بدا لكم ثم ائتونى به. فسألوه فى كتابهم أن يحل لهم الرّبا والزّنا. فأبى علىّ بن أبى طالب أن يكتب لهم، فسألوا خالد بن سعيد بن العاص أن يكتب لهم، فقال له علىّ: تدرى ما تكتب؟ قال: أكتب ما قالوا، ورسول الله أولى بأمره.
فذهبوا بالكتاب إلى رسول الله، فقال للقارئ: اقرأ، فلما انتهى إلى الرّبا، قال له الرسول: ضع يدى عليها، فوضع يده، فقال:
{يََا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللََّهَ وَذَرُوا مََا بَقِيَ مِنَ الرِّبََا} (1) ثم محاها. فلما بلغ «الزناء» وضع يده عليها وقال: {وَلََا تَقْرَبُوا الزِّنى ََ} (1) ثم محاها، وأمر بكتابنا أن ينسخ لنا (3).
ولقد عثر الباحثون على الكتابين المرسلين من النبى إلى المقوقس وإلى المنذر بن ساوى، والكتاب الأول محفوظ فى دار الآثار النبوية فى الآستانة، وكان قد عثر عليه عالم فرنسى فى دير بمصر قرب أخميم والكتاب الثانى محفوظ بمكتبة فينا.
ومن قبل هذه الأدلة يقول تعالى فى الرّسول: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ} (4). ويقول تعالى فى الرسول أيضا: {وَمََا كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتََابٍ وَلََا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ} (5).
__________
(1) الإسراء: 32.
(3) أسد الغابة ترجمة (تميم بن جراشة).
(4) الأعراف: 156.
(5) العنكبوت: 48.(1/65)
ولم تكن البيئة العربية على هذا بيئة كاتبة قارئة، بل كان ذلك فيها شيئا يعد ويحصى، وكان حظ المدينة من ذلك دون حظ مكة، ولم يكن في المدينة، حين هاجر إليها الرّسول، غير بضعة عشر رجلا يعرفون الكتابة، منهم: سعد بن زرارة، والمنذر بن عمرو، وأبيّ بن كعب، وزيد بن ثابت، ورافع بن مالك، وأوس بن خوليّ.
ولقد أحسّ الرسول ذلك بعد هجرته إلى المدينة، فكان أول ما فعله بعد انتصاره في بدر، وأسره من أسر من رجال قريش القارئين الكاتبين، أن جعل فدية هؤلاء أن يعلّم كل رجل منهم عشرة من صبيان المدينة، وبهذا بدأت الكتابة تروج سوقها في المدينة.
حتى إذا كان عهد عمر بن الخطاب أمر بجمع الصبيان في المكتب، وأمر عبد عامر بن عبد الخزاعي أن يتعهدهم بالتعليم، وجعل له رزقا على ذلك يتقاضاه من بيت المال.
وكان المعلم يجلس للصبيان بعد صلاة الصبح إلى أن يرتفع الضحى، ومن بعد صلاة الظهر إلى صلاة العصر.
وحين خرج عمر إلى الشام وغاب عن المدينة شهرا استوحش إليه الناس، وخرج صبيان المكتب للقائه على مسيرة يوم من المدينة، وكان ذلك يوم الخميس، ورجعوا معه إلى المدينة يوم الجمعة، وقد انقطعوا عن المكتب يومين أجازهما لهم عمر، وكانت بعد ذلك عادة متّبعة (1).
وحين اختار الله لرسالته محمدا اختار فيه صفات حسّية وصفات معنوية، أمدهما به وطبعه عليهما، فوهبه من الأولى نفسا قوية،
__________
(1) عنوان البيان. الفواكه الدواني على رسالة أبي زيدون القيرواني.(1/66)
وروحا عالية، وقلبا كبيرا، وذهنا وقّادا، وبصيرة نفاذة، ولسانا مبينا، وفكرا واعيا، ووهبه من الثانية صدق لسان، وطهارة ذيل، وعفّة بصر، وأمانة يد، ورحمة قلب، ورقة وجدان، ونبل عاطفة، ومضاء عزيمة، ورحمة للناس جميعا.
وكان اختيار الله له، أميّا لا يقرأ ولا يكتب، يضيف إلى إذعان الناس له وإيمانهم برسالته سببا يفسره تعالى فى قوله: {وَمََا كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتََابٍ وَلََا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ} (1)، ويبيّنه صدور هذا الوحى على لسانه يتلوه على قومه بكرة وعشيّا، ولا تبديل فيه ولا تغيير، وما يقوى على مثلها إلا من يملك أسفارا يعود إليها ليستظهر ما فيها.
وليس فى منطق الرسالات أن تكون الحجة للناس عليها، بل هى لا تطالع الناس إلا والحجة لها عليهم، كما لا تطالعهم إلا وفى صفحاتها الجواب على كل ما يصوّره لهم تصوّرهم تحوط السماء رسالاتها بهذا كله لكيلا يكون للناس على الله حجة، وليكون منطق الرسالات من منطق الناس، لا تلتوى عليهم الرسالة فيلتووا هم عليها.
ولم يكن اختيار محمد قارئا وكاتبا شيئا يعز على السماء، ولكنه كان شيئا إن تم يهوّن من حجة السماء فى نفوس الناس، وكانوا عندها يملكون أن يقولوا باطلا، ما حرص القرآن على ألا يقولوه: من أن هذا الذى جاء به الرسول أخذه من أسفار سابقة.
وهذه التى ألزمتها حجة السماء السلف من قبل، فأذعنوا لها عن وعى
__________
(1) العنكبوت: 48.(1/67)
وبصر وأعنى به أمية الرسول أراد أن يثيرها نفر من الخلف من بعد ليخرجوا على حجة السماء عن غير وعى ولا بصر.
غير أننا نفيد من هذا الذى يريد الخلف أن يثيروه تأكيد المعنى الذى قدّمناه من أن حجة السماء تجىء أشمل ما تكون بشكوك العقول، محيطة بكلّ ما يصدر عنهم فيها، يستوى فى ذلك أولهم وآخرهم.
وقد ننسى مع هؤلاء المخالفين الطاعنين تقرير القرآن الصادق عن أمية محمد، والأدلة القائمة فى ظل القرآن على ذلك، قد ننسى هذا وذاك لنسائلهم: أى جديد يفيدهم هذا إن صح وقد مضى على رسالة محمد ما يقرب من أربعة عشر قرنا، خطا فيها العلم والبحث خطوات سريعة، وما وجدنا شيئا ينال من هذه الرسالة من قرب أو من بعد، جهر به أو أسرّ من يريدون أن يجعلوا محمدا قارئا كاتبا، وأن يجعلوا من هذا سببا إلى أنه نقل عن أسفار سابقة.(1/68)
وقد ننسى مع هؤلاء المخالفين الطاعنين تقرير القرآن الصادق عن أمية محمد، والأدلة القائمة فى ظل القرآن على ذلك، قد ننسى هذا وذاك لنسائلهم: أى جديد يفيدهم هذا إن صح وقد مضى على رسالة محمد ما يقرب من أربعة عشر قرنا، خطا فيها العلم والبحث خطوات سريعة، وما وجدنا شيئا ينال من هذه الرسالة من قرب أو من بعد، جهر به أو أسرّ من يريدون أن يجعلوا محمدا قارئا كاتبا، وأن يجعلوا من هذا سببا إلى أنه نقل عن أسفار سابقة.
2 - نزول الوحى
وقد تقدم أن ابتداء نزول الوحى كان فى السابع عشر من رمضان، من السنة الحادية والأربعين من ميلاد الرسول، وأن قوله تعالى:
{إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللََّهِ وَمََا أَنْزَلْنََا عَلى ََ عَبْدِنََا يَوْمَ الْفُرْقََانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعََانِ} (1) يشير إلى ذلك، فالتقاء الجمعين أعنى المسلمين والمشركين ببدر كان فى السابع عشر من رمضان من السنة الثانية للهجرة، وفى مثلها من السنة الحادية والأربعين من مولده كان ابتداء نزول الفرقان. ينضم إلى هذه الآية قوله تعالى: {شَهْرُ رَمَضََانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنََّاسِ وَبَيِّنََاتٍ مِنَ الْهُدى ََ وَالْفُرْقََانِ} (2).
والصحيح أن أول ما نزل من القرآن قوله تعالى: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} (3) ثم كانت فترة الوحى التى أشرنا إليها من قبل، والتى مكثت سنين ثلاثا. وبعدها أخذ القرآن ينزل على الرسول منجما، فنزلت: ن والقلم، ثم: المزمل، ثم: المدثر (4)، إلى غير ذلك مما نزل مقامه صلى الله عليه وسلم بمكة، منذ بعث إلى أن هاجر، وكان ذلك اثنتى عشرة سنة وخمسة أشهر وثلاثة عشر يوما، أى منذ اليوم السابع عشر من رمضان من سنة إحدى وأربعين من مولده إلى اليوم الأول من شهر ربيع الأول من سنة أربع وخمسين من مولده.
__________
(1) الأنفال: 41.
(2) البقرة: 185.
(3) العلق: 1.
(4) الفهرست لابن النديم (ص: 37) المطبعة الرحمانية.(1/69)
وأما آخر ما نزل من القرآن الكريم فمختلف فيه، فقيل قوله تعالى:
{إِذََا جََاءَ نَصْرُ اللََّهِ} (1).
وقيل: قوله تعالى: {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللََّهُ لََا إِلََهَ إِلََّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} (2).
وقيل: قوله تعالى: {وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللََّهِ} (3)، وكان بين نزولها ووفاة النبي، صلى الله عليه وسلم، أحد وثمانون يوما، وقيل: تسع ليال.
والمتفق عليه، وعليه المصحف الذي بين أيدينا، أن المدني من سور القرآن ثمان وعشرون سورة، هي:
(1) البقرة (2) آل عمران (3) النساء (4) المائدة (5) الأنفال (6) التوبة (7) الرعد (8) الحج (9) النور (10) الأحزاب (11) محمد (12) الفتح (13) الحجرات (14) الرحمن (15) الحديد (16) المجادلة (17) الحشر (18) الممتحنة (19) الصف (20) الجمعة (21) المنافقون (22) التغابن (23) الطلاق (24) التحريم (25) الإنسان (26) البينة (27) الزلزلة (28) النصر.
وما بعد هذه السور الثماني والعشرين فهو مكي، أعني نزل بمكة وما حواليها.
__________
(1) النصر: 1.
(2) النساء: 175.
(3) البقرة: 281.(1/70)
أما على رأي من يقول: إن المراد بالمكي هو ما جاء خطابا لأهل مكة وأن المدني هو ما جاء خطابا لأهل المدينة، فالأمر يختلف.
وإذا عرفنا أن سور القرآن عددها أربع عشرة ومائة سورة (1)، كان ما نزل بمكة هو ست وثمانون سورة.
وإذا شئت مزيدا من الحصر فعدد آيات السور المدنية الثماني والعشرين هو ثلاث وعشرون وستمائة وألف آية «1623»، وعدد آيات السور المكية الست والثمانين هو ثلاث عشرة وستمائة وأربعة آلاف آية «4613»، فيكون مجموع آي القرآن، مدنية ومكية: ستا وثلاثين ومائتين وستة آلاف «6236». وهذا هو المعتد به.
وأنت بهذا تجد أن أكثر القرآن نزل بمكة قبل الهجرة، وأن السور المدنية تكاد تعدل الثّلث من مجموع السور المكية، تزيد على الثلث قليلا، وأن مجموع آيات السور المدنية يكاد يعدل الثلث من مجموع السور المكية، ينقص عن الثّلث قليلا.
__________
(1) هذا ما عليه الإجماع. ومن السلف من يجعل الأنفال وبراءة سورة واحدة، وعلى هذا يكون عدد السور 113وفي مصحف أبي 116لأنه زاد في الآخر سورتين هما: الجيد والخلع.(1/71)
3 - عدد الآيات
والآية طائفة من القرآن منقطعة عما قبلها وعما بعدها، وهى مسألة توقيفية أخذت عن الرسول. وهذا الاختلاف الذى وقع بين السلف فى عدد الآيات مرجعه إلى اختلاف السامعين عن الرسول فى ضبط الوقف والوصل، فالمعروف أنه كان، صلى الله عليه وسلم، يقف على رءوس الآى للتوقيف، فإذا علم محلها وصل للتمام، فوهم بعض السامعين عند الوصل أن ليس ثمة فصل، ومن هنا كان الخلاف.
وسور القرآن بالنظر إلى اختلاف عدد آياتها ثلاثة أقسام:
1 - قسم لم يختلف فيه إجمالا ولا تفصيلا.
2 - قسم اختلف فيه تفصيلا لا إجمالا.
3 - قسم اختلف فيه تفصيلا وإجمالا.
فالقسم الذى لم يختلف فيه إجمالا وتفصيلا أربعون سورة، وهى:
(1) يوسف: 111 (2) الحجر: 99 (3) النحل: 128 (4) الفرقان: 77 (5) الأحزاب: 73 (6) الفتح: 29 (7) الحجرات:
18 (8) التغابن: 18 (9) ق: 45 (10) الذاريات: 60 (11) القمر: 55 (12) الحشر: 24 (13) الممتحنة: 13 (14) الصف: 14 (15) الجمعة: 11 (16) المنافقون: 11 (17) الضحى: 11 (18) العاديات: 11 (19) التحريم: 12 (20) ن: 52 (21) الإنسان: 31 (22) المرسلات: 50 (23) التكوير: 29 (24) الانفطار: 19 (25) سبح: 19
(26) التطفيف: 36 (27) البروج: 22 (28) الغاشية: 26 (29) البلد: 20 (30) الليل: 21 (31) ألم نشرح: 8 (32) التين: 8 (33) ألهاكم: 8 (34) الهمزة: 9 (35) الفيل:(1/72)
18 (8) التغابن: 18 (9) ق: 45 (10) الذاريات: 60 (11) القمر: 55 (12) الحشر: 24 (13) الممتحنة: 13 (14) الصف: 14 (15) الجمعة: 11 (16) المنافقون: 11 (17) الضحى: 11 (18) العاديات: 11 (19) التحريم: 12 (20) ن: 52 (21) الإنسان: 31 (22) المرسلات: 50 (23) التكوير: 29 (24) الانفطار: 19 (25) سبح: 19
(26) التطفيف: 36 (27) البروج: 22 (28) الغاشية: 26 (29) البلد: 20 (30) الليل: 21 (31) ألم نشرح: 8 (32) التين: 8 (33) ألهاكم: 8 (34) الهمزة: 9 (35) الفيل:
5 (36) الفلق: 5 (37) تبت: 5 (38) الكافرون: 6 (39) الكوثر: 3 (40) النصر: 3.
والقسم الثانى، وهو الذى اختلف فيه تفصيلا لا إجمالا، أربع سور، وهى:
(1) القصص: 88يعد أهل الكوفة «طسم» آية، ويعد غيرهم بدلها {أُمَّةً مِنَ النََّاسِ يَسْقُونَ} (الآية: 22).
(2) العنكبوت: 59يعد أهل الكوفة «الم» آية، ويعد البصريون بدلها {مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} (الآية: 65). والشاميون {وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ} (الآية: 29).
(3) الجن: 28يعد المكى {قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللََّهِ أَحَدٌ}
(الآية: 22). ويعد غيره بدلها {وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً} (الآية:
22).
(4) العصر: 3الكثرة تعد «والعصر» آية، غير المدنى فإنه يعد بدلها {وَتَوََاصَوْا بِالْحَقِّ} (الآية: 3).
وأما القسم الثالث، وهو الذى اختلف فيه تفصيلا وإجمالا، سبعون سورة، وهى:
(1) الفاتحة من حيث التفصيل، فالجمهور على أنها سبع آيات، يعد الكوفى والمكى البسملة دون «أنعمت عليهم». ويعكس الباقون.(1/73)
وأما القسم الثالث، وهو الذى اختلف فيه تفصيلا وإجمالا، سبعون سورة، وهى:
(1) الفاتحة من حيث التفصيل، فالجمهور على أنها سبع آيات، يعد الكوفى والمكى البسملة دون «أنعمت عليهم». ويعكس الباقون.
ومن حيث الإجمال: فالحسن يعد آياتها ثمانى آيات، حين يعد البسملة و «أنعمت عليهم» آيتين.
ويعدّها بعضهم ستّا، فلا يعدون هاتين الآيتين.
كما يعدها آخرون تسعا، فيعدون هاتين ويضمون إليها «إياك نعبد».
(2) البقرة 258، وقيل: 257، وقيل: 256.
(3) آل عمران 200، وقيل: 199.
(4) النساء 175، وقيل: 176، وقيل: 177.
(5) المائدة 120، وقيل: 122، وقيل: 123.
(6) الأنعام 165، وقيل: 166، وقيل: 167.
(7) الأعراف 205، وقيل: 206.
(8) الأنفال 75، وقيل: 76، وقيل: 77.
(9) براءة 130، وقيل: 129.
(10) يونس 110، وقيل: 109.
(11) هود 121، وقيل: 122، وقيل: 123.
(12) الرعد 43، وقيل: 44، وقيل: 47.
(13) إبراهيم 51، وقيل: 52، وقيل: 54، وقيل: 55.
(14) الاسراء 110، وقيل: 111.
(15) الكهف 105، وقيل: 106، وقيل: 110، وقيل: 111.
(16) مريم 99، وقيل: 98.(1/74)
(15) الكهف 105، وقيل: 106، وقيل: 110، وقيل: 111.
(16) مريم 99، وقيل: 98.
(17) طه 130، وقيل: 132، وقيل: 134، وقيل: 135. وقيل:
140.
(18) الأنبياء 111، وقيل: 112.
(19) الحج 74، وقيل: 75، وقيل: 76، وقيل: 78.
(20) المؤمنون 118، وقيل: 119.
(21) النور 62، وقيل: 64.
(22) الشعراء 226، وقيل: 227.
(23) النمل 92، وقيل: 94، وقيل: 95.
(24) الروم 60، وقيل: 59.
(25) لقمان 33، وقيل: 34.
(26) السجدة 30، وقيل: 29.
(27) سبأ 54، وقيل: 55.
(28) فاطر 64، وقيل: 65.
(29) يس 83، وقيل: 82.
(30) الصافات 181، وقيل: 182.
(31) ص 85، وقيل: 86، وقيل: 88.
(32) الزمر 72، وقيل: 73، وقيل: 75.
(33) غافر 82، وقيل: 84، وقيل: 85، وقيل: 86.
(34) فصلت 52، وقيل: 53، وقيل: 54.
(35) الشورى 53، وقيل: 50.
(36) الزخرف 89، وقيل: 88.
(37) الدخان 56، وقيل: 57، وقيل: 59.(1/75)
(36) الزخرف 89، وقيل: 88.
(37) الدخان 56، وقيل: 57، وقيل: 59.
(38) الجاثية 36، وقيل: 37.
(39) الأحقاف 34، وقيل: 35.
(40) القتال 40، وقيل: 39، وقيل: 38.
(41) الطور 47، وقيل: 48، وقيل: 49.
(42) النجم 61، وقيل: 62.
(43) الرحمن 77، وقيل: 76، وقيل: 78.
(44) الواقعة 99، وقيل: 97، وقيل: 96.
(45) الحديد 38، وقيل: 39.
(46) المجادلة 22، وقيل: 21.
(47) الطلاق 11، وقيل: 12.
(48) الملك 30، وقيل: 31، والصحيح الأول.
(49) الحاقة 51، وقيل: 52.
(50) المعارج 44، وقيل: 43.
(51) نوح 30، وقيل: 29، وقيل: 28.
(52) المزمل 20، وقيل: 19، وقيل: 18.
(53) المدثر 55، وقيل: 56.
(54) القيامة 40، وقيل: 39.
(55) النبأ 40، وقيل: 41.
(56) النازعات 45، وقيل: 46.
(57) عبس 40، وقيل: 41، وقيل: 42.
(58) الانشقاق 25، وقيل: 24، وقيل: 23.
(59) الطارق 17، وقيل: 16.(1/76)
(58) الانشقاق 25، وقيل: 24، وقيل: 23.
(59) الطارق 17، وقيل: 16.
(60) الفجر 30، وقيل: 29، وقيل: 32.
(61) الشمس 15، وقيل: 16.
(62) العلق 20، وقيل: 19.
(63) القدر 5، وقيل: 6.
(64) البينة 8، وقيل: 9.
(65) الزلزلة 9، وقيل: 8.
(66) القارعة 8، وقيل: 10، وقيل: 11.
(67) قريش 4، وقيل: 5.
(68) الماعون 7، وقيل: 6.
(69) الإخلاص 4، وقيل: 5.
(70) الناس 7، وقيل: 6.(1/77)
(70) الناس 7، وقيل: 6.
4 - ترتيب الآيات
وكما كان ضبط الآيات بفواصلها توقيفا، كذلك كان وضعها فى مواضعها توقيفا، دليل ذلك الآية (واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله) البقرة: 281كانت آخر ما نزل، فوضعها النبى عن وحى من ربه بين آيتى الربا (1) والدين (2) من سورة البقرة، وهكذا كان الأمر فى سائر الآيات.
(1) ففي سورة الأنعام وهى مكية الآيات: 20و 23و 91 و 93و 114و 141و 151و 153، فهى مدنية.
(2) وفى سورة الأعراف وهى مكية الآيات من 170163، فهى مدنية.
(3) وفى سورة يونس وهى مكية الآيات: 40و 94و 95 و 96، فهى مدنية.
(4) وفى سورة هود وهى مكية الآيات: 12و 17و 114، فهى مدنية.
(5) وفى سورة يوسف وهى مكية الآيات: 1و 2و 3و 7، فهى مدنية.
(6) وفى سورة إبراهيم وهى مكية الآيتان: 28و 29، فهما مدنيتان.
__________
(1) البقرة: 280278.
(2) البقرة: 284.(1/78)
(7) وفي سورة الحجر وهي مكية الآية: 87، فهي مدنية.
(8) وفي سورة النحل وهي مكية الآيات الثلاث الأخيرة، فهي مدنية.
(9) وفي سورة الإسراء وهي مكية الآيات: 26و 32و 33و 57 و 8073، فهي مدنية.
(10) وفي سورة الكهف وهي مكية الآيات: 28و 10183، فهي مدنية.
(11) وفي سورة مريم وهي مكية الآيتان: 58و 71، فهما مدنيتان.
(12) وفي سورة طه وهي مكية الآيتان: 130و 131، فهما مدنيتان.
(13) وفي سورة الفرقان وهي مكية الآيات: 68و 69و 70، فهي مدنية.
(14) وفي سورة الشعراء وهي مكية الآيات: 197و 224إلى آخر السورة، فهي مدنية.
(15) وفي سورة القصص وهي مكية الآيات: 5552، فهي مدنية.
(16) وفي سورة العنكبوت وهي مكية الآيات: من 111، فهي مدنية.
(17) وفي سورة الروم وهي مكية الآية: 17، فهي مدنية.
(18) وفى سورة لقمان وهى مكية الآيات: 27و 28و 29، فهى مدنية.(1/79)
(17) وفي سورة الروم وهي مكية الآية: 17، فهي مدنية.
(18) وفى سورة لقمان وهى مكية الآيات: 27و 28و 29، فهى مدنية.
(19) وفى سورة السجدة وهى مكية الآيات: من 2016، فهى مدنية.
(20) وفى سورة سبأ وهى مكية الآية: 6، فهي مدنية.
(21) وفى سورة يس وهى مكية الآية: 45، فهى مدنية.
(22) وفى سورة الزمر وهى مكية الآيات: 52و 53و 54، فهى مدنية.
(23) وفي سورة غافر وهي مكية الآيتان: 56و 57، فهما مدنيتان.
(24) وفى سورة الشورى وهى مكية الآيات: 23و 24و 25 و 27، فهى مدنية.
(25) وفى سورة الزخرف وهي مكية الآية: 54، فهى مدنية.
(26) وفى سورة الأحقاف وهي مكية الآيات: 10و 15و 35، فهى مدنية.
(27) وفى سورة ق وهى مكية الآية: 38، فهى مدنية.
(28) وفى سورة النجم وهى مكية الآية: 32، فهى مدنية.
(29) وفى سورة القمر وهى مكية الآيات: 44و 45و 46، فهى مدنية.
(30) وفى سورة الواقعة وهى مكية الآيتان: 81و 82، فهما مدنيتان.(1/80)
(29) وفى سورة القمر وهى مكية الآيات: 44و 45و 46، فهى مدنية.
(30) وفى سورة الواقعة وهى مكية الآيتان: 81و 82، فهما مدنيتان.
(31) وفى سورة القلم وهى مكية الآيات: 3317و 48 50، فهى مدنية.
(32) وفى سورة المزمل وهى مكية الآيات: 10و 11و 20، فهى مدنية.
(33) وفى سورة المرسلات وهي مكية الآية: 48، فهى مدنية.
(34) وفى سورة الماعون وهى مكية الآيات من الرابعة إلى آخر السورة، فهى مدنية.
هذا عن السور المكية وما فيها من الآيات المدنية، أما عن السور المدنية وما فيها من آيات مكية:
(35) ففي سورة البقرة وهى مدنية الآية: 281، فقد نزلت فى حجة الوداع.
(36) وفى سورة المائدة وهى مدنية الآية: 3، فقد نزلت بعرفات فى حجة الوداع.
(37) وفى سورة الأنفال وهى مدنية الآيات من 3630، فهي مكية.
(38) وفى سورة التوبة وهى مدنية الآيتان الأخيرتان، فهما مكيتان.
(تأريخ القرآن)
(39) وفى سورة الحج وهى مدنية الآيات: 52و 53و 54 و 55، فقد نزلت بين مكة والمدينة.(1/81)
(تأريخ القرآن)
(39) وفى سورة الحج وهى مدنية الآيات: 52و 53و 54 و 55، فقد نزلت بين مكة والمدينة.
(40) وفى سورة محمد وهى مدنية الآية: 13، فقد نزلت فى الطريق أثناء الهجرة.
ويرتب الفقهاء على عدد الآيات أحكاما فقهية، من ذلك مثلا:
من لم يحفظ الفاتحة فيجب عليه فى الصلاة بدلها سبع آيات. هذا فيمن عدّ الفاتحة سبعا، كما لا تصح الصلاة بنصف آية.
وحدّ السورة فى القرآن أنها تشتمل على آيات ذات فاتحة وخاتمة.
وأقل الآيات التى تشتمل عليها السورة ثلاث.(1/82)
وأقل الآيات التى تشتمل عليها السورة ثلاث.
5 - أسماء السور
وكما كانت الآيات بفواصلها وبترتيبها توقيفا، كذلك كانت الحال فى السور فى جمعها وفى أسمائها، فكلاهما أعنى اسم السورة وما تنتظمه من آيات توقيف.
وقد يكون للسورة اسم واحد، وعليه الكثرة من سور القرآن، وقد يكون لها اسمان فأكثر، من ذلك مثلا:
1 - الفاتحة، فهى تسمى أيضا: أم الكتاب، والسبع المثانى، والحمد، والواقية، والشافية.
2 - النمل، فهى تسمى أيضا: سورة سليمان.
3 - السجدة، فهى تسمى أيضا: سورة المضاجع.
4 - فاطر، فهى تسمى أيضا: سورة الملائكة.
5 - الزمر، فهى تسمى أيضا: سورة الغرف.
6 - غافر، فهى تسمى أيضا: سورة المؤمن.
7 - الجاثية، فهى تسمى أيضا: سورة الدهر.
8 - محمد، فهى تسمى أيضا: سورة القتال.
9 - الصف، فهى تسمى أيضا: سورة الحواريين.
10 - تبارك، فهى تسمى أيضا: سورة الملك.
11 - عم، فهى تسمى أيضا: سورة النبأ، والتساؤل، والمعصرات.
12 - لم يكن، فهى تسمى أيضا: سورة أهل الكتاب، والبينة، والقيامة.(1/83)
12 - لم يكن، فهى تسمى أيضا: سورة أهل الكتاب، والبينة، والقيامة.
6 - ترتيب السور
أما عن ترتيب السور، فمن السلف من يقول إنه توقيفى، ويستدل على ذلك بورود الحواميم مرتّبة ولاء، وكذا الطواسين، على حين لم ترتب المسبحات ولاء، بل جاءت مفصولا بين سورها، وفصل بين طسم الشعراء، وطسم القصص، بطس، مع أنها أقصر منها، ولو كان الترتيب اجتهادا لذكرت المسبحات ولاء، وأخرت طس عن القصص.
كما يجعلون فيما نقله «الشهرستانى محمد بن عبد الكريم» فى تفسيره «مفاتيح الأسرار ومصابيح الأبرار» عند الكلام على قوله تعالى {وَلَقَدْ آتَيْنََاكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثََانِي} (1): هى السبع الطوال: البقرة، وآل عمران، والنساء، والمائدة، والأنعام، والأعراف، ويونس دليلا على أن هذا الترتيب كان بتوقيف من النبى.
والذين يقولون إن ترتيب السور اجتهادى، يستدلون على ذلك بورود السور مختلفة الترتيب فى المصاحف الأربعة التى أثرت عن أربعة من كبار الصحابة، هم: على بن أبى طالب، وأبى بن كعب، وعبد الله ابن مسعود، وعبد الله بن عباس.
أما عن مصحف «على» فيعزى إليه أنه رأى من الناس طيرة عند وفاة النبى، صلى الله عليه وسلم، فأقسم ألّا يضع عن ظهره رداءه حتى يجمع القرآن، فجلس فى بيته ثلاثة أيام حتى جمع القرآن، فكان أول مصحف جمع فيه القرآن من قلبه.
__________
(1) الحجر: 87.(1/84)
ويروى ابن النديم فى كتابه «الفهرست» أن هذا المصحف كان عند أهل جعفر، ويقول: «ورأيت أنا فى زماننا عند أبى يعلى حمزة الحسنى رحمه الله مصحفا قد سقطت منه أوراق بخط على بن أبى طالب، يتوارثه بنو حسن على مر الزمان. وهذا ترتيب السور من ذلك المصحف» (1).
غير أن كتاب «الفهرست» فى طبعتيه الأوربية والمصرية يسقط منه ما بعد هذا، فلا يورد ترتيب السور الذى أشار إليه.
ونجد اليعقوبى أحمد بن أبى يعقوب، وهو من رجال القرن الثالث الهجرى، يطالعنا بما سقط من الفهرست فى الجزء الثانى من تاريخه (154152) طبعة «بريل» سنة 1883م. فيقول قبل أن يسوق الترتيب: وروى بعضهم أن على بن أبى طالب عليه السلام كان جمعه يعنى القرآن لما قبض رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وأتى به يحمله على جمل، فقال: هذا القرآن جمعته، وكان قد جزأه سبعة أجزاء:
جزء البقرة، جزء آل عمران، جزء النساء، جزء المائدة، جزء الأنعام، جزء الأعراف، جزء الأنفال، وذلك باعتبار أول كل جزء.
ويروى غير واحد أن مصحف «على» كان على ترتيب النزول، وتقديم المنسوخ على الناسخ (2).
وأما عن مصحف «أبى» فيقول ابن النديم: قال الفضل بن شاذان:
أخبرنا الثقة من أصحابنا قال: كان تأليف السور فى قراءة أبى بن كعب
__________
(1) الفهرست (4241) المطبعة الرحمانية.
(2) تاريخ القرآن للزنجانى (ص: 26).(1/85)
بالبصرة فى قرية يقال لها: قرية الأنصار، على رأس فرسخين، عند محمد بن عبد الملك الأنصارى، أخرج إلينا مصحفا وقال: هو مصحف «أبى» رويناه عن آبائنا. فنظرت فيه فاستخرجت أوائل السور وخواتيم الرسل وعدد الآى (1).
ثم مضى يذكر السور مرتبة كما جاءت فى هذا المصحف.
وأما عن مصحف عبد الله بن مسعود، فينقل ابن النديم عن الفضل ابن شاذان أيضا، فيقول: قال: وجدت فى مصحف عبد الله بن مسعود تأليف سور القرآن على هذا الترتيب (2).
ثم يسوق ابن النديم هذا الترتيب.
ثم يقول ابن النديم: قال أبو شاذان: قال ابن سيرين: وكان عبد الله بن مسعود لا يكتب المعوذتين فى مصحفه ولا فاتحة الكتاب.
ثم يقول ابن النديم: رأيت عدة مصاحف ذكر نساخها أنها مصحف ابن مسعود، ليس فيها مصحفان متفقان، وأكثرها فى رق كثير النسخ. وقد رأيت مصحفا قد كتب منذ نحو مائتى سنة فيه فاتحة الكتاب.
وأما عن مصحف عبد الله بن عباس (68هـ)، وكان رأس المفسرين، فقد ذكر الشهرستانى محمد بن عبد الكريم (548هـ) هذا الترتيب فى مقدمة تفسيره «مفاتيح الأسرار ومصابيح الأبرار».
__________
(1) تاريخ القرآن للزنجانى (ص: 26).
(2) الفهرست (4029).(1/86)
وهاك جدولا يجمع الترتيب فى هذه المصاحف الأربعة:
الجزء الأول
مصحف على: مصحف أبى: مصحف ابن مسعود: مصحف ابن عباس 1البقرة: فاتحة الكتاب: البقرة: اقرأ 2يوسف: البقرة: النساء: ن 3العنكبوت: النساء: آل عمران: والضحى 4الروم: آل عمران: المص: المزمل 5لقمان: الأنعام: الأنعام: المدثر 6حم السجدة: الأعراف: المائدة: الفاتحة 7الذاريات: المائدة: يونس: تبت 8هل أتى على الإنسان: الأنفال: براءة: كورت 9الم تنزيل: التوبة: النحل: الأعلى 10السجدة: هود: هود: والليل 11النازعات: مريم: يوسف: والفجر 12إذا الشمس كورت: الشعراء: بنى إسرائيل: ألم نشرح 13إذا السماء انفطرت: الحج: الأنبياء: الرحمن 14إذا السماء انشقت: يوسف: المؤمنون: والعصر 15سبح اسم ربك الأعلى: الكهف: الشعراء: الكوثر 16لم يكن: النحل: الصافات: التكاثر(1/87)
مصحف على: مصحف أبى: مصحف ابن مسعود: مصحف ابن عباس 1البقرة: فاتحة الكتاب: البقرة: اقرأ 2يوسف: البقرة: النساء: ن 3العنكبوت: النساء: آل عمران: والضحى 4الروم: آل عمران: المص: المزمل 5لقمان: الأنعام: الأنعام: المدثر 6حم السجدة: الأعراف: المائدة: الفاتحة 7الذاريات: المائدة: يونس: تبت 8هل أتى على الإنسان: الأنفال: براءة: كورت 9الم تنزيل: التوبة: النحل: الأعلى 10السجدة: هود: هود: والليل 11النازعات: مريم: يوسف: والفجر 12إذا الشمس كورت: الشعراء: بنى إسرائيل: ألم نشرح 13إذا السماء انفطرت: الحج: الأنبياء: الرحمن 14إذا السماء انشقت: يوسف: المؤمنون: والعصر 15سبح اسم ربك الأعلى: الكهف: الشعراء: الكوثر 16لم يكن: النحل: الصافات: التكاثر
الجزء الثانى
مصحف على: مصحف أبى: مصحف ابن مسعود: مصحف ابن عباس 17آل عمران: الأحزاب: الأحزاب: الدين 18هود: بنى إسرائيل: القصص: الفيل 19الحج: الزمر: النور: الكافرون 20الحجر: حم تنزيل: الأنفال: الإخلاص 21الأحزاب: طه: مريم: النحل 22الدخان: الأنبياء: العنكبوت: الأعمى 23الحاقة: النور: الروم: القدر 24سأل سائل: المؤمنون: يس: والشمس 25عبس وتولى: حم المؤمن: الفرقان: البروج 26والشمس وضحاها: الرعد: الحج: التين 27إنا أنزلناه: طسم: الرعد: قريش 28إذا زلزلت: القصص: سبأ: القارعة 29ويل لكل همزة: طس: الملائكة: القيامة 30ألم تر كيف: سليمان: إبراهيم: الهمزة 31لإيلاف قريش: الصافات: ص: والمرسلات(1/88)
مصحف على: مصحف أبى: مصحف ابن مسعود: مصحف ابن عباس 17آل عمران: الأحزاب: الأحزاب: الدين 18هود: بنى إسرائيل: القصص: الفيل 19الحج: الزمر: النور: الكافرون 20الحجر: حم تنزيل: الأنفال: الإخلاص 21الأحزاب: طه: مريم: النحل 22الدخان: الأنبياء: العنكبوت: الأعمى 23الحاقة: النور: الروم: القدر 24سأل سائل: المؤمنون: يس: والشمس 25عبس وتولى: حم المؤمن: الفرقان: البروج 26والشمس وضحاها: الرعد: الحج: التين 27إنا أنزلناه: طسم: الرعد: قريش 28إذا زلزلت: القصص: سبأ: القارعة 29ويل لكل همزة: طس: الملائكة: القيامة 30ألم تر كيف: سليمان: إبراهيم: الهمزة 31لإيلاف قريش: الصافات: ص: والمرسلات
الجزء الثالث
مصحف على: مصحف أبى: مصحف ابن مسعود: مصحف ابن عباس 32النساء: داود: الذين كفروا: ق 33النحل: ص: القمر: البلد 34المؤمنون: يس: الزمر: الطارق 35يس: أصحاب الحجر: الحواميم: القمر 36حمعسق: حم عسق: حم المؤمن: ص 37الواقعة: الروم: حم الزخرف: الأعراف 38تبارك الملك: الزخرف: السجدة: الجن 39يأيها المدثر: حم السجدة: الأحقاف: يس 40أرأيت: إبراهيم: الجاثية: الفرقان 41تبت: الملائكة: الدخان: الملائكة 42قل هو الله أحد: الفتح: إنا فتحنا: مريم 43والعصر: محمد: الحديد: طه 44القارعة: الحديد: سبح: الشعراء 45والسماء ذات البروج: الظهار: الحشر: النمل 46والتين والزيتون: تبارك: تنزيل: القصص 47طس: الفرقان: السجدة: بنى إسرائيل(1/89)
مصحف على: مصحف أبى: مصحف ابن مسعود: مصحف ابن عباس 32النساء: داود: الذين كفروا: ق 33النحل: ص: القمر: البلد 34المؤمنون: يس: الزمر: الطارق 35يس: أصحاب الحجر: الحواميم: القمر 36حمعسق: حم عسق: حم المؤمن: ص 37الواقعة: الروم: حم الزخرف: الأعراف 38تبارك الملك: الزخرف: السجدة: الجن 39يأيها المدثر: حم السجدة: الأحقاف: يس 40أرأيت: إبراهيم: الجاثية: الفرقان 41تبت: الملائكة: الدخان: الملائكة 42قل هو الله أحد: الفتح: إنا فتحنا: مريم 43والعصر: محمد: الحديد: طه 44القارعة: الحديد: سبح: الشعراء 45والسماء ذات البروج: الظهار: الحشر: النمل 46والتين والزيتون: تبارك: تنزيل: القصص 47طس: الفرقان: السجدة: بنى إسرائيل
الجزء الرابع
مصحف على: مصحف أبى: مصحف ابن مسعود: مصحف ابن عباس 48النمل: الم تنزيل: ق: يونس 49المائدة: نوح: الطلاق: هود 50يونس: الأحقاف: الحجرات: يوسف 51مريم: ق: تبارك الذى بيده الملك: الحجر 52طسم: الرحمن: التغابن: الأنعام 53الشعراء: الواقعة: المنافقون: الصافات 54الزخرف: الجن: الجمعة: لقمان 55الحجرات: النجم: الحواريون: سبأ 56ق: ن: قل أوحى: الزمر 57اقتربت الساعة: الحاقة: إنا أرسلنا نوحا: المؤمن 58الممتحنة: الحشر: المجادلة: حم السجدة 59والسماء والطارق: الممتحنة: الممتحنة: حم عسق 60لا أقسم بهذا البلد: المرسلات: يأيها النبى لم تحرم: الزخرف 61ألم نشرح لك: عم يتساءلون: الرحمن: الدخان 62والعاديات: الإنسان: النجم: الجاثية 63إنا أعطيناك الكوثر: لا أقسم: الذاريات: الأحقاف 64قل يأيها الكافرون: كورت: الطور (1) الذاريات
__________
(1) وفى رواية أخرى: الطور قبل الذاريات. (ابن النديم).(1/90)
الجزء الخامس
مصحف على: مصحف أبى: مصحف ابن مسعود: مصحف ابن عباس 65الأنعام: النازعات: اقتربت الساعة: الغاشية 66سبحان: عبس: الحاقة: الكهف 67اقتربت: المطففون: إذا وقعت: النحل 68الفرقان: إذا السماء انشقت: ن والقلم: نوح 69موسى: التين: النازعات: إبراهيم 70فرعون: اقرأ باسم ربك: سأل سائل: الأنبياء 71حم: الحجرات: المدثر: المؤمنون 72المؤمن: المنافقون: المزمل: الرعد 73المجادلة: الجمعة: المطففين: الطور 74الحشر: النبى: عبس: الملك 75الجمعة: الفجر: الدهر: الحاقة 76المنافقون: الملك: القيامة: المعارج 77ن والقلم: والليل إذا يغشى: المرسلات: النساء 78إنا أرسلنا نوحا: إذا السماء انفطرت: عم يتساءلون: والنازعات 79قل أوحى إلى: الشمس وضحاها: التكوير: انفطرت 80المرسلات: والسماء ذات البروج: الانفطار: انشقت 81والضحى: الطارق: هل أتاك حديث الغاشية: الروم 82ألهاكم: سبح اسم ربك الأعلى: سبح اسم ربك الأعلى: العنكبوت(1/91)
مصحف على: مصحف أبى: مصحف ابن مسعود: مصحف ابن عباس 65الأنعام: النازعات: اقتربت الساعة: الغاشية 66سبحان: عبس: الحاقة: الكهف 67اقتربت: المطففون: إذا وقعت: النحل 68الفرقان: إذا السماء انشقت: ن والقلم: نوح 69موسى: التين: النازعات: إبراهيم 70فرعون: اقرأ باسم ربك: سأل سائل: الأنبياء 71حم: الحجرات: المدثر: المؤمنون 72المؤمن: المنافقون: المزمل: الرعد 73المجادلة: الجمعة: المطففين: الطور 74الحشر: النبى: عبس: الملك 75الجمعة: الفجر: الدهر: الحاقة 76المنافقون: الملك: القيامة: المعارج 77ن والقلم: والليل إذا يغشى: المرسلات: النساء 78إنا أرسلنا نوحا: إذا السماء انفطرت: عم يتساءلون: والنازعات 79قل أوحى إلى: الشمس وضحاها: التكوير: انفطرت 80المرسلات: والسماء ذات البروج: الانفطار: انشقت 81والضحى: الطارق: هل أتاك حديث الغاشية: الروم 82ألهاكم: سبح اسم ربك الأعلى: سبح اسم ربك الأعلى: العنكبوت
الجزء السادس
مصحف على: مصحف أبى: مصحف ابن مسعود: مصحف ابن عباس 83الأعراف: الغاشية: والليل إذا يغشى: المطففون 84إبراهيم: عبس: الفجر: البقرة 85الكهف: الصف: البروج: الأنفال 86النور: الضحى: انشقت: آل عمران 87ص: ألم نشرح: اقرأ باسم ربك: الحشر 88الزمر: القارعة: لا أقسم بهذا البلد: الأحزاب 89الشريعة: التكاثر: والضحى: النور 90الذين كفروا: الخلع: ألم نشرح: الممتحنة 91الحديد: الجيد: والسماء والطارق: الفتح 92لا أقسم بيوم القيامة: اللهم إياك نعبد: والعاديات: النساء 93عم يتساءلون: إذا زلزلت: أرأيت: إذا زلزلت 94الغاشية: العاديات: القارعة: الحج 95والفجر: أصحاب الفيل: لم يكن الذين كفروا: الحديد 96والليل إذا يغشى: التين: الشمس وضحاها: محمد 97إذا جاء نصر الله: الكوثر: التين: الإنسان(1/92)
مصحف على: مصحف أبى: مصحف ابن مسعود: مصحف ابن عباس 83الأعراف: الغاشية: والليل إذا يغشى: المطففون 84إبراهيم: عبس: الفجر: البقرة 85الكهف: الصف: البروج: الأنفال 86النور: الضحى: انشقت: آل عمران 87ص: ألم نشرح: اقرأ باسم ربك: الحشر 88الزمر: القارعة: لا أقسم بهذا البلد: الأحزاب 89الشريعة: التكاثر: والضحى: النور 90الذين كفروا: الخلع: ألم نشرح: الممتحنة 91الحديد: الجيد: والسماء والطارق: الفتح 92لا أقسم بيوم القيامة: اللهم إياك نعبد: والعاديات: النساء 93عم يتساءلون: إذا زلزلت: أرأيت: إذا زلزلت 94الغاشية: العاديات: القارعة: الحج 95والفجر: أصحاب الفيل: لم يكن الذين كفروا: الحديد 96والليل إذا يغشى: التين: الشمس وضحاها: محمد 97إذا جاء نصر الله: الكوثر: التين: الإنسان
الجزء السابع
مصحف على: مصحف أبى: مصحف ابن مسعود: مصحف ابن عباس 98الأنفال: القدر: ويل لكل همزة: الطلاق 99براءة: الكافرون: الفيل: لم يكن 100طه: النصر: لإيلاف قريش: الجمعة 101الملائكة: أبى لهب: التكاثر: الم السجدة 102الصافات: قريش: إنا أنزلناه: المنافقون 103الأحقاف: الصمد: والعصر: المجادلة 104الفتح: الفلق: إذا جاء نصر الله: الحجرات 105الطور: الناس: الكوثر: التحريم 106النجم:: الكافرون: التغابن 107الصف:: المسد: الصف 108التغابن:: قل هو الله أحد: المائدة 109الطلاق::: التوبة 110المطففون::: النصر 111المعوذتين::: الواقعة 112::: والعاديات 113::: الفلق 114::: الناس
ويقسمون سور القرآن الكريم أربعة أقسام:(1/93)
مصحف على: مصحف أبى: مصحف ابن مسعود: مصحف ابن عباس 98الأنفال: القدر: ويل لكل همزة: الطلاق 99براءة: الكافرون: الفيل: لم يكن 100طه: النصر: لإيلاف قريش: الجمعة 101الملائكة: أبى لهب: التكاثر: الم السجدة 102الصافات: قريش: إنا أنزلناه: المنافقون 103الأحقاف: الصمد: والعصر: المجادلة 104الفتح: الفلق: إذا جاء نصر الله: الحجرات 105الطور: الناس: الكوثر: التحريم 106النجم:: الكافرون: التغابن 107الصف:: المسد: الصف 108التغابن:: قل هو الله أحد: المائدة 109الطلاق::: التوبة 110المطففون::: النصر 111المعوذتين::: الواقعة 112::: والعاديات 113::: الفلق 114::: الناس
ويقسمون سور القرآن الكريم أربعة أقسام:
1 - الطّول، جمع: طولى، وهى سبع: البقرة، وآل عمران، والنساء، والمائدة، والأنعام، والأعراف، ويونس.
2 - المئون، وهى ما ولى السبع الطّوال، سميت بذلك لأن كل سورة منها تزيد على مائة آية أو تقاربها.
3 - المثانى، وهى ما ولى المئين، وقد تسمى سور القرآن كلها مثانى، ومنه قوله تعالى {كِتََاباً مُتَشََابِهاً مَثََانِيَ} (1)، وإنما سمى القرآن مثانى لأن الأنباء والقصص تثنى فيه.
4 - المفصل، وهو ما يلى المثانى من قصار السور، وسمى مفصلا لكثرة الفصول التى بين السور ببسم الله الرحمن الرحيم، وقيل لقلة المنسخ فيه.
__________
(1) الزمر: 23.(1/94)
7 - الجمّاع للقرآن
والجمّاع للقرآن على عهد النبى، صلى الله عليه وسلم:
علىّ بن أبى طالب.
سعد بن عبيد بن النعمان بن عمرو بن زيد.
أبو الدرداء عويمر بن زيد.
معاذ بن جبل بن أوس.
أبو زيد ثابت بن زيد بن النعمان.
أبىّ بن كعب بن قيس بن مالك بن امرئ القيس.
عبيد بن معاوية بن زيد بن ثابت بن الضحّاك (1).
__________
(1) الفهرست لابن النديم (ص: 41) المطبعة الرحمانية.(1/95)
8 - الحكمة فى نزول القرآن منجّما
وفيما بين السابع عشر من رمضان من السنة الحادية والأربعين من ميلاد الرسول، وكان بدء نزول الوحى، وإلى ما قبل موته، صلى الله عليه وسلم بأيام لا تجاوز الواحد والثمانين ولا تنقص عن العشرة، وكان آخر ما نزل من الوحى، أى فى نحو من إحدى وعشرين سنة، أو على الأصح فى نحو من ثمانى عشرة سنة، بإسقاط المدة التى فتر فيها الوحى والتى بلغت ثلاث سنين نزل هذا القرآن منجّما، يشرع للناس، ويتابع الأحداث، ويجيب ويبيّن، {وَلََا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلََّا جِئْنََاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً} (1)، {وَقُرْآناً فَرَقْنََاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النََّاسِ عَلى ََ مُكْثٍ وَنَزَّلْنََاهُ تَنْزِيلًا} (2).
وما كانت حكمة السماء تقضى إلا بهذا مع أمّة يراد لها أولا التحول من عقائد إلى عقيدة، والخروج من وثنية إلى دين، ومن أوهام وظنون إلى منطق وحق، ومن لا إيمان إلى إيمان.
تلك خطوة أولى كان من الحكمة أن تبدأ بها الدعوة وتفرغ لها، حتى إذا ما ضمّت الناس على الطريق أخذتهم بما تحمى إيمانهم به، فحاطتهم بعبادات، وألزمتهم بواجبات، والناس لا يمضون فيما جدّ عليهم خرسا لا ينطقون، وعميا لا ينظرون، وغفلا لا يتدبّرون، فهم مع هذا كله
__________
(1) الفرقان: 33.
(2) الإسراء: 106.(1/96)
سائلون يتبيّنون، والوحى يتابعهم فى كل ما عنه يستفسرون، إذ به تمام الرسالة.
ثم إن هذه الدعوة السماوية بدأت جهادا وعاشت جهادا، أملته الأيام، وتمخّضت عنه الأعوام، وهو وإن كان فى علم السماء قبل أن يقع، لكنه كان على علم الناس جديدا لم يقع، وكان لا بدّ أن يلقنوه مع زمانه وأوانه.
ثم ما أكثر ما أخذ الناس وأعطوا فى ظل الدعوة لتثبت أركانها فى نفوسهم، وهذا وإن كان فى علم السماء قبل أن يقع لكنه كان على حياة الناس جديدا لم يقع، وكان لا بدّ أن يلقنوا بيانه مع زمانه وأوانه.
وهكذا لم تكن الرسالة كلمة ساعتها، وإنما كانت كلمات أعوام ثمانية عشر، وكانت هذه الكلمات كلها فى علم السماء، وفى اللّوح المحفوظ، ولكنها نزلت إلى علم الناس مع زمانها وأوانها.
لهذا نزل القرآن منجّما ولقد خال المشركون أن دعوة الرسول إليهم كلمة، وأن صفحته معهم صفحة، وفاتهم أن الدعوة معها خطوات، وأن هذه الخطوات معها جديد، على علمهم لا على علم السماء، وما أحوجهم مع كل جديد إلى مزيد، ومن أجل هذا الذى فاتهم استنكروا أن ينزل القرآن منجما وقالوا: {لَوْلََا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وََاحِدَةً} (1)، وكان جواب السماء عليهم {كَذََلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤََادَكَ وَرَتَّلْنََاهُ تَرْتِيلًا} (2)، أى:
__________
(1) الفرقان: 32.
(2) الفرقان: 32.(1/97)
جعلناه بعضه فى إثر بعض، منه ما نزل ابتداء، ومنه ما نزل فى عقب واقعة أو سؤال، ليكون فى تتابعه مع الأحداث وما تثيره من شكوك، ما يرد النفوس إلى طمأنينة، والأفئدة إلى ثبات:
وإنك لو تتبعت أسباب النّزول فى القرآن، ومواقع الآيات، لتبيّنت أن رسالة الرسول لم تكن جملة واحدة، ليكون القرآن جملة واحدة، بل كانت أحداثا متلاحقة تقتضى كلمات متلاحقة.
فلقد نزلت آية الظّهار فى سلمة بن صخر، ونزلت آية اللّعان فى شأن هلال بن أمية، ونزلت آية حد القذف فى رماة عائشة، ونزلت آية القبلة بعد الهجرة، وبعد أن استقبل المسلمون بيت المقدس بضعة عشر شهرا، ونزلت آية اتخاذ مقام إبراهيم مصلّى حين سأل عمر الرسول فى ذلك كذلك كانت الحال فى الحجاب، وأسرى بدر، وغير ذلك كثير، فكان القرآن ينزل بحسب الحاجة خمس آيات، وعشر آيات، وأكثر وأقل، وقد صح نزول عشر آيات فى قصة الإفك جملة، كما صح نزول عشر آيات من أول «المؤمنين» جملة، وصح نزول {غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ} (1) وحدها، وهى بعض آية، وكذا {وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً} (2)، إلى آخر الآية، وهى بعض آية، نزلت بعد نزول أول الآية.
__________
(1) النساء: 94.
(2) التوبة: 29.(1/98)
9 - الوحى ونزول القرآن على سبعة أحرف
وهذا الوحى ألهم الرسول معناه، كما ألهم لفظه، فهو بمعناه ولفظه من صنع السماء، والرسول ناطق بلسان السماء، يملى على قومه ما أملته السماء، يصوّر ما تصوّر فى وعيه، وينطق بما أنطقته السماء، تفيض عليه السماء فإذا هو قد خلص لهذا الفيض بكلياته، وإذا هو إشعاع لهذا الفيض يصدر عنه ويشكّل جرسه، فإذا ما انفصل عنه هذا الفيض عاد يصدر عن نفسه، يطوع له نطقه.
ولسان الرسول عربى، ولهذا جرى القرآن على لسانه عربيّا، وإذا كان القرآن لسان السماء جرى على لسان الرسول مبينا، إلى جريانه عربيّا، يمثل أعلى ما ينتظمه اللسان العربى من لغات، وأحوى ما يجمع من لهجات، وكانت لغة مضر أعلى ما يجرى على لسان قريش وأحواه، فنزل بها القرآن، وفى هذا يقول عمر: نزل القرآن بلغة مضر. وكانت لغة مضر هذه تنتظم لغات سبعا لقبائل سبع، هم: هذيل، وكنانة، وقيس، وضبّة، وتيم الرّباب، وأسد بن خزيمة، وقريش.
ولقد مثّل القرآن هذه اللغات السبع كلها مفرقة، لكل لغة منه نصيب. وهو أولى الأقوال بتفسير الحديث «نزل القرآن على سبعة أحرف».(1/99)
ولقد مثّل القرآن هذه اللغات السبع كلها مفرقة، لكل لغة منه نصيب. وهو أولى الأقوال بتفسير الحديث «نزل القرآن على سبعة أحرف».
10 - اسم كتاب الله
ولقد سمّى الله ما أنزله على رسوله: قرآنا، وكتابا، وكلاما، وفرقانا، وذكرا، وقولا.
وقد أنهاها بعضهم إلى نيف وتسعين اسما، وجعلها بعضهم خمسة وخمسين اسما، وأكثر ما ذكروه يعد من قبيل الصفات، من ذلك. الهادى، والمتشابه.
وكان أكثر هذه الأسماء دورانا هو لفظ القرآن، فقد جاء فى نحو من سبعين آية، وكان فى كلها صريحا فى اسميته ومدلوله الخاص.
من أجل ذلك كتبت لهذا اللفظ الغلبة على غيره، وكان هذا الاسم الغالب لكتاب الله الذى جاء به محمد، وحفظه عنه المسلمون.
ويؤثر عن الشافعى أنه قال: القرآن، اسم على غير مشتق، خاص بكلام الله، فهو غير مهموز، لم يؤخذ من قراءة، ولكنه اسم لكتاب الله، مثل: التوراة، والإنجيل.
ويقول الزجاج: إن ترك الهمز فيه من باب التخفيف ونقل حركة الهمز إلى الساكن الصحيح قبلها.
والقائلون بالهمز مختلفون، وأوجه ما فى خلافهم رأيان:
أولهما: أنه مصدر لقرأت، مثل: الرجحان، والغفران، سمى به الكتاب المقروء، من باب تسمية المفعول بالمصدر.
والرأى الثانى: أنه وصف على: فعلان، مشتق من القرء، بمعنى الجمع.(1/100)
أولهما: أنه مصدر لقرأت، مثل: الرجحان، والغفران، سمى به الكتاب المقروء، من باب تسمية المفعول بالمصدر.
والرأى الثانى: أنه وصف على: فعلان، مشتق من القرء، بمعنى الجمع.
وأما تسميته بالمصحف، فكانت تسمية متأخرة، جاءت بعد جمع القرآن وكتابته، وكانت من وضع الناس. فإنهم يحكمون أن عثمان، حين كتب المصحف، التمس له اسما فانتهى الناس إلى هذا الاسم.
غير أن هذا يكاد يكون مردودا، فلقد سبق أن علمت أن ثمة مصاحف كانت موجودة قبل جمع عثمان، هى: مصحف على، ومصحف أبىّ، ومصحف ابن مسعود، ومصحف ابن عباس.
والمصحف: هو الجامع للمصحف المكتوبة بين الدّفتين.
ويقال فيه: مصحف، ومصحف، بضم الميم وكسرها، مع فتح الحاء، والضمة هى الأصل، والكسرة لاستثقال الضمة، فمن ضم جاء به على أصله، ومن كسر فلاستثقال الضمة.(1/101)
ويقال فيه: مصحف، ومصحف، بضم الميم وكسرها، مع فتح الحاء، والضمة هى الأصل، والكسرة لاستثقال الضمة، فمن ضم جاء به على أصله، ومن كسر فلاستثقال الضمة.
11 - جمع القرآن
ولقد مات رسول الله والقرآن كله مكتوب على العسب جريد النخل واللّخاف صفائح الحجارة والرّقاع، والأديم، والأكتاف عظام الأكتاف والأقتاب ما يوضع على ظهور الإبل كما كان محفوظا فى صدور الرجال يحفظه حفظة من المسلمين.
وقبل أن يقبض الله رسوله إليه عارض الرسول ما أنزله عليه ربّه بسوره وآياته على ما حفظه عنه حفظة المسلمين، فكان ما فى صدور الحفظة صورة مما كان فى صدر الرسول.
وكان لا بدّ لهذا المكتوب على الرّقاع وغيرها من أن يعارض على المحفوظ فى الصدور، ليخرج من بينهما كتاب الله فى صورة مقروءة.
كى يفيد منه الناس جميعا على تعاقب الأزمان، فما تغنى الرقاع، ثم هى عرضة بلى، وتشتّت وما يغنى الحفظة، وهم إلى فناء، والناقلون عنهم ليس لهم ميزة المعاصرة.
ويحرّك الله المسلمين لهذه الحسنة حين استحرّ القتل يوم اليمامة بقرّاء القرآن، فيخفّ عمر بن الخطاب إلى أبى بكر، وكان عندها خليفة، وكان الذى استخف عمر إلى أبى بكر فزعه من أن يتخطّف الموت القرّاء فى مواطن أخرى، كما تخطفهم فى ذاك الموطن أعنى اليمامة فيضيع على المسلمين جمّاع دينهم، ويعزّ عليهم كتابهم.
وحين جلس عمر إلى أبى بكر أخذ يناقشه فيما أتى إليه من جمع القرآن، بعد أن بسط السبب الحافز وتلبث أبو بكر يراجع نفسه، ثم أرسل إلى زيد بن ثابت، وكان من كتّاب الوحى، كما مرّ بك، وحضر زيد مجلس أبى بكر وعمر، وسمع منهما ما هما فيه، فإذا هو معهما فى الرّأى، وإذا أبو بكر حين يجد من زيد حسن الاستجابة يتجه إليه يقول: إنك شاب عاقل لا نتّهمك، وقد كنت تكتب الوحى لرسول الله، فتتبّع القرآن اجمعه.(1/102)
ويحرّك الله المسلمين لهذه الحسنة حين استحرّ القتل يوم اليمامة بقرّاء القرآن، فيخفّ عمر بن الخطاب إلى أبى بكر، وكان عندها خليفة، وكان الذى استخف عمر إلى أبى بكر فزعه من أن يتخطّف الموت القرّاء فى مواطن أخرى، كما تخطفهم فى ذاك الموطن أعنى اليمامة فيضيع على المسلمين جمّاع دينهم، ويعزّ عليهم كتابهم.
وحين جلس عمر إلى أبى بكر أخذ يناقشه فيما أتى إليه من جمع القرآن، بعد أن بسط السبب الحافز وتلبث أبو بكر يراجع نفسه، ثم أرسل إلى زيد بن ثابت، وكان من كتّاب الوحى، كما مرّ بك، وحضر زيد مجلس أبى بكر وعمر، وسمع منهما ما هما فيه، فإذا هو معهما فى الرّأى، وإذا أبو بكر حين يجد من زيد حسن الاستجابة يتجه إليه يقول: إنك شاب عاقل لا نتّهمك، وقد كنت تكتب الوحى لرسول الله، فتتبّع القرآن اجمعه.
ومضى زيد يتتبع القرآن يجمعه ويكتبه، وكان زيد حافظا، فيسّر عليه حفظه عبأه شيئا، ولكنه كان إلى هذا لا يقنع فى إثبات الآية يختلف فيها إلا بشهادة.
واجتمعت هذه الصحف فى بيت أبى بكر حياته، ثم فى بيت عمر حياته.(1/103)
واجتمعت هذه الصحف فى بيت أبى بكر حياته، ثم فى بيت عمر حياته.
12 - مصحف عثمان
وكما حرّكت محنة اليمامة عمر إلى حسنة، حركت محنة أخرى بعد مقتل عمر عثمان إلى حسنة، فقد قدم حذيفة بن اليمان من حرب أرمينية وأذربيجان على عثمان فزعا من اختلاف المسلمين فى قراءة القرآن، يقول لعثمان: أدرك الأمة قبل أن يختلفوا.
وكما استجاب أبو بكر إلى عمر استجاب عثمان إلى حذيفة، فأرسل عثمان يطلب الصّحف من عند حفصة بنت عمر، وزوج النبى. وأرسلت حفصة بالصّحف إلى عثمان، وجمع عثمان إليه زيد بن ثابت، وعبد الله ابن الزبير، وسعيد بن العاص، وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام، وكلهم من كتّاب الوحى، وأمرهم بنسخ هذه الصحف. فكتبوا منها سبع مصاحف. ثم ردّ عثمان الصحف (1) إلى حفصة، فلم تزل عندها حتى أرسل مروان بن الحكم بن أبى العاصى فأخذها فحرقها، كما ذكر أبو بكر السّجستانى (2).
ويقول أبو بكر السجستانى فى مكان آخر بسند متصل، عن سالم ابن عبد الله: إن مروان كان يرسل إلى حفصة يسألها الصحف التى كتب فيها القرآن، فتأبى حفصة أن تعطيه إياها. قال سالم: فلما
__________
(1) ويقال إنه نسخ من المصحف أربعة مصاحف أرسلها إلى البصرة والكوفة والشام واحتفظ بالرابع فى المدينة.
(2) المصاحف للسجستانى (ص: 10).(1/104)
توفيت حفصة ورجعنا من دفنها أرسل مروان بالعزيمة إلى عبد الله بن عمر:
ليرسلن إليه بتلك الصحف. فأرسل بها إليه عبد الله بن عمر، فأمر بها مروان فشققت. فقال مروان: إنما فعلت هذا لأن ما فيها قد كتب وحفظ بالمصحف فخشيت إن طال بالناس زمان أن يرتاب فى شأن هذه الصحف مرتاب. أو يقول إنه قد كان شىء منها لم يكتب (1).
ولا ندرى إلى أى حد كان توفيق مروان فيما فعل، ولكنه، وهو الرجل الذى كان معاصرا لما وقع، كان عليه أن يطمئن إلى أن الأمر قد تم على أحسن ما يكون دقة وضبطا وما نظنه غاب عنه كيف احتاط عثمان لذلك، وما نظنه إلا كان شاهد عثمان وهو يخطب الناس يناشدهم أن يأتوه بما معهم من كتاب الله، وكان عهدهم بالنبى قريبا، إذ لم يكن مضى على وفاته أكثر من ثلاث عشرة سنة. وما نظن الناس إلا قد وفوا لعثمان، وجاءه كل رجل بما كان عنده، فلقد كان الرجل يأتيه بالورقة والأديم فيه القرآن.
ولقد جمع من ذلك عثمان الشيء الكثير. وما وقف عثمان عند هذه، بل لقد دعاهم رجلا رجلا فيناشده: لسمعت رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وهو أملاه عليك؟ فيقول الرجل: نعم. حتى إذا فرغ من ذلك قال: من أكتب الناس؟ فقال الناس: كاتب رسول الله زيد بن ثابت، قال عثمان: فأى الناس أعرب؟ قالوا: سعيد بن العاص وكان سعيد أشبههم لهجة برسول الله قال عثمان: فليمل سعيد وليكتب زيد.
__________
(1) المصاحف (2524).(1/105)
هذا كله فعله عثمان، وفعل إلى جانبه الاستئناس بالصحف التى تمّ جمعها فى عهد أبى بكر، وشارك فيها عمر، والتى كانت عند حفصة.
تلك الصحف التى مثّلت المصحف الأول المعتمد.
من أجل هذا لم يختلف زيد وسعيد فى شىء، ووجدا ما اجتمع لهما من قبل على يد أبى بكر وعمر هو هو الذى جمعه عثمان ثانية واستحلف الناس عليه.
ويحكى المؤرخون أن زيدا وسعيدا لم يختلفا إلا فى حرف واحد فى سورة البقرة، فقال أحدهما «التابوت» وقال الآخر «التابوة» واختيرت قراءة زيد بن ثابت، لأنه كان كاتب الوحى.
وأرسل عثمان ستّا من هذه المصاحف إلى مكة والشام واليمن والبحرين والبصرة والكوفة، وحبس مصحفا بالمدينة، وأمر عثمان فحرق ما كان مخالفا لمصحفه.
وقد مرّ بك أن على بن أبى طالب كان له مصحف باسمه، أعنى كان إليه جمعه، وأنه بعد موت النبى كان قد أقسم ألا يرتدى برداء إلا لجمعة حتى يجمع القرآن فى مصحف، ففعل.
وينقل أبو بكر السّجستانى (1) بسند متصل عن أشعث، عن ابن سيرين، أنه حين تخلّف عن بيعة أبى بكر أرسل إليه أبو بكر يقول له:
أكرهت إمارتى يا أبا الحسن؟ فقال علىّ: لا والله، إنى أقسمت ألا أرتدى برداء إلا لجمعة. فبايعه ثم رجع.
__________
(1) المصاحف (ص: 10).(1/106)
ثم يقول السجستانى: لم يذكر «المصحف» أحد إلا أشعث، وهو لين الحديث. وإنما: حتى أجمع القرآن، يعنى أتمّ حفظه.
غير أن ابن النديم فيما نقلت إليك عنه قبل يذكر أنه رأى عند أبى يعلى حمزة الحسنىّ مصحفا سقطت منه أوراق بخط على بن أبى طالب، يتوارثه بنو الحسن، ثم أورد ترتيب السور فيه، وقد نقلناها لك فيما سبق.
ولقد كان إلى مصحف علىّ مصاحف أخرى مرّت بك، هى مصحف أبىّ، ومصحف ابن مسعود، ومصحف ابن عباس، وكان ثمة مصاحف أخرى هى: مصحف موسى الأشعرى، ومصحف للمقداد بن الأسود، ومصحف لسالم مولى أبى حذيفة.
ولقد كانت هذه المصاحف موزّعة فى الأمصار، فكان أهل الكوفة على مصحف ابن مسعود، وأهل البصرة على مصحف أبى موسى الأشعرى، وأهل دمشق على مصحف المقداد بن الأسود، وأهل الشام على مصحف أبىّ بن كعب.
وكان ثمة خلاف بين هذه المصاحف، وهذا الخلاف هو الذى شهد به حذيفة حين كان مع الجيش فى فتح أذربيجان. وهذا الخلاف هو الذى فزع من أجله عثمان فنهض يجمع أصول القرآن، ويجمع إلى هذه الأصول الحفظة الموثوق بهم.
فنحن الآن بين مراحل ثلاث مرّ بها تدوين المصحف:
أولى هذه المراحل تلك التى كانت فى حياة النبى، صلى الله عليه وسلم،
فلقد كان من حوله كتّابه يكتبون ما يملى عليهم، وكان الرسول حريصا على ألا يكتب عنه غير القرآن، حتى لا يلتبس به شىء آخر. ويروون عنه، صلى الله عليه وسلم، أنه قال: لا تكتبوا عنى شيئا سوى القرآن، فمن كتب عنى شيئا سوى القرآن فليمحه.(1/107)
أولى هذه المراحل تلك التى كانت فى حياة النبى، صلى الله عليه وسلم،
فلقد كان من حوله كتّابه يكتبون ما يملى عليهم، وكان الرسول حريصا على ألا يكتب عنه غير القرآن، حتى لا يلتبس به شىء آخر. ويروون عنه، صلى الله عليه وسلم، أنه قال: لا تكتبوا عنى شيئا سوى القرآن، فمن كتب عنى شيئا سوى القرآن فليمحه.
ولم يترك رسول الله دنياه إلى آخرته إلا بعد أن عارض ما فى صدره على ما فى صدور الحفظة الذين كانوا كثرة، وحسبك ما يقال عن كثرتهم أنه فى غزوة بئر معونة قتل منهم أى من القرّاء سبعون، ثم حسبك عن كثرتهم أنه كانت منهم سيدة، هى أم ورقة بنت عبد الله بن الحارث، وكان رسول الله يزورها ويسميها الشهيدة، وكانت قد جمعت القرآن، وقد أمرها رسول الله أن تؤمّ أهل دارها (1).
ثم حسبك دليلا على أن القرآن كتب فى حياة الرسول، وأنه كتب فى صحة وضبط، ما رواه البراء مع نزول قوله تعالى: {لََا يَسْتَوِي الْقََاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} (2): قال الرسول: ادع لى زيدا، وليجئ باللوح والدواة والكتف، ثم قال: اكتب «لا يستوى»، أى إن الرسول كان يملى على كاتبه لساعته.
ثم لعلك تذكر فى إسلام عمر أن رجلا من قريش قال له: أختك قد صبأت أى خرجت عن دينك فرجع إلى أخته ودخل عليها بيتها، ولطمها لطمة شجّ بها وجهها، فلما سكت عنه الغضب نظر فإذا صحيفة فى ناحية البيت فيها بسم الله الرحمن الرحيم.
__________
(1) الطبقات الكبرى، لابن سعد.
(2) النساء: 94.(1/108)
{سَبَّحَ لِلََّهِ مََا فِي السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} (1). واطلع على صحيفة أخرى فوجد فيها {بِسْمِ اللََّهِ الرَّحْمََنِ الرَّحِيمِ. طه مََا أَنْزَلْنََا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ} (2)
فأسلم بعد ما وجد نفسه بين يدى كلام معجز ليس من قول بشر.
فهذه وتلك تدلانك على أن الكتّاب كانوا يكتبون بإملاء الرسول، وأن هذا المكتوب كان يتناقله الناس.
والثانية من تلك المراحل ما كان من عمر مع أبى بكر حين استحرّ القتل بالقراء فى اليمامة، وما انتهى إليه الرأى بين أبى بكر وعمر فى أن يكلا إلى زيد بن ثابت جمع المصحف، لتكون معارضة بين ما هو مكتوب فى الألواح وبين ما هو محفوظ فى الصدور، قبل أن تأتى المواقع على حفظة القرآن، فما من شك فى أن الاثنين يكمّل أحدهما الآخر، لمن أراد أن يبلغ الكمال والدقة والضبط.
وما يمنع من هذا الذى فكّر فيه عمر أن يكون هناك جمع سابق على يد نفر من الصحابة، مثل ما فعل علىّ، ومثل ما فعل ابن مسعود، ومثل ما فعل ابن عباس، ومثل ما فعل غيرهم.
وما كان هذا يغيب عن عمر، ولكن كان ثمة فرق بين ما فكر فيه عمر وما سبق بعض الصحابة به، فلقد كان الرأى عند عمر أن يبادر فى ظل وجود القراء إلى إيجاد مصحف رسمى يصدر بتكليف من الخليفة، والخليفة أقوى على حشد الجهود العظيمة لهذا العمل العظيم.
__________
(1) الحديد: 1.
(2) طه: 1.(1/109)
ولقد أحس زيد بثقل المهمة التى أرادها عمر، وأرادها معه أبو بكر، فأبو بكر وعمر لم يريدا عملا فرديّا يحمل عبأه فرد واحد، وإنما أرادا عملا جماعيّا تحمل عبأه الخلافة، وباسم الخلافة يصدر.
من أجل ذلك قال زيد: فو الله لو كلفونى نقل جبل من الجبال ما كان بأثقل علىّ مما كان أمرونى به من جمع القرآن.
ومن أجل ذلك مضى زيد يتحرى، لم يكتف بما فى صدره، وما بين يديه، بل تلمس آية يفقدها فوجدها عند رجل من الأنصار فدونها، وهى {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجََالٌ صَدَقُوا مََا عََاهَدُوا اللََّهَ عَلَيْهِ} (1).
ومن أجل ذلك قال أبو بكر لعمر بن الخطاب ولزيد بن ثابت:
اقعدا على باب المسجد، فمن جاءكما بشاهدين على شىء من كتاب الله فاكتباه.
ومن أجل ذلك لم يقعد زيد عن السعى ليجد آخر المطاف آخر سورة التوبة مع خزيمة بن ثابت.
إذن فلقد كان مصحف أبى بكر وعمر أول مصحف رسمى، جمعه زيد بن ثابت لهما، فى ظل هذا التّحرى الدقيق، الذى كان أبو بكر وعمر من ورائه. غير أن هذا المصحف الرسمى لم يأخذ طريقه الرسمى إلى الأمصار، ولعلّ مقتل عمر هو الذى أخّر ذلك.
والمرحلة الثالثة والأخيرة، هى المرحلة التى تمت على يد عثمان، وكانت تتمّة للمرحلة الرسمية التى بدأت فى عهد أبى بكر، وشاركه فيها عمر،
__________
(1) الأحزاب: 23.(1/110)
فلقد وقع الذى كان يخشاه عمر، والذى فكّر من أجله فى هذا الجمع الرسمى، وعجل به القتل عن أن يمضى فيه إلى آخره.
فلقد مر بك كيف استقلّ كلّ مصر بمصحف، وكانت مصاحف فرديّة، لم يجتمع لها ما اجتمع لمصحف أبى بكر الذى انتهى إلى حفصة، ثم انتهى إلى عثمان، من جهد جماعى مستوعب، ولقد سعى «علىّ» جهده، وسعى «أبىّ» جهده، وسعى «ابن عبّاس» جهده. ولكن هذه الجهود لو تلاقت كما تلاقت حياة أبى بكر وعمر لخضعت لتعديل كثير، ودليلنا على ذلك أنه لما خرج إلى الأمصار مصحف عثمان دان الناس لتحريره قبل أن يدينوا لسلطان الخليفة، وما يستطيع أحد أن يظن بالمسلمين اللّين والضعف على أن يقفوا لأقوى الخلفاء يلزمونه رأيهم، إن كانوا يعرفون أنه الحق، ولكن انصياع المسلمين فى الأمصار كلها لمصحف عثمان، وما كان عثمان بالعنيف، يدلك على أن المصحف العثمانى خرج عن إجماع اطمأنت القلوب إليه.
ويروى أبو بكر السجستانى بسند متصل عن «على»، فى المصاحف وحرق عثمان لها: «لو لم يصنعه عثمان لصنعته» (1).
ولقد كان «علىّ» صاحب مصحف اختفى بظهور مصحف عثمان، ولكن هذا لم يمنعه من نصرة الحق الذى جاهد من أجله حياته كلها.
والذى قبله «علىّ» قبله «ابن مسعود»، ولكن بعد لأى، وقبله بعد هذين كثيرون من الصحابة.
__________
(1) المصاحف (ص: 12).(1/111)
يروى أبو بكر السجستانى بسند متصل عن مصعب بن سعد، قال:
أدركت الناس متوافرين حين حرق عثمان المصاحف، فأعجبهم ذلك ولم ينكر ذلك منهم أحد (1).
وما أجلّ هذه التى فعلها عثمان، وحسبه عنها ما يرويه أبو بكر السجستانى بسند متصل عن عبد الرحمن بن مهدى، يقول: خصلتان لعثمان بن عفان ليستا لأبى بكر ولا لعمر: صبره نفسه حتى قتل مظلوما، وجمعه الناس على المصحف (1).
وحسبك أن تعلم أن الحال فى اختلاف الناس لم تكن أيام عثمان فى الأمصار دون المدينة، بل شملت المدينة أيضا، فلقد كان المعلّمون فيها لكل معلّم قراءته، فجعل الغلمان يلتقون فيختلفون، فكان هذا لعثمان، إلى ما بلغه من حذيفة، مما أفزعه وجعله يقوم بين الناس خطيبا ويقول:
أنتم عندى مختلفون فيه فتلحنون، فمن نأى عنى من الأمصار أشد فيه اختلافا وأشد لحنا، اجتمعوا يا أصحاب محمد واكتبوا للناس إماما.
من أجل هذا سمى مصحف عثمان: الإمام.
وقد أرسل عثمان من هذا المصحف نسخا للأمصار كما مر بك وأمر بأن يحرق ما عداها.
ويحكى ابن فضل الله العمرى فى كتابه مسالك الأبصار، وهو يصف مسجد دمشق: «وإلى جانبه الأيسر المصحف العثمانى بخط أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضى الله عنه» (3).
__________
(1) المصاحف (ص: 18).
(3) المسالك (1: 195، طبعة دار الكتب المصرية).(1/112)
ومعنى هذا أن هذا المصحف كان بدمشق حياة العمرىّ، أى إلى النصف الأول من القرن الثامن الهجرى، فلقد كانت وفاة العمرىّ سنة 749هـ.
ويرجّح المتصلون بالتراث العربى أن هذا المصحف هو الذى كان فى دار الكتب بمدينة ليننجراد، ثم انتقل منها إلى إنجلترا، ولا يزال بها إلى اليوم.
ويروى السّفاقسىّ فى كتابه «غيث النفع» «ورأيت فيه يعنى مصحف عثمان أثر الدم وهو بالمدرسة الفاضلية بالقاهرة» (1).
ولقد كان فى دار الكتب العلويّة فى النّجف مصحف بالخط الكوفى مكتوب فى آخره: كتبه علىّ بن أبى طالب فى سنة أربعين من الهجرة، وهى السنة التى توفى فيها علىّ.
__________
(1) غيث النفع فى القراءات السبع (ص: 230).(1/113)
13 - كتب المصاحف
ولقد كتب نفر من السّلف كتبا عرضوا فيها للمصاحف القديمة التى سبقت مصحف عثمان، والتى جاء مصحف عثمان ملغيا لها، نذكر منها:
1 - اختلاف مصاحف الشام والحجاز والعراق، لابن عامر، التوفى سنة 118هـ.
2 - اختلاف مصاحف أهل المدينة وأهل الكوفة وأهل البصرة، على الكسائى، المتوفى سنة 189هـ.
3 - اختلاف أهل الكوفة والبصرة والشام فى المصاحف، للفراء، المتوفى سنة 207هـ.
4 - اختلاف المصاحف لخلف بن هشام، التوفى سنة 229هـ.
5 - اختلاف المصاحف وجامع القراءات، للمدائنى، المتوفى سنة 231هـ.
6 - اختلاف المصاحف لأبى حاتم سهل بن محمد السجستانى، المتوفى سنة 248هـ.
7 - المصاحف والهجاء لمحمد بن عيسى الأصبهانى، المتوفى سنة 253هـ.
8 - المصاحف لأبى عبد الله بن أبى داود السجستانى، المتوفى سنة 316هـ.
9 - المصاحف لابن الأنبارى، المتوفى سنة 327هـ.(1/114)
8 - المصاحف لأبى عبد الله بن أبى داود السجستانى، المتوفى سنة 316هـ.
9 - المصاحف لابن الأنبارى، المتوفى سنة 327هـ.
10 - المصاحف لابن اشته الأصبهانى، المتوفى سنة 360هـ.
11 - غريب المصاحف للوراق.
وترى من هذا العرض لهذه الكتب ومؤلفيها أن المصحف الإمام لم يلغ المصاحف التى جاء ليلغيها إلغاء تامّا، وأن هذه المصاحف بخلافها على المصحف الإمام ظلّت حية، إن لم تكن كتابة فحفظا، وإن كنّا نرجّح الأولى. وأول كتاب فى هذا كان لابن عامر كما ترى وابن عامر كانت وفاته سنة 118هـ، أى بعد مقتل عثمان بما يقرب من ثلاث وثمانين سنة، فلقد كانت وفاة عثمان فى الخامسة والثلاثين من الهجرة.
ولقد انتهى إلينا من هذه الكتب كلها كتاب المصاحف لأبى بكر عبد الله بن أبى داود السجستانى. وقد نقلت منه نصوصا مرت بك، وأشرت إلى مواضعها من النسخة المطبوعة من هذا الكتاب.
ويكاد يكون كتاب أبى بكر السجستانى جامعا لكلام من سبقوه، لتأخره فى الزمن عنهم، وما أظن من بعده أضاف كثيرا. أعنى بهذا أن كتاب أبى بكر السجستانى يكاد يمثل لنا هذا الخلاف كله.
وإنى لأعدّ إقدام هؤلاء النفر من السلف على مثل هذا التأليف إحياء لخلاف حاول الخلفاء الثلاثة أبو بكر وعمر وعثمان أو قل الخلفاء الأربعة أبو بكر وعمر وعثمان وعلىّ أن يضعوا له نهاية، بالمحاولة الأولى التى تمت على يد أبى بكر وعمر، ثم بالمحاولة الثانية التى تمت
على يد عثمان وأقره عليها على، وشارك فيها كثير من الصحابة، ومنهم من كان صاحب مصحف مثل «أبى».(1/115)
وإنى لأعدّ إقدام هؤلاء النفر من السلف على مثل هذا التأليف إحياء لخلاف حاول الخلفاء الثلاثة أبو بكر وعمر وعثمان أو قل الخلفاء الأربعة أبو بكر وعمر وعثمان وعلىّ أن يضعوا له نهاية، بالمحاولة الأولى التى تمت على يد أبى بكر وعمر، ثم بالمحاولة الثانية التى تمت
على يد عثمان وأقره عليها على، وشارك فيها كثير من الصحابة، ومنهم من كان صاحب مصحف مثل «أبى».
وعثمان لم يقدم على ما فعل إلا حين فزّعه الخلاف، ولم يمض ما أقدم عليه إلا بعد أن اطمأنت نفسه إلى ما انتهى إليه، ولم يطمئن إلى اطمئنانه إلا بعد أن آزرته عليه الكثرة، وبعد هذا كله وقف عثمان موقفه الحازم القاطع فألزم الأمصار بالمصحف الإمام، ثم حرق ما عداه، ومعنى هذا أنه لا رجعة إلى هذا الخلاف، ولا سبيل إلى الرجعة إليه، إذ لو صح أن ثمة شك قد انتهى إليه عثمان لما كان منه هذا القرار الحازم القاطع.
ولعلك تذكر ما كان من مروان من إحراقه مصحف حفصة الذى كان مرجعا من مراجع المصحف الإمام. ولقد كان سنده، غير أنه أراد من هذا ألا يكون ثمة رجعة إلى الوراء تثير هذا الخلاف فى كتاب قال فيه تعالى: {إِنََّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنََّا لَهُ لَحََافِظُونَ} (1).
وبعد ما يقرب من قرن إلا قليلا يطالعنا ابن عامر بمؤلفه فى اختلاف مصاحف الشام والحجاز والعراق، أو قل: بعد أن اختفى جيل القراء الأول والثانى والثالث من الميدان، وبعد أن نفض أصحاب المصحف الامام أيديهم من أدلتهم واطرحوها وأحرقوها، بعد هذا كله تثار قضية لا تكافؤ فيها، أدلتها الخلافية قطع فيها بالرأى، واستبعد شىء لا يستقيم وأقيم مقامه شىء مستقيم.
__________
(1) الحجر: 12.(1/116)
وأنا من أجل هذا من القائلين لا خوفا بأن إثارة مثل هذا ليست نوعا من الدراسة، فتلك دراسة بتراء، لا تملك أسلوبها العلمى الصحيح. ولقد كنّا نرحب بها لو كانت شيئا جديدا لم تعرفه البيئة حين حكمت فى أمره، بل لقد كان شيئا معهودا للبيئة تعرفه وتعرف أكثر منه، ولقد حكمت فيه وفرغت منه، فإرادته بعد هذا ليكون شيئا يدرس نوع من الكيد، ولو كنت أملك لعفّيت آثاره كما عفّى عثمان آثارا مثله، ولن أكون معها متجنّيا أو متعسّفا أو خائفا، بل أكون مع الحزم الذى اتصف به عثمان، وناصره عليه «علىّ»، واجتمع معه فى الرأى عليه اثنا عشر صحابيّا، جمعهم عثمان لهذا العمل الجليل.
وما أصدقها كلمة جرت على لسان أبى بكر السجستانى فى ختام عرضه لمصحف أبى بن كعب، حين يقول: لا نرى أن يقرأ القرآن إلا بمصحف عثمان الذى اجتمع عليه أصحاب النبى، صلى الله عليه وسلم، فإن قرأ إنسان بخلافه فى الصلاة أمرته بالإعادة (1).
هذا على الرغم من أن أبا بكر هذا كان تكأة المستشرقين، لأنه واحد من هؤلاء الذين أرادوا أن يوقظوا الفتنة بأيديهم وألسنتهم.
والمستشرقون من أجل هذا لا يقبلون ما يجرّح به أبو بكر، فلقد كذبه أبوه فى أكثر من حديث، وقال عنه الدار قطنى: إنه كثير الخطأ فى الكلام على الحديث، غير أن هذا لم يرض المستشرقين، كما قال «جفرى» فى مقدمته لكتاب «المصاحف لأبى بكر السجستانى»، فلقد قال جفرى: وهذه تهمة لم يرض بها المستشرقون لأنها لم تقم على حجة
__________
(1) المصاحف (5453).(1/117)
من الأحاديث التى رويت عنه، ولأنهم اختبروا أحاديثه على قاعدة البحث الجديدة فوجدوها صحيحة وصادقة (1).
يا سبحان الله! فلقد أصبح المستشرقون أفقه بعلم الحديث من واضعيه، وأصبحت لهم طرق فى الرواية غابت عن علماء المحدثين، منها أنهم لا يأبهون بتكذيب الأب لابنه، ما دام الابن يجمع لهم ما شذ ولم يرضه أهل النقل.
وما أحب أن أخوض فى عرض المصاحف المختلفة التى ساق أبو بكر السجستانى منها نماذج مختلفة (2)، فذلك شىء قد مات كما قلت لك والنابش عنه لا يريد علما ولا حقّا، وإنما يريد كيدا وشقاقا، غير أنى لا أحب أن أسكت عن أشياء ثلاثة أثارتها كتب المصاحف دون أن أعرضها وأذكر الرأى فيها:
أولها: ما يعزى إلى عثمان بن عفان، عن قتادة ويحيى بن يعمر، من أنه، رضى الله عنه، لما رفع إليه المصحف قال: إن فيه لحنا وستقيمه العرب بألسنتها.
وهذا الحديث لا يجب أن يمر دون أن يضم إليه حديث ثان يعزى إلى عثمان أيضا، عن عكرمة الطائى، يقول: لما أتى عثمان، رضى الله عنه، بالمصحف رأى فيه شيئا من لحن، فقال: لو كان المملى من هذيل والكاتب من ثقيف لم يوجد فيه هذا.
ولقد مرّ بك أن عثمان اختار حين كتب مصحفه رجلين، هما:
__________
(1) مقدمة كتاب المصاحف (ص: 12).
(2) المصاحف (9150).(1/118)
زيد بن ثابت، وكان أكتب الناس، وسعيد بن العاصى، وكان أفصح الناس وأشبههم لهجة برسول الله، صلى الله عليه وسلم، وما كانت تغيب عن عثمان، ولا عمّن كانوا مع عثمان، يوم شمّروا لكتابة المصاحف، هذه الاختلافات فى الرسم الإملائى التى ظهرت بعد كتابة المصحف، وتمنى عثمان لو لم تكن حين قال: لو كان المملى من هذيل والكاتب من ثقيف لم يوجد فيه هذا.
ثم كيف ترد هذه التى وردت فى الحديث الأول عن عثمان، وهو الذى كان من وراء من يكتبان، يراجع ما يكتبانه حرفا حرفا، وكلمة كلمة، ويصلح ما فاتهما. وما نظن عثمان ونى فى هذا العبء ولا فتر، وهو يعلم جدّه وخطره، وهو يعلم المتحفزين به من وراء ذلك، على عمل حمل عبئه على الرّغم منهم.
اللهم إن ثمة شيئا لا ندفعه، وهو ما جاء فى المصحف الإمام من رسم قديم كان مظنة اللّبس، ورأى عثمان أن ألسنة العرب تقيمه على وجهه، وإن بدا على غير وجهه، فلم يعرض له. ولعل هذا هو تفسير ما جاء على لسان عثمان فى حديثه، إن صح أنه له، يؤيدنا على ذلك حديثه الثانى الذى عقّبت به.
ويفسر هذا قول ابن اشته فى كتابه «المصاحف»: جميع ما كتب خطأ يجب أن يقرأ على صحة لغته لا على رسمه، وذلك فى نحو «لا أوضعوا» و «لا أذبحنه» بزيادة ألف فى وسط الكلمتين، إذ لو قرى بظاهر الخط لكان لحنا شنيعا، يقلب معنى الكلام ويخل بنظامه.
ويزيده وضوحا أبو بكر السجستانى من قبل ابن اشته حيث يقول
فى كتابه المصاحف: هذا عندى يعنى: بلغتها يريد معنى قوله بألسنتها وإلا لو كان فيه لحن لا يجوز فى كلام العرب جميعا لما استجاز أن يبعث به إلى قوم يقرءونه (1).(1/119)
ويزيده وضوحا أبو بكر السجستانى من قبل ابن اشته حيث يقول
فى كتابه المصاحف: هذا عندى يعنى: بلغتها يريد معنى قوله بألسنتها وإلا لو كان فيه لحن لا يجوز فى كلام العرب جميعا لما استجاز أن يبعث به إلى قوم يقرءونه (1).
ويؤيد هذا ما روى عن عمر بن الخطاب: «إنا لنرغب عن كثير من لحن أبى. يعنى: لغة أبىّ» (2).
وثانيها: ما يعزى إلى عائشة، يرويه هشام بن عروة، عن أبيه، قال: سألت عائشة عن لحن القرآن: {إِنْ هََذََانِ لَسََاحِرََانِ} (3)، وعن قوله تعالى {وَالْمُقِيمِينَ الصَّلََاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكََاةَ} (4)، وعن قوله تعالى:
{وَالَّذِينَ هََادُوا وَالصََّابِئُونَ} (5)، فقالت: يا ابن أختى، هذا عمل الكتّاب أخطئوا فى الكتاب (6).
ومثل هذا الذى عزى لعائشة يعزى لأبان بن عثمان، يرويه الزبير يقول: قلت لأبان بن عثمان: كيف صارت «لكن الراسخون فى العلم منهم والمؤمنون يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك والمقيمين الصلاة والمؤتون الزكاة»، ما بين يديها وما خلفها رفع وهى نصب؟ قال:
من قبل الكتّاب، كتب ما قبلها ثم قال: ما أكتب؟ قال: أكتب «والمقيمين الصلاة» فكتب ما قيل له (7).
__________
(1) المصاحف لأبى بكر السجستانى (ص: 32).
(2) المصاحف لأبى بكر السجستانى (ص: 32).
(3) طه: 63.
(4) النساء: 162.
(5) المائدة: 69.
(6) المصاحف: 34.
(7) المصاحف (ص: 3433).(1/120)
وينضم إلى هذا ما يعزى إلى سعيد بن جبير أنه قال: فى القرآن أربعة أحرف لحن: {وَالصََّابِئُونَ} (1)، {وَالْمُقِيمِينَ} (2)، «فأصدق وأكن من الصالحين» (3)، {إِنْ هََذََانِ لَسََاحِرََانِ} (4).
وقبل أن أقول كلمتى أحب أن تأنس معى بقول عالم جليل من علماء التفسير واللغة، وما أبغى أن أضم إليه غيره لأثقل عليك.
يقول الزمخشرى محمود بن عمر فى كتابه «الكشاف» (5):
{وَالصََّابِئُونَ} المائدة، الآية: 69رفع على الابتداء، والنية به التأخير عما فى حيّز «إن» من اسمها وخبرها، كأنه قيل: إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى حكمهم كذا والصابئون كذلك. وأنشد سيبويه (6) شاهدا له:
وإلّا فاعلموا أنّا وأنتم ... بغاة ما بقينا فى شقاق
أى: فاعلموا أنا بغاة وأنتم كذلك. فإن قلت: هلا زعمت أن ارتفاعه للعطف على محل «إن» واسمها؟ قلت: لا يصح ذلك قبل الفراغ من الخبر، لا تقول: إن زيدا وعمرو منطلقان. فإن قلت: لم لا يصح والنية به التأخير، فكأنك قلت: إن زيدا منطلق وعمرو؟ قلت: لأنى إذا
__________
(1) المائدة: 69.
(2) النساء: 162.
(3) المنافقون: 10.
(4) طه: 63.
(5) الجزء الأول (661660) طبعة الاستقامة.
(6) الكتاب (1: 290).(1/121)
رفعته عطفا على محل «إن» واسمها، والعامل فى محلهما هو الابتداء، فيجب أن يكون هو العامل فى الخبر، لأن الابتداء ينتظم الجزءين فى عملهما كما تنتظمهما «إن» فى عملها. فلو رفعت «الصابئون» والمنويّ به التأخير بالابتداء، وقد رفعت الخبر بإن، لأعملت فيهما رافعين مختلفين. فإن قلت: فقوله «والصابئون» معطوف لا بدّ له من معطوف عليه فما هو؟ قلت: مع خبره المحذوف جملة معطوفة على جملة قوله «إن الذين آمنوا» ولا محل لها، كما لا محل التى عطفت عليها، فإن قلت: ما التقديم والتأخير إلا لفائدة، فما فائدة هذا التقديم؟
قلت: فائدته التنبيه على أن الصابئين أبين هؤلاء المعدودين ضلالا وأشدّهم غيّا، وما سموا صابئين إلا لأنهم صبئوا عن الأديان كلها، أى خرجوا، كما أن الشاعر قدّم قوله «وأنتم» تنبيها على أن المخاطبين أوغل فى الوصف بالبغاة من قومه، حيث عاجل به قبل الخبر الذى هو «بغاة»، لئلا يدخل قومه فى البغى قبلهم، مع كونهم أوغل فيه منهم وأثبت قدما. فإن قلت: فلو قيل: والصابئين وإياكم، لكان التقديم حاصلا؟ قلت: لو قيل هكذا لم يكن من التقديم فى شىء، لأنه لا إزالة فيه عن موضعه، وإنما يقال: مقدم ومؤخر، للمزال لا للقارّ فى مكانه، ومجرى هذه الجملة مجرى الاعتراض فى الكلام.
وقال الزمخشرى (1): «والمقيمين» (النساء: 162) نصب على المدح لبيان فضل الصلاة. وهو باب واسع. وقد كسّره سيبويه على أمثلة وشواهد، ولا يلتفت إلى ما زعموا من وقوعه لحنا فى خط المصحف،
__________
(1) الكشاف (1: 590).(1/122)
وربما التفت إليه من لم ينظر فى الكتاب، ولم يعرف مذاهب العرب وما لهم فى النصب على الاختصاص من الافتنان، وغبى عليه أن السابقين الأولين، الذين مثلهم فى التوراة ومثلهم فى الإنجيل، كانوا أبعد همّة فى الغيرة على الإسلام، وذبّ المطاعن عنه، من أن يتركوا فى كتاب الله ثلمة ليسدها من بعدهم، وخرقا يرفوه من لحق بهم.
وقيل: هو عطف على «بما أنزل إليك» أى يؤمنون بالكتاب وبالمقيمين الصلاة، وهم الأنبياء. وفى مصحف عبد الله «والمقيمون» بالواو، وهى قراءة مالك بن دينار، والجحدرىّ، وعيسى الثقفى.
وقال الزمخشرى (1): «وأكن» المنافقون: 10 «عطفا على محل «فأصدق»، كأنه قيل: إن أخرتنى أصدق وأكن. ومن قرأ «وأكون»، على النصب، فعلى اللفظ. وقرأ عبيد بن عمير: «وأكون»، على: وأنا أكون، عدة منه بالصلاح».
وقال الزمخشرى (2): «إن هذان لساحران» طه: 63: «قرأ أبو عمر: إن هذين لساحران، على الجهة الظاهرة المكشوفة. وابن كثير وحفص: إن هذان لساحران، على قولك: إن زيد لمنطلق. واللام هى الفارقة بين إن النافية والمخففة من الثقيلة. وقرأ أبىّ: إن ذان إلا ساحران. وقرأ ابن مسعود: أن هذان ساحران، بفتح أن وبغير لام، بدل من «النّجوى» (3). وقيل فى القراءة المشهورة وهو يعنى المصحف
__________
(1) الكشاف (4: 544).
(2) الكشاف (3: 720).
(3) طه: 62: وأسروا النجوى.(1/123)
الإمام: إن هذان لساحران، هى لغة بلحارث بن كعب، جعلوا الاسم المثنى نحو الأسماء التى آخرها ألف، كعصا وسعدى، فلم يقلبوها فى الجر والنصب. وقال بعضهم: «إن» بمعنى: نعم، و «ساحران» خبر مبتدأ محذوف، واللام داخلة على الجملة، تقديره: لهما ساحران.
وقد أعجب به أبو إسحاق.
انتهى كلام الزمخشرى. وبودى أن أشير قبل أن أمضى فى حديثى إلى أن فى كلامه دليلا جديدا يؤيدنى فيما اخترت من قبل عن القراءات السبع فى القرآن، وأنها لغات العرب جاءت مبثوثة فى القرآن، وبها كلها يتجه الكلام.
أما عن حديثى الذى أحب أن أمضى فيه:
1 - فأما ما جاء منسوبا إلى عثمان فقد قدّمت دفعى له وتأويله، ويحضرنى هنا بعد عرض آراء الزمخشرى أن اللحن الذى جاء على لسان عثمان مراد به: توجيه الكلام توجيها ليس على ظاهره، وأن المراد بتقويم الألسنة أو اللغات له: بيان الوجه المراد معه. هذا إن صح ما نسب إلى عثمان.
2 - وأما ما جاء منسوبا إلى عائشة، فما أظن عائشة تسكت على خطأ الكتّاب فى كتاب الله، وترضى به يشيع ويخرج عن المدينة إلى الأمصار، ولم تكن بعيدة عن عثمان ولا عن الصحابة الكاتبين، وما أظنها كانت أقلّ منهم حرصا على سلامة كتاب الله. وحسبك ما قدمه الزمخشرى فى هذه.
3 - وأما عن تلك التى ينسبونها لأبان بن عثمان، فلا ادرى كيف جاءت على لسانه، مع العلم بأنه ممن لم يشهدوا عصر التدوين، ولا كان حاضر ذلك، فلقد كانت وفاته سنة 105هـ، وعثمان مات سنة 35هـ.(1/124)
2 - وأما ما جاء منسوبا إلى عائشة، فما أظن عائشة تسكت على خطأ الكتّاب فى كتاب الله، وترضى به يشيع ويخرج عن المدينة إلى الأمصار، ولم تكن بعيدة عن عثمان ولا عن الصحابة الكاتبين، وما أظنها كانت أقلّ منهم حرصا على سلامة كتاب الله. وحسبك ما قدمه الزمخشرى فى هذه.
3 - وأما عن تلك التى ينسبونها لأبان بن عثمان، فلا ادرى كيف جاءت على لسانه، مع العلم بأنه ممن لم يشهدوا عصر التدوين، ولا كان حاضر ذلك، فلقد كانت وفاته سنة 105هـ، وعثمان مات سنة 35هـ.
وبعد. فهذا الذى نسب إلى أبان استنباط لا رواية مأثورة، وهذا الاستنباط الذى استنبطه أبان لا يصح إلا عن مشاهدة، أو سماع عن مشاهدة، وكلاهما لم يتوفّر لهذا الحكم.
وثالث الأشياء التى أردت ألا أسكت عنه: هو ما يعزوه أصحاب التواليف فى المصاحف إلى الحجاج بن يوسف، وأنه غيّر فى مصحف عثمان أحد عشر حرفا، وقد رواها أبو بكر السجستانى فى كتابه المصاحف مرّتين.
الأولى يقول فيها: حدثنا عبد الله: حدثنا أبو حاتم السجستانى:
حدثنا عبّاد بن صهيب، عن عوف بن أبى جميلة: أن الحجاج ابن يوسف غيّر فى مصحف عثمان أحد عشر حرفا (1).
والثانية يقول فيها: قال أبو بكر يعنى نفسه كان فى كتاب أبى: حدثنا رجل فسألت أبى: من هو؟ فقال: حدثنا عباد بن صهيب، عن عوف بن أبى جميلة. أن الحجاج بن يوسف غيّر فى مصحف عثمان أحد عشر حرفا (2).
وهذه هى الأحرف، كما ذكرها أبو بكر السجستانى:
__________
(1) المصاحف (ص: 49).
(2) المصاحف (ص: 117).(1/125)
1 - كانت فى البقرة «لم يتسن» فغيرها «لم يتسنه» الآية:
259.
وأحب أن أعقب أن ابن مسعود قرأ «لم يتسن» والأصل فيها «يتسنن»، فقلبت، لأن الثانية حرف علة، كما فى: تفضض، وتفضى.
وقرأ حمزة والكسائى بحذف الهاء فى الوصل، على أنها هاء السكت.
وقرأ باقى السبعة بإثبات الهاء فى الوصل والوقف، على أنها أصلية.
وقرأ أبىّ «لم يسّنه»، بإدغام التاء فى السين.
2 - وكانت فى سورة المائدة: شريعة ومنهاجا فغيره «شرعة ومنهاجا» الآية: 48.
وأحب أن أعقب أن هذه لم يقرأ بها أحد من القراء.
3 - وكانت فى سورة يونس هو الذى ينشركم، فغيّره «هو الذى يسيركم» الآية: 10.
وأحب أن أعقب أن «ينشركم» قراءة ابن عامر، ويزيد بن القعقاع.
وينشركم، أى: يحييكم.
4 - وكانت فى سورة يوسف أنا آتيكم بتأويله، فغيّرها «أنا أنبئكم بتأويله» الآية: 45.
وأحب أن أعقب أن هذه لم يقرأ بها أحد من القراء.
5 - وكانت فى سورة المؤمنين {سَيَقُولُونَ لِلََّهِ} فغيرها، «سيقولون الله» الآيتان: 87و 89.
وأحب أن أعقب أن الأولى هى القراءة المشهورة. وقرأ بالثانية أبو عمرو، ويعقوب.(1/126)
5 - وكانت فى سورة المؤمنين {سَيَقُولُونَ لِلََّهِ} فغيرها، «سيقولون الله» الآيتان: 87و 89.
وأحب أن أعقب أن الأولى هى القراءة المشهورة. وقرأ بالثانية أبو عمرو، ويعقوب.
6 - و 7وكانت فى سورة الشعراء «من المخرجين» الآية: 116 فغيرها «من المرجومين» و «من المرجومين» الآية: 167فغيرها «من المخرجين».
وأحب أن أعقب أن هذه وتلك هما القراءتان المشهورتان.
8 - وكانت فى سورة الزخرف «معايشهم»، فغيرها «معيشتهم» الآية: 31.
وأحب أن أعقب أن هذه هى القراءة المشهورة، ولم يقرأ بالأولى أحد من القراء.
9 - وكانت فى سورة الذين كفروا «ياسن»، فغيرها «آسن»، الآية: 15.
وأحب أن أعقب أن حمزة قرأ «ياسن»، وقفا لا وصلا. وأن «آسن» هى القراءة المشهورة.
10 - وكانت فى سورة الحديد فالذين آمنوا منكم واتقوا، فغيرها «وأنفقوا» الآية: 7.
وأحب أن أعقب أن القراءة المشهورة «وأنفقوا»، ولم يقرأ أحد من القراء «واتقوا».
11 - وكانت فى سورة التكوير وما هو على الغيب بظنين، فغيّرها «بضنين» الآية: 24.
وأحب أن أعقب أن مكّيّا، وأبا عمرو، وعليا، ويعقوب، قرءوا «بظنين»، أى: متهم. وأن الباقين قرءوا «بضنين»، أى: ببخيل.(1/127)
11 - وكانت فى سورة التكوير وما هو على الغيب بظنين، فغيّرها «بضنين» الآية: 24.
وأحب أن أعقب أن مكّيّا، وأبا عمرو، وعليا، ويعقوب، قرءوا «بظنين»، أى: متهم. وأن الباقين قرءوا «بضنين»، أى: ببخيل.
هذه هى الأحرف التى يروى أن الحجاج غيرها فى مصحف عثمان.
وأحب أن أزيد الأمر وضوحا ولا أتركه على إبهامه هذا الذى يثير شكّا، ويكاد القول فيه على ظاهره يعطى للحجّاج أن يغيّر فى كتاب الله:
1 - لقد رأيت كيف روى أبو بكر السجستانى هذا الخبر فى كتابه «المصاحف» فى مكانين بسندين، هما وإن اتفقا إلا أن ثانيهما رواه أبو بكر فى أسلوب يهون فيه من شأن المسند إليه الخبر.
2 - ولقد رأيت من هذا التعقيب الذى عقبنا به على هذه الأحرف.
أن ثمانية منها تحتمل قراءات، وأن ما أثبته الحجاج كان المشهور.
3 - ولقد رأيت أن ثلاثة منها لم يقرأ بها أحد من القراء، وهى «شريعة» التى غيرت إلى «شرعة» و «آتيكم» التى غيرت إلى «أنبئكم»، و «معيشتهم» التى غيرت إلى «معايشهم».
وأحبك أن تعرف:
4 - أن الحجاج كان من حفّاظ القرآن المعدودين.
5 - وأن الحجاج كانت على يديه الجولة الثانية فى نقط المصاحف وشكلها، بعد أن كانت الجولة الأولى على يد الصحابة، وكانت جولة الصحابة بداية لم تشمل القرآن كله بل كانت نوعا من التيسير.
يقول الدّانى (1) بسند متصل عن قتادة: بدءوا فنقطوا ثم خمسوا ثم عشّروا وهو يعنى الصحابة.(1/128)
5 - وأن الحجاج كانت على يديه الجولة الثانية فى نقط المصاحف وشكلها، بعد أن كانت الجولة الأولى على يد الصحابة، وكانت جولة الصحابة بداية لم تشمل القرآن كله بل كانت نوعا من التيسير.
يقول الدّانى (1) بسند متصل عن قتادة: بدءوا فنقطوا ثم خمسوا ثم عشّروا وهو يعنى الصحابة.
ثم يقول فى إثر هذا: هذا يدل على أن الصحابة وأكابر التابعين هم المبتدءون بالنقط ورسم الخموس والعشور.
وفى الجولة الثانية خلاف، فمن الرواة من يعزوها إلى أبى الأسود الدؤلى، بعد أن طلبها منه زياد.
ومنهم من يعزوها إلى يحيى بن يعمر العدوانى، وكان ذلك عن طلب الحجاج، ويقول: إن هذا هو الأعرف.
وما نظن الحجاج وهو الحافظ للقرآن كان بعيدا عن يحيى ابن يعمر، كما لم يكن عثمان بعيدا عن زيد بن ثابت، وسعيد.
وإذن نستطيع أن نقول:
1 - إن هذه الأحرف الثلاثة التى لم يقرأ بها أحد لم تكن منقوطة ولا مشكولة، فميّزها النقط وبيّنها، وكانت على ألسنة الناس كما كانت على لسان الحجاج، بدليل أنها لم ترد فى قراءة، ولا أدرى كيف قامت هذه دعوى.
2 - إن الأحرف الثمانية الباقية، فيها قراءات، كما مر بك، والمشهور منها ما يعزى إلى الحجاج أنه أثبته.
__________
(1) المحكم فى نقط المصاحف لأبى عمر عثمان بن سعيد الدانى (ص:
32).(1/129)
ولكن من أنّى لنا أن هذا الذى يقال إن الحجاج أثبته لم يكن، وإن رسم مصحف عثمان كان يحتمله، وإن الحجاج لم يفعل غير أن بيّنه وميّزه.
يحدونى إلى هذا ما روى من أن عثمان حين كان يعرض عليه المصحف غيّر «لم يتسن» إلى «لم يتسنه»، إذن فالذى يعزى إلى الحجاج أنه فعله عزى إلى عثمان أنه فعله من قبله، ولا يمنع أن يكون هذا كله أعنى الأحرف الثمانية كانت مقروء مصحف عثمان، وأن الحجاج حين نقط وشكل ميز الرسم وبيّنه، يستوحى فى ذلك من مقروئه ومقروء الناس الذين يقرءون بقراءة مصحف عثمان.
إذن فلا تغيير للحجاج فى كتاب الله.
ثم ما أهون مدلول ما نسبوه إلى الحجاج، وهل كان بعد هذا غير تبيين رسم وتمييزه، وما أظن الحجاج خرج فيها على مصحف عثمان بقراءة أخرى، بل أكاد أؤكد أنه التزم فيها مقروء مصحف عثمان، وأنه لم يفعل غير التمييز والتبيين، بدليل تلك التى سقتها عن «لم يتسن» و «لم يتسنه»، وأن الحجاج فيما فعل كان حريصا على أن يمكّن للمصحف الامام، وأن ينفى عنه ما عساه أن يكون دخل عليه من قراءات.(1/130)
ثم ما أهون مدلول ما نسبوه إلى الحجاج، وهل كان بعد هذا غير تبيين رسم وتمييزه، وما أظن الحجاج خرج فيها على مصحف عثمان بقراءة أخرى، بل أكاد أؤكد أنه التزم فيها مقروء مصحف عثمان، وأنه لم يفعل غير التمييز والتبيين، بدليل تلك التى سقتها عن «لم يتسن» و «لم يتسنه»، وأن الحجاج فيما فعل كان حريصا على أن يمكّن للمصحف الامام، وأن ينفى عنه ما عساه أن يكون دخل عليه من قراءات.
14 - القراءات
وقد مرّ بك الرأى فى القراءات السبع، ومعنى قوله، صلى الله عليه وسلم: نزل القرآن على سبعة أحرف أى: على سبعة أوجه من اللغات متفرقة فى القرآن (1).
وروى عن عمر أنه قال: نزل القرآن بلغة مضر.
وإذا رجعنا نحصى قبائل مضر وجدناها سبع قبائل، وهى: هذيل، وكنانة، وقيس، وضبّة، وتيم الرّباب، وأسد بن خزيمة، وقريش.
كما يروى عن ابن عباس أنه قال: نزل القرآن على سبع لغات، منها خمس بلغة العجز من هوازن، واثنتان لسائر العرب. والعجز هم:
سعد بن بكر، وجشم بن بكر، ونصر بن معاوية، وثقيف، وكان يقال لهم: عليا هوازن.
كما يروى عن أبى حاتم السّجستانى أنه قال: نزل القرآن بلغة قريش، وهذيل، وتميم، ولأزد، وربيعة، وهوازن، وسعد بن بكر.
كما يروى السّيوطى فى «الإتقان» آراء غير مسندة، منها:
1 - أنها سبع لغات متفرقة لجميع العرب، كل حرف منها لقبيلة مشهورة.
2 - أنها سبع لغات، أربع لعجز هوازن، وثلاث لقريش.
__________
(1) تأويل مشكل القرآن (ص: 26).(1/131)
3 - أنها سبع لغات: لغة لقريش، ولغة لليمن، ولغة لجرهم، ولغة لهوازن، ولغة لقضاعة، ولغة لتميم، ولغة لطيئ.
4 - أنها لغة الكعبين: كعب بن عمرو، وكعب بن لؤى، ولهما سبع لغات.
وهذا الخبر مسند لابن عباس من طريق آخر عير الطريق الأول الذى روى به خبره السابق.
وهذا الاختلاف فى التعيين لا يضير فى شىء، فثم لغات سبع مفرّقة فى القرآن، أخبر الرسول عن جملتها، ولم يخبر عن تفصيلها، وكان هذا التفصيل مكان الاجتهاد بين المجتهدين.
وليس معنى الحديث أن كل كلمة تقرأ على سبع لغات، بل اللغات السبع مفرقة، تقرأ قريش بلغتها، وتقرأ هذيل بلغتها، وتقرأ هوازن بلغتها، وتقرأ اليمن بلغتها.
وفى ذلك يقول أبو شامة نقلا عن بعض شيوخه: أنزل القرآن بلسان قريش، ثم أبيح للعرب أن يقرءوه بلغاتهم التى جرت عادتهم باستعمالها، على اختلافهم فى الألفاظ والإعراب (1).
ويعجبنى تعقيب لابن الجوزى على كون هذه الأحرف سبعة، يقول:
وأما وجه كونها سبعة أحرف، دون أن لم تكن أقل أو أكثر، فقال الأكثرون: إن أصول قبائل العرب تنتهى إلى سبعة، وإن اللغات الفصحى سبع، وكلاهما دعوى.
__________
(1) الإتقان (ص: 47).(1/132)
وقيل: ليس المراد بالسبعة حقيقة العدد، بحيث لا يزيد ولا ينقص، بل المراد السعة والتيسير، وأنه لا حرج عليهم فى قراءته بما هو فى لغات العرب، من حيث إن الله تعالى أذن لهم فى ذلك.
والعرب يطلقون لفظ السبع والسبعين والسبعمائة ولا يريدون حقيقة العدد، بحيث لا يزيد ولا ينقص، بل يريدون الكثرة والمبالغة من غير حصر (1).
وكانت هذه اللغات علمها إلى الرسول، قد أحاطه الله بها علما، وحين يقرأ الهذلى بين يديه «عتى حين» وهو يريد «حتى حين» (2)
يجيزه، لأنه هكذا يلفظ بها ويستعملها.
وحين يقرأ الأسدي بين يديه «تسود وجوه» (3) بكسر التاء فى «تسود»، و «ألم اعهد إليكم» (4) بكسر الهمزة فى «أعهد»، يجيزه، لأنه هكذا يلفظ وهكذا يستعمل.
وحين يهمز التميمى على حين لا يهمز القرشى، يجيزه، لأنه هكذا يلفظ وهكذا يستعمل.
وحين يقرأ قارئهم «وإذا قيل لهم» (5) و «غيض الماء» (6) بإشمام الضم مع الكسر، يجيزه، لأنه هكذا يلفظ وهكذا يستعمل.
__________
(1) النشر فى القراءات العشر (2625).
(2) المؤمنون: 54الصافات: 174و 178الذاريات: 47.
(3) آل عمران: 106.
(4) يس: 60.
(5) البقرة: 11.
(6) هود: 44.(1/133)
وحين قرأ قارئهم «هذه بضاعتنا ردّت إلينا» (1) بإشمام الكسر مع الضم فى «ردت»، يجيزه، لأنه هكذا يلفظ وهكذا يستعمل.
وحين يقرأ قارئهم «مالك لا تأمنا» (2) بإشمام الضم مع الإدغام فى ميم «تأمنا»، يجيزه، لأنه هكذا يلفظ وهكذا يستعمل، وتكليفه غير هذا عسير.
وحين يقرأ قارئهم «عليهم»، و «فيهم» بالضم، ويقرأ قارئ آخر «عليهمو» و «فيهمو» بالصلة، يجيزه، لأنه هكذا يلفظ وهكذا يستعمل.
وحين يقرأ قارئهم «قد أفلح» (3)، و «قل أوحى» (4)، و «خلوا إلى» (5)، بالنقل، يجيزه، لأنه هكذا يلفظ وهكذا يستعمل.
وحين يقرأ قارئهم «موسى» و «عيسى» و «سبأ» بالإمالة، وغيره يلطف، يجيزه، لأنه هكذا يلفظ وهكذا يستعمل.
وحين يقرأ قارئهم «خبيرا» و «بصيرا»، بالترقيق، يجيزه، لأنه هكذا يلفظ وهكذا يستعمل.
وحين يقرأ قارئهم «الصلوات»، و «الطلاق»، بالتفخيم، يجيزه، لأنه هكذا يلفظ وهكذا يستعمل (6).
__________
(1) يوسف: 65.
(2) يوسف: 11.
(3) المؤمنون: 1. الأعلى: 14. الشمس: 9.
(4) الجن: 1.
(5) البقرة: 14.
(6) تأويل مشكل القرآن (ص: 30) النشر فى القراءات العشر (1: 29).(1/134)
ويفسر لك هذا ما روى عن عمر، قال: سمعت هشام بن حكيم يقرأ سورة الفرقان على غير ما أقرؤها، وقد كان النبى، صلى الله عليه وسلم، أقرأنيها، فأتيت به النبى، صلى الله عليه وسلم، فأخبرته، فقال له: اقرأ، فقرأ تلك القراءة. فقال: هكذا أنزلت، ثم قال لى: اقرأ، فقرأت، فقال: هكذا أنزلت. ثم قال: هذا القرآن نزل على سبعة أحرف فاقرءوا منه ما تيسر (1).
وكذلك يفسر لك هذا ما روى عن أبىّ، قال: دخلت المسجد أصلى، فدخل رجل فافتتح «النحل» فقرأ، فخالفنى فى القراءة، فلما انفتل قلت: من أقرأك؟ قال: رسول الله، صلى الله عليه وسلم. ثم جاء رجل فقام يصلى، فقرأ وافتتح «النحل»، فخالفنى وخالف صاحبى، فلما انفتل قلت: من أقرأك؟ قال: رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قال:
فأخذت بأيديهما فانطلقت بهما إلى النبى، صلى الله عليه وسلم، فقلت:
استقرئ هذين، فاستقرأ أحدهما، فقال: أحسنت. ثم استقرأ الآخر، فقال: أحسنت.
ويقول ابن قتيبة: «ولو أن كل فريق من هؤلاء أمر أن يزول عن لغته، وما جرى عليه اعتياده، طفلا وناشئا وكهلا، لاشتدّ ذلك عليه، وعظمت المحنة فيه، ولم يمكنه إلا بعد رياضة للنفس طويلة، وتذليل للسان، وقطع للعادة» (2).
__________
(1) المرجعان السابقان.
(2) تأويل مشكل القرآن (ص: 27) النشر (1: 21).(1/135)
15 - القراء
ولقد كانت كتابة المصحف بلغة قريش، أو بحرف قريش، بذلك أمر عثمان زيد بن ثابت، وعبد الله بن الزبير، وسعد بن العاص، وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام، وهم ينسخون المصاحف، وقال لهم: إذا اختلفتم أنتم وزيد بن ثابت فى شىء فاكتبوه بلسان قريش، فإنما نزل بلسانهم.
وأرسل عثمان المصاحف إلى الأمصار. وأخذ كل أهل مصر يقرءون بما فى مصحفهم، يتلقون ما فيه عن الصحابة الذين تلقوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قاموا بذلك مقام الصحابة، الذين تلقوه عن النبى، صلى الله عليه وسلم، فكان بالمدينة نفر، منهم: ابن المسيّب، ومعاذ ابن الحارث، وشهاب الزهرىّ وكان بمكة نفر، منهم: عطاء، وطاوس، وعكرمة وبالكوفة نفر، منهم: علقمة، والشّعبى، وسعيد بن جبير وبالبصرة نفر، منهم: الحسن، وابن سيرين، وقتادة وبالشام نفر، منهم: المغيرة بن أبى شهاب المخزومى، صاحب عثمان بن عفان.
ثم تجرد قوم للقراءة واعتنوا بضبطها أتمّ عناية، حتى صاروا فى ذلك أئمة يقتدى بهم، ويرحل إليهم، ويؤخذ عنهم، وأجمع أهل بلدهم على تلقى قراءتهم بالقبول، ولم يختلف عليهم فيها اثنان، ولتصدّيهم للقراءة نسبت إليهم.
فكان بالمدينة نفر، منهم: أبو جعفر يزيد بن القعقاع، ثم نافع ابن أبى نعيم.(1/136)
ثم تجرد قوم للقراءة واعتنوا بضبطها أتمّ عناية، حتى صاروا فى ذلك أئمة يقتدى بهم، ويرحل إليهم، ويؤخذ عنهم، وأجمع أهل بلدهم على تلقى قراءتهم بالقبول، ولم يختلف عليهم فيها اثنان، ولتصدّيهم للقراءة نسبت إليهم.
فكان بالمدينة نفر، منهم: أبو جعفر يزيد بن القعقاع، ثم نافع ابن أبى نعيم.
وكان بمكة نفر، منهم: عبد الله بن كثير، ومحمد بن محيصن.
وكان بكوفة نفر، منهم. سليمان الأعمش، ثم حمزة، ثم الكسائى.
وكان بالبصرة نفر، منهم: عيسى بن عمر، وأبو عمرو بن العلاء.
وكان بالشام نفر، منهم: عبد الله بن عامر، وشريح بن يزيد الحضرمى (1).
غير أن القرّاء بعد هذا كثروا، وتفرقوا فى البلاد، وانتشروا فى الأقطار، وكاد يدخل على هذا العلم ما ليس فيه، فشمّر لضبطه وتنقيته أئمة مشهود لهم، منهم:
1 - الإمام الحافظ الكبير أبو عمرو عثمان بن سعيد بن عثمان بن سعيد الدانى، من أهل دانية بالأندلس. وكانت وفاته سنة أربع وأربعين وأربعمائة، وكتابه فى هذا الباب هو: التيسير.
2 - الإمام المقرئ المفسر أبو العباس أحمد بن عمارة بن أبى العباس المهدوى، المتوفى بعد الثلاثين وأربعمائة. وله كتاب الهداية.
3 - الإمام أبو الحسن طاهر بن أبى الطيب بن أبى غلبون الحلبىّ،
__________
(1) النشر (1: 98).(1/137)
نزيل مصر. وتوفى بها سنة تسع وتسعين وثلاثمائة، وله كتاب:
التذكرة.
4 - الإمام أبو محمد مكى بن أبى طالب القيروانى. وكانت وفاته سنة سبع وثلاثين وأربعمائة بقرطبة، وله كتاب: التبصرة.
5 - الإمام أبو القاسم عبد الرحمن بن إسماعيل، المعروف بأبى شامة وله كتاب: المرشد الوجيز.
ولقد كان رائد هؤلاء جميعا، فيما أخذوا فيه، أن كل قراءة وافقت العربية ولو بوجه، ووافقت المصحف الإمام وصحّ سندها، فهى قراءة صحيحة لا يجوز ردّها، ولا يحل إنكارها.
وإذا اختل ركن من هذه الأركان كانت تلك القراءة ضعيفة، أو شاذة، أو باطلة.
وفى ظل هذه القيود التى أجمع عليها القرّاء:
1 - الموافقة للعربية ولو بوجه.
2 - الموافقة للمصحف الإمام، ولو احتمالا.
3 - أن يصح سندها.
قام الأئمة بتأليف كتب فى القراءات، وكان أول إمام جمع القراءات فى كتاب، هو أبو عبيد القاسم بن سلام، المتوفى سنة أربع وعشرين ومائتين. وقد جعل القراءات نحوا من خمس وعشرين قراءة، وتوالى بعده أئمة مؤلفون جمعوا القراءات فى كتب، منهم من جعلها
عشرين، ومنهم من زاد ومنهم من نقص، إلى أن كان الأمر إلى أبى بكر أحمد بن موسى بن العباس بن مجاهد، فاقتصر على قراءات لقراء سبع، هم: عبد الله بن كثير، فى مكة ونافع بن أبى رويم، فى المدينة وأبو عمرو بن العلاء، فى البصرة وعاصم بن أبى النجود، وحمزة بن حبيب الزيات، وعلى الكسائى، فى الكوفة وعبد الله بن عامر، فى الشام.(1/138)
قام الأئمة بتأليف كتب فى القراءات، وكان أول إمام جمع القراءات فى كتاب، هو أبو عبيد القاسم بن سلام، المتوفى سنة أربع وعشرين ومائتين. وقد جعل القراءات نحوا من خمس وعشرين قراءة، وتوالى بعده أئمة مؤلفون جمعوا القراءات فى كتب، منهم من جعلها
عشرين، ومنهم من زاد ومنهم من نقص، إلى أن كان الأمر إلى أبى بكر أحمد بن موسى بن العباس بن مجاهد، فاقتصر على قراءات لقراء سبع، هم: عبد الله بن كثير، فى مكة ونافع بن أبى رويم، فى المدينة وأبو عمرو بن العلاء، فى البصرة وعاصم بن أبى النجود، وحمزة بن حبيب الزيات، وعلى الكسائى، فى الكوفة وعبد الله بن عامر، فى الشام.
ثم جاء بعده من رفعها إلى عشر، نذكر منهم إماما متأخرا، وهو:
ابن الجزرى أبو الخير محمد بن محمد، المتوفى سنة 833هـ، وكتابه هو: النشر فى القراءات العشر.
والقراء الثلاثة، الذين زادوا على السبعة، هم: يزيد بن القعقاع، فى المدينة ويعقوب الحضرمىّ، فى البصرة وخلف البزار، فى الكوفة.
هذا غير قراء جاءوا بقراءات شاذة، كان على رأسهم ابن شنبوذ، المتوفى سنة 328هـ، ثم أبو بكر العطار النحوى، المتوفى سنة 354هـ.(1/139)
هذا غير قراء جاءوا بقراءات شاذة، كان على رأسهم ابن شنبوذ، المتوفى سنة 328هـ، ثم أبو بكر العطار النحوى، المتوفى سنة 354هـ.
16 - رأى ابن قتيبة في القراءات
وقد لخّص ابن قتيبة وجوه الخلاف في القراءات، وأحب أن أسوق إليك ما قال:
يقول ابن قتيبة (1):
وقد تدبرت وجوه الخلاف في القراءات فوجدتها سبعة أوجه:
أولها: الاختلاف في إعراب الكلمة، أو في حركة بنائها بما لا يزيلها عن صورتها في الكتاب ولا يغير معناها، نحو قوله تعالى: {هََؤُلََاءِ بَنََاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ} هود: 78و {أَطْهَرُ لَكُمْ} بالنصب و {هَلْ نُجََازِي إِلَّا الْكَفُورَ} سبأ: 17وهل يجازى إلا الكفور و {يَأْمُرُونَ النََّاسَ بِالْبُخْلِ} النساء: 37، الحديد: 24و {بِالْبُخْلِ} بفتح الباء والخاء و {فَنَظِرَةٌ إِلى ََ مَيْسَرَةٍ} البقرة: 280و {مَيْسَرَةٍ} بضم السين.
ثانيها: أن يكون الاختلاف في إعراب الكلمة وحركات بنائها بما يغير معناها ولا يزيلها عن صورتها في الكتاب، نحو قوله تعالى: و {رَبَّنََا بََاعِدْ بَيْنَ أَسْفََارِنََا} سبأ: 19، و {رَبَّنََا بََاعِدْ بَيْنَ أَسْفََارِنََا}، و {إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ} النور: 15و {تَلَقَّوْنَهُ} بفتح فكسر فضم و {وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ}
يوسف: 45و {أُمَّةٍ} أي: نسيان.
__________
(1) تأويل مشكل القرآن (3228).(1/140)
ثالثها: أن يكون الاختلاف فى حروف الكلمة دون إعرابها، بما يغيّر معناها ولا يزيل صورتها، نحو قوله تعالى: «وانظر إلى العظام كيف ننشزها» البقرة: 259و «ننشرها» بالراء و «حتى إذا فزّع عن قلوبهم» سبأ: 23و «فرّغ» بالراء والغين المعجمة.
رابعها: أن يكون الاختلاف فى الكلمة بما يغير صورتها فى الكتاب ولا يغير معناها فى الكلام، نحو قوله تعالى: «إن كانت إلا صيحة واحدة» يس: 28و «زقية واحدة» و «كالعهن المنفوش» القارعة:
5 - و «كالصّوف».
خامسها: أن يكون الاختلاف فى الكلمة بما يزيل صورتها ومعناها، نحو قوله «وطلع منضود» الواقعة: 29و «طلح».
سادسها: أن يكون الاختلاف بالتقديم والتأخير، نحو قوله تعالى:
«وجاءت سكرة الموت بالحق» ق: 19وفى موضع آخر: «وجاءت سكرة الحق بالموت».
سابعها: أن يكون الاختلاف بالزيادة والنقصان، نحو قوله تعالى:
«وما عملت أيديهم»، و «وما عملته أيديهم» يس: 35، ونحو قوله تعالى: «إن الله هو الغنى الحميد» لقمان: 26و «إن الله الغنى الحميد».
ثم قال ابن قتيبة:
فإن قال قائل: هذا جائز فى الألفاظ المختلفة إذا كان المعنى واحدا فهل يجوز أيضا إذا اختلفت المعانى؟
قيل له: الاختلاف نوعان: اختلاف تغاير، واختلاف تضاد.
فاختلاف التضاد لا يجوز. ولست واجده بحمد الله فى شىء من القرآن، إلا فى الأمر والنهى، من الناسخ والمنسوخ.(1/141)
قيل له: الاختلاف نوعان: اختلاف تغاير، واختلاف تضاد.
فاختلاف التضاد لا يجوز. ولست واجده بحمد الله فى شىء من القرآن، إلا فى الأمر والنهى، من الناسخ والمنسوخ.
واختلاف التغاير جائز، وذلك مثل قوله «وادّكر بعد أمة» أى بعد حين، و «بعد أمة» أى بعد نسيان له، والمعنيان جميعا، وإن اختلفا، صحيحان، لأن ذكر أمر يوسف بعد حين وبعد نسيان له.
وكقوله: «إذ تلقونه بألسنتكم» أى تقبلونه وتقولونه، و «تلقونه» من الولق، وهو الكذب، والمعنيان جميعا، وإن اختلفا، صحيحان لأنهم قبلوه وقالوه، وهو كذب.
وكقوله: «ربّنا باعد بين أسفارنا» على طريق الدعاء والمسألة، و «ربّنا باعد بين أسفارنا» على جهة الخبر، والمعنيان، وإن اختلفا، صحيحان.
وكقوله: «وأعتدت لهن متّكأ»، وهو الطعام، و «وأعتدت لهن متكأ» بضم الميم وسكون التاء وفتح الكاف، وهو الأترج. فدلت هذه القراءة على معنى ذلك الطعام.
وكذلك «ننشرها» و «ننشزها»، لأن الإنشار: الإحياء، والإنشاز:
هو التحريك للنقل، والحياة حركة، فلا فرق بينهما.
وكذلك «فزع عن قلوبهم»، و «فرغ»، لأن «فزع»: خفف عنها الفزع، وفرغ: فرغ عنها الفزع.
ثم قال ابن قتيبة: وكل ما فى القرآن من تقديم أو تأخير، أو زيادة أو نقصان، فعلى مثل هذه السبيل.(1/142)
ثم قال ابن قتيبة: وكل ما فى القرآن من تقديم أو تأخير، أو زيادة أو نقصان، فعلى مثل هذه السبيل.
17 - تعقيب على القراءات
والأمر فى القراءات كما يبدو لك، ينحصر فى أحوال ثلاث:
الأولى وهى تتصل بأحرف العرب أو لغاتها وهى التى قدمنا منها مثلا فى الإمالة والإشمام والترقيق والتفخيم، وغير ذلك مما لفظت به القبائل ولم تستطع ألسنتها غيره، وهذا الذى قلنا عنه: إنه المعنىّ بالأحرف السبعة التى جاءت فى الحديث.
وما من شك فى أن ذلك كان رخصة للعرب يوم أن كانوا لا يستطيعون غيره، وكان من العسير عليهم تلاوة القرآن بلغة قريش.
ثم ما من شك فى أن هذه الرخصة قد نسخت بزوال العذر، وتيسر الحفظ، وفشو الضبط، وتعلم القراءة والكتابة (1).
وأسوق إليك ما قاله الطبرى بعد ما سقت إليك ما قاله الطحاوى، يقول الطبرى:
ثم لما رأى الإمام أمير المؤمنين عثمان بن عفان، رضى الله تعالى عنه، اختلاف الناس فى القراءة، وخاف من تفرق كلمتهم، جمعهم على حرف واحد، وهو هذا المصحف الإمام، واستوثقت له الأمة على ذلك، بل أطاعت ورأت أن فيما فعله الرشد والهداية، وتركت القراءة بالأحرف السبعة، التى عزم عليها إمامها العادل فى تركها، طاعة منها له، ونظرا منها لأنفسها، ولمن بعدها من سائر أهل ملتها، حتى درست من الأمة
__________
(1) معانى الآثار للطحاوى أحمد بن محمد.(1/143)
معرفتها وعفت آثارها، فلا سبيل اليوم لأحد إلى القراءة بها، لدثورها وعفو آثارها. فإن قال من ضعفت معرفته: وكيف جاز لهم ترك قراءة أقرأهم إياها رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وأمرهم بقراءتها؟ قيل: إن أمره إياهم بذلك لم يكن أمر إيجاب وفرض، وإنما كان أمر إباحة ورخصة.
الثانية: وهى تتصل برسم المصحف وبقائه فترة غير منقوط ولا مشكول إلى زمن عبد الملك، حين قام الحجاج بإسناد هذا إلى رجلين، هما: يحيى بن يعمر، والحسن البصرى، فنقطاه وشكلاه.
وما نرى صحيحا هذا الذى ذهب إليه القرّاء من تأويلات كثيرة، تكاد تحمّل الكلمة عشرين وجها أو ثلاثين أو أكثر من ذلك، حتى لقد بلغت طرق هذه القراءات للقراءات العشر فقط تسعمائة وثمانين طريقة.
فلقد كان اجتهادا من القراء، وكان إسرافا فى ذلك الاجتهاد.
وإنك لو تتبعت ما عقب به الزمخشرى، فى تفسيره على القراء لوجدت له الكثير مما ردّه عليهم ولم يقبله منهم، فلقد عقب على ابن عامر فى قراءته لقوله تعالى: «وكذلك زيّن للمشركين قتل أولادهم شركاؤهم» الأنعام: 137فلقد قرأها ابن عامر «قتل أولادهم شركائهم» برفع القتل، ونصب الأولاد، وجر الشركاء، على إضافة القتل إلى الشركاء والفصل بينهما بغير الظرف.
فقال الزمخشرى: فهذا لو كان فى مكان الضرورات وهو الشعر لكان شيئا مردودا، فكيف به فى الكلام المنثور فكيف به
فى القرآن المعجز بحسن نظمه وجزالته. والذى حمله على ذلك أن رأى فى بعض المصاحف «شركائهم» مكتوبا بالياء.(1/144)
فقال الزمخشرى: فهذا لو كان فى مكان الضرورات وهو الشعر لكان شيئا مردودا، فكيف به فى الكلام المنثور فكيف به
فى القرآن المعجز بحسن نظمه وجزالته. والذى حمله على ذلك أن رأى فى بعض المصاحف «شركائهم» مكتوبا بالياء.
ويعقب الزمخشرى مرة أخرى على أبى عمرو حين يدغم الراء فى اللام، فى قوله تعالى {فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشََاءُ} البقرة: 284، آل عمران:
129، المائدة: 20و 43، الفتح: 14فيقرؤها أبو عمرو:
«فيغفر لمن يشاء».
ويقول الزمخشرى: ومدغم الراء فى اللام لاحن مخطئ خطأ فاحشا، وراويه عن أبى عمرو مخطئ مرتين، لأنه يلحن وينسب إلى أعلم الناس بالعربية ما يؤذن بجهل عظيم.
وكذلك تتبع ابن قتيبة القراء وأحصى لهم الكثير، وفى ذلك يقول:
وما أقل من سلم من هذه الطبقة فى حرفه من الغلط والوهم (1).
ونحن حين نمكن لهذه القراءات أن تعيش نكون كمن يحاول أن يخرج على ما أراده عثمان، ومعه علىّ من قبل، ثم الصحابة، على وحدة القرآن تلاوة. هذا بعد أن صح لنا أن هذه القراءات اجتهاد، وأن رسم المصحف وإهماله نقطا وشكلا جرّ إلى شىء منها.
يقول ابن قتيبة وهو يناقش بعض القراءات:
وليست تخلو هذه الحروف من أن تكون على مذهب من مذاهب أهل الإعراب فيها، أو أن تكون غلطا من الكاتب.
__________
(1) تأويل مشكل القرآن (ص: 43).
فإن كانت على مذهب النحويين، فليس هاهنا لحن، بحمد الله.(1/145)
فإن كانت على مذهب النحويين، فليس هاهنا لحن، بحمد الله.
وإن كانت خطأ فى الكتابة، فليس على الله ولا على رسوله، صلى الله عليه وسلم، جناية الكاتب فى الخط.
ولو كان هذا عيبا يرجع على القرآن لرجع عليه كل خطأ وقع فى كتابة المصحف من طريق التهجى، فقد كتب فى الإمام: «إن هذن لساحران (1)»، بحذف ألف التثنية. وكذلك ألف التثنية تحذف فى هجاء هذا المصحف فى كل مكان. وكتب كتّاب المصحف: الصلاة، والزكوة والحيوة، بالواو واتبعناهم فى هذه الحروف خاصة على التيمن بهم (2)
فنحن إذن بين رسم لكتّاب كان ما رسموا آخر الجهد عندهم، ولقد حفظ الله كتابه بالحفظة القارئين أكثر مما حفظه بالكتّاب الكاتبين، ثم كانت إلى جانب الحفظ حجة أخرى على الرسم، وهى لغة العرب، أقامت الرسم لتدعيم الحفظ، ولم تقم الحفظ لتدعيم الرسم، وكان هذا ما عناه عثمان: أرى فيه لحنا وستقيمه العرب بألسنتها. ولقد أقامته بألسنتها، وتركت الرسم على حاله ممثلا فى مصحفه الإمام، الذى كان حريصا على أن تجتمع عليه الأمة الإسلامية. من أجل ذلك أحرق ما سواه.
غير أن ما فعله عثمان لم يقض على كل خلاف، وأوسع فى هذا الخلاف بقاء المصحف الإمام غير منقوط ولا مشكول، كما قلت لك.
من أجل ذلك كان أول شىء عمله الحجاج، بعد ما فرغ من نقط
__________
(1) طه: 63.
(2) تأويل مشكل القرآن (ص: 40، 41).(1/146)
المصحف وشكله، أن وكل إلى عاصم الجحدرىّ، وناجية بن رمح، وعلىّ بن أصمع، أن يتتبعوا المصاحف، وأن يقطعوا كل مصحف يجدونه مخالفا لمصحف عثمان، وأن يعطوا صاحبه ستّين درهما. وفى ذلك يقول الشاعر:
وإلّا رسوم الدار قفرا كأنها ... كتاب محاه الباهلى ابن أصمعا (1)
ونحن اليوم فى أيدينا هذا المصحف الإمام أقوى ما يكون ضبطا، وأصح ما يكون شكلا، فما أغنانا به عن كل قراءة لا يحملها رسمه، ولا يشير إليها ضبطه، من تلك القراءات التى كانت تلك حالها التى بسطتها لك.
الثالثة: وهى التى تتصل بإحلال كلمة مكان كلمة، أو تقديم كلمة على كلمة، أو زيادة أو نقصان.
وما أظن هذه تكون كلمة تذكر بعد أن أصبح فى أيدينا المصحف الإمام، هيأه لنا عثمان فى الأولى، وزفّه إلينا الحجاج فى الثانية، وما كان هذان العملان إلا خطوتين: خطوة تدعم خطوة فى سبيل الوحدة الكاملة لكتاب الله، كما حفظه الله على لسان الحفظة من الصحابة والتابعين.
وأحب أن أختم الحديث عن القراءات بقول الزّركشى فى كتابه «البرهان»، يقول الزركشى:
القرآن والقراءات حقيقتان متغايرتان.
__________
(1) تأويل مشكل القرآن (ص: 37).(1/147)
فالقرآن هو الوحى المنزّل على محمد، صلى الله تعالى عليه وسلم، للبيان والإعجاز.
والقراءات السبع متواترة عند الجمهور. وقيل: بل مشهورة.
والتحقيق أنها متواترة عن الأئمة السبعة.
أما تواترها عن النبى، صلى الله عليه وسلم، ففيه نظر.(1/148)
أما تواترها عن النبى، صلى الله عليه وسلم، ففيه نظر.
18 - رسم المصحف
ومن الناظرين فى رسم القرآن فريق صرفهم الإجلال له عن أن يفصلوا بين ما هو وحى من عند الله حرّك به لسان رسوله، وبين ما صوّره كتّاب الرسول حروفا وكلمات.
وأنت تعرف أن الكلمة الواحدة قد تختلف صورة رسمها على أيدى كتبة يستملون عن ممل واحد، إذا اختلفت طرق تلقيهم للإملاء، غير أنهم حين يلفظون هذه الكلمة مجمعون على نطق واحد.
وما من شك فى أن القرآن الكريم تعرّض رسمه لهذا الخلاف، وكان حفظ الله له فى بقاء حفظته، يعى الناس عنهم أكثر ما يعون عن القراءة، وكانوا بهذا مطمئنين وحين عدت العاديات على الحفظة بدأ الخوف يدبّ، وبدأ تفكير الصحابة يتجه إلى ما هو أبقى، أعنى جمع القرآن مكتوبا.
وكانت محاولة أبى بكر وعمر التى مرت بك، واجتمع للناس قرآنهم مكتوبا، وبدأ شغلهم بما هو مكتوب يزحم شغلهم بما هو متلوّ، أو يعادله. وأخذ الرسم يملى برسمه ويقوّمه الحفظ، فى فترة لم يكن الصحابة فيها أبعدوا كثيرا عن فترة نزول القرآن.
وما كانت الأمة العربية عهد كتابة الوحى أمة عريقة فى الكتابة، وما كان كتاب النبى إلا صورة من العصر البادئ فى الكتابة، ولم تكن الكتابة العربية على حالها اليوم من التجويد والكمال إملاء ورسما.
ونظرة فى رسم المصحف، وما يحمل من صور إملائية تخالف ما استقر عليه الوضع الإملائى أخيرا، تكشف لك عما كان العرب عليه إملاء، وعما أصبحنا عليه نحن إملاء.(1/149)
وما كانت الأمة العربية عهد كتابة الوحى أمة عريقة فى الكتابة، وما كان كتاب النبى إلا صورة من العصر البادئ فى الكتابة، ولم تكن الكتابة العربية على حالها اليوم من التجويد والكمال إملاء ورسما.
ونظرة فى رسم المصحف، وما يحمل من صور إملائية تخالف ما استقر عليه الوضع الإملائى أخيرا، تكشف لك عما كان العرب عليه إملاء، وعما أصبحنا عليه نحن إملاء.
وحين أطل عهد عثمان كاد اختلاف الناس فى قراءة المرسوم يجرّ إلى خروجهم على المحفوظ، من أجل هذا فزع عثمان إلى نفر من الصحابة كتبوا للرسول وحيه، ليدركوا هذا المرسوم، كى يخرجوا منه بصورة خطية تصور ما أجمع عليه الحفّاظ.
وقد لا يفوتك أن الخط العربى، عصر كتابة الوحى إلى أيام عبد الملك بن مروان، لم يكن عرف النقط المميز للحروف فى صورته الأخيرة، كما لم يكن عرف شكل الكلمات، وبقى المصحف المرسوم ينقصه النقط فى صورته الأخيرة وينقصه الشكل، وعاش يحميه حفظ الحفّاظ له من اللحن. غير أن الأمة العربية كانت قد انتشرت، وأظل الإسلام تحت لوائه أمما مختلفة، وأصبح الحفظ فى هذه البيئة الواسعة، وبين هؤلاء الأقوام المختلفين، لا يغنى غناءه أيام أن كانت البيئة محدودة والأقوام غير مختلفين، من هنا كان لا بدّ من نقط وشكل على يد الحجّاج، كما مر بك.
ولقد كانت هذه المراحل التى مرّ بها جمع القرآن وكتابته ونقطه وشكله نتيجة لقصور الكتابة العربية والخط العربى. إذ لو كانت فى كما لهما اليوم لما احتاج القرآن فى رسمه إلى مرحلة بعد مرحلة، ولكتب يوم أن كتب للمرة الأولى فى صورة أخيرة.
ونحن بحمد الله، على الرغم من بعد عهدنا بنزول القرآن، لم نبعد
عن وعيه كما أنزل، تصديقا لقوله تعالى: {إِنََّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنََّا لَهُ لَحََافِظُونَ} (1)، غير أنه يجب أن يلفتنا إلى قرآننا ما لفت الشيخين عمر وأبا بكر إليه، ثم ما لفت عثمان إليه، ثم ما لفت الحجاج إليه. فهذه لفتات أحسّ فيها أصحابها الخوف من أن يمس القرآن سوء، جمعوه للناس مكتوبا يوم أن خافوا ذهاب الحفاظ، ثم أجمعوا على مصحف واحد يوم أن خافوا تفرق الناس على مصاحف، ثم نقطوه وضبطوه يوم أن خافوا أن يتفرق الناس فى قراءته.(1/150)
ونحن بحمد الله، على الرغم من بعد عهدنا بنزول القرآن، لم نبعد
عن وعيه كما أنزل، تصديقا لقوله تعالى: {إِنََّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنََّا لَهُ لَحََافِظُونَ} (1)، غير أنه يجب أن يلفتنا إلى قرآننا ما لفت الشيخين عمر وأبا بكر إليه، ثم ما لفت عثمان إليه، ثم ما لفت الحجاج إليه. فهذه لفتات أحسّ فيها أصحابها الخوف من أن يمس القرآن سوء، جمعوه للناس مكتوبا يوم أن خافوا ذهاب الحفاظ، ثم أجمعوا على مصحف واحد يوم أن خافوا تفرق الناس على مصاحف، ثم نقطوه وضبطوه يوم أن خافوا أن يتفرق الناس فى قراءته.
هذه كلها خطوات واعية من أناس واعين، بإلهام ربّ معين. وأخشى ما نخشاه نحن اليوم، أو بعد اليوم، أن يبقى القرآن برسمه القديم الذى يختلف وإملاء العصر فيخلق بهذا بلبلة على الألسن، وما نحن فى كل بيئة نملك حفّاظا يضبطون الألسنة عن أن تلتوى، وإن ملكنا فى كل بيئة حفّاظا فمحال أن يجد كل قارئ حافظا إلى جواره.
يجب أن نخاف ما خافه السلف، ويجب أن نحتاط كما احتاط السلف، ويجب أن نفصل بين وحى الله وأقلام الكتاب.
وما أظن أن تيمننا بخط من سلف يغرينا بمزيد من حرص عليه قد يجرّنا إلى ما لا نحب.
كما لا أظن أن شيئا كهذا يثير بين الناظرين فى رسم القرآن جدلا، فالحق فيه بيّن، وقد نادى السلف العالمون العالمون، ممن قدّمت لهم نقولا فى ذلك (2).
__________
(1) الحجر: 9.
(2) الفرقان، لابن الخطيب (9157).(1/151)
19 - كتابة المصحف وطبعه
مرّ بك كيف كان الوحى يكتب، وعلى أى شىء كان يكتب، ثم من كانوا كتّابه.
ومرّ بك أيضا كيف جمعه أبو بكر وعمر، ثم كيف كتب عثمان مصحفه الإمام، وأرسل منه مصاحف أربعة إلى الأمصار: مكة، والبصرة، والكوفة، والشام، وأنه أبقى اثنين آخرين فى المدينة، اختص نفسه بواحد منهما.
ومنذ أن دخلت هذه المصاحف الأمصار أقبل المسلمون ينسخونها، ولقد نسخوا منها عددا كثيرا، لا شك فى ذلك.
فنحن نقرأ للمسعودى وهو يتكلم على وقعة صفين، التى كانت بين على ومعاوية، وما أشار به عمرو بن العاص من رفع المصاحف، حين أحس ظهور علىّ عليه: ورفع من عسكر معاوية نحو من خمسمائة مصحف (1).
وما نظن هذا العدد الذى رفع من المصاحف فى معسكر معاوية كان كل ما يملكه المسلمون حينذاك، والذى نظنه أنه كان بين أيدى المسلمين ما يربى على هذا العدد بكثير، هذا ولم يكن قد مضى على كتابة عثمان لمصحفه الإمام وإرساله إلى الأمصار ما يزيد على سنين سبع.
__________
(1) مروج الذهب (2: 20).(1/152)
والجديد الذى أحب أن أسوقه هنا، نقلا عمن نظروا فى نشأة الخط العربى (1): أن العرب كانوا قبيل الإسلام يكتبون بالخط الحيرى نسبة إلى الحيرة ثم سمى هذا الخط بعد الإسلام بالخط الكوفى.
وهذا الخط الكوفى فرع كما يقولون من الخط السريانى، وأنه على الأخص طور من أطوار قلم للسريان كانوا يسمونه «السطرنجيلى»، وكان السريان يكتبون به الكتاب المقدس، وعن السريان انتقل إلى العرب قبل الإسلام، ثم كان منه الخط الكوفى، كما ذكرت لك.
ولقد كان للعرب إلى جانب هذا القلم الكوفى قلم نبطى، انتقل إليهم من حوران مع رحلاتهم إلى الشام. وعاش العرب ولهم هذان القلمان:
الكوفى والنبطى، يستخدمون الكوفى لكتابة القرآن، ويستخدمون النبطى فى شئون أخرى.
وبالخط الكوفى كان كتب المصاحف، غير أنه كان أشكالا، واستمر ذلك إلى القرن الخامس تقريبا، ثم ظهر الخط الثلث، وعاش من القرن الخامس إلى ما يقرب من القرن التاسع، إلى أن ظهر القلم النسخ، الذى هو أساس الخط العربى إلى اليوم.
فلقد كتب القرآن بالكوفى أيام الخلفاء الراشدين، ثم أيام بنى أمية، وفى أيام بنى أمية صار هذا الخط الكوفى إلى أقلام أربعة.
__________
(1) كشف الظنون (1: 714710) فهرست ابن النديم (24 26). الخط العربى لخليل نامى، تاريخ الخط العربى لمحمد طاهر الكردى.(1/153)
ويعزون هذا التشكل فى الأقلام إلى كاتب اسمه قطبة، وكان كاتب أهل زمانه، وكان يكتب لبنى أمية المصاحف.
وفى أوائل الدولة العباسية ظهر الضحاك بن عجلان، ومن بعده إسحاق بن حماد، فإذا هما يزيدان على قطبة، وإذا الأقلام العربية تبلغ اثنى عشر قلما: قلم الجليل، قلم السجلات، قلم الديباج، قلم اسطورمار الكبير، قلم الثلاثين، قلم الزنبور، قلم المفتتح، قلم الحرم، قلم المؤامرات، قلم العهود، قلم القصص، قلم الحرفاج.
وحين ظهر الهاشميون حدث خط يسمى: العراقى، وهو المحقن.
ولم تزل الأقلام تزيد إلى أن انتهى الأمر إلى المأمون فأخذ كتّابه بتجويد خطوطهم، وظهر رجل يعرف بالأحول المحرر، فتكلم على رسوم الخط وقوانينه وجعله أنواعا.
ثم ظهر قلم المرصع، وقلم النساخ، وقلم الرياس، نسبة إلى ذى الرئاستين الفضل بن سهل، وقلم الرقاع، وقلم غبار الحلبة.
فزادت الخطوط على عشرين شكلا ولكنها، كلها من الكوفى. حتى إذا ما ظهر ابن مقلة «328هـ» نقل الخط من صورة القلم الكوفى إلى صورة القلم النسخى، وجعله على قاعدة جميلة كانت أساسا لكتابة المصاحف.
وينقل المقرى عن ابن خليل السكونى أنه شاهد بجامع العديس بإشبيلية ربعة مصحف فى أسفار ينحى به لنحو خطوط الكوفة، إلا أنه أحسن خطّا وأبينه وأبرعه وأتقنه، وأن أبا الحسين بن الطفيل بن عظيمة قال له: هذا خط ابن مقلة.
ثم يقول المقرى وقد رأيت بالمدينة المنورة، على ساكنها أفضل الصلاة والسلام، مصحفا بخط ياقوت المستعصمى (1).(1/154)
وينقل المقرى عن ابن خليل السكونى أنه شاهد بجامع العديس بإشبيلية ربعة مصحف فى أسفار ينحى به لنحو خطوط الكوفة، إلا أنه أحسن خطّا وأبينه وأبرعه وأتقنه، وأن أبا الحسين بن الطفيل بن عظيمة قال له: هذا خط ابن مقلة.
ثم يقول المقرى وقد رأيت بالمدينة المنورة، على ساكنها أفضل الصلاة والسلام، مصحفا بخط ياقوت المستعصمى (1).
ولقد كانت وفاة ياقوت هذا سنة 698هـ، وكان سباقا فى هذا الميدان.
ويقول محمد بن إسحاق: أول من كتب المصاحف، فى الصدر الأول، ويوصف بحسن الخط: خالد بن أبى الهياج. رأيت مصحفا بخطه.
وكان سعد نصبه لكتب المصاحف والشعر والأخبار للوليد بن عبد الملك، وهو الذى كتب الكتاب الذى فى قبلة مسجد النبى، صلى الله عليه وسلم، بالذهب، من {وَالشَّمْسِ وَضُحََاهََا} إلى آخر القرآن.
ويقال: إن عمر بن عبد العزيز قال له: أريد أن تكتب لى مصحفا على هذا المثال. فكتب له مصحفا تنوّق فيه. فأقبل عمر يقلبه ويستحسنه، واستكثر ثمنه فردّه عليه.
ومالك بن دينار، مولى أسامة بن لؤى بن غالب، ويكنى: أبا يحيى.
وكان يكتب المصاحف بأجر. ومات سنة ثلاثين ومائتين.
ثم أورد ابن إسحاق نفرا من كتاب المصاحف بالخط الكوفى وبالخط المحقق المشق، وقد رآهم جميعا.
والذى لا شك فيه أن هذه الأقلام المختلفة تبارت فى كتابة المصحف، كما كتب بأقلام غير هذه، ذكر منها الكردى فى كتابه «تاريخ الخط
__________
(1) نفح الطيب (6: 40).(1/155)
العربى» قلمين، هما: سياقت، وشكسته، وأورد لهما نماذج، فارجع إليه إن شئت.
وظلت المصاحف على هذه الحال إلى أن ظهرت المطابع سنة 1431م، وكان أول مصحف طبع بالخط العربى فى مدينة همبرج بألمانيا، ثم فى البندقية فى القرن السادس عشر الميلادى.
وحين أخذت المطابع تشيع كثر طبع المصحف، إذ هو كتاب المسلمين الأول وعليه معتمدهم.(1/156)
وحين أخذت المطابع تشيع كثر طبع المصحف، إذ هو كتاب المسلمين الأول وعليه معتمدهم.
20 - تجزية المصحف
ولقد سقنا لك الحديث عن عدد سور القرآن، وعدد كلماته، وعدد حروفه، وما نظن هذا كله بدأ مع السنين الأولى أيام كان المسلمون مشغولين بجمع القرآن وتدوينه، عهد أبى بكر وعمر ثم عهد عثمان، وما نظنه إلا تخلّف زمنا بعد هذا إلى أيام الحجاج.
ولقد كان المسلمون والوحى لا يزال متصلا يختصون يومهم بنصيب من القرآن، يخلون إلى أنفسهم ساعة من يومهم هذا يتلون فيها ما تيسر، يفرض كل منهم على نفسه جزءا بعينه، وإلى هذا يشير ما روى عن المغيرة بن شعبة، قال: استأذن رجل على رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وهو بين مكة والمدينة، فقال: إنه قد فاتنى الليلة جزئى من القرآن فإنى لا أوثر عليه شيئا (1).
وما نشك فى أن هذه التجزئة كانت فرديّة، أى إن مرجعها كان لكل فرد على حدة. ونكاد نذهب إلى أنها لم تكن على التساوى.
وهذه التجزئة، التى أخذ فيها المسلمون مبكرين ليجعلوا للقرآن حظّا من ساعات يومهم حتى لا يغيبوا عنه فيغيب عنهم، وحتى ييسروا على أنفسهم ليمضوا فيه إلى آخره أسبوعا بعد أسبوع، أو شهرا بعد شهر، هذه التجزئة الأولى غير المضبوطة هى التى أملت على المسلمين بعد فى أن يأخذوا فى تجزئة القرآن تجزئة تخضع لمعايير مضبوطة، ولم يكن عليهم ضير فى أن يفعلوا.
__________
(1) المصاحف (ص: 118).(1/157)
عند هذه، وبعد أن استوى المصحف بين أيديهم مكتوبا، كان عدّ السور وعدّ الكلمات وعدّ الآيات. ولا يدفع هذا أن المسلمين الأوّل أيام الرسول كانوا بعيدين البعد كله عن هذا كله، بل إن ما نعنيه هو الإحصاء المستوعب الشامل، وأما غيره فما نظننا ننكره على المسلمين الأول، من ذلك ما روى عن ابن مسعود أنه قال: أقرأنى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، سورة من الثلاثين من آل حم. يعنى: الأحقاف.
وأزيدك بعد هذا شيئا أنقله لك عن السيوطى لتشاركنى رأيى، قال السيوطى: كانت السورة إذا كانت أكثر من ثلاثين آية سمّيت الثلاثين (1).
وأرانى قد ذكرت لك فى بدء هذا الحديث أن هذا الاستيعاب الشامل لم يكن إلا مع أيام الحجاج، وأحب أن أسوق إليك دليلى عليه:
يروى أبو بكر السجستانى، يقول: جمع الحجاج بن يوسف الحفاظ والقراء، وكان فيهم أبو محمد الحمانى راشد بن نجيح، فقال الحجاج:
أخبرونى عن القرآن كله كم هو من حرف؟ قال أبو محمد: فجعلنا نحسب حتى أجمعوا أن القرآن ثلاثمائة ألف حرف وأربعين ألفا وسبعمائة ونيف وأربعين حرفا. قال الحجاج: فأخبرونى إلى أى حرف ينتهى نصف القرآن. فحسبوا فأجمعوا أنه ينتهى فى الكهف «وليتلطف» الآية: 19فى الفاء. قال الحجاج: فأخبرونى بأسباعه على الحروف؟
__________
(1) الإتقان (1: 66).(1/158)
قال أبو محمد: فإذا أول سبع فى النساء {فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ} الآية: 55فى الدال. والسبع الثانى فى الأعراف أولئك {حَبِطَتْ} الآية: 147فى التاء. والسبع الثالث فى الرعد {أُكُلُهََا دََائِمٌ} الآية: 35فى الألف آخر «أكلها» الآية: 32. والسبع الرابع فى الحج {لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنََا مَنْسَكاً} الآية: 34فى الألف.
والسبع الخامس فى الأحزاب {وَمََا كََانَ لِمُؤْمِنٍ وَلََا مُؤْمِنَةٍ} الآية: 36 فى الهاء. والسبع السادس فى الفتح {الظََّانِّينَ بِاللََّهِ ظَنَّ السَّوْءِ} الآية:
6 - فى الواو. والسابع ما بقى من القرآن. قال الحجاج: فأخبرونى بأثلاثه؟ قالوا: الثلث الأول رأس مائة من براءة. والثلث الثانى رأس إحدى ومائة آية من طسم الشعراء. والثلث الثالث ما بقى من القرآن.
ثم سألهم الحجاج عن أرباعه، فإذا أول ربع خاتمة سورة الأنعام. والربع الثانى الكهف وليلطف الآية: 19والربع الثالث خاتمة الزمر.
والربع الرابع ما بقى من القرآن.
كانت هذه نظرة الحجّاج مع القراء والحفاظ، وكانت تجزئته للقرآن لوفق عدد حروفه، ولقد رأيناه كيف جزأه نصفين، ثم أسباعا، ثم أثلاثا، ثم أرباعا.
وما نظن الحجاج كان يستملى فى هذه التجزئة إلا عن تفكير فى التيسير، فجعله نصفين على القارئ المجد، ثم أثلاثا على اللاحق، ثم أرباعا على من يتلو اللاحق، ثم أسباعا على من يريد أن يتمه فى أسبوع، وكانت تلك هى النهاية التى أحبها الحجاج للمسلمين، وكأنه لم يحب لهم أن يتجاوزوها، لذلك لم يمض مع القرّاء والحفاظ
يسألهم عما بعدها. ونحن نعلم أن الحجاج كان يقرأ القرآن كله فى كل ليلة (1).(1/159)
وما نظن الحجاج كان يستملى فى هذه التجزئة إلا عن تفكير فى التيسير، فجعله نصفين على القارئ المجد، ثم أثلاثا على اللاحق، ثم أرباعا على من يتلو اللاحق، ثم أسباعا على من يريد أن يتمه فى أسبوع، وكانت تلك هى النهاية التى أحبها الحجاج للمسلمين، وكأنه لم يحب لهم أن يتجاوزوها، لذلك لم يمض مع القرّاء والحفاظ
يسألهم عما بعدها. ونحن نعلم أن الحجاج كان يقرأ القرآن كله فى كل ليلة (1).
وحين نظر الحجاج فى القرآن يجزئه هذه التجزئة التى تحدها الحروف، بدأ غيره من بعده ينظرون فى تجزئة القرآن تجزئة تمليها الآيات، فقسموه أنصافا وأثلاثا وأرباعا وأخماسا وأسداسا وأسباعا وأثمانا وأتساعا وأعشارا.
وما نظن هؤلاء الذين جاءوا فى إثر الحجاج بهذه التجزئة، التى تخالف تجزئة الحجاج، كانوا يستملون إلا عن مثل ما استملى الحجاج عنه، وهو التيسير، ثم الإرخاء فى هذا التيسير، ثم تخصيص كل يوم بنصيب لا يزيد ولا ينقص، وكان أقصى ما أرادوه لكل مسلم أن يتم قراءة القرآن فى أيام لا تعدو العشرة.
ولقد مرّ بك قبل عند الكلام على عد آيات القرآن ما كان من خلاف فى عدّ الآيات يسير علمت سببه، وأحبك أن تعلم أن هذا الخلاف اليسير فى عدّ الآيات جر إلى خلاف يسير فى هذه التجزئة.
وإذ كانت فكرة الحجّاج، وفكرة من جاء بعد الحجّاج، فى تجزئة القرآن هى التيسير على التالى كما أرى وكان الحجّاج متشددا، متشددا على نفسه أولا، كما رأيت، فلم يجاوز فى تيسيره إلى غير سبعة أيام، ولكن من جاءوا بعد الحجّاج لم يكونوا على تشدد الحجّاج فأرخوا شيئا فى التيسير وزادوها إلى عشرة.
__________
(1) المصاحف (ص 120119).(1/160)
وما وقف التيسير عند هذا الحد الذى انتهى إليه من جاءوا فى إثر الحجّاج، بل نرى الميسّرين أرخوا للقارئين إلى أن بلغوا بهم الثلاثين، فإذا القرآن يجزّأ إلى ثلاثين جزءا.
غير أن هذه المراحل التى جاءت بعد الحجّاج لم تتم فى يوم وليلة، بل امتدت بامتداد الأيام، ولقد كانت وفاة الحجّاج فى العام الخامس والتسعين من الهجرة، ونرى السجستانى يروى أخباره فى تجزئة القرآن تلك التجزئة الثانية عن رواة تنحصر وفاتهم فى القرن الثانى للهجرة.
ثم نرى ابن النديم، وهو يتكلم عن الكتب المؤلفة فى أجزاء القرآن، يذكر لنا:
1 - كتاب أسباع القرآن، لحمزة بن حبيب بن عمارة الزيات.
ولقد كانت وفاة حمزة سنة 158هـ.
2 - كتاب أجزاء ثلاثين، عن أبى بكر بن عياش، ولقد كانت وفاة أبى بكر بن عياش سنة 193هـ (1).
وما يعنينا الكتاب الأول، فلقد علمنا أن تجزئة القرآن أسباعا، كانت على يد الحجّاج حروفا، وقد تكون على يد حمزة آيات، أقول: لا تعنينى هذه ولكن تعنينى الثانية، فهى تدلنا على أن تجزئة القرآن إلى ثلاثين جزءا، وهى التجزئة التى عليها مصاحفنا اليوم، تجزئة قديمة انتهت إلى أبى بكر، بهذا يشعرنا أسلوب ابن النديم، إذ لم يعز الكتاب لأبى بكر، وإنما قال: عن أبى بكر.
__________
(1) الفهرست (ص: 55) طبعة مصر.(1/161)
إذن فتجزئة القرآن ثلاثين جزءا لم تغب عن القرن الثانى الهجرى، ولا يبعد أن تكون دون منتهاه بكثير، فلقد كان مولد أبى بكر سنة ست وتسعين من الهجرة، والرجل يصلح للتلقى والرواية مع الخامسة والعشرين من عمره، أى إن أبا بكر كان رجل رواية وتلقّ مع العام العشرين بعد المائة الأولى من الهجرة.
وهذه التجزئة الأخيرة، أعنى تجزئة القرآن ثلاثين جزءا، هى التجزئة التى غلبت وعاشت، ولعل ما ساعد على غلبتها يسرها، ثم ارتباطها بعدد أيام الشهر، ونحن نعلم كم تجد هذه التجزئة إقبالا عظيما فى شهر رمضان من كل عام. وما نظن الذين جزّءوا انتهوا إلى هذه التجزئة الأخيرة فى مرحلة واحدة متجاوزين التجزئة العشرية إلى التجزئة الثلاثينية، والذى نقطع به أنه كانت ثمة تجزئات بين هاتين المرحلتين لا ندرى تدرّجها، ولكن يعنينا أن نقيد أن ثمة تجزئة تقع فى عشرين جزءا، تحتفظ بها مكتبة دار الكتب.
وبهذه التجزئة أى إلى ثلاثين جزءا أصبح القرآن يعرض أجزاء منفصلة، كل جزء على حدة، وأصبحنا نراه فى المساجد، لا سيما فى شهر رمضان، محفوظا فى صناديق بأجزائه المتمّة الثلاثين، كل مجموعة فى صندوق، يقدّمه الراغبون فى الثواب إلى الوافدين إلى المساجد رغبة فى تلاوة نصيب من القرآن.
وأصبح يطلق على هذه الأجزاء المتمة الثلاثين اسم ربعة. والربعة فى اللغة: الصندوق، أو الوعاء من جلد. ولعل تسمية الأجزاء المتمة الثلاثين بهذا الاسم جاءت من إطلاق المحل على الحال فيه.
ولكن هذا التيسير الأخير جرّ إلى تيسير آخر يتصل به، وما نشك فى أن الدافع إليه كان التيسير على الحافظين، بعد أن كان التيسير على القارئين، وفرق بين أن ييسر على قارئ وبين أن ييسّر على حافظ.(1/162)
وأصبح يطلق على هذه الأجزاء المتمة الثلاثين اسم ربعة. والربعة فى اللغة: الصندوق، أو الوعاء من جلد. ولعل تسمية الأجزاء المتمة الثلاثين بهذا الاسم جاءت من إطلاق المحل على الحال فيه.
ولكن هذا التيسير الأخير جرّ إلى تيسير آخر يتصل به، وما نشك فى أن الدافع إليه كان التيسير على الحافظين، بعد أن كان التيسير على القارئين، وفرق بين أن ييسر على قارئ وبين أن ييسّر على حافظ.
من أجل هذه، فيما نظن، كان تقسيم الأجزاء المتمة الثلاثين إلى أحزاب، كل جزء ينقسم إلى حزبين، ثم تقسيم الحزب إلى أرباع، كل حزب ينقسم إلى أربعة أرباع.
وعلى هذا التقسيم الأخير طبعت المصاحف، واعتمد هذا التقسيم، على الجانب الراجح بين القرّاء فى عدد الآيات، فأنت تعلم هذا الخلاف الذى بينهم.
فالمدنيون الأول يعدون آيات القرآن 6000آية والمدنيون المتأخرون يعدون آيات القرآن 6124آية والمكيون المتأخرون يعدون آيات القرآن 6219آية والكوفيون يعدون آيات القرآن 6263آية والبصريون يعدون آيات القرآن 6204آية والشاميون يعدون آيات القرآن 6225آية وفى هذا الخلاف كان ثمة ترجيح وثمة اتفاق وثمة تغليب. وقد انبرى لهذه السّفاقسى فى كتابه «غيث النفع». ولقد اعتمد السفاقسى على رجلين سبقاه فى هذه الصناعة. هما: أبو العباس أحمد بن محمد بن
أبى بكر القسطلانى، فى كتابه «لطائف الإشارات فى علم القراءات»، والقادرىّ محمد، فى كتابه «مسعف المقرئين ومعين المشتغلين بمعرفة الوقف والابتداء»، وانتهى إلى الرأى الراجح أو المتفق عليه، وبهذا أخذ الذين أشرفوا على طبع المصحف طبعته الأخيرة فى مصر، وخرج يحمل الاشارات الجانبية الدالة على مكان الأجزاء والأحزاب وأرباع الأحزاب.(1/163)
فالمدنيون الأول يعدون آيات القرآن 6000آية والمدنيون المتأخرون يعدون آيات القرآن 6124آية والمكيون المتأخرون يعدون آيات القرآن 6219آية والكوفيون يعدون آيات القرآن 6263آية والبصريون يعدون آيات القرآن 6204آية والشاميون يعدون آيات القرآن 6225آية وفى هذا الخلاف كان ثمة ترجيح وثمة اتفاق وثمة تغليب. وقد انبرى لهذه السّفاقسى فى كتابه «غيث النفع». ولقد اعتمد السفاقسى على رجلين سبقاه فى هذه الصناعة. هما: أبو العباس أحمد بن محمد بن
أبى بكر القسطلانى، فى كتابه «لطائف الإشارات فى علم القراءات»، والقادرىّ محمد، فى كتابه «مسعف المقرئين ومعين المشتغلين بمعرفة الوقف والابتداء»، وانتهى إلى الرأى الراجح أو المتفق عليه، وبهذا أخذ الذين أشرفوا على طبع المصحف طبعته الأخيرة فى مصر، وخرج يحمل الاشارات الجانبية الدالة على مكان الأجزاء والأحزاب وأرباع الأحزاب.(1/164)
فالمدنيون الأول يعدون آيات القرآن 6000آية والمدنيون المتأخرون يعدون آيات القرآن 6124آية والمكيون المتأخرون يعدون آيات القرآن 6219آية والكوفيون يعدون آيات القرآن 6263آية والبصريون يعدون آيات القرآن 6204آية والشاميون يعدون آيات القرآن 6225آية وفى هذا الخلاف كان ثمة ترجيح وثمة اتفاق وثمة تغليب. وقد انبرى لهذه السّفاقسى فى كتابه «غيث النفع». ولقد اعتمد السفاقسى على رجلين سبقاه فى هذه الصناعة. هما: أبو العباس أحمد بن محمد بن
أبى بكر القسطلانى، فى كتابه «لطائف الإشارات فى علم القراءات»، والقادرىّ محمد، فى كتابه «مسعف المقرئين ومعين المشتغلين بمعرفة الوقف والابتداء»، وانتهى إلى الرأى الراجح أو المتفق عليه، وبهذا أخذ الذين أشرفوا على طبع المصحف طبعته الأخيرة فى مصر، وخرج يحمل الاشارات الجانبية الدالة على مكان الأجزاء والأحزاب وأرباع الأحزاب.
21 - الاستعاذة والبسملة
ولا خلاف بين العلماء أن القارئ للقرآن مطلوب منه عند البدء فى القراءة أن يتعوذ، والصيغة المختارة للتعوذ هى: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم.
وعند الجمهور أن التعوذ على الندب لا على الوجوب.
ثم لا خلاف بين العلماء فى الجهر بها عند البدء فى القراءة، لأنها شعارها.
ولا بدّ من قراءة البسملة أول كل سورة، تحرزا على مذهب الشافعى.
وقد اختلف العلماء فى البسملة على ثلاثة أقوال:
1 - أنها ليست بآية، لا من الفاتحة ولا من غيرها، وهو قول مالك.
2 - أنها آية من كل سورة، وهو قول عبد الله بن المبارك.
3 - أنها آية من الفاتحة، وهو قول الشافعى.(1/165)
3 - أنها آية من الفاتحة، وهو قول الشافعى.
22 - الناسخ والمنسوخ
النسخ، لغة: إبطال الشيء ورفعه. والمتكلمون عن النسخ فى القرآن يجعلونه على ثلاثة أضرب:
1 - ما نسخ خطه وحكمه. ويروون فى ذلك عن أنس أنه قال:
كنا نقرأ على عهد رسول الله، صلى الله عليه وسلم، سورة تعدلها سورة التوبة، ما أحفظ منها غير آية واحدة «ولولا أن لابن آدم واديين من ذهب لابتغى إليها رابعا، ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب ويتوب الله على من تاب».
كما يروون عن ابن مسعود أنه قال: أقرأنى رسول الله صلى الله عليه وسلم آية فحفظتها وكتبتها فى مصحفى، فلما كان الليل رجعت إلى مصحفى فلم أرجع منها بشيء، وغدوت على مصحفى فإذا الورقة بيضاء.
فأخبرت النبى صلى الله عليه وسلم، فقال لى: يا ابن مسعود، تلك رفعت البارحة.
وهذا عندى قسم يكاد سرده يدل عليه ويكشف عن سقوطه، فما أجلّ الله حكيما عليما، وما كانت الرسالة تجربة بشرية يجوز عليها تعديل أو الوقوع فيما سينقض بعد حين. ولقد كان الرسول يحدث المسلمين بحديثه، ويقرأ عليهم وحى السماء، ولقد كان عليه السلام يعارضهم ما حملوه عنه على التوالى، حرصا على سلامة الوحى من أن يختلط به غيره، وكم من سامع خلط ما بين ما هو وحى وبين ما هو حديث للرسول، ولكنه كان بعد حين قليل مردود إلى السلامة حين
يلقى بما عنده الرسول، أو يلقى صحابيا على بصيرة بما هو وحى وما هو حديث.(1/166)
وهذا عندى قسم يكاد سرده يدل عليه ويكشف عن سقوطه، فما أجلّ الله حكيما عليما، وما كانت الرسالة تجربة بشرية يجوز عليها تعديل أو الوقوع فيما سينقض بعد حين. ولقد كان الرسول يحدث المسلمين بحديثه، ويقرأ عليهم وحى السماء، ولقد كان عليه السلام يعارضهم ما حملوه عنه على التوالى، حرصا على سلامة الوحى من أن يختلط به غيره، وكم من سامع خلط ما بين ما هو وحى وبين ما هو حديث للرسول، ولكنه كان بعد حين قليل مردود إلى السلامة حين
يلقى بما عنده الرسول، أو يلقى صحابيا على بصيرة بما هو وحى وما هو حديث.
وسرعان ما كانت تستقيم الأمور، وسرعان ما كان يبين هذا من ذاك، حتى إذا ما حان أن يقبض الله إليه رسوله كانت العرضة الأخيرة للقرآن، ولم تكن إلا لهذا ومثله.
2 - ما نسخ خطه وبقى حكمه. ويروون لهذا خبرا عن عمر بن الخطاب يقول:
لولا أنى أكره أن يقول الناس: قد زاد فى القرآن ما ليس فيه لكتبت آية الرجم وأثبتها، فو الله لقد قرأناها على رسول الله، صلى الله عليه وسلم:
«لا ترغبوا عن آبائكم فإن ذلك كفر بكم. الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة نكالا من الله والله عزيز حكيم».
وأحسب أن عمر، لو صح هذا عنه، وأنه سمعها عن الرسول، ما تخلف عن أن يكتبها، ثم ألم يسمعها مع عمر غيره فيجعل منه شاهدا معه، إن كان عمر لا يرى أنه وحده مجزئ، اللهم إن هذا ينقض علينا ذاك التحرى فى الجمع الذى قام به الصحابة، وينقض علينا تلك المعارضات التى كانت تتم بين السول والقارئين، وينقض علينا التفكير السليم. وما نحب لمن يعالج ما يتصل بكتاب الله إلا أن يكون ذا تفكير سليم.
3 - ما نسخ حكمه وبقى خطه. وهذا شىء يقتضيه التشريع والانتقال من حكم إلى حكم، مثال ذلك الآيات التى تتصل بالقبلة، والتى انتهت بقوله تعالى يخاطب نبيّه {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرََامِ} (1)، وكانت قبلها {فَأَيْنَمََا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللََّهِ} (2).
__________
(1) البقرة: 150.
(2) البقرة: 115.(1/167)
ومثل قوله تعالى {إِنَّمََا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ} (1)
فجاء قوله عليه الصلاة والسلام: «أحلت لنا ميتتان ودمان السمك والجراد والكبد والطحال» يستثنى شيئا من الميتة المذكورة فى القرآن.
وقد عد الناظرون فى هذا نحوا من 144، منها:
(1) ثلاثون آية فى البقرة (2) عشر آيات فى آل عمران (3) أربع وعشرون آية فى النساء (4) تسع آيات فى المائدة (5) خمس عشرة آية فى الأنعام (6) آيتان فى الأعراف (7) ست آيات فى الأنفال (8) إحدى عشر آية فى التوبة (9) ثمانى آيات فى يونس (10) أربع آيات فى هود (11) آيتان فى الرعد (12) آية فى إبراهيم (13) خمس آيات فى الحجر (14) أربع آيات فى النحل (15) ثلاث آيات فى بنى إسرائيل (16) آية فى الكهف (17) خمس آيات فى مريم (18) ثلاث آيات فى طه (19) ثلاث آيات فى الأنبياء (20) ثلاث آيات فى الحج (21) آيتان فى المؤمنون (22) سبع آيات فى النور (23) آيتان فى الفرقان (24) آية واحدة فى النمل (25) آية واحدة فى القصص (26) آية واحدة فى العنكبوت (27) آية واحدة فى الروم (28) آية واحدة فى السجدة (29) آيتان فى الأحزاب (30) آية واحدة فى سبأ (31) آية واحدة فى الملائكة (32) أربع آيات فى الصافات (33) آيتان فى ص (34) ثلاث آيات فى الزمر
__________
(1) المائدة: 3.(1/168)
(35) آيتان فى حم «المؤمن». (36) آية واحدة فى حم «السجدة».
(37) سبع آيات فى الشورى (38) آيتان فى الزخرف (39) آية واحدة فى الدخان (40) آيتان فى الجاثية (41) آيتان فى الأحقاف (42) آيتان فى محمد (43) آيتان فى: ق (44) آيتان فى الذاريات (45) آيتان فى الطور (46) آيتان فى النجم (47) آية واحدة فى القمر (48) آية واحدة فى المجادلة (49) ثلاث آيات فى الامتحان (50) آيتان فى القلم (51) آيتان فى المعارج (52) ست آيات فى المزمل (53) آيتان فى الإنسان (54) آية واحدة فى عبس (55) آية واحدة فى التكوير (56) آية واحدة فى الطارق (57) آية واحدة فى الغاشية (58) آية واحدة فى التين (59) آية واحدة فى العصر (60) آية واحدة فى الكافرون فهذا بيان الآيات التى فيها نسخ تستطيع أن ترجع إلى تفصيلها فى كتب النسخ، مثل كتاب «الناسخ والمنسوخ» لأبى القاسم هبة الله ابن سلامة، المتوفى سنة 410من الهجرة، ثم فى كتب التفسير.
وسوف نرى أن كل ما يتصل بها هو ترتب أحكام اقتضاها التشريع السماوى الذى أملاه نزول القرآن مجزّأ لوفق أحوال المسلمين وتدرجهم فى الحياة، الأمر الذى قدمنا عنه حديثا عند الكلام على نزول القرآن مجزّأ لا جملة واحدة.(1/169)
وسوف نرى أن كل ما يتصل بها هو ترتب أحكام اقتضاها التشريع السماوى الذى أملاه نزول القرآن مجزّأ لوفق أحوال المسلمين وتدرجهم فى الحياة، الأمر الذى قدمنا عنه حديثا عند الكلام على نزول القرآن مجزّأ لا جملة واحدة.
23 - الحروف المقطعة فى أوائل السور
ويعد المفسرون هذا من المتشابه فى القرآن الذى لا يعلم تأويله إلا الله، غير أن ابن قتيبة يرى أن الله لم ينزل شيئا من القرآن إلا لينفع به عباده، ويدل به على معنى أراده. ويقول: فلو كان المتشابه لا يعلمه غيره للزمنا للطاعن مقال، وتعلّق علينا بعلة.
ويمضى ابن قتيبة فى حديثه فيقول: وهل يجوز لأحد أن يقول:
إن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، لم يكن يعرف المتشابه، وإذا جاز أن يعرفه مع قوله تعالى {وَمََا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللََّهُ} (1) جاز أن يعرفه الرّبانيون من صحابته. فقد علّم عليّا التفسير.
ودعا لابن عباس فقال: اللهم علّمه التأويل وفقّهه فى الدين.
ثم يقول ابن قتيبة: وبعد. فإنا لم نر المفسرين توقفوا عن شىء من القرآن فقالوا: هذا متشابه لا يعلمه إلا الله، بل أمرّوه كله على التفسير حتى فسروا الحروف المقطعة فى أوائل السور.
ويقول ابن قتيبة فى تفسير قوله تعالى {وَمََا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللََّهُ وَالرََّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنََّا بِهِ} (1): فإن قال قائل: كيف يجوز فى اللغة أن يعلمه الراسخون فى العلم، وأنت إذا أشركت الراسخين فى العلم انقطعوا عن «يقولون»، وليست هاهنا «واو نسق» توجب للراسخين فعلين؟ قلنا له: إنّ «يقولون»، وليست هاهنا فى معنى الحال، كأنه قال:
والراسخون فى العلم قائلين آمنا به (3).
__________
(1) آل عمران: 7
(3) تأويل مشكل القرآن (7372).(1/170)
والمفسرون مختلفون فى تفسير هذه الحروف المقطعة.
1 - فمنهم من يجعلها أسماء للسور، تعرف كل سورة بما افتتحت به منها، فهى أعلام تدل على ما تدل عليه الأسماء من أعيان الأشياء وتفرق بينها، فإذا قال القائل: قرأت «الص» أو قرأت «ص» أو «ن»، دل بذاك لى ما قرأ.
ولا يرد هذا أن بعض هذه الأسماء يقع لعدة سور، مثل {حم} و {الم}، إذ من الممكن التمييز بأن يقول: حم السجدة و {الم} البقرة، كما هى الحال عند وقوع الوفاق فى الأسماء، فتميزها بالإضافات وأسماء الآباء والكنى.
2 - ويجعلها بعضهم للقسم، وكأن الله عز وجل أقسم بالحروف المقطعة كلها، واقتصر على ذكر بعضها من ذكر جميعها، فقال «الم»، وهو يريد جميع الحروف المقطعة، كما يقول القائل: تعلمت «أب ت ث»، وهو لا يريد تعلم هذه الأحرف دون غيرها من الثمانية والعشرين.
ولقد أقسم الله بحروف المعجم لشرفها وفضلها، إذ هى مبانى كتابه المنزل على رسوله.
3 - ويجعلها بعضهم حروفا مأخوذة من صفات الله تعالى، يجتمع بها فى المفتتح صفات كثيرة. ويكون هذا فنّا من فنون الاختصار عند العرب.
وهذا الاختصار عند العرب كثير، يقول الوليد بن عقبة من رجز له:
قلت لها قفى فقالت قاف أى قالت: قد وقفت، فأومأ بالقاف إلى معنى الوقوف.(1/171)
وهذا الاختصار عند العرب كثير، يقول الوليد بن عقبة من رجز له:
قلت لها قفى فقالت قاف أى قالت: قد وقفت، فأومأ بالقاف إلى معنى الوقوف.
وعلى هذا يجعل المفسرون كل حرف من هذه الحروف يشير إلى صفة من صفات الله.
فيقول ابن عباس مثلا فى تفسير قوله تعالى {كهيعص}: إن الكاف من كاف، والهاء من هاد، والياء، من حكيم، والعين، من عليم، والصاد، من صادق.
هذا مجمل ما ذهب إليه المفسرون القدامى فى معانى هذه الحروف المتقطعة، وفى كل منها مقنع.
أما عما ذهب إليه المحدثون المنصفون فى هذا، فحسبك ما انتهى إليه «على نصوح الطاهر» فى كتابة «أوائل السور فى القرآن الكريم»، وإليك مجمل ما قال فى خاتمة كتابه:
1 - إن أوائل السور تقوم على حساب الجمل.
2 - إنها تبيّن عدد الآيات المكية أيام كان القرآن يخشى عليه من أعدائه فى مكة، من أن يزيدوا فيه أو أن ينقصوا منه، ودليله على ذلك:
(ا) أنها وردت مع تسع وعشرين سورة من سور القرآن.
(ب) من هذه السور سبع وعشرون مكية واثنتان مدنيتان، هما البقرة وآل عمران.
(ج) أن هاتين السورتين المدنيتين نزلتا فى أول العهد المدنى، ولم يكن قد استقر أمر المسلمين كثيرا، فهو عهد أشبه بعهد مكة.(1/172)
(ب) من هذه السور سبع وعشرون مكية واثنتان مدنيتان، هما البقرة وآل عمران.
(ج) أن هاتين السورتين المدنيتين نزلتا فى أول العهد المدنى، ولم يكن قد استقر أمر المسلمين كثيرا، فهو عهد أشبه بعهد مكة.
(د) أنه حين اشتد أمر المسلمين وكانت كثرة من القارئين والكاتبين لم تكن ثمة فواتح سور.
ولقد تتبع فى كتابه «أوائل السور فى القرآن الكريم» سور القرآن الكريم ذات الفواتح، وطابق بين جمّلها والآيات المكية بها، فإذا هو ينتهى إلى رأى شبه قاطع.(1/173)
ولقد تتبع فى كتابه «أوائل السور فى القرآن الكريم» سور القرآن الكريم ذات الفواتح، وطابق بين جمّلها والآيات المكية بها، فإذا هو ينتهى إلى رأى شبه قاطع.
24 - علوم القرآن
ومنذ أن تلقى المسلمون كتاب الله عن رسوله وهم به معنيّون.
عنى به الأولون عناية جمع، ثم توحيد ما جمع، ثم ضبط وشكل، حتى إذا ما استوى الكتاب فى أيديهم أخذوا ينظرون فيه ليتدبروا معانيه.
وقد تمخضت هذه النظرات عن علوم مختلفة حول القرآن اتسعت لها مؤلفات كثيرة.
ولقد أحصى ابن النديم فى كتابه الفهرست جملة عقد لها أبوابا، فذكر:
1 - تسمية الكتب التى ألفها العلماء فى قراءته، أى قراءة القرآن.
2 - تسمية الكتب المصنفة فى تفسيره.
3 - الكتب المؤلفة فى معانى القرآن ومشكله ومجازه.
4 - الكتب المؤلفة فى غريب القرآن.
5 - الكتب المؤلفة فى لغات القرآن.
6 - الكتب المؤلفة فى القراءات.
7 - الكتب المؤلفة فى النقط والشكل للقرآن.
8 - الكتب المؤلفة فى لامات القرآن.
9 - الكتب المؤلفة فى الوقف والابتداء فى القرآن.
10 - الكتب المؤلفة فى اختلاف المصاحف.
11 - الكتب المؤلفة فى وقف التمام.(1/174)
10 - الكتب المؤلفة فى اختلاف المصاحف.
11 - الكتب المؤلفة فى وقف التمام.
12 - الكتب المؤلفة فيما اتفقت ألفاظه ومعانيه فى القرآن.
13 - الكتب المؤلفة فى متشابه القرآن.
14 - الكتب المؤلفة فى هجاء المصاحف.
15 - الكتب المؤلفة فى مقطوع القرآن وموصوله.
16 - الكتب المؤلفة فى أجزاء القرآن.
17 - الكتب المؤلفة فى عدد آى القرآن.
18 - الكتب المؤلفة فى ناسخ القرآن ومنسوخة.
19 - الكتب المؤلفة فى نزول القرآن.
20 - الكتب المؤلفة فى أحكام القرآن.
21 - الكتب المؤلفة فى معان شتى من القرآن.
وعد ابن النديم مع كل باب من هذه الأبواب جملة من الكتب تختلف كثرة وقلة، حسب إحصائه وإلى عهده، وإذا هى على هذا كثرة كثيرة، هذا ونحن نعلم أن وفاة ابن النديم كانت قريبا من منتصف القرن الخامس الهجرى، أى سنة ثمان وثلاثين وأربعمائة (438هـ)، فما بالك مما ألف بعد وفاته إلى اليوم.
وأكبر الظن أن ما استنبط بعد عصر ابن النديم لم يكن إلا فى ظل هذا الذى استنبطه ابن النديم، وأنه لم يكن غير تفريع على ما استنبطه ابن النديم (1).
__________
(1) الفهرست لابن النديم (5750) المطبعة الرحمانية.(1/175)
25 - إعجاز القرآن
المعجز الدّال على صدق النبى، صلى الله عليه وسلم، لا يصح دخوله تحت قدرة العباد، وإنما ينفرد الله تعالى بالقدرة عليه.
وعلى هذا فإذا قيل: إن القرآن معجز، دلّ هذا على أن العباد لا يقدرون على الإتيان بمثله، لأنه لو صحّ أن يقدروا عليه بطلت دلالة المعجز.
ولو كان القرآن غير خارج عن العادة لأتوا بمثله، أو عرضوا عليه من كلام فصائحهم وبلغائهم ما يعارضه (1).
ولا يتهيأ لمن كان لسانه غير العربية أن يعرف إعجاز القرآن إلا بأن يعلم أن العرب قد عجزوا عن ذلك، وإذا أعجز أهل ذلك اللسان فهو عنه أعجز (2).
وقد اختلف فى وجوب إعجاز القرآن على أقوال:
1 - أحدها، وهو قول النّظام إبراهيم بن سيار شيخ الجاحظ، وأحد رءوس المعتزلة (3): أن الله صرف العرب عن معارضته وسلب عقولهم، وكان مقدورا لهم، ولكن عاقهم أمر خارجى، فهو كسائر المعجزات.
__________
(1) إعجاز القرآن للباقلانى (ص: 437436).
(2) إعجاز القرآن للباقلانى (ص: 171).
(3) كانت وفاته سنة 229هـ.(1/176)
ويرد على هذه الزركشى فى كتابه البرهان (1) فيقول: وهو قول فاسد بدليل قوله تعالى {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى ََ أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هََذَا الْقُرْآنِ لََا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كََانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً} (2)، فإنه يدل على عجزهم مع بقاء قدرتهم.
ثم يقول: وأيضا يلزم من القول بالصرفة فساد آخر، وهو زوال الإعجاز بزوال زمان التحدى، وخلو القرآن من الإعجاز، وفى ذلك خرق لإجماع الأمة، فإنهم أجمعوا على بقاء معجزة الرسول العظمى، ولا معجزة له باقية سوى القرآن، وخلوه من الإعجاز يبطل كونه معجزا (3).
ويقول الباقلانى: ومما يبطل ما ذكروه من القول بالصرفة، أنه لو كانت المعارضة ممكنة، وإنما منع منها الصرفة، لم يكن الكلام معجزا، وإنما يكون المنع هو المعجز، فلا يتضمن الكلام فضيلة على غيره فى نفسه (4).
ويمضى الباقلانى فى رده فيقول: وليس هذا بأعجب مما ذهب إليه فريق منهم: إن الكل قادرون على الإتيان بمثله، وإنما تأخروا عنه لعدم العلم بوجه ترتيب لو تعلموه لوصلوا إليه، ولا بأعجب من قول فريق
__________
(1) البرهان (2: 94).
(2) الإسراء: 88.
(3) البرهان (2: 94).
(4) إعجاز القرآن (ص: 43).
منهم: إنه لا فرق بين كلام البشر وكلام الله تعالى فى هذا الباب، وإنما يصح من كل واحد منهما الإعجاز على حد واحد (1).(1/177)
منهم: إنه لا فرق بين كلام البشر وكلام الله تعالى فى هذا الباب، وإنما يصح من كل واحد منهما الإعجاز على حد واحد (1).
الثانى أن وجه الإعجاز يرجع إلى التأليف الخاص به لا مطلق التأليف، وهو بأن اعتدلت مفرداته تركيبا وزنة، وعلت مركّباته معنى، بأن يوقع كل فن فى مرتبته العليا فى اللفظ والمعنى.
الثالث ما فيه من الإخبار عن الغيوب المستقبلة، كقوله تعالى {قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرََابِ} (الفتح: 16)، وقوله تعالى فى «أهل بدر:
{سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ} (القمر: 45)، وقوله تعالى: {لَقَدْ صَدَقَ اللََّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيََا} (الفتح: 27).
الرابع ما تضمن من إخباره عن قصص الأولين وسائر المتقدمين، حكاية من شاهدها وحضرها، يقول تعالى: {تِلْكَ مِنْ أَنْبََاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهََا إِلَيْكَ مََا كُنْتَ تَعْلَمُهََا أَنْتَ وَلََا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هََذََا} (هود: 49).
الخامس إخباره عن الضمائر من غير أن يظهر ذلك منهم بقول أو فعل، وهذا مثل قوله تعالى: {إِذْ هَمَّتْ طََائِفَتََانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلََا}
(آل عمران: 122)، وقوله تعالى: {وَإِذََا جََاؤُكَ حَيَّوْكَ بِمََا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللََّهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلََا يُعَذِّبُنَا اللََّهُ} (المجادلة: 8)، وقوله تعالى: {وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللََّهُ إِحْدَى الطََّائِفَتَيْنِ أَنَّهََا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ} (الأنفال: 8).
السادس نظمه وصحة معانيه وتوالى فصاحة ألفاظه، ووجه إعجازه أن الله قد أحاط بكل شىء علما، وأحاط بالكلام كله علما.
__________
(1) إعجاز القرآن (ص: 44).(1/178)
وقد قامت الحجة على العلم بالعرب إذ كانوا أرباب الفصاحة ومظنة المعارضة (1).
ويقول الباقلانى فى كتابه إعجاز القرآن، وهو يتكلم على وجوه إعجاز القرآن: ذكر أصحابنا وغيرهم فى ذلك ثلاثة أوجه من الإعجاز:
أحدها يتضمن الإخبار عن الغيوب، وذلك مما لا يقدر عليه البشر، ولا سبيل لهم إليه، فمن ذلك ما وعد الله تعالى نبيه عليه السلام أنه سيظهر دينه على الأديان، بقوله عز وجل {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى ََ وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} (التوبة:
33)، ففعل ذلك.
وقال الله عز وجل {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلى ََ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهََادُ} (آل عمران: 12)، فصدق فيه، وقال تعالى فى أهل بدر:
{وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللََّهُ إِحْدَى الطََّائِفَتَيْنِ أَنَّهََا لَكُمْ} (الأنفال: 7) ووفى لهم بما وعد.
الوجه الثانى أنه كان معلوما من حال النبى، صلى الله عليه وسلم، أنه كان أميّا لا يكتب ولا يحسن أن يقرأ، وكذلك كان معروفا من حاله أنه لم يكن يعرف شيئا من كتب المتقدمين وأقاصيصهم وأنبائهم وسيرهم، ثم أتى بجمل ما وقع وحدث من عظيمات الأمور ومهمات السير، من حين خلق الله آدم عليه السلام إلى حين مبعثه.
ونحن نعلم ضرورة أن هذا مما لا سبيل إليه إلا عن تعلم، وإذ كان
__________
(1) البرهان (2: 9694).(1/179)
معروفا أنه لم يكن ملابسا لأهل الآثار، وحملة الأخبار، ولا مترددا إلى التعلم منهم، ولا كان ممن يقرأ فيجوز أن يقع إليه كتاب فيأخذ منه، علم أنه لم يصل إلى علم ذلك إلا بتأييد من جهة الوحى، ولذلك قال عز وجل: {وَمََا كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتََابٍ وَلََا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لَارْتََابَ الْمُبْطِلُونَ} (العنكبوت: 48)، وقال تعالى: {وَكَذََلِكَ نُصَرِّفُ الْآيََاتِ وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ} (الأنعام: 105).
الوجه الثالث أنه بديع النظم عجيب التأليف متناه فى البلاغة إلى الحد الذى يعلم عجز الخلق عنه (1).
وقريبا من هذا ما ساقه الخطابى أبو سليمان حمد بن محمد بن إبراهيم فى كتابه: إعجاز القرآن، والرمانى على بن عيسى فى رسالته: إعجاز القرآن، والزملكانى عبد الواحد بن عبد الكريم فى كتابه: التبيان فى علم البيان المطلع على إعجاز القرآن (2)، والسيوطى عبد الرحمن ابن أبى بكر فى كتابه: معترك الأقران فى إعجاز القرآن، وغيرهم وهم كثير (3).
وقد أنهى بعضهم وجوه إعجاز القرآن إلى ثمانين، ويقول السكاكى يوسف بن أبى بكر فى كتابه: مفتاح العلوم: إنه لا نهاية لوجوه إعجاز القرآن.
__________
(1) إعجاز القرآن (5148).
(2) مخطوط.
(3) كشف الظنون (ص: 12) مفتاح السعادة (الفهرست).(1/180)
وأقول: حسب القرآن الكريم إعجازا ما انطوى عليه من تشريعات وأحكام جاءت على لسان ذلك النبى الأمى من وحى السماء، قبل أن يبلغ العالم كماله الذى يدعيه تشريعا وأحكاما، فإذا تشريع السماء وأحكامها، التى نزل بها الروح الأمين على النبى الكريم منذ ما يربى على أعوام ألف ومن نحو من نصف قرن، تزرى بتلك التى كانت من صنع الإنسان فى عصره المتحضر، حيث بلغ العلم فيه مبلغه، وإذا هذه التشريعات والأحكام تصمد للتشريعات الإنسانية فتتحداها كمالا واستقامة واستواء.
ثم حسب القرآن الكريم إعجازا بقاؤه سليما كما أنزل لم يمسه تبديل أو تغيير، تصديقا لقوله تعالى {إِنََّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنََّا لَهُ لَحََافِظُونَ} (الحجر: 9).
ثم حسب القرآن الكريم إعجازا صموده أمام حملات الذين يريدون أن ينالوا منه مطعنا، فإذا هو هو وإذا هم هم المطعونون.(1/181)
ثم حسب القرآن الكريم إعجازا صموده أمام حملات الذين يريدون أن ينالوا منه مطعنا، فإذا هو هو وإذا هم هم المطعونون.
26 - المحكم والمتشابه
يقول الزركشى فى كتابه البرهان (1):
المحكم: لا توقف معرفته على البيان، والمتشابه: لا يرجى بيانه.
ويحكى النيسابورى الحسين بن محمد أن فى هذه المسألة ثلاثة أقوال:
1 - أحدها أن القرآن كله محكم، لقوله تعالى: {كِتََابٌ أُحْكِمَتْ آيََاتُهُ}
(هود: 1).
2 - والثانى أن القرآن كله متشابه، لقوله تعالى: {اللََّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتََاباً مُتَشََابِهاً} (الزمر: 23).
3 - والثالث، وهو الصحيح، أنّ منه محكما ومنه متشابها، لقوله تعالى: {مِنْهُ آيََاتٌ مُحْكَمََاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتََابِ وَأُخَرُ مُتَشََابِهََاتٌ} (آل عمران: 7).
ثم يقول الزركشى:
فأما المحكم فأصله لغة: المنع، وأما فى الاصطلاح، فهو:
ما أحكمته بالأمر والنهى وبيان الحلال والحرام.
وقيل: هو مثل قوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلََاةَ وَآتُوا الزَّكََاةَ}
(البقرة: 43).
وقيل: هو الذى لم ينسخ، لقوله تعالى: {قُلْ تَعََالَوْا أَتْلُ مََا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ} (الأنعام: 151).
__________
(1) البرهان (2: 7068).(1/182)
وقيل: هو الناسخ.
وقيل: الفرائض والوعد والوعيد.
وقيل: الذى وعد عليه ثوابا أو عقابا.
وقيل: الذى تأويله تنزيله يجعل القلوب تعرفه عند سماعه، كقوله تعالى: {قُلْ هُوَ اللََّهُ أَحَدٌ} (الإخلاص: 1)، وقوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} (الشورى: 11).
وقيل: ما لا يحتمل فى التأويل إلا وجها واحدا.
وقيل: ما تكرر لفظه.
ثم يقول الزركشى:
وأما المتشابه، فأصله أن يشتبه اللفظ فى الظاهر مع اختلاف المعانى، كما قال تعالى فى وصف ثمر الجنة {وَأُتُوا بِهِ مُتَشََابِهاً} (البقرة: 25).
واختلفوا فيه:
فقيل: هو الذى يشبه بعضه بعضا.
وقيل: هو المنسوخ غير المعمول به.
وقيل: القصص والأمثال.
وقيل: ما أمرت أن تؤمن به وتكل علمه إلى عالمه.
وقيل: فواتح السور.
وقيل: ما لا يدرى إلا بالتأويل.
وقيل: الآيات التى يذكر فيها وقت الساعة ومجىء الغيث وانقطاع الآجال.
وقيل: ما يحتمل وجوها، والمحكم: ما يحتمل وجها واحدا.(1/183)
وقيل: الآيات التى يذكر فيها وقت الساعة ومجىء الغيث وانقطاع الآجال.
وقيل: ما يحتمل وجوها، والمحكم: ما يحتمل وجها واحدا.
وقيل: ما لا يستقل بنفسه إلا برده إلى غيره.
ويقول الزمخشرى فى الكشاف:
المحكم: ما أحكمت عبارته وحفظت من الاحتمال والاشتباه.
والمتشابه: ما استأثر الله بعلمه (1).
ويقول القاضى عبد الجبار فى مقدمة كتابه «متشابه القرآن»:
المحكم: لا يحتمل إلا الوجه الواحد، فمتى سمعه من عرف طريقة الخطاب، وعلم القرائن، أمكنه أن يستدل فى الحال على ما يدل عليه، وليس كذلك المتشابه، فإنه يحتاج عند سماعه إلى فكر مبتدأ، ونظر مجدد، ليجعله على الوجه الذى يطابق الحكم أو دليل العقل (2).
ويقول فى موضع آخر: وإن ما يعده المشبّه محكما عند الموحد من المتشابه، وما يعده الموحد محكما عند المشبّه بخلافه (3).
ويقول فى موضع ثالث: إن المتشابه هو الذى لا يعلم تأويله إلا الله، وهو الذى لا سبيل للمكلف إلى العلم به، وإنما كلّف الإيمان به.
وإنما يفارق المحكم بأنه لا يمكن أن يعلم المراد به كالمحكم، ولا يصح كونه دلالة كما يصح ذلك فى المحكم (4).
__________
(1) الكشاف للزمخشرى (1: 338337).
(2) متشابه القرآن (1: 76).
(3) متشابه القرآن (1: 8).
(4) متشابه القرآن (1: 13).(1/184)
ويقول فى موضع رابع:
المحكم: هو الذى أحكم الله تعالى المراد به بأن جعله على صفة مخصوصة، لكونه عليها تأثير فى المراد.
فأما المتشابه فهو الذى جعله الله، عز وجل، على صفة تشتبه على السامع، لكونه عليها المراد به، من حيث خرج ظاهره عن أن يدل على المراد به، لشىء يرجع إلى اللغة أو التعارف (1).
ويقول فى موضع خامس، عند الكلام على وصفه، عز وجل، جميع القرآن بأنه محكم، بقوله تعالى: {الر. كِتََابٌ أُحْكِمَتْ آيََاتُهُ} (هود:
1)، ووصفه جميعه بأنه متشابه بقوله تعالى {اللََّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتََاباً مُتَشََابِهاً} (الزمر: 23)، يقول: إن القرآن فيه محكم ومتشابه، وقد ورد الكتاب بصحته فى قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتََابَ مِنْهُ آيََاتٌ مُحْكَمََاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتََابِ وَأُخَرُ مُتَشََابِهََاتٌ} (آل عمران: 7) فأما وصفه جميعه بأنه محكم، فإنما أريد به أنه تعالى أحكمه فى باب الإعجاز والدلالة على وجه لا يلحقه خلل، ووصفه جميعه بأنه متشابه، المراد به أنه سوى بين الكل فى أنه أنزل على وجه المصلحة ودلّ به على النبوة، لأن الأشياء المتساوية فى الصفات المقصود إليها، يقال فيها: متشابهة (2).
ويقول التهانوى فى كتابه كشاف اصطلاح الفنون عند الكلام على المحكم: المحكم: اسم مفعول من الإحكام.
__________
(1) متشابه القرآن (1: 19).
(2) متشابه القرآن (1: 2120).(1/185)
وهو عند الأصوليين من الحنفية: هو اللفظ الذى لا يحتمل النسخ والتبديل.
ثم انقطاع احتمال النسخ قد يكون المعنى فى ذاته، بألا يحتمل التبديل عقلا، كالآيات الدالة على وجود الصانع وصفاته وحدوث العالم.
ويسمى هذا محكما لعينه.
وقد يكون بانقطاع الوحى لوفاة النبى، صلى الله عليه وسلم.
ويسمى محكما لغيره.
وضد المحكم: المتشابه، وهو اللفظ الذى لا يفهم منه المراد ولا يرجى بيانه أصلا، كمقطعات القرآن (1).
ويقول عند الكلام على المتشابه:
المتشابه: اسم فاعل من التشابه، وهو كون أحد المثلين مشابها للآخر، بحيث يعجز الذهن عن التمييز.
والمتشابه عند الأصوليين والفقهاء ضد المحكم.
قالوا: القرآن بعضه محكم وبعضه متشابه، على ما تدل عليه الآية:
{هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتََابَ مِنْهُ آيََاتٌ مُحْكَمََاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتََابِ وَأُخَرُ مُتَشََابِهََاتٌ} (آل عمران: 7).
وقيل: إن القرآن كله محكم لقوله تعالى: {الر. كِتََابٌ أُحْكِمَتْ آيََاتُهُ} (هود: 1).
__________
(1) كشاف اصطلاح الفنون (1: 381380).(1/186)
وأجيب بأن معناه: أحكمت آياته بكونها كلاما حقّا فصيحا بالغا حد الإعجاز.
وقيل: كله متشابه لقوله تعالى: {اللََّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتََاباً مُتَشََابِهاً} (الزمر: 27).
وأجيب بأنه متشابه بمعنى أن بعضه يشبه بعضا فى الحق والصدق والإعجاز.
ثم قال:
ثم إنهم اختلفوا فى تعليلهما أى المحكم والمتشابه على أقوال:
فقيل: المحكم ما عرف المراد منه، إما بالظهور أو التأويل، والمتشابه:
ما استأثر الله بعلمه ولا يرجى إدراكه أصلا، كقيام الساعة، والحروف المقطعة فى أوائل السور.
وقيل: كل ما أمكن تحصيل العلم به، سواء كان بدليل جلىّ أو خفى، فهو المحكم، وكل ما لا سبيل إلى معرفته فهو المتشابه.
وقيل: المحكم: ما وضح معناه، والمتشابه نقيضه.
وقيل: المحكم: ما لا يحتمل من التأويل إلا وجها واحدا، والمتشابه:
ما احتمل أوجها.
وقيل: المحكم: ما استقل بنفسه، والمتشابه: ما لا يستقل بنفسه إلا برده إلى غيره.
وقيل: المحكم: ما يدرى تأويله وتنزيله، والمتشابه: ما لا يدرى إلا بالتأويل.
وقيل: المحكم: ما لم تتكرر ألفاظه، ومقابله المتشابه.(1/187)
وقيل: المحكم: ما يدرى تأويله وتنزيله، والمتشابه: ما لا يدرى إلا بالتأويل.
وقيل: المحكم: ما لم تتكرر ألفاظه، ومقابله المتشابه.
وقيل: المحكم: الفرائض، والوعد والوعيد، والمتشابه القصص والأمثال.
وقال الراغب: الآيات ثلاثة أضرب: محكم على الإطلاق، ومتشابه على الإطلاق، ومحكم من وجه متشابه من وجه.
فالمتشابه بالجملة ثلاثة أضرب: متشابه من جهة اللفظ فقط، وهو ضربان:
أحدهما يرجع إلى الألفاظ المفردة، إما من جهة الغرابة، نحو:
يزفون، أو الاشتراك: كاليد والوجه.
وثانيهما يرجع إلى الكلام المركب، وذلك ثلاثة أضرب:
ضرب لاختصار الكلام، نحو: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلََّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتََامى ََ}
{فَانْكِحُوا مََا طََابَ لَكُمْ} (النساء: 3).
وضرب لبسطه، أى لبسط الكلام، نحو: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ}
(الشورى: 11)، لأنه لو قيل: ليس مثله شىء، كان أظهر للسامع.
وضرب لنظم الكلام، نحو: {أَنْزَلَ عَلى ََ عَبْدِهِ الْكِتََابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً قَيِّماً} (الكهف: 1)، إذ تقديره: أنزل على عبده الكتاب فيما ولم يجعل له عوجا.
ومتشابه من جهة المعنى فقط، وهو أوصاف الله تعالى، وأوصاف القيامة، فإن تلك الصفات لا تتصور لنا، إذ لا تحصل فى نفوسنا صورة ما لم نحس.
ومتشابه من جهتيهما، أى من جهة اللفظ والمعنى، وهو خمسة أضرب:(1/188)
ومتشابه من جهة المعنى فقط، وهو أوصاف الله تعالى، وأوصاف القيامة، فإن تلك الصفات لا تتصور لنا، إذ لا تحصل فى نفوسنا صورة ما لم نحس.
ومتشابه من جهتيهما، أى من جهة اللفظ والمعنى، وهو خمسة أضرب:
الأول: من جهة الكمية كالعموم والخصوص، نحو: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} (التوبة: 6).
والثانى: من جهة الكيفية، كالوجوب والندب، نحو: {فَانْكِحُوا مََا طََابَ لَكُمْ} (النساء: 3).
والثالث: من جهة الزمان والمكان، كالناسخ والمنسوخ.
والرابع: من جهة المكان والأمور التى نزلت فيها نحو {وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهََا} (البقرة: 189)، فإن من لا يعرف فى الجاهلية يتعذر عليه تفسير مثل هذه الآية.
والخامس: من جهة الشروط التى بها يصح الفعل ويفسد، كشرط الصلاة والنكاح.
ثم إن جميع المتشابه على ثلاثة أضرب:
ضرب لا سبيل إلى الوقوف عليه، كوقت الساعة.
وضرب للإنسان سبيل إلى معرفته، كالألفاظ الغريبة والأحكام المغلقة.
وضرب متردد بين أمرين يختص بمعرفته بعض الراسخين فى العلم، ويخفى على من دونهم (1).
وفى هذا العرض المفصل عن المحكم والمتشابه غناء، وما سيق يرجح بعضه بعضا، غير أن كله محتمل.
__________
(1) كشاف اصطلاح الفنون (1: 795792).(1/189)
27 - اللغات فى القرآن
فى القرآن الكريم ألفاظ تتفق ونظيراتها فى غير لغة العرب، منها:
الطور، ومعناها: الجبل بالسريانية.
طفقا، أى قصدا، بالرومية.
هدنا، أى تبنا، بالعبرانية.
السجل، أى الكتاب، بالفارسية.
الرقيم، أى اللوح، بالرومية.
السندس، أى الرقيق من الستر، بالهندية.
الإستبرق، أى الغليظ، بالفارسية، بحذف القاف.
السرى، أى النهر الصغير، باليونانية.
طه، أى طأ يا رجل، بالعبرانية.
سينين، أى حسن، وقيل: مبارك.
المشكاة، أى الكوة، بالحبشية، وقيل: الزجاجة تسرج.
الدّرىّ، أى المضيء، بالحبشية.
الملة الأخرى، أى الأولى، بالقبطية.
وراءهم، أى أمامهم، بالقبطية.
بطائنها، أى ظواهرها، بالقبطية.
ناشئة الليل، نشأ، بلغة الحبشة: قام من الليل.(1/190)
بطائنها، أى ظواهرها، بالقبطية.
ناشئة الليل، نشأ، بلغة الحبشة: قام من الليل.
كفلين، أى ضعفين، بلغة الحبشة.
القسورة، أى الأسد، بلغة الحبشة (1).
وقد ذهب الدارسون فى هذا مذاهب:
1 - فمنهم من يقول: ليس فى القرآن من غير العربية شىء.
2 - ومنهم من يقول: إن فيه ألفاظا من ألفاظ الأعاجم.
3 - ومنهم من يقول: إن هذه الحروف كانت بغير لسان العرب فى الأصل، فلما لفظت بها العرب بألسنتها فعربتها صارت عربية، فهى عربية نقلا أعجمية أصلا.
4 - ومنهم من يقول: إن هذه الألفاظ وافقت لغة العرب فيها لغة العجم (2).
وأقول: ما من لغة من لغات العالم إلا وأخذت وأعطت، وما تأخذه تصقله وتقيسه بمقاييسها وتحوكه على منوالها، فإذا هو منها، وإن كان يبقى يمت ببعض الشبه إلى أصله الأول، على هذا تعيش اللغات وبهذا تحيا، ولا يمكن أن يقال إن ألفاظا معدودة فى اللغة، أو تراكيب محدودة فيها، تخلع عنها ثوبها وتردها لغة أخرى، فلقد أخذت اللغة العربية من غيرها ما فى ذلك شك، ولقد صقلت اللغة العربية هذا المأخوذ فإذا هو على بنيتها وعلى مقاييسها وأوزانها. ومن حسن حظ العربية أن هذا المأخوذ
__________
(1) البرهان (1: 289288) الإتقان (1: 139).
(2) اللغات فى القرآن، إسماعيل بن عمرو (98). البرهان (1:
290285).(1/191)
عن غيرها قلة محصورة تكاد تعد على الأصابع، ثم هو على قلته على ميزان العربية وعلى نمطها، وبعيد أن تنخلع عن العربية صفتها لهذه القلة من الألفاظ، التى أصبحت وكأنها من العربية زنة، ولم يبق لها إلا دلالاتها الأولى التى كانت لها فى لغاتها، وما هذا بضائر العربية ولا بضائر غيرها من اللغات التى تأخذ، فتلك حياة اللغات وبدون هذا لا تطرد ولا تنمو.(1/192)
عن غيرها قلة محصورة تكاد تعد على الأصابع، ثم هو على قلته على ميزان العربية وعلى نمطها، وبعيد أن تنخلع عن العربية صفتها لهذه القلة من الألفاظ، التى أصبحت وكأنها من العربية زنة، ولم يبق لها إلا دلالاتها الأولى التى كانت لها فى لغاتها، وما هذا بضائر العربية ولا بضائر غيرها من اللغات التى تأخذ، فتلك حياة اللغات وبدون هذا لا تطرد ولا تنمو.
28 - خاتمة
وبعد. فما كان أرغبنى، منذ أن ملكت قلمي شيئا، إلى أن أكتب عن رسول الله صفحات طويلة، ثم عن الإسلام صفحات طويلة، أبسط فى الصفحات الأولى سيرة الرسول نقية خالصة، وأجمع فيها كل ما له حياته، وما سبق هذه الحياة الكريمة، على نحو فيه استقصاء وفيه تحرير، وفيه جمع لما تشتت وتفرق، لأجعل من هذه الصفحات غنية عن كتب، وغنية عن مراجع مختلفة قد تعز فى الكثير، وأبسط فى الصفحات الثانية الإسلام دينا خاتما للأديان، ورسالة كريمة للإنسانية جمعاء، وكلمة توحيد جاءت لتجمع العالم حول إله واحد ليجتمعوا على نهج واحد، ولتكون وحدة المعتقد معها وحدة المسعى ووحدة القلوب جميعا على الطريق.
ولقد أخذت أعد لهذا وذاك منذ أمد بعيد، وكلما أوشكت أن أضع القلم جدّ لى ما يجعلنى أصل ما أظننى فرغت منه.
وأحببت أن أمهد لهذين البحثين المرتقبين بهذين الموجزين الحاضرين، والمرء حريص على أن يمهد لخطئه، ثم هو حريص على ألا يبيت على رأى، ولا يراح، إلا أن يسمعه عند السامعون ويقرأه له القارءون.
ورأيتنى بهذين الموجزين حين أطالع بهما الناس أكون قد حققت حرصين، فبادلت الناس رأيا أعرف رأيهم فيه، وأرحت نفسى حين لم أعقلها عن أن تنطق.
والله أسأل السداد فيما كان، والعون والتوفيق فيما سيكون.
(تأريخ القرآن).(1/193)