محتويات الكتاب
كلمة المترجم ف اب
مقدمة المؤلف 81
الفصل الأوّل تمهيد وترديد
موضوع الكتاب 9
الفتح العربى وتأثيره فى فارس 13
اللغة العربية ومركزها الفريد 13
العلوم العربية 15
صلاح العربية للأغراض العلمية 16
اعتداد العرب بلغتهم 17
العصر الذى نتحدث عنه فى هذا الكتاب 18
العباسيون وخصومهم من أهل الشيعة 20
الفتح المغولى 21
النهضة الفارسية 22
تطور الذوق الأدبى وقواعد النقد 24
دولتشاه وفساد ذوقه الأدبى 26
الأسلوب الفارسى والصناعة البديعية 27
خصائص الأشعار الفارسية المبكرة 28
فنون الشعر والبديع لدى الفرس 29
علم البديع 31
النثر 32
النظم 33
البيت والمصراع 35
ضروب النظم الفارسية 36
المثنوى 37(1/1)
الغزل 38
القصيدة 39
القطعة 47
الرباعى أو الرباعية 48
الارتجال وأثره 52
الترجيع بند والتركيب بند 53
المسمط 56
المستزاد 59
أقسام الشعر بحسب موضوعاته 60
الشعر الخليط 63
قصيدة «قوامى الگنجوى» فى الصناعات البلاغية 63
التأريخ بالأشعار 90
التلميح 91
صعوبة استعمال التلميح فى الأشعار الإسلامية 92
التصحيف 94
الهجو والجواب 95
التشبيهات والاستعارات تسودها روح المحافظة 98
الشعر الإسلامى تسوده روح المحافظة 99
أساس النقد فى الموضوع والأسلوب 100
ابن خلدون ورأيه فى الأسلوب 101
روح المحافظة فى أساليب الشعر والنثر فى الفارسية 103
التصنع صفة عارضة فى الأساليب الفارسية 104
الفصل الثانى عصر الدولة الغزنوية
حالة فارس فى نهاية القرن العاشر الميلادى (الرابع الهجرى) 105
منزلة الأدب فى خراسان وطبرستان وجنوب فارس 106(1/2)
السلطان محمود الغزنوى 109
ابن سينا يفر من قبضه محمود 112
البيرونى والسلطان محمود الغزنوى 113
أبو الفتح البستى 114
رعاة الآداب وكثرتهم 115
أبو منصور الثعالبى 116
أبو ريحان البيرونى 116
مراكز الحضارة الأربعة فى إيران 117
الصاحب بن عباد 118
شمس المعالى قابوس 119
أخلاق السلطان محمود 120
البيرونى وابن سينا 121
قصائد «ابن سينا» الفارسية 124
رباعيات «الخيام» الجائلة 125
قصيدة «ابن سينا» عن الروح 127
بديع الزمان الهمذانى 128
مهيار الديلمى 130
المجوسى الطبيب 131
شعراء الفارسية 133
عنصرى 139
عسجدى 143
فرخى 144
الفردوسى 152
رواية «چهار مقالة» عن الفردوسى 157
رواية دولتشاه 165
مؤلفات الفردوسى: ال «شاهنامه» 168
يوسف وزليخا 175
غزليات الفردوسى 176
أسدى الطوسى 178(1/3)
أبو الفرج السجزى 187
منوچهرى 188
غضايرى 193
بهرامى 194
پندار الرازى 196
الكسائى 199
الفصل الثالث العصر السلجوقى الأول
مقدمة الفصل 207
أصل السلاجقة 209
الخلفاء الفاطميون الدولة الغزنوية 212
الدولة البويهية 213
هجرة السلاجقة جنوبا مسعود والسلاجقة 214
تأسيس الدولة السلجوقية 215
الخليفة يعترف بطغرل 216
موت طغرل ألپ أرسلان 217
نظام الملك 219
ألپ أرسلان 220
أعمال ألپ أرسلان 221
موت ألپ أرسلان 223
ملكشاه 225
سقوط نظام الملك 229
قتل نظام الملك 231
موت ملكشاه 235
قصة نظام الملك والصباح والخيام 236
نشأة الحشاشين 239
الشيعة 240
المعتدلون والغلاة الإسماعيلية 241(1/4)
الدولة الفاطمية 242
مذهب الإسماعيلية العدد سبعة فى مذهبهم 243
المستنصر 245
ناصر خسرو 246
الحسن بن الصباح 247
مراتب الحشاشين 252
الفصل الرابع الأدب فى العصر السلجوقى الأول
نظام الملك وكتابه «سياست نامه» 259
ناصر خسرو 265
آثار ناصر خسرو كتاب «سفرنامه» 269
ناصر خسرو فى مصر وصف القاهرة فى كتاب سفرنامه 271
ديوان ناصر خسرو 274
دراسة الديوان 277
آراء ناصر خسرو الدينية 282
مترجمات من ديوانه 284
أشعار الإلحاد المنسوبة إلى ناصر خسرو 299
بقية آثاره روشنائى نامه 301
شعراء الرباعيات 303
عمر الخيام 304
أحدث الأبحاث عن حياة الخيام 307
كتاب «مرصاد العباد» وما أورده عن الخيام 308
كتاب «تاريخ الحكماء» وما أورده عن الخيام 309
كتاب «نزهة الأرواح» وما أورده عن الخيام 310
كتاب «آثار البلاد» وما أورده عن الخيام 312
كتاب «جامع التواريخ» وما أورده عن الخيام 313
كتاب «فردوس التاريخ» وما أورده عن الخيام 315
كتاب «التاريخ الألفى» وما أورده عن الخيام 315(1/5)
الآداب الخيامية 318
الرباعيات الجائلة 319
باباطاهر الهمدانى 322
حياة باباطاهر 323
أبو سعيد بن أبى الخير 325
أبو سعيد والتصوف 329
عبد الله الأنصارى 336
قطران التبريزى 338
أسدى الأصغر 340
فخر الدين الجرحانى 342
قصة وامق وعذرا 344
قابوس نامه 346
أسلوب قابوس نامه 354
كتب أخرى منثورة نزهت نامه 362
الماوردى 363
أبو العلاء المعرى 364
الغزالى 368
الفصل الخامس عصر السلطان سنجر وإخوته
مقدمة الفصل 371
عصر سنجر من الناحية العلمية والأدبية 373
محمد بن ملكشاه 377
محمود بن محمد سنجر 378
سلاجقة كرمان الخلفاء العباسيون المعاصرون 380
الغوريون والغزنويون 381
ملوك خوارزم 383
شعراء سنجر وأتسز 385(1/6)
الإسماعيلية فى ألموت أو الحشاشون 388
الحركة الأدبية فى هذا العصر شعراء الفرس 395
سنائى 395
حديقة الحقيقة 397
أزرقى 406
مسعود سعد سلمان 407
أبو طاهر الخاتونى 411
معزى 413
رشيد الدين الوطواط 417
أديب صابر 421
نظامى عروضى سمرقندى 425
عبد الواسع الجبلى 430
سوزنى 433
صغار الشعراء 435
مهستى 436
التواليف الفارسية المنثورة فى هذا العصر 438
ذخيره خوارزمشاهى 438
مقامات حميدى 439
كليله ودمنه 443
الكتب العربية فى هذا العصر 448
الباخرزى 451
الرويانى 454
الحريرى 456
أنو شروان بن خالد 457
الزمخشرى 458
الشهرستانى 459(1/7)
الفصل السادس الشعراء الأربعة النابهون
مقدمة 461
1 - الأنورى 462
مصادر دراسة الأنورى 463
نشأة الأنورى 464
شعر الأنورى 492
2 - الخاقانى 495
خاقانى وأبو العلاء الگنجوى 496
تحفة العراقين 502
فن الخاقانى 505
3 - نظامى الگنجوى 506
مكانة نظامى 510
مخزن الأسرار 511
خسرو وشيرين 513
ليلى ومجنون 516
هفت پيكر 520
إسكندرنامه 524
4 - ظهير الدين الفاريابى 525
الملوك والأمراء الذين اتصل بهم ظهير الدين 528
حياة ظهير الدين 531
الفصل السابع مملكة خوارزم
غارة المغول على خوارزم واستيلاؤهم على بغداد وتحطيمهم للخلافة العباسية 545
عهود استعلاء نفوذ المغول فى إيران 565(1/8)
جلال الدين خوارزمشاه 569
أوگداى 573
كيوك 573
منگو 575
هولاكو 576
الحشاشون أو الإسماعيلية فى ألموت 576
الهجوم على بغداد 583
ابن العلقمى 587
المستعصم 585
الفصل الثامن كتاب العصر المغولى الأول
مقدمة 591
1 - أصحاب التواريخ العامة 592
ابن الأثير 592
ابن العبرى 593
منهاج السراج 595
جرجيس السكين 596
2 - أصحاب التواريخ الخاصة 597
الجرباذقانى 597
الفتح البندارى 599
عطا ملك الجوينى 599
أحمد النسوى 600
3 - كتّاب التراجم 602
ابن خلكان 602
القفطى 604
ابن أبى أصيبعة 605
محمد عوفى 606(1/9)
4 - أصحاب التواريخ المحلية 608
ابن إسفنديار 608
أبو عبد الله الدبيتى 610
5 - الجغرافيون والرحالون 611
ياقوت 611
القزوينى 612
ابن جبير 614
6 - الفلاسفة 615
فخر الدين الرازى 615
نصير الدين الطوسى 615
7 - أصحاب التواليف العربية 618
ابن ميمون، البونى، ابن البيطار، التيفاشى 618
عز الدين الزنجانى، جمال القرشى، ابن الحاجب، المطرزى 619
ضياء الدين بن الأثير، مجد الدين بن الأثير 619
البيضاوى، ياقوت المستعصمى 620
8 - مؤلفون آخرون 621
أبو نصر الفراهى، شمس قيس الرازى 621
سعد الدين الوراوينى 622
9 - كتاب الصوفية 623
روزبهان 624
نجم الدين كبرى 625
مجد الدين البغدادى 629
سعد الدين الحموى 630
نجم الدين داية 631
شهاب الدين السهروردى 631
محيى الدين بن العربى 633
كتاب فصوص الحكم 636
ابن الفارض 638(1/10)
الفصل التاسع شعراء العصر المغولى الأول
مقدمة 642
1 - فريد الدين العطار 642
حياة العطار 643
موت العطار 645
منطق الطير 648
2 - جلال الدين الرومى 654
حياة جلال الدين 654
ديوان شمس تبريز 658
المثنوى 659
مترجمو جلال الدين إلى الإنجليزية 660
ديوان شمس تبريز 664
3 - سعدى 667
حياة السعدى 668
أسفار السعدى 672
سعدى وتعليم الأخلاق 674
مؤلفات السعدى 676
سعدى اللغوى 677
قصائد سعدى 678
غزليات سعدى 679
أشعار سعدى 682
4 - صغار الشعراء 686
شرف الدين شفروه 686
كمال الدين إسماعيل 687
خاتمة الكتاب 689
كشاف
1 - أسماء المؤلفات 691
2 - أسماء الاعلام 711
3 - أسماء الأمكنة 737(1/11)
كلمة المترجم
ارتباط حياة «براون» بحياة «إيران»
فى مطلع القرن العشرين، لمع فى أفق «الدراسات الشرقية» اسم مستشرق عظيم هو: «إدوارد جرانثقيل براون» الأستاذ بجامعة كامبردج، فقد استطاع بتخصصه فى لغات الأمم الإسلامية وإتقانه لثلاث منها هى «العربية» و «الفارسية» و «التركية»، أن يدخل نفسه فى عداد كبار المستشرقين كافة، وأن يصبح كذلك زعيم المستشرقين الإنجليز فى هذا القرن من الزمان.
ارتبطت حياة «براون» بحياة «إيران» ارتباطا عجيبا منذ سنة 1880م، حينما بدأ وهو فى الثامنة عشرة من عمره يدرس اللغة الفارسية وآدابها، فلما اكتملت له وسائل التحصيل وانتهى من دراساته الجامعية، جعل حياته وقفا على هذه الأمة الخالدة، وشغل نفسه بنواحيها التاريخية والفكرية والاجتماعية، حتى أصبحت «إيران» همه الدائب وشغله الشاغل، يكتب عن أمجادها القديمة، كما يكتب عن حركاتها الحديثة، فتصبح كتاباته فى كلا الناحيتين العماد والمرجع، وتصبح سجلا كاملا يتضمن كل ما عرف عن «إيران» منذ مشرق التاريخ حتى نهاية الربع الأول من هذا القرن الذى نعيش فيه.
والكتب والأبحاث التى ألفها «براون» أو التى تولى ترجمتها، أو التى قام على تصحيحها وإخراجها، تبلغ العشرات والعشرات كل واحد منها يمتاز فى موضوعه امتيازا خاصا، لا يستطيع أن يجحده جاحد أو ينكره معاند ولكن أهم هذه الكتب على الإطلاق هو الكتاب الذى جعله بعنوان: «تاريخ الأدب فى إيران» وجعله «موسوعة أدبية» موزعة على أربعة مجلدات كبيرة، تربو صفحاتها على ألفين ومائتين من الصفحات، تستوعب مشتملاتها الحياة التاريخية والفكرية للايرانيين منذ أقدم ما عرف من أخبارهم وتواريخهم إلى سنة 1924م، أى خلال فترة تقرب من خمسة وعشرين قرنا.(1/13)
قصة تأليف هذه «الموسوعة الأدبية»
وقصة تأليف هذه «الموسوعة الأدبية» قصة طريفة، تسربت بعض أخبارها فى ثنايا الكتابات التى كتبها المؤلف نفسه، فهو يقول فى مقدمته على المجلد الأول: إن نفسه تتوق منذ سنوات إلى كتابة تاريخ يسجل فيه الحركة العقلية والأدبية للايرانيين، على نسق الكتاب المدهش الذى ألفه «جرين» عن تاريخ الشعب الإنجليزى لأن هذا الكتاب فى معتقده مفخرة لكل من احتذاه، يندر من يستطيع تقليده ومجاراته، وينعدم من يرجو إدراكه أو التفوق على مستواه!!
ولكن «براون» سرعان ما عاد عن فكرته فى احتذاء نمط هذا الكتاب.
خشية أن يضطر إلى إخراج كتاب يكون شديد الإيجاز والاختصار، فالتمس نموذجا آخر يحتذيه، يكون فى احتذائه مجال للتطويل والتفصيل، فكان نموذجه فى هذه المرة الكتاب الممتع الذى ألفه «جوسيراند» باسم «تاريخ الآداب الإنجليزية» فقد أعجب بفكرته وطريقة إخراجه إعجابا شديدا، جعله يقرر فى النهاية أن يخرج «تاريخ الأدب فى إيران» على نسقه ومنواله.
وعقد «براون» العزم على أن يتم كتابه فى مجلد واحد، يضمنه تاريخ إيران برمته حتى مطلع القرن الحالى، ولكنه سرعان ما تحقق من استحالة بغيته، فرجا أن يصل به على الأقل إلى غارة المغول على الديار الإسلامية، باعتبارها نقطة فاصلة من نقط التحول فى التاريخ الإسلامى، ولكنه لم يلبث أن تأكد أيضا من استحالة ذلك لاتساع الموضوع وتشعب نواحيه، فاضطر اضطرارا إلى أن يختم المجلد الأول من كتابه بالحديث عن العصر الذى سبق «الفردوسى» بقليل من الزمن.
وانتهى «براون» من كتابة المجلد الأول فى 14سبتمبر سنة 1902م، وجعله بعنوان: «تاريخ الأدب فى إيران، منذ أقدم الأزمنة إلى زمان الفردوسى».
: وقد تضمن هذا المجلد الحديث عن «جاهلية إيران» والحديث عن القرون الأربعة الأولى من حياتها الإسلامية.
وانقضت بعد ذلك أربع سنوات تقريبا، فلما كان اليوم السادس عشر من
شهر مايو سنة 1906م نشر «براون» المجلد الثانى من موسوعته بعنوان:(1/14)
وانقضت بعد ذلك أربع سنوات تقريبا، فلما كان اليوم السادس عشر من
شهر مايو سنة 1906م نشر «براون» المجلد الثانى من موسوعته بعنوان:
«تاريخ الأدب فى إيران، من الفردوسى إلى السعدى».
.: وجعله وصلا للمجلد السابق، يتضمن تاريخ الأدب فى إيران فى الفترة الواقعة بين نهاية القرن الرابع الهجرى ومنتصف السابع الهجرى، أى بداية القرن الحادى عشر ومنتصف القرن الثالث عشر الميلاديين.
وانقضت بعد ذلك فترة تبلغ أربع عشرة سنة، انشغل فيها «براون» بأحداث إيران الثورية والدستورية، فكاد ينصرف عن عمله فى مواصلة إتمام هذه الموسوعة التى بدأها بالمجلدين السابقين، لأنه وجد من الحق بل من الواجب عليه أن ينسى قليلا أمجاد إيران الغابرة وأن يأخذ بيدها فى أحداث حياتها الحاضرة فلما ساهم بنصيبه فى ذلك، عاد إلى موضوعه الأصيل، فأصدر فى 5إبريل سنة 1920م المجلد الثالث من موسوعته الأدبية عن إيران بعنوان جديد، هو:
«تاريخ الأدب الفارسى، من سنة 1265م إلى سنة 1502م»
(أى من سنة 664هـ إلى سنة 908هـ)
(12651502)
وقد تضمن هذا المجلد تاريخ الأدب فى إيران من «السعدى» إلى «جامى» أى من موت «هولاكو» محطم الخلافة العباسية فى بغداد إلى قيام الدوله «الصفوية» فى إيران.
وبعد ذلك بأربع سنوات تقريبا، استطاع «براون» أن يتم موسوعته بإصدار المجلد الرابع والأخير منها فى 12يونية سنة 1924م وجعله بعنوان:
«تاريخ الأدب الفارسى: من سنة 1500إلى سنة 1924»
أى من سنة 906هـ إلى سنة 1342هـ
(15001924)
وتضمن هذا المجلد تاريخ الأدب فى إيران فى عصورها الحديثة والمعاصرة.
وقد ابتهج «براون» بإخراجه ابتهاجا كبيرا لأنه حقق به أملا ظل يتردد فى
جوانبه، وعملا ظل يشفق على نفسه من شدائده ومتاعبة، حتى استطاع فى النهاية وقبل وفاته بعام واحد ونصف العام أن يتوج سائر مجهوداته بإتمام هذه الموسوعة عن «الأدب فى إيران» وأن يجعلها الأثر الخالد لسائر كتاباته أو كما يقول الفرس «شاهكار» كتبه ومؤلفاته.(1/15)
وقد ابتهج «براون» بإخراجه ابتهاجا كبيرا لأنه حقق به أملا ظل يتردد فى
جوانبه، وعملا ظل يشفق على نفسه من شدائده ومتاعبة، حتى استطاع فى النهاية وقبل وفاته بعام واحد ونصف العام أن يتوج سائر مجهوداته بإتمام هذه الموسوعة عن «الأدب فى إيران» وأن يجعلها الأثر الخالد لسائر كتاباته أو كما يقول الفرس «شاهكار» كتبه ومؤلفاته.
وقد نشر «براون» المجلدين الأخيرين من هذه الموسوعة فى دار نشر غير الدار التى نشرت له المجلدين الأولين، وعلل ذلك بسببين هما:
أولا أنه أراد أن يسهل للمقتبسين أن يقتبسوا من كتاباته كما أراد أن ييسر للمترجمين أن يحصلوا على الإذن بترجمة مؤلفاته فرأى أن يتجه إلى دار نشر جديدة، تحقق هذه الغرضين وتعين عليهما.
ثانيا أنه أراد أن ينشر النصوص الشرقية التى تعرض لها فى كتاباته أو التى استشهد بها فى مؤلفاته، بلغاتها الأصلية وبالحروف التى تكتب بها عادة فى هذه اللغات، حتى ييسر للدارسين سبيل الانتفاع بها، فسعى إلى ناشر جديد، لديه من الأهبة والاستعداد، ما يستطيع بهما أن يتلافى النقص الذى أصاب المجلدين السابقين فحرمهما من ذكر الشواهد بنصوصها الأصيلة.
ولم يكن ناشره الجديد إلا «دار طباعة جامعة كامبردج» فأخرجت المجلدين الأخيرين إخراجا حقق رجاء «براون» فها، ورصعت صفحاتهما بإيراد الأمثلة والشواهد بنصوصها الأصيلة فى الكتابات «العربية» و «الفارسية» و «التركية»، كما حققت للمترجمين والمقتبسين سبيل الاقتباس والترجمة، فلم تبخل بالإذن إلى ذلك، بل ويسرته تيسيرا سخيا كريما، كان من نتيجته ترجمة بعض مجلدات هذه الموسوعة إلى الفارسية، ثم صدور هذه الترجمة العربية التى نسعى إلى نشرها لسائر المجلدات.
وقد نتج عن صدور مجلدات هذه «الموسوعة» فى دارين من دور النشر أمور، جعلت المجلدين الأولين منها يتميزان بسمات تختلف عن السمات التى يتميز بها المجلدان الأخيران، ربما كان أظهرها وأوضحها أمران:
أولا أن المجلدين الأولين صدرا فى البداية بعنوان موحد، هو:
«»
أما المجلدان الأخيران فصدرا فى البداية بعنوان آخر، هو:(1/16)
«»
أما المجلدان الأخيران فصدرا فى البداية بعنوان آخر، هو:
= = ثانيا أن المجلدين الأولين يخلوان خلوا يكاد يكون تاما، من إيراد الشواهد فى أصولها الشرقية: العربية أو الفارسية أو التركية، أما المجلدان الأخيران فتزخر صفحاتهما بالشواهد الأصيلة مطبوعة بالحروف التى تكتب بها هذه اللغات.
وفى رأيى أنه لو امتد الأجل بالأستاذ «براون» لتدارك النقص الذى عاب المجلدين الأولين، ولضمنهما كما فعل فى المجلدين الأخيرين سائر الشواهد فى نصوصها الشرقية الأصيلة، ولجعل المجلدات الأربعة وحدة، مشتركة الصفات، متشابهة السمات.
ولكن من أسف أن الموت عاجله، ولم يمهله القدر إلا عاما ونصف العام منذ فراغه من آخر المجلدات، فتوفى فى الخامس من يناير سنة 1926. وكل ما حدث بعد ذلك أنه منذ أخذت «دار طباعة جامعة كامبردج» حقوق طبع «الموسوعة» برمتها، أنها وحدت تسمية مجلداتها الأربعة، فجعلتها جميعها بعنوان واحد هو:
= = وهو العنوان الذى استصوبت ترجمته إلى العربية بعبارة:
«تاريخ الأدب فى إيران»
وصدرت الطبعات التالية بهذا العنوان، وتسلسلت مجلداتها على هذا النسق:
المجلد الأول: «تاريخ الأدب فى إيران، منذ أقدم الأزمنة إلى الفردوسى»
المجلد الثانى: «تاريخ الأدب فى إيران، من الفردوسى إلى السعدى»
المجلد الثالث: «تاريخ الأدب فى إيران، أثناء حكم التتار»
المجلد الرابع: «تاريخ الأدب فى إيران، فى الأزمنة الحديثة»
وحققت دار النشر بذلك، الفكرة التى ارتسمت فى خاطر «براون» من جعل مجلداته الأربعة التى صور فيها الحياة الأدبية والفكرية للايرانيين موسوعة كاملة الدورات متصلة الحلقات.
تحصيلات المترجم
ولقد خلبتنى هذه الموسوعة منذ قيض الله لى فى سنة 1931أن التحق بجامعة لندن لدراسة اللغات الشرقية والتخصص فى اللغتين الفارسية والتركية على يدى أستاذ جليل من
تلاميذ «براون» هو المرحوم «السير دينيسون روس»، وأصبحت بتلمذتى لهذا الأستاذ وثيق الصلة بأستاذه «براون» وبسائر كتبه ومؤلفاته.(1/17)
ولقد خلبتنى هذه الموسوعة منذ قيض الله لى فى سنة 1931أن التحق بجامعة لندن لدراسة اللغات الشرقية والتخصص فى اللغتين الفارسية والتركية على يدى أستاذ جليل من
تلاميذ «براون» هو المرحوم «السير دينيسون روس»، وأصبحت بتلمذتى لهذا الأستاذ وثيق الصلة بأستاذه «براون» وبسائر كتبه ومؤلفاته.
وتملكتنى رعبة جامحة، منذ أيام الطلب والتحصيل، فى أن أنقل إلى العربية بعض مؤلفاته، وعلى الأخص موسوعته عن «تاريخ الأدب فى إيران» حتى تكون نقطة البداية التى نبدأ بها دراساتنا للأدب الفارسى فى الجامعات المصرية الحديثة، لأننى تحققت من أن ترجمة كتاب من كتب المستشرقين، يكون جامعا لأطراف الموضوع، شاملا لخلاصة أبحاثهم فيه خلال القرون الطويلة التى سبقونا فيها إلى دراسة الأدب الفارسى، توفر علينا ضياع الوقت والجهد فى بحث أمور سبقت معالجتها والبلوغ بها إلى غاياتها أو ما يدنو من غاياتها، وأنه أجدى علينا أن نخصص جهودنا لتصرفها فيما يكون وصلا لما انقطع، وفيما يخرج بنا إلى بحوث جديدة، نضيفها الى التراث العام الذى خلفه سائر المشتغلين بالدراسات الشرقية من مختلف الأجناس والقوميات ولو استطاع كل متخصص فى علم من العلوم أو فن من الفنون أن ينقل إلى العربية كتابا واحدا من أمهات الكتب المتعلقة بموضوع تخصصه، لكان للعربية من مجموع هذه الترجمات ثروة طائلة، كفيلة بأن تجدد الفكر العربى واللغة العربية تجديدا كاملا ينتهى بنا إلى نهضة كاملة شاملة كالتى حدثت فى أوروبا عندما نقلت إلى لغاتها الكتب العربية والشرقية فى سالف الوقت والزمان، ولاستكملنا بهذه الثروة العريضة ما نقصنا فى الفترة التى وقفنا فيها موقف الفتور والتكاسل والتخلف والتواكل.
ترجمة «على أصغر حكمت» هذه الموسوعة إلى الفارسية
وقد أحس الأيرانيون أنفسهم بخطر الموسوعة التى أصدرها «براون» عن «تاريخ الأدب فى إيران» فأقبلوا عليها يتدارسونها ويقتبسون منها وينبهون إلى أهميتها، وسعى منذ ثلاثين عاما تقريبا أحد رجالاتهم الذين قدرت له تولى وزارة المعارف فيما بعد، وهو الأستاذ الكبير «على أصغر حكمت» أن يترجم هذه الموسوعة إلى الفارسية، وأقرته وزارة المعارف الإيرانية على مقترحه الذى يعود على العلم والأدب بفائدة محققة، وحصل فعلا من الأستاذ «براون» فى سنة 1925على إذن بنقل هذه الموسوعة إلى الفارسية، ثم وزع مجلداتها الأربعة على أربعة من كبار أدباء
إيران ومحققيها، كان هو نفسه واحدا منهم، ولكن الظروف والأقدار شاءت ألا تصدر من الترجمة الفارسية حتى الآن إلا ترجمة المجلدين الأخيرين من هذه الموسوعة فأصدر المرحوم «رشيد ياسمى» الأستاذ بجامعة طهران ترجمة المجلد الرابع فى سنة 1316الهجرية الشمسية (1937م) بعنوان: «تاريخ أدبيات إيران از آغاز عهد صفوية تا زمان حاضر» ثم انقضت فترة تبلغ إحدى عشرة سنة استطاع بعدها وزير المعارف الإيرانية الأسبق الأستاذ «على أصغر حكمت» أن يخرج فى سنة 1327الهجرية الشمسية (1948م) الترجمة الفارسية للمجلد الثالث من مجلدات براون بعنوان:(1/18)
وقد أحس الأيرانيون أنفسهم بخطر الموسوعة التى أصدرها «براون» عن «تاريخ الأدب فى إيران» فأقبلوا عليها يتدارسونها ويقتبسون منها وينبهون إلى أهميتها، وسعى منذ ثلاثين عاما تقريبا أحد رجالاتهم الذين قدرت له تولى وزارة المعارف فيما بعد، وهو الأستاذ الكبير «على أصغر حكمت» أن يترجم هذه الموسوعة إلى الفارسية، وأقرته وزارة المعارف الإيرانية على مقترحه الذى يعود على العلم والأدب بفائدة محققة، وحصل فعلا من الأستاذ «براون» فى سنة 1925على إذن بنقل هذه الموسوعة إلى الفارسية، ثم وزع مجلداتها الأربعة على أربعة من كبار أدباء
إيران ومحققيها، كان هو نفسه واحدا منهم، ولكن الظروف والأقدار شاءت ألا تصدر من الترجمة الفارسية حتى الآن إلا ترجمة المجلدين الأخيرين من هذه الموسوعة فأصدر المرحوم «رشيد ياسمى» الأستاذ بجامعة طهران ترجمة المجلد الرابع فى سنة 1316الهجرية الشمسية (1937م) بعنوان: «تاريخ أدبيات إيران از آغاز عهد صفوية تا زمان حاضر» ثم انقضت فترة تبلغ إحدى عشرة سنة استطاع بعدها وزير المعارف الإيرانية الأسبق الأستاذ «على أصغر حكمت» أن يخرج فى سنة 1327الهجرية الشمسية (1948م) الترجمة الفارسية للمجلد الثالث من مجلدات براون بعنوان:
«از سعدى تا جامى: تاريخ أدبى ايران از نيمه قرن هفتم تا آخر قرن هشتم هجرى، عصر استيلاء مغول وتاتار».
وأما المجلدان: الأول والثانى، فما زال الأمل كبيرا فى نقلهما الى الفارسية، وليس سبقنا الى نقلهما إلى العربية من باب المصادفة المحضة فهما يشتملان على كثير من الأمور العربية التى تبرر لنا هذا السبق وتجعل لنا حقا كبيرا فيه.
* * *
مدة الترجمة تسع سنوات لمجلدين من هذه الموسوعة
ولقد يسر الله لى حتى إبريل سنة 1945أى منذ تسع سنوات تقريبا أن أتمّ ترجمة المجلدين الأولين من موسوعة «براون»، وطمعت فى أن تعيننى وزارة المعارف المصرية على نشرهما أو أن أجد الناشر الذى يرفع عن كاهلى كثيرا من النفقات والتكاليف، ولكننى لم أظفر للأسف بما يحقق البغية وييسر المطلوب، فتوقفت السنوات الماضية أتدبر الأمور وأسعى الى إكمال ترجمة المجلدين الأخيرين، حتى هيأ الله لى فى هذا العام الوسائل لنشر مجلد واحد منها، سأظل بعده أتحين الفرصة لنشر باقى المجلدات، وتحقيق أمل رجوته منذ سنوات.
وقد وقع اختيارى على المجلد الثانى ليكون طليعة نشرى لهذه المجلدات فى نسختها العربية، وربما كثرت الأسباب التى بررت لى البدء على هذا النحو الغريب، ولكن أهمها وأبرزها ما يأتى:
أولا أن المؤلف نفسه اعتبر كل مجلد من مجلداته وحدة قائمة بذاتها، تدرس عصرا معينا من عصور الأمة الإيرانية بحيث يمكن اعتبار كل واحد منها كتابا مستقلا لا بأس من طبعه على حدة:(1/19)
ثانيا أن المجلد الأول لا يشتمل الا على الأصول النائية التى لا تهم دارس الآداب الإسلامية بقدر ما تهم دارس الحضارات الإيرانية القديمة، ومن أجل ذلك فصله المؤلف فصلا تاما عن المجلد الثانى وجعله تمهيدا له، لأنه يتعلق أكثر ما يتعلق ب «جاهلية إيران». أما المجلد الثانى ففيه بداية الحديث عن الآداب الفارسية بمعناها الفنى الدقيق، أى منذ أخذ الفرس ينشئون آدابهم باللغة الفارسية التى نشأت بعد الفتح العربى لإيران، وظلت مستعملة منذ ذلك الوقت حتى أيامنا هذه، فهو فى الحقيقة نقطة البدء لدارس الآداب الإسلامية التى نشأت فى إيران بعد الإسلام.
ثالثا: أن كثيرا من المقدمات والتمهيدات التى اشتمل عليها المجلد الأول، قد تعرضت لها كتب عربية مختلفة، مما جعل قراء العربية يعرفونها بوجه من الوجوه ويلمون بها إلى حد من الحدود، وفى هذا ما يعوض عليهم هذه المقدمات إذا تأخر نشرها قليلا، وما يجعل ابتداءهم بالمجلد الثانى بداية غير شوهاء ولا بتراء.
رابعا: أن المجلد الثانى هو أكثر المجلدات التى تهم قراء العربية فقد اشتمل على دراسة كثير من المسائل العربية التى أخرجتها عقول إيرانية، ومن أجل ذلك فهو يهم العرب بقدر ما يهم الإيرانيين، وإذا كان «براون» قد عنى فى سائر مجلداته بكثير من مسائل النتاج العربى الذى أخرجته عقول إيرانية، فإن النصيب الأوفى من هذه العناية كان من نصيب المجلد الثانى بحكم الظروف التى جعلت موضوعه مجالا لإظهار هذه الحقيقة وإثباتها.
لهذه الأسباب جميعها، ولأسباب عملية أخرى تتعلق بدراساتنا للآداب العربية والفارسية فى الجامعات المصرية، رأيت البدء بنشر المجلد الحاضر من مجلدات «براون»، راجيا أن تهيأ لى الظروف التى تمكن من نشر سائر مجلداته باللغة العربية، حتى يكون لقراء العربية مثلما كان لقراء الإنجليزية: «هدية إلى هذه الجماعة الصغيرة المتزايدة من هواة الآداب الفارسية الذين تعلموا من المترجمات التى نشرتها أن يحبوا شعراء الفرس وأدباءهم، وأن لا يدخروا وسعا فى تنمية معلوماتهم اللغوية والأدبية لشعب من أقدم شعوب الأرض، اختص بكثير من المواهب العالية، والصفات السامية(1/20)
ولا شك أن هؤلاء الجماعة من «الهواة» هم العماد الذى نعتمد عليه فى دراسة اللغات الشرقية وآدابها فى بلد لا يغرى على مثل هذه الدراسات وتنقصه المعاهد الشرقية المنظمة كالتى توجد فى العواصم الغربية الأخرى!!».
* * *إما الصعوبات التى تكلفتها فى نقل هذا الكتاب إلى العربية
فأكثر من أن يتسع المجال لذكرها تفصيلا ولترجمته قصة لا تقل روعة عن قصة تأليفه، بل ربما كانت أشد عناءا وأكثر بلاءا لأمور عامة يعرفها كل من كابد الترجمة وعانى النقل من لغة إلى أخرى، ولأمور خاصة أحب أن أنبه إلى بعضها فى هذا المقام، وأهمها وأخطرها ما يأتى:
أولا: إن هذا الكتاب عبارة عن موسوعة أدبية، اشتملت على كل ما تعلق بإيران أى البلاد الفارسية منذ أول ما عرف من أمرها حتى السنة التى أتم فيها المؤلف كتابه أى إلى سنة 1924، ومن أجل ذلك تضمن الكتاب أمورا مغرقة فى القدم، ما تزال تتدرج فى تاريخ هذه البلاد وما أنتجته من علم وأدب حتى تصل بنا إلى نهاية الربع الأول من القرن الذى نعيش فيه، ولقد حرص المؤلف على أن يجعل كتابه «دائرة معارف» يثبت فيها كل ما نشر من كتب ومقالات وأبحاث تتعلق بسائر العصور التى تعرض لها كتابه، وترتب على ذلك أنه أصبح لزاما على من يتصدى لترجمته أن تكون له سابقة اطلاع على كتابات الشرقيين والمستشرقين التى ذكرها فى ثنايا كتابه، وأن يكون على قدر كبير من الخبرة بحيث يأمن الزلة ويتجنب العثرة.
ولطالما صادفتنى إشارات اضطررت فيها إلى الرجوع إلى المكتبات العامة والخاصة فى مصر فوجدت فيها بغيتى أو انصرفت عنها بخيبتى لعدم عثورى على المرجع الذى أطلبه، ثم ظللت أسعى إلى تحقيق ما أريد بوسائل أخرى كلفتنى رهقا وجهدا كبيرا.
ثانيا: إن هذا الكتاب وقد مضت سنوات على تأليفه، يتطلب من مترجمه أن يزود ترجمته بكثير من الحواشى والتعليقات. فمنذ فرغ «براون» من كتابته، نشرت كثير من الأبحاث والمقالات، وصدرت كثير من الكتب والمؤلفات التى تتعلق
بالموضوعات التى احتواها الكتاب وأصبح لزاما على المترجم أن يشير إلى هذه الأمور وإلى أمور أخرى تتعلق باختلاف وجهة النظر وإثبات الآراء الجديدة.(1/21)
ثانيا: إن هذا الكتاب وقد مضت سنوات على تأليفه، يتطلب من مترجمه أن يزود ترجمته بكثير من الحواشى والتعليقات. فمنذ فرغ «براون» من كتابته، نشرت كثير من الأبحاث والمقالات، وصدرت كثير من الكتب والمؤلفات التى تتعلق
بالموضوعات التى احتواها الكتاب وأصبح لزاما على المترجم أن يشير إلى هذه الأمور وإلى أمور أخرى تتعلق باختلاف وجهة النظر وإثبات الآراء الجديدة.
ولقد شئت أن أوفى الترجمة حقها فأزودها بما فى الوسع من تحشيات وتعليقات ولكنى وجدت أن حجم الكتاب يتضاعف إذا فعلت ذلك، فاكتفيت مضطرا بجعل تعليقاتى تقتصر على الأهم دون المهم، وأن ينصرف أكثرها إلى التنبيه إلى المسائل الفارسية دون غيرها من المسائل الغربية أو العربية التى ذكرها «براون». وإنى أحس خاصة بكثير من الأسف لعدم التعليق على الأمور العربية، ولكنى من ناحية أخرى مؤمن بأن القارئ العربى ليس فى حاجة ملحة الى مثل هذه التعليقات فهو عارف بها وبأصحاب البحوث الحديثة فيها، لا يطمع فى أن يذكره بها كتاب كتب خاصة للتعريف بحياة «إيران» العقلية والفكرية.
ثالثا: اعتمد «براون» فى تأليف كتابه على كثير من المراجع الشرقية، واستشهد بالطبيعة بالتأليفات «العربية» و «الفارسية» و «التركية» ولكنه لم يستطع فى الغالب الأعم أن يورد لنا شواهده فى نصوصها الأصيلة فى هذه اللغات، واكتفى بإيراد ترجمتها الى الإنجليزية، ولم يكن من المستساغ عقلا أو المقبول فنا، أن أعود فأترجم هذه المترجمات الى العربية، لأن الترجمة عن ترجمة لا شك تضلل المترجم وتبعده عن الأصل. ومن أجل ذلك ألزمت نفسى بإثبات الشواهد العربية بنصها التى وردت به فى الكتب العربية اللهم إلا إذا كان الكتاب مخطوطا وليست له نسخة فى دور كتبنا، كما ألزمت نفسى أن أترجم الشواهد الفارسية والتركية عن أصولها فى هاتين اللغتين وأن أثبت أصولها فى متن الكتاب أو هامشه حتى تكون فى متناول القارئ المتخصص الذى يريد التحقيق والمقارنة. ولربما اختلفت ترجمتى مع ترجمة «براون» ولكن هذا الاختلاف بقدر ما يسمح به النقل الى العربية دون إخلال بالمعنى والمبنى.
رابعا إن صاحب هذا الكتاب، بالإضافة إلى تبريزه فى إتقان جملة من لغات الأمم الإسلامية، كان مبرزا كذلك فى طائفة غير قليلة من اللغات الأوربية القديمة والحية، ومن أجل ذلك كثر نقله عن اللغات «اليونانية» و «اللاتينية» و «الفرنسية» و «الألمانية».
وغير ذلك من اللغات. وبعض هذه اللغات أعرفها بعض المعرفة وبعضها الآخر
أجهله جهلا تاما، ومن أجل ذلك اضطررت اضطرارا إلى أن ألجأ إلى أصدقائى كلما صمد فى وجهى شاهد من هذه اللغات، فاستطاعوا مشكورين أن يعينونى على نقله وترجمته.(1/22)
وغير ذلك من اللغات. وبعض هذه اللغات أعرفها بعض المعرفة وبعضها الآخر
أجهله جهلا تاما، ومن أجل ذلك اضطررت اضطرارا إلى أن ألجأ إلى أصدقائى كلما صمد فى وجهى شاهد من هذه اللغات، فاستطاعوا مشكورين أن يعينونى على نقله وترجمته.
خامسا يعتبر صاحب هذا الكتاب من كبار أدباء الإنجليز، يستطيع أن ينشىء فى الإنجليزية نثرا فنيا رائعا وشعرا فنيا شائقا، ومن أجل ذلك أغرم بترجمة النثر الفنى الشرقى إلى نثر فنى إنجليزى، وشغف بترجمة الشعر الشرقى إلى شعر إنجليزى، فصار من العسير على المترجم فى الحالتين أن يتأنق تأنقه فى اصطناع الأساليب وإبداع التراكيب، وأصبح عليه أن يتكلف كثيرا من الجهد للوصول إلى قرارة هذه العبارات الأنيقة والوصول إلى معانيها الدقيقة.
* * *
إعجابات المؤلف للحضارة الإسلامية والإيرانية
وفى الحق إن ترجمة مؤلفات «براون» الذى جمع تراث الشرق والغرب، واستطاع أن يجعل الشرق والغرب يلتقيان فى شخصه، لمن الأمور التى طالما تحرجت من التصدى لها، والإقدام عليها، ولم يدفعنى إليها إلا الأهمية التى بينتها فيما سبق لكتابه «تاريخ الأدب فى إيران» وإلا خلة أخرى أعرفها فى «براون» ويعرفها كل من قرأ كتاباته، وهى أنه من المستشرقين القلائل الذين أنصفوا الشرق والشرقيين، وأعجبوا إعجابا شديدا بالإسلام وحضارته العربية الفارسية. ومن أقواله الخالدة التى يجب أن نحمدها له وأن نعيها عنه قوله:
«إنى أحس فى قرارة نفسى بإعجاب شديد للاسلام وحضارته العربية الفارسية»
«وأجد لزاما علىّ إن اعترف بهذا الإعجاب اعترافا صريحا فى هذا الوقت الذى»
«حرم فيه الإسلام من إنصاف الأوروبيين الذين أساءوا فهمه وتصويره، ظانين»
«أنهم وحدهم يحتكرون كل ضروب الحضارة والتمدن، وأن الله قد وكل إليهم»
«أن يفرضوا على العالم أجمع نظمهم فى السياسة بل وفى أساليب التفكير والثقافة»
«أيصا!! ومن أسف إنه كلما تقدمت السنون أخذ عدد الدول الإسلامية المستقلة»
«فى النقص والقلة، وأخذ ما بقى منها مستقلا يهدده التدخل الأوروبى بكل أنواعه»
«وليس من شك عندى فى أن المسلمين أنفسهم مسئولون عن ذلك بعض الشىء»(1/23)
«فى النقص والقلة، وأخذ ما بقى منها مستقلا يهدده التدخل الأوروبى بكل أنواعه»
«وليس من شك عندى فى أن المسلمين أنفسهم مسئولون عن ذلك بعض الشىء»
«وأن الشعور بالفتور والإهمال اللذين ركبا فى أنفسهم يساعد الأوروبيين، بما»
«ركب فى طباعهم من جشع فى امتلاك الكون ونهم للغزو والفتح، على أن»
«يعجلوا بالقضاء على هذه الدول الحرة والولايات المستقلة. ومن أسف أيضا أن العقول»
«الغربية لا تفكر إلا فى الواقع المادى، ولن يأخذها شىء من الرحمة والشفقة» «فى سبيل القضاء على هذه الدول الإسلامية بل إن أوداجها لتنتفخ بهذه» «الفتوحات الجديدة التى أعدوها لأولادهم ورؤوس أموالهم!! ومع ذلك كله فإن»
«عددا قليلا ممن خبر الشرق وأهله، وعرف كيف يحبه ويحبهم، ليتحقق من»
«مقدار ديننا لهم بأغلب الأفكار الروحية العظيمة التى جعلتنا نشعر بلذة الحياة»
«وقيمتها، ويدرك أنه كلما زالت من الوجود واحدة من هذه الدول الإسلامية»
«المستقلة، فإن العالم يفقد بفقدها شيئا لا بمكن تعويضه.»
* * *
القارىء العربى سيعجب ب «براون» وبمؤلفاته
وإنى لموقن بعد ذلك كله أن القارىء العربى سيعجب ب «براون» وبمؤلفاته، وأن هذا الأعجاب سيكون سبيلى لديه فى اغتفار مواضع الزلل والعثار، ووسيلتى إليه كلما تطلبت الحجج والأعذار، ولطالما هدأ من روعى، وخفف من وجلى بيتان من الشعر، صغتهما همسا، وظللت أرددهما طوال المدة التى ترجمت فيها هذا الكتاب فكانا بالنسبة لى حداءا يدعو القافلة الى المثابرة والمسير، وبالنسبة للقارئ دعاءا يدعوه إلى مغفرة الزلل والتقصير. فأما هذان البيتان فهما:
لقد تعب المؤلف والمترجم ... فليتك قدر هذا الجهد تعلم
كلانا دائب يسعى ويشقى ... فهل ألفيك عند السهو ترحم
* * *
الشكر فى الختام
وإنى أشكر فى ختام كلمتى «دار طباعة جامعة كامبردج» فقد يسر لى حضرة مديرها الأستاذ «ر. و. دافيد: .. » سبيل الحصول على الإذن اللازم لنشر هذا
الكتاب فى نسخته العربية، ولولا ما أبداه من روح طيبة قبلى، وترحيب كبير بعملى لظللت بين العزم والإحجام والتردد والإقدام.(1/24)
وإنى أشكر فى ختام كلمتى «دار طباعة جامعة كامبردج» فقد يسر لى حضرة مديرها الأستاذ «ر. و. دافيد: .. » سبيل الحصول على الإذن اللازم لنشر هذا
الكتاب فى نسخته العربية، ولولا ما أبداه من روح طيبة قبلى، وترحيب كبير بعملى لظللت بين العزم والإحجام والتردد والإقدام.
كما أشكر أيضا صاحب «مطبعة السعادة» ومديرها الأستاذ «على محمد إسماعيل» فقد خص الكتاب بعنايته وتكلف معى كثيرا من الجهد والصبر حتى استطاع تهيئة الأسباب التى ذللت الصعاب بما يستحق الحمد والإعجاب؟
السبت 28شعبان سنة 1373هـ
أول مايو سنة 1954م
ابراهيم أمين الشواربى(1/25)
المكتبة الفارسية
وكتب المترجم
مجموعة من الكتب يصدرها الدكتور ابراهيم أمين الشواربى ليعين القارىء على دراسة الفارسية وآدابها والاطلاع على ما بها من درر روائع وفرائد زواهر.
صدر منها حتى الآن الكتب والأبحاث العلمية الآتية:
1 - القواعد الأساسية لدراسة الفارسية.
وهو أول كتاب وضع بأسلوب علمى حديث لتعليم اللغة الفارسية لأبناء العربية، وهو مطبوع بلجنة التأليف والترجمة والنشر فى سنة 1943م وصدرت له طبعة ثانية فى مطبعة السعادة سنة 1949م
2 - أغانى شيراز أو غزليات حافظ الشيرازى (فى جزءين كبيرين) وهو عبارة عن أول ترجمة عربية لديوان حافظ الشيرازى تقع فى جزءين كبيرين، طبعا بلجنة التأليف والترجمة والنشر، الأول منهما فى سنة 1944 والثانى فى سنة 1945م.
3 - حافظ الشيرازى: شاعر الغناء والغزل فى إيران
وهو عبارة عن دراسة واسعة مفصلة لأحوال هذا الشاعر الإيرانى الكبير، تضمنت وصفا مسهبا لموطنه وعصره وظروف حياته ومواضيع فلسفته ومحتويات ديوانه.
وقد طبع هذا الكتاب بدار المعارف ومطبعتها سنة 1944م.
4 - حدائق السحر فى دقائق الشعر:
أول كتاب فى علوم البلاغة الفارسية، وضعة باللغة الفارسية أصلا «رشيد الدين محمد العمرى» الكاتب البلخى المعروف بال «وطواط»
المتوفى سنة 573هـ وقد نقله الدكتور ابراهيم أمين الشواربى إلى العربية لأوّل مرة فى سنة 1945م وطبعه بمطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر.(1/26)
أول كتاب فى علوم البلاغة الفارسية، وضعة باللغة الفارسية أصلا «رشيد الدين محمد العمرى» الكاتب البلخى المعروف بال «وطواط»
المتوفى سنة 573هـ وقد نقله الدكتور ابراهيم أمين الشواربى إلى العربية لأوّل مرة فى سنة 1945م وطبعه بمطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر.
5 - قصة الحضارة الفارسية.
بحث طريف فى أسلوب ممتع، نشره الأستاذ «ول دورانت» بالإنجليزية ضمن كتابه «قصة الحضارة» وقد نقله الدكتور ابراهيم أمين الشواربى إلى العربية وطبعه على حدة فى مطبعة السعادة سنة 1947.
6 - بحث فيما نقله الجاحظ من أخبار الفرس.
منشور فى مجلة كلية الآداب بجامعة فؤاد الأول (القاهرة) بالجزء الثانى من المجلد الرابع سنة 1939م.
7 - مصادر فارسية فى التاريخ الإسلامى.
بحث علمى مطول منشور فى مجلة كلية الآداب بجامعة فؤاد الأول (القاهرة) بالمجلد السابع سنة 1942م.
8 - نشأة الشعر الفارسى الإسلامى.
بحث علمى منشور فى العدد الثامن من مجلة كلية الآداب بجامعة فؤاد الأول (القاهرة) بالمجلد الأول سنة 1946م.
9 - رحلة فى إيران.
مقالات منشورة فى مجلة الراوى الجديد بالسنة الثامنة سنة 1943م.
10 - العربية فى إيران.
مقالة منشورة فى «حوليات كلية الآداب بجامعة إبراهيم» بالعدد الأول الصادر سنة 1951م.(1/27)
مقدمة المؤلف
تاريخ الأدب فى إيران من نهاية القرن الرابع الهجرى إلى منتصف القرن السابع الهجرى
يعتبر هذا المجلد وصلا لمجلد سابق قدمته لقراء هذه المجموعة منذ أربع سنوات.
والمجلد الحاضر يشتمل على تاريخ الأدب فى إيران فى الفترة الواقعة بين بداية القرن الحادى عشر ومنتصف القرن الثالث عشر الميلاديين (أى الفترة الواقعة بين نهاية القرن الرابع الهجرى ومنتصف القرن السابع الهجرى) وهذه الفترة قصيرة حقا ولكنها رغم قصرها تشتمل على سيرة أغلب النبهاء من شعراء الفرس وكتابهم.
فلا غرابة إذا توقعت مقدما أن يتهمنى بعض النقاد البارعين بالتقصير فى إيراد التفاصيل وبعدم توفية الموضوع حقه من الدرس والتمحيص. ومع ذلك فلو قدر لى النجاح فى تنفيذ مشروعى الأول الذى عزمت فيه على دراسة «تاريخ الأدب فى إيران» منذ بدايته إلى وقتنا الحاضر، لاحتاجت دراستى للقرون الباقية ومقدارها ستة قرون ونصف القرن إلى مجلد آخر فى حجم هذا المجلد الحاضر (1).
الاعتراف على مواضع القصور
وإنى أبادر وقد تمّ طبع هذا الكتاب بالاعتراف بأنى واقف على مواضع القصور فيه. وفى رأيى أنها ناتجة جميعا عن كتابته فى فترات مختلفة من فترات العطلة والفراغ. وقد اضطرنى ذلك إلى كتابة الفصل الواحد من فصوله، ثم الانتظار بعد الفراغ منه مدة شهرين أو أكثر قبل أن أشرع فى كتابة الفصل الذى يليه. وساعد على ذلك أن جامعة «كمبردج» أصبحت فى الأيام الأخيرة من أقل الأماكن مناسبة لهذا النوع من البحث الهادىء الدؤوب. وإذا امتازت بأنها غنية بكتب المراجع التى لا يستغنى الباحث عنها، فإنها من ناحية أخرى للأسف، تضطر الباحث أن يلتمس أوقات الفراغ والدعة فى غيرها من الأماكن. وحالها فى ذلك شبيه بما يقوله الشاعر «صائب» فى هذا البيت:
شگوفه با ثمر هرگز نگردد جمع در يك جا
محالست آنكه با هم نعمت ودندان شود پيدا
__________
(1) المترجم: احتاج الأمر فى الحقيقة إلى مجلدين آخرين كتبهما الاستاذ «ادوارد براون» ليكمل بهما مشروعه.(1/28)
ومعناه:
لا تجتمع الأزهار والأثمار مطلقا فى مكان واحد
كما يستحيل اجتماع النعم الطيبة والأسنان السليمة فى فم واحد
وقد ترتب على ذلك فيما أعلم، أن هذا المجلد أصبحت نعيبه النبذ المتكررة وكذلك يعيبه التفكك وعدم الاتصال بين سائر أجزائه. وإنى أرجو القارىء أن يعفو عنى لمثل هذه الهنات والزلات، وأن يتأكد من أنى عوضت عليه هذا النقص باجتهادى فى الرجوع إلى المصادر الأصيلة وتكوين الآراء الشخصية المستقلة التى ساعدنى على الوصول إليها حسن توفيقى إلى العثور على جملة من المؤلفات النادرة التى لم تكن فى متناول من سبقونى من الكتاب والباحثين، وأذكر من بين هذه المؤلفات الكتب الآتية على وجه التخصيص:
«چهار مقاله» أى المقالات الأربع تأليف «نظامى العروضى السمرقندى»
«لباب الألباب» تأليف «محمد عوفى»
«المعجم فى معايير أشعار العجم» تأليف «شمس القيس الرازى»
«جهان گشا» أى فاتح العالم تأليف «عطا ملك الجوينى»
«جامع التواريخ» تأليف «رشيد الدين فضل الله (1)»
وقد استولى هذا العمل على مجمع قلبى، وكان بودى لو استطاع أيضا أن يملك كل عنايتى غير مقسمة ولا موزعة. ذلك لأنى أحس فى قرارة نفسى بإعجاب شديد للاسلام وحضارته العربية الفارسية، وأجد لزاما على أن أعترف بهذا الإعجاب اعترافا صريحا فى هذا الوقت الذى حرم فيه الإسلام من إنصاف الأوروبيين الذين أساءوا فهمه وتصويره ظانين أنهم وحدهم يحتكرون كل ضروب الحضارة والتمدن، وإن الله قد وكل إليهم أن يفرضوا على العالم أجمع نظمهم فى السياسة بل وفى أساليب التفكير والثقافة أيضا!
__________
(1) المترجم: طبعت جميع هذه الكتب ونشرت فى أوقات مختلفة ضمن «سلسلة جب التذكارية» ما عدا الثانى فقد نشره الاستاذ براون سنة 1903م فى مجموعة كتب النصوص التاريخية الفارسية، وكذلك الأخير فقد نشرت بعض أجزائه فى أوقات وأماكن مختلفة كما إن دور الكتب المختلفة تشتمل على بعض أجزائه مكتوبة بالعربية أيضا.(1/29)
ومن أسف أنه كلما تقدمت السنون أخذ عدد الدول الإسلامية المستقلة فى النقص والقلة، وأخذ ما بقى منها مستقلا، مثل إيران وتركيا وبلاد العرب ومراكش (1)
يهدده التدخل الأوروبى بكل أنواعه. وليس من شك عندى فى أن المسلمين أنفسهم مسئولون عن ذلك بعض الشىء وإن الشعور بالفتور والإهمال اللذين ركبا فى نفوسهم الأسيوية، يساعد الأوروبيين بما ركب فى طباعهم من جشع فى امتلاك الكون ونهم للغزو والفتح، على أن يعجلوا بالقضاء على هذه الدول الحرة والولايات المستقلة. ومن أسف أيضا، أن العقول الغربية لا تفكر إلا فى الواقع المادى ولن يأخذها شىء من الرحمة أو الشفقة فى سبيل القضاء على هذه الدول الإسلامية، بل إن أوداجها لننتفخ بهذه الفتوحات الجديدة التى أعدوها لأولادهم ولرؤوس أموالهم.
ومع ذلك كله، فإن عددا قليلا ممن خبر الشرق وأهله، وعرف كيف يحبه ويحبهم، وتحقق من مقدار ديننا لهم بأغلب الأفكار الروحية العظيمة التى جعلتنا نشعر بلذة الحياة وقيمتها، يدركون مع المستر «تشسترتون (2)» إنه كلما زالت من الوجود واحدة من هذه الدول الإسلامية المستقلة، فإن العالم يفقد بفقدها شيئا لا يمكن تعويضه. ومناقشة هذا الرأى لن تصل بنا إلى نهاية مجدية، وسيكون حالنا فى هذه المناقشة كحال الذى يتمادى فى الجدل ليفاضل بين حديقة غرس فيها نوع واحد من أنواع الخضر المفيدة، وبين أخرى غرست فيها شتى أنواع الزهور ذات الألوان المختلفة والروائح المتباينة. وحسبنا فى هذا الصدد أن نكتفى بما يعترف به كل محب للشرق، مدرك لروحه وعقليته، فنقول إنه آخذ فى التقلص والزوال النهائى حتى ولو سيطرت عليه خير أنواع الإدارة الأوروبية وأكثرها عطفا وحدبا عليه.
ومن أجل ذلك فقد أصبحت «القسطنطينية» و «شيراز» و «فاس» تمتاز رغم ما بها من عيوب بشىء من العناصر والخصائص الفنية والعقلية والروحية التى زالت وأخذت فى الزوال من مدن إسلامية أخرى مثل «القاهرة» و «دلهى» و «الجزائر» و «تونس».
__________
(1) المترجم: منذ ذلك الوقت قضى على استقلال مراكش وقد أصدر براون الطبعة الأولى من هذا الكتاب فى سنة 1906م.
(2) ذكر ذلك فى كتابه.: ()(1/30)
ولسنا ندرى هل يظل الإسلام يدمى حتى يموت مثخنا بجراحه التى أصابته بداية على أيدى «المغول» منذ أكثر من ستة قرون ونصف القرن، أم هل يحذو حذو «اليابان» التى أقامت الدليل على أن العنصر الأسيوى لا يقل فى شىء عن العنصر الأوروبى حتى من حيت الحيوية الجسدية، فينهض فجأة من كبوته، ويقوم مرة ثانية من عثرته؟!
هذه مسألة شائكة، ذات خطر بالغ، لا يتسع المجال لتقريرها أو بحثها فى هذه الصفحات.
* * *
الشكر على الإمعان
وإنى مدين بشكرى الخالص لشقيفتى الآنسة «إ. م. بروان .. »
ولصديقى وزميلى المستر «إ. هـ. منس .. » فقد تفضلا بقراءة مسودات هذا الكتاب، وأصلحا بعض ما وقع فيه من أخطاء لغوية بسيطة، كما تفضلا على بمقترحات عن آراء لها أهميتها وخطرها. ولا بد أن أذكر أيضا أنى مدين بشكر آخر للمستر «منس» لقاء تكرمه بترجمة جملة من المقالات التى كتبها نفر من مشاهير المستشرقين الروس، فتمكنت بذلك من الإشارة إليها فى صفحات هذا الكتاب، ولولا مساعدته الكريمة لبقى ما كتبوه فى صحف مغلقة مقفلة. وأجد لزاما على أن أذكر فى هذا المقام واحدا من الانتقادات الهامة التى تكرم بتوجيهها إلى، فقد حدثنى أننى لم أكن مبينا ولا مفصحا عندما تحدثت فى الفصل الأول من هذا الكتاب عن «الشعر الفارسى وأوزانه» بحيث لم أوضح لقرائى العاديين من غير المستشرقين طبيعة «البيت» الفارسى والقوانين الأساسية لتقطيعه وفقا لقواعد العروض.
فأما المسألة الأولى التي تتعلق بطبيعة «البيت» فإننى أكرر ما سبق لى أن قلته في غير هذا المكان من أن المسلمين يعتبرون «البيت» وحدة قائمة بذاتها، ومن أجل ذلك فإنى أرى من الخطل ترجمته بكلمة كما جرت بذلك عادة بعض الكتاب فى ثنايا كتبهم الأوروبية.
وليس أظهر فى الدلالة على أن «البيت» وحدة قائمة بذاتها من الحقيقة الماثلة نلعيان فى أن البيت إذا اشتمل على ست تفعيلات أو ثمانى تفعيلات فإنه يسمى «مسدسا»
أو «مثمنا» وفقا لعدد تفعيلاته. ومن أسف أن العادة المتبعة في الشرق جرت على كتابة «البيت» أو طبعه فى سطر واحد، ولكن هذا البيت إذا كتب بحروف رومانية فإنه يتطلب حيزا أوسع بحيث يقتضى منا بالضرورة أن نطبعه فى سطرين كما حدث ذلك فى كتابة البيت الذى طبعناه بحروف رومانية فى منتصف الصحيفة رقم (15) وكذلك فى البيت الذى نشرناه فى السطرين الخامس والسادس من الصحيفة التالية. وهذه الطريقة من طرق الطبع، إذا أضفنا إليها بالنسبة للمثل الأول من هذين المثلين أنه عبارة عن «مطلع» لإحدى الغزليات، وإنه باعتباره مطلعا يستلزم بالضرورة وحدة القافية بين جزءيه أو شطريه فإنّ كل هذا قمين بأن يموه الحقائق على القارىء العادى فيفترض خطأ أن عليه أن يقنع بما يفهم من مدلول كلمة دون أن يتحقق من دلالة هذه الوحدة المستقلة التى نطلق عليها كلمة «بيت».(1/31)
وليس أظهر فى الدلالة على أن «البيت» وحدة قائمة بذاتها من الحقيقة الماثلة نلعيان فى أن البيت إذا اشتمل على ست تفعيلات أو ثمانى تفعيلات فإنه يسمى «مسدسا»
أو «مثمنا» وفقا لعدد تفعيلاته. ومن أسف أن العادة المتبعة في الشرق جرت على كتابة «البيت» أو طبعه فى سطر واحد، ولكن هذا البيت إذا كتب بحروف رومانية فإنه يتطلب حيزا أوسع بحيث يقتضى منا بالضرورة أن نطبعه فى سطرين كما حدث ذلك فى كتابة البيت الذى طبعناه بحروف رومانية فى منتصف الصحيفة رقم (15) وكذلك فى البيت الذى نشرناه فى السطرين الخامس والسادس من الصحيفة التالية. وهذه الطريقة من طرق الطبع، إذا أضفنا إليها بالنسبة للمثل الأول من هذين المثلين أنه عبارة عن «مطلع» لإحدى الغزليات، وإنه باعتباره مطلعا يستلزم بالضرورة وحدة القافية بين جزءيه أو شطريه فإنّ كل هذا قمين بأن يموه الحقائق على القارىء العادى فيفترض خطأ أن عليه أن يقنع بما يفهم من مدلول كلمة دون أن يتحقق من دلالة هذه الوحدة المستقلة التى نطلق عليها كلمة «بيت».
وأما المسألة الثانية التى تتعلق بقواعد العروض والوزن فى الشعر الفارسى فإنها بسيطة للغاية بحيث لا تحوجنا إلى كتاب مفصل فيه، نرجع إليه لبيان كمية الحركات أو حروف اللين. فالحركات الممدودة جميعها تعتبر من المقاطع الطويلة. وليس هناك صعوبة فى معرفة هذه الحركات، فإن تصوير الكلمة كتابة ونطقا كفيل بأن يبين لنا حركاتها دون عسر أو إشكال. فأما الحركات القصيرة فإنها تعتبر مقاطع قصيرة إلا إذا أعقبها حرفان ساكنان، سواء أكانا فى كلمة واحدة، أم عرض أحدهما فى نهاية كلمة من الكلمات وثانيهما فى بداية الكلمة التالية.
وهذه القواعد سهلة للغاية، يستطيع كل مشتغل بالدراسات القديمة أن يتبينها ويدركها. ولكننا نذكر فيما يلى بعض المواضع التى تختص بها الفارسية دون غيرها من اللغات:
فكل كلمة من الكلمات تنتهى بحرفين ساكنين أو بحرف واحد ساكن مسبوق بحرف مد طويل (فيما عدا إذا انتهت الكلمة بحرف النون فإنه لا يحسب حرفا بل يعتبر صوتا أنفيا) فإن مثل هذه الكلمة توزن كما لو كانت منتهية بحركة قصيرة زائدة (1). وهذه الحركة القصيرة الزائدة يسميها المشارقة باسم «نيم فتحه» أى
__________
(1) هذه الحركة القصيرة الزائدة لا تحتسب فى نهاية «البيت» أو فى نهاية «المصراع»(1/32)
«نصف فتحة» ويسميها الفرنسيون خطأ باسم «الإضافة للوزن» ويظهرها الهنود فعلا فى نطقهم، ولكن الفرس يمتنعون عنها بتاتا، رغم أنه يجب احتسابها دائما فى الوزن، اللهم إلا إذا تلتها كلمة مبدوءة بحرف من حروف المد.
ويجب تطبيق هذه القاعدة أيضا على المقاطع.
وفيما يلى بعض الأمثلة التى توضح ما ذكرناه آنفا:
فكلمات مثل: باد ساكنة الآخر بمعنى: ريح
بيد ساكنة الآخر بمعنى: شجرة الصفصاف
بود ساكنة الآخر بمعنى: كان
كار ساكنة الآخر بمعنى: عمل
شير ساكنة الآخر بمعنى: أسد
مور ساكنة الآخر بمعنى: نملة
توزن كما لو كانت مفتوحة الآخر ومكتوبة «باد» و «بيد» و «بود» الخ أى مكونة من مقطع طويل ثم آخر قصير هكذا: ()
لا كما يظن أولا من مقطع طويل واحد هكذا: ()
ومثل هذا القول ينطبق تماما على كلمات كالآتية:
دست [الحرفان الأخيران ساكنان] بمعنى: يد
بند [الحرفان الأخيران ساكنان] بمعنى: رباط
گرد [الحرفان الأخيران ساكنان] بمعنى: غبار
فإنها توزن كما لو كانت مفتوحة الآخر ومكتوبة «دست» و «بند» و «گرد».
ومثل هذا أيضا ينطبق على كلمات مثل:
بادگير بمعنى: مروحة
شيرمرد بمعنى: رجل شجاع كالأسد
دوربين بمعنى: منظار
دست كش بمعنى: قفاز
فإنها توزن فى الكلمتين الأوليين كما لو كانتا مفتوحتى الآخر ومكتوبتين.(1/33)
بادگير أى مكونة من مقطع طويل ثم قصير ثم طويل ثم قصير ()
شيرمرد أى مكونة من مقطع طويل ثم قصير ثم طويل ثم قصير ()
وفى الكلمتين الأخيرتين كما لو كانت الأولى منهما مفتوحة الآخر والثانية ساكنته:
دوربين أى مكونة من مقطع طويل ثم قصير ثم طويل ()
دست كش أى مكونة من مقطع طويل ثم قصير ثم طويل ()
أما كلمات مثل:
جهان بمعنى: الدنيا
نگين بمعنى: فص الخاتم
درون بمعنى: داخل
فإنها توزن على أنها مكونة من مقطع قصير ثم طويل () لأن هذه الكلمات تنتهى بحرف النون.
فإذا أخذنا بعد ذلك بيت الشعر الذى نشرناه فى صحيفة 16وهو على وزن الرمل المسدس المحذوف.
:::::: فاعلاتن: فاعلاتن: فاعلات
فإن تقطيعه يكون بالصورة الآتية (1):
آفرين و: مدح سود آ: يدهمى
گربگنج ان: در زيان آ: يدهمى
وهناك فيما عدا ذلك طائفة قليلة أخرى من خصائص العروض الفارسى، نذكر منها على سبيل المثال أن الكلمات المكونة من مقطع واحد ينتهى بالواو مثل:
تو بمعنى: أنت
دو بمعنى: أثنان
چوبمعنى: مثل، لما
__________
(1) المترجم: يشير المؤلف إلى رقم الصحيفة فى الأصل الانجليزى، وكتابة هذا البيت على أصله هكذا
آفرين ومدح سود آيد همى ... گر بگنج اندر زيان آيد همى(1/34)
فإنه يمكن وزنها على أنها مكونة من مقطع طويل أو من مقطع قصير وفقا لما يقتضيه الحال.
هكذا الحال مع كسره الاضافه.
أما المقطع الوحيد الذى بقيد العطف ويكون بمعنى «واو العطف» فإنه يمكن اعتباره حرف مد طويل «أو» او قصير «» أو حرفا ساكنا قصيرا محركا بحركة الفتحة «و».
فإذا اعتاد القارىء هذه القواعد والخصائص التى ذكرناها فيما سبق، فلن يصادف فيما عداها إلا قلة قليلة من المسائل التى تستثنى من أحكامها، ولكن ذلك لن يعوقه عن تقطيع ما يعترضه من الأشعار الفارسية.
* * *
تقديم خالص شكرى
وقد كان اليوم الأول من شهر مايو من السنة الحالية مخددا لنشر هذا المجلد، ولكن ظروفا قاهرة اضطرتنا مكرهين إلى تأجيل صدورة فى هذا التاريخ. وإنى مع إحساسى بالأسف لهذا التأخير أقدم اعتذارى لصديقى المستر «فيشر أنوين» كما أقدم له شكرى لقاء ما أبداه من أريحية فى قبول العذر الذى وضحته له واعتباره كافيا فى التعويل عليه. وانتهز هذه الفرصة لتقديم خالص شكرى لحضرات الطابعين «إخوان أنوين وشركائهم» فى مدينتى «ووكنج» و «لندن» لما أبدوه من عناية فائقة فى طبع هذا المجلد الذى يشتمل على كثير من الصعوبات المطبعية؟
16 - مايو سنة 1906
أدوارد جرانفيل براون(1/35)
الفصل الأول تمهيد وترديد
موضوع الكتاب:
كتبت من قبل كتابا عن تاريخ الأدب فى إيران منذ أقدم الأزمنة إلى عصر الفردوسى، قصدت به أن يكون وحدة قائمة بذاتها وأن يكون كذلك تمهيدا لهذا الكتاب الذى أقدمه الآن للقارىء، وقد استطعت أن أدرس فيه «تاريخ الفرس» من الناحيتين الثقافية والأدبية منذ أقدم أزمنتهم إلى الفترة المبكرة من العصر الغزنوى حينما أشرقت (حوالى سنة 1000ميلادية 391هـ) عبقرية «الفردوسى» فأكدت أن «النهضة الأدبية الفارسية» التى بدأت قبل ذلك بما يزيد على قرن من الزمان لا بد آخذة فى النجاح والازدهار وإيتاء خير الثمار.
وعلى ذلك فالكتاب الحالى لا شأن له بهذه الأصول النائية التى تحدثت عنها فى الكتاب السابق، بل هو يحدثنا عن «الآداب الفارسية» بمعناها الفنى الضيق أى منذ أخذ الفرس يدونون آدابهم ب «اللغة الفارسية» المعروفة حاليا، ونقصد بها اللغة التى نشأت مع الفتح العربى واعتناق الفرس للاسلام فى القرن السابع الميلادى واستمرت مستعملة منذ ذلك الوقت حتى أيامنا هذه.
وسوف نتعرض فى هذا الكتاب لذكر بعض العوامل الخارجية والعقلية التى أثرت فى «التاريخ الفارسى»، ولكن تعرضنا لهذه المسائل سيكون بالقدر الكافى الذى يعيننا على فهم ما يعترضنا من أمور متعلقة بهذا التاريخ.
ونحن حينما نتحدث عن «الآداب الفارسية الإسلامية» نقصد شيئا واحدا محددا، هو هذه الآداب التى نشأت تدريجيا بعد الإسلام وبعد ما فتح العرب «البلاد الفارسية» وتمكن الإسلام من التغلب على ديانة «زردشت». وقد بدأوا يدونون هذه الآداب منذ ألف سنة تقريبا كما تشهد بذلك الأسانيد المكتوبة الموجودة فى أيدينا.(1/36)
وقد تغيرت «اللغة الفارسية» فى هذه الفترة الطويلة تغيرا يسيرا لا يكاد يذكر، حتى ليستطيع الرجل الفارسى المعاصر أن يفهم أشعار الشعرا. الأقدمين من أمثال «حنظلة البادغيسى (1)» و «الرودكى (2)» على قدر ما يفهم الإنجليزى المعاصر مؤلفات «شكسپير».
ومن الواجب على طلاب «الأدب الفارسى» أن يتفهموا هذه الحقيقة جيدا، وأن يذكروا دائما أن «الفارسية» قد أصابها قليل جدا من التغيير خلال السنوات الألف الماضية، ربما لا يبلغ فى مداه مدى التغيير الذى أصاب اللغة الإنجليزية خلال القرون الثلاثة الأخيرة. ولا شك أن أقدم الآثار الأدبية فى اللغة الفارسية الإسلامية لا تكاد تتميز عن الآداب الفارسية المعاصرة إلا ببعض الخصائص اللغوية المتعلقة بالمفردات والأساليب. وإنى لعلى يقين من أنه لا يوجد بين المشتغلين بالفارسية، سواء منهم من كان وطنيا أو أجنبيا، من يستطيع أن يعين لنا تاريخا تقريبيا لكتاب من الكتب التى ألفت فى القرون الخمسة الأخيرة إذا لم يكن هذا الكتاب يحمل اسم مؤلفه أو يشتمل على إشارات تاريخية تعين على تحديد الفترة التى تم فيها تأليفه.
موضوع الجزء السابق:
ولست أستطيع فى هذا الكتاب أن أردد الحقائق التاريخية التى ذكرتها فى تفصيل عن تاريخ «البلاد الفارسية» فى عصرها السابق للاسلام وفى الفترة المبكرة من عهدها الإسلامى. فلقد ضمنت ذلك جميعه كتابى السابق الذى تحدثت فيه عن «تاريخ الأدب فى إيران منذ أقدم الأزمنة إلى عصر الفردوسى» فوصلت به إلى العصر الذى أخذت تضمحل فيه «الخلافة العباسية» فى بغداد بعدما بلغت ذورة المجد والعظمة على أيام «هارون الرشيد» وابنه «المأمون» (833786م 218170هـ)
__________
(1) المترجم: شاعر عاش فى القرن التاسع الميلادى (872820م) وقالوا إنه توفى سنة 872م (220هـ).
(2) المترجم: شاعر عاش فى أواخر القرن التاسع وبداية العاشر الميلادى وقالوا إنه توفى سنة 329هـ.(1/37)
وقد بدت بوادر هذا الانحلال بانفصال الولايات المختلفة عن الحكومة المركزية فى بغداد، حتى إذا أقبلت جموع المغول فى سنة 1258م (656هـ) وأغاروا على بغداد حطموا هذه الخلافة وقتلوا آخر خليفة من بنى العباس.
ويكفى الطالب العادى الذى يدرس «الآداب الفارسية» إذا شاء معرفة شىء عن أصولها القديمة أن يذكر أن اللغة التى سبقت «الفارسية» هى اللغة «البهلوية» وهذه اللغة الأخيرة هى اللغة الرسمية التى سادت فى «البلاد الفارسية» أيام «الساسانيين» (651226م) وهى التى استمرت لغة الدين بين الموابذة الزردشتيين طوال القرنين أو الثلاثة اللاحقة لذلك.
وقد قدر «الدكتور وست (1)» أن «الآداب البهلوية» الموجودة فى أيدينا تبلغ فى حجمها حجم التوراة وأنها فى الغالب تتعلق بموضوعات دينية أو فقهية، يضاف إليها بعض النقوش البهلوية المكتوبة على الصخور أو النقود أو المجوهرات التى يرجع تاريخها إلى منتصف القرن الثالث الميلادى.
وعلى الطالب أن يذكر أيضا أن «اللغة البهلوية» ما هى إلا تطور متأخر للغة «الفارسية القديمة» التى لا نعرف من أمرها إلا بقدر ما بقى مسجلا منها فى هذه النقوش المنحوتة فى الصخر فى «پرسيپوليس (2)» و «بهستون» ومواضع أخرى أمر بكتابتها دارا الأكبر ومن لحقه من ملوك الدولة الأكمينية.
كما أن عليه أن يذكر أخيرا أن اللغة التى تعرف باسم «لغة الأفستا» أو خطأ باسم الزند وهى اللغة التى كتبت فيها تعاليم «زردشت» هى لغة شقيقة للغة «الفارسية القديمة» وكذلك للغة «السنسكريتيه» وأنها بناء على ذلك لا تتصل بالفارسية الحديثة وإن كانت لا تزال تتمثل فى بعض اللهجات المحلية فى فارس وكذلك فى اللغة الأفغانية المعروفة باسم ال «پشتو» كما يزعم المستشرق «دار مستتر».
__________
(1) المقصود به: .. وهو من أكبر المستشرقين الذين تخصصوا فى اللغة البهلوية وآدابها.
(2) المترجم: مدينة تعرف فى الفارسية باسم «تخت جمشيد» وتقع إلى شمال مدينة شيراز الحالية بالقرب من موقع «اصطخر» القديمة.(1/38)
ولو أننا شئنا أن نبين الحقائق السابقة فى جدول منسق لصورناها على هذا النحو:
أولا: «اللغة الفارسية القديمة» التى استعملت أيام الدولة الأكمينية (550 330ق م) وتمثلها النقوش المنحوتة فى الصخر.
أما «لغة الأفستا» فهى اللغة التى كتب فيها كتاب «زردشت» المعروف بهذا الاسم، ومن أقدم أجزائه التراتيل المعروفة باسم «گاتها» وينسبون كتابتها إلى «زردشت» نفسه أو إلى بعض تلاميذه (حوالى 600ق. م فيما يقررون).
ثانيا: غزوة الإسكندر وفتحه لفارس فى سنة 333ق. م.
وتمتاز هذه الفترة بخلوها من الآثار الأدبية، وقد استمرت خمسة قرون ونصف القرن وانتهت بقيام «الدولة الساسانية».
ثالثا: الدولة الساسانيه 651226م
أصبحت اللغة البهلوية على أيامها اللغة الرسمية للدولة وللدين الزردشتى.
وهذه اللغة هى وليدة «اللغة الفارسية القديمة» وقد ولدت بدورها «اللغة الفارسية الحديثة».
رابعا: الفتح العربى 651641م.
وقد نتج عن هذا الفتح أن أسلم أكثر الفرس وحلت اللغة العربية محل الفارسية وأصبحت لغة الدولة والأدب.
خامسا: عصر النهضة الفارسية.
وهو العصر الذى يبدأ بالفترة التى نتحدث عنها فى هذا الكتاب.
وهذا العصر يبدأ فى حوالى سنة 850م (236هـ) ثم يأخذ فى الوضوح كلما استطاعت «فارس» التحرر من ربقة الخضوع لخلافة بغداد وتحقيق استقلالها السياسى.
* * *
الفتح العربى وتأثيره فى فارس:(1/39)
* * *
الفتح العربى وتأثيره فى فارس:
هذه هى الحدود التى تبديها لنا النظرة العاجلة إلى تاريخ الآداب الفارسية، ولكن الطالب المشتغل بهذه الآداب، مهما أقنع نفسه بهذه الخلاصة التى ذكرناها لأحوال الأدب الفارسى قبل الفتح العربى، لا يستطيع أن يمر سراعا على آثار هذه الحادثة الهامة ذات الأثر الخالد فى الأدب الفارسى. ومن أجل ذلك فسأسمح لنفسى بأن أعيد هنا قولا للمستشرق «نولدكه» ذكرته فى الكتاب السابق، وهو قول كبير المعنى مؤداة «إن الحركة الهلينية لم تمس من الحياة الفارسية إلا السطح والقشور، بينما استطاع الدين العربى والحياة العربية أن ينفذا إلى قرارة الحياة الإيرانية ولبابها»
اللغة العربية ومركزها الفريد:
واللغة العربية تمتاز بأنها لغة دين عظيم. ونحن نختلف عن المسلمين فى كوننا نعتبر الإنجيل إنجيلا سواء أقرأناه فى اللغات الأصلية التى كتب بها أم فى لغتنا الحالية.
أما المسلمون فيعتبرون «القرآن» كلمة الله وأنه تنزيل من رب العالمين. فإذا قرأنا مثلا {«قُلْ هُوَ اللََّهُ أَحَدٌ»} فإن الله وحده هو الذى يخاطبنا بهذا القول ولا يمكن أن يفسرها أحد بأن النبى هو الذى يحدثنا به ولذلك جرى المسلمون على أن يقولوا:
«قال الله تعالى» إذا شاؤا الاستشهاد بآية من آيات القرآن، بينما يقولون: «قال النبى عليه الصلاة والسلام» إذا استشهدوا بحديث من أحاديث النبى. وبناء على ذلك قالوا إن القرآن لا يمكن ترجمته ترجمة صحيحة إلى لغة أخرى، لأن المترجم مضطر إلى أن يورد فى ترجمته قدرا من التفسير يستعين به على إظهار معانيه وهذا القدر قد يفسد المعنى أو يمس الأصل. ولست أعلم إلا أن المستشرقين وحدهم هم الذين أقدموا على نشر ترجمات للقرآن لا يصحبها الأصل العربى، أما المسلمون فقد جروا على أن يكتبوا الترجمات «الفارسية» أو «التركية» أو «الأردية» بين سطور الأصل
العربى وإن يقصروا همهم على الترجمة الحرفية للألفاظ والمفردات (1).(1/40)
«قال الله تعالى» إذا شاؤا الاستشهاد بآية من آيات القرآن، بينما يقولون: «قال النبى عليه الصلاة والسلام» إذا استشهدوا بحديث من أحاديث النبى. وبناء على ذلك قالوا إن القرآن لا يمكن ترجمته ترجمة صحيحة إلى لغة أخرى، لأن المترجم مضطر إلى أن يورد فى ترجمته قدرا من التفسير يستعين به على إظهار معانيه وهذا القدر قد يفسد المعنى أو يمس الأصل. ولست أعلم إلا أن المستشرقين وحدهم هم الذين أقدموا على نشر ترجمات للقرآن لا يصحبها الأصل العربى، أما المسلمون فقد جروا على أن يكتبوا الترجمات «الفارسية» أو «التركية» أو «الأردية» بين سطور الأصل
العربى وإن يقصروا همهم على الترجمة الحرفية للألفاظ والمفردات (1).
بالإضافة إلى ذلك فإن المسلم سواء أكان «فارسيا» أم «تركيا» أم «هنديا» أم «أفغانيا» أم من أهل «الملايو» عليه أن يؤدى الصلوات خمس مرات يوميا بالعربية، وأن يتلفظ بالشهادة أو ما فى حكم ذلك من الصيغ الدينية باللغة العربية أيضا، ولذلك وجب عليه أن يلم إلماما ولو يسيرا بهذه اللغة، فإذا تعمق فيها فقد استحق بين أهله وأبناء قومه مكانة رفيعة ومنزلة عاليه.
يضاف إلى كل ذلك أننا نجد أن لغات الشعوب التى اعتنقت الإسلام قد غمرها منذ البداية سيل من الألفاظ العربية يتكون من العبارات الفنية المتعلقة بالدين والفقه، ثم من مصطلحات العلوم الوضعية التى نشأت فى ظلال الحضارة الإسلامية، ثم من مجموعة من الألفاظ العادية استطاعت أن تحل محل الكلمات الأصيلة فى لغات هذه الشعوب.
ولو أن أحدا أراد أن يكتب شيئا «بالفارسية» بحيث تكون كتابته خلوا من الألفاظ «العربية» لتعسر عليه الأمر كما يتعسر على الذى يريد أن يكتب شيئا بالإنجليزية بحيث تكون كتابته خالية من كل كلمة يرجع اشتقاقها إلى أصل «يونانى» أو «لاتينى» أو «فرنسى». ولربما استطاع بعض الناس أن يفعلوا ذلك على نطاق ضيق ولكن كتاباتهم تظل عسيرة الفهم إذا لم يستعن القارىء على فهمها بمعجم من المعاجم اللغوية.
وقد وصلنى وأنا أكتب هذا الفصل نموذج لمحاولة من هذه المحاولات تضمنتها مقالة تقع فى مائة سطر نشرتها جريدة «اختر (2)» فى 27أكتوبر سنة 1890 لجماعة من مجوس مدينة «يزد» وهى مقالة تتعلق بموضوع عادى، قليلة الأفكار والمعانى التى تحتاج إلى بيان أو توضيح، ومع ذلك فقد اضطر كاتبوها إلى أن يوضحوا
__________
(1) يحتاج هذا القول إلى شىء من التحقيق لأن زميلى وصديقى «الحاج ميرزا عبد الحسين خان» عند عودته إلى انجلترا استطاع أن يجلب معه مخطوطا نفيسا هو عبارة عن ترجمة فارسية للقرآن أمر بها «نادرشاه» وهذه الترجمة غير مصحوبة بالأصل العربى.
(2) مجلة فارسية كانت تصدر فى استانبول ثم توقف صدورها.(1/41)
فى الهوامش بمفردات غريبة، معانى ما لا يقل عن أربعة عشر لفظا من الألفاظ التى استعملوها. ولربما اضطر القارىء العادى إلى تفسير مجموعة أخرى من الكلمات الواردة بهذه المقالة حتى يستطيع أن يدعى أنه ألم بموضوعها ومعناها.
فكلمة «آويژهـ» مثلا يجب أن تفسر بكلمة «خاص».
و «درد» مثلا يجب أن تفسر بكلمة «صوره».
و «خهر» مثلا يجب أن تفسر بكلمة «وطن».
و «فرهيخت» مثلا يجب أن تفسر بكلمة «أدب».
إلى آخر هذه المجموعة من الكلمات التى لا يمكن تفسيرها إلا بكلمات عربية خالصه.
وقد حاول «الأمير جلال» مثل هذه المحاولة ولكنه باء بالفشل عندما كتب كتابه المسمى «خسروان نامه» أى «كتاب الملوك» وهو تاريخ مختصر للدول التى قامت فى فارس قبل الإسلام وقد نشر فى مدينة فينا فى سنة 1297هـ 1880م وعلق عليه المستشرق موردتمان فى الجزء الثامن والعشرين من مجلة «جماعة المستشرقين الألمان (1)».
والشاهنامة نفسها وقد ألفها «الفردوسى» منذ ألف سنة تقريبا وقصد متعمدا كما تدلنا على ذلك المقارنة بينها وبين الشعر المعاصر لها أن يصوغها فى أقدم العبارات والأساليب، لا يستطيع أحد أن يدعى أنها خالية من الألفاظ العربية كما يظن ذلك بعض الناس ممن لا قدرة لهم على التحقيق والتمحيص.
العلوم العربية:
قصرنا الحديث فيما سبق على التأثير اللغوى الذى أصاب «الفرس» على أيدى العرب، ولكن تأثير العرب فى الفرس لم يقتصر على هذه الناحية وحدها بل تعداها إلى نواح مختلفة أخرى فبدا على أشده فى الأمور الدينية والفقهية، كما امتد أيضا إلى
__________
(1)،. 506508.(1/42)
«النحو» و «البلاغة» و «الشعر» وكل العلوم التى اشتغل بها المسلمون. وهذه العلوم هى فى الغالب نتاج لأصول مشتركة أخذ يستعيرها العرب من أمم سبقتهم فى الحضارة كالفرس واليونان، خاصة فى الفترة المبكرة من العصر العباسى أى ما يقابل النصف الثانى من القرن الثامن الميلادى (أى الثانى الهجرى).
ولقد أحسنوا تقسيمها فى كتبهم كما هو مذكور فى كتاب «مفاتيح العلوم» فجعلوها على ضربين الأول منهما عبارة عن العلوم الأصيلة فى العربية وتشمل «الفقه» و «التفسير» و «النحو» و «الكتابة» و «الشعر» و «العروض» و «التاريخ» والثانى عبارة عن العلوم الغربية أو الأجنبية وتشمل «الفلسفة» و «المنطق» و «الطب» و «الحساب» و «الرياضة» و «النجوم» و «الموسيقى» و «الميكانيكا» و «الكيمياء». وجميع هذه العلوم تضمنتها «الحضارة العربية الفارسية» أثناء الخلافة العباسية فى بغداد وأصبحت تعرف خطأ باسم «العلوم العربية»، ويقصد بها فى الحقيقة مجموعة العلوم التى نشأت عن مصادر مختلفة متباينة ولكنها أصبحت «وحدة مركبة» معروفة لدى كافة المسلمين، بحيث لا تزال تؤثر فيهم تأثيرا عميقا يكاد يبلغ فى مداه تأثير الدين الإسلامى فى أنفسهم، مما ساعد على توحيد العواطف توحيدا شديد الوضوح بين كافة المسلمين فى أرجاء الأرض قاطبة.
صلاحية العربية للأغراض العلمية:
والعربية فى الحقيقة من أصلح اللغات لتأدية الأغراض العلمية فهى غنية بالأصول وبالمشتقات الناتجة عن هذه الأصول. والمشتقات فيها كثيرة، وهى تتفق مع الأصل فى اتصالها به من حيث المعنى وإن تحور معناها قليلا بحسب اشتقاقها أو صياغتها.
ولكى نبرهن على ذلك يحسن بنا أن نسوق المثلين الآتيين: فأما أولهما فمستمد من الاصطلاحات الطبيعية القديمة، وأما الثانى فقياس عليه ليمثل لنا فكرة حديثة.
للفعل العربى صيغ تبلغ الاثنتى عشرة صيغة، كل منها تمتاز بمعنى خاص متصل بمعنى الفعل الأصلى فإذا أخذنا صيغة «الاستفعال» من «غفر» أمكننا أن نشتق كلمة
«استغفار» بمعنى طلب الغفران، وكلمة «مستغفر» بمعنى طالب الغفران وكذلك يمكننا أن نشتق من كلمة «كمل» كلمتى «استكمال» و «مستكمل» وهكذا فى بقية الأفعال.(1/43)
للفعل العربى صيغ تبلغ الاثنتى عشرة صيغة، كل منها تمتاز بمعنى خاص متصل بمعنى الفعل الأصلى فإذا أخذنا صيغة «الاستفعال» من «غفر» أمكننا أن نشتق كلمة
«استغفار» بمعنى طلب الغفران، وكلمة «مستغفر» بمعنى طالب الغفران وكذلك يمكننا أن نشتق من كلمة «كمل» كلمتى «استكمال» و «مستكمل» وهكذا فى بقية الأفعال.
فلما ظن أطباء العرب أن مرض الاستسقاء ناتج من كثرة الشرب، أسموه بهذه التسمية التى اشتقوها من كلمة «سقى» وأسموا المريض به «مستسقى». فلما بدت الحاجة فى العصور الحديثة إلى مرادف لكلمة «أرينتاليست» لجأوا فى العربية إلى مادة «شرق» وصاغوا منها قياسا على ذلك كلمة «مستشرق» بمعنى «الرجل الذى يطلب الشرق» أو «يجد المتعة فى دراسته». وهذان المثلان فيهما الكفاية للتدليل على مقدار اليسر الذى يصادفه الكاتب العربى إذا شاء التعبير عن أفكار جديدة أو مستحدثة، فما عليه إلا أن يلجأ إلى أنواع الصيغ والمشتقات، وإن يختار منها ما يناسب التعبير عن فكرته، وسيكون فى كل الأحيان موفقا فى حسن الأداء ورعاية الدقة حتى ولو لم تكن الكلمة التى اختارها قد استعملها أحد من قبله.
اعتداد العرب بلغتهم:
والعرب أنفسهم، وكذلك كل الشعوب التى تتحدث بلغتهم، يعتزون باللغة العربية أشد الاعتزاز، وهم محقون تماما إذا رددوا فى فخر قولهم المشهور: «الحمد لله الذى خلق اللسان العربى أحسن من كل لسان» وسواء أصدقناهم فى هذا القول أم لم نصدقهم، فمما لامراء فيه أن معرفة العربية ضرورية لكل من يحاول أن يتفقه فى لغات البلاد الإسلامية أو آدابها كالفارسية والتركية والأردية أو أية لغة أخرى يتحدث بها المسلمون فى أنحاء الأرض ومن المحقق قطعا أنه كلما ازدادت معرفتنا بالعربية كلما ازداد مقدار تذوقنا لما نعرض له من آداب اللغات الإسلامية الأخرى.
عود إلى الجزء الأول من كتاب «تاريخ الأدب فى إيران»:
فى الكتاب السابق الذى جعلته بعنوان «تاريخ الأدب فى إيران منذ أقدم الأزمنة إلى عصر الفردوسى» كتبت مقدمة عن تاريخ الأدب الفارسى تحدثت فيها عن اللغات الثلاث القديمة فى البلاد الفارسية وهى: «الفارسية القديمة» و «لغة الأفستا»
و «الپهلوية» وكذلك عن بعض اللهجات الحالية المتصلة بها. ولقد شرحت المذاهب الدينية التى انتشرت فى إيران كالزردشتية والمانويه والمزدكية ثم تحدثت عن تاريخ دولة آل ساسان العظيمة، فلما انتقلت بعد ذلك إلى «العرب» الذين فتحوا البلاد الفارسية فى القرن السابع الميلادى وأثروا فيها كل هذا التأثير البالغ الذى شمل الدين واللغة والأدب والحياة والفكر، تحدثت عنهم حديثا مختصرا تناولهم فى أيام جاهليتهم قبل ظهور الدعوة الإسلامية ثم ذكرت شيئا عن «معلقاتهم» وأشعارهم التى ينسبونها إلى القرن الخامس الميلادى والتى ما زالت المثال الأوحد الذى يحتذيه الشعراء والناظمون حتى اليوم ثم انتقلت بعد ذلك إلى الحديث عن الدعوة النبوية ثم عن الإسلام ثم عن فوز المسلمين فى حروبهم وغزواتهم ثم عن الخلفاء الراشدين الأربعة ثم عن نشأة الشيعة والخوارج، وتحدثت بعد ذلك عن حكم «الأمويين» وعن الحركات الثورية التى قامت بها الشعوب الخاضعة للدولة الإسلامية وخاصة الفرس وهى الحركات التى تمثلت فى منتصف القرن الثامن الميلادى (الثانى الهجرى) فى الثورة الكبرى التى قام بها الخراسانيون بقيادة «أبى مسلم الخراسانى» وانتهت بموقعة «الزاب» وتحطيم الدولة الأموية وقيام الخلافة العباسية التى استمرت قائمة ما يقرب من خمسة قرون حتى أصابتها الطامة الكبرى على أيدى المغول الذين حطموها فى منتصف القرن الثالث عشر الميلادى (1) (السابع الهجرى).(1/44)
فى الكتاب السابق الذى جعلته بعنوان «تاريخ الأدب فى إيران منذ أقدم الأزمنة إلى عصر الفردوسى» كتبت مقدمة عن تاريخ الأدب الفارسى تحدثت فيها عن اللغات الثلاث القديمة فى البلاد الفارسية وهى: «الفارسية القديمة» و «لغة الأفستا»
و «الپهلوية» وكذلك عن بعض اللهجات الحالية المتصلة بها. ولقد شرحت المذاهب الدينية التى انتشرت فى إيران كالزردشتية والمانويه والمزدكية ثم تحدثت عن تاريخ دولة آل ساسان العظيمة، فلما انتقلت بعد ذلك إلى «العرب» الذين فتحوا البلاد الفارسية فى القرن السابع الميلادى وأثروا فيها كل هذا التأثير البالغ الذى شمل الدين واللغة والأدب والحياة والفكر، تحدثت عنهم حديثا مختصرا تناولهم فى أيام جاهليتهم قبل ظهور الدعوة الإسلامية ثم ذكرت شيئا عن «معلقاتهم» وأشعارهم التى ينسبونها إلى القرن الخامس الميلادى والتى ما زالت المثال الأوحد الذى يحتذيه الشعراء والناظمون حتى اليوم ثم انتقلت بعد ذلك إلى الحديث عن الدعوة النبوية ثم عن الإسلام ثم عن فوز المسلمين فى حروبهم وغزواتهم ثم عن الخلفاء الراشدين الأربعة ثم عن نشأة الشيعة والخوارج، وتحدثت بعد ذلك عن حكم «الأمويين» وعن الحركات الثورية التى قامت بها الشعوب الخاضعة للدولة الإسلامية وخاصة الفرس وهى الحركات التى تمثلت فى منتصف القرن الثامن الميلادى (الثانى الهجرى) فى الثورة الكبرى التى قام بها الخراسانيون بقيادة «أبى مسلم الخراسانى» وانتهت بموقعة «الزاب» وتحطيم الدولة الأموية وقيام الخلافة العباسية التى استمرت قائمة ما يقرب من خمسة قرون حتى أصابتها الطامة الكبرى على أيدى المغول الذين حطموها فى منتصف القرن الثالث عشر الميلادى (1) (السابع الهجرى).
العصر الذى نتحدث عنه فى هذا الكتاب:
أما العصر الذى نتحدث عنه فى هذا الكتاب فيبدأ بعد فترة طويلة من انقضاء العصر الذهبى الذى عاش فيه «هارون الرشيد». وقد استطاع الخلفاء العباسيون الأوائل أن يفسحوا رقعة الإمبراطورية التى أنشأها خلفاء النبى الذين سبقوهم، ولم يكن ينقصهم إلا الاستيلاء على «أسپانيا» لتنضم إلى ملكهم الفسيح الذى امتد من «مراكش» إلى «السند» ومن «عدن» إلى «خوارزم» (أوخبوه) وكان
__________
(1) بقى أثر من هذه الخلافة ممثلا فى «الخلفاء العباسيين فى مصر» حتى دخل السلطان سليم مصر فى سنة 1517م 923هـ وأعلن نفسه خليفة على المسلمين بعد حصوله من الخليفة العباسى الأخير على ألقاب الخلافة وشعائرها.(1/45)
يشمل شمال أفريقيا ومصر وسوريا وبلاد العرب والعراق وأرمينيا والبلاد الفارسية وبلاد الأفغان وبلوچستان وجزءا كبيرا من تركستان وجزءا صغيرا من بلاد الهند وجزيرتى كريت وقبرص.
ويمكن أن يقال أن أول خطوة اتخذت لإضعاف هذه الإمبراطورية الكبيرة وزلزلة أركانها هى الخطوة التى خطاها المأمون بن هارون الرشيد فى سنة 830م 205هـ عندما كافأ قائده طاهر بن الحسين المعروف ب «ذى اليمينين» بولاية خراسان وجعل حكومتها له ولأولاده من بعده فاستمروا يتوارثونها حتى كانت سنة 872م 259هـ حينما نجح «الصفاريون» فى التغلب عليهم وتأسيس دولتهم «الصفارية». وتعتبر الدولة «الطاهرية» أولى الدول الفارسية التى قامت بعد الإسلام. ومن الثابت أنهم أنفسهم لم يحاولوا الاستقلال التام عن خلافة بغداد ولم يفصموا كل علاقة بينهم وبين الخلافة، ولكنهم مع ذلك يمتازون عن سائر الحكام والولاة بأن ولاية خراسان بقيت لهم يتوارثونها فيما بينهم، بينما كان الوالى العادى حتى ذلك الوقت معرضا للنقل من ولايه إلى أخرى وفقا لما تراه الحكومة المركزية فى بغداد.
ولقد تدرج الأمر بعد ذلك فتطورت هذه «الولاية المتوارثة» إلى «إمارة» مستقلة تمام الاستقلال (1) ولكن هذا التدرج كان بطيئا غير متصل الحلقات فالدولة «الصفارية» مثلا كانت فى أيامها الأولى أقل خضوعا وأكثر استقلالا من الدولة «السامانية» التى أعقبتها. وكذلك كان الحال مع أكبر حكام الدولتين «الغزنوية» و «السلجوقية» فإنهم كانوا يعتبرون أنفسهم مندوبين عن الخليفة وينظرون إليه نظرة السيد المتسلط الذى تستمد منه الألقاب ومراتب التشريف.
ولقد حدثت مع ذلك بعض الأحداث التى أدت إلى ثورات مكشفة على الخلافة وخروج ظاهر عليها، فسار «يعقوب بن ليث الصفار» وهجم على بغداد واشتبك مع قوات الخليفة المعتمد (2) فى سنة 262هـ 876875م، كما حاول «ملكشاه
__________
(1) أول من تلقب بلقب «سلطان» هو محمود الغزنوى.
(2) تفصيل ذلك موجود فى كتاب «سياست نامه» تأليف «نظام الملك» أنظر طبعة «شيفر» ص 1411.(1/46)
السلجوقى» فى سنة 1080م 473هـ إن يضطر الخليفة «المقتدى» إلى أن ينقل عاصمته من بغداد إلى دمشق أو الحجاز (1)، بل أظهر من ذلك كله، هذا العراك الذى نشأ بين «سنجر» و «المسترشد» فى سنة 1133م 528هـ وانتهى أمره بحبس الخليفة وقتله فى محبسه فى سنة 1135م 530هـ على أيدى «الإسماعيلية» بتحريض من «سنجر» نفسه فيما يقولون وكما يخبرنا «البندارى» فى كتابه عن السلاجقه (2).
ومع ذلك فقد بقى أمراء المسلمين من أهل السنة فيما عدا أمراء أسپانيا يعترفون بالسلطة الإسمية لخليفة بغداد وقد استمروا على ذلك منذ تأسيس «الخلافة العباسية» حوالى سنة 750م 132هـ إلى تحطيمها فى سنة 1258م 656هـ وقد استتبع ذلك أن ظلت «بغداد» طوال هذه القرون الخمسة تعتبر صمة العالم الإسلامى ومركز حضارته وثقافته، كما ظلت اللغة العربية تعتبر لغة السياسة والفلسفة والعلم والأدب والحديث المهذب.
العباسيون وخصومهم من أهل الشيعة:
كان «الفاطميون» فى مصر هم أكبر خصوم العباسيين من الناحية الدينية والسياسية، وكانوا يمثلون فريقا واحدا من الفريقين العظيمين اللذين انقسم إليهما المتشيعون لعلى، فأما الفريق الأول فهم «السبعية» أو «الإسماعيلية» الذين إليهم تنسب الفاطميون وقد ذكرنا نشأتهم وتاريخهم فى الجزء الأول من هذا الكتاب حينما يحدثنا عنهم وعن المنضمين إليهم من «القرامطة». وأما الفريق العظيم الآخر من فرق الشيعة فهم «الاثنا عشريه» وكان الفرس دائما يميلون إلى مذهبهم حتى يحذوه مذهبا رسميا لهم عند قام «الدولة الصفوية» على يد «الشاه إسماعيل» فى
__________
(1) أنظر تاريخ السلاجقة للبندارى طبعة «هوتسما ص 70.
(2) المرجع السابق ص 187.(1/47)
سنة 1502م 908هـ (1) وقد ظلت الغلبة السياسية فى «البلاد الفارسية» حتى الفتح المغولى فى القرن الثالث عشر الميلادى فى أيدى «الإسماعيلية» الذين كانوا يتحصنون بقلعة «الموت» والذين كانوا يعرفون أيضا باسم «الحشاشين».
الفتح المغولى فى القرن الثالث عشر الميلادى (السابع الهجرى):
أظهر حادث أصاب العصر الإسلامى فى آسيا هو «الفتح المغولى» فقد أصاب الحضارة الإسلامية بلطمة قاصمة لم تستطع أن تفيق من شدتها حتى الآن. فهم بتحطيمهم للخلافة العباسية فى بغداد قد قضوا نهائيا على وحدة العالم الإسلامى. وقد بدأ الفتح المغولى بغارة «چنگيز خان» فى بداية القرن الثالث عشر الميلادى وانتهى بالغارة على بغداد وقتل الخليفة العباسى «المستعصم» على يد «هولاكو خان» فى سنة 1258م 656هـ. وكان الخراب الذى أصاب «إيران» شديدا فقد كانت جموع المغول كالذئاب المتعطشة إلى الدماء، فأخذوا يقتلون كل من يصادفهم ويحرقون ويدمرون كل ما يعترض سبيلهم دون أن تأخذهم فى قسوتهم رحمة أو شفقة، حتى أثر عنهم هذا القول المشهور بأنهم «جاءوا وخربوا وحرقوا وقتلوا وسلبوا وذهبوا (2)» وقد نطق بهذا القول واحد من القليلين الذين نجوا بحياتهم عند ما أغاروا على «بخارى» وقتلوا من أهلها ثلاثين ألفا. ولم تكن «بخارى» وحدها هى المدينة التى أصابها هذا البلاء المستطير بل ما أكثر المدن التى أصابها ما هو شر من ذلك وأنكى. وغارة «تيمور» رغم ما امتازت به من شدة وقسوة لم تبلغ فى حدتها المبلغ الذى وصلت إليه غارة هؤلاء المغول، ولعل السبب فى ذلك أن «تيمور» كان مسلما يحس فى قرارة قلبه بشىء من التقديس للمساجد وأماكن العبادة وبشىء من التقدير للمكتبات ورجال العلم، بينما كان «چنگيز خان» و «هولاكو خان» لا يدينان بدين من الأديان ويتعطشان إلى سفك الدماء وإهدارها بحيث إذا اعترض سبيلهما معترض أو قتل واحد من قوادهما فى المعركة
__________
(1) انتشر هذا المذهب من قبل فى طبرستان وكذلك اعتنقه حكام البويهيين.
(2) أصل العبارة بالفارسية كما هى مذكورة فى كتاب «تاريخ جهان گشا» هى:
«آمدند وكندند وسوختند وكشتند وبردند ورفتند».(1/48)
فالطامة كبرى، والبلاء شامل، والفتك الذريع نصيب للصغير والكبير والقوى والحقير والعالم والجاهل. ولقد كان من دأبهما أن يعلفا الخيول فى المساجد وأن يحرقا المكتبات، وأن يجعلا الكتب الثمينة طعاما للنيران والمواقد، وأن يخربا المدن العامرة حتى تستوى أعاليها بأسافلها، وأن يقتلا كل كائن فيها حتى تصبح خرابا يبابا لا تصلح لزرع أو ضرع.
ومن رأيى أن هناك فجوة تفصل بين ما سبق هذه الكارثة وما تلاها، فقد أنزلت بالحضارة الإسلامية والعلوم والآداب كثيرا من الانحطاط الذى لم يمكن إصلاحه حتى الآن. ومن أجل ذلك فلا غرابة إذا احتجنا فى دراسة فترة القرنين والنصف القرن التى سبقت هذه الكارثة إلى مثل الجهد والنطاق اللذين نحتاج إليهما فى دراسة القرون السبعة التى أعقبتها (1).
النهضة الفارسية:
بحثنا فى الجزء الأول كيف نشأت «النهضة الفارسية» وكيف تطورت حتى انتهت إلى ظهور «الفردوسى» وأقرانه من الشعراء المعاصرين، ولا بأس من أن نعيد هنا فى إجمال ما سبق لنا شرحه فى تطويل وتفصيل.
المعروف وفقا لما ذكره «عوفى» وهو أقدم من ترجم لشعراء الفرس فى القرن الثالث عشر الميلادى (أوائل القرن السابع الهجرى) أن أول من أنشأ قصيدة فارسية هو شخص يسمى «العباس»، أنشأها ليستقبل بها المأمون عند قدومه إلى «مرو» فى سنة 193هـ 809808م وقد أخذ الدكتور «ايتيه» هذه النبذة المستقاة من «لباب الألباب» وفيها أربعة أبيات من هذه القصيدة فترجمها ونشرها فى مقال ممتع عنوانه: «السابقون واللاحقون للرودكى (2)».
ولكنى أختلف معه فى الرأى فيما يتعلق بهذه القصيدة وأتابع رأى «كازمرسكى (3)»
__________
(1) المترجم: فى الأصل القرون الستة ونصف القرن وقد أضفت إليها نصف قرن مضى منذ كتابة هذا الكتاب.
(2) عنوانه بالألمانية: 3638
(3) المقصود به:.(1/49)
الذى يرى أن هذه القصيدة زائفة منتحلة (1).
ولعل من أقدم الأشعار الفارسية التى وصلت إلينا هى هذه الأبيات التى حدثنا بها «نظامى عروضى سمرقندى» فى كتابه «چهار مقاله» (أو المقالات الأربع) (2)
فقال إنها أوحت إلى «أحمد الخجستانى» أن يثور فى وجه الدولة الصفارية فى سنة 262هـ 876875م عندما قرأ البيتين الآتيين:
مهترى گر بكام شير در است
شو خطر كن ز كام شير بجوى
يا بزرگى وعز ونعمت وجاه
يا چومردانت مرگ روياروى
ومعناهما:
إذا كانت العظمة فى أشداق أسد كاسر
فالتمسها من أشداقه وتقدم إليه وخاطر
فإما وصلت إلى العظمة والعز والنعمة والجاه
وأما لاقيت حتفك فى رجولة وعدمت الحياه
وقد ذكر «نظامى العروضى السمرقندى» هذين البيتين عندما أراد أن يبرهن لنا على أن الشعر عبارة عن «صناعة يتمكن الشاعر بواسطتها من أن يسوق المقدمات الخيالية والوهمية وأن يجعلها تتفق وتلتئم مع القياسات المنتجة العملية، بحيث يجعل من المعنى الصغير معنى كبيرا، ومن الكبير معنى صغيرا، وبحيث يلبس الجميل صورة القبيح أو القبيح صوره الجميل، فإذا أثار قوى النخوة أو الشهوة فى سامعيه استطاع أن يوحى إليهم بالسرور أو الانقباض وأن يحدث كثيرا من عظائم الأمور فى هذا العالم».
__________
(1) أنظر ديوان منوچهرى ص 98وأظن أن المستشرق الإيطالى پتزى يرى نفس هذا الرأى وأنظر أيضا مقالا ممتعا بقلم الأستاذ «مارجليوث» نشره فى مجلة الجمعية الملكية الأسيوية فى أكتوبر سنة 1903ص 747بعنوان «مستند فارسى يهودى من ختن».
(2) طبع هذا الكتاب فى سلسلة أوقاف جب التذكارية وقد نشر الأستاذ براون ترجمة إنجليزية له فى عدد أكتوبر سنة 1899من مجلة الجمعية الملكية الأسيوية.(1/50)
ثبات اللغة الفارسية:
بدأ الشعراء ينظمون الشعر بالفارسية منذ أكثر من ألف سنة من الزمان (1). وقد شملهم بالرعاية حكام الدويلات المستقلة أو الشبيهة بالمستقلة التى نشأت مع اضمحلال الخلافة وانحلالها، ولم تتغير اللغة الفارسية خلال هذه المدة الطويلة إلا قليلا، وربما لا يلاحظ هذا التغيير إلا فى أمثلة قليلة لبعض الكلمات المهجورة أو الإملاء القديم. وقد ترتب على ذلك أننا نستطيع أن نفهم أقدم الأشعار الفارسية الباقية فى أيدينا دون أن نحس بشىء من العسر أو الغرابة أو البعد عن الأساليب الفارسية المستعملة فى الوقت الحاضر.
ومع ذلك فهناك فى رأيى شىء من الاختلاف يمكن إحساسه فيما يتعلق بالذوق الأدبى وبالشعور الذى توحى به هذه الأشعار القديمة. فالأشعار التى نشأت فى عهد الدولتين «الصفارية» و «السامانية» هى فى الحقيقة أشعار بسيطة خالية من الصناعة البديعية وهى أقرب إلى الطبع وأدنى إلى سلامة الأداء وتصوير الموضوع.
تطور الذوق الأدبى وقواعد النقد:
ولا يمكن أن يكون هناك ما هو أدل على تطور الذوق الأدبى فى مدى ثلاثة قرون ونصف القرن من أن نقارن نقدين لقصيدة واحدة شهيرة أنشأها الشاعر المعروف «رودكى» الذى تتفق الآراء على اعتباره أكبر شعراء الفرس فى الفترة السابقة لقيام الدولة «الغزنوية». فأما أحد هذين النقدين فهو الذى تضمنه كتاب «چهار مقاله» لمؤلفه «نظامى العروضى السمرقندى» (حوالى سنة 1155م 550هـ) وأما ثانيهما فهو المذكور فى كتاب «تذكرة الشعراء» لمؤلفه دولتشاه (حوالى سنة 1487م 892هـ).
والقصيدة التى كانت موضوعا للنقد فى هاتين المرتين هى التى مطلعها:
__________
(1) أثرت فى الجزء الأول مسألة الشعر وهل كان له وجود فى عهد الدولة الساسانية،
وقلت إننا بفرض القول بوجوده فقد ضاع جملة ولم يبق شىء من أمثلة فى أيدينا، وكل ما بقى من الأشعار الفارسية هى هذه الأشعار التى قيلت فى العصر الإسلامى.(1/51)
بوى جوى موليان آيد همى ... بوى يار مهربان آيد همى (1)
ومعناها بالعربية:
روائح «موليان (2)» تهب دوما ... بذكر أحبتى ومنى زمانى
ولمسى رمله العاتى خير ... لدىّ من الحرير الخسروانى
يفيض النهر كى يلقاك بشرا ... ويضحك ماؤه والشاطئان
فعيشى يا «بخارى» فى نعيم ... أميرك مقبل واليمن دانى
فأنت سماؤه يأتيك «نصر (3)» ... كبدر التم يبسم للأمانى
وأنت رياضه يأتيك «نصر» ... شبيه السرو فى أبهى مكان (4)
وقد تحدث الناقد الأول عن الأثر الشديد الذى أحدثته هذه الأبيات فى نفس الأمير «نصر بن أحمد السامانى» فقال إنها أثرت فيه تأثيرا شديدا بحيث أجزل لقائلها العطاء واختصه بكثير من النعم، وبدا ذلك شيئا طبيعيا فى نظر الناقد «لأن الرودكى رجل قد برز على من عداه فى قول الشعر ولا يستطيع أحد أن يدانيه فى الجزالة والعذوبة ويكفى دليلا على ذلك البيت الآتى:
آفرين ومدح سود آيد همى ... گر بگنج اندر زيان آيد همى
ومعناه:
مديح الناس مكسبة وفخر ... وأما المال آخره الضياع (4)
__________
(1) المترجم فيما يلى بقية هذه الأبيات وفقا لما ورد فى «چهار مقاله» ص 38طبع برلين سنة 1927:
ريگ آموى ودرشتى راه او ... زير پايم پرنيان آيد همى
آب جيحون از نشاط روى دوست ... خنگ مارا تاميان آيد همى
أى بخارا شاد باش ودير زى ... مير زى تو شادمان آيد همى
مير ماهست وبخارا آسمان ... ماه سوى آسمان آيد همى
مير سرو است وبخارا بوستان ... سرو سوى بوستان آيد همى
(2) «موليان» نهر بالقرب من بخارى أو هو نهر جيحون.
(3) المترجم: هو الأمير نصر بن أحمد السامانى.
(4) المترجم: هذه الأبيات من نظمى.(1/52)
وقد استشهد الناقد بهذا البيت فقال «إنه يتضمن فى أصله الفارسى سبع صناعات بديعية» هى الآتية:
1 - المطابقة 2التضاد 3الترديف 4بيان المساواه 5العذوبة 6الفصاحة 7الجزالة
واختتم الناقد نقده بهذه العبارة: «ويستطيع كل أستاذ له تبحر فى علوم الشعر أن يفكر قليلا ليرى أننى مصيب فيما قلت» (1) وأنا شخصيا إذا أتيح لى أن أبدى رأيى فى هذا الأمر أجد نفسى ميالا إلى تصديقه وموافقته. فالمطابقة ظاهرة وواضحة لأن الشاعر يريد من الأمير شيئا من العطاء وأشارته إلى ذلك هينة ولكنها واضحة وأما التضاد فقد عبر عنه الشاعر وأجاد عند ما ذكر «ضياع المال» و «كسب الفخر» وأما الرديف فظاهر فى جزئى البيت وإن كان الأمر لا يقتضيه عادة إلا فى الشطرة الأخيرة منه وأما «المساواة» فظاهرة أيضا مما يناله الأمير لقاء سخائه وأما «العذوبة» و «الفصاحة» و «الجزالة» فكلها ظاهرة وواضحة من قراءة البيت الفارسى.
دولتشاه وفساد ذوقه الأدبى:
فإذا جئنا إلى «دولتشاه» وقرأنا نقده الذى كتبه عن هذه الأبيات بعينها حوالى سنة 1487م 892هـ وجدناه يقول ما يأتى (2):
«هذه القصيدة طويلة جدا بحيث لا يمكن إيرادها برمتها فى هذا الكتاب. وهم يقولون إنها أطربت الأمير ووقعت موقعا حسنا فى نفسه بحيث أن الأمير امتطى جواده قاصدا الذهاب إلى «بخارى» دون أن يتنبه إلى وضع حذائه فى قدميه. وإن العقلاء لا شك ليدهشون إلى هذه الحالة التى انتابت الأمير، لأن هذه الأبيات بسيطة
__________
(1) أنظر ص 39من «چهار مقاله».
(2) أنظر ص 32من «تذكرة الشعراء» طبع ليدن سنة 1900م.(1/53)
للغاية ليس فيها شىء من المتانة أو الصناعة ولو أن أحدا من الشعراء فى هذه الأيام أقدم على عرض أشعار شبيهة بهذه الأبيات فى مجلس الأمراء والسلاطين لاستوجب إنكار الجميع له ولأقواله. ولكن من الجائز أن نقول أن الأستاذ «الرودكى» كان خبير بالأوتار والموسيقى فاستطاع أن ينشىء لحنا عرض فيه هذه الأبيات على وقع الأغانى والأنغام فحلت محل القبول والإعجاب. ومع ذلك فلا يجوز لنا أن نستخف بشأن الرودكى بسبب هذه الأبيات، فمما لا جدال فيه أنه كان خبيرا بسائر العلوم والفنون والفضائل كما كان يجيد القول فى سائر ضروب الشعر وخاصة «القصائد» و «المثنويات» مما جعله عظيم الشأن مقبول القول لدى الخاص والعام.
الأسلوب الفارسى والصناعة البديعية:
يتصور كثير من الناس أن «الآداب الفارسية» تمتاز بأنها مصطنعة متكلفة تمتلىء بالصناعات البديعية وتزخر بالمجازات والاستعارات ولكن هذا الرأى ليس صحيحا إلا فيما يتعلق بمجموعة من الآداب نشأت فى ظروف خاصة وبيئات خاصة كالتى نشأت فى كنف الفاتحين الأجانب من «المغول» أو «الأتراك». فتاريخ المغول الذى ألفه (1) «الوصاف» حوالى سنة 1328م 729هـ هو من أكبر الأمثلة على هذا الأسلوب المصطنع الملىء بالمحسنات البديعية. وكذلك نجد أن «روضة الصفا (2)» و «أنوار سهيلى» (3) وكذلك طائفة من التأليفات المعاصرة التى نشأت فى رعاية الأمراء التيموريين فى نهاية القرن الخامس عشر وبداية السادس عشر (القرن العاشر الهجرى) كلها تقوم دليلا على صدق هذا الرأى الذى ذهبنا
__________
(1) هذا التاريخ عنوانه «تجزية الأمصار وتزجية الأعصار» ويعرف اختصارا باسم «تاريخ الوصاف» ومؤلفه هو أبو عبد الله بن فضل الله الشيرازى.
(2) من تأليف محمد بن خاوند شاه المعروف ب «مير خواند» المتوفى سنة 903هـ 1497م.
(3) عبارة عن كتاب «كليلة ودمنه» بلغة فارسية كثيرة المحسنات البديعية، وهو من إنشاء «حسين واعظ كاشفى» المتوفى سنة 910هـ 1504م.(1/54)
إليه (1). ومع ذلك فلم يصل هذا الأسلوب المصطنع الكرية إلى نهاية مداه إلا فى عصر الأتراك العثمانيين كما تشهد بذلك كتابات «ويسى» و «نرگسى». ولعله من الخير أن نذكر أن ناقدا تركيا حديثا تناول بالنقد ما كتبه هذان الشاعران فقال:
«إن الفارسى إذا قرأ أشعارهما يستطيع أن يتبين أنهما لم يكونا يحاولان الكتابة بالفارسية، وكذلك إذا فعل التركى فإنه يعجز أن يتخيل أنهما كانا يكتبان بالتركية أيضا!!»
خصائص الأشعار الفارسية المبكرة من حيث الصيانة والاسلوب:
فى الجزء السابق من «تاريخ الأدب فى إيران» الذى نشرته فى سنة 1902 أوردت أمثلة شعرية من أقوال سبعة عشر شاعرا عاشوا فى العصر السابق للدولة الغزنوية. وهذا القدر كاف فى نظرى لتكوين فكرة عن خصائص هذه الأشعار المبكرة. ولكن من الأسف أننا إذا استثنينا الألف بيت من الشعر التى أنشأها «الدقيقى» وأبقاها «الفردوسى» فى شاهنامته فإننا لا نجد مثلا آخر للمثنويات أو القصائد المطولة التى يمكن نسبتها إلى العصر السامانى أى العصر السابق لهذا العصر.
وليس من شك فى أنهم أنشأوا فى ذلك الوقت بعض القصائد القصصية المطولة كالترجمة المنظومة التى قام بها «الرودكى» لكتاب «كليلة ودمنه» وهى الترجمة التى بقى منها ستة عشر بيتا من الشعر محفوظة فى كتاب «أسدى» المعروف ب «لغت فرس» وهو المعجم الفارسى الذى جمعه «أسدى» حوالى سنة 1060م 452هـ ونشره «پول هورن» فى طبعة أنيقة جميلة.
أما ما بقى فى أيدينا من أمثلة هذه الأشعار المبكرة فلا يعدو بعض «المقطعات» و «الرباعيات» و «الغزليات» بالإضافة إلى «المثنويات» و «القصائد» التى لا شك فى أنها قيلت فى ذلك الوقت والتى بلغت ذروة رفعتها فى أيام الفردوسى حوالى سنة 1000م 391هـ وهى السنة التى نبدأ بها العصر الذى نحن فيه.
و «القصيدة» و «القطعة» هما ضربان من ضروب النظم استعارهما
__________
(1) انتقلت هذه الآداب إلى الهند عند تأسيس «بابر» للدولة المغولية فى الهند.(1/55)
الفرس من العرب، وقد وضعوهما على نسق المعلقات الجاهلية من حيث الصياغة والأسلوب وإن كان قد أصابهما شىء من التعديل على أيدى الفرس كما فعلوا أيضا ب «بالغزل».
أما «الرباعى» و «المثنوى (1)» فهما ضربان من النظم ابتكرهما الفرس ابتكارا. وفى رواية معروفة عن أول ما قيل من الشعر الفارسى أن «الرباعى» أو ال «دوبيت» هو أول ضروب النظم التى نشأت فى إيران (2).
وأما «الشعر الصوفى» الذى نصادفه بكثرة من القرن الثانى عشر الميلادى (السادس الهجرى) فأمثلته قليلة نادرة فى فاتحة هذا العصر الذى ندرسه.
فنون الشعر والبديع لدى الفرس:
لعله من الخير لكى نتفادى كثرة التفريعات والتفسيرات فى الفصول التالية أن نستعرض أنواع الأساليب الأدبية التى يتبعها الفرس، وأن ننظر إلى فنونهم البلاغيه التى يستعملونها فى أقوالهم، وإلى أوزانهم الشعرية التى يصوغون فيها أشعارهم.
وقد أغنانى عن الإفاضة فى مثل هذه الموضوعات ما كتبه صديقى المرحوم «إ. ژ. و. جب» فى أبحاث قيمة ألحقها بمقدمة كتابه الخالد «تاريخ الأشعار العثمانية (3)» فقد تحدث فى الجزء الأول من هذا الكتاب عن الفكر الشرقى وعالج فنون الشعر والبلاغة والأدب التى يطبقها «الأتراك» و «الفرس» وكذلك «العرب» وسائر الشعوب التى تتحدث بلغة من اللغات الإسلامية الأخرى. وهذه
__________
(1) المترجم: المثنوى عبارة عن النظم المؤلف من أزواج من الأشطر كل اتين منها متفقان فى الروى مستقلان عما عداهما.
(2) أنظر ص 3130من تذكرة الشعراء، وكذلك ص 8988من «المعجم فى معايير أشعار العجم»
(3) إسمه بالإنجليزية.(1/56)
المقدمات التى ساقها «جب» تعتبر من أهم الموضوعات التى يجب أن يبدأ بدراستها كل من يريد أن يشتغل بالآداب الإسلامية. فقد تحدث فى الفصل الثانى من الكتاب الأول عن الفقه والفلسفة والتصوف. كما تحدث فى الفصل الثالث عن ضروب الشعر والعروض والبلاغة.
كذلك يحسن الرجوع فى هذه الموضوعات إلى مصادر أخرى أهمها:
1 - كتاب «أبحاث فى البلاغة والعروض والقافية لدى الفرس» تأليف «جلادوين (1)».
2 - كتاب «النحو والشعر والبلاغة عند الفرس» تأليف «روكرت (2)»
3 - كتاب «العروض الفارسى» تأليف «بلوخمان (3)».
4 - كما يحسن الرجوع إلى الكتاب الآتى فيما يتعلق بالمقارنات بين شعراء الغزل:
وهو ترجمة «أويار (4)» لكتاب «أنيس العشاق» من تأليف «شرف الدين رامى (5)».
أما الكتب الفارسية التى تناولت هذه الموضوعات فكثيرة ومن أهمها:
1 - كتاب «ترجمان البلاغة» من وضع «فرخى» وهو من الشعراء المعاصرين للفردوسى. وقد ذكر دولتشاه اسم كتابه فى ص 9و 57 من تذكرة الشعراء كما ذكره أيضا حاجى خليفة (طبعة فلوجل. ج 2 ص 227).
__________
(1)،. 1801،:
(2) اسمه بالألمانية، من تأليف وقد نشره فى مجلدين سنة 18281827ضمن ال وأعاد طبعه فى سنة 1874م.
(3) إسمه الأصلى بالإنجليزية::
(4).
(5) المترجم: هو من رجال القرن الثامن الهجرى وذكروا له تأليفا آخر اسمه «حقائق الحدائق».(1/57)
2 - و 3كتاب «غاية العروضين» وكتاب «كنز القافية» وكلاهما من وضع «بهرامى السرخسى» وكان معاصرا للفردوسى أيضا. وقد امتدح كتابيه كثيرا صاحب كتاب «چهار مقاله».
وجميع هذه الكتب الثلاثة مفقودة وليس فى أيدينا نسخة منها (1). وأما الكتب الفارسية الباقية فى أيدينا حتى الآن فأهمهما وأقدمها كتابان هما:
4 «حدائق السحر فى دقائق الشّعر» من تأليف «رشيد الدين الوطواط (2)» المتوفى سنة 1182م 578هـ.
5 «المعجم فى معايير أشعار العجم» من تأليف «شمس قيس الرازى».
وضعه أثناء القرن الثالث عشر الميلادى (بعد سنة 614هـ 1217 1218م).
علم البديع:
وفيما يلى سأتحدث عن «علم البديع» مراعيا أن أختار أكثر شواهدى من كتاب «حدائق السحر» دون أن أتقيد بالنظام الذى سار عليه «الوطواط» إذ بدا لى فى بعض المواضع أنه لم يحسن التنظيم والترتيب. وسأجتهد فى أن أسوق بعض الأمثلة الإنجليزية التى تساعد القارىء الإنجليزى على تفهم الفنون البلاغية المختلفة وتقريبها من ذهنه (3).
__________
(1) المترجم: نشر من هذه الكتب أخيرا فى تركيا كتاب «ترجمان البلاغة».
(2) المترجم: يقول البعض أن وفاته كانت فى سنة 573هـ وقد نقلت هذا الكتاب إلى العربية ونشرته فى سنة 1945بعنوانه الأصلى الذى عرف به فى الفارسية.
(3) المترجم: سأعرض عن ذكر هذه الأمثلة لأن القارىء العربى ليس فى حاجة إليها.(1/58)
1 - النثر
النثر على ثلاثة أنواع: (ا) النثر العارى: وهو ما لا وزن له ولا قافية.
(ب) النثر المرجز: وهو ماله وزن وليس له قافية.
(ج) النثر المسجع: وهو ما له قافية وليس له وزن.
ولسنا فى حاجة إلى أن نتحدث عن النوع الأول فشأنه ميسور بسيط أما النوع الثانى فيحتاج إلى شىء من الدراسة لأن الاعتراف به كنوع مستقل من أنواع النثر يعتمد على ما نسميه بالمذهب الفقهى أما النثر المسجع فقد نزلت كثير من آيات القرآن على نمطه، ولكننا نعثر فى بعض الأحيان على آية من الآيات تقع موزونة على وزن من الأوزان الشعرية المعروفة كما ورد فى سورة البقرة فى الآيتين 78و 79حيث قال تعالى:
{«ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ، ثُمَّ أَنْتُمْ هََؤُلََاءِ تَقْتُلُونَ»}.
فهاتان العبارتان موزونتان على بيت من «الرمل» مكون من «فاعلاتن» ست مرات مع جعل التفعيلة الأخيرة من كل مصراع على «فاعلات». ولما كان خصوم النبى قد اعتادوا أن يتهموه بأنه «شاعر مجنون» وهو ينفى التهمة بكل ما يملك من قوة، اضطر اتباعه إلى أن يصوغوا تعريفا للشعر لا ينطبق على أية آية من آيات القرآن أو على أية عبارة من عباراته فلما وجدوا أن بعض آياته كما رأينا موزونة ومقفاة أضافوا إلى شرط «الوزن» و «القافية» شرطا ثالثا هو «القصد» أى أن يقصد القائل أن يقول شعرا. وعلى ذلك قالوا إن «النثر المرجز» هو عبارة عن شعر صدر عفوا فى وسط كلام منثور ولم يقصد قائله أن يجعله شعرا:
ومن أمثلة هذا النثر المرجز قوله صلى الله عليه وسلم فى حديث نبوى:
الكريم بن الكريم بن الكريم بن الكريم
فهذه العبارة موزونة على الرمل المثمن.
والنوع الثالث من النثر وهو «المسجع» يعرض كثيرا فى كتابات اللغات الإسلامية المختلفة وهو على ثلاثة ضروب:(1/59)
(ا) المتوازى: وذلك إذا وجدت فى جملتين أو أكثر كلمات متفقة فى الوزن وعدد الحروف والروى ومثاله من القول النبوى:
«اللهم اعط منفقا خلفا، واعط ممسكا تلفا».
(ب) المطرف: وذلك إذا وجدت فى آخر جملتين أو أكثر كلمات متفقة الروى ولكنها مختلفة من حيث الوزن والعدد.
ومثاله قوله تعالى: {«مََا لَكُمْ لََا تَرْجُونَ لِلََّهِ وَقََاراً وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوََاراً».}
(ج) المتوازن: وهذا النوع يرد فى النثر والشعر معا، ويكون بأن ترد فى أول الجملتين أو آخرهما، أو فى أول المصراعين أو آخرهما كلمات تتفق مع بعضها من حيث الوزن ولكنها تختلف فى حروف الروى.
ومثاله من القرآن الكريم: {«وَآتَيْنََاهُمَا الْكِتََابَ الْمُسْتَبِينَ وَهَدَيْنََاهُمَا الصِّرََاطَ الْمُسْتَقِيمَ»}.
وأجمل تقليد فى اللغات الأوربية للنثر المسجوع موجود فى اللغة الألمانية ومن أحسن أمثلته ما ورد فى الترجمة الألمانية لبعض مقامات بديع الزمان الهمذانى (المتوفى سنة 10081007م 398هـ) وهى الترجمة التى نشرها «فون كرامر» فى الجزء الثانى من كتاب «تاريخ الثقافة (1)».
2 - النظم
عدد ضروب النظم فى الفارسية
ذكر «روكرت» أن ضروب النظم فى الفارسية عبارة عن أحد عشر ضربا كما أوردها صاحب كتاب «هفت قلزم» (أو البحار السبعة) وهى على الترتيب الآتى:
(ا) الغزل
(ب) القصيدة
(ج) التشبيب
(د) القطعة
(هـ) الرباعى
(و) الفرد
(ز) المثنوى
(ح) الترجيع بند
(ط) التركيب بند
(ى) المستزاد
(ك) المسمط
__________
(1) أنظر ص 475471من كتاب المترجم: أعرضت عن ذكر المثل الألمانى الذى أورده «براون» من ترجمة المقامات كما أعرضت أيضا عن ذكر المثل الإنجليزى الذى نقله براون من كتاب:
1589.،(1/60)
ويمكن أن نضيف إلى هذه الضروب «المربع» و «المخمس» و «المسدس» و «المسبع» و «المثمن» و «المتسع» و «المعشر».
كما يمكن أن نضيف إليها أيضا «الموشح» وإن كان نادر الاستعمال لدى الفرس ولم يستعمل بكثرة إلا فى الأندلس وبلاد المغرب.
أما الشعر «الملمع» وهو الشعر الذى يتكون من أبيات أو مصاريع منظومة فى لغتين أو أكثر فلا يتقيد بصياغة خاصة ومن أجل ذلك فمن الخير أن نرجىء الحديث عنه إلى أن نعرض للكلام على «موضوعات القصيد».
والتقسيم الذى ذكره كتاب «هفت قلزم» يشوبه الخفاء وعدم الإقناع.
فالتشبيب مثلا ما هو إلا هذا الجزء الذى يصف فيه الشاعر فى مطلع قصيدته «أيام الشباب وما يراه من جمال وما يحس به من حب وهيام» ويجعله مقدمة لما يريد أن يسوقه من أغراض. وكذلك «الفرد» و «القطعة» و «البيت» لا يصح أن تعتبر من ضروب النظم المختلفة لأن «الفرد» أو «البيت» ما هو إلا الوحدة التى تقوم عليها سائر ضروب النظم بينما «القطعة» ما بقى إلا جزء من قصيدة طويلة أو جملة أبيات نظمت على حدة ولم يقسم لها أن تطول لتبلغ مبلغ القصائد كما نشاهد فى آثار بعض الشعراء وعلى الخصوص أشعار «ابن يمين» المتوفى سنة 1344م 745هـ، فإنها برمتها من هذا النوع الذى يعرف بالمقطعات.
وكذلك النوعان المعروفان باسم «بند» يمكن اعتبارهما ضربا واحدا سواء رجع بيت بعينه بين أقسامها أم ذكرت أبيات مختلفة بعد كل قسم من الأقسام، بحيث تكون متفقة القافية فيما بينها وإن كانت لا تقفى مع سائر أقسام البند. وكذلك الحال مع «المربع» و «المخمس» و «المسدس» الخ فإنها تعتبر نوعا واحدا.
أما «الموشح» و «المسمط» و «المرصع» فلا تعدو أن تكون «قصائد» مصطنعة أو «غزليات» من نوع خاص.
وقبل أن نحاول تقسيم «الشعر الفارسى» تقسيما علميا يكون أقرب إلى طبيعته بحيث تظهر لنا ضروبه المختلفة، نجد لزاما علينا أن نتحدث أولا عن عناصره التى يتركب منها.(1/61)
البيت والمصراع
والبيت هو الوحدة التى تتركب منها كل منظومة من المنظومات وهو يتركب بدوره من قسمين متساويين كل منهما يسمى «مصراعا». ويشتمل البيت على عدد معين من التفعيلات تبلغ الثمانى إذا كان البيت «مثمنا» أو الست إذا كان البيت «مسدسا» وتقل عن ذلك فى بعض الأحوال.
ولسنا فى حاجة إلى بيان الأجزاء التى تتركب منها التفعيلة الواحدة وكيف أنها تتركب من «الأوتاد» و «الأسباب» و «الفواصل» ولكننا نكتفى بأن نقول إن هذه التسميات الفنية التى اصطلح عليها عروضيو العرب، وتابعهم فيها أصحاب العروض من الفرس والترك وأهل الأمم الإسلامية الأخرى، كلها قد بنيت على قياس خاطىء فى تشبيه «البيت من الشعر» «بالخيمه» أو «بيت الشعر» الذى يسكنه الأعراب. فقالوا إنك إذا نظرت إلى الخيمة أو «بيت الشعر» من قدام وجدت أن بابها يتركب من مصراعين، فاستعمل العروضيون كلمة «مصراع» للدلالة على كل قسم من القسمين اللذين منهما يتركب «بيت الشعر». وقد ذكر «بلوخمان» فى كتابه «العروض الفارسى (1)» جملة من الأسباب والتفصيلات التى أدت إلى هذه المقايسة الغريبة بين «بيت الشعر» و «بيت الشعر» لعل أغربها وأجملها هو قولهم أن «بيت الشعر» يضم فى أرجائه الغيد الحسان من نساء القبيلة وكذلك الحال مع «بيت الشعر» فإنه يشتمل على إبكار الأفكار التى تجول فى خاطر الشاعر.
وقد اصطلحوا فى الإنجليزية على ترجمة كلمة «بيت» بكلمة «» وعلى ترجمة «مصراع» بكلمة «». ولا شك أن ترجمة هاتين الكلمتين على هذا النحو مما يؤسف له، لأن الكلمة الإنجليزية الأولى توحى لنا بأن «البيت» مكون من وحدتين، كما أن الكلمة الثانية توحى لنا بأن «المصراع» عبارة عن نصف وحدة، ويترتب على ذلك بالطبيعة أن أربعة مصاريع لازمة لإنشاء البيت الواحد من الشعر. ولذلك أجد أنه من الخير أن تترجم كلمة «بيت» بالكلمة
__________
(1) أنظر: 2021 ..(1/62)
الإنجليزية «» وكلمة مصراع بكلمة «» وإن كان لا اعتراض لدى على الاستمرار فى تسمية «المصراع» بكلمة «» بشرط أن نصطلح من الآن على تسمية البيت بكلمة «» أو «». وفى هذه الحالة يصبح الرباعى مكونا من أربعة مصاريع أو من بيتين وتنطبق كذلك تسميته فى الانجليزية على تسميه التى عرف بها فى الفارسية حيث اصطلحوا على نسميته باسم «دوبيت».
وعلى كل حال يجب ألا يغيب عن بالنا أن «البيت» هو الوحدة فى كل المنظومات.
وإن قولنا بيت مسدس أو مثمن لا يدل على شىء إلا على عدد التفعيلات التى يشتمل عليها. كما يجب ألا يغيب عن بالنا أيضا أن جميع أبيات المنظومة يجب أن تكون متساوية فى عدد تفعيلاتها فلا يجوز مطلقا الجمع فيها بين «المثمنات» و «المخمسات» كما نجد عادة فى الأشعار اللاتينية.
ومن الملاحظ فى بعض الكتب المنثورة من قبيل «گلستان» أن الكاتب يسوق «البيت» أو «المصراع» للاستشهاد به على قول معين أو حادثة بعينها وربما نظم هذا «البيت» أو هذا «المصراع» لهذه المناسبة وحدها وفى هذه الحالة يسمون «المصراع» باسم «الفرد».
ضروب النظم الفارسية:
ويحسن بنا وقد فهمنا الأشياء التى ذكرناها فيما سبق أن نتقدم لدراسة ضروب النظم الفارسية المختلفة، فنقول إن أول تقسيم لهذه الضروب مبناه القافية. فهناك نوع من الأشعار تكون القافية فيها مستلزمة بين مصراعى البيت الواحد دون تقيد بما يسبقه أو يليه من الأبيات. وهناك نوع آخر تستلزم فيه القافية فى نهاية الأبيات جميعها دون تقيد بتقفية المصاريع الأولى منها إلا فى بيت المطلع دون سواه من الأبيات.
والنوع الأول من هذين القسمين بمثله «المثنوى» ويمكن تسميته بالقسم الذى تتعدد فيه القوافى. أما النوع الثانى فموحد القافية وأمثلته واضحة فى «القصيدة» و «القطعة» و «الغزل» و «الترجيع بند» و «التركيب بند» وكذلك «الرباعى»
أما «المربع» و «المخمس» و «المسدس» إلى «المعشر» فيجب فصلها عن هذين النوعين ووضعها فى قسم خاص قائم بذاته.(1/63)
والنوع الأول من هذين القسمين بمثله «المثنوى» ويمكن تسميته بالقسم الذى تتعدد فيه القوافى. أما النوع الثانى فموحد القافية وأمثلته واضحة فى «القصيدة» و «القطعة» و «الغزل» و «الترجيع بند» و «التركيب بند» وكذلك «الرباعى»
أما «المربع» و «المخمس» و «المسدس» إلى «المعشر» فيجب فصلها عن هذين النوعين ووضعها فى قسم خاص قائم بذاته.
المثنوى:
لسنا فى حاجة إلى الإفاضة فى القول عن هذا الضرب من ضروب النظم لأن أكثر الشعر الأوروبى الذى له قافية يقع على غراره. والقافية فيه تكون فى جزئى البيت الواحد وتتغير بعد ذلك بتغير الأبيات. ومن أجمل أمثلته فى الإنجليزية قصيدة الشاعر تنسون التى عنوانها فهى كثيرة الشبه بما يعرف فنيا فى العروض الفارسى باسم «مثنوية على وزن الرمل المثمن المحذوف (1)».
::: فاعلاتن: فاعلاتن: فاعلاتن: فاعلن
وكل المنظومات الطويلة فى اللغة الفارسية سواء أكانت قصصية أم تعليمية تقع فى هذا الضرب من النظم، ومن أمثلتها:
الشاهنامه: «كتاب الملوك» من نظم الفردوسى
پنج گنج: «الكنوز الخمسة» من نظم نظامى الگنجوى
هفت اورنگ: «العروش السبعة» من نظم جامى
المثنوى المعنوى: «العروش السبعة» من نظم جلال الدين الرومى
وهذا الضرب فارسى النشأة لم تعرفه الأشعار العربية القديمة، وإن كان بعض الشعراء الذين كانوا من أهل فارس قد استخدموه فى نظم الأشعار العربية المتأخرة التى عرفت باسم «المزدوج» منذ نهاية القرن العاشر الميلادى (أواخر الرابع الهجرى (2)).
__________
(1) المترجم: أورد براون بيتين من المنظومة الإنجليزية على سبيل المثال ولم نر حاجة إلى كتابتهما بنصهما.
(2) أنظر مثلا لهذه المزدوجات فى ج 4من يتيمة الدهر ص 23من طبعة دمشق ومنها:
من مثل الفرس ذوى الأبصار ... الثوب رهن فى يد القصار
إن البعير يبغض الخشاشا ... لكنه فى أنفه ما عاشا(1/64)
الغزل:
إذا أتينا الآن إلى ضروب النظم الموحدة القافية وهى التى تتقيد بوحدة القافية فى جميع أبياتها دون تقيد بتقفية المصاريع الأولى منها إلا فى بيت المطلع، وجدنا أن أهم هذه الضروب ضربان هما «الغزل» و «القصيدة» وفيهما يمكن استعمال سائر الأوزان الشعرية المعروفة ويمكن أيضا تقفية مصراعى المطلع ولكن يجب أن تقفى أواخر الأبيات جميعا على قافية واحدة.
و «الغزل» لا يختلف عن «القصيدة» إلا من حيث الموضوع وعدد الأبيات فهو لا يتعلق إلا بموضوع غزلى أو صوفى وكذلك لا تزيد أبياته عن الإثنى عشر بيتا إلا فى القليل النادر من الأحوال أما القصيدة فقد يتعلق موضوعها بالمديح أو الهجاء أو التعليم أو الفلسفة أو الدين.
وقد تعود الشعراء فى أزمنة متأخرة (بعد الفتح المغولى فيما أظن) أن يذكروا تخلصهم أو لقبهم الشعرى فى البيت الأخير أو «بيت المقطع» من الغزل. ولكنهم لم يتعودوا أن يفعلوا ذلك فى قصائدهم.
وفيما يلى ترجمة لغزلية معروفة من غزليات «حافظ الشيرازى» مطلعها:
اگر آن ترك شيرازى بدست آرد دل ما را
بخال هندويش بخشم سمرقند وبخارا را
ومعناها بالعربية (1):
لك الدنيا وما فيها أيا تركى شيراز
«سمرقند» لك الأخرى وتتلوها «بخارا» ها
__________
نال الحمار بالسقوط فى الوحل ... ما كان يهوى ونجا من العمل
فى المثل السائر للحمار ... قد ينهق الحمار للبيطار
والعنز لا يسمن إلا بالعلف ... لا يسمن العنز بقول ذى لطف
(1) المترجم: أنظر ص 54من الجزء الأول من كتابى «أغانى شيراز» المطبوع فى القاهرة سنة 1943وسنة 1947.(1/65)
فيا ساقى لنا الباقى ففى الجنات لا تمشى
على حافات «ركناباد» أو روض «مصلاها (1)»
ويا حزنى وقد عاشوا على سلبى منى قلبى
كفعل الترك قد عاشت على أسلاب قتلاها
جمال الخل تغنيه عن التدليل فى عشقى
خدود لونها صاف بلون الورد سواها
ويوسف من كمال الحسن والإعراض فى تيه
«زليخا» تلك أحياها على وجد وأضناها
رعاك الله أن تمضى بإيلامى وتجريحى
فمر القول لا يجرى ثغر رشفناها
فيا روحى استمع نصحى، فنصح الشيخ مقبول
لدى الشبان ردده وقل: ذكرى وعيناها
حديث المطرب اسمعه، وسر حياتنا دعه
فما حلوا من الأيام والدنيا معماها
تعال أنظم لنا شعرا وهىء نظمه درا
فقد شدت لك الأبراج فى عقد ثرياها
القصيدة:
وطول القصائد الفارسية يجعل من العسير على أن أؤدى إحداها نظما بالإنجليزية بحيث أحتفظ بوحدة القافية فى سائر أبياتها. وقد بذنى فى ذلك صديقى المرحوم «جب» حينما ترجم بعض القصائد التركية فى كتابه الكبير «تاريخ الأشعار العثمانية» فقد كان من دأبه أن يترجم هذه القصائد بحيث يحتفظ بوزنها الأصلى وبحيث تكون موحدة القافية أيضا. وإنى أعترف بأنى أقل مهارة منه فى صياغة النظم، ومن أجل ذلك اضطررت اضطرارا عند ترجمة «القصائد» وبعض «الغزليات»
__________
(1) «ركناباد» نهر بشيراز و «المصلى» محلة بها، كان يقيم فيها حافظ.(1/66)
إلى أن ابتعد عن خطته هذه وأن أترجمها كما لو كانت من نوع «المثنوى»، فتجاسرت بذلك على أن أحدث بها شيئا من التغيير فى القافية والوزن كما يفعل الشرقيون أنفسهم فى أغلب الأحوال، وقد سبق لى أن ذكرت فى ص 464من الجزء الأول من «تاريخ الأدب فى إيران» إن العرب والفرس كانوا إذا شاؤا إظهار براعتهم فى الترجمة نظما من الفارسية إلى العربية أو من العربية إلى الفارسية فإنهم كانوا يؤدون الترجمة فى وزن مخالف للوزن الأصلى. أو يؤدون «المثنوية الفارسية» فى «قصيدة عربية (1)». فإذا راعينا أن هاتين اللغتين يستعملان طريقة واحدة فى العروض لا تستعملها اللغة الإنجليزية، وراعينا كذلك أن أهل هاتين اللغتين قد أباحوا لأنفسهم عند الترجمة عدم التقيد بالأصل من حيث الوزن والقافية وجدنا أنفسنا وقد حرمنا من هذه الميزات التى مهدت لهم معذورين حقا إذا تابعنا مثالهم ولم نحرص عند الترجمة على الاحتفاظ بالوزن أو القافية.
ولما كان الحديث فى هذا المكان مقصورا على ضروب النظم فسأسوق أمثلة قليلة لهذا النوع من القصائد الموحدة القافية التى لم أستطع المحافظة على قافيتها فى ترجمتى لأن «القصيدة» عادة تتركب من أبيات عديدة تزيد كثيرا على ما يتركب منه «الغزل» وقد تزيد فى أغلب الأحوال على المائة بيت.
وأول أمثلتى التى أسوقها للقصيدة عبارة عن ستة أبيات من مرثية «الشيخ سعدى الشيرازى» لمدينة بغداد عندما أغير عليها المغول وقتلوا الخليفة العباسى الأخير «المستعصم بالله» وأهل بيته. ولهذه القصيدة أهمية خاصة لأنها تصور لنا الأثر الذى تركته هذه الغارة المفزعة فى نفس واحد من المسلمين المعاصرين. وقد نقلت هنا الأبيات الستة الأولى منها كما هى مذكورة فى الجزء الأول من كتاب «خرابات» تأليف «ضيا پاشا (2)» والقصيدة برمتها تبلغ الواحد والعشرين بيتا وهى من نوع الرمل المثمن المحذوف.
__________
(1) كما فعل «البندارى» أحيانا فى ترجمته العربية للشاهنامه.
(2) أنظر ص 156من الجزء الأول من «خرابات» طبع القسطنطينية سنة 1291هـ.(1/67)
ومطلعها:
آسمان را حق بود گر خون بريزد بر زمين
بر زوال ملك مستعصم أمير المؤمنين (1)
والأبيات الخمسة التالية للمطلع هى الآتية:
أى محمد گر قيامت مى برآرى سر ز خاك
سر برآور وين قيامت در ميان خلق بين
نازنينان حرم را موج خون بى دريغ
ز آستان بگذشت وما را خون دل در آستين
زينهار از دور گيتى وانقلاب روزگار
در خيال كس نگشتى كانچنان گردد چنين
ديده بردار اى كه ديدى شوكت بيت الحرام
قيصران روم سر بر خاك وخاقان بر زمين
خون فرزندان عم مصطفى شد ريخته
هم بر آن خاكى كه سلطانان نهادندى جبين
ومعناها:
للسماء حق إذا بكت دما على وجه الأرضين،
لزوال «ملك المستعصم» أمير المؤمنين.
ويا «محمد» إذا أخرجت رأسك من أطباق الثرى فى يوم الدين
فارفعها الآن حتى ترى هذه القيامة التى نزلت بقومك من المسلمين
وانظر إلى أمواج الدماء وقد فاضت على أعتاب الحرم الأمين
وانظر إلى دماء الفؤاد وهى تقطر من أكمام الأردية والقفاطين
ويا صاحبى الحرص الحرص من دورات الفلك وتقلبات الأيام والسنين
__________
(1) المترجم: للسعدى قصيدة عربية فى هذا المعنى مطلعها:
حبست بجفنى المدامع لا تجرى ... فلما طغى الماء استطال على السكر
نسيم صبا بغداد بعد خرابها ... تمنيت لو كانت تمر على قبرى(1/68)
فلم يجل بخاطر أحد أن يحدث مثل هذا الحدث اللعين
ويا من رأيت شوكة البيت الحرام ارفع بصرك الحزين
ثم أغمضه عن هذا المكان الذى كانت تسجد عنده القياصرة والخواقين
فدماء أولاد عمومة المصطفى أخذت تجرى وتتدفق فى الطين
وتسيل على هذا الثرى الذى كانت تسجد عليه جباه السلاطين!!
وهذه القصيدة لا تمثل تماما القصائد القديمة التى كانت تبدأ عادة بالتشبيب ثم تنتقل إلى المدح ببيت يعرف فنيا باسم «گريزگاه» أى «بيت الانتقال». وربما كان خير مثل للقصائد القديمة هو قصيدة «منوچهرى» الشاعر المعاصر للفردوسى.
فهذه القصيدة تحتوى على اثنين وسبعين بيتا سأقتصر على ذكر طائفة منها اخترتها دون مراعاة لترتيبها الأصلى، ولكنى سأذكر إمامها أرقاما تبين موضعها فى القصيدة الأصلية. وهذه القصيدة من نوع الهزج المسدس المحذوف.
::: مفاعيلن: مفاعيلن: فعولن:
ومطلعها:
ألا ياخيمگى خيمه فرو هل ... كه پيش آهنگ بيرون شد ز منزل
ومعنى الأبيات الخمسة الأولى منها كما يلى (1):
1 - ألا يا أيها الخيام أنزل خيمتك
فقد تقدم دليل القافلة وخرج عن هذا المنزل
2 - وقد دق صاحب الطبل طبله
وأخذ الحمالون يعقدون الرحال
3 - وقد قربت صلاة العشاء
وها أنذا أرى الشمس والقمر يتقابلان فى هذه الليلة
__________
(1) المترجم: فيما يلى النص الفارسى لهذه الأبيات:
ألا يا خيمگى خيمه فرو هل ... كه پيش آهنگ بيرون شد ز منزل
تبيره زن بزد طبل نخستين ... شتربانان همى بندند محمل
نماز شام نزديك است وامشب ... مه وخورشيد را بينم مقابل(1/69)
4 - ولكن القمر يصعد فى كبد السماء
بينما تغيب الشمس وراء جبال بابل
5 - فكأنهما الميزان ذو الكفتين الفضيتين تميل إحدى كفتيه إلى أسفل، والأخرى تشيل إلى أعلا
ثم يذكر الشاعر بعد ذلك فراقه لمعشوقته فيقول: (1)
6 - ولم أكن أعرف يا صنوبرتى الفضيه
إن النهار سيعجل بالزوال على هذا النحو!!
7 - وكلانا غافل ولكن الشمس والقمر
لا تأخذهما غفلة فى دورة هذا الفلك!!
8 - فتعالى إلى يا حبيبتى ولا تبكى
فأمل العاشقين لا يتم ولا يتحقق!!
9 - والأيام حبالى بالهجر والفراق
ولا بد للحامل أن تضع حملها فى يوم من الأيام
10 - فلما شاهدتنى حبيبتى على هذه الحال من الحزن
أمطرت من خلال أهدابها وابلا من الدموع
11 - وكأنما كانت تمسك بالفلفل المسحوق فى أصابعها
ثم أخذت تنثره فى أجفانها ومآقيها!!
__________
وليكن ماه داره قصد بالا ... فرو شد آفتاب از كوه بابل
چنان دو كفه سيمين ترازو ... كه اين كفه شود زان كفه مايل
(1) المترجم: فيما يلى نص الأبيات الفارسية:
ندانستم من أى سيمين صنوبر ... كه گردد روز چنين زود زائل
من وتو غافليم وماه وخورشيد ... بر اين گردون گردان نيست غافل
نگارين منا بر گرد ومگوى ... كه كار عاشقان را نيست حاصل
زمانه حامل هجر است ولا بد ... نهد يك روز بار خويش حامل
نگار من چوحال من چنين ديد ... بباريد از مژهـ باران وابل
تو گوئى پلپل سوده بكف داشت ... پراكند از كف اندر ديده پلپل(1/70)
12 - ثم أقبلت على قائمة قاعدة
كأنها الطير الذبيح قد بسملوا عليه
13 - وطوقت عنقى بساعديها كحمائل السيف
واستلقت على صدرى كما تتدلى الحمائل
14 - وقالت لى: إنى أقسم لك أيها الغادر
لقد اطربت فىّ الحاسد وأفرحت العاذل
15 - ولست أدرى إذا كنت ستعود إلىّ ثانية
فى الوقت الذى تعود فيه القوافل
16 - ولطالما رأيتك كاملا فى كل الأمور
ولكن من أسف أنك لست كاملا فى العشق!!
ثم يحاول الشاعر بعد ذلك تهدئة معشوقه حتى ينصرف عنه ويتركه وحيدا فينظر حول المنازل فلا يرى إنسيا أو جنيا ولا راكبا أو قاعدا ولا يجد إلى جانبه إلا بعيره وهو «يزمجر كالشيطان المقيد بالسلاسل» فيضع عليه رحله وينهض به فى نفس الطريق التى سلكتها القافلة، ويأخذ فى عد الخطى حتى يدخل الصحراء المقفرة فيصفها بأنها «قاحلة موحشة لا يستطيع داخلها أن يخرج منها» ثم يأخذ فى وصف رياحها العاصفة فيقول «أنها تجعل الدم يتجمد فى العروق» ثم يأخذ فى وصف الثلج فيصفه بأنه رقائق الفضة قد نثرت على الرمال الذهبية المنبسطة فى هذا الفضاء الفسيح. فإذا ما انبثق الفجر بصفائه عشى الشاعر بنوره وضيائه، ثم تأخذ الثلوج فى الذوبان كما يذوب العليل المسلول، وتنشأ من ذوبانها أو حال لزجة تتعلق بأقدام بعيره كأنها الغراء المصنوعة من عظام الأسماك. ثم تبدو له فى النهاية القافلة التى كان يريد الوصول إليها، فيقدم عليها، ويدنو من مخيمها «فيرى الوادى وما به من رماح
__________
بيامد أوفتان خيزان بر من ... چنان مرغى كه باشد نيم بسمل
دو ساعد را حمايل كرد با من ... فرو آويخت از من چون حمايل
مرا گفت اى ستمكاره بجانم ... بكام حاسدم كردى وعاذل
چهـ دانم من كه باز آئى تو يا نه ... بدان گاهى كه بازآيد قوافل
ترا كامل همى ديدم بهر كار ... وليكن نيستى در عشق كامل(1/71)
وحراب كأنه ملىء بالسنابل والأعواد» وترن فى أذنه أصوات الخلاخيل كأنها أصوات الجلاجل، وتتجاوب الأجراس بمختلف الحكايات وكأنها أهازيج العنادل والبلابل.
ثم يستمر الشاعر فيقول (1):
48 - ثم التفت إلى بعيرى النجيب، وقلت له: خفف من سرعتك
يا معين الأفاضل ولا تسرع فى مشيتك
49 - وكل فى هذا المرعى وليجعل الله مرعاك فى هذا العنبر النضير
وتبختر وليجعل الله مفاصلك من الحديد المتين
50 - واطو الفيافى واجتز الجبال العالية
ودق المنازل وأقطع المراحل القاصية
51 - ثم أنزلنى على أعتاب الوزير الكامل
كما نزل الأعشى ببابل
ثم يأتى الشاعر إلى بيت الانتقال «گريزگاه» فيقول (2):
52 - على أعتابه الرفيعة العالية فقد ملك المعالى عاليها وسافلها
ثم يذكر إسم ممدوحه فى البيت الأول من الأبيات الآتية فيقول:
56 - وهو يرتع فى نعم الحياة على عهد الأمير مسعود (3)
كما نعم النبى على عهد أنو شيروان العادل
__________
(1) المترجم: النص الفارسى لهده الأبيات كما يلى:
نجيب خويش را گفتم سبك تر ... ألا يا دستگير مرد فاضل
بچركت عنبرين بادا چراگاه ... بچم كت آهنين بادا مفاصل
بيابان درنورد وگوه بگذار ... منازلها بكوب وراه بگسل
فرود آور بدرگاه وزيرم ... فرود آوردن أعشى ببابل
(2) المترجم: نصه بالفارسية:
بعالى دركه دستور كوراست ... معالى از اعالى واز أسافل
(3) يقصد به الأمير مسعود بن محمود الغزنوى الذى حكم من سنة 10401030م 432421هـ ونص الأبيات الفارسية كما يلى:
همى نازد بعهد مير مسعود ... چون پيغمبر بنو شيروان(1/72)
57 - وبدرة المال تدخل عليه فينثرها كقارون
والسائل يدخل عليه وكأنه من أصحاب الجاه والمال
58 - فيخرج السائل وقد بطنت بالذهب حواشيه
وأما كيس الأمير فيخلو مما كان يشتمل عليه ويحتويه (1)
وفيما يلى الأبيات السبعة الأخيرة من هذه القصيدة وهى التى يسعى فيها الشاعر إلى إثارة مخدومه واستجلاب رضاه والحصول على منحه وهداياه. وإذا استطاع الشاعر أن يذكر لممدوحه ما يطلبه منه بطريقة حلوة وأسلوب لطيف سمى ذلك ب «حسن الطلب».
أما الأبيات الثلاثة الأخيرة من هذه الأبيات السبعة فتمثل لنا الصنعة المعروفة ب «حسن المقطع» وهو أن يجعل الشاعر آخر أبيات القصيدة مستملحة مستعذبة وأن يختمها بألفاظ فصيحة ومعانى لطيفة، لأن أقرب أبيات القصيدة إلى سمع السامع إنما هى أبياتها الأخيرة، فإن كانت مليحة بقيت لذتها وأصبحت الأبيات السابقة، مهما قلت جودتها أو كانت رديئة، نسيا منسيا.
66 - فيا مولاى لقد أقبلت عليك (2)، وكلى أمل فيك وفى عطاياك
67 - وفى بحبوحة عيشك يرتع الأفاضل
لأن الفاضل لا يقصد إلا فاضلا مثله
68 - فإذا رزقتنى وأنا فى خدمتك
قلت فيك المديح كما قال «الأعشى» و «دعبل»
69 - أما إذا حرمت فى خدمتك، فسأحرق قلمى وامزق أناملى
__________
درآيد پيش أو بدره چوقارون ... درآيد پيش أو سايل چوعاهل
(1) المترجم: لم أعثر على نص هذا البيت بالفارسية.
(2) المترجم: النص الفارسى لهذه الأبيات:
خداوند من اينجا آمدستم ... باميد تو واميد مفضل
أفاضل نزد تو نازند هموار ... كه زى فاضل بود قصد أفاضل
گرم مرزوق گردانى بخدمت ... همان گويم كه أعشى گفت ودعبل
وگر از خدمتت محروم ماندم ... بسوزم كلك وبشكافم أنامل(1/73)
70 - وإنى أدعو الله مادام الدراج والقمرى يغردان
وما دام اسم العنقاء واسم الصقر مقترنان
71 - إن يثبت كيانك وينير بصيرتك
وأن يطهر قلبك ويجعل حظك مقبلا
72 - وأن يهبنى وأنا أنظم الشعر فى مدحك
قلب «بشار» وطبع «ابن مقبل»
القطعة:
هى كما يدل عليها اسمها عبارة عن قطعة من قصيدة كاملة انفصلت عنها لسبب من الأسباب، وقد تكون أيضا جزءا من قصيدة لم يقدر لها أن تكمل، كما قد تكون وحدة قائمة بذاتها أنشأها الشاعر من البداية ليصوغ فيها غرضا من الأغراض، فلما سجله فيها تركها على حالها ولم يفكر مطلقا فى أن يضيف إليها أبياتا أخرى وفى كثير من الأحوال يدل أسلوب القطعة وموضوعها على أن الشاعر قصد بها منذ البداية أن تكون وحدة قائمة بذاتها.
وفيما يلى ترجمة لقطعة من قول الشاعر «الأنورى» المتوفى سنة 1191م 587هـ.
وهى تدل دلالة واضحة على أنها كاملة وأن الشاعر لم يفكر فى أن يضيف إليها أبياتا أخرى:
قال لى أحد الأصدقاء فى خفة واعتدال
عليك بالصبر إذا شئت تحقيق الآمال
وهذا هو الماء سيعود إلى النهر فتمتلىء به شطئانه
وهذه آمالك سيحققها الزمان وجريانه!!
__________
ألا تا بانگ دراجست وقمرى ... ألا تا نام سيمرغست وطغرل
ننت پاينده باد و چشم روشن ... دلت پاگيزه باد وبخت مقبل
دهاد ايزد مرا در نظم شعرت ... دل بشار وطبع ابن مقبل(1/74)
فنظرت إليه وقلت له: يا صاحبى ما الفائدة؟!
إذا عادت المياه وكانت الأسماك قد ماتت وأضحت هامدة (1)؟!
الرباعى:
الرباعى عبارة عن بيتين من الشعر ومن أجل ذلك أسموه فى الفارسية باسم ال «دوبيت» واعتبره البعض أربعة شطرات من الشعر، ومن أجل ذلك أسموه بالرباعى أو الرباعية.
وقد يكون الرباعى عبارة عن بيتين مأخوذين من مطلع «قصيدة» أو «غزل» ويشترط فيه دائما أن يكون على وزن من الأوزان الخاصة المستخرجة من «الهزج» كما يشترط فيه أن يكون وافيا بالغرض الذى أنشىء من أجله.
ولست أجد نفسى فى حاجة إلى زيادة الإيضاح عن هذا الضرب من ضروب النظم فإن الترجمة الجميلة التى قام بها «فتزجرالد» لرباعيات الخيام جعلت هذا الضرب معروفا لدينا معشر الإنجليز ومع ذلك فلى كلمة قصيرة أحب أن أدلى بها فى هذه المناسبة وهى أنى لاحظت أن بعض المعجبين بترجمة «فيتزجرالد» يتصورون أن الرباعيات يتصل بعضها ببعض، بحيث تنشأ منها قصيدة واحدة، فأود أن أؤكد لهم أن سبب «الوحدة» الظاهرة فى هذه الترجمة راجع فقط إلى الترتيب الذى اختاره «فيتزجرالد» للرباعيات التى انتقاها وترجمها على هذا النحو. أما هذه الرباعيات فى الأصل فيجب أن تكون كل واحدة منها منفصلة عما عداها وقائمة بذاتها ونحن نجد أن شعراء الفرس لا يرتبونها فى دواوينهم إلا على نحو واحد يتبعون فيه حرف القافية الأخير.
ويجب أن يكون الرباعى على وزن من الأوزان المستخرجة من الهزج، ويجب أن تقفى مصاريعه الأول والثانى والرابع مع بعضها، بينما يكون المصراع الثالث مقفى مع هذه المصاريع أولا يكون كما هو الغالب والأعم.
__________
(1) المترجم: شبيه بهذا المعنى ما قاله الخيام فى رباعيته التالية:
بابط ميگفت ماهىء در تب وتاب ... باشد كه بجوى رفته باز آيد آب
گفتا: چومن وتو هر دو گشتيم كباب ... دنيا پس مرگ ما چهـ دريا چهـ سراب(1/75)
وفيما يلى رباعيتان قالهما الشاعر «معزى» على البداهة للسلطان السلجوقى «ملكشاه» أسوقهما مثلا لهذا الضرب من النظم دون أن يكون لهما أهمية خاصة من الناحية الأدبية إلا فيما يتعلق بدلالتهما التاريخية فقد تحدث الشاعر نفسه إلى صاحب كتاب «چهار مقاله» فذكر له الأسباب والظروف التى قال فيها هاتين الرباعيتين، فقال:
«وفى مدينة قزوين انتقل أبى أمير الشعراء برهانى رحمه الله من عالم الفناء إلى عالم البقاء، وكان ذلك فى أوائل أيام دولة ملكشاه. وقد سلمنى أبى إليه ووكل إليه أمر تربيتى بمقتضى بيته المعروف:
من رفتم وفرزند من آمد خلف صدق ... أو را بخدا وبخداوند سپردم
ومعناه: إنى ذاهب وها هو ابنى قد جاء خلف صدق لى.
فإلى الله وإليك يا مولاى أودعه وأسلمه.
«وقد حولوا إلىّ مرتب أبى، وأصبحت بعد ذلك شاعر السلطان وبقيت فى خدمته سنة كاملة، ولكنى لم أتمكن من رؤيته إلا عن بعد، ولم أستطع أن أحصل على شىء من مرتبى، وازدادت نفقاتى وثقل الدين فى عنقى حتى اضطربت الأمور فى رأسى.
ولم يكن الوزير «نظام الملك» رحمه الله على حظ من معرفة الشعر، ومن أجل ذلك فإنه لم يكن ليقدره أو ليقدر قائليه من أئمة الشعراء والمتصوفة.
«وفى اليوم السابق لشهر رمضان وجدت نفسى لا أملك دانقا واحدا من نفقات هذا الشهر أو من نفقات العيد، فذهبت والحزن يملأ صدرى إلى الأمير علاء الدولة «على بن فرامرز» وكان صهرا للسلطان ونديما خاصا له، وكان أميرا محبا للشعراء يمتاز بالجرأة فى القول وعلو المنصب وكان يتعهدنى برعايته، فقلت له:
«أطال الله بقاء مولاى إن الولد لا يستطيع أن يفعل ما فعله والده أو أن يأتى بما أتى به أبوه، وقد كان أبى رجلا نشيطا جسورا رزقه الله بصناعته رزقا كثيرا.
وكان السلطان الشهيد «ألب أرسلان» يقربه ويتعهده بعنايته ولن أستطيع أن أقوم بما قام به لأن حيائى يمنعنى من ذلك ولأن طبعى العاجز يساعد على ما أنا فيه من ضنك، وقد قمت بخدمة السلطان سنة كاملة، أصبحت مدينا فيها بألف دينار،
لم أحصل منها على دانق واحد، فأرجو أن تلتمس لى الإذن فى العودة إلى مدينة نيسابور حتى أستطيع أن أؤدى ما على من دين وأن أعيش على ما يتبقى لدى من مال، وإنى أدعو بعد ذلك للسلطان ولدولته القاهره».(1/76)
وكان السلطان الشهيد «ألب أرسلان» يقربه ويتعهده بعنايته ولن أستطيع أن أقوم بما قام به لأن حيائى يمنعنى من ذلك ولأن طبعى العاجز يساعد على ما أنا فيه من ضنك، وقد قمت بخدمة السلطان سنة كاملة، أصبحت مدينا فيها بألف دينار،
لم أحصل منها على دانق واحد، فأرجو أن تلتمس لى الإذن فى العودة إلى مدينة نيسابور حتى أستطيع أن أؤدى ما على من دين وأن أعيش على ما يتبقى لدى من مال، وإنى أدعو بعد ذلك للسلطان ولدولته القاهره».
«فقال لى الأمير على: لقد تحدثت صدقا، وقد قصرنا حقا فى شأنك، وسيخرج السلطان عند صلاة المغرب ليرى طلعة الهلال فيجب أن تكون حاضرا معنا حتى ترى ما يصنع الحظ لك».
«ثم أمر لى بمائة دينار لأعد بها العدة لشهر الصيام، فأحضروها لى على الفور فى كيس مشتملة على مائة دينار نيسابورية، فأخذتها ورجعت مسرور الخاطر، وأخذت أعدّ العدة لشهر رمضان، حتى إذا حانت صلاة العصر، ذهبت إلى سرادق السلطان، فوصلت إليه فى نفس اللحظة التى وصل فيها الأمير «علاء الدولة» فقدمت له احترامى. فالتفت إلىّ وقال: لقد أحسنت صنعا وجئت فى موعدك ثم ترجل عن دابته وتوجه إلى السلطان».
«فلما اصفرت الشمس ساعة الأصيل، خرج السلطان من سرادقه وفى يده قوس وعلى يمينه «علاء الدولة» فجريت وأديت فروض الخدمة وشملنى الأمير على بعطفه، ثم أخذ يتطلع إلى الهلال الجديد، وكان السلطان أول من رآه وقد سر بذلك سرورا عظيما. عند ذلك التفت إلىّ الأمير على وقال: «يا ابن البرهانى قل لنا شيئا من الشعر فى هذا الهلال الجديد»
فقلت على الفور هذا ال «دوبيت».
أى ماه چوابروان يارى گوئى
يا نى چوكمان شهريارى گوئى
نعلى زده از زر عيارى گوئى
در گوش سپهر گوشوارى گوئى
ومعناها:
أيها الهلال كأنى بك حاجب عين الحبيب.
لا بل كأنى بك القوس فى يد الملك المهيب.
أو كأنك حدوة الجواد صيغت فى خالص الذهب العجيب.
أو كأنك القرط، تتدلى من أذن هذا الفلك الرهيب!!(1/77)
أيها الهلال كأنى بك حاجب عين الحبيب.
لا بل كأنى بك القوس فى يد الملك المهيب.
أو كأنك حدوة الجواد صيغت فى خالص الذهب العجيب.
أو كأنك القرط، تتدلى من أذن هذا الفلك الرهيب!!
«فلما فرغت من قول هذا الرباعى استحسنه «الأمير على» وقال لى السلطان:
«اذهب وخذ من الاسطبل الجواد الذى يعجبك». فلما اقتربت أنا والأمير على من الاسطبل أشار الأمير على إلى جواد خاص، فاحضروه لنا، وأعطوه لغلمانى، وكان يساوى ثلاثمائة دينار نيسابورى، ثم ذهب السلطان إلى المصلى فصلينا معه صلاة المغرب، ثم جلسنا معه على مائدته فالتفت إلى الأمير على وقال: «يا ابن البرهانى لم تقل لنا شيئا من الشعر فى شكر هذا التشريف الذى اختصنا به المليك فقل لنا على الفور رباعية فى هذا المعنى».
«فانتصبت على أقدامى وأديت فروض الطاعة وقلت على البديهة هذه الرباعية:
چون آتش خاطر مرا شاه بديد
از خاك مرا بر زبر ماه كشيد
چون آب يكى ترانه از من بشنيد
چون باد يكى مركب خاصم بخشيد
ومعناها:
عندما رأى المليك خاطرى فوجده «كالنار» المتقدة اللامعة.
رفعنى من حضيض «التراب» وجعل مقعدى على الأقمار الساطعة.
وسمع منى لحنا جميلا كالمياه الدافقة الرائعة.
فوهبنى جوادا كريما كالرباح الشديدة المسرعة!!
«فلما فرغت من أداء هذه الرباعية أبدى الأمير على استحسانه الشديد لها وأمر لى السلطان بألف دينار. عند ذلك قال علاء الدولة: إن مرتبه لم يصل إليه وسأذهب إلى الوزير غدا فأجلس إلى جواره إلى أن يأمر له براتبه وأجره، ويكتب بذلك إلى «إصفهان». فقال الملك: عليك أن تفعل ذلك فلا قدرة لأحد عليه سواك وعليك أن تلقب هذا الشاعر بلفبى».(1/78)
«وكان السلطان يتلقب بلقب «معز الدنيا والدين» فأسمانى الأمير على باسم «المعزى» ولكن السلطان أبى إلا أن يسمينى باسم «الأمير معزى» واختصنى الأمير على برعايته، بحيث إذا أصبح الصباح وأذن المؤذن للفجر، وجدت أنه قد بعث إلى بمنحة تشتمل على ألف دينار وكذلك بألف دينار ومائتين من راتبى، كما أرسل إلى بألف حمل من القمح. فلما انتهى شهر رمضان استدعانى إلى مجلسه وجعلنى نديما للسلطان. وأخذ حظى يتسنم معارج الإقبال، وأخذ الأمير يتولانى دائما بعطفه وعنايته. وجميع ما أمتلكه اليوم إن هو إلا من فيض كرمه وجوده، فلينر الله قبره بأنوار رحمته وليشمله بمنه وبركته».
الارتجال وأثره:
والقصة السابقة تصور لنا مقدار الأثر الذى كان ينتج فى هذه العصور المبكرة من القدرة على الارتجال فى الشعر وقوله على البديهة. وهناك أمثلة أخرى شبيهة بهذه القصة نجدها مسجلة أيضا فى كتاب «چهار مقالة» ومن بينها القصة المروية عن السلطان «محمود الغزنوى» عندما أمر وهو سكران بقطع طرة غلامه ومعشوقه «أياز» فلما أصبح الصباح أحس بالندم على فعلته واستولى عليه خمار الشراب حتى ساءت حاله، فلم يستطيع أحد أن يدنو منه، حتى أنشده الشاعر «عنصرى» هذا الرباعى الذى طار له خاطره وهو:
كى عيب سر زلف بت از كاستن است
چهـ جاى بغم نشستن وخاستن است
جاى طرب ونشاط ومى خواستن است
كاراستن سرو ز پيراستن است
ومعناها:
متى كان فى قطع طرة الحبيب ما يعيبه!!
فلماذا إذن يقعد الملك ويقوم والحزن نصيبه؟!
والفرصة مواتية للطرب واللهو والشراب.
لأن جمال السرو إنما يكون بتشذيبه وتهذيبه!!
وكذلك نجد أن رباعيا آخر قاله الشاعر «أزرقى» فاستطاع أن يهدىء به ثائرة مولاه الشاب الملك «طغانشاه» عند ما كان يلعب النرد فأراد ستتين، ولكنه عندما رمى بالكعبتين حصل على واحدين. وهذا الرباعى هو الآتى:(1/79)
متى كان فى قطع طرة الحبيب ما يعيبه!!
فلماذا إذن يقعد الملك ويقوم والحزن نصيبه؟!
والفرصة مواتية للطرب واللهو والشراب.
لأن جمال السرو إنما يكون بتشذيبه وتهذيبه!!
وكذلك نجد أن رباعيا آخر قاله الشاعر «أزرقى» فاستطاع أن يهدىء به ثائرة مولاه الشاب الملك «طغانشاه» عند ما كان يلعب النرد فأراد ستتين، ولكنه عندما رمى بالكعبتين حصل على واحدين. وهذا الرباعى هو الآتى:
گر شاه دوشش خواست دو يك زخم افتاد
تا ظن نبرى كه كعبتين داد نداد
آن زخم كه كرد راى شاهنشه ياد
در خدمت شاه روى بر خاك نهاد
ومعناه:
إذا شاء المليك ستتين انقلبت ضربته إلى الواحدين.
ولكيلا تظن أنه لم ينل رغبته من الكعبتين.
فإن هذه الرمية جاءت وفقا لرغبة المليك.
فوضعت وجهها على التراب خشوعا حتى لا تراه رأى العين.
وإذا نظرنا إلى الرباعيتين السابقتين وجدنا أنهما يشتركان فى أمرين:
أولا: إن المصاريع الأربعة فى كل منهما تجرى على قافية واحدة مع أن تقفية المصراع الثالث مع بقية المصاريع ليست مشترطة فى الرباعيات.
ثانيا: إن كليهما مثل للصنعة البديعية المعروفة ب «حسن التعليل» حيث يعلل الشاعر حقيقة واقعة بسبب من الأسباب الخيالية الموهومة.
فلنمض الآن فى دراستنا للأنواع الباقية من ضروب النظم، وهى عبارة عن نوعين من القصائد الموشحة يعرفان باسم الترجيع بند والتركيب بند وكذلك الأنواع المختلفة من القصائد المركبة (كالمربع والمخمس والمسدس الخ) والمسمط والمستزاد.
الترجيع بند والتركيب بند:
هذان النوعان من القصائد الموشحة يشتمل كل واحد منهما على عدد من الوحدات تكون فى العادة متساوية فى عدد أبياتها، وتكون كل واحدة منها على قافية واحدة
ويفصل بين الوحدة والأخرى بيت مستقل من الشعر ليبين لنا نهاية الوحدة التى سبقته وبداية الوحدة التى تليه فإذا تكرر ببت بعينه بعد نهاية كل وحدة (بند) فإن المنظومة تسمى ب «الترجيع بند» أما إذا تكررت أبيات مختلفة بعد نهاية الوحدات وكانت هذه الأبيات متفقة القافية مع بعضها ومختلفة عن سائر الوحدات فإن المنظومة تسمى فى هذه الحالة ب «التركيب بند».(1/80)
هذان النوعان من القصائد الموشحة يشتمل كل واحد منهما على عدد من الوحدات تكون فى العادة متساوية فى عدد أبياتها، وتكون كل واحدة منها على قافية واحدة
ويفصل بين الوحدة والأخرى بيت مستقل من الشعر ليبين لنا نهاية الوحدة التى سبقته وبداية الوحدة التى تليه فإذا تكرر ببت بعينه بعد نهاية كل وحدة (بند) فإن المنظومة تسمى ب «الترجيع بند» أما إذا تكررت أبيات مختلفة بعد نهاية الوحدات وكانت هذه الأبيات متفقة القافية مع بعضها ومختلفة عن سائر الوحدات فإن المنظومة تسمى فى هذه الحالة ب «التركيب بند».
ويجب أن تجرى المنظومة من هذين النوعين على وزن واحد فى جميع أبياتها.
وليس فى استطاعتى أن أترجم منظومة من هذين النوعين بحيث أحافظ على قوافيها كما هى فى الأصل الفارسى ولذلك سأكتفى بأن أترجم بعض الأبيات الواردة فى «ترجيع بند» مشهور من نظم الشاعر «هاتف الاصفهانى» الذى عاش فى نهاية القرن الثامن عشر الميلادى (نهاية الثانى عشر وبداية الثالث عشر الهجرى).
(بند أول) اى فداى تو هم دل وهم جان ... وى نثار رهت هم اين وهم آن
دل فداى تو چون توئى دلبر ... جان نثار تو چون توئى جانان
دل رهاندن ز دست تو مشكل ... جان فشاندن بپاى تو آسان
راه وصل تو راه پرآسيب ... درد عشق تو درد بى درمان
بندگانيم جان ودل در كف ... چشم بر حكم وگوش بر فرمان
گر سر صلح دارى اينك دل ... ور سر جنگ دارى اينك جان
... الخ
كه يكى هست وهيچ نيست جز او
وحده لا إله إلا هو
(بند دوم) از تو ايدوست نگسلم پيوند ... ور به تيغم برند بند از بند
الحق ارزان بود ز ما صد جان ... وز دهان تو نيم شكرخند
اى پدر پند كم ده از عشقم ... كه نخواهد شد اهل اين فرزند
پند آنان دهند خلق اى كاش ... كه ز عشق تو ميدهندم پند
من ره كوى عافيت دانم ... چكنم كاوفتاده ام بكمند
... الخ
كه يكى هست وهيچ نيست جز او
وحده لا إله إلا هو
ومعنى هذه الأبيات:(1/81)
(بند أول) اى فداى تو هم دل وهم جان ... وى نثار رهت هم اين وهم آن
دل فداى تو چون توئى دلبر ... جان نثار تو چون توئى جانان
دل رهاندن ز دست تو مشكل ... جان فشاندن بپاى تو آسان
راه وصل تو راه پرآسيب ... درد عشق تو درد بى درمان
بندگانيم جان ودل در كف ... چشم بر حكم وگوش بر فرمان
گر سر صلح دارى اينك دل ... ور سر جنگ دارى اينك جان
... الخ
كه يكى هست وهيچ نيست جز او
وحده لا إله إلا هو
(بند دوم) از تو ايدوست نگسلم پيوند ... ور به تيغم برند بند از بند
الحق ارزان بود ز ما صد جان ... وز دهان تو نيم شكرخند
اى پدر پند كم ده از عشقم ... كه نخواهد شد اهل اين فرزند
پند آنان دهند خلق اى كاش ... كه ز عشق تو ميدهندم پند
من ره كوى عافيت دانم ... چكنم كاوفتاده ام بكمند
... الخ
كه يكى هست وهيچ نيست جز او
وحده لا إله إلا هو
ومعنى هذه الأبيات:
يا من فداء لك القلب والروح ... ويا من يكون نثارا فى سبيلك جميع ما نملك والقلب فداؤك لأنك تسبى القلوب ... والروح نثار لك لأنك محبوب الروح. ومن الصعب تخليص القلب من قبضتك ... ولكن من السهل التضحية بالروح تحت قدمك. وطريق وصالك طريق مشحون بالأذى ... وداء عشقك داء لا دواء له.
ونحن عبيد أرواحنا وقلوبنا فى كفك، وعيوننا تنتظر حكمك وآذاننا تنتظر أمرك.
فإذا كانت لك رغبته فى المصالحة فهذه قلوبنا، وإذا كانت لك رغبة فى المحاربة فهذه هى أرواحنا.
الخ
وانه واحد، ولا يوجد إلاه وحده لا إله إلا الله
ولن أستطيع يا صديقى أن أخلف عهدى معك ولو قطعوا أوصالى بالنصال والسيوف.
وفى الحقيقة أن آلاف الأرواح لترخص أمام ابتسامة صغيرة حلوة من ثغرك.
فيا أبتى أقصر نصحى عن العشق فلن يكون ولدك أهلاله.
ويا ليت الخلق يا ربى ينصحون ويزجرون من ينصحنى ويزجرنى فى حبك.
وإنى لأعلم طريق العافية، ولكن ماذا أصنع وقد وقعت فى فخك.
الخ(1/82)
وإنه واحد، ولا يوجد إلاه وحده لا إله إلا الله
وهذه المنظومة تشتمل فى الأصل على ست وحدات يفصل بين الواحدة منها والأخرى بيت يتكرر بعينه والمنظومة برمتها (بما فى ذلك البيت الذى يرجع خمس مرات) تبلغ 148بيتا مقسمة على هذا النحو:
الوحدة الأولى 23بيتا بيت الترجيع
الوحدة الثانية 13بيتا بيت الترجيع
الوحدة الثالثة 17بيتا بيت الترجيع
الوحدة الرابعة 15بيتا بيت الترجيع
الوحدة الخامسة 18بيتا بيت الترجيع
الوحدة السادسة 57بيتا
ولو أن الشاعر أتى فى نهاية الوحدة الثانية ببيت من الشعر مختلف فى قافيته عن البيت الوارد فى نهاية الوحدة الأولى وكان مصراعاه على قافية واحدة لأصبحت هذه المنظومة من نوع ال «تركيب بند (1)». ويجب ألا يغيب عن بالنا إن كل «وحدة» تبدأ بمطلع يكون موحد القافية بين مصراعيه.
المسمط:
يقول «روكرت» أن المسمط عبارة عن مصطلح عام يشمل جميع أنواع القصائد المركبة ولكن «رشيد الدين الوطواط» يجعله شبيها بما عرف لدى المغاربة باسم «الموشح» حيث يقسم الشاعر قصيدته إلى أجزاء أو أشطر تتفق أوائلها فى الروى وأما أواخرها فتكون موافقة لنظائرها فى القصيدة كلها ومثاله قول الحريرى فى المقامات (2):
__________
(1) الأبيات التى تأتى بعد الوحدات فى التركيب بند يجب أن يكون مصراعا كل بيت منها على قافية واحدة، ويجوز أحيانا أن تكون هذه الأبيات جميعها على قافية واحدة.
(2) المترجم: المثل الأصلى الذى أورده «براون» عبارة عن ترجمة أربعة ابيات من قصيده للشاعرة البابيه «قرة العين» ولم اعثر على اصلها الفارسى فاخترت المثلين اللذين اوردهما رشيد الدين فى كتابه «حدائق السحر فى دقائق الشعر» وقد ترجمنا هذا الكتاب إلى العربية ونشرناه فى سنة 1945.(1/83)
خل إدكار الأربع والمعهد المرتبع ... والظاعن المودع وعد منه ودع
وأندب زمانا سلفا سودت فيه الصحفا ... ولم تزل معتكفا على القبيح الشنع
كم ليلة أودعتها مآثما أبدعتها ... لشهوة أطعتها فى مرقد ومضجع
ومثاله من الشعر الفارسى قول أمير الشعراء «معزى»:
اى ساربان منزل مكن جز بر ديار يار من
تا يك زمان زارى كنم بر ربع وأطلال ودمن
ربع از دلم پرخون كنم أطلال را جيحون كنم
خاك دمن گلگون كنم از آب چشم خويشتن
كز روى يار خرگهى أيوان همى بينم تهى
واز قد آن سرو سهى خالى همى بينم چمن
ومعناه:
أيها الحادى لا تنزل إلا بديار الحبيب حتى أتمكن من البكاء لحظة على الربع والأطلال والدمن.
فاملأ الربع بدماء قلبى، وأجعل الأطلال نهرا جارفا، واجعل التراب أحمر اللون، بدموع عينى.
فقد خلا إلا يوان كما أرى من وجه حبيبى، وخلا البستان من قده الفارع المديد
ويظهر أن «منوچهرى» كان أكثر الشعراء المتقدمين غراما بالمسمط كما أن «ميرزا داورى الشيرازى» كان أكثر الشعراء المتأخرين إحياء له (1).
وللتمثيل على الصيغة العادية للمسمط، اكتفى بإيراد النبذتين الآتيين من مسمط لم ينشر للشاعر «داورى».
أى بچهـ عرب صبحك الله بخيرا ... صبح است صبوحى بده آن ساغر مى را
زان مى كه بقطب ار بدهى جرعه ويرا ... بر پات بسايد سر إكليل جُدَى را
كردند بناتش بفدا چون تو بنى را
چون چرخ زنى گرد خم باده جدى وار
__________
(1) المترجم: من شعراء القرن التاسع عشر الميلادى.(1/84)
گر نيست ترا باده يكى شيشه ببر كش ... برخيز وعبا را عربى وار بسر كش
همچوعربان دامن خود تا بكمر كش ... يكدست عبا شيشه بدان دست دگر كش
با دامن تر منّت از آن دامن تر كش
وز خانه برو تا بدر خانه خمار
ومعنى هذه الأبيات:
يا فتى العرب صبحك الله بالخير إنه الصباح، فاعطنى الصبوح، وناولنى كأس الخمر
من هذه الخمر التى لو أعطيت جرعة منها لقطب من الأقطاب لألقى بك إلى مدار الجدى
ولقد تفتديك بناته أيها البنى حينما ترقص وتدور حول دن الشراب كما يدور الفلك.
وإذا لم تتهيأ لك الخمر، فاضمم الزجاجة إلى صدرك، ثم انهض وارفع العباءة على رأسك كما يفعل العربى.
ثم اربط حافة ثوبك على وسطك، كما يفعل العرب، وامسك بإحدى يديك العباءة وبالأخرى الزجاجة.
وقدم الشكر وحافة ثوبك مبللة بالخمر، ثم أمض عن منزلك واذهب إلى حانوت الخمار.
وقافية هذا النوع من المسمط، وهو أكثر أنواع المسمطات جريانا، يمكن تصويرها على النحو الآتى:
ا، ا، ا، ا، ا، س
ب، ب، ب، ب، ب، س
ج، ج، ج، ج، ج، س
الخ
وهناك نوع آخر من المسمطات جعله «منوچهرى» يشتمل على وحدات كل منها تشتمل على ستة مصاريع مقفاة على هذا النحو:
ا، ا، ا، ا، ا، ا، ا
ب، ب، ب، ب، ب، ب
ج، ج، ج، ج، ج، ج
الخ(1/85)
والنوع الأول من هذين النوعين الأخيرين شبيه بالمخمسات تماما ولا يفترق عنها إلا فى كون الوحدة الأولى من المخمسات تتألف من خمسة مصاريع مقفاة مع بعضها ثم تختلف القافية بعد ذلك فى سائر المصاريع ما عدا فى المصراع العاشر والخامس عشر والعشرين والخامس والعشرين الخ فإنها تكون متفقة مع قافية الوحدة الأولى.
والمنظومة «المركبة» يكون أساسها فى الغالب «غزلا» من الغزليات، يأخذه الشاعر فيضيف إلى كل بيت منه مصراعين ليصنع منه «مربعا» أو ثلاثة مصاريع ليصنع منه «مخمسا» أو أربعة ليخرج منه مسدسا وهكذا دواليك.
ومثال المخمس قول حافظ الشيرازى (1):
در عشق تو اى صنم چنانم
كز هستى خويش در گمانم
هر چند كه زار وناتوانم
گر دست دهد هزار جانم
در پاى مباركت فشانم
* * * كو بخت كه از سر نيازى
در حضرت چون تو دلنوازى
معروض كنم نهفته رازى
هيهات كه چون تو شاهبازى
تشريف دهد بآشيانم
الخ
و «المسدس» و «المسبع» و «المثمن» وسائر أنواع المنظومات المركبة تجرى على هذا النسق ولا حاجة بنا إلى سوق أمثلة لها.
المستزاد:
أما المستزاد فعبارة عن «رباعية» أو «غزلية» أو «قصيدة» يزاد بعد نهاية كل
__________
(1) المترجم: مثل «براون» للمربع والمخمس بمثلين باللغة الإنجليزية صاغهما ترجمة لقصيدة منوچهرى التى سبق ذكرها فى هامش ص (4742) ولم تر وجها لذكرهما.(1/86)
مصراع من مصاريعها زائدة موزونة لا يستلزمها المعنى أو الوزن وهذه الزوائد تقفى مع بعضها ويكون معناها متصلا بحيث يمكن اعتبارها قصيدة منفصلة قائمة بذاتها:
[وللحريرى فى مقاماته قصيدة ربما أمكن أن يقال عنها إنها كانت محاولة للنظم على هذا الأسلوب فى الشعر العربى (1):
يا خاطب الدنيا الدنية إنها شرك الردى وقرارة الأكدار
دار متى ما أضحكت فى يومها أبكت غدا يا لؤمها من دار
الخ]
ويجب ملاحظة أن معنى القصيدة وكذلك قافيتها تتوافران بغير الزيادة، وإنه ليس من الضرورى أن تبنى القصائد المركبة أو المستزادة على منظومة أخرى سابقه، فلقد أنشئت بعض القصائد أساسا فى ضرب أو آخر من هذه الضروب.
أقسام الشعر بحسب موضوعاته:
بالإضافة إلى التقسيم السابق الذى تناول الشعر بحسب ضروبه هنالك تقسيم آخر يتناوله بحسب موضوعه. ويتصل هذا التقسيم بالقصيدة أكثر مما يتصل بغيرها من ضروب النظم المختلفة التى رأيناها، وربما انطبق أيضا على القطعة و «المثنوية».
وعلى ذلك يمكن تقسيم القصيدة بحسب موضوعها إلى الأقسام الآتية:
(ا) مديحه إذا قصد منها المدح.
(ب) هجويه إذا قصد منها الهجاء.
(ج) مرثيه إذا قصد منها الرثاء.
(د) حكميه إذا قصد منها الفلسفة والحكمة والتصوف.
(هـ) ربيعيه إذا قصد بها وصف الربيع.
(و) شتائية إذا قصد بها وصف الشتاء.
(ز) خزانيه إذا قصد بها وصف الخريف.
__________
(1) المترجم: أورد المؤلف مثلا للمستزاد بالإنجليزية ترجمة للقصيدة السابقة ولكننا وجدنا من الخير للقارئ العربى ان نستشهد بالمثل الذى اوردناه.(1/87)
(ح) مناظره إذا قصد منها المناظرة كمناظرات «أسدى» بين «الليل والنهار» أو بين «الرمح والقوس» أو بين «المجوسى والمسلم» أو بين «الأرض والسماء».
(ط) السؤال والجواب إذا نظمت القصيدة على طريق محادثة بصورة السؤال والجواب.
وقد يتبع الشاعر طريقه «السؤال والجواب» فى الغزليات، كما قد يتبع طرقا أخرى ربما كان أهمها «التلميع» والشعر الملمع عبارة عن المنظومة التى تصاغ بعض أبياتها أو مصاريعها بالعربية وبعضها الآخر بالفارسية أو أية لهجة أخرى من اللهجات الإيرانية.
ولدينا نوع آخر من المنظومات يعرف باسم «الفهلويات» أنشأه الشعراء فى لهجة من اللهجات الإيرانية الخاصة واستمروا يستعملونه حتى القرن الثالث عشر الميلادى، ثم قل استعمالهم له بعد ذلك.
يبقى بعد ذلك أنواع أخرى من الشعر أهمها:
(ا) الموشح (1)
(ب) اللغز
(ج) المعمى
(د) النظيرة: وهى المنظومة التى يصوغها الشاعر قياسا على قصيدة أخرى أو تقليدا لها.
(هـ) التضمين: وهو أن يضمن الشاعر فى منظومته قصيدة أخرى ليست من شعره.
والمثل الوحيد الذى أذكره لهذا النوع الأخير فى اللغة الإنجليزية منحصر فى القصيدة التى كتبها «لويس كاورل» فى كتابه الذى أعيد نشره بعنوان فقد ضمن فيها أبيات القصيدة المشهورة التى مطلعها «».
وإليك الأبيات الأولى من قصيدته:
__________
(1) الموشح العربى الذى كثر استعماله لدى أهل الأندلس والمغرب يشبه المسمطات الفارسية ولكنه يختلف عن الموشح الفارسى.
المترجم: انظر تعريف التوشيح لدى الفرس فى ترجمتى العربية لحدائق السحر ص 160.(1/88)
،:،الشعر الخليط:
ويجب ألا ننسى الإشارة إلى «الشعر الخليط» وهو الذى يستعمل فيه الشاعر ألفاظا فارسية ويعاملها معاملة الألفاظ العربية (1)، وأمثلة هذا الشعر موجودة فى أشعار الشيخ «سعدى» ولكن خير مثل لها موجود فى كتاب ابن أسفنديار المسمى «تاريخ طبرستان» (مؤلف حوالى سنة 1216م 613هـ) ففيه قصيدة طويلة مكونة من أربعة وسبعين بيتا من هذا النوع من الشعر كتبها القاضى «هشام» فى هجاء واحد من معاصريه. وقد أعدت نشر هذه القصيدة فى ص 8581من ترجمتى الإنجليزية المختصرة لكتاب تاريخ طبرستان التى نشرتها فى سنة 1905فى «سلسلة جب التذكارية».
ومطلع هذه القصيدة كما يلى:
أى بفرهنگ وعلم داراء ... ليس ما را بجز تو همتاء
منم وتو كه لا حيا لنا ... هزل را كرده ايم أحياء
وخير أمثلة للشعر الخليط فى اللغات الأوروبية منحصر فى مثلين:
الأول: القصيدة التى عنوانها التى نشرها فى سنة 1529م الشاعر «مرلينوس كوكايوس:».
الثانى: القصيدة التى عنوانها وهى من نظم «وليم درموند» ونشرت فى اكسفورد فى أكتوبر سنة 1691م (2).
وهناك مصطلحات أخرى يستعملونها فى تسمية الأشعار بالنظر إلى موضوعها
__________
(1) المترجم: ضرب المؤلف هنا مثلين فى الإنجليزية عوملت فيهما بعض الألفاظ الإنجليزية معاملة الألفاظ اللاتينية ولم نر وجها لذكرهما.
(2) المترجم: أورد المؤلف نبذة من القصيدة الأخيرة لم نر حاجة إلى إيرادها بنصها.(1/89)
فهناك «الكفريات» وهى القصائد التى تتعلق بالإلحاد والمروق من الدين، وهناك «الخمريات» وهى التى تتعلق بالخمر ومجالس الشراب وهناك أنواع أخرى كثيرة لا نجد أنفسنا فى حاجة إلى تعدادها لأنه لا يمكن ذكرها على وجه التحديد ولأنه لا خفاء فى معرفة موضوعها من التسميات التى أعطيت لها.
وفيما عدا ما ذكرناه، هناك جملة كبيرة من الصناعات البلاغية التى يستعملها كتاب النثر المنمق والشعر المصنوع ومن الواجب على كل من يريد أن يدرك طبيعة الكتابات الأدبية فى الفارسية أو العربية أو التركية أن يلم بها ولو إلمامة بسيطة حتى يتذوق هذه الكتابات ويستسيغها. وكثير من هذه الصناعات لا تعرف فى الإنجليزية الآن ولكن جماعة من كتاب القرن السادس عشر كانوا يستعملونها بكثرة ويهتمون بها اهتماما كبيرا، ومن أحسن أمثلتها ما كتبه «جورج پتنهام:
» عن «فن الشعر الإنجليزى» ونشره فى سنة 1589م ثم أعيد طبعه فى سنة 1869وأغلب أنواع «التجنيس» يمكن الاطلاع على شواهدها فى كتابات «توم هود وفى» «» وما شابه ذلك من الكتب.
قصيدة قوامى الكنجوى:
التى تضم أهم أنواع الصناعات البلاغية
وفى الفارسية قصيدة مصنعة تضم أهم أنواع الصناعات البلاغية التى استعملها البلاغيون والشعراء (1). وهذه القصيدة من إنشاء الشاعر «قوامى الگنجوى» شقيق الشاعر المشهور «نظامى الگنجوى (2)» وهو من رجال القرن الثانى عشر الميلادى (أى السادس الهجرى) وقد ضمنها مائة بيت مذكورة برمتها فى الجزء الأول من كتاب «ضيا پاشا» المعروف باسم «خرابات» ص 201198 وفيما يلى نص هذه القصيدة أورده بيتا بيتا مع ترجمة منثورة له وشرح يبين كنه الصناعة البلاغية التى تقصد به.
__________
(1) المترجم: تعرف هذه القصيدة فى الكتب الفارسية باسم «بدايع الأسحار فى صنايع الأشعار».
(2) المترجم: هذا هو القول المشهور ولكن هناك من يشك فى صحة هذا النسب.(1/90)
«حسن المطلع» و «الترصيع»
1 - أى فلك را هواى قدر تو بار ... وى ملك را ثناى صدر تو كار
ومعناه: يا من يكون هوى قدرك هو الحمل العسير للفلك.
ويا من يكون الثناء على فضلك هو الشغل للملك
فهذا البيت يتضمن صنعتين معروفتين إحداهما تعرف ب «حسن المطلع» وتكون كما يقول «جلادوين» بأن يجتهد الشاعر فى أن يجعل أول بيت من منظومته مطبوعا بحيث ترتاح الآذان لسماعه وتنشط الطباع لإدراكه وأما الصنعة الأخرى فهى «الترصيع» ومعناه اللغوى وضع الجواهر فى الذهب ومعناه البلاغى أن يقسم الكاتب أو الشاعر عبارته إلى أقسام منفصلة ثم يجعل كل لفظ منها فى مقابل لفظ آخر يتفق معه فى الوزن وحرف الروى وفيما يلى مثال بالإنجليزية له:
،! ومثال باللاتينية هو كما يلى (1):
[والترصيع فى البيت الفارسى ظاهر فى الألفاظ المتفقة فى الوزن والروى وهى «فلك» و «ملك» و «هواى» و «ثناى» و «قدر» و «صدر» و «بار» و «كار».]
«الترصيع» و «التجنيس»
2 - تير چرخت ز مهر ديده سپر ... تير چرخت ز مهر ديده سپار
معناه: إن سهم قوسك يرى فى السماء درعا
ونجم المشترى حبا فيك يثبت عينه عليك
فى هذا البيت أيضا صنعتان هما «الترصيع» الذى سبق لنا ذكره وكذلك «التجنيس». والتجنيس على سبعة أقسام كلها ممثلة فى هذا البيت والأبيات الستة التالية. أما الألفاظ التى تمثل النوع الأول من الجناس أو التجنيس التام فى هذا البيت فهى متشابهة من حيث الهجاء والنقط والنطق. فكلمة «تير» تكون بمعنى كوكب المشترى كما تكون أيضا بمعنى «السهم» وكذلك كلمة «چرخ» تكون بمعنى
__________
(1) أنظر ص 101من كتاب: 1872،(1/91)
الفلك كما تكون بمعنى «القوس» وكذلك كلمة «مهر» تكون بمعنى الشمس كما تكون بمعنى الحب وكذلك كلمة «ديده» تكون بمعنى «رأى» أو تكون بمعنى «العين» وكذلك كلمة «سپر» تكون بمعنى الدرع أو تكون «سپار» وهى المادة الأصلية من المصدر «سپردن» بمعنى أن يودع وكلمة «ديده سپار» فى نهاية البيت صفة مركبة بمعنى يودع العين أو «يثبت البصر».
«التجنيس الزائد»
3 - جود را برده از ميانه ميان ... بخل را داده از كناره كنار
ومعناه: ولقد احتضنت الجود، فأخذته من وسط الجميع
وطرحت البخل جانبا، فانتحى إلى ناحية
والتجنيس الذى يمثله هذا البيت هو من النوع الثالث الذى يعرف باسم «التجنيس الزائد» وله مثل آخر فى البيت الخامس وقد سمى كذلك لأن الكلمتين تتجانسان فى الحروف والحركات ولكن إحداهما تنتهى بحرف زائد كما نجد فى «ميان» و «ميانه» وفى «كنار» و «كناره (1)».
«التجنيس الناقص»
4 - ساعد ملك ورخش دولت را ... تو سوارى وهمت تو سوار
ومعناه: وعلى ساعد الملك، وعلى جواد الحظ والإقبال (2)
أنت السوار، وهمتك هى الراكب الفارس (السوارى)
فى هذا البيت مثل للنوع الثانى من التجنيس وهو «التجنيس الناقص» حيث تنفق الحروف فى الكلمات المتشابهة ولكنها تختلف فى الحركات (3).
[شاهده كلمة «سوار» بكسر السين تكون بمعنى ما يلبس على المعصم. وأما كلمة «سوار» بفتح السين فمعناها الراكب أو الفارس].
«التجنيس الزائد»
5پ ست با رفعت تو خانه خان ... تنگ با فسحت تو شارع شار
ومعناه: وبالقياس إلى رفعتك يكون قصر «الخان» حقيرا
__________
(1) المترجم: أورد المؤلف مثلا بالإنجليزية للتجنيس الزائد لم نر حاجة إلى إيراده.
(2) المترجم: ترجمنا كلمة «رخش» بمعنى جواد لأن جواد رستم البطل الإيرانى عرف بهذه التسمية.
(3) المترجم: أورد المؤلف مثلا بالإنجليزية للتجنيس الناقص لم نر داعيا لإيراده.(1/92)
وبالقياس إلى فسحتك يكون شارع «الشار» ضيقا صغيرا (1)
فى هذا البيت نجد مثلا للنوع الثالث من التجنيس وهو التجنيس الزائد الذى سبق لنا الحديث عنه.
التجنيس «المركب»
6 - بى وفاى تو مهر جان ناچيز ... با وفاى تو مهرجان چوبهار
ومعناه: وبغير الوفاء لك لا يكون حبى لروحى شيئا مذكورا
وبوفائى لك يبدو لى الخريف ربيعا نضيرا
فى هذا البيت مثل للتجنيس «المركب» يوجد فى كلمة «مهر جان» الأولى بمعنى «حب الروح» وكلمة «مهر جان» الثانية بمعنى عيد الخريف (2).
التجنيس «المكرر»
7 - صبح بدخواه ز احتشام تو شام ... گل بدگوى ز افتخار تو خار
ومعناه: وبحشمتك يصير صباح من يتمنى السوء لك ليلا
وبفخارك يصير ورد الذى يتحدث بالسوء عنك شوكا
فى هذا البيت مثل للتجنيس «المكرر» [حيث يجعل الكاتب أو الشاعر فى نهاية الأسجاع أو أواخر المصاريع لفظين متجانسين متتاليين ويجوز أن يكون فى صدر اللفظ الأول منهما زيادة] مثلما نجد هنا فى توالى اللفظتين «احتشام» و «شام» وكذلك فى اللفظتين «افتخار» و «خار (3)».
التجنيس «المطرف»
8 - عدلت آفاق شسته از آفات ... طبعت آزاد بوده از آزار
ومعناه: ولقد طهر عدلك الأفاق من الآفات
وتحرر طبعك من عناصر الأذى وإلاساءات
فهنا مثل للتجنيس «المطرف» موجودة فى كلمتى «آفاق» و «آفات» وفى كلمتى «آزار» و «آزاد» فالكلمتان تتجانسان فى جميع حروفهما ما عدا الحرف الأخير منهما (4).
__________
(1) الخان أى الملك «والشار» لقب كان يتلقب به حكام ولاية غرجستان بالقرب من الغور.
(2) المترجم: هنا أيضا يورد المؤلف مثلا للتجنيس المركب ولم نر داعيا لايراده لأنه بالإنجليزية
(3) المترجم: هنا أيضا يورد المؤلف مثلا للتجنيس المكرر ولم نر داعيا لايراده لأنه بالإنجليزية
(4) المترجم: حذفنا المثل الإنجليزى الذى أورده المؤلف لهذا النوع.(1/93)
«تجنيس الخط»
9 - از تو بيمار ظلم را دارو ... وز تو أعداى ملك را تيمار
ومعناه: وبك يكون الشفاء لمن أصابه الظلم
وبك يكون الكفاء لأعداء الملك والدولة
والتجنيس هنا هو من نوع «تجنيس الخط» فكلمة «بيمار» تشابه فى الكتابة كلمة «تيمار» ولا تختلف عنها إلا من حيث الأعجام أى النقط.
الاستعارة
10 - جز غبار نبرد تو نبرد ... ديده عقل سرمه ديدار
ومعناه: ولن تكتحل عين العقل إلا بغبار حروبك وستجعل منه الكحل لبصيرتها فهنا مثل للاستعارة فى قوله «ديده عقل» أى عين العقل بمعنى العقل البصير أو المدرك للأشياء كأنه يراها.
«مراعاة النظير» أو «التناسب»
11 - در گل شرم يافت بى گل تو ... شانه چرخ ماه آيينه دار
ولست أعرف معنى لهذا البيت وربما كان نصه مضطربا ولكن الشاعر يتمثل به للصنعة المعروفة ب «مراعاة النظير» أو «التناسب» وتكون بأن يجمع الشاعر فى بيت من أبياته جملة أشياء من جنس واحد كالشمس والقمر، والسهم والقوس، والشفة والعين، والوردة وزهرة اللعل (1).
[ومراعاة النظير هنا واضحة فى ذكر أشياء متشابهة مثل «چرخ» وماه وشانه وآيينه].
«المدح الموجه»
12 - آن كند كوشش تو با أعدا ... كه كند بخشش تو با دينار
ومعناه: وسعيك يفعل بالأعداء والخصوم
ما يفعله جودك بالدنانير والدراهم.
فهنا مثل «للمدح الموجه» فالشاعر يريد أن يمتدح شجاعة ممدوحه فى مواقع القتال والنزال فيقول له إن شجاعتك تودى بأرواح الأعداء كما يذهب جودك بالدراهم والدنانير.
__________
(1) المترجم: حذفت المثل الإنجليزى الذى أورده المؤلف لهذه الصنعة.(1/94)
«المحتمل للوجهين»
13 - با هواى تو كفر باشد دين ... بى رضاى تو فخر باشد عار
هذا البيت يمثل لنا «المحتمل للوجهين» أى ما يمكن تفسيره على معنيين متضادين. ولما كان معنى هذا البيت يتوقف على تحديد الفاعل والمفعول فإنه ترجمته بإحدى هاتين الترجمتين.
(ا) وبهواك يكون الكفر دينا، وبغير رضاك يكون الفخر عارا
(ب) وبهواك يكون الدين كفرا، وبغير رضاك يكون العار فخرا
ويرى «پتنهام» فى كتابه «فن الشعر الإنجليزى» ص 266 أن هذه الصفة تعتبر من عيوب الأسلوب إلا إذا كانت متعمدة كما يفعل الشرقيون عادة عند ما يريدون المدح ظاهرا ويقصدون فى الحقيقة القدح والهجاء. ولقد ذكر مورير فى كتابه «حاجى بابا» حديثا ورد على لسان الشاعر «عسكر» قال فيه «فكتبت قصيدة جعلتها على وجهين انتقمت فيها لنفسى مما لاقيته من صاحب الخزانة من سوء معاملة وكذلك حرصت على أن تكون على ظاهرها مبدية لمحاسنه ومفاخره فكانت برمتها من ذات المعنيين، ولقد اعتقد لجهله أننى قصدت المدح بينما أنا فى الحقيقة لم أقصد إلا القدح، وظن أننى أعنى بالكلمات العربية الفخمة كثيرا من الحمد والثناء، بينما هى فى نفسها لا تشتمل إلا على أشد عبارات الفحش والهجاء، ولقد أخفيت المعانى التى أردتها بحيث لم يكن أحد ليستطيع الوصول إليها بغير مساعدتى له بالشرح والبيان»
ولقد روى «رشيد الدين الوطواط» فى كتابه «حدائق السحر» حكاية عن أحد الظرفاء من أهل الفضل قال لحائك ثياب اسمه «عمرو» كانت له عين واحدة:
«لو أنك استطعت أن تحيك لى ثوبا بحيث لا يقدر أحد أن يتبين إن كان قباء أو حيّة فإننى سأقول فيك بيتا لا يستطيع أحد أن يتبين منه إن كان مدحا أو هجاء.»
فحاك له «عمرو» هذا الثوب، وقال الشاعر فيه هذا البيت:
خاط لى عمرو قبا ... ليت عينيه سوا
ففى هذا البيت تمنى الشاعر لو كانت عينا عمرو سواء وليس يعلم أحد أيريدهما
سواء فى الأبصار أم فى عدم الإبصار لأن الشطرة الأخيرة تحتمل المعنيين (1).(1/95)
خاط لى عمرو قبا ... ليت عينيه سوا
ففى هذا البيت تمنى الشاعر لو كانت عينا عمرو سواء وليس يعلم أحد أيريدهما
سواء فى الأبصار أم فى عدم الإبصار لأن الشطرة الأخيرة تحتمل المعنيين (1).
«تأكيد المدح بما يشبه الذم»
14 - هست رايت زمانه را عادل ... ليك دستت خزانه را غدار
ومعناه: ورأيك هو الحكم العادل للزمان،
لكن يدك غدارة بالخزانة ليس لها أمان.
هذا البيت يمثل لنا الصنعة المعروفة ب «تأكيد المدح بما يشبه الذم» لأن المصراع الثانى يفيد تأكيدا للمدح الذى ذكر فى المصراع الأول وما غدر يده بالخزائن إلا دليلا جديدا على كرمه وسخائه وعدله.
«الالتفات»
15 - فلك افزون ز تو ندارد كس ... اى فلك نيك گير ونيكش دار
ومعناه: والفلك لا يرفع أحدا أكثر من رفعتك
فتمسك به أيها الفلك واحفظه فى هناء
هذا البيت يمثل لنا صنعة «الالتفات» وهى عبارة عن انتقال الخطاب من شخص إلى آخر، وتكون بانتقال العبارة من المخاطبة إلى المغايبة أو من المغايبة إلى المخاطبة. وقد ذكر جلادوين أمثلة كل نوع فى كتابه «البلاغة لدى الفرس» ص 5856 (2).
«إلايهام»
16 - بخت سوى درت خزان آيد ... راست چون بت پرست سوى بهار
ومعناه: والحظ يزحف إلى بابك
كما يفعل عابد الأصنام نحو معبد البهار
هذا البيت يتضمن الصنعة المعروفة ب «إلايهام» وتكون بأن يذكر الكاتب أو الشاعر فى نثره أو نظمه ألفاظا يكون لها معنيان أحدهما قريب والآخر بعيد، فإذا سمعها السامع انصرف خاطره إلى المعنى القريب بينما يكون المراد منها هو المعنى البعيد أو الغريب.
__________
(1) المترجم: حذفت المثل الإنجليزى الذى أورده المؤلف لهذه الصنعة.
(2) المترجم: هذه الأمثلة موجودة فى كتاب «حدائق السحر» لرشيد الدين الوطواط ويمكن الإطلاع عليها فى الأصل الفارسى أو فى الترجمة العربية التى نشرتها فى سنة 1945 لهذا الكتاب.(1/96)
والإيهام هنا موجود فى كلمة «خزان» فمعناها القريب هو «الخريف» ومعناها البعيد هو «زاحف» وكذلك فى كلمة «بهار» فمعناها القريب هو «الربيع» ومعناها البعيد عبارة عن معبد من معابد الأصنام فى آسيا الوسطى انتسبت إليه أسرة البرامكة المشهورة.
وقارىء هذا البيت ينصرف ذهنه لأول وهلة إلى المعنى القريب لهاتين الكلمتين ولكن الشاعر فى الحقيقة لم يقصد إلا المعنى الآخر البعيد (1).
أنواع «التشبيهات»
والأبيات الثمانية التالية أوردها جملة لأن كل واحد منها شاهد على نوع من أنواع «التشبيهات» المختلفة التى تبلغ ثمانية أنواع، هى الآتية بحسب ترتيب الأبيات:
(ا) التشبيه المطلق (ب) تشبيه التفضيل (ح) تشبيه التأكيد
(د) التشبيه المشروط (هـ) تشبيه الإضمار (و) تشبيه التسوية
(ز) تشبيه الكناية (ح) تشبيه العكس
ولسنا فى حاجة إلى بيان كل نوع من هذه الأنواع فإن تسمياتها تكفى لإيضاح مدلولاتها. وفيما يلى الأبيات الثمانية التى تمثلها:
17 - تيغ تو همچوآفتاب بنور ... سير دارد زمانه را ز نگار
18چرخ وماهى نه نيستى تو از آنك ... نيست اين هر دو را قوام وقرار
19 - بلكه از تست چرخ را تمكين ... بلكه از تست ماه را اظهار
20 - ماهى ار ماه ناورد كاهش ... چرخى ار چرخ نشكند زنهار
21 - گر تو چرخى عدو چراست نگون ... ور تو ماهى عدو چراست نزار
22 - جاى خصمت چوجاى تست رفيع ... آن تو تخت وان خصمت دار
23چون تو در روز شب كنى پيدا ... چون تو از خار گل كنى ديدار
24 - شام گردد چوصبح سرخ لباس ... صبح گردد چوشام تيره شعار
ومعنى هذه الأبيات:
وسيفك كالشمس المنيرة يجعل الزمان مليئا بالجمال والبهاء.
__________
(1) المترجم: حذفت هنا مثلين بالإنجليزية أوردهما المؤلف للتمثيل على هذه الصنعة فى لغته.(1/97)
وأنت الفلك والقمر، لا بل لست كذلك، لأن كلا منهما لا قوام له ولا قزار.
بل الفلك يستمد تمكينه منك وكذلك القمر يستمد بهاءه من طلعتك.
وأنت القمر لو استطاع القمر ألا يصيبه نقصان، وأنت الفلك لو استطاع الفلك ألا يكسر وعده.
وإذا كنت الفلك فلماذا عدوك هو المقلوب، وإذا كنت القمر فلماذا عدوك هو الهزيل الآخذ فى النقصان.
ومكان عدوك رفيع كمكانك، ولكن مكانك هو العرش، ومكانه هو المشنقة.
وعندما تجعل النهار يبدو كالليل، وعندما تجعل الورد يبدو من الأشواك (1).
يصبح المساء كأنه الصبح قد احمر لباسه، ويمسى الصباح كأنه المساء قد أظلم شعاره.
«سياقة الأعداد»
والصنعة التالية تعرف ب «سياقة الأعداد» وفيها يسوق الكاتب أو الشاعر عددا من الأسماء المفردة على نسق واحد بحيث يكون كل واحد منها له معنى قائم بذاته ويكون كذلك تعليلا لشىء آخر كما يبدو من البيت الآتى:
25 - دست برد است گاه عرض هنر ... بسخا ووفا وعدل ويسار
ومعناه: وقد فاز فى وقت عرض الفضل
بالسخاء والوفاء والعدل واليسار
«تنسيق الصفات»
26 - نورت از مهر، لطفت از ناهيد ... برّت از ابر، جودت از كوهسار
معناه: ونورك من نور الشمس ولطفك من لطف «الزهرة»
وبرك من بر السحاب وجودك من فيض الجبال
هذا البيت فيه تمثيل لصنعة «تنسيق الصفات» عندما يذكر الشاعر شيئا بجملة أسماء أو جملة صفات متوالية دون أن يراعى فيها الترتيب أو التنظيم.
__________
(1) جعل النهار يبدو كالليل كناية عن الظلام الذى يصيب النهار بسبب ما يرتفع فى لمعركة من غبار قاتم يحجب ضياء الشمس، وجعل الورد يبدو من الأشواك كناية عن أهدار دم الأعداء بأطراف الرماح والسيوف.(1/98)
أنواع «الحشو»
والأبيات الثلاثة التالية تمثل لنا صناعة «الحشو» التى تكون بإضافة كلمات لا يستلزمها المعنى والحشو أما «قبيح» إذا كان اللفظ الزائد لا محل له بحيث يفسد البيت بوجوده وإما «مليح» إذا حسن به الكلام وازداد رونقه وإما «متوسط» إذا تساوى ذكر اللفظة الزائدة وعدم ذكرها فلا تكون مستقبحة غاية القبح ولا مستحسنة غاية الاستحسان.
27 - الحشو القبيح:
قهرت ار مجتهد شود ببرد ... آسمان را بسخره وبيگار
28 - الحشو المتوسط:
ليك لطف تو اى همايون راى ... بلطف در برآورد ز بحار
29 - الحشو المليح:
باغ عمرت كه تازه باد مدام ... چشم بد دور روضه ايست ببار
ومعنى هذه الأبيات:
وقهرك إذا سعى، فإنه يحمل السماء على أن تكون مسخرة لك وخاضعة.
ولكن لطفك يا صاحب الرأى الملكى يستطيع أن يجلب الدرر من البحار.
وبستان عمرك، وإنى أدعو لك بالنضرة على الدوام، هو روضة مثمرة، أدعو الله ان يبعد عنها عين المسود.
والبيت التالى يمثل الصنعة المعروفة ب «الاشتقاق» أو على الأصح «شبه الاشتقاق» وهى فى الحقيقة نوع من «التجنيس» تبدو فيه الألفاظ كأنها مشتقة من أصل واحد ولكنها فى الحقيقة ليست كذلك:
انواع «السجع»
30 - روز كوشش چوزير ران آرى ... آن قدر پيكر قضا پيگار
ومعناه:
وفى يوم الجهاد عندما تركب جوادك
فلك صورة القدر وتصميم القضاء
هنا نجد أن كلمة «پيكر» وكلمة «پيگار» تبدوان كأنهما من أصل واحد ولكنهما ليستا فى الحقيقة كذلك، والأولى بمعنى «صورة» والثانية بمعنى «عزم» أو «تصميم (1)».(1/99)
وفى يوم الجهاد عندما تركب جوادك
فلك صورة القدر وتصميم القضاء
هنا نجد أن كلمة «پيكر» وكلمة «پيگار» تبدوان كأنهما من أصل واحد ولكنهما ليستا فى الحقيقة كذلك، والأولى بمعنى «صورة» والثانية بمعنى «عزم» أو «تصميم (1)».
والأبيات الثلاثة التالية تمثل لنا أنواع «السجع» التى تسمى على التوالى:
(ا) السجع المتوازى: حيث تتفق الكلمات فى الوزن وعدد الحروف والروى.
(ب) السجع المطرف: حيث تتفق الكلمات فى الروى دون الوزن وعدد الحروف.
(ح) السجع المتوازن: حيث تتفق الكلمات فى الوزن دون الروى.
31 - السجع المتوازى:
در سجودت نوان شوند ز پيش ... بر وجودت روان كنند نثار
32 - السجع المتوازن:
سركشان جهان حادثه ور ... اختران سپهر آيينه دار
33 - السجع المطرف:
آردت فتح در مكان إمكان ... دهدت كوه بر فرار قرار
ومعنى هذه الأبيات:
وفى السجود لك يأتون أمامك فى ذلة وخضوع
وعلى وجودك ينثرون الأرواح والأنفس
المتغطرسون فى هذا العالم الملىء بالحادثات
ونجوم هذا الفلك الممسك بالمرآة.
والفتح يجلب لك الإمكان فى كل مكان.
وعزمك الشبيه بالجبل يعطيك القرار والثبات لا الفرار.
أنواع «المقلوبات»
والأبيات الأربعة التالية تمثل لنا أنواع «المقلوبات» الأربعة وهى:
(ا) مقلوب الكل: حيث تكون الكلمة مقلوبة الحروف لكلمة أخرى كما نجد فى «گرم» و «مرگ».
__________
(1) المترجم: حذفنا الأمثلة الإنجليزية التى أوردها المؤلف للاشتقاق.(1/100)
(ب) مقلوب البعض: حيث يكون فى الكلمتين تقديم وتأخير فى بعض الحروف بحيث لا يشمل ذلك الحروف كلها على التوالى كما نجد فى «رشك» و «شكر».
(ج) المقلوب المجنح: وهو عبارة عن «مقلوب الكل» ولكن الشاعر يضع إحدى الكلمتين فى أول البيت والثانية فى آخره.
(د) المقلوب المستوى: ويكون بأن تستطيع أن تقرأ جملة منثورة مركبة من بضعة ألفاظ، أو مصراعا من الشعر، أو بيتا كاملا منه، بحيث إذا قلبت الجملة أو المصراع أو البيت كان كل واحد فى هذه الثلاثة متفق الأصل مع مقلوبه. وهذا النوع هو أصعب أنواع المقلوب ولكنه أكملها وأجملها.
34 - مقلوب البعض:
رشك قدرت برد سپهر ونجوم ... شكر فتحت كند بلاد وديار
35 - مقلوب الكل:
گرم دارد ز تاب دل پيكان ... مرگ بارد بخصم بر سوفار
36 - المقلوب المجنح:
گنج نصرت دهد گزارش جنك ... راى دولت زند حمايت يار
37 - المقلوب المستوى:
رامش مرد گنج بارى وقوت ... تو قوى را بجنگ در مشمار
ومعنى هذه الأبيات:
إن الفلك والنجوم لتحسدك على قدرك وإن البلاد والديار لتشكرك على فتحك.
وإنه ليشحذ طرف الرمح ويجلوه من نار القلوب فيمطر سهمه الموت على خصمه وعدوه.
وطريقة إنفاذه للحرب تجلب له كنوز النصر وحمايته للأصدقاء تمهد له سبيل الملك.(1/101)
وراحة الإنسان فى جمع الكنز والقوت
فلا تعتبر القوى قويا فى الحرب والقتال.
«رد العجز على الصدر»
والأبيات الثمانية التالية تمثل الأنواع المختلفة من «رد العجز على الصدر» وهى صنعة غير مستفيضة كما يدل عليها إسمها وتقتصر (كما يقول جلادوين) على ذكر كلمة بعينها فى أى جزء من شطرى البيت (1):
38 - كار عدل تو ملك داشتن است ... عدل را خود جز اين نباشد كار
39 - به يسار تو جود خورد يمين ... شد يمين زمانه بر تو يسار
40 - خصم تيمار دولت تو كشد ... خصم نيكوتر است در تيمار
41 - در مقامى كه بار زر بخشى ... ريزش ابر را نباشد بار
42 - مى گذارى برمح وام عدو ... كس نديد است رمح وام گذار
43چرخ از آزار تو نيازارد ... بندگان را كجا كنيد آزار
44 - نارد از خدمت تو بيرون سر ... ورچهـ بشكافيش به نيزه چومار
45 - دشمنان را بداورى وخلاف ... با تقاضاى گنبذ دوار
46 - قهر وكينت به بادداده چوخاك ... لطف وقهرت بآب گشته چونار
ومعنى هذه الأبيات:
وعد لك مشغول بامتلاك الملك، ولا شغل للعدل إلا فى هذا الأمر.
والجود يقسم يمينا صادقة على يسارك، ويمين الزمان أصبحت يسارا لك.
والخصم دائم العناء بسبب دولتك، ومن الخير أن يبقى الخصم فى عناء.
وعندما تهب أحمال الذهب والعطايا، لا يبقى للسحاب مجال لأن يسقط غيثه وأمطاره.
__________
(1) المترجم: يذكر المؤلف أن هذه الصنعة قريبة بما يسمى فى الشعر الإنجليزى باسم أو أو باسم أو أو باسم أو وقد حذفت الأمثلة اللاتينية والإنجليزية التى وردت فى الأصل.(1/102)
وبرمحك، تستطيع ان تسدد الدين للعدو،
ولم ير أحد من قبل أن الرمح يقوم بسداد الديون.
والفلك لا يتأذى بما تفعله فيه من ضرر
وكيف يعقل أنك تؤذى خدمك وأتباعك؟!
ولن يحاول ان يخرج برأسه عن خدمتك
ولو شققته برمحك كما تشق الأفعى!!
ولقد أودى القهر بأعدائك بما هم فيه من خوف وخلاف، قضت بهما أحكام هذه القبة الدائرة.
وقد أسلم قهرك وغضبك أعداءك للرياح، فأصبحوا كالتراب
وقتلهم ماء لطفك وقهرك، كما تفعل الماء بالنار.
والبيت الأخير وكذلك البيت التالى يمثلان ما يعرف «بالمتضاد» حيث يذكر الشاعر فى البيت الواحد ألفاظا يكون الواحد منها مضادا للآخر كما فعل عند ذكر العناصر الأربعة فى آخر الأبيات التى ذكرناها فيما سبق.
«الإعنات» أو «لزوم ما لا يلزم»
والبيتان التاليان يمثلان صنعة «الإعنات» حيث يتكلف الشاعر شيئا لا لزوم له ليزين به كلامه، كأن يلتزم فى آخر الأبيات حرفا قبل حرف الروى تستقيم القافية بدونه، أو كأن يلتزم بتكرار كلمة أو أكثر فى جميع الأبيات (1).
47 - اى نيكوخواه دولت تو عزيز ... واى بدانديش روزگار تو خوار
48 - هر كه زنهار خوار عهد تو نشد ... بسپارش بعالم خونخوار
ومعنى هذين البيتين:
فيا من يصبح مريد الخير لدولتك عزيزا،
ويا من يصبح مريد السوء لأيامك حقيرا.
إن من لا يرعى عهدك وميثاقك
عليك أن تسلمه لهذا العالم الغادر.
وهذه الصنعة تسمى أيضا ب «لزوم ما لا يلزم» وتشتد صعوبتها (خاصة فى ثانى
__________
(1) المترجم: أورد المؤلف ثلاثة أمثلة بالإنجليزية لهذه الصنعة لم أر فائدة من ذكرها.(1/103)
صورها الموضحة في البيتين الفارسيين السابقين) إذا أراد الشاعر أن يصطنعها فى قصيدة طويلة.
«المزدوج»
والبيت التالى بمثل «المزدوج» حيث يضمن الشاعر أبيانه ألفاظا مزدوجة يراعى فيها السجع وذلك بالإضافة إلى القافية
49 - كاه ريزه به نيزه بربائى ... چون كنى عزم رزم اينت سوار
ومعناه:
وأنت تخطف قلامة القش بطرف رمحك، وعندما تعزم على الحرب فيا لك من فارس ماهر!!
«المتلون»
والبيت التالى مثال «للمتلون» حيث يقول الشاعر بيتا من الشعر تمكن قراءته على وزنين مختلفين.
50 - اى بوده قدوه وضيع وشريف ... وى شده قبله صغار وكبار
ومعناه:
فيا من أنت قدوة للوضيع والشريف
ويا من أنت قبلة للصغير والكبير.
فهذا البيت يمكن وزنه كسائر أبيات القصيدة على أحد الوزنين الآتيين:
(ا) الخفيف المخبون المقصور
:: فاعلاتن: مفاع لن: فعلان
(ب) السريع المطوى:
:: مفتعلن: مفتعلن: فاعلان
«إرسال المثل»
والصنعة التالية هى التى تعرف «إرسال المثل» ويلحق بها صنعة؟؟؟
«إرسال المثلين (1)».
__________
(1) المترجم: يذكر المؤلف أن هذا شبيه بما يعرف فى الإنجليزية:
ويذكر أن «پتنهام» يقسمه إلى وو يضرب مثلا للنوع الأخير بالإنجليزية لم نر حاجة إلى ذكره.(1/104)
وقد امتاز بهذه الصنعة جملة من شعراء الفرس ربما كان أشهرهم «صائب الأصفهانى» المتوفى سنة 1677م 1088هـ وقد أصبحت أشعاره نماذج يحتذيها عدد كبير من شعراء الأتراك وكذلك امتاز بها «أبو الفضل السكرى المروزى» الذى حدثنا عنه الثعالبى فى يتيمة الدهر فقال إنه (1) كان مولعا بنقل الأمثال الفارسية إلى العربية:
51 - نكشد آب خصم آتش تو ... نشكند تاب نور مهره مار
52 - گر مهى فارغ از هواى خسوف ... گر ميى ايمن از بلاى خمار
ومعناهما:
وماء خصمك لا يستطيع أن يطفىء نارك،
كما أن حجر (2) الأفعى لا يستطيع أن يتغلب على وهج النور.
وإذا كنت قمرا فإنك فارغ البال لا تفكر فى الخسوف
وإذا كنت خمرا فإنك فى أمن من بلاء الخمار.
والأبيات العشرة التالية أوردها الشاعر مثالا لصنعة «اللغز»:
«اللغز»
53چ يست آن دور وأصل او نزديك ... چيست آن فرد وفعل او بسيار
54 - خام او هر چهـ علم را پخته ... مستى او هر چهـ عقل را هشيار
55 - دلشكن ليك درددل پيوند ... خوش گذر ليك روزگار گذار
56 - رنج او نزد بى دلان راحت ... خوار او نزد زيركان دشوار
57چون دعا خوش عنان وبى مركب ... چون قضا رهنورد وبى هنجار
58 - اندهش همچولهو راحت بخش ... آتشش همچوآب نوشگوار
59 - نعره در وى شكنج موسيقى ... ناله در وى نواى موسيقار
60 - عشق أصليست كز منازعتش ... عقل غمگين بود روان غمخوار
61 - خاصة عشق بتى كه در غزلش ... مدحت شاه مى كنم تكرار
62 - شايد ار زان غزاله بنيوشد ... زين نوا اين غزل بنغمه زار
__________
(1) أنظر ج 4من يتيمة الدهر ص 2522.
(2) يزعمون أن الأفعى تحمل حجرا شديد البريق والضياء، ويعتقد ذلك أهل الشرق والغرب على لسواء.(1/105)
ومعنى هذه الأبيات:
ما الشىء البعيد وأصله قريب وما الشىء الفرد وفعله كثير؟!
ساذجه ينضج العلم ويزيده، والسكر به يجعل العقل يفيق من نشوته.
يحطم القلوب، ولكنه شفاء لآلام القلوب بطىء المرور، ولكن مروره بالأيام سريع
آلامه راحة لدى من لا قلوب لهم، وذلته صعبة لدى المهرة الأذكياء.
طيب كالدعاء لا عنان له ولا مركب، واقع كالقضاء لا دافع له ولا راد.
غمه شبيه باللهو الذى يجلب الراحة، وناره شبيهة بالماء الصافى يطيب لشاربه.
ونعرته شبيهة باللحن الموسيقى، ونحيبه شبيه بألحان الموسيقار.
والعشق أصل، يصبح العقل بمنازعاته محزونا، وتصبح الروح بثوراته أسيفة مغمومه.
وعلى الخصوص عشق هذه الدمية، التى أكرر فى التغزل بها مدائح المليك.
فإذا استمعت الغزالة (أى الشمس) وبكت حزنا،
لهذه النغمة التى أوردها فى هذا الغزل الحزين حق لها ذلك.
والألغاز تكون غامضة فى أغلب الأحوال ومن أجل ذلك يؤسفنى أن أعترف بأننى لم أوفق إلى معرفة حل هذا اللغز السابق. ولكن هناك طائفة أخرى مذكورة مع حلولها فى كتاب «روكرت» عن الشعر الفارسى والبلاغة الفارسية (أنظر ص 338336).
يأتى بعد ذلك «المطلع ذو القافيتين» وهو عبارة عن مطلع توجد فى داخله قافيتان أو مطلع جديد تقفى فيه شطرته الأولى مع الثانية.
«المطلع ذو القافيتين»
63 - از دلم سوسنش ببرد قرار ... بسرم نرگسش سپرد خمار
ومعناه:
وقد سلب سوسنها (صدرها الأبيض) الراحة من قلبى
وأودع نرجسها (عينها) الخمار فى رأسى
ويتلو ذلك التمثيل للصنعة المعروفة ب «تجاهل العارف» وهى شبيهة بما يسميه پتنهام باسم أو(1/106)
«تجاهل العارف»
64 - ويحك آن نرگس است يا جادو ... يا رب آن سوسن است يا گلنار
ومعناه:
ويحك هل هذه نرجسة أم سحر مبين!!
ويا رب هل هذه سوسنة أم هى زهرة الرمان!!
«السؤال والجواب»
ويتلو ذلك التمثيل لصنعة «السؤال والجواب».
65 - گفتم: از جان بعشق بيزارم ... گفت عاشق ز جان بود بيزار
قلت: إننى معنى بالحياة بسبب العشق،
قالت: والعاشق يعنى بالحياة عادة!!
«لموشح»
والبيت التالى مثال «للموشح» ويؤسفنى أن أعترف ثانية بأننى لم أوفق إلى حله (1):
66 - دوست ميدارمش كه يار منست ... دشمن آن به كه خود نباشد يار
وإنى أحبها لأنها صاحبتى وصديقتى
ومن الخير الا يكون الصديق عدوا
«الملمع»
وفى البيت التالى تمثيل للشعر «الملمع» وقد ذكرناه فيما سبق وقلنا إن أمثلته الإنجليزية واللاتينية كثيرة الوجود فى (2).
67 - سوخت در آتشم چهـ ميگويم ... أحرقتنى الهوى بغير النار
أحرقتنى بالنار فما عساى أقول
«أحرقتنى الهوى بغير النار»
والأبيات الخمسة التالية تمثيل للصناعات التى تتعلق بالحروف العربية من حيث وصلها وفصلها. ومن حيث إعجامها أو إهمالها. ومن أجل ذلك لا يمكن التمثيل لها فى اللغة الإنجليزية، وأول أنواعها: هو «المقطع» حيث لا تتصل الحروف ببعضها
__________
(1) المترجم: التوشيح فى الفارسية صنعة يورد بها الشاعر فى أول الأبيات أو وسطها حروفا أو كلمات، بحيث إذا جمعت بعينها أو مع تصحيفها، خرج لنا منها بيت أو مثل أو اسم أو لقب.
(2) المترجم: حذفت مثلين بالإنجليزية فى الأصل كان التلميح فيهما باللغة اللاتينية.(1/107)
وثانيها: هو «الموصل» حيث تتصل جميع الحروف ببعضها ولا تقبل التقطيع وثالثها: هو «المجرد» وهو ضرب من الصناعة لم أستطع الحصول على تعريفه (1)
فيما لدى من كتب البلاغة ورابعها: هو «المرقط» أو «الرقطاء» حيث يكون أحد الحروف منقوطا والآخر عاطلا وخامسها: هو «الأخيف» أو «الخيفاء» حيث تكون كلمة برمتها منقوطة تتلوها كلمة أخرى عاطلة:
68 - المقطع:
زار وزردم ز درد دورىء او ... درد دل دار زرد دارد وزار
69 - الموصل:
تن عيشم نحيف گشت بغم ... گل بختم نهفته گشت بخار
70 - المجرد:
چ هره روشنش كه روز منست ... زير زلفش مهيست در شب تار
71 - الرقطاء:
غمزه شوخ آن صنم بكشاد ... اشك خونم ز چشم خون آثار
72 - الخيفاء:
دل شذ وهم نبينذ از وى مهر ... سر شذ وهم نپيچذ از تن كار
ومعنى هذه الأبيات:
وأنا هزيل مصفر بسبب بعدى عنها، والحزن على الحبيب يجعل المرء هزيلا معتلا.
وقد هزلت حياتى بما أصابنى من غم، واختفت وردة حظى بين الأشواك المتكاثرة.
ووجهها الوضاء هو نهارى الواضح المنير، وتحت ذؤابتها قمر أضاء فى وسط ليلها المظلم.
وقد جعلت هذه الدمية الجميلة تفتح بغمزاتها الجسورة، سيول الدموع من عينى الدامية.
وذهب قلبى ولم يظفر منها بآية من آيات الحب،
وذهب عقلى ولم ينثن عما هو فيه من غواية.
«المعما»
والبيت التالى تمثيل لصنعة «المعمى» ولست أستطيع حله أيضا:
__________
(1) المترجم: ربما يقصد به صنعة «الحذف» وهى التى يطرح بها الشاعر أو الكاتب حرفا من حروف المعجم فلا يستعمله فى شعره أو نثره.(1/108)
73 - موج ودود دل ودو ديده من ... برد دريا وابر را مقدار
ومعناه:
وأمواج قلبى وأدخنته المتصاعدة وعيناى الغارقتان فى البكاء،
قد فاقت البحار الواسعه والسحب الهامية
«التضمين»
والصنعة التالية هى «التضمين» حيث يدخل الشاعر فى شعره بيتا قاله شاعر آخر.
ويشترط فى البيت المضمن أن يكون معروفا متداولا على الألسن وإلا وجب على الشاعر أن يشير إشارة صريحة على تضمينه لهذا البيت خشية أن يتهم بالسرقة والانتحال (1).
وفيما يلى مثال من «التضمين» تجاسرت على صياغته فى أشعار فارسية من نظمى، وقد دعانى إلى نظمه أحد أصدقائى فقد كان يتعشق فتاة إسمها «مى:» وهى كلمة تنطق كما تنطق كلمة «مى» الفارسية بمعنى «الخمر». وقد أخذت البيت المضمن من قول «سعدى الشيرازى» فى كتابه «گلستان»:
مست مى بيدار گردد نيم شب ... مست ساقى روز محشر بامداد
ومعناه:
إن السكران بالخمر (مى) يصحو من نشوته فى منتصف الليل،
أما السكران بالساقى فلا يصحو من نشوته إلا فى صبيحة يوم الحشر.
فصغت منه تضمينا احتوى على صنعتين أخريين هما «التجنيس التام» فى كلمة «مى» وكذلك «الإغراق» وهذا هو قولى:
مست مى بيدار گردد نيم شب فرمود شيخ
آن اگر چهـ قول شيخ است نيست جاى اعتماد
من مى دانم كه هر گاه مست آن گردد كسى
سر ز مستى برندارد روز محشر بامداد
ومعنى هذين البيتين:
قال الشيخ سعدى: إن السكران بالخمر (ب مى) يفيق فى منتصف الليل من خماره.
__________
(1) المترجم: حذفت المثل الإنجليزى الوارد فى الأصل(1/109)
وهذا القول من أقوال «الشيخ سعدى» صحيح ولكن لا يجب تصديقه والاعتماد عليه.
فإنى أعرف فتاة إسمها «مى» كلما سكر بحبها شخص، لا يستطيع أن يرفع رأسه ويتخلص من نشوته حتى صبيحة يوم الحشر.
74 - وصل خواهم ندانم آنكه بكس ... رايگان رخ نمى نمايد يار
ومعناه:
وأنا أريد الوصل فهلا علمت، إن الحبيب لا يبدى طلعته لأحد مجانا
وهنا يجب أن أعترف بحقيقة مزعجة، وهى أننى لا أعرف الجزء المضمن من هذا البيت، ولا من أى الشعراء استعارة ناظم هذه القصيدة، وربما ساعد ذلك كله على أن أتهم بالجهل، ونسى النقاد اتهام الناظم بالسرقة لأنه لم يبين صراحة المكان الذى استقى منه تضمينه.
انواع «الإغراق»
وفيما يلى تمثيل لصنعة «الإغراق» وهى نوع من أنواع «المبالغة» الثلاثة التى تشتمل على:
(ا) التبليغ (المبالغة): حيث تكون المبالغة ممكنة عقلا وعملا.
(ب) الإغراق: حيث تكون المبالغة ممكنة عقلا ولكنها غير محتملة عملا.
(ج) الغلو: حيث تكون المبالغة مستحيلة عقلا وعملا.
الغلو
ومن أمثلة الغلو ما أورده «دولتشاه» فى صحيفة 33من «تذكرة الشعراء» فى البيتين التاليين من قول الشاعر «غضائرى الرازى» فى مدح السلطان محمود الغزنوى:
صواب كرد كه پيدا نكرد هر دو جهان ... يگانه ايزد دادار بى نظير وهمال
وگرنه هر دو ببخشيدى او بروز سخا ... اميد بنده نماندى بايزد متعال
ومعناهما:
وكان من الصواب إن الله الفرد العادل الذى لا نظير له ولا شبيه
لم يظهر للانسان كلا العالمين (الدنيا والآخرة).
ولو أنه فعل ذلك لجاد الملك بهما جميعا فى يوم الجود والسخاء
ولم يبق للعبد بعد ذلك مطمع آخر فى رب السماء!!(1/110)
وأبلغ من ذلك فى «الغلو» ما قال نبيل الزرندى (من بلدة زرند) فى «بهاء الله» رئيس البابية:
خلق گويند خدائى ومن اندر غضصب آيم ... پرده برداشته مپسند بخود ننگ خدائى
ومعناه:
إن الخلق يقولون: إنك الله، ولكننى غاضب مما يقولون!!
فارفع الحجاب عن نفسك، ولا ترض لنفسك بعار الألوهية (1)!!
وفيما يلى البيت الذى ورد فى قصيدة «قوامى» تمثيلا للاغراق:
75 - ور نمايد ز بس صفا كه در اوست ... راز من در رخش بود ديدار
ومعناه:
وإذا أظهرت وجنتها فلكثرة الصفاء الذى يبدو فيها
تبدو أسرارى ظاهرة لعين الرائى!!
«الجمع» و «التفريق» و «التقسيم»
والأبيات السبعة التالية أوردهما الشاعر أمثلة للصناعات التى تعرف باسم «الجمع» و «التفريق» و «التقسيم» والأبيات نفسها تكشف لنا عن الصنعة التى تشتمل عليها:
76 - الجمع:
بر لبش زلف عاشق است چومن ... لا جرم همچومنش نيست قرار
77 - التفريق:
باد صبح است بوى زلفش نى ... نبود باد صبح عنبر بار
78 - جمع وتقسيم:
من وزلفين او نگونساريم ... ليك او بر گل است ومن بر خار
79 - جمع وتفريق:
هست خطش فراز عالم رو ... آن يكى ابر، واين يكى گلزار
__________
(1) أنظر ترجمتى «للتاريخ الجديد:» ص 395. وذكر أننى سمعت أن هذا البيت قاله أصلا أحد غلاة الشيعة فى الحسين بن على رضى الله عنه.(1/111)
80 - تقسيم وتفريق:
غم دو چيز مرا دو چيز سپرد ... ديده را آب، وسينه را زنگار
81 - و 82جمع وتفريق وتقسيم:
همچو چشم توانگر است لبش ... آن باشك، واين بلولوى شهوار
آب آن تيره، آب اين روشن ... آن اين گريه، وآن او گفتار
ومعنى هذه الأبيات:
وطرتها عاشقة لشفتها، كما انا عاشق لها
ومن أجل ذلك فهى مثلى، لا تعرف الهدوء ولا الاستقرار
ورائحة طرتها شبيهة بنسيم الصباح، غير أن نسيم الصباح لا يكون محملا بالعنبر والعبير!!
وأنا وطرتها مقلوبان رأسا على عقب، ولكن طرتها انقلبت على الورد (أى الخدود) وأما أنا فقد انقلبت على الأشواك (اى الأحزان).
وقد علا الشعر فوق وجهها، فكان كالسحاب، وكان وجهها كروضة الورود
ولقد حزنت على شيئين، فأعطانى الحزن عليهما شيئين
ففاضت عينى بالماء، وامتلأ صدرى بصدأ الأحزان!
وأصبحت شفتها غنية مثل عينى
فامتلأت عينى بالدموع، كما امتلأ ثغرها باللآلىء والدرر الغالية
واسود ماء عينى، وصفا بالضياء ماء شفتها
فكان البكاء من نصيب عينى، وكان الحديث الحلو من نصيب ثغرها
«التفسير»
والأبيات الأربعة التالية تمثيل للصنعة التى تعرف ب «التفسير» وهى تنقسم إلى قسمين:
(ا) تفسير الجلى.
(ب) تفسير الخفى.
والنوع الثانى من هذين النوعين ممثل فى البيتين التاليين:(1/112)
83 - جگر وجان و چشم و چهر منست ... در غم عشق آن بت فرخار
84 - هم بغم خسته، هم بتن مهجور ... هم بخون غرقه هم زخم افگار
ومعناها:
وكبدى (1) وروحى (2) وعينى (3) وطلعتى (4) فى عشق تلك الدمية الجميلة.
أضناها الحزن (1)، وفارقت الجسد (2)، وغرقت فى الدماء (3)، وأثخنت بالجراح (4).
أما النوع الأول فممثل فى البيتين التاليين:
85 - خورد وخوردم بعشق آن ناكام ... هست وهستم ز هجر او ناچار
86 - او مرا خون، ومن ورا اندوه ... او ز من شاد، ومن ازو غمخوار
ومعناهما:
وتجرعت وتجرعت فى عشفها بغير رغبة أو حيلة.
وكانت وكنت من هجرها عاجز الأسباب والحيلة
فتجرعت دمى، وتجرعت الأحزان من أجلها
وكانت مسرورة بفراقى، وكنت محزونا لفراقها
«الكلام الجامع»
والبيتان التاليان تمثيل لصنعة «الكلام الجامع» حينما يحاول الشاعر أن يدخل فى أبياته شيئا من الحكمة أو الموعظة أو تجارب الزمان:
87 - مويم از غم سپيد گشت چوشير ... دل ز محنت سياه گشت چوقار
88 - اين ز عكس بلا كشيد خضاب ... وان ز راه جفا گرفت غبار
ومعناهما:
وابيض شعرى، فأضحى كاللبن الصافى بسبب حزنى عليها
واسود قلبى، فأمسى كالقار الأسود بسبب محنتى التى أنا فيها
فتخضب هذا بلون البلاء الذى أصابنى
وتغبر ذلك بغبار طريق الجفاء والهجر!!(1/113)
وابيض شعرى، فأضحى كاللبن الصافى بسبب حزنى عليها
واسود قلبى، فأمسى كالقار الأسود بسبب محنتى التى أنا فيها
فتخضب هذا بلون البلاء الذى أصابنى
وتغبر ذلك بغبار طريق الجفاء والهجر!!
«حسن التخلص» أو «حسن المخلص»
والصنعة التالية هى «حسن التخلص» أو «حسن المخلص» وهى عبارة عن أن ينتقل الشاعر عند ما يصل إلى بيت الانتقال أو ال «گريزگاه» فى الغزل أو النسيب إلى مدح ممدوحه أو إلى أى قصد آخر يقصده بحيث يكون انتقاله على وجه مستطاب وطريقة مستملحة:
89 - غم دل گر ببست بازارم ... مدح شه ميكشايدم بازار
ومعناه:
وقد أغلقت أحزان قلبى الأسواق فى وجهى،
ولكن مدحى للمليك يفتح لى الأسواق المقفلة.
«التزلزل»
والصنعة التالية هى «التزلزل» ويوصف الكلام بها فيقال «المتزلزل» وهى كما قال جلادوين (ص 32) عبارة عن أن يذكر الشاعر لفظا بحيث إذا غير حركة واحدة من حركات حروفه تحول الكلام من المدح إلى الهجو:
90 - شاه قزل ارسلان كه دست ودلش ... هست خصم شمار وخصم شمار
ومعناه:
والملك هو «قزل أرسلان» (1) الذى يده وقلبه
يحوطان بالأعداء ولا يحوطهما العطاء
«الإبداع»
والصنعة التالية هى «الإبداع» وهى فى أبواب البلاغة عبارة عن إبداع (أو أداء) معنى جديد من معنى آخر قديم قاله شاعر سابق أو كاتب متقدم بحيث لا يكون بين المعنيين خلاف إلا من ناحية الصياغة، وهذا قريب جدا من «السرقات الشعرية» ولكنه لا يعاب على قائله، بل يعتبر دليلا على فضله وتبريزه وهو فى هذا مخالف لسائر أنواع السرقات الشعرية التى تشمل «الانتحال» و «المسخ» و «السلخ» (2).
ومن الضرورى أن يكون فى حوزتنا المعنى القديم حتى نستطيع أن نتبين مدى «الإبداع» فى المعنى الجديد ومن أسف أننى لا أعرف أصل البيت التالى:
__________
(1) من أتابكة اذربيجان حكم ما بين سنتى 11911185م 587581هـ.
(2) أنظر كتاب «روكرت» ص 191188.(1/114)
91 - حزمش آورده باد را بسكون ... عزمش افكنده خاك را بمدار
ومعناه:
وحزمه يوقف الرياح ويجعلها فى هدوء وسكون
وعزمه يجعل الأرض فى دورة دائمة.
«التعجب»
والبيت التالى يمثل صنعة «التعجب»:
92 - جاى در گر ميانه درياست ... از چهـ معنيست دست أو دربار
ومعناه:
ومكان الدر واللآلى كائن فى وسط البحر،
ولكن يا عجبا لماذا تمطر يده الدر والجواهر؟!.
«حسن التعليل»
والبيت التالى فيه الإجابة على السؤال السابق وهو تمثيل للصنعة المعروفة ب «حسن التعليل» حيث يفسر الشاعر حقيقة واقعة بعلة خيالية أو شعرية:
93 - رغم دريا كه بخل مى ورزد ... او كند مال بر جهان إيثار
ومعناه:
وبرغم البحر الذى يؤثر البخل ويضن بما فيه، فإنه يؤثر الدنيا بماله وجزيل عطائه
فهنا نجد أن جود الملك سببه ما يشعر به من كراهية لبخل البحر وشحه، والبحر فى العادة معروف بكرمه حتى أصبحوا يصفون الكريم بأنه «دريادست» أى له يد تجود بالعطاء كالبحر.
ومع ذلك فالبيت التالى فى رأيى أجمل فى تمثيل هذه الصنعة من البيت السابق:
حسن ماه را با تو سنجيدم بميزان قياس ... پله مه بر فلك شد، وتو ماندى بر زمين
ومعناه:
لقد وزنت بميزان القياس حسن القمر مع حسنك، فشالت كفة القمر وارتفعت إلى السماء، بينما بقيت كفتك أنت على الأرض
«الطرد والعكس»
والصنعة التالية هى «الطرد والعكس» وهى عبارة عن تغيير مواضع العبارات فى المصراع الأول وذكرها معكوسة فى المصراع الثانى:
94چهـ شكار است نزد او چهـ مصاف ... چهـ مصافست پيش او چهـ شكار
ومعناه:(1/115)
94چهـ شكار است نزد او چهـ مصاف ... چهـ مصافست پيش او چهـ شكار
ومعناه:
وسواء لديه الخروج للصيد او الخروج لميادين القتال، وسواء لديه ميادين القتال أو الخروج للقنص والصيد.
«المكرر»
والبيتان التاليان تمثيل لصنعة «المكرر» وهى شبيهة بالصناعات التى أسماها «پتنهام» باسم وو وخاصة النوع الأخير الذى من أمثلته قولهم:
«،» وقولهم:
» «، وقول «السير والنثر رالى»:
» «.، 95بدره بدره دهد بسائل زر ... دجله دجله كشد ببزم عقار
96 - گشته زان بدره بدره بدره خجل ... برده زان دجله دجله دجله يسار
ومعناهما:
وهو يعطى السائل بدرة بدرة، ويجلب العقار إلى الحفل دجلة دجلة
وقد أصبحت كل بدرة خجلة من بدراته. واغتنى دجله من فرط منحه وهباته
«حسن الطلب» و «حسن المقطع»
والأبيات الأربعة الأخيرة من القصيدة تمثيل للصنعتين اللتين تسميان ب «حسن الطلب» و «حسن المقطع»
97 - خسروا با زمانه در جنگم ... كه بغم من گدازدم هموار
98چهـ بود گر كف تو برگيرد ... از ميان من وزمانه غبار
99 - تا عيان است مهر را تابش ... تا نهان است چرخ را أسرار
100 - روز وشب جز سخا مبادت شغل ... سال ومه جز طرب مبادت كار
ومعناها:
أيها المليك إننى دائم الكفاح مع الزمان،
لأنه يذيبنى دائما فى نار الغموم والأحزان.
فماذا عليك لو استطاعت يدك القادرة، أن ترفع ما بينى وبين الزمان من غبار ونقّار
وما دام ضياء الشمس مرئيا للعيان، وما دامت أسرار الفلك خافية عن التقرير والبيان(1/116)
فماذا عليك لو استطاعت يدك القادرة، أن ترفع ما بينى وبين الزمان من غبار ونقّار
وما دام ضياء الشمس مرئيا للعيان، وما دامت أسرار الفلك خافية عن التقرير والبيان
فإنى أدعو الله ألا يكون لك شاغل طوال الليل والنهار سوى السخاء، وألا يكون لك عمل تعمله طيلة السنين والشهور غير الطرب والهناء
وقد اشتملت القصيدة السابقة على أكثر أنواع الصناعات البديعية وأهمها،
ولكن هناك أنواعا أخرى يمكن أن يطلع عليها الباحث المتعمق
فيما كتبه «جلادوين» و «روكرت» ويجدر بنا أن نضيف إلى ما ذكرناه الأنواع الآتية:
1 - التأريخ:
وهو عبارة عن أن يذكر الشاعر أو الكاتب تاريخ حادثة من الحادثات فى عبارة أو مصراع أو بيت بحيث إذا حسبت الحروف التى تتضمنها العبارة أو البيت بحساب «أبجد» أو الجمل خرج لنا التاريخ المذكور.
وربما كان خير أداء بالإنجليزية لمثل فارسى لهذه الصنعة هو ما قام به «هرمان بيكنل» مترجم حافظ حينما ترجم «التأريخ» المشهور الذى يذكر سنة وفاة حافظ فى البيت الآتى:
چودر خاك مصلى ساخت منزل ... بجو تاريخش از «خاك مصلى».
ومعناه:
ولما كان قد جعل مقامه فى «أرض المصلى»
فابحث عن تاريخه فى عبارة «خاك (1) مصلى»
خ 600
ا 1
ك 20
م 40
ص 90
ل 30
ى 10
المجموع 791أى سنة 791هـ 1389م
__________
(1) المترجم: كلمة «خاك» بالفارسية بمعنى أرض أو تراب و «المصلى» مكان فى شيراز به مدفن حافظ(1/117)
وصعوبة «التأريخ» فى اللغة الإنجليزية أن سبعة من أحرفها فقط هى التى لها قيمة حسابية وهى الأحرف: وو وو وو ومع ذلك فقد استطاع «بكنل:» أن يتغلب على هذه الصعوبة وأن يؤدى البيت الفارسى بالعبارة الإنجليزية الآتية:
(1100) (3309* 103)
فإذا طرحنا 309من 1100كان الناتج 791وهو تاريخ وفاة حافظ (1).
2 - التلميح
التلميح من أجمل الصناعات البلاغية وأحسنها،
وهو عبارة عن الإشارة إلى قول مأثور أو حكاية مشهورة أو بيت معروف من الشعر
وأمثاله فى الإنجليزية ما ورد فى: حيث يقول:
،،. فالتلميح هنا فى قول «هبر» فى قصيدته «فلسطين».
،» «ومن أجمل أمثلته الفارسية ما ورد فى «بستان» الشيخ سعدى (2) حيث يقول:
چهـ حاجت كه نه كرسىء آسمان ... نهى زير پاى قزل إرسلان
ومعناه:
وما الحاجة إلى أن تضع الكراسى التسع للسموات، تحت أقدام قزل إرسلان!!
والتلميح هنا إلى قول «ظهير الفاريابى»:
__________
(1) انظر جملة من التأريخات الأوربية فى ص 2523من كتاب:
. ومن أجمل وأبسط هذه التأريخات تسجيل وفاة الملكة اليصابات فى العبارة الإنجليزية الآتية:
(1604.)
وكذلك تأريخ وفاة «مارتن لوثر» فى عبارة لاتينية تسجل سنة 1546م
(2) أنظر ص 28من طبعة جراف:.(1/118)
نه كرسى فلك نهاد انديشه زير پاى ... تا بوسه بر ركاب قزل إرسلان نهاد
ومعناه: إن الفكر قد وضع تحت أقدامه كراسى الفلك التسعة حتى يقبل ركاب «قزل إرسلان».
وكان «عبيد الزاكانى» من أشهر شعراء التهكم بين الفرس، وقد توفى قبل «حافظ» بما يقرب من عشرين سنة. وله فيما نظم «مثنوية» لا زالت تدرس للأطفال فى إيران عنوانها «الفأر والقط: موش وگربه» وهو يصور فيها قطا عجوزا يلبس لبوس الصلاح والتقوى ليخدع الفئران ويتمكن من اصطيادها وقد ذهب الفئران إلى ملكهم يخبرونه إن القط قد تاب وأناب واشتغل بالتقوى والصلاح.
مژدگانا كه گربه زاهد شد ... عابد ومؤمن ومسلمانا!!
ومعناه:
البشرى البشرى لقد تاب القط وأصبح زاهدا
عابدا مؤمنا مسلما!!
وقد اشتهرت هذه القصة بحيث أضحت عبارة «گربه زاهد شد» أى «لقد تاب القط وأصبح زاهدا» من العبارات التى يشيرون بها إلى كل أثيم زنيم يتظاهر بالتقوى والصلاح ليخدع من حوله ويستطيع جمع ما يشتهيه من مكاسب ومغانم ولقد لمح «حافظ» إلى هذا القول فى بيته المشهور:
أى كبك خوش خرام!! كجا ميروى؟ بايست!
غره مشو كه «گربه عابد» نماز كرد!!
ومعناه:
فيا أيتها القطاة التى تختال فى مشيتها إلى أين تذهبين
قفى ولا تنخدعى إذا أصبح قط العابد بين المصلين (1)!!
صعوبة استعمال التلميح فى الأشعار الإسلامية:
والتلميحات من أصعب المسائل التى يصادفها الباحث الأوربى الذى يشتغل بآداب
__________
(1) المترجم: أنظر الغزل 111من «أغانى شيراز».(1/119)
اللغات الفارسية أو العربية أو التركية أو الإسلامية على العموم. ذلك لأن الثقافة التاريخية أو الأدبية التى يشترك فيها المتعلمون فى البلاد الإسلامية، تختلف تمام الاختلاف عن مثيلتها لدى الأوروبيين والأمم المسيحية. وقد نتج عن ذلك أن التلميح مثلا إلى آية قرآنية يكون ظاهر الدلالة والوضوح للرجل المسلم المتعلم، بينما يتكلف القارىء المسيحى جهدا كبيرا للتحقق من مصدره والوصول إلى دلالته. وأنا أكتفى بمثل واحد لبيان هذه الصعوبة، ربما كانت قصته منتحلة ولكن دلالته كافية فيما نريد.
وخلاصة الخبر أن «الفردوسى» حينما غضب على السلطان «محمود الغزنوى» لعدم تقديره لملحمته الرائعة «الشاهنامه» كتب هجوية لاذعة (1) تركها لدى واحد من أصحابه وأخبره ألا يذيعها إلا بعد فترة من الزمن يتمكن فيها من الذهاب إلى طبرستان والاحتماء بحاكمها «الاصهبذ شيرزاد (2)»، فلما ذاعت هذه الهجوية وقرأها السلطان محمود امتلأ غيظا وحنقا على قائلها وأرسل إلى أمير طبرستان يطلب إليه تسليم الفردوسى، وهدده بأنه سيزحف عليه بأفياله ويخرب بلاده ودياره، ويقتل شعبه ورجاله، إذا هو امتنع عن إجابته إلى مطلبه، فلما وصلت الرسالة إلى الأمير اكتفى بأن يكتب على ظهرها الحروف الثلاثة «ا. ل. م.» ثم بعث بها ثانية إلى السلطان محمود. وقد قيل أن السلطان لم يفهم فى البداية قصده من كتابة هذه الأحرف، ولكن وزراءه ورجال حاشيته تبينوا على الفور مقصده، وعلموا أنه يشير تلميحا إلى ما أصاب «ابرهه» عند ما اعتمد على أفياله وأراد أن يعتدى على «مكة» فى نفس السنة التى ولد بها النبى (صلى الله عليه وسلم) وهى السنة التى عرفت فيها بعد بسنة الفيل. وقد نزلت فى «أصحاب الفيل» سورة قصيرة هى سورة الفيل وفى مطلعها هذه الأحرف الثلاثة ا. ل. م كما يبدو من آياتها القرآنية الآتية:
{«أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحََابِ الْفِيلِ، أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ، وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبََابِيلَ تَرْمِيهِمْ بِحِجََارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ، فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ»}.
وقد كان التلميح إلى هذه الآيات القرآنية وافيا بالغرض حتى ليقال أن السلطان محمودا انثنى عن عزمه ورجع عن تهديده!!
__________
(1) هذه الهجوية موجودة فى مقدمة النسخ المطبوعة من الشاهنامه.
(2) بعض المصادر تسميه «شهريار بن شرزين».(1/120)
ولا شك أن إبداء المهارة فى اقتباس الآيات القرآنية أو التلميح إليها يعتبر من أجمل الصناعات التى يعجب بها المسلمون عامة والتى تحتل مكانة أثيرة فى قلوبهم.
وستتهيأ لى الفرصة ثانية للحديث عن هذا الموضوع فى نهاية هذا الفصل.
3 - التصحيف:
والتصحيف من أجمل الصناعات. وهو عبارة عن تغيير مواضع النقط التى تستعمل فى كثير من حروف الأبجدية العربية، فإذا تغيرت مواضع هذه النقط وبقى بناء الأحرف على شكلها الأصلى تغير معنى العبارة «المصحفة» تغيرا تاما. ومن أمثلته ما ورد فى «بستان الشيخ سعدى (1)».
مرا بوسه گفته بتصحيف ده ... كه درويش را توشه از بوسه به
ومعناه:
إعطنى قبلة «بوسة» مع تصحيفها
فإن الزاد «توشه» خير للدرويش من القبلة «بوسه (2)»
ولا يمكن التمثيل لهذا الضرب من الصناعة إلا باستعمال الحروف العربية، ولولا ذلك لاستشهدت بقصيدة رائعة أوردها «رشيد الدين» فى كتابه «حدائق السحر (3)».
لو صحفت أبياتها لتغير معنى كل منها وانتقل مغزاها من المدح والثناء إلى القدح والهجاء. فمثلا لو أخذنا المصراع الذى يقول فيه:
* هست در أصلت بلندى بى خلاف *
ومعناه:
* والرفعة فى أصلك بلا خلاف *
ثم صحفناه لأصبح المصراع:
__________
(1) صفحة 166من طبعة جراف.
(2) المترجم: كلمة «بوسه» فى الفارسية بمعنى قبلة، وكلمة «توشه» بمعنى زاد أو قوت.
(3) المترجم: أنظر ص 170من ترجمتى العربية لكتاب «حدائق السحر».(1/121)
* هست در أصلت پليدى بى خلاف *
ومعناه:
* والضعة فى أصلك بلا خلاف *
4 - الهجو والجواب:
ولقد يبدو فى هذه المرحلة أنه من الواجب علينا أن نتحدث فى إجمال عن الهجو «» والجواب «».
أما الهجو فقد كان لدى العرب، منذ جاهليتهم، من أقوى الأسلحة التى يتزودون بها، وكان الشعراء يذكرون فى قصائدهم المعروفة باسم «المثالب» كل ما ينسب إلى خصومهم من دواعى الخزى والعار وأسباب الشين والشنار وربما كانت هجوية «الفردوسى» فى السلطان محمود وهى التى أشرنا إليها فيما سبق من أوائل القصائد الفارسية التى قيلت فى الهجاء. وهذه القصيدة لاذعة حقا ولكنها خالية من عبارات الفحش والإقذاع التى تشوه كثيرا من الهجويات العربية والفارسية على السواء وفيما يلى ترجمة الأبيات الخمسة الأولى من أبياتها:
ولطالما بذلت فى إكمال الشاهنامه الجهود المضنية والسنين الطويلة
لكى يهبنى الملك نقوده الوفيرة وعطاياه الجليلة
فلم يعطنى شيئا إلا الضجر والعناء، ولم أفز منه بشىء إلا التافه الهباء!!
ولو كان والد الملك من أصل ملكى عزيز
لتوج رأسى بتاج من الذهب الخالص الإبريز!!
ولو كانت أمه سيدة كريمة الأصل عالية القدر،
لأغرقنى إلى ركبى فى ذهب وفضة بغير حصر!!
ولكنه محروم من كل عظمة فى أصله ونجاره
ومن أجل ذلك لم يستطع أن يسمع أسماء العظماء فى أسماره (1)!!
__________
(1) المترجم: فيما يلى النص الفارسى هذه الأبيات نقلا عن تذكرة الشعراء ص 53(1/122)
ولمن شاء أن يعرف مثلا من أمثلة الفحش الذى يحط من قيمة كثير من الهجويات الفارسية أن يقرأ فى دقة وتمعن مجموعة الهجويات المنظومة التى تبودلت فى العراك الذى نشأ بين الشاعر خاقانى (المتوفى فى سنة 1199م 596هـ) وبين أستاذه ومعلمه «أبى العلاء الگنجوى» وهذه الهجويات منشورة مع ترجمتها فى المقال الممتع الذى نشره «خانيقوف» بعنوان «مقالة عن خاقانى الشاعر (1) الفارسى فى القرن الثانى عشر»، وفيما يلى الرباعية التى قالها «أبو العلاء» فافتتح بها هذا النزاع المستطير الذى وقع بين الشاعرين، وهذه الرباعية هينة يسيرة إذا قورنت بما تلاها من منظومات شديدة الفحش، ومن أجل ذلك فالمقام يسمح لى بترجمتها، أما نصها الفارسى فكما يلى:
خاقانيا گر چهـ سخن نيك دانيا ... يك نكته گويمت بشنو رايگانيا
هجو كسى مكن كه ز تو مه بود بسن ... باشد كه پدر بودت تو ندانيا
وأما ترجمتها فكما يلى:
يا خاقانى إنك ماهر فى صناعة الأشعار والكلام
ولكن دعنى أحدثك بمسألة دقيقة واستمعها منى مجانا
حذار أن تهجو بعد اليوم من يكبرك سنا، فلعله أن يكون أباك وأنت لا تعلم ذلك!!
أما الهجوية التى يتضمنها البيتان التاليان فربما كانت أفضل أنموذج صادفته للهجويات الفارسية المهذبة التى لا يبلغها اللوم ولا يصيبها التجريح وهذان البيتان منسوبان للشاعر «كمال بن اسماعيل الأصفهانى» الذى قتله المغول عند غارتهم على
__________
بسى سال بردم بشهنامه رنج ... كه تا شاه بخشد مرا تاج وگنج
بجز خون دل هيچ چيزم نداد ... نشد حاصل من ازو غير باد
اگر شاهرا شاه بودى پدر ... بسر بر نهادى مرا تاج زر
اگر مادر شاه بانو بدى ... مرا سيم وزر تا بزانو بدى
چواندر تبارش بزرگى نبود ... نيارست نام بزرگان شنود
(1) أنظر 1865 ...
وهذا المقال منشور أيضا فى «المجله الآسيوية» عدد أغسطس سنة 1864.(1/123)
أصفهان فى سنة 13381237م 635هـ، ونصهما الفارسى كما يلى:
گر خواجه ز بهر ما بدى گفت ... ما چهره ز غم نمى خراشيم
ما غير نكوئيش نگوئيم ... تا هر دو دروغ گفته باشيم
ومعناهما:
إذا كان السيد قد تحدث فى شأنى بالشر وسوء الكلام
فإننى لن ألطم من أجل ذلك الخدود فى حزن واغتمام!!
ولن أتحدث فى شأنه إلا بالخير والإحسان
حتى يصبح كل منا مشهورا بالزور والبهتان!!
أما «الجواب» فقد يكون «معارضة» لقصيدة أخرى أو مجرد تقليد لها وفى هذه الحالة يسمى «نظيرة».
وأشهر شعراء المعارضة الذين ظهروا فى إيران هم:
1 - عبيد الزاكانى: الشاعر الساخر الذى توفى حوالى سنة 1370م 772هـ وقد نشرت جملة منتخبة من آثاره المنظومة والمنثورة فى مدينة القسطنطينية فى سنة 1885م 1303هـ.
2 - أبو إسحاق الشيرازى: ويعرف أيضا باسم «بسحق الشيرازى» شاعر الأطعمة.
3 - نظام الدين محمود القارى اليزدى: شاعر الألبسة.
وقد نشرت طائفة منتخبة من آثار الاثنين الأخيرين فى القسطنطينية أيضا فى سنة 1303هـ.
وليس من شك، أن أول هؤلاء الشعراء كان أكثرهم تفوقا فى فنه بحيث يمكن أن يعتبر أكبر شعراء التهكم بين الفرس. وقد امتاز بعلو كعبه فى النثر والشعر، وسيتسع المجال للحديث عنه فى تفصيل عندما نصل إلى الحديث على العصر الذى عاش فيه.
* * *
التشبيهات والاستعارات تسودها روح المحافظه:(1/124)
* * *
التشبيهات والاستعارات تسودها روح المحافظه:
والحديث عن البلاغة لدى المسلمين يطول ويتشعب ويتسع لأكثر مما أوردته فيما سبق من صفحات، ولكن المجال يمنعنى من أن أضيف إليه شيئا الآن. وربما كان من الخير أن أرجع القارىء الذى يرغب فى مزيد من الإيضاح إلى الكتب التى كتبها فى هذا الموضوع «جلادوين» و «روكرت» و «جب» و «بلوخمان» وإلى كتاب المسلمين أنفسهم الذين ألفوا كثيرا فى مثل هذه الموضوعات.
ومع ذلك أرى لزاما علىّ أن أتحدث باختصار عن كتاب كبير الفائدة لكل مشتغل بالشعر الغزلى لدى الفرس وأقصد به كتاب «أنيس العشاق» تأليف «شرف الدين رامى» الذى عاش فى النصف الأخير من القرن الرابع عشر الميلادى (القرن الثامن الهجرى) وموضوع هذا الكتاب يقتصر على الحديث على التشبيهات التى يستعملها الكتاب فى وصف قسمات المعشوق ومعالم حسنه وقد ترجمه إلى الفرنسية وعلق عليه الأستاذ «كليمان اويار:» أستاذ اللغة الفارسية فى مدرسة اللغات الشرقية الحية وطبعه، فى پاريس سنة 1875م.
وهذا الكتاب يشتمل على تسعة عشر فصلا يتحدث فيها مؤلفه عن الموضوعات التالية بهذا الترتيب:
الشعر الجبين الحواجب العيون الأهداب الوجه الصدغ الخال الشفاه الأسنان الفم الذقن الرقبة الصدر السواعد الأصابع القد الوسط الأقدام.
ويبدأ المؤلف فى كل فصل من فصول الكتاب بذكر الأسماء المختلفة التى يطلقها العرب والفرس فى تسمية العضو الذى يتحدث عنه، ثم يفرق بين دلالات هذه التسميات كلما ساعده المجال على ذلك، ثم ينتقل إلى ذكر الاستعارات التى يستعملها الكتاب والشعراء لهذا الجزء من الجسم، وما يتصل به من أوصاف، مراعيا فى ذلك أن يسوق الأمثلة والشواهد الكثيرة من أقوال الشعراء المختلفين.(1/125)
فالحاجب مثلا يسمى فى الفارسية «ابرو» وهو إما متصل أى مقرون، أو منفصل أى مفروق واتصاله يعتبر من دلالات الحسن والجمال، وشعراء الفرس يستعملون فى الحديث عنه ثلاثة عشر تشبيها واستعارة فهم يصفونه بأنه «الهلال» أو «القوس» أو «قوس قزح» أو «العقد المقوس» أو «المحراب» أو «حرف ن» أو «حرف ك» أو «رأس الصولجان المعقوف» أو «الوسم» الذى يسمون به الخيل والماشية لمعرفة أصحابها أو «الطغراء» التى يتوجون بها مراسيم الحسن والجمال. فإذا تحدث المؤلف عن «الشعر» وجدنا أن الاستعارات والتشبيهات التى يجيزها الاستعمال تزيد على هذا العدد بكثير، وقد ذكر المؤلف أنها تبلغ الستين فى الفارسية ولكن من الجائز أن تزيد على ذلك لأن «الشعر» كما يقولون يتصف بمائة صفة، أوردها المؤلف فى تفصيل فائق جميل.
الشعر الاسلامى تسوده روح المحافظة:
والمحافظة فى الشعر لا تقتصر على أوزانه وقوافيه وإنما تمتد إلى صميم موضوعاته، وإلى ما يشتمل عليه من مقابلات وتشبيهات واستعارات ومحسنات بديعية وما إلى ذلك من سائر الأمور التى تعارف عليها المسلمون منذ القرنين الحادى عشر والثانى عشر الميلاديين (الخامس والسادس الهجريين). وهذا القول ينطبق خاصة على «القصيدة» بمعناها الفنى ومن هنا نجد أن تقدير الأوروبيين للشاعر الفارسى وعظمته، يختلف فى أغلب الأحيان عما ينعقد عليه الرأى لدى مواطنيه. ذلك لأن جمال الأفكار وحدها هى التى يمكن المحافظة عليها عند الترجمة، بينما يختفى جمال الأسلوب مهما كان المترجم ماهرا أو قادرا. ومن هنا نجد أن «عمر الخيام» الذى لا يرقى به مواطنوة إلى شعراء الدرجة الثالثة، قد ذاع صيته فى أوربا أكثر من غيره من شعراء بنى جلدته، بينما بقى شعراء القصائد مثل «الأنورى» و «الخاقانى» و «ظهير الفاريابى» مجهولين حتى بأسمائهم لدى أهل الغرب، رغم ما فازوا به من تقدير كبير لدى مواطنيهم من الفرس.(1/126)
أساس النقد فى الموضوع والأسلوب:
وقد جرى شعراء العرب ينكرون الذين عاشوا فى العصر الكلاسيكى، وأقصد به العصر الجاهلى وعصر النبى والخلفاء الراشدين والعصر الأموى، على طبيعتهم وسليقتهم فلم يتأثروا بشىء من المؤثرات الخارجية، وظلوا صورة صادقة للوسط الذى يعيشون فيه بحيث أن الصعوبة التى نقابلها فى فهم أشعارهم ترجع أساسا إلى عدم معرفتنا بهذا الوسط، لا إلى ما تشتمل عليه أشعارهم من تشبيهات بعيدة أو استعارات خيالية خافية لأن هذه الأشعار فى الحقيقة سليمة التعبير، تفيض على طبيعتها دون أن يفسدها عامل من عوامل التأثير والتعقيد.
ولو رجعنا إلى «العصر الأموى» لوجدنا أن قواعد النقد كانت تبنى على الأفكار والمعانى التى تشتمل عليها المنظومات لا على صياغتها وأسلوبها، ويبدو لنا ذلك واضحا من القصة المروية فى الكتاب الممتع الذى اسمة «الفخرى (1)» فى التاريخ وخلاصتها أن عبد الملك (الخليفة الأموى الذى حكم من سنة 705685م 8666هـ) التفت يوما إلى جلسائه فسألهم: ما تقولون فى قول القائل:
أهيم بدعد ما حييت فإن أمت ... فوا حربا ممن يهيم بها بعدى
قالوا: «معنى حسن»
قال: «هذا ميت كثير الفضول! ليس هذا معنى جيدا»
قالوا: «صدقت»
قال: «فكيف كان ينبغى أن يقول؟»
فقال رجل منهم: كان ينبغى أن يقول:
أهيم بدعد ما حييت فإن أمت ... أو كل بدعد من يهيم بها بعدى
قال عبد الملك: «ما أحسنت!!»
قالوا: «فكيف ينبغى أن يكون؟»
قال: «كان ينبغى أن يقول:
__________
(1) المترجم: أنظر ص 114من كتاب «الفخرى» فى «الآداب السلطانية والدول الإسلامية» طبع طبعة المعارف بمصر سنة 1923.(1/127)
أهيم بدعد ما حييت فإن أمت ... فلا صلحت دعد لذى خلة بعدى
قالوا: «أنت يا أمير المؤمنين أشعر الثلاثة!!».
فهذه القصة تدلنا دلالة قاطعة على أن الأمر كله كان وقفا على الأفكار والمعانى لا على الألفاظ والأساليب.
ابن خلدون ورأيه فى الأسلوب:
والآن فلننظر إلى ما قاله أكبر مؤرخى العرب الفيلسوف الشهير «ابن خلدون» (المولود فى تونس سنة 1322م 722هـ. والمتوفى فى القاهرة سنة 1406م 809هـ) فهو يقول فى الفصل الثامن والأربعين من مقدمته تحت عنوان «فصل فى أن صناعه النظم والنثر إنما هى فى الألفاظ لا فى المعانى» ما نصه (1):
«إعلم أن صناعة الكلام نظما ونثرا إنما هى فى الألفاظ لا فى المعانى، وإنما المعانى تبع لها وهى أصل. فالصانع الذى يحاول ملكة الكلام فى النظم والنثر إنما يحاولها فى الألفاظ، يحفظ أمثالها من كلام العرب ليكثر استعماله وجريه على لسانه، حتى تستقر له الملكة فى لسان مضر، ويتخلص من العجمة التى ربى عليها فى جيله، ويفرض نفسه مثل وليد ينشأ فى جيل العرب ويلقن لغتهم كما يلقنها الصبى حتى يصير كأنه واحد منهم فى لسانهم وذلك أنا قدمنا أن للسان ملكة من الملكات فى النطق يحاول تحصيلها بتكرارها على اللسان حتى تحصل له. والذى فى اللسان والنطق إنما هو الألفاظ، وأما المعانى فهى فى الضمائر. وأيضا فالمعانى موجودة عند كل واحد وفى طوع كل فكر منها ما يشاء ويرضى، فلا تحتاج إلى صناعة، وتأليف الكلام للعبارة عنها هو المحتاج للصناعة كما قلناه، وهو بمثابه القوالب للمعانى فكما أن الأوانى التى يغترف بها الماء من البحر منها آنية الذهب والفضة والصدف والزجاج والخزف، والماء واحد فى نفسه، وتختلف الجودة فى الأوانى المملوءة بالماء باختلاف جنسها لا باختلاف الماء كذلك جودة اللغة وبلاغتها فى الاستعمال تختلف باختلاف طبقات
__________
(1) المترجم: أوردت الأصل نقلا عن مقدمة ابن خلدون طبع بيروت سنة 1900م، ص 577.(1/128)
الكلام فى تأليفه باعتبار تطبيقه على المقاصد، والمعنى؟؟؟ وإنما الجاهل بتأليف الكلام وأساليبه على مقتضى ملكة اللسان؟؟؟ عن مقصوده ولم يحسن، بمثابة المقعد الذى يروم النهوض ولا يستطيع؟؟؟ لفقدان القدرة عليه».
ويستمر «ابن خلدون» بعد ذلك فى دراسة مسهبة لهذه الأساليب التى نصوغ فيها أفكارنا فنكتسب بها بهجة وجمالا، ثم ينصح القارىء بأن يحتذى فى عبارته أساليب الشعراء الجاهليين من العرب، وكذلك أساليب «أبى تمام» الشاعر الذى جمع ديوان الحماسة وتوفى فى منتصف القرن التاسع الميلادى (منتصف الثالث الهجرى) و «كلثوم بن عمر العتابى» الذى نشأ على عهد «هارون الرشيد» و «ابن المعتز» الذى تولى الخلافة يوما واحدا انتهى بمقتله فى سنة 908م 296هـ. و «ابى نواس» شاعر الرشيد المعروف بالعبث والدعابة و «الشريف الرضى» المتوفى سنة 1015م 406هـ. و «عبد الله ابن المقفع» المحوسى الأصل الذى قتل فى سنة 760م 143هـ. و «سهل بن هارون» المتوفى سنة 860م 246هـ.
و «وابن الزيات» الوزير الذى قتل فى سنة 847م 233هـ. و «بديع الزمان الهمذانى» مؤلف المقامات المتوفى سنة 1008م 399هـ. و «الصابى» مؤرخ الدولة البويهية المتوفى سنة 1056م 448هـ.
ثم يستمر «ابن خلدون» فيقول إن الذى يحذو حذو هؤلاء ويحفظ مؤلفاتهم لا بد بالغ بأسلوبه أجمل المراتب، وسيبرز بغير شك عمن يحتذى حذو كتاب القرنين الثانى عشر والثالث عشر الميلاديين (السادس والسابع الهجريين) من أمثال «ابن سهل» و «ابن النبيه» و «البيصانى» و «عماد الدين الكاتب الأصفهانى» ثم يأخذ «ابن خلدون» بعد ذلك فى تعريف «الشعر» وفقا لما أبداه من آراء فيقول (1):
«الشعر هو الكلام البليغ المبنى على الاستعارة والأوصاف، المفصل بأجزاء متفقة فى الوزن والروى، مستقل كل جزء منها فى غرضه ومقصده عما قبله وبعده، الجارى على أساليب العرب المخصوصة به».
وقبل ذلك بصحيفة تقريبا شبه «ابن خلدون» الناثر أو الشاعر لمهندس
__________
(1) انظر ص 573من مقدمة ابن خلدون طبع بيروت أو ص 335جزء 3من طبعة كاترمير فى پاريس سنة 1858م.(1/129)
أو النساج، لأن حاله شبيهة بحالهما فى وجوب احتذاء كل منهم لنموذج أو قالب أو منوال يجعله نصب عينه وغاية أمله وهو من أجل ذلك يميل إلى اتباع رأى جماعة من النقاد يرون استبعاد «المتنبى» و «أبى العلاء المعرى» من زمرة أساطين العربية لا لشىء إلا لأن كلا منهما كان نسج وحده ولم يتقيد بأساليب العرب التى أقرها الاستعمال الطويل المستمر.
روح المحافظة فى أساليب الشعر والنثر فى الفارسية:
فإذا رجعنا بعد ذلك إلى الفرس وهم تلاميذ العرب المخلصون وجدنا أن ما ذكرناه فى هذا الصدد عن العرب ينطبق عليهم أيضا تمام الانطباق. وصاحب كتاب «چهار مقاله (1)» يذكر أن: كاتب الديوان لا يبلغ شأوا عاليا فى صناعته حتى يأخذ بطرف من كل علم، وحتى يتلقى النكات الرقيقة من أفواه الأساتذة المبرزين، وحتى يستمع إلى لطائف الحكماء الماهرين، وحتى يقتبس طرائف الأدباء القادرين» ومن أجل ذلك وجب على كل من يريد التبريز فى الكتابة أن يقرأ فى العربية كلام رب العزة وأخبار المصطفى وآثار الصحابة وأمثال العرب وكتابات «الصاحب إسماعيل ابن عباد» و «الصابى» و «قدامة بن جعفر» و «بديع الزمان الهمذانى» و «الحريرى» وجماعة آخرين من الكتاب وكذلك أشعار «المتنبى» و «الأبيوردى» و «الغزى» وعليه فى الفارسية أن يقرأ «قابوس نامه» الذى ألفه «كيكاوس» حاكم طبرستان من آل زيار فى سنة 1082م 475هـ. و «الشاهنامه» من نظم الفردوسى وأشعار «الرودكى» و «العنصرى».
وما زالت المغالاة فى المحافظة واتباع القديم تسيطر على كل الأمور الأدبية المتصلة بإيران دون أن يصيبها شىء من الضعف أو التراخى. ولكن المدرسة الحديثة فى تركيا استطاعت أن تنتصر عليها انتصارا مؤزرا بفضل المجهودات التى بذلها «ضيا پاشا» و «كمال بگ» و «شناسى افندى». وفى الحقيقة، إن روح المحافظة هذه قد
__________
(1) المترجم: انظر 13من «چهار مقاله» طبع ليدن سنة 1909م حيث يقول بالفارسية:
«أما سخن دبير بدين درجه نرسد تا از هر علم بهره ندارد، واز هر أستاد نكته ياد نگيرد، واز هر حكيم لطيفه نشنود، واز هر أديب طرفه اقتباس نكند».(1/130)
وقفت حجرا عثرة فى سبيل الخلق والإبداع، وكانت سببا فى التكرار الممل فى الموضوعات والأساليب وطرق الأداء ولكنها من ناحية أخرى كانت العامل الأكبر فى حفظ اللغة الفارسية وحمايتها من التبذل الذى أصاب أحيانا لغتنا الإنجليزية وغيرها من اللغات الأوروبية بفعل العباقره الشاردين الذين لم يتفيدوا بمراعاة القديم ولم يظفروا بقسط وافر من الدقة والمران.
التصنع صفة عارضة فى الاساليب الفارسية:
ومن الحق أن نقرر هنا أن الأساليب الفارسية كانت كالأساليب العربية تختلف وفقا للأزمنة والأمكنة. وقد رأينا أن قواعد النقد التى اتبعها «دولتشاه» فى نهاية القرن الخامس عشر الميلادى (أى التاسع الهجرى) تختلف كثيرا عما اتبعه صاحب «چهار مقاله» فى منتصف القرن الثانى عشر (أى السادس الهجرى) بينما نجد أن «ابن خلدون» قد منعه شغفه بالقديم من أن يعجب بالإغراق فى استعمال المحسنات البلاغية التى انتشرت فى كتابات أهل المشرق وكذلك فى كتابات بنى جلدته خلال القرون الثلاثة الأخيرة.
ومع ذلك كله فإننا لا نعدم أن نصادف البساطة واليسر فى كتابات القدماء والمحدثين من الفرس على السواء، فيما كتبوه من نظم أو نثر على السواء، فكتاب «الإيقان» وهو من كتب «البابية» الذى كتبه «بهاء الله» حوالى سنة 1859م يمتاز بمتانة الأسلوب وقوته حتى ليشبه كتاب «چهار مقاله» الذى ألف من قبله بسبعة قرون وكذلك المنظومات التى ينظمها الشعراء المعاصرون فى «تعزية الحسين» أو الأغانى الشعبية التى تعرف باسم «التصانيف» كل هذه تبلغ فى سلامتها وعدم تكلفها مبلغ ما قاله «الرودكى» من أشعار جميلة رائعة. بينما نجد أن هذا الأسلوب المتصنع المشحون بالمحسنات البلاغية الذى يعرفه كل من قرأ «أنوار سهيلى» يأخذ فى السيطرة على «الآداب الفارسية» كلما كان رعاتها من أصل تركى أو مغولى، حتى يبلغ هذا الأسلوب ذروة مداه على أيدى الكتاب والشعراء العثمانيين من أمثال «ويسى» و «نرگسى».(1/131)
الفصل الثّانى عصر الدولة الغزنوية منذ بدايته إلى وفاة السلطان محمود الغزنوى
حالة فارس في نهاية القرن العاشر الميلادى (1):
الأوضاع العامّة في ذلك الوقت
عند ما أذن القرن العاشر الميلادى (الرابع الهجرى) بالزوال كانت «البلاد الفارسية» ما زالت تابعة إسميا للخلافة فى بغداد وكان الخليفة فى ذلك الوقت هو «القادر بالله» وقد طالت مدة خلافته من سنة 991م إلى 1031م (381إلى 422هـ). ولكن «البلاد الفارسية» فى الحقيقة كانت مقسمة فى هذه الفترة بين «السامانيين» وعاصمتهم فى «بخارى» وبين الديالمة من «آل بويه» الذين تسلطوا على الأقاليم الجنوبية والجنوبية الغربية وأصبح لهم الحكم المطلق فى بغداد والسيطرة الفعلية على الخليفة بحيث أضحى فى الواقع آلة فى أيديهم يحركونها كيف يشاءون. يضاف إلى هاتين الدولتين إمارتان صغيرتان حكمتا على التتابع فى «طبرستان (2)» و «كردستان» وهما «آل زيار» و «آل حسنويه». والظاهر أن هذه الدول جميعها كانت من أصل إيرانى (فارسى أو كردى) والظاهر أيضا أن حكامهم جميعا لم يلقبوا بألقاب «السلاطين» وظل الواحد منهم يلقب بلقب «الأمير» أو «الإصفهبذ» أو «الملك» وفى هذا دلالة كبيرة على أنهم كانوا يعتبرون أنفسهم أمراء على الولايات أو حكاما على الأقاليم لا تبلغ مرتبتهم مرتبة السلاطين.
__________
(1) أى نهاية القرن الرابع الهجرى
(2) طبرستان القديمة تشمل حاليا مازندران وگيلان أى الإقليم الواقع جنوب بحر قزوين إلى جبال «البرز».(1/132)
«البويهيين» «السامانيين» «الزياريين»
وقد عاصر «البيرونى» هذه الدول التى نتحدث عنها واستطاع أن يذكر لنا فى تفصيل أصل الدول الثلاث الهامة منها (1). فذكر أن «البويهيين» ينتسبون إلى الملك الساسانى «بهرام گور» ولكنه شك فى هذا النسب بعض الشك، وقال إن بعض الناس يرجعونهم إلى أصل عربى ومع ذلك فانتسابهم إلى بيت الملك الساسانى أو عدم انتسابهم إليه لا يدعو إلى الشك مطلقا فى جنسيتهم الفارسية الواضحة.
أما «آل سامان» فقد ذكر «البيرونى» عنهم إن الإجماع ينعقد على صحة نسبهم إلى «بهرام چوبين» الذى كان مرزبانا على بعض ولايات فارس أثناء حكم الملك الساسانى «خسرو پرويز» من سنة 590إلى سنة 627م.
فلما تحدث عن «الزياريين» أرجع نسبهم إلى الملك الساسانى «قباذ» من سنة 448إلى سنة 531م. ولكن يجب ألا يغيب عن بالنا أن شكوك «البيرونى» فى نسب بعض هذه الدويلات وتأكيداته فى نسب بعضها الآخر، ربما كان مرجعه إلى بعض العوامل السياسية التى أملت عليه دائما أن يثبت لنا نبل الأصل الذى انتسب إليه مولاه الكريم وصاحب نعمته «قابوس بن وشمگير الزيارى» الملقب ب «شمس المعالى قابوس» وربما كانت هذه العوامل السياسية نفسها هى التى أوحت إليه أن يرضى مولاه بالدأب فى الطعن فى نسب «آل بويه». ويؤكد لنا صحة هذا الرأى ما ورد فى جزء آخر من كتابه (2) ذكر فيه «البيرونى» أن البويهيين حقيقون بكثير من اللوم والتعنيف لإغداقهم الألقاب الفخمة على وزرائهم، وأن هذه الألقاب ماهى إلا أكذوبة كبرى من أكاذيبهم الكثيرة فإذا انتهى من ذلك مدح مولاه «شمس المعالى قابوس» وذكر أنه لم يختر لنفسه إلا لقبا بسيطا لا يتجاوز معناه ما اتصف به من صفات عالية رفيعة.
منزلة الأدب فى خراسان وطبرستان وجنوب فارس:
كان مقر السامانيين فى «خراسان» وكانت هذه الولاية فى ذلك الوقت أكثر
__________
(1) أنظر «الآثار الباقية» وكذلك ص 4844من ترجمة «سخاو» لهذا الكتاب.
(2) أنظر ص 131من ترجمة «سخاو» للآثار الباقية.(1/133)
اتساعا من الولاية التى تعرف بهذا الاسم حاليا، لاشتمالها إذ ذاك على الأقاليم الواسعة من «آسيا الوسطى» وقد قلنا فى الجزء الأول من هذا الكتاب إنها مهد الأدب الفارسى الإسلامى. وقد تحدث «الثعالبى» عنها فى حماس فائق فذكر إنها «مثابة المجد، وكعبة الملك، ومجمع أفراد الزمان، ومطلع نجوم أدباء الأرض، وموسم فضلاء الدهر (1)». ومع ذلك فلا يجب أن نتصور أنها فاقت الأقاليم الجنوبية من إيران فى الأدب والعلم وعلى الخصوص إقليم «فارس» لأن هذا الإقليم هو فى الواقع مهد العظمة الفارسية الحقيقية. والثعالبى نفسه يورد لنا بيتين من الشعر قالهما الشاعر «أبو أحمد بن أبى بكر» من أبناء الدولة السامانية الذين عاشوا فى نهاية القرن التاسع الميلادى (الثالث الهجرى) يتضح منهما أن منزلة «خراسان» كانت تالية لمنزلة العراق فى الفضل والعلم (2). بل ما زال يجرى على الألسنة فى إيران بيت تافه من الشعر يصم الخراسانيين بأنهم ماجنون مهرجون (3) (الدنگ).
ورغم ذلك كله، كان فى «خراسان» بعث اللغة الفارسية الأدبية بعد الفتح الإسلامى، لأنها كانت أقصى ولايات الخلافة وأكثرها بعدا عن «بغداد» حاضرة «الثقافة الاسلامية» التى ظلت تستعمل اللغة العربية كلغة الأدب المعترف بها فى
__________
(1) أنظر ص 33من الجزء الرابع من يتيمة الدهر طبع دمشق وكذلك مقالة المستشرق «باربييه دى مينار» فى «المجلة الأسيوية» عدد مارس ابريل سنة 1854 ص 293بعنوان «صورة الأدب فى خراسان وماوراء النهر فى القرن الرابع الهجرى» وعنوانها الفرنسى.
. (2) المترجم: انظر يتيمة الدهر ج 4ص 3ونص البيتين كما يلى:
لا تعجبن؟؟؟ من راقى رأيت له ... بحرا من العلم أو كنزا من الأدب
واعجب لمن؟؟؟ ببلاد الجهل منشاؤه ... إن كان يفرق بين الرأس والذنب
وانظر أيضا مقالة «باربييه دى مينار» التى أشرنا إليها فيما سبق
(3) أنظر كتاب «سنة بين الفرس» 232، ونصه بالفارسية.
از خراسان مثل من ... الدنگ مى آيد برون
وكلمة «الدنگ» عند الخراسانيين بمعنى فاسق او فاجر او شرير.(1/134)
الولايات الممتدة من إسپانيا إلى سمرقند حتى حطم المغول الخلافة فى منتصف القرن الثالث عشر الميلادى (السابع الهجرى).
وكانت «طبرستان» أيضا من الولايات البعيدة النائية التى استطاعت أن تحتفظ باستقلالها عن خلفاء بغداد وعن حكام السامانيين فى «خراسان» طوال المدة التى حكمها فيها قادتها المعروفون باسم «الإصبهبذ (1)» ثم البيت العلوى الشيعى ثم آل زيار. وكانت تزدهر فيها ثقافة أدبية رفيعة تدل عليها هذه النبذ الكثيرة التى وردت فى أسبق تواريخها الذى ألفه «ابن اسفنديار» فى النصف الأول من القرن الثالث عشر الميلادى (السابع الهجرى). فقد أشار فيه إلى طائفة كبيرة من التأليفات العربية. وكذلك نقل فيه مجموعة من الأشعار العربية التى أنشدها منشدوها فى القرنين التاسع والعاشر الميلاديين (الثالث والرابع الهجريين) وخاصة أثناء حكم أئمتها الزيديين (2) (928864م 316250هـ) كما ذكر فيه طائفة من الكتب الفارسية من بينها كتاب أو كتابين فى اللهجة «الطبرية» الخاصة (3).
__________
(1) هولاء ظلوا يحكمون طبرستان فترة طويلة بعد الفتح الإسلامى وزوال ملك سادتهم الساسانيين.
(2) انظر القسم الأول الفصل الرابع (ورقه 42ب وما يليها من المخطوط المحفوظ بإدارة الهند، وكذلك صحيفة 42وما يليها من ترجمتى الإنجليزية) وفيه يذكر المولف ملوك طبرستان وأعيانها وأولياءها ورجالها المشهورين وكتابها وحكماءها ومنجميها وفلاسفتها وشعراءها، وقد ذكر من بين شعرائها المشهورين «ابا عمرو» الذى كان يسمى «شاعر طبرستان» حوالى سنة 870م 257هـ وكذلك «أبا العلاء السروى» و «السيد الأطروش» وقد نسب إلى «السيد أبى الحسين» طائفة من الكتب العربية المثورة، وأورد أسماء خمسة من أهم مولفاته.
(3) يذكر ابن اسفنديار طائفة كبيرة من الأشعار التى قيلت باللهجة الطبرية ومن بينها الأشعار التى قالها «خرشيد بن أبى القاسم المامطيرى» و «باربد الجريدى». ولكن يظهر أن أقدم كتاب فى هذه اللهجة هو كتاب «نيكى نامه» الذى أصبح فيما بعد أساسا للكتاب الفارسى «مرزبان نامه» (أنظر كتاب شيفر «مختارات فارسية مجلد 2 ص 195»:. 195.،.،: وكذلك نقل «ابن اسفنديار» طائفة من الأشعار الطبرية التى قالها «على پيروزه» الملقب ب «ديواروز» وكان من المعاصرين لعضد الدولة البويهى (منتصف القرن العاشر الميلادى والرابع الهجرى).(1/135)
وقد يكون مثارا للحيرة والتساؤل أن نرى أن قدرا قليلا جدا من الأدب الفارسى قد نشأ على أيام «البويهيين» رغم ما نعرفه عنهم من أنهم كانوا فرسا وكانوا شيعة وكانوا من كبار رساة العلوم والآداب بحيث أضحى من أكثر الأمثله جريانا على الألسن قولهم: «أبلغ من العبادين» أى من وزيرهم المعروف «الصاحب اسماعيل بن عباد» ومؤرخهم الكبير «الصابى». فإذا لاحظنا أن جملة الأدب الذى نشأ فى أكنافهم كان عربيا، لم يمكننا تفسير هذه الظاهرة بأكثر من أنهما كانت نتيجة لازمة لعلاقاتهم التى احتفظوا بها مع «بغداد» مقر الخلافة وعاصمة الإسلام. ومع ذلك كله فلن يخامرنا أدنى شك فى أن الشعر الفارسى قد نما وترعرع فى قصور البويهيين كما نما وترعرع عندهم أيضا الشعر العربى. وقد ذكر «محمد عوفى» وهو أقدم من سجل تراجم شعراء الفرس فى كتابه «لباب الألباب» إسمى شاعرين من الشعراء، أنشدا الشعر بالفارسية وكانا محلا لرعاية «الصاحب اسماعيل ابن عباد» وهما «منصور بن على الرازى» الملقب ب «المنطقى» و «أبو بكر محمد بن على السرخسى» الملقب ب «الخسروى». وقد أخبرنا «عوفى» أن أولهما كان مقربا من «الصاحب» وقد قال فى مدحه القصائد الفارسية. ونقل لنا «عوفى» بعض أمثلتها ومن بينها الأبيات الثلاثة الفارسية التى طلب الصاحب من «بديع الزمان الهمذانى (1)» ترجمتها إلى العربية ليختبر قدرته فى الكتابة والإنشاء عند ما قدم إليه وهو فى الثانية عشرة من عمره (2).
وأما ثانيهما وهو «الخسروى» فقد قال شعرا عربيا وفارسيا فى مدح الحاكم الزيارى فى طبرستان «شمس المعالى قابوس بن وشمگير» وكذلك فى مدح «الصاحب ابن عباد». ونجد أيضا شاعرا ثالثا هو «قمرى الجرجانى» قد تغنى بأشعاره الفارسية فى مدح هذا الأمير.
السلطان محمود الغزنوى:
أما مجموعة الشعراء المنشدين؟؟؟ الذين كانت تزدان بهم قصور الفاتح العظم
__________
(1) هو مؤلف «المقامات» التى تعتبر كنزا حاويا لذخائر؟؟؟ اللغة العربية ولا يفضلها إلا مقامات «الحريرى»
(2) أنظر «لباب الألباب» ج 2ص 1916.(1/136)
السلطان محمود الغزنوى الذى تولى العرش بعد أبيه «سبكتگين» فى سنة 998م 388هـ. فقد كانت أبعد شهرة وأقوى مكانة من كل من ذكرناه من الشعراء فيما سبق لنا من قول.
وقد ارتفعت الدولة الغزنوية إلى الأوج فى قليل من الزمن بفضل همة «محمود» وحسن قيادته، ثم أسرعت بعد ذلك إلى حضيض الزوال أمام قوة «السلاجقة» المتزايدة. ويرجع أصلها فى الحقيقة إلى سنة 962م 351هـ حينما أسسها عبد تركى اسمه «الپتگين» من عبيد السامانيين فى مدينة «غزنه» فى وسط الهضاب الأفغانية المرتفعة. ولكن هذه الدولة لم يتم تكوينها سياسيا إلا بعد أربعة عشر عاما من هذا التاريخ عندما تولاها «سبكتگين» والد «محمود» وكان هو أيضا عبدا لمؤسسها الأول «الپتگين». وبذلك نجد أن محمودا الذى عرف فيما بعد بألقاب كثيرة من بينها «بطل الإسلام» و «فاتح الهند» و «محطم الأصنام» و «يمين أمير المؤمنين» و «يمين الدولة» لم يكن فى الحقيقة إلا إبنا لعبد كان مملوكا لعبد آخر وقد استغل «الفردوسى» هذه الحقيقة فى هجائه لمحمود حينما خابت آماله فى الحصول على مكافأة جديرة بما لاقاه من نصب وعناء مدة ثلاثين سنة قضاها فى نظم ملحمته الخالدة «الشاهنامه» فاستطاع فى طرفة عين أن يمحو الشهرة العريضة التى حازها نصير الآداب «محمود الغزنوى» وأن يقلبها إلى أخبث أنواع الشين والشنار، بحيث إذا جاء «جامى» بعد ذلك بخمسة قرون نجده يقول البيت الآتى مصداقا لهذا المعنى:
گذشت شوكت محمود ودر فسانه نماند ... جز اين قدر كه ندانست قدر فردوسى
ومعناها:
لقد مضت شوكة «محمود» وطوتها الأساطير.
ولم يبق منها إلا أنه لم يعرف للفردوسى قدره الكبير!!
ووفقا للنهج الذى أنتهجناه فى الجزء الأول من هذا الكتاب لن يفوز منا السلطان «محمود الغزنوى» إلا بإلمامة يسيرة للغاية وسنقصر جل عنايتنا على هذه الدائرة من النشاط الأدبى العلمى الذى ظهر على أيامه، والذى استطاع محمود بواسطة التخويف لا الترغيب أن يجعل مركزه فى قصره بحيث كانت ترنو إليه الأبصار
وتشخص إليه الأنظار. أما أعماله فتدل على عبقرية حربية وسياسية فائقة. فقد استطاع أن يغلب السامانيين على أمرهم وأن يغزو الهند وينازل الهنود فى اثنتى عشرة معركة فى مدة أربع وعشرين سنة (10241001م 415392هـ) وأن يريد حدود مملكته التى ورثها حتى امتدت من بخارى وسمرقند إلى گجرات وقنّوج وشملت فيما شملته أفغانستان وما وراء النهر وخراسان وطبرستان وسجستان وكشمير وجزءا كبيرا من الولايات الواقعة فى الشمال الغربى من الهند. حتى إذا كانت سنة 1030م 421هـ أدركته الوفاة. وبعد ذلك بسبع سنين انتقل ملكه العريض فعليا إلى أيدى السلاجقة الأتراك، ولو أن دولته التى أسسها لم يفض عليها القضاء النهائى إلا فى سنة 1186م 582هـ عندما استولى «ملوك الغور» على آخر ممتلكاتها فى الهند وأوقعوا بها الواقعة القاصمة.(1/137)
ووفقا للنهج الذى أنتهجناه فى الجزء الأول من هذا الكتاب لن يفوز منا السلطان «محمود الغزنوى» إلا بإلمامة يسيرة للغاية وسنقصر جل عنايتنا على هذه الدائرة من النشاط الأدبى العلمى الذى ظهر على أيامه، والذى استطاع محمود بواسطة التخويف لا الترغيب أن يجعل مركزه فى قصره بحيث كانت ترنو إليه الأبصار
وتشخص إليه الأنظار. أما أعماله فتدل على عبقرية حربية وسياسية فائقة. فقد استطاع أن يغلب السامانيين على أمرهم وأن يغزو الهند وينازل الهنود فى اثنتى عشرة معركة فى مدة أربع وعشرين سنة (10241001م 415392هـ) وأن يريد حدود مملكته التى ورثها حتى امتدت من بخارى وسمرقند إلى گجرات وقنّوج وشملت فيما شملته أفغانستان وما وراء النهر وخراسان وطبرستان وسجستان وكشمير وجزءا كبيرا من الولايات الواقعة فى الشمال الغربى من الهند. حتى إذا كانت سنة 1030م 421هـ أدركته الوفاة. وبعد ذلك بسبع سنين انتقل ملكه العريض فعليا إلى أيدى السلاجقة الأتراك، ولو أن دولته التى أسسها لم يفض عليها القضاء النهائى إلا فى سنة 1186م 582هـ عندما استولى «ملوك الغور» على آخر ممتلكاتها فى الهند وأوقعوا بها الواقعة القاصمة.
وطالما وصف الكتاب محمودا الغزنوى بأنه كان نصيرا كبيرا للأدب والفنون ولكنه فى رأيى أقرب إلى أن يوصف بأنه من كبار «الخاطفين» لرجال الآداب والفنون. وكثيرا ما كان يعاملهم فى النهاية معاملة تنطوى على كثير من الازدراء والامتهان كما يتضح لنا ذلك من قصته التى رويناها عن الفردوسى. ولم يكن بين رجال العلم فى زمانه من يفضل «ابن سينا» و «البيرونى» وقد كان أولهما حكيما فيلسوفا تتلمذ على «ارسطو» و «جالن» وأصبح بذلك أستاذا للبلاد الأوروبية فى القرون الوسطى وأما ثانيهما فكان مؤرخا يشار إليه بالبنان. وكان مولد أولهما فى سنة 980م 370هـ ومولد الثانى قبل ذلك بسبع سنوات تقريبا وكان الاثنان يعيشان عيشة هانئة (1) مع زمرة منتخبة من رجال العلم والأدب مثل الفيلسوف «أبى سهل المسيحى» والطبيب «أبى الخير الحسن بن الخمار» والرياضى «أبى نصر ابن العرّاق» لدى «مأمون بن مأمون» أمير خوارزم الذى اغتصب محمود أملاكه فى سنة 1017م 408 (2) هـ. ولقد أرسل محمود قبل ذلك إلى «مأمون» خطابا، أنفذه على يد واحد من أتباعه المسمى «حسين بن على بن ميكائيل» يقول فيه. لقد سمعت أن جماعة من رجال العلم يقومون على خدمة أمير خوارزم مثل فلان
__________
(1) أنظر كتاب «چهار مقاله» القصة 35وكذلك ص 124118فى الترجمة الإنجليزية.
(2) انظر ترجمة «سخاو» لكتاب «الآثار الباقية» ص 8.(1/138)
وفلان وكل واحد منهم قد أصبح نسج وحده وبرز فى علمه، ومن الواجب عليك أن ترسلهم جميعا إلى قصرى حتى يتشرفوا بلقائى، فنحن نرجو أن ننتفع بعلمهم وفنهم، ونرجو أن يحقق لنا أمير خوارزم هذه الرغبة التى أيديناها»
ابن سينا يفر من قبضة محمود:
وكان هذا الخطاب على ظاهره معتدل اللهجة، ولكنه فى الحقيقة كان مجرد أمر من محمود إلى «مأمون» أن يبعث إليه بمن لديه من رجال العلم والأدب. وقد فهمه «مأمون» على هذا الوجه، فأرسل يستدعى الرجال الذين وردت اسماؤهم فى سطوره، فلما حضروا إليه قال لهم: «إن السلطان محمودا رجل قوى وقد جمع الجيوش الجرارة من خراسان والهند، وهو يحرص على الاستيلاء على العراق (خوارزم) ولست أملك أن أخالف له أمرا أو أعصى له طلبا فما عساكم تقولون فى ذلك؟!»
فأبدى ثلاثة من الرجال وهم «البيرونى» و «الخمار» و «العرّاق» رغبتهم فى الذهاب إليه، مدفوعين فى ذلك بما سمعوه عنه من نخوة وكرم. ولكن «ابن سينا» و «المسيحى» آثرا الرفض واستطاعا بمعونة «مأمون» أن يعملا على الهرب والفرار. فأما «المسيحى» فقد هلك فى عاصفة رملية اجتاحته فى الصحراء وأما «ابن سينا» فقد استطاع بعد معاناة كثير من الشدائد أن يصل إلى «ابيورد» ثم ارتحل منها إلى «طوس» ف «نيسابور» حتى وصل فى النهاية إلى «جرجان» وكان يتولاها فى ذلك الوقت رجل العلم والأدب «شمس المعالى قابوس بن وشمگير» (المقتول فى سنة 1012م 403هـ).
وكان «ابن سينا» أول الرجال الذين طلبهم محمود، فلما علم هذا الأخير بهربه أمر رجاله أن يصوروا صورته، وأن يذيعوها فى أنحاء البلاد. وفى هذه الأثناء استطاع «ابن سينا» أن يشفى أحد أقارب «قابوس» فاستدعاه هذا الأمير ليعبر له عن إعجابه بحكمته، فلما مثل بين يديه، عرف أنه الرجل الذى يرغب فيه «محمود» ولكنه لم يشأ أن يسلمه إليه واستبقاه لديه مكرما مبجلا، فبقى فى خدمته حتى سافر إلى «الرى» ودخل فى خدمة «علاء الدولة محمد» حتى أصبح وزيرا له. وقد
تمكن «ابن سينا» طوال هذه الفترة كما يحدثنا صاحب «چهار مقاله (1)» من أن يكتب فى الساعات المبكرة من الصباح صفحتين يوميا من كتابه الفلسفى العظيم «الشفاء».(1/139)
وكان «ابن سينا» أول الرجال الذين طلبهم محمود، فلما علم هذا الأخير بهربه أمر رجاله أن يصوروا صورته، وأن يذيعوها فى أنحاء البلاد. وفى هذه الأثناء استطاع «ابن سينا» أن يشفى أحد أقارب «قابوس» فاستدعاه هذا الأمير ليعبر له عن إعجابه بحكمته، فلما مثل بين يديه، عرف أنه الرجل الذى يرغب فيه «محمود» ولكنه لم يشأ أن يسلمه إليه واستبقاه لديه مكرما مبجلا، فبقى فى خدمته حتى سافر إلى «الرى» ودخل فى خدمة «علاء الدولة محمد» حتى أصبح وزيرا له. وقد
تمكن «ابن سينا» طوال هذه الفترة كما يحدثنا صاحب «چهار مقاله (1)» من أن يكتب فى الساعات المبكرة من الصباح صفحتين يوميا من كتابه الفلسفى العظيم «الشفاء».
البيرونى والسلطان محمود الغزنوى:
فإذا رجعنا الآن وهلة قصيرة إلى حياة «البيرونى» فى القصر الغزنوى كما وصفتها الحكاية الثالثة والعشرون من كتاب «چهار مقاله» فإننا نجد أن السلطان محمودا الغزنوى جلس يوما فى مدينته غزنة فى قصره الصيفى ذى الأبواب الأربعة، وكان يتوسط حديقته ذات الألف شجرة، فطلب من البيرونى أن يحسب النجوم ويخبره عن الباب الذى سيتخذه مخرجا من القصر، وأذعن «البيرونى» لأمر مولاه، وكتب إجابته على ورقة طواها ووضعها تحت وسادته. عند ذلك أمر السلطان بأن يحدثوا فى الحائط ثغرة جديدة فجعلها فى هذه المرة مخرجه من القصر، ودعا بالورقة التى كتبها البيرونى فلما قرأها اشتدت دهشته لأن «البيرونى» كان قد كتب فيها العبارات التالية:
«لن يخرج الملك من هذه الأبواب الأربعة، ولكنه سيحدث ثغرة فى الحائط الشرقى يدلف منها إلى الخارج». وكان السلطان محمود يريد أن يهزأ بالبيرونى، فلما وجد إجابته على هذا النحو غضب غضبا شديدا، وأمر رجاله فألقوه من فوق السقف، ولكنهم تلقوه فى شبكة نصبوها فوق الأرض، ثم أحضروه إلى الملك ثانية فسأله: «هل استطعت أيضا أن تتنبأ بما حدث لك فى هذه المرة؟»
فأسرع البيرونى إلى أحد جيوبه وأخرج منه دفترا قد كتب فيه: «اليوم سيلقى بى من مرتفع، ولكنى سأصل الأرض سالما، ولن يصيب جسدى شىء من السوء!!»
وكشر الملك عن نابه مرة ثانية، وأمر رجاله فحبسوه فى القلعة فبقى فى محبسه ستة أشهر حتى استشفع له وزيره «أحمد بن الحسن الميمندى» الذى انتهز فرصة مواتية فقال لمولاه: «إن أبا ريحان البيرونى رجل مسكين حقا، فقد تنبأ مرتين بأمور صادقة، ولكنك بدل أن تخلع عليه الخلع الجميلة قيدته بالقيود والأغلال الثقيلة»
__________
(1) أنظر الحكاية السابعة والثلاثين.(1/140)
فقال الملك لوزيره: «إننى أعلم أن هذا الرجل لا نظير له إلا ابن سينا، ولكن تنبؤانه جاءت على غير مرامى، والملوك كالأطفال الصغار، لكى تنال خيرهم يجب أن تتحدث بما يجول فى خواطرهم، وكان من الخير له فى ذلك اليوم أن تفشل إحدى نبوءاته ومع ذلك أصدر أمرك فى الغداة أن يفرجوا عنه، وأن يمنحوه جوادا مطهما، وأن يخلعوا عليه خلعة غالية، وأن يعطوه ألف دينار وعبدا وجارية جميلة».
وبمثل هذه المكافأة المتأخرة عن أوانها، أراد السلطان محمود (كما فعل مثل ذلك تماما مع الفردوسى) أن يكفر عن سيئاته التى ارتكبها فى ساعة من ساعات الغضب الذى لا مبرر له، وفى ساعة من ساعات الشك الذى لا أساس له.
أبو الفتح البستى:
ومن بين رجال الأدب المعروفين بالمهارة فى الإنشاء العربى نظما ونثرا «أبو الفتح البستى» وقد أخذه «سبكتگين» والد محمود عندما تم له الاستيلاء على مدينة «بست» وهزيمة حاكمها «بايتوز». وقد انتقل هذا الكاتب البارع والشاعر المبدع إلى خدمة السلطان محمود ومات فى بخارى منفيا (1) فى سنة 400هـ 1009م. وقد كان ماهرا فى الصناعات البديعية، وله قصيدة معروفة يخبرنا «المتنبى» بأنها كانت عالية الشأن فى زمانه يحفظها الناس عن ظهر قلب، وما زال «المنشدون» ينشدونها إلى الآن فى مقاهى «القاهرة» ومطلعها (2):
زيادة المال فى دنياه نقصان ... وربحه غير محض الخير خسران
ونقل لنا «دولتشاه» من أشعاره العربية الأبيات التالية:
نصحتكم يا ملوك الأرض لا تدعوا ... كسب المكارم بالإحسان والجود
__________
(1) انظر يتيمة الدهر ج 4ص 231204وكذلك تاريخ اليمينى للعتبى طبع القاهرة سنة 1286هـ ج 1ص 7267مع شرح المنينى، وكذلك ابن خلكان ترجمة دى سلين «» ج 2ص 315314.
(2) هذه القصيدة مذكورة فى كتاب «خرابات» لضيا بك ج 2732711.(1/141)
وانفقوا بيضكم والحمر فى شرف ... لا ينتهى باختلاف البيض والسود
هذى ذخائر «محمود» قد انتهبت ... ولا انتهاب لنا فى ذكر محمود
وتاريخ وفاته مذكور فى بيتين من قول «ملك عماد الزوزنى» على هذا النحو:
شيخ عالى قدر مجد الدين أبو الفتح آنكه بود
مقتداى اهل فضل وسرور اهل كلام
چارصد با سى چواز تاريخ احمد درگذشت
در مه شوال رحلت كرد تا دار السلام
(أى فى شهر شوال سنة 430هجرية).
رعاة الآداب وكثرتهم:
وقد امتاز هذا الزمان بتقدير الأمراء لرجال الأدب والسعى إلى إرضائهم وخطب ودهم، فقد كان كل أمير يريد أن يتفوق على أقرانه وخصومه فى كثرة من يحوطه من رجال العلوم والفنون. وكانت المراكز الأدبية فى ذلك الوقت عبارة عن «غزنة» عاصمة السلطان محمود، و «نيسابور» عاصمة أخيه «أبى المظفر نصر» فى ولاية خراسان، و «بخارى» إلى أن انتهى أمر السامانيين حوالى سنة 1000م 391هـ والمدن المختلفة فى جنوب وغرب إيران تحت حكم البويهيين، وقصور العلويين والزياريين فى ولاية طبرستان، وقصور ملوك خوارزم الثلاثة المعروفين باسم «مأمون» فى مدينة «خيوه».
ولقد يستطيع الكاتب أن يكتب بحثا ممتعا عن كل واحد من هذه المراكز الأدبية اللامعة، وسيجد مادتها موزعة فى طيات الكتب ولكنها غزيرة وافية، وسيجد أخبارا كثيرة عن الشعراء الذين أنشدوا بالعربية فى كتاب «يتيمة الدهر» لأبى منصور الثعالبى وفى ملحق اليتيمة وهو «دمية القصر» للباخرزى الذى لم ينشر حتى الآن (1)، وسيجد أخبارا كثيرة عن شعراء طبرستان وكتابها فى المقالات التى
__________
(1) المترجم: نشر هذا الكتاب فى مدينة حلب سنة 1349هـ 1930م.(1/142)
نشرها «دورن» عن تاريخ هذه الولاية فى سنة 18581850م فى مدينة «سان پيترسبورج» وكذلك فى التاريخ القديم الذى ألفه «ابن اسفنديار»، ونشرت ترجمة مختصرة له فى المجلد الثانى من «سلسلة جب التذكارية» وسيجد أخبارا كثيرة عن «إصفهان» فى الرسالة التى نشرت مختصرة فى مجلة الجمعية الملكية الأسيوية عدد يوليه وأكتوبر سنة 1901م وسيجد أخبارا كثيرة أخرى فى كتب التاريخ والتراجم العامة وعلى الخصوص كتب «ابن الأثير» و «ابن خلكان» و «العتبى» وغيرهم من الكتاب والمؤلفين.
أبو منصور الثعالبى:
وكان من عادة الشعراء ورجال العلم والأدب فى ذلك الزمان أن يتنقلوا بين القصور المختلفة، وأن ينظموا القصائد أو يؤلفوا الكتب ويهدوها إلى الأمراء المختلفين.
فنجد مثلا أن أبا منصور الثعالبى النيسابورى أهدى كتابه «لطائف المعارف» إلى الصاحب إسماعيل بن عباد (1) وزير فخر الدولة البويهى وأهدى «المبهج» و «التمثل والمحاضرة» إلى «شمس المعالى قابوس بن وشمگير» وأهدى «سحر البلاغة» و «فقه اللغة» إلى «الأمير أبى الفضل الميكالى» وأهدى «النهاية فى الكناية» و «نثر النظم» و «اللطائف والظرائف» إلى «مأمون بن مأمون» أمير خوارزم (2).
أبو ريحان البيروني:
وكذلك فعل أيضا العلامة الكبير أبو ريحان البيرونى (ولد سنة 973م 363هـ) فقد قضى الشطر الأول من حياته فى رعاية أمراء خوارزم أو خيوة من أسرة مأمون،
__________
(1) أنظر ص 2من طبعة «دى يونج» فى ليدن سنة 1868م.
(2) أنظر مؤلفات الثعالبى فى كتاب «بروكلمان» عن تاريخ الأدب العربى ج 1ص 284 إلى 286وكذلك فى ص 9وما يليها من مقدمة «زوتنبرج» على كتاب «غرر أخبار ملوك الفرس» وهو كتاب قدمه الثعالبى إلى شقيق السلطان محمود المعروف بأبى المظفر نصر.(1/143)
ثم انتقل إلى قصر شمس المعالى «قابوس بن وشمگير» فى طبرستان، وهنالك أهدى إليه كتابه «الآثار الباقية» حوالى سنة 1000م 391هـ، ثم عاد إلى خوارزم ومنها نقلوه بأمر السلطان محمود إلى أفغانستان حوالى سنة 1017م 408هـ فبقى فى خدمته إلى أن أدركت السلطان محمود منيته فى سنة 1030م 421هـ وبعد ذلك بقليل نشر كتابه الثانى «تحقيق ما للهند من مقوله معقوله أو منقوله».
وقد نشره وترجمه «الدكتور سخاو» وأشار فى مقدمته إلى «أن الباحث الحديث فى أيامنا لو بدأ دراسة اللغات السنسكريتية والهندية وأعانته العلوم والآداب المختلفة على ذلك لبقى عددا طويلا من السنين دون أن يتمكن من معرفة تاريخ الهند القديم بمثل الدقة والبراعة اللتين وصل إليهما البيرونى فى تاريخه عن الهند».
وبعد ذلك بسنتين استطاع «البيرونى» أن ينشر كتابه الذى كتبه بالعربية والفارسية (1) «التفهيم فى صناعة التنجيم» وكتابه «قانون المسعودى». وقد كتب أول هذين الكتابين للسيدة «ريحانه الخوارزمية» وكتب ثانيهما وأهداه للسلطان «مسعود بن محمود بن سبكتگين». ثم أهدى بعد ذلك كتابه عن الأحجار الكريمة إلى «مودود بن مسعود (2)».
مراكز الحضارة الأربعة فى إيران:
بالإضافة إلى «غزنه» كانت توجد فى إيران فى الفترة المبكرة من العصر الغزنوى مراكز أربعة تجتذب إليها رجال العلم والأدب وهى:
1 - قصر الصاحب بن عباد: وزير البويهيين وكان يقيم عادة فى «إصفهان» أو «الرى».
__________
(1) أنظر كتالوج المخطوطات الفارسية جمع «ريو» ص 452451وقد وصف فيه مخطوطا فارسيا لهذا الكتاب تاريخه 1286م 685هـ
المترجم: طبع الأستاذ جلال همائى النص الفارسى لهذا الكتاب أخيرا فى طهران سنة 1318 هجرية شمسية، بعنوان: «التفهيم لأوائل صناعة التنجيم».
(2) أنظر قائمة بمؤلفات البيرونى فى كتاب بروكلمان ج 1ص 476475.(1/144)
2 - قصر السامانيين فى «بخارى».
3 - قصر شمس المعالى «قابوس بن وشمگير» فى «طبرستان» على مقربة من بحر قزوين.
4 - قصر ملوك خوارزم المعروفين باسم «مأمون» فى «خيوه».
ولكن حدث فى فترة السنوات العشرين الواقعة بين سنتى 997م و 1017م 408387هـ أن توفى «الصاحب بن عباد» فى سنة 997م 387هـ كما زالت الدولة السامانية من الوجود فى سنة 999م 390هـ ثم قتل بعد ذلك شمس المعالى «قابوس» فى سنة 1012م 403هـ على يد جماعة من الأشراف الثائرين كما قتل أيضا «مأمون الثانى» ملك خوارزم عقب ثورة أعقبها ضم ممتلكاته إلى السلطان محمود فى سنة 1017م 408هـ واستطاع السلطان محمود بواسطة ذلك وبواسطة الفتح والغزو أن يضم إليه رجال الأدب والعلم الذين كانوا يحوطون خصومه من الأمراء الذين ذكرناهم فيما سبق ومع ذلك لم يكن هو نفسه ليمتاز بما امتاز به هؤلاء الخصوم من ذوق فنى وخصال سليمه وشيم كريمة.
الصاحب بن عباد:
والثعالبى يتحدث فى يتيمته عن الصاحب بن عباد فيقول ما يلى (1):
«ليست تحضرنى عبارة أرضاها للافصاح عن علو محله فى العلم والأدب، وجلالة شأنه فى الجود والكرم، وتفرده لغايات المحاسن، وجمعه اشتات المفاخر، لأن همة قولى تنخفض عن بلوغ أدنى فضائله ومعاليه، وجهد وصفى يقصر عن أيسر فواضله ومساعيه. ولكنى أقول هو صدر الشرف، وتاريخ المجد، وغرة الزمان، وينبوع العدل والإحسان، ومن لا حرج فى مدحه بكل ما يمدح به مخلوق، ولولاه ما قامت للفضل فى دهرنا سوق»
ويضيف ابن خلكان إلى ذلك العبارة التالية:
«واجتمع عنده من الشعراء ما لم يجتمع عند غيره ومدحوه بغرر المدائح»
__________
(1) انظر يتيمة الدهر طبع بيروت ج 3ص 3231.
المترجم: فى النص الذى اوردناه زيادة قليلة.(1/145)
شمس المعالى قابوس:
أما شمس المعالى «قابوس بن وشمگير» حاكم طبرستان، فيرجع نسبه إلى «آل قارن» (قارنوند) وهم إحدى الأسر السبع الرفيعة على أيام الساسانيين الذين كان العرب يسمونهم «أهل البيوتات». والبيرونى يرجع نسبه إلى الملك الساسانى «قباذ» والد «انوشيروان (1)» ويقول «ابن اسفنديار» فى «تاريخ طبرستان» «إن من شاء أن يلمس عظمته ورفعته، فعليه أن يقرأ ما كتبه عنه «الثعالبى» و «العتبى» فى كتبهما (2). وقد جمع «اليزدادى» أقواله وجعلها فى كتاب عنوانه:
«قرائن شمس المعالى وكمال البلاغة» وقد نقل «ابن اسفنديار» ما يقرب من ثلاثين سطرا من هذا الكتاب وعلق عليها بأن «قابوس» كان مبرزا فى علوم البلاغة العربية، ممتازا فى الشجاعة وأوصاف البطولة، متفوقا فى الفلسفة والنجوم. وقد كتب بالعربية رسالة عن «الاسطرلاب» أعجب بها كثيرا «أبو اسحاق الصابى».
وكان «قابوس» يكلف كاتبه «عبد السلام» بمراسلة «الصاحب بن عباد» ووزيره «أبى العباس الغانمى» وكذلك كان يراسل «أبا نصر العتبى» مؤرخ السلطان محمود، وقد نقل هذا المؤرخ عنه فى أعجاب شديد رسالة عربية قصيرة من تأليفه فى بيان ما امتاز به كل واحد من الصحابة (3).
ومن أسف أن «قابوس» رغم ما امتاز به من نبل الأصل وعلو العقل كان فظا غليظ القلب كثير الظنون يتعطش فى بعض الأحيان إلى سفك الدماء، وقد كانت حادثة إعدامه لأحد كتابه ال «حاجب نعيم» بتهمة الاختلاس هى السبب المباشر والأخير الذى دعا رجاله إلى الثورة عليه وخلعه وقتله. فلما تم لهم ذلك نصبوا فى مكانه ابنه «منوچهر فلك المعالى» وهو الأمير الذى استمد منه الشاعر «منوچهرى» لقبه الشعرى (تخلصه) لرعايته له وتقريبه إياه.
__________
(1) انظر الآثار الباقية ترجمة سخاو ص 47.
(2) انظر يتيمة الدهر طبع دمشق ج 3ص 288وكذلك تاريخ العتبى طبع القاهرة سنة 1286هـ. ج 2ص 1714وص 178172.
(3) انظر تاريخ العتبى ج 2ص 2617.(1/146)
السلطان محمود، أخلاقه وألقابه:
أما الحكام الآخرون المعاصرون للسلطان محمود الغزنوى فيكفى أن نذكر منهم أن خيفة بغداد على عهده كان «القادر بالله» اما الخليفة الفاطمى فى مصر فكان «أبا على المنصور» فى الثلثين الأولين من الفترة التى تولاها السلطان محمود، والخليفة «الظاهر» فى الثلث الأخير من أيام حكمه.
والمأثور عن «محمود» أنه أول من تلقب بلقب «سلطان». ويظهر أيضا كما يستفاد من «تاريخ العتبى (1)» أنه تلقب أيضا بلقب «ظل الله فى أرضه» كما فعل بعد ذلك سلاطين آل عثمان. وكان محمود سنى المذهب يعترف بالسلطة الروحية العليا لخليفة بغداد (2) أما ألقابه الكاملة فكانت كما يلى (3):
«الأمير السيد، الملك المؤيد، يمين الدولة، وأمين الملة، أبو القاسم محمود بن ناصر الدين أبى منصور سبكتگين ملك الشرق بجانبيه».
وأشهر وزرائه هو «أبو القاسم أحمد بن الحسن الميمندى». وكانوا يلقبونه ب «شمس الكفاة» وهو الوزير الذى استشفع أكثر من مرة للبيرونى والفردوسى، وقد مدحه كثير من الشعراء المعاصرين بكثير من القصائد الجميلة.
ويجب علينا عند هذا الحد أن ننصرف عن هذا المجمل الذى استعرضنا فيه صورة إيران السياسية فى هذا الوقت لندرس جملة من الكتاب والشعراء الممتازين الذين عاشوا فيه، ولن نقصر دراستنا على من استعمل اللغة الفارسية وحدها من هؤلاء، لأننا لو فعلنا ذلك لظلمنا العبقرية الفارسية كل الظلم، لأن اللغة العربية ظلت طوال هذا العصر ولمدة القرنين ونصف القرن التالية، لغة العلم ولغة السياسة والمراسلة والأدب الرفيع، وعلى ذلك سنبدأ حديثنا عن أشهر كتاب الفرس الذين اتخذوا العربية وسيلة لكتاباتهم ومنشآتهم كلها أو جلها.
__________
(1) انظر المرجع السابق ج 1ص 21.
(2) انظر تاريخ ابن الأثير سنة 420هـ فهو يذكر أن محمودا فى نهاية حياته كان يأمر بصلب الإسماعيلية ونفى المعتزلة وبإحراق كتب الفلاسفة والعلماء.
(3) انظر تاريخ العتبى ج 1ص 31.(1/147)
أبو ريحان البيرونى:
ومن أشهر هؤلاء على الإطلاق «أبو ريحانى البيرونى» مؤلف الكتب الآتية:
(ا) الآثار الباقية.
(ب) تحقيق ما للهند من مقولة معقولة أو منقولة.
(ج) التفهيم فى صناعة التنجيم بالفارسية.
وله كتب كثيرة أخرى أغلبها مفقود، وقد ذكرها جميعا ناشره ومترجمه المستشرق العلامة الدكتور «سخاو». ولكى يدرك القارىء رأيا منصفا عادلا عن مكانة البيرونى ومنزلته أجد نفسى مضطرا لدواعى الاختصار إلى أن أحيله إلى المقدمات التى ألحقها الدكتور «سخاو» بترجمته للكتابين الأولين وخاصة ما ورد فيهما بالصفحتين السادسة والسابعة من مقدمة الكتاب الثانى. ولا شك أن البيرونى كان رجلا غزير المعرفة، سمح الأخلاق، يمتاز بدقة النقد كما نفهمه فى الوقت الحاضر، وكان كما يقول «سخاو» حريصا على تحرى الحقيقة، ذا شخصية فردية عالية مليئة بالشجاعة والإقدام، لا يحجم عن كيل الضربات القاصمة إذا رأى الخير تجتاحه جائحة أو الحق تنزل به نازلة.
وقد ولد البيرونى فى «خوارزم» فى سبتمبر سنة 973م 363هـ ومن المحتمل أنه مات فى مدينة «غزنه» فى ديسمبر سنة 1048م 440هـ.
ابن سينا:
مكتب ابن سينا
رجل آخر من كبار الكتاب والمفكرين الفرس الذين عاشوا فى هذا العصر هو «ابن سينا». وقد تحدثنا عنه بعض الحديث فيما سبق من صفحات، وقلنا إنه تتلمذ فى الفلسفة على تعاليم «أرسطو» كما تتلمذ فى الطب على تعاليم «بقراط» و «جالن». ولم يقتصر تأثيره فى العصور الوسطى على الفكر الأسيوى بل تعداه إلى الفكر الأوروبى فأثر فيه أبلغ الأثر. ولو أننى حاولت أن أدرس نطاق فلسفته ومدى تجاربيه الطبية فى كتابى هذا لضاقت صفحاته عن استعياب الأفكاره الفلسفية ذكر «بروكلمان»
فى كتابه «تاريخ الآداب العربية» (ج 1ص 458452) جملة من مؤلفاته تبلغ المائة، قد عالجت شتى الموضوعات ما بين فقه وفلسفة ونجوم وطب وعلوم مختلفة أخرى. ولا شك أن أشهر كتبه كتابان هما:(1/148)
رجل آخر من كبار الكتاب والمفكرين الفرس الذين عاشوا فى هذا العصر هو «ابن سينا». وقد تحدثنا عنه بعض الحديث فيما سبق من صفحات، وقلنا إنه تتلمذ فى الفلسفة على تعاليم «أرسطو» كما تتلمذ فى الطب على تعاليم «بقراط» و «جالن». ولم يقتصر تأثيره فى العصور الوسطى على الفكر الأسيوى بل تعداه إلى الفكر الأوروبى فأثر فيه أبلغ الأثر. ولو أننى حاولت أن أدرس نطاق فلسفته ومدى تجاربيه الطبية فى كتابى هذا لضاقت صفحاته عن استعياب الأفكاره الفلسفية ذكر «بروكلمان»
فى كتابه «تاريخ الآداب العربية» (ج 1ص 458452) جملة من مؤلفاته تبلغ المائة، قد عالجت شتى الموضوعات ما بين فقه وفلسفة ونجوم وطب وعلوم مختلفة أخرى. ولا شك أن أشهر كتبه كتابان هما:
(ا) الشفاء: وهو يتعلق بعلوم الطبيعة وماوراء الطبيعة والرياضيات.
(ب) القانون: وهو يتعلق بالطب.
وأول هذين الكتابين يقع فى ثمانية عشر جزءا (1).
ولمن شاء من القراء ان يعرف شيئا عن حياة «ابن سينا» أن يرجع إلى ما كتبه عنه «ابن خلكان» فى «وفياته» وكذلك إلى ما كتبه «بروكلمان» فى كتابه الذى سبق ذكره، وكذلك فيما كتبه «الشهرستانى» فى كتابه «الملل والنحل» إما فى أصله العربى أو فى الترجمة الألمانية التى قام بها «هاربروكر (2)» أو فيما كتبه عنه البارون «كارادى فو (3)».
نبذة من حياة ابن سينا
وقد ولد «ابن سينا» فى مدينة «بخارى» فى سنة 980م 370هـ ومات فى «همدان» أو «أصفهان» فى سنة 1037م 429هـ.
ويقول «ابن خلكان»: إنه «لما بلغ السنة العاشرة من عمره كان قد أتقن علم القرآن العزيز والأدب وحفظ أشياء من أصول الدين وحساب الهند والجبر والمقابلة الخ» ثم درس مع «الناتلى» الطبيب علوم المنطق ويوقليد والماجسطى، ودرس مع «إسماعيل الفقيه» الفقه والتصوف، وتخصص بعد ذلك فى فلسفة الطبيعة والحكمة وسائر العلوم الأخرى بما فيها الطب الذى درسه على يد الطبيب المسيحى
__________
(1) المترجم: نشر الأستاذ الدكتور إبراهيم مذكور أجزاء من هذين الكتابين.
كما نشر الأب جورج قنواتى بتكليف من جامعة الدول العربية بمناسبة العيد الألفى لابن سينا ثبتا بمؤلفاته بعنوان «مؤلفات ابن سينا» طبع القاهرة سنة 1950، ونشرت جامعة الدول العربية أيضا «الكتاب الذهبى للمهرجان الألفى لذكرى ابن سينا فى بغداد» سنة 1957
(2) كتابته بالحروف الرومانية: ()
(3) إسم الكتاب الأصلى:. 1900 .. :(1/149)
«عيسى بن يحيى». فلما بلغ السابعة عشرة من عمره طبقت شهرته الآفاق فى الطب حتى استدعوه لمداواة الأمير «نوح بن منصور السامانى» وقد نجح فى معالجته نجاحا تاما، فقربه ذلك الأمير، وأغدق عليه من نعمه، وسمح له أن يتردد على مكتبته الزاخرة بالمؤلفات، وقد وصفها ابن سينا فقال إنها مكتبة غنية بالكتب الكثيرة وكان بعض هذه الكتب مجهول الإسم لدى كثير من الناس، كما كان بعضها غير معروف له من قبل، ولم يصادفه فى غيرها فيما بعد ومن أسف أن هذه المكتبة احترقت بعد ذلك بقليل من الوقت، فاتهمه جماعة من أعدائه بأنه أحرقها عامدا حتى يصبح وحده الواعى لما استفاده من كتبها النادرة ومخطوطاتها الفريدة.
وأدركت المنية بعد ذلك والده، وانهارت الدولة السامانية بالقرب من نهاية القرن العاشر الميلادى (الرابع الهجرى) فكان ذلك سببا فى أن يترك ابن سينا مدينة «بخارى» وأن يقصد إلى «خوارزم». وقد فاز هنالك بتقريب أميرها «مأمون» له، ولكن الظروف التى سردناها فيما سبق من صفحات نقلا عن كتاب «چهار مقاله» اضطرته كما روينا، إلى الهرب من «خوارزم» إلى «نسا» و «أبيورد» و «طوس» حتى وصل أخيرا إلى «جرجان» حيث أحسن استقباله «شمس المعالى قابوس بن وشمگير» فنزل عنده مكرما معززا، حتى إذا قتل هذا الأمير ترك ابن سينا «جرجان» وذهب إلى «الرى» و «قزوين» و «همدان» حتى انتهى به المطاف إلى مدينة «أصفهان» حيث التحق بخدمة الأمير البويهى «علاء الدولة ابن كاكويه». ولقد تعرض أثناء حياته لكثير من الشدائد والمحن ولاحقته الأمراض والعلل، وقضى فترة فى المحبس والمعتقل، وكادوا يعدمونه فى وقت من الأوقات، ولكنه ظل يكافح حتى اغتاله الموت فى النهاية فقضى فريسة لعلة أصابت أمعاءه فى صيف سنة 1037م 429هـ (1).
__________
(1) يرى ابن الأثير فى نهاية حوادث سنة 428هـ أن علاء الدولة كان متهما فى دينه، ومن أجل ذلك فقد التحق ابن سينا بخدمته حتى يستطيع أن يكمل مؤلفاته المليئة بالإلحاد دون أن يصيبه شىء من الأذى. فلما أصابت الهزيمة علاء الدولة على أيدى الغزنويين فى سنة 425هـ(1/150)
وبالإضافة إلى ما ذكرناه لابن سينا من كتب فلسفية وعلمية نجد له جملة من الأشعار العربية والفارسية سنتحدث عنها بعد قليل. ونجد له أيضا قصتين فلسفتين هما:
(ا) حى بن يقطان:
ويجب ألا نخلط بينها وبين سميتها التى فازت بالشهرة وهى من إنشاء «ابن الطفيل» وقد طبعت فى أكسفورد فى سنة 1671وسنة 1700م. وترجمها إلى اللاتينية «پوكوك (1)». [طبعت مرارا فى القاهرة]
(ب) سلامان وأبسال:
وقد جعلها الشاعر «جامى» فيما بعد موضوعا لإحدى منظوماته وطبعها «فولكنر (2)» فى سنة 1850م وترجمها «فيتزجرالد (3)» إلى الإنجليزية ثم نشرها دون أن يلحق بها إسمه وأهداها للمرحوم الأستاذ «كوول (4)» فى سنة 1856م.
قصائد ابن سينا الفارسية:
وقد استطاع الدكتور «إتيه» بدأبه وصبره على البحث، أن يجمع من مصادر مختلفة خمس عشرة منظومة من أشعار ابن سينا الفارسية (قوامها اثنتا عشرة رباعية ومقطوعة واحدة من بيتين وغزليتان) يبلغ عدد أبياتها جميعا الأربعين، وقد نشرها مع ترجمة ألمانية لها فى مجلة «أخبار جوتنجن (5)» سنة 1875م. ص 567455 بعنوان «ابن سينا كشاعر فارسى غنائى».
__________
كانت كتب ابن سينا من بين الأسباب التى حملها الجيش الغزنوى إلى مدينة غزنة، وقد حفظوها فى مكتباتها حتى أحرقت المدينة جيوش الملك حسين الغورى الذى لقب ب «جهان سوز» أى محرق الدنيا.
(1) إسمه بالحروف الرومانية: «»
(2) إسمه بالحروف الرومانية: «»
(3) إسمه بالحروف الرومانية: «»
(4) إسمه بالحروف الرومانية: «»
(5) إسمها بالحروف الرومانية: «»(1/151)
ويجب أن نلاحظ ان من بين الرباعيا المنسوبة إلى ابن سينا رباعية مشهورة ينسبونها عادة إلى «عمر الخيام» وهى الرباعية الثالثة مما نشره «إتيه» والثالثة بعد المائة الثالثة فى الترجمة التى نشرها «هونفليد» لرباعيات الخيام (1).
ونص هذه الرباعية بالفارسية كما يلى (2):
ز جرم حضيض خاك تا اوج زحل
كردم همه مشكلات گردون را حل
بيرون جستم ز بند هر مكر وحيل
هر بند گشاده شد مگر بند اجل!!
ومعناها:
ما بين حضيض الأرض وأوج زحل
استطعت حل مشكلات الفلك بغير ثقل
ونجوت بنفسى من أحابيل المكر والحيل
وحللت كل العقد، ما عدا عقدة الأجل!!
رباعيات الخيام الجائلة:
ومن المسلم به ما هو معروف لدى جميع المهتمين بدراسة الفارسية من أن عددا من الرباعيات التى تنسب إلى «عمر الخيام» وتشتمل عليها كثير من الطبعات الحديثة للرباعيات، ينسب فى نفس الوقت إلى شعراء آخرين غير الخيام، وربما كانت نسبته إلى هؤلاء تستند إلى أسانيد لا يصيبها الوهن أو الخلل وهذه «الرباعيات الجائلة»
__________
(1) اسمه بالحروف الرومانية:
(2) المترجم: أورد براون هنا الترجمة الإنجليزية لهذه الرباعية لفتزجرالد ثم ترجمة هو تقليد لها ثم الترجمة الألمانية للدكتور إتيه، وقد رأيت الاستغناء عن هذه الترجمان بذكر الأصل الفارسى وترجمته العربية(1/152)
قد قام بدراستها «ژوكوفسكى (1)» فى مقالته العلمية الهامة التى أرسلها إلى «المظفرية»، وهى مجموعة من الدراسات الأدبية الشرقيه نشرت فى سان پيترسبورج سنة 1897م احتفالا بمرور خمس وعشرين سنة على حصول البارون «فون روزن» على الأستاذية فى هذه الدراسات.
وقد كتب «هونفيلد» عن هذه الرباعيات الجائلة ما يلى (2):
«وصعوبة أخرى متصلة بما ذكرنا، تعرض لنا عندما نجد أن كثيرا من الرباعيات التى تنسب لعمر الخيام، تنسب أيضا إلى غيره من الشعراء. ولقد ذكرت أمثلة قليلة منها فى تعليقاتى، ولكن البحث الدقيق سيكشف لنا عن جملة أخرى غيرها.
وربما يظن بعض الناس أن لغة الرباعيات وما امتازت به من خصائص تكفى وحدها للتفريق بين الأصيل منها وبين ما زيفه غيره من الشعراء بعد قرنين أو ثلاثة من الزمان ولكنى أذهب مع «چودزكو:» فيما ذهب إليه من أن اللغة الفارسية الأدبية التى استعملت منذ ثمانمائة سنة لا تفترق عن مثيلتها التى تستعمل فى الوقت الحاضر إلا فى القليل الطفيف، ولو صح الفرض وكان شعر الخيام يمتاز بميزات خاصة، لأمكن القول بأنه يمكن التفريق بينه وبين غيره من الأشعار، ولكن الحقيقة الماثلة هى أن الشعر الفارسى برمته يجرى على طرائق واحدة متماثلة، ولم يشذ الخيام فى ذلك عن غيره من الشعراء. أما الشعر الثائر على التعاليم الدينية، وهو ما ينسب عادة إليه، فيمكن أيضا العثور عليه فيما كتبه سلفه مثل «ابن سينا» وخلفه مثل «أفضل الدين الكاشى» وغيره من الكتاب اللاحقين له. ومن أجل ذلك فلم أستبعد من ترجمتى أية رباعية نسبوا قولها إلى الخيام وإلى غيره من الشعراء. وما دامت النسخة الخطية التى تقع فى يدى سليمة غير سقيمة فقد جعلت دأبى أن أورد ما بها من رباعيات، لا لأنى على ثقة من أنها من مقولة الخيام، ولكن لأن الاحتمال متكافىء فى نسبتها إلى الخيام أو إلى غيره من الناس».
أما الغزليتان اللتان ضمنهما الدكتور «إتيه» فى مقالته، فواحدة منهما فى
__________
(1) اسمه بالحروف الرومانية «».
(2) أنظر ص 17من مقدمة ترجمته الإنجليزية لرباعيات الخيام.(1/153)
وصف الخمر، والأخرى فى ذكر بعض الحكم والنصائح، وهما؟؟؟ فى؟؟؟ يدلان على براعة فائقة، ولا يسلمان من التجريح من حيث صحة نسبتهما إلى ابن سينا ومن أجل ذلك فإنى أعرض عن ترجمتها وأحيل القارىء الحريص على المزيد إلى المقالة الممتعة التى كتبها الدكتور «إتيه» فى مجلة «أخبار جوتنجن» (1).
قصيدة ابن سينا عن الروح:
وأجمل قصائد ابن سينا وأدعاها إلى الإعجاب هى قصيدته العربية المشهورة عن الروح ونصها كما يلى (2):
هبطت إليك من المحل الأرفع ... ورقاء ذات تعزز وتمنع
محجوبة عن كل مقلة عارف ... وهى التى سفرت ولم تتبرقع (3)
وصلت على كره إليك وربما ... كرهت فراقك وهى ذات تفجع
أنفت وما أنست فلما واصلت ... ألفت مجاورة الخراب البلقع
وأظنها نسيت عهودا بالحمى ... ومنازلا بفراقها لم تقنع
حتى إذا اتصلت بهاء هبوطها ... فى ميم مركزها بذات الأجرع
علقت بها ثاء الثقيل فأصبحت ... بين المعالم والطلول الخضع
__________
(1) المترجم: فيما يلى بعض مؤلفات ابن سينا باللغة الفارسية: «دانشنامه علائى»، «رساله در حقيقت وكيفيت موجودات»، «معراجنامه»، «رگ شناسى أو رساله نبضيه»، «ظفرنامه»، «قراضه طبيعيات»، «كنوز المغرمين»، «رساله جوديه» ويشكون فى نسبة الرسائل الأربع الأخيرة إليه.
(2) هذه القصيدة مذكورة فى كتاب ابن خلكان (طبع وستنفلد ج 1رقم 89) وكذلك فى خرابات ضيا بك ج 1ص 283، وقد اعتمدنا على الكتاب الأخير فى النص الدى نقلناه، وهو يختلف فى نهايته عن النص المذكور فى ابن خلكان.
(3) يظهر أن هذا البيت هو الذى أوحى لجلال الدين الرومى ببيته المشهور فى بداية المثنوى، حيث يقول:
تن ز جان وجان ز تن مستور نيست ... ليك كس را ديد جان دستور نيست
انظر كتاب «أغنية الناى» للاستاذ پالمر:
: ..
تبكى إذا ذكرت ديارا بالحمى ... بمدامع تهمى ولما تقلع
وتظل ساجعة على الدمن التى ... درست بتكرار الرياح الأربع
إذ عاقها الشرك الكثيف وصدها ... قفص عن الأوج الفسيح الأرفع
حتى إذا قرب المسير إلى الحمى ... ودنا الرحيل إلى الفضاء الأوسع
سجعت وقد كشف الغطاء فأبصرت ... ما ليس يدرك بالعيون الهجع
وغدت تغرد فوق ذروة شاهق ... والعلم يرفع كل من لم يرفع
فلأى شىء أهبطت من شاهق ... سام إلى قعر الحضيض الأوضع
إن كان أهبطها الإله لحكمة ... طويت عن الفطن اللبيب الأروع
فهبوطها إن كان ضربة لازب ... لتكون سامعة بما لم تسمع
وهى التى قطع الزمان طريقها ... حتى لقد غربت بغير المطلع
فكأنها برق تألق بالحمى ... ثم انطوى فكأنه لم يلمع(1/154)
__________
: ..
تبكى إذا ذكرت ديارا بالحمى ... بمدامع تهمى ولما تقلع
وتظل ساجعة على الدمن التى ... درست بتكرار الرياح الأربع
إذ عاقها الشرك الكثيف وصدها ... قفص عن الأوج الفسيح الأرفع
حتى إذا قرب المسير إلى الحمى ... ودنا الرحيل إلى الفضاء الأوسع
سجعت وقد كشف الغطاء فأبصرت ... ما ليس يدرك بالعيون الهجع
وغدت تغرد فوق ذروة شاهق ... والعلم يرفع كل من لم يرفع
فلأى شىء أهبطت من شاهق ... سام إلى قعر الحضيض الأوضع
إن كان أهبطها الإله لحكمة ... طويت عن الفطن اللبيب الأروع
فهبوطها إن كان ضربة لازب ... لتكون سامعة بما لم تسمع
وهى التى قطع الزمان طريقها ... حتى لقد غربت بغير المطلع
فكأنها برق تألق بالحمى ... ثم انطوى فكأنه لم يلمع
بديع الزمان الهمذانى:
ويجب أن نذكر من كتاب العربية الممتازين الذين نشأوا فى إيران، ذلك العبقرى البارع الذى اخترع ذلك الضرب من الإنشاء الذى يعرف ب «المقامات» ونقصد به «أبا الفضل أحمد بن الحسين الهمذانى» الذى اشتهر باسم «بديع الزمان».
وقد أخبرنا الثعالبى فى يتيمته (1) أنه مات صغير السن فى الأربعين من عمره سنة 398هـ 1008م والظاهر أنه لم يكن يحب بلدته «همدان» فقد قال فيها بيتيه المعروفين (2):
همذان لى بلد أقول بفضله ... لكنه من أقبح البلدان
صبيانه فى القبح مثل شيوخه ... وشيوخه فى العقل كالصبيان
وقال مثل هذا المعنى مرة أخرى فى بيت ورد بإحدى رسائله (3) نصه:
(1) أنظر «يتيمة الدهر» ج 4ص 168.
(2) أنظر ترجمة (پرستون) للمقامات طبع لندن سنة 1850ص 1312
(3) أنظر «يتيمة الدهر» ج 4ص 279.(1/155)
لا تلمنى على ركاكة عقلى ... إذ تيقنت أننى همذانى
وبناء على ذلك نجده فى سنة 990م 380هـ يغادر بلدته الصغيرة «همدان» ولم يكن له من العمر فى ذلك الوقت أكثر من اثنتين وعشرين سنة، وقد يمم وجهه فى البداية إلى رجل الآداب ونصيرها «الصاحب اسماعيل بن عباد». وقد رأينا فيما مضى كيف أخذ «الصاحب» يختبر مقدرته بإعطائه أبياتا فارسية لينقلها على البديهة إلى شعر عربى (1). ثم قصد «بديع الزمان» بعد ذلك إلى «جرجان» وأخذ وفقا لرواية الثعالبى يرتاد مجالس «الإسماعيلية» الذين كان عددهم كبيرا فى هذا الإقليم، حتى فى هذا الوقت المبكر الذى سبق ظهور شيخهم الخطير «الحسن بن الصباح» بما يقرب من قرن من الزمان حين اتخذه مقرا ل «دعوته الجديدة».
وفى سنة 382هـ 992م وصل «بديع الزمان» إلى «نيسابور» فأتم هناك كتابة مقاماته، وكانت تبلغ الأربعمائة مقامة كما يقول بذلك الثعالبى، وطاف بعد ذلك بأمهات المدن فى «خراسان» و «سجستان» والإقليم المحيط بغزنه، ثم انتهى به المطاف إلى مدينة «هرات» حيث استقر بها إلى أن أدركته الوفاة.
وكان بديع الزمان يمتاز بذاكرة حادة عجيبة، فكان يسمع القصيدة التى تتألف من خمسين بيتا مرة واحدة، ثم يأخذ فى إعادتها دون أن يتلعثم أو يتردد، وكان يتصفح الكتاب المنثور بنظرة عاجلة فيحفظ عن ظهر قلب أربعا أو خمسا من صفحاته.
ولطالما أكثر الباحثون من المقارنة بين «بديع الزمان» ومقلده «الحريرى» وقد عقدوا الأبواب فى بيان ميزة كل منهما فى هذا الضرب من الإنشاء الذى امتازا به دون غيرهما. ومن أجل ذلك لا نرى بنا حاجة إلى معالجة هذا الموضوع مرة أخرى فى هذا الكتاب، ونحيل القارىء المتعمق إلى ما كتب بصدده فى مواضع أخرى (2).
__________
(1) أنظر «يتيمة الدهر» ج 4ص 167ومنها يبدو أن بديع الزمان كان مغرما بالنقل على البديهة من الفارسية.
(2) أنظر مثلا ما كتبه «پرستون» فى مقدمته على ترجمة «مقامات الحريرى» ص 13 14من المقدمة و 13و 14من الأصل.(1/156)
ومع ذلك كله يجب أن نلفت النظر خاصة إلى قصيدة عربية أنشأها بديع الزمان فى مدح السلطان «محمود» ونقلها العتبى فى «كتاب اليمينى (1)» ومن بينها الأبيات الآتية:
تعالى الله ما شاء ... وزاد الله إيمانى
أأفريدون فى التا ... ج أم الإسكندر الثانى
أم الرجعة قد عادت ... إلينا بسليمان
أطلت شمس محمود ... على أنجم سامان
وأمسى آل بهرام ... عبيدا لابن خاقان (2)
إذا ما ركب الفيل ... لحرب أو لميدان
رأت عيناك سلطانا ... على منكب شيطان
فمن واسطة الهند ... إلى ساحة جرجان
ومن قاصية السند ... إلى أقصى خراسان
مهيار الديلمى:
شاعر فارسى آخر اتخذ العربية لسانا هو «مهيار الديلمى». وهو جدير منا بعناية خاصة لتلك الحقيقة الممتعة التى تتصل بحياته، وهى أنه ولد وتربى على الدين «الزردشتى» ثم اعتنق بعد ذلك الإسلام فى سنة 1003م 394هـ على يد شاعر آخر هو «الشريف الرضى» الذى كان نقيبا للعلويين فى بغداد، وأدركته الوفاة فى سنة 1015م 406هـ.
ومهيار الديلمى مثل طيب يثبت لنا أن الديانة الزردشتية كانت تفوز بمكانة عظيمة فى الأقاليم المحيطة ببحر قزوين، وأن المسلمين كانوا يتسامحون مع معتنقيها ويسمحون
__________
(1) أنظر كتاب اليمينى طبع القاهرة سنة 1286هـ. ج 1ص 386384.
(2) «آل بهرام» أى «السامانيون» لأنهم ينسبون كما رأينا فيما سبق إلى «بهرام چوبين». و «خاقان» هو لقب ملوك الترك منذ عهد الأساطير المتعلقة ب «افراسياب».(1/157)
لهم بأن يشتركوا معهم فى جميع العلوم والآداب التى اتخذت العربية لسانا ووسيلة للأداء. وقد تبدو هذه الحقيقة أكثر وضوحا فى اطراد استعمال نسبة «المجوسى» إلى كثير من الأسماء الواردة بكثير من الكتب مثل كتاب «دمية القصر» للباخرزى وقد جعله صاحبه ملحقا لكتاب «يتيمة الدهر» للثعالبى فى تراجم الشعراء.
المجوسى الطبيب:
وأشهر من عرف ب «المجوسى» هو «على بن العباس المجوسى» طبيب «عضد الدولة البويهى» ومؤلف كتاب «كامل الصناعات» وقد توفى فى سنة 994م 384هـ، ووالده هو الذى ترك ديانته القديمة واعتنق الدين الإسلامى. ويحدثنا كتاب «چهار مقاله» فى الحكاية السادسة والثلاثين عن أحد الأدوية التى استعملها ذلك الطبيب الماهر.
* * * وإلى العصر السابق مباشرة لهذا العصر الذى ندرسه يرجع كتاب «الفهرست» الذى تم تأليفه سنة 988م 378هـ، وكتاب «مفاتيح العلوم» الذى تم تأليفه سنة 976م 366هـ، وقد تحدثنا فى الجزء الأول من هذا الكتاب عن محتوياتهما حديثا مستفيضا.
ويجدر بنا الآن أن نتحدث عن طائفة من كتب التواريخ المحلية التى ظهرت فى هذا العصر ومن بينها:
«تاريخ بخارى» من تأليف «النرشخى» سنة 942م 331هـ.
«تاريخ قم» وقد تم تأليفه للصاحب إسماعيل بن عباد حوالى سنة 989م 379هـ.
«تاريخ أصفهان» من تأليف «المافروخى».
«تاريخ طبرستان» من تأليف «اليزدادى».(1/158)
وقد كتبت هذه الكتب جميعا فى الأصل باللغة العربية، ولكن تراجمها الفارسية هى التى بقيت لنا حتى الآن (1).
ومن بين كتاب الفرس الذين كتبوا بالعربية: المؤرخ «على بن مسكويه» المتوفى سنة 1029م 420هـ وقد بقيت لنا طائفة قليلة من كتبه.
وقد ذكرنا فيما سبق تاريخ «العتبى» عن السلطان محمود الغزنوى وهو تاريخ انتهى بذكر سنة 1018م 409هـ، ولو أن مؤلفه عاش إلى سنة 1035م 427هـ.
كما ذكرنا أيضا المؤلفات الكثيرة التى ألفها صاحب «يتيمة الدهر» أبو منصور الثعالبى المتوفى سنة 1038م 430هـ.
أما الكتب المنثورة الفارسية فكانت قليلة العدد قليلة الأهمية، وقد ذكرنا فى الجزء الأول من هذا الكتاب جملة المنثورات التى ترجع إلى العصر «السامانى» مثل:
(ا) ترجمة البلعمى لتاريخ الطبرى حوالى سنة 964م 353هـ.
(ب) كتاب الأبنية عن حقائق الأدوية ل «موفق الدين أبى منصور بن على الهروى» حوالى سنة 971م 361هـ.
(ج) تفسير فارسى للقرآن فى مخطوطة فريدة بمكتبة كامبردج.
(د) ترجمة البلعمى لتفسير الطبرى حوالى سنة 981م 371هـ.
فإذا أضفنا إلى هذه الكتب:
كتاب «دانش نامه علائى» من تأليف ابن سينا لعضد الدولة المتوفى سنة 1042م 434هـ.
وكتاب «خجسته نامه» للبهرامى.
__________
(1) المترجم: هذا الرأى يحتاج إلى شىء من التمحيص لأن كتاب «المافروخى» موجود بالعربية ومطبوع فى مصر.(1/159)
وكتاب «ترجمان البلاغة» للفرخى. وموضوع الكتابين الأخيرين علوم العروض والبلاغة وقد كتبا على وجه التقريب حوالى سنة 1458م 450هـ، فإننا نكون بذلك قد استوفنا قائمة الكتب الفارسية المنثورة التى بقيت بين أيدينا، والتى تم تأليفها حتى منتصف القرن الخامس الهجرى.
وقد أشرنا فيما سبق إلى أن هناك قدرا كافيا من الأدلة يثبت لنا أن أدبا مستقلا باللهجة الطبرية (نسبة إلى طبرستان) كان موجودا فى ذلك الوقت، وكان منثورا كما يدل على ذلك كتاب «مرزبان نامه» ومنظوما كما يدل على ذلك كتاب «نيكى نامه». وقد حفظ لنا «تاريخ طبرستان» لابن اسفنديار، وهو كتاب استمده من كتاب «اليزدادى» الذى سبق لنا ذكره، طائفة كبيرة من أمثلة هذه الأشعار «الطبرية» التى أنشدها جماعة من الشعراء تجاهلهم كتاب التراجم العاديون مثل «الإصبهبذ خورشيد بن أبى القاسم المامطيرى» و «باربد الجريدى» و «إبراهيم معينى» و «الأستاذ على پيروزه» وهو من المعاصرين للمتنبى والمادحين لعضد الدولة البويهى و «ديواروز مستمرد» وكان خصما للشاعر الأخير، ومن أقرب المقربين إلى شمس المعالى «قابوس بن وشمگير».
شعراء الفارسية:
بعد ذلك يجب أن ننصرف مباشرة إلى دراسة «شعراء الفرس» الذين ازدهرت على أيديهم الآداب الفارسية فى هذا العصر وعلى الخصوص الشعراء الذين ازدهت بهم القصور الغزنوية. ولا شك أن «الفردوسى» بإكماله العمل الجليل الذى بدأه «الدقيقى» المتوفى سنة 975م 365هـ، وذلك بنظمه لملحمته الخالدة وتضمينها الأساطير المتعلقة بوطنه، لا يعتبر أكبر الشعراء فى عصره فحسب، بل يعتبر من أكبر الشعراء الذين ظهروا فى الوجود حتى الآن، ولقد قالت بهذا الرأى «مقطوعة» من الشعر الفارسى نصها:(1/160)
در شعر سه تن پيغمبرانند ... هر چند كه لا نبى بعدى
أوصاف وقصيده وغزل را ... فردوسى وأنورى وسعدى
ومعناها:
للشعر ثلاثة أنبياء، ولو أن الحديث النبوى يقول: «لا نبى بعدى»
فأما الوصف فنبيه «الفردوسى» وأما القصيدة فنبيها «الأنورى» وأما الغزل فنبيه «السعدى».
ويلى «الفردوسى» فى مكانته، أصحاب المديح من الشعراء ومنشدو القصائد مثل: «عنصرى» شاعر السلطان محمود و «أسدى» صاحب الفردوسى ومن أهل بلدته ومخترع شعر المناظرة و «عسجدى» و «فرخى» و «منوچهرى» وجماعة آخرين من الشعراء لا يرقون إلى منزلة هؤلاء من بينهم:
«بهرامى» الذى ألف كتابا مفقودا فى العروض والشعر اسمه «خجسته نامه» و «عطاردى» و «رافعى» و «غضائرى الرازى» و «منصورى» و «يمينى» الذى قيل عنه إنه ألف كتابا مفقودا بالفارسية عن السلطان محمود الغزنوى و «شرف الملك» الذى ينسب إليه كتاب فارسى فى صناعة الكتابة اسمه «كتاب الاستيفا» و «زينتى العلوى المحمودى» والشاعرة «رابعه بنت كلب» التى تنسب إلى بلدة «قسدار» أو «قزدار» وجماعة آخرون كثيرون غير هؤلاء، نجد أسماءهم وأشعارهم مذكورة فى الفصل التاسع من كتاب «لباب الألباب (1)» تأليف محمد عوفى.
وليس من الممكن أو الضرورى أن ندرس كل هؤلاء فى كتابنا الحاضر، بل الخير كله فى أن نقصر دراستنا على نخبة مختارة منهم ممن فازوا بالشهرة وحسن الأداء.
وهناك بالإضافة إلى هؤلاء ثلاثة من الشعراء الممتازين الذين ينتسبون إلى هذا العصر وهم يختلفون بعض الشىء عمن سبق لنا ذكرهم وهم:
__________
(1) أنظر «لباب الألباب» ج 2ص 6728(1/161)
(ا) الكسائى:
وقد بدأ حياته بقول المدائح، ثم ندم على ذلك فى نهاية حياته، لأن خدمة القصور تؤدى إلى الرباء والملق، وقضى بقية حياته ينظم الأشعار الدينية.
(ب) أبو سعيد بن أبى الخير:
الشاعر الصوفى الذى أنشد الرباعيات.
(ج) پندار الرازى:
المنسوب إلى بلدة «الرى» وقد عرف بأنه من أصحاب اللهجات، كما أنشأ أيضا بعض أشعاره باللغتين العربية والفارسية.
وهناك شاعر آخر من أصحاب اللجهات ومنشدى الرباعيات وقد عده «إتيه (1)» من شعراء هذا العصر، معتمدا فى ذلك على أن «رضا قلى خان» فى كتابه «رياض العارفين» قد حدد وفاته بسنة 410هـ 1019م. ولكنه فى الحقيقة ينتسب إلى إلى العصر السلجوقى المبكر لأن تاريخ السلاجقة المسمى ب «راحة الصدور (2)» الذى تم تأليفه فى سنة 1202م 599هـ يذكر لنا قصة مقابلته ل «طغرل بگ» فى همدان سنة 1055أو 1058م 447أو 450هـ.
* * * ولا يفوتنا قبل أن نتحدث عن شعراء السلطان محمود، أن نذكر أنه هو نفسه
__________
(1) أنظر مقالته التى عنوانها «الآداب الفارسية الحديثة» فى المجلد الثانى من «المفصل فى الدراسات اللغوية الإيرانية:
«. 223.»
(2) نسخته الخطية الوحيدة مؤرخة سنة 1238م 636هـ (وكانت ملكا للاستاذ «شيفر» وهى الإن بالمكتبة الأهلية بباريس تحت رقم 1314فى الملحق الفارسى. وقد نشرت وصفا لها فى مجلة الجمعية الأسيوية الملكية فى سنة 1102م فى الصفحات 610567 و 887849.
(المترجم: وقد طبع هذا الكتاب ونشر ضمن مطبوعات سلسلة جب التذكارية).(1/162)
كان شاعرا فيما يقولون، وقد ذكره «عوفى» فى «لباب الألباب» تاليا للأمير التعيس «اسماعيل بن نوح» آخر السامانيين، وجعله ثانى من وردت أسماؤهم بين الملوك والأمراء الذين أثر عنهم قول الشعر أحيانا. ويذكر «إتيه» أن ست غزليات تنسب إليه، ولكنه يشك فى صحة الأسانيد التى ذكرت ذلك، وقد نقل «عوفى» مقطوعتين نسبهما إليه الأولى منهما من ثلاثة أبيات وهى فى رثاء فتاة اسمها «گلستان» (أى روضة الورد) كان يحبها ويتعلق بها ونصها (1):
تا تو اى ماه زير خاك شدى ... خاك را بر سپهر فضل آمد
دل جزع كرد گفتم أى دل صبر ... اين قضا از خداى عدل آمد
آدم از خاك بود خاكى شد ... هر كه زو زادباز اصل آمد
ومعناها:
منذ نزلت أيها القمر إلى مرقدك فى طيات التراب.
وقد أصبحت الأرض تعلو رفعة على الأفلاك والقباب!!
ولقد أحس قلبى بالجزع فقلت له: الصبر الصبر
فهذا قضاء الرحمن، وإليه مرجع الأمر!!
وكان آدم من تراب فصار إلى تراب، وسلالته لا بد أن تلحق بأصلها عند المآب!!
أما المقطوعة الثانية فقوامها ستة أبيات، وقد قيل إن السلطان محمودا أنشأها عندما أحس بدنو أجله، وهى قطعة معروفة ومشهورة، ولكن نسبتها إليه يشك فيها جدا، وقد روى «دولتشاه (2)» ثلاثة أبيات منها ونسبها إلى السلطان «سنجر» السلجوقى وبذلك أصبح احتمال نسبتها إلى هذا أو ذاك جائزا تقديرا ومتعادلا فرضا وتفكيرا، ونص هذه القطعة كما يلى:
__________
(1) أنظر «لباب الألباب» ج 1ص 23.
(2) أنظر «تذكرة الشعراء» ص 67والأبيات التى ذكرها هى الأول والخامس والسادس مما رواه «لباب الألباب» ج 1ص 25.(1/163)
ز بيم تيغ جهانگير وگرز قلعه گشاى
جهان مسخر من شد چوتن مسخر راى
گهى بعز وبدولت همى نشستيم شاد
گهى ز حرص همى رفتمى ز جاى بجاى
بسى تفاخر كردم كه من كسى هستم
كنون برابر بينم همى أمير وكداى
اگر دو كله بوسيده بر كشى ز دو گور
سر امير كه داند ز كله كراى
هزار قلعه گشادم بيك إشارت دست
بسى مصاف شكستم بيك فشردن پاى
چومرگ تاختن آورد هيچ سود سود نكرد
بقا بقاى خدايست وملك ملك خداى
ومعناها:
خوفا من سيفى الذى يغزو العالم، ومن محجنى الذى يفتح القلاع،
انصاع لى العالم كما انصاع الجسد للعقل وأطاع
وبقينا وهلة نتمتع فى سرور بالعز والدولة والسلطان،
وأثارنا الحرص أحيانا، فأخذنا نتنقل من مكان إلى مكان.
وكثيرا ما فخرت بأننى رجل الدنيا والدين
فإذا بى الآن أرى الأمير مساويا للسائل المسكين!!
ولو أخذ أحد الناس جمجمتين مهشمتين من قبرين قديمين
وكانت إحداهما لأمير والأخرى لفقير، لما استطاع أن يفرق بين الاثنتين.
ولقد فتحت كثيرا من القلاع بإشارة واحدة من يدى
وحطمت كثيرا من الجيوش بركلة واحدة من قدمى
ولكن الموت يهاجمنى الآن، وليس له من دافع
والله وحده له الملك والبقاء فى كل المواقع.(1/164)
أما أخلاق السلطان محمود فإن (1) شعراءه ومؤرخيه لا يتحدثون عنها بالطبيعة إلا بكل ثناء يبلغ حد الإغراق والمبالغة. ولكن «ابن الأثير» عندما ذكر خبر وفاته فى سنة 421هـ 1030م أثنى عليه لمهارته وتدينه وتعففه وتقريبه للعلماء والأفاضل ومحاربته لأهل الكفر والإلحاد، ولكنه عاد فقال إن نقيصة واحدة كانت تشينه هى حبه الجم للمال، وعدم تحريه الطرق القويمة فى اكتسابه والحصول عليه، وقد روى عنه الخبر الآتى:
«ولم يكن فيه ما يعاب إلا أنه كان يتوصل إلى أخذ الأموال بكل طريق، فمن ذلك، أنه بلغه أن إنسانا من نيسابور كثير المال عظيم الغنى، فأحضره إلى غزنه وقال له: بلغنا أنك قرمطى فقال: لست بقرمطى ولى مال يؤخذ منه ما يراد وأعفى من هذا الاسم. فأخذ منه مالا وكتب معه كتابا بصحة اعتقاده».
ومع ذلك فكثير من المسلمين لا يستطيعون أن يجعلوا السلطان محمودا موضعا لشبهاتهم وشكوكهم، لأنه كان بطلا من أبطال الدين، وسوط عذاب على الكفار والملحدين، ومحطما لعبادة الأصنام والتماثيل، وهادما للخرافات والأباطيل ولكن لا شك أن «ابن الأثير» استطاع أن يلمس بنظره النافذ نقطة الضعف فى أخلاقه، وهى الطمع الشديد (ولا شك أن هذا كان سببا فى دأبه على الغزوات والحروب فى بلاد الهند) وكان بالإضافة إلى ذلك شديد التدين قاسيا على الملاحدة وكفار الهنود، وقد قتل منهم عددا كبيرا لا يبلغه العد والإحصاء، وكان سريع التغير والتبدل لا يثبت على حالة واحدة، وكان أكثر من ذلك كله غازيا لا يقهر، ولم يعرف طوال حياته أن يكون صديقا مخلصا أو عدوا كريما.
وقد ولد فى العاشر من المحرم سنة 350هـ 13نوفمبر سنة 970م، ومات فى سنة 421هـ 1030م وله من العمر ستين سنة ميلادية، وكان أقرب المقربين إليه غلامه «أياز» وقد روى كتاب الفرس كثيرا من الحكايات عنه، ولا شك أن شخصيته
__________
(1) فيما عدا من أغضبهم من أمثال «الفردوسى».(1/165)
تاريخية وحقيقية، لأن ابن الأثير سجل تاريخ وفاته فى سنة 449هـ 1057م وذكر اسمه الكامل على هذا النحو: «أياز بن ايماق أبو النجم».
عنصرى:
وما دمنا قد فرغنا من ذكر السلطان محمود فقد آن هنا أن نتحدث عن شاعره:
«العنصرى». وهو شاعر تال فى المرتبة للفردوسى، ولكن ذلك لم يمنع من بقاء ذكره السنين الطويلة بعد ما زال مجد الدولة الغزنوية وذهب ضياؤه. ويذكر «نظامى عروضى السمرقندى» فى كتابه «چهار مقاله» البيتين الآتيين مصداقا لهذا القول:
بسا كاخا كه محمودش بنا كرد ... كه از رفعت همى با مه مرا كرد
نه بينى ز ان همه يك خشت بر پاى ... ثناى عنصرى ماندست بر جاى
ومعناهما:
ما أكثر القصور التى شيدها «محمود» وأقامها بالبناء
فجعلها فى رفعتها تطاول أقمار السماء
ولكنك الآن لن تجد آجرة واحدة منها قائمة فى مكانها
وكل ما بقى هو ما أقامه له «العنصرى» من ثناء!!
أما حياة «العنصرى» فلا نكاد نعرف منها شيئا، وحتى تاريخ وفاته مختلف فيه تبعا للمصادر المختلفة التى تجعله بين سنتى 1040و 1050م 432و 442هـ.
و «عوفى» كعادته يكيل له الثناء فى عبارات مملوءة بأنواع الجناس والمحسنات اللفظية، وكذلك فعل «دولتشاه» فأغرق وبالغ فى الثناء عليه وقد ذكر كلا الرجلين أن اسمه الكامل هو: «أبو القاسم حسن بن أحمد» وشهد بذلك أيضا الشاعر المعاصر «منوچهرى» فأورد اسمه على هذه الصورة فى إحدى قصائده التى سنذكرها مع ترجمتها بعد قليل. وفيما يلى ترجمة ما كتبه «دولتشاه» عن «العنصرى». قال: «أن مناقبه وعظمته أظهر من الشمس، وقد كان كبير الشعراء على عهد السلطان محمود الغزنوى، وله فضائل أخرى بالإضافة إلى ما امتاز به من شاعرية، فقد كان بعض الناس يلقبه بالحكيم ويقولون أن اربعمائة شاعر كبير كانوا يلازمون ركاب السلطان يمين الدولة محمود أنار
الله برهانه، وكان الأستاذ العنصرى رئيسا لهؤلاء الشعراء جميعا. وكانوا يقرون له بالأستاذية والتبريز. وقد تهيأ له أن يجمع فى مجلس السلطان بين منصب النديم ومنصب الشاعر وظل يسجل نظما مقامات السلطان وغزواته. وله قصيدة طويلة تبلغ مائة وثمانين بيتا، سجل فيها جميع غزوات السلطان وحروبه وفتوحه، وقد انتهى الأمر بأن منحه السلطان لقب «ملك الشعراء» فى مملكته، وأمر كل شاعر فى المملكة أن يعرض شعره على الأستاذ العنصرى حتى يميز بين غثه وثمينه، ثم يعرضه بعد ذلك على السلطان. فأصبح مجلسه كل يوم مقصدا للشعراء، واجتمع له من ذلك جاه ومال عظيمان (1). والفردوسى يطريه ويمدحه فى منظومته الشاهنامه وسنذكر ذلك فى مكانه. والله أعلم».(1/166)
و «عوفى» كعادته يكيل له الثناء فى عبارات مملوءة بأنواع الجناس والمحسنات اللفظية، وكذلك فعل «دولتشاه» فأغرق وبالغ فى الثناء عليه وقد ذكر كلا الرجلين أن اسمه الكامل هو: «أبو القاسم حسن بن أحمد» وشهد بذلك أيضا الشاعر المعاصر «منوچهرى» فأورد اسمه على هذه الصورة فى إحدى قصائده التى سنذكرها مع ترجمتها بعد قليل. وفيما يلى ترجمة ما كتبه «دولتشاه» عن «العنصرى». قال: «أن مناقبه وعظمته أظهر من الشمس، وقد كان كبير الشعراء على عهد السلطان محمود الغزنوى، وله فضائل أخرى بالإضافة إلى ما امتاز به من شاعرية، فقد كان بعض الناس يلقبه بالحكيم ويقولون أن اربعمائة شاعر كبير كانوا يلازمون ركاب السلطان يمين الدولة محمود أنار
الله برهانه، وكان الأستاذ العنصرى رئيسا لهؤلاء الشعراء جميعا. وكانوا يقرون له بالأستاذية والتبريز. وقد تهيأ له أن يجمع فى مجلس السلطان بين منصب النديم ومنصب الشاعر وظل يسجل نظما مقامات السلطان وغزواته. وله قصيدة طويلة تبلغ مائة وثمانين بيتا، سجل فيها جميع غزوات السلطان وحروبه وفتوحه، وقد انتهى الأمر بأن منحه السلطان لقب «ملك الشعراء» فى مملكته، وأمر كل شاعر فى المملكة أن يعرض شعره على الأستاذ العنصرى حتى يميز بين غثه وثمينه، ثم يعرضه بعد ذلك على السلطان. فأصبح مجلسه كل يوم مقصدا للشعراء، واجتمع له من ذلك جاه ومال عظيمان (1). والفردوسى يطريه ويمدحه فى منظومته الشاهنامه وسنذكر ذلك فى مكانه. والله أعلم».
والعبارة الأخيرة مما قاله «دولتشاه» تنطبق على كثير من الأخبار التى يرويها، وهى تصلح لكافة الظروف والأحوال، وإن كانت فى العادة لا تسلم من الخطل وسوء التقدير. والمثل الذى اختاره من أشعاره هو قصيدته التى قالها على طريقة «السؤال والجواب» وهى كافية فى إعطائنا فكرة عن أشعاره عامة وقد قال «العنصرى» هذه القصيدة فى مدح الأمير «نصر بن سبكتگين» حاكم خراسان وأخى السلطان «محمود الغزنوى (2)». وفيما يلى ترجمتها دون أن أحاول الاحتفاظ بوحدة القافية فيها كما هى العادة فى القصائد:
__________
(1) ليس هناك سبب ظاهر يدعوه الى جمع هذه الثروة، اللهم إلا إذا كان رضاه موقوفا على أسباب أخرى لا تتصل بجودة الأسلوب وبراعة الفن الشعرى!!
(2) نص هذه القصيدة موجود فى «تذكرة الشعراء» ص 4645وكذلك فى الورقة الثالثة والرابعة من ديوان العنصرى المطبوع على الحجر فى طهران بدون تاريخ.
المترجم: وفيما يلى نص الأبيات العشرة الأولى من مطلعها:
هر سؤالى كز ان لب سيراب ... دوش كردم مرا بداد جواب
گفتمش جز بشب نشايد ديد ... گفت: پيدا بشب بود مهتاب
گفتم: از تو كه برده دارد مهر ... گفت: از تو كه برده دارد خواب
گفتم: آن زلف سخت خوشبوست ... گفت: زيرا كه هست عنبر ناب
گفتم آتش بر رخت كه فروخت ... گفت: آن كو دل تو كرد كباب(1/167)
كل سؤال وجهته له بالأمس القريب، أجابتنى عنه شفتاه النديتان بجواب عجيب
قلت له: ألا تجوز رؤينك إلا فى الليل الساجى
فأجاب: وكذلك تبدو الأقمار فى الليل الداجى!!
قلت: من الذى استطاع أن يسلب حبك
فأجاب: الذى استطاع أن يسلب النوم من جفنك!!
قلت: إن طرتك تفوح بالعبير الزكى
فأجاب: لأنها مجدولة من العنبر الندى!!
قلت: ومن الذى أشعل النار فى خدّك؟!
فأجاب: هو الذى أحرق بالنار صميم قلبك؟!
قلت: سوف لا أحول وجهى عن النظر إلى وجهك المستطاب
فأجاب: وهل يستطيع احد أن يتحول عن القبلة والمحراب؟!
قلت: إن عشقك قد ابتلانى بالعذاب الدائم
فأجاب: وهذا حال العاشق الهائم؟!
قلت: وكيف السبيل إلى راحتى من العذاب؟
فأجاب: بالنظر إلى طلعة المليك الشاب!!
قلت: اتعنى الأمير نصرا ناصر الدين؟
فأجاب: نعم فهو مالك لرقاب الملوك أجمعين!!
__________
گفتم: از روى تو نتابم روى ... گفت: كس روى نتابد از محراب
گفتم: اندر عذاب عشق توأم ... گفت: عاشق نكو بود بعذاب
گفتم: از چيست روى راحت من ... گفت: هر دم ز روى خسرو شاب
گفتم: آن مير نصر ناصر دفن ... گفت: آن مالك ملوك رقاب
گفتم: او را كفايت أدبست ... گفت: كافى ازو شدست آداب
... الخ(1/168)
قلت: إن له فى الأدب كفاية!!
فأجاب: بل وصلت الآداب به إلى نهاية!!
قلت: هل تستطيع أن تلم بأفضاله؟
فأجاب: خارجة عن الحساب جلائل أعماله!!
قلت: ومن رسوله إلى الحرب الضروس والقتال الشديد؟
فأجاب: السنان من قرب، والشهاب الثاقب من بعيد!!
قلت: وهل هو لازم للزمان والأحباب؟
فأجاب: أكثر من لزوم العمر والشباب!!
قلت: وهل رأيت له مثيلا فى هذه الدنيا أو هذه الرحاب؟
فأجاب: لا ولم أسمع عن مثيله فى كتاب!!
قلت: وماذا تقول عن كفه وجودها؟
فأجاب: البحر سراب إذا قورن بها!!
قلت: وهل يستجيب لأقوال السائلين؟
فأجاب: ويثيبهم بالنقود والثياب أجمعين!!
قلت: وبماذا يجزى الأحرار والأحباب؟
فأجاب: بالجاه والجلال والإيجاب!!
قلت: وماذا تعرف عن سهامه القاتلة؟
فأجاب: إنها شبيهة بالشهب والصواعق النازلة!!
قلت: وما سيفه الغالب؟ ومن عدوه الهارب؟
فأجاب: الأول لهب واصب والثانى زئبق ذائب!!
قلت: ومن الخارج عن حكمه المشهود له بالصواب؟
فأجاب: إذا وجد أحد، فأمره زوال وخراب!!
قلت: إن أعداءه يديمون الكذب عليه والافتراء الزنيم!!
فأجاب: أكثر من فعل «مسيلمة» الكذاب الأثيم!!(1/169)
قلت: سأعطيه ملك الإفاق أجمعين
فأجاب: هو جدير بكل ملك مبين!!
قلت: على من يقع العناء بسبب ما امتاز به من جود؟!
فأجاب: على ناسج الأقمشة وضارب النقود!!
قلت: إن جوده هو أشرف المذاهب والخصال
فأجاب: وهو هبة له، اختصه بها الله المتعال!!
قلت: وكيف يقبض على كل هذا الملك الوسيع؟
فأجاب: بخاتمه المنيع وركابه السريع!!
قلت: سوف لا أسكت عن ترديد مدحه المستطاب
فأجاب: هكذا يفعل أولو النهى والألباب
قلت: وماذا أطلب له من النعم الإلهية؟
فأجاب: العمر الطويل، والدولة الفتية!!
عسجدى:
وشاعرنا التالى ذكرا هو «العسجدى» واسمه أبو نظر عبد العزيز بن منصور.
والمعروف لنا عنه أقل بكثير مما عرفناه عن «العنصرى». وقد ذكر «دولتشاه» أن ديوانه على أيامه لم يكن يسهل الحصول عليه، وإن كانت تفاريق من أشعاره قد تضمنتها كتب المختارات، ثم قال عنه إنه كان من تلاميذ العنصرى، وجعله من بلدة «هرات» ولكن «عوفى» المتقدم عليه زمنا، نسبه إلى بلدة «مرو». وفيما يلى رباعية نسبها «دولتشاه» إليه:
از شرب مدام ولاف مشرب توبه
وز عشق بتان سيم غبغب توبه
دل در هوس گناه وبر لب توبه
ز بن توبه نادرست يا رب توبه
ومعناها:(1/170)
از شرب مدام ولاف مشرب توبه
وز عشق بتان سيم غبغب توبه
دل در هوس گناه وبر لب توبه
ز بن توبه نادرست يا رب توبه
ومعناها:
من شرب المدام والفخر بالشراب أنا اطلب التوبة
ومن عشق الدمى ذات الغبغب الفضى أنا اطلب التوبة (1)
والقلب غارق فى المعاصى، وعلى شفتى كلمة التوبة
فيارب أعنّى على هذه التوبة الكاذبة، وصحح منى التوبة
فرخى:
الفرخى هو أبو الحسن على بن جولوغ السجزى (نسبة إلى سجستان وإن كان دولتشاه يخطىء وينسبه إلى مدينة ترمذ) وهو ثالث الشعراء الذين التقى بهم الفردوسى كما تقول القصة المشهورة عند قدومه إلى غزنة. وأخباره معروفة لنا بعض الشىء. والفضل الأكبر فى ذلك راجع إلى الحكاية الطويلة المروية عنه فى كتاب «چهار مقاله (2)».
وللفرخى كتاب فى فنون الشعر اسمه «ترجمان البلاغة» وهو كتاب مفقود قد أودى به الزمان فيما نعلم (3)، وربما استعمله «رشيد الدين الوطواط» فى تأليف كتابه «حدائق السحر» وقد ذكر فيه: «أن الفرخى لدى الفرس بمنزلة المتنبى لدى العرب».
أما ديوانه فقد ذكر «دولتشاه»: إنه مشهور فيها وراء النهر ولكنه غير معروف فى خراسان» وتوجد منه الآن نسختان خطيتان إحداهما فى «المتحف البريطانى» والأخرى فى «إدارة الهند». كما توجد منه طبعة على الحجر نشرت فى طهران سنة 1301هـ 1883م.
وقد جاء فى كتاب «چهار مقاله» إن «جولوغ» والد الفرخى كان ملحقا
__________
(1) المترجم: «الغبغب» هو الرقبة الممتلئة وكانت تعتبر من علامات الجمال.
(2) أنظر الحكاية الخامسة عشرة من هذا الكتاب.
(3) المترجم: طبع هذا الكتاب أخيرا فى تركيا.(1/171)
بخدمة الأمير «خلف» من سلالة الصفاريين (1). أما «الفرخى» نفسه فقد استبقاه أحد الدهاقين فى خدمته لبراعته فى قول الشعر والعزف على العود، ورتب له راتبا سنويا مكونا من مائة درهم ومائتى قفيز من القمح، كل مائة منها تبلغ خمسة أمنان ثم تزوج «الفرخى» بعد ذلك بإحدى النساء اللائى كن فى قصر «خلف» فلم يكفه مرتبه، وعلم بذلك الدهقان فزاد له من راتبه حتى أبلغه إلى خمسمائة درهم وثلثمائة من من القمح، ولكن «الفرخى» لم يقنع بهذا الراتب ويمم وجهه شطر الأمير «أبى المظفر الصاغانى (2)» لما سمعه عنه من كرم وثراء، لعله يصيب لدى مولاه الجديد بعض الحظ الذى فاته لدى غيره كما يقول فى قصيدته التى مطلعها:
با كاروان حله برفتم از سيستان ... با حله تنيده ز دل بافته ز جان
ومعناه:
خرجت من «سجستان» مع قافلة الحلة، ومعى حلة مطرزة بدماء قلبى منسوجة من أشجان روحى.
فلما بلغ مقصده وجد أن الأمير «أبا المظفر» قد خرج من بلدته إلى بعض المراعى يشاهد فيها رجاله وهم يسمون جياده بالكى فى ميدان الوسم (داغگاه)، والمأثور عن هذا الأمير أنه كان من أكبر محبى الخيل، وأنه كان يمتلك فيما يقول صاحب چهار مقاله ثمانية عشر ألف رأس من الجياد والمهارى.
واستقبل الشاعر فى غيبة الأمير حاجبه «عميد أسعد» وكانت له معرفة بقول الشعر وإنشاده، فما كاد «الفرخى» يسمعه بعض قصائده حتى أعجب بها كل الإعجاب، ولكنه لم يصدق أن سجزيا مهلهل الثياب رث الهيئة من قمة رأسه إلى أخمص قدميه، تعلو رأسه عمامة كبيرة على شاكلة ما يلبسه أهل سجستان، يستطيع أن يقول مثل هذا الشعر الذى سمعه، وعلى ذلك التفت إليه قائلا:
__________
(1) احتفظ هذا الأمير ببعض أملاك الدوله الصفارية حتى ذلك الوقت.
(2) نسبة إلى «چغانيان» وهو مكان فيما وراء النهر يقع بين «ترمذ» و «قباديان».(1/172)
«إن الأمير فى مكان الوسم وسألتحق بخدمته، وسأصحبك معى، فالمكان رائع جميل، وهو دنيا متشابكة من الخضرة النضيرة والمراعى الوفيرة، تملأه الخيام المنصوبة، تنيرها الثريات المشبوبة، وأغانى «الرودكى» تتردد فى الخيام على معانقة أهل الوجد والغرام، وهم يتساقون كؤوس الخمر والمدام، وينعمون بأهنأ الأمانى والأحلام، والأمير قد نصب خيمته فى وسط المكان، وأوقد أمامها نارا كالجبل أو البركان، ورجاله يقبسون منها الأقباس، فيسمون بها الجياد والأفراس. وقد يقف الأمير أمام سرادقه والكأس فى يسراه، والسوط فى يمناه، فيتناول رشفة من الخمر، ويصدر ما يشاء من أمر فما عليك لو نظمت لنا قصيدة فى وصف هذا المقام، حتى أقدمك إلى الأمير فتحظى بالتقريب والإكرام؟!».
فقضى الفرخى ليلته وهو يروض القريض حتى استطاع أن ينشىء القصيدة التالية التى تعتبر بحق من أجمل ما قاله (1):
تا پرند نيلگون بر روى پوشد مرغزار
پرنيان هفت رنگ اندر سر آرد كوهسار
خاكرا چون ناف آهو مشك زايد بى قياس
بيد را چون پر طوطى برگ رويد بيشمار
دوش وقت نيم شب بوى بهار آورد باد
حبذا باد شمال وفرخا باد بهار
باد گوئى مشك سوده دارد اندر آستين
باغ گوئى لعبتان جلوه دارد در كنار
نسترن لؤلؤى بيضا دارد اندر مرسله
ارغوان لعل بدخشى دارد اندر گوشوار
تا برآمد جامهاى سرخ گل بر شاخ گل
پنجهاى دست مردم سر فرو كرد از چنار
__________
(1) المترجم: لم يذكر المؤلف أصل هذه القصيدة ولكنى فضلت نقله عن النص المذكور فى «تذكرة الشعراء» ص 55وكذلك «خرابات» ج 1ص 187.(1/173)
باغ بوقلمون لباس وشاخ بوقلمون نماى
آب مرواريد رنگ وابر مرواريدبار
راست پندارى كه خلعتهاى رنگين بافتند
باغهاى پرنگار از داغگاه شهريار
داغگاه شهريار اكنون چنان خرم شود
كاندران از خرمى خيره بماند روزگار
سبزه اندر سبزه بينى چون سپهر اندر سپهر
خيمه اندر خيمه بينى چون حصار اندر حصار
هر كجا خيمه است خفته عاشقى با دوست مست
هر كجا سبزه است شادان يارى از ديدار يار
سبزه ها با بانگ چنگ ومطربان نغزگوى
خيمه ها با بانگ نوش وساقيان ميگسار
عاشقان بوس وكنار ونيكوان ناز وعتاب
مطربان رود وسرود وخفتگان خواب وخمار
بر در پرده سراى خسرو فيروزبخت
از پى داغ آتشى افروخته خورشيدوار
بركشيده آتشى چون مطردى ديباى زرد
گرم چون طبع جوانان زرد چون زرعيار
داغها چون شاخهاى بسد ياقوت رنگ
هر يكى چون نار دانه گشته اندر زير نار
كودكان خواب ناديده مصاف اندر مصاف
مركبان داغ ناكرده قطار اندر قطار
خسرو فرخ سير بر باره دريا گذر
با كمند اندر ميان دست چون اسفنديار
همچوزلف نيكوان خوردساله تاب خورد
همچوعهد دوستان سالخورده استوار
مير عادل بو المظفر شاه با پيوستگان
شهريار شهرگير و پادشاه شهردار
هر كرا اندر كمند تاب خورده افگند
گشت نامش بر سرين وشانه ورويش نگار
هر چهـ زين سو داغ كرد از سوى ديگر هديه داد
شاعران را با لگام وزايران را با فسار
ومعناها:(1/174)
باغ بوقلمون لباس وشاخ بوقلمون نماى
آب مرواريد رنگ وابر مرواريدبار
راست پندارى كه خلعتهاى رنگين بافتند
باغهاى پرنگار از داغگاه شهريار
داغگاه شهريار اكنون چنان خرم شود
كاندران از خرمى خيره بماند روزگار
سبزه اندر سبزه بينى چون سپهر اندر سپهر
خيمه اندر خيمه بينى چون حصار اندر حصار
هر كجا خيمه است خفته عاشقى با دوست مست
هر كجا سبزه است شادان يارى از ديدار يار
سبزه ها با بانگ چنگ ومطربان نغزگوى
خيمه ها با بانگ نوش وساقيان ميگسار
عاشقان بوس وكنار ونيكوان ناز وعتاب
مطربان رود وسرود وخفتگان خواب وخمار
بر در پرده سراى خسرو فيروزبخت
از پى داغ آتشى افروخته خورشيدوار
بركشيده آتشى چون مطردى ديباى زرد
گرم چون طبع جوانان زرد چون زرعيار
داغها چون شاخهاى بسد ياقوت رنگ
هر يكى چون نار دانه گشته اندر زير نار
كودكان خواب ناديده مصاف اندر مصاف
مركبان داغ ناكرده قطار اندر قطار
خسرو فرخ سير بر باره دريا گذر
با كمند اندر ميان دست چون اسفنديار
همچوزلف نيكوان خوردساله تاب خورد
همچوعهد دوستان سالخورده استوار
مير عادل بو المظفر شاه با پيوستگان
شهريار شهرگير و پادشاه شهردار
هر كرا اندر كمند تاب خورده افگند
گشت نامش بر سرين وشانه ورويش نگار
هر چهـ زين سو داغ كرد از سوى ديگر هديه داد
شاعران را با لگام وزايران را با فسار
ومعناها:
منذ اكتست المروج بالحرير الأزرق
واتشحت قنن الجبال بالإبريسم ذى الألوان
والأرض تؤتى من المسك والعبير ما لا شبيه له ولا حصر له من نوافج الغزلان
وأشجار الصفصاف تخرج ما لا حد له من الأوراق الشبيهة بأجنحة الببغاوات
وليلة الأمس، فاح الهواء بروائح الربيع فى منتصف الليل
فيا حبذا نسيم الشمال، وما أجمل روائح الربيع!!
وكأنما كانت أكمام الرياح محملة بفتات المسك
وكأنما كانت البساتين تحتضن العرائس فى أذرعتها!!
وانعقدت عقود اللؤلؤ الأبيض فى أعناق النسرين
وتدلت حلقات الياقوت «البدخشى» فى آذان الأرغوان (1)
وأطلت كؤوس الورد الحمراء على الأغصان والأفنان
وجنت أوراق «الشنار» رؤوسها فى ذلة وإذعان (2)!!
__________
(1) المترجم: «الياقوت البدخشى» هو المنسوب إلى «بدخشان» وهو أجود أنواع اليواقيت وأشدها حمرة، والأرغوان زهر أحمر اللون.
(2) المترجم: «الشنار» تعريب للكلمة الفارسية «چنار» وهى شجرة مستقيمة العود.(1/175)
ولبست الحدائق أبهى الألوان، وازدهت الأغصان فى كل مكان!!
وتلألأت المياه فى الغدران، وأمطر السحاب دره الفتان!!
حتى لتظن أن هذه الحدائق الجميلة قد فازت بالخلع الجليلة
وأن «مكان الوسم» الذى اختاره الملك قد أصبح أبهى خميلة!!
وأصبح سرادق الأمير مليئا بالبهجة والحبور
بحيث بدت الحيرة على وجه الزمان مما امتلأ به من غبطة وسرور!!
فحضرته متصلة اتصال الأفلاك فى عليائها!!
وخيامه متلاصقة تلاصق القلاع فى بنائها!!
وفى كل خيمة يضطجع عاشق ثمل إلى جوار معشوقه الولهان!!
وفى كل خميلة يسعد حبيب هائم برؤية حبيبه الهيمان!!
والخمائل تتجاوب بأنغام الأعواد والمغنين!!
والخيام تتردد فيها صيحات السقاة المخمورين!!
والعشاق فى تقبيل ومعانقة، والحسان فى دلال ومعاتبة!
والمطربون دائبون فى العزف والغناء، والنشاوى غارقون فى غفلة الانتشاء!!
ولقد اتقدت على باب خيمة الأمير السعيد نار أخذت فى التأجج
أشعلوها ليسم بها جياده، فأصبحت كأنها الشمس ذات التوهج!!
وارتفعت لهبها، وكأنها الأعلام المصنوعة من الديباج الأصفر
واشتدت حرارتها كحرارة الشباب، واصفرت طلعتها كالذهب الخالص!!
واحمرت المياسم، فأضحت كقطع الياقوت الدكناء!!
وبدت مصفوفة فى النار، كأنها حبات الرمان الحمراء!!
واصطف الغلمان الذين لم يذوقوا طعم النوم والكرى!!
ووقفوا يمسكون بالجياد التى لم يسموها قافلة فى أثر قافلة!!(1/176)
والأمير السعيد قد امتطى صهوة سابح جميل
والأنشوطة فى قبضة يده وكأنه «اسفنديار» الجيل (1)
وانثنت الأنشوطة فى يده، فأصبحت كطرة الفتاة الحسناء
واستحكمت فى قبضته كما يستحكم عهد الأصدقاء القدماء
وأحاط بالأمير العادل «أبى المظفر» جماعه من الأخصاء
ووقف بينهم ملكا مظفرا، قد دانت له جميع الأنحاء
فإذا وقع الجواد فى عقدة أنشوطته
وسمه بالكى فأصبح اسمه منقوشا على وجهه ورقبته وعجيزته
ولكنه يسم الجياد، ثم يجود بها بعد ذلك
فتصبح للشعراء أزمتها، وللزائرين مقاودها وأعنتها!!
ويقول صاحب «چهار مقاله»: إن «العميد أسعد» عندما سمع هذه القصيدة بقى فى حيرة كاملة، لأن أذنه لم تطرقها من قبل قصيدة أخرى فى مثل جمالها فترك جميع أعماله، وأمر للفرخى بجواد ركبه، وتوجه معه إلى الأمير ووصل إليه والشمس آخذة فى المغيب، وقال له: لقد أحضرت إليك يا مولاى شاعرا لم ير أحد ندا له منذ وارى «الدقيقى» وجهه فى نقاب التراب. ثم حكى له خلاصة ما سبق من أمره معه:
فأذن الأمير بإحضار الفرخى إلى مجلسه، فلما دخل عليه وحياه، مد الأمير يده إليه، وقربه من مجلسه، وسأله عن حاله، وتلطف إليه، وأمله فى نواله وصلته فلما دار الشراب جملة دورات نهض الفرخى من مكانه وأخذ ينشد فى صوت حزين جميل قصيدته التى مطلعها:
با كاروان حله برفتم ز سيستان ... با حله تنيده ز دل بافته ز جان
__________
(1) بطل من أبطال الأساطير الإيرانية.(1/177)
خرجت من «سجستان» مزاملا لقافلة «الحلة»
ومعى حلة مطرزة بدماء قلبى، منسوجة من أشجان روحى
فلما فرغ من إنشادها، وكان الأمير من قائلى الشعر والخبراء به، تعجب من جودتها فالتفت إليه «العميد أسعد» وقال: تمهل قليلا يا سيدى حتى تمعن النظر فيما هو آت وسكت «الفرخى» قليلا حتى إذا عمل الشراب فى رأس الأمير، وبلغ منه السكر مبلغه، نهض «الفرخى» من مكانه وأخذ ينشد قصيدته التى يصف فيها مكان وسم الجياد. فملكت الحيرة لب الأمير، والتفت إلى «الفرخى» قائلا: لقد أحضروا إلىّ الآن ألفا من المهارى الجيدة، كلها بيضاء الغرة، محجلة الأرجل، وأنت رجل «سجزى» (1) ماكر ختال، فأمسك منها ما استطعت يكن من نصيبك!!
وكان الشراب عند ذلك قد أثقل رأس «الفرخى» وبلغ به غاية النشوة، فطوّح بعمامته عن رأسه، ورمى بنفسه فى وسط هذا القطيع، واستطاع أن يقود أمامه عددا منه، سار به إلى ناحية السهل والفلاة ولكن المهارى جرت يمينا ويسارا فلم يتمكن من أن يأخذ من بينها مهرا واحدا، وبدا له فى نهاية الأمر رباط خرب يقع إلى جوار المعسكر، أخذت المهارى تدخل فيه وكان «الفرخى» قد بلغ غاية التعب والنصب، فدخل إلى دهليز هذا الرباط، واستلقى على الأرض واضعا عمامته تحت رأسه، ولشدة ما كان يحسه من تعب وسكر استغرق فى نوم عميق.
وجاء رجال الأمير وعدوا المهارى الموجوده داخل الرباط فوجدوها اثنين وأربعين مهرا، فتوجهوا إلى الأمير وأخبروه بما كان فضحك الأمير كثيرا، وتعجب مما حدث وقال. إن «الفرخى» رحب حسن الحظ، سيرتفع شأنه، فاحتفظوا به، واحتفظوا له بهذه المهارى، فإذا ما صحا من غفوته أتيناه أنا أيضا.
__________
(1) أى من أهل سجستان.(1/178)
فامتثلوا لأمره ونهض «الفرخى» من نومه فى اليوم التالى مع طلوع الشمس، واستيقظ الأمير من تلقاء نفسه وصلى صلاة الصبح، ثم أمر بإحضار «الفرخى» إليه، وتلطف إليه كثيرا، ثم سلّم إلى تابعيه هذه المهارى، وأمر له بجواد كامل العدة من جياده الخاصة، كما أمر له بخيمتين وثلاثة بغال وخمسة من العبيد وبعدد من الملبوسات والمفروشات. وعلا أمر «الفرخى» فى خدمة الأمير علوا كبيرا، وبلغ شأوا بعيدا من العظمة والجاه ثم التحق بخدمة السلطان يمين الدولة «محمود الغزنوى»، فلما رآه على هذه الحال من العظمة والرفعه والجاه، تولاه بما هو جدير به، فما زال شأنه فى علو وارتقاء حتى بلغ عدد من يتبعه من الخدم إذا ركب عشرين غلاما يتمنطقون بمناطق من الفضة الخالصة.»
الفردوسى:
قصة مشهورة فى مدينة «غزنه»
تروى قصة مشهورة (1) أنه بينما كان الشعراء الثلاثة الذين ذكرناهم فيما سبق يتحدثون يوما فى إحدى الرياض فى مدينة «غزنه» قصدهم غريب قادم من «نيسابور» يريد أن يلتحق بمجلسهم فاعترضه «العنصرى» وقد هاله فضول هذا الغريب القروى وقال له:
إننا شعراء الملك، ولا يدخل فى زمرتنا إلا شاعر، فإن شئت أن تلحق بجماعتنا فما عليك إلا أن تجيزنا بشطرة رابعة لثلاث شطرات من الشعر، سيقول كل واحد منا واحدة منها.
فأذعن «الفردوسى» وهو الغريب القادم لهذا الاختبار وعمد «العنصرى» إلى اختيار قافية صعبة، يسهل بها تقفية ثلاث شطرات وتستعصى بها الرابعة، فقال مبتدئا:
«چون عارض تو ماه نباشد روشن»
__________
(1) مروية فى «تذكرة الشعراء» لدولتشاه ص 51وقد ذكرها كل من أتى بعده من كتاب التراجم، ولكن صاحب «چهار مقاله» وكذلك «محمد عوفى» لم يذكراها وهما أقدم اثنين من كتاب التراجم المعتمدة.(1/179)
ومعناها: إن القمر لا يضىء كنور وجهك فى بهائه!!
ثم ثنى «العسجدى» فقال: «مانند رخت گل نبود در گلشن»
ومعناها: وفى بهاء وجناتك لا يكون الورد فى رباضه!!
ثم أعقبه «الفرخى» فقال: «مژگانت گذر همى كند در جوشن»
ومعناها: وأهدابك تنفذ من الجواشن الثقيلة!!
وأقبلت نوبة «الفردوسى» فقال الشطرة الآتية وفيها إشارة إلى قصة غير مشهورة فى أساطير الملوك الأقدمين:
«مانند سنان گيو در جنگ پشن»
ومعناها: وكأنها سنان «گيو» فى حربه مع «بشن»!!
عند ذلك طلب الشعراء الثلاثة إلى «الفردوسى» أن يشرح لهم القصة التى أشار إليها فى «شطرته» ففعل لهم ذلك، وأبدى كثيرا من الخبرة بأساطير ايران القديمة. وأخبر «العنصرى» مولاه «السلطان محمود» بأنه قد عثر فى النهاية على شاعر ماهر قمين بأن يكمل نظم الملحمة الوطنية التى بدأها «الدقيقى» لأحد ملوك السامانيين منذ عشرين أو ثلاثين سنة وأتم منها ألف بيت نظمها فى قصة الملك «گشتاسب، وظهور نبى الفرس زردشت (1)»، ولكن الموت اخترمه عند هذا الحد فاغتاله غلام تركى من غلمانه، وقضى بذلك على هذا الشاعر التاعس الموهوب.
هذا هو جملة البيان الذى أورده «دولتشاه» وغيره من أصحاب التراجم عن الكيفية التى اتصل بها «الفردوسى» بالبلاط الغزنوى، ولكنى قد بينت فى ملاحظة سابقة أن أقدم الكتب التى كتبت عن هذا الشاعر وهى التى ترجع إلى منتصف القرن
__________
(1) يذكر عوفى (ص 32) إن «الدقيقى» نظم عشرين ألف بيت من الشاهنامه بالإضافة إلى ما نظمه «الفردوسى» وقوامه ستون ألف بيت. ولكن «الفردوسى» نفسه يقصر عدد ما نظمه «الدقيقى» على ألف بيت، وذهب إلى هذا الرأى أيضا المستشرق «نولدكه» فى ص 19من مقالته:
«الملحمة القومية الإيرانية:.»(1/180)
الثانى عشر وبداية الثالث عشر الميلاديين لا تورد مثل هذه الرواية. ولا شك أن ذلك مما يؤيد وجهة نظر الأستاذ «نولدكه» فى أنها رواية مخترعة من أساسها.
والضيق الحاصل لنا فى مثل هذه المواضع ليس ناتجا كما هو العادة من نقص التفاصيل التى يوردها أصحاب التراجم، بل على العكس من ذلك، عن كثرة الروايات الباطلة التى لا تؤيدها المصادر القديمة التى كتبت عن حياة الشاعر، ولا النبذ القليلة المتفرقة التى رواها «الفردوسى» عن نفسه فى «الشاهنامه» وربما كانت هذه وتلك فى كثير من الأحيان تتعارضان تمام المعارضة وتبدوان على طرفى نقيض. ومن أجل ذلك وجب علينا فى مثل هذه الحالات أن نرفض رفضا تاما هذه الروايات المتأخرة التى ترجع إلى النصف الأخير من القرن الخامس عشر الميلادى (منتصف التاسع الهجرى) وحسبنا أن نحيل القارىء المتفحص إلى ما أورده من نظائرها «أوزلى» فى كتابه «تراجم شعراء الفرس (1)» وما ذكره «مول (2)» فى مقدمته على طبعة ال «شاهنامه» المصحوبة بترجمتها الفرنسية، وإلى غير ذلك من الكتب التى يتداولها بعض الناس من غير طائفة المستشرقين المتخصصين.
ولا خلاف بين أهل المشرق والمغرب فى أن «الفردوسى» شاعر عظيم الخطر ومهما اختلف تقديرنا الشخصى لملحمته «الشاهنامه» فلا خلاف فى أنه هو ومنظومته حقيقان بدراسة مفصلة موضحة، ولكن الغرض الذى أجعله نصب عينى عند تأليف هذا الكتاب يدعونى إلى أن ألتمس الإجمال بقدر المستطاع، لأن هدفى منذ البداية منصب على إعطاء القارىء الأوروبى صورة من الحياة الأدبية فى إيران تمده بالتفاصيل التى لا يجدها فى الكتب الأوروبية الأخرى.
وأهم المصادر المعتمدة التى فى أيدينا هى التالية:
أولا: مؤلفات الشاعر نفسه وهى عبارة عن «الشاهنامه» وقصة «يوسف وزليخا» المنظومة وبعض الغزليات التى جمعها وترجمها الدكتور «إتيه»
__________
(1) أنظر:.،
(2) يكتب هذا الاسم بالحروف الرومانية هكذا:.(1/181)
فى مقالته «الفردوسى كشاعر غنائى (1)»
ثانيا: الرواية التى أوردها «نظامى عروضى السمرقندى» فى كتابه «چهار مقاله» وقد زار قبر الفردوسى فى «طوس» سنة 1116م 510هـ أى بعد وفاته بما يقرب من قرن واحد واستطاع أن يضمن كتابه ما سمعه هناك من أخبار احتوتها الحكاية العشرون (2).
ثالثا: الرواية المقتضبة التى ذكرها «محمد عوفى» فى الجزء الثانى من كتابه «لباب الالباب».
وقد تمكن الأساتذة الأوروبيين من أمثال «ترنرمكن» و «مول» و «روكرت» من أن يجعلوا «الشاهنامه» معروفة لدى الأوروبيين بعد ما طبعوها وترجموها، ولكن لا زالت أهم الدراسات التى كتبت عن الفردوسى هى تلك التى كتبها «إتيه» فى مقالته التى ذكرناها فيما سبق، وكذلك فيما كتبه «نولدكه» فى مقالته البارعة التى عنوانها «الملحمة القومية الإيرانية» وهى التى نشرها فى كتاب «المفصل فى الدراسات اللغوية الإيرانية» والتى أعاد نشرها «تربنر:» فى كتيب منفصل سنة 1896نجعل عليه عمادنا فيما نحن مقدمون عليه من نقل.
__________
(1) انظر: فى «» أخبار جلسات المعهد العلمى بميونخ» سنة 1872ص 304275وسنة 1873ص 653623، وكذلك «يوسف وزليخا» فى أعمال الموتمر الدولى السابع للمستشرقين فى فينا سنة 1889القسم السامى ص 4520، وكذلك ملاحظات نولدكه فى «الدراسات الفارسية» الجزء الثانى عدد 126من «أخبار جلسات المجمع العلمى بفينا»:
«» وقد أورد الدكتور «إتيه» قائمة بأسماء الكتاب الإنجليز الذين استعانوا بالكتب السابقة لكتابة المقالات فى المجلات والجرائد. وهذه القائمة موجودة فى مقالته التى عنوانها «الأدب الفارسى الحديث» المنشورة فى الجزء الثانى من «المفصل فى الدراسات اللغوية الإيرانية».
(2) هذه الرواية مذكورة أيضا بتمامها فى كتاب تاريخ طبرستان تأليف ابن اسفنديار وكان أول من استخرجها من ذلك الكتاب هو الدكتور إتيه، لأن نص «چهار مقاله» لم يكن ميسرا له، لا فى النسخة المطبوعة على الحجر ولا فى مخطوطة المتصف البريطانى، وقد نشر هذا النص الذى اعتمد فيه على ثلاثة مخطوطات فى مجلة المستشرقين الألمان عدد 158.(1/182)
ولا يفوتنا أن نذكر أننا مدينون ل «نولدكه» خاصة بدراسة عميقة سليمة لحياة الفردوسى، أظهر فيها معالمها الحقيقية والمحتملة، معتمدا فى ذلك على أحسن المصادر التى يعتمد عليها الباحث الناقد، وأقصد بذلك أقوال «الفردوسى» نفسه وهى التى نجدها مبعثرة فى مختلف المواضع فى شاهنامته الشاسعة.
وقبل أن نخوض فى ذكر الأساطير الطويلة التى أشرنا إليها فيما سبق، يحسن بنا أن ننتهى أولا من ذكر الروايتين القصيرتين اللتين أوردهما «عوفى» فى «لباب الألباب (1)» والمؤرخ «حمد الله المستوفى» فى كتابه «تاريخ گزيده» الذى ألفه فى سنة 1330م 731هـ وقد ذكر الأخير منهما أن اسم «الفردوسى» الكامل هو «الحسن بن على الطوسى» وجعل وفاته فى سنة 416هـ 1025م. أما صاحب «اللباب» فكعادته يكيل الثناء للشاعر ويعجب أشد الإعجاب بمتانة عباراته، وقوة تراكيبه، وبعد خياله، وقدرته على المحافظة على هذه الأمور فى منظومة طويلة شغلته السنين الطويلة من عمره ثم يذكر بعد ذلك أن الشاعر «مسعود بن سعد» وهو من الشعراء المبكرين الذين عاشوا حوالى سنة 1080م 473هـ اقتبس منها بعض المختارات مما يدل دلالة واضحة على أن الشاهنامه قد فازت فى هذا الزمن المبكر بكثير من الإنتشار والذيوع.
رواية «جهار مقاله»
أما كتاب «چهار مقاله» وهو أقدم المصادر وأجدرها بالإعتماد فيذكر أن «الفردوسى» كان دهقانا (أى قرويا من أصحاب الأراضى) وأنه كان من قرية «باژ (2)» فى ناحية «طبران» بالقرب من «طوس» إحدى مدن خراسان التى كانت تقع فى مكان مدينة «مشهد» الحالية. وكان يعتمد فى معيشته على ما تغله له بعض الضياع، ولم يكن له من عقب غير ابنة واحدة، أراد أن يحسن تجهيزها، فدفعه ذلك
__________
(1) انظر ج 2ص 3332
(2) ذكر ابن اسفنديار فى تاريخه مثل هذه الرواية ولكنه لم يذكر اسم هذه القرية.(1/183)
إلى نظم ملحمته الطويلة لعله يجد من أصحاب الجاه والسلطان من يهديها إليه فيجزيه الجزاء الأوفى على ما تجشم من تعب دائب وجهد طويل متصل. فلما فرغ منها بعد ثلاثين سنة (أو خمسة وعشرين وفقا لبعض المصادر الأخرى) وكان ذلك فى سنة 999م 389هـ كما يقول «نولدكه» أعطاها لكاتبه «على ديلم» فنسخها ولراويه «أبى دلف» فأنشدها وقد ذكر «الفردوسى» هذين الرجلين فى إحدى مقاطع الشاهنامه وقرن بهما «الحسين بن قتيبة» حاكم طوس لأياديه الجميلة التى مدته بكثير من العون والتشجيع. وفيما يلى نص القطعة التى ذكر فيها أسماء هؤلاء الرجال (1):
ازين نامه از نامداران شهر ... على ديلم وبو دلف راست بهر
نيامد جز احسنتشان بهره ام ... بكفت اندر احسنتشان زهره ام (2)
حيى قتيبة است از آزادگان ... كه از من نخواهد سخن رايگان
نيم آگه از أصل وفرع خراج ... همى غلطم اندر ميان دواج
ومعناها:
من مشاهير هذه المدينة، الذين ذكروا فى هذا الكتاب
ل «على ديلم»، و «أبى دلف» نصيب من الفضل والثواب
فلم أسمع منهما إلا أقوال الاستحسان والإعجاب
وقد كدت انفطر خجلا وعجزا أمام أقوالهما العذاب
__________
(1) المترجم: النص منقول عن «چهار مقاله» وليس موجودا فى الأصل.
(2) هذا البيت مشكوك فى مبناه ومعناه وأنى أفضل نصه الذى ورد فى تاريخ «ابن اسفنديار» حيث وردت فى الشطرة الأولى «از بختشان» بدل كلمة «احسنتشان» ولكنى مع ذلك أشك فى صحة ما ورد بالشطرة الثانية حيث ذكر «احسانشان» بدل كلمة «احسنتشان» ولو أننا اتبعنا هذه التعديلات وأصلحنا النص الذى ذكرناه فى صفحة 79من ترجمتى لكتاب «چهار مقاله» لأصبح معنى هذا البيت: «لقد كادت كبدى تنفجر لما بذلا لى من خير وكرم أى لقد هزنى كرمهما وحرك الساكن من قلبى.» ولا شك أن هذا الإصلاح يفض الصعوبة التى اعترضتنى فى ترجمة هذا البيت وأشرت اليها فى الهامش رقم 4من ترجمتى.(1/184)
وكذلك «حيى قتيبة» فإنه من أحرار الرجال (1)
ولم يتطلب أن أقول فيه حسبة شيئا من الأشعار والأقوال!!
فأعفانى من الخراج حتى جهلت بأصوله وفروعه
وأصبحت بذلك اتقلب فى الحرير، بل فى الخير جميعه!!
ويذكر صاحب «چهار مقاله» فى تفسير البيت الأخير أن «حسين بن قتيبة» كان يتولى جباية الخراج فى «طوس» وأنه أعفى «الفردوسى» مما عليه ومن أجل ذلك فقد خلد الشاعر اسمه حتى القيامة وجعل الملوك يذكرونه ويرددونه.
ولما فرغ «على ديلم» من نسخ «الشاهنامه» فى سبعة مجلدات حملها «الفردوسى» ويمم وجه شطر «غزنه» مستصحبا معه راويته «أبا دلف» وسرعان ما تمكن من أن يجعل الوزير «أبا القاسم أحمد بن الحسن الميمندى (2)» يشغف بمنظومته ويتولى تقديمها إلى السلطان محمود الذى سربها سرورا عظيما. ويمضى صاحب «چهار مقاله» فى روايته فيقول: «إن الوزير كان له أعداء وكانوا دائما يصيبون تراب التخليط فى كأسه (أى يقدحون فيه) فشاورهم السلطان محمود فى مقدار العطاء الذى يعطيه للفردوسى، فقالوا له: حسبه خمسون ألف درهم وهذا المبلغ كثير عليه، لأنه رافضى ومعتزلى والدليل على اعتزاله قوله:
به بينندگان آفريننده را ... نبينى مرنجان دو بيننده را
ومعناه:
إنك لن يستطيع أن ترى الخالق بعينيك، فلا تتعب إذن ناظريك (3).
__________
(1) هذا الإسم مذكور فى نسختى المتحف البريطانى لكتاب «چهار مقاله» على أنه «حى» أو «حيى» ولكن تاريخ ابن اسفنديار يذكره «حسين» وربما كان هذا هو الصواب.
(2) فى «چهار مقاله» بذكر هذا الاسم على أنه «الوزير أحمد بن الحسن الكاتب» ولا شك أنه يقصد به «الميمندى» أما «ابن اسفنديار» فيذكر هذا الإسم هكذا «حسين بن أحمد».
(3) «رؤية الله» كانت سببا فى نقاش طويل بين الفرق الإسلامية. والمعتزلة ينفونها، والحنابلة يثبتونها.(1/185)
والدليل على تشيعه قوله:
مرا غمز كردند كان پرسخن ... بمهر نبى وعلى شد كهن
اگر مهرشان من حكايت كنم ... چومحمود را صد حمايت كنم
پرستارزاده نيايد بكار ... وگر چند باشد پدر شهريار
ازين در سخن چند رانم همى ... چودريا كرانه ندانم همى
به نيكى نبد شاه را دستگاه ... وگرنه مرا برنشاندى بگاه
چواندر تبارش بزرگى نبود ... ندانست نام بزرگان شنود
ومعناها:
لقد عابونى فقالوا: إن هذا المتشدق الثرثار
قد شاب على حب النبى وعلىّ، وتقدمت به السنون والأعمار!!
ولو أنى أخذت أردد أقوالى فى حبهما وما يتصل بهما من أخبار
لحميت بذلك مئات من أمثال «محمود» وكل سلطان جبار!!
ولكننى أعرف أن ابن الأمة لا يصلح فى عمل من الأعمال
ولو كان أبوه ملكا من ذوى الخطر والجلال!!
فإلام أسوق الحديث فى هذا الباب الواسع؟!
وهو كالبحر، لا أعرف حدا لمداه الشاسع!!
وليس فى طاقة هذا السلطان أن يفعل الخير والإحسان
ولو قدر له ذلك لأجلسنى على العرش فى أسمى مكان!!
ولم يكن فى أرومته ما يتصل بالعظمة وكرم المحتد والانتماء!!
ومن أجل ذلك لم يعرف كيف يستمع إلى أسماء العظماء!! (1)
فإذا صحت هذه الرواية التى ذكرها صاحب «چهار مقاله» عن الفردوسى ولست أحسبها إلا صحيحة فى أساسها، فإنى أميل إلى افتراض صلة بين ما أصاب الفردوسى من ضر وما أصاب سيده ومولاه «الميمندى» من شر انتهى به إلى الحبس كما خبرنا
__________
(1) المترجم: لم يذكر «براون» هذه الأبيات فى هذا الموضع واكتفى بالإشارة إليها وإرجاع القارىء إلى ترجمته لكتاب «چهار مقاله» ص 8980.(1/186)
بذلك ابن الأثير فى حوادث سنة 421هـ 1030م حيث ذكران «مسعود بن محمود الغزنوى» أفرج عنه وأعاده إلى منصبه.
ومع ذلك فليس من السهل التغلب على الإعتراضات التى توجه إلى هذا الفرض، لأن «نولدكه» على الخصوص، يثبت لنا أن الفردوسى ولد غالبا فى سنة 323هـ أو 324هـ 935م أو 936م وأنه فرغ من «الشاهنامه» نهائيا فى سنة 400هـ 1010م، وأن عمره فى ذلك الوقت قد نيف على الثمانين (1) وفى هذا الوقت دون غيره ثار النقاش على مسأله مكافأته على نظم «الشاهنامه».
ويمضى صاحب «چهار مقاله» فى حديثه عن الفردوسى فيقول:
«وكان السلطان محمود رجلا شديد التعصب فأثرت فيه هذه الوشايات واستمع لها، فلم يصل «الفردوسى» فى النهاية إلا بعشرين ألف درهم (2) وغضب الفردوسى غضبا شديدا. وذهب إلى الحمام فاغتسل ثم خرج منه وشرب فقاعا (3)، وقسم النقود بين صاحب الحمام وبائع الفقاع. وكان يعلم بقسوة محمود، فخرج من مدينة «غزنه» ليلا ونزل بمدينة «هراة» فى دكان إسماعيل الوراق والد «الأزرقى (4)» ثم توارى فى منزله مدة ستة أشهر حتى وصل رسل محمود فى طلبه إلى مدينة طوس وانصرفوا عنها.
فلما أحس الفردوسى بالأمن والطمأنينة خرج من «هراة» وتوجه إلى طوس، وحمل الشاهنامه معه، وذهب إلى «طبرستان» ونزل عند ملكها «الإصبهبذ شهريار»
__________
(1) يثبت «نولدكه» أن الفردوسى فرغ من نظم «الشاهنامه» قبل أن يقوم بأهدائها الى السلطان «محمود الغزنوى» بزمن طويل ويبرهن على ذلك بأن هناك نسخة أخرى أهديت الى «أحمد بن محمد بن أبى بكر الخالنجانى» بتاريخ 389هـ 999.
(2) هذا الرقم مذكور فى النسختين المخطوطتين المحفوظتين فى المتحف البريطانى، وكذلك فى تاريخ «ابن اسفنديار» أما النسخة المطبوعة على الحجر فتذكر أنه ستون ألف درهم. ومدار الجدل فى هذه الروايات هو أن السلطان استبدل الدنانير الذهبية ب «الدراهم» الفضية.
(3) المترجم: نوع من الشراب المسكر كالجعة.
(4) شاعر مشهور سنتحدث عنه فيما بعد.(1/187)
الذى ينتسب إلى «آل باوند» وهم أسرة كبيرة يتصل نسبها بالملك «يزدجرد بن شهريار (1)».
«ثم هجا الفردوسى محمودا فى منظومة من مائة بيت، قرأها على «شهريار» وقال له: سأنقل هذا الكتاب من اسم محمود إلى اسمك فإنه عبارة عن أخبار جدودك ومآثرهم: فتلطف شهريار فى معاملته وأبدى له أنواع الرفق والإحسان، وقال له: يا أستاذ لقد حمل الوشاة محمودا على ذلك، ولم يعرضوا عليه كتابك بما هو جدير به، وقدحوا فى شأنك، هذا بالإضافة إلى أنك رجل شيعى، والمعروف أن كل من يتولى أهل بيت الرسول لا يستقيم له أمر من أمور الدنيا، لأنهم هم أيضا لم يستقم لهم أمر من أمورها، وأنت تعرف أيضا أن السلطان محمودا سيدى ومولاى، فاترك الشاهنامه باسمه، واعطنى هجاءه حتى أمحوه، وسأعطيك فى مقابل ذلك عطاءا قليلا، وسيدعوك محمود بنفسه ويطلب رضاك، فلا يضيع بذلك ما تكبدته من جهد فى نظم هذا الكتاب.
«ثم أرسل إليه فى اليوم التالى مائة ألف درهم، وقال: لقد اشتريت كل بيت من أبيات الهجاء بألف درهم، فأعطنى هذه الأبيات المائة، وطب حالا واهنأ قلبا مع السلطان محمود.
«فأرسل الفردوسى إليه هذه الأبيات. وأمر شهريار بمحوها، ومحا الفردوسى أصولها. وبذلك اندرس هجاؤه للسلطان وقد بقيت ستة أبيات من بينها، هى الآتية (2):
لقد عابونى فقالوا: إن هذا المتشدق الثرثار
قد شاب على حب النبى وعلى وتقدمت به السنون والأعمار (3)!!
__________
(1) آخر ملوك الساسانيين، وقد فتح العرب بلاده أثناء حكمه، وقد استعاض «ابن اسفنديار» العبارات التالية لكلمة «باوند» بالعبارات الآتية: «وكان خالا لشمس المعالى قابوس بن وشمگير وقد سجلت مآثره ونواحى عظمته فى كتاب اليمينى للعتبى».
(2) المترجم: ذكرت نص هذه الأبيات بالفارسية فى صحيفة 159.
(3) يقصد بذلك أنه أحب النبى وعليا فقط، ولم يذكر أبا بكر وعمر وعثمان، وهم(1/188)
ولو أننى أخذت أردد أقوالى فى حبهما وما يتصل بهما من أخبار
لحميت بذلك مئات من أمثال محمود وكل سلطان جبار!!
ولكنى أعرف أن ابن الأمة لا يصلح فى عمل من الأعمال
ولو كان أبوه ملكا من ذوى الخطر والجلال!!
فإلام أسوق حديثى فى هذا الباب الواسع
وهو كالبحر، لا أعرف حدا لمداه الشاسع!!
وليس فى طاقة هذا السلطان أن يفعل الخير والإحسان!!
وإلا لأجلسنى على العرش فى أسمى مكان!!
ولم يكن فى أرومته ما يتصل بالعظمة وكرم الانتماء!!
ومن أجل ذلك، لم يعرف كيف يستمع إلى أسماء العظماء!!
«وفى الحق، إن شهريار أدى بذلك خدمة جليلة للسلطان محمود، واعتبرها محمود منّة كبيرة منه. ولما كنت فى نيسابور فى سنة أربع عشرة وخمسمائة سمعت عن الأمير «معزى» (1) أنه قال: سمعت عن الأمير «عبد الرزاق» بطوس أنه قال: كان السلطان محمود فى بعض الأوقات ببلاد الهند، فلما كان فى طريق العودة إلى مدينة غزنه، اعترض طريقه ثائر من الثوار تحصن فى قلعة منيعة. فنزل محمود فى اليوم التالى على باب قلعتة، وأرسل إليه رسولا يقول له إنه يجب عليه أن يأتى إلى السلطان فى الغداة، ليقدم له فروض الخضوع والولاء وليلزم الأعتاب السلطانية حتى ينال من السلطان خلعة شريفة، وله أن يعود بعد ذلك إلى قلعته. فلما كان الغد وركب السلطان محمود وعلى يمينه وزيره (2) عاد الرسول وتقدم إلى السلطان فالتفت السلطان إلى وزيره وقال:
__________
الخلفاء الثلاثة الأوائل من الخلفاء الراشدين لدى أهل السنة. ويتضح من هذه الأبيات أن الفردوسى يريد أن يقول إن التهمة الوحيدة التى اتهمه بها خصومه وهى تهمة التشيع، إنما مردها إلى هذا البيت الذى عبر فيه عن حبه الخالص الشديد لأهل البيت.
(1) هو شاعر السلطانيين السلجوقيين «ملكشاه» و «سنجر» وقد قتله مولاه خطأ برمية سهم خاطئة فى سنة 543هـ 1148م.
(2) يذكر «دولتشاه» أن هذا الوزير هو «الميمندى» وهذا جائز، لأن المعروف إن(1/189)
ترى أية إجابة أجاب بها هذا المتمرد؟
فردد الوزير على الفور قول الفردوسى:
إذا لم يكن وفقا لإرادتى هذا الرد والجواب!!
فلا مفر من التجائى إلى السيف والميدان ومنازلة «افراسياب»!!
فقال محمود: لمن هذا البيت؟ فإن الرجوله تتفجر من معانية (1)؟!
فأجاب الوزير: إنه من شعر الرجل المسكين «أبى القاسم الفردوسى» وقد احتمل العناء خمسة وعشرين سنة كاملة ليتم كتاب الشاهنامه، ولكنه لم يفز بشىء من ثماره!!
فقال محمود: لقد أحسنت بتذكيرك إباى بأمره، وقد أحسست بالندم عما بدرمنى نحوه. ولقد بقى هذا الرجل النييل محروما من نوالى، فذكرنى بأمره بمجرد عودتى إلى غزنه حتى أرسل إليه شيئا.
فلما وصل الوزير إلى مدينة غزنه، ذكر محمودا بشأنه، فقال السلطان له:
مر لأبى القاسم الفردوسى بستين ألف دينار (2) تعطى له من أصباغ «النيلة» ولتحملها إليه فى طوس الإبل السلطانية، ومر رجالى أن يسألوه المعذرة.
ومضت سنوات والوزير مشغول بهذا الأمر، حتى استطاع فى النهاية تنفيذه، ووضع الأحمال على ظهور الإبل، ووصل العطاء سالما إلى ناحية «طبران» (3).
__________
هذا الوزير قد قبض عليه وحبس فى سنة 403هـ 10221021م، وأن الفردوسى مات فى الفترة الواقعة بين هذه السنة وسنة 416هـ 10261025م.
(1) استبدل «ابن اسفنديار» هذه العبارة بعبارة «لمن هذا البيت فإنه يفيض بالشجاعة والنضال».
(2) استبدل «ابن اسفنديار» كلمة «دينار» بكلمة «درهم» ثم أكمل العبارة على النحو الآتى: «فلما جمعت الدراهم أرسلها على الإبل السلطانية إلى مدينة طوس».
(3) «طبران» ناحية من طوس. أنظر «معجم البلدان الفارسية» تأليف «باربيه دى مينار» ص 374: .. ،.(1/190)
فلما دخلت الإبل من باب ال «رودبار» كانت جنازة الفردوسى تخرج من باب «رزان» (1). وكان فى «طبران» فى ذلك الوقت خطيب متعصب، أخذ يصيح ويقول: أنا لا أجيز أن تصل جنازة الفردوسى إلى مقابر المسلمين فقد كان رافضيا!
فأخذ الناس يجادلونه، ويجتهدون فى إقناعه، ولم تفلح مجادلاتهم فى التأثير فيه.
وكانت للفردوسى حديقة داخل هذه البوابة فدفنوه فيها (2). وما زال قبره هنالك حتى اليوم، وقد زرت قبره فى سنة عشر وخمسمائة (3).
«ويقولون إن الفردوسى أعقب ابنة فاضلة، فأرادوا أن يسلموها صلة السلطان ولكنها رفضتها ولم تقبلها، وقالت للرسل: لست فى حاجة إليها. فكتب صاحب البريد (4) بذلك إلى السلطان، فلما عرض عليه الأمر، أمر رجاله أن يخرجوا هذا العالم (5)
__________
(1) تابع «نولدكه» ابن اسفنديار فكتب هذا الاسم «رزاق» ولكن النسخة المطبوعة على الحجر من كتاب «چهار مقاله» وكذلك نسخه الخطية الثلاث التى تحفظ فى مكتبات لندن واستانبول تكتب الكلمة «رزان». وقد ذكر «البلاذرى» أن إحدى محلات سجستان تسمى بهذا الاسم كما توجد ناحية فى خراسان بالقرب من مدينة «نسا» تسمى «رذان» أنظر المرجع السابق ص 259.
(2) تختلف عبارة ابن اسفنديار قليلا فترجمتها كالآتى: «وكانت هناك حديقة تسمى حديقة (الفردوس) وكانت ملكا للفردوسى فدفنوه فيها».
(3) كذلك يروى «دولتشاه» أن قبر الفردوسى كان موجودا فى زمانه أى سنة 1487م 893هـ وكان مزارا يحج إليه المعجبون به. وقد وصف مكانه فقال إنه يقع بالقرب من مزار العباسية بمدينة طوس.
[المترجم: بمناسبة الاحتفال الألفى للفردوسى جددت الحكومة الإيرانية فى السنوات الماضية قبر الفردوسى وأقامت له مقبرة فخمة تليق بمكانته].
(4) من أهم الواجبات التى كانت ملقاة على عاتق «صاحب البريد» أن يخبر مولاه بكل ما يحدث فى ولاياته مما يصل إليه علمه، ويشمل ذلك إخباره بكل ما يفعله الوالى فى ولايته.
وقد شرح ذلك بالتفصيل كتاب «سياست نامه».
(5) يقصد به الخطيب المتعصب الذى ورد ذكره فى العبارات السابقة. وقد ذكر «دولتشاه» وجملة من أصحاب الكتب المتأخرة أن هذا الفقيه هو «الشيخ أبو القاسم الجرجانى» فقد رفض أن يصلى على الفردوسى لأنه أمضى عمره فى مدح أبطال المجوس والزرادشة ويذهب الخبر إلى أنه عند ما نام فى هذه الليلة، رأى الفردوسى فى منامه يدخل(1/191)
من «طبران» لقاء فضوله الذى أبداه، وأن يبعدوه عن أسرته، وأن يعطوا المال لأبى بكر بن إسحاق حتى يعمر به رباط «چاهه» (1) الواقع على رأس الطريق بين «نيسابور» و «مرو» فلما وصل أمر السلطان إلى «طوس» قاموا على تنفيذه فكان تعمير رباط «چاهه» من هذا المال.
رواية دولتشاه:
هذه هى أقدم نبذه وردت لنا عن «الفردوسى»، وهى أقرب ما روى عنه إلى الصحة والتصديق، لأننا على ثقة من أنه لو صح أنها ليست صادقة فى كل التفاصيل التى اشتملت عليها، فإنها على الأقل تمثل لنا ما كان يعتقده بشأنه طائفة المثقفين من أهل بلده بعد قرن واحد من وفاته. وعلى ذلك فنحن نعلق عليها أهمية كبرى جعلتنا نفضل تقديمها على باقى الروايات.
ولا شك أن «دولتشاه» استقى بعض أخباره مما ورد بكتاب «چهار مقاله» (وقد ذكر ذلك صراحة فى بعض المواضع) ولكنه زخرف الحقائق المجردة المذكورة به وأضاف إليها من عنده بعض الأخبار الزائفة أو الخيالية.
وقد ذكر فيما ذكر، أن اسم الشاعر هو «الحسن بن اسحاق بن شرفشاه»
__________
جنات عليين، فسأله كيف استطاع أن يصل إلى هذه المرتبة العالية فأجابه: بفضل هذا البيت الذى قلته فى توحيد البارى جل شأنه:
جهان را بلندى و پستى توئى ... ندانم چهـ هر چهـ هستى توئى
ومعناه:
إلهى!! إنك جميع ما فى الكون من رفيع ووضيع ...
ولست أعرف كنهك، ولكنك أنت كل ما هو كائن!!
(1) هكذا ورد هذا الاسم فى إحدى النسخ الخطية والمطبوعة من «چهار مقاله»، وقد كتب «جاهه» فى نسخة أخرى من نسخ لندن، وكتب «جامه» فى نسخة استانبول، أما «ابن اسفنديار» فكتبه «رباط و چاهه» بمعنى: رباط وبئر وقد أسماه دولتشاه «رباط عشق» وقال إنه يقع إلى جوار خرائب «شقان» على الطريق بين «خراسان» و «استراباد»(1/192)
وأنه تخلص فى بعض أشعاره ب «ابن شرفشاه (1)» وأنه كان من قرية «رزان» بالقرب من «طوس» وأنه لقب نفسه ب «الفردوسى» نسبة إلى حديقة هناك كانت تسمى «الفردوس» وكانت مملوكة لعميد خراسان «سورى بن المغيرة» وكان والد الفردوسى يشغل بستانيا فى هذه الحديقة.
والفردوسى وفقا لهذه الرواية رجل فقير معدم، يجور عليه حاكم بلدته، فيفر إلى «غزنه» ويعيش فيها فترة معتمدا على التكسب بأشعاره، حتى تتهيأ له الفرصة التى ذكرناها فيما سبق، ويتعرف إلى «العنصرى» فيأخذ هذا على عاتقه تقديمه إلى السلطان «محمود الغزنوى» ثم يقوم بعد ذلك فى بقية القصة بالدور الذى قام به الوزير «الميمندى» فى القصة السابقة ويبدو بعد ذلك على أنه راعيه ووليه.
ويقولون إن السلطان عند ما سمع قول الفردوسى:
چوكودك لب از شير مادر بشست ... ز گهواره محمود گويد نخست
ومعناه:
متى غسل الطفل شفتيه من لبن أمه، فإن أول كلمة ينطق بها هى «محمود».
قرّبه وأغدق عليه النعم فأنزله فى قصره، ورتب له مرتبا يصرف له بانتظام.
وتقول هذه الرواية دون ما عدها من الروايات (2) أن «أياز» غلام السلطان محمود قد ساءه ما رآه من انصراف «الفردوسى» عنه فأخذ يكيد له لدى السلطان ويتهمه بالزندقة والكفر حتى أعلنه السلطان بذلك صراحة وقال له: إن زنادقة هذا المذهب (أى القرامطة والإسماعيلية) يأتون من طوس ولكنى عفوت عنك على شريطة أن تقلع عنه.
وتقول هذه الرواية إن الشاعر اختفى بعد ذلك بضعة أشهر فى مدينة «غزنه» منتهزا الفرصة ليسترد من مكتبة السلطان نسخة «الشاهنامه» فلم تم له ذلك لجأ إلى أحد الوراقين فى «هراة» ويتغير اسم هذا الوراق فى هذه الرواية فتذكره على
__________
(1) يذكر «نولدكه» فى مقالته ص 22أن مقدمة «بايسنقر» تذكر أن والد الفردوسى كان يسمى: «فخر الدين أحمد بن فرخ الفردوسى».
(2) أنظر مقالة «نولدكه» ص 26.(1/193)
أنه «أبو المعالى» وليس «اسماعيل» ثم تمضى بقية رواية «دولتشاه» على هذا النحو وتذكر لنا بعض التفاصيل والأقاويل المختلفة ولكنها تتفق فى خلاصتها مع ما ذكرناه فى الرواية السابقة.
أما الأخبار المستقاة من مؤلفات الفردوسى نفسه، فهى إذا صح نصها (1) أهم المصادر عن تاريخ حياته وقد قلنا فيما سبق أن الأستاذ «نولدكه» والدكتور «إتيه» قاما على دراسها دراسة عميقة كلفتهما كثيرا من العناء والصبر، ومن المستحيل على فى كتاب ضيق النطاق مثل كتابى هذا أن أذكر كل ما وصلا إليه من نتائج، بل إن ذلك لا يتحتم على لزاما، لأن كل دارس متفحص للشاهنامه سيرجع بالضرورة إلى ما كتبه أولهما فى مقالته «الملحمة القومية الإيرانية» وإلى المقالات التى كتبها الآخر عن هذا الموضوع وألحقها بطبعته لمنظومة الفردوسى المعروفة «يوسف وزليخا» وكذلك إلى فصول مقالته التى كتبها بالألمانية بعنوان «الآداب الفارسية الحديثة» وهى المنشورة فى المجلد الثانى من «المفصل فى الدراسات اللغوية الإيرانية».
وإذا تحرينا الإيجاز فإنه يبدو لنا أننا كنا على حق فى افتراض أن الفردوسى كان «دهقانا» من دهاقين «طوس» وأنه كان يعيش عيشة ميسرة لا ضنك فيها، وأنه ولد حوالى سنة 920م 308هـ أو بعد ذلك بقليل من الزمن، وأنه شغف بالأخبار القديمة والروايات الشعبية، فقرأ فيها كتابا منثورا من تأليف «أبى منصور المعمرى» جمعه «لأبى منصور بن عبد الرزاق» حاكم خراسان فى سنة 957م 346هـ واستقى فيه أخباره من أقدم المصادر الفارسية، فدفعه ذلك إلى نظم «الملحمة القومية» وفرغ من نسختها الأولى فى سنة 999م 390هـ بعد خمسة وعشرين سنة من العمل المتصل، ثم أهداها بعد ذلك إلى «أحمد بن محمد بن أبى بكر الخالنجانى (2)» كما أهدى نسختها الثانية التى تمت حوالى سنة 1010م 401هـ إلى السلطان «محمود» وأعقب ذلك مباشرة غضبه على السلطان وهربه من مدينة «غزنه». ثم لجأ فترة قصيرة إلى أحد الأمراء البويهيين (3) وألف
__________
(1) فى كثير من الأحيان يضطرب النص ويبدو سقيما.
(2) نسبة إلى خالنجان.
(3) يرى «نولدكه» أن هذا الأمير البويهى هو «بهاء الدولة» أو ابنه «سلطان الدولة» الذى خلفه فى سنة 1012م 403هـ أما «إتيه» فيرى أن هذا الأمير هو «مجد الدولة أبو طالب رستم».(1/194)
له منظومته الكبيرة الأخرى «يوسف وزليخا» وعاد بعد ذلك إلى بلدته «طوس» رجلا مسنا قد نيف على التسعين من عمره، فمكث بها حتى أدركته منيته فى سنة 1020أو 1025م 411أو 416هـ على وجه التقريب.
مؤلفات الفردوسى:
ولننتقل الآن إلى ذكر مؤلفات الفردوسى. وهى تشتمل كما هى بين أيدينا الآن على ما يلى:
1 - الشاهنامه.
2 - المنظومة الروائية «يوسف وزليخا».
3 - عدد غير قليل من الغزليات حفظته لنا كتب التراجم والمختارات وقد جمعه ونشره وترجمه الدكتور «إتيه» فى مقالاته التى سبق ذكرها بعنوان «الفردوسى كشاعر غنائى».
ولا شك أن شهرة «الفردوسى» فى قول الشعر راجعة إلى نظمه للشاهنامه ويكاد الناقدون الشرقيون والغربيون يجمعون على الإعجاب الشديد بهذه الملحمة الهائلة. ولكنى أنا شخصيا فى كثير من الخجل والتورط أعترف لهم بأنى لم أستطع مطلقا أن أشاركهم ما هم فيه من تحمس وإعجاب. فالشاهنامه فى رأيى لا يمكن أن ترقى إلى مستوى «المعلقات» العربية، وهى وإن كانت المثال والقالب اللذين احتذتهما أشعار الملاحم فى أراضى الإسلام قاطبة، إلا أنه لا يمكن من ناحية الجمال والعاطفة والذوق الفنى مقارنتها بأجود الأشعار التعليمية أو الروائية أو الغزلية التى قالها شعراء الفرس. ومن المسلم به أنه من المستحيل المناقشة فى الأمور المتعلقة بالذوق الفنى، وخصوصا ما تعلق منها بالأدب، ولعل إخفاقى فى تذوق الشاهنامه ناشىء من نقص طبيعى فى حسى يجعلنى أمج أشعار الملاحم عامة، ولا غضاضة على فى ذلك فكلنا معرض لمثل هذا النقص فى بعض المناحى، خاصة فيما يتعلق بالموسيقى، فألحان «واجنر» قد تطرب شخصا من الناس فتصل به إلى مرتبة التجلى والوجد، بينما لا يهتم بها الآخرون أو يحسون عند سماعها بشىء من الضجر والتململ. وحتى إذا
أخذنا ذلك فى الحسبان، فلا أستطيع إلا أن اعتزف بأنى أشعر بأن «الشاهنامه» بها جملة من العيوب الثابتة المحددة. فطولها مبالغ فيه، وقد اقتضاه بالطبيعة نطاق الموضوعات التى تحدثت عنها، وهى تشمل كل التاريخ الخرافى الذى عرفته إيران منذ أقدم الأزمنة إلى الفتح العربى فى القرن السابع لميلادى والشاهنامه كذلك مملة من حيث الوزن الذى صيغت فيه هى وبقية المنظومات الحماسية الفارسية. وليت الأمر يقتصر على ذلك بل إن التشبيهات الكثيرة التى تتردد فيها تبدو لى مملة مضجرة للغاية فكل بطل فيها هو الأسد الرابض أو الفيل الهائج أو التمساح المائج، وإذا تحرك فهو الدخان المتطاير أو الغبار المتناثر أو الريح الصافر!!(1/195)
ولا شك أن شهرة «الفردوسى» فى قول الشعر راجعة إلى نظمه للشاهنامه ويكاد الناقدون الشرقيون والغربيون يجمعون على الإعجاب الشديد بهذه الملحمة الهائلة. ولكنى أنا شخصيا فى كثير من الخجل والتورط أعترف لهم بأنى لم أستطع مطلقا أن أشاركهم ما هم فيه من تحمس وإعجاب. فالشاهنامه فى رأيى لا يمكن أن ترقى إلى مستوى «المعلقات» العربية، وهى وإن كانت المثال والقالب اللذين احتذتهما أشعار الملاحم فى أراضى الإسلام قاطبة، إلا أنه لا يمكن من ناحية الجمال والعاطفة والذوق الفنى مقارنتها بأجود الأشعار التعليمية أو الروائية أو الغزلية التى قالها شعراء الفرس. ومن المسلم به أنه من المستحيل المناقشة فى الأمور المتعلقة بالذوق الفنى، وخصوصا ما تعلق منها بالأدب، ولعل إخفاقى فى تذوق الشاهنامه ناشىء من نقص طبيعى فى حسى يجعلنى أمج أشعار الملاحم عامة، ولا غضاضة على فى ذلك فكلنا معرض لمثل هذا النقص فى بعض المناحى، خاصة فيما يتعلق بالموسيقى، فألحان «واجنر» قد تطرب شخصا من الناس فتصل به إلى مرتبة التجلى والوجد، بينما لا يهتم بها الآخرون أو يحسون عند سماعها بشىء من الضجر والتململ. وحتى إذا
أخذنا ذلك فى الحسبان، فلا أستطيع إلا أن اعتزف بأنى أشعر بأن «الشاهنامه» بها جملة من العيوب الثابتة المحددة. فطولها مبالغ فيه، وقد اقتضاه بالطبيعة نطاق الموضوعات التى تحدثت عنها، وهى تشمل كل التاريخ الخرافى الذى عرفته إيران منذ أقدم الأزمنة إلى الفتح العربى فى القرن السابع لميلادى والشاهنامه كذلك مملة من حيث الوزن الذى صيغت فيه هى وبقية المنظومات الحماسية الفارسية. وليت الأمر يقتصر على ذلك بل إن التشبيهات الكثيرة التى تتردد فيها تبدو لى مملة مضجرة للغاية فكل بطل فيها هو الأسد الرابض أو الفيل الهائج أو التمساح المائج، وإذا تحرك فهو الدخان المتطاير أو الغبار المتناثر أو الريح الصافر!!
وإذا صح أن الأثر الأدبى إذا ترجم فقد ما امتاز به من جمال فى الأسلوب والتركيب، ولم يستطع إلا مهرة المترجمين الاحتفاظ بجمال عباراته ومبانيه، فإنه من المسلم به أيضا أنه من اليسر بمكان أن نحتفظ فى الترجمة بجمال أفكاره وروعة معانيه.
ومن أظهر الأمثلة على ذلك أن «فتزجرالد» استطاع أن ينقل لنا فى ترجمة رائعة «رباعيات الخيام» بما اشتملت عليه من جمال وروعة ولكن أمر الشاهنامه على النقيض من ذلك تماما، فهى تصمد فى وجه المترجمين جميعا، وتعجزهم عن أية ترجمة مقبولة لها، لأن الروعة الموسيقية التى تطن بها ألفاظها تضيع بالضرورة عند الترجمة تاركة لنا الأفكار التى تشتمل عليها عارية جرداء. (1)
ولست أدعى مطلقا المهارة فى قول الشعر، وأنا اعترف أن كثيرا من شعراء الفرس والعرب قد أصابهم شىء من الغبن بسبب ما نشرت من ترجمات لأشعارهم فى هذه الصفحات ولكنى مع ذلك استطيع أن أقطع فى اطمئنان بأن قليلا جدا من قرائى الإنجليز الذين سيقرأون القطع المختلفة التى ترجمتها من الشاهنامه فى هذا الجزء الحالى من كتابى أو الجزء الذى سبقه، سيترددون فى الحكم بأنها دون ما ترجمت من أقوال لشعراء آخرين.
__________
(1) هذه الروعة لا يمكن أن ينكرها كل من استمع للمنشدين المحترفين الذين ينشدون الشاهنامه، وهم الذين يعرفون لدى الفرس باسم «شاهنامه خوان».(1/196)
وإذا صحت وجهات النظر هذه التى أبديناها، وهى تخالف المألوف والمعروف فلماذا إذن فازت الشاهنامه بشهرة عريضة وذاع صيتها ذيوعا عظيما لا مثيل له فى إيران وكذلك فى جميع البلاد التى يدرسون فيها اللغة الفارسية؟ أما ذيوعها فى إيران، فأهم أسبابه أن الفرس يعتزون بها كسجل خالد لعظمتهم القومية التى اتصفوا بها منذ أقدم العصور، والتى أخذت بعد ذلك للأسف فى التدهور والفتور. وقد انتقل رأى الفرس هذا إلى جميع المشتغلين بالفارسية فى كافة البلاد الأسيوية والأوروبية واعتنقه فيمن اعتنقه المستشرقون الأوروبيون الأوائل، واعتبروه رأيا صحيحا جديرا بالتصديق والتسليم، وجاء بعدهم جماعة من المستشرقين أسلم رأيا وأكثر تدقيقا، ولكن بعض العوامل الأخرى أثرت فيهم وجعلتهم لا يحيدون عن هذا الرأى لما وجدوه فى «الشاهنامه» من دراسة لغوية «فيلولوجية» باعتبارها من أقدم الكتب الفارسية التى عرفت بحرصها الشديد على استبعاد الألفاظ العربية، ولما لمسوه فيها من روح «هلينية» تميل إلى تمجيد العبقرية الآرية والحط من قدر الشعوب السامية، ولما عرفوه من أهمية كبيرة لمحتوياتها فيما يتعلق بالأساطير والخرافات الشعبية فإذا أضفنا إلى ذلك كله أن الفردوسى فاز من مواطنيه بشهرة عظيمة بسبب نظمه للشاهنامه وحدها، وعلمنا أن رأى هؤلاء هو العماد بغير شك فيما يذهبون إليه، ووجدنا أن هذه الشهرة العريضة ما زالت لا صقة به منذ البداية حتى هذه الأزمنة، لا يعتريها وهن أو تغيير، فإنه من العسير علىّ أن أفصح عن رأيى الشخصى أكثر مما ذكرت. ولكنى فى هذه المناسبة أحب أن ألفت نظر المستشرقين الأوروبيين إلى أنه لو صح لنا دائما أن نأخذ برأى المواطنين فى شعرائهم فإن «المتنبى (1)» يجب أن يفوز بما فاز به «الفردوسى» تماما من شهرة عريضة وصيت ذائع ولو أن بعضهم قد أنكر عليه ذلك وقسا عليه فى حكمه.
وقد ترجمت فى الجزء السابق من كتابى هذا جملة من مقطوعات الشاهنامه المتصلة بقصة «اردشير» وبينت فيها كيف كان «الفردوسى» أمينا فى متابعة المصادر
__________
(1) كان المتنبى معاصرا للفردوسى تقريبا فقد ولد سنة 905م 293هـ ومات مقتولا سنة 965م 354هـ.(1/197)
التى نقل عنها، ثم اتبعت ذلك ببحث مطول عن الموضوعات والميزات التى اشتملت عليها هذه الملحمة الفارسية. ونطاق الكتاب الحالى لا يسمح لى بأن أعيد فى هذا هذا المكان ما سبق لى ذكره فيما مضى. ومن أجل ذلك فسأقتصر على إيراد مثل آخر منها هو عبارة عن ترجمة السطور الأولى من قصة «رستم وسهراب (1)» الشهيرة وهى أبيات يعترف الجميع بأنها من أروع ما جاء فى الشاهنامه، ونصها موجود فى الجزء الأول من طبعة «ترنرمكن» ص 316315وهو (2):
كنون رزم «سهراب» و «رستم» شنو
ديگرها شنيدستى اين هم شنو
يكى داستان است پر آب چشم
دل نازك از «رستم» آيد بخشم
اگر تندبادى برآيد ز كنج
بخاك افكند نارسيده ترنج
ستم كاره خوانمش ار دادگر
هنرمند گويمش ار بى هنر
[5] اگر مرگ دادست بيداد چيست
ز داد اين همه بانگ وفرياد چيست
ازين راز جان تو آگاه نيست
بدين پرده اندر ترا راه نيست
همه تا در آز رفته فراز
بكس وا نشد اين در آز باز
برفتن مگر بهتر آيدت جاى
چوآرام گيرى بديگر سراى
__________
(1) أصبحت هذه القصة معروفة لدى الإنجليز بفضل تلخيصها الرائع الذى نشره «ماتيو آرنولد».
(2) المترجم: نقل «براون» هذه الأبيات إلى الإنجليزية محاولا محاكاة الأصل بالمحافظة على الوزن والقافية. وقد أثبت هنا الأصل مع ترجمة منثورة له.(1/198)
اگر مرگ كس را نيوباردى
ز پير وجوان خاك بسپاردى
[10] اگر آتشى گاه افروختن
بسوزد عجب نيست زو سوختن
بسوزد چودر سوزش آيد درست
چوشاخ نو از بيخ كهنه برست
دم مرگ چون آتش هولناك
ندارد ز برنا وفرتوت باك
جوان را چهـ بايد بگيتى طرب
كه نى مرگ راهست پيرى سبب
درين جاى رفتن نه جاى درنگ
بر اسپ قضا گر كشد مرگ تنگ
[15] چنان دان كه دادست بيداد نيست
چوداد آمدش بانگ وفرياد چيست
جوانى و پيرى بنزد أجل
يكى دان چودر دين نخواهى خلل
دل از نور إيمان گر آگنده
ترا خامشى به كه تو بنده
پرستش همان پيشه كن با نياز
همه كار روز پسين را بساز
برين كار يزدان ترا راز نيست
اگر ديو با جانت انباز نيست
[20] بگيتى در ان كوش چون بگذرى
سرانجام إسلام با خود برى
كنون رزم «سهراب» گويم درست
از ان كين كه او با پدر چون بجست
ومعناها:(1/199)
اگر مرگ كس را نيوباردى
ز پير وجوان خاك بسپاردى
[10] اگر آتشى گاه افروختن
بسوزد عجب نيست زو سوختن
بسوزد چودر سوزش آيد درست
چوشاخ نو از بيخ كهنه برست
دم مرگ چون آتش هولناك
ندارد ز برنا وفرتوت باك
جوان را چهـ بايد بگيتى طرب
كه نى مرگ راهست پيرى سبب
درين جاى رفتن نه جاى درنگ
بر اسپ قضا گر كشد مرگ تنگ
[15] چنان دان كه دادست بيداد نيست
چوداد آمدش بانگ وفرياد چيست
جوانى و پيرى بنزد أجل
يكى دان چودر دين نخواهى خلل
دل از نور إيمان گر آگنده
ترا خامشى به كه تو بنده
پرستش همان پيشه كن با نياز
همه كار روز پسين را بساز
برين كار يزدان ترا راز نيست
اگر ديو با جانت انباز نيست
[20] بگيتى در ان كوش چون بگذرى
سرانجام إسلام با خود برى
كنون رزم «سهراب» گويم درست
از ان كين كه او با پدر چون بجست
ومعناها:
استمع الآن إلى قصة «رستم» و «سهراب»
واصغ إليها كما اصغيت إلى غيرها من قصص عجاب!!
فهى قصة مليئة بدموع العيون والأشجان
تثير القلوب الرقيقة ضد «رستم» سيد الشجعان
وإذا هبت الرياح العاتية فى ركن من الأركان
أطاحت بالثمار الفجة وأسقطتها عن الأغصان
وإنى لأسميه ظالما، ولو عرف بالعدل والإنصاف.
وإنى لأسميه فاضلا، ولو عرف بالجهل والإسفاف.
وإذا كان الموت عدلا فماذا يكون الظلم والاعتساف؟!
وما كل هذا العويل والصياح طلبا للعدل والإنصاف!!
ولن تعلم روحك شيئا من أمر هذا السر الدفين
ولن تكشف طريقك ما وراء هذا الحجاب المكين!!
ولقد أسرع جميع الأنام حتى بلغوا باب الحرص والأمل
فلما بلغوه وأدركوه أنسد عليهم وانقفل!!
ومن يدرى؟ فربما يطيب مقامك متى رحلت عن هذه الدنيا الفانية
وظفرت بالراحة والسكينة فى الدار الباقية!!
ولو لم يبتلع الموت بعض الأشخاص فى كل زمان
لامتلأت الأرض، وازدحمت ساحتها بالشيب والشبان!!
ومتى اتقدت النار ساعة إشعالها، وسرى بها اللهيب
فليس عجيبا أن يزداد ضرامها الرهيب!!
ومتى اتقدت النار استمر ضرامها، واتصلت لهبها العظيمة
ونبتت كما تنبت الأغصان النضيرة من الحذور القديمة!!
وما أشبه لحظة الموت بهذه النار ذات الهول
فهى لا ترهب أحدا، ولا تبقى على فتى أو كهل!!(1/200)
وعلام يفرح الشبان بهذه الدنيا، وعلام يطرب بها الشباب
وليست الشيخوخة وحدها علة الموت بل تنوعت الأسباب!!
فإذا انقض عليك الموت ممتطيا جواد القضاء، وضيق عليك الخناق
فى هذه الدار العاجلة دار الرحيل والفراق
فاعلم أن الموت حق على جميع الأرواح
وأن الأمر الحق متى جاء فلا يغنى الصياح والنواح!!
وإذا لم تشأ أن تصيب دينك بالفساد والخلل
فاعلم أن الشباب والشيب سواء أمام سيف الأجل!!
وإذا كان قلبك مليئا بنور اليقين والإيمان
فخير لك الصمت، فإنك عبد من عبيد الرحمن!!
وثابر على التعبد والصلاة والضراعة
وهيىء أمورك، وأعدّ عدتك لقيام الساعة!!
وليس هناك سر يخفى عليك من أمر ربك
ما دام الشيطان لا يكون قرينا لروحك وقلبك
فأقصر سعيك على هذا، فى هذه الدنيا العابرة
فإذا مت فزادك الإسلام فى الدار الاخرة
واستمع إلىّ الآن فسأقص عليك مباشرة حرب «سهراب»
وكيف نشأت الحرب بينه وبين أبيه، وما كان بينهما من أمور عجاب!!
ويؤكد بعض الناس أحيانا أن «الشاهنامه» لا تكاد تشتمل على شىء من الألفاظ العربية، وهذا الرأى خاطىء كل الخطأ، لأن «الفردوسى» حقيقة قد تحاشى بقدر ما يستطيع استعمال هذه الألفاظ فى ملحمته لما أحسه فيها من عدم انسجام مع موضوع منظومته، ولكن كثيرا من الألفاظ العربية كان قد تأصل فى اللغة الفارسية فى هذا الوقت بحيث أصبح من المستحيل عليه أن يتحاشاها أو يتجنب استعمالها. والأبيات التى ذكرناها فيما سبق يبلغ عددها الواحد والعشرين بيتا وهى تشتمل على عدد من الألفاظ يبلغ (250) لفظا نجد من بينها تسعة ألفاظ عربية الأصل هى:(1/201)
عجب طرب سبب قضا عجل خلل نور إيمان إسلام كما نجد فيها لفظة نصف عربية هى «هولناك».
وهذه النسبة هى السائدة فى صفحات الشاهنامه بحيث تبلغ الألفاظ العربية فيها أربعة أو خمسة فى المائة من مجموع ألفاظها.
يوسف وزليخا:
نأتى بعد ذلك إلى المنظومة الثانية من مؤلفات «الفردوسى» الشعرية ونقصد بها مثنويته التى موضوعها قصة «يوسف وزليخا». وهذه القصة قد أضفوا على أصولها المجردة كثيرا من الزيادات والإضافات، وأصبحت من أكثر الموضوعات التى يطرقها الشعراء الرومانتيكيون فى إيران وتركيا، ولم يكن «الفردوسى» أول من طرقها كما أشار إلى ذلك الدكتور «إتيه» فقد سبقه إلى نظمها كما ورد فى أحدى المخطوطات شاعران آخران أحدهما من بلخ اسمه «أبو المؤيد» والآخر من الأهواز اسمه «البختيارى» وقد ضاعت منظومتاهما جميعا ولم يبق لنا إلا منظومة الفردوسى التى بقيت على الزمن بفضل مجهود الدكتور «إتيه» الذى لا يعرف الكلل. ونسخة هذه المنظومة نادرة فى بلاد المشرق ولكنها وفيرة فى مكتبات انجلترا وفرنسا، ويوجد فيهما من نسخها على الأقل سبع نسخ، من بينها نسخة لم يرها الدكتور «إتيه» وقد وجدها الدكتور «إ. دنيسون روس (1)» فى مجموعة المخطوطات التى كانت مملوكة للسير «وليم جونز» وهى المخطوطات التى تحفظ الآن بإدارة الهند.
وقد طبعت هذه المنظومة على الحجر ثلاث مرات فى الهند ومرة واحدة فى إيران، ثم يسر لنا بعد ذلك الدكتور «إتيه» قراءتها بنصها فى طبعة سليمة من
__________
(1) المترجم: السير دنيسون روس. كان مديرا لمعهد الدراسات الشرقية بلندن، وعليه تلقيت دراساتى الشرقية أثناء التحاقى بهذا المعهد فى الفترة الواقعة بين سنتى 1931و 1936وقد أدركته الوفاة فى استانبول أثناء الحرب العالمية الأخيرة.(1/202)
نشرياته، كما ترجمها إلى الألمانية نظما «شلشتا وسرد:» فى مدينة فينا سنة 1889.
والدكتور «إتيه» هو مرجعنا فى هذه المنظومة، فقد قام على دراستها ومقارنتها بالمنظومتين المتأخرتين اللتين نظمهما فى نفس هذا الموضوع الشاعران «جامى» 1483م 888هـ و «نظامى الهروى (1)»، ويرى «إتيه» أنها جديرة بالإعجاب، وهو يخالف فى هذا الرأى نقاد الفرس الذين يحطون من قدرها ويرون أن الفردوسى قد نظمها بعد ما غاض شبابه وذوى عنفوانه وانحطم قلبه بسبب النكد الذى استولى عليه لنظمه للشاهنامه، ويرون كذلك أنه صاغها فى نفس الوزن والأسلوب اللذين صاغ فيهما ملحمته وهما فى الحقيقة لا يصلحان لنظم القصص الرومانتيكية.
غزليات الفردوسى:
وإذا نظرنا إلى الأمثلة التى بقيت لنا من غزليات الفردوسى فى كتب التراجم والمختارات وجدنا أن النقاد قد غمطوها حقها. وقد أشرت فيما سبق إلى المقالات التى نشرها الدكتور «إتيه» عن هذا الموضوع. ومن أجل ذلك فسأقتصر فى هذا المكان على إيراد مثلين من غزليات الفردوسى. الأول منهما مذكور فى كتاب «تاريخ گزيده (2)» والآخر فى كتاب «لباب الألباب (3)» لمحمد عوفى.
والغزلية الأولى نصها كما يلى:
شبى در برت گر برآسود مى ... سر فخر بر آسمان سود مى
قلم در كف تير بشكستمى ... گلاه از سر مهر بربودمى
بقدم از نهم چرخ بگذشتمى ... به پى فرق كيوان بفرسود مى
__________
(1) منظومة «جامى» هى المعروفة من هاتين المنظومتين.
(2) أنظر تاريخ گزيده طبع لندن سنة 1910م ص 824وكذلك مقالتى عن شعراء الفرس المنشورة فى مجلة الجمعية الملكية الأسيوية عدد أكتوبر سنة 1900ويناير سنة 1901
(3) أنظر «لباب الألباب» ج 2ص 23.(1/203)
به بيچارگان رحمت آوردمى ... بدرماندگان بر ببخشود مى
ومعناها:
لو أننى هدأت ليلة واحدة فى صدرك!!
لشمخت برأسى إلى السماء فى فخر وازدهوت عجبا بك!!
ولحطمت قلم «عطارد» فى كفه!!
ولنزعت ناج «الشمس» عن مفرقها!!
ولنفذت من أطباق السماء التاسعة
ولذرعت مفرق «كيوان» بأطراف أقدامى!!
ثم لجلبت الرحمة للبؤساء والمساكين
ولعفوت عن الخاطئين والمقصرين!!
أما القطعة الثانية فنصها:
بسى رنج ديدم بسى گفته خواندم ... ز گفتار تازى واز پهلوانى
بچندين هنر شست ودو سال بودم ... چهـ توشه برم ز آشكار ونهانى
بجز حسرت وجز وبال گناهان ... ندارم كنون از جوانى نشانى
بياد جوانى كنون مويه دارم ... بر آن بيت بو طاهر خسروانى
جوانى من از كودكى ياد دارم ... دريغا جوانى دريغا جوانى
ومعناها:
ما أكثر ما رأيت من أهوال، وما أكثر ما أنشدت من أقوال!!
وما أكثر ما رددت من كلام عربى و پهلوى!!
ولقد بقيت اثنتين وستين سنة أنشر فنون الفضل والعرفان
فأى فائدة أفادتنى، وماذا كسبت منها فى السر والإعلان؟!
لم يبق لى من كل ذلك إلا الحسرة، وإلا الوبال والذنوب!!
ولم أعد أذكر من الشباب أثرا إلا ما أنا فيه من كروب!!(1/204)
وأصبحت أبكى الشباب بما تفيض به دموعى وأشجانى
وأصبحت أردد فى ألم بيت «أبى طاهر الخسروانى»!!
وأقول كما قال: إننى أذكر الشباب وأيام الطفولة والصغر
فيا أسفا على الشباب ويا ويلتاه من الشيخوخة والكبر!!
اسدى:
أسدى الكبير «أبو نصر أحمد ابن منصور الطوسى»
الشاعر المثالى الذى يستحق شيئا من عنايتنا هو أسدى الكبير «أبو نصر أحمد ابن منصور الطوسى». ويجب أن نفرق بينه وبين ولده «على بن أحمد الأسدى» مؤلف «گرشاسب نامه»، ومؤلف أقدم القواميس الفارسية (1)، وناسخ أقدم مخطوطة فارسية وصلت إلى أيدينا (2)، وهى المخطوطة التى أكمل نسخها فى سنة 1055م 477هـ وتوجد الآن فى مكتبة «فينا» وقد نشرها «زيلجمان» فى سنة 1859م.
وربما كان من الخير لو أننا قدمنا دراسة «أسدى الأكبر» على «الفردوسى» لأن الأخير منهما كان تلميذا للأول فيما يقولون، وكان كذلك من أصدقائه وأبناء بلدته ولكن يجب أن أشير إلى أنى لا ألزم نفسى بمتابعة الترتيب الزمنى الدقيق فى دراستى لمختلف العصور، ولو فعلت ذلك لكان تاريخ وفاة «أسدى» وقد مات بعد «الفردوسى» مبررا لى فى الترتيب الذى اتبعته خاصة وأن كتب التراجم الإسلامية لا تذكر إلا تاريخ الوفاة دون غيره من التواريخ ولدى بالإضافة إلى ذلك ما يقطع بأن «أسدى» كان أكبر الشاعرين.
حياة «الأسدى»
ومعرفتنا بحياة «الأسدى» ضئيلة للغاية، فلم يذكره «اللباب» ولا «چهار مقاله» أما كتاب «تاريخ گزيده» فذكر اسمه فقط مقترنا بكتاب «گرشاسب نامه» الذى لم يكن من تأليفه بل من تأليف ولده المعروف باسم «أسدى الأصغر». أما «دولتشاه» فيذكر لنا كعادته كثيرا من الأخبار والتفاصيل، ولكنها على حالها
__________
(1) المترجم: يقصد «فرهنگ اسدى» وقد طبعه المستشرق «پول هورن».
(2) المترجم: يشير إلى النسخة المخطوطة من كتاب «الأبنية عن حقائق الأدوية» للموفق ابن على الهروى.(1/205)
تعتبر عديمة الفائدة، لأنه لم يعتمد فى سردها على أى مصدر سابق جدير بالثقة والتصديق. ومن ادعاءاته مثلا قوله أنهم عرضوا على الأسدى نظم الشاهنامه، ولكنه اعتذر من ذلك بتقدم سنه وكبر عمره، ووكل إلى تلميذه «الفردوسى» أن يقوم بنظمها، فلما رقد «الفردوسى» على فراش الموت فى «طوس» وأخذ يجود بأنفاسه الأخيرة كانت أربعة آلاف بيت من ملحمته ما زالت باقية لم يكملها فتولى «الأسدى» إكمالها فى يوم وليلة، ثم قرأها عليه فى صبيحة اليوم التالى، وبذلك استطاع أن يثلج صدر «الفردوسى» وهو فى النزع الأخير من عمره. ولا ينسى «دولتشاه» أن يعين لنا على وجه التحديد هذه الأبيات التى أكملها «الأسدى» فقال إنها الأبيات التى تبدأ بالفتح العربى لإيران وتنتهى بانتهاء الكتاب. وأضاف إلى ذلك قوله: «إن الفضلاء يجمعون على أنه يمكن بشىء من التدقيق التمييز بين الأبيات التى نظمها الفردوسى وبين تلك التى نظمها الأسدى».
وفى مكتبة كامبردج مخطوط لكتاب «دولتشاه (1)» على هامشه الملاحظة الآتية تعليقا على ما جاء فى هذه الرواية الخيالية:
«إن الفردوسى كما سيذكر عنه فيما بعد هو الذى أكمل الشاهنامه بنفسه، ومن الواضح الجلى أن أحدا لم يشترك معه فى نظمها، لأنه بعد أن أكملها وأهداها إلى السلطان محمود استطاع بإحدى الحيل أن يستردها من خازن كتبه وأن يضيف إليها هجويته الشهيرة للسلطان ومن هذا يتضح أن ما ذكر آنفا يتنافى مع هذا الدليل».
وقد اطلع شخص آخر على هذا التعليق السليم فوقع تحته بالفارسية «نيكو گفتى» أى «لقد أبدعت القول!!».
«الأسدى» هو الذى أكمل وأحكم «شعر المناظرة»
وشهرة «الأسدى» راجعة إلى أنه هو الذى أكمل وأحكم «شعر المناظرة» وقد يقال إنه هو الذى أبدعه وقد درس الدكتور «إتيه» هذه المسألة وضمن
__________
(1) هذا المخطوط هو الرقيم: 831 ..(1/206)
النتائج التى وصل إليها فى أعمال المؤتمر الدولى الخامس للمستشرقين الذى عقد فى برلين سنة 1882م تحت عنوان: «».
والمعروف عن «الأسدى» أنه نظر خمس منظومات من هذا النوع من شعر المناظرة هى الآتية:
1 - مناظرة بين العربى والفارسى.
2 - مناظرة بين السماء والأرض.
3 - مناظرة بين الرمح والقوس.
4 - مناظرة بين الليل والنهار.
5 - مناظرة بين المسلم والمجوسى (الزردشتى).
وفيما يلى سألحق ترجمة كاملة للمناظرة الرابعة كما وردت فى كتاب «دولتشاه».
أما القارىء الذى يريد الاطلاع على فحوى المنظومات الأخرى وما اشتملت عليه من إشارات إلى حياة الشاعر وأعماله فإنى أحيله إلى ما كتبه «إتيه» فى مقالته التى سبق ذكرها، وإلى الصفحات 229226من مقالته التى تضمنها كتاب «جيجر»، و «كون (1)» الذى عنوانه «المفصل فى الدراسات اللغوية الإيرانية:
أما المناظرة بين «الليل والنهار» فنصها بالفارسية كما يلى (2):
[مناظره شب وروز: از گفتار أسدى] بشنو از حجت گفتار شب وروز بهم
سرگذشتى كه ز دل دور كند شدت غم
هر دو را خاست جدال از سبب بيشى فضل
در بيان رفت فراوان سخن از مدحت وذم
__________
(1) يكتب هذان الاسمان بالحروف الرومانية هكذا:
(2) المترجم: لا يذكر «براون» نص أمثلته فى كتابه ولكنى ذكرتها دائما فى هذه الصفحات، ثم ترجمتها بالرجوع إلى الأصل الفارسى ومقارنتها بالترجمة الإنجليزية.(1/207)
گفت شب: فضل شب از روز فزون آمد از آنك
روز را باز ز شب كرد خداوند قدم
نزد يزدان ز پرستنده واز عابد روز
ساجد وعابد شب راست فزون قدر وقيم
قوم را سوى مناجات بشب برد كليم
هم بشب گشت جدا لوط ز بيداد وستم
قمر چرخ بشب كرد محمد بدو نيم
سوى معراج بشب رفت هم از بيت الحرم
هر مهى باشد سى روز وبقرآن شب قدر
بهتر از ماه هزار است ز بس فضل وشيم
سترپوش است شب وروز نماينده عيب
راحت افزاست شب وروز فزاينده ألم
هست در روز ز أوقات كه تهيست نماز
وز نماز همه شب فخر نبى بود وأمم
منم آن شاه كه تختم ز مى است ايوان چرخ
مه سپهدار وهمه أنجم سياره خدم
هر مه سال عرب را عدد از ماه منست
بر سر منست از پر جبريل رقم
بر رخ ماه من آثار درستيست پديد
بر رخ و چهره خورشيد تو آثار سقم
راست خورشيد تو چندانكه بسالى برود
كم ز ماهى برود مه از كيف وز كم
* * * روز از شب بشنيد اين وبرآشفت وبگفت
خامش كن چهـ درآئى سخن نامحكم
روز را عيب بطعنه چهـ كنى كايزد عرش
روز را پيش ز شب كرد ستايش بقسم
روزه خلق كه دارند بروزست همه
بحرم نيز بروزست حج از رب حرم
عيد وآدينه فرخ عرفه وعاشورا
همه روزست چوبينى بهم از عقل وفهم
روز خواهد بود برخاستن خلق بحشر
روز شد نيز وجود همه مردم ز عدم
تو بعاشق نه برنجى وبأطفال نهيب
در تن ديودلى بر دل بيمار ستم
بوم وخفاش بشب مرغ وسيه جنى وديو
دزد اكثر همه شب كرد وهمه أهل نهم
من بأصل از خور چرخم تو بجنس از دل خاك
من چوتابان ضوء نارم تو چوتاريك فحم
روى آفاق ز من خوب نمايد ز تو زشت
ديده خلق ز من نور فزايد ز تو نم
مر مرا گونه اسلام وترا گونه كفر
مر مرا جامه شاديست ترا جامه غم
تو بچهر از حبشى فخر بحسن از چهـ كنى
حبشى را چهـ رسد حسن اگر هست صنم
سپهـ وخيل نجوم چهـ باشند كه بباك
بگريزند چوخورشيد من افراخت علم
چهـ زيان كت به نبى پيش ز من داشت خداى
در نبى نيز هم از پيش سميعست أصم
خلق الموت بخوان گرچهـ حيات از پس اوست
به ز موتست بهر حال حيات آخر هم
گر ز ماه تو شناسند مه وسال عرب
ز آفتابم همه دانند مه وسال عجم
گرچهـ زرد آمده خورشيد او به ز مهست
گرچهـ زرد آمده دينار هم او به ز درم
ماه تو از ضوء خورشيد من افزايد نور
وز پى خدمت خورشيد كند پشت نجم
گر ز خورشيد سبكتر رود او پيك ويست
پيك البته سبكتر نهد از شاه قدم
از فريضه سه نمازست بروز ودو بشب
ز ان نماز تو كم آمد كه ز من هستى كم
ور بقولم نبوى راضى وخواهى كه بود
در ميان حكم كنى عدل خداوند حكم
يا پسند آر بگفتار شه عادل زاد
يا رضا ده برئيس الوزرا كان كرم
راد بو نصر خليل أحمد كرا نصرت وجود
افسر جاه وجلالست وسر ملك ونعم
ومعناها:(1/208)
گفت شب: فضل شب از روز فزون آمد از آنك
روز را باز ز شب كرد خداوند قدم
نزد يزدان ز پرستنده واز عابد روز
ساجد وعابد شب راست فزون قدر وقيم
قوم را سوى مناجات بشب برد كليم
هم بشب گشت جدا لوط ز بيداد وستم
قمر چرخ بشب كرد محمد بدو نيم
سوى معراج بشب رفت هم از بيت الحرم
هر مهى باشد سى روز وبقرآن شب قدر
بهتر از ماه هزار است ز بس فضل وشيم
سترپوش است شب وروز نماينده عيب
راحت افزاست شب وروز فزاينده ألم
هست در روز ز أوقات كه تهيست نماز
وز نماز همه شب فخر نبى بود وأمم
منم آن شاه كه تختم ز مى است ايوان چرخ
مه سپهدار وهمه أنجم سياره خدم
هر مه سال عرب را عدد از ماه منست
بر سر منست از پر جبريل رقم
بر رخ ماه من آثار درستيست پديد
بر رخ و چهره خورشيد تو آثار سقم
راست خورشيد تو چندانكه بسالى برود
كم ز ماهى برود مه از كيف وز كم
* * * روز از شب بشنيد اين وبرآشفت وبگفت
خامش كن چهـ درآئى سخن نامحكم
روز را عيب بطعنه چهـ كنى كايزد عرش
روز را پيش ز شب كرد ستايش بقسم
روزه خلق كه دارند بروزست همه
بحرم نيز بروزست حج از رب حرم
عيد وآدينه فرخ عرفه وعاشورا
همه روزست چوبينى بهم از عقل وفهم
روز خواهد بود برخاستن خلق بحشر
روز شد نيز وجود همه مردم ز عدم
تو بعاشق نه برنجى وبأطفال نهيب
در تن ديودلى بر دل بيمار ستم
بوم وخفاش بشب مرغ وسيه جنى وديو
دزد اكثر همه شب كرد وهمه أهل نهم
من بأصل از خور چرخم تو بجنس از دل خاك
من چوتابان ضوء نارم تو چوتاريك فحم
روى آفاق ز من خوب نمايد ز تو زشت
ديده خلق ز من نور فزايد ز تو نم
مر مرا گونه اسلام وترا گونه كفر
مر مرا جامه شاديست ترا جامه غم
تو بچهر از حبشى فخر بحسن از چهـ كنى
حبشى را چهـ رسد حسن اگر هست صنم
سپهـ وخيل نجوم چهـ باشند كه بباك
بگريزند چوخورشيد من افراخت علم
چهـ زيان كت به نبى پيش ز من داشت خداى
در نبى نيز هم از پيش سميعست أصم
خلق الموت بخوان گرچهـ حيات از پس اوست
به ز موتست بهر حال حيات آخر هم
گر ز ماه تو شناسند مه وسال عرب
ز آفتابم همه دانند مه وسال عجم
گرچهـ زرد آمده خورشيد او به ز مهست
گرچهـ زرد آمده دينار هم او به ز درم
ماه تو از ضوء خورشيد من افزايد نور
وز پى خدمت خورشيد كند پشت نجم
گر ز خورشيد سبكتر رود او پيك ويست
پيك البته سبكتر نهد از شاه قدم
از فريضه سه نمازست بروز ودو بشب
ز ان نماز تو كم آمد كه ز من هستى كم
ور بقولم نبوى راضى وخواهى كه بود
در ميان حكم كنى عدل خداوند حكم
يا پسند آر بگفتار شه عادل زاد
يا رضا ده برئيس الوزرا كان كرم
راد بو نصر خليل أحمد كرا نصرت وجود
افسر جاه وجلالست وسر ملك ونعم
ومعناها:(1/209)
گفت شب: فضل شب از روز فزون آمد از آنك
روز را باز ز شب كرد خداوند قدم
نزد يزدان ز پرستنده واز عابد روز
ساجد وعابد شب راست فزون قدر وقيم
قوم را سوى مناجات بشب برد كليم
هم بشب گشت جدا لوط ز بيداد وستم
قمر چرخ بشب كرد محمد بدو نيم
سوى معراج بشب رفت هم از بيت الحرم
هر مهى باشد سى روز وبقرآن شب قدر
بهتر از ماه هزار است ز بس فضل وشيم
سترپوش است شب وروز نماينده عيب
راحت افزاست شب وروز فزاينده ألم
هست در روز ز أوقات كه تهيست نماز
وز نماز همه شب فخر نبى بود وأمم
منم آن شاه كه تختم ز مى است ايوان چرخ
مه سپهدار وهمه أنجم سياره خدم
هر مه سال عرب را عدد از ماه منست
بر سر منست از پر جبريل رقم
بر رخ ماه من آثار درستيست پديد
بر رخ و چهره خورشيد تو آثار سقم
راست خورشيد تو چندانكه بسالى برود
كم ز ماهى برود مه از كيف وز كم
* * * روز از شب بشنيد اين وبرآشفت وبگفت
خامش كن چهـ درآئى سخن نامحكم
روز را عيب بطعنه چهـ كنى كايزد عرش
روز را پيش ز شب كرد ستايش بقسم
روزه خلق كه دارند بروزست همه
بحرم نيز بروزست حج از رب حرم
عيد وآدينه فرخ عرفه وعاشورا
همه روزست چوبينى بهم از عقل وفهم
روز خواهد بود برخاستن خلق بحشر
روز شد نيز وجود همه مردم ز عدم
تو بعاشق نه برنجى وبأطفال نهيب
در تن ديودلى بر دل بيمار ستم
بوم وخفاش بشب مرغ وسيه جنى وديو
دزد اكثر همه شب كرد وهمه أهل نهم
من بأصل از خور چرخم تو بجنس از دل خاك
من چوتابان ضوء نارم تو چوتاريك فحم
روى آفاق ز من خوب نمايد ز تو زشت
ديده خلق ز من نور فزايد ز تو نم
مر مرا گونه اسلام وترا گونه كفر
مر مرا جامه شاديست ترا جامه غم
تو بچهر از حبشى فخر بحسن از چهـ كنى
حبشى را چهـ رسد حسن اگر هست صنم
سپهـ وخيل نجوم چهـ باشند كه بباك
بگريزند چوخورشيد من افراخت علم
چهـ زيان كت به نبى پيش ز من داشت خداى
در نبى نيز هم از پيش سميعست أصم
خلق الموت بخوان گرچهـ حيات از پس اوست
به ز موتست بهر حال حيات آخر هم
گر ز ماه تو شناسند مه وسال عرب
ز آفتابم همه دانند مه وسال عجم
گرچهـ زرد آمده خورشيد او به ز مهست
گرچهـ زرد آمده دينار هم او به ز درم
ماه تو از ضوء خورشيد من افزايد نور
وز پى خدمت خورشيد كند پشت نجم
گر ز خورشيد سبكتر رود او پيك ويست
پيك البته سبكتر نهد از شاه قدم
از فريضه سه نمازست بروز ودو بشب
ز ان نماز تو كم آمد كه ز من هستى كم
ور بقولم نبوى راضى وخواهى كه بود
در ميان حكم كنى عدل خداوند حكم
يا پسند آر بگفتار شه عادل زاد
يا رضا ده برئيس الوزرا كان كرم
راد بو نصر خليل أحمد كرا نصرت وجود
افسر جاه وجلالست وسر ملك ونعم
ومعناها:
استمع من حجة إلى حديث الليل والنهار
فحديثهما حكاية ممتعة تبعد عن القلوب شدة الحزن والغم!!
فقد نشأ بينهما جدال لمعرفة أيهما أكثر فضلا
فجرى بينهما حديث طويل بين المدح والذم!!
قال الليل: إن الليل يفضل النهار لهذه الأسباب:
وهى إن الله أخرج النهار من الليل!!(1/210)
ولدى الله يكون الساجد والعابد أثناء الليل
أعلا قدرا من الساجد والعابد أثناء النهار!!
وقد استصحب «موسى» قومه إلى المناجاة أثناء الليل
وكذلك فى الليل ابتعد «لوط» عن مواطن الظلم والإثم!!
وفى الليل شق «محمد» القمر إلى نصفين
وفى الليل خرج إلى معراجه من بيت الحرم!!
والليل ستار للعيوب، والنهار فضاح للذنوب
والليل جلاب للراحة والهناء، والنهار جلاب للألم والعناء!!
وفى النهار أوقات تخلو من الصلاة
وأما صلاة الليل بأجمعه ففيها فخر النبى والأمم!!
وأنا ملك اتخذت الأرض عرشا، والفلك إيوانا،
والقمر حارسا، والكواكب السيارة خدما!!
وأشهر السنة العربية عبارة عن عدد من أقمارى
وعلى رأسى رقم من أجنحة جبريل!!
وعلى طلعة قمرى تبدو آثار الصحة والعافية
وعلى طلعة شمسك تبدو آثار السقم والهزال!!
ودورة شمسك تستغرق سنة كاملة
ودورة قمرى تستغرق أقل من شهر واحد!!
* * * استمع النهار إلى حديث الليل هذا، ثم ثار وقال فى استهزاء:
صمتا. صمتا وكيف جاز لك أن تهرف بمثل هذا الهراء!!
وكيف جاز لك أن تطعن فى النهار وصاحب العرش المتعالى،
قد اقسم بالنهار فقدمه على ذكر الليالى!!
وصيام الناس جميعا مجعول فى وقت النهار
وكذلك الحج إلى البيت الحرام جعله الله فى هذا الوقت السار!!(1/211)
والعيد وصلاة الجمعة ووقفة عرفات وعاشوراء
كلها مجعولة نهارا إذا نظرت بعين العقل والدكاء!!
وفى النهار سيكون بعث الناس وحشرهم
وفى النهار أيضا كان خلقهم ووجودهم!!
وما أكثر رهبتك للأطفال، وما أكثر آلامك للعاشقين
وأنت شيطان مريد، تقسو على المرضى والمساكين.!!
والبوم والخفاش وطيور الليل والجن الأسود والشياطين
جميعها تظهر بالليل، وكذلك اللصوص والمجرمون!!
وأصلى مشتق من فلك الجوزاء، وجنسك مشتق من جوف الغبراء
وأنت مظلم كالفحم القاتم، وأنا منير كالنار ذات الضياء!!
وبى يزدان وجه الأفق، وبك يبدو فى قبح شنيع!!
ويزداد النور بضيائى فى أعين الخلق، وأما ظلمتك فتكثر فيها الدموع!!
ولى نور الإسلام، ولك ظلمة الكفر والعصيان
ولى أردية الهناء، ولك أردية الهموم والأحزان!
وكيف تفخر بالحسن ولك وجه حبشى كثير الإظلام!!
وكيف يصل الحسن إلى حبشى ولو كان من أبهى الدمى والأصنام!!
وماذا تكون جيوش نجومك وهى تفر من الشمس فى خوف ووجل
ومتى رفعت شمسى أعلامها هربت أمامها على عجل!!
وأى ضرر يصيبنى إذا ذكرك الله قبلى فى القرآن
فقد جاء ذكر «الأصم» قبل «السميع» فى آيات الفرقان (1).
__________
(1) المترجم: إشارة إلى ما جاء فى سورة هود آية 26حيث قال تعالى {(مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمى ََ وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيََانِ مَثَلًا أَفَلََا تَذَكَّرُونَ).}(1/212)
واقرأ فى الكتاب قوله: «خلق الموت» فقد ذكر «الحياة» من بعده (1)
وإن كانت «الحياة» على كل حال خير من «الموت» ولحده!!
وإذا كانت سنة «العرب» تعرف بأقمارك
فإن سنة «العجم» تعرف بشمسى كذلك!!
والشمس وإن أصفرت، خير من القمر فى بهائه
وكذلك الدينار وإن أصفر، خير من الدرهم فى بياضه!!
وقمرك يستمد نوره من ضوء الشمس
وبنحنى فى خدمتها إجلالا وتكريما!!
وهو وإن أسرع عن الشمس فى دورته، فما هو إلا رسولها،
والرسول بغير شك يتقدم الملك فى سيره وخطاه!!
وفى النهار ثلاث صلوات، وفى الليل وقتان للصلاة
وقد انقصوا من صلواتك لأنك تنقص عنى فى قيمتك!!
فإذا لم ترض بقولى، وشئت الاقتناع والقبول
فاجعل الحكم العدل بينى وبينك هو الله الحكيم!!
واقنع بقول الملك العادل الكريم
أو ارض برئيس الوزراء فهو منجم الجود والإحسان!!
وهو أبو نصر الخليل بن أحمد الذى أصبح النصر
تاجا لجاهه وجلاله، والجود أساسا لملكه ونعيمه!!
ولا يفوتنا أن نذكر أن «الأسدى» أغضب السلطان «محمودا الغزنوى» بإحدى مناظراته هذه وهى التى جعلها بين «العربى والعجمى» وذلك لما أورده فيها من مدح لأميرين من خصومه من أمراء البويهيين هما «شمس الدولة أبو طاهر الهمدانى»
__________
(1) المترجم: إشارة إلى ما جاء فى سورة الملك الآية الثانية حيث يقول تعالى {(الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيََاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا).}(1/213)
(1021997م 412387هـ) ومجد الدولة أبو طالب رستم (1029997م 420387هـ). وفى هذا مثال آخر لما كانت عليه نفسية السلطان من حقد وحسد.
أبو الفرج السجزى:
أبو الفرج السجزى متقدم زمنا عمن ذكرناهم من الشعراء فيما سبق، ولكنه تال لهم فى الأهمية والمكانة، كما إنه لا يبلغ مبلغ تلميذه «منوچهرى» الذى سنتحدث عنه بعد قليل. ومن أهم الرجال الذين شملوا السجزى بالرعاية «أبو على سيمجور» وهو واحد من الضحايا الذين أودت بهم أطماع السلطان محمود الغزنوى، وقد قيل إنه مات فى سنة 1002م 393هـ. وتكاد حياة السجزى وظروفه تكون مجهولة لنا تماما ولو أن «دولتشاه» كعادته لا يضن عليه ببعض الأخبار (1) كما لا يضن عليه بذكر مقطوعة واحدة من أشعاره هى الآتية:
عنقاى مغربست درين دور خرمى
خاص از براى محنت ور نجست آدمى
چندانكه گرد عالم صورت برآمديم
غمخواره آدم آمد وبيچاره آدمى
هر كس بقدر خويش گرفتار محنتست
كس را نداده اند برات مسلمى
وترجمتها:
إن السعادة فى هذا الزمان نادرة كعنقاء المغارب
وكأنما الحياة قد خصصت من أجل المكاره والنوائب!!
ومهما طال طوافى حول عالم الصور والظواهر
فإننى لم أر فيها إلا قعيد الهموم والكروب الغوادر!!
__________
(1) أنظر «تذكرة الشعراء» ص 4039.(1/214)
وقد نزلت المحن على كل شخص بقدر طاقته
ولم يبرأ أحد براءة كاملة من نصيبه وحصته!!
منوجهرى:
أما «منوچهرى» فقد كان تلميذا للسجزى. وقد عاش حتى سنة 4331041هـ أو بعد ذلك وقد ذكرناه فيما سبق وترجمنا له قصيدة من أشهر قصائده (1) وليس من السهل الحصول على نسخة ديوانه ولكن الأستاذ «ا. دى ببرستين كازيميرسكى» (2)
قام على طبعه فى پاريس سنه 1886مع ترجمة كاملة له، ألحق بها كثيرا من التعليقات والملاحظات والمقدمات التاريخية الرائعة. وقد طبع قبل ذلك بما يقرب من ست سنوات طبعة على الحجر فى مدينة طهران. وتحدث «دولتشاه» عن هذا الديوان فقال: «إنه مشهور معروف فى أنحاء إيران». ويؤخذ من بيت من أبيات الديوان أن «منوچهرى» كان من بلدة «دامغان» التى تبعد بما يقرب من خمسين ميلا إلى جنوب «استراباد» على الطريق من طهران إلى مشهد. وفى هذا ما يتنافى مع ما ذكره «دولتشاه» عن نسبته إلى «بلخ» أو «غزنه».
ويذكر «عوفى» (3) إن اسمه الكامل هو «أبو النجم أحمد بن قوص (4) بن أحمد المنوچهرى» ثم لا يجود عليه بعد ذلك بشىء من الأخبار إلا أنه كان على صغر سنه شديد الذكاء وقد أدركه الموت وهو فى شبابه وغض إهابه، ويقولون إنه كان يلقب بلقب «شست كله» وهو تعبير يحتمل كثيرا من التفاسير (5) ولكنهم فى العادة يفسرونه بمعنى «صاحب الستين قطيعا» إشارة إلى ما كان له من غنى وثراء. ومن العجيب أن «عوفى» لا يذكر شيئا عن هذا اللقب وقد عثرت على نبذه فى كتاب «راحة
__________
(1) أنظر ص 4742من هذا الكتاب.
(2) كتابة الإسم بالرومانية هكذا: ..
[المترجم: طبع أخيرا ديوان منوچهرى فى تهران سنة 1326هـ. ش باهتمام «محمد دبير سياقى»]
(3) أنظر «لباب الألباب» ج 2ص 5553
(4) الدكتور (إتية) يستبدل (قوص) ب (يعقوب).
(5) أنظر ص 3من طبعة (كازيميرسكى).(1/215)
الصدور» الذى ألفه «الراوندى» فى تاريخ السلاجقة (1)، يستفاد منها أن اثنين من الشعراء كانا يعرفان باسم «منوچهرى» وأن الكتاب المتأخرين قد اختلط عليهم الأمر فجعلوهما شخصا واحدا أما هذان الشاعران فهما:
(ا) أبو النجم أحمد منوچهرى: الشاعر الذى عاش فى النصف الأول من القرن الحادى عشر الميلادى الخامس الهجرى.
(ب) شمس الدين أحمد منوچهر: الشاعر الذى عاش فى النصف الأخير من القرن الثانى عشر الميلادى السادس الهجرى وهو الذى كان يعرف باسم «شست كله». وليس فى أيدينا الآن شىء من أشعاره، وكل ما نعرفه عنه أنه أنشأ قصيدة عرفت باسم «قصيدة تتماج» نسبة إلى قافيتها فيما يظن.
وفيما يلى ترجمة كاملة لقصيدة أخرى من قصائد «منوچهرى» الحقيقى وصف فيها «الشمعة» وانتهى فيها إلى مدح «العنصرى» وهذه القصيدة مذكورة فى ديوان الشاعر وكذلك فى كتابى «عوفى» و «دولتشاه».
وفيما يلى نصها فى كتاب «تذكرة الشعراء» (2):
أى نهاده بر ميان فرق جان خويشتن
جسم ما زنده بجان وجان تو زنده بتن
گر نه كوكب، چرا پيدا نكردى جز بشب
ورنه عاشق چرا گريى همى بر خويشتن
كوكبى آرى وليكن آسمان تست موم
عاشقى آرى وليكن هست معشوقت لگن
__________
(1) أشرت إلى هذا الكتاب الهام فى مقال كتبته فى «مجلة الجمعية الملكية الأسيوية» سنة 1902ص 581580.
المترجم: وقد طبع هذا الكتاب الأستاذ محمد اقبال سنة 1921ضمن سلسلة جب التذكارية
(2) المترجم: أنظر ص 4241وكذلك توحد هذه القصيدة فيما عدا الأبيات الأربعة الأخيرة فى كتاب «لباب الألباب» ج 2ص 5554.(1/216)
پيرهن در زير تن دارى و پوشد هر كسى
پيرهن بر تن تو تن پوشى همى بر پيرهن
گر بميرى آتش اندر تو رسد زنده شوى
چون شوى بيمار خوشتر گردى از گردن زدن
تا همى خندى همى گريى واين بس نادرست
هم تو معشوقى وهم تو عاشقى بر خويشتن
بشگفى بى نوبهار و پژمرى بى مهرگان
بگريى بى ديدگان وبازخندى بى دهن
تو مرا مانى بعينه من ترا مانم همى
دشمن خويشيم هر دو دوستدار انجمن
خويشتن سوزيم هر دو بر مراد دوستان
دوستان در راحتند از ما وما اندر حزن
هر دو گريانيم وهر دو زرد وهر دو در گداز
هر دو سوزانيم وهر دو فرد وهر دو ممتحن
آنچهـ من در دل نهادم بر سرت بينم همى
آنچهـ تو بر سر نهادى در دلم دارد وطن
روى تو چون شنبليد برشگفته بامداد
وآن من چون شنبليد ناشگفته در چمن
از فراق روى تو گشتم عدوّ آفتاب
وز فراق تو شب تارى شد ستم مفتتن
من دگر ياران خود را آزمودم خاص وعام
نى طلبكارى ز يك تن نى وفا اندر دو تن
رازدار من توئى اى شمع يار من توئى
غمگسار من توئى من آنِ تو تو آنِ من
تو همى تابى چونور ومن همى خوانم بمهر
هر شبى تا روز ديوان أبو القاسم حسن
اوستاد اوستادان زمانه «عنصرى»
عنصر دين ودلش بى عيب وبى غش وفتن
شعر او چون فضل او هم بى تكلف هم بديع
فضل او چون شعر او هم نازنين وهم حسن
زين فزونتر شاعرى دعوى بود لاف وگزاف
اين حكيمان دگر يكفن واو بسيار فن
در زغن هرگز نباشد فن اسب راهوار
گرچهـ باشد چون صهيل اسب آواز زغن
تا همى خوانى تو أشعارش همى خائى شكر
تا همى بوئى تو أبياتش همى بوئى سمن
وترجمتها:(1/217)
پيرهن در زير تن دارى و پوشد هر كسى
پيرهن بر تن تو تن پوشى همى بر پيرهن
گر بميرى آتش اندر تو رسد زنده شوى
چون شوى بيمار خوشتر گردى از گردن زدن
تا همى خندى همى گريى واين بس نادرست
هم تو معشوقى وهم تو عاشقى بر خويشتن
بشگفى بى نوبهار و پژمرى بى مهرگان
بگريى بى ديدگان وبازخندى بى دهن
تو مرا مانى بعينه من ترا مانم همى
دشمن خويشيم هر دو دوستدار انجمن
خويشتن سوزيم هر دو بر مراد دوستان
دوستان در راحتند از ما وما اندر حزن
هر دو گريانيم وهر دو زرد وهر دو در گداز
هر دو سوزانيم وهر دو فرد وهر دو ممتحن
آنچهـ من در دل نهادم بر سرت بينم همى
آنچهـ تو بر سر نهادى در دلم دارد وطن
روى تو چون شنبليد برشگفته بامداد
وآن من چون شنبليد ناشگفته در چمن
از فراق روى تو گشتم عدوّ آفتاب
وز فراق تو شب تارى شد ستم مفتتن
من دگر ياران خود را آزمودم خاص وعام
نى طلبكارى ز يك تن نى وفا اندر دو تن
رازدار من توئى اى شمع يار من توئى
غمگسار من توئى من آنِ تو تو آنِ من
تو همى تابى چونور ومن همى خوانم بمهر
هر شبى تا روز ديوان أبو القاسم حسن
اوستاد اوستادان زمانه «عنصرى»
عنصر دين ودلش بى عيب وبى غش وفتن
شعر او چون فضل او هم بى تكلف هم بديع
فضل او چون شعر او هم نازنين وهم حسن
زين فزونتر شاعرى دعوى بود لاف وگزاف
اين حكيمان دگر يكفن واو بسيار فن
در زغن هرگز نباشد فن اسب راهوار
گرچهـ باشد چون صهيل اسب آواز زغن
تا همى خوانى تو أشعارش همى خائى شكر
تا همى بوئى تو أبياتش همى بوئى سمن
وترجمتها:
يا من وضعت روحك فوق رأسك
إن أجسامنا تحيى بالروح، ولكن روحك تحيى بجسدك!!
إذا لم تكونى كوكبا فلم لا تظهرين إلا أثناء الليل!!
وإذا لم تكونى عاشقة فلم تديمين البكاء على نفسك!!
نعم أنك كوكب ساطع ولكن سماءك مصنوعة من الشمع الناصع
وأنك عاشقة حقا ولكن معشوقك هو هذا الوعاء الرائع!!
ومن عجب أنك ترتدين قميصك تحت طيات جسمك (1)
وكل إنسان يلبس قميصه فوق جسده، بينما أنت ترتدين جسدك فوق قميصك!!
ومن عجب أنك إذا مت واتصلت بك شعلة من نار، دبت فيك الحياة ثانية
ومن عجب أنك إذا مرضت، تحسن حالك بقطع رأسك!! (2)
__________
(1) قميص الشمعة هو ذؤابتها التى تشتغل، وجسدها هو الشمع الذى صنعت منه.
(2) المترجم: إذا قطعت فتيلة الشمعة وأصلحت زاد النور المنبعث منها.(1/218)
ومن العجب وأنذر العجب أنك تضحكين وتبكين فى آن واحد
ومن العجب وأندر العجب أنك أنت العاشق والمعشوق فى وقت واحد!!
ومن عجب أنك تزدهين بغير ربيع، وتذوين بغير خريف
وتبكين بغير عين، وتضحكين بغير ثغر أو فم!!
وما أشبه حالى بحالك، وما أشبه حالك بحالى
فكلانا يخاصم نفسه، لكى يكون خادما للمجتمع!!
وكلانا يحترق، وكلانا يصيبه الهزال والاصفرار، وكلانا يذوب وينصهر
وكلانا يديم البكاء، وكلانا فى محنة الوحدة والعناء!!
وها أنذا أرى فوق رأسك ما أخفيته فى قرارة قلبى [أى النار]
وأرى النار التى توجت بها رأسك قد توطنت فى دخيلة نفسى!!
وإن مدامعك لهى الذهب المصهور تذيبينه فوق خدودك الذهبية
وأما خدودى فهى الأزهار الصفراء الذابلة من بين أزهار الخمائل!!
ولقد أصبح من عادتى النوم أثناء النهار، لأنى من أجلك
أديم السهر طوال الليل، وتثقل رأسى بالنوم طول النهار!!
ولقد أصبحت خصيما للشمس عندما افترق عن طلعتك
وأصبحت مفتتنا بوصالك طوال الليل البهيم!!
ولقد جربت أصدقائى جميعا فى كل الأوقات والأحوال
فلم أر سرا يحفظ فى قلوبهم أو وفاءا يستقر فى ربوعهم!!
وأما أنت أيتها الشمعة فصديقتى الخالصة المؤتمنة على أسرارى
وأنت الملطفة لأحزانى وقد أصبحت ملكا لك كما أصبحت ملكا لى!!
وما دمت تحترقين فإننى سأظل أقرأ على نورك فى حب وحنين
ديوان «أبى القاسم حسن» حتى مطلع النهار المبين (1)!!
__________
(1) هذا هو اسم العنصرى، ويعتبر هذا البيت هو بيت الانتقال من التشبيب إلى المديح ويعرف فى الفارسية باسم «گريزگاه».(1/219)
وهو «العنصرى» أستاذ الأساتذة فى هذا الزمان
وقد خلا عنصره من كل عيب، وقلبه من الغش، وروحه من الافتتان.
وشعره شبيه بفضله كلاهما بديع لا تكلف فيه
وفضله شبيه بشعره كلاهما ملىء بالرقة والروعة والحسن!!
ومن العبث أن يدعى مدع أنه يتفوق عليه فى البلاغة ونظم الكلام
فإن الحكماء جميعا لهم فضل واحد، وللعنصرى من الأفصال ألوان وفنون!!
ولن يكون للغراب مهما نعب صوت يشبه صهيل الجواد الأصيل
ولو تشابه نعيب الغراب مع ما للجواد من صهيل!!
وأنك لتمضغ فتات السكر عندما تأخذ فى إنشاد أشعاره
وأنك لتشم أريج الباسمين من عبيق ديوانه وأزهاره!!
يضاف إلى ذلك أن «منوچهرى» اختار لنفسه هذا التخلص نسبه إلى حاكم طبرستان الأمير الزيارى «منوچهر بن قابوس بن وشمگير» الملقب بفلك المعالى. وقد تولى حكم خراسان بعد قتل أبيه فى سنة 1012م 403هـ، ومات فى سنة 1028م 419هـ
غضائرى:
تحدثنا فيما سبق عن هذا الشاعر الذى ينسب إلى مدينة الرى ويعرف باسم «غضائرى الرازى» واستشهدنا على صنعة «الإغراق» بقصيدته التى مدح بها السلطان محمودا الغزنوى وكيف فاز منه كما يقولون بسبعة أكياس من الذهب تبلغ قيمتها أربعة عشر ألف درهم، وفى هذه القصيدة يقول بيتيه الآتيين:
صواب كرد كه پيدا نكرد هر دو جهان
يگانه ايزد دادار بى نظير وهمال
وگرنه هر دو ببخشيدى او بروز سخا
اميد بنده نماندى بايزد متعال
ومعناهما:(1/220)
صواب كرد كه پيدا نكرد هر دو جهان
يگانه ايزد دادار بى نظير وهمال
وگرنه هر دو ببخشيدى او بروز سخا
اميد بنده نماندى بايزد متعال
ومعناهما:
كان من الصواب أن الله الفرد العادل الذى لا نظير له
لم يكشف للانسان كلا العالمين (أى الدنيا والآخرة)!!
ولو أنه فعل ذلك، لجاد الملك بهما جميعا فى يوم السخاء
ولم يبق للعبد مطمع آخر يرجوه من رب السماء!!
وما أقل ما كتبه «عوفى» و «دولتشاه» عن هذا الشاعر بحيث يمكن أن نقول صادقين أننا لا نكاد نعرف عنه شيئا سوى أنه كان مبرزا فى إنشاء شعر المناظره والمديح.
بهرامى:
ذكرنا فيما سبق أيضا الشاعر «بهرامى السرخسى» وقلنا إنه قد ألف كتابا فى العروض والشعر اسمه «خجسته نامه»، وقد ذكر صاحب «چهار مقاله» فى كثير من الإعجاب كتابين آخرين من تأليفه هما:
(ا) غاية العروضيين
(ب) كنز القافية
ويبدو أنه قد ألف كتبا أخرى منثورة فى فنون البلاغة والشعر، ولكنها جميعا قد ضاعت مع الزمن ولم تسلم من غاراته.
ولم يذكر «دولتشاه» هذا الشاعر ولكن «عوفى» ذكره فى عبارة مختصرة وأورد له جملة من المقطوعات تبلغ الست أو السبع.
* * * ولقد يمكن أن نطيل القائمة التى تشتمل على الشعراء الذين عاشوا فى هذا العصر لأن «عوفى» يذكر منهم عددا يزيد على أربعة وعشرين شاعرا، يضاف إليهم من خصه بالذكر صاحب كتاب «چهار مقاله» ومن بينهم الشاعرة «رابعه بنت كعب» والشعراء «لبيبى» و «أمينى» و «أبو الفضل» و «الطالقانى» و «المنشورى» و «العطاردى» و «زينتى العلوى المحمودى».(1/221)
ويبدو من البيتين الآتيين وقد قالهما الشاعر الأخير فى مطلع إحدى قصائده وهما:
اى خداوند روزگار پناه ... مطربان را بخوان وباده بخواه
تا بدان لعل مى فروشوئيم ... كامها را ز گرد وخشكى راه
ومعناهما:
مولاى يا كهف الأنام والأيام
ادع المطربين، ومر بكؤوس المدام!!
حتى نستطيع أن نغسل حلوقنا بهذه الخمر الياقوتية الحمراء
مما علق بها من غبار الطريق وجفاف الهواء!!
أنه كان فى رفقه السلطان «محمود الغزنوى» فى إحدى غزواته الكثيرة لبلاد الهند وقد أشار إلى ذلك أيضا فى مقطوعة أخرى ذكرها «عوفى» فى كتابه وهى:
ز خون عدو كرد فتنه نشانى ... بتيغت همه زنگ بدعت زدائى
مگر نذر دارى كه هر مه كه نوشد ... شهى را ببندى وشهرى گشائى
مگر عهد دارى كه همچون سكندر ... ملوك زمين را تو قدرت نمائى
ومعناها:
فقد هبطت الفتنة بدماء الأعداء
ومحقت صدأ البدعة بسيفك القاطع!!
فهل نذرت مع كل هلال يولد فى بداية الشهر
أن تأسر ملكا أو تفتح بلدة جديدة!!
أو هل تعاهدت كما فعل «الإسكندر» من قبل
أن تظهر قدرتك وتقهر ملوك الأرض أجمعين!؟
* * * وفيما عدا ذلك ما زال ثلاثة من الشعراء الذين لم نذكرهم فى هذا الفصل يتطلبون منا حتما شيئا من الحديث وهم:
(ا) پندار الرازى: المنسوب إلى مدينة «الرى» وهو من شعراء اللهجات الخاصة
(ب) كسائى المروزى: المنسوب إلى مدينة «مرو»(1/222)
(ج) أبو سعيد بن أبى الخير: الشاعر الصوفى صاحب الرباعيات
وآخر هؤلاء الثلاثة هو أكثرهم شهرة وبعد صيت، وقد عاش طويلا (من سنة 1049968م 44358هـ) وتخصى الفترة الفاصلة بين العصرين اما؟؟؟
والسلجوقى، ومن أجل ذلك فسنخصص له مكانا جديرا به فى الفصل التالى الذى سنطيل الحديث فيه عن الشعر الدينى والتعليمى بقدر ما نفلل فيه من الحديث عن أشعار الملاحم والمديح
ويبقى علينا أن نتحدث عن الشاعرين الآخرين «پندار» وال «كسائى»
پ ندار الرازى:
أما «پندار» فيقال إنه كان يدعى ب «كمال الدين» ولا نكاد نعرف من أمره شيئا إلا أنه كان فى خدمة الأمير البويهى «مجد الدولة أبى طالب رستم» الذى كان يحكم مدينة الرى، وأنه كان قبل ذلك فى خدمة الرجل العظيم «الصاحب إسماعيل بن عباد».
ويقال إن «پندار» توفى سنة 1010م 401هـ وإنه كان قادرا على نظم الشعر باللغات العربية والفارسية والديلمية.
ولست أستطيع أن أجد شيئا ذكر عن «پندار» أسبق مما ذكره «دولتشاه» فى كتابه (1) أما «عوفى» و «ابن اسفنديار» فقد سكتا عنه سكوتا تاما، ومن عجب أن «دولتشاه» كان فى الحديث عنه مقلا على غير عادته، واكتفى بأن يذكر مثلين من أشعاره أحدهما فى اللغة الفارسية، والآخر فى اللغة الديلمية، وقد وجه المثال الأخير منهما إلى أحد أصدقائه عندما نصحه بأن يتزوج، ولغته مفهومة لنا بالقدر الذى يكشف عن مضمونه، ولكننا لا نجسر على ترجمته ترجمة دقيقة صحيحة. أما المثال الأول فمعروف مشهور وهم ينسبونه إلى أكثر من واحد من الشعراء المشهورين.
__________
(1) انظر «تذكرة الشعراء» ص 4442.(1/223)
ونصه:
از مرگ حذر كردن دو روز روا نيست
روزى كه قضا باشد وروزى كه قضا نيست
روزى كه قضا باشد كوشش نكند سود
روزى كه قضا نيست درو مرگ روا نيست
ومعناه:
لا يصح الحذر من الموت فى يومين على السواء
يوم يقع فيه القضاء، ويوم يمتنع فيه القضاء!!
فاليوم الذى يقع فيه القضاء، لا يجدى معه كفاح الأقوياء
واليوم الذى لا يقع فيه القضاء، لا يجوز فيه الموت والفناء!!
وقد ذكر «دولتشاه» بالإضافة إلى ذلك بيتا من الشعر قاله الشاعر المتأخر «ظهير الدين الفاريابى» ومدح فيه الشاعر «پندار» ونصه:
در نهان خانه طبعم بتماشا بنگر ... تا ز هر زاويه عرضه دهم پندارى
ومعناه:
انظر إلى الأعماق الخافية فى طبيعتى ولو نظرة واحدة فى اختصار
فسأعرض عليك فى كل ركن من أركانها شاعرا فى مهارة «پندار»
ولكنى أشك فى أن كلمة «پندار» المذكورة فى هذا البيت من أسماء الأعلام، وربما كانت من أسماء المصادر بمعنى «الفكر» أو «الخيال» (1).
وفى مقابل الأخبار القليلة التى رواها دولتشاه عن «پندار» نجده يعوضنا عن قلتها بحكاية كبيرة الدلالة رواها عن والدة «مجد الدولة» وكانت تقوم بالوصاية عليه أثناء صغره، ومجمل القصة أن «مجد الدولة» اعتلى العرش وهو صبى
__________
(1) بعد ما انتهيت من كتابة هذا الفصل عثرت على هذا البيت فى كتاب «مجالس المؤمنين» وبذلك ينتفى ما عرض لى من شك، ويتحتم أن يكون المقصود بلفظة «پندار» هو هذا الشاعر، ولكنه ذكر هنا بالباء الموحدة هكذا: «بندار».(1/224)
صغير فى سنة 997م 387هـ فقامت أمه بالوصاية عليه وأمسكت بأزمة الأمور فى أيديها الحازمة. وقد قيل إن السلطان محمودا طالبها بالجزية والخراج فلما رفضت هددها بأن يرسل إليها ألفين من أفياله الحربية لتخرب مدينة «الرى» وتحمل ركامها إليه فى مدينة «غزنه». فاستقبلت الوالدة رسول محمود وأكرمت وفادته وأعطته هذه الرسالة ليبلغها إلى مولاه، وقالت فيها:
«لا شك أن السلطان محمودا بطل من أبطال الإسلام. وهو من أقوى الأمراء والحكام، وقد دانت له أكثر الأنحاء فى إيران وبلاد الهند، ولطالما خشيت سطوته ومحاربته طوال السنوات الإثنتى عشرة التى عاشها زوجى «فخر الدولة». ولكن منذ انتقل زوجى إلى جوار ربه وقد انزاح عن قلبى هذا الخوف الذى ملك نواصيه، لأنى أجد أن السلطان محمودا من أكبر الملوك وأعزهم شرفا، ولن يقدم على محاربة امرأة عجوز مثلى فأمّا إذا اختار الحرب والقتال فمن المؤكد أننى لن أتردد عن الطعن والنزال، فإن وفقنى الله إلى التغلب عليه فسيذكر لى هذا النصر إلى يوم الدين، وأما إذا فاز بالنصر على فسيتحدث المتحدثون فيقولون: إنه لم يفز إلا على امرأة عجوز! وإنى ليأخذنى العجب كيف يتيسر له فى مثل هذا الحالة أن يعلن هذا الفوز، وفى أى صوره يذيعه فى أنحاء ملكه العريض؟ وقديما قالوا «كيف يمكن أن يكون رجلا من نقصت همته عن همة النساء؟!» وإنى لأعرف أن السلطان عاقل حازم، ولن يقدم على مثل هذا الأمر، ومن أجل ذلك فإنى أنعم على أريكة الهدوء والراحة، لا يأخذنى شىء من الخوف أو الشك فيما ستنتهى إليه عاقبة الأمور».
ويقول «دولتشاه» إن هذا الخطاب أفاد الفائدة المرجوة منه فلم يقدم السلطان على محاربة هذه المرأة طوال حياتها، ولم يهاجم شيئا من أملاك ابنها. ومما يضفى على هذه القصة كثيرا من البهاء أن «ابن الأثير» ذكر أنه ما لبثت هذه المرأة أن ماتت فى سنة 419هـ حتى أغار السلطان محمود فى السنة التالية (420هـ 1029م) على مدينة الرى وخلع عنها ابنها «مجد الدولة» ثم دخلها أثناء الربيع وأخذ من أهلها ألف ألف دينار وما يساوى نصف هذا المقدار من الحلى والمجوهرات، وستة آلاف ثوب من القماش
والخلع النفيسة، ومقدارا كبيرا من مختلف الأسلاب والغنائم. ثم دعا إليه «مجد الدولة» وقال له: ألم تقرأ الشاهنامه وتاريخ الطبرى (1)؟! فلما أجابه مجد الدولة بالإيجاب التفت إليه ثانية وقال له: يبدو لى من خلقك أنك لم تقرأ هذين الكتابين، فهل تلعب الشطرنج؟! فأجابه مجد الدوله بالإيجاب مرة ثانية، وهنا التفت إليه محمود وقال له: ألم يعرض لك مطلقا كيف يدنو الملك من الملك الآخر فى رقعته؟!(1/225)
ويقول «دولتشاه» إن هذا الخطاب أفاد الفائدة المرجوة منه فلم يقدم السلطان على محاربة هذه المرأة طوال حياتها، ولم يهاجم شيئا من أملاك ابنها. ومما يضفى على هذه القصة كثيرا من البهاء أن «ابن الأثير» ذكر أنه ما لبثت هذه المرأة أن ماتت فى سنة 419هـ حتى أغار السلطان محمود فى السنة التالية (420هـ 1029م) على مدينة الرى وخلع عنها ابنها «مجد الدولة» ثم دخلها أثناء الربيع وأخذ من أهلها ألف ألف دينار وما يساوى نصف هذا المقدار من الحلى والمجوهرات، وستة آلاف ثوب من القماش
والخلع النفيسة، ومقدارا كبيرا من مختلف الأسلاب والغنائم. ثم دعا إليه «مجد الدولة» وقال له: ألم تقرأ الشاهنامه وتاريخ الطبرى (1)؟! فلما أجابه مجد الدولة بالإيجاب التفت إليه ثانية وقال له: يبدو لى من خلقك أنك لم تقرأ هذين الكتابين، فهل تلعب الشطرنج؟! فأجابه مجد الدوله بالإيجاب مرة ثانية، وهنا التفت إليه محمود وقال له: ألم يعرض لك مطلقا كيف يدنو الملك من الملك الآخر فى رقعته؟!
فأجاب مجد الدولة فى هذه المرة بالنفى. عند ذلك سأله محمود: فلماذا إذن أبحت لنفسك أن تنازل من هو أقوى منك سببا وأوسع سلطانا؟! ثم أمر بعد ذلك بنفيه فى خراسان، وأتبع ذلك بصلب جماعة من الباطنية أو الاسماعيلية وتشريد المعتزلة وحرق كتبهم وكتب الفلاسفة والمنجمين، فلما اشبع رغبته وشفى غلته حمل مئات الأحمال من الكتب الباقية ونقلها إلى مدينة «غزنه» (2).
الكسائى:
ويجدر بنا فى نهاية هذا الفصل أن نذكر شيئا عن «الكسائى» وهو من أشهر الشعراء الذين ظهروا فى زمانه، ولكننا لا نذكره فى هذا المكان من أجل ذلك فحسب، بل من أجل العلاقات التى كانت تربطه بالرجل الخطير والشاعر العظيم «ناصر خسرو» الذى سنتحدث عنه بالتفصيل فى الفصل التالى من هذا الكتاب.
والكسائى يختلف عن «پندار» فى أن القدماء قد درسوه أكثر من المحدثين، وقد خصص له «عوفى» أكثر من خمس صفحات من كتابه (3) واعتبره صاحب «چهار مقاله» واحدا من كبار الشعراء السامانين (4)، ولكن «دولتشاه» أهمله تماما ولم يذكر عنه شيئا على الإطلاق.
__________
(1) الظاهر أنه اختار هذين الكتابين خاصة لأن الأول به سير ملوك الفرس والثانى به سير ملوك المسلمين عامة.
(2) انظر «تاريخ ابن الأثير» طبع القاهرة الجزء التاسع ص 128.
(3) انظر «لباب الألباب» ج 2ص 3933.
(4) انظر چهار مقاله ص 45وقد سماه هنالك «أبا الحسن» لا «أبا إسحق» كما ذكر الدكتور «إتيه».(1/226)
وقد ولد فى يوم الأربعاء 16مارس سنة 953م 27شوال سنة 341هـ، وذلك وفقا لما قاله فى إحدى قصائده التى نقلها عوفى فى كتابه (1) والتى ذكر الشاعر فيها:
«إنه نظمها فى أواخر أيام حياته وفى أيام الوداع وساعات الفراق عند ما بلغ الخمسين من عمره. وقد كرر العبارة الأخيرة صراحة مرتين فى هذه القصيدة. واستنتج الدكتور «إتيه» من هذا أن الكسائى مات فى سنة 1002م 393هـ (ذكر ذلك فى مقالته (2) التى نشرها عن هذا الشاعر سنة 1874) ولكنه عاد بعد ذلك وعدل عن هذا الرأى فى مقالته التى نشرها بعنوان «الآداب الفارسية الحديثة» فى «المفصل فى الدراسات اللغوية الإيرانية» ص 381. وافترض أن هذا الشاعر عاش إلى أن بلغ أرذل العمر وأن الخصومة قامت حقا بينه وبين «ناصر خسرو» الذى ولد كما يقول هو نفسه، فى سنة 394هـ 1003م.
ويرى الدكتور «إتيه» أن احتقار «ناصر خسرو» للكسائى كان مرجعه إلى الحقد وإلى الاختلافات الدينية التى فرقت بينهما، وقد فسّر هذه الاختلافات بطريقة لا أقرّه عليها، لأنه قال ان الأول اعترض على الثانى إنكاره للخلفاء الراشدين الثلاثة، وبمعنى آخر أن ميول الكسائى الشيعية كانت معادية لميول «ناصر» الذى كان بدوره من غلاة الشيعة كما تدلنا على ذلك قصائده الكثيرة، وقد ظل هو نفسه بعض الوقت.
كما أخبرتنا بذلك كتب التاريخ، شيخا لدعاة الإسماعيلية فى ولاية خراسان.
أما السبب الحقيقى فى كراهية «ناصر خسرو» للكسائى فيرجع فيما أظن إلى أن الأول منهما كان تابعا للاسماعيلية أى من فريق «السبعية» وأما الثانى فكان من فريق «الإثنى عشرية». وكلا الفريقين كما هو معلوم نشآ من أصل واحد ولكنهما اختلفا بعد ذلك كل الاختلاف فيما يتعلق بالبيعة وما نتج عن ذلك من أغراض سياسية ونظرية. يضاف الى ذلك أن «ناصر خسرو» كان يبغض السلطان محمودا بغضا شديدا لأنه كان كما رأينا من ألد أعداء الإسماعيلية وغيرهم من الملاحدة، بينما وقف «الكسائى»
__________
(1) المترجم: انظر «لباب الألباب» ج 2ص 38.
(2) انظر مقالته بعنوان «غزليات الكسائى» وقد نشرها فى «محاضر جلسات المعهد العلمى البافارى للفلسفة والعلوم» سنة 1874م ص 153133.(1/227)
مواهبه رغم تشيعه لخدمة هذا السلطان وقول المدائح فيه. وفى هذين السببين كما يبدو لى الإيضاح الكافى الذى يفسر لنا سبب النفور الذى وقع بين هذين الشاعرين.
ومع ذلك فلم أجد فى ديوان «ناصر خسرو» الا سبع قطع (1) أشار فيها إلى «الكسائى» وهى الواقعة فى الصفحات 19و 28و 38و 51و 133و 247و 251 من ديوانه المطبوع على الحجر فى مدينة تبريز سنة 1280هـ. وفيما يلى نصها وترجمتها:
الإستشهاد الأول فى ص 19يقول البيت الآتى:
گر بخواب اندر كسائى ديدى اين ديباى من
سوده كردى شرم وخجلت مر كسائيرا كسا
ومعناه:
لو رأى «الكسائى» فى منامه هذا الديباج المنمق من أشعارى
لتمزق كساءه خجلا واستحياءا من آثارى!!
الاستشهاد الثانى ص 28يقول البيت الآتى:
گر سخنهاى كسائى شده پيرند وضعيف ... سخن حجت با قوت وتازه وبرناست
ومعناه:
إذا كان للكسائى كلام، فكلامه ضعيف قاصر!!
أما كلام «الحجة» (2) فكلام قوى ممتع ناضر!!
الاستشهاد الثالث فى ص 38يقول البيت الآتى:
ديبه رومى است سخنهاى او ... گر سخن شهره كسائى كساست
__________
(1) المترجم: بالرجوع إلى «ديوان قصائد ومقطعات حكيم ناصر خسرو» المطبوع فى طهران سنة 13071304هـ. ش نجد أن اسم الكسائى ورد تسع مرات فى أشعار «ناصر خسرو». وقد أوردت نصوص الأبيات من هذه الطبعة.
(2) يقصد لقبة الذى عرف به بين الاسماعيلية وهو «حجة خراسان».(1/228)
ومعناه:
وكلامه (أى شعر ناصر خسرو) هو الديباج الرومى!!
إذا كان كلام الكسائى الشهير هو الكساء العادى!!
والرابع ص 51يقول البيت الآتى:
كه ديباى رومى است اشعار من ... اگر شعر فاضل كسائى كساست
ومعناه:
وأما أشعارى فهى الديباج الرومى
إذا كانت أشعار الكسائى الفاضل هى الكساء العادى!!
والخامس ص 133يقول البيت الآتى:
شعر شدى گر بشنيدى بشرم ... شعر تو بر پشت كسائى كساش
ومعناه:
فإن كساء الكسائى ليصبح شعرا على ظهره!!
إذا استمع فى خجل إلى شعرك وجمال أثره!!
والسادس ص 247يقول البيت الآتى:
تا تو بدل بنده إمام زمانى ... بنده شعر توست شعر كسائى
ومعناه:
ما دمت من صميم قلبك خادما لإمام الزمان (1)
فإن أشعار «الكسائى» ستكون خادمة لشعرك!!
والسابع فى ص 251يقول البيت الآتى:
با تو سخنان او كهن گشت ... آن شهره مقالت كسائى
__________
(1) يقصد الخليفة الفاطمى المستنصر بالله.(1/229)
ومعناه:
وبالقياس إلى أشعاره (اى أشعار ناصر) الجديدة النضيرة
تقادم العهد على مقالة الكسائى الشهيرة!!
وليس فى حوزتى للأسف هذه المادة الغزيرة التى كانت فى متناول الدكتور «إتبه» ولكنى مع ذلك لا أجد فى هذه الأبيات التى نقلناها عنه فيما سبق، ولا فى سائر ديوان «ناصر خسرو» شيئا يدل على تحقير الكسائى، بل على العكس من ذلك نجده يمجده ويعظمه، لأن الشاعر إذا أخذ يفخر على عادة الشرقيين المألوفه، فإنه يذكر عن نفسه أنه أعلا شأنا وأكثر خطرا من كل عظيم سبقه أو عاصره، ولو حاد عن هذه الطريقة لنزل من عليائه وارتضى بالخيبة والفشل.
وعلى ذلك فقد كان «الكسائى» بغير شك من الشعراء المشهورين فى زمانه ولقد ذكرنا أنه كان شيعيا يتغنى فى قصائده بمدح على وآل البيت، ولكن ذلك لم يمنعه من أن يشيد بذكر السلطان محمود وكرمه، كما لم يمنعه ذلك أيضا من التغنى بالخمر والشراب.
وخمره فى هذه الحالة كانت خمرا حقيقية لا مجازية كالتى تغنى بها أصحاب الصوامع والمتصوفون.
ولقد ذكرنا فيما سبق أنه نظم قصيدة وهو فى الخمسين من عمره، وهذه القصيدة كما يقول «إتيه» وأنا معه فى الرأى، تدل على أنه فى هذا الوقت أصابه شىء من التغيير فى حياته وتفكيره، فأخذ يهجر حياة اللهو العابث، ويروض نفسه على التعفف والتزهد فهو يقول فى هذه القصيدة (1):
بسيصد و چهل ويك رسيد نوبت سال
چهار شنبه وسه روز باقى از شوال
بيامدم بجهان تا چهـ گويم و چهـ كنم
سرود گويم شاد كنم بنعمت ومال
__________
(1) المترجم: نقلت النص الفارسى من «لباب الألباب» ج 2ص 38.(1/230)
ستوروار بدين سان گذاشتم همه عمر
كه برده گشته فرزندم وأسير عيال
بكف چهـ دارم ازين پنجه شمرده تمام
شمارنامه با صد هزار گونه وبال
من اين شمار بآخر چگونه فصل كنم
كه ابتداش دروغست وانتهاش خجال
درم خريده آزم ستم رسيده حرص
نشانه حدثانم شكار ذل سؤال
دريغ فرّ جوانى دريغ عمر لطيف
دريغ صورت نيكو دريغ حسن وجمال
كجا شد آن همه خوبى كجا شد آن همه عشق
كجا شد آن همه نيرو كجا شد آن همه حال
سرم بگونه شيرست ودل بگونه قير
رخم بگونه نيلست وتن بگونه نال
نهيب مرگ بلرزاندم همى شب وروز
چوكودكان بدآموز را نهيب دوال
گذاشتيم وگذشتيم وبودنى همه بود
شديم وشد سخن ما فسانه أطفال
ايا كسائى پنجاه بر تو پنجه گذارد
بكند بال ترا زخم پنجه و چنگال
تو گر بمال وأمل بيش ازين ندارى ميل
جدا شو از أمل وگوش وقت خويش بمال
ومعناها:
بلغت دورة الزمان السنة الواحدة والأربعين بعد الثلاثمائة
فلما كان يوم الأربعاء، وقد بقيت ثلاثة أيام من شوال(1/231)
أتيت إلى هذه الدنيا، حتى أقول ما أقول وأفعل ما أفعل
وحتى أنشد الأغانى، وأفرح بالنعمة والمال!!
فقضيت العمر جميعه على شاكلة الدواب والأنعام!!
وأصبحت عبدا لأطفالى، وأسيرا لأولادى وعيالى!!
فماذا عساى أملك الآن من السنوات الخمسين التى تم عددها؟
اللهم إلا سجلا مليئا بمئات الآلاف من أنواع الوبال!!
وكيف أستطيع أن أفصل فى النهاية هذا الحساب؟
وكيف بدأ بالكذب والمين وكيف انتهى بالخجل والعار!!
فأنا عبد اشترتنى الدراهم، وضحية أودى بها الحرص!!
وأنا هدف للحادثات، وفريسة لذل السؤال!!
فيا أسفا لبهجة الشباب ويا أسفا لذلك العمر اللطيف
ويا أسفا لصورتى الجميلة ويا أسفا للحسن والجمال!!
فإلى أين ذهب كل هذا الحسن؟ وإلى أين ذهب كل هذا العشق؟
وإلى أين ذهب كل هذا العزم؟ وإلى أين ذهبت كل هذه الأحوال الطيبة؟!
وقد أضحت رأسى فى لون اللبن، وأضحى قلبى فى لون القار
وأضحى وجهى فى لون النيلة، وأضحى جسدى هزيلا على شاكلة البوص!!
ويرعبنى خوف الموت والفناء فأظل فى رهبة طوال النهار وآناء الليل!!
كما تخيف المقرعة الأطفال الذين لا يجيدون التعلم!!
لقد قنينا الأيام، ومضينا عن الحياة، ووقع بها ما كان مقدرا لنا
وهذه أشعارنا قد أصبحت الأقاصيص يتسلى بها الأطفال!!
فيا كسائى إن السنوات الخمسين تجثم على صدرك بمخالبها!!
وهذه ضرباتها قد قصت جناحيك واقتلعت ريشك!!
فإذا لم يعد لك ميل إلى المال والأمل أكثر من ذلك
فحرر نفسك من كل أمل، واعرك أذن وقتك، وتنبه من غفلتك!!(1/232)
بعد ذلك يروق لى أن أذكر مثلا آخر من قول «الكسائى» لأنه يبدو لى كثير الشبه بما يردده «الخيام» فى رباعياته التى يتعشقها كل المعجبين بترجمتها الرائعة التى قام بها «فيتز جرالد»، والمعنى الذى يتردد فى قول «الخيام» هو:
لشد ما تأخذنى الدهشة لحرص الخمار على شراء الكروم
بينما هى أتفه بكثير مما يبيعه من عقار مختوم!!
وفى مثل هذا المعنى قال «الكسائى» البيتين الآتيين:
گل نعمتى است هديه فرستاده از بهشت
مردم كريم تر شود اندر نعيم گل
اى گل فروش گل چهـ فروشى براى سيم
واز گل عزيزتر چهـ ستانى بسيم گل
ومعناهما:
الورد نعمة أهدتها لنا رياض الجنان!!
وبيمن طلعته وبهائه يزداد ما فى الناس من جود وإحسان!!
فيا بائع الورد! لماذا تبيع الورد بالدرهم الرنان؟!
وما عساك تشترى بثمنه وهل تجد ما يمتاز عليه بالرجحان!!(1/233)
الورد نعمة أهدتها لنا رياض الجنان!!
وبيمن طلعته وبهائه يزداد ما فى الناس من جود وإحسان!!
فيا بائع الورد! لماذا تبيع الورد بالدرهم الرنان؟!
وما عساك تشترى بثمنه وهل تجد ما يمتاز عليه بالرجحان!!
الفصل الثالث العصر السلجوقى الأول منذ ظهور «طغرلبك» إلى وفاة «ملكشاه» ويتضمن الحديث عن مذهب الحشاشين ونشأتهم
ظهور السلاجقة الأتراك
يقول «ستانلى لين پول» فى كتابه القيم «الدول الإسلامية» (1): «إن ظهور السلاجقة الأتراك يعتبر فاتحة لفترة هامة من فترات التاريخ الإسلامى، فقد ظهروا فى وقت زالت فيه إمبراطورية الخلافة، وأصبحت فيه هذه الدولة الموحدة التى كان يحكمها حاكم إسلامى واحد مجموعة من الدويلات المشتتة المبعثرة التى لا تملك من الحول ما يمكنها من السيطرة والسلطان، اللهم إلا إذا استثينا «الفاطميين» فى مصر، وهؤلاء كانوا على المذهب الشيعى كما هو معلوم. أما أسپانيا والممتلكات الإفريقية بما فيها ولاية مصر الغنية فكانت جميعا قد خرجت من يد خليفة بغداد وأما شمال سوريا وأرض الجزيره فوقعتا فى أيدى رؤساء العرب المتذمرين. واستطاع بعضهم أن ينشئوا لأنفسهم الإمارات والممالك وأما البلاد الفارسية (إيران) فكانت موزعة بين الحكومات المختلفة التى أسسها الأمراء البويهيون (وكانوا جميعا من أصل شيعى لا يكنون كثيرا من الاحترام للخلفاء العباسيين الضعفاء) كما كانت موزعة أيضا بين مجموعة من الدويلات التافهة التى كانت دائمة التعارك والتنازع فيما بينها مما أدى إلى انتشار الوهن وذيوع البلاء.
وكان انتشار المذهب الشيعى سببا فى زيادة التفكك الذى أصيبت به الولايات لمختلفة التى كانت تتكون منها الامبراطورية الزائلة.
__________
(1) أنظر كتاب:،(1/234)
واقتضت هذه الحال المضطربة دواءا ناجعا سرعان؟؟؟ ما وجدته؟؟؟ فى غزوة الأتراك السلاجقة. فقد كانوا بدوا سذجا لم تفسدهم حياة المدن ولا الخلافات المذهبية فاعتنقوا الإسلام بحماس بالغ، ملك منهم قرارة النفوس والأرواح، ولقد جاءوا لإنقاذ هذه الدولة المحتضرة؟؟؟ وتركوها؟؟؟ فى ساعاتها الأخيرة، فصح رجاؤهم، واستطاعوا فعلا أن يردوا إليها القوة والحياة. واجتاحوا بجموعهم الكثيفه إيران والجزيرة وسوريا وآسيا الصغرى، وحربوا البلاد التى وطأتها أقدامهم، وحطموا الإمارات التى صادفوها فى طريقهم، واستطاعوا بذلك أن يوحدوا مرة ثانية البلاد الإسلامية الأسيوية وأن يجعلوها تحت حكم واحد، تخضع له من أطراف الحدود الغربية لبلاد أفغانستان إلى أطراف الحدود الشرقية للبحر الأبيض المتوسط وتمكنوا أيضا من أن يحددوا العزم والحياة فى أرواح المسلمين بعد ما فترت عزائمهم وخمدت حماستهم فدفعوا البيزنطيين إلى ما وراء حدودهم، وأنشأوا جيلا من المسلمين المحاربين المخلصين، يرجع إليه وحده الفضل فيما أصاب «الصليبيين» من هزائم كثيرة متكررة. وهذه هى مجمل الأسباب التى تجعل للسلاجقة مكانا ممتازا فى التاريخ الإسلامى»
ولقد يجوز لنا أن نضيف إلى هذه العبارات السابقة، أن «السلاجقة» كانوا الممهدين «للأتراك العثمانيين» الذين أسسوا ملكهم فى البداية فى آسيا الصغرى ثم زادوا فيه حتى شمل الشام ومصر والبحر الأبيض وأوربا وشمال أفريقيا، ولا شك أن هذا الملك قد تأسس أولا على أكتاف الإمارات السلجوقية فى بلاد الروم (آسيا الصغرى)، ثم تقرر مصيره نهائيا بقدوم المغول فى غزوتهم المعروفة وطردهم فى زحفهم الخاطف لجماعة من الأتراك أخذوا يولون وجوههم ناحية المغرب بقيادة «ارطغرل» و «عثمان»، والى الأخير منهما ينتسب سلطان تركيا فى الوقت الحاضر (1).
والحديث عن نشأة «السلاجقة» هو الأساس الذى ينبنى عليه الجزء التاريخى من هذا الفصل، وأهم المصادر التى سأرجع إليها فى الموجز الذى سأسوقه فيما بعد هى الآتية:
__________
(1) المترجم: هكذا كتب «براون» فى سنة 1906، ومعلوم أن الحركة الكمالية قضت على الخلفاء العثمانيين بعد ذلك بما يقرب من ست عشرة سنة.(1/235)
1 - تاريخ ابن الأثير: طبع القاهرة، الجزءين التاسع والعاشر وبعض الحادى عشر
2 - تاريخ عماد الدين، الذى نقله البندارى عن الرسالة العربية التى ألفها عن السلاجقة الوزير «أنو شروان بن خالد» المتوفى سنة 1137م 532هـ. وهذا الكتاب هو عبارة عن المجلد الثانى من مجموعة المجلدات التى نشرها الأستاذ «هوتسما» بعنوان «مجموعة النصوص المتعلقة بتاريخ السلاجقة» (1) طبع ليدن سنة 1889م. وسنشير أحيانا إلى الجزء الأول من هذه المجموعة عند الحديث على «سلاجقة كرمان» فقد اشتمل هذا الجزء على تاريخهم.
3 - راحة الصدور: وهو عبارة عن مخطوطة فارسية فريدة (2) اشتملت على تاريخ السلاجقة وتم تأليفها فى سنة 1202م 599هـ وقد وصفت محتوياتها فى «مجلة الجمعية الملكية الآسيوية» سنة 1902فى الصفحات من 567إلى 610ومن 849إلى 887.
وحرصا على عدم الإطالة، سأشير فيما يلى من حديث إلى المصدر الأول مكتفيا بذكر «ابن الأثير» متبوعا بذكر السنة التى ورد فيها ذكر الموضوع الذى نتحدث عنه، وفى أحيان قليلة جدا سأذكر رقم الصحيفة وفقا لطبعة القاهرة وسأشير إلى «البندارى» و «سلاجقة كرمان» وفقا لما جاء فى طبعة «هوتسما» لهذين الكتابين أما «راحة الصدور» فسأذكره بهذا الاسم واتبعه بكلمة «ورقة كذا» إذا أشرت الى مخطوطة «شيفر» أو بكلمة «صحيفة كذا» اذا أشرت إلى مقالى المنشور فى «مجلة الجمعية الملكية الأسيوية»
أصل السلاجقة:
نشأت دولة السلاجقة فى سرعة عظيمة فائقة، ربما فاقت فى حدتها السرعة التى نشأت بها الدولة الغزنوية، وكذلك دام بقاؤها ونفوذها فترة طويلة زادت على ما استغرقت
__________
(1) أنظر:،
(2) المترجم: طبع الأستاذ محمد إقبال هذه المخطوطة فى سنة 1921ونشرها ضمن «سلسلة جب التذكارية».(1/236)
الدولة الغزنوية. والسلاجقة فرع من الأتراك الغز الذى أخذوا يغيرون فى سنة 1029م 42هـ على حدود إيران الشمالية والشرقية، وأخذوا بذلك يسببون كثيرا من المتاعب والمصاعب للسلطان «محمود الغزنوى». وقد ذكر ابن الأثير أن جدهم الأعلى كان يسمى «تقاق» (1) وهو والد «سلجوق» الذى كان أول من اتخذ الإسلام دينا من بين جماعته. وقد أتى السلاجقة فى بداية الأمر من «تركستان» إلى ما وراء النهر، فجعلوا مشتاهم فى «نور» بالقرب من بخارى، ومصيفهم فى السغد بالقرب من سمرقند.
وفى الشجرة التالية بيان لأحفاد «سلجوق» ذكرنا فيه الأسماء الهامة منهم بحروف كبيرة واضحة بين الأقواس.
سلجوق (مات فى جند) موسى أرسلان أو «پيغوكلان»: يونس: ميكائيل: إسرائيل قبض عليه السلطان محمود وحبسه سبع سنوات [قتلمش] جد سلاجقة الروم: [طغرل]: چغرى بيگ داود ارسلان خاتون خديجة تزوجت الخليفة القائم: [ألب أرسلان]: ياقوتى: [قاورت] جد سلاجقة كرمان خاتون سفريه تزوجت الخليفة المقتدى: [ملكشاه]: أرسلان أرغون: تكش: أياز: تتش والفترة التى نتحدث عنها فى هذا الفصل تشمل حكم الملوك الثلاثة الأولين من ملوك السلاجقة وهم:
__________
(1) فسروا كلمة (تقاق) بمعنى القوس.(1/237)
1 - طغرل: أعلن ملكا فى مدينة مرو فى سنة 1037م 429هـ وتوفى فى الرابع من سبتمبر سنة 1063م 455هـ.
2 - ألپ أرسلان: ولد سنة 1032م 425هـ (1) وتولى الملك سنة 1063م 455هـ وقتل فى 24نوفمبر سنة 1072م 465هـ.
3 - ملكشاه: تولى الملك سنة 1072م 465هـ وتوفى فى 19نوفمبر سنة 1092م 485هـ.
وقد استغرق حكم هؤلاء الثلاثة فترة بلغت خمسة وخمسين سنة، كانت فيها أزمة الأمور موكولة إلى رجل من أشهر الوزراء الذين أنجبتهم إيران، وأقصد به الوزير الحازم «نظام الملك» الذى قتل قبل وفاة ثالث الملوك الذين قام على خدمتهم وهو «ملكشاه» بخمسة وثلاثين يوما، فكان مقتله إيذانا بانتهاء أكثر العصور ازدهارا من عصور الحكم السلجوقى. وعلى ذلك يمكننا فى إيجاز وقبول أن نسمى هذه الفترة التى نتحدث عنها ب «عصر نظام الملك».
والسلاجقة كأغلب الأتراك اعتنقوا مذهب أهل السنة منذ اتخذوا الإسلام دينا وصاحب «راحة الصدور» يحدثنا أن الإمام «أبا حنيفة» وهو أحد الأئمة الأربعة وصاحب المذهب الحنفى الذى انتشر أكثر من غيره من المذاهب، دعا الله فى يوم من الأيام أن يوطد أركان مذهبه ويبقيه، فسمع من عالم الغيب من يقول له «لن يضعف مذهبك مادام السيف فى يد الأتراك» ويعلق الراوندى على تلك العبارة بقوله: «ومن يمن الطالع أن السيف فى أيديهم الآن (2) فى بلاد العرب وإيران والروم (آسيا الصغرى) وروسيا، وقد ازدهرت دراسة الدين والعلوم والتصوف فى حمايتهم وخصوصا فى بلاد خراسان، وقد محقوا الكفر والإلحاد والتشيع والفلسفة والمذاهب المادية أو المتعلقة بالتناسخ، ولم يبقوا على شىء من سائر المذاهب إلا ما وافق طريق الإسلام الصحيح». ويقول ابن الأثير (3): إن ملك
__________
(1) المترجم: تقول بعض المصادر ومنها ابن الإثير انه ولد سنة 420هـ 1029م.
(2) كتب الراوندى كتابه «راحة الصدور» فى سنة 1202م 599هـ.
(3) انظر ج 10ص 73.(1/238)
السلاجقة قد اتسع على أيام «ملكشاه» فامتد من حدود الصين إلى حدود الشام، ومن أقصى بلاد المسلمين شمالا إلى حدود اليمن جنوبا، ودفع الجزية لهم أباطرة الروم (أى الإمبراطورية الشرقية).
الخلفاء الفاطميون
ومع ذلك فلم يكن مذهب أهل السنة هو المذهب السائد فى ديار الإسلام دون أن تزاحمه المذاهب الأخرى فقد كانت مضر والجزء الأكبر من شمال إفريقيا وبلاد الشام فى أيدى الخلفاء الفاطميين الذين بلغوا أوج العظمة والجلال أثناء خلافة «المستنصر» الذى طال حكمه من سنة 1035م إلى 1094م 427إلى 487هـ، أى طوال الفترة التى نحن قائمون بدراستها فى هذا الفصل. فإذا تجاوزنا حدود الفاطميين وأتينا إلى إيران وجدنا مدى التأثير العميق الذى بلغه فيها «دعاة» الباطنية من أهل الشيعة. وسنعرض لشىء من أمثلته الممتعة فى هذا الفصل وما يليه من فصول، ولا بد أن نذكر هنا أن اثنين من أشهر دعاتهم، هما الشاعر «ناصر خسرو» و «الحسن الصباح» صاحب «الدعوة الجديدة» ومؤسس مذهب «الحشاشين»، يتصلان اتصالا وثيقا بجميع الأحداث الهامة التى حدثت فى هذا العصر الممتع وبجميع من اشتهر فيه من أسماء وشخصيات.
الدولة الغزنوية:
ولست فى الحقيقة فى حاجة إلى أن أتحدث فى هذا الفصل عن دول أخرى بجانب السلاجقة والفاطميين، ولكنى أذكر فى إيجاز أنه سرعان ما توفى السلطان محمود حتى نشأ الخلاف بين أولاده، واستمروا فى عراك وقتال حتى استطاع أن يتغلب «مسعود» على إخوته، فيتولى مكان أبيه ويكمل معاركه فى بلاد الهند، ثم يأخذ «طبرستان» و «جرجان» من حاكمهما الزيارى الأمير «دارا بن منوچهر» فى سنة 1035م 427هـ. وبعد ذلك بثلاث سنوات هزمته جيوش السلاجقة بالقرب من بلخ وتمكنت من الاستيلاء على أفياله الحربية، فلما كانت سنة 1040م 432هـ خلعوه عن
العرش وقنلوه، وولوا فى مكانه أخاه «محمدا» ثم ابنه «مودودا». وبعد ذلك بسنة واحدة دخلت ولاية «طبرستان» فى حكم السلاجقة حتى إذا كانت سنة 1044م 436هـ هزموا «مودودا» فى بلاد خراسان، ولكنه مع ذلك استطاع أن يطرد الأتراك الغز من مدينة «بست» وأن يستمر فى معاركه فى بلاد الهند وبهذه الصورة انتهى حكم الغزنويين فى إيران وإن كانوا قد احتفظوا بملكهم الأصلى فى مدينة «غزنه» حتى سنة 1161م 557هـ عندما طردهم منها ملوك «الغور» وأصبح الحديث عنهم بعد ذلك مما يخص شئون الهند دون غيرها من البلاد.(1/239)
ولست فى الحقيقة فى حاجة إلى أن أتحدث فى هذا الفصل عن دول أخرى بجانب السلاجقة والفاطميين، ولكنى أذكر فى إيجاز أنه سرعان ما توفى السلطان محمود حتى نشأ الخلاف بين أولاده، واستمروا فى عراك وقتال حتى استطاع أن يتغلب «مسعود» على إخوته، فيتولى مكان أبيه ويكمل معاركه فى بلاد الهند، ثم يأخذ «طبرستان» و «جرجان» من حاكمهما الزيارى الأمير «دارا بن منوچهر» فى سنة 1035م 427هـ. وبعد ذلك بثلاث سنوات هزمته جيوش السلاجقة بالقرب من بلخ وتمكنت من الاستيلاء على أفياله الحربية، فلما كانت سنة 1040م 432هـ خلعوه عن
العرش وقنلوه، وولوا فى مكانه أخاه «محمدا» ثم ابنه «مودودا». وبعد ذلك بسنة واحدة دخلت ولاية «طبرستان» فى حكم السلاجقة حتى إذا كانت سنة 1044م 436هـ هزموا «مودودا» فى بلاد خراسان، ولكنه مع ذلك استطاع أن يطرد الأتراك الغز من مدينة «بست» وأن يستمر فى معاركه فى بلاد الهند وبهذه الصورة انتهى حكم الغزنويين فى إيران وإن كانوا قد احتفظوا بملكهم الأصلى فى مدينة «غزنه» حتى سنة 1161م 557هـ عندما طردهم منها ملوك «الغور» وأصبح الحديث عنهم بعد ذلك مما يخص شئون الهند دون غيرها من البلاد.
الدولة البويهية:
أما آل بويه وقد كانوا أكبر أعداء الغزنويين فى سابق الأيام، فقد انتهى حكمهم بدخول «طغرل» مدينة بغداد فى 18ديسمبر 1055م 25رمضان 447هـ ووضعه الخليفة العباسى تحت رقابته ووصايته. وما كادت تنقضى على تلك الحادثة ثلاث سنوات حتى مات فى مدينة «الرى» آخر أمرائهم المعروف باسم «الملك الرحيم».
فإذا رجعنا الآن إلى الحديث عن السلاجقة وجدنا أن «البندارى» ومؤلف «راحة الصدور» يذكران أن السلطان محمودا دعاهم فى البدايه الى الإقامة فى الأقاليم المحيطة بمدينة بخارى، ولكنه سرعان ما أحس بالوجل منهم لكثرة عددهم وازدياد نفوذهم فأمر فى سنة 1029م 420هـ بالقبض على واحد من أولاد «سلجوق» (1) وحبسه فى قلعة ببلاد الهند تسمى «كالنجار» فبقى فيها حتى مات بعد سبع سنوات. وفى قصة معروفة مذكورة فى كتاب «راحة الصدور» أن السلطان محمودا أحس منهم بالوجل عندما كان يتحدث إلى «إسرائيل بن سلجوق» فى يوم من الأيام، فعرض له أن يسأله عن عدد الرجال المسلحين الذين يمكن له أن يمده بهم إذا عرضت له حاجة إليهم. فأجابه إسرائيل بقوله: إنه اذا أخذ سهما من جرابه
__________
(1) يقول «ابن الأثير» إن الذى قبض عليه السلطان محمود من أولاد سلجوق هو «موسى ارسلان پيغو» أما المصادر الأخرى فتجمع على إنه «إسرائيل». ويقول ابن الأثير ايضا انه فى السنة التى قبض فيها على موسى ارسلان ولد «الب ارسلان».(1/240)
وأرسله إلى قومه أمدوه بمائة ألف رجل، فإذا أرسل اليهم قوسه أمدوه بمائتى ألف آخرين. وكان السلطان كما يقول مؤلف «راحة الصدور» قد نسى المثل القائل «لا تفتتح بابا يصعب عليك سده، ولا ترسل سهما يصعب عليك رده» فلما استمع إلى قول اسرائيل أحس بالخشية تملأ صدره وقرر على الفور أن يسلك معهم طريق الخشونة والغلظة بالصورة التى ذكرناها فيما سبق.
هجرة السلاجقة جنوبا:
ولما مات «إسرائيل بن سلجوق» فى قيوده ومنفاه، استطاع ابنه «قتلمش» أن يهرب إلى بخارى (1) حيث التحق بقومه وعشيرته مؤكدا لهم الإيمان بأنه لا بد منتقم من هذا السلطان الغادر. ولكن حدث فى سنة 1035م 427هـ أن أصاب السلاجقة غدر آخر على يد ملك خوارزم «هارون بن التونتاش» فاضطرهم ذلك إلى التحرك جنوبا والاستقرار فى الإقليم الواقع بين «نسا» و «باورد». ويقول صاحب «راحة الصدور» إن هذه الهجرة حدثت قبل ذلك التاريخ فى أيام السلطان محمود وبإذن صادر منه، عارض فيه أشد المعارضة «أرسلان جاذب» حاكم طوس، وطلب إلى مولاه أن لا يسمح لهؤلاء الجيران الأقوياء بهذه الهجرة، وأوصاه بأن يبادر بأمر رجاله بأن يقطعوا الإبهام من يد كل سلجوقى يستطيعون القبض عليه حتى يتعذر على السلاجقة بعد ذلك استعمال القوس التى كانوا يبدون فى استعمالها ضروب المهارة والحذق (2)!!
مسعود والسلاجقة:
وقد بدأت المتاعب الحقة بعد ما نجح مسعود فى هزيمة أخيه وتنصيب نفسه على عرش أبيه، ويبدو أنه استطاع فى سنة 1035م 427هـ عندما كان قائما بغزوته لطبرستان
__________
(1) هكذا ورد فى كتاب «راحة الصدور».
(2) يبدو من هذا أن السلاجقة كانوا فى الرماية يتبعون طريقة «الرمية المغولية» وسنشير إلى هذه الطريقة فيما بعد عندما نعرض لمقتل الشاعر «كمال الدين اسماعيل».(1/241)
أن يصيب بعض النجاح وكاد يهزم السلاجقة، ولكن ما كادت هذه الغزوة تقرب من نهايتها حتى تمكن السلاجقة من التغلب عليه، لأن جنده كانوا متعبين ولأن أسلحته علاها الصدأ فى جو هذه المناطق المليئة بالرطوبة والبلل. ولم يستمع «مسعود» لرأى مستشاريه الذين حذروه من عاقبة الاستهانة بما حدث وأوصوه بعدم ترك خراسان لهؤلاء الطعمة من المغامرين الجدد بل عمد إلى مصالحتهم بشروط سهلة هينة حتى يستطيع التفرغ بعد ذلك لإحدى غزواته فى بلاد الهند وكانت نتيجة هذا الاستخفاف أن أفلتت أزمة الأمور من يده كلية عند ما عاد من الهند ولم يلبث أن أعلن «طغرل بن ميكائيل بن سلجوق» نفسه ملكا فى صيف سنة 1038م 430هـ فخطبوا باسمه فى مدينة «مرو» ثم فى مدينة «نيسابور» بعد ذلك التاريخ بقليل. وعند فتحهم لهذه المدينة الأخيرة نجد أن ابن الأثير ينسب إليهم الحكاية الشهيرة التى تدل على سذاجتهم وبساطة عقليتهم عندما اشتبهوا فى الكافور وظنوه ملحا، وهى نفس الحكاية التى رواها تاريخ الفخرى ونسبها إلى المسلمين الأوائل عند استيلائهم على المدائن (1).
تأسيس الدولة السلجوقيه:
وقد ساعد خلع مسعود ثم قتله فى سنة 104م 432هـ وما استتبع ذلك من اضطرابات فى مدينة غزنه، على تثبيت أقدام السلاجقة وتدعيم دولتهم. فتمكنوا فى السنة التالية من الاستيلاء على طبرستان، ولم تمض ثلاث سنوات على ذلك حتى استطاعوا التغلب على «مودود بن مسعود» فى خراسان، ثم بعثوا برسالة إلى الخليفة «القائم» ضمنوها شكواهم من البيت الغزنوى مؤكدين له ولاءهم، ساعين إلى الحصول على رضاه عليهم واعترافه بهم. ثم أقدموا بعد ذلك على تقسيم الأراضى الواسعة التى دخلت بسرعة فى حوزتهم، فوقعت «بست» و «هرات» و «سجستان» من نصيب موسى أرسلان بن سلجوق وأعطيت مرو إلى ابن أخيه «چغرى بيگ
__________
(1) انظر تاريخ الفخرى طبع «الوارد» ص 100، وكذلك الجزء الاول من «تاريخ الأدب فى إيران» ص 199من الأصل الإنجليزى.(1/242)
داود» وأخذ ابن أخيه الآخر «طغرل» إقليم العراق واستولى «قاورت بن چغرى» على «كرمان» و «تون» و «طبس» ونال «ياقوتى» ولاية آذربيجان وأبهر وزنجان أما ابن چغرى بيگ الثالث وهو «الپ أرسلان» فقد اختاروه ليبقى مع عمه «طغرل» فى عاصمته التى اتخذها فى مدينة «ارى»، وأعطيت مدينة «همدان» لابراهيم بن إينال بن سلجوق (1)، كما أعطيت جرجان ودامغان ل «قتلمش» بن موسى أرسلان.
الخليفة يعترف بطغرل:
ولما وصلت رسالة طغرل إلى الخليفة «القائم بأمر الله» أنفذ إليه فى مدينة الرى رسولا هو «هبة الله بن محمد المأمونى» وزوده برسالة تضمنت ردا جميلا، أعقبها أمر الخليفة بأن يذكر اسم «طغرل» فى الخطبة وأن يضرب على النقود قبل اسم الأمير البويهى «الملك الرحيم». وانتهى الأمر بعد ذلك فى ديسمبر سنة 1055م رمضان 447هـ بدخول «طغرل» مدينة بغداد فى موكب رسمى، وهناك خلع عليه الخليفة مختلف الخلع والتشريفات وأجلسه على العرش إلى جواره، وألبسه حلة جميلة، وتحدث معه حلال ذلك، وكان يقوم بالترجمة بينهما «محمد بن منصور الكندرى» (2) ولم تمض فترة طويلة حتى تزوج الخليفة «القائم» بابنة أخى طغرل المسماة «أرسلان خاتون خديجة» وهى أخت «ألپ أرسلان» فزفت إليه فى كثير من مظاهر العظمة والجاه، ورأى طغرل النبى فى منامه يحذره من البقاء فى بغداد فتركها بعد أن أقام فيها ثلاثة عشر شهرا، وربما كان السبب الرئيسى فى تركه لبغداد راجعا. إلى حد ما، إلى ما وقع فيها من شغب أحدثته فيها جيوشه التركية وإلى رغبته فى إخضاع الموصل وديار بكر وسنجار وبعض الأقاليم الغربية الأخرى. (3) ولكن لم يلبث أن عاد «طغرل» بعد ذلك إلى بغداد، حتى تلقاه الخليفة شاكرا له أياديه فى نشر الإسلام
__________
(1) قتله طغرل بتهمة الخيانة فى سنة 1057م 449هـ.
(2) أنظر البندارى ص 14
(3) مما حدث فى هذه الفتوحات أن طغرل استولى على دير به اربعمائة راهب فقتل منهم مائة وعشرين، وافتدى الباقون أنفسهم بدفع المبالغ الطائلة.(1/243)
وخدمة المسلمين، ودعا له أن يحسن استعمال ما أفاء عليه الرحمن من سلطة وقدرة، ثم لقبه عند ذلك ب «ملك المشرق والمغرب».
موت طغرل:
ومع ذلك، لم يكن طغرل قد شفى أطماعه واستوفى أمانية، فلما ماتت زوجته فى سنة 1061م 453هـ تقدم إلى الخليفة وطلب تزويجه من ابنته (1)، وكان الخليفة شديد الممانعة فى ذلك ولكنه اضطر فى النهاية إلى التسليم بسبب طلباته المتكررة التى سادتها صبغة من التهديد والوعيد. وخرجت العروس فى حفل يليق بمقامها قاصدة مدينة «تبريز» لنذهب من هنا لك إلى «الرى» حيث كان زوجها يعد معدات الزواج، ولكنها قبل أن تصل إليها بقليل، مرض طغرل مرضا أودى به فى الرابع من سبتمبر سنة 1063م يوم الجمعة ثامن رمضان سنة 455هـ وقد أدركته الوفاه فى قرية «تاجرشت» فأعادوا عروسه بعد ذلك إلى بغداد. وكان طغرل عند وفاته فى السبعين من عمره وقد وصفه ابن الأثير فقال عنه إنه شديد الحزم، دقيق فى تأدية واجباته الدينية، حريص على أسراره، يشوبه شىء من الغلظة والشدة عند الاقتضاء، ولكنه كان فيما عدا ذلك شديد الكرم حتى على أعدائه من البيزنطيين (الروم) (2).
* * *الب ارسلان:
تولى الملك بعد طغرل
تولى الملك بعد طغرل ابن أخيه «ألپ ارسلان»، وكان له أخ اسمه سليمان، حاول الوزير «الكندرى» المعروف ب «عميد الملك» أن يأخذ البيعة له وينصبه على العرش، ولكنه فشل فى مسعاه وأصابه بسبب ذلك كثير من البلاء الذى انتهى
__________
(1) أما صاحب «راحة الصدور» فيقول إنها اخت الخليفة
(2) انظر عبارة ابن الأثير فى نصها الأصلى فى ج 10ص 109(1/244)
بالقبض عليه وإرساله إلى «مرو» حيث بقى فى الأسر سنة كاملة، قتلوه بعدها قتلة شنعاء على يد خادمين، أنفذهما إليه «ألپ ارسلان» للقضاء عليه فلما علم الكندرى بغرضهما أذعن لقضاء الله وودع أفراد أسرته، وطلب أن يموت بحد السيف لا بالشنق بالحبال، ثم أرسل قاصدا إلى «إلپ ارسلان» ووزيره «نظام الملك» بالرسالة الشهيرة الآتية: (1)
«قل للسلطان لقد خدمتنى خدمة جليلة. فقد أعطانى عمك ملك العالم الدنيوى لأتصرف فيه. فلما أمرت بقتلى أعطيتنى ملك العالم الآخر جزاءا لاستشهادى، وبذلك تم لى على ايديكما امتلاك الدارين الفانية والباقية.»
«وقل لنظام الملك بئسما عودت الأتراك قتل الوزراء وأصحاب الديوان، ومن حفر قليبا وقع فيه. وإنى أدعو الله أن يصيبك ويصيب ذريتك بما أصابنى».
وكان هذا الوزير المنكود قد تجاوز الأربعين من عمره عند مقتله، وقد اشتهر عنه أنه كان عالما بالعربية، ومن أجل ذلك فقد قام «الموفق النيسابورى» بتقديمه إلى طغرل الذى ألحقه بخدمته وجعله كاتبا له (2). ولقد نظم الكندرى جملة من الأشعار العربية الجميلة ذكر لنا طائفة منها ابن الأثير فى تاريخه وكان من المتعصبين للمذهب الشافعى، وقد أمر بلعنة الرافضة والأشعرية (3) فى المساجد والجوامع، فلما جاء «نظام الملك» أمر الخطباء بالاستمرار فى لعنة الرافضة ولكنه منعهم من لعنة الأشعرية، وأرضى بذلك جملة من كبار الفقهاء كان من بينهم «أبو المعالى الجوينى» و «القشيرى» مؤلف الرسالة المعروفة باسمه عن حياة الصوفية. والمشهور عن «الكندرى» أنهم خصوه فى صباه فى «خوارزم» حيث دفنوا بها ذكره ثم
__________
(1) أنظر تاريخ ابن الأثير فى سنة 456ج 10ص 11وكذلك «راحة الصدور» ورقة 51ا.
(2) ربما نشأت من هذا الخبر الحكاية المعروفة عن صلة نظام الملك بالموفق النيسابورى.
والأشعار التى ينسبها الكتاب المتأخرون على أنها من قوله إنما هى فى الحقيقة كما نعلم من قول الشاعر «برهانى».
(3) مؤلف «راحة الصدور» يجعل هاتين الفرقتين المتعارضتين «من الملاحدة الذين يجب عليهم دفع الجزية والغرامة كاليهود». أنظر مقالتى ص 573.(1/245)
قتلوه فى «مرو» ثم أخذوا جسده إلى موطنه «كندر» فدفنوه بها، وأخذوا رأسه إلى «نيسابور» فدفنوها بها. وحملوا قحف جمجمته إلى نظام الملك فى مدينة «كرمان».
نظام الملك:
ومن المحزن حقا أن رجلا كبيرا ووزيرا عظيما مثل «أبى على الحسن بن اسحق» الملقب ب «نظام الملك» لا يبدأ اسمه فى الظهور على صفحات التاريخ إلا متصلا بهذه الفعلة الشنعاء التى أصابت «الكندرى» ولكن من عجب، أنه قد جازت عليه لعنة سلفه المقتول، فقضى حياة طويلة نافعة لا يدانيه فيها أحد من رجال السياسة الشرقيين ثم انتهى به الأمر أيضا إلى قتله شنيعة دامية.
وقد ولد «نظام الملك» فى أسرة من الدهاقين فى مدينة «طوس» سنة 1017 م 408هـ، وماتت أمه قبل فطامه، وأصيب أبوه بعد ذلك بكثير من الخسائر والأزمات المالية، ولكنه رغم هذه الظروف العاتية، استطاع أن ينال قسطا كبيرا من التعليم، فدرس العربية والعلوم الفقهية حتى استطاع أن يشتغل كاتبا فى مدينة «بلخ» لدى حاكمها «على بن شاذان» وكان هذا الوالى منصبا على حكومة بلخ من قبل «چغرى بيك» والد «ألب أرسلان»، فلما أدركت «چغرى بيگ» الوفاة أوصى ابنه الصغير بنظام الملك فاتخذه وزيرا ودبيرا (1)، حتى إذا اعتلى عرش السلاجقة جعله كبير وزرائه، ووكل إليه تدبير الأمور فى مملكته الواسعة العريضة.
وامتاز «نظام الملك» بأنه كان من أقدر رجال الإدارة وأقوى رجال السياسة، وكان متدينا، سنى المذهب، شديد الوطأة على الملاحدة والكفار، قاسيا أشد القسوة
__________
(1) بالإضافة إلى ما ذكره هنا ابن الأثير (ج 10ص 7271) عن نشأة نظام الملك فى صباه، نجده يذكر رواية أخرى تتفق مع هذه فى أنها أيضا تجعل فاتحة حياته العملية فى مدينة بلخ، ولكنها تختلف عنها فى ذكر سيد آخر التحق نظام الملك بخدمته وهذه الرواية تتفق مع ما رواه «البندارى» فى النبذة الطويلة التى خصصها لنظام الملك وكال له فيها كثيرا من الثناء (ص 5955).(1/246)
على أهل التشيع والإسماعيلية خاصة، وكان بالإضافة إلى ذلك جوادا يكرم الأدباء، ويقرب الفضلاء والعلماء (1) لا يضن بذل جهوده الجبارة فى صيانة الأمن، وإسعاد الخلق، ونشر الدين والتعليم.
ومن أول الأعمال التى عملها «نظام الملك» عند توليه الوزارة، تأسيسه للمدرسة «النظامية» الشهيرة فى بغداد، ومدها بالأموال الطائلة، وقد بدأ بنايتها فى سنة 1065م 458هـ وفرغ منها فى سنة 1067م 460هـ. واستطاعت هذه المدرسة بعد ذلك أن تضم كثيرا من الأساتذة والمدرسين الذين امتاز بهم الزمان مثل الفقيه الكبير «أبى حامد محمد الغزالى» (10951091م 484 488هـ) الذى وصفه السيوطى بقوله: لو أمكن أن يوجد نبى بعد محمد لكان الغزالى هو هذا النبى على وجه التأكيد.
حياة
ألب أرسلان
أما «ألپ أرسلان» فإن ابن الأثير (2) يجعل مولده بين سنتى 420هـ 424هـ 1029و 1033م ولكن صاحب «راحة الصدور» يجعله فى بداية سنة 431هـ 23سبتمبر سنة 1039ثم يقول: «إنه تولى الحكم اثنتى عشرة سنة بعد موت عمه «طغرل بگ» فى سنة 455هـ 1063م وكان يتولى خراسان قبل ذلك بسنتين منذ وفاة والده «چغرى بيگ داود» ثم يذكر إنه كان فى الرابعة والثلاثين من عمره عند وفاة أبيه، ويقول «إنه كان طويل القامة، له شاربان طويلان، يعقد أطرافها إذا شاء الرماية، ولم تخطىء سهامه هدفها على الإطلاق (3) وكان يلبس على رأسه قلنسوة (كلاه) عالية، يقول الناس إن المسافة بين قمتها وأطراف شاربيه كانت تبلغ الذراعين وكان حاكما قويا وملكا عادلا،
__________
(1) كان «عمر الخيام» من أقرب المقربين إليه وسنتحدث عنه فيما بعد.
(2) «البندارى» أيضا يجعل مولده فى سنة 424هـ.
(3) ومع ذلك فسنرى فيما بعد أنه مات نتيجة لرمية خاطئة.(1/247)
كريم النفس قوى القلب، سريعا إلى معاقبة العمال الجائرين وخصوصا من يرتكب منهم جريمة الاختلاس أو التزوير، وكان برا بالفقراء حتى ليقال انه كان يوزع عليهم فى نهاية رمضان خمسة عشر ألف دينار، كما كان يمد المحتاجين والمعوزين فى جميع أرجاء مملكته الفسيحة بما يكفل لهم العيش وييسر لهم سبل الحياة. (1)، وكان محبا لدراسة التاريخ، يستمع فى شغف ومتعة إلى ما يقرأ له من سير الملوك الغابرين وإلى الكتب التى تكشف الغامض من أخلاقهم وقوانينهم وأساليب إدارتهم.
وقد أعقب «ألپ أرسلان» ذرية لا يقل عددها عن خمسة أبناء وثلاث بنات.
وقد زوج ابنه «ملكشاه» بابنة «الخاتون التركية» (2) وزوج ابنه «أرسلان أرغون» بأميرة من أميرات البيت الغزنوى، كما زوج ابنته «خاتون سفريه» بالخليفة المقتدى.
أعمال ألب أرسلان
كانت المدة التى تولى فيها «ألپ أرسلان» الحكم قصيرة الأمد (3)، ولكنها كانت مليئة بجلائل الأعمال. ففى السنة الأولى من حكمه استطاع أن يخضع فى الشمال الشرقى «ختلان» و «هراة» و «صغانيان» كما استطاع أن يرد الروم إلى بلادهم فى آسيا الصغرى. وبعد ذلك بقليل استطاع فى سنة 1065م 458هـ أن يستولى على «جند» (4) وأن يخمد الثورات فى «فارس» و «كرمان» وأن يحد من شوكة الخلفاء الفاطميين ويسترد منهم حلب ومكة والمدينة، فلما كان صيف سنة 1071م 463هـ استطاع على رأس جيش قوامه خمسة عشر ألف رجل
__________
(1) بقول ابن الأثير أن مملكة «ألب أرسلان» كانت تمتد من أقصى حدود ما وراء النهر إلى أقصى حدود الشام.
(2) المترجم: زوجة «ملكشاه» هى «تركان خاتون».
(3) من سبتمبر سنة 1063إلى نوفمبر سنة 1072م 455إلى 465هـ
(4) كان جده الأعلى «سلجوق» مدفونا بهذه المدينة وربما كان ذلك هو السبب فى اهتمامه بأمر الاستيلاء عليها.(1/248)
من خيرة المحاربين أن يهزم البيزنطيين هزيمة منكرة عند «ملازگرد» بالقرب من مدينة أخلاط (خلاط) فى غرب آسيا الصغرى، وكان جيش البيزنطيين يبلغ على الأقل مائتى ألف (1) رجل، بينهم اليونان والروس والأتراك وأهل جورجيا والقوقاز والفرنج والأرمن. وقد استطاع «ألب أرسلان» أن يأسر الامبراطور البيزنطى «ديوجينس رومانوس».
وقد روى المؤرخون المسلمون (2) قصة عجيبة حدثت عند أسر هذا الامبراطور البيزنطى، مجملها: أن أحد أمراء «ألپ أرسلان» واسمه «سعد الدين گوهر آئين» كان يمتلك عبدا حقيرا صغير الجثة، شاء أن يصحبه معه فى جيش المسلمين ولكن «نظام الملك» أبى عليه ذلك وقال له مداعبا: وأى خير ترجوه على يديه؟ أتظن أنه سيأتينا بامبراطور الروم أسيرا!؟ وشاء القدر أن تحدث أعجب المصادفات وأن يتمكن هذا العبد من أن يأسر الامبراطور، ولكنه لم يكن يعلم ما لأسيره من مكانة ممتازة وأهمية زائدة، وكاد يقتله لولا أن كشف واحد من رفقائه عن شخصيته فأبقى عليه وأحضره إلى «ألپ أرسلان» فلما مثل بين يديه لطمه «ألپ أرسلان» بيده ثلاث مرات وقال له:
ألم أعرض عليك الصلح مرارا ولكنك رفضته؟! فأجابه الامبراطور المنكود قائلا ما عليك من لومى وتعنيفى!! ونظر السلطان إليه ثانية وقال:
وماذا كنت تصنع بى لو أنك أخذتنى أسيرا؟!
وأجاب الامبراطور اليونانى: كنت عاملتك بالقسوة وأخذتك بالعنف!!
وقال السلطان: وما تظن أننى صانع بك؟!
أجاب رومانوس: واحدة من ثلاث: فإما أن تقتلتى! وإما أن تطوف بى
__________
(1) صاحب راحة الصدور يذكر أن الجيش السلجوقى كان عدده 000و 12رجل، وأن الجيش البيزنطى كان عدده 000و 600رجل، أما البندارى فيجعل الجيش البيزنطى 000و 300 رجل، ولكن ابن الأثير يجعله مائتى ألف.
(2) انظر ابن الأثير ج 10ص 25، وكذلك البندارى ص 43، وكذلك راحة الصدور ورقة 51.(1/249)
مشهرا فى ديار المسلمين، وإما أن تعفو عنى نظير الفدية والخضوع لك، وهذه الأخيرة بعيدة المنال لا أمل لى فيها ولا رجاء.
فقال السلطان: بل هذه الأخيرة هى التى انعقد عليها عزمى!!
وحدد السلطان الفدية التى اقتضاها من الإمبراطور بألف ألف دينار، وعقد معه مخالفة لمدة خمسين سنة، اشترط فيها أن تكون جيوش البيزنطيين مستعدة لمعونته عند طلبه بالعدد الذى يقتضيه وفى الوقت الذى يحتاج إليها فيه، كما اشترط أيضا تحرير الأسرى المسلمين الذين وقعوا فى أيدى اليونان. وقبل الامبراطور «رومانوس» هذه الشروط فخلع عليه السلطان خلعة شريفة، وخصص له سرادقا كبيرا، وأعطاه خمسة عشر ألف دينار لينفق منها أثناء إقامته، ثم أفرج عن جملة من ضباطه وأمرائه ليقوموا على خدمته، ولما حان موعد رحيله ركب السلطان معه مسافة فرسخ ثم أمر جماعة من رجاله أن يكونوا فى ركابه إلى أن يصل إلى دياره فى أمن وسلامة ولكن الهزيمة التى أصابت «رومانوس» أنزلته من عليائه، فعمد رعاياه كما يقول البندارى «إلى إزالة اسمه من سجلات الملك قائلين عنه: لقد سقط من عداد الملوك وغضب عليه المسيح.!
موت ألب أرسلان
وبعد سنتين، فى نوفمبر سنة 1072م 465هـ كان «ألپ أرسلان» مشغولا فى فى الناحية الأخرى من مملكته بحربه مع الأتراك، فوصل إلى نهر «جيحون» على رأس جيش عدده 200000رجل (1) استغرق عبورهم إلى الضفة الأخرى من النهر أكثر من ثلاثة أسابيع. وبينما كان معسكرا هنالك، جلبوا إليه أسيرا اسمه «يوسف نرزمى (2)» كان قائدا على حصن من الحصون صمد فى وجه رجاله إلى أن استولوا عليه عنوة وبعد قتال عنيف. ويؤكد بعض المؤرخين أن «ألپ أرسلان» كان مغيظا من هذا الأسير وما جرى على لسانه من ردود خادعة زائفة، فأمر رجاله أن
__________
(1) انظر «البندارى» ص 45، وابن الأثير ج 10ص 25.
(2) راحة الصدور يكتب «نرزمى»، وتاريخ سلاجقة كرمان يكتبها «برزمى»، وأما ابن الاثير والبندارى فيكتبانها «خوارزمى».(1/250)
يحضروه قريبا من عرشه وأن يبسطوه أمامه على الأرض، وأن يشدوا رجليه ويديه إلى أربعة اوتاد مثبتة فى الأرض، وأن يتركوه على هذا الحال حتى يلفظ أنفاسه الأخيرة. واستمع الأسير إلى هذا الحكم القاسى فأرغى وأزبد وشتم السلطان بأبذأ العبارات وأردأ الشتائم ثم أخذ يصيح ويبكى قائلا: ما هكذا يموت مثلى هذه الميتة الشنعاء!! واستولى الغضب والحنق على «ألپ أرسلان» فأشار إلى رجاله أن يبتعدوا عن الأسير وأسرع إلى قوسه ورماه بسهم يريد قتله فى التو والساعة، ولكن المهارة التى امتاز بها فى الرماية خانته فى هذه اللحظة الحرجة، فخاب سهمه، وأخطأ هدفه وهجم الأسير وقد وجد نفسه طليقا لا يمسك به أحد ولا يعوقه قيد على «ألپ أرسلان» فجرحه جرحا مميتا فى خاصرته بواسطة خنجر كان يخفيه فى طيات ثيابه، وقد حدث كل ذلك فى سرعة خاطفة، لم يستطع فيها أحد من الحراس أن يتدخل لإنقاذ السلطان، وكان الحراس فى هذه اللحظة يبلغون الألفين من حوله. وأسرع «گوهر آئين» لنجدة سيده ولكنه أصيب أيضا بجملة من الجراح، وتمكن «فراش» فى النهاية من قتل هذا الرجل المستيئس بضربه على رأسه بعصاه التى كان يحملها. وانقضت على ذلك فترة طويلة ثم تعارك ابن هذا الفراش مع واحد من أتباع الخليفة فى بغداد فقتله تابع الخليفة واحتمى بحرم الخلافة حيث لا يمكن أن تمتد إليه يد وأتى الفراش إلى «ملكشاه» وطلب الثأر لابنه المقتول وقال له:
«يا مولاى! افعل بقاتل ابنى مثلما فعلت بقاتل أبيك!!» وشاء الخليفة أن يدفع لوالد القتيل فدية تبلغ عشرة آلاف دينار حتى يتخلص من تفتيش بيته ولكن «ملكشاه» رفض ذلك وأصر على المطالبة بالقاتل حتى سلم إليه فأمر بقتله.
وبقى «ألپ أرسلان» على الحياة يوما أو يومين بعد جرحه، وكانت هذه الفترة كافية لأن يملى على وزيره المخلص «نظام الملك» وصاياه التى يريدها وخلاصتها أن يتولى ابنه «ملكشاه» العرش فى مكانه وأن يتولى ابنه «أياز» ولاية بلخ ما عدا قلعتها فإنها تكون فى يد أمير من أمراء «ملكشاه» وأن يستمر أخوه «قاورت» حاكما لكرمان وفارس (1) ومات بعد ذلك «ألپ أرسلان» مطمئن البال مستسلما لقضاء الله. وأثر عنه أنه قال وهو يجود بأنفاسه الأخيرة:
__________
(1) انظر «البندارى» ص 47.(1/251)
«ما من وجه قصدته وعدو أردته إلا استعنت بالله عليه، ولما كان أمس صعدت على تل فارتجت الأرض تحتى من عظم الجيش وكثرة العسكر، فقلت فى نفسى: أنا ملك الدنيا وما يقدر أحد على، فعجزنى الله تعالى بأضعف خلقه وأنا أستغفر الله تعالى وأستقيله من ذلك الخاطر» (1).
وقد دفن «ألپ أرسلان» فى مدينة «مرو» وكتب واحد من الشعراء على قبره هذا البيت:
سر ألپ أرسلان ديدى ز رفعت رفته بر گردون
بمرو آ، تا بخاك اندر سر ألپ أرسلان بينى
ومعناه:
لقد رأيت رأس «ألپ أرسلان» تعلو السماكين وتشمخ فوق السماء
فتعال الآن إلى «مرو» حتى تراها حبيسة فى جوف الأرض وبطن الغبراء
ملكشاه:
حياة «ملكشاه»
عند ما دعى «ملكشاه» لتولى عرش المملكة العظيمة التى أسسها أبوه وعم أبيه، لم يكن له من العمر أكثر من سبع عشرة أو ثمان عشرة سنة وما لبث أن تولى العرش حتى لاحت فى الأفق بعض المتاعب والشدائد فأسرع «التگين» خان (2) سمرقند بالاستيلاء على «ترمذ» وقهر جيوش أخيه «أياز» وتمكن كذلك السلطان الغزنوى «ابراهيم» من القبض على عمه «عثمان» وأخذه مع أمواله وخزائنه إلى أفغانستان، ولكن ما لبث أن تبعه الأمير «گمشتگين» وتابعه «انوشتگين» واستطاعا التغلب عليه وقهره (3). وأدهى من ذلك كله وأمرّ أن عم «ملكشاه» المسمى «قاورت» وهو أول ملوك السلاجقة فى «كرمان»
__________
(1) انظر «ابن الأثير» ج 10ص 26.
(2) «خان» بمعنى ملك وهو لقب لملوك الأتراك مثل «خاقان».
(3) «انوشتگين» هو جد الدولة الناشئة التى عرفت باسم ملوك خوارزم «خوارزمشاه» وسنتحدث عنها فى فصل تال.(1/252)
توجه إلى «الرى» على رأس جيشه، يريد انتزاع الملك من ابن أخيه وجعله لنفسه، وتلاقى الجيشان فى «الكرج» بالقرب من «همدان» ووقعت بينهما موفعة هائلة استمرت ثلاثة أيام بلياليها، ثم انتهت بهزيمة «قاورت» وأسره وقتله. ولقد وقع ابناه «اميرانشاه» و «سلطانشاه» فى الأسر أيضا، فأمر «ملكشاه» بسمل أعينهما، ولكن الأخير منهما لم يفقد حاسة الإبصار كلية، فتمكن فيما بعد من أن يعقب أباه على ولاية كرمان. وكان لنظام الملك فضل كبير فى التغلب على هذه الأزمة بما أسداه لمليكه من خدمات كثيرة جليلة، فمنحه السلطان لقاء ذلك لقب «اتابك»، وهو لقب كان من أرفع الألقاب فى ذلك الوقت ولكنه أصبح فيما بعد كثير الشيوع والذيوع (1).
وفى السنة التالية، مات الخليفة «القائم» وأعقبه على الخلافة حفيده «المقتدى» وبعد سنة أخرى استطاع الخليفة الفاطمى استرداد «مكة» لمدة اثنى عشر شهرا ولكنه فقد فى نظير ذلك مدينة «دمشق» وفى هذه السنة نفسها 1075م 467هـ بنى «ملكشاه» المرصد الذى اشتغل فيه «عمر بن ابراهيم الخيامى» وجماعة آخرون من أشهر رجال العلم (2)، بوضع التقويم الجلالى الجديد الذى رغب السلطان فى عمله، والذى يرجع تاريخه إلى يوم النيروز (3) من سنة 1079م 472هـ ولم تمض سنتان على ذلك حتى تمّت خطبة الخليفة «المقتدى» لابنة السلطان «ملكشاه» ولكنه فقد فى تلك السنة نفسها ابنه «داود» فحزن لموته حزنا شديدا ولم يسمح لرجاله أن يحملوا جثته من أمامه لدفنها وكاد يقضى على نفسه كمدا عليه، ولكن الزمن شفى جراحه عند ما ولد له بعد ثلاث سنوات ابن آخر أسماه «سنجر»
__________
(1) أحيى «ناصر الدين شاه» وابنه «مظفر الدين شاه» هذا اللقب ومنحاه لوزيرهما «أمين السلطان» ولكنه منذ سنة أو سنتين أبعد عن الوزارة وأقصى إلى المنفى.
(2) ذكر ابن الأثير رجلين من زملاء «عمر» هما «ابو المظفر الإسفزارى» و «ميمون بن نجيب الواسطى» انظر ج 10ص 34.
(3) المترجم: «نوروز» أو «نيروز» بمعنى اليوم الجديد وهو مطلع السنة الفارسية ويوافق الاعتدال الربيعى من كل سنة.(1/253)
نسبة إلى مكان ولادته فى «سنجار» بالقرب من الموصل.
وحوالى سنة 1083م 475هـ أخذت اللعنة التى صبها «الكندرى» على نظام الملك وأولاده تثمر وتفرخ. وكان أكبر أولاد هذا الوزير يسمى «جمال الملك» وكان شديد الزهو والغرور، فسمع أن نديم السلطان المسمى «جعفرك» قد هزأ بأبيه فى إحدى دعاباته، فأسرع إليه من مدينة «بلخ» حيث كان يتولى حكومتها وذهب إلى قصر السلطان وانهال على النديم يضربه فى حضرته، ثم أمر رجاله بأن يشدوا لسانه إلى قفاه فمات فى الحال على هذه الصورة الشنيعة، ولم يقل «ملكشاه» شيئا فى ذلك الوقت، ولكنه أصدر أمره سرا إلى «ابى على» عميد خراسان أن يدس السم ل «جمال الملك»، ففعل ذلك على يد واحد من أتباعه وخدامه.
وزار «ملكشاه» مدينة بغداد مرتين أثناء حكمه. فأما الأولى فكانت فى ذى الحجة سنة 479هـ مارس سنة 1087م، واستصحب معه وزيره «نظام الملك» وتمكن من زيارة قبر الإمام السابع «موسى» وقبر الشيخ الصوفى «معروف الكرخى» وقبر الإمامين «أحمد بن حنبل» و «أبى حنيفة» وقد حمل كثيرا من الهدايا إلى الخليفة «المقتدى» ولعب غداة وصوله لعبة الكرة والصولجان. وفى هذه الأيام زوج اخته «زليخا خاتون» من «محمد بن شرف الدولة» وأقطعه «الرحبة» و «حرّان» و «سروج» و «الرقة» و «الخابور» وزوج ابنته من الخليفة المقتدى وحملت زوجته «تركان خاتون» ولدا أسمته عند ولادته «محمودا» وقد كان له شأن فى الأيام المشئومة التى أعقبت موت أبيه، لأن «ملكشاه» كان له ابن آخر اسمه «أحمد» جعله وليا لعرشه ولكنه مات فى مدينة مرو فى الحادية عشرة من عمره بعد ولادة محمود بسنة واحده وقرابة هذا الوقت عقد «ملكشاه» محالفة مع البيت الغزنوى وزوج إحدى بناته بالملك الغزنوى الصغير مسعود الثانى.
اما الزيارة الثانية التى قام بها «ملكشاه» لمدينة بغداد فقد حدثت فى اكتوبر سنة 1091م رمضان 484هـ أى قبل وفاته بسنة واحدة. وقد تمكن فى الفترة الواقعة بين الزيارتين من الاستيلاء على «بخارى» و «سمرقند» وبلاد أخرى فيما وراء النهر، وتلقى وهو فى مدينة «كاشغر» النائية الجزية التى بعث بها إليه من القسطنطينية الامبراطور
البيزنطى. وبذلك بلغت الإمبراطورية السلجوقية من علو الشأن ما لم تبلغه فى وقت من أوقات حياتها عامة، وكان من دلائل ذلك أن أصحاب القوارب الذين عبروا ب «ملكشاه» ورجاله إلى الضفة الأخرى من نهر جيحون، دفع لهم «نظام الملك» أجورهم بصكوك مستحقة الدفع فى «أنطاكية» حتى يتحققوا بأنفسهم من مدى الاتساع الذى شمله ملك وليّهم. وركب «ملكشاه» جواده وخاض به مياه البحر الأبيض المتوسط على شاطىء «اللاذقية» الواقعة على سواحل الشام وشكر ربه على هذا الملك الفسيح الذى أنعم به عليه. وقد كافأ أولياءه بالإقطاعات الواسعة فى الشام وآسيا الصغرى، وبلغ جيشه النظامى 000ر 46رجل، سجلت أسماؤهم فى سجل خاص بديوان الحرب، وتمكن بواسطتهم من أن يمد نفوذه فى بلاد التتار والصين، وأن يستولى على مدينة عدن على البحر الأحمر.(1/254)
اما الزيارة الثانية التى قام بها «ملكشاه» لمدينة بغداد فقد حدثت فى اكتوبر سنة 1091م رمضان 484هـ أى قبل وفاته بسنة واحدة. وقد تمكن فى الفترة الواقعة بين الزيارتين من الاستيلاء على «بخارى» و «سمرقند» وبلاد أخرى فيما وراء النهر، وتلقى وهو فى مدينة «كاشغر» النائية الجزية التى بعث بها إليه من القسطنطينية الامبراطور
البيزنطى. وبذلك بلغت الإمبراطورية السلجوقية من علو الشأن ما لم تبلغه فى وقت من أوقات حياتها عامة، وكان من دلائل ذلك أن أصحاب القوارب الذين عبروا ب «ملكشاه» ورجاله إلى الضفة الأخرى من نهر جيحون، دفع لهم «نظام الملك» أجورهم بصكوك مستحقة الدفع فى «أنطاكية» حتى يتحققوا بأنفسهم من مدى الاتساع الذى شمله ملك وليّهم. وركب «ملكشاه» جواده وخاض به مياه البحر الأبيض المتوسط على شاطىء «اللاذقية» الواقعة على سواحل الشام وشكر ربه على هذا الملك الفسيح الذى أنعم به عليه. وقد كافأ أولياءه بالإقطاعات الواسعة فى الشام وآسيا الصغرى، وبلغ جيشه النظامى 000ر 46رجل، سجلت أسماؤهم فى سجل خاص بديوان الحرب، وتمكن بواسطتهم من أن يمد نفوذه فى بلاد التتار والصين، وأن يستولى على مدينة عدن على البحر الأحمر.
وكان من دأبه أن يشرف على توزيع الصدقات على رعاياه، وكان قريب المنال لكل مظلوم يظن أنه فى حاجة إلى ملاقاته والشكاية له. أما عنايته بالأمور الدينية فيشهد عليها هذه الآبار الكثيرة التى أمر بحفرها على طريق الحاج، ثم اتفاقه مع أمير الحرمين على تخفيف الضرائب التى كان يقتضيها منهم وكان الصيد من أحب هواياته وأشدها سلطانا عليه، وقد أمر رجاله أن يحفظوا سجلا يقيدون به عدد الصيد الذى يظفر به فى كل يوم، وقد بلغ فى بعض الأيام سبعين غزالا.
وقد رأى صاحب «راحة الصدور (1)» سجلا من هذه السجلات (التى تسمى بالفارسية شكارنامه) كتبه بخط يده الشاعر «أبو طاهر الخاتونى» وهو الشاعر الذى ألف كتابا من أقدم الكتب فى تراجم شعراء الفرس وجعله بعنوان «مناقب الشعراء (2)».
ومع ذلك فإن ابن الأثير يخبرنا أن «ملكشاه» كان يحس بشىء من الندم ووخز الضمير لإقدامه على قتل مثل هذا العدد الكبير من الكائنات البريئة والمخلوقات الضعيفة، وقد حكى لنا هذا المؤلف (3) إنه «اصطاد مرة صيدا كثيرا، فأمر بعده، فكان عشرة
__________
(1) انظر «راحة الصدور» ورقة 56.
(2) من الكتب المفقودة التى ليست فى متناولنا الآن.
(3) انظر تاريخ ابن الأثير ج 10ص 79.(1/255)
آلاف رأس، فأمر بصدقة عشرة آلاف دينار وقال: إننى خائف من الله تعالى كيف أزهقت أرواح هذه الحيوانات بغير ضرورة ولا مأكلة، وفرق من الثياب بين أصحابه ما لا يحصى، وصار بعد ذلك كلما صاد شيئا تصدق بعدده دنانير، وهذا فعل من يحاسب نفسه على حركاته وسكناته».
وكانت «أصفهان» أحب مدن مملكته إلى قلبه (1) وقد اتخذها مكانا لإقامته، وزينها بجعلة من المبانى الجميلة والحدائق الغناء، وكانت قلعة «دژكوه» مما استحدثه فيها، وقد وقعت بعد سنوات قليلة من بنائها فى أيدى واحد من زعماء «الحشاشين» الخطرين هو الزعيم المعروف ب «ابن عطاش».
سقوط نظام الملك:
طوال هذه السنوات السعيدة المحفوفة بمطالع اليمن ومواكب الإقبال، كان «نظام الملك» هو الساعد الأيمن للملك الشاب «ملكشاه» يدبر له الأمور ويصرفها بما عرف عنه من حكمة ورشاد. وقد بلغ الآن الثمانين من عمره. وكان خلال حياته الطويلة إذا تيسر له شىء من فراغ الوقت قضاه فى الإشراف على المدارس الكثيرة التى بناها فى بغداد وإصفهان، مستمعا إلى حديث الصفوة من العلماء والفضلاء، أو مشتغلا بتأليف رسالته الكبيرة التى قام على تأليفها إطاعة لأمر «ملكشاه» عن تاريخ الحكم وفن الحكومة، وهى التى عنونها على الأصح ب «سياست نامه» وإن كان جماعة من كتاب الفرس يشيرون إليها عادة باسم «سير الملوك». وهذه الرسالة تعتبر من أهم التأليفات المنثورة المفيدة التى تفخر بها الآداب الفارسية، وقد نشرها «شيفر» أخيرا فجعلها بذلك فى متناول جميع المشتغلين بالفارسية، وترجمها إلى الفرنسية فيسرها لمجموعة أكبر من القراء والمطلعين.
وكان أبناء «نظام الملك» الإثنا عشر يشغلون جلهم أو كلهم أعلى مناصب الدولة،
__________
(1) انظر «راحة الصدور» ورقة 57وكذلك مقالى الذى نشرته بعنوان «وصف مجمل لمخطوطة نادرة عن تاريخ اصفهان» ص 66.
.
وقد بلغ هو وأسرته من علو الشأن ما يذكرنا بما بلغه «البرامكة» فى قديم الأزمان، وربما فاق شأنهم شأن هؤلاء وأربى عليهم، ولكن السبب الأبدى الذى أودى بالبرامكة وغيرهم من كبار الوزراء الذين أخرجتهم إيران والذى سيودى دائما بكل وزير تنجبه هذه البلاد، وأعنى إثارة حفيظة الملوك عليهم بواسطة خصومهم الحاقدين، كان يضيق الخناق على «نظام الملك» ويعمل على هدمه وتحطيمه. وكانت «تركان خاتون» زوجة ملكشاه المحبوبة هى أعدى أعدائه وألد خصومه، وكانت شديدة التأثير على زوجها، مسموعة الكلمة لديه، وكان مطمعها الوحيد الذى تصبو إليه أن تضمن ولاية العهد لابنها الصغير «محمود». وكان وزيرها «تاج الملك» يؤيدها فى تحقيق هذه الرغبة، بينما كان المعروف عن «نظام الملك» أنه يؤيد الأخ الأكبر «بركيارق» الذى لم يتجاوز فى ذلك الوقت الثانية عشرة أو الثالثة عشرة من عمره. أما السبب المباشر الذى أدى إلى نكبة «نظام الملك» وأسرته فكان مرجعه إلى السلوك الشائن الذى سلكه واحد من أحفاده كان حاكما على مدينة مرو (1) فنال بالأذى واحدا من الناس، أسرع برفع شكايته إلى ملكشاه. فأرسل السلطان رسالة شديدة اللهجة إلى «نظام الملك» سأله فيها على سبيل التهكم: هل هو يقنع بمنصب الوزارة أو يعتبر نفسه شريكا له فى الملك؟! ثم أخبره أن أقرباءه «لا يقنعون بالمناصب العالية فى الدولة بل يظهرون كثيرا من التبجح والرعونة اللذين لا يمكن الإغضاء عنهما. واستاء الوزير العجوز من هذه الكلمات العنيفة التى كالها له «ملكشاه» وأحس بأن مليكه مدين له بكثير مما ناله من خير، فقال فى رعونة وغلظه: «إن الذى وضع التاج على رأسك قد وضع القلنسوة على رأسى!!» وأضاف إلى ذلك عبارات خشنة أخرى (2)، نقلها الحاضرون إلى السلطان فى كثير من المبالغة والتهويل، فأمر ملكشاه بعزله وتوليه «أبى الغنائم تاج الملك» فى مكانه (3) وقد اقترنت هذه الحركة بكثير من التغييرات الوزارية الطائشة فاستبدل «كمال الدين أبو الرضا» ب «سديد الملك أبى المعالى» كما استبدل(1/256)
__________
.
وقد بلغ هو وأسرته من علو الشأن ما يذكرنا بما بلغه «البرامكة» فى قديم الأزمان، وربما فاق شأنهم شأن هؤلاء وأربى عليهم، ولكن السبب الأبدى الذى أودى بالبرامكة وغيرهم من كبار الوزراء الذين أخرجتهم إيران والذى سيودى دائما بكل وزير تنجبه هذه البلاد، وأعنى إثارة حفيظة الملوك عليهم بواسطة خصومهم الحاقدين، كان يضيق الخناق على «نظام الملك» ويعمل على هدمه وتحطيمه. وكانت «تركان خاتون» زوجة ملكشاه المحبوبة هى أعدى أعدائه وألد خصومه، وكانت شديدة التأثير على زوجها، مسموعة الكلمة لديه، وكان مطمعها الوحيد الذى تصبو إليه أن تضمن ولاية العهد لابنها الصغير «محمود». وكان وزيرها «تاج الملك» يؤيدها فى تحقيق هذه الرغبة، بينما كان المعروف عن «نظام الملك» أنه يؤيد الأخ الأكبر «بركيارق» الذى لم يتجاوز فى ذلك الوقت الثانية عشرة أو الثالثة عشرة من عمره. أما السبب المباشر الذى أدى إلى نكبة «نظام الملك» وأسرته فكان مرجعه إلى السلوك الشائن الذى سلكه واحد من أحفاده كان حاكما على مدينة مرو (1) فنال بالأذى واحدا من الناس، أسرع برفع شكايته إلى ملكشاه. فأرسل السلطان رسالة شديدة اللهجة إلى «نظام الملك» سأله فيها على سبيل التهكم: هل هو يقنع بمنصب الوزارة أو يعتبر نفسه شريكا له فى الملك؟! ثم أخبره أن أقرباءه «لا يقنعون بالمناصب العالية فى الدولة بل يظهرون كثيرا من التبجح والرعونة اللذين لا يمكن الإغضاء عنهما. واستاء الوزير العجوز من هذه الكلمات العنيفة التى كالها له «ملكشاه» وأحس بأن مليكه مدين له بكثير مما ناله من خير، فقال فى رعونة وغلظه: «إن الذى وضع التاج على رأسك قد وضع القلنسوة على رأسى!!» وأضاف إلى ذلك عبارات خشنة أخرى (2)، نقلها الحاضرون إلى السلطان فى كثير من المبالغة والتهويل، فأمر ملكشاه بعزله وتوليه «أبى الغنائم تاج الملك» فى مكانه (3) وقد اقترنت هذه الحركة بكثير من التغييرات الوزارية الطائشة فاستبدل «كمال الدين أبو الرضا» ب «سديد الملك أبى المعالى» كما استبدل
(1) هو ابن ابنه «جمال الدين» الذى أمر «ملكشاه» بدس السم له قبل ذلك بعشر سنوات فمات مسموما.
(2) يورد ابن الأثير تفصيلات هذه الحادثة فى كثير من الإيضاح (ج 10ص 7776) ولكنى رويت هنا ما ورد فى «راحة الصدور» (ورقة 58) فقد استرعت روايته أنظار جميع الكتاب الذين تناولوا هذه الواقعة بالبحث.
(3) كان «تاج الملك» من أقرب المقربين إلى «تركان خاتون» كما ذكرنا ذلك آنفا.(1/257)
«شرف الملك أبو سعد» ب «مجد الملك أبى الفضل القمى». والمأثور عن هذا الأخير أن «أبا طاهر الخاتونى» هجاه لبخله بمقطوعة فارسية تعتبر من أروع الأمثلة مما بقى من أشعاره (1). وذكر «أبو المعالى النحاس» هذه التغييرات الوزارية فذمها فى أبيات ترجمتها كالآتى (2):
على عهد «أبى على» و «أبى الرضا» و «أبى سعد».
كان الأسد يدخل حضرتك فى وداعة الحمل أو أشد!!
وكان كل من يدخل إليك فى تلك الأيام
كأنه الرسول المزود ببشرى النصر والظفر والإقدام.
وأما على عهد «أبى الغنائم» و «أبى الفضل» و «أبى المعالى»
فقد أصبح كل شىء بلسع حتى الحشائش النامية على أرضك!!
فإذا كنت قد مللت خدمة «نظام الملك» و «كمال» و «شرف»
فتنبه إلى ما جره عليك «تاج الملك» و «مجد الملك» و «سديد الملك»!
قتل نظام الملك:
ولم يعش نظام الملك طويلا بعد عزله، فبينما كان فى رفقة «ملكشاه» فى سفره من أصفهان إلى بغداد توقف فى العاشر من رمضان سنة 485هـ 14أكتوبر سنة 1092م بالقرب من «نهاوند» (ذلك المكان الخالد الذى أصيب عنده جنود الملك السامانى الأخير بالهزيمة الماحقة على أيدى المسلمين فى منتصف القرن السابع الميلادى) فلما غربت الشمس وتناول «نظام الملك» طعام إفطاره هم بالذهاب إلى خيمة زوجه وأولاده، فاعترض طريقه شاب ديلمى قد تزبى بزى المساكين ثم أخرج فجأة
__________
(1) انظر ص 600من «مجلة الجمعية الملكية الأسيوية» سنة 1902وتوجد أمثلة كثيرة أخرى من أشعار هذا الشاعر فى كتاب «المعجم فى معايير أشعار العجم» تأليف شمس قيس طبع بيروت ضمن «سلسلة جب التذكارية».
(2) انظر المرجع السابق، وكذلك ص 4من ترجمة شيفر لكتاب «سياست نامه» وقد أورد «البندارى» ترجمة هذه الأبيات بالعربية ص 63.(1/258)
خنجرا من طيات ملابسه وطعنه به طعنة قاتلة. ولم يكن هذا المسكين المزيف فى الحقيقة إلا عضوا فى جماعة «الفدائيين» أو «الحشاشين» الذين اجتمعوا فى ذلك الوقت حول «الحسن بن الصباح» وغيره من رؤساء «الدعوة الجديدة» (1)
للاسماعيلية. ويقال إن هذه الحادثة كانت فاتحة لسلسلة أعمالهم المفزعة الجريئة، ولكن ابن الأثير (2) يذكر حادثة أخرى سبقتها، تمتلث فى قتل أحد المؤذنين فى مدينة إصفهان، ويقول إن «نظام الملك» عرض نفسه لانتقام هؤلاء الجماعة عند ما أمر بإعدام أحد النجارين بتهمة اشتراكه فى قتل هذا المؤذن. يضاف إلى هذه الأسباب، وإلى ما عرف من عداء شخصى بين «الحسن بن الصباح» وبين هذا الوزير (كما تدلنا عليه قصتهما المتداولة المعروفة) أن نظام الملك كان يظهر كثيرا من الكراهية والبغض للرافضة أو الشيعة، وخاصة فريق السبعية منهم الذى كان من أقوى معتنقيه الإسماعيليون والخلفاء الفاطميون فى مصر وهذا السبب الأخير يكفى وحده للكشف عن سبب قتله والقضاء عليه. وكذلك وجد فريق من الناس كان من رأيه أن «تاج الملك» الذى خلفه فى الوزارة، كان المحرض الحقيقى على ارتكاب هذه الجريمة التى ظنها فى البداية ستساعده على تثبيت مكانته وتقوية نفوذه، ولكنها أدت فى الحقيقة إلى قتله هو أيضا (3) بعد أربعة شهور من مقتل «نظام الملك».
وقد أحست أغلبية ساحقه من الناس الذين حكمهم «نظام الملك» مدة السنوات الثلاثين الماضية بكثير من الحزن لمقتله ومن المعروف فى بلاد المشرق أن الشعراء قلما يمدحون وزيرا معزولا، ولكن ابن الأثير (4) يخبرنا أن كثيرا من المراثى قيلت
__________
(1) ابن الأثير يسميها «الدعوة الأخيرة» انظر ج 10ص 108. ويجب أن نذكر أن الشرقيين يميلون دائما إلى أن ينسبوا قتل العظماء إلى فرقة من فرق الملاحدة حتى يبرروا بعد ذلك اضطهادها، ومن أمثلة ذلك أنه عند مقتل «ناصر الدين شاه» نسبوا قتله إلى «البابية» ولكن ثبتت بعد ذلك براءتهم من كل صلة بهذه الجريمة.
(2) انظر ابن الأثير ج 10ص 108، فهو يذكر أيضا أنه فى سنة 440هـ 1048م قتل «آق سنقر» بيد واحد من الباطنية أو الإسماعيلية.
(3) قتله جماعة من أتباع «نظام الملك» فى فبراير سنة 1093م 486هـ.
(4) انظر ابن الأثير ج 10ص 71.(1/259)
فيه، من بينها المرثية العربية التى قالها «شبل الدولة» (1) وفيها البيتان الجميلان الآتيان:
كان الوزير نظام الملك لؤلؤة ... يتيمة صاغها الرحمن من شرف
عزت فلم تعرف الأيام قيمتها ... فردها غيرة منه إلى الصدف
ويروى صاحب «چهار مقاله» (2) أن منجما شهيرا اسمه «الحكيم الموصلى» أخبر «نظام الملك» أنه سيموت بعد موته «أى موت الحكيم الموصلى» بستة أشهر، فلما وصلت الأنباء من نيسابور فى ربيع سنة 1092م 485هـ بأن هذا المنجم قد مات، وكان «نظام الملك» يعتقد فيما يقوله ويؤمن بصحته، أخذته رجفة شديدة، وأخذ يعد معدات جنازته ويتجهز لاستقبال الموت، ولم يكد الخريف ينشر نسائمه فى الآفاق حتى حان حينه وتحققت هذه النبوءة العجيبة.
ويشير «ابن الأثير» (3) إلى حكايات كثيرة كانت متداولة عن «نظام الملك» حتى زمانه (أى القرن الثالث عشر الميلادى والسابع الهجرى) وقد زخرت كتب المتأخرين بمثل الحكايات، ومن بينها الحكاية المنتحلة التى يرويها بعض الناس على أنها من الأخبار التاريخية الموثوق بصحتها، وخلاصتها أن «نظام الملك» بينما كان يلفظ أنفاسه الأخيرة إثر الجرح الذى أصابه، كتب الأبيات الآتية وبعث بها إلى «ملكشاه» (4).
سى سال بإقبال تو اى شاه جوانبخت
زنگ ستم از چهره آفاق ستردم
طغراى نيكونامى ومنشور سعادت
پيش ملك العرش بتوقيع تو بردم
__________
(1) هذا الشاعر هو الذى حدثنا عنه دولتشاه (ص 9) بأنه أنشأ قصيدة عربية من أربعين بيتا فى مدح «مكرم بن العلاء» مطلعها:
دع العيس تذرع عرص الفلا ... إلى ابن العلاء وإلا فلا
وقد أعطاه ابن العلاء كيسا مليئا بالذهب لقاء هذه القصيدة وقال له: لو ساعدنى الغنى لجعلت لك كيسا من الذهب لقاء كل بيت من أبيات هذه القصيدة!!
(2) انظر الحكاية السادسة والعشرين.
(3) انظر ج 10ص 72.
(4) انظر تذكرة الشعراء ص 59، وكذلك تاريخ گزيده طبعة گانتان ج 1ص 23.(1/260)
چون شد ز قضا مدت عمرم نود وشش
در حدّ نهاوند ز يك زخم بمردم
بگذاشتم آن خدمت ديرينه بفرزند
او را بخدا وبخداوند سپردم
ومعناها:
بإقبالك علىّ ثلاثين عاما أيها المليك السعيد! (1)
استطعت أن أصقل صدأ الظلم عن وجه الآفاق.
ولقد حملت إلى «رب العرش» ممهورا بتوقيعك
منشور السعادة، وطغراء الهناءة
فلما انقضى من أجلى ستة وتسعون عاما
أصابتنى ضربة قاتلة بالقرب من «نهاوند»
فتركت تلك الخدمة الطويلة ليتولاها ولدى
وانى لأتركه وديعة فى يد الله ويد مولاى وسيدى الملك
ولقد سبق لى أن أشرت فى مكان آخر (2) إلى أن البيت الأخير من هذه الأبيات مروى بصورة تختلف قليلا عن النص الذى ذكرناه، وأنه من غير شك من إنشاء الشاعر «برهانى» شاعر السلطان «ملكشاه». وأنه قاله لمولاه عندما أوصاه بابنه «المعزى» الذى نال رضا مولاه وأعقب أباه على إمارة الشعر أما الأبيات الثلاثة الأولى فمنتحلة للأسباب الآتية:
أولا: أن صاحب «چهار مقاله» حدثنا بأن «نظام الملك» لم يكن يقدر الشعراء، لأنه لم يكن على شىء من الدراية بفنهم.
__________
(1) قصد التحديد على وجه الدقة بثلاثين عاما لأنه تولى الوزارة من سنة 1063إلى 1092م 485455هـ ولكن «دولتشاه» يذكر بدل كلمة «سى» بمعنى ثلاثين كلمة «چهل» بمعنى: أربعين.
(2) ترجمة براون لكتاب «چهار مقاله» ص 67.(1/261)
ثانيا: أن «نظام الملك» كان له من العمر خمسة وسبعون سنة عند وفاته، ولم يصل إلى السادسة والتسعين.
ثالثا: أن أولاد «نظام الملك» الكثيرين نالوا جميعهم أرقى المناصب فى مملكة «ملكشاه» بحيث لم يكن غيرهم يطمع فيما نالوه أو يفكر فى ضرورة الحصول على ما فازوا به.
وإنى أريد أن أذكر هذه الحقيقة لأنها من أقوى الأدلة التى تبرهن لنا عن ميل الشعوب وخاصة الفرس، إلى نسبة الحكايات الشهيرة والأشعار الجميلة والأقوال المأثورة والحوادث الرائعة، إلى الأشخاص المعروفين المشهورين، ومن أجل ذلك، وكما أشرت سابقا، نسبوا طائفة كبيرة من رباعيات الشعراء المغمورين إلى «عمر الخيام» ومن أجل ذلك أيضا سنرى أنهم يحكون جملة من الحكايات عن «ناصر خسرو» و «الحسن بن الصباح» لم تكن فى الحقيقة مما يتصل بهما ولكنهم اقتبسوها من سير أناس مغمورين غير معروفين.
موت ملكشاه:
لم يعش «ملكشاه» أكثر من شهر واحد بعد مقتل وزيره الذى جازاه جزاء سنمار، فبعد أقل من ثلاثة أسابيع من موت «نظام الملك»، خرج «ملكشاه» فى السادس من نوفمبر سنة 1092م 485هـ للصيد فأصابه برد أو أكل طعاما لم يناسبه فحجموه لعله يبرأ من علته، ولكن الحمى لازمته حتى مات بعلته فى التاسع عشر من شهر نوفمبر (الثالث من شوال)، فرثاه الشاعر «معزى» بهذين البيتين المعروفين:
رفت در يك مه بفردوس برين دستور پير
شاه برنا در پى او رفت در ماه دگر
اى دريغا آنچنان شاهى ووزيرى اينچنين
قهر يزدانى به بين وعجز سلطانى نگر (1)
__________
(1) انظر «تذكرة الشعراء» ص 60(1/262)
ومعناهما:
فى شهر ذهب الوزير العجوز إلى جنة الخلد والمآب.
وفى الشهر التالى تبعه الملك مكتمل النضرة والشباب
فواحزنا على الملك ويا أسفا على هذا الوزير
ويا عجبا لعجز السلطان وقهر الله وسطوة المقادير!!
و «معزى» هو أيضا نفس الشاعر الذى قال الرباعية الآتية عند عزل «نظام الملك» وتولية خصمه «تاج الملك» فى مكانه:
نشناخت ملك سعادت اختر خويش ... در منقبت وزير خدمت گر خويش
بگماشت بلاى تاج بر لشكر خويش ... تا در سر تاج كرد تاج سر خويش (1)
ومعناها:
لم يستطع الملك أن يقدر ما لنجمه من سعد كامل
عند ما أعطاه الله وزيرا خدوما، يمتاز بكثير من الفضائل
فوكل على عسكره «تاج الملك» فما زال يصب عليهم بلاءه
حتى جعل الملك تاجه على رأس «تاج الملك»!!
وقد ذكر صاحب «راحة الصدور» أن ولادة ملكشاه كانت فى سنة 1053445م أما «ابن الأثير» فقد جعلها بعد ذلك بسنتين، وفى كلتا الحالين لم يبلغ ملكشاه الأربعين من عمره عند وفاته.
قصة نظام الملك والصباح والخيام:
تحدثنا إلى الآن عن «نظام الملك» ذاكرين الأخبار التى رواها عنه أقدم المؤرخين وأصدقهم، ولكن هناك جملة من الأقاصيص التى تتصل به، أشار إليها «ابن الأثير» فى تاريخه، ونال بعضها كثيرا من الشهره وبعد الصيت، وأصبحت فى العصور الأخيرة
__________
(1) انظر «تذكرة الشعراء» ص 59.(1/263)
موضع الثقة والتصديق فى البلاد الأسيوية والأوروبية بحيث نجد من العسير علينا أن نتغاضى عن ذكرها فى كتاب مثل كتابنا هذا. وأروع هذه القصص وأكثرها ذيوعا هى القصة (1) التى تربط بينه وبين الرجل الرهيب «الحسن بن الصباح»، مؤسس «الدعوة الجديدة» الذى أجمعت الأدلة على أنه كان على صلة بمقتله فيما بعد. وهذه القصة يعرفها كل المعجبين ب «عمر الخيام» ورباعياته (2) وهى تشتمل على كثير من المصاعب المتصلة بالتواريخ المتناقضة التى لا يمكن التوفيق بينها، لأن أهم المصادر التى ذكرتها هى «الوصايا» التى ينسبونها إلى «نظام الملك» وقد ثبت قطعا أنها منتحلة عليه (3) ومن أجل ذلك فإن كبار النقاد لم يترددوا فى رفض هذه الرواية التى تفترض أن رجلين من أشهر الرجال هما «الحسن بن الصباح» و «عمر الخيام» [وقد ماتا فى سن غير معلومة فيما بين سنتى 517و 518هـ 1123و 1124م] كانا من زملاء «نظام الملك» فى الدراسة أيام الشباب. والمعروف عن «نظام الملك» أنه ولد فى سنة 408هـ 1017م وعلى ذلك فليس من اليسير أن نتوقع أن هذين الشخصين بالذات يعيشان إلى أن يبلغا المائة من العمر حتى لو فرضنا احتمال ذلك لكانا أصغر سنا بكثير من «نظام الملك» الذى يبدو أنه فرغ من دراسته وتحصيله والتحق بالخدمه العامة فى سن مبكرة صغيرة (4). وقد أثار هذا الاعتراض بشدة الأستاذ «هوتسما» فى مقدمته على «البندارى» وهو يرى فى دقة ورجحان، أن «نظام الملك» لم يكن زميلا فى الدراسة للشاعر المنجم وصاحبه شيخ الحشاشين، بل كان زميلهما فى الحقيقة هو «انو شيروان بن خالد»
__________
(1) انظر «ابن الأثير» وغيره من الكتب والمصادر وكذلك «البندارى» ص 67.
(2) هذه القصة مذكورة فى مقدمة الطبعات المختلفة لترجمة «فيتزجرالد» للرباعيات، وكذلك ذكرها «هوينفلد» فى طبعته للرباعيات وترجمتها.
(3) ذكر «إتيه» فى مقالته عن الأدب الفارسى الحديث (بالجزء الثانى من المفصل فى الدراسات اللغوية الإيرانية ص 348) أن كتاب «الوصايا» يرجع تأليفه إلى ما بعد القرن الخامس عشر الميلادى ولكنه مع ذلك يرى أن أصوله ترجع إلى زمن أسبق من ذلك. ومن هنا نجد أن «إتيه» يعطيه شيئا من الأهمية على عكس «ريو». انظر كتالوج المخطوطات الفارسية ص 446.
(4) هناك من الأدلة ما يرجح أن نظام الملك تعرف بالحسن بن الصباح قبل ذهاب الأخير إلى مصر انظر «ابن الأثير» تحت سنة 494هـ ج؟؟؟ ص 110.(1/264)
الوزير اللاحق الذى وزر للأمير السلجوقى «محمود بن محمد بن ملكشاه» الذى حكم فيما بين سنتى 1117و 1131م 511و 526هـ. وقد أشار هذا الوزير فى تاريخه (1)، عند حديثه عن نشأة الحشاشين أو الملاحدة، إلى أنه تعرف فى شبابه بجماعة من قادتهم، وتلقى العلم على بعضهم «وخاصة رجل من الرى جاب المعمورة وطوّف فى آفاقها وكان يشتغل بالكتابة والإنشاء». ولن نتردى فى خطأ إذا قدرنا أن هذا الرجل الذى أشار إليه «انو شيروان» فى هذه العبارة إنما هو «الحسن بن الصباح» بعينه. وإذا صح هذا الفرض العبقرى، فلدينا مثل آخر لتلك الظاهرة التى تحدثنا عنها أكثر من مرة، والتى تحدو الناس إلى نسبة الحوادث الرائعة إلى الرجال الممتازين المعروفين. والتواريخ فى هذه الحالة الأخيرة لا تتعارض مع بعضها بل تتفق كثيرا فيما بينها، فقد ورد فى كتاب «عيون الأخبار» (2) أن «أبا نصر انو شيروان بن خالد بن محمد الكاشانى» ولد فى مدينة الرى (وبها ولد الحسن بن الصباح) فى سنة 459هـ 1066م وأنه تولى الوزارة للأمير السلجوقى محمود، وكان فى رفقته إلى بغداد فى سنة 517هـ 1123م، ثم تولى الوزارة بعد ذلك للخليفة المسترشد فيما بين سنتى 526و 528هـ 1131و 1133م، وتوفى فى سنة 532أو 533هـ 1138أو 1139م. وعلى هذا فمن المحتمل كما يستفاد من عبارته أنه هو الوزير الذى كان زميلا فى الدرس لمواطنه الخطير «الحسن بن الصباح»
ومع ذلك فهذه القصة التى درسناها تستند فى الحقيقة إلى مصدر آخر موثوق به، يسبق جميع هذه المصادر المتأخرة التى ذكرتها من قبيل «الوصايا» و «روضة الصفا» و «تاريخ ألفى». وقد ذكرت ذلك فى مقالتى التى نشرتها فى مجلة الجمعية الملكية الأسيوية بعنوان «أضواء أخرى تكشف عن الخيام» (3) وقلت أن هذه القصة بعينها قد أوردها المؤرخ الكبير «رشيد الدين فضل الله» المتوفى سنة 1318م 718هـ فى
__________
(1) هذا التاريخ هو الأساس الذى اعتمد عليه «البندارى» فى كتابه انظر ص 6766.
(2) انظر مخطوطة كامبردج رقم 922، 2. ص (126ا) ولم يكن «هوتسما» يعرف بأمر هذه المخطوطة فقال: إن تاريخ ولادته غير معلوم.
(3) انظر عدد ابريل سنة 1899ص 420409.(1/265)
كتابه القيم «جامع التواريخ» وقد نقلت عن هذا الكتاب (1) نص هذه القصة ونشرته هو وترجمته فى مقالتى التى ذكرتها آنفا. والمصدر الذى ينسب إليه رشيد الدين هذه القصة هو كتاب من كتب الإسماعيلية اسمه «سرگذشت سيدنا» أو «سيرة سيدنا» وهو كتاب عن تاريخ «الحسن بن الصباح» كان بين كتب الملاحدة التى وجدت فى قلعة الحشاشين الحصينة «ألموت» عند ما استولت عليها جيوش «هولاكو خان» المغولية فى منتصف القرن الثالث عشر الميلادى (السابع الهجرى) وقد رآه وفحص مشتملاته «عطا ملك الجوينى» كما حدثنا بذلك فى كتابه تاريخ «جهان گشا» (أو تاريخ فاتح العالم ويقصد به چنگيز خان)، قبل أن يلقى به بعد ذلك فى النار لتلتهمه مع سائر الكتب التى اشتملت على تعاليم الإلحاد والملاحدة. ومما يثير الدهشة حقا أن صاحب «جهان گشا» قد اعتمد على هذه السيرة كثيرا فى كتابه الجزء الخاص بالاسماعيليه أو «الحشاشين»، وهو الموجود فى الجزء الثالث والأخير من تاريخه الكبير عن غزوة المغول، ولكنه مع ذلك لا يشير إلى هذه القصة العجيبة على الإطلاق.
نشأة الحشاشين:
وللحشاشين مكان الصدارة فى تاريخ هذا العصر وتاريخ القرنين التاليين له، وقد استطاعوا بواسطة الأعمال التى قام بها فرعهم الشآمى أيام الحروب الصليبية أن يجعلوا اسمهم مرهوبا فى أوربا حتى لنجد لزاما علينا فى هذا المقام أن نفصل الحديث عن نشأتهم وعن معتقداتهم حتى نيسر للقارىء فهم الإشارات الكثيرة التى تشير إليهم فيما يلى من فصول. وقد درست بالتفصيل فى الجزء الأول من هذا الكتاب (2)
مذهب الشيعة ونشأتهم وتعاليمهم كما درست الشعبتين الهامتين اللتين ينقسم إليهما هذا المذهب وهما فريق «السبعية» أو الاسماعيلية، وفريق «الاثنى عشرية» ومذهبهم
__________
(1) نص هذه القصة وارد فى الورقة 292ب فى مخطوطة المتحف البريطانى رقم 628، 7
(2) انظر «تاريخ الأدب فى إيران، منذ أقدم الأزمنة إلى زمن الفردوسى» ص 220 247و 296295و 310وما يتبعها (من الأصل الانجليزى)، وعلى الأخص الفصل الثانى عشر عن الاسماعلية والقرامطة أو فريق السبعية.(1/266)
هو المذهب الرسمى لإيران فى الوقت الحاضر. ولا شك أن إعادة مختصرة لما ذكرته من حقائق فى الجزء السابق ستكون كبيرة الفائدة للقارىء الذى ليس فى متناوله الآن الحصول على ذلك الجزء.
الشيعة:
كلمة «شيعة» بمعنى جماعة أو حزب، و «شيعة على» بمعنى جماعته أو حزبه.
و «على» هو ابن عم الرسول، وزوج ابنته، ووالد الحسن والحسين وجد جميع الأئمة الذين يعترف بإمامتهم المتشيعون أو أهل الشيعة. وفى رأى أهل السنة من المسلمين (الحنفية والشافعية والمالكية والحنبلية) أن عليا هو رابع الخلفاء الراشدين وآخرهم، وهو لا يمتاز فى شىء عن أسلافه الثلاثة الآخرين (أبى بكر وعمر وعثمان) كما لا يمتازون هم أيضا عنه فى شىء. أما الشيعة فيرون أنه الشخص الوحيد الحقيق بخلافة الرسول لقرابته منه ولزواجه من ابنته وقد انتقل حقه هذا فى الخلافة إلى أبنائه وذريته وفى بعض الناس منذ أقدم الأزمنة ميل إلى تعظيم «على» والارتفاع به إلى مراتب الآلهة، ولا زال هذا الاعتقاد موجودا فى طائفة كبيرة من الإيرانين يسمون أنفسهم ب «العلى إلهيين» وهم يعتقدون كما تدل على ذلك تسميتهم بان عليا ما هو إلا تجسيد لله.
ومنذ أقدم الأزمنة أيضا، والفرس يعتقدون اعتقاد اجاز ما بالحق الإلهى، ويكرهون كراهية شديدة فكرة الانتخات الشعبى الديمو قراطى التى تستولى على طبيعة العرب ومشاعرهم، ومن أجل ذلك فقد كان طبيعيا أن يصبح الفرس عماد الحزب الشيعى وهم يعتقدون فى أن والدة الإمام الرابع «علىّ زين العابدين» كانت أميرة من أمراء البيت الملكى الساسانى. ولا شك أن هذا المعتقد كان من أقوى العوامل التى دفعتهم إلى أخذ البيعة لهذا الإمام ولأعقابه من بعده.
والشيعة يتفقون فى أن عليا وأعقابه هم الخلفاء الوحيدون للرسول، وهم الناشرون لدينه وتعاليمه، ولكنهم يختلفون فيما بينهم فى عدد الأئمة وأسمائهم، ففريق «السبعية» وفريق «الإثنى عشرية» (وهما أهم فرقتين من فرق الشيعة نهتم بهما فى هذا البحث) يتفقان فى تسلسل الأئمة حتى الإمام السادس «جعفر الصادق» ثم يفترقان
بعد ذلك، فيرى فريق «السبعية» أن الامام السابع والأخير هو ابنه الأكبر «إسماعيل» بينما يرى فريق «الاثنى عشرية» أن الإمام الذى أعقب الإمام السادس هو ابنه الأصغر «موسى» ثم أعقابه حتى الإمام الثانى عشر أو «المهدى» الذى قالوا عنه أنه اختفى من الأرض عند «سرّ من رأى» فى سنة 260هـ 873م وأنه سيخرج من عزلته فى نهاية الزمان فيملأ الأرض عدلا وإحسانا بعد امتلائها بالظلم والعدوان ولا زال متشيعة الفرس إذا ذكروه فى أحاديثهم يتبعون عبارتهم بالدعاء له قائلين:(1/267)
والشيعة يتفقون فى أن عليا وأعقابه هم الخلفاء الوحيدون للرسول، وهم الناشرون لدينه وتعاليمه، ولكنهم يختلفون فيما بينهم فى عدد الأئمة وأسمائهم، ففريق «السبعية» وفريق «الإثنى عشرية» (وهما أهم فرقتين من فرق الشيعة نهتم بهما فى هذا البحث) يتفقان فى تسلسل الأئمة حتى الإمام السادس «جعفر الصادق» ثم يفترقان
بعد ذلك، فيرى فريق «السبعية» أن الامام السابع والأخير هو ابنه الأكبر «إسماعيل» بينما يرى فريق «الاثنى عشرية» أن الإمام الذى أعقب الإمام السادس هو ابنه الأصغر «موسى» ثم أعقابه حتى الإمام الثانى عشر أو «المهدى» الذى قالوا عنه أنه اختفى من الأرض عند «سرّ من رأى» فى سنة 260هـ 873م وأنه سيخرج من عزلته فى نهاية الزمان فيملأ الأرض عدلا وإحسانا بعد امتلائها بالظلم والعدوان ولا زال متشيعة الفرس إذا ذكروه فى أحاديثهم يتبعون عبارتهم بالدعاء له قائلين:
«رد الله غربته وعجل عودته ورجعته!!».
المعتدلون والغلاة:
ومعتدلو الشيعة قصروا معتقدهم على أن عليا وذريته هم أولى الناس بخلافة النبى ورئاسة المسلمين، ومن أجل ذلك فقد كانوا مكروهين سياسيا من خلفاء دمشق وبغداد، لأنهم كانوا فى نظرهم مغتصبين للخلافة يضاف إلى ذلك أنهم كانوا يختلفون كثيرا مع أهل السنة فيما يتعلق بعدد من المسائل الفقهية الأخرى. وإلى هؤلاء المعتدلين تشير كتب التراجم والتاريخ التى كتبها رجال من أهل السنة بالعبارة التى تصادفنا كثيرا وهى: «تشيع وحسن تشيعه» أى أنه كان من المعتدلين فى آرائهم ومعتقداتهم.
ولكن إلى جانب هؤلاء كان فريق آخر من الشيعة يعرفون ب «الغلاة» لم يكتفوا بأن يعتقدوا أن عليا والأئمة قد تجسد الله فيهم، ولكنهم تعدوا ذلك إلى الاعتقاد فى طائفة من المذاهب الأخرى كالرجعة والحلول وما شابه ذلك من الآراء التى تخالف تعاليم الإسلام تمام المخالفة وقد انطوت الأكثرية من هؤلاء الغلاة تحت لواء «السبعية» أو شيعة الإمام السابع «إسماعيل».
الاسماعيلية:
وأهمية الإسماعيليين السياسية بدأت فى الظهور فى القرن العاشر الميلادى (الثالث الهجرى) بتأسيس الدولة الفاطمية التى سميت كذلك، كما يقول مؤلف «جامع التواريخ» لاستناد خلفائهم فيما ادعوه من سلطة زمنية وروحية إلى نبل أصلهم وتسلسلهم من «فاطمة» بنت النبى ومن أجل ذلك فقد عرفوا بأسماء مختلفة تتساوى
فى مدلولاتها. فهم «علويون» نسبة إلى على، وهم «فاطميون» نسبة إلى فاطمة، وهم «إسماعيليون» نسبة إلى الإمام السابع إسماعيل، ومع ذلك فإن سلسلة النسب التى أرادوا أن يستندوا إليها فى إثبات دعواهم العريضة كانت محلا لاعتراض خصومهم من الخلفاء العباسيين، وقد طعنوا فيها مرارا فى سنة 402هـ 1011م وفى سنة 444هـ؟؟؟ وأعلنوا أنهم فى الحقيقة من ذرية اللحد الفارسى «عبد الله بن ميمون القداح» (1) الذى رأى فى فريق الإسماعيلية الذى ظل مسالما حتى ذلك الوقت، وسيلة صالحة لنشر تعاليمه الباطنية وآرائه المتطرفة، لكى يتسنى له بذلك الوصول إلى غاياته السياسية ومطامعه الدنيوية.(1/268)
وأهمية الإسماعيليين السياسية بدأت فى الظهور فى القرن العاشر الميلادى (الثالث الهجرى) بتأسيس الدولة الفاطمية التى سميت كذلك، كما يقول مؤلف «جامع التواريخ» لاستناد خلفائهم فيما ادعوه من سلطة زمنية وروحية إلى نبل أصلهم وتسلسلهم من «فاطمة» بنت النبى ومن أجل ذلك فقد عرفوا بأسماء مختلفة تتساوى
فى مدلولاتها. فهم «علويون» نسبة إلى على، وهم «فاطميون» نسبة إلى فاطمة، وهم «إسماعيليون» نسبة إلى الإمام السابع إسماعيل، ومع ذلك فإن سلسلة النسب التى أرادوا أن يستندوا إليها فى إثبات دعواهم العريضة كانت محلا لاعتراض خصومهم من الخلفاء العباسيين، وقد طعنوا فيها مرارا فى سنة 402هـ 1011م وفى سنة 444هـ؟؟؟ وأعلنوا أنهم فى الحقيقة من ذرية اللحد الفارسى «عبد الله بن ميمون القداح» (1) الذى رأى فى فريق الإسماعيلية الذى ظل مسالما حتى ذلك الوقت، وسيلة صالحة لنشر تعاليمه الباطنية وآرائه المتطرفة، لكى يتسنى له بذلك الوصول إلى غاياته السياسية ومطامعه الدنيوية.
الدولة الفاطمية
والدولة الفاطمية التى نشأت فى شمال إفريقيا ومصر، تحقق وجودها السياسى الذى حافظت عليه (2)، بواسطة نشر الدعوة الدينية فى سائر ديار الإسلام وخاصة إيران، على يد جماعة من أمهر «الدعاة» الذين كانت لهم خبرة عميقة بالنفوس البشرية وبالأساليب التى يمكن بواسطتها إغراء العقول المختلفة باعتناق مذاهبهم الغريبة. وإذا شئنا المقابلة بين هؤلاء الدعاة وأمثالهم من الأوروبيين أمكننا أن نشبههم بجماعة «الجزويت» كما أمكننا أن نشبه رؤساءهم من الإسماعيليين بفريق «البابوات السود» الذين نشأوا فى المشرق فى هذا العصر. وكان من دأب الدعاة أن ينشروا «تعاليمهم» بأى وسيلة يرونها صالحة للوصول إلى أغراضهم، وهم يجعلون «التعليم» مبنيا على تفسير الآيات القرآنية بطريق «التأويل» ويؤكدون أن أئمتهم دون غيرهم هم الحفظة والوارثون لهذه التأويلات، ومن أجل ذلك فقد أسموهم أحيانا ب «التعليميين» كما كانت تعاليمهم «باطنية» فأسموهم أيضا ب «الباطنيين»، حتى إذا تأسست «الدعوة الجديدة» عرفوا بعدها على الخصوص باسم «الملاحدة».
__________
(1) مات عبد الله بن ميمون القداح فى سنة 261هـ 874م وهى نفس السنة التى اختفى فيها الإمام الثانى عشر.
(2) استمرت هذه الدولة من سنة 909م الى 1171م 297هـ إلى 567هـ فلما كان الخليفة الفاطمى الرابع عشر تغلب عليه «صلاح الدين» واستولى منه على عرش مصر.(1/269)
مذهب الاسماعيليه
ومذهب الإسماعيلية مذهب قذ معقد، وقد تحدثت عنه فى شىء من التفصيل فى الجزء الأول من هذا الكتاب، وحسبى أن أذكر هنا أنه يمتاز بغنى فى مراجعه ومصادره، وقد أورد الكثير منها فى دقة وتمحيص «دى ساسى» (1) و «جويارد» (2)
و «دى جويه» (3) فى مؤلفاتهم القيمة الفائقة، ولكن لا زالت بقية منها لم تطبع حتى الآن (4) موجودة فى تاريخ «جهان گشا» و «جامع التواريخ»
العدد سبعة فى مذهب الاسماعيلية:
ومذهبهم فى جملته فلسفى باطنى، قد استمد كثيرا من أسسه من المذاهب الإيرانية والسامية القديمه، كما تطرقت إليه بعض تعاليم «الأفلاطونيه الحديثه» و «الفيثاغورية الحديثة» وهو مبنى فى كل تفاصيلة على العدد الخفى «سبعة» فهنالك سبع فترات فى فترات الأنبياء والرسل (آدم، نوح، ابراهيم، موسى، عيسى، محمد، محمد بن اسماعيل) وكل واحد من هؤلاء الأنبياء السبعة أعقبه سبعة من الأئمة وأول كل سبعة من هؤلاء الأئمه هو الإمام الصادق وهو «صامت» ولكنه «ناطق» و «رئيس» و «أساس» و «أصل» أو «أس» وآخر كل سبعة من هؤلاء الأئمة يعقبه اثنى عشر «نقيبا»، تنتهى الفترة النبوية بالأخير منهم لتبدأ بعدها فترة نبوية أخرى. فالفترة النبوية السادسة التى بدأت ب «محمد» قد بلغت نهايتها على يد الإمام السابع «اسماعيل» ونقبائه وبدأت بعد ذلك الفترة النبوية السابعة على يد «محمد بن اسماعيل» الذى ادعى الخليفه الفاطمى الأول «عبيد الله المهدى» بأنه من حفدته وسلالته.
__________
(1) أنظر (1838،):
(2) أنظر (1877.) (. 1874.)
(3) أنظر: (1886.)
(4) المترجم: نشر أخيرا الجزء الثالث من تاريخ «جهان گشا» ضمن سلسلة جب التذكارية وهو الجزء الذى يتضمن تاريخ الاسماعيلية وتم بذلك طبع هذا الكتاب برمته.(1/270)
وهذه الفترات النبويه السبع، تقابل، من ناحية، مراتب الوجود الخمس (1)
التى إذا اضيف إليها «الله» و «الإنسان» تكونت منهم أجمعين «طبقات الكون السبع» وهى، من ناحية أخرى، تمثل «المقامات السبع» التى يجب على «المريد» أو العضو الجديد أن يجتازها حتى يصل إلى لب المذهب وقرارته. (1). وكل هذه المراسم الدينية أو الظواهر الكونية ما هى فى الحقيقة إلا تمثيل لهذه الخفايا الباطنية التى هى مظهر دينى رائع يجده رجل العلم والباحث المدقق خلوا من كل معنى ومنطق، ولكنه لدى أتباعه ومعتقديه مشحون بمفاتن الجمال والسحر العجيب. وقد ذكر لنا «دى ساسى» فى أبحاثه أن أول ما كان يهتم به «الداعى» فى دعوته هو أن يثبر التساؤل وحب الاستطلاع فى نفس العضو الجديد فيجعله يتساءل عن الدلالات الباطنية لكل ما يعترضه من أمور وكان الداعى يصل إلى ذلك بأن يوجه إليه أسئلة على النمط الآتى!
لماذا خلق الله الكون فى سبعة أيام؟
لماذا خلق الله سبع سماوات، وسبع أرضين، وسبع بحار، ولماذا جعل «فاتحة» القرآن من سبع آيات؟
لماذا كان العمود الفقرى يشتمل على سبع فقرات فى العنق، واثنتى عشرة فقرة فى الظهر (2).
أما اعتراض المعترضين بأن الأنبياء الذين ذكرهم «الإسماعيلية» لم يعلموا مثل هذا المذهب ولا أى مذهب آخر قريب منه، فقد أجابوا عليه بأن الحكمة الإلهية قد اقتضت عند ظهور النبى محمد أن تخفى تعاليم مذهبهم، فلا يكشف عنها إلا بعد موته.
__________
(1) هذه المراتب مع ما يكشف فيها من تعاليم المذهب مشروحة بالتفصيل فى كتاب «دى ساسى» ج 1ص 13874، وقد ذكرتها فى الجزء الأول من هذا الكتاب ص 415411.
(2) فقرات العنق تمثل الأئمة السبع الذين يحملون الرأس فى كل فترة من الفترات، ويعينهم على ذلك النقباء الاثنى عشر.(1/271)
وكان الغرض الأساسى الذى يهدف إليه الداعى الإسماعيلى هو أن يغرى المريد بأن يقسم يمين البيعة له وللامام الذى يمثله، وأن يؤيد ذلك بدفع إتاوة تؤخذ لحساب الإمام، دليلا على طاعة المريد له، ومساهمة منه فى تعضيد المذهب الذى انتسب إليه.
المستنصر:
فى هذه الفترة التى نتحدث عنها فى هذا الفصل كان المستنصر (أبو تميم معد) الخليفة الفاطمى الثانى الذى ولى الحكم من سنة 1035إلى 1094م 427إلى 487هـ، هو الرئيس الأعلى للاسماعيليين، ولم يلبث أن مات حتى تنافس ابناه «المستعلى» و «نزار» فى وراثته مما أدى إلى انقسام الإسماعيلية إلى فريقين متنازعين، أحدهما غربى انضم إليه أهل مصر والشام وشمال أفريقيا، والآخر شرقى انضم إليه أهل إيران وما زال يمتد حتى شمل الشام فيما بعد، ويتكون منه جماعة «الحشاشين» المعروفين.
وقد سبق «المستنصر» إلى الخلافة الفاطمية، الخليفة المشكوك فى جنونه «الحاكم بأمر الله» وقد حكم مدة من الزمان امتازت بالجنون والظلم ثم انتهت بادعائه الألوهية واختفائه ذلك الاختفاء الذى لا شك فى أنه قتل فيه على يد واحد من ضحاياه المظلومين الذين غاظهم جوره واحنقتهم غلظته، ومع ذلك فإن جماعة من أتباعه المعجبين به وهم أجداد الدروز الموجودين فى سوريا فى الوقت الحاضر، يعتقدون أن اختفاءه ما هو إلا انسحاب واحتجاب عن نظرات العيون التى لا تستحق أن تتمتع بطلعته المقدسة (1).
وقد زال الاضطراب الذى وقع إثر هذه الحادثة بعد ما تولى «المستنصر» العرش فى سنة 1035م 427هـ واستمر حكمه مدة طويلة بلغت ستين سنة تقريبا،
__________
(1) يذكر ابن الأثير تحت سنة 434هـ أن واحدا من الأدعياء ظهر فى القاهرة وأعلن أنه «الحاكم» وأنه عاد على ظهر الأرض، وقد استطاع هذا المدعى أن يجمع فحوله كثيرا من الخلق وهجموا وهو على رأسهم على قصر المستنصر ولكنهم سرعان ما قبضوا عليه وصلبوه هو وجماعة من أتباعه ثم ألقوا عليه وابلا من السهام حتى مات وكان اسمه «سكين».(1/272)
يمكن أن تعتبر بحق الأوج الذى وصلت إليه عظمة الإسماعيلية أو الدولة الفاطمية فقد امتد ملكهم، رغم الخسارة التى حاقت بهم فى مراكش والجزائر وتونس، إلى شمال أفريقيا ومصر وصقليه ومالطة وأجزاء مختلفة من الشام وآسيا الصغرى وشواطىء البحر الأحمر، ثم لم يلبث أهل «واسط» طويلا حتى اعترفوا فى سنة 1056م 448هـ بالمستنصر الفاطمى خليفة عليهم، ولم تمض على ذلك سنتان حتى تبعهم أهل بغداد، ولقد فقد المستنصر ولاء أهل مكة والمدينة فترة من الوقت (من 1070 1071م 464463هـ) ولكنه سرعان ما استعادها فى سنة 1075م 468هـ، وفى هذه السنة نفسها فقد سلطانه على مدينة دمشق ولكن جيوشه سرعان ما عوضوا هذه الخسارة باحتلال صور وصيدا وعكا فى سنة 1089م 482هـ.
ناصر خسرو:
وقد ترك لنا واحد من أعجب الرجال وأنبغهم ممن أخرجتهم إيران ولن يجود الزمان بمثلهم، وأعنى به الشاعر الرحالة والداعى الإسماعيلى «ناصر خسرو» الملقب بين أتباعه ب «حجة خراسان»، ترك لنا وصفا رائعا لقصر المستنصر. ولحكمه الحازم العادل، وللأمن والرفاهية اللذين عاشت فيهما الرعية وقد ذكر اسم «ناصر خسرو» فى موضعين من «جامع التواريخ» (1) مقترنا باسم خليفته الذى أعقبه فى منطقة نفوذه (2) «الحسن بن الصباح». فأما أولى هذه القطع فترجمتها كما يلى:
«وسمع ناصر خسرو بصيت المستنصر وشهرته فأتى من خراسان إلى مصر (3)
وأقام بها سبع سنوات (4) وكان يؤدى فريضة الحج فى كل سنة ثم يغود إلى مصر، وجاء بعد الحجة السابعة إلى مدينة البصرة (5) وخرج منها إلى خراسان، حيث أخذ
__________
(1) فى الورقة 286اوالورقة 290امن مخطوطة المتحف البريطانى الرقيمة 628. 7
(2) كان الاسماعيلية يسمون المنطقة التى يبث فيها الداعى دعايته باسم «البحر».
(3) أتى إلى مصر فى أغسطس سنة 1047م 439هـ كما يستفاد من كتابه «سفرنامه»
(4) لم يقم «ناصر خسرو» فى مصر إلا أربعة سنوات ونصف السنة، ولكنه حج إلى مكة سبع مرات وقد غاب عن دياره سبعة أعوام هجرية بالضبط (من جماد الآخر سنة 437هـ إلى جماد الآخر سنة 444هـ يناير سنة 1046م إلى أكتوبر سنة 1052م).
(5) كان ذلك فى شعبان سنة 443هـ ديسمبر سنة 1051م(1/273)
يقوم فى بلخ بالدعاية للعلويين الذين فى مصر (1)، وقد حاول خصومه قتله فهرب منهم إلى مرتفعات «سمنگان» حيث بقى عشرين سنة يقتات بالعشب والماء، وخرج الحسن بن الصباح الحميرى اليمنى (2) من إيران وذهب إلى المستنصر بالله (3) وقد استخفى فى ثياب نجار ثم استأذنه فى الدعاية له فى الأراضى الإيرانية فإذن له المستنصر بذلك، وانتهز الحسن بن الصباح فرصة وسأله سرا عن الشخص الذى تكون له الدعاية بعد موته، فأجابه: لابنى الأكبر نزار. ومن أجل ذلك فإن الإسماعيلية [فى إيران] يعترفون بالإمامة ل «نزار» (4)، وقد اختار سيدنا [أى الحسن بن الصباح] أن يقوم بالدعاية له فى قلاع قهستان».
الحسن بن الصباح
أما القطعة الثانية فطويلة جدا، ولا لزوم لترجمتها كاملة فى هذا المكان. وهى مروية على أنها من أقوال «الحسن بن الصباح» نفسه التى ذكرها فى كتاب «سر گذشت سيدنا»، وقد جاء فيها أن اسمه الكامل هو «الحسن بن على بن محمد بن جعفر بن الحسين بن الصباح الحميرى» ولكنه لم يسمح لأتباعه بتسجيل نسبه وقال لهم: «إننى أفضل أن أكون الخادم المختار للامام عن أن أكون ابنه الذى لا خير فيه» أما والده فقد جاء من الكوفة إلى مدينة «قم» وهناك ولد له «الحسن» فلما بلغ السابعة من عمره شغف شغفا شديدا بالدراسة والتحصيل، حتى إذا بلغ السابعة عشرة من عمره كان قد استوعب جميع ما درسه وقرأه فى استغراق ونهم.
__________
(1) يقصد بهم الخلفاء الفاطميين.
(2) ادعى أنه من سلالة ملوك اليمن الحميريين، وهو مولود فى مدينة «الرى» بالقرب من طهران الحالية، وربما جاء أجداده إلى إيران قبل ذلك بقرون عديدة. أما «جامع التواريخ» فيذكر أن أباه جاء إلى إيران من الكوفة وأنه هو نفسه ولد فى مدينة «قم».
(3) كان ذلك فى سنة 479هـ وفقا لابن الأثير (ج 9ص 154تحت سنة 427هـ) أما «جامع التواريخ» فيقول إنه جاء إلى مصر فى يوم الأربعاء 18صفر سنة 471هـ (انظر الورقة 290ب)
(4) أما الاسماعيلية فى مصر فقد اعترفوا بإمامة المستعلى، ويمثل المستعليين الان فى الهند جماعة البهورية (البهره) وأما النزارية فبمثلهم فيها الآن أتباع «آغاخان».(1/274)
وكان إلى ذلك الوقت كأبيه من أتباع «الإثنى عشرية» ولكنه سرعان ما وقع تحت تأثير واحد من الدعاة الفاطميين اسمه الأمير «ضراب» [وقد سبق هذا الاسم فى النص الكلمات: «ناصر خسرو حجة خراسان» (1). مع عبارة أن الدعوة لم تصادف رواجا على عهد السلطان محمود الغزنوى (2)، ولكن أناسا كثيرين فى إيران قيد اعتنقوا المذهب الإسماعيلى من قبل مثل «أبى على بن سيمجور» والأمير السامانى «نصر بن احمد» (3)]. وتناقش «الحسن بن الصباح» كثيرا مع الأمير «ضراب» غير أنه لم يقتنع بآرائه. ولكن حدث فى هذه الأثناء أن مرض «الحسن» مرضا شديدا، لم يكن يرجو الشفاء منه، فكان ذلك المرض سببا فى ميله إلى مذهب الإسماعيلية، فلما شفى منه أخذ يبحث عن دعاة إسماعيلين آخرين مثل «أبى النجم السرّاج» وشخص آخر يدعى «المؤمن» كان موكلا بالدعوة من قبل الشيخ «احمد بن عبد الملك بن العطاش» وكان من أهم دعاة الإسماعيلية فى إيران كما ذكر ذلك البندارى (4) وابن الأثير (5)، وقد انتهى أمر هذا الرجل بالقبض عليه وصلبه عندما تم الاستيلاء على
__________
(1) النص هنا مضطرب وغير ظاهر، ولست أدرى هل المقصود بذلك إن كلمة «ناصر» سبقتها عبارة «تحت تأثير» أو كلمة «كان». ويخيل لى أن العبارة الأولى هى الأقرب إلى الاحتمال لأن «ناصر خسرو» رجع إلى ايران سنة 1052م 444هـ ونحن نعلم من ابن الأثير (ج 10ص 110) أن الحسن بن الصباح كان متهما بالتردد على مجالس «الدعاة المصريين» فى مدينة الرى، وأنه اضطر فى ذلك الوقت إلى الهرب منها، ومن الجائز جدا أنه تقابل مع ناصر خسرو هنالك. ولقد يساعدنا على فهم ذلك ما كان يحدث مع البابية فى الأزمان الأخيرة، فقد كان العضو الجديد المتحمس لهذا المذهب يقدم إلى واحد من أشهر الدعاة وأقدرهم يكون موفدا من مركز الحركة للتبشير بين أتباعها فى إيران.
(2) يروى العتبى فى تاريخه (طبع القاهرة ج 2ص 251238) أن أحد الدعاة الفاطميين واسمه «التاهرتى» نسبة إلى مدينة تاهرت فى مراكش جاء الى السلطان محمود فى سنة 393هـ 1003م
(3) يروى «نظام الملك» فى كتابه «سياست نامه» (طبع شيفر ص 193188) أن الأمير السامانى نصر الثانى كان باطنيا أى اسماعيليا، ويذكر لنا كيف أدى إلحاده الى ضياع ملكه وحياته. انظر كذلك الجزء الأول من هذا الكتاب ص 455 (من الأصل الانجليزى).
(4) أسماه البندارى فى ص 90و 92برئيس الباطنية.
(5) انظر ج 10ص 110109حيث ذكر المؤلف أن الباطنية توجوه بتاج من الذهب، وقد ورد ذكر الحسن بن الصباح على أنه واحد من تلاميذه.(1/275)
حصن الإسماعيلية المنيع المسمى «شاه دژ» أو «دژكوه» حوالى سنة 499هـ 1105م. وقد تمكن «مؤمن» بشىء من الحيلة والدهاء أن يأخذ البيعة من الحسن بن الصباح للخليفة الفاطمى، وكان ابن العطاش يقوم بالدعوة فى أصفهان وآذربيجان فجاء فى رمضان سنة 464هـ (مايو سنة 1072م) إلى مدينة الرى حيث قدموا إليه «الحسن بن الصباح»، فأعجب به كثيرا، وأمره بالمسير إلى مصر وقصد عاصمة الخلفاء الفاطميين. وخرج الحسن بناء على ذلك، إلى مدينة إصفهان فى سنة 467هـ 1074م فأقام بها سنتين يشتغل بالدعوة وكيلا لابن العطاش، ثم خرج منها إلى مصر مجتازا طريق آذربيجان، ميافارقين، الموصل، سنجار، الرحبه، دمشق، صيدا، صور، عكا، ثم ركب البحر إلى مصر فوصلها فى الثلاثين من أغسطس سنة 1078م 471هـ، واستقبله داعى الدعاة «أبو داؤود» استقبالا حافلا شاركه فيه جماعة من النبلاء والأعيان، وسرعان ما شمله المستنصر برضاه وأغدق عليه نعمه، ولكنه مع ذلك لم يتمكن من المثول بين يديه ورؤيته رأى العين، وإن كان قد أقام بالقاهرة ثمانية عشر شهرا كاملا، وكثرت دسائس «المستعلى» وأعوانه وخاصة قائد الجيش «بدر» للحسن بن الصباح، فاضطر إلى مغادرة مصر وركب السفينة من الإسكندرية فى شهر رجب سنة 472هـ يناير سنة 1080م، فما كادت تخرج به حتى تحطمت بالقرب من شواطىء الشام، فأنقذوه ورجع إلى بلاده مجتازا طريق حلب وبغداد وخوزستان، ووصل فى النهاية إلى أصفهان فى ذى الحجة سنة 473هـ يونية سنة 1080م. ومن ذلك الوقت أخذ يدعوا لنزار أكبر أولاد المستنصر وشملت دعوته يزد وكرمان وطبرستان ودامغان وولايات أخرى من إيران لم يدخل فى عدادها مدينة الرى، لأنه كان يتجنبها اتقاء لشر «نظام الملك» الذى كان يتحرق إلى القبض عليه، كما دلت على ذلك أوامره التى أصدرها إلى زوج ابنته «أبى مسلم» حاكم هذه المدينة (1). وتمكن الحسن بن الصباح فى النهاية من الوصول إلى «قزوين» واستطاع بحيلة جريئة وصفها لنا صاحب «تاريخ گزيده» (2) من الاستيلاء على الحصن
__________
(1) أنظر ابن الأثير ج 10ص 110.
(2) انظر «تاريخ گزيده» طبع كانتن ج 1ص 491488وكذلك ورقة 291امن «جامع التواريخ».(1/276)
الجبلى المنيع «ألموت» واسمه فى الأصل مكون من الكلمتين «آله آموت» ومعناه الصحيح هو «تعليم العقاب» كما أورده ابن الأثير فى ص 110من الجزء العاشر من تاريخه، وإن كان الأغلب تفسيره خطأ بمعنى «وكر النسر» (1). وقد لاحظ كثير من المؤرخين أن المصادفات العجيبة قد شاءت أن تجعل قيمة الحروف التى يتركب منها اسم هذه القلعة (48340064015301) هو التاريخ الصحيح الذى وقعت فيه هذه القلعة فى حوزة الحسن بن الصباح وهو سنة 483هـ 1090م.
وقد تبع سقوط قلعة «ألموت» فى أيدى الحسن بن الصباح سقوط كثير من الأماكن الحصينة فى قبضته وقبضه أتباعه مثل «شاه دژ» و «خالنجان» بالقرب من إصفهان و «طبس» و «تون» و «قائن» و «زوزن» و «خور» و «خوسف» فى قهستان و «وشمكوه» بالقرب من أبهر و «استوناوند» فى مازندران و «اردهان» و «گردكوه»، و «قلعة الناظر» فى خوزستان و «قلعة الطنبور» بالقرب من ارّجان وقلعة «خلّاد خان» فى إقليم فارس.
وكان استيلاء «الحسن بن الصباح» وأتباعه على هذه القلاع والأماكن الحصينة بداية ما نالوه من سلطة سياسية، فلم يكد يموت «المستنصر» حتى انفصلوا نهائيا عن الإسماعيلية فى مصر، وأصبحت لهم أغراض أخرى غير أغراض هؤلاء، لأنهم أخذوا يدافعون عن قضية «نزار» ضد أخيه المستعلى الذى خلف المستنصر فى الخلافة الفاطميه فى القاهرة. ومن أجل ذلك نجد أن كتب التواريخ الفارسية جميعها من قبيل «جامع التواريخ» و «تاريخ گزيده» تفرد فصولا خاصة «للاسماعيلية فى مصر والغرب، وفصولا أخرى للاسماعيلية فى إيران» وهولاء الأخيرون هم أتباع نزار أو «الحشاشون» على حد التسمية التى اشتهروا بها.
وقد اختلفوا طويلا فى اشتقاق كلمة «الحشاشين» وزعموا أنها مشتقة من أصول
__________
(1) «آله» كلمة فارسية صحيحة موجودة فى الپهلوية، وهى بمعنى «نسر» أو «عقاب» و «آموت» هى إحدى اللهجات المحلية فى كلمة «آموخت» بمعنى تعليم، ولست أذكر أية كلمة فارسية قريبة من هذه الكلمة بمعنى «وكر» أو «عش».(1/277)
عجيبة غريبه، فقال بعض الباحثين إنها مسخ لكلمة «الحسنيين» أى اتباع الحسن وقال «كازانيف» (1) إنها متصلة بالكلمة الإنجلو سكسونيه «» بمعنى «سكين» وزعم «جبلان» (2) إنها مشتقة من كلمة «شاهنشاه» بمعنى ملك الملوك، وحاول آخرون تخريجها مثل هذه التخريجات المستحيلة، وبقيت الكلمة غامضة حتى استطاع العلامة «سلفستر دى ساسى» أن يثبت أن الكلمة التى نقلها الصليبيون إلى أوروبا ومسخوها إلى «أساسينى» أو ما شابه ذلك من الصور القريبة (3)، هى بعينها الكلمة التى أوردها المؤرخون اليونان بصورة «خزسيوى» وقد ذكرها على وجهها الصحيح الربى بنيامين التيوديلى (4) فكتبها «حشيشين» وهذه الكلمة تقابل الكلمة العربية «حشيشى» التى تجمع على «حشيشيين» و «حشيشية» (5) وقد أطلقوها على هذا الفريق من الإسماعيلية لاستعمالهم للمخدر المعروف باسم «الحشيش» وهو ما يعرف لدينا باسم ال «بنج» أو القنب الهندى. وهذا المخدر قد انتشر استعماله حاليا فى البلاد الإسلامية جميعا من حدود مراكش إلى أقاصى الهند. وقد أشار إليه شعراء من الفرس مثل «جلال الدين الرومى» و «حافظ الشيرازى» مما يدلنا على أنه كان معروفا لدى الإيرانيين منذ القرن الثالث عشر الميلادى على أقل تقدير، ولكن يظهر أن الأسرار المتعلقة بخواصه كانت معروفة فى الوقت الذى نتحدث عنه لعدد قليل جدا من الناس، ربما لم يتجاوزوا الحسن بن الصباح ونفرا قليلا من أخلص خلصائه، نذكر منهم على سبيل المثال: الطبيب الذى ذكرناه سابقا باسم «احمد بن عبد الملك بن العطاش».
والمجال لا يسمح لى هنا بالتحدث عن خصائص هذا المخدر وقد ذكرت ذلك بالتفصيل فى مكان آخر (6) بينت فيه أنه اقترن بشهرة سيئة فى إيران لم يبلغها غيره من المخدرات
__________
(1) يكتب اسمه بالحروف الرومانية هكذا:
(2) يكتب اسمه بالحروف الرومانية هكذا:
(3) كتبوها هكذا أو أو أو
(4) يكتب اسمه بالرومانية هكذا:
(5) لا يستعمل المؤرخون الفرس هذه التسمية إلا نادرا ويذكرونهم باسم الملاحدة وقد استعملها البندارى فى ص 5690.
(6) القيت بحثا عن ذلك فى 14يناير سنة 1897بعنوان «فصل من تاريخ الحشيش» وقد نشرته فى عدد مارس سنة 1897م فى «مجلة مستشفى سان بارتلميو».(1/278)
كالأفيون، بحيث لا يكاد يذكر فيها الآن إلا على سبيل المجاز فيشيرون إليه بعبارة «الببغاء الخضراء» أو «الخفايا الغامضة» أو «السيد» أو ما شابه ذلك من التسميات المجازية وقد بينت أن سبب ذلك لا يرجع إلى مضاره بقدر ما يرجع إلى اقترانه بهذا الفريق المرعب من الملاحدة. ومن الواجب أن نشير إلى أن «شيخ الجبل» لم يشجع أتباعه على استعمال الحشيش وإدمانه، لأن إدمانه يؤدى إلى التراخى والإهمال والضعف العقلى، وكلها صفات تحرم أصحابها من آداء الواجبات الدقيقة التى تلقى على عواتقهم، ومن أجل ذلك فقد كان استعماله بين هؤلاء القوم مقصورا على مرتبة واحدة من مراتب الإسماعيلية ودرجاتهم.
مراتب الحشاشين:
ذكرنا فيما سبق أن فريق الإسماعيلية كان مقسما منذ أقدم الأزمنة إلى مراتب ودرجات، وقد تبدلت هذه المراتب بظهور «الدعوة الجديدة» فعدلها «الحسن بن الصباح» على هذا النحو. ففى مكان الرئاسة يكون «داعى الدعاة» وهو خاضع مباشرة الامام (1)، ويعرف خارج أتباعه عادة باسم «شيخ الجبل» وقد أخذ الصليبيون هذه التسمية وأخطأوا فهمها فنقلوها إلى لغتهم وإلى غيرها من اللغات بمعنى «الرجل العجوز» أو «رجل الجبل العجوز» ويتلو داعى الدعاة فى مرتبته «الداعى الكبير» وكانت هذه المرتبة تشتمل على عدد من «الدعاة الكبيرين» يتكون منهم ما يشبه مجلس الأساقفة، ولكن كل واحد منهم كان يوكل إليه على حدة أمر ولاية من الولايات أو مقاطعة من المقاطعات ويأتى بعد هؤلاء الدعاة الكبيرين «الدعاة العاديون» وكانت المراتب العالية تتكون من هؤلاء جميعا، وكانوا كلهم على علم تام بأصول المذهب وأغراضه وسياسته أما المراتب المنخفضة فكانت تشتمل على:
1 - مرتبة الرفيق: وهو الذى يكون قد سلك بعض المدارج فى أصول هذا المذهب
__________
(1) بعد موت المستنصر لم يكن الخليفة الفاطمى هو الإمام بل كان الامام ولدا من أولاد «نزار» الذى حرم من ولاية العرش ثم قتل بعد ذلك.(1/279)
2 - مرتبة اللاصق: وهو الذى يكون قد أخذ البيعة للامام دون أن يتبين ما تتضمنه هذه البيعة من معان وواجبات.
3 - مرتبة الفدائى: وهؤلاء هم الموكلون بالثأر والانتقام وأعمال العنف وقد كانوا مصدرا لكثير من الرعب الذى كان يهز الملوك على سروشهم ويلجم أهل السنة فلا يجسرون على لعنتهم وذمهم.
ولا يسعنى فى هذه المناسبة إلا أن أعيد الوصف التصويرى الممتع الذى كتبه فى القرن الثالث عشر الميلادى الرحالة «ماركوپولو» ووصف لنا فيه مراسم استقبال «الفدائى» وسيامته، فى وقت كانت فيه قوة الحشاشين فى إيران (1) قد أوشكت على الزوال، أو زالت فعلا على يد جيوش «هولاگو خان» المغولية، وقد كتب هذا الرحالة ما ترجمته:
«وكان شيخهم يسمى بلغتهم علاء الدين (2) وقد أمر بإقامة سور على أخدود بين جبلين، ثم غرسه بالأشجار وحوله إلى حديقة غناء، هى أجمل ما رأته الأعين ووقعت عليه الأبصار، وهى مليئة بمختلف الفواكه وأطيب الثمار وأقام فيها القصور والجواسق مما لا عين رأت ولا أذن سمعت، وقد طلاها بالذهب ونقشها بأجمل النقوش، وجعل بها قنوات تفيض بالخمر واللبن والعسل والماء، ووضع فيها جملة من أجمل نساء العالمين وأرق الفتيات وجعلهن يعزفن على مختلف الآلات، ويغنين بأعذب الأصوات ويرقصن أروع الرقصات وقد شاء شيخ الجبل بذلك أن يجعل الناس يعتقدون أن حديقته هذه ما هى إلا الجنة بعينها، فأنشأها على النمط الذى صوره لهم الدين الإسلامى وجعلها روضة غناء، تجوس خلالها أنهار تفيض بالخمر واللبن والعسل والماء، وملأها بالجميلات الفاتنات من النساء، اللائى لا هم لهن إلا الترفية عمن بها من نزلاء، ومن
__________
(1) أما فرعهم فى الشام فلم يصبه شىء من السوء، وما زال موجودا هنالك إلى الآن ولكنه مسالم لا ينال أحدا بالأذى.
(2) وهو يشير كما هو معلوم إلى سابع مشايخ الجبل فى «ألموت» وهو «علاء الدين محمد بن الحسن» الذى أعقب أباه «جلال الدين» فى رمضان سنة 618هـ نوفمبر سنة 1221م، وقد أعقب علاء الدين ابنه «ركن الدين خورشاه» وهو آخر مشايخ الجبل فى ألموت، وقد قبض عليه المغول وأعدموه.(1/280)
أجل ذلك فإن الأعراب الذين يقطنون هذه الأرجاء، يعتقدون أنها حقا الجنة التى وعد بها الأتقياء!!»
«ولم يكن يسمح لأحد من الناس أن يدخل هذه الحديقة إلا من شاء أن يجعلهم من حشّاشيه (1). وكان على بابها حصن منيع يستطيع أن يرد هجمات الناس أجمعين.
ولم يكن لها مدخل سواه، وكان يحتفظ فى قصره بعدد من الغلمان تتراوح أعمارهم بين الثانية عشرة والعشرين، ممن يلمس فيهم حب الجندية والقتال، وكان من دأبه أن يقص عليهم أقاصيص عن الجنة كالتى كان يقصها محمد على أتباعه (كذا) فيصدقونه فيما يقول، كما صدق العرب نبيهم. ثم يأذن لهم بعد ذلك فى دخول الحديقة أربعة أربعة أو ستة أو عشرة عشرة، ولكنه يسقيهم قبل ذلك مزيجا من شراب خاص ينامون على أثره (2)، فاذا انطبقت جفونهم وغلبهم الكرى أمر أتباعه أن يحملوهم ويضعوهم فى داخل الحديقة، فإذا أفاقوا وجدوا أنفسهم داخل هذه الروضة الغناء».
«ومتى أفاقوا من غفوتهم ووجدوا أنفسهم فى هذا المكان الرائع، ظنوا أنهم فى جنة الخلد، ثم يقبل النساء والفتيات بعد ذلك على هؤلاء الفتيان فيلاعبنهم ويشفين رغباتهم، ويظفر الرجال منهن بما يرغبون، فلا يشاءون بعد ذلك أن يتركوا هذا المكان المشحون بالفتن واللذائذ».
«وكان هذا الأمير الذى نسميه ب «الشيخ» يقوم بتنظيم قصره بشكل رائع جميل، وقد تمكن من أن يجعل رجال الجبال السذج الذين يحوطونه يعتقدون اعتقادا جاز ما بأنه نبى عظيم، فإذا شاء أن يبعث واحدا من هؤلاء «الحشاشين» فى فى أية رسالة، فإنه يسقيه من هذا المزيج الذى تحدثنا عنه، فإذا غلبه الكرى حملوه إلى القصر، حتى إذا أفاق الشاب لم يجد نفسه فى تلك الجنة التى شفى فيها غلته وأشبع فيها نهمته، بل يجد نفسه داخل القلعة، ثم يدخلونه بعد ذلك على «شيخ الجبل» فينحنى أمامه فى احترام بالغ كأنه فى حضرة رسول كريم ونبى عظيم. فيسأله
__________
(1) يقصد بذلك «الفدائيين» وهم الذين يسمون دون غيرهم بالحشاشين.
(2) هذا الشراب كان عبارة عن محلول من الحشيش، ومن أجل ذلك فإن شيخ الجبل كان يسمى أحيانا ب «صاحب الحشيش»(1/281)
الأمير من أين أتى؟ ويجيب الفتى بأنه أقبل من الجنة، وإنها لشبيهة بما أنزل على «محمد» فى القرآن، ويستمع الآخرون الذين لم يؤذن لهم فى دخول هذه الحديقة إلى هذا الحديث، فيتحرقون شوقا إلى الدخول فيها والتمتع بما بها!!»
«فإذا شاء «الشيخ» أن يقتل أى أمير من الأمراء فما عليه إلا أن يقول لواحد من هؤلاء الشبان: «إذهب واقتل فلانا ومتى عدت فسيأخذك جماعة من ملائكتى إلى الجنة، أما إذا مت فسأبعث إليك بهم ليحملوك إليها». وكانوا يصدقونه فيما يقول، ومن أجل ذلك فقد كانوا يلقون بأنفسهم فى أشد المخاطر وأكثرها تهلكة لكى ينفذوا جميع أوامره ولكى يعودوا بعد ذلك إلى الجنة التى تتحرق إليها أنفسهم، واستطاع الشيخ بذلك أن يجعل رجاله يقتلون أى شخص يريدون التخلص منه واستطاع أيضا بواسطة الرعب الذى ينزله فى أنفس الأمراء أن يجعلهم جميعا يدفعون له الجزية عن طيب خاطر حتى يكون معهم فى سلام ووئام».
ويبدو من هذا النص أن الفدائيين كانوا يختارون وفقا لما يبدونه من طاعة عمياء فى تنفيذ أوامر شيخهم، وكانوا يمتازون أيضا بصفات الشجاعة والصلابة، ولا يطلب إليهم أن يتفقهوا فى تعاليم المذهب كما يفعل غيرهم من أصحاب المراتب العالية. ويصور ذلك كله القطعة الآتية التى رواها لنا «فراپيپينوا» و «مارينو سانوتو» (1). حيث قالا:
«فى فترة من فترات الهدنة ذهب هنرى (ملك بيت المقدس) لزيارة الشيخ فى الشام، فخرجا ذات يوم للنزهة فرأيا فى مسيرهما شبانا قد ارتدوا الملابس البيضاء وجلسوا فوق قمة عالية. فالتفت الشيخ إلى هنرى وسأله عما إذا كان لديه شبان يمتازون بالطاعة العمياء مثل هؤلاء الشبان ولم ينتظر جوابه بل أومأ إلى اثنين من هؤلاء الفتيان بإشارة خاصة فقفزا إليه من قمة القلعة ولقيا حتفهما فى التو والساعة!!».
ورغم أن الفدائيين لم يكونوا يتفقهون فى التعاليم الخفية التى تضمنها مذهبهم الدينى، إلا أنهم كانوا على أتم تدريب فى استعمال الأسلحة ووسائل القتال، وفى تجشم المصاعب والقدرة على الصبر والاحتمال، وفى الفنن فى أساليب التنكر والتخفى والاستتار، بل لقد أظهر ما فى بعض المناسبات قدرتهم الفائقه فى التحدث باللغات
__________
(1) بالحروف الرومانية هكذا:(1/282)
الأجنبية والأوروبية بحيث استطاع الفدائيون الذين كلفوا بقتل «كونراد» مركيز مونتفرات (1) أن يتحدثوا بلغة الفرنج وأن يقلدوهم فى سائر عاداتهم تقليدا بارعا ظهروا فيه بمظهر الرهبان المسيحيين، فتمكنوا بواسطة ذلك من أن يقيموا فى معسكر الصليبيين ستة أشهر كاملة ينتظرون الفرصة السانحة لتنفيذ المهمة الدامية التى بعثوا من أجلها.
وكان من النادر بالطبيعة أن ينجو الفدائى بعد قتل فريسته، لأن الفدائيين كانوا فى الغالب يميلون إلى تنفيذ خططهم فى جرأة زائدة وشجاعة بالغة، فيقضى الواحد منهم على الأمير المسلم وهو قائم بالمسجد يؤم الناس لصلاة الجمعة، أو يندفع إلى الأمير المسيحى فيقتله دون خوف أو وجل فى وسط الكنيسة فى يوم الأحد وهو واقف يصلى بين جماعة المصلين من قومه وعشيرته. فإذا قتل الفدائى بعد أداء المهمة التى كلفه بها «شيخ الجبل» فإن ميتته كانت تعتبر بين أتباع «الحسن بن الصباح» من أشرف الميتات التى تضمن له السعادة المقبلة والحياة الهانئة الخالدة، حتى لقد نقرأ أعجب الأخبار عن أمهات بعض الفدائيين وقد أخذن فى البكاء والانتحاب لأن أولادهن عادوا إليهن على قيد الحياة ولم يظفروا بمرتبة الاستشهاد والخلود!!
وكان من دأب الفدائيين فى بعض الأحيان أن يكتفوا بالتهديد والوعيد إذا وجدوا فى ذلك ما يحقق مآربهم ويضمن غاياتهم، وكثيرا ما حدث أن هاجمهم قائد من القواد يبغى تذليل معقل من معاقلهم، فإذا به يصحو فى أحد الأيام ليجد فى خيمته وبالقرب من مضجعه خنجرا مغروسا فى الأرض، وقد علقت عليه رساله من رسائل التهديد والوعيد تجعله فى الغالب ينصرف عن معركته ويقنع من الغنيمة بالإياب وقد حدث مثل ذلك فيما يقولون للسلطان «ملكشاه» ول «لصلاح الدين» وإن كنت شخصيا أظن أن الروايات التى رويت عن هاتين الحادثتين لا يجب الاعتماد عليها اعتمادا كليا لا يتطرق إليه شىء من الشك أو الريبة.
وقد ذكروا أن فقيها أخذ فى ذم ملاحدة «ألموت» فتصدى له واحد من أتباعهم وأخذ يحضر مجالسه على أنه طالب راغب فى الاستماع إلى محاضراته وتتبع آرائه، حتى إذا استرعى التفاته خيره بين كيس مملوء بالذهب أو خنجر مسنون الحد
__________
(1) بالحروف الرومانية هكذا،(1/283)
ليكف عن التعرض لهم والتنديد بمعتقداتهم، فاختار الفقيه الذهب وكفى نفسه شر البلاء!! فكانوا إذا اجتمعوا حوله بعد ذلك وسخروا منه لكفه عن التعرض لآرائهم، أجابهم فى شىء من السخرية اللاذعه، بأنه قد اضطر إلى ذلك اضطرارا بعد ما قدموا له من «حجج قاطعة وبراهين ساطعة» جعلته يقتنع بأنه كان على خطأ فيما تفوه به قبل ذلك من أقوال خاسرة!!
وقد استمر نشاط «الحشاشين» كبيرا وبالغا منذ نشأتهم إلى أن تمكن «المغول» من تحطيم معاقلهم فى إيران وقتل آخر شيوخهم وثامن ائمتهم «ركن الدين خورشاه» فى منتصف القرن الثالث عشر الميلادى (السابع الهجرى) أى فى نفس الوقت الذى استطاعوا فيه تحطيم الخلافة فى بغداد. وسيعرض لنا ذكرهم كثيرا فيما يلى من صفحات ولأجل ذلك فإنى أنبه القارىء بأن يلم منذ الآن إلمامة كافية بمبادىء مذهبهم، وطرائق تكوينهم وبيان صلتهم بمذهب الإسماعيلية الرئيسى فى مصر لأن أهم فتره فى تاريخ هؤلاء الإسماعيليين هى الفترة التى أسس فيها «الحسن ابن الصباح» دعوته الجديدة بما اقترن بها من عناصر الرهبة والرعب. أما فرعهم الشآمى، فقد كان له الفضل فيما ناله «الحشاشون» من شهرة عريضة فى ربوع أوروبا، كما كان له الفضل فى تزويد معجمنا بكلمة جديدة للدلالة على تسميتهم. وقد استطاع هذا الفرع أن يثبت مكانته السياسية منذ استيلاء رجاله على قلعة «بانياس» فى سنة 1126م 520هـ.
ولكننا للأسف سوف لا نجد مجالا للأفاضة فى الحديث عن هذا الفرع فيما يلى من صفحات ومن أجل ذلك فإننا على ثقة من أن القارىء الذى يهمه تتبع هذا الموضوع سوف لا يتأخر عن الاطلاع على المقال القيم الذى كتبه «ستانسيلاس جويار» فى «المجلة الأسيوية» سنة 1877م بعنوان «شيخ من شيوخ الحشاشين» (1). ويشتمل هذا المقال على سيرة صادقة ممتعة للشيخ «رشيد الدين سنان» الذى استطاع فى وقت من الأوقات أن يجعل الفرع الشآمى ينفصل عن الفرع الإيرانى. وسيرة هذا
__________
(1) عنوان هذا المقال بالفرنسية هو:،. 1877،(1/284)
الرجل تفوق فى غرابتها وغرابة وقائعها كثيرا من الروايات الخيالية الرائعة وهى تمدنا بكثير من التفاصيل عن تاريخ الاسماعيليين وأعمالهم وأساليبهم. وقد اضطررت اضطرارا لضيق المجال أن أصدف عن ذكرها فى هذا المقام. وما زال بقايا الإسماعيلية موزعين أشتاتا حتى يومنا هذا فى أنحاء المشرق بين ربوع سوريا وإيران وشرق أفريقيا وأواسط آسيا وبلاد الهند حيث يدينون الآن بالطاعة ل «آقاخان» باعتباره رئيسا لهؤلاء الجماعة من الإسماعيلية. و «آقاخان» هذا من أحفاد «ركن الدين خورشاه» الذى كان آخر شيوخ الجبل فى «ألموت» وقد ادعى ركن الدين أنه من سلالة «نزار» ابن الخليفة الفاطمى «المستنصر» وأنه ينتسب بهذه الواسطة إلى الإمام السابع «اسماعيل» ابن حفيد حفيد (على بن أبى طالب) ابن عم الرسول وزوج ابنته.
ناصر خسرو
وقد اضطرتنا دراسة حياة «الحسن بن الصباح» وما قام به من أعمال إلى أن نبتعد عن ذكر زميله «ناصر خسرو» الذى يفوقه من الناحية الأدبية كثيرا، فأما الحسن بن الصباح فليس فى أيدينا من كتاباته إلا النبذ المنقولة من «سرگذشت سيدنا» فى كتاب تاريخ «جهان گشا» وكتاب «جامع التواريخ»، وأما «ناصر خسرو» فله بين أيدينا جملة من المؤلفات القيمة الممتعة كتبها نثرا وشعرا وقام على دراستها جماعة من أنبه العلماء مثل «بلاند» و «دورن» و «إتيه» و «فانيان» و «نولدكه» و «پرتش» و «ريو» و «شيفر» (1)
وسنقوم بدراسة هذه المؤلفات ونترجم لصاحبها (وهو من خيرة الشخصيات اللامعة فى تاريخ الأدب الفارسى) فى الفصل التالى الذى أفردناه لدراسة الحركة الأدبية خلال هذه الفترة التى أجملنا الحديث عنها وصورناها سياسيا فى هذا الفصل الذى انتهينا منه.
__________
(1) تكتب هذه الأسماء بالحروف الرومانية هكذا:
.،،،،،،،
الفصل الرابع الأدب فى العصر السلجوقى الأول نظام الملك ومعاصروه(1/285)
__________
.،،،،،،،
الفصل الرابع الأدب فى العصر السلجوقى الأول نظام الملك ومعاصروه
نظام الملك وكتابه «سياست نامه»:
الكلام فى نشر هذا الكتاب ونسخه
من الخير عند استعراض هذا العصر الممتع الهام، أن نبدأه بالحديث عما تركه «نظام الملك» نفسه من آثار أدبية، لأنه كان أهم شخصية ظهرت فى إيران فى ذلك الوقت. وآثاره الأدبية لا تزيد على كتاب واحد هو «سياست نامه» أو «كتاب السياسة» (1) وقد نشر أصله الفارسى المرحوم الأستاذ «شارل شيفر» فى سنة 1891م، كما نشر أيضا ترجمة فرنسية له، عليها كثير من التعليقات التاريخية الهامة فى سنة 1893م، وقد أتبع الأصل والترجمة بملحق نشره فى سنة 1897م يشتمل على ملاحظات متصلة بحياة «نظام الملك» والعصر الذى نشأ فيه استقاها من مختلف المصادر الفارسية والعربية. وقد كان من الصعب الحصول على كتاب «سياست نامه» قبل ظهور هذه الطبعة التى نشرها «شيفر» لأن النسخ المخطوطة منه كانت نادرة كل الندرة، وقد استعان الأستاذ «شيفر» بثلاث نسخ مخطوطة كانت إحداها ملكا له وهى الآن فى المكتبة الأهلية بباريس، والثانية نسخة المتحف البريطانى، والثالثة نسخة برلين.
وقد قابل هذه النسخ فى بعض المواضع بنسختين أخريين فى مكتبة سان پيترسبورج.
وتوجد من هذا الكتاب نسخة سادسة موجودة فى مجموعة «پوت» المحفوظة فى مكتبة «كلية الملك» بجامعة كمبردج (2) وهذه النسخة حديثة العهد نسبيا ولكنها
(1) أما كتاب «الوصايا» الذى ينسبونه إليه فزائف كل الزيف.
(2) اسم المجموعة بالإنجليزية هكذا:
.،
أفادتنى فائدة كبرى فى تصحيح بعض الأخطاء التى وقعت فى النسخة المطبوعة. ويشتمل كتاب «سياست نامه» على خمسين فصلا تبحث فى شئون الملك وحقوق الملك وواجباته وما يتصل بالإدارات المختلفة التى يعتمد عليها فى إدارة البلاد وقد أخذ «نظام الملك» يكتب هذا الكتاب فى سنة 484هـ (10921091م) أى قبل وفاته مقتولا بسنة واحدة كتبه استجابة لرغبة أبداها «ملكشاه» أمام أهل الرأى من مستشاريه (1) بأن يضع كل واحد منهم رسالة فى الحكم يبين فيها أنواع المفاسد والعيوب التى انتشرت فى أرجاء بلاده ونواحى إدارتها، ويبين فيها كذلك أنواع البدع المستحدثة الضارة التى أخذت فى الظهور، وأنواع العادات الحسنة القديمة التى أصابها الإهمال وعفا عليها الزمان. وقد استجاب جملة من أهل الرأى إلى طلب «ملكشاه» فأنشأوا الرسائل فى هذه الموضوعات التى اختارها ولكن الرسالة الوحيدة التى حازت إعجابه واستحسانه هى رسالة «نظام الملك» وقد أثر عنه أنه قال بصددها:(1/286)
__________
.،
أفادتنى فائدة كبرى فى تصحيح بعض الأخطاء التى وقعت فى النسخة المطبوعة. ويشتمل كتاب «سياست نامه» على خمسين فصلا تبحث فى شئون الملك وحقوق الملك وواجباته وما يتصل بالإدارات المختلفة التى يعتمد عليها فى إدارة البلاد وقد أخذ «نظام الملك» يكتب هذا الكتاب فى سنة 484هـ (10921091م) أى قبل وفاته مقتولا بسنة واحدة كتبه استجابة لرغبة أبداها «ملكشاه» أمام أهل الرأى من مستشاريه (1) بأن يضع كل واحد منهم رسالة فى الحكم يبين فيها أنواع المفاسد والعيوب التى انتشرت فى أرجاء بلاده ونواحى إدارتها، ويبين فيها كذلك أنواع البدع المستحدثة الضارة التى أخذت فى الظهور، وأنواع العادات الحسنة القديمة التى أصابها الإهمال وعفا عليها الزمان. وقد استجاب جملة من أهل الرأى إلى طلب «ملكشاه» فأنشأوا الرسائل فى هذه الموضوعات التى اختارها ولكن الرسالة الوحيدة التى حازت إعجابه واستحسانه هى رسالة «نظام الملك» وقد أثر عنه أنه قال بصددها:
لقد عالج «نظام الملك» جميع الموضوعات وفقا لرغبة قلبى، ولم يترك شيئا لباحث يضيفه إلى كتابه، ومن أجل ذلك فإنى اتخذه هاديا ومرشدا يهدينى سواء السبيل.
وقد انتهى «نظام الملك» من كتابة هذا الكتاب فى سنة 485هـ (1092 1093م) وكان فراغه منه قبيل مقتله بفترة قصيرة كما يؤخذ من هذه النبذة الغريبة التى اشتملت على نبوءة عجيبة نجدها قرب الخاتمة، حيث يقول:
«هذا هو كتاب السياسة وقد تم لى تحريره وجمعه بناء على أمر أصدره مليك العالم لهذا المولى الحقير بأن يكتب فى هذه الموضوعات التى اختارها، وقد كتبت منها على البديهة تسعة وثلاثين فصلا (2) ثم قدمتها إلى حضرته العالية، فنالت استحسانه وإعجابه. وقد كانت مختصرة مجملة، ولكنى أضفت إليها بعد ذلك بعض الزيادات وألحقت بكل فصل منها ما يناسبه من الملاحظات والنكات، مبينا كل ذلك بلغة سهلة جزلة وألفاظ واضحة بينة. فلما كانت سنة 485هـ وأردت الخروج إلى بغداد أعطيتها
(1) من أهم هؤلاء بالإضافة إلى «نظام الملك» نجد أسماء «شرف الملك» و «تاج الملك» و «مجد الملك».
(2) يظهر أن الفصول الأحد عشر الباقية أضيفت إلى هذا الكتاب عند مراجعته.(1/287)
إلى ناسخ المكتبة الملكية «محمد المغربى» وأمرته أن يكتبها بخطه الجميل حتى إذا قدر لى ألا أعود من هذه الرحلة أسرع بعرضها على ملك العالمين» (1).
وفعلا، لم يقدر لهذا الكتاب أن ينشر إلا بعد موت مؤلفه بفترة من الزمن.
وربما تأخر ظهوره قليلا بسبب المتاعب القومية والحروب الأهلية التى نشبت مباشرة بعد موت «ملكشاه» (2).
أهمية وقيمة هذا الكتاب
وكتاب «سياست نامه» يعتبر فى رأيى من أهم الكتب الممتعة القيمة التى كتبت نثرا فى الفارسية ذلك لأنه من ناحية يشتمل على قدر كبير من الأخبار والروايات التاريخية، ولأنه من ناحية أخرى يشتمل كذلك على الآراء السياسية التى كان يراها واحد من أنبغ الوزراء الذين ظهروا فى المشرق، والذين بلغوا مبلغا من القوة والحكمة لا نستطيع تقدير مداه إلا بالنظر إلى الفوضى المتصلة والحروب الداخلية المستمرة التى أعقبت مقتله. وقد كتب «نظام الملك» كتابه هذا فى لغة سهلة يسيرة خالية من كل المحسنات البلاغية ولقد تنحط عبارته أحيانا إلى مرتبة العبارات السوقية العامية، أو قد يشوبها بعض الصيغ المهجورة التى كانت مستعملة فى ذلك الزمان المبكر. وليس من السهل علينا فى هذا المجال الضيق أن نستعرض محتويات هذا الكتاب الواسع الكبير بل لو أننا افترضنا فرضا إمكان المحال لأحسسنا بعدم الحاجة إلى ذلك، لأن مثل هذا العرض يستطيع أن يظفر به القراء الأوروبيون فى الترجمة الرائعة التى أخرجها الأستاذ «شيفر» لهذا الكتاب. يضاف إلى ذلك أن الانظار يجب أن تتجه فى هذا الموضوع أيضا الى مقالة قيمة كتبها الأستاذ «نولدكه» بجامعة ستراسبورج فى الجزء السادس والأربعين (ص 768761) من «مجلة المستشرقين الألمان» الصادرة فى سنة 1892م.
فصول هذا الكتاب
وقد خصص «نظام الملك» سبعة فصول من كتابه (من الفصل 41إلى 47.
صفحة 205138) لمحاربة الملاحدة والمظنون فى دينهم وخاصة فريق «الإسماعيلية والباطنية». وهو يشكو مرّ الشكوى (فى صحيفة 139) من أن اليهود والمسيحيين والمجوس
__________
(1) المترجم: هذا هو نص هذه العبارة الأخيرة بالفارسية «اگر بنده را بازآمدن نباشد ازين سفر اين دفتر را پيش خداوند عالم برد».
(2) انظر ما كتبه الناشر الفارسى فى نهاية فهرس الموضوعات بالصحيفة الخامسة من الأصل.(1/288)
والقرامطة يوظفون بكثرة فى أعمال الدولة والديوان، ثم يثنى على الخطة الصالحة التى أتبعها «ألپ أرسلان» أثناء حكمه فى منع هؤلاء من تولى هذه الوظائف ومعاملتهم بشدة وغلظة بالغتين. ثم يأخذ فى مهاجمة مذهب «الشيعة» على العموم ومذهب «السبعية» على الخصوص، ويجتهد فى البرهنة على أن مذاهبهم مشتقة فى أساسها من مذهب المتنبى الاشتراكى «مزدك» الذى أمر بإعدامه الملك الساسانى «انو شيروان» فى القرن السادس الميلادى (1)، ثم يورد فصلا مطولا عن مزدك (ص 181166) يبين فيه أنه بعد القضاء عليه وعلى أتباعه انبعث مذهبه من جديد على يد «الخرميّة» المعروفين باسم «خرّم دينان (2)» ثم على يد «سنباد المجوسى (3)» ثم على يد «عبد الله بن ميمون القدّاح» (4) الذى إليه يرجع الفضل فى تقوية مذهب الإسماعيلية، والذى إليه ينتسب خلفاء مصر الفاطميون أو العلويون كما يقول خصومهم. ويشتمل هذا الجزء من الكتاب فيما عدا ذلك على مقال بين فيه الكاتب مدى الشرور التى تنشأ من تدخل النساء فى شئون الدولة والحكومة، وكذلك على بيان الصفات التقليدية التى يشترط وجودها فى الوزير العظيم. وبه أيضا كثير من الأخبار عن مدى النشاط الذى قام به دعاة الإسماعيلية فى أيام السامانيين وعلى الخصوص أثناء علو شأنهم على أيام الأمير التعيس «نصر بن أحمد» (331301هـ 942913م)، ولم يذكر هذا الكتاب إلا القليل الأقل عن «الدعوة الجديدة» ولم يشر أية إشارة صريحة عن منشئها «الحسن بن الصباح» ولكنه مع ذلك يشتمل على أخبار هامة عن ازدياد نفوذ «الباطنية» وهى أخبار كثيرة متعددة تقطع بغير شك بأن هذا الجزء من الكتاب إنما خصصه كاتبه لمهاجمة «الحسن بن الصباح» وأتباعه كما يبدو واضحا من العبارات الأولى من المقال الثالث والأربعين (5) حيث يقول فى افتتاحه ما يلى:
__________
(1) فصلنا الحديث عن «مزدك» فى الجزء الأول من هذا الكتاب ص 172166 (من الأصل).
(2) انظر ما ورد عنهم فى الجزء الأول من هذا الكتاب (ص 313312، 323وما يتبعها).
(3) انظر نفس المرجع ص 314313 (من الأصل).
(4) انظر نفس المرجع ص 398393 (من الأصل).
(5) المترجم: رقم هذا المقال فى الحقيقة هو 44لأن الطابع جعل المقالين 41و 42برقم واحد هو 41. وبذلك أصبح كل مقال ينقص واحدا، وقد تداركت الترجمة الفرنسية هذا السهو وأعطته رقمه الصحيح وهو فى الأصل الفارسى موجود فى صفحة 164من طبعة «شيفر» بباريس سنة 1891.(1/289)
«مقال فى بيان أحوال أصحاب المذاهب السيئة» «أعداء الملك والإسلام» «أريد أن أذكر فى هذا الصدد جملة فصول فى معنى خروج الخوارج،» «حتى يعلم الناس مقدار الشفقة والعطف اللذين أبديتهما للدولة السلجوقيه» «ومقدار الحب والشغف اللذين أحس بهما نحوها، وعلى الخصوص» «ما أحسه من حب بالغ لمليكها سيد العالم خلد الله ملكه، وما» «أكنه من إخلاص سابغ لأولاده وأسرته وقى الله أيامه من عين» «السوء وشر الحاسدين!!»
«وجد الخوارج فى جميع الأزمنة والعصور وقد خرجوا منذ عهد آدم» «عليه السلام حتى الآن، فى جميع أقاليم الدنيا، وثاروا على الملوك
«والأنبياء، ومع ذلك فما من جماعة أكثر شؤما ولؤما وأسوأ مذهبا» «ودينا، وأردأ عملا ونهجا من هؤلاء القوم فليكن معلوما أنهم» «يدبرون من وراء أسوارهم نكبة هذه المملكة، وإفساد مذهبها» «ودينها، فما تزال آذانهم تتسقط الأنباء وعيونهم تتربص الفرص حتى» «إذا أصابت هذه الدولة القاهرة ثبنها الله تعالى مصيبة جديدة أو» «نزل بها سوء والعياذ بالله، خرج هؤلاء الكلاب من مكامنهم لنشر» «الدعوة الشيعية وهم فى الحقيقة أقوى شأنا من الرافضية والخرمية» «لا يدعون وسيلة ممكنة دون أن يلجأوا إليها، فيجتهدون اجتهادا فى» «إفساد العقول ونشر الشائعات والبدع وهم يدعون قولا أنهم مسلمون» «ولكنهم يأتون أفعال الكفرة وباطنهم لعنهم الله بخلاف ظاهرهم، وقولهم» «بخلاف عملهم، وليس لدين محمد المصطفى صلّى الله عليه وسلم عدو أشأم ولا» «أنكد منهم، وليس لدولة الملك خصم ألد وأشد منهم وينضوى تحت علمهم» «اليوم جميع الأشخاص الذين لا قوة لهم الآن فى شئون الدولة، ويدعون» «ظاهرا أنهم شيعيون وهم فى الحقيقة يهيئون أمورهم فى الخفاء، ويزدادون» «قوة ونفوذا، ويجتهدون فى نشر دعوتهم ويسعون لدى مليك العالم لكى»
«يقنعوه بأن يهدم بيت «بنى العباس» ولو تهيأ لى أن أكشف الغطاء» «عن الوعاء فما أكثر ما يتكشف من خبائثهم ومخازيهم!!»(1/290)
«والأنبياء، ومع ذلك فما من جماعة أكثر شؤما ولؤما وأسوأ مذهبا» «ودينا، وأردأ عملا ونهجا من هؤلاء القوم فليكن معلوما أنهم» «يدبرون من وراء أسوارهم نكبة هذه المملكة، وإفساد مذهبها» «ودينها، فما تزال آذانهم تتسقط الأنباء وعيونهم تتربص الفرص حتى» «إذا أصابت هذه الدولة القاهرة ثبنها الله تعالى مصيبة جديدة أو» «نزل بها سوء والعياذ بالله، خرج هؤلاء الكلاب من مكامنهم لنشر» «الدعوة الشيعية وهم فى الحقيقة أقوى شأنا من الرافضية والخرمية» «لا يدعون وسيلة ممكنة دون أن يلجأوا إليها، فيجتهدون اجتهادا فى» «إفساد العقول ونشر الشائعات والبدع وهم يدعون قولا أنهم مسلمون» «ولكنهم يأتون أفعال الكفرة وباطنهم لعنهم الله بخلاف ظاهرهم، وقولهم» «بخلاف عملهم، وليس لدين محمد المصطفى صلّى الله عليه وسلم عدو أشأم ولا» «أنكد منهم، وليس لدولة الملك خصم ألد وأشد منهم وينضوى تحت علمهم» «اليوم جميع الأشخاص الذين لا قوة لهم الآن فى شئون الدولة، ويدعون» «ظاهرا أنهم شيعيون وهم فى الحقيقة يهيئون أمورهم فى الخفاء، ويزدادون» «قوة ونفوذا، ويجتهدون فى نشر دعوتهم ويسعون لدى مليك العالم لكى»
«يقنعوه بأن يهدم بيت «بنى العباس» ولو تهيأ لى أن أكشف الغطاء» «عن الوعاء فما أكثر ما يتكشف من خبائثهم ومخازيهم!!»
«ولكن من أسف أن مليك العالم استصاع أن يبنى بعض الأموال من وراء» «بعض حركاتهم، ومن أجل ذلك فهو يريد بسبب الأموال الكثيرة (التوفيرات)» «التى جناها أن يشرع فى عمل يرضيهم، وقد استطاعوا أن يغرسوا فى نفسه» «حب المال والحرص عليه واتهمونى لديه بأنى مغرض استهدف صالحى،» «بحيث أصبح نصحى له غير مقبول ولا ممكن، ولن يعلم مقدار فسادهم» «ومكرهم إلا بعد ما أكون قد رحلت عن هذا العالم!! عند ذلك فقط» «يستطيع أن يتحقق من مدى حبى لدولته القاهرة، وأننى لم أكن غافلا عن» «أحوال هذه الطائفة وخططهم التى دبروها، وأننى كنت فى جميع الأوقات» «أعرضها على رأيه العالى [أعلاه الله] ولا أخفيها عنه، ولكنى لم أحاول إعادتها» «على مسامعه والإصرار على تكرارها أمامه لأنى رأيت أن أقوالى لم تظفر» «لديه بالحظوة والقبول»
والإشارة التى يشير إليها «نظام الملك» فى هذه الفقرة الأخيرة تتفق تماما مع ما جاء فى الورقة «14ا» من النسخة الخطية لكتاب «راحة الصدور» (1)
حيث يضجّ المؤلف بالشكوى من أن هؤلاء الملاحدة يكثرون فى أنحاء البلاد وهم السبب فيما تقاسيه من ضيق وعناء وما تتحمله من الضرائب الكثيرة المفروضة. وهو يحتج على ذلك أشد الاحتجاج ويقول إن كثرة من هؤلاء الملاحدة يوجدون فى «قم» و «كاشان» و «الرى» و «آبا» و «فراهان» وهم يرقون إلى شغل المناصب العامة بعدما يعدون الملك أن يهيئوا له «التوفيرات» الكثيرة من المال (2). وهى عبارة يسترون بها الضرائب الباهظة التى يفرضونها على الناس. وهنا نجد بعض الدليل على صحة الواقعة التى نستطيع أن نسميها بالقصة القديمة المتناقلة عن المشاحنة التى وقعت
__________
(1) المترجم: طبع هذا الكتاب ضمن سلسلة جب التذكارية وقام على نشره الأستاذ إقبال.
(2) المترجم: نلاحظ أن كلمة «التوفيرات» هى نفس الكلمة التى استعملها نظام الملك.(1/291)
بين «نظام الملك» و «الحسن بن الصباح» وكيف أن الأخير منهما أراد أن يوجه إليه أنظار الملك فأخذ يطعن فى النظم المالية التى يتبعها وزيره «نظام الملك» (1).
الأخطاء التاريخية فى هذا الكتاب
ولا بد لى وقد فرغت من إبداء ملاحظاتى المقتضبة على هذا الكتاب الثمين الممتع أن أعترف بأنى فى محاضراتى لم أجد بين الكتب الفارسية المنثورة ما هو أمتع وأنفع لنفسى ولمن أستمع لى من هذا الكتاب، ومع ذلك فيجب الإشارة بأنه يجب التحرز من قبول أخباره التاريخية على علاتها ويجب التنبيه إلى أنه تكثر به الأغلاط أيضا، فمثلا فى صفة 12من النص الفارسى يروى المؤلف أن «يعقوب بن الليث» هدد الخليفة «المعتمد على الله» بأنه سيحضر الخليفة الفاطمى من «المهدية» ويجلسه مكانه، والمعروف أن الخليفة «المعتمد» حكم فى سنة 257 279هـ 892870م وأن مدينة المهدية لم تبن إلا فى سنة 298هـ 910م (على أقل تقدير) أو ربما بعد ذلك بعشر سنوات على القول الأرجح.
وأمثال هذه الأخطاء كثيرة فى الكتاب، وعلى الخصوص فيما يتعلق بالملاحدة فالظاهر أن المؤلف قد شغل نفسه بهم حتى استطاع أن يتنبأ بنهايته على أيديهم وحتى أنساه ذلك كل ما يتصل بالتحقيق والتدقيق فى رواية الأخبار التاريخية عنهم. ومن الجائز المتوقع أن مطاعنه الكثيرة التى كالها لمذاهبهم وأعمالهم وأغراضهم كانت أكبر العوامل التى دفعتهم إلى قتله والقضاء عليه.
ناصر خسرو:
الحكايات حول شخصه
أشرت فى الفصل السابق إشارة مختصرة إلى رجل من أعلام هذه الفترة هو «ناصر خسرو» الشاعر الرحالة، وأحد دعاة الإسماعيلية المعروفين وقد آن الأوان الآن لأن نمضى فى دراسة آثاره الأدبية. ومن الخير أن نذكر أن كثيرا من الخرافات والأقاصيص قد نسجت حول شخصه، وجميعها مستمدة من السيرة الزائفة التى قيل إنه وضعها عن نفسه، وهى السبرة التى توجد فى مقدمة ديوانه طبع تبريز.
__________
(1) هذه القصة موجودة فى كتاب «تاريخ گزيده» لحمد الله مستوفى ص 440طبع لندن سنة 1910، وكذلك ص 211208من الجزء الأول من طبعة(1/292)
وهى برمتها عبارة عن نسيج واه من الخرافات والأوهام، اختلطت به بعض الأخبار المتعلقة بغيره من مشاهير الرجال، ثم انتهت بحكاية نسبوها إلى شقيق «ناصر» ورووها على لسانه، تذكر أن «ناصرا» قد مات فى الأربعين بعد المائة من عمره وأن الجن قد تولت حمل جنازته ودفنه!! وقد ذكر «إتيه» (1) أن هذه السيرة وردت فى ثلاث روايات، أطولها وأكثرها تفصيلا هى تلك التى أوردها «تقى الكاشى» فى كتابه «خلاصة الأشعار»، وأقصرها هى المذكورة فى الكتابين «هفت إقليم» وال «سفينه»، أما تلك التى ذكرها «لطفعلى بيك» فى كتابه «آتشكده» فهى متوسطة الطول والتفاصيل، وقد ترجم هذه الرواية الأخيرة «ن. بلاند» فى المجلد السابع من «مجلة الجمعية الملكية الأسيوية» ص 360وما يليها. وأورد «شيفر» خلاصة هذه الرواية (بعد ما حذف منها الخوارق التى لا يقبلها العقل) فى المقدمة التى قدم بها كتاب «سفرنامه» حينما نشره ونشر ترجمته الفرنسية (ص 178من المقدمة). ويغلب على الظن أن هذه الرواية كما يفترض «إتيه» ما هى إلا من نتاج القرن التاسع أو العاشر الهجرى (أى الخامس عشر أو السادس عشر الميلادى) ذلك لأن أول كتاب ذكرها فيما نعلم هو كتاب «هفت إقليم» وهو كتاب من تواليف سنة 1002هـ 15941593م.
ومع ذلك فمن المعلوم أن كثيرا من الخرافات قد حيكت حول «ناصر خسرو» قبل ذلك التاريخ، ويمكننا التحقق من ذلك بالاطلاع على المقال (2) الذى تضمنه كتاب «القزوينى» المعروف ب «آثار البلاد» وهو كتاب جغرافى تم تأليفه فى سنة 675هـ 1206م فقد ذكر الكتاب أن «ناصرا» كان ملكا على مدينة «بلخ» فخلعه رعاياه وطردوه، فلجأ إلى مدينة «يمگان» وأخذ فى تزيينها، وأقامة الحمامات الجميلة فيها وإنشاء الحدائق الغناء بها، ونصب التماثيل الرائعة فى أرجائها، وكانت هذه التماثيل مطلسمة توحى بالروعة والخوف، لا يستطيع أحد أن يطيل النظر فيها دون أن يفقد رشده وصوابه. وقد وصف «القزوينى» هذه الحمامات فى كثير من التفصيل وقال إنها ما زالت قائمة حتى زمانه!!
__________
(1) انظر مقاله الممتع عن كتاب «روشنائى نامه» فى المجلد 33من «مجلة المستشرقين الألمان» سنة 1879ص 665645.
(2) انظر ص 328من هذا الكتاب تحت مادة «بمكان».(1/293)
وإليك الآن مثلا لحادثة رائعة تضمنتها هذه السيرة الزائفة، وهى برمتها مذكورة فى مخطوطة يرجع تاريخها إلى سنة 714هـ 13151314م موجودة فى «مكتبة إدارة الهند» (1) وخلاصتها ما يلى:
«وبعد عناء طويل وصلنا إلى مدينة نيسابور. وكان فى صحبتنا واحد من» «تلاميذى له خبرة فى الطب والحكمة. ولم يكن أحد يعرفنا فى هذه المدينة» «فلجأنا إلى مسجد من المساجد لنقيم فيه. ولما سرت فى أرجاء المدينة كنت» «أسمع الناس يسبوننى أمام أبواب المساجد التى مررت عليها، ويتهموننى بأنى» «كافر ملحد، ولم يكن تلميذى ليعلم شيئا عن آراء الناس فى. وذات يوم» «بينما كنت أجتاز السوق عرفنى رجل من مصر فالتفت إلى وقال: ألست» «أنت ناصر خسرو؟! وأليس هذا أخاك أبا سعيد؟! فخشيت افتضاح» «أمرى، وأمسكت على يده بشدة وشغلته بالحديث، ثم أخذته إلى حيث» «أقيم وعرضت عليه أن يأخذ ثلاثين ألف مثقال من الذهب على ألا يفضح» «أمرى أو يكشف سرى. فلما قبل رجائى أعددت له المبلغ وناولته إياه وأخرجته» «من مسكنى. ثم خرجت إلى السوق فى صحبة «أبى سعيد» وتوقفت لدى» «إسكافى ليصلح لى نعلى حتى أستطيع الرحيل عن هذه المدينة. وفجأة سمعت» «صياحا وصخبا إلى جوارى، وهب الإسكافى من مكانه وهرع إلى مكان» «الصخب ليستطلع الأمر ثم عاد إلى بعد برهة وجيزه وعلى مخرازه قطعة من» «اللحم الآدمى. فسألته عن سبب هذه الجلبة، وما هذه القطعة من اللحم الذى» «يرفعها على مخرازه؟ فأجابنى بأن واحدا من أتباع «ناصر خسرو» قد ظهر» «فى المدينة وأخذ يناقش علماءها فى المسائل الدينيه فلم يتقبلوا آراءه مستندين» «فى معارضتها على الكتب المعتمدة والمصادر الموثوق بها، فأخذ يجادلهم فيما»
__________
(1) هذه المخطوطة تتعلق بمختارات من دواوين ستة من شعراء الفرس، وهى برقم 132وقد أخذنا عنها الصورة المنشوره فى مطلع هذا الكتاب. أما الحكاية التى أنقلها هنا فهى ترجمة لما ورد فى الديوان طبع تبريز ص 76وقد سبق لى نشرها فى كتاب «سنة بين الفرس» ص 480479(1/294)
«يقولون ويذكر لهم أبياتا من أشعار ناصر خسرو، فأمر العلماء بتمزيقه» «إربا إربا فلما فعلوا ذلك أخذت بدورى قطعة من لحمه لتنالنى بعض المثوبة» «وحسن الجزاء فلما علمت بما وقع لتلميذى لم استطع أن أملك نفسى» «وقلت للاسكافى: أسرع وأعطنى نعلى، فما عاد لمثلى أن يبقى فى هذه المدينة» «التى ينشدون فيها أشعار ناصر خسرو!؟ فلما أخذت نعلى أسرعت بالخروج» «أنا وشقيقى من مدينة نيسابور»
وهناك رواية خرافية أخرى مذكورة فى هذه السيرة الزائفة، تمثل لنا ناصرا وقد هرب من مصر إلى بغداد، وكيف أن الخليفة العباسى «القادر بالله» نصبه وزيرا له ثم أرسله فى بعثة إلى ملاحدة «گيلان» من الحشاشين فلما تعرفوا عليه وتبينوا أنه الحكيم الذى طالما أعجبوا بآرائه، أكرموا وفادته واحتجزوه لديهم ولم يسمحوا له بمغادرتهم، فلما ضاق به الأمر وأراد الخلاص، قتل شيخهم بتعاويذه السحرية ثم خرج هاربا وتبعه فريق من الجيش فسلط عليهم المريخ فقتلهم عن آخرهم!! ولست أدرى أى الأمرين أدعى إلى العجب فى هذه الروايه؟ أهى الخوارق التى اشتملت عليها أم هذه الأغاليط التاريخيه الواضحة التى تضمنتها؟! فقد مات الخليفة القادر فى سنة 423هـ 1031م ولم يقم للحشاشين قائمة فى «گيلان» إلا فى سنة 483هـ 1090م. ويبدو لى أن جزءا من هذه القصة الخرافية قد نسبوها خطأ إلى «ناصر خسرو» بينما هى فى الحقيقة متصلة بحياة حكيم آخر متأخر عنه هو «نصير الدين الطوسى» الفيلسوف المعروف الذى أهدى كتابه «أخلاق ناصرى» إلى حاكم «قهستان» الإسماعيلى المسمى «ناصر الدين عبد الرحيم بن أبى منصور» ولا شك أن تشابه الأسماء وما اقترن به من جهل الكاتب بعلاقة «ناصر خسرو» بالاسماعيلية، كل ذلك قد أدى بجامع هذه السيرة الزائفة إلى أن ينسب إلى «ناصر خسرو» أنه هو الذى كتب تفسيرا للقرآن يتفق مع آراء جماعته الإلحادية، فكان هذا العمل الخاسر الذى قام به سببا فى النكبة التى حدثت له فى نيسابور، وهى النكبة التى ذكرناها آنفا.(1/295)
آثار ناصر خسرو
فإذا فرغنا من هذه السيرة الزائفة، وجب علينا أن نمضى قدما إلى دراسة آثاره الصحيحة وهى عبارة عن:
1 «سفرنامه» أو كتاب رحلاته التى قام بها، وقد نشره وترجمه المستشرق «شيفر» فى پاريس سنة 1881م
2 «الديوان»: وهو مجموعة ما قال من أشعار، وهو مطبوع على الحجر فى تبريز سنة 1280هـ 1864م (1)
3 «روشنائى نامه» أو كتاب الضياء وقد نشره «إتيه» وترجمه وعلق عليه فى «مجلة المستشرقين الألمان» سنة 18801879م جزء 33 ص 665645وجزء 34ص 468428وكذلك ص 642617
4 «سعادتنامه»: أو كتاب السعادة وقد نشره «فانيان» فى جزء 34 من «مجلة المستشرقين الألمان» ص 604643
5 «زاد المسافرين» وهذا الكتاب محفوظ لنا فى نسخته الخطية (2) التى كان يمتلكها «شيفر» والتى انتقلت الآن إلى «المكتبه الأهلية» بباريس
وسأبدأ الحديث عن هذه الكتب بكتاب «سفرنامه» لأنه يشتمل على أدق التفاصيل التى يمكن أن نصوغ منها صورة صحيحه لحياة هذا الشاعر (3)
كتاب سفرنامه
هذا الكتاب شبيه بكتاب «سياست نامه» مكتوب بلغة سهلة خالية من الصنعة
__________
(1) المترجم: طبع هذا الديوان اخير فى طهران سنة 13071304الهجرية الشمسية
(2) المترجم: طبع هذا الكتاب أخيرا فى برلين سنة 1341هـ
(3) المترجم: طبع أخيرا فى القاهرة كتابان من الكتب المنسوبة إلى ناصر خسرو، هما: «خوان الاخوان» و «شش فصل» كما ترجم «سفرنامه» الى العربية.(1/296)
والمحسنات. ويذكر مؤلفه أن اسمه الكامل هو «أبو معين الدين ناصر خسرو القباديانى المروزى» (1) ويقول إنه كان يشتغل فى خراسان مدة من الزمن بأعمال الإنشاء وجباية الأموال أيام «چغرى بيگ داود السلجوقى».
وفى خريف سنة 437هـ 1045م رأى فى منامه رجلا يحذره من شرب الخمر فأقلع عنها، وكان من قبل شغوفا بها يرى «أنها الوسيلة الوحيدة التى يستطيع بها أن ينسى هموم الدنيا ومتاعب الحياة» ثم عزم على الحج إلى مكة، وكان عمره إذ ذاك يقرب من الأربعين، فاغتسل وتطهر وذهب إلى جامع «جزجانان» حيث كان يقيم فى ذلك الوقت، ودعا الله أن يتقبل توبته، وأن يعينه على ترك المعاصى والسيئات، ثم خرج فى رحلته فى يوم الخميس السادس من جماد الآخر سنة 437هـ 19ديسمبر سنة 1045م فتوجه بطريق «شبورغان» إلى مدينة «مرو» وطلب إعفاءه من العمل الذى كان يتولاه ثم سار إلى مدينة «نيسابور» وخرج منها وفى رفقته السيد «الموفق» (2) فزار الشيخ الصوفى «بايزيد البسطامى» فى مدينة «قومس». ثم خرج منها مارا بمدينة «دامغان» حتى وصل إلى مدينة «سمنان» فتعرف هناك على شاب اسمه «الأستاذ على النسائى» من تلاميذ «أبى على سينا» كان يحاضر الطلاب فى الحساب والهندسة والطب، ولكنه أساء الرأى فيه وفى علمه على ما يظهر، ثم اجتاز مدينة «قزوين» ووصل إلى تبريز فى يوم 20صفر سنة 438هـ 26أغسطس سنة 1046م وهناك تعرف بالشاعر «قطران» وفسر له جملة مقطوعات صعبة من أشعار الشاعرين «الدقيقى» و «منجيك» ثم خرج من تبريز إلى «وان» ثم «أخلاط» ثم «بطليس» ثم «أرزن» ثم «ميافارقين» ثم «آمد» ومنها إلى «حلب» ثم إلى «معرة النعمان» حيث تلاقى بالشاعر العربى الفيلسوف «أبى العلاء المعرى» وقد ذكره فى رحلته فأطراه وأثنى عليه وعلى أخلاقه وفضائله ثناء جميلا.
ثم خرج من «معرة النعمان» إلى مدينة «حماه» ثم إلى «طرابلس» ثم إلى «بيروت»
__________
(1) المترجم: نسبة إلى مدينتى «مرو» و «قباديان» والأخيرة منهما مدينة وولاية بالقرب من ترمذ على نهر جيحون.
(2) هو فى الغالب نفس الشخص الذى نصادفه فى قصة عمر الخيام حيث ذكر أنه أستاذ الرفاق الثلاثة: الخيام ونظام الملك والحسن الصباح.(1/297)
ثم إلى «صيدا» ثم إلى «صور» ثم إلى «عكا» ثم إلى «حيفا». وبقى فى الشام فترة تمكن فيها من زيارة الأراضى المقدسة وقبور الأنبياء وبيت المقدس وبيت لحم ثم استطاع الوصول إلى مكة وتأدية فريضة الحج للمرة الأولى فى ربيع سنة 439هـ 1047م. ثم عاد من مكة إلى «دمشق» ثم الى «بيت المقدس» وعزم على أن يغادرها إلى «مصر» بطريق البحر ولكن الرباح لم تساعده على السفر بحرا فسار اليها برا ووصل فى النهاية إلى القاهرة فى يوم الأحد السابع من شهر صفر سنة 439هـ الثالث من شهر أغسطس سنة 1047م
ناصر خسرو فى مصر
وبقى «ناصر خسرو» فى مصر مدة سنتين أو ثلاث سنوات وهذه فترة هامة من فترات حياته، لأنه استطاع أن يتحقق فيها من عظمة الخليفة الفاطمى «المستنصر بالله» وما اتصف به من عدل وإدارة حكيمة متزنة ولأنه كان فى مصر انضمامه إلى الإسماعيلية وتبحره فى مذاهبهم الباطنية بحيث انتدبوه ليكون داعيهم وحجتهم فى خراسان.
وهو فى كتابه «سفرنامه» متحفظ فيما يختص بالمسائل الدينية، لأنه فيما يبدو قد كتبه للعامة ولم يشأ أن يفيض لهم فى هذه الأمور، ومع ذلك يبدو لنا فى وضوح من نبذتين وردتا به (ص 40وص 42) أنه لا يشك مطلقا فى صحة نسب الفاطميين وأنه شديد التحمس لهم، لما امتازوا به من إدارة بارعة وثروة طائلة وما ضمنوه لرعاياهم من سعادة سابغة وأمن شامل.
وصف القاهرة فى كتاب سفرنامه
وقد أجاد وصف القاهرة وجوامعها (بما فى ذلك الجامع الأزهر) وحاراتها العشرة وحدائقها ومبانيها وضواحيها إجادة تبلغ حد الإعجاب. فأما الأخبار التى رواها عن الإدارة الفاطمية للبلاد فهى بالغة الأهمية والقيمة التاريخية. والظاهر أنه أعجب كل الإعجاب بنظام الجيش وترتيبه، وكيف أن رواتب الجند تدفع إليهم بانتظام مما اقتضى إحساس الأهلين بالطمأنينة إلى سلامة أموالهم من غارة الجند وعدوانهم.
وقد بلغ عدد الجيش 000، 215جنديا موزعين كالآتى:(1/298)
الفرسان:
000، 20قيروانى وهم من القيروان
000، 15باطلى وهم رجال من المغرب (شمال افريقيا الغربى)
000، 50بدوى من الحجاز
000، 30من المأجورين، البيض والسود.
المشاة:
000، 20من المصامدة السود (من شمال أفريقيا الغربى)
000، 10من المشارقة وهم ترك وعجم
000، 30عبيد الشراء
000، 10من حراس القصر يسمون ب «السرائيين» ولهم قائد خاص
000، 30من الزنوج والأحباش
000، 215جملة الجيش
ولقد أدهشه مقدار الثراء الذى تزخر به الأسواق، وهو يقول: إن الأمن بلغ حدا كبيرا بحيث لم ير التجار حاجة إلى إغلاق أبواب حوانيتهم ومخازنهم. وفيما يلى فحوى عبارته (1).
«وبينما كنت هناك فى سنة تسع وثلاثين واربعمائة هجرية (10481047م)» «رزق السلطان بولد، فأمر الناس بإقامة الأفراح العامة، فأسرعوا إلى تزيين» «المدينة والأسواق زينة رائعة، لو أخذت فى وصفها لما صدقنى بعض الناس» «ولما اعتمدوا قولى، فقد امتلأت حوانيت البزازين والصرافين وغيرهم» «بالذهب والجواهر والنقود والبضائع والملابس الموشاة بالذهب والقصب بحيث» «لم يعد فيها متسع لمن شاء الجلوس. وجميع الناس يحسون بالأمن والسلامة» «فى ربوع السلطان، لا يخشى أحد منهم وقيعة الجواسيس والغمازين لأنهم» «يثقون أن السلطان لا يظلم أحدا ولا يطمع فى مال أحد»
«ولقد شاهدت أموالا يملكها بعض الناس، لو أننى أخذت فى التحدث عنها» «أو وصفها لما صدقنى رجال العجم ولأنكروا روايتى، لأنى أنا شخصيا لم أستطع»
__________
(1) انظر ص 53من سفرنامه طبع «شيفر» بپاريس سنة 1881.(1/299)
«أن أعدها أو أحصيها. وأما الرفاهية التى لاحظتها هناك فلم أشاهد مثلها» «فى أى مكان آخر. فلقد رأيت هنالك نصرانيا من أثرياء مصر، قالوا إن» «سفنه وأمواله وأملاكه لا يمكن عدها أو حصرها. وحدث فى سنة من» «السنين أن النيل لم يفض إلى درجة الوفاء بالحاجة واشتد غلاء الغلال» «فاستدعى الوزير هذا النصرانى وقال له: إن هذه السنة عجفاء وليست من» «سنى الرخاء، وإن السلطان ليحس بالهمّ فى قرارة قلبه إشفاقا على الرعية،» «فما مقدار ما تستطيع أن تعطيه من الغلال وتقتضى ثمنه نقدا أو قرضا»
«فأجاب النصرانى: أسعد الله السلطان والوزير، إن لدى من الغلال» «الحاضرة ما أستطيع أن أطعم به مصر ست سنوات كاملة!! وليس هناك» «من شك فى أن أهل مصر فى ذلك الوقت كانوا كثيرين بحيث أن سكان» «نيسابور كانوا لا يبلغون خمسهم مهما بالغنا وأسرفنا فى التقدير. وليس هناك» «من شك أيضا فى أن كل خبير بالأرقام يستطيع أن يدرك مدى الأملاك التى» «ينبغى أن يملكها شخص من الأشخاص حتى تبلغ غلاله هذا الحد والمقدار؟!»
«وكيف كانت الرعية آمنة والسلطان عادلا حتى تيسرت مثل هذه الأحوال» «والأموال فى أيامهم؟! فلا السلطان يجور على أحد أو يظلمه، ولا الرعية» «تخفى شيئا أو تكتمه».
وقد استغرقت رحلة «ناصر خسرو» منذ خروجه من موطنه إلى وقت رجوعه سبع سنوات كاملة فقد ابتدأت فى يوم الخميس السادس من جمادى الآخر سنة 437هـ وانتهت فى يوم السبت السادس والعشرين من جمادى الآخر سنة 444هـ (أى من 19ديسمبر سنة 1045م إلى 23أكتوبر سنة 1052م) وقد تمكن فى خلال هذه المدة من أداء فريضة الحج خمس مرات، عاد بعدها فى النهاية من الحجاز إلى موطنه الأصلى، مارا بتهامه واليمن والإحساء والقطيف فالبصرة، وأقام بالبصرة ما يقرب من شهرين ثم غادرها إلى مرو، مارا ب «ارّجان» و «إصفهان» و «نائين» و «طبس» و «تون» و «سرخس».(1/300)
ديوان ناصر خسرو:
مقدمة في اشتراك الاسم
والآن يجب علينا أن نترك كتاب «سفرنامه» وأن ننتقل إلى دراسة «الديوان» ولكن من الضرورى لنا قبل أن نقدم على ذلك، أن نشير إلى نظرية دافع عنها العالم الكبير المرحوم الدكتور «ريو» (1) وكذلك العلامتان «پرتش» (2) و «فانيان» (3)
ولكنها أصبحت بعد ظهور الأبحاث الجديدة التى قام بها على الأخص «شيفر» و «إتيه» (4) واجبة الترك. ومقتضى هذه النظرية أنه كان يوجد شخصان متمايزان يسمى كل منهما باسم «ناصر خسرو» ويكنى ب «أبى معين» فأما أحدهما فشاعر ساحر فيلسوف وأما الآخر فرحالة جوّاله.
ويورد الدكتور «ريو» هذه النظرية فى وضوح تام فيقول:
«إن أمورا قليلة تكشف لنا أننا نواجه فى دراستنا شخصين متمايزين. فأما الحكيم» «ناصر كما كان يسمى الشاعر فقد ولد فى إصفهان ووصل نسبه بالإمام «على» «ابن موسى الرضا» واشتهر بكونه شاعرا قبلما يتم تأليف هذا الكتاب (أى» «سفرنامه) وقبلما تتم المنظومة المعروفة باسم «روشنائى نامه» المؤرخه بتاريخ» «420هـ (انظر «پرستش» فهرست الكتب بمكتبة جوتا ص 13، أما التاريخ» «الذى ذكرته نسخة ليدن على أنه سنة 343هـ فخاطئ فى أغلب الظن. انظر» «الفهرست ج 2ص 108). أما ناصر الرحالة مؤلف «سفرنامه» فعلى العكس» «من ذلك يذكر لنفسه نسبتين: إحداهما تشير إلى قباديان وهى بلدة بالقرب من» «بلخ حيث كان مولده، والأخرى تشير إلى مرو حيث كان مستقره وهو لا يدعى» «مطلقا أنه ينتسب إلى أصل عظيم أو أنه حاز شيئا من الشهرة إلا ما كان»
__________
(1) انظر فهرست الكتب الفارسية ص 381379.
(2) انظر فهرست الكتب الفارسية فى برلين ص 742741.
(3) انظر «مجلة المستشرقين الألمان» مجلد 34سنة 1880ص 674643وكذلك «المجلة الأسيوية» المجموعة الثانية مجلد 13سنة 1879ص 168164.
(4) انظر كذلك ملاحظاتى التى أبديتها فى مقالى المنشور بمجلة الجمعية الملكية الأسيوية سنة 1899ص 420416(1/301)
«من أمر اشتهاره بالصيرفة والأعمال المالية. أضف إلى ذلك أن الحكيم» «ناصر ولد فى سنة 358هـ كما يقول كتاب «حبيب السير» (طبعة بمباى» «المجلد 2جزء 4ص 67) أو فى سنة 359هـ كما هو مذكور فى كتاب «دبستان»» «بينما يذكر الرحالة مؤلف «سفرنامه» فى إحدى عباراته ما يفيد أنه» «بلغ الأربعين من العمر فى سنة 437هـ».
وهناك مشاكل أخرى تعترضنا إذا شئنا التثبت من شخصية الشاعر والرحالة، ومنشؤها جميعا يرجع إلى الأخطاء التى وقع فيها بعض الكتاب المتأخرين ومن حسن الحظ أنه يمكن التغلب عليها جميعا بمراجعة دقيقة لكتاب «سفرنامه» وللديوان، ومقارنة ما جاء فيهما من أخبار. فإذا فعلنا ذلك وجدنا أن الرحالة كان فيما يظهر يسمى بالحكيم، لأن الهاتف الذى ناداه فى المنام قال له فى معرض الرد على دفاعه عن نفسه لاحتساء الخمر: «أن الراحة لا تكون بفقد العقل والصواب، ولا يمكن أن يقال لشخص إنه حكيم بينما يقود الناس إلى فقدان الصواب!!».
أما «دولتشاه» الذى اشتهر بأغاليطه فعليه وحده تقع تبعة القول بأنه ينتسب إلى «إصفهان» وهو قول ينفيه أساسا هذان البيتان الواردان فى الديوان (1):
گرچهـ مرا أصل خراسانى است ... از پس پيرى ومهى وسرى
دوستئ عترت وخانه رسول ... كرد مرا يمگى ومازندرى
ومعناهما:
ولو أننى أصلا من خراسان، ولكننى بعد ما بلغت المجد والعظمة والسلطان
جعلنى حبى لآل الرسول وعترته انتسب إلى «يمگان» و «مازندران»!!
__________
(1) انظر الديوان ص 241.(1/302)
وفيما يتعلق بتاريخ ولادة هذا الشاعر، لدينا تصريحه (1) الوارد فى صفحة 110 من الديوان، حيث بقرر أنه ولد فى سنة 394هـ 10041003م وفى نفس الصحيفة ونفس القصيدة يقول بعد أربعة أبيات إنه بلغ الثانية والأربعين من عمره «حينما أخذت روحه الواعية تبحث عن الحكمة» وفى مكان آخر من صحيفة 217يستعمل الأعداد التقريبية فيقول ما قاله فى كتاب «سفرنامه» من أنه بلغ الأربعين من عمره حينما تحولت حياته إلى هذه الناحية. وعلى هذا فلا يمكن أن تكون هناك مطابقة تامة فى رواية الأخبار أكثر مما هو مشاهد فى المطابقة بين فى رواية «سفرنامه» وبين ما ورد فى «الديوان». فإذا تعمقنا فى دراسة هذين الكتابين تبين لنا فى وضوح وجلاء أن مؤلفهما واحد. أما ذكر الأربعين فعلى سبيل التقريب لأن هذه السن قد وردت فى أمكنة أخرى على أنه بلغ الثانية والأربعين. ولو أنعمنا النظر ودققنا قليلا لتبين لنا أن الشاعر قد بلغ الثالثه والأربعين حينما بدأ رحلاته (43394437سنه)، وأنه بلغ الخمسين حينما عاد من مصر إلى خراسان، ويبدو أنه قد نظم جميع القصائد التى يشتمل عليها الديوان بعد هذا التاريخ. وفيما عدا ذلك، فبالإضافة إلى الإشارتين اللتين تتعلقان بعمره حينما نحا نحو الحكمة، لدى سبع عشرة مقطوعة ذكر فيها الشاعر عمره وقت كتابتها وبيانها كالآتى:
يذكر أنه بلغ الخمسين فى الصفحات 20و 219و 230و 263
ويذكر أنه يجاوز الخمسين فى صفحة 87
ويذكر أنه بلغ الستين فى الصفحات 24و 79و 102و 164و 173 و 179و 199و 207و 244
ويذكر أنه تجاوز الستين فى صفحة 70
ويذكر أنه بلغ الثانية والستين فى صفحتى 106و 171
__________
(1) المترجم: ورد ذلك فى قصيدته التى يقول فيها.
بگذشت ز هجرت پس سيصد ونود و چار ... بنهاد مرا مادر بر مركز اغبر
(أنظر ص 183من طبعة طهران)(1/303)
وقد أشار فى أمكنة أخرى إلى ازدياد ضعفه وشيخوخته فى الصفحة الخامسة والى دنو أجله فى الصفحتين السادسة والسابعة، ومع ذلك فليس لدينا من الأخبار ما يقطع بتاريخ وفاته على وجه التحقيق.
دراسة الديوان
ومنذ سنتين تقريبا قرأت الديوان برمته فى طبعة تبريز، وهى تشتمل على 277 صحيفة، تتضمن وفقا لإحصائى 7425بيتا من الشعر وكنت آمل حينئذ أن أكتب مقالا عن هذا الشاعر فأخذت أدون آرائى فيما يتعلق بخصائصه النحوية واللغوية والبلاغية ودونت كذلك إشاراته إلى الأماكن والأشخاص والحوادث، وسجلت بعض المقطوعات التى يكشف لنا الشاعر فيها عن آرائة الدينية والفلسفية وخصوصا ما يتصل منها بعلاقته بالإسماعيلية والخلفاء الفاطميين، ولكنى لم أجد متسعا من الوقت لنشر هذه الملاحظات فى مكان آخر، فكان لزاما على أن أذكرها باختصار فى هذا المقام (1).
أما فيما يتعلق بلغته، فالأمر دقيق جدا بحيث لا يمكننى التحدث عنها فى استفاضة فى هذا الكتاب الذى لم يقصد به المتخصصون فى دراسة الفارسية وحدهم ومع ذلك يمكننى أن أقول فى إيجاز أن المؤلف من حيث الخصائص اللغوية والنحوية استعمل المهجور القديم ممن الألفاظ، وأن أسلوبه يشبه إلى حد كبير أسلوب «التفسير الفارسى القديم للقرآن» الذى أطلت الحديث عنه فى «مجلة الجمعية الملكية الأسيوية» (2) فى شهر يوليه سنة 1894م (صحيفه 524417) فى مقال حاولت البرهنة فيه على أن هذا التفسير قد كتب فى خراسان فى زمن السامانيين فكلا الكتابين يشتمل على ما يقرب من أربعين كلمة نادرة الاستعمال أو ذات معان مهجورة، وهما بالإضافة إلى ذلك يشتملان على تعبيرات وصيغ نحوية شاردة.
__________
(1) منذ كتبت هذا المقال نشرت فى «مجلة الجمعية الملكية الأسيوية» فى سنة 1905 ص 325313مقالا بعنوان «ناصر خسرو الشاعر والرحالة والداعى» وقد اشتمل هذا المقال على بعض الملاحظات التى ذكرتها وكذلك على بعض الأشعار التى ترجمتها فى هذا الفصل
(2) أنظر 1894 .. .. ،(1/304)
أما الأماكن المذكورة فى الديوان
فتتضمن «بغداد» و «بلخ» و «مصر» و «جرجان» و «غزنه» و «الهند» والمدينتين الوهميتين «جابلقا» و «جابلسا» وكذلك «خاوران» و «ختلان» و «خراسان» و «مازندران» و «جيحون» و «وادى القبچاق» و «الرى» و «السند» و «سجستان» و «سپاهان أو إصفهان» و «ششتر» و «لوت» و «طراز» و «تون» و «يمگان» و «زابلستان». وقد أكثر الشاعر من ذكر موطنه «خراسان» (ص 23، 241) وهى البلاد التى أرسل إليها فى أواخر حياته على أنه «حجتها» الإسماعيلى (ص 169، 178، 181، 221، 232، 247، 256). وذكر أنه كان هناك كسفينة نوح (ص 169) بين الأنعام (ص 266) من أهلها الأشرار (ص 225، 233، 241) الذين أساء الحكام حكمهم (ص 243). وهو يشير إليها فى تحفظ (ص 48، 49) فيصورها بأنها صحراء روحية مالحة (ص 203) اضطر إلى الانزواء والاختفاء بها (ص 85).
ويصادف القارىء بعد ذلك بكثرة اسم مدينة «يمگان» وهى البلدة التى استقر فيها الشاعر فى النهاية ويتحدث الشاعر خلال ديوانه عن رحلة قام بها استغرقت خمسة عشر عاما (ص 167) وعما أحس به من الوحدة والاغتراب (ص 161، 170، 227) وهو فى إحدى المرات يتحدث عن نفسه كأنه أسير سجين (ص 243) ولكنه فى مرة أخرى يدعو نفسه ملكا وشهريارا (ص 159، 161). أما بقية الأماكن التى ورد ذكرها فى أشعاره فقد ورد ذكرها مرة واحدة، ما عدا «بلخ» فقد ذكرت سبع مرات و «بغداد» فقد ذكرت أربع مرات، وفيما عدا ذلك فقد وردت إشارة واحدة عن «الترك» و «الغز» (ص 7)
أما الأشخاص الذين ورد ذكرهم فى الديوان
فأكثر عددا. فقد ذكر من أنبياء التوراة ورسلها أسماء «آدم» و «حواء» و «نوح» و «سام» و «حام» و «ابراهيم» و «ساره» و «موسى» و «قارون» و «يونس» و «دانيال». أما «المسيح» فقد ذكره فى صفحة 178وقرن اسمه باحترام زائد فجعله «الابن الذى لا أب له» و «أخا لشمعون، استطاع بفيض الله وروحه أن يرد الحياة إلى الأموات». وقد ذكر من بين رجال اليونان أسماء «سقراط» و «أفلاطون» و «يوقليدس» و «قسطنطين». وذكر من بين ملوك الفرس الأقدمين الذين تحدث عنهم القصص الفارسى أسماء «جمشيد»
و «الضحاك» أو «أژدهاكا» و «فريدون». وذكر من بين الساسانيين اسمى «ساپور الثانى بن اردشير» واسم الأمير «قارن». وذكر من بين شعراء العرب وبلغائهم أسماء «النابغة» و «سحبان بن وائل» و «حسان بن ثابت» و «البحترى». وذكر من بين شعراء الفرس أسماء «الرودگى» فى صفحة 273 و «العنصرى» فى الصفحات 11، 12، 172، و «الكسائى» فى الصفحات 19، 28، 38، 51، 133، 247، 251، و «الأهوازى» فى صفحة 249 و «الشاهنامة للفردوسى» فى الصفحتين 183، 190(1/305)
فأكثر عددا. فقد ذكر من أنبياء التوراة ورسلها أسماء «آدم» و «حواء» و «نوح» و «سام» و «حام» و «ابراهيم» و «ساره» و «موسى» و «قارون» و «يونس» و «دانيال». أما «المسيح» فقد ذكره فى صفحة 178وقرن اسمه باحترام زائد فجعله «الابن الذى لا أب له» و «أخا لشمعون، استطاع بفيض الله وروحه أن يرد الحياة إلى الأموات». وقد ذكر من بين رجال اليونان أسماء «سقراط» و «أفلاطون» و «يوقليدس» و «قسطنطين». وذكر من بين ملوك الفرس الأقدمين الذين تحدث عنهم القصص الفارسى أسماء «جمشيد»
و «الضحاك» أو «أژدهاكا» و «فريدون». وذكر من بين الساسانيين اسمى «ساپور الثانى بن اردشير» واسم الأمير «قارن». وذكر من بين شعراء العرب وبلغائهم أسماء «النابغة» و «سحبان بن وائل» و «حسان بن ثابت» و «البحترى». وذكر من بين شعراء الفرس أسماء «الرودگى» فى صفحة 273 و «العنصرى» فى الصفحات 11، 12، 172، و «الكسائى» فى الصفحات 19، 28، 38، 51، 133، 247، 251، و «الأهوازى» فى صفحة 249 و «الشاهنامة للفردوسى» فى الصفحتين 183، 190
ولست أعرف الدليل الذى اعتمد عليه الدكتور «إتيه» (1) ليؤكد أن «ناصر خسرو» لا يشارك «الكسائى» كراهيته للخلفاء الثلاثة الراشدين «أبى بكر» و «عمر» و «عثمان» ويجمع بينهم وبين «على» قائلا أن فكرة «الحلول الإلهى» انقلت منهم إليه. ولو أننا رجعنا إلى الديوان لوجدنا ست إشارات لى «عمر» اقترن فيها اسمه باسم «أبى بكر» مرتين (2) ولكننا لا نجد ذكرا ل «عثمان» على الإطلاق.
ولا شك أن بعض هذه الإشارات ليس فيها شىء من التحقير أو الامتهان لشأن «عمر» ولكننا نلاحظ أن الأمثلة الآتية تخالف ذلك تمام المخالفة:
يقول فى صفحة 62:
ومما لا مراء فيه أن عمر سيهيىء لك مكانا فى جهنم، إذا اتبعت طريق المعجبين بعمر ورفاقه!! (3)
ويقول فى صفحة 263:
وحذار الأسى إذا تركت وبقيت فى يمگان وحيدا أسيرا!! (4)
__________
(1) أنظر مقالته الموجودة فى ج 2ص 281من «المفصل فى الدراسات اللغوية الإيرانية» بعنوان: «الأدب الفارسى الحديث:»
(2) المترجم: لو رجعنا إلى الديوان المطبوع فى طهران سنة 13071304هـ ش لوجدنا أن اسم عمر ذكر خلاله ست عشر مرة.
(3) المترجم: نص هذا البيت بالفارسية كما ورد فى طبعة طهران ص 101هو:
عمر اندر سقرت جاى دهد بى شك اگر ... بروى بر ره اينها كه رفيق عمرند
(4) المترجم: أصل هذين البيتين كما جاء فى ص 416من طبعة طهران هو:
دلتنگ مشو بدانك در يمگان ... ماندى تنها وگشته زندانى
از خانه عمر براند سلمان را ... امروز برين زمين تو سلمانى(1/306)
فقد أخرج عمر سلمان من دياره، وأنت الآن سلمان هذه الديار!!
ويقول فى صفحة 262:
كيف يجوز لى أن أكثر اللجاج والمجادلة فى شأن عمر وأبى بكر!! (1)
وشبيه بذلك ما يقوله فى صفحة 241بشأن «عائشة» و «فاطمة»:
كانت عائشة زوجة لوالد فاطمة، وأنت بالنسبة لى من شيعة زوجة الأب
فيا سىء الطالع!! ما دمت من شيعة زوجة الأب، فمن الطبيعى أن تكون عدوا لابنة الزوج!! (2)
والشاعر يبالغ فى إطراء «على» وشيعته و «فاطمة» و «الأئمة» و «الأئمة الفاطميين» وخاصة «المستنصر» و «سلمان الفارسى» و «المختار» الذى انتقم لموقعة «كربلاء».
أما الخليفة العباسى فيذكره الشاعر باسم «الشيطان العباسى أو ديو عباسى» كما ورد فى ص 261. وهو يذم أهل السنة ويسميهم «الناصبيين». كما يتحدث عن ثلاثة من أئمة المذاهب السنية وهم «أبى حنيفة» و «مالك» و «الشافعى» فى الصفحات 115و 119 و 209فيقول إنهم يجيزون لعب الميسر وشرب الخمر وغير ذلك من الآثام وهو يزدرى فقهاء أهل السنة ويذكرهم بامتهان فى الصفحات 58و 82و 181ويعرض أحيانا (فى الصفحات 95و 237و 64). لذكر ثلاثة من مشايخ الصوفية هم «بايزيد البسطامى» و «ذو النون المصرى» و «إبراهيم بن أدهم» ولكنه يطريهم ويمدحهم. أما الحكام المسلمون فيذكر من بينهم «السامانيين» فى صفحة 191ويقرن ذكرهم بذكر «الجماعة المستذلين المستضعفين» (قومى زيردستان) إشارة فيما يظن إلى ملوك الغزنوين الأرقاء الذين أعقبوهم على حكم خراسان. وهو يشير كذلك (صفحة 7) إلى «آل فريغون» أو الأسرة الأولى من ملوك خوارزم المعروفين باسم ال «خوارزمشاه»، ويذكر
__________
(1) المترجم: هذه ترجمة الشطرة الأولى من البيت التالى الوارد فى ص 291من طبعة طهران:
هيچ با بو بكر وبا عمر لجاج ... نيست امروز ونه روز محشرم
(2) المترجم: أصل هذين البيتين كما جاء فى ص 416من طبعة طهران هو:
فاطمه را عايشه ما يندر است ... پس تو مرا شيعت ما يندرى
شيعت مايندرى اى بدنشان ... شايد اگر دشمن دختندرى(1/307)
«طغرل السلجوقى» فى صفحة 143. ويذكر كذلك «محمودا الغزنوى» أربع أو خمس مرات، وقد وردت بديوانه (فى صفحة 263) إشارة واحدة إلى الوزير السامانى «أبى الفضل البلعمى» الذى ترجم تاريخ الطبرى الى الفارسية.
وفيما عدا الإسلام يذكر «ناصر خسرو» من الأديان الأخرى ما يأتى:
يذكر «اليهود» فى الصفحات 53، 83، 92، 95، 138
ويذكر «المسيحيين» فى الصفحات 14، 15، 67، 242
ويذكر «المجوس» فى الصفحات 52، 70، 79
ويذكر «الهنود» فى صفحتى 33، 204
ويذكر «الثنويه» فى صفحتى 28، 275
ويذكر «المانوية» فى صفحتى 111، 269
ويذكر «الصابئة» فى صفحة 111
ويذكر «الزنادقة» فى صفحة 58
ويذكر «الفلاسفة» فى صفحتى 111، 216
ذكر أصحاب المذاهب الإسلامية
أما أصحاب المذاهب الإسلامية، فيما عدا من سبق لنا ذكرهم من «الحنفية» و «المالكية» و «الشافعية» وغيرهم، فيذكر منهم «الحرورية» و «الكرامية» و «الليالية» (ص 239) كما يذكر «القرامطة» فى ص 254. وهو يستعمل لفظ «الباطنى» استعمالا حسنا فى مقابل لفظ «الظاهرى» أما «الملحد» فيعرفه الشاعر فى صفحة 118بأنه الرجل الذى يريد أن يتعمق فى فهم العقائد الدينية.
ويبدو مما جاء فى بعض أشعاره أنه كان ملما بمحتويات «الإنجيل» ومما يؤيد ذلك العبارات الإنجيلية الآتية التى وردت فى أقواله مثل:
كمن يلقى بالجواهر أمام الخنازير (ص 11)
أجب الجاهل بقدر جهالته (ص 67)
لقد نضب الزيت فى سراجك (ص 138)
أنا ذاهب إلى الأب (ص 139)
ستخرج من الدنيا عاربا كما دخلتها عاريا (ص 145)(1/308)
الإشارة إلى حياته
ونستطيع أن نستخلص من الديوان كثيرا من الأمور التى رواها الشاعر عن حياته بالإضافة إلى ما ذكرناه منها آنفا. وأغنى القصائد فى هذا الصدد هى قصيدته السادسة والسبعين التى ذكر فيها تاريخ ولادته. وهو يحدثنا فى الديوان (صفحة 112) عن رغبته الجامحة فى إدراك المعانى الباطنية للأوامر الدينيه ويشكر الله فى (صفحة 5) على هدايته إلى اتباع الحق ويشير (فى صفحة 91) إلى أن اعتناقه للمذهب الإسماعيلى إنما حدث فى فترة متأخرة من حياته ويصف لنا (فى ص 182) مراسم إدخاله فى مذهب الإسماعيلية ويمين الولاء التى أقسمها (ص 112111) وكيف أنه أصبح مكروها بسبب حبه لأهل البيت (ص 6) وكيف أن أهل السنة يضطهدونه (ص 22، 127، 227) ويتهمونه بأنه شيعى (ص 223) ورافضى (ص 115) وملحد، وكيف أنهم يلعنونه على المنابر (ص 223). ولا يستطيع أحد أن يذكر إسمه على لسانه. وهو يتحدث عن نفسه بأنه «حجة خراسان» (ص 33) وأنه «حجة المستنصر» (ص 239)، ويشير أحيانا إلى غيره من «الحجج» وأنه يعتبر واحدا من نقباء الإسماعيلية الإثنى عشر (ص 209) ويلقب نفسه بأنه «مختار على» (فى صفحة 159) وأنه «أداة الإمام المختارة» (فى صفحتى 158، 162) ويفخر بعد ذلك بحياة الزهد والعفاف التى عاشها (انظر صفحتى 9، 252) وبمقدار العلوم التى حصلها (الصفحات 5، 10، 127، 158) وبمقدار الآداب والأشعار التى برّز فيها (انظر صفحتى 22، 80) ثم يشير إلى كتبه الكثيرة (الصفحات 5، 9، 233) وإلى أشعاره العربية والفارسية (صفحة 171) وإلى كتابه المعروف ب «زاد المسافرين» (صفحة 195) ولكن ما أقل الأخبار التى رواها عن ذوى قرابته، وإن كنا نصادف إشارات عابرة عن ابنه (انظر صفحتى 6، 185) وعن والده ووالدته وأخيه (صفحة 219).
آراؤه الدينية:
وآراؤه الدينية والفلسفية مصورة أبدع تصوير فى ديوانه، وهى تعتبر فى حقيقة الأمر المدار الأصلى الذى تدور عليه سائر اشعاره، ويمكن إجمال الحديث عنها بأنها جميعا أفكار إسماعيليه أو باطنية صميمة. وهو يمعن إمعانا فى إتباع مذهبهم
المعروف بمذهب «التأويل»، ويقول إنه بغير التأويل يصبح نص القرآن غير مستساغ الطعم شبيها بماء البحر الأجاج (صفحة 3) ويختفى معناه كما تختفى المياه فى كومة من التبن والقش. وقد اتبع هذا المذهب فى تفسير «الجنة» و «الجحيم» و «يوم القيامة» و «عذاب القبر» و «المسيخ الدجال» و «شروق الشمس من المغرب»، وقال إن تفسيرها على هذا النحو واجب وضرورى (صفحة 39) بل هو أساسى لفهم الدين وروحه (صفحة 33) ولم يعهد الله لأحد بالمفاتيح التى يفتح بها هذه المغلقات إلا لأئمة أهل بيت الرسول (الصفحات 12، 30، 60، 64، 124، 142) فهم وحدهم المؤتمنون عليها (صفحة 4) وهو يقول أيضا إن «التنزيل» واجب وضرورى (ص 29) وإن اللغة العربية اكتسبت مجدها الخالد من كونها لغة القرآن والتنزيل (صفحة 249) ومع ذلك فلا فائدة من ترديد القرآن كما تفعل الببغاوات (صفحة 214) ولا جدوى من تقى لا يصحبه فهم وإدراك (صفحة 37) ومرتبة العلم عالية رفيعة ولكنه مع ذلك خادم للدين (انظر صفحتى 150، 235) والدين بدوره روح العالم وريحانه (صفحة 188) ولا وجود لشىء فى الكون إلا الله (صفحة 193) وهو لا يعرف التأييد ولا التوقيت (صفحة 166) وكل الظواهر ما هى إلا أصداء من وجوده (صفحة 106) ومع ذلك فهى مشحونة بالمعانى والدلالات (ص 197) لأن العقل الكلى كامن فيها (ص 14) والإنسان هو وحدة الوجود (232) ولا حدّ للزمان والمكان، وليس للسماوات نهاية أو زوال (صفحة 4) ومع ذلك فالعالم زائل وليس أبديا (صفحة 12، 39، 40) وفيما يلى مثلان من أقواله يؤيدان ترجيحه لمذهب «الاختيار» وعدم أخذه بمذهب «الجبر».(1/309)
وآراؤه الدينية والفلسفية مصورة أبدع تصوير فى ديوانه، وهى تعتبر فى حقيقة الأمر المدار الأصلى الذى تدور عليه سائر اشعاره، ويمكن إجمال الحديث عنها بأنها جميعا أفكار إسماعيليه أو باطنية صميمة. وهو يمعن إمعانا فى إتباع مذهبهم
المعروف بمذهب «التأويل»، ويقول إنه بغير التأويل يصبح نص القرآن غير مستساغ الطعم شبيها بماء البحر الأجاج (صفحة 3) ويختفى معناه كما تختفى المياه فى كومة من التبن والقش. وقد اتبع هذا المذهب فى تفسير «الجنة» و «الجحيم» و «يوم القيامة» و «عذاب القبر» و «المسيخ الدجال» و «شروق الشمس من المغرب»، وقال إن تفسيرها على هذا النحو واجب وضرورى (صفحة 39) بل هو أساسى لفهم الدين وروحه (صفحة 33) ولم يعهد الله لأحد بالمفاتيح التى يفتح بها هذه المغلقات إلا لأئمة أهل بيت الرسول (الصفحات 12، 30، 60، 64، 124، 142) فهم وحدهم المؤتمنون عليها (صفحة 4) وهو يقول أيضا إن «التنزيل» واجب وضرورى (ص 29) وإن اللغة العربية اكتسبت مجدها الخالد من كونها لغة القرآن والتنزيل (صفحة 249) ومع ذلك فلا فائدة من ترديد القرآن كما تفعل الببغاوات (صفحة 214) ولا جدوى من تقى لا يصحبه فهم وإدراك (صفحة 37) ومرتبة العلم عالية رفيعة ولكنه مع ذلك خادم للدين (انظر صفحتى 150، 235) والدين بدوره روح العالم وريحانه (صفحة 188) ولا وجود لشىء فى الكون إلا الله (صفحة 193) وهو لا يعرف التأييد ولا التوقيت (صفحة 166) وكل الظواهر ما هى إلا أصداء من وجوده (صفحة 106) ومع ذلك فهى مشحونة بالمعانى والدلالات (ص 197) لأن العقل الكلى كامن فيها (ص 14) والإنسان هو وحدة الوجود (232) ولا حدّ للزمان والمكان، وليس للسماوات نهاية أو زوال (صفحة 4) ومع ذلك فالعالم زائل وليس أبديا (صفحة 12، 39، 40) وفيما يلى مثلان من أقواله يؤيدان ترجيحه لمذهب «الاختيار» وعدم أخذه بمذهب «الجبر».
يقول فى صفحة 56:
إن الله يخلق الأم والثدى واللبن
ولكن الطفل عليه أن يمتص اللبن من ثدى أمه!! (1).
__________
(1) المترجم: نص هذا البيت وارد فى صفحة 94من طبعة طهران هكذا:
گرچهـ يزدان آفريند مادر و پستان وشير ... كودكان را شير مادر خود همى بايد مكيد(1/310)
ويقول فى صفحة 149
إن روحك هى السجل، وأعمالك هى الكتابات التى تكتب فى هذا السجل فلا تسطر فى سجلك إلا كل ما عز وجل
واكتب فى كتابك كل طيب وجميل من أعمالك
فالقلم يا أخى طوع لما تخطه يدك ويكتبه بنانك!!
وهو يقرر أن الخلفاء الفاطميين هم وحدهم الخلفاء الشرعيون للمسلمين (ص 210) وهم الحفظة للجنة (ص 213) وفى كل بقعه من بقاع الأرض «باب» للامام (ص 77)
وهناك إشارات كثيرة للعدد «سبعة» (أنظر صفحتى 88، 131) ولمذهب «الأساس» وهو من صميم عقائد الاسماعيلية (الصفحات 178176) ويجدر بنا فى النهاية وقيل أن نعرض لأمثله مترجمة من أشعاره أن نشير إلى أن «ناصر خسرو» كان يزدرى الملوك ازدراءا شديدا (ص 6) ويزدرى ملازميهم من الحاشية (صفحتى 151، 230)، ويحتقر كذلك مداحيهم من الشعراء والكتاب (الصفحات 7، 11 80، 124، 141، 144) بل وكل اديب (ص 228) وعلى الخصوص شعراء الغزل (صفحات 108، 141، 145، 171)
مترجمات من أشعاره
وفيما يلى مائة بيت ترجمناها (1) من أشعاره، اخترناها من القصائد الخمس الأولى من ديوانه، أى من الصفحات العشر الأولى منه، وقد راعينا أن نضع نقطا صغيره فى مكان الأبيات التى أسقطناها من الأصل:
__________
(1) المترجم: عدد الأبيات هو تسعة وتسعون بيتا على وجه الدقة(1/311)
المثل الأول (صفحة 42من طبعة تبريز) (1)
إن كلام الله هو بحار الكلام الزاخرة
قد امتلأت بالجواهر الكريمة واللآلىء الباهرة!!
وظاهر «التنزيل» مالحكماء البحر المرير
ولكن باطن «التأويل» حلو كاللآلىء لدى أصحاب التفكير!!
والجواهر واللآلىء مستقرة فى جوف البحر وأعماقه
فلا تقنع بالسير على شواطئه، والتمس غواصا ماهرا يصل إلى أعمق أطباقه
وهل تعرف لأى سبب وضع الله فى قاع البحر والماء
مثل هذه الجواهر واللآلىء ذات الرونق والبهاء؟!
[5] وضعها هكذا لأجل «الرسول» وكأنما قال له: هذا المثل واجب الاحتذاء فاعط «التأويل» للحكماء واعط «التنزيل» للغوغاء!!
وإذا لم يعطك الغواص غير العكر والماء المالح والطين
فلأنه لم ير منك غير الحنق والكره والعداء الدفين
فاطلب المعنى الحقيقى لظاهر «التنزيل» وكن كالرجال الأصفياء
ولا تكن كالحمير، فتقنع بالنهيق والأقوال الهراء!!
وهاك «دارا» صاحب الخيل والحشم
قد غادر الحياه مجردا وحيدا، بلا خيل ولا خدم!!
__________
(1) المترجم: أنظر صفحة 3من طبعة طهران سنة 13071304الهجرية الشمسية ونص الأبيات كما يلى:
درياى سخنها سخن خوب خدايست ... پرگوهر باقيمت و پر لؤلؤ لالا
شور است چودريا بمثل ظاهر تنزيل ... تأويل چولؤلؤست سوى مردم دانا
اندر بن درياست همه گوهر ولؤلؤ ... غواص طلب كن چوروى بر لب دريا
اندر بن شوراب ز بهر چهـ نهاد است ... چندين گهر ولؤلؤ ارزنده وزيبا
(5) از بهر پيمبر كه بدين صنع ورا گفت ... تأويل بدانا ده وتنزيل بغوغا
غواص ترا جز گل وشورا به ندادست ... زيرا كه نديد است ز تو جز معادا
معنى طلب ار ظاهر تنزيل چومردم ... خرسند مشو همچوخر از قول بآوا
دارا كه هزاران خدم وخيل وحشم داشت ... بگذاشت همه پاك وبشد با تن تنها(1/312)
والزمان ألعوبة خاطفة تلتقف جميع الأنام
ولا ينجو منها أرفع الأسياد ولا أحقر الخدام!!
[10] وبعد ذلك اليوم، لا يستطيع فرد من الكماة
أن يجد لدى الحاكم العادل ملجأ أو منجاة!!
وينال جميع الناس ما يستحقون من مجازاه
ويستوى فى ذلك الظالم والعادل بغير محاباه!!
وفى ذلك اليوم سأتقدم فى وسط الهول والفزع والدعاء
فأتعلق أمام الشهداء، بأذيال الزهراء (أى فاطمة الزهراء)
حتى ينتصف لى الله من أعداء أولاد الرسول
ويعطينى حقى كاملا، وأنال منه الرضا والقبول!!
المثل الثانى (ص 54من نسخة تبريز) (1)
كيف يمكن للسماء أن تجود عليك بالراحة والاستقرار
بينما هى نفسها لا تعرف الراحة ولا السكينة ولا القرار!!
[15] يا سيدى إن هذا العالم سلم للعالم الآخر وساحته
فإذا شئت بلوغ النهاية فعليك أن ترقاه إلى غايته!!
وتأمل مليا فى هذا الفلك الدائر وهذه الأرض الساكنة
ففيهما صنعة عالم الغيب، وحكمته البالغة الكامنة!!
__________
بازيست رباينده زمانه كه نيايد ... زو خلق رها هيچ نه مولا ونه مولا
(10) روزيست از آن پس كه در آنروز نيابند ... خلق از حكم عدل نه ملجأ ونه منجا
آنروز بيابند همه خلق مكافات ... هم ظالم وهم عادل بى هيچ محابا
آنروز در آن هول وفزع بر سر آنجمع ... پيش شهدا دست من ودامن زهرا
تا داد من از دشمن أولاد پيمبر ... بدهد بتمام ايزد دادار تعالى
(1) المترجم: يقابلهما صفحة 5فى نسخة طهران ونص الأبيات المترجمة كما يلى:
چگونه كند با قرار آسمانت ... چوخود نيست ازين قرار آسمانرا
(15) سرا آنجهان نردبان اينجهانست ... بسر بر شدت بايد اين نردبانرا
درين بام گردان واين بوم ساكن ... ببين صنعت وحكمت غيبدانرا(1/313)
وتأمل كيف أمكنه بغير حاجة ولا معونة من أى قبيل أن يجعل الروح الخفيفة قرينة لهذا الجسد الثقيل!!
وكيف استطاع أن يعلق فى قبه الفلك الخضراء
هذه الكرة الكبيرة المعتمة السوداء!!
وما هذا الذى تقوله؟ من أن هذا الفلك الدائر المكين
سبيليه ما لا يمكن حصره من الأيام والسنين!!
[20] كلا فهذا الفلك غير قابل للبلى والزوال
لا هو ولا الرباح الذارية ولا الماء الجارى الزلال!!
والمكان والزمان كلاهما دليل على قدرة الرحمن
ومن أجل ذلك، ليس للمكان حد ولا للزمان!!
ولو أنك قلت لى: إن هذا لا يوجد فى القرآن
لقلت لك إنك لم تحسن فهم معانى الفرقان!!
وقد جعل الله خازنا وحارسا على القرآن
وأحال إليه جميع الخليفة من إنس وجان!!
ولكنك بدل أن تتبع من اختاره الله والرسول
فضلت أن تتابع فلانا وكل إمعه مجهول!!
[25] فهلا تحققت أن زاد الإنسان لا يليق إلا للرجال والأصحاب
وأن طعام الكلاب لا يليق إلا للكلاب!!
__________
نگه كن كه چون كرد بى هيچ حاجت ... بجان سبك جفت جسم گرانرا
كه آويخت اندرين سبز گنبذ ... مرين تيره گوى درشت كلانرا
چهـ گوئى كه فرسايد اينچرخ گردان ... چوبيحد ومر بشمرد ساليانرا
(20) نه فرسودنى ساختست اين فلكرا ... نه آب روان ونه بادبزانرا
مكان وزمان هر دو از بهر صنع است ... ازين نسيت حدى زمين وزمانرا
اگر گوئى اين در قران نيست گويم ... همانا نكو مى ندانى قرانرا
قرانرا يكى خازنى هست كايزد ... حوالت بدو كرد مر إنس وجانرا
تو بر آن گزيده خدا و پيمبر ... گزيدى فلان وفلان وفلانرا
(25) بمردم شود آب ونان تو مردم ... نبينى كه سگ سگ كند آب ونانرا(1/314)
المثل الثالث (ص 75طبعة تبريز) (1)
لو كانت دورة الدهر تجرى وفقا لفضلى ومداه
لما كان لى مستقر إلا على قمة القمر فى علاه!!
ولكن من أسف أن الفلك والدهر لا يعرفان قيمة الفضل والصواب
وهكذا قال لى أبى فى وقت الصبا والشباب!!
والعلم خير من الضياع والمال والملك والجاه
وقد أفتانى بذلك عقلى، كما أفتت به الحياة!!
وخاطرى يزدهى، أكثر من القمر، بالنور والضياء
ولا يصلح مقر القمر لمقامى فى أوج السماء!!
[30] وفى مدافعتى لجيوش الزمان وسيوفه المصلته القاطعة
اكتفى بالدين مجنا، والعقل ترسا من غوائله الواقعة!!
وفكرى شجرة مورقة طيبة الثمرات
أوراقها العفة، وثمارها العلم والطيبات!!
وإذا شئت أن تعرف حالى على الحقيقة وفى جلاء
فانظر إلىّ بعين البصيرة كما يفعل العقلاء!!
ولا تنظر إلى جسدى الضعيف الواهن وانظر إلى أقوالى ذات الرواء
فلى آثار كثيرة يزيد عددها على نجوم السماء!!
__________
(1) يقابله الأبيات الواردة فى ص 76من طبعة طهران ونصها كالآتى:
كر بر قياس فضل بگشتى مدار دهر ... جز بر مقر ماه نبودى مقر مرا
نى نى كه چرخ ودهر ندانند قدر فضل ... اين كفته بود كاه جوانى پدر مرا
دانش به از ضياع وبه از جاه ومال وملك ... اين خاطر خطير چنين كفت مر مرا
با خاطر منور روشن تر از قمر ... نايد بكار هيچ مقر قمر مرا
(30) با لشكر زمانه وبا تيغ تيز دهر ... دين وخرد بس است سپاه وسپر مرا
انديشه مر مرا شجر خوب پرور است ... پرهيز وعلم ريزد برگ وبر مرا
گر بايدت همى كه ببينى مرا تمام ... چون عاقلان بچشم بصيرت نگر مرا
منگر بدين ضعيف تنم ز انكه در سخن ... زين چرخ پرستاره فزونست أثر مرا(1/315)
وقد أعفانى الله من كل ما تمس إليه الحاجة والضرورة
وجعلنى فى غنى عن كل شىء أثناء اجتيازى لهذه الحياة القصيرة!!
[35] وشكرا لله إنه هدانى إلى طريق العلم والدين
وفتح لى على مصاريعها أبواب الرحمة واليقين!!
وجعلنى أشهر من الشمس فى أوج السماء
لأننى عرفت بحبى لآل الرسول والأئمة الأصفياء!!
فيا جسدى الحقير إنك فى هذا العالم نفاية الأشياء
ولم أجد قرينا أسوأ لى منك بين القرناء!!
وقد كنت أظنك دائما من أخلص الخلصاء
ولم يكن لى صديق غيرك فى البر والبحر والأرض والماء!!
ولكنك نصبت لى الشراك وناصبتنى العداء
ولم يكن لى علم بما نصبت لى من أحابيل المكر والدهاء!!
[40] فلما وجدتنى غافلا عنك مستأمنا لك فى صفاء
قهرتنى بمكرك وغدرك، وغلبتنى بقلة الوفاء!!
ولو لم تنجدنى رحمة الله ويدركنى فضل الرحمن
لأوقعنى مكرك، واكتسحتنى حادثات الزمان!!
__________
از هر چهـ حاجتست بدو مر مرا خداى ... كرد است بى نياز درين رهگذر مرا
(35) شكر آن خدايرا كه سوى علم ودين خويش ... ره داد سوى رحمت وبگشاد در مرا
اندر جهان بدوستى خاندان حق ... چون آفتاب كرد چنين مشتهر مرا
اى ناكس ونفايه تن من درينجهان ... همسايه نبود كس از تو بتر مرا
من دوستدار خويش گمان بردمت همى ... جز تو نبود يار ببحر وببر مرا
بر من تو كينه ور شدى ودام ساختى ... وز دام تو نبود أثر نه خبر مرا
(40) تا مر مرا تو غافل وايمن بيافتى ... از مكر وغدر خويش گرفتى سخر مرا
گر رحمت خداى نبودى وفضل او ... افكنده بود مكر تو در جوى وجر مرا(1/316)
والآن وقد تبين لى أنك خصمى وعدوى الألد
لم أعد استسيغ السكر من يديك أو الشهد!!
وأنت أيها الجسد الجاهل ليس لك عمل إلا النوم والطعام
ولكن العقل لدىّ خير من الأكل الطيب وطول المنام!!
وفى رأى العقلاء أن لا عمل للحمير إلا النوم والغذاء
ومن العار أن يكون حالى كالحمار، مع مالى من عقل وذكاء!!
[45] وأنت يا جسدى سوف لا أقيم معك فى هذه الدنيا الفانية
لأن الله يدعونى إلى داره الثانية!!
حيث يعتبرون المجد بالأعمال والفضائل، لا بالنوم والأكل
فليكفك النوم والأكل وليكفنى الفضل والعقل!!
وقد ذهب قبلى ما لا يعد من الناس والأنام
ومهما طال بقائى فاعتبرنى ممن أودت به الأيام!!
وسأطير بجناح الطاعة ذات يوم فأخرج من هذه القبة العالية
وكأنى الطائر يضرب بجناحيه فى أطباق الهواء الخالية!!
وجميع الناس يحذرون ضربات القضاء والقدر
ومع ذلك فهما دليلا طريقى فى هذا السفر!!
[50] و «القضاء» أسمه «العقل» و «القدر» أسمه «الكلام»
فبهذا حدثنى، وذكرنى، وحد من الرجال العظام!!
__________
اكنون كه شد درست كه تو دشمن منى ... نيز از دو دست تو نگوارد شكر مرا
خواب وخور است كار تو اى بيخرد جسد ... ليكن خرد به است ز خواب وز خور مرا
كار خر است سوى خردمند خواب وخور ... ننگست ننگ با خرد از كار خر مرا
(45) من با تو اى جسد ننشينم در اين سراى ... كايزد همى بخواند بجاى دگر، مرا
آنجا هنر بكار وفضايل نه خواب وخور ... بس خواب وخور ترا وخرد با هنر مرا
چون پيش من خلايق رفتند بيشمار ... گرچهـ دراز مانم رفته شمر مرا
روزى بپر طاعت ازين گنبذ بلند ... بيرون پريده گير چومرغ بپر مرا
هر كس همى حذر ز قضا وقدر كند ... وين هر دو رهبرند قضا وقدر مرا
(50) نام قضا خرد كن ونام قدر سخن ... ياد است اين سخن ز يكى نامور مرا(1/317)
وقد أصبح عقلى ونفسى أفصح من يحدثنى الآن بأمرى
فلم الحذر والخوف من نفسى، وما يجيش به صدرى؟!
ويا من قنعت من القضاء والقدر بالاسم والكلام
إذا ظننت نفسك دابة فلا تظننى أيضا من الأنعام!!
المثل الرابع (ص 87من طبعة تبريز) (1)
يا رياح الصبا! تحملى منى إلى «خراسان» السلام
إلى أهل الفضل والعقل منها لا إلى العوام والطغام؟!
وكما حملت أخبارى الصحيحة إليهم
إحملى إلىّ ثانية أخبارهم، وحدثينى عنهم!!
[55] وقولى لهم: إن الدنيا قد حنت عودى المستقيم
وحطمتنى بمكرها المعروف وغدرها المقيم!!
فحذار أن تدع عهودها توقعك فى الغرور والآثام
فإنها لا ترعى لأحد عهدا ولا تعرف الوفاء والدوام!!
وانظر إلى خراسان، وكيف صارت كالطاحون
فوقعت فى يد هذا وذاك وتناوبها المتناوبون!!
__________
واكنونكه عقل ونفس سخنگوى خود منم ... از خويشتن چهـ بايد كردن حذر مرا
ايگشته خوش دلت ز قضا وقدر بنام ... چون خويشتن ستور گمانى مبر مرا
(1) المترجم: يقابله ص 108من طبعة طهران ونص أبيات الاستشهاد كما يلى:
سلام كن ز من اى باد مر خراسانرا ... مر اهل فضل وخرد را نه عام ونادانرا
خبر بياور از ايشان بمن چوداده بوى ... ز حال من بحقيقت خبر مر ايشانرا
(55) بگويشان كه جهان سرو من چو چنبر كرد ... بمكر خويش خود اينست كار گيهانرا
نگر كتان نكند غره عهد و پيمانش ... كه او وفا نكند هيچ عهد و پيمانرا
...
نگه كنيد كه در دست اين وآن چوخراس ... بچند گونه بديديد مر خراسانرا(1/318)
فلماذا غرورك بملك الأتراك السلجوقيين!؟
واذكر محمودا وجلال دولته فى «زابل» أيام الغزنويين!!
فأين الذى نخشى بأسه «الفريغونيون»؟ (1)
فتركوا له «حوزجانان» وأعطوها له طائعين!
[60] وقد حطمت حوافر خيوله «الهندستان»
بينما وطئت أقدام أفياله بلاد «الختلان»!!
وأنتم أيها المخادعون لطالما أتيتم أمامه قائلين:
ليطل عمر السلطان وليبق آلاف السنين!!
فإن من يعتمد على عظمة دولته، وينوى تحطيم السندان
يجد السندان كالشمع بين أسنانه، قد ذاب ولان!!
وقد كانت «زابل» بالأمس قبلة الأحرار
وكان حالها كحال «الكعبة» بالنسبة لأهل الإيمان والأخيار!!
فأين الآن ذلك الرجل، وما كان له من جلال وجاه؟
وقد كان يرى تحت موطىء أقدامه برج السرطان فى علاه!!
__________
بملك ترك چرا غره ايد ياد كنيد ... جلال ودولت محمود زاولستانرا
كجاست آنكه فريغونيان ز هيبت او ... ز دست خويش بدادند گوزگانانرا
(60) چوهند را بسم اسب ترك ويران كرد ... بپاى پيلان بسپرد خاك ختلانرا
...
شما فريفتگان پيش او همى گفتيد ... هزار سال فزون باد عمر سلطانرا
بفر دولت او هر كه قصد سندان كرد ... بزير دندان چون موم يافت سندانرا
پرير قبله أحرار زاولستان بود ... چنانكه كعبه است امروز أهل ايمانرا
كجاست اكنون آنمرد وآنجلالت وجاه ... كه زير خويش هميديد برج سرطانرا
(1) الفريغونيون او آل فريغون هم الأسرة الأولى من حكام خوارزم. يقول رضا قلى خان فى معجمه «فرهنگ ناصرى»: أن فريغون على وزن فريدون اسم لرجل استطاع تولى الحكم فى خوارزم وبقى الملك فى اولاده وأحفاده ويعرفون ب «آل فريغون» وهم حكام خوارزم ومن بينهم على بن مأمون الفريغونى وهو من المعاصرين للسلطان محمود الغزنوى ومن أنسبائه وقد قتله بعض غلمانه فأتى السلطان محمود إلى خوارزم وأمر باعدام قاتليه (انظر أيضا تاريخ اليمينى للعتبى طبع القاهرة سنة 1286هـ جزء 2ص 105101)(1/319)
[65] وها هو الآن قد انتثرت أنامله، وبليت أنيابه الناصعة
حينما انقض عليه الموت بأنيابه ومخالبه القاطعة!!
وإذا سهلت الأمور فاخش الشدائد والنكبات
فسرعان ما يجعل الفلك أسهل الأمور من أصعب العقبات!!
ومتى غضب الزمان فإن سورته كفيلة فى دورانه
أن تخرج «القيصر» من «قصره» و «الخان» (1) من «خوانه»
ولم يقدر للقمر الوضاح والشمس ذات الضياء
أن يكونا بمنجاة من الخسوف والكسوف فى كبد السماء!!
وكل شىء مهما هان أو رخص وقلت قيمته
فلا تحقر أمره، واعتبره غاليا فربما زادت بهجته!!
[70] واطلب أواسط الأمور ولا ترغب فى الوصول إلى الكمال
فإن القمر متى تم أخذ فى النقصان والزوال!!
وإذا أسكرت الدنيا بشرابها جموع الخلق والأنام
فتجنبهم كما يتجنب المفيق من لعبت برأسه المدام!!
__________
(65) بريخت چنگش وفرسوده گشت دندانش ... چوتير كرد بر او مرگ چنگ ودندانرا
...
بترس سخت ز سختى چوكار آسان شد ... كه چرخ زود كند سخت كار آسانرا
برون كند چودرآمد بخشم گشت زمان ... ز قصر قيصر واز خوان خويشتن خانرا
بر آسمان ز كسوف سيه رهايش نيست ... مر آفتاب درخشان وماه تابانرا
ز چيزهاى جهان هر چهـ خوار وارزان شد ... گران شده شمر آنچيز خوار وارزانرا
(70) ميانه كار همى باش وبس كمال مجوى ... كه مه تمام نشد جز ز بهر نقصانرا
...
اگر شراب جهان خلق را چومستان كرد ... تو شان رها كن چون هوشيار مستانرا
(1) الخان بمعنى الملك، والخوان مستعمله فى العربية بمعنى السماط أو المائدة، ويقصد بها هنا القصر الكبير الذى تمد به الموائد الفخمة(1/320)
وانظر كيف تهلك الطواويس بما ينصبون لها من شباك الحيلة
لكى يحصلوا على ريشاتها البهيجة الجميلة!!
والجسد هو قيدك، والدنيا هى سجنك المقيم
فحذار إن تحسب مقرك فى هذا القيد وهذا المحبس الأليم!!
وقد ضعفت روحك، وأصبحت من العلم والطاعة خالية
فاجتهد فى العلم، واكس به روحك الضعيفة العارية!!
[75] ودنياك هى الحقل، وكلامك هو البذر، وروحك هى الدهقان
ويجب على الدهقان أن ينشغل دائما بزراعة هذا الحقل والمكان!!
ولم لا تجتهد الآن والربيع يملأ أطباق الهواء
فى أن تحصل على رغيف صغير تستعين به إذا أقبل الشتاء!!
وقد أصبح نصيبى من العمر وحظى من الزمان
أن أصوغ أشعارى فأنظمها عقدا من الذهب واللؤلؤ والمرجان!!
__________
نگاه كن كه بحيلت همه هلاك كنند ... ز بهر پر نكو طاوسان پرانرا
...
ترا تن چهـ بند است واين جهان زندان ... مقر خويش مپندار بند وزندانرا
ز علم وطاعت جانت ضعيف وعريانست ... بعلم كوش وبپوش اين ضعيف عريانرا
(75) جهان زمين وسخن تخم وجانت دهقانست ... بكشت بايد مشغول بود دهقانرا
...
ترا كنون كه بهار است جهد آن نكنى ... كه نانكى بكف آرى مگر زمستانرا
...
ز عمر بهره همين گشت مر مرا كه بشعر ... برشته ميكشم اين زر ودر ومرجانرا(1/321)
المثل الخامس (ص 108طبعة تبريز) (1)
من الحق ألا يكون لى على أعتاب الملوك مقام ومكان
والا يكون مقرى إلا على باب الله وأعتاب الرحمن
وما دمت لا أظلم بأفعالى أحدا من العباد
فهل تنفعنى عظمة العظيم. وهل احتاج إلى أياديه الشداد؟!
[80] وأربعة أشياء هى التى تؤنس روحى طوال الزمان
وهى: الزهد، والعلم، والعمل، وترتيل القرآن!!
وعينى، وقلبى، وأذنى، أثناء الليل الطويل
تكرر النصح والموعظة لجسدى الضعيف الهزيل!
فتقول العين: بربك احفظنى من التطلع إلى كل أمر حرام
وصننى من الوقوع فى الشرور والخطايا والآثام!!
وتقول الأذن: أسدد على السبيل، وأغلق على الطريق
حتى لا استمع للأكاذيب والأباطيل المليئة بالنلفيق!!
ويقول القلب: بربك احفظنى من التردى فى المطامع والأهواء
وصننى من نزعات الهوى كما يفعل الرجال الأصفياء!!
__________
(1) المترجم: يقابلها الصفحات 1311من طبعة طهران ونص الأبيات كما يلى:
شايد اگر نيست بر در ملكى ... جز بدر كردگار بار مرا
چون نكنم بر كسى ستم كه نبود ... حشمت آن محتشم بكار مرا
(80) خواندن فرقان وزهد وعلم وعمل ... مؤنس جانند هر چهار مرا
چشم ودل وگوش هر يكى همه شب ... پند دهد با تن نزار مرا
چشم هميگويد از حرام وحرم ... بسته هميدار زينهار مرا
گوش هميگويد از محال ودروغ ... راه بكن سخت واستوار مرا
دل چكند گويدم همى ز هوا ... سخت نگهدار مردوار مرا(1/322)
[85] وأما العقل فيقول لى: لقد وكل الله إلىّ أمر روحك وجسدك
وجعلنى مسيطرا عليك، وموكلا على شأنك!!
ولا شأن لك بجيوش المطامع والأهواء،
فأنا الموكل على محاربنها لألتمس لك النجاء!!
وكيف أستطيع أن أخرج رأسى من أنشوطة العقل الدرّاك؟!
وقد فضلنى الله على الحمير بالتمييز والعقل والإدراك!!
وقد ربط «الشيطان» رأسى إلى قطاره وقافلته
ولكن «العقل» هو الذى خلصنى من ركابه ومتابعته!!
ولو لم يدركنى «العقل» ليأخذ بأعنتى من يد الشيطان
لاستمر «الشيطان» ممسكا بزمامى، قابضا على العنان!!
[90] وهذه الدنيا مغارة ضيقة شديدة الحلوكة والظلام، وحسبى منها أن يكون «العقل» هو رفيقى فى هذا الغار والمقام (1).
ويا ولدى!! حذار أن تشكو من الدهر ودورانه
فما أكثر النعم التى نلتها من تسياره وجريانه!!
ولطالما طوفت به وأكثرت من التجوال!!
ولم يكن لى معين على الطواف إلا اللسان والحديث والأقوال!!
__________
(85) عقل همى گويدم موكل كرد ... بر تن وبر جانت كردكار مرا
نيست ز بهر تو با سپاه هوا ... كار مگر حرب وكارزار مرا
سر ز كمند خرد چگونه كشم ... فضل خرد داد بر حمار مرا
ديو همى بست بر قطار سرم ... عقل برون كرد از آن قطار مرا
گر نه خرد بستدى مهارم ازو ... ديوكشان كرده بد مهار مرا
(90) غار جهان گرچهـ تنگ وتار شد است ... عقل پسند است يار غار مرا
هيچ مكن اى پسر ز دهر گله ... كز وى شكر است صد هزار مرا
هست بدو گشتم وزبان وسخن ... هر دو بدين گشت پيشكار مرا
(1) يشير إلى «غار ثور» وهو الذى نزل به الرسول (صلّى الله عليه وسلم) ومعه «أبو بكر» فاختفيا فيه ممن كانوا يطلبونهما بعد هجرتهما من «مكة» وقد سمى «أبو بكر» من أجل ذلك ب «رفيق الغار» وأصبح هذا التعبير يدل على كل صديق مخلص أمين.(1/323)
وها هو الدهر يقول لى: إننى مقبل على السفر والارتحال،
فحذار أن تضيق على الضم والعناق وانفض منى الأذيال!!
وقد كان «العقل» دليلى ومرشدى فى هذه الديار،
حتى جعلنى أتميز بالحكمة وأفوز بالاشتهار!!
[95] ووضع «العقل» على رأسى تاج التقوى والدين
وزيننى «الدين» بالفضل وزودنى بالحق واليقين!!
وكيف يمكننى ألا أجعل روحى القربان والفداء؟!
لمن يسهل حسابى يوم الحشر واللقاء!!
ولا غرو إذا أضحت الدنيا الآن صيدى الحلال
فلطالما كنت صيدا لها ووقعت فى الحبال!!
وهى إذا استطاعت أن تردى سائر الناس والأنام
لا تستطيع أن تصيبنى بالجراح والآلام!!
فقد أضحت روحى أرفع من الدهر وحادثاته
ومن أجل ذلك لست أخشى وقعاته وضرباته!!
وقد كان بودى أن يسمح لى المجال بذكر أمثلة أخرى من ديوان «ناصر خسرو» فإنه يزخر بالأمثلة التى تكشف عما انطوى عليه هذا الشاعر من إبداع وعلم
__________
دهر هميگويدم كه بر سفرم ... تنگ مكش سخت در كفار مرا
پيشروم عقل بود تا بجهان ... كرد بحكمت چنين مشار مرا
(95) بر سر من تاج دين نهاده خرد ... دين هنرى كرد وبرد بار مرا
...
چون نكنم جانفداى آنكه بحشر ... آسان گردد بدو شمار مرا
لاجرم اكنون جهان شكار من است ... گرچهـ هميداشت او شكار مرا
گرچهـ همى خلقرا فگار كند ... كرد نيارد جهان فگار مرا
جان من از روزگار برتر شد ... بيم نيايد ز روزگار مرا(1/324)
وأمانة وحماس دينى واحتقار للمنافقين والمخادعين وشجاعة منطقة النظير، لا نكاد نصادفها فيما أعلم فى أى شاعر فارسى آخر. وأود بصفة خاصة أن ألفت نظر قراء الفارسية إلى قصيدته الرائعة الرقيمة 102المنشورة فى صفحتى 146و 147من ديوانه طبع تبريز. وقد كان بودى أن أنقل إليهم ترجمتها لولا أنها لسوء الحظ مشحونة بالمصطلحات الفنية المتعلقة بمراسم الحج بحيث يصعب ترجمتها أو فهمها ما لم يستعان على ذلك بقدر كبير من الشرح والتفسير. وقد أخذ «ناصر خسرو» فى هذه القصيدة يصف خروجه لاستقبال الحجاج الراجعين من مكة وترحيبه بمقدم صديق بينهم فلما تبادل الصديقان تحية اللقاء قال «ناصر خسرو» لصاحبه:
خبرنى كيف مجدت هذا «الحرم» المقدس؟!
وعلى أى شىء عقدت نية «التحريم» عند ما لبست ملابس «الإحرام».؟
وهل حرمت على نفسك الخطايا بأنواعها وكل ما يفصل بينك وبين الله.؟
وأجابه صاحبه بالنفى، فالتفت إليه «ناصر خسرو» واستمر يقول:
ألم تسمع صوت الله عندما أخذت فى «النلبية» وألم تجب كما أجاب موسى ربه؟
وأجاب صاحبه ثانيه بالنفى، فاستمر «ناصر خسرو» يقول:
وعندما وقفت على جبل عرفات وأخذت فى السعى، ألم تصبح «عارفا» بالله ومنكرا لذاتك.؟ وألم تصل إلى مشامك نفحة من نفحات المعرفة؟
وأجاب صاحبه مرة ثالثة بالنفى، واستمر «ناصر خسرو» على هذا المنوال يسأله عن مدى فهمه للمعانى الرمزية التى تنطوى عليها مراسم الحج، واستمر صاحبه يجيب بالنفى حتى انتهى «ناصر خسرو» إلى قوله:
«اعلم إذن يا صديقى أنك لم تؤد الحج بمعناه الصحيح، ولم تصل إلى مقام إنكار الذات، وكل ما فعلت أنك ذهبت إلى «مكة» وعدت منها بعد ما تجشمت مشاق الطريق ووعثائه لقاء ما أنفقت من مال ودراهم، فإذا شئت بعد الآن أن تؤدى فريضة الحج فما عليك إلا أن تسترشد بما علمتك وأن تتبع ما أخبرتك به».(1/325)
ولا شك أننا نصادف فى هذه الطريقة مثلا رائعا لتطبيق المذهب الإسماعيلى المعروف بمذهب «التأويل» أو التفسير الرمزى لمعانى القرآن.
أشعار الإلحاد المنسوبة إلى ناصر خسرو
وعلى النقيض من أشعار التقوى والصلاح التى تملأ الديوان، نجد أن جملة من الأشعار التى نمتاز بحرية التفكير حتى تبلغ مبلغ الإلحاد، توجد فى نسخة الديوان المطبوعة على الحجر، وكذلك فى أكثر النسخ المخطوطة التى تنسب إلى «ناصر خسرو».
وهذه القطع معروفة جدا فى إيران حتى أيامنا الحاضرة وتشتمل عليها بعض المخطوطات التى تتضمن آثاره الشعرية، وقد ترجمت فى صفحة 480من كتابى «سنة بين الفرس» قطعتين من أشهر هذه القطع، ويسرنى أن أعيد نشرهما فى هذا المكان.
فأما القطعة الأولى فواردة فى المقالة القصيرة التى كتبها «جامى» عن «ناصر خسرو» فى كتابه «بهارستان» وخلاصتها كما يلى:
يا إلهى! أنا من خشيتك لا أستطيع أن اجرؤ فأقول لك
إن جميع هذا البلاء الذى نحن فيه صادر منك!!
وما دام نعلاك خاليين من الحصى والرمال
فلماذا أنظرت «الشيطان» ورضيت بالقبول والاحتمال؟!
ويا ليتك لم تخلق لفاتنات الترك هذا الحسن والجمال
وتلك الشفاه الحمراء والثغور الناصعة التى تسبى الرجال!!
ولكنك أنت الذى تأمر الصائد أن يحمل على صيده فى القفار
وأنت كذلك الذى تأمر الصيد أن يسرع إلى الهرب والفرار!!
وأما القطعة الثانية فيغلب عليها روح التمرد والشرود ويقول فيها خرج «ناصر خسرو» ليتنزه فى يوم من الأيام
مثفل الرأس، ولكن بغير الكاس والمدام!!
فمر بمزبلة إلى جوارها جملة من القبور
فنادته المزبلة وقالت له: لا تنظر إلى فى فتور!!(1/326)
وتأمل حال الدنيا وما أعدت من نعم لضحاياها المساكين
فقد اشتمل جوفى على نعمها، واشتملت القبور على الآكلين الجاهلين!! وهناك قطعة ثالثة تنسب إلى «ناصر خسرو» وهو يهزأ فيها بفكرة البعث والنشور. وقد أورد «شيفر» هذه القطعة فى مقدمته التى نشرها لكتاب «سفر نامه»، كما أورد أيضا بيتين من الشعر قيل إن «نصير الدين الطوسى» قالهما ردا على هذين البيتين، وقد سمعت بنفسى هذه القطعة الثالثة ينشدها بعض المنشدين فى إيران، وخلاصتها كما يلى: رأيت فى الفلاة رجلا، مزقت جسده الذئاب
فنهش النسر لحمه، وطعم منه الغراب!!
وتبرز النسر، فتبرز فى قنن الجبال والقفار
وتبرز الغراب، فتبرز فى قاع الينابيع والآبار!!
فهل يستطيع أن يحيى مثل هذا الرجل فى يوم الحشر والنشور؟!
ألا فاهزأ بذقن كل جاهل يقول بإمكان هذه الأمور!! (1)
وقد رد عليه عليه «نصير الدين الطوسى» بهذين البيتين (2):
نعم أن مثل هذا الرجل سيحيى فى يوم البعث والنشور
ولو تحللت عناصره، وأصبحت كفتات الشعير!!
فبعثه ليس أصعب من خلقه أول مرة، وما هو بعسير
فاهزأ بذقن «ناصر خسرو» ذلك الجاهل الحقير!!
__________
(1) المترجم: فيما يلى نص هذه الأبيات بالفارسية نقلا عن مقدمة «شيفر»:
مردكيرا بدشت گرگ دريد ... زو بخوردند كرگس وزاغان
اين يكى ريد بر سر كهسار ... وآن ديگر ريد در بن چاهان
اين چنين كس بحشر زنده شود ... تيز در ريش مردك نادان
(2) المترجم: فيما يلى نص هذين البيتين بالفارسية نقلا عن مقدمة «شيفر»:
اينچنين كس بحشر رنده شود ... گر نمايند عنصرش چوجو
ز اولين بار نيست مشكلتر ... تيز بر ريش ناصر خسرو(1/327)
بقية آثاره:
ويجب علينا الآن أن نتحدث باختصار عن بقية كتبه ومؤلفاته. وقد أبقى لنا الزمن منها ثلاثة كتب طبع منها اثنان هما: «روشنائى نامه وكتاب الضياء» و «سعادت نامه أو كتاب السعاده»، وأما الثالث وهو كتاب «زاد المسافرين» فلا توجد منه إلا النسخة المخطوطة المحفوظة الآن بالمكتبة الأهلية بپاريس وقد كانت ملكا للاستاذ «شيفر» (1). وقد ذكر «حاجى خليفة» كتابا آخر من كتب «ناصر خسرو» هو كتاب «الإكسير الأعظم» كما ذكر جماعة آخرون من المؤلفين الذين لا يوثق بهم كتبا أخرى نسبوها له، فنسب له «دولتشاه» فى تذكرته وكذلك لطفعلى بيگ فى «آتشكده» أنه ألف الكتب الآتية:
«كنز الحقائق» و «القانون الأعظم» وكتاب فى «علم اليونان» و «رسالة فى السحر» و «الدستور الأعظم» و «المستوفى» و «تفسير القرآن» وقد ورد الخبر عن هذا الكتاب الأخير فى ترجمة حياة ناصر خسرو الزائفة، وقيل إنه وضعه خصيصا لملاحدة الإسماعيلية (2).
ولا يمكن القطع على وجه اليقين بعدد الكتب التى وجدت فعلا من بين هذه الكتب التى ذكرناها أخيرا، لأن جميع المؤلفات التى كتبت فى مدى القرون الأربعة التالية لموت «ناصر خسرو» لم تذكر عنها شيئا على وجه الإطلاق (3).
روشنائى نامه:
وكتاب الضياء أو «روشنائى نامه» عبارة عن مثنويه تشتمل على 579بيتا
__________
(1) المترجم: طبع هذا الكتاب بمطبعة «كاويانى» ببرلين سنة 1341هـ.
(2) المترجم: يضاف إلى هذه الكتب كتاب «خوان الاخوان» وقد طبع بالقاهرة سنة 1940م. وكذلك «رسالة شش فصل ديار روشنائى نامه نثر» طبع القاهرة سنة 1948باهتمام «ايوانف .. »
(3) أنظر المقالة التى كتبها «فانيان» بعنوان «مقال عن ناصر بن خسرو» وقد نشرها فى «مجلة الجمعية الآسيوية» المجموعة الثانية، مجلد 13، ص 168164 وحذف مورده؟؟؟ بالصحيفة الأخيرة.(1/328)
منظومة فى بحر الهزج المسدس (1). ويوجد من هذه المثنوية نسختان مخطوطتان محفوظتان فى «المكتبة الأهلية» بپاريس، إحداهما كانت ملكا للأستاذ «شيفر» كما توجد منها نسخة مخطوطة فى «ليدن» وأخرى فى «جوتا» وثالثة فى «إدارة الهند».
وبالرجوع إلى البيت الرقيم 555من طبعة «إتيه» نجد أنه يشتمل على تاريخ إنشاء هذه المثنويه، وهذا البيت هو أكبر دليل، بل هو الدليل الوحيد، القائل بأنه كان يوجد شخصان مختلفان يتسمى كل منهما باسم «ناصر خسرو». فأما قراءة «إتيه» لهذا البيت فتجعل تاريخ إنشاء هذه المنظومة هو سنة 440هـ 10491048م وقد استند فيها على تخمين مقبول، أيده بجملة من الأسانيد القوية، يمكن الاطلاع عليها فى «مجلة المستشرقين الألمان» بالمجلد 23صفحة 649646والمجلد 34صفحة 638. ومع ذلك فهذا التاريخ تختلف فيه النسخ المخطوطة الأخرى التى ذكرناها آنفا. فنسختا «ليدن» و «پاريس» تذكران سنة 343هـ 955954م، ونسخة «جوتا» تذكر سنة 420هـ 1029م، وأما نسخة «إدارة الهند» فتذكر سنة 323هـ 935934م. ويجب أن نلاحظ أن البيتين اللذين ورد بهما التاريخان الأولان لا يستقيمان وزنا، وعلى هذا فهما من هذه الناحية مرفوضان لدينا، وأما البيت الذى ذكر التاريخ الأخير فيتنافى ما ورد به مع كل الحقائق التى نعرفها عن «ناصر خسرو». ذلك لأنه من المحقق الأكيد أن مؤلف «سفرنامه» و «الديوان» شخص واحد، عرفت تفاصيل حياته وتواريخها معرفة جيدة تبلغ مبلغ اليقين، فقد ولد كما ذكر صراحة فى «الديوان» وتلميحا فى «سفرنامه» فى سنة 394هـ 10041003م، وعلى ذلك لا يمكن أن يتصور أنه كتب ال «روشنائى نامه» فى سنة 323هـ أو 343هـ كذلك لا يمكن لأحد أن يفترض فرضا غير مقبول عقلا، فيقول بإمكان وجود شاعرين، يتسمى كل منهما باسم «ناصر»، ويكنى كل منهما بكنية «أبى معين»، ويتلقب كل منهما بلقب «الحجة»، وينتسب كل منهما إلى أصل واحد، ويعيش كل منهما فى «يمگان» من
__________
(1) هذا هو عدد أبياتها وفقا لطبعة «إتيه»(1/329)
ولاية خراسان، ويستطيع كل منهما أن يكتب شعرا أخلاقيا وتعليميا على نمط واحد وبأسلوب واحد!! ويبدو لى من كل ذلك أن الدكتور «إتيه» كان مصيبا فى نظرته وتخمينه وأن ال «روشنائى نامه» كما يقول قد تم تأليفها فى القاهرة فى خلال عيد الأضحى من سنة 440هـ 9مارس سنة 1049م. وإذا شاء القارىء الاستزادة من بحث هذه المسألة فإنى إحيله إلى المقال المستفيض الذى كتبه الدكتور «إتيه».
وقد طال بنا الحديث عن «ناصر خسرو» واستغرق منا كل هذه الصفحات الكثيرة، بحيث يتعذر على الآن، لضيق المقام، ولاحتياجى إلى الصفحات الباقية للحديث عن غيره من كبار الكتاب المعاصرين له، أن استعرض كما ينبغى كتابيه «روشنائى نامه» و «سعادت نامه»، ومع ذلك فلا ضير على القارىء إذا أوقفت حديثى عند هذا الحد، لأن القارىء الأوروبى يستطيع أن يقرأ الكتاب الأول فى ترجمته الألمانية المنظومة التى قام بها الدكتور «إتيه»، كما يستطيع أن يقرأ الكتاب الثانى فى ترجمته الفرنسية المنثورة التى قام بها «فانيان».
ويجب الإشارة إلى أن كلا من هذين الكتابين فى أصله الفارسى عبارة عن مثنوية تعليمية أخلاقيه نظمت فى بحر الهزج، وأن كلا منهما لا يبلغ من الناحية الفنية الشعرية مبلغ القصائد الموجودة فى الديوان. وينقسم «سعادت نامه» إلى ثلاثين فصلا قصيرا، تشتمل على 287بيتا من الشعر، وتتعلق جميعها تقريبا بالحديث عن المبادىء الأخلاقية العملية اما ال «روشنائى» فتتحدث بالإضافة إلى ذلك عن جملة من المسائل المتعلقة بما وراء الطبيعة وطائفة أخرى من المسائل المتعلقة بنشأة الكون وهى تتضمن أبياتا رائعة (من 513إلى 523) فى ذم شعراء المديح الدنيويين الذين لا غرض لهم من قول الشعر الا التكسب به وجمع الدراهم والدنانير
شعراء الرباعيات:
فى هذا العصر
فإذا تركنا الآن «ناصر خسرو» وجب علينا أن نمضى مباشرة إلى دراسة أربعة شعراء، امتاز كل منهم بالتبريز فى قول «الرباعى» وهو ذلك الضرب من ضروب النظم التى قلنا فيما سبق إنها ترجع إلى أصل فارسى خالص.(1/330)
فأما هؤلاء الشعراء الأربعة فهم:
1 «عمر الخيام»: الشاعر المنجم المشهور الذى ينسب الى «نيسابور»
2 «باباطاهر الهمدانى»: الشاعر الذى أنشد رباعياته فى لهجته الخاصة
3 «ابو سعيد بن أبى الخير»: الشاعر الصوفى المعروف
4 «الشيخ الأنصارى»: أو كما يعرف فى الفارسية «پير أنصار» وهو الرجل الورع التقى الذى قال عنه الدكتور «إتيه» (1): انه امتاز فى كتاباته العديدة بخلط التصوف بالأخلاق، وقد جعل بعض منشآته منثورة مسجعة، كما جعل بعضها الآخر منثورا تختلط به بعض «الغزليات» و «الرباعيات» ويعتبر فى الحقيقة صاحب الفضل الأكبر فى الامتزاج التدريجى الذى حدث بين «الشعر الصوفى» و «الشعر التعليمى» بحيث يمكن أن نجعله أول من مهد الطريق فى ذلك للشاعر العظيم «سنائى»
عمر الخيام
نبذة من ترجمته
ولنبدأ الآن بدراسة عمر الخيام (أو الخيامى كما يسمى فى العربية). وقد فاز هذا الشاعر، بفضل العبقرية التى أبداها «فينرجرالد» فى ترجمة رباعياته إلى الانجليزية، بشهرة عريضة فى انجلترا وأوروبا وأمريكا، لم يفز بمثلها فى بلده إيران، حيث اقتصرت شهرته على ما كتبه متعلقا بالرياضة والنجوم، ولم تتعدها إلى ما كتب من أشعار.
وأقدم ما فى حوزتنا من أخبار عنه، ورد فى كتاب «چهار مقاله» أو «المقالات الأربع» من تأليف «نظامى عروضى السمرقندى». ويجب أن نلاحظ أن الأخبار التى وردت عنه فى هذا الكتاب، لم ترد فى المقالة المتعلقة بالشعر والشعراء، وإنما وردت فى المقالة المتعلقة بعلم النجوم والمنجمين. وقد كتب نظامى العروضى (2) هذا الكتاب فى النصف الأخير من القرن الثانى عشر الميلادى (السادس الهجرى). ومما كتبه عن عمر الخيام ما رواه فى الحكاية السابعة والعشرين (3)
حيث يقول ما ترجمته:
«فى سنة ست وخمسمائة نزل الإمام عمر الخيامى والإمام المظفر الاسفزارى»
__________
(1) أنظر ص 282من كتابه «الأدب الفارسى الحديث: .. »
(2) يجب ألا نخلط بينه وبين الشاعر المعروف «نظامى الگنجوى».
(3) أنظر أيضا ترجمة «براون» إلى الانجليزية ص 101100.(1/331)
«فى سراى الأمير أبى سعد بمدينة بلخ بمحلة «بائعى العبيد» وكنت قد التحقت» «بخدمتهم هنالك. فسمعت فى مجلس من مجالس المنادمة والمؤانسة حجة الحق» «عمر يقول: إن قبرى سيكون فى موضع تهب عليه ريح الشمال فى فصل» «الربيع فتنثر على مرقدى الورود والأزهار فبدا لى استحالة هذا الحديث،» «ولكنى كنت أعلم أنه لا يقول الكلام جزافا. فلما كانت سنة ثلاثين وخمسمائة» «وصلت إلى نيسابور، وكانت قد مضت بضع سنوات (1) منذ مات هذا الرجل» «العظيم وانطوت صفحة وجهه فى نقاب الثرى والتراب، وتيتم بفقده العالم الأسفل» «وكانت له حقوق الأستاذية على. فذهبت فى إحدى الجمعات (2) لزيارة قبره» «واصطحبت معى واحدا من الناس ليدلنى على ثراه، فأخذنى إلى مقبرة الحيرة.»
«فلما درت إلى ناحية اليسار، وجدت قبره فى أسفل جدار إحدى الحدائق،» «وقد أطلت عليه من وراء هذا الجدار، أشجار الكمثرى والمشمش، ونثرت» «عليه قدرا كبيرا من أزهارها، كان كافيا لتغطية قبره وإخفائه. عند ذلك» «تذكرت الحكاية التى سمعتها من فمه فى مدينة بلخ فاستولى على البكاء لأنى» «لم أر له نظيرا فى مكان قط من أرجاء هذا العالم وربوعه المسكونة. جعل الله» «مقره فى الجنة بمنه وكرمه.» (3).
وأما الحكاية الثانية الواردة عن عمر الخيام فى كتاب «چهار مقاله» فهى الحكاية الثامنة والعشرون منه، وترجمتها كما يلى:
«رأيت الحكيم حجة الحق عمر، ولكنى لم أر له اعتقادا فى أحكام النجوم،»
__________
(1) أى ثلاث عشرة سنة لأن «عمر الخيام» مات سنة 1123517م.
(2) يقصد بذلك «ليلة الجمعة» أو يوم الخميس مساء. لأن المسلمين يجعلون بداية اليوم مع مغرب الشمس. ويخصص الفرس ليلة الجمعة أو كما يسمونها «شب جمعه» لزيارة موتاهم من الأقارب والأصحاب.
(3) المترجم: يجب أن تنتهى هذه الحكاية عند هذا الحد، ولكن الأصل الانجليزى يضيف إلى ذلك أربعة سطور، اختلط فيها الأمر على المؤلف، فجعلها تكملة أو خاتمة لهذه الحكاية.
والواقع أنها مقدمة للحكاية الثانية وقد تداركنا ذلك عند الترجمة. كما أن المؤلف عند ما قام بطبع النص الفارسى لكتاب «چهار مقاله» ميز كل حكاية من الحكايتين بمقدماتها وخواتيمها على الوجه الأصوب.(1/332)
«وكذلك لم أر كبيرا من الكبراء ولم أسمع من واحد منهم أنه كان يعتقد فى» «هذه الأحكام. ففى شتاء سنة ثمان وخمسمائة أرسل السلطان (1) شخصا إلى» «مدينة مرو، توجه إلى الوزير الكبير صدر الدين محمد بن المظفر وأمره» «أن يخبر الإمام عمر: أن اختر لنا وقتا يصلح لخروجنا للصيد والقنص بحيث» «لا تمطر الدنيا ولا تثلج خلال الأيام القليلة التى تختارها. وكان السيد الإمام» «عمر مقيما فى قصر الوزير فأرسل إليه الوزير شخصا يستدعيه، وحكى له ما جرى» «من حديث. فذهب عمر وأعمل فكره يومين كاملين فلما أحسن الاختيار» «ذهب بنفسه وحضر ركوب السلطان وفقا للوقت الذى اختاره، ولم يكد» «السلطان يركب ويذهب مقدار صيحة من الأرض حتى تجمعت السحب وارتفعت» «الرباح، وهبط الثلج وتكاثر الضباب. فضحك الحاضرون.!! وأراد» «السلطان أن يرجع، ولكن الإمام عمر قال له. ليهدأ قلب السلطان» «فسينكشف السحاب فى التو والساعة ولن يكون فى الأيام الخمسة التالية» «أثر للرطوبة أو البلل. فركب السلطان وانقشع السحاب ولم يعد أحد» «يرى أثرا له، وخلت الأيام الخمسة التالية من المطر والبلل.»
«والواقع أن أحكام النجوم صنعة معروفة ولكن لا يجوز لأحد الاعتماد» «عليها، ويجب على المنجم ألا يعتمد عليها اعتمادا كليا، وأن يرجع كل حكم» «يستنبطه إلى أحكام القضاء والقدر».
هذه الأخبار المبكرة التى رويت عن «عمر» تدلنا بوضوح على أنه كان حيا يرزق فى سنة 508هـ 11151114م، وأن قبره كان موجودا فى مدينة «نيسابور» وأن الفكرة التى سادت بين أعضاء «جمعية عمر الخيام» من أنه دفن تحت شجيرات الورد إنما هى فكرة خاطئة، مبعثها أن كلمة «گل» الفارسية لها معنيان:
أحدهما بمعنى الزهرة على وجه الإطلاق، والآخر بمعنى الوردة على وجه التخصيص.
وقد رأينا أن سياق الحكاية التى رويت عنه فى كتاب «چهار مقاله» وهى التى ترجمناها فيما سبق، نقطع صراحة بأن المقصود هو أزهار المشمش والكمثرى وليس أوراق الورد.
__________
(1) هو فيما يظن السلطان «محمد» أخ السلطان «سنجر» السلجوقى.(1/333)
أحدث الأبحاث عن حياة عمر الخيام
كتاب «عمر الخيام والرباعيات الجائلة» للأستاذ «فالنتين ژوكوفسكى»
جميع السير التى نشرت فى أوروبا عن «عمر الخيام» حتى سنة 1897م، اعتمد فيها كاتبوها على كتب فارسية متأخرة ليس لها نصيب من الأهمية فى قليل أو كثير؟ لأن هؤلاء الكتاب كانوا يهدفون إلى خلق القصص الخيالية عن هذا الشاعر، أكثر مما يهدفون إلى تحرى الحقائق التاريخية الثابتة. فلما كانت هذه السنة نشر الأستاذ «فالنتين ژوكوفسكى» مقاله البديع الرائع عن «عمر الخيام والرباعيات الجائلة» (1) فوضع بذلك حدا للمقالات الزائفة التى نشرت عنه قبل ذلك التاريخ. وقد كتب هذه المقالة باللغة الروسية ونشرها فى المجموعة التذكارية التى طبعت تخليدا لمرور خمسة وعشرين عاما على اشتغال «البارون فيكتور روزن» (2)
بأستادية اللغة العربية فى جامعة «سان بطرسبورج» وقد سموها ب «المظفرية» نسبة إلى المعنى الذى يتضمنه اسمه «فيكتور». وقد كان من حسن الحظ، لعدم انتشار اللغة الروسية فى غرب أوروبا، أن يقوم المستشرق العبقرى الدكتور «إ. دنيسون روس» الذى يتولى الآن عمادة المدرسة الإسلامية بمدينة كلكنا (3)، بترجمة هذه المقالة الهامة ونشرها فى «مجلة الجمعية الملكية الأسيوية» سنة 1898م (مجلد 30 ص 366349) وقد أعقب ذلك بتلخيصها ونشر أهم النقط التى دارت عليها فى المقالة التى كتبها بعنوان «عمر الخيام وعصره» وجعلها مقدمة لطبعة «مثوين:
» للترجمة الانجليزية التى نشرها «فيتزجرالد» للرباعيات، كما أضاف إليها شرحا وافيا كتبته السيدة «هـ. م. باتسون» ونشرته فى سنة 1900م (4).
وقد نقل «ژوكوفسكى» الأخبار المروية عن «عمر الخيام» فى لغتها الأصلية، وألحق بها ترجمة روسية لها، ثم ترجم هذه الأخبار إلى الانجليزية الدكتور «دنيسون
__________
(1) أنظر::.
. (2) اسمه بالحروف اللاتينية هو:
(3) المترجم: هو المستشرق الكبير المرحوم .. وقد تتلمذت عليه أثناء دراستى فى «معهد اللغات الشرقية» بلندن وكان فى ذلك الوقت مديرا لهذا العهد، وأدركته الوفاة فى سنه 1942م.
(4) اسمها بالحروف اللاتينية هو:. ..(1/334)
روس». وهى فى جملتها عبارة عن أربعة أخبار استمدها على التوالى من كتاب ألف فى القرن الثالث عشر الميلادى (السابع الهجرى)، وخبر منقول من كتاب تم تأليفه فى القرن الرابع عشر الميلادى (الثامن الهجرى)، وخبر آخر منقول من كتاب تم تأليفه فى القرن الخامس عشر الميلادى (التاسع الهجرى)، وحبر أخير منقول من كتاب يرجع تأليفه إلى أواخر القرن السادس عشر (العاشر الهجرى) أو مطلع القرن السابع عشر الميلادى (الحادى عشر الهجرى).
والخبران الأخيران متأخران تاريخيا، ولكنه ذكرهما فى مقاله لما اشتملا عليه من أهمية بالغة. وقد يمكنا أن نضيف إلى هذه القائمة مجموعة أخرى من الأخبار التى رواها أصحاب التراجم المتأخرون، ولكننا نعرض عنها، لأنها فى الغالب لا تفعل أكثر من أنها تكرر أقوال السابقين فتنتقصها من أطرافها أو تضيف إليها ما ليس فيها.
ويجب فى هذه المناسبة أن نذكر أن «عوفى» صاحب «لباب الألباب» وهو أقدم كتاب من كتب التراجم الفارسية وقد تم تأليفه فى بداية القرن السابع الهجرى والثالث عشر الميلادى، لم يذكر شيئا بالمرة عن «عمر الخيام» وكذلك فعل «دولتشاه» فى كتابه «تذكرة الشعراء» (1) فلم يخصص للخيام مقالة مستقلة مفردة بل تحدث عنه عرضا (2) عندما أخذ يترجم لأحد أحفاده المسمى «شاهفور أشهرى» (3).
كتاب «مرصاد العباد»
يظهر أن أقدم الأخبار المروية عن «عمر الخيام» بعد الخبرين اللذين رويناهما فيما سبق عن كتاب «چهار مقاله» هو الخبر الوارد فى كتاب «مرصاد العباد» الذى ألفه «نجم الدين الرازى» فى سنة 620هـ 1223م (4) وقد أشار «ژوكوفسكى» إلى أن أهمية هذا الخبر محصورة فى أن مؤلف هذا الكتاب يعتبر من كبار الصوفية المخلصين، وقد كتب عن «عمر الخيام» فوصفه بأنه «فيلسوف ودهرى وطبيعى»
__________
(1) تم تأليف هذا الكتاب سنة 892هـ 1487م وقد طبع فى ليدن سنة 1900م
(2) أنظر ص 138من المرجع السابق.
(3) الشاعر الفارسى المتوفى سنة 606هـ.
(4) هذا الخبر منقول فى ص 341من مقالة «ژوكوفسكى» وكذلك ص 361من مقالة «روس».(1/335)
واستشهد على ذلك برباعيتين، يبدو فى الأولى منهما كفر الخيام وإلحاده، بينما الثانية تشتمل على توجيه اللوم للخالق لخلقه للكائنات الشريرة وإهلاكه للكائنات الخيرة!! وقد علق «نجم الدين الرازى» على هذه الأقوال بأنها: «دالة على غاية الحيرة ومنتهى الضلال.» (1).
كتاب «تاريخ الحكماء» للقفطي:
وقد ورد الخبر التالى لذلك فى كتاب «تاريخ الحكماء» تأليف «القفطى (2)» (ص 244243) طبعة الدكتور «يوليوس ليپرت:» فى ليپزج سنة 1903، وهو كتاب باللغة العربية تم تأليفه فى الربع الثانى من القرن الثالث عشر الميلادى (السابع الهجرى) وقد نشر هذا الخبر وترجمه إلى الفرنسية المستشرق «وپكه:
» فى كتابه عن رسالة الجبر لعمر الخيام المنشورة فى پاريس سنة 1851م (أنظر ص 5من المقدمة وص 52من النص) وقد أعاد «ژوكوفسكى» نشر هذا الخبر (ص 335333) وترجمه إلى اللغة الروسية، كما ترجمه إلى الإنجليزية «روس» (ص 355354). وهذا الخبر فى جملته يصور «عمر الخيام» بانه واحد من جملة العلوم اليونانية أى الحكمة والفلسفة، كما بين ذلك الصوفى الكبير «جلال الدين رومى» عندما قال فى كتابه «المثنوى» بيته المشهور الذى ترجمته:
إلى متى؟ إلى متى؟ فى حكمة اليونان.!!
أما تفيق وتمضى فى حكمة القرآن!!
__________
(1) المترجم: فيما يلى نص الرباعيتين بالفارسية:
ادر دايره كامدن ورفتن ماست ... آنرا نه بدايت نه نهايت پيداست
كس مى نزند دمى در اين عالم راست ... كاين آمدن از كجا ورفتن بكجاست
ب دارنده چوتركيب طبايع آراست ... باز از چهـ قبل فكند اندر كم وكاست
گر زشت آمد پس اين صور عيب كراست ... ور نيك آمد خرابى از بهر چراست
والرباعية الأخيرة هى الرقيمة 126من ترجمة «هونفيلد».
(2) المترجم: توفى القفطى سنة 646هـ 1248م.(1/336)
يقول القفطى: «وقد وقف متأخر والصوفية على شىء من ظواهر شعره فنقلوها إلى طريقتهم، وتحاضروا بها فى مجالساتهم وخلواتهم، وبواطنها حيات للشريعة لواسع، ومجامع للأغلال جوامع».
ثم يمضى القفطى فيقول: «إنه كان عديم القرين فى علم النجوم والحكمة به يضرب المثل فى هذه الأنواع، لو رزق العصمة» ويختم القفطى مقاله عن الخيام بذكر أربعة أبيات من إحدى قصائده العربية، سنرى أن ثلاثة منها ترد أيضا ضمن مقطوعة من ستة أبيات (1) استشهد بها صاحب الكتاب التالى الذى سنتحدث عنه مباشرة.
كتاب «نزهة الارواح» للشهرزورى:
والكتاب التالى الذى تحدث عن «عمر الخيام» هو كتاب «نزهة الأرواح وروضة الأفراح» تأليف «الشهرزورى» فى القرن الثالث عشر الميلادى (بداية السابع الهجرى) ويوجد من هذا الكتاب نسختان، أحداهما عربية، والأخرى فارسية. وقد نشر «ژوكوفسكى» فى مقالته الخبر الوارد عن «عمر» وفقا للنص العربى والنص الفارسى، ثم اختار النص الأخير فترجمه إلى اللغة الروسية على خلاف ما فعل «روس» فقد ترجم النص العربى إلى اللغة الإنجليزية. وكلا النصين يستشهد بأشعار فارسية أو عربية من أشعار الخيام وفقا للغة التى كتب بها هذا النص،
__________
(1) المترجم: فيما يلى نص هذه الأبيات وهى سبعة أبيات وليست ستة كما جاء فى كلام المؤلف
إذا رضيت نفسى بميسور بلغة ... يحصلها بالكد كفى وساعدى
أمنت تصاريف الحوادث كلها ... فكن يا زمانى موعدى أو مواعدى
ولى فوق هام النيرين منازل ... وفوق مناط الفرقدين مصاعدى
أليس قضى الأفلاك من دورها بأن ... تعيد إلى نحس جميع المساعد
فيا نفس صبرا عن مقيلك إنما ... تخر ذراها بانقضاض القواعد
متى ما دنت دنياك كانت بعيدة ... فوا عجبى من ذا القريب المتباعد
إذا كان محصول الحياة منية ... فسيان حالا كل ساع وقاعد(1/337)
فيستشهد النص الفارسى بالرباعيتين الرقيمتين 193و 230من طبعة «هونفيلد»، وأما النص العربى فيستشهد بمقطوعات ثلاث من أشعاره العربية، تشتمل أولاها على أربعة أبيات، وثانيتها على ستة أبيات، وثالثتها على ثلاثة أبيات (1) وقد رأينا أن المقطوعة الثانية من هذه المقطوعات هى من نفس القصيدة التى استشهد الكتاب السابق الذى تحدثنا عنه بثلاثة أبيات من أبياتها.
والخبر الذى رواه «الشهرزورى» أكمل وأوفى من الخبر الذى رواه «القفطى» فهو يتحدث عن عمر الخيام فيقول عنه إنه: «كان تلو أبى على سينا فى أجزاء علوم الحكمة إلا أنه كان سىء الخلق، ضيق العطن. وقد تأمل كتابا بإصفهان سبع مرات وحفظه، وعاد إلى نيسابور فأملاه، فقوبل بنسخه الأصل فلم يوجد بينهما كبير تفاوت».
ثم يقول إنه كان عالما بالفقه واللغة والتواريخ والقراءات السبع، ويقول إن الفقيه المعروف «أبا حامد محمد الغزالى» أحس له بكثير من البغض والكراهية بعد ما تباحث معه فى مسألة من المسائل، وكذلك فعل السلطان «سنجر» وأما السلطان «ملكشاه» فكان يحبه ويقربه وينزله منزلة الندماء.
وحكى «الشهرزورى» أن الخيام قبيل وفاته «كان يتأمل الإلهيات فى الشفاء» فلما وصل إلى فصل الواحد والكثير وضع الخلال بين الورقتين وقام وصلى وأوصى ولم يأكل ولم يشرب فلما صلى العشاء الأخيرة سجد وكان يقول فى سجوده:
__________
(1) المترجم: فيما يلى نص المقطوعتين الأولى والثالثة:
يقول فى المقطوعة الأولى:
تدين لى الدنيا بل السبعة العلى ... بل الأفق الأعلى إذا جاش خاطرى
أصوم عن الفحشاء جهرا وخفية ... عفافا وأفطارى بتقديس فاطرى
وكم عصبة زلت عن الحق فاهتدت ... بطرق الهدى من فيضى المتقاطر
فإن صراطى المستقيم بصائر ... نصبن على وادى العمى كالقناطر
ويقول فى المقطوعة الثالثة:
رجيت دهرا طويلا فى التماس أخ ... يرعى ودادى إذا ذو خلة خانا
فكم ألفت وكم آخيت غير أخ ... وكم تبدلت بالإخوان إخوانا
وقلت للنفس لما عز مطلبها ... بالله لا تألفى ما عشت إنسانا(1/338)
«اللهم إنى عرفتك على مبلغ إمكانى، فاغفرلى، فإن معرفنى إياك وسيلتى إليك».
كتاب «آثار البلاد» للقزوينى:
يلى ذلك تاريخيا الخبر الوارد فى كتاب «آثار البلاد» للقزوينى فقد تحدث ذلك الكتاب عن «عمر الخيام» عند كلامه عن مدينة «نيسابور» فى صفحة 318 من طبعة «وستنفلد» فقال إنه «كان حكيما عارفا بجميع أنواع الحكمة سيما النوع الرياضى» وإنه كان مقربا من السلطان «ملكشاه» السلجوقى، وإن الفضل يرجع إليه فى اتخاذ تمثال من الطين لزجر الطير عن الوقوع فى بعض الربط وتنجيس أهله بذرقه ثم حكى فى النهاية الوسيلة التى اتخذها عمر فى فضيحة فقيه من الفقهاء، اعتاد أن يذكره بالسوء، ويقول عنه أنه كافر ملحد، بينما كان ذلك الفقيه يمشى إليه كل يوم قبل طلوع الشمس ويقرأ عليه درسا من الحكمة (1).
* * * وبالانتهاء من ذكر هذا المرجع ننتهى من الكلام عن الكتب التى تحدثت عن «الخيام» حتى نهاية القرن الثالث عشر الميلادى (السابع الهجرى) ويجدر بنا قبل أن نمضى فى دراسة غيرها من الكتب المتأخرة أن نشير إلى أن جميع الكتب المبكرة التى سبق لنا الحديث عنها قد أجمعت على الإشارة إلى «عمر الخيام» بأنه «فيلسوف ومنجم ورياضى» وأنه عندما وصف بأنه «صوفى» انبرى للرد على ذلك الصوفى الكبير «نجم الدين الرازى»
__________
(1) المترجم: فيما يلى نص هذه القصة كما وردت فى كتاب «آثار البلاد»:
«وحكى إن بعض الفقهاء كان يمشى إليه كل يوم قبل طلوع الشمس ويقرأ عليه درسا من الحكمة، فإذا حضر عند الناس ذكره بالسوء، فأمر عمر بإحضار جمع من الطبالين والبوقيين وخبأهم فى داره، فلما جاء الفقيه على عادته لقراءة الدرس، أمرهم بدق الطبول والنفخ فى البوقات، فجاءه الناس من كل صوب، فقال عمر: يا أهل نيسابور! هذا عالمكم يأتينى كل يوم فى هذا الوقت، ويأخذ منى العلم، ويذكرنى عندكم بما تعلمون، فإن كنت أنا كما يقول، فلأى شىء يأخذ علمى؟! وإلا فلأى شىء يذكر الأستاذ بالسوء؟!»(1/339)
فقال عنه أنه «فيلسوف ودهرى وطبيعى» بينما نرى «القفطى» يقول إن جماعة من متأخرى الصوفيه قد وقفوا «على شىء من ظواهر شعره، فنقلوها إلى طريقتهم وتحاضروا بها فى مجالساتهم وخلواتهم، وبواطنها حيات للشريعة لواسع ومجامع للأغلال جوامع!!»
كتاب «جامع التواريخ»:
وأهم مرجع من مراجع القرن الرابع عشر الميلادى (الثامن الهجرى) هو كتاب «جامع التواريخ» تأليف «رشيد الدين فضل الله» وهو عبارة عن موسوعة فى تاريخ «المغول» وبعض أبواب التاريخ العام، تم تأليفها فى الربع الأول من القرن الرابع عشر الميلادى (فى سنة 710هـ) وما زالت لسوء الحظ غير مطبوعة، برغم ما لها من أهمية كبيرة محققة (1).
وأول ما نصادفه فى هذا الكتاب هو «قصة الأصدقاء الثلاثة» التى سبق لنا الحديث عنها (2) وقد سبق لى أن ضمنت جزءا من هذا الحديث فى مقال قصير بعنوان «ضوء جديد يكشف عن عمر الخيام» نشرته فى «مجلة الجمعية الملكية الأسيوية» شهر أبريل سنة 1899م (ص 411409) ولما كان نص هذه القصة كما ذكرها كتاب «جامع التواريخ» هو أقدم نصوص هذه الأسطورة التى أثارت كثيرا من الجدل والاهتمام بين المعجبين بهذا الشاعر المنجم وبين مترجمه
__________
(1) طبع الأستاذ «كاترمير» جزءا صغيرا منها يتعلق بتاريخ هولاگو خان (پاريس سنة 1836م) كما أن الموكلين بأمر سلسلة جب التذكارية يعنون بنشر أجزاء أخرى من هذه الموسوعة.
المترجم: أصدرت سلسلة جب التذكارية جزءا من هذه الموسوعة نشره «المسيوبلوشيه» فى المجلد الثامن عشر وهو يتعلق بتاريخ المغول من تولى «أوكتاى» حتى وفاة «تيمور الجايتو» حفيد «قبلاى خان». كما نشرت جزءا آخر عن «غازان خان» بعنوان «تأريخ مبارك غازانى» نشره «كارل يان» سنة 1358هـ 1940م.
(2) عند الحديث على «نظام الملك» ص 239236من هذا الكتاب.(1/340)
«فيتزجرالد» فإنى أرى لزاما على أن أنشر فى هذا المقام ترجمه الجزء المتعلق منها بالخيام، وخلاصته كما يلى (1):
«وأما سبب النفور والعداء اللذين وقعا بين «نظام الملك» و «الحسن الصباح»» «فمرجعه إلى أنهما كانا يحضران الدرس مع «عمر الخيام» فى مدرسة فى مدارس» «نيسابور وكما يفعل الصبية فى أثناء الطفولة، أحس كل منهم بصداقة بالغة» «لصاحبيه، ارتبط فيها ثلاثتهم برباط الدم وأقسموا أغلظ الإيمان على أن» «من يصل منهم إلى مركز رفيع فى الدولة يجب عليه أن يحمى صاحبيه ويقدم» «لهما كل مغونة لازمة.»
«وتتابعت الحوادث كما بين ذلك صاحب كتاب «تاريخ آل سلجوق» وانتهى» «الأمر بنظام الملك فأصبح وزيرا للسلاجقة. فاتصل به عمر الخيام وذكره» «بالإيمان التى أقسموا عليها والعهود التى ارتبطوا بها أثناء طفولتهم فاعترف» «نظام الملك بهذه العهود والمواثيق وقال له: إنى أهب لك أعمال نيسابور» «وتوابعها. ولكن عمر كان رجلا عظيما وفيلسوفا حكيما فرفض ما عرض» «عليه قائلا: إن رغبتى لا تنصرف إلى حكم ولاية من الولايات أو التحكم فى أهلها» «ولا طاقة لى بالسياسة وأمر العوام، وإنما تنصرف رغبتى إلى أن تجرى على» «معاشا أو راتبا أرتزق منه. فأجرى عليه نظام الملك معاشا يبلغ عشرة آلاف» «دينار، يصرف له سنويا من دخل نيسابور دون أن يقتطع منه شىء للضرائب»
وتستمر القصة بعد ذلك فتذكر وصول «الحسن الصباح» إلى «نظام الملك» ومطالبته إياه بنصيبه من المغانم. فلما عرض عليه حكومة «الرى» أو «أصفهان» رفضها، ولم يقبل إلا أن يلحق بمنصب من المناصب الرفيعة فى بلاط السلطان. فلما تم له ذلك أساء استعمال منصبه، وحاول أن يوقع بصاحب الفضل عليه، وأن يتولى
__________
(1) هذه ترجمة فيها شىء من التصرف ولكنها لم تهمل شيئا من الأمور الأساسية التى وردت فى الأصل وأما المقال الذى نشرته فى «مجلة الجمعية الملكية الأسيوية» فيتضمن ترجمة حرفية لهذه النبذة.(1/341)
الوزارة فى مكانه ولكن تدبيره أخفق وناله كثير من الخزى والعار، فآثر الهرب إلى «خراسان» ثم إلى «إصفهان» ثم التحق بخدمة الخليفة الفاطمى «المستنصر» بمدينة القاهرة، حيث تزعم قضية «نزار» ثم عاد إلى إيران ينشر باسمه «الدعوة الجديدة» وقد سبق لنا أن ذكرنا كل هذه الأمور فى مكانها من الفصل السابق. ولمن شاء الاطلاع على تفاصيلها أن يرجع إلى ما ذكر عنها فى كتاب «تاريخ گزيده (1)» وكتاب «تذكرة الشعراء» لدولتشاه (2) وغيرهما من الكتب المتأخرة.
كتاب «فردوس التواريخ»:
والخبر التالى الذى رواه «ژوكوفسكى» عن عمر الخيام منقول عن كتاب «فردوس التواريخ» الذى تم تأليفه فى سنة 808هـ 14061405م وهذا الخبر يتضمن رباعيتين من رباعيات الخيام، ويصف المناظرة التى وقعت بينه وبين «أبى الحسن البيهقى» فى تفسير بيت عربى من الأبيات الواردة فى «ديوان الحماسه (3)» ثم ينتهى بذكر قصة موته وفقا لما ذكره «الشهرزورى» فى كتابه «نزهة الأرواح».
كتاب «التاريخ الألفى»:
وآخر الأخبار التى نقلها «ژوكوفسكى» عن الخيام هو الخبر الذى نقله عن كتاب «تاريخ ألفى» أو التاريخ الألفى (4)، وهو مؤلف حديث جدا، سمى بهذه التسمية لأن مؤلفه قصد أن يتحدث فيه عن تاريخ السنوات الألف الأولى من سنى الهجرة
__________
(1) أنظر ص 497486من هذا الكتاب طبع «جانتن».
(2) أنظر ص 141138من تذكرة الشعراء طبع «براون» بمدينة ليدن سنة 1900
(3) المترجم: البيت المقصود هو قول الشاعر.
ولا يرعون أكناف الهوينى ... إذا حلوا ولا أرض الهدون
(4) المترجم: مؤلف هذا الكتاب هو «أحمد بن نصر الله التتوى» من أهالى السند وقد ألفه باسم «أكبرشاه» ملك الهند.(1/342)
أى إلى سنة 15921591الميلادية. ولكنه فى الحقيقة لم يصل به إلا إلى سنة 997هـ. والخبر الوارد فى هذا الكتاب هو فى الحقيقة تكرار لما ذكره «الشهرزورى» مع شىء من الاقتضاب والاختصار، ولكنه ينتهى بهذه النبذة الغريبة:
«ويؤخذ من أكثر الكتب أنه (أى الخيام) كان يدين بمذهب التناسخ.»
«وحكى أنه كان فى نيسابور مدرسة قديمة استخدموا فى إصلاحها الحمير، فكانت» «تحمل الآجر إليها. فحدث فى يوم من الأيام أن الحكيم (أى عمر الخيام)» «كان يمشى مع جماعة من الطلبة فى صحن المدرسة، فما كان من أحد الحمير» «إلا أن امتنع بتاتا عن الدخول فلما رأى الحكيم ذلك تبسم، ثم توجه إلى» «ناحية الحمار وقال له على البديهة هذا الرباعى.»
«اى رفته وباز آمده بل هم گشته»
«نامت ز ميان نامها گم گشته»
«ناخن همه جمع آمده وسم گشته»
«ريش از پس كون درآمده دم گشته»
«ومعناه:»
«يا من ذهبت ثم عدت كالأنعام بل أضل من الأنعام ... » «لقد انمحى اسمك، وضاع من بين أسماء الأنام!! ... » «واجتمعت أظافرك فأصبحت حوافر الأقدام!! ... » «والتصقت ذقنك بعجيزتك فصارت هذا الذيل التام!!»
«عند ذلك دخل الحمار!! فالتفتوا إلى الحكيم وسألوه السبب فيما كان!»
«فقال لهم: إن الروح التى تقمصت جسد هذا الحمار كانت روح أحد المدرسين» «بهذه المدرسة، لهذا لم تشأ دخولها حتى تبينت الآن أن زملاءه قد عرفوها» «فاضطرت إلى الدخول!!»
وليس من الممكن فى هذا المجال أن نمضى فى ذكر الأخبار المتأخرة الواردة عن «عمر الخيام» فإنها فى الغالب عبارة عن حكايات ظاهرة الانتحال، وضعت لتفسير بعض الرباعيات التى تنسب إليه. ومن الغريب أن صاحب السير المشهور «ابن
خلكان» قد تجاهل «الخيام» تجاهلا كليا وكذلك فعل «ابن شاكر» رغم أنه حاول فى كتابه «فوات الوفيات» أن يتدارك ما نسبه سلفه صاحب «وفيات الأعيان». أما الكتبى التركى «حاجى خليفة» فذكره ثلاث مرات (1) الأولى بمناسبة علم الجبر، والثانية بمناسبة زبج ملكشاه، والثالثة والأخيرة على أنه معاصر لواحد من المؤلفين الذين تحدث عنهم (2) ولكنه نسى أن يعين تاريخ وفاته، مما يدل دلالة ظاهرة على أنه كان يجهل هذا التاريخ. وقد حددوا هذا التاريخ عادة بسنة 517هـ 11241123م ولكنى لا أستطيع أن أجد سندا قويا اسند إليه فى تحديد هذا التاريخ (3) وكل ما هنالك أنه من المحقق استنادا إلى ما جاء فى كتاب «چهار مقاله» أنه مات فى الفترة الواقعة بين سنة 509هـ 1115م و 530هـ 1135م وأنه مات قبل السنة الأخيرة «ببضع سنوات»، وأن أباه يسمى «ابراهيم»(1/343)
وليس من الممكن فى هذا المجال أن نمضى فى ذكر الأخبار المتأخرة الواردة عن «عمر الخيام» فإنها فى الغالب عبارة عن حكايات ظاهرة الانتحال، وضعت لتفسير بعض الرباعيات التى تنسب إليه. ومن الغريب أن صاحب السير المشهور «ابن
خلكان» قد تجاهل «الخيام» تجاهلا كليا وكذلك فعل «ابن شاكر» رغم أنه حاول فى كتابه «فوات الوفيات» أن يتدارك ما نسبه سلفه صاحب «وفيات الأعيان». أما الكتبى التركى «حاجى خليفة» فذكره ثلاث مرات (1) الأولى بمناسبة علم الجبر، والثانية بمناسبة زبج ملكشاه، والثالثة والأخيرة على أنه معاصر لواحد من المؤلفين الذين تحدث عنهم (2) ولكنه نسى أن يعين تاريخ وفاته، مما يدل دلالة ظاهرة على أنه كان يجهل هذا التاريخ. وقد حددوا هذا التاريخ عادة بسنة 517هـ 11241123م ولكنى لا أستطيع أن أجد سندا قويا اسند إليه فى تحديد هذا التاريخ (3) وكل ما هنالك أنه من المحقق استنادا إلى ما جاء فى كتاب «چهار مقاله» أنه مات فى الفترة الواقعة بين سنة 509هـ 1115م و 530هـ 1135م وأنه مات قبل السنة الأخيرة «ببضع سنوات»، وأن أباه يسمى «ابراهيم»
وقد وصف بأن له ضنة بالتأليف والتعليم، ولكن الدكتور «روس» استطاع أن يخرج لنا قائمة بمؤلفاته التى ذكرت فى مختلف المصادر، فإذا بها تبلغ عشرة كتب بما فى ذلك رباعياته المعروفة وزيج ملكشاه الذى اشترك فى استنباطه. وأغلب هذه الكتب عبارة عن رسائل علمية أو فلسفية مكتوبة باللغة العربية. وقد طبع الأستاذ «وپكه» رسالته عن الجبر ونشر ترجمتها بالفرنسية فى سنة 1851م وما زالت فى مكتبة ليدن نسخة مخطوطة من إحدى رسالاته «فى شرح ما اشكل من مصادرات كتاب إقليدس». (4)
__________
(1) ج 2ص 584، ج 3ص 570، ج 4ص 273.
(2) المترجم: عندما تحدث عن كتاب «مهجة التوحيد» لعلاء الدولة الملك بالرى.
(3) أنظر ما كتبه «ريو» فى «فهرست الكتب الفارسية» ص 546وكذلك ما كتبه الدكتور «روس» فى مقدمته على ترجمة «فيتزجرالد» للرباعيات المطبوعة فى لندن سنة 1900م ص 7271.
(4) المترجم: الكتب المنسوبة إلى الخيام هى التالية:
«الرباعيات». «زيج ملكشاه». «رسالة فى براهين الجبر والمقابلة» «رسالة فى شرح ما أشكل من مصادرات كتاب اقليدس». «رسالة فى الطبيعيات». «رسالة فى الوجود». «رسالة فى الكون والتكليف». «رسالة فى الاحتيال لمعرفة مقدارى الذهب والفضة فى جسم مركب منهما». «رسالة فى لوازم الأمكنة». «نوروزنامه». «رسالة فى جواب القاضى أبى نصر محمد بن عبد الرحيم النسوى» «رسالة فى الجواب عن ثلاث مسائل».(1/344)
الآداب الخيامية
من المقطوع به أن أغلب القراء يتركز اهتمامهم فى «الرباعيات»، وقد كانت الترجمة الرائعة التى أصدرها «فيتزجرالد» لهذه الرباعيات سببا فى صدور جملة كبيرة من الكتب والرسائل حول الخيام ورباعياته، أخذت تنتشر فى أوروبا وأمريكا وتكثر كثرة هائلة بحيث أصبح من المستحيل علينا أن نتناولها بالبحث فى صفحات هذا الكتاب. ومن الملاحظ أن بعض هذه المؤلفات يرقى إلى أجود أنواع التأليف، وأن بعضها ينحط إلى أسفل مدارك الكتابات الرخيصة التى صادفتها أثناء حياتى ولا شك أن القائمة الطويلة التى يشتمل عليها الملحق التاسع والأربعون من الطبعات الجميلة المختلفة التى نشرها (1) «ناثان هسكل دول» للرباعيات فى مدينتى بوسطون ولندن سنة 1898، تكفى لإشباع نهم كل معجب بالخيام متعطش إلى آثاره وأخباره. ومع ذلك فقد اضطر هذا الرجل الدؤوب جامع هذه القائمة إلى الاعتراف (2) بأن «مجرد جمع ما كتب عن عمر الخيام فى سائر اللغات يقتضى من المرء أن يتفرغ لذلك طوال حياته الكاملة، وأن مجموع المؤلفات التى كتبت عنه تكفى بلا شك لإنشاء مكتبة عامرة حافلة» (3).
ومع حرصى على مراعاة الاقتضاب والاختصار، أجد لزاما على أن أفصل الكلام قليلا عن مسألة «الرباعيات الجائلة (4)» التى تناولها بالبحث «ژوكوفسكى» وكذلك عن المقارنة الدقيقة والتحليل العميق اللذين أجراهما «هرون ألن» لترجمة «فيتزجرالد» ومقابلتها بأصول الرباعيات الفارسية
__________
(1) أنظر ص 594348من الطبعات المختلفة للرباعيات من نسخة
. 1898،
(2) أنظر ص 594من المرجع السابق.
(3) المترجم: ربما كان من المفيد أن نذكر للقارىء العربى أن أهم مترجمى الرباعيات إلى اللغة العربية هم السادة:
«وديع البستانى» و «محمد السباعى» و «محمد الهاشمى» و «أحمد الصافى النجفى» و «جميل صدقى الزهاوى» و «أحمد حامد الصفاف» و «أحمد رامى» و «أحمد زكى أبو شادى» و «توفيق مفرح» و «حسين مظلوم رياض» و «عبد الحق فاصل»
وترجم «إبراهيم عبد القادر المازنى» بعض الرباعيات فى «حصاد الهشيم».
(4) يقصد ب «الرباعيات الجائلة» الرباعيات التى تنسب عادة إلى عمر الخيام ولكنها فى أوثق المصادر وأقدمها منسوبة إلى غيره من الشعراء.(1/345)
الرباعيات الجائلة:
وقد وجد «ژوكوفسكى» أن الرباعيات التى تشتمل عليها طبعة «نيكولاس» تتضمن ما لا يقل عن اثنتين وثمانين رباعية يمكن نسبتها، اعتمادا على أوثق المصادر، إلى واحد من الشعراء الآتين:
«أبو عبد الله الأنصارى». «أبو سعيد بن أبى الخير». «أفضل الكاشى».
«عاكف». «علاء الدولة السمنانى». «الأنورى». «العسجدى». «أثير الدين».
«العطار». «ابن سينا». «أوحدى الكرمانى». «بديهى السجاوندى».
«سيف الدين الباخرزى». «فخر الدين الرازى». «الفردوسى». «أحمد الغزالى».
«حافظ الشيرازى». «جلال الدين الرومى». «جمال الدين القزوينى». «الخاقانى الشروانى». «كمال الدين اسماعيل». «مجد الدين همكر». «المغربى». «الملك شمس الدين». «نجم الدين الرازى». «نصير الدين الطوسى». «نعمة الله الكرمانى».
«رضاء الدين». «سعد الدين الحموى». «سلمان الساوجى». «شاهى». «سراج الدين القمرى». «طالب الآملى».
ولو أننا تكلفنا قليلا من التعب، لزدنا على هذه القائمة أسماء غيرهم من الشعراء، فقد لاحظت وجود أمثلة أخرى يمكن أن نضيفها إلى الأمثلة السابقة من ذلك أن الرباعيتين اللتين نشرهما «هوينفلد» برقم 144و 197ونشرهما «نيكولاس» برقم 116و 182ونسب قولهما إلى عمر الخيام، نشرهما «ژوكوفسكى» برقم 26و 27 ونسب قولهما إلى «نصير الدين الطوسى» و «طالب الآملى». ومع ذلك فقد وجدت فى «تاريخ گزيدة» (1) أن الأولى منهما تنسب إلى «سراج الدين القمرى» وأن الثانية تنسب إلى «عز الدين الكراتشى» (2) ومن الواضح أنهما يتناقضان من
__________
(1) كتاب فى التاريخ تم تأليفه سنة 1330731م.
(2) أنظر مقالتى عن «شعراء الفرس الذين ذكرهم صاحب تاريخ گزيده» وقد نشرتها فى «مجلة الجمعية الملكية الأسيوية». عدد أكتوبر سنة 1900وعدد يناير سنة 1901 (رقم 38، 50)(1/346)
حيث المعنى تناقضا تاما، بحيث لا يمكن بداهة نسبتهما إلى شاعر واحد. وقد ألحق الدكتور «روس» بترجمته لمقالة «ژوكوفسكى» جدولا قيما للمقابلة بين الرباعيات وفقا لترتيبها فى نسخة «هوينفلد» ونسخة «نيكولاس» ونسخه «المكتبة البودلية».
وخلاصة هذا البحث وزبدته، أنه يمكننا من أن نقطع على وجه التأكيد بأن «عمر الخيام» قد كتب بغير شك كثيرا من الرباعيات، ولكن من غير الممكن فيما عدا أمثلة قليلة نادرة أن نجزم على وجه اليقين بأنه كتب رباعية بعينها من هذه الرباعيات الكثيرة التى تنسب إليه.
وأقدم نسخه مخطوطة من «رباعيات الخيام» هى النسخة الموجودة فى «المكتبة البردلية» تحت رقم 525ويرجع تاريخها إلى سنة 865هـ 1460م أى أنها نسخت بعد موته بما يقرب من ثلاثة قرون ونصف القرن. وهذه النسخة تشتمل على 158رباعية وقد نشرها وترجمها نثرا وعلق عليها المستر «إدوارد هرون ألن» فى لندن سنة 1898م، ثم نشر فى السنة التالية كتابا فى الموضوع نفسه بعنوان «المقابلة بين ترجمة فيتزجرالد لرباعيات عمر الخيام مع أصولها الفارسية (1)» وقد أحصى فيه (ص 1615) عدد النسخ الخطية والمطبوعة من الرباعيات ومقدار الرباعيات التى تشتمل عليها كل نسخه من هذه النسخ. والفرق كبير بين عدد الرباعيات فى مختلف النسخ. فبينما يقتصر عددها على 76رباعية فى نسخة خطية قديمة فى مكتبة باريس يرجع تاريخها إلى سنة 937هـ 1530م، إذا به يبلغ 606رباعية فى نسخة خطية بمكتبة بانكيبور، وإذا به يرتفع إلى 710رباعية فى النسخة الطبوعة على الحجر فى مدينة لكنو سنة 1312هـ 1894م، ثم إذا به يصل إلى 845رباعية فى الترجمة المنظومة التى نشرها «جون باين» ثم إذا بنا فى النهاية نجد أن الآنسة «جيسى كادل.» استطاعت بالرجوع إلى مختلف المصادر أن تجمع ما يزيد على ألف ومائتين من الرباعيات المنسوبة إلى عمر الخيام.
__________
(1) اسمه بالانجليزية:. 1899،،(1/347)
وقد يمكن فى يوم من الأيام بالتنقيب فى خبايا المكتبات الأسيوية العثور على نسخة خطية قديمة من الرباعيات، يستطاع الاعتماد عليها والوثوق من مشتملاتها.
ولكننا كما أوضحنا آنفا لا يمكننا قبل العثور على مثل هذه النسخة أن نجزم على وجه اليقين إلا فى أمثله قليلة نادرة بمقدار الرباعيات التى تصح نسبتها إلى عمر. ومن أسف أن فحص الرباعيات من حيث مبانيها أو معانيها لا يمكن أن ينتهى بنا إلى شىء فمبانى الرباعيات من حيث لغتها وألفاظها لا تفيدنا فى شىء، لأننا لا نملك حتى الآن نسخة منها قريبة التاريخ من زمن الشاعر نفسه وكذلك لا يجدينا أسلوبها نفعا، لأن جميع الرباعيات تتشابه فى الغالب من حيث الصيغة والوزن والتركيب والمحسنات البلاغية وهى بالإضافة إلى ذلك قصيرة المدى، تميل إلى معالجة الأمور «العامة» دون «الخاصة»، وتمتاز بسهولة المحاكاة والتقليد حتى ليصعب باجتماع كل هذه الأمور على أى أديب إيرانى، مهما بلغ شأوه فى دراسة الآداب الفارسية، أن يعتمد على أسلوبها، فيجزم ارتكانا على ذلك بتعيين قائليها ومنشديها.
أما فيما يتعلق بالمقابلة بين ترجمة «فيتزجرالد» للرباعيات وبين أصولها الفارسية فقد وفى المستر «إدوارد هرون ألن» هذه المسألة حقها بكل أمانة وإخلاص فى ثانى كتابيه اللذين سبق لنا ذكرهما فى الصفحات الماضية، ونحن نكتفى بأن نعيد هنا نتيجة أبحاثه التى وصل إليها بعد كثير من التعب والنصب، حيث يقول فى مقدمة ذلك الكتاب (ص 1211) ما يلى:
«نجد بين الرباعيات التى ترجمها فيتزجرالد تسعا وأربعين رباعية ترجمها» «فيتزجرالد بأمانة أو حاكاها بإخلاص، ويوجد الأصل الفارسى لكل» «رباعية من هذه الرباعيات فى مخطوطة «أوسلى أو مخطوطة» «كلكتا أو فيهما معا.»
«وفى هذه الترجمة أربعة وأربعون رباعية أخرى يمكن إرجاع كل منها إلى» «أكثر من رباعية واحدة فارسية، ويمكن أن نسميها بالرباعيات المركبة.»
«وهناك رباعيتان أوحى بهما إلى فيتزجرالد بعض الرباعيات التى لا توجد إلا» «فى نسخة نيكولاس.»(1/348)
«كما أنه صاغ رباعيتين جعلهما ترديدا للروح العامة التى توحى بها الرباعيات.»
«وفى الترجمة كذلك رباعيتان يمكن إرجاعهما إلى تأثير فريد الدين العطار» «وكتابه: منطق الطير.»
«وهناك رباعيتان من إنشاء عمر أصلا ولكنهما تأثرتا فى الترجمة بغزليات» «حافظ الشيرازى.»
«وكانت هناك ثلاث رباعيات، تضمنتها الطبعتان الأولى والثانية من الترجمة،» «وقد حذفها فيتزجرالد نفسه بعد ذلك ولم أجد لها رغم البحث الدقيق» «أصلا باللغة الفارسية. ولا شك أنه تأثر فيها بشعراء آخرين ليس يعنينا فى هذه» «المناسبة تحقيق هويتهم أو معرفة شخصيتهم».
ولست فى حاجة بعد ذلك كله إلا أن أذكر المبتدئين، دون غيرهم، بأن الرباعية فى الأدب الفارسى تعتبر وحدة مستقلة قائمة بذاتها، وأنه لا يوجد فى ذلك الأدب منظومة طويلة تتركب من عدد من الرباعيات، وأن الترتيب الذى يراعى فى مجموعات الرباعيات هو الترتيب الأبجدى وفقا للحرف الأخير من الشطرات الثلاث المقفاة من الرباعية.
* * *بابا طاهر الهمدانى
طبع رباعياته
الشاعر الثانى من شعراء الرباعيات الأربعة هو «بابا طاهر الهمدانى» الملقب ب «العريان». وسيكون حديثى عنه مختصرا لأن رباعياته طبعت مرتين: الأولى مع ترجمة فرنسية محشاه بواسطة الأستاذ «كليمان أويار» فى «المجلة الأسيوية» عدد نوفمبر وديسمبر من سنة 1885م (المجموعة الثامنة، مجلد 6) (1) والثانية مع ترجمة انجليزية منثورة مصحوبة بكثير من التعليقات بواسطة المستر «إدوارد هرون
__________
(1) أنظر مقالة «أويار» فى: «المجلة الأسيوية سنة 1085»
(6.،.) 1885 .. ،(1/349)
ألن» فى كتابه «أشجان بابا طاهر» (1) المنشور فى سنة 1902م. وقد تضمن هذا الكتاب أيضا ترجمة أخرى منظومة للرباعيات كتبتها السيدة «إليزابث كورتيس برينتون» (2). يضاف إلى لك أنه قد سبق لى أن خصصت بضع صفحات من الجزء الأول من هذا الكتاب (3) للحديث عن اللهجات الفارسية والأشعار التى صيغت فيها، وتحدثت بوجه خاص عن أشعار «بابا طاهر» وقد أوردت هنالك ثلاث رباعيات من أشهر رباعياته بنصها الفارسى ثم أعقبتها بترجمة منظومة بالإنجليزية (4).
ورباعيات «بابا طاهر» تتفق مع كثير من الرباعيات التى كتبت فى لهجة خاصة، من حيث كونها لا تجرى على أوزان الرباعى المعروفة، بل تجرى على وزن الهزج المسدس المحذوف، فتتكرر «مفاعيلين» ست مرات فى البيت الواحد ولكن التفعيلة الثالثة والسادسة منها تقتضب إلى «مفاعل» أو «فعولن». ولما كانت هذه الرباعيات من صياغة رجال سذج من رجال الريف، فإنها بالضرورة لا تبلغ من حيث الصياغة اللفظية أو المعنوية مبلغ الرباعيات التى كتبها رجال فنانون من أمثال «عمر الخيام».
حياة «بابا طاهر»
والمعروف لنا عن «بابا طاهر» قليل جدا، وقد اختلف كتاب الفرس اختلافا كبيرا فى تحديد زمنه، بحيث جعله بعضهم من الرجال الذين عاشوا فى بداية القرن الحادى عشر الميلادى (أوائل الخامس الهجرى)، وجعله بعضهم الآخر من رجال النصف الثانى من القرن الثالث عشر الميلادى (أواخر السابع الهجرى). وأقدم ما صادفت
__________
(1) أنظر:.،
(1902)
(2) اسم هذه السيدة بالانجليزية هو:.
(3) المترجم: انظر الصفحات 7873من الأصل الانجليزى للجزء الأول من هذا الكتاب المتعلق بالآداب الفارسية منذ أقدم الأزمنة إلى عهد الفردوسى.
(4) لست أظن قارىء الإنجليزية يستفيد كثيرا بالمقالة التى كتبها «ژوكوفسكى» بالروسية فى المجلد الثامن ص 108104من نقارير القسم الشرقى للجمعية الامبراطوريه الروسية للآثار، سنة 1901م(1/350)
من الكتب التى ذكرت شيئا عنه هو كتاب «راحة الصدور» فقد ورد فى الورقة 43من المخطوطة الوحيدة المحفوظة بمكتبة پاريس ما ترجمته: (1)
«وقد سمعت أنه عندما قدم السلطان طغرل بگ إلى مدينة همدان كان بها» «ثلاثة من شيوخ الصوفية هم: «بابا طاهر» و «بابا جعفر» والشيخ» ««حمشا»، وكانوا يقفون عند مقدمه على جبل يسمى: جبل الخضر بالقرب» «من باب همدان، فلما وقعت عليهم عين السلطان أمر رجاله بالوقوف، وترجل» «عن جواده، وتقدم إليهم، وقبل أيديهم، وكان بابا طاهر مجذوبا فقال له:» «أيها التركى!! ماذا نويت فعله بعباد الله؟ فأجابه السلطان: سأفعل» «ما تأمرنى به!! عند ذلك قال له بابا طاهر: بل افعل ما يأمرك به الله،» «و {اللََّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسََانِ.} (2)»
«عند ذلك بكى السلطان وقال: سأفعل ذلك إن شاء الله. فأخذ بابا طاهر بيده» «وقال له: هل تقبل منى هذه الهدية؟ وأخرج من أصبعه رقبة إبريق» «مكسور كان يستعمله فى الوضوء مدة طويلة، ثم وضعها فى إصبع السلطان» «وهو يقول: أنى أضع فى يدك ملك العالم كما أضع هذا الخاتم فى أصبعك» «فكن عادلا!! فظل السلطان بعد ذلك يحنفظ بها. فإذا خرج لموقعة» «من المواقع وضعها فى إصبعه. وهذا كله يدل على ما اتصف به السلطان من نقا» «العقيدة وصفاء الطويه، ولم يكن يدانيه فى ذلك أحد من المسلمين»
ومن المحتمل أن تكون المقابلة التى ذكرت فى النبذة السابقة قد حدثت بين «طغرل بگ» و «بابا طاهر» فى سنة 447هـ أو 450هـ 1055م أو 1058م. وعلى ذلك يمكننا فى اطمئنان أن نرفض التاريخ الذى حدده «رضا قلى خان» لوفاة «بابا طاهر» حين ذكر فى كتابه «رياض العارفين» أنه توفى سنة 410هـ 1019م. أما النبذة التى كتبها «ژوكوفسكى» فى مقاله الذى سبقت الإشارة إليه فى هامش من هوامش الصفحات الماضية، وذكر فيها أن «بابا طاهر» تحدث مع «ابن سينا»
__________
(1) المترجم: قام بطبع هذا الكتاب الاستاذ «محمد اقبال» ونشره ضمن «سلسلة كتب حب التذكارية».
(2) سورة النحل آية 92.(1/351)
المتوفى سنة 428هـ 1035م فمحتملة التصديق عقلا وليس فيها ما يتنافى مع الجائز المقبول. ولا شك أن النبذة التى نقلناها عن كتاب «راحة الصدور» تتفق أنباؤها مع الأخبار القليلة التى ذكرتها كتب المصادر الأخرى، من حيث تصوير «بابا طاهر» وإبراز شخصيته، ومن حيث إظهار الاحترام والتبجيل اللذين يفوز بهما «المجاذيب» و «الأولياء» فى البلاد الإسلامية عامة وقد رأيت بعينى رأسى جماعة من هؤلاء يتنقلون بحرية تامة فى مكاتب الحكومة التركية، فيلاقيهم الموظفون دائما بمنتهى الحفاوة والتكريم (؟)
* * *أبو سعيد ابن أبى الخير:
مولده وحياته
ننتقل الآن إلى الحديث عن ثالث الشعراء المشهورين بكتابة الرباعيات، وهو «أبو سعيد بن أبى الخير» المولود فى قرية «مهنة» من أعمال «خاوران» فى السابع من ديسمبر سنة 967م والمتوفى فى الثانى عشر من يناير سنة 1049 (357هـ إلى 441هـ). وقد اعتبره «إتيه»: «أول من أبدع الشعر الصوفى، وأول من روج «الرباعيات» وجعلها وسيلة صالحة لأداء الأفكار الدينية والصوفية والفلسفية بحيث تتركز فيها وتصدر عنها جميع التجليات الصوفية الرائعة وهو كذلك أول من أضفى على الرموز والتعبيرات الصوفية هذا الجمال الزاهر وهذا الخيال القاهر اللذين عرف بهما الشعر الصوفى منذ ذلك الزمان».
وروى كذلك عن «أبى سعيد» أنه تمكن من الإجتماع ب «ابن سينا» كما فعل «بابا طاهر». وقد ورد الخبر فى حكاية معروفة أنه عند ما انفض مجلسهما الأول قال أبو سعيد لابن سينا: «إننى أدرك ما تعرفه!!» فأجابه ابن سينا بقوله:
«وأنا أعرف ما تدركه!!» (1).
__________
(1) من بين الكتب التى ذكرت هذه القصة كتاب «أخلاق جلالى» المؤلف فى نهاية القرن الخامس عشر الميلادى (أى التاسع الهجرى) ص 28من نسخته المطبوعة على الحجر فى مدينة لكنو سنة 1283هـ: 1866م وقد روى «تاريخ گزيده» هذه القصة بصورة أخرى كما ذكر ذلك الدكتور «إتيه». فقد ورد فيه أن ابن سينا قال: «كل ما أعرفه يدركه أبو سعيد» فأجابه أبو سعيد بقوله: «أما ابن سينا فيعرف ما لا أدركه!!»(1/352)
ومع ذلك فقد وضح الدكتور «إتبه» أن هذين الرجلين كانا على طرفى نقيض فى كثير من المسائل الدينية وأن العداوة كانت متأصلة بينهما (1).
ومصادر تأريخ «أبى سعيد» على خلاف العادة واسعة كاملة فبالإضافة إلى ما نجده عنه من أخبار كثيرة، تضمنتها تراجم الأولياء والشعراء، نجد أن الدكتور «إتيه» قد كتب عنه، بما عهد فيه من دقة فى البحث وعمق فى الدرس، مقالتين هامتين (2)، وكذلك قام «ژوكوفسكى» فى سنة 1899م بنشر مجلدين يحتويان نصوصا نادرة، نتعلق كلها أو جلها بحياة هذا الرجل، وبما أثر عنه من أقوال وأشعار. ولهذين المجلدين أهمية خاصة تدعونا إلى تفصيل القول عنهما بعض الشىء.
وأول هذين المجلدين يشتمل على النص الفارسى لكل من الكتابين الآتيين:
ا «أسرار التوحيد فى مقامات الشيخ أبى سعيد».
ب «رساله حورائيه» أو رسالة الحور.
والكتاب الأول من هذين الكتابين أى «أسرار التوحيد» عبارة عن مؤلف مطول يقع فى 485صحيفة، كتبها أحد أحفاد الشيخ أبى سعيد المسمى «محمد ابن المنور بن أبى سعيد بن أبى طاهر بن أبى سعيد بن أبى الخير المنسوب إلى قرية ميهنة». (3)
وقد برهن «ژوكوفسكى» فى مقدمته الرائعة التى قدم بها هذا الكتاب، على أن هذه الصفحات قد كتبها مؤلفها فيما بين سنة 552هـ وسنة 599هـ (1157 1203م) لأنها تتضمن إشارات إلى موت السلطان «سنجر» السلجوقى المتوفى فى أول هذين التاريخين، كما إنها مهداة إلى ملك الغور «غياث الدين محمد بن سام» المتوفى فى ثانى هذين التاريخين. وقد نشر «ژوكوفسكى» نص هذا
__________
(1) انظر ص 5352من المرجع المذكور فى الهامش التالى.
(2) مجموعة مقالات نشرها الدكتور «إتيه» فى:. .،
. سنة 1875ص 168145وسنة 1878ص 7038. وقد نشر فى هذه المقالات اثنتين وتسعين رباعية من رباعيات «ابى سعيد» مصحوبة بترجمة منظومة، عليها كثير من الحواشى والتعليقات.
(3) كما جاء فى «أسرار التوحيد» ص 3.(1/353)
الكتاب وفقا لمخطوطتى «بطرسبورج» و «كوپنهاجن». وهو يقول إن أهميته تنحصر فى أنه يعتبر من المصادر الأصيلة التى اعتمد عليها «العطار» و «جامى» وغيرهما من «كتاب التراجم»، كما إن الأخبار التى تضمنها تستند إلى روايات المعاصرين الذين نقلوها إلى المؤلف بطريق المشافهة أو بما خلفوه لأعقابهم من مذكرات ورسائل.
ويعتبر هذا الكتاب من أقدم الرسائل التى كتبت عن «تراجم الأولياء» ومن أوضح الكتب التى صورت لنا حياة «الدرويش» فى ذلك العصر، وهو بالإضافة إلى ذلك يشتمل على كثير من المسائل اللغوية الهامة والصيغ المهجورة التى أبقاها الناشر لحسن الحظ على أصولها. وكلا النسختين اللتين اعتمد عليهما الناشر كتبتا فى خلال القرن الثامن الهجرى أو الرابع عشر الميلادى
أما ال «رساله حورائيه» فعبارة عن مقالة قصيرة تقع فى خمس صفحات، كتبها «أبو عبد الله بن محمود» المنسوب إلى «الشاش» فى إقليم ما وراء النهر، وقد فسر فيها إحدى رباعيات الشيخ «أبى سعيد».
وثانى المجلدين اللذين نشرهما «ژوكوفسكى» يشتمل على النص الفارسى لمخطوطة قديمة فريدة، يرجع تاريخها إلى سنة 699هـ 1299م. وهذه المخطوطة محفوظة فى المتحف البريطانى، والجزء الأكبر منها يتعلق بالحديث عن أسرار الشيخ أبى سعيد وتعاليمه الروحية. وقد طبعت هذه المخطوطة فى ثمان وسبعين صحيفة، وهى سابقة فى تأليفها لكتاب «أسرار التوحيد»، وقد ألفها أيضا واحد من أحفاد الشيخ أبى سعيد، يظنه «ژوكوفسكى» من أبناء «أبى روح لطف الله».
ولو أنّنا شئنا أن نتحدث عن هذه المصادر الزاخرة بالأخبار بما هى جديرة به من اهتمام وتقدير، لاقتضانا الأمر تخصيص مجلد كامل لها ولكننا نذكر أنه بالإضافة إلى هذه المصادر المستفيضة، توجد أيضا بين أيدينا طائفة كبيرة من أخبار هذا الشيخ تتضمنها كتب التراجم المتأخرة مثل كتاب «هفت إقليم» (1) وكتاب
__________
(1) ذكره الدكتور «إنبه» واستشهد به(1/354)
«تاريخ گزيده» وكتاب «نفحات الانس» (1) وغير ذلك من الكتب. كما أن رباعياته قد طبعت على انفراد جملة مرات فى البلاد الشرقية، أو ضمن مجموعات تشتمل على رباعياته مع رباعيات «عمر الخيام» ورباعيات «بابا طاهر» وما شكل ذلك من الرباعيات.
وكانت حياة «أبى سعيد» خالية من الأحداث والوقائع، وقد أمضاها كما يقول الصوفية فى «عالم الأرواح» لا «عالم الأشباح» وهو لهذا السبب يختلف اختلافا كبيرا عن سائر الكتاب والشعراء الذين تحدثنا عنهم فى الصفحات السابقة من هذا الباب.
أبو سعيد والتصوف
وفى رأيى أن الفضل فى إثبات أهمية الشيخ «أبى سعيد» وأسبقيته بالنسبة لتاريخ التصوف الفارسى، يرجع إلى الدكتور «إتيه» دون غيره من الكتاب، فان الإيرانيين أنفسهم ما زالوا ينكرون أهمية «أبى سعيد» من هذه الناحية، ويتابعون القول المشهور الذى قاله أكبر متصوفيهم «جلال الدين الرومى» حينما اعتبر نفسه ثالث الثلاثة الكبار من الصوفية، كان «سنائى» أولهم، وكان «العطار» ثانيهم. ولو أننا راعينا الحق وتحرينا الصواب لوجدنا أن «أبا سعيد» متقدم على هذين من الناحية الزمنية. وقد أثبت الدكتور «إتيه» فى الرباعيات التى اختارها ونشرها من رباعيات الشيخ «أبى سعيد» أن جميع خصائص التصوف الفارسى والتعابير الصوفية الفارسية تبدو مجتمعة لأول مرة فى هذه الرباعيات، وقد ظلت على حالها منذ ذلك الوقت، وأجمع على اتباعها شعراء الصوفية من الفرس والأتراك والهنود (2).
وفيما يلى ترجمة لطائفة من الرباعيات اخترناها من مقالة الدكتور «إتيه» واتبعنا فيها الترقيم التى رقمت به هنالك، وهى تكفى للبرهنة على صحة هذا الرأى (3):
__________
(1) طبع «نساوليز» ص 347239
(2) ينطبق هذا أيضا على أقواله التى أورد الكثير منها كتاب التراجم.
(3) المترجم: لم استطع للأسف الرجوع إلى أصل هذه الرباعيات بالفارسية لعدم عثورى على مقالة الدكتور «أتيه» فى دور الكتب الموجودة فى مصر.(1/355)
(1)
إدخالك السرور على قلب واحد،
خير لك من تعمير ألف من المساجد!
واستعبادك لحر واحد بما تسديه إليه من إحسان
خير من تحريرك آلاف من العبيد والغلمان!!
(2)
يا من تملأ طلعتك العالم بالأضواء والأنوار!
إننى أصلى من أجل وصلك آناء الليل وأطراف النهار!!
فتبا لى إذا شمل عطفك غيرى من الناس
وتبا للناس إذا شاركونى اللهفة والحنين والإحساس!!
(5)
يذهب الغزاة إلى حومات الوغى للموت والاستشهاد
ويا ليتهم علموا حكمة الغزو وسر الجهاد!!
فإنما يفوقهم شأنا، قتلى العشق وصرعى الوداد
لأن الأحبة هم الذين قتلوهم لا الأعداء الشداد!!
(6)
إنى أدعو للجميع: ألا يحرم أحد منهم من رحمتك الوسيعة
فإن اللائذ بك يبلغ أوج المدارج الرفيعة!!
ولو أضاءت شمسك فى ذرة من الذرات
لزاد بهاؤها على شموس الأفلاك والسموات!!
(10)(1/356)
إنى أدعو للجميع: ألا يحرم أحد منهم من رحمتك الوسيعة
فإن اللائذ بك يبلغ أوج المدارج الرفيعة!!
ولو أضاءت شمسك فى ذرة من الذرات
لزاد بهاؤها على شموس الأفلاك والسموات!!
(10)
مادام الجامع والمدرسة لا تتهدم منهما الأركان
وما دام الشك واليقين يتناوبان فى قلب الإنسان،
فكيف يمكن لمذهب «القلندرية» فى هذا الزمان (1)
أن ينتشر، فيخرج مسلما واحدا قوى الإيمان!!
(13)
لا تلمنى يا سيدى!! إذا احتسيت الخمر والشراب!!
وإذا قضيت فى الخمر والعشق أيام الشيب والشباب!!
فانا فى إفاقتى أعاشر الأحباب وغير الأحباب
ولكننى متى سكرت لا أجالس غير الأصحاب!!
(17)
قلت: حدثنى عن جمالك من الذى يفوز ببهجته وسناه؟
فقال: أنا وحدى الفائز به ما دمت فى الوجود والحياة!!
فانى أنا وحدى العاشق والمعشوق والعشق فى منتهاه
وإنى أنا وحدى العين المبصرة، والجمال الزاهى، والمرآه!!
(18)
حدثت طبيبى عن آلامى الكثيرة الخافية
فقال لى: كف الحديث ولا تتكلم إلا عن صفاته العالية
وحذار ان تجعل لك زادا إلا من دماء قلبك الغالية!!
وحذار أن تفكر فى الدار الفانية أو الباقية!!
__________
(1) «القلندرية» جماعة من الدراويش لا يهتمون بالمظاهر ولا بآراء غيرهم من الناس.(1/357)
(19)
هؤلاء الرجال الذين يغدقون على ألقاب التكريم
لا يعرفون حقيقة ما انطوى عليه قلبى الكليم!
ولو كشفوا خبيئة ما تحتوى عليه ضلوعى من عذاب أليم
لقضوا على بأن أحترق بنارى كما يحترق الهشيم!!
(20)
قدرت على الحب ثم تركت أحبتك فى اشتياق وحنين!!
وحرمتنى من العقل والفكر فخلا منهما قلبى الأمين!!
وكنت عفيفا وقورا وكنت من أصلح الصالحين،
فأصبحت بحبك شريدا خليعا ومن أكبر المعربدين!!
(21)
هذاك بدر التمام مجلو فى بهاه!!
وهو فى أقل مراتبه عبارة عن الحسن فى منتهاه!!
فأطل النظر إلى وجهه المشمس فإذا عشيت بسناه
فانظر إلى شعره المجعد كيف يتألق فى دجاه!!
(27)
إذا ابيضت صفحة وجهى بنور الحق وضياء الإسلام
بلغت غاية الشرف، وظفرت بنهاية الاحترام!!
ولكن من أسف أن العار يكسو وجهى بالسواد والقتام
بحيث يخجل الجحيم مما ارتكبت من ذنوب وآثام!!
(28)
متى بلغت فى حبك مرتبة العشق والوصال،
لم أعد أتطلع إلى الجنة، أو أغرق فى الأمانى والآمال!!
فإن الجنة لا تعنينى إذا لم أفز فيها بلقائك!!
والنعيم والجحيم سواء إذا لم أظفر برضائك!!
(30)(1/358)
متى بلغت فى حبك مرتبة العشق والوصال،
لم أعد أتطلع إلى الجنة، أو أغرق فى الأمانى والآمال!!
فإن الجنة لا تعنينى إذا لم أفز فيها بلقائك!!
والنعيم والجحيم سواء إذا لم أظفر برضائك!!
(30)
من قبل أن يخلق الزمان والنجم والسماء
ومن قبل أن يخلق النار والماء والأرض والهواء،
ومن قبل أن يخلق العقل والشكل والأصوات والأصداء،
أخذت أردد أسرار التوحيد فى العلانية والخفاء!!
(32)
أيها الهندى البرهمى!! أنظر إلى هذه الخدود الوردية الحمراء،
إنها تتقد بنارها المؤججة على وجه هذه الدمية الحسناء!!
فإذا عميت بصيرتك عن أن تعبد الله صاحب الجمال والبهاء،
فاعبد هذه النار فهى خير لك من عبادة البقرة العجماء!! (1)
(33)
يا إلهى! أنا فى عثرتى ارتجى عفوك ورضاك!!
وأنا فى ذلتى أبتغى رحمتك ونداك!!
ولن أفعل كسائر الناس فاحتمى بهذا أو ذاك
وليس لى من حام ولا واق فى العالمين سواك!!
(38)
بارك الله فى أقدامى إذا سعت إلى لقياك!!
وبارك الله فى كل ساع يسعى إلى رضاك!!
وبارك الله فى كل من يمتع ناظره بالتطلع إلى بهاك
وبارك الله فى كل لسان يسبح بحمدك وعلاك!!
__________
(1) «گاوپرست» أى عابد البقرة، ويطلق الفرس هذه الكلمة على الهندوكيين لتقديسهم البقر. والشاعر يشير هنا إلى أن حمرة وجه الحبيب شبيهة بالشمس المتقدة أو النار المؤججة، وعلى ذلك شبهوا العاشق بعابد النار أو عابد الشمس، لأنه دائما فى لهفة إلى ان يشرق علية وجه الحبيب.(1/359)
(54)
ذلك «العارف» الذى سلك طريق الأسرار
قد اتحد بالله فأنكر الأثرة وآثر الايثار!
فاتصل بالله وانكر نفسك كل الإنكار
فلا إله إلا الله وهو وحده الواحد القهار!!
(55)
ليلة الأمس حدثت، «الحبيب» أحاديث الحب والوصال!!
فأخذ ينقض العهود، ويتجنى على فى دلال!!
وانقضت الليلة، ولم أحك من قصة الحب الا البداية!!
ولا ذنب لليل ولكن «قصة الحب» ليس لها نهاية!!
(61)
أنا منذ كنت لم ابتعد لحظة واحدة عن وصالك!!
وقد خدمنى حظى السعيد فلم أغب عن مشاهدة جمالك!!
وفنيت فيك فلم يعد يشاهدنى أحد من الناظرين!!
واضاء على نورك فظهرت مكشفا للعالمين!!
ونذكر فيما يلى الرباعية التى نسبوها إلى «ابن سينا» ورد الشيخ «أيد» عليها:
قال ابن لبيد: (1)
__________
(1) المترجم: فيما يلى أصل هذه الرباعية بالفارسية
مائيم بعفو تو تولا كرده ... ور طاعت ومعصيت تولا كرده
آنجا كه عنايت تو باشد باشد ... ناكرده چوكرده كرده چون ناكرده(1/360)
نحن اللائذون بعفوك
المجتنبون لطاعتك ومعصيتك.
وأينما تكن عنايتك ولطفك،
يصبح ما لم نفعله كما لو فعلناه، وما فعلناه كما لو لم نفعله!!
فأجاب «أبو سعيد» برباعية معناها:
أيها الغارق فى الإثم يا من خلت أعمالك من كل خير!!
أنك تجتهد فى أن تنجو بنفسك فتنكر ما أتيت من شر!!
وهل يمكن محو الذنوب والآثام والشرور؟!
إنما أنت تعتمد عبثا على عفو الله الغفور!!
وجميع هذه الرباعيات والأشعار تكفى لبيان أهم المسائل التى يدور عليها تفكير الصوفية ومقولاتهم فالفكرة الأساسية لا تكتفى بتصوير «الله» على أنه قادر قاهر خير فحسب، بل تجعله المصدر الوحيد للكون والجمال، وتجعله الجمال الحق والكون الحق، وفيه ينطوى كل ما هو غائب عن البصر، وبنوره يتكشف كل ما يقع عليه النظر ويتصل بهذه الفكرة كل التعبيرات اللغوية والرمزية التى اشتملت عليها هذه الأشعار والتى تشتمل عليها لغة الصوفية أجمعين فالله عندهم هو «الحبيب» وهو «المعشوق» وهو «المحبوب» والوجد الحاصل من التفكير فيه هو «الخمر» وهو «الخمار» والظاهر والباطن منه عبارة عن «طلعته المنيرة» أو «طرته السوداء القاتمة»، وما إلى ذلك من التعبيرات الرمزية الكثيرة. وفى الصوفية بالإضافة إلى ذلك رفع من شأن المثالية الذاتية على المتعارفات الموضوعية، وفيها كذلك تأويل روحى للواجبات والمراسم الدينية كما هو ملاحظ بين فريق «الإسماعيلية»، وربما استمد الصوفية منهم فكرة هذه التأويلات وإن كانوا يختلفون عنهم فى كل شىء اختلافا بينا ظاهرا، وفيها كذلك فكرة لا تقل فى أهميتها عن جميع ما سبق، وهى فكرة «التسامح» التى تجعل جميع المذاهب تمثل «الحق» تمثيلا يتفاوت كبرا أو صغرا ولكنها تعترف جميعا ب «أن طرق الله بعدد أنفس الخلائق» أو كما عبر «حافظ»
عن ذلك فيما بعد فقال: «إن كل قبلة يتوجه إليها الإنسان هى خير من عبادة النفس!!» (1)(1/361)
وجميع هذه الرباعيات والأشعار تكفى لبيان أهم المسائل التى يدور عليها تفكير الصوفية ومقولاتهم فالفكرة الأساسية لا تكتفى بتصوير «الله» على أنه قادر قاهر خير فحسب، بل تجعله المصدر الوحيد للكون والجمال، وتجعله الجمال الحق والكون الحق، وفيه ينطوى كل ما هو غائب عن البصر، وبنوره يتكشف كل ما يقع عليه النظر ويتصل بهذه الفكرة كل التعبيرات اللغوية والرمزية التى اشتملت عليها هذه الأشعار والتى تشتمل عليها لغة الصوفية أجمعين فالله عندهم هو «الحبيب» وهو «المعشوق» وهو «المحبوب» والوجد الحاصل من التفكير فيه هو «الخمر» وهو «الخمار» والظاهر والباطن منه عبارة عن «طلعته المنيرة» أو «طرته السوداء القاتمة»، وما إلى ذلك من التعبيرات الرمزية الكثيرة. وفى الصوفية بالإضافة إلى ذلك رفع من شأن المثالية الذاتية على المتعارفات الموضوعية، وفيها كذلك تأويل روحى للواجبات والمراسم الدينية كما هو ملاحظ بين فريق «الإسماعيلية»، وربما استمد الصوفية منهم فكرة هذه التأويلات وإن كانوا يختلفون عنهم فى كل شىء اختلافا بينا ظاهرا، وفيها كذلك فكرة لا تقل فى أهميتها عن جميع ما سبق، وهى فكرة «التسامح» التى تجعل جميع المذاهب تمثل «الحق» تمثيلا يتفاوت كبرا أو صغرا ولكنها تعترف جميعا ب «أن طرق الله بعدد أنفس الخلائق» أو كما عبر «حافظ»
عن ذلك فيما بعد فقال: «إن كل قبلة يتوجه إليها الإنسان هى خير من عبادة النفس!!» (1)
وكثير من أقوال «أبى سعيد» وحكاياته مرويه فيما سجله مؤرخوه ومترجموه.
ونحن نكتفى فى هذا المقام بذكر أمثلة قليلة منها فقد سألوه أن يعرف لهم الصوفية فأجابهم: أن الصوفية عبارة عن أطراح ما فى يدك وعدم الجزع على ما يصيبك أو ينزل بك!!
وقال فى مناسبة أخرى: إن الحجاب الذى يحجب الله عن عبده ليس هو السماء ولا الأرض ولا العرش ولا الكرسى، بل هو الغرور وحب النفس، ومتى استطعت التغلب على هذين ومحوتهما من طبيعيتك، وصلت إلى الله وزال الحجاب الذى بينك وبينه.
وأخبره جماعة بأن أحد الأولياء كان يمشى على سطح الماء، وأن آخر كان يطير فى أطباق الهواء، وأن ثالثا كان يتنقل فى طرفة عين من مدينة إلى مدينة، فأجابهم بقوله: إن الضفدعة تستطيع أن تعوم فى الماء، ويستطيع الخطاف أن ينزلق على سطحه، ويستطيع الغراب أن يطير فى الفضاء، ويستطيع الشيطان أن يتنقل فى طرفة عين بين المشارق والمغارب، ولكن جميع هذه الأشياء لا أهمية لها فى رأيى، لأن الرجل الجدير بأسماء الرجال هو الذى يعيش مع سائر الناس، فيشترى منهم، ويبيع لهم ويتزوج منهم، ويتعامل معهم، بشرط ألا يغفل لحظة واحدة عن ذكر الله!!
ويقال إن «أبا سعيد» كان يعجب إعجابا شديدا بهذا الشعر الذى ورد فى قصيدة عربية قالها «كثير» لمعشوقته «عزة» (2):
ولو أن ليلى الأخيلية سلمت ... على ودونى جندل وصفائح
لسلمت تسليم البشاشة أو زقا ... إليها صدى من جانب القبر صائح
__________
(1) المترجم: عبارة حافظ فى الفارسية هى: «هر قبله كه باشد بهتر ز خودپرستى».
(2) المترجم: لم أعثر ل «كثير» على شعر فى هذا المعنى، وأما البيتان المذكوران فمن قول «توبة بن الحمير» وهما فى نفس المعنى الذى ورد فى الأصل الإنجليزى(1/362)
وهذا القول يذكرنا بالأبيات الجميلة التالية التى قالها الشاعر «تنيسون» فى «مود»،، =،،،،، =
وقد نقشوا على قبر «أبى سعيد» هذين البيتين باللغة العربية وهما (1):
سألتك بل أوصيك إن مت فاكتبى ... على لوح قبرى كان هذا متيما
لعل شجيا عارفا سنن الهوى ... يمر على قبر الغريب مسلما (2)
* * *
عبد الله الانصارى:
نسبته إلى أصل عربى
سيكون حديثى مختصرا عن الشيخ «أبى اسماعيل عبد الله الأنصارى الهروى» الذى اشتهر برباعياته و «مناجاته».
هذا الشيخ ينتسب كما تدل على ذلك نسبته إلى أصل عربى، فهو من سلالة «أبى أيوب». وقد ولد فى مدينة هراة فى اليوم الرابع من شهر مايو سنة 1006م 398هـ وتوفى فى سنة 1088م 481هـ
وينسبون إليه أيضا تاليف الكتابين المعروفين باسم «منازل السائرين» و «أنوار التحقيق».
وإليك نبذة مترجمة من «مناجاته»:
«يا إلهى! ما أعجب حكمتك؟! هاتان قطعتان من حديد أخرجتا» «من منجم واحد، فأما إحداهما فقد أصبحت حدوة يحدون بها الجياد وأما» «الأخرى فقد أصبحت مرآة ينظر فيها الملك إلى طلعته!! يا إلهى»
«أما وقد استطعت بقدرتك أن تخلق نار الهجر والفراق، فما حاجتك إلى نار»
__________
(1) أنظر الصحيفة الأخيرة مما كتبه «ژوكوفسكى» فى «حالات وسخنان شيخ أبى سعيد» طبع بطرسبورنج سنة 1899هـ 1317هـ
(2) المترجم: وردت فى الأصل كلمة «فسلما».(1/363)
«السعير والجحيم يا إلهى! لقد تخيلت أننى عرفتك ووصلت إليك» «ولكننى الآن تحققت من أن أوهامى كانت كفقاعات الماء!! يا إلهى!»
«أنا عاجز حيران فلا أعرف ما أملك ولا أملك ما أعرف!!»
وفيما يلى ترجمة لإحدى الرباعيات المشهورة التى ينسبونها إليه:
حذار حذار أن يأخذك التيه والعجب والدلال،
فتظن نفسك أعلا قدرا من سائر الرجال!!
واجتهد دائما أن تتمثل إنسان عينك وقدرته
فهو يرى كل شىء إلا نفسه وصورته!!
والرباعية التالية تكفى مثلا لسائر رباعياته:
أنا ثمل بك فلا حاجة بى إلى الكأس والشراب!!
وقد وقعت فى شراكك بعدما تحررت من سائر الشباك والأحابيل.
وأنا دائم السعى وراءك، ألتمسك فى الكعبة وفى سائر المعابد
ولا فرق عندى بين هذه وتلك ولا هدف لى إلأن أفوز بلقائك!!
* * *
آثاره
وقد ذكر «إتيه» أن الشيخ «أبا عبد الله الأنصارى» ألف الكتب الآتية:
1 «نصيحت» أو النصيحة وقد أهداه لنظام الملك.
2 «إلهى نامه» أو الكتاب الإلهى
3 «زاد العارفين».
4 «كتاب أسرار» أو كتاب الأسرار.
5 - تهذيب لكتاب «طبقات الصوفية» للسلمى.
6 «أنيس المريدين وشمس المجالس»: وهو عبارة عن قصة «يوسف وزليخا» مكتوبة نثرا (1).
__________
(1) المترجم: يعتبر الأنصارى أول من استعمل النثر المسجوع فى الفارسية، وقد كان قادرا على التأليف بالفارسية والعربية. ومن آثاره بالفارسية ما يلى:
1 - رساله أسرار: وهى مخطوطة بالمتحف البريطانى.
2 - مناجات نامه: وقد طبعت فى طهران كما طبعت فى شيراز باسم «أنوار التحقيق»(1/364)
الحديث عن طائفة من شعراء هذا العصر الذين لم يشتهروا بالتصوف
ومتى وصلنا إلى هذا الحد، وجب علينا أن ننتقل إلى الحديث عن طائفة من شعراء هذا العصر الذين لم يشتهروا بالتصوف، ولا بد أن نذكر منهم على الأقل أربعة شعراء هم:
1 «أسدى الأصغر» من شعراء طوس
2 «فخر الدين أسعد» من شعراء جرجان
3 «فصيحى» من شعراء جرجان
4 «قطران التبريزى» من شعراء تبريز
قطران التبريزى
ولنبدأ الآن بالشاعر الأخير من هؤلاء الأربعة، فقد قابله «ناصر خسرو» وتحدث معه أثناء توقفه بمدينة تبريز فى الفترة الواقعة بين 26أغسطس و 18سبتمبر سنة 1046م 20صفر سنة 438هـ 13ربيع الأول 438هـ.
وقد تحدث «ناصر خسرو» عن هذا الشاعر بما يلى: (1)
«وقد رأيت فى تبريز شاعرا، اسمه «قطران» يقول شعرا طيبا ولكنه لا» «يعرف الفارسية جيدا. وقد حضر إلى وأحضر معه ديوان منجيق وديوان» «الدقيقى وقرأ منهما أمامى، وكلما أشكل عليه المعنى سألنى، فأجبته، فكان» «يكتب شرح الأبيات والمعانى الصعبة، ثم يقرأ على بعض أشعاره».
وقد كتب عن هذا الشاعر كل من «عوفى» و «دولتشاه» فى كتابيهما
__________
3 - نصايح: وقد طبعت فى برلين سنة 1342هـ ومعها «مناجات نامه»
4 - كنز السالكين: مخطوطة فى مكتبة المجلس الملى بطهران بعنوان «گنجنامه»
5 - قلندرنامه: مخطوطة فى مكتبة المجلس الملى بطهران تاريخها سنة 910هـ
6 - محبت نامه: وقد طبعت فى شيراز باسم «مقالات»
ومن آثاره بالعربية كتاب «ذم الكلاء» وكتاب «منازل السائرين»
(1) انظر ص 6من الأصل الفارسى لكتاب «سفرنامه»(1/365)
«لباب الألباب» و «تذكرة الشعراء» (1) ولكن الأخبار التى أورداها عن تاريخ حياته هزيلة للغاية. ويرى «عوفى» أن «قطران» ينتسب إلى مدينة «تبريز» ولكن «دولتشاه» يعتقد أنه من أهالى «ترمذ» ويخالفهما «شيفر» فيرى أنه ولد فى جبال الديلم فيما بين مدينة قزوين وبحر قزوين.
ويتحدث «دولتشاه» عن هذا الشاعر فيقول: أنه أنشأ مدرسة فى الشعر كانت تصم جماعة من الشعراء الممتازين من أمثال «الأنورى» و «رشيدى السمرقندى» و «روحى الولواجى» و «شمس سيمكش» و «عدنانى» و «پسر خمخانه» (2)
ثم يضيف إلى ذلك قوله: «إن الكاتب الشاعر رشيد الدين الوطواط اعتاد أن يقول إنه يعتبر قطران سيد الشعراء جميعا فى أيامه، وأما باقى الشعراء فهم شعراء عن طريق الطبع لا عن طريق العلم».
ولا شك أن «الوطواط» كان محقا فيما قال، لأن قطران كان أول من أكثر من إدخال الصنعة والمحسنات البلاغية فى الشعر الفارسى بحيث بذ فى ذلك أكثر الشعراء الذين سبقوه، ولم ينس «دولتشاه» أن يقرر ذلك فيقول «أنه اجتهد فى نظم الأشعار المشكلة مثل المربعات والمخمسات والقصائد ذات القافيتين».
وقد امتاز «قطران» خاصة بنظم القصائد ذات القافيتين. وقد حاول شعراء متأخرون أن يقلدوه، ولكن القليل منهم هو الذى استطاع أن يتفوق عليه فى هذا المضمار، ونحن نذكر جميعا أن «المعزى» شاعر السلطان «سنجر» كان بين مقلديه، وأنه أنشأ قصيدة مشهورة ذات قافيتين مطلعها كما يأتى:
أى تازه تر از برگ گل تازه ببر بر ... پرورده ترا دايه فردوس ببر بر
ومعناه:
يا من أنت أينع من الورد النضير هلا ضممتنى إلى صدرك
لقد غذتك مرضعة الفردوس بثديها البار
ومن العسير تأدية هذه الصنعة البديعية فى الإنجليزية، ومن أجل ذلك فأنا أترك
__________
(1) أنظر «لباب الالباب» ج 2ص 221214وكذلك «تذكرة الشعراء» ص 6967
(2) معناه الحرفى «ابن الحانة»(1/366)
مجال الحكم على جمالها لمن شاء أن يقرأ أشعار «قطران» بأصلها الفارسى، فأغلبا يمثل هذه الصنعة البديعية التى تقوم على المحسنات للفظية أكثر مما تقوم على المحسنات المعنوية وقد عجزت ترجمتى للبيت السابق عن محاكاة هذه الصنعة لأن كل سطر يجب أن تنتهى بكلمة تكون فى بنائها ونطقها مشابهة تماما للمقطع الأخير من الكلمة السابقة عليها، كما نجد.
فى كلمتى «فرسنگ» بمعنى الفرسخ و «سنگ» بمعنى الحجر
وفى كلمتى «نارنگ» بمعنى النارنج و «رنگ» بمعنى اللون
وفى كلمتى «آموى» بمعنى نهر جيحون و «موى» بمعنى الشعر
فإذا شيئا محاكاة هذه الصنعة فى الإنجليزية وجب علينا أن نصوغ شعرا نراعى فى كل بيت من أبياته المحافظه على الوزن والقافية وكذلك أن ينتهى بكلمتين مثل:
«» و «»
«» و «»
«» و «»
وإذا كان هذا عسيرا جدا فى الإنجليزية، فإنه فى الفارسية يبدو برغم التكلف والتصنع الباديان فيه، جميلا للغاية، إذا أحسن الشاعر أداءه وصياغته (1).
أسدى الاصغر
يجب علينا أن نفرق بين أسدى الأصغر الذى يسمى «عليا» وهو مؤلف «گرشاسب نامه» (2) فى سنة 459هـ 1066م وبين أبيه «أبى نصر أحمد» أستاذ الفردوسى ومخترع شعر المناظره الذى سبق لنا الحديث عنه والذى توفى أثناء حكم السلطان مسعود الغزنوى فى الفترة الواقعة قبل سنة 433هـ 1041م
ومن أهم الأمور التى تتصل بأسدى الأصغر، أنه ما زال فى حوزتنا مخطوط
__________
(1) المترجم: انظر صنعة «ذى القافيتين» فى ترجمتى العربية لكتاب «حدائق السحر فى دقائق الشعر» طبع مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر سنة 1945م وهناك صرب آخر من هذه الصنعة تكون فيه للقصيدة قافيتان متجاورتان.
(2) «گرشاسب نامه» هى إحدى المنظومات الفارسية التى نظمت تقليدا لشاهنامة الفردوسى(1/367)
كامل كتبه بخط يده فى شوال سنة 447هـ ديسمبر سنة 1055. ويعتبر هذا المخطوط أقدم المخطوطات الفارسية المعروفة لنا حتى الآن وهو محفوظ فى مكتبة «فينا» وقد طبعه الدكتور «زيليجمان» (1) طبعة أنيقة فى «فينا» سنة 1859م ثم ترجمة إلى الألمانية «عبد الخالق» (2) وطبع هذه الترجمة بدون تاريخ فى مدينة «هاله»
وموضوع هذا المخطوط هو دراسة الأدوية، وقد أسماه مؤلفه باسم «كتاب الأبنية عن حقائق الأدوية». ومؤلفه هو «ابو منصور الموفق بن على الهروى» وقد ذكر الناسخ اسمه فى خاتمة الكتاب على هذا النحو «على بن أحمد الأسدى الطوسى الشاعر»
أما «گرشاسب نامه» فعبارة عن ملحمة منظومة يصف فيها الشاعر أعمال «گرشاسب» ومخاطراته و «گرشاسب» هو أحد أبطال الأساطير فى ولاية «سجستان» وتشتمل قصته فى هذه المنظومة على تسعة آلاف بيت أو عشرة آلاف، وأسلوبها شبيه جدا بأسلوب ال «شاهنامه» ويؤسفنى أننى لا أستطيع أن أذكر رأيى فيها لأننى لم أستطع أن أظفر بالاطلاع على إحدى المخطوطات العشر التى ذكرها «إتيه» لهذه المنظومة (3)، وكل ما وقع فى يدى هو هذه المقطوعات المتناثرة التى نشرها «ترنر مكن» فى طبعته لكتاب «الشاهنامه» (4)
وأهم من ذلك وأمتع فى رأينا، هو معجمه اللغوى المسمى ب «لغت فرس» أو «لغة الفرس» ومخطوطته محفوظة فى «الفاتيكان» وقد طبع فى مدينة «توبنجن» سنة 1897م، وقام على طبعه الدكتور «پول هورن» (5) فاعتبر عمله هذا
__________
(1) يكتب اسمه بالحروف الافرنجية هكذا:
(2) كتب اسمه بالحروف الأفرنجية هكذا:.
(3) انظر مقالته (ص 235233) من الجزء الثانى من كتاب «المفصل فى الدراسات اللغوية الإيرانية» وكذلك مقالته عن فى صفحة (6662) من المجلد الثانى من تقارير المؤتمر الدولى الخامس للمستشرقين.
(4) انظر ص 2099وما بعدها
(5) يكتب اسمه بالأفرنجية هكذا:(1/368)
أهم أعماله الكثيرة التى خدم بها الأدب الفارسى وقد عثر «إتيه» بعد ذلك التاريخ على نسخة أخرى من هذا المعجم فى «إدارة الهند» تحت رقم 2516المساوى لرقم 2455من الفهرست الذى وضعه للمخطوطات الفارسية، وقد أشار «إتيه» إلى الاختلافات الهامة التى توجد بين هاتين النسختين من المعجم. ونسخة «الفاتيكان» هى أقدم النسختين وتاريخ كتابتها هو 30سبتمبر سنة 1332م 733هـ. ويبدو أن «أسدى» قد أخذ فى تصنيف هذا المعجم فى أواخر حياته (1) ولكن من العسير أن نحدد الفترة التى قام فيها بهذا العمل. وهذا المعجم لا يتناول بالشرح إلا الكلمات الفارسية المهجورة، ولكن أهميته العظمى ترجع إلى أن كل كلمة من هذه الكلمات قد فسرت بشاهد من الشواهد التى قالها واحد من الشعراء الأقدمين، ومن بين هؤلاء كثرة لم نكن نعلم عنهم شيئا من قبل. وجملة الشعراء المذكورين فى هذا المعجم هو اثنان وسبعون شاعرا وتتضمن شواهده مقطوعات من نظم «الرودكى» لكتاب «كليلة ودمنه» وهو كتاب مفقود، وكذلك شواهد أخرى من جملة من القصائد التى لم تكن معروفة لنا بالمرة أو كانت معروفة باسمها فقط. ومن أهم الملاحظات التى تسترعى نظرنا فى هذا المعجم حذف المصنف لاسم «ناصر خسرو» وقد رأينا فيما سبق أن «عوفى» أيضا تجاهل هذا الشاعر تجاهلا كليا. ولا شك أن تفسير ذلك راجع فى رأيى إلى الكراهية الشديدة التى أحس بها أهل السنة للاسماعيليين وما اقترن بذلك من الخوف والفزع من أتباعهم.
فخر الدين الجرجانى
حياته وآثاره
أما «فخر الدين أسعد الجرجانى» فليس معروفا لدينا إلا بوصفه ناظما لقصة «ويس ورامين». وهى قصة من أقاصيص الحب قيل إنها ترجع إلى أصل پهلوى (2) ويشبهما «إتيه» بقصة «ترستان وايزلت». ومن المستغرب أن «عوفى» أيضا يقرر فى كتابه
__________
(1) أنظر مقدمة «پول هورن» ص 31
(2) انظر ص 11من الطبعة التى نشرها فى مدينة كلكتا سنة 1865 ضمن سلسله المكتبه الهنديه(1/369)
نه لم يعثر (1) من أشعار هذا الشاعر إلا على خمسة أبيات هى جملة ما أمكنه العثور عليها بالإضافة إلى أشعاره الواردة فى هذه المنظومة، ويتناول الشاعر فى هذه الأبيات الخمسة الحديث عن مقدار ألمه وجزعه لما صادفه من مولاه «ثقة الملك شهريار» من عدم تقدير ورعاية، رغم «الأشعار الكثيرة» التى أنشدها فى مدحه والإشادة بذكره ثم ينتهى فى البيتين الأخيرين من هذه الأبيات بالإقذاع فى شتمه وسبه وبأنه «لم ير أو يسمع عن آدمى متصف بصفات الثيران والأبقار غيره!!» (2)
أما «دولتشاه» فلا يذكر شيئا عن هذا الشاعر وينسب قصة «ويس ورامين» إلى «نظامى العروضى السمرقندى» أو إلى «نظامى الگنجوى» كما يقول بذلك آخرون على حد تعبيره فى ص 30و 160من كتابه «تذكرة الشعراء»
وقد تم نظم قصة «ويس ورامين» فى سنة 440هـ 1048م عقب تغلب «طغرلبگ» على «الرومان»، وقد أهداها الشاعر لوزير هذا السلطان المسمى ب «أمين الدين أبى الفتح المظفر النيسابورى»
وقد طبعت هذه المنظومة لأول مرة نقلا عن مخطوطة معيبة، ونشرت ضمن «المكتبة الهندية» فى سنة 1865م.
ويقول «إتيه» إن أهمية هذه المنظومة يرجع إلى شىء واحد، هو أن هذه المنظومة تعتبر أولى المنظومات التى انقسم بوجودها «الشعر المثنوى» إلى قسمين متمايزين:
أحدهما الشعر المثنوى الذى صيغت فيه قصص الحب والغرام وقد خصصوا له وزن
__________
(1) انظر ص 240من الجزء الثانى من «لباب الألباب»
(2) المترجم: فيما يلى نص هذه الأبيات بالفارسية
بسيار شعر گفتم وخواندم بروزگار ... يك يك بجهد بر ثقة الملك شهريار
شاخى تر از اميد بكشتم بخدمتش ... آن شاخ خشك گشت ونياورد هيچ بار
دعوىء شعر كرد وندانست شاعرى ... وآنگاه كرد نيز بنادانى افتخار
زو گاوتر نديدم ونشنيدم آدمى ... در دولتش عجب غلطى كرد روزگار
اميد من دريغ بدان خام قلتبان ... أشعار من دريغ بدان روسپى تبار(1/370)
«الهزج»، والآخر الشعر المثنوى الذى صيغت فيه قصص الملاحم والأبطال، وقد خصصوا له وزن «المتقارب». وفيما يلى أربعة أبيات من «أغنية رامين» نجدها فى ص 142 سطر 1411:
خوشا ويسا نشسته پيش رامين ... چنان كبك درى در پيش شاهين
خوشا ويسا نشسته جام بر دست ... هم از باده هم از خوبى شده مست
خوشا ويسا بكام دل نشسته ... اميد اندر دل موبد شكسته
خوشا ويسا بخنده لب گشاده ... لب انگه بر لب رامين نهاده
ومعناها: (1)
ما أبدع «ويس» وقد جلست أمام «رامين»
كأنها تذرجة الوادى أمام الصقر والشاهين!!
وما أبدع «ويس» وقد جلست وفى يدها الكأس والجام
وقد بدت مخمورة بالشراب وبالجمال التام!!
وما أبدع «ويس» وقد جلست هانئة البال
وقد انكسر قلب «الموبذ» وأصابه الوبال!!
وما أبدع «ويس» وهى باسمة مفترة الثغر
قد انطبقت شفتها على شفة «رامين» بعد طول الهجر!!
«فصيحى الجرجانى»
قصة «وامق وعذرا»
أما قصة «وامق وعذرا» فأول من نظمها بالفارسية هو «العنصرى» ثم نظمها «فصيحى الجرجانى» بعد ذلك فى تاريخ متأخر عن سنة 441هـ 1049م ويقولون أيضا أنها مستقاة من أصل پهلوى. وقد كتب عنها «دولتشاه» ما يلى: (2)
__________
(1) المترجم: ترجم المؤلف هذه الأبيات إلى الانجليزية ولم نر داعيا إلى إيراد ترجمته، واستعضنا عن ذلك بإيراد أصل هذه الأبيات بالفارسية وترجمتها إلى العربية عن نسخة «ويس ورامين» طبع «مجتبى مبنوى» سنة 1314هـ. ش بطهران
(2) أنظر «تذكرة الشعراء» ص 30سطر 123(1/371)
«ويروون أيضا أن الأمير عبد الله بن طاهر أمير خراسان أثناء حكم الخلفاء» «العباسيين (من سنة 213هـ إلى سنة 230هـ 844828م) كان» «يجلس فى يوم من الأيام فى مدينة نيسابور، فأحضر إليه شخص كتابا وقدمه» «إليه على سبيل الهدية. فسأله الأمير: ما هذا الكتاب؟ فأجابه: إنه قصة» «وامق وعذرا، وهى حكاية طيبة جمعها الحكماء لكسرى أنو شروان!»
«فقال الأمير: إننا قوم لا نقرأ غير القرآن، ولا نريد غير قراءته وقراءة أحاديث» «الرسول، ولا حاجة بنا إلى مثل هذا الكتاب لأنه من تواليف المجوس وهو» «مردود لدينا. ثم أمر بهذا الكتاب فألقوه فى النهر، وأمر الناس أن يحرقوا» «تصانيف العجم وكتب المجوس أينما وجدت فى ولاياته، ومن أجل ذلك لم توجد» «أشعار فارسية حتى أيام السامانيين، وإذا وجدت أشعار فارسية قبل هذا الزمن» «فإنها كانت تنشد دون أن تدون.»
وقد ذكر «إتيه» أن هذه القصة نظمت ست مرات فى الفارسية، ولكن يبدو أن هذه المنظومات الست قد ضاعت جميعا، ولم تصل إلينا، ولم يبق ما يدلنا على موضوعها إلا ما نقله الينا الشاعر «لمعى» فى ترجمته التركية التى نقلها عن منظومة «العنصرى» وهى أولى هذه المنظومات من الناحية التاريخية ولو أن عوفى لم يورد عنها شيئا إلا مجرد الإشارة إليها (1). أما «دولتشاه» فيذكر فى مقالته التى خصصها لترجمة حال «فصيحى الجرجانى» أنه رأى بضع أوراق متناثرة من منظومة هذا الشاعر لهذه القصة، وقد نقل منها بيتا واحدا، صياغته على وزن ال «شاهنامه» أى على وزن المتقارب المثمن (2). ثم يجتهد «دولتشاه» فى أن يعوضنا عن قلة الأخبار التى أوردها عن هذا الشاعر بكتابة مقال قصير عن سيده وراهبه «عنصر المعالى كيكاوس» حفيد «قابوس بن وشمگير» أمير «طبرستان» الذى امتاز بتفوق أدبى نادر مكنه من تأليف كتاب «قابوس نامه» وهو الكتاب الذى سنتحدث عنه مباشرة فى هذا المقام.
__________
(1) انظر «لباب الألباب» ج 2ص 32سطر 91
(2) المترجم: هذا هو نص البيت الذى ذكره دولتشاه فى 69من تذكرة الشعراء:
چهـ فرح وجودى كه از همتش ... بميرد بپاى ولى نعمتش(1/372)
كتب منثورة فارسية
قابوس نامه:
موضوعات هذا الكتاب
هذا كتاب يشتمل على موضوعات تتصل بمبادىء الأخلاق وقواعدها وقد ألفه «كيكاوس» فى سنة 415هـ 1082م وكان له من العمر ثلاث وستون سنة، ووجهه إلى ابنه «گيلانشاه»
ومخطوطات هذا الكتاب موجودة فى المتحف البريطانى (رقم 3252.)
وفى ليدن وبرلين وقد طبع هذا الكتاب على الحجر فى مدينة طهران وتولى طبعه «رضا قلى خان» فى سنة 1285هـ 1868م وترجمه إلى الفرنسية الأستاذ «كويرى:» ونشر هذه الترجمة فى پاريس سنة 1886م وترجم الكتاب إلى اللغة التركية ثلاث مرات ذكرها الدكتور «ريو» فى الفهرست الذى صنفة للمخطوطات التركية وقد ضاعت على ما يظهر أولى هذه الترجمات (1) من الناحية التاريخية.
وفاز هذا الكتاب بشهرة عريضة، وهو بغير شك قمين بها وأهل لها لأنه ملىء بالحكمة والبراعة، غنى بالحكايات والأمثلة يضاف إلى هذا كله أنه كتاب ملكى كتبه صاحبه بأسلوب صريح لا مواربة فيه، مستمدا موضوعاته من تجاربه الكثيرة الناضجة وخبرته الطويلة الكاملة. وهو شبيه فى كل هذه الأمور بكتاب «سياست نامه» الذى سبق لنا الحديث عنه فيما مضى من صفحات.
ويشتمل «كتاب قابوس» على أربعة وأربعين فصلا ومقدمة تشتمل على شكوى الأمير الذى ألفه من تناقص طاعة الأبناء لآبائهم، وحث ابنه على أن ينهج فى حياته نهجا فاضلا، مذكرا إياه بأنه ينتسب من ناحية أبيه إلى ملك «گيلان» القديم «ارغش فرهادوند» الذى ذكره «أبو المؤيد البلخى» فى شاهنامته وبأنه ينتسب من ناحية جدة أبيه إلى «مرزبان بن رستم بن شروين» مؤلف كتاب «مرزبان نامه» الذى يعتبر من الطبقة الثالثة عشرة من أحفاد «كيكاوس بن قباد» أخى
__________
(1) أنظر ص 116من فهرست «ريو» للمخطوطات التركية(1/373)
«كسرى أنوشيروان» الملك الساسانى، وبأن أمه بالإضافة إلى ذلك هى ابنة السلطان «محمود الغزنوى»، كما أن والدة جدة أبيه هى ابنة «الحسن بن فيروزان» ملك الديلم.
ويتلو المقدمة مشتملات الكتاب على هذا النحو:
الفصول الأربعة الأولى: فى الله والخليقة والرسل والطاعة والواجبات الدينية
الفصل الخامس: فى معرفة حقوق الوالدين
الفصلان السادس والسابع: فى التواضع والفضل وتنمية المدارك والمعارف
الفصل الثامن: فى المواعظ المنقوشة بالپهلوية على مقبرة «أنوشيروان»
الفصل التاسع: فى الشيب والشباب
الفصل العاشر: فى فائدة الإقلال من إلأكل وتنظيم الطعام
الفصل الحادى عشر: فى ترتيب الشراب وشرائطه
الفصل الثانى عشر: فى الضيافة والاستضافة
الفصل الثالث عشر: فى المزاح، والنرد والشطرنج
الفصل الرابع عشر: فى العشق والحب
الفصل الخامس عشر: فى التمتع بالحياة
الفصل السادس عشر: فى فائدة الحمام الساخن وآدابه
الفصل السابع عشر: فى النوم والاستحمام
الفصل الثامن عشر: فى الصيد
الفصل التاسع عشر: فى لعبة الكرة والصوالج
الفصل العشرون: فى الحرب والقتال
الفصل الحادى والعشرون: فى الغنى وجمع المال
الفصل الثانى والعشرون: فى حفظ الأمانات والوفاء بالعهود
الفصل الثالث والعشرون: فى شراء العبيد
الفصل الرابع والعشرون: فى شراء العقارات والمنازل
الفصل الخامس والعشرون: فى شراء الخيول والدواب
الفصل السادس والعشرون: فى الزواج وشروطه(1/374)
الفصل السابع والعشرون: فى تربية الأطفال
الفصل الثامن والعشرون: فى اختيار الأصحاب
الفصل التاسع والعشرون: فى الحذر من الأعداء
الفصل الثلاثون: فى العفو والعقاب
الفصل الحادى والثلاثون: فى طالب العلم والفقه
الفصل الثانى والثلاثون: فى التجارة
الفصل الثالث والثلاثون: فى علم الطب
الفصل الرابع والثلاثون: فى علم النجوم والهندسة
الفصل الخامس والثلاثون: فى فن الشعر
الفصل السادس والثلاثون: فى فن الموسيقى
الفصل السابع والثلاثون: فى خدمة الملوك
الفصل الثامن والثلاثون: فى منادمة الملوك وآدابها
الفصل التاسع والثلاثون: فى الكتابة وأدب الكتاب
الفصل الأربعون: واجبات الوزير
الفصل الحادى والأربعون: فى صفات القائد وواجباته
الفصل الثانى والأربعون: فى صفات الملك وواجباته
الفصل الثالث والأربعون: فى الزراعة والفلاحة وأصحاب الحرف
الفصل الرابع والأربعون: فى المروءة والشهامة.
ويحتوى كتاب «قابوس نامه» كما يحتوى كتاب «سياست نامه» على حكايات تبلغ إحدى وخمسين حكاية، يسوقها المؤلف توضيحا لآرائه. وهى جميعها مستقاة من تجاربه الشخصية، وأغلب هذه الحكايات توجد فى مجموعات الحكايات الفارسية (1) دون أن تنسب إلى شخص معين ولكننا إذا رجعنا إلى أصلها فى كتاب «قابوس نامه» نجد أنها تنسب إلى أشخاص معينين معروفين ومع ذلك فهناك بضع حكايات فى هذا
__________
(1) توجد مثلا فى كتاب النحو الفارسى الذى ألفه «فوربس»
.
الكتاب لم ينسبها المؤلف إلى أحد من الناس، وإن كان بعض الكتاب المتأخرين قد نسبوها إلى جماعة من مشاهير الرجال.(1/375)
__________
.
الكتاب لم ينسبها المؤلف إلى أحد من الناس، وإن كان بعض الكتاب المتأخرين قد نسبوها إلى جماعة من مشاهير الرجال.
وإنى أكتفى هنا بذكر مثل واحد من الحكايات المنسوبة، وهو الحكاية المذكورة فى الصفحات 146143من طبعة طهران على الحجر، وتتعلق بحكمة القاضى «أبى العباس الزويانى» وكيف استشهد فى إحدى القضايا المعروضة عليه بشهادة إحدى الأشجار وقد ذكرت هذه القصة مرة أخرى ونسبت إلى نفس الشخص فى الكتاب الذى ألفه «ابن اسفنديار» عن «تاريخ طبرستان» (1) فإذا أتينا إلى كتاب «فوربس» عن «النحو الفارسى» وجدنا نفس هذه الحكاية مذكورة فى باب الحكايات دون أن تنسب إلى شخص معين على وجه التحديد (2).
وأما الحكايات التى لم ينسبها صاحب «قابوس نامه» إلى أحد من الناس فإنى أكتفى بأن أذكر منها تلك الإشارة الواردة فى ص (210) عن العادة التى جرى عليها اليونان بعدم السماح لأحد من الناس أن يضرب شخصا سبق أن ضربه ملكهم، احتراما لما ناله من شرف المجازاة على يد ملكهم، وأنه لا يستطيع أن يضربه إلا من كان مساويا فى مرتبته للملوك، وقد ذكر «دولتشاه» أن هذا التقليد كان متبعا فى أيام السلطان «محمود الغزنوى» ونسبه إليه (3) ومع ذلك فمما لا شك فيه أن «دولتشاه» مدين فى اجتلاء هذا الخبر وغيره من الأخبار إلى كتاب «قابوس نامه» ولو أنه لا يذكره إلا مرة واحدة فى ص 69. ولا شك أيضا أنه استقى منه أخباره عن عزل قابوس بن وشمگير ومقتله (4) وكذلك أخباره عن الإجابة الجريئة التى أجابت بها
(1) أنظر مخطوطة إدارة الهند رقم 134هـ ورقة 59ا
(2) انظر الحكاية رقم 71فى صحيفة 98
(3) المترجم: انظر ص 10من «تذكرة الشعرا» حيث يقول: «حكايت كنند كه سلطان محمود غزنوى هر كس را كه بدست خود بزدى آن كسى را ديگر هيچ آفريده نتوانستى زدن وگفتندى كه همچون محمود كسى بايد كه او را بزند»
(4) انظر ص 48من المرجع السابق.(1/376)
«السيدة» والدة «مجد الدولة» فاستطاعت أن تمنع السلطان «محمود الغزنوى» من مهاجمة عاصمتها فى مدينة الرى. (1)
أما الحكاية الشهيرة عن الهديد الذى أرسله السلطان «محمود الغزنوى» لأحد أعدائه وكيف أجاب عليه هذا العدو بالحروف «ا. ل. م.» فترد فى الصفحات 187185من «قابوس نامه» ولكنها تنسب هذه الإجابة إلى الخليفة «القادر بالله» ولا تنسبها إلى ملك طبرستان، وتقول إن الشخص الذى استطاع أن يحل هذا اللغز هو «أبو بكر الكهستانى» وأنه رقى فى منصبه لقاء مهارته، وبذلك يستبعد اسم «الفردوسى» عن هذه القصة نهائيا. (2)
قائمة بالحكايات المروية فى «قابوس نامه»
وفيما يلى قائمة بالحكايات المروية فى «قابوس نامه» رأيت أن أوردها فى هذا المقام لما بها من نفع أو متعة لبعض القراء. وقد ذكرت أمام كل حكاية رقم الفصل والصحيفة وفقا للنسخة المطبوعة على الحجر فى مدينة طهران سنة 1285هـ
1 - حكاية الحاج الغنى وإجابته القاسية على سؤال فقير فصل 4صفحة 20
2 - حكاية الخليفة المتوكل وكيف نجا عبده الخاص «فتح» من الغرق فصل 6صفحة 28
3 - حكايه أفلاطون وكيف غضب عندما مدحه أحد الجهال فصل 6صفحة 34
4 - حكاية الطبيب محمد بن زكريا الرازى وكيف اضطرب عندما ضحك إليه مجنون فصل 6صفحة 45
5 - حكاية كسرى أنوشروان ووزيره بزرجمهر فصل 7صفحة 37
6 - حكاية عن الكف عن رواية الأخبار العجيبة ولو كانت صادقة ما لم تكن مؤيدة بالبرهان الحاضر فصل 7صفحة 39
7 - حكاية عن أهمية التفسير متعلقة بحلم هارون الرشيد والرجلين اللذين عبرا له رؤياه فصل 7ص 42
__________
(1) انظر إلى ما سبق لنا ذكره عن هذه الأخبار ضمن أخبار «بندار الرازى» وانظر كذلك «قابوس نامه» ص 128و «تذكرة الشعراء» ص 4443
(2) ارجع إلى خلاصة هذه القصة فى الصفحات السابقة عند ذكر صنعة «التلميح» فى الفصل الأول من هذا الكتاب (ص 9392).(1/377)
8 - حكاية فى الموضوع السابق متصلة بمحاجة غلام لمولاه الماجن فصل 7ص 42
9 - حكاية بزرجمهر ورده على عجوز اتهمته بالعجز عن إجابة سؤالها فصل 7ص 43
10 - حكاية الشاب العلوى الزنجانى الذى غلبه سنى عجوز فصل 7ص 45
11 - حكاية الحائك وإبريقه فصل 9ص 52
12 - حكاية العجوز الأحدب والشاب الذى هزىء به فصل 9ص 53
13 - حكاية الوزير العجوز والحصان فصل 9ص 56
14 - حكاية الصاحب بن عباد مع ضيفه فصل 10ص 59
15 - حكاية ابن مقله ونصر بن منصور التميمى فصل 12ص 65
16 - حكاية المجرم الذى حكم عليه المعتصم بالموت وكيف نجى نفسه بكوب من الماء (1) فصل 12ص 67
17 - حكاية النبى والمرأة العجوز فصل 13ص 70
18 - حكاية شمس المعالى قابوس بن وشمگير جد المؤلف فصل 14ص 74
19 - حكاية السلطان مسعود الغزنوى فصل 14ص 75
20 - حكاية عمرو بن الليث فصل 20ص 85
21 - حكاية عزل قابوس بن وشمگير ومقتله فصل 20ص 87
22 - حكاية عن شرف اللصوص فصل 22ص 94
23 - حكاية أحمد الفريغونى فصل 25ص 111
24 - حكاية عن فوائد العوم والسباحة فصل 27ص 115
25 - حكاية گشتاسب فصل 27ص 118
26 - حكاية شهربانويه والحسين فصل 27ص 120
27 - حكاية موت سقراط فصل 28ص 125
__________
(1) تروى هذه القصة عادة عن «هرمزان الفارسى» والخليفة «عمر» انظر تاريخ الطبرى ج 5ص 25592558(1/378)
28 - حكاية المهلب فصل 29ص 127
29 - حكاية «سيدة» والدة مجد الملك والسلطان محمود الغزنوى فصل 29ص 128
30 - حكاية ذى القرنين ووصاياه عن مدفنه فصل 29ص 131
31 - حكاية معاوية فصل 30ص 135
32 - حكاية القاضى أبى العباس الرويانى والشجرة التى استشهد بها فصل 31ص 143
33 - حكاية التاجر والمشترى فصل 32ص 150
34 - حكاية بائع اللبن الذى أنبه ضميره فصل 32ص 154
35 - حكاية «فضلون» ملك گنجه فصل 37ص 177
36 - حكاية أخرى عن «فضلون» فصل 37ص 179
37 - حكاية المأمون والقاضى عبد الملك العبكرى فصل 39ص 184
38 - حكاية الصاحب اسماعيل بن عباد فصل 39ص 184
39 - حكاية الخليفة القادر بالله وإجابته على تهديد السلطان محمود فصل 39ص 185
40 - حكاية عبد الجبار الخوجانى كاتب أبى على سيمجور فصل 39ص 187
41 - حكاية ربيع بن المطهر القصرى فصل 39ص 191
42 - حكاية الملك الفارسى ووزيره فصل 40ص 193
43 - حكاية فخر الدولة واسماعيل بن عباد فصل 40ص 195
44 - حكاية أبى الفضل البلعمى وسهل الخجندى فصل 40ص 197
45 - حكاية طغرل السلجوقى فصل 42ص 204
46 - حكاية السلطان محمود الغزنوى وابى الفرج البستى فصل 42ص 206
47 - حكاية السلطان مسعود الغزنوى فصل 42ص 207
48 - حكاية فخر الدولة وعضد الدولة فصل 42صفحة 210
49 - حكاية الاسكندر الأكبر فصل 42صفحة 231
50 - حكاية اللصوص فى مشكلة عويصة فصل 44صفحة 220(1/379)
51 - حكاية عما وقع بين درويشين من أهل الصوفية فصل 44صفحة 223
وأغلب هذه الحكايات جميل وأصيل، يبلغ جد الروعة والإمتاع.
أشعار قابوس نامه
وتشتمل «قابوس نامه» بالإضافة إلى هذه الحكايات على جملة من الأشعار، أكثرها عبارة عن «رباعيات» من نظم المؤلف نفسه. وقد استشهد المؤلف أيضا بأشعار من قول «أبى سعيد بن أبى الخير» و «أبى شكور البلخى» و «أبى سليك الجرجانى» (1) و «العسجدى» و «الفرخى» و «لبيبى» و «قمرى الجرجانى».
وأورد المؤلف كذلك بيتا منظوما فى اللهجة الطبرية وقرنه بترجمة صاغها له باللغة الفارسية (2).
الأشخاص الذين ذكرهم المؤلف فى حكاياته
أما الأشخاص الذين ذكرهم المؤلف فى حكاياته، فمن بينهم جملة من حكماء اليونان هم: «فيثاغورث» و «سقراط» و «أفلاطون» و «بقراط» و «جالين» و «الأسكندر الأكبر» ومن بينهم جملة من ملوك الساسانيين ووزرائهم هم: «أنو شيروان» و «بزرجمهر» و «شهربانو» بنت يزدجرد الثالث التى وقعت أسيرة فى أيدى العرب وتزوجت بالحسين ومن بينهم طائفة من آل الرسول كعلى والحسن والحسين وذكر المؤلف من الأمويين «معاوية» ومن العباسيين «هارون الرشيد» و «المأمون» و «المتوكل» و «القائم» كما ذكر طائفة من حكام فارس المسلمين ووزرائهم مثل «عمرو بن الليث» و «السلطان محمود» و «السلطان مسعود الغزنوى» و «أبى الفضل البلعمى» و «الصاحب اسماعيل ابن عباد» و «أبى على سيمجور» و «طغرل السلجوقى» و «نوشتگين» و «الحسن بن الفيروزان الديلمى» و «شمس المعالى قابوس» و «شرف المعالى» وغيرهم ممن لا يبلغون مبلغ هؤلاء فى الأهمية ووضوح الشخصية.
__________
(1) ذكر عنه أنه مخترع لنوع من الألحان.
(2) انظر ص 86من «قابوس نامه».(1/380)
ومؤلف «قابوس نامه» لا يروى فى كتابه إلا القليل الأقل مما يتصل بحياته الشخصية وقد أوصل نسبه إلى «أنوشيروان» كما قالت بذلك أيضا كتب المصادر الأخرى ثم هو يذكر أنه أدى فريضة الحج إلى مكة المكرمة أثناء خلافه «القائم» وأنه اشتغل بالجهاد الدينى وحارب أهل الهند وجورجيا وأرمينيا. ويذكر أحيانا بعض الأخبار المتصلة بأسلافه وأقاربه من «آل زيار» فيترك لنا تقريرا كاملا عن الأحوال التى عزل فيها وقتل بسببها «قابوس» وكيف قتل اثنان من أسلافه هما «وشمگير» و «شرف المعالى» بطريق القضاء والقدر بينما كانا يقومان بالصيد والطراد.
أسلوب «قابوس نامه»:
الأسلوب الذى كتب به كتاب «قابوس نامه» يعتبر من أجمل الأمثلة للنثر الفارسى البسيط الذى لا عوج فيه وهو من حيث الصنعة والتنميق يفضل كتاب «سياست نامه» ولكنه لا يبلغ مبلغ التزويقات البلاغية التى نصادفها فى كتب أخرى مثل كتاب «گلستان». والكتاب مشحون بكثير من المعنويات والفكاهات والأمثال ذات المغزى الرائع وفيما يلى طائفة من الأمثال نسوفها على سبيل المثال:
«كل طائر يطير مع ما شاكله» ص 45
«المرء فى داره كالملك فى مملكته» ص 61
«خير للبنت ألا تولد، فإذا ولدت فزوجها أو فاقبرها» ص 120
«المنزل الذى يشتمل على سيدتين يبقى بغير كنس» ص 179
«عصفور فى اليد خير من طاووس مرتقب» ص 179
«لا يموت أحد من الناس إلا إذا حان أجله، ولن يحين أجله إلا إذا ذهب إلى بردع (1) فى أثناء الصيف» ص 179
«من أتعس الأمور أن يحتاج الرقيب إلى من يراقبه» ص 199
__________
(1) بردع أو بردعه أو برذعه بلدة فى أذربيجان، انظر القاموس الجغرافى الذى وضعه المستشرق «باربييه دى مينار» ص 9391. ولم أظفر بما يؤيد أن هذه المدينة كانت موبؤة من الناحية الصحية.(1/381)
«إذا أردت أن تدخل مكانا فانظر أولا كيف تخرج منه». ص 202
«مهما بلغ الأمر فلن يؤتمن القط على الشحم!!» ص 204
والمؤلف يعرض علينا أفكاره فى خليط عجيب من الصنعة والبساطة، والشك والزهادة. والاستخفاف والعفاف فنراه يعالج بعض الموضوعات الأخلاقية دون أن يتعرض لناحيتها الروحية، فيكتفى ببيان فائدة الصلاة والصوم والواجبات الدينية الأخرى، ويقرر أنها وسيلة لطهارة الأبدان والتواضع والتعفف، ويقول بوجوب اتباع أحكام الإسلام لأنه لا توجد حكومة أقوى من حكومة الإسلام وفى رأيه أن إلزام الأغنياء بتأدية فريضة الحج يعتبر من أحكم الوسائل التى اضطرهم الدين بواسطتها إلى السياحة والتجوال فى أنحاء الأرض ثم يختم حديثه عن هذه المسائل الدينية بأن ينصح ابنه بعدم التعمق فى بحث المذاهب الدينية لأن كثرة الأسئلة بشأنها والإكثار من قول «لماذا» و «كيف» بصددها لا يبلغان بالسائل أى مبلغ. ومن أبدع ما كتبه أيضا نصيحته التى نصحنا فيها بأن نقيس حالنا بحال جارنا الفقير لا بحال جارنا الغنى لأننا متى فعلنا ذلك شكرنا الله على سابغ نعمه ولم نحسد الغنى على غناه وثرائه.
والأمثلة التى يضربها لنا المؤلف عن آداب السلوك لاذعة ماهرة، وهى فى بعض الأحيان تبلغ مبلغ الجديد المستحدث فنراه بفيض فى فائدة «الكلام المعسول» ويطلب إلى ابنه أن يتعلم الحكمة من الجهلاء، ولكنه يحذره فى الوقت نفسه من الإغراق فى «التواضع» لأن كثيرا من الرجال قد اخفقوا فى نيل أوتارهم بسبب ما امتازوا به من أدب جم وتواضع كثير.
فإذا عرض المؤلف للحديث عن الحق والصدق، فإننا نجده ممتعا فيما أبدى من أقوال، فهو يخاطب ابنه بقوله: «اجتهد يا بنى فى المداراة ولكن لا تكن كذوبا واسع إلى أن تشتهر بين الناس بقول الصدق حتى إذا اضطررت فى وقت من الأوقات إلى الكذب، صدقك الناس فيما تقول!!»
ثم هو يحذر ابنه أيضا من الإدلاء بالأقوال الصادقة التى يحتمل تكذيبها ولا تسهل البرهنة على صحتها، فيقول له: «ومن العبث أن يدلى الإنسان برأى يحوجه زغم
صدقه إلى السعى فى البرهنة على صحته طوال أربعة شهر وإلى الاستشهاد بأربعمائة شخص من أعدل الشاهدين!!»(1/382)
ثم هو يحذر ابنه أيضا من الإدلاء بالأقوال الصادقة التى يحتمل تكذيبها ولا تسهل البرهنة على صحتها، فيقول له: «ومن العبث أن يدلى الإنسان برأى يحوجه زغم
صدقه إلى السعى فى البرهنة على صحته طوال أربعة شهر وإلى الاستشهاد بأربعمائة شخص من أعدل الشاهدين!!»
أما الأمثلة التى يضربها لنا المؤلف عن آداب المجتمع فصحيحة سليمة، فهو يقرر أنه من الواجب على المضيف ألا يكثر من الاعتذار لضيفه عن تفاهة ضيافته، لأن هذا يشعر الضيف بالحرج وضيق الصدر، كما يجب على المضيف أن لا يؤنب خدمه على ما يبدو منهم من تقصير فى حضور ضيوفه.
فإذا انتهى من ذلك أوصى ابنه ألا يلعب النرد والشطرنج بالدراهم والدنانير، وأن يحذر اللعب مع المقامرين المشهورين، وأن يتجنب القسم وحلف الإيمان، وأن يمتنع عن إعارة النقود لأحد من أصدقائه ما لم يكن مستعد الأن يعتبر العارية هبة لصديقه إذا لم يستطع دفعها أو لم يشاردها إليه.
وقد اختلطت وصاياه عن الشراب بفكاهة لاذعة، فهو يعترف من ناحية بأن شرب الخمر محظور حظرا باتا من ناحية الدين، ولكنه يعود فيقول لابنه: «إنى على ثقة من أنى مهما نصحتك فإنك لن تستمتع لنصحى وتمتنع عن شرب الخمر!!»
ولذلك فهو يقصر وصاياه على أن ينصح ابنه بعدم احتساء الخمر فى الصباح، لأن ذلك يغريه بتفويت الصلاة، ولأنه كذلك يجعل خمار الليل يجتمع بخمار الصباح فيلتقى الخماران فى رأسه ويسببان له فساد العقل والإدراك. ثم هو ينصح ابنه ألا يشرب الخمر إلا فى منزله تجنبا للفضيحة والعار وأن يمتنع عن الشراب ليلة الجمعة مراعاة لحرمة ذلك اليوم، ولأن الناس إذا رأوه يفعل ذلك يغفرون له احتساءه الخمر فى الليالى الباقية من الأسبوع!! ثم يوصيه بأن لا يعربد أو يفحش إذا شرب الشراب فيقول له: «إن الشراب وحده رجس وإثم، فإذا اضطررت إلى أن تأثم فلا أقل من أن تجعل اثمك لطيفا مقبولا هينا، وعليك أن تختار من الأشربة أحسنها فتشربه، كما عليك أن تختار من الموسيقى أجمل الألحان فتستمع إليه وإذا مزحت مع أحد من الناس فاجعل مزاحك طيبا مستساغا، حتى إذا حوسبت عليه فى العالم الآخر لا تكن ملوما مذموما!!» وهو أيضا ينصح الناس ألا يسألوا البخلاء والثقلاء حاجة إلا إذا لعبت الخمر برؤوسهم فإن ذلك يجعلهم أكثر استجابة واستعداد القضاء الحوائج.(1/383)
ويمضى المؤلف فى إيراد الفصول الممتعة عن شراء العبيد والجياد، ويذكر ميزة كل صنف من هذه الأصناف وعيوب كل واحد منها ويتحدث عن الصيد والطراد ثم يمضى بعد ذلك فى الحديث عن الزواج فيقول: إن الحب من أول وهلة عبث مستحيل ثم يذكر الخصال التى يجب اجتماعها فى الزوجة الصالحة، وأهمية مصاهرة البيوتات القوية صاحبة النفوذ. وفى رأيه أنه لا يجب تعليم البنات القراءة والكتابة، وأنه من الواجب ألا يبيعهن أولياؤهن بيعا للأزواج الأغنياء اللذين لا يصادفون قبولا فى أنفسهن.
ويجب ضرب الأطفال إذا تكاسلوا أو لم يتأدبوا فإذا أبدوا شيئا من الهمة وحسن التأدب وجبت مكافأتهم بقليل من الدراهم.
ويجب على اللبيب العاقل أن يدارى الأشخاص الذين لا يحبهم، فيظهر لهم المودة والمحبة كما يجب عليه ألا يأمن صديقا من الأصدقاء فيعطيه كل أسراره خشية أن ينقلب ذلك الصديق عدوا، فيتمكن منه ويتغلب عليه. ويجب على العاقل أيضا ألا يشمت لوفاة عدو من أعدائه، لأنه هو نفسه لا يستطيع أن يضمن النجاة والسلامة.
والأمانة هى رأس مال التاجر، ومن الواجب على الشعراء أن يقتصدوا فى مدائحهم، فإذا أرادوا المبالغة فمن الواجب عليهم ألا يصفوا الرجل الذى لم يتمنطق أثناء حياته بمبراة أو بسكين، بأنه يستطيع بضربة سيفه أن يقضى على الأسود الضارية كما يستطيع بضربة حربته أن يزحزح جبل بيستون (1) عن مكانه العتيد!! ويجب عليهم ألا يصفوا الرجل الذى لم يمتط ظهر حمار فى حياته بأن له جوادا يشبه «دلدل» أو «البراق» أو «رخش» (2)!! ومن الواجب عليهم ألا يشتغلوا بالهجاء فإن الجره لا تسلم فى كل مرة. (3) ويجب على الشاعر ألا يكذب فى أشعاره وأن لا يبالغ فيها.
__________
(1) جبل بالقرب من كرمانشاه عرف قديما باسم «باغستانا» أو «بهستون» وقد اشتهر بالنقوش الأكمينية التى نقشت على قمته.
(2) «دلدل» هى بغلة على و «البراق» هو الذى امتطاه النبى فى الإسراء و «رخش» هو جواد «رستم» البطل الايرانى.
(3) المترجم: يقول فى الأصل الفارسى: «وهجا گفتن عادت مكن كه هميشه سبو از آب درست برنيايد» وهذا القول مطابق للمثل العربى.(1/384)
ويجب على العاقل ألا بتمادى فى متابعة العدو الهارب أو تضييق السبل عليه، فإنه إن فعل ذلك هجم عليه العدو فى يأس وضراوة.
ويجب فى المكتوبات الفارسية أن تمتزج بشىء من العربية، فإن الفارسية الخالصة كريهة معيبة (1).
ويجب كذلك على العاقل، أن يزهد فى خدمة الملوك، وأن يتجنب مصاحبة العسكر والجنود.
ومن الخير قبلما أختم حديثى عن هذا الكتاب أن أورد هنا ترجمة لبعض النبذ الواردة فى بداية الباب التاسع منه، وهو الباب المتعلق «بالشيب والشباب» ولا شك أن هذه النبذة كافية فى التمثيل على أسلوب هذا الكتاب الممتع الشائق:
«يا بنى كن كبير العقل وإن كنت صغير السن، ولن أقول لك» «لا تتمتع بالشباب، ولكنى أقول لك أن تقضى شبابك فى الزهد والعفاف،» «وحذار أن تصبح من جملة الشبان الذين ذبل شبابهم بارتكاب الآثام، فإن» «الشباب نشاط وتوقد، وهو كما وصفه ارستطاليس نوع من الجنون. وحذار» «أن تنخرط فى سلك الشبان الجاهلين، فإن البلاء لا يتأتى من النشاط والتوقد» «ولكنه يتأتى من الجهل والتبلد واستوف حظك من الأيام، فإنك متى» «بلغت مبلغ الشيخوخة فلن تستطيع أن تفعل ذلك. وقد قال شيخ من الشيوخ:» «قضيت السنين الطوال اتجرع الغصص والأحزان خوفا من أننى إذا كبرت فلن» «يتطلع إلى صاحبات الوجوه النضيرة من الحسان. فلما بلغت مبلغ الشيخوخة» «لم أعد أفكر فيهن أو أتطلبهن!! ولو أنه استطاع أن يطلبهن، لما كان» «هذا الأمر ليليق بشيخ هرم، أو يحسن من رجل طاعن فى السن!!»
«ومهما بلغ بك شبابك يا بنى فلا تنس إلهك عز وجل فى وقت» «من أوقاتك. وحذار أن تأمن الموت فى لحظة من لحظاتك، فإن الموت لا»
__________
(1) المترجم: يقول فى الأصل الفارسى: «واگر نامه بود پارسى پارسى مطلق منويس كه ناخوش بود»(1/385)
«صلة له بالشيب أو بالشباب كما يقول العسجدى:» «گر بجوانى وبه پيريستى ... پير بمردى وجوان زيستى»
ومعناه:
«لو أن الموت كان متعلقا بالشيب أو الشباب»
«لمات العجوز الطاعن فى السن، وبقى الشاب»
«ومما لا شك فيه أن كل مولود مصيره إلى الموت لا محالة» «حكاية:»
«سمعت أن حائكا كان يقيم فى بلدة من البلدان، وكان له حانوت على باب» «المدينة، فعلق فى حانوته كوزا، دلاه فى مسمار، وأخذ يقذف فيه حجرا» «كلما خرجت من المدينة جنازة من الجنازات، فإذا انقضى الشهر عد هذه» «الأحجار، وعلم عدد الأشخاص الذين خرجت جنائزهم. ثم يفرغ الكوز ويعلقه» «ثانية، ويأخذ فى إلقاء الحجارة فيه من جديد، حتى إذا حان الشهر التالى فعل» «مثلما فعل من قبل. وانقضت الأيام على هذا المنوال وإذا بيد القضاء تنزل بالحائك» «فيرديه الموت، وتصادف فى هذه الأثناء أن أقبل شخص يسأل عنه ولم يكن» «يعرف بموته، فوجد باب حانوته مغلقا، فسأل واحدا من جيرانه عنه وعن سبب» «غيابه. فقال له الجار أما تعلم أن الحائك قد انطوى عليه الكوز!!»
«فكن متنبها يا بنى ولا يأخذك بالله الغرور واذكره أينما كنت فى» «طاعة أو معصية، واسأله العفو والغفران، وخف الموت حتى لا تقع فجأة فى» «هذا الكوز!! وارع للشيوخ حرمتهم، ولا تحدثهم بجزاف» «القول، فإن أجوبتهم مسكته قاطعة ملجمة!!»
«حكاية:»
«سمعت أن عجوزا محدودب الظهر، قد بلغ المائة من عمره، فتقوس ظهره جدا وكان» «يتكىء على عكازة ويسير، فاعترضه شاب، أراد مداعبته فقال: أيها الشيخ!»
«بكم اشتريت هذه القوس الجميلة حتى اشترى لنفسى واحدة مثلها؟! فأجابه» «الشيخ إذا امتد بك العمر، وطال بك الصبر، فسيمنحونك واحدة بالمحان!!»
«وأنصف الشيوخ أكثر مما تنصف الشباب، فإن الشبان لهم أمل فى»
«الشيخوخه، وأما الشيوخ فلا أمل لهم إلا فى الموت، ومحال عليهم أن يفكروا» «إلا فيه!! ومثلهم مثل الحنطة إذا ابيضت ولم يسرعوا إلى حصادها، فإنها» «تتساقط على الأرض من تلقاء نفسها وكذلك مثلهم مثل الفاكهة الناضجة فإنهم» «إذا لم يسرعوا إلى قطفها فإنها تتساقط من أشجارها دون أن يهزها أحد»(1/386)
«وأنصف الشيوخ أكثر مما تنصف الشباب، فإن الشبان لهم أمل فى»
«الشيخوخه، وأما الشيوخ فلا أمل لهم إلا فى الموت، ومحال عليهم أن يفكروا» «إلا فيه!! ومثلهم مثل الحنطة إذا ابيضت ولم يسرعوا إلى حصادها، فإنها» «تتساقط على الأرض من تلقاء نفسها وكذلك مثلهم مثل الفاكهة الناضجة فإنهم» «إذا لم يسرعوا إلى قطفها فإنها تتساقط من أشجارها دون أن يهزها أحد»
«وقد قالوا بالعربية:»
«إذا تم أمر دنا نقصه ... توقع زوالا إذا قيل: تم»
«واعلم يا بنى! إنهم لن يسمحوا لك بالبقاء إذا تعطلت حواسك فإنه» «متى استغلقت عليك أبواب النطق والبصر والسمع واللمس والذوق فإنك» «نفسك لن تتمتع بالحياة، كما أن أحدا غيرك لن يتمتع بحياتك، بل تصبح» «وبالا وشرا مستطيرا، ويصبح موتك خيرا من حياتك فإذا بلغت مبلغ» «الشيخوخة فحذار من محالات الشباب، وابتعد عن أفعالهم، فإن أقرب الناس» «إلى الموت يجب أن يكون أبعدهم عن محالات الشباب. لأن عمر الناس شبيه» «بالشمس متى حلت بالأفق الغربى فإنها تؤذن بالزوال والمغيب. وقد قلت» «فى ذلك القطعة الآتية:»
«تنبه يا كيكاوس فقد أصبحت عاجزا فى قبضة شيخوختك ... » «ودبر لنفسك أمر ذهابك فقد بلغت الثالثة والستين من عمرك»
«وقد انتهى يومك إلى صلاة العصر»
«وسرعان ما يدخل الليل متى انتهيت من هذه الصلاة!! (1)»
«ومن أجل هذا لا يجوز للشيخ الهرم أن يتصف بعقل الشبان، أو يقتدى» «بأفعالهم. وكن دائما يا بنى رحيما شفوقا بالشيوخ، فإن الشيخوخة» «مرض لا يعود المريض فيه أحد، وهى علة لا علاج لها عند الطبيب إلا بالموت،»
__________
(1) المترجم: فيما يلى نص هذين البيتين بالفارسية:
كيكاوسا در كف پيرى شده عاجز ... تدبير شدن كن چوبشصت وسه درآمد
روزت بنماز دگر آمد بهمه حال ... شب زود درآيد چونماز دگر درآيد(1/387)
«لأنّ العجوز لا يستريح من آلام الشيخوخة إلا بالفناء. وهى محالفة لسائر» «العلل والأمراض، لأن سائر العلل إذا أصابت الإنسان ولم يمت بسببها فإن» «الأمل بقوى فى شفائه وبرئه منها، وأما الشيخوخة فبخلاف ذلك على» «خط مستقيم، فإن المريض بها نسوء حاله يوما بعد يوم ولا أمل له فى» «الشفاء والعافية. وقد قرأت فى كتاب من الكتب أن الإنسان يستمر» «فى الزيادة يوميا من حيث القوة والتركيب حتى يبلغ الرابعة والثلاثين» «من عمره، فإذا بلغ ذلك العمر لا يزيد ولا ينقص، ويبقى كالشمس فى» «وسط السماء، تبطىء فى سيرها حتى تأخذ فى الزوال والمغيب فإذا كان» «الإنسان بين الأربعين والخمسين من عمره، أصابه من النقص فى كل سنة» «ما لم يكن ليدركه فى السنة السابقة فإذا كان بين الخمسين والستين من» «عمره شاهد فى كل شهر شيئا من النقص يصيبه فى جسده، لم يكن ليشهده فى» «الشهر الفائت فإذا كان بين الستين والسبعين من عمره شاهد فى كل أسبوع» «بعض النقص ينزل بجسده ولم يكن له وجود فى الأسبوع الفائت فإذا كان» «بين السبعين والثمانين من عمره شاهد فى كل يوم بعض النقص يصيب جسده» «ولم يكن له وجود فى اليوم السابق فإذا قيض الله له تجاوز الثمانين فإنه» «يشاهد فى كل ساعة شيئا من الألم والعناء، لم يكن ليعانيه فى الساعة» «الماضية!! ولذة الحياة موجودة فى السنوات الأربعين الأولى من العمر.» «فإذا صعدت أربعين درجة فى سلم الحياة، فأنك لا محالة آخذ فى الهبوط بعد» «ذلك لتعود إلى المكان الذى أخذت فى الصعود منه. وما اتعس الشخص» «الذى يصيبه فى كل ساعة ألم جديد لم يكن يحس به فى الساعة الماضيه!!» «فيا ولدى وقرة عينى لقد أطلت عليك شكوى الضعف والشيخوخة لأن» «شكواى من الكبر أليمة مريرة، وليس فى هذا ما يستغرب، فإن الشيخوخة» «عدو لدود، ولا بد من شكوى الأعداء والخصوم!!»
* * *
كتب أخرى منثورة(1/388)
* * *
كتب أخرى منثورة
ويجب علينا قبل أن نفرغ من الحديث عن كتاب الفرس الذين نشأوا فى هذا العصر، أن نذكر بعض الكتب المنثورة الأخرى التى لم أوفق إلى الحصول عليها فى الوقت الحاضر، والتى لو أنها وقعت فى يدى لما خصصتها كذلك إلا بأشارة يسيره حرصا على الإختصار ومراعاة لضيق المقام.
«نزهت نامه»
ومن بين هذه الكتب كتاب «نزهت نامه علائى» وهو عبارة عن موسوعة ألفها «شهمردان بن أبى الخير» فى نهاية القرن الحادى عشر الميلادى (نهاية القرن الخامس الهجرى) لأمير طبرستان «علاء الدولة خاص بگ» وقد وصف «پرتش:
» مشتملاتها وصفا كاملا فى ص 3630من «فهرست الكتب الفارسية فى مكتبة جوتا» (1) كما ذكر «إتيه» محتوياتها باختصار فى الأعمدة الرقيمة 908906من فهرست الكتب الفارسية فى «المكتبة البودلية» (2).
وقد سبق لنا أن تحدثنا عن كتاب آخر شبيه بهذا الكتاب ولكنه أسبق منه زمنا، وهو كتاب «دانش نامه علائى» الذى قام بتأليفه «ابن سينا» أما كتاب «بيان الأديان» الذى كتبه «أبو المعالى محمد بن عبيد الله» فى سنة 485هـ 1092م فقد عرفنا به «شيفر» فى المجلد الأول من مختاراته الفارسية (3).
وهناك كتاب تاريخى آخر كبير الأهمية فيما يتصل بخراسان خاصة وهو كتاب «زين الأخبار» الذى ألفه «الكرديزى» فى منتصف القرن الحادى عشر الميلادى (أى القرن الخامس الهجرى) ولا توجد من هذا الكتاب إلا نسخة وحيدة معيبة وصفها لنا «إتيه» فى الأعمدة الرقيمة 119من فهرست الكتب
__________
(1) أنظر:.
(2) أنظر:.
(3) راجع المجلد الأول من: ص 189132وكذلك الصفحات 171132من النصوص الفارسية.(1/389)
الفارسية فى «المكتبة البودلية». وشبيه بهذا الكتاب من حيث الأهمية الكتاب النادر الذى لم يطبع بعد وهو كتاب «كشف المحجوب» الذى ألفه «عثمان بن أبى على الجلابى الهجويرى» فى نهاية القرن الحادى عشر الميلادى (أى أواسط الخامس الهجرى) وتحدث فيه عن حياة رجال الصوفية ومذاهبهم (1).
ويجدر بنا فى هذا المقام أن نشير إلى رسالة أخرى عن الصوفية، ألفها بالعربية فى سنة 438هـ 1046م «أبو القاسم عبد الكريم بن هوازن القشيرى» المتوفى فى سنة 465هـ 1070م. وهذه الرسالة تشتمل على أربعة وخمسين بابا.
وقد طبعت مرتين على الأقل فى مطبعة «بولاق» ولها ترجمة بالفارسية موجودة فى المتحف البريطانى تحت رقم 4118، وهذه الترجمة لا يعرف تاريخها على وجه التعيين، ولكنها من غير شك ترجمة مبكرة، لأن مخطوطة المتحف البريطانى مؤرخة سنة 602هـ 1205م.
ويبقى عليا بعد ذلك أن نذكر ثلاثة آخرين من مشاهير الكتاب، لهم أهميتهم الكبرى، بحيث يستحيل علينا فى هذا المقام أن نوفيهم حقهم من الحديث.
الماوردى
وأول هؤلاء هو «أبو الحسن على الماوردى» المتوفى سنة 450هـ 1058م وقد وضعناه أولا لأننا سنكتفى بإشارة بسيطة إليه، نذكر فيها أن «بروكلمان» قد ذكر له تسعة مؤلفات (2) ربما كان أهمها كتابان اثنان أولهما: كتاب «الأحكام السلطانية» (3) ويتناول الحديث عن النظرية المثلى للنظم الإسلامية، وفيه آراء لم يحدث أبدا أن طبقت عمليا فى زمن من الأزمنة وعلى الخصوص فى زمن المؤلف نفسه وثانيهما كتاب «أدب الدنيا والدين» وهو كتاب فى الأخلاق ما زال يدرس
__________
(1) المترجم: طبعت ترجمة هذا الكتاب إلى الانجليزية ضمن سلسلة جب التذكارية فى سنة 1911وطبع الأصل «ژوكوفسكى».
(2) أنظر ص 386من الجزء الأول من كتابه: تاريخ الأدب العربى:. ...
(3) طبع هذا الكتاب فى مدينتى بون والقاهرة.(1/390)
فى المدارس الثانوية والعالية فى تركيا ومصر (1).
أبو العلاء المعرى
وثانى هؤلاء الرجال لا صلة له بإيران على الإطلاق ولكنه شخصية رائعة جدا فى عالم الفكر والأدب الإسلاميين بحيث لا يمكننا أن نمر عليه فى صمت وسكون. وهذا الرجل هو الشاعر الضرير والفيلسوف الشاك «أبو العلاء المعرى» وقد سمى بالمعرى نسبة إلى قرية صغيرة من قرى سوريا هى «معرة النعمان» وهى القرية التى ولد بها وقضى فيها الشطر الأكبر من حياته، وقد زاره الرحالة «ناصر خسرو» عندما توقف بهذه القرية ثلاثة أيام نهايتها 15رجب سنة 438هـ 15يناير سنة 1047م وتحدث عنه فى كتابه «سفرنامه» على هذا النحو: (2)
«وكان فى هذه المدينة رجل يسمونه «أبا العلاء المعرى» وكان ضريرا ورئيسا» «للمدينة وصاحب نعمة كثيرة، يمتلك كثيرا من العبيد والغلمان. وفى الحق كان» «أهل المدينة جميعا خدما له. ولكنه اختار حياة الزهد، فكان يلبس أحقر» «الملابس، ويلزم مسكنه، ولا يأكل طوال اليوم إلا صف من من خبز الشعير.»
«وقد سمعت أنه كان يترك باب قصره مفتوحا على مصراعيه، وأن نوابه وملازميه» «يتولون تدبير أمور المدينه ولا يرجعون إليه إلا فى جلائل الأمور. وهو» «لا يمنع نعمه عن أحد من الناس، ويصوم الدهر، ويقوم الليل، ولا يشغل» «باله بأمر من أمور الدنيا. وقد بلغ هذا الرجل مرتبة عالية فى الشعر والأدب،» «جعلت أفاضل الشام والمغرب والعراق يقرون له بها ويعترفون بأن أحدا فى» «هذا العصر لم يبلغ منزلته، ولن يصل إلى درجته أحد. وقد ألف كتابا أسماه» «الفصول والغايات، جعل كلامه فيه مرموزا، وأورد فيه كثيرا من الأمثال» «الفصيحة العجيبة التى لا يقف على سرها أحد من الناس اللهم إلا النفر القليل»
__________
(1) المترجم: لم يعد هذا الكتاب يدرس فى تركيا ومصر إلا دراسة خاصة.
(2) أنظر ص 1110من طبعة «شيفر».(1/391)
«الذين يقرأونها عليه، مما دعا جماعة من الخلق إلى اتهامه بأنه صاغ هذا» «الكتاب معارضة للقرآن (1). ويقبل عليه دائما من مختلف الأنحاء ما يزيد» «على مائتى رجل يقرأون عليه الأدب والشعر. وقد سمعت أن له من الأشعار» «ما يزيد على مائة ألف بيت. وقد سأله أحد الأشخاص السؤال الآتى:»
«إن الله تبارك وتعالى قد أجزل لك كل هذا المال والنعيم فلأى سبب» «تعطيهما للناس ولا تتمتع بهما فى معيشتك؟!»
«فأجابه المعرى:»
«إننى لا أستحق منهما إلا ما أحتاج إليه فى مأكلى!!»
«وقد كان المعرى على قيد الحياة عندما وصلت إلى المعرة. (2)»
ويرجع إلى «البارون فون كريمر» الفضل الأول فى تعريف علماء أوربا بالمعرى وإظهارهم على نواحى عظمته وعبقريته، وقد خصص للحديث عنه تسع صفحات من الجزء الثانى من كتابه الرائع عن «تاريخ الحضارة فى الشرق» (3)
كما نشر عنه سلسلة من المقالات والرسائل الرائعة (4).
وقد أورد «دولتشاه» فى مقالته القصيرة التى كتبها عن هذا الشاعر ثلاث مقطوعات من أشعاره هى التالية: (5).
__________
(1) حفظت لنا قطعة من هذه المعارضة القرآنية، نشرها لنا حولدزيهر فى سنة 1875فى مجلة المستشرقين الألمان مجلد 29وقد قرنها بملاحظات ممتعة عن المعرى فى الصفحات 637 641. أنظر أيضا هذه المجله مجلد 22ص 383وكذلك المجلد 21ص 176وكذلك كتاب جولدزيهر المسمى دراسات إسلامية مجلد 2ص 403.
(2) مات بعد ذلك بعشر سنوات فى سنة 449هـ 1075م وقد بلغ من العمر ثمانين سنة.
(3) أنظر ص 394386من الجزء الثانى من كتاب
(4) أطول هذه المقالات هى المنشورة فى.
سنة 1888م مجلد 117. وقد سبقت هذه المقالة مقالات أخرى فى «مجلة المستشرقين الألمان» فى السنوات 1875و 1876و 1877و 1884. المجلد 29ص 312304والمجلد 30ص 5240والمجلد 31ص 471والمجلد 38ص 529499.
(5) أنظر «تذكرة الشعراء» ص 25.(1/392)
القطعة الأولى:
أبا العلاء ابن سليمانا ... عماك قد أولاك إحسانا
إنك لو أبصرت هذا الورى ... لم ير إنسانك إنسانا
والقطعة الثانية:
ألا إنما الأيام أبناء واحد ... وهذى الليالى كلها أخوات
فلا تطلبن من عند يوم وليلة ... خلاف الذى مرت به السنوات
والقطعة الثالثة:
من راعه سبب أو هاله عجب ... فلى ثمانون حولا لا أرى عجبا
الدهر كالدهر والأيام واحدة ... والناس كالناس والدنيا لمن غلبا
وقد نشر «جولدزيهر» القطعة التالية من أشعاره فى مقالة له «بمجلة المستشرقين الألمان» مجلد 29ص 637
فى القدس قامت ضجة ... ما بين أحمد والمسيح
هذا بناقوس يدق ... وذا بمئذنة يصيح
كل يمجد دينه ... يا ليت شعرى ما الصحيح؟!
وطبقا لأحكام الشريعة الإسلامية يعاقب السارق الذى يسرق ما تزيد قيمته على ربع دينار بقطع يده، بينما يعوض الشخص الذى يفقد يده فى أحوال أخرى بخمسمائة دينار كاملة وفى هذا المعنى يقول المعرى:
تناقض ما لنا إلا السكوت له ... وأن نعوذ بمولانا من النار
يد بخمس مئين عسجد فديت ... ما بالها قطعت فى ربع دينار؟!
وفيما يلى بيتان يذكرهما «فون كريمر» على سبيل المثال فى «مجلة المستشرقين الألمان» ج 29ص 305
ضحكنا وكان الضحك منا سفاهة ... وحق لسكان البسيطة أن يبكوا
تحطمنا الأيام حتى كأننا ... زجاج ولكن لا يعاد لنا سبك
وقد ذكرت أن «المعرى» لا صلة له بإيران، لا من ناحية مولده، ولا من ناحية إقامته، ولم يدفعنى إلى ذكره فى هذا الكتاب إلا كونه شاعرا كبيرا ومفكرا عبقريا.
يضاف إلى ذلك أن الابحاث المستقبلة ربما تكشف لنا أنه كان ذا أثر محسوس نستطيع
لمسه فى آراء شعراء الفرس الشكاكين المتشائمين. ولا شك أن أراءه الخاصة تذكرنا بعض الشىء ب «عمر الخيام» وإن كان يمتاز عنه بأنه أعلا منه شأنا وأبلغ منه منطقا من حيث كونه شاعرا وفيلسوفا شاكا.(1/393)
يضاف إلى ذلك أن الابحاث المستقبلة ربما تكشف لنا أنه كان ذا أثر محسوس نستطيع
لمسه فى آراء شعراء الفرس الشكاكين المتشائمين. ولا شك أن أراءه الخاصة تذكرنا بعض الشىء ب «عمر الخيام» وإن كان يمتاز عنه بأنه أعلا منه شأنا وأبلغ منه منطقا من حيث كونه شاعرا وفيلسوفا شاكا.
وأهم مؤلفات المعرى هى التالية:
1 - سقط الزند: هو ديوان من الشعر يتضمن منظوماته المبكرة
2 - اللزوميات أو «لزوم ما لا يلزم» وهو ديوان من الشعر يتضمن أشعاره المتأخرة التى تشتمل على فلسفته وتشاؤمه.
3 - الرسائل: وقد نشرها وترجمها الأستاذ «مارجوليوث» بجامعة اكسفورد فى سنة 1898م (1).
4 - رسالة الغفران: وهى رسالة كتبها نثرا فى وصف الجنة والنار. وتحدث فيها عن زيارة خيالية للعالم الآخر وما جرى بينه وبين شعراء العرب والكافرين من حديث. وقد نشر الأستاذ «ر. ا. نيكولسون» وصفا لهذه الرسالة مع مقتطفات منها فى «مجلة الجمعية الملكية الأسيوية» سنة 1900 (ص 720637) وسنة 1902 (ص 10175ص 362337، ص 847813) وهذا المؤلف ممتع حقا ولكنه ملىء بالصعوبات والمسائل المعقدة، خاصة فى فصوله الأخيرة التى تحدث فيها عن الكفار والزنادقة، وقد اضطر المؤلف مراعاة للحكمة والمصلحة أن ينتقد هؤلاء الطائفة، ولكننا مع ذلك لا نستطيع أن نبرئه من أنه كان يعطف عليهم عطفا كبيرا.
5 - الفصول والغايات: وهذا هو أبعد كتبه إغراقا فى الزندقة كما تذهب إلى ذلك آراء المسلمين. وهو عبارة عن معارضة للقرآن كالتى صاغها «المتنبى» وقد نشر فصولا منه المستشرق «جولدزيهر» فى مقالته التى نشرها فى سنة 1875م فى المجلد 29من مجلة المستشرقين الألمان (2) (ص 641637) بعنوان:
«أبو العلاء المعرى كمفكرجر»
__________
(1) أنظر:. 1898،
(2) المترجم: طبع هذا الكتاب فى القاهرة فى مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر(1/394)
وقد رسم الأستاذ «مرجوليوث» صورة ممتعة لحياة المعرى جعلها مقدمة لطبعته التى نشرها ل «رسائل المعرى» كما أن المقالات العديدة التى نشرها «فون كريمر» وضمنها كثيرا من أشعاره المترجمة إلى شعر ألمانى تمد الباحث الأوروبى بكثير من الزاد الذى يساعده على دراسة هذا المفكر العبقرى القوى.
الغزالى:
أرجأت إلى نهاية هذا الفصل الحديث عن رجل آخر له تأثير كبيرا فى هذا العصر، ويعتبر بحق من كبار المفكرين الذين ظهروا فيه، وأقصد ب «الإمام أبا حامد محمد الغزالى» (1) وهو الفقيه الذى كان له الفضل الأول فى إنهاء عصر الفلسفة فى الإسلام، وفى إقامة عصر «التصوف» الذى يعتبر أبلغ تعبير وأوضح تحديد للمذهب السنى الإسلامى.
يقول الدكتور «ت. ژ. دى بوير» فى كتابه «تاريخ الفلسفة فى الإسلام» (2)
«إن التصوف منذ ظهور الغزالى أصبح الدعامة التى قام عليها صرح المعرفة فى العالم السنى الاسلامى، وأصبح كذلك التاج الذى انعقد على مفرق هذا الصرح»
وقد أورد الدكتور «دى بوير» فى كتابه العلمى الرائع ما فيه الكفاية عن الغزالى ومذهبه بحيث أجد لزاما على ألا أطيل الحديث عن هذا الفقيه النابه الذى خدم الدين خدمات جليلة، جعلته يكسب لقاءها اللقب الذى عرف به أبدا وهو «حجة الإسلام».
ولد الغزالى فى بلدة طوس من مدن خراسان فى سنة 450هـ 1058م، وعلى قول آخر فى سنة 451هـ 1059م وقد صادف مولده تولى «الپ ارسلان» عرش
__________
(1) يقال له أيضا الغزالى بتشديد الزاى وقد سبق لى كتابة اسمه على هذا النحو فى مؤلف سابق فانتقدنى على ذلك المستشرق الكبير «جولدزيهر» ومع ذلك فيجب أن أذكر أن هذه التسمية تبعها عدد كبير من كتاب المسلمين منذ القرن الثالث عشر الميلادى (السابع الهجرى) انظر: الفخرى وكذلك كتاب «بروكلمان» فى «تاريخ الأدب العربى ج 1ص 419»
(2) انظر: ص 155من الترجمة الانجليزية من كتاب:
.. .. ،
السلاجقة. ومات ابوه وهو صغير، فقام على تربيته وتربية أخيه رجل صوفى من أصدقاء أبيه، ثم التحق بعد ذلك بإحدى المدارس الموجودة فى بلدته. واعتاد أن يقول:(1/395)
__________
.. .. ،
السلاجقة. ومات ابوه وهو صغير، فقام على تربيته وتربية أخيه رجل صوفى من أصدقاء أبيه، ثم التحق بعد ذلك بإحدى المدارس الموجودة فى بلدته. واعتاد أن يقول:
«طلبنا العلم لغير الله فأبى أن يكون إلا الله»
وقد تلقى الدرس فترة فى «جرجان» على يد الإمام «أبى نصر الإسماعيلى» وبينما كان فى طريق عودته إلى طوس سطا عليه جماعة من قطاع الطريق وسلبوه كل أمتعته، وقد تبعهم لكى يسترد منهم مذكراته، وقال لمقدمهم أنه ترك الأهل والوطن لأجل تحصيلها وهى تستوعب جميع علومه ومعارفه. فضحك مقدم اللصوص وقال: «كيف تدعى أنك أدركت ما فيها من علم فلما أخذناها منك تجردت من معرفتها وبقيت بلا علم؟!».
ثم انتهى الأمر بأن استرد الغزالى مذكراته وأقبل على الاشتغال بها حتى حفظ جميع ما فيها بحيث لو قطع عليه اللصوص الطريق مرة أخرى لم يتجرد من علمه!!
ثم ذهب الغزالى إلى «نيسابور» وجد واجتهد وأحسن التأليف وأحاد الوضع والتصنيف حتى علم به الوزير العظيم «نظام الملك» فولاه فى سنة 484هـ 1091م التدريس فى مدرسته «النظامية» التى أسسها فى بغداد قبل ذلك التاريخ بخمس وعشرين سنة. وظل الغزالى أربع سنوات فى المدرسة النظامية يقوم «على التدريس وتعليم العلم، عظيم الجاه، زائد الحشمة، عالى الرتبة، مشهور الإسم، تضرب به الأمثال، وتشد إليه الرحال، إلى أن شرفت نفسه عن رذائل الدنيا، فرفض ما فيها من التقدم والجاه، وترك كل ذلك وراء ظهره فاستناب أخاه فى التدريس.» وقصد بيت الله الحرام فحج، ثم ذهب إلى الشام حيث ألف كتابه الكبير «إحياء علوم الدين»
وهذا الكتاب مكتوب بالعربية، ولكنه نقل بعد ذلك باختصار إلى الفارسية بعنوان «كيمياى سعادت» أو «كيمياء السعادة».
فلما عاد الغزالى إلى بغداد جعل هذا الكتاب أصلا لمجموعة من المراسم الدينية التى أخذ يبشر بها فى هذه المدينة، ثم عاد بعد ذلك إلى نيسابور ودرس بالمدرسة النظامية مدة يسيرة، ثم رجع إلى بلدته طوس حيث توفى فى يوم الأثنين 14جمادى الآخر سنة 505هـ 18ديسمبر سنة 1111م.
ومؤلفات الغزالى كثيرة، أحصى منها «بروكلمان» قرابة السبعين، وهى تشتمل، فيما عدا ما ذكرناه على: «رسالة فى الرد على الباطنية أو الإسماعيلية» و «المنقذ من
الضلال» و «تهافت الفلاسفة». والكتاب الأخير هو الذى أوحى، فيما بعد، لابن رشد القرطبى بتأليف كتابه «تهافت التهافت».(1/396)
ومؤلفات الغزالى كثيرة، أحصى منها «بروكلمان» قرابة السبعين، وهى تشتمل، فيما عدا ما ذكرناه على: «رسالة فى الرد على الباطنية أو الإسماعيلية» و «المنقذ من
الضلال» و «تهافت الفلاسفة». والكتاب الأخير هو الذى أوحى، فيما بعد، لابن رشد القرطبى بتأليف كتابه «تهافت التهافت».
وفيما يلى قطعة ننقلها من «المنقذ» وهى كبيرة الفائدة فى الدلالة على مقدار ما بلغه الغزالى من التعمق فى الدين قبلما يبلغ مرتبة الصفاء النفسى التى ظفر بها فى النهاية (1):
«ولم أزل فى عنفوان شبابى منذ راهقت البلوغ قبل بلوغ العشرين إلى الآن وقد أناف السن على الخمسين أقتحم لجة هذا البحر العميق، وأخوض غمرته خوض الجسور، لا خوض الجبان الحذور وأتوغل فى كل مشكلة، وأتقحم كل ورطة، وأتفحص عن عقيدة كل فرقة، واستكشف أسرار مذهب كل طائفة:
لأميز بين محق ومبطل، ومتين ومبتدع لا أغادر باطنيا إلا وأحب أن أطلع على بطانته، ولا ظاهريا إلا وأريد أن أعلم حاصل ظهارته، ولا فلسفيا إلا وأقصد لوقوف على كنه فلسفته، ولا متكلما إلا وأجتهد فى الاطلاع على غاية كلامه ومجادلته، ولا صوفيا إلا وأحرص على العثور على سر صفوته، ولا متعبدا إلا وأترصد ما يرجع إليه حاصل عبادته، ولا زنديقا معطلا إلا وأتجسس وراءه للتنبه لأسباب جرأته فى تعطيله وزندقته، وقد كان التعطش إلى درك حقائق الأمور دأبى وديدنى من أول أمرى وريعان عمرى غريزة وفطرة من الله، وضعتا فى جبلتى، لا باختيارى وحيلتى، حتى انجلت عنى رابطة التقليد، وانكسرت على العقائد الموروثة، على قرب عهد سن الصبا».
وقد استطاع «الغزالى» بعد هذه المجاهدات المبكرة فى البحث عن الحق، والخروج به من مغاور الشك القاتمة، أن يكسب الدين البين قدرة ورسوخا، يستطيع بواسطتهما سائر الناس أن يبلغوا المرساة المطمئنة التى رسا إليها هو نفسه بعد جهود بمضنية ومشاكل شائكة وقد فاز لقاء هذه الجهود باللقب الرائع الذى عرف به وهو «حجة الإسلام». كما استطاع أن يجعل عالما معروفا كالسيوطى يقول فى شأنه: إنه لو قيض للاسلام رسول بعد محمد، لما كان هذا الرسول غير الغزالى!
__________
(1) المترجم: نقلنا النص من طبعة «المنقذ» المنشورة فى القاهرة سنة 1952م (أنظر ص 51)(1/397)
الفصل الخامس عصر السلطان سنجر واخوته (552485هـ 11571092م)
الفترة التى نقدم على دراستها فى هذا الفصل تستغرق خمسا وستين سنة،
تبدأ بموت «ملكشاه» كما فصلنا الخير عن ذلك فى نهاية الفصل الثالث من هذا الكتاب وتنتهى بموت ابنه «سنجر».
والمعروف عن «سنجر» أنه لم يكن مطلق الحكم فى إمبراطورية السلاجقة إلا فى خلال الفترة الواقعة بين سنتى 511و 552هـ 1117و 1157م ومع ذلك فقد كان قبل توليه ملك السلاجقة حاكما على ولاية خراسان، وكان أروع شخصية ذات نفوذ بين آل سلجوق منذ سنة 490هـ 1096م. وقد نجت خراسان بفضل حكومته المستتبة القادرة من شر الحروب الطاحنة التى وقعت بين إخوته، واستطاع بإدارته الماهرة أن يجنبها ويلات هذه الشرور الدائرة حتى إذا كانت غارات «الأتراك الغزّ» أصيبت هذه الولاية الآمنة فى السنوات الأخيرة من حكمه بكثير من الأذى والتخريب، بحيث بدا الدمار الدى نزل بهذه الديار شاملا وفظيعا ومخيفا ولكن هذا البلاء الذى وقع على أيدى «الغز» سرعان ما اغتفر خطره وهان أمره، عندما قورن بما أنزله «المغول» من رعب وفزع خلال غارتهم التى وقعت بعد ذلك بما يقرب من سبعين سنة.
وعلى ذلك يمكننا، على سبيل التجاوز، أن نسمى هذه الفترة التى ندرسها ب «عصر سنجر» وأن نعتبر موته نهاية لعهد «السلاجقة العظام» فى إيران.
وقد فاق «سنجر» كما جاء فى كتاب «راحة الصدور» للراوندى (1) جميع
__________
(1) أرجع إلى مقالتى عن هذا الكتاب فى «مجلة الجمعية الملكية الأسيوية» سنة 1902 ص 489.(1/398)
ملوك السلاجقة الآخرين من حيث طول عمره وكثرة الأعمال الجليلة التى قام بها.
فمنذ تولى الحكم من قبل «بركيارق» على ولاية خراسان تمكن فى فترة السنوات الأربعين التى تولاها من أن يقوم بتسع عشرة غزوة من الغزوات المظفرة. فاستطاع أن يستولى على «غزنه» وأن ينصب عليها «بهرامشاه» بشرط أن يدفع إليه جزية يومية مقدارها ألف دينار، كما استطاع أن يأسر ملك سمرقند المسمى «أحمد خان» وهو الملك الذى ثار عند موت «بركيارق» فى سنة 525هـ 1130م وأخضع ولايتى «سجستان» و «خوارزم». ومع ذلك كله، لم يعد لآل سلجوق من الناحية السياسية ما كان لهم من القوة والنفوذ أثناء حكم «ألپ أرسلان» و «ملكشاه» لأننا لو تجاوزنا فرضا عن الأثر البالغ الذى أحدثته الحروب التى وقعت فى بداية هذه الفترة بين أبناء «ملكشاه»، وكذلك عن المصائب الكثيرة التى نتجت عن الغارات المتتالية التى قام بها بعض أمراء المقاطعات الثائرين، فإننا نجد أن إيران فى ذلك الوقت كان يقوم بها إلى جانب «السلاجقة العظام» بيوت ملكية أخرى تنازعهم السيطرة والسلطان.
وكان أهم هذه البيوت وأكثرها خطرا بيت «الغوريين» أو «ملوك جبال الغور» فى الشمال الشرقى من إيران، وهو البيت الذى ورث «الغزنويين» فى هذه الولاية، ثم «دولة ملوك خوارزم» أو حكام «خيوه» وهى الدولة التى أصبحت أكبر خصم للسلاجقة، عند تولى «أتسز» فى سنة 521هـ 1127م وكذلك «سلاجقة كرمان» الذين كانوا يحكمون غير منازعين فى الولايات الجنوبية الغربية من إيران.
وربما كان فريق «الإسماعيلية» أو «ملاحدة ألموت» أشد خطرا من هؤلاء جميعا، لانتشارهم فى مختلف الولايات وسيطرتهم على سائر الأنحاء. وقد استطاعوا رغم المقاومة الشديدة العاتية التى تصدوا لها من آن إلى آخر، أن يقوموا بكثير من الأعمال التى أصبحت مصدر فزع ورعب فى إيران، ما لبث أن امتد خطرهما حتى شمل الشام أيضا.(1/399)
عصر سنجر من الناحية العلمية والأدبية
يمتاز هذا العصر من ناحيته الأدبية والعلمية بكثير من البهاء الذى امتاز به العصر السابق عليه والعصر اللاحق له فقد ازداد عدد الأدباء الإيرانيين من كتاب النثر والشعر، وتم خلاله تأليف عدد من أمهات الكتب العربية التى أخرجتها إيران.
وقد عاش خلال عهد «سنجر» عدد من كبار شعراء الفرس، وولد فيه شاعران كبيران هما:
«الشيخ فريد الدين العطار» المولود سنة 514هـ 1120م
و «نظامى الكنجوى» المولود سنة 535هـ 1140م
وتوفى به جملة من الشعراء المشهورين مثل:
«عمر الخيام» المتوفى سنة 515هـ 1121م
«أزرقى» المتوفى سنة 525هـ 1130م
«مسعود بن سعد» المتوفى سنة 526هـ 1131م
«أديب صابر» المتوفى سنة 538هـ 1143م
«معزى» المتوفى سنة 542هـ 1147م
«عمعق البخارى» المتوفى سنة 543هـ 1148م
وعاش به طائفة أخرى من كبار الشعراء والكتاب مثل:
«سنائى» و «نظامى عروضى السمرقندى» و «رشيد الدين الوطواط»
و «سوزنى» الشاعر الهجاء. ووجد به أيضا بالإضافة إلى هؤلاء جماعة آخرون، لا يبلغون منزلتهم من حيث الفضل وبعد الصيت.
أما أهم المؤلفات المنثورة التى كتبت بالفارسية فى هذا العصر فهى التالية:
1 «ذخيره خوارزمشاهى»: أو «ذخيرة ملوك خوارزم» وهى عبارة عن موسوعة طبية، تمّ تأليفها سنة 504هـ 1110م
2 - ترجمة كليلة ودمنه: التى قام بها نصر الله بن عبد الحميد سنة 538هـ 1143م(1/400)
3 - مقامات القاضى حميد الدين أبى بكر البلخى، التى أنشأها حوالى سنة 555هـ 1160م
4 - كتاب «چهار مقاله»: أو المقالات الأربع التى ألفها «نظامى عروضى السمرقندى» حوالى هذا التاريخ
وهذا الكتاب الأخير هو من أهم هذه المؤلفات المنثورة؟؟؟، ومن أجل ذلك سنستشهد به غالبا فى هذا النص كما فعلنا فى النصوص؟؟؟ ويمكن أن نعتبر «الغزالى» من أهم كتاب هذا العصر الذين كتبوا بالعربية دائما أو غالبا، فقد توفى فى سنة 505هـ 1111م، ذكرنا آنفا.
ومن أهم الشخصيات التى نلاقيها فى هذا العصر ثلاثة من علماء اللغة، هم: «الزوزنى» «والتبريزى» و «الجواليقى» والجغرافى المعروف «البكرى» والشاعران الكبيران «الأبيوردى» و «الطغرائى» صاحب لامية العجم والمؤرخ «ابن منده» مؤرخ أصفهان والكاتب المتصوف «القشيرى» وكاتب المقامات «الحريرى» وقد كتبها استجابة لأمر وزير السلاجقة ومؤرخهم «خالد بن أنو شيروان» والمفسران: «الفراء البغوى» و «الزمخشرى» وجامع الأمثال العربية «الميدانى» ومؤلف كتاب الملل والنحل «الشهرستانى» وجماعة آخرون غير هؤلاء لا يتسع المقام لذكرهم وتعدادهم.
* * *
سنتحدث أولا على الوضع السياسى لإيران والبلاد المجاورة لها خلال هذا العصر
ووفقا للنهج الذى اتبعناه فيما سبق من فصول، سنتحدث أولا على الوضع السياسى لإيران والبلاد المجاورة لها خلال هذا العصر، حتى إذا فرغنا من ذلك انتقلنا إلى الحديث عن النواحى الأدبية والعلمية فيها، فنقول
أولاد ملكشاه
إنه عندما توفى «ملكشاه» كان له أربعة أولاد، هم:
1 - بركيارق: وكان فى الحادية عشرة أو الثانية عشرة من عمره
2 - محمد: ويصغر عن أخيه الأكبر بستة شهور.
3 - سنجر: وكان فى الثامنة من عمره
4 - محمود: وكان طفلا فى الرابعة من عمره(1/401)
1 «بركيارق»
وكان «بركيارق» عند وفاة أبيه فى بلدة أصفهان مع أمه «زبيدة» التى كانت هى أيضا تنتسب إلى أصل سلجوقى. أما «محمود» فكان مع أمه المتغطرسة الطامحة «تركان خاتون» فى «بغداد»، فحاولت هذه السيدة أن تنتهز فرصة وجودها فى دار الخلافة لتضمن الملك لابنها الصغير، ولم يشأ الخليفة «المقتدى» فى البداية أن يجاريها على ما تريد، ولكنه سرعان ما وافق على طلبها أمام إلحاح ابنه «جعفر» الذى رزقه من الأميرة «ماه ملك» أخت ملكشاه، وأمام ما بذلته له من هدايا ورشى للوصول إلى غايتها. فلما تم لها ذلك أرسلت الأمير «بغا» إلى أصفهان فبلغها بعد أسبوع واحد ليقبض على «بركيارق»، ولكن جماعة من أبناء «نظام الملك» استطاعوا عند ذلك أن ينقلوه خفية أثناء الليل من إصفهان إلى «ساوه» ثم إلى «آبه» ثم إلى «الرى» حيث نصبوه ملكا على عرش السلاجقه. وقالوا إنه لم يكن قد بلغ الثالثة عشرة من عمره عندما احتفلوا بتتويجه فأشفقوا أن يضعوا التاج الكبير على رأسه، وعلقوه من فوقه مخافة أن ينوء بحمله (1). وقد ترأس حفلات التتويج حاكم الرى المسمى «أبو مسلم» وأحاط بأبواب المدينة عشرون ألف جندى يحرسون ملكهم الصغير الجديد.
وفى هذه الأثناء كانت «تركان خاتون» قد احتلت أصفهان معتمدة على مناصرة «مجد الملك القمى» و «تاج الملك أبى الغنائم» والأمير «انروبلكا» وغيرهم من أعداء «نظام الملك» وقاتليه. وسار «بركيارق» بجيشه إلى «إصفهان» وشاء أن يحاصرها ولكنه عدل عن ذلك لقاء خمسمائة ألف دينار دفعت إليه لينفض عنها ويذهب إلى «همدان». ولكن سرعان ماتم ذلك حتى عادت «تركان خاتون» إلى تدبير المكائد ضده، فوعدت خاله «ملك إسماعيل» بأنها تقبل الزواج منه، ودفعته بذلك إلى محاربة «بركيارق» فى سنة 486هـ 1093م بالقرب من الكرج ولكن الهزيمة كانت من نصيب هذا الخال فدارت عليه الدائرة فى اليوم الثالث
__________
(1) أنظر «سيرة ابن هشام» طبع «وستنفلد» ص 42(1/402)
من فبراير سنة 1094م (487هـ) وأعلن «بركيارق» عند ذلك ملكا فى بغداد.
ولكنه لم يكد يتم له الأمر حتى ثار أحد أعمامه «تنش» (1) ثورة عنيفة تمكن بواسطتها من هزيمة «بركيارق» وأخذه أسيرا إلى مدينة «اصفهان» حيث استقبله أخوه الأصغر «محمود» استقبالا تبدو عليه مظاهر العطف وحسن المعامله، ولكنه فى الحقيقة لم يلبث أن وكل أمره إلى «انروبلكا» فأمر بحبسه فى «كوشك ميدان» وعزم على سمل عينيه حتى لا يكون أهلا بعد ذلك للمطالبة بالملك.
ومن حسن حظ «بركيارق» أن أخاه الأصغر «محمودا» مرض فى نفس الأسبوع بالجدرى ومات، فلم ينفذوا فيه هذه العقوبة الشنعاء التى دبرت له، واجتمع الأمراء عند ذلك ونصبوا «بركيارق» مرة أخرى على العرش، ثم ما لبثت «تركان خاتون» أن قلت فى خريف سنة 487هـ 1094م فصفا ل «بركيارق» الجو وسهلت أمامه الأمور.
ومرض «بركيارق» بعد ذلك بنفس المرض الذى أودى بأخيه، ويئسوا من برئه ولكن الله قدر له الشفاء فى النهاية. فلما كان العام التالى نهض لمحاربة عمه «تتش» واستطاع هزيمته وقتله.
وقتل فى هذه الأثناء أيضا عمه «أرسلان أرغون» وقد كان خارجا عليه. قتله أحد أتباعه فى مدينة «مرو»
ونجا «بركيارق» نفسه من القتل على يد أحد ملاحدة «ألموت». وبعد ذلك بفترة وجيزة نصب أخاه «سنجر» حاكما على خراسان فى سنة 490هـ 1096م ثم عاد إلى العراق.
فلما كانت سنة 493هـ 1099م ثار أخوه «محمد» ثورة عنيفة، ناصره فيها أكبر أولاد نظام الملك وأقدرهم «مؤيد الملك»، وكان «بركيارق» قد طرده من منصبه فاستحق بذلك خصومته العنيفة الدائمة. وقد كانت هذه الثورة من أعظم المخاطر التى تعرض لها «بركيارق» واستمرت الحرب دائرة بينه وبين أخيه، تهدأ أحيانا، وتشتد أحيانا أخرى، ويكسبها هذا أو ذاك حتى سنة
__________
(1) المترجم: بكتب هذا الاسم أحيانا هكذا «تكش»(1/403)
479 - هـ 1103م وقد وقعت بينهما خلال ذلك خمس معارك حامية، ثم اتفقا على الهدنة قبل موت «بركيارق» بسنة أو سنتين. وقد ارتكبت خلال هذه الحروب كثير من الفظائع والشنائع، فقد أسر «محمد» أم بركيارق المسماة «زبيدة» وأمر بخنقها فى سنة 493هـ 1099م وكانت فى الثالثة والأربعين من عمرها وثار الجند فأخذوا «مجد الملك القمى» الذى أصبح وزيرا ل «بركيارق» بعد «مؤيد الملك» ومزقوه إربا إربا بتهمة ميله إلى مذهب الملاحدة والحشاشين وأمر «بركيارق» بالقبض على «مؤيد الملك» ثم اغتاله غيلة شنعاء بقطع رأسه وفصلها عن جسده. وعقد الصلح بعد ذلك بين الأخوين فى سنة 497هـ 1103م. فلما بلغت هذه السنة نهايتها، أصيب «بركيارق» بالمرض الذى أودى بحياته فى مدينة «بروجرد»، وكان له من العمر خمس وعشرون سنة، وقد أوصى قبل وفاته بتنصيب ابنه الصغير «ملكشاه الثانى» ملكا على عرش السلاجقة، ولم يكن هذا الطفل قد بلغ الخامسة من عمره، فبقى على العرش بضعة أشهر ثم خلع عنه، وسملت عيناه كما كانوا يفعلون عادة فى هذا الوقت بكل من يريدون إقصاءه عن العرش.
2 - محمد بن ملكشاه:
وقد أصبح عند ذلك «محمد بن ملكشاه» الملقب ب «غياث الدين» الحاكم الذى لا ينازعه منازع فى ملك السلاجقة، فظل متربعا على العرش أكثر من ثلاث عشرة سنة من سنة (499إلى 512هـ 11181105م) وقد عمل بهمة خلال هذه المدة على مقاومة نفوذ «الحشاشين» المتزايد وسنتحدث بعد قليل عن تطور حركتهم وما أحدثوه من أمور خلال هذا العصر. وفيما عدا ذلك فقد امتاز حكم «محمد بن ملكشاه» بهدوء نسبى لم تتخلله إلا معركة موفقة، فاز فيها على الأمير العربى الكريم «صدقة بن مزيد» أمير الحلة فى سنة 502هـ 1108م وقد ذكر لنا «نظامى العروضى السمرقندى» حكاية غريبة تتعلق بهذه الموقعة فى المقالة التى خصصها للنجوم والمنجمين (1).
__________
(1) أنظر الحكاية التاسعة والعشرين من كتاب «چهار مقاله» وكذلك «مجلة الجمعية الأسيوية الملكية» سنة 1902م ص 605(1/404)
محمود بن محمد
وتولى الملك بعد محمد ابنه «محمود» وكان صبيا فى الرابعة عشرة من عمره، فحكم فترة وجيزة، أساء فيها الحكم (1)، ثم ساقه حمقه إلى محاربة عمه «سنجر» حاكم خراسان القوى. فوقعت الموقعة بينهما فى مدينة «ساوه» فى سنة 513هـ 1119م وأصابت الهزيمة محمودا، ولكن «سنجر» لم يعاقبه العقوبة المتعارف عليها فى هذه الأيام، وقبل شفاعة أمه، فعفا عن ابن أخيه المغلوب وتجاوز عن خطئه وحماقته، ونصبه واليا على العراق (2) ثم زوجه من ابنته «ماه ملك خاتون» فظل حاكما على العراق مدة السنوات الأربع عشرة التالية. ولكن هذه الأميرة سرعان ما اغتالها الموت، وكان «سنجر» يكن لها كثيرا من الحب، فحزن عليها حزنا شديدا، وظل فترة لا يتسلى بشىء عن ذكرها، وقد قيل إنه استدعى عند موتها الشاعر العجوز «عمعق البخارى» وطلب إليه أن ينظم الشعر فى رثائها (3)
3 - سنجر
بن ملكشاه
أعلن فى بغداد تنصيب «سنجر» ملكا على عرش السلاجقة فى السادس والعشرين من جمادى الأولى سنة 513هـ الموافق الرابع من سبتمبر سنة 1119م وقد ذكرنا فيما سبق أنه تولى قبل ذلك حكم خراسان مدة السنوات الأربع والعشرين الماضية. وقد كان حكمه على العموم موفقا ناجحا، لم تشبه إلا سحب قائمة، عكرت صفو سمائه فى
__________
(1) أنظر ص 124121من «البندارى» طبع «هوتسما» فقد ذكر الاتهامات العشرة التى وجهت إليه.
(2) أنظر تذكرة الشعراء ل «دولتشاه» ص 130حيث ذكرت هذه الحادثة بالتفصيل وقد تكون روايه دولتشاه خيالية فى بعض وقائعها. وقد نسبها إلى تاريخ يسبق الذى ذكرناه بأربع سنوات.
(3) المترجم: أنظر المرجع السابق ص 65حيث جعل مطلع مرثيته البيتين الآتيين:
هنگام آنكه گل دمد از صحن بوستان ... رفت آن گل شگفته ودر خاك شد نهان
هنگام آنكه شاخ شجر نم كشد ز ابر ... بى آب ماند نرگس آن تازه بوستان(1/405)
الأيام الأخيرة من حياته ويقترن باسمه وبقصره جماعة من كبار شعراء الفرس الذين عاشوا فى هذا العصر وأهمهم: «أنورى» و «المعزى» و «أديب صابر».
وقد ولد «سنجر» فى سنة 479هـ 1086م (1) فى مكان من آسيا الصغرى اسمه «سنجار» فنسب إليه (2) أما وفاته فكانت فى سنة 551هـ أو سنة 11571156552م وقد بلغ من العمر اثنتين وسبعين سنة قمرية وامتد حكمه كما يقول «الراوندى» إحدى وستين سنة، منها عشرون سنة تولى فيها حكم خراسان، وإحدى وأربعون سنة تولى فيها حكم العالم، وبمعنى آخر دولة السلاجقة.
أما الأحداث المؤلمة التى عكرت صفو أيامه الأخيره فقد بدأت بالثورة التى أعلنها ملك خوارزم «اتسز» وأعلن فيها استقلاله التام فى سنة 535هـ 1140م.
وفى السنة التالية قهره جماعة من كفار الأتراك وأخذوا زوجته أسيرة، وقتلوا من رجاله مائة ألف رجل، واستولوا منه على «مرو» و «سرخس» و «نيسابور» و «بيهق» فظلت هذه المدن فى أيديهم فترة من الزمان.
أما هزيمته المنكرة على أيدى «الأتراك الغز» فقد حدثت فى صيف سنة 548هـ 1153م فأغار هؤلاء القوم على «طوس» و «نيسابور» ونهبوهما، وقتلوا كثيرا من سكانهما، وذبحوا كثيرا من الرجال الذين اشتهروا بالفضل والصلاح.
وقد وقع «سنجر» نفسه أسيرا فى أيديهم، فعاملوه ظاهريا بشىء من الإجلال والإكرام، ولكنهم حظروا عليه حرية النقل ومنعوه من مساعدة رعاياه المنكوبين وأبقوه فى أسرهم حتى خريف سنة 551هـ 1156م. فاستطاع «المؤيد» وجماعة من خلصاء أتباعه السابقين أن يرشوا حراسه من «الغز» وأن ينجوه من
__________
(1) هذا التاريخ مذكور فى «ابن الأثير» وفى «راحة الصدور» أما البندارى فيذكر أن تاريخ ولادته هو سنة 472هـ 1079م.
(2) إذا تحرينا الدقة وجب علينا أن نقول إنهم اختاروا له هذا الاسم التركى لمقاربته ومشابهته لاسم المكان الذى ولد به، فكلمة «سنجر» التركية بمعنى «صقر» أو طائر من طيور الصيد، والمعروف عن الأتراك السلاجقة وغيرهم أنهم كانوا يسمون أولادهم بأسماء الحيوانات والطيور، فمثلا «طغرل» معناها الصقر أو الباز، و «أرسلان» معناها الأسد.(1/406)
الأسر وأن يبلغوه مدينة «مرو» سالما آمنا. وحاول «سنجر» فى هذه المدينة أن يجمع جيشا لينتقم به من «الغز» ولكن الأسى الذى أصاب قلبه، والخراب الذى أصاب بلاده، والشيخوخة التى هدمت شبابه، اجتمعت كلها فسببت موته فى الشهور القليلة التى أعقبت خلاصه. وقد دفن مع عمه «ألپ أرسلان» فى مدينة «مرو» فى البناء الذى بناه هنالك وأسماه «دولت خانه».
سلاجقه كرمان:
ويقترن الحديث عن هذا العصر الذى درسناه فى الصفحات السابقة باسم أربعة من سلاجقه كرمان هم:
1 - تورانشاه: المتوفى سنة 491هـ 1097م.
2 - إيرانشاه بن تورانشاه: المقتول فى سنة 495هـ 1101م. بتهمة ميله إلى مذهب «الإسماعيليه» أو «الملاحدة».
3 - أرسلانشاه: وهو ابن عم «إيرانشاه» وتوفى سنة 537هـ 1142م
4 - مغيث الدين محمد بن أرسلانشاه: وهو الذى اشتهر بأنه افتتح عصره بسمل أعين عشرين أميرا من أخوته وأبناء إخوته وقد توفى سنة 551هـ 1156م
الخلفاء العباسيون المعاصرون
مات «المقتدى» عند بداية هذا العصر فى سنة 478هـ 1094م ومات «المقتفى» قرب نهايته فى سنة 555هـ 1160م. أما الخلفاء الثلاثة الذين تولوا الخلافة فى الفترة الواقعة بين هذين الخليفتين فأولهم «المستظهر» وقد مات فى سنة 512هـ 1118م، وثانيهم «المسترشد» وثالثهم ابنه «الراشد». وقد قتل هذان الخليفتان على أيدى الإسماعيلية، وقيل إن «سنجر» هو الذى حرض على قتل «المسترشد» عندما كان أسيرا فى بلدة «المراغة» فى أيدى السلطان «مسعود السلجوقى» فقتلوه فى يوم الأحد السابع عشر من ذى القعدة سنة 530هـ الموافق التاسع والعشرين من شهر
أغسطس سنة 1135م. أما «الراشد» فقد خلعه السلطان «مسعود السلجوقى» وقتله بعد سنتين من خلعه فى أصفهان فى يوم الثلاثاء السابع من سنة 533هـ 1138م(1/407)
مات «المقتدى» عند بداية هذا العصر فى سنة 478هـ 1094م ومات «المقتفى» قرب نهايته فى سنة 555هـ 1160م. أما الخلفاء الثلاثة الذين تولوا الخلافة فى الفترة الواقعة بين هذين الخليفتين فأولهم «المستظهر» وقد مات فى سنة 512هـ 1118م، وثانيهم «المسترشد» وثالثهم ابنه «الراشد». وقد قتل هذان الخليفتان على أيدى الإسماعيلية، وقيل إن «سنجر» هو الذى حرض على قتل «المسترشد» عندما كان أسيرا فى بلدة «المراغة» فى أيدى السلطان «مسعود السلجوقى» فقتلوه فى يوم الأحد السابع عشر من ذى القعدة سنة 530هـ الموافق التاسع والعشرين من شهر
أغسطس سنة 1135م. أما «الراشد» فقد خلعه السلطان «مسعود السلجوقى» وقتله بعد سنتين من خلعه فى أصفهان فى يوم الثلاثاء السابع من سنة 533هـ 1138م
ويلاحظ أن الخلفاء العباسيين لم يكونوا فى هذا العصر أكثر من ألاعيب فى أيدى السلاجقة، وقد حكوا عن «المسترشد» إنه قال فى خطبة الجمعة فى «كرمانشاه» عند ما كان فى طريقه لمحاربة السلاجقة فى الحرب التى أودت بحياته، قال العبارة الآتية:
«فوضنا أمورنا إلى آل سلجوق، فبرزوا علينا، فطال عليهم الأمد، فقست قلوبهم، وكثر منهم الفاسقون» (1)
الغوربون والغزنويون:
أما الغزنويون فقد خبا نجمهم منذ أمد بعيد، ثم استؤصلت شأفتهم فى النصف الأخير من هذا العصر الذى ندرسه، على أيدى «ملوك جبال الغور» هؤلاء المحاربين الأشداء من الأفغانيين الذين يعيشون فى «فيروزكوه».
وكان يتولى ملك الغزنويين فى بداية هذا العصر ملكهم «ابراهيم». وقد وردت عنه فى كتاب «سياست نامه» حكاية تدل على ما امتاز به من قوة شخصية وعلو همة (2).
فقد حكوا: إن مدينة «غزنه» أقفرت فى وقت من الأوقات من الخبز، فأغلق الخبازون حوانيتهم، وشكا الفقراء والغرباء شدة الضائقة لملكهم، فأمر باستدعاء الخبازين وسألهم عن السبب الذى أدى إلى نقص الخبز فى المدينة، فأخبروه بأن خبازه الخاص يجمع كل ما يوجد من قمح ودقيق حتى يرتفع سعرهما. فلما علم السلطان بذلك أمر رجاله أن يلقوا بخبازه الخاص تحت أقدام الفيلة، فلما مات ربطوه على أنياب فيل منها وطافوا به على هذه الصورة فى أنحاء البلدة، وأخذ المنادى ينادى بأن هذا المصير سيكون نصيب كل خباز لا يبادر بفتح حانوته، فما حانت صلاة العشاء
__________
(1) إرجع إلى الحكاية السابعة من كتاب «چهار مقاله».
(2) أنظر ص 42من كتاب «سياست نامه» طبع شيفر سنة 1891م.(1/408)
حتى كان كل حانوت من حوانيت الخبازين يعرض على بابه خمسين منا من الخبز لا تجد من يشتريها!!
وقد مات السلطان إبراهيم الغزنوى فى سنة 493هـ 1099م، فخلفه ابنه «مسعود الثالث» فبقى على العرش حتى مات سنة 508هـ 1114م وتبعه على العرش ثلاثة من أولاده على التعاقب هم: «شيرزاد» المتوفى سنة 509هـ 1115م ثم «أرسلان» ثم «بهرامشاه»! وقد أمر هذا الأخير بخنق أخيه «أرسلان» فى سنة 1118م واستولى بذلك على العرش لنفسه وظل متربعا عليه حتى نهاية هذا العصر الذى ندرسه أى حتى سنة 547هـ 1152م
ويقترن اسم «بهرامشاه» عادة باسم الشاعر الأول من كبار شعراء الصوفية فى إيران وأعنى به «سنائى» مؤلف «حديقة الحقائق» فى سنة 526هـ 1131م
وقد انتهى حكم «بهرامشاه» بنكبة كبيرة، ففى خريف سنة 530هـ 1135م اتهمه «سنجر» بالخيانة فسار إليه بجيشه، واضطره إلى الخضوع ودفع الجزية، وظل «سنجر» فى غزنه بضعة شهور ثم عاد فى صيف السنة التالية إلى بلخ (1)
وبعد اثنتى عشرة سنة من هذا التاريخ رأى «بهرامشاه» أن يقتل صهره «قطب الدين محمد» من أمراء الغور، فلما فعل ذلك أسرع أخوا القتيل «علاء الدين حسين» و «سيف الدين سورى» إلى الثأر لأخيهما وتمكنا فى سنة 543هـ 1148م من طرد «بهرامشاه» من مدينة «غزنه» حيث نصب «سيف الدين» نفسه حاكما على هذه المدينة من قبل أخيه «علاء الدين» ولكن سرعان ما أقبل الشتاء وأغلقت الطرق بالثلوج المتراكمة عليها، حتى دبرت المكائد ضده واستدعى الثائرون «بهرامشاه» ونصبوه على غزنه ثانية، وقبضوا على «سيف الدين» وطافوا به فى هذه المدينة راكبا على بغل وقد لطخوا وجهه بالسواد، ثم أخذوه فشنقوه وصلبوه، وقد كان من نتيجة هذه الفعلة الشنعاء أن انتقم «علاء الدين حسين»
__________
(1) أما الجوينى فيروى فى كتابه «تاريخ جهانگشا» أن «بهرامشاه» فر من أمام سنجر، ويقول إن هذا الملك السلجوقى أشار عند فراره إلى رجاله وقال عبارته المشهورة: «هذا ظهر مدبر ليس له وجه يبدو بعد الآن!!»(1/409)
لنفسه انتقاما شنيعا فى سنة 550هـ 1115م أى بعد ثلاث سنوات من موت «بهرامشاه» وتولية ابنه «خسرو شاه» فأقبل هذا الغورى الكاسر على مدينة «غزنه» وأنزل سخطه ثلاثة أيام متوالية على أهلها المتعجرفين بحيث لقبوه بلقب «جهان سوز» أى «محرق العالم»
ومع ذلك، يجب علينا أن نلاحظ مدى التقدير الذى كان الأدب يفوز به فى هذه الأيام. فقد روى لنا صاحب چهار مقاله: «إن علاء الدين حسين عندما أغار على غزنه وأخذ يحطم جميع المبانى والمنشآت التى أنشأها محمود ومسعود وابراهيم، أخذ فى نفس الوقت يشترى القصائد التى قالها الشعراء فى مدحهم ثم يأمر بوضعها فى مكتبته الخاصة. ولم يعد أحد من الجند أو سكان المدينة يجرؤ على أن يلقبهم بألقاب السلاطين مع أن علاء الدين نفسه كان يقرأ ال «شاهنامه» حيث قال الفردوسى فى مدح السلطان محمود (1):
عند ما تفطم شفاه الصبى عن لبن والدته
فإن أول ما ينطق به فى المهد هو لفظ «محمود» يجرى على شفته
ومحمود فيل بجسده وهو جبريل بروحه
وهو كالمزن بكفه وهو كنهر النيل بقلبه
وهو الحاكم والملك القادر الكبير الشان
الذى جعل «الشاة» تستقى مع «الذئب» من حوض واحد فى أمان!
ملوك خوارزم أو الخوارزمشاه:
هؤلاء الملوك أهم أثرا وأبلغ دلالة فى تاريخ إيران من دولتى الغزنويين والغوريين.
وهم يعرفون باسم ال «خوارزمشاه» أو «ملوك خيوه» وأول ملوكهم هو «أنوشتگين» وكان يشتغل ساقيا للسلطان «ملكشاه» السلجوقى وقد بدأ ملكه فى سنة
__________
(1) المترجم: فيما يلى أصل هذه الأبيات بالفارسية:
چوكودك لب از شير مادر بشست ... ز گهواره محمود گويد نخست
بتن زنده پيل وبجان جبرئيل ... بكف ابر بهمن بدل رود نيل
جهاندار محمود شاه بزرگ ... بآبشخور آرد همى ميش وگرگ(1/410)
470 - هـ 1077م (1) ثم استطاع خلفاؤه بعد ذلك التخلص من كل صلة لهم بملوكهم الأقدمين من السلاجقه، وظلوا يحكمون حتى انتهى أمرهم بالبطل الشجاع «جلال الدين المنكبرنى» آخر بطل إسلامى صمد فى وجه الجموع الفاتكه من جيوش المغول الكافرة من سنة 617هـ إلى سنة 629هـ 12311220م.
وقد بدأت قوة هذه الدولة فى العلو والارتفاع سنة 521هـ 1127م عندما تولى عرشها الملك الماهر الطموح «اتسز»، فلما شاعت الشائعات عن أطماعه وبلغت آذان «سنجر» اضطر إلى أن يوجه جيوشه إلى خوارزم لمحاربته هنا لك فى سنة 533هـ 1138م.
وقد استطاع «سنجر» فى هذه المرة أن يهزم «أتسز» هزيمة كبيرة، كلفته كثيرا من الخسائر، كان من جملتها ابنه الذى فقده فى هذه الموقعة وعز خطبه فيه (2)، وكان من نتيجة هذه الموقعة أن استولى «سنجر» على «خوارزم» وأقطعها من قبله لابن أخيه «غياث الدين سليمان شاه» ولكن لم يلبث أن عاد «سنجر» إلى «مرو» حتى عاد «أتسز» واستولى على عاصمته، ثم دبر الثأر لنفسه من «سنجر».
بأن حرض عليه الكفرة من الأتراك «الخطائين» فهاجموه وهزموه هزيمة منكرة فى صيف سنة 536هـ 1141م، وقتلوا مائة ألف من جنده وأخذوا زوجته أسيرة فى أيديهم واضطروه إلى الهرب إلى «ترمذ» و «بلخ».
وفى هذه الأثناء أعلن «اتسز» استقلاله، ثم تقدم إلى مدينة «مرو» فاحتلها، وأسر جملة من أفاضل رجالها، كان من بينهم الفقيه «أبو الفضل الكرمانى» (3).
__________
(1) يقول «الجوينى» فى كتابه «جهان گشا» إنه كان متعارفا لدى السلاجقه أن يكافئوا أتباعهم من السقاة والحجاب وحراس الملابس الخاصة بإقطاعات من الأرض
(2) يقول «الجوينى» إن اسمه «إيلبغ» وروى أنهم عندما قبضوا عليه أحضروه إلى «سنجر» فأمر بقطع جسده بمنشار فشقوه إلى نصفين
(3) يبدو مما رواه ابن الأثير فى أخبار سنة 536هـ أن «أتسز» لم يكن ينوى التعرض لمدينة «مرو» كما فعل بمدينة «سرخس» ولكنه اضطر فى نهاية سنة 536هـ 1141م إلى مهاجمتها وإنزال البلاء بها عند ما علم بقتل جماعة من أتباعه.(1/411)
وكانت هذه الموقعة كما يقول «ابن الأثير» أول موقعة خسرها «سنجر» وقد رأينا أنها كانت فاتحة لسلسلة أخرى من النكبات المتلاحقة.
وتمكن «أتسز» بعد ذلك من احتلا مدينة «نيسابور» وظل بها فترة لم يتعرض لها بشىء من السوء، وأمر بحذف اسم «سنجر» من الخطبة فحذفوها ثلاثة أشهر من صيف سنة 537هـ 1142م. وبعد ذلك بما يقرب من سنة واحدة حاول «سنجر» محاصرة «خوارزم» ولكنه عجز عن ذلك فقبل الصلح مع «أتسز». ثم مات «أتسز» عقب ذلك فى التاسع من جمادى الآخر سنة 551هـ الموافق 30يوليه سنة 1156م قبل موت خصمه «سنجر» بفترة وجيزة (1).
شعراء سنجر وأتسز:
ويقترن باسمى «سنجر» و «أتسز» ولا يكاد ينفصل عنهما، أسماء أربعة من كبار الشعراء الإيرانيين، سندرس آثارهم بعد قليل وهم:
1 - معزى
2 - أنورى
3 - أديب صابر
4 - رشيد الدين الوطواط
أما «المعزى»
فكان شاعر السلطان «سنجر» وكذلك كان من قبله، أبوه «برهانى». وقد فاز بمكانة عالية جعلت الخطب فيه عظيما عند ما قتل على يد مولاه بواسطة سهم أخطأ الهدف وأصابه فى مقتل سنة 542هـ 1147م.
«الأديب صابر»
وربما كانت وفاة «الأديب صابر» أكثر إيلاما فقد روى دولتشاه (2) إن سنجر أرسله إلى خوارزم ليتجسس على «أتسز» أو كما قال «الجوينى» فى كتابه تاريخ «جهان گشا» ليكون سفيرا له لدى ملك خوارزم. وكان «أتسز» قد استأجر اثنين من الملاحدة وأمرهما بالذهاب إلى مرو وقتل السلطان سنجر. فكتب «الأديب صابر» يخبر مولاه بذلك النبأ، وضمن رسالته وصفا دقيقا لهذين الرجلين وحملت هذه الرسالة امرأة عجوز، سارت بها إلى «مرو» وقد أخفتها فى حذائها. فلما بلغت «سنجر» هذه الرسالة
__________
(1) المترجم: مات «سنجر» فى ربيع الأول سنة 552هـ
(2) أنظر: «تذكرة الشعراء» ص 93(1/412)
تعرف على الرجلين وأعدمهما فلما علم «أتسز» بذلك أمر رجاله أن يقيدوا «الأديب صابر»، فربطوا يديه وقدميه بالسلاسل والقيود ثم أغرقوه فى نهر جيحون. وقد أخبرنا «دولتشاه» أن هذه الحادثة وقعت فى سنة 546هـ 1151م، ولكن صاحب تاريخ «جهان گشا» وهو أصدق منه، أخبرنا أنها وقعت قبيل سنة 542هـ 1147م، ويرى «إتيه» وربما كان محقا فيما يراه أنها وقعت سنة 538هـ 1143م.
«الأنورى» و «رشيد الدين الوطواط»
وسأكتفى فيما يتعلق ب «الأنورى» و «رشيد الدين الوطواط» (1) بأن أذكر عنهما فى هذا المكان ما يتعلق بأخبارهما بصدد المعارك التى تحدثنا عنها فيما سبق.
والمعروف أن «الوطواط» كان كاتبا للسلطان «أتسز» كما كان شاعره الخاص.
وقد أثار نقمة «سنجر» عندما كتب قصيدته التى مطلعها.
چون ملك أتسز بتخت ملك برآمد
دولت سلجوق وآل او بسرآمد
ومعناه:
عند ما ارتقى الملك «أتسز» عرش الملك، انتهى أمر دولة سلجوق وآله!!
فلما كان «سنجر» فى خريف سنة 542هـ 1147م يحاصر «أتسز» فى قلعة «هزار اسب» أمر شاعره «الأنورى» وكان يصحبه ويرافقه، أن ينشىء بضعة أبيات لكى يكتبها على سهم من سهامه، يقذف به إلى داخل المدينة المحاصرة فكتب «الأنورى» هذه الرباعية:
أى شاه! همه ملك زمين حسب تراست
واز دولت واقبال جهان كسب تراست
امروز بيك حمله «هزار اسب» بگير
فردا «خوارزم» وصد «هزاراسب» تراست!!
__________
(1) سمى كذلك لضآلة جسده ونحافته.(1/413)
ومعناها:
أيها المليك! إن ملك العالمين رهن لإشارتك
والعالم كسب لك بفضل إقبال حظك ودولتك
فخذ اليوم بحملة واحدة قلعة «هزار اسب»
وغدا تكون لك «خوارزم» ومائة «هزار اسب» (1)!!
وليس فى هذه الرباعية شىء يستحق الذكر إلا اللعب على لفظ «هزار اسب» وقد أجاب عليها «الوطواط» بالبيت التالى فكتبوه على سهم وقذفوا به إلى سنجر (2):
گر خصم تو اى شاه شود رستم گرد ... يك خر ز هزار اسب تو نتواند برد
ومعناه:
فلو قدر وصار خصمك هو البطل المعروف «رستم»
فإنه لن يستطيع أن يأخذ حمارا واحدا من جيادك الألف: «هزار اسب» (3)
وسعى «سنجر» عند ذلك سعيا حثيثا إلى القبض على «الوطواط» حتى تمكن فى النهاية من ذلك، فأمر رجاله بأن يقطعوه إلى سبعة أجزاء. ويقول راوى هذه الحكاية وهو «منتخب الدين بديع الكاتب (4)» أحد أجداد «الجوينى» مؤلف.
«تاريخ جهانگشا» إن الوطواط استطاع أن يهدىء ثائرة السلطان وأن يضحكه
__________
(1) هذه الكلمة مركبة من «هزار» بمعنى ألف و «اسب» بمعنى حصان، وعلى ذلك فمعناها «ألف جواد».
(2) يبدو أن قذف السهام المزودة بالرسالات المنقوشة عليها كان عادة قديمة متبعة فى إيران فيقذفون بها إلى داخل المدن المحاصرة او إلى خارجها.
أنظر ما كتبه نولدكه بعنوان «تاريخ اردشير بن پاپك»
. 1879،
(3) المترجم: «هزار اسب» كما أنها اسم مكان فإن معناها فى الفارسية أيضا «ألف جواد».
(4) المترجم: اسمه «منتجب الدين» بالجيم وليس «منتخب الدين» بالخاء. وهو خال للجد الأعلى لعطا ملك الجوينى.
وترجمة حياته موجودة فى «لباب الالباب» لمحمد عوفى ج 1ص 78.(1/414)
عند ما التفت إليه وقال: «لدى رجاء يا مولاى وهو أن الوطواط طائر هزيل لا يحتمل جسده أن يمزق إلى سبعة أجزاء، فهل لك أن تكتفى بتمزيقه إلى نصفين!!».
وبهذه الوسيلة استطاع الوطواط أن يحصل على عفو «سنجر» لأنه تمكن من إضحاكه!!
الاسماعيلية في ألموت أو الحشاشون:
«الحسن بن الصباح» وحياته
فإذا رجعنا الآن لاستعراض الأحوال السياسية فى إيران فى هذه الفترة، فإنه يتبغى علينا أن ندرس أحوال طائفة أخرى من الناس، لم يقدر لهم أن يبلغوا مبلغ الدولة السلجوقية، ولكنهم كانوا من حيث اتساع نفوذهم ورهبة جانبهم أقوى من السلاجقة والغزنويين والغوريين والخوارزمشاهيين، ونقصد بهم جماعة الحشاشين أو الاسماعيلية فى «ألموت». وقد وصفنا فى فصل سابق الظروف التى أدت إلى نشأة هذه الطائفة فى إيران وما أصابها من تغيير بسبب «الدعوة الجديدة» التى تولاها «الحسن بن الصباح». وقد كان هذا الزعيم المخيف حيا على أيام «سنجر» لأنه لم يمت إلا فى سنة 518هـ 1124م وقد ظل سنوات طويلة لا يخرج من قلعة «ألموت» بل لا يغادر منزله الخاص، ومع ذلك فقد بلغت سطوته أرجاء العالم وأصبح اسمه مرهوبا فى الأنحاء الغربية من آسيا، وكان بالغ القسوة فى حياته أدى به ذلك إلى إعدام ولديه بتهمة الزناء واحتساء الخمر، ثم عين واحدا من أتباعه ليخلفه فى رئاسة هذه الطائفة وهو «كيا بزرگ اميد» فلما مات هذا الأخير فى سنة 532هـ 1137م خلفه ابنه «محمد» الذى توفى فى سنة 558هـ 1162م.
بيان قليل من نجاحات هذه الطائفة
ومن العبث، بل من المستحيل فى هذا الأثر تفصيل الحديث عن تاريخ «الحشاشين» أو «الاسماعيلية فى ألموت» فى هذه الفترة التى ندرسها، ولكن يجب علينا أن نعترف بأن هذه الطائفة أصبحت من أقوى العوامل المميزة لهذا العصر، بحيث نجد لزاما علينا أن نبين فى هذا المجال بعض نواحى نشاطهم لكى نتمكن من تصوير هذا العصر على حقيقته، وقد أورد «ابن الأثير» ذكر هذه الطائفة المخيفة
فى كل سنة تقريبا من السنين التى تحدث عنها فى موسوعته التاريخية، ومن المحقق أنهم قد فصموا كل علاقة تربطهم بالشعبة الأساسية فى مصر وشمال إفريقيا عندما أدركت الوفاة الخليفة الفاطمى «المستنصر» وأنهم بدأوا قوتهم السياسية بالاستيلاء على القلعة الجبلية الحصينة «ألموت» (1) فى سنة 483هـ 1090م. ومن عجيب المصادفات التى تنبه إلى ملاحظتها أغلب مؤرخى الفرس فى هذه الفترة، أن هذا التاريخ يتفق مع القيمة العددية التى تدل عليها الحروف التى تتركب منها هذه الكلمة.(1/415)
ومن العبث، بل من المستحيل فى هذا الأثر تفصيل الحديث عن تاريخ «الحشاشين» أو «الاسماعيلية فى ألموت» فى هذه الفترة التى ندرسها، ولكن يجب علينا أن نعترف بأن هذه الطائفة أصبحت من أقوى العوامل المميزة لهذا العصر، بحيث نجد لزاما علينا أن نبين فى هذا المجال بعض نواحى نشاطهم لكى نتمكن من تصوير هذا العصر على حقيقته، وقد أورد «ابن الأثير» ذكر هذه الطائفة المخيفة
فى كل سنة تقريبا من السنين التى تحدث عنها فى موسوعته التاريخية، ومن المحقق أنهم قد فصموا كل علاقة تربطهم بالشعبة الأساسية فى مصر وشمال إفريقيا عندما أدركت الوفاة الخليفة الفاطمى «المستنصر» وأنهم بدأوا قوتهم السياسية بالاستيلاء على القلعة الجبلية الحصينة «ألموت» (1) فى سنة 483هـ 1090م. ومن عجيب المصادفات التى تنبه إلى ملاحظتها أغلب مؤرخى الفرس فى هذه الفترة، أن هذا التاريخ يتفق مع القيمة العددية التى تدل عليها الحروف التى تتركب منها هذه الكلمة.
وكان أول حدث سياسى أحدثوه هو أنهم تمكنوا بعد ذلك بعامين من قتل «نظام الملك»، ثم تتالت بعد ذلك الأحداث على فترات قصيرة، فقتلوا وزير والدة «بركيارق» المسمى «عبد الرحمن السميرامى» فى سنة 491هـ 1097م (2)، ثم «أنروبلكا» فى سنة 494هـ 1100م ثم «جناح الدولة» فى مسجد حمص فى سنة 496هـ 1102م ثم القاضى «أبا العلاء سعيد النيسابورى» فى سنة 499هـ 1105م، ثم «فخر الملك» وهو من أبناء «نظام الملك» فى سنة 500هـ 1106، ثم القاضيين فى إصفهان ونيسابور، ثم «عبد الواحد الرويانى» فى طبرستان سنة 502هـ 1108م ثم «مودود» فى مسجد دمشق سنة 507هـ 1113م و «أحمد ابن وهسودان» فى بغداد سنة 510هـ 1116م ثم القاضى «سعد الهروى» فى همدان سنة 519هـ 1125م، ثم «عبد اللطيف بن الخجندى» فى سنة 524هـ 1129م ثم الخليفة الفاطمى «الآمر بأمر الله» فى سنة 525هـ 1130م ثم «أبا على بن أفضل» وزير الخليفة «الحافظ» وابن عمه فى سنة 527هـ 1132م ثم الخليفة العباسى المسترشد فى سنة 530هـ 1135م ثم ابنه وخليفته «الراشد» فى سنة 532هـ 1137م ثم أحد خواص أتباع سنجر المسمى «جوهر» فى سنة 534هـ 1139م هذا بالإضافة إلى عدد كبير آخر من الرجال الذين لا يبلغون مبلغ هؤلاء أهمية وخطرا.
__________
(1) هذه الكلمة مكونة من «آله آموت» بمعنى «تعليم العقاب»
(2) يحوط هذا التاريخ بعض الشك، وتشير بعض المراجع إلى أن هذه الحادثة وقعت فى سنة 516هـ 1122م(1/416)
وقد استتبعت هذه الاغتيالات بالضرورة سلسلة من سلاسل الأخذ بالثأر، قام بها أهل السنة، فنقرأ فى كتب التاريخ عن «اضطهاد الملاحدة والمفكرين الأحرار» فى مدينة نيسابور فى سنة 490هـ 1096م. ثم عن «مذبحة الباطنية» التى أمر بها «بركيارق» فى سنة 495هـ 1111م، وعن صلب الوزير «سعد الملك» وأربعة من الباطنية، وعن الزعيم الأثيم «ابن عطاش» وبعض أتباعه فى سنة 500هـ 1106م. وعن المذبحة التى قتل فيها سبعمائة من الباطنية فى مدينة «آمد» فى سنة 518هـ 1124م ثم عن مذبحة أخرى أكبر وأهم وهى المذبحة التى أمر بها «سنجر» فى سنة 521هـ 1127م لينتقم بها لمقتل وزيره «معين الملك»، ثم عن مقتل «عباس الرازى» فى سنة 541هـ 1146م وكان من ألد أعدائهم، واعتاد أن يبنى الأهرامات من جماجمهم.
وقد أشرنا فيما سبق، إلى أن الحروب الأهلية التى كثرت فى الفترة الأولى من هذا العصر قد ساعدت «الحشاشين» كثيرا على تثبيت أقدامهم وتقوية نفوذهم، ولولاها لما استطاعوا أن يصلوا إلى ذلك بأية طريقة من الطرق، وقد اتهم «بركيارق» بالعطف عليهم، أو على الأقل بالتسامح الشديد معهم، لقاء أن يمدوه بمعونتهم أو يقفوا موقف المحايد منه، ويروى «ابن الأثير» فى أخبار سنة 494هـ 1100م أنه عندما أسر «مؤيد الملك بن نظام الملك» سبه «بركيارق» لانتسابه إلى مذهب الباطنية ثم قتله بيده (1). وفى نفس السنة سار «بركيارق» لمحاربة أخويه «سنجر» و «محمد» عند بغداد، فلما تلاقى الجيشان المتحاربان بحذاء دجلة، أخذ أعداؤه يشنعون عليه بميله إلى الباطنية ويكبرون عليه ويقولون: «يا باطنية!!» وربما كان المقصود من المذبحة التى أمر بإجرائها على الباطنية فى هذه السنة، هو أن يزيل من عقول رعاياه هذه الفكرة الخطيرة التى تعلقت به والتى كانت كافية لقتله أو عزله كما حدث تماما ل «أحمد خان» حاكم سمرقند، و «إيرانشاه» أمير كرمان السلجوقى، فإنهما مع جماعة آخرين من الوزراء ورجال السياسة مثل «مجد
__________
(1) يروى «راحة الصدور» هذه الحادثة بشكل آخر. انظر المقال المنشور فى «مجلة الجمعية الملكية الأسيوية» سنة 1902ص 604603.(1/417)
الملك» قد انتهوا إلى هذه النهاية المؤلمة بسبب اتهامهم بالعطف على الملاحدة، وقد ساد الخوف جميع الناس، وأصبح من الأمور العادية أن يلبس من يخشى نقمة الحشاشين درعا تحت ثيابه كما كان يفعل «بلكا» حتى إذا قدر عليه ونسى فى يوم من الأيام أن يتخذ هذه الحيطة التى اعتادها، فقد حياته لقاء إهماله وتهاونه.
وكان الفدائيون من الحشاشين، إذا قبض عليهم وحكم عليهم بالتعذيب والإعدام، لا يعدمون حيلة فى الثأر من أعدائهم، كما فعل قاتل «فخر الملك»، فإنهم حينما أحضروه أمام «سنجر» وأخذوا يستجوبونه عن فعلته أعلن أن جماعة من الأمراء وضباط القصر كانوا شركاءه، فأمر سنجر بإعدامهم جميعا، وربما كانوا أبرياء من هذه التهمة (1).
تخريب حصن «شاه دژ» بالقرب من أصفهان
ومن أعجب الأحداث المتصلة بتاريخ هذه الطائفة المخيفة من الملاحدة، أحداث رواها بالتفصيل صاحب «راحة الصدور» وكذلك «ابن الأثير» وأقصد بها الحوادث التى وقعت فى ربيع سنة 501هـ 1107م وانتهت بتخريب حصن الحشاشين الحصين «شاه دژ» أو «دژكوه» بالقرب من أصفهان وصلب «ابن عطاش» وقتل عدد كبير من أتباعه ووالد «أحمد بن عطاش» الذى نشير إليه هو «عبد الملك بن عطاش» وكان رجلا أديبا من أهل الفضل يقيم فى «أصفهان» اتهموه بالعطف على الشيعة فاضطر إلى الهرب إلى مدينة «الرى» حيث وقع تحت تأثير «الحسن بن الصباح» ودخل فى مذهبه (2)، وقد كتب فى هذه الأثناء إلى واحد من أصدقائه فكان مما جاء فى رسالته: «لقد وقعت على الصقر الأشهب فعوضنى الله بذلك جميع ما تركت» وقد اشتغل ابنه بتجارة الكتان، وكان شديد الكراهية لمذهب أبيه فى الإلحاد، فاستطاع بذلك أن ينجو من كل شر وسوء.
وكان بالقرب من أصفهان قلعة اسمها «دژكوه» بناها «ملكشاه» وأسماها «شاه دژ» أى «قلعة الملك» وكانت هذه القلعة تحتوى على خزائن الملك وأسلحة الجيوش وكان يقيم بها جماعة من غلمان القصر ووصيفاته، تتولى حراستهم سرية من
__________
(1) المترجم: انظر تفصيل ذلك فى حوادث سنة خمسمائة فى تاريخ الكامل لابن الأثير
(2) أما ابن الأثير وجماعة آخرون من المؤرخين فيقولون إنه كان استاذا للحسن بن الصباح وليس تلميذا من تلاميذه.(1/418)
الجند الديلميين، فكان «ابن عطاش» يذهب إلى هذه القلعة بحجة التدريس لهؤلاء الشبان والشابات حتى استطاع تدريجيا بواسطة الهدايا والأقوال المعسولة أن يستميل رجال الحامية إلى جانبه. ثم أسس بعد ذلك دارا للدعاية فى مكان اسمه «دشت گور» شديد القرب من أبواب المدنية، ونجح فى دعوته نجاحا باهرا، حتى بلغ عدد أتباعه ومريديه ثلاثين ألفا كما يقول مؤرخنا المذكور.
وبدأ الرعب فى هذا الوقت يستولى على أهل «اصفهان» بسبب ما كان يتكرر وقوعه يوميا من اختفاء مواطنيهم وأهليهم. ثم ما لبث القناع أن تكشف عن هذه الجرائم الغامضة على يد سائلة عجوز، تقدمت إلى أحد المنازل تطلب إحسانا، فسمعت أصوات عويل وأنين تنبعث من داخله، فظنت أن بالمنزل مريضا وأخذت تدعوا الله أن يأخذ بيده ويشفيه. وحاول سكان المنزل أن يستدرجوها إلى الدخول ليعطوها طعاما وقوتا، ولكنها شكت فى نواياهم وأسلمت أرجلها للفرار، وأخذت تستغيث بمن صادفها.
والتف حولها خلق كثيرون، وأحاطوا بالمنزل، ثم كسروا بابه ودخلوه، فوجدوا فى سراديبه منظرا مرعبا، يتألف من أربعمائة أو خمسمائة جثة من الجثث، بعضهم مصلوب على الجدران، وبعضهم ذبيح على الأرض، وبعضهم ما زال يجود بأنفاسه الأخيرة، وبين هؤلاء وهؤلاء جماعة استطاع الناس أن يتعرفوا عليهم ويقرروا أنهم من أصدقائهم الذين فقدوهم أخيرا. وقد تبين أن هذا المنزل مملوك لرجل اسمه «علوى المدنى» وأنه كان ندوة للحشاشين، وكان من دأب هذا الرجل أن يستند إلى إلى عصاه، ويقف عند المغرب على باب الدرب المظلم الطويل الذى يؤدى إلى داره، فإذا اجتاز به إنسان أخذ يدعو الله أن يغفر لمن يأخذ بيد الضرير الفقير ويقوده إلى باب داره فى هذا الدرب! فإذا استجاب لدعائه واحد من الضحايا الآمنين وأخذ بيده انتهى أمره إلى الموت، لأنه متى وصل به إلى نهاية الدرب انقض عليه جماعة من أتباع هذا الضرير، وأخذوه فطرحوه فى سراديب الدار حتى يقضى عليه بالموت.
وقد استمر الحال على هذا المنوال بضعة شهور قبل أن تتجلى حقيقته المفزعة على هذه الصورة التى بيناها. وكان من الطبيعى أن يتلو ذلك انتقام سريع، فتصدى الناس
له، وأوقدوا نارا كبيرة فى سوق المدينة، ثم طرحوا فيها «علوى المدنى» وامرأته وجماعة آخرين من شركائه.(1/419)
وقد استمر الحال على هذا المنوال بضعة شهور قبل أن تتجلى حقيقته المفزعة على هذه الصورة التى بيناها. وكان من الطبيعى أن يتلو ذلك انتقام سريع، فتصدى الناس
له، وأوقدوا نارا كبيرة فى سوق المدينة، ثم طرحوا فيها «علوى المدنى» وامرأته وجماعة آخرين من شركائه.
وكثر عند ذلك الشك، وبالغ الناس فى الريبة، فكان ممن شكوا فى أمره الوزير «سعد الملك» ولكن السلطان كان يقرب هذا الوزير، فأبى فى البداية أن يصدق الناس فيما اتهموه به. وكانت قلعة «دژكوه» محاصرة فى هذه الفترة، وكادت موارد «ابن عطاش» أن تنضب، فأرسل سرا إلى «سعد الملك» يبلغه أنه لا قبل له بالمقاومة أكثر من ذلك ويقترح عليه التسليم والخضوع. ولكن «سعد الملك» أجابه برسالة فحواها: «اصبر أسبوعا آخر حتى أهلك هذا الكلب» قاصدا بذلك السلطان نفسه وكان يعلم أن السلطان يحتجم مرة فى كل شهر، فأفلح فى رشوة الحلاق حتى يسمم موساه، ويهلكه بهذه الوسيلة الخافية.
ولكن غلامه أبلغ أمر هذه الخطة الماكرة إلى زوجته الجميلة التى كان يقاسمها أسراره، وأبلغتها هذه بدورها إلى عاشقها، فنقلها العشق إلى مسامع أحد ضباط «شرف الملك» ثم نقلها هذا فى النهاية إلى مسامع السلطان. فأمر السلطان باستدعاء الحلاق فلما أحضروه أمر به فجرحوه بموساه، ونفذ السم فيه، وظهر تأثيره، فاسود جلده، ومات بسرعة، وهو يتلوى من الوجع والألم الشديدين.
عند ذلك فقط صدق السلطان التهمة المنسوبة إلى وزيره، وأمر بصلبه وصلب أربعة من أعيان أصحابه كان من بينهم: «أبو العلا المفضل». ولم يلبث أن انقضى على ذلك يومان حتى سلم «ابن عطاش» قلعة «دژكوه». وأمر السلطان فأركبوه جملا. وطافوا به فى شوارع «اصفهان» وشهر به بين آلاف المتفرجين، فقذفوه بالوحل والقاذورات، وغاظوه بأغنياتهم الساخرة، وبقيت من هذه الأغانى مقطوعة منظومة فى لهجة محلية نقلها كتاب «راحة الصدور»، ثم علقوه مصلوبا مدة سبعة أيام كاملة.
وأخذوا يرشقونه بالسهام والحراب وهو مصلوب لا يستطيع الحركة أو الدفاع عن نفسه، حتى إذا لم يبق فى جسده موضع لرشقة أو رمية، أخذوه وأحرقوه حتى استحال رمادا ذاريا. وكان «ابن عطاش» يدعى الخبرة بأحكام النجوم فتقدم إليه وهو مصلوب واحد من النظارة، وسأله هل استطاع أن يتنبأ بمصيره بفضل علمه من أحكام النجوم؟ فأجاب «ابن عطاش» بقوله: «لقد عرفت من طالعى أننى سأطوف شوارع»
أصفهان فى أبهة تفوق مواكب الملوك، ولكنى لم أتخيل أنها ستكون على هذه الحال!!» (1)(1/420)
وأخذوا يرشقونه بالسهام والحراب وهو مصلوب لا يستطيع الحركة أو الدفاع عن نفسه، حتى إذا لم يبق فى جسده موضع لرشقة أو رمية، أخذوه وأحرقوه حتى استحال رمادا ذاريا. وكان «ابن عطاش» يدعى الخبرة بأحكام النجوم فتقدم إليه وهو مصلوب واحد من النظارة، وسأله هل استطاع أن يتنبأ بمصيره بفضل علمه من أحكام النجوم؟ فأجاب «ابن عطاش» بقوله: «لقد عرفت من طالعى أننى سأطوف شوارع»
أصفهان فى أبهة تفوق مواكب الملوك، ولكنى لم أتخيل أنها ستكون على هذه الحال!!» (1)
وقد هال «السلطان محمد» أمر الحشاشين وأحسن بالخطر الذى يهدده فبدأ ينظم الإجراءات التى تؤدى إلى اجتثاث أصولهم والاستيلاء على قلاعهم الحبلية الحصينة، ولكن الوفاة أدركته فى سنة 512هـ 1118م فتوقف بموته تنفيذ مشروعاته، ووجد الملاحدة فرصة مجددة، لم يبطئوا فى انتهازها لتقوية حالهم. بحيث ذا انقضت على موته عشر سنوات أو خمس عشرة سنة، نجدهم قد استطاعوا بواسطة القوة أو الخديعة أو الرشوة أن يستولوا على القلاع الآتية فى الشام: وهى قلعة «قدموس» وقلعة «بانياس» وقلعة «مصياث» (2) وأن يضيفوها إلى ممتلكاتهم فى إيران التى شملت «ألموت» و «گردكوه» و «شيركوه» و «طبس» و «خور» و «خوسف» و «زوزن» و «قاين» و «تون» و «وشم كوه» بالقرب من «أبهر» و «خالنجان» بالقرب من أصفهان، و «استناوند» فى مازندران، و «قلعة الناظر» فى خوزستان، وقلعة «الطنبور» بالقرب من ارجان، و «خلادخان» وغير ذلك من المواقع الحصينة المنتشرة فى سائر أرجاء إيران.
__________
(1) تروى هذه الحكاية بشىء من التحوير مع حذف الأسماء فى كتب الحكايات العربيه والفارسية مثل «جوامع الحكايات» تأليف محمد عوفى. ومن الجلى أن الشاعر «أنورى» يشير إلى «ابن عطاش» عندما يقول:
در خواب ديده خصم تو خود را بلنديى ... تعبير آن بديده بيدار دار يافت
ومعناه:
لقد رأى خصمك لنفسه الرفعة فى المنام والأحلام، فكان تعبير رؤياه أن وجد المشنقة بأعين اليقظة التى لا تنام.
(2) المترجم: يسميها صاحب «معجم البلدان» باسم «مصياب» أو «مصياف» ويقول إنها حصن حصين مشهور للاسماعيلية بالقرب من طرابلس.(1/421)
الحركة الادبية فى هذا العصر
الآن وقد انتهينا من عرض مجمل للحالة السياسية فى إيران على عهد «سنجر» وإخوته، يجمل بنا أن نقوم بدراسة الحركة الأدبية فى هذا العصر. وسنجد أن زيادة عدد شعراء الفرس، واتساع استعمال الفارسية كلغة أدبية فى إيران بدل العربية، سيكونان سببا فى أن نقصر عنايتنا على دراسة أشهر الشعراء وأنبههم ذكرا، كما سيكونان سببا من ناحية أخرى فى أن نقلل من عنايتنا بالأمور العربية والكتابات العربية.
أولا شعراء الفرس
ولنمض الآن فى دراسة أشهر شعراء الفرس بحسب ترتيبهم الزمنى على وجه التقريب:
سنائى:
حياته
ينسب هذا الشاعر إلى غزنه أو بلخ (1). واسمه الكامل هو «أبو المجد مجدود بن آدم» ويعتبر أول الشعراء المتصوفين الثلاثة العظام ممن كتبوا «المثنويات» فى إيران، وأما ثانيهم فهو «الشيخ فريد الدين العطار»، وأما ثالثهم فهو «جلال الدين الرومى» ويعتبر هذا الأخير أعظم الثلاثة شأنا وإن كان هذا لم يمنعه من أن يقول فى تواضع:
عطار روح بود وسنائى دو چشم او ... ما از پى سنائى وعطار آمديم
ومعناه:
لقد كان «العطار» روحا، وكان «سنائى» عينيه البصيرتين.
وقد أتينا تلو «سنائى» و «العطار»، وفى إثر هذين الاثنين.
__________
(1) يتحدث «سنائى» فى صحيفة 81من النسخة المطبوعة من ديوانه فى إيران بأن بلخ تزدهر بصيته وتفتخر بذيوع اسمه.(1/422)
وكل ما نعرفه عن حياة «سنائى» أمور قليلة، تكاد تنحصر فى أنه كان فى الفترة المبكرة من حياته متصلا بخدمه «بهرامشاه». أما ما رواه «دولتشاه» عن قصة إعراضه عن الدنيا، وزهده فى حياة القصور، وانتقاله إلى حياة التصوف، وهى نفس الحكاية التى نقلها «سير جور أوزلى» فى كتابة «تراجم شعراء الفرس» فحكاية غير خليقة بالذكر بل جديرة بالإهمال (1). فإذا أتينا إلى المقدمة التى كتبها لكتاب «الحديقة» أو التى كتبها تلميذه «محمد بن على الرقام» لم نظفر منهما بشىء على الإطلاق يتصل بحياته (2)، أللهم إلا ما كان متصلا بما هدفا إليه كما يقول «ريو» من تأكيد ما ذكره «جامى» من أن الشاعر كتب «الحديقة» وهى خير مؤلفاته فى نهاية أيامه، وأنه لم يكد يتمها حتى أدركته الوفاة فى سنة 526هـ 1131م.
أما «عوفى» فى كتابه «لباب الألباب» فلا يذكر لنا كعادته شيئا متصلا بحياة هذا الشاعر. وقد أشار «إتيه» إلى أن بعض الحقائق المعروفة عن هذا الشاعر تتعارض مع بعض التواريخ التى يمكن استخلاصها من المقدمتين المكتوبتين للحديقة (3)، لأن هذه التواريخ تهدف إلى جعل هذا الشاعر متأخرا من الناحية الزمنية عن «المعزى» وإلى القول بانه لم يمت قبل سنة 545هـ 1150م إلا بفترة وجيزة.
آثاره
وآثار «سنائى» تشتمل كما وصلتنا على سبع مثنويات وديوان. فأما المثنويات فهى:
1 - حديقة الحقيقة: وهى المثنوية الوحيدة التى اشتهرت من بين مثنوياته.
2 - طريق التحقيق
3 - غريب نامه: أو كتاب الغريب.
4 - سير العباد إلى المعاد.
5 - كارنامه: أو كتاب الأعمال.
__________
(1) أنظر: 184187.:
وكذلك «تذكرة الشعراء» ص 9795.
(2) وصف «ريو» محتويات هاتين المقدمتين فى «فهرست المخطوطات الفارسية» ص 550.
(3) انظر فهرست المخطوطات الفارسية المحفوظة فى المكتبة البودلية، عمود 463، وكذلك فهرست المخطوطات الفارسية المحفوظة بمكتبة إدارة الهند، عمود 571(1/423)
6 - عشق نامه: أو كتاب العشق.
7 - عقل نامه: أو كتاب العقل.
والمثنويات الست الأخيرة نادرة جدا، ولم يقدر لى أن أراها بعينى (1). أما الديوان فنسخه المخطوطة كثيرة، وقد طبع على الحجر فى طهران سنة 1274هـ 1857م وهذه النسخة المطبوعة تشتمل على 271صحيفة، كل صحيفة منها تشتمل على 45 بيتا على وجه التقريب، بحيث يبلغ مجموع الأبيات التى يتضمنها الديوان اثنى عشر ألف بيت من الشعر، موزعة بين القصائد والترجيعات والتركيبات والغزليات والرباعيات (2)
ومثنويته «الحديقة» هى أشهر مؤلفاته وأكثرها انتشارا، وقد طبعت طبعة شرقية جميلة على الحجر فى مدينة بمباى سنة 1275هـ 1859م ومن أجل ذلك فسنقصر حديثنا عليها وعلى الديوان ونخصهما ببعض ملاحظاتنا (3).
حديقة الحقيقة:
أهدى سنائى هذا الكتاب إلى «بهرامشاه» سلطان غزنه، وهو عبارة عن مثنوية تتصل بالأخلاق أكثر مما تتصل بالتصوف الخالص، ويبلغ عدد أبياتها أحد عشر ألف بيت وقد قسمها الشاعر إلى عشرة فصول أو كتب:
__________
(1) جميع هذه المثنويات موجودة فى مخطوطة «مكتبة إدارة الهند» الرقيمة 346و 3، وهناك مخطوطات أخرى تشتمل عليها باستثناء المثنوية التى عنوانها «غريب نامه». انظر كذلك فهرست «إتيه» رقم 914
(2) المترجم: للديوان جملة طبعات أخرى، خيرها وأحسنها هى التى نشرها «مدرس رضوى» فى إيران سنة 1320هـ. ش. على نفقة «شركت طبع كتاب» وقد نشرت مثنويات «سنائى» الأخرى فى إيران فى تواريخ متفرقة.
(3) المترجم: كذلك طبع الماجور «ستيفنسون» الجزء الأول من الحديقة مع ترجمته الانجليزية فى مدينة كلكتا فى سنة 1910م وصدر الكتاب بمقدمات قيمة عن حياة سنائى وعن النسخ الخطية والمطبوعة من الحديقة.(1/424)
الأول: فى حمد الله. الثانى: فى نعت النبى.
الثالث: فى العقل. الرابع: فى المعرفة.
الخامس: فى الإعراض. السادس: فى السماوات والبروج.
السابع: فى الفلسفة. الثامن: فى العشق.
التاسع: فى أحوال الشاعر. العاشر: فى مدح بهرامشاه سلطان غزنه.
وقد نظم الشاعر هذه المثنوية فى بحر من بحور الشعر الخالية من كل روعة أو جاذبية أو سحر (1). والمثنوية فى رأيى تعتبر من أسقم الكتب الفارسية المملة، وهى مليئة بالبديهيات الساذجة والحكايات السخيفة (2)، ولا سبيل إلى مقارنتها بما كتبه «جلال الدين الرومى» فى «المثنوى» إلا إذا أجزنا لأنفسنا أن نقارن ما كتبه «روبرت منتجومرى» فى كتابه «الشيطان» بما كتبه «ملتون» فى كتابه «الجنة المفقودة»!!
وفيما يلى حكاية من حكايات الحديقة، تصور لنا أن الإنسان يستحيل عليه أن يدرك الله إلا إدراكا ناقصا معيبا، وهى نموذج طيب من نماذج هذه المثنوية على العموم:
«فى جماعة العميان وأحوال الفيل (3)»
بود شهرى بزرگ در حد غور ... واندران شهر مردمان همه كور
پادشاهى بر آن مكان بگذشت ... لشكر آورد وخيمه زد بر دشت
داشت پيلى بزرگ باهيبت ... از پى جاه وحشمت وصولت
مردمان را ز بهر ديدن پيل ... آرزو خاست ز آنچنان تهويل
چند كور از ميان آن كوران ... بر پيل آمدند چون عوران
تا بدانند شكل وصورت پيل ... هر يكى تازيان دران تعجيل
آمدند وبدست بپسودند ... ز انكه از چشم بى بصر بودند
__________
(1) المترجم: وزن المثنوية هو (فاعلاتن مفاعلن فعلن) وهو وزن الخفيف المسدس المشعث المقصور، وأبوابها ليست على ترتيب واحد فى جميع النسخ.
(2) لا تصل إلى مستوى ما كتبه بالانجليزية «مارتن تپر» فى كتابه «الفلسفة لمثالية».،
(3) المترجم: اكتفى «براون» بذكر الترجمة الانجليزية ولكنا للفائدة نقلنا النص الفارسى.(1/425)
هر يكى را بلمس بر عضوى ... اطلاع اوفتاد بر جزوى
هر يكى صورت محالى بست ... دل وجان در پى خبالى بسمت
چون بر أهل شهر باز شدند ... برشان ديگران فراز شدند
آرزو كرد هر يكى ز ايشان ... آنچنان گمرهان وبدكيشان
هيئت وشكل پيل پرسيدند ... وآنچهـ گفتند جمله بشنيدند
آنكه دستش بسوى گوش رسيد ... ديگرى حال پيل ازو پرسيد
گفت: شكليست سهمناك عظيم ... پهن وصعب وفراخ همچوگليم
وانكه دستش رسيد زى خرطوم ... گفت: گشت است مر مرا معلوم
راست چون ناودان ميانه تهيست ... سهمناكست ومايه تهيست
وانكه را بد ز پيل ملموسش ... دست و پاى سطبر پربوسش
گفت: شكلش چنانكه مضبوطست ... راست همچون عمود مخروطست
هر يكى ديده جزوى از اجزا ... همگان را نظر فتاده خطا
هيچ را دل ز كلى آگه نى ... علم با هيچ كور همره نى
جملگى را خيالهاى محال ... كرده مانند غتفره به جوال
از خدائى خلائق آگه نيست ... عقلا را در اين سخن ره نيست
ومعنى هذه الأبيات:
كانت فى حدود «الغور (1)» مدينة كبيرة ذات خطر
وكان أهلها جميعا مكفوفين قد حرموا نعمة البصر!!
فمر بهذه المدينة ملك فى تجواله
وضرب خيامه فى واديها، وأناخ برجاله!!
وكان له فيل كبير الحجم والجثة والهيبة،
ليدل به على ما له من جاه وحشمة وصولة!!
__________
(1) المترجم: هى جبال وولاية بين هراة وغزنه، وهى بلاد واسعة موحشة لا تنطوى على مدينة كبيرة، وأكبر ما فيها قلعة يقال لها «فيروزكوه». (انظر معجم البلدان)(1/426)
فرغب الناس فى رؤية هذا الفيل
وازدادت رغبتهم، لما سمعوا عنه من تهويل!!
فتقدم جماعة من بين هؤلاء العميان
واقتربوا من الفيل يتخبطون فى غير اتزان!!
ثم هرع كل واحد منهم إلى مكان الفيل،
لكى يعرف شكله وصورته فى سرعة وتعجيل!!
ومدوا جميعهم أيديهم يتحسسون بها جثته
لأنهم كانوا محرومين من البصر ونعمته!!
ولمس كل واحد منهم عضوا من أعضائه
واستطاع بذلك أن يعرف جزءا من أجزائه!!
وكون كل واحد منهم صورة مستحيلة تصورها
واستقرت فى نفس كل منهم أخيلة تخيلها وقدرها!!
فلما عادوا إلى أهل المدينة بعد هذه الزيارة
اجتمع حولهم الباقون والتفوا بغزارة!!
وشاء كل واحد من هؤلاء الضالين.
أن يسأل عن حقيقة الأمر ويستطلع الخبر اليقين!!
فلما سألوهم عن شكل الفيل وهيئته
أخذوا جميعا يستمعون إلى حديثهم ويصغون له بجملته!!
وسأل سائل منهم عن حال الفيل وما له من صورة
وكانت يد المسئول قد لمست أذنه الكبيرة!!
فقال. إن الفيل حيوان هائل عظيم الصورة
عريض، ومتسع، كأنه السجادة المنشورة!!
أما من لمست يده خرطومه الطويل
فقال: إننى على اليقين قد عرفت الفيل!!
إنه مستقيم كالقناة الجوفاء الخالية!!
ولكنه مخيف، وخطر، ومصدر كل داهية!!(1/427)
وأما من لمس من الفيل يديه الغليظتين
أو قدميه الضخمتين المكتنزتين!!
فقال: إن شكل الفيل على الوجه الصائب المضبوط
شبيه على التحقيق بالعمود أو المخروط!!
وبذلك أدرك كل واحد منهم جزءا من الأجزاء،
ولكنهم جميعا وقعوا فى أشد الأخطاء!!
ولم يستطع أن يعرف واحد منهم شكل الفيل فى مجموعه
وكذلك لن يدرك الأعمى شيئا من العلم أو فروعه!!
ولقد فكروا جميعا فى الخيالات المستحيلة الباطلة
وصاروا كالبلهاء عقولهم قاصرة جاهلة!!
وكذلك لن يستطيع الخلق معرفة الحقيقة عن الله القدير
ولذلك لا يتحدث عقلاؤهم فى هذا الأمر الخطير!!
* * *أما ديوان سنائى
فيشتمل فى رأيى على أشعار تفضل أشعار «الحديقة» وتمتاز عنها كثيرا بحيث يكاد الفرق بينهما يدفع المرء إلى الشك فى كون مؤلفهما شاعرا واحدا، لولا معرفتى بأن شعراء الفرس قلما يجيدون إلا ضربا واحدا من الشعر دون سائر ضروبه. وسأكتفى بمثل واحد للتدليل على هذا الرأى، وهو أن قصائد «الأنورى» تفوق قصائد «حافظ» بقدر ما تفوق «غزليات حافظ» غزليات «الأنورى». وفيما يلى أمثلة اقتطفناها من ديوان «سنائى» وهو ديوان جدير بالفحص الدقيق والدرس العميق.
يقول فى قصيدة مذكورة فى الديوان ص 80من النسخة المطبوعة على الحجر (1)
برگ بى برگى ندارى لاف درويشى مزن
رخ چوعياران ندارى جان چونامردان مكن
__________
(1) المترجم: هذه القصيدة موجودة فى ص 375من نسخة إيران سنة 1320هـ. ش وقد نقلناها عن هذه النسخة.(1/428)
يا برو همچون زنان رنگى وبوئى پيش گير
يا چومردان اندر آى وگوى در ميدان فكن
هر چهـ بينى جز هوا آن دين بود بر جان نشان
هر چهـ يابى جز خدا آن بت بود درهم شكن
چون دل وجان زير پايت قطع شد پائى بكوب
چون دو كون اندر دو دستت جمع شد دستى بزن
سر برآر از گلشن تحقيق تا در كوى دين
كشتگان زنده بينى انجمن در انجمن
در يكى صف كشتگان بينى به تيغى چون حسين
در دگر صف خستگان بينى بزهرى چون حسن
درد دين خود بو العجب درديست كاندر وى چوشمع
چون شوى بيمار خوشتر گردى از گردن زدن
اندرين ميدان كه خود را مى دراندازد جهود
وندرين مجلس كه بت را مى بسوزد برهمن
* * * سالها بايد كه تا يك سنگ أصلى ز افتاب
لعل گردد در بدخشان يا عقيق اندر يمن
ماهها بايد كه تا يك پنبه دانه ز آب وخاك
شاهدى را حله گردد يا شهيدى را كفن
روزها بايد كه تا يك مشت پشم از پشت ميش
زاهدى را خرقه گردد يا حمارى را رسن
عمرها بايد كه تا يك كودكى از روى طبع
عالمى گردد نكو يا شاعرى شيرين سخن
قرنها بايد كه تا از مشت آدم نطفه
بو الوفاى كرد گردد يا شود ويس قرن
ومعنى هذه الأبيات:(1/429)
يا برو همچون زنان رنگى وبوئى پيش گير
يا چومردان اندر آى وگوى در ميدان فكن
هر چهـ بينى جز هوا آن دين بود بر جان نشان
هر چهـ يابى جز خدا آن بت بود درهم شكن
چون دل وجان زير پايت قطع شد پائى بكوب
چون دو كون اندر دو دستت جمع شد دستى بزن
سر برآر از گلشن تحقيق تا در كوى دين
كشتگان زنده بينى انجمن در انجمن
در يكى صف كشتگان بينى به تيغى چون حسين
در دگر صف خستگان بينى بزهرى چون حسن
درد دين خود بو العجب درديست كاندر وى چوشمع
چون شوى بيمار خوشتر گردى از گردن زدن
اندرين ميدان كه خود را مى دراندازد جهود
وندرين مجلس كه بت را مى بسوزد برهمن
* * * سالها بايد كه تا يك سنگ أصلى ز افتاب
لعل گردد در بدخشان يا عقيق اندر يمن
ماهها بايد كه تا يك پنبه دانه ز آب وخاك
شاهدى را حله گردد يا شهيدى را كفن
روزها بايد كه تا يك مشت پشم از پشت ميش
زاهدى را خرقه گردد يا حمارى را رسن
عمرها بايد كه تا يك كودكى از روى طبع
عالمى گردد نكو يا شاعرى شيرين سخن
قرنها بايد كه تا از مشت آدم نطفه
بو الوفاى كرد گردد يا شود ويس قرن
ومعنى هذه الأبيات:
إنك لا تملك القدرة على الاستغناء، فلا تفخر بأنك درويش كامل!!
ووجهك لا يشابه وجوه العيارين، فلا تجعل روحك كروح الأراذل!!
فإما أن تذهب كالنساء، فتنعطر بالعطور وتصطبغ بالألوان!!
وإما أن تقبل كالرجال، فتقذف الكرة فى الميدان!!
وكل ما تراه خلاف الهوى فهو دين، فثبته على صفحة روحك واذكره، وكل ما تدركه خلاف الله فهو صنم، فحطمه وكسره!!
وارقص هنيئا إذا أصبح القلب والروح نطعا تحت قدميك
وصفق مرحا إذا اجتمع الكونان فى قبضة يديك!!
وارفع رأسك عن روضة التحقيق، حتى ترى فى جادة الدين
أن القتلى أحياء، وأنهم صاروا فى جموعهم متراصين (1).
وسترى فى أحد الصفوف قتلى كالحسين قتلوا بحد السيف البتار
وسترى فى صف آخر قتلى كالحسن قتلوا بفعل السم الغدار!!
وفى دينك عجب عجاب، فأنت فيه شبيه بالشمع فى سيرتك!!
ومتى صرت عليلا، فإنما تصح وتطيب إذا قطعت رقبتك! (2)
وفى هذا الميدان يلقى «اليهودى» بنفسه ووجوده
وفى هذا المجلس يحرق «البرهمى» صنمه ومعبوده!!
وتلزم سنوات كثيرة قبل أن يصبح حجر واحد بفعل الشمس والزمن
ياقوتا فى «بدخشان»، أو عقيقا فى «اليمن» (3)!!
وتلزم شهور كثيرة قبل أن تصبح بذرة القطن بفعل التراب والماء
حلة لحسناء، أو كفنا لواحد من الشهداء!!
وتلزم أيام كثيرة قبلما تصبح حفنة صوف من ظهر الأغنام
خرقة لزاهد، أو رسنا لحمار أو مقودا للأنعام!!
__________
(1) يشير إلى قوله تعالى {«وَلََا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللََّهِ أَمْوََاتاً بَلْ أَحْيََاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ»}.
(2) المترجم: لشمعة إذا قطع فتيلها زاد ضياؤها
(3) المترجم: الياقوت البدخشى المنسوب إلى «بدخشان» مشهور بجماله وصفاته، وكذلك العقيق الجميل يخرج من اليمن.(1/430)
وتلزم أعمار طويلة قبلما يصبح طفل طيب الطبع، سليم الوجدان
عالما كبيرا أو شاعرا حلو الكلام والأوزان!!
ويلزم قرون عديدة قبلما تصبح نطفة من ظهر آدمى «أبا الوفاء الكردى» أو «أويس القرنى» (1)!!
* * * وفيما يلى غزلية قصيرة من غزلياته، ننقلها عن صحيفة 167من الديوان: (2)
هر دل كه قرين غم نباشد ... از عشق بر او رقم نباشد
من عشق تو اختيار كردم ... شايد كه مرا درم نباشد
زيرا كه درم هم از جهانست ... جانان وجهان بهم نباشد
تا در دل من نشسته باشى ... هرگز دل من دژم نباشد
ومعناها:
كل قلب لا يقترن بالغموم والأحزان فى حياته
لا يصلح أن يكون مستقرا للعشق، يرقم على صفحاته!!
ولقد اخترت عشقك دون غيرك، ولم أكن مضطرا أو مرغما
وماذا يضيرنى؟ إذا أصبحت مفلسا لا أمتلك درهما!!
لأن الدرهم يعتبر من متعلقات الدنيا الزائله
والحب والدنيا لا يجتمعان، وليسا على شاكله!!
وما دمت مستقرا فى قلبى، وما دمت فيه باقيا
فإن قلبى لن يصبح قاسيا ولن يصير عاتيا!!
وفيما يلى مثل آخر من غزلياته الغنائية ننقلها عن صحيفة 206من الديوان (3)
ترا دل دادم اى دلبر شبت خوش باد من رفتم
تو دانى با دل غمخور شبت خوش باد من رفتم
__________
(1) أويس القرنى صوفى كبير، مذكورة سيرته فى «تذكرة الأولياء» للشيخ فريد الدين لعطار وأبو الوفاء الكردى صوفى أيضا لم أعثر على ترجمة حياته.
(2) المترجم: هذه الغزلية موجودة فى ص 626من النسخة المطبوعة فى إيران سنة 1320هـ. ش
(3) المترجم: هذه الغزلية موجودة فى ص 674من النسخة المطبوعة فى إيران سنة 1320هـ. ش(1/431)
اگر وصلت بگشت از من روا دارم روا دارم
گرفتم هجرت اندر بر شبت خوش باد من رفتم
ببردى نور روز وشب بدان زلف ورخ زيبا
زهى جادو زهى دلبر شبت خوش باد من رفتم
بچهره اصل ايمانى، بزلفين مايه كفرى
ز جور هر دو آفتگر شبت خوش باد من رفتم
ميان آتش وآبم ازين معنى مرا بينى
لبان خشك و چشم تر شبت خوش باد من رفتم
ومعناها:
لقد أسلمت لك قلبى أيها الحبيب، فطب مساءا إننى ذاهب
وأنت تعلم حال قلبى الحزين، فطب مساءا إننى ذاهب
وإذا استحال وصلك لى مرة أخرى، فأنت محق وعلى حق
ولكن دعنى فى ساعة الفراق أضمك إلى صدرى، وطب مساءا إننى ذاهب
لقد سلبت بطرتك السوداء ووجهك الوضىء نور النهار وظلام الليل
فما أبدعك من ساحر، وما أجملك من فاتن، وطب مساءا إننى ذاهب
وأنت بوجهك أصل للايمان ولكنك بطرتيك أصل للكفر
وكلاهما سبب للبلاء فطب مساءا إننى ذاهب
وإنك ترانى بهذا الوضع بين النار والماء
شفتاى صاديتان، وعيناى باكيتان فطب مساءا إننى ذاهب!!
* * * وقد اخترت هذه الأمثلة اعتباطا وعن غير تعمد، ولكنها تكشف لنا عن روعة وإبداع بالغين ولا شك أن الأشعار الفارسية ما زالت خبيئة فى بعض المناجم الغنية التى لم تكشف حتى الآن، ولو اعتنى بها الباحث الجاد لوجدها غنية بالدرر الزاهرة واليواقيت الباهرة(1/432)
أزرقى:
«أبو بكر» أو «أبو المحاسن الأزرقى» هو ولد «اسماعيل» الوراق الهروى الذى ذكر صاحب «چهار مقاله» عنه (1)، أن «الفردوسى» اختفى فى بيته ستة أشهر عندما أثار عليه حنق السلطان «محمود الغزنوى». والفضل فى شهرة «الأزرقى» راجع كما يقول «جامى» و «دولتشاه» إلى مؤلف أدبى (2) يشك فى نسبته إليه وكذلك إلى رباعية قيلت فى مناسبتها، وهى الرباعية التى ذكرناها فى الفصل الأول من هذا الكتاب ص 53، فقد استطاع بفضل هذين أن يكسب عطف الأمير السلجوقى «طغانشاه» وأن يفوز برعايته وحمايته (3).
وقد اشتهر «الأزرقى» بين شعراء عصره بأنه من كتاب القصائد والمدائح.
ووضعه «عوفى» (4) فى المرتبة التالية مباشرة للشاعر «المعزى» الذى يصغر عنه سنا ويكبر عنه شهرة وبعد صيت. والمدائح مهما قيل فى أمرها، ومن اشتمالها على العرفان بالجميل لمن أشادت بذكرهم، ومن فضلها فى جلب الغنى العريض لمنشئيها، إلا أنها لأسباب واضحة لا تهم الأجيال المتعاقبة بمقدار ما يهمهم الشعر الذى يمس العواطف الإنسانية عامة ويبقى على الزمان مهما قدم العهد أو طال العصر. ومن أجل ذلك فقد أصبح «الأزرقى» كما أصبح جماعة آخرون من أشهر منافسيه، مجرد أسماء لا يعرف عنهم القارىء الفارسى شيئا، وبقى ديوانه معدوما أو نادر الوجود. وقد خصص «دولتشاه» مقالا للحديث عن سيرته (5) ولكنه لم ينقل لنا من سائر أشعاره إلا الرباعية التى سبق لنا الإشارة إليها. أما «عوفى» فقد أورد لنا مجموعة من قصائده الطويلة (6)، كما يجد القارىء
__________
(1) المترجم: أنظر ص 49من الأصل الفارسى وص 81من ترجمة «براون» الإنجليزية
(2) المقصود به كتاب «الفيه شلفيه» وقد وصف «عوفى» محتوياته وصفا كاملا فى «لباب الألباب» ج 2ص 87كما فعل ذلك أيضا سائر المؤلفين. وقد أوردت عنوان الكتاب كما ذكر فى سائر النصوص، ولكنى أميل إلى الاعتقاد بأن صحة تسميته هى «الفيه شلقيه»
(3) المترجم: أنظر أيضا التعليقات التى نشرها محمد بن عبد الوهاب القزوينى عن الأزرقى فى «چهار مقالة» فهى غنية بالتفصيلات
(4) أنظر «لباب الألباب» ج 2ص 88
(5) أنظر «تذكرة الشعراء» ص 82
(6) «لباب الألباب» ج 2ص 10486(1/433)
أيضا فى كتاب «تاريخ سلاجقه كرمان» تأليف «محمد بن ابراهيم» قصيدة كاملة أنشأها الأزرقى فى مدح «اميرانشاه» أحد أمراء هذا الفرع من السلاجقه (1).
ولما لم يكن فى أيدينا من مؤلفات «الأزرقى» إلا قصائده، وهى صعبة الترجمة، غير مستساغة إذا ترجمت، فسأحذو حذو «دولتشاه» وأكتفى بهذا القدر عن الأزرقى وانتقل إلى الحديث عن شاعر آخر.
مسعود سعد سلمان (2)
هو «مسعود بن سعد بن سلمان» وهو جدبر بالذكر على الخصوص لبعض القصائد العاطفية المبتكرة التى أنشأها عند ما أمر السلطان «ابراهيم الغزنوى» بحبسه فى قلعة «ناى» بتهمة التآمر عليه مع السلطان «ملكشاه» السلجوقى. وقد سجل صاحب «چهار مقالة» هذه القصة (3) وعلق على هذه الأشعار بقوله إنه يحس عند قراءتها «بأن شعره يقف على جسده، وأن الدموع تجرى فى مآقيه لما اشتملت عليه من فصاحة ورقة.» وأورد مثلين من هذه الحبسيات، الأول منهما عبارة عن الرباعية التالية (4):
در بند تو اى شاه ملكشه بايد ... تا بند تو پاى تاجدارى سايد
آنكس كه ز پشت سعد سلمان آيد ... گر زهر شود ملك ترا نگزايد
ومعناها:
أيها الملك إن «ملكشاه» هو الذى يجب أن يرسف فى قيدك
وأن تربط أقدامه فى سلاسل أسرك!!
__________
(1) طبع «هوتسما» ص 1614
(2) بعد كتابة هذه المقالة نشرت فى «مجلة الجمعية الملكية الآسيوية» عدد أكتوبر سنة 1905ص 740693وعدد يناير سنة 1906ص 5111ترجمة لمقالة نشرها بالفارسية صديقى العلامة ميرزا محمد بن عبد الوهاب القزوينى» عن هذا الشاعر. وإنى أحيل القارىء الجاد إلى هذه المقاله لأنها تكمل ما كتبت، بل إنها فى بعض المواضع تصحح ما سطرت
(3) أنظر سيرته فى ص 4644من الأصل الفارسى وص 7572من الترجمة الإنجليزية
(4) المترجم: لم يذكر «براون» أصل هذه الرباعية الفارسية.(1/434)
أما من يأتى من ظهر «سعد بن سلمان» أو سلالته
فلن يؤذى ملكك ولو كان سما زعافا برمته!!
وأما المثل الثانى فعبارة عن مقطوعة نصها كالآتى (1):
مقصور شد مصالح كار جهانيان
بر حبس وبند اين تن مهجور ناتوان
بر حبس وبند نيز ندارندم استوار
تا گرد من ندارند ده تن نگاهبان
هر ده نشسته بر در وبر بام سجن من
با يكديگر دمادم بگويند هر زمان
هان برجهيد زود كه حيلتگريست او
كز آفتاب پل كند از سايه نردبان
گيرم كه ساخته شوم از بهر كارزار
بيرون جهم ز گوشه اين سجن ناگهان
با چند كس برآيم در قلعه گرچهـ من
شيرى شوم معربد و پيلى شوم دمان
پس بى سلاح جنگ چكونه كنم مگر
من سينه را سپر كنم و پشت را كمان
ومعناها:
لقد اقتصرت مصالح أهل الدنيا من الحاكمين
على حبسى وتقييدى أنا الضعيف العاجز المسكين!!
وهم لا يثقون فى بقائى فى المحبس والقيد
ما لم يضعوا حولى عشرات من الحراس عن قرب وعن بعد!!
كل عشرة منهم يجلسون على باب سجنى أو فوق سطحه فى انتباه والتفات
وهم يتصايحون فيما بينهم فى كل لحظة من اللحظات!!
__________
(1) المترجم: لم يذكر «براون» أصل هذه الأبيات بالفارسية، ولم نجدها فى الأصل الفارسى لكتاب «چهار مقاله».(1/435)
فيقولون: تنبهوا وخذوا حذركم، فإنه متحايل ماكر
يصنع الجسور من أشعة الشمس، ويرفع السلالم من ظلها العابر!!
فلأفرض أننى وفقت فى وقت العراك والنزال
واستطعت الفرار فجأة من ركن هذا السجن، والخلاص من الوبال!!
فهل استطيع أن أنتصر على هؤلاء الرجال الكثيرين فى هذه القلعة الحصينة ولو كنت أسدا مفترسا أو فيلا هائجا قوى الشكيمة!!
وكيف أستطيع أن أحارب بغير آلة أو سلاح؟!
وهل أكتفى بأن أجعل صدرى درعا، وأن أجعل ظهرى قوسا للرماح؟!
ولم تلن قناه السلطان أو يرق قلبه حتى أدركه الموت، وظل «مسعود» فى محبسه اثنتى عشرة سنة كاملة
وفيما يلى قصيدة من قصائده أوردها «دولتشاه» فى ص 4847من كتابه (1)
چون بديدم بديده تحقيق ... كه جهان منزل فناست كنون
رادمردان نيك محضر را ... روى در برقع خفاست كنون
آسمان چون حريف نامنصف ... بر ره عشوه ودغاست كنون
طبع بيمار من ز بستر آز ... شكر بزدان درست خاست كنون
وز عقاقير خانه توبه ... نوش داروى صدق خواست كنون
وين زبان جهان خديوسراى ... مادح حضرت خداست كنون
لهجه نو نواى خوش زخمه ... بلبل باغ مصطفاست كنون
عزت جامه وقصب؟؟؟ ... چون فزون شد؟؟؟ كاست كنون
سر آسوده وتن آزد ... پنج گز پشم و پنبه راست كنون
مدتى خدمت شما كردم ... نوبت خدمت خداست كنون
ومعناها:
عندما رأيت بعين البصيرة والتحقيق
أن العالم أصبح الآن منزلا للفناء والضيق!
__________
(1) المترجم: اكتفى «براون» بايراد الترجمة وقد رأينا إيراد الأصل أيضا.(1/436)
وأن الرجال الطيبين الكرماء
قد تسربلت وجوههم فى براقع الخفاء والفناء!!
وأن السماء قد أصبحت كالعدو اللدود
وأن أحكامها الآن سائرة فى نفاق وخداع وشرود!!
نهضت سليما بعد المرض وتركت فراش الحرص والحاجة
وأخذت الآن فى شكر الله فى ضراعة ولجاجة!!
وقصدت دار التوبة، وطلبت منها مختلف العقاقير
لأعالج بها الصدق، وألتمس بها باب «الحق» الكبير!!
فبدلت هذا اللسان الذى كان يمدح الملوك والسلاطين
وأصبحت الآن أقصر مدحى على رب العالمين!!
وتجددت لهجة مدحى، وأصبحت نغمته جديدة ذائعة
وأصبح لسانى بلبلا مغردا فى حديقة النبى الرائعة!!
ومتى زادت الملابس الزاهية الموشاة بالذهب
قل العقل، ونضب معينه وذهب!!
فالرجل الحر صاحب الهناءة والسعادة
تكفيه خمسة أذرع من الصوف أو القطن فى العادة!!
ولقد خدمتكم «أيها الملوك» مدة طويلة مديدة
فلتكن نوبتى الآن فى خدمة الله ذى المنن العديدة!!
* * * ويضيف «دولتشاه» على ذلك أن «مسعود بن سعد» كان من أهالى «جرجان» كما أن «إتيه» يرى أن أباه «سعدا» كان فى خدمة الأمراء الزياريين فى هذه الولاية. ويقول دولتشاه: إن الأكابر والفضلاء لهم رأى عال فى أشعار مسعود، حتى أن «فلكى الشروانى» عندما أراد أن يفخر بتبريزه فى قول الشعر قارن نفسه بمسعود فقال (1):
__________
(1) المترجم: هذا هو نص البيت بالفارسية وفقا لما ورد فى «تذكرة الشعراء» ص 47(1/437)
گر اين طرز سخن در شاعرى مسعود را بودى
بجان صد آفرين كردى روان سعد سلمانش
ومعناه:
لو كان لمسعود من المهارة فى الشعر ما لكلامى من حسن البيان
لنهضت روح أبيه «سعد بن سلمان» وقالت له: أحسنت كل الإحسان!!
والمعروف أن وفاة «مسعود» حدثت فى سنة 515هـ 1121م أو فى سنة 526هـ 1131م وهذا التاريخ الأخير هو أقرب التاريخين احتمالا وصحة.
أبو طاهر الخاتونى:
شهرة «أبى طاهر الخاتونى» تنحصر أساسا فى كونه المؤلف الذى ألف أقدم كتاب، وصل خبره إلينا، فى تراجم شعراء الفرس ومن سوء الحظ أن هذا الكتاب مفقود ولم يعثر عليه أحد حتى الآن (1) ولكن «دولتشاه» أشار إليه فى موضعين (2) وذكر صراحة أنه نقل عنه خبرين من أخباره. ومن العجيب أنه لو صح أنه كان حقيقة فى حوزته، لما اقتصرت استفادته منه على هذا القدر البسيط ولأكثر من النقل عنه وهذا يدعونى إلى الظن بأنه لم يكن ينقل عنه مباشرة بل بطريق كتاب آخر نقل عنه مباشرة. وقد ذكره «حاجى خليفة» فى موسوعته كشف الظنون (3) وذكر أن الكتاب مكتوب بالفارسية، ولكنه نسى أن يذكر لنا تاريخ وفاة مؤلفه، وربما استعصى عليه أن يكشف عن هذا التاريخ، فأهمله إهمالا، وقد ورد ذكر «الخاتونى» أيضا فى جملة مواضع من كتاب البندارى «تاريخ السلاجقة» وهو يخبرنا (4) بأن «الخاتونى» أنشأ هجويه فى واحد من وزراء السلطان «محمد
__________
(1) المترجم: يقصد به «مناقب الشعراء» وقد أخبرنى فى سنة 1949أحد الأساتذة الأتراك وهو الأستاذ قاسم أستاذ التصوف فى المعهد الإسلامى بتركيا أن أحد أساتذة جامعة استانبول عثر على نسخة هذا الكتاب وأنه عازم على طبعه
(2) أنظر «تذكرة الشعراء» ص 29، 58
(3) أنظر طبعة «فلوجل» ج 6ص 152، رقم 26. ر 13
(4) أنظر طبعة «هوتسما» ص 89، 108105، 110، 113(1/438)
ابن ملكشاه» جعلها بعنوان «تنزير الوزير الزير الخنزير» وأنه كان يعتبر من أفاضل رجال عصرة، ومن الكتاب الممتازين المتفننين (1) وقد أورد كذلك طائفة من هجوياته المنظومة، ولكنه للأسف لم ينقلها بأصلها الفارسى بل اكتفى بذكر ترجمتها إلى العربية.
وقد عاش «الخاتونى» حوالى سنة 500هـ أو فى بداية القرن الثانى عشر الميلادى ويبدو لى أنه تخلص باسم «الخاتونى» نسبة إلى زوجة السلطان المسماة «جوهر خاتون» لأنه كان ملتحقا بخدمتها. وقد ورد بيت من أبياته الفارسية فى كتاب «لغت فرس» تأليف أسدى. ولكن طابع هذا الكتاب وهو «پول هورن» أخطأ فى تسميتة، فاسماه «الحانوتى» بدل «الخاتوتى» وهو خطأ فى الحقيقة لا يغتفر (2)!! وأكبر مجموعة من أشعار «الخاتونى» موجودة فيما أعرف فى الكتاب الفارسى النادر الذى وضعة «شمس قيس» فى الشعر وأوزانه (3) كما إن «الخاتوتى» مذكور أيضا فى كتاب الراوندى «راحة الصدور» حيث ورد ذكره على أنه كان يتولى قيد الصيد الذى يصيده «ملكشاه» (انظر «مجلة الجمعية المكية الاسيوية» سنة 1902ص 598)
وبالرجوع إلى أقدم المصادر يتضح لنا جليا أن «الخاتونى» كان مبرزا فى طائفة من الأمور ولكن من العجب أن الكتب المتأخرة لا تذكره إلا قليلا. وليس هناك من شك فى أن ضياع كتابه «مناقب الشعراء» يعتبر من الكوارث الأدبية المحزنة.
وينقل لنا أيضا «راحة الصدور» مقطوعة للخاتونى فى بيتين، هجا بهما الوزير «مجد الملك القمى» وذكر فيهما ما أمتاز به من لؤم وبخل (4).
__________
(1) أورد «رضا قليخان» طائفة من أشعاره فى كتابه «معجم الفصحاء» ج 1ص 66، ويستفاد مما كتبه «رضا قليخان» عنه أنه كتب أيضا فى تاريخ السلاجقة. وربما كان المقصود بما كتبه هو كتاب «تاريخ السلاجقة» الذى أشار اليه «دولتشاه»
(2) أنظر ص 23من المقدمة وكذلك ص 31
(3) المترجم: يقصد به كتاب «المعجم فى معايير أشعار العجم» وقد طبع ضمن «سلسلة جب التذكارية». سنة 1909م.
(4) أنظر «مجلة الجمعية الملكية الأسيوية» سنة 1902ص 600(1/439)
معزى:
الأمير «معزى» هو شاعر السلطان «سنجر» ولكنه استطاع قبل ذلك فى أيام السلطان «ملكشاه» أن يفوز بشهرة عريضة فى قول الشعر وقد استمد تخلصه الذى عرف به من أحد ألقاب هذا السلطان وهو «معز الدين» كما أخبرنا بذلك هو نفسه فى إحدى الحكايات المروية فى كتاب «چهار مقاله» وقد ذكرناها برمتها فى الفصل الأول من كتابنا هذا. (1) ويصفه صاحب «چهار مقاله» بأنه من أعذب شعراء الفرس قولا وأجملهم إنشادا، وأن شعره قد بلغ أوج الروعة والجمال وامتاز بالفصاحة وشدة الأسر. كما أن عوفى يقول فى كتابه «لباب الألباب» (2): «إن ثلاثة من الشعراء استطاعوا فى ثلاث دول متوالية أن يبلغوا مراتب العز والإقبال بحيث لم يتيسر ذلك لغيرهم، فأما الأول فالشاعر «رودگى» فى عهد السامانيين وأما الثانى فهو ال «عنصرى» فى عهد الغزنويين وأما الثالث فالشاعر «المعزى» فى عهد السلاجقة.»
ولكن نهاية «المعزى» كانت مفجعة وحزينة فقد قتله سهم انفلت خطأ من من قوس «سنجر» عندما كان يقوم بالرماية. وقد اشتهرت هذه الحكاية عن مقتله ولكن هناك رواية أخرى تقرر أنه لم يقتل بل أصابه جرح، لم يلبث أن شفى منه. ويروى «رضا قليخان» فى «مجمع الفصحاء» (3) بيتا يستشهد به على صحة هذا الرأى، لو صحت نسبته إلى المعزى، لدلل بغير شك على صحة ما ذهب إليه قليخان وهذا البيت هو:
منت خداى را كه بتير خدايگان ... من بنده بيگناه نشدم كشته رايگان
ومعناه:
المنة لله ذى الفضل والإحسان
إننى، أنا العبد البرىء، لم يهدر دمى سهم السلطان!!
__________
(1) أنظر ص 5049
(2) أنظر ج 2ص 69
(3) أنظر ج 1ص 571(1/440)
ويذكر هذا الكتاب أن وفاة «المعزى» حدثت فى سنة 542هـ 1147م ثم يورد بعض الأشعار التى رثاه بها الشاعر «سنائى». كما يقرر أن «المعزى» كان تلو «الفرخى» فى الغزليات، وتلو «العنصرى» فى القصائد. وفيما يلى مقطوعة تنهض مثلا لغزلياته (1):
روى او ماهست اگر بر ماه مشك افشان بود
قد او سروست اگر بر سرو لالستان بود
گر روا باشد كه لالستان بود بر زاد سرو
بر مه رويش روا باشد كه مشك افشان بود
دل چوگوى و پشت چون چوگان بود عشاق را
تا ز نخدانش چوگوى وزلف چون چوگان بود
گر ز دو هاروت او دلها بدرد آيد همى
درد دلها را ز دو ياقوت او درمان بود
ومعناها
وجهها هو القمر لو أمكن أن تنتشر فوق القمر غلالة من المسك سوداء!!
وقدها هو السرو لو أمكن أن يزهر السرو زهرات الشقائق الحمراء!! (2)
ولو صح للسرو أن يزهر زهرات الشقائق الحمراء
لصح للمسك أن ينتشر فوق وجهها القمرى ذى البهاء!!
وقلوب العشاق كأنها الكرات المتدحرجة، وظهورهم كأنها الصوالج المقوسة منذ استدارت ذقنها كالكرة، وتقوست طرتها كالصولجان.
وإذا ابتليت القلوب، فأصابها السقم بفعل عينيها الساحرتين فإن شفاءها مضمون فى شفتيها الياقوتيين!!
وعند ما يشير «عوفى» إلى أن (2) «طفل البلاغة وصل إلى حد البلوغ على يدى
__________
(1) المترجم: اكتفى «براون» بايراد ترجمة الأبيات الأربعة الأولى من هذه الغزلية وهى الأبيات التى نقلناها أعلاه. ولكن الغزلية برمتها تشتمل على سبعة أبيات كما هى مذكورة فى «لباب الألباب» ج 2ص 72
(2) نفس المرجع ص 69(1/441)
المعزى» فإنه ربما يقصد بذلك أننا نجد فى أشعاره سائر أنواع التشبيهات الأصيلة المبتكرة التى أصبحت فيما بعد مبتذلة ومألوفة لدى سائر من يدرس الأشعار الفارسية.
ولو نظرنا إلى الأبيات الأربعة التى نقلناها آنفا لوجدناها مليئة بالتشبيهات العادية المألوفة التى تشبه الوجه الجميل بالقمر المنير، وخصلات الشعر السوداء المعطرة بالمسك الأذفر الذكى (1)، والقامة المديدة بشجرة السرو المعتدلة، والخدود الحمراء بزهرة الشقائق القانية، والذقن والقلب بالكرة، والظهر الذى قوسته أفعال السنين والهموم بالصولجان الذى يقذف الكرة، والشفاه باليواقيت، والعيون الساحرة ب «هاروت» ذلك الملاك الخاطىء الذى يعلم الناس السحر، إذا سعوا إليه فى الجب الذى يحبس فيه مدينة «بابل».
وفيما يلى غزلية أخرى من غزليات المعزى (2):
تا دلم عاشق آن لعل شكربار بود
ديده من صدف لؤلؤ شهوار بود
صدف لؤلؤ شهوار بود ديده آنك
دل او عاشق آن لعل شكربار بود
نخلد ناوك آن نرگس خون خوار دلم
تا سلاح دلم آن زلف زره دار بود
اى نگارنده نگارى كه ز تو مجلس من
گه چوكشمير بود گاه چوفرخار بود
گر گنه كار نشد زلف تو بر عارض تو
چون پسندى كه همه سال نگونسار بود
ور گنه كرد چرا يافت بخلد اندر جاى
خلد آراسته كى جاى گناه كار بود
__________
(1) المترجم: يشبه الشاعر شعر المحبوبة بالمسك الأسود ذى الرائحة الطيبة، كما يشبه وجه المحبوبة بزهرات الشقائق الحمراء.
(2) المترجم: نقلنا الأصل الفارسى عن «لباب الألباب» ج 2ص 73(1/442)
ومعناها:
منذ أصبح قلبى عاشقا لشفتك الحلوة الحمراء
وقد أصبحت جفونى أصدافا للدر الثمين اللألاء!!
ومن الحق أن تصبح عين العاشق مليئة بالدرر الغالية
ما دام قلبه يتعشق هذه الشفاه الحلوة القانية!!
ولن تستطيع سهام عينك العطشى إلى الدماء
أن تخترق قلبى، ما دامت طرتك هى الدرع والسلاح والوقاء!!
ويا أيتها الدمية الجميلة لقد أصبح مجلسى بحضورك شديد البهاء
وكأنه ملىء بحسان «كشمير» أو غانيات «فرخار» صاحبات الرواء (1)!!
ولو لم تصبح طرتك جانية على وجنتيك
لما قبلت أن تتدلى طوال السنة مقلوبة الرأس على خديك!!
وإذا صح أنها أذنبت فلماذا تستقر فى جنة الخلد العالية
وهل يعقل أن تصبح جنة الخلد البهيجة مستقرا لأصحاب الآثام النابية!!
وهنا أيضا نجد عقدا متصل الحلقات من التشبيهات العادية التى تعارفوا عليها فى الشعر الفارسى الغزلى. فالعين الباكية هى الصدفة التى تجود باللآلىء والدرر والشفاه الحلوة الحمراء هى اليواقيت التى تنضح بالسكر والعين نرجسة توصف بأنها ظمأى إلى الدماء لأنها تجرح بسهامها قلوب العشاق وتدميها والشعر المجدول يشبه بالسلاسل والدروع والمحبوبة هى الدمية الجميلة التى تفوق فى جمالها تصاوير «مانى» التركستانيه ودمى المعابد الهندية!! أما وجه المعشوقة فهو جنة الخلد الموعودة!!
ولن يدهشنى بعد ذلك كله أن أقرر أن سائر التشبيهات التى استعملها فى عصور متأخرة شعراء الحب فى غرب آسيا، إنما هى من إنتاج «المعزى» فقد أبدع الكثرة البالغة منها، وكان له الفضل الأول فى تقريرها واستعمالها. وإذا صح هذا الرأى أمكن إلى حدما تعليل السبب الذى من أجله نال «المعزى» هذه الشهرة العريضه فى بلاده. ولولا ذلك لما أمكننا وقد اعتدنا قراءة أشعار «حافظ» وغيره
__________
(1) المترجم: كشمير وفرخار بلدان اشتهرا بجمال من بهما من النساء.(1/443)
من الشعراء المتأخرين أن نعتبر «المعزى» ضمن النابهين المبدعين من الشعراء، ما لم نتذكر دائما هذه الفترة المبكرة التى عاش فيها. فلنتركه الإن ولننتقل إلى شاعر آخر ممن ذكرناهم فى هذا الفصل وهو رشيد الدين الوطواط.
رشيد الدين الوطواط:
«رشيد وطواط» أو «رشيد الدين الوطواط» هو «محمد بن عبد الجليل العمرى». سمى بالعمرى لانتسابه إلى الخليفة «عمر». وكان يشتغل بالكتابة ومن أجل ذلك فإنه يلقب غالبا بالكاتب. وقد ألف بالإضافة إلى أشعاره طائفة من الكتب المنثورة، أهمها الكتب الآتية:
1 - صد كلمه: أو الكلمات المائة من أقوال الخلفاء الراشدين الأربعة، وقد شرحها وفسرها باللغة الفارسية (1).
2 - حدائق السحر: وهو كتاب شهير جدا فى البلاغة الفارسية والشعر الفارسى وقد اعتمد فى وضعه فيما اعتقد على كتاب «الفرخى» المفقود «ترجمان البلاغة». وقد طبع على الحجر فى إيران ويعتبر من أهم الكتب المجملة فى علوم الشعر الفارسية (2).
وقد لقبوه ب «الوطواط» لضآلة جسمه وهزال بنيته، ولكن «دولتشاه»، يذكر لنا أنه كان حاد اللسان قوى البيان، فنتج عن ذلك أن كثر أعداؤه وازداد خصومه. ويروى لنا هذا المؤرخ أن «الوطواط» كان ذات مرة يتناقش فى مجلس من المجالس فى حضرة مليكه وراعيه «أتسز خوارزمشاه» وقد وضعوا بالمصادفة
__________
(1) المترجم: لهذا الكتاب تسميتان أخريان هما: «نثر اللآلى من كلام أمير المؤمنين على» أو «مطلوب كل طالب من كلام على بن أبى طالب» وقد طبع هذا الكتاب فى ليپزج سنة 1837م وفى طهران سنة 1304هـ.
(2) المترجم: نشر هذا الكتاب فى السنوات الأخيرة الأستاذ عباس إقبال وقدم عليه بمقدمات طويلة مفيدة عن حياة الوطواط ومؤلفاته. وقد طبعه بمطبعة المجلس فى طهران سنة 1308الهجرية الشمسية. وقد نقلته عن هذه النسخة إلى اللغة العربية وطبعته بمطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر فى سنة 1364هـ 1945م.(1/444)
محبرة أمامه، فلما اشتد النقاش أعجب «أتسز» بهذه السيل المنهمر من الكلمات التى تخرج من شخصه الضئيل، فأمر رجاله بأن يرفعوا الدواة حتى يستطيع رؤية الشخص الذى يتحدث من ورائها. فلما سمع ذلك «رشيد الدين الوطواط» أسرع بالنهوض وقال على البديهة: «المرء بأصغريه قلبه ولسانه». ثم يقول «دولتشاه» إن «الوطواط» قد عاش طويلا، وإنه مات فى «خوارزم» أو «خيوه» فى سنة 578هـ 1182م (1) وأما ولى نعمته «أتسز» فقد مات فى سنة 551هـ 1156وقد بكاه الوطواط بدمع سخين، ورثاه بالرباعية التالية: (2)
شاها فلك از سياستت ميلرزيد ... پيش تو بطوع بندگى ميورزيد
صاحب نظرى كجاست تا درنگرد ... تا آن همه سلطنت بدين مى ارزيد
ومعناها:
أيها الملك لقد كان الفلك يرتعد لشدة قهرك
وكان ينقاد لك طواعية، ويستجيب لأمرك!!
فأين واحد من أصحاب النظر لينظر فى خبرك
وهل كان كل هذا الملك ليساوى هذه النهاية عندما غيبوك فى قبرك!!
وبعد هذه الحادثة بسبع عشرة سنة، أى فى سنة 1172568م تولى عرش خوارزم ال «سلطان شاه محمود» حفيد «أتسز» وشاء أن يرى هذا الشاعر العجوز المريض، فحملوه إليه فى محفة، فلما مثل بين يديه أنشأ له على البديهة الرباعية التالية: (3)
جدت ورق زمانه از ظلم بشست ... عدل پدرت شكستگى كرد درست
اى بر تو قباى سلطنت آمده چست ... هان تا چهـ كنى كه نوبت دولت تست
ومعناها
إن جدك قد غسل صحائف الزمان من المظالم والشرور
__________
(1) المترجم: برى الأستاذ «عباس إقبال» أن الوطواط توفى سنة 573هـ
(2) المترجم: نقلنا هذه الرباعية عن «تذكرة الشعراء» ص 91
(3) المترجم: نقلنا هذه الرباعية عن «تذكرة الشعراء» ص 8وقد ذكرها «عباس إقبال» كذلك فى مقدماته.(1/445)
وأقام أبوك بعد له ما اعوج من الأمور.
فيا من يزهو بك رداء الملك والسلطان
تنبه، وتبين ما أنت فاعل فهذه نوبتك من الزمان!!
وقد ورد قدر كبير من الأخبار المتصلة برشيد الدين الوطواط فى كتاب لم يطبع بعد عن تاريخ المغول (1) هو كتاب «الجوينى» المعروف باسم «تاريخ جهانگشا» وخصوصا فى الجزء الثانى منه المتعلق بتاريخ ملوك خوارزم. ففى بداية هذا الجزء، وبعد الفصل الذى كتبه صاحبه عن هزيمة «سنجر» فى معركته مع جيوش «الخطا» وغارة «أتسز» على مدينة مرو فى سنة 536هـ 1141م نجد خطايا طويلا بالعربية كتبه الوطواط إلى شخص يسمى بال «حكيم حسن القطان» يبدو أنه اتهمه بنهب كتبه التى ضاعت أثناء هذه الغارة على مدينة مرو. وقد دافع «رشيد الدين» عن نفسه فى هذا الخطاب دفاعا قويا، وأنكر هذه التهمة الكريهة الباطلة وقال: «وها أنا أتانى الله من الوجه الحلال قريبا من ألف مجلدة من الكتب النفيسة والدفاتر الشريفة، وأنا وقفت الكل على خزائن الكتب المبنية فى بلاد الإسلام عمرها الله تعالى لينتفع المسلمون بها. ومن كانت عقيدته هذه، كيف يستجيز من نفسه أن يغير على كتب إمام من شيوخ العلم أنفق جميع عمره حتى حصل أو يراقا يسيرة، لو بيعت فى الأسواق مع أجلاد أديم ما أحضرت بثمنها مائدة لئيم!!» (2) ثم يتلو ذلك وصف لحصار قصبة «هزار اسف» وكيف أمر «أتسز» بإعدام «أديب صابر» وكيف نجا «الوطواط» بجهد النفس من غضب «سنجر» بسبب أشعاره التى قالها فى هذه المناسبة، وقد سبق لنا ذكرها فى موضع آخر. فإذا تقدمنا بعد ذلك بضع صفحات من الكتاب علمنا أن الوطواط وصاحبه «كمال الدين بن أرسلان خان محمود» حاكم «جند» قد تسببا فى سنة 547هـ 1152م فى إغضاب «أتسز» فأمر «أتسز» بطرد «الوطواط» من خدمته، ولكنه استطاع بعد ذلك أن يستعطفه بطائفة من القصائد
__________
(1) المترجم: طبع هذا الكتاب برمته فى ثلاثة أجزاء ضمن «سلسلة جب التذكارية» صدر الأول منها سنة 1912والثانى سنة 1916والثالث قبيل الحرب العالمية الأخيرة.
(2) المترجم: نقلت هذه العبارات عن «تاريخ جهانگشا» ج 2ص 76(1/446)
والمقطعات حتى نال عفوه. وقد أورد «الجوينى» فيما أورد من هذه الأشعار المقطوعة التالية (1):
سى سال شد كه بنده بصف نعال در
بودست مدح خوان وتو بر تخت مدح خواه
داند خداى عرش كه هرگز نايستاد
چون بنده مدح خوانى در هيچ بارگاه
اكنون دلت ز بنده سى ساله شد ملول
در دل بطول مدت يابد ملال راه
ليكن مثل زنند چومخدوم شد ملول
جويد گناه وبنده بيچاره بى گناه
ومعنى هذه الأبيات:
لقد مضت ثلاثون سنة منذ وقفت بالباب فى صف النعال، (2)
وكنت مداحا للملك، وكان الملك على عرشه راغبا فى مدحى
وإله العرش يعلم وحده، أن أحدا مثلى
لم يقف مادحا فى قصر من القصور!!
ولكن قلبك الآن أصبح متعبا من خادمك الذى أمضى فى خدمتك ثلاثين عاما، ولا شك أن الملل يتطرق إلى القلوب بطول المدة والملازمة!!
وقد ضربوا الأمثال فقالوا: «عندما يمل المخدوم، يبحث لخادمه عن ذنب أو جريرة، بينما يكون الخادم المسكين نقى الطوية والسريرة!!»
__________
(1) المترجم: أنظر «تاريخ جهانگشا» ج 2ص 11
(2) يبدو من ذكر الثلاثين سنة أن «الوطواط» التحق بخدمة ملوك خوارزم سنة 567هـ 1123م وقد رأينا أنه كان فى سنة 568هـ 1172م رجلا مسنا مريضا. كما أن «دولتشاه» ذكر إنه توفى فى سنة 578هـ 1182م ويقول «الجوينى» إن «الوطواط» كان قد جاوز الثمانين من عمره فى سنة 568هـ وعلى ذلك يكون مولده حوالى سنة 488هـ 1095م. ولا أعرف المصدر الذى اعتمد عليه «بروكلمان» ليقرر فى كتابه «تاريخ الآداب العربية» أن الوطواط مات سنة 509هـ.(1/447)
ويقول «دولتشاه» إن ديوان «الوطواط» يشتمل على خمسة عشر ألف بيت من الشعر كلها مصنوعة ومليئة بالصناعات البلاغية والبديعية. وقد كان مغرما على الخصوص بصناعة «الترصيع» فادعى أن أحدا غيره لم يسبقه بين شعراء الفارسية أو العربية إلى إنشاء قصيدة كاملة، دخلها الترصيع فى سائر أبياتها. أما قصائده فتمتاز عامة بأنها من نوع الفخريات والمبالغات التى اعتادها شعراء المدح فى هذا الوقت، ولا يستطيع أحد أن يقول إن شهرته الخالدة ترجع إلى هذه القصائد، وإنما مرجعها الأول والأخير إلى كتابه «حدائق السحر» وإلى جملة من الأبيات التى تفسر لنا بعض الوقائع التاريخية كما ذكرنا ذلك من قبل.
أديب صابر:
من بين خصوم «رشيد الدين الوطواط» كان الشاعر التاعس «أديب صابر» وقد ذكرنا نهايته المفجعة فيما سبق لنا من قول حينما أمر «أتسز» بإغراقه فى نهر جيحون فى شهر جمادى الأولى سنة 542هـ أكتوبر سنة 1147م أو كما يقول «دولتشاه» فى سنة 546هـ.
وقد ذكر «دولتشاه» أن هذين الشاعرين تهاجيا بهجويات وضيعة، بلغت منتهى الخسة والتسفل بحيث لم يسمح لنفسه أن يوردها فى كتابه (1). وكان لكل منهما معجبوه فكان «الأنورى» و «الخاقانى» من أشهر المعجبين بالأديب صابر بل كان «الأنورى» يفضله على الشاعر «سنائى» الذى يرجحه فى بعد الصيت والاشتهار، فهو يقول (2):
چون سنائى هستم آخر گرنه همچون صابرم
ومعناه:
أنا على كل حال شبيه بسنائى ولكنى لست شبيها بصابر
__________
(1) أنظر «تذكرة الشعراء» ص 92
(2) أنظر «لباب الألباب» لمحمد عوفى ج 2ص 117(1/448)
ولا يعرف من حياة «الأديب صابر» إلا قليل من الأخبار التى تتضمنها أشعاره.
وقد كان من أهل مدينة «ترمذ» ولكن «دولتشاه» يذكر لنا أنه أمضى أكثر حياته فى خراسان وخاصة فى مدينة «مرو». وفيما يلى بيتان من الشعر نقلهما «عوفى» فى كتابه اللباب، أنشأهما «الأديب صابر» بمناسبة موت أحد أمراء «ترمذ» الظالمين المسمى «أخطى» حينما كان يستقى الخمر، فانتقل كما يقول «عوفى» فى تعبيره الرشيق «بطريق الشراب إلى نار العذاب!!» وهذان البيتان يدلان على أن هذا الشاعر لم يحرم بلدته من نتائج مواهبه وثمرات قريحته فهو يقول (1):
روز مى خوردن بدوزخ رفتى اى اخطى ز بزم
صد هزاران آفرين بر روز مى خوردنت باد
تا تو رفتى عالمى از رفتن تو زنده شد
گرچهـ أهل لعنتى رحمت برين مردنت باد
ومعناهما:
لقد انتقلت فى يوم الشراب يا «أخطى»! من مجلس المنادمة إلى نار السعير!! فوا فرحتاه وطوبى لهذا اليوم الجدير بالتقدير!
فمنذ ذهبت أصبح العالم بعد ذهابك فى عيش نضير
وأنت جدير باللعنة ولكن يوم مماتك جدير بالرحمة والتقدير!!
وكان «الأديب صابر» يلقب بشهاب الدين، ولا شك أنه ظل فترة من الزمان فى علاقات طيبة مع «أتسز» بدليل هذه القصائد التى يمدحه فيها، ثم ساءت العلاقات بينهما حتى انتهى الأمر بقتله على يديه. ويبدو كذلك أنه كان متصلا بجملة من الشعراء المعاصرين بالإضافة إلى «الوطواط» فكتاب «لباب الألباب» ينقل لنا طائفة من أشعاره قالها فى مدح الشاعرين «عمادى» و «فتوحى» كما ينقل لنا مقطوعة قالها فى ذم الشاعر «شمالى». وفيما يلى مقطوعة من ثلاثة أبيات، كتبها الأديب صابر إلى رجل من ذوى النفوذ، هجاه جماعة من الظرفاء بهجوية نسبوها إليه فكتب إليه معتذرا: (2).
__________
(1) نفس المرجع ص 123
(2) المترجم: نقلنا هذه الأبيات عن كتاب «لباب الألباب» ج 2ص 134(1/449)
گفتند كه كرده نكوهش ... آن را كه ستوده جهانست
واين فعل نه فعل اين ضميرست ... واين قول نه قول اين زبانست
اين قصد كدام زن بمردست ... واين فعل كدام قلتبانست
ومعناها:
لقد قالوا: إنك هجوت من هو حقيق بمدائح العالمين!!
وفى الحق إن هذه الفعلة ليست من أفعالى ولا هذا القول من أقوالى!!
ويا ليتنى أعلم أى زانية قالت هذا القول أو أى قواد فعل هذه الفعلة!!
«عمعق البخارى» و «الرشيدى»
ومما يؤسف له أن هذا الأسلوب العنيف شائع على الخصوص بين شعراء القصور فى إيران، ولكننا لا نستطيع أن نقدم للقارىء الأوروبى إلا ألطف أمثلته وأقلها عنفا وفحشا. ويبدو لى أن الأمراء المعاصرين كانوا يجعلون مثل هذه الأقوال المنبعثة من فورات الغضب والغيظ موضوعا لكثير من متعتهم وتسليتهم، بل إنهم فى بعض الأحيان كانوا يحرضون عليها تحريضا، كما يتبين لنا ذلك من الحكاية المروية فى كتاب «چهار مقاله» عن شاعرين معاصرين هما «عمعق البخارى» و «الرشيدى» وأولهما كان شاعرا ل «خضر خان» أحد أمراء ال «ايلك خانيين» فيما وراء النهر وتركستان. يقول صاحب «چهار مقاله»:
«إن هذا الأمير كان محبا للشعراء، وقد التحق بخدمته الأمير عمعق، والأستاذ» «رشيدى، ونجار ساغرجى، وعلى پانيذى وبشر درغوش وبشر الاسفرايينى (1)» «وعلى سپهرى ونجيبى فرغانى، فنالوا منه الصلات الغالية والتشريفات الزاهية. وكان» «الأمير عمعق هو أمير الشعراء فى هذه الدولة فنال من أمرائها حظا موفورا ونعما سابغة» «كان فى عدادها الغلمان الأتراك والجوارى المليحات والجياد الصافنات والسرج» «الموشاة بالذهب والأوانى الفاخرة والأموال الطائلة والعقارات الوافرة. وكان» «عظيم الاحترام فى مجلس الملك مما اضطر سائر الشعراء إلى القيام على خدمته.»
__________
(1) المترجم: علق الأستاذ براون فى الهامش بأنه يفضل كتابة هذين الاسمين بلفظ «بشر» بدل «پسر» الفارسية بمعنى «ابن» ولذا وجب التنبيه، لأن الأصل الفارسى يذكر كلمة «پسر»(1/450)
«وكان يطمع فى أن يعامله الأستاذ رشيدى بمثل ما كان يلقاه من غيره من» «الشعراء. ولكن ظنه لم يتحقق، لأن رشيدى كان حديث السن غير أنه كان» «عالما بصناعة الشعر وكان يقوم على مدح الست زينب حتى أصبح عالى» «المنزلة فى حريم خضر خان، وكانت هدة السيدة أثيره لدى الملك فأخذت» «تمدح رشيدى وتعترف بفضله حتى علا أمره، وظفر بلقب «سيد الشعراء»،» «وأخذ الملك يحسن الظن به حتى وصله بالصلات العزيزة الغالية. وفى» «يوم من الأيام غاب رشيدى فسأل الملك عمعق: كيف ترى شعر عبد السيد» «الرشيدى؟ فقال: إنه شعر طيب منقح ومنقى ولكن يلزمه» «قدر من الملح!. ثم لم تلبث أن انقضت أيام قليلة حتى عاد رشيدى والتحق» «بخدمة الملك، فلما هم بالجلوس ناداه الملك وقال له كما هى عادة الملوك عندما» «يضربون الواحد من رعيتهم بالآخر: إننى سألت أمير الشعراء عن شعرك» «فقال إنه شعر طيب ولكنه خال من الملح، فيجب عليك أن تقول فى هذا» «المعنى بعض الأبيات، فانحنى رشيدى إجلالا ثم جلس فى مكانه وقال على البديهة:» «لقد عبت أشعارى، وقلت أنها خالية من الملح، ويجوز أن يكون ذلك حقا!!»
«لأن شعرى شبيه بالسكر والشهد، ولا يستطاب الملح مع هذين الشيئين الحلوين» «أما شعرك فهو اللفت والباقلاء، ولذا يلزمه الملح أيها القواد الخاسر (2)!!»
وقد سر «خضر خان» سرورا بالغا بهذه الأبيات العابثة الساخرة، بحيث إنه منح «رشيدى» كما يقول صاحب «چهار مقاله» ألف دينار من الذهب نقلت إليه فى مجلس الملك فى أربعة أطباق كما جرت بذلك العادة المتبعة لدى أمراء ما وراء النهر والتركستان.
__________
(2) المترجم: فيما يلى أصل هذه الأبيات بالفارسية:
شعرهاى مرا به بى نمكى ... عيب كردى روا بود شايد
شعر من همچوشكر وشهدست ... وندرين دو نمك نكو نايد
شلغم وباقاليست گفته تو ... نمك اى قلتبان ترا بايد(1/451)
نظامي عروضى سمرقندى:
آن لنا الآن أن نفصل الحديث بعض الشىء عن صاحب كتاب «چهار مقاله» الذى أكثرنا من النقل عنه فى هذا الفصل والفصول السابقة هذا الكتاب يعتبر فى رأيى من أهم الكتب المنثورة فى اللغة الفارسية وأكثرها متعة وإيناسا، كما إنه أكثر الكتب التى أعرفها فائدة فى الكشف عن الصميم من حياة القصور فى إيران وفى أواسط آسيا أثناء القرن السادس الهجرى والثانى عشر الميلادى. وقد كان مؤلفه شاعرا مداحا التحق بخدمة الغوريين أو «ملوك الجبال» وبقى فى خدمتهم كما يخبرنا هو نفسه حتى ألف هذا الكتاب أى مدة خمس وأربعين سنة. وهو يخبرنا أن اسمه الكامل كما ورد فى «چهار مقاله» هو «أحمد بن عمر بن على» وأن لقبه هو «نجم الدين» ولكنه مشهور بتخلصه الذى تخلص به وهو «نظامى». وقد كان بين معاصريه كما سيتضح لنا ذلك جملة من الأشخاص فاقوه شهرة وبعد صيت، عرف كل منهم باسم «نظامى»، كما إن له سميا متأخرا عنه هو «نظامى الگنجوى» الذى يعتبر بحق «نظامى» الآداب الفارسية غير منازع، ومن أجل ذلك يشيرون دائما إلى هذا الشاعر الذى ندرسه الآن باسم «نظامى العروضى السمرقندى». ولم يصل إلينا من أشعاره إلا النزر اليسير، بل إن «دولتشاه» نفسه لم ينقل إلينا إلا بيتا واحدا من قصة «ويس ورامين»، وهى قصة يبدو للأسف أنها ليست من آثاره (1). وقد أفرد له «عوفى» صفحتين من كتابه (2)، نقل فيهما خمس مقطوعات من أشعاره، كلها من أشعار المناسبات التى تمتاز بهذا النوع من الفحش الذى تحدثنا عنه فيما سبق، ثم يقرر بعد ذلك أنه ألف جملة «مثنويات» لم يبق منها شىء، بل إن أسماءها ضاعت واندثرت. وكل ما نعرفه عنه عبارة عن أخبار متفرقة يرويها هو نفسه فى كتابه «چهار مقاله»، ونستطيع أن نعتمد عليها فى تحديد التواريخ التالية من حياته وهى:
__________
(1) أنظر «تذكرة الشعراء» ص 6160
(2) أنظر «لباب الألباب» ص 208207(1/452)
1 - إنه كان فى مدينة «سمرقند» فى سنة 504هـ 1110م يسمع أخبار الشاعر المبكر «الرودكى».
2 - إنه كان فى مدينة «نيسابور» فى سنة 506هـ 1112فى صحبه الشاعر المنجم المشهور «عمر الخيام».
3 - إنه كان فى مدينة «هراة» بعد ذلك مدة ثلاث سنوات.
4 - وفى السنة التالية أى سنة 510هـ 1116م عاد إلى «نيسابور» ثم ذهب إلى «طوس» حيث أخذ يجمع أخبار الشاعر العظيم «الفردوسى» وانتهز الفرصة لزيارة قبره بهذه المدينة.
5 - وقد استطاع فى هذا الوقت بفضل مساعدة «المعزى» شاعر «سنجر» أن ينجح فى تقديم نفسه إلى هذا السلطان، فكان هذا بداية شهرته وعلو شأنه.
6 - ثم نجده ثانية فى مدينة «نيسابور» فى سنة 512هـ 1118م وسنة 530هـ 1135م. وتمكن فى هذه السنه الأخيرة من زيارة مقبرة «عمر الخيام». وقد شغلت هذه الزيارة أذهان طائفة من أعضاء نادى «عمر الخيام» لأنهم لم يقرأوا كتاب «چهار مقاله» فظلوا يقدسون الوردة الحمراء ويولونها كثيرا من التقدير، بينما تولى القصة المروية فى هذا الكتاب كل تقديرها لزهرات أشجار الخوخ والكمثرى التى كانت تنثر أوراقها على مقبرته!!
7 - وفى سنة 547هـ 1152م اختبأ فى مدينة «هراة» عقب هزيمة جيوش الغوريين على يدى «سنجر السلجوقى».
وقد كتب «نظامى» كتابه فى السنوات التسع التالية لهذه الواقعة، فهو يشير فيه إلى «حسين جهانسوز» أو «حسين محرق العالم» على أنه ما زال حيا يرزق ونحن نعلم أن هذا الرجل قد توفى فى سنة 557هـ 1161م.
أما ما يتعلق بالشطر الأخير من حياته فلا علم لنا به بل إن سنة وفاته مجهولة لنا تمام الجهل.
أما سبب خلود أسمه فيرجع أساسا إلى كتابه «چهار مقاله» وهو كتاب لم تقدر
قيمته حتى الآن تقديرا سليما، ولو أنه فى متناول دارسى الفارسية بفضل نسخته المطبوعة على الحجر فى مدينة طهران سنة 1305هـ 1887م كما إنه فى متناول قراء الإنجليزية فى ترجمته التى نشرتها له فى سنة 1899م. فى «مجلة الجمعية الملكية الأسيوية» والكتاب برمته جدير بالقراءة، وقد أكثرت من الرواية عنه فى صفحات هذا الكتاب، ولكنى مع ذلك كنت مضطرا لضيق المقام أن أحذف كثيرا من الأخبار الممتعة التى تاقت نفسى لذكرها. وسأكتفى فى هذا المقام بأن أنقل للقارىء حكاية لها دلالتها التاريخية المتصلة بحياة المؤلف، وهى الحكاية الأخيرة من حكايات الباب الثانى المتعلق بأخبار الشعراء، وبقول فيها:(1/453)
أما سبب خلود أسمه فيرجع أساسا إلى كتابه «چهار مقاله» وهو كتاب لم تقدر
قيمته حتى الآن تقديرا سليما، ولو أنه فى متناول دارسى الفارسية بفضل نسخته المطبوعة على الحجر فى مدينة طهران سنة 1305هـ 1887م كما إنه فى متناول قراء الإنجليزية فى ترجمته التى نشرتها له فى سنة 1899م. فى «مجلة الجمعية الملكية الأسيوية» والكتاب برمته جدير بالقراءة، وقد أكثرت من الرواية عنه فى صفحات هذا الكتاب، ولكنى مع ذلك كنت مضطرا لضيق المقام أن أحذف كثيرا من الأخبار الممتعة التى تاقت نفسى لذكرها. وسأكتفى فى هذا المقام بأن أنقل للقارىء حكاية لها دلالتها التاريخية المتصلة بحياة المؤلف، وهى الحكاية الأخيرة من حكايات الباب الثانى المتعلق بأخبار الشعراء، وبقول فيها:
«عند ما كنت فى خدمة مولاى ملك الجبال نور الله مضجعه ورفع فى الجنان» «موضعه، كان ذلك الملك الكبير قوى الاعتقاد فى، رفيع الهمة فى إكرامى» «ففى يوم عيد الفطر وصل إلى حضرته كبير من سلالة أكابر بلخ عمرها الله،» «هو الأمير العميد صفى الدين أبو بكر محمد بن الحسين الروانشاهى، وكان» «شابا فاضلا مفضلا، وكاتبا مجيدا مستوفيا لشروط الأدب، حائزا لثمار الفضل،» «مقبولا فى قرارات القلوب ممدوحا بأطراف الألسنه. ولم أكن فى هذا الوقت» «حاضرا فى خدمة الملك. فلما انعقد المجلس قال الملك للحاضرين: ادعوا النظامى.»
«فالتفت الأمير العميد صفى الدين وقال: وهل النظامى موجود هنا؟ فأجابوه:» «بلى. وظن الأمير أن المقصود هو نظامى منيرى. فقال: إنه شاعر مجيد» «ورجل معروف.»
«فلما أتانى الفراش واستدعانى أسرعت فوضعت الحذاء فى قدمى ودخلت المجلس» «وسلمت وجلست فى مكانى. فلما دار الشراب بضع دورات قال الأمير العميد» «إن نظامى لم يأت حتى الآن. ولكن ملك الجبال أجابه على الفور: بل إنه» «قد أتى وهو جالس هنالك!!»
«فقال الأمير العميد: إنى لا أقصد هذا «النظامى» بل أقصد نظاميا آخر،» «ثم إنى لا أعرف هذا الشخص!!»
«عند ذلك رأيت الملك وقد تغير وجهه، ثم التفت صوبى قائلا: هل يوجد»
«نظامى غيرك فى أى مكان؟ فأجبته: بلى يا مولاى يوجد اثنان آخران.»(1/454)
«عند ذلك رأيت الملك وقد تغير وجهه، ثم التفت صوبى قائلا: هل يوجد»
«نظامى غيرك فى أى مكان؟ فأجبته: بلى يا مولاى يوجد اثنان آخران.»
«أحدهما من أهل سمرقند ويسمونه «نظامى المنيرى» والآخر من أهل» «نيسابور ويسمونه «نظامى الأثيرى». وأما عبدكم الماثل بين يديكم فيسمونه» «بالنظامى العروضى.»
«فقال: وهل أنت خير منهما أم هل هما خير منك؟!»
«وعلم الأمير العميد أنه أخطأ القول، ورأى الملك وقد تغير حاله وغضب» «فقال: يا مولاى إن الآخرين معربدان يثيران المجالس بعربدتهما ويتسببان» «فى كثير من الضرر والأذى!!»
«فقال الملك مازحا متبسطا: تمهل حتى ترى هذا النظامى يشرب خمسة» «أقداح من النبيذ ثم يقلب المجلس رأسا على عقب!! ولكن خبرنى أى هؤلاء» «الثلاثة أكثر شاعرية وقدرة على الشعر؟ فقال الأمير العميد: لقد رأيت الاثنين» «الآخرين وأعرفهما حق المعرفة، أما هذا فلم يسبق لى رؤيته ولم أستمع إلى» «شعره، فياليته يقول فى المعنى السابق بضع أبيات حتى استمع إلى شعره وأحكم» «على ذوقه وأتمكن من أن أقرر أى هؤلاء الثلاثة أجود طبعا وأحسن» «شعرا!!»
«فالتفت الملك إلى وقال: هيا يا نظامى وحذار أن تخجلنا، وقل» «ما يرغب فيه الأمير العميد.»
«وكان لى فى ذلك الوقت عندما كنت أقوم بخدمة الملك، طبع فياض» «وخاطر وهاج وكان إكرامه وإنعامه يجعلان بديهتى مواتية دانية»
«فلم أكد أمسك القلم ويدور الشراب دورتين حتى قلت هذه الأبيات» «الخمسة (1):»
__________
(1) المترجم: فيما يلى نص هذه الأبيات بالفارسية:
در جهان سه نظاميئيم اى شاه ... كه جهانى ز ما بافغانند
من بورساد پيش تخت شهم ... وآن دو در مرو پيش سلطانند(1/455)
«أيها الملك! يوجد فى العالم «نظاميون» ثلاثة، قد سارت بذكرهم» «الركبان وحلجل بأسمهم كل مكان!!»
«وأنا واحد منهم أمام عرش المليك فى مدينة «ورساد»، وأما الآخران» «ففى مرو عند السلطان!!»
«وفى الحق قد برز كل منهما فى قول الشعر حتى أصبح كل منهما» «مفخرة خراسان!!»
«وهما يقولان الشعر كالماء الجارى، ويقدران مواضع الكلم كلحكيم» «ذى البيان!!»
«ولكننى أنا الشراب المعتق إذا أدكتهما فإنهما يعجزان ويتخاذلان!!»
«فلما عرضت هذه الأبيات انحنى الأمير العميد وقال: دعك من جميع النظاميين» «فلست أعرف بين شعراء ما وراء النهر وخراسان والعراق أحد يستطيع» «ارتجال مثل هذه الأبيات الخمسة وأن يجعلها بهذه المتانة والجزالة والعذوبة» «بحيث تكون مليئة بالألفاظ العذبة، مشحونة بأبكار المعانى فاهنأ» «يا نظامى فليس لك نظير على سطح الأرض ويا مولاى يا صاحب» «الجلالة إن له لطبعا لطيفا، وخاطرا قويا، وفضلا كاملا، وقد أصبح» «نادرة زمانه يفضل إقبالك وهمتك (رفعهما الله). وسيزداد شأنه علوا لأنه» «ما زال شابا فى مقتبل العمر!!»
«فاتقد وجه الملك كثيرا، وبدت عليه بشاشة بالغة، وكال لى عبارات الإستحسان» «ثم قال: لقد منحتك منجم الرصاص فى ورساد» وجعلته لك منذ هذا» «العيد الأصغر حتى عيد الأضحى، فارسل عاملك حتى يشرف عليه.»
__________
بحقيقت كه در سخن امرور ... هر يكى مفخر خراسانند
گر چهـ همچون روان سخن گويند ... ور چهـ همچون خردسخن رانند
من شرابم كه شان چودر يابم ... هر دو از كار خود فرو مانند(1/456)
«ففعلت ذلك وأرسلت «إسحاق اليهودى» وكان ذلك فى صميم الصيف،» «فلما اشتغل الرجال استطاعوا أن يذيبوا كثيرا من هذا المعدن حتى بلغ مقداره اثنى» «عشر الف من من الرصاص الخالص، أخرجوها فى سبعين يوما، وكان نصيبى» «منها الخمس. وأصبح الملك يقدرنى أكثر من ذى قبل بآلاف المرات أنار» «الله مضجعه العزيز بشمع رضاه، وفرح روحه الشريفة برحماته وعطاياه،» «بمنه وكرمه.»
ونستطيع أن نرى من هذه الحكايه أن شاعرنا لم يكن متواضعا فى تقرير مواهبه والكشف عن مزاياه، ولكننا حيال سروره الواضح عند تصريحه بهذه المواهب والمزايا لا نستطيع إلا أن نجرد أنفسنا من كل أسلحة النقد والهجوم، وأن نقنعها بأن التواضع أمر قلما اتصف به شعراء الفرس أو عرفوه!!
وقبل أن يتطرق بنا الحديث إلى الكلام عن «الأنورى» أشهر الشعراء الملتحقين بقصر «سنجر» يجب أن نتحدث حديثا مختصرا عن شاعرين آخرين أو ثلاثة من زملائه. فهم وإن كانوا أقل شهرة منه ومن سائر الشعراء الذين ذكرناهم فى هذا الفصل، إلا أنهم مبرزون بين كثرة من أصحاب الشعر الجيد الذين عاشوا فى هذه الفترة ومن الحق علينا أن نخصهم بنظرة عابرة.
عبد الواسع الجبلى:
هذا الشاعر كما تفيد نسبته من أهل الولاية الجبلية «غرجستان»، وقد خرج منها إلى «هراة» ثم إلى «غزنه» حيث التحق فترة بقصر «السلطان بهرامشاه ابن مسعود» فلما سار «سنجر» لمحاربة هذا السلطان فى سنة 530هـ 1135م استطاع هذا الشاعر كما يحدثنا «دولتشاه»، أن ينال رضا «سنجر» بقصيدة جميله مبتكرة، ننقل منها الأبيات الثمانية الآتية (1):
__________
(1) أنظر «تذكرة الشعراء» ص 74(1/457)
ز دل كامل خسرو ورامين شامل سلطان
تذرو وكبك وگور ومور درگشتند در گيهان
يكى همخانه شاهين، دوم همخوابه طغرل
سه ديگر مؤنس ضيغم، چهارم محرم ثعبان
خداوند جهان سنجر كه همواره چهار آيت
بود در رايت وراى وجبين وروى او پنهان
يكى بهروزىء دولت، دوم فيروزئ ملت
سه ديگر زينت دنيا، چهارم نصرت ايمان
بنان اوست در بخشش، سنان اوست در كوشش
لقاى اوست در مجلس، لواى اوست در ميدان
يكى ارزاق را باسط، دوم ارواح را قابض
سه ديگر سعد را مايه، چهارم فتح را برهان
شد اندر قرن او باطل، شد اندر عهد او ناقص
شد اندر عصر او حاصل، شد اندر وقت او نقصان
يكى ناموس كيخسرو، دوم مقدار اسكندر
سه ديگر نام افريدون، چهارم ذكر نوشيروان
ومعناها:
بسبب ما امتاز به السلطان من عدل وأمن شامل
أصبح الأمن يشمل التذرج والفراخ البرية وحمر الوحش والنمل فى كل مكان
فأصبحت التذرجة تعاشر «الشاهين»، وأصبحت الفرخة البرية قرينة للصقر.
وأصبح حمار الوحش مؤنسا للضيغم، وأصبحت النملة محرما للثعبان!!
وفى ملك العالمين «سنجر» تستتر أربع آيات
توجد على الدوام فى رايته ورأيه وجبينه ووجهه
ففى رايته الظفر والاقبال وفى رأيه الفوز وتحقيق الامال
وفى جبينه زينة الدنيا والحال وفى وجهه نصرة الايمان والأبطال!!
وبنانه مخصص للعطاء، وسنانه مخصص لجهاد الأعداء(1/458)
ولقاؤه محبب فى مجلس الأصدقاء، ولواؤه مرتفع فى ميدان الفداء!!
فأما بنانه فباسط للأرزاق وأما سنانه فقابض للأرواح
وأما لقاؤه فسبب للهناء وأما لواؤه فبرهان على الفتح والمضاء!!
وقد بطل شىء فى زمنه ونقص شىء فى عهده
وحصل شىء فى عصره وقل شىء فى وقته!!
فقد بطلت سطوة «كيخسرو» ونقصت رهبة «الاسكندر» وحصلت معدلة «أفريدون» وقلت شهرة «انو شيروان»!!
ويعتمد «دولتشاه» على أسباب لا نراها كافية ولا شافية، فينكر القصة المعروفة عن «عبد الواسع الجبلى» وأنه فى بداية شأنه كان فلاحا جلفا، استطاع أن يلفت إليه نظر واحد من الأثرياء الأقوياء، بشطرات من الشعر قالها على البديهة، وأخذ يرددها دون أن يظن أن أحدا يصغى إليه، ليطرد بها بعض الإبل التى أغارت على حقل من القطن كان يقوم على حراسته، فأخذ يقول (1):
اشتر درازگردنا ... دانم چهـ خواهى كردنا
كردن دراز ميكنى ... پنبه بخواهى خوردنا
ومعناها:
أيتها الإبل يا ذات الرقاب الطويلة!!
إنى أعلم ماذا تصنعين من حيلة!!
إنك تمدين رقبتك المستطيلة!!
لكى تأكلى هذه الأقطان الجميلة!!
* * * __________
(1) يؤكد «دولتشاه» أنه لم ير هذه القصة فى أى كتاب من كتب التاريخ المعتمدة، ولكن فاته أنها مذكورة فى كتاب «تاريخ گزيدة» وهو من المصادر التى رجع اليها فى تأليف كتابه «تذكرة الشعراء» ويعتبر من كتب المصادر التى نعتمد عليها أكثر مما نعتمد على تذكرته.(1/459)
سوزنى:
السوزنى من أهل مدينة «نسف» (1) أو «سمرقند» كما يقول «دولتشاه».
واسمه الكامل «محمد بن على لسوزنى» وقد اشتهر بقول الهزليات وبرع فيها أثناء شبابه، والظاهر أن أشعاره كانت لاذعة جدا حتى بالنسبة لأهل زمانه والوسط الذى عاش فيه (2) فإن «دولتشاه» الذى لم يعرف بالتزمت اعتذر عن أن يورد شيئا من أمثلتها، بينما أحل لنفسه فى غير امتعاض أن يذكر الأخبار الفاحشة التى وقعت بين «أبى العلاء الگنجوى» و «الخاقانى»، وكذلك فعل «عوفى» فاعتبر هزلياته مليئة بالحكمة ولكنه رأى من الخير أن «يقصر عنان البيان عن إيراد أمثلتها» ودعا الله أن يغفر ذنوب هذا الشاعر الخاطىء لأنه تاب وأناب فى شيخوخته وقال جملة قصائد فى التوحيد والاستغفار.
وقد ذكر عوفى أنه اشتهر بلقب «السوزنى» لتعشقه غلاما جميلا كان يشتغل صبيا لرجل يحترف صناعة الإبر (3).
وقد ذكر عوفى أيضا أن «حميد الدين الجوهرى» كان من خصوم «السوزنى» وقد تبودلت بينهما جملة من المعارضات الشعرية.
ويذكر «دولتشاه» أن السوزنى مات فى سنة 569هـ 1173م. كما أن صاحب «تاريخ گزيده» يقول إن الله عفا عن السوزنى لقوله هذا البيت من الشعر:
چار چيز آورده ام يا رب كه در گنج تو نيست
نيستى وحاجت وجرم وگناه آورده ام
__________
(1) المترجم: «نسف» مدينة كبيرة بين جيحون وسمرقند.
(2) أورد صاحب «تاريخ گزيده» مثلا واحدا من أشعار «السوزنى» يتألف من ثلاثة أبيات من الشعر استشهد بها فى تبريز رأيه بأن «السوزنى» جاوز حدود المعقول فى هزلياته وقد كتب الشاعر هذه الأبيات فى الواحدة والخمسين من عمره ولم يشعر فيها بشىء من؟؟؟
أو الاستغفار. وقد ذكر «تاريخ گزيده» أن اسم «السوزنى» هو «أبو بكر السلمانى» وأنه من قرية «كلاش» من توابع «سمرقند».
(3) المترجم: «سوزن» فى اللغة الفارسية بمعنى: إبرة.(1/460)
ومعناها:
إنى جالب لك يا ربى أربعة أشياء لا توجد فى كنوزك العامرة
وهى: العدم والحاجة والذنوب والجرائر الجائرة!!
ويقرر «السوزنى» نفسه أن حياته لم تخل من النقد والتجريح، وهو يقرر هذه الحقيقة ضمن قصيدة طويلة أوردها «دولتشاه» فى ص 100من كتابه «تذكرة الشعراء».
رفتم براه ديو وفتادم بدام او ... وز ديو ديوتر شدم از سيرت تباه
يك روز بيگناه نبودم بعمر خويش ... گويا كه بود بيگنهى نزد من گناه
هر گونه گناه ز اعضاى من برست ... چون از زمين نم زده هر گونه گياه
فردايروز حشر كه امروز منكرند ... اعضاى من بود بر اعمال من گواه
ومعناها:
لقد سرت فى طريق الشيطان ووقعت فى حبائله الشائكة
بحيث تشيطنت أكثر من الشيطان، وفقته فى سيرته الخاطئة!!
ولم أكن فى يوم من أيام حياتى مبرءا من الآثام
حتى لقد خيّل لى أن البراءة منها واحدة من الجرائر العظام!!
وقد نمت من سائر أعضائى مختلف الجرائر والأخطاء
كما تنمو الأعشاب فى الأرض الخصبة المندّاة بالماء!!
واليوم إذا أنكر المنكرون ذنوبهم ففى يوم الحشر فى الغداة
ستكون أعضاء بدنى شاهدة على أعمالى فى غير مداراة!!
ويذكر «دولتشاه» أن ثلاثة من الشعراء يعتبرون من تلاميذ «السوزنى» ومقلديه وهم:
1 - على الشطرنجى صاحب قصيدة «اللكلك» التى أوردها «عوفى» فى كتابه لباب الألباب ج 2ص 200199(1/461)
2 - جنتى النخشبى (1).
3 - لامعى البخارى.
صغار الشعراء
فى هذا الزمان
من نسى ذكرهم من الشعراء
من العبث أن نحاول فى هذا المقام ذكر سائر الشعراء الذين عاشوا فى هذه الفترة وحققوا شيئا من الشهرة أثناء حياتهم، لأن أسماءهم قد عفى عليها النسيان وأصبح لا محيص لنا عن الرجوع إليها فى كتب التواريخ والتراجم القديمة. وقد ذكر محمد عوفى فى الباب العاشر من كتابه «اللباب» وهو الباب الذى خصصه لشعراء الفترة الأولى من عهد السلاجقة أنه عاش فى الفترة التى تنتهى بموت «سنجر» والتى هى موضوع دراستنا فى هذا الفصل، اثنان وخمسون شاعرا لا يدخل فى عدادهم الشعراء من الأمراء والوزراء والأطباء الذين خصص لهم عوفى الشق الأول من كتابه. ولا شك أن جماعة من هؤلاء جديرون بالذكر فى أى كتاب يكون أوسع مقاما من كتابى هذا ولكنى لن أجرؤ على التحدث. عنهم فى هذا المكان لسبب آخر هو أنى لم أكون عن شخصياتهم فكرة واضحة، ولا عن آثارهم رأيا قاطعا ومن هؤلاء:
«جوهرى الهروى» و «سمائى المروزى» (2) و «أثير الدين المروزى» و «سيفى النيسابورى» و «روحى الولوالجى» و «رشيدى السمرقندى» و «أثير الدين الأخسيكتى» و «أبو المعالى الرازى» و «قوامى الرازى» و «أبو الفرج الرونى» و «كوهيارى الطبرى» و «سيد حسن الغزنوى» و «عماد الدين الغزنوى» و «على بن أبى رجاء الغزنوى» (3).
__________
(1) المترجم: النخشبى نسبة إلى مدينة «نخشب» من مدن ما وراء النهر بين جيحون وسمرقند ويقول ياقوت فى معجمه أن «نخشب» هى «نسف» نفسها.
(2) المترجم: الهروى نسبة إلى مدينة «هراة» والمروزى نسبة إلى مدينة «مرو».
(3) المترجم: كل شاعر من هؤلاء منسوب إلى بلدته. فالولوالجى نسبة إلى «ولوالج» بلد من أعمال «بدخشان» خلف بلخ وطخارستان والاخسيكتى نسبة إلى «إخسيكت» وهى مدينة بما وراء النهر وهى قصبة ناحية «فرغانه» على شاطئ نهر الشاش والرازى نسبة إلى مدينة «الرى» والرونى نسبة إلى مدينة «رونه» من خطة لوهور والغزنوى نسبة إلى مدينة «غزنه» والطبرى نسبة الولاية «طبرستان».(1/462)
ولكنى رغم إعراضى عن ذكر هؤلاء وأمثالهم، أحس بتقصيرى وخلوى من دلائل الشهامة إذا أهملت ذكر الشاعرة الأولى من شاعرات الفرس ومضيت عنها فى صمت وسكوت، وهى الشاعرة «مهستى».
مهستى
لا نعرف من أمر «مهستى» إلا قليلا من الأخبار، وما زال اسمها وضبطه واشتقاقه من المسائل التى لم يستقر عليها الرأى حتى الآن (1). ويبدو لى إذا لم نسىء الظن بها كثيرا أنها كانت طروبة النزعة مرحة النفس، وقد استخدمت «الرباعى» فى أكثر أقوالها، ويقال إنها استطاعت أن تحوز رضا «السلطان سنجر» وحسن قبوله عندما غادر مجلسه فى ليلة من الليالى ليمتطى جواده فلما هم بفعل ذلك وجد الثلج يتساقط ويغطى الأرض فقالت على البديهة الرباعية الآتية (2):
شاها فلكت اسپ سعادت زين كرد ... وز جمله خسروان ترا تحسين كرد
تا در حركت سمند زرين نعلت ... بر گل ننهد پاى زمين سيمين كرد
ومعناها:
أيها المليك لقد أسرج الفلك لك جواد السعادة والهناء
وميزك على سائر الملوك بالعزة والقدرة والسناء!!
وجعل لك الأرض فضية الأديم، ناصعة الوجه، بيضاء
حتى لا يطأ جوادك بحدوته الذهبية طينتها الغبراء!!
وقد ذكروا أن «مهستى» كانت معشوقة للشاعر «تاج الدين أحمد بن الخطيب الگنجوى». ونقل صاحب «تاريخ گزيده» فى كتابه جملة من الرباعيات التى
__________
(1) يضطونها أحيانا بكسر الميم وسكون الهاء وكسر السين فيقولون «مهستى»، وأحيانا بكسر الميم وفتح الهاء وسكون السين فيقولون «مهستى»، وأحيانا بفتح الميم وسكون الهاء وفتح السين فيقولون «مهستى».
(2) أنظر، تذكرة الشعراء، ص 65.(1/463)
تبودلت بينهما، كما أورد بالإضافة إلى ذلك رباعيتين أخريين وجهتهما «مهستى» إلى جزار شاب كانت تتعشقه وتهيم به، وقد كتب «اعتماد السلطنة» مقالا قصيرا عنها فى الجزء الثالث من كتابه «خيرات حسان» وهو كتاب يتضمن سير شهيرات النساء، ولكن هذا المقال لا يكشف عن جديد نتزود به بشأن حياتها وآثارها، ولم نذكره فى هذا المقام إلا لننبه القارىء إلى أن الرباعية التى تسبق الأخيرة من بين الرباعيات المنسوبة إليها فى هذا الكتاب إنما هى من قول شاعرة أخرى، هى «بنت النجاريه» كما يقرر ذلك صاحب «تاريخ گزيده».
فريد كاتب عماد زوزنى أو عماد الزوزنى سيد حسن الغزنوى.
ولا بد لنا أيضا أن نذكر أن من أهم صغار الشعراء الذين ظهروا فى هذه الفترة الشعراء الثلاثة الآتية أسماؤهم:
1 - فريد كاتب أو فريد دبير وكلاهما بمعنى فريد الكاتب.
2 - عماد زوزنى أو عماد الزوزنى.
3 - سيد حسن الغزنوى.
وقد أنشأ «فريد الكاتب» عند هزيمة «سنجر» على أيدى «الغز» فى سنة 535هـ 1140م الرباعية التالية التى اشتهرت شهرة بالغة حتى نرى لزاما علينا أن ننقلها فى هذا المقام:
شاها ز سنان تو جهانى شد راست ... تيغ تو چهل سال ز اعدا كين خواست
گر چشم بدى رسيد آن هم ز قضاست ... كان كس كه بيك حال بماندست خداست
ومعناهما:
أيها المليك لقد استقامت الدنيا بفضل سنانك ومضائك
وثأر سيفك، أربعين سنة، من خصومك وأعدائك
فإذا أصابك الآن نحس فما ذلك إلا من تقدير قضائك
والله وحده هو الذى يبقى على حال واحدة فلا تحزن لبلائك!!
«الأنورى» و «الخاقانى» و «نظامى الگنجوى»
أما أشهر الشعراء إطلاقا من بين الشعراء الذين اتصل ذكرهم بقصر «سنجر» فهو الشاعر «الأنورى» وسندرسه بالتفصيل فى الفصل التالى مع اثنين آخرين من معاصريه الشبان هما «الخاقانى» و «نظامى الگنجوى» فإن لهؤلاء الثلاثة أهمية بالغة تكسبهم الحق فى دراسة واسعة مفصلة.(1/464)
التواليف الفارسية المنثورة فى هذا العصر
«حدائق السحر» «چهار مقاله» «كيمياى سعادت»
تناولنا بالبحث فيما سبق كتابين من أهم الكتب الفارسية المنثورة التى ظهرت فى هذا العصر وهما.
1 «حدائق السحر»: تأليف رشيد الدين الوطواط.
2 «چهار مقاله»: تأليف نظامى العروضى السمرقندى.
وقد تحدثنا أيضا بعض الحديث عن «الغزالى» ومؤلفاته ويكفى أن نذكر للقارىء فى هذا المقام أن أهم مؤلفاته الفارسية هو كتاب:
3 «كيمياى سعادت»: أو كيمياء السعادة وهو عبارة عن مختصر لكتابه الموسع الذى كتبه بالعربية باسم «إحياء العلوم».
ثلاثة كتب منثورة أخرى
وبقى علينا أن ننبه القارىء إلى ثلاثة كتب منثورة أخرى جديرة بالذكر والدراسة وهى:
4 «ذخيره خوارزمشاهى»
5 «مقامات حميدى» وهى مقامات مكتوبة بالفارسية
6 «كليلة ودمنة» كما ترجمها «أبو المعالى نصر الله»
وسنتحدث فيما يلى عن هذه الكتب الثلاثة.
ذخيره خوارزمشاهى:
وهى عبارة عن موسوعة طبية، وضعها فى بداية القرن السادس الهجرى (الثانى عشر الميلادى) «زين الدين أبو إبراهيم إسماعيل الجرجانى» وأهداها إلى «قطب الدين خوارزمشاه» والد السلطان «أتسز»، وهى غير جديرة بإضاعة الوقت فى التحدث عنها، لأنها لا تدخل فى دائرة الآثار الأدبية الفنية، وهى فى رأيى عبارة عن مختصر أو تلخيص للنظريات الطبية والتجريبية التى اتبعها «ابن سينا» وخلفاؤه.
وقد وضعها صاحبها باللغة الفارسية لتكون فى متناول الهواة الذين لا يحسنون فن التطبيب أو لا يجيدون معرفة للغة العربية (1)(1/465)
وهى عبارة عن موسوعة طبية، وضعها فى بداية القرن السادس الهجرى (الثانى عشر الميلادى) «زين الدين أبو إبراهيم إسماعيل الجرجانى» وأهداها إلى «قطب الدين خوارزمشاه» والد السلطان «أتسز»، وهى غير جديرة بإضاعة الوقت فى التحدث عنها، لأنها لا تدخل فى دائرة الآثار الأدبية الفنية، وهى فى رأيى عبارة عن مختصر أو تلخيص للنظريات الطبية والتجريبية التى اتبعها «ابن سينا» وخلفاؤه.
وقد وضعها صاحبها باللغة الفارسية لتكون فى متناول الهواة الذين لا يحسنون فن التطبيب أو لا يجيدون معرفة للغة العربية (1)
مقامات حميدى:
وضع هذه المقامات «القاضى حميد الدين أبو بكر البلخى» من معاصرى «الأنورى» وممدوحيه. وهى تقليد فارسى للمقامات العربية الذائعة الصيت التى وضعها «بديع الزمان الهمذانى» و «الحريرى» اللذين يرجع إليهما الفضل فى إبداع هذا الأسلوب المصنوع والعمل على ترويجه.
وقد بدأ «حميد الدين» وضع مقاماته الفارسية فى صيف سنة 551هـ 1156م وقد ذكر صاحب «چهار مقاله» أن هذه المقامات تعتبر نموذجا للبلاغة وجودة الأسلوب.
وهى عبارة عن ثلاث وعشرين مقامة أو أربع وعشرين مقامة كما اشتملت عليها النسختان المطبوعتان على الحجر فى طهران وكانپور. وقد توفى «حميد الدين» فى سنة 560هـ 1164م.
ووصف «ريو» مشتملات هذه المقامات وصفا شاملا (2). وهى بلا شك لا تبلغ مبلغ زميلاتها العربية من حيث الموضوع والسبك والبراعة فى الأداء، ولكنها مع ذلك حازت كثيرا من إعجاب الفرس وتقديرهم كما تشهد بذلك الأبيات الآتية من شعر الأنورى: (3)
هر سخن كان نيست قرآن يا حديث مصطفى
از مقامات «حميد الدين» شد اكنون ترهات
__________
(1) ارجع إلى وصف «ريو» لمحتويات هذا الكتاب فى فهرست المخطوطات الفارسية فى المتحف البريطانى ص 468466.
(2) نفس المرجع ص 747.
(3) وردت هذه الأبيات فى ص 251من طبعة تبريز سنة 1266هـ وفى ص 602من طبعة لكنو سنة 1297م.
[المترجم: نقلت النص الفارسى عن الطبعة الأخيرة.](1/466)
اشك اعمى دان مقامات «حريرى» و «بديع»
پيش آن درياى مالامال از آب حيات
شاد باش اى عنصر محموديا را روى تو
رو كه تو محمود عصرى ما بتان سومنات
از مقامات تو گر فصلى بخوانم بر غدات
حالى از نامنطقى جذر أصم يابد نجات
عقل كل خطى تأمل كرد ازو گفتار عجب
علم اكسير سخن داند مگر أقضى القضات
ديرمان اى راى قدرت عالم تأييد را
آفتابى بى زوال وآسمانى باثبات
ومعناها:
كل كلام لا يكون من الأحاديث النبوية أو من القرآن وآياته
أصبح بعد مقامات «حميد الدين» من لغو القول وترهاته!!
فاعتبر مقامات «الحريرى» و «بديع الزمان» هى دموع العميان
وأما مقامات «حميد الدين» فهى البحار المليئة بماء الحياة!!
فاسعد حالا يا من أنت طليعة الشعراء المبرزين
وسر قدما فإنك «محمود» هذا العصر وما نحن إلا أصنام «سومنات» (1)
ولو أننى قرأت فصلا من مقاماتك، لاستطاع فى الغداة
أن ينجو الأصم الأبكم مما به من بكم وصمم!!
ولقد تأملك «العقل الكلى» فقال يا للعجب العجاب!!
إنما يعرف أقضى القضاة (أى حميد الدين علم اكسير الكلام؟!)
__________
(1) المترجم: «سومنات» هى التى غزاها السلطان محمود؟؟؟ بها من أصنام(1/467)
فعش طويلا يا صاحب الرأى القدير فإنك فى عالم التأييد شمس لا تغرب ولا تزول، وسماء مستقرة ثابتة كل الثبات!!
ويختلف ترتيب المقامات وفقا لاختلاف النسخ. وأسماؤها فى نسخة طهران تختلف عن نظائرها فى النسخة المخطوطة التى وصفها الدكتور «ريو». وبعض هذه المقامات ما هو فى الحقيقة إلا «مناظرات» كالمقامة المتعلقة بالشباب والمشيب والمتعلقة بالسنى والشيعى، والمتعلقة بالطبيب والمنجم وبعضها يتحدث عن موضوعات مختلفة كالربيع والحب والخريف والجنون وبعضها عبارة عن ألغاز أو أحاجى أو معميات كما أن بعضها الآخر يتناول موضوعات فقهية أو تأملات صوفية. وهناك مقامتان من النوع الوصفى، وصف فيهما المؤلف مدينتى «بلخ» و «سمرقند» ولقد خيل لى أنهما تشتملان على كثير من الأخبار الحقيقية الموثوق بها، بل وعلى أخبار الرجال الذين عاشوا فيهما، ولكن سرعان ما تحطمت آمالى عندما تحققت بأن الناحية اللفظية قد غطت على الناحية الموضوعية وطغت عليها.
وأسلوب هذه المقامات الذى يمتاز بالتصنيع والتكلف لا يسمح بنقلها إلى لغة أخرى، لأن «الأسلوب» هو عماد هذه المقامات. وأما «الموضوع» فيعتبر أمرا ثانويا بالنسبة له، ومن أجل ذلك فإننا إذا شئنا أن نعطى القارىء فكرة عن هذه المقامات فى أصلها الفارسى وجب علينا ألا نترجم فنيا بل أن نفسر ونحاول التلخيص والتقليد، وفيما يلى مثل أخذناه من وصف مدينة «بلخ» قبل غارة «الغز» عليها فى سنة 548هـ 1153م وما أصابها بعد هذه الغارة (1):
«روى بصوب خراسان نهادم، چون بسرحد آنولايت رسيدم از واردان بلخ ديگر گونه حكايت شنيدم
ومن يسأل الركبان عن كل غائب ... فلا بد أن يلقى بسيره؟؟؟
__________
(1) هذه هى المقامة العشرون فى طبعة طهران وقد نقلت منها القطعة الواقعة فى ص؟؟؟
[المترجم: نشر الأستاذ على أصغر الهمدانى هذه المقامات فى مدينة تبريز سنة 1302هـ].(1/468)
ثقاة رواة خبر دادند كه مشتابى كه مقصود ومقصد نه بر نمط ونسق عهد گذشته، وأيام نوشته است، آن همه نسيمها بسموم بدل شده است، وآن همه شكرها بسموم عوض گشته، از رياحين اين بساتين بجز خار نيست، واز آن أقداح أفراح در سر جز خمار نه، معشوق را در لباس خوارى وجامه سوگوارى نشايد ديد، ومربع ياران در خلقان بيمرادى مشاهده نبايد كرد
أمن أم أوفى دمنة لم تكلم
گفتم چشم بد كدام ناظر بر اين رياض ناضر بازخورد، وكدام سموم نفاق آن انتظام وانتساق را از هم جدا كرد.؟! گفتند كه اى جوان طوارق حدثان ونوازل زمان را جنس اين تصرف بسيار است، وأمثال اين دستبرد بيشمار، وان الدهر ظلام، وليس البيان كالعيان. بران تا بدانى وبرو تا ببينى كه ذكر غايب از جمله معايب است»
وترجمتها: (1)
«فانصرفت عن هذا المكان، واتجهت صوب خراسان فلما بلغت حدود هذه الولاية، وانتهيت إلى هذه الغاية، سمعت من بعض من وردوا مدينة «بلخ» حكاية غريبة للغاية:
ومن يسأل الركبان عن كل غائب ... فلا بد أن يلقى بشيرا وناعيا
فقال لى الثقاة من الرواة، تمهل ولا تعجل، فمقصودك ومقصدك ليسا على نمط العهود السابقة، ولا على نسق الأيام السالفة، فقد تبدلت النسائم بالسموم، والحلوى بالسموم ولم يبق من رياحين البساتين إلا أشواكها، ولم يبق فى الرؤوس من أقداح الراح إلا خمارها، ولا يجوز رؤية المعشوق فى لباس الهوان، متدثرا بثياب الأحزان كما لا يجب مشاهدة مربع الأحباب، وقد رانت عليه الذلة وخيم عليه الخراب.
__________
(1) المترجم: لم يذكر الأستاذ «براون» النص الفارسى وإنما ذكر ترجمته وحاول أن يسجع العبارات الانجليزية ليعطى القارئ الانجليزى صورة عن أسلوب هذه المقامات. وقد ترجمتها أنا أيضا مسجعة لاعتيادنا هذا الأسلوب فى العربية.(1/469)
«أمن أم أوفى دمنة لم تكلم»
فقلت لهم: أى النواظر أصابت بالحسد هذه الرياض النواضر؟! وأى سموم النفاق قد شتت هذا الانتظام والاتساق؟!
فقالوا لى: أيها الشاب الكريم والفتى العظيم!! ان طوارق الحدثان، ونوازل الزمان، لها أمثلة كثيرة من هذه التصرفات، وأشباه لا يحصيها العد من هذه الكوارث والآفات، وأن الدهر ظلام، وليس الخبر كالعيان، فتقدم حتى تعلم، واذهب بقدميك حتى ترى الأمر بعينيك، فالتحدث عن الغائب، معدود فى جملة العيوب والشوائب.
كليله ودمنه:
انتقل الآن إلى الحديث عن ثالث الكتب الفارسية المنثورة التى ظهرت فى هذا العصر، وأعنى به الترجمة الفارسية التى قام بها «نظام الدين أبو المعالى نصر الله» النسخة المشهورة من كتاب «كليله ودمنه» وهى التى كتبها بالعربية «عبد الله بن المقفع».
وقد وضع «أبو المعالى» هذه الترجمة الفارسية امتثالا لأمر «بهرامشاه الغزنوى» ثم أهداها إليه. (وقد حكم هذا السلطان من سنة 512هـ 1118م إلى سنة 544هـ 1150م وقيل إلى سنة 547هـ 1153م أو إلى السنة التالية (1).) وقد وضعها أبو المعالى على كل حال بعد سنة 539هـ 1144م كما يقول بذلك «ريو» (2).
وقد أشار «ريو» أيضا إلى أن هذه الترجمة نالت كثيرا من الإعجاب فى إيران بحيث إن مؤرخ المغول ومادحهم «الوصاف» يجعلها مثالا للفصاحة والبلاغة، كما أن صاحب «هفت إقليم» يقرر أن سائر المنثورات الفارسية لا تبلغ مبلغها من حيث الجودة وحسن السبك.
وقد طبعت هذه الترجمة على الحجر فى مدينة طهران سنة 1305هـ نهاية
__________
(1) التاريخ الأول وارد فى كتاب «تاريخ گزيده» والثانى فى «روضة الصفا» والثالث فى «ابن الأثير».
(2) أنظر: فهرست المخطوطات الفارسية المحفوظة فى المتحف البريطانى ص 746745(1/470)
سنة 1887الميلادية، وسأشير إلى هذه الطبعة كلما أحوجنى الأمر إلى ذلك (1).
وأول ما أقرره فى هذا الموضوع هو أن الكتب العالمية التى نجحت نجاح «كليله ودمنه» قليلة جدا، كما أن الكتب التى ترجمت إلى سائر اللغات مثل «كليله ودمنه» نادرة جدا. وأصل هذا الكتاب هندى، أحضروه إلى إيران فى القرن السادس الميلادى أثناء حكم «كسرى أنو شيروان» ثم ترجموه إلى اللغة «البهلوية» ثم نقلت الترجمة البهلوية مباشرة إلى اللغة السريانية وإلى اللغة العربية، ثم نقلت النسخة العربية إلى كثير من اللغات الشرقية والغربية.
وقد وضح «كيث فولكنر» بالتفصيل تاريخ «كليله ودمنه» فى كتابه الذى طبعه فى سنة 1885م فى مطبعة جامعة كامبردج بعنوان «كليله ودمنه أو قصص بيدبا» (2) وقد أورد فى ص (85) من المقدمة جداول وافية تبين لنا العلاقه بين هذه النسخ المختلفة وتواريخها، وتبين لنا أن جميع هذه النسخ منقولة عن النسخة البهلوية المفقودة التى نقلت فى سنة 570م إلى السريانية القديمة، ثم نقلها «ابن المقفع» حوالى سنة 133هـ 750م إلى اللغة العربية، ولا يشذ عن ذلك إلا النسخة «التبتية» فهى وحدها التى نقلت عن اللغة «السنسكرتيتية» مباشرة أما سائر النسخ المعروفة من هذا الكتاب فمشتقة من نسخته العربية التى كتبها ابن المقفع ويدخل فى عداد هذه النسخ الترجمة السريانية المتأخرة التى وضعت فى القرن العاشر أو الحادى عشر الميلادى (3) وكذلك الترجمات اليونانية والفارسية والعبرية (4) واللاتينية (5) والاسپانية والإيطالية والسلافية والتركية والألمانية
__________
(1) ناشر هذه الطبعة هو «محمد كاظم الطباطبائى» وقد ذكر أن هذا الكتاب طبع مرتين قبل ذلك فى سنة 1282هـ ثم فى سنة 1304هـ.
(2) أنظر:،: 1885.،
(3) نشر الأستاذ «رايت» هذه النسخة السريانية المتأخرة فى سنة 1884م.
(4) أنظر::
(5) فى سنة 1887م نشرت كلية الدراسات العليا بباريس النسخة اللاتينية التى(1/471)
والإنجليزية والدنمركية والهولندية والفرنسية. وآخر هذه الترجمات وأحدثها من الناحية الزمنية هى الترجمة الفرنسية التى بدأها «جاللان» وأكملها «كاردون» فى سنة 1778م.
ونسخه «أبى المعالى» هى أقدم الترجمات الفارسية الموجودة فى أيدينا، ولم يسبقها فيما نعلم إلا الترجمة المنظومة المفقودة التى تولاها «الرودكى» قبل ذلك بسنوات كثيرة.
أما خير الترجمات الفارسية لقصة «كليله ودمنه» فهى بغير شك الترجمة التى قام بها «حسين الواعظ الكاشفى» فى نهاية القرن التاسع الهجرى أو الخامس عشر الميلادى وقد اشتقت من هذه الترجمة النسخة الفارسية الثالثة التى تعرف باسم «عيار دانش» أى «عيار المعرفة» وهى التى وضعها «أبو الفضل» للسلطان «أكبر»، وكذلك النسخة التركية التى وضعها «على چلبى» للسلطان سليمان الأول باسم «همايون نامه» أو الكتاب الملكى. وكلاهما من كتب القرن العاشر الهجرى أى السادس عشر الميلادى.
وقد هدف صاحب «أنوار سهيلى» كما يظهر إلى تبسيط نسخة «نصر الله» وإذا عنها ولكنه أخفق فى ذلك فكان أسلوبه أكثر تصنعا وتكلفا.
وللمقارنة بين الأساليب المختلفة لهذه الترجمات سأنقل للقارىء قصة «الثعلب والطبل» كما وردت فى سائر النسخ المختلفة، وهى القصة التى تأنى فى بداية باب الأسد والتور. وفيما يلى نصها وفقا لنسخة ابن المقفع العربية (1):
«قال دمنه: زعموا أن ثعلبا أتى اجمة فيها طبل معلق على شجرة، وكلما هبت» «الريح على قضبان تلك الشجره حركتها فضربت الطبل فسمع له صوت عظيم» «باهر. فتوجه الثعلب نحوه لأجل ما سمع من عظيم صوته، فلما أتاه وجده ضخما»
__________
وضعها «جون كاپوا:» حوالى سنة 1270م بعنوان وقد اعتمد فيها على النسخة العربية القديمة التى اعتمدت مباشرة على نسخة ابن المقفع العربية.
(1) أنظر طبعة بيروت سنة 1884م ص 106(1/472)
«فأيقن فى نفسه بكثرة الشحم واللحم، فعالجه حتى شقه، فلما رآه أجوف لا شىء» «فيه قال: لا أدرى لعل أفشل الأشياء أجهرها صوتا وأعظمها جثة!!»
وفيما يلى نص هذه الحكاية فى نسخه «نصر الله» الفارسية (1):
«دمنه گفت: آورده اند كه روباهى در بيشه رفت. آنجا طبلى ديد در پهلوى» «درختى افگنده، وهر گاه باد بجستى شاخ درخت بر طبل رسيدى آواز» «سهمناك بگوش روباه آمدى. چون روباه ضخامت جثه بديد، ومهابت» «آواز بشنيد طمع دربست كه گوشت و پوست او فراخور آواز باشد،» «ميكوشيد تا آنرا بدريد. الحق جز پوستى بيشتر نيافت. مركب ندامت» «در جولان كشيد وگفت: ندانستم كه هر كجا جثه ضخم تر وآواز هايلتر» «منفعت آن كمتر!!»
أما «أنوار سهيلى» فيخط هذه القصة على النحو الآتى (2):
«دمنه گفت: آورده اند كه روباهى در بيشه ميرفت، وببوى طعمه هر» «طرف مى گشت. بپاى درختى رسيد كه طبلى از پهلوى آن آويخته بودند» «وهرگاه بادى بوزيدى شاخى از آن درخت در حركت آمده بر روى» «طبل رسيدى وآواز سهمگين از آن برآمدى. روباه بزير درخت مرغ» «خانگى ديد كه منقار در زمين ميزد وقوتى مى طلبيد. در كمين نشسته» «خواست كه او را صيد نمايد كه ناگاه آواز طبل بگوش او رسيد. نگاه» «كرد. جثه ديد بغايت فربه وآواز وى مهيب استماع افتاد. طامعه روباه» «در حركت آمده با خود انديشيد كه هر آئينه گوشت و پوست او فراخور» «آواز خواهد بود. از كمين مرغ بيرون آمد وروى بدرخت نهاد. مرغ از»
__________
(1) أنظر طبعة طهران على الحجر سنة 1305هـ ص 79.
[المترجم: نقلنا النص عن نسخة طهران سنة 1312هـ ص 80].
(2) أنظر «أنوار سهيلى» طبع طهران على الحجر سنة 1270هـ ص 5958.
[المترجم: وقد اعتمدنا نحن على نسخة كانپور المطبوعة سنة 1880م ص 91].(1/473)
«آن واقعه خبردار شده بگريخت، وروباه بصد محنت بدرخت برآمد.»
«بسى بكوشيد تا آن طبل را بدريد. جز پوستى و پاره چوبى هيچ نيافت.»
«آتش حسرت در دل وى افتاد، وآب ندامت از ديده باريدن گرفت،» «وگفت: دريغ كه بواسطه اين جثه قوى كه همه باد بود، آن صيد حلال» «از دست من بيرون شد، وازين صورت بيمعنى هيچ فائده بمن نرسيد!!»
«دهل در فغانست دائم ولى ... » «چهـ حاصل چواندر ميان هيچ نيست (1) ... » «گرت دانشى هست معنى طلب ... » «بصورت مشو غره كان هيچ نيست» ويبدو من هذا المثل أن نص هذه القصة كما وردت فى «أنوار سهيلى» قريب جدا من أصله، وإن كان قد دخله بعض التمطيط والزيادة. ومع ذلك فهو مشحون بالمبالغات التافهة، والكلمات الغامضة، والتشبيهات السخيفة، والمجازات البعيدة، والتعبيرات الباردة، بحيث يمثل لنا تماما أسوأ الأساليب التى اتبعها الكتاب المتصنعون الذين عاشوا فى رعاية التيموريين فيما وراء النهر والأجزاء الشمالية الشرقيه من إيران خلال القرنين التاسع والعاشر الهجريين أو الخامس عشر والسادس عشر الميلاديين، والذين انتقلوا مع الاسف فى ركاب «بابر» إلى الهند فأصبحوا القدوة التى يحتذيها أهل هذه البلاد المغرمون بالتعبيرات المنمقه والعبارات المزوقة. وربما كان هذا هو أهم الأسباب التى أدت إلى أن أهل الهند لم يعجبوا على الإطلاق بالفارسية البسيطة الخالصة ولم ينتجوا فيها شيئا من الأدب، بل انتجوا طائفة متحذلقه من الكتاب ممن ينشئون بالفارسية المتكلفة، وهم يشبهون تماما طائفة المتخذلقين الذين
__________
(1) المترجم: تختلف هذه القصة عن القصة التى رواها ابن المقفع فى أنها تصور الثعلب وقد كمن فى البداية ليصيد فرخة ولكنه عندما استمع إلى صوت الطبل ترك الفرخة وطمع فى الطبل فلما صعد الشجرة وتحقق من حقيقة الطبل وأنه أجوف، تندم على ترك الفرخة وإفلات الصيد من يده بعبارات منثورة اتبعت بالبيتين اللذين انتهت بهما القصة.(1/474)
ينشئون حاليا بالإنجليزية المتكلفة التى تطربنا أمثلتها المضحكة الواردة فى كتاب «ترجمة حياة القاضى موكرجى» (1).
ولكى أتم مقارناتى أنقل فيما يلى قصة «الثعلب والطبل» كما وردت فى النص اللاتينى الذى وضعه «چون كاپوا» حوالى سنة 669هـ 1270م اعتمادا على النسخة العبرية المنقولة عن العربية، وترجمته كما يأتى: (2)
«يقول دمنه: كان ثعلب يتجه نحو نهر. وكان بقربه شجرة قد علق عليها» «طبل، وكانت الريح تحرك أغصان الشجرة فتحدث صوتا، فلما رآها الثعلب» «ظنها حيوانا سمينا مليئا باللحم فمزقها ولكنه وجدها خالية خاوية!!»
«يقول دمنه: أننى لا أعتقد أن الأشياء ذات الحجم الكبير والصوت المرتفع» «يكون لها فى نفسها قوة!! ثم سار فى طريقه وانصرف عائدا!!»
الكتب العربية فى هذا العصر
لم يبق علينا الآن إلا أن نذكر أهم الكتب العربية الخالدة التى تم وضعها فى هذا العصر. ومن الحق على أن أنبه القارئ إلى أن اختيار المجموعة الجديرة بالذكر من بين هذه الكتب ليس أمرا ميسورا ولا سهلا، ومن أجل ذلك فقد عمدت
__________
(1) انظر: ..
(2) فيما يلى النص اللاتينى كما جاء فى طبعه درنبورج ص 50
«،:،،.،.، «»:. «
إلى اختيار الكتب التى أظنها مفيدة لدراسى الفارسية باعتبارها من المراجع التى يضطرون إلى اللجوء إليها بصرف النظر عن أخواتها العربية التى ترجحها شهرة وبعد صيت.(1/475)
__________
«،:،،.،.، «»:. «
إلى اختيار الكتب التى أظنها مفيدة لدراسى الفارسية باعتبارها من المراجع التى يضطرون إلى اللجوء إليها بصرف النظر عن أخواتها العربية التى ترجحها شهرة وبعد صيت.
وأهم كتاب العربية وعلمائها الذين توفوا فى هذا العصر
الذى ندرسه هم الآنون بحسب ترتيبهم الزمنى:
1 «الزوزنى»: المتوفى سنة 486هـ 1093م، وهو عالم لغوى اشتهر بتفسيره للمعلقات السبع. وقد وضع أيضا معجمين بالعربية والفارسية، أحدهما هو «ترجمان القرآن» ليستفاد به فى قراءة القرآن وفهمه.
2 «التبريزى»: المتوفى سنة 503هـ 1109م وهو أيضا عالم لغوى اشتهر من بين مؤلفاته «شرح الحماسة» و «شرح المعلقات». وقد كان تلميذا للشاعر العظيم «أبى العلاء المعرى».
3 «الغزالى»: وهو «حجة الإسلام» المتوفى سنة 505هـ 1111م وقد درسنا حياته ومؤلفاته فى الفصل السابق.
4 «الرويانى»: وهو عبد الواحد الرويانى الذى قتله واحد من الحشاشين فى مدينة «آمل» عندما كان يقوم بالتدريس والمحاضرة.
5 «الطغرائى»: صاحب «لامية العجم» ووزير السلطان مسعود السلجوقى، وقد أعدم حوالى سنة 514هـ 1120م
6 «الحريرى»: المتوفى سنة 515هـ 1121م، وهو صاحب «المقامات» التى ذاع صيتها، وقد أنشأها للوزير «أنو شروان بن خالد» المتوفى سنة 533هـ 1138م وهو صاحب «تاريخ السلاجقة» الذى طبعه «هوتسما» فى مدينة ليدن سنة 1889م ضمن مؤلف البندارى.
7 «الفراء البغوى»: المتوفى سنة 516هـ 1122م وهو فقيه ومحدث
اشتهر من كتبه تفسير للقرآن بعنوان «معالم التنزيل».(1/476)
7 «الفراء البغوى»: المتوفى سنة 516هـ 1122م وهو فقيه ومحدث
اشتهر من كتبه تفسير للقرآن بعنوان «معالم التنزيل».
8 «الميدانى النيسابورى»: المتوفى سنة 518هـ 1124م وقد سار ذكره بمؤلفه الجامع للأمثال العربية.
9 «ابن عبدون»: المتوفى سنة 520هـ 1126م، وهو من أهل الأندلس، وقد اشتهر بقصيدته التاريخية الطويلة التى شرحها فيما بعد واحد من مواطنيه هو «ابن بدرون» المتوفى حوالى سنة 580هـ 1184م.
10 «الزمخشرى»: المتوفى سنة 538هـ 1143م وهو من رجال المعتزلة وصاحب التفسير الكبير المعروف ب «الكشاف» وكذلك صاحب جملة من المعاجم اللغوية بالعربية والفارسية.
11 «الجواليقى»: المتوفى سنة 540هـ 1145م وهو من علماء اللغة وصاحب «المعرب» فى الكلمات الأعجمية المستعملة فى اللغة العربية.
12 «الشهرستانى»: المتوفى سنة 548هـ 1153م وهو صاحب «كتاب الملل والنحل».
13 «النسفى»: وهو نجم الدين أبو حفص عمر المنسوب إلى مدينة نسف المعروفة أيضا باسم «نخشب» وقد توفى سنة 537هـ 1142م ويعتبر من أئمة فقهاء الحنفية فى زمانه.
14 «الطوسى»: وهو الفقيه الشيعى المتوفى سنة 460هـ 1067م وصاحب مجموعة الكتب الشيعية التى نشرها «سپرنجر» فى مدينة كلكتا سنة 18551853م.
15 «الطبرسى»: وهو أيضا من فقهاء الشيعة، وقد توفى سنة 548هـ 1153م.(1/477)
وأكثر هؤلاء الكتاب كما هو ظاهر من أصل فارسى، ولكن دراستهم بالتفصيل تعتبر من موضوعات «الأداب العربية وتاريخها»، ولا مجال لها فى هذا الكتاب حتى لو اتسعت لذلك صفحاته واستوعبتها أوراقه. ومع ذلك فإنى أنبه كل جاد فى الاشتغال بتاريخ الآداب الفارسية بأن يعود نفسه على الاطلاع على أكثر مؤلفات هؤلاء الكتاب بين الفينة والفينة، لأن اللغة العربية كما أشرنا إلى ذلك من قبل ظلت تحافظ على مكانتها فى إيران كلغة للعلوم والآداب حتى كانت غارة المغول وسقوط بغداد فى منتصف القرن السابع الهجرى والثالث عشر الميلادى وقد ألف فيها المؤلفون أكثر كتب المراجع التى لا يستغنى عنها الطالب الجاد والدارس المتفحص، وربما كان من الخير أن أفصل الحديث قليلا عن بعض هؤلاء الكتاب ولنبدأ بالباخرزى فقد توفى سنة 468هـ 1075م وكان لزاما علينا أن ندرسه فى الفصل السابق لولا ما وقعنا فيه من سهو وإغفال.
الباخرزى:
هو «أبو القاسم على بن الحسن بن أبى الطيب الباخرزى» وقد اشتهر بقول الشعر وكتابة تراجم الشعراء. وقد كتب عنه صاحب «اللباب» باعتباره شاعرا، فترجم له ترجمة مطولة فى الجزء الأول من كتابه فى الصفحات من 68إلى 71، أما باعتباره من أصحاب كتب التراجم فقد استطاع «الباخرزى» أن يتم كتاب «يتيمة الدهر» الذى وضعه «الثعالبى» من قبل، فأكمله بكتابه «دمية القصر» وضمنه سير حياة 225شاعرا من المعاصرين وعشرين رجلا من أهل الفضل لم يؤثر عنهم شىء من الشعر (1). ومن الأسف أنه قصر عنايته على ذكر الشعراء الذين صاغوا شعرهم بالعربية، وأغفل ذكر شعراء الفرس، ولو أنه تحدث عنهم لكان حديثه صدرا لكثير من الأخبار الصادقة الصحيحة.
__________
(1) لهذا الكتاب مخطوطتان فى المتحف البريطانى تحت رقم 994و 9ورقم 23374(1/478)
أما أشعار «الباخرزى» نفسه فبعضها عربى وبعضها فارسى، وقد كتب عنه العوفى فقال: «لقد أصبح فى اللغتين علما يرتفع فوق أرجاء العالم، وتمكن من أن يسلب فضلاء الزمان قصب السبق فى هذين اللسانين».
وكان «الباخرزى» فى شبابه كاتبا للسلطان «طغرل» السلجوقى ثم فضل حياة العزلة فاستقال من منصبه وعاش عيشة لاهية عابثة انتهت بمقتله فى سنة ثمان وستين وأربعمائة الهجرية (1075م) أثناء ثورة من ثورات الشراب كما يظهر.
ويذكر «العوفى» فى الجزء الأول من «لباب الألباب» ص 70، وكذلك «رضا قليخان» فى الجزء الأول من كتابه «مجمع الفصحاء» ص 343أن «الباخرزى» أنشأ بالإضافة إلى أشعاره المتفرقة قصيدة مطولة، جعل عنوانها «طرب نامه» أو «رسالة الطرب» وأنه جعلها مكونة من رباعيات فارسية تتسلسل بحسب الترتيب الهجائى للحروف.
وفيما يلى أبيات منقولة فى «اللباب» من قصيدة عربية قالها الباخرزى فى مدح طغرل: (1)
سرنا ومرآة الزمان بحالها ... فالآن قد محقت وصارت منحلا
تخذ الركاب فلا تعوج بنا على ... طلل الحبيب ولا تحيى المنزلا
وتحرك الأعطاف تشميرا بنا ... تتيمم الملك المظفر طغرلا
وفيما يلى ترجمة لرباعية من رباعياته الفارسية (2):
حول وجهها الأبيض ليل شديد السواد والقتام (أى الشعر)
وتحت سكرتيها (شفتيها) اثنان وثلاثون كوكبا (أى أسنانها) تنير الظلام
__________
(1) انظر «لباب الألباب» ج 1ص 69
(2) المترجم: فيما يلى أصل هذه الرباعية كما وردت فى ص 70فى المرجع السابق
پيرامن روز قيرگون شب دارد ... زير دو شكر سى ودو كوكب دارد
پر سرخ گل از غاليه عقرب دارد ... واز نوش دو ترياك مجرب دارد(1/479)
وفوق وردتها الحمراء (أى وجنتها) عقرب أسود هو طرتها السوداء
ولكن لديها ترياقان مجربان (أى شفتاها) لدفع الغمة ورفع البلاء!!
وفيما يلى رباعية أخرى قالها فى وصف الشراب (1):
إنى أريد تلك الخمر فهى سبب للسعادة والهناء
واسمها الخمر ولكنها فى الحقيقة كيمياء البهجة والصفاء!!
وهى من ماء العنب ولكنها كالعناب قانية حمراء
وهى ماء عجيب يلهب الوجنات بالنار والبريق والضياء!!
وفيما يلى رباعية أخرى يقال إنه أنشأها فى حالة النزع (2):
إننى ذاهب فتعال الآن وانظر إلىّ قبل الرحيل
وانظر إلىّ وأنا أتعذب فى هذا الحال المؤلم الوبيل
ثم انظر إلى هذه الحجارة من فوقى وإلى يدى من تحتها
وإلى فراق الأحبة وإلى سيف الأجل القاطع الثقيل!!
وقد رثاه شاعر اسمه «عيّاضى» بالبيتين الآتيين (3):
مسكين على حسن كه از آن شوم كارزار
بى جرم چون حسين على كشته گشت زار
__________
(1) المترجم: فيما يلى أصل هذه الرباعية كما وردت فى صفحة 70فى المرجع السابق
زان مى خواهم كه خرمى را سبب است ... نامش مى وكيمياى شادى لقب است
سرخست چوعناب واز آب عنب است ... آبى كه برخ بر آتش آرد عجب است
(2) المترجم: فيما يلى أصل هذه الرباعية كما وردت فى «لباب الالباب» ج 1ص 71
من مى روم بيا مرا سير به بين ... وين حال بصد هزار تشوير به بين
سنگى ز بر ودست من از زير به بين ... وز يار بريدنى بشمشير به بين
(3) نفس المرجع والصحيفة(1/480)
شيرى بد او كه بود ادب مرغزار او
گر كشته شد عجب نبود شير مرغزار
ومعناهما:
مسكين «على بن الحسن» فقد وقع فى هذا العراك المشئوم
وقتل بغير جريرة كالحسين بن على الشهيد المظلوم!!
وقد كان أسدا وكان الأدب عرينه وواديه
ولا عجب إذا قتل الأسد فى مأسدته وبواديه!!
الرويانى:
هو فقيه الشافعية «عبد الواحد بن اسماعيل الرويانى» الملقب أثناء حياته بلقب «فخر الاسلام» وبعد مماته بلقب «الإمام الشهيد». وأهم ما يذكر عنه هو طريقة استشهاده وقد أوردها «ابن أسفنديار» فى كتابه «تاريخ طبرستان» على النحو الآتى: (1).
«وقد اشتهر بنفاذ البصيرة وصدق الحكم، بحيث أنه عندما طلب الملاحدة (2)» «فى أيامه الفتوى كتابة فى مسألة قدموها إلى العلماء على النحو الآتى: ماذا» «يقول علماء الإسلام فى قضية اتفق فيها الشاكى والمشكو فى حقة على قول» «التزما فيه العدل والحق، ولكن اعترض دعواهما شاهد من الشهود فأنكر» «دعوى الشاكى وإقرار المشكو فى حقه فهل تقبل شهادته أو ترفض؟»
«وقد كتبوا هذا الاستفتاء على الورق وأرسلوا به إلى المدينتين المقدستين مكة» «والمدينة، فأفتى فقهاء المدينتين وكذلك أئمة بغداد وسوريا بأن شهادة الشاهد»
__________
(1) أنظر ترجمتى المختصره لهذا الكتاب ص 7675وهى منشورة فى المجلد الثانى من «سلسلة جب التذكارية» وبه أصل القطعة باللغة الفارسية
(2) سميت جماعة الحشاشين باسم «الملاحدة» وعرفوا بهذه التسمية فى إيران خاصة(1/481)
«مرفوضة، لا يقبل سماعها ولكنهم عندما قدموا الورقة المتضمنة لهذا الاستفتاء» «إلى الرويانى، حدق فيها ثم التفت إلى مقدمها وقال له: أيها الملعون التاعس» «إن غفلتك ستجلب لك الهلاك الوبيل!! ثم أمر بحبسه، وجمع رجال القضاء» «والشرع وقال لهم: لقد كتب الملاحدة هذا الاستفتاء، وهم يقصدون بالشاكى» «والمشكو فى حقه النصارى واليهود، وأما الشاهد الذى يعنونه فهو النبى عليه» «الصلاة والسلام لأن القرآن يقول: وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم.»
«فلما سألوا الملحد فى هذه المسألة اعترف لهم بأنه ظل سنة كاملة ينتقل من» «مكان إلى مكان يجمع الفتاوى والإجابات، فأمروا برجمه واجتمع أهل» ««آمل» فرجموه بالحجارة حتى مات. ثم أمر فخر الإسلام الرويانى بلعنة» «الملاحدة ومن ينتمى إليهم. فأثار عمله هذا حفيظتهم، فأرسلوا إليه جماعة» «من الفدائيين قتلوه غيلة بالمدى على باب أحد أروقة المسجد الجامع بمدينة» «آمل من الناحية التى تنتصب فيها منارته. وما زالت المدية التى استعملت فى» «قتل هذا الإمام الشهيد محفوظة فى الرواق الذى كان يقيم فيه بالمدرسة وقد» «شاهدتها بنفسى جملة مرات.»
وقد كان غرض «الحشاشين» وما يهدفون إليه من وراء هذا الاستفتاء هو أن يسخروا من فقهاء الإسلام بأن يثبتوا لهم أن الشريعة الإسلامية تتنافى مع الفقه الإسلامى تمام المنافاة. فإن النصارى وهم الشاكون فى هذه القضية، يتهمون اليهود وهم الجناة والمتهمون فيها بأنهم قتلوا «المسيح» وصلبوه، واعترف اليهود بصحة التهمة المنسوبة إليهم وقبلوا الآثار المترتبة على جريمتهم، ولكن النبى محمدا يذهب مذهب بعض الفرق الغنوصية (1) فينكر أن اليهود قد صلبوا المسيح، وبذلك يشهد ضد الشاكى وينكر فى الوقت نفسه إقرار المتهم. وقد قبل المسلمون جميعا شهادة نبيهم فى هذا الموضوع قبلوها فى مواضيع أخرى ولكنهم لو اتبعوا آراء فقهائهم وعلمائهم
__________
(1) فرقة من المسيحيين تذهب إلى أن طريق الخلاص هو المعرفة وليست العقيدة(1/482)
لما وجدوا ما يبرر قبولهم لهذه الشهادة. وقد استطاع «الرويانى» بنفاذ بصيرته وسرعة حكمه أن يكشف موضع الفخ الذى نصبه الملاحدة، فأثار بذلك دهشتهم وإعجابهم ولكنه فى الوقت نفسه أثار حفيظتهم عليه حتى قتلوه غيلة فى النهاية.
الحريرى:
درسنا فيما سبق هذا الأسلوب المصنوع المبتكر الذى تمتاز به سائر «المقامات» سواء ما كتب منهما بالعربية كمقامات «بديع الزمان الهمذانى» ومقامات «الحريرى» أو ما كتب بالفارسية كمقامات «حميد الدين البلخى»، ولم تعد بنا حاجة إلى التمهل فى هذا المقام لدراسة أسلوب الحريرى خاصة، فهو الملك المتوج على رأس هؤلاء الكتاب الذين تخصصوا فى هذا الأسلوب المتكلف، كما أن «بديع الزمان الهمذانى» هو أول السابقين إلى ابتكاره وترويجه. يضاف إلى ذلك أن مؤلفات «الحريرى» قد درست وشرحت وترجمت أكثر من مرة فى بلاد الشرق وأوربا، بحيث أن محاولة الحديث عن هذه الدراسات والشروح والترجمات تستوعب فى مجموعها أكثر مما استوعبته صفحات هذا الكتاب كما إنها تصرف القارىء عن كثير من المسائل الهامة التى بينها «دى ساسى» فى طبعته الأنيقة للمقامات فى پاريس سنة 1822م، أو التى تحدث عنها «تشنرى» فى الصفحات المائة التى قدم بها الجزء الأول من ترجمته للمقامات المطبوعة فى لندن سنة 1867 (1)، أو التى توجد فى التقليدات الألمانية لأسلوب المقامات كما اشتمل عليها المجلد الثانى من كتاب «فون كريمر» عن «تاريخ الأدب الشرقى» (2) أو فى غير ذلك من المؤلفات المتعلقة بالآداب العربية.
ويقرر «الزمخشرى» فى بيت من الشعر، كتبه «دى ساسى» على اتلاف؟؟؟ طبعته
__________
(1) أنظر:
1867،:
(2) أنظر:
470476.:(1/483)
أن مقامات «الحريرى» حرية بأن تكتب بماء الذهب وهو فى هذا يعبر عن رأى مواطنيه فيه، ولكنه يخالف فى ذلك آراء جملة من كبار المستشرقين الممتازين.
ومهما كان الأمر فإن المراجع المتعلقة بدراسة هذه المقامات وافرة وكثيرة وزائدة.
أما صاحب المقامات، فيكفى أن نذكر عنه أنه ولد فى البصرة فى سنة 446هـ 1054م وأنه مات بها فى سنة 515هـ 1121م وقد كان ضئيل الحجم، زرى المظهر، يقتلع شعرات ذقنه إذا اشتغل بالتفكير والكتابة، ولكنه مع ذلك كله كان موضعا لتقدير الوزير «أنو شروان بن خالد» ورعايته، وقد كتب «المقامات» بناء على طلبه وجعل إهداءها إليه (1).
أنو شروان بن خالد:
هذا الوزير جدير بالذكر فى هذا المقام لأنه صاحب الرسالة المشهورة عن تاريخ السلاجقة، وهى الرسالة التى طبعها «هوتسما» عند تحقيق تاريخ البندارى وجعلها الجزء الثانى من «مجموعة النصوص المتعلقة بتاريخ السلاجقة» (2).
وقد جمع «هوتسما» فى مقدمته (ص 3011) جميع ما يعرف عن هذا الوزير، ولكنى وجدت عنه نبذة فى مخطوطة لكتاب «عيون الأخبار» محفوظة بمكتبة جامعة كامبردج تحت رقم 922ر 2. بالورقة 126فنشرتها فى ص 861 862من مجلة الجمعية الملكية الأسيوية لسنة 1902. وفيما يلى خلاصتها كما جاءت تحت سنة 532هـ 1137م.
«وفيها توفى أنو شروان بن خالد بن محمد القاشانى أبو نصر الوزير. مولده بالرى»
__________
(1) أنظر ص 5من طبعة «دى ساسى» للمقامات، وكذلك ص 12من مقدمة «هوتسما» لتاريخ البندارى وكذلك ص 276من الجزء الأول من كتاب «تاريخ الآداب العربية» لبروكلمان
(2):. 1889.،(1/484)
«سنة تسع وخمسين وأربعمائة. تنقلت به الأحوال إلى أن ولى وزارة السلطان» «محمود [بن محمد بن] ملكشاه سنة سبع عشرة وخمس مائة وقدم معه بغداد» «واستوطنها، وكان يسكن بالحريم الظاهرى فى دار على شاطىء دجلة. وعزل» «عن الوزارة ثم أعيد إليها ثم قبض عليه السلطان واعتقله ثم أفرج عنه» «واستوزره الإمام المسترشد فى أواخر سنة ست وعشرين وأقام مدبرا إلى» «أن عزل سنة ثمان وعشرين وأقام بمنزله فى الحريم الطاهرى مكرما إلى» «أن توفى فى هذه السنة (532هـ)، وكان من الصدور الأفاضل موصوفا بالجود» «والكرم مخبأ لأهل العلم، وكان قد أحضر إلى داره أبا القاسم بن الحصين ليسمع» «أولاده منه مسند ابن حنبل بقراءة أبى محمد بن الخشاب وأذن للناس عامة» «فى الحضور لسماعه فحضره الجم الغفير وسمعه خلق كثير، ولابن جكينا» «الشاعر فيه أمداح وأهاجى. فمن أمداحه فيه قوله:»
«سألونى من أعظم الناس قدرا ... قلت مولاهم أنو شيروان ... » «وإذا أظهر التواضع فينا ... فهو من آيه الرفيع الشان ... » «ومتى لاحت النجوم على ... صفحة ماء فهن غير دوانى» «وكتب إليه القاضى ناصح الدين الأرجانى يطلب منه خيمة، فلم يكن عنده،» «فبعث إليه صرّة فيها خمس مائة دينار وقال: اشتر خيمة: فقال الأرجانى:» «لله در أبى خالد رجلا ... أحيا لنا الجود بعد ما ذهبا ... » «سألته خيمة ألوذ بها ... فجاد لى ملء خيمة ذهبا» «وكان هو السبب فى عمل مقامات الحريرى، وإياه عنى الحريرى فى أول» «مقاماته بقوله: فأشار من أشارته حكم وطاعته غنم. وكان أنو شروان» «يتشيع سامحه الله تعالى»
الزمخشرى:
أما العالم اللغوى والمفسر المعتزلى «أبو القاسم محمد بن عمر الزمخشرى» فجدير منا بكلمات قليلة. ولد هذا الرجل فى مدينة خوارزم (وهى مدينة خيوة الحديثة) فى سنة 476هـ 1074م ومات بالقرب منها فى سنة 538هـ 1143م.(1/485)
وقد أقام بعض الوقت فى مدينة مكة، فأسماه الناس من أجل ذلك ب «جار الله» وقد كان من أقوى المعارضين لمذهب الشعوبية، وهو المذهب الذى كان يفضل العجم على العرب فى كل شىء، ولكنه مع ذلك وضع معجما عربيا فارسيا لينتفع به مواطنوه وقد نشره «فتزشتاين» فى مدينة ليپرج سنة 1844م (1).
وأهم مؤلفاته هى الكتب الآتية، وجميعها مكتوبة باللغة العربية:
1 - الكشاف: وهو تفسير كبير للقرآن
2 - المفصل: وهو كتاب معروف فى قواعد اللغة العربية
3 - كتاب الأمكنة والجبال والمياه: وهو عبارة عن معجم جغرافى.
4 - أطواق الذهب.
الشهرستاني:
هو «أبو الفتح محمد بن أبى القاسم بن عبد الكريم بن أبى بكر أحمد الشهرستانى» نسبة إلى «شهرستان» فى ولاية خراسان. وقد ولد سنة 479هـ 1086م وزار بغداد فى سنة 510هـ 1116م وبقى بها ثلاث سنوات. وتوفى فى النهاية فى بلدته سنة 548هـ 1153م.
وقد ألف كتابين أو ثلاثة كتب قليلة الأهمية ثم ألف فى سنة 521هـ 1127م كتابه المعروف «الملل والنحل» وقد نشره «كبرتون» فى سنة 1846م كما ترجمه إلى الألمانية فى سنة 1850الدكتور «تيودور هاربروكر». وقد ظل هذا الكتاب مدة طويلة، المرجع الأول والوحيد لجميع الدراسات المتعلقة بهذا الموضوع الهام، حتى تم الأن فى مدينة القاهرة طبع كتاب يحمل نفس هذه التسمية ولكنه أسبق
__________
(1) المترجم: صحة هذا التاريخ هو سنة 1843م أنظر
،: .. 1843(1/486)
منه زمنا وأوفى موضوعا، وهو كتاب «ابن حزم» الفقيه الأندلسى الظاهرى (1)، المولود فى سنة 384هـ 994م والمتوفى سنة 457هـ 1064م
وقد كان الفضل فى حصولى على نسخة جميلة من هذا الكتاب الهام، وهو شرف لم يفز به الا قليل من المحظوظين، راجعا إلى صديقى وأستاذى المأسوف عليه مفتى مصر الأكبر الشيخ «محمد عبده» الرجل العظيم والأستاذ القدير وأعمق مفكرى الإسلام فى هذه الأيام.
__________
(1) كتاب «الملل والنحل» لابن حزم طبع القاهرة سنه 13211317هـ 19031899م(1/487)
الفصل السّادس الشعراء الأربعة النابهون فى نهاية القرن الثانى عشر الميلادى (السادس الهجرى)
1 - الأنورى
2 - الخاقانى
3 - نظامى الگنجوى
4 - ظهير الفاريابى
مقدمة:
سأنحرف فى هذا القسم قليلا عن تتبع النظام التاريخى الذى راعيته حتى الآن لكى أستطيع أن أدرس فى وقت واحد أربعة شعراء من الشعراء الذين ينسبون إلى الفترة الأخيرة من الدولة السلجوقية. وهؤلاء الشعراء الأربعة يعتبرون، باتفاق آراء مواطنيهم فى عداد كبار الشعراء الذين أنشدوا القصيد فى إيران.
ولم يكونوا جميعا متعاصرين بالمعنى الدقيق، كما لا يمكن أن نعتبر غير واحد منهم من شعراء السلاجقة، ولكنا نجمعهم فى هذا الفصل فنقوم بدراستهم والمقارنة بينهم، وذلك لما لهم من مكانة خاصة فى الأدب الفارسى، تدعونا إلى الإفاضة فى الحديث عنهم، وإعطائهم ما هم جديرون به من عناية واهتمام.
هؤلاء الشعراء الأربعة هم:
1 - أنورى الخاورانى من أهل خراسان:
عاش بعد «سنجر» مدة ثلاثين أو أربعين سنة ولكنه اشتهر على أيام «سنجر»
2 - خاقانى شاعر شروانشاه:
ولد فى «گنجه» (الآن اسمها اليزاقتپول) فى سنة 500هـ (1106 1107م)(1/488)
3 - نظامى:
ولد أيضا فى «گنجه» بعد الخاقانى بخمس وثلاثين سنة (535هـ).
4 - ظهير الدين الفاريابى:
ولد فى «فارياب» بالقرب من بلخ، واتصل فى النصف الثانى من القرن الثانى عشر الميلادى (السادس الهجرى) بطغانشاه فى «نيسابور»، وجسام الدولة اردشير فى «مازندران» والأتابكة فى «أذربيجان» ثم مات فى النهاية فى مدينة «تبريز» عند مطلع القرن الثالث عشر الميلادى (السابع الهجرى).
1 - الأنورى
شهرة «الأنورى»
أقدم هؤلاء الشعراء وأكثرهم شهرة هو «الأنورى». والبيتان التاليان المعروفان يجعلانه واحدا من ثلاث شعراء يعتبرون أكبر من أنجبتهم إيران على الإطلاق:
در شعر سه تن پيغمبرانند ... قوليست كه جملگى برآنند
فردوسى وأنورى وسعدى ... هر چند كه لا نبى بعدى
ومعنى هذين البيتين:
للشعر ثلاثة أنبياء، وهذا قول يتبعه الجميع:
الفردوسى والأنورى والسعدى، ثم بعد ذلك لا نبى بعدى.
ومن الصعب على مستشرق أوروبى يدرس الفارسية، مهما حاول احترام آراء النقاد من الفرس، أن يتابع هذا القول فيجعل «الأنورى» مساويا للفردوسى أو «السعدى» أو يجعله فى مرتبة أعلا من مرتبة «ناصر خسرو» أو «النظامى». ذلك لأن «المدائح» وهى الكثرة المطلقة من أشعار «الأنورى» لا تستطيع أن تمس إلا قلب الممدوح مهما اجتهد الشاعر فى تنميقها وتدبيجها.
ومن رأى أحد أصدقائى وهو «ميرزا محمد قزوينى»، العالم الفاضل الذى كان من حسن حظى التعرف عليه، أن شهرة الأنورى تعتمد أصلا على القصائد التى لم يكن غرضها «المديح». وربما كانت هذه النظرة هى أصوب الآراء وأقربها إلى الدقة.(1/489)
ولم يكن الأنورى مبرزا فى قول «الغزل» أو «الرباعى» أو ما شابه ذلك من فنون النظم وضروبه ولكن شخصيته كانت قوية واضحة فيما قال من «مقطعات»
مصادر دراسة الأنورى
وليس فى أيدينا عن حياة «الأنورى» إلا القليل من الأخبار الصحيحة التى يمكن أن يعتمد عليها، ولكننا لو درسنا أشعاره دراسة دقيقة لأمكننا بلا شك أن نحصل على كثير من المعلومات التى ما زالت خافية عنا من نواحى حياته. وللأسف لا تمدنا المصادر الأخرى إلا بالقليل من الأخبار التى لا يمكن الوثوق منها.
أما عوفى فى كتابه «لباب الألباب» (الجزء 2ص 138125) فلا يخبرنا كعادته بشىء عنه، إلا أنه كان مبرزا فى النجوم والهندسة والمنطق وهذه حقيقة معروفة لدينا من مصادر أخرى، وعلى الخصوص من قصائده مروية فى «تاريخ گزيدة» (1) حيث يذكر هذه العلوم ويضيف إليها الموسيقى والإلهيات والأحكام، بل وكل علم نظرى أو عملى يعرفه واحد من معاصريه.
__________
(1) أنظر هذه القصيدة وترجمتها فى ص 87من مقالتى المنشورة فى مجلة الجمعية الأسيوية الملكية عدد أكتوبر سنة 1900عن «شعراء الفرس المذكورين فى كتاب تاريخ گزيده». 1900 .. ..
والنص أيضا موجود فى طبعة لكنو على الحجر سنة 1297هـ (1880م) ص 704 و 705وفى ص 813من طبعة «براون» المنشورة فى «سلسلة جب التذكارية» طبع لندن سنة 1328هـ (1910م) وهذه الأبيات هى التالية:
گرچهـ در بستم در مدح وغزل يكبارگى ... ظن مبر كز نظم الفاظ ومعانى قاصرم
بلكه از هر علم كز اقران من داند كسى ... خواه جزوى گير انرا خواه كلى قادرم
منطق وموسيقى وهيأت شناسم أندكى ... راستى بايد بگويم بانصيبى وافرم
در الهى انچهـ تصديقش كند عقل صريح ... گر تو تصديقش كنى در شرح وبسطش ماهرم
نيستم بيگانه از أعمال وأحكام نجوم ... ور همى باور ندارى رنجه شو من حاضرم(1/490)
نشأة الانورى:
والأنورى وفقا لما يقوله دولتشاه (ص 8683من طبعتى) ولد فى قرية «مهنه» من قرى «أبيورد» فى صحراء «خاوران»، ومن أجل ذلك تخلص فى البداية بكلمة «الخاورى» ثم غيرها فيما بعد إلى «الأنورى»
وقد حصّل علومه فى المدرسة المنصورية بمدينة «طوس» حيث قضى سنوات تعلمه فى فقر وإملاق، وفى يوم من الأيام كما تقول الروايات مر بباب المدرسة رجل جليل الهيئة قد امتطى صهوة جواده، وفى أثره كثير من الخدم والحشم، فسأل الأنورى عنه فقالوا له: إنه شاعر فقال الأنورى: «سبحان الله! أهكذا أظل فقيرا مسكينا وقد بلغت النهاية من العلم؟! ويكون هو غنيا مع ما يعرف من هوان أمر الشعر!! قسما برب العزة والجلال لأجعلن الشعر شغلى بعد اليوم ولو أنه أقل مراتبى وأهون ما حصلت» (1) ثم انبرى فى هذه الليلة فأنشأ قصيدته المعروفة فى مدح السلطان «سنجر» ومطلعها:
گر دل ودست بحر وكان باشد ... دل ودست خدايگان باشد
ومعناه:
إذا استطاع القلب والكف أن يكونا بحرا ومنجما للدرر والجواهر
فإن قلب المليك وكفه هما البحر والمنجم لما يجودان به من عطاء وافر!!
فلما أصبح الصباح تقدم إلى السلطان «سنجر» وأنشده قصيدته، فاستحسنها السلطان وسأله عن الجزاء الذى يريده منه، وهل يفضل الالتحاق بخدمته أم الحصول على عطاء مالى؟؟ فقبل «الأنورى» الأرض بين يديه وقال له بيته المشهور:
__________
(1) المترجم: أنظر ص 83من «تذكرة الشعراء» وقد اعتمدنا فى الترجمة على الأصل الفارسى لأنه أقرب إلى الروح العربية.(1/491)
جز آستان توام در جهان پناهى نيست
سر مرا بجز اين در حواله گاهى نيست (1)
ومعناها:
هذه أعتابك ولا ملجأ لى فى العالم إلا هذه الأعتاب
وهذا بابك ولا معتصم لرأسى إلا فى هذا الجناب!!
عند ذلك أمر له «سنجر» بمرتب شهرى وبخلعة طيبة ثم استصحبه معه إلى مدينة «مرو».
ويؤخذ من أبيات مروية فى تذكرة الشعراء (ص 84) أن «خاوران» أنجبت أربعة من الأفاضل ليس لهم خامس. أحدهم «الأنورى» وثانيهم «أبو على أحمد ابن شادان» الذى كان وزيرا ل «طغرل بيگ» وثالثهم الأستاذ «أسعد مهنة» من فحول العلماء المعاصرين للغزالى والمناظرين له، ورابعهم الصوفى المعروف «أبو سعيد ابن أبى الخير» الذى ترجمنا له فيما سبق ونص هذه الأبيات كما يلى (2):
تا سپهر صيت گردان شد بخاك خاوران
تا شبانگاه آمدش چار آفتاب خاورى
خواجه چون «بو على شادان» وزير نامدار
عالمى چون «أسعد مهنه» ز هر شينى برى
صوفئ صافى چوسلطان طريقت «بو سعيد»
شاعر قادر چومشهور خراسان «أنورى»
وقد أقدم «الأنورى» رغم علو منزلته فى علم النجوم، على إخراج حكم من أحكامها لم يتحقق، وكاد يقضى على ما عرف عنه من منزلة وشهرة فى هذا العلم.
وتفصيل الخبر: أن الكواكب السبعة السيارة اجتمعت على عهد «سنجر» فى برج الميزان، فقرر الأنورى أنه سينتج من اجتماعها فى هذا البرج أن تثور العواصف فى هذا الشهر، فتقتلع البنايات من أساسها والأشجار من جذورها،
__________
(1) المترجم: الظاهر أن «حافظا الشيرازى» أخذ هذا البيت وجعله مطلعا للغزل رقم 40 من غزلياته. أنظر ترجمتى العربية المنشورة تحت عنوان «أغانى شيراز».
(2) المترجم: أضفنا هذه الأبيات بنصها الفارسى وليس لها وجود فى الأصل(1/492)
وتخرب المدن والبلاد فخاف عوام الناس من هذا التقرير وحفروا السراديب ليحتموا فيها عند وقوع الواقعة فلما حلت الليلة التى حددها «الأنورى» لم يثر من الريح ما يكفى لإطفاء شمعة أشعلوها ورفعوها على مئذنة من مآذن المدينة!!
فلما عاتبوه على خطأ تقديره، اعتذر بأن آثار القرانات لا تظهر فجأة، وإنها تحتاج إلى شىء من المهلة والتدرج ولكن مضت على ذلك سنة كاملة والرياح على غاية من الهدوء والضعف بحيث لم يكف هبوبها لتذرية المحصول واضطروا إلى إبقائه فى بيادره على حاله حتى الربيع التالى!!
وقد قال «فريد الكاتب» بيتين من الشعر بين فيهما بطلان حكم الأنورى، هذا نصهما:
گفت انورى كه از جهت بادهاى سخت
ويران شود عمارت وكه نيز بر سرى
در روز حكم او نوزيدست هيچ باد
يا مرسل الرياح تو دانى وأنورى
وترجمتهما:
قال الأنورى: إن الرياح العاصفة ستخرب العمارات وتقتلع الجبال
فلما كان اليوم الذى حدده، لم تهب الرياح بل سكنت فيا مرسل الرياح أنت أدرى بالحال!!
وقال أيضا البيتين الآتيين فى هذا المعنى:
مى گفت أنورى كه درين سال بادها
چندان وزد كه كوه بجنبد تو بنگرى
بگذشت سال وبرگ نجنبيد از درخت
اى مرسل الرياح تو دانى نه انورى
ومعناهما:
قال الأنورى إن الرياح ستهب فى هذا العام بشدة بحيث تزحزح الجبال عن مكانها
فانقضى عام بطوله ولم تحرك الرياح أوراق الأشجار فيا مرسل الرياح أنت عالم بحالها لا الأنورى!!(1/493)
والمشهور أن قران الكواكب الذى أشار إليه «الأنورى» وقع فى شهر رجب سنة 581هـ (أكتوبر سنة 1185م) أو فى السنة التالية كما أشار إلى ذلك «إتيه» (1)، وعلى ذلك يكون موت الأنورى قد حدث بعد هذا التاريخ قطعا، لا كما يقول أصحاب كتب التراجم من أقوال متناقضة (ربما تتناقض باختلاف الأمكنة من الكتاب الواحد) حينما يجعلون وفاته بين سنة 545هـ و 656هـ 12581150م).
رسالة الأستاذ «فالنتين زوگوفسكى بعنوان «أوحد الدين الأنورى»
هذه الرسالة مكتوبة باللغة الروسية
وخير رسالة كتبت عن «الأنورى» هى التى نشرها الأستاذ «فالنتين زوگوفسكى» فى مدينة «پتروغراد» سنة 1883بعنوان «أوحد الدين الأنورى».
ومن أسف، أن هذه الرسالة مكتوبة باللغة الروسية، ومن أجل ذلك فهى عسيرة على أغلب المستشرقين، ولكن الدكتور «پرتش.» أصبح يديننا بفضل جديد هو أنه لخص لنا الجزء المتعلق بحياة الشاعر ونشره فى الجزء الثانى من «الصحيفة الأدبية للفيلولوجيا الشرقية. ليپزج 1884»:
1884،،
والرسالة الروسية الأصلية تحتوى على:
مقدمات من 24صحيفة و 146صحيفة فى صلب الموضوع ثم 90صحيفة من النصوص الفارسية، وتشمتل على الفصول الآتية:
مقدمة از
تمهيد ح خ
__________
(1) يشير ابن الأثير إلى أن هذا القران وقع بين خمسة كواكب (لا سبعة) فى 29جمادى الآخرة سنة 582هـ (16سبتمبر سنة 1186م) ويشير إلى أحكام المنجمين وخطأهم بقوله:
«كان المنجمون قديما وحديثا قد حكموا أن هذه السنة فى التاسع والعشرين من جمادى الآخرة تجتمع الكواكب الخمسة فى برج الميزان ويحدث باقترانها رياح شديدة فلم يكن لذلك صحة ولم يهب من الرياح شىء البتة حتى أن الغلال (الحنطة والشعير) تأخر انجازها لعدم الهواء الذى يذرى به الفلاحون. فأكذب الله أحدوثة المنجمين وأخزاهم».(1/494)
الفصل الأول: حياة الأنورى 301
الفصل الثانى: حياته الأدبية وخصائصه 7831
الفصل الثالث: شروح الأنورى وخاصة شرح أبى الحسن الفراهانى 9779
الفصل الرابع: لغة الانورى ومؤلفاته 10298
ترجمة لبعض القصائد: 135103
ترجمة لبعض الغزليات 137135
لوحة لبيان السنوات الهجرية وما يقابلها من السنوات الميلاديه فى الفترة الواقعة بين سنتى 235هـ 1273هـ 141138
أما الجزء الثانى الذى يشتمل على النصوص الفارسية فقوامه ما يأتى:
ست قصائد الأولى منها كاملة الشرح، والخمس الأخريات عليها تعليقات ص 722
أربع غزليات مختارة 7673
ترجمة حياة الأنورى كما وردت فى «تذكرة الشعراء» تأليف دولتشاه 8378
ترجمة حياة الأنورى كما وردت فى «مرآة الخيال» تأليف شيرخان لودى 8583
ترجمة حياة الأنورى كما وردت فى «آتشكده» تأليف لطفعلى بيگ 8885
ترجمة حياة الأنورى كما وردت فى «هفت إقليم» تأليف «أمين أحمد رازى» 9088
ويجب العناية بوجه خاص فيما جمعه «ژوكوفسكى» من أخبار عن الأنورى بالجدول الذى أورده فى ص 29، وبين فيه التواريخ المختلفة لوفاة هذا الشاعر وفقا لاختلاف المصادر، وكذلك ببيان الكتب الفارسية والعربية التى تبلغ ستين كتابا وهى الكتب التى أشار اليها «أبو الحسن الفراهانى» فى شرحه لأشعار الأنورى (ص 9679).
أما تاريخ وفاة الأنورى فبيانه كما يبدو فى الجدول الآتى:(1/495)
اسم الكتاب: اسم المؤلف: تاريخ التأليف: تاريخ وفاة الأنورى
آتشكده: كما ذكر «ژوكوفسكى»: لطفعلى بيگ: 1180هـ 17671766م: 545هـ 11511150م
آتشكده طبع بمباى سنة 1277هـ 1860م: لطفعلى بيگ: 1180هـ 17671766م: 656هـ 1258م 659هـ 1261
تقويم التواريخ: حاجى خليفة: 1058هـ 1648م: 547هـ 1153م
تذكرة الشعراء: دولتشاه: 892هـ 1486م: 547هـ 11531152م وفى بعض المخطوطات نجد سنة 548هـ أو 556هـ
مرآة الخيال: شير خان لودى: 1102هـ 1690م 1691م: 549هـ 1155م
هفت إقليم: أمين أحمد رازى: 1002هـ 1593م 1594م: 580هـ 1184م 1185م
المجمل: فصيحى خوافى: 845هـ 1441م 1442م: 585هـ 1189م 1190م
خلاصة الأشعار: تقى خان كاشانى: 985هـ 1577م 1578م: 587م 1191م
مرآة العالم: محمد بختاور خان: 1078هـ 1667م 1668م: 592هـ 1196م 597هـ 1200م 1201م(1/496)
ويلاحظ القارىء أن أغلب هذه الكتب حديث التأليف، لا يستثنى من ذلك إلا كتابان اثنان هما «المجمل» و «تذكرة الشعراء» اللذان يرجعان إلى القرن التاسع الهجرى. (النصف الثانى من القرن الخامس عشر الميلادى). أما الكتب القديمة التى كنا نتوقع منها أن تذكر «الأنورى»، فإننا نجد أن كتاب «چهار مقاله» لا يذكره مطلقا أما كتاب «تاريخ گزيده» تأليف حمد الله المستوفى (فى سنة 730هـ 1330م) فقد تحدث عنه ولكنه لم يذكر تاريخ وفاته وكذلك فعل كتاب «لباب الألباب» تأليف «محمد عوفى» (فى بداية القرن السابع الهجرى 13الميلادى) وكذلك فعل أيضا الكتاب العربى المعروف باسم «آثار البلاد» تأليف القزوينى (طبعة وستنفلد) ص 242تحت كلمة «خاوران» فوصف شعر الأنورى بأنه: «غاية فى الحسن وهو ألطف من الماء وشعره بالعجمية كشعر أبى العتاهية بالعربية» وهذه المقارنة بين شعر «الأنورى» وشعر أبى العتاهية مقارنة فى غير موضعها كما يبدو لى.
وليس فى أيدينا إلى الآن أى مصدر يمكن أن نعتمد عليه فى تقرير التاريخ الذى ولد فيه «الأنورى» أو التاريخ الذى توفى فيه ومع ذلك فالأسباب التى بيناها آنفا تقطع بأن وفاته قد وقعت فى سنة 581هـ، أو بين سنتى 585و 587هـ (1189 1191م) كما أشار بذلك المستشرقان «ژوكوفسكى» و «إتيه».
وقبل أن نسير قدما فى دراسة هذه الرسالة الممتعة التى كتبها «ژوكوفسكى» نرى من الواجب علينا أن نشير إلى رسالة أخرى كتبها «مسيو فرتيه.» عن الأنورى أيضا، ونشرها فى «المجلة الأسيويه» فى عدد مارس ابريل سنة 1895م (مجموعة 9مجلد 5ص 268235). ولكن هذه الرسالة لن تعوقنا طويلا لعدم أهميتها، والظاهر أن مؤلفها كتبها دون أن يطلع على ما كتبه «ژوكوفسكى» أو «پرتش» فاكتفى بأن يترجم بعض قصائد «الأنورى» المعروفة وأن يسوق بعض النوادر المتصلة به مما رواه كتاب التراجم ومما يكون مشكوكا فى صحته عادة.
الأسباب التى دعته إلى اختيار القصائد الست
يبدأ «ژوكوفسكى» كتابه بمقدمة يصف فيها المصادر التى استطاع جمعها، ثم ينتقل بعد ذلك إلى بيان الأسباب التى دعته إلى اختيار القصائد الست التى نشرها فى
نهاية الكتاب. وأول هذه القصائد هى أيضا الأولى وفقا لطبعة «لكنو» ومطلعها:(1/497)
يبدأ «ژوكوفسكى» كتابه بمقدمة يصف فيها المصادر التى استطاع جمعها، ثم ينتقل بعد ذلك إلى بيان الأسباب التى دعته إلى اختيار القصائد الست التى نشرها فى
نهاية الكتاب. وأول هذه القصائد هى أيضا الأولى وفقا لطبعة «لكنو» ومطلعها:
باز اين چهـ جوانى وجمالست جهان را ... وين حال كه نو كرد زمين را وزمان را
ومعناه:
أنظر ثانية ما أبدع نصرة العالم وجماله وشبابه الفتان!!
وما أبدع هذه الحال التى جددت المكان والزمان!!
ويقول «ژوكوفسكى» إنه اختار هذه القصيدة لأنها من أشهر قصائد «الأنورى» ولأنها من أصعبها وأكثرها تعقيدا ولأن «أبا الحسن الفراهانى» كتب عليها شرحا مطولا، استطاع «ژوكوفسكى» أن يطبعه مع نصها ويضيفه إلى كتابه.
أما القصيدة الثانية فمطلعها:
اگر محول حال جهانيان نه قضاست ... چرا ماجراى احوال بر خلاف رضاست
ومعناه:
إذا لم يكن القضاء هو محول حال الناس،
فلماذا تكون الأحوال على غيرما نرضى ونهوى؟!
ويقول «ژوكوفسكى» إنه نشر هذه القصيدة لأن «نيكولاس:» ترجمها قبله ولم يستطع فهمها فأساء تصوير حال «الأنورى» وفقا لما ذهب إليه من ترجمة خاطئة!
أما القصيدة الثالثة فهى التى سبق ذكرها ومطلعها:
گر دل ودست بحر وكان باشد ... دل ودست خدايگان باشد
ومعناه:
إذا استطاع القلب والكف أن يكونا بحرا ومنجما للدرر والجواهر
فإن قلب المليك وكفه هما البحر والمنجم لما يجودان به من عطاء وافر!!
ويقول «ژوكوفسكى» إنه اختارها لأنها تعتبر من أوائل ما قاله «الأنورى» ومن أكثر قصائد جمالا وروعة.
أما القصيدة الرابعة فقد نشرها «كركپاتريك» مع ترجمة إلى اللغة الإنجليزية بعنوان «دموع خراسان» فى المجلد
الأول من كتاب «» ص 286وما بعدها (طبع كلكتا سنة 1785م) ومطلعها:(1/498)
أما القصيدة الرابعة فقد نشرها «كركپاتريك» مع ترجمة إلى اللغة الإنجليزية بعنوان «دموع خراسان» فى المجلد
الأول من كتاب «» ص 286وما بعدها (طبع كلكتا سنة 1785م) ومطلعها:
بر سمرقند اگر بگذرى اى باد سحر ... نامه اهل خراسان به بر سلطان بر
ومعناه:
يا نسيم السحر إذا مررت بمدينة سمرقند!!
فاحمل رسالة أهل خراسان إلى حضرة السلطان!!
ويقول «ژوكوفسكى» إنه اختار هذه القصيدة لما اشتملت عليه من أخبار تاريخية ومشاعر إنسانية بالإضافة إلى ما لها من شهرة عريضة وصيت ذائع.
أما القصيدة الخامسة فهى التى مطلعها:
* اى برادر بشنو اين رمزى ز شعر وشاعرى * (1)
ومعنى هذا المصراع:
أيها الأخ استمع إلى حديث رمزى عن الشعر والشاعرية!!
ويقول «ژوگوفسكى» إنه اختارها لأنها تحتوى على اعتراف الشاعر صراحة بذم الشعر وأهله.
أما القصيدة السادسة فهى التى مطلعها:
أى مسلمانان فغان از دور چرخ چنبرى ... وز نفاق تير وجبر ماه وكيد مشترى
ومعناه:
واويلاه أيها المسلمون!! من دورة الملك الدائر
ومن نفاق المريخ وأفعال القمر وكيد المشترى!!
__________
(1) المترجم: فى نسخة خطية اشتريتها من طهران يختلف هذا المطلع قليلا فيرد بالصورة التالية:
اى برادر نشنوى رمزى ز شعر وشاعرى ... تا ز ما هستى گدا كس را ز مردم نشمرى(1/499)
ويقول «ژوكوفسكى» إنه اختارها لأنها من آخر ما نظمه «الأنورى» من قصائد رائعة، هذا بالإضافة إلى ما اشتملت عليه من أخبار متعلقة بحياته.
اختار «ژوكوفسكى» أربع غزليات فقط
وقد اختار «ژوكوفسكى» أربع غزليات فقط من غزليات «الأنورى» واعترف بأنه اختارها بطريق المصادفة لأنه يعتبر سائر غزلياته متساوية من حيث الصنعة والمعنى.
وقد أتبع «ژوكوفسكى» مقدمة كتابه بتمهيد بين فيه مركز الشاعر المحترف فى إيران فى هذه الفترة على الخصوص، ووضح فيه الحاجة الملحة التى كانت تدفع الشاعر إلى العمل ليحصل على المال اللازم له، مما يجعله يكرس مجهوداته للأشعار السياسية ومدح الأمراء والكبراء، وإن كان يتخلل هذا المدح عادة شىء من التهكم بخصومهم لأن التهكم من مستلزمات المدائح على العموم.
ويقول «ژوكوفسكى» إن استعمال البديع فى النظم دون استعماله فى الشعر بمعناه الحقيقى كان نتيجة لتزاحم «شعراء الملوك» الذين كانوا يقومون إلى حد ما بمهمة الصحفيين فى الوقت الحاضر وكذلك بمهمة الندماء والمهرجين. فقد كان شاعر القصر يكتب من أجل المال، وربما تحدث عن ذلك صراحة كما قال الشيخ «أبو زراعه المعمرى الجرجانى» لممدوحه: «إذا أعطيتنى واحدا من ألف مما كان يناله الرودكى من عطاء الملوك، فسأنظم فى مدحك من القصيد ما يفضل قول الرودكى ويعلو عليه ألف مرة!!» (1) وكان يطلب من الشاعر أن يبرهن على أنه كفء للقول فى كل مناسبة تعرض لممدوحه فعليه أن يقول فى الفرح والمرح، وأن يقول فى الحزن والترح، وأن يهنىء مليكه بسلامة بصره لأنه استطاع أن يرى الهلال الجديد يعلن انتهاء شهر الصيام، وأن يسليه إذا سقط عن ظهر جواد جامح أو إذا رمى
__________
(1) المترجم: أنظر ص 10من ج 2من «لباب الألباب» حيث يقول:
اگر بدولت با رودكى نمى مانم ... عجب مكن سخن از رودكى نه كم دائم
اگر بكورى چشم او بيافت گيتى را ... ز بهر گيتى من كور بود نتوانم
هزار يك ز آن كو يافت از عطاء ملوك
بمن دهى سخن آيد هزار چندانم(1/500)
الكعبتين فخرجتا بغير ما يريد، أو إذا انهزم أمام عدوه فى الموقعة (1) أو إذا أحس بألم فى الأسنان أو ما شابه ذلك من أغراض كثيرة!!
ويذكر «ژوكوفسكى» نقطة أخرى لها غرابتها وطرافتها، وهى أن كل شاعر شهير كان له فى العادة راو يقوم برواية أشعاره وترويجها بين الناس. فذكر عن «الفردوسى» مثلا أن راويه هو «أبو دلف» (2)، كما أن «أبا الفرج الرونى» قال فى بيت من الشعر ذكره «ژوكوفسكى» ما معناه: «لقد أنشد راوىّ فى حضرتك ما قلته فى فتح مرو ونيسابور» وكذلك فعل «مسعود بن سعد بن سلمان» حين أمر راويه «خواجه أبو الفتح» كما يقول ژوكوفسكى: ألا يظهر مواطن الضعف فى أشعاره بل يجتهد فى أن يزيل هذه المواضع بما يضفيه عليها حسن صوته من جمال، وبما تكتسبه من بهاء بواسطة إنشاده الذى يثير القلوب والمشاعر!!
ولعل الغموض الذى يسر بل كثيرا من مدائحه المصنعة يجعل من الضرورى على القارىء أن يستعين بشروح مستفيضة مفصلة حتى يتمكن من فهمها وإلا فإنه سيضطر فى النهاية إلى أن يكتفى بقول العبارة المعروفة «إن معنى الشعر فى بطن الشاعر».
حاول «ژوكوفسكى» أن يميز بين ثلاثة عصور مختلفة فى تطور الشعر الفارسى
ويختم «ژوكوفسكى» كلمته التمهيدية بأن يحاول أن يميز بين ثلاثة عصور مختلفة فى تطور الشعر الفارسى حتى نهاية العصر السلجوقى الأول، وهى العصور الآتية:
العصر الأول: عصر القصص الحماسى الذى صاحب النهضة الفارسية القومية على أيام السامانيين، وأنتج الشاعر الكبير الفردوسى.
__________
(1) أنظر الرباعى الذى أنشده «فريد الدين الكاتب» للسلطان «سنجر» عند انهزامه أمام جيوش ال «قرة خطاى» ص 459من «تاريخ گزيده» حيث يقول:
شاها ز سنان تو جهان شد راست ... تيغ تو چهل سال ز اعدا كين خواست
ور چشم بدى رسيد آن هم ز قضاست ... كانكس كه بيك حال بماندست خداست
ومعناهما:
ايها الملك ان العالم ستقام بسيفك وقد انتقمت من أعدائك أربعين عاما بحد سنانكة
فإذا أصابتك عين السوء فذلك من فعل القضاء لأن الذى يبقى على حال واحدة هو الله سبحانه وتعالى!!
(2) أنظر ما كتبه «نولدكه» فى وكذلك «چهار مقاله» ص 48(1/501)
والعصر الثانى: عصر المدائح المشتراة التى ثار عليها الشاعران «ناصر خسرو» و «عمر الخيام».
والعصر الثالث: عصر الشعر الصوفى وهو الذى ينتهى إليه المداحون الذين لا تتحقق آمالهم وتتكشف أطماعهم عن سراب، ومن هؤلاء «سنائى» وكذلك «الأنورى» وإن كان متأخرا قليلا.
والأخبار المتصلة بحياة «الأنورى» مقتضبة أشد الاقتضاب، ولكن «ژوكوفسكى» استطاع أن يكتب فى الفصل الأول من كتابه مقالة وافية عن حياة الشاعر، ربما كانت أوفى ما نستطيع أن نكتبه عنه حتى الآن، وقد استعان فى كتابتها بكتب التراجم الثمانية التى ذكرناها آنفا (1) بالإضافة إلى ما استطاع أن يستخرجه من قراءة ديوان الشاعر نفسه.
أما مولد «الأنورى» وصباه
فلا نعرف عنهما شيئا على الإطلاق. وأما إنه كان فى شبابه طالبا جادا فى تحصيل العلم كما يشير إلى ذلك كتاب التراجم، وأنه كان ملما بكافة العلوم التى يعرفها أهل عصره، فذلك يؤكده ما كان يبديه فى شعره من استشهاد يدل على معرفة تامة بشعب العلوم المختلفة وبما ذكره صراحة فى مقطوعة معروفة سبق لنا ذكرها ومطلعها:
گرچهـ در بستم در مدح وغزل يكبارگى
ظن مبر كز نظم ألفاظ ومعانى قاصرم (2)
__________
(1) هى المذكورة فى الجدول السابق فى صحيفة 469من هذا الكتاب
(2) هذه المقطوعة تشتمل على 19بيتا وهى موجودة فى ص 307من ديوان أنورى طبع تبريز سنة 1266هـ وكذلك باختلاف فى ترتيب الأبيات فى ص 705704من طبعة لكنو سنة 1297هـ (1880م) وستة أبيات منها مروية فى «تاريخ گزيده» ص 813وفى كتاب ژكوفسكى ص 76.
ويقول الأنورى فى بيت آخر من الشعر (ص 87من طبعة لكنو) ما معناه: «إذا اختبرتنى فى أى فرع من فروع العلوم لوجدت أننى أدركت فيه مرتبة الكمال».(1/502)
ومعناه:
إننى أغلقت باب المدح والغزل دفعة واحدة.
ولكن حذار أن تظن أننى عاجز عن نظم الألفاظ والمعانى؟!
وفى قطعة أخرى رواها «ژوكوفسكى» (فى ص 7) يفخر الأنورى بتبريزه فى جملة من الهوايات مثل الخط والشطرنج والنرد ومعرفة أشعار الأوائل والأواخر والقدرة على التهكم والهجاء والسباب!! وقد أكد لمولاه أنه سوف لا يمل مجلسه لإنه امتاز بسعة فى ثقافته وتشعب فى نواحى معلوماته!!
وواضح أيضا أن كتاب التراجم كانوا مصيبين حين قرروا أن «الأنورى» كان يغض من شأن الشعر ولكنه فى الوقت نفسه كان يغرق فى إعلان مواهبه فيه كشاعر من الطراز الأول. فهو يقول فى بيت من الشعر (يغلب على ظنى أن نصه الصحيح هو المنشور فى الجزء الثانى من لباب الألباب ص 117). «أنه مساو للشاعر سنائى وإن كان لم يصل إلى مرتبة أديب صابر».
«چون سنائى هستم آخر گر نه همچون صابرم» (1)
وسنائى كما نعلم شاعر من الطراز الأول، وهو أكثر شهرة من «أديب صابر» ولكن «الأنورى» رفع من قدره لأنه كان يمدح السلطان «سنجر» وقد قتل فى النهاية وهو قائم بعمله يؤدى لسيده خدمة من الخدمات.
وفى هذه القصيدة نفسها يقول «الأنورى» بيتا معناه:
لقد أصبح يستهان بالنبوغ فى هذه الأيام وإلا لشهدت أشعارى بأنى لست شاعرا بل ساحرا!!
خود سزد در عهد باعيبست اگر نه اين سخن
ميكند برهان كه من شاعر نيم بل ساحرم
ويقول فى موضع آخر (طبعة لكنو ص 694)
__________
(1) هذا النص يختلف عن النص المطبوع على الحجر من «لباب الألباب» وهذا النص الأخير لو ترجم لكان معناه هكذا: وأنا لست مساويا للشاعر «سنائى» ولا للشاعر «أديب صابر»(1/503)
إن لى روحا متقدة كالنيران، ولسانا عذبا كالماء
وعقلا حادا، وذكاءا مفرطا، وأشعارا خالية من الخلل والهراء!!
ولكن وا أسفا لست أجد ممدوحا جديرا بهذا الثناء
ولا معشوقا أستطيع أن أوجه إليه هذا الغزل فى صفاء!!
خاطرى چون آتشم هست وزبانى همچوآب
فكرت تيز وذكاء نيك وشعرى بى خلل
اى دريغا نيست ممدوحى سزاوار مديح
وى دريغا نيست معشوقى سزاوار غزل
وفى موضع آخر (ص 688) يعلن الأنورى أن أشعاره تجوب أنحاء العالم كالحمام الزاجل، وأن أسلوبه هو بإجماع الآراء أجمل أساليب معاصريه (ص 34).
وعلى العكس من ذلك يتحدث «الأنورى» عن صناعة الشعر فيقول: (ص 730)
يا أنورى هل تعرف ما هو الشعر وما هو الحرص والطمع فى المال؟
أما الأول فطفل رضيع وأما الثانى فمرضعته!!
وأنت كالديك لك تاج من العلم فوق رأسك
ولكن هل لك أن تخبرنى لماذا يبيض كالدجاج؟!
أنورى شعر وحرص دانى چيست؟! ... آن يكى طفل، وان دگر دايه
تاج دارى خروس وار از علم ... چكنى همچوماكيان خايه!!
ثم هو يلزم نفسه بعد ذلك بأن «يطوح بقاذورات الشعر للرياح الذارية!!».
وهناك قطعة أخرى ممتعة تدل على صدق ما قرره كتاب التراجم عن الأسباب التى دعت «الأنورى» إلى هجر العلوم والاشتغال بالشعر وهى مذكورة فى نهاية ص 629من طبعة لكنو ويقول فيها:
ما دام جاهى سيرتفع بقول المدح والقريض
فلماذا أحرق روحى وأصيها فى نيران التفكير العميق؟!
ولقد صيعت عشرين عاما من عمرى فى «لعل وعسى»
ولكنى تحققت بعد ذلك أن الله لن يمنحنى عمر نوح الطويل؟!(1/504)
ومن أجل ذلك فسآخذ نفسى بالروية، وأثنى عنانى
إذا لم أجد باب القبول مفتوحا أمامى!!
فإذا لم يمنحونى العطاء الجزل لمدحى إياهم
فسأحطم بالهجاء كل من مدحته حتى أخرج الدماء من رأسه!!
چوآبروى بيفزايدم بمدح وغزل ... چرا بآتش فكرت همى بكاهم روح
بياد بوكه وبكه بيست سال بردادم ... مرا خداى ندادست زندگانى نوح
عنان طبع ازين پس كشيده خواهم داشت
اگر گشاده نه بينم در قبول وفتوح
وگر عطا ندهندم برآرم از پس مدح
بلفظ هجو دمارا از سر چنين ممدوح
ويقول الأنورى فى نهاية ص 41 «إن الاستجداء هو وسيلة الشعراء» گدائى شريعت شعر است) ولكنه على استعداد للهجاء اللاذع إذا لم يفلح الاستجداء فى أن يعود عليه بما يريد من عطاء!! ومع ذلك فهو يحس بكراهية شديدة لحياة القصور والحاشية، وإن كان يعود فى ثورة جامحة على زمانه، فيعترف من ناحية أخرى، بأن حياة القصور وحدها للأسف هى الكفيلة بأن تدر عليه المال الوفير، بينما حياة الجد والاجتهاد لا تفيده شروى نقير!! (أنظر ص 711)
ليس من الحق أن أتعب قلبى وروحى من أجل أن أكتسب آداب الندماء!! (أى رجال القصور).
فأحرك لسانى بالنثر والنظم، وأبعث الأفكار العذارى من عقلى وخاطرى!!
لأن الندماء ينتهى بهم الأمر فى العادة إلى تلقى اللطمات وتلقى كلمات الازدراء والسباب!!
نشايد بهر آداب نديمى ... دگر بر جان ودل زحمت نهادن
زبان كردن بنظم ونثر جارى ... ز خاطر نكتهائى بكر دادن
كه باز آمد همه كار نديمان ... بسيلى خوردن ودشنام دادن
ويقول فى سوء معاملة الحظ لرجال العلم (ص 39سطر 6).(1/505)
وهل يمكن لفرد أن يعلم كيف أن هذا الفلك العجوز الأحدب مولع بإيذاء العلماء!!
كسى چهـ داند كين كوزپشت مينارنگ
چگونه مولع آزار مردم داناست
وعلى هذا فقد كان الأنورى «طالب علم» باستعداده ومواهبه، وشاعرا بصناعته ومهنته، فتوزعت نفسه بين ما يمليه عليه استعداده وما تقتضيه منه صناعته.
ولم يستطع أن يقنع بنصيب العالم من الفقر، أو أن يهدأ إلى النفاق الذى تضطره إليه حياة القصور والملوك. وتحقق فيما بينه وبين نفسه مما تجلبه عليه أقواله من تعريض وزراية فازدرى نفسه وطريقة حياته وتاق إلى أن يعيش كما يعيش «ابن سينا» ولكنه اضطر اضطرارا إلى أن يعيش حياة مشابهة لحياة «أبى نواس».
وقد قال إنه من الواجب على الشاعر ألا يقول الشعر بعد الخمسين (ص 725) ولكنه هو نفسه ظل يقرض الشعر أربعين سنة على الأقل فقد ذكر فى إحدى قصائده (ص 636) إنه قالها فى سنة 540هـ (11461145م) ثم ظل يقول الشعر بعد خيبته المعروفة فى إصدار الحكم الذى استوحاه من اجتماع الكواكب فى سنة 581هـ (11861185م). ولكنه على ما يظهر نجح فى نهاية أيامه عند ما ثار عليه أهل «بلخ» (دون جريرة ارتكبها) فى تطليق حياة القصور وترك خدمة الملوك والأمراء، والعودة إلى حياة العلم والعزلة والاعتكاف، وهى الحياة التى طالما منى نفسه بها وأحبها.
وهناك بعض القصائد التى تقوم دليلا على صحة هذا القول وخاصة المقطوعة التى نشرتها مع ترجمتها الإنجليزية (ص 108) فى مقالتى عن «حياة شعراء الفرس المذكورين فى تاريخ گزيده» وهى المقالة التى نشرتها فى «مجلة الجمعية الأسوية الملكية» سنة 19011900م فهو يذكر فى هذه المقطوعة (فى شىء من الإخلاص) مقدار الهدوء والراحة اللذين ظفر بهما فى كوخه المتواضع حيث لا زاد له إلا الخبر الجاف وقليل من الأدام، وحيث لا كأس له ولا مطرب إلا المحابر والأقلام!!
وهو يردد هذا المعنى فى موضع آخر (ص 733من طبعة لكنو سنة 1880م).(1/506)
يا ربى! بدل هذه النعم التى أغدقتها على
أعطنى القناعة بالحق، ورزقا طاهرا، وزادا نظيفا
واجعل قوام حياتى الأمن والصحة والطاعة
ورغيفا وخرقة مهلهلة والاعتكاف فى ركن من الأركان الهادئة!!
يا رب بده مرا بدل نعمتى كه بود ... خرسندى حقيقت و پاكيزه توشه
امنى وصحتى و پسنديده طاعتى ... نانى وخرقه ونشستن بگوشه
و «السيد نور الله الشوشترى»، مؤلف كتاب «مجالس المؤمنين» الذى احتوى على تراجم كثير من أهل الشيعة وتم تأليفه حوالى سنة 1586م، يعتبر «الأنورى» واحدا من شعراء الشيعة، ولكن هناك مقطوعات فى ديوانه فى مدح «عمر» إذا ثبتت صحتها ونسبتها إليه كان الأمر على خلاف ما قال الشوشترى. هذا بالإضافة إلى أنه لا يمكن أن يعقل أن شاعرا من شعراء السلاجقة الذين كانوا من أهل السنة يستطيع أن يتغاضى عن هذه الحقيقة فيقدم على مدح مذهب الشيعة وهو عارف أن أسياده يكرهونه ويبغضونه كل البغض.
ويقول الأنورى فى إحدى مقطوعاته الواردة فى ص 53: «أن سيف الدين عمر» مفتى بلخ هو الإمام الذى اختاره الإسلام فورث عدل «عمر» وصلابته!!
صفى ملت اسلام وصدر دين خداى ... عمر كه وارث عدل وصلابت عمر است
ويقول فى مقطوعة ثانية واردة فى ص 74 «إن الاسلام ظهر على يدى عمر».
بدليرى وهيبت عمرى ... كه ظهور شريعت از عمر است
ويقول فى مقطوعة ثالثة:
إن الكفر قد انمحى على يدى محمد وعمر وقد بعثت أنت أيامها من جديد.
وعندما كان الأنورى ملتحقا بخدمة الملوك لم يمتنع عن شرب الخمر، بل نجده فى إحدى مقطوعاته (ص 688القطعة الثانية سطر 54) يقول: «هل لك أن تدننى على طريقة أستطيع بها أن أعتذر عن شربى للخمر وإحساسى بالفىء والخمار».
هيچ دانى چگونه خواهم داشت ... عذر قى كردگى ومستى خويش
وفى مقطوعة أخرى (ص 698) يقول:(1/507)
هيچ دانى چگونه خواهم داشت ... عذر قى كردگى ومستى خويش
وفى مقطوعة أخرى (ص 698) يقول:
أنت تعلم يا مولاى أننى مريض بالنقرس، ومن أجل ذلك فإنى (رغم حبى للخمر) امتنع عن كل ما هو لاذع حريف!!
فلما سألتك كاسا من الشراب أعطيتنى كأسا من الخل الحامض الحريف، فلو أننى شربته لقمت فى يوم القيامة كاللحوم المتبلة. (المصوص)
فأين ساقيك الوغد؟! حتى أستطيع أن أهرق فى أنفه وأذنيه كأسا مترعة!!
بزرگوارا دانى كز آفت نقرس
ز هر چهـ ترشى من بنده مى بپرهيزم
شراب خواستم وسركه كهن دادى
كه گر خورم بقيامت مصوص برخيزم
شراب دار تو آخر كجاست تا قدحى
بگوش وبينى آن قلتبان فروريزم
هذه هى الحقائق المجردة التى استطعت أن أصل إليها من نظرتى العاجلة لديوان الأنورى، ولكنى على ثقة من أن الدراسة الدقيقة لنص صحيح من هذا الديوان وهو ما زلنا فى حاجة إليه إلى الآن ستكشف لنا عن تفاصيل جديدة عن حياة هذا الشاعر وعن كثير من الأسانيد التى يمكن أن نحكم بها على عقليته ونفسيته.
فلنكتف الآن بهذا القدر ولنعد إلى الحكايات التى رواها عنه كتاب التراجم والتواريخ، فهى وإن كانت تافهة القيمة بحيث لا يمكن الاعتماد عليها كثيرا، إلا أنه لا يمكن إهمالها جملة والغض من شأنها غضا تاما.
ومن أهم الروايات المعروفة الرواية التى رواها كتاب «حبيب السير» (مجلد 2 جزء 4ص 104103من طبعة بمباى سنة 1857م) عن اتصال الأنور، بسنجر فقصتها مخالفة للرواية التى ذكرتها المصادر الأخرى. وهى تقول إن «المعزى» كان أميرا للشعراء فى ذلك العهد، وكان موكولا إليه مقابلة الشعراء الذين يريدون أن يرفعوا قصائدهم إلى السلطان ومنع من لم تسم مواهبهم عن التشرف بالمثول بين يديه،
فابتدع «المعزى» حيلة مخزية يستطيع بها أن يقصى غيره من الشعراء الذين كان يخشى منافستهم له ذلك أن ذاكرته كانت قويه على الحفظ بحيث كان يستطيع أن يعيد على التوأية قصيدة بعد سماعها مرة واحدة، وكان له ابن يستطيع أن يعيدها بعد سماعها مرتين، كما كان له خادم يستطيع إعادانها بعد سماعها ثلاث مرات. فاذا تقدم إليه شاعر يريد التشرف بالمثول بين يدى السلطان، فإنه يأذن له أن ينشده قصيدته برمتها فإذا فرغ منها التفت إليه المعزى وقال له: «إننى أنا قائل هذه القصيدة، وسأبرهن لك على صحة قولى بإنشادها لك ثانية» ثم يأخذ فى إنشاد القصيدة فاذا أعادها التفت إلى ابنه وقال: «وابنى أيضا يحفظها عن ظهر قلب» فيأخذ ابنه أيضا فى إنشادها وإعادتها على مسامع الحاضرين، فيلتفت معزى إلى خادمه كما فعل مع ابنه فيأمره بإعادتها لثالث مرة ثم يأمر بطرد الشاعر المسكين بتهمة أنه شاعر وضيع يغير على أشعار غيره فينتحلها لنفسه!! وضاق الشعراء ذرعا بهذه الحيلة التى ابتدعها «المعزى» إلى أن بلغ الأمر «الأنورى» فألقى دلوه فى الدلاء لعله فاعل شيئا أو متدبر أمرا، فتقدم إلى «المعزى» فى ثياب رثة مهلهلة وأخذ ينشده أشعارا مضحكة تافهة، فاستثار بمظهره وشعره هزء الحاضرين وسخريتهم، وظن «المعزى» أنه مهرج ماجن ولم يستشعر شيئا من الخطر يهدده إذا قدمه إلى السلطان، فوعده بذلك فى اليوم التالى. فلما حان الموعد الذى ضرب له تقدم «الأنورى» فى ثياب محترمة وأنشد البيتين الأولين من قصيدته التى مطلعها:(1/508)
ومن أهم الروايات المعروفة الرواية التى رواها كتاب «حبيب السير» (مجلد 2 جزء 4ص 104103من طبعة بمباى سنة 1857م) عن اتصال الأنور، بسنجر فقصتها مخالفة للرواية التى ذكرتها المصادر الأخرى. وهى تقول إن «المعزى» كان أميرا للشعراء فى ذلك العهد، وكان موكولا إليه مقابلة الشعراء الذين يريدون أن يرفعوا قصائدهم إلى السلطان ومنع من لم تسم مواهبهم عن التشرف بالمثول بين يديه،
فابتدع «المعزى» حيلة مخزية يستطيع بها أن يقصى غيره من الشعراء الذين كان يخشى منافستهم له ذلك أن ذاكرته كانت قويه على الحفظ بحيث كان يستطيع أن يعيد على التوأية قصيدة بعد سماعها مرة واحدة، وكان له ابن يستطيع أن يعيدها بعد سماعها مرتين، كما كان له خادم يستطيع إعادانها بعد سماعها ثلاث مرات. فاذا تقدم إليه شاعر يريد التشرف بالمثول بين يدى السلطان، فإنه يأذن له أن ينشده قصيدته برمتها فإذا فرغ منها التفت إليه المعزى وقال له: «إننى أنا قائل هذه القصيدة، وسأبرهن لك على صحة قولى بإنشادها لك ثانية» ثم يأخذ فى إنشاد القصيدة فاذا أعادها التفت إلى ابنه وقال: «وابنى أيضا يحفظها عن ظهر قلب» فيأخذ ابنه أيضا فى إنشادها وإعادتها على مسامع الحاضرين، فيلتفت معزى إلى خادمه كما فعل مع ابنه فيأمره بإعادتها لثالث مرة ثم يأمر بطرد الشاعر المسكين بتهمة أنه شاعر وضيع يغير على أشعار غيره فينتحلها لنفسه!! وضاق الشعراء ذرعا بهذه الحيلة التى ابتدعها «المعزى» إلى أن بلغ الأمر «الأنورى» فألقى دلوه فى الدلاء لعله فاعل شيئا أو متدبر أمرا، فتقدم إلى «المعزى» فى ثياب رثة مهلهلة وأخذ ينشده أشعارا مضحكة تافهة، فاستثار بمظهره وشعره هزء الحاضرين وسخريتهم، وظن «المعزى» أنه مهرج ماجن ولم يستشعر شيئا من الخطر يهدده إذا قدمه إلى السلطان، فوعده بذلك فى اليوم التالى. فلما حان الموعد الذى ضرب له تقدم «الأنورى» فى ثياب محترمة وأنشد البيتين الأولين من قصيدته التى مطلعها:
گر دل ودست بحر وكان باشد ... دل ودست خدايگان باشد
ثم توقف عن الإنشاد والتفت إلى «المعزى» وقال له «أتمم إنشاد هذه القصيدة إذا كنت سمعتها قبل ذلك وإلا فاعترف أنها من إنشائى!!»
فذهل «المعزى» لهذه المفاجأة واعترف للأنورى بحسن حيلته وقوة بديهته
وهذه القصيدة نفسها تشهد بأن «الأنورى» كان يشتغل بقول الشعر قبل ذلك ببضع سنين، فهو يقول فيها:
خسروا بنده را چوده سال است ... كاش همى آرزوى آن باشد
كز نديمان مجلس ار نبود ... از مقيمان آستان باشد
ومعنى هذين البيتين:(1/509)
خسروا بنده را چوده سال است ... كاش همى آرزوى آن باشد
كز نديمان مجلس ار نبود ... از مقيمان آستان باشد
ومعنى هذين البيتين:
أيها المليك! لقد كانت الرغبة الوحيدة لعبدك منذ عشر سنوات
أن يكون واحدا من ندماء مجلسك، فإذا لم يستطع، فليكن مقيما على أعتاب بابك!!
ومهما كان من أمر، فإن كلمات «الأنورى» تشهد بأنه نال استحسان الملك ورضاه فهو يقول:
انورى را خدايگان جهان
پيش خود خواند ودست داد ونشاند
باده فرمود وشعر خواست ازو
وترجمتها:
فدعا مليك العالم شاعره «الأنورى» وسلم عليه وأجلسه إلى جواره
ثم أمر بالشراب وسأله أن ينشده بعض أشعاره!!
وهناك قصة أخرى عن الأنورى مروية بصور مختلفة فى «هفت إقليم» و «بهارستان» و «مجمل فصيحى» و «لباب الألباب» (لمحمد عوفى ج 2ص 139138) وهى تشير إلى تحذير تلقاه من شاعر معاصر هو «خالد بن الربيع» حين أراد السلطان علاء الدين ملك الجبال (ملك الغور) أن يستدعى الأنورى إلى حضرته، فأظهر التلطف فى استدعائه، ولكنه كان يضمر له السوء ويريد أن ينكل به لأشعار قالها فى هجوه! فعلم «خالد بن الربيع» بحقيقة الحال، وشاء أن يحذر صديقه من سطوة السلطان وقهره، ولكنه خشى أن يكتب له صراحة بحقيقة الأمر، خشية أن يثير غضب السلطان عليه، فصدر رسالته اليه بهذه الأبيات العربية:
هى الدنيا تقول بملء فيها ... حذار حذار من بطشى وفتكى
فلا يغررك طول فى ابتسامى ... ففولى مضحك والفعل مبكى
هى الدنيا أشبهها بشهد ... يسم وجيفة ملئت بمسك
فاستدل «الأنورى» من هذه الأبيات على الخطر الحائق به ورفض الذهاب إلى السلطان «علاء الدين» وأرسل السلطان رسولا آخر إلى «الملك طوطى» الذى كان يستضيف «الأنورى» وطلب منه أن يرسل إليه الشاعر فى مقابل ألف رأس من الغنم يعطيها له. ولكن الشاعر استطاع أن يقنع «الملك طوطى» بألا يسلمه غنيمة باردة لخصمه!!(1/510)
هى الدنيا تقول بملء فيها ... حذار حذار من بطشى وفتكى
فلا يغررك طول فى ابتسامى ... ففولى مضحك والفعل مبكى
هى الدنيا أشبهها بشهد ... يسم وجيفة ملئت بمسك
فاستدل «الأنورى» من هذه الأبيات على الخطر الحائق به ورفض الذهاب إلى السلطان «علاء الدين» وأرسل السلطان رسولا آخر إلى «الملك طوطى» الذى كان يستضيف «الأنورى» وطلب منه أن يرسل إليه الشاعر فى مقابل ألف رأس من الغنم يعطيها له. ولكن الشاعر استطاع أن يقنع «الملك طوطى» بألا يسلمه غنيمة باردة لخصمه!!
ويقول بعض الكتاب إن «الأنورى» اعتذر لملك الغور بقصيدة مطلعها: (1)
كلبه كاندران بروز وبشب
جاى آرام وخورد وخواب من است
وهى قصيدة يرجع تاريخ إنشائها إلى النصف الأخير من حياته حينما هجر القصور وحياة القصور. والمشهور أن «الأنورى» أمضى أواخر أيامه فى مدينة «بلخ» حيث اختار عيشة العزلة بعد ما أخفق فى حكمه على اجتماع الكواكب السبعة فى سنة 581هـ (11861185م) (2). ولكن سوء الحظ تابعه فى هذه البلدة أيضا، فقد انتشرت بين أهلها قصيدة فى هجائهم باسم «خرنامه» أو «رسالة الحمير» كان مؤلفها الحقيقى الشاعر «سوزنى» (3) ولكنهم نسبوها خطأ إلى «الأنورى» فعامله أهل البلدة بشىء من القسوة والشدة، وعرضوه فى شوارع بلدتهم معصوب الرأس بعصابة امرأة، وكادوا يفتكون به لولا أن تدخل بعض أصحابه فى الأمر فخلصوه من أيديهم. وكان بين الذين خلصوه كثير من أصحاب النفوذ مثل القاضى «سيد أبو طالب حميد الدين» والمفتى «صفى الدين عمر» والمحتسب «تاج الدين أحمد» والأستاذ «نظام»
__________
(1) أنظر ص 594593من ديوان أنورى طبع لكنو سنة 1880، وكذلك مقالتى عن الشعراء المذكورين فى «تاريخ گزيده» المنشورة فى مجلة الجمعية الآسيوية الملكية فى أكتوبر سنة 1900.
(2) حاول البعض الدفاع عن الأنورى فقالوا إنه أشار فى حكمه إلى العواصف السياسية، لا العواصف الجوية، لأن چنگيز خان فى ذلك الوقت استطاع أن يتزعم المغول ويتولى أمرهم.
(3) قالت بعض الروايات أن هذه القصيدة كانت من خمسة أبيات ذم فيها قائلها حواضر خراسان الأربعة (أى مرو وبلخ ونيسابور وهراة) وأن الذى أنشأ هذه المقطوعة هو الشاعر «فتوحى» بتحريض من «سوزنى». الذى نسبها متعمدا إلى الأنورى للايقاع به.(1/511)
الدين احمد» وإلى الأخير منهم وجه الشاعر قصيدة تبلغ أبياتها المائة، مدحه فيها على تخليصه إياه من بليته (وهى القصيدة رقم 6فى كتاب ژوكوفسكى) ومطلعها:
اى مسلمانان فغان از دور چرخ چنبرى
وز نفاق تير وجبر ماه وكيد مشترى
ولا يفوتنى أن أقرر أن هذه القصيدة هى الأصل لقطعة نشرها الأستاذ المرحوم «پالمر .. » فى ص 8063من كتابه المسمى «أغنية الناى» «» (1) تحت عنوان وهى ترجمة غير دقيقة، لم تتقيد بالأصل الفارسى، كما يدل على ذلك الفقرتان التاليتان اللتان يقابلهما ثلاثة أبيات من الأصل:
، =،،.، =. =،،،،، =. فلو أننا ترجمنا الأبيات الثلاثة الفارسية التى ترجمت فى هاتين الفقرتين لكان معناها الحرفى هكذا:
__________
(1) طبع تروبنر سنة 1877م(1/512)
أيها المسلمون وا ويلاه من دورة هذا الفلك الأعوج
ومن نفاق «المريخ» ورياء «القمر» وكيد «المشترى» (1)
فهى تحيل الماء العذب إلى نار تلتهب فى لهاتى وحلقى
وهى تحيل الأرض الهادئة إلى ريح صرصر عاتية تعصف بمسكنى
والسماء دائما تفعل بزروق عمرى أمرا من أمرين:
فهى إما أن تنفخ الريح فى قلاعه وقت السرور وإما أن تلقى بمراسيه فى وقت الأحزان!!
وأشهر قصيدة معروفة للأنورى فى أوروبا
هى التى ترجمها «الكابتن وليام كركپاتريك» إلى الانجليزية نظما تحت عنوان «دموع خراسان» ونشرها فى المجلد الأول من كتاب الذى طبع فى مدينة كلكتا سنة 1785م (ص 310286) وكذلك نشرها الأستاذ «پالمر .. » فى كتابه المعروف ب «أغنية الناى» ص 6255.
ويقول «كركپاتريك»: «إن هذه القصيدة من أجمل القصائد فى اللغة الفارسية.
فالعواطف الممثلة بها طبيعية، وهى فى الغالب من أجمل العواطف وأنبلها، وكذلك الصور التى اشتملت عليها واضحة ظاهرة للعيان والشاعر ثائر فى قوله ولكنه جميل التعبير منمق العبارة عفيف الألفاظ ونظمه ليس سلسا فى كل المواضع ولكنه على العموم متناسب مع موضوع القصيدة، وكذلك البحر الذى نظم فيه الشاعر يعتبر من أبطأ البحور من حيث موسيقاه ومن أكثرها مهابة واتزانا». وهذه القصيدة لها بالإضافة إلى ذلك فائدة تاريخية كبيرة لأنها تمثل لنا الغارات التى قامت بها قبيلة متوحشة من الأتراك «الغز» فخربت أكثر الأنحاء ازدهارا فى ايران فى سنة 548هـ (أوائل سنة 1154م) وكانت هذه القبيلة تستقر بمراعيها بالقرب من «ختلان» من أعمال بلخ، وكانت تمد مطابخ السلطان «سنجر» بأربعة وعشرين ألف رأس من
__________
(1) المترجم: فيما يلى نص الأبيات الفارسية:
آى مسلمانان فغان از دور چرخ چنبرى ... وز نفاق تير وجبر ماه وكيد مشترى
آب نافع را دهد در مشرب من آتشى ... خاك ساكن را دهد در مسكن من صرصرى
آسمان در زورق عمرم كند دايم دو كار ... وقت شادى بادبانى وقت انده لنگرى(1/513)
الغنم، تقوم بإيفائها له كجزية سنوية مرتبة عليهم. وقد طمع رئيس المطابخ (خوانسالار) فى عدد أكثر من ذلك العدد، وقسا على «الغز» فى معاملته إياهم، فأدى ذلك إلى كثير من المنازعات التى أريقت فيها الدماء، وقدر حاكم بلخ المسمى «قماج» ما يحيطه من ظروف فكتب إلى مولاه «سنجر» يشكو له من ازدياد قوة «الغز» وجرأتهم عليه ويطلب إليه أن يعينه حاكما عليهم (شحنة) وتعهد له فى نظير ذلك أن يخضعهم لسلطانه وأن يجبرهم على رفع الجزية إلى 000ر 30رأس من الغنم. ولكن «قماج» لم يفلح فى تحقيق وعده واستطاع «الغز» أن يطردوه من أراضيهم وأن يذبحوا ابنه «علاء الدين».
وحرض الأمراء السلطان «سنجر» أن يخرج إليهم بنفسه، وأن يرفض ما قدموه إليه من معاذير وتعويضات بلغت مائة ألف دينار وألفا من العبيد الترك!! وتقدم «سنجر» إلى خيامهم فاستولت عليهم الرهبة وتملكتهم الرعدة، وخرجوا إليه هم ونساؤهم وأطفالهم يتوسلون إليه أن يغفر أخطاءهم ويتناسى جرائرهم، ثم عرضوا عليه أن يدفعوا له سبعة أمنان من الفضة، يأخذها من كل أسرة من أسراتهم. ولكن الأمراء منعوا السلطان «سنجر» من قبول هذه العروض السخية وخاصة «المؤيد» و «يرتقش» و «عمر العجمى» وانتهى الأمر إلى القتال. واستيأس «الغز» فى الميدان فاستطاعوا بحماسهم أن يستأصلوا جيوش «سنجر» وأن يأخذوه أسيرا إلى عاصمته فى مدينة «مرو» وأن يغيروا على هذه المدينة ويبيحوها للنهب العام مدة ثلاثة أيام، أذاقوا فيها الأهلين كثيرا من المرارة والعذاب حتى يضطروهم إلى إظهار الكنوز التى أخفوها. ثم التحق بهم مدد يبلغ عدده ثلاثة أضعاف قوتهم الأصلية، أغلبه من الجنود المهزومة والأوباش والسفلة، فاندفعوا بهم إلى مدينة «نيسابور» فدافعهم أهلها وقتلوا عددا منهم، ولكن «الغز» اشتدوا فى غارتهم على هذه المدينة واستطاعوا أن يقتلوا فى «المسجد الجامع» عددا كبيرا من أهل البلدة لا يبلغه الإحصاء، لأن القتلى كما تقول الأخبار: «كانوا غارقين فى دمائهم لا تستطاع رؤيتهم وهم فى لجة عميقة من الدماء المهزقه!!»
ثم تحول «الغز» فأحرقوا «جامع المطرز» وكانت بنايته تستوعب ألفين من الناس ثم استمروا على أضواء المشاعل يغيرون على أنحاء البلدة ويخربون ما تصل إليه
أيديهم. ثم عسكروا خارج البلدة ولكنهم استمروا يوميا يدخلون المدينة ويعيثون فيها، فيقتلون بعض الأفراد، أو يكتفون بتعذيب بعض من يلاقونه، وقد يخربون الديار ويحطمون المنازل ويفعلون من الأمور ما يثير فى النفوس كثيرا من لمرارة والحسرة.(1/514)
ثم تحول «الغز» فأحرقوا «جامع المطرز» وكانت بنايته تستوعب ألفين من الناس ثم استمروا على أضواء المشاعل يغيرون على أنحاء البلدة ويخربون ما تصل إليه
أيديهم. ثم عسكروا خارج البلدة ولكنهم استمروا يوميا يدخلون المدينة ويعيثون فيها، فيقتلون بعض الأفراد، أو يكتفون بتعذيب بعض من يلاقونه، وقد يخربون الديار ويحطمون المنازل ويفعلون من الأمور ما يثير فى النفوس كثيرا من لمرارة والحسرة.
وقد بلغ عدد ضحاياهم بضعة آلاف، بينهم جماعة من أفاضل الرجال مثل «الشيخ محمد الأكاف» و «محمد بن يحيى» وقد رثى الأخير منهما الشاعر «خاقانى» فى ثلاث قصائد على الأقل (1)
وكان الخراب شاملا بحيث أن مؤلف كتاب تاريخ السلاجقة المعروف ب «راحة الصدور» (2) يقول: إن «معزى» ربما فكر فى هذه الكارثة حينما أنشه الأقوال التاليه:
وكان نديمى موجودا فى هذه الحدائق الزاهرة ومن حوله الرفقاء والإخوان
فأصبحت هذه الحدائق مرتعا للثعالب والذئاب والبوم والغربان!!
وأصبحت حمر الوحش ترتع فيها وكانت تدور فيها الكؤوس والأكواب.
وأصبحت الغربان تنعب فيها وكانت تتجاوب فيها من قبل نغمات العود والمزمار ونبرات الحديث المستطاب!!
وقد محا الفلك هذه الآثار العزيزة على النفوس والقلوب
فلن يستطيع منقب فى ثناياها أن يتبين المكان الذى كنت أغازل فيه الحبيب!
آنجا كه بود آن دلستان با دوستان در بوستان
شد كوف وكرگس را مكان شد گرگ وروبه را وطن
__________
(1) أنظر مجلة «الجمعية الآسيوية الملكية» سنة 1902ص 854، وكذلك «كليات خاقانى» طبع لكنو سنة 1293هـ ج 1ص 590587
(2) مؤلف «راحة الصدور» هو الراوندى.(1/515)
بر جاى رطل وجام مى گوران نهادستند پى
بر جاى نقل وناى ونى آواى زاغست وزغن
زين سان كه چرخ نيلگون كرد آن نهانهارا نگون
ديّار كى گردد كنون گرد ديار يار من (1)
وقد فعل «الغز» بسائر أنحاء خراسان مثلما فعلوا بمدينة نيسابور، ولم ينج من أيديهم إلا مدينة «هراة» فإنها قاومتهم أشد المقاومة وقد مكث «سنجر» سنتين أسيرا فى أيديهم ولم يستطع الخلاص إلا بعد أن دفع رشوة لجماعة من رؤسائهم فخرج من «بلخ» إلى «مرو» وأخذ يعد العدة لجمع جيش جديد ولكن الحزن استولى عليه بسبب الخراب والدمار اللذين أصيبت بهما دياره فمرض مرضا شديدا توفى على أثره فى سنة 550هـ (1155م) ودفن فى «مرو» بالمقبرة المعروفة باسم «دولتخانه».
وقد كتب «الأنورى» قصيدته التى عرفت باسم «دموع خراسان» أثناء الفترة التى وقع فيها «سنجر» أسيرا فى يد «الغز» وربما كتبها فى سنة 550هـ (1155م) وقد خاطب بها الشاعر أمير سمرقند «محمد بن سليمان» كما يرى ذلك «كركپاتريك» وإن لم يكن هنالك ما يقطع بهذا الرأى. والقصيدة طويلة بحيث لا يتسع المقام لنشرها لأنها تشتمل على 73بيتا، ومن أجل ذلك فسأكتفى بأن أنشر هنا قطعا جميلة من ترجمة «كركپاتريك» وترجمة «پالمر»
وفيما يلى ثلاث فقرات من ترجمة «كركپاتريك» وهى تقابل الأسطر الأربعة عشر الأولى من ترجمة «پالمر» وتقابل الأبيات الخمسة الأولى من الأصل الفارسى:
__________
(1) المترجم: أنظر ص 183182من كتاب «راحة الصدور» طبع ليدن سنة 1921م(1/516)
وفيما يلى نورد الجزء المقابل لهذه الفقرات من ترجمة «پالمر»:
وفيما يلى ترجمة حرفية للأبيات الفارسية التى تقابل القطع السابقة (1)(1/517)
وفيما يلى ترجمة حرفية للأبيات الفارسية التى تقابل القطع السابقة (1)
إذا مررت يا ريح السحر! على مدينة «سمرقند»
فاحملى رسالة أهل خراسان إلى حضرة السلطان!!
فهى رسالة مطلعها عناء للجسد وعذاب للروح
ومقطعها (أى نهايتها) ألم للفؤاد وضنى للأكباد!!
وهى رسالة تبدو فى سطورها تأوهات الأعزاء
وتحتوى فى ثناياها على دماء القتلى من الشهداء!!
وقد جفت صفحاتها بفعل التأوهات الحارة التى تخرجها صدور المظلومين
ولكن عنوانها ما زال نديا مبللا بفعل الدموع الجارية من أعين المحرومين!
وقد احترق بها سمعى عندما أخذ يصغى إلى أخبارها
ودمى بها إنسان عينى عندما نظر إلى مضمونها وآثارها!!
وقبل أن نترك هذه القصيدة الخالدة يجدر بنا أن نذكر قطعا أخرى متقابلة فى ترجمتى «كركپاتريك» و «پالمر».
[ثم يذكر الفقرات 1613من ترجمة «كركپاتريك» والقطعة التى تقابلها من ترجمة «بالمر» ولم نر حاجة إلى إيرادها].
والترجمة الحرفية للأصل الفارسى [للفقرات الانجليزية التى تركناها] هى الآتية: (2)
__________
(1) المترجم: فيما يلى النص الفارسى للأبيات الخمسة الأولى من القصيدة، وهو الذى اعتمدنا عليه فى الترجمة:
بر سمرقند اگر بگذرى اى باد سحر ... نامه أهل خراسان به بر خاقان بر
نامه مطلع آن رنج تن وآفت جان ... نامه مقطع او درد دل وخون جگر
نامه بر رقمش آه عزيزان پيدا ... نامه در شكنش خون شهيدان مضمر
نقش تحريرش از سينه مظلومان خشك ... سطر عنوانش از ديده محرومان تر
ريش گردد ممر صوت ازو گاه سماع ... خون شود مردمك ديده زو وقت نظر
(2) المترجم: الأبيات الفارسية هى:
بر بزرگان زمانه شده خوردان سالار ... بر كريمان جهان گشته لئيمان مهتر(1/518)
وقد أصبح الصغار يرأسون العظماء والكبراء
وأصبح أهل اللؤم والبخل يفضلون الكرماء الأسخياء!!
وأصبح الأحرار حيارى يقفون فى حزن على أبواب الأسافل
وأصبح الأبرار أسرى فى أيدى الأراذل!!
ولم تعد ترى أحدا يبدو البشر على وجهه إلا إذا كان على أبواب الموت
ولم تعد تجد بنتا بكرا إلا من كانت فى بطن أمها!!
وأصبح المسجد الجامع فى كل بلدة مربطا لدوابهم
ولم يعد له سقف أو باب!!
ولم يعد أحد يخطب باسم «الغز» فى أى بلدة من البلاد
لأن خراسان قد خلت الآن من الخطباء والمنابر!!
شعر الأنورى:
ننتقل الآن إلى الفصل الثانى من كتاب «ژوكوفسكى» (1) الذى أفرده لنشاط «أنورى» الأدبى ولخصائص شعره. وهنا نجد أن «الأنورى» اتبع نهج الشعراء الآتية أسماؤهم، وهم من العرب والفرس وقد ذكرهم فى قطع مختلفة من قصائده:
«الأخطل» و «جرير» و «الأعشى» و «حسان بن ثابت» و «البحترى» و «أبو فراس» و «بديع الزمان الهمذانى» و «الحريرى» و «العنصرى» و «الفردوسى» و «الفرخى» و «أبو الفرج» و «الأمير معزى» و «سنائى» و «أديب صابر» و «رشيدى» و «حميد الدين» و «رشيد الدين الوطواط» و «شجاعى» و «كمال الدين اسماعيل». ويبدو
__________
بر در دونان أحرار حزين وحيران ... در كف رندان ابرار اسير ومضطر
شاد إلا بدر مرگ نه بينى مردم ... بكر جز در شكم مام نيابى دختر
مسجد جامع هر شهر ستور ايشانرا ... پايگاهى شده نه سقفش پيدا ونه در
نكند خطبه بهر شهر بنام غز از آنكه ... در خراسان نه خطيبست كنون نه منبر
(1) أنظر ص 3734من كتاب «ژوكوفسكى».(1/519)
من هذه القائمة كما لاحظ ذلك «ژوكوفسكى» أن الأنورى كانت له معرفة تامة بشعر الشعراء القدامى وكذلك بشعر المحدثين من معاصريه. وقد رأينا أن صلاته كانت طيبة مع واحد من معاصريه هو الأديب المعروف «حميد الدين» مؤلف «المقامات» وقد تبادل معه كثيرا من الأشعار. وقد ذكر «ژوكوفسكى» جملة من هذه القطع الجميلة التى أرسلها الأنورى إلى «حميد الدين» ومن بينها هذه الأبيات المعروفة التى ترجمتها:
إذا أرسلت بجناح جرادة إلى حضرة سليمان
فألتمس لى عذرا عن هذه الهدية التى أخجل من تقديمها!!
وإنى لأخشى ما ينالنى من احتقار زهرك وريحانك
وقد أقدمت على إرسال هذه الأشواك إلى بستانك!!
ومن بين الشعراء الذين خصهم الأنورى بإعجابه وفقا لما ذكره صاحب «تاريخ گزيده» و «هفت إقليم» الشاعر «أبو الفرج الرونى» الذى كان من أهل «لاهور» ومن المادحين لملوك «غزنه» وتوفى فى تاريخ لاحق لسنة 492هـ (1099م).
أما الأمراء والأفاضل الذين ورد ذكرهم فى أشعار الأنورى فمن بينهم:
«السلطان سنجر» و «أبو الفتح طاهر بن فخر الملك» وهو من أحفاد الوزير المعروف «نظام الملك» و «السلطان طغرل تگين» و «عماد الدين فيروزشاه» حاكم بلخ و «خواجه جهان مجد الدين أبو الحسن العمرانى» و «السيد أبو طالب» و «حميد الدين» صاحب المقامات.
ويختتم «ژوكوفسكى» هذا الفصل بذكر الفنون الشعرية التى اتبعها الأنورى مثل «القصيدة» و «الغزل» و «الرباعى» و «الهجاء» و «المقطوعات» ثم يذكر بعد ذلك جملة من أشعاره التى قالها فى احتقار الشعر، ثم يورد بعد ذلك
المنظومات التى قالها ثلاثة من الشعراء من بينهم «مجد الدين همگر» و «إمامى» (1)
عندما سئلوا عن آرائهم فى المفاضلة بين «الأنورى» و «ظهير الدين الفاريابى» فاتفقوا جميعا على تفضيل «الأنورى» على صاحبه.(1/520)
ويختتم «ژوكوفسكى» هذا الفصل بذكر الفنون الشعرية التى اتبعها الأنورى مثل «القصيدة» و «الغزل» و «الرباعى» و «الهجاء» و «المقطوعات» ثم يذكر بعد ذلك جملة من أشعاره التى قالها فى احتقار الشعر، ثم يورد بعد ذلك
المنظومات التى قالها ثلاثة من الشعراء من بينهم «مجد الدين همگر» و «إمامى» (1)
عندما سئلوا عن آرائهم فى المفاضلة بين «الأنورى» و «ظهير الدين الفاريابى» فاتفقوا جميعا على تفضيل «الأنورى» على صاحبه.
صعوبة أشعار الأنورى:
فإذا وصلنا إلى الفصل الثالث من كتاب «ژوكوفسكى» وجدناه يتعلق بصعوبة أشعار الأنورى، وبالمراجع التى تساعدنا على التغلب على هذه الصعوبة والتمكن من فهم أشعاره وخاصة الشرحين الآتيين:
1 - الشرح الذى كتبه «محمد بن داود العلوى الشادآبادى» على أشعار الأنورى (وهذا الشخص نفسه هو الذى شرح أشعار «الخاقانى».)
2 - الشرح الذى كتبه «أبو الحسن الفراهانى» من رجال النصف الأخير من القرن السابع عشر الميلادى (الحادى عشر الهجرى).
وقد أعجب «ژوكوفسكى» بالثانى من هذين الشرحين، لأن صاحبه اعتمد فيه على ما سمعه شفويا من روايات، وكذلك على ما قرأه مكتوبا من تفاسير اشتمل عليها ستة وثمانون كتابا ذكرها الشارح بأسمائها.
أسلوب الأنورى:
أما الفصل الرابع والأخير من كتاب «ژوكوفسكى» فيتعلق بأسلوب الأنورى ولغته، وبما قام به المستشرقون من مجهود لتعريف الناس بالأنورى وبأشعاره وليس هذا الفصل فى حاجة إلى تعليق جديد نكتبه عنه.
فلنترك الآن الأنورى، ولننتقل إلى الحديث عن الشاعر «الخاقانى».
__________
(1) النص الفارسى لهاتين القصيدتين موجود مع ترجمته إلى الإنجليزية فى ص 6460 من مقالتى عن الشعراء الفرس المذكورين فى كتاب «تاريخ گزيده»، ويذكر مجد الدين أنه قال قصيدته فى رجب سنة 674هـ (يناير سنة 1276م)(1/521)
2 - خاقانى
نبذة من حياته
اشتهر هذا الشاعر بصعوبه أشعاره وخفاء معانيها. وأغلب منظوماته من نوع القصائد ولكنه نظم «مثنويا» طويلا أسماه «تحفة العراقين» وصف فيه حجه إلى مكة المكرمة. وضمنه كثيرا من المعلومات التى تتصل بحياته.
وهناك مقالة قيمة كتبها «خانيقوف.» عن الشاعر خاقانى تحت عنوان «خاقانى: الشاعر الفارسى فى القرن الثانى عشر الميلادى»
.، ونشرها فى «المجلة الآسيوية» سنة 18651864م
وقد كتب عنه فقال إنه «نجم لامع بين الملهمين من الفرس» ثم أخذ يبين لنا حاله فى صورة واضحة، استطاع أن يجلو بها كثيرا مما خفى من أمر الشاعر وأمر عصره.
ويؤخذ من بيت من قصيدة له عن أصفهان أن «أفضل الدين إبراهيم بن على الشيروانى» كان يعرف أولا باسم «حقائقى» ثم تلقب بعد ذلك بال «خاقانى» وأنه ولد سنة 500هـ (11071106م) فى مدينة «گنجة» التى تعرف الآن باسم اليزاقتبول (1).
وكان أبوه نجارا وكانت أمه مسيحية من النساطرة اعتنقت الإسلام (2) وكانت تشتغل طاهية.
وكان جده كما يخبرنا هو بصراحة تامة نساجا، وكان عمه طبيبا اسمه «ميرزا كافى بن عثمان» وإليه يرجع الفضل فى تأدييه وتثقيفه.
وفى سن مبكرة تركه أبوه إما لوفاته أو لهجر أمه فاهتم عمه بالعناية به وتولى تنشئته وتربيته ثم علمه مبادئ العلوم واللغة العربية والطب والنجوم والفلسفة. وقد
__________
(1) هكذا رأى «خانيقوف» ولكن يبدو لى من «تحفة العراقين» (النسخة المطبوعة على الحجر فى سنة 1877م ص 35) أنه ولد فى مدينة «شروان».
(2) تحفة العراقين ص 199سطر 61تحت عنوان أصل الشاعر(1/522)
قاسى فى تعليمه الكثير لأنه كان على شاكلة أهل عصره وبيئته يريد ألا يفسد الطفل ولو اضطر إلى استعمال العصاة والمقرعة. فلما بلغ «خاقانى» الخامسة والعشرين من عمره مات عمه ولم يتجاوز الأربعين من عمره فانقطعت بموته تربية الشاعر ووقف تعليمه.
خاقانى وأبو العلاء الگنجوى:
ولكن خاقانى مدين فى براعته فى النظم إلى أستاذ آخر هو «أبو العلاء الگنجوى» أحد شعراء «منوچهر شراونشاه» (1) وقد قدمه هذا الشاعر إلى مولاه فأذن له أن يغير تخلصه الذى عرف به باسم «حقائقى» إلى هذا اللقب الفخم الذى أصبح يعرف به وهو: «خاقانى»
وقد زوج «أبو العلاء» ابنته من تلميذه «الخاقانى» فكان هذا مثارا لحسد تلميذه الآخر «فلكى الشروانى» الذى ما زال غاضبا من أستاذه بسبب هذه الزيجة حتى أرضاه فى نهاية الأمر بمنحه 000ر 20درهم ليشترى بها كما قال له: «عشرين أمة تركية يفقن عروس الخاقانى جمالا وبهاء!!»
والظاهر أن رضاء «أبى العلاء» على تلميذه وزوج ابنته لم يستمر طويلا، وأنه أحس من الخاقانى شيئا من الجفاء والنفور فوجه إليه هذه الرباعية:
خاقانيا گرچهـ سخن نيك دانيا
يك نكته گويمت بشنو رايگانيا
هجو كسى مكن كه ز تو به بود بسن
شايد كه پدر بود تو ندانيا!!
ومعناها:
يا خاقانى!! ولو أنك ماهر حقيقة فى قول الشعر
ولكن دعنى أنصحك نصيحة واحدة، فاصغ إليها من غير أجر
لا تهزأ بشاعر يكبرك سنا وحذار أن تهجوه
فربما كان أباك دون أن تعرف أنت هذا الأمر؟!
__________
(1) كان على عهده كثير من الشعراء مثل «نظامى الگنجوى» و «أبو العلاء الگنجوى» و «فلكى الشروانى» و «خاقانى» و «السيد ذو الفقار» و «شاهفور». أنظر تذكرة الشعراء ص 71.(1/523)
وربما ساء «الخاقانى» ما سمعه من قدح حميه فيه، فطلب منه أن يعتذر عما قال ولكن «أبا العلاء» لم يستمع إليه وجدد هجاءه له فى الأبيات الآتية: (1)
تو اى افضل الدين گر راست پرسى ... بجان عزيزت كه از تو نشادم
دروگر پسر بود نامت بشروان ... بخاقانيت بر لقب برنهادم
بجاى تو بسيار كردم نكوئى ... ترا دختر ومال وشهرت بدادم
چرا حرمت من ندارى تو چون من ... ترا هم پسر خوانده هم اوستادم
بمن چند گوئى كه گفتى سخنها ... كه من يك شبى مر ترا خوش بگادم
وگر خيزگى مى كنى باز گويم ... كزين سان سخنها نباشد بيادم
بگفتم بگفتم نگفتم نگفتم ... بگادم بگادم نگادم نگادم
ومعنى هذه الأبيات:
يا أفضل الدين لو أنك سألتنى الحق لأقسمت لك بروحى أننى مستاء منك
لقد كان اسمك فى «شروان» ابن النجار، فلقبتك بالخاقانى!!
ثم أكثرت من إحسانى لك، فزوجتك ابنتى، وأعطيتك المال والشهرة!!
فلم لا تحترمنى وقد كنت أتخذك ولدا، وكنت لك أستاذا!!
وإلى متى تقول أننى قلت بشأنك حديثا، وأننى نكحتك فى إحدى الليالى نكحة طيبة!!
أما إذا كنت تعبث بى، فإننى أعيد القول أننى أنا نفسى لا أكاد أذكر هذا الحديث!!
فإن كنت أنا قلته فبها، وإن كنت لم أقله فبها، وإن كنت أتيتك فبها، وإن كنت لم آتك فبها!!
وقد أجابه «خاقانى» على هذه الأبيات بمنظومة لاذعة فاحشة الألفاظ، نشرها «خانيقوف» مع ترجمتها، ثم اعتذر عن إقدامه على نشرها بأنها صيحة فارسى فى القرن الثانى عشر الميلادى (السادس الهجرى) فلا غزو إذا احتوت على كثير من الفحش
__________
(1) أنظر «تذكرة الشعراء» ص 71(1/524)
الذى ربما وجدنا له مثيلا فى هذا القرن فى لغة إيران وفى لغة أوربا أيضا (1).
__________
(1) المترجم: فيما يلى نص هذه المثنوية نقلا من مقالة «خانيقوف»:
بينى سگ گنجه در اين كوى ... هم سرخ قفا وهم سيه روى
آن سرخ نه كز معمرى خاست ... سرخى كه ز دست مرغزى خاست
آن ملحد أبو العلاى سافل ... چون وحش بى همه عقل وغافل
غريچهـ وغرچهـ ز كورى ... غورى سگ وعولى اصل عورى
چون آن سگ عورى از جهان زاد ... همشيره شيخ نجدى افتاد
شكز و چوسگ زبان مختال ... پرورده شيرسگ على الحال
آن جاحظ وقت را بدى خواه ... وآن جاحد دين أباده الله
بطريق زمانه باب بطروس ... صد ره به ازو جهود ومجوس
خواهى اش جهود ملحدان دان ... ور خواهى ملحد جهودان دان
مانند جهود شد زحل رنگ ... لا بل چوزحل جهود نيرنگ
او كيست كه با روان نارك ... باشد بمنسبت هو يديك
او جز پى نفى حق نپويد ... ان از اب واين روح گويد
آن مشرك واين معطل از دل ... هم مشرك بهتر از معطل
از نم شده افتابش از دست ... شتاب ودهن دريده چون طست
لا بل كه چوشمع طست از آغاز ... خو كرده شمعهاى سرگاز
دارد نسب از جحبم خذلان ... هم نار جحيم گردش جان
بوده نسبش از آتش آز ... هم بر سر آز جان دهد باز
ماند بجعل بفعل وسيما ... بينى بجعل كه وقت گرما
از نقل چهارپابرآيد ... هم بر سر آتش جان برآيد
چون از در دين ستوده گردد ... گرد در وگرد كوه گردد
صباحى را در ابر جويد ... چون يافت نعام صباح گويد
گويد كه حسن پيمبرى بود ... كيال بزرگ مهترى بود
گويد كه محمد اى برادر ... مردست حكيم كيمياگر
كه با زن زيد اين آن كرد ... انگاه ورا نكاح دين كرد
از محدث كاف ونون كه موليست ... محجوبم كر اين حديث او نيست
وز روضه مصطفى كه ميفرست ... بيزارم ار اين نه گفته اوست
هستند بر اين گوا شب وروز ... در فندق او دو صد كله دوز
در فندق او بود دكانش ... صد كوثر دو مغز در دهانش
وز فندقيان بطبع ناخوش ... در نعره چوشه بلوط از آتش
آنكه احمد را حكيم داند ... خاقانى را به بين چهـ خواند
گويد كه رسول بود فاجر ... در پورى على چهـ گويد آخر
صباح شد اين لعين بى دين ... مانا كه نماند أهل قزوين
شروان كه چوكعبه بود از اين پيش ... كردش چوگنشت از آفت خويش
بيت المقدس بده با ايام ... چون دارا قمامه گشت بدنام
بر جبهتش از فنا رقم باد ... أهل ألموت را ألم باد.(1/525)
ولم يكتف «خاقانى» فى هذه القصيدة باتهام أستاذه وصديقه بأشنع التهم، بل اتهمه بتهمة أشد وأشنع مما كانت تثيره الشكوك حول المسائل الأخلاقية، فأعلن صراحة أنه من أتباع «الحسن بن الصباح» وجماعة الحشاشين الذين كانوا يقيمون فى حصن «ألموت».
ويقول «خانيقوف» إن الخاقانى أنشد هذه القصيدة فيما بين سنتى 540532هـ (11461138م) وإنه فى ذلك الوقت ترك مسقط رأسه والتحق بخدمة ملك شروان المسمى «أختسان بن منوچهر» الذى انتقل بعاصمته من مدينة «گرشاسب» فى أذربيجان إلى مدينة «باكو»، ولكن الأمور لم تسر وفقا لمراده هناك، لأنه كان من الصعب إرضاء هذا الملك الذى كان كثير الشكوك، كثير الغضب، لأقل سبب.
ويتمثل جفاء طباعه فى الحكاية المعروفة الآتية:
«أرسل الخاقانى إليه فى إحدى المناسبات قصيدة تضمنت البيت التالى:
وشقى ده كه در برم گيرد ... يا وشاقى كه در برش گيرم
ومعناه:
فأعطنى بردا يضمنى إلى متنه، أو غلاما أضمه إلى صدرى!!
فأمر «شروانشاه» بقتله على هذا القول الجرىء!! فلما علم الخاقانى بغضب مولاه أخذ ذبابة وقطع أجنحتها ثم أرسلها إلى مولاه قائلا: إنها السبب فى إهدار دمه لأنه كتب «با وشاقى» فسقطت الذبابة على الباء فجعلتها «ياء» بنقطتين (2).
ويضيف «دولتشاه» على ذلك قوله: «هكذا كان حال الملوك من حيث الهمة والعظمة.
وهكذا كان لطف الشعراء والفضلاء ولو أن شاعرا طلب الآن من ممدوحه حملين من اللفت لما رأوا فى ذلك ما يغض من قدره، ولشكروه على هذا التخفيف فيما يطلب!!» (1).
واستأذن «خاقانى» فى الذهاب إلى مكة للحج، وكان قد حج قبل ذلك بثلاثين سنة
__________
(1) أنظر «تذكرة الشعراء» ص 80
(2) المترجم: بكتابة كلمة «با» يكون معنى البيت:
فأعطنى بردا يضمنى إلى متنه [وأرسله] مع غلام [أى خادم] حتى أضم البرد إلى صدرى.(1/526)
عندما كان غلاما صغيرا فى رفقة عمه، وأنشد فى ذلك قصائد تصف خروجه من «شروان» ومروره على «سفيدرود» ورؤية الثلج على قمة جبل «سلان».
وربما فكر فى هذا الوقت فى زيارة خراسان كما يقول «خانيقوف». ولا شك إنه سمع كثيرا عن جود «سنجر» فشوقه ذلك إلى الالتحاق بخدمته، ولكننا لا نكاد نعثر على الدليل الذى يثبت لنا أنه استطاع أن يحقق ما كان يجول برأسه من رغبة وأمل.
وقد قال فى هذا الصدد جملة قصائد، منها:
چهـ سبب سوى خراسان شدنم نگذارند
عندليبم بگلستان شدنم نگذارند
ومعناه:
لأى سبب لا يسمحون لى بالذهاب إلى خراسان.
وأنا العندليب فلماذا لا يسمحون لى بالذهاب إلى البستان!!
وله قصيدة أخرى مطلعها:
بخراسان شوم إن شاء الله ... از ره آسان شوم إن شاء الله
ومعناه:
سأذهب إلى خراسان إن شاء الله
وسأذهب بطريق اليسر إن شاء الله!!
وله قصيدة ثالثة مطلعها:
ره روم مقصد إمكان بخراسان يابم ... تشنه ام مشرب إحسان بخراسان يابم
ومعناه:
سأسلك سبيلى، وسأجد مقصد الإمكان فى خراسان
وإنى ظمآن، وسأجد مشرب الإحسان فى خراسان!!
ويبدو أن «الخاقانى» استطاع أن يشرّق حتى وصل إلى مدينة «الرى» ثم منع لأمر من الأمور عن تجاوزها، فقال فى ذلك قصيدة وجهها إلى هذه البلدة، منها البيتان الآتيان:(1/527)
چون نيست رخصه سوى خراسان شدن مرا
هم باز پس نكشم من بالاى رى
گر باز رفتنم سوى تبريز اجازت است
شكرانه گويم از كرم پادشاى رى
ومعناهما:
لا رخصة لى فى الذهاب إلى خراسان ومن أجل ذلك فسأرجع، فلا قدرة لى على تحمل متاعب مدينة «الرى»!!
وإذ سمح لى بالذهاب إلى «تبريز» فإننى أكرر الشكر لملك «الرى» وأحمد له كرمه!!
وربما تخيل «الخاقانى» أنه سيفوز بكثير من التقدير فى خراسان، فقال فى نهاية القصيدة التى سبقت البيت الآتى:
چون ز من اهل خراسان همه عنقا بينند
من سليمان جهانبان بخراسان يابم
ومعناه:
ولما كان أهل خراسان يروننى العنقاء، فربما استطعت أن أجد سليمان الحكيم فى خراسان!!
وهو يشير بذلك إلى «سنجر» الذى ذكره صراحة فيما بعد. ويبدو لى أنه قال هذه القصيدة قبل غارة «الغز» على أملاك «سنجر» فى سنة 1154م (549هـ) وهى الغارة التى قتل فيها الطبيب العالم «محمد بن يحيى» صديق الخاقانى، وكان قد تراسل معه كثيرا أثناء حياته، فلما قتل خنقا على أيدى «الغز» رثاه بمرثيات جميلة مذكورة فى ديوانه (1)
وكان «الخاقانى» أيضا متصلا بملوك خوارزم (الخوارزمشاه) ويثبت ذلك وجود
__________
(1) أنظر قصيدة باللغة العربية ضمن «كليات خاقانى» موجهة إلى «محمد بن يحيى»(1/528)
جملة قصائد من قصائده فى مدح ال «خوارزمشاه» وفى مدح شاعره المعروف «رشيد الدين الوطواط» الذى أرسل إليه جملة أبيات يثنى عليه فيها.
ويبدو لى أن «الخاقانى» لم يفكر فى زيارة «خراسان» بعد موت «سنجر» لما أحدثته فيها غارة «الغز» من دمار وهلاك.
تحفة العراقين:
أما فيما يختص برحلة «الخاقانى» إلى مكة للحج للمرة الثانية، ففى أيدينا سجل من إنشائه فى مثنويته المعروفة ب «تحفة العراقين» التى طبعت فى مدينة «لكنو» فى سنة 1294هـ. وهذه المثنوية مقسمة إلى خمس مقالات:
المقالة الأولى: فى الشكر الإلهى.
المقالة الثانية: تحتوى على بيانات عن ترجمة حياة الشاعر.
المقالة الثالثة: وصف همدان والعراق وبغداد.
المقالة الرابعة: وصف مكة.
المقالة الخامسة: وصف المدينة.
وقد شرح «خانيقوف» محتويات هذه المقالات الخمس وفسر مورد بها من أسماء ومن أجل ذلك فسأكتفى بهذا الحديث الوجيز عنها.
وقد أوحت هذه الرحلة بجملة قصائد أخرى جميلة بالإضافة إلى «تحفة العراقين» ومن بينها القصيدة الرائعة التى مطلعها:
سر حد باديه است، روان باش بر سرش
ترياك روح كن ز سموم معطرش
ومعناه:
هاكه حد البادية فتقدم إليه ولا تتردد!!
واشف روحك برياحها العليلة المعطرة!!(1/529)
هاكه حد البادية فتقدم إليه ولا تتردد!!
واشف روحك برياحها العليلة المعطرة!!
زيارة «خاقانى» مدينة أصفهان
وقد زار «خاقانى» مدينة أصفهان أثناء عودته من الحج، فأصابه هناك شىء من سوء الحظ كالذى أصابه «الأنورى» فى مدينة «بلخ». وتفسير الخبر أنه عند ما وصل إلى «اصفهان» أحسن أهلها استقباله ولكن أحد تلاميذه وهو «مجير الدين البيلقانى» نشر رباعية (1) عن أهل أصفهان مليئة بالسباب والشتائم، فانبرى شاعر آخر اصفهانى اسمه «جمال الدين عبد الرزاق» للرد عليه بقصيدة لاذعة مليئة بالفحش وأراد «الخاقانى» أن يتخلص مما جره عليه تلميذه، فأنشأ قصيدة أخرى كلها مدح وثناء على أصفهان والأصفهانيين، يقول فيها بعد ما أطراها كل الاطراء:
اين همه كردم برايگان نه براى طمع
كافسر وزر يابم از عطاى صفاهان
ديو رجيم انكه بود دزد بيانم
گر دم طغيان زد از هجاى صفاهان
او بقيامت سپيدروى نخيزد
ز انكه سيه بست بر قفاى صفاهان
أهل صفاهان مرا بدى ز چهـ گويند
من چهـ خطا كرده ام بجاى صفاهان
ومعنى هذه الأبيات:
وقد فعلت ذلك غير طامع، وبدون أجر، ودون أن أفكر فى الحصول على تاج ذهبى من عطاء اصفهان!!
__________
(1) المترجم: الرباعية المنسوبة إلى «مجير الدين البيلقانى» هى الآتية:
گفتم: عراق قوت جان خيزد ... لعليست مروت كه از آن كان خيزد
كى دانستم كاهل صفاهان كورند ... با اين همه سرمه كز صفاهان خيزد
معناها:
قلت لنفسى إن الروح تسترد قوتها فى العراق، وتستطيع أن تجد يواقيت المروءة فى مناجمها.
ولكنى لم أعرف أن أهل اصفهان عمى العيون، رغم هذا الكحل الكثير الذى يجلب منها.(1/530)
ولكن هذا الشيطان الرجيم الذى سرق فصاحة بيانى، لو أنه تنفس بكلمة واحدة فى هجاء اصفهان،
لما قام فى يوم القيامة أبيض الجبين، لأنه اراد أن يلطخ بالسواد رأس اصفهان!!
فلماذا يتحدث أهل اصفهان بالسوء فى شأنى وأى خطأ ارتكبته فى حق اصفهان؟!
وقد نظم الشاعر هذه القصيدة بعد سنة 551هـ كما يستفاد ذلك مما بها من إشارات، أو ربما فى السنة التالية كما يقول «خانيقوف».
حبسه فى قلعة «شابران»
وعند ما عاد خاقانى إلى «شروان» غضب عليه ملكها «أختسان» فأمر بحبسه فى قلعة «شابران» حيث أنشأ قصيدته «الحبسية» المعروفة. وربما كان سبب غضب مولاه عليه راجعا إلى غروره واعتداده بنفسه (وهى صفة لم تفارق الشاعر فى أى وقت من الأوقات) أو ربما كان السبب راجعا إلى اتهام بعض الحاسدين له بأنه يسعى إلى الالتحاق بخدمة شخص آخر غير ملك شروان (1).
ولسنا نعرف إلا القليل من أمر «الخاقانى» من يوم حبسه إلى وفاته بعد ذلك فى تبريز سنة 582هـ (1185م) ولكنا نعلم من قصائده أنه عاش فترة بعد موت مولاه «أختسان» وأنه فقد امرأته وأحد أبنائه المسمى «رشيد» ولم يتجاوز العاشرة من عمره (2).
__________
(1) المترجم: هذه الحبسية تعتبر من أبلغ ما قاله «الخاقانى» من قصائد، ونحن ننقل منها الأبيات الآتية من المطلع:
صبح دم چون كله بندد آه دودآساى من ... چون شفق در خون نشيند جسم شب پيماى من
مجلس غم ساخته است ومن چوبيد سوخته ... تا بمن راوق كند مژگان مى پالاى من
رنگ بازيچهـ است كار گنبد نارنج رنگ ... چند جوسم كر بيرونم بگزرد صفراى من
(2) تاريخ وفاة «خاقانى» المذكور آنفا قال به عوفى فى «لباب الألباب» و «المستوفى» فى «تاريخ گزيده» ودولتشاه فى «تذكرة الشعراء» ولكن هناك أقوالا اخرى أوردها «خانيقوف» فى مقالته تجعل وفاته بعد ذلك إلى سنة 595هـ (19591198م). ويلاحظ «خانيقوف»(1/531)
وقد تحدث «خانيقوف» عن المرثية التى رثا بها «خاقانى» زوجته فقال:
«إن هذه القصيدة فى رأيى هى القصيدة الوحيدة التى يظهر فيها الخاقانى كما نود له أن يظهر: شاعرا طيبا رقيق الإحساس. فقد أنساه الأسى قوة بيانه فلم يشحن عباراته بالاصطلاحات العسيرة ولا بالصناعات البديعية الكثيرة، فكان ذلك سببا فى أن تتدفق أشعاره إلى قلب القارىء فيحس فيها بلوعه الأسى التى صورت هذه النكبة المنزلية منذ سبعة قرون ماضية!!»
وقد دفن «الخاقانى» فى مقبرة الشعراء فى «سرخاب» بالقرب من «تبريز» بجوار الشاعرين المعروفين «ظهير الدين الفاريابى» و «شاهفور بن محمد الأشهرى النيسابورى».
وقد أخبرنا «خانيقوف» أنه سمع من رجلين عجوزين من أهالى تبريز فى سنة 1855م أن هذه المقبرة كانت قائمة ومعروفة قبلما يحطمها الزلزال الشديد الذى خربها ولم يبق على شىء من آثارها. وقد حاول «خانيقوف» البحث عن هذا القبر فأجرى كثيرا من الحفريات ولكنه لم يستطع الكشف عنه.
وممن اتصل بهم «خاقانى» غير من ذكرناهم:
1 - الفيلسوف أفضل الدين الساوجى.
2 - أثير الدين الأخسيكتى.
وقد ذكر جماعة غير هؤلاء من الشعراء والأدباء كان يذكرهم فى معرض الفخر عليهم، من بينهم «معزى» و «الجاحظ» (ولكن النسخة المطبوعة على الحجر ذكرت بدل «الجاحظ» كلمة «حافظ» وهذا بالطبع خطأ فاحش نصادف كثيرا مثله فى الشروح الهندية عادة) و «أبو رشيد» و «عبدك الشراوانى» و «قطران التبريزى» و «سنائى الغزنوى» و «العنصرى» و «الرودكى».
فن الخاقانى:
يعتبر الخاقانى من الشعراء الذين برزوا فى قول القصائد مثل «الأنورى»
__________
أن التواريخ المتأخرة أقرب إلى الصواب، لأن المعروف أن «خاقانى» عاش بعد «اختسان» وأن «أختسان» توفى سنة 583هـ فلا يعقل أن يقال أن «خاقانى» مات فى سنة 582هـ(1/532)
وشهرته قائمة على هذا الفن وحده من الفنون الشعرية، رغم أنه أنشأ كثيرا من «الغزليات» ومن «الرباعيات» ومن «المثنويات» وخاصة «تحفة العراقين» التى ذكرناها فيما سبق وكذلك جملة من القصائد العربية.
وأسلوبه غامض فى العادة، كثير التصنع حتى ليقال إنه يغرق فى التكلف، وقد عقد «فون هامر» مقالة قارن فيها بين «خاقانى» وبين «پندار» وقد استعرضها «خانيقوف» وتناولها بالنقد.
أما قصائد «خاقانى» فكثيرة تملأ 1582صحيفة من الصفحات الكبيرة وفقا لطبعة لكنو على الحجر. (1) وفى إحدى قصائده التى نشرها «خانيقوف» يظهر «خاقانى» معرفته بالدين المسيحى ومراسمه، ويرغب فى أن يلتحق بخدمة امبراطور بيزنطة وأن يعتنق الديانة المسيحية كما يذكر أنه يحيى تعاليم زردشت اذا سمح له بذلك القيصر ولكنه عاد فسأل الله الرحمة والغفران فى نهاية قصيدته (2)!!
3 - نظامى الگنجوى
رسالة الدكتور «ولهلم باخر
ثالث الشعراء النابهين الذين عاشوا فى هذا العصر هو نظامى الگنجوى، أستاذ الشعر المثنوى الرومانتيكى، الذى برّز على كل الشعراء فى فنه فاكتسب به شهرة عريضة خلدت ذكره فى إيران وفى تركيا أيضا.
وفى أيدينا رسالة قيمة كتبها الدكتور «ولهلم باخر.»
ونشرها فى مدينة «ليبزج» فى سنة 1871تحت عنوان:
.، وسأعتمد على هذه الرسالة فى الكتابة عن «نظامى» فى هذا الجزء من كتابى.
__________
(1) المترجم: أحدث طبعة لديوان «خاقانى» هى التى نشرها الأستاذ «على عبد الرسول» فى سنة 1316الهجرية الشمسية، وطبعها فى «شركت چاپخانه سعادت»
(2) مطلع هذه القصيدة:
فلك كجروتر است از خط ترسا ... مرا دارد مسلسل راهب آسا(1/533)
اتبع «باخر» فى رسالته الطريقة العلمية الصحيحة التى يجب اتباعها عند محاولة الكتابة عن حياة شعراء الفرس، فأهمل تماما جميع الروايات التى لا يعتمد عليها مما كتبه «دولتشاه» وأمثاله من كتاب التراجم (1)، وقصر همه فيما جمع من معلومات عن الشاعر على مصدر واحد موثوق به، هو عبارة عن الإشارات العارضة التى أشار بها الشاعر إلى نفسه فى ثنايا أشعاره.
وعلى هذا نجد أن كتاب التراجم يختلفون فى تأريخ وفاة «نظامى»، فيجعله «دولتشاه» (2) فى سنة 576هـ (11811180م)، ويجعله غيره مثل حاجى خليفة ما بين سنتى 596و 599هـ (12031199م). ولكن «باخر» استطاع أن يبرهن بالدليل الكافى على صحة التاريخ الأخير من هذه التواريخ، وأن يثبت أيضا كثيرا من الأخبار التاريخية المتصلة بحياة هذا الشاعر، فقال إنه ولد فى مدينة «گنجه» (وتعرف الآن باسم اليزاقتبول:) فى سنة 535هـ (1140 1141م)، وأنه كتب أولى مثنوياته (3) المعروفة باسم «مخزن الأسرار» حوالى سنة 561هـ (11661165م)، وكتب المثنوية الثانية عن قصة «خسرو وشيرين» فى سنة 571هـ (11761175م)، وكتب المثنوية الثالثة المسماة «ليلى ومجنون» فى سنة 584هـ (11891188م)، وكتب المثنوية الرابعة المسماة «سكندرنامه» فى سنة سنة 587هـ (1191م). وكتب المثنوية الخامسة المسماة «هفت پيكر» أو الصور السبع فى سنة 595هـ (11991198م)، ثم مات فى منتصف العام الرابع والستين من عمره فى سنة 599هـ (12031202م).
اسمه وحياته
واسم نظامى كما يقول «باخر» هو الياس، وكنيته «أبو محمد»، ولقبه «نظام الدين» ومن هذا اللقب استمد الشاعر تخلصه الذى عرف به فى أشعاره. وعرف
__________
(1) كان «عوفى» صاحب لباب الألباب معاصرا ل «نظامى» وكان فى مقدوره أن يمدنا بمعلومات قيمة عنه، ولكنه كعادته اكتفى بأن يقصر همه على سخافات قليلة فى باب اللعب على الألفاظ (أنظر ج 2ص 397396).
(2) أنظر ص 131من «تذكرة الشعراء»
(3) كتب «نظامى» خمسة من القصائد المزدوجة عرفت باسم «الخمسة» أو المثنويات الخمسة أو باسم «پنج گنج» بمعنى «الكنور الخمسة».(1/534)
أبوه باسم «يوسف بن زكى مؤيد» وقد توفى عنه وهو صغير، ثم لم تلبث أمه أيضا أن ماتت بعده بقليل، وكانت من أسرة كردية كريمة. والشاعر يشير فى بعض أشعاره إلى وفاة واحد من أخواله، ويرى «باخر» أن هذا الخال قام بتربيته بعد وفاة أبيه. وللشاعر أخ اسمه «قوامى المطرزى» نال مكانة لا بأس بها فى قول الشعر (1)، واشتهر على أنه مؤلف قصيدة من مائة بيت عن البديع الفارسى أوردناها فى الجزء الأول من هذا الكتاب (2).
ويؤخذ من مواضع مختلفة من أشعار «نظامى» أنه تزوج ثلاث مرات، وأنه أعقب ولدا واحدا على الأقل اسمه: محمد، كانت ولادته فى سنة 570هـ (1174 1175م) لأنه كان فى الرابعة عشرة من عمره حين أتم والده كتابة مثنويته الثالثة «ليلى والمجنون».
ويقول «دولتشاه» (3) أن نظامى كان مريدا «(تلميذا) للشيخ» «أخى فرج الزنجانى» ولكن «باخر» يسمى هذا الشيخ باشم «أخى فرخ الريحانى» وفيما عدا الأخبار التى رويناها فيما سبق لا نكاد نعرف شيئا عن الشاعر إلا أنه (كما قال «باخر» ص 1514) عرف أغراض الشعر الحقيقية وواجبات الشاعر أكثر مما عرفها غيره من شعراء القصور الذين يمثلهم «الأنورى» فأعرض عن المدائح وتجنب ارتياد القصور (4)، وإن كان قد تابع أهل عصره فى إهداء مثنوياته إلى حكام زمانه فأهدى «مخزن الأسوار» إلى «إيلدگز» حاكم أذربيجان وأهدى «خسرو وشيرين» إلى ولديه اللذين أعقباه فى الحكم «محمد» و «قزل أرسلان» (5) وكذلك
__________
(1) نسخة من ديوانه مكتوبة فى القرن الرابع عشر الميلادى موجودة فى المتحف البريطانى تحت رقم 6464.
(2) المترجم: تعرف هذه القصيدة بين الفرس باسم «كشف الأستار عن بدايع الأشعار» أو «بدايع الأسمار فى صنايع الأشعار» أنظر الصفحات 8963من هذا الكتاب
(3) انظر: «تذكرة الشعراء» ص 129
(4) بذلك أيضا قالت الروايات المختلفة وكذلك أشعاره فى مواضع متفرقة.
(5) أثابه «قزل أرسلان» على هذه الهدية بأن خصص له قرية «حمدونيان» انظر ص 129 من «تذكرة الشعراء» حيث قال إن الشيخ شكر هذا الإنعام بقوله:
نظر بر حمد وبر اخلاص من كرد ... ده حمدونيانرا خاص من كرد(1/535)
أهداها لآخر ملك سلجوقى فى إيران وهو «طغرل بن أرسلان»، وأهدى «ليلى والمجنون» إلى «اختسان بن منوچهر» حاكم شروان الذى كان يرعى بحمايته الشاعر «خاقانى»، وأهدى كتاب «الاسكندر» أو «سكندرنامه» إلى «عز الدين مسعود» حاكم الموصل ثم إلى «نصرة الدين أبى بكر بيشكين» الذى تولى حكم أذربيجان بعد وفاة عمه «قزل أرسلان» فى سنة 587هـ (1191م)، كما أهدى إليه أيضا كتاب «هفت پيكر».
ويقول «دولتشاه» فى كتابه «تذكرة الشعراء» ص 129أنه بالإضافة إلى هذه المثنويات التى سبق ذكرها والتى تعرف بال «الخمسة» فإن لنظامى ديوان من الغزليات والموشحات والقصائد يبلغ العشرين ألف بيت (1). ويذكر «باخر» بيتا من «ليلى ومجنون» يستشهد به على أن «نظامى» رتب ديوانه هذا فى نفس الوقت الذى كتب فيه هذه القصة أى فى سنة 584هـ (11891188م).
أما «عوفى» فعلى العكس من ذلك يذكر فى كتابه لباب الألباب (ج 2ص 397) «إن الرواة لم ينسبوا لنظامى شيئا من الشعر إلا هذه المثنويات. ومع ذلك فقد سمعت من أحد العظماء فى مدينة نيسابور أن الرواة نسبوا إليه قول الغزليات الآتية»
ثم يورد عوفى ثلاثا من هذه الغزليات، كل واحدة منها تشتمل على خمسة أبيات، والأخيرة منها مرثية قالها فى رثاء ابنه (2).
وقد أضاف «دولتشاه» (ص 130129) غزلية رابعة من ثمانية أبيات
__________
ومعناه: أنه نظرا لإخلاصى له وحمدى لنعمه، فقد خصص لى قرية «حمدونيان»
(1) المترجم: يقول فى النص الفارسى: «ديوان شيخ نظامى وراى خمسة قريب ببيست هزار بيت باشد وغزليات مطبوع وموشحات وشعر مصنوع بسيار دارد»
(2) المترجم: نص هذه المرثية كما يلى:
اى شده هم سر خوبان بهشت ... آنچنان عارض وآنگه بر خشت
بر نخ عمر بسر بردن خوش ... دوزخى ناشده رفتى به بهشت
خط نياورده بتو عمر هنوز ... اين قضا بر سرت آخر كه نوشت
چهـ عجب گر شودى جان وجهان ... خاك از ديده من خون آغشت
سبزه زارى خطت اندر خاكست ... آب كى باز توان داد بكشت.(1/536)
ذكر فى البيت الأخير منها تخلصه صريحا. ومع ذلك فيجب ملاحظة أنه وجد فى الأدب الفارسى جملة من الشعراء تخلصوا باسم «نظامى» وأن دولتشاه، وقد عرف بكثرة الخطأ فيما كتب من سير وتراجم، معرض لأن يخلط بين (نظامى) الذى نترجم له فى هذه المقالة وبين غيره ممن حملوا هذا اللقب الشعرى.
ومهما كان من أمر فإننا لو فرضنا صحة القول بوجود ديوان لنظامى، فإن هذا الديوان قد ضاع منذ زمن طويل وعفت الأيام على محتوياته.
مكانة نظامى:
ومكانة «نظامى» كشاعر موهوب، كثير الإنتاج، متميز بذكاء نادر، يعترف بها جميع النقاد من الفرس وغيرهم على السواء. وقد اعترف له بذلك كتاب التراجم ومن بينهم «عوفى» و «حمد الله المستوفى القزوينى» و «دولتشاه» و «لطفعلى بيگ» وكذلك الشعراء ومن بينهم «سعدى» و «حافظ» و «جامى» و «عصمت».
وكما أن ذكاءه لا ينافسه فيه إلا القليل من شعراء إيران، فكذلك أخلاقه قلما يدانيه فيها أحد ذلك لأنه كان يمتاز بالورع الحقيقى دون أن ينزل إلى التعصب والتزمت والجمود، وكان مستقلا برأيه شديد الاحترام لكرامته، ولكنه كان كذلك ظريفا وديعا وكان والدا محبا لأولاده، وزوجا عاشقا لزوجته، وكان لا يحتسى الخمور، وهو فى ذلك على النقيض من الكثرة الكثيرة من شعراء إيران وخاصة الصوفيين منهم، فإنهم كانوا يحتسونها برغم تحريمها، ويجعلونها النبع الذى تصدر عنه آلهة الوحى والشعر. ولو أردنا تحرى الدقة والإيجاز فى وصف «نظامى» لقلنا إنه الشاعر الوحيد بين شعراء إيران الذى جمع بين الذكاء النادر والخلق الرفيع، وأنه تميز بهاتين الخصلتين مجتمعين بين جميع شعراء الفرس الذين أمكنت دراستهم والترجمة لهم.
ومن الواجب علينا الآن أن نتحدث حديثا قصيرا عن كل واحدة من هذه المثنويات التى تشتمل عليها ال «خمسة»، ومع ذلك فإنه يجب علينا أيضا أن نعترف بأن حديثنا عنها سيكون ناقصا مفتضبا، لأنه من المحال أن نوفيها حقها أو شيئا منه فى كتاب موجز مثل كتابنا هذا لا يتسع نطاقه للافاضة فى العرض والتحليل.(1/537)
وقد نشرت «الخمسة» فى طبعات شرقية مختلفة، وأنا شخصيا أستعين بنسخة طهران المطبوعة على الحجر فى سنة 1301هـ (1884م)، وهى تقع فى مجلد واحد تبلغ عدد صفحاته ستمائة صحيفة، كل واحدة منها تشتمل على خمسين بيتا من الشعر (1).
مخزن الأسرار
فأما «مخزن الأسرار» فهو المثنوية الأولى من هذه المثنويات الخمسة من ناحية ترتيبها الزمنى، كما أنها أقصرها طولا. وهى تمتاز عن المثنويات الأخرى بأنها ليست قصة روائيّة بل هى «منظومة صوفية» تشتمل على كثير من النكات والحكايات على أسلوب «حديقة الحقيقة» التى ألفها «سنائى»، أو على أسلوب «المثنوى» الذى كتبه فيما بعد «جلال الدين الرومى».
ويظهر لى أيضا أنها دون المثنويات الأخرى من الناحية الفنية، وربما كان سبب ذلك راجعا إلى كراهيتى الشديدة لوزنها الشعرى الذى صيغت فيه (البحر السريع) مفتعلن مفتعلن فاعلن
وهى تشتمل على كثير من المقدمات فى المناجاة والحمد، يعقبها عشرون مقالة كل واحدة منها تتعلق بموضوع فقهى أو أخلاقى يتناوله الشاعر أولا من الناحية النظرية والمعنوية، ثم يصوره بعد ذلك بحكاية من الحكايات.
ولكى ندرك أسلوب هذه القصة نكتفى بأن نذكر هنا على سبيل المثال ترجمة حكاية «أنو شروان مع وزيره»، وهى الحكاية التى تمثل الوزير الجرئ يعنف سيده على ما أصاب الرعية من حيف وإهمال (2):
__________
(1) المترجم: أحدث طبعات «الخمسة» هى التى نشرها «وحيد دستگردى» فى خمسة أجزاء فى طهران وهناك أيضا نسخة جميلة من «هفت پيكر» نشرها فى استامبول المستشرقان «ريتر» و «ريپكا» فى سنة 1934.
(2) أنظر ص 23من «الخمسة» طبع طهران سنة 1301هـ، وكذلك ص 80من مخزن الاسرار طبع طهران سنة 1313هـ. ش(1/538)
خرج «أنو شيروان» يوما للصيد فابتعد به جواده عن كوكبة الفرسان.
ولم يبق له من أنيس إلا وزيره، فسارا معا ولم يكن معهما كائن من كان!!
فمر الملك بناحية مليئة بالصيد، ورأى بها قرية خربة كقلوب الأعداء.
وقد جلست فيها بومتان متجاورتان، وهما تتحدثان، والملك يضيق ذرعا بحديثهما
فالتفت إلى وزيره وقال له: فيم يتحدثان وما دلالة هذا الصفير الذى يصفران.
فقال الوزير: يا ملك الزمان، اسمع لى وكن غفورا، أقل لك ما يقولان.
ليس حديثهما غناء وطربا، بل هما يعدان خطبة للزواج.
فقد أعطى ذلك الطائر ابنته لهذا الطائر، وهو يطلب منه مهرها الآن.
وهو يقول له: اترك لى هذه القرية الخربة وكذلك بضع قرى أخرى مثلها
فيقول له الطائر الآخر: «ما عليك بهذا، ألست ترى جور الملك؟ فلا تدع الهموم تستولى عليك!!
فإنه لو امتدت أيام الملك ولو قليلا لأعطيتك من القرى الخربة مائة ألف قرية أخرى (1)!!
__________
(1) المترجم: فيما يلى أصل هذه الأبيات بالفارسية:
صيدكنان مركب نوشيروان ... دور شد از كوكبه خسروان
مؤنس خسرو شده دستور وبس ... خسرو ودستور ودگر هيچكس
شاه دران ناحيت صيد ياب ... ديد دهى چون دل دشمن خراب
تنگ دو مرغ آمده در يكديگر ... وز دل شه قافيه شان تنگتر
گفت بدستور: چهـ دم مى زنند ... چيست صفيرى كه بهم مى زنند
گفت وزير: أى ملك روزگار ... گويم اگر شه بود آموزگار
اين دو نواز نز پى رامشگرى است ... خطبة از بهر زناشوهرى است
دخترى اين مرغ بآنمرغ داد ... شيربها خواهد ازو بامداد
كاين ده ويران بگذارى بما ... نيز چنين چند سپارى بما
أن دكرش گفت كزين درگذر ... جور ملك بين برو غم مخور
گر ملك اينست نه بس روزگار ... زين ده ويران دهمت صد هزار(1/539)
خسرو وشيرين
فى هذه القصة يجرى «نظامى» على نسق «الفردوسى» من ناحية الموضوع والصياغه.
وموضوع قصته يشتمل على مخاطرات الملك الساسانى «كسرى پرويز» (خسرو پرويز) وغرامه مع معشوقته الجميلة «شيرين»، ونهاية منافسه التعيس «فرهاد»، وقد اعتمد «نظامى» فى هذه القصة على المصادر التى اعتمد عليها «الفردوسى» من قبل أو على مصادر أخرى شبيهة بها، ولكنه تناولها بطريقة أخرى، ابتعد فيها عن الدراسة الموضوعية، فاستطاع أن يخرجها لناقصة غرامية بعكس «الفردوسى» فإنه أخرجها لنا قصة حماسية. وقد استعاض «نظامى» فى صياغتها عن «البحر المتقارب» الذى خصصه الاستعمال للشعر الحماسى، بالهزج المسدس على هذا النحو:
مفاعيلن مفاعيلن فعولن (1)
وهذه المنظومة تشتمل على ما يقرب من 7000بيت، وفيما يلى قطعة منها تمثل حسرة «فرهاد» وموته عندما أمر «خسرو» رجاله بأن يبلغوا «فرهاد» النبأ الكاذب بموت «شيرين» فى نفس الوقت الذى أتم فيه «فرهاد» المهمة الملقاة على عاتقه من قطع أخدود فى جبل «بيستون (2)»، وهى المهمة التى قام بها ووعد عند إتمامها بالتزوج من «شيرين»:
فلما سمع «فرهاد» هذا الخبر، سقط من فوق الجبل كقطعة من الحجر!
وأخرج زفرة حزينة من كبده، كما لو أصابت كبده حربة ذات رأسين فمزقته!!
فقال فى لوعة: يا أسفا على المشاق التى تحملتها، وقد مت دون أن أظفر بالراحة!!
__________
(1) المترجم: هذا هو وزن الهزج المسدس المحذوف.
(2) جبل «بيستون» قريب من «كرمانشاه» وهو مشهور بالآثار الأكميينية وبالنقوش القديمة، وكان يسمى فى اللغة القديمة «باجستانا».(1/540)
ويا حسرتاه على مجهودى الضائع، وعلى أملى الخائب!!
فما النتيجة التى حصلت عليها من شق الصخور!؟ ولم يتيسر مطلبى، وازدادت مشقتى؟!
وكنت جهولا أطمع فى اليواقيت، فلم أظفر بها ولم أصب إلا الحجارة التافهة!!
واشتعلت نيران الدمار فى بيدرى، ثم أغرقنى البلاء فى طوفانه!!
وخلت الدنيا من الشمس والقمر، وخلت الخمائل من الزهر والشجر!!
وانطفأ المصباح المضىء، فلم تغب عنى «شيرين» بل غابت عنى الشمس المشرقة!!
وهذا هو الفلك الغادر لا يشفق على مظلوم، ولا يرعى برحمته محروم!
فيا أسفا على هذا الكوكب الذى أصابه الخسوف فجأة!!
ولقد بكت جميع الكائنات على قلبى المحزون، لأن ماء حياتى قد غاض فى الظلام!!
ولأى سبب يقع الفراق بينى وبين حبيبتى؟ ولماذا أبقى فى هذه الدنيا وقد ذهبت عنها «شيرين»!!
ولو قسم لى البقاء بغير «شيرين» لا نخلعت عظامى من جسدى!!
ومئات من الحملان تمر أمام الذئب الجائع، ولكنه لا يختطف إلا حمل الفقير المسكين!! (1)
__________
(1) المترجم: أنظر ص 129من الخمسة طبع طهران سنة 1301هـ، وكذلك ص 256 من «خسرو وشيرين» طبع طهران سنة 1313هـ. ش. طبع مطبعة أرمغان. والأصل الفارسى كما يلى:
چوافتاد اين سخن در گوش فرهاد ... ز طاق كوه چون كوهى درافتاد
برآورد از جگر آهى چنان سرد ... كه گفتى دور باشى بر جگر خورد
بزارى گفت كاوخ رنج بردم ... نديده راحتى در رنج مردم(1/541)
وقد وقعت شجرة السرو الطويلة فحق لى أن أهيل التراب على هامتى!
وانتثرت أوراق الورد الباسمة فحق للبستان أن يصبح سجنا لى!!
وطارت طيور الربيع البهيجة، فلماذا لا أنوح فى لوعة كالسحب الراعدة!!
وانطفأ السراج اللامع، فلماذا لا يستحيل نهارى المشمس إلى ليل دامس!!
وخمدت أنفاسى لحسرتى وكربى، واصفرت «شمسى» لغياب «قمرى» وموضع حبى!!
وسألتحق ب «شيرين» فى طيات العدم، وسأهرع إليها فى قفزة واحدة
ثم صلى على «شيرين» وترحم على عشقها، وقبل الأرض على ذكرها، ثم أسلم روحه إلى بارئها (1)!!
__________
دريغا هرزه رنج روزگارم ... دريغا آن دل اميدوارم
مرا زين كوه كندن حاصل اين بود ... نشد كارم ميسر مشكل اين بود
نديدم لعل وسنگ آمد بدستم ... چونادان طمع در لعل بستم
چهـ آتش بود كاندر خرمن افتاد ... چهـ طوفان بد كه ناگاه در من افتاد
جهان خالى شد از مهتاب وخورشيد ... چمن خالى شد از شمشاد واز بيد
چراغ عالم افروز از جهان شد ... نه شيرين كافتاب از من نهان شد
نبخشايد فلك بر هيچ مظلوم ... نباشد شفقتش بر هيچ محروم
دريغا آنچنان خورشيد وآنماه ... كز اينسان در خسوف افتاد ناگاه
بگريد بر دل من مرغ وماهى ... كه رفت آب حياتم در سياهى
چرا از روى آن دلبر جدايم ... چوشيرين رفت من اينجا چرايم
اگر بى روى شيرين زنده مانم ... سزد كز تن برآيد استخوانم
اگر صد گوسفند آيد فراپيش ... برد گرگ از كله قربان درويش
فرو رفته بخاك آن سرو چالاك ... چرا بر سر نريزم هر زمان خاك
ز گلبن ريخته گلبرگ خندان ... چرا بر من نگردد باغ زندان
پريده از چمن كبك بهارى ... چرا چون ابر نخروشم بزارى
فرو مرده چراغ عالم افروز ... چرا روزم نگردد شب بدين روز
چرا غم مرد بادم سرد از آنست ... مهم رفت آفتابم زرد از آنست
بشيرين در عدم خواهم رسيدن ... بيك تك تا عدم خواهم دويدن
صلاى عشق شيرين در جهانداد ... زمين بر ياد او بوسيد وجان داد
(1) قارن هذه القطعة بما يقابلها فى القصة التى كتبها الشاعر «شيخى» باللغة التركية(1/542)
ليلى ومجنون:
ثالثة المثنويات التى كتبها «نظامى» هى قصة «ليلى والمجنون» وقد أصبحت لها مكانة كبيرة فى أذهان الخاصة والعامة على السواء، وذاعت شهرتها بين قصص الحب فى الشرق وطغت على ما عداها من هذه القصص، وفازت بالمكانة الأولى فى إيران وكذلك فى تركيا حبث أضفى الشاعر التركى «فضولى» كثيرا من الجمال على قصة هذا العاشق الحزين وعلى محبوبته الحسناء مما ساعد على نشرها فى الناحية الغربية من القارة الآسيوية (1). وفى العربية ديوان ذائع الصيت يشتمل على كثير من الغزليات الجميلة التى ينسبونها إلى «قيس العامرى» الذى اشتهر بالمجنون، وهو شخصية تكاد تكون خرافية، ويقول عنه «بروكلمان (2)» أنه توفى فيما يظن فى سنة 70الهجرية (689م).
وقصة «نظامى» لا تحدث وقائعها فى إيران بل تقع حوادثها فى بلاد العرب، وهى لا تمثل شخصية ملكية كالقصة السابقة، بل تمثل شخصين عاديين من عرب الصحراء أحدهما هو البطل، والآخر هو الفتاة المعشوقة. ولكن «نظامى» استطاع أن يصبغها بالصبغة الفارسية وقد اختار لها الوزن الشعرى الآتى (3):
مفعول مفاعلن فعولن
وتقع هذه المثنوية فيما بين الصفحات 278194من نسخة طهران وهى تشتمل على أكثر من 4000بيت.
__________
وتجدها مذكورة فى كتاب «تاريخ الشعر العثمانى» تأليف المرحوم «جب» ج 1ص 354 أما عرض القصة وتحليلها ففى صفحة 310.
(1) أنظر ملخصا عن القصة التركية مع أمثلة لأسلوب «فضولى» فيما نشره «جب» فى كتابه «تاريخ الشعر العثمانى» ج 3ص 85وكذلك ص 104100.
(2) أنظر «تاريخ الآداب العربية» لبروكلمان ج 1ص 48.
: (3) المترجم: هذا هو وزن الهوج المسدس الأخرب المقبوض المحذوف.(1/543)
ونحن ننقل فيما يلى قطعة منها، صور فيها الشاعر «زيدا» وقد رأى فى منامه ليلى والمجنون فى جنات الخلد. وتعتبر هذه القصة دليلا إذا أحوجنا الدليل على كذب الخرافة الشائعة بين الأوروبيين من أن المسلمين ينكرون على نسائهم الدخول فى جنة أو أنهم يستخفون بحب طاهر عفيف!!
فلما فتق الليل نوافج العبير
ونثر فتات المسك على صفحات النهار المنير!!
أنى «ملاك» فأظهر له فى غفلته
روضة الخلد المزدانة فى جنته!
وقد ازدانت ساحتها بالأشجار العالية!!
وامتلأت بالهناء. كقلوب أصحاب الحظوظ المواتية!!
وكل زهرة فى أحضانها حديقة منمقة نامية!!
وكل ورقة من أوراق الورد كأنها الثريات الصافية!!
والخمائل كأنها العيون المبصرة الراضية!!
أصبحت «مستقرا للأرواح» بألوانها اللاجوردية الزاهية!!
والزهور المتفتحة قد أمسكت بكؤوس الشراب!!
وأخذت البلابل السكرى تشدو بأغانى الحب والأحباب!!
وخضرتها يانعة لا يشابهها الزبرجد فى صفائه!!
ونورها ساطع لا حد لروائه وضيائه!!
وأخذ العازفون يعزفون بالأنغام والألحان!!
وأخذت الحمائم تردد أغانى الشوق والحنان!!
وفى ظلال الورود المشمسة ذات البهاء!!
قد نصبوا «أريكة» على حافة النهر والماء!! (1)
__________
(1) المترجم: الأصل الفارسى هو الآتى كما ننقله من ص 269من «ليلى ومجنون» طبع طهران سنة 1313الهجرية الشمسية.(1/544)
وفرشوها بالديباج والدمقس والحرير!!
فبدت كأنها فراش الجنة الجميل الوثير!!
__________
شب چون سر نافه را خراشيد ... بر نيفه روز مشك پاشيد
بنمود فرشته ايش در خواب ... آراسته روضه جهانتاب
صحنش ز بلندى درختان ... خرم چودل بلندبختان
در دامن هر شكوفه باغى ... هر برگ گلى در او چراغى
در هر چمنى چو چشم بينا ... مينوكده برنگ مبنا
گلهاى شگفته جام بر دست ... برداشته بانگ بلبل مست
خضراتر از ان زبرجدى نه ... افرختگيش را حدى نه
هم رود زنان بزخمه راندن ... هم فاختگان بزند خواندن
در سايه گل چوآفتابى ... تختى زده بر كنار آبى
وان تخت بفرشهاى ديبا ... چون فرش بهشت كرده زيبا
فرخ دو سروش پى خجسته ... در دست نشاطگه نشسته
سر تا بقدم بزيور نور ... آراسته چون بحله در حور
مى در كف ونوبهار در پيش ... ايشان دو بدو بقصه خويش
گه بر لب جام لب نهادند ... گه بر لب خويش بوسه دادند
گاهى سخنان خويش گفتند ... گاهى بمراد خويش خفتند
پيرى بتعهد ايستاده ... سر بر سر تختشان نهاده
هر لحظه ز نو نثارى انگيخت ... بر تارك آن دو شخص ميريخت
بيننده خواب از آن نهانى ... پرسيد ز پير آسمانى
كاين سرو بتان كه جام دارند ... در باغ إرم چهـ نام دارند
در منزل جان هوا گرفتند ... اين منزلت از كجا گرفتند
آن پير زبان گرفته حالى ... گفتنش ز سر زبان لآلى
كاين يار دوگانه يگانه ... هستند رفيق جاودانه
آنشاه جهان براست بازى ... اين ماه بتان بدلنوازى
ليلى شد ليلى آنكه ماهست ... مجنون لقب آمد آنكه شاهست
بودند دو لعل نابسوده ... در درج وفا بمهر بوده
آسايش اين جهان نديده ... اينجا بمراد دل رسيده
اينجا ألمى ديگر نبينند ... الى أبد الأبد چنين اند
هر كو نخورد در آنجهان بر ... زينگونه كند در اين جهان سر
آنكس كه در آن جهان حزينست ... شاديش در اين جهان چنين است(1/545)
ثم أقبل ملاكان رحيمان سعيدان!!
فجلسا فى حبور وسرور وحنان!!
وفاض عليهما النور من أخمص القدم إلى قمة الرأس العالية!!
فكأنهما الحور فى أبهى الحلل والأردية الغالية!!
والخمر فى أكفهما، ونضرة الربيع بادية عليهما!!
وهما يتحدثان عن قصتهما وأمرهما!!
فيقبلان شفة الكأس فى لهفة واشتياق!!
أو يقبلان الشفاه والثغور والأعناق!!
وأحيانا يتحدثان بما هما فيه من حب وهيام
وأحيانا يتعانقان فى غفلة لذيذة الأحلام!!
ووقف إلى جوارهما «شيخ» وقور جليل!!
قد أطل برأسه ليتمتع بمنظرهما الجميل!!
وكان ينثر عليهما فى كل لحظة الذهب والجواهر
ويصب على مفرقهما ما شاء من الإبريز الساحر!!
فتقدم رائى الرؤيا، فسأل ذلك الشيخ الخافى عن العيان
ليحدثه بأمر هذين العاشقين منذ أقدم الأزمان
فسأله: من يكون هذان العاشقان الممسكان بالأقداح؟
وما اسمهما فى حديقة إرم بين الغيد والملاح!!
فإنهما قد تحابا فى منزل الأرواح
فمن أين لهما بهذه المكانة والمنزلة يا صاح!؟
فأجابه الشيخ على الفور بحديث بادى النظام
هو من سحر القول أو من جواهر الكلام!!
فقال: هذان حبيبان فريدان
قد انعقدت الصداقة بينهما منذ أبعد الأزما!!
فأما أحدهما فملك حكم العالم بنقائه
وأما الأخرى فقمر فاق الأقمار بصفائه!!
فلما ماتت «ليلى» وكانت القمر المنير!!
جن المليك، فلقبوه بالمجنون الكسير!!
وكانا من قبل ياقوتتين غير مثقوبتين
اشتمل عليهما درج الوفاء، وختموه بالحب حتى لا يفرق بينهما البين
ومن أسف أنهما لم يظفرا فى الدنيا إلا بالعناء!!
ولكنهما ظفرا هنا بما شاءا من سعادة وهناء!!
وسوف لا يريان بعد الآن ألما يدعو إلى الأنين
وسيظلان فيما هما فيه إلى أبد الآبدين!!
فإن الذى لا يظفر فى الدنيا بمناه
سيظفر بما يريد ويشتهى فى أخراه!!
وكذلك الذى أعيته الأحزان فى دنياه
سيكون سروره فى الآخرة على هذا النحو الذى تراه!!(1/546)
ثم أقبل ملاكان رحيمان سعيدان!!
فجلسا فى حبور وسرور وحنان!!
وفاض عليهما النور من أخمص القدم إلى قمة الرأس العالية!!
فكأنهما الحور فى أبهى الحلل والأردية الغالية!!
والخمر فى أكفهما، ونضرة الربيع بادية عليهما!!
وهما يتحدثان عن قصتهما وأمرهما!!
فيقبلان شفة الكأس فى لهفة واشتياق!!
أو يقبلان الشفاه والثغور والأعناق!!
وأحيانا يتحدثان بما هما فيه من حب وهيام
وأحيانا يتعانقان فى غفلة لذيذة الأحلام!!
ووقف إلى جوارهما «شيخ» وقور جليل!!
قد أطل برأسه ليتمتع بمنظرهما الجميل!!
وكان ينثر عليهما فى كل لحظة الذهب والجواهر
ويصب على مفرقهما ما شاء من الإبريز الساحر!!
فتقدم رائى الرؤيا، فسأل ذلك الشيخ الخافى عن العيان
ليحدثه بأمر هذين العاشقين منذ أقدم الأزمان
فسأله: من يكون هذان العاشقان الممسكان بالأقداح؟
وما اسمهما فى حديقة إرم بين الغيد والملاح!!
فإنهما قد تحابا فى منزل الأرواح
فمن أين لهما بهذه المكانة والمنزلة يا صاح!؟
فأجابه الشيخ على الفور بحديث بادى النظام
هو من سحر القول أو من جواهر الكلام!!
فقال: هذان حبيبان فريدان
قد انعقدت الصداقة بينهما منذ أبعد الأزما!!
فأما أحدهما فملك حكم العالم بنقائه
وأما الأخرى فقمر فاق الأقمار بصفائه!!
فلما ماتت «ليلى» وكانت القمر المنير!!
جن المليك، فلقبوه بالمجنون الكسير!!
وكانا من قبل ياقوتتين غير مثقوبتين
اشتمل عليهما درج الوفاء، وختموه بالحب حتى لا يفرق بينهما البين
ومن أسف أنهما لم يظفرا فى الدنيا إلا بالعناء!!
ولكنهما ظفرا هنا بما شاءا من سعادة وهناء!!
وسوف لا يريان بعد الآن ألما يدعو إلى الأنين
وسيظلان فيما هما فيه إلى أبد الآبدين!!
فإن الذى لا يظفر فى الدنيا بمناه
سيظفر بما يريد ويشتهى فى أخراه!!
وكذلك الذى أعيته الأحزان فى دنياه
سيكون سروره فى الآخرة على هذا النحو الذى تراه!!
هفت پيكر أو بهرام نامه (الصور السبع أو كتاب بهرام)
هذا الكتاب فى الحقيقة هو آخر المثنويات التى أنشدها «نظامى» ولكنه فى طبعة طهران يأتى بعد ليلى والمجنون، ويحتل الصفحات من 280إلى 394، ويشتمل على أكثر من 000ر 5بيت من الشعر تجرى على الوزن الآتى:
فاعلاتن مفاعلن فعلان
وموضوع هذه المثنوية مشابه لموضوع «خسرو وشيرين» فى كونه متعلقا بقصة خاصة بأحد الملوك الساسانيين وهو «بهرام گور». وأكثر الحكايات التى رويت عن هذا الملك الذى اشتهر بفروسيته ومهارته فى الصيد والطراد مبنية على أساس تاريخى، أو متعارف عليها من قديم الزمان، فهى مروية فى تاريخ الطبرى (وقد صرح نظامى باسمه وذكره من بين مصادره التى اعتمد عليها. انظر «باخر» ص 54). وربما كانت تسمية هذه المثنوية باسم «بهرام نامه» أظهر فى الدلالة على
موضوعها من تسميتها باسم «هفت پيكر» لأن الصور السبع التى ذكرت فيها ليست إلا موضوعا واحدا من موضوعات القصة، وربما سميت به لأنه أهم موضوع فيها.(1/547)
وموضوع هذه المثنوية مشابه لموضوع «خسرو وشيرين» فى كونه متعلقا بقصة خاصة بأحد الملوك الساسانيين وهو «بهرام گور». وأكثر الحكايات التى رويت عن هذا الملك الذى اشتهر بفروسيته ومهارته فى الصيد والطراد مبنية على أساس تاريخى، أو متعارف عليها من قديم الزمان، فهى مروية فى تاريخ الطبرى (وقد صرح نظامى باسمه وذكره من بين مصادره التى اعتمد عليها. انظر «باخر» ص 54). وربما كانت تسمية هذه المثنوية باسم «بهرام نامه» أظهر فى الدلالة على
موضوعها من تسميتها باسم «هفت پيكر» لأن الصور السبع التى ذكرت فيها ليست إلا موضوعا واحدا من موضوعات القصة، وربما سميت به لأنه أهم موضوع فيها.
والصور السبع التى تشير إليها هذه المثنوية هى الصور التى اكتشفها «بهرام گور» فى غرفة سرية فى قصره المعروف بالخورنق، وقد تبين له أنها صور سبع أميرات يمتزن بالجمال والحسن: أولاهن إبنة ملك الهند، والثانية إبنة خاقان الصين، والثالثة إبنة شاه خوارزم، والرابعة إبنة ملك الصقالبة، والخامسة إبنة شاه إيران، والسادسة إبنة امبراطور بيزنطة، والسابعة إبنة ملك المغرب.
فلما رأى «بهرام» صورهن وقع فى حبهن جميعا، فلما مات أبوه «يزدجرد» وتولى العرش مكانه، كان أول ما فعله أن جد فى طلب هؤلاء الأميرات من آبائهن، واستطاع أن يحقق رغبته بالزواج منهن جميعا. وقد أسكن كل واحدة من هؤلاء الأميرات السبع فى قصر مستقل، جعله فى لونه يمثل إقليما من الأقاليم السبعة التى ينقسم إليها الكون، ثم أخذ فى زيارتهن بالتناوب فى سبع ليال متتالية، بادئا فى يوم السبت بزيارة القصر الأسود الذى خصصه لإبنة ملك الهند، ومنتهيا بيوم الجمعة بزيارة «القصر الأبيض» الذى تسكنه إبنة ملك المغرب. وتستقبله كل أميرة من الأميرات باحتفال فائق، وتحتفى به خير احتفاء بأن تسرد له ليلة مبيته عندها جملة من الحكايات الممتعة كالتى نجدها عادة فى قصة «ألف ليلة وليلة».
وتنتهى المثنوية بقصة «الوزير الظالم» (1) الذى التفت «بهرام» إلى سوء أعماله عند سماعه لحكاية «الراعى وكلبه الخائن»، فإذا ما انتهت هذه القصة وصلت «المثنوية» إلى خاتمتها بوفاة «بهرام»
وفى المثنوية حكاية رائعة تمثل صحة المثل القائل بأن: «التكرار يعلم الحمار» تصور «بهرام گور» وهو يخرج كعادته مع جارية له إسمها «فتنة» تعود أن
__________
(1) هذه القصة مروية بتمامها فى كتاب «سياست نامه» تأليف «نظام الملك». أنظر طبعة شيفر ص 2719.(1/548)
يستصحبها معه عند خروجه للصيد، وتعودت هى أن تغنى له على نغمات العود فى فترات استراحته واستجمامه، ففى يوم من الأيام أظهر الملك مهارة عظيمة فى الصيد والرماية، وكان يريد أن يستمع إلى كلمة إعجاب من جاريته «فتنة»
ولكنها تدللت عليه، ومنعت نفسها من الثناء عليه
فصبر الملك على ذلك برهة، حتى اجتاز به عن بعد حمار وحش
فقال لها: «أيتها الفتاة التترية يا ذات العيون الضيقة، لا تحتقرى مهارتى فى الصيد!!»
فمهارتى فى الصيد لا يشملها وصف، وكيف يمكن لى أن أبديها لعينيك الضيقتين؟!
فقولى لى، وقد أقبل هذا الحمار كيف أطارده، وفى أى جزء من أجزائه أرميه بسهمى واختارى مكانا بين رأسه وحافره؟!»
فأجابته الجارية: «إذا شئت أيها المليك أن تبيض وجهك، فاضرب هذا الحمار بسهم واحد، واقرن رأسه بحافره!!»
فعلم الملك بتعقيدها للأمور، وأخذ يبحث عن وسيلة يتخلص بها من سوء مقصدها ونيتها.
ثم أسرع يطلب قوسه ووضع فيها كرة من الطين الصلصال
وقذف بها حمار الوحش، فأصابت الكرة أذنه وآذته
ورفع حمار الوحش حافره إلى أذنه ليحكها به، ويخلصها من هذا الصلصال الذى علق بها.
فإذا بالمليك يلقى السهم فيصيبه كالبرق ويقرن حافره برأسه!!
فالتفت الملك إلى جاريته المفترية وقال لها: «لقد فزت كما ترين!!»
فقالت الجارية هازئة به «لقد أتقن الملك هذا الأمر فكيف يصعب عليه ما أتقن؟!
وكل ما يتعلمه المرء، يسهل عليه فيستطيع فعله ولو كان صعبا!!
فإذا كنت قد أصبت بسهمك حافر الحمار فما ذلك إلا لطول مرانك على
الصيد وليس فى الأمر ما يدل على قوة عضدك (1)!!»(1/549)
فإذا كنت قد أصبت بسهمك حافر الحمار فما ذلك إلا لطول مرانك على
الصيد وليس فى الأمر ما يدل على قوة عضدك (1)!!»
فلما سمع الملك إجابتها وتهكمها به، اشتد حنقه عليها، وأمر أحد ضباطه بأخذها وقتلها، ولكنها ما زالت بالضابط تتودد إليه وتستعطفه بأن المليك سيندم على قتلها أشد الندم، حتى استطاعت فى النهاية أن تقنعه بأن من الخير له أن ينقذها من الموت، فأخذها الضابط إلى قصره فى الريف وأخفاها هنالك، وكانت هى نفسها ما زالت تتوق إلى أن تثبت له إن «التكرار يعلم الحمار» وأن «المران ينتهى إلى الإتقان» فلاحظت أن سلم القصر يشتمل على ستين درجة، فاشترت عجلا رضيعا وأخذت تحمله كل يوم على أكتافها وتصعد به ذلك الدرج ثم تهبط به ثانية، حتى اعتادت حمله رغم نموه وكبره.
وفى يوم من الأيام نزل «بهرام گور» ضيفا على هذا الضابط فغطت «فتنة» وجهها بنقاب ثقيل، وأخذت تعرض على الملك رياضتها التى مرنت عليها، فأعجب الملك
__________
(1) المترجم: هذه ترجمة الأبيات المذكورة فى ص 89من النص الفارسى ل «هفت پيكر» الذى نشره الأستاذان ريتر وريپكا فى استانبول سنة 1934ونصها كالآتى:
وآن كنيزك ز ناز وعيارى ... در ثنا كرد خويشتن دارى
شاه يك ساعت ايستاد صبور ... تا يكى گور شد روانه ز دور
گفت كاى تنگ چشم تاتارى ... صيد ما را بچشم در نارى
صيد ما كز صفت برون آيد ... در چنان چشم تنگت چون آيد
گورى آمد بگو كه چون نازم ... وز سرش تا سمش چهـ اندازم
گفت بايد كه رخ برافروزى ... سر اين گور در سمش دوزى
شاه چون ديد پيچ پيچى او ... چاره گر شذ ز بذ بسيچى او
خواست اول كمان گروهه چوباذ ... مهره در كمان گروهه نهاذ
صيد را مهره درفگند بگوش ... آمذ از تاب مهره مغز بجوش
سم سوى گوش برد صيد زبون ... تا ز گوش آرد آن علاقه برون
تير شه برق شذ جهان افروخت ... گوش وسم را بيكديگر دردوخت
گفت شه با كنيزك چينى ... دست بردم چگونه مى بينى
گفت پر كرد شهريار اين كار ... كار پركرده كى بود دشوار
هرچ تعليم كرده باشذ مرد ... گرچ دشوار شذ تواند كرد
رفتن تير شاه بر سم گور ... هست از ادمان نه از زيادت زور(1/550)
كثيرا باستطاعتها أن تحمل ثورا إلى سطح المنزل وبإمكانها كذلك أن تهبط به ثانية إلى الأرض، وطلب إليها أن ترفع نقابها، فلما فعلت عرف أنها معشوقته السابقة، فسر سرورا بالغا بسلامتها وعفا عما أظهرته نحوه من عناد ودلال.
اسكندرنامه أو كتاب الاسكندر
هذه هى المثنوية الخامسة من مثنويات نظامى، وهى مكتوبة فى وزن «المتقارب» وهو الوزن الذى كتب فيه أكثر الشعر القصصى.
فعولن فعولن فعولن فعل
وهذه المثنوية مقسمة إلى قسمين: الأول منهما يسمى «إقبال نامه (1)» أو كتاب الإقبال، والثانى يسمى «خردنامه» أو كتاب العقل.
والجزء الأول من هذين الجزءين موجود فى الصفحات من 530396من طبعة طهران، ويتلوه الجزء الآخر فى الصفحات من 601532من هذه الطبعة ولا يقل عدد الأشعار التى يشتمل عليها هذان الجزءان عن عشرة آلاف بيت، ثلثاها فى الجزء الأول والثلث فى الجزء الثانى.
وقد ترجم «الكولونيل كلارك.» كتاب الإقبال إلى اللغة الإنجليزية نثرا. كما درس الدكتور «واللس بدج.» «قصة الإسكندر» دراسة وافية تبين نشأتها فى مختلف الآداب الشرقية.
ومن أجل ذلك لم أر داعيا إلى الإفاضة فى هذا الموضوع من جديد، فلن يكون
__________
(1) هناك اختلاف كبير فى عناوين هذين القسمين، فليرجع القارئ إلى مقالة «باخر» ص 50، 52والمتفق عليه فى الفارسية تسميتها تباعا باسم «شرف نامه» و «اقبال نامه» أى «كتاب الشرف» و «كتاب الإقبال».
أما فى الهند، فيميز الهنود القسمين بجعل عنوان أحدهما «اسكندرنامه برى» وعنوان الآخر «اسكندرنامه بحرى».(1/551)
من نتيجة ذلك إلا الإطالة فى هذه المقالة التى تحدثنا فيها عن «خمسة نظامى» فطال فيها الحديث من حيث لا نريد. (1)
4 - ظهير الدين الفاريابى
اسمه وديوانه
هذا الشاعر وإسمه الكامل «ظهير الدين طاهر بن محمد الفاريابى (2)» أقل شهرة من الشعراء الثلاثة الذين سبق الحديث عنهم، وهو مدين فيما حاز من شهرة إلى بيت واحد من الشعر، يكثر ترديده بين الفرس دون أن يعرف قائله وهو:
ديوان ظهير فاريابى ... در كعبه بدزد اگر بيابى
ومعناه: إسرق ديوان «ظهير الدين الفاريابى» ولو وجدته فى الكعبة!!
وقد أشرنا فيما مضى إلى آراء «مجد الدين همكر» و «إمامى» وشاعر ثالث فى المفاضلة بين «ظهير الدين» وبين «الأنورى»، ورأينا أن الشعراء الثلاثة أجمعوا على تفضيل «الأنورى».
ولكن قيام هذا النوع من الجدل بين هؤلاء الشعراء يدلنا بصورة قاطعة على أن أشعار «ظهير الدين» كانت فى وقت من الأوقات تقدر حق قدرها ويكثر قراؤها على خلاف حالها الآن.
وقد طبعت أشعار «ظهير الدين» على الحجر فى مدينة «لكنو» (3) وقام على طبعها «نول كشور:». ولكن النسخة التى اعتمد عليها فى هذا البحث عبارة من مخطوط جيد (رقم 6. 64) من مخطوطات مكتبة «جامعة كامبردج» وهو يشتمل على 160ورقة، كل واحدة منها تشتمل على 22بيتا من الشعر أى أن كل صحيفة من صفحاتها تشتمل على أحد عشر بيتا من الشعر، ومعنى ذلك أن هذه الورقات تشتمل على ما يزيد على ثلاثة آف بيت من الشعر موزعة بين «القصائد» و «المقطعات» و «الغزليات» و «الرباعيات».
__________
(1) المترجم: من حسن الحظ أن أحدث بحث عن «نظامى» هو الذى كتبه بالعربية صديقى الدكتور عبد النعيم حسنين وأحرر عليه فى العام الماضى أول درجة للدكتوراه من جامعة ابراهيم وقد تمكن من نشره هذا العام بعنوان: نظامى الگنجوى، شاعر الفضيلة.
(2) أنظر «تاريخ گزيده» وكذلك «تذكرة الشعراء» لدولتشاه.
(3) المترجم: تاريخ هذه الطبعة هو 1297هـ 1889م.(1/552)
وقد خصص «عوفى» مقالة ليست بالقصيرة لحياة «ظهير الدين» (1) وفيها مغالاة كبيرة فى بيان سمو مرتبته وعلو منزلته حتى إنه قال: «إن لشعره من الرقة واللطف ما ليس لشعر غيره من الشعراء» (2) وأضاف «عوفى» إلى ذلك أن «ظهير الدين» ولد فى بلدة «فارياب» فى الشمال الشرقى من إيران، ولكنه فاز بشهرة عريضة فى العراق حيث كان يفوز برعاية خاصة يتلقاها من حاكم أذربيجان الأتابك «نصرة الدين أبى بكر بن محمد بن ايلدگز» الذى كان يلقب باسم «جهان پهلوان» أى «بطل العالم».
وقد أفرد له «دولتشاه» مقالة طويلة (ص 114109من تذكرة الشعراء) قال فيها: أن ظهير الدين كان تلميذا للشاعر رشيدى السمرقندى، وإنه ترك خراسان وهاجر إلى العراق وأذربيجان فى أثناء حكم الأتابك «أرسلان بن ايلدگز» (587581هـ 11911185م)، وإنه كان قبل ذلك فى خدمة «طغان» حاكم نيسابور، وإن بعض الأكابر والأفاضل يعتبرون أشعاره أرق وأدق من أشعار الأنورى.
ويبدو لنا مما جاء فى «تاريخ طبرستان» أن «ظهير الدين» كان قبل ذلك ملتحقا بخدمة إصبهبذ مازندران المسمى «حسام الدولة اردشير بن الحسن» الذى قتل فى أول إبريل سنة 1210م 607هـ وإليه وإلى جوده يشير «ظهير الدين» فى كثير من اللوعة والندم حيث يقول:
شايد كه بعد خدمت ده سال در عراق
نانم هنوز خسرو مازندران دهد
ومعناه: وهل يجوز بعد ما انقضت علىّ عشر سنوات خدمتها فى العراق أن يظل ملك مازندران يعطينى قوتى؟! (3)
__________
(1) أنظر ج ص 307298من «لباب الألباب».
(2) المترجم: العبارة الفارسية الأصلية هى: «وشعر او لطفى دارد كه لطف او هيچ شعر ديگر ندارد».
(3) يقول ابن اسفنديار فى كتابه «تاريخ طبرستان» إن بعض الخدم نقل هذا البيت إلى إصبهبذ مازندران فأمر بأن يعطى الشاعر مائة دينار وجوادا وخلعه ومنطقة مرصعة بالجواهر.(1/553)
وقد زار «ظهير الدين» مدينة أصفهان، ولكن قاضى قضاتها المسمى ب «صدر الدين عبد اللطيف الخجندى» لم يحسن استقباله فبقى بها فترة قصيرة، وكان من بين أعدائه «مجير الدين البيلقانى» شاعر الهجاء والتهكم فى اصفهان، وهو نفس الشاعر الذى صادفناه من قبل بين خصوم «الخاقانى»، وقد أشار إليه «ظهير الدين» فى البيت التالى، وفيه يتهكم به وبملابسه الفاخرة التى كان ينالها من «قزل أرسلان»
گر بديباهاى فاخر آدمى گردد كسى
پس در أطلس چيست گرك ودر عبائى سوسمار (1)
ومعناه: إذا استطاع الإنسان أن يصير آدميا بالملابس الفاخرة
فماذا يكون الذئب فى فروه الوافر، والضب فى جلده الفاخر!!
وقد اعتزل «ظهير الدين» قبيل انتهاء حياته عيشة الملوك والقصور وقنع كما فعل الكثيرون غيره من شعراء المديح بعيشة الاعتكاف والتعبد فى تبريز حتى أدركته الوفاة فى نهاية سنة 1201م (2) 598هـ وقد دفن هنالك، كما رأينا من قبل، فى مقبرة «سرخاب» بجانب الشاعرين المعروفين «خاقانى» و «شاهفور الأشهرى».
ومع ذلك فإن قصائد «ظهير الدين» خالية من كل أثر للتدين، عاطلة من كل ما يشعرنا بأنه أحسن التعبد والتزهد، وهى على العكس من ذلك دنيوية فى أغراضها ومعانيها، بحيث إذا فرضنا جدلا أنه شعر بالندم فى آخر حياته من التزامه حياة القصور فقرر بعد ذلك الاعتزال والاعتكاف، وجب علينا لزاما أن نفترض أيضا أنه اعتزل فيما اعتزل قول الشعر وإنشاء القصيد.
ولقد حملت نفسى مشقة كبيرة فى قراءة ديوانه المخطوط، ولكن النتيجة التى حصلت عليها من هذه القراءة كانت محزنة مزعجة، فلقد وجدت أن الإشارات التى تشير إلى حوادث تاريخية قليلة جدا، كما وجدت أن سائر أشعاره تجرى على نمط واحد، فهى دائما من نوع القصيد المصقول المهذب الذى امتاز به شعراء المديح من الفرس فجعل أشعارهم خالية من كل ما يستسيغه الذوق، وجعلها خالية من الأقوال العنيفة
__________
(1) أنظر «تذكرة الشعراء» ص 114.
(2) سنة 598هـ كما ذكر ذلك «تاريخ گزيده» و «تذكرة الشعراء» لدولتشاه ويقول «تاريخ گزيده» أنه مات فى شهر ربيع الأول من هذه السنة.(1/554)
أو التهكمات اللاذعة أو الإحساسات النفسية العميقة، وهذه الأشياء جميعها هى التى أضفت فى الحقيقة كثيرا من الروعة والجمال على قصائد «الأنورى» و «الخاقانى».
وقصائد «ظهير الدين» ومقطعاته وغزلياته تبلغ فى عددها 185منظومة، أما «رباعياته» فتبلغ 97رباعية. ويشتمل ديوانه بالإضافة إلى ذلك على مثنوية واحدة فى مدح السلطان «قزل أرسلان»
الملوك والأمراء الذين اتصل بهم ظهير الدين:
والملوك والأمراء الذين خصهم «ظهير الدين» بمدائحه هم كما يلى (1):
1 «عضد الدين طغانشاه بن مؤيد»: (2) الملقب بملك الشرق (خسرو شرق) وقد خصه بسبع أو ثمان قصائد.
2 «حسام الدين أردشير بن حسن» ملك مازندران، وخصه بثلاث قصائد (3).
3 «أختسان» شروانشاه، وقد وجه إليه قصيدة واحدة، وهو ملك شروان الذى اختصه «الخاقانى» بمدائحه.
4 «قزل أرسلان بن ايلدگز» أتابك أذربيجان، وقد وجه إليه إحدى عشرة قصيدة وأشار إلى موته فى مقطوعتين أخريين. (4)
5 «نصرة الدين أبو بكر بيشكين بن محمد بن ايلدگز» ابن أخى «قزل أرسلان» ووارث ملكه وقد وجه إليه 35قصيدة.
7 «طغرل بن أرسلان» آخر ملوك السلاجقة فى فارس، وقد وجه إليه قصيدة واحدة (5).
__________
(1) الأسماء المذكورة فى هذا البيان ذكرناها وفقا لما جاء فى هذه القصائد لأن العناوين قليلة ولا تذكر فيها هذه الأسماء.
(2) مات كما جاء فى «ابن الأثير» سنة 582هـ (11871186).
(3) توفى كما جاء فى «ابن الأثير» سنة 603هـ (12071206م).
(4) قتل فى «قونيه» فى سنة 588هـ (1192م).
(5) قتله «الخوارزمشاه» فى مدينة الرى فى سنة 590هـ (1194م).(1/555)
7 - سيد الرؤساء «بهاء الدين أبو بكر»: وقد خصه بأربع قصائد
8 «تاج الدين إبراهيم»: وقد خصه بقصيدتين
9 «مجد الدين محمد بن على أشعث (1)»: وقد خصه بأربع قصائد
10 «سعد الدين»: وقد خصه بقصيدتين
11 «رضى الدين»: وقد خصه بقصيدتين
12 «جمال الدين حسن»: وقد خصه بثلاث قصائد
13 - الوزير «شمس الدين»: وقد خصه بخمس قصائد
14 «جلال الدين»: وقد خصه بقصيدة واحدة
15 «شرفشاه»: وقد خصه بقصيدة واحدة
16 - الوزير «عماد الدين»: وقد خصه بقصيدة واحدة
17 - الوزير «محمد بن فخر الملك»: وقد خصه بقصيدة واحدة
18 «صفى الدين الأردبيلى»: وقد خصه بقصيدة واحدة
19 «عز الدين يحيى التبريزى»: وقد خصه بقصيدة واحدة
20 - الوزير «نظام الدين»: وقد خصه بقصيدة واحدة
21 «صدر الدين الخجندى»: وهو من كبار رجال الشافعية
فى إصفهان، وكان مقتله على يد «فلك الدين سنقر» فى سنة 592هـ (1196م).
وقد وجه إليه «ظهير الدين» ثمانى قصائد. وكان «صدر خجند» هذا يعرف باسم «عبد اللطيف» وقد روى لنا «دولتشاه» مقالا بين فيه علاقة «ظهير الدين» به، فقال (2):
«يقولون إن ظهير الدين خرج سائحا من نيسابور إلى إصفهان، وكان صدر الدين عبد اللطيف الخجندى فى ذلك الوقت قاضيا للقضاة فى إصفهان، فذهب إليه ظهير الدين ليسلم عليه، فرأى عنده كثيرا من الفضلاء والعلماء، فسلم عليه وجلس فى مكان من الأمكنة، ولم يظفر فى هذه الجلبة بما كان يطمع فيه من العناية والعطف
__________
(1) فى ديوان «الفاريابى» طبع «لكنو» كتب هذا الاسم بالباء اى «أشعب».
(2) انظر ص 112من «تذكرة الشعراء».(1/556)
فغضب على صاحب الدار، وما لبث أن قال قطعة من الشعر، أنشأها على البديهة، وأسرع بتسليمها إليه، [وترجمة هذه القطعة كما يلى]:
أيها السيد العظيم: رفقا فإن عظمة الدنيا ليست من الخطورة بحيث تسمح لأحد بأن يرفع رأسه تكبرا وعجبا!!
وبالفضل وحده يكون الشرف، ولقد جمعته برمته، فلماذا تتيه اختيالا بهذا النعيم المزور؟!
ولماذا لا ترعى باحترامك أهل الفضل، وأنت معروف فى هذا الزمان بأنك ممتاز بالفضل؟!
فانظر إلى، ولا تهزأ بى، فإن قلبى بما امتلأ من فضل لا يلهو بطرر الحور!!
وإذا لم يعجبك حديثى فاستمع لكلمة واحدة منى واجعلها دستورا لأحوالك!!
واطرح هذا النقاب الذى اتخذته على وجهك فى هذه الدنيا، وطوح به بعيدا عنك فى يوم عرض المظالم!!
فسوف لا ترفع عليك ظلامة إلا ما تعلق منها بإجابتك الخشنة على سلام الناس عليك!؟ (1)
وقد أولاه «صدر الدين» كثيرا من رعايته وعنايته، ولكنه لم يشأ أن يقيم بعد ذلك فى مدينة إصفهان، وغادرها إلى أذربيجان، فالتحق هنالك بخدمة الأتابك
__________
(1) المترجم: فيما يلى النص الفارسى لهذه الأبيات وفقا لما جاء فى «تذكرة الشعراء» ص 113 وهذه الأبيات موجودة أيضا فى ص 177من ديوان الفاريابى طبع «لكنو» سنة 1880م
بزرگوارا دنيا ندارد آن عظمت ... كه هيچ كس را زيبد بدان سرافرازى
شرف بفضل وهنر باشد وترا همه هست ... بدين نعيم مزور چرا همى نازى
ز چيست كاهل هنر را نميكنى تمييز ... تو نيز هم بهتر در زمانه ممتازى
بمن نگه تو ببازى مكن از آنكه بفضل ... دلم بگيسوى حوران نميكند بازى
اگر چهـ نيست خوشت يك سخن ز من بشنو ... چنانكه آنرا دستور حال خود سازى
تو اين سپر كه ز دنيا كشيده در رو ... بروز عرض مظالم چنان بيندازى
كه از جواب سلامى كه خلق را بر تست ... بهيچ مظلمه ديگرى نپردازى(1/557)
«مظفر الدين محمد بن إيلدگز»، فبقى فى خدمته مدة السنوات العشر التالية»
ولكن هذه القصة لا تتفق مع الحقيقة المعروفة عن «ظهير الدين» من أنه وجه إلى «صدر الدين الخجندى» جملة قصائد ذكر فى إحداها صراحة أنه مكث ملازما لأعتابه الشريفة مدة سنتين كاملتين، وأنه يرجوه فى إلحاح أن يستمر على شموله بنعمه، وألا يضطره فى يوم من الأيام وهو كنز العلم والفضائل إلى أن يمد يده إلى طغمة من الأسافل والأراذل!!
وعلى هذا يبدو لنا أن الشاعر مكث فى أصفهان سنتين أو ثلاث ثم ساءه أنه لم يظفر من «صدر الدين» بالجوائز والعطايا التى كان يطمع فيها فتركه إلى آذربيجان يريد أن يجرب حظه عند سيد جديد ربما يكون أكثر كرما وأجزل عطاءا.
حياة ظهير الدين:
موطنه ومسكنه
ومن العسير أن نفصل الحديث عن حياة «ظهير الدين» لأن كثيرا من الحقائق المتعلقة بحياته ليست فى أيدينا، ولكن النقطة الأساسية فى سيرته واضحة تمام الوضوح بحيث نستطيع أن نستشف منها صورة كاملة لحياة هذا الشاعر.
فقد بدأ يقول الشعر فى بلدته «فارياب» وذكرها فى بعض أشعاره على أنها موطنه ومسكنه ثم خرج منها وذهب إلى «نيسابور» ومدح حاكمها «طغانشاه بن المؤيد» بجملة من قصائده. وقد مات هذا الأمير فى سنة 582هـ (11871186م)، وعلى ذلك يتحتم علينا أن نقول إن الشاعر قال مدائحه التى يخص بها هذا الأمير قبل هذا التاريخ. وقد ذكر الشاعر فى أحد أبياته أنه بلغ الثلاثين من عمره، فإذا فرضنا أنه محق فى قوله، وأنه لم يكن يقل عن الثلاثين، أو إنه لم يتجاوزها إلا بسنوات قليلة فمن الممكن أن نستنتج من هذه القرينة أن «ظهير الدين» ولد حوالى 562هـ (1156م).
وقد جاء إلى «آذربيجان» أثناء حياة «قزل أرسلان»، وعلى ذلك يبدو أن زياراته ل «حسام الدين أردشير بن حسن» ول «ملك مازندران» ولمدينة أصفهان،
إنما وقعت جميعها فيما بين سنة 582هـ وسنة 586 (11911187م)، والسنة الأخيرة من هذين التاريخين هى السنة التى جلس فيها الأتابك «نصرة الدين أبو بكر» فى مكان عمه «قزل أرسلان».(1/558)
وقد جاء إلى «آذربيجان» أثناء حياة «قزل أرسلان»، وعلى ذلك يبدو أن زياراته ل «حسام الدين أردشير بن حسن» ول «ملك مازندران» ولمدينة أصفهان،
إنما وقعت جميعها فيما بين سنة 582هـ وسنة 586 (11911187م)، والسنة الأخيرة من هذين التاريخين هى السنة التى جلس فيها الأتابك «نصرة الدين أبو بكر» فى مكان عمه «قزل أرسلان».
وإذا صح أن وفاة «ظهير الدين» حدثت فى سنة 598هـ (1201م) وليس لدىّ من الأخبار ما ينفى هذا التاريخ فإنه يبدو أنه أمضى السنوات التى سبقت وفاته فى خدمة مولاه «نصرة الدين أبى بكر»، وأنه لم يعتكف فى «تبريز» إلا خلال السنة الأخيرة من حياته، أو على الأكثر خلال السنتين الأخيرتين السابقتين على مماته.
ونجد الشاعر يشير إلى بعض ظروف حياته فى جملة من قصائده فقد ذكر فى إحداها، وربما قالها عند انتهاء إقامته فى «نيسابور» هذين البيتين:
مرا بمدت شش سال حرص علم وأدب ... بخاكدان نيشابور كرد زندانى
بهر هنر كه كسى نام برد در عالم ... چنان شدم كه ندارم بعهد خود ثانى
ومعناهما:
إن حرصى على العلم والأدب حبسنى مدة ست سنوات فى مدينة نيسابور الكريهة.
ولكننى استطعت أن أصبح ولا ثانى لى فى كل فن من فنون الفضل المعروفة فى هذا العالم!!
وفى هذه القصيدة نفسها إشارة تحملنى على الظن بأن «ظهير الدين» تهكم بالشاعر «أنورى» عندما أصدر حكمه عن اقتران الكواكب فى سنة 582هـ (سبتمبر سنة 1186م) فقد قال هذا البيت:
رسالتى كه ز إنشاى خود فرستادم ... بمجلس تو بابطال حكم طوفانى
ومعناه:
وهى رسالة من إنشائى، أرسلتها إليك لأبطل بها حكم الطوفان!!(1/559)
ويساعدنى على هذا الظن قطعة أخرى عثرت عليها فى ديوانه، إذا صح فهمى لها، فهى تشير صراحة إلى «الأنورى» لأنه قال فيها:
آنكس كه حكم كرد بطوفان باد گفت ... آسيب آن عمارت گيتى كند خراب
تشريف يافت از تو واقبال ديد وجاه ... در بند آن نشد كه خطا گفت يا صواب
من بنده چون بنكته إبطال كردم ... با من چرا زوحه ديگر ميرود خطاب
ومعنى هذه القطعة:
ذلك الشخص الذى أصدر حكمه بقيام الريح قال إن أذاها سيجعل عمائر الدنيا خربة محطمة.
ولقد نال منك التشريف والاقبال والجاه، فلم يعلق أهمية على قوله إذا أخطأ أو أصاب.
ولقد أبطلت حكمه بنكتة من قولى، فلماذا تخاطبنى بطريقة أخرى جزاءا لما قلت من صدق وصواب؟!
وربما تعرف «ظهير الدين» بعد ذلك بالأنورى، أو ربما أطلع على أشعاره، فإنه يبدو لى أن «ظهير الدين» قال قصيدته التى مطلعها:
اى فلك سر بدان درآورده ... كه تو گوئى كه خاك پاى من است
يجيب بها «الأنورى» ويعارضه فى قصيدته التى مطلعها:
كلبه كه اندر آن بروز وبشب ... جاى آرام وخورد وخواب من است
ولا استطيع بالإضافة إلى هذه الإشارات أن أجد إشارة صريحة فى أشعار «ظهير الدين» لشاعر آخر من معاصريه، اللهم إلا إذا كان البيت التالى يشير إلى الشاعر «نظامى» الذى أكمل مثنويته عن «خسرو وشيرين» فى سنة 571هـ (11761175م) وهذا البيت هو:
وليك بيخم ازين در عراق ثابت نيست
خوشا فسانه شيرين وقصه فرهاد
ومعناه:(1/560)
وليك بيخم ازين در عراق ثابت نيست
خوشا فسانه شيرين وقصه فرهاد
ومعناه:
ولكن جذورى ليست ثابتة فى العراق
فما أحلى قصة «شيرين» وحكاية «فرهاد»!!
معاصريه الكبيرين
ومن المحتمل جدا أن «ظهير الدين» كان يحسد معاصريه الكبيرين «نظامى» و «الأنورى» فإن أشعاره مليئة بالبراهين التى تدل على أنانيته، وحرصه على المنفعة واستعداده لتحين الفرص للظفر بما يريد، وتحقيره لأرباب مهنته وهو فى هذا كله مشابه للأنورى. وقد أشار «ظهير الدين» فى أشعاره إلى شاعر آخر سابق لعهده هو «پندار الرازى» الذى عاش فى القرن الحادى عشر الميلادى (الخامس الهجرى) فقال فيه هذين البيتين:
شعر پندار كه گفتى بحقيقت وحى است
آن حقيقت چوبه بينى بود از پندارى
در نهان خانه طبعم بتماشا بنگر
تا ز هر زاويه عرضه دهم دلدارى (1)
ومعناهما:
إن شعر «پندار» الذى قلت عنه إنه فى الحقيقة وحى، إذا نظرت إليه لوجدت أن هذه الحقيقة وهم وخيال!!
فانظر فى دخيلة نفسى، ففى استطاعتى أن أطلعك فى كل ركن من أركانها على ما يسبيك ويأسرك!!
وهنا أيضا نلحظ أن «ظهير الدين» على عادته يحقر أشعار غيره من الشعراء حتى هذا الشاعر المتقدم عليه، الذى لم يكن بينه وبينه أى منافسة أو حسد.
مذهبه وشربه للخمر
وكان «ظهير الدين» كغيره من شعراء القصور مولعا بشرب الخمر، وكان سنى المذهب، ولكنه ربما لم يهتم بأمر الدين فى كثير أو قليل، فهو يقول فى إحدى رباعياته: «إنه من الخير لك أن تكون ثملا بالخمر فى جهنم من أن تكون مفيقا فى الجنة!!»
__________
(1) أخطا «دولتشاه» فى نقل هذين البيتين فأورد البيت الثانى منهما بقليل من التحريف وسوء الفهم. انظر ص 43من «تذكرة الشعراء».(1/561)
وهو يقول فى رباعية أخرى: «إنه عبد مطيع للخضر الذى أخرجه من ظلمة العنب والعناقيد!!» وهو يشير بذلك إلى رحلة «الإسكندر» فى الظلمة تحت إرشاد «الخضر» باحثا عن ماء الحياة.
وقد اعترف «ظهير الدين» بكونه سنى المذهب فيما تحدث به عن الخلفاء وخاصة عمر وعثمان.
فهو يذكر «عمر» على أنه مثال للعدل حيث يقول:
شاهنشه ابى بكر محمد كه جهان را ... از حضرت او مژده عدل عمر آمد
ومعناه:
أن الملك «أبا بكر محمد» قد زف البشرى من لدنه إلى الدنيا بعدل عمر وقد ذكر عمر وعثمان معا فى مكان آخر، فقال ما معناه:
فهو الأتابك العظيم الذى استطاع عدله أن يقيم دين الله وسنة الرسول
وهو كأبى بكر فى عظمته، وهو شبيه بعثمان فى تواضعه ورحمته، وهو فى علمه وعدله مساو للفاروق (عمر) ولحيدر (على).
الشعراء على دين ملوكهم
ولعل المثل العربى الذى يقول إن «الناس على دين ملوكهم» لا ينطبق تمام الانطباق إلا على شعراء القصور ولعله من الخطأ الواضح أن نعلق أية أهمية على مثل هذه الأقوال التى لا دلالة لها أكثر من أنها ترينا أن «ظهير الدين» لم يكن شيعيا متعصبا على أقل تقدير.
وكان شاعرنا كما قلنا شحاذا ملحاحا، ولكنه كان على بينة من أنه باستجدائه بأشعاره قد أساء تمام الإساءة فى استغلال مواهبه. والأبيات التالية مثل واضح لطائفة كبيرة من أشعاره، فهو يقول فى قصيدة طويلة يخاطب بها «صدر خجند» ما معناه (1):
__________
(1) هذه الأبيات موجودة فى ص 4544من ديوان «ظهير الدين الفاريابى» طبع لكنو سنة 1880م، وهذا نصها مع مراعاة أنها لم ترد بالقصيدة على هذا الترتيب:
عالمى از عطات بر سر موج ... كشتى من چنين گران لنگر
منم امروز وحالتى كه مپرس ... گر بگويم نداريم باور(1/562)
سار العالم بأجمعه فى بحر من عطاياك، ولكن سفيننى وحدها ثقلت مراسيها!!
فلا تسلنى عن حالتى اليوم، فلو حكيتها لك لما صدقتنى!!
فالفتنة بأنواعها كامنة حولى والفاقة بألوانها متكشفة أمام وجهى!!
فهلا تريد أن أصبح بقليل من عنايتك، مادحا لك فى هذا العالم!!
ففى البحث عن أوجه المعاش لن يكون هناك مجال لحب أبى بكر أو صداقة عمر (1)
وليس فى العراق جوهرى خبير بالجواهر، ومن أجل ذلك حق لهم ألا يعرفوا قيمة جواهرى!!
فيا قلبى إنك أنظف من أكياس الفضة، ويا وجهى إنك أشد اصفرارا من صرر الذهب.
وكل ما نالنى من جاه أننى أصبحت رئيسا للشعراء أجمعين!!
وفى قصيدة أخرى خاطب بها سيد الرؤساء «بهاء الدين أبى بكر» يقول ما معناه:
ولما أطلق لسانى فى مدحك، وإن كان كرمك يستوجب المعذرة من قصائدى!!
__________
فتنه در گرد من گشاده كمين ... فاقه در روى من كشيده حشر
مى نخواهى كه من ز اندك سعى ... باشمت در جهان ثناگستر
در وجوه معاش مى شنود ... مهر بو بكر ودوستى عمر
جوهرى نيست در عراق ورواست ... گر ندانند قيمت گوهر
اى دل پاك تر ز كيسه سيم ... وى رخ زردتر ز صره زر
نيست دولت وراى آنكه شدم ... در ميان سخنوران سرور
(1) المترجم: يقول الأستاذ «براون» فى تعليقاته على هذا البيت إنه يدل على أن الشاعر كان متهما أمام «صدر الدين الخجندى» وهو من كبار المتشيعين، فأراد أن يعتذر عن سنيته بمثل هذا القول، وربما كان هذا هو السبب الذى انتهى به إلى الابتعاد عن أصفهان.(1/563)
ولقد نفر خاطرى من الشعر لأنه ينقص من درجة الفضلاء (1)
وكل غرضى هو أن أمدحك، وإلا فأين مكانى من الشعر والشاعرية؟
ومقامى فى قربك هو أدنى مقام فى خلوة سراى القدرة!!
فكيف أفخر بالشعر، ولو ثبت اسمى فى جرائد الشعراء!!
والشعر فى ذاته ليس أمرا مشينا، ولكن شكواى منه ترجع إلى خسة شركائى فيه!!
وهو يقول فى قصيدة أخرى ما معناه (2).
والشاعرية هى أقل مواهبى، فانظر إلى أنواع البلاء التى تحملتها منها!!
فلم يثبت لى منها شىء فى العراق سواء فى «همدان» أو «بغداد»!!
وكل ما تلقيته من تنعم بسبب فضلى فى هذا العالم كان قاصرا على جفاء أبى وصفعات أستاذى!!
وكل من مدحته ورفعت ذكره، عمل كل ما فى استطاعته ليمحو ذكرى عن خاطره!!
والغزل هو أحسن أنواع الشعر، ولكنه للأسف ليس البضاعة التى يمكننى أن أعتمد عليها!!
__________
(1) المترجم هذه الأبيات موجودة فى ص 116من ديوان «ظهير الدين الفاريابى»، وهذا نصها الفارسى:
من بمدحت زبان نداده هنوز ... كرمت عذر صد قصيده بخواست
نفرتى داشت خاطرم از شعر ... ز انكه آن نقص منصب فضلاست
غرضم مدحت تو بود ار نه ... شاعرى از كجا وبنده ز كجاست
ز انكه خلوت سراى قدرت را ز قربت ... جاى من در مقام او أدناست
چون تفاخر كنم بشعر ار چهـ ... نام من در جريده شعراست
شعر در نفس خويش هم بد نيست ... ناله من ز خست شركاست
(2) المترجم: هذه الأبيات موجوده ص 31من الديوان، وهذا نصها الفارسى:
كمينه مايه من شاعريست خود بنگر ... كه چند گونه كشيدم ز دست او بيداد
وليك هيچم ازين در عراق ثابت نيست ... تو خواه در همدان گير وخواه در بغداد(1/564)
ولقد أخذ بناء عمرى فى التحطم فإلى متى أعمر منزل أطماعى بعطايا الناس وما أؤمل منهم!!
وأية فائدة لى من أن حسناء فضية الصدر موجودة فى «كشمير»
وأى نفع لى من أن حلوة الشفاه موجودة فى «نوشاد» (1)؟!
فاقنع بهذا القول ولا تسلنى عن حال توبتى، فليس فى استطاعتى أن أشرح لك مقدار العناء الذى يقاسية قلبى!!
وأطيب وردة تفتحت لى من قول الشعر هو أننى أصبحت أسمى نفسى عبد وأسمى معشوقى حرا (2)
وأحيانا أصف عبدا زنجيا بأنه من حور الجنان، وأحيانا أصف السفلة والأراذل بأنهم أشد الناس نبلا ومجدا!!
ولا شك أن مثل هذه الأقوال تعتبر اعترافات صريحة لاذعة، شاء الشاعر أن يتهكم بها بكل مداح محترف. ولا شك أيضا أن «ظهير الدين» كان يعتبر نفسه واحدا من هذا الطراز من الشعراء، فهو يعترف فى قصيدة أخرى أنه ليس من أصحاب الثروات الواسعة، ولا من أصحاب المتاجر الرائجة، ومن أجل ذلك فهو
__________
تنعمى كه من از فضل در جهان ديدم ... همين جفاى پدر بود وسيلىّ استاد
به پيش هر كه ازو ياد ميكنم حرفى ... نميكند پس از آن ناتواند از من ياد
ز جنس شعر غزل بهتر است وان كم نيست ... بضاعتى كه توان ساختن بران بنياد
بناى عمر خرابى گرفت چند كنم ... برنگ وبوى كسان خانه هوس آباد
مرا ازان چهـ كه سيمين بريست در كشمر ... مرا از ان چهـ كه شيرين لبى ست در نوشاد
برين پسند كن از حال تو به هيچ مپرس ... كه شرح درد دل اين نميتوانم داد
بهين گلى كه مرا بشگفد ازو اين است ... كه بنده خوانم خود را وسرو را آزاد
گهى لقب نهم آشفته زنگى را حور ... گهى خطاب كنم مست وسفله را راد
(1) اشتهرت جملة مدن بأن أهلها يمتارون بالجمال والحسن، ومن أشهر هذه المدن فى الشعر الفارسى المدن الآتية: «كشمير»، «نوشاد»، «ختان»، «فرخار»، «جگل».
(2) المترجم: يشبه المعشوق فى الشعر الفارسى بشجرة السرو فيقولون «سرو آزاد» أى شجرة السرو الحرة أو النبيلة وهى أجمل أنواع السرو وأكثرها اعتدالا.(1/565)
لا يملك المخازن الملآى بالغلال، ولا الصناديق الزاخرة بالنقود والأموال!!
ومن أجل ذلك أيضا تحتم عليه أن يتكسب بما يقول من شعر، وأن يخضع نفسه إلى ما يستلزمه قول المديح من اعتبارات، ربما كان يحس لها بالمضض والحسرة فى قرارة نفسه. وهو فى هذا يلزم نفسه بأن تقنع مؤقتا بما تظفر به من عطاء، وأن تتطلع إلى وسيلة تلتمس بها المزيد، فإذا ظفر مثلا بخلعه طيبة وبمركب فاره، فإنه يجد الفرصة مواتية ليقول:
إننى لا زلت أطمع فى برذعة ولجام
لكى أستطيع أن امتطى متن هذا المركب الذلول!!
فإذا لم يظفر بالمال لقاء ما يصدر عنه من مديح، فإنه ربما لجأ إلى «الهجاء» وربما ظفر من أعداء من يهجوه بما يعوض عليه ما فاته عند قول المديح، ولعل الأبيات الآتية تقوم دليلا على هذا الرأى، وفيما يلى ترجمتها: (1)
أيها السيد لقد انقضى على ما يزيد على عام
وأنا أتجرع شراب مدحك فى كؤوس النظم والشعر!!
ولكننى لم أر منك شيئا أستطيع التحدث عنه
ولم أظفر منك بشىء أستطيع أن أتدثر به!!
فإذا سألونى عما أظفر به من جود فى مجلسك؟
أجد نفسى مضطرا إلى أن أحشو آذانى بالقطن وأدعى الصمم!
__________
(1) المترجم: الأبيات الفارسية موجودة بالديوان ص 197، وهذا نصها:
خدايگانا سالى زيادست كه من ... بجام نظم مى مدح تو همى نوشم
نديده ام ز تو چيزى چنانكه برگويم ... نيافتم ز تو چيزى چنانكه درپوشم
به مجلس تو ز جودت مرا سؤال كنند ... نهاده بايد ناچار پنبه در گوشم
مباش غره اگر چهـ من از شمائل خوب ... حكيم سيرت ونيكونهاد وخاموشم
بگاه نظم چومن بر سخن سوار شوم ... كشند غاشيه أقران ز فخر بر دوشم
بمدح وهجو همه كس پى شكايت وشكر ... چوآفتاب بتابم چوبحر بخروشم
من ار ز هجو تو بيتى دو بر كسى خوانم ... نهند تخته دنيا همى در آغوشم
بزر سرخ چواز من هجاى تو بخرند ... روا بود كه به نرخ تمام بفروشم(1/566)
فلا تغتر بشمائلى الطيبة
إذا بقيت حكيما، طيب العنصر، ملتزما للصمت!!
فإننى إذا امتطيت صهوة النظم عندما أريد قول الشعر
فإن أقرانى يحملون لى فى فخر البراذع على أكتافهم!!
وفى المدح أو فى الهجاء، جميع الناس إلى شكاية أو ثناء
لأننى فى كلا الحالين أضىء كالشمس الساطعة وأصخب كالبحر الزاخر!!
ولو أننى أنشدت أحدا بيتا أو بيتين فى هجائك
لوضع فى أحضانى خزائن الدنيا!!
وما داموا على استعداد لأن يشتروا هجاءك منى
فمن الحق على أن أبيعهم إياه بثمن باهظ!!
التهديد بالهجاء
والظاهر أن مجرد التهديد بالهجاء كان فى ذاته كافيا لأن يجعل (حتى الذين لا يرتاحون إلى المديح) يحلون عن طيب خاطر الأربطة التى تزم أكياس نقودهم فيبذلونها راضين أو كارهين للشاعر، ومن أجل ذلك أيضا لا نجد فى ديوان الشاعر إلا عددا قليلا من هذه الهجويات.
وفيما يلى هجاء موجة إلى فقيه اسمه «محيى الدين» نلحظ فيه، على خلاف ما هو متبع فى الهجو، أنه معتدل اللهجة متزن الحاشية، وفيما يلى ترجمته (1):
يا إمام العالم، ويا مفتى الخلق، يا محيى الدين
أنت تفوق بمركبك (2) وطلعتك، الخلق أجمعين!!
__________
(1) المترجم: الأبيات الفارسية موجودة بالديوان ص 188، وفيما يلى نصها:
إمام عالم ومفتى خلق محيى الدين ... توئى باسب ورخ از كل كائنات فره
بمدحت تو دو نوبت قصيده ها گفتم ... نه كرده سعى تو از كار من كشاده گره
ز پيش منبرت امروز مردكى برخاست ... كه توبه ميكنم از جرمها تو گفتى زه
ز مردمانش زر وسيم خواستى وهمه ... بر طوع طبع بدادند بى لجاج وسته
ز بهر شعر چيزى نداديم بارى ... براى توبه كنه دادى بشاعريم بده
(2) الكلمتان الفارسيتان هما «أسب» و «رخ» والأولى بمعنى جواد، والثانية بمعنى «وجه» أو «قلعة» وهما أيضا قطعتان من قطع الشطرنج.(1/567)
لقد مدحتك مرتين بقصائدى
ولكنك لم تحل المعقد من أمورى!!
واليوم وقف رجل أمام منبرك
فقال: إننى تائب عن جرائرى فأجبته: لقد أحسنت!!
ثم طلبت له من الناس بعض النقود والأموال
فاستجابوا لطباعهم الكريمة وأعطوك المال بغير لجاجة أو إلحاح
فإذا لم تعطنى شيئا فى مقابل ما أقول من الشعر
فلا أقل من أن تعطينى شيئا فى مقابل التوبة التى أوحيت لى بها عن قول الشعر!!
ومن السهل أن نستشهد بكثير من أقوال الشاعر التى كان يلح فيها على ممدوحيه بطلب المال، والتى كان يضج فيها بالشكوى من فقره وعوزه، فيقول مثلا: «إن الدائنين يرابطون على أعتاب دارى، كما يرابط الحظ السعيد على أبوابك!!»
ولكنا نكتفى بما سبق من أمثلة فهى كافية لتصوير اللهجة التى كان يتخذها الشاعر ولتصوير نوع الشعر الذى كان يقوله.
منزلته فى العلم
وكان ظهير الدين رغم فخره بعلو منزلته فى العلم أقل مكانة من الأنورى والخاقانى اللذين تمتلىء قصائدهما بإشارات كثيرة تدل على علم غزير.
وفيما يلى يجدر بنا أن نقف قليلا لنتأمل بيتا من الشعر قاله الشاعر لا يخرج فى معناه عما نجده فى الإنجيل:
شتر بچشم سوزن بيرون نخواهد شد ... حسود خام طمع گو درين هوس بگداز
ومعناه:
إن الجمل لا ينفذ من عين إلا برة.
فقل لحسودك الساذج: «احترق فى رغبتك الجامحة!!»
ولست أعرف النظام الذى اتبع فى تنسيق ديوان «ظهير الدين» فإن ترتيب القصائد الموجودة به ليس موافقا للترتيب الزمنى ولا للترتيب الأبجدى ويبدو لى أن
جامعه سعى إلى أن يضع فى بداية الديوان أجمل قصائد الشاعر وربما كان مستغربا أن نجد أن ثلاثا من القصائد الخمس الأولى فى الديوان قد استشهد بها «عوفى» فى كتابه «لباب الألباب» (1)، وأن رابعتها قد استشهد بها «دولتشاه» فى كتابه «تذكرة الشعراء» (2)، وفى رأيى أن أجمل قصيدة فى الديوان هى القصيدة الأولى التى تشتمل على سبعة وثلاثين بيتا، وربما كان من الخير أن أختم مقالى عن «ظهير الدين» بترجمة بعض أبياتها:(1/568)
ولست أعرف النظام الذى اتبع فى تنسيق ديوان «ظهير الدين» فإن ترتيب القصائد الموجودة به ليس موافقا للترتيب الزمنى ولا للترتيب الأبجدى ويبدو لى أن
جامعه سعى إلى أن يضع فى بداية الديوان أجمل قصائد الشاعر وربما كان مستغربا أن نجد أن ثلاثا من القصائد الخمس الأولى فى الديوان قد استشهد بها «عوفى» فى كتابه «لباب الألباب» (1)، وأن رابعتها قد استشهد بها «دولتشاه» فى كتابه «تذكرة الشعراء» (2)، وفى رأيى أن أجمل قصيدة فى الديوان هى القصيدة الأولى التى تشتمل على سبعة وثلاثين بيتا، وربما كان من الخير أن أختم مقالى عن «ظهير الدين» بترجمة بعض أبياتها:
ولكى تملأ بطنك بالطعام ولكى تستر جسدك بالثياب
انظر إلى ما تلاقيه الكائنات منك من ألم ونصب وعذاب!!
وإلى الإعباء الثقيلة التى تعانيها منك الهوام والسوام
وإلى الأرزاء المريرة التى تصادفها منك قلوب الوحوش والطيور والأنعام!!
وهذا حيوان فى غفلة من أمره يرعى الأشواك فى واد بعيد
ولكنك تعد لحلقه هذا الساطور القاطع الشديد!!
وهذه ديدان ضعيفة تنسج أعشاشها بدماء قلوبها الضعيفه
ولكنك تجمعها لتتخذ منها لنفسك الأطلس والحرير والثياب اللطيفة!!
وأنت تأخذ أكفان الدودة الميتة فتلبسها فى هناء
فهل يعذرك أحد من أهل المروءة فيما تفعل من بلاء!!
ولشدة جشعك وغاية حرصك على أن تجعل لسانك حلو المذاق
جلست تترصد النحل أن يتقيأ من فمه ما يحمل من شهد يراق (3)!!
__________
(1) أنظر ج 2ص 307298.
(2) أنظر ص 110
(3) المترجم: الأبيات الفارسية موجودة فى ص 32من الديوان وهى الآتية:
به بين كه تا شكمت سير وتنت پوشيده است ... چهـ مايه جانوران از تو خسته ورنجور
چهـ بارهاست ز تو بر تن سوام وهوام ... چهـ داغهاست ز تو در دل وحوش وطيور
بدشت جانورى خار ميخور غافل ... تو نيز ميكنى ز بهر حلق او ساطور
كناغ چند ضعيفى بخون دل بتند ... تو جمع آرى كين اطلست وآن سيفور(1/569)
خاتمه:
في علة الإطالة الكلام فيه
ومن العدل أن أعترف إننى أطلت الحديث عن «ظهير الدين الفاريابى»، ولم يكن ذلك لأننى أساويه ب «الأنورى»، أو «الخاقانى»، أو «نظامى»، أو لأننى أقرنه ب «الفردوسى»، أو «ناصر خسرو»، ولكن لأننى وجدته نموذجا طيبا لعدد لا يحصى من شعراء المديح الذين لازموا القصور فى هذه الفترة، مثل «أثير الدين الأخسيكتى»، و «مجير الدين البيلقانى»، و «فريد الكاتب»، و «شفروه الأصفهانى»، وكثير غيرهم ممن لا يريدون أو يقلون فى مكانتهم عن «ظهير الدين».
ومن الخير أن نكتفى فى هذا المقام بذكر أسمائهم، دون أن نحاول أن نفصل الحديث عنهم جميعا فى كتاب، مثل كتابنا هذا، لا تتسع صفحاته للتفصيل والإفاضة.
__________
ز گرم مرده كفن بركشى ودرپوشى ... ميان أهل مروت كه داردت معذور
بدان طمع كه دهن خوش كنى ز عايت حرص ... نشسته مترصد كه قى كند زنبور(1/570)
الفصل السّابع مملكة خوارزم
غارة المغول على خوارزم، واستيلاؤهم على بغداد وتحطيمهم للخلافة العباسية
تحدثنا فى الفصل الخامس من هذا الكتاب عن نشأة ملوك خوارزم المعروفين باسم ال «خوارزمشاه» أو «ملوك خيوه» الذين ينتسبون إلى «أنوشتگين» ساقى «ملكشاه» السلجوقى.
ولقد وصلنا الآن إلى بداية القرن الثالث عشر الميلادى (السادس الهجرى) وفيه نجد أن «علاء الدين محمد» حفيد «أتسز» قد تربع على عرش خوارزم، وأخذ يحكم امبراطورية واسعة الأرجاء كانت فى السنوات الأخيرة تنافس فى اتساع رقعتها وفسحة نواحيها إمبراطورية السلاجقة فى أبهى أيامها وأسعد أوقاتها، فقد امتدت من جبال الأورال إلى الخليج الفارسى، ومن جبال الإندلس إلى حدود الفرات، وشملت جميع ولايات إيران ما عدا ولايتى فارس وخوزستان.
ومن المستبعد جدا أن تكون مملكة خوارزم قد قامت على دعائم قوية ثابتة تفوق تلك التى قامت عليها الدول التى سبقتها، والتى أخذت تزول عند ظهورها، كدولة الغزنويين والسلاجقة والغوريين، ولكنها مع ذلك استطاعت أن تثبت أقدامها مدة تزيد على قرن كامل من الزمان ولم يمحها من الوجود إلا كارثة عامة لم يكن ينتظر وقوعها أحد من الناس وكانت هذه الكارثة من الشدة والقسوة بحيث استطاعت أن تغير وجه البسيطة بأجمعه، وأن تحرك من القوى الكامنة ما ظل يفعل فعله حتى هذه اللحظة الحاضرة، ولقد أصابت الجنس البشرى بكثير من الشرور التى لم تحدثها كارثة أخرى فى تاريخ العالم المعروف وأعنى بهذه الكارثة: غارة المغول.(1/572)
فهذه الغارة شبيهة بثورة جامحة من ثورات الطبيعة الشاردة، ولكنها لا تشبه فى شىء ما نعرفه من أحداث التاريخ الإنسانى، لأنها امتازت بالمفاجأة، والتخريب الشامل، والقسوة النابية، والغلظة الجافية، والشدة التى لا تقاوم، والتحطيم الذى لا رحمة فيه، والدمار الذى لا مقصد من ورائه!!
وقد قامت بهذه الأفعال جميعها قبائل متوحشة لم يكن يعرفها أحد، حتى أشد الناس اتصالا بهم من جيرتهم!!
ويقول «دوسون»: «لولا أن المصادر كلها تتفق على تصوير ما قاموا به من قتل وتخريب وتدمير لما استطاع أحد أن يصدق مقدار البلاء الذى أوقعته فى سنين قليلة هذه الجموع البربرية بمساحات واسعة من العالم امتدت من اليابان إلى المانيا (1)!!».
ولقد نستطيع أن نعرف مدى الأثر الذى أثروا به فى قلوب معاصريهم من الكتاب إذا أوردنا هذه النبذة التى كتبها عنهم الكاتب المدقق والمؤرخ المحقق «ابن الأثير» عندما أراد أن يتحدث عنهم تحت سنة 617هـ (1220 1221م) فقد قال:
«ذكر خروج التتر إلى بلاد الإسلام:»
في كلام ابن الأثير
«لقد بقيت عدة سنين معرضا عن ذكر هذه الحادثة، استعظاما لها، كارها لذكرها» «فأنا أقدم إليها رجلا وأؤخر أخرى، فمن الذى يسهل عليه أن يكتب نعى» «الإسلام والمسلمين؟! ومن الذى يهون عليه ذكر ذلك؟! فيا ليت» «أمى لم تلدنى، ويا ليتنى مت قبل هذا وكنت نسيا منسيا. إلا أنى حثنى جماعة» «من الأصدقاء على تسطيرها وأنا متوقف، ثم رأيت أن ترك ذلك لا يجدى»
__________
(1) طلب المغول من اليابان الخضوع لسلطانهم فى سنة 1270م وهاجموهم ثلاث مرات كانت الأخيرة منها فى سنة 1283م وقد حطم أسطول المغول فى سنة 1280م كما حطمت الأرمادا الأسبانية تماما. أما غارات المغول فى أوروبا فقد حدثت ما بين سنة 1236وسنة 1241م.(1/573)
«نفعا، فنقول: هذا الفصل يتضمن ذكر الحادثة العظمى والمصيبة الكبرى» «التى عقت الأيام والليالى عن مثلها عمت الخلائق وخصت المسلمين، فلو قال» «قائل: إن العالم مذ خلق الله سبحانه وتعالى آدم إلى الآن لم يبتلوا بمثلها لكان» «صادقا. فإن التواريخ لم تتضمن ما يقاربها ولا ما يدانيها. ومن أعظم ما يذكرون» «من الحوادث ما فعله «بختنصر» ببنى إسرائيل من القتل وتخريب بيت المقدس.»
«وما البيت المقدس بالنسبة إلى ما خرب هؤلاء الملاعين من البلاد التى كل مدينة» «منها أضعاف البيت المقدس، وما بنو إسرائيل بالنسبة إلى من قتلوا؟!»
«فإن أهل مدينة واحدة ممن قتلوا أكثر من بنى إسرائيل!! ولعل الخلق» «لا يرون مثل هذه الحادثة إلى أن ينقرض العالم وتفنى الدنيا إلا يأجوج ومأجوج.»
«وأما الدجال فإنه يبقى على من اتبعه ويهلك من خالفه، وهؤلاء لم يبقوا على» «أحد، بل قتلوا النساء والرجال والأطفال، وشقوا بطون الحوامل، وقتلوا» «الأجنة. فإنا لله وإنا إليه راجعون، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلى العظيم» «لهذه الحادثة التى استطار شررها، وعم ضررها، وسارت فى البلاد كالسحاب» «استدبرته الريح. فإن قوما خرجوا من أطراف الصين، فقصدوا بلاد» «تركستان مثل كاشغر وبلاساغون ثم منها إلى بلاد ما وراء النهر مثل سمرقند» «وبخارى وغيرهما، فيملكونها ويفعلون بأهلها ما نذكره، ثم تعبر طائفة» «منهم إلى خراسان فيفرغون منها دكا وتخريبا وقتلا ونهبا، ثم يتجاوزونها» «إلى الرى وهمذان وبلد الجبل وما فيه من البلاد إلى حد العراق، ثم يقصدون» «بلاد أذربيجان وأرانية ويخربونها ويقتلون أكثر أهلها، ولم ينج إلا» «الشريد النادر فى أقل من سنة، هذا ما لم يسمع بمثله!!»
«ثم لما فرغوا من أذربيجان وأرانية ساروا إلى «دربند شروان» فملكوا» «مدنه ولم يسلم غير القلعة التى بها ملكهم، وعبروا عندها إلى بلد اللان» «واللكز ومن فى ذلك الصقع من الأمم المختلفة فأوسعوهم قتلا ونهبا وتخريبا» «ثم قصدوا بلاد القبجاق وهم من أكثر الترك عددا فقتلوا كل من وقف لهم» «فهرب الباقون إلى الغياض ورؤوس الجبال وفارقوا بلادهم واستولى هؤلاء» «التتر عليها. فعلوا هذا فى أسرع زمان، لم يلبثوا إلا بمقدار سيرهم لا غير!!»(1/574)
«ومضت طائفة أخرى غير هذه الطائفة إلى غزنه وأعمالها وما يجاورها من» «بلاد الهند وسجستان وكرمان ففعلوا فيها مثل فعل هؤلاء وأشد. هذا ما لم» «يطرق الأسماع مثله، فإن الإسكندر الذى اتفق المؤرخون على أنه ملك الدنيا» «لم يملكها فى هذه السرعة إنما ملكها فى نحو عشر سنين ولم يقتل أحدا،» «إنما رضى من الناس بالطاعة، وهؤلاء قد ملكوا أكثر المعمور من الأرض» «وأحسنه وأكثره عمارة وأهلا، وأعدل أهل الأرض أخلاقا وسيرة فى نحو» «سنة!! ولم يبت أحد من البلاد التى لم يطرقوها إلا وهو خائف يتوقعهم» «ويترقب وصولهم إليه!!»
«ثم إنهم لا يحتاجون إلى ميرة ومدد يأتيهم، فإنهم معهم الأغنام والبقر والخيل» «وغير ذلك من الدواب، يأكلون لحومها لا غير، وأما دوابهم التى يركبونها» «فإنها تحفر الأرض بحوافرها وتأكل عروق النبات لا تعرف الشعير!!»
«إذا نزلوا منزلا لا يحتاجون إلى شىء من خارج!!»
«وأما ديانتهم فإنهم يسجدون للشمس عند طلوعها، ولا يحرمون شيئا، فهم» «يأكلون جميع الدواب حتى الكلاب والخنازير وغيرها!! ولا يعرفون نكاحا» «بل المرأة يأتيها غير واحد من الرجال، فإذا جاء الولد لا يعرف أباه!!»
«ولقد بلى الإسلام والمسلمون فى هذه المدة بمصائب لم يبتل بها أحد من» «الأمم، منها: هؤلاء التتر قبحهم الله أقبلوا من المشرق ففعلوا» «الأفعال التى يستعظمها كل من سمع بها، وستراها مشروحة مفصلة» «إن شاء الله تعالى ومنها خروج الفرنج لعنهم الله من المغرب» «إلى الشام وقصدهم ديار مصر وملكهم ثغر دمياط منها، وأشرفت ديار مصر» «والشام وغيرها على أن يملكوها لولا لطف الله تعالى ونصره عليهم، وقد» «ذكرناها سنة أربع عشرة وستمائة ومنها أن الذى سلم من هاتين» «الطائفتين فالسيف بينهم مسلول، والفتنة قائمة على ساق، وقد ذكرناه أيضا» «فإنا لله وإنا إليه راجعون، نسأل الله أن ييسر للاسلام والمسلمين نصرا من» «عنده، فإن الناصر والمعين والذاب عن الإسلام معدوم، وإذا أراد الله بقوم»
«سوءا فلا مرد له، وما لهم من دونه من وال ثان هؤلاء التتر إنما» «استقام لهم هذا الأمر لعدم المانع. وسبب عدمه أن خوارزمشاه محمدا كان» «قد استولى على البلاد وقتل ملوكها وأفناهم، وبقى هو وحده سلطان البلاد» «جميعها، فلما انهزم منهم لم يبق فى البلاد من يمنعهم ولا من يحميها ليقضى الله» «أمرا كان مفعولا!!»(1/575)
«ولقد بلى الإسلام والمسلمون فى هذه المدة بمصائب لم يبتل بها أحد من» «الأمم، منها: هؤلاء التتر قبحهم الله أقبلوا من المشرق ففعلوا» «الأفعال التى يستعظمها كل من سمع بها، وستراها مشروحة مفصلة» «إن شاء الله تعالى ومنها خروج الفرنج لعنهم الله من المغرب» «إلى الشام وقصدهم ديار مصر وملكهم ثغر دمياط منها، وأشرفت ديار مصر» «والشام وغيرها على أن يملكوها لولا لطف الله تعالى ونصره عليهم، وقد» «ذكرناها سنة أربع عشرة وستمائة ومنها أن الذى سلم من هاتين» «الطائفتين فالسيف بينهم مسلول، والفتنة قائمة على ساق، وقد ذكرناه أيضا» «فإنا لله وإنا إليه راجعون، نسأل الله أن ييسر للاسلام والمسلمين نصرا من» «عنده، فإن الناصر والمعين والذاب عن الإسلام معدوم، وإذا أراد الله بقوم»
«سوءا فلا مرد له، وما لهم من دونه من وال ثان هؤلاء التتر إنما» «استقام لهم هذا الأمر لعدم المانع. وسبب عدمه أن خوارزمشاه محمدا كان» «قد استولى على البلاد وقتل ملوكها وأفناهم، وبقى هو وحده سلطان البلاد» «جميعها، فلما انهزم منهم لم يبق فى البلاد من يمنعهم ولا من يحميها ليقضى الله» «أمرا كان مفعولا!!»
وقد كتب «ابن الأثير» هذا البيان برمته قبلما تحدث النكبة النهائية بثلاثين سنة تقريبا عندما أغار المغول على بغداد وحطموا الخلافة فى فبراير سنة 1258م 656هـ. وقد انتهى «ابن الأثير» من تاريخه بذكر سنة 628هـ (1230 1231م) ثم مات بعد سنتين من ذلك التاريخ ولم يشهد بعينيه الفظائع التى تحدث عنها، ولكنه كان يسمعها من المحاربين الهاربين الذين استولى عليهم الرعب والفزع ثم أخذ فى تسجيلها بعد ذلك فاستطاع أن يحفظ لنا جملة من رواياتهم، ذكرها فى السنة الأخيرة التى انتهى بها تاريخه حيث يقول:
«ولقد حكى لى عنهم حكايات يكاد سامعها يكذب بها من الخوف الذى» «ألقاه سبحانه وتعالى فى قلوب الناس منهم، حتى قيل إن الرجل الواحد منهم» «كان يدخل القرية أو الدرب وبه جمع كثير من الناس، فلا يزال يقتلهم» «واحدا بعد واحد، لا يتجاسر أحد أن يمد يدا إلى ذلك الفارس!! وقد بلغنى» «أن إنسانا منهم أخذ رجلا، ولم يكن مع التترى ما يقتله به، فقال له: ضع» «رأسك على الأرض ولا تبرح!! فوضع رأسه على الأرض ومضى التترى فأحضر» «سيفا فقتله به!! وحكى لى رجل قال: كنت ومعى سبعة عشر رجلا فى» «طريق، فجاءنا فارس من التتر، وقال لنا حتى يكتف بعضنا بعضا، فشرع» «أصحابى يفعلون ما أمرهم!! فقلت لهم: هذا واحد فلم لا نقتله ونهرب؟» «فقالوا: نخاف. فقلت: هذا يريد قتلكم الساعة فنحن نقتله فلعل الله» «يخلصنا!! فو الله ما جسر أحد يفعل ذلك!! فأخذت سكينا وقتلته» «وهربنا فنجونا. وأمثال هذا كثير» (1)
__________
(1) ترجم هذه النبذة المؤرخ «دوسون» فى كتابه بالجزء الثالث ص 80(1/576)
كلام «ياقوت الحموى» حول جنايات المغول
وكان «ياقوت الحموى» معاصرا لغارة المغول (فقد ولد سنة 575هـ 1178 وتوفى سنة 627هـ 1229م) وكان صديقا لابن الأثير الذى ذكرناه سابقا، وقد استطاع أن ينجو بنفسه من غارتهم، وأن يخلف لنا صورة جلية لما كانوا يلقونه فى النفوس من رعب وفزع. وإشاراته إلى ذلك واضحة فيما نقله إلينا متفرقا فى كتابه الجغرافى «معجم البلدان» وكذلك فى خطاب له أورده «ابن خلكان» فى كتابه وفيات الأعيان (1). وقد وجّه ياقوت خطابه هذا إلى «القاضى الأكرم جمال الدين أبى الحسن على الشيبانى القفطى» وزير ملك حلب، وذلك بعد ما تمكن «ياقوت» من التغلب على كثير من المصاعب والهرب من «مرو» والوصول إلى الموصل.
ويرجع تاريخ هذا الخطاب إلى سنة 617هـ (12211220م) وقد وصف فيه ياقوت المكتبات الموجودة فى مدينة مرو، وقال فى لغة قوية رصينة:
أنها كانت سببا لنسيانه الأهل والأحباب والوطن والأصحاب، وأن محتوياتها وما اشتملت عليه من الكتب «شغله عن الأهل والوطن، وأذهله عن كل خل صفى وسكن، فظفر منها بضالته المنشودة، وبغية نفسه المفقودة، فأقبل عليها إقبال النهم الحريص، وقابلها بمقام لا يزمع عنها محيص.»
ثم ذكر مقدار الرخاء والعمران اللذين فيهما كانت تنعم خراسان، وأنها كانت فى ذلك شبيهه بجنة المأوى ورياض الخلد، فقال:
«فكم فيها من خيّر راقت خيره، ومن إمام توجت حياة الإسلام سيره» «آثار علومهم على صفحات الدهر مكتوبة، وفضائلهم فى محاسن الدنيا والدين» «محسوبة، وإلى كل قطر مجلوبة، فما من متين علم وقويم رأى إلا ومن»
__________
وكذلك «السير هنرى هوورث» فى كتابه «تاريخ المغول» جزء 1ص 131.
(1) هذه الرسالة مذكورة فى ترجمة ياقوت الرومى بالجزء الثانى من وفيات الأعيان طبع المطبعة الميمنية بمصر سنة 1310هـ أنظر ص 214211وانظر أيضا ترجمة لكتاب وفيات الأعيان (جزء 4ص 2212).(1/577)
«مشرقهم مطلعه، وما من معرفة فضل إلا عندهم مغربه وإليهم مترعه، وما» «نشأ من كرم أخلاق بلا اختلاف إلا وجدته فيهم، ولا إغراق فى طيب» «أعراق إلا اجتنيته من معانيهم، أطفالهم رجال وشبابهم أبطال، ومشايخهم» «أبدال شواهد مناقبهم باهره، ودلائل مجدهم ظاهره. ومن العجب العجاب أن» «سلطانهم المالك، هان عليه ترك تلك الممالك وقال لنفسه اله وآلك وإلا فأنت فى الهوالك.»
«وأجفل إجفال الرال، وطفق إذا رأى غير شىء ظنه رجلا بل رجال!! (1)»
«كم تركوا من جنات وعيون وزروع ومقام كريم ونعمة كانوا فيها فاكهين،» «فجاس خلال تلك الديار أهل الكفر والإلحاد، وتحكم فى تلك الأستار» «أولو الزيغ والعناد (2)، فأصبحت تلك القصور كالممحو من السطور،» «وأمست تلك الأوطان مأوى للأصداء والغربان، يتجاوب فى نواحيها البوم» «ويتناوح فى أراضيها السموم، يستوحش فيها الأنيس، ويرثى لمصابها إبليس» «كأن لم يكن فيها أوانس كالدمى ... وأقيال ملك فى بسالتهم أسد ... » «فمن حاتم فى جوده وابن مامة ... ومن أحنف أن عد حلم ومن سعد ... » «تداعى بهم صرف الزمان فأصبحوا ... لنا عبرة تدمى الحشا ولمن بعد» «فإنا لله وإنا إليه راجعون من حادثة تقصم الظهر وتهدم العمر، وتفت» «فى العضد، وتوهى الجلد، وتضاعف الكمد، وتشيب الوليد، وتنحب لب» «الجليد، وتسود القلب، وتذهل اللب!!»
«فحينئذ تقهقر المملوك على عقبه ناكصا، ومن الأوبة إلى حيث تستقر» «فيه النفس بالأمن آيسا، بقلب واجب، ودمع ساكب، ولب عازب، وحلم غائب،» «فتوصل وما كاد حتى استقر بالموصل، بعد مقاساة أخطار، وابتلاء» «واصطبار، وتمحيص الأوزار، وأشراف غير مرة على البوار والتبار، لأنه» «مر بين سيوف مسلولة، وعساكر مغلولة ونظام عقود محلولة، ودماء»
__________
(1) أى «علاء الدين محمد» ملك خوارزم.
(2) أى المغول.(1/578)
«مسكوبة وكان شعاره كلما علا قتبا، أو قطع سببا: لقد لقينا من سفرنا» «هذا نصبا! فالحمد لله الذى أقدرنا على الحمد، وأولانا نعما تفوت الحصر» «والعد وجملة الأمر إنه لولا فسحة فى الأجل، لعز أن يقال: سلم البائس» «أو وصل، ولصفق عليه أهل الوداد صفقة المغبون، وألحق بألف ألف» «ألف ألف ألف هالك بأيدى الكفار أو يزيدون. وخلف خلفه جل» «ذخيرته ومستمد معيشته:»
«تنكر لى دهرى ولم يدر أننى ... أعز وأحداث الزمان تهون ... » «وبات يرينى الخطب كيف اعتداؤه ... وبت أريه الصبر كيف يكون!!»
«الخ (1)»
وقد ساعد مظهر المغول البغيض، وما امتازوا به من عادات قبيحة كريهة على زيادة الفزع الذى استولى على القلوب بسبب ما عرف عنهم من غلظة لا تقف عند حد وقسوة لا مزيد عليها. ولقد كان فتح العرب لأيران سببا فى كثير مما وقع فيها من دمار وخراب وعناء، ولكن العرب كانوا على حد تعبير أعدائهم الأسبانيين «فرسانا وأبطالا يمتازون بكثير من الرقة والدماثة ولو كانوا من المغاربة القساة الأشداء!!» وقد خربوا فى الحقيقة كثيرا من إيران ولكنهم جلبوا معهم كثيرا من الخير والنفع وعلى العكس من ذلك كان المغول الذين وصفهم مؤرخهم النابه «دوسون» بقوله (2):
«لقد فاقوا فى قسوتهم أشد الشعوب همجية، فقتلوا غيلة جميع من وقع فى أيديهم من أهل البلاد التى فتحوها، ولم يبقوا على رجل أو امرأة أو طفل
__________
(1) المترجم: الترجمة الانجليزية لهذه النبذة مختصرة وقد أثبتنا هنا الأصل العربى.
(2) أنظر ص 6من المجلد الأول من كتابه المعروف «تاريخ المغول من جنگيز خان إلى تيمور لنگ».
،. .،. 4. 183435(1/579)
وأحرقوا البلدان والقرى، وأحالوا الديار العامرة إلى مفازات مقفرة ولم يكن يحفزهم على ذلك كله رغبة فى ثأر أو حب لانتقام، فقلما كانوا يعنون بمعرفة أسماء ضحاياهم الكثيرة، وقلما كانوا يهتمون بالكشف عن هويتهم أو الوقوف على شخصيتهم.
ولربما ظن ظان أن التاريخ تغالى فى وصف مآسيهم وفظائعهم، ولكن جميع المراجع التى دونت عنهم فى بلاد مختلفة، تتفق تمام الإتفاق على ما امتازوا به من غلظة وعنف. وكانت عادتهم أن يسترقوا البقية الباقية من أهل البلاد التى يفتحونها وأن يعذبوهم أشد العذاب، بحيث كان من ينجو برأسه من صيوفهم لا يستطيع أن ينجو بنفسه من عسفهم وظلمهم. وكانت حكومتهم تعمل على نشر الفساد فتقصى كل من عرف بالشرف والنبل، وتقرب كل من اشتهر بالضعة والخسة، وتجزيهم على طاعتهم الذليلة وعلى خضوعهم لسادتهم من ذوى القلوب الغليظة بكل ما يتمنون من مال أوقوه أو سلطة، يستطيعون بها التعسف مع ذوى قرباهم وأبناء جلدتهم. وقد أصبح تاريخ المغول، بما انفرد به من وحشية وعنجهية، سجلا لكثير من حوادث الفزع والرعب، ولكن دراسته على الرغم من ذلك واجبة على كل من يريد تفهم الحوادث الهامة التى وقعت فى القرنين الثالث عشر والرابع عشر. خاصة وأن تاريخهم قد اتصل بتاريخ جملة من الممالك والامبراطوريات!!»
وربما اقتصرت فضائل المغول على مزاياهم الحربية، فقد كانوا يمتازون بالنظام والخضوع وطاعة الرؤساء، وكانت الترقية عندهم قاصرة على من يكون جديرا بها لكفاية أو دراية وكان الفاشل فى أداء الواجب أو الخارج على النظام أو العاجز عن القيام بما وكل إليه، يعاقب بالموت هو وزوجه وأولاده!!
وإذا غضب امبراطور المغول لأمر ارتكبه أكبر قواده، فإنه كان يأمر بعقابه عقابا علنيا أمام سائر جنده، وربما وكل أمر عقابه إلى رسول بسيط من رسله!!
وكان المغول يسترخصون حياة الناس، ولكنهم كانوا يعنون بحياة المغولى أشد العناية، فلا يلجأون إلى الحرب والقراع إلا إذا أعيتهم الحيلة ولم تنفعهم الوقيعة والخداع.(1/580)
وكانوا يعاقبون من يقف فى وجههم بالموت، ولكنهم أيضا كانوا يعاقبون من يخنع أمامهم بالموت؟؟ ولم يكونوا يبقون على أحد من سكان المدن التى يفتحونها إلا على من ينتفعون بمهارته فى حرفته، أو من يستخدمونه فى غارتهم التالية فى محاربة أبناء وطنه وعشيرته. وكانوا يضعون فى طليعة جيوشهم جماعات من الأسرى المساكين فإذا بدأت المعركة فإنهم كانوا يقذفون بهم ليقيموا لهم آلة الحرب والحصار، ثم ربما أكرهوهم بحد السيف إلى أن ينفذوا خلال الفجوات التى يحدثونها فى أسوار المدينة وأن يملأوا الخنادق بأجسادهم لكى يعبروا عليها، فإذا سلم منهم أحد بعد هذا كله، فإنهم كانوا يحزون رأسه ليتخلصوا منه وليفسحوا المجال للأسرى الجدد الذين يظفرون بهم فى موقعتهم الجديدة!!
ذكر مرجعين مراجع للتحقيق في تاريخ المغول
وكانت قسوة المغول متعمدة يقصدون بها إيقاع الرعب فى قلوب أعدائهم حتى يشل الفزع حركتهم فلا يقدرون على المقاومة أو المدافعة. وكانوا يجدون أنه آمن لجيوشهم المظفرة ألا يتركوا وراءهم إلا الخرائب الملتهبة، أو الأفران الملأى بالجثث الآدمية. لأنهم كانوا يخشون أن يبقوا على أحد بعد المعركة مخافة أن يثير لهم الفتن والقلاقل!!
ولا تتسع صفحات هذا الكتاب لإيراد التفاصيل المتعلقة بتاريخ المغول، أو لايراد ملخص عن إحداثهم فى إيران، وإنى أحيل القارىء الذى يرغب فى استيعاب هذه التفاصيل إلى أحد مرجعين:
1 - تاريخ المغول الذى كتبه «دوسون».
2 - تاريخ المغول الذى كتبه «السير هنرى هوورث» ويمتاز المرجع الأول من هذين المرجعين، بأن مؤلفه قد استعان فى تأليفه بالمصادر العربية والفارسية كما حدثنا بذلك فى مقدمة الجزء الأول من كتابه (1).
وأهم المصادر الإسلامية فى تاريخ المغول هى الآتية:
1 - تاريخ «ابن الأثير» وهو مكتوب بالعربية.
__________
(1) أنظر ص 6810من المقدمة.(1/581)
2 - سيرة السلطان جلال الدين المنكبرنى وقد كتبها بالعربية صاحب رسائله المسمى ب «شهاب الدين محمد النسوى».
3 - تاريخ «جهان گشا» وقد كتبه بالفارسية «علاء الدين عطا ملك الجوينى» وزير «هولاگو خان».
4 - جامع التواريخ وقد كتبه بالفارسية «رشيد الدين فضل الله».
5 - تجزئة الأمصار أو «تاريخ الوصاف» وقد كتبه بالفارسية «أبو عبد الله بن فضل الله الشيرازى».
والكتاب الأول من هذه الكتب طبع مرتين إحداهما فى القاهرة والأخرى طبعة تورنبرج وأما الكتاب الثانى فقد نشره وترجمه إلى الفرنسية «م. هوداس.» فى پاريس سنة 18951891م (1) وأما الكتاب الأخير فقد نشره مع ترجمة ألمانية المستشرق «هامر پورجستال» وقد ظهر الجزء الأول منه فى مدينة فينا فى سنة 1856، وله كذلك طبعة شرقية على الحجر. وأما الكتاب الثالث والرابع فمخطوطان حتى الآن (2).
__________
(1) المترجم: أحدث طبعة لسيرة جلال الدين هى التى نشرتها دار الفكر العربى سنة 1953م
(2) المترجم: عندما كتب الأستاذ «براون» هذا الفصل لم يكن فى متناول يده إلا النسخ الخطية من كتابى «تاريخ جهانگشا» و «جامع التواريخ» ولكن هذين الكتابين طبعا بعد ذلك فى سلسلة جب التذكارية.
وقد أشار الأستاذ براون إلى أن «شيفر» نشر جزءا من تاريخ «جهان گشا» فى ص 169106من الجزء الثانى من كتابه المعروف باسم مختارات فارسية وهذا الجزء هو الذى يتحدث فيه المؤلف عن غارة المغول على خوارزم وينتهى بغارتهم على نيسابور كما نشر كاترمير» جزءا من «جامع التواريخ» مع ترجمة فرنسية فى سنة 1836وهذا الجزء هو الذى يفسر فيه المؤلف أحوال هولاگو خان وقد نشر «برزين» جزءا آخر من هذا الكتاب ولكن الحصول عليه عسير لقلة نسخه، وقال إن بلوشية يقوم بتكملة العمل الذى بدأه كاترمير ليتم طبع جامع التواريخ فى سلسلة جب التذكارية كما تنوى هذه السلسلة أيضا طبع تاريخ «جهانگشا». [وقد تم طبعه فعلا فى ثلاثة أجزاء]
وقد أصدرت هذه السلسلة أيضا فى سنة 1940م «تاريخ مبارك غازانى» باهتمام «كارل يان»(1/582)
طمع وخيانة ملك خوارزم «علاء الدين محمد» هو السبب لوقوع غارة المغول
والرأى السائد أنه لم يكن هنالك ما يحول دون وقوع غارة المغول، ولكنها من غير شك سهلت وتيسر حدوثها بواسطة ما عرف عن ملك خوارزم «علاء الدين محمد» من طمع وخيانة وتردد. فطمعه ظاهر كما يقول «ابن الأثير» فى أنه استولى على البلاد وقتل ملوكها وأفناهم، ليبقى هو وحده على مملكة نخرة هاوية، فلما انهزم أمام المغول وفر أمام جيوشهم تاركا بلاده للقدر يفعل بها ما يشاء، لم تجد هذه البلاد أميرا إسلاميا واحدا يستطيع أن يلم شعثها ويوحد جهودها أمام الجيوش المغيرة من أهل الكفر والزيغ. وأما خيانته فظاهرة لأنه أقدم على قتل رسل المغول وتجارهم فأعطى بذلك ل «جنگيز خان» الحجة الدامغة لتبرير الهجوم عليه ولإثبات أوجه الضعف والخذلان التى تسود الحالة فى إيران. وأما تردده فظاهر كذلك من أنه عند أول صدمة تلقاها من المغول أسرع إلى إظهار الفزع والخوف بدل ما كان يبديه من غطرسة وتحد، ولم تكد تنقضى سنتان على قتله لرسل المغول حتى نجده فى النهاية يموت شريدا طريدا فى جزيرة من جزر بحر قزوين. ولولا الجهود الجبارة والأعمال الخالدة الجليلة التى أثرت عن ولده «جلال الدين» للازم العار جبين هذه الدولة الكبيرة التى كانت تعرف بمملكة خوارزم.
وهناك سبب آخر يرجع إليه ضعف المقاومة الاسلامية فى وجه المغول، وهو الخلاف الذى نشأ بين ملك خوارزم «محمد» والخليفة العباسى «الناصر». فقد كان هذا الخليفة يخشى ملك خوارزم وازدياد قوته وطمعه فى الاستيلاء على «بغداد»، فسعى كما كان يفعل الخلفاء المتأخرون إلى أضعاف منافسه والإيقاع به وتدبير المكائد له، وأخذ يشجع المغول على مهاجمته، وقد أشار إلى ذلك «ابن الأثير» إشارة عارضة كما صرح بذلك «المقريزى» فى كتاباته ومن عجب أن أعقاب هذا الخليفة قد هلكوا على أيدى هؤلاء المغول الذين أبادوهم جميعا وحطموا دولتهم واستولوا على بلادهم (1).
ويبدو أن الكارثة قد بدأت عندما علم ملك خوارزم عند استيلائه على مدينة غزنه. بأمر مراسلات متبادلة بين الخليفة وحكام «غزنه» من أعقاب «سبكتگين» (2)
__________
(1) أنظر ما كتبه «دوسون» فى جزء 1ص 211.
(2) أى الغزنويين من أعقاب محمود الغزنوى بن سبكتگين.(1/583)
يثيرهم فيها الخليفة على ملك خوارزم وقد أسرع هذا برد الكيل مضاعفا، فأعلن أن الخليفة العباسى لا يمكن أن يعتبر إماما للمؤمنين، ونصب أحد الأشراف من سلالة «على» فى مكانه واعترف له بالسلطة الروحية التى كانت للخليفة. وأصبحنا بذلك نجد أن ملك خوارزم بدل أن يجمع قوته لملاقاة الكارثة التى تهدد حدوده الشمالية الشرقية يزج بنفسه فى خصومة حامية مع خليفة بغداد. ثم يزداد الأمر سواء بوقوع كارثة أخرى كان سببها اشتداد البرد وقسوة الشتاء فى هذه الديار بشكل لم تعرفه من قبل.
ومن المحتمل جدا أن الكارثة كانت آتية لا ريب فيها، وأنه لم يكن ليمنعها مانع، أو ليؤجل وقوعها مؤجل. ولكن سببها المباشر يرجع إلى إحدى هذه البعثات التى نسمع عنها كثيرا فى تلك الأيام. فقد رأى «جنگيز خان» أن يرسل جماعة من التجار محملين بمصنوعات بلاده إلى مدينة على حدود خوارزم اسمها «أترار». وقد اختلفت المصادر اختلافا بينا فى عدد هؤلاء التجار، فقال «النسوى» إنهم أربعة، وأنهم كانوا مسلمين ومن رعايا خوارزم بينما قال كتاب آخرون أنهم يبلغون الأربعمائة والخمسين تاجرا، وقد قتلهم حاكم «أترار» جميعا بتحريض خفى من ملك خوارزم بعدما ألقى فى روعه أنهم ليسوا تجارا فى الحقيقة بل هم جواسيس للمغول.
فلما قتل هؤلاء التجار، أسرع «جنگيز خان» بإرسال بعثة إلى ملك خوارزم مكونة من عضوين مغوليين وثالث تركى اسمه «بغرا» وكلفهم بأن يحتجوا لديه على ما أصاب رسله من إهدار لحقوق الضيافة وتضييع لواجبات المجاملة، وإن يطلبوا إليه أن يسلمهم حاكم «أترار» وإلا فليعد العدة لحرب طويلة قاسية.
ولم يجبهم ملك خوارزم إلى ما طلبوا، بل على العكس من ذلك قتل الرسول التركى «بغرا» وأمر الرسولين المغوليين الآخرين بالعودة إلى مولاهم بعد أن حلق ذقنيهما.
الإهانة برسل «جنگيز خان»
وثار «جنگيز خان» لإهانة رسله، فعقد جمعية عامة من المغول «قوريلتاى» وقرر مهاجمة «خوارزم».
وبدأت الحرب بانتصار تافه فاز به «محمد خوارزمشاه» ولكنه بقى مع ذلك
خاملا مبتعدا بنفسه عن مواقع الخطر، تاركا أمر المدافعة عن حدود بلاده التى أغار عليها المغول إلى حكامها، منتظرا فيما يقولون لحظة مباركة يشير بها المنجمون ليبدأ فيها منازلة خصمه!! (1)(1/584)
وبدأت الحرب بانتصار تافه فاز به «محمد خوارزمشاه» ولكنه بقى مع ذلك
خاملا مبتعدا بنفسه عن مواقع الخطر، تاركا أمر المدافعة عن حدود بلاده التى أغار عليها المغول إلى حكامها، منتظرا فيما يقولون لحظة مباركة يشير بها المنجمون ليبدأ فيها منازلة خصمه!! (1)
ذكر عدد من جنايات المغول في فتح المدن
وفى أثناء انتظاره وترقبه، عصفت العاصفة بشدة فيما وراء النهر فى خريف سنة 1219م 616هـ وسقطت مدينة «أترار» بعد حصار دام خمسة أشهر أو ستة، وقبض المغول على حاكمها الذى أمر بقتل تجارهم، فأعدموه بأن صبوا الفضة المصهوره فى عينيه وأذنيه، ثم ساقوا أمامهم من نجا من غارتهم على هذه المدينة فدفعوا بهم إلى مدينة «بخارى» لينتفعوا بهم كما ذكرنا ضد مواطنيهم وأهل دينهم.
وأغاروا على «أوزكند» وعلى مدينتين صغيرتين أو ثلاث ثم أتوا إلى «جند» فاستولوا عليها بعد حصار قصير وأعملوا الغارة فيها تسعة أيام كاملة، ولكن من عجب أنهم لم يقتلوا سكانها!!» ثم سقطت مدينة «بناكت» فى أيديهم، وصمدت فى وجههم مدينة «خجند» لأن «تيمور ملك» دافع عنها دفاعا مجيدا ولم تظهر تباشير سنة 1220م 617هـ حتى سيطر المغول على مدينة «بخارى» وأعملوا الغارة فيها وأحرقوها وقتلوا عددا كبيرا من سكانها واستحيوا النساء وهتكوا الحرمات وقد آثر الموت جهادا جماعة من سكانها لم يرضوا بحياة العار والذل فاستشهدوا مقاتلين، وكان من بين هؤلاء «القاضى بدر الدين» والإمام «ركن الدين» وابنه.
وجاءت نوبة «سمرقند» بعد ذلك فحاصرها المغول أربعة أيام ثم خضعت لهم فى نهاية هذه المدة، فأغاروا عليها كعادتهم ونهبوها وقتلوا كثيرا من سكانها واستعبدوا من نجا من حد سيوفهم.
واستمر «محمد خوارزمشاه» فى التقهقر والتراجع، وأخذ ينصح سكان البلاد التى يمر بها أن يعملوا ما يستطيعون لحماية بلدانهم لأنه فى موقف يعجز معه عن معاونتهم أو حمايتهم. واعتقد أن المغول سوف لا يجسرون على عبور نهر «جيحون»
__________
(1) ربما قيل فيه ذلك إظهارا لجبنه وتردده(1/585)
فتوقف قليلا فى مدينة «نيسابور»، ولكن لم تنقض على ذلك ثلاثة أسابيع حتى علم أنهم دخلوا خراسان، فأسرع إلى الهرب إلى ناحية الغرب صوب «قزوين» فلما بلغها دار على عقبه ويمم وجهه شطر «گيلان» و «مازندران» وهناك تركه أتباعه وانفضوا من حوله، ثم مرض بالبرص واشتدت عليه علته فمات شريدا طريدا فى جزيرة بعيدة من جزر بحر قزوين، تاركا ملكه لابنه الشجاع «جلال الدين» وقد وقعت أمه «تركان خاتون» مع زوجاته وأولاده وجواهره فى أيدى المغول وحوزتهم.
وسقطت بعد ذلك «خوارزم» وكانت قد قاومت المغول مقاومة شديدة أثارت حفيظتهم، فلما وقعت فى أيديهم أعملوا سيوفهم فى رقاب أهليها جميعا ولم يبقوا من سكانهما إلا على أصحاب الحرف والصناعات فنقلوهم كعادتهم إلى «منغوليا». وقد ذكر صاحب «جامع التواريخ» أن الجيش المغولى الذى حاصر «خوارزم» كان يبلغ خمسين الف مقاتل، وإنه وكل إلى كل واحد من هؤلاء أن يقتل أربعة وعشرين رجلا من الأسرى الذين وقعوا فى قبضتهم بعد الاستيلاء على هذه المدينة!!
واستشهد على أيديهم فى هذه المدينة العالم الورع الشيخ «نجم الدين كبرى» (1)
وعاملوا سكان مدينة «ترمذ» نفس هذه المعاملة فقتلوا سكانها، ووقعت فى أيديهم امرأة عجوز ابتلعت جوهرة لتخفيها عنهم، فأمروا جندهم بإخراج القتلى وشق بطونهم بحثا عن الدرر والجواهر!!
وازدادت قسوة المغول وغلظتهم بازدياد نجاحهم ونفوذهم، فلم نعد بعد الآن نسمع بحادثة واحدة أظهروا فيها قليلا من الرحمة والشفقة حيال سكان المدن البائسة التى وقعت تحت أيديهم بل أخذوا يبيدونهم عن آخرهم فى غلظة وفظاعة كما فعلوا بسكان «بلخ» و «نصرت كوه» و «نسا» و «نيسابور» و «مرو» وأماكن أخرى كثيرة. وقد قدر «ابن الأثير» القتلى من أهل «مرو» ب 000، 700قتيل، وأما صاحب «تاريخ جهانگشاى» فقد رفع عددهم إلى 000، 300، 1وذلك فيما عدا
__________
(1) ارجع إلى «نفحات الأنس» تأليف جامى، طبع «نساوليز» ص 487486.(1/586)
الذين اختفت أجسادهم فى فجوات مجهولة أو تحت الأنقاض والخرائب!!
وفى «نيسابور» قطع المغول رؤوس القتلى، وبنوا أهرامات عالية أحدها للرجال، والآخر للنساء، والثالث للأطفال، وبذلك ضمنوا أن لا ينجو مخلوق من حد سيوفهم بادعائه الموت وارتمائه بين الأشلاء والجثث المترامية!!
وخفت غارتهم على مدينة «هراة» قليلا، ولكنهم عندما وصلوا إلى «باميان» قتل أحد أمرائهم أثناء المعركة فخربوها تخريبا كاملا، ولم يأخذوا شيئا من أسلابها بل فضلوا أن يتركوها صحراء خاوية، بقيت خالية من السكان قرنا كاملا من الزمان!!
ولم يأل «المغول» جهدا فى إيقاع الدمار والخراب بالأماكن التى اجتازتها جيوشهم وكانوا يعمدون إلى إحراق الحبوب والغلال التى تزيد على حاجتهم، وكثيرا ما كانوا يعودون إلى البلدان التى أغاروا عليها فيفتشونها من جديد ويقتلون البقية الباقية من أهلها المساكين الذين اختبأوا أثناء الغارة الأولى وأخذوا يخرجون الآن باحثين عن الطعام أو الشراب!! وقد فعلوا ذلك مع أهل «مرو» فاستطاعوا أن يقتلوا اثناء عودتهم خمسة آلاف رجل نجوا من غارتهم الأولى التى ذكرنا خبرها فيما سبق من حديث.
وكانوا يلجأون إلى شتى وسائل التعذيب لحمل الأسرى على الاعتراف بأماكن النقود والكنوز التى أخفوها!!
أما كنوز الآداب والفنون التى كانت تزخر بها المدن القديمة التى فتحوها فقد حطمت تمام التحطيم وكان هذا طبيعيا ومنتظرا من قوم يستهينون أشد الاستهانة بكل شىء وبالحياة الإنسانية على وجه الخصوص.
ويذكر «الجوينى» أنه «لم يبق بالبلاد التى فتحها المغول واحد من ألف من ألف من سكانها» ثم يعلن: أنه إذا لم تقع بخراسان والعراق العجمى حادثة من الحوادث تعوق ازدياد السكان بهاتين الولايتين، فإن أهلهما لن يبلغوا إلى يوم القيامة عشر العدد الذى بلغوه قبل غارة المغول!! (1)
__________
(1) أنظر ما كتبه «دوسون» جزء 1ص 350.(1/587)
ذكر شىء عادات المغول الكارهة
وكانت أعمال المغول الإرهابية تلقى الفزع فى نفوس سكان البلاد التى يزمعون الإغارة عليها، وكانت قلوبهم تنخلع رعبا وفزعا حينما يوجهون إليهم إنذارهم المعتاد:
«ولسنا نعلم ماذا تفعل بكم الأقدار إذا لم تسرعوا إلى تقديم الخضوع والاستسلام لنا، والله وحده هو الذى يعلم ما هو نازل بكم!!» (1)
وكانت عادات المغول وطباعهم تدعو إلى الاشمئراز كما إن بعض أمورهم كانت تبعث فى نفوس المسلمين كثيرا من النفور والكراهية لمنافاتها لتعاليمهم، فكانوا على استعداد لأن يأكلوا كل ما حرمه الإسلام وكذلك كل حيوان دنس كالفئران والقطط والكلاب. بل كان طعامهم كما يقول «جان دى پلان كارپان» «يشتمل على كل ما يستطاع مضغه، وقد رأيناهم يزدردون كل شىء حتى الأعواد الجافة والبراغيث!!» (2).
وكانوا يكرهون الاستحمام والاغتسال، وحرموا غسل الأيدى أو الثياب فى المياه الجارية واعتبروا ذلك جريمة جنائية بل من أمهات الجرائم التى يعاقب عليها بالإعدام!!
وكذلك اعتبروا ذبح الحيوان (بقطع حلقه) من أمهات الجرائم، فحرموا على المسلمين ذبح حيواناتهم وفقا للطريقة التى أجازها الشرع، واستعاضوا عن ذلك بطريقتهم الخاصة، فكانوا يشقون بطن الحيوان ثم يمدون أيديهم إلى جوفه، فإذا وصلوا إلى قلبه أمسكوه ونزعوه من مكانه!!
المغول فى أمور الدين
وكان المغول فى أمور الدين يتساهلون أشد التساهل، وقد سووا بين رجال الدين فى مختلف العقائد والمذاهب وميزوهم ببعض الميزات وأعفوهم من بعض الضرائب، وهكذا كان حالهم فى معاملتهم للأطباء ولجماعات خاصة من أرباب الحرف، وقد امتاز «چنگيز خان» على الخصوص بتسويته بين الأديان جميعها دون أن يعتنق واحدا منها، وأما «قبلاى خان» 12941257م 694655هـ (3) فكان أول
__________
(1) نفس المرجع، جزء 1ص 394.
(2) نفس المرجع ص 411.
(3) حيى «قبلاى خان» هذه العادة فيما بعد كما يحدثنا «دوسون» فى جزء 2ص 492491(1/588)
من اعتنق البوذية من عشيرته وأما أول من اعتنق الإسلام فهو: أحمد تاگدار خان 12841282م 683681هـ ثم غازان خان 13041295م 704695هـ وقد بقى أعقابه الذين حكموا إيران يدينون بهذا الدين، وقضى نهائيا على أمل طالما تردد فى نفوس المسيحيين بأن يكسبوا إلى جانبهم المغول وأن ينجحوا فى جلبهم إلى حوزة المسيحية ومعتنقيها، حتى يتمكنوا من القضاء على الإسلام القضاء الأخير الذى لا بعث بعده. ولم يبق من أثر للبعثات المسيحية التى وصلت إلى المغول فى عاصمتهم «قراقورم» إلا السجلات الخالدة لأسفار جماعة من المبشرين والقسيسين الذين احتملوا فى شجاعة فائقة أهوال السفر العديدة ومخاطره الشديدة لعلهم يظفرون بفوز مؤزر للكنيسة المسيحية بجلب المغول إلى حوزتهم، وكان من بين هؤلاء:
«جان دى پلان كارپان» و «روبريكس» وغيرهما من القسس والرهبان.
وقد تحققت أوروبا من أن «خان» (1) المغول الذى ظل يراسلهم فى لغته المغولية برسائل مكتوبة بالخط الأيغورى، سوف لا يعتنق المسيحية، وبدا هذا اليقين واضحا فى رسالة مكتوبة فى «نورثامبتون» فى 16أكتوبر سنة 1307م بعث بها «إدوارد الثانى» إلى ملك المغول «ألجايتو خدابنده» (2).
وهذه الاتصالات التى كانت تتكرر بين أباطرة المغول وملوك أوروبا كان الغرض منها التحالف مع المغول ضد المسلمين، ومساعدة الأرمن، والسعى إلى استرجاع لأراضى المقدسة، وقد نجحت هذه الاتصالات إلى حد ما، فجلبت إلى حوزة المسيحية عشيرة مغولية اسمها ال «قيرايت» كذلك أظهر الميل إلى اعتناق الدين المسيحى بعض الأمراء كالأميرة «أوروك خاتون» واثنين من الملوك الإيلخانين فى إيران هما «احمد تاگدار» و «ألجايتو خدابنده» فكلاهما عمد فى صباه باسم «نيكولاس»
__________
(1) «خان» هو لقب ملوك المغول.
(2) أنظر ما كتبه «دوسون» جزء 4ص 594592وكذلك ما كتبه رموسا بعنوان «بحث فى العلاقات السياسية بين الأمراء المسيحيين، وخاصة بين ملوك فرنسا وأباطرة المغول».
» «
ولكنهما فيما بعد اعتنقا الدين الإسلامى وأصبحا من أكبر المتفقهين فى تعاليمه (1).(1/589)
__________
» «
ولكنهما فيما بعد اعتنقا الدين الإسلامى وأصبحا من أكبر المتفقهين فى تعاليمه (1).
ومهما قيل فى غارة المعول وأنها كانت كارثة كبرى أصابت صميم الحياة وأنها جنت على العلوم والمعارف وخاصة الحضارة العربية التى استطاعت أن تحتفظ بكيانها سليما فى إيران طوال القرون الستة التى تلت الفتح العربى لهذه البلاد، فإن هذه الغارة كانت مجلبة لبعض عناصر الخير برغم ما عرف عنها من شدة وغلظة، وربما كان من بعض فضائلها أنها كانت سببا فى المزج بين الشعوب المختلفة المتباعدة، مما نتج عنه فيما بعد تجديد العقليات التى طال ركودها وخمولها.
تأثيرها فى أوربا
وكان تأثيرها فى أوربا واضحا، فقد كانت سببا هاما بل أهم الأسباب فى حركة النهضة، فهى التى دفعت بالأتراك العثمانيين من مجاهل خراسان إلى أبواب القسطنطينية، فكانت بذلك السبب المباشر والأخير فى تحطيم الامبراطورية البيزنطية وما نتج عن ذلك من انتشار اليونان وكنوزهم العلمية فى مختلف البلاد الأوروبية. وقد استطاعت هذه الغارة أيضا أن تحطم الحدود والحواجز بين مختلف الأقاليم والممالك، فمكنت بذلك لبعض الرحالة من أمثال «ماركوپولو» أن يجوبوا الأقطار النائية من آسيا وأن يحدثونا بالعجائب التى لم يكن من المستطاع الوصول إليها لشدة المحافظة عليها. وكما كانت سببا فى البداية فى خلق التطاحن بين الفرس والعرب من ناحية، وبين الصينيين وأهل «التبت» من ناحية أخرى، فإنها كانت كذلك سببا فى إيجاد التوافق والتعاون بينهم، بمساواتها بين «الفقيه المسلم» و «القس المسيحى» و «اللاما البوذى» و «البخشى المغولى» وكل رئيس لدين آخر أو مذهب مخالف وكانت هذه المساواة الدينية قد انعدم وجودها منذ خمسة قرون أو ستة خلت قبل هذه الغارة (2)
(1) أنظر كتاب «دوسون» جزء 3ص 651وجزء 4ص 79.
(2) فى سنة 1272م استعان «قبلاى خان» باثنين من المهندسين الإيرانيين فى حصار «فان شبج» بالصين وكان أحدهما يدعى «علاء الدين» والآخر يدعى «إسماعيل» [انظر كتاب دوسون جزء 2ص 389] وعندما خرج «هولاگو خان» فى حملته على بغداد فى سنة 1252م 650هـ جلب معه ألفا من مهندسى الصين ليقيموا له المجانيق وآلات الحصار [أنظر نفس المرجع جزء 3ص 135] وقد استعان المنجم الفارسى المشهور والفيلسوف(1/590)
الإعتاق بالدين الإسلامى
ومما لا شك فيه أن الأمور تحسنت كثيرا عند ما ترك أعقاب «هولاگو خان» فى إيران معتقداتهم الوثنية واعتنقوا الدين الإسلامى، فقد كان هذا سببا فى انفصالهم نهائيا عن ذوى قرباهم من أهل «قراقورم» وفى اندماجهم فى النهاية بالشعوب المغلوبة على أمرها التى كانت تخضع لحكمهم.
ومن عجب أن «هولاگو خان» الذى حطم الخلافة فى بغداد، والذى يعتبر أكبر خصم للاسلام، كان يشمل برعايته اثنين من كبار الكتاب فى زمانه، أحدهما «نصير الدين الطوسى» والآخر «عطا ملك الجوينى» مؤلف تاريخ «جهانگشاى» (1)
وقد عاش مؤرخان آخران أثناء حكم «غازان خان» 13041295م 695 704هـ وهما «عبد الله بن فضل الله الشيرازى» المعروف باسم «وصاف الحضرة» والوزير «رشيد الدين فضل الله» وكلاهما يعتبر من أكبر الكتاب الذين دونوا التاريخ باللغة الفارسية.
والأدب الفارسى بمعناه الضيق، لا يمكن أن يقال عنه أنه قد أصيب بسبب غارة المغول بكارثة دائمة الأثر لأننا نجد أن ثلاثة من أكبر الشعراء الذين نشأوا فى إيران قد عاصروا هذه الغارة وعاشوا خلالها، ونقصد بهم «سعدى الشيرازى» و «فريد الدين العطار» و «جلال الدين الرومى» كما أن جماعة آخرين من أكبر الشعراء قد نشأوا بعدها بقليل.
ومع ذلك كله فإن تحطيم بغداد كعاصمة للمسلمين، وإنزالها إلى مرتبة المدن الإقليمية، قد أصاب رباط الوحدة بين الأمم الإسلامية بلطمة شديدة كما أصاب مكانة اللغة العربية فى إيران بضربة قاصمة، فاقتصر استعمالها بعد ذلك على العلوم الفقهية والفلسفية، فإذا وصلنا إلى نهاية القرن الثالث عشر الميلادى (السابع الهجرى) لم نعد نصادف إلا القليل النادر من الكتب العربية التى تم تأليفها فى إيران.
__________
المعروف «نصير الدين الطوسى» بجماعة من المنجمين الصينيين فى عمل الزيج الذى قدمه إلى «هولاگو خان» فى سنة 1259م 658هـ.
[أنظر نفس المرجع جزء 3ص 265]
(1) بمعنى «تاريخ فاتح العالم» ويقصد به جنگيز خان(1/591)
عهود استعلاء نفوذ المغول فى إيران:
فلنمض بعد ذلك إلى بيان العهود المختلفة التى استعلى فيها نفوذ المغول فى إيران.
وهذه العهود يمكن ان يقال أنها تمتد منذ الغزوة الأولى التى تم بها لجنگيز خان فتح هذه البلاد فى سنة 1219م 616هـ وتنتهى بموت «أبى سعيد خان» فى سنة 1335م 736هـ ويتبع هذه الفترة مدة تقرب من نصف قرن من الزمان سادت فيها الفوضى وانتهت بغزوة أخرى للتتر بقيادة «تيمور لنگ (1)» (1380 1400م 803782هـ)
وهذه الحادثة التاريخية الأخيرة تعتبر «فترة انتقال» إلى ما يمكن أن نسميه ب «تاريخ إيران الحديث» وهى تخرج عن نطاق هذا الجزء من كتابنا الذى نقصره على عهد المغول بمعناه الضيق، ولم يكن ذكرنا لها فى هذا الموضع إلا لننبه القارئ إلى أن يجعلها حدا للفترة التى سنتناولها بالبحث.
عهد التدمير
وأول عهد لاستعلاء نفوذ المغول هو العهد الذى أسماه «ستانلى لين پول» بعهد كبار الملوك (أو الخانات جمع خان بمعنى ملك) وهو العهد الذى حكم فيه «جنگيز خان» و «أوگداى» و «كيوك» و «منگو» وقد امتد هذا العهد من سنة 1206م إلى سنة 1257م (655603هـ)
ويمتاز هذا العهد بأن الولايات المختلفة التى فتحها المغول وأصبحت جزءا من امبراطوريتهم، كان يقوم على حكمها ولاة يعينهم «الخان الأكبر» الذى كان يقيم فى عاصمة المغول «قراقورم».
وعند ما اجتمعت الجمعية الكبرى للمغول أى ال «قوريلتاى» فى سنة 1251م 649هـ وذلك فى بداية عهد «منگو» قررت هذه الجمعية إيفاد بعثتين حربيتين إلى ناحيتين مختلفتين، يتولاهما اثنان من أخوة هذا الامبراطور ومن أحفاد «جنگيز خان» فأما البعثة الأولى فكانت موفدة إلى الصين، وكان يتولاها
__________
(1) أو تيمور الأعرج.(1/592)
«قبلاى خان» وأما الثانية فكانت موفدة إلى إيران والعراق وآسيا الصغرى وكان يرأسها «هولاگو خان»
عهد لاستعلاء
وثانى عهد لاستعلاء نفوذ المغول هو العهد الذى يمكن تسميته بعهد «الإيلخانيين الكفرة» أو العهد الذى أصبح فيه منصب «نائب الملك» فى إيران وآسيا الصغرى منصبا متوارثا فى أبناء نائب الخان الأكبر. وهذا العهد يبدأ بعبور «هولاگو خان» لنهر جيحون فى يناير سنة 1256م 654هـ وينتهى بقتل «بايدو» فى 5أكتوبر سنة 1295م 695هـ. ويمتاز هذا العهد بأن الإسلام فيه أخذ يستعبد قوته وأخذ يناضل بكل ما يملك من قوة لحفظ كيانه ضد هجمات البوذية والمسيحية، ويمتاز أيضا بأن الصلات التى كانت تربط الإيلخانيين فى إيران بأباطرة المغول فى موطنهم الأصلى أخذت تنفصم وتتلاشى. وجدير بنا أن نلاحظ هذا التطور الدينى الذى أصاب المغول المقيمين فى إيران، فبينما كان مقتل «أحمد تاگدار» فى أغسطس سنة 1283م 682هـ يرجع سببه جزئيا إلى حبه للاسلام (1)، فإن مقتل «بايدو» بعد اثنتى عشرة سنه من ذلك التاريخ يرجع إلى حد كبير إلى بغضه للاسلام وحبه للمسيحية وتفضيلها عليه (2) ولم يكد عقبه «غازان» يجلس فى مكانه حتى أعلن اعتناقه للاسلام وأمر بهدم الكنائس المسيحية والمعابد البوذية فى إيران. وبعد ذلك بقليل نجده فى سنة 1300م 700هـ يأمر كهنة المغول (3) الذين يقيمون فى إيران أن يعتنقوا الدين الإسلامى أو أن يتركوا إيران وإلا أمر بقتلهم والقضاء عليهم. ومن أجل ذلك نجد أن أشراف المغول وقوادهم ممن كانوا يناوئون الإسلام يجتمعون عند اعتلاء «غازان» العرش فى سنة 1295م 695هـ ويدبرون مؤامرة كبيرة لخلعه تنتهى بفشلهم ومقتلهم جميعا (4)، وبعد ذلك بعشر سنوات نجد أن بعض الأميرات والأمراء يحاولون أن يحرضوا «ألجايتو خدابنده» على ترك الدين الإسلامى والرجوع إلى عقيدة آبائه
__________
(1) أنظر كتاب «دوسون» ج 3ص 608.
(2) أنظر كتاب «دوسون» ج 4ص 141.
(3) يعرف الكاهن المغولى باسم «بخشى».
(4) كتاب «دوسون» ج 4ص 282281.(1/593)
واجداده (1). وربما كانت هذه الحادثة هى آخر مظهر للوثنية المغولية فى إيران.
وكانت هذه الوثنية تظهر من قبل فى أمور تثير النفوس كاختيار المغول للفتيات الحسناوات ثم قتلهن وتقديمهن قربانا لروح الأباطرة عند وفاتهم!! وكقتل جميع الذين يصيبهم الحظ النكد بأن يصادفوا جنازة الامبراطور فى أثناء نقلها إلى مقرها الأخير خشية أن يتسرب نبأ موته قبل إعلانه رسميا!! (2)
فإذا رجعنا الآن إلى هذه العهود التى وصفناها من عهود استعلاء المغول نجد أن العهد الأول منها وهو عهد التدمير والتحطيم يمتاز بموجتين من أمواج الفتح:
الأولى بقيادة جنگيز خان 12271219م 625616هـ.
والثانية بقيادة هولاگو خان 12651255م 664653هـ.
وقد اكتسحت الغزوة الأولى إقليم خراسان وامتدت غربا إلى «الرى» و «قم» و «قاشان» و «همدان» وفى خلالها قام «جلال الدين خوارزمشاه» بأعماله الفائقة فى مقاومة المغول فأبدى من أعاجيب البطولة ما يخلب أبصارنا عندما نقرأ قصته كاملة واضحة فيما سجله من مآثره كاتبه المعروف «شهاب الدين محمد النسوى» الذى ظل يرافقه حتى اغتاله أحد الأكراد فى 15أغسطس سنة 1231م 629هـ.
أما الغزوة الثانية التى قادها «هولاگو خان» فقد اكتسحت أيضا خراسان فى بداية سنة 1256م 654هـ وامتدت إلى حصون الإسماعيلية فى «ألموت» و «قهستان» فحطمتها، ثم مضت إلى الخلافة فى بغداد فأودت بها أيضا، واستمرت تزحف غربا حتى أوقفها مماليك مصر فى موقعة «عين جالوت» التى وقعت فى 3سبتمبر سنة 1260م 659هـ وفاز فيها المصريون فوزا كبيرا اعتبر أول فوز أصابه المسلمون
__________
(1) نفس المرجع ج 4ص 157.
(2) أمر «أوگداى» بقتل أربعين فتاه عذراء قربانا لروح جنگيز خان وكذلك أمر بقتل عدد كبير من الجياد. [كتاب دوسون ج 2ص 13] وقرر الجند الذين رافقوا جثة «منگو خان» إلى مقرها الاخير فى جبال آلتاى أنهم قتلوا أثناء الجنازة ما لا يقل عن 000و 20شخص.
[أنظر: كتاب «دوسون ج 1ص 38»](1/594)
ضد «المغول» فى مدى السنوات الثلاثين التى تلت موت «جلال الدين خوارزمشاه» ومنذ ذلك التاريخ انحطمت موجة الفتح المغولى، وأخذ المسلمون يرون أن القول بأن أعداءهم لا يقهرون كان مجرد خرافة وخزعبلة، فاستجمعوا قوتهم من جديد وتمكنوا من أن ينتصروا عليهم فى كثير من المواقع الفاصلة وخصوصا موقعة «عين تاب» فى 16أبريل سنة 1277م 676هـ عندما تمكن «الظاهر بيبرس» من هزيمة المغول هزيمة نكراء واستطاع أن يقتل منهم فى هذه الموقعة 6770جنديا.
وربما كان فوز المصريين أكبر وأوضح فى موقعة «مرج الصفر» بالقرب من دمشق فى 23أبريل سنة 1303م 703هـ فقد استطاع الملك الناصر أن يجلب عند عودته إلى القاهرة 1600أسير مغولى مصفدين فى الأغلال، وقد حمل كل واحد منهم رأس قتيل مغولى، تتدلى من سلسلة فى عنقه، وسار بهم فى المدينة، يتقدمهم ألف فارس من رجاله، قد شهروا حرابهم، وعلى كل واحدة منها رأس قتيل مغولى جلبوه معهم من الموقعة!!
وقد وصفنا فيما مضى هول الفظائع التى كان يأتيها جند «جنگيز خان» أثناء الغزوة الأولى لإيران، ولمن شاء زيادة الإيضاح أن يرجع إلى وصف البلاء الذى أصاب المدن الآتية «أترار» و «جند» و «بناكت» و «بخارى» و «نيسابور» و «سمرقند» و «خبوشان» و «طوس» و «إسفرايين» و «دامغان» و «سمنان» و «نخشب» و «أرگنج» (أو گركانج أو الجرجانية كما يسميها العرب) و «ترمذ» و «بلخ» و «نصرت كوه» و «نسا» و «خرندر» و «مرو» و «هراة» و «كردوان» و «باميان» و «غزنه» و «الرى» و «قم» و «مراغه» و «إربل» و «قاشان» و «بيلقان» و «همدان» وعددا آخر من المدن والقرى الفارسية.
وهذا الوصف مذكور بإيضاح فى «تاريخ جهانگشاى» وفى «جامع التواريخ» وكذلك فى الكتب التى كتبها «دوسون» و «السير هنرى هوورث»، ومنها يبدو أن البلاء الذى عانته إيران وآسيا الصغرى على يد المغول كان مساويا للبلاء الذى أصابوا به الصين وآسيا الوسطى، وأقل قليلا مما ابتلوا به أوروبا الشرقية.(1/595)
وقد اتسعت رقعة الامبراطورية المغولية وبلغت ذروة الاتساع أثناء حكم «قبلاى خان» 12941260م 694659هـ. وفى أثناء هذه السنوات تمكن «ماركوپولو» من القيام برحلاته الخالدة فى أرجاء هذه الامبراطورية الشاسعة، التى لم تبلغها إمبراطورية أخرى، والتى كانت تتضمن الصين وكوريا والهند الصينية والتبت والهند إلى حدود نهر الگنج وإيران وآسيا الصغرى والقرم وجزءا كبيرا من روسيا إلى حدود نهر الدنيپر (1).
وقد تهدمت إمبراطورية المغول فى إيران بموت «أبى سعيد» فى سنة 1335م 736هـ، وتهدمت امبراطوريتهم فى الصين بعد خمسين سنة من ذلك التاريخ، وظلت إمبراطوريتهم فى روسيا حتى نهاية القرن الخامس عشر (2)
وكانت آخر بقاياهم ممثلة فى خانية خيوه (خوارزم) وخانية بخارى. [وقد فقدتا استقلالهما فى سنة 1868وسنة 1872م] وكذلك فى خانية القرم التى زالت قبل ذلك فى سنة 1783م. وقد بقى واحد من أحفادهم اسمه «السلطان كريم گراى كتى گراى» انتهى به المطاف إلى اسكتلندا فتزوج بها وأقام فى مدينة «إدنبره» (3).
جلال الدين خوارزمشاه
فى هذه الأيام الحالكة التى وقعت فيها غارة جنگيز خان، وفى هذه الأوقات التى تلبدت فيها سماء إيران بالأدخنة المتصاعدة من المدن المحترقة، وتبلل فيها ثراها بالدماء المهرقة من قلوب أبنائها، نجد أن «جلال الدين خوارزمشاه» بما حباه الله من شخصية لامعة يسطع لحظة قصيرة كالشهاب الثاقب والبرق الخاطف، ثم تخمد ناره وينطفىء أواره دون أن ينتج أثرا أو يجدى نفعا. ولربما خلت صفحات التاريخ من ذكر أمبر مثله
__________
(1) أنظر «دوسون» ج 2ص 477.
(2) أنظر «دوسون» ج 2ص 186183.
(3) أنظر كتاب «الدول الاسلامية» تاليف «ستانلى لين پول».
.. ،
امتاز بجرأته وإقدامه، فقد كان يعلم من البداية أنه يحارب موقعة خاسرة لا رجاء فيها، وكان من أجل ذلك حقيقا، بأن يترفق به القدر فلا يقضى عليه بأن يموت شريدا طريدا على بد جلف من أجلاف الأكراد فى سنة 1231م 629هـ. ولقد رأينا فيما سبق كيف تبدل حال أبيه «علاء الدين محمد خوارزمشاه» عندما تحقق من قسوة المغول فانقلب بين عشية وضحاها من ذئب كاسر إلى حمل وديع فما زال يفر ويهرب حتى قضى نحبه فى جزيرة من جزر بحر قزوين فى سنة 1220م 617هـ ورأينا كيف قبض المغول على جدته «تركان خاتون» وحملوها أسيرة ذليلة إلى «جنگيز خان» فى عاصمته «قراقورم» فى سنة 1223م 620هـ وكيف وقفوا بها فترة على حدود خوارزم لتنتحب على ملكها الضائع (1)، ولتكفر عن صلفها وقسوتها عندما وجدت الأمور تفلت من يدها فأمرت بقتل البقية الباقية من أمراء السلاجقه والغوريين، وكانوا رهائن لديها لا يملكون من أمر أنفسهم شيئا (2)(1/596)
__________
.. ،
امتاز بجرأته وإقدامه، فقد كان يعلم من البداية أنه يحارب موقعة خاسرة لا رجاء فيها، وكان من أجل ذلك حقيقا، بأن يترفق به القدر فلا يقضى عليه بأن يموت شريدا طريدا على بد جلف من أجلاف الأكراد فى سنة 1231م 629هـ. ولقد رأينا فيما سبق كيف تبدل حال أبيه «علاء الدين محمد خوارزمشاه» عندما تحقق من قسوة المغول فانقلب بين عشية وضحاها من ذئب كاسر إلى حمل وديع فما زال يفر ويهرب حتى قضى نحبه فى جزيرة من جزر بحر قزوين فى سنة 1220م 617هـ ورأينا كيف قبض المغول على جدته «تركان خاتون» وحملوها أسيرة ذليلة إلى «جنگيز خان» فى عاصمته «قراقورم» فى سنة 1223م 620هـ وكيف وقفوا بها فترة على حدود خوارزم لتنتحب على ملكها الضائع (1)، ولتكفر عن صلفها وقسوتها عندما وجدت الأمور تفلت من يدها فأمرت بقتل البقية الباقية من أمراء السلاجقه والغوريين، وكانوا رهائن لديها لا يملكون من أمر أنفسهم شيئا (2)
فى هذه الأحوال المضطربة نجد أن «جلال الدين» يستجمع قوته فيتزود بدعاء أبيه ويتمنطق بسيفه ثم يمضى أمام العاصفة على عجل فيحتمى بالحدود الهندية (3) ويقوم هنالك بأعجوبه من أعاجيب بطولته التى ذاع صيتها وانتشر خبرها. وتفسير الأمر أنه عندما بلغ مع جيشه الصغير نهر السند وجد نفسه فجأة وقد أحاطت به جموع كبيرة من المغول فائقة العدة والعتاد، فقاومها قدر ما يستطيع من مطلع الفجر إلى منتصف النهار، وأبدى من ضروب الشجاعة والجلد ما لا مزيد عليه، ولكنه أدرك فى النهاية أنه قد خسر الموقعة فهجم على أعدائه هجوم اليائس، ثم يمم وجهه شطر النهر وألقى بدرعه عن جسده، ثم امتطى صهوة جواده، وعبر النهر على متنه، وتبعه قوم من أتباعه ففعلوا مثل ما فعل ولكن أكثرهم غرقوا أو أهلكتهم سهام المغول الذين كانوا يجدون فى أثرهم (4).
(1) أنظر كتاب دوسون ج 1ص 322.
(2) نفس المرجع ج 1ص 258.
(3) نفس المرجع ج 1ص 255.
(4) نفس المرجع ج 1ص 306والصفحات التالية، وقد روى صاحب تاريخ جهانگشاى أن أم جلال الدين وزوجه وبعض نساء حرمه كن معه فى ذلك الوقت وأن المغول أسروهن،(1/597)
ولقد استطاع بعد ذلك أن يجمع شتات جيشه وأن يدفع عن نفسه غارة شنها عليه أمير هندى اسمه «جودى»، وشجعه هذا الانتصار فجمع الزاد والعناد وهاجم أمير السند «قراجه» وأمير دهلى «التاتمش» وكانا متحالفين على قتاله، ولكنه استطاع رغم هذا التحالف أن يبقى فى بلادهما حتى ينسحب المغول ويفسحوا له طريق العودة إلى إيران ليسعى مرة ثانية إلى استرجاع مملكة آبائه وأجداده.
وأعقبت ذلك ثمان سنوات قام فيها «جلال الدين» بسلسلة لا نظير لها من المجازفات والمخاطرات التى سجل تفاصيلها كاتبه «النسوى» فى كتاب يمكن قراءته باللغة العربية، وكذلك باللغة الفرنسية فى ترجمة كاملة تولى نشرها المسيو هوادس. (1).
ولقد اضطر «جلال الدين» إلى أن يحارب جميع الناس تقريبا فقد كان عليه أن يحارب المغول الذين كانوا يتعقبونه، وكان عليه أن يحارب أيضا أخاه الخائن «غياث الدين»، وأن يحارب أيضا حاكم كرمان «براق الحاجب» وكأنما لم يكتف القدر له بهذا العدد من الأعداء فاضطره فى ظروف مختلفة إلى أن يحارب الخليفة فى بغداد وكذلك التركمان والحشاشين (الاسماعيلية) وأن ينفذ إلى ولاية جورجيا فاتحا غازيا.
وفى سنة 1223م 620هـ نجده يقتحم كرمان وفارس وأصفهان والرى وفى سنة 1225م 622هـ يتمكن من هزيمه «قشتمر» قائد الخليفة ويتبع جيشه حتى أبواب بغداد ويستولى على تبريز ويهزم جيوش جورجيا وفى سنة 1226م (624623هـ) يستخلص مدينة «تفليس» ثم يعود فى عجلة إلى الجنوب الشرقى من إيران لينزل سخطه بحاكم كرمان «براق الحاجب» الذى خانه وتحالف مع المغول على الإيقاع به.
وفى سنة 1227م 625هـ تمكن من معاقبة التركمان والحشاشين ثم اتبع
__________
ولكن كاتبه النسوى روى رواية أخرى فقال إنهن سألن «جلال الدين» أن يأمر بإغراقهن خشية أن يقعن فى أيدى المغول ورأى جلال الدين استحالة العبور بهن فأمر بإغراقهن.
(1) المترجم: أحدث طبعة لكتاب «سيرة السلطان جلال الدين» هى التى نشرتها دار الفكر العربى سنة 1953م.(1/598)
ذلك بنصر كبير على المغول فى «دامغان» وقتل اربعمائة أسير مغولى وقعوا فى يده، ثم دار إلى أصفهان فدافع المغول عنها، ثم علم أن أهل «جورجيا» قد تحالفوا مع المغول على قتاله فأسرع إليهم وقتل أربعة من قوادهم فى موقعة واحدة انتهت بهزيمتهم هزيمة منكرة.
وفى سنة 1229م 627هـ أخذ يدعو أمراء المسلمين للتحالف معه على محاربة المغول وكاد ينجح فى إنشاء هذا الحلف ولكن جيشا من المغول قوامه 000، 30محارب بقيادة «نويان چرماغون» حمل عليه فجأة واضطره إلى الهرب شمالا حيث استطاع أن يستولى على مدينة گنجه (1).
وانقلب حظه بعد ذلك، وخمد نشاطه، وأدمن الشراب، وهام على وجهه دون غاية، وبدت عليه الهموم، فأصبح كسير القلب، سريع البكاء، وأخذ ينتحب أشد الانتحاب لموت «قليج» أحد غلمانه المقربين إليه، وما زال يهرب أمام المغول حتى انتهى به مطافه إلى قرية كردية، فهجم عليه أحد رجالها وتمكن من قتله فى 15أغسطس سنة 1231م 629هـ.
وقد أحاط كثير من الشك بنهاية «جلال الدين» ولم يستطع المؤرخ الكبير «أبن الأثير» أن يقطع بأمر فى مصيرها، وظلت الاشاعات تملأ الوادى الايرانى مدة السنوات الاثنتى والعشرين التى تلت موته، فظنوا أنه ما زال حيا، وأنه قد خرج ثانية من مخبائه وادعى ذلك كثير من المدعين وانتهى الأمر بقتلهم على أيدى المغول.
ونهاية «جلال الدين» هذه وما أحاطها من شك فى مصيره، تمثل لنا حال أى بطل قومى تتعلق به الآمال فى ساعات اليأس العصيبة وشبيه بها عندنا حالة «هارولد الانجليزى»، ففى كلتا الحالتين نجد الأوهام الشعبية تنتهى بالبطل إلى حياة الزهد والتقشف ثم الموت فى سن الشيخوخة ميتة الأولياء والصالحين.
__________
(1) هى المعروفة الآن باسم «اليزافتپول»(1/599)
اوگداى (أوكتاى):
مات «چنگيز خان» فى الصين فى 18أغسطس سنة 1227م 625هـ بعد ما حكم اثنتين وعشرين سنة، وكان يبلغ من العمر ستة وستين عاما. وقد انقضت على موته سنتان قبل أن يتمكن أمراء المغول ورؤساؤهم فى مختلف البلاد التى فتحوها من الاجتماع فى جمعية عمومية «قوريلتاى» لأختيار خليفته وقد انتخب ابنه «أوگداى» فى تاريخ تصادف وقوعه مع موت «جلال الدين» وانتهاء حكمه ال «خوارزمشاه» أو ملوك خوارزم. وقد كان حكم أوگداى قصيرا لأنه مات فى ديسمبر سنة 1241م 639هـ وربما ساعد على التعجيل بموته إدمانه للشراب القوى، وهى خصلة اعتادها المغول من بين ما اعتادوه من خصال سيئة شريرة.
وامتاز حكم «أوگداى» بجملة أشياء من بينها:
1 - تأسيس عاصمة المغول فى «قراقورم» فى سنة 1235م 633هـ
2 - إيفاد بعثة حربية إلى إيران بقيادة «نويان چرماغون».
3 - غزو روسيا و پولندا ما بين سنتى 1236و 1241م 639634هـ وقد ابتلى المغول روسيا و پولندا بنفس الأهوال التى ابتلوا بها إيران فتحمل كثير من مدنهما شناعات المغول وخاصة «موسكو» و «روستوف» و «ياروسلاف» و «تقير» و «شيرنيگوف» و «كييف» و «كراكاو» و «پست».
وفى پولندا وحدها جمع المغول أكياسا ملأوها بآذان ضحاياهم وقتلاهم فبلغ مجموع ما جمعوه 000ر 270أذن، أخذوها معهم دليلا على ما كانوا يفخزون به من بأس وسطوة!!
وازعج المغول بأفعالهم وشناعاتهم العالم المسيحى، فبعث البابا «جريجورى التاسع» خطابا دوريا إلى الأمراء المسيحيين يحثهم فيه على التكاتف لإعلان حرب صليبية على هؤلاء الغزاة من التتر.
ومع ذلك كله فقد كان «أوگداى» بالقياس إلى المغول الآخرين، لين العريكة
كريم الجانب، وقد أجمع المؤرخون الإسلاميون على وصفه بذلك وخاصة مؤلف كتاب «تاريخ جهانگشاى» وكذلك «طبقات ناصرى» (1)، فقد أورد هذان المؤلفان أمثلة كثيرة تبرهن على شدة حبه للشفقة والرحمة وعلى بغضه لإراقة الدماء بغير داع أو سبب، وعلى خصال يخالف فيها ما عرف عن أخيه الأكبر «چغتاى» من غلظة وفظاظة (2).(1/600)
ومع ذلك كله فقد كان «أوگداى» بالقياس إلى المغول الآخرين، لين العريكة
كريم الجانب، وقد أجمع المؤرخون الإسلاميون على وصفه بذلك وخاصة مؤلف كتاب «تاريخ جهانگشاى» وكذلك «طبقات ناصرى» (1)، فقد أورد هذان المؤلفان أمثلة كثيرة تبرهن على شدة حبه للشفقة والرحمة وعلى بغضه لإراقة الدماء بغير داع أو سبب، وعلى خصال يخالف فيها ما عرف عن أخيه الأكبر «چغتاى» من غلظة وفظاظة (2).
كيوك:
عندما مات «أوگداى» تولت امرأته «توراكينا» حكومة البلاد حتى يستطيع ابنها الأكبر «كيوك» العودة إلى «منغوليا» من معاركه التى كان مشغولا بها فى فى روسيا و پولندا عند موت أبيه. وقد امتازت الجمعية العامة التى تم فيها انتخابه بوفرة عدد من حضرها من ممثلى الدول الأجنبية والشعوب الخاضعة لنفوذ المغول، فقد حضرها ممثل للخليفة فى بغداد، وآخر يمثل شيخ الجبل أو رئيس الحشاشين فى الموت، واثنان من الكهنة بعث بهما البابا، وكان أحدهما هو «جان دى پلان كارپان» وقد أشرنا إلى مذكراته فيما سبق، وكان يحمل من البابا خطابات يرجع تاريخها إلى أغسطس سنة 6431245هـ.
وقد استقبل هذان الكاهنان خير استقبال ونجحا فى التأثير على وزيرين من وزراء «كيوك» إسمهما «كدك» و «چنگاج» فاعتنقا الديانة المسيحية واستطاعا بما لهما من مكانة لدى مولاهما التأثير عليه بحيث أخذ يعطف على المسيحية ومعتنقيها.
أما ممثل «الخليفة» وممثل «شيخ الجبل» فقد استقبلا شر استقبال، وطردهما الإمبراطور المغولى من حضرته بعد ما زودهما بكثير من التهديدات التى سرعان ما حققتها الأيام.
والظاهر أن المسيحيين جميعا كانوا على استعداد لأن يتغاضوا عن الشناعات التى
__________
(1) أنظر ص 396380فى طبعة ناساو ليز
(2) أنظر ص 153من «تذكرة الشعراء» تأليف دولتشاه.(1/601)
ارتكبها المغول ضد أبناء دينهم فى روسيا و پولندا وأن يمجدوا المغول كمحطمين لقوة العرب، لأننا نجد أن بعثات أخرى مسيحية تقصد المغول فى هذا الوقت من بينها بعثة «دومنيكية» وصلت إلى حضرة «بايدو» فى إيران فى سنة 1247م 645هـ وكذلك بعتة أخرى بعثها «سانت لويس» فى 10فبراير سنة 1249م 647هـ من «نيكوسيا» عاصمة «جزيرة قبرص» وكان يرأسها «روبريكس» ولكنها لم تصل إلى «قراقورم» إلا فى نهاية سنة 6511253وكان كيوك قد مات وتولى مكانه «منگو»
منگو:
مات «كيوك» فى إبريل سنة 1248م 646هـ فخلفه على عرش المغول ابن عمه «منگو» بن «تولى» بن «جنگيز خان» وقد تم تتويجه فى أول يولية سنة 1251م 649هـ وقد تآمر عليه أحفاد «أوگداى» لخروج الملك من فرعهم ولكن «منگو» أسرع بالقبض عليهم وقتلهم قبل أن تفلح مؤامرتهم.
وعند ما اجتمع ال «قوريلتاى» فى سنة 1251م 649هـ لتتويج «منگو» تقرر ايفاد بعثتين حربيتين، إحداهما إلى الصين والأخرى إلى إيران. فأما الأولى فقد أعطيت رئاستها ل «قبلاى»، وأما الثانية فكانت قيادتها فى يد «هولاگو» وكان كل من هذين القائدين أخا للامبراطور «منگو»
وبدخول هولاكو فى إيران، تبدأ الفترة الثانية من الفترات الثلاث التى ينقسم إليها عهد استعلاء النفوذ المغولى، وهى فترة الإيلخانيين الكفرة التى امتدت من سنة 1256إلى سنة 1295م 695654هـ حينما أصبحت إيران وغرب آسيا قصرا على فرع خاص من الأسرة المغولية المالكة، يتبع إسميا الخان الأكبر فى منغوليا، ولكنه عمليا مستقل استقلالا تاما عنه، حتى قبل أن يعتنق أفراده الديانة الاسلامية وقبل أن يتم اندماجهم بأفراد رعاياهم عند ما لم تعد تربطهم رابطة من الروابط بعشائرهم الوثنية فى منغوليا والصين.
وعلى ذلك فمن الممكن، لكى نصل إلى أغراضنا التى نتحراها، أن نتغاضى عن
ذكر الأعمال المجيدة التى قام بها «قبلاى خان» وأن نمر سراعا، فلا نصف العظمة التى اتصفت بها عاصمته «خان باليق» (1) وهى العظمة التى وصفها الشاعران «كولريدج» و «لونج فيللو» للفارىء الانجليزى وأن نقصر جهودنا على أعمال «هولاگو» (2) وحفدته فى إيران وهم الذين يعرفون باسم: «الإيلخانيين»(1/602)
وعلى ذلك فمن الممكن، لكى نصل إلى أغراضنا التى نتحراها، أن نتغاضى عن
ذكر الأعمال المجيدة التى قام بها «قبلاى خان» وأن نمر سراعا، فلا نصف العظمة التى اتصفت بها عاصمته «خان باليق» (1) وهى العظمة التى وصفها الشاعران «كولريدج» و «لونج فيللو» للفارىء الانجليزى وأن نقصر جهودنا على أعمال «هولاگو» (2) وحفدته فى إيران وهم الذين يعرفون باسم: «الإيلخانيين»
هولاكو:
خرج «هولاگو» من «قراقورم» يوليه سنة 1252م 650هـ مزودا بتعليمات مشدده بأن يستأصل شأفة «الحشاشين» فى «ألموت»، وأن يحطم الحلافة فى بغداد، وكان يصطحب فى حملته عددا كبيرا من المهندسين ورجال المدفعية من أهل الصين ليستعين بخبرتهم فى أعمال الهجوم والمحاصرة. وكان سيره فى البداية وئيدا بطيئا، وأمضى صيف سنة 6521254هـ، فى تركستان ثم وصل إلى سمرقند فى سبتمبر سنة 1255م 653هـ وبقى أربعين يوما. وفى يناير سنة 1256م 654هـ، وصل إلى «كيش» فلاقاه بها «أرغون» الذى كان يتولى حكم إيران من قبل «منگو» منذ سنة 1253م 651هـ وكان فى صحبته كاتبه الأكبر (الوغ بتكجى) بهاء الدين الجوينى وابنه عطا ملك الجوينى. وقد لحق الابن ب «هولاگو» فأصبح كاتبه الخاص وصحبه فى أشد معاركه وحضر معه غارته على حصن «ألموت» معقل الحشاشين، فتمكن بذلك من الرجوع إلى مصادر أصيلة موثوق بها، كان عليها اعتماده فى تأليف كتابه «تاريخ جهانگشاى» الذى طالما أشرنا إليه فى مواضع مختلفة.
الحشاشون أو الاسماعيلية فى ألموت:
تحدثنا فيما سبق عن نشأة الحشاشين أو الاسماعيلية فى ألموت، وقلنا أن أولهم
الحسن بن الصباح
كان «الحسن بن الصباح» الذى كان معاصرا لعمر الخيام، وهو الذى أنشأ «الدعوة
__________
(1) كانت تسمى بأسماء مختلفة منها «خندو» و «كملو» وهى «پكين» الحالية.
(2) الشاعر الانجليزى «» اسمى «هولاكو» فى قصائده باسم «»(1/603)
الجديدة» واستطاع أن يكون مرهوب الجانب منذ استيلائه على حصن «ألموت» فى 6رجب سنة 483هـ 4سبتمبر سنة 1090م ثم مات فى 23مايو سنة 1124م (1) 518هـ.
وكان الحسن رجلا غليظ القلب خالفه ولداه فى بعض تعاليم مذهبه فأمر بقتلهما، وعين أحد أتباعه خليفة له وهو المعروف باسم «كيا بزرگ أميد» وإليه ينتسب الستة الذين أعقبوه فى رئاسة هذا المذهب. فقد خلفه عند مماته ابنه «محمد» فى 20يناير سنة 1138م 533هـ فلما مات فى 21فبراير سنة 1162م 558هـ خلفه ابنه الحسن الذى عرف بين أتباعه باسم «الحسن على ذكره السلام». وقد أعلن الحسن فى جرأة أنه ليس من أحفاد «كيا بزرگ اميد» بل هو من سلالة الفاطميين ومن أعقاب الإمام «نزار بن المستنصر» الخليفة الفاطمى الذى دعا له الإسماعيليون دعوتهم الجديدة، وبهذا الادعاء الجرىء أعلن الحسن نفسه إماما للمذهب وليس داعيا له.
وكان الحسن يريد أن يعلن هذا الادعاء قبل وفاة أبيه. ولكن أباه استطاع أن يكبح جماحه فأسرع بقتل جماعة من أتباعه يبلغون مائة وخمسين رجلا، وشرد مائة وخمسين آخرين فنفاهم خارج حصنه فى ألموت، ولكن الفرصة تهيأت للحسن عند وفاة أبيه فعقد فى 17رمضان سنة 559هـ 8أغسطس سنة 1164م جمعية عامة للاسماعيليين أسماها «عيد القيامة» ثم خطب فيهم بوصفه «إماما» لهم، وأعلنهم أن القرآن قد ألغيت معانيه الحرفية منذ ذلك التاريخ، وأن تعاليم الإسلام لا تشير إلى هذه المعانى الحرفية التى تدل عليها الكلمات بل إلى معان أخرى رمزية تحتاج إلى إيضاح وتفسير!!
وقد قابل أتباعه هذا التصريح خير قبول وأسرعوا إلى العمل بمقتضاه فكان ذلك سببا فى زيادة النفور الذى أجسه أهل السنة لهم، ويقول «رشيد الدين فضل الله» أنه ابتداء من ذلك الوقت أخذ أهل السنة يطلقون عليهم اسم «الملاحدة»، ومن عجب أن الحسن كان يطلق على مقره اسم «مؤمن آباد» أو بلدة المؤمنين!!
__________
(1) اعتمدنا فى هذه التواريخ على ما ذكره صاحب «جامع التواريخ» وقد ذكر هذا الكتاب تفاصيل كثيرة عن الإسماعيلية تزيد على ما ورد عنهم فى تاريخ «جهانگشاى» ولكن هناك قدرا مشتركا بينهما تكاد تتفق كلماته.(1/604)
وإلى «الحسن» يرجع الفضل فى تنمية تعاليم الاسماعيلية وخاصة من ناحيتها الفلسفية وهو الذى أنشأ الدعوة الجديدة التى أسماها ب «دعوة القيامة». وقد انتهى الأمر بقتله فى «لمسر» فى 10يناير 1166م 562هـ على يد صهره «الحسين بن ناماور» أحد أحفاد الديالمة من آل بوية.
ابنه «نور الدين محمد»
وقد تولى مكانه ابنه «نور الدين محمد» فكان أول ما فعله أن أمر بإعدام قاتل أبيه، وكذلك باستئصال البقية الباقية من البويهيين. وقد اتبع تعاليم أبيه، وكان فيما يقولون على نصيب كبير من القدرة الأدبية والمعرفة الفلسفية، كما كان على جانب كبير من القدرة على الإقناع، فاستطاع أن يضم إلى جانبه الفيلسوف الكبير «فخر الدين الرازى» بواسطة «الحجج الدامغة» التى قدمها إليه أى بواسطة الذهب والسيف، فجعله على الأقل يظهر شيئا من الاحترام للمذهب الذى كان يتولى رئاسته. وقد كانت هذه بداية طيبة لفخر الدين الرازى لأن المرتب الكبير الذى كان يتلقاه فى «ألموت» لقاء أن يكف عن ذكر الاسماعيلية بسوء، مكنه فى النهاية من أن يقدم نفسه إلى الأميرين الغوريين «شهاب الدين» و «غياث الدين» وكذلك إلى ملك خوارزم «محمد خوارزمشاه». ومات «محمد بن الحسن على ذكره السلام» فى أول سبتمبر سنة 1210م 607هـ فأعقبه ابنه «جلال الدين» وقد خالف سياسة أبيه وجده فأعلن إلغاء جميع المذاهب، وأعلن نفسه مسلما سنيا، وأصبح يعرف باسم «نومسلمان» أو «المسلم الجديد» وقد أسرع بتقديم خضوعه للخليفة العباسى «الناصر لدين الله» وأخذ يوثق العلاقات بينه وبين أمراء المسلمين، وبعث بأمه إلى مكة لتؤدى فريضة الحج فى سنة 1210م 607هـ. ولكى يقيم الدليل على حسن نواياه بعث إلى فقهاء «قزوين» وهى أقرب البلاد جوارا إلى مقره فى «ألموت» يدعوهم إلى أن يراجعوا الكتب التى يقتنيها وأن يعدموا منها ما يرونه خارجا عن تعاليم الإسلام أو متضمنا لشىء من الإلحاد.
وقد وثق به فى النهاية جميع الناس، وخلع عليه الخليفة الخلع الطيبة وقربه أشد التقريب، فكان ذلك مثارا لحسد ال «خوارزمشاه» مما ترتب عليه اشتداد الخلف بين خوارزم وبغداد بحيث أدى ذلك إلى كثير من النتائج السيئة والعواقب الوخيمة
وقد تحالف مع الأتابك «مظفر الدين أزبك» 12151213 (610 612هـ) ضد «ناصر الدين منگلى» وكان الوحيد من بين «مشايخ الجبل» الذى
استطاع أن يقضى ما يقرب من سنة ونصف السنة خارج معاقل الإسماعيلية فى العراق وأران وأذربيجان، وقد تحالف فى بداية الأمر مع «جلال الدين خوارزمشاه» ولكن عندما أخذت طلائع «جنگيز خان» تتقدم فى داخل إيران، وجد من الحكمة أن يتحالف مع هذا الفاتح الوثنى، فكان رسله أول من قدموا خضوعهم له بعد ما عبر بجيوشه نهر جيحون. وربما أثارت فعلته هذه حنق أتباعه وسخطهم عليه فبعد قليل من الزمن نجده يموت مسموما على يد إحدى نسائه فيما يقولون، فى الثانى أو الثالث من شهر نوفمبر سنة 1220م 617هـ وقد خلفه ابنه الوحيد «علاء الدين» ولم يكن عمره يزيد على تسع سنوات فتولى الوصاية عليه وزيره، وكانت فاتحة أعماله أن أمر بقتل جماعة من النساء اللائى كن فى حريم «جلال الدين نو مسلمان» بحجة أنهن تآمرن على قتله، كما أمر بحرق بعضهن وهن على قيد الحياة. وقد ذكر «رشيد الدين» فى كتابه، أن «علاء الدين» لم يكد يبلغ الخامسة عشرة من حياته حتى أصيب بعارض شديد من الماليخوليا بحيث أصبح من الخطر على أى إنسان أن يقربه ليفضى إليه بأنباء لا تسره أو ليخبره بأمور لا ترضيه. وفى أيامه تمكن الحاكم الاسماعيلى ل «قهستان» واسمه «ناصر الدين» (1) من أن يختطف المنجم المشهور.(1/605)
وقد تحالف مع الأتابك «مظفر الدين أزبك» 12151213 (610 612هـ) ضد «ناصر الدين منگلى» وكان الوحيد من بين «مشايخ الجبل» الذى
استطاع أن يقضى ما يقرب من سنة ونصف السنة خارج معاقل الإسماعيلية فى العراق وأران وأذربيجان، وقد تحالف فى بداية الأمر مع «جلال الدين خوارزمشاه» ولكن عندما أخذت طلائع «جنگيز خان» تتقدم فى داخل إيران، وجد من الحكمة أن يتحالف مع هذا الفاتح الوثنى، فكان رسله أول من قدموا خضوعهم له بعد ما عبر بجيوشه نهر جيحون. وربما أثارت فعلته هذه حنق أتباعه وسخطهم عليه فبعد قليل من الزمن نجده يموت مسموما على يد إحدى نسائه فيما يقولون، فى الثانى أو الثالث من شهر نوفمبر سنة 1220م 617هـ وقد خلفه ابنه الوحيد «علاء الدين» ولم يكن عمره يزيد على تسع سنوات فتولى الوصاية عليه وزيره، وكانت فاتحة أعماله أن أمر بقتل جماعة من النساء اللائى كن فى حريم «جلال الدين نو مسلمان» بحجة أنهن تآمرن على قتله، كما أمر بحرق بعضهن وهن على قيد الحياة. وقد ذكر «رشيد الدين» فى كتابه، أن «علاء الدين» لم يكد يبلغ الخامسة عشرة من حياته حتى أصيب بعارض شديد من الماليخوليا بحيث أصبح من الخطر على أى إنسان أن يقربه ليفضى إليه بأنباء لا تسره أو ليخبره بأمور لا ترضيه. وفى أيامه تمكن الحاكم الاسماعيلى ل «قهستان» واسمه «ناصر الدين» (1) من أن يختطف المنجم المشهور.
«نصير الدين الطوسى» مؤلف الرسالة الأخلاقية المعروفة باسم «أخلاق ناصرى» وأن يبعث به إلى حصن «ألموت» حيث أقام كارها حتى تمكن المغول من فتحه والاستيلاء عليه. وقد كان لهذه الحادثة دلالة مزدوجة من حيث الناحية الأدبية والناحية التاريخية، فهى من الناحية الأدبية قد أتاحت لبعض الرواة أن يخلطوا بين الأسماء المتشابهة فيضمنوا طرفا من هذه القصة فى الترجمة الزائفة التى وضعت عن حياة «ناصر خسرو» الذى كان يعيش قبل ذلك بما يزيد على قرن ونصف القرن من الزمان أما من حيث الناحية التاريخية فأهميتها ناتجة من أننا نعلم أن «نصير الدين الطوسى» هو أول من حرض «ركن الدين خورشاه» إلى أن يسلم نفسه للمغول الغادرين (2)، ثم هو الذى أشار على «هولاگو خان» بأن غضب السماء سوف لا ينصب عليه إذا هو
__________
(1) أهدى «الطوسى» كتابه إلى هذا الحاكم الاسماعيلى، ولكنه فى نسخة أخرى اعتذر عن هذا الاهداء وعن بعض المواضع التى أبدى فيها ميله إلى المذهب الاسماعيلى.
(2) أنظر ص 259من ترجمتى الانجليزية ل «تاريخ طبرستان» تأليف ابن اسفنديار.(1/606)
أقدم على قتل «المستعصم بالله» آخر خلفاء بنى العباس (1)!! وما أعجب تهكمات القدر التى سمحت لهذا الخائن المخادع أن يكتب رسالة فى الأخلاق، لا زالت تعتبر من أجمل ما كتب فى موضوعها باللغة الفارسيه!
وقد تزوج «علاء الدين» وهو صغير، ولم يكد يبلغ الثامنة عشرة من عمره حتى أنجب أول أولاده «ركن الدين خورشاه» فجعله خليفة له على الإسماعيلية، ولكن أفعال الأيام جعلت الحسد يدب بينهما بحيث سعى الوالد إلى خلع ابنه، وعمل جاهدا على ذلك ولكن الإسماعيلية رفضوا أن يجيبوه إلى ما طلب، لأنهم يدينون بالمذهب القديم الذى ينص على أن ولاية العهد متى صدرت من إمام له الحق فى منحها فلا يمكن بحال من الأحوال الرجوع أو التحول عنها. وقد ترتب على هذه الظروف أن وجد «علاء الدين» مقتولا فى «شيركوه» فى آخر شوال سنة 653هـ أول ديسمبر سنة 1255م، وقد بادر ابنه «ركن الدين» إلى الأمر بإعدام قاتله «الحسن المازندرانى» وإحراق جثته، ولكن الأقاويل ثارت بأنه هو الذى حرضه على قتل أبيه!! وقد برهن على صحة هذه الأقاويل «رشيد الدين» فقال أن «ركن الدين» بادر إلى إعدام قاتل أبيه ولم يتبع معه الطرق القانونية العادية خشية أن يفضى أثناء التحقيق بما حرص على إخفائه!!
وقد ذكر هذا المؤرخ أن من يقتل أباه لا يستطيع أن يفلت من عقاب الله، وساق على ذلك الأمثلة الكثيرة كحادثتى «شيرويه الساسانى» و «المنتصر» الخليفة العباسى فقد قتل كلاهما أباه فلم يعيشا إلا فترة قصيرة، ثم أشار إلى هذه المصادفة الغريبة التى أدت ب «ركن الدين» إلى أن يسلم نفسه لقاتليه بعد سنة هجرية كاملة من مقتل أبيه حينما سلم نفسه للمغول فى آخر شوال سنة 654هـ الأحد 19نوفمبر سنة 1256م.
* * * __________
(1) أنظر كتاب «دوسون» المجلد الثالث، الفصل 4، 5.(1/607)
حملة «هولاگو»
فإذا عدنا الآن إلى حملة «هولاگو» التى تركناها فى مدينة «كيش» فى يناير سنة 1256م 654هـ فإننا نجده يتحول سريعا إلى معقلين من معاقل الاسماعيلية فى ولاية قهستان فيستخلصهما فى مارس سنة 1256م وهما «تون» و «خواف» وقد أمر بإعدام كل من يزيد عمره على عشر سنوات من سكان مدينة خواف ولم يستثن إلا عددا قليلا من الفتيات الجميلات، أبقى عليهن ليتحملن حظا هو فى الحقيقة أكثر سوءا وأشد بؤسا من الموت!!
ثم استعمل «هولاگو خان» الطرق المغولية المعروفة، فنشر الوعود الكاذبة، رجاء أن يجنى من ورائها كل ما يريد، قبل أن يجرد سيفه من غمده فلا يستطيع أحد أن يوقفه ولا تستطيع الدماء أن تروى ظمأه وتنازعت المخاوف روح «ركن الدين» ولم يكن له من الجرأة ما يدفعه إلى المقاومة حتى النهاية المريرة ولم يكن له من الحزم وبعد النظر ما يدفعه إلى الإسراع بتقديم خضوعه للمغول حتى يستطيع بذلك من أن يتعلق بأمل واه فى إطالة حياته الشائنة، بل استمر على تردده وتراخيه فترة من الزمان وأخذ يساوم المغول، ولكنه أعطاهم كل ما يريدون ولم يحصل منهم إلا على وعود كاذبة، وما زالوا يضيقون عليه الخناق حتى رضى بأن يسلمهم بعض حصونه ومعاقله على شريطة ألا يعدموا حاميتها وسكانها، ثم أرسل أخاه «شاهنشاه» ومعه ثلثمائة رجل إلى «هولاگو خان» ليستبقيهم لديه كرهائن. ولكن «هولاگو» سرعان ما التمس بعض الأعذار فأمر بقتل «شاهنشاه» فى بلدة «جمال آباد» (1) بالقرب من قزوين، ثم اتبع ذلك بقتل جميع الاسماعيلية الذين سلموا معاقلهم له، ولم يستثن من ذلك أحدا منهم بل وقتل الأطفال فى مهادهم!! واستيأس جماعة من أشداء الاسماعيليه فى مقاومة المغول وحصل لهم «ركن الدين خورشاه» على عفو كتابى (يرليغ) من هولاگو خان ولكنهم استمروا على مدافعة المغول واستطاعوا أن يقتلوا عددا كبيرا منهم. غير أن هذه المحاولات جميعها لم تستطع أن تؤجل النهاية التى كانت تنتظر طائفة الاسماعيلية حينما سلم «ركن الدين» نفسه إلى المغول فى 19نوفمبر سنة 1256م 654هـ وحينما
__________
(1) أشار «الجوينى» إلى أن القزوينيين اعتادوا بعد هذه الحادثة أن يستعملوا عبارة «ذهب إلى جمال آباد» بمعنى ذهب إلى حتفه.!!(1/608)
ستولى المغول على قلعتى «ألموت» و «ميمون دژ» فأعملوا فيهما الغارة ثم اشعلوا فيهما النار بعد ذلك.
عطا ملك الجوينى والتواليف القيمة
وقد استطاع «عطا ملك الجوينى» أن يستأذن مولاه «هولاگو خان» فى أن يحتجز لنفسه جملة من التواليف القيمة التى اشتملت عليها مكتبة «ألموت» الشهيرة، وأن يحتفظ كذلك ببعض الأدوات التى استعملوها فى رصد النجوم، وتمكن من أن يترك لنا فى مقابل ذلك وصفا رائعا للمهارة الفائقة التى بنى على أساسها حصن «ألموت» بحيث أصبح من الأماكن الحصينة التى لا يمكن اختراقها. وقد نقل لنا عن كتاب تاريخى وجده فى هذا الحصن وكان من تأليف «فخر الدولة البويهى» أن هذا المؤلف يذكر أن الذى بنى هذا الحصن هم أمراء الديلم فى سنة 246هـ 860م.
واستولى المغول بعد ذلك على بقية معاقل الاسماعيلية فى إيران (1) فأخذوا «لمسر» فى 4يناير سنة 1257م (655هـ) ولكنهم لم يستطيعوا أن يأخذوا «گردكوه» حتى سنة 658هـ 1260م وكان «منهاج السراج» قابعا فيه على تدوين كتابه «طبقات ناصرى».
وأخذ المغول «ركن الدين خورشاه» إلى همدان وأحسنوا معاملته وسمحوا له بأن يتزوج فتاة مغولية أعجب بها، ومنحوه مائة من الجياد الفارهة كان يتسلى برؤيتها وهى تتعارك مع بعضها، وهى متعة مرذولة لم تكن لتليق بحالته ومكانته، وربما كانت أكثر خسة من الهواية الغريبة التى اشتهر بها أبوه وهى غرامه برعى الأغنام!!
وفى 19مارس سنة 1257م 655هـ أرسله المغول (2) إلى «قراقورم» ليقدم نفسه إلى الامبراطور المغولى «منگو خان» وفى أثناء الطريق اضطروه إلى أن يأمر ضباطه فى «قهستان» بتسليم قلعتهم إلى المغول، ففعلوا ذلك بعد ما أمنهم المغول على حياتهم، ولكنهم ما لبثوا أن قتلوا من السكان الآمنين اثنى عشر ألفا بمجرد تحرك
__________
(1) كان للاسماعيلية فرع آخر فى سوريا، لم يقض عليه كما قضى على أخيه فى إيران وما زالت بقية من الفرع السورى باقية حتى الآن.
(2) ذكر «الجوينى» و «رشيد الدين» أن ذهابه إلى قراقورم كان بناء على طلبه ولكنا لا نوافقهما على ذلك.(1/609)
ركاب «ركن الدين» فى طريقه إلى «قراقورم». فلما وصل ركابه إلى بخارى أساء حراسه معاملته، ولم يكد يصل إلى قراقورم حتى أمر «منگو خان» بقتله قائلا:
أنه كان من السفه استعمال خيول البريد فى نقله إلى قراقورم!!
وأمر بعد ذلك بقتل جميع أتباعه حيثما كانوا. ولا شك أن العدد الذى هلك منهم كان كبيرا جدا، ولكن مما لا شك فيه أيضا أن الإبادة لم تشملهم جميعا، فلا زالت لهم بقايا فى إيران كما أخبرنى بذلك «درويش كرمانى» من البابية، رأيته فى القاهرة فى سنة 1903، ولهم بقايا فى الهند باسم «خواجه» أو «چترال» وكذلك لهم بقايا فى الزنجبار وسوزيا وفى أماكن أخرى غير تلك، ولكن يجب أن اعترف بأننى محتاج إلى كثير من التعب والعناء لكى أتمكن من أن أربط بين رئيسهم الحالى «أقا خان» الذى يمتاز بالرقة والوداعة، وبين «مشايخ الجبل» فى حصن ألموت كما أسماهم بذلك «ماركوپولو» فى رحلته المشهوره.
الهجوم على بغداد
الإنذارا إلى الخليفة «المستعصم بالله»
فاز «هولاگو خان» بعد القضاء على «الحشاشين» بإعجاب أهل السنة فى العالم الإسلامى. ولكن خطوته التالية اقترنت بكثير من الرعب الذى لم يتمكن من إخفائه أشد الناس تحفظا وأكثرهم حرصا على كتمان الأمور فبعد انقضاء ستة أشهر على خروج «ركن الدين خورشاه» إلى قراقورم ليلاقى حتفه هنالك، أرسل هولاگو خان من مقره فى «همدان» إنذارا إلى الخليفة «المستعصم بالله» بأن يسلم نفسه إليه وأن يسلمه كذلك مدينة بغداد التى ظلت عاصمة للمسلمين طيلة القرون الخمسة الماضية. وانقضى على ذلك شهران ثم بدأ «هولاگو خان» معركته فى نوفمبر سنة 1257م 655هـ وكان يستصحب معه جملة من أمراء المسلمين من بينهم أتابك شيراز «أبو بكر بن سعد بن زنگى» الذى عرف برعايته للشاعر الكبير «سعدى» وكذلك أتابك الموصل «بدر الدين لولى» الذى يشير إليه «ابن الطقطقى» كثيرا فى كتاب الفخرى وكان يرافقه كذلك كاتبه «عطا ملك الجوينى» مؤلف «تاريخ جهانگشاى» وكذلك المنجم المعروف «نصير الدين الطوسى».(1/610)
وكان الخليفة العباسى قد بادر بإرسال «شرف الدين عبد الله بن الجوزى» إلى «هولاگو خان» فى همدان، وزوده برسالة إليه، ولكن هذا القائد المغولى اعتبر رسالة الخليفة غير مرضية وغير قاطعة، فأخذ يوجه الجزء الأساسى من جيشه إلى بغداد ليحيط بها من ناحية الشرق، وأمر جيشا آخر بقيادة «باجو نويان» أن يتحرك من الشمال عن طريق تكريت بالقرب من الموصل، وأن يلتف حول المدينة من ناحية الغرب. وكان قوام الجيش الأول كما يقول ابن الطقطقى (1) يزيد على ثلاثين ألف محارب، بينما يقول مؤلف كتاب «طبقات ناصرى» (2) إن قوام الجيش الثانى كان يبلغ ثمانين ألف جندى (3)، وأن جيش الخليفة فى بغداد لم يكن يزيد على عشرين ألف مقاتل.
تلاقي جيوش المغول مع جيوش الخليفة فى تكريت
وتلاقت جيوش المغول مع جيوش الخليفة فى تكريت، واستطاع جند الخليفة أن يحطموا الجسر القائم على «دجلة» وكان القائد المغولى «باجو نويان» يريد العبور بواسطته، ولكن انتصارهم هذا كان قصير الأمد وما لبث المغول أن اندفعوا إلى «دجيل» و «الإسحاقى» ونهر الملك ونهر عيسى وأماكن أخرى كثيرة بالقرب من بغداد. واستولى الفزع على سكان هذه البلاد فأخذوا يفرون أمام المغول لائذين بعاصمتهم الكبيرة بغداد. واستغل ملاحو القوارب حالة الفزع هذه، فأخذوا ينقلون الشخص من شاطى إلى آخر لقاء أجر كبير أو لقاء سوار ذهبى أو بعض الأمتعة الثمينة الغالية كما حدثنا بذلك صاحب كتاب الفخرى.
تلاقي الجيوش المرة الثانية بالقرب من دجيل
ثم تلاقت جيوش المغول وجيوش الخليفة للمرة الثانية بالقرب من دجيل فى يوم 11 يناير سنة 1258م 656هـ وتمكن جيش الخليفة بقيادة «مجاهد الدين ايبك» الملقب بالدويدار الصغير، و «الملك عز الدين بن فتح الدين» من إحراز نصر صغير رغم قلة الجند الذين كانوا تحت قيادتهما، ولكن المغول انتظروا إلى الليل واستعانوا بالمهندسين الصينيين الذين كانوا فى رفقتهم، ثم غمروا معسكر المسلمين بالماء
__________
(1) أنظر ص 300من كتاب الفخرى طبع القاهرة سنة 1317هـ.
(2) أنظر ص 426من هذا الكتاب طبع ناساو ليز.
(3) ربما بالغ المؤلف فى هذا التقدير.(1/611)
فتمكنوا بذلك من إنزال الهزيمة بجيوش الخليفة ومن الإيقاع بالمشاة والأسرى الذين وقعوا فى أيديهم بعد ذلك.
وعندما تحدث صاحب كتاب الفخرى عن فتح العرب لايران فى القرن السابع الميلادى ذكر أن جنود الايرانيين كانوا مزودين بخير العدة والعتاد فأخذوا يتهكمون بالبدو من العرب الذين لم يكونوا يتدثرون إلا بالخرق البالية المهلهلة ثم قارن هذه الحادثة بحادثة رواها له «فلك الدين محمد بن أيدمر» عند قدوم المغول إلى بغداد فقال: «كنت فى عسكر الدويدار الصغير لما خرج إلى لقاء التتر بالجانب الغربى من مدينة السلام فى واقعتها العظمى سنة ست وخمسين وستمائة، قال فالتقينا بنهر بشير من أعمال دجيل، فكان الفارس منا يخرج إلى المبارزة وتحته فرس عربى وعليه سلاح تام، كأنه وفرسه الجبل العظيم، ثم يخرج إليه من المغول فارس تحته فرس كأنه حمار وفى يده رمح كأنه المغزل، وليس عليه كسوة ولا سلاح فيضحك منه كل من رآه ثم ما تم النهار حتى كانت لهم الكرة فكسرونا كسرة عظيمة كانت مفتاح الشر، ثم كان من الأمر ما كان.» (1)
عدد الهلكى في بغداد
وقد هلك عدد كبير ممن نجوا من المعركة فى الأوحال التى نتجت عن غمر الأراضى بالماء، ولم ينج منهم إلا من استطاع أن يعبر النهر سباحة وإن يدخل البرية ويمضى على وجهه إلى الشام، وقد نجا الدويدار مع جماعة صغيرة من أتباعه واستطاعوا أن يدخلوا بغداد. ثم أخذ هو و «عز الدين» يحرضان الخليفة على مغادرة بغداد والذهاب إلى البصرة ولكن الوزير «ابن العلقمى» لم يوافقهما على هذه الخطة وتردد الخليفة ولم يستطع أن يقطع برأى وإذا بجيوش المغول تحيط ببغداد من كل ناحية وتضرب عليها الحصار ابتداء من 22يناير (الخميس 4محرم سنة 656هـ).
وبدأ المغول هجومهم العام فى الثلاثين من هذا الشهر، وبعد أربعة أيام أرسل الخليفة رسوله «ابن الجوزى» ثانية إلى هولاگو خان ليقدم له فى هذه المرة كثيرا من الهدايا القيمة مشفوعة برضاه بالتسليم ووقف القتال ولم تمض على ذلك بضعة أيام حتى
__________
(1) أنظر ص 76من كتاب الفخرى طبع القاهرة سنة 1317هـ.(1/612)
خدعه المغول بالوعود الكاذبة فسلم نفسه إليهم مع ولديه الأكبرين «أبى العباس أحمد» و «أبى الفضائل عبد الرحمن»، ولكن «هولاگو خان» سرعان ما أمر بإعدامهم جميعا دون شفقة أو رحمة [فى 4صفر سنة 656هـ].
أما الطريقة التى اتبعها المغول فى قتل الخليفة
فيحوطها كثير من الشك والغموض، وقد ذكر الشاعر الانجليزى «لونجفلو» فى قصيدة «كمبالو» إنهم حبسوا الخليفة فى خزانته وبيت ماله وتركوه هنالك يموت جوعا!!
ولكن هذه الرواية بعيدة عن الاحتمال، وربما كان أقرب منها إلى التصديق الرواية التى ذكرها المؤرخون الإسلاميون حينما قالوا أن المغول لفوا الخليفة فى سجادة ثم انهالوا عليه ضربا بعصيهم ودبابيسهم حتى مات. ومما يؤيد أنهم اتبعوا هذه الطريقة أو ما يشابهها فى قتل الخليفة أنهم كانوا يحرمون إهراق الدم الملكى، وكانوا إذا رادوا إعدام أحد أمرائهم يتبعون طريقة وحشية اختصوا بها فى إعدام الأمراء فلا يقتلونهم بالسلاح بل يكتفون بكسر ظهورهم!!
وبدأت الغارة على بغداد فى يوم 13فبراير سنة 1258م منتصف المحرم سنة 656هـ
واستمرت أسبوعا كاملا، أعدم فيه المغول عددا يبلغ الثمانمائة ألف من سكانها، واستولوا خلاله على الكنوز المادية والأدبية والعلمية التى اجتمعت فى بغداد خلال القرون الطويلة الماضية التى ظلت فيها بغداد عاصمة زاهرة لخلفاء العباسيين.
أما الخسارة التى أصابت الحركة العلمية الإسلامية
فلا يمكن وصفها مهما أعملنا فى ذلك ضروب الفكر والخيال ولم ينحصر أثر هذه الكارثة فى خسارة العدد الكبير من الكتب القيمة التى أبيدت تمام الإبادة، ولكنها امتدت فأهلكت من رجال العلم عددا كبيرا ولم تبق منهم إلا على فئة قليلة مشردة الأذهان، بحيث نجد أن الدراسة الصحيحة والبحث العلمى اللذين امتازت بهما من قبل دراسة الآداب العربية لم تقم لهما قائمة بعد هذه الكارثة. ولم يحدثنا التاريخ أن مدنية زاهرة كالحضارة الإسلامية قد اختفت فى مثل هذه السرعة التى اختفت فيها هذه المدنية وأصبحت طعمة تلتهمها النيران المستعره وتغرقها الدماء المهرقة.
ثم تبع ذلك كما يقول صاحب كتاب الفخرى: «أن تقحم العسكر السلطانى
هجوما ودخولا، فجرى من القتل الذريع والنهب العظيم والتمثيل البليغ ما يعظم سماعه جملة، فما الظن بتفاصيله؟!(1/613)
ثم تبع ذلك كما يقول صاحب كتاب الفخرى: «أن تقحم العسكر السلطانى
هجوما ودخولا، فجرى من القتل الذريع والنهب العظيم والتمثيل البليغ ما يعظم سماعه جملة، فما الظن بتفاصيله؟!
وكان ما كان مما لست أذكره ... فظن ظنا ولا تسأل عن الخبر
الخ» (1)
هذا ما قاله صاحب كتاب «الفخرى» بعد أربعة وأربعين سنة من هذه الكارثة (لأنه كتب كتابه فى سنة 1302م 702هـ) ولم يكن طليق العنان يكتب ما يشاء ويسجل ما يريد ولكنه كان يكتب ما يكتب وهو يعلم أنه يعيش تحت حكم مغولى أيام غازان حفيد هولاگو خان.
ابن العلقمى:
والدور الذى لعبه فى تسليم بغداد
أما الدور الذى لعبه وزير الخليفة «مؤيد الدين محمد بن العلقمى» فى تسليم بغداد فيحوطه كثير من الشك والغموض، فصاحب «طبقات ناصرى» يتهمه بالخيانة وإنه قلل من عدد الحامية متعمدا، وإنه هو الذى زين للخليفة التسليم ووقف القتال، وأنه كان يريد من وراء ذلك إرضاء أطماعه المتزايدة وكذلك الانتقام لبعض الاضطهادات التى أنزلها ابن الخليفة الأكبر بأهل الشيعة الذين كان يدين بمذهبهم.
أما «ابن الطقطقى» فيدفع عنه هذه التهم مستندا إلى ما ذكره له «أحمد بن الضحاك» وهو ابن أخت الوزير ابن العلقمى من أن نصير الدين الطوسى هو الذى قدم الوزير إلى هولاگو خان فسمع كلامه ووقع موقع الاستحسان عنده ثم قدمه إلى شحنة بغداد «على بهادر» فسلمه المدينة ويعلق «ابن الطقطقى» على ذلك «بأن من أقوى الأدلة على عدم مخامرته سلامته فى هذه الدولة، فإن السلطان هولاگو لما فتح بغداد وقتل الخليفة سلم البلد إلى الوزير وأحسن إليه وحكمه، فلو كان قد خامر على الخليفة لما وقع الوثوق إليه!!» (2)
ولكن يجب ألا يغيب عن أذهاننا أن «ابن العلقمى» وكذلك «نصير الدين الطوسى» كانا من أهل الشيعة، وأن الثانى منهما رغم كتابته فى الموضوعات
__________
(1) المترجم: أنظر ص 300من كتاب الفخرى طبع مصر سنة 1923م.
(2) نفس المرجع والصحيفة.(1/614)
الأخلاقية والدينية قد أنكر جميل مضيفيه من الاسماعيلية، كما ساعد على الإيقاع بالخليفة فى سبيل أن يرضى فاتحا وثنيا سفاكا للدماء مثل هولاگو!! ولما كان «ابن الطقطقى» شيعيا مثل هذين تماما، فإنى شخصيا أرى أن ما ذكره فى كتاب الفخرى عن هذه الواقعة، يجب تأويله تأويلا مضادا للرأى الذى رآه.
ولكى نوفق بين آرائنا وبين ما نعرفه عن المغول وخاصة هولاگو خان، يجب أن نفترض أن «ابن العلقمى» قد خدعته الوعود الطيبة التى بذلها له المغول، ثم أعماه التعصب المذهبى، فزين له تفضيل الوثنى الكافر على من يخالف مذهبه من أهل دينه. وربما انضم إلى ذلك أنه كان على وفاق مع «نصير الدين الطوسى» الذى أصبح وزيرا لهولاگو خان والذى كان مثله أيضا من أهل الشيعة، فقبل من أجل هذه الفروض جميعها أن يخون الخليفة وأن يخون بغداد وأن يسلمهما معا إلى المغول ليفعلوا بهما ما يشاءون. وقد قربه المغول كعادتهم، حتى إذا اعتصروا عصارته ونالوا منه ما يريدون تخلصوا منه فى قليل من الزمن. وربما يؤيد هذا الرأى إننا نجد أن حياته لا تمتد إلا إلى ثلاثة أشهر بعد موت الخليفة أى إلى مايو سنة 1258م جمادى الأولى سنة 656هـ
ومع كل هذا يجب أن نقرر أن الأمر مستغلق، وأنه سيظل مستغلقا غامضا ما شاء الله له أن يكون، فإذا لم تشأ أن تدعو للوزير بالرحمة كما فعل ابن الطقطقى، فلا أقل من أن تمتنع عن لعنته كما فعل صاحب «طبقات ناصرى». ومن الملاحظ أن هذا الأخير يتغالى فى سنيته أكثر مما يتغالى «ابن الطقطقى» فى تشيعه.
المستعصم:
ويبدو لنا من الفصل الأخير من كتاب «الفخرى» وهو الفصل الذى خصصه للخليفة المستعصم، أن الخليفة كان لين الجانب سهل العريكة مستضعف الرأى، وأنه لم يكن الشخص المناسب لمدافعة هذا الخطر الداهم الذى شقيت به أيامه والذى انتهى بالقضاء عليه شخصيا فى قليل من الزمن.
وكان «المستعصم» خيرا، متدينا، عفيف اللسان، عالما، مليح الخط، يكثر القراءة فى الكتب، خفيف الوطأة على أتباعه ولكنه كان برغم هذه الخصال الطيبة رعديدا مترددا، ضعيف البطش، قليل الخبرة بأمور المملكة. وقد رفض أن يتبع سنة آبائه الذين كانوا يحبسون أولادهم وأقاربهم مخافة أن يتآمروا على خلعهم ويستأثروا بالسلطة
لأنفسهم. وقد حكوا عنه أن خويدما صغيرا كان يقوم على خدمته، نام قريبا من الأريكة التى كان يجلس عليها الخليفة فى خزانة كتبه، وكان الخليفة فى ذلك الوقت جالسا يقرأ، فاستغرق الغلام فى النوم وتقلب حتى تلفف فى الملحفة المبسوطة على الأريكة ثم تقلب حتى صارت رجلاه على المسند، فأشار الخليفة إلى خازن الكتب أن يترفق بالغلام وألا يوقظه حتى يخرج من الحجرة خشية أن تنفطر مرارته من الخوف إذا علم بما فعل!!(1/615)
وكان «المستعصم» خيرا، متدينا، عفيف اللسان، عالما، مليح الخط، يكثر القراءة فى الكتب، خفيف الوطأة على أتباعه ولكنه كان برغم هذه الخصال الطيبة رعديدا مترددا، ضعيف البطش، قليل الخبرة بأمور المملكة. وقد رفض أن يتبع سنة آبائه الذين كانوا يحبسون أولادهم وأقاربهم مخافة أن يتآمروا على خلعهم ويستأثروا بالسلطة
لأنفسهم. وقد حكوا عنه أن خويدما صغيرا كان يقوم على خدمته، نام قريبا من الأريكة التى كان يجلس عليها الخليفة فى خزانة كتبه، وكان الخليفة فى ذلك الوقت جالسا يقرأ، فاستغرق الغلام فى النوم وتقلب حتى تلفف فى الملحفة المبسوطة على الأريكة ثم تقلب حتى صارت رجلاه على المسند، فأشار الخليفة إلى خازن الكتب أن يترفق بالغلام وألا يوقظه حتى يخرج من الحجرة خشية أن تنفطر مرارته من الخوف إذا علم بما فعل!!
وكان الوزير «ابن العلقمى» يشبه مولاه من حيث شغفه بالكتب وتقريبه لرجال العلم والأدب، وقد احتوت مكتبته على عشرة آلاف مجلد من نفائس الكتب، وقد صنف له الناس كثيرا من الكتب، وأهداه كثير من الشعراء دواوينهم. وكان كما يقول ابن الطقطقى وهو الذى اعتمدنا عليه فى استقاء هذه الأخبار عفيفا عن أموال الديوان وأموال الرعية، متنزها مترفعا.
وقد كنت أحب أن أفعل كما فعل صاحب كتاب «طبقات ناصرى» فأختتم هذا الجزء من كتابى بهذا الملخص التاريخى الذى أوردته فيما سبق، وطالما تمنيت ألا تكون نهايته مفجعة مثل هذه النهاية الحزينة التى وصلنا إليها عندما نزلت هذه الطامة الكبرى بالإسلام وبالحضارة «العربية الفارسية» التى ازدهرت أيام الخلافة العباسية، ولكن بقى أمامى أن أتم هذا الجزء بالحديث (فى فصلين تاليين) عن الحركة الأدبية التى نشأت فى هذه الفترة التى أجملنا الحديث عنها سياسيا، وهى فترة تستغرق الخمسين أو الستين سنة الأولى من القرن الثالث عشر الميلادى. (السابع الهجرى)
ولا شك أننا بهذا نوفى موضوعنا الأصيل الذى اخترنا الكتابة فيه وهو «تاريخ الأدب فى إيران» وإنى أرجو أن أكمله فى مجلد آخر أو أكثر، حتى أصل به إلى الحديث عن الأدب فى إيران فى أوقاتنا الحاضرة.(1/616)
جدول بأسماء كتاب العصر المغولى الأول [وفقا لورود ذكرهم فى الفصل التالى]
1 - أصحاب التواريخ العامة ابن الأثير
ابن العبرى
منهاج السراج
جرجيس المسكين
2 - أصحاب التواريخ الخاصة الجرباذقانى
الفتح البندارى
عطا ملك الجوينى
أحمد النسوى
3 - كتاب التراجم ابن خلكان
القفطى
ابن ابى أصيبعة
محمد عوفى
4 - أصحاب التواريخ المحلية ابن اسفنديار
ابو عبد الله الدبيتى
جماعة آخرون
5 - الجغرافيون والرحالون ياقوت الرومى
زكريا القزوينى
ابن جبير
6 - الفلاسفة فخر الدين الرازى
نصير الدين الطوسى
7 - أصحاب التواليف العربية ابن ميمون
البونى
ابن البيطار
التيفاشى
عز الدين الزنجانى
جمال القرشى
ابن الحاجب
المطرزى
ضياء الدين ابن الأثير
مجد الدين ابن الأثير
البيضاوى
ياقوت المستعصمى
8 - مؤلفون آخرون أبو نصر الفراهى
شمس قيس الرازى
9 - كتاب الصوفية روزبهان
نجم الدين كبرى
مجد الدين البغدادى
سعد الدين الحموى
شهاب الدين السهروردى
محيى الدين بن العربى
عمر بن الفارض(1/617)
الفصل الثامن كتاب العصر المغولى الأول 660600هـ 12621203م
مقدمة:
سأتحدث فى هذا الفصل عن أهم الكتاب الذين ظهروا فى العصر الذى تحدثت عنه فى الفصل السابق، وسأترك الحديث عن «شعراء الفرس» إلى فصل لاحق لأن ثلاثة منهم على الأقل تكفى أخبارهم لملء هذا الفصل الذى سيكون خاتمة فصول هذا الكتاب. وهؤلاء الكتاب ينقسمون إلى ثلاثة أقسام متباينة:
1 - كتّاب ولدوا فى «إيران» وكتبوا كل كتاباتهم أو أغلبها باللغة الفارسية.
2 - كتّاب ولدوا فى «إيران» وكتبوا كل كتاباتهم أو أغلبها باللغة العربية.
3 - كتّاب ليسوا من أصل إيرانى وكتبوا بالعربية، ولكن لا يمكن التغاضى عن ذكرهم لما لهم من صلة خاصة بايران، وبالموضوعات الفارسية، أو لما لهم من أثر هام فى العالم الإسلامى عامة. ومن أجل ذلك كان لزاما علينا أن نتحدث عنهم بعض الشىء فى هذا الكتاب الذى خصصناه أصلا لدراسة النشاط الأدبى فى إيران دون غيرها من الأقطار.
ولكن بعض الدوافع العملية تجعل من المناسب إهمال هذا التقسيم، وتفرض علينا أن نتناولهم جميعا بالبحث طبقة طبقة، وفقا للموضوعات التى تناولوها بالكتابة، دون تفرقة بين من كتب منهم بلغة من اللغات أو بأخرى، ذلك لأن اللغة العربية كانت إلى ذلك الوقت منتشرة فى إيران، يصاغ فيها كثير من الأدب والعلم والثقافة وقد ظلت محافظة على مالها من مكانة عالية فى هذه الديار حتى انتهى الأمر بسقوط الخلافة وتخريب بغداد عاصمة الإسلام وحاضرة المسلمين.
فلنبدأ إذن بذكر المؤرخين وأصحاب التراجم والجغرافيين وقد سبق لنا الإشارة إلى أهمهم فى الفصول السابقة.(1/618)
1 - أصحاب التواريخ العامة
ابن الأثير:
وأول هؤلاء وأجدرهم بالذكر بين جميع المؤرخين فى كل زمان ومكان، هو «عز الدين ابن الأثير الجزرى» المنسوب إلى موطنه جزيرة «ابن عمر» بالقرب من الموصل، ومؤلف التاريخ الكبير المعروف باسم «الكامل». وهذا الكتاب يشتمل على تاريخ العالم كما عرفه المسلمون فى هذا العصر منذ بداية الزمان حتى سنة 628هـ 1230م. وقد زاره «ابن خلكان» فى مدينة حلب فى سنة 627هـ نوفمبر سنة 1229م وتحدث عنه حديثا طيبا، أكد فيه أنه كامل حقا فى الفضل والتواضع وكرم الأخلاق. ولا حاجة بى فى هذا المقام إلى ذكر المقالة التى كتبها عنه «ابن خلكان» لأن القارئ الأوروبى يستطيع قراءتها فى الترجمة التى نشرها «دى سلان» لكتاب وفيات الأعيان (1) وسأكتفى هنا بأن أذكر أن «ابن الأثير» ولد فى سنة 556هـ مايو سنة 1160م وتوفى فى سنة 631هـ مايو سنة 1233م.
وقد طبع «تورنبرج» كتابه «الكامل» فى مدينة ليدن فى سنة 1851م إلى سنة 1876م ونشره فى 14مجلدا، كما طبع هذا الكتاب أيضا فى «بولاق» فى سنة 1290هـ إلى سنة 1303هـ 18861873م ونشر فى 12مجلدا ولكن من سوء الحظ أن الطبعة المصرية وهى الطبعة الوحيدة التى يمكن الحصول عليها الآن، لا تشتمل على فهرست مبوب بأسماء الأعلام، ومن أجل ذلك فقد نقصت فائدتها نقصا كبيرا، ولا شك أن هذا عيب خطير قد أصاب مرجعا كبيرا لا يستطيع أن يستغنى عنه طالب من طلبة التاريخ الإسلامى (2).
وقد كتب «ابن الأثير» بالإضافة إلى كتابه التاريخى الكبير كتابا فى أخبار
__________
(1) انظر الجزء الثانى من الترجمة ص 9288
(2) المترجم: طبع هذا الكتاب بعد ذلك أكثر من مرة فى القاهرة، ففى سنة 1302هـ طبعته المطبعة الأزهرية وفى سنة 1303هـ نشره محمد افندى مصطفى وفى سنة 1353هـ نشرته إدارة الطباعة المنيرية.(1/619)
أهم صحابة النبى وأسماه «أسد الغابة فى معرفة الصحابة» وقد طبع فى القاهرة فى 5أجزاء فى سنة 1280هـ 1863م، وكذلك لخص كتاب الأنساب للسمعانى وهو غير مطبوع (1) كما كتب «تاريخ المملكة الأتابكية بالموصل»، وهو مطبوع بتمامه فى الجزء الثانى من «مجموعة المؤرخين العرب الذين أرخوا الحروب الصليبية» (2).
ابن العبرى:
وآخر من كبار المؤرخين الذين عاشوا فى هذه الفترة، وكتبوا بالعربية كما فعل «ابن الأثير» هو النصرانى اليعقوبى «يوحنا أبو الفرج» المعروف بابن العبرى، أى ابن اليهودى، لأن أباه «اهرون» ترك ديانته الأصلية وكانت اليهودية واعتنق المسيحية ويعرف «ابن العبرى» أيضا باسم «جريجوريوس» أو «غريغوريوس» وهو الإسم الذى أطلقه على نفسه فى سنة 644هـ 1246م عندما تولى أسقفية «جوباس» من أعمال «ملطية».
وقد ولد «ابن العبرى» فى مدينة «ملطية» فى سنة 624هـ 1226م، فلما حدث الفزع من غارة المغول فر به أبوه وكان طبيبا إلى مدينة «أنطاكيه» فى سنة 641هـ 1243م ثم خرج بعد ذلك فزار مدينة «طرابلس». وفى سنة 651هـ 1253م تولى أسقفية حلب، حتى إذا كانت سنة 663هـ 1264م أقامه اليعاقبة «مفريانا» عليهم (3) فكان يقيم أحيانا فى «الموصل» وأحيانا أخرى
__________
(1) المترجم: يعرف هذا الكتاب باسم «اللباب فى معرفة الأنساب».
(2) أنظر:.
وقد ترجمه إلى الفرنسية البارون دى سلان
(3) المترجم: فيما يلى معنى كلمة «مفريان» نقلا عن المقدمة الموضوعة على كتاب «تاريخ مختصر الدول» طبع الأب «أنطون صالحانى اليسوعى» ببيروت سنة 1890م، قال:
«مفريان من السريانى ومعناها عندهم المثمر. وكان منصب المفريان عند اليعاقبة من أكبر» «المناصب بعد البطريركية وتحت رئاسته عدد من الأساقفة له عليهم ملء السلطان مثل» «ما للبطريرك على أساقفته، وهو عندنا بمقام كبير رؤساء الأساقفة».(1/620)
فى إقليم «أذربيجان» أى فى تبريز والمراغة فى الشمال الغربى من إيران. وقد مات فى مدينة «المراغة» فى الثلاثين من يوليه سنة 1286م 685هـ.
وقد كتب «ابن العبرى» تاريخه المعروف باسم «مختصر تاريخ الدول» فى الأصل باللغة «السريانية» ولكن جماعة من كبار المسلمين طلبوا إليه أن ينقله إلى العربية ففعل ذلك فى السنوات الأخيرة من عمره. وقد طبع هذا التاريخ لأول مرة سنة 1074هـ 1663م فى مدينة أكسفورد بالعربية واللاتينية بمراجعة العلامة «پوكوك» ثم نشرت له ترجمة إلى الألمانية فى سنة 1198هـ 1783م ثم طبعه طبعة أنيقة «الأب أنطون صالحانى اليسوعى» فى مدينة بيروت سنة 1890م.
وتشتمل هذه الطبعة الأخيرة على 630صحيفة تتضمن أصل الكتاب وكذلك ترجمة لحياة مؤلفه، وفهرسة للأعلام والأماكن، وجدولا لمقابلة السنين الهجرية بالسنين المسيحية.
وقد تحدث «ابن العبرى» فى كتابه عن عشر دول، هى الآتية:
الدولة الأولى: دولة الأولياء من آدم أول «البرنساء» أى الناس.
الدولة الثانية: دولة قضاة بنى إسرائيل.
الدولة الثالثة: دولة ملوك بنى إسرائيل.
الدولة الرابعة: دولة ملوك الكلدانيين.
الدولة الخامسة: دولة ملوك المجوس. أى ملوك إيران منذ الملك الأسطورى «گيومرث» إلى «دارا» ومقتله على أيدى الاسكندر الأكبر
الدولة السادسة: دولة ملوك اليونانيين الوثنيين.
الدولة السابعة: دولة ملوك الفرنج، ويقصد بهم ملوك الرومانيين.
الدولة الثامنة: دولة ملوك اليونانيين المتنصرين، أى البيزنطيين.
الدولة التاسعة: دولة ملوك العرب المسلمين.
الدولة العاشرة: دولة ملوك المغول: وقد أوصل ابن العبرى تاريخهم إلى سنة 683هـ 1284م وهى السنة التى تولى فيها «أرغون» الحكم.(1/621)
وقد كتب الأستاذ «نولدكه» مقالا ممتعا عن «ابن العبرى» والعصر الذى عاش فيه نشره فى كتابه «صور من التاريخ الشرقى» ولهذا الكتاب ترجمة إلى الإنجليزية نحيل إليها القارئ الذى يريد أن يتزود بمعلومات أوفى عن هذا الكاتب وكتابه (1)
منهاج السراج:
ومن بين كتّاب التاريخ العام الذين كتبوا بالفارسية فى هذه الفترة، بل أنبههم ذكرا «منهاج السراج» المنتسب إلى «جوزجان» بالقرب من «بلخ» وهو مؤلف كتاب «طبقات ناصرى» الذى أكثرت من الإشارة إليه فى الفصل السابق من هذا الكتاب.
ولد «منهاج السراج» حوالى سنة 590هـ 1193م والتحق كأبيه وجده بخدمة ملوك الغور، فلما كانت سنة 624هـ 1226م أقبل إلى الهند والتحق بخدمة السلطان «ناصر الدين قباچهـ» وظل بها سنة حتى إذا تغلب «شمس الدين ألتتمش» على هذا السلطان التحق بخدمته، وأهدى كتابه إلى ابنه المسمى «ناصر الدين محمود شاه» وقد فرغ من تأليف كتابه فى سنة 659هـ سبتمبر 1260م.
وقد أعطى «ريو» فى «فهرست المخطوطات الفارسية» كثيرا من الأخبار المتعلقة بحياته (2). كما أن السير «هـ. م. اليوت» تحدث عنه فى كتابه «تاريخ الهند» (3).
__________
(1) أنظر ترجمة هذا الكتاب إلى الانجليزية بعنوان:
236256،
ومترجم هذا الكتاب إلى الانجليزية هو المستر جون بلاك ..
(2) أنظر ص 72من فهرست المخطوطات الفارسية.
(3) أنظر ص 260من كتاب،: ..(1/622)
وكتاب «طبقات ناصرى» موزع على عشرين فصلا تبدأ بالأولياء والأنبياء وتنتهى بغارة المغول. وقد تحدث المؤلف عن هذه الغارة حديثا مستفيضا أمكنة فيه أن يزودونا بأخبار فريدة لا توجد فى غيره من المراجع.
وقد طبع الكابتن «نساو ليز» جزءا من هذا الكتاب، ترجمه الماچور «رافرتى» فى سلسلة مكتبة الهند (1) ومن أسف أن هذا الجزء المطبوع لا يتناول إلا ذكر الدول المتصلة بالهند ويهمل كل ماله صلة بالطاهريين والصفاريين والسامانيين والديلميين والسلاجقة والخوارزمشاه وغير ذلك من الدول التى لها أهمية خاصة لدى كل مشغوف بدراسة التاريخ الفارسى.
وترد فى نهاية الكتاب قصيدة غريبة جدا منظومة باللغة العربية ومنسوبة إلى شخص إسمه «يحيى أعقب» من أتباع «على بن أبى طالب» صهر النبى وابن عمه، وفيها نبوءة عجيبة عن المصائب التى أحدثتها غارة المغول. وقد قرنت هذه القصيدة العربية بترجمة منثورة إلى الفارسية منشورة فى ص 443439من الجزء المطبوع من هذا الكتاب.
جرجيس المكين:
وآخر من كتب التاريخ العام المؤلفة فى هذا العصر، ويجدر بنا ذكره فى هذا المقام، لأنه من أوائل الكتب العربية التاريخية التى طبعت فى أوروبا، هو «كتاب المجموع المبارك» تأليف «جرجيس» أو «عبد الله بن أبى الياسر بن أبى المكارم المكين بن العميد».
وقد ترجم هذا الكتاب إلى اللاتينية المستشرق الهولندى «ارپنيوس» ونشر الترجمة مقرونة بالنص العربى فى مدينة «ليدن» سنة 1035هـ 1625م ثم ترجمه إلى الإنجليزية فى السنة التالية المستشرق
__________
(1) أنظر:(1/623)
«برچاس» (1) حتى إذا كانت سنة 1068هـ 1657م ترجمة «فاتير» إلى الفرنسية، وبذلك أصبح هذا الكتاب ومعه كتاب تاريخ أبى الفدا أمير حماة (2) هما عماد المصادر العربية التى ظلت فترة طويلة فى متناول البحاثة الأوروبيين المشتغلين بالتاريخ الإسلامى. ولو لم تكن له هذه الميزة لما ذكرناه فى هذا المكان لأن مؤلفه مسيحيى مصرى لا علاقة له بإيران على الإطلاق. وقد ولد فى سنة 602هـ 1205م وتوفى فى سنة 672هـ 1273م.
2 - أصحاب التواريخ الخاصة
ونحن نمضى الآن إلى دراسة طبقة أخرى من المؤرخين وكتاب التراجم، وهم الذين عنوا بدراسة أسرة من الأسر الجاكمة، أو ملك من الملوك، أو فترة من الفترات أو ولاية من الولايات، أو بلدة من البلدان، أو جماعة خاصة من جماعات الناس، ويدخل ضمن هؤلاء أصحاب كتب التراجم المبوبة تبويب المعاجم.
الجرباذقانى:
عندما كنا نتحدث فى فصل سابق عن «آل سبكتگين» أو الدولة الغزنوية، أشرنا مرارا إلى تاريخ «العتبى» المسمى «تاريخ اليمينى» نسبة إلى السلطان الغزنوى محمود يمين الدولة. وقد كتب العتبى هذا الكتاب باللغة العربية حتى إذا كانت هذه الفترة التى ندرسها، قام على ترجمته إلى اللغة الفارسية «أبو الشرف ناصح الجرباذقانى» أو «الگلپايگانى» نسبة إلى الكلمة الفارسية «گلپايگان» وهو إسم مكان بين أصفهان وهمدان (3) وقد تحدث «ريو» فى «فهرست المخطوطات الفارسية»
__________
(1) عنوان هذا الكتاب باللاتينية كما نشره «أرپنيوس» هو:
.. (2) ولد «أبو الفدا» سنة 672هـ 1273م ومات سنة 721هـ 1331م
(3) المترجم: جاء فى معجم البلدان أن «جرباذقان» يتلفظ بها بفتح الجيم المقابلة لحرف الكاف الفارسية. ويقول ياقوت أنه يشار بها إلى بلدتين إحداهما بلدة قريبة من همذان والأخرى بلدة بين استراباذ وجرجان من نواحى طبرستان.(1/624)
حديثا طويلا عن هذه الترجمة وذكر فى ص 158157أنها تمت بين سنتى 602و 607هـ 12101205م كما يذكر أن «المتحف البريطانى» يشتمل على مخطوطة قديمة جميلة منها، يرجع تاريخ نسخها إلى سنة 665هـ 1266م. وقد نشرت هذه الترجمة فى طبعة على الحجر فى مدينة طهران سنة 1272هـ 1855م.
وقد نقلت هذه الترجمة الفارسية إلى اللغتين التركية والانجليزية، فقام «درويش حسن» بترجمتها إلى التركية، وقام الأب «جيمس رينولدز» بترجمتها إلى الإنجليزية. كما عنى الأستاذ «نولدكه» بمقارنة الترجمة الفارسية بأصلها العربى ونشر خلاصة آرائه المتعلقة بهذا الموضوع فى العدد الثالث والعشرين من «محاضر جلسات الأكاديمية القيصرية» (1).
وهو يقرر فى هذا البحث أن الترجمة الفارسية لم تتقيد بالأصل إلا فيما يتعلق بالمراسلات والمستندات والقصائد التى وردت فى الأصل العربى، وأما فيما عدا ذلك فكانت ترجمة مطلقة من كل قيد، لم يراع فيها المترجم الدقه فى نقل العبارات بقدر ما راعى تزويقها بالصناعات البلاغية لتكون محاكية للأصل العربى. ومن أجل ذلك فقد أباح المترجم لنفسه أن يغير بعض العبارات أو أن يحذف منها فى بعض المواضع أو يضيف إليها فى مواضع أخرى.
الفتح البندارى:
أما «آل سلجوق» وهم حكام الدولة التى خلفت الدولة الغزنوية فهناك رسالة هامة عنهم، يرجع تاريخ كتابتها إلى هذا العصر الذى ندرسه. وقد كتبها صاحبها باللغة العربيه، ونشر الفصلين الثالث والأخير منها المستشرق «هوتسما».
وتاريخ السلاجقه الذى أشرنا إليه مرارا عديدة فى الفصول التى درسنا فيها فترة السلجوقيين، عبارة عن مؤلف ألفه أصلا باللغه الفارسية الوزير
__________
(1)،: 15102، 1857(1/625)
«أنو شروان بن خالد» المتوفى فى سنة 532هـ 1137م وفقا لما جاء فى كتاب «عيون الأخبار» وقد ترجمه بعد ذلك إلى العربية، بإضافة كثير من الزيادات «عماد الدين الكاتب الاصفهانى» وكان ذلك فى سنة 579هـ 1183م ثم اختصر هذه الترجمة ونشرها بعد ذلك «الفتح بن على بن محمد البندارى» فى سنة 623هـ 1226م.
وقد بحث «هوتسما» العلاقة بين هذه الكتب فى مقدمته الواضحة التى قدم بها طبعته لنسخة «البندارى» وقرر أن هذه النسخة توجد فى صورتين مختلفتين، الأولى منهما مطولة وتشتمل عليها مخطوطة اكسفورد، والأخرى قصيرة وتشتمل عليها مجموعة پاريس.
بالإضافة إلى ذلك يجب أن نذكر أننا مدينون للبندارى أيضا بتلخيص نثرى كتب بالعربية لكتاب «الشاهنامه» من تأليف الفردوسى، وتشتمل «مكتبة جامعة كامبردج» على نسخة خطية جميلة لهذا المختصر (1). وقد كتب الأستاذ «نولدكه» فى ص 77من كتابه «الحماسة الإيرانية» (2) ينبه الأذهان إلى احتمال أن يكون هذا المختصر هاما من ناحية المساعدة فى نشر نصوص ال «شاهنامه» بصورة أصح وأصوب.
عطا ملك الجوينى:
من بين كتب التاريخ الخاصة التى ألفت عن دولة بعينها فى هذه الفترة، يجب أن نفرد مكانا ممتازا لكتاب أشرنا إليه كثيرا فى الفصل السابق، وأعنى به الكتاب المكتوب بالفارسية بعنوان «تاريخ جهان گشا» أو «تاريخ فاتح العالم» (3)، من تأليف «عطا ملك الجوينى».
__________
(1) المترجم: هذا المختصر هو الذى نشره الدكتور عبد الوهاب عزام بعنوان «الشاهنامه» فى سنة 1350هـ 1932م. وكان موضوعا لرسالة الدكتوراه التى قدمها للجامعة المصرية
(2) أنظر كتاب:.
(3) المقصود بعبارة «فاتح العالم» هو «چنگيز خان».(1/626)
وقد بينت فيما مضى أهمية هذا الكتاب بما فيه الكفاية، كما شرحت أيضا حال مؤلفه شرحا كافيا، ولكنى يجب أن أصارح القارىء بأن عدم طبع هذا الكتاب ونشره حتى الآن، برغم كثرة نسخه الخطية الجميلة وخاصة الموجودة فى المكتبة الأهلية فى پاريس، يعتبر فضيحة أدبية كبرى، جعلت معالجتها من أهم آمالى وأطماعى (1).
والكتاب يشتمل على ثلاثة أجزاء أو مجلدات: الأول منها يتحدث عن أصل المغول وفتوحات چنگيز خان والثانى عن ملوك خوارزم المعروفين باسم «خوارزمشاه»، والثالث عن الحشاشين أو إسماعيلية حصن «ألموت» و «قهستان» ومحاربة «هولاكو خان» لهم (2). وقد استفاد «دوسون» فائدة كبرى من هذا الكتاب عند تأليف كتابه «تاريخ المغول» (3) ولكنه كان فى رأيى شديد القسوة على مؤلفه، ولم يراع أن سوء الحظ هو الذى اضطره إلى خدمة المغول الأجلاف، وأنه اضطر بالتبعية إلى التحدث عنهم فى أدب ومجاملة.
أحمد النسوى:
الكاتب الذى يستحق بعد ذلك أن نخصه بالذكر هو «شهاب الدين محمد بن أحمد النسوى» كاتب السلطان الشجاع «جلال الدين خوارزمشاه» ومؤرخ سيرته.
وقد أشرنا فى الفصل السابق كثيرا إلى مذكراته التى كتبها عن هذا السلطان
__________
(1) المترجم: هكذا كتب الأستاذ «براون» عندما أخذ يكتب هذا الكتاب وقد نشر بعد ذلك كتاب تاريخ «جهانگشا» فى ثلاثة أجزاء ضمن سلسلة جب التذكارية وعنى بتصحيحه علامة إيران المرحوم «محمد بن عبد الوهاب القزوينى» وقد استطاع الأستاذ براون أن يكتب مقدمة بالانجليزية ألحقها بآخر المجلد الأول، أرخها 4أغسطس سنة 1912كما أن الجزء الثالث منه طبعه على حدة أستاذى الجليل المرحوم السير دنيسون روس فى صورة فوتوغرافية عن أصله المخطوط.
(2) أنظر مقالتى التى نشرتها فى يناير سنة 1904فى «مجلة الجمعية الملكية الأسيوية» فى موضوع محتويات هذا الكتاب التاريخى والمواد التى تساعد على نشره.
(3) أنظر: كتاب تاريخ المغول لدوسون:(1/627)
ذى الحظ العاثر. وهذه المذكرات يمكن الاطلاع عليها فى أصلها العربى وفى ترجمتها الفرنسية التى قام بنشرها السيد «هوداس» فى پاريس من سنة 1891 1895م.
وقد كتب «النسوى» هذه المذكرات المعروفة باسم «سيرة جلال الدين» فى سنة 639هـ 1241م أى بعد عشر سنوات تقريبا من موت «جلال الدين».
وقد كان النسوى وثيق الارتباط بسلطانه طوال حياته المليئة بالأحداث والمغامرات، ومن أجل ذلك فإن كتاباته مليئة بالمتعة والأهمية وقد بين ذلك بما فيه الكفاية «السيد هوداس» فى مقدمته التى قدم بها ترجمته الفرنسية ل «سيرة جلال الدين» ونحن نكتفى بأن ننقل منها هذه العبارات الرصينه:
«وخلال المدة الطويلة التى حكمها السلطان جلال الدين، لم يتركه النسوى إلا» «فى أوقات قليلة نادرة، كان يؤدى له فيها بعض المهمات الحاصة التى يكلفه» «بها. وقد كان إلى جواره ليلة هربه، حينما هم به أحد الأكراد المتوحشين» «وكاد يقتله بطعنة من خنجره.»
«وشاهد النسوى معظم الأحداث التى رواها فى كتابه، بل وساهم فيها فعليا» «بعض المساهمة، حتى ليمكننا أن نقول أن كتابه عن سيرة جلال الدين إنما» «هو من باب المذكرات الشخصية الصحيحة لأن النسوى استطاع، بفضل» «تقريب السلطان له، وبفضل علاقاته الوثيقة مع أعظم شخصيات المملكة،» «أن يرى الأشياء على حقيقتها، وأن يكشف عن عللها وأسبابها. ولما كان» «معروفا أنه لم يؤلف كتابه إلا بعد موت سيده بعشر سنوات، فمن الواضح» «الأكيد أنه استطاع أن يتحدث عنه وعن الموضوعات التى ذكرها بصراحة» «تامة وجرأة كاملة وإذا لاحظنا أحيانا أنه يتحفظ بعض التحفظ عندما يعرض لنقد» «بعض الأمور، فما ذلك إلا لأنه كان يخشى أن يتهم بالجحود ونكران الجميل» «إزاء صاحب الفضل عليه، ولأنه أيضا كان يحرص فى هذه الفترة على سمعة» «بعض أصدقائه وأصحابه. ولكنه رغم هذا التحفظ لم يستطع أن يخفى» «مشاعره الحقيقية وأراءه الشخصية. ولا شك أن النحو الذى نحاه من حيث» «التوسط والاعتدال ليدل دلالة واضحة على صدقه وإخلاصه.»(1/628)
«ولم يقنع النسوى بأن يصف لنا ما رأه، أو أن يروى لنا ما سمع، بل» «أجهد نفسه فى فهم الحوادث التى ذكرها واستقصاء أسبابها وتتبع نتائجها،» «وهى نتائج عجيبة، نتبين أهميتها إذا رجعنا إلى دراسة هذه الفترات الموغلة» «فى القدم.»
«ويبدو لى أنه مع إعجابه بكتاب الكامل لابن الأثير قد تحقق مما» «فى هذا الكتاب من جمود يدعو إلى الملل والسأم، فحاول فى كتابه أن» «يبرهن للناس أن فى الإمكان كتابة التاريخ بأسلوب آخر، يكون أكثر» «تشويقا وأشد أسرا بحيث يشبع الفضول ويرضى العقول.»
«وكان النسوى بارعا فى استعمال اللغة العربية وإجادة الإنشاء فيها، ولكن» «مما لا شك فيه أن قارئه ما زال يحس بشىء من الأثر الفارسى، قد تخلف فى» «أسلوبه وتعبيره.»
3 - كتّاب التراجم
ابن خلكان:
إذا انتقلنا الآن إلى ذكر «كتاب التراجم» فإن «ابن خلكان» يحتل المكانة الأولى بينهم ولا يقتصر شأنه فى ذلك على كتاب التراجم من معاصريه بل بالنسبة إلى كتاب المسلمين عامة. فكتابه المشهور «وفيات الأعيان» الذى بدأ فى تصنيفه فى القاهرة فى سنة 654هـ 1256وانتهى منه فى سنة 673هـ 1274م يعتبر من أوائل كتب المراجع التى يحرص على اقتنائها كل مستشرق مبتدىء.
وقد نشره فى طبعة على الحجر المستشرق «وستنفلد» من سنة 1835إلى سنة 1843م وطبع بعد ذلك مرتين على الأقل فى مصر (1) كما أن القارىء الإنجليزى يستطيع
__________
(1) المترجم: طبع هذا الكتاب عدة مرات فى مصر وآخر طبعة له صدرت فى سنة 1949م. وقد طبع أيضا فى «إيران».(1/629)
الاطلاع على ترجمته الإنجليزية التى قام بها البارون «دى سلان» ونشرها بلندن فى أربعة مجلدات من سنة 1843إلى سنة 1871م.
وكان «ابن خلكان» من سلالة البرامكة وقد ولد فى إربل فى سنة 608هـ 1211 وأقام بها حتى بلغ الثامنة عشرة من عمره ثم انتقل إلى حلب ثم إلى دمشق ثم إلى القاهرة ثم إلى الاسكندرية حيث تولى كثيرا من المناصب التعليمية والقضائية. وقد أدركته منيته أخيرا فى سنة 681هـ أكتوبر سنة 1282م وقد اشتغل الكتاب بعد ذلك بكتابة الإضافات والزيادات التى ألحقوها بمعجمه الكبير «وفيات الأعيان» فكتب «الموفق فضل الله الصقاعى» ملحقا بلغ به سنه 726هـ 1325م وكتب «ابن شاكر» ملحقا آخر [مات سنة 764هـ 1362م] وقد نقل هذا الكتاب إلى الفارسية، نقله يوسف ابن محمد بن عثمان فى سنة 896هـ 1490م، ثم «كبير بن أويس بن محمد اللطيفى» فى أيام السلطان سليم العثمانى الذى حكم بين سنتى 926918هـ 15191512م
فإذا انتقلنا الآن إلى «كتب التراجم» التى تذكر طائفة خاصة من الناس أو جماعة من أصحاب الحرف، فإننا نجد لزاما علينا أن نذكر منها مؤلفين بالعربية وثالثا بالفارسية وهى جميعا من مؤلفات هذا العصر ونقصد بهذه الكتب الثلاثة ما يأتى:
(ا) تاريخ الحكماء: للقفطى بالعربية
(ب) طبقات الأطباء: لابن أبى أصيبعة بالعربية
(ج) لباب الألباب: لمحمد عوفى بالفارسيه وهو فى جزءين طبع الأول منهما فى سنة 1903والثانى ما زال فى المطبعة (2)
فلنمض الآن فى دراسه هؤلاء الكتاب الثلاثة متبعين نفس النهج الذى اتبعناه فيما سبق.
__________
(2) المترجم: بدأ «براون» بطبع الجزء الثانى من هذا الكتاب فى سنة 1903م ثم طبع الجزء الأول سنه 1906م(1/630)
القفطى
ولد «جمال الدين أبو الحسن على بن يوسف القفطى» فى مدينة «قفط» من صعيد مصر فى سنه 568هـ 1172م وقد جاء آباؤه أصلا من مدينه الكوفة، أما أمه فيرجع نسبها إلى قبيلة قضاعة العربية الكبيرة. وقد اهتم بتحصيل علومه حتى الخامسة عشرة من عمره فى مدينتى القاهرة وقفط ثم اختار «صلاح الدين الأيوبى» والده «يوسف» ليتولى القضاء فى مدينة القدس فاتصل بأسرته فى القدس وأقام فيها حتى إذا كانت سنة 598هـ 1201م ذهب يوسف إلى «حران» وكانت منذ العصر العباسى الأول مشهورة بأنها مركز هام من مراكز الدراسات الفلسفية اليونانية فى آسيا بحيث سميت باسم «هللنوپوليس» فاشتغل بها وزيرا للملك الأشرف، ثم أدى فريضة الحج وذهب إلى اليمن حيث مات فى النهاية فى سنة 625هـ 1227م.
أما ابنه، وهو المؤلف الذى نعنى به فى هذا المقام، فقد انتقل فى تلك الأثناء إلى «حلب» حيث تولى وزارة المالية بها ولقب باسم «القاضى الأكرم» ويبدو لى أن أمره لم يقتصر على كونه موظفا كف ءا أمينا وباحثا عالما يجد فى طلب المعرفة. بل كان بالإضافة إلى ذلك من أكبر المعينين لرجال العلم، وقد كان الجغرافى «ياقوت» واحدا من هؤلاء الذين شملهم عطفه ورعايته عندما فر أمام غارة المغول من خراسان إلى ناحية المغرب كما سبق لنا أن ذكرنا ذلك فى موضعه. وكان القفطى حريصا كل الحرص على أن يوفر لنفسه أوقات الفراغ ليتابع فيها دراساته ولكنه اضطر فى سنة 634هـ 1236م أن يقبل الاشتغال لثالث مرة بالمناصب الحكومية فتولى الوزارة للملك العزيز وتوفى بعد اثنتى عشرة سنة وهو ما زال وزيرا فى سنة 646هـ ديسمبر 1248م. ويجد القارىء تفاصيل أوفى مما ذكرت عن حياة «القفطى»، مذكورة فيما كتبه الدكتور «ليپرت.» فى مقدمته التى قدم بها طبعته التى نشرها لكتاب «تاريخ الحكماء» وقد استقى معظم أخباره من معجم الأدباء لياقوت (وهذا المعجم يعده الآن للطبع ضمن سلسلة جب التذكارية الأستاذ مرجوليوث
الأستاذ بجامعة اكسفورد (1)) وقد أجمل رأيه فى «القفطى» فوصفه بأنه الصورة العربية ل «ولهلم فون همبولد» (2).(1/631)
أما ابنه، وهو المؤلف الذى نعنى به فى هذا المقام، فقد انتقل فى تلك الأثناء إلى «حلب» حيث تولى وزارة المالية بها ولقب باسم «القاضى الأكرم» ويبدو لى أن أمره لم يقتصر على كونه موظفا كف ءا أمينا وباحثا عالما يجد فى طلب المعرفة. بل كان بالإضافة إلى ذلك من أكبر المعينين لرجال العلم، وقد كان الجغرافى «ياقوت» واحدا من هؤلاء الذين شملهم عطفه ورعايته عندما فر أمام غارة المغول من خراسان إلى ناحية المغرب كما سبق لنا أن ذكرنا ذلك فى موضعه. وكان القفطى حريصا كل الحرص على أن يوفر لنفسه أوقات الفراغ ليتابع فيها دراساته ولكنه اضطر فى سنة 634هـ 1236م أن يقبل الاشتغال لثالث مرة بالمناصب الحكومية فتولى الوزارة للملك العزيز وتوفى بعد اثنتى عشرة سنة وهو ما زال وزيرا فى سنة 646هـ ديسمبر 1248م. ويجد القارىء تفاصيل أوفى مما ذكرت عن حياة «القفطى»، مذكورة فيما كتبه الدكتور «ليپرت.» فى مقدمته التى قدم بها طبعته التى نشرها لكتاب «تاريخ الحكماء» وقد استقى معظم أخباره من معجم الأدباء لياقوت (وهذا المعجم يعده الآن للطبع ضمن سلسلة جب التذكارية الأستاذ مرجوليوث
الأستاذ بجامعة اكسفورد (1)) وقد أجمل رأيه فى «القفطى» فوصفه بأنه الصورة العربية ل «ولهلم فون همبولد» (2).
وقد كتب «القفطى» كثيرا، واستطاع ياقوت، وقد توفى قبله بما يقرب من عشرين سنة، أن يذكر لنا عناوين عشرين مؤلفا من مؤلفاته، ضاعت جميعها تقريبا كما يقول «مولر» فى غارة المغول على مدينة حلب فى سنة 659هـ 1260م. وفى رأى الدكتور ليپرت أن كتابه «تاريخ الحكماء» فى صورته الحاضرة ما هو إلا مختصر من الكتاب الذى وضعه أصلا بهذا الاسم. والكتاب فى صورته الحاضرة يشتمل على 414سيرة من سير الفلاسفة والأطباء والرياضين والمنجمين الذين ظهروا فى مختلف العصور التاريخية منذ أقدم الأزمنة حتى زمان المؤلف، وهو غنى بالمعلومات الهامة التى تساعد على دراسة تاريخ الحكمة والفلسفة. وقد استفاد به كثير من معاصريه ومن تبعهم، نخص منهم بالذكر «ابن أبى أصيبعة» و «ابن العبرى» و «أبا الفداء». والكتاب مرتب على الحروف الهجائية ولم يرتب وفقا للترتيب الزمنى.
ابن أبى أصيبعة:
ولد «ابن أبى أصيبعة» مؤلف «طبقات الأطباء» فى مدينة دمشق فى سنة 600هـ 1203م ودرس الطب فيها وفى القاهرة ثم مات فى موطنه فى سنة 669هـ يناير 1270م وقد اشتغل كوالده بصناعة الطب واختص على وجه الدقة بطب العيون، وقد ذكر «ابن أبى أصيبعه» بين أساتذته العالم النباتى والطبيب المشهور «ابن البيطار». وقد اشتغل فترة من حياته بإدارة إحدى المستشفيات التى أنشأها «صلاح الدين الأيوبى» فى مدينة القاهرة.
أما كتابه «طبقات الحكماء» فقد نشره «مولر» فى مدينه «كونجزبرج»
__________
(1) المترجم: أتم الأستاذ المرحوم مرجوليوت طبع هذا الكتاب فى سلسلة جب التذكارية؟؟؟
كما طبع هذا المعجم فى مصر.
(2) اسمه بالحروف اللاتينية:(1/632)
فى سنة 1884م كما نشر بالقاهرة فى سنة 1882م، وتوجد له نسخة خطية قديمة يرجع تاريخ نسخها إلى سنه 690هـ 1291م وهى ضمن مجموعة مخطوطات «شيفر» المحفوظه بالمكتبه الأهليه بمدينه پاريس، وقد اعتمد «وستنقلد» اعتمادا كليا على كتاب ابن أبى أصيبعه فى تأليف كتابه «تاريخ الطب والنبات عند العرب» (1)
محمد عوفى:
الكاتب الجدير بالذكر بعد ذلك هو «محمد عوفى» مؤلف كتاب «لباب الألباب» الذى أشرنا إليه كثيرا فى هذه الفصول، وهو كذلك مؤلف مجموعة من الحكايات بعنوان «جوامع الحكايات ولوامع الروايات».
وهو يقرر فى القسم الأول من كتابه الأخير أنه استمد نسبته فعرف باسم «العوفى» نسبة إلى «عبد الرحمن بن عوف» أحد صحابة النبى لأنه كان من سلالته. وقد أمضى «العوفى» معظم طقولته فى خراسان وماوراء النهر وخاصة فى مدينة «بخارى»، ثم رحل عن هذه المدينة إلى الهند فالتحق بخدمة السلطان «ناصر الدين قباچهـ» وأهدى إلى وزيره «عين الملك حسين الأشعرى» معجمه الذى صنفه عن شعراء الفرس باسم «لباب الألباب». فلما فقد هذا السلطان ملكه وحياته فى سنة 626هـ إبريل 1228م انتقل «العوفى» كما فعل المؤرخ «منهاج السراج» إلى خدمة السلطان الذى قهره [شمس الدين ايلتتمش] وأهدى إليه كتابه «جوامع الحكايات». هذا هو جماع ما نعرفه عن العوفى، بالإضافة إلى بعض التفصيلات الأخرى المتعلقة بتواريخ زياراته لمختلف البلاد وأفاضل الشعراء وأكابر الناس.
أما كتابه «جوامع الحكايات» فلم يطبع حتى الآن (2) ونسخه الخطية غير قليلة
__________
(1) أنظر كتاب::. 1840،
(2) المترجم: أوفى ما كتب عن هذا الكتاب حتى الآن هو ما كتبه «محمد ناظم الدين» الأستاذ بالجامعة العثمانية فى حيدرأباد. وقد نشر كتابه عن هذا الموضوع فى مدينة لندن سنة 1929بعنوان:(1/633)
ولا نادرة ومن بينها نسخة قديمة نخصها بالذكر كانت من ممتلكات «السير وليم جونز» وهى الآن محفوظة بمكتبة إدارة الهند تحت رقم (79).
وهذا الكتاب عبارة عن مجموعة واسعة من الحكايات، تختلف فى قيمتها وجمالها، وهو مقسم إلى أربعة أقسام، كل قسم منها يشتمل على خمسة وعشرين بابا، وكل باب منها يشتمل على مجموعة من الحكايات تصور موضوعه وتفسره. وأسلوب الكتاب سهل بسيط، وهو فى هذا يختلف تماما عن الكتاب الآخر الذى ألفه العوفى قبل ذلك، وهو أهم كتابيه، ونعنى به «لباب الألباب». فهذا الكتاب يعتبر أقدم كتب التراجم التى كتبت عن شعراء الفرس. وقد ذكر ذلك «بلاند» فى مقالته التى وصف بها إحدى النسختين المخطوطتين الموجودتين فى أوروبا (1) وقد انتفع بهذا الكتاب الدكتور «إتيه» انتفاعا بالغا فى تأليف مقالاته العديدة الفائقة التى كتبها عن شعراء الفرس المبكرين. ولم يكن هذا الكتاب فى متناول الباحثين حتى أصدرت طبعتى له، فظهر المجلد الثانى منه فى سنة 1903وسيظهر المجلد الأول منه فى خلال سنة 1906م. وكتاب «لباب الألباب» يعتبر من أهم الكتب فى تاريخ الأدب الفارسى بالنظر إلى قدمه وبالنظر إلى ما أورده من تراجم بعض الشعراء الذين كادت أخبارهم تندرس كلية ولم يرد قبل ذلك ذكر عنهم، ولكنه رغم ذلك كله مخيب للآمال من عدة وجوه، فالأخبار التى رواها عن الشعراء خالية من التواريخ الدقيقة أو التفاصيل الممتعة، وقد استعاض المؤلف عن
__________
(1) نشرت مقالة بلاند فى الجزء التاسع من مجلة الجمعية الملكية الأسيوية فى سنة 1848أما المخطوط الذى تحدث عنه فقد أعاره له صديقه «جون باردون اليوت» فلما مات أشتراه مع سائر كتبه اللورد كروفورد فى سنة 1901ثم باعه ابنه اللورد كروفورد الحالى مع سائر مخطوطاته الشرقية إلى «المسز ريلاندز» من أهالى منشستر فوضعته فى مكتبة جون ريلاندز بهذه المدينة أما المخطوطة الأخرى الموجودة فى أوروبا من نسخ هذا الكتاب فهى ضمن مجموعة سپرنجر المحفوظة فى مكتبة برلين، وكانت فى الأصل من ممتلكات ملك أوذ. وقد استخدمت هاتين المخطوطتين فى إعداد طبعتى لهذا الكتاب فأصدرت الجزء الثانى منه أولا فى سنة 1903ويكاد الجزء الأول منه يتم الآن وأنا أكتب فى إبريل سنة 1906. ولا بد أن هذا الكتاب توجد له مخطوطة ثالثة على الأقل فى إيران لأن «رضا قليخان» استعمله كثيرا فى تصنيف كتابه «مجمع الفصحاء» المطبوع على الحجر فى طهران سنة 1878م(1/634)
ذلك بشحنها بالعبارات البلاغية والمحسنات اللفظية، كما أن مختاراته التى استشهد بها من أقوال الشعراء تعتبر من المختارات الرديئة الخالية من الذوق والجمال، يضاف إلى ذلك أنه أهمل ذكر جماعة من الشعراء المشهورين مثل «ناصر خسرو» و «عمر الخيام» بينما أفاض فى نهاية الجزء الأول فى ذكر جماعة من متوسطى الحال أخذ ينعتهم بمختلف الأوصاف ويطيل فى أخبارهم بغير ما داع أو سبب، إلا أنهم كانوا من معاصريه الذين التحقوا مثله بخدمة السلطان «ناصر الدين قباچهـ». وفيما عدا ذلك فإن هذا الكتاب يعتبر من كتب الدرجة الأولى لأنه يشتمل على ما يقرب من ثلثمائة ترجمة من تراجم شعراء الفرس الذين ظهروا قبل أن يشتهر اسم «السعدى»، ومتى أحسنا الانتفاع به فستزيد معلوماتنا كثيرا فيما يختص بهذه الفترة المبكرة من فترات الأدب الفارسى. ومع ذلك كله فمن العسير أن يتفادى المرء شعوره بالضيق والخيبة عندما يفكر قليلا فى أن المؤلف كان فى استطاعته بما مهد له من وسائل، أن يجعل مؤلفه أبلغ أثرا وأشمل نفعا (1).
4 - أصحاب التواريخ المحلية
ابن اسفنديار
ننتقل الآن إلى الحديث عن «التواريخ المحلية» فنقول إن أهم ما ألف منها فى هذه الفترة باللغة الفارسية هو «تاريخ طبرستان» تأليف «محمد بن الحسن بن اسفنديار». ولسنا نعرف إلا القليل عن حياة المؤلف. وكل ما نعرفه عنه هو عبارة عن الأخبار المتفرقة التى يرويها عرضا عن نفسه فى صفحات كتابه. ويستفاد من هذه الأخبار أنه عاد من بغداد إلى مدينه الرى فى سنة 606هـ 1209م، وأنه وجد هناك فى مكتبة الملك «رستم بن شهريار» النسخة العربية من «تاريخ طبرستان»
__________
(1) المترجم: تم طبع الجزءين وهما الآن من أهم المراجع التى يعتمد عليها الباحثون فى دراسة شعراء الفرس(1/635)
وهى التى قام بتأليفها «اليزدادى» فى أيام «قابوس بن وشمگير» سنة 403366هـ 1012976م فأخذ هذه النسخة العربية، واعتمد عليها فى وضع كتابه الفارسى.
ثم اضطر «ابن اسفنديار» بعد فترة وجيزة إلى العودة إلى مدينة «آمل» ثم انتقل منها إلى مدينة «خوارزم» وحدثنا عن حالها فى تلك الفترة فوصفها بأنها مدينة عامرة برجال العلم والأدب. وقد بقى فى «خوارزم» فترة لا تقل عن خمس سنوات اكتشف فى خلالها كثيرا من الأخبار المتصلة بموضوع مؤلفه، فجمعها وأدخلها فيه لأنه كان حتى هذا الوقت مشتغلا بإكماله فى سنة 613هـ 1216م.
بعد ذلك تنقطع أخباره فلا نعرف عنه شيئا، ولا نستطيع أن ندلى برأى فيما إذا كان قد هلك على يد المغول أثناء غارتهم على خوارزم فى سنة 617هـ 1220م.
أو إذا كان قد نجا بحياته فعاد قبل ذلك إلى موطنه «مازندران».
ولسنا فى حاجة إلى تفصيل القول عن كتابه لأن فائدته يمكن التحقق منها بمراجعة الترجمة المختصرة التى نشرتها له فى المجلد الثانى من «سلسلة جب التذكارية» وكل ما يمكن أن يقال عنه هو أن أجزاءه الأولى تشتمل على كثير من الأمور المتصلة بالأساطير، ولكنه متى وصل إلى العصر الإسلامى فإنه يفيض فى ذكر الحقائق التاريخية والجغرافية والأخبارية، وخاصة التفاصيل المتعلقة بسير الرجال المحليين من أصحاب الشهرة والصيت، سواءا أقاموا فى طبرستان أم خارجها، وعلى الخصوص سير الشعراء الذين أنشأوا أشعارهم فى اللهجة الطبرية، وهى لهجة يبدو أنها كانت مستعملة فى طبرستان استعمالا واسعا بحيث أصبحت لهجة أدبية متعارفا عليها. وقد انتهى «ابن اسفنديار» من تاريخه فى الحد الطبيعى الذى قدر له، أى بوفاة «رستم بن أردشير» فى سنة 606هـ 1209م، لكن يدا متأخرة استطاعت أن توصل سجل الأخبار المروية فيه إلى سنة 750هـ 1349م.
والتواريخ المحلية الشبيهة بتاريخ «ابن اسفنديار» كثيرة ووفيرة، وهى تؤلف فى مجموعها قسما متميزا من أقسام الأدب الفارسى. ولدينا منها على سبيل المثال تواريخ متعلقة ب «أصفهان» و «شيراز» و «يزد» و «قم» و «هراة» و «سجستان» و «ششتر» وطائفة أخرى من المدن الإيرانية، كما أن لدينا منها عددا آخر ألف عن
«طبرستان» نفسها. وقد نشر «دورن» طائفة كبيرة من هذه المجموعة الأخيرة، ولكن أغلبها ما زال خطيا، ولم ينشر منها فى بلاد الشرق إلا مجموعة قليلة طبعت على الحجر.(1/636)
والتواريخ المحلية الشبيهة بتاريخ «ابن اسفنديار» كثيرة ووفيرة، وهى تؤلف فى مجموعها قسما متميزا من أقسام الأدب الفارسى. ولدينا منها على سبيل المثال تواريخ متعلقة ب «أصفهان» و «شيراز» و «يزد» و «قم» و «هراة» و «سجستان» و «ششتر» وطائفة أخرى من المدن الإيرانية، كما أن لدينا منها عددا آخر ألف عن
«طبرستان» نفسها. وقد نشر «دورن» طائفة كبيرة من هذه المجموعة الأخيرة، ولكن أغلبها ما زال خطيا، ولم ينشر منها فى بلاد الشرق إلا مجموعة قليلة طبعت على الحجر.
بالإضافة إلى ذلك يوجد نوع آخر من هذه التواريخ المحلية يمكن وصفه على وجه الدقة بأنه عبارة عن «معجم محلى» مرتب فى الغالب على حسب الحروف الهجائية، ويشتمل على سير الرجال النابهين الذين ظهروا فى بلدة بعينها أو فى ولاية بعينها.
وقد ألف «ابن الخطيب البغدادى» المولود فى سنة 393هـ 1002م والمتوفى فى سنة 463هـ 1071م كتابا من هذا النوع باللغة العربية ذكر فيه رجال العلم والأدب فى بغداد، وجعله فى أربعة عشر مجلدا (1)، فلما كانت الفترة التى نتحدث عنها فى هذا الفصل أضاف إليه «أبو عبد الله محمد الدبيتى» المتوفى سنة 637هـ 1239م ملحقا كتبه أيضا باللغة العربية. وهذا الملحق فيما نعلم غير موجود بتمامه، ويوجد منه جزء فى باريس، كما يوجد جزء آخر قد يكون من بين أجزائه فيما أعتقد فى مكتبة كامبردج. وهذا الجزء الأخير منسوبة كتابته، كما يبدو على الغلاف إلى «ابن الخطيب» نفسه، وقد ذكرت فيما سبق أنه توفى فى سنة 463هـ 1071م فإذا كان هذا الجزء يشتمل على أخبار مروية عن سنة 615هـ 1218م فمن الواضح الجلى أنه ليس من تأليف «ابن الخطيب» نفسه، بل هو ملحق كتب فى زمن متأخر، وإذا لاحظنا أيضا أن هذا الجزء كبير الحجم إلى درجة ملحوظة، ولكنه لا يشتمل إلا على جزء من حرف «العين» فمن السهل أن نتصور أن هذا الملحق كان بالغ الطول مفرطا فى الضخامة.
__________
(1) المترجم: طبع هذا الكتاب برمته فى القاهرة فى مطبعة السعادة فى سنة 1349هـ الموافقة سنة 1931م.(1/637)
5 - الجغرافيون والرحالون [الكتب الجغرافية وكتب الأسفار]
ننتقل الآن إلى دراسة الكتب الجغرافية وكتب الأسفار التى كتبت فى هذه الفترة. وسأقتصر فى هذا المقام على ذكر ثلاثة منها كتبت جميعا باللغة العربية.
ياقوت:
وأهم هذه الكتب مرجع أشرت إليه كثيرا فى الفصل السابق، وهو المعجم الجغرافى الواسع الذى ألفه ياقوت بعنوان «معجم البلدان» وقد طبعه «وستنفلد» فى ستة أجزاء من سنة 1866إلى سنة 1871م (1).
وقد ولد «ياقوت بن عبد الله» فى سنة 575هـ 1179م من أبوين يونانيين ومن أجل ذلك سمى بالرومى. كما إنه فى طفولته كان عبدا بالشراء لتاجر من تجار مدينة «حماة» ومن أجل ذلك نسب إليها فقيل «الحموى» وقد تمكن ياقوت من أن ينال قسطا وافرا من التعليم، وأن يجوب كثيرا من الديار بحيث شملت أسفاره الأقطار الممتدة جنوبا بشرق حتى جزيرة «كيش» فى الخليج الفارسى، والأقطار الممتدة شمالا بشرق حتى «خراسان» و «مرو» حيث دأب على الاشتغال فى مكتباتها العامرة التى امتازت بها هذه المدينة الزاهرة، حتى إذا كانت غارة المغول أضطر إلى الهرب إلى «الموصل» واستطاع فى ربيع عام 621هـ 1224م أن يكمل مؤلفه الواسع «معجم البلدان». وهذا الكتاب مرجع من أهم المراجع التى يعتمد عليها الباحثون فى كل ما يتعلق بجغرافية الأنحاء الغربية من آسيا، وفى كثير مما يتعلق بتاريخها، وهذه الأمور، وخاصة ما يتعلق منها بإيران، لم يكن من السهل، لغير المستشرقين، مراجعتها إلا فيما كتبه باربييه دى منار فى «معجمه الجغرافى التاريخى
__________
(1) المترجم: هذه هى الطبعة الأوروبية وقد طبع الكتاب فى ثمانية أجزاء فى القاهرة بمطبعة السعادة فى اختتام سنة 1323هـ وافتتاح سنة 1906م.(1/638)
الأدبى لبلاد إيران والبلاد المصاقبة» (1). وقد ألف ياقوت كتابين آخرين فى الجغرافيا هما:
(ا) مراصد الأطلاع: وقد طبعه «جوينبل» فى مدينة ليدن من سنة 1850إلى سنة 1864م.
(ب) المشترك: وهو كتاب يذكر فيه أسماء البلاد المشتركة فى أسمائها، وقد تم طبعه بمجهود «وستنفلد» فى مدينة «جوتنجن» فى سنة 1846م.
بالآضافة إلى هذه الكتب صنف «ياقوت» معجما مشتملا على سير الأدباء وأسماه «معجم الأدباء» ستطبع أجزاؤه بواسطة الأستاذ «د. س. مارجوليوث» ضمن «سلسلة جب التذكارية» (2). وله كتاب آخر فى الأنساب.
وقد كتب «فون كريمر» مقالة طيبة عن ياقوت فيها تقدير جميل له فى الجزء الثانى من كتابه الممتع (3) «تاريخ الأدب الشرقى» ص 436433.
القزوينى:
الجغرافى الآخر الذى لا يبلغ مرتبة ياقوت من الناحية العلمية، هو «زكريا بن محمد بن محمود القزوينى» وقد ألف كتابين نشرهما «وستنفلد» فى سنتى 1848 و 1849م. وأول هذين الكتابين عنوانه «عجائب المخلوقات» وهو يشتمل على بيان التقويم الشمسى والنجوم والإجرام السماوية والحيوانات والنباتات والمعادن وكذلك كل ما يتعلق بالوحوش والحيوانات الخرافية المختلفة. وأما كتابه الثانى فهو
__________
(1) أنظر:،:. 1871
(2) المترجم: تم طبع «معجم الأدباء» ضمن «سلسلة جب التذكارية» وقد طبع بالقاهرة وتولى طبعه الدكتور أحمد فريد رفاعى فى عشرين جزءا فى سنة 1355هـ 1936م
(3) أنظر:(1/639)
«آثار البلاد» وهو عبارة عن وصف علمى بقدر الاستطاعة للمدن والبلاد المعروفة للعالم الإسلامى فى هذا الزمان، وقد رتبه المؤلف وفقا لحروف الهجاء وتبعا لأقاليم الدنيا السبعة، فابتدأ بالإقليم الأول وهو المصاقب لخط الاستواء ثم اختتمه بالإقليم السابع وهو الذى يتضمن جميع البلاد الواقعة إلى أقصى الشمال.
وكتاب «عجائب المخلوقات» هو أكثر هذين الكتابين ذكرا وأوسعهما انتشارا فى بلاد الشرق، وتوجد منه نسخ خطية كثيرة مزدانة فى الغالب بتصاوير كثيرة منقولة عن أصله العربى أو عن ترجمته الفارسية.
أما كتاب «آثار البلاد» فهو أهم الكتابين وأكثرهما متعة، ويرجع ذلك إلى أنه يشتمل على كثير من الأخبار الجغرافية النافعة، وإلى أنه كذلك يشتمل على كثير من الأخبار المتصلة بتراجم الرجال الذين ورد ذكرهم بمناسبة الحديث عن بلدانهم، ومن بين هولاء عدد كبير من شعراء الفرس من أمثال «الأنورى» و «عسجدى» و «أوحد الدين الكرمانى» و «فخرى الجرجانى» و «فرخى» و «الفردوسى» و «جلال طبيب» و «جلال خاورى» و «خاقانى» و «أبو طاهر الخاتونى» و «مجير البيلقانى» و «ناصر خسرو» و «نظامى الگنجوى» و «عمر الخيام» و «أبو سعيد بن أبى الخير» و «سنائى» و «شمس طبسى» و «عنصرى» و «رشيد الدين الوطواط».
والأخبار الجغرافية التى ترد فى هذا الكتاب لا تبلغ من حيث الدقة مبلغ ما رواه «ياقوت» وغيره من الجغرافيين المبكرين، ولكنها مع ذلك مشحونة بالأخبار الممتعة المسلية. ومن الغريب أن الكتاب لم يرد به ذكر إطلاقا لانجلترا ولكنه يشتمل على مقالة عن إيرلنده وردت ضمن كلامه عن الإقليم السادس مع وصف مجمل لصيد الحيتان، وكذلك يشتمل على مقالة مطولة عن مدنية روما. وعندما تعرض المؤلف لذكر الإقليم السابع تحدت عن الطقوس التى يتبعها الفرنج فى النار والماء والمعارك، وعن السحر والسحرة وإحراق المشعوذين، وعن «الخليج الفارنجى.» فى أقصى الشمال. وفى رأيى أننى لم أصادف بين الكتب العربية كتابا ممتعا جديرا بالقراءة مثل هذا الكتاب. وإذا راعينا الدقة التامة
وجب علينا أن نقول إن هذا الكتاب يخرج عن دائرة الفترة التى نتناولها بالبحث فى هذا المؤلف. لأن نسخته الأولى تم تأليفها فى سنة 662هـ 1263م بينما لم تتم نسخته الثانية [وهى نسخة مزيدة ومنقحة] إلا بعد ذلك بثلاث عشرة سنة أى فى سنة 675هـ 1276م. وقد ولد القزوينى فى مدينة «قزوين» من بلاد إيران فى سنة 600هـ 1203م وأقام فترة من حياته فى مدينة «دمشق»، وتولى القضاء فى أيام الخليفة «المستعصم» آخر الخلفاء العباسيين فنصبوه قاضيا على «واسط» و «الحلة» ثم توفى فى سنة 682هـ 1283م.(1/640)
والأخبار الجغرافية التى ترد فى هذا الكتاب لا تبلغ من حيث الدقة مبلغ ما رواه «ياقوت» وغيره من الجغرافيين المبكرين، ولكنها مع ذلك مشحونة بالأخبار الممتعة المسلية. ومن الغريب أن الكتاب لم يرد به ذكر إطلاقا لانجلترا ولكنه يشتمل على مقالة عن إيرلنده وردت ضمن كلامه عن الإقليم السادس مع وصف مجمل لصيد الحيتان، وكذلك يشتمل على مقالة مطولة عن مدنية روما. وعندما تعرض المؤلف لذكر الإقليم السابع تحدت عن الطقوس التى يتبعها الفرنج فى النار والماء والمعارك، وعن السحر والسحرة وإحراق المشعوذين، وعن «الخليج الفارنجى.» فى أقصى الشمال. وفى رأيى أننى لم أصادف بين الكتب العربية كتابا ممتعا جديرا بالقراءة مثل هذا الكتاب. وإذا راعينا الدقة التامة
وجب علينا أن نقول إن هذا الكتاب يخرج عن دائرة الفترة التى نتناولها بالبحث فى هذا المؤلف. لأن نسخته الأولى تم تأليفها فى سنة 662هـ 1263م بينما لم تتم نسخته الثانية [وهى نسخة مزيدة ومنقحة] إلا بعد ذلك بثلاث عشرة سنة أى فى سنة 675هـ 1276م. وقد ولد القزوينى فى مدينة «قزوين» من بلاد إيران فى سنة 600هـ 1203م وأقام فترة من حياته فى مدينة «دمشق»، وتولى القضاء فى أيام الخليفة «المستعصم» آخر الخلفاء العباسيين فنصبوه قاضيا على «واسط» و «الحلة» ثم توفى فى سنة 682هـ 1283م.
ومن الجدير أن نذكر أيضا إنه أهدى كتابه «عجائب المخلوقات» إلى «عطا ملك الجوينى» مؤلف كتاب «تاريخ جهانگشا».
ابن جبير:
والآن يجدر بنا أن نتحدث حديثا مختصرا عن الرحالة «ابن جبير» وهو الرحالة الذى نشر أسفاره الأستاذ المرحوم «و. رايت» فى مدينة ليدن سنة 1882م.
كان «ابن جبير» من أهالى «غرناظة» وقد فاز بشهرة عريضة فعرف بأنه كاتب مجيد وشاعر مجيد أيضا. وقد سافر إلى المشرق ثلاث مرات، أدى فى كل مرة منها فريضة الحج إلى مكة. وقد بدأ أولى أسفاره فى 579هـ 4فبراير سنة 1183م وعاد إلى موطنه فى 581هـ نهاية أبريل سنة 1185م. ثم وقعت بعد ذلك مدينة «بيت المقدس» فى يدى «صلاح الدين» فدفعته هذه الأنباء إلى القيام برحلته الثانية فشرع فيها فى 585هـ أبريل 1189م وانتهى منها فى 586هـ أواسط سبتمبر سنة 1190م. ثم ماتت زوجته وكان يحبها حبا شديدا فدفعه الحزن عليها إلى القيام برحلته الثالثة فخرج من «سبته:» إلى «مكة» وبقى فى «مكة» فترة من الزمن ثم غادرها إلى «بيت المقدس» و «القاهرة» و «الاسكندرية» حيث توفى فى هذه المدينة الأخيرة فى 614هـ 29نوفمبر سنة 1217م ولم يترك لنا «ابن جبير» إلا حديثه عن الرحلة الأولى من هذه الرحلات الثلاث.(1/641)
6 - الفلاسفة
وإذا انتقلنا الآن إلى الحديث عن الفلاسفة فإن أهم فيلسوفين ظهرا فى هذه الفترة وسبق لنا الإشارة إليهما فى الفصل السابق من هذا الكتاب هما:
«فخر الدين الرازى» و «نصير الدين الطوسى»
فخر الدين الرازى:
ولد «الرازى» فى 544هـ 7فبراير سنة 1149م ثم أخذ فى تحصيل علومه فى موطنه أى مدينة «الرى» وكذلك فى بلدة «المراغة» ثم رحل إلى «خوارزم» وما وراء النهر وانتهى به المطاف إلى مدينة «هراة» حيث أدركته الوفاة فى 606هـ 1209م. وقد كان إنتاجه الأدبى كبيرا شمل كثيرا من الموضوعات فكتب عن تفسير القرآن والحديث، وكتب عن الفقه والفلسفة والنجوم والتاريخ والبلاغة كما صنف موسوعة فى العلوم. وقد عدّ بروكلمان ثلاثة وثلاثين مؤلفا من مؤلفاته (1) لا زالت باقية برمتها أو أغلبها حتى الآن. وربما كان من آخر تأليفاته رسالة «فى ذم الدنيا» كتبها فى مدينة هراة سنة 604هـ 1207م وقد ألف أحد مؤلفاته باللغة الفارسية وهو الكتاب الذى أهداه إلى ملك خوارزم «علاء الدين خوارزمشاه» وأسماه من أجل ذلك باسم «الاختيارات العلائية» كما أنه ألف أيضا لهذا الملك نفسه موسوعة العلوم التى كتبها فى سنة 574هـ 1178م.
نصير الدين الطوسى:
سبق لنا الإشارة إلى هذا الفيلسوف فى الفصل السابق، ونحن هنا نكتفى بأن نذكر أنه ولد فى مدينة «طوس» كما تدل على ذلك نسبته فى سنة 597هـ 1200م (2)
__________
(1) أنظر: 506508 .. .. .:
(2) هكذا يقول «ابن شاكر» فى كتابه «فوات الوفيات» أما بروكلمان فيقول إنه ولد فى سنة 607هـ 1210م ولكنى لا أعرف المرجع الذى اعتمد عليه فى ذلك.(1/642)