مقدمة
بسم الله الرّحمن الرّحيم الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا، والصلاة والسلام على سيّد الأولين والآخرين وعلى آله وصحبه الطّيبين الطاهرين.
وبعد،
فإن القرآن الكريم هو كتاب الله العظيم، وحبله المتين، وهو كتاب الإنسانية الخالد الذي اجتمعت فيه عناصر الإعجاز في جوانبه المختلفة، واكتملت فيه وسائل الدعوة والإقناع في مواضعه كلّها، فكان نورا وبرهانا للعالمين، قال تعالى: {اللََّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتََاباً مُتَشََابِهاً مَثََانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ََ ذِكْرِ اللََّهِ} [الزمر: 23].
والقرآن الكريم هو الكتاب الذي حرّك همم الدارسين، ونشّط عزائم الباحثين منذ نزوله وإلى الآن، فقاموا يبحثون عن سرّ إعجازه، وقوّة بلاغته، ومتانة نظمه، وجمال تعبيره، وتوصلوا بعد عناء البحث، وكثرة الجهد، إلى معرفة الكثير من حقائقه، ولكن مع هذا الإصرار على كثرة الدرس، ومشقة البحث ما زلت ترى في هذا القرآن عجبا، فما زالت أسراره باقية لا تنفد، وما زالت عجائبه ظاهرة لا تنقضي، وما زالت الهمم إليه متوجهة، والعزائم نحوه متوهجة رغبة منها في إدراك حقائقه، وفهم مقاصده.
وهذه دراسة من جملة هذه الدراسات القرآنية التي تبحث في بلاغة التعبير، وجمال التصوير، وبراعة النظم، وقد قصدت بها إلى البحث في أسلوب من الأساليب البلاغية التي يعتمد عليها القرآن الكريم في عرض
الحقائق، وبسط الأدلة، لمخاطبة النفوس البشرية على اختلاف مشاربها، وتنوّع طبائعها.(1/5)
وهذه دراسة من جملة هذه الدراسات القرآنية التي تبحث في بلاغة التعبير، وجمال التصوير، وبراعة النظم، وقد قصدت بها إلى البحث في أسلوب من الأساليب البلاغية التي يعتمد عليها القرآن الكريم في عرض
الحقائق، وبسط الأدلة، لمخاطبة النفوس البشرية على اختلاف مشاربها، وتنوّع طبائعها.
فكان الاختيار موجها إلى أسلوب «المقابلة» أو «التقابل» المعروف عند الدارسين القدماء والمحدثين بهذا المصطلح وبغيره من المصطلحات، لكنّي فضلت مصطلح «المقابلة» عن غيره من المصطلحات لدلالته التامّة على فكرة التضاد، ولكونه من المصطلحات القديمة المنسجمة مع المفاهيم النقدية الحديثة، وقد قصدت «بالمقابلة» طريقة التعبير التي تقوم على مبدأ إقامة تضاد بين الألفاظ والمعاني والأفكار والصور تحقيقا لغايات بلاغية، وقيم فكرية، وقد كانت الغاية من البحث في هذا الأسلوب القرآني عرض مفهومه القديم في قالب جديد، وإبراز خصائصه وأهدافه وقيمه وغاياته الفكرية والمعنوية.
وسبب اختياري لهذا الموضوع مبني على دافعين:
أولا: إن أسلوب «المقابلة» هو من الأساليب التي استوقفتني كثيرا خلال تعاملي مع القرآن الكريم قراءة وتدبرا، فأثناء إعدادي لرسالة الماجستير حول أساليب الإقناع في القرآن الكريم، لفت هذا الأسلوب انتباهي كثيرا لكونه من الأساليب البارزة في المنهج القرآني، التي لا يأتي الاعتماد عليها عرضا وعن قلّة أو ندرة بل إنه من الأساليب التي يجيء الاعتماد عليها عن قصد وفي مواضع كثيرة من القرآن، وقد بدا واضحا لي أن هذا الأسلوب القرآني البارز لا بدّ أن يدرس دراسة علمية تبيّن خصائصه وأهدافه.
ثانيا: إن الدافع الثاني يتعلق بالدراسات التي كتبت حول هذا الموضوع، فبعد البحث تراءى لي أنّ هذا الموضوع لم يدرس دراسة علمية متخصصة، وبخاصة في القرآن الكريم، وأغلب الدراسات التي لها علاقة بالموضوع تمسّ الموضوع مسّا ومن زوايا ضيّقة، ولا تعطيه حقّه من الدراسة والتحليل، فالدراسات القديمة تناولت «المقابلة» ضمن علم البديع، ونظرت إليها باعتبارها محسّنا بديعيا يساهم في تحسين المعنى وتنميقه فحسب، أما الدراسات الحديثة
ففيها إشارات لا بأس بها عن أهمية المقابلة وغاياتها وقيمها لكنّها تفتقد إلى النظرة المتكاملة التي تنظر إلى الموضوع من جوانبه كلّها.(1/6)
ثانيا: إن الدافع الثاني يتعلق بالدراسات التي كتبت حول هذا الموضوع، فبعد البحث تراءى لي أنّ هذا الموضوع لم يدرس دراسة علمية متخصصة، وبخاصة في القرآن الكريم، وأغلب الدراسات التي لها علاقة بالموضوع تمسّ الموضوع مسّا ومن زوايا ضيّقة، ولا تعطيه حقّه من الدراسة والتحليل، فالدراسات القديمة تناولت «المقابلة» ضمن علم البديع، ونظرت إليها باعتبارها محسّنا بديعيا يساهم في تحسين المعنى وتنميقه فحسب، أما الدراسات الحديثة
ففيها إشارات لا بأس بها عن أهمية المقابلة وغاياتها وقيمها لكنّها تفتقد إلى النظرة المتكاملة التي تنظر إلى الموضوع من جوانبه كلّها.
وأقرب الدراسات إلى منهجي هذا دراسة الدكتور سعد أبو الرضا «في البنية والدلالة» والتي حاول فيها دراسة الطباق والمقابلة وفق نظرة جديدة تخالف منهج القدماء في النظر، ولكن دراسته على أهميتها افتقرت إلى النظرة المتكاملة على غرار افتقارها إلى التفصيل والبيان لجوانب هامة في هذا الموضوع، وللشيخ «محمد أبو زهرة» في كتابه «المعجزة الكبرى القرآن» نظرات هامة حول «المقابلة» وبخاصة في الغاية الإقناعية لهذا الأسلوب.
وأبرز الصعوبات التي واجهتني في هذا البحث على اتساع موضوع «المقابلة» في القرآن الكريم لارتباطه بالوجود الإنساني كلّه القائم على علاقة التقابل والتضاد بين الأشياء، ولذلك تعذّر عليّ دراسة صور «المقابلة» على اختلاف أنواعها لكثرتها وتنوّعها واقتضى مني منهج البحث أن أركّز على المقابلات الكبرى البارزة في القرآن الكريم، كما أنّه تحتّم عليّ التركيز كذلك على سورة واحدة هي سورة «التوبة» التي انبنى عليها الجانب التطبيقي من الدراسة.
ولم يكن مقياس الاختيار هذا تعسفيا، بل هو مبني على اختيار أكثر المقابلات بروزا في القرآن، والتي تندرج تحتها مقابلات صغرى كثيرة، وليس لأحد أن يدّعي استيعاب جميع المقابلات في القرآن، فذلك أمر لا يستطيعه أحد من البشر لارتباط الموضوع بالوجود الإنساني كلّه.
وقد اعتمدت في البحث على منهج متكامل مستفيدا من المنهج الأدبي التحليلي، مع مراعاة القيم الفكرية والأهداف والخصائص الأسلوبية، وكانت النصوص القرآنية هي المفتاح الحقيقي للوصول إلى الحقيقة.
وبهذا المنهج قسمت البحث إلى ستة فصول، خصصت الفصل الأول بدراسة «المقابلة في الدراسات القديمة والحديثة»، وتناولت فيه «المقابلة» لغة واصطلاحا، ثم أنواع المقابلة.(1/7)
وخصصت الفصل الثاني بدراسة «المقابلة والقضية الكبرى في القرآن:
الوحدانية وتعدد الآلهة»، وتناولت العناصر التالية: الوحدانية وطريقة عرضها في القرآن والمقابلة الكبرى: الله والطاغوت، وسورة «التوبة» أنموذج تطبيقي للتقابل.
وخصصت الفصل الثالث بدراسة «المقابلة وقضايا الدين والأخلاق» وتناولت فيه: المقابلة بين الخير والشر، والمقابلة بين الحلال والحرام، والمقابلة بين الولاء والبراء، والمقابلة بين الجنّة والنّار.
وتناولت في الفصل الرابع «المقابلة وقضايا السياسة والاقتصاد» ودرست فيه المقابلة بين الجهاد والقعود عنه، والمقابلة بين الفقر والغنى، والمقابلة بين العدل والظلم، والمقابلة بين الاجتماع والفرقة.
وخصصت الفصل الخامس بدراسة «المقابلة وقضايا العلم والفكر» وتناولت فيه المقابلة بين العلم والجهل، والمقابلة بين الاجتهاد والتقليد.
وخصصت الفصل السادس بدراسة «المقابلة وخصائص التعبير القرآني» وتناولت فيه: «المقابلة هي إحدى طرق العرض في القرآن»، «والمقابلة وأسلوب التصوير»، «والمقابلة طريقة في الإقناع»، «والمقابلة وغاياتها الفنية»، وختمت البحث بخلاصة لأهم النتائج التي توصلت إليها.
أمّا مصادر البحث ومراجعه فقد تنوّعت بين القديم والحديث، فاستفدت من الدراسات البلاغية والأدبية والنقدية، وكان لكتب علوم القرآن النصيب الأوفر في البحث، كما استفدت كثيرا من كتب التفسير وبخاصة تلك التي تعنى بالمادة البلاغية، والقيم الفكرية والمعنوية وأخصّ منها «تفسير الكشاف» لمحمود بن عمر الزمخشري (538هـ) و «تفسير مفاتيح الغيب» للفخر الرازي (606هـ) في القديم، و «تفسير المنار» لمحمد رشيد رضا، وتفسير «في ظلال القرآن» لسيد قطب، وتفسير «التحرير والتنوير» لمحمد الطاهر بن عاشور في العصر الحديث.(1/8)
وبعد: فهذا البحث الذي قمت بإعداده لا أدّعي أنّه جاء بكلمة الفصل في هذا الموضوع، بل هو محاولة جادّة لإعادة النظر في مصطلحنا البلاغي القديم، وبيان الخصائص العامة للأسلوب القرآني، فإن وفّقت في هذا فمن الله وحده، وإن أخطأت فمن نفسي ومن الشيطان.
وختاما: أسأل الله العظيم أن يكون عملي المتواضع هذا خالصا لوجهه الكريم، وأن يرزقنا السداد في القول والإخلاص في العمل، والحمد لله ربّ العالمين.
وصلّى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين(1/9)
الفصل الاول المقابلة في الدراسات القديمة والحديثة
أالمقابلة عند أهل اللغة:
أصل المقابلة عند اللغويين من قابل الشيء بالشيء مقابلة وقبالا إذا عارضه، فإذا ضممت شيئا إلى شيء قلت: قابلته به.
والمقابلة: المواجهة، والتقابل مثله (1) وهو نقيض التدابر (2) وفي هذا المعنى جاء قوله تعالى في وصف أهل الجنة: {وَنَزَعْنََا مََا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوََاناً عَلى ََ سُرُرٍ مُتَقََابِلِينَ} [الحجر: 47].
قال أهل التفسير: إن التقابل في هذه الآية هو التواجه بحيث لا ينظر أحدهم في قفا صاحبه، لأن الأسرّة تدور بهم حيث داروا فهم في جميع أحوالهم متقابلون (3).
وجاء في الحديث النبوي الشريف أن الله تعالى كلّم آدم قبلا أي: عيانا ومقابلة لا من وراء حجاب، ومن غير أن يولّي أمره أو كلامه أحدا من ملائكته (4).
__________
(1) ابن منظور لسان العرب مادة (قبل) ط دار صادر بيروت.
(2) الألوسي تفسير روح المعاني دار إحياء التراث العربي ج 14ص 59.
وأحمد محمود الشقنيطي الترجمان والدليل لآيات التنزيل ط 1دار السلام القاهرة 1933ج 2ص 592.
(3) الطبري أبو جعفر (310هـ) تفسير الطبري ط دار الفكر: بيروت ج 14ص 58 والفخر الرازي (606هـ) تفسير الفخر الرازي ط دار إحياء التراث العربي بيروت:
ج 19ص 193.
(4) ابن منظور لسان العرب مادة «قبل».(1/11)
ب المقابلة في الاصطلاح:
1 - المقابلة عند النقاد والبلاغيين العرب:
تعدّ المقابلة عند أغلب النقاد والبلاغيين العرب جزءا من علم البديع، وهي تساهم في بلاغة الكلام من حيث تحسين المعنى وتنميقه، ومفاهيمها عندهم متنوعة، وإن كانت تتشابه أحيانا لما قد يوجد من تأثر وتأثير بين مختلف الأفكار والآراء (1) وسنورد بعضا من هذه المفاهيم ونعقبها بالمناقشة والتحليل.
إن قدامة بن جعفر (337هـ) يعد من أوائل من تناول المقابلة بالبحث، حيث ذكرها في أنواع المعاني، قال: «ومن أنواع المعاني وأجناسها أيضا صحة المقابلات، وهي أن يصنع الشاعر معاني يريد التوفيق بين بعضها وبعض أو المخالفة، فيأتي بالموافق بما يوافق، وفي المخالف بما يخالف على الصحة، أو يشترط شروطا، ويعدد أحوالا في أحد المعنيين، فيجب أن يأتي فيما يوافقه بمثل الذي شرطه وعدّده، وفيما يخالف بأضداد ذلك.» (2).
وظل هذا المفهوم أصلا لكثير من الدارسين بعد «قدامة»، بما فيه من توفيق في تصنيف المقابلة وتأصيل مفهومها، وللأمثلة التي ساقها من القرآن والشعر للاستشهاد على فكرة التقابل بين المعاني.
وقال أبو هلال العسكري (395هـ) في بيان مفهوم المقابلة: «المقابلة إيراد الكلام ثم مقابلته بمثله في المعنى واللفظ على جهة الموافقة أو المخالفة.» (3).
ويلاحظ في هذا التعريف أنّ «العسكري» على غرار «قدامة» يشترط في المقابلة الموافقة والمخالفة.
__________
(1) محمد بركات أبو علي في الأدب والبيان ط 1دار الفكر: عمان 1984ص 9683.
(2) نقد الشعر تحقيق كمال مصطفى ط 3مكتبة الخانجي: القاهرة ص 133.
(3) كتاب الصناعتين تحقيق مفيد قمحية ط دار الكتب العلمية بيروت ص 371.(1/12)
ويوجز الباقلاني (403هـ) تعريف المقابلة فيقول: «هي أن يوفق بين معان ونظائرها، والمضاد بضده.» (1).
وهذا تعريف وجيز لمعنى المقابلة، وهو يحدد معنى التقابل الذي يقتضي التوفيق بين المعاني ونظائرها وأضدادها.
أما التعريف المتداول لمفهوم المقابلة فنجده عند ابن رشيق القيرواني (456هـ) الذي فرّق بين الطباق والمقابلة، وعقد فصلا واسعا للمقابلة ومثّل لها بأمثلة متنوعة، يقول في التعريف: «المقابلة أصلها ترتيب الكلام على ما يجب، فيعطي أول الكلام ما يليق به أولا، وآخره ما يليق به آخرا، ويأتي في الموافق بما يوافقه، وفي المخالف بما يخالفه، وأكثر ما تجيء المقابلة في الأضداد، فإذا جاوز الطباق ضدين كان مقابلة» (2).
يلاحظ في هذا التعريف أنّ ابن رشيق يفرّق بين الطباق والمقابلة من حيث عدد الأضداد في الكلام، فالطباق عنده هو الجمع بين الضدين فحسب (3)، أمّا المقابلة فتختص بالجمع بين أكثر من متضادين، ويعد ابن رشيق ببصره الناقد أول من تفطّن إلى الخلط والالتباس بين الطباق والمقابلة (4)، كما أنه يشير إشارة واضحة إلى التلازم بين التضاد والمقابلة، وأنّ أكثر ما يجيء التقابل في التضاد.
ونجد البغدادي (517هـ) يكرّر ما قاله «قدامة» في مفهوم المقابلة فيقول:
«المقابلة هي أن يضع الشاعر معاني يريد التوفيق بينها، فيأتي في الموافقة بما
__________
(1) إعجاز القرآن تعليق محمد عبد المنعم خفاجي ط 1دار الجيل: بيروت 1991م ص 140.
(2) العمدة تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد ط 3دار السعادة: مصر 1964م ج 2ص 15.
(3) المصدر نفسه ج 2ص 5.
(4) عبد الله الطيب المرشد إلى فهم أشعار العرب وصناعتها ط دار الفكر: بيروت ج 2 ص 670.(1/13)
يوافق، وفي المخالف بما يخالف على الصحة، أو يشترط شروطا في أحد المعنيين فيأتي بما يوافقه بمثل الذي شرطه، وفيما يخالفه بأضداد ذلك» (1).
وعنصر التضاد في المقابلة نجده واضحا في تعريف الفخر الرازي (606هـ) حيث يقول: «المقابلة أن تجمع بين شيئين متوافقين وبين ضديهما، ثمّ إذا شرطتها بشرط وجب أن تشرط بضديهما بضد ذلك الشرط» (2).
ونقل السكاكي (626هـ) تعريف الرازي (3)، كما نقل الصنعاني (القرن 6هـ) تعريف ابن رشيق بحذافيره، ولم يضف إليه شيئا جديدا (4).
ويتحدث ابن سنان الخفاجي (466هـ) عن المقابلة في باب المعاني، غير أن مفهومها عنده لا يختلف عن المفاهيم التي سبقته، يقول: «المقابلة في المعاني، هو أن يضع مؤلف الكلام معاني يريد التوفيق بين بعضها وبعض والمخالفة، فيأتي في الموافق بما يوافق، وفي المخالف بما يخالف على الصحة» (5).
ومن المفاهيم القديمة للمقابلة ما ذكره حازم القرطاجنيّ (684هـ) في كتابه منهاج البلغاء حيث قال: «إنّما تكون المقابلة في الكلام بالتوفيق بين المعاني التي يطابق بعضها بعضا، والجمع بين المعنيين اللذين تكون بينهما نسبة تقتضي لأحدهما أن يذكر مع الآخر من جهة ما بينهما من تباين أو تقارب، على صفة من الوضع تلائم بها عبارة أحد المعنيين عبارة الآخر كما لاءم كلا المعنيين في ذلك صاحبه» (6).
__________
(1) قانون البلاغة تحقيق محسن عياض عجيل ط مؤسسة الرسالة بيروت ص 92.
(2) نهاية الإيجاز ط القاهرة 1317هـ ص 111.
(3) مفتاح العلوم ط القاهرة 1937م ص 200.
(4) الرسالة العسجدية في المعاني المؤيدية تحقيق عبد المجيد الشرفي ط الدار العربية للكتاب ليبيا، تونس 1976م ص 143.
(5) سر الفصاحة ط 1دار الكتب العلمية: بيروت ص 267.
(6) منهاج البلغاء وسراج الأدباء تحقيق محمد الحبيب بن الخوجة ط تونس 1966ص 52.(1/14)
ولم تفرّق جماعة من الدارسين بين المقابلة والطباق، وأبرزهم العلوي (749هـ)، وابن الأثير (638هـ)، والسيوطي (911هـ).
أما العلوي في كتابه «الطراز» فيعقد بابا سمّاه «التضاد» وهو للطباق والمقابلة، وقال في تعريفه: «هو أن يؤتى بالشيء وضده» (1)، وهذا هو مفهوم الطباق عند البلاغيين، غير أنّ العلوي يرفض مصطلح الطباق لما فيه من معنى «التماثل»، ويقترح صراحة أن يسمى مقابلة ولا يلقّب بالطباق (2).
وتحدّث ابن أبي الأصبع المصري (654هـ) عن صحة المقابلة في الكلام فقال: «صحة المقابلات عبارة عن توخي المتكلم ترتيب الكلام على ما ينبغي، فإذا أتى في صدره بأشياء قابلها في عجزه بأضدادها، أو بأغيارها من المخالف والموافق على الترتيب، بحيث يقابل الأول بالأول، والثاني بالثاني، لا يخرم من ذلك شيئا في المخالف والموافق، ومن أخلّ بالترتيب كان الكلام فاسد المقابلة» (3).
والمقابلة عند القزويني (739هـ) مرتبطة بالطباق داخلة فيه، قال في تعريفها: «ودخل في المطابقة ما يخصّ باسم المقابلة، وهو أن يؤتى بمعنيين متوافقين أو معان متوافقة بما يقابلهما أو يقابلها على الترتيب» (4).
ويلاحظ أن هذه المعاني والمفاهيم قد تكرّرت كثيرا عند من سبق من النقاد والبلاغيين.
ومن البلاغيين الذين لم يفرّقوا بين المقابلة والطباق ضياء الدين بن الأثير (638هـ)، فقد تناول المقابلة ببحث واسع مستفيض، وقال صراحة: «الأليق
__________
(1) الطراز المتضمن لأسرار البلاغة ط بمطبعة المقتطف بمصر 1914م ج 2ص 377.
(2) المصدر نفسه ص 378.
(3) بديع القرآن تحقيق حفني شرف ط 2دار نهضة مصر: القاهرة ص 73.
(4) الإيضاح في علوم البلاغة شرح وتعليق محمد عبد المنعم خفاجي ط دار الكتاب اللبناني ص 144.(1/15)
من حيث المعنى أن يسمّى هذا النوع المقابلة» ونجده يعرّف الطباق «بأنه الجمع بين الشيء وضده كالسواد والبياض، والليل والنهار» (1).
أما المقابلة فهي بنفس معنى الطباق وحدّها أن تكون اللفظة مقابلة لأختها ومعناها مختلف (2).
وحقيقة المقابلة عند بدر الدين الزركشي (794هـ) «ذكر الشيء مع ما يوازيه في بعض صفاته، ويخالفه في بعضها وهي قريبة من الطباق (3).
ويوضح بدر الدين بن مالك الأندلسي (686هـ) معنى التضاد في مفهوم المقابلة فيقول: «المقابلة أن تأتي في الكلام بجز أين فصاعدا ثم تعطف عليه متضمّن أضدادها، أو شبه أضدادها على الترتيب، فإذا اختل كانت مقابلة فاسدة» (4).
ويورد ابن قيّم الجوزية (751هـ) أقوال السابقين في المقابلة (5)، أما جلال الدين السيوطي (911هـ) فيدخل المقابلة في الطباق ويعرّفها بقوله: «هي أن تذكر لفظتين أو أكثر ثم أضدادها على الترتيب» (6).
ولا يشترط «السيوطي» في تعريفه الموافقة بين المعاني بل نجده يعرّف المقابلة بأنها تضاد بين المعاني في الكلام، وهذا من أنسب تعاريف المقابلة التي تتلاءم مع المفهوم الحديث للتقابل.
__________
(1) المثل السائر في أدب الكاتب والشاعر تحقيق أحمد الحوفي وبدوي طبانة ط 1مكتبة نهضة مصر: 1962ج 3ص 144.
(2) المصدر نفسه ص 143.
(3) البرهان في علوم القرآن تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم ط 2دار المعرفة: بيروت ج 3ص 458.
(4) كتاب المصباح في علم المعاني والبيان والبديع ط 1المكتبة الخيرية إدارة السيد محمد عمر الخشاب ص 88.
(5) الفوائد المشوقة في علوم القرآن تحقيق لجنة تحقيق التراث دار مكتبة الهلال بيروت ص 206.
(6) الإتقان في علوم القرآن ط دار المعرفة بيروت، ج 2ص 122.(1/16)
ومن التعاريف المتأخرة للمقابلة «الجمع بين متنافيين أو أكثر، والمتنافيان المتقابلان في الجملة» (1).
هذه هي أغلب آراء النقاد والبلاغيين العرب في مفهوم المقابلة، وهي آراء متشابهة متقاربة في أغلبها، غير أنّ هناك خلطا والتباسا بين معنى المقابلة والطباق عندهم، وهو خلط قد يعود إلى حرص أغلبهم على كثرة التقسيم والتفريع في الأنواع البلاغية، وإذا كان بعضهم قد فرّق بين الطباق والمقابلة فإنّ البعض الآخر جعلها نوعا واحدا، بل إنّ بعضهم «كالعلوي» و «ابن الأثير» لا يحبّذان اسم الطباق ويقترحان أن يسمّى هذا النوع البلاغي مقابلة، وهذا رأي مناسب نظرا لتقارب معنى المصطلحين، ولدلالة لفظ المقابلة على فكرة التقابل والتضاد في الجملة والمناسب في الاصطلاح أن نسمي هذا النوع مقابلة أو تضادا.
ومما يزين مفاهيم المقابلة في هذه الآراء هو ربطها بفكرة التضاد، أي أنّ المقابلة عندهم هي أن تتقابل الأضداد لغرض بلاغي في الجملة، وهذا المفهوم يلتقي مع المفهوم الحديث للمقابلة الذي يركّز على قضية الضدية (2) ولعلّ ممّا يشين هذه الآراء هو اشتراط الموافقة في المقابلة، وهي ضد المخالفة أو التضاد، أي تقابل المعاني ونظائرها (3) ولم يذكر بعضهم شرط الموافقة، في حين تفطّن البعض الآخر إلى أن المقابلة أكثر ما تجيء في الأضداد (4) وشرط الموافقة هذا قد يدخل المقابلة في باب بلاغي آخر هو «الموازنة».
ولعلّ مما يشين هذه الآراء أيضا هو دراسة المقابلة ضمن نطاق ضيق هو علم البديع، وإن كان بعضهم قد درسها ضمن علم المعاني، وهو الأليق بها
__________
(1) طاش كبري زادة شرح عقود الجمان في علم المعاني والبيان ص 272.
(2) إ. ج: كراتشكوفسكي علم البديع والبلاغة عند العرب ط 1دار الحكمة للنشر:
بيروت 1981م ص 43.
(3) عبد الله الطيب المرشد إلى فهم أشعار العرب وصناعتها ج 2ص 670.
(4) ابن رشيق القيرواني العمدة ج 2ص 15.(1/17)
لوجود العلاقة الكبيرة بين المقابلة أو التضاد والقيم المعنوية والفكرية للنّص، ولذلك تسعى المقابلة إلى أغراض أخرى كثيرة أبعد من الغرض الذي وضع لها وهو تحسين المعنى، فالقدماء بصفة عامة لم يربطوا بين التضاد في الدلالة والحركة التي يموج بها التركيب أو النّص نتيجة لاحتكاك هذه المتضادات (1).
والمقابلة محسّن بديعي في مذهب أغلب القدماء، وتدخل في المحسنات المعنوية للكلام، وتناولها دارسو الإعجاز في بدائع القرآن الكريم، غير أن المتأمّل في دلالاتها واستخداماتها الكثيرة يرى أنّ لها أغراضا أبعد من ذلك، فهي فن بلاغي، وطريقة في أداء المعنى لها آثارها وقيمها البعيدة، كما أنها تساهم في إبراز المعنى بما فيها من ثنائية وتضاد.
هذا من حيث الدلالة أمّا من حيث الاستخدام فقد لوحظ أن الأدب العربي بشعره ونثره قد تميّز بها، وبخاصة الشعر الجاهلي الذي أجريت حوله دراسة إحصائية قام بها الدكتور عبد الله الطيّب وتبيّن أن وجود الطباق والمقابلة كثير في هذا الشعر (2)، أما قول أولئك الذين يزعمون القلّة والانحصار فمردود، أمّا وجود المقابلة في القرآن الكريم فيكاد يشكل ظاهرة واسعة كظاهرة التصوير، وقد لا نحتاج أبدا إلى الإحصاء كي نثبت ذلك، بل إن مجرد قراءة عادية في النصوص القرآنية تجعلنا نقف أمام هذا الأسلوب الواضح والفريد، وهذا ما سيتبيّن في الفصول القادمة.
2 - المقابلة عند الحكماء وعلماء الكلام:
درس الحكماء والفلاسفة، وعلماء الكلام والجدل المقابلة وتناولوها بالبحث لارتباطها الوثيق بالوجود الإنساني، فعلاقة الخالق مع الأضداد التي خلقها، وعلاقة هذه الأضداد مع بعضها ومع غيرها هي قضايا كثيرا ما وقف عندها العقل الإنساني محاولا النظر والتفسير.
__________
(1) سعد أبو الرضا في البنية والدلالة ط نشأة المعارف بالإسكندرية ص 37.
(2) عبد الله الطيب المرشد إلى فهم أشعار العرب وصناعتها ج 6832.(1/18)
ويعد أرسطو من أوائل الفلاسفة الذين خصّوا المقابلة بالبحث والتفسير، وقد تناولها في كتاب «المقولات»، وأشار إليها في كتابه «فن الشعر»، وهي عنده أربعة أصناف (1):
المضافان، والمتضادان، والعدم والملكة، والموجبة والسالبة، فمثال المضاف: الضعف والنصف، ومثال المتضادين: الخير والشر، ومثال العدم والملكة: العمى والبصر، ومثال الموجبة والسالبة قولك: زيد جالس، زيد ليس جالس.
وفرّق أرسطو بين هذه المتقابلات تفريقا فلسفيا حدّد فيه خصائص كل نوع، فالمضافان يتميّزان بأن تقال ماهية أحدهما بالقياس إلى صاحبه إما بذاته، وإما بأي حرف اتفق من حروف النسب مثل الضعف الذي يقال بالقياس إلى النصف، وأما المتضادان فليس تقال ماهية أحدهما بالقياس إلى الثاني بل إنما يقال إن ماهية أحدهما تضاد ماهية الثاني، فإنه ليس يقال إن الخير خير للشر بل مضاد له وأمّا العدم والملكة فإنما يوجدان في شيء واحد بعينه مثال ذلك:
البصر والعمى إنما يوجدان في العين، وأما الموجبة والسالبة فتختصان من بين سائرها أنه يجب ضرورة أن يكون أحدهما صادقا والآخر كاذبا (2).
والفن الشعري عند أرسطو هو محاكاة الضدية التي تظهر في الفضيلة والرذيلة (3) والشعر في تقسيمه هو محاكاة للأفاضل ومحاكاة للأشرار، وهو مما عبّر عنه عند العرب بالمديح والهجاء (4).
__________
(1) ابن رشد تلخيص كتاب المقولات تحقيق محمود قاسم ط دار الشئون الثقافية العامة بغداد، 1991ص 136.
(2) المصدر نفسه ص 143136.
(3) أرسطو فن الشعر تحقيق شكري عياد ط دار الكتاب العربي للطباعة والنشر سنة 1967م ص 52.
(4) المصدر نفسه ص 233، 234.(1/19)
وعند هذا التقابل في الحياة يقول أرسطو: «الشرّ ضرورة مضاد للخير، وذلك باستقراء جزئيات الشرّ والخير، فإن الصحة تضاد المرض، والجود يضاد البخل، والجبن يضاد الشجاعة وكذلك في سائرها» (1).
وتحدّث أرسطو عن خصائص التضاد فقال: «أولا: كلّ متضادين من شأنهما أن يكونا في موضوع واحد مثل: الصحة والمرض الموجودين في جسم الحي، والبياض والسواد الموجودين في الجسم على الإطلاق، والعدل والجود الموجودين في نفس الإنسان، وثانيا: كل متضادين فإما أن يكونا في جنس واحد بعينه مثل الأبيض والأسود اللّذين جنسهما القريب اللون، وإما أن يكونا في جنسين متضادين، مثل: العدل والجور، فإن جنس العدل الفضيلة، وجنس الجور الرذيلة، وهما متضادان، وإما أن يكونا هما بأنفسهما جنسين متضادين ليس فوقهما جنس مثل الخير والشر أي إذا كان أحدهما في مقولة والآخر في مقولة أخرى، لأنهما متى كانا في مقولة واحدة كانت المقولة جنسا لهما» (2).
والمقابلة عند الحكماء هي: امتناع اجتماع شيئين في موضوع واحد من جهة واحدة، ويسمى بالتقابل أيضا (3)، والشيئان يسميان بالمتقابلين كالجهل والعلم، والمحاسن والمعايب (4).
قالت المعتزلة: «الضدان معنيان يستحيل اجتماعهما لذاتيهما في الجملة سواء كانا في محل واحد أو في محلين» (5). وقالوا: العلم بالشيء كالسواد مثلا إذا قام بجزء في القلب فإنه يضاد الجهل بذلك الشيء بجزء آخر من القلب (6).
__________
(1) ابن رشد تلخيص كتاب المقولات ص 143.
(2) المصدر نفسه ص 144، 145.
(3) محمد أعلى التهانوي كشاف اصطلاحات الفنون ط خياط: بيروت ج 5ص 1206.
(4) لويس شيخو علم الأدب ط مطبعة الآباء اليسوعيين: بيروت 1890ج 1ص 27، 28.
(5) كشاف اصطلاحات الفنون ج 4ص 875.
(6) نفسه ج 4ص 875.(1/20)
وهذا بحث فلسفي صرف وإن تعلّق بالله تعالى وصفاته وبالتضاد الناشئ عن المتقابلات الكثيرة في هذا الوجود الإنساني، ولا نريد أن نفصل في هذه المفاهيم التي قد تخرجنا عن جادة الموضوع.
ويعرّف ابن حزم الظاهري (456هـ) التضاد قائلا: «هو اقتسام الشيئين طرفي البعد تحت جنس واحد، فإذا وقع أحد الضدين ارتفع الآخر» (1).
وجاء هذا القول في معرض الرد على الفلاسفة الذين وصفوا الله تعالى بأنّه ضدّ لخلقه، فرد عليهم بأنّ هذا الوصف بعيد عن الباري تعالى، وإنما التضاد كالخضرة والبياض الذين يجمعهما اللون، أو الفضيلة والرذيلة اللتين تجمعهما الكيفية والخلق (2).
وابن حزم هنا ينبّه إلى شرط الاشتراك في الجنس لتحقيق التضاد، والله سبحانه مختلف عن خلقه في الجنس والكيفية، فكيف يكون ضدا لهم.
وبهذا المعنى ردّ ابن تيمية (728هـ) على المتفلسفة فقال: «الفصل الثاني في وحدانية واجب الوجود وأنّه لا ضد له ولا ند، وأنّه قديم أزلي» (3).
وفي معرض ردّ ابن تيمية على الفلاسفة تحدث عن المقابلة فقال: «المتقابلان إمّا أن يختلفا بالسلب والايجاب، وإما أن لا يختلفا بذلك، بل يكونان إيجابيين أو سلبيين، فالأول: هو النقيضان، والثاني: إما أن يمكن خلو المحل عنهما، وإما أن لا يمكن، والأول هما الضدان كالسواد والبياض، والثاني في معنى النقيضين وإن كانا ثبوتيين، كالوجوب والإمكان، والحدوث والقدم، والقيام بالنفس والقيام بالغير، والمباينة والمجانبة ونحو ذلك، ومعلوم أنّ الحياة
__________
(1) الفصل في الملل والأهواء والنحل تحقيق محمد إبراهيم نصر، وعبد الرحمن عميرة ط دار الجيل بيروت 1985م ج 1ص 52.
(2) المصدر نفسه ج 1ص 52.
(3) درء تعارض العقل والنقل تحقيق محمد رشاد سالم ط دار الكنوز الأدبية ج 5ص 109.(1/21)
والموت، والصم والبكم والسمع، ليس ممّا إذا خلا الموصوف عنهما وصف بوصف ثالث بينهما كالحمرة بين السواد والبياض، فعلم أن الموصوف لا يخلو عن أحدهما، فإذا انتفى أحدهما تعيّن الآخر» (1). والفلاسفة في حديثهم عن العدم والملكة وصفوا الله تعالى بالنقيص، وسلبوه من صفات الكمال فرد عليهم بقوله: «إن المتفلسفة اصطلحوا على تقسيم «المتقابلين بالنفي والإثبات» إلى النقيضين، وإلى ما يسمونه «العدم والملكة»، فالعدم عندهم سلب الشيء عما من شأنه أن يكون متصفا به كالعمى والخرس، فإنه عدم البصر والكلام عمّا من شأنه أن يكون بصيرا متكلما، فأما الجماد فلا يسمّونه لا بهذا ولا بهذا.
وشبهتهم لبست على طائفة من أهل النظر، فظنّوا أنّه إذا لم يوصف بصفات الكمال من الحياة والعلم والسمع والبصر والكلام لم يلزم أن يتصف بصفات النقص لأنهما متقابلان تقابل «العدم» و «الملكة» لا تقابل النقيضين (2).
وخلص ابن تيمية إلى القول بأن الطرق التي يسلكها الأئمة ومن اتبعهم من نظار السنّة في هذا الباب: أنّه لو لم يكن موصوفا بإحدى الصفتين المتقابلتين للزم اتصافه بالأخرى، فلو لم يوصف بالحياة لوصف بالموت، ولو لم يوصف بالقدرة لوصف بالعجز، ولو لم يوصف بالسمع والبصر والكلام لوصف بالصمم والخرس والبكم. وطرد ذلك أنّه لو لم يوصف بأنه مباين للعالم لكان داخلا فيه، فسلب إحدى الصفتين المتقابلتين عنه يستلزم ثبوت الأخرى، وتلك صفة نقص ينزّه عنها الكامل من المخلوقات، فتنزيه الخالق منها أولى (3).
وانتهى إلى وصف الفلاسفة بأنهم مخالفون لصريح المعقول كما أنهم مخالفون لصحيح المنقول (4).
__________
(1) الفتاوى ج 3ص 88، 89.
(2) المصدر نفسه ج 12ص 356، 357.
(3) الفتاوى ج 3ص 88، 89.
(4) منهاج السنة النبوية تحقيق محمد رشاد سالم ط 2مكتبة ابن تيمية: القاهرة 1989 ج 1ص 364، 365.(1/22)
وبعد الحديث عن بعض مفاهيم المقابلة عند عدد من الفلاسفة وعلماء الإسلام، وهو بحث قد يطول لعمق الموضوع وسعته، لا بدّ أن نقف عند آية من القرآن فيها حديث عن التضاد، ثم نعرّج على أقوال بعض المفسرين فيها، وقد لجأنا إلى هذا المنهج لاقتناعنا بأن القرآن الكريم جاء في أصول الدين وفروعه في الدلائل والمسائل بأكمل المناهج كما قال ابن تيمية (728هـ) رحمه الله (1).
قال تعالى: {وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنََا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [الذاريات: 49]
ففي الآية حديث عن خلق الأشياء وفق قانون الزوجية ثم ذكر الغاية من هذا الخلق وهي التذكّر، والمقصود بالزوجية التقابل بين الضدين كما ذهب إلى ذلك بعض المفسرين، ومنهم الفخر الرازي (606هـ) الذي يقول في تفسيره:
«الزوجان إما الضدان، فإنّ الذكر والأنثى كالضدين، والزوجان منهما كذلك، وإما المتشاكلان، فإن كل شيء له شبيه ونظير، وضد وند، قال المنطقيون:
المراد بالشيء الجنس، وأقل ما يكون تحت الجنس نوعان، فمن كل جنس خلق نوعين من الجوهر مثلا: المادي والمجرد، ومن المادي النامي والجامد، ومن النامي المدرك والنبات، ومن المدرك الناطق والصامت، وكل ذلك يدلّ على أنه فرد لا كثرة فيه، وقوله: «لعلكم تذكرون» أي: لعلّكم تذكرون أنّ خالق الأزواج لا يكون له زوج، وإلا لكان ممكنا فيكون مخلوقا ولا يكون خالقا» (2).
وذكر الزمخشري أن المراد بالزوجين السماء والأرض والليل والنهار والشمس والقمر، والبر والبحر، وعدّد أشياء وقال: كل اثنين منها زوج، والله تعالى فرد لا مثل له (3).
__________
(1) الفتاوى ج 2ص 8.
(2) تفسير الفخر الرازي ج 28ص 227.
(3) الكشاف ج 4ص 404.(1/23)
وجاء في تفسير أبي السعود (951هـ) أن المراد بالشيء في الآية الجنس والزوجين النوعين الذكر والأنثى، وقيل المتقابلين السماء والأرض، والليل والنهار، والشمس والقمر، والبر والبحر ونحو ذلك (1).
فالآية إذن تقرر قاعدة الزوجية في الخلق، وهو ما يعبر عنه بالتقابل والتضاد، وهذا ظاهر في الأحياء، لكن كلمة شيء تشمل غير الأحياء أيضا (2)
وهذا ما تفسره الآية الأخرى وهي قوله تعالى: {وَأَنَّ إِلى ََ رَبِّكَ الْمُنْتَهى ََ (42) وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكى ََ (43) وَأَنَّهُ هُوَ أَمََاتَ وَأَحْيََا (44) وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى ََ (45) مِنْ نُطْفَةٍ إِذََا تُمْنى ََ} (46) [النجم: 4642].
3 - المقابلة عند المحدثين:
تركز المفهومات الحديثة للمقابلة على قضية التضاد القائم بين المعاني، ولذلك ينتفي الفرق بين الطباق والمقابلة من حيث الدلالة والغاية والأسلوب.
فالمقابلة) (في الاصطلاح الحديث هي أسلوب أو طريقة في التعبير تقوم على مبدأ إقامة ضدية بين فكرتين أو تعبيرين أو كلمتين بمعنيين متقابلين أو متضادين (3). فهي إذن تضاد أو تقابل بين الأفكار (4).
فالملاحظ أنّ هذا المفهوم الحديث يلتقي مع المفهومات القديمة للطباق والمقابلة التي تشترط فكرة تقابل الأضداد، وتشترط شروطا أخرى كشرط الموافقة، والتقابل التام بين صدر الجملة وعجزها، أما الاصطلاح الحديث فيركز على فكرة التضاد في الجملة دون إقامة شروط.
__________
(1) تفسير أبي السعود ط دار إحياء التراث العربي: بيروت ج 7ص 143.
(2) في ظلال القرآن سيد قطب ج 6ص 3385.
(3) ينظر: 0691.
(4) وينظر:.). (.(1/24)
ويرى المستشرق الروسي «كراتشكوفسكي» أن مفهوم الطباق قديما قد اكتسب مفهوما جديدا في العصر الحديث هو «المقابلة» أو تقارب الأضداد (1).
وهذا الرأي يحتاج إلى إعادة نظر لأن فكرة التضاد، وعلاقة الطباق بالمقابلة هي من مذاهب القدماء، وليس هناك تطور قد حصل بالفعل على مصطلح «الطباق» ليصبح «مقابلة» بل الأمر راجع إلى أن المحدثين لا يفرقون بين الطباق والمقابلة كما هو الحال عند بعض القدماء.
وذهب الشيخ «محمد أبو زهرة» إلى أن المقابلة طريقة في الاستدلال بخاصة في القرآن الكريم، بل عدّها من ينابيع الاستدلال في القرآن، لأنّ المقابلة في رأيه بين شيئين أو أمرين أو شخصين تكون ليعرف أيّهما المؤثر في عمل معين، وإذا ثبت أن التأثير لواحد منهما كان له فضل التقدم على غيره، وكانت المقابلة في القرآن بين الذات العلية وبين ما ابتدعوا من عبادة الأوثان ينبوعا للاستدلال على بطلان ما زعموا (2).
«وأبو زهرة» يتحدث هنا عن المقابلة في إطارها العام، وعمّا تساهم به من قيم فكرية، وأهداف تربوية في النصّ القرآني، وهو حديث يبرز مبدأ القيمة المعنوية التي يسعى إليها الأسلوب التقابلي، وأهميتها في توصيل المعنى بأبعاده المختلفة.
ويرى «لويس شيخو» أن المقابلة هي أن يؤتى بمتعدد من المتوافقات ثم يؤتى بما يطابقه على الترتيب (3) وفرّق بين الطباق والمقابلة (4).
__________
(1) ينظر: إ. ج كراتشوفسكي علم البديع والبلاغة عند العرب ص 43.
(2) محمد أبو زهرة المعجزة الكبرى القرآن ط دار الفكر العربي ص 354.
(3) علم الأدب ج 1ص 172.
(4) نفسه ج 1ص 173.(1/25)
ولويس شيخو كما هو ملاحظ متأثر بمذاهب القدماء تأثرا واضحا، غير أنّه يضيف إلى هذا أنّ للمقابلة دورا هاما في عملية الإقناع، فعملها رحب الفناء، لأن الشيء إذا عرض على نقيضه يزيده جلاء وبيانا، قال الشاعر:
ضدان لمّا استجمعا حسنا ... والضدّ يظهر حسنه الضد (1)
والمقابلة عند المحدثين طباق متعدد، فما يقصد من الطباق يقصد من المقابلة (2) وتسمى أيضا «التضاد»، كما يرى المستشرق الروسي «كراتشكوفسكي» وهي اللفظة الأكثر قبولا وواقعية في رأيه (3).
ولفظة «التضاد» هذه لفظة معروفة في القديم، فقد رأينا أن بعضا من قدماء الدارسين للبلاغة العربية سمّى المقابلة والطباق «تضاد». ولذلك فإنه من الأنسب أن نسمي هذا النوع البلاغي «مقابلة» أو «تضاد» ونجنّب أنفسنا كثرة التقسيم في موضوعات البلاغة العربية.
وأخيرا يستنتج من هذه الآراء أن المقابلة هي إقامة تضاد بين الألفاظ والمعاني والأفكار لغايات بلاغية، وقيم معنوية.
ج أنواع المقابلة:
للمقابلة تقسيمات عديدة عند النقاد والبلاغيين قديما لعل أشهرها تقسيمها على أساس عدد الأضداد في صدر الجملة وعجزها، وتقسيمها على أساس اللفظ والمعنى.
فمن حيث العدد قسمت إلى (4):
__________
(1) نفسه ج 1ص 27، 28.
(2) ينظر محمد بركات أبو علي البلاغة العربية في ضوء منهج متكامل ط 1دار البشير:
عمان 1992ص 68.
(3) علم البديع والبلاغة عند العرب ص 43.
(4) ينظر الإيضاح للقزويني ص 487485.(1/26)
أولا: مقابلة اثنين باثنين، كقوله تعالى: {فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيراً}
[التوبة: 82] وقول النبي صلى الله عليه وسلّم: «إنّ الرّفق لا يكون في شيء إلّا زانه ولا ينزع من شيء إلّا شانه» (1).
ثانيا: مقابلة ثلاثة بثلاثة، كقوله تعالى: {يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهََاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبََاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبََائِثَ} [الأعراف: 157] وقول الشاعر:
ما أحسن الدين والدنيا إذا اجتمعا ... وأقبح الكفر والإفلاس بالرجل
وقول المتنبي:
فلا الجود يفني المال والجدّ مقبل ... ولا البخل يبقي المال والجدّ مدبر
ثالثا: مقابلة أربعة بأربعة، كقوله تعالى: {فَأَمََّا مَنْ أَعْطى ََ وَاتَّقى ََ (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى ََ (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى ََ (7) وَأَمََّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنى ََ (8) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنى ََ (9) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى ََ} (10) [الليل: 105].
رابعا: مقابلة خمسة بخمسة: كقول المتنبي:
أزورهم وسواد الليل يشفع لي ... وأنثني وبياض الصبح يغري بي
وقال ابن سنان الخفاجي (466هـ): «هذا البيت مع بعده عن التكلّف كلّ لفظة من ألفاظه مقابلة بلفظة هي لها من طريق المعنى منزلة الضد، فأزورهم وأنثني، وسواد وبياض، والليل والصبح، ويشفع ويغري، ولي وبي» (2).
خامسا: مقابلة ستة بستة، مثل قول الشاعر:
على رأس عبد تاج عزّ يزينه ... وفي رجل حرّ قيد ذلّ يشينه
__________
(1) رواه مسلم في باب البر ج 4ص 2004تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي ط دار الحديث:
القاهرة.
(2) سر الفصاحة ص 201.(1/27)
قال الصفدي: «هذا أبلغ ما يمكن أن ينظم في هذا المعنى، فإن أكثر مما عدّ الناس في باب المقابلة بيت أبي الطيب لأنّه قابل فيه بين خمسة وهذا قابل فيه بين ستة» (1).
هذه أقسام المقابلة المعروفة، وقسمها ابن قيم الجوزية: «(751هـ) إلى قسمين: مقابلة لفظية ومقابلة معنوية (2) وقسّمها بدر الدين الزركشي (794هـ) إلى ثلاثة: نظيري، ونقيضي، وخلافي (3).
ومن أحسن التقسيمات ما نجده عند العلوي (794هـ) في كتبه «الطراز» حيث قسّمها إلى أربعة أضرب (4):
الضرب الأول: في مقابلة الشيء بضده من جهة لفظه ومعناه، ومثاله قوله تعالى: {إِنَّ اللََّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسََانِ وَإِيتََاءِ ذِي الْقُرْبى ََ وَيَنْهى ََ عَنِ الْفَحْشََاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ} [النحل: 90] فانظر إلى هذا التقابل العجيب في هذه الآية ما أحسن تأليفه وأعجب تصريفه، فلقد جمع فيه بين مقابلات ثلاث: الأولى منها مأمور بها والثلاث التوابع منهي عنها، ثم هي فيما بينها متقابلة أيضا.
الضرب الثاني: في مقابلة الشيء بضده من جهة معناه دون لفظه، ومثاله قوله تعالى: {فَمَنْ يُرِدِ اللََّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلََامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً} [الأنعام: 125] فقوله: يهدي ويضل من باب الطباق اللفظي، وقوله: يشرح صدره مع قوله: يجعل صدره ضيّقا حرجا من الطباق المعنوي، لأن المعنى بقوله يشرح يوسعه للإيمان ويفسحه بالنور حتى يطابق قوله ضيّقا حرجا.
__________
(1) علي بن معصوم المدني (1140هـ) أنوار الربيع تحقيق شاكر هادي شاكر ط 1 مطبعة النعمان 1968م ج 1ص 304.
(2) الفوائد المشوقة إلى علوم القرآن ص 207.
(3) البرهان في علوم القرآن ج 3ص 460458.
(4) الطراز ج 2ص 388378.(1/28)
الضرب الثالث: في مقابلة الشيء بما يخالفه من غير مضادة، وذلك يأتي على وجهين:
الوجه الأول منهما: أن يكون أحدهما مخالفا للآخر، خلا أن بينهما مناسبة، وهذا نحو قوله تعالى: {إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهََا} [آل عمران: 120]، فالمصيبة مخالفة للحسنة من غير مضادة، إلا أن المصيبة لا تقارب الحسنة، وإنما تقارب السيئة، لأن كل مصيبة سيئة، وليس كل سيئة مصيبة، فالتقارب بينهما من جهة العموم والخصوص، وهكذا قوله تعالى: {أَشِدََّاءُ عَلَى الْكُفََّارِ رُحَمََاءُ بَيْنَهُمْ} [الفتح: 29] فالرحمة ليست ضدا للشدة، وإنما ضد الشدة اللين، خلا أنّه لمّا كانت الرحمة من مسببات اللين، حسنت المطابقة، وكانت المقابلة لائقة.
الضرب الرابع: المقابلة للشيء بما يماثله، وذلك يكون على وجهين:
الوجه الأول منهما: مقابلة المفرد بالمفرد، وهذا كقوله تعالى: {وَجَزََاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهََا} [الشورى: 40]، وقوله تعالى: {هَلْ جَزََاءُ الْإِحْسََانِ إِلَّا الْإِحْسََانُ}
[الرحمن: 60]، وقوله تعالى: {مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ} [الروم: 44] وغير ذلك من الأمور المفردة، فضابط المماثلة أنّ كل كلام كان مفتقرا إلى جواب يكون مماثلا كما قررناه.
الوجه الثاني: مقابلة الجملة بالجملة، وهذا قوله تعالى: {وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللََّهُ وَاللََّهُ خَيْرُ الْمََاكِرِينَ} [آل عمران: 54] وقوله تعالى: {قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمََا أَضِلُّ عَلى ََ نَفْسِي} [سبأ: 54]، والجمل الشرطية مترددة بين عدّها في باب المفرد والجملة، فإن عدت في المفردات فلأنها وإن كانت جملا لكنها قد نقصت عن الاستقلال بعقد حرف الشرط لها عقدا واحدا، وإن عدّت في الجملة فلأن الظاهر من الشرط والجزاء جملتان فلما كان الأمر كما قلناه جاز فيها الوجهان.(1/29)
ولعلّ هذا التقسيم أقرب شيء إلى التقسيمات الحديثة التي تجعل المقابلة قسمين، قسم فيه تضاد حقيقي بين الكلمات أو الجمل، وقسم آخر ليس فيه تضاد حقيقي وإنما تقابل بين الكلمات أو الجمل المتماثلة أو شبه تضاد (1).
وأخيرا تحدث ابن وهب الكاتب (من علماء القرن الرابع الهجري) عن خصائص الشعر العربي الجيد فعدّ منها صحة المقابلة فقال: «والذي يسمى به الشعر فائقا، ويكون إذا اجتمع فيه مستحسنا رائعا صحة المقابلة، وحسن النظم، وجزالة اللفظ، واعتدال الوزن، وإصابة التشبيه، وجودة التفصيل، وقلة التكلّف، والمشاكلة في المطابقة، وأضداد هذه كلها معيبة تمجّها الآذان» (2).
* * * __________
(1) ينظر: فصول من البلاغة والنقد الأدبي تأليف جماعة من الكتّاب فصل خاص بعنوان «ألوان من البديع ومعايير جودتها» د. عز الدين الجودي ص 182179ط 1مطبعة الفلاح: الكويت 1983م.
(2) البرهان في وجوه البيان تحقيق حفني محمد شرف ط مكتبة الشباب: القاهرة ص 139.(1/30)
الفصل الثاني المقابلة والقضية الكبرى في القرآن الوحدانية وتعدد الآلهة
أالوحدانية وطريقة عرضها في القرآن الكريم:
1 - التوحيد قضية القرآن المركزية:
إنّ القرآن الكريم هو مصدر الإسلام الأول، وهو البلاغ المبين الذي أوصله الرسول صلى الله عليه وسلّم إلى الناس أجمعين، وهو الكتاب الذي يعزى إليه الدور الكبير والضخم في بناء أعظم الحضارات الإنسانية، وهي الحضارة الإسلامية التي تميّزت على المستويين الديني والدنيوي، وتركت بصماتها المضيئة في التاريخ الإنساني، وقد قررت الدراسات والأبحاث قديما وحديثا أنّ دور القرآن هذا يعود إلى عوامل وخصائص كثيرة من بينها أنّ القرآن الكريم ربانيّ المصدر، وهي خاصية تدرك بالفطرة السليمة، وتدرك بالنظر والتأمل، وهي من البديهيات عند ذوي العقول السليمة.
والاطمئنان إلى هذا المصدر الإلهي له عدّة خصائص أهمها: المعرفة التامة بالنفس البشرية وطبائعها وحاجاتها، وما ينفعها وما يضرها، وما يحقّق لها السعادة أو ما يجرها إلى الشقاء، ومثل هذه المعرفة لا يملكها إلا خالق هذه النفس، ومصوّرها ومعلمها {الرَّحْمََنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (2) خَلَقَ الْإِنْسََانَ (3) عَلَّمَهُ الْبَيََانَ} (4) [الرحمن: 41].
والخاصية الثانية للقرآن تتعلّق بالحقيقة الكبرى التي يقوم عليها الكون والوجود الإنساني كله، وهي الحقيقة التي يسعى القرآن إلى بثّها وتثبيتها في النفوس، حقيقة أنّه لا إله إلا الله، وأنّه لا معبود بحقّ سواه، وهي الحقيقة التي تشكل التصور الإسلامي عن الله والكون والإنسان.
يقول جوستاف لوبون: «تشتق سهولة الإسلام العظيمة من التوحيد المحض، وفي هذه السهولة سر قوّة الإسلام، والإسلام وإدراكه سهل، خال مما نراه في الأديان الأخرى، ويأباه الذوق السليم، غالبا من التناقضات والغوامض، ولا شيء أكثر وضوحا وأقلّ غموضا من أصول الإسلام القائلة بوجود إله واحد، وبمساواة جميع الناس أمام الله» (1).(1/31)
والخاصية الثانية للقرآن تتعلّق بالحقيقة الكبرى التي يقوم عليها الكون والوجود الإنساني كله، وهي الحقيقة التي يسعى القرآن إلى بثّها وتثبيتها في النفوس، حقيقة أنّه لا إله إلا الله، وأنّه لا معبود بحقّ سواه، وهي الحقيقة التي تشكل التصور الإسلامي عن الله والكون والإنسان.
يقول جوستاف لوبون: «تشتق سهولة الإسلام العظيمة من التوحيد المحض، وفي هذه السهولة سر قوّة الإسلام، والإسلام وإدراكه سهل، خال مما نراه في الأديان الأخرى، ويأباه الذوق السليم، غالبا من التناقضات والغوامض، ولا شيء أكثر وضوحا وأقلّ غموضا من أصول الإسلام القائلة بوجود إله واحد، وبمساواة جميع الناس أمام الله» (1).
فالوحدانية بخصائصها ومقوماتها هي المحور الأساسي في القرآن، وهي القضية الكبرى التي عني بها عناية كبيرة إنّها أخذت الحيّز الأكبر في آي القرآن، فقد طال في سوره إثبات الوحدانية، ودمغ كل شائبة تنسب الشرك إلى الألوهية، واطّرد حجاج القرآن في هذه القضية حتى عدّها قضيته المصيرية (2)
والوحدانية التي يدعو إليها القرآن الكريم لها مقوماتها الخاصة التي لا نجدها في الأديان السماوية التي تسرّب إليها التحريف، ولابسها الشرك، ولا في الأديان البشرية الوضعية التي طغى عليها الضلال، وكثرت فيها الأهواء، إنّها مقومات تجرّد التوحيد، وتجعله خالصا لله وحده، وتنفي عنه الشرك بأنواعه كلّها، ولذلك استبحرت الآيات القرآنية في سرد هذا المعنى، وركّز «المنهج القرآني تركيزا شديدا على هذه الحقيقة لتعميقها في الضمير البشري، وسلك بها إلى هذا الضمير كل مسالك الكينونة البشرية، واتّبع شتى أساليب الاستجاشة والتأثير، والإبانة والتقرير ليقرّ في النفس البشرية حقيقة العبودية لله وحده بلا شريك، والدينونة لله وحده بلا منازع، باعتبار أنّ هذه العبودية، وهذه الدينونة شاملتان للوجود كلّه، غير مقصورتين على الكائن الإنساني» (3).
إن الوحدانية التي حمل لواءها القرآن هي الاعتراف لله وحده بالخلق والأمر، {أَلََا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ} [الأعراف: 54]، والاعتراف له بحق العبادة التي
__________
(1) حضارة العرب ص 125.
(2) محمد الغزالي نظرات في القرآن ط دار البعث: الجزائر ص 74.
(3) سيد قطب مقومات التصور الإسلامي ص 82.(1/32)
تعني الخضوع التام له فيما أمر ونهى، والعبادة «هي اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الباطنة والظاهرة» (1)، وهذه العبادة هي إحدى المعاني التي ركّز عليها القرآن تركيزا شديدا حيث إنها مرتبطة بالألوهية التي لا يملكها إلا من له سلطة على كل شيء، قال تعالى: {اللََّهُ خََالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلى ََ كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (62) لَهُ مَقََالِيدُ السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيََاتِ اللََّهِ أُولََئِكَ هُمُ الْخََاسِرُونَ (63) قُلْ أَفَغَيْرَ اللََّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجََاهِلُونَ} [الزمر: 6462].
وقال تعالى: {يََا أَيُّهَا النََّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (21) [البقرة: 21]، وحقّ العبادة هو غاية الخلق والتكوين {وَمََا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلََّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56].
والوحدانية تعني كذلك الاعتراف لله بحق الحاكمية، قال تعالى: {أَلََا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحََاسِبِينَ} [الأنعام: 62] وقال أيضا: {أَفَحُكْمَ الْجََاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللََّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة: 50].
وحق الحاكمية هو من أهم خصائص الوحدانية (2) وهو الحق الذي يملكه الله تعالى وحده، لأن بيده الأمر والسلطة على كل شيء، وقد نازعه البشر في هذا الحق جهلا وظلما وطغيانا فطالبهم برده إلى الله، قال تعالى: {إِنِ الْحُكْمُ إِلََّا لِلََّهِ} [الأنعام: 57].
إن قارئ القرآن والمتتبع لآياته يدرك أن موضوع هذا الكتاب، وفكرته الأساسية هي أنّ الله هو الرب والإله، وأنه لا ربّ ولا إله إلا هو، فإياه ينبغي أن يعبد الإنسان، وله وحده ينبغي أن يخلص الدين (3).
__________
(1) ابن تيمية العبودية ط دار عمّار للنشر والتوزيع: عمان / الأردن ص 5.
(2) سيد قطب خصائص التصور الاسلامي ط 3الاتحاد الإسلامي العالمي للمنظمات الطلابية: الكويت ص 32.
(3) أبو الأعلى المودودي المصطلحات الأربعة في القرآن ص 7.(1/33)
إن الوحدانية في القرآن الكريم هي تعريف البشر بإلههم الحق تعريفا عميقا موحيا يشبع العقل والقلب، فهي حقيقة قائمة على أساس من الحجج الواضحة، والبراهين القاطعة التي يتجلّى فيها الحض على التفكير والتدبّر، والدعوة إلى النظر والتأمل في ملكوت السماوات والأرض من أجل الاستدلال على ربوبية الله وتأكيد وحدانيته (1).
واللافت للنظر في عرض القرآن لهذه القضية مسألتان:
أولهما: إن القرآن الكريم لا يهتم بقضية وجود الله، ولا يجعلها محل نزاع وجدل مع المنكرين والمخالفين، وذلك راجع إلى أن المخاطبين لا ينكرون أصلا وجود الله، وأن وجود الله مسألة مغروسة في النفس البشرية «فالواقع أنه حتى العرب المشركين كانوا يعترفون بوجود إله عظيم، خالق للكون، ومدبّر لشئونه، ولا يرجع هذا الاعتراف فقط إلى بعض الآثار المحفوظة عندهم من ديانة إبراهيم وإسماعيل، وإنما توجد نواته في أعماق النفس البشرية، ولكن هذا التوحيد الأولي، أو هذه الديانة الفطرية كما يسميها القرآن لم تكن إلا فكرة محجوبة ومغمورة في الواقع تحت معتقدات وعبادات كانت تؤدي إلى عدد لا يحصى من الآلهة» (2).
يقول سيد قطب: «لن نعجب إذا رأينا القرآن الكريم لم يكن يقف أمام قضية الاعتقاد بوجود الله بينما الحديث كلّه عن توحيد الله سبحانه، والتعريف بصفاته الحقّة، ذلك أن قضية وجود الله لم تكن قضية جدلية من قضايا العقيدة، فالفطرة حتى في انحرافها وجاهليتها لا تكاد تلم بهذا الخاطر العارض الشاذ الذي انتهى إليه بعض الشاردين من الكنيسة في أوروبا (3).
__________
(1) صلاح الدين رسلان القرآن الحكيم رؤية منهجية جديدة ط مكتبة نهضة الشرق:
القاهرة 1985ص 40.
(2) محمد عبد الله دراز مدخل إلى القرآن الكريم ط دار القلم: الكويت ص 74، 75.
(3) مقومات التصور الإسلامي ص 109.(1/34)
فالتركيز على المنهج القرآني ابتداء على «التوحيد» لا على «الوجود»، توحيد الذات الإلهية، فالله سبحانه ذات واحدة لا تتعدد، لا تتبعّض ولا تندمج معها ذوات أخرى، ولا تتلبس بها في صورة من صور الاندماج أو التلبس، هذه الذات متصفة بصفات تتفرد بها كذلك، فلا يشاركها فيها أحد، ومن وحدانية الذات وتفردها بهذه الصفات تتضح وحدانية الفاعلية والتأثير في الكون وما فيه ومن فيه» (1).
ثانيهما: إن فكرة الوحدانية عرضت في التاريخ البشري كلّه منذ وجد الإنسان على ظهر هذه الأرض، وإنها لم تعرض في القرآن الكريم لأول مرة بل هي دعوة متكررة كلما كثر الانحراف والفساد والتعدي على منهج الرسل والأنبياء. فالقرآن الكريم يؤسس دعوته إلى التوحيد على تاريخ الأنبياء في كل الأزمنة السابقة، ومن هنا يتجلّى لنا بوضوح أنّ العقل والنقل يشاركان القرآن في إثبات الوحدانية لله، ورفض الوثنية والشرك على اختلاف أنواعهما (2).
يقول ابن تيمية (728هـ) رحمه الله (3): التوحيد هو أصل الدين الذي لا يقبل الله من الأولين والآخرين دينا غيره، وبه أرسل الرسل وأنزل الكتب كما قال تعالى: {وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنََا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنََا أَجَعَلْنََا مِنْ دُونِ الرَّحْمََنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ}
[الزخرف: 45] وقال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنََا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللََّهَ وَاجْتَنِبُوا الطََّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللََّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلََالَةُ} [النحل: 36].
فالوحدانية التي هي أصل الشرائع الإلهية، وهي التعريف بالله وبمنهجه، وبحقوقه على العباد، قد أخذت الحيّز الأكبر من اهتمام القرآن، أما مسألة وجود الله فلا تأخذ الاهتمام نفسه لكونه من البداهات التي يدركها الإنسان
__________
(1) نفسه ص 239.
(2) ينظر محمد عبد الله دراز مدخل إلى القرآن الكريم ص 77.
(3) الفتاوى ج 1ص 37.(1/35)
بفطرته، ويهتدي إليها بطبيعته، وليست من المسائل المعقدة، ولا من حقائق الفكر العويصة (1).
2 - لماذا التركيز على الوحدانية في القرآن
لقد كان لشيخ الإسلام ابن تيمية (728هـ) نظرات قيّمة حول هذا الموضوع، فقد ذكر أولا: أن الوحدانية هي أصل الدين الذي لا يقبل الله من الأولين والآخرين دينا غيره (2)، وذكر ثانيا: أن الإنسان خلق محتاجا إلى جلب ما ينفعه، ودفع ما يضره، ونفسه مريدة دائما، ولا بد لها من مراد يكون غاية مطلوبها لتسكن إليه وتطمئن به، وليس ذلك إلا لله وحده، فلا تطمئن القلوب إلا به، ولا تسكن إلا إليه، و {لَوْ كََانَ فِيهِمََا آلِهَةٌ إِلَّا اللََّهُ لَفَسَدَتََا فَسُبْحََانَ اللََّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمََّا يَصِفُونَ}
[الأنبياء: 22].
فكلّ مألوه سواه يحصل به الفساد، ولا يحصل صلاح القلوب إلا بعبادة الله وحده لا شريك له (3).
وهذا المعنى مستفاد من قوله تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللََّهِ الَّتِي فَطَرَ النََّاسَ عَلَيْهََا لََا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللََّهِ ذََلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلََكِنَّ أَكْثَرَ النََّاسِ لََا يَعْلَمُونَ} [الروم: 30]، ففطرة الله تعالى هي الوحدانية المترسّخة في نفوس البشر، وهي الدين القيّم الذي لا عوج فيه (4).
وهذا التوحيد المغروس في نفوس البشر ليس كافيا عند الله، بل يجب العمل بمقتضى ما تنبني عليه فكرة الوحدانية.
__________
(1) محمد الغزالي عقيدة المسلم ص 12.
(2) الفتاوى ج 1ص 37.
(3) الفتاوى ج 1ص 55.
(4) الفخر الرازي تفسير الفخر الرازي ج 25ص 120.(1/36)
ويأتي التركيز على قضية الوحدانية في القرآن الكريم لإقامة الحدود الفاصلة بين الحق والباطل في الأرض، إذ تتعارض كل الموازين البشرية، والمقاييس الأرضية في وضع الحدود الفاصلة بين ما هو حقّ وما هو باطل، والله وحده الذي لا ضدّ له ولا ند هو الذي سيفصل بين الأضداد والأنداد، فالوحدانية على هذا الأساس هي المقياس الوحيد في معرفة الخطأ والصواب، والخير والشر، والفضيلة والرذيلة.
ويسأل سيد قطب السؤال نفسه: «لماذا نالت هذه القضية (الوحدانية) كل هذه العناية في كتاب الله الكريم، ولماذا أنفق رسول الله صلى الله عليه وسلّم كل هذا الجهد في تثبيت هذه الحقيقة وتعميقها في ضمائر المسلمين، وفي حياتهم كذلك، لماذا شغلت هذه الحقيقة كل هذا الحيّز في القرآن كله، ولماذا وردت في معرض «الاعتقاد»، وفي معرض العبادة، وفي معرض «الحكم»، في القرآن المكي والمدني سواء؟ لقد علم الله سبحانه وعلّم رسوله الكريم صلى الله عليه وسلّم أن هذا هو مفرق الطريق بين الصلاح والفساد في الأرض، في ضمائر الناس، وفي حياتهم، وأنه لا بدّ من وضوح كامل، وبيان حاسم لمفرق الطريق» (1).
وكذلك يأتي التركيز على وحدانية الله في القرآن، وعلى المعاني الحقيقية لكلمة «لا إله إلا الله» ومقوماتها وخصائصها لأمر يتعلق بالوجود الإنساني كله، وليس مردّه إلى إنكار العرب في الجاهلية كما يظنّ البعض، فالأمر يعود إلى أن الله اللطيف الخبير يعلم النفس البشرية وطبيعتها، ويعلم أن الوحدانية هي محور ارتكاز الإنسان كله، وموجّه ألوان نشاطه، وأن نوع الحياة التي يحياها الإنسان تتعلّق بتصوره عن الإله والكون والإنسان (2).
فالوحدانية في حقيقتها، وكما يريدها الله تعالى هي التصوّر الإسلامي الصحيح عن الله والكون والإنسان، وهذا التصوّر يجب أن يترسّخ في ضمير
__________
(1) مقومات التصور الإسلامي ص 179.
(2) محمد قطب دراسات قرآنية ص 25.(1/37)
الإنسان لينبثق منه سلوكه ونشاطه وحركته في هذه الحياة، ومن هنا تأتي أهمية هذا الموضوع الذي تنوّع عرضه في القرآن لغايات الإقناع والإمتاع، ولغايات الاستجاشة والتأثير.
وسيبقى عرض القرآن لقضية الوحدانية هو التصحيح السليم للعقائد المنحرفة، والتصورات الباطلة التي عرفتها الإنسانية، ليميز الله الخبيث من الطيب، والحق من الباطل {هََذََا بَلََاغٌ لِلنََّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمََا هُوَ إِلََهٌ وََاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُوا الْأَلْبََابِ} [إبراهيم: 52].
3 - الوحدانية والفطرة:
إنّ التديّن غريزة فطرية في النفس البشرية، وهو حاجة من حاجاتها الضرورية، فالنفس بحكم تكوينها وبوعي منها أو بغير وعي لا بدّ أن تكون لها عقيدة، وهذه العقيدة هي التصور الشامل للكون والإنسان وعلاقتهما بالإله، وهي الأساس الذي تنبني عليه حركة الإنسان، ووجوده في الأرض (1)، فالدين إذن حاجة فطرية كحاجة النفس إلى الطعام والشراب لحفظ الذات، وكحاجتها إلى النسل لحفظ النوع (2).
والاعتقاد بوجود إله مسيطر على الكون بما فيه هو أصل الفطرة، وهو ما يدعو إليه المنهج القرآني، أما ما يرى من تعدد الآراء والمعتقدات فيتعلق بانحراف الفطرة عن جادتها، يقول أحد علماء الغرب: «إنني إذا سئلت لماذا أنا مؤمن بوجود الله، لا أستطيع أن أجيب عن هذا السؤال إلا بالجواب الذي أجيبه إذا سئلت: لماذا تأكل، ولماذا تشرب؟ ولماذا تنام؟ ذلك لأن الجواب عن هذا أنّ الأكل قانون من قوانين وجودي المادي، فلا يمكنني أن أتخلّى عن الأكل، ولا عن التنفس وهكذا، فشعوري بوجود الله قانون من قوانين وجودي
__________
(1) محمد دراسات قرآنية ص 25، 26.
(2) سيد قطب مقومات التصور الإسلامي ص 102.(1/38)
الروحي، وضرورة من ضروراته فلا أستطيع أن أتخلّى عنه إلا إذا تخليت عن مشاعري وإحساساتي الروحية، بل وعن حياتي، فأقوى هذه الإحساسات التي هي أصل الحياة هي أن لي ربّا وأن لي إلها، وأنّي مرتبط بهذا الإله» (1).
وقد تحدث القرآن عن هذه الفطرة الموحدة في بعض الآيات منها قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلى ََ أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قََالُوا بَلى ََ شَهِدْنََا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيََامَةِ إِنََّا كُنََّا عَنْ هََذََا غََافِلِينَ} [الأعراف: 172].
ومعنى هذه الآية «أن الله سبحانه قد أخذ على البشر عامة ميثاق الفطرة والعقل، إذ استخرج من بني آدم ذريتهم بطنا بعد بطن، فخلقهم على فطرة الإسلام، وأودع في أنفسهم غريزة الإيمان، وجعل من مدارك عقولهم الضرورية أنّ كل فعل لا بد له من فاعل، وكل حادث لا بدّ له من محدث، وأن لكلّ العوالم الممكنة القائمة على سنّة الأسباب والمسببات، والعلل والمعلولات سلطانا أعلى على جميع الكائنات، هو الأول والآخر، هو المستحقّ للعبادة» (2).
وقال ابن قيم الجوزية (751هـ): «مذهب أهل الحديث وكبراء أهل العلم في هذه الآية أنّ الله أخرج ذرية آدم من صلبه وأصلاب أولاده، وهم في صور الذّرّ، فأخذ عليهم الميثاق أنه خالقهم، وأنهم مصنوعون فاعترفوا بذلك وقبلوا، وذلك بعد أن ركّب فيهم عقولا عرفوا بها ما عرض عليهم» (3).
وأضاف ابن القيم أنّ الله سبحانه أخبر أنّ حكمة الإشهاد إقامة الحجّة عليهم لئلا يقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين، والحجّة إنّما قامت عليهم بالرسل والفطرة التي فطروا عليها (4).
__________
(1) حسن البنا نظرات في القرآن ط دار الاعتصام: القاهرة ص 38.
(2) محمد رشيد رضا تفسير المنار ج 9ص 387.
(3) الروح ط دار الكتب العلمية بيروت: 1979م ص 163.
(4) الروح ط دار الكتب العلمية: بيروت 1979ص 167.(1/39)
فمذهب جمهور علماء السلف هو أنّ أصل الفطرة المترسّبة في أعماق النفس البشرية هو التوحيد والاعتراف بالله ربا وخالقا، وهذا ما تريد الآيات القرآنية تقريره (1)، لكنّ بعضا من علماء الإسلام خالف الرأي، وذهب إلى أن الفطرة الإنسانية قابلة للخير والشر في أصل جبلّتها، وهذا رأي ابن حزم الظاهري (456هـ) حيث قال: «من خلق الله تعالى الإيمان في قلبه ولسانه فهو مؤمن صحيح الإيمان وكذلك الكفر أيضا من خلق الله تعالى الكفر في قلبه، أو خلقه على لسانه فهو كافر محض» (2).
ويرى ابن خلدون (808هـ) أن الفطرة البشرية قابلة للخير والشر، لكنها إلى الخير أقرب، قال في المقدمة: «لما كان طبيعيا للإنسان، لما فيه من طبيعة الاجتماع كما قلنا، وكان الإنسان أقرب إلى خلال الخير من خلال الشرّ، بأصل فطرته، وقوته الناطقة العاقلة، لأن الشر إنما جاء من قبل القوى الحيوانية فيه، وأما من حيث هو فهو إلى الخير وخلاله أقرب» (3).
أما الإمام الغزالي (505هـ) فآراؤه متضاربة في تحديد طبيعة الفطرة البشرية، فتارة يرى أنها صالحة لقبول الخير والشر، قال رحمه الله «والقلب بأصل الفطرة صالح لقبول آثار الملك، ولقبول آثار الشيطان صلاحا متساويا ليس يترجّح أحدهما على الآخر، وإنما يترجح أحد الجانبين باتباع الهوى والإكباب على الشهوات أو الإعراض عنها ومخالفتها» (4). وتارة أخرى يرى أنها مفطورة على الشرّ، وتارة يرى أنّها خيّرة بطبعها، والظاهر أن منشأ هذا
__________
(1) ابن الوزير (840هـ) إيثار الحق على الخلق ط 1دار الكتب العلمية: بيروت 1983ص 21.
(2) رسائل ابن حزم تحقيق إحسان عباس ط 1المؤسسة العربية للدراسات والنشر 1981م ج 3ص 201.
(3) المقدمة ط دار إحياء التراث العربي: بيروت ص 106.
(4) إحياء علوم الدين تحقيق سيد إبراهيم ط 1دار الحديث: القاهرة 1992م ج 3ص 45.(1/40)
التضارب عنده هو اختلاف ما يعتري الإنسان من الحالات النفسية التي صوّرتها ظواهر الآيات (1).
ويرى بعض المفكرين الغربيين أنّ الفطرة البشرية مجبولة على الشر، وأنّ طبيعتها التناقض (2) وهو رأي لا سند له إلا ما قد يرى في الواقع من ظلم وفساد، وهو رأي يخالف النصوص الشرعية في مصدري الإسلام: القرآن الكريم، والسنة النبوية الشريفة، فقد أكّد القرآن الكريم على أن الدين هو الفطرة، وهو الوحدانية، قال تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللََّهِ الَّتِي فَطَرَ النََّاسَ عَلَيْهََا لََا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللََّهِ ذََلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلََكِنَّ أَكْثَرَ النََّاسِ لََا يَعْلَمُونَ} [الروم: 30].
فقد لازم الله في هذه الآية بين الدين والفطرة على «أنّه عينها أصلا وجوهرا ومقتضيات وقرّر صراحة أيضا أنه لا تناقض بينهما، وأنّه «الدين القيّم»، فالفطرة قيّمة، وأنه «لا تبديل لخلق الله» فلا تبديل لشرع الله، مما يوحي أيضا بأنه لا يجوز الخروج عن مقتضياتها، فالقرآن الكريم إذ يعقد هذه المقابلة، ويؤكد تلك القضايا، ولوازمها المنطقية فإنما يقصد إلى تبيين «وجه الحقّ» في جوهر الفطرة الإنسانية، وأنها مفطورة أصلا على الخير المحض (3).
فالوحدانية هي الفطرة نفسها التي فطر الله النّاس عليها في أصل نشأتهم، وأما ما يحدث لهذه الفطرة من انحراف عن هذا الأصل وهو سبب الإشراك بالله فهو بسبب ما يعتريها من حالات نفسية، وعوامل خارجية مؤثرة، ولا سيّما في المراحل المبكرة للنشأة الأولى، وما يسود فيها من أعراف، وتقاليد موروثة
__________
(1) فتحي الدريني دراسات وبحوث في الفكر الإسلامي المعاصر ط 1دار قتيبة: بيروت 1988م ج 2ص 486.
(2) نفسه ج 2ص 487.
(3) فتحي الدريني دراسات وبحوث في الفكر الإسلامي المعاصر ج 2ص 492.(1/41)
متحكمة، أو ما يجري فيها من تيارات جارفة، وفلسفات اجتماعية وسياسية وافدة ومتخالفة وغيرها من المؤثرات (1).
وبيان أنّ أصل الفطرة هو التوحيد قد جاء في بعض الأحاديث النبوية التي صحّت عن النبي صلى الله عليه وسلم نذكر منها ما جاء في الحديث القدسي الذي رواه مسلم: (2) «إني خلقت عبادي حنفاء كلّهم، وإنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم، وحرّمت عليهم ما أحللت لهم، وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانا». وجاء في الحديث الصحيح أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: «كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهوّدانه أو ينصّرانه أو يمجّسانه، ثم يقول: واقرءوا إن شئتم:
{فِطْرَتَ اللََّهِ الَّتِي فَطَرَ النََّاسَ عَلَيْهََا لََا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللََّهِ} [الروم: 30] (3).
إن الفطرة التي تتحدث عنها آيات القرآن الكريم، وتفسرها أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم هي الطبيعة الموحدة التي خلق عليها الإنسان، وهي طبيعة خيّرة تجعل لهذا الكون خالقا واحدا، وتعترف له بحقّه في العبادة والخضوع، هذا هو الأصل في المنهج الرباني، أما ما يطرأ على هذه الفطرة من انحراف عن هذا الأصل ينتج عنه الشرك والتعدد فهو الضلال الذي جاء القرآن ليصححه ويعيده إلى الصواب.
4 - محاور الوحدانية في القرآن الكريم:
إن الوحدانية التي يسعى إليها القرآن الكريم قد أجملت في قوله تعالى:
{قُلْ هُوَ اللََّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1]، وهي تعني العلم والاعتراف بتفرّد الرب بجميع صفات الكمال مع إخلاص العبادة له، وإجمالها في صيغة «لا إله إلّا الله» الجامعة بين النفي والإثبات للدلالة على حصر الألوهية لله وحده، لأنّ الجمع
__________
(1) نفسه ج 2ص 488.
(2) صحيح مسلم ج 4ص 2197.
(3) أحمد بن حنبل (241هـ) المسند تحقيق أحمد محمد شاكر ط 4ج 14ص 7699.(1/42)
بين النفي والإثبات أبلغ صيغ الحصر، وقد ثبت العلم الضروري بالاكتفاء بهذه الكلمة الشريفة في إثبات التوحيد لله تعالى (1).
لقد ركّز القرآن الكريم في عرض قضية الوحدانية على محورين رئيسيين يقوم عليهما التفسير الكامل والمفصّل لكلمة «لا إله إلّا الله»، وهما يشكلان تقابلا بين النفي والإثبات الذي تحدده كلمة التوحيد هذه، فقد جاء نفي التعدد أولا بقوله (لا إله) ثم أتبع بالإثبات (إلّا الله) لتقرير حقيقة الوحدانية والتفرد لله وحده دون ندّ أو شريك، وهذا النفي والإثبات هما في حقيقتهما المقابلة الكبرى (الله والطاغوت) التي يقوم عليها القرآن الكريم كلّه، بل إن الوجود الإنساني بكامله قائم على هذه المقابلة.
قال ابن قيم الجوزية (751هـ): «طريقة القرآن في مثل هذا أن يقرن النفي بالإثبات، فينفي عبادة ما سوى الله، ويثبت عبادته، وهذا هو حقيقة التوحيد، والنفي المحض ليس بتوحيد، وكذلك الإثبات بدون النفي، فلا يكون التوحيد إلا متضمنا للنفي والإثبات، وهذا حقيقة (لا إله إلّا الله)» (2).
والمحور الأول الذي يدور حوله نفي التعدد، وإبطال الشرك يأتي في مقدمات بناء التصور الإسلامي، الذي يهدف إليه القرآن الكريم، فالشرك في حقيقته هو تجاوز للحد، وتعدّ على خصائص الوحدانية، لأنّه تشبيه للمخلوق بالخالق تعالى، وفي هذا تجاوز وتعد على الوحدانية التي تمتاز بالكمال المطلق من جميع الوجوه (3)، وغاية حديث القرآن عن نفي الشرك والتعدد هو تعريف الناس بما قد يشوب تصورهم الصحيح عن الوحدانية من انحراف، وما
__________
(1) بدر الدين الزركشي «معنى لا إله إلا الله» تحقيق علي محيي الدين علي القره داغي ط 3دار البشائر الإسلامية: بيروت 1986ص 83.
(2) سليمان بن عبد الوهاب تيسير العزيز الحميد في شرح كتاب التوحيد ط 3المكتب الإسلامي ص 51.
(3) نفسه ص 115.(1/43)
قد يتسرب إلى فطرهم من فساد وضلال، ومن هنا جاءت الأدلة، وسيقت الحجج والبراهين لإقناع العقول، وطمأنة الضمائر على أنّ النقص، واستمداد الحاجة من الغير صفات تنفي الألوهية عن هذه الآلهة، وأن التعدد يقتضي الفساد في الكون {أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ (21) لَوْ كََانَ فِيهِمََا آلِهَةٌ إِلَّا اللََّهُ لَفَسَدَتََا فَسُبْحََانَ اللََّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمََّا يَصِفُونَ} [الأنبياء: 21، 22]، {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لََا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلََا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلََا نَفْعاً وَلََا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلََا حَيََاةً وَلََا نُشُوراً} [الفرقان: 3].
أما المحور الثاني الذي يتعلق بإثبات الوحدانية، فقد ركّز المنهج القرآني عليه تركيزا كبيرا باعتباره الجانب المهم في العقيدة الإسلامية، وقد استبحرت الآيات القرآنية في الحديث عن الله تعالى وصفاته وأفعاله وخصائصه، وعرّفت الناس بالإله الحق، وأنّه ليس كمثله شيء، وأنّه واحد لا شريك له، فرد لا مثيل له، صمد لا ضد له {لَهُ مََا فِي السَّمََاوََاتِ وَمََا فِي الْأَرْضِ وَمََا بَيْنَهُمََا وَمََا تَحْتَ الثَّرى ََ}
[طه: 6]، وأنّ هذا العالم بكامله فقير إليه تعالى (1).
5 - عرض الوحدانية من خلال مظاهر الخلق والتدبير:
للقرآن الكريم طريقته الخاصة في عرض قضية الوحدانية، وقضايا العقيدة جميعها، وهي طريقة تختلف اختلافا كبيرا عن طرق البشر، وبخاصة الفلاسفة وأهل الكلام ممن عنوا بالبحث في مثل هذه القضايا دهرا طويلا، فلم يصلوا بالناس إلى نتيجة حاسمة تبيّن هذه الحقائق بل إنّهم أوجدوا تعقيدا وتناقضا بدخولهم في متاهات الغيب، ومزالق الفكر، قال الفخر الرازي (606هـ) وهو إمام المتكلمين: «لقد اختبرت الطرق الكلامية فما رأيت فيها فائدة تساوي الفائدة التي وجدتها في القرآن العظيم، لأنّه يسعى في تسليم العظمة والجلال بالكلية لله تعالى» (2).
__________
(1) محمد الغزالي المحاور الخمسة في القرآن الكريم ط 1دار الوفاء: القاهرة 1989ص 24.
(2) تفسير الفخر الرازي ج 1 (المقدمة) م.(1/44)
وحين يقرّر الدارسون بأنّ طريقة القرآن في العرض لا تشبهها طريقة من طرق البشر فذلك راجع إلى الخصائص الإلهية للقرآن التي جاءت بأوضح المناهج، وأفضل الطرق في الاستدلال والإقناع، فطريقة القرآن تخاطب العقل والعاطفة وتدخل إلى النفس البشرية من جميع المنافذ، ومن هنا لم يكن عرض القرآن لقضية الوحدانية عرضا تجريديا بحتا، بل كان عرضا بديعا يجمع بين قوة الفكرة، وجمال التعبير، ودقة العبارة، وجمال التصوير، كل ذلك لتلبية حاجات النفوس إلى الإقناع والإمتاع.
إنّ أقرب الطرق إلى النفس البشرية مخاطبة الحس والوجدان، والعقل والضمير، ومن هنا حرص القرآن الكريم على عرض فكرة الوحدانية من مشاهد الكون، وعظمة الخلق والتدبير، و «حرص على تجلية هذه الحقيقة بآثارها الفاعلة في هذا الوجود في تصريف هذا الكون وما فيه ومن فيه، في تسخير الليل والنهار، والشمس والقمر والنجوم، في إيلاج الليل في النّهار، وإيلاج النّهار في الليل، وفي إرسال الرياح لواقح، وإنزال الماء من السماء، في انبثاق الميت من الحيّ، في بدء الخلق وإعادته، في القبض والبسط، في البعث والنشور، في النعمة والنقمة، في الجزاء والحساب، في النعيم والثواب، في كل حركة، في كل تغيّر وكل تحوّر في عالم الغيب أو في عالم الشهادة في هذا الوجود الكبير، ونادرا ما يتحدث المنهج القرآني عن الذات الإلهية، والصفات في الصورة التجريدية التي تتحدث بها الفلسفة واللاهوت وعلم الكلام» (1).
ومعظم النصوص القرآنية الواردة في تعريف الناس بالله تتضمن الكثير من الحقائق عن الكون والحياة والإنسان، ولم تكن غايتها تناول هذه المعارف تناول الفلك والحساب والعلوم الكونية والإنسانية، بل كان عرضها لتكون دليلا واضحا لا يقبل شكا ولا ريبا على عظمة الله سبحانه الذي خلقها وأبدعها في أحسن صورة (2).
__________
(1) سيد قطب مقومات التصور الإسلامي ص 42.
(2) حسن البنا نظرات في القرآن ص 21.(1/45)
إنّ الكون بما فيه هو قرآن صامت، يحثّ القرآن الكريم على استنطاق آياته لتكون دليلا على عظمة الخالق عزّ وجلّ قال تعالى: {أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضِ وَمََا خَلَقَ اللََّهُ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسى ََ أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ} [الأعراف: 185]، وقال تعالى أيضا: {قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللََّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللََّهَ عَلى ََ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [العنكبوت: 20].
وهذا النظر الذي يدعو إليه القرآن الكريم، وهذا الحديث عن الآيات الكونية هو للفت النظر إلى أن هذه الأرض، وهذا الكون الدقيق الصنع هو من إبداعه وتكوينه تبارك وتعالى، وأنّ الذي خلق هذه الموجودات بعجائبها وغرائبها، وتفرّد بعلمه وتكوينه وعظمته وألوهيته لا يصحّ أن يعبد معه أحد سواه، قال تعالى:
{الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرََاشاً وَالسَّمََاءَ بِنََاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمََاءِ مََاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرََاتِ رِزْقاً لَكُمْ فَلََا تَجْعَلُوا لِلََّهِ أَنْدََاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 22]، فقد عرض القرآن الكريم هذه الآيات في سياق الاستدلال على وحدانية الله، وتفرّده بالعظمة والجلال.
وحين يعرض القرآن الكريم الوحدانية من خلال مظاهر الخلق والإبداع في الكون يشير في مقابل ذلك إلى العجز التام للأنداد التي اتخذها البشر آلهة من دون الله عن أن يكون لها آثار فاعلة في هذا الوجود، ويعقد القرآن مقابلة رائعة وهي الطريقة التي سيتّبعها القرآن في عرض قضاياه بين آثاره تعالى في الوجود، وآثار غيره من الأنداد.
قال تعالى: {آللََّهُ خَيْرٌ أَمََّا يُشْرِكُونَ أَمَّنْ خَلَقَ السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمََاءِ مََاءً فَأَنْبَتْنََا بِهِ حَدََائِقَ ذََاتَ بَهْجَةٍ مََا كََانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهََا أَإِلََهٌ مَعَ اللََّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرََاراً وَجَعَلَ خِلََالَهََا أَنْهََاراً وَجَعَلَ لَهََا رَوََاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حََاجِزاً أَإِلََهٌ مَعَ اللََّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لََا يَعْلَمُونَ أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذََا دَعََاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفََاءَ الْأَرْضِ أَإِلََهٌ مَعَ اللََّهِ قَلِيلًا مََا تَذَكَّرُونَ أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمََاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيََاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلََهٌ مَعَ اللََّهِ تَعََالَى اللََّهُ عَمََّا يُشْرِكُونَ} {أَمَّنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمََاءِ وَالْأَرْضِ أَإِلََهٌ مَعَ اللََّهِ قُلْ هََاتُوا بُرْهََانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صََادِقِينَ} [النمل: 6459].(1/46)
6 - ظاهرة «التنويع» في عرض الوحدانية:
إنّ الوحدانية التي تحدّد معناها فيما سبق هي إفراد الله بالخلق والأمر، وتخصيصه وحده بالخضوع والعبادة، وقد أخذت في القرآن المساحة الكبرى، فقارئ القرآن لا يكاد يمر بآية إلّا ويجد فيها حديثا مباشرا أو غير مباشر عن الله وصفاته وعظمته ومشيئته، وتدبيره للكون، وتنظيمه للكائنات، بل سيجده تعالى وراء كل حركة أو توجيه أو سنّة كونية، ومثل هذا الحديث المتنوّع لا مثيل له في كلام البشر، قال الله: {اللََّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتََاباً مُتَشََابِهاً مَثََانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ} [الزمر: 23].
فالقرآن الكريم موصوف بحسن الحديث وكونه متشابها مثاني، أما وصفه بالحديث الحسن «فلأنّه اشتمل على أفضل ما تشتمل عليه الأخبار من المعاني النافعة، والجامعة لأصول الإيمان والتشريع والاستدلال، والتنبيه على عظم العوالم والكائنات، وعجائب تكون الإنسان والعقل وبثّ الآداب، وغير ذلك من المعاني» (1)، وأمّا كونه «متشابها مثاني» فمعانيه متشابهة في صحتها وأحكامها، وابتنائها على الحق والصدق، وهي معاني مثنّاة أي مكرّرة مرات ومرات، وفي كل مرة تجد أسلوبا جديدا، وروحا جديدة، وعرضا جديدا بشكل عجيب مدهش، غير مستطاع للبشر، وهذا وحده مظهر من مظاهر الإعجاز في هذا القرآن الكريم» (2).
فالقرآن الكريم يصف نفسه بوصف «المثاني» ويعني «التنويع» في عرض الحقائق والأفكار، وهو أسلوب معجز لا يستطيعه البشر، وقد كان موقف المستشرقين ومن لفّ لفهم أن أنكروا هذا الأسلوب، وعدّوه تكرارا لا يليق بمستوى البلاغة والفصاحة، وكان إنكارهم هذا دليلا على سوء طبعهم وفساد طويتهم، وعجزهم عن تذوق جمال اللغة العربية (3).
__________
(1) محمد الطاهر بن عاشور تفسير التحرير والتنوير ط الدار التونسية للنشر 1984ج 23ص 385.
(2) سعد حوى الأساس في التفسير ط 1دار السلام للطباعة 1985م ج 9ص 4871.
(3) فضل حسن عباس قضايا قرآنية في الموسوعة البريطانية ص 141.(1/47)
أما العارفون بدقائق اللغة العربية فيرون في هذا الأسلوب لونا من ألوان الإعجاز البياني، والقرآن الكريم يلجأ إليه لعرض قضاياه في قوالب بيانية متنوعة تحقيقا لأغراض وقيم فكرية وجمالية كثيرة، ولذلك عدّ من أساليب الإقناع في القرآن الكريم (1).
فقضية الوحدانية هي من القضايا التي تنوّع عرضها في القرآن الكريم بأساليب كثيرة، وطرق متنوعة لتحقيق أغراض تربوية وإقناعية، والقرآن الكريم يهدف إلى تغيير النفوس، ومزج الحقائق بالقلوب، وهو أمر لا يمكن تحقيقه إلا بالتنويع والتكرير، والضرب على أوتار النفوس المختلفة، والمتباينة في طبائعها وتكوينها النفسي والفكري.
إنّ التعامل مع النفس البشرية بجميع قواها لغايات الإقناع والتغيير، والاستجابة والتأثير، يقتضي التنويع في الأساليب والوسائل التي لها قدرة على تحريك هذه القوى، فالضرب على أوتار النفس المتعددة من شأنه أن يخضع النفس، ويقهر تفوقها في الجدل.
وقد كان التنويع في عرض قضية الوحدانية أمرا مقصودا في طرق الأداء لتلبية حاجات النفوس، وهو تنويع يشبه التنويع الذي نستطعمه لمذاق السكر في الفواكه المختلفة، يقول محمد عبد الله دراز: «والأعجب في القرآن أنّه مع كونه أكثر الكلام افتنانا وتنويعا في الموضوعات هو أكثره افتنانا وتلوينا في الأسلوب في الموضوع الواحد، فهو لا يستمر طويلا على نمط واحد من التعبير، كما أنه لا يستمر طويلا على هدف واحد من المعاني، ألا تراه كما ينتقل في السورة الواحدة من معنى إلى معنى ينتقل في المعنى الواحد بين إنشاء وإخبار، وإظهار وإضمار، واسمية وفعلية، ومضيّ وحضور، واستقبال وتكلّم، وغيبة وخطاب،
__________
(1) بن عيسى عبد القادر با طاهر أساليب الإقناع في القرآن الكريم رسالة الماجستير الجامعة الأردنية 1990ص 79.(1/48)
إلى غير ذلك من طرق الأداء، على نحو من السرعة لا عهد لك بمثله ولا بما يقرب منه في كلام غيره قط، ومع هذه التحولات السريعة المستمرة التي هي مظنّة الاختلاج والاضطراب بل مظنّة الكبوة والعثار في داخل الموضوع أو في الخروج منه، تراه لا يضطرب ولا يتعثّر، بل يحتفظ بتلك الطبقة العليا من متانة النظم وجودة السبك حتى يصوغ من هذه الأفانين الكثيرة منظرا مؤتلفا، فأيّ امرئ يحسن العربية وينظر في نظم القرآن هذه النظرة ثم لا يرى فيه من أثر القدرة الباهرة سرّا من أسرار التحدي والإعجاز» (1).
ولا يقدر على هذا التنويع في الأساليب لتلبية حاجات النفوس إلا العليم بخبايا النفوس وأسرارها، ولهذا تميّز القرآن على جميع المستويات وبخاصة المستوى الأدبي الذي يختلف قانونه عن قانون البشر، يقول مالك بن نبي: «إنّ عبقرية الإنسان تحمل بالضرورة طابع الأرض، حيث يخضع كل شيء لقانون الزمان والمكان، بينما يتخطّى القرآن دائما نطاق هذا القانون، وما كان لكتاب بهذا السموّ أن يتصور في حدود الأبعاد الضيقة للعبقرية الإنسانية، ومن المقطوع به أنّه لو أتيح لأحد من الناس أن يقرأ القرآن قراءة واعية يدرك من خلالها رحابة موضوعه، فلا يمكنه أن يتصور الذات المحمدية إلا مجرد واسطة لعلم غيبيّ مطلق» (2).
7 - عرض الوحدانية بطريقة المقابلة:
قبل الحديث عن «المقابلة» واعتماد القرآن الكريم عليها ضمن طرق العرض، لا بدّ من الإشارة إلى مسألتين:
أولا: تناول دارسو البلاغة وإعجاز القرآن «المقابلة» بالبحث والدراسة، وكانت نظرتهم لها في نطاق ضيق وضمن علم البديع، وعدوا المقابلة من
__________
(1) النبأ العظيم ط دار القلم: الكويت ص 144.
(2) الظاهرة القرآنية ص 188.(1/49)
المحسّنات المعنوية التي تأتي لغرض بديعي فحسب، ثم إنهم اشترطوا لها شروطا وعدّوا لها أنواعا كثيرة، وقد اتسمت دراستهم بالنظرة الجزئية الضيقة، وبالمرور السريع على أسلوب بارز يشكل ظاهرة واضحة في القرآن الكريم.
ثانيا: من المسائل التي ثار حولها جدل قديما مسألة المعنى وعلاقته باللفظ، وأيهما مقدّم في البلاغة والفصاحة، وهي مسألة أرهقت الدارسين حتى جاء «عبد القاهر الجرجاني» (470هـ أو 474هـ) بنظرية النظم، وحدد معالمها في كتابه «دلائل الإعجاز» (1) وذهب إلى أن الفنون البلاغية مرتبطة بالنظم أشدّ الارتباط، ومن خلاله تحقق أثرها في التعبير، وتمدّه بالجمال والتأثير (2)، و «أيا ما كانت تلك الجهود التي بذلت في التفسير، وفي مباحث البلاغة والإعجاز فإنها وقفت عند حدود عقلية النقد العربي القديمة، تلك العقلية الجزئية التي تتناول كل نص على حدة، فتحلّله وتبرز الجمال الفنيّ فيه إلى الحد الذي تستطيع دون أن تتجاوز هنا إلى إدراك الخصائص العامة في العمل الفني كله» (3).
أما في العصر الحديث فقد اهتم بعض الدارسين بالخصائص العامة للأسلوب القرآني، ونظروا نظرة كلية إلى النصوص، ولكن بقيت قضية المعنى وطريقة عرضه متناولة، فقد رأى سيد قطب أن طريقة القرآن في العرض هي التي أبرزت المعاني، «فبعض الناس حين ينظر في هذه الموضوعات ويرى ما فيها من دقة وعظمة، وصلاحية ومرونة، وإحاطة وشمول، يحسبها ميزة القرآن الكبرى، ويحسب أن طريقة التعبير تابعة لها، وأن الإعجاز كله كامن فيها، كما أن بعضهم يفرّق بين المعاني وطريقة الأداء، ويتحدث عن إعجاز القرآن في كلّ منهما على انفراد، أما نحن فنريد أن نقول: إن الطريقة التي اتبعها القرآن في
__________
(1) دلائل الإعجاز تحقيق محمود شاكر ط مكتبة الخانجي: القاهرة 1984م ص 55.
(2) عبد الغني بركة أسلوب الدعوة القرآنية ط 1دار غريب: القاهرة 1983م ص 78.
(3) سيد قطب التصوير الفني في القرآن ص 34.(1/50)
التعبير هي التي أبرزت هذه الأغراض والموضوعات فهي كفاء هذه الأغراض والموضوعات» (1).
وأضاف أن طريقة الأداء حاسمة في تصوير المعنى، وأنه حيثما اختلفت طريقتان للتعبير عن المعنى الواحد اختلفت صورتا هذا المعنى في النفس والذهن، وبذلك ترتبط المعاني وطرق الأداء ربطا لا يجوز الحديث بعده عن المعاني والألفاظ كل على انفراد وإن طريقة التصوير هي السمة الأولى، وهي الطريقة الوحيدة التي جعلت للمعاني والأغراض والموضوعات القرآنية صورتها التي نراها، ومن هذه الصورة كانت قيمتها الكبرى» (2).
وإذا كنا نتفق مع هذا الرأي في أنه لا يجوز الفصل بين المعاني وطرق العرض في الدراسة، وأنّ القرآن الكريم قد اجتمعت فيه أشرف المعاني وأدقها، وأروع الطرق وأعلاها، وأنه كتاب متميّز في كل شيء لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد، فإننا نختلف معه في أنّ طريقة التصوير التي اتبعها القرآن في العرض ليست الطريقة الوحيدة التي يعتمد عليها القرآن في إبراز المعاني، «فالمقابلة» أيضا هي إحدى طرق العرض الواضحة التي يلجأ إليها القرآن في أداء المعنى، وهي طريقة لا تنفي بتاتا أسلوب التصوير بل إنها تتعاضد وتتكامل معه لتأدية أحسن الأغراض، وبخاصة حين تعرض الصورة وما يقابلها كما سيأتي بيانه في الفصول القادمة.
وحين نقرر بأن «المقابلة» هي إحدى طرق العرض البارزة في القرآن فإننا نؤكد على أنها من أساليبه في الإقناع، وطرقه في الاستدلال، فالمقابلة بين المعاني تزيدها في الفكر وضوحا، وفي النفس رسوخا (3)، والمقابلة بين شيئين
__________
(1) سيد قطب التصوير الفني في القرآن ص 239، 240.
(2) نفسه ص 240، 241.
(3) أحمد بدوي من بلاغة القرآن ط 3مكتبة نهضة مصر: القاهرة ص 185.(1/51)
أو أمرين أو شخصين تكون ليعرف أيهما المؤثر في عمل معين، وإذا ثبت أن التأثير لواحد منهما كان له فضل التقدم على غيره، وقد كان ذلك النوع من ينابيع الاستدلال كثيرا في القرآن الكريم (1).
إن فكرة «الوحدانية» هي الفكرة الأساسية في القرآن الكريم، وقد لوّن الأسلوب القرآني في طرق عرضها لأغراض كثيرة تتعلق بالإقناع والتربية والتأثير، والمقابلة هي إحدى طرق العرض التي جاءت لتفصل بين المتضادات، بين المعبود بحقّ، وبين الآلهة التي اتخذها البشر أندادا لله، قال تعالى: {أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ لَوْ كََانَ فِيهِمََا آلِهَةٌ إِلَّا اللََّهُ لَفَسَدَتََا فَسُبْحََانَ اللََّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمََّا يَصِفُونَ لََا يُسْئَلُ عَمََّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هََاتُوا بُرْهََانَكُمْ هََذََا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لََا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ} [الأنبياء: 2421].
إنّ هذا الدليل القرآني الذي سيق لتقرير حقيقة الوحدانية قائم على المقابلة بين فكرتين، إحداهما: افتراضية تثبت وجود آلهة من دون الله ثم تجعل من الفساد في الكون مقتضى من مقتضيات هذا الوجود نظرا لتنازع الإرادات بين سلب وإيجاب، وثانيهما: فكرة مناقضة تماما للفكرة الأولى، وهي فكرة وجود إله واحد متفرد في الكون لا ترى في خلقه فسادا يذكر، ويسمي علماء الكلام هذا الدليل دليل التمانع أي امتنعت الوثنية لامتناع الفساد، فكانت الوحدانية (2).
وقد جاء في سياق هذه الآية العظيمة طلب الدليل من الذين يدعون وجود آلهة أخرى من دون الله، وقد ثبت لديهم بالدليل العقلي والحسي ما يثبت وحدانية الله تعالى، وينفي التعدد، وقد تناول القرآن الكريم ذلك في آيات أخرى منها قوله تعالى: {قُلْ لَوْ كََانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمََا يَقُولُونَ إِذاً لَابْتَغَوْا إِلى ََ ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا} [الإسراء: 42]، ومعنى الآية: «لابتغوا إليه سبيلا في إفساد ملكه، ومضاهاته في قدرته، وهذه
__________
(1) محمد أبو زهرة المعجزة الكبرى للقرآن ط دار الفكر العربي ص 354.
(2) محمد أبو زهرة المعجزة الكبرى للقرآن ص 377.(1/52)
الآية جارية مع قوله تعالى: {لَوْ كََانَ فِيهِمََا آلِهَةٌ إِلَّا اللََّهُ لَفَسَدَتََا} [الأنبياء: 22]، وتقتضب شيئا من الدليل على أنه لا يجوز أن يكون مع الله تبارك وتعالى غيره» (1).
وقال تعالى: {مَا اتَّخَذَ اللََّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمََا كََانَ مَعَهُ مِنْ إِلََهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلََهٍ بِمََا خَلَقَ وَلَعَلََا بَعْضُهُمْ عَلى ََ بَعْضٍ} [المؤمنون: 91] فقد جاءت هذه الآية في مقام الاستدلال على الوحدانية، وهي قائمة على عقد مقابلة بين الإله الحق، والآلهة المتصوّرة من دونه، قال أهل التفسير: «في الكلام حذف تقديره: لو كان مع الله آلهة لا نفرد كلّ إله بخلقه، واستبدّ به، وامتاز ملكه عن ملك الآخر، ووقع بينهم التطالب والتحارب والتغالب و {وَلَعَلََا بَعْضُهُمْ عَلى ََ بَعْضٍ} أي غلب القوي على الضعيف وقهره وأخذ ملكه كعادة الملوك من بني آدم، وحينئذ فذلك الضعيف المغلوب لا يستحق أن يكون إلها، وإذا تقرر عدم إمكان المشاركة في ذلك، وأنه لا يقوم به إلا واحد تعيّن أن يكون هذا الواحد هو الله سبحانه، وهذا الدليل كما دلّ على نفي الشريك فإنه يدل على نفي الولد» (2).
وفي هذه الآية تقابل بين صورتين صورة الإله الواحد المتفرد، وصورة أخرى متخيلة لو كان هناك آلهة {إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلََهٍ بِمََا خَلَقَ} وإنها لصورة مضحكة أن ينحاز كل فريق من المخلوقات إلى إله، وأن يأخذ كلّ إله مخلوقاته ويذهب، إلى أين؟ لا ندري، ولكننا نتخيّل هذه الصورة فنضحك من فكرة تعدد الآلهة، إذا كانت نتيجتها هذه النتيجة» (3).
__________
(1) ابن عطية الأندلسي المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز تحقيق عبد الله الأنصاري وعبد العال إبراهيم ط 1مؤسسة دار العلوم: قطر 1987م ج 9ص 94، 95.
(2) محمد بن علي الشوكاني تفسير فتح القدير تحقيق سيد إبراهيم ج 3ط 1دار الحديث: القاهرة 1993م ج 3ص 701.
(3) سيد قطب التصوير الفني في القرآن ص 231.(1/53)
إن المقابلة التي يعقدها القرآن الكريم بين الإله المستحق للعبادة، وبين ما ابتدع البشر من آلهة باطلة هي من الوسائل المفيدة في الإقناع والتأثير، ولذلك ترى القرآن يلجأ إليها كثيرا في معرض الاستدلال والاحتجاج، ومن أمثلة ذلك قوله تعالى: {أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لََا يَخْلُقُ أَفَلََا تَذَكَّرُونَ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللََّهِ لََا تُحْصُوهََا إِنَّ اللََّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} [النحل: 1717].
فهذه الآية تحرّك العقول، وتوقظ الضمائر حين تعقد مقابلة فكرية بين الإله الذي يعترفون بأنه الخالق المصوّر {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللََّهُ} [لقمان: 25] وبين الآلهة التي لا تملك من أمر الخلق شيئا، ومن خلال هذه المقابلة يأتي الدليل الذي يلزمهم ويفحمهم ويقنعهم إن استقامت القلوب على منهج الله.
وقال تعالى: {قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللََّهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيََاءَ لََا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعاً وَلََا ضَرًّا قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى ََ وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمََاتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُوا لِلََّهِ شُرَكََاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشََابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللََّهُ خََالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوََاحِدُ الْقَهََّارُ} [الرعد: 16].
فقد سيقت هذه الآية للاستدلال على الوحدانية المطلقة لله، وسيقت لإفحام أولئك الذين لم يدركوا خصائص الألوهية، وأشركوا مع الله آلهة أخرى لا تملك مقومات الألوهية، وكما هو واضح فإن الآية الكريمة تعتمد أسلوب المقابلة في عرض هذه الحقيقة، فقد قابلت بين الإله الذي لا يملك لنفسه ضرا ولا نفعا، وبين المالك لكل شيء، كل ذلك لتحريك العقول، وإيقاظ المشاعر، لإدراك فكرة الوحدانية التي تملك الخصائص التي لا يشاركها فيها أحد من البشر أو الخلق، وفي سياق هذه الآية جاءت المقابلة بين الأعمى والبصير، والظلمات والنور، وبين من يخلق ومن لا يخلق كلّها بأسلوب الاستفهام التقريري التوبيخي لتمام المناسبة لأن حال المشركين أصحاب العمى كحال الظلمة في انعدام إدراك المبصرات، وحال المؤمنين كحال البصر في العلم، وكحال النور في الإفاضة والإرشاد (1).
__________
(1) محمد الطاهر بن عاشور تفسير التحرير والتنوير ج 13ص 114.(1/54)
وفي مشاهد الكون المتقابلة استدلال يوجب الإقرار بالوحدانية والقدرة القاهرة، السماوات والأرض، الأعمى والبصير، الظلمات والنور، ومن يخلق ومن لا يخلق (1)، وهذ المقابلات التي تساق هي لإيضاح الفرق بين الحق والباطل مثل وضوح الفرق بين الأعمى والبصير، وبين الظلمات والنور، فالوحدانية في الخلق والوحدانية في القهر {قُلِ اللََّهُ خََالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوََاحِدُ الْقَهََّارُ}، هي الحق الذي لا يمكن بأية حال أن يرتقي إليه الباطل المتمثل في التعدد (2).
ب المقابلة الكبرى: الله والطاغوت:
1 - التقابل ضرورة بشرية:
إن الوجود الإنساني كلّه قائم على التقابل بين الأشياء، وهذا من البديهيات التي يدركها أي عاقل، فما من شيء إلا وله ما يقابله وينافيه في أوصافه إذا كانا تحت جنس واحد، ويكون بينهما تضاد يبعدهما أبعد البعد، كالسواد والبياض، والخير والشر، والظلم والعدل وغير ذلك من المتضادات.
والضد هو أحد المتقابلات، لأنّ المتقابلين هما الشيئان المختلفان اللذان كل واحد منهما قبالة الآخر، ولا يجتمعان في شيء واحد في وقت واحد (3).
وقد أقام الله الكون وما فيه على التقابل والتضاد لحكمة يعلمها هو، قال تعالى: {وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنََا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [الذاريات: 49]، «أي أنّ الموجودات كلها متقابلة إلا الله فإنه فرد لا مقابل له بل هو الواحد الحقّ الخالق للأزواج كلها» (4).
__________
(1) حامد قنيبي المشاهد في القرآن الكريم ص 497.
(2) سيد قطب في ظلال القرآن ج 4ص 2053.
(3) محمد بن يعقوب الفيروزآبادي بصائر ذوي التمييز في لطائف الكتاب العزيز تحقيق محمد علي النجار ط المكتبة العلمية: بيروت ج 3ص 463.
(4) الغزالي أبو حامد إحياء علوم الدين ج 3ص 44.(1/55)
أما الأضداد والأنداد التي قابل بها البشر إلههم الحقّ، والتي أجملها القرآن الكريم كلها في لفظ الطاغوت، فهي من صنع البشر أنفسهم، وقد تجاوزوا بها الحدّ في التعدي على خصائص الألوهية الحقّة، ولذلك قال تعالى في جدالهم وحجاجهم: {مََا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلََّا أَسْمََاءً سَمَّيْتُمُوهََا أَنْتُمْ وَآبََاؤُكُمْ مََا أَنْزَلَ اللََّهُ بِهََا مِنْ سُلْطََانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلََّا لِلََّهِ أَمَرَ أَلََّا تَعْبُدُوا إِلََّا إِيََّاهُ ذََلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلََكِنَّ أَكْثَرَ النََّاسِ لََا يَعْلَمُونَ} [يوسف: 40].
وقال تعالى: {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللََّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا كَلََّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبََادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا} [مريم: 8281].
فالبشر كما يذكر القرآن هم الذين يصنعون الطاغوت، ويتّخذون منه أصناما وآلهة من غير دليل ولا برهان، وكلها من جعل أنفسهم، وسمّوها تسمية هي من تلقاء أنفسهم كذلك، ثم يتلقاها الخلف عن السلف (1).
وحين تقرّر بأن الوجود الإنساني كله مبنيّ على التقابل بين الموجودات بدليل القرآن الكريم، فإنّ ذلك يعني أن التقابل ضرورة من ضرورات الحياة، فالعقل البشري نفسه في أصل خلقته جبل على أن يقابل بين المتضادات، فهو «ينزع دائما إلى المزاوجة بين الأشياء التي تعرض له، وتدور في محيط تفكيره، فلا يكاد أمر من الأمور يقع في مجال النظر العقلي حتى يستثير له العقل من عالم الواقع أو عالم الخيال كائنا آخر يقف منه موقف التضاد والعناد، يرى فيه كل الصفات السلبية للأمر الذي بين يديه، فإذا ذاق المرء طعما حلوا، ذكر الطعم المرّ، وإذا لمس اللّين استشعر الخشن، وإذا فكّر في الحق تذكّر الباطل، مثنى مثنى، الأمر وضده، ومحال أن يعترف العقل في عالم الواقع بالوجود الفردي لشيء من الأشياء أو معنى من المعاني حتى لكأن الأشياء والمعاني
__________
(1) إسماعيل بن كثير تفسير القرآن العظيم ط 1الدار المصرية اللبنانية: القاهرة 1988م ج 2ص 402.(1/56)
حية لا يضمن بقاءها ووجودها إلا هذه المزاوجة التي تجمع الشيء ومقابله، كما تجمع في عالم الأحياء بين الذكر والأنثى» (1).
والتقابل بين الأشياء في الكون وحياة الإنسان أمر تقتضيه المصلحة كما أرادها الله سبحانه وتعالى، يقول الجاحظ: «اعلم أن المصلحة في ابتداء أمر الدنيا إلى انقضاء مدّتها امتزاج الخير والشر، والضار بالنافع، والمكروه بالسّار، والضّعة بالرّفعة، والكثرة بالقلة، ولو كان الشرّ صرفا لهلك الخلق، أو كان الخير محضا لسقطت المحنة، وتعطلت أسباب الفكرة» (2).
فالتقابل بين الأشياء ضرورة من ضروريات الحياة، فقد أقيمت عليه مظاهر الكون ومشاهده، وجبلت عليه طبائع النفوس، واقتضت الحكمة الإلهية أن ينبني الوجود الإنساني كلّه على فكرة التضاد، وتعليل الجاحظ لهذه الظاهرة الكونية مستمد من مفاهيم الشريعة الإسلامية التي ترجع في تفسيرها للمشكلات العويصة إلى القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة، فقد ورد في القرآن الكريم تعليل فكرة الخلق والإماتة بالابتلاء، قال تعالى: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيََاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ} [الملك: 2].
وسقوط المحنة يعني سقوط الابتلاء الذي قدّره الله على المخلوقين، فبالابتلاء وحده يمكن الفصل بين ما هو حقّ وما هو باطل، وما هو شرّ وما هو خير.
«ولأن الله علم أنّ وراء الموت حياة وحالة يستوي فيها الغني والفقير، والمولى والعبد، ولا ينفعه إلا ما قدم من خير، صار ذلك داعيا إلى حسن العمل، وزاجرا عن ضده» (3).
__________
(1) عبد الكريم الخطيب التفسير القرآني للقرآن ط دار الفكر العربي ج 3ص 875874
(2) الحيوان تحقيق عبد السلام هارون ط 3دار إحياء التراث العربي: بيروت 1969ج 1ص 96.
(3) الحسن النيسابوري غرائب القرآن ورغائب الفرقان تحقيق إبراهيم عوض ط 1مطبعة البابي الحلبي: القاهرة 1970م ج 29ص 6.(1/57)
2 - الطاغوت والإنسان:
الطاغوت صيغة من الطغيان، وهي تعني تجاوز الحدّ في كل شيء وبخاصة في الكفر والعصيان، وقد وردت في بعض المواضع من القرآن الكريم بمعنى التعدي والطغيان على حقّ الألوهية في خاصية من خصائصها، أو في الخصائص كلها، وترد كلمة «الطاغوت» دائما في سياق التقابل مع الألوهية الحقّة، وقد حذّر القرآن الكريم من الطاغوت، وعدّه من المهلكات التي توقع في الشرك والضلال، وقرّر أن الإيمان الحقيقي هو في اجتنابه والكفر به، قال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنََا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللََّهَ وَاجْتَنِبُوا الطََّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللََّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلََالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كََانَ عََاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} [النحل: 36]، وفي صورة من صور التقابل الرائعة التي يوردها القرآن بين الوحدانية والطاغوت يقول تعالى: {لََا إِكْرََاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطََّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللََّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى ََ لَا انْفِصََامَ لَهََا وَاللََّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ اللََّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمََاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيََاؤُهُمُ الطََّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمََاتِ أُولََئِكَ أَصْحََابُ النََّارِ هُمْ فِيهََا خََالِدُونَ} [البقرة: 257256].
والطاغوت الذي يحذر منه القرآن في هذه الآيات بعد ما حذّرت منه جميع دعوات الرسل فيما سبق من الزمان، هو صنم يعبد من دون الله، ولكن ليست له صورة واحدة، فهو يتشكّل في صور كثيرة، ويظهر في قوالب متعددة، قال الطبري (310هـ): «الطاغوت هو كل ذي طغيان على الله، فعبد من دونه، إما بقهر منه لمن عبده، وإما بطاعة ممن عبده له، إنسانا كان ذلك المعبود أو شيطانا أو وثنا أو صنما أو كائنا ما كان من شيء» (1).
__________
(1) تفسير الطبري ج 3ص 19.(1/58)
وقال ابن قيم الجوزية (751هـ): «الطاغوت ما تجاوز به العبد حدّه من معبود أو متبوع أو مطاع، فطاغوت كل قوم من يتحاكمون إلى غير الله ورسوله، أو يعبدونه من دون الله، أو يتبعونه على غير بصيرة من الله، أو يطيعونه فيما لا يعلمون أنّه طاعة الله» (1).
وقال الفيروزآبادي: «الطاغوت: اللات والعزى والكاهن والشيطان، وكل رأس ضلال والأصنام، وكل ما عبد من دون الله» (2).
فالطاغوت إذن هو كل ما عبد من دون الله، وكل ما يتخذه الإنسان إلها وربا ومشرّعا دون الله هو طاغوت، وقد ذكر أنّه متعدد الألوان، متنوع الأشكال، ليست له صورة واحدة يعرفه الناس بها، فلكل قوم طاغوت قد يتشكل في صورة صنم أو إنسان، أو شجرة، أو قبر، أو كاهن، أو أرض، أو هوى، كل هذه الأشكال وغيرها من الأشكال الكثيرة التي يتعدّى بها البشر على خصائص الألوهية، ويتجاوزون الحدود، مع أنّ الله تعالى «قد شاءت إرادته أن يخلق البشر باستعداد للهدى والضلال، وأن تدع مشيئتهم حرّة في اختيار أي الطريقين، ومنحهم بعد ذلك العقل يرجحون به أحد الاتجاهين، بعد ما بثّ في الكون من آيات الهدى ما يلمس العين والأذن والحس والقلب والعقل، حيثما اتجهت آناء الليل وأطراف النهار، ثم شاءت رحمة الله بعباده بعد هذا كله ألا يدعهم لهذا العقل وحده، فوضع لهذا العقل ميزانا ثابتا في شرائعه التي جاءت بها رسله، يثوب إليه العقل كلما غمّ عليه الأمر» (3).
إن القرآن الكريم يقرر كلمته الأخيرة التي ستبقى إلى يوم الدين فهو يسوق فكرة الوحدانية بأسلوب تقابلي مع الطاغوت الذي يناقض بكل أشكاله هذه
__________
(1) سليمان بن عبد الوهاب تيسير العزيز الحميد في شرح كتاب التوحيد ص 50.
(2) بصائر ذوي التمييز ج 3ص 509.
(3) سيد قطب في ظلال القرآن ج 4ص 2170.(1/59)
الفكرة، ليجعل جميع الناس أمام طريقين واضحين: طريق الحق وطريق الضلال، ثم يترك الناس يختارون ما يشاءون، ولكن لكل اختيار جزاء ونتيجة ومآل، قال تعالى: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطََّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللََّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى ََ} [البقرة: 256]، وقال أيضا: {وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطََّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهََا وَأَنََابُوا إِلَى اللََّهِ لَهُمُ الْبُشْرى ََ} [الزمر: 17].
وكما هو ملاحظ في هذه الآيات التي سيقت فإن القرآن الكريم يعتمد على طريقة التقابل في عرض فكرة التوحيد خالصة من كل شائبة، ثم دحض كل صور الشرك والطغيان التي يتخذها البشر من دون الله، ودون أي دليل أو برهان، وفائدة هذه المقابلة إبراز فكرة التوحيد في صورة كاملة لا يشوبها أي نقص أو تحريف، ثم الفصل بين الرشد والغيّ، والحق والباطل، ووضع التصور الصحيح الذي يجب أن يتبناه البشر عن إلههم الحق مع تحذيرهم بأن يتسرب إلى هذا التصوّر شيء من الانحراف والضلال الذي تسعى إليه قوى الشّرّ الخفيّة التي خلقها الله بمشيئته وإرادته لغواية الإنسان.
3 - الطاغوت والشيطان:
فسّر بعض علماء السلف من الصحابة والتابعين «الطاغوت» بأنه «الشيطان» (1)، لأن الشيطان هو سبب كل طاغوت من حيث وجوده وانتشاره كإله بين الناس، والشيطان في المفهوم الإسلامي هو مخلوق شقي يحمل الشر ويبثّه، وقد خلقه الله سبحانه ليكون عدوّا للإنسان وليكون مقابلا لقوة الخير في هذه الأرض.
وقد يسأل سائل لماذا أوجد الله تعالى الشيطان وخلق الشرّ، والإجابة أن «تلك هي مشيئة الله في هذا المخلوق الشقي التعس، لقد أراده الله ليكون في الظلام الذي يواجه النور، والشر الذي يقابل الخير، وبهذا تتمايز الأمور،
__________
(1) جلال الدين السيوطي الدر المنثور في التفسير المأثور ط 1دار الفكر ج 2ص 22.(1/60)
وتنكشف حقائق الأشياء إذ لولا الظلام ما عرف النور، ولولا الشر ما استبان الخير، وهكذا كل ضدّ يكشف عن ضده، وبضدها تتميّز الأشياء» (1).
وقد ذكر لفظ «الشيطان» في القرآن الكريم في ثمانية وستين موضعا، وفي جميع هذه المواضع لا يذكر «الشيطان» إلا في مقام العداوة والغواية للإنسان، ويحذر القرآن منه أشد التحذير، وينبّه الإنسان إلى أنه لا سلامة في الدنيا والآخرة إلا إذا عرف حقيقة هذا العدو، وواجهه بقوة الإيمان، فالشيطان اللعين يلبس صورة الطبيب يقدّم الدواء، والصديق يمدّ يد العون وهو يعمل بكل الوسائل مع أهل الإيمان والتقوى لإبعادهم عن التوحيد، قال تعالى: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يََا بَنِي آدَمَ أَنْ لََا تَعْبُدُوا الشَّيْطََانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ وَأَنِ اعْبُدُونِي هََذََا صِرََاطٌ مُسْتَقِيمٌ} [يس: 6160].
فالشيطان في صراع دائم مع الإنسان، وهو لا يريد شقاءه في الدنيا فحسب، بل يريد إخلاده في نار جهنّم ليشاركه مصيره الذي انتهى إليه يوم عصى ربّه ورفض السجود لآدم عليه السلام (2).
قال تعالى: {قََالَ فَبِمََا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرََاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (16) ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمََانِهِمْ وَعَنْ شَمََائِلِهِمْ وَلََا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شََاكِرِينَ} (17) [الأعراف: 1716].
والشيطان برفضه أمر الله سبحانه بالسجود لآدم استحق حكم الله عليه باللعنة والطرد، لكنه طلب من الله أن ينظره ولا يعجل بإهلاكه وأن يدعه وآدم وذرية آدم، ليقيم لنفسه حجّة على الله تعالى أنه كان محقّا في امتناعه عن السجود لآدم، لأن آدم كما قدّر هذا اللعين ليس أهلا لهذا التكريم من الله، لأنه سيعصي الله، ويخرج من ذريته من يحادّون الله ويكفرون به، وقد أملى الله لهذا اللعين، ومدّ له في حبل الغرور (3).
__________
(1) عبد الكريم الخطيب التفسير القرآني للقرآن ج 3ص 235.
(2) عبد الكريم الخطيب الشيطان والإنسان ص 24، 25.
(3) عبد الكريم الخطيب الشيطان والإنسان ص 20.(1/61)
ومن ذلك الحين نصب الشيطان نفسه طاغوتا في مواجهة الله، ليتخذه الإنسان معبودا ومتبوعا من دون الله، وهو يستخدم لذلك وسائله الكثيرة لإبعاد الإنسان عن العقيدة، وهو لا يملّ ولا يكلّ بل يبقى في صراع دائم حتى نهاية الإنسان، ولهذا حذّر القرآن الكريم في سور كثيرة منه، وجعله العدو الأول للإنسان قال تعالى: {إِنَّ الشَّيْطََانَ كََانَ لِلْإِنْسََانِ عَدُوًّا مُبِيناً} [الإسراء: 53]، وقال أيضا: {يََا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلََا تَتَّبِعُوا خُطُوََاتِ الشَّيْطََانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ} [البقرة: 208]، وقال أيضا: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يََا بَنِي آدَمَ أَنْ لََا تَعْبُدُوا الشَّيْطََانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ} [يس: 60]، وقال أيضا:
{يََا بَنِي آدَمَ لََا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطََانُ كَمََا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمََا لِبََاسَهُمََا لِيُرِيَهُمََا سَوْآتِهِمََا إِنَّهُ يَرََاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لََا تَرَوْنَهُمْ إِنََّا جَعَلْنَا الشَّيََاطِينَ أَوْلِيََاءَ لِلَّذِينَ لََا يُؤْمِنُونَ} [الأعراف: 27]، وقال أيضا: {الشَّيْطََانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشََاءِ وَاللََّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا وَاللََّهُ وََاسِعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 268].
فالشيطان اللعين هو الطاغوت الأول، والعدو الأكبر للإنسان، وهو وراء كل الطواغيت التي عرفها البشر من حيث وجودها وانتشارها، وقد اكتسب الشيطان صفة الطاغوت بعد ما جعل نفسه مقابلا لله تعالى في صفات العبادة والاتباع، وأصبح هدفه الأول هو إبعاد النّاس عن التوحيد، وهو في ذلك مثابر لا ييأس أبدا، ومن هذا المفهوم قال الرسول صلى الله عليه وسلّم: «إن الشيطان قد أيس أن يعبد في بلادكم هذه أبدا، ولكن ستكون له طاعة فيما تحتقرون من أعمالكم فسيرضى به» (1).
وسيبقى الشيطان طاغوتا متخفيا وراء كل الطواغيت التي اتخذها البشر في مقابل الخالق عز وجلّ وقد شاءت حكمة الله أن يبنى الكون كله على التقابل بين الأشياء، فكل ما في الأرض من متناقضات ومتضادات حيّرت الفلاسفة
__________
(1) ناصر الدين الألباني صحيح سنن الترمذي ج 2ص 230.(1/62)
والمفكرين، وسبّبت عند كثير منهم النظرة التشاؤمية للحياة، كل هذه أرادها الله عزّ وجلّ للابتلاء والامتحان والاختبار، فالموت والحياة، والشر والخير، والمرض والصحة، والألم واللذة، والشقاء والسعادة، والفقر والغنى، كل ما يضر الإنسان، وكل ما يسرّه، كل ذلك للابتلاء، قال تعالى:
{الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيََاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [الملك: 2]، وقال أيضا: {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنََا تُرْجَعُونَ} [الأنبياء: 35].
ج ظاهرة التقابل في سورة «التوبة»:
إن دراسة المقابلة في المساحة الكلية للقرآن الكريم أمر غير ميسور لأسباب ذكرنا بعضها فيما سبق، ولكون المقابلة تشكل ظاهرة واسعة في القرآن من حيث الموضوع وطريقة العرض، فالقرآن يلجأ إليها دائما لأداء أغراض وقيم فكرية كثيرة، ومن هنا كانت طريقة واضحة وأسلوبا من أساليب العرض البارزة، وبما أنّ دراسة المقابلة في القرآن الكريم كله يحتاج إلى وقت وجهد كبيرين اتجه منهج البحث إلى التركيز على سورة واحدة من سور القرآن هي سورة «التوبة»، وقد نبهني إلى هذا أستاذنا الدكتور «إحسان عباس»، وحثني على تخصيص الدراسة حول هذه السورة القائمة على مقابلات كثيرة، وهذا كله لا يمنعني من الاستفادة مما جاء في سور القرآن الكريم الأخرى، وقبل البدء بدراسة صور التقابل في هذه السورة لا بد من الحديث عن هذه السورة، والقضايا التي تعرض لها، وعن الموضوع الذي تهتم به، ثم تأتي الدراسة التفصيلية حسب موضوعات السورة.
سورة «التوبة» مدنية بالاتفاق (1)، ولم يكتب الصحابة ولا من جاء بعدهم البسملة في أولها، لأنها لم تنزل معها كما نزلت مع غيرها من السور (2) ولهذه
__________
(1) محمد رشيد رضا تفسير المنار ح 10ص 146.
(2) نفسه ج 10ص 146.(1/63)
السورة أسماء كثيرة (1)، وهي تعدّ من أواخر السور نزولا إن لم تكن آخر ما نزل من القرآن الكريم، ففي صحيح البخاري روايتان تثبتان ذلك، فقد روى البخاري عن البراء قال: «إنّ آخر آية نزلت {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللََّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلََالَةِ} [النساء: 176]، وآخر سورة نزلت (براءة)»، وروي عن زيد بن ثابت أن آخر سورة نزلت سورة «براءة» (2)، ويرجّح محمد رشيد رضا في «المنار»:
أن معظم السورة نزل في السنة التاسعة للهجرة وكانت سورة «التوبة» آخر ما نزل من القرآن (3)، وموضوعات السور نفسها مناسبة لظروف التنزيل، ومواقف الرسول صلى الله عليه وسلّم المختلفة، وبناء على هذا تضمنت الأحكام النهائية في العلاقات بين الأمة الإسلامية وسائر الأمم في الأرض، كما تضمنت واقع المجتمع الإسلامي وتصنيفه وتحديد قيمه ومقاماته، وأوضاع كل طائفة فيه، وكل طبقة من طبقاته، ووصف واقع هذا المجتمع بجملته، وواقع كل طائفة فيه، وكل طبقة وصفا دقيقا مصورا مبينا (4).
والسور الكريمة بهذا تصور واقع المجتمع المدني في فترة من فتراته، وكان هذا التصوير مناسبا لعقد مقابلات بينه وبين المجتمع الجاهلي المكي، وضمن مستويات عديدة مثل المستوى العقدي، والمستوى الاجتماعي، والمستوى الأخلاقي وغير ذلك من المستويات.
وقبل الحديث عن القضية المركزية في السورة، والموضوعات التي تناولتها، سنتحدث عن بعض الظروف التي نزلت فيها السورة، فقد جاء في الروايات الصحيحة التي لخصها محمد الطاهر بن عاشور في تفسيره (5) أن النبي صلى الله عليه وسلّم لما
__________
(1) عبد الحميد كشك في رحاب التفسير ط المكتب المصري الحديث ج 2ص 151.
(2) محمد رشيد رضا تفسير المنار ج 10ص 147.
(3) نفسه ج 10ص 147.
(4) سيد قطب في ظلال القرآن ج 3ص 1564.
(5) تفسير التحرير والتنوير ج 10ص 9998.(1/64)
قفل من غزوة «تبوك» في رمضان سنة تسع للهجرة عقد العزم على أن يحجّ في شهر ذي الحجة من عامه، ولكنه كره عن اجتهاد أو بوحي من الله مخالطة المشركين في الحج معه، وسماع تلبيتهم التي تتضمن الإشراك بالله، أي قولهم في التلبية: «لبيك لا شريك لك إلا شريكا هو لك تملكه وما ملك»، وطوافهم عراة، وكان بينه وبين المشركين عهد لم يزل عاملا لم ينقض، فأمسك عن الحجّ تلك السنة، وأمر أبا بكر الصديق على أن يحج بالمسلمين، وأمره أن يخبر المشركين بأن لا يحج بعد عامه ذلك مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان.
وأكثر الأقوال على أن سورة «براءة» نزلت قبل خروج أبي بكر من المدينة، فكان ما صدر عن النبي صلى الله عليه وسلّم صادرا عن وحي لقوله تعالى في هذه السورة: {مََا كََانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسََاجِدَ اللََّهِ شََاهِدِينَ عَلى ََ أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولََئِكَ حَبِطَتْ أَعْمََالُهُمْ وَفِي النََّارِ هُمْ خََالِدُونَ (17) إِنَّمََا يَعْمُرُ مَسََاجِدَ اللََّهِ مَنْ آمَنَ بِاللََّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقََامَ الصَّلََاةَ وَآتَى الزَّكََاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللََّهَ فَعَسى ََ أُولََئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ} (18) [التوبة: 1817]، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم صالح قريشا عام الحديبية على أن يضعوا الحرب بعد عشر سنين يأمن فيها الناس، ويكف بعضهم عن بعض، فدخلت خزاعة في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلّم ودخل بنو بكر في عهد قريش، ثم عدت بنو بكر على خزاعة بسبب دم كان لبني بكر عند خزاعة قبل البعثة بمدة، واقتتلوا فكان ذلك نقضا للصلح، واستصرخت خزاعة النبي صلى الله عليه وسلّم، فوعدهم بالنصر، وتجهّز رسول الله صلى الله عليه وسلّم لفتح مكة ثم حنين ثم الطائف، وحجّ بالمسلمين تلك السنة سنة ثمان «عتّاب بن أسيد»، ثم كانت غزوة «تبوك» في رجب سنة تسع، فلما انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلّم من تبوك أمّر أبا بكر الصديق على الحجّ، وبعث معه بأربعين آية من صدر سورة «براءة» ليقرأها على الناس، ثم أردفه بعلي بن أبي طالب ليقرأ على الناس ذلك (1).
__________
(1) محمد رشيد رضا تفسير المنار ج 10ص 155.(1/65)
أما الموضوعات التي تناولتها هذه السورة فكثيرة ومتنوعة، ولكنها تجتمع كلها تحت محور واحد هو تمييز الحق من الباطل، وأغلب موضوعات السورة تتصل بأصول الدين وفروعه، والسنن الإلهية والتشريع، والحديث عن أحكام القتال، وما يتعلق به من الاستعداد له، وأسباب النصر فيه، وغير ذلك من الأمور الروحية والمالية، وأحكام المعاهدات والمواثيق، وأحكام الولاية في الحرب، وكذا أحوال المؤمنين الصادقين والكفار، والمذبذبين من المنافقين ومرضى القلوب (1).
والسورة الكريمة مع كثرة موضوعاتها تهدف إلى تحقيق غرضين أساسيين كما ذهب إلى ذلك بعض الدارسين في العصر الحديث (2)، أولهما: تحديد القانون الأساسي الذي تشاد عليه دولة الإسلام، وذلك بوضع الأحكام النهائية بين الأمة الإسلامية وغيرها من ملل الشرك والكفر. ثانيا: تصفية المجتمع الإسلامي نفسه بإظهار ما كانت عليه نفوس أتباع النبي صلى الله عليه وسلّم حين استنفروا إلى غزو الروم، ووصف واقع هذا المجتمع بجملته، وواقع كل طائفة فيه.
وسورة «التوبة» كما يظهر لنا قائمة على قضية مركزية هي تمييز الخبيث من الطيب، أو الحق من الباطل، سواء أكان ذلك في علاقة المجتمع الإسلامي مع غيره من مجتمعات الكفر، أم علاقة الأفراد مع بعضهم داخل المجتمع الإسلامي نفسه، والصراع بين الحق والباطل هو من المقابلات الكبرى التي تدور حولها كلّ سور القرآن الكريم، وإنما كان التركيز عليها في سورة «التوبة» باعتبارها آخر ما نزل من القرآن الكريم، فقد نزلت في ظروف صعبة، وكان لا بد أن تشمل على أحكام نهائية تحدد الطريق للمسلمين، وتبيّن الوضع الصحيح لجميع العلاقات في المستقبل، وتوضح الخطر الداخلي والخارجي الذي يتربص بالحق في كل وقت وحين.
__________
(1) نفسه ج 10ص 147.
(2) سيد قطب في ظلال القرآن ج 3ص 1564.(1/66)
وقد عددت السورة الكريمة في طرق أدائها، ووسائل عرضها للموضوعات، كل ذلك لتحقق غايتها من الدعوة والإقناع، والتأثير والإمتاع، وكان حظ أسلوب المقابلة من ذلك كثيرا، وهو ما سيتبين في الدراسة التطبيقية، وسنبدأ الحديث أولا عما يتعلق بالمحور الأول من المقابلات وهو الوحدانية وتعدد الآلهة، ونتناول القضايا التي ترتبط بهذا الموضوع، وهي الوحدانية والشرك العام، والوحدانية وشرك أهل الكتاب، والوحدانية والنفاق، وهذه المقابلات الثلاثة يأتي التركيز عليها في السورة بشكل واضح وبارز وذلك لأهميتها في تحديد العلاقة النهائية بين المؤمنين الصادقين، وغيرهم من أصناف البشر الذين لازمهم الكفر بأشكاله المختلفة.
تعتمد سورة «التوبة» على أسلوب «التقابل» في عرض القضايا المهمة التي تتصل بالإنسان وعلاقته مع خالقه، وعلاقته مع غيره من بني البشر، وهذه العلاقات هي التي ستحدد طريق الإنسان في هذه الأرض، وهي التي ستمنحه حرية الاختيار في مجال العقيدة والسلوك والحياة، واختيار أسلوب التقابل في التعبير عن هذه العلاقات أمر يقتضيه الموضوع نفسه القائم على الصراع بين الأشياء المتقابلة، وبخاصة الصراع بين الخير والشر بأشكاله المختلفة، وأمر تقتضيه طريقة العرض المناسبة التي تلائم طبيعة هذه الموضوعات، ومن هنا كان اللجوء إلى المقابلة لعرض قضايا السورة المهمة تحقيقا لغايات التوجيه والإقناع، والتربية والإمتاع، وغدت هذه الطريقة في العرض إحدى السمات البارزة في التعبير، وإحدى الوسائل التي يتم الاعتماد عليها في مواضع كثيرة لما لها من قدرة على عرض الصور في أشكالها المتقابلة، والنماذج البشرية في صورها المتباينة، والقضايا المختلفة التي يأتي فيها التفريق بين ما يراه القرآن الكريم حقا وما يراه باطلا.
والوحدانية التي ذكرنا أن القرآن الكريم كله قائم عليها هي القضية الأساسية التي يلاحظ أن السورة الكريمة مهتمة بها، لأن الحديث عن الوحدانية
يعني الفصل التام بين الإله المستحق للعبادة والخضوع، وبين الآلهة الأخرى التي اتخذها البشر أندادا وطواغيت، وقد ذكر في السابق أن سورة التوبة هي آخر ما نزل من القرآن فكان لا بدّ أن تأتي فيها كلمة الفصل، والخطاب النهائي في تحديد مقومات هذه القضية، حتى يتبيّن للناس حقيقة التوحيد ومقتضياته ومقوماته، ولذلك جاء حديث السورة تاما ومفصلا في تحديد قضية الوحدانية وتحديد العلاقات التي تترتب عليها بين أهل التوحيد وغيرهم من الملل والشعوب.(1/67)
والوحدانية التي ذكرنا أن القرآن الكريم كله قائم عليها هي القضية الأساسية التي يلاحظ أن السورة الكريمة مهتمة بها، لأن الحديث عن الوحدانية
يعني الفصل التام بين الإله المستحق للعبادة والخضوع، وبين الآلهة الأخرى التي اتخذها البشر أندادا وطواغيت، وقد ذكر في السابق أن سورة التوبة هي آخر ما نزل من القرآن فكان لا بدّ أن تأتي فيها كلمة الفصل، والخطاب النهائي في تحديد مقومات هذه القضية، حتى يتبيّن للناس حقيقة التوحيد ومقتضياته ومقوماته، ولذلك جاء حديث السورة تاما ومفصلا في تحديد قضية الوحدانية وتحديد العلاقات التي تترتب عليها بين أهل التوحيد وغيرهم من الملل والشعوب.
ونبدأ الآن بالمقابلة الأولى: الوحدانية والشرك العام التي جاء الحديث عنها في بداية السورة وفي ثناياها، قال تعالى: {وَأَذََانٌ مِنَ اللََّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النََّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللََّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللََّهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذََابٍ أَلِيمٍ} [التوبة: 3].
ففي هذه الآية تقابل وتضاد بين الوحدانية الحقة والشرك العام، وقد عبر القرآن عن هذه المقابلة بقوله تعالى: {أَنَّ اللََّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ}، والبراءة تعني انقطاع العصمة، يقال: برئت من فلان أبرأ براءة، أي انقطعت بيننا العصمة، ولم يبق بيننا علاقة (1)، وقال الفخر الرازي: «المراد من الكلام البراءة التي هي نقيض الموالاة الجارية مجرى الزّجر والوعيد، والمقصود أنه تعالى أمر في آخر سورة الأنفال المسلمين بأن يوالي بعضهم بعضا، ونبّه به على أنه يجب عليهم أن لا يوالوا الكفار وأن يتبرءوا منهم، فههنا بيّن أنه تعالى كما يتولى المؤمنين فهو يتبرأ من المشركين ويذمهم ويلعنهم» (2).
فالتقابل الظاهر في الآية يستفاد منه قيمة دينية هي أن الوحدانية الحقة تقتضي أمرين:
__________
(1) الفخر الرازي تفسير الفخر الرازي ج 15ص 217.
(2) نفسه ج 15ص 222.(1/68)
أولا: إن الله هو وليّ المؤمنين، وإن الموالاة يجب أن تكون للمؤمنين وحدهم، فهم الذين علموا حقيقة التوحيد، وعملوا بمقتضياتها التي تعني البراءة التامة من الشرك وإخلاص التوحيد والعبادة لله وحده.
ثانيا: إن الله بريء من المشركين، وهذه البراءة التي تقابل الموالاة مبنية على أساس أنّ الشرك لا يجتمع مع الإيمان، لأنه قائم على دعائم واهية بعيدة كل البعد عن معنى التوحيد الخالص الذي جاءت به الرسل، والذي جاء تفصيله في آي القرآن العظيم.
وقال تعالى: {مََا كََانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسََاجِدَ اللََّهِ شََاهِدِينَ عَلى ََ أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولََئِكَ حَبِطَتْ أَعْمََالُهُمْ وَفِي النََّارِ هُمْ خََالِدُونَ (17) إِنَّمََا يَعْمُرُ مَسََاجِدَ اللََّهِ مَنْ آمَنَ بِاللََّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقََامَ الصَّلََاةَ وَآتَى الزَّكََاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللََّهَ فَعَسى ََ أُولََئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ} [التوبة: 1817].
في هذه الآيات تعبير قائم على التقابل من الوحدانية والشرك في إحدى صورها، وقد اختار التعبير النماذج البشرية المتقابلة للدلالة على خصائصهما، لأن طبيعة التوحيد متجسدة في أتباعه الذين يؤمنون بالله واليوم الآخر ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة. ويعمرون المساجد، وطبيعة الشرك متجسدة أيضا في أتباعه الذين يشهدون على أنفسهم بالكفر، ويستحقون على ذلك المنع من دخول مساجد الله.
فمن خلال هذه الآيات يتبيّن أن طبيعة الوحدانية تناقض طبيعة الشرك، ولذلك حدد القرآن أسلوبا في التعامل مع الشرك وأتباعه، فكان منع المشركين من دخول المساجد، وهو هنا مرتبط بما تضمنته البراءة في قوله تعالى: {بَرََاءَةٌ مِنَ اللََّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عََاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [التوبة: 1]، والتعامل مع المشركين جاء معلّلا بكفرهم وشركهم بوحدانية الله، والمتّصف بهذه الصفة محروم من دخول المساجد وعمارتها، لأن مساجد الله هي حق لله وحده، ثم أقيمت لعبادة الله لا لغيره، والكعبة هي بيت الله الحرام القائم على التوحيد منذ أول يوم بني
فيه، ولذلك كله استحق المشركون درجة الحرمان من عمارة هذا المسجد، وشهادتهم بالكفر أيضا تستفاد من قولهم بالطواف: لبيك لبيك لا شريك لك إلا شريكا هو لك تملكه وما ملك، وقولهم إذا سئلوا عن دينهم: نعبد اللات والعزى، أو تكذيبهم الرسول (1).(1/69)
فمن خلال هذه الآيات يتبيّن أن طبيعة الوحدانية تناقض طبيعة الشرك، ولذلك حدد القرآن أسلوبا في التعامل مع الشرك وأتباعه، فكان منع المشركين من دخول المساجد، وهو هنا مرتبط بما تضمنته البراءة في قوله تعالى: {بَرََاءَةٌ مِنَ اللََّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عََاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [التوبة: 1]، والتعامل مع المشركين جاء معلّلا بكفرهم وشركهم بوحدانية الله، والمتّصف بهذه الصفة محروم من دخول المساجد وعمارتها، لأن مساجد الله هي حق لله وحده، ثم أقيمت لعبادة الله لا لغيره، والكعبة هي بيت الله الحرام القائم على التوحيد منذ أول يوم بني
فيه، ولذلك كله استحق المشركون درجة الحرمان من عمارة هذا المسجد، وشهادتهم بالكفر أيضا تستفاد من قولهم بالطواف: لبيك لبيك لا شريك لك إلا شريكا هو لك تملكه وما ملك، وقولهم إذا سئلوا عن دينهم: نعبد اللات والعزى، أو تكذيبهم الرسول (1).
أما النموذج الذي يستحق عمارة مساجد الله فهو على النقيض من الصنف الأول في كل شيء، إنه صنف أول صفاته الإيمان بالله تعالى ثم العمل بمقتضيات هذا الإيمان كإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، وقصر الخشية لله وحده، وهذا النموذج هو الممثل الحقيقي للوحدانية التي يريدها القرآن الكريم.
والغاية من هذه المقابلة بين الوحدانية والشرك المتمثلين في النماذج البشرية هي بيان صفات المشركين الكافرين، وفي مقابل ذلك بيان صفات المؤمنين الموحّدين، وبيان الصنف المستحق للهداية والرحمة، والصنف المستحق للخزي والعذاب.
وقال تعالى أيضا: {أَجَعَلْتُمْ سِقََايَةَ الْحََاجِّ وَعِمََارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرََامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللََّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجََاهَدَ فِي سَبِيلِ اللََّهِ لََا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللََّهِ وَاللََّهُ لََا يَهْدِي الْقَوْمَ الظََّالِمِينَ}
[التوبة: 19].
هذه الآية كما هو ملاحظ تعتمد على طريقة المقابلة في العرض، فقد قابلت بين نموذجين من البشر، كل نموذج يشمل اتجاها عقديا خاصا به، فالنموذج الأول: يتمثل في المشركين، أما النموذج الثاني من البشر: فمتمثل في المؤمنين، وقد قابلت الآية بين المؤمنين والمشركين للفصل والتفريق بين التوحيد والشرك، قال الزمخشري (538هـ): «المعنى إنكار أن يشبّه المشركون بالمؤمنين، وأعمالهم المحبطة بأعمالهم المثبتة، وجعل تسويتهم ظلما بعد ظلمهم بالكفر» (2).
__________
(1) أبو حيان الأندلسي البحر المحيط ج 5ص 386.
(2) الكشاف ج 2ص 256.(1/70)
والاستفهام في قوله تعالى: {أَجَعَلْتُمْ سِقََايَةَ الْحََاجِّ} للإنكار المتضمن لمعنى النهي، أي: لا تفعلوا ذلك فإنه خطأ ظاهر كما بيّنه ما بعده، ونكتة هذا التعبير بيان أن هذا الفعل ليس كالفعل الآخر، وأن الفاعل لكل منهما ليس كالآخر بل بينهما من التفاوت والدرجات (1).
ومن القيم الدينية التي يمكن أن تستفاد من المقابلة بين الوحدانية والشرك هي نفي التسوية بين المشركين والمؤمنين، «أي لا يساوي الفريق الأول الفريق الثاني في صفته ولا في عمله في حكم الله ولا في مثوبته وجزائه عنده في الدنيا ولا في الآخرة فضلا عن أن يفضله كما توهم بعض المسلمين وكما يزعم كبراء مشركي قريش كنوا يتبجحون بخدمة البيت ويستكبرون على الناس به» (2).
والقيمة الدينية الأخرى التي تستفاد من هذه المقابلة بين المؤمنين المجاهدين وغيرهم من القاعدين لخدمة المساجد وإعمار البيوت وخدمة الحجيج أن ميزان الله هو الميزان، وأن تقديره هو التقدير، فالله يهتم بإخلاص العمل لوجهه الكريم، وأن يكون صوابا موافقا للشرع، وهؤلاء القاعدون لم يكونوا يملكون من نوايا العبادة الخالصة لله شيئا، ولذلك جاءت الموازنة بينهم وبين المؤمنين المجاهدين لتجعلهم في مرتبة أدنى من المرتبة التي ظن الناس أنهم بها هم الفائزون، والقاعدة عند الله في استحقاق عمارة بيوت الله هي إخلاص العمل، فلا يجوز أن يسوى الذين كانوا يعمرون الكعبة ويسقون الحجيج في الجاهلية، وعقيدتهم ليست خالصة لله، ولا نصيب لهم من عمل أو جهاد، فلا يجوز أن يسوّى هؤلاء لمجرد عمارتهم للبيت وخدمتهم للحجيج بالذين آمنوا إيمانا صحيحا وجاهدوا في سبيل الله وإعلاء كلمته، وقد قال الله تعالى: {لََا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللََّهِ}، فالمقابلة بين الفريقين قد أفرزت جانب الحق وميّزته عن الباطل، وجعلت المفاضلة على أساس صحة العمل والإخلاص فيه لوجه الله وحده، وهذه الآية في صورتها العامة، تميّز بين الوحدانية الحقة والشرك والضلال.
__________
(1) محمد رشيد رضا تفسير المنار ج 10ص 218.
(2) محمد رشيد رضا تفسير المنار ج 10ص 218.(1/71)
والمقابلة الثانية التي اهتمت سورة التوبة بعرضها بشكل بارز هي الوحدانية وشرك أهل الكتاب، وقد ميزت السورة في عرضها لموضوعاتها بين الشرك العام، وهو الشرك الذي كان ملازما لقريش وبعض القبائل العربية التي كانت تعبد الأصنام وتجعلها أندادا لله، وبين شرك أهل الكتاب من اليهود والنصارى الذين اتخذوا من بعض أنبيائهم وأحبارهم أربابا من دون الله، فشرك أهل الكتاب هو شرك خاص متميّز، ولذلك فصلت السورة الكريمة الحديث عنه، وقابلت بينه وبين الوحدانية الخالصة لله تعالى، وسنعرض الآن لبعض الآيات التي فيها مقابلة بين الوحدانية وشرك أهل الكتاب لبيان القيم المختلفة التي تفيدها هذه الآيات مع بيان الغاية المعنوية والبلاغية من عرض هذه المقابلات.
قال تعالى: {وَقََالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللََّهِ وَقََالَتِ النَّصََارى ََ الْمَسِيحُ ابْنُ اللََّهِ ذََلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوََاهِهِمْ يُضََاهِؤُنَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قََاتَلَهُمُ اللََّهُ أَنََّى يُؤْفَكُونَ (30) اتَّخَذُوا أَحْبََارَهُمْ وَرُهْبََانَهُمْ أَرْبََاباً مِنْ دُونِ اللََّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمََا أُمِرُوا إِلََّا لِيَعْبُدُوا إِلََهاً وََاحِداً لََا إِلََهَ إِلََّا هُوَ سُبْحََانَهُ عَمََّا يُشْرِكُونَ} [التوبة: 3130].
الحديث في هذه الآيات هو عن شرك أهل الكتاب في مقابل الوحدانية التي أمرهم الله بها فما رعوها حقّ رعايتها، والآيات تتحدث حديثا مباشرا عن صور الشرك الذي ابتدعه اليهود والنصارى وتعدّوا به على خصائص الوحدانية، وشابهوا به مشركي العرب.
فالآيات تبين انحراف اليهود والنصارى في تصورهم عن الله، فقد لحقوا بأهل الشرك، وإن اختلفت طرق الشرك، فلا فرق بين من يعبد الصنم ومن يعبد المسيح وغيره (1).
__________
(1) أبو حيان الأندلسي تفسير النهر الماد من البحر المحيط تقديم وضبط بوران الضناوي وصاحبه ط دار الجنان 1987م ج 1ص 963.(1/72)
وقد بينت الآيات حقيقة الشرك الذي وقع فيه أهل الكتاب، وهو شرك بالأقوال والأفعال، فأمّا شركهم في الأقوال فقول اليهود عزيز ابن الله، وقول النصارى المسيح ابن الله، وأما شركهم بالأفعال فاتخاذهم الأحبار والرهبان مصادر للتشريع، والتحليل والتحريم.
وتهدف الآيات من هذا البيان تعرية الشرك وتوضيح أسبابه، وفي مقابل ذلك تحدد خصائص الوحدانية كما أرادها التصور الإسلامي الصحيح، وفي هذه الآيات بعض القيم المستفادة من السياق، فمن ذلك قوله تعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبََارَهُمْ وَرُهْبََانَهُمْ أَرْبََاباً مِنْ دُونِ}، واتخاذ الأحبار والقساوسة أربابا لا يعني العبادة المحضة التي تجعل منهم آلهة وأصناما بل المراد كما ذكر الفخر الرازي (606هـ) أنهم أطاعوهم في أوامرهم ونواهيهم (1)، وهذا ما يسمى بحق التشريع أو الحكم الذي هو أخصّ خصائص الوحدانية، فالتشريع هو حق لله وحده، أمّا إذا تعدى ذلك وأصبح في أيدي البشر فهذا هو الذي يعني اتخاذ الأرباب لا في الصورة البدائية الساذجة التي عرفتها الجاهلية، ولكن في صورة ادّعاء حق وضع التصورات والقيم والشرائع والقوانين والأنظمة والأوضاع بمعزل عن منهج الله للحياة (2).
وقد جاء التعبير بطريقة المقابلة بين رؤساء الدين الذين اتخذهم أهل الكتاب أربابا وبين الله سبحانه وتعالى المستحق للعبادة والألوهية، وهذه المقابلة تهدف إلى بطلان الباطل الذي هم عليه بعد هذا الصنيع، وبيان أن التشريع والحكم حقان لله وحده قال تعالى: {وَمََا أُمِرُوا إِلََّا لِيَعْبُدُوا إِلََهاً وََاحِداً لََا إِلََهَ إِلََّا هُوَ سُبْحََانَهُ عَمََّا يُشْرِكُونَ} [التوبة: 31].
وقال تعالى: {يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللََّهِ بِأَفْوََاهِهِمْ وَيَأْبَى اللََّهُ إِلََّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكََافِرُونَ} [التوبة: 32].
__________
(1) تفسير الفخر الرازي ج 16ص 37.
(2) سيد قطب معالم في الطريق ص 10.(1/73)
هذه الآية تقابل بين الوحدانية التي عبّر عنها في السياق بالنور، وبين شرك أهل الكتاب الذي عبّر عنه بالكفر، وبالإرادة والسعي المستمر لإطفاء نور الوحدانية، وهذه الآية وردت في سياق الحديث عن اليهود والنصارى، فهي إذن خاصة بأهل الكتاب وبأوصافهم ونواياهم وبحقيقة الشرك الذي هم عليه، والذي يناقض التوحيد مناقضة تامة، قال محمد رشيد رضا: «يريد اليهود والنصارى أن يطفئوا نور الله الذي أفاضه على البشر بهداية دين الحق الذي أوحاه إلى موسى وعيسى وغيرهما من رسله، ثم أتمّه وأكمله ببعثة خاتم النبيين صلى الله عليه وسلم بالطعن في الإسلام، والصد عنه بالباطل، كما فعلوا من قبل بمثل تلك الأقوال في عزيز والمسيح، التي لم تتجاوز أفواههم إلى معنى صحيح، وبما ابتدعه الرؤساء لهم من التشريع، حتى صار التوحيد الذي أمروا به عندهم شركا والعبد المربوب ربا، والعابد المألوه إلها، على تفاوت بين فرقهم في ذلك» (1).
وجملة المعنى في هذا التركيب القائم على المقابلة أن اليهود والنصارى يريدون أن يطفئوا نور الله الذي شرعه لهداية عباده، وإنما قطبه الذي تدور عليه جميع عباداته توحيد الربوبية والألوهية، فتحولوا عنه إلى الشرك والوثنية، والله تعالى لا يريد ذلك، لا يريد في هذا الشأن إلا أن يتم هذا النور (2).
ومن كمال بلاغة هذا التعبير «أنه صالح لتفكيك التشبيه بأن يشبّه الإسلام وحده بالنور، ويشبّه محاولو إبطاله بمريدي إطفاء النور، ويشبّه الإرجاف والتكذيب بالنفخ، ومن الرشاقة أن آلة النفخ وآلة التكذيب واحدة وهي الأفواه» (3).
فالغاية من هذه المقابلة بين الوحدانية والشرك، إثبات التوحيد، وفضح الشرك والمشركين، وبيان الدعائم الواهية التي يقوم عليها، وبخاصة شرك أهل الكتاب الموصوف بالبعد عن المنهج الإلهي الذي ارتضاه الله للعباد.
__________
(1) تفسير المنار ج 10ص 383.
(2) نفسه ج 10ص 386.
(3) محمد الطاهر بن عاشور تفسير التحرير والتنوير ج 10ص 171.(1/74)
ونصل الآن إلى المقابلة الثالثة وهي بين الوحدانية والنفاق التي تناولتها السورة في مواضع كثيرة، ذلك لأهميتها في الفصل بين الحق والباطل، هذا الباطل الذي قد يظهر في أشكال مختلفة منها النفاق وهو إظهار الإيمان وإبطان الكفر، وهو نوع خطير من أنواع الكفر والضلال، لذلك أفردت له السورة جانبا مهما بين موضوعاتها، وتناولته بإسهاب وكشفت عن حقيقته وفضحت أتباعه، والسورة الكريمة كما هو ملاحظ تتناول النفاق من خلال العناصر البشرية التي تبنّت هذا المنهج في محاربة الإسلام وإبطال التوحيد، وفي مقابل ذلك تتحدث عن أهل الوحدانية الذين عرفوا حقيقة الإيمان، وتمسكوا بحبل الله، ووالوا الله ورسوله.
قال تعالى: {الْمُنََافِقُونَ وَالْمُنََافِقََاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللََّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنََافِقِينَ هُمُ الْفََاسِقُونَ (67) وَعَدَ اللََّهُ الْمُنََافِقِينَ وَالْمُنََافِقََاتِ وَالْكُفََّارَ نََارَ جَهَنَّمَ خََالِدِينَ فِيهََا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللََّهُ وَلَهُمْ عَذََابٌ مُقِيمٌ} [التوبة: 6867].
وقال تعالى في مقابل ذلك: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنََاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيََاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلََاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكََاةَ وَيُطِيعُونَ اللََّهَ وَرَسُولَهُ أُولََئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللََّهُ إِنَّ اللََّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (71) وَعَدَ اللََّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنََاتِ جَنََّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهََارُ خََالِدِينَ فِيهََا وَمَسََاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنََّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوََانٌ مِنَ اللََّهِ أَكْبَرُ ذََلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} (72) [التوية: 7271].
هذه الآيات قائمة على طريقة المقابلة في العرض، وهي تعرض لنموذجين متقابلين من البشر، كل نموذج يمثل اتجاها عقديا تهدف الآيات إلى بيانه وتوضيحه، فالنموذج الأول يمثل المنافقين الذين أبرز صفاتهم الأمر بالمنكر والنهي عن المعروف، وقبض الأيدي ونسيان الله، أما النموذج الثاني فيمثل المؤمنين الذين صفاتهم تناقض المنافقين، فهم يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، ويقيمون الصلاة، ويؤتون الزكاة، ويطيعون الله ورسوله، وغاية هذا
الوصف المتقابل كشف طبيعة النفاق، وجعله من الأسباب المبعدة عن طريق الإيمان، مع بيان الوحدانية وخصائصها مثل الإيمان بالله وما يتبعه من مقتضيات حدّدها القرآن الكريم.(1/75)
هذه الآيات قائمة على طريقة المقابلة في العرض، وهي تعرض لنموذجين متقابلين من البشر، كل نموذج يمثل اتجاها عقديا تهدف الآيات إلى بيانه وتوضيحه، فالنموذج الأول يمثل المنافقين الذين أبرز صفاتهم الأمر بالمنكر والنهي عن المعروف، وقبض الأيدي ونسيان الله، أما النموذج الثاني فيمثل المؤمنين الذين صفاتهم تناقض المنافقين، فهم يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، ويقيمون الصلاة، ويؤتون الزكاة، ويطيعون الله ورسوله، وغاية هذا
الوصف المتقابل كشف طبيعة النفاق، وجعله من الأسباب المبعدة عن طريق الإيمان، مع بيان الوحدانية وخصائصها مثل الإيمان بالله وما يتبعه من مقتضيات حدّدها القرآن الكريم.
يقول محمد رشيد رضا في تفسيره: «إنّ نكتة الفرق بين المؤمنين والمنافقين في الوصف المتقابل هنا أن المنافقين لا ولاية بينهم بأخوة تبلغ فضيلة الإيثار، ولا تناصر يبلغ الإقدام على القتال، لأنّ النفاق سلوك وذبذبة من لوازمها الجبن والبخل، وهما الخلقان المانعان من التناصر ببذل النفس والمال، بل قصاراه التعاون بالكلام وما لا يشق من الأعمال، وإنّما تكون ولاية التناصر بالقتال لأصحاب العقائد الثابتة، والملّة الراسخة سواء أكانت حقا أو باطلة.
فهذا ما يتعلق بالمقابلة بين المؤمنين والمنافقين في علاقة بعضهم ببعض، وخلاصته أن المنافقين يشبه بعضهم بعضا في شكّهم وارتيابهم ونفاقهم وآثارهم من قول أو عمل، وإن المؤمنين بعضهم أولياء بعض في الولاية العامة من أخوة ومودة وتعاون وتراحم حتى شبّه النبي صلى الله عليه وسلّم جماعتهم بالجسد الواحد، والبنيان يشد بعضه بعضا، وولاية النصرة في الدفاع عن الحق والعدل والملة والوطن، وإعلاء كلمة الله عزّ وجلّ، وفي آثار ذلك من القول والعمل المضاد لما عليه المنافقون» (1).
وهذه الآيات التي اختارت طريقة المقابلة في العرض هدفت إلى كشف النفاق، وتحديد الوحدانية الخالصة، وعرض الصورة وما يقابلها من شأنه أن يبرز المعنى، ويقوي النظم، ويساهم في البيان والتوصيل.
وقال تعالى: {لََا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللََّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يُجََاهِدُوا بِأَمْوََالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَاللََّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (44) إِنَّمََا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لََا يُؤْمِنُونَ بِاللََّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَارْتََابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ} [التوبة: 4544].
__________
(1) تفسير المنار ج 10ص 542541.(1/76)
تختار هذه الآيات طريقة المقابلة في العرض، فهي تقابل بين فريق المؤمنين وفريق المنافقين وتبين صفات كل فريق، وتبرز في النهاية العلاقة المتناقضة بين الوحدانية والنفاق.
والقيمة الدينية والفكرية التي تهدف الآيات إلى بيانها هي أن طبيعة النفاق تختلف اختلافا جوهريا عن طبيعة الإيمان، وبخاصة إذا تعلق الأمر بقضية الجهاد في سبيل الله الذي هو أحد أركان الإيمان الأساسية، فمن صفات المؤمنين أنهم يستأذنون في الخروج أو القعود كراهة أن يجاهدوا بل إذا أمرهم الرسول بشيء ابتدروا إليه، وكان الاستئذان في ذلك الوقت علاقة النفاق، أما المنافقون فيفضلون الاستئذان والقعود (1).
فالقاعدة التي لا تخطئ أبدا هي أن المنافقين هم المترددون في الخروج الملتمسون للأعذار لعلّ عائقا من العوائق يحول بينهم وبين النهوض بواجب الجهاد، وفرض الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والسبب في ذلك راجع إلى عدم إيمانهم بالله وخلوّ قلوبهم من التقوى واليقين (2).
فطبيعة التوحيد تقابل طبيعة النفاق تقابل المتضادات، فلا يمكن أن يجتمع الإيمان والنفاق في قلب سليم، ومن هنا جعل القرآن النفاق كفرا، وآفة خطيرة تهدد كيان المجتمع المسلم.
وحديث سورة التوبة عن النفاق واسع ومستفيض حتى إنها سميت بالفاضحة والكاشفة، لفضحها المنافقين، وكشفها لجميع أنواع النفاق الظاهرة والباطنة، ولا يمكن في هذا المقام دراسة جميع جزئيات الموضوع، وستأتي الدراسة التفصيلية في الجانب التطبيقي من هذه الدراسة.
* * * __________
(1) ينظر أبو حيان الأندلسي تفسير البحر المحيط ج 5ص 427.
(2) سيد قطب في ظلال القرآن ج 3ص 1662.(1/77)
الفصل الثالث المقابلة وقضايا الدين والأخلاق
ليس من منهجنا في هذا البحث استقصاء جميع المقابلات التي تناولها السياق القرآني فذلك أمر متعذر، وإنما طبيعة هذا البحث تقتضي منا أن نركّز على المقابلات الكبرى التي عني بها القرآن الكريم، وهي بمثابة الأصل الذي تتفرّع منه وتندرج تحته باقي صور التقابل، وسيكون اهتمامنا منصبّا على بيان القيم الفكرية والصور الجمالية التي تبرز من خلال استخدام صور التقابل بأشكاله المختلفة مما يجعلها تحقق غاياتها من الإقناع والإمتاع وأهدافها في التأثير ومزج الأفكار والمعاني بالعقول والقلوب.
وقبل البدء في بيان صور المقابلات المختلفة حسب موضوعاتها ومضامينها لا بدّ من التأكيد على أن طريقة العرض التي تعتمد على المقابلة هي إحدى طرق الأداء البارزة في المنهج القرآني، والتي كان لها الفضل الأكبر في تحقيق أهداف وغايات القرآن الإقناعية والتربوية، وبتكامل جميع طرق ووسائل القرآن في الإخراج والعرض خرج النصّ القرآني غاية في البيان والبلاغة. وكان معجزا في جميع مستوياته، ولذلك قال عن نفسه: {اللََّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتََاباً مُتَشََابِهاً مَثََانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ََ ذِكْرِ اللََّهِ ذََلِكَ هُدَى اللََّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشََاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللََّهُ فَمََا لَهُ مِنْ هََادٍ} [الزمر: 23].
وسنبدأ الحديث في هذا البحث عن بعض القيم الدينية والأخلاقية التي أفرزتها طريقة المقابلة والتي اجتهدنا في اختيارها وتصنيفها وترتيبها حسب القيمة والأهمية، ونقصد بالقيم الدينية والأخلاقية ما تعارف عليه الدارسون وأهل العلم والمعرفة في مثل هذه المصطلحات، فالدين بمعناه الواسع هو الشريعة أو الطاعة والانقياد للشريعة (1)، ولكننا سنستعمله هنا بمعنى
__________
(1) ينظر مفردات ألفاظ القرآن الراغب الأصفهاني ص 333.(1/79)
أضيق من هذا وهو يتعلق بقضايا التعبد المحض، والسلوك الروحي الخالص مثل الصلاة والدعاء وما يتعلّق بالدنيا والآخرة والجنة والنار والحلال والحرام، وهناك قضايا اجتماعية وسياسية واقتصادية وغيرها هي من صلب الدين والعبادة، وقد آثرنا أن نخصص لها أبوابا أخرى لغايات الدراسة والتحليل، أما الخلق فهو ما يتعلق بالسجايا والقوى المدركة بالبصيرة (1) مثل الخير والشر والصدق والكذب والوفاء والغدر وغير ذلك من الأخلاق التي ترتبط بالفضيلة أو الرذيلة، والدين والأخلاق مرتبطان ارتباطا وثيقا في الواقع العملي للإنسان، وفي مراد الشريعة الإسلامية نفسها، ولذلك جمعناهما في عقد واحد، وتحدثنا عنهما في فصل مشترك، وقد اخترنا وفق المنهج الذي تبنّيناه بعض المقابلات الكبرى التي تحدثت عنها سورة التوبة وتحدّث عنها القرآن بإسهاب، وكان هدفنا من ذلك هو إبراز القيم الفكرية والجمالية التي تحتوي عليها النصوص القرآنية، والتي جعلت من النص القرآني نصا متميزا فريدا في كل شيء، وهذا هو الذي جعل بعض الدارسين يحددون مجالات أخرى للإعجاز القرآني لم يتنبّه إليها علماؤنا في السابق، يقول محمد قطب: «القرآن الكريم كتاب شامل ومتميّز في جوانبه كلها، إنه عملاق ضخم في كلّ شيء، وفي كل زاوية يدرس منها، إنه عملاق ضخم في منهجه الاقتصادي، عملاق ضخم في منهجه التربوي، عملاق ضخم في نظرته للنفس البشرية، عملاق ضخم في نظام الأسرة، عملاق ضخم في منهجه السياسي، وهكذا وهكذا في كل مجال، بحيث تبدو المناهج البشرية إلى جواره أقزاما ضئيلة، فوق أنها ممسوخة الكيان» (2).
وقال الشيخ محمد الغزالي: «قد تلوت القرآن مرارا، ورجعت بصري في آياته وسوره، وحاولت أن أجد شبها بين الأثر النفسي والذهني لما يكتب
__________
(1) مفردات ألفاظ القرآن الراغب الأصفهاني ص 297.
(2) دراسات قرآنية ص 15.(1/80)
العلماء والأدباء، وبين الأثر النفسي والذهني لهذا القرآن، فلم أقع على شيء البتة، وفقد أحكم بأنّ كتابا ما صدر من مؤلف في عصر كذا، وأن جنسية هذا المؤلف ومزاجه وأهدافه هي كيت وكيت، أما بعد قراءة القرآن فأجزم أن قائل هذا الكلام محيط بالسماوات والأرض، مشرف على الأولين والآخرين، خبير بأغوار الضمائر، وأسرار النفوس، يتحدث إلى الناس تحدّث السيد الحقيقي إلى عباده الذين خلقهم بقدرته، وربّاهم بنعمته، ويتناول الأمم والقرون في هالة من الجبروت والتعالي، يستحيل أن تلمح فيها شارة لتكلّف أو ادّعاء» (1).
أالمقابلة بين الخير والشر:
الخير غريزة معنوية وقد يكون قيمة مادية، وضده الشر، ومفهوم الخير «أنه ما يرغب فيه الكلّ كالعقل مثلا والعدل والفضل والشيء النافع، وقيل:
الخير ضربان، خير مطلق: وهو ما يكون مرغوبا فيه بكلّ حال، وعنده كل أحدهما وصف النبي صلى الله عليه وسلّم به الجنة فقال: «لا خير بخير بعده النار، ولا شرّ بشرّ بعده الجنة» (2)، وخير وشر مقيدان وهو أنّ خير الواحد شرّ للآخر كالمال الذي ربما كان خيرا لزيد وشرا لعمرو، ولذلك وصفه الله تعالى بالأمرين فقال في موضع {إِنْ تَرَكَ خَيْراً} [البقرة: 180]، وقال في موضع آخر {أَيَحْسَبُونَ أَنَّمََا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مََالٍ وَبَنِينَ (55) نُسََارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرََاتِ بَلْ لََا يَشْعُرُونَ} [المؤمنون: 5655]، فقوله: {إِنْ تَرَكَ خَيْراً} أي مالا، وقال بعض العلماء: لا يقال للمال خير حتى يكون كثيرا ومن مكان طيّب» (3).
لقد أقام الله سبحانه وتعالى أمر الدنيا والآخرة على أساس المقابلة والقضاء بين الخير والشر، وهو ما يفهم من نصوص القرآن الكريم والسنة
__________
(1) نظرات في القرآن الكريم ص 144143.
(2) الفيروزآبادي بصائر ذوي التمييز ج 5722.
(3) بصائر ذوي التمييز للفيروزآبادي ج 2ص 572.(1/81)
النبوية الشريفة، فالابتلاء والمصلحة والتقييم كل ذلك قائم على الصاع بين الخير والشر في الدنيا منذ ابتدائها وإلى نهايتها، ويستنتج ذلك من قوله تعالى:
{وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنََا تُرْجَعُونَ} [الأنبياء: 35]، وقوله تعالى: {أَنْزَلَ مِنَ السَّمََاءِ مََاءً فَسََالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهََا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رََابِياً وَمِمََّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النََّارِ ابْتِغََاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتََاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذََلِكَ يَضْرِبُ اللََّهُ الْحَقَّ وَالْبََاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفََاءً وَأَمََّا مََا يَنْفَعُ النََّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذََلِكَ يَضْرِبُ اللََّهُ الْأَمْثََالَ} [الرعد: 17]، ففي الآية الأولى ذكر الله سبحانه أن الحياة مدة يعتري فيها الخير والشر جميع الأحياء، وعلّل ذلك بالابتلاء والاختبار حتى تتبيّن وتتميّز الأشياء وعلى هذا الأساس بني نظام الحياة كله (1).
أما الآية الثانية فهي تتحدث عن صورة الحق والباطل، والخير والشر في مسيرة الحياة، وقد مثّل الله سبحانه بطريقة التمثيل صورة الحق والباطل بمثل محسوس مشاهد «الماء ينزل من السماء فتسيل به الأودية، وهو يلمّ في طريقه غثاء فيطفو على وجهه في صورة الزبد حتى ليحجب الماء في بعض الأحيان، هذا الزبد نافش راب منتفخ، ولكنّه بعده غثاء، والماء من تحته سارب ساكن هادئ، ولكنه هو الماء الذي يحمل الخير والحياة، كذلك يقع في المعادن التي تذاب لتصاغ منها حلية كالذب والفضة، أو آنية أو آلة نافعة للحياة كالحديد والرصاص، فإنّ الخبث يطفو وقد يحجب المعدن الأصيل، ولكنّه بعد خبث يذهب ويبقى المعدن في نقاء، ذلك مثل الحق والباطل، في هذه الحياة، فالباطل يطفو ويعلو وينتفخ ويبدو طافيا رابيا ولكنه بعد زبد أو خبث ما يلبث أن يذهب جفاء مطروحا لا حقيقة له ولا تماسك فيه، والحقّ يظل هادئا ساكنا، وربّما يحسبه بعضهم أنه قد انزوى أو غار أو ضاع أو مات، ولكنه هو الباقي في الأرض كالماء المحيي والمعدن الصريح ينفع الناس «كذلك يضرب الله الأمثال» (2).
__________
(1) محمد الطاهر بن عاشور تفسير التحرير والتنوير ج 17ص 64.
(2) سيد قطب في ظلال القرآن ج 4ص 2054.(1/82)
وكلمة «الحق» في الاستعمال القرآني هي الخير النافع بأشكاله كلّها فالله هو الحق قال تعالى: {ذََلِكَ بِأَنَّ اللََّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مََا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبََاطِلُ} [الحج: 62]، والإيمان بالله خير، والفضيلة خير، والتقوى خير، وكل ما يراه الشرع الإلهي مناسبا للفطرة، وموافقة لمراد الله فهو خير، فمعنى الخير في القرآن أوسع كثيرا من معناه الأخلاقي المتداول بين أهل الفكر والفلسفة، أما الباطل فهو نقيض الخير، وهو الشر بأشكاله كلها ابتداء بالطاغوت والشيطان اللذين هما سببا الشر، وانتهاء بالرذيلة والفساد في الأرض (1).
والقرآن الكريم لا يحفل بالنظر الفلسفي في حقائق الأشياء، ولا يعنى بالجدل اللفظي حول ماهية الخير والشر، لأن غاية القرآن ليست في إقامة جدل عقلي عقيم، وتخريج الفلاسفة والحكماء، وإنما رسالته قائمة على تربية النفس، وتصحيح التصوّر، وتقويم الخلق، وإقامة العدل والخير في المجتمع المبني على أساس المنهج الإلهي (2)، كما أن رسالة القرآن هي رسالة إقناعية تأثيرية تريد أن تأخذ بيد الإنسان إلى الاعتراف والاقتناع بمنهج الله في كل شيء على وجه هذه الأرض، إنّها رسالة تهدف إلى مزج العقائد السليمة بالعقول والقلوب كي يسير الإنسان وفق معرفته لها بخطى ثابتة، وعلى منهج سليم.
لكنّ السؤال الذي قد يثار دائما هو: لماذا خلق الله الشرّ؟ ولماذا أقام الله هذه المقابلة المتواصلة بين الخير والشر في هذه الحياة؟ وجواب القرآن على ذلك هو للابتلاء والاختبار، قال تعالى: {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنََا تُرْجَعُونَ} [الأنبياء: 35]، هذا تعليل القرآن أما لماذا لم تمحض الحياة للخير فقط؟ فقد تجنّب الإسلام منذ قام إيقاظ هذه الفتنة فلم يطرق بابها من أية جهة، ولم يشر إليها من قريب أو بعيد، والحكمة في هذا ظاهرة لا جدوى من
__________
(1) ينظر أحمد عز الدين البيانوني الحق والباطل ص 65.
(2) عبد الكريم الخطيب التفسير القرآني للقرآن ج 3ص 885884.(1/83)
أن يقيم الإسلام لوجود الشرّ علّة أو عللا، إنه موجود وكفى «وحسبك من شرّ سماعه» والحزم كل الحزم في توقّيه ودفعه والخلاص منه (1).
وقد علّل الجاحظ (255هـ) هذا الامتزاج بين الخير والشر في الحياة بالمصلحة الإنسانية قال: «اعلم أن المصلحة في ابتداء أمر الدنيا إلى انقضاء مدّتها امتزاج الخير بالشرّ، والضار بالنافع، والمكروه بالسّار، والضّعة بالرّفعة، والكثرة بالقلّة، ولو كان الشرّ صرفا لهلك الخلق، أو كان خيرا محضا لسقطت المحنة، وتعطلت أسباب الفكرة» (2).
إنّ المقابلة بين الخير والشرّ تقتضيها المصلحة، ويقتضيها اختبار الله لقدرات البشر في حسن الاختيار لمنهج الله والخير الذي يحمله، أو سوء الاختيار لمناهج أخرى توقع في الشر وتؤدي إلى الهلاك، ومن هنا زاوج الله بين الأشياء، وأقام الصراع بين الحق والباطل، والخير والشرّ كل ذلك ليميّز الخبيث من الطيّب، ويجازي كلّ واحد حسب اختياره، والله سبحانه حين مزج الخير بالشرّ وقابل بينهما بيّن السّبل المؤدية إلى كليهما، ووضّح الطرق التي تفضي إلى كل منهج حتى لا يتيه البشر حين يختارون ويوازنون، ثمّ منح الإنسان من غرائز الفطرة التي تتحرك كلّما استدعاها الإنسان وضرب على أوتارها.
إن الخير والشرّ هما ميزان الحياة الذي يقدّر به الإنسان كلّ شيء يأخذه أو يدعه الخير في كفة والشرّ في الكفة الأخرى، هكذا تجري حياة الناس، وهكذا تجري تصرفاتهم، ويقع سلوكهم على حسب ما يشير إليه مؤشر الميزان، من رجحان إحدى الكفتين على الأخرى (3).
__________
(1) عبد الكريم الخطيب التفسير القرآني للقرآن ج 3ص 889.
(2) الجاحظ الحيوان ج 1ص 96.
(3) عبد الكريم الخطيب التفسير القرآني للقرآن ج 3ص 876.(1/84)
إن البشر جميعا يدركون بدوافع الفطرة معنى الخير والشرّ، ومع هذا كلّه فإن بعض الفلاسفة والمفكرين من ينكر وجودهما، ولا يعترف بأنّ في الحياة خيرا أو شرا، وبعضهم يرى بأن الخير والشر نقيضان لا يلتقيان أبدا ولذلك لا بدّ أن يكون لكلّ منهما إله خالص به كما هو الحال عند المثنوية، وإذا استعرضنا بعضا من هذه الآراء نجد أن من أقدم الفلسفات فلسفة الفرس التي تعرف «بالمثنوية» وهي نظرات لحكماء الفرس ترى بأنّ العالم محكوم بإلهين، ويتحكمان في مصيره، وهما إله الخير وإله الشرّ، وقد رمزوا لإله الخير بالنور «يزدان» ولإله الشرّ بالظلام «أهرمن» (1).
وقد تطورت هذه الفلسفة العجيبة بمجيء «زرادشت» حيث «أنّه أنكر الوثنية وجعل الخير المحض من صفات الله، ونزل بإله الشرّ إلى ما دون منزلة المساواة بينه وبين الإله الأعلى، وبشّر بالثواب وأنذر بالعقاب، وقال بأن خلق الروح سابق لخلق الجسد، وحاول جهده أن يقصر الربانية على إله واحد موصوف بأرفع ما يفهمه أبناء زمانه من صفات التنزيه» (2).
فالخير عند «زرادشت» غالب دائم، والشر مغلوب منظور إلى أجل مسمى (3)
وخلاصة رأيه أنّ النور هو الأصل، وأن وجوده وجود حقيقي، أما الظلمة فتبع له، كالظلّ بالنسبة للشخص، ولما كان الباري يرى أنّه موجود وليس بموجود فقد أبدع النور، وحصل الظلام تبعا لأن من ضرورة الوجود التضاد (4).
وتتفق فلسفة «زرادشت» مع أحدث النظريات الفلسفية والأخلاقية التي تقول: إن الخير والشر لا يوجدان خالصين، والخير ممتزج بالشر، والشر معه
__________
(1) نفسه ج 3ص 879.
(2) عباس محمود العقاد الله ص 93ط 3دار المعارف: مصر.
(3) نفسه ص 95.
(4) عبد الكريم الخطيب التفسير القرآني للقرآن ج 3ص 880.(1/85)
الخير (1) ولكنّ هذه الفلسفة تختلف مع النظرة القرآنية إلى الخير والشرّ اختلافا جوهريا، أما الفلسفة الحديثة فقد عنيت بهذه القضية كما أنّها اهتمت بالإنسان وسلوكه وأخلاقه، وقد انصبّ اهتمامها على الإنسان، وأصبح مركز الدائرة التي تدور حولها الفلسفة الحديثة وإذا كان لها نظر إلى المجتمع والروابط التي تربط الفرد بالجماعة فهو نظر جانبي، ومن هنا كان الحكم على الخير والشر في تقدير الفلسفة الحديثة قائما على أساس فردي بحت، بمعنى أن الفرد والفرد وحده هو الذي له أن يحكم على هذا الأمر بأنه خير أو شرّ، ثم إنه ليس هذا بالذي يمنع من أن يجيء غيره فينقض عليه حكمه، فيرى ما رآه غيره خيرا شرا، وما رآه هو عنده خير، وعلى هذا فهناك عند الفلسفة الحديثة خير وشر، ولكن لا ذاتية للخير والشر، بل هما اعتباريان، فالخير ما رآه الإنسان خيرا، والشرّ ما رآه شرا وإنه لا خير ولا شر في حقية الأمر، وفي هذا يقول الفيلسوف الأمريكي «وليم جيمس»: «إن الإنسان هو مصدر الخير والشر، والفضيلة والرذيلة إن الخير خير بالنسبة له، والشرّ شر بالقياس إليه، إن الإنسان هو الخالق الوحيد للقيم في ذلك العالم، وليس للأشياء قيمة خلقية إلا باعتباره هو» (2).
وهذا الرأي هو خلاصة ما ذهبت إليه بعض الفلسفات الحديثة التي اهتمت بالقيم المادية، وبالمناهج التجريبي اهتماما كبيرا حتى طغت على كل المفاهيم، وهذا ما جعلها تنظر إلى الإنسان نظرة إكبار وإجلال وتجعله في الموضع الذي لا يستحق، فقد جعلت منه صانعا للقيم والأخلاق، وجعلته حاكما ومشرّعا يرى الأمور بمنظار العقل وحده فيحكم على الأشياء والحقائق ويضع الموازين، فيقول هذا خير وذاك شرّ، هذا حسن وذاك قبيح، وهذا ما أدى بالقيم والموازين إلى التناقض والاختلاف، وإلى سيطرة الأهواء البشرية،
__________
(1) ينظر: عبد الكريم الخطيب التفسير القرآني للقرآن ج 3ص 880.
(2) نفسه ج 3ص 884.(1/86)
والشهوات الإنسانية، وهذا هو الذي قاد البشرية إلى التيه والضياع، أمّا المنهج الإسلامي فهو يختلف اختلافا كبيرا عن هذه الفلسفات والمناهج البشرية، لأنّه منهج إلهي بالدرجة الأولى، وهو لذلك مختلف عن المناهج البشرية الأخرى في مضمونه وطرق أدائه، يقول الفخر الرازي رحمه الله (606هـ): «لقد اختبرت الطرق الكلامية، فما رأيت فيها فائدة تساوي الفائدة التي وجدتها في القرآن العظيم، لأنّه يسعى في تسليم العظمة والجلال بالكلية لله تعالى، ويمنع عن التعمق في إيراد المعارضة والمتناقضات، وما ذاك إلا للعلم بأن العقول البشرية تتلاشى وتضمحل في تلك المضايق في تلك المضايق العميقة والمناهج الخفيّة» (1).
وهذا الذي ذهب إليه الفخر الرازي بعد طول تأمل، وكثرة ممارسة هو حقيقة من حقائق القرآن الكريم، فهو كتاب لا يحفل بالنظر الفلسفي في حقائق الأشياء، ولا يعنى بالجدل اللفظي حول مفاهيمها، لأنّ غايته ليست تكوين القدرات العقلية، ولا تخريج الفلاسفة والمفكرين، إنّ هدفه هو تربية الإنسان، وتحسين سلوكه، وتقويم سلوك الأفراد داخل المجتمعات، وإقامة المجتمعات على أساس الخير والعدل، و «من هنا لا نجد في الشريعة الإسلامية تلك التعريفات المانعة للخير والشر، والحق والباطل، والحسن والقبيح، وغير ذلك من الصور التي عني الفلاسفة والأخلاقيون بتحليلها، والتعرّف على عناصرها وجمع الصفات المميزة لكل واحد منها» (2).
إننا نجد في القرآن الكريم اهتماما كبيرا بالجانب العملي للقيم والأخلاق، واهتماما بثمرة السلوك الإنساني، إنه يعنى بما ينفع الإنسان في حياته، ويعنى بالأعمال الصالحة ويحضّ عليها، ويدعو إلا الأخلاق الكريمة ويجازي عليها بالخير وبالجنّة، إنه يسعى إلى بناء الإنسان على أسس التقوى والصلاح، وبناء المجتمع على أسس العدل والرحمة والأخوة.
__________
(1) الفخر الرازي التفسير الكبير ج 1ص (م).
(2) عبد الكريم الخطيب التفسير القرآني للقرآن ج 3ص 885.(1/87)
وإذا كنا لا نجد في القرآن الكريم تعريفات محدّدة للخير والشر، فما هو الخير والشر في نظر القرآن الكريم؟ إن هناك أمورا واضحة صريحة في باب الخير، كما أن هناك أمورا واضحة صريحة في باب الشر، والقرآن الكريم يعترف بذلك كلّه لأنهما شيئان متصارعان في الحياة، وهما متقابلان تقابل النقيض لنقيضه (1)، ولكن ما يميّز المنهج القرآني أنه يدعو إلى ما يراه خيرا، وينهى عن الذي يراه شرا، وقد عدّ أمورا وحقائق من الخير المحض، وعدّ أمورا أخرى من الشرّ، ثم إنه جمع الخير كلّه في دائرة واحدة هي «المعروف»، وطوى الشرّ كله تحت حكم واحد هو «المنكر»، فالخير هو «المعروف» وهو «التقوى» وهو «الفضيلة»، أما الشر فهو «المنكر» وهو «الكفر» وهو «الرذيلة»، ومن هذه المتضادات ينشأ الصراع الذي نراه في الحياة بين الخير والشر.
ونمضي الآن إلى بيان نظرة القرآن الكريم إلى الخير والشر من خلال بعض الآيات في سورة «التوبة» والتي ركّزنا حولها هذه الدراسة ولا بدّ من الإشارة إلى اتساع هذا الموضوع، وشموله لقضايا كثيرة تتعلق بالحياة الإنسانية كلها، وحسبنا أن نشير إلى بعض الآيات التي فيها حديث عن الخير والشر في صورة تقابلية، والتي سيكون فيها غناء عن كل ما يتعلق بهذا الموضوع الواسع، ونشير كذلك إلى أن طريقة العرض التي سيختارها القرآن الكريم ستكون المقابلة، حيث يمكن الجمع بين المتضادات لتعرض الصورة كاملة، ولتعرف النفس البشرية حقائق الأشياء سواء أكانت خيرا أو شرا، ضررا أو منفعة، ثم لتعرف كيف تختار بين هذا وذاك، ولتعرف السير على وعي تام ووفق منهج واضح يقودها إلى إحدى الطريقين.
قال تعالى: {أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيََانَهُ عَلى ََ تَقْوى ََ مِنَ اللََّهِ وَرِضْوََانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيََانَهُ عَلى ََ شَفََا جُرُفٍ هََارٍ فَانْهََارَ بِهِ فِي نََارِ جَهَنَّمَ وَاللََّهُ لََا يَهْدِي الْقَوْمَ الظََّالِمِينَ}
[التوبة: 109].
__________
(1) ينظر عبد الكريم الخطيب التفسير القرآني للقرآن ج 3ص 888.(1/88)
هذه الآية الكريمة تقابل بين الخير والشر أو الحق والباطل أو التقوى والكفر وفق طريقة القرآن الكريم المتميّزة في التعبير، وهي آية حافلة بالحركة والتصوير وهي قائمة على طريقة المقابلة في الأداء، وقبل الحديث عن القيم الجمالية والتعبيرية فيها لا بدّ من الحديث عن القيم المعنوية والفكرية التي تريد الآية توصيلها عند حديثها عن الخير والشر في مثل هذه الصورة.
إن الآية الكريمة تمثّل الخير والشر ببناءين، كلّ واحد منهما قائم على قاعدة سواء أكانت هذه القاعدة صلبة أو غير ذلك، وكلّ بناء يمثل تصوّرا خاصا، وموقفا واضحا من العلاقة بالله وبشرعه، كما أنّ الآية تريد من المستمع أو القارئ أن يوازن ويقارن بين هذين البناءين ثم يحكم على خيرية أحدهما وشريّة الآخر. وكان السؤال هل من أسس بنيانه على الإسلام خير أم من أسّس بنيانه على الشرك والنفاق (1).
قال الزمخشري (538هـ): «أفمن أسّس بنيان دينه على قاعدة قوية محكمة وهي الحق الذي هو تقوى الله ورسوله خير أم من أسّس بنيانه على قاعدة هي أضعف القواعد وأوهاها وأقلّها بقاء، وهو الباطل والنفاق الذي مثله مثل جرف هار في قلّة الثبات والاستمساك، ووضع شفا الجرف في مقابلة التقوى» (2).
والقيمة الفكرية التي ترمي إليها هذه الآية باستخدامها طريقة التقابل بين معنيين، كل واحد منهما يناقض الآخر ويضاده هي بيان ثبات الحق الذي هو دين الإسلام وقوته ودوامه وسعادة أهله به، وذكر الله بأثر ذلك ثمرة هذا الدين في عمل أهله وهي التقوى، وبجزائهم عليه الجنة وأعلاه رضوان الله تعالى، وبيان ضعف الباطل واضمحلاله وو هيه وقرب زواله، وخيبة صاحبه وسرعة انقطاع آماله، وشرّ أهله المنافقين (3).
__________
(1) أبو حيان الأندلسي البحر المحيط ج 5ص 506.
(2) الزمخشري الكشاف ج 2ص 312.
(3) محمد رشيد رضا تفسير المنار ج 11ص 45.(1/89)
يقول محمد رشيد رضا في تفسير «المنار» في بيان معنى الآية والقيم المعنوية التي تؤديها: «نقول في المعنى الجامع بين المشبّه به بين الفريقين:
أفمن أسس بنيانه الذي يتخذه مأوى وموئلا له يقيه من فواعل الجوّ وعدوان كل حيّ، وموطنا لراحته وهناء معيشته على أمتن أساس وأثبته، وأقواه على مصابرة العواصف والسيول، وصدم الهوام والوحوش هو خير بنيانا وراحة وأمانا، أم من أسّس بنيانه على أوهى القواعد وأقلّها بقاء واستمساكا فهي عرضة للانهيار في كل لحظة من ليل أو نهار، وأما معنى المشبه المقصود بالذات في كل منهما فيتصور هكذا: أفمن كان مؤمنا صادقا يتّقي الله في جميع أحواله ويبتغي رضوانه في أعمالهن بتزكية نفسه بها، ونفع عياله، أفمن كان كذلك خير عملا وأفضل عاقبة وأملا أم من هو منافق مرتاب، مراء كذاب يبتغي بأفضل مظاهر أعماله الضرر والضرار، وتقويه أعمال الكفر وموالاة الكفار، وتفريق جماعة المؤمنين الأخيار» (1).
إن المعنى الذي يريد القرآن أن يؤديه من خلال هذه الآية هو أن بنيان الخير بمعانيه كلّها قائم على قواعد ثابتة متينة، وأن بنيان الشرّ بأشكاله كلّها متزعزع الأركان والجدران، آيل للسقوط في كل لحظة وحين، وأن المؤمن في مقابل الكافر والمنافق هو بالتقوى المستحق لولاية الله، وهو المستحق للبقاء والثبات.
أما القيم الجمالية والتعبيرية في الآية الكريمة فتبرز من خلال طرق العرض والأداء التي يختارها القرآن في تعبيره عن قضاياه، فقد جاءت الآية ابتداء بصيغة الاستفهام التقريري «أفمن»، وهو من أقوى الأساليب في الإقناع، وأكثرها قدرة على إثارة المخاطب وتحريك أفكاره ومشاعره، ثم إن الآية تختار طريقة التصوير في أداء المعاني، وهي طريقة لها وظيفتها المتميّزة في
__________
(1) محمد رشيد رضا تفسير المنار ج 11ص 4645.(1/90)
عملية الإقناع والإمتاع، والملاحظ في هذه الآية أن المعنى مؤدى في صورتين متقابلتين، صورة تمثّل بنيان الحق والخير الثابت، وصورة أخرى مناقضة تماما للصورة الأولى وهي لبنيان الكفر والشر المتزعزع.
لقد اجتمعت في الآية طريقتان في العرض، طريقة التصوير وطريقة المقابلة، وهما طريقتان متكاملتان منسجمتان، وهذا من خصائص الأسلوب القرآني الذي ينوّع في الوسائل ويعدد في الأساليب، فحينما تعرض الصورة الأولى ثم الصورة التي تقابلها تقابل تضاد واختلاف، فإنّ هذا من أقوى الأساليب في التأثير والإقناع، فالبنيان المتماسك في الصورة الأولى يقابله البنيان المتزلزل في الصورة الثانية، والتقوى يقابلها الجرف والحصار، والرضوان يقابله نار جهنم، وبهذا تكون قد تحققت شروط المقابلة في الجزءين وفي الصورتين.
«فلنقف لحظة نتطلع إلى بناء التقوى الراسي الراسخ المطمئن، ثم لنتطلع بعد إلى الجانب الآخر لنشهد الحركة السريعة العنيفة في بناء الكفر إنه قائم على شفا جرف هار، قائم على تربة مخلخلة مستعدة للانهيار، إننا نبصره اللحظة بتأرجح ويتزحلق وينزلق، إنّه ينهار! إنّه يهوي! إنّ الهوة تلتهمه! يا للهول إنها نار جهنم» (1).
وإن صورة البناء المنهار هي صورة القلق وعدم الاستقرار، وصورة البناء الثابت المتماسك هي صورة الثبات والتماسك والاستقرار، وهما تتقابلان في اللوحة الفنية العجيبة التي يرسمها التعبير القرآني الفريد، وتتقابلان في الواقع البشري المتكرر في كل زمان «وهذا هو الإعجاز الذي يرسم الواقع النفسي بريشة الجمال الفني، في مثل هذا التناسق بمثل هذا اليسر في التعبير والتصوير على السواء» (2).
__________
(1) سيد قطب في ظلال القرآن ج 3ص 1711.
(2) نفسه ج 3ص 1712.(1/91)
وقال تعالى في بيان صور الخير والشرّ: {الْمُنََافِقُونَ وَالْمُنََافِقََاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللََّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنََافِقِينَ هُمُ الْفََاسِقُونَ} [التوبة: 67]، وقال تعالى أيضا:
{وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنََاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيََاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلََاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكََاةَ وَيُطِيعُونَ اللََّهَ وَرَسُولَهُ أُولََئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللََّهُ إِنَّ اللََّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [التوبة: 71].
هاتان الآيتان قائمتان على المقابلة، فكلّ لفظة من ألفاظهما مقابلة بلفظة هي لها من طريق المعنى بمنزلة الضد، فالمنافقون والمنافقات تقابل «المؤمنون والمؤمنات» و «بعضهم من بعض» تقابل «بعضهم أولياء بعض» و «يأمرون بالمنكر» تقابل «يأمرون بالمعروف» و «ينهون عن المعروف» تقابل «ينهون عن المنكر» و «يقبضون أيديهم» تقابل يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة» و «نسوا الله فنسيهم» تقابل «أولئك سيرحمهم الله»، وغاية هذه المقابلة بيان طبائع النفوس لنموذجين من البشر يمثلان الخير والشرّ في صورة من صورهما، وسرد صفات هذين النموذجين من البشر سيجعلنا نعرف طبيعة الخير المتمثّل في «المعروف» وما يتبعه من مقتضيات، ونعرف طبيعة الشر وما يجمعه من صفات وأحوال.
والقيم المعنوية التي ترمي إليها هاتان الآيتان المتقابلتان هي:
أولا: «أنّ النفاق حالة واحدة وأنّ أصحابه سواء، وليعلم أن اختراق أحوالهم بين عفو وعذاب لا يكون إلا إذا اختلفت أحوالهم بالإيمان والبقاء على النفاق، وأن أحوالهم وصفاتهم التي ذكرها الله تعالى هي الدالة على استحقاق العذاب» (1).
ثانيا: أن المنافقين يجتمع بعضهم مع بعض على النفاق (2) وهم متشابهون فيه وصفا وعملا، وفي كل زمان ومكان.
__________
(1) محمد الطاهر بن عاشور تفسير التحرير والتنوير ج 10ص 254253.
(2) ينظر الماوردي النكت والعيون (تفسير الماوردي) ج 2ص 379تحقيق عبد المقصود ابن عبد الرحيم ط 1دار الكتب العلمية: بيروت 1992.(1/92)
ثالثا: إن من أهم صفات المؤمنين التي يمتازون بها على المنافقين وعلى غيرهم من الكفار الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والمعروف هو الخير كما ذكرنا، وهو ما عرفه الشرع من إيمان وطاعة وخير، أما المنكر فهو الشرك والمعصية وما لا يعرف في الشرع (1) وكل ما ذكر الله في القرآن من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فهو النهي عن عبادة الأوثان والشياطين (2).
رابعا: «إن نكتة الفرق بين المؤمنين والمنافقين في الوصف المتقابل هنا أن المنافقين لا ولاية بينهم بأخوة تبلغ فضيلة الإيثار، ولا تناصر يبلغ الإقدام على القتال، لأن النفاق سلوك وذبذبة من لوازمهما الجبن والبخل، وهما الخلقان المانعان من التناصر ببذل النفس والمال، بل قصاراه التعاون بالكلام وما لا يشقّ من الأعمال، وإنما تكون ولاية التناصر بالقتال لأصحاب العقائد الثابتة، والملة الراسخة سواء أكانت حقا أم باطلة، ولذلك أثبتها القرآن لليهود والنصارى بغض كلّ منهما لبعض، وللكفار على الإطلاق، ولم يثبتها للمنافقين الخلّص بعضهم مع بعض فهذا ما يتعلق بالمقابلة بين المؤمنين والمنافقين في علاقة بعضهم ببعض، وخلاصته أن المنافقين يشبه بعضهم بعضا في شكّهم وارتيابهم ونفاقهم وآثارهم من قول أو عمل، وإن المؤمنين بعضهم أولياء بعض في الولاية العامة من أخوة ومودة وتعاون وتراحم حتى شبّه النبي صلى الله عليه وسلّم جماعتهم بالجسد الواحد، وبالبنيان يشدّ بعضه بعضا، وولاية النصرة في الدفاع عن الحقّ والعدل والملة والوطن، وإعلاء كلمة الله عزّ وجلّ، وفي آثار ذلك من القول والعمل المضاد لما عليه المنافقون» (3).
فالآيتان المتقابلتان تقابل الضدّ تبرزان إذن صورا من الخير والشرّ كما هما في نظر المنهج القرآني، والملاحظ هنا أنّ السياق القرآني لا يهتم بالأمور من
__________
(1) البغوي تفسير البغوي المسمى معالم التنزيل ج 2ص 310تحقيق خالد عبد الرحمن العك ومروان سوار ط 1دار المعرفة: بيروت 1986.
(2) ينظر القرطبي الجامع لأحكام القرآن ط مؤسسة مناهل العرفان، بيروت ج 4ص 203.
(3) ينظر محمد رشيد رضا تفسير المنار ج 3ص 1675.(1/93)
حيث ماهيتها بل يهتم بالسلوك العملي، والممارسة التطبيقية لما يراه حقا وخيرا مع الابتعاد عمّا يراه باطلا وشرا.
أمّا من حيث القيم التعبيرية في الآيتين فإن المتأمل يلاحظ بوضوح أن السياق القرآني يفضل أسلوب المقابلة في العرض، وهو الأسلوب في الأداء الذي يمكن بواسطته الجمع بين المعاني المتضادة والمختلفة، ففي هاتين الآيتين جاءت الصفات الأربع في المؤمنين وهي: الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وإقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، جاءت لتقابل صفات المنافقين وهي:
الأمر بالمنكر، والنهي عن المعروف، ونسيان الله، وقبض الأيدي، وإن رحمة الله للمؤمنين تقابل لعنته للمنافقين والكفار، وهذا التقابل بين هذه المعاني المتضادة هو الذي أبرز تلك القيم المعنوية والفكرية التي يريد القرآن الكريم توصيلها إلى الناس، ومن هنا بدا واضحا لنا أنّ «المنافقين والمنافقات بعضهم من بعض إذا كانوا جبلّة واحدة وطبيعة واحدة، فالمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض، وإن المنافقين والمنافقات مع وحدة طبيعتهم لا يبلغون أن يكونوا أولياء بعضهم لبعض، فالولاية تحتاج إلى شجاعة وإلى نجدة وإلى تعاون وإلى تكاليف، وطبيعة النفاق تأبى ذا كلّه ولو كان بين المنافقين أنفسهم. إن المنافقين أفراد ضعاف مهازيل، وليسوا جماعة متماسكة قوية متضامنة أما المؤمنون فبعضهم أولياء بعض أي أن طبيعة المؤمن هي طبيعة الأمة المؤمنة، طبيعة الوحدة وطبيعة التكافل وطبيعة التضامن، ولكنّه التضامن في تحقيق الخير ودفع الشرّ» (1).
لقد عرّفنا السياق على صفات المؤمنين الحقيقيين، كما عرّفنا على صفات المنافقين (2) وهذا السياق قائم على طريقة التقابل في الأداء، ولم تأت هذه
__________
(1) سيد قطب في ظلال القرآن ج 3ص 1675.
(2) سعيد حوى الأساس في التفسير ج 4ص 2294.(1/94)
المقابلة لأداء غرض بلاغي محدود هو تحسينه وتنميقه بل إنها طريقة رائعة في العرض، وإنها أبرزت القيم الفكرية والمعنوية، التي يريد القرآن الكريم توصيلها إلى النفوس.
وقال تعالى: {مََا كََانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسََاجِدَ اللََّهِ شََاهِدِينَ عَلى ََ أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولََئِكَ حَبِطَتْ أَعْمََالُهُمْ وَفِي النََّارِ هُمْ خََالِدُونَ (17) إِنَّمََا يَعْمُرُ مَسََاجِدَ اللََّهِ مَنْ آمَنَ بِاللََّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقََامَ الصَّلََاةَ وَآتَى الزَّكََاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللََّهَ فَعَسى ََ أُولََئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ} (18) [التوبة: 1817].
يتحدث القرآن الكريم بطرق كثيرة عن صور الخير والشر كما يراها في واقع الناس، وفي هاتين الآيتين المتقابلتين تقابل تضاد حديث متميز عن الخير والشر من أشكالهما، والآيتان كسابقتيهما تتحدثان عن صنفين من الناس، وعن طبيعة كل صنف، وتبرزان الحقيقة الكبرى التي يريد القرآن توضيحها وهي تمييز الخبيث من الطيب، والمنكر من المعروف.
ومن القيم المعنوية والفكرية التي أدتها الآيتان أنّ الله سبحانه منع المشركين من دخول المساجد، وهو هنا مرتبط بما تضمنته البراءة في قوله تعالى: {بَرََاءَةٌ مِنَ اللََّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عََاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [التوبة: 1]، ولما اتصل بتلك الآية من بيان النبي صلى الله عليه وسلم الذي أرسل به مع أبي بكر الصديق أن لا يحجّ بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان، وهو توطئة لقوله: {يََا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلََا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرََامَ بَعْدَ عََامِهِمْ هََذََا}
[التوبة: 28]، والتعامل مع المشركين جاء معللا بكفرهم وشركهم بوحدانية الله (1). والمتّصف بهذه الصفة محروم من دخول المسجد وعمارته، لأن مساجد الله هي حقّ لله وحده، ثم هي أقيمت لعبادة الله لا لغيره، والكعبة هي بيت الله الحرام القائم على التوحيد منذ أول يوم بني فيه، ولذلك كلّه استحقوا
__________
(1) محمد الطاهر بن عاشور تفسير التحرير والتنوير ج 10ص 140139.(1/95)
درجة الحرمان من عمارة هذا المسجد، وشهادتهم بالكفر أيضا تستفاد من قولهم بالطواف: لبيك لبيك لا شريك لك إلا شريكا هو لك تملكه وما ملك وقولهم إذا سئلوا عن دينهم: نعبد اللات والعزى، أو تكذيبهم الرسول صلى الله عليه وسلم (1).
أما الصنف الذي يستحق أن يدخل مساجد الله فهو على النقيض من الصنف الأول في كل شيء، إنّه صنف أول صفاته الإيمان بالله تعالى ثم العمل بمقتضيات هذا الإيمان كالإيمان باليوم الآخر وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وقصر الخشية لله وحده سبحانه.
ومجيء صيغة القصر في الآية بقوله تعالى: {إِنَّمََا يَعْمُرُ مَسََاجِدَ اللََّهِ} إنما المقصود منه إقصاء فرق أخرى عن أن يعمروا مساجد الله غير المشركين الذين كان إقصاؤهم بالصريح، فتعين أن يكون المراد من الموصول وصلته خصوص المسلمين، لأن مجموع الصفات المذكورة في الصلة لا يثبت لغيرهم، فاليهود والنصارى آمنوا بالله واليوم الآخر لكنهم لم يقيموا الصلاة ولم يؤتوا الزكاة، لأنّ المقصود بالصلاة والزكاة العبادتان المعهودتان بهذين الاسمين والمفروضتان في الإسلام وفرّع على وصف المسلمين بتلك الصفات رجاء أن يكونوا من المهتدين، أي من الفريق الموصوف بالمهتدين، وهو الفريق الذي الاهتداء خلق لهم في هذه الأعمال وفي غيرها (2).
«فهذه هي القاعدة في استحقاق عمارة بيوت الله، وفي تقويم العبادات والشعائر على السواء يبيّنها الله للمسلمين والمشركين، فما يجوز أن يسوّى الذين كانوا يعمرون الكعبة ويسقون الحجيج في الجاهلية، وعقيدتهم ليست خالصة لله، ولا نصيب لهم من عمل أو جهاد، لا يجوز أن يسوى هؤلاء لمجرد عمارتهم للبيت وخدمتهم للحجيج بالذين آمنوا إيمانا صحيحا وجاهدوا في سبيل الله وإعلاء كلمته» (3).
__________
(1) أبو حيان الأندلسي البحر المحيط ج 5ص 286.
(2) محمد الطاهر بن عاشور تفسير التحرير والتنوير ج 10ص 142141.
(3) سيد قطب في ظلال القرآن ج 3ص 1614.(1/96)
وكما هو ملاحظ فإن القرآن الكريم يختار أيضا طريقة المقابلة للتعبير عن هذه القيم المعنوية والفكرية، وغاية هذه المقابلة هي بيان صفات المشركين الكافرين، وفي مقابل ذلك بيان صفات المؤمنين الموحدين، وعلى غرار ذلك بيان الصنف المستحق للخير والحق، والصنف المستحق للشرّ والباطل، ومصير كل صنف في الحياة الدنيا والآخرة، وهو من باب تمييز الخير والشر، قال تعالى في آية أخرى {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (35) مََا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} [القلم: 3635].
ب المقابلة بين الحلال والحرام:
الحلال والحرام هما عنصران من عناصر الخير والشر، وقد أفردنا لهما بابا خاصا هنا لخصوصية هذا الموضوع وارتباط كثير من القضايا الكبرى في الدين به، ولارتباطه كذلك بأخصّ خصائص الوحدانية كما ذكر في السابق وهي الحاكمية، وقد اهتم القرآن الكريم بهذا الموضوع في كثير من سوره، لأنّه الجانب الذي ينكره المنكرون، وهو الجانب الذي تحدى فيه البشر ألوهية الله ووحدانية وحقه في الحكم والتشريع، فأحلّوا وفق أهوائهم ما حرّم الله، وحرّموا وفق شهواتهم ما أحلّ الله تعالى.
والحلال ضد الحرام، قال تعالى: {يََا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لََا تُحَرِّمُوا طَيِّبََاتِ مََا أَحَلَّ اللََّهُ لَكُمْ وَلََا تَعْتَدُوا إِنَّ اللََّهَ لََا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (87) وَكُلُوا مِمََّا رَزَقَكُمُ اللََّهُ حَلََالًا طَيِّباً وَاتَّقُوا اللََّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ} [المائدة: 8887].
«فهذا خطاب للمؤمنين خاصة نهاهم الله أن يحرّموا طيبات ما أحل الله لهم، والتحريم هو العقد على ما لا يجوز فعله للعبد والتحليل حلّ ذلك العقد» (1).
والحرام في مفهومه الشامل هو «الممنوع منه إما بتسخير إلهي وإما بشري، وإما بمنع من جهة العقل أو من جهة الشرع أو من جهة من يرتسم أمره» (2).
__________
(1) الطوسي (460هـ) تفسير التبيان ج 4ص 9.
(2) الراغب الأصفهاني مفردات ألفاظ القرآن الكريم ص 229.(1/97)
وهو المقصود في قوله تعالى: {لََا تُحَرِّمُوا طَيِّبََاتِ مََا أَحَلَّ اللََّهُ لَكُمْ} أما الحلال فهو ما سخّره الله للناس من طيّب الطعام وما ناسب نداء الفطرة، وهو المقصود في قوله تعالى: {وَكُلُوا مِمََّا رَزَقَكُمُ اللََّهُ حَلََالًا طَيِّباً} «أي: كلوا مما رزقكم الله تعالى إياه حال كونه حلالا في نفسه غير داخل فيما حرّمه الله عليكم من الميتة بأنواعها والدم المسفوح ولحم الخنزير وما أهلّ به لغير الله وحلالا في طريقة كسبه وتناوله بأن لا يكون ربا أو سحتا أو غصبا أو سرقة» (1).
وحكمة النهي عن تحريم الحلال وتحليل الحرام هي «أنّ الله تعالى يحب من عباده أن يقبلوا نعمه ويستعملوها فيما أنعم بها لأجله، ويشكروا له ذلك، ويكره لهم أن يجنوا على الفطرة التي فطرهم عليها، فيمنعوها حقوقها، وأن يجنوا على الشريعة التي شرعها لهم فيغلوا فيها بتحريم ما لم يحرّمه، كما يكره لهم أن يفرطوا فيها باستباحة ما حرمه أو ترك ما فرضه، ولأجل هذه الحكمة لم يكتف بالنهي عن تحريم الطيبات حتى صرّح بالأمر باستعمالها والتمتع بها» (2).
والحلال والحرام من أكثر الكلمات دورانا على ألسنة الناس، وذلك لارتباطها بحياة الناس العملية، والتصاقها التصاقا قويا بشئونهم في العبادة والطعام والشراب والملبس والمعاملات والقضاء والأخلاق وسائر الشرائع والعبادات (3) ويرى حجة الإسلام أبو حامد الغزالي أنّ معرفة الحلال والحرام فريضة على الناس، بل إنها من أعصى الفرائض على العقول فهما، وأثقلها على الجوارح فعلا، ولذلك اندرس بالكلية علما وعملا (4) وقال: إنّ علم
__________
(1) محمد رشيد رضا تفسير المنار ج 7ص 26.
(2) محمد رشيد رضا تفسير المنار ج 7ص 27.
(3) عبد الحميد طهماز الحلال والحرام في سورة المائدة ط 1دار القلم: دمشق 1987م ص 5.
(4) الغزالي أبو حامد الحلال والحرام تحقيق محمد مصطفى أبو العلا ط 1مكتبة الجندي الحديثة: القاهرة 1974م ص 10.(1/98)
الحلال والحرام صار غامضا على الناس «إذ ظن الجهال أنّ الحلال مفقود، وأن السبيل دون الوصول إليه مسدود، وإنه لم يبق من الطيبات إلا الماء الفرات، والحشيش النابت في الموات، وما عاداه فقد أخبثته الأيدي العادية، وأفسدته المعاملات الفاسدة، وإذا تعذرت القناعة بالحشيش من النبات، لم يبق وجه سوى الاتساع في المحرمات، فرفضوا هذا القطب من الدين أصلا، ولم يدركوا بين الأموال فرقا وفضلا، وهيهات هيهات، فالحلال بيّن والحرام بيّن وبينهما أمور مشتبهات» (1).
وهذا الذي يشكو منه الغزالي في واقع زمانه من اختلال الموازين في مسألة الحلال والحرام، وبعد الناس عن فهم مقتضى الشريعة، وعدم وضوح الرؤية في التمييز بين الخير والشر، هو نفسه ما تتميّز به الفلسفة الحديثة في بعض جوانبها حيث أنها جعلت من الإنسان حكما على الحلال والحرام وجعلت منه مشرّعا لقوانين الحياة دون ضابط من دين.
وأما في القرآن الكريم والشريعة الإسلامية فقد جاءت النصوص لتحدد الحلال والسبل المؤدية إليه، وتبيّن الحرام والطرق المفضية إليه، وجعلت حق التحليل والتحريم لله وحده، وجاءت هذه النصوص لتقرر بأن الحلال بيّن وأن الحرام بيّن، وذلك في الحديث الذي رواه البخاري ومسلم عن النعمان بن بشير أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «الحلال بيّن والحرام بيّن وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمها كثير من الناس» (2).
ومعنى «بيّن» أي في عينهما ووصفهما بأدلتهما الظاهرة (3) «والأشياء ثلاثة أقسام: حلال بيّن واضح لا يخفى حلّه كالخبز والفواكه والزيت والعسل
__________
(1) نفسه ص 11.
(2) متفق عليه من حديث النعمان بن بشير.
(3) ابن حجر العسقلاني (852هـ) فتح الباري بشرح صحيح البخاري ط دار المعرفة:
بيروت ج 1ص 127.(1/99)
والسمن ولبن مأكول اللحم وبيضه وغير ذلك من المطعومات وكذلك الكلام والنظر والمشي وغير ذلك من التصرفات فيها حلال بيّن واضح لا شكّ في حلّه، وأما الحرام البيّن فكالخمر والخنزير والميتة والبول والدم المسفوح وكذلك الزنا والكذب والغيبة والنميمة والنظر إلى الأجنبية وأشباه ذلك، وأما المشتبهات فمعناه أنها ليست بواضحة الحلّ والحرمة، فلهذا لا يعرفها كثير من الناس ولا يعلمون حكمها، وأما العلماء فيعرفون حكمها بنص أو قياس أو استصحاب أو غير ذلك، فإذا تردّد الشيء بين الحلّ والحرمة، ولم يكن فيه نص ولا إجماع اجتهد فيه المجتهد فألحقه بأحدهما بالدليل الشرعي» (1).
وقد استفاد الغزالي من هذا الحديث بأن هناك حلالا مطلقا وحراما محضا، «فالحلال المطلق هو الذي خلا عن ذاته الصفات الموجبة للتحريم في عينه، وانحلّ عن أسبابه ما تطرق إليه تحريم أو كراهية، ومثاله الماء الذي يأخذه الإنسان من المطر قبل أن يقع على ملك أحد، ويكون هو واقفا عند جمعه، وأخذه من الهواء في ملك نفسه، أو في أرض مباحة.
وأما الحرام المحض فهو ما فيه صفة محرّمة لا يشكّ فيها، كالشدة المطربة في الخمر، والنجاسة في البول، أو حصل بسبب منهي عنه قطعا كالمحصّل بالظلم والربا ونظائره فهذان طرفان ظاهران (2).
إنّ التضاد والتقابل في مجال الحلال والحرام هو الذي يكوّن عناصر الحياة، ولهذا علاقة بإرادة الله في الخلق منذ التكوين الأول، وقد شاءت إرادته أن يكون الصراع بين الإنسان والشيطان، بين الحق والباطل، بين ما هو حلال وما هو حرام. كل ذلك للابتلاء ولتمييز الخبيث من الطيب وليكون الجزاء مناسبا للطريق الذي تختاره النفس البشرية.
__________
(1) النووي صحيح مسلم بشرح النووي ط 3دار إحياء التراث العربي: بيروت 1984م ج 11ص 2827.
(2) الحلال والحرام ص 32.(1/100)
وقد جاء القرآن الكريم ليقول هذا حرام فاجتنبوه، وهذا حلال فأتوه، لأن الحرام كلّه خبيث، ولكن بعضه أخبث من بعض، والحلال كلّه طيب ولكن بعضه أطيب من بعض، وأصفى من بعض (1).
وحق التشريع، وحق التحليل والتحريم في المنهج القرآني هو لله وحده وهو من أخص خصائصه وصفاته، وهو حق لا يملكه البشر لعجزهم عن معرفة حاجات النفس الإنسانية، ومقتضيات الضرر والنفع، ولهذا كلّه حدّد القرآن منذ الوهلة الأولى «السلطة التي تملك التحليل والتحريم فانتزعها من أيدي الناس أيّا كانت مكانتهم ودرجتهم في دين الله أو دنيا الناس، وجعلها من حق الله تبارك وتعالى وحده، ومن حلّل حلالا أو حرّم حراما من عباد الله فقد تجاوز حدّه واعتدى على حق الله سبحانه وتعالى في التشريع للخلق، ومن رضي بعملهم هذا واتبعه فقد جعلهم شركاء لله، واعتبر اتباعه هذا شركا» (2) قال تعالى: {أَمْ لَهُمْ شُرَكََاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مََا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللََّهُ} [الشورى: 21].
وقد تحدث القرآن عن أولئك الذين سلبوه هذا الحق منكرا عليهم ذلك أشدّ الإنكار، وتوعّدهم أشدّ الوعيد، قال تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ مََا أَنْزَلَ اللََّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرََاماً وَحَلََالًا قُلْ آللََّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللََّهِ تَفْتَرُونَ} [يونس:
59]، وقال تعالى: {وَلََا تَقُولُوا لِمََا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هََذََا حَلََالٌ وَهََذََا حَرََامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللََّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللََّهِ الْكَذِبَ لََا يُفْلِحُونَ} [النحل: 116].
وقد أنكر القرآن على أهل الكتاب من اليهود والنصارى فعلهم الذي جعلوا بمقتضاه حقّ التشريع والتحليل والتحريم في أيدي الأحبار والرهبان كما سيأتي بيان ذلك في الدراسة التطبيقية، ومن هنا فقد حدّدت هذه الآيات
__________
(1) ينظر الغزالي الحلال والحرام ص 23.
(2) أحمد محمد عساف الحلال والحرام في الإسلام ط 2دار إحياء العلوم: بيروت 1982م ص 11.(1/101)
تحديدا واضحا أنّ الله وحده هو الذي يحلّ ويحرّم في كتابه أو على لسان نبيّه كل ذلك لما فيه خير الناس، ومصلحة العباد.
فإذا كان التحليل والتحريم من حقوق الله التي يجب ألّا يشاركه وينازعه فيها البشر، فإن مقصد الله من هذا الحق هو تحقيق المصلحة بين العباد، يقول الإمام الشاطبي رحمه الله (790هـ): «والمعتمد عندنا هو أنّا استقرينا من الشريعة أنها وضعت لمصالح العباد فتكاليف الشريعة ترجع إلى حفظ مقاصدها في الخلق، وهذه المقاصد لا تعدو ثلاثة أقسام: أحدها: أن تكون ضرورية و «الثاني»: أن تكون حاجية، و «الثالث»: أن تكون تحسينية.
فأما الضرورية (1) فمعناها أنّها لا بدّ منها في قيام مصالح الدين والدنيا بحيث إذا فقدت لم تجر مصالح الدنيا على استقامة وأمّا الحاجيات فمعناها أنها مفتقر إليها من حيث التوسعة، ورفع الضيق المؤدي في الغالب إلى الحرج والمشقة اللاحقة بفوت المطلوب، فإذا لم تراع دخل على المكلّفين على الجملة الحرج والمشقة، ولكنّه لا يبلغ مبلغ الفساد العادي المتوقع في المصالح العامة وأما التحسينات فمعناها الأخذ بما يليق من محاسن العادات، وتجنّب الأحوال المدنسات التي تألفها العقول الراجحات، ويجمع ذلك قسم مكارم الأخلاق» (2).
إن ثنائية الحلال والحرام تبقى من أبرز القضايا في حياة الناس إلى يوم القيامة، وما ذاك إلا لارتباطها الوثيق بالحياة العملية، والسلوك اليومي للناس وفي كل حركة يقومون بها، ونمضي الآن مع سياق سورة التوبة لنقف عند حديثها عن الحلال والحرام، ونظرتها إلى هذه الثنائية الهامة ولنبيّن أن القرآن
__________
(1) مجموع الضروريات خمسة وهي: حفظ الدين والنفس والنسل والمال والعقل.
(2) الشاطبي إبراهيم بن موسى (790هـ) الموافقات في أصول الشريعة تحقيق عبد الله دراز ط المكتبة التجارية: مصر ج 2ص 118.(1/102)
الكريم يفضّل طريقة عرض الأشياء في صورتها المتقابلة، وبيان أن ذلك من الوسائل التي تؤدي أغراضا بلاغية كثيرة، وقيما فكرية ومعنوية متعددة.
قال تعالى: {وَمََا كََانَ اللََّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَدََاهُمْ حَتََّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مََا يَتَّقُونَ إِنَّ اللََّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (115) إِنَّ اللََّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَمََا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللََّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلََا نَصِيرٍ} [التوبة: 116115].
في هذه الآية الكريمة تقابل بين الهدى والضلال، وتقابل بين الحلال والحرام في صورة من صورهما، وهي مقابلة تتحدّد من خلالها القيمة الدينية التي يؤديها السياق القرآني، فالآية إذن تعقد تقابلا معنويا بين الحلال والحرام اللذين نسبهما الله لنفسه، وجعلهما من خصائصه وحقوقه، فمن المعاني التي تؤديها الآية أنّ الله تعالى لا يؤاخذ أقواما بالعقوبة بعد إذ دعاهم إلى الرشد حتى يبيّن ما يجب عليهم أن يتقوه، فأمّا بعد أن فعل ذلك، وأزاح العذر وأزال العلة فله أن يؤاخذهم بأشد أنواع المؤاخذة والعقوبة (1).
فالله سبحانه ليس بظلّام للعبيد، وحاشاه أن يضلّ قوما دون أن يبيّن لهم الحلال والحرام، ويبيّن لهم الطرق المؤدية إلى كلّ منهما، و «ليس من شأنه وعادة جلاله أن يكتب الضلال لقوم بعد إذ هداهم بإرسال الرسل إليهم، وأرشدهم إلى الحق حتى يبيّن لهم الأشياء التي يريد منهم أن يتقوها، أي: يتجنبوها» (2).
فالآية تفيد أن الله هو الذي يشرع الحلال والحرام، وهو يشرع من الأحكام ما تكمل به فطرة الناس، ويستقيم به رأيهم وفهمهم، فيبيّن لهم مهمات الدين بالنصّ القاطع حتى لا يضلّ فيه اجتهادهم بأهواء نفوسهم، ويترك لهم مجالا للاجتهاد فيما دون ذلك من مصالحهم (3).
__________
(1) الفخر الرازي تفسير الفخر الرازي ج 16ص 212.
(2) محمد الطاهر بن عاشور تفسير التحرير والتنوير ج 11ص 47.
(3) محمد رشيد رضا تفسير المنار ج 11ص 61.(1/103)
والله سبحانه له ملك السموات والأرض، لا يشاركه في ذلك أحد وهو يحيي ويميت أي يهب الحياة المادية والحياة المعنوية الروحية لمن شاء من عباده، كما أنه يميت من يشاء من الأجسام والأرواح بمقتضى إرادته، ومن كانت هذه هي قدرته وإرادته فهو المستحق وحده للتشريع، وهو محلّل الحلال، ومحرّم الحرام، كل ذلك ليميز الخبيث من الطيب.
وقال تعالى: {وَقََالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللََّهِ وَقََالَتِ النَّصََارى ََ الْمَسِيحُ ابْنُ اللََّهِ ذََلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوََاهِهِمْ يُضََاهِؤُنَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قََاتَلَهُمُ اللََّهُ أَنََّى يُؤْفَكُونَ (30) اتَّخَذُوا أَحْبََارَهُمْ وَرُهْبََانَهُمْ أَرْبََاباً مِنْ دُونِ اللََّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمََا أُمِرُوا إِلََّا لِيَعْبُدُوا إِلََهاً وََاحِداً لََا إِلََهَ إِلََّا هُوَ سُبْحََانَهُ عَمََّا يُشْرِكُونَ} [التوبة: 3130].
إن الحديث في هاتين الآيتين هو عن أهل الكتاب، وهم اليهود والنصارى، وهو حديث عن تصوراتهم ومواقفهم من قضايا العقيدة والتشريع، وقد جاءت هذه الآيات لتبيّن ما حلّ بهاتين الديانتين السماويتين من تشويه وانحراف عن الأصل وعن المنهج الإلهي، وقد وردت أحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم تفسّر هذه الآيات، وتوضّح حقيقة اتخاذ الأحبار أربابا من دون الله، وأنّ الأمر يتعلق بالحلال والحرام اللذين نازع فيهما العباد ربّ العباد.
«روى الإمام أحمد والترمذي وابن جرير من طرق عن عدي بن حاتم رضي الله عنه أنّه لمّا بلغته دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم فرّ إلى الشام، وكان قد تنصّر في الجاهلية، فأسرت أخته وجماعة من قومه، ثم منّ رسول الله صلى الله عليه وسلم على أخته وأعطاها، فرجعت إلى أخيها فرغّبته في الإسلام، وفي القدوم على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقدم عديّ المدينة، وكان رئيسا في قومه طيئ، وأبوه حاتم الطائي المشهور بالكرم، فتحدّث الناس بقدومه، فدخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي عنق عديّ صليب من فضة، وهو يقرأ هذه الآية {اتَّخَذُوا أَحْبََارَهُمْ وَرُهْبََانَهُمْ أَرْبََاباً مِنْ دُونِ اللََّهِ} قال: فقلت: إنهم لم يعبدوهم، فقال: بلى، إنهم حرّموا
عليهم الحلال، وأحلّوا لهم الحرام، فاتّبعوهم، فذلك عبادتهم إياهم، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا عديّ ما تقول، أيضرّك أن يقال: الله اكبر، فهل تعلم شيئا أكبر من الله، ما يضرّك أن يقال: لا إله إلّا الله، فهل تعلم إلها غير الله، ثم دعاه إلى الإسلام، فأسلم وشهد شهادة الحق» (1).(1/104)
«روى الإمام أحمد والترمذي وابن جرير من طرق عن عدي بن حاتم رضي الله عنه أنّه لمّا بلغته دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم فرّ إلى الشام، وكان قد تنصّر في الجاهلية، فأسرت أخته وجماعة من قومه، ثم منّ رسول الله صلى الله عليه وسلم على أخته وأعطاها، فرجعت إلى أخيها فرغّبته في الإسلام، وفي القدوم على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقدم عديّ المدينة، وكان رئيسا في قومه طيئ، وأبوه حاتم الطائي المشهور بالكرم، فتحدّث الناس بقدومه، فدخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي عنق عديّ صليب من فضة، وهو يقرأ هذه الآية {اتَّخَذُوا أَحْبََارَهُمْ وَرُهْبََانَهُمْ أَرْبََاباً مِنْ دُونِ اللََّهِ} قال: فقلت: إنهم لم يعبدوهم، فقال: بلى، إنهم حرّموا
عليهم الحلال، وأحلّوا لهم الحرام، فاتّبعوهم، فذلك عبادتهم إياهم، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا عديّ ما تقول، أيضرّك أن يقال: الله اكبر، فهل تعلم شيئا أكبر من الله، ما يضرّك أن يقال: لا إله إلّا الله، فهل تعلم إلها غير الله، ثم دعاه إلى الإسلام، فأسلم وشهد شهادة الحق» (1).
فهذا الحديث النبوي يبيّن بوضوح مقصود الله تعالى في قوله {اتَّخَذُوا أَحْبََارَهُمْ وَرُهْبََانَهُمْ أَرْبََاباً مِنْ دُونِ} أي أنّ القضية تتعلّق بالتشريع وبالحلال والحرام، و «تفسير رسول الله صلى الله عليه وسلم لقول الله سبحانه نصّ قاطع على أنّ الاتباع في الشريعة والحكم هو العبادة التي تخرج من الدين، وأنّها هي اتخاذ بعض الناس أربابا لبعض، الأمر الذي جاء هذا الدين ليلغيه، ويعلن تحرير الإنسان في الأرض من العبودية لغير الله» (2).
إنّ الآية الأولى تبيّن انحراف اليهود والنصارى في تصورهم عن الله، فقد لحقوا بأهل الشرك وإن اختلفت طرق الشرك فلا فرق بين من يعبد الصنم، ومن يعبد المسيح وغيره (3) وهم قد أشركوا بالله حقيقة في أقوالهم وأعمالهم، فأما شركهم في الأقوال فقول اليهود عزير ابن الله، وقول النصارى المسيح ابن الله، وأمّا شركهم في الأفعال والأعمال فاتخاذهم الأحبار والرهبان مصادر للتشريع وللتحليل والتحريم والاتباع. لكن السؤال الذي قد يطرح هو: ما الذي عمله الرهبان والأحبار حتى تعدّوا على سلطة الله، لقد تحدث القرآن عن ذلك في مواطن كثيرة، «وبيّن أنهم تأوّلوا ابتداء كلمات الله، وأخرجوها عن مفهومها الذي لها إلى المفهوم الذي يرونه ومن هنا كان للأحبار والرهبان هذا
__________
(1) محمد جمال الدين القاسمي تفسير القاسمي المسمّى محاسن التأويل ط 1مطبعة عيسى البابي الحلبي وشركائه 1958ج 8ص 3125.
(2) سيد قطب معالم في الطريق ط 10دار الشروق: بيروت 1983ص 70.
(3) انظر أبو حيان الأندلسي تفسير النهر الماد من البحر المحيط تقديم وضبط بوران الضناودي وهديان الضناوي، ط 1دار الجنان 1987م ج 1ص 963.(1/105)
السلطان المبسوط على أتباعهم، بحيث جعلوا إلى أيديهم أمر هؤلاء الأتباع فيما هو من صميم العقيدة، فيغفرون لمن شاءوا من المذنبين، ويحرمون من شاءوا من هذا الغفران، وقد أدى ذلك إلى أن أصبح الأحبار والرهبان آلهة يطلب رضاها، ويتقرب إليها بالقربات، حتى تنال منهم المغفرة والرضوان، وهذا وضع أشبه بالوضع الذي يقوم بين المؤمن وربّه ومن هنا قوله تعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبََارَهُمْ وَرُهْبََانَهُمْ أَرْبََاباً مِنْ دُونِ اللََّهِ} مصوّرا لهذه الحال القائمة بين عامة اليهود والنصارى وبين أحبارهم ورهبانهم، أدق تصوير وأتمه» (1).
إنّ من القيم الدينية لهذه الآية أن اليهود والنصارى باتباعهم الأحبار والرهبان قد أخرجوا الناس من عبادة الله إلى عبادة البشر، وأعطوا حقّ التشريع والاتباع إلى عباد ضعفاء لا يملكون من خصائص الألوهية شيئا، ومن القيم أيضا التي تستفاد من الآية الكريمة أنّ اليهود والنصارى اتخذوا رؤساء الدين فيهم أربابا حين أعطوهم حقّ التشريع وأطاعوهم فيه، فقد ذكر الله سبحانه أنه «من كلّ فريق ما حذف مقابله من الآخر على طريقة الاحتباك أي اتّخذ اليهود أحبارهم وربّانيهم، والنصارى قسوسهم ورهبانهم أربابا غير الله وبدون إذنه بإعطائهم حقّ التشريع الديني لهم، وبغير ذلك مما هو حقّ الربّ تعالى» (2).
ونخلص إلى القول بأن المراد من اتخاذ الأحبار والرهبان أربابا ليس هو العبادة المحضة التي تجعل منهم آلهة وأصناما، بل المراد كما ذكر الفخر الرازي (606هـ) أنهم أطاعوهم في أوامرهم ونواهيهم (3)، وهذا هو الذي يسمى حق التشريع، وهو بيان معادلة الحلال والحرام، وبمعنى آخر الحكم على الأشياء من حيث الحظر والإباحة وهو نفسه مصطلح الحاكمية الذي هو
__________
(1) عبد الكريم الخطيب التفسير القرآني للقرآن ج 2ص 743.
(2) محمد رشيد رضا تفسير المنار ج 10ص 364.
(3) الفخر الرازي التفسير الكبير ج 16ص 37.(1/106)
أخص خصائص الوحدانية كما ذكرنا ذلك سابقا، والمقصود بالحاكمية إسناد الحكم والتشريع لله وحده، أمّا إذا تعدّى ذلك وأصبح في أيدي البشر «فهذا هو الذي يعني اتخاذ الأرباب لا في الصورة البدائية الساذجة التي عرفتها الجاهلية الأولى، ولكن في صورة ادعاء حق وضع التصورات والقيم، والشرائع والقوانين، والأنظمة والأوضاع بمعزل عن منهج الله للحياة، وفيما لم يأذن به الله، فينشأ عن هذا الاعتداء على سلطان الله اعتداء على عباده، وما مهانة «الإنسان» عامة في الأنظمة الاجتماعية، وما ظلم «الأفراد» والشعوب بسيطرة رأس المال والاستعمار في النظم «الرأسمالية» إلا أثرا من آثار هذا الاعتداء على سلطان الله، وإنكار الكرامة التي قررها الله للإنسان» (1).
أما عن القيم التعبيرية في الآيتين فإن التعبير جاء بطريقة المقابلة من زاويتين: أولا: مقابلة عامة بين رؤساء الدين الذين اتخذوهم أربابا وبين الله سبحانه وتعالى المستحق للألوهية والربوبية، وهذه المقابلة تهدف إلى بطلان الباطل الذي هم عليه بعد هذا الصنيع، وبيان أنّ الحلال والحرام حق لله وحده.
ثانيا: مقابلة ضمنية بين الحلال والحرام حيث أن عبادة واتباع أولئك الأحبار والرهبان هي الحرام الذي أنكره الله تعالى، أما عبادة الله تعالى بامتثال أوامره واجتناب نواهيه فهي الحلال الذي دعا إليه {وَمََا أُمِرُوا إِلََّا لِيَعْبُدُوا إِلََهاً وََاحِداً لََا إِلََهَ إِلََّا هُوَ سُبْحََانَهُ عَمََّا يُشْرِكُونَ}.
وقال تعالى في سورة «التوبة»: {إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيََادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عََاماً وَيُحَرِّمُونَهُ عََاماً لِيُوََاطِؤُا عِدَّةَ مََا حَرَّمَ اللََّهُ فَيُحِلُّوا مََا حَرَّمَ اللََّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمََالِهِمْ وَاللََّهُ لََا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكََافِرِينَ} [التوبة: 37].
تتحدث هذه الآية عن المشركين وموقفهم من الأشهر الحرم الأربعة التي حرّم الله فيها القتال، وجعلها أشهر عبادة، وعن تجاوزهم الحد في التعدي
__________
(1) سيد قطب معالم في الطريق ص 10.(1/107)
على خصائص الألوهية حيث أنهم حلّلوا ما حرّمه الله، وحرموا ما أحله الله.
و «كانت العرب ورثت عن ملة إبراهيم وإسماعيل تحريم القتال في الأشهر الحرم لتأمين الحج وطرقه كما ورثوا مناسك الحج، ولمّا طال عليهم الأمد غيّروا وبدّلوا في المناسك، وفي تحريم الأشهر الحرم، ولا سيّما شهر المحرّم منها فإنه كان يشقّ عليهم ترك القتال وشنّ الغارات ثلاثة أشهر متوالية، فأول ما بدّلوا في ذلك إحلال الشهر المحرّم بالتأويل، وهو أن ينسئوا تحريمه إلى صفر لتبقى الأشهر الحرم أربعة كما كانت، وفي ذلك مخالفة للنص ولحكمة التحريم معا، وكان لهم في ذلك نظام متبع بأن يقوم رجل من كنانة يسمى «القلمس» في أيام «منى» حيث يجتمع الحجيج العام فيقول: أنا الذي لا أحاب، ولا أعاب، ولا يردّ قولي، وفي رواية أنّه يقول: أنا الذي لا يردّ لي قضاء، فيقولون:
صدقت فأخر عنّا حرمة المحرم واجعلها في صفر فيحلّ لهم المحرم، وبذلك يجعل الشهر الحرام حلالا، ثم صاروا ينسئون غير المحرّم ويسمون النسيء باسم الأصل فتتغير أسماء الشهور كلها، وأما قتالهم نفسه فقد كان كلّه حراما وبغيا وعدوانا وثأرا» (1).
كانت هذه حال المشركين في الجاهلية، «فجاءت النصوص تبطل النسيء، وتبيّن مخالفته ابتداء لدين الله الذي يجعل التحليل والتحريم (والتشريع كله) حقا خالصا لله، وتجعل مزاولته من البشر بغير ما أذن الله كفرا، بل زيادة في الكفر وفي الوقت ذاته تقرّر أصلا من أصول العقيدة الأساسية وهو قصر حقّ التشريع في الحلّ والحرمة على الله وحده، وتربط هذه الحقيقة بالحق الأصيل في بناء الكون كله، يوم خلق الله السماوات والأرض، فتشريعه للناس إنما هو فرع عن تشريعه للكون كلّه بما فيه هؤلاء الناس، والحيدة عنه مخالفة لأصل تكوين هذا الكون وبنائه، فهو زيادة في الكفر يضلّ به الذين كفروا» (2).
__________
(1) محمد رشيد رضا تفسير المنار ج 10ص 417.
(2) سيد قطب في ظلال القرآن ج 3ص 1651.(1/108)
إنّ شرع الحلال والحرام حقّ لله وحده، ومنازعته فيه كفر وشرك في ألوهيته، وهناك وجه شبه بين ما فعله المشركون، وما فعله أولئك الأحبار والرهبان الذين تحدثنا عنهم في الآية السابقة من حيث التعدي على حقوق الله وتغيير شرعه.
والآية الكريمة قائمة على المقابلة بين الحلال والحرام، ويظهر ذلك بين «يحلّونه عاما» و «يحرمونه عاما»، وبين «فيحلّوا ما حرّم الله» وهذا النوع من المقابلة هو من أبسط أنواعها، وغايته بيان المعنى في أبهى صوره وبيان أن المصدر الحقيقي للتشريع هو الله وحده، وبيان كفر أولئك الذين نازعوا الله في هذا الحق، وتوعدهم بأشدّ أنواع الوعيد.
ج المقابلة بين الولاء والبراء:
والولاء والبراء من الموضوعات الهامة التي تناولها القرآن الكريم، فقد حظيا بعنايته في أكثر من موضوع لكونهما يشكلان جانبا أساسيا في قاعدة التصوّر الإسلامي.
والولاء لغة من والى فلان فلانا إذا أحبّه، ولذلك يقال: بينهما ولاء أي قرب (1) وفي الاصطلاح يستعار الولاء للدلالة على القرب من حيث المكان، ومن حيث النسبة، ومن حيث الدين، ومن حيث الصداقة والنصرة والاعتقاد (2)
ومنه الولاية وهي المحبة والنصرة، قال ابن تيمية وهو يتحدث عن أولياء الله وصفاتهم، وأولياء الشيطان وصفاتهم: «سمّي الولي وليا من موالاته للطاعات، أي متابعته لها، فإذا كان ولي الله هو الموافق المتابع له فيما يحبّه ويرضاه، ويبغضه ويسخطه، ويأمر به وينهى عنه، كان المعادي لوليه معاديا له» (3).
__________
(1) ابن منظور لسان العرب مادة (ولي).
(2) الفيروزآبادي بصائر ذوي التمييز ج 5ص 281.
(3) الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان تحقيق زهير الشاويش ط 4المكتب الإسلامي 1988م ص 8.(1/109)
والولاء للكفار وهو المقصود هنا يعني التقرب إليهم وإظهار الودّ لهم بالأقوال والأفعال والنوايا (1) وهو يعني كذلك «الرباط أو التقارب المعنوي أو الحسي الحاصل بين طائفتين فأكثر باختيارهم حصولا مشعرا بوحدتهم في القواعد والأصول أو في الأهداف والغايات، وسواء كان ذلك الرباط أو التقارب دائما أو مؤقتا (2).
أما البراء فهو ضد الولاء وهو البعد والخلاص والعداوة بعد الإعذار والإنذار (3) وهو متعلق بالكفار أيضا من حيث الابتعاد عنهم ماديا ومعنويا، وعدم القرب منهم والمحبة لعقائدهم وأهدافهم وغاياتهم.
وثنائية الولاء والبراء لها علاقة بالحبّ والكره ومقتضياتهما، ولذلك فإن لها علاقة وثيقة بأسس العقيدة، ومبادئ التصور الإسلامي في علاقات الناس والمجتمعات، ومن هذه الأهمية جاءت عناية القرآن الكريم بهذا الموضوع في كثير من السور والآيات.
إن الولاء والبراء جزء من عقيدة التوحيد، حيث إنهما تتعلقان بالحب والبغض في الله، فلا يكون الإيمان صحيحا إلا بالمحبة الكاملة لله ولدينه ورسوله، والبغض والكراهية للكفر والطاغوت، قال ابن تيمية رحمه الله (728هـ): «ليس للقلوب سرور ولا لذة تامة إلّا في محبة الله والتقرب إليه بما يحبه، ولا تمكن محبته إلا بالإعراض عن كل محبوب سواه، وهذا حقيقة لا إله إلّا الله، وهي ملّة إبراهيم الخليل عليه السلام، وسائر الأنبياء والمرسلين صلاة الله وسلامه عليهم أجمعين» (4).
__________
(1) محمد نعيم ياسين الإيمان
(2) أحمد عبد المولى مناعي الولاء والبراء في القرآن الكريم ص 7 (رسالة ماجستير) الجامعة الأردنية 1993ص 7.
(3) محمد بن سعيد القحطاني الولاء والبراء في الاسلام ط 2مكتبة طيبة الرياض 1404هـ ص 92.
(4) الفتاوى ج 28ص 32.(1/110)
فالولاء والبراء من لوازم «لا إله إلّا الله» ومن أدلة القرآن على ذلك قوله تعالى:
{قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللََّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللََّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللََّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (31) قُلْ أَطِيعُوا اللََّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللََّهَ لََا يُحِبُّ الْكََافِرِينَ} [آل عمران: 3231].
وقال تعالى: {يََا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لََا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصََارى ََ أَوْلِيََاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيََاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللََّهَ لََا يَهْدِي الْقَوْمَ الظََّالِمِينَ} [المائدة: 3231] وقال تعالى:
{لََا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكََافِرِينَ أَوْلِيََاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذََلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللََّهِ فِي شَيْءٍ إِلََّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقََاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللََّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللََّهِ الْمَصِيرُ} [آل عمران: 28].
فبهذه الأدلة الواضحة من القرآن يتّضح لنا أن الولاء والبراء جزء من التصور الإسلامي للحياة، ولا يكون تحقيق الوحدانية إلا بالحب والبغض في الله. يقول ابن تيمية (728هـ) رحمه الله: «إن تحقيق شهادة أن لا إله إلا الله يقتضي أن لا يحبّ إلا لله، ولا يبغض إلا لله، ولا يوالى إلا الله، ولا يعادى إلا الله، وأن يحبّ ما أحبّه الله، ويبغض ما أبغضه الله» (1).
ويقول ابن قيم الجوزية (751هـ) رحمه الله: «ليس التوحيد مجرد إقرار العبد بأنّه: لا خالق إلا الله وأنّ الله ربّ كل شيء ومليكه، كما كان عباد الأصنام مقرين بذلك وهم مشركون، بل التوحيد يتضمن من محبّة الله وإرادة وجهه الأعلى لجميع الأقوال والأعمال، والمنع والعطاء، والحب والبغض، ما يحول بين صاحبه وبين الأسباب الداعية إلى المعاصي والإصرار عليها» (2).
وللولاء والبراء مظاهر تحدث عنها القرآن الكريم في سوره منها (3):
أولا: العبادة وهي أوسع أبواب الولاء والبراء، ولذلك وجدنا القرآن الكريم يوليها كبير أهمية، وجليل عناية حتى لا تكاد سور القرآن الكريم تخلو
__________
(1) الاحتجاج بالقدر ص 62.
(2) مدارج السالكين ج 1ص 330.
(3) ينظر أحمد عبد المولى مناعي الولاء والبراء في القرآن الكريم دراسة موضوعية ص 4917.(1/111)
من ذكرها والحثّ عليها، وبيان نتيجتها وعاقبتها، قال تعالى: {إِنََّا أَنْزَلْنََا إِلَيْكَ الْكِتََابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللََّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ (2) أَلََا لِلََّهِ الدِّينُ الْخََالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيََاءَ مََا نَعْبُدُهُمْ إِلََّا لِيُقَرِّبُونََا إِلَى اللََّهِ زُلْفى ََ إِنَّ اللََّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مََا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} [الزمر: 3]، ففي قوله تعالى: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيََاءَ}
قال البغوي: أي معبوداتهم من الأصنام التي جعلوها على صورة الملائكة بزعمهم يتوجهون إليهم بالعبادة ليقرّبوهم إلى الله زلفى (1) وهذا من صور الولاء في العبادة والاتباع.
ثانيا: النصرة والمعونة وربط المصير بالمصير، وتعد هذه المظاهر الثلاثة من أوضح علامات الولاء وأصدقها دلالة عليه، ونقيضها من المسالك الكاشفة عن صور البراء الكامل والمفاصلة الحاسمة، إذ هي الوجه الخارجي لعقيدة الولاء والبراء، قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نََافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوََانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتََابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلََا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً أَبَداً وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللََّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكََاذِبُونَ (11) لَئِنْ أُخْرِجُوا لََا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لََا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبََارَ ثُمَّ لََا يُنْصَرُونَ} [الحشر: 11]، فالآية تتحدث عن ولاء النصرة والمعونة وربط المصير بالمصير الذي أعلنه المنافقون لإخوانهم في الكفر واليهود.
ثالثا: الركون واتخاذ البطانة، وهذان مظهران لعقيدة الولاء والبراء نبّه القرآن إليهما وحذّر المؤمنين من اتباع غير الصراط السوي في شأنهما، والركون هو الاستناد والسكون إلى الشيء، أما اتخاذ البطانة فيعني جعل المرء خصيصته وصفيّه الذي يفضي إليه بشعوره ثقة به، قال تعالى: {وَلََا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النََّارُ وَمََا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللََّهِ مِنْ أَوْلِيََاءَ ثُمَّ لََا تُنْصَرُونَ} [هود: 113] والقصد من الآية تبعيد المؤمنين من موادّة المشركين المحادين لله ولرسوله
__________
(1) تفسير البغوي المسمى معالم التنزيل ج 4ص 71.(1/112)
والثقة بهم، وهو أعظم عقبة في الصدّ عن سبيل الله لأنّ ذلك ينافي الإيمان (1).
وعن البطانة قال تعالى: {يََا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لََا تَتَّخِذُوا بِطََانَةً مِنْ دُونِكُمْ لََا يَأْلُونَكُمْ خَبََالًا وَدُّوا مََا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضََاءُ مِنْ أَفْوََاهِهِمْ وَمََا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنََّا لَكُمُ الْآيََاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ} [آل عمران: 118].
في هذا النص الكريم نهى الله المؤمنين أن يتخذوا بطانة من دون المؤمنين، لأن ذلك الفعل ضرب من ضروب الولاء، وصورة من صوره، والمطلوب من المسلم أن يكون ولاؤه لله محررا في كل قول وفعل.
رابعا: الصلح والتحالف، وهذا المظهر الأخير من مظاهر الولاء والبراء، ويتمثل في الواقع العملي والصورة التطبيقية للولاء والبراء، قال تعالى:
{وَقََاتِلُوهُمْ حَتََّى لََا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلََّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللََّهَ بِمََا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [الأنفال: 39].
فالأمر بقتال المشركين مستمر دائم إلى أن يزول الشرك ويثبت الإسلام، والجنوح عن هذه الغاية والدخول في صلح مع المشركين يبقون بمقتضاه على شركهم ضرب من ضروب موالاتهم وفي ذلك أيضا تعطيل لمعاني الآيات الناطقة باستمرارية قتل المشركين وعدم توقفه إلّا عند حصول ثمرته.
والولاء في السياق القرآني ولاء لله ومن ثمّ لعباده المؤمنين قال تعالى:
{وَمَنْ يَتَوَلَّ اللََّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللََّهِ هُمُ الْغََالِبُونَ} [المائدة: 56].
والبراء قسمان: أحدهما: البراء من الكفار والمنافقين، قال تعالى: {وَأَذََانٌ مِنَ اللََّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النََّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللََّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ}
[التوبة: 3]، وقال عن المنافقين: {نَسُوا اللََّهَ فَنَسِيَهُمْ} [التوبة: 67].
__________
(1) محمد جمال الدين القاسمي محاسن التأويل ج 9ص 3490.(1/113)
وثانيهما: البراء من أهل الكتاب، قال تعالى: {وَأَذََانٌ مِنَ اللََّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النََّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللََّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللََّهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذََابٍ أَلِيمٍ} [التوبة: 3].
وقال أيضا: {فَإِنْ تََابُوا وَأَقََامُوا الصَّلََاةَ وَآتَوُا الزَّكََاةَ فَإِخْوََانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الْآيََاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (11) وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمََانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقََاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لََا أَيْمََانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ} [التوبة: 1211].
سورة التوبة هي آخر سور القرآن نزولا عند جمهور العلماء، وتسمى سورة «براءة» لما تضمنته من براءة الله ورسوله من المشركين والمنافقين وأهل الكتاب، وبما أنها آخر ما نزل من القرآن كان لا بدّ أن يكون لها الكلمة الأخيرة في تحديد العلاقات بأنواعها بين المجتمع المسلم في المدينة وغيره من المجتمعات الكافرة، وأن تكون هذه الكلمة قانونا لأي مجتمع مسلم، وفي أي زمان كان، لأنّ فيها المفاصلة التامة بين الإيمان والكفر، بين المسلمين وجميع أعدائهم في الأرض، وقد جاء فيها الحديث مفصلا عن قضية الولاء والبراء وبيان الحق في ذلك في بداية السورة الكريمة.
وقد لخص ابن قيم الجوزية (751هـ) رحمه الله سياق الدعوة والجهاد في هذه السورة فقال: «أقام صلى الله عليه وسلم بضع عشرة سنة بعد نبوته ينذر بالدعوة بغير قتال ولا جزية، ويؤمر بالكف والصبر والصفح، ثم أذن له في الهجرة، وأذن له في القتال، ثم أمره أن يقاتل من قاتله، ويكفّ عمن اعتزله ولم يقاتله، ثم أمره بقتال المشركين حتى يكون الدين كلّه لله، ثم كان الكفار معه بعد الأمر بالجهاد ثلاثة أقسام: أهل صلح وهدنة، وأهل حرب، وأهل ذمّة، فأمر بأن يتمّ لأهل العهد والصلح عهدهم، وأن يوفي لهم به ما استقاموا على العهد، فإن خاف منهم خيانة نبذ إليهم عهدهم ولم يقاتلهم حتى يعلمهم بنقض العهد، وأمر أن يقاتل من نقض عهده ولما نزلت سورة براءة نزلت ببيان حكم هذه الأقسام
كلها: فأمر أن يقاتل عدوه من أهل الكتاب حتى يعطوا الجزية أو يدخلوا في الإسلام، وأمره فيها بجهاد الكفار والمنافقين والغلظة عليهم، فجاهد الكفار بالسيف والسنان، والمنافقين بالحجّة واللسان، وأمره فيها بالبراءة من عهود الكفار ونبذ عهودهم إليهم، وجعل أهل العهد في ذلك ثلاثة أقسام: قسما أمره بقتالهم وهم الذين نقضوا عهده ولم يستقيموا له، فحاربهم وظهر عليهم، وقسما لهم عهد مؤقت لم ينقضوه ولم يظاهروا عليه، فأمره أن يتم لهم عهدهم إلى مدتهم. وقسما لم يكن لهم عهد ولم يحاربوه أو كان لهم عهد مطلق، فأمر أن يؤجلهم أربعة أشهر، فإذا انسلخت قاتلهم فصار أهل الأرض معه ثلاثة أقسام: مسلم مؤمن به، ومسالم له آمن، وخائف محارب، وأما سيرته في المنافقين فإنه أمر أن يقبل منهم علانيتهم ويكل سرائرهم إلى الله، وأن يجاهدهم بالعلم والحجّة، وأمر أن يعرض عنهم، ويغلظ عليهم، وأن يبلغ بالقول البليغ إلى نفوسهم» (1).(1/114)
وقد لخص ابن قيم الجوزية (751هـ) رحمه الله سياق الدعوة والجهاد في هذه السورة فقال: «أقام صلى الله عليه وسلم بضع عشرة سنة بعد نبوته ينذر بالدعوة بغير قتال ولا جزية، ويؤمر بالكف والصبر والصفح، ثم أذن له في الهجرة، وأذن له في القتال، ثم أمره أن يقاتل من قاتله، ويكفّ عمن اعتزله ولم يقاتله، ثم أمره بقتال المشركين حتى يكون الدين كلّه لله، ثم كان الكفار معه بعد الأمر بالجهاد ثلاثة أقسام: أهل صلح وهدنة، وأهل حرب، وأهل ذمّة، فأمر بأن يتمّ لأهل العهد والصلح عهدهم، وأن يوفي لهم به ما استقاموا على العهد، فإن خاف منهم خيانة نبذ إليهم عهدهم ولم يقاتلهم حتى يعلمهم بنقض العهد، وأمر أن يقاتل من نقض عهده ولما نزلت سورة براءة نزلت ببيان حكم هذه الأقسام
كلها: فأمر أن يقاتل عدوه من أهل الكتاب حتى يعطوا الجزية أو يدخلوا في الإسلام، وأمره فيها بجهاد الكفار والمنافقين والغلظة عليهم، فجاهد الكفار بالسيف والسنان، والمنافقين بالحجّة واللسان، وأمره فيها بالبراءة من عهود الكفار ونبذ عهودهم إليهم، وجعل أهل العهد في ذلك ثلاثة أقسام: قسما أمره بقتالهم وهم الذين نقضوا عهده ولم يستقيموا له، فحاربهم وظهر عليهم، وقسما لهم عهد مؤقت لم ينقضوه ولم يظاهروا عليه، فأمره أن يتم لهم عهدهم إلى مدتهم. وقسما لم يكن لهم عهد ولم يحاربوه أو كان لهم عهد مطلق، فأمر أن يؤجلهم أربعة أشهر، فإذا انسلخت قاتلهم فصار أهل الأرض معه ثلاثة أقسام: مسلم مؤمن به، ومسالم له آمن، وخائف محارب، وأما سيرته في المنافقين فإنه أمر أن يقبل منهم علانيتهم ويكل سرائرهم إلى الله، وأن يجاهدهم بالعلم والحجّة، وأمر أن يعرض عنهم، ويغلظ عليهم، وأن يبلغ بالقول البليغ إلى نفوسهم» (1).
في ضوء هذا البيان نستطيع أن نصل إلى الطبيعة النهائية للعلاقات بين الإسلام والكفر أيا كان نوعه، ومن هذه الطبيعة يتحدد الولاء والبراء اللذان تتحدث عنهما الآيات، فلا ولاء بعد الآن للطاغوت والشرك، ويجب أن تكون البراءة تامة من كل أنواع الكفر والشرك لتبقى قاعدة التصوّر الإسلامي نظيفة مخلصة في توجهها إلى الله، يقول سيد قطب رحمه الله في حكمة البراء من الكفر والشرك: «قد تبيّن من الواقع العملي مرحلة بعد مرحلة، وتجربة بعد تجربة، أنّه لا يمكن التعايش بين منهجين للحياة بينهما هذا الاختلاف الجذري العميق البعيد الشامل لكل جزئية من جزئيات الاعتقاد والتصور، والخلق والسلوك، والتنظيم الاقتصادي والاجتماعي والسياسي والإنساني وهو
__________
(1) زاد المعاد في هدي خير العباد تحقيق شعيب الأرناءوط ط 1مؤسسة الرسالة بيروت 1399هـ ج 3ص 158، 160.(1/115)
الاختلاف الذي لا بدّ أن ينشأ من اختلاف الاعتقاد والتصور منهجين للحياة أحدهما يقوم على عبودية العباد لله وحده بلا شريك، والآخر يقوم على عبودية البشر للبشر، وللآلهة المدعاة، وللأرباب المتفرقة، ثم يقع بينهما التصادم في كل خطوة من خطوات الحياة، لأنّ كل خطوة من خطوات الحياة في أحد المنهجين لا بدّ أن تكون مختلفة مع الأخرى، ومتصادمة معها تماما في مثل هذين المنهجين، وفي مثل هذين النظامين» (1).
إنّ الآية الأولى بمثابة الإعلان العام «أذان من الله» لبراءة الله وبراءة رسوله، وبراءة المؤمنين بعد ذلك من المشركين، وقد جاء الإعلان ليحدد المواقف الحاسمة في قضية الولاء والبراء، وليطهّر جزيرة العرب من الشرك ويجعلها تحت راية الإسلام، أما الآية الثانية والثالثة فتتحدثان عن إقامة ولاء مع المشركين في حالة دخولهم في جماعة المسلمين، وامتثالهم لأوامر الله في إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، أو البراء منهم في حالة نكث الأيمان والطعن في الدين، والإصرار على الكفر، «ونكث الأيمان هنا يقابل فيما قبله استقامتهم عليها والطعن في ديننا في الجملة التالية يقابل فيما قبله توبتهم من الكفر به بدخوله في جماعته» (2).
هذه هي طريقة القرآن في التعامل مع المشركين في كلّ الأزمان، وهي طريقة تجعل الأشياء في موضعها الصحيح من حيث الانتماء إلى عقيدة التوحيد ومقتضياته من ولاء وبراء، أو التخلي عن ذلك والركون إلى الشرك والكفر، ثم لجعل الإيمان هو المسيطر والظاهر في الأرض، ودحض كل قوى الشر التي تعارض مبدأ الخضوع لسلطان الله على هذه الأرض، والمشركون في كل زمان هم أناس نصبوا شراك العداوة والقتال لله ولرسوله ولأي شيء له علاقة بالدين والعقيدة، ومن هنا جاء موقف القرآن واضحا ليعلن البراءة التامة من الشرك والمشركين وإعلان العداوة والقتال لأولياء الشيطان في كل زمان ومكان.
__________
(1) في ظلال القرآن ج 3ص 1586.
(2) محمد رشيد رضا تفسير المنار ج 10ص 190.(1/116)
وتعتمد هذه الآيات في طريقة عرضها على المقابلة والمزاوجة بين الأشياء، وهي الطريقة التي كان لها الفضل في بيان هذه القيم المعنوية والدينية، لقد قابلت الآيات في الجانب الأول منها بين البراءة التامة من المشركين والولاية لله ولرسوله، وقابلت في الجانب الثاني منها بين {فَإِنْ تََابُوا وَأَقََامُوا الصَّلََاةَ وَآتَوُا الزَّكََاةَ} وبين {وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمََانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ} وهي مقابلة تهدف إلى وضع قضية الولاء والبراء من المشركين مرتبطة بما يؤول إليه حالهم بعد هذا الإعلان القرآني، وفي ذلك دليل على سماحة القرآن وعدله.
وقال تعالى: {يََا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لََا تَتَّخِذُوا آبََاءَكُمْ وَإِخْوََانَكُمْ أَوْلِيََاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمََانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولََئِكَ هُمُ الظََّالِمُونَ (23) قُلْ إِنْ كََانَ آبََاؤُكُمْ وَأَبْنََاؤُكُمْ وَإِخْوََانُكُمْ وَأَزْوََاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوََالٌ اقْتَرَفْتُمُوهََا وَتِجََارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسََادَهََا وَمَسََاكِنُ تَرْضَوْنَهََا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللََّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهََادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتََّى يَأْتِيَ اللََّهُ بِأَمْرِهِ وَاللََّهُ لََا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفََاسِقِينَ} [التوبة: 2423].
تفيد هاتان الآيتان مجموعة من القيم الدينية والفكرية والأخلاقية وهي قيم تستفاد من طرق العرض التي يختارها السياق القرآني لأداء المعاني، ومن أبرزها طريقة التقابل وعقد التضاد بين المعاني المختلفة، فمن هذه القيم ما يلي:
أولا: تتحدث الآيات عن الولاء والبراء في مظهرين من مظاهرهما، وهما مظهر العبادة، ومظهر النصرة والعون وربط المصير بالمصير، أما مظهر العبادة فيظهر في اتباع الهوى، وحب أحد هذه الروابط الثمانية وهي الآباء والأبناء والإخوة والأزواج والعشيرة والأموال والتجارة والمساكن، وهذا الحبّ والاتباع يأتي في مرتبة لا تليق إلا بالله وحده، فهو المقصود وحده بالحب وأيضا رسوله والمؤمنون، فالولاء لهذه الروابط يعني الخروج من دائرة العبادة التي ينبغي أن يقصد بها وجه الله وحده. أما المظهر الثاني وهو النصرة والعون وربط المصير بالمصير فيظهر في الغاية من هذا الحبّ وهي أن بعض المسلمين كان يخشى
قتال أهليهم من المشركين رغبة منهم في إسلامهم، وكان بعضهم يبتغي العون والفائدة فيما عنده من مال أو مساكن أو تجارة، وهذا الولاء والحبّ قد يصل إلى مرتبة العبادة حين يتعلق الدين بالأهواء والشهوات.(1/117)
أولا: تتحدث الآيات عن الولاء والبراء في مظهرين من مظاهرهما، وهما مظهر العبادة، ومظهر النصرة والعون وربط المصير بالمصير، أما مظهر العبادة فيظهر في اتباع الهوى، وحب أحد هذه الروابط الثمانية وهي الآباء والأبناء والإخوة والأزواج والعشيرة والأموال والتجارة والمساكن، وهذا الحبّ والاتباع يأتي في مرتبة لا تليق إلا بالله وحده، فهو المقصود وحده بالحب وأيضا رسوله والمؤمنون، فالولاء لهذه الروابط يعني الخروج من دائرة العبادة التي ينبغي أن يقصد بها وجه الله وحده. أما المظهر الثاني وهو النصرة والعون وربط المصير بالمصير فيظهر في الغاية من هذا الحبّ وهي أن بعض المسلمين كان يخشى
قتال أهليهم من المشركين رغبة منهم في إسلامهم، وكان بعضهم يبتغي العون والفائدة فيما عنده من مال أو مساكن أو تجارة، وهذا الولاء والحبّ قد يصل إلى مرتبة العبادة حين يتعلق الدين بالأهواء والشهوات.
ثانيا: غاية هذا الولاء والبراء التفريق بين الإيمان والكفر، «فقد فرّق الإيمان بالله بين المؤمنين والمشركين، وجعل ولاية المؤمن للمؤمنين عامة أيا كان لونهم وجنسهم، وأيا كانت درجة القرابة في النسب بينهم وبينه على حين قطع ولاءه لأهله، وأقرب المقربين إليه إذا لم يكونوا من المؤمنين بالله وبرسول الله» (1).
ثالثا: الولاء لله، والبراء من الشرك أمران لهما أهميتهما في التصوير الإسلامي، لأنهما يجردان التوحيد، ويفردان الإله بالعبادة والاتباع، ومن أهم صور الولاء حب روابط القرابة ووشائج المال والمادة، وقد جمعت هذه الآيات أصنافا من العلاقات وذويها، ومن شأنها أن تألفها النفوس، وترغب في القرب منها وعدم مفارقتها، فإذا كان الثبات على الإيمان يجرّ إلى هجران بعضها كالآباء والإخوان الكافرين الذين يهجر بعضهم بعضا إذا اختلفوا في الدين، كالأبناء والأزواج والعشيرة الذين يألف المرء البقاء بينهم، فلعلّ ذلك يقعده عن الغزو، وكالأموال والتجارة التي تصدّ عن الغزو وعن الإنفاق في سبيل الله، وكذلك المساكن التي يألف المرء الإقامة فيها فيصده إلفها عن الغزو، فإذا حصل التعارض والتدافع بين ما أراده الله من المؤمنين، وبين ما تجرّ إليه تلك العلائق وجب على المؤمن دحضها وإرضاء ربه» (2).
رابعا: هذه الأنواع الثمانية من حب القرابة والزوجية والمنافع والمرافق التي عليها مدار معايش الناس قد كان من شأنها أن تجعل القتال مكروها فوق
__________
(1) عبد الكريم الخطيب التفسير القرآني للقرآن ج 2ص 721.
(2) محمد الطاهر بن عاشور تفسير التحرير والتنوير ج 10ص 153152.(1/118)
الكره الذي تقتضيه طبيعة القتال نفسه، وأمام العقيدة يجب أن تنقطع كل هذه الأواصر لأنّ لله الولاية الأولى، وحبّ الله تعالى أي حب عبده له هو الذي يجب أن يكون فوق كل حب لأنه سبحانه وتعالى هو المتصف وحده بكل ما شأنه أن يحبّ من جمال وكمال، وبر وإحسان، وكل ما يحب في الوجود فهو من صنعه وفيض جوده وإحسانه، ومظهر أسمائه الحسنى وصفاته» (1).
وتعتمد هاتان الآيتان على أسلوب المقابلة في عرض هذه القيم المستفادة من السياق، فهناك مقابلة كبرى بين طرفي الآية يتحدد من خلالها الولاء والبراء وهي: {إِنْ كََانَ آبََاؤُكُمْ وَأَبْنََاؤُكُمْ وَإِخْوََانُكُمْ وَأَزْوََاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوََالٌ اقْتَرَفْتُمُوهََا وَتِجََارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسََادَهََا وَمَسََاكِنُ تَرْضَوْنَهََا} وفي الطرف المقابل {أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللََّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهََادٍ فِي سَبِيلِهِ}.
وغاية هذه المقابلة تقرير مبدأ الولاية لله وحده، والبراء من الشرك وحظوظ الأنفس من حبّ المطامع واللذائذ، «فالسياق القرآني يأخذ كلّ هذه الأواصر ليضعها كلها في كفة ويضع العقيدة ومقتضياتها في الكفة الأخرى: الآباء والأبناء والإخوان والأزواج والعشيرة (وشيجة الدم والنسب والقرابة والزواج) والأموال والتجارة (مطمع الفطرة ورغبتها) والمساكن المريحة (متاع الحياة ولذتها)، وفي الكفة الأخرى: حب الله ورسوله وحب الجهاد في سبيله، الجهاد بكل مقتضياته وبكل مشاقه، الجهاد وما يتبعه من تعب ونصب، وما يتبعه من تضييق وحرمان وما يتبعه من ألم وتضحية» (2).
وقال تعالى: {مََا كََانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كََانُوا أُولِي قُرْبى ََ مِنْ بَعْدِ مََا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحََابُ الْجَحِيمِ (113) وَمََا كََانَ اسْتِغْفََارُ إِبْرََاهِيمَ}
__________
(1) محمد رشيد رضا تفسير المنار ج 10ص 232.
(2) سيد قطب في ظلال القرآن ج 3ص 1615.(1/119)
{لِأَبِيهِ إِلََّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهََا إِيََّاهُ فَلَمََّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلََّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرََاهِيمَ لَأَوََّاهٌ حَلِيمٌ} [التوبة: 114113].
تتحدث هاتان الآيتان عن البراء من المشركين حتى ولو كانوا من ذوي القرابة والنسب، وذلك أن الولاء لهم يقدح في صحة الإيمان الذي يجب أن يكون خالصا لله وحده، والظاهر أن بعض المسلمين كانوا يستغفرون لآبائهم المشركين ويطلبون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يستغفر لهم، فنزلت الآيات تقرّر أن في هذا الاستغفار بقية من تعلّق بقربات الدم في غير صلة بالله لذلك ما كان للنبي والذين آمنوا أن يفعلوه (1).
وقال الفخر الرازي (606هـ): «اعلم أن الله تعالى لما بيّن من أول هذه السورة إلى هذا الموضع وجوب إظهار البراءة من الكفار والمنافقين من جميع الوجوه، بيّن في هذه الآية أنه تجب البراءة من أمواتهم، وإن كانوا في غاية القرب من الإنسان كالأب والأم، كما أوجب البراءة عن أحيائهم، والمقصود منه بيان وجوب مقاطعتهم على أقصى الغايات، والمنع من مواصلتهم بسبب من الأسباب (2).
ويظهر الولاء لله في الآية الثانية {وَمََا كََانَ اسْتِغْفََارُ إِبْرََاهِيمَ لِأَبِيهِ}
فإبراهيم عليه السلام يمثل الولاء المطلق لله، وهو القدوة والأسوة في أعلى مستوياتها للولاء لله والإخلاص لدين الله، فلا حساب لعاطفة القرابة عنده تدخل شيئا من الضيم على ولائه لربّه، وإخلاصه لدينه (3).
إن القيمة الدينية التي أفادها هذا السياق هي أنه لا ينبغي الاستغفار والترحم على المشركين ولو كانوا أمواتا لأنّ هذا الفعل يدخل شيئا من الحب والرضا لهم ولما هم فيه من ضلال وكفر، ويتسرب إلى إيمانه بالله وولائه له بعض معاني
__________
(1) سيد قطب في ظلال القرآن ج 3ص 1721.
(2) تفسير الفخر الرازي ج 16ص 208.
(3) عبد الكريم الخطيب التفسير القرآني للقرآن ج 2ص 907.(1/120)
الحب والإخلاص لأعداء الله ورسوله، والله يريد من المؤمن أن يكون عمله مخلصا صوابا، أي أن يكون ولاؤه ولاء مطلقا لله في كل ما أمر به ونهى عنه.
وتعتمد هاتان الآيتان على المزاوجة والمقابلة بين الولاء والبراء في صورة من صورهما، فقد قابلت بين «الاستغفار للمشركين» الذي يعني الولاء لهم، وبين «استغفار إبراهيم لأبيه وتبرّئه في الأخير منه» والذي يعني البراء من الشرك والمشركين، وطريقة المقابلة هنا حاسمة في أداء المعنى، وعرض الأفكار التي يستفاد منها القيم الدينية والفكرية المختلفة.
ونخلص إلى القول في قضية الولاء والبراء أنها قضية تتعلق بالوحدانية، وأنها جزء هام من عقيدة «لا إله إلّا الله» لأنها تتعلق بالحب والبغض في الله، فلا يكون الإيمان صحيحا إلا بالولاء المطلق والمحبة الصادقة لله ورسوله والمؤمنين، والبغض والكراهية للكفر والشرك والمشركين، ونخلص كذلك إلى القول بأنّ طريقة التقابل التي لجأت إليها السورة الكريمة في عرض المعاني كانت حاسمة في أداء تلك القيم الدينية والأخلاقية والفكرية.
د المقابلة بين الجنّة والنار:
يهتم القرآن الكريم اهتماما كبيرا بتقرير حقيقة اليوم الآخر وما فيه من نعيم وعذاب وجزاء وحساب، بل إنّه قد عدّه من أركان الإيمان الأساسية التي لا يصح إيمان بدونه، وجعله في المرتبة الثانية بعد عقيدة الإيمان بالله، يقول محمد عبد الله دراز رحمه الله: «على أساس فكرة كمال الله المطلق بنى القرآن الشطر الأول من النظرية الدينية العامة وهي: أنه لا شيء في الوجود يستحق العبادة سوى الله الواحد القهّار، وبنفس الفكرة يؤسس القرآن أيضا الشطر الثاني من هذه النظرية، وهي الإيمان بالحياة الأخروية، فكما أن الله هو الأول فهو الآخر إذ إليه مآلنا لنقدم له أعمالنا، ونتلقى منه الجزاء الذي نستحق» (1).
__________
(1) مدخل إلى القرآن الكريم ص 83.(1/121)
وتعدّ الجنة والنار من أبرز الثنائيات في عقيدة اليوم الآخر، وهي من الأبعاد الدينية الكبرى في التصوّر الإسلامي، وقد ثار حولها جدل بشري منذ أقدم الأزمان حيث أن النشور بعد الموت من أصعب القضايا التي تاهت فيها العقول باعتبارها من أمور الغيب التي يصعب إدراكها إلّا بخطاب الأنبياء، وإرسال الرسل.
وقد جاءت رسالات السماء مخبرة ومبيّنة بأن الجزاء الأخروي أمر حتمي، وحدوثه قطعي، فهناك يوم عظيم سيجتمع فيه كل الخلائق وينصب أمامهم ميزان العدل، فيجازي المؤمن على إيمانه، ويجازي الكافر على كفره، ثم يكون لكلّ منهما مصير مستقر، فالمؤمن له الجنة والنعيم والكافر له النار والعذاب، قال تعالى: {وَنَضَعُ الْمَوََازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيََامَةِ فَلََا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كََانَ مِثْقََالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنََا بِهََا وَكَفى ََ بِنََا حََاسِبِينَ} [الأنبياء: 47]، وقال تعالى أيضا: {وَكَذََلِكَ أَوْحَيْنََا إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى ََ وَمَنْ حَوْلَهََا وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لََا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ} [الشورى: 7].
وقد أكثر القرآن الكريم الحديث عن الدار الآخرة، وحسابها الدقيق، ونعيمها المقيم وعذابها الدائم، وأكثر من الحديث للبشر أن حياتهم فوق التراب فترة صغيرة، وأنّ استغراقهم في الأحزان والأفراح خدعة كبيرة، وأن المسلك الوحيد الرشيد هو الإيمان بالله واليوم الآخر (1).
وقبل الحديث عن إثبات الجزاء والحساب في المنهج القرآني، نريد أن نعرف أن إنكار هذا الموضوع ممتد في الأمم الماضية عبر القرون والأعصر، وأن الفلاسفة الطبيعيين أنكروا ذلك، ونريد أن نعرف بوجه عام الشبهات التي يستمسك بها كل منكر للبعث، وليس لدينا بالنسبة للأمم الماضية سجل تاريخي أصدق من القرآن الكريم، فقد حدثنا عن إنكار تكذيب الأمم السابقة ليوم
__________
(1) محمد الغزالي المحاور الخمسة في القرآن الكريم ص 148.(1/122)
البعث والجزاء ورفضهم لفكرة الجنّة والنار (1)، قال تعالى: {وَقََالُوا أَإِذََا كُنََّا عِظََاماً وَرُفََاتاً أَإِنََّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً (49) قُلْ كُونُوا حِجََارَةً أَوْ حَدِيداً (50) أَوْ خَلْقاً مِمََّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنََا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتى ََ هُوَ قُلْ عَسى ََ أَنْ يَكُونَ قَرِيباً} (51) [الإسراء: 5149].
وهؤلاء الذين أنكروا الجنة والنار، والبعث والجزاء قديما هم الكفرة المنكرون لوجود الله، والفلاسفة الذين أطلق عليهم الغزالي (505هـ) «الطبيعيين»، وهم الماديون الذين لا يؤمنون بما وراء المادة، وينكرون أمور الغيب، يقول الغزالي رحمه الله: «الطبيعيون قوم أكثروا بحثهم في عالم الطبيعة، وعن عجائب الحيوان والنبات، وأكثروا الخوض في علم تشريح أعضاء الحيوانات فرأوا فيها من عجائب صنع الله تعالى، وبدائع حكمته ما اضطروا معه إلى الاعتراف بفاطر حكيم مطّلع على غايات الأمور ومقاصدها، ولا يطالع علم التشريح وعجائب منافع الأعضاء مطالع إلّا يحصل له هذا العلم الضروري بكمال تدبير المباني لبنية الحيوان لا سيما الإنسان إلا أن هؤلاء لكثرة بحثهم عن الطبيعة، ظهر عندهم لاعتدال المزاج تأثير عظيم في قوام قوى الحيوان به، فظنوا أن القوة العاقلة من الإنسان تابعة لمزاجه أيضا وأنها تبطل بطلان مزاجه فينعدم ثم إذا انعدم فلا يعقل إعادة المعدوم كما زعموا، فذهبوا إلى أن النفس تموت ولا تعود فجحدوا الآخرة، وأنكروا الجنة والنار، والحشر والنشر والقيامة والحساب، فلم يبق عندهم للطاعة ثواب، ولا للمعصية عقاب فانحلّ عنهم اللجام وانهمكوا في الشهوات انهماك الأنعام» (2).
وقال الراغب الأصفهاني: «لم ينكر أمر المعاد والنشأة الأخرى إلا جماعة من الطبيعيين، أهملوا أفكارهم، وجهلوا أقدارهم، وشغلهم عن التفكير في
__________
(1) ينظر زاهر عوض الألمعي مناهج الجدل في القرآن ط 3مطابع الفرزدق الرياض 1404هـ ص 309.
(2) المنقذ من الضلال تحقيق عبد الحليم محمود ط دار النصر القاهرة ص 7776.(1/123)
مبدئهم ومنشئهم شغفهم بما زيّن لهم من حب الشهوات»، ثم يقول في الرد عليهم: «فلو لم يكن للإنسان غاية ينتهي إليها غير هذه الحياة الخسيسة المملوءة نصبا وهما وحزنا، ولا يكون بعدها حال مغبوطة لكان أخس البهائم أحسن حالا من الإنسان» (1).
ومن الطوائف الإنسانية التي أنكرت الجزاء الأخروي لاعتمادها على دلائل العقل، ومعطيات المادة طائفة تدّعي تناسخ الأرواح، وهي من الطوائف التي لم تستسغ تأجيل الحساب والجزاء إلى حياة أخرى بعد هذه الحياة، فرأت أن الروح تنتقل من جسد إلى جسد، فتنال جزاءها فيه، فإن كانت الروح خيّرة حلت في جسد تجد فيه راحة ونعيما، وإن كانت آثمة حلّت في جسد تلقى فيه البلاء والمشقة، وهذه الطائفة القائلة بالتناسخ تنكر أن تكون هناك حياة أخرى يلقى فيها الإنسان جزاءه (2)، ولكن نقول في الرد عليها بأنه لا بدّ من دار يجازى فيها المحسن والمسيء، فيطمئن المحسن إلى إحسانه، ويشقى المسيء بإساءته، وهذا هو منطق العدل الإلهي الذي يؤمن به العقل، وترتاح له النفس.
وشبه الفلاسفة الطبيعيين، وأهل التناسخ المنكرين تردّها الأدلة العقلية والنقلية التي تثبت اليوم الآخر، وتقرر الجزاء والحساب، «فالبعث في نظر القرآن أمر لا بدّ منه يسوّى فيه حساب المحسنين والمسيئين بعد هذه الدنيا، وقد فرض العقل الإنساني التناسخ فرضا، واعتسفه اعتسافا، وتقبّله وآمن به وليس بين يديه شاهد يشهد له، أو دليل يدلّ عليه، وما ذاك إلا أنّه رأى الحياة الدنيا لا تضع موازين العدل بين الناس، ولا تأخذ للمظلوم حقه من ظالمه» (3).
__________
(1) عبد الكريم الخطيب تفسير القرآني للقرآن ج 2ص 949.
(2) نفسه ج 2ص 955954.
(3) نفسه ج 2ص 956.(1/124)
وقد ردّ القرآن الكريم ردا مقنعا على منكري البعث والجزاء، وبسط الأدلة والبراهين ما يكفي لإقامة الحجة على كل مكابر ومعاند (1) وردّ على كل الأسئلة والشبه التي أثارها المنكرون، وكانت غايته هي مزج هذه العقيدة بالعقول والقلوب.
ومن جملة الأسئلة التي أثارها بعض المنكرين هي لماذا لا يجعل الله الجزاء للإنسان في هذه الحياة الدنيا حتى يكون أثره ظاهرا في الحياة أمام الناس تتمثل فيه الموعظة والعبرة، ويحصل به النفع لما يظهر من جزاء أمام العيان، وقد أجاب الله سبحانه عن هذا السؤال بقوله: {وَلَوْ يُؤََاخِذُ اللََّهُ النََّاسَ بِمََا كَسَبُوا مََا تَرَكَ عَلى ََ ظَهْرِهََا مِنْ دَابَّةٍ وَلََكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى ََ أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذََا جََاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللََّهَ كََانَ بِعِبََادِهِ بَصِيراً} [فاطر: 45]، وقال أيضا: {وَلَوْ يُعَجِّلُ اللََّهُ لِلنََّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجََالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ فَنَذَرُ الَّذِينَ لََا يَرْجُونَ لِقََاءَنََا فِي طُغْيََانِهِمْ يَعْمَهُونَ} [يونس: 11].
لقد شاءت إرادة الله أن يكون الجزاء أخرويا في الأجل المسمى الذي وعد الله به عباده، ولا يخلف الله الميعاد، وأن يكون هناك حساب وعقاب، وجنّة ونار، ولا قيمة لكل تلك الأصوات المنادية بتعجيل الجزاء في هذه الدنيا.
«إن الإنسان وهكذا شاء الله له ليس مخلوقا لهذه الدنيا وحدها وليست حياته كحياة الحيوان تنتهي على هذه الأرض بنهاية عمره فيها، وإنما الإنسان في منزلة هي عند الله أكرم وأشرف مما على هذه الأرض من كائنات، إنه خليفة الله على هذه الأرض، فإذا أدى مدة خلافته فيها انتقل إلى عالم آخر غير هذا العالم، ونزل دارا أخرى غير هذه الدار هي أخلد وأبقى.
وليس الموت الذي ينزل بالناس إلا وقفة على طريق الحياة الأبدية واستعدادا لدخول عالم جديد غير هذا العالم الذي كانوا فيه وإذا كانت هناك
__________
(1) زاهر عوض الألمعي مناهج الجدل في القرآن ص 314وما بعدها.(1/125)
حياة أخرى، فمن الطبيعي أن ينقل إليها الإنسان بما حصّل في حياته الأولى، وما جمع من خير أو شر، وعمل من حسن أو قبيح، فانتقال الإنسان من هذه الدنيا لا يقطعه عما كان له فيها من عمل، بل إن عمله كله سيصحبه إلى عالمه الجديد كما ينتقل من بيت إلى بيت، ومن بلد إلى بلد نقلة إقامة واستقرار» (1).
وإن العقل ليدرك أنّ الإنسان لا يمكن أن تتّسع دنياه لكل ما صنع وغرس، وأنه لا بدّ له من حياة وراء هذه الحياة يجني فيها ما غرس في حياته الدنيا، ومن هنا فقد جعلت الشريعة الإسلامية للناس أن يحيوا حياتين معا الحياة الدنيا، والحياة الآخرة، وأن يعملوا لهما جميعا (2).
فالبعث الأخروي، والجنة والنار في نظر القرآن أمر لا بدّ منه، بل إنه يعد الآخرة الحياة الحقيقة التي سيحياها الإنسان، قال تعالى: {وَمََا هََذِهِ الْحَيََاةُ الدُّنْيََا إِلََّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدََّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوََانُ لَوْ كََانُوا يَعْلَمُونَ} [العنكبوت: 64]، قال الزمخشري (538هـ) في تفسير الآية: «أي ليس فيها حياة مستمرة دائمة خالدة لا موت فيها فكأنها في ذاتها حياة» (3).
ونعود الآن بعد أن استعرضنا أهمية عقيدة البعث والجزاء في التصور الإسلامي، وبيّنا موقف المنكرين وأهل التناسخ من هذه العقيدة، وكيف ردّ القرآن الكريم عليهم في إثبات هذه العقيدة، نعود الآن إلى النظرة العامة للقرآن الكريم إلى هذا الموضوع وهجم المادة المعروضة فيه، وطريقة عرضها.
لقد ذكر في السابق أنّ القرآن الكريم يهتم اهتماما كبيرا بتقرير حقيقة البعث والجزاء، والجنّة والنار، وهدف إلى ترسيخ هذه العقيدة في القلوب،
__________
(1) عبد الكريم الخطيب التفسير القرآني للقرآن ج 2ص 946945.
(2) عبد الكريم الخطيب التفسير القرآني للقرآن ج 2ص 949948.
(3) الكشاف ج 3ص 463.(1/126)
«فالحساب في اليوم الآخر ضروري حتى تعرف كل نفس ما قدّمت من خير أو شر، وعلى قدر هذا الخير أو الشر الذي سلكته يكون حسابها» (1).
والحقيقة أن القرآن الكريم أراد أن يؤكد في أذهان البشر حقيقة واقعة عن الجنة ومتعها ونعيمها وأحوالها، وعن النار وعذابها وشدّتها وأهوالها، حتى يتسنّى للإنسان أن يقف على صورة قريبة من ذلك، ولا بدّ أن تكون هذه الصورة من جنس ما يعرفه، وأن يكون التشبيه من واقع ما يعمله، وأن يكون المثل مما مرّ به (2).
ويأخذ النعيم والعذاب، والجنة والنار حيزا كبيرا في القرآن الكريم فمشاهد القيامة تتوزع في معظم سور القرآن، وإن كانت كثرتها بالسور المكية، وقد تحتوي السورة الواحدة أكثر من مشهد واحد، يطول أو يقصر تبعا للغرض الديني في السياق» (3).
فحجم المادة المعروضة إذن كبير جدا، وذلك لأهمية هذا الموضوع وقيمته في التصور الإسلامي ونظرته إلى الكون والحياة والإنسان وعلاقتهم بالله سبحانه، قال سيد قطب: «لقد عني القرآن بمشاهد القيامة: البعث والحساب، والنعيم والعذاب، فلم يعد ذلك العالم الآخر الذي وعده الناس بعد هذا العالم الحاضر، موصوفا فحسب، بل عاد مصوّرا محسوسا، وحيا متحركا، وبارزا شاخصا، وعاش المسلمون في هذا العالم عيشة كاملة، رأوا مشاهده، وتأثروا بها، وخفقت قلوبهم تارة، واقشعرّت جلودهم تارة، وسرى في نفوسهم الفزع مرة، وعاودهم الاطمئنان أخرى، ولفحهم من النار شواظ، ورف إليهم من
__________
(1) محمد أحمد عبد القادر عقيدة البعث والآخرة في الفكر الإسلامي ط دار المعرفة الجامعية ص 42.
(2) التهامي نقرة عقيدة البعث في الإسلام ط 2دار القلم: تونس ص 110.
(3) سيد قطب مشاهد القيامة في القرآن ط 2دار المعارف: مصر ص 10.(1/127)
الجنّة نسيم، ومن ثم باتوا يعرفون هذا العالم تمام المعرفة قبل اليوم الموعود» (1).
وهذا الذي يشير إليه سيد قطب من أنّ طريقة التصوير من أبرز طرق العرض لمشاهد القيامة، فقد عرضت بهذه الطريقة حيّة منتزعة من عالم الأحياء، وإنها حاضرة اليوم تراها العين، وتحسّها النفس، والأمثلة على ذلك كثيرة في كتاب «مشاهد القيامة في القرآن»، ونضيف إلى ذلك أن طريقة التصوير ليست هي الطريقة الوحيدة في عرض مشاهد الجزاء الأخروي بل هناك طريقة التقابل حين يعرض الشيء وما يقابله، فيعرض النعيم وما يقابله من عذاب، وتعرض مشاهد الجنة وما يقابلها من مشاهد النار، وتعرض النماذج البشرية المتقابلة، كل فريق له صفات ووجهة متوجه إليها، وهذه الطريقة حاسمة في أداء المعاني، وعرض الأغراض.
ومن أمثلة ذلك في القرآن الكريم قوله تعالى: {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمََانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذََابَ بِمََا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (106) وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَتِ اللََّهِ هُمْ فِيهََا خََالِدُونَ} [آل عمران: 107106]، ففي هذا المشهد نرى منظرا متقابلا، نرى وجوها مسودّة ووجوها مبيضّة، ولا بد أننا نعرف الآن لمن الوجوه المسودة ولمن الوجوه المبيضة، وهو مشهد حسي، ولكنّه منبعث عن تأثر نفسي ألقى ظلّه على الوجوه فابيضّت، وعلى تلك الوجوه فاسودّت (2)، وطريقة المقابلة حاسمة في عرض الصورتين المختلفتين لأهل الجنّة وأهل النار، وفي ذلك تمييز واضح بين الفريقين، ويجازي الله كل فريق بما يستحق من جزاء أو عقاب.
__________
(1) نفسه ص 38.
(2) سيد قطب مشاهد القيامة في القرآن ص 204.(1/128)
وقال تعالى: {وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى ََ جَهَنَّمَ زُمَراً حَتََّى إِذََا جََاؤُهََا فُتِحَتْ أَبْوََابُهََا وَقََالَ لَهُمْ خَزَنَتُهََا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيََاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقََاءَ يَوْمِكُمْ هََذََا قََالُوا بَلى ََ وَلََكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذََابِ عَلَى الْكََافِرِينَ (71) قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوََابَ جَهَنَّمَ خََالِدِينَ فِيهََا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (72) وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً حَتََّى إِذََا جََاؤُهََا وَفُتِحَتْ أَبْوََابُهََا وَقََالَ لَهُمْ خَزَنَتُهََا سَلََامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهََا خََالِدِينَ (73) وَقََالُوا الْحَمْدُ لِلََّهِ الَّذِي صَدَقَنََا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشََاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعََامِلِينَ} [الزمر: 7471].
هذه الآيات كما هو ملاحظ قائمة على المقابلة بين صورتين من صور الجنة والنار، ففي الصورة الأولى يتوجه الفريق الأول إلى النار {وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى ََ جَهَنَّمَ زُمَراً} يتوجهون إليها وتفتح لهم أبواب النار بسرعة، وتذكّرهم خزنة النار بما حدث لهم في الدنيا من تكذيب الرسل، ويعترفون هم باستحقاقهم للنّار والعذاب، أما في الصورة الثانية فقد وجه الفريق الثاني إلى الجنة حتى إذا وصلوا إليها استقبلهم خزنتها بالسلام والثناء {سَلََامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهََا خََالِدِينَ} وتكلمت ألسنتهم بالحمد والدعاء {الْحَمْدُ لِلََّهِ الَّذِي صَدَقَنََا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشََاءُ}.
ونماذج هذا التقابل بين الجنّة والنار، كثيرة جدا في القرآن الكريم، ولا يمكن استيعابها في هذا الموضوع وقد اكتفينا بعرض مثالين فقط، وسوف نعرض بعض الأمثلة من سورة التوبة فيما سيأتي من بيان.
قال تعالى في سورة التوبة: {وَعَدَ اللََّهُ الْمُنََافِقِينَ وَالْمُنََافِقََاتِ وَالْكُفََّارَ نََارَ جَهَنَّمَ خََالِدِينَ فِيهََا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللََّهُ وَلَهُمْ عَذََابٌ مُقِيمٌ} [التوبة: 68]، وقال في مقابل ذلك: {وَعَدَ اللََّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنََاتِ جَنََّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهََارُ خََالِدِينَ فِيهََا وَمَسََاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنََّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوََانٌ مِنَ اللََّهِ أَكْبَرُ ذََلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة: 72].(1/129)
في الآيتين صورتان من صور التقابل بين النعيم والعذاب، والجنّة والنار، فالآية الأولى تعد المنافقين والكفار وعيدا سيئا هو النار، أما الآية الثانية فتعد المؤمنين وعدا حسنا هو الجنة، وما فيها من نعيم مقيم، بل إنّ الله تعالى أضاف لهم على غرار الجنّة رضوانه بما يسعد نفوسهم ويفرح قلوبهم.
ويستفاد من الآيتين أن الله سبحانه ولحكمة يراها هو أجّل العذاب للكفار والمنافقين ومن لفّ لفهم من الحياة الدنيا إلى الآخرة، وأجّل النعيم الكامل للمؤمنين كذلك من الحياة الدنيا إلى الآخرة، وفي ذلك كمال العدل والإنصاف، فالمنافقون والكفار استحقّوا عذاب الله بما صدر منهم من كفر بالله، ومحاربة لله ورسوله، وأمر بالمنكر ونهي عن المعروف، وتخلف عن الجهاد في سبيل الله، أما الطرف الآخر وهم المؤمنون فقد استحقوا نعيم الله بما وفقهم الله إلى إيمان به وبرسوله، وباتباعهم أوامر الله، وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر، وقيامهم بمقتضيات التوحيد المحض في أتم صوره.
وطريقة المقابلة التي يختارها السياق القرآني هنا هي التي أبرزت هذه المعاني، وأقامت الأشياء على أساس من الضديّة للتمييز بين مصير الحق، ومصير الباطل في اليوم الآخر.
وقال تعالى: {لََكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جََاهَدُوا بِأَمْوََالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَأُولََئِكَ لَهُمُ الْخَيْرََاتُ وَأُولََئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (88) أَعَدَّ اللََّهُ لَهُمْ جَنََّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهََارُ خََالِدِينَ فِيهََا ذََلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (89) وَجََاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرََابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللََّهَ وَرَسُولَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذََابٌ أَلِيمٌ} [التوبة: 9088].
تتحدث هذه الآيات عن صنفين متقابلين من الناس، ولكلّ صنف طبيعته وجزاؤه، أمّا الصنف الأول من الناس، فهو الرسول والذين آمنوا معه الذين نهضوا بتكاليف العقيدة، وادّعوا واجب الإيمان، وعملوا للعزّة التي لا تنال بالقعود بل بالجهاد والقتال، فهؤلاء وعدهم الله بأنّ لهم الخيرات، خيرات
الدنيا والآخرة، في الدنيا لهم العزة ولهم الكرامة ولهم المغنم ولهم الكلمة العالية وفي الآخرة لهم الجزاء الأوفى، ولهم رضوان الله الكريم {وَأُولََئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (1).(1/130)
تتحدث هذه الآيات عن صنفين متقابلين من الناس، ولكلّ صنف طبيعته وجزاؤه، أمّا الصنف الأول من الناس، فهو الرسول والذين آمنوا معه الذين نهضوا بتكاليف العقيدة، وادّعوا واجب الإيمان، وعملوا للعزّة التي لا تنال بالقعود بل بالجهاد والقتال، فهؤلاء وعدهم الله بأنّ لهم الخيرات، خيرات
الدنيا والآخرة، في الدنيا لهم العزة ولهم الكرامة ولهم المغنم ولهم الكلمة العالية وفي الآخرة لهم الجزاء الأوفى، ولهم رضوان الله الكريم {وَأُولََئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (1).
أما الصنف الثاني من الناس فهم المنافقون الذين كفروا بالله وناصبوه العداوة والبغضاء، وتخلّفوا عن الجهاد مع الرسول صلى الله عليه وسلم، هؤلاء ينتظر الذين كفروا منهم عذاب أليم، أما الذين يتوبون ولا يكفرون فمسكوت عنهم لعلّ لهم مصيرا غير هذا المصير.
وطريقة العرض في الآيات تعتمد على المقابلة بين الجنّة ونعيمها والنّار وعذابها، فقد قابلت بين الجنة وما أعدّ الله فيها للرسول والذين آمنوا معه والذين قاموا بتكاليف العقيدة، وبين النار وما أعدّ الله للمنافقين الكفار الذين كفروا بالله وتخلّفوا عن الجهاد.
* * * __________
(1) سيد قطب في ظلال القرآن ج 3ص 1685.(1/131)
الفصل الرابع المقابلة وقضايا السياسة والاقتصاد
أالمقابلة بين الجهاد والقعود عنه:
الجهاد في اللغة من الجهد والجهد وهو الطاقة والمشقة (1)، وهو مصدر جاهد جهادا ومجاهدة إذا بالغ في قتل عدوه، وفي الاصطلاح: هو بذل الجهد في مدافعة الشرّ واستجلاب الخير، وعند ما يطلق الجهاد يتجه إلى الجهاد في المعركة بالنفس والمال (2).
وقال ابن تيمية رحمه الله (728هـ): «الجهاد هو بذل الوسع وهو القدرة في حصول محبوب الحقّ، ودفع ما يكرهه الحق»، وقال في موضع آخر:
«وذلك لأن الجهاد حقيقته الاجتهاد في حصول ما يحبّه الله من الإيمان والعمل الصالح، ومن دفع ما يبغضه الله من الكفر والفسوق والعصيان» (3).
والجهاد في سبيل الله فرض من فروض الشريعة الإسلامية، وهو وسيلة من وسائل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهو ذروة سنام الإسلام، وهو من أخصّ ما تتميّز به الأمة الإسلامية، «فبه رسخت دعائم دعوة الإسلام، وانتشرت في أرجاء المعمورة، واندحرت جحافل الشرك، وبلغت هذه الأمة ذروة المجد، وتسنّمت قمة العزة، ورهبها القاصي والداني، وأقامت شريعة الله في أرضه، وبنت الحضارة المثالية الفاضلة التي لا تعهد لها البشرية مثيلا» (4).
__________
(1) الفيروزآبادي بصائر ذوي التمييز ج 2ص 401.
(2) أحمد شلبي الجهاد والنظم العسكرية في التفكير الإسلامي ط 2مكتبة النهضة الإسلامية: القاهرة 1974م ص 23.
(3) الفتاوى ج 10ص 192191.
(4) ينظر عبد الله القادري الجهاد في سبيل الله ط 1دار المنارة: 1985م ج 1ص 8.(1/133)
لقد حفل القرآن الكريم بالدعوة إلى الجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، قال تعالى: {وَجََاهِدُوا فِي اللََّهِ حَقَّ جِهََادِهِ هُوَ اجْتَبََاكُمْ وَمََا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78]، وقال تعالى أيضا: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولََئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [آل عمران: 104].
قال ابن قيم الجوزية رحمه الله (751هـ) «فحقّ جهاده أن يجاهد العبد نفسه ليسلم قلبه ولسانه وجوارحه لله ليكون كلّه لله وبالله لا لنفسه ولا بنفسه، ويجاهد شيطانه بتكذيب وعده ومعصية أمره، وارتكاب نهيه، فإنه يعد الأماني ويمني الغرور، ويعد الفقر، ويأمر بالفحشاء، وينهى عن التقى والهدى والعفة والصبر والأخلاق والإيمان كلّها، فجاهده لتكذيب وعده ومعصية أمره، فينشأ من هذين الجهادين قوة وسلطان، وعدّة يجاهد بها أعداء الله في الخارج بقلبه ولسانه ويده وماله لتكون كلمة الله هي العليا» (1).
وقال ابن تيمية (728هـ) في هذا المعنى: «إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإتمامه بالجهاد هو من أعظم المعروف الذي أمرنا الله به: ولهذا قيل: ليكن أمرك بالمعروف ونهيك عن المنكر غير منكر، وإذا كان هو من أعظم الواجبات والمستحبات، فالواجبات والمستحبات لا بدّ أن تكون المصلحة فيها راجحة على المفسدة إذ بهذا بعثت الرسل ونزلت الكتب، والله لا يحب الفساد بل كل ما أمر به فهو الصلاح، وقد أثنى الله على الصلاح والمصلحين والذين آمنوا وعملوا الصالحات، وذم المفسدين في غير موضع» (2).
ولأهمية الجهاد في الشريعة الإسلامية فقد وردت آيات كثيرة تحثّ الناس عليه، وتحذّر من القعود عنه، وفي القرآن أيضا آيات وفصول كثيرة فيها إسهاب تارة واقتضاب تارة أخرى في صدد الوقائع الجهادية، ولكن الأسلوب المميّز
__________
(1) زاد المعاد ج 3ص 8.
(2) الفتاوى ج 28ص 126.(1/134)
لها جميعها هو عدم قصد سرد الوقائع سواء من حيث الكليات أو من حيث الجزئيات وإنّما هدفت إلى التنبيه والموعظة والتهدئة والتسلية والتنديد والحثّ حسب مقتضى ظروف الوقائع ومقتضى حكمة التنزيل، وفيها معالجات روحية وتلقينات بليغة مستمرة المدى للمسلمين في كل ظرف (1).
واهتمام القرآن بهذا الموضوع له طابع الدعوة إلى الممارسة التطبيقية، والسلوك العملي، ولا يعطي القرآن أي اهتمام إلى الجدل حول الماهيات وحدود المصطلحات، بل هو مهتم بكل ما يراه مصلحة للعباد في دينهم وأمور دنياهم، وهذا الموضوع هو من أركان الإسلام الأساسية في سبيل تحقيق مقتضى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
لقد شرع الله تعالى الجهاد لإخراج الناس من الظلمات إلى النور من جهة، ولتكون كلمة الله هي العليا من جهة ثانية، ولحماية المسلمين من أن يفتنوا في دينهم، أو تستباح حرماتهم وتحتل أرضهم من جهة ثالثة، وكل هذه الأمور يجب أن تستمر إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، ولا يمكن استمرار تحقيقها إلا باستمرار الجهاد في سبيل الله (2).
إنّ غاية الجهاد هي لتحقيق الوحدانية ومقتضياتها في الأرض، ونشر الخير والعدل وإقامة موازين الحق بين الناس، قال تعالى: {وَقََاتِلُوهُمْ حَتََّى لََا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلََّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلََا عُدْوََانَ إِلََّا عَلَى الظََّالِمِينَ} [البقرة: 193]، وهذه الآية بيّنت الغاية من القتال والجهاد وهي ألا يوجد شيء من الفتنة في الدين (3)، وهذه الفتنة هي سبب كل شرّ أو مكروه يقع الناس فيه.
__________
(1) محمد دروزة الجهاد في سبيل الله في القرآن والحديث ط دار اليقظة: دمشق 1975م ص 181.
(2) ينظر عبد الله القادري الجهاد في سبيل الله ص 107.
(3) محمد رشيد رضا تفسير المنار ج 2ص 211.(1/135)
وقد أثار المستشرقون وأعداء الإسلام شبهات كثيرة حول الجهاد وعدوه من أسباب الضرر والفساد في الأرض، وعدّوه تعديا على الناس بالسيف وحملهم بالإكراه على اعتناق الإسلام، وكيف وظاهر الإسلام وباطنه جميعا سلم وسلام، فاسمه «الإسلام» مشتق من السلام والسلامة والسلم، وشارات التحية بين أتباعه، ومن أتباعه السلام والرحمة والبركة، أما شريعته وأحكامه فكلها قائمة على اليسر والرحمة والسلام بين الإنسان ونفسه، وبينه وبين الناس جميعا، وحقا إن الإسلام قد دعا أتباعه إلى الحذر من العدو، والإعداد للحرب، والأخذ بأسباب القوة، وذلك لأن الإسلام دين واقعي، يعايش الحياة في أعدل أحوالها، ويستقي من أعذب عيونها، وأصفى مواردها، وليس مجرد أحكام ومقررات نظرية، يتمثلها الناس ولا يحققونها، ويتصورونها ولا يتعاملون بها، أشبه بما وقع في تصورات الفلاسفة وخيالات الشعراء أن يتعدّ بها أصحابها في أحلام يقظتهم، فإنهم لم يمسكوا منها بشيء إذ هم فتحوا أعينهم على الحياة وواقعها (1).
ويمكن أن نرد على أولئك الرافضين لفكرة الجهاد التي جاء بها الإسلام وحثّ عليها القرآن بأن نقول: إن قولكم بأن الإسلام دين قائم على السيف «دعوى كاذبة مضلة يراد بها النيل من المسلمين ودولتهم كما يراد بها النيل من الإسلام وشريعته إنّها دعوة خبيثة مسمومة، يراد بها أن تنهزم في نفس المسلم معاني العزّة والقوة، لأنه إن أراد أن يسقط تلك الدعوى الباطلة، ويدفع هذه التهمة الظالمة، كان أقرب سبيل إليه هو أن يتجرد من كل سلاح، وأن يتعرى من كل قوة وما حاجته إلى السلاح إن كان السلاح سبّة تدين دينه، وتريه منه أنّه دين بداوة وهمجية، وشريعة غاب، يحكم مجتمعها التناطح بالقرون، والتقاتل بالمخاطب والأنياب» (2).
__________
(1) عبد الكريم الخطيب التفسير القرآني للقرآن ج 2ص 653.
(2) عبد الكريم الخطيب التفسير القرآني للقرآن ج 2ص 656.(1/136)
ونضيف على ذلك بأن «المرء مهما كانت نحلته وهواه حينما يتمعّن في ما جاء في مبادئ الجهاد الإسلامي وإجرائياته وأهدافه الرامية إلى ضمان الدعوة إلى دين الله، وسبله القويمة ومنع تعطيلها والدفاع عن المنضوين إليها والمقصورة على مقابلة المعتدين عليها وعليهم بالمثل، مع منح كل إنسان حرية الاحتفاظ بدينه وممارسته لطقوسه وسائر أشغاله المشروعة بدون عدوان على الآخرين، والآمرة بعدم مبادأة أحد بالعدوان بسبب دينه وتصرفاته المشروعة البريئة من الظلم والبغي، وبالكفّ عن كل من كفّ لسانه ويده عن الإسلام والمسلمين وبقبول ظواهر المسالمة منه، وبالجنوح إلى السلم مع من يجنح إليها من الأعداء المحاربين، سواء كان ذلك قبل نشوب حرب معهم أو بعدها، وبالكف عن كل من ينتهي من موقف عدائه بالإسلام أو بالخضوع أو بالصلح وبالعفو عن كل ما يرتكبه العدو إذا ما انضوى إلى الإسلام واعتباره أخا للمؤمنين، وبالوفاء بالعهد وعدم الغدر فيه، وبدعوة الأعداد إلى الإسلام أو الخضوع أو الصلح قبل انشاب الحرب معهم، وبعدم قتل غير المحاربين من نساء وأطفال وشيوخ، وبعدم التمثيل بالقتلى وبعدم قصد الغنائم ونهب الأموال في انشاب الحرب مع الأعداء، وعدم إجبار أحد بذلك على الدخول في الإسلام، وبعدم قصد الإبادة والاكتفاء بالإثخان والاستعاضة عن القتال بالاستعداد والإرهاب وبإطلاق سراح أسرى الحرب بالمن والفداء دون إيجاب قتلهم واسترقاقهم الخ مما هو ملموح في آيات القرآن وأحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم، ثم يتمعن فيما قامت عليه حروب بني إسرائيل من المبادئ المسجلة في أسفارهم التي تعتبر كل من عداهم أعداء يحل لهم دماءهم وأموالهم واستعبادهم بدون سابق عداء واستفزاز وعدوان» (1).
__________
(1) محمد عزة دروزة الجهاد في سبيل الله في القرآن والحديث ص 179178.(1/137)
إن الجهاد في القرآن وفي الشريعة بعامة له غاياته السامية وأهدافه النبيلة في تحرير الإنسان من عبادة البشر أو الأوضاع، إلى عبادة الله وحده، وهو من مقتضيات الصراع بين الخير والشر في هذه الأرض.
لقد أقام الله الحياة على المقابلة الكبرى بين الحق والباطل، وجعل الصراع بينهما سنّة من سنن الله الاجتماعية، تمحيصا لأهل الحق ودحضا للباطل وأهله، وصيانة لمتعبدات الدين حتى تظل راية التوحيد عالية خفّاقة يستظل بها المؤمنون بالله، ويجدون في كنفها أمن النفس، وراحة القلب، ومتعة الإيمان (1).
فمن الحكمة ومن الواجب إذن أن يقيم الإسلام أتباعه في الحياة على طريق بين الخير والشر، وهم في هذا الطريق مدعوون للتعامل مع الخير، ثم هم في الوقت نفسه مطالبون بتجنّب الشر والأشرار، وأخذ حذرهم منه، ومنهم جميعا (2).
والجهاد هو الوسيلة الفعّالة لإحقاق الحق ودحض الباطل، «فالحق يحتاج إلى من يظهره بأنه حق، وإذا كان كل ما عدّ الحق باطلا وضلالا فإن الأصل الذي تقرره العقول أن تتعاون البشرية كلها على إظهار الحق وهيمنته وعلى طرد الباطل والضلال، لأن سعادة الخلق في ظهور الحق وهيمنته في الأرض، وشقاءهم في ظهور الضلال والباطل وهيمنتهما، ولو أن أغلب الناس تعاونوا على إظهار الحق وطرد الباطل لذابت القلة الضالة واضمحلّ شرّها» (3).
وإظهار الحق ودحض الباطل لا يظهران إلا بالجهاد ووسائل الدعوة والإقناع وإلا رجحت كفة الباطل وأهله، وأصبحت الحياة خاضعة لسلطانه وسلطان أوليائه من البشر والطواغيت. قال ابن تيمية رحمه الله (728هـ):
__________
(1) عبد الله القادري الجهاد في سبيل الله ص 8.
(2) عبد الكريم الخطيب التفسير القرآني للقرآن ج 2ص 653.
(3) عبد الله القادري الجهاد في سبيل الله ص 556.(1/138)
«إذ كان أصل القتال المشروع هو الجهاد ومقصوده هو أن يكون الدين كله لله، وأن تكون كلمة الله هي العليا، فمن امتنع من هذا قوتل باتفاق المسلمين» (1)، وقال أيضا: «وكلمة الله اسم جامع لكلماته التي تضمنها كتابه، وهكذا قال تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنََا رُسُلَنََا بِالْبَيِّنََاتِ وَأَنْزَلْنََا مَعَهُمُ الْكِتََابَ وَالْمِيزََانَ لِيَقُومَ النََّاسُ بِالْقِسْطِ} [الحديد: 25] فالمقصود من إرسال الرسل وإنزال الكتب أن يقوم الناس بالقسط في حقوق الله وحقوق خلقه، ثم قال تعالى: {وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنََافِعُ لِلنََّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللََّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ} [الحديد: 25] فمن عدل عن الكتاب قوّم بالحديد، ولهذا كان قوام الدين بالمصحف والسيف، وقد روي عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نضرب بهذا يعني السيف من عدل عن هذا يعني المصحف» (2).
وأهمية الجهاد في سبيل الله ليست خاصية القرآن وحده بل هي من خصائص الكتب المنزّلة أيضا، قال تعالى: {إِنَّ اللََّهَ اشْتَرى ََ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوََالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقََاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللََّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرََاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفى ََ بِعَهْدِهِ مِنَ اللََّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بََايَعْتُمْ بِهِ وَذََلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة: 111].
فقد ذكرت الآية الكريمة أن الجهاد من صفات المؤمنين في كل الأزمان وعلى مر العصور، وأنه وعد مكتوب في الكتب السماوية المنزّلة، وهذا الوعد هو صفقة بين الله والمؤمنين، سلعتها الجنة، وبائع السلعة الله الخالق المعبود، ومشتريها المؤمنون، وثمنها الأنفس والأموال لمقارعة أعداء الله في كل زمان ومكان، وقد سجّل كل هذا في الكتب السماوية وفي القرآن الكريم، وهو أمر باق إلى يوم القيامة.
__________
(1) الفتاوى ج 28ص 354.
(2) الفتاوى ج 28ص 264263.(1/139)
ونمضي الآن مع سورة التوبة لدراسة طريقة استخدامها لأسلوب المقابلة في عرض قضية الجهاد وما يقابله من قعود وتخلف عنه، قال تعالى:
{أَجَعَلْتُمْ سِقََايَةَ الْحََاجِّ وَعِمََارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرََامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللََّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجََاهَدَ فِي سَبِيلِ اللََّهِ لََا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللََّهِ وَاللََّهُ لََا يَهْدِي الْقَوْمَ الظََّالِمِينَ (19) الَّذِينَ آمَنُوا وَهََاجَرُوا وَجََاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللََّهِ بِأَمْوََالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللََّهِ وَأُولََئِكَ هُمُ الْفََائِزُونَ} [التوبة: 2019].
هذه الآيات تقابل في مضمونها بين الجهاد والقعود عنه، وبين المؤمنين المجاهدين وفضلهم عند الله، وبين المتخلّفين الذين اعتبروا المساجد وخدمة الحجيج أفضل أجرا وأحسن عملا عند الله، وقبل الحديث عن أسلوب التقابل لا بد أن نتحدث عن القيم الدينية والمعنوية التي أفرزها هذا الأسلوب في الأداء، فأول قيمة دينية أنه لا وجه للمقابلة بين الجهاد وبين أيّ عمل آخر حتى ولو كان عملا متعلقا ببيت من بيوت الله هو أفضل البيوت عنده، وأفضل خدمة عنده وهي خدمة الحجيج، قال ابن قيم الجوزية (751هـ): «فأخبر سبحانه وتعالى أنه لا يستوي عنده عمّار المسجد الحرام، وهم عمّاره بالاعتكاف والطواف والصلاة، هذه هي عمارة مساجده المذكورة في القرآن، وأهل سقاية الحاج، لا يستوون هم وأهل الجهاد في سبيل الله، وأخبر أن المجاهدين أعظم درجة عنده، وأنهم هم الفائزون، وأنهم أهل البشارة بالرحمة والرضوان والجنات، فنفى التسوية بين المجاهدين وعمّار المسجد الحرام مع أنواع العبادة، مع ثنائه على عمّاره بقوله: {إِنَّمََا يَعْمُرُ مَسََاجِدَ اللََّهِ مَنْ آمَنَ بِاللََّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقََامَ الصَّلََاةَ وَآتَى الزَّكََاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللََّهَ فَعَسى ََ أُولََئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ} [التوبة: 18] فهؤلاء هم عمّار المساجد ومع هذا فأهل الجهاد أرفع درجة عند الله منهم» (1).
لقد قابلت الآيات بين المؤمنين المجاهدين والقاعدين المتخلفين، وبعد هذه المقابلة جاء نفي التسوية بينهما في ميزان الحق والعدل، و «لما كان نفي
__________
(1) طريق الهجرتين ط قطر ص 623.(1/140)
استواء الفريقين ونفي اهتداء الظالمين إلى الحكم الصحيح في موضوع المفاضلة بينهما وإن اقتضيا بمعونة السياق تفضيل فريق المؤمنين المجاهدين على فريق السدنة والسقائين لا يعرف أحد كنه هذا الفضل ولا درجة أهله عند الله تعالى وكان ذلك مما يتشرف له التالي والسامع بيّنه تبارك اسمه بيانا مستأنفا يتضمن الرد على المؤمنين الذين تنازعوا في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم أي الأعمال بعد الإسلام أفضل فقال: {الَّذِينَ آمَنُوا وَهََاجَرُوا وَجََاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللََّهِ بِأَمْوََالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللََّهِ} أي أعظم درجة وأعلى مقاما في الفضل والكمال في حكم الله، وأكبر مثوبة في جوار الله من أهل سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام الذين رأى بعض المسلمين أنّ عملهم أفضل القربات بعد هداية الإسلام (1).
والقيمة الأخرى التي يمكن أن تستفاد من المقابلة بين المؤمنين المجاهدين وغيرهم من القاعدين لخدمة المساجد وإعمار البيوت وخدمة الحجيج أن ميزان الله هو الميزان وأن تقديره هو التقدير، فالله يهتم بإخلاص العمل لوجهه الكريم، وأن يكون صوابا موافقا للشرع، وهؤلاء القاعدون لم يكونوا يملكون من نوايا العبادة الخالصة لله شيئا، ولذلك جاءت الموازنة بينهم وبين المؤمنين المجاهدين لتجعلهم في مرتبة أدنى من المرتبة التي ظنّ الناس أنهم بها هم الفائزون، قال سيد قطب: «إنما يتوجّه القلب وتعمل الجوارح، ثم يكافئ الله على التوجه والعمل بالهداية والوصول والنجاح، هذه هي القاعدة في استحقاق عمارة بيوت الله، وفي تقويم العبادات والشعائر على السواء يبيّنها الله للمسلمين والمشركين، فما يجوز أن يسوى الذين كانوا يعمرون الكعبة ويسقون الحجيج في الجاهلية، وعقيدتهم ليست خالصة لله، ولا نصيب لهم من عمل أو جهاد، لا يجوز أن يسوى هؤلاء لمجرد عمارتهم للبيت وخدمتهم للحجيج بالذين آمنوا إيمانا صحيحا وجاهدوا في سبيل الله وإعلاء كلمته {أَجَعَلْتُمْ سِقََايَةَ الْحََاجِّ وَعِمََارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرََامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللََّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجََاهَدَ فِي سَبِيلِ اللََّهِ لََا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللََّهِ} [التوبة: 19].
__________
(1) محمد رشيد رضا تفسير المنار ج 10ص 220219.(1/141)
والآيات كما هو ملاحظ تعتمد على طريقة المقابلة في العرض، فقد قابلت بين نموذجين من النماذج البشرية: النموذج الأول هم أولئك الذين قعدوا عن تكاليف الإيمان والجهاد، واعتبروا أن عمارة المسجد الحرام وخدمة الحجيج هي من أفضل الأعمال عند الله، أما النموذج الثاني فهم المؤمنون المجاهدون الذين أخلصوا عبادتهم لله، فهذان النموذجان المتقابلان تقابل تضاد واختلاف من حيث العمل وإخلاصه، ومن حيث الجزاء والثواب اللذين ينتظرانهما، قال عنهما سبحانه {لََا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللََّهِ} فالمقابلة من هذا الجانب قد أفرزت جانب الحق وميّزته عن الباطل، وجعلت المفاضلة على أساس صحة العمل والإخلاص فيه لوجه الله وحده، وجعلت فضل الجهاد عند الله أفضل من القعود والتخلّف عنه حتى ولو كان لأمر فيه مصلحة كعمارة المساجد وسقاية الحجيج.
قال ابن تيمية رحمه الله (728هـ): «الجهاد سنام العمل وقد انتظم سنام جميع الأحوال الشريفة، ففيه سنام المحبة وفيه سنام التوكل والصبر وفيه الهداية، وفيه حقيقة الزهد في الحياة الدنيا وفي الدار الآخرة وفيه حقيقة الإخلاص، فإن الكلام فيمن جاهد لا في سبيل الرئاسة ولا في سبيل المال ولا في سبيل الحمية، وهذا لا يكون إلا لمن قاتل ليكون الدين كلّه لله، ولتكون كلمة الله هي العليا، وأعظم مراتب الإخلاص تسليم النفس والمال للمعبود» (1).
وقال تعالى في سورة التوبة: {لََا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللََّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يُجََاهِدُوا بِأَمْوََالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَاللََّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (44) إِنَّمََا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لََا يُؤْمِنُونَ بِاللََّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَارْتََابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ (45) وَلَوْ أَرََادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلََكِنْ كَرِهَ اللََّهُ انْبِعََاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقََاعِدِينَ} [التوبة: 4644].
سورة التوبة هي الفاضحة والكاشفة لجميع أنواع النفاق الظاهرة والباطنة، وهذه الآيات في سياق بيان الفرق بينهم وبين المؤمنين في أمر الجهاد.
__________
(1) الفتاوى ج 28ص 442441.(1/142)
والآيات كما هو ملاحظ تعقد مقابلة بين نموذجين من الناس: النموذج الأول هم المنافقون الذين تخلّفوا عن الجهاد وقعدوا عنه، والنموذج الثاني هم المؤمنون الذين جاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم وكانوا مثالا رائعا لأهل الحق والتقوى.
والآيات حين تختار طريقة المقابلة في العرض فذلك لتأدية المعاني والقيم الدينية والفكرية التي تتميّز بها الأشياء، فمن هذه القيم أن المؤمن الصادق يختلف اختلافا كبيرا عن المنافق الكافر حينما يتعلق الأمر بقضايا الجهاد، فمن صفات المؤمن أنه لا يستأذن في الخروج أو القعود كراهة أن يجاهد بل إذا أمره الرسول بشيء ابتدر إليه، وكان الاستئذان في ذلك الوقت علامة النفاق (1) أما المنافق فيفضل الاستئذان والقعود.
وهذه الآيات تقرّر القواعد التي يمتاز بها الفريقان، فريق المؤمنين وفريق المنافقين، فالقاعدة الأولى التي لا تخطئ هي أنّ المؤمنين الذين يؤمنون بالله ويعتقدون بيوم الجزاء لا ينتظر أن يؤذن لهم في أداء فريضة الجهاد ولا يتلكئون في تلبية داعي النفرة في سبيل الله بالأموال والأرباح، بل يسارعون إليها خفافا وثقالا كما أمرهم الله، طاعة لأمره، ويقينا بلقائه وثقة بجزائه وابتغاء رضاه، وإنهم ليتطوعون تطوّعا فلا يحتاجون إلى من يستحثهم فضلا عن الإذن لهم (2)
والقاعدة الثانية التي لا تخطئ أيضا أن المنافقين هم المترددون في الخروج الملتمسون للأعذار لعل عائقا من العوائق يحول بينهم وبين النهوض بواجب الجهاد وفرض الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والسبب في ذلك راجع إلى عدم إيمانهم بالله وخلوّ قلوبهم من التقوى واليقين.
وقال عبد الكريم الخطيب في تفسيره: «الذين يؤمنون بالله واليوم الآخر إيمانا صادقا لا يطلبون الإذن لأنفسهم بالتخلف عن القتال، ذلك أنهم مع
__________
(1) ينظر أبو حيان الأندلسي تفسير البحر المحيط ج 5ص 427.
(2) سيد قطب في ظلال القرآن ج 3ص 1662.(1/143)
الأعذار القائمة معهم لا يجعلون من تلك الأعذار حاجزا يحجزهم عن أخذ حظّهم من الجهاد في سبيل الله، فإذا دعا الداعي إلى الجهاد كانوا في مقدمة المستجيبين له، حتى إذا نطقت حالهم عن أنّهم بهذه الأعذار التي معهم من مرض، أو صغر، أو شيخوخة أو نحو هذا لن يتمكنوا من الانتظام في صفوف المجاهدين رحمة بهم، وتخفيفا من مئونتهم على المسلمين كان ذلك مما يحزنهم، ويبعث الحسرة والأسى في نفوسهم أما الذين في قلوبهم مرض ونفاق، فإنهم لا يعجزهم العثور على العلل والمعاذير التي يقدمونها للنبيّ والمسلمين، لتكون مبررا لتخلّفهم عن الجهاد، فهؤلاء هم الذين يجيئون إلى النبي بأعذارهم الكاذبة ويستأذنونه في التخلف» (1).
إنّ هذه القيم المستفادة من الآيات قد أداها السياق القرآني معتمدا على أسلوب المقابلة الذي أقام تضادا بين نموذجين من النماذج البشرية، كل ذلك لغايات نبيلة هي تمييز الطيّب من الخبيث، والتفريق بين الحق والباطل، وتفضيل الجهاد والمجاهدين، وذم القعود والقاعدين.
وقال تعالى: {وَإِذََا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا بِاللََّهِ وَجََاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُولُوا الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقََالُوا ذَرْنََا نَكُنْ مَعَ الْقََاعِدِينَ (86) رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوََالِفِ وَطُبِعَ عَلى ََ قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لََا يَفْقَهُونَ (87) لََكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جََاهَدُوا بِأَمْوََالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَأُولََئِكَ لَهُمُ الْخَيْرََاتُ وَأُولََئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [التوبة: 8886].
في هذه الآيات مقابلة بين الجهاد والقعود عنه، وفيها «بيان بحالة المنافقين العامة في أمر الجهاد بالمال والنفس الذي هو أقوى آيات الإيمان بالله ورسوله وما جاء به، وما يقابله من حال المؤمنين الصادقين فيه، وما بين الحالين من التضاد في العمل والأثر في القلب اللذين هما مناط الجزاء» (2).
__________
(1) التفسير القرآني للقرآن ج 2ص 783782.
(2) محمد رشيد رضا تفسير المنار ج 10ص 581.(1/144)
قال أبو حيان في «البحر المحيط»: «لما ذكر أن أولئك المنافقين اختاروا الدعة وكرهوا الجهاد، وفرّوا من القتال، وذكر ما أثر ذلك فيهم من الطبع على قلوبهم، ذكر حال الرسول والمؤمنين في المثابرة على الجهاد ما لهم من الثواب» (1).
وهذه الآيات كالتي سبقتها تميّز بين نموذجين من البشر: نموذج المنافقين، ونموذج المؤمنين، وتبين مواقفهم المتباينة تجاه الجهاد وتكاليفه، ولكن هذه الآيات تكشف عن وجه آخر من وجوه المنافقين وتفضح طائفة أخرى من طوائفهم وهم أصحاب الرئاسة والسيادة والقدرة فيهم، هؤلاء المنافقون {إِذََا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا بِاللََّهِ وَجََاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ} أي إذا أنزل قرآن يحمل إلى المؤمنين أمرا من الله سبحانه وتعالى يذكّرهم بالإيمان بالله، ويدعوهم إلى الجهاد مع رسول الله {اسْتَأْذَنَكَ أُولُوا الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقََالُوا ذَرْنََا نَكُنْ مَعَ الْقََاعِدِينَ} أي بادر أصحاب الطول هؤلاء إلى التحلل من هذا الأمر بالاعتذار إلى رسول الله، واستئذانه في أن يعفيهم من إجابة هذه الدعوة، والجهاد في سبيل الله (2).
قال سيد قطب: «إنهما طبيعتان، طبيعة النفاق والضعف والاستخذاء، وطبيعة الإيمان والقوة والبلاء، وإنهما خطتان: خطة الالتواء والتخلف والرضى بالدون، وخطة الاستقامة والبذل والكرامة» (3).
فإذا كان المنافقون وأصحاب الطول فيهم قد نكصوا على أعقابهم ورضوا بأن يكونوا مع الخوالف والقاعدين فإن الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنون جاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله، فهذان طرازان مختلفان تمام الاختلاف وهما متقابلان
__________
(1) تفسير البحر المحيط ج 5ص 480.
(2) عبد الكريم التفسير القرآني للقرآن ج 2ص 861.
(3) في ظلال القرآن ج 3ص 1684.(1/145)
تقابل تضاد في الأصل والموقف والمآل، وقد حرص السياق القرآني على التفريق بين هذين الطرازين في الصفات والأفعال والأقوال كل ذلك لكي يصفي النموذج الإيماني ويهيئه إلى الجزاء الأخروى الذي يستحقه وهو الفوز بالجنة {وَأُولََئِكَ لَهُمُ الْخَيْرََاتُ} خيرات الدنيا والآخرة، في الدنيا لهم العزّة ولهم الكرامة ولهم المغنم ولهم الكلمة العالية، وفي الآخرة لهم الجزاء والرضوان وأولئك هم المفلحون، أما الطراز الآخر وهو النفاق فقد وضّح السياق القرآني طبيعة النفاق والمنافقين، وبيّن الصفات التي يتخلّقون بها، والمواقف المتخاذلة التي يقفونها حين يحين وقت الشدّة، كل هذا لبيان أن طبيعة النفاق متكررة في كلّ عصر وزمان، وأنّها هي سبب الهزيمة والفساد في صفوف الأمة الإسلامية.
وبعد الحديث عن بعض القيم التي تفيدها الآيات نخلص إلى أن هذا السياق القرآني يفضل أسلوب المقابلة في عرض هذه القيم والأفكار فقد جاءت المقابلة واضحة صريحة بين نموذجين متباينين، نموذج النفاق {اسْتَأْذَنَكَ أُولُوا الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقََالُوا ذَرْنََا نَكُنْ مَعَ الْقََاعِدِينَ} ونموذج الإيمان {لََكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جََاهَدُوا بِأَمْوََالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ} وكانت الغاية من عقد هذه المقابلة بيان المعنى في أحسن صوره، وتمييز الحق من الباطل، إذ بعرض الشيء وضدّه تتميّز وتتوضّح الأشياء.
ب المقابلة بين الفقر والغنى:
الفقر والفقر ضد الغنى (1)، والفقير عند العرب: المحتاج، قال تعالى:
{أَنْتُمُ الْفُقَرََاءُ إِلَى اللََّهِ} [فاطر: 15] أي المحتاجون إليه.
وقد ورد لفظ الفقر في القرآن الكريم في أربعة مواضع أحدها قوله تعالى:
{لِلْفُقَرََاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللََّهِ لََا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الْأَرْضِ} [البقرة: 273] أي الصدقات لهؤلاء الذين حبسوا أنفسهم على الجهاد.
__________
(1) ابن منظور لسان العرب مادة (فقر).(1/146)
والموضع الثاني قوله تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقََاتُ لِلْفُقَرََاءِ وَالْمَسََاكِينِ وَالْعََامِلِينَ عَلَيْهََا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقََابِ وَالْغََارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللََّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ} [التوبة: 60]، والموضع الثالث قوله تعالى: {يََا أَيُّهَا النََّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرََاءُ إِلَى اللََّهِ} [فاطر: 15]، والموضع الرابع قوله تعالى: {رَبِّ إِنِّي لِمََا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ} [القصص: 24].
«الصنف الأول: خواص الفقراء، والثاني: فقراء المسلمين خاصهم وعامّهم، والثالث: الفقر العام لأهل الأرض كلّهم غنيهم وفقيرهم، مؤمنهم وكافرهم، والرابع: الفقر إلى الله المشار إليه بقوله: «اللهم أغنني بالافتقار إليك».
والفقراء الموصوفون في الآية الأولى يقابلهم أصحاب الجدة أي الغنى ومن ليس محصرا في سبيل الله، ومن لا يكتم فقرا وضعفا، فمقابلهم أكثر من مقابل الصنف الثاني، والصنف الثاني لا مقابل لهم بل الله وحده الغني، وكل ما سواه فقير إليه» (1).
وأما الصنف الرابع: فهو الفقر إلى الله، وحقيقته ألّا تكون لنفسك ولا يكون لها منك شيء بحيث تكون كلك لله، وهذا الفقر الذي يشيرون إليه لا ينافيه الجدة والأملاك، فقد كان رسل الله وأنبياؤه صلوات الله وسلامه عليهم في ذروة الفقر مع جدتهم وملكهم، كإبراهيم الخليل عليه السلام كان أبا الضّيفان وكانت له الأموال والحواشي، وكذلك كان نبيّنا صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: {وَوَجَدَكَ عََائِلًا فَأَغْنى ََ} [الضحى: 8]، وكانوا أغنياء في فقرهم، فقراء في غناهم (2).
وللفقر أسماء وصفات ورد بعضها في القرآن الكريم والبعض الآخر في كتب اللغة ولا بدّ من الإشارة إلى بعضها فمن ذلك: عدم، حاجة، جلّة، مسكنة، عسرة، ضيقة، عيلة، متربة، خصاصة، إملاق، إعواز، ضر، بؤس، حرمان، مسغبة، مخمصة، إقتار، افتقار، إقواء، سغب (3).
__________
(1) الفيروزآبادي بصائر ذوي التمييز ج 4ص 205204.
(2) الفيروزآبادي بصائر ذوي التمييز ص 206.
(3) جمال علي حسن الفقر في الشعر الجاهلي رسالة الماجستير الجامعة الأردنية 1993م ص 1.(1/147)
وأما الغنى فهو عدم الحاجة بالكلية، وليس ذلك إلا الله تعالى، قال تعالى:
{إِنَّ اللََّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} [لقمان: 26]، ويكون الغنى بعامة بمعنى قلة، وفي هذا المعنى قال تعالى: {وَوَجَدَكَ عََائِلًا فَأَغْنى ََ} [الضحى: 8].
قال الخازن (725هـ): «يعني فقيرا فأغناك بمال خديجة بالغنائم، وقيل:
أرضاك بما أعطاك من الرزق، وهذه حقيقة الغنى، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ليس الغنى عن كثرة العرض، ولكن الغنى غنى النفس» والعرض بفتح العين والراء: المال» (1).
فالفقر وضده الغنى من الثنائيات التي اهتم بها القرآن في بعض آياته، إذ هي من القضايا التي تهمّ الإنسان منذ وجوده على هذه الأرض، وذلك لارتباط حياة الإنسان بمجموعة من الحاجات الضرورية التي يحتاجها في عيشه، وهذه الحاجات لا غنى للإنسان عنها، وقد فطر الله الإنسان على البحث على ما ينفعه ودفع ما يضره، وسخّره وأمدّه بالوسائل والطاقات الضرورية كي يحقق وجوده، ويلبي رغباته الجسدية والروحية، فالإنسان في حركته إنما يسعى إلى عمارة الأرض وفق المنهج الذي يختاره، وهو بذلك في سعي دائم إلى جمع ما يحتاجه من رزق، وهو في حركة دءوبة، وعمل مستمر للابتعاد عن دائرة الفقر التي قد تقيده وتمنع حركته، وهو يرنو دائما إلى الغنى الذي قد يحقق حاجاته ويلبي طموحاته، وهذه الحركة الدائبة للإنسان هي جبلّة فطر الله الناس عليها لتحقيق عمارة الأرض، قال تعالى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنََاكِبِهََا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ} [الملك: 15].
فالآية واضحة وصريحة في أن الطبيعة مائدة الله المبسوطة أمام الإنسان مهما كان دينه واتجاهه ومبدؤه لكي يرتزق منها ويتناول من طيّباتها (2).
__________
(1) تفسير الخازن المسمى لباب التأويل ط المكتبة التجارية الكبرى: مصر ج 7ص 216.
(2) محمد الغروي الفقراء في ظل الرأسمالية والماركسية والإسلام ط دار التعارف:
بيروت ص 6.(1/148)
والغنى في تصوّر البشر ليس مشكلة تحتاج إلى دراسة وعلاج، ولكنّها في المنهج القرآني تعد من المشكلات التي تحتاج إلى نظر وعلاج مثلها مثل الفقر، أما المشكلة الحقيقة التي لا تختلف حولها المناهج البشرية والسماوية فهي الفقر، «فقد عرفت الإنسانية الفقر والفقراء منذ أزمنة ضاربة في أغوار التاريخ، وحاولت الأديان والفلسفات منذ القدم أن تحل مشكلة الفقر، وتخفّف من عذاب الفقر حينا عن طريق الوصايا والمواعظ والترغيب والترهيب، وتارة عن طريق التحليق النظري في عالم مثالي لا تفاضل فيه ولا طبقات ولا فقر ولا حرمان، وهو عالم يرسم على صفحات الكتب لا في واقع الناس، وأبرز مثل لذلك جمهورية أفلاطون، قبل بضعة قرون من ميلاد المسيح، وطورا عن طريق حركات متطرفة تريد معالجة الانحراف الواقع بانحراف أشدّ منه» (1).
ومشكلة الفقر تبقى من القضايا المسيطرة على عقول الناس وقلوبهم، وقد اتخذها بعضهم وسيلة من الوسائل التي تؤثر في الناس لأهداف ومقاصد بعيدة عن المنهج الإلهي الصحيح، وذلك راجع لأهمية الفقر في حياة الإنسان ولخطورته على مذاهبهم وتصوراتهم الفكرية على غرار مذاهبهم وموافقهم العملية.
وقبل الحديث عن منهج القرآن الكريم في تناول مشكلة الفقر والغنى لا بدّ أن نقف عند الفلسفة الاقتصادية الحديثة وبعض المذاهب الفكرية القديمة لنرى مواقفها من الفقر بالذات باعتباره هو مشكلة من المشكلات ونقف عند نظرتها إلى الحل الأمثل لمعالجة هذه المشكلة الخطيرة.
أموقف بعض المتصوّفين والرهبان من المقدّسين للفقر:
إنّ نظرة المتصوّفين والمتزهدين من العبّاد إلى الحياة بأنها كلها فساد، والدنيا كلّها شرّ وبلاء، والخير كل الخير في التعجيل بفناء هذا العالم جعلها تقف من الفقر موقفا غريبا إذ لا ترى هذه الطائفة فيه شرا يجب الخلاص منه،
__________
(1) يوسف القرضاوي مشكلة الفقر وكيف عالجها الإسلام ط دار التعارف: بيروت ص 80.(1/149)
ولا مشكلة يطلب لها العلاج، بل هو نعمة من الله يسوقها إلى عباده، وإلى من يحب بالذات لكي يبقى متعلقا بالله وحده، زاهدا في الدنيا ومتاعها بخلاف الغنى الذي يطغي ويلهي عن العبادة وعن التعلق بالله سبحانه، «وقد وجد في الأديان الوثنية والأديان السماوية من يدعو إلى هذه الدعوة، ويمجّد الفقر ويقدّسه، لأنه وسيلة لتعذيب الجسد، وتعذيب الجسد وسيلة لترقية الروح، وشاع عند بعض متصوفة المسلمين بتأثير الثقافات الأجنبية التي شابت الثقافة الإسلامية الأصيلة، وكدرت صفاءها، كالصوفية الهندية، والمانوية الفارسية، والرهبانية المسيحية ونحوها من الملل الدخيلة على حياة المسلمين» (1).
وهذه النظرة تخالف الفطرة السليمة، وتخالف المنطق البشري الصحيح وتخالف كل تعاليم الأديان السماوية التي لم يشبها تحريف ولا تبديل.
ب موقف بعض الجبريين
: الذين يخالفون الطائفة الأولى في نظرتها إلى الفقر ولكنهم يرون أن الفقر قضاء وقدر من السماء لا يجدي معه العلاج، ففقر الفقير، وغنى الغني بمشيئة الله تعالى وقدره، ولو شاء الله لجعل الناس كلهم أغنياء، و «العلاج الذي يقدّمه هؤلاء لمشكلة الفقر ينحصر في وصيتهم للفقراء أن يرضوا بالقضاء، ويصبروا على البلاء، ويقنعوا بالعطاء، فالقناعة كنز لا يفنى، وثروة لا تنفد، والقناعة عندهم هي الرضا بالواقع على أي حال» (2).
والملاحظ على هذه الطائفة أنّها لا تهتم بالأغنياء من حيث توجيه النصح لهم بالإنفاق، وإنما جل اهتمامها بالفقراء وما هم فيه من بلاء وشرّ.
ج موقف بعض الفلسفات الاقتصادية الحديثة:
مثل الرأسمالية والاشتراكية الشيوعية، فالرأسمالية ترى أن الفقر شرّ من شرور الحياة، وخطر من الأخطار التي تهدد حياة الإنسان، لكن المسئولية على هذا الفقر لا يتحملها المجتمع
__________
(1) يوسف القرضاوي مشكلة الفقر وكيف عالجها الإسلام ط دار العربية: بيروت ص 10.
(2) يوسف القرضاوي مشكلة الفقر وكيف عالجها الإسلام ط دار العربية: بيروت ص 10.(1/150)
والنظام الحاكم بل هي مسئولية الفرد نفسه «وهذه النظرة هي نظرة الرأسمالية الخالصة التي سادت أوروبا في مطالع العصر الحديث ولا شك أن الفقراء في مجتمع هذا شأنه، وتلك فلسفته، أضيع من الأيتام في مأدبة اللئام، ولا حقّ لهم يطالبون به، ولا سند لهم يعتمدون عليه، ولا عجب أن تميّزت هذه الرأسمالية في أول ظهورها وعنفوانها بالقسوة البالغة، والأنانية المفرطة، لا ترحم صغيرا، ولا تحنو على أنثى، ولا تشفق على ضعيف، ولا تنظر بعين العطف إلى فقير أو مسكين» (1).
والرأسمالية بهذا المنظور لم تستطع أن تحلّ مشكلة الفقر بل إنّما عمّقت الفارق بين غنى الأغنياء وفقر الفقراء لأنّها حمّلت الفقير وحده مسئولية فقره، وأما نظرة الاشتراكية الشيوعية فهي على النقيض تماما من نظرة الرأسمالية إذ ترى أن القضاء على الفقر لا يمكن إلّا بالقضاء على طبقة الأغنياء، ومصادرة أموالهم، وحرمانهم من ثرواتهم من أي وجه جاءت، وفي سبيل ذلك يجب أن تقضي طبقة الفقراء على طبقة الأغنياء، وتبقى الكلمة الأخيرة للطبقة الكادحة أو ما يسمى بالطبقة العاملة «البروليتاريا»، «ولم يكتف دعاة هذا المذهب بتحطيم طبقة الأغنياء، ومصادرة ما ملكوا، فذهبوا إلى محاربة مبدأ «الملكية» الخاصة نفسه، وتحريم التملّك على الناس أيّا كان مصدره، وبخاصة الأرض والمصانع والآلات ونحوها مما يسمى (ثروات الإنتاج)» (2).
ونظرة الاشتراكية إلى الفقر تخالف كذلك الفطرة البشرية السوية، ولم تحل مشكلة الفقر أبدا، بل إنّها عمّقتها في المجتمع وأوجدت طبقة اجتماعية واحدة كادحة تسعى دون جدوى للقضاء على الفقر.
ويختلف موقف القرآن والإسلام بعامة من الفقر اختلافا كبيرا عن جميع هذه المواقف البشرية، «فالفقر في الإسلام يعد مشكلة يجب حلّها بل آفة خطرة
__________
(1) نفسه ص 12.
(2) نفسه ص 14.(1/151)
تستوجب المكافحة والعلاج، ويبيّن أنّ علاجه مستطاع وليس محاربة للقدر ولا للإرادة الإلهية، وهو يرفض نظرة الذين يقدّسون الفقر، ويرحّبون بمقدمه، ويعدّون الغنى ذنبا عجلت عقوبته. ويرفض نظرة الذين يعدّون الفقر قدرا محتوما لا مفرّ منه، ولا علاج له إلا الرضا والقناعة، ويرفض نظرة الذين يقتصرون في علاج الفقر على جانب الإحسان والتصدق الاختياري وحده، وهو كذلك ينكر نظرة الرأسمالية المطلقة إلى الفقراء وحقوقهم على الأغنياء وعلى الدولة، ويتجاوز بعلاجه الترقيعات التي أدخلتها الرأسمالية المعدلة وما شابهها من أنظمة. كما يرفض بشدة نظرة الذين يحاربون الغنى وإن كان مشروعا، والملكية وإن كانت حلالا، ويرون علاج الفقر في تحطيم طبقة الأغنياء، وإيقاد تنّور الصراع بينهم وبين الفقراء، وسائر الطبقات الأخرى» (1).
إن القرآن الكريم جاء بمنهج الوسطية والعدل في كل شيء، وهو في هذه القضية بالذات يرى أن الغنى نعمة يمتن بها الله على عباده، ويطالب بشكرها، وأداء حقها، قال تعالى: {وَوَجَدَكَ عََائِلًا فَأَغْنى ََ} [الضحى: 8]، وقال تعالى:
{وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللََّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شََاءَ إِنَّ اللََّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ}
[التوبة: 28].
ففي الآية الأولى امتنان من الله تعالى على رسوله بالغنى بعد الفقر والغنى كي يستغني عن الناس في مشاق الدعوة وتكاليف الجهاد، وفي الآية الثانية وعد من الله للمؤمنين بالغنى بعد الفقر إن هم أطاعوه وامتثلوا لأوامره، وفي هاتين الآيتين وغيرهما من الآيات ما يفيد بأن القرآن يرى في الغنى نعمة من الله سبحانه، يجب على المرء أن يسعى إليه ويطلبه، وفي النصوص الإسلامية ما يفيد ذلك، قال تعالى: {فَإِذََا قُضِيَتِ الصَّلََاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللََّهِ وَاذْكُرُوا اللََّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الجمعة: 8].
__________
(1) يوسف القرضاوي مشكلة الفقر كيف عالجها الإسلام ص 4140.(1/152)
فهذه الآية تحثّ على طلب الرزق، وابتغاء الغنى بعد أداء الواجبات الدينية، وجاءت صيغة هذه الدعوة بالأمر الذي يفيد الوجوب ويجعل من هذا الأمر فرضا من الفرائض.
وكما أن القرآن الكريم قد جعل من الغنى نعمة من النعم الإلهية فإنه في الجانب المقابل قد جعل الفقر نقمة على الإنسان وحياته، ومشكلة من المشكلات الخطيرة التي يجب التصدي لها وعلاجها قبل أن تفتك بالفرد ثم المجتمع، فخطورته تأتي من عدّة نواح:
أولها: أنّ الفقر خطر على التصور والعقيدة، فالفقير قد يتسرب إليه الشك في عدالة السماء لما يرى في نفسه من بؤس وشقاء، وما يراه من حوله من غنى وترف، وهذا الانحراف في العقيدة قد يدعوه إلى الكفر بالله، والسخط على قضاء الله.
وثانيها: أن الفقر خطر على السلوك والأخلاق لأن الفقير المحروم كثيرا ما يدفعه بؤسه إلى سلوك ما لا ترضاه الفضيلة والخلق الكريم.
وثالثها: أن الفقر خطر على الفكر الإنساني لأن الفقير الذي لا يجد ضرورات الحياة وحاجاتها لا يستطيع أن يكفر تفكيرا سليما وبخاصة إذا فقد التصور الصحيح والعقيدة السليمة.
ورابعها: أنّ الفقر خطر على الأسرة والمجتمع، فنجد أن الفقر قد يكون مانعا من أكبر الموانع التي تقف أمام أداء الواجبات الأسرية مثل الزواج وطلب العفاف بل قد يكون سببا في حصول الفساد الأسري مثل الطلاق وغيره، وقديما في الجاهلية قتل الآباء أولادهم خشية الفقر، والفقر كذلك خطر على المجتمع وتماسكه وأمنه، وهو خطر على سيادة الأمة وحريتها واستقلالها، فالبائس المحتاج لا يجد في صدره حماسة الدفاع عن وطنه، والذود عن حرمات أمته، فإن وطنه لم يطعمه من جوع ولم يأمنه من خوف، وأمته لم تمد إليه يد العون لتنشله من الشقاء (1).
__________
(1) ينظر تفصيل ذلك في مشكلة الفقر وكيف عالجها الإسلام، يوسف القرضاوي ص 2418.(1/153)
إنّ نظرة أولئك الذين يظنون أنّ القرآن يحبّذ الفقر ويندب إليه، ويكافئ على البؤس والحرمان، ويكره الثروة والغنى وجمع الأموال هي نظرة خاطئة مردودة لا تعبّر عن الموقف القرآني الصحيح الذي كما ذكر في السابق دعا إلى مقت الفقر، ومحاربة الحالات التي تسوق الإنسان إلى الذلّ والحاجة والمهانة (1).
ويبقى أن نذكر الآن أنّ الحكمة من ثنائية الفقر والغنى التي جعلها الله في الحياة بين الناس، وفضّل على أساسها بعضهم على بعض وجعل بعضهم فوق بعض درجات هي للابتلاء والاختبار ولمعرفة الخبيث من الطيّب في الجزاء الأخروي، قال تعالى: {وَاللََّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلى ََ بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلى ََ مََا مَلَكَتْ أَيْمََانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَوََاءٌ أَفَبِنِعْمَةِ اللََّهِ يَجْحَدُونَ} [النحل: 71].
وقال الفيروزآبادي (817هـ): «اعلم أنّ الفقر والغنى ابتلاء لعبده كما قال تعالى: {فَأَمَّا الْإِنْسََانُ إِذََا مَا ابْتَلََاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ (15) وَأَمََّا إِذََا مَا ابْتَلََاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهََانَنِ} [الفجر: 1715]، أي ليس كل من أعطيته ووسّعت عليه فقد أكرمته، ولا كل من ضيّقت عليه وقترت عليه الرزق فقد أهنته، والإكرام أن يكرم العبد بطاعته ومحبته ومعرفته، والإهانة أن يسلبه ذلك، ولا يقع التفاضل بالغنى والفقر بل بالتقوى، وقال بعضهم: هذه مسألة محال أيضا من وجه آخر، وهو أن كلّا من الغني والفقير لا بدّ له من صبر وشكر، فإن الإيمان نصفان: نصف صبر، ونصف شكر، بل قد يكون قسط الغني من الصبر أوفر، لأنه يصبر عن قدرة، فصبره أتمّ من صبر من يصبر عن عجز، ويكون شكر الفقير أتمّ، لأن الشكر هو استفراغ الوسع في طاعة الله، والفقير أعظم فراغا بالشكر من الغنيّ، وكلاهما لا يقوم قائمة إيمانه إلا على ساق الصبر والشكر» (2).
__________
(1) ينظر محمد الغروي الفقراء في ظل الرأسمالية والماركسية والإسلام ص 78.
(2) بصائر ذوي التمييز ج 4ص 208.(1/154)
فحكمة الابتلاء هي التعليل القرآني الواضح لقضية التفريق بين الناس في الغنى والفقر، وهي الحكمة التي علّل بها القرآن الوجود الإنساني كلّه. قال تعالى: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيََاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ} [الملك: 2].
ونمضي الآن مع سورة التوبة وتناولها لهذه القضية الهامة في جانب من آياتها ونبدأ بقوله تعالى: {يََا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلََا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرََامَ بَعْدَ عََامِهِمْ هََذََا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللََّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شََاءَ إِنَّ اللََّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [التوبة: 28].
ففي هذه الآية حديث عن الفقر والغنى في صورة متقابلة متضادة، فالعلية هي الفقر الذي خشي منه المؤمنون بعد منع المشركين من الحج والقرب من المسجد الحرام، والغنى هو الرزق الذي وعد الله به المؤمنين بعد تنفيذ أمره، قال ابن عباس: «كان المشركون يجيئون إلى البيت ويجيئون معهم بالطعام يتّجرون فيه، فلمّا نهوا أن يأتوا البيت قال المسلمون: فمن أين لنا الطعام، فأنزل الله {وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً} الخ قال: فأنزل الله عليهم المطر وكثر خيرهم حين ذهب المشركون عنهم» (1).
فوعد الله بالغنى للمؤمنين قد تحقق بعد منع المشركين من دخول بيت الله الحرام مباشرة، وكان هذا الغنى من فضل الله على العرب، فقد «أغنى سائر المسلمين جميع أنواع الغنى، فتح لهم البلاد، وسخّر لهم العباد، فكثرت الغنائم والخراج، ومهّد لهم سبل الملك والملك وكان نصيب مكة نفسها من ذلك عظيما بكثرة الحاج وأمن طرق التجارة» (2).
والقيمة الاقتصادية التي يمكن أن تستفاد من الآية أنّ وعد الله بالغنى بعد تنفيذ الأمر لا يعني ترك الأسباب الداعية إلى العمل والتحرك نحو الغنى، فمن
__________
(1) محمد رشيد رضا تفسير المنار ج 10ص 278.
(2) نفسه ج 10ص 278.(1/155)
سننه تعالى الاجتماعية العمل والسعي والأخذ بالأسباب الموجبة لجلب الرزق.
وفي هذا مقتضى التوكل عليه تعالى، ومنه سبحانه التوفيق والإعانة، فلهذا يجب الأخذ بالأسباب الكسبية، والقيام بالعمل المؤدي إلى إبعاد الفقر.
وقد فهم المؤمنون الأوائل هذا الوعد فلم يمنعهم ذلك من العمل والسعي والجهاد حتى حقق الله وعده بالغنى، وأبعد عنهم الفقر، وفتح لهم البلاد، وقد أغناهم الله بأن هدى للإسلام أهل تبالة وجرش من بلاد اليمن، فأسلموا عقب ذلك، وكانت بلادهم بلاد خصب وزرع فحملوا إلى مكة الطعام والميرة، وأسلم أيضا أهل جدّة وبلدهم مرفأ ترد إليه الأقوات من مصر وغيرها، فحملوا الطعام إلى مكة، وأسلم أهل صنعاء من اليمن، وبلدهم تأتيه السفن من أقاليم كثيرة من الهند وغيرها» (1).
والآية الكريمة حين تقابل بين الغنى والفقر بهذا الأسلوب الذي يعد من أبسط صيغ المقابلة إنّما تهدف إلى طمأنة نفوس المؤمنين من هذا الجانب الخطير وهو الجانب الاقتصادي الذي يتعلق به مصير الفرد والمجتمع، وتهدف كذلك إلى الدعوة إلى محاربة الفقر والسعي إلى اجتثاثه وقلعه، واعتباره من الآفات الخطيرة التي تهدّد المجتمع المسلم، كما أنها تهدف إلى أمر عقدي يتعلق بقدرة الله سبحانه وأنّه يملك مفاتيح الغنى، وأنّه القادر على إعانة المؤمنين في سعيهم الحثيث إلى محاربة الفقر، فهو الذي يملك الأسباب وهو العليم الحكيم، أي عليم بما يكون من مستقبل أمر البشر في الغنى والفقر، حكيم فيما يشرعه لهم من أمر ونهي، وهو وحده المستحق للعبادة والخضوع.
وقال تعالى في سورة التوبة: {وَمِنْهُمْ مَنْ عََاهَدَ اللََّهَ لَئِنْ آتََانََا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصََّالِحِينَ (75) فَلَمََّا آتََاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ}
[التوبة: 7675].
__________
(1) محمد الطاهر بن عاشور تفسير التحرير والتنوير ج 10ص 161.(1/156)
هذه الآية تتحدث عن نماذج من البشر يعرفون بالخداع والنفاق، ويعرفون بتناقض السلوك لديهم حسب الوضع والظرف، فهم في بداية أمرهم من أهل الفقر والبؤس فيقيمون صلة مع الله ويتقربون إليه بالطاعة والدعاء، وبعد أن يستجيب الله لهم ينسون تكاليف العقيدة، ومقتضيات الدين.
قال سيد قطب: «من المنافقين من عاهد الله لئن أنعم الله عليه رزقه، ليبذلنّ الصدقة، وليصلحن العمل، ولكن هذا العهد إنما كان في وقت فقره وعسرته، في وقت الرجاء والطمع، فلمّا استجاب الله له ورزقه من فضله نسي عهده، وتنكّر لوعده، وأدركه الشحّ والبخل فقبض يده، وتولى معرضا عن الوفاء بما عاهد، فكان هذا النكث بالعهد مع الكذب على الله فيه سببا في التمكين للنفاق في قلبه، والموت مع هذا النفاق» (1).
وهذا النموذج من البشر الذي تعرض له الآية لا يستقر على رأي وموقف بل هو مذبذب في عقيدته وتصوره، مذبذب في سلوكه وأخلاقه، ولذلك عقدت هذه الآية مقابلة بين صورته في حالة الفقر والإملاق، وصورته في حالة الغنى واليسر، وهما صورتان متقابلتان متناقضتان تكشفان عن طبيعة النفاق والمنافقين.
فالآية إذن تقابل بين الفقر والغنى في صورة من صورهما لدى البشر، وهي تكشف لنا عن طبيعة بعض النفوس البشرية التي يجعل منها الفقر مثالا صادقا للصلة بالله، والتقرب إليه بالدعاء والصلاة، وأعمال البرّ لعلّه يكشف السوء، ويغيّر الحال، ويمنّ بالنعمة والغنى، حتى إذا أنجز الله وعده، وقبل دعاءه، ومنّ عليه بالرزق والمال والولد، تغيّرت نفسه، وانقلبت حاله، وبخل بما لديه من مال، بل إنّه قد يتحلل من الصلة التي تربطه بالله، والعلاقة التي تربطه بالمسلمين.
__________
(1) في ظلال القرآن ج 3ص 1679.(1/157)
ج المقابلة بين العدل والظلم:
العدل خلاف الجور، يقال: عدل عليه في القضية فهو عادل، وبسط الوالي عدله ومعدلته ومعدلته، وفلان من أهل المعدلة أي من أهل العدل، ورجل عدل أي رضا ومقنع في الشهادة (1).
والعدل ضربان: مطلق يقتضي العقل حسنه، ولا يكون في شيء من الأزمنة منسوخا، ولا يوصف بالاعتداء بوجه، نحو الإحسان إلى من أحسن إليك، وكفّ الأذية عمّن كفّ أذاه عنك، وعدل يعرف كونه عدلا بالشرع ويمكن أن يكون منسوخا في بعض الأزمنة كالقصاص وأروش الجنايات وأصل مال المرتد وهذا النحو هو المعني بقوله {إِنَّ اللََّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسََانِ}
[النحل: 90]، فإن العدل هو المساواة في المكافأة إن خيرا فخير، وإن شرا فشرّ، والإحسان أن يقابل الخير بأكثر منه، والشرّ بأقل منه (2).
والظلم في اللغة: وضع الشيء في غير موضعه المختص به إما بنقصان أو بزيادة، وإما بعدول عن وقته أو مكانه، والظلم في الاصطلاح يقال في مجاوزة الحق الذي يجري مجرى نقطة الدائرة، ويقال فيما يكثر وفيما يقل من التجاوز، ولهذا يستعمل في الذنب الكبير، وفي الذنب الصغير (3).
والظلم ثلاثة أنواع:
الأول: ظلم بين الإنسان وبين الله تعالى، وأعظمه: الكفر والشرك والنفاق، قال تعالى: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13]، قال تعالى:
{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى ََ عَلَى اللََّهِ كَذِباً} [الأنعام: 93].
__________
(1) الفيروزآبادي بصائر ذوي التمييز ج 4ص 28.
(2) الراغب الأصفهاني مفردات ألفاظ القرآن ص 552.
(3) نفسه ص 538.(1/158)
الثاني: ظلم بينه وبين الناس، وهو المقصود في قوله تعالى: {وَجَزََاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ} إلى قوله تعالى: {إِنَّهُ لََا يُحِبُّ الظََّالِمِينَ} [الشورى: 42].
الثالث: ظلم بينه وبين نفسه، وهو المقصود في قوله تعالى: {فَمِنْهُمْ ظََالِمٌ لِنَفْسِهِ} [فاطر: 32] وقوله تعالى: {وَمَنْ يَفْعَلْ ذََلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ} [البقرة: 231].
وكل هذه الثلاثة في الحقيقة ظلم للنفس، فإن الإنسان في أول ما يهمّ بالظلم فقد ظلم نفسه، فإذا الظالم أبدا مبتدئ في الظلم، ولهذا قال تعالى:
{وَمََا ظَلَمَهُمُ اللََّهُ وَلََكِنْ كََانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [النحل: 33] وقال تعالى:
{وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مََا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً} [الزمر: 47]، فإنه يتناول الأنواع الثلاثة من الظلم، فما أحد كان منه ظلم ما في الدنيا إلّا ولو حصل له ما في الأرض ومثله معه لكان يفتدي به (1).
وقضية العدل والظلم هي من الثنائيات التي اهتم بها القرآن الكريم وتناولها في كثير من المواضع، وقد أقام التشريع الإسلامي كلّه على أساس مبدأ العدل بين الناس، وقد أمر الله سبحانه بالعدل في كثير من الآيات (2) قال تعالى:
{إِنَّ اللََّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسََانِ وَإِيتََاءِ ذِي الْقُرْبى ََ وَيَنْهى ََ عَنِ الْفَحْشََاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [النحل: 90].
فالعدل الذي أمر به الله في هذه الآية هو «القيام على طريق الحق في كل أمر، فمن أقام وجوده على العدل واستقام على طريق مستقيم فلم ينحرف عنه أبدا، ولم تتفرق به السبل إلى غايات الخير ومن اتبع العدل بالإحسان نما الخير في يده، وطابت مغارسه التي يغرسها في منابت العدل، وقد جاء الأمر بالعدل والإحسان مطلقا ليحتوي العدل كلّه، ويشمل الإحسان جميعه فهو عدل
__________
(1) الراغب الأصفهاني مفردات ألفاظ القرآن ص 538537.
(2) عبد الحق الشكيري التنمية الاقتصادية في المنهج الإسلامي ط 1رئاسة المحاكم الشرعية: قطر 1988م ص 7069.(1/159)
عام شامل، حيث يعدل الإنسان مع نفسه، فلا يجور عليها بإلقائها في التهلكة، وسوقها إلى مواقع الإثم والضلال ويعدل مع النّاس فلا يعتدي على حقوقهم، ولا يمد يده إلى ما ليس له، ويعدل مع خالقه، فلا يجحد ولا يكفر بنعمته، ولا ينكر وجوده وقيوميته عليه، وعلى كل موجود» (1).
وقد نهى الله سبحانه في مقابل أمره بالعدل عن الفحشاء والمنكر والبغي، والبغي هو الجور والظلم وهو مجانب للعدل والإحسان.
وقال تعالى أيضا: {إِنَّ اللََّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمََانََاتِ إِلى ََ أَهْلِهََا وَإِذََا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النََّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللََّهَ نِعِمََّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللََّهَ كََانَ سَمِيعاً بَصِيراً} [النساء: 58].
قال الشوكاني (1255هـ): «هذه الآية من أمهات الآيات المشتملة على كثير من أحكام الشرع، لأنّ الظاهر أن الخطاب يشمل جميع الناس في جميع الأمانات، وقد روي عن علي وزيد بن أسلم وشهر بن حوشب أنّها خطاب لولاة المسلمين، والأول أظهر، وورودها على سبب كما سيأتي لا ينافي ما فيها من العموم، فالاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب كما تقرر في الأصول، وتدخل الولاة في هذا الخطاب دخولا أوليا، فيجب عليهم تأديه ما لديهم من الأمانات وردّ الظلامات، وتحري العدل في أحكامهم والعدل هو فصل لحكومة على ما في كتاب الله سبحانه وسنّة رسوله صلى الله عليه وسلم، لا الحكم بالرأي المجرد، فإن ذلك ليس من الحق في شيء إلا إذا لم يوجد دليل لتلك الحكومة في كتاب الله ولا سنّة رسوله، فلا بأس باجتهاد الرأي من الحاكم الذي يعلم بحكم الله سبحانه، وبما هو أقرب إلى الحق عند عدم وجود النص» (2).
فغاية الشريعة الإسلامية تطبيق المنهج القرآني الذي يدعو إلى العدل وتطبيقه بين الناس، قال ابن قيم الجوزية (751هـ): «إن الله سبحانه وتعالى
__________
(1) عبد الكريم الخطيب التفسير القرآني للقرآن ج 3ص 350.
(2) تفسير فتح القدير ج 1ص 719.(1/160)
أرسل رسله، وأنزل كتبه، ليقوم الناس بالقسط، وهو العدل الذي قامت به الأرض والسماوات، فإذا ظهرت أمارات العدل، وأسفرت بأيّ طريق كان فثمّ شرع الله ودينه، والله سبحانه أعلم وأحكم» (1).
فالعدل مرتبط ارتباطا وثيقا بالتصور الإسلامي العام، وبقضية الوحدانية التي عرضنا لها في فصل سابق، فالإسلام هو العدل بعينه، وهو دين الحق الذي أنزله خالق الكون وربّه لهداية الإنسان، فإقامة العدل بين الناس، وتحديد ما هو العدل، وما هو الظلم والجور إنّما هو من شأن خالق الإنسان وربّه، ولا حق لمن سواه في أن يضع للناس مقياسا للعدل والظلم، إذ الإنسان ليس مالكا لنفسه ولا حاكمها حتى يحقّ له اختيار معيار للعدل من تلقاء نفسه، لأن مكانته في العالم ليست إلا أنّه عبد مملوك لله تعالى، والإنسان مهما كانت له شخصية بارزة، ومهما بذل الكثير من الجهود في اختيار طريق للعدل لا يستطيع الوصول إليه أبدا، وذلك لأن محدودية علم الإنسان، وقصور فكره، واستيلاء أهوائه وعصبياته على عقليته لا مناص منها في حال من الأحوال، فليس من الممكن أن يضع الإنسان لنفسه نظاما يتجرد من نقائصه البشرية ويحقق العدل الحقيقي بمعنى الكلمة، وربّما شوهدت في بداية الأمر مظاهر العدالة في هذا النظام ليس من العدل في شيء، فكل نظام وضعه الإنسان ثبت نقصه وقصوره في آخر الأمر» (2).
فالعدل الاجتماعي الذي يدعو إليه القرآن الكريم هو حق من حقوق الوحدانية، قال سيد قطب: «الإسلام دين الوحدة بين العبادة والمعاملة، والعقيدة والشريعة، والروحيات والماديات، والقيم الاقتصادية والقيم المعنوية،
__________
(1) الطرق الحكمية في السياسة الشرعية ص 112.
(2) المودودي أبو الأعلى العدالة الاجتماعية حقيقتها وسبيل تحقيقها ط مكتبة دار البيان:
الكويت ص 10، 11.(1/161)
والدنيا والآخرة، والأرض والسماء، وعن تلك الوحدة الكبرى تصدر تشريعاته وفرائضه، وتوجيهاته وحدوده، وقواعده في سياسة الحكم وسياسة المال، في توزيع المغانم والمغارم، وفي الحقوق والواجبات، وفي ذلك الأصل الكبير تنطوي سائر الأجزاء والتفصيلات، وحين ندرك هذا الشمول في طبيعة النظرة الإسلامية للألوهية والكون والحياة والإنسان، ندرك معها الخطوط الأساسية للعدالة الاجتماعية في الإسلام، فهي قبل كلّ شيء عدالة إنسانية شاملة لكل جوانب الحياة الإنسانية ومقوماتها، وليست مجرد عدالة اقتصادية محدودة، وهي إذن تتناول جميع مظاهر الحياة وجوانب النشاط فيها، كما تتناول الشعور والسلوك، والضمائر والوجدانات، والقيم التي تتناولها هذه العدالة ليست القيم الاقتصادية وحدها، وليست القيم المادية على وجه العموم، إنما هي هذه ممتزجة بها القيم المعنوية والروحية جميعا» (1).
إن العدل الاجتماعي الذي يسعى إليه القرآن الكريم من خلال ربطه بالعقيدة هو أن يكون كل فرد من الأفراد، وكل أسرة من الأسر، وكل قبيلة من القبائل، وكل أمة من الأمم على حظ مناسب من الحرية، وكون كل مجتمع من المجتمعات العديدة على حظ من سيادة بعضها على بعض سدا لباب الظلم والعدوان، واستخداما لمختلف الأفراد والمجتمعات فيما تقتضيه المصالح الاجتماعية (2).
إنّ من خصائص العدل الذي يدعو إليه القرآن الوسطية والاعتدال، فهو لا يهتم بالقيم الروحية على حساب القيم المادية، ولا يطغي القيم المادية على حاجات الروح، ونحن إذا نظرنا إلى المسيحية مثلا نجد أنّها صبّت جلّ اهتمامها على الروح، ولم تقم للمادة وزنا، أما الفكر الشيوعي فكان على النقيض من ذلك حين نظر إلى الإنسان من خلال حاجاته المادية وحدها، وألغى
__________
(1) العدالة الاجتماعية في الإسلام ط 6مطبعة عيسى البابي الحلبي: القاهرة 1964م ص 28.
(2) المودودي العدالة الاجتماعية حقيقتها وسبيل تحقيقها ص 1615.(1/162)
جميع القيم الروحية، أمّا القرآن الكريم فقد وازن بين المادة والروح، ونظر إلى الإنسان على أنّه وحدة لا تنفصل فيها حاجاته الروحية عن حاجاته المادية (1).
وإنّ العدالة الاجتماعية التي جاء بها القرآن متأثرة بالتصور الإسلامي، والعقيدة الدينية، وإن طبيعة نظرة القرآن إلى الحياة الإنسانية تجعل العدالة الاجتماعية عدالة إنسانية شاملة لكل مقومات الحياة الإنسانية، ولا تقف عند الماديات والاقتصاديات، وأنّ القيم في هذه الحياة المادية معنوية في الوقت ذاته (2).
وقبل الحديث عن الأسس التي قام عليها العدل الاجتماعي في القرآن سنتحدث عن بعض خصائص العدل الاجتماعي الإسلامي من خلال مقارنة بينه وبين العدل الذي تدعو إليه الشيوعية، وتدعي أنّها تستطيع تحقيقه بين الناس.
أينظر القرآن الكريم إلى قضية العدل نظرة شمولية، ويرى «أنّ الظلم المنصب على الإنسان لا يقتصر على حجب حاجاته البيولوجية الأساسية فحسب، بل يتجاوزها إلى مظالم أخرى أصعب وأعتى، وأشد تعقيدا منها:
حجب حريته، وكبت تعبيره الذاتي، ووقف مطامحه، وسمو تفرده وبينما ينظر الإسلام إلى الإنسان كسيّد حر على الأرض مستخلف فيها لإعمارها وتطويرها بملء إرادته، وإلى الأرض والطبيعة والعالم كأرضية مسخّرة سننها ونواميسها وطاقاتها المذخورة للإنسان كي يحقق هدفه ذاك، نجد أن الشيوعية كنتيجة لمنطلقها المادي الصرف تحصر مدى (العدل) في تنفيذ مطالب الإنسان المادية فحسب، وتغفل، بل تقف حرصا منها على تنفيذ وحماية سمتها الطبقية ونزعتها الجماعية بمواجهة سائر المطالب الأخرى روحية ونفسية وفكرية ووجدانية واجتماعية» (3).
__________
(1) سيد قطب العدالة الاجتماعية في الإسلام ص 28.
(2) سيد قطب العدالة الاجتماعية في الإسلام ص 34.
(3) عماد الدين خليل العدل الاجتماعي ط مؤسسة الرسالة ص 15.(1/163)
ب وينظر القرآن إلى تحقيق العدل من خلال حماية المؤسسة الاجتماعية وهي الأسرة التي تعد إحدى أساسيات نموّ المجتمع وتكوينه وتطويره بينما نجد «الشيوعية تسعى إلى تدميرها وتفكيكها وإلغائها، فتدمّر على المرأة بهذا أنثويتها وحقوقها العاطفية والنفسية والاجتماعية المترتبة على تكوينها ذاك، وتستل من الطفل كل أسباب تربيته الصحيحة، ونموّه الطبيعي السليم، وتفقد الرجل أعزّ ما يطمح إليه من الاستقرار إلى شريك في الحياة، وسكن إلى عطفه وحنانه» (1).
ج وينظر القرآن إلى تأكيد العدل الذي لا يميل ولا يتحيّز ولا ينحرف باتجاه عاطفة أو هوى أو مصلحة أو جماعة، قال تعالى: {يََا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوََّامِينَ لِلََّهِ شُهَدََاءَ بِالْقِسْطِ وَلََا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلى ََ أَلََّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى ََ وَاتَّقُوا اللََّهَ إِنَّ اللََّهَ خَبِيرٌ بِمََا تَعْمَلُونَ} [المائدة: 8]، وقال تعالى: {إِنَّ اللََّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمََانََاتِ إِلى ََ أَهْلِهََا وَإِذََا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النََّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ} [النساء: 58].
و «بينما يلزم المسلمون برفض مبدأ (الغاية تبرر الوسيلة) واعتماد القيم الأخلاقية والإنسانية خلال حركتهم صوب أهدافهم {فَلِذََلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمََا أُمِرْتَ وَلََا تَتَّبِعْ أَهْوََاءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِمََا أَنْزَلَ اللََّهُ مِنْ كِتََابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ} [الشورى: 15] نجد الماركسية تلتزم عدلا نسبيا يميل مع الهوى، ويقيس الأمور بمقياس طبقي محدود إذا جاز لنا أن نسمي ذلك عدلا، وتضيع في غمار هذه النسبية المتغيّرة والطبقية الضيقة، صيحات المظلومين ومغتصبي الحقوق من كل جنس وفئة ولون، كما نجد الماركسية تلتزم المبدأ الماكيافللي المعروف «الغاية تبرر الوسيلة» وتعتمد أشد الأساليب اللاأخلاقية للوصول إلى أهدافها» (2).
__________
(1) نفسه ص 16.
(2) عماد الدين خليل العدل الاجتماعي ص 1817.(1/164)
د والقرآن الكريم بواسطة عدله يدعو إلى حرية التعبير عن طاقات الإنسان وإمكاناته الخلّاقة على مستوى الروح والمادة، بينما تجد الماركسية والشيوعية ترغم الفرد على أن يتشكّل وفق القالب الاجتماعي، وأن يحجر على طاقاته وإمكاناته لكي لا تتفجر إلّا على طريق «الطبقة الحاكمة» (1).
هـ والعدل في القرآن الكريم يظهر من خلال إقامة يوم الجزاء الذي يحاسب فيه الإنسان على سعيه وحركته في الحياة حيث لا يظلم أحد، وحيث يرى ويوزن كل جهد وكل نشاط، نجد أن الشيوعية تنفي يوم الحساب، وتقصر جزاء الإنسان على الأرض، وما أكثر ما يضيع هذا الجزاء (2).
وو العدل في القرآن يظهر من خلال حرية العقيدة وعدم جبر الناس على اعتناق ما لا يؤمنون به، والتزام ما لا يريدونه، وأما الجهاد فهو وسيلة من وسائل تلبية حاجات الإنسان إلى الإقناع والدعوة، ولا يرفع السلاح ويستباح الدم إلا حين تقف الجاهلية حاجزا أمام طريق الدعوة إلى قلب الإنسان وعقله (3)، أما «الماركسية فإنها تحصر نطاق الثورة على المستوى الطبقي، وتسفك الدماء لمبررات مادية صرفة، وتقطع أعناق الناس لأسباب «جزئية» تقوم على مجرد التفاوت في مقدار ما يملكه الإنسان من مال» (4)، وهي تقف أمام حرية الإنسان في اختيار عقيدته وتجبره على إبعاد كل ما يمتّ إلى الدين بصلة.
ي ويظهر العدل في القرآن من خلال تحرير الإنسان وجدانيا و «جعله يرفع رأسه باعتزاز، ويرفض أي سلطة في الأرض ولا يخضع إلا لله ولا يعبد
__________
(1) نفسه ص 19.
(2) نفسه ص 20.
(3) عماد الدين خليل العدل الاجتماعي ص 21.
(4) نفسه ص 21.(1/165)
إلا الله، بينما نجد الشيوعية تتحول بأتباعها أكثر فأكثر صوب نوع خطير من التعبّد الوثني، والتخوّف الذي يشلّ حرية الإنسان وقدرته على الحركة والإبداع، إزاء مؤسسات الدولة والقيادات الحزبية، وإزاء (الزعيم) الذي يبلغ من إعجاب الناس العاديين في المجتمعات الاشتراكية به، وتخوفهم من سلطاته الهائلة الظاهرة والخفية، ويده الباطشة التي تصل كلّ من يلوك كلمة أو يمارس همسة ضده وهذا يبلغ بالناس العاديين وبالجماهير عامة إلى حالة من التعبد والتقديس لزعمائهم تفوق في خطورتها كل تجارب الوثنيات والكهانات الجائرة» (1).
وبعد عقد هذه المقارنة الوجيزة بين العدل الاجتماعي في القرآن والعدل الاجتماعي في نظام من وضع البشر هو النظام الشيوعي، بعد هذا لا بد من الإشارة بإيجاز إلى الأسس العامة التي أقام عليها القرآن بناء العدالة الاجتماعية في حدود فكرته الكلية، والتي كان من طبيعتها النظر إلى وحدة الروح والجسد في الفرد، وإلى وحدة المعنويات والماديات في الحياة، وإلى وحدة الروح والجسد بين الفرد والجماعة، ووحدة المصلحة بين الجماعات المختلفة في الأمة الواحدة، ووحدة الغاية بين الأمم الإنسانية، ووحدة الصلة بين الأجيال المتعاقبة على اختلاف المصالح القريبة المحدودة، وهذه الأسس التي أقام عليها القرآن العدل الاجتماعي هي (2):
1 - التحرر الوجداني المطلق.
2 - المساواة الإنسانية الكاملة.
3 - التكافل الاجتماعي الوثيق.
فالتحرر الوجداني هو شعور الفرد بحاجته إلى العدل، وإحساسه بأنّه يؤدي إلى طاعة الله، وإلى واقع أسمى، وأساس هذا التحرر هو أن يعبد الله وحده،
__________
(1) نفسه ص 2321.
(2) سيد قطب العدالة الاجتماعية في الإسلام ص 35.(1/166)
وأن تنتفي كل أنواع الخضوع والعبادة للبشر (1)، قال تعالى: {قُلْ إِنَّمََا أَدْعُوا رَبِّي وَلََا أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً (20) قُلْ إِنِّي لََا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلََا رَشَداً (21) قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللََّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً} [الجن: 2220].
والمساواة الإنسانية هي ثمرة التحرر الوجداني في ظل العبودية لله وهي تحقيق الضمانات الواقعية والقانونية ما يؤكد في نفس الإنسان هذا الشعور، فلن يكون في حاجة لمن يهتف بالمساواة لفظا وقد استشعرها في أعماقه معنى، ووجدها في حياته واقعا (2)، قال تعالى: {يََا أَيُّهَا النََّاسُ إِنََّا خَلَقْنََاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى ََ وَجَعَلْنََاكُمْ شُعُوباً وَقَبََائِلَ لِتَعََارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللََّهِ أَتْقََاكُمْ إِنَّ اللََّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [الحجرات: 13].
والتكافل الاجتماعي هو أن القرآن قرر مبدأ التبعية الفردية في مقابل الحرية الفردية، وقرر إلى جانبها التبعية الجماعية التي تشمل الفرد والجماعة بتكاليفها، فهناك التكافل بين الفرد وذاته، وبين الفرد وأسرته القريبة، وبين الفرد والجماعة، وبين الأمة والأمم، وبين الجيل والأجيال المتعاقبة أيضا (3)، قال تعالى: {وَتَعََاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى ََ وَلََا تَعََاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ} [المائدة: 2].
ويبقى موضوع العدل والظلم من الموضوعات التي تتّسم بالاتساع، ولا نستطيع في هذا البحث أن ندرسه من جوانبه كلّها، فقد اقتصرنا على ذكر بعض العناصر الهامة فيه، وغايتنا الأساسية في هذا البحث هي دراسة طريقة المقابلة التي يعتمد عليه القرآن في عرض قضاياه، ونمضي الآن مع سورة التوبة لبيان هذه الغاية.
قال تعالى: {اشْتَرَوْا بِآيََاتِ اللََّهِ ثَمَناً قَلِيلًا فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ سََاءَ مََا كََانُوا يَعْمَلُونَ (9) لََا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلََا ذِمَّةً وَأُولََئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ (10) فَإِنْ تََابُوا}
__________
(1) سيد قطب العدالة الاجتماعية في الإسلام ص 36.
(2) سيد قطب العدالة الاجتماعية في الإسلام ص 51.
(3) سيد قطب العدالة الاجتماعية في الإسلام ص 63.(1/167)
{وَأَقََامُوا الصَّلََاةَ وَآتَوُا الزَّكََاةَ فَإِخْوََانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الْآيََاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} (11) [التوبة: 119].
هذه الآيات تتحدث عن الظلم البشري في مقابل العدل الإلهي، فالظلم البشري تمثّل في موقف المشركين العدائي للإسلام والمسلمين، فهم قد «استبدلوا بآيات الله الدالة على وجوب توحيده بالعبادة، وعلى بعثه للناس وجزائهم على أعمالهم وعلى الوحي والرسالة وما فيها من الهداية، ثمنا قليلا من متاع الدنيا وهو ما هم فيه من أسباب المعيشة، وقد صدّوا عن سبيله وأعرضوا عن سبيل الله وما يقتضيه من الوفاء بالعهود، وصدّوا غيرهم وصرفوهم عنه، ثم إنهم من أجل كفرهم وصدودهم لم يرعوا في مؤمن يظهرون عليه ويقدرون على الفتك به ربّا يحرم الغدر، ولا قرابة تقتضي الود، ولا ذمة توجب الوفاء، ثم وصفوا وصفا يعبّر عما هم عليه من الظلم والعدوان فقال: {وَأُولََئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ} والعلّة في اعتدائهم وتجاوزهم هو رسوخهم في الشرك، وكراهتهم للإيمان وأهله، فلا علاج لهم إلّا بالرجوع عن كفرهم والاعتصام مع المؤمنين بعروة التوحيد والإيمان، وما تقتضيه من الأعمال الصالحة وفضائل الأخلاق (1).
وأما العدل الإلهي فيتمثّل في مقابلة الشدّة باللين، والذنب بالتوبة، فقال تعالى: {فَإِنْ تََابُوا وَأَقََامُوا الصَّلََاةَ وَآتَوُا الزَّكََاةَ فَإِخْوََانُكُمْ فِي الدِّينِ} وهذا فيه تنبيه لهم على أن تدارك الأمر هيّن عليهم إن هم تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة والتزموا بتكاليف الشريعة، وفرّع على التوبة أنهم يصيرون إخوانا للمؤمنين، «فناسب أن يفرّع على توبتهم عدم التعرض لهم بسوء، وقد حصل من مجموع الآيتين أن توبتهم توجب أمنهم وأخوتهم» (2).
__________
(1) محمد رشيد رضا تفسير المنار ج 10ص 187186.
(2) محمد الطاهر بن عاشور تفسير التحرير والتنوير ج 10ص 127.(1/168)
وهذا من كمال عدل القرآن الكريم ورحمته بالنّاس حيث إنّه منح للمشرك والكافر فرص إعادة النظر فيما هو فيه، وفرص مراجعة النفس عسى أن ترجع عن الكفر وتدخل في دائرة الإيمان، ومقابلة الآيات بين الظلم والعدل واضحة بارزة، وهي تهدف إلى بيان صفة هذا النموذج البشري، وبيان العدل الإلهي في معاملة الناس على اختلاف مشاربهم.
وقال تعالى: {يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللََّهِ بِأَفْوََاهِهِمْ وَيَأْبَى اللََّهُ إِلََّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكََافِرُونَ (32) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى ََ وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [التوبة: 3332].
وردت هذه الآيات في سياق الحديث عن أهل الكتاب وهم اليهود والنصارى، فبعد مجيء رسالة الإسلام «أراد هؤلاء أن يطفئوا النور الذي أفاضه الله على البشر بهداية دينه الحق الذي أوحاه إلى موسى وعيسى وغيرهما من رسله ثم أتمه وأكمله ببعثة خاتم النبيين محمد صلى الله عليه وسلم بالطعن في الإسلام، والصدّ عنه بالباطل، كما فعلوا من قبل بمثل الأقوال في عزير والمسيح التي لم تتجاوز أفواههم إلى معنى صحيح، وبما ابتدعه الرؤساء له من التشريع، حتى صار التوحيد الذي أمروا به عندهم شركا، والعبد المربوب ربا، والعابد المألوه إلها» (1).
وإرادتهم هذه وقصدهم إلى إبطال الإسلام، وطمس القرآن ظلم أيّما ظلم، فهو ظلم لله بشركهم به وكفرهم بدينه، وظلم لرسوله بمعاداته ومحاربته، وظلم لأنفسهم بتوصيلها إلى المهالك، وإبعادها عن الهدى.
أما العدل الإلهي فيتمثّل في إرادة الله سبحانه وحده وأنّه سينصر دينه، ويبثّ شرعه، ويظهر نوره على الدين كلّه ولو كره المشركون، وهذا العدل هو في مقابل ما صدر من المشركين من ظلم وعدوان، فالصراع بين الحق والباطل هو صراع دائم مستمر، ولكن الغلبة في النهاية هي للحق دائما، والعدل الإلهي
__________
(1) محمد رشيد رضا تفسير المنار ج 10ص 383.(1/169)
هو هذا الحق الذي يسعى الدين إلى نشره، وهذا الخير الذي جاء به القرآن، وبيّنه الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، فالظلم والباطل لهما جولة ولكن للعدل والحق جولات.
وفي هذه الآيات مقابلة مستفادة من السياق بين الظلم البشري المتمثّل في ظلم أهل الشرك وعداوتهم للإسلام والمسلمين، وبين العدل الإلهي المتمثّل في الحق والنور الإلهي الذي أظهرهما الله على الأرض.
وقال تعالى: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللََّهِ اثْنََا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتََابِ اللََّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهََا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذََلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلََا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقََاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمََا يُقََاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللََّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ}
[التوبة: 36].
جاء ذكر الظلم في هذه الآية في قوله تعالى: {فَلََا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ}
أي «لا تظلموا أنفسكم بالمعاصي في جميع السنة يعني أنّ حرمة الدين أعظم من حرمة الأشهر الأربعة في الجاهلية، ووجه تخصيص المعاصي في هذه الأشهر بالنهي أنّ الله جعلها مواقيت للعبادة» (1).
قال محمد رشيد رضا: {«فَلََا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ} الضمير «فيهن» للأربعة الحرم عند الجمهور، وقيل لجميع الشهور، وظلم النفس يشمل كل محظور ويدخل فيه هتك حرمة الشهر الحرام دخولا أوليا، فإنّ الله تعالى اختصّ بعض الأزمنة وبعض الأمكنة بأحكام من العبادات تستلزم ترك المحرمات فيها، والمكروهات بالأولى، لأجل تنشيط الأنفس على زيادة العناية بما يزكّيها ويرفع من شأنها، فإن من طبع البشر الملل والسآمة من الاستمرار على حالة واحدة تشقّ عليها، فجعل الله العبادات الدائمة خفيفة لا مشقّة في أدائها كالصلوات الخمس الخ» (2).
__________
(1) محمد الطاهر بن عاشور تفسير التحرير والتنوير ج 10ص 186.
(2) تفسير المنار ج 10ص 413.(1/170)
فظلم الأنفس الذي تتحدث عنه الآية هو ترك الواجبات والاعتداء على حق الله في الحاكمية، وفي التحليل والتحريم، أما العدل الذي قابل هذا الظلم فهو في حكمة الله وتدبيره للكون، وجعله للسنن الكونية الذي يعرف بها البشر سبل معاشهم، وجعله للأشهر الحرم التي تخصّص للعبادة، ويمنع فيها القتال، وتصفّى فيها القلوب بين الناس، وتتوجه بالعبادة الخالصة إلى إله الكون وحده، وهذا هو مقتضى العدل الإلهي الذي نازع فيه البشر مشيئة الله وقدرته فحلّلوا ما حرّمه، وحرّموا ما أحلّه، فظلموا أنفسهم وظلموا الله بمنازعته في خصائصه ومقوماته.
د المقابلة بين الاجتماع والفرقة:
الاجتماع والجمع ضمّ الشيء بتقريب بعضه من بعض (1) وهو ضد الفرقة، والاجتماع في مفهومه العام هو نوع من الولاء إلى الجماعة الواحدة تقتضيه الفطرة والشرع لإشباع غريزة الألفة، وتحقيق حاجات النفس إلى التجمع والتعاون (2)، وهو المقصود في قوله تعالى: {يََا أَيُّهَا النََّاسُ إِنََّا خَلَقْنََاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى ََ وَجَعَلْنََاكُمْ شُعُوباً وَقَبََائِلَ لِتَعََارَفُوا} [الحجرات: 13].
فالتعارف هو من الاجتماع الذي يدعو إلى التماسك والارتباط ضمن مجتمع واحد، وضمن قبيلة واحدة، أما الفرقة فتعني الاختلاف والافتراق وحلّ الروابط الجماعية داخل الجماعة الواحدة أو المجتمع الواحد، وهو الذي حذّرت منه الرسالات السماوية ودعت إلى نبذه واحتقاره.
وهذه الثنائية هي من الثنائيات الهامة التي اهتم بها القرآن الكريم في آياته وسوره لارتباطها المباشر بحياة الناس وواقعهم، ولعلاقتها الوطيدة بالقيم الاجتماعية والسياسية التي تربط الإنسان بمجتمعه.
__________
(1) الفيروزآبادي بصائر ذوي التمييز ج 2ص 390.
(2) زكريا المصري وحدة الأمة الإسلامية على أسس صحيحة وواقعية ط 1مؤسسة الرسالة سنة 1992ص 35.(1/171)
ولقد دعا القرآن الكريم إلى الاجتماع والوحدة لأنهما من طبيعته، وهما ركناها اللذان تقوم عليهما دعوته الدينية العامة الموجهة إلى الناس أجمعين، ولقد استجاب لها المسلمون في أول عهدهم فأكسبتهم قوة وعزّة وغلبة عزّت بها الدعوة الدينية فانتشرت وانتصرت وصدّت من عارضها، فتفتحت أمامها الطرق، واتسع لها الأفق، وعمت بلاد من كان يعارضها ويدفعها ويقف في طريقها بما كان له من قوة ومال وجاه ورجال (1).
ولكن هذا الاجتماع قد وضع له الشرع أسسا تفضي به إلى أن يكون عنصر خير للبشر يحميهم من عدوهم الأول وهو الشيطان الرجيم ويحول دون استغلال الشيطان وعملائه من البشر لما جبل عليه الإنسان من الشهوات المختلفة: شهوة الجاه أو المال أو الجنس أو اتباع الهوى أو التقليد فيرسم له الطريق الصحيح الذي يوصله إلى دار السلام في الدنيا والآخرة.
«فوضع الله لهذا التجمع أساسا متينا وهو التقوى لله تعالى والإيمان به، والإيمان عمل القلب، والتقوى عمل الجوارح، فإذا تلقى القلب عن الله وعملت الجوارح بما تلقاه القلب فإنّ ذلك سوف يؤدي بالإنسان إلى أن يكون عنصرا صالحا في التجمع البشري، وأن يكون المجتمع المتلقّي عن الله مجتمعا مثاليا لأن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي» (2).
فقضية الاجتماع كغيرها من القضايا التي تناولناها مرتبطة أساسا في المنهج القرآني بحقائق التصور الإسلامي عن الكون والحياة والإنسان، ولذلك فهي من مقتضيات العقيدة، قال تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللََّهِ جَمِيعاً وَلََا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا}
__________
(1) الوحدة الإسلامية أو التقريب بين المذاهب السبعة جمع وترتيب عبد الكريم الشيرازي ط 1مؤسسة الأعلى بيروت: 1975م ص 142.
(2) زكريا المصري وحدة الأمة الإسلامية ص 3635.(1/172)
{نِعْمَتَ اللََّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدََاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوََاناً وَكُنْتُمْ عَلى ََ شَفََا حُفْرَةٍ مِنَ النََّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهََا كَذََلِكَ يُبَيِّنُ اللََّهُ لَكُمْ آيََاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [آل عمران: 103].
فجاءت الدعوة إلى الاعتصام والتمسّك بحبل الله الذي يمثّل قاعدة التصور الإسلامي، ثم جاء النهي عن التفريق في الدين والاختلاف فيه كما اختلف اليهود والنصارى «والعرب وقت نزول هذه الآية لم تكن مجتمعة على الإسلام، ولا مؤتلفة القلوب عليه، وكانت الأوس والخزرج قد اجتمعت على الإسلام، وتألفت عليه بعد العداوة المفرطة والحروب التي كانت بينهم، ولما تقدم أنه أمرهم بالاعتصام بحبل الله وهو الدين ونهاهم عن التفرق وهو أمر ونهي بديمومة ما هم عليه إذ كانوا معتصمين ومؤتلفين ذكّرهم بأن ما هم عليه من الاعتصام بدين الإسلام وائتلاف القلوب إنما كان سببه إنعام الله عليهم بذلك، إذ حصل منه تعالى خلق تلك الداعية في قلوبهم المستلزمة بحصول الفعل، فذكر النعمة الدنيوية والأخروية، أمّا الدنيوية فتألف قلوبهم وصيرورتهم إخوة في الله متراحمين بعد ما أقاموا متحاربين متقاتلين نحوا من مائة وعشرين سنة إلى أن ألّف الله بينهم بالإسلام وأما الأخروية فإنقاذهم من النار بعد أن كانوا أشفوا على دخولها» (1).
والقرآن الكريم يهدف من وراء دعوته إلى اجتماع الأمة كلها على منهج واحد، وتصوّر واحد، وعدم الاختلاف والتفرق فيه، قال تعالى: {إِنَّ هََذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وََاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء: 93]، «وقد شبّه النبي صلى الله عليه وسلم المؤمنين بأعضاء الجسد الواحد، ولم يكن شيء أبغض إليه بعد الكفر بالله من الاختلاف والتنازع، ولو في الأمور العادية، ولما كان الاختلاف في الفهم والرأي من طباع البشر {وَلََا يَزََالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118) إِلََّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذََلِكَ خَلَقَهُمْ}
[هود: 119118]، خصّ الاختلاف المذموم في الإسلام بما كان عن تفريق أو سببا للتفرق، وجرى على ذلك السلف الصالح، فحظروا فتح باب الآراء في
__________
(1) أبو حيان الأندلسي تفسير البحر المحيط ج 3ص 287286.(1/173)
العقائد وأصول الدين، وحتموا الاعتصام فيهما بالمأثور من غير تأويل، وخصوا الاجتهاد بالأحكام العملية، ولا سيّما المعاملات، وكان بعضهم يعذر كل من خالفه في المسائل الاجتهادية ولا يكلّفه موافقته في فهمه» (1).
وقد كانت عنايته بالاجتماع والوحدة كبيرة لما لهما من أهمية كبيرة في واقع الناس وواقع المجتمعات، وقد عني بإحكام الرابطة بين المسلمين لكي تنمحي الفوارق بينهم، وتختفي فيها الطبقات، ويتساوى فيها جميع الأفراد في منازلهم وحقوقهم وواجباتهم، كما يتساوى الإخوة في الأسرة الواحدة» (2).
وأراد القرآن أن يجعل لهذه «الوحدة وتلك الرابطة ما لرابطة الأخوة من القوة والمكانة، والحرص على صيانتها، والبعد بها عن أن تتعرض لمعاول الهدم والتفريق وأسباب الخصومة والنزاع، فنزل قوله تعالى في سورة الحجرات: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللََّهَ} [الحجرات:
10]، بيانا لمنزلة هذه الرابطة، وإيجابا لصيانتها بالإصلاح بين أفرادها إذا ما اشتجر بينهم خلاف، أو عصفت فيهم ريح الفرقة، وليس أدلّ على مكانتها من أن يعدها الله نعمة يمنّ بها عليهم، ويدعوهم إلى الحرص عليها، ويحذرهم من الفرقة بعد اعتصامهم بها، إذ يقول في سورة آل عمران: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللََّهِ جَمِيعاً وَلََا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللََّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدََاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوََاناً} [آل عمران: 103]، وقوله أيضا: {وَلََا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مََا جََاءَهُمُ الْبَيِّنََاتُ وَأُولََئِكَ لَهُمْ عَذََابٌ عَظِيمٌ} (105) [آل عمران: 105] (3).
ويأتي النهي عن الفرقة دائما في سياق الدعوة إلى الوحدة ونبذ أسباب الاختلاف في الدين، أو في سياق الدعوة إلى عبادة الله والتمسك بحبله المتين، ومن جملة هذه الآيات قوله تعالى: {كََانَ النََّاسُ أُمَّةً وََاحِدَةً فَبَعَثَ اللََّهُ النَّبِيِّينَ}
__________
(1) محمد رشيد رضا الوحدة الإسلامية والأخوة الدينية ط دار المنار: مصر ص 130.
(2) ينظر: الوحدة الإسلامية أو التقريب بين المذاهب السبعة ص 142.
(3) الوحدة الإسلامية أو التقريب بين المذاهب السبعة ص 143142.(1/174)
{مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتََابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النََّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مََا جََاءَتْهُمُ الْبَيِّنََاتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللََّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللََّهُ يَهْدِي مَنْ يَشََاءُ إِلى ََ صِرََاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [البقرة: 213].
فهذه الآية تبين مسيرة البشر في الحياة وتحولاتهم من الحق إلى الباطل، ومن الاجتماع إلى الفرقة والاختلاف فقد كان الناس في البداية مجتمعين على الكفر والضلال والشقاء، ليس لهم نور ولا إيمان، فرحمهم الله تعالى بإرسال الرسل إليهم مبشرين من أطاع الله بثمرات الطاعات من الرزق، والقوة في البدن والقلب، والحياة الطيبة، وأعلى ذلك الفوز برضوان الله والجنة، ومنذرين من عصى الله بثمرات المعصية من حرمان الرزق والضعف والإهانة والحياة الضيقة، وأشد ذلك سخط الله والنار و {وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتََابَ بِالْحَقِّ} وهو الإخبارات الصادقة، والأوامر العادلة، فكلّ ما اشتملت عليه الكتب الإلهية فهو حق، يفصل بين المختلفين في الأصول والفروع، وهذا هو الواجب عند الاختلاف والتنازع، أن يردّ الاختلاف والتنازع إلى الله وإلى رسوله، ولولا أنّ في كتابه وسنّة رسوله فصل النزاع لما أمر بالردّ إليهما، ولما ذكر نعمته العظيمة بإنزال الكتب على أهل الكتاب، وكان هذا يقتضي اتفاقهم عليها واجتماعهم، أخبر تعالى أنهم بغى بعضهم على بعض، وحصل النزاع والخصام وكثرة الاختلاف، فاختلفوا في الكتاب الذي ينبغي أن يكونوا أولى الناس بالاجتماع عليه، وذلك من بعد ما علموه وتيقنوه بالآيات البينات، والأدلة القاطعات، وضلّوا بذلك ضلالا بعيدا» (1).
فسبب الفرقة التي حصلت وتحصل للناس على مرّ الأزمان والعصور يعلّلها القرآن دائما بكثرة الاختلاف في الكتاب، والتنازع في الدين، وعدم الرد إليهما حين يشتد الخصام والجدال حول القضايا المختلف فيها.
__________
(1) عبد الرحمن بن ناصر السعدي تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان تحقيق محمد زهري النجار ط 2عالم الكتب: بيروت 1993م ج 1ص 190.(1/175)
وفي آية أخرى يؤكد القرآن الكريم على أن سبب الاجتماع هو في التمسك بالكتاب، وإقامة الدين، والاجتماع على معاني الحق والعدل، قال تعالى:
{فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللََّهِ الَّتِي فَطَرَ النََّاسَ عَلَيْهََا لََا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللََّهِ ذََلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلََكِنَّ أَكْثَرَ النََّاسِ لََا يَعْلَمُونَ (30) مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلََاةَ وَلََا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (31) مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكََانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِمََا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} [الروم: 3230].
و «إقامة الوجه للدين هو اتجاه القاصد إليه بكل كيانه من غير التفات إلى شيء غيره والخطاب وإن كان خاصا للنبي فإنه عام يدخل فيه كلّ مؤمن
وفطرة الله هي الدين الحنيف وهي الإسلام وهي ما أودع الله سبحانه وتعالى في الإنسان من قوى عاقلة، وطبيعة سليمة في أصل الخلقة، تقبل الطيب، وتنفر من الخبيث، وهذا هو ملاك أمر الدين، دين الله الذي ارتضاه لعباده، وهذه الفطرة تعرض لها عوارض كثيرة تشوّه معالمها، أو تفسد طبيعتها، شأنها في هذا شأن حواس الإنسان، من سمع، وبصر، وذوق، ولمس، وشم، وكما أن لما يعرض للحواس من الآفات، وذلك بما يحمله رسل الله من آيات الله، وما في هذه الآيات من هدى ونور، وقوله: {وَلََا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} أي لا تكونوا من الذين فرقوا دينهم باختلافهم فيه، حتى تفرقوا شيعا وأحزابا، لأنهم يدينون بالباطل، وللباطل وجوه كثيرة، وطرق متشعبة، فبعضهم يعبد هذا الصنم أو ذاك، وبعضهم يعبد النار، وبعضهم يعبد الملائكة، ولكل جماعة مع معبودها أسلوب عبادة، وطقوس وصلوات، وهي عند نفسها أنها على الهدى، وأنّ كل ما سواها في ضلال وخسران، وليس هكذا الحقّ فإنّه وجه واحد، وطريق واحد» (1).
__________
(1) عبد الكريم الخطيب التفسير القرآني للقرآن ج 4ص 517514.(1/176)
فالفرقة التي حصلت للناس جاءت بعد بيان الحق، وإقامة الدين، وبعد الاجتماع على سنن الهدى والفطرة، وهذه الفرقة التي كثيرا ما يحذر منها القرآن هي سبب الفساد في الأرض، والهلاك بين الشعوب.
وقال تعالى: {يََا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبََاتِ وَاعْمَلُوا صََالِحاً إِنِّي بِمََا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (51) وَإِنَّ هََذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وََاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ (52) فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُراً كُلُّ حِزْبٍ بِمََا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} [المؤمنون: 5351].
فقد جاء التوكيد في هذه الآيات على أنّ ملة الإسلام هي ملّة واحدة، وأنّ المستحق للعبادة والخضوع هو الله وحده، وعلى أساس هذه القاعدة يجب الاجتماع والوحدة، ولكن الذي أحدثه البشر هو تمزيق هذه الوحدة حين جعلوا دينهم قطعا وفرقا منوعة {كُلُّ حِزْبٍ بِمََا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} «أي كل فرقة من فرق هؤلاء المختلفين المتقطعين دينهم، فرح بباطله، مطمئن النفس، معتقد أنه على الحق» (1).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله (728هـ): «فظهر أن سبب الاجتماع والألفة جمع الدين، والعمل به كله، وهو عبادة الله وحده لا شريك له، كما أمرنا به باطنا وظاهرا، وسبب الفرقة ترك حظ ما أمر العبد به، والبغي بينهم، ونتيجة الجماعة رحمة الله ورضوانه وصلواته، وسعادة الدنيا والآخرة، وبياض الوجوه، ونتيجة الفرقة عذاب الله ولعنته وسواد الوجوه، وبراءة الرسول منهم، وهذا أحد الأدلة على أن الإجماع حجّة قاطعة، فإنهم إذا اجتمعوا كانوا مطيعين لله بذلك مرحومين، فلا يكون طاعة لله ورحمته بفعل لم يأمر الله به، من اعتقاد أو قول أو عمل، فلو كان القول أو العمل الذي اجتمعوا عليه لم يأمر الله به لم يكن ذلك طاعة لله، ولا سببا لرحمته» (2).
__________
(1) محمد جمال الدين القاسمي تفسير القاسمي المسمّى محاسن التأويل ج 12ص 4403.
(2) الفتاوى ج 1ص 1716.(1/177)
إن القرآن الكريم إذن يدعو إلى الاجتماع ويحذر من الفرقة، يدعو إلى الاجتماع الذي يحقق إقامة الدين والولاء لله وللمؤمنين، وبناء المجتمع على أساس من التعاون والتضامن، والمحبة والأخوة تحت راية واحدة، وعقيدة واحدة، ويحذّر من الفرقة بين المؤمنين في دينهم وعقيدتهم التي من شأنها أن تضعف قوتهم، وتهدّد كيانهم، وتجرهم إلى المهالك وإلى غضب الله وعذابه.
ووسائل الاجتماع بين المؤمنين من خلال آي القرآن تتحدد في عنصرين:
أولا: الولاء المطلق لله ورسوله، و «ذلك بتوحيد الألوهية لله تعالى دون شريك بمعنى أن يفرد الله تعالى بالطاعة والتلقي، بحيث يطرح كلّ أمر أو نهي إذا تعارض مع أمر الله تعالى، واعتقاد وجوب تقديم أمر الله تعالى ورسوله عليه كائنا من كان، والعمل على تحقيق ذلك في إطار القدرة والاستطاعة {لََا يُكَلِّفُ اللََّهُ نَفْساً إِلََّا وُسْعَهََا} [البقرة: 286]، لأن الاعتقاد لا سلطان لأحد عليه لكونه من أعمال القلوب، ولا يسيطر عليها ولا يعلم ما فيها إلا الله تعالى، وأمّا المجال التطبيقي فيتعلق بأعمال الجوارح، وهذه يعتريها من الضغوط المادية والأدبية ما يحول دون تمكنها من القيام بتنفيذ ما تعتقد ويعتمد الولاء لله تعالى على عنصرين: المحبة والمناصرة {وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلََّهِ} [البقرة: 165]، ونصرة الله تعالى بالعمل بأحكامه التشريعية والاعتقادية (1).
ثانيا: الولاء للمؤمنين الذين ينتمون إلى المبدأ نفسه، وهو «الولاء للمجانسين في المعتقد على مستوى القمة وعلى مستوى القاعدة بالمحبة والمناصرة أيضا ليصيروا بالولاء جسدا واحدا متفاعلا يحس بعضه بأحاسيس بعض» (2).
فالولاء لله والولاء للمؤمنين والمحبة والمناصرة لهما كلّ ذلك من الوسائل الداعية إلى تحقيق الاجتماع بين الناس، والألفة بين أفراد المجتمع، وهو
__________
(1) زكريا المصري وحدة الأمة الإسلامية على أسس صحيحة وواقعية ص 7069.
(2) زكريا المصري وحدة الأمة الإسلامية على أسس صحيحة وواقعية ص 70.(1/178)
المقصود في قوله تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللََّهِ جَمِيعاً وَلََا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللََّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدََاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوََاناً} [آل عمران: 103].
وبعد بيان أهمية الاجتماع في القرآن الكريم بعامة وكيف أن القرآن ربطه بقضايا العقيدة والتصور، وكيف تناوله وبيّن الوسائل الكفيلة بتحقيقه، وكيف أنه حذّر من الفرقة ودعا إلى نبذها، نمضي الآن مع سورة التوبة لنقف عند بعض الآيات التي تظهر فيها المقابلة بين الاجتماع والفرقة ونبيّن القيم المعنوية والفكرية وغيرها من القيم التي يهدف إليها التعبير، وتسعى إليها الآيات.
قال تعالى: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِرََاراً وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصََاداً لِمَنْ حََارَبَ اللََّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنََا إِلَّا الْحُسْنى ََ وَاللََّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكََاذِبُونَ (107) لََا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى ََ مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجََالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللََّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ} [التوبة: 108107].
نزلت هذه الآيات في بيان واقعة حال من مكايد المنافقين للرسول صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين، وفيها مقابلة ضمنية بين الاجتماع والفرقة، فالمنافقون قصدوا ببناء مسجد الضرار إلى إيقاع الضرر بالمؤمنين وبثّ الفرقة بين صفوفهم، أما الاجتماع فتظهر صوره في دعوة القرآن إلى التمسك بالجماعة والصلاة في المسجد الذي أسس على التقوى.
وكانت غاية المنافقين من بناء مسجد الضرار أربعة أغراض:
1 - محاولة إيقاع الضرر بالمؤمنين.
2 - الدعوة إلى تقوية الكفر.
3 - التفريق بين المؤمنين، وبثّ الفرقة والاختلاف بين صفوفهم.
4 - الانتظار والإرصاد لمن حارب الله ورسوله أن يجيء محاربا فيجد مكانا له في هذا المسجد، ويجد قوما راصدين مستعدين للحرب معه (1).
__________
(1) محمد رشيد رضا تفسير المنار ج 11ص 39.(1/179)
إنّ هذا المسجد الذي بناه المنافقون كان سببا من الأسباب الداعية إلى الفرقة بين المؤمنين، ولذلك جاء التحذير القرآني {لََا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً} للنهي عن الصلاة فيه، والقرب منه، والدعوة إلى مقاطعته ونبذه، وجاءت الدعوة إلى الوحدة والاجتماع في المسجد الذي أسس على التقوى، {لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى ََ مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ} و «التقوى الاسم الجامع لما يرضي الله ويقي من سخطه، أي أن مسجدا قصد ببنائه منذ وضع أساسه في أول يوم تقوى الله تعالى بإخلاص العبادة له، وجمع المؤمنين فيه على ما يرضيه من التعارف والتعاون على البرّ والتقوى هو أحقّ أن تقوم فيه أيّها الرسول مصليا بالمؤمنين من غيره، ولا سيّما ذلك المسجد الذي وضع أساسه على المقاصد الأربعة الخبيثة» (1).
وغاية المقابلة الضمنية بين الاجتماع والفرقة في هذه الآيات على غرار بيان الحق وتمييزه من الباطل، وكشف أهل النفاق ودحض مكايدهم وفضح خططهم، الدعوة إلى الاجتماع والوحدة في ظل المسجد الواحد، والعقيدة الواحدة، والتصدي لأسباب الفرقة والاختلاف من أية جهة كانت.
وقال تعالى في آخر سورة التوبة: {لَقَدْ جََاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مََا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (128) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللََّهُ لََا إِلََهَ إِلََّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} [التوبة:
129128].
لقد جاءت خاتمة هذه السورة في آيتين تذكّران المؤمنين بالمنّة ببعثة محمد صلى الله عليه وسلم، والتنويه بصفاته الجامعة للكمال، ومن أخصها حرصه على هداهم، ورغبته في إيمانهم ودخولهم في جامعة الإسلام ليكون رءوفا رحيما بهم
__________
(1) محمد رشيد رضا تفسير المنار ج 11ص 42.(1/180)
ليعلموا أنّ ما لقيه المعرضون عن الإسلام من الإغلاظ عليهم بالقول والفعل ما هو إلا استصلاح لحالهم (1).
وفي قوله تعالى: {عَزِيزٌ عَلَيْهِ مََا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ} «إلفات للعرب أيضا إلى ما يحمل الرسول الكريم من مشاعر الحب لقومه، والحدب عليه بما لم يعرف إلا في الآباء للأبناء وحدبهم عليهم، حتى لقد حمل ذلك الحبّ وهذا الحدب النبي الكريم، على أن يبيت مؤرقا مسهدا موجعا لخلاف قومه عليه، وتفلتهم من بين يديه، وهو يدعوهم إلى النجاة، وهم يلقون بأنفسهم في مهاوي الهالكين» (2).
ففي هاتين الآيتين مقابلة ضمنية بين الاجتماع والفرقة، فالاجتماع مستفاد من قوله تعالى: {عَزِيزٌ عَلَيْهِ مََا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ}، والفرقة مستفادة من قوله تعالى: {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللََّهُ}، وغاية هذه المقابلة بيان قيمة الرسول صلى الله عليه وسلم المعنوية والواقعية في حياة المؤمنين، وتوضيح أنّه حريص على الدين وعلى اجتماع الأمة على العقيدة الواحدة، والمبدأ المشترك، أما إذا اختارت الأمة التفرق والاختلاف واتباع الأهواء والشهوات فسيبقى وحده متمسكا بحبل الله، مقيما للدين لأنه لا سبيل إلى النجاة إلّا به.
* * * __________
(1) محمد الطاهر بن عاشور تفسير التحرير والتنوير ج 11ص 70.
(2) عبد الكريم الخطيب التفسير القرآني للقرآن ج 2ص 926925.(1/181)
الفصل الخامس المقابلة وقضايا العلم والفكر
أالمقابلة بين العلم والجهل:
الجهل نقيض العلم، وهو على ثلاثة أضرب:
الأول: خلوّ النفس من العلم، هذا هو الأصل.
الثاني: اعتقاد الشيء على خلاف ما هو عليه.
الثالث: فعل الشيء بخلاف ما حقّه أن يفعل، سواء اعتقد فيه اعتقادا صحيحا أو فاسدا كمن يترك الصلاة عمدا، وعلى ذلك قوله تعالى: {أَتَتَّخِذُنََا هُزُواً قََالَ أَعُوذُ بِاللََّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجََاهِلِينَ} (67) [البقرة: 67]. فجعل فعل الهزو جهلا (1).
والعلم هو معرفة المعلوم من الذوات والصفات والمعاني على ما هو عليه، وهو مصدر علم يعلم علما، وينقسم إلى: ضروري ونظري.
فالعلم الضروري: هو ما لا يحتاج المرء معه إلى تأمل وتفكر من سائر البدهيات، كمعرفة المحسوسات والمرئيات مما يدرك بالحواس الخمس التي هي السمع والبصر، واللمس، والذوق، والشم.
ونظري: وهو ما يحتاج المرء فيه إلى تأمل وإعمال فكر، وسواء ما كان يدرك بالقلب وحده كالغيبيات من وجود الله تعالى والملائكة، أو بالقلب مع الحواس كالواحد نصف سدس الاثني عشر، والشمس أكبر من القمر (2).
__________
(1) الفيروزآبادي بصائر ذوي التمييز ج 2ص 406.
(2) أبو بكر جابر الجزائري العلم والعلماء ط دار الكتب السلفية: القاهرة ص 11.(1/183)
وكلمة «العلم» من أشيع الكلمات المستعملة قديما وحديثا، وازدادت شيوعا في عصرنا الحالي بحيث أصبحت جزءا من الثقافة العامة التي تفتخر بها كلّ أمة من الأمم، ومع ذلك كلّه فإنّ كلمة «العلم» ما زال يكتنفها الغموض والإبهام، وقليل من النّاس من يدرك ما هو «العلم». وعموما فكلمة «العلم» في دور من أدوارها تطلق على ما يضاد الجهل بنوع محدود من المعارف، فإذا نظرنا إلى حال هذه الكلمة عند العرب مثلا في حال جاهليتهم فقد كانت تطلق على ما ينافي الجهل بمعارف الجاهليين المحدودة، وكانت لا تتعدى الشعر والكهانة، والقيافة، والخطابة، فلمّا ظهر الإسلام كان يراد من العلم ما ينافي الجهل بما ظهر في المعارف الجديدة وهي الكتاب والسنّة وأخبار الملاحم، ولما ازدادت معارف العرب صارت تطلق على ما ينافي الجهل بما ظهر من المعارف الجديدة كالفقه والتفسير وشرح السنّة والتاريخ وطبقات رواة الحديث والنّحو، ثم انتشرت العلوم الكونية فيهم فصار يستعملها كل فريق فيما هو متمكن فيه فاتسع مدلولها اتساعا يناسب اتساع مجالات المعارف الجديدة (1).
وأصبحت كلمة «العلم» تعني اليوم مجموع المعارف المؤيدة بالدلائل الحسية، وجملة النواميس التي اكتشفت لتعليل حوادث الطبيعة تعليلا مؤسسا على تلك النواميس الثابتة، ولا تستعمل إلّا مفردة، ومع ذلك فقد تطلق على مجموع المعارف في فرع خاص من المعارف، وفي هذه الحالة يطلق بها التخصيص فيقال: علم الكيمياء وعلم الفلك مثلا، وقد يعتريها الجمع فيقال:
العلوم الكونية، والعلوم الرياضية (2).
__________
(1) حسين رشوان العلم والبحث العلمي دراسة في مناهج العلوم ط 3المكتب الجامعي الحديث: الاسكندرية 1987م ص 11.
(2) نفسه ص 12.(1/184)
و «جملة القول فإن العلم هو محاولة لاكتشاف العالم المحسوس، ومعرفة العلاقات المتداخلة والمنسقة للحقائق، ذلك أنّ الحقائق المنعزلة لا تقيم علما، ومن ثمّ فلا بدّ من اكتشاف الصلة بينها وبين بعضها البعض» (1).
فالعلم أصبح في العصر الحاضر جزءا من ثقافة الأمة، وأصبح معلما من معالم المدنية والتحضر، وفي مقابل ذلك أصبح الجهل دليلا على التخلّف، وغدا منافيا لقيم الحضارة والتقدم، وأصبحت الأمم تعطي أهمية بالغة للعلم من حيث طلبه وتوفير وسائله والإنفاق عليه، وسعت في مقابل ذلك إلى محاربة الفقر بكل الوسائل الممكنة لاقتناعها بالدور الذي أصبح يؤديه «العلم» في بناء المجتمعات بناء قويا متينا.
وقبل الحديث عن ثنائية «العلم» و «الجهل» في القرآن الكريم لا بدّ من الإشارة إلى قضية هامة أثارت جدلا عند بعض الدارسين والمفكرين قديما وحديثا وهي علاقة العلم بالدين، وهل تتنافى حقيقة قيم العلم مع قيم الدين؟
وما هي الصورة الحقيقة لهذه القضية في الشريعة الإسلامية؟
وشبهة القائلين بتنافر العلاقة بين العلم والدين تستند إلى أنّ الأفكار المتطورة الحديثة تؤكد أنّ «الحقيقة» ليست إلّا ما يمكن فحصه وتجربته علميا، وقد قام «الدين» على «حقيقة» لا سبيل إلى مشاهدتها وفحصها علميا، وبعبارة أخرى: إن التفسير الديني للأحداث والوقائع لا يمكن إثباته بالوسائل العلمية، فهو باطل لا حقيقة له، ويترتب على هذا القول «أن الدين تفسير زائف لوقائع حقيقية» (2).
والردّ على هذا الزعم يرتكز على أنّ «قضية الخلاف المزعوم بين العلم والدين هي من أهمّ القضايا الوافدة إلى البلاد الإسلامية، وهي قضية لم يعرفها
__________
(1) نفسه ص 16.
(2) العلم والإيمان في الإسلام مجموعة من الباحثين ط وزارة الشئون الثقافية: تونس، 1975م ص 93.(1/185)
علماء المسلمين وفلاسفتهم وأطباؤهم القدماء، وجميع المشتغلين منهم بقضايا العلم وقضايا الدين، وإنّما عرفها بعض المسلمين المعاصرين الذين ليس لهم إلمام بالثقافة الإسلامية، بعد اتصالهم بالعالم الغربي المسيحي الذي شغلته هذه القضية منذ بدء النهضة الأوروبية الحديثة، وظهور بعض الحقائق والنظريات العلمية التي تخالف النصوص الدينية المسيحية أو تناقضها، إذ أنّ الدين في صورته المحرّفة عندهم غير عقلي ولا علمي، وطبيعي أن يحتدم الصراع عندهم بين رجال الدين ورجال العلم احتداما بالغا، وخاصة بعد هجوم الكشوف العلمية على الطبيعية وأسرارها، وتسخير قواها في التكوين والتخريب» (1).
فالبحث في علاقة الدين بالعلم هو بحث غريب على الفكر الإسلامي أصلا، لأنّ تربته الأصلية التي وجد فيها هي «أوروبا» حيث احتدم الصراع بين رجال الكنيسة، ورجال الدين، ومنه انبثق ذلك الفصام بين العلم والدين والذي قاد «أوروبا» إلى اتخاذ موقف معارض للدين، أمّا في بلاد الإسلام فلم يبحث هذا الموضوع أصلا لغرابته ومخالفته لمبادئ القرآن الكريم، وروح الدين الإسلامي.
فمن الدلائل القاطعة على أنّ موضوع العلم وموضوع الدين واحد، أنّ القرآن جعل الاعتماد الأكبر على الفكر في الإيمان بالله الخالق، ومعرفة صفاته سبحانه، وفي استمداد ذلك من الكون المادي، كما يعتمد العلماء الماديون على الفكر في فهم الطبيعة، واستخراج قوانينها، وتقرير حقائقها، وكشف أسرارها، وقد بيّن القرآن الكريم أنّ الكون المادي الذي نراه هو من العرش العظيم لله الخالق، ونحن نراه رأي العين، ونوقن منه يقين القلب، بعد جزم العقل بوجود الله، ووحدانية ذاته الأقدس، متجليا ذلك كلّه فيما خلق وما أبدع. ومن لا يستنبط من الكون ناموسه الأكبر، وسره الأعظم الذي يدلّ على خالقه الأوحد فهو حقيق بألّا يوصف بالعلم أو الفكر.
__________
(1) نفسة ص 83.(1/186)
«فالقرآن الكريم جعل أساس الإيمان بالدين هو الفكر، وأساس العلم كذلك هو الفكر، ولذلك اعتمد عليه القرآن في توصيل حقائقه إلى النفوس فقال تعالى: {إِنََّا أَنْزَلْنََاهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} (2) [يوسف: 2]. فمن يهدر العقل، ولا يعترف به في مجال الدين فقد أهدر أعظم أدوات القرآن في التوجيه للإيمان، وسلك به مسلك الأديان الأخرى التي لا تعتمد إلّا على الوجدان والمشاعر، وعدم وضوح الرؤية العقلية للحقيقة الدينية الأولى» (1).
ومن الأدلة كذلك على عدم التفريق بين العلم والدين في الإسلام «أنّ القرآن يحتفي بالمادة في بيان سنن الله فيها وأسرارها، ويحثّ على اكتشاف أبعادها ومخبّآتها، ويرى العقل أنّ المادة ليست شيئا تافها أو حقيرا، أو سجنا للروح، أو مناقضة لها وطبيعي أن يكون الاحتفاء ممثلا في العلم التام، وبجزئياتها وسننها وقوانينها. وما دامت هي من عرش ربنا ومن معالم الطريق إلى معرفته، إذن يكون العلم بها جزءا لأنّه مفتاح رؤية الطريق إلى معرفة الله عزّ وجل معرفة علمية» (2).
ويعد بيان أنّه لا تناقض بين «العلم» والدين في نظر القرآن الكريم، يأتي الحديث عن الموضوع الهام الذي نريد التركيز عليه في هذه الدراسة، وهو «العلم» ومفهومه في المنهج القرآني، ثم نقف بعد ذلك عند الأهمية الخاصة التي يوليها القرآن لموضوع «العلم»، وكيف قابل بينه وبين «الجهل».
العلم في المفهوم القرآني يشمل ثلاثة أنواع:
الأول: وهو العلم المكتسب وهو من أعظم المميّزات التي وهبها الله للإنسان، وهو مبني على مسلمات البداهة، والفطرة التي فطر الله الناس عليها،
__________
(1) العلم والإيمان في الإسلام مجموعة من الباحثين ط وزارة الشئون الثقافية: تونس، 1975م ص 86.
(2) نفسة ص 87.(1/187)
ومبني كذلك على قدرة العقل على إثبات الحقائق بالبرهان، كقوانين الرياضيات، وكاليقين العقلي الجازم بحتمية وجود الخالق، إلى آخر الحقائق الدينية والكونية العقلية كوحدانية الخالق في خلقه، وأبديته في ذاته، وحتمية إحاطة علمه وقدرته بكل شيء، وكعدله ورحمته.
وهذا النوع من «العلم» هو المراد في قوله تعالى: {شَهِدَ اللََّهُ أَنَّهُ لََا إِلََهَ إِلََّا هُوَ وَالْمَلََائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ قََائِماً بِالْقِسْطِ لََا إِلََهَ إِلََّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [آل عمران: 18].
وفي قوله تعالى: {وَالرََّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنََّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنََا} [آل عمران:
7].
و «هذا النوع من العلم هو أعظم مقامات الإنسان، لأنه يجعله شاهدا مع الله الكبير المتعالي، ومع ملئه الأعلى على أعظم حقيقة عقلية ودينية وكونية وهي وحدانية الله تعالى، وقيّوميته على الوجود كلّه بالقسط، وعلى عزّته وقوّته وحكمته» (1)، «فالراسخون في العلم الذين بلغ من علمهم أن يعرفوا مجال العقل، وطبيعة التفكير البشري، وحدود المجال الذي يملك العمل فيه بوسائله الممنوحة، أما هؤلاء فيقولون في طمأنينة وثقة {آمَنََّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنََا} (7) [آل عمران: 7]، وهم يطمئنون إليه بفطرتهم الصادقة الواصلة، ثمّ لا يجدون من عقولهم شكا فيه كذلك، لأنهم يدركون أنّ من العلم ألا يخوض العقل فيما لا مجال فيه للعلم، وفيما لا تؤهله وسائله وأدواته الإنسانية لعلمه» (2).
الثاني: هو العلم المبني على التجارب الحسية في الطبيعة، وعلى النظر والتأمل في كلّ ما خلق، وعلى استخلاص قوانين التكوين والهدم والتسخير لقوى الطبيعة (3)، وهو المستفاد من قوله تعالى: {إِنَّمََا يَخْشَى اللََّهَ مِنْ عِبََادِهِ الْعُلَمََاءُ} (28) [فاطر: 28].
__________
(1) العلم والإيمان في الإسلام لمجموعة من المؤلفين ص 87، 88.
(2) سيد قطب في ظلال القرآن ج 1ص 37.
(3) العلم والإيمان في الإسلام مجموعة من المؤلفين ص 88.(1/188)
«ولا يخفى أنّ النوع الأول من المفاهيم القرآنية للعلم، وهو الحكم العقلي هو في الواقع وراء كل علم مستنبط من المشاهدة والتجارب الحسيّة، لأنه هو الذي يستخدمه الفكر لإدراك الحقائق الحسية، والنسب والعلاقات بين الأشياء، والتمييز بينها، وتصنيفها، واستخراج قوانينها وأسرارها، لأنّ الحقائق والقوانين الطبيعية لا تنطق بذاتها، ولا تخرج إلى عالم الألفاظ وحدها، وإنما يستخرجها الفكر الإنساني ويصحبها، ليبرزها ويظهرها في علم الصيغ والألفاظ، ويقننها ويسجلها في سجل العلوم والحقائق الثابتة في ميراث الإنسانية كلّها» (1).
والعلم المقصود في قوله تعالى: {إِنَّمََا يَخْشَى اللََّهَ مِنْ عِبََادِهِ الْعُلَمََاءُ}
[فاطر: 28]، هو العلم الذي لا يحصّل إلّا بالبحث الجاد، والنظر المتأمل، والعقل الدارس المفكر في خلق السموات والأرض، وما في السماوات والأرض، فمعرفة الله أولا ثم الخشية منه ثانيا (2).
والنوع الثالث من العلم في المفاهيم القرآنية «هو العلم عن طريق الوحي الإلهي للأنبياء، وهو بمعنى آخر علم الشرع، ولا يأتي عن طريق معاناة الحواس أو العقل في إدراكهما الحقائق الحسية أو العقلية، كما هو الشأن في النوعين السابقين الأول والثاني من العلم، إنّما يأتي كما قلنا عن طريق الوحي الإلهي إلى الروح الإنساني الممثل في الأنبياء والمرسلين.
فهو فيض من علم الله سبحانه ونوره الكاشف، ينزّله على قلب النبيّ بحقائق بعضها من الغيب المحجب من العقول، كأخبار البعث والقيامة والحشر والحساب والجنّة والنار والملأ الأعلى، وبعضها من عالم التجارب والوقائع والشرائع والنظم في هذه الحياة الدنيا كأخبار الأمم السالفة، وكأنباء المستقبل، وكالأحكام الصحيحة في الاجتماع والسياسة والاقتصاد والشريعة، وكل أولئك
__________
(1) العلم والإيمان في الإسلام مجموعة من المؤلفين ص 88.
(2) عبد الكريم الخطيب التفسير القرآني للقرآن ج 4ص 881.(1/189)
ينزل بوحي الله للرسول ليعلمه ويبلغه إلى النّاس حقائق مضيئة هادية تكسب المؤمنين علما ويقينا لم يبذل عقل الرسول ولا عقول المؤمنين جهدا في معاناة الوصول إليه» (1).
فمن هذه المفاهيم الثلاثة «للعلم» في المنهج القرآني يستنتج أنّ مدلول «العلم» في القرآن ليس قاصرا على العلم الديني كما يظن بعض النّاس بل إنّه يتسع فيشتمل على كل المعارف الدينية والدنيوية، يدلّ على ذلك أنّ القرآن قد جعل «العلم» بالله، وصفاته وأفعاله أعلى المعارف، وأرقى ما يصل إليه الإنسان عن طريقين: عن طريق العلم بالوحي الذي بعث به الأنبياء، وهو المعبّر عنه «بالأمر»، وعن طريق العلم بالكون وأسراره ومسخراته، وهو المعبر عنه «بالخلق»، قال تعالى: {اللََّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمََاوََاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللََّهَ عَلى ََ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللََّهَ قَدْ أَحََاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً} [الطلاق: 17]، فدلّ على أنّ علم النّاس بربّهم وصفاته وأفعاله غاية وسيلتها العلم بخلق السموات والأرض والعلم بما يتنزّل بينهما من الوحي (2).
«ولهذا لم يوصد الإسلام باب العلم، ولم يقف به عند حدّ معيّن لزمان معيّن، ولم يحدّد للعلم نظريات تعتبر وحيا لا يجوز البعد عنه، بل فتح آفاق التجدد والبحث، وحثّ على طلب المزيد {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً} [طه: 114]، وأخبر بأنّه سيوجد ما لا علم لهم به {وَيَخْلُقُ مََا لََا تَعْلَمُونَ} [النحل: 16]، وحذّر من الاغترار مما حصّل من علم فيحول ذلك بينهم وبين طلب المزيد، {وَمََا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلََّا قَلِيلًا} [الإسراء: 17]، وكان هذا القول تعقيبا على سؤالهم عن الروح وهي من أسرار الله في الخلق، وليست من قبيل «الأوامر» الدينية» (3).
__________
(1) العلم والإيمان في الإسلام مجموعة من المؤلفين ص 89.
(2) عبد المجيد صبح العلم والإيمان ط 1دار الوفاء: المنصورة، 1984ص 34، 35.
(3) محمد الطاهر بن عاشور تفسير التحرير والتنوير ج 23ص 348، 349.(1/190)
لقد حارب القرآن الكريم الجمود العلمي، وحثّ على النظر والاستدلال، وطلب الحقيقة الصادقة بأدلتها المقنعة للعقول، قال تعالى: {الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} [الزمر: 18]، كما حارب القرآن الجمود العقلي، وهو آفة من الآفات التي تتسرب إلى النفوس فتجعلها تقف أمام الحقائق موقفا معاندا ومكابرا ورافضا لكل أنواع الحجج والبراهين، قال تعالى: {أَوَلَوْ كََانَ آبََاؤُهُمْ لََا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلََا يَهْتَدُونَ} [البقرة: 170].
إن الحديث عن أهمية العلم في القرآن الكريم يقودنا إلى تقرير هذه الحقيقة، وهي أنّه لا يوجد دين من الأديان، ولا مذهب من المذاهب اهتم بالعلم وحضّ عليه، وبالغ في رفع منزلته، وجعله سبب الفلاح في الآخرة، والنجاح في الدنيا كاهتمام القرآن به، وقد فاضل القرآن بين العلم والجهل فقال تعالى: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لََا يَعْلَمُونَ إِنَّمََا يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبََابِ} [الزمر: 9]، «والمقصود من الآية إثبات عدم المساواة بين الفريقين، وعدم المساواة يكنّى به عن التفضيل، والمراد تفضيل الذين يعلمون على الذين لا يعلمون أي لا يستوي الذين لهم علم فهم يدركون حقائق الأشياء على ما هي عليه، وتجري أعمالهم على حسب علمهم، أما الذين لا يعلمون فلا يدركون الأشياء على ما هي عليه بل تختلط عليهم الحقائق، وتجري أعمالهم على غير انتظام، كحال الذين توهموا الحجارة آلهة، ووضعوا الكفر موضع الشكر» (1).
وعن هذه المقابلة بين «العلم» و «الجهل» استفاد محمد الطاهر بن عاشور القيم المعنوية التالية:
أولا: الاهتداء إلى الشيء المقصود نواله بالعمل به، وهو مقام العمل، فالعالم بالشيء يهتدي إلى طرقه فيبلغ المقصود بيسر وفي قرب، ويعلم ما هو من العمل أولى بالإقبال عنه، وغير العالم به يضل مسالكه، ويضيع زمانه في
__________
(1) محمد الطاهر بن عاشور تفسير التحرير والتنوير ج 23ص 349، 350.(1/191)
طلبه، فإما أن يخيب في سعيه، وإمّا أن يناله بعد أن تتقاذفه الأرزاء وتنتابه النوائب، وتختلط عليه الحقائق، فربّما يتوهم أنّه بلغ المقصود حتى إذا انتبه وجد نفسه في غير مراده، ومثله قوله تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمََالُهُمْ كَسَرََابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مََاءً حَتََّى إِذََا جََاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً} [النور: 39]، ومن أجل هذا شاع تشبيه العلم بالنور، والجهل بالظلمة.
ثانيا: هو مقام السلامة من نوائب الخطأ ومزلات المذلات، فالعلم يعصمه علمه من ذلك، والجاهل يريد السلامة فيقع في التهلكة. فإن الخطأ قد يوقع في الهلاك من حيث طلب الفوز، ومثله قوله تعالى: {فَمََا رَبِحَتْ تِجََارَتُهُمْ} [البقرة:
16]، إذ مثّلهم بالتاجر خرج يطلب فوائد الربح من تجارته فآب بالخسران، ولذلك يشبه سعي الجاهل بخبط العشواء، ولذلك لم يزل أهل النصح يسهلون لطلبة العلم الوسائل التي تقيهم الوقوع فيما لا طائل تحته من أعمالهم.
ثالثا: مقام أنس الانكشاف فالعالم تتميّز عنده المنافع والمضار وتنكشف له الحقائق فيكون مأنوسا بها واثقا بصحة إدراكه، وكلّما انكشفت له حقيقة كان كمن لقي أنيسا بخلاف غير العالم بالأشياء فإنّه في حيرة من أمره حين تختلط عليه المتشابهات فلا يدري ماذا يأخذ وماذا يدع، فإن اجتهد لنفسه خشي الزلل، وإن قلّد خشي زلل مقلّده، وهذا المعنى يدخل تحت قوله تعالى:
{كُلَّمََا أَضََاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذََا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قََامُوا} [البقرة: 20].
رابعا: مقام الغنى عن النّاس بمقدار العلم والمعلومات، فكلّما ازداد علم العالم قوي غناه عن النّاس في دينه ودنياه.
خامسا: الالتذاذ بالمعرفة، وقد حصر فخر الدين الرازي اللذة في المعارف وهي لذة لا تقطعها الكثرة.
سادسا: صدور الآثار النافعة في مدى العمر مما يكسب ثناء النّاس في العاجل، وثواب الله في الآجل، فإن العالم مصدر الإرشاد، والعلم دليل على الخير وقائد إليه، قال تعالى: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لََا يَعْلَمُونَ} [الزمر: 9].(1/192)
فهذه المقابلة التي يعقدها القرآن الكريم بين «العلم» و «الجهل» لها قيمة فكرية كبيرة هي بيان مكانة العلم في حياة النّاس، وأهميته في بناء العقائد وتكوين المجتمعات.
وسنزيد هذا الموضوع وضوحا لبيان منهج القرآن الكريم في تناول قضية «العلم» ونتعرض لبعض القيم الفكرية والدينية المستفادة من الآيات القرآنية، فمن ذلك ما يلاحظ في القرآن من مفاضلة بين المؤمنين بالعلم والجهاد، وجعلهما معا سياجا لحماية المجتمع (1)، قال تعالى: {وَمََا كََانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلََا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طََائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذََا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ} [التوبة: 122]، وسنتحدث عن قيم هذه الآية فيما بعد.
ويلاحظ كذلك أنّ القرآن يعطي مكانة خاصة للعلماء قال تعالى: {يَرْفَعِ اللََّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجََاتٍ} [المجادلة: 11]، فهذا الربط بين العلم والإيمان، وهذه المنزلة العظيمة للعلم يرجعان إلى طبيعة «العلم» «الذي شأنه في هذا شأن الإيمان في رفع إنسانية الإنسان، وإعلاء منزلته، فالإيمان هو في حقيقته علم، والعلم في حقيقته إيمان، وإن إيمانا لا يقوم على علم هو إيمان هزيل باهت لا يؤثر أثرا، ولا يطلع زهرا ولا ثمرا، وإنّ علما لا يفتح للعقل والقلب طريقا إلى الإيمان، ولا تنقدح منه شرارت مضيئة، تضيء للإنسان طريقه إلى الله هو نار تحرق، أو دخان يعمي، ويزكم الأنوف، ويخنق الصدور، وقد جمعت الآية الكريمة بين الإيمان والعلم، وجعلت كلّا منهما صفة لموصوف وذلك أنّ من النّاس من يبدأ الطريق بالعلم ثم يقوده هذا العلم إلى الإيمان، ومنهم من يبدأ الطريق بالإيمان ثم يقوده الإيمان إلى العلم» (2).
__________
(1) عبد المجيد صبح العلم والإيمان ص 25.
(2) عبد الكريم الخطيب التفسير القرآني للقرآن ج 5ص 833.(1/193)
وقد بلغ من حفاوة الإسلام بالعلم أن جعله سببا للإيمان بالله، قال تعالى:
{وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجََارَكَ فَأَجِرْهُ حَتََّى يَسْمَعَ كَلََامَ اللََّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذََلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لََا يَعْلَمُونَ} [التوبة: 6].
قال أبو حيان في «البحر المحيط»: «في هذه دلالة على أنّ النظر في التوحيد أعلى المقامات، إذ عصم دم الكافر المهدر الدم بطلبه النظر والاستدلال وأوجب على الرسول أن يبلغه مأمنه، وفيها دليل على أنّ التقليد غير كاف في الدين» (1).
ومما هو واضح الدلالة على أهمية العلم في القرآن أنّه جعله وسيلة الإقرار بوحدانيته، قال تعالى: {شَهِدَ اللََّهُ أَنَّهُ لََا إِلََهَ إِلََّا هُوَ وَالْمَلََائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ} [آل عمران: 18]، «استشهد بأولي العلم دون غيرهم من البشر، على أجلّ مشهود عليه وهو التوحيد، وقرن شهادتهم بشهادته وشهادة الملائكة» (2).
وجعل القرآن «العلم» سببا لإدراك أسرار الكون، قال تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللََّهِ أَوْلِيََاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كََانُوا يَعْلَمُونَ (41) إِنَّ اللََّهَ يَعْلَمُ مََا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (42) وَتِلْكَ الْأَمْثََالُ نَضْرِبُهََا لِلنََّاسِ وَمََا يَعْقِلُهََا إِلَّا الْعََالِمُونَ}
[العنكبوت: 4341].
والقرآن الكريم هو أحد المصادر الهامة التي حاربت «الجهل»، واعتبرته خطرا على العقيدة والتصور، وعاملا من عوامل الصدّ عن الحق، وقد أكثر القرآن من تنبيه النّاس على علّة استعصاء البشر عن قبول الحق الذي يفضون به إليهم، هو ما ران على قلوبهم وعقولهم بسبب جهلهم (3)، قال تعالى في ذمّ أهل الجهل:
{ذََلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لََا يَعْلَمُونَ} [التوبة: 6]، وقوله أيضا: {ذََلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لََا يَعْقِلُونَ} [المائدة: 58]، وقد حذّر الله أنبياءه من الجهل فقال لنبيّه محمد صلى الله عليه وسلم:
__________
(1) البحر المحيط ج 5ص 375.
(2) عبد المجيد صبح العلم والإيمان ص 27.
(3) عبد المجيد صبح العلم والإيمان ص 28.(1/194)
{فَلََا تَكُونَنَّ مِنَ الْجََاهِلِينَ} [الأنعام: 35]، وقال لنبيّه نوح: {إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجََاهِلِينَ} [هود: 46].
وكما جعل القرآن العلم وسيلة الإيمان، جعله شرطا في صحة القول والعمل، فلا يعتبران إلّا به، فهو مقدّم عليهما، لأنّه مصحح للنية المصحّحة للعمل، قال تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لََا إِلََهَ إِلَّا اللََّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ} [محمد: 19].
قال البخاري: «بدأ بالعلم أي حيث قال: فاعلم وأنّ العلماء هم ورثة الأنبياء ورّثوا العلم، من أخذه أخذ بحظ وافر» (1).
والنتيجة التي يمكن أن نصل إليها هي أن العلم والإيمان في القرآن الكريم طريقان إلى حقيقة واحدة، ومن ثمّ وجب أن يتعاونا وأن نبني أحدهما على الآخر، «فالعلم يدعو إلى الإيمان، والإيمان يدعو إلى العلم، ولا يوجد بينهما تنافر، بل بينهما تضافر، وإذا وهمنا وجود تنافر بين العلم والإيمان، فليبحث الباحثون عن علته في أنفسهم، وسوف يجدون العلة من زيغ أهوائهم، أو من ضلال فكرهم، وسوف يظل العلم الرشيد والإيمان الصحيح من بعد ذلك، ومن قبله صديقين، وخليلين مؤتلفين» (2).
ونمضي الآن مع سورة «التوبة» لنرى تناولها لقضية «العلم» و «الجهل» ولنقف عند آيتين من آياتها فيهما حديث عن هذه الثنائية، ونبدأ بقوله تعالى:
{وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجََارَكَ فَأَجِرْهُ حَتََّى يَسْمَعَ كَلََامَ اللََّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذََلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لََا يَعْلَمُونَ} [التوبة: 6].
هذه الآية فيها مقابلة واضحة بين «العلم» و «الجهل»، فالعلم متمثل في قوله تعالى: {حَتََّى يَسْمَعَ كَلََامَ اللََّهِ} [التوبة: 6]، أي أنّ كلام الله يحمل العلم
__________
(1) ابن حجر العسقلاني فتح الباري بشرح صحيح البخاري تحقيق عبد العزيز باز ط دار الفكر: بيروت، ج 1ص 160159.
(2) عبد المجيد صبح العلم والإيمان ص 116.(1/195)
الذي يحتاجه المشركون لتصحيح عقائدهم، أما الجهل فمتمثل في قوله تعالى:
{ذََلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لََا يَعْلَمُونَ} [التوبة: 6]، وغاية هذه المقابلة إبراز مجموعة القيم الفكرية والدينية، والتي نذكر منها:
أولا: إنّ سبب الأمر بإجارة المستجير المشرك ليطلب علم الكتاب هو أنّه معدود في أهل الجهل، لأنّ المشركين عامة لم يكن لهم علم بالكتاب ولا بالإيمان، فكان منهم أن أعرضوا عن الدين بجهل وعصبية، وصدوا المؤمنين عن سبيل الله، وغرتهم قوتهم، «فإذا كان شعورهم بضعفهم لصدق وعد الله بنصر المؤمنين عليهم قد أعدّهم للعلم بما كانوا يجهلون، وطلبوا الأمان لأجل ذلك، أو لغرض آخر يترتب عليه إمكان تبليغهم الدعوة، وإسماعهم كلامه عز وجل وهو الحجة البالغة والشفاء لما في الصدور لمن سمعه باستقلال فكر» (1).
ثانيا: يستفاد من هذه الآية قيمة فكرية هامة وهي أنّ «العلم» لا بدّ أن يقوم على النظر والاستدلال، وأنّ التقليد غير كاف في العلم، قال الفخر الرازي (606هـ): «اعلم أنّ هذه الآية تدل على أنّ هذه الآية تدل على أنّ التقليد غير كاف في الدين، وأنّه لا بدّ من النظر والاستدلال، وذلك أنّه لو كان التقليد كافيا، لوجب أن لا يمهل هذا الكافر، بل يقال له: إمّا أن تؤمن، وإمّا أن نقتلك فلمّا لم يقل له ذلك، بل أمهلناه وأزلنا الخوف عنه، ووجب علينا أن نبلغه مأمنه، علمنا أنّ ذلك إنّما كان لأجل أن التقليد في الدين غير كاف، بل لا بدّ من الحجّة والدليل فأمهلناه وأخّرناه ليحصل له مهلة النظر والاستدلال، إذا ثبت هذا فنقول: ليس في الآية ما يدلّ على مقدار هذه المهلة كم يكون، ولعلّه لا يعرف مقداره إلّا بالعرف، فمتى ظهر على المشرك علامات كونه طالبا للحقّ، باحثا عن وجه الاستدلال، أمهل وترك، ومتى ظهر عليه كونه معرضا عن الحقّ دافعا للزمان، بالأكاذيب لم يلتفت إليه» (2).
__________
(1) محمد رشيد رضا تفسير المنار ج 10ص 180.
(2) تفسير الفخر الرازي ج 15ص 228.(1/196)
ثالثا: في الآية «تنويه بمعالي أخلاق المسلمين وغض من أخلاق أهل الشرك وأن سبب ذلك الغضّ، الإشراك الذي يفسد الأخلاق، ولذلك جعلوا قوما لا يعلمون دون أن يقال بأنّهم لا يعلمون، للإشارة إلى أنّ نفي العلم مطّرد فيهم، فيشير إلى أن سبب اطراده فيهم هو نشأته عن الفكرة الجامعة لأشتاتهم، وهي عقيدة الإشراك» (1).
رابعا: العلم في كلام العرب، بمعنى العقل وأصالة الرأي، وأنّ عقيدة الشرك مضادة لذلك (2)، ولذلك فالعلم الحقيقي في مفهوم القرآن هو معرفة الإيمان من مصدره الحقيقي وهو كتاب الله، ولهذا سيبقى الإنسان جاهلا إن لم يعرف الحقّ بهذه الوسيلة.
ويبقى الهدف الأساسي لهذه المقابلة هو بيان فضل العلم حين يطلب بصدق ووفاء، وذم «الجهل» الذي يقود صاحبه إلى الشرك والهلاك.
وقال تعالى أيضا في سورة التوبة: {وَمََا كََانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلََا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طََائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذََا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} [التوبة: 122].
تعدّ هذه الآية الكريمة من الآيات الواضحة الدلالة على طلب العلم، وعدّه في مرتبة واحدة مع الجهاد، خشية أن ينتشر الجهل في المجتمع الإسلامي، وتعم به البلوى، وفي الآية تقابل بين العلم وذلك في قوله تعالى: {فَلَوْلََا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طََائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ} [التوبة: 122]، وبين معنى الجهل الذي قد يستفاد من قوله تعالى: {وَمََا كََانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً} [التوبة:
122]، لأن النفير الكامل هو سبب للجهل وانتشاره، والآية الكريمة تفيد قيما فكرية ودينية سنتحدث عن بعضها، قال أبو حيان في «البحر المحيط»: «والذي
__________
(1) محمد الطاهر بن عاشور تفسير التحرير والتنوير ج 10ص 120.
(2) نفسة ج 10ص 120.(1/197)
يظهر أن هذه الآية إنما جاءت للحض على طلب العلم والتّفقّه في دين الله، وأنّه لا يمكن أن يرحل المؤمنون كلّهم في ذلك، فتعرى بلادهم منهم، ويستولي عليها وعلى ذراريهم أعداؤهم، فهلّا رحل طائفة منهم للتفقه في الدين، ولإنذار قومهم» (1).
وتفيد الآية أيضا قيمة دينية وهي «وجوب تعميم العلم والتفقه في الدين والاستعداد لتعليمه في مواطن الإقامة، وتفقيه النّاس فيه على الوجه الذي يصلح به حالهم، ويكونون به هداة لغيرهم، وإنّ المتخصصين لهذا التفقه بهذه النيّة لا يقلّون في الدرجة عند الله عن المجاهدين بالمال والنفس لإعلاء كلمة الله والدفاع عن الملة والأمة، بل هم أفضل منهم في غير الحال التي يكون فيها الدفاع فرضا عينيا» (2).
ومما يستفاد من قيم فكرية في هذه الآية أن العلم مقصد من مقاصد الإسلام الكبيرة، وهو من أنواع الجهاد الهامة لتماسك الأمة ووحدتها الفكرية، «فإذا كان من مقاصد الإسلام بثّ علومه وآدابه بين الأمة، وتكوين جماعات قائمة بعلم الدين وتثقيف أذهان المسلمين كي تصلح سياسة الأمة على ما قصده الدين منها، من أجل ذلك عقب التحريض على الجهاد بما يبيّن أنه ليس من المصلحة تمخض المسلمين كلهم لأن يكونوا غزاة أو جندا، وأن ليس حظ القائم بواجب التعليم دون حظ الغازي في سبيل الله من حيث إنّ كليهما يقوم بعمل لتأييد الدين، فهذا يؤيده بتوسيع سلطانه وتكثير أتباعه، والآخر يؤيده بتثبيت ذلك السلطان وإعداده لأن يصدر عنه ما يضمن انتظام أمره وطول دوامه، فإن اتساع الفتوح وبسالة الأمة لا يكفيان لاستبقاء سلطانها إذا هي خلت من جماعة صالحة من العلماء والساسة وأولي الرأي المهتمين بتدبير ذلك السلطان» (3).
__________
(1) البحر المحيط ج 5ص 526.
(2) محمد رشيد رضا تفسير المنار ج 11ص 78.
(3) محمد الطاهر بن عاشور تفسير التحرير والتنوير ج 11ص 59.(1/198)
وقال الفخر الرازي (606هـ) في تفسيره: «دلت الآية على أنه يجب أن يكون المقصود من التفقه والتعلّم دعوة الخلق إلى الحقّ، وإرشادهم إلى الدين القويم، والصراط المستقيم، لأن الآية تدلّ على أنه تعالى أمرهم بالتفقه في الدين، لأجل أنهم إذا رجعوا إلى قومهم أنذروهم بالدين الحقّ، وأولئك يحذرون الجهل والمعصية، ويرغبون في قبول الدين، فكلّ من تفقه وتعلّم لهذا الغرض كان على النهج القويم، والصراط المستقيم، ومن عدل عنه وطلب الدنيا بالدين كان من الأخسرين أعمالا الذين ضلّ سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا» (1).
وهذه الآية يمكن أن يستفاد منها قيم أخرى كثيرة تتعلق بالاجتهاد والتقليد، وقد أرجأنا القول فيه للمبحث الذي سيأتي، ويبقى أن نشير إلى أن هذه الآية صريحة الدلالة على أهمية العلم وطلبه، وعلى خطر الجهل وضرره، وهي من الآيات العظيمة في كتاب الله تعالى.
ب المقابلة بين الاجتهاد والتقليد:
الاجتهاد في اللغة: بذل الوسع في طلب الأمر، وهو افتعال من الجهد وهو الطاقة، ومعناه اللغوي يدور حول المشقة وبذل الوسع والطاقة (2) في طلب أمر من الأمور، فمن طلب أمرا ما دون أن يتحمّل في طلبه مشقة، ويبذل طاقة لا يكون قد اجتهد فيه (3).
ومعنى الاجتهاد اصطلاحا وثيق الصّلة بمعناه لغة، فهو لا يخرج عن بذل المجتهد جهده وطاقته في طلب الحكم وتعيين مراد الله، وإن كان الأصوليون
__________
(1) تفسير الفخر الرازي ج 16ص 228.
(2) ابن منظور لسان العرب مادة (جهد).
(3) محمد الدسوقي الاجتهاد والتقليد في الشريعة الإسلامية ط 1دار الثقافة: قطر، 1985م ص 27.(1/199)
والفقهاء وأهل الحديث لم يتفقوا على تعريف واحد له، فقد اختلفوا في هذا اختلافا كثيرا، لكن هذا الاختلاف لا يصل إلى درجة التعارض والتناقض، بل يعود إلى زيادة قيد أو شرط، أو إطناب في تعريف وإيجاز في آخر (1).
ويعرف الاجتهاد عند بعض الأصوليين بأنّه: «بذل الطاقة في تحصيل حكم شرعي عقليا كان أو نقليا، قطعيا كان أو ظنيا» (2).
ويمتاز هذا التعريف عن غيره بالوضوح والبيان، وبأنّه عام يتناول الاجتهاد في القطعيات وغيرها، كما أنّه يشمل الاجتهاد الجماعي، والاجتهاد الفردي (3).
فالاجتهاد عملية عقلية وفق ضوابط خاصة تتوخى استنباط الأحكام الشرعية العملية من أدلتها التفصيلية، فالمجتهد ينظر في الأدلة النصية كالقرآن والسنة، أو يستهدي روح الشريعة ومقاصدها ويبذل جهده في سبيل التعرف على الحكم الشرعي (4).
وأما التقليد فهو الصورة المخالفة للاجتهاد فهو يعني أخذ القول دون دليل أو برهان، قال ابن قيم الجوزية (751هـ): «التقليد ثلاثة أنواع، أحدها:
الإعراض عما أنزل الله وعدم الالتفات إليه اكتفاء بتقليد الآباء، الثاني: تقليد من لا يعلم المقلّد أنّه أهل لأن يؤخذ بقوله، الثالث: التقليد بعد قيام الحجة، وظهور الدليل على خلاف قول المقلّد، والفرق بين هذا وبين النوع الأول أن الأول قلّد قبل تمكنه من العلم والحجّة، وهذا قلّد بعد ظهور الحجّة له، فهو أولى بالذم ومعصية الله ورسوله» (5).
__________
(1) نفسه ص 18.
(2) نادية العمري الاجتهاد في الإسلام ط 3مؤسسة الرسالة: بيروت، 1985م ص 27.
(3) نفسه ص 27، 28.
(4) محمد الدسوقي الاجتهاد والتقليد في الشريعة الإسلامية ص 19.
(5) إعلام الموقعين عن ربّ العالمين تحقيق طه عبد الرءوف سعد ط دار الجيل: بيروت ج 2ص 187.(1/200)
والتقليد مذموم في القرآن الكريم، وقد عبّر عنه بالآبائية التي تعني اتباع الآباء أو من لهم رأي أو سلطة دون دليل أو برهان، قال تعالى: {وَإِذََا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مََا أَنْزَلَ اللََّهُ قََالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مََا أَلْفَيْنََا عَلَيْهِ آبََاءَنََا أَوَلَوْ كََانَ آبََاؤُهُمْ لََا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلََا يَهْتَدُونَ} [البقرة: 170]، وقال تعالى: {وَإِذََا قِيلَ لَهُمْ تَعََالَوْا إِلى ََ مََا أَنْزَلَ اللََّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قََالُوا حَسْبُنََا مََا وَجَدْنََا عَلَيْهِ آبََاءَنََا أَوَلَوْ كََانَ آبََاؤُهُمْ لََا يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلََا يَهْتَدُونَ}
[المائدة: 104].
فهذه الآيات وغيرها فيها ذمّ لمن أعرض عمّا أنزله الله إلى تقليد الآباء، وهذا القدر من التقليد هو ما اتفق السلف والأئمة الأربعة على ذمّه وتحريمه (1)، و «إن في تحريم التقليد وتصريح الكتاب العزيز بأن الله تعالى لا يقبله، ولا يعذر صاحبه به في الآخرة لتأكيدا شديدا لإيجاب العلم الاستقلالي الاستدلالي في الدين» (2).
وأما الاجتهاد فقد عبّر عنه القرآن الكريم «بالبرهانية» أي الدعوة إلى اتباع الدليل والبرهان في التوصل إلى الحقيقة، وترك التقليد المذموم الذي يقود إلى الجهل والعصبية، قال تعالى: {قُلْ هََاتُوا بُرْهََانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صََادِقِينَ}
[البقرة: 111]، وقال أيضا: {وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللََّهِ إِلََهاً آخَرَ لََا بُرْهََانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمََا حِسََابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ} [المؤمنون: 117].
قال أهل التفسير: «إن القرآن قرر لنا قاعدة لا توجد في غير القرآن من الكتب السماوية، وهي أنّه لا يقبل من أحد قول لا دليل عليه، ولا يحكم لأحد بدعوى ينتحلها بغير برهان يؤيدها، ذلك أن الأمم التي خوطبت بالكتب السالفة لم تكن مستعدة لاستقلال الفكر، ومعرفة الأمور بأدلتها وبراهينها، ولذلك اكتفي منهم بتقليد الأنبياء فيما يبلّغونهم وإن لم يعرفوا برهانه، فهم مكلفون أن
__________
(1) ابن قيم الجوزية إعلام الموقعين عن ربّ العالمين ج 2ص 188.
(2) محمد رشيد رضا تفسير المنار ج 1ص 114.(1/201)
يفعلوا ما يؤمرون به سواء عرفوا لماذا أمروا أم لم يعرفوا، ولكن القرآن يخاطب من أنزل عليه بمثل قوله: {قُلْ هََذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللََّهِ عَلى ََ بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي}
[يوسف: 108]، وقد فسروا البصيرة بالحجّة الواضحة، ويستدل على قدرة الله وإرادته وعلمه وحكمته ووحدانيته بالآيات الكونية، وهي كثيرة جدا في القرآن، وبالأدلة النظرية والعقلية كقوله: {لَوْ كََانَ فِيهِمََا آلِهَةٌ إِلَّا اللََّهُ لَفَسَدَتََا} [الأنبياء:
22]، وغير ذلك، ويستدل على الأحكام بما يترتب عليها من نفي المضرات والإفضاء إلى المنافع، علّم القرآن أهله أن يطالبوا النّاس بالحجة، لأنه أقامهم على سواء المحجّة، وجدير بصاحب اليقين أن يطالب خصمه به، ويدعوه إليه» (1).
وأهمية الاجتهاد، وطلب البرهان، وإقامة الحقائق على الحجّة واليقين تظهر في القرآن من خلال عده جوانب نذكر منها:
أولا: إن القرآن ينظر إلى العقل نظرة احترام وتمجيد، وكان هذا من أهم دعائم الإسلام، فقد حث على التفكير والنظر في كل ما أبدع الخالق في الكون، وجعل نفي الإكراه في الدين من أوضح الدلائل على استعلاء مكانة العقل في الإسلام، «لأن الإرادة الإنسانية لا يحركها إلّا العقل الواعي الذي يميّز بين الأشياء» (2)، قال العقاد: «لا يذكر القرآن العقل إلّا في مقام التعظيم، والتنبيه إلى وجوب العمل به، والرجوع إليه، ولا تأتي الإشارة إليه عارضة ولا مقتضبة في سياق الآية، بل هي تأتي في كل موضع من مواضعها مؤكدة جازمة باللفظ والدلالة، وتتكرر في كل معرض من معارض الأمر والنهي التي يحثّ فيها المؤمن على تحكيم عقله، أو يلام فيها المفكّر على إهمال عقله، وقبول الحجر عليه» (3).
__________
(1) محمد رشيد رضا تفسير المنار ج 1ص 425.
(2) محمد الدسوقي الاجتهاد والتقليد في الشريعة الإسلامية ص 35.
(3) عباس محمود العقاد التفكير فريضة إسلامية ضمن المجموعة الكاملة للعقاد ط 1 دار الكتاب اللبناني: بيروت، 1974ج 5ص 283.(1/202)
ثانيا: ما دام القرآن يدعو إلى التفكير، ويحضّ على النظر، ويوجب الاستدلال، كان هذا الدين دين العلم، ودين الثقافة والحضارة، وقد ذكرنا في موضوع «العلم والجهل» أنّ الآيات القرآنية تفاضل بين العلم والجهل، وتعطي للعلم مكانة عالية وتحذر من الجهل وأسبابه، قال تعالى: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لََا يَعْلَمُونَ} [الزمر: 9]، وطلب العلم يقتضي البحث والنظر والاجتهاد وبذل الوسع في طلب الحقيقة.
ثالثا: وما دام القرآن الكريم قد عدّ الشريعة التي جاء بها عامة إلى كلّ الناس، وخاتمة لكلّ الأديان، وكانت النصوص التي جاء بها متناهية والحوادث غير متناهية، ناسب هذا أن يجعل العقل مناطا للتكليف، ووسيلة من الوسائل التي تضبط هذه الشريعة، وتجعلها صالحة لكل زمان ومكان، وكان الاجتهاد فريضة محكمة، ووسيلة هامة من الوسائل التي تكشف عن أحكام الله في أفعال عباده (1) ودليل هذا قوله تعالى: {يََا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللََّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنََازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللََّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء: 59].
فإنّ المراد بطاعة الله ورسوله «اتباع ما علم من نصوص الكتاب والسنة، أما الردّ إلى الله ورسوله عند التنازع فالمراد منه التحذير من اتباع الهوى، ووجوب الرجوع إلى ما شرع الله ورسوله بالبحث عمّا قد يكون خافيا أو غائبا عن البال من النصوص، أو بتطبيق القواعد العامة بإلحاق الشبيه بشبيهه، أو التوجه إلى تحقيق المقاصد التي اعتبرها الشارع، فكلّ هذا ردّ إلى الله ورسوله» (2).
رابعا: وقال تعالى: {وَلََا تَقْفُ مََا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤََادَ كُلُّ أُولََئِكَ كََانَ عَنْهُ مَسْؤُلًا} [الإسراء: 36].
__________
(1) محمد الدسوقي الاجتهاد والتقليد في الشريعة الإسلامية ص 36.
(2) محمد الدسوقي الاجتهاد والتقليد في الشريعة الإسلامية ص 37.(1/203)
فقد دعا إلى الاجتهاد لأنّ التقليد ليس بعلم (1)، وهذه الكلمات القليلة تقيم منهجا كاملا للقلب والعقل، بشمل المنهج العلمي الذي عرفته البشرية حديثا جدا، ويضيف إليه استقامة القلب ومراقبة الله ميزة الإسلام على المناهج العقلية الجافة، فالتثبت من كلّ خبر ومن كل ظاهرة، ومن كل حركة قبل الحكم هو دعوة القرآن الكريم، ومنهج الإسلام الدقيق، ومتى استقام القلب والعقل على هذا المنهج لم يبق مجال للوهم والخرافة في عالم العقيدة، ولم يبق مجال للظنّ والشبهة في عالم الحكم والقضاء والتعامل، ولم يبق مجال للأحكام السطحية والفروض الوهمية في عالم البحوث والتجارب والعلوم» (2).
ونخلص إلى النتيجة الهامة التالية وهي أنّ القرآن الكريم بدلائله الواضحة يدعو إلى الاجتهاد، وطلب الدليل، ويحبّذ النظر العقلي في جميع المسائل للوصول إلى الحقيقة، ونشير أيضا إلى قضية أخرى هامة وهي أنّ من يستقرئ تاريخ الاجتهاد في حياة الأمة الإسلامية «يلاحظ أن هناك علاقة عضوية بين ازدهار هذا الاجتهاد وتقدّم الأمة وقوتها، وأنّ ضعف الأمة وتخلفها كان من ورائه تخلف الاجتهاد وضعفه، وهذا يعني أنّ الاجتهاد مناط القوة والتقدم للأمة الإسلامية، لأنّ مدلوله العام لا ينصرف إلى استنباط الأحكام العلمية فحسب، ولكنّه يشمل كلّ مجالات الحياة المختلفة من حيث أنّه قوّة تحرّك كلّ الطاقات نحو العمل المتقن في شتى الميادين» (3).
ونتحدث الآن عن المقابلة بين الاجتهاد والتقليد في سورة «التوبة» فقد ورد فيها تقابل ضمني بين معاني الاجتهاد وطلبه، وبين معاني التقليد وخطره وذلك في قوله تعالى: {وَمََا كََانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلََا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طََائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذََا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ}
__________
(1) ابن قيم الجوزية، إعلام الموقعين عن ربّ العالمين ج 2ص 188.
(2) سعيد حوى الأساس في التفسير ج 6ص 3068.
(3) محمد الدسوقي الاجتهاد والتقليد في الشريعة الإسلامية ص 9.(1/204)
[التوبة: 122]، فقد فهم المفسرون من هذه الآية أنّها تدعو إلى الاجتهاد، وتنبذ التقليد، قال أبو حيان في «البحر المحيط»: «والذي يظهر أنّ هذه الآية إنمّا جاءت للحض على طلب العلم والتفقه في الدين وأنّه لا يمكن أن يرحل المؤمنون كلّهم في ذلك فتعرى بلادهم منهم ويستولي عليها وعلى ذراريهم أعداؤهم، فهلّا رحل طائفة منهم للتفقه في الدين ولإنذار قومهم» (1).
فهذه الآية لم تسقط الاجتهاد عن الجميع، ولا أمرت به الكافة، إنها نصت على أن ينفر من كل فرقة طائفة لمعرفة أحكام الله ودراستها وفقهها بجدّ، وصيغة «ليتفقهوا» تدل على ذلك، لأنّ صيغة التفعل للتكليف وبذل الجهد (2).
وقال تعالى: {وَإِذََا مََا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زََادَتْهُ هََذِهِ إِيمََاناً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزََادَتْهُمْ إِيمََاناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (124) وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزََادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ وَمََاتُوا وَهُمْ كََافِرُونَ} [التوبة: 125124].
لقد قابلت هذه الآية بين طبيعتين من البشر، طبيعة أهل الإيمان الذين يقفون من الحقّ موقف المقتنع والمؤيد، وطبيعة أهل النفاق الذين يقفون من الحقّ موقف المعارض والمتردد، ويرجع سبب هذا التباين إلى أن أهل الإيمان هم الساعون دائما إلى طلب الحقّ بجهد واجتهاد، أما أهل النفاق فلا يقيمون للدليل وزنا، لأنّ نفوسهم مجبولة على التقليد والعصبية والجهل، وقد أقام الله سبحانه هذه المقابلة ليميز أهل الحق من أهل الباطل، وليفضل أهل العلم والاجتهاد، على أهل الجهل والتقليد.
وقد يستفاد التقابل بين الاجتهاد والتقليد في قوله تعالى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجََارَكَ فَأَجِرْهُ حَتََّى يَسْمَعَ كَلََامَ اللََّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذََلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لََا يَعْلَمُونَ} [التوبة: 6].
__________
(1) البحر المحيط ج 5ص 526.
(2) محمد الدسوقي الاجتهاد والتقليد في الشريعة الإسلامية ص 40، 41.(1/205)
قال أبو حيان في تفسير الآية: «في هذه الآية على أنّ النظر في التوحيد أعلى المقامات، إذ عصم دم الكافر المهدر الدم بطلبه النظر والاستدلال، وأوجب على الرسول أنّ يبلغه مأمنه، وفيها دلالة على أن التقليد غير كاف في الدين» (1).
* * * __________
(1) البحر المحيط ج 5ص 375.(1/206)
الفصل السادس المقابلة وخصائص التعبير القرآني
أالمقابلة إحدى طرق العرض في القرآن الكريم:
إن القرآن الكريم هو كتاب الله العظيم، وبرهانه المبين، ومعجزته الباقية على مرّ العصور، وهو الكتاب الذي تحدّى جميع البشر على أن يأتوا بمثله، فعجز البشر كلّهم قديما وحديثا عن معارضته ومجاراته، وكان عجزهم دليلا على الإعجاز، يقول السيوطي (911هـ): «أكثر معجزات هذه الأمة عقلية لفرط ذكائهم وكمال أفهامهم، ولأنّ هذه الشريعة لما كانت باقية على صفحات الدهر إلى يوم القيامة، خصّت بالمعجزة العقلية الباقية ليراها ذوو البصائر» (1).
ولما كان القرآن معجزة عقلية توجّهت إليه همم الدارسين منذ القديم بالحفظ والدراسة، والبحث والتحليل، «فللفقهاء والأصوليين فيه أهداف ولهم إليها طريقة ومنهج، وللفلاسفة والمتكلمين فيه أهداف، ولهم إليها طريقة ومنهج، وللغويين فيه أهداف، ولهم إليها كذلك شرعة ووسيلة، وللبيانيين فيه أهداف، ولهم إليها طريقة ومنهج، ولغير هؤلاء من طلاب العلم والدرس أهداف ومناهج، وعلى كثرة ما كتبه الكاتبون حول القرآن، فإن القرآن معجزة الإسلام، وإعجازه في المختار راجع إلى بيانه وأدبه، وبلاغته وفصاحته، وأسلوبه ونظمه، فإن الحاجة في هذا العصر الذي يتّسم بالتنكّر لحقائق الإيمان، والتمرّد على سلطان الدين تصبح ماسّة إلى ما يساعد على جلاء تلك المعجزة، وتقريبها إلى الأفهام» (2).
__________
(1) الإتقان في علوم القرآن ج 2ص 148، 149.
(2) عبد العظيم المطعني خصائص التعبير القرآني وسماته البلاغية ط 1مكتبة وهبة:
القاهرة، سنة 1992ج 1ص 8.(1/207)
ولا يختلف اثنان على أن الوجه البلاغي للإعجاز القرآني هو أهم ما شغل الدارسين قديما وحديثا، وهو الوجه الذي ذهب إليه أكثر علماء النظر، فرأى بعضهم أنه شامل للقرآن بكامله، ويتحقق في الجزء المتحدى به وهو أقصر سورة منه (1).
وهذا الوجه البلاغي في إعجاز القرآن الكريم هو الذي جعل الأسلوب القرآني لا يخلق على كثرة الردّ، ولا تنفد أسراره مع تعاقب الأزمان يعرض الحقّ الذي لا يشوبه باطل، ويسوق الهداية التي ليس بعدها هداية، ولقد كان لأسلوبه سلطان على النفوس يشبه السحر (2).
يقول الرافعي: «إن القرآن فيه من اللين والمطاوعة على التقليب، والمرونة في التأويل، بحيث لا يصادم الآراء المتقابلة التي تخرج بها طبائع العصور المختلفة، فهو يفسّر في كل عصر بنقص من المعنى، وزيادة فيه، واختلاف وتمحيص، وقد فهمه عرب الجاهلية الذين لم يكن لهم إلّا الفطرة، وفهمه كذلك من جاء بعدهم من الفلاسفة وأهل العلوم، وفهمه زعماء الفرق المختلفة على ضروب من التأويل، وأثبتت العلوم الحديثة كثيرا من حقائقه التي كانت مغيّبة وأكبر السبب في ذلك أن هذا القرآن ليس على طبع إنساني محدود بأحوال نفسية لا يجاوزها، فهو يداور المعاني، ويريغ الأساليب، ويخاطب الروح بمنطقها من ألوان الكلام لا من حروفه، وهو يتألف الناس بهذه الخصوصية فيه، حتى ينتهي بهم مما يفهمون إلى ما يجب أن يفهموا، وحتى يقف بهم على نص اليقين ومقطع الحقّ» (3).
__________
(1) محمد بركات أبو علي في إعجاز القرآن ط 1مؤسسة الخافقين: الرياض، 1983م ص 24.
وينظر عبد الغني بركة أسلوب الدعوة القرآنية ط 1مكتبة وهبة: القاهرة، 1983م ص 53.
(2) بن عيسى عبد القادر با طاهر أساليب الإقناع في القرآن الكريم ص 15.
(3) إعجاز القرآن والبلاغة النبوية ط دار الكتاب العربي: بيروت ص 206، 208.(1/208)
فبلاغة القرآن وبيانه، وأسلوبه ونظمه، ومعانيه وطرق عرضه، كلّ ذلك من جملة الخصائص التي دار حولها الإعجاز، وحقّقت غايات القرآن في التأثير والإمتاع، والهيمنة والإقناع، يقول الخطابي (388هـ): «اعلم أن القرآن الكريم إنما صار معجزا لأنه جاء بأفصح الألفاظ في أحسن نظوم التأليف، مضمنا أصحّ المعاني، من توحيد له عزّت قدرته، وتنزيه له في صفاته، ودعاء إلى طاعته، وبيان بمنهاج عبادته من تحليل وتحريم، وحظر وإباحة، ومن وعظ وتقويم، وأمر بمعروف ونهي عن منكر، وإرشاد إلى محاسن الأخلاق، وزجر عن مساوئها، واضعا كلّ شيء منها موضعه الذي لا يرى شيء أولى منه، ولا يرى في صورة العقل أمر أليق منه» (1).
وقد ذكر في السابق أن البلاغة القرآنية هي سرّ الإعجاز وهي أداة التوصيل والتأثير والإقناع، وهي التي أعطت للقرآن الكريم ميزة الحديث الحسن الذي عدّ في أعلى مستويات فنون القول، قال تعالى: {اللََّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتََاباً مُتَشََابِهاً مَثََانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ََ ذِكْرِ اللََّهِ} [الزمر: 23].
ولما كان للبلاغة هذه الوظيفة وجب أن تكون معلّلة للنّاس في كل عصر ومكان، ووجب أن تنصب حولها الأبحاث لدراسة الخصائص المتميزة للأسلوب القرآني البليغ، وقد كان من جملة ما توصلت إليه هذه الأبحاث في العصر الحديث ما يلي (2):
أمن خصائص أسلوب القرآن القصد في اللفظ، والوفاء بحق المعنى:
فهذه ميزة لم تعرف لغير القرآن، لأن ابلغ البلغاء من الناس لا يستطيع أن يأتي
__________
(1) بيان إعجاز القرآن ضمن ثلاث رسائل في إعجاز القرآن تحقيق محمد خلف الله أحمد، ومحمد زغلول سلام، ط 2دار المعارف: القاهرة، 1986م ص 27، 28.
(2) ينظر: النبأ العظيم محمد عبد الله دراز ص 103، 111.(1/209)
بكلام لفظه قليل، ومعناه واف، وهو إن اتفق له في الموضع الواحد والموضعين، فلا يتفق له في جملة الكلام شعرا أو نثرا.
خذ من القرآن مقدارا من الكلام، وقارنه بما يساويه من كلام البلغاء تجد عجبا، ثم أنظر أي الكلامين تستطيع أن تتناوله بالتعديل أو التبديل دون أن تخلّ بمعناه، ولو نزعت منه أي القرآن لفظة ثم أوردت لسان العرب لتضع موضعها لفظة أحسن منها لم تجد.
ب ومن خصائص أسلوب القرآن خطاب العامة، وخطاب الخاصة:
وهاتان غايتان تقصر عنهما همم الناس، فمن يخاطب منهم الأذكياء بالواضح المكشوف نزل بهم مستوى لا يرضونه، ومن خاطب العامة باللمحة والإشارة حملهم على ما لا يطيقون.
ولا تجد هذه الميزة إلا في القرآن الكريم، والناس جميعا لا يستطيعون أن يحسنوا هذا الصنيع لما فيه من عسر ومشقّة، وضرورة معرفة طبائع البشر ونفوسهم.
ج ومن خصائص أسلوب القرآن إقناع العقل وإمتاع العاطفة:
لا يمكن أن تجد بليغا يفي في كلامه بحاجات النفس العقلية وحاجاتها الوجدانية، لأن حاجة كل واحدة منهما غير حاجة الأخرى، أما في القرآن فإنك تجد ذلك في أجمل صورة، وأوضح بيان.
د ومن خصائص أسلوب القرآن أيضا البيان والإجمال:
وهذه أيضا من الخصائص التي انفرد بها القرآن الكريم، لأن الناس إن عمدوا إلى تحديد أغراض لم تتسع لتأويل، وإذا أجملوها ذهبوا إلى الإبهام والإلباس، أو اللغو الذي لا يفيد، أما القرآن فإنه يستثمر برفق أقل ما يمكن من الألفاظ في أكثر ما يمكن من المعاني، يستوي في ذلك مواضع إجماله التي يسميها الناس مقام الإيجاز، ومواضع تفصيله التي يسمونها الإطناب (1).
__________
(1) النبأ العظيم محمد عبد الله دراز ص 111.(1/210)
هذه جملة من الخصائص العامة التي تميز بها الأسلوب القرآني عن غيره من الأساليب البشرية، ويمكن لنا أن ندرج تحت هذه الخصائص العامة خصائص أخرى لها علاقة مباشرة بها مثل خاصية التنويع في عرض الأغراض والموضوعات والتي أشرنا إليها في هذه الدراسة، وسوف نتحدث عنها لما لها من صلة مباشرة بالمقابلة وطرق العرض.
إن التنويع في الأساليب ووسائل العرض ظاهرة بارزة في القرآن الكريم، وهو من خصائص القرآن التي تأتي لغايات بيانية وتربوية، ونفسية إقناعية، وقد تميز القرآن بهذا النمط من الأسلوب في جميع آياته وسوره لأن طريقة التعامل مع النفس البشرية بجميع قواها لغايات الإقناع والإمتاع تقتضي التنويع في الأساليب التي لها قدرة على تحريك هذه القوى، لأن الضرب على أوتار النفس المتعددة من شأنه أن يخضع النفس، ويقهر تفوقها في الجدل، كما أن معالجة القلوب بمفاتيح شتى لا بد أن يستسلم القفل عند واحد منها (1).
ويؤكد علماء النفس والاجتماع على أن الفوارق الفردية بين الأفراد في الجماعات الإنسانية أمر طبيعي، وتظهر هذه الفوارق في التفاوت بين الأفراد في المستويات الثقافية، والتباين في القدرات العقلية والاختلاف في الملكات الوجدانية، هذا على غرار ما بين الأفراد من اختلاف في الاستعداد والتكوين، وأداء العملية الإقناعية في جماعة ما وفق هذه المعطيات يستوجب تنويعا في الأساليب، وتنويعا في الوسائل حتى تلبي حاجات الناس جميعا (2).
فهذه هي طريقة القرآن الكريم في الخطاب، إنها تعتمد على تنويع الأساليب، وتلوين الوسائل للسيطرة على النفوس المتباينة في طبائعها، المختلفة في تكوينها النفسي والثقافي، وبهذا حققت غاياتها من الإقناع والتأثير، لكن قد
__________
(1) محمد الغزالي نظرات في القرآن ص 125.
(2) بن عيسى عبد القادر با طاهر أساليب الإقناع في القرآن الكريم ص 20.(1/211)
تشذ بعض النفوس عن إدراك حقائق القرآن والاقتناع بمبادئه لما ترسّب فيها من آفة الجدل المذموم الذي يجعلها تتمسك بمواقفها وإن كانت باطلا، ويشبهاتها وإن كانت كذبا (1).
إن تعدد الأساليب البيانية، والتنويع في طرق العرض الفنية هما من الخصائص الأسلوبية في القرآن الكريم، كل ذلك لتحقيق حاجات النفوس جميعها، والوفاء بمتطلباتها، والملاحظ كذلك أن القرآن يخاطب الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم بالدعوة إلى الله ويدعوه إلى تنويع وسائل دعوته حسب مقامات المخاطبين، قال تعالى: {ادْعُ إِلى ََ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجََادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل: 125].
لقد جمعت هذه الآية القصيرة في خطاب مركز طرق مخاطبة الجماعات البشرية، وتلوين الوسائل حسب ثقافة كل جماعة واستعدادها الفكري والنفسي (2).
لقد ناقشنا في فصل سابق قضية المعاني وطرق عرضها، وأيّها مقدّم في البلاغة القرآنية، وأيّها كان له الفضل في تحقيق غايات القرآن الإقناعية عبر العصور التي مضت وحتى الآن، ووصلنا إلى نتيجة مفادها أن القرآن الكريم يوازن بين صحة المعنى ودقته، وبين طريقة عرضه المناسبة، وكان الفضل للإثنين معا، لكن لا بدّ من الإشارة إلى أن المعاني التي عرض لها القرآن لم تكن كلّها جديدة فقد كانت العرب تعرف بعضها، ومن هنا بقي الفضل الأكبر لطريقة العرض التي يستخدمها القرآن في أداء المعنى، فهي التي أوصلت المعنى في صورة جميلة، وفي قوالب بيانية رائعة، وهي التي بها تميّز الأسلوب القرآني عن غيره من أساليب البشر.
__________
(1) بن عيسى عبد القادر با طاهر أساليب الإقناع في القرآن الكريم ص 20.
(2) نفسه ص 24.(1/212)
وطرق العرض كثيرة ومتنوعة في القرآن الكريم، ولها علاقة بجميع عناصر البلاغة العربية، لكن المتأمل في القرآن يجد أن هناك طرقا بارزة يعتمد عليها القرآن كثيرا لما لها من قدرة على مخاطبة جوانب النفس البشرية وتحريك قواها، ومن هذه الطرق نجد أسلوب التصوير وأسلوب التمثيل وأسلوب الجدل وأسلوب الاستفهام وأسلوب التكرار وأسلوب القصص، وغير ذلك من الأساليب البارزة فيه، ومن جملة هذه الطرق نجد أن أسلوب المقابلة الذي لم يعط حقّه من الدراسة على الرغم من أنّه أسلوب بارز في القرآن بل إنه يشكل ظاهرة أسلوبية متميزة، فكثيرا ما يعتمد عليه القرآن في عرض قضاياه كما رأينا ذلك في الفصول السابقة.
فالمقابلة إذن هي إحدى طرق العرض القوية في القرآن، وليست جزءا ضئيلا من المحسنات المعنوية التي تدرس في نطاق ضيق جدا هو علم البديع، بل الواجب بعد الآن عدّها من أساليب القرآن البليغة، وطرق عرضه الرائعة، والواجب أيضا تصنيفها تصنيفا آخر وإعطاؤها موقعا جديدا ضمن علم المعاني، وضمن طرق العرض التي يختارها القرآن لعرض قضاياه المختلفة.
وهناك حقيقة لا يمكن أن نغفلها وهي أن المقابلة هي من جملة طرق العرض التي يلجأ إليها القرآن، وهي متكاملة متجانسة مع بقية الأساليب، لأداء الأغراض والقيم التي يريدها المنهج القرآني، لكنّها تعد من أبرز الطرق الواضحة في العرض، وفي الأداء البياني الذي يسعى إليه القرآن.
لقد تبين لنا في فصول سابقة أن القرآن الكريم يلجأ إلى طريقة المقابلة تحقيقا لقيم فكرية ومعنوية كثيرة، فهو يعرض جميع القضايا الكبرى في هذا الوجود بأسلوب التقابل حين يجمع في الطريقة بين الشيء وضده، والمعنى ونقيضه، وحين تعرض الصورة الفنية وما يقابلها من صورة أخرى تخالفها في الشكل والمضمون، ولا بأس الآن أن نقف عند آية قرآنية ليتبين لنا صدق الدعوى التي نقول.(1/213)
قال تعالى: {وَمََا يَسْتَوِي الْأَعْمى ََ وَالْبَصِيرُ (19) وَلَا الظُّلُمََاتُ وَلَا النُّورُ (20) وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ (21) وَمََا يَسْتَوِي الْأَحْيََاءُ وَلَا الْأَمْوََاتُ إِنَّ اللََّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشََاءُ وَمََا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ (22) إِنْ أَنْتَ إِلََّا نَذِيرٌ} [فاطر: 2319].
في هذه الآيات عرض لمجموعة من الأشياء المتضادة بطريقة التقابل، وفيها بيان يثبت المفاضلة بين الشيء وضده للوصول إلى القيمة الدينية الكبرى وهي أن الحق والباطل لا يستويان أبدا. كما أن الأعمى والبصير لا يستويان هذا أعمى وذاك مبصر، والظلمات والنور لا يستويان كذلك هذه ظلمات وذاك نور، والظل والحرور لا يستويان أيضا، هذا ظل بارد وذاك سموم حار، والأحياء والأموات لا يستوون، هؤلاء أحياء وأولئك أموات هامدون.
ومراد الآيات هو الإلفات إلى أن الأمور ليست على وجه واحد، وإنما لكل أمر وجهان، وجه وضدّ لهذا الوجه مثل الوجود والعدم، والحق والباطل، والإيمان والكفر، والنور والظلام، والظل والحر، والعذب والملح وهكذا
والمطلوب من الخصم أن يعترف به هنا هو أن الشيء الذي يمسك به، ليس هو كل شيء، وإنما يقابله نقيضه، الذي يجب أن ينظر فيه، ويقابل الوجه الذي معه، على الوجه الآخر الذي لهذا الشيء (1).
«فإذا كان المشركون يمسكون بالشرك، ولا يرون أن هناك معتقدا غيره، فليعلموا أن هناك وجها آخر لا بد أن يقابل هذا الشرك، دون التفات إلى أيهما الفاضل وأيهما المفضول إن الأمور لا تكون إلا على هذا الازدواج بين الشيء وضده، وليس الشرك الذي بين أيديهم بدعا من الأشياء فليبحثوا عن الوجه الآخر المقابل له فإذا فعلوا كانت المرحلة الثانية من مراحل النظر، وهي أن يوازنوا بين ما معهم من شرك، وبين الوجه الآخر المقابل له وهو الإيمان» (2).
__________
(1) عبد الكريم الخطيب التفسير القرآني للقرآن ج 4ص 873.
(2) نفسه ج 4ص 873، 874.(1/214)
إن القرآن الكريم من خلال طريقة المقابلة بين هذا المتضادات يدعو إلى تحريك قوى النفس لدى الإنسان، وبخاصة قوة العقل كي تقيم موازنة بين الأشياء المختلفة، وتعلم حقيقة الشيء وما يناقضه ثم تخرج بحكم نهائي وفق منهج النظر السليم، والمفاضلة الدقيقة، لتسير عليه في حياتها على بصيرة ونور.
أما الإنسان الذي يعتمد على وجه واحد في تبني منهجه في الحياة دون معرفة تامة بالوجه الآخر الذي يقابله غالبا ما يقوده هذا إلى الخطأ والضلال، وقديما قال عمر بن الخطاب: «من لم يعرف الشر جدير بأن يقع فيه» (1)، أي أن المعرفة بالشيء وما يقابله هي التي تعطي التصور الكامل عن الأشياء، وهي التي تجعل منهج الاختيار مبنيا على قواعد ثابتة ونظرات دقيقة. فمعرفة الحق وحده لا تكفي في أسس الاختيار والتبني دون معرفة الباطل في صورة المتعددة.
ويظهر بوضوح وجلاء من خلال هذه الآيات أن المقابلة بين الأشياء في صورتها المتضادة هي أسلوب من أساليب العرض القرآنية، وهي من الوسائل التي يلجأ إليها القرآن كثيرا في أداء المعاني، وإقامة الحجة على الناس، وتحريك قلوبهم وعقولهم لمعرفة الحق ومقتضياته وتمييزه عن الباطل وأشكاله.
ولا يتسع هذا المقام لعرض نماذج أخرى للدلالة على صدق ما نقول واكتفينا هنا بما عرضناه في فصول سابقة ضمن التطبيق العملي على سورة واحدة فقط هي سورة التوبة، وكانت نتائج الدراسة دليلا قاطعا على ما تبنّيناه في هذا البحث من أن المقابلة هي إحدى طرق العرض البارزة في المنهج القرآني.
__________
(1) عبد الكريم الخطيب التفسير القرآني ج 3ص 875.(1/215)
ب المقابلة وأسلوب التصوير:
إن أسلوب «التصوير» هو أحد طرق العرض في القرآن الكريم، وهو من الأدوات المفضلة والقواعد الأساسية في التعبير عن مختلف القضايا. «فهو يعبر بالصورة المحسّة المتخيّلة عن المعنى الذهني، والحالة النفسية، وعن الحادث المحسوس والمشهد المنظور، وعن النموذج الإنساني، والطبيعة البشرية، ثم يرتقي بالصورة التي يرسمها فيمنحها الحياة الشاخصة، أو الحركة المتجددة، فإذا المعنى الذهني هيئة أو حركة، وإذا الحالة النفسية لوحة أو مشهد، وإذا النموذج الإنساني شاخص حي، وإذا الطبيعة البشرية مجسمة مرئية، فأما الحوادث والمشاهد، والقصص والمناظر، فيردها شاخصة حاضرة، فيها الحياة وفيها الحركة، فإذا أضاف لها الحوار فقد استوت لها كل عناصر التخييل» (1).
وأسلوب التصوير يشكل مع بقية الأساليب وسيلة بيان وإيضاح، وأداة تأثير وإقناع وبتكامله مع عناصر الكمال في خصائص التعبير الأخرى كطريقة الأداء، والدلالة المعنوية للألفاظ والعبارات، والإيقاع الموسيقى للكلمات والعبارات يحقق التأثير المطلوب، ويصل إلى الإقناع الكامل (2).
وقيمة الأسلوب التصويري تبدو جلية حينما نعبّر عن معنى من المعاني بأسلوب تجريدي ثم نعرضه مرة أخرى في أسلوب تصويري «فإننا نجد أن المعنى في الطريقة الأولى يخاطب الذهن والوعي، ويصل إليهما مجردا من ظلاله الجميلة، وفي الطريقة الثانية يخاطب الحس والوجدان ويصل إلى النفس من منافذ شتى، من الحواس بالتخييل، ومن الوجدان المنفعل بالأصداء والأضواء، ويكون الذهن منفذا واحدا من منافذه الكثيرة إلى النفس لا منفذها الوحيد» (3).
__________
(1) سيد قطب التصوير الفني في القرآن ص 36.
(2) بن عيسى عبد القادر با طاهر أساليب الإقناع في القرآن الكريم ص 39.
(3) سيد قطب التصوير الفني في القرآن ص 242.(1/216)
وأسلوب التصوير هو من الأساليب التي لها قدرة على تحريك الحس والشعور لدى الإنسان من خلال الجمال الفني الذي يضفيه على التعبير، وهو على غرار ذلك من عناصر الكمال في التعبير القرآني، وهو أحد أساليب الإقناع والإمتاع البارزة فيه وبخاصة حين يتعاضد مع طرق العرض الأخرى وأبرزها طريقة المقابلة، فنجده يحرص في مواضع كثيرة منه على عرض الصورة وما يناقضها فتكتمل بذلك عناصر التشويق والإثارة، ويؤدي التعبير أغراضه كاملة دون أي خلل أو نقص.
وعرض الصورة الفنية وما يقابلها أمر مقصود في التعبير القرآني لما فيه من قدرة على التأثير والإقناع، لأن عرض الصورة في اتجاه واحد، وفي غرض واحد، قد لا يكون له نفس الحظ من الكمال في التعبير مثلما تعرض الصورة ونقيضها في نفس السياق مما يتيح للقارئ والمتأمل فرصة الجمع بين الصورتين في سياق واحد، فيعرف جميع أجزاء الصورتين المتضادتين ويسهل عليه هذا عقد المفاضلة والمقارنة بينهما ليأتي الحكم والاختيار بعد المعرفة الكاملة بالصورة وما يقابلها.
وعرض الصور بطريقة التقابل أمر ملاحظ في القرآن الكريم وبخاصة في قضايا البعث والنشور، ومشاهد القيامة، وسوف نعرض بعض الصور القرآنية المتقابلة للدلالة على تكامل الأسلوبين وتجانسهما في خدمة التعبير القرآني الجميل.
قال تعالى في سورة التوبة: {أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيََانَهُ عَلى ََ تَقْوى ََ مِنَ اللََّهِ وَرِضْوََانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيََانَهُ عَلى ََ شَفََا جُرُفٍ هََارٍ فَانْهََارَ بِهِ فِي نََارِ جَهَنَّمَ وَاللََّهُ لََا يَهْدِي الْقَوْمَ الظََّالِمِينَ} [التوبة: 109].
ففي هذه الآية الكريمة التي اختارت طريقة التصوير في عرضها لقضية الإيمان والنفاق يلاحظ أنها رسمت صورتين متقابلتين، الصورة الأولى للإيمان الذي يشبه البناء المتماسك في أساسه القائم على التقوى وعلى العلاقة مع
الله، والصورة الثانية مناقضة تماما للصورة الأولى لأننا نشاهد فيها بناء مهزوزا وآئلا للسقوط في أية لحظة لأنه يفتقد إلى أساس قوي يحميه من السقوط في نار جهنّم، «فلنقف نتطلع لحظة إلى بناء التقوى الراسي الراسخ المطمئن ثم لنتطلع بعد إلى الجانب الآخر لنشهد الحركة السريعة العنيفة في بناء الضرار، إنّه قائم على شفا جرف هار قائم على حافة جرف منهار، قائم على تربة مخلخلة مستعدة للانهيار، إننا نبصره اللحظة يتأرجح ويتزحلق وينزلق، إنّه ينهار إنّه ينز لق إنّه يهوي! إنّ الهوة تلتهمه! يا للهول! إنها نار جهنّم» (1).(1/217)
ففي هذه الآية الكريمة التي اختارت طريقة التصوير في عرضها لقضية الإيمان والنفاق يلاحظ أنها رسمت صورتين متقابلتين، الصورة الأولى للإيمان الذي يشبه البناء المتماسك في أساسه القائم على التقوى وعلى العلاقة مع
الله، والصورة الثانية مناقضة تماما للصورة الأولى لأننا نشاهد فيها بناء مهزوزا وآئلا للسقوط في أية لحظة لأنه يفتقد إلى أساس قوي يحميه من السقوط في نار جهنّم، «فلنقف نتطلع لحظة إلى بناء التقوى الراسي الراسخ المطمئن ثم لنتطلع بعد إلى الجانب الآخر لنشهد الحركة السريعة العنيفة في بناء الضرار، إنّه قائم على شفا جرف هار قائم على حافة جرف منهار، قائم على تربة مخلخلة مستعدة للانهيار، إننا نبصره اللحظة يتأرجح ويتزحلق وينزلق، إنّه ينهار إنّه ينز لق إنّه يهوي! إنّ الهوة تلتهمه! يا للهول! إنها نار جهنّم» (1).
إن اجتماع الصورتين المتقابلتين في سياق واحد أعطى التعبير رونقا وجمالا، وأعطى المتلقي معرفة كاملة بحقائق الأشياء وصفاتها، مما ساهم في تحقيق غاية القرآن الكبرى في الفصل بين الإيمان والكفر والتمييز بينهما.
وقال تعالى: {هَلْ أَتََاكَ حَدِيثُ الْغََاشِيَةِ (1) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خََاشِعَةٌ (2) عََامِلَةٌ نََاصِبَةٌ (3) تَصْلى ََ نََاراً حََامِيَةً (4) تُسْقى ََ مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ (5) لَيْسَ لَهُمْ طَعََامٌ إِلََّا مِنْ ضَرِيعٍ (6) لََا يُسْمِنُ وَلََا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ (7) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نََاعِمَةٌ (8) لِسَعْيِهََا رََاضِيَةٌ (9) فِي جَنَّةٍ عََالِيَةٍ (10) لََا تَسْمَعُ فِيهََا لََاغِيَةً (11) فِيهََا عَيْنٌ جََارِيَةٌ (12) فِيهََا سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ (13) وَأَكْوََابٌ مَوْضُوعَةٌ (14) وَنَمََارِقُ مَصْفُوفَةٌ (15) وَزَرََابِيُّ مَبْثُوثَةٌ} (16) [الغاشية: 161].
فهذه الآيات تصور مشهدين من مشاهد القيامة، وهذان المشهدان متقابلان تقابل تضاد إذ المشهد الأول يصور العذاب الأخروي لأهل الشقاء، فترى هناك وجوها خاشعة ذليلة متعبة مرهقة، عملت ونصبت فلم تحمد العمل ولم ترض العاقبة، ولم تجد إلا الوبال والخسارة، فزادت مضضا وإرهاقا وتعبا، وهي تسقى من عين آنية حارة بالغة الحرارة وهي تتغذى بالطعام الذي لا تقوى الإبل على تذوقه، وهو شوك لا نفع فيه ولا غناء، أما المشهد الثاني فعلى النقيض تماما من المشهد الأول ففيه وجوه ناعمة يبدو عليها النعيم، ويفيض منها
__________
(1) سيد قطب في ظلال القرآن ج 3ص 1711.(1/218)
الرضى، وجوه تنعم بما تجد، وتحمد بما عملت، فوجدت عقباه خيرا، والود والرضى، وهي تنعم بالعين الجارية، والسرر المرفوعة، والنمارق المصفوفة، والزرابي المبثوثة (1).
وتعتمد هذه الآيات على عرض هاتين الصورتين على طريقة المقابلة التامة بين جميع الأجزاء فيهما، وهذه الطريقة في العرض من شأنها أن تبرز الحقائق الغيبية عن اليوم الآخر، والتي يصعب إدراكها إلا باستخدام الوسائل المناسبة في الإقناع والإمتاع.
وعرض مشاهد القيامة بأسلوب التصوير وطريقة المقابلة كثير في القرآن لما في ذلك من فوائد معنوية، وخصائص أسلوبية تعود أساسا إلى الأهمية الخاصة في الجمع بين الصورة وما يقابلها حتى تكتمل جميع المشاهد، وتجمع المعلومات الضرورية والكافية لإقامة المفاضلة وحسن الفهم والاختيار.
وقال تعالى أيضا: {بَلْ كَذَّبُوا بِالسََّاعَةِ وَأَعْتَدْنََا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسََّاعَةِ سَعِيراً (11) إِذََا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكََانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهََا تَغَيُّظاً وَزَفِيراً (12) وَإِذََا أُلْقُوا مِنْهََا مَكََاناً ضَيِّقاً مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنََالِكَ ثُبُوراً (13) لََا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُوراً وََاحِداً وَادْعُوا ثُبُوراً كَثِيراً (14) قُلْ أَذََلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ كََانَتْ لَهُمْ جَزََاءً وَمَصِيراً (15) لَهُمْ فِيهََا مََا يَشََاؤُنَ خََالِدِينَ كََانَ عَلى ََ رَبِّكَ وَعْداً مَسْؤُلًا} (16) [الفرقان: 1611].
تعرض هذه الآيات مشهدين من مشاهد يوم القيامة بأسلوب تصويري، وهذان المشهدان متقابلان تقابل تضادّ لأن في المشهد الأول صورة حية للنار وأهلها، وفي المشهد الثاني صورة ناطقة للجنة وأهلها.
لقد رسمت الصورة الأولى جهنم وكأنها كائن حي يعبر عن غيظه وغضبه، «فنحن هنا أمام مشهد السعير المستعرة وقد ربت فيها الحياة، فإذا هي تنظر فترى أولئك المكذبين بالساعة، تراهم من بعيد فإذا هي تتغيظ وتزفر فيسمعون
__________
(1) سيد قطب في ظلال القرآن ج 6ص 3896، 3897.(1/219)
زفيرها وتغيّظها، وهي تحترق عليهم، وتصعد الزفرات غيظا منهم، وهي تتميز من النقمة، وهم إليها في الطريق مشهد رعيب يزلزل الأقدام والقلوب، ثم ها هم أولاء قد وصلوا، فلم يتركوا لهذا الغول طلقاء، يصارعونها فتصرعهم ويتحامونها فتغلبهم، بل ألقوا إليها إلقاء، ألقوا مقرنين قد قرنت أيديهم إلى أرجلهم في السلاسل وألقوا في مكان ضيق، يزيدهم كربة وضيقا، ويعجزهم عن التفلت والتململ ثم ها هم أولاء يائسون من الخلاص، مكروبون في السعير، فراحوا يدعون الهلاك أن ينقذهم من هذا البلاء (1).
أما الصورة الثانية فهي صورة الجنة التي يغلب عليها طابع الهدوء والسلامة، وطابع الاطمئنان والرضى، لأنها وصفت بجنة الخلد وأهلها فيها خالدون لهم ما يشاءون من نعيم مقيم، ورضوان، على عكس الصورة الأولى تماما.
ومن مشاهد القيامة التي يظهر فيها انسجام الأسلوب التصويري مع المقابلة قوله تعالى: {وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى ََ جَهَنَّمَ زُمَراً حَتََّى إِذََا جََاؤُهََا فُتِحَتْ أَبْوََابُهََا وَقََالَ لَهُمْ خَزَنَتُهََا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيََاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقََاءَ يَوْمِكُمْ هََذََا قََالُوا بَلى ََ وَلََكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذََابِ عَلَى الْكََافِرِينَ (71) قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوََابَ جَهَنَّمَ خََالِدِينَ فِيهََا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (72) وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً حَتََّى إِذََا جََاؤُهََا وَفُتِحَتْ أَبْوََابُهََا وَقََالَ لَهُمْ خَزَنَتُهََا سَلََامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهََا خََالِدِينَ (73) وَقََالُوا الْحَمْدُ لِلََّهِ الَّذِي صَدَقَنََا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشََاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعََامِلِينَ (74) وَتَرَى الْمَلََائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلََّهِ رَبِّ الْعََالَمِينَ} (75) [الزمر: 7571].
تعرض هذه الآيات لمشهدين متقابلين من مشاهد يوم القيامة، في المشهد الأول صورة حية متحركة لجهنم وأهلها الذين سيقوا إليها سوقا عنيقا، حتى إذا وصلوا إليها بعيدا هناك استقبلهم خزنتها بتسجيل استحقاقهم لها، وتذكيرهم
__________
(1) سيد قطب في ظلال القرآن ج 5ص 2554، 2555.(1/220)
بما جاء بهم إليها: {أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيََاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقََاءَ يَوْمِكُمْ هََذََا قََالُوا بَلى ََ وَلََكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذََابِ عَلَى الْكََافِرِينَ} (71) [الزمر: 71].
أما المشهد الثاني فهو صورة أخرى مناقضة للصورة الأولى، إنها صورة الجنة وأهلها الذين توجهوا إليها حتى إذا وصلوا هناك استقبلهم خزنتها بالسلام والثناء {سَلََامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهََا خََالِدِينَ} [الزمر: 73]، وهيمنت أصوات أهل الجنة بالحمد والدعاء (1).
إن قيمة التصوير في عرض الحقائق لا تقف عند حدّ التعبير عن المعاني المجردة، وتقريبها إلى النفوس في قوالب فنية حسية نابضة بالحركة والحياة والحوار فحسب، بل بما يضيفه التصوير من جمال فني على التعبير يناسب غرائز النفوس، ويفي بحاجاتها إلى الإقناع العقلي والتأثير الوجداني (2).
وإن الذي يزيد التعبير قوة في العرض، وجمالا في الأداء هو اجتماع المقابلة مع التصوير كما هو الحال في هذه الآيات التي عرضناها فحينئذ تجتمع الصورة وما يقابلها، والمشهد وما يناقضه فتكتمل جميع الأجزاء في الصورة، وهذا يتيح للمتلقي مجالا واسعا للنظر والاستدلال، ويعطيه قدرة على التمييز بين الأشياء في صورها المتقابلة.
وطرق العرض التي يختارها القرآن هي التي ميّزت الأسلوب القرآني عن بقية فنون القول البشرية، وجعلت منه نموذجا فريدا للبلاغة في أعلى مستوياتها.
(ج) المقابلة طريقة في الإقناع:
الإقناع هو حمل النفوس على فعل شيء أو اعتقاده أو التخلي عن فعله واعتقاده (3)، وهو بالمعنى الواسع أن «يحمل الكلام إنسانا ما أو جماعة على
__________
(1) سيد قطب مشاهد القيامة في القرآن ص 146.
(2) بن عيسى عبد القادر با طاهر اساليب الاقناع في القرآن الكريم ص 120.
(3) حازم القرطاجني منهاج البلغاء وسراج الأدباء ص 20.(1/221)
اعتقاد رأي للعمل به، أو التخلي عن اعتقاده، وشرطه ألا تستعمل فيه طرق الإكراه والقسر، أما حين تستعمل هذه الطرق كالتعذيب مثلا لإذعان النفس على الإيمان بعقيدة أو التخلي عنها كما يحدث في بعض الديانات الباطلة والمحرفة فليس هذا إقناعا ما دام أنه حدث بغير رضا النفس، ومن هنا فالإقناع هو رضا النفس بكامل جوانبها بالشيء المعتقد بعيدا عن أي عامل خارجي» (1).
والمقصود بالإقناع القرآني أنه العملية التي بها يؤثر الخطاب الإلهي في النفس البشرية على اختلاف مشاربها، وتفاوت طبائعها وتعاقب أجيالها، ويحملها على الرضا والعمل بأصول الدين وتعاليمه.
وعملية الإقناع ليست بالعملية السهلة لأنها مرتبطة ارتباطا وثيقا بقوى النفس البشرية، وإرضاء هذه القوى يحتاج أولا إلى معرفة كاملة بالنفس وطبائعها ومشكلاتها، وثانيا إلى معرفة بالوسائل المناسبة والأساليب المؤثرة لإرضاء النفس من كل جوانبها، وتحقيق الإقناع المطلوب الذي سيتبعه بالضرورة العمل بمقتضى الشيء المقتنع به.
وبما أن عملية الإقناع تتجه إلى إرضاء قوى النفس البشرية جميعها فإنه لا يمكن أن نفصل في هذه العملية بين العقل والعاطفة، لأن إرضاء أحدهما لا يعني بالضرورة رضا الآخر، فقد يميل العقل إلى حجة أو برهان، في حين تجد العاطفة مضطربة وغير مطمئنة لذلك الموقف.
ومثال هذا التكامل بين العقل والعاطفة في علمية الإقناع ذلك الإنسان الذي يطلب منه أن ينام في بيت فيه ميت، فتجد أن قوة الإرادة عنده ترفض النوم على الرغم من أن عقله يدرك تماما أن هذا الميت لا يضره بشيء، فقوة العاطفة التي سجلت بإحساسها بالخوف هي التي لم تحصل على نصيبها من الإقناع، ومن هنا كانت العملية ناقصة في إحدى جوانبها الضرورية، وكذلك
__________
(1) بن عيسى عبد القادر بطاهر أساليب الإقناع في القرآن الكريم ص 151.(1/222)
الحال بالنسبة للإنسان الذي قد يتصرف تصرفا خاطئا في غياب قوته العقلية كأن يضرب أو يقتل إنسانا ما، وفي مثل هذه الحالة تجد أن القوة العاملة هي العاطفة التي سجلت إحساسها بالغضب أو الألم في حين عطلت قوة العقل (1).
وكذلك الحال في الإنسان المدخن تجده مقتنعا بعقله بضرر التدخين، ومع ذلك لا يستطيع تركه والإقلاع عنه لسيطرة قوى العاطفة عليه بتسجيلها الإحساس باللذة أو الشهوة، وهي لم تشبع الإشباع الكافي، ولهذا كانت عملية الإقناع ناقصة في جانب من جوانبها الهامة.
إن الغاية التي جاء من أجلها القرآن الكريم هي بيان وترسيخ الأسس الرئيسية التي يقوم عليها بناء العقيدة الصحيحة، وأقرب الطرق للوصول إلى هذه الغاية هي الوفاء بحاجات النفس الإنسانية، وإشباع قواها العقلية والوجدانية، ليكون الإقناع ثمرة منبعثة من العقل والعاطفة معا (2).
وعن الإقناع القرآني والتلازم فيه بين العقل والعاطفة في خطاب النفس البشرية يقول محمد عبد الله دراز: «أما ما يبدو فوق طاقة البشر حقا في الأسلوب القرآني، فهو أنه لا يخضع للقوانين النفسية التي بمقتضاها ترى العقل والعاطفة لا يعملان إلا بالتبادل، وبنسب عكسية بحيث يؤدي ظهور إحدى القوتين إلى اختفاء الأخرى، ففي القرآن لا ترى إلا تعاونا دائما في جميع الموضوعات التي يتناولها بين هاتين المتنافرتين» (3).
فالطرق والمناهج التي اتبعها القرآن في العرض والاستدلال والتقرير هي التي كان لها الفضل في الوصول إلى غايته من التأثير والإقناع فإذا كان القرآن بعيدا عن أي عامل خارجي قد أثر بصفة دائمة على عقول جد مختلفة فلا بد أن يكون ذلك راجعا إلى ما فيه من جاذبية خاصة بتوافقه الكامل مع أسلوب
__________
(1) بن عيسى عبد القدر با طاهر أساليب الإقناع في القرآن ص 5.
(2) محمد حسن آل ياسين في رحاب القرآن ط 1دار المعارف: بغداد، هـ ص 61.
(3) مدخل إلى القرآن الكريم ص 117.(1/223)
الناس الفطري في التفكير والشعور وباستجابته لما تتطلع إليه نفوسهم في شئون العقيدة والسلوك، وبوصفه الحلول الناجعة للمشكلات الكبرى التي تقلق بالهم وبمعنى آخر لا بد أنه ينطوي على ما يشبع حاجتهم إلى الحق والخير والجمال بما يجمع من صفات العمل الديني والأخلاقي والأدبي في آن واحد (1).
فطريقة القرآن في الخطاب كما ذكرنا ذلك مرارا تعتمد على تنويع الأساليب، وتلوين الوسائل للسيطرة على النفوس المتباينة في طبائعها، المختلفة في تكوينها النفسي والثقافي والاجتماعي، ومن بين هذه الأساليب التي يفضلها القرآن أسلوب المقابلة لما له من قدرة على تحريك النفوس، ولكونه من أساليب العرض المتميزة في المنهج القرآني.
يقول محمد أبو زهرة: «إن المقابلة بين شيئين أو أمرين أو شخصين تكون ليعرف أيهما المؤثر في عمل معين، وإذا ثبت أن التأثير لواحد منهما كان له فضل التقدم على غيره، وقد كان ذلك النوع من ينابيع الاستدلال كثيرا في القرآن الكريم، لأن المشركين كانوا يعبدون أحجارا يصنعونها أو مخلوقات لله تعالى خلقها، وكانوا يعتقدون أن لها تأثيرا في الإيجاد، أو في الشر يمنع، أو الخير يجلب، فكانت المقابلة بين الذات العلية وبين ما ابتدعوا من عبادة الأوثان ينبوعا للاستدلال على بطلان ما زعموا، ومن ذلك قوله تعالى: {أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لََا يَخْلُقُ أَفَلََا تَذَكَّرُونَ (17) وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللََّهِ لََا تُحْصُوهََا إِنَّ اللََّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} (18) [النحل: 1817].
هذا النص الكريم فيه مقابلة بين المعبود بحق، وهو الله سبحانه وتعالى خالق السموات وبين ما ابتدعوا من أصنام ومعبودات فالقرآن من هذه المقابلة يأتي بدليل يلزمهم ويفحمهم أو يقنعهم إن استقامت القلوب، وإن الدليل بالتقابل يصح أن يكون عند ما ادعيت الألوهية للخالق جلّت قدرته مع
__________
(1) مدخل إلى القرآن الكريم ص 70.(1/224)
المخلوق المصنوع بأيدي العباد. وبالمقابلة بينهما نجد الخالق يحتاج إليه كل ما في الوجود، والمصنوع بأيدي العباد لا ينفع ولا يضر. فالله وحده هو الإله الحق الذي لا يعبد سواه» (1).
فالمقابلة هي من طرق الاستدلال والبرهنة في قضايا العقيدة الثلاث وهي الوحدانية والرسالة واليوم الآخر.
وفي غيرها من القضايا، فكثيرا ما تأتي في سياق البرهنة على الحقائق الكبرى التي تشغل بال الإنسان رغبة في إقناعه والوصول به إلى غايات الدعوة والتربية.
وسنذكر بعض النماذج القرآنية التي تبين هذه الحقيقة، فمن ذلك قوله تعالى: {قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللََّهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيََاءَ لََا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعاً وَلََا ضَرًّا قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى ََ وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمََاتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُوا لِلََّهِ شُرَكََاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشََابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللََّهُ خََالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوََاحِدُ الْقَهََّارُ} (16) [الرعد: 16].
فهذا الاستدلال قائم على المقابلة، فكانت المقابلة بين من لا يملك لنفسه نفعا وضرا وهو ما اتخذه البشر إلها من دون الله، وبين الله القهار القادر على كل شيء، وهو الواحد الأحد الذي لا يشبه شيء، وكأن المقابلة بين الأعمى والبصير، ويشمل الأعمى من لا يدرك الحقائق والبصير من يدركها، وبين الظلمة التي تعتم النفس، والنور الذي يشرق به القلب، ومن يخلق ومن لا يخلق، وهذه المقابلات ينابيع الإدراك الموجه وإنها تصلح دليلا مثبتا في عدة دعاوى، ويكون في المقابلات الحكم الفصل الهادي المرشد (2).
فبواسطة هذه المقابلات يستطيع المتلقي أن يستدل على الحقائق، ويعرف الحق من الباطل، ويدرك طبيعة الأشياء المتناقضة، وعرض الشيء وما يقابله له
__________
(1) المعجزة الكبرى القرآن ص 354.
(2) محمد أبو زهرة المعجزة الكبرى القرآن ص 355.(1/225)
كبير الأثر في التمييز بين الأشياء، ومعرفة الصواب من الخطأ، والحسن من القبيح، كما أن المقابلة تفتح أمام العقل البشري آفاقا واسعة للتفكير في طبائع الأشياء المتناقضة، وتعطيه مجالا رحبا للموازنة الهادئة المبنية على الأدلة والبراهين، وتأتي بعد هذه الخطوات فرص الإقناع بما هو حق، ودحض ما هو باطل.
وقال تعالى في الاستدلال على صدق الرسالة: {وَقََالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذََا إِلََّا إِفْكٌ افْتَرََاهُ وَأَعََانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جََاؤُ ظُلْماً وَزُوراً (4) وَقََالُوا أَسََاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهََا فَهِيَ تُمْلى ََ عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (5) قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كََانَ غَفُوراً رَحِيماً} (6) [الفرقان: 64].
في هذه الآيات مقابلة بين الشبهات التي ساقها الكفار في إبطال المصدر الرباني للرسالة التي جاء بها محمد صلى الله عليه وسلم، وبين الأدلة البديهية التي ساقها القرآن في الرد عليهم، وفي الاستدلال على صدق الرسول صلى الله عليه وسلم، وعلى ربانية المصدر القرآني.
لقد قال الكفار عن القرآن الكريم إنه كذب وإفك، وإنه أساطير قديمة افتراها مدعي النبوة ثم نسبها إلى الله، وإنه تلقى الإعانة ممن لهم علم بالكتب السماوية السابقة، ويسوق القرآن جوابه بإيجاز بليغ، دون أن يجادل أو يناقش بعنف، إن أقاويلهم هذه كلّها ظلم وزور، وإن القرآن الكريم يمليه على محمد صلى الله عليه وسلم الذي يعلم الأسرار جميعا، {قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضِ} [الفرقان: 6].
يقول الفخر الرازي (606هـ): «إنّ هذا القدر يكفي جوابا عن الشبهة المذكورة، لأنه قد علم كل عاقل أنه عليه السلام تحداهم بالقرآن، وهم النهاية في الفصاحة، وقد بلغوا في الحرص على إبطال أمره كل غاية ولو استعان محمد صلى الله عليه وسلم في ذلك بغيره لأمكنهم أيضا أن يستعينوا بغيرهم» (1).
__________
(1) تفسير الفخر الرازي ج 24ص 50.(1/226)
فالمقابلة في هذه الآيات أتت في سياق الجدل القرآني حول مصدرية القرآن، وقد ساهمت في علمية الإقناع التي يسعى إليها القرآن بالرد على المنكرين، وبسط الأدلة المناسبة أمامهم فقوله تعالى: {فَقَدْ جََاؤُ ظُلْماً وَزُوراً}
[الفرقان: 4]، وقوله: {قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمََاوََاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كََانَ غَفُوراً رَحِيماً} (6) [الفرقان: 6]، دليلان واضحان من غير تعقيد كلامي أو جدل عقلي، وهما أقرب إلى البداهة منها إلى العقل، لأن الخطاب موجه إلى كل منافذ النفس كي تأخذ نصيبها من الإقناع والتأثير، فللعقل نصيبه ما دام أن الكفار أنفسهم يعرفون الله بصفاته، ويعرفون محمدا صلى الله عليه وسلم بخصاله، ويعرفون القرآن بسحره وإعجازه، ومن هنا ناسب خطاب العقل بأن يرد الظلم العقائدي على أهله، وأن يقرر تنزيل القرآن الكريم من الله العليم، أما جانب خطاب الوجدان فيتجلى في جمال التعبير الذي يحرك العواطف ويستميل القلوب (1).
وتأتي المقابلة أيضا في سياق البرهنة على اليوم الآخر، رغبة من القرآن في إقناع المنكرين، وإفحام الجاحدين بفكرة البعث والجزاء، فمن ذلك قوله تعالى: {أَفَمَنْ يُلْقى ََ فِي النََّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِناً يَوْمَ الْقِيََامَةِ اعْمَلُوا مََا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمََا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [فصلت: 40].
يلاحظ في هذه الآية أنها تعتمد على أسلوبين واضحين في الإقناع بحتمية اليوم الآخر، فأول الأسلوبين الاستفهام التقريري الذي يعد من أقوى الأساليب في الإقناع بما له من قدرة على تحريك قوى النفس وإلزامها بالحجّة، والأسلوب الثاني هو أسلوب المقابلة بين الجنّة وأهلها، والنار وأهلها، ومصير كل فريق يوم القيامة. فقوله: {أَفَمَنْ يُلْقى ََ فِي النََّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِناً يَوْمَ الْقِيََامَةِ} [فصلت: 40]، «هو تعريض بهم، وبما ينتظرهم من الإلقاء في النار والخوف والفزع، بالمقابلة إلى مجيء المؤمنين آمنين» (2).
__________
(1) بن عيسى عبد القادر با طاهر أساليب الإقناع في القرآن الكريم ص 107.
(2) سيد قطب في ظلال القرآن ج 5ص 3126.(1/227)
وفي الآية محسن الاحتباك، إذ حذف مقابل، {أَفَمَنْ يُلْقى ََ فِي النََّارِ}، وهو من يدخل الجنة، وحذف مقابل، {أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِناً}، وهو من يأتي خائفا وهم أهل النار (1).
وأسلوب العرض بالتقابل في هذه الآية يساهم مساهمة فعالة في عملية الإقناع، إذ يعطي للنفس البشرية مجالا للتفكير في الشيئين المتقابلين، ليأتي بعد ذلك الحكم على أيهما أحق بالاتباع، وعلى أيهما أولى بالاختيار.
فبعد عرض هذه النماذج القرآنية القليلة يمكن أن نستنتج أن المقابلة هي إحدى وسائل الإقناع في القرآن، وهي تؤدي وظيفة كبيرة في تحريك قوى النفس بما تمنحه للمعاني من قوة وحسن، وللتعبير من تناسق وجمال.
(د) المقابلة وغاياتها الفنية:
تؤدي المقابلة دورا كبيرا في الأسلوب القرآني، فهي من الأساليب القادرة على مخاطبة قوى النفس جميعها، وذلك بتحريك قوة العقل، وتنشيط قوة الشعور، وتفعيل غريزة حبّ الاستطلاع، وذلك لتلبية حاجات النفس المتطلعة دائما إلى المتعة الوجدانية، والنكتة العقلية، والراغبة في الأسلوب الجميل، والمعنى العميق.
والمقابلة بانسجامها مع بقية الأساليب وبخاصة أسلوب التصوير تضفي جمالا فنيا خاصا على التعبير، ومنشأ هذا الجمال وجود الصور المتقابلة، والألوان المتباينة، والنماذج البشرية المختلفة، والحقائق الدينية المتناقضة، وغير ذلك من الأشياء المتضادة في طبائعها وأشكالها.
ولا يتأتى هذا الجمال الفني في التعبير القرآني من مجرد الجمع بين الأشياء المتقابلة، فذلك أمر ميسور في أساليب البشر، بل إنه يتأتى من انسجام كامل
__________
(1) محمد الطاهر بن عاشور تفسير التحرير والتنوير ج 24ص 304و 305.(1/228)
بين الصورة وما يقابلها، وتناسق جميع الأجزاء بعضها مع بعض، حتى إذا حاولت أن تعرض جانبا واحدا من الصورة فقد الجانب الآخر رونقه وحسنه، وهذا الجمال الفني الذي تفيده المقابلة عبّر عنه أحد الشعراء قديما فقال:
الوجه مثل الصبح مبيضّ ... والشعر مثل اللّيل مسودّ
ضدان لما استجمعا حسنا ... والضدّ يظهر حسنه الضدّ
فالضد يظهر حسنه الضد، وبضدها تتميّز الأشياء، هذا في مستويات العرض البسيطة المألوفة لدى البشر، أما حين يكون العرض في قمة الكمال المعنوي والأدبي كما هو الحال في القرآن الكريم، فذلك هو عين الجمال الفني الذي يعجز عنه البشر في كلامهم.
وهذا الجمال الذي أبدعه الله في الكون ومشاهده، والذي يدركه ويتذوقه أي إنسان سليم في طبعه، متأتاه الجمع بين الأشياء ونظائرها، والحقائق وأضدادها ولذلك قال تعالى: {وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنََا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} (49) [الذاريات: 49].
فالذي يعطي للنهار جمالا وأهمية وجود الليل، والذي يعطي للحياة قيمة وطعما وجود الموت، والذي يعطي للإيمان قيمة وجمالا وجود الكفر، وهكذا في جميع الأشياء المحسوسة وغير المحسوسة.
فالجمال سمة ظاهرة في القرآن الصامت وهو الكون، وسمة بارزة في القرآن الناطق، وقد كان للمقابلة وغيرها من الأساليب فضل المساهمة في إضفاء صفة الجمال على الأسلوب القرآني، وإذا أخذنا مثالا من القرآن فسنجد فيه صدق ما نقول، فمن ذلك مثلا قوله تعالى: {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمََانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذََابَ بِمََا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (106) وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَتِ اللََّهِ هُمْ فِيهََا خََالِدُونَ} (107) [آل عمران: 107106].
إنّ مصدر الجمال الفني في هذه الآيات هو في الجمع بين مشهدين متقابلين من مشاهد يوم القيامة، «فنحن في مشهد هول، هول لا يتمثل في
ألفاظ ولا في أوصاف، ولكن يتمثل في آدميين أحياء، في وجوه وسمات، هذه وجوه قد أشرقت بالنور، وفاضت بالبشر، فابيضت من البشر والبشاشة، وهذه وجوه كمدت من الحزن، واغبرت من الغمّ، واسودّت من الكآبة» (1).(1/229)
إنّ مصدر الجمال الفني في هذه الآيات هو في الجمع بين مشهدين متقابلين من مشاهد يوم القيامة، «فنحن في مشهد هول، هول لا يتمثل في
ألفاظ ولا في أوصاف، ولكن يتمثل في آدميين أحياء، في وجوه وسمات، هذه وجوه قد أشرقت بالنور، وفاضت بالبشر، فابيضت من البشر والبشاشة، وهذه وجوه كمدت من الحزن، واغبرت من الغمّ، واسودّت من الكآبة» (1).
ولو عرضنا مشهدا منفردا من هذين المشهدين لما كان له هذا الرونق والحسن، ولما كان له هذا الشدّ والجذب الذي أفاده جمال التعبير، ودقة التصوير.
ومن الغايات الفنية التي تسعى إليها المقابلة في القرآن الكريم توفير التناسق الفني بين أجزاء التعبير، والتناسق هو نوع من الانسجام التام، والارتباط الوثيق بين الألفاظ والعبارات والصور، بحيث يبدو التعبير مثل الصورة المكتملة في أجزائها، المتناسقة في ألوانها، وكالشيء الجميل الذي تترابط جميع عناصره لتكون في النهاية منظرا رائعا مؤثرا تتملاه العيون، وتتجاذبه النفوس.
والتعبير القرآني يعتمد على الألفاظ وحدها في أداء المعاني، ورسم الصور، وقد بلغ الذروة من الكمال في توفير التناسق الكامل بين جميع الأجزاء المعروضة، وهذا سرّ من أسرار الإعجاز فيه لا مثيل له في كلام البشر.
ويلاحظ أنّه يكثر من استخدام المقابلة في تنسيق صوره التي يرسمها بالألفاظ على نحو دقيق (2)، وهذا الاستخدام هو الذي منح التعبير قوة في الأداء، وجمالا في التصوير وبراعة في النظم، فالمقابلة من الأساليب القليلة التي بإمكانها توفير التناسق الفني في التعبير، فلا عجب أن يكثر القرآن من استخدامها.
والتناسق الفني بطريق التقابل له شكلان أولهما: «التقابل بين صورتين إحداهما حاضرة الآن، والأخرى ماضية في الزمان، حيث يعمل الخيال في
__________
(1) سيد قطب في ظلال القرآن ج 1ص 445.
(2) سيد قطب التصوير الفني في القرآن ص 96.(1/230)
استحضار هذه الصورة الأخيرة ليقابلها بالصورة المنظورة، من ذلك قوله تعالى: {خَلَقَ الْإِنْسََانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذََا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ} (4) [النحل: 4].
فالصورة الحاضرة هنا هي صورة الإنسان «الخصم المبين» والصورة الماضية هي صورة النطفة الحقيرة، وبين الصورتين مسافة بعيدة يراد إبرازها لبيان هذه المفارقة في تصرف الإنسان، ولهذا جعل الصورتين متقابلتين، وأغفل المراحل بينهما، لتؤدي المفارقة الواضحة هذا الغرض الخاص» (1).
ومثال آخر لهذا التناسق في قوله تعالى: {وَأَصْحََابُ الشِّمََالِ مََا أَصْحََابُ الشِّمََالِ (41) فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ (42) وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ (43) لََا بََارِدٍ وَلََا كَرِيمٍ (44) إِنَّهُمْ كََانُوا قَبْلَ ذََلِكَ مُتْرَفِينَ} (45) [الواقعة: 4541].
«فالسموم والحميم» والظل الذي ليس له من الظل إلّا اسمه، لأنّه من «يحموم» «لا بارد ولا كريم»، صورة هذا الشظف تقابل صورة الترف: «إنهم كانوا قبل ذلك مترفين»، وهؤلاء المتحدث عنهم يعيشون في الدنيا الحاضرة، وصورة الترف في هذه الصورة القريبة، أما ما ينتظرهم من السموم والحميم والشظف فهو الصورة البعيدة، ولكن التصوير هنا لفرط حيويته يخيّل للقارئ أن الدنيا قد طويت، وأنهم الآن هناك، وأن صورة الترف قد طويت كذلك، وصورة الشظف قد عرضت، وأنهم الآن يذكّرون في وسط السموم والحميم، بأنهم «كانوا قبل ذلك مترفين» وذلك من عجائب التخييل. ولكنّه النسق المتّبع غالبا في القرآن، والذي يلبي طلبة الفن والدين في آن، يلبي طلبة الفن في قوة الإحياء، حتى لينسى المشاهد أنّ هذا مثل يضرب، ويحس أنّه حاضر يشهد، ويلبي طلبة الدين، لأنّ الإحساس بالمغيّب حاضرا مما يلمس الوجدان، ويهيئ لدعوة الإيمان» (2).
__________
(1) سيد قطب التصوير الفني في القرآن ص 98، 99.
(2) سيد قطب التصوير الفني في القرآن ص 100.(1/231)
فالتناسق الفني الذي نلمحه في هذه الآيات مبعثه طريقة المقابلة بين الصورة البعيدة وما يقابلها من صورة قريبة، مما أعطى لأجزاء الصورتين انسجاما رائعا لا خلل ولا اضطراب فيه.
أما الشكل الثاني للتناسق الفني بطريق التقابل فهو: المقابلة بين صورتين حاضرتين، ومثال ذلك قوله تعالى: {أَفَمَنْ كََانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كََانَ فََاسِقاً لََا يَسْتَوُونَ (18) أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصََّالِحََاتِ فَلَهُمْ جَنََّاتُ الْمَأْوى ََ نُزُلًا بِمََا كََانُوا يَعْمَلُونَ (19) وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوََاهُمُ النََّارُ كُلَّمََا أَرََادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهََا أُعِيدُوا فِيهََا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذََابَ النََّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ} (20) [السجدة: 2018].
فهذا السياق يعتمد على المقابلة في التفريق بين حقيقتين، وتمييز إحداهما عن الأخرى {أَفَمَنْ كََانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كََانَ فََاسِقاً لََا يَسْتَوُونَ} (18) لأن حقيقة الإيمان تختلف اختلافا جوهريا عن حقيقة الكفر، وهذا الذي يريد السياق أن يقرره، ثم بنى على هذه التمايز بين الكفر والإيمان العذاب الحسي الذي ينتظر الكافرين، والنعيم المادي الذي ينتظر المؤمنين، ورسم لذلك صورتين كأنهما حاضرتين.
فهنا تقابل في جو العذاب وجوّ النعيم، وفي كل جزئية من الجزئيات هنا وهناك، ومثل هذا كثير في القرآن الكريم.
* * *
الخاتمة(1/232)
* * *
الخاتمة
وبعد: فهذه خلاصة مجملة لأهم النتائج التي توصلت إليها في هذا البحث:
أالمقابلة محسّن بديعي في مذاهب القدماء، وتدخل في المحسنات المعنوية للكلام، وقد تناولها دارسو الإعجاز في بدائع القرآن، غير أن المتأمل في دلالاتها واستخداماتها الكثيرة يرى أن لها أغراضا أبعد من ذلك، فهي فن بلاغي، وطريقة في أداء المعنى لها آثارها وقيمها البعيدة، كما أنها تساهم في إبراز المعنى بما فيها من ثنائية وتضاد، هذا من حيث الدلالة أما من حيث الاستخدام فقد لوحظ أن الأدب العربي بشعره ونثره قد تميز بها، وبخاصة الشعر الجاهلي، أما وجودها في القرآن فيكاد يشكل ظاهرة واسعة جدا، وقد لا نحتاج أبدا إلى الإحصاء كي نثبت ذلك، بل إن مجرّد قراءة عادية في النصوص القرآنية تجعلنا نقف أمام أسلوب في العرض فريد، وطريقة في الأداء رائعة.
ب إن قضية «الوحدانية والتعدد» هي من القضايا التي تنوّع عرضها في القرآن بأساليب كثيرة، وطرق متنوعة تحقيقا لغايات التربية والإقناع، وقد كان هذا «التنويع» أمرا مقصودا في طرق الأداء، فهو تنويع يشبه التنويع الذي نستطعمه لمذاق السكر في الفواكه المختلفة، والمقابلة هي إحدى طرق العرض المتميّزة بين هذه الطرق، فقد جاءت لغاية الفصل بين المعبود بحقّ، وبين الآلهة التي اتخذها البشر أندادا وشركاء له.
ج وإنّ الوجود الإنساني كلّه مبني على التقابل بين الأشياء بدليل البداهة، وبدليل القرآن الكريم، فما من شيء إلّا وله ما يقابله وينافيه في أوصافه إذا كانا تحت جنس واحد، والعقل البشري مجبول في أصل خلقته على
أن يقابل بين المتضادات، فهو ينزع دائما إلى المزاوجة بين الأشياء التي تعرض له، وتدور في محيط تفكيره، وقد أقام الله هذا التقابل لمصلحة يراها هو تحقيقا لضرورة سير الحياة.(1/233)
ج وإنّ الوجود الإنساني كلّه مبني على التقابل بين الأشياء بدليل البداهة، وبدليل القرآن الكريم، فما من شيء إلّا وله ما يقابله وينافيه في أوصافه إذا كانا تحت جنس واحد، والعقل البشري مجبول في أصل خلقته على
أن يقابل بين المتضادات، فهو ينزع دائما إلى المزاوجة بين الأشياء التي تعرض له، وتدور في محيط تفكيره، وقد أقام الله هذا التقابل لمصلحة يراها هو تحقيقا لضرورة سير الحياة.
د سورة «التوبة» من السور القرآنية القائمة على قضية مركزية هي الصراع بين الحق والباطل، والتمييز بينهما، وهي من السور التي تنوّع في طرق أدائها، وقد كان حظ «المقابلة» من ذلك كبيرا، إذ حوت مجموعة من المقابلات الكبرى التي ركزنا عليها في هذا البحث.
هـ اقتضى منهج البحث أن يكون التركيز على المقابلات الكبرى في القرآن الكريم، وفي سورة «التوبة» خاصة وقد خلص البحث إلى أن المقابلة طريقة رائعة في العرض، وقد حقق هذا العرض قيما فكرية ودينية وأخلاقية وسياسية واقتصادية كثيرة، وكانت غاية المقابلة في الجمع بين المتضادات هي عرض الصور كاملة غير ناقصة في جانب من جوانبها لتعرف النفس البشرية حقائق الأشياء، سواء أكانت خيرا أو شرا، ضررا أو منفعة، ثم لتعرف كيف تختار بين هذا وذاك.
وإن المقابلة هي إحدى طرق العرض القوية في القرآن، وليست محسّنا معنويا بسيطا يدرس في حيّز ضيق هو علم البديع، فالواجب بعد الآن عدها من أساليب القرآن البليغة، وطرق عرضه الرائعة، والواجب كذلك تصنيفها تصنيفا آخر، وإعطاؤها موقعا جديدا في علم البلاغة.
ز والمقابلة تتكامل مع أسلوب التصوير حيث أن عرض الصورة وما يقابلها أمر مقصود في التعبير القرآني لما فيه من قدرة على التأثير والإقناع، ولأنّ عرض الصورة في اتجاه واحد، قد لا يكون له نفس الحظ من الكمال في التعبير مثلما تعرض الصورة وما يقابلها في السياق نفسه، وهذا يسهل عملية عقد المقارنة والمفاضلة بينهما ليأتي الحكم النهائي مناسبا للمعرفة التامة.(1/234)
ك والمقابلة هي إحدى طرق القرآن في الإقناع، وقد اعتمد عليها القرآن في الاستدلال والبرهنة في قضايا العقيدة الثلاث وهي الوحدانية والرسالة واليوم الآخر، لأنها من الأساليب التي لها قدرة على تحريك النفوس بما تمنحه للمعاني من قوة وحسن، وللتعبير من تناسق وجمال.
م وإنّ المقابلة بانسجامها مع بقية الأساليب، وبخاصة أسلوب التصوير، تضفي جمالا فنيا خاصا على التعبير، وتناسقا فنيا رائعا. ومنشأ هذا الجمال وهذا التناسق وجود الصور المتقابلة، والألوان المتباينة، والنماذج البشرية المختلفة، والحقائق الدينية المتناقضة، وغير ذلك من الأشياء المتضادة في طبائعها وأشكالها.
* * *
فهرس المصادر والمراجع(1/235)
* * *
فهرس المصادر والمراجع
1 - القرآن الكريم.
2 - أبو بكر جابر الجزائري: العلم والعلماء ط 11مطبعة الكتب السلفية: القاهرة.
3 - أبو حيان الأندلسي (754هـ):
البحر المحيط ط دار الفكر: بيروت.
النهر الماد من البحر المحيط تقديم وضبط بوران الضناوي، ط 1دار الجنان، 1987م.
4 - أبو السعود، محمد بن محمد الطحاوي: إرشاد العقل السليم (تفسير أبي السعود) دار إحياء التراث العربي: بيروت.
5 - ابن أبي الإصبع المصري (654هـ): بديع القرآن تحقيق حفني شرف ط 2دار النهضة مصر: القاهرة.
6 - ابن الأثير، ضياء الدين (638هـ): المثل السائر في أدب الكاتب والشاعر تحقيق أحمد الحوفي، وبدوي طبانة، ط 1مكتبة نهضة مصر، 1962م.
7 - أحمد بدوي: من بلاغة القرآن ط 3مكتبة نهضة مصر: القاهرة.
8 - أحمد بن حنبل (241هـ): المسند تحقيق أحمد شاكر الطبعة الرابعة.
9 - أحمد شلبي: الجهاد والنظم العسكرية في التفكير الإسلامي ط 2مكتبة النهضة المصرية:
القاهرة، 1993م.
10 - أحمد عبد المولى مناعي: الولاء والبراء في القرآن الكريم دراسة موضوعية (رسالة ماجستير) الجامعة الأردنية، 1993م.
11 - أحمد عز الدين البيانوني: الحق والباطل ط 2دار السلام: القاهرة، 1986م.
12 - أحمد محمد عساف: الحلال والحرام في الإسلام ط 2دار إحياء العلوم: بيروت، 1982م.
13 - أرسطو: فن الشعر تحقيق شكري عيّاد ط 1دار الكتاب العربي للطباعة، 1967م.
14 - الألوسي، أبو الفضل شهاب الدين (1270هـ): روح المعاني (تفسير الألوسي) ط دار إحياء التراث العربي: بيروت.
15 - الباقلاني، ابو بكر محمد بن الطيب (403هـ) إعجاز القرآن تحقيق محمد عبد المنعم خفاجي ط دار الجيل: بيروت، 1991م.
16 - البغدادي، محمد بن حيدر (517هـ) قانون البلاغة في نقد النثر والشعر تحقيق محمد عياض عجيل، ط مؤسسة الرسالة: بيروت.(1/237)
17 - البغوي، الحسين بن مسعود (516هـ) معالم التنزيل (تفسير البغوي) تحقيق خالد عبد الرحمن العك، ومروان سوار، ط 1دار المعرفة: بيروت 1986م.
18 - التهانوي، محمد أعلى: كشاف اصطلاحات الفنون ط خياط: بيروت.
19 - ابن تيمية، أحمد بن عبد الحليم (728هـ):
الاحتجاج بالقدر ط المكتب الإسلامي بيروت، 1973.
درء تعارض العقل والنقل تحقيق محمد رشاد سالم ط دار الكنوز الأدبية.
العبودية ط دار الكتب العلمية، بغداد.
الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان تحقيق زهير الشاويش ط 4المكتب الإسلامي: بيروت، 1988م.
مجموع فتاوي شيخ الإسلام ابن تيمية جمع وترتيب عبد الرحمن بن محمد العاصمي.
منهاج السنّة النبوية تحقيق محمد رشاد سالم، ط 2مكتبة ابن تيمية: القاهرة، 1989م.
20 - الجاحظ، عمرو بن بحر (255هـ): الحيوان تحقيق عبد السلام هارون ط 3دار إحياء التراث العربي: بيروت، 1969م.
21 - جعفر السبحاني: معالم التوحيد في القرآن الكريم ط 2دار الأضواء: بيروت، 1984م.
22 - جوستاف لوبون: حضارة العرب ترجمة عادل زعيتر ط 5مطبعة عيسى البابي الحلبي:
القاهرة، 1969م.
23 - حازم القرطاجني (684هـ): منهاج البلغاء وسراج الأدباء تحقيق محمد الحبيب الخوجة ط 1الشركة الوطنية للنشر: تونس، 1966م.
24 - حامد قنيبي: المشاهد في القرآن الكريم ط 1مكتبة المنار: الزرقاء، 1984م.
25 - حسن البنا: نظرات في القرآن ط مكتبة الاعتصام: القاهرة، 1979م.
26 - حسين عبد الحميد رشوان: العلم والبحث العلمي، دراسة في مناهج العلوم ط 3 المكتب الجامعي الحديث: الاسكندرية، 1987م.
27 - ابن حجر العسقلاني (852هـ): فتح الباري بشرح صحيح البخاري تحقيق عبد العزيز ابن باز ط دار المعرفة: بيروت.
28 - ابن حزم، علي بن أحمد (456هـ):
رسائل ابن حزم تحقيق إحسان عباس ط 1المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 1981م.
الفصل في الملل والأهواء والنحل تحقيق محمد إبراهيم نصر، وعبد الرحمن عميرة ط دار الجيل: بيروت، 1985م.
29 - الخازن، علي بن محمد البغدادي (725هـ): لباب التأويل في معاني التنزيل (تفسير الخازن) ط المكتبة التجارية الكبرى: مصر.(1/238)
30 - الخطابي، حمد بن محمد (388هـ): بيان إعجاز القرآن ضمن ثلاث رسائل في إعجاز القرآن تحقيق محمد خلف الله، ومحمد زغلول سلام ط 2دار المعارف:
القاهرة، 1968م.
31 - ابن خلدون، عبد الرحمن (808هـ): المقدمة ط دار إحياء التراث العربي: بيروت.
32 - الرازي، الفخر محمد بن عمر (606هـ):
مفاتيح الغيب (تفسير الفخر الرازي) ط دار إحياء التراث العربي، بيروت.
نهاية الإيجاز في دراية الإعجاز ط القاهرة، 1317هـ.
33 - الراغب الأصفهاني (425هـ): مفردات ألفاظ القرآن تحقيق صفوان عدنان داوي ط 1دار القلم: دمشق، 1992م.
34 - ابن رشد، أبو الوليد (595هـ): تلخيص كتاب المقولات تحقيق محمود قاسم ط دار الشئون الثقافية العامة: بغداد، 1991م.
35 - ابن رشيق القيرواني (456هـ): العمدة تحقيق محيي الدين عبد الحميد ط 3دار السعادة: مصر، 1964م.
36 - زاهر عواض الألمعي: مناهج الجدل في القرآن الكريم ط 3مطابع الفرزدق التجارية:
الرياض، 1404هـ.
37 - الزركشي، بدر الدين محمد بن عبد الله (794هـ):
البرهان في علوم القرآن تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم ط 2دار المعرفة: بيروت.
معنى «لا إله إلّا الله» تحقيق علي محيي الدين علي ط 3دار البشائر الإسلامية:
بيروت، 1986م.
38 - زكريا المصري: وحدة الأمة الإسلامية ط 1مؤسسة الرسالة: بيروت، 1992م.
39 - الزمخشري، محمود بن عمر (538هـ): الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل، وعيون الأقاويل في وجوه التأويل ط دار الريان للتراث.
40 - سعد أبو الرضا: في البنية التحتية والدلالة ط منشأة المعارف: الاسكندرية.
41 - سعيد حوى: الأساس في التفسير ط 1دار السلام للطباعة، 1985م.
42 - السكاكي، يعقوب بن أبي بكر (626هـ): مفتاح العلوم ط مصطفى البابي الحلبي:
القاهرة، 1937م.
43 - سليمان بن عبد الله بن محمد عبد الوهاب: تيسير العزيز الحميد في شرح كتاب التوحيد ط 3المكتب الإسلامي: بيروت 1397هـ.
44 - ابن سنان الخفاجي (466هـ): سرّ الفصاحة ط 1دار الكتب العلمية: بيروت.(1/239)
45 - سيد قطب:
التصوير الفني في القرآن ط 7دار الشروق: بيروت، 1982م.
خصائص التصور الإسلامي ط 3الاتحاد الإسلامي العالمي للمنظمات الطلابية:
الكويت.
العدالة الاجتماعية في الإسلام ط 6مطبعة عيسى البابي الحلبي: القاهرة، 1964م.
في ظلال القرآن ط 11دار الشروق: بيروت، 1985م.
مشاهد القيامة في القرآن ط دار المعارف: مصر.
معالم في الطريق ط 10دار الشروق: بيروت، 1983م.
مقومات التصور الإسلامي ط دار الشروق، 1986م.
46 - السيوطي، عبد الرحمن بن أبي بكر (911هـ):
الإتقان في علوم القرآن ط دار المعرفة: بيروت.
الدر المنثور في التفسير المأثور ط 1دار الفكر: بيروت، 1983م.
الشاطبي، إبراهيم بن موسى (790هـ): الموافقات في أصول الشريعة تحقيق عبد الله دراز ط المطبعة التجارية: مصر.
47 - الشوكاني، محمد بن علي (1255هـ): فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير تحقيق سيد إبراهيم ط 1دار الحديث: القاهرة، 1993.
48 - صلاح الدين بسيوني رسلان: القرآن الحكيم رؤية منهجية جديدة ط مكتبة نهضة الشرق: القاهرة، 1985م.
49 - الصنعاني، عباس بن علي (القرن 6هـ): الرسالة العسجدية في المعاني المؤيدية تحقيق عبد المجيد الشرفي ط الدار العربية للكتاب ليبيا تونس 1976م.
50 - طاش كبرى زاده شرح عقود الجمان في علم المعاني والبيان ط مطبعة مصطفى البابي الحلبي: القاهرة، 1939م.
51 - الطبري، أبو جعفر محمد بن جرير (310هـ): جامع البيان (تفسير الطبري) ط دار الفكر: بيروت.
52 - الطوسي، محمد بن الحسن (460هـ): تفسير التبيان تعليق أحمد حبيب قصير وأحمد شوقي الأمين ط المطبعة العلمية في النجف، 1957م.
53 - عباس محمود العقاد:
التفكير فريضة إسلامية، ضمن المجموعة الكاملة للعقاد، المجلد 5ط 1دار الكتاب اللبناني: بيروت، 1974م.
الله ط 3دار المعارف: مصر، 1960م.(1/240)
54 - عبد الحق الشكيري: التنمية الاقتصادية في المنهج الإسلامي ط 1رئاسة المحاكم الشرعية: قطر، 1988م.
55 - عبد الحميد طهماز: الحلال والحرام في سورة المائدة ط 1دار القلم: دمشق، 1987م.
56 - عبد الحميد كشك: في رحاب التفسير ط المكتب المصري الحديث: القاهرة.
57 - عبد الرحمن بن ناصر السعدي: تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان تحقيق محمد زهدي النجار ط 2عالم الكتب: بيروت، 1993م.
58 - عبد العظيم المطعني: خصائص التعبير القرآني وسماته البلاغية ط 1مكتبة وهبة:
القاهرة، 1992م.
59 - عبد الغني سعد بركة: أسلوب الدعوة القرآنية ط 1دار غريب للطباعة: القاهرة، 1983م.
60 - عبد الكريم الخطيب:
التفسير القرآني للقرآن ط دار الفكر العربي: القاهرة.
الشيطان والإنسان ط دار الفكر العربي: القاهرة، 1979م.
61 - عبد الله بن أحمد القادري: الجهاد في سبيل الله، حقيقته، وغايته ط 1دار المنارة:
جدة، 1985م.
62 - عبد الله شحادتة: أهداف كل سورة ومقاصدها في القرآن الكريم ط 3الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1986م.
63 - عبد الله الطيب: المرشد إلى فهم أشعار العرب وصناعتها ط دار الفكر: بيروت والدار السودانية للنشر.
64 - عبد المجيد صبح: العلم والإيمان ط 1دار الوفاء للطباعة: المنصورة، 1984م.
65 - العسكري، أبو هلال (395هـ): كتاب الصناعتين تحقيق مفيد قميحة ط دار الكتب العملية: بيروت.
66 - ابن عطية الأندلسي، أبو محمد عبد الحق (542هـ): المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز تحقيق عبد الله الأنصاري، وعبد العال إبراهيم ط 1مؤسسة دار العلوم: قطر، 1987م.
67 - العلوي، يحيى بن حمزة (749هـ): الطراز المتضمّن لأسرار البلاغة ط مطبعة المقتطف: مصر، 1914م.
68 - علي بن معصوم المدني (1120هـ): أنواع الربيع في ألوان البديع تحقيق شاكر هادي شكر ط 1مطبعة النعمان: النجف، 1968م.
69 - عماد الدين خليل: العدل الاجتماعي ط مؤسسة الرسالة: بيروت.(1/241)
70 - بن عيسى عبد القادر با طاهر أساليب الإقناع في القرآن الكريم (رسالة ماجستير) الجامعة الأردنية 1990م.
71 - الغزالي، أبو حامد (505هـ):
إحياء علوم الدين تحقيق سيد إبراهيم ط 1دار الحديث: القاهرة، 1992م.
الحلال والحرام تحقيق محمد مصطفى أبو العلا ط 1مكتبة الجندي الحديثة:
القاهرة، 1974م.
المنقذ من الضلال تحقيق عبد الحليم محمود ط دار النصر: القاهرة.
72 - فاروق دسوقي: الإنسان والشيطان ط دار الدعوة للنشر: الاسكندرية.
73 - فتحي الدريني: دراسات وبحوث في الفكر الإسلامي المعاصر ط 1دار قتيبة: بيروت، 1988م.
74 - فضل حسن عباس: قضايا قرآنية في الموسوعة البريطانية ط 1دار البشير: عمان، 1988م.
75 - الفيروزآبادي محمد بن يعقوب (817هـ): بصائر ذوي التمييز في لطائف الكتاب العزيز تحقيق محمد علي النجار ط المكتبة العلمية: بيروت.
76 - قدامة بن جعفر (337هـ): نقد الشعر تحقيق كمال مصطفى ط 3مكتبة الخانجي:
القاهرة.
77 - القرطبي، محمد بن أحمد (671هـ): الجامع لأحكام القرآن (تفسير القرطبي) ط مؤسسة مناهل العرفان: بيروت.
78 - القزويني، محمد بن عبد الرحمن (739هـ): الإيضاح في علوم البلاغة تحقيق محمد عبد المنعم خفاجي ط دار الكتاب اللبناني: بيروت.
79 - ابن قيم الجوزية، محمد بن أبي بكر (751هـ):
إعلام الموقعين عن ربّ العالمين تحقيق عبد الرءوف سعد، ط دار الجيل: بيروت.
الروح ط دار الكتب العلمية: بيروت، 1979م.
زاد المعاد في هدي خير العباد تحقيق شعيب الأرناءوط ط 1مؤسسة الرسالة:
بيروت، 1399هـ.
الطرق الحكمية في السياسة الشرعية ط مطبعة الآداب: القاهرة، 1899م.
طريق الهجرتين تحقيق عبد الله بن إبراهيم الأنصاري ط إدارة الشئون الدينية: قطر، 1977م.
الفوائد المشوقة إلى علوم القرآن تحقيق لجنة تحقيق التراث ط مكتبة الهلال: بيروت.
مدارج السالكين تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد ط السنة المحمدية:
الرياض، 1956م.(1/242)
80 - ابن كثير، عماد الدين (774هـ): تفسير القرآن العظيم ط 1الدار المصرية اللبنانية:
القاهرة، 1988م.
81 - كراتشكوفسكي إ. ج.: علم البديع والبلاغة عند العرب ط 1دار الحكمة للنشر:
بيروت، 1981م.
82 - لويس شيخو: علم الأدب ط مطبعة الآباء اليسوعيين: بيروت، 1890م.
83 - الماوردي، علي بن محمد (450هـ): النكت والعيون (تفسير الماوردي) تحقيق عبد المقصود بن عبد الرحيم ط 1دار الكتب العلمية: بيروت، 1992م.
84 - مالك بن نبي: الظاهرة القرآنية ترجمة عبد الصبور شاهين ط دار الفكر: دمشق، 1985م.
85 - ابن مالك الأندلسي (ت 686هـ): كتاب المصباح في علم المعاني والبيان والبديع ط 1 المكتبة الخيرية، إدارة السيد عمر الخشاب.
86 - مجموعة من المؤلفين:
العلم والإيمان في الإسلام ط وزارة الشئون الثقافية: تونس 1976م.
فصول في البلاغة والنقد الأدبي ط 1مطبعة الفلاح: الكويت، 1983م.
الوحدة الإسلامية أو التقريب بين المذاهب السبعة جمع وترتيب عبد الكريم الشيرازي ط 1مؤسسة الأعلمي للمطبوعات: بيروت، 1975م.
87 - محمد أبو زهرة: المعجزة الكبرى القرآن ط دار غريب للطباعة: القاهرة.
88 - محمد أحمد عبد القادر: عقيدة البعث والآخرة في الفكر الإسلامي ط دار المعرفة الجامعية: الاسكندرية، 1985م.
89 - محمد أحمد كنعان: مختصر تفسير المنار ط 1المكتب الإسلامي: بيروت، 1984م.
90 - محمد بركات أبو علي:
في الأدب والبيان ط 1دار الفكر: عمان 1984م.
في إعجاز القرآن ط 1مؤسسة الخافقين: الرياض، 1983م.
البلاغة العربية في ضوء منهج متكامل ط 1دار البشير: عمان، 1992م.
91 - محمد بن سعيد القحطاني: الولاء والبراء في الإسلام ط 2مكتبة طيبة: الرياض، 1404هـ.
92 - محمد حسن آل ياسين: في رحاب القرآن ط 1دار المعارف: بغداد، 1388هـ.
93 - محمد جمال الدين القاسمي: محاسن التأويل (تفسير القاسمي) ط 1مطبعة عيسى البابي الحلبي، 1958م.(1/243)
94 - محمد الدسوقي: الاجتهاد والتقليد في الشريعة الإسلامية ط 1دار الثقافة: قطر، 1987م.
95 - محمد رشيد رضا:
تفسير المنار ط 2دار المعرفة: بيروت، 1973م.
الوحدة الإسلامية والأخوة الدينية ط 3دار المنار: القاهرة، 1367هـ.
96 - محمد سلطاني: البلاغة في فنونها ط مطبعة زيد بن ثابت، 1980م.
97 - محمد الطاهر بن عاشور تفسير التحرير والتنوير ط 1الدار التونسية للنشر، 1984م.
98 - محمد عبد الله دراز:
مدخل إلى القرآن الكريم ترجمة محمد عبد العظيم ط 3دار القلم: الكويت، 1981م.
النبأ العظيم ط 3دار القلم: الكويت، 1977م.
99 - محمد عزة دروزة: الجهاد في سبيل الله في القرآن والحديث ط دار اليقظة العربية:
دمشق، 1975م.
100 - محمد الغروي: الفقراء في ظل الرأسمالية والماركسية والإسلام ط دار التعارف:
بيروت.
101 - محمد الغزالي:
عقيدة المسلم ط دار القلم: دمشق، 1989م.
المحاور الخمسة في القرآن الكريم ط 1دار الوفاء: القاهرة، 1989م.
نظرات في القرآن ط 6دار الشهاب: الجزائر.
102 - محمد فؤاد عبد الباقي: المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم ط مؤسسة مناهل العرفان: بيروت.
103 - محمد قطب: دراسات قرآنية ط 2دار الشروق: بيروت، 1980م.
104 - محمد نعيم ياسين: الإيمان ط 2جمعية عمال المطابع التعاونية: عمان، 1979م.
105 - مسلم بن الحجاج، أبو الحسين (261هـ) صحيح مسلم تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي ط 1دار الحديث: القاهرة، 1991م.
106 - مصطفى صادق الرافعي: إعجاز القرآن والبلاغة النبوية ط دار الكتاب العربي: بيروت.
107 - ابن منظور (711هـ): لسان العرب المحيط ط دار صادر: بيروت.
108 - المودودي، أبو الأعلى:
العدالة الاجتماعية، حقيقتها وسبيل تحقيقها ط مكتبة دار البيان: الكويت.
المصطلحات الأربعة في القرآن ترجمة محمد كاظم سباق ط الدار الكويتية:
الكويت.(1/244)
109 - نادية العمري: الاجتهاد في الإسلام ط 3مؤسسة الرسالة: بيروت، 1985م.
110 - ناصر الدين الألباني: صحيح سنن الترمذي ط 1مكتب التربية العربي لدول الخليج، 1988م.
111 - النووي، يحيى بن شرف (676هـ): صحيح مسلم بشرح النووي ط 3دار إحياء التراث العربي: بيروت، 1984م.
112 - النيسابوري، الحسن بن محمد (728هـ): غرائب القرآن ورغائب الفرقان تحقيق إبراهيم عطوة عوض ط 1مطبعة مصطفى البابي الحلبي: القاهرة، 1970م.
113 - ابن الوزير، محمد بن إبراهيم (840هـ): إيثار الحق على الخلق ط 1دار الكتب العلمية: بيروت، 1983.
114 - ابن وهب الكاتب، أبو الحسين إسحاق (مجهول الوفاة): البرهان في وجوه البيان تحقيق حفني محمد شرف ط مكتبة الشباب: القاهرة.
115 - يوسف القرضاوي: مشكلة الفقر وكيف عالجها الإسلام ط دار العربية للطباعة:
بيروت.
* * *
فهرس المحتويات(1/245)
* * *
فهرس المحتويات
الموضوع الصفحة
المقدمة 5
الفصل الأول: المقابلة في الدراسات القديمة والحديثة 11
أالمقابلة عند أهل اللغة 11
ب المقابلة في الاصطلاح 12
1 - المقابلة عند البلاغيين والنقاد العرب 12
2 - المقابلة عند الحكماء وعلماء الكلام 18
3 - المقابلة عند المحدثين 24
ج أنواع المقابلة 26
الفصل الثاني: المقابلة والقضية الكبرى في القرآن: الوحدانية وتعدد الآلهة 31
أالوحدانية وطريقة عرضها في القرآن الكريم 31
ب المقابلة الكبرى: الله والطاغوت 55
ج ظاهرة التقابل في سورة التوبة 63
الفصل الثالث: المقابلة وقضايا الدين والأخلاق 79
أالمقابلة بين الخير والشر 81
ب المقابلة بين الحلال والحرام 97
ج المقابلة بين الولاء والبراء 109
د المقابلة بين الجنة والنار 121
الفصل الرابع: المقابلة وقضايا السياسة والاقتصاد 133
أالمقابلة بين الجهاد والقعود عنه 133
ب المقابلة بين الفقر والغنى 146
ج المقابلة بين العدل والظلم 158
د المقابلة بين الاجتماع والفرقة 171
الفصل الخامس: المقابلة وقضايا العلم والفكر 183
أالمقابلة بين العلم والجهل 183
ب المقابلة بين الاجتهاد والتقليد 199(1/247)
الموضوع الصفحة
الفصل السادس: المقابلة وخصائص التعبير القرآني 207
أالمقابلة إحدى طرق العرض في القرآن 207
ب المقابلة وأسلوب التصوير 216
ج المقابلة طريقة في الإقناع 221
د المقابلة وغاياتها الفنية 228
الخاتمة 233
فهرس المصادر والمراجع 237
فهرس المحتويات 247(1/248)