تقديم
بسم الله الرّحمن الرّحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين، نبينا وإمامنا محمد بن عبد الله، النبي العربي الأمّي الأمين، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وعلى صحبه الكرام المنتجبين، وبعد:
فإن علم القراءة، هو علم يبحث فيه عن كيفية النطق بألفاظ القرآن الكريم، وموضوعه القرآن من حيث إنه كيف يقرأ.
والقراءة هي عند القرّاء أن يقرأ القرآن سواء كانت القراءة تلاوة بأن يقرأ متتابعا، أو أداء بأن يأخذ من المشايخ ويقرأ كما في الدقائق المحكمة.
قال في الإتقان في نوع معرفة العالي والنازل: قسّم الفرّاء أحوال الإسناد إلى قراءة ورواية وطريق ووجه، فالخلاف إن كان لأحد الأئمة السبعة أو العشرة أو نحوهم واتفقت عليه الروايات والطرق عنه فهو قراءة، وإن كان للراوي عنه فهو رواية، وإن كان لمن بعده فنازلا فطريق، أو لا على هذه الصفة مما هو راجع إلى تخيير القارئ فوجه (1).
هذا كتاب «المرشد الوجيز إلى علوم تتعلق بالكتاب العزيز» لشهاب الدين عبد الرحمن بن إسماعيل بن إبراهيم المعروف بأبي شامة المقدسي المتوفى سنة 665هـ.
وهو كتاب يبحث في معنى قول رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «أنزل القرآن على سبعة أحرف»، وهو من أجمع الكتب المؤلفة في هذا الصدد.
وإن المؤلف مهما ذكر في كتابه من أبواب ومباحث تتصل بعلم القراءة، فإن شرح الحديث المذكور وإثبات علاقته بالقراءات المشهورة هو الغاية الأولى من تأليفه لهذا الكتاب، كما بينه المؤلف نفسه في مقدمته.
__________
(1) انظر كشاف اصطلاحات الفنون والعلوم للتهانوي 2/ 1312.(1/3)
أما عملنا في هذا الكتاب فهو:
أولا: وضعنا ترجمة وافية للمؤلف.
ثانيا: وضعنا مقدمة في علم القراءة، مأخوذة من «كشف الظنون» لحاجي خليفة.
ثالثا: بذلنا ما أمكننا من الجهد في ضبط الألفاظ القرآنية في وجوه قراءتها.
رابعا: شرحنا في حواشي الكتاب ما في متنه من غريب اللغة أو صعب المتناول منها، وذلك استنادا إلى المعاجم اللغوية المشهورة.
خامسا: وضعنا في حواشي الكتاب تعريفا وافيا مع ذكر المراجع بجميع الأعلام والكتب والمؤلفات، وما أهملناه من ذلك إما معروف مشهور ولم نجد ضرورة لنافل القول فيه، وإما لم نهتد إليه فيما بين أيدينا من المراجع والمصادر، وقد أشرنا إلى ذلك أيضا.
سادسا: بذلنا ما أمكننا من الجهد في شرح المصطلحات في علم القراءة.
سابعا: خرجنا جميع الأحاديث النبوية والآثار تخريجا وافيا، وضبطنا نص الحديث استنادا إلى كتب الحديث المعتبرة.
ثامنا: خرّجنا الآيات والألفاظ القرآنية الكريمة على المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم.
وأخيرا نرجو أن يكون عملنا هذا خالصا لوجهه تعالى، ولله الكمال وحده وهو ولي التوفيق.
إبراهيم شمس الدين(1/4)
ترجمة المؤلف
هو عبد الرحمن بن إسماعيل بن إبراهيم بن عثمان بن أبي بكر بن إبراهيم بن محمد المقدسي الشافعي المعروف بأبي شامة، لأنه كان به شامة فوق حاجبه الأيسر، وكان يلقب بشهاب الدين ويكنى بأبي القاسم محمد.
ولد أبو شامة في الثالث والعشرين من ربيع الثاني سنة 599هـ الموافق العاشر من شهر كانون الثاني 1203م، بدمشق في حي متواضع من أحيائها يعرف بدرب الفواخير، القرب من الباب الشرقي، في أسرة متواضعة لا تكاد تتميز بتفوق خاص في الحياة العلمية أو السياسية، كما لم تترك لنا كتب التراجم عنها شيئا ذا أهمية.
وكل ما نعرفه عن هذه الأسرة، عن طريق أبي شامة نفسه، أن مؤسس هذه الأسرة هو أبو بكر محمد بن أحمد بن أبي القاسم علي الطوسي، المقرئ الصوفي، إمام صخرة بيت المقدس، قتل على يد الصليبيين فيمن قتل بعد فتحهم للقدس سنة 492هـ / 1099م وأصبح من الشهداء الذين تزار قبورهم، ويلاحظ أن أبا شامة يتشكك في أن هذا الشهيد هو مؤسس أسرته، ويظهر هذا التشكك من خلال حديثه في المذيّل، إذ قدّم له بقوله:
«ولعل محمدا الذي انتهى إليه النسب هو أبو بكر».
ويقرر أبو شامة أنه نقل هذه الحقيقة عن ابن عساكر (1). وعلى هذا لم يبق أمام أسرته إلا الرحيل عن القدس، فخرجوا منها إلى دمشق واستقروا في بعض أحيائها قريبا من الباب الشرقي.
ولم يظهر لأحد من أفراد أسرة أبي شامة، بعد هذا، نشاط ذو شأن يحدثنا عنه أبو شامة أكثر من واحد منها هو عبد الرحمن بن أبي بكر بن محمد، الذي اشتغل بتعليم الصبيان في مكتب، بباب الجامع الشامي، حتى توفي سنة 605بعد أن عمر تسعين عاما (2)، أما إسماعيل والد أبي شامة، الذي توفي سنة 638هـ فقد أنجب ولدين: إبراهيم في سنة 591هـ وعبد الرحمن «أبا شامة» سنة 599هـ. ويبدو أن والد
__________
(1) أبو شامة: المذيّل على الروضتين (وقد طبع خطأ باسم الذيل) ص 37.
(2) أبو شامة: نفسه.(1/5)
أبي شامة وأخاه إبراهيم لم يحظيا بدرجة عالية من الثقافة، كما يتضح من رؤيا (1)
يقصها أبو شامة عن أخيه الذي رأى والده يقول له في المنام: «عليك بالتعلم، انظر إلى منزلة أخيك، فنظر فإذا هو في رأس جبل، والوالد والرائي يمشيان في أسفله».
ويورد أبو شامة في الترجمة التي كتبها لنفسه، كثيرا من الرؤى التي رآها بنفسه أو رآها غيره عنه. فقد رأت والدته، وكانت لا تزال حاملا به، كأنها في أعلى مكان من المئذنة عند هلالها وهي تؤذن. فقصصت رؤياها على من يجيد التعبير عن الرؤيا فقال: تلدين ذكرا ينتشر ذكره في الأرض بالعلم والخير.
ورأى أبو شامة، في صفر سنة 624هـ كأن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قد أقبل إلى الشام منجدا لأهله على الفرنج، وكان له به خصوصية من إفضاء أمره إليه والتحدث معه في أمور المسلمين، وهو يمشي إلى جانبه ملاصقا منكبه، حتى كان الناس يسألونه عنه وعما يريد أن يفعل، وهو يخبرهم وكأنه واسطة بينه وبين الناس.
وفي هذه السنة أيضا، أي سنة 624هـ، رأى أيضا كأنه والفقيه عبد العزيز بن عبد السلام داخل باب الرحمة بالبيت المقدس وقد أراد فتحه، وثم من يمنع عن فتحه ويدفعونه لينغلق فما زالا يعالجان الأمر حتى فتحا مصراعيه فتحا تاما بحيث أسند كل مصراع إلى الحائط الذي خلفه. ورأى أيضا في جمادى الآخرة من السنة نفسها كأن المسلمين في صلاة الجمعة في حر شديد وهو خائف عليهم من العطش ولا ماء ثمّ يعرف، فنظر إلى قليب ماء قريبا منه وحوض، فخطر له أن يسقي من ذلك القليب ويسكب في الحوض حتى يشرب منه الناس إذا انصرفوا من الصلاة. فاستقى شخص قبله لا يعرفه دلوا ودلوين، ثم أخذ الدلو منه فاستقى دلاء كثيرة لم يعرف عددها وسكب في الحوض.
ورآه المهتار بن مازن الحراني متقلدا هيكلا وهو يقول: انظروا فلانا كيف تقلد كلام الله. ورأت امرأة كبيرة كأن جماعة صالحين اجتمعوا بمسجد قرية بيت سواء، وهي قرية من قرى غوطة دمشق، وكأنهم سألوا ما شأنهم، قالوا: ننتظر النبي صلى الله عليه وسلّم يصلي بنا. قالت: فحضر يعني أبا شامة فصلى بهم.
وجاءه رجل يستفتيه وهو بالمجلس الكبير الذي للكتب، في صدر الإيوان بالمدرسة العادلية وهو الموضع الذي يجلس فيه عادة للفتوى، ومنه يخرج إلى الصلاة بهذه المدرسة، فتعجّب الرجل، فقيل له: مم تتعجب؟ قال: هذا مكان ما رأيته قط.
قال: ورأيت في المنام كأني كنت بهذه المدرسة العادلية وفيها خلق كثير، وكأن قائلا
__________
(1) أبو شامة: نفسه.(1/6)
يقول للناس: تنحوا فالنبي صلى الله عليه وسلّم يمر، قال: فنظرت فخرج علينا من المجلس الذي للكتب، ومر كما هو إلى المحراب.
ورأى الصلاح الصوفي أول ليلة من جمادى الآخرة سنة 655هـ كأن أبا شامة متوجه إلى الحج ومعه من الزاد جميع ما يحتاج إليه تزودا تاما يعجب منه الرائي.
ورأى حسن الحجازي في شهر رمضان سنة 657هـ كأن قائلا في عالم الغيب لا يراه بل يسمع صوته يقول: الشيخ أبو شامة نبي هذا الوقت.
ورأى أخاه الشيخ برهان الدين أبو إسحاق إبراهيم بن إسماعيل، وهو أسنّ من أبي شامة بنحو تسع سنين، وكان من الصالحين، كأن أبا شامة متمسك بحبل قد دلي من السماء وهو مرتفع فيه، فسأل إنسانا عن ذلك في المنام، فانكشف لهما البيت المقدس والمسجد الأقصى. فقال له ذلك الإنسان: من بنى هذا المسجد؟ فقال:
سليمان بن داود، فقال: أعطي أخوك مثل ما أعطى سليمان، فقال له: كيف ذلك؟
فقال: أليس سليمان أوتي ملكا لا ينبغي لأحد من بعده، أليس أعطي كذا وكذا، وعدّد أنواع ما أوتي، فقال: بلى، قال: وكذا أخوك أوتي أنواعا من العلم كثيرة.
هذه المنامات التي أوردها أبو شامة في الترجمة التي كتبها لنفسه، سواء التي رآها بنفسه أو رآها غيره عنه يستدل بها على كثير من تطورات حياته. وإن كان أبو شامة يخبرنا أنه سطرها في مذيّلة تحدثا بنعم الله تعالى كما أمر سبحانه في قوله تعالى: {وَأَمََّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} [الضحى: 11] واعتبرها من البشائر حيث قال النبي صلى الله عليه وسلّم: «لم يبق من المبشرات إلا الرؤيا الصالحة يراها المؤمن أو ترى له» (1).
وعند ما بلغ أبو شامة العاشرة من العمر فاجأ أباه بقوله: قد ختمت القرآن حفظا، فتعجب أبوه من ذلك، كما كان يتعجب من ولع أبي شامة بالتردد على المكتب وسعيه في طلب العلم وحرصه على القراءة على خلاف المعروف من عادة الصبيان (2) ثم لم يلبث أبو شامة أن بدأ دراسة القراءات السبع، والفقه والعربية والحديث. وبعد أن أتقن هذه الدراسات وفرغ منها، رأى أن يصرف بعض عمره إلى الدراسة التاريخية حتى يستكمل ثقافته الدينية و «يجوز بذلك سنة العلم وفرضه».
وإذا تتبعنا حياة أبي شامة في مرحلة طلبه العلم، ثم فيما أعقب هذه المرحلة لنتبين وضعه في هذه الظروف الاجتماعية التي عاش فيها كثير من أنداده العلماء، وجدنا الغموض يكتنف حياته في جميع مراحلها، فهو مقتصد في الحديث، اللهم إلا
__________
(1) أبو شامة: نفسه.
(2) أبو شامة: نفسه.(1/7)
في بعض الفترات القصيرة التي نجد عنها إشارات موجزة مختصرة، يذكرها أبو شامة بين حين وآخر فتلقي بصيصا من الضوء على حياته في هذه الفترات القصيرة.
وأولى هذه الإشارات يرجع إلى سنة 615هـ، عند ما كان في السادسة عشرة من عمره، ففي هذه السنة نجده مقيما في المدرسة العزيزية بدمشق، ثم لا نلبث أن نجد بعد هذا إشارة إلى أنه أتم دراسة علم القراءات في السنة التالية، أي سنة 616هـ، وقد يفهم من هذا أن صلته بهذه المدرسة انقطعت منذ نجح في إتمام دراسته لهذا الفرع من العلوم.
حجّ مع والده سنة 621هـ، ثم في السنة التي بعدها، أي سنة 622هـ، وزار القدس سنة 624هـ بصحبة الفقيه عز الدين بن عبد السلام، وزار مصر سنة 628هـ زيارة علمية دراسية، استمع فيها إلى أساتذة دمياط والقاهرة والإسكندرية، ولا نجد بعد هذا شيئا يذكر عن حياة أبي شامة إلا إشارة مقتضبة في سنة 634هـ، وأخريات في سنوات 644، 648، 654، 656، وكلها إشارات غير مباشرة وردت في أثناء تسجيله لبعض الحوادث أو الوفيات. ومن الممكن الاستدلال بها على أنه كان يقيم في هذه السنوات في المدرسة العادلية بدمشق، ونحن لا ندري إذا كان أبو شامة قد استمر مقيما في هذه المدرسة بعد سنة 656هـ حتى انتقل منها سنة 660هـ إلى المدرسة الركنية عند ما عيّن مدرسا لها كما أنه من غير الممكن الجزم بتاريخ انتقاله من المدرسة العزيزية التي كان مقيما بها حوالي 615هـ إلى المدرسة العادلية التي ثبت استقرارها بها سنة 634هـ.
ويبدو أن إقامة أبي شامة بهذه المدرسة الأخيرة بين سنتي 634، 656هـ كانت متصلة، لم يقطعها إلا مدة انصرافه إلى بساتينه الخاصة. هذا الغموض الذي يحيط بحياة أبي شامة يمتد حتى يخفي عنا الوظائف التي كان يشغلها ويعتمد عليها في حياته، غير أنا نجده يشير إلى أن الاختيار وقع عليه، سنة 635هـ ليكون أحد المعدّلين بدمشق (1).
ويذكر أن نائبه في الصلاة بالمدرسة العادلية، الشيخ شمس الدين محمود النابلسي، توفي سنة 656هـ (2)، وقد ناب الشيخ النابلسي عن أبي شامة في مناسبتين لم يحدد تاريخهما، الأولى مدة مرضه، والثانية في المدة التي انصرف فيها أبو شامة عن المدرسة إلى بساتينه الخاصة يفلحها ويعمل فيها بنفسه، معرضا عن الأوقاف، متحررا من قيودها.
__________
(1) المعدّل أو العدل: اصطلاح يلقب به من يثق به القاضي ويطمئن إلى شهادته فيعينه لمعاونته في أعماله ومنها تسجيل الأحكام، انظر: القلقشندي: صبح الأعشى في صناعة الإنشاء.
(2) أبو شامة: المذيّل ص 119.(1/8)
وعند ما بلغ أبو شامة الستين من عمره تولى التدريس في المدرسة الركنية سنة 660هـ، وبقي فيها حتى عيّن مدرسا للمدرسة الأشرفية سنة 662هـ، ثم أضيفت إليه وظيفة الإقراء بالتربة الأشرفية. واستمر يشغل هاتين الوظيفتين حتى توفي سنة 665هـ.
من هذه الإشارات جميعها يمكن القطع بأن أبا شامة شغل منصب الأستاذية للمرة الأولى سنة 660هـ، وهذه الوظيفة كانت تتيح لمتقلدها الإشراف على إدارة المدرسة إشرافا كاملا يشمل الأوقاف المخصصة لها، والمتتبع لحياة العلماء في هذه الفترة التي شهدت نهضة علمية ميسرة يجد أن كثيرا منهم اعتمد اعتمادا كبيرا على هذه الأوقاف والمدارس في تنظيم حياته، مستفيدا من مواردها في فترة طلب العلم، ثم متقلدا وظيفة الأستاذية في هذه المدارس، أو قائما بالإشراف على الأوقاف المخصصة لها بعد اجتياز مرحلة الطلب. بل أننا نجد كثيرا من هؤلاء العلماء يجمعون بين التدريس والإشراف على عدد كبير من الأوقاف يديرونها ويدبّرون شئونها، ووسيلة بعضهم إلى هذا التقرب من الأمراء الواقفين، أو من السلاطين الحاكمين.
كما يمكن القطع أن أبا شامة كان يشغل وظيفة صغيرة في شبابه، سنة 635هـ، عند ما اختير واحدا من عدول دمشق، ثم أمّ الصلاة في المدرسة العادلية التي كان يقيم بها في دمشق مدة لا نستطيع تحديدها، كما لا نعرف تاريخ بدئها أو نهايتها، ويستثنى من هذه المدة الفترة التي انقطع فيها عن الإمامة، عند ما خرج إلى بساتينه الخاصة يعمل فيها ويعتمد عليها في حياته.
هذا الغموض الذي يحيط بالجانب المادي من حياة أبي شامة لا يعني، في حال من الأحوال، أنه كان شخصية مغمورة في الحياة الحكومية، كما لا يدل على نقص في كفاءته جعل رجال الدولة يصرفون النظر عن إسناد بعض المناصب الهامة إليه، بل إننا نجد في حديث أبو شامة عن بعض أساتذته الذين أعرضوا عن التزلف إلى ذوي السلطان ما يدل على أنه اتخذهم قدوة له ينهج نهجهم ويترسم خطاهم، فمنذ صغره عند ما كان يقرأ القرآن في جامع دمشق، كان أبو شامة ينظر إلى مشايخ العلم، كالشيخ فخر الدين أبو منصور بن عساكر، ويرى طريقه في فتاوى المسلمين وحاجة الناس إليه وسماع الحديث النبوي عليه، وهو يمر من مقصورة الصحابة رضي الله عنهم، إلى تحت قبة النسر لسماع الحديث، إلى المدرسة التقوية (1) لإلقاء دروس الفقه، ويرى إقبال الناس عليه وترددهم إليه، مع حسن سمته واقتصاده في لباسه، فيستحسن طريقته ويتمنى رتبته في العلم ونشره له وانتفاع الناس بفتاويه.
__________
(1) أبو شامة: المذيّل ص 37.(1/9)
كما صحب أبو شامة أستاذه علم الدين السخاوي (1) ما يقرب من ثلاثين سنة بين سنتي 643614هـ، وقد كان السخاوي هذا «زاهد في صحبة رجال السلطان» كما كان «متعففا زاهدا مقتنعا باليسير» وكان للناس «فيه اعتاد عظيم فكانوا يزدحمون في الجامع لأجل القراءة ولا يصح لواحد منهم نوبة إلا بعد زمان». ومما يدل على زهده وتعففه خروجه مرة مع أبي شامة لزيارة المقابر، وفي هذه الزيارة لفت نظر أبي شامة إلى بيت كتب على قبر الفقيه ابن الشاغوري يقول:
ما كنت تقرب سلطانا لتخدمه ... لكن غنيت بسلطان السلاطين
وتتلمذ أبو شامة كذلك على عز الدين بن عبد السلام الذي أخرج من دمشق سنة 639هـ لقوة شخصيته وخوف سلطانها منه، فذهب إلى مصر وأقام بها حتى توفي سنة 660هـ وكان عز الدين بن عبد السلام هذا «شيخ المسلمين والإسلام وسلطان العلماء لم ير من رآه مثله علما وورعا وقياما في الحق، وشجاعة وسلاطة لسان» والسبب المباشر لإخراجه من دمشق أنه أسقط اسم الصالح إسماعيل، أميرها من الخطبة عند ما استعان بالفرنج وأعطاهم مدينة صيدا. وقد ساعد ابن عبد السلام في هذه الخطوة الشيخ جمال الدين ابن الحاجب إمام المالكية، وعند ما وصل إلى مصر تنحى له العلماء عن أماكنهم، وتأدب معه الشيخ زكي الدين بن عبد العظيم المنذري وامتنع عن الإفتاء من أجله وتقديرا له، وقال: ليس لها إلا عز الدين. وفي سنة 660هـ توفي ابن عبد السلام في مصر فخرج السلطان بيبرس في جنازته وحدّث خاصته قائلا: «اليوم استقر ملكي لي، فلو أمر عز الدين الناس في شأني بما أراد لأطاعوه مبادرين».
طالت صحبة أبي شامة لهذين العالمين الجليلين، ولأمثالهما من أئمة الزاهدين، فتأثر بهم واتخذهم قدوة، ومثلا، فعزف عن المناصب الحكومية، وترفّع عن التكالب على أموال الأوقاف، وانصرف مدة، كما ألمحنا، إلى بساتينه الخاصة يفلحها بنفسه ويعتمد عليها وحدها في حياته حتى أغنى بيته وتمكن من إسعاد أهله وأقاربه المحتاجين، وصان وجهه عن الناس وأحسّ بالحرية والاستقلال، كما يقول في المذيّل (2) وقد سجل شعوره هذا في قصيدة أوردها في المذيّل في مائة وعشرة أبيات، وفيها يقول:
__________
(1) يذكر أبو شامة أنه استفاد من السخاوي، علّامة زمانه وشيخ عصره، علوما جمة كالقراءات والتفسير وعلوم فنون العربية وأنه صحبه من شعبان سنة 614هـ. وقد توفي السخاوي سنة 643. أبو شامة: المذيّل ص 177.
(2) أبو شامة: المذيّل ص 226222.(1/10)
أيها العاذل الذي إن تحرى ... قال خيرا ونال بالنصح أجرا
لا تلمني على الفلاحة واعلم ... إنها من أحلّ أحب وأثرى
وبها صنت ماء وجهي عن النا ... س جميعا وعشت في القوم حرا
إذ بها صار منزلي ذا غلال ... مع عيال من بعد ما كان فقرا
وفي هذه القصيدة يوجه حديثه إلى طالب العلم منددا بتكالب العلماء على التزلف إلى ذوي السلطان، فيقول:
اتخذ حرفة تعيّش بها يا ... طالب العلم، إن للعلم ذكرا
لا تهنه بالاتكال على الوق ... ق، فيمضي الزمان ذلا وعسرا
إنما تحصل الوقوف لشرّ ... يد ونذل من العلوم مبرّا
أو لمن يلزم الأكابر لا يب ... رح في خدمة لهم، ومدح وإطرا
طالبا جاههم مجيبا إلى كل ... أمور لهم، عكوفا مصرا
فترى قاضي القضاة ومن يذ ... كر درسا يرعاه سرا وجهرا
قاصدا قربة فيصغي إليه ... فاعلا ما يريد نفعا وضرا
وقد أطنب كتاب التراجم في مدح صفات أبي شامة الطيبة، من تواضع وأخلاق حميدة وإطراح للتكلف وحرص على الاجتهاد في الأحكام المختلف فيها، فلا يفتي إلا بما يراه أقرب إلى الحق وإن كان خلاف مذهبه الشافعي تبعا للأدلة. وجب للعزلة والانفراد، عزوف عن التردد إلى أبواب أهل الدنيا متجنبا المزاحمة على المناصب لا يؤثر على العافية والكفاية شيئا. ومن شعره في هذا الخصوص (1):
الثوب واللقمة والعافية ... لقانع من عيشه كافية
وما يزد فالنفس ليست به ... وإن تكن مملكة راضيه
وله أيضا:
أنا في عز القناعة ... رافل في كل ساعه
رب أتممها بخير ... في معافاة وطاعة
ولا نجد في مؤلفي التراجم من يشذ عن هذا الإجماع في تقدير شخصية أبي شامة وطيب أخلاقه إلا قطب الدين اليونيني، الذي يتخذ موقفا معارضا، فيذكر أن أبا شامة كان كثير البغض من العلماء والأكابر والصلحاء والطعن عليهم والتنقيص
__________
(1) أبو شامة: المذيّل ص 202.(1/11)
بهم، وذكر مساوئ الناس وثلب أعراضهم، ولم يكن بمثابة من لا يقال فيه فقدح الناس فيه وتكلموا في حقه، وكان عند نفسه عظيما فسقط بذلك من أعين الناس.
وصدور هذا الطعن من معاصر لأبي شامة يحملنا على الوقوف عند قوله لنتبين وجه الصحة فيه، وهذا ما يقتضينا أن نحاول معرفة نوع الصلة التي كانت بين الرجلين. وفي هذا نجد أن أبا شامة كان شافعي المذهب، على حين كان اليونيني من قادة الحنابلة وابنا لإمام من أئمتهم في بعلبك وهو الشيخ محمد الحنبلي اليونيني الذي توفي سنة 657هـ. وقد ذكر أبو شامة نبأ وفاته في المذيّل ضمن حوادث هذه السنة (1) وعلق عليها، مبينا أن الإمام اليونيني ألّف كتابا في الإسراء مليئا بالخطإ الفاحش، فحمل هذا أبا شامة على تأليف كتاب خاص يفند به مزاعم اليونيني ويصحح أخطاءه، وسمى كتابه هذا: «الواضح الجلي في الرد على الحنبلي»، ولم يكن الحنابلة عندئذ على علاقة طيبة بأئمة المذاهب الأخرى في الشام عامة ودمشق خاصة. حتى أننا نرى أبا شامة يمدح أستاذه زين الأمناء ابن عساكر بأنه «كان لا يمر قرب صفوف الحنابلة حتى لا يأثموا بسبهم له» ويعلل هذا صراحة بالبغض العنيف الذي يكنه الحنابلة للشافعية ذلك البغض الذي يكفينا للتدليل عليه أن نذكر أن زكي الدين بن رواحة أنشأ مدرستين في دمشق وحلب، وجعل من شروطه للدراسة فيهما «ألا يدخلهما مسيحي ولا حنبلي» وهكذا نجد أن من المحتمل أن اليونيني تأثر في العبارات التي تحدث بها عن أبي شامة بعاملين أحدهما البغض التقليدي الذي شاع بين الحنابلة والشافعية، وكلاهما إمام من أئمة مذهبه، وثانيهما البغض الشخصي الذي أحس به اليونيني نحو أبي شامة الذي ألّف كتابا خاصا يعدد فيه أخطاء والده ويصححها (2).
ويبدو أن حياة أبي شامة في مجموعها، كانت سهلة مطمئنة، وأنه لم يعترضه من الصعوبات ما يعكر صفوها أو يخرج بها عن هدوئها واستقرارها باستثناء حادثتين أشار إليهما في تقريريه عن سنتي 658و 665هـ، ففي سنة 658هـ (3)، وهي سنة دخول التتار دمشق، استدعاه نائب التتار وأهانه، وهدده بضرب عنقه، فاضطر أبو
__________
(1) أبو شامة: نفسه ص 119.
(2) يذكر أبو شامة أن اليونيني صنّف أوراقا فيما يتعلق بإسراء النبي صلى الله عليه وسلّم ليلة المعراج وأخطأ فيه أنواعا من الخطأ الفاحش. فصنّف أبو شامة كتابا خاصا يعدد فيه هذه الأخطاء بعنوان «الواضح الجلي في الرد على الحنبلي».
أبو شامة: المذيّل ص 207.
(3) أبو شامة: المذيّل ص 211.(1/12)
شامة أن يوقع له بمبلغ كبير حتى يطلق سراحة وقد هزم التتار بعد هذه الحادثة بعشرة أيام في موقعة عين جالوت، واعتبر أهل دمشق الهزيمة كرامة لأبي شامة، وقيل في ذلك:
تفرق جمع الكفر لما تعرضوا ... أبا شامة ظلما وكدر ورده
أرادوا به كيدا وما هيب علمه ... فغار له الرحمن إذ هو عبده
فما كان بين الجور منه وكسرهم ... لدى رمضان غير عشر نعدّه
فحاشى لمفتي الشام يهمل أمره ... ويخفض ذو علم ويرفع ضده
له أسوة بالأنبياء وصالحي ال ... برية فيه ليس يخلف وعده
يعز علينا ما جرى غير أننا ... نسر به حينا فلا كان فقده
وحادثة أخرى كان لها على ما يظهر أثر هام في صحة أبي شامة، تلك هي أنه تعرض لهجوم اثنين عليه وهو في منزله، في جمادى الآخرة من سنة 665هـ متظاهرين بأنهما قدما في طلب الفتيا وبعد أن اطمأنا إلى انفرادهما به وإلى غيبة من قد يحاول نجدته وإنقاذه من اعتدائهما، انهالا عليه بالضرب المبرّح، ربما لأسباب مذهبية وتركاه بعد ذلك مريضا مجهدا، وقد عرض عليه بعض أصحابه أن يتقدم بالشكوى إلى ولاة الأمر فرفض قائلا: قد فوضت أمري إلى الله، فما أغيّر ما عقدته مع الله وهو يكفينا سبحانه، ومن يتوكل على الله فهو حسبه (1). وقد نظم في هذه المناسبة الأبيات الثلاثة التالية:
قل لمن قال ألا تشتكي ... ما قد جرى فهو عظيم جليل
يفيض الله تعالى لنا ... من يأخذ الحق ويشفي الغليل
إذا توكلنا عليه كفى ... فحسبنا الله ونعم الوكيل
وقد توفي أبو شامة بعد شهرين ونصف من هذا الحادث وذلك في التاسع عشر من شهر رمضان سنة 665هـ الموافق 13حزيران سنة 1268، ودفن في مقبرته بالفراديس. وكان الذي قتلوه هم الذين جاءوه من قبل فضربوه ليموت فلم يمت (2).
مؤلفات أبي شامة
أورد له بروكلمان في كتابه «تاريخ الأدب العربي» 6/ 1714، المؤلفات التالية:
__________
(1) أبو شامة: نفسه ص 240.
(2) نجد ترجمة لأبي شامة، بالإضافة إلى تلك التي كتبها لنفسه، في: تاج الدين تقي الدين السبكي: طبقات الشافعية 5/ 70، ابن كثير: البداية والنهاية 13/ 251250.(1/13)
1 - كتاب الروضتين في أخبار الدولتين، تاريخ السلطان نور الدين والسلطان صلاح الدين.
2 - الذيل على الروضتين، عن السنوات 665590هـ / 12661994م.
3 - المقاصد أو المنائح السنية في شرح القصائد النبوية: شرح القصيدة اللامية الشقراطسية لأبي محمد عبد الله بن أبي زكرياء يحيى بن علي الشقراطسي والقصائد السبع لشيخه علي بن محمد السخاوي المتوفى سنة 643/ 1245. «شرح سبع قصائد السخاوي في مدح النبي» ألفه سنة 642/ 1244.
4 - شرح البردة.
5 - قصيدة في أربعين بيتا يشكو فيها مزاجه الحزين الحاد العكر، ويطلب النصح من شيخه علم الدين السخاوي.
6 - إبراز المعاني في شرح حرز المعاني أي في شرح القصيدة الشاطبية.
7 - المرشد الوجيز إلى علوم تتعلق بالكتاب العزيز.
8 - مختصر تاريخ دمشق لابن عساكر.
9 - مختصر كتاب المؤمّل في الرد إلى الأمر الأول. ويهاجم فيه على طريقة الظاهرية «المذهب» و «التقليد».
10 - الباعث إلى إنكار البدع والحوادث.
11 - الممتع المقتضب في سيرة خير العجم والعرب.
12 - كتاب البسملة.
13 - كتاب السواك وما أشبه ذلك.
وبالعودة إلى المذيّل حيث ترجم أبو شامة سيرة حياته، تراه يذكر كتبا أخرى لم يذكرها بروكلمان إلى جانب تلك التي ذكرها هذا الأخير، ولعلها ضاعت. وللمقارنة نورد ما ذكره أبو شامة عن أسماء هذه المصنفات (1):
وجمع وألّف وهذّب وصنّف في فنون العلوم النافعة كتبا كثيرة ومصنفات جليلة مختصرة ومطوّلة تم أكثرها وسمعها ووقفها وكثرت النسخ بها. فأول ما أظهر من مصنفاته شرح القصائد النبوية مجلد. ومنها شرح قصيدة الشيخ الشاطبي رحمه الله الذي سماه إبراز المعاني من حرز الأماني، وهما شرحان أصغر وأكبر، والأكبر إلى الآن لم يتم، والأصغر مجلدان.
__________
(1) أبو شامة: المذيّل ص 40.(1/14)
ومنها: اختصار لتاريخ دمشق وهما أيضا أكبر وأصغر وكلاهما تام، فالأكبر بخطه في خمسة عشر مجلدا والأصغر في خمس مجلدات. ومنها كتاب الروضتين في أخبار الدولتين في مجلدين ومختصر في مجلدة صغيرة. ومنها الكتاب المرقوم في جملة العلوم يجمع عدة مصنفات في مجلدين، الأول فيه خطبة العلم الكبرى التي سماها خطبة الكتاب المؤمل للرد إلى الأمر الأول، وكتاب نور المسرى في تفسير آية الإسراء وشرح الحديث المقتفى في مبعث النبي المصطفى، وضوء الساري أي رؤية معرفة الباري، والمحقق من علم الأصول فيما يتعلق بأفعال الرسول، وكتاب البسملة، والباعث على إنكار البدع والحوادث، وكتاب السواك وما أشبه ذلك.
ومختصر كتاب البسملة وغير ذلك.
ومنها: كشف حال بني عبيد، والواضح الجلي في الرد على الحنبلي، وإقامة الدليل الناسخ لجزء الفاسخ، والأصول من الأصول، ومفردات القراءة، وشيوخ الحافظ البيهقي، ومقدمة في النحو، والألفاظ المعربة، والقصيدة الدامغة، وقصيدتان في منازل طريق الحج ونظم مفصل الزمخشري، ونظم العروض والقوافي، ونظم شيء من متشابه القرآن، وشرح عروس السمر.
وابتدأ كتبا كثيرة لم يتفق إلى الآن إتمامها ونحن في سنة تسع وخمسين وستمائة التي تعقبها سنة ستين فيها: كتاب جامع أخبار مكة والمدينة وبيت المقدس شرفهن الله تعالى، ومختصر تاريخ بغداد، وتقييد الأسماء المشكلة، ورفع النزاع بالرد على الأتباع، والمذهب في علم المذهب، ونية الصيام وما في يوم الشك من الكلام، وشرح نظام المفصل، والأعلام بمعنى الكلمة والكلام، وشرح لباب التهذيب والأرجوزة في الفقه، وذكر من ركب الحمار، ومشكلات الآيات، ومشكلات الأخبار، وكتاب القيامة، وشرح أحاديث الوسيط، وتعاليق كثيرة في فنون مختلفة من غير ترتيب على طريقة التذكرة لأبي علي الفارسي، وأمالي ثعلب، وأمالي الزجاجي، ونحو كتاب المجالسة، واختصار جملة من الدواوين.
وقد نظم أحد الفضلاء بعض هذه المصنفات في أبيات كتبها له أي لأبي شامة (1) فقال:
هذا الشهاب الثاقب الفهم الذي ... قد فاق في بحر العلوم وشطّه
أكرم بتحقيق وإتقان وتص ... نيف له وبراعة في ضبطه
وعناية من ربه فيما يحاو ... له به فأحله في وسطه
__________
(1) أبو شامة: المذيّل ص 40.(1/15)
فكلامه في الفقه يشبه ما تقد ... م من كلام الشافعي وسبطه
يبني على نص الكتاب وسنة ... المصطفى في رفعه أو حطه
ومذاهب العلماء يلحظها فيفتي ... بالمرجع عنده من قسطه
ويفسر القرآن والأخبار عن ... حذف بمفهوم الكلام وربطه
وبنص أسماء الورى وحديثهم ... ووفاتهم فكأنهم من رهطه
شرح الصدور بشرحه لقصائد ... نبوية في قبضه أو بسطه
والشاطبية جولوا أفكاركم ... فما شرحها إن كنتم من شرطه
وله كتاب الروضتين وهذب التا ... ريخ مختصرا له من شحطه
وكتابه المرقوم فيه مصنفا ... ت في علوم جازها في مرطه
منها المحقق والسواك وباعث ... مع مبعث أحسن به وبقمطه
والضوء والإسراء وبسملة ومر ... شدها الذي أحيا بحسن محطه
ولنظمه في النحو والأوزان ال ... أحكام لم يك ما مضى من سمطه
وقد ابتدأ كتبا فأن أبقه من ... قوّاه أكملها بجودة سفطه
رفع النزاع ومشكل ال ... آيات والأخبار مما شده في قمطه
أرجو له عفو الإله فإنه ... ما زال يطلب عفوه في خطه
وذكر حاجي خليفة في كشف الظنون (5/ 525524) مؤلفاته، وهي:
1 - إبراز المعاني من حرز الأماني. أعني الشاطبية.
2 - أزهار الروضتين في أخبار الدولتين، أعني نور الدين وصلاح الدين.
3 - الأصول في الأصول.
4 - الباعث على إنكار البدع والحوادث.
5 - الروض الآنف في الذيل على أزهار الروضتين.
6 - شرح قصيدة البردة.
7 - شرح القصائد السبع في المدائح النبوية للسخاوي.
8 - شرح المقتفى في مبحث مبعث المصطفى صلى الله عليه وسلّم.
9 - ضوء القمر الساري إلى معرفة رؤية الباري.
10 - كتاب البسملة الأصغر.
11 - كتابة البسملة الأكبر.(1/16)
12 - كتاب السواك وما أشبه ذلك.
13 - كشف ما كان عليه بنو عبيد من الكفر والكذب والكيد.
14 - المحقق من علم الأصول فيما يتعلق بأفعال الرسول صلى الله عليه وسلّم.
15 - مختصر تاريخ ابن عساكر.
16 - المرشد الوجيز في علوم تتعلق بالقرآن العزيز وهو الذي بين أيدينا.
17 - مفردات القرآن.
18 - المقاصد السنية في المدائح النبوية.
19 - نظم المفصل للزمخشري في النحو.
20 - النور المسرى في تفسير آية الإسراء.(1/17)
مقدمة في علم القراءة (1)
هو علم يبحث فيه عن صور نظم كلام الله تعالى من حيث وجوه الاختلافات المتواترة ومباديه مقدمات تواترية وله أيضا استمداد من العلوم العربية والغرض منه تحصيل ملكة ضبط الاختلافات المتواترة وفائدته صون كلام الله تعالى عن تطرق التحريف والتغيير وقد يبحث فيه أيضا عن صور نظم الكلام من حيث الاختلافات الغير المتواترة الواصلة إلى حد الشهرة ومباديه مقدمات مشهورة أو مروية عن الآحاد الموثوق بهم ذكره صاحب مفتاح السعادة.
قال الجعبري في شرح الشاطبية: اعلم أن القراء اصطلحوا على أن يسموا القراءة للإمام والرواية للآخذ عنه مطلقا والطريق للآخذ عن الراوي، فيقال: قراءة نافع ورواية قالون طريق أبي نشيط ليعلم منشأ الخلاف، فكما أن لكل إمام راو فلكل راو طريق، انتهى.
قال ابن الجزري في نشره: كان أول إمام معتبر جمع القراءات في كتاب أبو عبيد القاسم بن سلام وجعلهم فيما أحسب خمسة وعشرين قارئا (قراءة) مع السبعة.
مات سنة 224هـ، أربع وعشرين ومائتين، انتهى.
وقال في النشر بعد سرد كتب القراءات وذكر الكامل لأبي القاسم الهذلي فإنه جمع خمسين قراءة عن الأئمة من ألف وأربعمائة وتسعة وخمسين رواية وطريقا حيث قال: فجملة من لقيت في هذا العلم ثلاثمائة وخمسة وستون شيخا من آخر العرب إلى باب فرغانة يمينا وشمالا وجبلا وبحرا ثم سوق العروس لأبي معشر الطبري فيه ألف ألف وخمسمائة وخمسون رواية وطريقا. قال: وهذان الرجلان أكثر من علمنا جمعا في القراءات لا نعلم أحدا بعدهما جمع أكثر منهما إلا أبا القاسم عيسى بن عبد العزيز الإسكندري في الجامع الأكبر والبحر الأزخر يحتوي على سبعة آلاف رواية وطريق. وتوفي سنة 629هـ، انتهى.
أول من نظم كتابا في القراءات السبع: الحسين بن عثمان بن ثابت البغدادي الضرير، ولد أعمى ومات سنة 378هـ ذكره ابن الجزري.
__________
(1) مأخوذة من «كشف الظنون» لحاجي خليفة 2/ 13221317.(1/18)
الكتب المؤلفة في علم القراءة
أ
1 - إبراز المعاني من حرز الأماني شرح الشاطبية لأبي شامة.
2 - احتجاج القراء.
3 - أحكام القراءات.
4 - أحكام الوقف.
5 - الاختيار في العشر.
6 - إرادة الطالب.
7 - إرشاد المبتدى في العشر.
8 - إرشاد القلانسي في العشر.
9 - إرشاد الواسطي.
10 - الاستثناء.
11 - الإشارة في العشر.
12 - الإعانة.
13 - أعشار القرآن.
14 - الإعلان.
15 - الإفصاح.
16 - الإقناع في السبعة.
17 - الإلماع.
18 - الاكتفاء.
19 - الأنوار الباهرات.
20 - الإيجاز في السبعة لسبط زياد.
21 - الإيجاز في السبعة لسبط خياط.
22 - الإيجاز في الإحدى عشرة.
23 - الإيضاح في الوقف والابتداء.
24 - إيضاح الرموز.
25 - الإيضاح للأهوازي.(1/19)
ب
26 - البدور الزاهرة في العشر.
27 - البستان في الثلاث عشرة.
ت
28 - تبصرة المبتدى في السبع للطبري.
29 - التبصرة في السبع لسبط الخياط.
30 - التبصرة في السبع للمكي.
31 - التبيان في آداب حملة القرآن.
32 - التجريد في السبع.
33 - التحبير.
34 - تحفة الطلاب. نظم.
35 - التذكار.
36 - تذكرة المستزيد لسبط خياط.
37 - التذكرة في الثمان لابن غلبون.
38 - تقريب النشر.
39 - التعريف.
40 - التكملة المفيدة. نظم.
41 - تلخيص العبارات.
42 - التلخيص في الثمان للطبري.
43 - التمهيد.
44 - التنبيه.
45 - التهذيب.
46 - التيسير في السبع.
ج
47 - جامع البيان للداني.
48 - جامع البيان للطبري.(1/20)
49 - الجامع الأكبر للأهوازي.
50 - الجامع في السبعة للفارسي.
51 - جامع الفوائد شرح الشاطبية.
52 - جمال القراء.
53 - جمع الريحانة.
54 - جمع الأصول لامية.
55 - الجوهر الدقاق.
ح
56 - حرز الأماني وشروحه.
57 - حل الرموز.
58 - حوز المعاني مختصره.
خ
59 - الخيّرة.
د
60 - الدالية في العشر.
61 - الدرة الفريدة شرح الشاطبية لمنتجب الدين.
62 - درر الأفكار. نظم أبي نصر بن سعدون.
63 - درر الأفكار للجعبري.
64 - الدرة المضيئة.
65 - الدر النضيد.
ر
66 - روضة التقرير.
67 - روضة الأزهار نظم الإرشاد.
68 - الروضة للطلمنكي.(1/21)
69 - الروضة في الإحدى عشرة للمالكي.
70 - الروضة للشريف المعدل.
71 - الروضة في العشر لسبط الخياط.
س
72 - سراج القاري شرح الشاطبية.
73 - سوق العروس في العشر.
ش
74 - الشافي.
75 - الشامل في العشر.
76 - الشرعة في السبعة نظم الجعبري.
77 - الشرعة في السبعة لابن البارزي.
78 - الشمعة في السبعة نظم شعلة.
ص
79 - الصيرفي في شرح الشاطبية.
ط
80 - طيبة النشر في العشر، ألفية للجزري وشرحه.
ع
81 - عقد اللئالئ في السبع العوالي، نظم.
82 - العنوان في السبعة.
83 - علم الاهتداء.
غ
84 - غاية الاختصار في العشرة.
85 - غاية المطلوب في قراءة يعقوب.(1/22)
86 - الغاية في الإحدى عشرة.
87 - غاية المهرة في الزيادة على العشرة.
ف
88 - فتح الوصيد شرح الشاطبية للسخاوي.
89 - فنون الأفنان.
90 - الفصول المختصرة.
91 - فوائد القرآن.
92 - الفوائد المظفرية في شرح تكملة الشاطبية.
ق
93 - القاصد.
94 - قرة العين.
95 - قصيدة ابن وهبان.
96 - القصيدة الطاهرية.
97 - القصر المصري في قراءة أبي عمرو البصري.
ك
98 - الكافي في السبع.
99 - الكامل في الخمسين.
100 - كتاب السبعة لابن مجاهد.
101 - الكشف في الاحدى عشرة.
102 - كفاية المبتدى وتذكرة المنتهى في الست لسبط الخياط.
103 - كتاب القلانسي.
104 - الكفاية في العشر، نظم الكنز للواسطي.
105 - الكنز، له.
106 - كنز المعاني شرح الشاطبية، للجعبري.(1/23)
ل
107 - لطائف الإشارات.
م
108 - المبهج في الإحدى عشرة، لابن سهوار وفي الثمان لسبط.
109 - الخياط.
110 - المنبهرة، نظم.
111 - المجتبى.
112 - المختار في الثمان.
113 - المصباح الزاهر.
114 - المرشد الوجيز.
115 - المستنير في العشر.
116 - المفتاح في العشر لابن خيرون ولأبي القاسم القرطبي.
117 - مفردات السبعة.
118 - مراتب الأصول.
119 - مصطلح الإشارات في الثلاث عشرة، لابن القاصح.
120 - المفيد في العشر، لأبي نصر الخباز وفي الثمان لأبي عبد الله.
121 - الحضرمي.
122 - مفردة يعقوب للداني ولابن الفحام ولعبد الباري.
123 - مفردات عاصم.
124 - مفردات أبي عمرو.
125 - المنتهى.
126 - المنجدة نظم في العشر.
127 - المواقف.
128 - الموضح في الفتح والإمالة.
129 - الموضح في العشر.
130 - المهذب في العشر.(1/24)
ن
131 - النبذ النامية في الثمان.
132 - النجوم الزاهرة في السبعة المتواترة.
133 - نزهة البررة في العشرة.
134 - النشر في العشر وشرحه.
135 - نثر الدرر.
136 - نظم الجواهر في رءوس الآي.
137 - النونية.
138 - نهج الدماثة في الثلاثة وشرحه.
139 - النير الجلي.
و140 - الواضح.
141 - الواضحة في تجويد الفاتحة.
142 - الوجيز في الثمان.
143 - وصول الغمر إلى أصول قراءة أبي عمرو.
هـ
144 - الهادي في السبع.
145 - الهداية في السبعة للواسطي.
الكتب المؤلفة في الوقوف والرسم والنحو
1 - كتاب الوقوف، للسجاوندي.
2 - المقنع في الرسم، للداني.
3 - عقيلة أتراب القصائد، وهي نظم المقنع وشروحه.
4 - التبيان في آداب حملة القرآن.
5 - المكتفى في الوقوف.(1/25)
6 - فواصل الآي.
7 - تعداد الآي.
8 - شواذ القرآن.
9 - المرشد في الوقف والابتداء.
10 - تحفة الإخوان.
11 - أعشار القرآن.
12 - نظم الجواهر في رءوس الآي.
13 - لمعة الزمان.
14 - طوالع النجوم.
15 - منازل الإجلال.
16 - أقوى العدد.
17 - الطود الراسخ.
18 - منهاج التوقيف.
19 - ترتيب الأحزاب.
20 - رواتب الآي.
21 - الوقف والابتداء، للعماني.
22 - تلخيص الفوائد، شرح الرائية.
23 - الإيضاح في الوقف والابتداء.
24 - شرح وقف حمزة وهشام.
25 - رواتب الآي.(1/26)
مقدمة المؤلف
بسم الله الرّحمن الرّحيم وبه نستعين الحمد لله الواحد الوتر الرحيم البر، عالم الغيب والشهادة والسر والجهر، مصعد الكلم الطيب ومنزل القطر الذي يسّر القرآن للذكر وأنزله في ليلة القدر.
أحمده وهو أهل الحمد والشكر على ما ساء وسر، وبيده النفع والضر، {أَلََا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ} [الأعراف: 54]، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له المؤمّل لحط الوزر ورفع الإصر وإسبال الستر وإلهام الصبر شهادة مرغمة لأهل الشرك والكفر، سارّة لأهل التقوى المأمورين بالصلاة والصيام والحج والنحر.
وأشهد أن محمدا عبده ورسوله القائل: «أنا سيّد ولد آدم ولا فخر» (1) المبعوث من خير العرب، وهم قريش أولاد لؤي بن غالب بن فهر، المرسل لإظهار الإيمان بمعجزة القرآن ممن وفق لقبولها ومن المعاندين بالقسر والقهر.
صلى الله وسلم عليه وعلى جميع النبيين والملائكة المقربين الأكرمين كما شرفهم بالعصمة والطهر، وفضلهم على ساكني البر والبحر وعلى آله وصحبه الأبرار أولي الحجى والحجر، والبشارة والبشر، والحل والعقد، والطي والنشر، من أهل الهجرة والإنفاق والإيواء والنصر، المجاهدين بالأنفس والأموال الموفين بالنذر وعلى تابعيهم بإحسان، وعلى جميع أهل الولاية والطاعة والبر، وعفا عن أهل التقصير الذين هم لأولئك اللباب كالقشر وسلم عليهم أجمعين أبد الدهر، ما طلع الفجر، وأشرقت الشمس ونور البدر.
أما بعد، فهذا تصنيف جليل يحتاج إليه أهل القرآن، خصوصا من يعتني بعلم القراءات السبع ولا يعرف معنى هذه التسمية ولا ماذا نحاه الرسول صلى الله عليه وسلّم بقوله: «أنزل
__________
(1) أخرجه مسلم في الفضائل حديث 3، والترمذي حديث 3148، 3615، وأحمد في المسند 1/ 281، 3/ 2.(1/27)
القرآن على سبعة أحرف» (1) ولا يدري ما كان الأمر عليه في قراءة القرآن وكتابته في حياة النبي صلى الله عليه وسلّم إلى أن جمع بعده في خلافة أبي بكر (2)، ثم جمع في خلافة عثمان (3)
رضي الله عنهما، ولا يهتدي إلى ما فعله كل واحد منهما، وما الفرق بين جميعهما، وما الضابط الفارق بين القراءات الشواذ وغيرها.
وأرجو أن يكون هذا التصنيف مشتملا على ذلك كله، قيما ببيانه مع فوائد أخر تتصل به، وبالله التوفيق.
وقد حصل مقصود هذا الكتاب في ستة أبواب:
الباب الأول: في البيان عن كيفية نزول القرآن وتلاوته وذكر حفاظه في ذلك الأوان.
الباب الثاني: في جمع الصحابة رضي الله عنهم القرآن وإيضاح ما فعله أبو بكر وعمر (4) وعثمان رضي الله عنهم.
الباب الثالث: في معنى قول النبي صلى الله عليه وسلّم: «أنزل القرآن على سبعة أحرف»، وشرح ذلك من كلام كل مصنف منصف.
الباب الرابع: في معنى القراءات السبع المشهورة الآن وتعريف الأمر في ذلك كيف كان.
الباب الخامس: في الفصل بين القراءة الصحيحة القوية والشاذة الضعيفة المروية.
__________
(1) أخرجه النسائي في الافتتاح باب 26، وأحمد في المسند 2/ 232، 5/ 114، 391، والهيثمي في مجمع الزوائد 7/ 150، والسيوطي في الدر المنثور 2/ 7، 5/ 346.
(2) أبو بكر الصديق: هو عبد الله بن عثمان بن عامر بن عمرو بن كعب التميمي القرشي، أول الخلفاء الراشدين، توفي سنة 13هـ. انظر ترجمته في: تاريخ الخلفاء ص 11، الإصابة 2/ 341، غاية النهاية 1/ 431، الطبقات الكبرى لابن سعد 3/ 169.
(3) هو ذو النورين عثمان بن عفان بن أبي العاص بن أمية أبو عمرو القرشي الأموي، ثالث الخلفاء الراشدين، استشهد سنة 35هـ. انظر ترجمته في: تاريخ الخلفاء ص 57، الإصابة 2/ 462، غاية النهاية 1/ 507، تذكرة الحفاظ 1/ 8، الطبقات الكبرى لابن سعد 3/ 53.
(4) هو أبو حفص القرشي العدوي، عمر بن الخطاب بن نفيل، ثاني الخلفاء الراشدين، استشهد سنة 23هـ. انظر ترجمته في: تاريخ الخلفاء ص 42، الإصابة 2/ 518، غاية النهاية 1/ 591، الطبقات الكبرى لابن سعد 3/ 265.(1/28)
الباب السادس: في الإقبال على ما ينفع من علوم القرآن والعمل بها، وترك التعمق في تلاوة ألفاظه والغلو بسببها.
وسميته: «المرشد الوجيز إلى علوم تتعلق بالكتاب العزيز».
وهي معرفة كيفية نزول القرآن وجمعه وتلاوته، ومعنى الأحرف السبعة التي نزل عليها، والمراد بالقراءات السبع وضابط ما قوي منها، وبيان ما انضم إليها، والتعريف بحق تلاوته وحسن معاملته، والله الموفق.(1/29)
الباب الأول في البيان عن كيفية نزول القرآن وتلاوته وذكر حفاظه في ذلك الأوان
قال الله تعالى: {شَهْرُ رَمَضََانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} [البقرة: 185] وقال تعالى:
{إِنََّا أَنْزَلْنََاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبََارَكَةٍ} [الدخان: 3]، وقال جلّت قدرته: {إِنََّا أَنْزَلْنََاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} [القدر: 1]، فليلة القدر هي الليلة المباركة وهي في شهر رمضان جمعا بين هؤلاء الآيات، إذ لا منافاة بينها، فقد دلت الأحاديث الصحيحة على أن ليلة القدر في شهر رمضان، وأمر النبي صلى الله عليه وسلّم بالتماسها في العشر الأخير منه (1)، ولا ليلة أبرك من ليلة، هي خير من ألف شهر. فتعين حمل قوله سبحانه: {فِي لَيْلَةٍ مُبََارَكَةٍ} على ليلة القدر. كيف، وقد أرشد إلى ذلك قوله تعالى: {فِيهََا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ}
[الدخان: 4]، فهو موافق لمعنى تسميتها بليلة القدر، لأن معناه التقدير. فإذا ثبت هذا، علمت أنه قد أبعد من قال: الليلة المباركة هي ليلة النصف من شعبان، وأن قوله تعالى: {أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} [البقرة: 185] معناه: أنزل في شأنه وفضل صيامه وبيان أحكامه، وأن ليلة القدر توجد في جميع السنة لا تختص بشهر رمضان، بل هي منتقلة في الشهور على ممر السنين، واتفق أن وافقت زمن إنزال القرآن ليلة النصف من شعبان.
وإبطال هذا القول متحقق بالأحاديث الصحيحة الواردة في بيان ليلة القدر وصفاتها وأحكامها على ما سنقرره إن شاء الله تعالى في المسائل الفقهية بين كتابي الصيام والاعتكاف.
__________
(1) روي حديث: «التمسوها في العشر الأواخر» بطرق وأسانيد متعددة، أخرجه البخاري في الإيمان باب 36، وليلة القدر باب 4، ومسلم في الصيام حديث 209، 213، 216، 217، وأبو داود حديث 1381، والترمذي حديث 792، والنسائي 3/ 80، وأحمد في المسند 1/ 14، 231، 259، 365، 2/ 78، 291، 3/ 60، 234، 5/ 36، 39، 40، 171، 318، 321، 324.(1/31)
وبما اخترناه من القول في الجمع بين الآيات الثلاث، ورد الخبر عن ابن عباس (1) رضي الله عنهما، وهو ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلّم المشهود له بأنه حبر الأمة وترجمان القرآن.
أخرج الحافظ أبو بكر البيهقي (2) في «كتاب الأسماء والصفات»، من حديث السدي (3)، عن محمد بن أبي المجالد (4)، عن مقسم (5) عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: سأله عطية بن الأسود (6) فقال: إنه قد وقع في قلبي الشك في قول الله عز وجل: {شَهْرُ رَمَضََانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} [البقرة: 185]، وقوله تعالى: {إِنََّا أَنْزَلْنََاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} [القدر: 1]، وقوله سبحانه: {إِنََّا أَنْزَلْنََاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبََارَكَةٍ} [الدخان: 3]،
__________
(1) ابن عباس: هو عبد الله بن عباس بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي، أبو العباس الهاشمي، ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلّم، ومفسّر كتاب الله وترجمانه، كان يقال له: الحبر والبحر، توفي رسول الله صلى الله عليه وسلّم وهو ابن أربع عشرة سنة، ولد قبل الهجرة بأربع سنين، قال له النبي صلى الله عليه وسلّم: «اللهم علمه الحكمة». توفي سنة 68هـ بالطائف. البداية والنهاية 8/ 314302، كتاب الثقات لابن حبان 3/ 208207.
(2) البيهقي: هو أحمد بن الحسين بن علي بن عبد الله البيهقي، أبو بكر الخسروجردي الشافعي الفقيه، ولد سنة 384هـ، وتوفي سنة 458هـ. من تصانيفه: «إثبات عذاب القبر»، «أربعين في الحديث»، «بيان خطأ من أخطأ على الشافعي»، «ترغيب الصلاة»، «جامع التواريخ» فارسي، «الجامع المصنف في شعب الإيمان»، «الخلافيات بين الحنفية والشافعية»، «السنن الصغيرة» في الحديث، «السنن الكبيرة» في الحديث، «كتاب الأسرار»، «كتاب الأسماء والصفات»، «كتاب الاعتقاد والهداية إلى سبيل الرشاد»، «كتاب البعث والنشور»، «كتاب الدعوات»، «كتاب الرؤية»، «كتاب الزهد»، «كتاب ما ورد في حياة الأنبياء بعد وفاتهم»، «كتاب المعرفة»، «المبسوط في الفروع»، «المصنف في فضائل الصحابة»، «معالم السنن» في الحديث، «معرفة السنن والآثار»، «مناقب الإمام أحمد بن حنبل»، «مناقب الإمام الشافعي»، «نصوص الشافعي»، «ينابيع الأصول»، «جماع أبواب وجوه قراءة القرآن»، وغير ذلك.
(كشف الظنون 5/ 78).
(3) السدّي: هو إسماعيل بن عبد الرحمن بن أبي ذؤيب السدّي (بضم السين المهملة وتشديد الدال)، حجازي الأصل، سكن الكوفة، من مفسري التابعين، توفي بالكوفة سنة 127هـ.
صنف تفسير القرآن. (كشف الظنون 5/ 206).
(4) محمد بن أبي المجالد الكوفي، مولى عبد الله بن أبي أوفى. (انظر ترجمته في تهذيب التهذيب 5/ 388).
(5) مقسم: هو مقسم بن بجرة، أبو القاسم، تابعي، توفي سنة 101هـ. انظر ترجمته في: تهذيب التهذيب 10/ 288، ميزان الاعتدال 3/ 198).
(6) عطية بن الأسود اليمامي، من أمراء الخوارج، توفي سنة 75هـ. انظر ترجمته في: الملل والنحل 1/ 155، الأعلام 5/ 23.(1/32)
وقد أنزل في شوال وذي القعدة وذي الحجة يعني وغير ذلك من الأشهر.
فقال ابن عباس رضي الله عنهما: إنه أنزل في رمضان وفي ليلة القدر وفي ليلة مباركة جملة واحدة، ثم أنزل بعد ذلك على مواقع النجوم رسلا في الشهور والأيام.
قلت: رسلا أي رفقا، وقوله: على مواقع النجوم، أي على مثل مواقع النجوم، ومواقعها مساقطها، يريد أنزل مفرقا يتلو بعضه بعضا على تؤدة ورفق، فقوله: على مواقع النجوم في موضع نصب على الحال، ورسلا أي ذا رسل، يريد مفرقا رافقا.
ودل أيضا على أن إنزال القرآن كان في شهر رمضان رواية قتادة (1) عن أبي المليح (2) عن واثلة بن الأسقع (3) أن النبي صلى الله عليه وسلّم قال: «أنزلت صحف إبراهيم عليه السلام أول ليلة من شهر رمضان، وأنزلت التّوراة لستّ مضين من شهر رمضان، وأنزل الإنجيل لثلاث عشرة خلت من شهر رمضان، وأنزل الزّبور لثماني عشرة خلت من شهر رمضان، وأنزل القرآن لأربع وعشرين خلت من شهر رمضان» (4). هكذا أخرجه البيهقي في كتاب «الأسماء والصّفات» (5) و «شعب الإيمان» (6) له وذكره أيضا الثعلبي (7) في تفسيره (8) وغيره.
__________
(1) قتادة: هو قتادة بن دعامة بن عرنين بن عمرو بن ربيعة السدوسي، أبو الخطاب البصري التابعي، ولد سنة 60هـ، وتوفي سنة 117هـ، صنف «تفسير القرآن». (كشف الظنون 5/ 834).
(2) أبو المليح: هو أبو المليح بن أسامة الهذلي، توفي سنة 98هـ. انظر ترجمته في: ميزان الاعتدال 3/ 382، تهذيب التهذيب 12/ 246.
(3) هو واثلة بن الأسقع بن كعب بن عامر، أبو الأسقع الليثي، صحابي، من أهل الصفة، توفي بالشام سنة 83هـ. انظر ترجمته في: الإصابة 3/ 626، تهذيب التهذيب 11/ 101، غاية النهاية 2/ 358، صفة الصفوة 1/ 279، الاستيعاب 3/ 643.
(4) أخرجه أحمد في المسند 4/ 107، والهيثمي في مجمع الزوائد 1/ 197، والسيوطي في الدر المنثور 1/ 189، والقرطبي في تفسيره 2/ 298.
(5) انظر «الأسماء والصفات» ص 234.
(6) انظر «شعب الإيمان» 1/ 370.
(7) الثعلبي: هو أحمد بن محمد بن إبراهيم النيسابوري، أبو إسحاق الثعلبي المفسّر، العالم بالقراءات، توفي في 21محرم سنة 437هـ، من تصانيفه: «ربيع المذكرين»، «عرائس المجالس» في قصص الأنبياء، «الكشف والبيان في تفسير القرآن». انظر ترجمته في: كشف الظنون 5/ 75، وفيات الأعيان 1/ 26، إنباه الرواة 1/ 119، غاية النهاية 1/ 100، بغية الوعاة ص 154.
(8) انظر تفسير الثعلبي 1/ 112.(1/33)
ووقع في «تفسير الماوردي» (1) وغيره: «وأنزل الزّبور لثنتي عشرة والإنجيل لثماني عشرة» (2). وكذلك هو في كتاب أبي عبيد (3).
وفي بعض التفاسير عكس هذا: الإنجيل لثنتي عشرة والزبور لثماني عشرة، واتفقوا على أن صحف إبراهيم عليه السلام لأول ليلة والتوراة لست مضين والقرآن لأربع وعشرين خلت.
قال أبو عبد الله الحليمي (4): يريد ليلة خمس وعشرين (5).
وذكر أبو بكر بن أبي شيبة (6) وهو أحد شيوخ مسلم (7) في «كتاب ثواب
__________
(1) الماوردي: هو علي بن محمد بن حبيب الماوردي، الإمام أبو الحسن البصري الفقيه، المفسّر الشافعي، ولد سنة 370هـ وتوفي سنة 450هـ، له من المصنفات: «الأحكام السلطانية»، «أدب الدنيا والدين»، «أعلام النبوة»، «الإقناع» في الفروع، «أمثال القرآن»، «تسهيل النصر وتعجيل الظفر»، «الحاوي الكبير» في الفروع، «سياسة الملك»، «قانون الوزارة»، «النكت والعيون» في التفسير، وغير ذلك. (كشف الظنون 5/ 689).
(2) انظر تفسير الماوردي 1/ 85.
(3) أبو عبيد: هو القاسم بن سلام الأزدي، أبو عبيد البغدادي، الأديب الفقيه اللغوي، ولد سنة 154هـ، وتوفي بمكة سنة 224هـ. من تصانيفه: «أدب القاضي» على مذهب الشافعي، «الأمثال السائرة»، «عدد آي القرآن»، «غريب الحديث»، «غريب القرآن»، «غريب المصنف»، «فضائل القرآن»، «كتاب الأحداث»، «كتاب الأموال»، «كتاب الأيمان والنذور»، «كتاب الحجر والتغليس»، «كتاب الحيض»، «كتاب الشعراء»، «كتاب الطهارة»، «كتاب القراءات»، «كتاب المذكر والمؤنث»، «كتاب المقصور والممدود»، «كتاب النسب»، «معاني القرآن»، «ناسخ القرآن ومنسوخه». (كشف الظنون 5/ 825).
(4) أبو عبد الله الحليمي: هو الحسين بن الحسن بن محمد بن حليم الجرجاني، أبو عبد الله، فقيه شافعي، قاض ومحدث، ولد بجرجان سنة 338هـ، وتوفي ببخارى سنة 403هـ، له بعض التصانيف، منها: «منهاج الدين في شعب الإيمان». (كشف الظنون 5/ 308، الأعلام 2/ 235، الرسالة المستطرفة 44).
(5) انظر «منهاج الدين في شعب الإيمان» للحليمي 2/ 103.
(6) أبو بكر بن أبي شيبة: هو الحافظ أبو بكر عبد الله بن محمد بن أبي شيبة إبراهيم بن عثمان العبسي، الكوفي، المعروف بابن أبي شيبة، توفي سنة 235، من تصانيفه: «تفسير القرآن»، «كتاب الأحكام»، «كتاب التاريخ»، «كتاب ثواب القرآن»، «كتاب الجمل»، «كتاب الرد على من رد على أبي حنيفة»، «كتاب السنن» في الفقه والحديث، «كتاب الفتوح»، «المسند» في الحديث. (كشف الظنون 5/ 440، الفهرست ص 334، تاريخ بغداد 10/ 66، تذكرة الحفاظ 2/ 18، تهذيب التهذيب 6/ 2).
(7) هو مسلم بن الحجاج بن مسلم القشيري النيسابوري، الإمام الحافظ أبو الحسين، ولد سنة(1/34)
القرآن» عن أبي قلابة (1) قال: أنزلت الكتب كاملة ليلة أربع وعشرين من رمضان.
وعنه: أنزلت التوراة لست والزبور لثنتي عشرة، وفي رواية أخرى: الزبور في ست، يعني من رمضان.
قال البيهقي في معنى قوله: «أنزل القرآن لأربع وعشرين»: إنما أراد والله أعلم نزول الملك بالقرآن من اللوح المحفوظ إلى سماء الدنيا (2). وقال في معنى قوله تعالى: {إِنََّا أَنْزَلْنََاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} [القدر: 1]: يريد والله أعلم: إنا أسمعناه الملك وأفهمناه إياه وأنزلناه بما سمع، فيكون الملك منتقلا به من علو إلى سفل (3).
قلت: هذا المعنى مطرد في جميع ألفاظ الإنزال المضافة إلى القرآن أو إلى شيء منه يحتاج إلى نحو هذا التأويل أهل السنة المعتقدون قدم القرآن، وأنه صفة قائمة بذات الله تعالى.
وفي المقصود بالإنزال الخاص المضاف إلى ليلة القدر أقوال:
أحدها: أنه ابتدئ إنزاله فيها.
والثاني: أنه أنزل فيها جملة واحدة.
والثالث: أنه أنزل في عشرين ليلة من عشرين سنة.
فنذكر ما حضرنا من الآثار في ذلك ومن أقوال المفسرين.
قال الإمام أبو عبيد القاسم بن سلام في «كتاب فضائل القرآن»: حدثنا يزيد
__________
204 - هـ، وتوفي سنة 261هـ. له من المصنفات: «أوهام المحدثين»، «الجامع الصحيح» وهو أحد الصحيحين من الكتب الستة، «رباعيات في الحديث»، «طبقات الرواة»، «كتاب الأسماء والكنى»، «كتاب أفراد الشاميين»، «كتاب الأفراد»، «كتاب الأقران»، «كتاب الانتفاع بجلود السباع»، «كتاب أولاد الصحابة»، «كتاب التاريخ»، «كتاب الجامع على الأبواب»، «كتاب السؤالات عن أحمد بن حنبل»، «كتاب العلل»، «كتاب حديث عمرو بن شعيب»، «كتاب المخضرمين»، «كتاب من ليس له إلا راو واحد»، «كتاب الوجدان»، «المسند الكبير على الرجال»، «مشايخ الثوري»، «مشايخ شعبة»، «مشايخ مالك». (كشف الظنون 6/ 432431، الفهرست ص 336، تاريخ بغداد 13/ 100، وفيات الأعيان 2/ 119، تذكرة الحفاظ 2/ 150، تهذيب التهذيب 10/ 126).
(1) أبو قلابة: هو عبد الله بن زيد بن عمرو الجرمي، أبو قلابة البصري، تابعي، توفي سنة 104هـ. (انظر: صفة الصفوة 3/ 160، تهذيب التهذيب 5/ 224).
(2) انظر كتاب «الأسماء والصفات» للبيهقي ص 234.
(3) «الأسماء والصفات» ص 229.(1/35)
يعني ابن هارون (1) عن داود بن أبي هند (2) عن عكرمة (3) عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: أنزل القرآن جملة واحدة إلى سماء الدنيا في ليلة القدر، ثم نزل بعد ذلك في عشرين سنة، وقرأ: {وَقُرْآناً فَرَقْنََاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النََّاسِ عَلى ََ مُكْثٍ وَنَزَّلْنََاهُ تَنْزِيلًا}
[الإسراء: 106].
أخرجه الحاكم أبو عبد الله (4) في كتاب «المستدرك على الصحيحين»، وقال في آخره: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه (5).
ورواه عبد الأعلى (6) عن داود وقال: فكان الله إذا أراد أن يوحي منه شيئا أوحاه، أو يحدث في الأرض منه شيئا أحدثه (7).
قال أبو عبيد: لا أدري كيف قرأه يزيد في حديثه، إلا أنه لا ينبغي أن يكون على هذا التفسير إلا {فَرَقْنََاهُ} بالتشديد.
قال أبو نصر بن القشيري (8) في تفسيره: فرّقناه أي فصلناه (9).
__________
(1) هو يزيد بن هارون بن زاذان بن ثابت السلمي، أبو خالد الواسطي، الحافظ، توفي سنة 206هـ. (انظر ترجمته في: تهذيب التهذيب 11/ 366، تذكرة الحفاظ 1/ 291، تاريخ بغداد 14/ 337).
(2) هو داود بن أبي هند، أبو بكر البصري، تابعي، توفي سنة 140هـ. (انظر ترجمته في: تهذيب التهذيب 3/ 204).
(3) عكرمة: هو عكرمة مولى ابن عباس، أبو عبد الله المدني، من التابعين، توفي سنة 105هـ، له تفسير القرآن. (انظر ترجمته في: تهذيب التهذيب 7/ 263، غاية النهاية 1/ 515، ميزان الاعتدال 2082، الطبقات الكبرى لابن سعد 5/ 287).
(4) الحاكم النيسابوري: هو محمد بن عبد الله بن محمد بن حمدويه بن نعيم بن الحكم الضبي أبو عبد الله، الحاكم النيسابوري، المعروف بابن البيع، ولد سنة 321هـ وتوفي سنة 405هـ بنيسابور، من مصنفاته: «أربعين في الحديث»، «إكليل في الحديث»، «أمالي العشيات»، «تراجم الشيوخ»، «رحلتان إلى الحجاز والعراق»، «السياق في ذيل تاريخ نيسابور»، «فضائل العشرة المبشرة»، «فضائل فاطمة الزهراء»، «فوائد الشيوخ»، «كتاب المبتدا من اللآلي الكبرى»، «مدخل إلى علم الصحيح»، «المستدرك على الصحيحين» في الحديث، «مناقب الإمام الشافعي»، «مناقب الصديق» وغير ذلك. (كشف الظنون 6/ 59).
(5) انظر المستدرك 2/ 222.
(6) هو عبد الأعلى بن عبد الأعلى بن محمد، أبو محمد القرشي البصري، توفي سنة 189هـ.
(انظر ترجمته في: شذرات الذهب 1/ 324، تهذيب التهذيب 6/ 96).
(7) انظر كتاب «الأسماء والصفات» ص 235.
(8) أبو نصر بن القشيري: هو عبد الرحيم بن عبد الكريم بن هوازن، أبو نصر بن أبي القاسم القشيري، المتوفى سنة 514هـ. (انظر ترجمته في: طبقات السبكي 4/ 249).
(9) انظر تفسير القشيري ص 340وما بعدها.(1/36)
قال ابن جبير: نزل القرآن كله من السماء العليا إلى السماء السفلى ثم فصل في السماء السفلى في السنين التي نزل فيها.
قال قتادة: كان بين أوله وآخره عشرون سنة، ولهذا قال: {لِتَقْرَأَهُ عَلَى النََّاسِ عَلى ََ مُكْثٍ} [الإسراء: 106].
وقيل: فرقناه أي جعلناه آية آية وسورة سورة وقيل: فصلناه أحكاما، كقوله تعالى: {فِيهََا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ} [الدخان: 4]، أي يفصل وقيل: {فَرَقْنََاهُ}
بالتشديد أي أنزلناه مفرقا على مكث على تؤدة وترسل ونزلناه تنزيلا: أي نجما بعد نجم وقيل: جعلناه منازل ومراتب ينزل شيئا بعد شيء ولو أخذوا بجميع الفرائض في وقت واحد لنفروا.
وأسند الحاكم أبو عبد الله في كتابه «المستدرك» من حديث ابن أبي شيبة، حدثنا جرير (1) عن منصور (2) عن سعيد بن جبير (3) عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: {إِنََّا أَنْزَلْنََاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} [القدر: 1]، قال: أنزل القرآن جملة واحدة في ليلة القدر إلى سماء الدنيا وكان بمواقع النجوم، وكان الله عز وجل ينزل على رسوله صلى الله عليه وسلّم بعضه في إثر بعض، قال الله تعالى: {وَقََالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلََا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وََاحِدَةً كَذََلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤََادَكَ وَرَتَّلْنََاهُ تَرْتِيلًا} [الفرقان: 32]، صحيح على شرطهما (4).
وأسنده البيهقي في دلائله (5) والواحدي (6) في تفسيره (7).
__________
(1) ابن جبير: هو سعيد بن جبير بن هشام الأسدي أبو عبد الله الكوفي، تابعي مشهور، قتله الحجاج بن يوسف بواسط سنة 95هـ. (انظر ترجمته في: تهذيب التهذيب 4/ 11، غاية النهاية 1/ 305، وفيات الأعيان 1/ 256، الطبقات الكبرى لابن سعد 6/ 256).
(2) جرير: هو جرير بن عبد الحميد بن قرط الضبي، أبو عبد الله الرازي. محدّث، توفي سنة 188هـ. (انظر ترجمته في: تهذيب التهذيب 2/ 75، تذكرة الحفاظ 1/ 250، تاريخ بغداد 7/ 253).
(3) منصور: هو منصور بن المعتمر بن عبد الله بن ربيعة السلمي، أبو عتاب الكوفي، من رجال الحديث، توفي سنة 132هـ. (انظر ترجمته في: تهذيب التهذيب 10/ 312).
(4) انظر المستدرك للحاكم 2/ 222.
(5) انظر دلائل النبوة 4/ 172.
(6) الواحدي: هو علي بن أحمد بن محمد بن علي بن متويه الواحدي، الإمام أبو الحسن المفسر النيسابوري، المتوفى بنيسابور سنة 468هـ، من مصنفاته: «أسباب النزول في تبليغ الرسول»، «الإغراب في علم الإعراب»، «البسيط في تفسير القرآن»، «التحبير في شرح أسماء الله الحسنى»، «تفسير النبي صلى الله عليه وسلّم»، «شرح ديوان المتنبي»، «كتاب الدعوات»، «كتاب المغازي»، «نفي التحريف عن القرآن الشريف»، «الوجيز». (كشف الظنون 5/ 692، وفيات الأعيان 1/ 419، غاية النهاية 1/ 523، طبقات المفسرين ص 23، بغية الوعاة ص 327).
(7) انظر الوسيط 2/ 953.(1/37)
وأسند البيهقي في كتاب «الشعب» عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: نزل القرآن في ليلة القدر من السماء العليا إلى السماء الدنيا جملة واحدة، ثم فرق في السنين، قال: وتلا الآية: {فَلََا أُقْسِمُ بِمَوََاقِعِ النُّجُومِ}
[الواقعة: 75]، قال: نزل متفرقا (1).
قلت: هو من قولهم: نجّم عليه الدية أي قطّعها، ومنه نجوم الكتابة، فلما قطّع الله سبحانه القرآن وأنزله مفرقا قيل لتفاريقه نجوم ومواقعها: مساقطها، وهي أوقات نزولها، وقد قيل: إن المراد {بِمَوََاقِعِ النُّجُومِ} مغارب نجوم السماء، والله أعلم.
وقوله في الرواية الأولى: وكان بموقع النجوم: أي بمنزلة ذلك في تفرقه وعدم تتابعه على وجه الاتصال، وإنما هو على حسب الوقائع والنوازل، وكذا مواقع النجوم بحساب أزمنة معلومة تمضي. وقرئ {بِمَوََاقِعِ} بالجمع وبموقع بالإفراد.
وقال أبو الحسن الواحدي المفسر: وقال مقاتل (2): أنزله الله من اللوح المحفوظ إلى السّفرة، وهم الكتبة من الملائكة في السماء الدنيا، فكان ينزل ليلة القدر من الوحي على قدر ما ينزل به جبريل على النبي صلى الله عليه وسلّم في السنة كلها إلى مثلها من العام القابل، حتى نزل القرآن كله في ليلة القدر، ونزل به جبريل على محمد عليهما الصلاة والسلام في عشرين سنة (3).
وفي كتاب «المنهاج» (4) لأبي عبد الله الحليمي: كان ينزل من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا في كل ليلة، قدر ما ينزل على النبي صلى الله عليه وسلّم إلى الليلة التي تليها، فينزل جبريل عليه السلام ذلك نجوما بأمر الله تعالى فيما بين الليلتين من السنة إلى أن ينزل القرآن كله من اللوح المحفوظ في عشرين ليلة من عشرين سنة.
قلت: فهذان قولان في كيفية إنزاله في ليلة القدر:
أحدهما: أنه نزل جملة واحدة.
__________
(1) انظر شعب الإيمان 1/ 370، والبسيط 5/ 493وما بعدها.
(2) مقاتل: هو مقاتل بن سليمان بن بشير الأزدي الخراساني أبو الحسن المروزي، المتوفى سنة 150هـ. له من المصنفات: «تفسير القرآن»، «كتاب الأقسام واللغات»، «كتاب الآيات المتشابهات»، «كتاب التقديم والتأخير»، «كتاب الجوابات في القرآن»، «كتاب الرد على القدرية»، «كتاب القراءات»، «كتاب الناسخ والمنسوخ»، «نوادر التفسير». (كشف الظنون 6/ 470، تاريخ بغداد 13/ 160، وفيات الأعيان 2/ 147، ميزان الاعتدال 3/ 196، تهذيب التهذيب 10/ 279).
(3) انظر الوسيط 2/ 953، والبسيط 5/ 493وما بعدها.
(4) انظر المنهاج 2/ 103.(1/38)
والثاني: أنه نزل في عشرين ليلة من عشرين سنة.
وذكر أبو الحسن الماوردي (1) في تفسيره (2) قال: نزل القرآن في رمضان وفي ليلة القدر وفي ليلة مباركة جملة واحدة من عند الله تعالى من اللوح المحفوظ إلى السّفرة الكرام الكاتبين في السماء الدنيا، فنجمته السّفرة على جبريل عليه السلام عشرين ليلة، ونجمه جبريل على النبي صلى الله عليه وسلّم عشرين سنة، فكان ينزل على مواقع النجوم إرسالا في الشهور والأيام.
ذكر ذلك في تفسير قوله تعالى: {إِنََّا أَنْزَلْنََاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} [القدر: 1] قال: فيه قولان:
أحدهما: ما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما (3)، فذكر ذلك، وكأنه قول ثالث غير القولين المقدمين، أو أراد الجمع بينهما، فإن قوله: نزل جملة واحدة، هو القول الأول، وقوله: فنجمته السّفرة على جبريل عشرين ليلة، هو القول الثاني، كأنه فسر قول من قال: نزل في عشرين ليلة بأن المراد بهذا الإنزال تنجيم السّفرة ذلك على جبريل، قال: والقول الثاني أن الله عز وجل ابتدأ بإنزاله في ليلة القدر، قال:
وهذا قول الشعبي (4).
قلت: هو إشارة إلى ابتداء إنزال القرآن على النبي صلى الله عليه وسلّم، فإن ذلك كان وهو متحنث بحراء في شهر رمضان، وقد بينت ذلك في «شرح حديث المبعث» وغيره، وهذا وإن كان الأمر فيه كذلك إلا أن تفسير الآية به بعيد مع ما قد صح من الآثار عن ابن عباس: أنه نزل جملة إلى سماء الدنيا، على ما تقدم.
وفي الكتاب «المستدرك» (5) أيضا، عن الأعمش (6) عن حسان بن حريث (7) عن
__________
(1) أبو الحسن الماوردي: هو علي بن محمد بن حبيب الماوردي، الإمام أبو الحسن البصري، الفقيه المفسّر الشافعي، ولد سنة 370هـ، وتوفي سنة 450هـ، تقدمت ترجمته الوافية.
(2) انظر تفسير الماوردي 3/ 370.
(3) انظر تفسير الماوردي 3/ 370وما بعدها.
(4) الشعبي: هو عامر بن شراحيل بن عبد الله الشعبي الحميري، أبو عمرو الكوفي، تابعي، من رجال الحديث، وكان فقيها شاعرا، توفي سنة 103هـ. (انظر ترجمته في: كشف الظنون 5/ 435، تهذيب التهذيب 5/ 65، وفيات الأعيان 1/ 306، تاريخ بغداد 12/ 227).
(5) انظر المستدرك 2/ 223.
(6) الأعمش: هو سليمان بن مهران الأسدي بالولاء، أبو محمد، لقب بالأعمش، ولد بالكوفة سنة 61هـ، وفيها توفي سنة 148هـ، تابعي مشهور، عالم بالقرآن والحديث والفرائض، وهابه الناس والأمراء. (انظر ترجمته في: الأعلام للزركلي 3/ 135، طبقات ابن سعد 6/ 238، وفيات الأعيان 1/ 213، تاريخ بغداد 9/ 3).
(7) هو حسان بن حريث العدوي، أبو السوار البصري، لم تعرف سنة وفاته. (انظر ترجمته في:
تهذيب التهذيب 12/ 123).(1/39)
سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: فصل القرآن من الذكر فوضع في بيت العزة في السماء الدنيا فجعل جبريل عليه السلام ينزله على النبي صلى الله عليه وسلّم ويرتله ترتيلا. قال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه.
وخرجه أبو بكر بن أبي شيبة في كتاب «ثواب القرآن» (1) عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: {إِنََّا أَنْزَلْنََاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} [القدر: 1] قال: رفع إلى جبريل في ليلة القدر جملة فرفع في بيت العزة ثم جعل ينزل تنزيلا.
وفي «تفسير الثعلبي» (2) عن ابن عباس قال: أنزل القرآن جملة واحدة من اللوح المحفوظ في ليلة القدر من شهر رمضان فوضع في بيت العزة من السماء الدنيا، ثم نزل به جبريل على محمد صلى الله عليه وسلّم نجوما عشرين سنة، فذلك قوله عز وجل: {فَلََا أُقْسِمُ بِمَوََاقِعِ النُّجُومِ} [الواقعة: 75].
وقال أبو عبيد: حدثنا ابن أبي عدي (3) عن داود بن أبي هند قال: قلت للشعبي: قوله تعالى: {شَهْرُ رَمَضََانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} [البقرة: 185]، أما نزل عليه القرآن في سائر السنة إلا في شهر رمضان؟ قال: بلى، ولكن جبريل كان يعارض محمدا عليهما السلام بما ينزل عليه في سائر السنة في شهر رمضان.
زاد الثعلبي في تفسيره (4): فيحكم الله ما يشاء ويثبت ما يشاء ويمحو ما يشاء وينسيه ما يشاء.
زاد غير الثعلبي: فلما كان في العام الذي قبض فيه عرضه عرضتين، فاستقر ما نسخ منه وبدل.
وقال أبو القاسم البغوي (5): حدثنا الحسن بن سفيان (6)، حدثنا أبو بكر بن أبي
__________
(1) انظر المصنف 2/ 162.
(2) انظر تفسير الثعلبي 1/ 111.
(3) ابن أبي عدي: هو محمد بن إبراهيم بن أبي عدي السلمي، أبو عمرو البصري، المتوفى سنة 194هـ. (انظر ترجمته في: تهذيب التهذيب 9/ 12، تذكرة الحفاظ 1/ 297).
(4) انظر تفسير الثعلبي 1/ 112وما بعدها.
(5) أبو القاسم البغوي: هو عبد الله بن محمد بن عبد العزيز، أبو القاسم البغوي، المحدّث، المعروف بابن بنت منيع، ولد سنة 214هـ، وتوفي سنة 313هـ، من تصانيفه: «حكايات شعبة وغيره»، «كتاب السنن في الفقه على مذاهب الفقهاء»، «كتاب المسند في الحديث»، «معجم الصحابة» كبير، «المعجم الصغير» وغير ذلك. (انظر ترجمته في: كشف الظنون 5/ 444، لسان الميزان 3/ 338، تذكرة الحفاظ 2/ 273، تاريخ بغداد 10/ 111، الفهرست ص 339).
(6) هو الحسن بن سفيان بن عامر الشيباني، أبو العباس النسوي، مصنف المسند، توفي سنة(1/40)
شيبة، حدثنا ابن أبي عدي عن داود بن أبي هند عن الشعبي: أن جبريل عليه السلام كان يعارض النبي صلى الله عليه وسلّم بما أنزل عليه في سائر السنة في شهر رمضان.
وعن أبي عبيد، عن إسماعيل بن إبراهيم (1)، عن أيوب السختياني (2)، عن محمد بن سيرين (3) قال: نبئت أن القرآن كان يعرض على النبي صلى الله عليه وسلّم كل عام مرة في شهر رمضان، فلما كان العام الذي توفي فيه عرض عليه مرتين، قال ابن سيرين:
فيرون أو يرجون أن تكون قراءتنا هذه أحدث القراءات عهدا بالعرضة الأخيرة.
قال ابن أبي شيبة (4): حدثنا الحسين بن علي (5)، عن أبيه، عن ابن جدعان (6)، عن ابن سيرين، عن عبيدة السلماني (7) قال: القراءة التي عرضت على رسول الله صلى الله عليه وسلّم في العام الذي قبض فيه هي القراءة التي يقرأها الناس اليوم.
ورأيت في بعض التفاسير، قال: وقال جماعة من العلماء: نزل القرآن جملة واحدة في ليلة القدر من اللوح المحفوظ إلى بيت، يقال له بيت العزة، فحفظه جبريل عليه السلام، وغشي على أهل السماوات من هيبة كلام الله، فمر بهم جبريل وقد أفاقوا فقالوا: {مََا ذََا قََالَ رَبُّكُمْ، قََالُوا الْحَقَّ} [سبأ: 23]، يعني القرآن، وهو معنى
__________
303 - هـ. (انظر ترجمته في: تذكرة الحفاظ 2/ 245، طبقات السبكي 2/ 212، معجم البلدان 2/ 48).
(1) هو إسماعيل بن إبراهيم بن مقسم الأسدي، أبو بشر البصري، المعروف بابن علية، توفي سنة 193هـ. (انظر ترجمته في: تهذيب التهذيب 1/ 275).
(2) أيوب السختياني: هو أيوب بن أبي تميمة كيسان، أبو بكر، سيد العباد والزهاد، توفي سنة 131هـ. (انظر ترجمته في: الطبقات الكبرى لابن سعد 7/ 183، كتاب الثقات لابن حبان 6/ 53، طبقات الصوفية ص 452، المعارف لابن قتيبة ص 471، الكواكب الدرية 1/ 164).
(3) ابن سيرين: هو أبو بكر محمد بن سيرين البصري، من التابعين، كان عارفا بالتعبير، توفي بالبصرة سنة 110هـ، صنف: «جوامع التعبير» في الرؤيا. (انظر ترجمته في: كشف الظنون 6/ 7، البداية والنهاية 9/ 290288، المعارف لابن قتيبة ص 226، حلية الأولياء 2/ 263، شذرات الذهب 1/ 138، كتاب الوفيات ص 108).
(4) انظر المصنف 2/ 164وما بعدها.
(5) هو الحسين بن علي بن الوليد الجعفي، أبو عبد الله الكوفي، محدث، توفي سنة 203هـ.
(انظر ترجمته في: تهذيب التهذيب 2/ 257، غاية النهاية 1/ 247).
(6) ابن جدعان: هو علي بن زيد بن عبد الله بن أبي مليكة زهير بن عبد الله بن جدعان التيمي، أبو الحسن البصري، توفي سنة 129هـ. (انظر ترجمته في: تهذيب التهذيب 7/ 322).
(7) عبيدة السلماني: هو عبيدة بن عمرو السلماني المرادي، أبو عمرو الكوفي، تابعي، أسلم باليمن زمن فتح مكة، ولم ير النبي صلى الله عليه وسلّم، توفي سنة 72هـ. (انظر ترجمته في: تهذيب التهذيب 7/ 84، الإصابة 3/ 102، تذكرة الحفاظ 1/ 47).(1/41)
قوله: {حَتََّى إِذََا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ} [سبأ: 23]، فأتى به جبريل إلى بيت العزة، فأملاه جبريل على السّفرة الكتبة، يعني الملائكة، وهو قوله تعالى: {بِأَيْدِي سَفَرَةٍ كِرََامٍ بَرَرَةٍ} [عبس: 1615].
نقلته من كتاب «شفاء القلوب»، وهو تفسير علي بن سهل النيسابوري (1).
وما رواه داود عن الشعبي، يعد قولا رابعا في معنى قوله تعالى: {أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} [البقرة: 185]، وكأنه نزل عرضه وإحكامه في رمضان من كل سنة منزلة إنزاله فيه، مع أنه قد لا ينفك من إحداث إنزال ما لم ينزل أو تغيير بعض ما نزل بنسخ أو إباحة تغيير بعض ألفاظه على ما سيأتي، وإن ضم إلى ذلك كونه ابتدأ نزوله في شهر رمضان ظهرت قوته.
وقد أوضحنا في كتاب «شرح حديث المبعث»: أن أول ما نزل على النبي صلى الله عليه وسلّم:
{اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} [العلق: 1]، وذلك بحراء عند ابتداء نبوّته، ويجوز أن يكون قوله: {أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} إشارة إلى كل ذلك، وهو كونه أنزل جملة إلى السماء الدنيا وأول نزوله إلى الأرض وعرضه وإحكامه في شهر رمضان، فقويت ملابسة شهر رمضان للقرآن، إنزالا جملة وتفصيلا وعرضا وإحكاما فلم يكن شيء من الأزمان تحقق له من الظرفية للقرآن ما تحقق لشهر رمضان، فلمجموع هذه المعاني قيل:
{أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ.}
فإن قلت: ما السر في إنزاله جملة إلى السماء الدنيا؟
قلت: فيه تفخيم لأمره وأمر من أنزل عليه، وذلك بإعلام سكان السماوات السبع أن هذا آخر الكتب، المنزل على خاتم الرسل لأشرف الأمم، قد قربناه إليهم لننزّله عليهم، ولولا أن الحكمة الإلهية اقتضت وصوله إليهم منجما بحسب الوقائع لم نهبط به إلى الأرض جملة كسائر الكتب المنزلة قبله، ولكن الله تعالى باين بينه وبينها فجمع له الأمرين إنزاله جملة ثم إنزاله مفرقا. وهذا من جملة ما شرف به نبينا صلى الله عليه وسلّم، كما شرف بحيازة درجتي الغني الشاكر والفقير الصابر، فأوتي مفاتيح خزائن الأرض، فردها واختار الفقر والإيثار بما فتح الله عليه من البلاد، فكان غنيّا شاكرا وفقيرا صابرا صلى الله عليه وسلّم.
__________
(1) هو علي بن سهل بن العباس بن سهل النيسابوري، أبو الحسن الشافعي، عالم، زاهد، مقرئ. توفي سنة 491هـ، له من المصنفات: «زاد الحاضر والبادي» في التفسير، «مكارم الأخلاق». (انظر ترجمته في: كشف الظنون 5/ 694، بغية الوعاة ص 338، طبقات السبكي 3/ 299).(1/42)
فإن قلت: في أي زمان نزل جملة إلى السماء الدنيا، أبعد ظهور نبوّة محمد صلى الله عليه وسلّم أم قبلها؟
قلت: الظاهر أنه قبلها، وكلاهما محتمل، فإن كان بعدها فالأمر على ما ذكرناه من التفخيم له ولمن أنزل عليه، وإن كان قبلها، ففائدته أظهر وأكثر، لأن فيه إعلام الملائكة بقرب ظهور أمة أحمد المرحومة الموصوفة في الكتب السالفة، وإرسال نبيهم خاتم الأنبياء كما أعلم الله سبحانه وتعالى الملائكة قبل خلق آدم بأنه جاعل في الأرض خليفة، وكما أعلمهم أيضا قبل إكمال خلق آدم عليه السلام بأنه يخرج من ذريته محمد وهو سيد ولده، وعلى ذلك حملنا قوله صلى الله عليه وسلّم: «كنت نبيّا وآدم بين الماء والطّين» (1)، على ما أوضحناه في كتاب «شرح المدائح النبوية»، وكان العلم بذلك حاصلا عند الملائكة، ألا ترى أن في حديث الإسراء (2)، لما كان جبريل يستفتح له السماوات سماء سماء، كان يقال له: من هذا؟ فيقول: جبريل، فيقال: من معك؟ فيقول: محمد، فيقال: وقد بعث إليه؟ فيقول: نعم. فهذا كلام من كان عنده علم بذلك قبل ذلك.
وقد تكلم على فائدة إنزال القرآن جملة، شيخنا أبو الحسن (3) رحمه الله ببعض ما ذكرناه.
__________
(1) أخرجه العجلوني في كشف الخفاء 2/ 191، وعلي القاري في الأسرار المرفوعة ص 271، 272، وروي الحديث بلفظ: «كنت نبيا وآدم بين الروح والجسد» أخرجه بهذا اللفظ الحاكم في المستدرك 2/ 609، وابن أبي شيبة في المصنف 14/ 292، والزبيدي في إتحاف السادة المتقين 1/ 453.
(2) روي حديث الإسراء بطرق وأسانيد متعددة. أخرجه البخاري في بدء الخلق باب 7، وأحاديث الأنبياء باب 24، ومسلم في الإيمان حديث 267، 272، والفضائل حديث 164، والترمذي في تفسير سورة 17، باب 1، 2، 5، والدعوات باب 58، وابن ماجة في الصدقات باب 19، وأحمد في المسند 1/ 245، 259، 309، 342، 2/ 282، 3/ 120، 148، 5/ 362، 365، 418.
(3) هو السخاوي: وهو علي بن محمد بن عبد الصمد بن عبد الأحد بن عبد الغالب بن غطاس الهمداني، عالم الدين، أبو الحسن السخاوي، المصري المقري الشافعي، ولد سنة 558هـ، وتوفي بدمشق سنة 643هـ. من تصانيفه: «إفصاح الموجز في إيضاح المعجز»، «الإفصاح وغاية الإشراح في القراءات السبع»، «أقوى العدد في معرفة العدد»، «تحفة الفراض وطرفة المرتاض»، «تفسير القرآن إلى سورة الكهف»، «تنوير الظلم في الجود والكرم»، «جمال القراء وكمال الإقراء»، «الجواهر المكللة في الأخبار المسلسلة»، «ذات الأصول في مدح الرسول صلى الله عليه وسلّم»، «ذات الأصول والقبول في مفاخر الرسول صلى الله عليه وسلّم»، «ذات الحلل» قصيدة على طريقة اللغز، «ذات الدرر في معجزات سيد البشر»، «سفر السعادة وسفير الإفادة» في شرح(1/43)
ووقفت على كلام حسن للحكيم الترمذي أبي عبد الله محمد بن علي (1) في تفسيره فقال: أنزل القرآن جملة واحدة إلى السماء الدنيا تسليما منه للأمة ما كان أبرز لهم من الحظ بمبعث محمد صلى الله عليه وسلّم، وذلك أن بعثة محمد صلى الله عليه وسلّم كانت رحمة، فلما خرجت الرحمة بفتح الباب جاءت بمحمد صلى الله عليه وسلّم وبالقرآن، فوضع القرآن ببيت العزّة في السماء الدنيا ليدخل في حد الدنيا، ووضعت النبوّة في قلب محمد صلى الله عليه وسلّم، وجاء جبريل عليه السلام بالرسالة ثم الوحي، كأنه أراد تبارك وتعالى أن يسلم هذه الرحمة التي كانت حظ هذه الأمة من الله تعالى إلى الأمة، ثم أجرى من السماء الدنيا الآية بعد الآية عند نزول النوائب، قال الله تعالى: {وَمََا أَرْسَلْنََاكَ إِلََّا رَحْمَةً لِلْعََالَمِينَ}
[الأنبياء: 107]، وقال عز وجل: {يََا أَيُّهَا النََّاسُ قَدْ جََاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفََاءٌ لِمََا فِي الصُّدُورِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} [يونس: 57].
وقال الشيخ أبو الحسن في كتابه «جمال القراء»: في ذلك تكريم بني آدم، وتعظيم شأنهم عند الملائكة، وتعريفهم عناية الله عز وجل بهم ورحمته لهم، ولهذا المعنى أمر سبعين ألفا من الملائكة لما أنزل سورة الأنعام أن تزفها، وزاد سبحانه في هذا المعنى بأن أمر جبريل عليه السلام بإملائه على السّفرة الكرام البررة عليهم السلام إنساخهم إياه وتلاوتهم له ثم ساق الكلام إلى آخره.
__________
المفصل، «شرح المحاجاة في الأحاجي والأغلوطات للزمخشري»، «شرح مصابيح السنة للبغوي»، «شكوى الاشتياق إلى النبي الطاهر الأخلاق»، «الطود الراسخ في القراءة»، «عروس السمر في منازل القمر»، «عمدة المفيد وعدة المجيد في معرفة لفظ التجريد»، «فتح الوصيد في شرح القصيد» أي حرز الأماني، «القصائد السبعة في مدائح النبوية»، «القصيدة الناصرة لمذهب الأشاعرة»، «الكوكب الوقاد في تصحيح الاعتقاد»، «لواقح الفكر في أخبار من غبر»، «متشابهات الكتاب»، «مراتب الأصول وغرائب الفصول» في القراءات، «المفضل في شرح المفصل» للزمخشري، «منازل الإجلال والتعظيم في فضائل القرآن العظيم»، «مناسك الحج»، «منير الدياجي في شرح الأحاجي»، «منهاج التوفيق في معرفة التجويد والتحقيق»، «نثر الدرر في ذكر الآيات والسور»، «الوسيلة إلى كشف العقيلة»، «هدية المرتاب وغاية الحفظ والطلاب» منظومة في القراءات، وغير ذلك. (كشف الظنون 5/ 709708).
(1) الحكيم الترمذي: هو محمد بن علي بن الحسين بن بشير المؤذن، المعروف بالحكيم الترمذي، المحدث الزاهد المتوفى سنة 255هـ، من تصانيفه: «إثبات العلل للشريعة»، «ختم الأنبياء»، «ختم الأولياء»، «رياضة النفس»، «شرح الصلاة»، «غرر الأمور»، «غرس الموحدين»، «كتاب الاحتياط»، «كتاب الفروق»، «كتاب المناهي في إثبات العلل»، «منهاج العبادة»، «المنهج»، «نوادر الأصول في معرفة أخبار الرسول» وغير ذلك. (كشف الظنون 6/ 1615).(1/44)
فإن قلت: فقوله تعالى: {إِنََّا أَنْزَلْنََاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} [القدر: 1] من جملة القرآن الذي نزل جملة، أم لا؟ فإن لم يكن منه فما نزل جملة، وإن كان منه فما وجه صحة هذه العبارة؟
قلت: له وجهان:
أحدهما: أن يكون معنى الكلام: إنّا حكمنا بإنزاله في ليلة القدر، وقضينا به، وقدرناه في الأزل، وأردناه، وشئناه، وما أشبه ذلك.
والثاني: أن لفظه لفظ الماضي، ومعناه الاستقبال، وله نظائر في القرآن وغيره، أي ننزله جملة في ليلة مباركة هي ليلة القدر واختير لفظ الماضي لأمرين:
أحدهما: تحققه وكونه أمرا لا بد منه.
والثاني: أنه حال اتصاله بالمنزل عليه، يكون الماضي في معناه محققا، لأن نزوله منجما كان بعد نزوله جملة واحدة، وكل ذلك حسن واضح، والله أعلم.
فإن قلت: ما السر في نزوله إلى الأرض منجما، وهلا أنزل جملة كسائر الكتب؟
قلت: هذا سؤال قد تولى الله سبحانه الجواب عنه، فقال في كتابه العزيز:
{وَقََالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلََا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وََاحِدَةً} [الفرقان: 32]، يعنون كما أنزل على من كان قبله من الرسل، فأجابهم الله تعالى بقوله: {كَذََلِكَ} أي أنزلناه كذلك مفرقا {لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤََادَكَ} أي لنقوي به قلبك، فإن الوحي إذا كان يتجدد في كل حادثة كان أقوى للقلب وأشد عناية بالمرسل إليه، ويستلزم ذلك كثرة نزول الملك عليه وتجديد العهد به وبما معه من الرسالة الواردة من ذلك الجناب العزيز فيحدث له من السرور ما تقصر عنه العبارة، ولهذا كان أجود ما يكون في رمضان لكثرة نزول جبريل عليه السلام عليه فيه على ما سنذكره.
وقيل: معنى {لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤََادَكَ} [الفرقان: 32]، أي لتحفظه فيكون فؤادك ثابتا به غير مضطرب وكان النبي صلى الله عليه وسلّم أميّا لا يكتب ولا يقرأ، ففرق عليه القرآن ليتيسّر عليه حفظه، ولو نزل جملة لتعذر عليه حفظه في وقت واحد على ما أجرى الله تعالى به عوائد خلقه، والتوراة نزلت على موسى عليه السلام مكتوبة وكان كاتبا قارئا، وكذا كان غيره، والله أعلم.
فإن قلت: كان في القدرة إذا أنزله جملة أن يسهل عليه حفظه دفعة واحدة.
قلت: ما كل ممكن في القدرة بلازم وقوعه، فقد كان في قدرته تعالى أن يعلمه الكتابة والقراءة في لحظة واحدة، وأن يلهمهم الإيمان به، ولكنه لم يفعل، ولا
معترض عليه في حكمه. {وَلَوْ شََاءَ اللََّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى ََ} [الأنعام: 35]، {وَلَوْ شََاءَ اللََّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلََكِنَّ اللََّهَ يَفْعَلُ مََا يُرِيدُ} [البقرة: 253].(1/45)
قلت: ما كل ممكن في القدرة بلازم وقوعه، فقد كان في قدرته تعالى أن يعلمه الكتابة والقراءة في لحظة واحدة، وأن يلهمهم الإيمان به، ولكنه لم يفعل، ولا
معترض عليه في حكمه. {وَلَوْ شََاءَ اللََّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى ََ} [الأنعام: 35]، {وَلَوْ شََاءَ اللََّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلََكِنَّ اللََّهَ يَفْعَلُ مََا يُرِيدُ} [البقرة: 253].
وأيضا في القرآن ما هو جواب عن أمور سألوه عنها، فهو سبب من أسباب تفريق النزول، ولأن بعضه منسوخ وبعضه ناسخ ولا يتأتّى ذلك إلا فيما أنزل مفرقا.
فهذه وجوه ومعان حسنة في حكمة نزوله منجما، وكان بين نزول أول القرآن وآخره عشرون أو ثلاث وعشرون أو خمس وعشرون سنة، وهو مبني على الخلاف في مدة إقامة النبي صلى الله عليه وسلّم بمكة بعد النبوة، فقيل: عشر، وقيل: ثلاث عشر، وقيل:
خمس عشرة، ولم يختلف في مدة إقامته بالمدينة أنها عشر، والله أعلم.
وكان الله تعالى قد وعد نبيه صلى الله عليه وسلّم حفظ القرآن وبيانه، وضمن له عدم نسيانه بقوله تعالى: {لََا تُحَرِّكْ بِهِ لِسََانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ إِنَّ عَلَيْنََا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ} [القيامة: 1716]، أي علينا أن نجمعه في صدرك فتقرأه فلا ينفلت عنك منه شيء، وقال تعالى: {سَنُقْرِئُكَ فَلََا تَنْسى ََ} [الأعلى: 6]، أي غير ناس له.
وفي الصحيحين عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهم قال: كان النبي صلى الله عليه وسلّم إذا نزل عليه جبريل بالوحي كان مما يحرك به لسانه وشفتيه، فيشتد عليه، فكان ذلك يعرف منه، فأنزل الله تعالى: {لََا تُحَرِّكْ بِهِ لِسََانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ} أخذه {إِنَّ عَلَيْنََا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ،} إن علينا أن نجمعه في صدرك وقرآنه فتقرأه، {فَإِذََا قَرَأْنََاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ} [القيامة: 18]، قال: أنزلناه فاستمع له {ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنََا بَيََانَهُ} [القيامة: 19]، أن نبينه بلسانك، فكان إذا أتاه جبريل عليه السلام أطرق، فإذا ذهب قرأه كما وعده الله تعالى (1).
وفي رواية: كان النبي صلى الله عليه وسلّم يعالج من التنزيل شدة، كان يحرك شفتيه، فأنزل الله عز وجل: {لََا تُحَرِّكْ بِهِ لِسََانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ إِنَّ عَلَيْنََا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ،} قال: جمعه في صدرك ثم تقرأه {فَإِذََا قَرَأْنََاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ،} قال: فاستمع وأنصت، ثم إن علينا أن تقرأه، قال: فكان رسول الله صلى الله عليه وسلّم إذا أتاه جبريل عليه السلام استمع، فإذا انطلق جبريل قرأه النبي صلى الله عليه وسلّم كما أقرأه (2).
__________
(1) أخرجه البخاري في بدء الوحي باب 4، والتوحيد باب 43، وفضائل القرآن باب 28، ومسلم في الصلاة حديث 148.
(2) أخرجه البخاري في بدء الوحي باب 4، والتوحيد باب 43، ومسلم في الصلاة حديث 148، وأحمد في المسند 1/ 343.(1/46)
وعن ابن شهاب (1) قال: أخبرني أنس بن مالك (2) أن الله تعالى تابع الوحي على رسوله قبل وفاته حتى توفاه أكثر ما كان الوحي، ثم توفي رسول الله صلى الله عليه وسلّم بعد.
هذا لفظ البخاري (3) ولمسلم (4): إن الله عز وجل تابع الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلّم قبل وفاته حتى توفي، وأكثر ما كان الوحي يوم توفي رسول الله صلى الله عليه وسلّم.
قلت: يعني عام وفاته أو حين وفاته، يريد أيام مرضه كلها، كما يقال: يوم الجمل ويوم صفّين، وكانت أياما، والله أعلم.
فصل
أول ما نزل على النبي صلى الله عليه وسلّم من القرآن أول سورة {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ،}
نزل ذلك عليه بحراء عند ابتداء نبوّته، على ما شرحناه في كتاب «المبعث»، ثم نزل: {يََا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} [المدثر: 1] ثم صار ينزل منه شيء فشيء بحسب الوقائع والنوازل مكيّا، ومدنيّا حضرا وسفرا وآخر ما نزل من الآيات: {وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللََّهِ}
[البقرة: 281] الآية، وقيل: {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللََّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلََالَةِ} [النساء: 176] إلى آخرها، وقيل: {لَقَدْ جََاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ} [التوبة: 129128] إلى آخر الآيتين، وقيل: آيات الربا، وهو الموافق للقول الأول، لأن {وَاتَّقُوا يَوْماً} هي آخرهن، ونزل يوم عرفة في حجة الوداع: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة: 3] الآية.
قال أبو عبيد: حدثنا حجاج (5) عن ابن جريج (6)، قال: قال ابن عباس: آخر
__________
(1) ابن شهاب: هو محمد بن مسلم بن عبيد الله بن شهاب، أبو بكر الزهري، أول من دوّن الحديث، وأحد الفقهاء والأعلام التابعين بالمدينة، توفي سنة 124هـ، صنّف كتاب «المغازي»، (انظر ترجمته في: كشف الظنون 6/ 7، تهذيب التهذيب 9/ 445، غاية النهاية 2/ 262، تذكرة الحفاظ 1/ 102، وفيات الأعيان 1/ 571).
(2) هو أنس بن مالك بن النضر بن ضمضم بن زيد بن حرام، الأنصاري البخاري صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلّم وخادمه. روى عن النبي صلى الله عليه وسلّم وعن أبي بن كعب، وأسيد بن حضير، توفي سنة 93هـ.
(انظر ترجمته في: البداية والنهاية 9/ 10197، الطبقات الكبرى لابن سعد 7/ 12، كتاب الثقات لابن حبان 3/ 4، الأعلام للزركلي 2/ 24، تهذيب تاريخ دمشق لابن عساكر 3/ 139، صفة الصفوة 1/ 298، تهذيب الكمال 2/ 345330، كتاب الوفيات لابن قنفذ ص 85).
(3) انظر صحيح البخاري، كتاب فضائل القرآن، باب 1.
(4) انظر صحيح مسلم، كتاب التفسير، حديث 1، وأحمد في المسند 3/ 236.
(5) حجاج: هو حجاج بن محمد الأعور، أبو محمد المصيصي، توفي سنة 206هـ. (انظر ترجمته في: تهذيب التهذيب 2/ 205، غاية النهاية 1/ 203).
(6) ابن جريج: هو عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج الأموي القرشي، أبو الوليد المكي، الفقيه(1/47)
آية أنزلت من القرآن: {وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللََّهِ،} قال: زعموا أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم مكث بعدها تسع ليال، وبدئ به يوم السبت ومات يوم الاثنين.
قلت: يعني العاشر من يوم مرضه.
وقال: حدثنا عبد الله بن صالح (1) وابن بكير (2) عن الليث (3) عن عقيل (4) عن ابن شهاب قال: آخر القرآن عهدا بالعرش آية الربا وآية الدين.
قلت: يعني من آيات الأحكام، والله أعلم.
وكان النبي صلى الله عليه وسلّم كلما نزل من القرآن شيء أمر بكتابته ويقول في مفرقات الآيات: «ضعوا هذه في سورة كذا»، وكان يعرضه على جبريل في شهر رمضان في كل عام مرة، وعرضه عليه عام وفاته مرتين، وكذلك كان يعرض جبريل على رسول الله صلى الله عليه وسلّم كل عام مرة، وعرض عليه عام وفاته مرتين.
وحفظه في حياته جماعة من أصحابه، وكل قطعة منه كان يحفظها جماعة كثيرة، أقلهم بالغون حد التواتر، ورخص لهم قراءته على سبعة أحرف توسعة عليهم.
ومنه ما نسخ لحكمة اقتضت نسخه، وكل ذلك فيه أخبار ثابتة:
ففي جامع الترمذي وغيره عن ابن عباس عن عثمان رضي الله عنهم قال:
__________
المحدث، أول مؤلف في الإسلام، ولد سنة 80هـ، وتوفي سنة 150هـ. من تصانيفه:
«تفسير القرآن»، «كتاب السنن» في الحديث. (انظر ترجمته في: كشف الظنون 5/ 623، الطبقات الكبرى لابن سعد 6/ 37، البداية والنهاية 10/ 111، معجم المؤلفين 6/ 183، تاريخ التراث العربي 1/ 1/ 166).
(1) هو عبد الله بن صالح بن محمد بن مسلم الجهني، أبو صالح المصري، من حفاظ الحديث، توفي سنة 223هـ. (انظر ترجمته في: تهذيب التهذيب 5/ 256، ميزان الاعتدال 2/ 46، تذكرة الحفاظ 1/ 351).
(2) ابن بكير: هو يحيى بن عبد الله بن بكير القرشي المخزومي، أبو زكريا المصري، من رواة الحديث والأخبار والتاريخ، توفي سنة 231هـ. (انظر ترجمته في: تهذيب التهذيب 11/ 237).
(3) الليث: هو الليث بن سعد بن عبد الرحمن، أبو الحارث الفهمي الحنفي، إمام أهل مصر في الفقه، ولد بقلقشندة سنة 92هـ، وتوفي بمصر سنة 175هـ. من تصانيفه: «كتاب التاريخ»، «كتاب المسائل» في الفقه. (انظر ترجمته في: كشف الظنون 5/ 842، البداية والنهاية 10/ 174173، الطبقات الكبرى لابن سعد 7/ 358، حلية الأولياء 3/ 361، 4/ 311، 5/ 17، 341، 7/ 319، 320، 321، 322، كتاب الوفيات ص 139).
(4) عقيل: هو عقيل بن خالد بن عقيل الأيلي، أبو خالد مولى عثمان، من حفاظ الحديث، توفي سنة 141هـ. (انظر ترجمته في: تهذيب التهذيب 7/ 255، تذكرة الحفاظ 1/ 152).(1/48)
كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم مما يأتي عليه الزمان وهو تنزل عليه السور ذوات العدد، فكان إذا نزل عليه الشيء منه دعا بعض من كان يكتب فيقول: «ضعوا هذه الآيات في السّورة التي يذكر فيها كذا وكذا»، وإذا نزلت عليه الآية يقول: «ضعوا هذه الآية في السّورة التي يذكر فيها كذا وكذا» (1) هذا حديث حسن، وقال الحاكم: هذا صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه.
وفي سنن أبي داود عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان النبي صلى الله عليه وسلّم لا يعرف فصل السورة حتى تنزل عليه {بِسْمِ اللََّهِ الرَّحْمََنِ الرَّحِيمِ.} وفي رواية: كان المسلمون لا يعلمون انقضاء السورة حتى تنزل {بِسْمِ اللََّهِ الرَّحْمََنِ الرَّحِيمِ،} فإذا نزلت علموا أن السورة قد انقضت (2).
وفي البخاري عن البراء بن عازب (3) قال: لما نزلت {لََا يَسْتَوِي الْقََاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} {وَالْمُجََاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللََّهِ} [النساء: 95]، قال النبي صلى الله عليه وسلّم: «ادع لي زيدا (4) وليجيء باللّوح والدواة والكتف» أو الكتف والدواة، ثم قال: «اكتب: {لََا يَسْتَوِي الْقََاعِدُونَ}»، وخلف ظهر النبي صلى الله عليه وسلّم عمرو ابن أم مكتوم الأعمى (5)، فقال: يا رسول الله فما تأمرني، فإني رجل ضرير البصر؟ فنزلت مكانها: {غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ} (6).
وفيه عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان النبي صلى الله عليه وسلّم أجود الناس بالخير، وأجود ما يكون في شهر رمضان لأن جبريل عليه السلام كان يلقاه كل ليلة في شهر رمضان حتى ينسلخ، يعرض عليه رسول الله صلى الله عليه وسلّم القرآن، فإذا لقيه جبريل عليه السلام
__________
(1) أخرجه الحاكم في المستدرك 2/ 222، والتبريزي في مشكاة المصابيح 2222.
(2) أخرجه أبو داود في الصلاة باب 122.
(3) هو البراء بن عازب بن الحارث، أبو عمارة الأوسي، صحابي، أسلم صغيرا، وغزا مع رسول الله صلى الله عليه وسلّم خمس عشرة غزوة، توفي في الكوفة سنة 62هـ. (انظر ترجمته في: تهذيب التهذيب 1/ 425، الطبقات الكبرى لابن سعد 4/ 364).
(4) هو زيد بن ثابت بن الضحاك الأنصاري، أبو خارجة الخزرجي، كان أحد الذين جمعوا القرآن في عهد النبي صلى الله عليه وسلّم، توفي سنة 45هـ. (انظر ترجمته في: تهذيب التهذيب 3/ 399، الإصابة 1/ 561، غاية النهاية 1/ 296، تذكرة الحفاظ 1/ 29).
(5) عمرو ابن أم مكتوم: هو عمرو بن قيس بن زائدة بن الأصم، ابن أم مكتوم القرشي، توفي بالمدينة قبيل وفاة عمر بن الخطاب. (انظر ترجمته في: الإصابة 2/ 523، الطبقات الكبرى لابن سعد 4/ 205).
(6) أخرجه البخاري في الجهاد باب 31، وفضائل القرآن باب 4، ومسلم في الإمارة حديث 141، والدارمي في الجهاد باب 27، وأحمد في المسند 4/ 282، 284، 301).(1/49)
كان أجود بالخير من الريح المرسلة (1).
وفيه عن عائشة (2) رضي الله عنها عن فاطمة (3) رضي الله عنها: أسرّ إليّ النبي صلى الله عليه وسلّم: «أن جبريل كان يعارضني بالقرآن في كل سنة، وأنّه عارضني العام مرتين، ولا أراه إلا حضر أجلي» (4).
وفيه عن أبي هريرة (5) رضي الله عنه قال: كان يعرض على النبي صلى الله عليه وسلّم القرآن كل عام مرة، فعرض عليه مرتين في العام الذي قبض فيه وكان يعتكف كل عام عشرا، فاعتكف عشرين في العام الذي قبض (6).
وفيه عن مسروق (7) قال: ذكر عبد الله بن عمرو (8) عبد الله بن مسعود (9) فقال:
__________
(1) أخرجه البخاري في بدء الوحي باب 5، 6، والمناقب باب 6، وفضائل القرآن باب 7، والأدب باب 39، ومسلم في الفضائل حديث 48، 50، والترمذي في الجهاد باب 15، والنسائي في الصيام باب 2، وابن ماجة في الجهاد باب 9، وأحمد في المسند 1/ 231، 288، 326، 366، 373.
(2) هي عائشة بنت أبي بكر الصديق، زوج النبي صلى الله عليه وسلّم، توفيت سنة 58هـ. (انظر: الطبقات الكبرى لابن سعد 8/ 58، الإصابة 4/ 359).
(3) هي فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلّم، الزهراء، وأم الحسن والحسين ابني علي بن أبي طالب، توفيت سنة 11هـ. (انظر: الطبقات الكبرى لابن سعد 8/ 19، الإصابة 4/ 377).
(4) أخرجه البخاري في فضائل القرآن باب 7، والمناقب باب 25، وأحمد في المسند 6/ 282.
(5) أبو هريرة: اختلف في اسمه في الجاهلية والإسلام، واسم أبيه على أقوال متعددة، والأشهر أن اسمه عبد الرحمن بن صخر، وهو من الأزد، ثم من دوس، يقال: كان اسمه في الجاهلية عبد شمس، وقيل: عبد نهم، وقيل: عبد غنم، ويكنى بأبي الأسود، فسماه رسول الله صلى الله عليه وسلّم عبد الله، وقيل: عبد الرحمن، وكنّاه أبو هريرة، وثبت في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال له:
«أبا هرّ»، وثبت أنه قال له: «يا أبا هريرة»، وهو أكثر الصحابة رواية لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلّم.
توفي سنة 59هـ. (انظر ترجمته في: البداية والنهاية 8/ 121109، كتاب الوفيات ص 71، حلية الأولياء 1/ 386، الإصابة ترجمة رقم 1179).
(6) أخرجه البخاري في فضائل القرآن باب 7.
(7) مسروق: هو مسروق بن الأجدع بن مالك بن أمية، أبو عائشة الهمداني، تابعي، توفي سنة 63هـ. (انظر ترجمته في: تهذيب التهذيب 10/ 109، الإصابة 3/ 492، غاية النهاية 2/ 294).
(8) هو عبد الله بن عمرو بن العاص بن وائل بن هاشم بن سعيد بن سهم، أبو محمد، وقيل: أبو نصر، أسلم قبل أبيه عمرو بن العاص، توفي بمصر، وقيل: توفي بعجلان قرية من قرى الشام ليالي الحرة في ولاية يزيد بن معاوية، وكانت الحرة سنة 63هـ. (انظر ترجمته في: كتاب الثقات لابن حبان 3/ 210، 211، الطبقات الكبرى لابن سعد 4/ 197، 7/ 343).
(9) هو عبد الله بن مسعود بن غافل، من بني زهرة، الصحابي الكبير، شهد بدرا والمشاهد كلها،(1/50)
لا أزال أحبه، سمعت النبي صلى الله عليه وسلّم يقول: «خذوا القرآن من أربعة، من عبد الله بن مسعود وسالم (1) ومعاذ بن جبل (2) وأبي بن كعب» (3).
وفيه (4) عن قتادة قال: سألت أنس بن مالك: من جمع القرآن على عهد النبي صلى الله عليه وسلّم؟ قال: أربعة، كلهم من الأنصار: أبيّ بن كعب ومعاذ بن جبل وزيد بن ثابت وأبو زيد (5). وفي رواية (6): مات النبي صلى الله عليه وسلّم ولم يجمع القرآن غير أربعة: أبو الدرداء (7) ومعاذ بن جبل وزيد بن ثابت وأبو زيد، قال: ونحن ورثناه، وفي رواية:
أحد عمومتي.
قال الحافظ البيهقي في كتاب «المدخل»: الرواية الأولى أصح، ثم أسند عن ابن سيرين قال: جمع القرآن على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلّم أربعة، لا يختلف فيهم:
__________
ولازم النبي صلى الله عليه وسلّم، توفي بالكوفة سنة 32هـ، وقيل: سنة 33هـ. (انظر ترجمته في: البداية والنهاية 7/ 158157، الطبقات الكبرى لابن سعد 3/ 111، 6/ 93، كتاب الثقات لابن حبان 3/ 208، الإصابة ترجمة رقم 4945، حلية الأولياء 1/ 124، المعارف لابن قتيبة ص 249، صفة الصفوة 1/ 154، الكواكب الدرية 1/ 121).
(1) سالم: هو سالم بن معقل، مولى أبي حذيفة، من الصحابة، وأحد أهل القرآن. (انظر ترجمته في: الإصابة 2/ 6، الثقات لابن حبان 3/ 158، الطبقات الكبرى لابن سعد 3/ 63).
(2) هو معاذ بن جبل بن عمرو بن أوس بن عائذ الأنصاري الخزرجي، أبو عبد الرحمن، صحابي جليل، توفي سنة 18هـ، عن عمر يناهز 33سنة، في طاعون عمواس. (انظر ترجمته في:
كتاب الوفيات 46، الإصابة ترجمة رقم 8039، حلية الأولياء 1/ 228، البداية والنهاية 7/ 9392).
(3) هو أبي بن كعب بن قيس بن عبيد، من بني النجار، من الخزرج، صحابي أنصاري، كان قبل الإسلام حبرا من أحبار اليهود، توفي سنة 21هـ. (انظر ترجمته في: الأعلام 1/ 82، الطبقات الكبرى لابن سعد 3/ 378، كتاب الثقات لابن حبان 3/ 5).
أخرجه البخاري في فضائل القرآن باب 8.
(4) انظر البخاري في فضائل القرآن باب 8.
(5) أبو زيد: قيل: هو سعد بن عبيد بن النعمان، وقيل: هو قيس بن السكن، وهو الأرجح.
(انظر: الإصابة 3/ 250، 4/ 78، الاتقان للسيوطي 1/ 74).
(6) انظر البخاري في فضائل القرآن باب 8.
(7) أبو الدرداء: هو عويمر بن مالك، وقيل: عويمر بن زيد بن قيس بن أمية بن عامر الخزرجي الأنصاري، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلّم. توفي سنة 32هـ. (انظر ترجمته في: البداية والنهاية 8/ 153، الطبقات الكبرى لابن سعد 7/ 274، كتاب الثقات لابن حبان 3/ 285، تهذيب الكمال 14/ 465، الكواكب الدرية 1/ 80، المعارف لابن قتيبة 268، الإصابة ترجمة رقم 6119، الاستيعاب لابن عبد البر 3/ 15، تاريخ الإسلام للذهبي 2/ 107).(1/51)
معاذ بن جبل وأبيّ بن كعب وزيد وأبو زيد واختلفوا في رجلين من ثلاثة، قالوا:
عثمان وأبو الدرداء، وقالوا: عثمان وتميم الداري (1)، رضي الله عنهم.
وعن الشعبي قال: جمع القرآن على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلّم ستة نفر من الأنصار:
أبيّ بن كعب وزيد بن ثابت ومعاذ بن جبل وأبو الدرداء وسعد بن عبيد (2) وأبو زيد.
ومجمع بن جارية (3) قد أخذه إلا سورتين أو ثلاثا قال: ولم يجمعه أحد من الخلفاء من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلّم غير عثمان رضي الله عنهم.
قلت: وقد أشبع القاضي أبو بكر محمد بن الطيب (4) رحمه الله في كتاب «الانتصار» الكلام في حملة القرآن في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلّم، وأقام أدلة كثيرة على أنهم كانوا أضعاف هذه العدة المذكورة، وأن العادة تحيل خلاف ذلك، ويشهد لصحة ذلك كثرة القراء المقتولين يوم مسيلمة باليمامة على ما سيأتي ذكره، وذلك في أول خلافة أبي بكر رضي الله عنه، وما في الصحيح من قتل سبعين من الأنصار يوم بئر معونة كانوا يسمّون القراء. وقد قال عبد الله بن عمرو بن العاص: جمعت القرآن فقرأته كله في ليلة، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «اقرأه في شهر» (5)، الحديث.
وعبد الله بن عمرو غير مذكور في هذه الآثار المتقدمة فيمن جمع القرآن، فدل على أنها ليست للحصر، وما كان من ألفاظها للحصر فله تأويل، وليس محمولا على ظاهره.
__________
(1) تميم الداري: هو تميم بن أوس بن خارجة الداري، أبو رقية، صحابي، نسبته إلى الدار بن هانئ من نجم، أسلم سنة 9هـ، وهو أول من أسرج السراج في المسجد، وكان راهب أهل عصره، وعابد أهل فلسطين، روى له البخاري ومسلم 18حديثا. (الطبقات الكبرى لابن سعد 7/ 286).
(2) هو سعد بن عبيد بن نعمان بن قيس الأنصاري الأوسي، استشهد بالقادسية سنة 16هـ.
(انظر: الإصابة 2/ 31).
(3) هو مجمع بن جارية بن عامر بن مجمع الأنصاري الأوسي، توفي بالمدينة في خلافة معاوية بن أبي سفيان. (انظر ترجمته في: تهذيب التهذيب 10/ 47، الإصابة 3/ 366، غاية النهاية 2/ 42).
(4) هو أبو بكر الباقلاني محمد بن الطيب بن محمد بن جعفر بن القاسم البصري، القاضي أبو بكر الباقلاني المتكلم الأشعري، سكن بغداد وتوفي بها سنة 403هـ. من تصانيفه: «إعجاز القرآن»، «الانتصار»، «كشف أسرار الباطنية»، «الملل والنحل»، «مناقب الأئمة»، «نهاية الإيجاز في رواية الإعجاز»، «هداية المسترشدين» في الكلام. (كشف الظنون 6/ 59، وفيات الأعيان 1/ 481، قضاة الأندلس ص 4037، تاريخ بغداد 5/ 379، دائرة المعارف الإسلامية 3/ 294).
(5) أخرجه البخاري في فضائل القرآن باب 34، والصوم باب 58، وأبو داود في رمضان باب 8، 9، وابن ماجة في الإقامة باب 178.(1/52)
وقد ذكر القاضي وغيره له تأويلات سائغة:
منها أنه لم يجمعه على جميع الوجوه والأحرف والقراءات التي نزل بها، وأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلّم أنها كلها شاف كاف، إلا أولئك النفر فقط
ومنها أنه لم يجمع ما نسخ منه وأخل رسمه بعد تلاوته مع ما ثبت رسمه وبقي فرض حفظه وتلاوته، إلا تلك الجماعة
ومنها أنه لم يجمع جميع القرآن عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم ويأخذه من فيه تلقيا، غير تلك الجماعة فإن أكثرهم أخذوا بعضه عنه، وبعضه عن غيره
ومنها أنه لم يجمعه على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلّم ممن ظهر به وأبدى ذلك من أمره وانتصب لتلقينه، غير تلك الجماعة مع جواز أن يكون فيهم حفاظ لا يعرفهم الراوي إذا لم يظهر ذلك منهم
ومنها أنه لم يجمعه عنده شيئا بعد شيء كلما نزل حتى تكامل نزوله، إلا هؤلاء أي أنهم كتبوه وغيرهم حفظه وما كتبه، أو كتب بعضا.
ومنها أنه لم يذكر أحد عن نفسه أنه أكمله في حياة النبي صلى الله عليه وسلّم، سوى هؤلاء الأربعة لأن من أكمله سواهم كان يتوقع نزول القرآن ما دام النبي صلى الله عليه وسلّم حيّا، فقد لا يستجيز النطق بأنه أكمله، واستجازه هؤلاء، ومرادهم أنهم أكملوا الحاصل منه.
ويحتمل أيضا أن يكون من سواهم لم ينطق بإكماله خوفا من المراءاة به، واحتياطا على النيات كما يفعل الصالحون في كثير من العبادة، وأظهر هؤلاء الأربعة ذلك، لأنهم أمنوا على أنفسهم، أو لرأي اقتضى ذلك عندهم.
قال المازري (1): وكيف يعرف النقلة أنه لم يكمله سوى أربعة، وكيف تتصور الإحاطة بهذا، وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلّم متفرقون في البلاد؟ وهذا لا يتصور، حتى يلقى الناقل كل رجل منهم فيخبره عن نفسه أنه لم يكمل القرآن، وهذا بعيد تصوره في العادة.
وإن لم يكمل القرآن سوى أربعة، فقد حفظ جميع أجزائه مئون لا يحصون، وما من شرط كونه متواترا أن يحفظ الكلّ الكلّ، بل الشيء الكثير إذا روى كل جزء منه خلق كثير علم ضرورة وحصل متواترا.
__________
(1) المازري: هو الحافظ أبو عبد الله محمد بن علي بن عمر بن محمد التميمي المازري، المالكي، توفي في ربيع الأول سنة 536هـ، له من المصنفات: «إيضاح المحصول في برهان الأصول»، «المعلم بفوائد كتاب مسلم» شرح صحيح مسلم. (انظر: كشف الظنون 6/ 88، وفيات الأعيان 1/ 615).(1/53)
قلت: وقد سمى الإمام أبو عبيد القاسم بن سلام أهل القرآن من الصحابة في أول كتاب «القراءات» له، فذكر من المهاجرين أبا بكر وعمر وعثمان وعليا (1)
وطلحة (2) وسعدا (3) وابن مسعود وسالما مولى أبي حذيفة (4) وحذيفة بن اليمان (5)
وعبد الله بن عباس وعبد الله بن عمر (6) وعبد الله بن عمرو وعمرو بن العاص (7) وأبا هريرة ومعاوية بن أبي سفيان (8) وعبد الله بن الزبير (9) وعبد الله بن السائب (10)، قارئ مكة.
ومن الأنصار أبيّ بن كعب ومعاذ بن جبل وأبا الدرداء وزيد بن ثابت ومجمع بن
__________
(1) هو علي بن أبي طالب بن عبد المطلب القرشي الهاشمي، أبو الحسن، رابع الخلفاء الراشدين، استشهد سنة 40هـ، (انظر: تاريخ الخلفاء ص 64، تهذيب التهذيب 7/ 334، الإصابة 2/ 507، غاية النهاية 1/ 546، تذكرة الحفاظ 1/ 10، الطبقات الكبرى 3/ 19).
(2) هو طلحة بن عبيد الله بن عثمان القرشي التيمي، أبو محمد، قتل يوم الجمل سنة 36هـ.
(انظر: الإصابة 2/ 229، غاية النهاية 1/ 342، الطبقات الكبرى 3/ 214).
(3) هو سعد بن أبي وقاص مالك بن أهيب بن عبد مناف القرشي الزهري، أبو إسحاق، توفي سنة 56هـ. (انظر: تهذيب التهذيب 3/ 479، الإصابة 2/ 23، الطبقات الكبرى 6/ 12).
(4) هو أبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة بن عبد شمس بن عبد مناف القرشي العبشمي، استشهد يوم اليمامة سنة 12هـ. (انظر: الطبقات الكبرى 3/ 61، الإصابة 4/ 42).
(5) هو حذيفة بن حسل بن جابر العبسي، أبو عبد الله، واليمان لقب أبيه حسل، توفي سنة 36هـ. (انظر: الإصابة 1/ 317، شذرات الذهب 2/ 219، كتاب الثقات لابن حبان 3/ 80، الطبقات الكبرى 6/ 59، 94، 7/ 230).
(6) هو عبد الله بن عمر بن الخطاب القرشي العدوي، أبو عبد الرحمن، توفي سنة 73هـ. (انظر:
الطبقات الكبرى 4/ 105، كتاب الثقات 3/ 209، وفيات الأعيان 1/ 309، غاية النهاية 1/ 437، الإصابة 2/ 347).
(7) هو عمرو بن العاص بن وائل بن هاشم القرشي السهمي، أبو عبد الله، توفي سنة 43هـ.
(انظر: كتاب الثقات 3/ 265، الطبقات الكبرى 4/ 191، 7/ 342، الاستيعاب 2/ 508، غاية النهاية 1/ 1، الإصابة 3/ 2).
(8) هو معاوية بن أبي سفيان صخر بن حرب بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف القرشي، أبو عبد الرحمن، توفي سنة 60هـ. (انظر: الإصابة 3/ 433، تهذيب التهذيب 10/ 207، تاريخ الخلفاء ص 75، كتاب الثقات 3/ 373، الطبقات الكبرى 7/ 285).
(9) هو عبد الله بن الزبير بن العوام القرشي الأسدي، قتله الحجاج بن يوسف سنة 73هـ. (انظر:
كتاب الثقات 3/ 212، الطبقات الكبرى 6/ 44).
(10) هو عبد الله بن السائب صيفي بن عائذ بن عبد الله المخزومي، أبو عبد الرحمن المكي، توفي سنة 68هـ، (انظر: الإصابة 2/ 314، تهذيب التهذيب 5/ 229، كتاب الثقات 3/ 215، الطبقات الكبرى 5/ 4).(1/54)
جارية وأنس بن مالك.
ومن أزواج النبي صلى الله عليه وسلّم عائشة وحفصة (1) وأم سلمة (2).
قال: وبعض ما ذكرنا أكثر في القراءة وأعلى من بعض، وإنما خصصنا بالتسمية كل من وصف بالقراءة، وحكي عنه منها شيء.
قلت: وأما ما نسخ من القرآن فعلى ثلاثة أضرب: منه ما نسخت تلاوته وبقي حكمه، ومنه ما نسخت تلاوته وحكمه، وذانك كآيتي الرجم والرضاع.
ففي صحيح البخاري عن عمر رضي الله عنه قال: إن الله بعث محمدا صلى الله عليه وسلّم بالحق، وأنزل عليه الكتاب، فكان مما أنزل عليه آية الرجم فقرأتها وعقلتها ووعيتها (3).
وفي صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها: كان مما أنزل من القرآن: عشر رضعات معلومات يحرّمن، ثم نسخن بخمس معلومات يحرّمن، فتوفي النبي صلى الله عليه وسلّم وهن مما يقرأ من القرآن (4).
قال الحافظ البيهقي: فالعشر مما نسخ رسمه وحكمه، والخمس مما نسخ رسمه بدليل أن الصحابة حين جمعوا القرآن لم يثبتوها رسما، وحكمها باق عندنا.
قال: وقولها: «وهن مما يقرأ من القرآن»، يعني عند من لم يبلغه نسخ تلاوته قرآنا.
قلت: هذا تأويل حسن، ومثله ما في صحيح مسلم من حديث جابر بن عبد الله (5) قال: كنا نستمتع بالقبضة من التمر والدقيق الأيام على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلّم وأبي
__________
(1) هي حفصة بنت عمر بن الخطاب، زوج رسول الله صلى الله عليه وسلّم. توفيت سنة 45هـ. (انظر: الطبقات الكبرى 8/ 81، الإصابة 4/ 274، كتاب الثقات 3/ 98).
(2) أم سلمة: هي هند بنت أبي أمية بن المغيرة بن عبد الله، أم سلمة القرشية المخزومية، زوج رسول الله صلى الله عليه وسلّم، توفيت سنة 59هـ. (انظر: الطبقات الكبرى 8/ 86، الإصابة 4/ 458).
(3) أخرجه البخاري في الحدود باب 31، والاعتصام باب 16، ومسلم في الحدود حديث 15، وأبو داود في الحدود باب 23، والترمذي في الحدود باب 7، والترمذي في الحدود باب 16، وأحمد في المسند 1/ 40، 47، 55.
(4) أخرجه مسلم في الرضاع حديث 24، وأبو داود في النكاح باب 10، والنسائي في النكاح باب 51، والترمذي في النكاح باب 49، ومالك في الرضاع حديث 17.
(5) هو جابر بن عبد الله بن عمرو بن حرام الأنصاري، أبو عبد الله وأبو عبد الرحمن، وأبو محمد، توفي سنة 78هـ. (انظر: كتاب الثقات 3/ 51، الطبقات الكبرى 3/ 431، الإصابة 1/ 213).(1/55)
بكر، حتى نهى عنها عمر في شأن عمرو بن حريث (1).
فمعناه، فعلها بعد النبي صلى الله عليه وسلّم من لم يبلغه نهي النبي صلى الله عليه وسلّم عنها. فلما اتصل ذلك بعمر رضي الله عنه نهى عنها لنهي النبي صلى الله عليه وسلّم عنها. فاشتهر ذلك وثبت، والله أعلم.
الضرب الثالث: ما نسخ حكمه وبقيت تلاوته كآية عدة الوفاة حولا نسخت بالآية التي قبلها التي ذكر فيها {أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً} [البقرة: 234].
وفي صحيح البخاري عن عبد الله بن الزبير قال: قلت لعثمان بن عفان رضي الله عنه الآية التي في البقرة: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوََاجاً وَصِيَّةً لِأَزْوََاجِهِمْ مَتََاعاً إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرََاجٍ} [البقرة: 240]، لم تكتبها وقد نسختها الآية الأخرى؟
قال: يا ابن أخي، لا أغير شيئا عن مكانه (2).
وأسند البيهقي في كتاب «المدخل» و «الدلائل» عن زيد بن ثابت رضي الله عنه قال: كنا حول رسول الله صلى الله عليه وسلّم نؤلف القرآن، إذ قال: «طوبى للشّام»، فقيل له: ولم؟
قال: «إنّ ملائكة الرّحمن باسطة أجنحتها عليهم» (3).
زاد في «الدلائل»: نؤلف القرآن من الرقاع، ثم قال: وهذا يشبه أن يكون أراد به تأليف ما نزل من الآيات المتفرقة في سورها، وجمعها فيها بإشارة النبي صلى الله عليه وسلّم، ثم كانت مثبتة في الصدور مكتوبة في الرقاع واللخاف والعسب، فجمعها منها في صحف بإشارة أبي بكر وعمر، ثم نسخ ما جمعه في الصحف في مصاحف بإشارة عثمان بن عفان على ما رسم المصطفى صلى الله عليه وسلّم (4).
وأخرج هذا الحديث الحاكم أبو عبد الله في كتاب «المستدرك»، وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه. قال: وفيه البيان الواضح أن جمع القرآن لم يكن مرة واحدة، فقد جمع بعضه بحضرة رسول الله صلى الله عليه وسلّم، ثم جمع بعضه بحضرة أبي بكر الصدّيق، والجمع الثالث وهو ترتيب السور كان في خلافة أمير المؤمنين عثمان رضي الله عنهم أجمعين.
قال القاضي أبو بكر ابن الطيب: «الذي نذهب إليه أن جميع القرآن الذي أنزله الله تعالى وأمر بإثبات رسمه ولم ينسخه ويرفع تلاوته بعد نزوله هو هذا الذي بين
__________
(1) أخرجه مسلم في النكاح حديث 16، وأبو داود في النكاح باب 29.
(2) أخرجه البخاري في تفسير سورة 2، باب 45.
(3) أخرجه الترمذي حديث 3954، وأحمد في المسند 5/ 185184، والطبراني في المعجم الكبير 5/ 176، والهيثمي في مجمع الزوائد 10/ 60.
(4) أخرجه الحاكم في المستدرك 2/ 229، والبيهقي في دلائل النبوة 4/ 174.(1/56)
الدفتين، الذي حواه مصحف عثمان أمير المؤمنين رضي الله عنه، وأنه لم ينقص منه شيء ولا زيد فيه، وأن بيان الرسول صلى الله عليه وسلّم كان بجميعه بيانا شائعا ذائعا وواقعا على طريقة واحدة، ووجه تقوم به الحجة وينقطع العذر، وأن الخلف نقله عن السلف على هذه السبيل، وأنه قد نسخ منه بعض ما كانت تلاوته ثابتة مفروضة، وأن ترتيبه ونظمه ثابت على ما نظمه الله سبحانه ورتبه عليه رسوله من آي السور، لم يقدّم من ذلك مؤخر، ولا أخر منه مقدم، وأن الأمة ضبطت عن النبي صلى الله عليه وسلّم ترتيب آي كل سورة ومواضعها وعرفت مواقعها، كما ضبطت عنه نفس القرآن وذات التلاوة وأنه قد يمكن أن يكون الرسول صلى الله عليه وسلّم قد رتب سوره على ما انطوى عليه مصحف عثمان، كما رتب آيات سوره ويمكن أن يكون قد وكل ذلك إلى الأمة بعده، ولم يتول ذلك بنفسه صلى الله عليه وسلّم وإن هذا القول الثاني أقرب وأشبه بأن يكون حقا على ما سنبينه فيما بعد إن شاء الله تعالى، وإن القرآن لم يثبت آية على تاريخ نزوله، بل قدم ما تأخر إنزاله، وأخر بعض ما تقدم نزوله على ما قد وقف عليه الرسول صلى الله عليه وسلّم من ذلك» وساق الكلام إلى آخره في كتاب «الانتصار» للقرآن، على كثرة فوائده، رحمه الله.
قلت: وقد ذكرنا أسماء كتّاب النبي صلى الله عليه وسلّم الذين كانوا يكتبون له الوحي وغيره في ترجمته صلى الله عليه وسلّم في «تاريخ دمشق» نحو خمسة وعشرين اسما، والله أعلم.
وقد أخبرنا شيخنا أبو الحسن في كتاب «الوسيلة» عن شيخه الشاطبي (1) بإسناده إلى ابن وهب (2) قال: سمعت مالكا (3) يقول: إنما ألف القرآن على ما كانوا يسمعون
__________
(1) الشاطبي: هو القاسم بن فيرة بن أبي القاسم خلف بن أحمد، الحافظ أبو محمد الرعيني الأندلسي، المعروف بالشاطبي المالكي المقرئ النحوي، ولد سنة 528هـ، وتوفي بمصر سنة 590هـ. من مصنفاته: «تتمة الحرز من قراء الأئمة الكنز»، «حرز الأماني ووجه التهاني» القصيدة المشهورة بالشاطبية في القراءات، «عقيلة أرباب القصائد في أسنى المقاصد»، «ناظمة الزهر في أعداد آيات السور». (كشف الظنون 5/ 828).
(2) ابن وهب: هو عبد الله بن وهب بن مسلم القرشي، أبو محمد المصري، الحافظ الفقيه، من أصحاب الإمام مالك، ولد سنة 125هـ، وتوفي سنة 197هـ. له من المصنفات: «أهوال القيامة»، «تفسير القرآن»، «الجامع في الحديث»، «المجالسات عن مالك»، «الموطأ الصغير» في الحديث، «الموطأ الكبير». (انظر: كشف الظنون 5/ 438، وفيات الأعيان 1/ 312، تذكرة الحفاظ 1/ 279، تهذيب التهذيب 6/ 71).
(3) هو مالك بن أنس بن مالك بن أبي عامر التيمي الأصبحي الحميري، أبو عبد الله، إمام أهل المدينة، وأحد الأئمة الأربعة عند أهل السنة، ألف كتابه الضخم «الموطأ» في الحديث والفقه خلال أربعين سنة، وكان أول من انتقى الرجال من الفقهاء بالمدينة، وأعرض عمن ليس بثقة في الحديث، ولقي مالك بن أنس من العباسيين كل ضروب التعذيب، توفي بالمدينة سنة(1/57)
من قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلّم وذكره أبو عمرو الداني (1) في كتاب «المقنع» (2).
__________
179 - هـ. (انظر: أسماء التابعين للدار قطني 1/ 354، الفهرست ص 108، وفيات الأعيان 1/ 555، تهذيب التهذيب 10/ 5، طبقات ابن سعد 5/ 465، 7/ 143).
(1) أبو عمرو الداني: هو الحافظ أبو عمرو عثمان بن سعيد بن عمر الأموي، عرف بالداني لسكناه بدانية، الشهير بابن الصيرفي، ولد سنة 372هـ، وتوفي سنة 444هـ. يقال: له مائة وعشرون مصنفا، منها: «الاقتصاد في رسم المصحف»، «التجديد في الاتقان والتجويد»، «التنبيه على النقط والشكل»، «التيسير في القراءات السبع»، «جامع البيان في عد آي القرآن»، «طبقات القرّاء»، «كتاب الفتن والملاحم»، «المحتوى في قراءات الشواذ»، «المحكم في النقط»، «مفردة يعقوب في القراءة»، «المقنع في رسم المصحف»، «المكتفى في الوقف والابتداء»، «موضح في القراءة». (كشف الظنون 5/ 652، غاية النهاية 1/ 503).
(2) انظر: «المقنع في رسم المصحف» ص 8.(1/58)
الباب الثاني في جمع الصحابة رضي الله عنهم القرآن وإيضاح ما فعله أبو بكر وعمر وعثمان
قال البخاري (1): حدثنا موسى بن إسماعيل (2)، حدثنا إبراهيم بن سعد (3)، حدثنا ابن شهاب عن عبيد بن السباق (4)، أن زيد بن ثابت قال: أرسل إليّ أبو بكر مقتل أهل اليمامة، فإذا عمر بن الخطاب عنده، قال أبو بكر: إن عمر أتاني فقال: إن القتل قد استحر يوم اليمامة بقراء القرآن، وإني أخشى أن يستحر القتل بالقراء في المواطن، فيذهب كثير من القرآن وإني أرى أن تأمر بجمع القرآن. فقلت لعمر:
كيف تفعل شيئا لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلّم؟ قال عمر: هذا والله خير، فلم يزل عمر يراجعني حتى شرح الله صدري لذلك، ورأيت في ذلك الذي رآه عمر.
قال زيد: قال أبو بكر: إنك رجل شاب عاقل، لا نتهمك، وقد كنت تكتب الوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلّم، فتتبع القرآن فاجمعه. فو الله لو كلفوني نقل جبل من الجبال ما كان أثقل عليّ مما أمراني به من جمع القرآن. قلت: كيف تفعلون شيئا لم يفعله
__________
(1) البخاري: هو محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة بن الأحنف الجعفي، الإمام الحافظ، أبو عبد الله البخاري، ولد سنة 194هـ، وتوفي سنة 256هـ، من تصانيفه: «الأدب المفرد» في الحديث، «أسماء الصحابة»، «الأسماء والكنى»، «بر الوالدين»، «التاريخ الصغير»، «التاريخ الكبير»، «تفسير القرآن»، «ثلاثيات في الحديث»، «الجامع الصحيح»، «الجامع الصغير»، «الجامع الكبير»، «خلق أفعال العباد»، «العوالي في الحديث»، «كتاب الأشربة»، «كتاب الرفاق»، «كتاب السنن» في الفقه، «كتاب الضعفاء»، «كتاب الفوائد»، «كتاب القراءة خلف الإمام»، «كتاب الوجدان»، «كتاب الهيئة»، «المبسوط في الحديث» وغير ذلك. (كشف الظنون 6/ 16).
(2) هو موسى بن إسماعيل المنقري التبوذكي، أبو سلمة البصري، توفي سنة 223هـ. (انظر:
ميزان الاعتدال 3/ 208، تهذيب التهذيب 10/ 333، شذرات الذهب 2/ 52).
(3) هو إبراهيم بن سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف الزهري، أبو إسحاق المدني، توفي سنة 183هـ. (انظر: تهذيب التهذيب 1/ 121).
(4) هو عبيد بن السباق الثقفي، أبو سعيد المدني. (انظر ترجمته في: تهذيب التهذيب 7/ 66).(1/59)
رسول الله صلى الله عليه وسلّم؟ قال: هو والله خير، فلم يزل أبو بكر يراجعني حتى شرح الله صدري للذي شرح له صدر أبي بكر وعمر فتتبّعت القرآن أجمعه من العسب واللّخاف وصدور الرجال، حتى وجدت آخر سورة التوبة مع أبي خزيمة الأنصاري (1)، لم أجدها مع أحد غيره: {لَقَدْ جََاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ،} حتى خاتمة «براءة». فكانت الصحف عند أبي بكر حتى توفاه الله، ثم عند عمر حياته، ثم عند حفصة بنت عمر (2).
حدثنا موسى بن إسماعيل، حدثنا إبراهيم، حدثنا ابن شهاب أن أنس بن مالك حدثه: أن حذيفة بن اليمان قدم على عثمان بن عفان رضي الله عنه، وكان يغازي أهل الشام في فتح إرمينية وأذربيجان مع أهل العراق. فأفزع حذيفة اختلافهم في القراءة فقال حذيفة لعثمان: يا أمير المؤمنين، أدرك هذه الأمة قبل أن يختلفوا في الكتاب اختلاف اليهود والنصارى فأرسل عثمان إلى حفصة أن أرسلي إلينا بالصحف ننسخها في المصاحف ثم نردها إليك. فأرسلت بها حفصة إلى عثمان، فأمر زيد بن ثابت وعبد الله بن الزبير وسعيد بن العاص وعبد الرحمن بن الحرث بن هشام، فنسخوها في المصاحف، وقال عثمان للرهط القرشيين الثلاثة: إذا اختلفتم أنتم وزيد بن ثابت في شيء من القرآن فاكتبوه بلسان قريش، فإنما نزل بلسانهم.
ففعلوا حتى إذا نسخوا الصحف في المصاحف رد عثمان الصحف إلى حفصة وأرسل إلى كل أفق بمصحف مما نسخوا، وأمر بما سواه من القرآن في كل صحيفة أو مصحف أن يحرق.
قال ابن شهاب: فأخبرني خارجة بن زيد بن ثابت قال: سمعت زيد بن ثابت قال: فقدت آية من الأحزاب حين نسخت الصحف، قد كنت أسمع رسول الله صلى الله عليه وسلّم يقرأ بها، فالتمسناها فوجدناها مع خزيمة بن ثابت الأنصاري: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجََالٌ صَدَقُوا مََا عََاهَدُوا اللََّهَ عَلَيْهِ} [الأحزاب: 23]، فألحقتها في سورتها في المصحف (3).
قلت: وخزيمة هذا غير أبي خزيمة الذي وجد معه الآيتين آخر «سورة براءة»، ذاك أبو خزيمة بن أوس بن زيد من بني النجار، شهد بدرا وما بعدها، وتوفي في
__________
(1) هو أبو خزيمة بن أوس بن زيد، توفي في خلافة عثمان بن عفان. (انظر: الاستيعاب 4/ 50).
(2) أخرجه البخاري في فضائل القرآن باب 3، والأحكام باب 37، والترمذي في تفسير سورة 9، باب 18.
(3) أخرجه البخاري في المناقب باب 3، وفضائل القرآن باب 3.(1/60)
خلافة عثمان، وهذا خزيمة بن ثابت بن الفاكه من الأوس، شهد أحدا وما بعدها، وقتل يوم صفّين، وقيل غير ذلك. ومعنى قوله: «فقدت آية كذا فوجدتها مع فلان» أنه كان يتطلب نسخ القرآن من غير ما كتب بأمر النبي صلى الله عليه وسلّم، فلم يجد كتابة تلك الآية مع ذلك الشخص، وإلّا فالآية كانت محفوظة عنده وعند غيره، وهذا المعنى أولى مما ذكره مكي (1) وغيره: أنهم كانوا يحفظون الآية، لكنهم أنسوها فوجدوها في حفظ ذلك الرجل فتذاكروها وأثبتوها لسماعهم إياها من النبي صلى الله عليه وسلّم.
وفي كتاب أبي عبيد: أنه وجد خاتمة «براءة» مع خزيمة بن ثابت وآية «الأحزاب» مع خزيمة أو أبي خزيمة، وزاد: فلما كان مروان (2) أمير المدينة أرسل إلى حفصة أم المؤمنين يسألها الصحف ليمزقها وخشي أن يخالف الكتاب بعضه بعضا فمنعته إياها.
قال ابن شهاب: فحدثني سالم بن عبد الله (3) أنه لما توفيت حفصة، رحمة الله عليها، أرسل مروان إلى عبد الله بن عمر ساعة رجعوا من جنازة حفصة بعزيمة ليرسلن بها، فأرسل بها ابن عمر إلى مروان فمزقها مخافة أن يكون في شيء من ذلك خلاف ما نسخ عثمان رحمة الله عليه. قال أبو عبيد: لم نسمع في شيء من الحديث أن مروان مزق الصحف، إلا في هذا الحديث.
حدثنا عبد الرحمن بن مهدي (4) عن شعبة (5) عن أبي إسحاق عن مصعب بن
__________
(1) هو مكي بن أبي طالب حموش بن محمد بن المختار القيسي المقري، الأديب القيرواني، ولد سنة 355هـ، وتوفي سنة 437هـ. له من المصنفات: «الإبانة في معاني القراءة»، «اختلاف العلماء في النفس والروح»، «الاختلاف في الذبيح»، «الاختلاف في عدد الأعشار»، «الانتصاف فيما ورد على أبي بكر الأدفوي في كتاب الإمالة»، وغيرها الكثير. (انظر: كشف الظنون 6/ 471470، معجم الأدباء 7/ 173، وفيات الأعيان 2/ 157، غاية النهاية 2/ 309، بغية الوعاة ص 396).
(2) هو مروان بن الحكم بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف الأموي، أبو عبد الملك، توفي سنة 65هـ. (انظر ترجمته في: الطبقات الكبرى 5/ 26، الإصابة 3/ 477، تهذيب التهذيب 10/ 91).
(3) هو سالم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب العدوي، أبو عمر المدني، توفي سنة 106هـ.
(انظر ترجمته في: كتاب الثقات 4/ 305، الطبقات الكبرى 5/ 149، وفيات الأعيان 1/ 247، تهذيب التهذيب 3/ 436).
(4) هو عبد الرحمن بن مهدي بن حسان العنبري اللؤلؤي، أبو سعيد البصري، توفي سنة 198هـ. (انظر ترجمته في: تاريخ بغداد 10/ 240، تهذيب التهذيب 6/ 279، تذكرة الحفاظ 1/ 301).
(5) هو شعبة بن الحجاج بن الورد العتكي الأزدي، أبو بسطام الواسطي ثم البصري، توفي سنة(1/61)
سعد (1) قال: أدركت الناس حين شقّق عثمان المصاحف فأعجبهم ذلك أو قال:
لم يعب ذلك أحد.
وحدثنا عبد الرحمن عن شعبة عن علقمة بن مرثد (2) عن رجل عن سويد بن غفلة (3) قال: قال علي رضوان الله عليه: لو وليت لفعلت في المصاحف الذي فعل عثمان، وفي رواية أخرى: لو وليت من أمر المصاحف ما ولي عثمان لفعلت ما فعل عثمان.
قال أبو بكر بن أبي شيبة: حدثنا وكيع (4) عن سفيان (5) عن السدي عن عبد خير (6) قال: قال علي: يرحم الله أبا بكر، هو أول من جمع ما بين اللوحين. وفي رواية عنه: أعظم الناس أجرا في المصاحف أبو بكر.
وفي «السنن الكبير» عن علقمة بن مرثد عن العيزار بن جرول (7) عن سويد بن غفلة عن علي رضي الله عنه قال: اختلف الناس في القرآن على عهد عثمان فجعل
__________
160 - هـ. (انظر ترجمته في: تاريخ بغداد 9/ 255، تذكرة الحفاظ 1/ 181، تهذيب التهذيب 4/ 338).
(1) هو مصعب بن سعد بن أبي وقاص الزهري، أبو زرارة المدني، توفي سنة 103هـ. (انظر ترجمته في: تهذيب التهذيب 10/ 160، الطبقات الكبرى 5/ 169).
(2) هو علقمة بن مرثد الحضرمي، أبو الحارث الكوفي، توفي في آخر ولاية خالد القشري المتوفى سنة 126هـ على العراق. (انظر ترجمته في: الطبقات الكبرى 6/ 231، تهذيب التهذيب 7/ 278).
(3) هو سويد بن غفلة بن عوسجة بن عامر الجعفي، أبو أمية الكوفي. توفي سنة 80هـ. (انظر ترجمته في: الإصابة 2/ 100، 118، تهذيب التهذيب 4/ 278).
(4) هو وكيع بن الجراح بن مليح الرؤاسي، أبو سفيان الكوفي، الحافظ، الفقيه، محدث العراق في عصره، له مصنفات، توفي سنة 197هـ. (انظر ترجمته في: تاريخ بغداد 13/ 466، تذكرة الحفاظ 1/ 282، تهذيب التهذيب 11/ 123).
(5) هو سفيان بن سعيد بن مسروق الثوري، أبو عبد الله الكوفي، إمام في علم الحديث، وغيره من العلوم، وأحد الأئمة المجتهدين، توفي سنة 161هـ. (انظر ترجمته في: تهذيب التهذيب 4/ 111، وفيات الأعيان 1/ 263، تاريخ بغداد 1/ 151).
(6) هو عبد خير بن يزيد الهمداني الكوفي، أبو عمارة، من التابعين. (انظر ترجمته في: تهذيب التهذيب 6/ 123، الطبقات الكبرى 6/ 244، كتاب الثقات 5/ 130).
(7) هو العيزار بن جرول الثقفي الحضرمي، من أتباع التابعين. (انظر ترجمته في: كتاب الثقات لابن حبان 5/ 216).(1/62)
الرجل يقول للرجل: قراءتي خير من قراءتك، فبلغ ذلك عثمان فجمعنا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلّم فقال: إن الناس قد اختلفوا اليوم في القراءة وأنتم بين ظهرانيهم، فقد رأيت أن أجمع على قراءة واحدة، قال: فأجمع رأينا مع رأيه على ذلك، قال: وقال علي: لو وليت مثل الذي ولي، لصنعت مثل الذي صنع. وفي رواية: يرحم الله عثمان، لو كنت أنا لصنعت في المصاحف ما صنع عثمان. أخرجه البيهقي في «المدخل».
وفي كتاب أبي بكر عبد الله بن أبي داود (1) عن هشام بن عروة (2) عن أبيه قال لما استحر القتل بالقراء يومئذ فرق أبو بكر على القرآن أن يضيع، فقال لعمر بن الخطاب ولزيد بن ثابت: اقعدا على باب المسجد، فمن جاءكما بشاهدين على شيء من كتاب الله تعالى فاكتباه.
قال الشيخ أبو الحسن في كتابه «جمال القراء»: ومعنى هذا الحديث والله أعلم: من جاءكم بشاهدين على شيء من كتاب الله الذي كتب بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلّم، وإلّا فقد كان زيد جامعا للقرآن.
قال: ويجوز أن يكون معناه: من جاءكم بشاهدين على شيء من كتاب الله تعالى، أي من الوجوه السبعة التي نزل بها القرآن، ولم يزد على شيء مما لم يقرأ أصلا، ولم يعلم بوجه آخر.
وفي كتاب ابن أبي داود أيضا عن أبي العالية (3): أنهم جمعوا القرآن في مصحف في خلافة أبي بكر، فكان رجال يكتبون، ويملي عليهم أبيّ بن كعب، فلما انتهوا إلى هذه الآية من «سورة براءة»: {ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللََّهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لََا يَفْقَهُونَ} [التوبة: 127]، فظنوا أنها آخر ما نزل من القرآن. فقال أبيّ: إن رسول الله صلى الله عليه وسلّم أقرأني بعدهن آيتين: {لَقَدْ جََاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ} إلى {وَهُوَ رَبُّ}
__________
(1) هو عبد الله بن سليمان بن الأشعث بن إسحاق الأزدي، السجستاني، أبو بكر بن أبي داود، توفي سنة 316هـ. (انظر ترجمته في: لسان الميزان 3/ 293، غاية النهاية 1/ 424، تاريخ بغداد 9/ 469).
(2) هو هشام بن عروة بن الزبير بن العوام القرشي الأسدي، أبو المنذر، توفي سنة 146هـ.
(انظر ترجمته في: تهذيب التهذيب 11/ 48، ميزان الاعتدال 3/ 255، تذكرة الحفاظ 1/ 136، وفيات الأعيان 2/ 257، تاريخ بغداد 14/ 34).
(3) أبو العالية: هو رفيع بن مهران الرياحي، أبو العالية البصري، من كبار التابعين، فقيه، مقرئ، توفي سنة 93هـ. (انظر ترجمته في: تهذيب التهذيب 3/ 284، غاية النهاية 1/ 284، تذكرة الحفاظ 1/ 58، الطبقات الكبرى 7/ 112، كتاب الثقات 4/ 239).(1/63)
{الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} [التوبة: 129]. فهذا آخر ما نزل من القرآن، فختم الأمر بما فتح به، يعني بكلمة التوحيد.
قال الشيخ أبو الحسن: «كان أبيّ يتتبع ما كتب بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلّم، في اللخاف والأكتاف والعسب ونحو ذلك، لا لأن القرآن العزيز كان معدوما. وأما قوله: وصدور الرجال يعني في الحديث السابق فإنه كتب الوجوه السبعة التي نزل بها القرآن، فكان يتتبعها من صدور الرجال ليحيط بها علما، ودليل ذلك أنه كان عالما بالآيتين اللتين في آخر «براءة»، ثم لم يقنع بذلك حتى طلبها وسأل عنها غيره فوجدها عند خزيمة، وإنما طلبها من غيره مع علمه بها، ليقف على وجوه القراءات، والله أعلم».
قلت: إنما كان قصدهم أن ينقلوا من عين المكتوب من بين يدي النبي صلى الله عليه وسلّم، ولم يكتبوا من حفظهم لأن قراءتهم كانت مختلفة لما أبيح لهم من قراءة القرآن على سبعة أحرف على ما سيأتي تفسيرها، والله أعلم.
قال عبد الله: «حدثنا أبو الطاهر (1)، أخبرنا ابن وهب، أخبرني مالك عن ابن شهاب عن سالم وخارجة: أن أبا بكر الصديق كان قد جمع القرآن في قراطيس، وكان قد سأل زيد بن ثابت النظر في ذلك فأبى، حتى استعان عليه بعمر، ففعل، فكانت تلك الكتب عند أبي بكر حتى توفي، ثم عند عمر حتى توفي، ثم عند حفصة زوج النبي صلى الله عليه وسلّم، فأرسل إليها عثمان فأبت أن تدفعها إليه، حتى عاهدها ليردنّها إليها، فبعثت بها إليه، فنسخ منها عثمان هذه المصاحف، ثم ردها إليها، فلم تزل عندها حتى أرسل مروان فأخذها فحرقها».
وفي تفسير الطبري: «عن عمارة بن غزية (2) عن ابن شهاب عن خارجة بن زيد بن ثابت عن أبيه قال: فأمرني أبو بكر فكتبته في قطع الأدم وكسر الأكتاف والعسب، فلما هلك أبو بكر وكان عمر كتب ذلك في صحيفة واحدة فكانت عنده.
فلما هلك كانت الصحيفة عند حفصة ثم أرسل عثمان إلى حفصة يسألها أن
__________
(1) أبو الطاهر: هو أحمد بن عمرو بن عبد الله بن عمرو الأموي، أبو الطاهر المصري، له «شرح الموطأ»، توفي سنة 250هـ. (انظر ترجمته في: تهذيب التهذيب 1/ 64، تذكرة الحفاظ 2/ 79).
(2) هو عمارة بن غزية بن الحارث بن عمرو الأنصاري المازني المدني، توفي سنة 140هـ.
(انظر ترجمته في: كتاب الثقات 7/ 260، الطبقات الكبرى 5/ 406، ميزان الاعتدال 2/ 248، تهذيب التهذيب 7/ 424).(1/64)
تعطيه الصحيفة فأعطته إياها، فعرض المصحف عليها فلم يختلفا في شيء، فردها إليها وطابت نفسه».
وعن أبي إسحاق عن مصعب بن سعد قال: سمع عثمان قراءة أبيّ وعبد الله ومعاذ فخطب الناس ثم قال: إنما قبض نبيكم منذ خمس عشرة سنة وقد اختلفتم في القرآن. عزمت على من عنده شيء من القرآن سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلّم لما أتاني به.
فجعل الرجل يأتيه باللوح والكتب والعسيب فيه الكتاب، فمن أتاه بشيء قال:
أنت سمعته من رسول الله؟ ثم قال: أي الناس أفصح؟ قالوا: سعيد بن العاص، قال: أي الناس أكتب؟ قالوا: زيد بن ثابت، قال: فليكتب زيد، وليمل سعيد. قال:
فكتب مصاحف، فقسمها في الأمصار، فما رأيت أحدا عاب ذلك عليه.
قلت: كذا في كتاب ابن أبي داود. وفي تسمية معاذ هنا نظر، فإن معاذا توفي قبل ذلك في طاعون عمواس في خلافة عمر، ولعل قراءته بقيت بعده عند أصحابه، فسمعها عثمان منهم.
وأخرج هذا الحديث الحافظ البيهقي في كتاب «المدخل» بمخالفة لهذا في بعض الألفاظ وبزيادة ونقصان فقال: جلس عثمان على المنبر، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: إنما عهدكم بنبيكم صلى الله عليه وسلّم منذ ثلاث عشرة سنة، وأنتم مختلفون في القراءة، يقول الرجل لصاحبه: والله ما تقيم قراءتك. قال: فعزم على كل من كان عنده شيء من القرآن إلّا جاء به، فجاء الناس بما عندهم فجعل يسألهم عليه البينة أنهم سمعوه من رسول الله صلى الله عليه وسلّم، ثم قال: من أعرب الناس؟ قالوا: سعيد بن العاص، قال: فمن أكتب الناس؟ قالوا: زيد بن ثابت كاتب رسول الله صلى الله عليه وسلّم، قال: فليمل سعيد وليكتب زيد. قال: فكتب مصاحف ففرقها في الأجناد، فلقد سمعت رجالا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلّم يقولون: لقد أحسن.
قال البيهقي: فيه انقطاع بين مصعب وعثمان، وقد روينا عن زيد بن ثابت أن التأليف كان في زمن النبي صلى الله عليه وسلّم، وروينا عنه أن الجمع في الصحف كان في زمن أبي بكر، والنسخ في المصاحف كان في زمن عثمان، وكان ما يجمعون وينسخون معلوما لهم، فلم يكن به حاجة إلى مسألة البينة.
قلت: لم تكن البينة على أصل القرآن، فقد كان معلوما لهم كما ذكر، وإنما كانت على ما أحضروه من الرقاع المكتوبة فطلب البينة عليها أنها كانت كتبت بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلّم وبإذنه على ما سمع من لفظه على ما سبق بيانه، ولهذا قال:
فليمل سعيد، يعني من الرقاع التي أحضرت، ولو كانوا كتبوا من حفظهم لم يحتج زيد فيما كتبه إلى من يمليه عليه.(1/65)
فإن قلت: كان قد جمع من الرقاع في أيام أبي بكر، فأي حاجة إلى استحضارها في أيام عثمان؟
قلت: يأتي جواب هذا في آخر الباب.
وذكر أبو عمرو الداني في كتاب «المقنع» أن عثمان قال: يا أصحاب محمد، اجتمعوا فاكتبوا للناس إماما يجمعهم قال: وكانوا في المسجد فكثروا، فكانوا إذا تماروا في الآية يقولون: إنه أقرأ رسول الله صلى الله عليه وسلّم هذه الآية فلان بن فلان، وهو على رأس أميال من المدينة، فيبعث إليه فيجيء، فيقولون: كيف أقرأك رسول الله صلى الله عليه وسلّم آية كذا وكذا؟ فيقول: كذا، فيكتبون كما قال. والله أعلم.
وفي كتاب ابن أبي داود أيضا عن هشام (1) عن محمد وهو ابن سيرين قال:
كان الرجل يقرأ، حتى يقول الرجل لصاحبه: كفرت بما تقول. فرفع ذلك إلى عثمان بن عفان، فتعاظم ذلك في نفسه، فجمع اثني عشر رجلا من قريش والأنصار، فيهم أبيّ بن كعب وزيد بن ثابت، فأرسل إلى الربعة التي كانت في بيت عمر، فيها القرآن.
قال البيهقي في كتاب «المدخل»: واعلم أن القرآن كان مجموعا كله في صدور الرجال أيام حياة رسول الله صلى الله عليه وسلّم، ومؤلفا هذا التأليف الذي نشاهده ونقرأه إلا «سورة براءة»، فإنها كانت من آخر ما نزل من القرآن. ولم يبين رسول الله صلى الله عليه وسلّم لأصحابه موضعها من التأليف حتى خرج من الدنيا، فقرنها الصحابة رضي الله عنهم ب «الأنفال». وبيان ذلك في حديث ابن عباس، قال: قلت لعثمان رضي الله عنه: ما حملكم على أن عمدتم إلى «براءة» وهي من المئين، وإلى «الأنفال» وهي من المثاني، فقرنتم بينهما، ولم تجعلوا بينهما سطرا فيه {بِسْمِ اللََّهِ الرَّحْمََنِ الرَّحِيمِ،}
ووضعتموها في السبع الطوال؟ فقال: كانت «الأنفال» من أول ما نزل عليه بالمدينة، وكانت «براءة» من آخر القرآن نزولا، وكانت قصتها تشبه قصتها، فقبض رسول الله صلى الله عليه وسلّم ولم يبين أمرها، فظننت أنها منها (2).
قال البيهقي: وفيما رويناه من الأحاديث المشهورة في ذكر من جمع القرآن من
__________
(1) هو هشام بن حسان الأزدي القردوسي، أبو عبد الله البصري، توفي سنة 147هـ. (انظر ترجمته في: الطبقات الكبرى 7/ 200، كتاب الثقات 7/ 566، تذكرة الحفاظ 1/ 154، تهذيب التهذيب 11/ 34).
(2) أخرجه الترمذي في تفسير سورة 9، باب 1، وأبو داود في الصلاة باب 122، وأحمد في المسند 1/ 69.(1/66)
الصحابة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلّم، ثم ما روينا عن زيد بن ثابت: كنا حول رسول الله صلى الله عليه وسلّم نؤلف القرآن، ثم ما رويناه في كتاب «السنن» أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قرأ في صلاة كذا بسورة كذا، دلالة على صحة ما قلناه، إلا أنه كان مثبتا في صدور الرجال، مكتوبا في الرقاع واللخاف والعسب، وأمر أبو بكر الصدّيق حين استحر القتل بقراء القرآن يوم اليمامة بجمعه من مواضعه في صحف، ثم أمر عثمان حين خاف الاختلاف في القراءة بتحويله منها إلى مصاحف مع بذل المجهود في معارضة ما كان في الصحف بما كان مثبتا في صدور الرجال، وذلك كله بمشورة من حضره من علماء الصحابة رضي الله عنهم، وارتضاه علي بن أبي طالب رضي الله عنه وحمد أثره فيه.
والله يغفر لنا ولكم.
قال: ويشبه أن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلّم إنما لم يجمعه في مصحف واحد لما كان يعلم من جواز ورود النسخ على أحكامه ورسومه، فلما ختم الله دينه بوفاة نبيه صلى الله عليه وسلّم، وانقطع الوحي، قيّض لخلفائه الراشدين عند الحاجة إليه جمعه بين الدفتين.
قال: وقد أشار الشيخ أبو سليمان الخطابي (1) رحمه الله تعالى إلى جملة ما ذكرناه، وذكره أيضا غيره من أئمتنا، والأخبار الثابتة المشهورة ناطقة بجميع ذلك.
قلت: وفي كتاب «الانتصار» أخبار في جمع القرآن، فيها زيادات على ما تقدم، فنذكر منها ما يشتمل على فوائد تعرّفنا الأمر كيف وقع، وتشرح لنا بعض ما تقدم.
فمنها: قال زيد: فقلت: يا خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلّم، لو اجتمعت أنا وعمر جميعا، فقال أبو بكر لعمر، فقال عمر: نعم، فانطلق بنا فخرجنا، حتى جلسنا على باب المسجد الذي يلي موضع الجنائز فجلسنا، وجعل الناس يأتون بالقرآن منهم من يأتي به في الصحيفة، ومنهم من يأتي به في العسب حتى فرغنا من ذلك. وفي رواية: فقال أبو بكر لزيد: قم فاقعد على باب المسجد، فكل من جاءك بشيء من كتاب الله عز وجل تنكره فاطلب منه شاهدين، ثم قال: يا عمر، ثم فكن مع زيد،
__________
(1) أبو سليمان الخطابي: هو أحمد، وقيل: حمد بن محمد بن إبراهيم بن خطاب، الإمام أبو سليمان الخطابي البستي، ولد سنة 308هـ، وتوفي سنة 388هـ. من تصانيفه: «إصلاح غلط المحدثين»، «أعلام السنن»، «شرح أسماء الله الحسنى»، «عجالة العالم من كتاب المعالم» في اختصار معالم السنن له، «غريب الحديث»، «معالم السنن في شرح سنن أبي داود»، «معرفة السنن والآثار»، «كتاب الجهاد»، «كتاب العزلة»، «كتاب النجاح» وغير ذلك. (انظر:
كشف الظنون 5/ 68، إنباه الرواة 1/ 125، وفيات الأعيان 1/ 208، تذكرة الحفاظ 3/ 209، بغية الوعاة ص 239).(1/67)
قال عمر: فقمنا حتى جلسنا على باب المسجد فأرسلت إلى أبيّ بن كعب فجاء، فوجدنا مع أبيّ كتبا مثل ما وجدنا عند جميع الناس.
ومنها: أن عمر بن الخطاب جعل يذكر قتلى اليمامة وما أصيب من المسلمين وأن القتل يومئذ استحر بأهل القرآن، ثم يقول: جعل مناد ينادي: يا أهل القرآن، فيجيبون المنادي فرادى ومثنى فاستحر بهم القتل، فرحم الله تلك الوجوه لولا ما استدرك خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلّم من جمع القرآن لخفت أن لا يلتقي المسلمون وعدوهم في موضع، إلّا استحر القتل بأهل القرآن. وفي رواية: لما قتل أصحاب اليمامة دخل عمر بن الخطاب على أبي بكر رضي الله عنهما فقال: إن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلّم تهافتوا في القتل يوم اليمامة كما يتهافت الفراش في النار، وإني أخاف أن لا يشهدوا مشهدا، إلا فعلوا ذلك، وهم حملة القرآن، فيضيع القرآن ويذهب.
قال القاضي أبو بكر: ومن تأمل مجيء هذه الأخبار وألفاظها علم وتيقّن أن أمر القرآن كان بينهم ظاهرا منتشرا، وأن حفّاظه إذ ذاك كانوا في الأمة عددا عظيما وخلقا كثيرا. قال: وروى موسى بن عقبة (1) عن ابن شهاب أنه قال: إن المسلمين لما أصيبوا باليمامة فزع أبو بكر رضي الله عنه إلى القرآن، وخاف أن تهلك منه طائفة، وإنما كان في العسب والرقاع، فأقبل الناس بما كان معهم وعندهم. حتى جمع على عهد أبي بكر رضي الله عنه، فكتبوه في الورق وجمعوه فيه. وقال أبو بكر:
التمسوا له اسما، فقال بعضهم: السّفر. وقال بعضهم: كان الحبشة يدعونه المصحف. قال: فكان أبو بكر أول من جمع القرآن في المصحف.
وعن أسلم مولى عمر قال: اختلف الناس في القرآن فجعل الرجل يلقى الرجل في مغزاته فيقول: معي من القرآن ما ليس معك، أقرأني أبيّ بن كعب كذا وكذا، ويقول هذا: أقرأني عبد الله بن مسعود كذا وكذا، فلما رأى ذلك عثمان شاور فيه أهل القرآن من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلّم، فرأوا أن يجمعوه في مصحف واحد، ثم يفرق في البلاد مصحفا مصحفا، ثم تحرق سائر الصحف. فدعا عثمان رضي الله عنه أربعة نفر، ثلاثة من قريش ورجلا من الأنصار: عبد الله بن الزبير وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام وسعيد بن العاص وزيد بن ثابت فقال: انسخوه. فنسخوه على هذا التأليف، وقال: ما اختلفتم فيه أنتم وزيد بن ثابت فاكتبوه على ما تقولون أنتم، فإن القرآن أنزل على لسان قريش فنسخوا القرآن في مصحف واحد حتى فرغوا منه، ثم
__________
(1) هو موسى بن عقبة بن أبي عياش الأسدي المدني، مولى آل الزبير بن العوام، من صغار التابعين، توفي سنة 141هـ. صنف «كتاب المغازي». (انظر: كشف الظنون 6/ 477، تهذيب التهذيب 10/ 360، تذكرة الحفاظ 1/ 139).(1/68)
نسخ من ذلك المصحف مصاحف، فبعث إلى كل بلد مصحفا، وأمرهم بالاجتماع على هذا المصحف.
وروى يحيى بن عبد الله بن أبي قتادة عن موسى بن جبير أن عثمان بن عفان دعا أبيّ بن كعب وزيد بن ثابت وسعيد بن العاص فقال لأبيّ: إنك كنت أعلم الناس بما أنزل على النبي صلى الله عليه وسلّم، كنت تقرئ في زمانه، وكان عمر بن الخطاب يأمر الناس بك، فأمل على هؤلاء القرآن في المصاحف، فإني أرى الناس قد اختلفوا. قال:
فكان أبيّ يملي عليهم القرآن وزيد بن ثابت وسعيد بن العاص ينسخان.
قال القاضي: وقد وردت الرواية أن عثمان لما أراد أن يجمع المصحف خطب فقال: أعزم على كل رجل منكم كان معه من كتاب الله عز وجل، شيء لما جاء به، قال: فكان الرجل يجيء بالورقة والأديم فيه القرآن، حتى جمع من ذلك شيئا كثيرا، ثم دخل فدعاهم رجلا رجلا يناشده: أسمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلّم، وهو أملّه عليك؟
فيقول: نعم، فلما فرغ من ذلك قال: من أكتب الناس؟ قالوا: كاتب رسول الله صلى الله عليه وسلّم زيد بن ثابت، قال: فأي الناس أعرب؟ قالوا: سعيد بن العاص، قال عثمان: فليملّ سعيد وليكتب زيد، فكتب مصاحف فرّقها في الناس.
قال القاضي: فهذا الخبر يقضي بأن سعيدا قد كان ممن يملي المصحف، ولا يمتنع أن يملّه سعيد ويمله أيضا أبيّ، فيحتاج إلى أبيّ لحفظه وإحاطته علما بوجوه القراءات المنزلة التي يجب إثبات جميعها، وأن لا يطرح شيء منها ويجب نصب سعيد بن العاص لموضع فصاحته وعلمه بوجوه الإعراب وكونه أعربهم لسانا، قال:
وقد قيل: إن سعيدا كان أفصح الناس وأشبههم لهجة برسول الله صلى الله عليه وسلّم، وليس يجب أن تتعارض هذه الأخبار، لأنه قد ذكر في كل واحد منها ممل غير الذي ذكر في غيره، لأنه لا يمتنع أن ينصب لإملائه قوم فصحاء، حفّاظ يتظاهرون على ذلك، ويذكر بعضهم بعضا، ويستدرك بعضهم ما لعله يسهو عنه غيره. وهذا من أحوط الأمور وأحزمها في هذا الباب.
قال: وقد ذكر في بعض الروايات أن الذي نصبه عثمان لإملاء المصحف أبان بن سعيد بن العاص (1)، والسيرة تشهد بأن ذلك غلط، لأن أهلها قد رووا أن أبان بن سعيد متقدم الموت، وأنه قد هلك قبل جمع عثمان المصحف بزمان طويل، وأنه قتل بالشام في وقعة أجنادين في سنة ثلاث عشرة، وإنما المنصوب لإملاء
__________
(1) هو أبان بن سعيد بن العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف القرشي الأموي، قتل يوم أجنادين سنة 13هـ. (انظر ترجمته في: كتاب الثقات 3/ 13، الإصابة 1/ 13).(1/69)
المصحف الذي أقامه عثمان لذلك سعيد بن العاص بن سعيد بن العاص، وهو ابن أخي أبان بن سعيد بن العاص.
ونقلت من كتاب «شرح السنة» الذي سمعناه على القاضي أبي المجد محمد بن الحسين القزويني (1) بسماعه من الإمام أبي منصور محمد بن أسعد بن محمد حفدة الطوسي (2) بسماعه من لفظ المصنف الفقيه الإمام محيي السنة أبي محمد الحسين بن مسعود البغوي (3) رحمه الله قال: الصحابة رضي الله عنهم جمعوا بين الدفتين القرآن الذي أنزله الله على رسوله صلى الله عليه وسلّم من غير أن زادوا فيه أو نقصوا منه شيئا، والذي حملهم على جمعه ما جاء بيانه في الحديث وهو أنه كان مفرقا في العسب واللخاف وصدور الرجال فخافوا ذهاب بعضه بذهاب حفظته، ففزعوا فيه إلى خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلّم، ودعوه إلى جمعه، فرأى في ذلك رأيهم وأمر بجمعه في موضع واحد باتفاق من جميعهم، فكتبوه كما سمعوا من رسول الله صلى الله عليه وسلّم، من غير أن قدموا شيئا أو أخّروا، أو وضعوا له ترتيبا لم يأخذوه من رسول الله صلى الله عليه وسلّم، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلّم يلقن أصحابه ويعلمهم ما ينزل عليه من القرآن على الترتيب الذي هو الآن في مصاحفنا بتوقيف جبريل عليه السلام إياه على ذلك، وإعلامه عند نزول كل آية أن هذه الآية تكتب عقيب آية كذا في السورة التي يذكر فيها كذا، وروي معنى هذا عن عثمان رضي الله عنه. وقال سعيد بن جبير عن ابن عباس: لم يكن النبي صلى الله عليه وسلّم يعلم ختم السورة حتى ينزل {بِسْمِ اللََّهِ الرَّحْمََنِ الرَّحِيمِ،} فإذا أنزل {بِسْمِ اللََّهِ الرَّحْمََنِ الرَّحِيمِ}
علم أن السورة قد ختمت، فثبت أن سعي الصحابة كان في جمعه في موضع واحد، لا في ترتيبه، فإن القرآن مكتوب في اللوح المحفوظ على الترتيب الذي هو في مصاحفنا، أنزله الله تعالى جملة واحدة في شهر رمضان ليلة القدر إلى السماء الدنيا، ثم كان ينزله مفرقا على رسول الله صلى الله عليه وسلّم مدة حياته عند الحاجة وحدوث ما يحدث على
__________
(1) أبو المجد محمد بن الحسين القزويني: توفي سنة 622هـ. (انظر ترجمته في: شذرات الذهب 5/ 101).
(2) توفي سنة 573هـ. (انظر ترجمته في: طبقات الشافعية للسبكي 4/ 65، وفيات الأعيان 1/ 596، المنتظم لابن الجوزي 10/ 279).
(3) هو الحسين بن مسعود بن محمد، المعروف بالفراء، أبو محمد البغوي (من أعمال هراة) الفقيه الشافعي، توفي سنة 516هـ. من تصانيفه: «إرشاد الأنوار في شمائل النبي المختار»، «ترجمة الأحكام» في الفروع، «التهذيب» في الفروع، «الجمع بين الصحيحين البخاري ومسلم»، «شرح السنة» في الحديث، «الكفاية في الفقه»، «الكفاية في القراءة»، «مصابيح السنة»، «معالم التنزيل» في تفسير القرآن، «معجم الشيوخ». (انظر: كشف الظنون 5/ 312، وفيات الأعيان 1/ 182، طبقات السبكي 4/ 214).(1/70)
ما يشاء الله عزّ وجلّ وترتيب النزول غير ترتيب التلاوة، وكان هذا الاتفاق من الصحابة سببا لبقاء القرآن في الأمة رحمة من الله عز وجل لعباده، وتحقيقا لوعده في حفظه على ما قال جلّ ذكره: {إِنََّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنََّا لَهُ لَحََافِظُونَ} [الحجر: 9].
ثم إن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلّم كانوا يقرءون بالقراءة التي أقرأهم رسول الله صلى الله عليه وسلّم، ولقنهم بإذن الله عز وجل، إلى أن وقع الاختلاف بين القراء في زمن عثمان وعظم الأمر فيه، وكتب الناس بذلك من الأمصار إلى عثمان، وناشدوه الله تعالى في جمع الكلمة وتدارك الناس قبل تفاقم الأمر، وقدم حذيفة بن اليمان (1) من غزوة إرمينية، فشافهه بذلك، فجمع عثمان عند ذلك المهاجرين والأنصار وشاورهم في جمع القرآن على حرف واحد ليزول بذلك الخلاف وتتفق الكلمة، فاستصوبوا رأيه، وحضوه عليه، ورأوا أنه من أحوط الأمور للقرآن، فاستحضر الصحف من عند حفصة، ونسخها في المصاحف، وبعث بها إلى الأمصار
وروي عن أبي عبد الرحمن السلمي (2) قال: كانت قراءة أبي بكر وعمر وعثمان وزيد بن ثابت والمهاجرين والأنصار واحدة، كانوا يقرءون قراءة العامة، وهي القراءة التي قرأها رسول الله صلى الله عليه وسلّم على جبريل مرتين في العام الذي قبض فيه، وكان علي رضي الله عنه طول أيامه يقرأ مصحف عثمان، ويتخذه إماما ويقال: إن زيد بن ثابت شهد العرضة الأخيرة التي عرضها رسول الله صلى الله عليه وسلّم على جبريل وهي التي بيّن فيها ما نسخ وما بقي.
قال أبو عبد الرحمن السلمي: قرأ زيد بن ثابت على رسول الله صلى الله عليه وسلّم في العام الذي توفاه الله فيه مرتين، وإنما سميت هذه القراءة قراءة زيد بن ثابت، لأنه كتبها لرسول الله صلى الله عليه وسلّم، وقرأها عليه، وشهد العرضة الأخيرة، وكان يقرئ الناس بها حتى مات، ولذلك اعتمده أبو بكر وعمر في جمعه، وولاه عثمان كتب المصاحف، رضي الله عنهم أجمعين.
قلت: ومعنى قول عثمان رضي الله عنه: «إن القرآن أنزل بلسان قريش» أي معظمه بلسانهم، فإذا وقع الاختلاف في كلمة فوضعها على موافقة لسان قريش أولى
__________
(1) هو حذيفة بن اليمان العبسي، حليف بني عبد الأشهل، كنيته أبو عبد الله، هاجر إلى النبي صلى الله عليه وسلّم، وشهد أحدا، توفي بعد قتل عثمان بن عفان بأربعين ليلة، سكن الكوفة. (كتاب الثقات لابن حبان 3/ 8180).
(2) أبو عبد الرحمن السلمي: هو عبد الله بن حبيب بن ربيعة، أبو عبد الرحمن السلمي الكوفي، تابعي، توفي سنة 72هـ، (انظر ترجمته في: الطبقات الكبرى 6/ 212، كتاب الثقات 5/ 9، صفة الصفوة 3/ 30، تهذيب التهذيب 5/ 183، غاية النهاية 1/ 413).(1/71)
من لسان غيرهم. أو المراد: نزل في الابتداء بلسانهم، ثم أبيح بعد ذلك أن يقرأ بسبعة أحرف وقول ابن عباس رضي الله عنهما: «لم يكن النبي صلى الله عليه وسلّم يعلم ختم السورة حتى تنزل البسملة»، يعني به والله أعلم وقت عرض النبي صلى الله عليه وسلّم، القرآن على جبريل عليه السلام، فكان لا يزال يقرأ في السورة إلى أن يأمره جبريل بالتسمية، فيعلم أن السورة قد انقضت، وعبّر النبي صلى الله عليه وسلّم بلفظ النزول، إشعارا بأنها قرآن في جميع أوائل السور فيه، ويجوز أن يكون المراد بذلك أن جميع آيات كل سورة كان ينزل قبل نزول البسملة، فإذا كملت آياتها نزّل جبريل البسملة، واستعرض السورة، فيعلم النبي صلى الله عليه وسلّم أن السورة قد ختمت، لم يبق لحق بها شيء.
واعلم أن حاصل ما شهدت به الأخبار المتقدمة وما صرحت به أقوال الأئمة أن تأليف القرآن على ما هو عليه الآن كان في زمن النبي صلى الله عليه وسلّم بإذنه وأمره وأن جمعه في الصحف خشية دثوره بقتل قرائه كان في زمن أبي بكر رضي الله عنه وأن نسخه في مصاحف حملا للناس على اللفظ المكتوب حين نزوله بإملاء المنزل إليه صلى الله عليه وسلّم ومنعا من قراءة كل لفظ يخالفه كان في زمن عثمان رضي الله عنه وكأن أبا بكر كان غرضه أن يجمع القرآن مكتوبا مجتمعا غير مفرق على اللفظ الذي أملاه رسول الله صلى الله عليه وسلّم على كتبة الوحي ليعلم ذلك، ولم يكل ذلك إلى حفظ من حفظه خشية فنائهم بالقتل، ولاختلاف لغاتهم في حفظهم على ما كان أبيح لهم من قراءته على سبعة أحرف على ما ستأتي معانيها في الباب الثالث فلما ولي عثمان وكثر المسلمون وانتشروا في البلاد وخيف عليهم الفساد من اختلافهم في قراءاتهم لاختلاف لغاتهم حملهم عثمان على ذلك اللفظ الذي جمعه زيد في زمن أبي بكر، وبقي ما عداه ليجمع الناس على قراءة القرآن على وفق ما نزل على محمد صلى الله عليه وسلّم، ولا يكثر فيه التصرف، فيتفاحش تغيره، وتنمحق ألفاظه المنزلة. ولهذا قال أبو مجلز لاحق بن حميد (1) رحمه الله وهو من جلّة تابعي البصرة: يرحم الله عثمان، لو لم يجمع الناس على قراءة واحدة لقرأ الناس القرآن بالشعر.
وقال حماد بن سلمة (2): كان عثمان في المصحف كأبي بكر في الردة.
__________
(1) هو أبو مجلز البصري، لاحق بن حميد، توفي سنة 106هـ. (انظر ترجمته في: الطبقات الكبرى 7/ 162، 261، كتاب الثقات 5/ 518، غاية النهاية 2/ 362، تهذيب التهذيب 11/ 171، شذرات الذهب 1/ 134).
(2) هو حماد بن سلمة بن دينار، أبو سلمة البصري، توفي سنة 167هـ. (انظر ترجمته في: كتاب الثقات 6/ 216، الطبقات الكبرى 7/ 208، ميزان الاعتدال 1/ 277، تهذيب التهذيب 3/ 11).(1/72)
وقال عبد الرحمن بن مهدي: كان لعثمان شيئان ليس لأبي بكر ولا عمر مثلهما: صبره نفسه حتى قتل مظلوما، وجمعه الناس على المصحف.
فقد اتضح بما ذكرناه معنى ما فعله كل واحد من الإمامين أبي بكر وعثمان رضي الله عنهما، وتبين أن قصد كل واحد منهما غير قصد الآخر، فأبو بكر قصد جمعه في مكان واحد، ذخرا للإسلام يرجع إليه إن اصطلم، والعياذ بالله، قراؤه، وعثمان قصد أن يقتصر الناس على تلاوته على اللفظ الذي كتب بأمر النبي صلى الله عليه وسلّم، ولا يتعدوه إلى غيره من القراءات التي كانت مباحة لهم، المنافية لخط المصحف من الزيادة والنقصان وإبدال الألفاظ على ما سيأتي شرحه.
وذكر أبو عمرو الداني في كتابه «المقنع» عن هشام بن عروة عن أبيه أن أبا بكر أول من جمع القرآن في المصاحف، وعثمان الذي جمع المصاحف على مصحف واحد.
وقد عبر الشيخ أبو القاسم الشاطبي (1) رحمه الله عما فعله الإمامان بأبيات من جملة قصيدته المسماة ب «العقيلة» في بيان رسم المصحف، أخبرنا بها عنه شيخنا أبو الحسن وغيره فقال رحمه الله:
واعلم بأن كتاب الله خص بما ... تاه البرية عن إتيانه ظهرا
أي متظاهرين، ثم قال بعد أبيات:
ولم يزل حفظه بين الصحابة في ... علا حياة رسول الله مبتدرا
أشار إلى كثرة حفّاظه في حياة النبي صلى الله عليه وسلّم، ثم قال:
وكل عام على جبريل يعرضه ... وقيل آخر عام عرضتين قرا
لو قال: «لكن آخر عام» كان أولى، لأن الجمع في خبر واحد صحيح. وقوله «وقيل» يوهم غير ذلك، فإن كان قال: و «قبل» بالموحدة فهو أجود، والله أعلم. ثم قال رحمه الله:
__________
(1) الشاطبي: هو القاسم بن فيرة بن أبي القاسم خلف بن أحمد، الحافظ أبو محمد (وليس أبا القاسم كما ذكر المؤلف) الرعيني الأندلسي، المعروف بالشاطبي المالكي المقري النحوي، ولد سنة 528هـ، وتوفي بمصر سنة 590هـ، من مصنفاته: «تتمة الحرز من قراء الأئمة الكنز»، «حرز الأماني ووجه التهاني» القصيدة المشهورة بالشاطبية في القراءات، «عقيلة أرباب القصائد في أسنى المقاصد»، «ناظمة الزهر في عدد آيات السور». (كشف الظنون 5/ 828).(1/73)
إن اليمامة أهواها مسيلمة ال ... كذاب (1) في زمن الصدّيق إذ خسرا
وبعد باس شديد حان مصرعه ... وكان باسا على القراء مستعرا
نادى أبا بكر الفاروق: خفت على ال ... قراء فادرك القرآن مستطرا
فأجمعوا جمعه في الصحف واعتمدوا ... زيد بن ثابت العدل الرضا نظرا
فقام فيه بعون الله يجمعه ... بالنصح والجد والحزم الذي بهرا
من كل أوجهه حتى استتم له ... بالأحرف السبعة العليا كما اشتهرا
فأمسك الصحف الصدّيق ثم إلى ال ... فاروق أسلمها لما قضى العمرا
وعند حفصة كانت بعد فاختلف ال ... قراء فاعتزلوا في أحرف زمرا
وكان في بعض مغزاهم مشاهدهم ... حذيفة فرأى من خلفهم عبرا
فجاء عثمان مذعورا فقال له: ... أخاف أن يخلطوا فأدرك البشرا
فاستحضر الصحف الأولى التي جمعت ... وخص زيدا ومن قريشه نفرا
على لسان قريش فاكتبوه كما ... على الرسول به إنزاله انتشرا
فجردوه كما يهوى كتابته ... ما فيه شكل ولا نقط فيحتجرا
وسار في نسخ منها مع المدني ... كوف وشام وبصر تملأ البصرا
وقيل: مكة والبحرين مع يمن ... ضاعت بها نسخ في نشرها قطرا
القطر: العود، أي فاحت رائحة طيب هذه النسخ بهذه الأقاليم، فهو كقوله في قصيدته الكبرى:
«فقد ضاعت شذا وقرنفلا»
والهاء في «قريشه» لعثمان، وفي «به» تعود على لسان قريش، وقوله: «فجردوه» أي كتبوه على لسان قريش مجردا من باقي لغات العرب.
وهذه مسألة فيها نظر واختلاف، وسيأتي تحقيقها في الباب الثالث الذي هو عمدة هذا الكتاب، والمقصود بهذا التصنيف وما قبله وما بعده من الأبواب مقدم بين يديه، وتبع له لشدة تعلق الجميع به.
__________
(1) هو مسيلمة بن ثمامة بن كبير بن حبيب الحنفي الوائلي، ولد ونشأ في اليمامة، وتلقب في الجاهلية بالرحمن، وفي الأمثال: «أكذب من مسيلمة»، توفي رسول الله صلى الله عليه وسلّم قبل القضاء على فتنته، ولما انتظم الأمر لأبي بكر الصديق، انتدب قائده خالد بن الوليد لمحاربته، فكان أن ظفر خالد به وقتله سنة 12هـ. (انظر: السيرة النبوية لابن هشام 3/ 74، فتوح البلدان للبلاذري ص 10094، الكامل في التاريخ لابن الأثير 2/ 300298).(1/74)
قال أبو حاتم السجستاني (1): لما كتب عثمان رضي الله عنه المصاحف حين جمع القرآن كتب سبعة مصاحف، فبعث واحدا إلى مكة، وآخر إلى الشام، وآخر إلى اليمن، وآخر إلى البحرين، وآخر إلى البصرة، وآخر إلى الكوفة، وحبس بالمدينة واحدا.
قال أبو عمرو الداني في كتاب «المقنع» (2): أكثر العلماء على أن عثمان رحمه الله لما كتب المصحف جعله على أربع نسخ: فوجّه إلى الكوفة إحداهن، وإلى البصرة أخرى، وإلى الشام الثالثة، واحتبس عند نفسه واحدة.
وقال أبو محمد مكي رحمه الله في آخر كتاب «الكشف»: «ذكر إسماعيل القاضي (3) من روايته أن زيد بن ثابت قال: كتبته على عهد أبي بكر في قطع الأدم وكسر الأكتاف، وفي كذا وكذا، قال: فلما هلك أبو بكر وكان عمر كتبته في صحيفة واحدة، وكانت عنده، فلما هلك كانت الصحيفة عند حفصة زوج النبي صلى الله عليه وسلّم». قال:
«وروي أن حفصة لما ماتت قبض الصحيفة عبد الله بن عمر، فعزم عليه مروان فأخذها منه».
__________
(1) هو أبو حاتم السجستاني، سهل بن محمد بن عثمان بن يزيد الجشمي، الإمام، توفي سنة 250هـ، وقيل: سنة 248هـ، له من التصانيف: «اختلاف المصاحف»، «إعراب القرآن»، «خلق الإنسان»، «كتاب الإبل»، «كتاب الأتباع»، «كتاب الإدغام»، «كتاب الأضداد» في اللغة، «كتاب الجراد»، «كتاب الحر والبرد والشمس»، «كتاب الحشرات»، «كتاب الخصب والقحط»، «كتاب الدرع»، «كتاب الزرع»، «كتاب الزينة»، «كتاب السيوف والرماح»، «كتاب الشتاء والصيف»، «كتاب الشوق إلى الوطن»، «كتاب الطير»، «كتاب العشب والبقال»، «كتاب الغيث»، «كتاب الفرس»، «كتاب فرق الآدميين وذوات الأربع»، «كتاب الفصاحة»، «كتاب القراءات»، «كتاب القسي والسهام والنبال»، «كتاب الكرم»، «كتاب اللبن والحليب»، «كتاب المذكر والمؤنث»، «كتاب المقاطع والمبادي»، «كتاب المقصور والممدود»، «كتاب المياه»، «كتاب النبات والشجر»، «كتاب النحل والعسل»، «كتاب النخلة»، «كتاب الوحوش»، «كتاب الهجاء»، «ما يلحن فيه العامة». (كشف الظنون 5/ 411، 412، مراتب النحويين ص 80، إنباه الرواة 2/ 58، غاية النهاية 1/ 320، بغية الوعاة ص 265).
(2) انظر «المقنع» ص 9.
(3) هو إسماعيل بن إسحاق بن إسماعيل بن حماد بن زيد بن درهم الأزدي، الحافظ أبو إسحاق البصري القاضي المالكي، ولد سنة 199هـ، وتوفي سنة 282هـ. له من المصنفات: «أجزاء في الحديث»، «الاحتجاج بالقرآن»، «أحكام القرآن»، «إعراب القرآن»، «حجاج القرآن»، «الرد على محمد بن الحسن»، «زيادة الجامع من الموطأ»، «سنن في الحديث»، «شواهد الموطأ»، «فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلّم»، «كتاب الأصول»، «كتاب الفقه وما روي فيها من الآثار»، «كتاب الفرائض»، «المبسوط»، «مختصر المبسوط»، «مسند حديث أبي هريرة»، «مسند حديث ثابت البناني»، «المغازي». (انظر: كشف الظنون 5/ 208207، تاريخ بغداد 6/ 284، غاية النهاية 1/ 62).(1/75)
قلت: وقد سبق ذلك، فيكون على هذا قد كتبه زيد ثلاث مرات في أيام الأئمة الثلاثة رضي الله عنهم وهذه رواية غريبة، إلا أن ظاهر القصة يدل على صحتها لأن اختصاص آل عمر بالصحيفة بعد عمر دل على أنه كان كتبها لنفسه، ولو كانت هي التي كتبت في زمن أبي بكر لما اختص بها آل عمر، والله أعلم.
وقد حكى القاضي أبو بكر في كتاب «الانتصار» خلافا في أن أبا بكر جمع القرآن بين لوحين أو في صحف وأوراق متفرقة، وبكل معنى من ذلك قد وردت الآثار. وقيل: كتبه أولا في صحف ومدارج نسخت ونقلت إلى مصاحف جعلت بين لوحين وقيل: معنى قول علي: «أبو بكر أول من جمع القرآن بين اللوحين»: أي جمع القرآن الذي هو الآن بين اللوحين، وكان هذا أقرب إلى الصواب جمعا بين الروايات. وكأن أبا بكر رضي الله عنه كان جمع كل سورة أو سورتين أو أكثر من ذلك في صحيفة على قدر طول السورة وقصرها. فمن ثم قيل: إنه جمع القرآن في مصحف، ونحو ذلك من العبارات المشعرة بالتعدد ثم إن عثمان رضي الله عنه نسخ من تلك الصحف مصحفا جامعا لها، مرتبة سورة سورة على هذا الترتيب، ويدل على ذلك ظاهر حديث يزيد الفارسي عن ابن عباس قال: قلت لعثمان: ما حملكم على أن عمدتم إلى «براءة» و «الأنفال» فقرنتم بينهما؟ (1) الحديث، فإنه يدل على أن لعثمان في جمعه القرآن بعد أبي بكر تصرفا ما، وهو هذا، فأبو بكر جمع آيات كل سورة كتابة لها من الأوراق المكتوبة بين يدي النبي صلى الله عليه وسلّم بإملائه، وهو على وفق ما كان محفوظا عندهم بتأليف النبي صلى الله عليه وسلّم، وعثمان جمع السور على هذا الترتيب في مصحف واحد ناسخا لها من صحف أبي بكر.
وأما ما روي أن عثمان جمع القرآن أيضا من الرقاع كما فعل أبو بكر فرواية لم تثبت، ولم يكن له إلى ذلك حاجة، وقد كفيه بغيره، فالاعتماد على ما قدمناه أول الباب من حديث صحيح البخاري وإنما ذكرنا ما بعده زيادة كالشرح له، وجمعا لما روي في ذلك، ويمكن أن يقال: إن عثمان طلب إحضار الرقاع ممن هي عنده، وجمع منها، وعارض بما جمعه أبو بكر أو نسخ مما جمعه أبو بكر، وعارض بتلك الرقاع أو جمع بين النظر في الجميع حالة النسخ، ففعل كل ذلك أو بعضه، استظهارا ودفعا لوهم من يتوهم خلاف الصواب، وسدا لباب القالة: إن الصحف غيرت أو زيد فيها ونقص، وما فعله مروان من طلبه الصحف من ابن عمر وتمزيقها إن صح ذلك فلم يكن لمخالفة بين الجمعين، إلا فيما يتعلق بترتيب السور، فخشي
__________
(1) تقدم الحديث مع تخريجه.(1/76)
أن يتعلق متعلق بأنه في جمع الصديق غير مرتب السور، فسدّ الباب جملة. هذا إن قلنا: إن عين ما جمعه عثمان هو عين ما جمعه أبو بكر، ولم يكن لعثمان فيه إلّا حمل الناس عليه مع ترتيب السور وأما إن قلنا بقول من زعم: أن عثمان اقتصر مما جمعه أبو بكر على حرف واحد من بين تلك القراءات المختلفة فأمر ما فعله مروان ظاهر، وسيأتي الكلام على كل واحد من القولين وإيضاح الحق في ذلك، إن شاء الله تعالى.(1/77)
الباب الثالث في معنى قول النبي صلى الله عليه وسلّم «أنزل القرآن على سبعة أحرف»
وفيه فصول:
الفصل الأول في سرد الأحاديث في ذلك
ففي الصحيحين عن ابن شهاب قال: حدثني عبيد الله بن عبد الله (1) أن عبد الله بن عباس حدثه أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال: «أقرأني جبريل عليه السلام على حرف واحد فراجعته فلم أزل أستزيده ويزيدني حتى انتهى إلى سبعة أحرف» (2).
وفيهما عن ابن شهاب قال: أخبرني عروة بن الزبير (3) أن المسور بن مخرمة (4)
وعبد الرحمن بن عبد القاري (5) حدثاه أنهما سمعا عمر بن الخطاب يقول: سمعت
__________
(1) هو عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود الهذلي، أبو عبد الله المدني، توفي سنة 98هـ.
(انظر ترجمته في: الطبقات الكبرى 5/ 193، كتاب الثقات 5/ 63، وفيات الأعيان 1/ 341، تذكرة الحفاظ 1/ 74، تهذيب التهذيب 7/ 23).
(2) أخرجه البخاري في فضائل القرآن باب 5، وبدء الخلق باب 6، ومسلم في المسافرين حديث 272، وأحمد في المسند 1/ 264، 299، 313.
(3) هو عروة بن الزبير بن العوام بن خويلد الأسدي، أبو عبد الله المدني، توفي سنة 93هـ.
(انظر ترجمته في: كتاب الثقات 5/ 194، الطبقات الكبرى 5/ 136، وفيات الأعيان 1/ 398، تهذيب التهذيب 7/ 180).
(4) هو المسور بن مخرمة بن نوفل بن أهيب القرشي الزهري، أبو عبد الرحمن، توفي سنة 64هـ. (انظر ترجمته في: كتاب الثقات 3/ 394، الإصابة 3/ 419، تهذيب التهذيب 10/ 151).
(5) توفي سنة 80هـ. (انظر ترجمته في: الطبقات الكبرى 5/ 42، كتاب الثقات 5/ 79، تهذيب التهذيب 6/ 223).(1/78)
هشام بن حكيم يقرأ سورة الفرقان في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلّم، فاستمعت لقراءته، فإذا هو يقرأ على حروف كثيرة لم يقرئنيها رسول الله صلى الله عليه وسلّم، فكدت أساوره في الصلاة، فتصبرت حتى سلم، فلببته بردائه فقلت: من أقرأك هذه السورة التي سمعتك تقرأ؟
قال: أقرأنيها رسول الله صلى الله عليه وسلّم، فقلت: كذبت، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قد أقرأنيها على غير ما قرأت فانطلقت به أقوده إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم فقلت: إني سمعت هذا يقرأ «سورة الفرقان» على حروف لم تقرئنيها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم لعمر: «أرسله»، فأرسله عمر فقال لهشام: «اقرأ يا هشام»، فقرأ عليه القراءة التي سمعته يقرأ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم:
«كذلك أنزلت»، ثم قال: «اقرأ يا عمر»، فقرأت القراءة التي أقرأني، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «كذلك أنزلت، إنّ هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف فاقرءوا ما تيسّر منه» (1). واللفظ للبخاري.
زاد مسلم: قال ابن شهاب: بلغني أن تلك السبعة الأحرف إنما هي في الأمر الذي يكون واحدا، لا يختلف في حلال ولا حرام. وأخرجه النسائي في سننه الكبرى وقال: فقرأ فيها حروفا لم يكن نبيّ الله أقرأنيها.
وفي صحيح مسلم عن أبيّ بن كعب قال: كنت في المسجد، فدخل رجل فصلى فقرأ قراءة أنكرتها، ثم دخل آخر، فقرأ قراءة سوى قراءة صاحبه، فلما قضينا الصلاة دخلنا جميعا على رسول الله صلى الله عليه وسلّم، فقلت: إن هذا قرأ قراءة أنكرتها عليه، ودخل آخر فقرأ وفي رواية: ثم قرأ هذا سوى قراءة صاحبه، فأقرأهما رسول الله صلى الله عليه وسلّم فقرءا، فحسن النبي صلى الله عليه وسلّم شأنهما فسقط في نفسي من التكذيب، ولا إذا كنت في الجاهلية، فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلّم ما قد غشيني ضرب في صدري، ففضت عرقا، وكأنما أنظر إلى الله عز وجل فرقا فقال: «يا أبيّ، إن ربّي أرسل إليّ أن أقرأ القرآن على حرف فرددت إليه أن هوّن على أمّتي، فردّ إليّ الثانية: اقرأه على حرفين، فرددت إليه يهوّن على أمّتي فردّ إليّ في الثالثة: اقرأه على سبعة أحرف ولك بكلّ ردّة رددتكها مسألة تسألنيها، فقلت: اللهمّ اغفر لأمّتي، اللهمّ اغفر لأمّتي، وأخّرت الثالثة ليوم يرغب إليّ الخلق كلّهم حتى إبراهيم صلى الله عليه وسلّم» (2).
__________
(1) أخرجه البخاري في الخصومات باب 4، وفضائل القرآن باب 5، 27، واستتابة المرتدين باب 9، والتوحيد باب 53، ومسلم في المسافرين حديث 270، 271، وأبو داود في الوتر باب 22، والترمذي في القرآن باب 9، والنسائي في الافتتاح باب 37، ومالك في القرآن حديث 5، وأحمد في المسند 1/ 24، 40، 43.
(2) أخرجه مسلم في المسافرين حديث 273، وأحمد في المسند 5/ 127، 129.(1/79)
وأخرجه أبو جعفر الطبري (1) في أول تفسيره (2) بسنده عن أبيّ قال: دخلت المسجد فصليت فقرأت النحل، ثم جاء رجل آخر فقرأها على غير قراءتي، ثم دخل رجل آخر فقرأ بخلاف قراءتنا، فدخل في نفسي من الشك والتكذيب أشد مما كان في الجاهلية، فأخذت بأيديهما فأتيت بهما النبي صلى الله عليه وسلّم فقلت: يا رسول الله استقرئ هذين، فقرأ أحدهما فقال: «أصبت»، ثم استقرأ الآخر فقال: «أحسنت»، فدخل قلبي أشد مما كان في الجاهلية من الشك والتكذيب، فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلّم صدري وقال: «أعاذك الله من الشّك وخسأ عنك الشيطان» ففضت عرقا، فقال: «أتاني جبريل فقال: اقرإ القرآن على حرف واحد فقلت: إن أمّتي لا تستطيع ذلك، حتى قال: سبع مرّات، فقال لي: اقرأ على سبعة أحرف».
وفي رواية: فوجدت في نفسي وسوسة الشيطان، حتى احمرّ وجهي، فعرف ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلّم في وجهي فضرب بيده في صدري ثم قال: «اللهمّ اخسأ الشيطان عنه، يا أبيّ، أتاني آت من ربّي فقال: إنّ الله يأمرك أن تقرأ القرآن على حرف واحد، فقلت: ربّ خفّف عن أمّتي، ثم أتاني الثانية فقال: إن الله يأمرك أن تقرأ القرآن على حرف واحد، فقلت: ربّ خفّف عن أمّتي، ثم أتاني الثالثة فقال مثل ذلك، فقلت مثله، ثم أتاني الرابعة فقال: إنّ الله يأمرك أن تقرأ القرآن على سبعة أحرف» (3).
وفي رواية: عن عبد الرحمن بن أبي ليلى (4) أن رجلين اختصما في آية من القرآن، وكل يزعم أن النبي صلى الله عليه وسلّم أقرأه، فتقارءا إلى أبيّ فخالفهما أبيّ، فتقارءوا إلى
__________
(1) الطبري: هو محمد بن جرير بن يزيد بن خالد بن كثير، أبو جعفر الطبري، البغدادي المولد والوفاة، ولد سنة 224هـ، وتوفي سنة 310هـ. صاحب التاريخ المشهور، والتفسير المشهور (جامع البيان)، له من المصنفات: «الآداب الحميدة والأخلاق النفيسة»، «اختلاف الفقهاء»، «تاريخ الرجال»، «تاريخ الأمم والملوك وأخبارهم ومولد الرسل وأنباؤهم»، «جامع البيان في تفسير القرآن»، «تهذيب الآثار»، «كتاب البسيط في اللغة»، «الجامع في القراءات»، «كتاب التبصير» في الأصول، «كتاب الحفيف في الفقه»، «كتاب الزكاة»، «كتاب الشذور»، «كتاب الشروط»، «كتاب الصلاة»، «كتاب الطهارة»، «كتاب العدد والتنزيل»، «كتاب الفضائل»، «كتاب القراءة»، «كتاب المحاضر والسجلات»، «كتاب المسترشد»، «كتاب الوصايا» وغيرها. (كشف الظنون 6/ 2726، معجم الأدباء 6/ 424، وفيات الأعيان 1/ 577، طبقات المفسرين ص 30).
(2) انظر تفسير الطبري 1/ 37.
(3) انظر تفسير الطبري 1/ 41.
(4) هو عبد الرحمن بن أبي ليلى يسار بن بلال الأنصاري، أبو عيسى الكوفي، توفي سنة 83هـ.
(انظر ترجمته في: الطبقات الكبرى 6/ 166، كتاب الثقات 5/ 100، وفيات الأعيان 1/ 345، ميزان الاعتدال 2/ 115، تهذيب التهذيب 6/ 260).(1/80)
النبي صلى الله عليه وسلّم فقال: يا نبي الله، اختلفنا في آية من القرآن وكلنا يزعم أنك أقرأته، فقال لأحدهما: «اقرأ»، فقرأ فقال: «أصبت»، وقال للآخر: «اقرأ»، فقرأ خلاف ما قرأ صاحبه فقال: «أصبت»، وقال لأبيّ: «اقرأ»، فقرأ فخالفهما فقال: «أصبت» (1)، وذكر الحديث.
وفي رواية: «اقرأه على سبعة أحرف من سبعة أبواب من الجنّة» (2).
وفي أخرى: «من قرأ منها حرفا فهو كما قرأ» (3).
وفي صحيح مسلم أيضا عن ابن أبي ليلى عن أبيّ بن كعب أن النبي صلى الله عليه وسلّم كان عند أضاة بني غفار، فأتاه جبريل عليه السلام فقال: إن الله يأمرك أن تقرأ أمتك القرآن على حرف، فقال: «أسأل الله معافاته ومغفرته وإنّ أمّتي لا تطيق ذلك»، ثم أتاه الثانية فقال: إن الله تعالى يأمرك أن تقرأ أمتك القرآن على حرفين، فقال: «أسأل الله معافاته ومغفرته وإنّ أمّتي لا تطيق ذلك»، ثم جاءه الثالثة فقال: إن الله يأمرك أن تقرأ أمتك القرآن على ثلاثة أحرف، فقال: «أسأل الله معافاته ومغفرته وإنّ أمّتي لا تطيق ذلك»، ثم جاءه الرابعة فقال: إن الله يأمرك أن تقرأ أمتك القرآن على سبعة أحرف، فأيما حرف قرءوا عليه فقد أصابوا (4).
وفي سنن أبي داود عن أبيّ بن كعب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «يا أبيّ، إني أقرئت القرآن، فقال لي: على حرف؟ فقال الملك الذي معي: قل على حرفين، قلت: على حرفين، فقيل لي: على حرفين؟ فقال الملك الذي معي: قل على ثلاث، فقلت: على ثلاث، حتى بلغت سبعة أحرف»، ثم قال: «ليس منها إلّا شاف كاف، إن قلت سميعا عليما، عزيزا حكيما، ما لم تختم آية عذاب برحمة أو آية رحمة بعذاب» (5).
وفي سنن النسائي فقال: «إن جبريل وميكائيل أتياني فقعد جبريل عن يميني وميكائيل عن يساري فقال جبرئيل: اقرإ القرآن على حرف، فقال ميكائيل: استزده، حتى بلغ سبعة أحرف، فكلّ حرف شاف كاف» (6).
__________
(1) انظر تفسير الطبري 1/ 42.
(2) انظر تفسير الطبري 1/ 37.
(3) انظر تفسير الطبري 1/ 39.
(4) أخرجه مسلم في المسافرين حديث 274، وأبو داود في الوتر باب 22، والنسائي في الجنائز باب 103، والافتتاح باب 37، وأحمد في المسند 1/ 7، 5/ 127، 128.
(5) أخرجه أبو داود في الوتر باب 22، وأحمد في المسند 5/ 124.
(6) أخرجه النسائي في الافتتاح باب 37.(1/81)
وفي جامع الترمذي عن أبيّ بن كعب قال: لقي رسول الله صلى الله عليه وسلّم جبريل فقال: «يا جبريل إني بعثت إلى أمّة أمّيين منهم العجوز والشيخ الكبير والغلام والجارية والرّجل الذي لم يقرأ كتابا قطّ، قال: يا محمد، إنّ القرآن أنزل على سبعة أحرف» (1). قال:
هذا حديث حسن صحيح.
وروي من غير وجه عن أبيّ بن كعب. وفي هذا الباب عن ابن عمر وحذيفة وأبي هريرة وابن عباس وأبي جهيم بن الحارث بن الصمة وسمرة وأم أيوب امرأة أبي أيوب الأنصاري.
قلت: ورواه أبو جعفر الطبري في تفسيره (2): «منهم الغلام والخادم والشيخ العاسي والعجوز فقال جبريل: فليقرءوا القرآن على سبعة أحرف».
وفي كتاب أبي عبيد عن حذيفة بن اليمان عن النبي صلى الله عليه وسلّم قال: «لقيت جبريل عليه السلام عند أحجار المراء فقلت: يا جبريل إني أرسلت إلى أمّة أمّيّة الرّجل والمرأة والغلام والجارية والشيخ الفاني الذي لم يقرأ كتابا قطّ، فقال: إنّ القرآن أنزل على سبعة أحرف».
وعن أبي جهم الأنصاري أن رجلين اختلفا في آية من القرآن، كلاهما يزعم أنه تلقاها من رسول الله صلى الله عليه وسلّم، فمشيا جميعا حتى أتيا رسول الله صلى الله عليه وسلّم، فذكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال: «إنّ هذا القرآن نزل على سبعة أحرف فلا تماروا فيه فإنّ مراء فيه كفر».
وعن أبي قيس مولى عمرو بن العاص أن رجلا قرأ آية من القرآن فقال له عمرو بن العاص: إنما هي كذا وكذا، بغير ما قرأ الرجل، فقال الرجل: هكذا أقرأنيها رسول الله صلى الله عليه وسلّم، فخرجا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم فذكرا ذلك له، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «إن هذا القرآن نزل على سبعة أحرف فأيّ ذلك قرأتم أصبتم فلا تماروا في القرآن فإنّ مراء فيه كفر».
وفي كتاب ابن أبي شيبة عن أم أيوب قالت: قال النبي صلى الله عليه وسلّم: «نزل القرآن على سبعة أحرف أيّها قرأت أصبت» (3).
وعن عبد الرحمن بن أبي بكرة عن أبيه أن جبريل قال لرسول الله صلى الله عليه وسلّم: اقرأ القرآن على حرف، فقال له ميكائيل: استزده، فقال: على حرفين، ثم قال: استزده، حتى بلغ سبعة أحرف كلها كاف شاف كقولك: هلم وتعال، ما لم تختم آية رحمة بآية
__________
(1) أخرجه الترمذي في القرآن باب 9.
(2) انظر تفسير الطبري 1/ 35.
(3) انظر المصنف 2/ 161.(1/82)
عذاب أو آية عذاب بآية رحمة (1).
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلّم: «نزل القرآن على سبعة أحرف عليما حكيما غفورا رحيما» (2).
وفي رواية: «عليم حكيم غفور رحيم».
وفي أول تفسير الطبري (3) عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال: «أنزل القرآن على سبعة أحرف فالمراء في القرآن كفر ثلاث مرات فما عرفتم منه فاعملوا به وما جهلتم فردّوه إلى عالمه».
وفي رواية: «فاقرءوا ولا حرج ولكن لا تختموا ذكر رحمة بعذاب ولا ذكر عذاب برحمة» (4).
وعن زيد بن أرقم قال: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم فقال: أقرأني عبد الله بن مسعود سورة أقرأنيها زيد وأقرأنيها أبيّ بن كعب فاختلفت قراءتهم، بقراءة أيهم آخذ؟
قال: فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلّم، قال: وعليّ إلى جنبه، فقال علي: ليقرأ كل إنسان كما علم، كل حسن جميل (5).
وعن علقمة، عن عبد الله قال: لقد رأيتنا نتنازع فيه عند رسول الله صلى الله عليه وسلّم فيأمرنا فنقرأ عليه، فيخبرنا أن كلنا محسن، ولقد كنت أعلم أنه يعرض عليه القرآن في كل رمضان، حتى كان عام قبض فعرض عليه مرتين، فكان إذا فرغ أقرأ عليه، فيخبرني أني محسن، فمن قرأ على قراءتي فلا يدعنها رغبة عنها، ومن قرأ على شيء من هذه الحروف فلا يدعنه رغبة عنه، فإنه من جحد بآية وفي رواية: بحرف منه جحد به كلّه (6).
وفي كتاب «المستدرك» (7) عن عبد الله قال: أقرأني رسول الله صلى الله عليه وسلّم «سورة حم» ورحت إلى المسجد عشية، فجلس إليّ رهط، فقلت لرجل من الرهط: اقرأ عليّ، فإذا هو يقرأ حروفا لا أقرأها، فقلت له: من أقرأكها؟ قال: أقرأني رسول الله صلى الله عليه وسلّم، فانطلقنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم، وإذا عنده رجل فقلت: اختلفنا في قراءتنا وإن وجه
__________
(1) أخرجه أحمد في المسند 5/ 41، وابن أبي شيبة في المصنف 2/ 161.
(2) انظر المصنف 2/ 61.
(3) انظر تفسير الطبري 1/ 21.
(4) انظر تفسير الطبري 1/ 46.
(5) انظر تفسير الطبري 1/ 24.
(6) انظر تفسير الطبري 1/ 28.
(7) المستدرك 2/ 223.(1/83)
رسول الله صلى الله عليه وسلّم قد تغير، ووجد في نفسه حين ذكرت له الاختلاف فقال: «إنما أهلك من كان قبلكم الاختلاف» ثم أسرّ إلى عليّ، فقال علي: إن رسول الله صلى الله عليه وسلّم يأمركم أن يقرأ كل رجل منكم كما علم، قال: فانطلقنا وكل رجل منا يقرأ حروفا، لا يقرأها صاحبه. قال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه بهذه السياقة.
وفي السنن الكبير (1) عن سليمان بن صرد عن أبيّ بن كعب قال: قرأت آية وقرأ ابن مسعود خلافها، فأتينا النبي صلى الله عليه وسلّم فقلت: ألم تقرئني آية كذا وكذا؟ قال: «بلى»، قال ابن مسعود: ألم تقرئنيها كذا وكذا؟ قال: «بلى»، قال: «كلاكما محسن»، قلت:
ما كلانا أحسن ولا أجمل، قال: فضرب صدري وقال: «يا أبيّ إني أقرئت القرآن، فقيل لي: أعلى حرف أم على حرفين؟ فقال الملك الذي معي: على حرفين، فقلت:
على حرفين، فقيل لي: أعلى حرفين أم ثلاثة؟ فقال الملك الذي معي: على ثلاثة، فقلت: ثلاثة، حتى بلغ سبعة أحرف»، قال «ليس فيها إلّا شاف كاف، قلت: غفور رحيم، عليم حكيم، سميع عليم، عزيز حكيم، نحو هذا ما لم تختم آية عذاب برحمة أو رحمة بعذاب».
قال أبو عبيد: قد تواترت هذه الأحاديث كلها على الأحرف السبعة، إلا حديثا واحدا يروى عن سمرة بن جندب عن النبي صلى الله عليه وسلّم أنه قال: «أنزل القرآن على ثلاثة أحرف» (2). قال أبو عبيد: ولا نرى المحفوظ إلا السبعة، لأنها المشهورة.
قلت: أخرج حديث الثلاثة الحاكم في مستدركه، فيجوز أن يكون معناه: أن بعضه أنزل على ثلاثة أحرف ك {جَذْوَةٍ} [القصص: 29] و {الرَّهْبِ} [القصص: 32] و {الصَّدَفَيْنِ} [الكهف: 96]، يقرأ كل واحد على ثلاثة أوجه في هذه القراءات المشهورة، أو أراد: أنزل ابتداء على ثلاثة، ثم زيد إلى سبعة، والله أعلم.
ومعنى جميع ذلك أنه نزل منه ما يقرأ على حرفين وعلى ثلاثة وعلى أكثر من ذلك إلى سبعة أحرف توسعة على العباد باعتبار اختلاف اللغات والألفاظ المترادفة وما يقارب معانيها، وقد جاء عن ابن مسعود: ليس الخطأ أن يدخل بعض السورة في الأخرى ولا أن تختم الآية بحكيم عليم، أو عليم حكيم، ولكن الخطأ أن تجعل فيه ما ليس فيه، وإن تختم آية رحمة بآية عذاب أو آية عذاب بآية رحمة.
وقال الأعمش: سمعت أبا وائل يحدث عن عبد الله بن مسعود قال: سمعت القراء فوجدتهم متقاربين، اقرءوا كما علمتم وإياكم والتنطع والاختلاف، فإنما هو
__________
(1) السنن الكبرى للبيهقي 2/ 383.
(2) أخرجه بهذا اللفظ الحاكم في المستدرك 2/ 223، والطبراني في المعجم الكبير 7/ 249، والهيثمي في مجمع الزوائد 7/ 152.(1/84)
كقول أحدهم: هلمّ وتعال وأقبل.
قال البيهقي: أما الأخبار التي وردت في إجازة قراءة «غفور رحيم» بدل «عليم حكيم»، فلأن جميع ذلك مما نزل به الوحي، فإذا قرأ ذلك في غير موضعه فكأنه قرأ آية من سورة، وآية من سورة أخرى، فلا يأثم بقراءتها كذلك ما لم يختم آية عذاب بآية رحمة، ولا آية رحمة بآية عذاب.
قلت: وكان هذا سائغا قبل جمع الصحابة المصحف تسهيلا على الأمة حفظه، لأنه نزل على قوم لم يعتادوا الدرس والتكرار وحفظ الشيء بلفظه، بل هم قوم عرب فصحاء يعبرون عما يسمعون باللفظ الفصيح.
ثم إن الصحابة رضي الله عنهم خافوا من كثرة الاختلاف، وألهموا، وفهموا أن تلك الرخصة قد استغني عنها بكثرة الحفظة للقرآن، ومن نشأ على حفظه صغيرا فحسموا مادة ذلك بنسخ القرآن على اللفظ المنزل غير اللفظ المرادف له، وصار الأصل ما استقرت عليه القراءة في السنة التي توفي فيها رسول الله صلى الله عليه وسلّم بعد ما عارضه به جبريل عليه السلام في تلك السنة مرتين، ثم اجتمعت الصحابة على إثباته بين الدفتين، وبقي من الأحرف السبعة التي كان أبيح قراءة القرآن عليها ما لا يخالف المرسوم، وهو ما يتعلق بتلك الألفاظ من الحركات والسكنات والتشديد والتخفيف وإبدال حرف بحرف يوافقه في الرسم، ونحو ذلك وما لا يحتمله المرسوم الواحد فرق في المصاحف فكتب بعضها على رسم قراءة، وبعضها على رسم قراءة أخرى، وأمثلة ذلك كله معروفة عند العلماء بالقراءات، وصح عن زيد بن ثابت رضي الله عنه وعن غيره أنه قال: إن القراءة سنة.
قال البيهقي: أراد أن اتباع من قبلنا في الحروف سنة متبعة، لا يجوز مخالفة المصحف الذي هو إمام، ولا مخالفة القراءات التي هي مشهورة، وإن كان غير ذلك سائغا في اللغة، أو أظهر منها.
قال أبو بكر بن العربي (1): سقط جميع اللغات والقراءات إلا ما ثبت في
__________
(1) أبو بكر بن العربي: هو محمد بن عبد الله بن محمد بن عبد الله بن أحمد، المعروف بابن المغربي، ويقال: ابن العربي القاضي، أبو بكر المعافري الإشبيلي الأندلسي، ولد سنة 468هـ، وتوفي سنة 543هـ. له من المصنفات: «أحكام القرآن»، «أعيان الأعيان»، «الأمد الأقصى بأسماء الله الحسنى وصفاته العلى»، «الإنصاف في مسائل الخلاف»، «أنوار الفجر المنير» في التفسير «تبيين الصحيح وتعيين الذبيح»، «ترتيب الرحلة»، «ترتيب المسالك في شرح موطأ مالك»، «تفصيل التفضيل بين التحميد والتهليل»، «التوسط في معرفة صحة الاعتقاد والرد على من خالف السنة من ذوي البدع والإلحاد»، «الحاكمة في الفتاوى»،(1/85)
المصحف بإجماع من الصحابة وما أذن فيه قبل ذلك ارتفع وذهب والله أعلم (1).
الفصل الثاني في المراد بالأحرف السبعة التي نزل القرآن عليها
وفي ذلك اختلاف كثير، وكلام للمصنفين طويل، فنذكر ما أمكن من ذلك مع بيان ما نختاره في تفسير ذلك بعون الله تعالى.
قال أبو عبيد القاسم بن سلام رحمه الله تعالى في كتاب «غريب الحديث» (2):
قوله: سبعة أحرف يعني سبع لغات من لغات العرب، وليس معناه أن يكون في الحرف الواحد سبعة أوجه، هذا لم نسمع به قط، ولكن نقول: هذه اللغات السبع متفرقة في القرآن، فبعضه نزل بلغة قريش، وبعضه نزل بلغة هوازن، وبعضه بلغة هذيل، وبعضه بلغة أهل اليمن، وكذلك سائر اللغات، ومعانيها في هذا كله واحدة، قال: ومما يبين ذلك قول ابن مسعود رضي الله عنه: «إني سمعت القراء فوجدتهم متقاربين، فاقرءوا كما علمتم، إنما هو كقول أحدكم هلم وتعال» (3)، وكذلك قال ابن سيرين: «إنما هو كقولك هلم وتعال وأقبل»، ثم فسره ابن سيرين فقال: في قراءة ابن مسعود إن كانت إلّا زقية واحدة (4)، وفي قراءتنا: {صَيْحَةً وََاحِدَةً}
[يس: 29]، فالمعنى فيهما واحد، وعلى هذا سائر اللغات.
وقال في كتاب «فضائل القرآن»: وليس معنى تلك السبعة أن يكون الحرف الواحد يقرأ على سبعة أوجه، هذا شيء غير موجود، ولكنه عندنا أنه نزل على سبع لغات متفرقة في جميع القرآن من لغات العرب، فيكون الحرف منها بلغة قبيلة، والثاني بلغة أخرى سوى الأولى، والثالث بلغة أخرى سواهما، كذلك إلى سبعة.
__________
«حديث الإفك»، «الدواهي والنواهي في الرد على ابن حزم الظاهري»، «السلفيات»، «ستر العورة»، «سراج المريدين»، «شرح الجامع الصحيح للبخاري»، «شرح حديث أم زرع»، «شرح حديث جابر»، «شرح غريب الرسالة»، «عارضة الأحوذي في شرح سنن الترمذي»، «العقد الأكبر للقلب الأصغر»، «قانون التأويل»، «القبس في شرح موطأ مالك بن أنس»، «قصيدة في القراءة»، «كتاب الخلافيات»، «كتاب السباعيات»، «كتاب المسلسلات»، «مفتاح المقاصد»، «ناسخ القرآن ومنسوخه» وغير ذلك. (انظر: كشف الظنون 6/ 90، وفيات الأعيان 1/ 619، تذكرة الحفاظ 4/ 86).
(1) انظر القبس في شرح موطأ مالك بن أنس ص 46وما بعدها.
(2) انظر «غريب الحديث» 3/ 160159.
(3) انظر البيهقي في شعب الإيمان 1/ 373.
(4) ذكرها الزمخشري في الكشاف 4/ 13.(1/86)
وبعض احياء أسعد بها، وأكثر حظا فيها من بعض، وذلك بيّن في أحاديث تترى:
حدثني عبد الرحمن بن مهدي عن إبراهيم بن سعد عن الزهري عن أنس بن مالك أن عثمان رحمة الله عليه قال للرهط القرشيين الثلاثة حين أمرهم أن يكتبوا المصاحف: ما اختلفتم فيه أنتم وزيد بن ثابت فاكتبوه بلسان قريش، فإنه نزل بلسانهم.
قلت: يعني أول نزوله قبل الرخصة في قراءته على سبعة أحرف.
قال أبو عبيد: وكذلك يحدثون عن سعيد بن أبي عروبة (1) عن قتادة عمن سمع ابن عباس يقول: نزل القرآن بلغة الكعبين، كعب بن قريش وكعب بن خزاعة، قيل:
وكيف ذاك؟ قال: لأن الدار واحدة.
قال أبو عبيد: يعني أن خزاعة جيران قريش فأخذوا بلغتهم (2).
وأما الكلبي (3) فإنه يروي عنه عن أبي صالح (4) عن ابن عباس قال: نزل القرآن على سبع لغات، منها خمس بلغة العجز من هوازن.
قال أبو عبيد: والعجز هم سعد بن بكر، وجشم بن بكر، ونصر بن معاوية، وثقيف، وهذه القبائل هي التي يقال لها: عليا هوازن، وهم الذين قال فيهم أبو عمرو بن العلاء (5): أفصح العرب عليا هوازن وسفلى تميم. فهذه عليا هوازن، وأما
__________
(1) هو سعيد بن أبي عروبة العدوي، أبو النضر البصري، توفي سنة 156هـ. (انظر ترجمته في:
ميزان الاعتدال 1/ 387، تهذيب التهذيب 4/ 63).
(2) انظر «التمهيد» 4/ 63.
(3) هناك اثنان يلقبان بالكلبي (أو ابن الكلبي) وهما: محمد بن السائب بن بشر بن عمرو بن الحارث، أبو النضر الكوفي النسابة المعروف بابن الكلبي، منسوب إلى كلب بن وبرة، وهي قبيلة كبيرة من قضاعة، المتوفى بالكوفة سنة 146، له «تفسير القرآن». (كشف الظنون 6/ 7).
وابنه أبو المنذر هشام بن أبي النصر محمد بن السائب بن بشر بن عمرو النسابة الكوفي، المعروف بابن الكلبي المتوفى سنة 204هـ، له العشرات من المصنفات، منها: «آباء النبي صلى الله عليه وسلّم»، «أسواق العرب»، «الديباج في أخبار الشعراء»، «لغات العرب»، «النسب الكبير» يحتوي كتاب الأنساب، «كتاب التاريخ»، «كتاب المنافرات» وغيرها الكثير. (كشف الظنون 6/ 509508).
(4) أبو صالح: هو باذام مولى أم هانئ بنت أبي طالب، وهو صاحب التفسير الذي رواه عن ابن عباس، ورواه عن أبي صالح، الكلبي محمد بن السائب، وروى عن أبي صالح أيضا سماك بن حرب وإسماعيل بن أبي خالد. (انظر ترجمته في: الطبقات الكبرى 6/ 299 300، تهذيب التهذيب 1/ 416).
(5) أبو عمرو بن العلاء: هو زبان بن عمار التميمي المازني البصري، أبو عمرو، ويلقب أبوه(1/87)
سفلى تميم فبنو دارم، فهذه سبع قبائل.
قلت: والكعبان كعب بن لؤي من قريش، وكعب بن عمرو من خزاعة.
وقال أبو جعفر محمد بن سعدان النحوي (1): معنى قوله صلى الله عليه وسلّم: «أنزل القرآن على سبعة أحرف» مشكل لا يدرى معناه، لأن العرب تسمي الكلمة المنظومة حرفا، وتسمي القصيدة بأسرها كلمة، والحرف يقع على الحرف المقطوع من الحروف المعجمة والحرف أيضا المعنى والجهة كقوله تعالى: {وَمِنَ النََّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللََّهَ عَلى ََ حَرْفٍ} [الحج: 11]، أي على جهة من الجهات ومعنى من المعاني.
قال أبو علي الأهوازي (2): سمعت أبا عبد الله محمد بن المعلى الأزدي (3)
بالبصرة يقول: سمعت أبا بكر محمد بن دريد الأزدي (4) يقول: سمعت أبا حاتم سهل بن محمد السجستاني يقول: معنى سبعة أحرف سبع لغات من لغات العرب، وذلك أن القرآن نزل بلغة قريش وهذيل وتميم وأزد وربيعة وهوازن وسعد بن بكر،
__________
بالعلاء، ولد بمكة سنة 70هـ، وتوفي بالكوفة سنة 154هـ، من أئمة اللغة والأدب، وأحد القراء السبعة. (الأعلام 3/ 41، غاية النهاية 1/ 288، فوات الوفيات 1/ 164، وفيات الأعيان 1/ 386، نزهة الألباء 31).
(1) هو محمد بن سعدان، أبو جعفر الكوفي الضرير، مقرئ، نحوي، توفي سنة 231هـ. (انظر ترجمته في: غاية النهاية 2/ 143، تاريخ بغداد 5/ 324، إنباه الرواة 3/ 140).
(2) أبو علي الأهوازي: هو الحسن بن علي بن إبراهيم بن يزداد، أبو علي الأهوازي، مقرئ الشام، توفي سنة 446هـ. (انظر ترجمته في: لسان الميزان 2/ 237، غاية النهاية 1/ 220، ميزان الاعتدال 1/ 237).
(3) هو محمد بن المعلى بن عبد الله الأسدي، ويقال: الأزدي، البصري، النحوي، اللغوي، المتوفى في حدود سنة 550هـ. له من المصنفات: «جامع المرقصات والمطربات»، «شرح ديوان تميم بن أبي عقيل». (انظر ترجمته في: كشف الظنون 6/ 92، معجم الأدباء 7/ 107، بغية الوعاة ص 106).
(4) ابن دريد: هو محمد بن الحسن بن دريد بن عتاهية بن خيثم العربي اليعربي، البصري، أبو بكر اللغوي الشافعي الأديب نزيل بغداد، الشهير بابن دريد، ولد سنة 223هـ، وتوفي سنة 321هـ، من مصنفاته: «أدب الكاتب»، «أسماء القبائل»، «أمالي» في العربية «تقويم اللسان»، «الجمهرة في اللغة»، «زوراء العرب»، «صفة السحاب والغيث»، «كتاب الاشتقاق»، «كتاب الأنواء»، «كتاب الخيل الصغير»، «كتاب الخيل الكبير»، «كتاب السرج واللجام»، «كتاب السلاح»، «كتاب فصلت وأفعلت»، «كتاب اللغات»، «كتاب المقتبس»، «كتاب المقتنى»، «كتاب المجتبى»، «كتاب المقصورة» عدد أبياتها 229بيتا، «كتاب المقصورة والممدود»، «كتاب الملاحن»، «كتاب الوشاح» وغير ذلك. (كشف الظنون 6/ 32، إنباه الرواة 3/ 92، تاريخ بغداد 2/ 195، بغية الوعاة ص 30).(1/88)
قال: وسمعت أبا الحسن علي بن إسماعيل بن الحسن القطان (1) يقول: سمعت أبا جعفر أحمد بن عبد الله بن مسلم (2) يقول: سمعت أبي يقول: وهذا القول عظيم من قائله، لأنه غير جائز أن يكون في القرآن لغة تخالف قريش لقوله تعالى: {وَمََا أَرْسَلْنََا مِنْ رَسُولٍ إِلََّا بِلِسََانِ قَوْمِهِ} [إبراهيم: 4] إلا أن يكون القائل لهذا أراد ما وافق من هذه اللغات لغة قريش.
وعن أيوب السختياني أنه قال: معنى قوله تعالى: {إِلََّا بِلِسََانِ قَوْمِهِ} أراد العرب كلهم.
قلت: فعلى هذا القول لا يستقيم اعتراض ابن قتيبة (3) على ذلك التأويل.
وقد قال بعض الشيوخ: الواضح من ذلك أن يكون الله تعالى أنزل القرآن بلغة قريش ومن جاورهم من فصحاء العرب، ثم أباح للعرب المخاطبين به المنزل عليهم أن يقرءوه بلغاتهم التي جرت عادتهم باستعمالها على اختلافهم في الألفاظ والإعراب، ولم يكلف بعضهم الانتقال من لغة إلى غيرها لمشقة ذلك عليهم، ولأن العربي إذا فارق لغته التي طبع عليها يدخل عليه الحمية من ذلك، فتأخذه العزة، فجعلهم يقرءونه على عاداتهم وطباعهم ولغاتهم منّا منه عز وجل لئلا يكلفهم ما يشق عليهم، فيتباعدوا عن الإذعان، وكان الأصل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلّم من الألفاظ والإعراب جميعا مع اتفاق المعنى، فمن أجل ذلك جاء في القرآن ألفاظ مخالفة
__________
(1) هو أبو الحسن البصري القطان، علي بن إسماعيل بن الحسن بن إسحاق، المعروف بالخاشع، توفي سنة 390هـ. (انظر: غاية النهاية 1/ 526).
(2) هو أحمد بن عبد الله بن مسلم بن قتيبة، أبو جعفر الدينوري، توفي سنة 322هـ. (انظر ترجمته في: شذرات الذهب 2/ 170، تاريخ بغداد 4/ 229).
(3) ابن قتيبة: هو عبد الله بن مسلم بن قتيبة الكوفي، أبو محمد الدينوري، الأديب المحدث، ولد سنة 213هـ، وتوفي سنة 276هـ. له من التصانيف: «آداب العشرة»، «آداب القراءة»، «أدب الكاتب»، «اختلاف الحديث»، «إصلاح غلط أبي عبيدة»، «إعراب القرآن»، «تأويل مختلف الحديث»، «تقويم اللسان»، «جامع الفقه»، «جامع النحو»، «الجوابات الحاضرة»، «حكم الأمثال»، «خلق الإنسان»، «دلائل النبوة»، «ديوان الكتاب»، «طبقات الشعراء»، «عيون الأخبار في الأدب والمحاضرات»، «عيون الشعر»، «غريب الحديث»، «غريب القرآن»، «فرائد الدرر»، «كتاب الأشربة»، «كتاب الأنواء»، «كتاب الحكاية والمحكي»، «كتاب التسوية بين العرب والعجم»، «كتاب التفقيه»، «كتاب الخيل»، «كتاب الرد على المشبهة»، «كتاب الشعر والشعراء»، «كتاب العلم»، «كتاب القراءات»، «كتاب المراتب والمناقب من عيون الشعر»، «كتاب المعارف في التاريخ»، «كتاب الميسر والقداح»، «مختلف الحديث»، «مشكلات القرآن»، «معاني الشعر». (كشف الظنون 5/ 441، مراتب النحويين ص 84، إنباه الرواة 2/ 143، وفيات الأعيان 1/ 314).(1/89)
ألفاظ المصحف المجمع عليه، كالصوف وهو العهن [القارعة: 5]، وزقية وهي {صَيْحَةً} [يس: 29]، وحططنا وهي {وَضَعْنََا} [الانشراح: 20]، وحطب جهنم وهي {حَصَبُ} [الأنبياء: 98]، ونحو ذلك، فقبض رسول الله صلى الله عليه وسلّم وكل رجل منهم متمسك بما أجازه له صلى الله عليه وسلّم وإن كان مخالفا لقراءة صاحبه في اللفظ، وعول المهاجرون والأنصار ومن تبعهم على العرضة الأخيرة التي عرضها رسول الله صلى الله عليه وسلّم على جبريل عليه السلام في العام الذي قبض فيه، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلّم كان يعرض عليه في كل سنة مرة جميع ما أنزل عليه فيها إلا في السنة التي قبض فيها، فإنه عرض عليه مرتين.
قلت: وهذا كلام مستقيم حسن، وتتمته أن يقال:
أباح الله تعالى أن يقرأ على سبعة أحرف ما يحتمل ذلك من ألفاظ القرآن وعلى دونها ما يحتمل ذلك من جهة اختلاف اللغات وترادف الألفاظ توسيعا على العباد، ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلّم يقول لما أوحي إليه أن يقرأه على حرفين وثلاثة: «هوّن على أمّتي» (1) على ما سبق ذكره في أول الباب، فلما انتهى إلى سبعة وقف، وكأنه صلى الله عليه وسلّم علم أنه لا يحتاج من ألفاظه لفظة إلى أكثر من ذلك غالبا، والله أعلم.
وإنما غرضنا الآن تحقيق معنى هذا العدد الذي هو سبعة أحرف.
قال الأهوازي: وقالت طائفة: سبع لغات من قريش حسب. وقال بعضهم:
خمس منها بلغة هوازن، وحرفان لسائر لغات العرب، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم ربي في هوازن ونشأ في هذيل. وجاء عن علي بن أبي طالب وابن عباس رضي الله عنهما أنهما قالا: نزل القرآن بلغة كل حي من أحياء العرب. وفي رواية عن ابن عباس: أن النبي صلى الله عليه وسلّم كان يقرئ الناس بلغة واحدة، فاشتد ذلك عليهم، فنزل جبريل فقال: يا محمد، أقرئ كلّ قوم بلغتهم.
قلت: هذا هو الحق، لأنه إنما أبيح أن يقرأ بغير لسان قريش توسعة على العرب، فلا ينبغي أن يوسع على قوم دون قوم، فلا يكلف أحد إلا قدر استطاعته، فمن كانت لغته الإمالة، أو تخفيف الهمز، أو الإدغام، أو ضم ميم الجمع، أو صلة هاء الكناية، أو نحو ذلك فكيف يكلف غيره؟ وكذا كل من كان من لغته أن ينطق بالشين التي كالجيم في نحو أشدق، والصاد التي كالزاي في نحو مصدر، والكاف التي كالجيم، والجيم التي كالكاف، ونحو ذلك فهم في ذلك بمنزلة الألثغ والأرت، لا يكلف ما ليس في وسعه، وعليه أن يتعلم ويجتهد، والله أعلم.
__________
(1) تقدم الحديث مع تخريجه.(1/90)
وقد قال أبو بكر بن العربي شيخ السهيلي (1) في كتاب شرح الموطأ:
«لم تتعين هذه السبعة بنص من النبي صلى الله عليه وسلّم، ولا بإجماع من الصحابة، وقد اختلفت فيها الأقوال، فقال ابن عباس: اللغات سبع والسماوات سبع والأرضون سبع، وعدّد السبعات، وكأن معناه أنه نزل بلغة العرب كلها، وقيل: هذه الأحرف في لغة واحدة وقيل: هي تبديل الكلمات إذا استوى المعنى.
وقال أبو سليمان الخطابي:
«اختلف الناس في تفسير قوله: «سبعة أحرف» فقال بعضهم: معنى الحروف اللغات، يريد أنه نزل على سبع لغات من لغات العرب، هي أفصح اللغات، وأعلاها في كلامهم، قالوا: وهذه اللغات متفرقة في القرآن، غير مجتمعة في الكلمة الواحدة، وإلى نحو من هذا أشار أبو عبيد. وقال القتبي: لا نعرف في القرآن حرفا يقرأ على سبعة أحرف. وقال ابن الأنباري (2): هذا غلط، فقد وجد في القرآن حروف تقرأ على سبعة أحرف، منها قوله تعالى: {وَعَبَدَ الطََّاغُوتَ} [المائدة: 60] وقوله تعالى: {أَرْسِلْهُ مَعَنََا غَداً يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ،} وذكر وجوها، كأنه يذهب في تأويل الحديث إلى أن بعض
__________
(1) السهيلي: هو عبد الرحمن بن عبد الله بن أحمد بن أصبغ بن الحسين بن سعدون بن رضوان بن فتوح الخثعمي، أبو زيد السهيلي الأندلسي (سهيل قرية من قرى مالقة)، ولد سنة 508هـ، وتوفي بمراكش سنة 581هـ، له من الكتب: «الإيضاح والتبيين لما أبهم من تفسير الكتاب المبين»، «التعريف والإعلام فيما أبهم في القرآن من الأسماء الأعلام»، «رسالة في رؤية الله تعالى في المنام ورؤية رسوله عليه الصلاة والسلام»، «الروض الأنف في شرح غريب السير»، «مختصر الوجيز فيما تضمن كتاب الله العزيز في ذكر من لم يسم فيه باسمه العليم من نبي وولي وغيرهما آدمي أو ملك أو غير ذلك من كل شيء»، «مسألة السر في الأعور الدجال»، «كتاب الفرائض». (كشف الظنون 5/ 520).
(2) ابن الأنباري: هو محمد بن أبي محمد القاسم بن محمد بن يسار، المعروف بابن الأنباري البغدادي، الحافظ، الأديب، النحوي، اللغوي، ولد سنة 271هـ، وتوفي سنة 328هـ. من تصانيفه: «أدب الكاتب»، «الأضداد والضد في اللغة»، «ألفات القطع والوصل»، «أمالي»، «الإيضاح في الوقف والابتداء»، «تفسير الصحابة»، «الرد على من خالف مصحف عثمان رضي الله عنه»، «الزاهر في معاني الكلام الذي يستعمله الناس»، «السبع الطوال»، «شرح شعر الأعشى والنابغة وزهير»، «شرح الكافي»، «شرح المفضليات»، «ضمائر القرآن»، «غريب الحديث»، «الكافي في النحو»، «كتاب الجاهليات»، «كتاب اللامات»، «كتاب المذكر والمؤنث»، «كتاب المشكل في معاني القرآن»، «كتاب المقصور والممدود»، «كتاب الواضح في النحو»، «كتاب الهاءات»، «كتاب الهجاء»، «موضح في النحو» وغير ذلك.
(انظر: كشف الظنون 6/ 35، تاريخ بغداد 3/ 181، تذكرة الحفاظ 3/ 57، بغية الوعاة ص 91).(1/91)
القرآن أنزل على سبعة أحرف، لا كله».
وذكر بعضهم وجها آخر، وهو أن القرآن أنزل مرخصا للقارئ، وموسعا عليه أن يقرأه على سبعة أحرف، أي يقرأ بأي حرف شاء منها على البدل من صاحبه، ولو أراد أن يقرأ على معنى ما قاله ابن الأنباري لقيل: أنزل القرآن سبعة أحرف، وإنما قيل: «على سبعة أحرف» ليعلم أنه أريد به هذا المعنى، أي كأنه أنزل على هذا من الشرط، أو على هذا من الرخصة والتوسعة، وذلك لتسهل قراءته على الناس، ولو أخذوا بأن يقرءوه على حرف واحد لشق عليهم، ولكان ذلك داعية إلى الزهادة فيه وسببا للنفور عنه.
قال: «وقيل: فيه وجه آخر، وهو أن المراد به التوسعة، ليس حصرا للعدد».
قلت: هذا موافق لما سبق تقريره على ما روي عن علي وابن عباس رضي الله عنهم، وهو كما قيل في معنى قوله تعالى: {إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللََّهُ لَهُمْ} [التوبة: 80] إنه جرى كالمثل في التعبير عن التكثير، لا حصرا في هذا العدد، والله أعلم.
وقال أبو القاسم الهذلي (1) في كتابه «الكامل»: قال أبو عبيد: المقصود سبع لغات، لغة قريش وهذيل وثقيف وهوازن وكنانة وتميم واليمن، وقيل: خمس لغات في أكناف هوازن: لسعيد وثقيف وكنانة وهذيل وقريش، ولغتان على جميع ألسنة العرب. قال: وليس الشرط أن تأتي سبع لغات في كل حرف، بل يجوز أن يأتي في حرف وجهان أو ثلاثة أو أكثر، ولم تأت سبعة أحرف إلا في كلمات يسيرة، مثل:
{أُفٍّ} بالضم والفتح والكسر مع التنوين وبغير تنوين مع الحركات الثلاث وبالسكون.
فصل
قال الحافظ أبو عمر بن عبد البر (2) في كتاب «التمهيد»:
__________
(1) أبو القاسم الهذلي: هو يوسف بن علي بن جبارة بن محمد بن عقيل بن سوادة الهزلي الضرير، المقرئ، المعروف بالبسكري (بسكرة بالباء الموحدة وسكون السين المهملة وكسر الكاف، بلدة بالمغرب من نواحي الزاب) سافر إلى المشرق وسكن نيسابور وتوفي بها سنة 465هـ، وكانت ولادته سنة 403هـ. من آثاره: «الكامل في القراءات الخمس». (انظر: كشف الظنون 6/ 551، معجم الأدباء 7/ 308، غاية النهاية 2/ 397، لسان الميزان 6/ 325).
(2) ابن عبد البر: هو الحافظ جمال الدين أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر بن عاصم النمري الأديب الفقيه المالكي الشهير بابن عبد البر القرطبي، ولد سنة 368هـ، وتوفي بشاطبة سنة 463هـ. من تصانيفه: «آداب العلم»، «الأجوبة المرعبة على المسائل المستغربة(1/92)
«وهذا مجتمع عليه أن القرآن لا يجوز في حروفه وكلماته وآياته كلها أن تقرأ على سبعة أحرف، ولا شيء منها، ولا يمكن ذلك فيها، بل لا يوجد في القرآن كلمة تحتمل أن تقرأ على سبعة أوجه إلا قليل، مثل: {وَعَبَدَ الطََّاغُوتَ} [المائدة: 60] و {تَشََابَهَ عَلَيْنََا} [البقرة: 70]، وساق الكلام إلى أن قال: «وقال قوم: هي سبع لغات في القرآن متفرقات على لغات العرب كلها يمنها ونزارها، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلّم لم يجهل شيئا منها، وكان قد أوتي جوامع الكلم».
«وقال آخرون: هذه اللغات كلها السبع، إنما تكون في مضر واحتجوا بقول عثمان رضي الله عنه: نزل القرآن بلسان مضر، وقالوا: جائز أن يكون منها لقريش، ومنها لكنانة، ومنها لأسد، ومنها لهذيل، ومنها لتميم، ومنها لضبة، ومنها لقيس، فهذه قبائل مضر تستوعب سبع لغات على هذه المراتب».
«وأنكر آخرون أن تكون كلها في مضر وقالوا: في مضر شواذ، لا يجوز أن يقرأ القرآن عليها، مثل كشكشة قيس وعنعنة تميم. وفي سنن أبي داود أن عمر كتب إلى ابن مسعود: أما بعد، فإن الله تعالى أنزل القرآن بلغة قريش، فإذا أتاك كتابي هذا فأقرئ الناس بلغة قريش، ولا تقرئهم بلغة هذيل» (1).
«قال أبو عمر: ويحتمل أن يكون هذا من عمر على سبيل الاختيار، لأن ما قرأ به ابن مسعود لا يجوز»، قال: «وإذا أبيح لنا قراءته على كل ما أنزل فجائز الاختيار فيما أنزل عندي، والله أعلم». قال: «وقد روي عن عثمان مثل قول عمر هذا: إن القرآن نزل بلغة قريش، بخلاف الرواية الأولى، وهذا أثبت عنه ومعناه عندي في الأغلب، لأن غير لغة قريش موجود في صحيح القراءات من تحقيق الهمزات ونحوها وقريش لا تهمز».
__________
من صحيح البخاري»، «الاستذكار لمذاهب أئمة الأمصار وفيما تضمنه الموطأ من المعاني والآثار» في اختصار التمهيد، «الاستيعاب في معرفة الأصحاب»، «الانتهاء في فضائل الثلاثة الفقهاء»، «الإنصاف فيما بين العلماء من الاختلاف»، «بهجة المجالس وأنس الجالس»، «البيان في تأويلات القرآن»، «التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد»، «جامع بيان العلم وفضله»، «الدرر في اختصار المغازي والسير»، «فضل العلم»، «القصد والأمم إلى أنساب العرب والعجم»، «كافي في فروع المالكية»، «كتاب الاستظهار في حديث عمار»، «كتاب العقل»، «كتاب الفرائض»، «كتاب الكنى»، «كتاب المغازي»، «كتاب المدخل في القراءات». (كشف الظنون 6/ 551550، وفيات الأعيان 2/ 458، تذكرة الحفاظ 3/ 306، شذرات الذهب 3/ 314).
(1) الحديث لم أجده في سنن أبي داود.(1/93)
قلت: أشار عثمان رضي الله عنه إلى أول نزوله، ثم إن الله تعالى سهله على الناس، فجوز لهم أن يقرءوه على لغاتهم على ما سبق تقريره، لأن الكل لغات العرب، فلم يخرج عن كونه بلسان عربي مبين.
وأما من أراد من غير العرب حفظه فالمختار له أن يقرأه على لسان قريش، وهذا إن شاء الله تعالى هو الذي كتب فيه عمر إلى ابن مسعود رضي الله عنهما:
«أقرئ الناس بلغة قريش»، لأن جميع لغات العرب بالنسبة إلى غير العربي مستوية في التعسر عليه، فإذا لا بد من واحدة منها، فلغة النبي صلى الله عليه وسلّم أولى له، وإن أقرئ بغيرها من لغات العرب، فجائز فيما لم يخالف خط المصحف وأما العربي المجبول على لغة فلا يكلف لغة قريش لتعسرها عليه، وقد أباح الله تعالى القراءة على لغته، والله أعلم.
ثم قال ابن عبد البر:
«وقد روى الأعمش عن أبي صالح عن ابن عباس قال: أنزل القرآن على سبعة أحرف، صار في عجز هوازن منها خمسة».
«قال أبو حاتم: عجز هوازن ثقيف وبنو سعد بن بكر وبنو جشم وبنو نصر بن معاوية. قال أبو حاتم: خص هؤلاء دون ربيعة وسائر العرب، لقرب جوارهم من مولد النبي صلى الله عليه وسلّم، ومنزل الوحي، وإنما مضر وربيعة أخوان، قال: وأحب الألفاظ واللغات إلينا أن نقرأ بها لغات قريش، ثم أدناهم من بطون مضر».
«قال أبو عمر: وأنكر أكثر أهل العلم أن يكون معنى حديث النبي صلى الله عليه وسلّم: «أنزل القرآن على سبعة أحرف» سبع لغات، وقالوا: هذا لا معنى له، لأنه لو كان كذلك لم ينكر القوم بعضهم على بعض في أول الأمر، لأنه من كانت لغته شيئا قد جبل وطبع عليه وفطر به لم ينكر عليه، وأيضا فإن عمر بن الخطاب وهشام بن حكيم كلاهما قرشي مكي، وقد اختلفت قراءتهما، ومحال أن ينكر عليه عمر لغته، كما محال أن يقرئ رسول الله صلى الله عليه وسلّم واحدا منهما بغير ما يعرفه من لغته، والأحاديث الصحاح المرفوعة كلها تدل على نحو ما يدل عليه حديث عمر هذا. وقالوا: إنما معنى السبعة الأحرف سبعة أوجه من المعاني المتفقة المتقاربة بألفاظ مختلفة، نحو: أقبل وتعال وهلم، وعلى هذا أكثر أهل العلم».
ثم ذكر الأحاديث في ذلك، منها: حديث أبيّ أن النبي صلى الله عليه وسلّم قال:
«أقرئت القرآن فقلت: على حرف أو حرفين، فقال لي الملك الذي عندي:
على حرفين، فقلت: على حرفين أو ثلاثة، فقال الملك: على ثلاثة، فقلت: على ثلاثة، هكذا حتى بلغ سبعة أحرف وليس منها إلّا شاف كاف، غفورا رحيما، عليما
حكيما، عزيزا حكيما، أيّ ذلك قلت فإنه كذلك. زاد بعضهم: ما لم تختم عذابا برحمة أو رحمة بعذاب» (1).(1/94)
على حرفين، فقلت: على حرفين أو ثلاثة، فقال الملك: على ثلاثة، فقلت: على ثلاثة، هكذا حتى بلغ سبعة أحرف وليس منها إلّا شاف كاف، غفورا رحيما، عليما
حكيما، عزيزا حكيما، أيّ ذلك قلت فإنه كذلك. زاد بعضهم: ما لم تختم عذابا برحمة أو رحمة بعذاب» (1).
ومنها: حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال:
«هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف، فاقرءوا، ولا حرج، ولكن لا تختموا ذكر رحمة بعذاب ولا ذكر عذاب برحمة» (2).
ومنها حديث أبي جهيم الأنصاري:
«أن رجلين اختلفا في آية من القرآن، فسئل رسول الله صلى الله عليه وسلّم فقال: «إنّ القرآن أنزل على سبعة أحرف، فلا تماروا في القرآن، فإنّ المراء كفر».
قال: «وهذه الآثار كلها تدل على أنه لم يعن به سبع لغات، والله أعلم» (3).
«وقد جاء عن أبيّ بن كعب أنه كان يقرأ: {لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونََا} [الحديد: 13]، مهلونا، أخرونا، أرجئونا، وكان يقرأ: {كُلَّمََا أَضََاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ} [البقرة: 20]، مروا فيه، سعوا فيه كل هذه الحروف كان يقرأ بها أبيّ بن كعب، إلا أن مصحف عثمان الذي بأيدي الناس اليوم هو منها حرف واحد». وقال: «وعلى هذا أهل العلم، فاعلم».
«وذكر ابن وهب في كتاب الترغيب من جامعه قال: قيل لمالك: أترى أن يقرأ بمثل ما قرأ به عمر بن الخطاب فامضوا إلى ذكر الله؟ [الجمعة: 9] قال: ذلك جائز، قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «أنزل القرآن على سبعة أحرف فاقرءوا ما تيسّر منه»، مثل تعملون ويعملون، وقال مالك: لا أرى باختلافهم في مثل هذا بأسا» (4).
«قال أبو عمر: معناه عندي أن يقرأ به في غير الصلاة على وجه التعليم والوقوف على ما روي في ذلك من علم الخاصة، وإنما ذكرنا ذلك عن مالك تفسيرا لمعنى الحديث، وإنما لم تجز القراءة به في الصلاة، لأن ما عدا مصحف عثمان لا يقطع عليه، وإنما يجري مجرى السنن التي نقلها الآحاد، لكنه لا يقدم أحد على القطع في رده، وقد قال مالك: إن من قرأ في صلاته بقراءة ابن مسعود، أو غيره من الصحابة مما يخالف المصحف لم يصل وراءه».
«وعلماء المسلمين مجمعون على ذلك، إلا قوما شذوا، لا يعرج عليهم، منهم
__________
(1) انظر «التمهيد» 4/ 6463.
(2) انظر «التمهيد» 4/ 65.
(3) انظر «التمهيد» 4/ 6564.
(4) انظر «التمهيد» 4/ 65.(1/95)
الأعمش». قال: «وهذا كله يدلك على أن السبعة الأحرف التي أشير إليها في الحديث ليس بأيدي الناس منها، إلّا حرف زيد بن ثابت الذي جمع عليه عثمان رضي الله عنه المصاحف».
«قال أبو بكر محمد بن عبد الله الأصبهاني المقرئ (1): أخبرنا أبو علي الحسن بن صافي الصفار أن عبد الله بن سليمان حدثهم قال: حدثنا أبو الطاهر قال:
سألت سفيان بن عيينة (2) عن اختلاف قراءة المدنيين والعراقيين، هل تدخل في السبعة الأحرف؟ فقال: لا، وإنما السبعة الأحرف كقولهم: هلمّ، أقبل، تعال، أيّ ذلك قلت أجزاك. قال أبو الطاهر: وقاله ابن وهب. قال أبو بكر الأصبهاني: ومعنى قول سفيان هذا أن اختلاف العراقيين والمدنيين راجع إلى حرف واحد من الأحرف السبعة، وبه قال محمد بن جرير الطبري».
«وقال أبو جعفر الطحاوي (3): كانت هذه السبعة للناس في الحروف لعجزهم عن أخذ القرآن على غيرها، لأنهم كانوا أميين، لا يكتبون إلا القليل منهم، فكان يشق على كل ذي لغة منهم أن يتحول إلى غيرها من اللغات، ولو رام ذلك لم يتهيأ له إلا بمشقة عظيمة، فوسع لهم في اختلاف الألفاظ إذا كان المعنى متفقا، فكانوا كذلك، حتى كثر من يكتب منهم، وحتى عادت لغاتهم إلى لسان رسول الله صلى الله عليه وسلّم فقرءوا بذلك على تحفظ ألفاظه، ولم يسعهم حينئذ أن يقرءوا بخلافها، وبان بما ذكرنا أن تلك السبعة الأحرف إنما كانت في وقت خاص، لضرورة دعت إلى ذلك، ثم ارتفعت تلك الضرورة فارتفع حكم هذه السبعة الأحرف، وعاد ما يقرأ به القرآن إلى حرف واحد» (4).
__________
(1) أبو بكر محمد بن عبد الله الأصبهاني المقري: هو المعروف بابن أشتة، عالم بالقراءات والعربية، له «المفيد في شواذ القراءات» توفي سنة 360هـ. (انظر: غاية النهاية 2/ 184).
(2) هو أبو محمد سفيان بن عيينة بن أبي عمران ميمون الهلالي، الإمام العالم الزاهد الورع، ولد بالكوفة سنة 107هـ، وسكن مكة وقدم بغداد، وتوفي بمكة سنة 198هـ. (تاريخ بغداد 9/ 184174، وفيات الأعيان 2/ 393391).
(3) الطحاوي: هو أحمد بن محمد بن سلامة الأزدي، أبو جعفر الطحاوي الفقيه الحنفي، ولد بمصر سنة 229هـ، وتوفي سنة 321هـ، له من التصانيف: «أحكام القرآن»، «بيان السنة والجماعة»، «شرح الجامع الصغير والكبير للشيباني»، «عقود المرجان في مناقب أبي حنيفة النعمان»، «كتاب التاريخ»، «كتاب الشروط الصغير»، «كتاب الشروط الكبير»، «كتاب المحاضرات»، «المشكاة»، «معاني الآثار»، «نوادر الفقه»، «نوادر القرآن». (كشف الظنون 5/ 5958، وفيات الأعيان 1/ 23، تذكرة الحفاظ 3/ 28، غاية النهاية 1/ 116).
(4) انظر «التمهيد» 4/ 6665.(1/96)
«قال أبو عمر: وهو الذي عليه الناس في مصاحفهم وقراءتهم من بين سائر الحروف، لأن عثمان رضي الله عنه جمع المصاحف عليه». قال: «وهذا الذي عليه جماعة الفقهاء فيما يقطع عليه، وتجوز الصلاة به، وبالله العصمة والهدى» (1).
قلت: وسنعود إلى الكلام في هذا في الفصل الثالث إن شاء الله تعالى.
فصل
ذهب قوم في قول النبي صلى الله عليه وسلّم: «أنزل القرآن على سبعة أحرف» إلى أنها سبعة أنحاء وأصناف، فمنها زاجر، ومنها آمر، ومنها حلال، ومنها حرام، ومنها محكم، ومنها متشابه واحتجوا بحديث يرويه سلمة بن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن أبيه عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلّم قال: «كان الكتاب الأوّل نزل من باب واحد على حرف واحد، ونزل القرآن من سبعة أبواب على سبعة أحرف: زاجر وآمر وحلال وحرام ومحكم ومتشابه وأمثال، فأحلّوا حلاله وحرّموا حرامه وافعلوا ما أمرتم به وانتهوا عما نهيتم عنه واعتبروا بأمثاله واعملوا بمحكمه وآمنوا بمتشابهه وقولوا: آمنّا به كلّ من عند ربّنا» (2).
قال أبو عمر بن عبد البر:
«هذا حديث عند أهل العلم لم يثبت، وأبو سلمة لم يلق ابن مسعود، وابنه سلمة ليس ممن يحتج به، وهذا الحديث مجتمع على ضعفه من جهة إسناده، وقد رده قوم من أهل النظر، منهم أحمد بن أبي عمران فيما سمعه الطحاوي منه قال: من قال في تأويل السبعة الأحرف هذا القول فتأويله فاسد، لأنه محال أن يكون الحرف منها حراما لا ما سواه، أو يكون حلالا لا ما سواه، لأنه لا يجوز أن يكون القرآن يقرأ على أنه حلال كله، أو حرام كله، أو أمثال كله. قال أبو عمر: ويرويه الليث عن عقيل عن ابن شهاب عن سلمة بن أبي سلمة عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلّم مرسلا».
قلت: وهكذا رواه البيهقي في كتاب «المدخل» وقال: هذا مرسل جيد، أبو سلمة لم يدرك ابن مسعود. ثم رواه موصولا وقال: فإن صح فمعنى قوله «سبعة أحرف»: أي سبعة أوجه، وليس المراد به ما ورد في الحديث الآخر من نزول القرآن على سبعة أحرف، ذاك المراد به اللغات التي أبيحت القراءة عليها، وهذا المراد به الأنواع التي نزل القرآن عليها، والله أعلم.
__________
(1) انظر «التمهيد» 4/ 67.
(2) أخرجه الحاكم في المستدرك 2/ 289، والطبراني في المعجم الكبير 1/ 23، والمتقي الهندي في كنز العمال 2459، وابن حجر في فتح الباري 9/ 29.(1/97)
قلت: وعندي لهذا الأثر أيضا تأويلان آخران:
أحدهما: ذكره أبو علي الأهوازي في كتاب «الإيضاح»، والحافظ أبو العلاء (1)
في كتاب «المقاطع»، أن قوله: «زاجر وآمر» إلى آخره، استئناف كلام آخر، أي هو كذلك، ولم يرد به تفسير الأحرف السبعة، وإنما توهم ذلك من توهمه، لاتفاقهما في العدد وهو السبعة، وروي: «زاجرا وآمرا» بالنصب، أي نزل على هذه الصفة من سبعة أبواب على سبعة أحرف، ويكون المراد بالأحرف غير ذلك.
التأويل الثاني: أن يكون ذلك تفسيرا للأبواب، لا للأحرف، أي هذه سبعة أبواب من أبواب الكلام وأقسامه وأنواعه، أي أنزله الله تعالى كائنا من هذه الأصناف، لم يقتصر به على صنف واحد، بخلاف ما يحكى أن الإنجيل كله مواعظ وأمثال، والله أعلم.
إذا ثبت هذا فنعود إلى تفسير الأحرف السبعة بأحد القولين: وهما اللغات السبع مع اتحاد صورة الكتابة، والثاني الألفاظ المترادفة والمتقاربة المعاني كما سبق.
وقد ضعف الأهوازي تفسير الأحرف السبعة باللغات، قال: لأن اللغات في القبائل كثير عددها وأبطل تفسيرها بالأصناف، لأن أصنافه أكثر من ذلك، منها الإخبار، والاستخبار على وجه التقرير والتقريع، ومنها الوعد، والوعيد، والخبر بما كان وبما يكون، والقصص، والمواعظ، والاحتجاج، والتوحيد، والثناء، وغير ذلك.
واختار الحافظ أبو العلاء تفسيرها باللغات المتفرقة في القرآن، قال: وليس الغرض أن تأتي اللغات السبع في كل كلمة من كلم القرآن، بل يجوز أن يأتي في الكلمة وجهان أو ثلاثة، فصاعدا إلى سبعة، ولم تأت سبعة أوجه إلا في كلمات محصورة، نحو {لِجِبْرِيلَ} [البقرة: 97]، و {عَبَدَ الطََّاغُوتَ،} و {أَرْجِهْ}
[الأعراف: 111]، و {أُفٍّ،} و {بِعَذََابٍ بَئِيسٍ} [الأعراف: 165]، و {هَيْهََاتَ}
[المؤمنون: 36]، ودرّيّ توقد [النور: 35]، ونظائرها، قال: وروي عن أبي طاهر بن أبي هاشم (2) أنه قال: شاف أي يشفي من الريب، لا يقصر بعضه عن بعض في
__________
(1) الحافظ أبو العلاء: هو الحسن بن أحمد بن الحسين بن أحمد، أبو العلاء الهمداني، توفي سنة 569هـ. (انظر ترجمته في: غاية النهاية 1/ 204، بغية الوعاة ص 215).
(2) أبو طاهر بن أبي هاشم: هو عبد الواحد بن عمر بن محمد بن أبي هاشم البزار (نسبة إلى أعمال البزر)، أبو طاهر البغدادي المقرئ، توفي سنة 349هـ، له من المصنفات: «الانتصار لحمزة»، «رسالة في الجهر بالبسملة»، «قراءة الأعمش»، «قراءة حمزة الكبير»، «قراءة(1/98)
الفضل، وقوله: كاف أي كاف في نفسه، غير محوج إلى غيره.
قال أبو العلاء الحافظ: واعلم أن الاختلاف على ضربين: تغاير وتضاد، فاختلاف التغاير جائز في القراءات، واختلاف التضاد لا يوجد إلا في الناسخ والمنسوخ.
قلت: وقال قوم: السبعة الأحرف منها ستة مختلفة الرسم، كانت الصحابة تقرأ بها إلى خلافة عثمان رضي الله عنهم، نحو الزيادة، والألفاظ المرادفة، والتقديم، والتأخير، نحو {إِنَّ اللََّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً} ولا يبالي [الزمر: 53]، وجاءت سكرة الحقّ بالموت [ق: 19]، صراط من أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم وغير الضّالين [الفاتحة: 7]، يأخذ كلّ سفينة صالحة غصبا [الكهف: 79]، والعصر ونوائب الدّهر [العصر: 1]، وله أخ أو أخت من أمّه [النساء: 12]، وما أصابك من سيّئة فمن نفسك إنّا كتبناها عليك [النساء: 79]، وإن كانت إلّا زقية واحدة [يس: 29]، وكالصّوف المنفوش [القارعة: 5]، وطعام الفاجر [الدخان: 44]، وأن بوركت النّار ومن حولها [النمل: 8] في نظائر ذلك، فجمعهم عثمان على الحرف السابع الذي كتبت عليه المصاحف، وبقي من القراءات ما وافق المرسوم، فهو المعتبر، إلا حروفا يسيرة اختلف رسمها في مصاحف الأمصار، نحو:
أوصى ووصى [البقرة: 132]، و {مَنْ يَرْتَدَّ} و {مَنْ يَرْتَدِدْ} [المائدة: 54]، و {تَحْتَهَا} و {تَحْتَهَا} [التوبة: 100] وكأنهم أسقطوا ما فهموا نسخه بالعرضة الأخيرة التي عرضت على رسول الله صلى الله عليه وسلّم، وعرضها النبي صلى الله عليه وسلّم على جبريل عليه السلام، ورسموا ما سوى ذلك من القراءات التي لم تنسخ.
فصل
وقد حاول جماعة من أهل العلم بالقراءات استخراج سبعة أحرف من هذه القراءات المشهورة فقال بعضهم: تدبرت وجوه الاختلاف في القراءة فوجدتها سبعة:
منها ما تتغير حركته ولا يزول معناه ولا صورته، مثل {هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ} و {أَطْهَرُ لَكُمْ} [هود: 78]، و {يَضِيقُ صَدْرِي} و {يَضِيقُ صَدْرِي} بالرفع والنصب فيهما، ومنها ما يتغير معناه ويزول بالإعراب ولا تتغير صورته، مثل {رَبَّنََا بََاعِدْ بَيْنَ أَسْفََارِنََا}
__________
حفص»، «قراءة الكسائي»، «كتاب الخلاف بين أصحاب عاصم وحفص وسليمان»، «كتاب الخلاف بين أبي عمرو والكسائي»، «كتاب شواذ السبعة»، «كتاب الفصل بين أبي عمرو والكسائي»، «كتاب الهاءات»، «كتاب الياءات» وغير ذلك. (انظر: كشف الظنون 5/ 633، تاريخ بغداد 11/ 7، غاية النهاية 1/ 475، بغية الوعاة ص 317).(1/99)
و {رَبَّنََا بََاعِدْ بَيْنَ أَسْفََارِنََا} [سبأ: 19]، ومنها ما يتغير معناه بالحروف واختلافها باللفظ ولا تتغير صورته في الخط، مثل إلى العظام كيف ننشرها [البقرة: 259] بالراء والزاي، ومنها ما تتغير صورته ولا يتغير معناه، مثل {كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ}
وكالصّوف المنفوش [القارعة: 5]، ومنها ما تتغير صورته ومعناه، مثل {وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ} وطلع منضود [الواقعة: 29]. ومنها التقديم والتأخير، مثل {وَجََاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ} وجاءت سكرة الحقّ بالموت [ق: 19]، ومنها الزيادة والنقصان، نحو نعجة أنثى [ص: 23]، و {تَحْتَهَا} في آخر التوبة، و {هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ}
[الحديد: 24] في الحديد.
قال ابن عبد البر (1): «وهذا وجه حسن من وجوه معنى الحديث، وفي كل وجه منها حروف كثيرة لا تحصى عددا، وهذا يدلك على قول العلماء: أن ليس بأيدي الناس من الحروف السبعة التي نزل القرآن عليها، إلا حرف واحد، وهو صورة مصحف عثمان، وما دخل فيها يوافق صورته من الحركات واختلاف النقط من سائر الحروف».
واعتمد على هذه الأوجه مكي، وجعل من القسم الأول نحو البخل والبخل [النساء: 37]، و {مَيْسَرَةٍ} بضم السين وفتحها، ثم قال:
«وهذه الأقسام كلها كثيرة، لو تكلفنا أن نؤلف في كل قسم كتابا بما جاء منه وروي لقدرنا على ذلك».
ثم ذكر أنه لا يقرأ من ذلك بما خالف خط المصحف، ثم قال:
«فأما ما اختلف فيه القراء من الإمالة والفتح والإدغام والإظهار والقصر والمد والتشديد والتخفيف وشبه ذلك، فهو من القسم الأول لأن القراءة بما يجوز منه في العربية، وروي عن أئمة وثقات: جائزة في القرآن، لأن كله موافق للخط». قال:
«وإلى هذه الأقسام في معاني السبعة ذهب جماعة من العلماء وهو قول ابن قتيبة، وابن شريح وغيرهما، لكنا شرحنا ذلك من قولهم».
قال: «وهو الذي نعتقده ونقول به وهو الصواب إن شاء الله تعالى» (2).
واختار أبو علي الأهوازي طريقة أخرى، فقال:
«قال بعضهم: معنى ذلك هو الاختلاف الواقع في القرآن، يجمع ذلك سبعة أوجه: الجمع والتوحيد، كقوله تعالى: {وَكُتُبِهِ} وكتابه [البقرة: 285] والتذكير
__________
(1) انظر «التمهيد» 4/ 66.
(2) انظر «الإبانة» ص 4241.(1/100)
والتأنيث كقوله تعالى: {لََا يُقْبَلُ} ولا تقبل [البقرة: 48] والإعراب، كقوله تعالى: {الْمَجِيدُ} و {الْمَجِيدُ} [البروج: 15] والتصريف، كقوله تعالى: {يَعْرِشُونَ}
و {يَعْرِشُونَ} [الأعراف: 137] والأدوات التي يتغير الإعراب لتغيرها، كقوله تعالى:
{وَلََكِنَّ الشَّيََاطِينَ} {وَلََكِنَّ الشَّيََاطِينَ} [البقرة: 102] واللغات، كالهمز وتركه، والفتح، والكسر، والإمالة، والتفخيم، وبين بين، والمد، والقصر، والإدغام، والإظهار، وتغيير اللّفظ والنقط بالتفاق الخطّ، كقوله تعالى: ننشرها و {نُنْشِزُهََا}
[البقرة: 259]، ونحو ذلك». قال: «وهذا القول أعدل الأقوال وأقربها لما قصدناه، وأشبهه بالصواب».
ثم ذكر وجها آخر فقال: «قال بعضهم: معنى ذلك سبعة معان في القراءة»:
أحدها: أن يكون الحرف له معنى واحد، تختلف فيه قراءتان تخالفان بين نقطة ونقطة مثل {تَعْمَلُونَ} و {يَعْمَلُونَ} [البقرة: 74].
الثاني: أن يكون المعنى واحدا وهو بلفظتين مختلفتين، مثل قوله تعالى:
{فَاسْعَوْا} وفامضوا [الجمعة: 9].
والثالث: أن تكون القراءتان مختلفتين في اللفظ، إلا أن المعنيين متفرقان في الموصوف، مثل قوله تعالى: ملك و {مََالِكِ} [الفاتحة: 4].
والرابع: أن تكون في الحرف لغتان، والمعنى واحد وهجاؤها واحد، مثل قوله تعالى: {الرُّشْدُ} و {الرُّشْدُ} [البقرة: 156].
والخامس: أن يكون الحرف مهموزا وغير مهموز، مثل: النّبيء و {النَّبِيُّ.}
والسادس: التثقيل والتخفيف، مثل: {الْأُكُلِ} و {الْأُكُلِ} [الرعد: 4].
والسابع: الإثبات والحذف، مثل: المنادي و {الْمُنََادِ} [ق: 41].
قال أبو علي: «وهذا معنى يضاهي معنى القول الأول الذي قبله، وعليه اختلاف قراءة السبعة الأحرف».
قلت: وذكر هذين الوجهين اللذين ذكرهما أبو علي الأهوازي، الحافظ أبو العلاء الحسن بن أحمد، ونسب الأول إلى أبي طاهر بن أبي هاشم، ثم قال عقيبه: «وهذا أقرب إلى الصواب إن شاء الله تعالى». قال: «وقد روي عن مالك بن أنس أنه كان يذهب إلى هذا المعنى». ونسب الوجه الثاني إلى أبي العباس أحمد بن محمد بن واصل (1).
__________
(1) هو أحمد بن محمد بن واصل، أبو العباس الكوفي، مقرئ، قرأ على الكسائي وغيره. (انظر ترجمته في: غاية النهاية 1/ 133).(1/101)
وقال أبو بكر محمد بن علي بن أحمد الأدفوي (1) في كتاب «الاستغناء في علوم القرآن» فيما نقله عن أبي غانم المظفر بن أحمد بن حمدان (2)، قال:
«القرآن محيط بجميع اللغات الفصيحة، وتفصيل ذلك أن تكون هذه اللغات السبع على نحو ما أذكره:
«فأول ذلك تحقيق الهمز وتخفيفه في القرآن كله، في مثل {يُؤْمِنُونَ،}
و {بِمُؤْمِنِينَ،} {وَالنَّبِيِّينَ} [البقرة: 61]، و {النَّسِيءُ} [التوبة: 37]، و {الصََّابِئِينَ}
[البقرة: 62]، و {الْبَرِيَّةِ} [البينة: 6]، و {سَأَلَ سََائِلٌ} [المعارج: 1]، وما أشبه ذلك، فتحقيقه وتخفيفه بمعنى واحد، وقد يفرقون بين الهمز وتركه بين معنيين، في مثل {أَوْ نُنْسِهََا} من «النسيان»، أو ننسأها [البقرة: 106] من «التأخير»، ومثل {كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ} ودرّيء [النور: 35].
«ومنه إثبات الواو وحذفها في آخر الاسم المضمر، نحو ومنهمو أمّيّون [البقرة: 78].
«ومنه أن يكون باختلاف حركة وتسكينها، في مثل {غِشََاوَةٌ،} و {غِشََاوَةٌ}
[الجاثية: 23]، و {لِجِبْرِيلَ} [البقرة: 97]، و {مَيْسَرَةٍ} [البقرة: 280]، و {بِالْبُخْلِ}
[النساء: 37]، و {سِخْرِيًّا} [المؤمنون: 110]».
«ومنه أن يكون بتغيير حرف، نحو ننشرها [البقرة: 259]، ويقض الحقّ [الأنعام: 57]، و {بِضَنِينٍ} [التكوير: 24]».
«ومنه أن يكون بالتشديد والتخفيف، نحو {يُبَشِّرُهُمْ،} و {يُبَشِّرُهُمْ}
[التوبة: 21]».
«ومنه أن يكون بالمد والقصر، نحو زكريّاء و {زَكَرِيََّا} [آل عمران: 37]».
«ومنه أن يكون بزيادة حرف من «فعل» و «أفعل»، مثل {فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ}
[هود: 81]، و {نُسْقِيكُمْ} [النحل: 66]».
واختار نحو هذه الطريقة في تفسير الأحرف السبعة القاضي أبو بكر محمد بن
__________
(1) الأدفوي: هو محمد بن علي بن أحمد بن محمد الأدفوي (بضم الهمزة والفاء: بلدة بالصعيد) أبو بكر المقرئ المصري، ولد سنة 304هـ، وتوفي سنة 388هـ. من تصانيفه: «الاستغناء في تفسير القرآن»، «الإمتاع في أحكام السماع». (انظر: كشف الظنون 6/ 56، غاية النهاية 2/ 198، معجم البلدان 1/ 156).
(2) هو المظفر بن أحمد بن حمدان بن أبي غانم المصري، أبو بكر، المصري، مقرئ، نحوي، توفي سنة 333هـ. (انظر: بغية الوعاة ص 293، غاية النهاية 2/ 301).(1/102)
الطيب في كتاب «الانتصار» فذكر التقديم والتأخير وجها، ثم الزيادة والنقص، نحو {وَمََا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ} [يس: 35] ويا مال [الزخرف: 77] وناخرة [النازعات: 11] وسرجا [الفرقان: 61]، وخرجا [الكهف: 94].
الثالث: اختلاف الصورة والمعنى، نحو {وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ،} وطلع منضود [الواقعة: 29]، وقيل: هما اسمان لشيء واحد، بمنزلة العهن والصّوف [القارعة: 5]، و {الْأَثِيمِ} والفاجر [الدخان: 44]، فيكون مما تختلف صورته في النطق والكتاب، ولا يختلف معناه، قال:
«وقال الجمهور من الناس غير هذا، فزعم بعض أهل التفسير أن الطلح هو زينة أهل الجنة، وأنه ليس من الطلع في شيء وقال كثير منهم: إن الطلح هو الموز وقال آخرون: هو الشجر العظام الذي يظل ويعرش، وإن قريشا وأهل مكة كان يعجبهم طلحات وج وهو واد بالطائف لعظمها وحسنها، فاخبروا على وجه الترغيب أن في الجنة طلحا منضودا، يراد أنه متراكم كثير، وقالوا: إن العرب تسمي الرجل طلحة، على وجه التشبيه له بالشجرة العظيمة المستحسنة، وإذا كان كذلك ثبت أن الطلح والطلع إذا قرئ بهما كان مما تختلف صورته ومعناه».
«الوجه الرابع: أن يكون الاختلاف في القراءتين، اختلافا في حروف الكلمة بما يغير معناها ولفظها من السماع، ولا يغير صورتها في الكتاب، نحو ننشرها و {نُنْشِزُهََا} [البقرة: 259]».
«الخامس: الاختلاف في بناء الكلمة بما لا يزيلها عن صورتها في الكتاب ولا يغير معناها، نحو {بِالْبُخْلِ،} و {بِالْبُخْلِ} [النساء: 37]، و {مَيْسَرَةٍ،} و {مَيْسَرَةٍ}
[البقرة: 280]، {يَعْكُفُونَ} [الأعراف: 138]، و {هَلْ نُجََازِي إِلَّا الْكَفُورَ} [سبأ: 17]».
«السادس: تغيير الصورة دون المعنى، نحو العهن والصّوف [القارعة: 5]، وصيحة وزقية [يس: 29]، و {فُومِهََا،} وثومها [البقرة: 61]».
«السابع: اختلاف حركات الإعراب والبناء، بما يغير المعنى، والصورة واحدة، نحو باعد، وباعد بين أسفارنا [سبأ: 19]، و {لَقَدْ عَلِمْتَ مََا أَنْزَلَ هََؤُلََاءِ}
[الإسراء: 102] بالضم والفتح». قال: «فهذا، والله أعلم، هو تفسير السبعة الأحرف دون جميع ما قدّمنا ذكره».
وأخبرنا شيخنا أبو الحسن رحمه الله في كتابه «جمال القراء» قال:
«فإن قيل: فأين السبعة الأحرف التي أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلّم أن القرآن أنزل عليها في قراءتكم هذه المشهورة؟(1/103)
قلت: هي متفرقة في القرآن، وجملة ذلك سبعة أوجه:
الأول: كلمتان تقرأ بكلّ واحدة في موضع الأخرى، نحو {يُسَيِّرُكُمْ}
وينشركم [يونس: 22]، و {لَنُبَوِّئَنَّهُمْ} ولنثوينّهم [العنكبوت: 58]، و {فَتَبَيَّنُوا}
وفتثبّتوا [النساء: 94].
الثاني: زيادة كلمة، نحو من تحتها [التوبة: 100]، و {هُوَ الْغَنِيُّ}
[الحديد: 24].
الثالث: زيادة حرف، نحو {فَبِمََا كَسَبَتْ} و {فَبِمََا كَسَبَتْ} [الشورى: 30]، يعني في سورة الشورى.
الرابع: مجيء حرف مكان آخر، نحو {يَقُولُ} و {نَقُولُ} [آل عمران: 181]، وتبلو وتتلو [يونس: 30].
الخامس: تغيير حركات، إما بحركات آخر، أو بسكون، نحو {فَتَلَقََّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمََاتٍ} [البقرة: 37]، و {وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ} [المائدة: 47].
السادس: التشديد والتخفيف، نحو {تُسََاقِطْ} [مريم: 25] وبلد ميّت وميت [فاطر: 9].
السابع: التقديم والتأخير، نحو {وَقََاتَلُوا وَقُتِلُوا،} وقتلوا وقاتلوا [آل عمران: 95]».
ثم قال الشيخ: «وقوله عز وجل: {ثُمَّ انْظُرْ أَنََّى يُؤْفَكُونَ} [المائدة: 75] يقرأ على سبعة أوجه، وكذلك قوله عز وجل: {فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّماً فِي السَّمََاءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ} [الأنعام: 35]، وقوله عز وجل: {فَلَوْلََا إِذْ جََاءَهُمْ بَأْسُنََا تَضَرَّعُوا} [الأنعام: 43]، ولذلك نظائر».
قلت: يعني في مجموع هذه الكلم من هذه الآيات سبعة أوجه، لا في كل كلمة منها، وقد يأتي في غيرها أكثر من سبعة أوجه بوجوه كثيرة إذا نظر إلى مجموع الكلم دون آحادها، كقوله سبحانه في «طه»: {وَهَلْ أَتََاكَ حَدِيثُ مُوسى ََ} [طه: 9] الآية وذلك كثير، وإنما الشأن أن يكون في الكلمة الواحدة سبعة أوجه، فهذا الذي عزّ وجوده فعد من ذلك ألفاظ يسيرة، نحو {أُفٍّ} [الإسراء: 23] و {بِعَذََابٍ بَئِيسٍ}
[الأعراف: 165]، وليست كل الوجوه فيها من القراءات المشهورة، بل بعضها من القراءات الشاذة، إلا أنها من جملة اللغات والألفاظ المرادفة التي كانت القراءة قد أبيحت عليها، وقد تقدم أن معنى الحديث أن كلمات القرآن أبيح أن يقرأ كل كلمة منها على ما يحتمله من وجهين وثلاثة إلى سبعة، توسعة على الناس على قدر ما يخف على ألسنتهم.(1/104)
وقد تقدم من حديث أبيّ بن كعب بإسناد صحيح أن النبي صلى الله عليه وسلّم قال لجبريل عليه السلام: «إنّي بعثت إلى أمّة أمّيّة فيهم الشيخ الفاني والعجوز الكبيرة والغلام، فقال:
مرهم فليقرءوا القرآن على سبعة أحرف» (1).
قلت: فمعنى الحديث أنهم رخص لهم في إبدال ألفاظه بما يؤدي معناها، أو يقاربه من حرف واحد إلى سبعة أحرف، ولم يلزموا المحافظة على حرف واحد، لأنه نزل على أمة أميّة لم يعتادوا الدرس والتكرار وحفظ الشيء على لفظه مع كبر أسنانهم واشتغالهم بالجهاد والمعاش، فرخص لهم في ذلك، ومنهم من نشأ على لغة يصعب عليه الانتقال عنها إلى غيرها، فاختلفت القراءات بسبب ذلك كله، ودلنا ما ثبت في الحديث من تفسير ذلك بنحو: هلم، وتعال، على جواز إبداله باللفظ المرادف، ودلنا ما ثبت من جواز {غَفُوراً رَحِيماً} موضع {عَزِيزاً حَكِيماً} على الإبدال بما يدل على أصل المعنى دون المحافظة على اللفظ، فإن جميع ذلك ثناء على الله سبحانه، هذا كله فيما يمكن القارئ عادة التلفظ به، وأما ما لا يمكنه لأنه ليس من لغته فأمره ظاهر ولا يخرج إن شاء الله شيء من القراءات عن هذا الأصل وهو إبدال اللفظ بمرادف له أو مقارب في أصل المعنى، ثم لما رسمت المصاحف هجر من تلك القراءات ما نافى المرسوم، وبقي ما يحتمله، ثم بعض ما يحتمله خط المصحف اشتهر وبعضه شذّت روايته، وهذا أولى من حمل جميع الأحرف السبعة على اللغات، إذ قد اختلفت قراءة عمر بن الخطاب وهشام بن حكيم رضي الله عنهما وكلاهما قرشي مكي، لغتهما واحدة.
وهذه الطرق المذكورة في بيان وجود السبعة الأحرف في هذه القراءات المشهورة كلها ضعيفة، إذ لا دليل على تعيين ما عينه كل واحد منهم، ومن الممكن تعيين ما لم يعينوا، ثم لم يحصل حصر جميع القراءات فيما ذكروه من الضوابط، فما الدليل على جعل ما ذكروه مما دخل في ضابطهم من جملة الأحرف السبعة دون ما لم يدخل في ضابطهم؟ وكان أولى من جميع ذلك لو حملت على سبعة أوجه من الأصول المطردة كصلة الميم، وهاء الضمير، وعدم ذلك، والإدغام، والإظهار، والمد، والقصر، وتحقيق الهمز، وتخفيفه، والإمالة، وتركها، والوقف بالسكون، وبالإشارة إلى الحركة، وفتح الياءات، وإسكانها، وإثباتها، وحذفها، والله أعلم.
فصل
وقد تكلم على معنى هذا الحديث كلاما كثيرا شافيا صاحب كتاب «الدلائل»
__________
(1) أخرجه أحمد في المسند 5/ 132، والطبري في تفسيره 1/ 12.(1/105)
وهو القاسم بن ثابت بن عبد الرحمن العوفي السرقسطي (1) رحمه الله فذكر الوجه الذي بدأنا به في أول الفصل الماضي، وهو الوجه الذي استحسنه ابن عبد البر من قول بعضهم، وإنما نقله أبو عمر من كتاب قاسم، ثم قال القاسم عقيبه:
«وفي هذا التفسير ما رغب بعض الناس بقائله عنه، وإن كان قد ذهب مذهبا واستنبط عجبا، لأنه اخترع معنى لا نعلم أحدا من السلف قال به، ولا أشار إليه وليس للخلف الخروج عن السلف، ولا رفض عامتهم لمذهب لم يسلكوه، وتأويل لم يطلقوه ونقول وبالله التوفيق بالذي صحت به الآثار، وتواطأت عليه الأخبار وتأويله من أهل التفسير من لا يدفع نقله ولا يتهم نظره، إن الله تبارك وتعالى بعث نبيه صلى الله عليه وسلّم والعرب متناءون في المحال والمقامات، متباينون في كثير من الألفاظ واللغات، ولكل عمارة لغة دلت بها ألسنتهم، وفحوى قد جرت عليها عادتهم، وفيهم الكبير العاسي والأعرابي القح، ومن لو رام نفي عادته وحمل لسانه على غير ذريته تكلف منه حملا ثقيلا، وعالج منه عبئا شديدا، ثم لم يكسر غربه ولم يملك استمراره إلا بعد التمرين الشديد، والمساجلة الطويلة، فأسقط عنهم تبارك وتعالى هذه المحنة، وأباح لهم القراءة على لغاتهم، وحمل حروفه على عاداتهم وكان الرسول صلى الله عليه وسلّم يقرئهم بما يفقهون، ويخاطبهم بالذي يستعملون بما طوقه الله من ذلك، وشرح به صدره، وفتق به لسانه، وفضله على جميع خلقه».
ثم ذكر حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «نزل القرآن على سبعة أحرف عليما حكيما غفورا رحيما»، قال:
«وهذا الحديث يفسره قول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: ليس الخطأ أن تجعل خاتمة آية خاتمة آية أخرى، أن تقول: عزيز حكيم، وهو غفور رحيم، ولكن الخطأ أن تجعل آية الرحمة آية العذاب».
وذكر حديث حسين بن علي عن زائدة (2) عن عاصم (3) عن زر (4) عن أبيّ رضي
__________
(1) في كشف الظنون: اسمه قاسم بن ثابت بن حزم بن عبد الرحمن بن مطرف بن سليمان بن عوف العوفي، الحافظ أبو محمد السرقسطي، المحدث المالكي، ولد سنة 255هـ، ورحل مع أبيه إلى مصر والحرمين وجمع الحديث، توفي سنة 302هـ، صنف: «غريب الحديث»، «كتاب الدلائل في الحديث». (انظر: كشف الظنون 5/ 826، نفح الطيب 1/ 255، بغية الوعاة ص 376).
(2) هو زائدة بن قدامة الثقفي، توفي غازيا بأرض الروم سنة 262هـ. (خلاصة تذهيب الكمال ص 102، والطبقات الكبرى لابن سعد 6/ 355).
(3) عاصم: هو عاصم بن بهدلة أبي النجود الأسدي، أبو بكر، أحد القراء السبعة، من التابعين أخذ القراءة عرضا عن زر بن حبيش، وأبي عبد الرحمن السلمي، وروى عنه شعبة بن عياش وحفص بن سليمان، وخلق لا يحصون، توفي سنة 127هـ. (غاية النهاية 1/ 346).
(4) هو زر بن حبيش الأسدي، من أهل الكوفة، من بني غاضرة، كنيته أبو مريم، وقيل: أبو(1/106)
الله عنه قال: «لقي النبي صلى الله عليه وسلّم جبريل عليه السلام عند أحجار المراء فقال: «إنّي بعثت إلى أمّة أمّيّين فيهم الغلام والجارية والشيخ العاسي والعجوز، فقال جبريل: فليقرءوا القرآن على سبعة أحرف»، قال:
«فمعنى قوله: «على سبعة أحرف»، يريد، والله أعلم، على لغات شعوب من العرب سبعة، أو من جماهيرها وعمائرها».
ثم ذكر حديث عثمان رضي الله عنه: «أنزل القرآن بلسان مضر».
وعن سعيد بن المسيب (1) قال: «نزل القرآن على لغة هذا الحي من لدن هوازن وثقيف إلى ضريّة».
وروى أبو خلدة (2) عن أبي العالية قال: «قرأ عند النبي صلى الله عليه وسلّم من كل خمس رجل، فاختلفوا في اللغة، ورضي قراءتهم كلهم، وكانت تميم أعرب القوم».
قال أبو حاتم السجستاني: «أحب الألفاظ واللغات إلينا لغات قريش ثم من دنا منهم من بطون العرب ومن بطون مضر خاصة للحديث الذي جاء في مضر».
وقال الأعمش عن أبي صالح عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: «نزل القرآن على سبعة أحرف، صارت في عجز هوازن منها خمسة».
قال أبو حاتم: «عجز هوازن ثقيف وبنو سعد بن بكر وبنو جشم وبنو نصر».
قال أبو حاتم: «خص هؤلاء دون ربيعة وسائر العرب لقرب جوارهم من مولد النبي صلى الله عليه وسلّم، ومنزل الوحي، وإنما مضر وربيعة أخوان».
قال قاسم بن ثابت: «ولو أن رجلا مثل مثالا، يريد به الدلالة على معنى قول النبي صلى الله عليه وسلّم: «أنزل القرآن على سبعة أحرف»، وجعل الأحرف على مراتب سبعة، فقال:
__________
مطرف. يروي عن عمر وعلي، وروى عنه أهل الكوفة، توفي بها سنة 82هـ، قبل الجماجم، وهو ابن 122سنة، وكان من أعرب الناس، وكان عبد الله بن مسعود يسأله عن العربية.
(كتاب الثقات لابن حبان 4/ 269).
(1) هو سعيد بن المسيب بن خزن بن أبي وهب بن عائذ بن عمران بن مخزوم القرشي، أبو محمد المدني المخزومي، سيد التابعين على الإطلاق، ولد لسنتين مضتا، وقيل: بقيتا من خلافة عمر بن الخطاب، وكان يقال له: فقيه الفقهاء، وكان من أورع الناس فيما يدخل بيته وبطنه، وكان من أزهد الناس في فضول الدنيا، ومن أكثر الناس أدبا في الحديث، توفي سنة 94هـ.
(البداية والنهاية 9/ 110108، كتاب الثقات 4/ 273، الطبقات الكبرى لابن سعد 5/ 89).
(2) أبو خلدة: هو خالد بن دينار التميمي السعدي، أبو خلدة البصري، توفي سنة 152هـ. (انظر ترجمته في: تهذيب التهذيب 3/ 88، الطبقات الكبرى 1/ 258).(1/107)
«منها لقريش، ومنها لكنانة، ومنها لأسد، ومنها لهذيل، ومنها لتميم، ومنها لضبة وألفافها، ومنها لقيس، لكان قد أوتي على قبائل مضر في مراتب سبعة تستوعب اللغات التي نزل بها القرآن».
قال: «وإن في لغة مضر شواذ، لا نختارها ولا نجيز القرآن بها، مثل كشكشة قيس، يجعلون كاف المؤنث شينا، وعنعنة تميم، يقولون «عن» في موضع «أن»، وكما ذكر عن بعضهم أنه يبدل السين تاء».
ثم قال:
«وهذه الأحاديث الصحاح التي ذكرنا بالأسانيد الثابتة المتصلة تضيق عن كثير من الوجوه التي وجّهها عليها من زعم أن الأحرف في صورة الكتبة وفي التقديم والتأخير والزيادة والنقصان، لأن الرخصة كانت من رسول الله صلى الله عليه وسلّم، والعرب ليس لهم يومئذ كتاب يعتبرونه، ولا رسم يتعارفونه، ولا يقف أكثرهم من الحروف على كتبه، ولا يرجعون منها إلى صورة، وإنما كانوا يعرفون الألفاظ بجرسها، أي بصوتها، ويجدونها بمخارجها، ولم يدخل عليهم يومئذ من اتفاق الحروف ما دخل بعدهم على الكتبين من اشتباه الصور، وكان أكثرهم لا يعلم بين الزاي والسين سببا، ولا بين الصاد والضاد نسبا».
قال: «فإن قيل: فإنا نجد حروفا متباينة المخارج، وهي متفقة الصور يقرءون بها، مثل ننشرها و {نُنْشِزُهََا} [البقرة: 259]، فإن العلة في ذلك تقارب معانيها، وإن تباعدت مخارجها وليس بعجب أن يتوافى لحرفين متباينين في اللفظ، متقاربين في المخرج صورة تجمعهما وسمة تأخذهما، كما أنه ليس بعجب أن يتوافى في اللفظ الواحد معنيان متباينان، يسوغ بها القول ويحملها التأويل. ألا ترى أن الذين أخذت عنهم القراءة إنما تلقوها سماعا وأخذوها مشافهة وإنما القراءة سنة يأخذها الآخر عن الأول، ولا يلتفت في ذلك إلى الصحف ولا إلى ما جاء من وراء وراء، وإنما أخذت الرخصة في ذلك بالأمة الأمية، والعصبة المعدّية، فلما كانت الرخصة وهم كانوا العلة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «نحن أمّة أمّيّة لا نكتب ولا نحسب وإنّ الشّهر هكذا وهكذا»، وجعل يشير بأصابعه عد العرب (1).
قال: «وذكر بعض الخبريين أن هشام بن عبد الملك (2) مرّ على ميل فقال
__________
(1) أخرجه البخاري في الصوم باب 13، ومسلم في الصيام حديث 15، وأبو داود في الصوم باب 4، والنسائي في الصيام باب 17، وأحمد في المسند 2/ 122.
(2) هو هشام بن عبد الملك بن مروان بن الحكم بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس، أبو الوليد القرشي الأموي الدمشقي، الخليفة الأموي، بويع له بالخلافة بعد أخيه يزيد بن عبد الملك(1/108)
لأعرابي: انظر ما الذي عليه مكتوبا، فنظر ثم أقبل فقال: محجن وحلقة وثلاث، كأنها أطباء الكلبة، وهامة كأنها منقار قطاة. فقال هشام: هذه خمسة».
قال قاسم بن ثابت: «ومن قول هذا الرجل أيضا أنه قال: ليس في كتاب الله تعالى حرف له سبعة وجوه من القراءات».
قال: «وهذا اعتساف بلا تثبت، وقد جاء في كتاب الله عز وجل ما له وجوه من القراءات سبعة، أو تزيد من غير أن تقول: إن هذا مراد النبي صلى الله عليه وسلّم بقوله: «أنزل القرآن على سبعة أحرف»، وإن ذلك موجود في جميع الحروف».
ثم ذكر عن أبي حاتم السجستاني في قوله تعالى: {وَعَبَدَ الطََّاغُوتَ}
[المائدة: 60] سبعة أوجه من القراءات محفوظة، وإن كان المشهور عندنا اثنتين.
ثم قال: «وأما في اللغات فموجود عنهم أن يختلفوا في حركات الحرف الواحد على سبعة وجوه، مثل قوله عز وجل: {أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} [الفاتحة: 7]، فقرأ بعضهم عليهمو بضمتين وواو، وبعضهم بضمتين وألقى الواو وأبقى حركة الميم، وبعضهم {عَلَيْهِمْ} بضم الهاء وأسكن الميم، وبعضهم عليهمي بكسرتين وألحق الياء، وبعضهم بكسرتين وألقى الياء، وبعضهم بكسر الهاء وتسكين الميم، وبعضهم بكسر الهاء وضمّ الميم». قال: «وذلك كله مروي عن الأئمة من القراء والرؤساء من أهل اللغة والفصحاء من العرب».
قلت: وبقي فيها قراءة ثامنة مشهورة، وهي كسر الهاء وصلة الميم بواو.
وقال صاحب شرح السنة (1):
«أظهر الأقاويل وأصحها وأشبهها بظاهر الحديث أن المراد من هذه الحروف اللغات، وهو أن يقرأ كل قوم من العرب بلغتهم، وما جرت عليه عادتهم من الإدغام والإظهار والإمالة والتفخيم والإشمام والإتمام والهمز والتليين وغير ذلك من وجوه اللغات إلى سبعة أوجه منها في الكلمة الواحدة».
ثم قال: «ولا يكون هذا الاختلاف داخلا تحت قوله تعالى: {وَلَوْ كََانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللََّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلََافاً كَثِيراً} [النساء: 82]، إذ ليس معنى هذه الحروف أن يقرأ كل فريق بما شاء مما يوافق لغته من غير توقيف، بل كل هذه الحروف منصوصة، وكلها كلام الله عز وجل، نزل بها الروح الأمين على النبي صلى الله عليه وسلّم، يدل عليه قوله عليه
__________
بعهد منه إليه، سنة 105هـ، وكان له من العمر يومئذ أربع وثلاثون سنة، توفي في ربيع الآخر سنة 125هـ. (انظر: البداية والنهاية 9/ 367364، تاريخ الخلفاء ص 96).
(1) صاحب شرح السنة: هو أبو محمد الحسين بن مسعود البغوي، تقدمت ترجمته.(1/109)
السلام: «إنّ هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف»، فجعل الأحرف كلها منزلة، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلّم يعارض جبريل عليه السلام في كل شهر رمضان بما يجتمع عنده من القرآن، فيحدث الله فيه ما شاء وينسخ ما يشاء، وكان يعرض عليه في كل عرضة وجها من الوجوه التي أباح الله له أن يقرأ القرآن به، وكان يجوز لرسول الله صلى الله عليه وسلّم بأمر الله تعالى أن يقرأ ويقرئ بجميع ذلك، وهي كلها متفقة المعاني وإن اختلف بعض حروفها».
ثم قال: «وقوله في الأحاديث: «كلّها شاف كاف»، يريد والله أعلم أن كل حرف من هذه الأحرف السبعة شاف لصدور المؤمنين، لاتفاقها في المعنى، وكونها من عند الله وتنزيله ووحيه، كما قال تعالى: {قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفََاءٌ}
[فصلت: 44]، وهو كاف في الحجة على صدق رسول الله صلى الله عليه وسلّم لإعجاز نظمه وعجز الخلائق عن الإتيان بمثله».
وفي كتاب «غريب الحديث» لأبي عبيد القاسم بن سلام رحمه الله قال في حديث النبي صلى الله عليه وسلّم أنه قال «لا تماروا في القرآن فإنّ المراء فيه كفر» (1).
«ليس وجه الحديث عندنا على الاختلاف في التأويل، ولكنه عندنا على الاختلاف في اللفظ أن يقرأ الرجل القرآن على حرف، فيقول له الآخر: ليس هو هكذا ولكنه هكذا، على خلافه، وقد أنزلهما الله تبارك وتعالى جميعا، يعلم ذلك بحديث النبي صلى الله عليه وسلّم: «إنّ القرآن نزل على سبعة أحرف كلّ حرف منها شاف كاف».
«ومنه حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: إياكم والاختلاف والتنطع، فإنما هو كقول أحدكم: هلم وتعال، فإذا جحد هذان الرجلان كل واحد منهما ما قرأ صاحبه لم يؤمن أن يكون ذلك قد أخرجه إلى الكفر لهذا المعنى».
«ومنه حديث عمر رضي الله عنه: اقرءوا القرآن ما اتفقتم، فإذا اختلفتم فقوموا عنه» (2).
«ومنه حديث أبي العالية الرياحي: أنه إذا قرأ القرآن عنده إنسان لم يقل: ليس هو هكذا، ولكن يقول: أما أنا فأقرأ هكذا» (3).
__________
(1) أخرجه أحمد في المسند 4/ 170، والطبراني في المعجم الكبير 5/ 169، والهيثمي في مجمع الزوائد 1/ 157، وابن عبد البر في التمهيد 8/ 382، والمتقي الهندي في كنز العمال 2860، وأبو نعيم في حلية الأولياء 9/ 216.
(2) أخرجه البيهقي في شعب الإيمان 1/ 374.
(3) أخرجه البيهقي في شعب الإيمان 1/ 374.(1/110)
«قال شعيب بن الحبحاب (1): فذكرت ذلك لإبراهيم (2) فقال: أرى صاحبك قد سمع أنه من كفر بحرف منه فقد كفر به كله».
وقال أبو جعفر الطبري:
«أخبر النبي صلى الله عليه وسلّم عما خصه الله تعالى به وأمته من الفضيلة والكرامة التي لم يؤتها أحدا في تنزيله».
«وذلك أن كل كتاب تقدم كتابنا نزوله على نبي من أنبياء الله صلوات الله وسلامه عليهم، فإنما نزل بلسان واحد، متى حول إلى غير اللسان الذي نزل به كان ذلك ترجمة له وتفسيرا، لا تلاوة له على ما أنزل الله».
«وأنزل كتابنا بألسن سبعة، بأي تلك الألسن السبعة تلاه التالي كان له تاليا على ما أنزله الله، لا مترجما ولا مفسرا، حتى يحوله عن تلك الألسن السبعة إلى غيرها، فيصير فاعل ذلك حينئذ إذا أصاب معناه له مترجما».
«فذلك معنى قول النبي صلى الله عليه وسلّم: «كان الكتاب الأوّل نزل على حرف واحد ونزل القرآن على سبعة أحرف» (3).
«وأما معنى قوله: «إنّ الكتاب الأول نزل من باب واحد ونزل القرآن من سبعة أبواب» (4)، فقد مضى تفسير «الأبواب السبعة»، وهي أنه آمر وزاجر وحلال وحرام ومحكم ومتشابه وأمثاله، ولم يجمع كتاب مما تقدم هذه «الأبواب السبعة» كزبور داود الذي هو تذكر ومواعظ، وإنجيل عيسى الذي هو تمجيد ومحامد وحضّ على الصفح والإعراض».
وأطال الطبري رحمه الله كلامه في تقرير ذلك، والله أعلم.
الفصل الثالث في المجموع في المصحف هل هو جميع الأحرف السبعة التي أبيحت القراءة عليها أو حرف واحد منها؟
ميل القاضي أبي بكر إلى أنه جميعها.
__________
(1) هو شعيب بن الحبحاب الأزدي، أبو صالح البصري، تابعي، توفي سنة 130هـ. (انظر ترجمته في: تهذيب التهذيب 4/ 350، غاية النهاية 1/ 327).
(2) هو إبراهيم بن يزيد النخعي، الزاهد، توفي سنة 95هـ. (انظر ترجمته في: البداية والنهاية 9/ 151، الكواكب الدرية 1/ 150، تهذيب التهذيب 1/ 177، حلية الأولياء 4/ 219).
(3) أخرجه المتقي الهندي في كنز العمال 2459، والألباني في السلسلة الصحيحة 587.
(4) أخرجه الحاكم في المستدرك 2/ 289، والطبراني في المعجم الكبير 1/ 23، وابن حجر في فتح الباري 9/ 29.(1/111)
وصرح أبو جعفر الطبري والأكثرون من بعده على أنه حرف منها.
وسننقل من كلام كل منهم ما دل على ما نسبناه إليه:
ومال الشيخ الشاطبي إلى قول القاضي فيما جمعه أبو بكر، وإلى قول الطبري فيما جمعه عثمان رضي الله عنهما، ودل على ذلك أبياته المتقدمة، والحق أن يلخص الأمر في ذلك فيقال: المجموع في المصحف هو المتفق على إنزاله المقطوع به، وهو ما كتب بأمر النبي صلى الله عليه وسلّم، أو ثبت عنه أنه قرأ به أو أقرأ غيره به.
وما اختلفت فيه المصاحف حذفا وإثباتا، نحو {تَحْتَهَا} [التوبة: 100]، {هُوَ الْغَنِيُّ} [الحديد: 24]، {فَبِمََا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} [الشورى: 30] فمحمول على أنه نزل بالأمرين، وأمر النبي صلى الله عليه وسلّم بكتابته على الصورتين لشخصين أو في مجلسين، أو أعلم بهما شخصا واحدا وأمره بإثباتهما.
وأما ما لم يرسم فهو مما كان جوّز به القراءة، وأذن فيه، ولما أنزل ما لم يكن بذلك اللفظ خير بين تلك الألفاظ، توسعة على الناس وتسهيلا عليهم، فلما أفضى ذلك إلى ما نقل من الاختلاف والتكثير اختار الصحابة رضي الله عنهم الاقتصار على اللفظ المنزل المأذون في كتابته، وترك الباقي للخوف من غائلته، فالمهجور هو ما لم يثبت إنزاله، بل هو من الضرب المأذون فيه بحسب ما خفّ وجرى على ألسنتهم.
قال الإمام أبو جعفر الطبري (1):
«الأمة أمرت بحفظ القرآن، وخيرت في قراءته وحفظه بأي تلك الأحرف السبعة شاءت. كما أمرت، إذا هي حنثت في يمين وهي موسرة، أن تكفر بأي الكفارات الثلاث شاءت: إما بعتق أو إطعام أو كسوة. فلو أجمع جميعها على التكفير بواحدة من الكفارات الثلاث دون حظرها التكفير فيها بأي الثلاث شاء المكفر، كانت مصيبة حكم الله مؤيدة في ذلك الواجب عليها من حق الله فكذلك الأمة أمرت بحفظ القرآن، وخيّرت في قراءته بأي الأحرف السبعة شاءت: فرأت لعلة من العلل أوجبت عليها الثبات على حرف واحد قراءته بحرف واحد، ورفض القراءة بالأحرف الستة الباقية، ولم تحظر قراءته بجميع حروفه على قارئه بما أذن في قراءته به».
ثم ساق الكلام إلى أن قال:
«فحملهم يعني عثمان رضي الله عنه على حرف واحد، وجمعهم على مصحف واحد، وحرق ما عدا المصحف الذي جمعهم عليه، فاستوسقت له الأمة
__________
(1) انظر تفسير الطبري 1/ 6458.(1/112)
على ذلك بالطاعة، ورأت أن فيما فعل من ذلك الرشد والهداية، فتركت القراءة بالأحرف الستة التي عزم عليها إمامها العادل في تركها طاعة منها له ونظرا منها لأنفسها ولمن بعدها من سائر أهل ملتها، حتى درست من الأمة معرفتها وتعفت آثارها، فلا سبيل اليوم لأحد إلى القراءة بها لدثورها، وعفو آثارها، وتتابع المسلمين على رفض القراءة بها، من غير جحود منهم صحتها، فلا القراءة اليوم لأحد من المسلمين إلا بالحرف الواحد الذي اختاره لهم إمامهم الشفيق الناصح، دون ما عداه من الأحرف الستة الباقية».
قال: «فإن قال بعض من ضعفت معرفته: كيف جاز لهم ترك قراءة أقرأهموها رسول الله صلى الله عليه وسلّم وأمرهم بقراءتها؟».
«قيل: إن أمره إياهم بذلك لم يكن أمر إيجاب وفرض، وإنما كان أمر إباحة ورخصة». ثم ساق الكلام في تقرير ذلك.
وقال أبو العباس أحمد بن عمار المقرئ (1) في «شرح الهداية»:
«أصح ما عليه الحذاق من أهل النظر في معنى ذلك إنما نحن عليه في وقتنا هذا من هذه القراءات هو بعض الحروف السبعة التي نزل عليها القرآن».
قال: «وتفسير ذلك أن الحروف السبعة التي أخبر النبي صلى الله عليه وسلّم أن القرآن نزل عليها تجري على ضربين:
أحدهما: زيادة كلمة ونقص أخرى، وإبدال كلمة مكان أخرى، وتقديم كلمة على أخرى، وذلك نحو ما روي عن بعضهم: ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربّكم في مواسم الحجّ [البقرة: 198]، وروي عن بعضهم: حم سق [الشورى:
21]، وإذا جاء فتح الله والنّصر [النصر: 1]، فهذا الضرب وما أشبهه متروك، لا تجوز القراءة به، ومن قرأ بشيء منه غير معاند ولا مجادل عليه وجب على الإمام أن يأخذه بالأدب، بالضرب والسجن على ما يظهر له من الاجتهاد، فإن جادل عليه ودعا الناس إليه وجب عليه القتل، لقول النبي صلى الله عليه وسلّم: «المراء في القرآن كفر»، ولإجماع الأمة على اتباع المصحف المرسوم».
__________
(1) هو أحمد بن عمار بن أبي العباس المهدوي القيرواني، أبو العباس، أصله من المهدية القيروان، قدم الأندلس، وتوفي سنة 440هـ. صنف: «التيسير في القراءات»، «ري العاطش»، «الهداية في القراءات». (انظر: كشف الظنون 5/ 75، سراج القارئ ص 28، غاية النهاية 1/ 92، طبقات المفسرين ص 5، بغية الوعاة ص 152).(1/113)
«والضرب الثاني: ما اختلف القراء فيه من إظهار، وإدغام، وروم، وإشمام، وقصر، ومد، وتخفيف، وشد، وإبدال حركة بأخرى، وياء بتاء، وواو بفاء، وما أشبه ذلك من الاختلاف المتقارب».
«فهذا الضرب هو المستعمل في زماننا هذا، وهو الذي عليه خط مصاحف الأمصار، سوى ما وقع فيه من اختلاف في حروف يسيرة».
«فثبت بهذا: أن هذه القراءات التي نقرأها، هي بعض من الحروف السبعة التي نزل عليها القرآن، استعملت لموافقتها المصحف الذي اجتمعت عليه الأمة وترك ما سواها من الحروف السبعة لمخالفته لمرسوم خط المصحف، إذ ليس بواجب علينا القراءة بجميع الحروف السبعة التي نزل عليها القرآن، وإذ قد أباح النبي صلى الله عليه وسلّم لنا القراءة ببعضها دون بعض، لقوله تعالى: {فَاقْرَؤُا مََا تَيَسَّرَ مِنْهُ} [المزمل: 20]، فصارت هذه القراءة المستعملة في وقتنا هذا هي التي تيسرت لنا بسبب ما رواه سلف الأمة رضوان الله عليهم، من جمع الناس على هذا المصحف، لقطع ما وقع بين الناس من الاختلاف وتكفير بعضهم لبعض».
قال: «فهذا أصح ما قال العلماء في معنى هذا الحديث».
قال: «وقد ذهب الطبري وغيره من العلماء إلى أن جميع هذه القراءات المستعملة ترجع إلى حرف واحد، وهو حرف زيد بن ثابت».
قلت: لأن خط المصحف نفى ما كان يقرأ به من ألفاظ الزيادة والنقصان والمرادفة والتقديم والتأخير، وكانوا علموا أن تلك الرخصة قد انتهت بكثرة المسلمين واجتهاد القراء وتمكنهم من الحفظ.
وقد قال القاضي أبو بكر بن الطيب:
«القوم لم يختلفوا عندنا في هذه الحروف المشهورة عن الرسول صلى الله عليه وسلّم التي لم يمت حتى علم من دينه أنه أقرأ بها وصوب المختلفين فيها، وإنما اختلفوا في قراءات ووجوه أخر لم تثبت عن الرسول صلى الله عليه وسلّم ولم تقم بها حجة، وكانت تجيء عنه مجيء الآحاد، وما لم يعلم ثبوته وصحته وكان منهم من يقرأ التأويل مع التنزيل، نحو قوله تعالى: {وَالصَّلََاةِ الْوُسْطى ََ} [البقرة: 238] وهي صلاة العصر، وفإن فاؤ فيهن [البقرة: 226]، وأمثال هذا مما وجدوه في بعض المصاحف، فمنع عثمان رضي الله عنه من هذا الذي لم يثبت ولم تقم به الحجة، وحرقه، وأخذهم بالمستيقن المعلوم من قراءات الرسول صلى الله عليه وسلّم».(1/114)
«فأما أن يستجيز هو أو غيره من أئمة المسلمين المنع من القراءة بحرف ثبت أن الله تعالى أنزله، ويأمر بتحريقه والمنع من النظر فيه والانتساخ منه، ويضيق على الأمة ما وسعه الله تعالى، ويحرم من ذلك ما أحله، ويمنع منه ما أطلقه وأباحه، فمعاذ الله أن يكون ذلك كذلك».
وقال في موضع آخر:
«ليس الأمر على ما توهمتم من أن عثمان رضي الله عنه جمعهم على حرف واحد وقراءة واحدة، بل إنما جمعهم على القراءة بسبعة أحرف وسبع قراءات، كلها عنده وعند الأمة ثابتة عن الرسول صلى الله عليه وسلّم».
وساق الكلام في تقرير ذلك إلى أن قال:
«لئلا تسقط قراءة قرأ بها الرسول صلى الله عليه وسلّم، ويعفو أثرها، ويندرس رسمها، ويظن بعد ذلك القارئ بها أنه قارئ بغير ما أنزل الله من القرآن».
«وعرف عثمان حاجة الناس إلى معرفة جميع تلك الأحرف، كتبها في مصاحفه، وأنفذ كل إمام منها إلى ناحية، لتكون جميع القراءات محروسة محفوظة».
وقال في موضع آخر:
«إنما اختار عثمان حرف زيد، لأنه هو كان حرف جماعة المهاجرين والأنصار، وهو القراءة الراتبة المشهورة عن الرسول صلى الله عليه وسلّم، وعليها كان أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وأبيّ وعبد الله ومعاذ ومجمع بن جارية وجميع السلف رضي الله عنهم، وعدل عما عداها من القراءات والأحرف، لأنها لم تكن عند عثمان والجماعة ثابتة عن الرسول صلى الله عليه وسلّم، ولا مشهورة مستفيضة استفاضة حرف زيد».
«وإنما نسب هذا الحرف إلى زيد، لأنه تولى رسمه في المصاحف وانتصب لإقراء الناس به دون غيره».
وقال صاحب «شرح السنة»:
«جمع الله تعالى الأمة بحسن اختيار الصحابة على مصحف واحد، وهو آخر العرضات على رسول الله صلى الله عليه وسلّم. كان أبو بكر الصديق رضي الله عنه أمر بكتبته، جمعا بعد ما كان مفرقا في الرقاع ليكون أصلا للمسلمين، يرجعون إليه ويعتمدون عليه وأمر عثمان بنسخه في المصاحف، وجمع القوم عليه، وأمر بتحريق ما سواه قطعا لمادة الخلاف، فكان ما يخالف الخط المتفق عليه في حكم المنسوخ والمرفوع،
كسائر ما نسخ ورفع منه باتفاق الصحابة والمكتوب بين اللوحين هو المحفوظ من الله عز وجل للعباد وهو الإمام للأمة، فليس لأحد أن يعدو في اللفظ إلى ما هو خارج من رسم الكتابة والسواد».(1/115)
«جمع الله تعالى الأمة بحسن اختيار الصحابة على مصحف واحد، وهو آخر العرضات على رسول الله صلى الله عليه وسلّم. كان أبو بكر الصديق رضي الله عنه أمر بكتبته، جمعا بعد ما كان مفرقا في الرقاع ليكون أصلا للمسلمين، يرجعون إليه ويعتمدون عليه وأمر عثمان بنسخه في المصاحف، وجمع القوم عليه، وأمر بتحريق ما سواه قطعا لمادة الخلاف، فكان ما يخالف الخط المتفق عليه في حكم المنسوخ والمرفوع،
كسائر ما نسخ ورفع منه باتفاق الصحابة والمكتوب بين اللوحين هو المحفوظ من الله عز وجل للعباد وهو الإمام للأمة، فليس لأحد أن يعدو في اللفظ إلى ما هو خارج من رسم الكتابة والسواد».
«فأما القراءة باللغات المختلفة مما يوافق الخط والكتاب فالفسحة فيه باقية، والتوسعة قائمة بعد ثبوتها وصحتها، بنقل العدول عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم».
قلت: ولا يلزم في ذلك تواتر، بل تكفي الآحاد الصحيحة مع الاستفاضة وموافقة خط المصحف وعدم المنكرين لها نقلا وتوجيها من حيث اللغة، والله أعلم.(1/116)
الباب الرابع في معنى القراءات المشهورة الآن وتعريف الأمر في ذلك كيف كان
وقد قدمت في أول «إبراز المعاني» المختصر قولا موجزا في ذلك وطولت النفس فيه في الكتاب الكبير في شرح:
«جزى الله بالخيرات
فمنهم بدور سبعة
البيتين، فننقل ذلك إلى هذا الكتاب مع زيادة فوائد إن شاء الله تعالى.
وقد ظن جماعة ممن لا خبرة له بأصول هذا العلم أن قراءة هؤلاء الأئمة السبعة هي التي عبر عنها النبي صلى الله عليه وسلّم بقوله: «أنزل القرآن على سبعة أحرف»، فقراءة كل واحد من هؤلاء حرف من تلك الأحرف، ولقد أخطأ من نسب إلى ابن مجاهد (1)
أنه قال ذلك.
قال أبو طاهر عبد الواحد بن أبي هاشم:
«رام هذا الغافل مطعنا في أبي بكر شيخنا، فلم يجده، فحمله ذلك على أن قوله قولا لم يقله هو ولا غيره، ليجد مساغا إلى ثلبه، فحكى عنه أنه اعتقد أن تفسير معنى قول النبي صلى الله عليه وسلّم: «أنزل القرآن على سبعة أحرف» أن تلك السبعة الأحرف هي قراءة السبعة القراء الذين ائتم بهم أهل الأمصار، فقال على الرجل إفكا واحتقب عارا، ولم يحظ من أكذوبته بطائل، وذلك أن أبا بكر رحمه الله كان أيقظ من أن يتقلد مذهبا لم يقل به أحد، ولا يصح عند التفتيش والفحص».
__________
(1) أبو بكر بن مجاهد: هو أحمد بن موسى بن العباس، أبو بكر البغدادي، المعروف بابن مجاهد المقري، ولد سنة 245هـ، وتوفي سنة 323هـ، صنف من الكتب: «الحجة في شرح القراء السبعة»، «القراءة الصغيرة»، «القراءة الكبيرة»، «كتاب الشواذ في القراءة»، «كتاب الهاءات»، «كتاب الباءات»، «المحتسب في شرح كتاب الشواذ له». (كشف الظنون 5/ 59، غاية النهاية 1/ 139، شذرات الذهب 2/ 302).(1/117)
«وذلك أن أهل العلم قالوا في معنى قوله عليه السلام: «أنزل القرآن على سبعة أحرف»: إنهن سبع لغات، بدلالة قول ابن مسعود رضي الله عنه وغيره: إن ذلك كقولك: هلم وتعال وأقبل».
«فكان ذلك جاريا مجرى قراءة عبد الله: إن كانت إلّا زقية واحدة [يس: 29]، وكالصّوف المنفوش [القارعة: 5]، وقراءة أبيّ رضي الله عنه: أن بوركت النار ومن حولها [النمل: 8]، من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الكفّار [المائدة: 57]، وكقراءة ابن عباس رضي الله عنهما: وعلى كلّ ضامر يأتون [الحج: 27]».
«وهذا النوع من الاختلاف معدوم اليوم، غير مأخوذ به ولا معمول بشيء منه بل هو اليوم متلو على حرف واحد متفق الصورة في الرسم غير متناف في المعاني إلّا حروفا يسيرة اختلفت صور رسمها في مصاحف الأمصار واتفقت معانيها فجرى مجرى ما اتفقت صورته».
«وذلك كالحرف المرسوم في مصحف أهل المدينة والشام وأوصى بها إبراهيم، وفي مصحف الكوفيين {وَوَصََّى} [البقرة: 132]، وفي مصحف أهل الحرمين {لَئِنْ أَنْجَيْتَنََا،} وفي مصحف الكوفيين {أَنْجَيْنَا} [الأنعام: 63]».
قال: «ولا شك أن زيد بن ثابت سمع رسول الله صلى الله عليه وسلّم يقرأها على هذه الهيئات فأثبتها في المصاحف مختلفة الصور على ما سمعها من رسول الله صلى الله عليه وسلّم».
ثم ساق الكلام في تقرير ذلك على نحو مما تقدم عن الإمام أبي جعفر بن جرير وهو شيخه فذكر أن الأمر بقراءة القرآن على سبعة أحرف أمر تخيير، قال:
«فثبتت الأمة على حرف واحد من السبعة التي خيّروا فيها، وكان سبب ثباتهم على ذلك ورفض الستة ما أجمع عليه صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلّم حين خافوا على الأمة تكفير بعضهم بعضا أن يستطيل ذلك إلى القتال وسفك الدماء وتقطيع الأرحام، فرسموا لهم مصحفا، أجمعوا جميعا عليه وعلى نبذ ما عداه لتصير الكلمة واحدة، فكان ذلك حجة قاطعة وفرضا لازما».
قال: «وأما ما اختلف فيه أئمة القراءة بالأمصار من النصب والرفع والتحريك والإسكان والهمز وتركه والتشديد والتخفيف والمد والقصر وإبدال حرف بحرف يوافق صورته فليس ذلك بداخل في معنى قول النبي صلى الله عليه وسلّم: «أنزل القرآن على سبعة أحرف».
قال: «وذلك من قبل أن كل حرف اختلفت فيه أئمة القراءة لا يوجب المرء
كفرا لمن مارى به في قول أحد من المسلمين، وقد أثبت النبي صلى الله عليه وسلّم الكفر للمماري بكل حرف من الحروف السبعة التي أنزل بها القرآن».(1/118)
قال: «وذلك من قبل أن كل حرف اختلفت فيه أئمة القراءة لا يوجب المرء
كفرا لمن مارى به في قول أحد من المسلمين، وقد أثبت النبي صلى الله عليه وسلّم الكفر للمماري بكل حرف من الحروف السبعة التي أنزل بها القرآن».
ثم قال: «فإن قيل: فما السبب في اختلاف هؤلاء الأئمة بعد المرسوم لهم، ذلك شيء تخيروه من قبل أنفسهم، أم ذلك شيء وقفوا عليه بعد توجيه المصاحف إليهم؟
قيل: لما خلت تلك المصاحف من الشكل والإعجام وحصر الحروف المحتملة على أحد الوجوه وكان أهل كل ناحية من النواحي التي وجهت إليها المصاحف قد كان لهم في مصرهم ذلك من الصحابة معلمون كأبي موسى (1) بالبصرة، وعلي وعبد الله بالكوفة، وزيد وأبي بن كعب بالحجاز، ومعاذ وأبي الدرداء بالشام، فانتقلوا عما بان لهم أنهم أمروا بالانتقال عنه مما كان بأيديهم، وثبتوا على ما لم يكن في المصاحف الموجهة إليهم مما يستدلون به على انتقالهم عنه».
قلت: وذكر نحو ذلك مكي في كتابه «المفرد» الذي ألحقه بكتاب «الكشف» وكذلك الإمام أبو بكر بن العربي في «كتاب القبس»، قال:
«فإن قيل: فما تقولون في هذه القراءات السبع التي ألفت في الكتب؟
قلنا: إنما أرسل أمير المؤمنين المصاحف إلى الأمصار الخمسة بعد أن كتبت بلغة قريش، فإن القرآن إنما نزل بلغتها ثم أذن رحمة من الله تعالى لكل طائفة من العرب أن تقرأ بلغتها على قدر استطاعتها، فلما صارت المصاحف في الآفاق غير مضبوطة ولا معجمة قرأها الناس فما أنفذوه منها نفذ، وما احتمل وجهين طلبوا فيه السماع حتى وجدوه».
«فلما أراد بعضهم أن يجمع ما شذ عن خط المصحف من الضبط جمعه على سبعة أوجه اقتداء بقوله: «أنزل القرآن على سبعة أحرف».
قال: «وليست هذه الروايات بأصل في التعيين، بل ربما خرج عنها ما هو مثلها أو فوقها كحروف أبي جعفر المدني (2) وغيره».
__________
(1) أبو موسى الأشعري: هو عبد الله بن قيس بن سليم، أبو موسى، من بني الأشعر، من قحطان، من كبار الصحابة، والولاة الفاتحين، توفي سنة 52هـ. (انظر ترجمته في: كتاب الوفيات 61، الإصابة ترجمة رقم 4889، صفة الصفوة 1/ 325، الطبقات الكبرى لابن سعد 4/ 79، حلية الأولياء 1/ 256، البداية والنهاية 8/ 47، وفيه: توفي سنة 50هـ، والصحيح سنة 52هـ).
(2) أبو جعفر المدني: هو يزيد بن القعقاع الإمام، عرض القرآن على مولاه أبي جعفر المخزومي المدني أحد العشرة، تابعي مشهور القدر، انتهت إليه رئاسة الإقراء بالمدينة، توفي سنة 130هـ. (غاية النهاية 2/ 382، الإعلام 9/ 241، الإصابة 2/ 349).(1/119)
قال أبو محمد مكي:
«هذه القراءات كلها التي يقرأها الناس اليوم، وصحت روايتها عن الأئمة إنما هي جزء من الأحرف السبعة التي نزل بها القرآن، ووافق اللفظ بها خط المصحف الذي أجمع الصحابة فمن بعدهم عليه وعلى اطّراح ما سواه، ولم ينقط ولم يضبط فاحتمل التأويل لذلك».
قال: «فأما من ظن أن قراءة كل واحد من هؤلاء القراء كنافع (1) وعاصم وأبي عمرو، أحد الأحرف السبعة التي نص النبي صلى الله عليه وسلّم، فذلك منه غلط عظيم، إذ يجب أن يكون ما لم يقرأ به هؤلاء السبعة متروكا، إذ قد استولوا على الأحرف السبعة عنده، فما خرج عن قراءتهم فليس من السبعة عنده».
«ويجب من هذا القول أن تترك القراءة بما روي عن أئمة هؤلاء السبعة من التابعين والصحابة مما يوافق خط المصحف، مما لم يقرأ به هؤلاء السبعة».
«ويجب منه أن لا تروى قراءة عن ثامن فما فوقه، لأن هؤلاء السبعة عند معتقد هذا القول قد أحاطت قراءتهم بالأحرف السبعة».
قال: «وقد ذكر الناس من الأئمة في كتبهم أكثر من سبعين ممن هو أعلى رتبة وأجل قدرا من هؤلاء السبعة، على أنه قد ترك جماعة من العلماء في كتبهم في القراءات ذكر بعض هؤلاء السبعة واطّرحهم:
قد ترك أبو حاتم وغيره ذكر حمزة (2) والكسائي (3) وابن عامر (4)، وزاد نحو
__________
(1) نافع: هو نافع بن عبد الرحمن بن أبي نعيم، أبو رويم، ويقال: أبو نعيم، ويقال: أبو الحسن، وقيل: أبو عبد الله، وقيل: أبو عبد الرحمن الليثي، مولاهم، وهو مولى جعونة بن شعوب الليثي حليف حمزة بن عبد المطلب. أحد القراء السبعة. (غاية النهاية في طبقات القراء 2/ 330، شذرات الذهب 1/ 270، تقريب التهذيب 2/ 295، الأعلام 8/ 317).
(2) حمزة الزيات: هو حمزة بن حبيب بن عمارة بن إسماعيل الكوفي الزيات، أحد القراء السبعة، وإليه صارت إمامة الإقراء بعد عاصم والأعمش. ولد سنة 80هـ، وتوفي في خلافة المنصور سنة 156هـ. (غاية النهاية في طبقات القراء 1/ 261، شذرات الذهب 1/ 240، معرفة القراء 1/ 93، تقريب التهذيب 1/ 199).
(3) الكسائي: هو علي بن حمزة بن عبد الله بن عثمان، مولى بني أسد، أبو الحسن المعروف بالكسائي، ثم البغدادي الكوفي أحد أئمة النحو، توفي سنة 189هـ، بالري، صنف من الكتب: «اختلاف العدد»، «أشعار المعاياة وطرائقها»، «قصص الأنبياء»، «كتاب الحروف»، «كتاب العدد»، «كتاب القراءات»، «كتاب المصادر»، «كتاب النوادر الأصغر»، «كتاب النوادر الأكبر»، «كتاب النوادر الأوسط»، «كتاب الهاءات المكنى في القرآن»، «كتاب الهجاء»، «مختصر في النحو»، «معاني القرآن»، «مقطوع القرآن وموصوله». (كشف الظنون 5/ 668).
(4) ابن عامر: هو عبد الله بن عامر بن يزيد، أبو عمران اليحصبي الشامي، ولد في البلقاء سنة(1/120)
عشرين رجلا من الأئمة ممن هو فوق هؤلاء السبعة».
«وكذلك زاد الطبري في كتاب «القراءات» له على هؤلاء السبعة نحو خمسة عشر رجلا».
«وكذلك فعل أبو عبيد وإسماعيل القاضي».
«فكيف يجوز أن يظن ظان أن هؤلاء السبعة المتأخرين قراءة كل واحد منهم أحد الحروف السبعة التي نص عليها النبي صلى الله عليه وسلّم، هذا تخلف عظيم، أكان ذلك بنص من النبي صلى الله عليه وسلّم أم كيف ذلك».
قال: «وكيف يكون ذلك والكسائي إنما ألحق بالسبعة بالأمس في أيام المأمون (1)، وغيره كان السابع وهو يعقوب الحضرمي (2) فأثبت ابن مجاهد في سنة ثلاثمائة أو نحوها الكسائي في موضع يعقوب؟».
«وكيف يكون ذلك والكسائي إنما قرأ على حمزة وغيره، وإذا كانت قراءة حمزة أحد الحروف السبعة فكيف يخرج حرف آخر من الحروف السبعة؟».
وأطال الكلام في تقرير ذلك، ثم قال:
«وأما قول الناس: قرأ فلان بالأحرف السبعة، فمعناه أن قراءة كل إمام تسمى حرفا، كما يقال: قرأت بحرف نافع، وبحرف أبيّ، وبحرف ابن مسعود، فهي أكثر من سبعمائة حرف لو عددنا الأئمة الذين نقلت عنهم القراءات من الصحابة فمن بعدهم».
__________
8 - هـ، وتوفي بدمشق سنة 118هـ، أحد القراء السبعة، راو للحديث ثقة، تولى قضاء دمشق للأمويين، (الأعلام 4/ 95، تهذيب التهذيب 5/ 274، غاية النهاية 1/ 423، ميزان الاعتدال 2/ 51).
(1) المأمون: هو عبد الله بن هارون الرشيد بن محمد المهدي، كنيته أبو العباس، وقيل: أبو جعفر، ولد سنة 170هـ، وبويع بعد قتل أخيه الأمين سنة 198. وتوفي بأرض الروم سنة 218هـ، فكانت خلافته عشرين سنة وخمسة أشهر واثنين وعشرين يوما، وقال المسعودي:
كانت خلافته إحدى وعشرين سنة. (انظر: العقد الفريد 5/ 119، كتاب الوزراء والكتاب ص 263249، تاريخ بغداد 7/ 321320، مروج الذهب 3/ 458416، الكامل في التاريخ 6/ 288282، وفيات الأعيان 2/ 523519).
(2) يعقوب الحضرمي: هو أبو محمد يعقوب بن إسحاق بن زيد بن عبد الله بن أبي إسحاق الحضرمي، البصري، المحدث، المقرئ، أحد القراء العشرة، توفي سنة 205هـ، صنف:
«الجامع في اختلاف وجوه القرآن». (انظر: كشف الظنون 6/ 536، معجم الأدباء 7/ 302، غاية النهاية 2/ 386).(1/121)
«فحصل أن الذي في أيدينا من القرآن هو ما في مصحف عثمان رضي الله عنه الذي أجمع المسلمون عليه».
«والذي في أيدينا من القراءات هو ما وافق خط ذلك المصحف من القراءات التي نزل بها القرآن وهو من الإجماع أيضا. وسقط العمل بالقراءات التي تخالف خط المصحف، فكأنها منسوخة بالإجماع على خط المصحف».
«والنسخ للقرآن بالإجماع فيه اختلاف، فلذلك تمادى بعض الناس على القراءة بما يخالف خط المصحف مما ثبت نقله، وليس ذلك بجيد ولا صواب، لأن فيه مخالفة الجماعة، وفيه أخذ القرآن بأخبار الآحاد، وذلك غير جائز عند أحد من الناس».
قلت: مثال هذا ما ثبت في الصحيحين من قراءة عبد الله بن مسعود وأبي الدرداء: واللّيل إذا يغشى والنّهار إذا تجلّى والذّكر والأنثى (1). وقراءة الجماعة على وفق خط المصحف: {وَمََا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى ََ} [الليل: 31]، وقد أوضحت هذا في أول ترجمة علقمة بن قيس من التاريخ الكبير.
وأما قول مكي: «إن الكسائي ألحق بالسبعة في أيام المأمون، وكان السابع يعقوب»، ففيه نظر، فإن ابن مجاهد صنف «كتاب السبعة» وهو متأخر عن زمن المأمون بكثير، فإنه توفي سنة أربع وعشرين وثلاثمائة، ومات المأمون سنة ثماني عشرة ومائتين، فلعل مصنفا آخر سبق ابن مجاهد إلى تصنيف قراءات السبعة، وذكر يعقوب دون الكسائي، إن صح ما أشار إليه مكي.
فإن غيره من الأئمة المصنفين في القراءات الثماني يقولون: وإنما ألحق يعقوب بهؤلاء السبعة أخيرا لكثرة روايته وحسن اختياره ودرايته.
وأما قوله: «إن نسخ القرآن بالإجماع فيه اختلاف»، فالمحققون من الأصوليين لا يرضون هذه العبارة، بل يقولون: الإجماع لا ينسخ به، إذ لا نسخ بعد انقطاع الوحي، وما نسخ بالإجماع، فالإجماع يدل على ناسخ قد سبق في زمن نزول الوحي من كتاب أو سنة.
ثم قال مكي رحمه الله:
«فإن سأل سائل: ما العلة التي من أجلها كثر الاختلاف عن هؤلاء الأئمة، وكل واحد منهم قد انفرد بقراءة اختارها مما قرأ به على أئمته؟».
__________
(1) أخرجه البخاري في تفسير سورة 92، في الترجمة، باب 1، 2، ومسلم في المسافرين حديث 284، والترمذي في القرآن باب 5.(1/122)
قال: «فالجواب: أن كل واحد من الأئمة قرأ على جماعات بقراءات مختلفة فنقل ذلك على ما قرأ، فكانوا في برهة من أعمارهم، يقرءون الناس بما قرءوا. فمن قرأ عليهم بأي حرف كان لم يردوه عنه، إذ كان ذلك مما قرءوا به على أئمتهم».
«ألا ترى أن نافعا قال: قرأت على سبعين من التابعين، فما اتفق عليه اثنان أخذته، وما شك فيه واحد تركته. يريد والله أعلم مما خالف المصحف. وكان من قرأ عليه بما اتفق فيه اثنان من أئمته لم ينكر عليه ذلك».
«وقد روي عنه أنه كان يقرئ الناس بكل ما قرأ به حتى يقال له: نريد أن نقرأ عليك باختيارك مما رويت».
«وهذا قالون (1) ربيبه وأخص الناس به، وورش (2) أشهر الناس المتحملين إليه اختلفا في أكثر من ثلاثة آلاف حرف من قطع وهمز وتخفيف وإدغام وشبهه».
«ولم يوافق أحد من الرواة عن نافع رواية ورش عنه ولا نقلها أحد عن نافع غير ورش، وإنما ذلك لأن ورشا قرأ عليه بما تعلم في بلده فوافق ذلك رواية قرأها نافع على بعض أئمته فتركه على ذلك. وكذلك ما قرأ عليه به قالون وغيره».
ثم قال: «فإن سأل سائل: ما العلة التي من أجلها اشتهر هؤلاء السبعة بالقراءة دون من هو فوقهم، فنسبت إليهم السبعة الأحرف مجازا، وصاروا في وقتنا أشهر من غيرهم ممن هو أعلى درجة منهم وأجل قدرا؟».
فالجواب: أن الرواة عن الأئمة من القراء كانوا في العصر الثاني والثالث كثيرا في العدد، كثيرا في الاختلاف. فأراد الناس في العصر الرابع أن يقتصروا من القراءات التي توافق المصحف على ما يسهل حفظه وتنضبط القراءة به، فنظروا إلى إمام مشهور بالثقة والأمانة في النقل وحسن الدين وكمال العلم، واشتهر أمره وأجمع أهل مصره على عدالته فيما نقل، وثقته فيما قرأ وروى، وعلمه بما يقرئ به، ولم تخرج قراءته عن خط مصحفهم المنسوب إليهم، فأفردوا من كل مصر وجّه إليه عثمان رضي الله عنه مصحفا إماما، هذه صفته وقراءته على مصحف ذلك المصر.
__________
(1) قالون: هو عيسى بن ميناء بن وردان بن عيسى المدني، مولى الأنصار، أبو موسى، ولد بالمدينة سنة 120هـ، وتوفي فيها سنة 220هـ، أحد القراء المشهورين عالم بالعربية والقراءة.
(الأعلام 5/ 110، النجوم الزاهرة 2/ 235، إرشاد الأريب 6/ 103، غاية النهاية 1/ 615، التاج 9/ 313).
(2) ورش: هو عثمان بن سعيد بن عدي المصري، ولد بمصر سنة 110هـ، وفيها توفي سنة 197هـ، من كبار القراء، غلب عليه لقب ورش لشدة بياضه، وأصله من القيروان. (الأعلام 4/ 205، إرشاد الأريب 5/ 33، غاية النهاية 1/ 502، التاج 4/ 364).(1/123)
فكان أبو عمرو من أهل البصرة، وحمزة وعاصم من أهل الكوفة وسوادها، والكسائي من أهل العراق، وابن كثير (1) من أهل مكة، وابن عامر من أهل الشام، ونافع من أهل المدينة، كلهم ممن اشتهرت أمانته وطال عمره في الإقراء، وارتحل الناس إليه من البلدان، ولم يترك الناس مع هذا نقل ما كان عليه أئمة هؤلاء من الاختلاف ولا القراءة بذلك.
وأول من اقتصر على هؤلاء السبعة أبو بكر بن مجاهد، قبل سنة ثلاثمائة أو في نحوها وتابعه على ذلك من أتى بعده إلى الآن، ولم تترك القراءة برواية غيرهم واختيار من أتى بعدهم إلى الآن.
فهذه قراءة يعقوب الحضرمي غير متروكة، وكذلك قراءة عاصم الجحدري (2)
وقراءة أبي جعفر وشيبة (3) إمامي نافع، وكذلك اختيار أبي حاتم وأبي عبيد، واختيار المفضل (4)، واختيارات لغير هؤلاء الناس على القراءة كذلك في كل الأمصار من المشرق.
وهؤلاء الذين اختاروا إنما قرءوا للجماعة بروايات، فاختار كل واحد مما قرأ وروى قراءة تنسب إليه بلفظ الاختيار، وقد اختار الطبري وغيره، وأكثر اختياراتهم إنما هو في الحرف إذا اجتمع فيه ثلاثة أشياء:
قوة وجهه في العربية، وموافقته للمصحف، واجتماع الأمة عليه.
والعامة عندهم ما اتفق عليه أهل المدينة وأهل الكوفة، فذلك عندهم حجة قوية توجب الاختيار.
__________
(1) ابن كثير: هو عبد الله بن كثير الداري المكي، أبو معبد، ولد بمكة سنة 45هـ، وتوفي فيها سنة 120هـ، أحد القراء السبعة، كان قاضي الجماعة بمكة. (الأعلام 4/ 115، وفيات الأعيان 1/ 250).
(2) عاصم الجحدري: هو عاصم بن أبي الصباح، أبو المجشر الجحدري، البصري، المقرئ المفسر، قرأ على الحسن البصري، توفي سنة 128. (لسان الميزان 3/ 220، الطبقات الكبرى 7/ 235، ميزان الاعتدال 2/ 4، غاية النهاية 1/ 349).
(3) شيبة: هو شيبة بن نصاح بن سرجس بن يعقوب المخزومي المدني، المحدث، المقرئ، توفي سنة 130هـ. (انظر: تهذيب التهذيب 4/ 377، غاية النهاية 1/ 329).
(4) هو المفضّل بن محمد بن يعلى بن عامر بن سالم الرمال، أبو عبد الرحمن، الشهير بالضبي، من أكابر الكوفة. مقرئ نحوي، سكن بغداد ومات بها سنة 168هـ، من تصانيفه: «كتاب الألفاظ»، «كتاب الأمثال»، «كتاب العروض»، «معاني الشعر»، «المفضليات» وهي مائة وأربعة وعشرون قصيدة، جمعها للرشيد الخليفة العباسي. (انظر: كشف الظنون 6/ 468، تاريخ بغداد 13/ 121، معجم الأدباء 7/ 171، غاية النهاية 2/ 307، لسان الميزان 6/ 81، بغية الوعاة ص 396).(1/124)
وربما جعلوا العامة ما اجتمع عليه أهل الحرمين، وربما جعلوا الاختيار ما اتفق عليه نافع وعاصم، فقراءة هذين الإمامين أوثق القراءات وأصحها سندا وأفصحها في العربية، ويتلوها في الفصاحة خاصة قراءة أبي عمرو والكسائي رحمهم الله.
ثم قال: فإن سأل سائل: لم جعل القراء الذين اختيروا للقراءة سبعة؟ ألا كانوا أكثر أو أقل؟».
فالجواب: أنهم جعلوا سبعة لعلتين:
إحداهما: أن عثمان رضي الله عنه كتب سبعة مصاحف ووجه بها إلى الأمصار، فجعل عدد القراء على عدد المصاحف.
والثانية: أنه جعل عددهم على عدد الحروف التي نزل بها القرآن، وهي سبعة على أنه لو جعل عددهم أكثر أو أقل لم يمتنع ذلك، إذ عدد الرواة الموثوق بهم أكثر من أن يحصى.
وقد ألف ابن جبير المقرئ (1) وكان قبل ابن مجاهد كتابا في القراءات وسماه «كتاب الخمسة»، ذكر فيه خمسة من القراء لا غير، وألف غيره كتابا وسماه «كتاب الثمانية»، وزاد على هؤلاء السبعة يعقوب الحضرمي، وهذا باب واسع.
قال: «وإنما الأصل الذي يعتمد عليه في هذا: أن ما صح سنده واستقام وجهه في العربية، ووافق لفظه خط المصحف فهو من السبعة المنصوص عليها، ولو رواه سبعون ألفا، مفترقين أو مجتمعين، فهذا هو الأصل الذي بني عليه في ثبوت القراءات عن سبعة أو عن سبعة آلاف، فاعرفه وابن عليه».
قال أبو علي الأهوازي:
وإنما كانوا من هذه الأمصار الخمسة دون غيرها لأجل أن عثمان رضي الله عنه جعل لكل مصر من هذه الأمصار مصحفا، وأمر باتباعه، ووجه بمصحف إلى اليمن، وبمصحف إلى البحرين، فلم نسمع لهما خبرا ولا رأينا لهما أثرا.
قال: «وهؤلاء السبعة لزموا القيام بمصحفهم، وانتصبوا لقراءته، وتجردوا لروايته، ولم يشتهروا بغيره، واتبعوا ولم يبتدعوا».
قال: «وقد كان في وقتهم جماعة في مصر كل واحد منهم من القراء ولم
__________
(1) ابن جبير المقرئ: هو أحمد بن جبير بن محمد بن جعفر بن أحمد، أبو جعفر، وقيل: أبو بكر الكوفي. نزيل أنطاكية، من أئمة القراء، توفي سنة 258هـ. (انظر: غاية النهاية 1/ 42).(1/125)
يجمعوا عليهم لأجل مخالفتهم للمصحف في يسير من الحروف».
قال: «ولسنا نقول: إن ما قرأه هؤلاء السبعة يشتمل على جميع ما أنزله الله عز وجل من الأحرف السبعة التي أباح رسول الله صلى الله عليه وسلّم أن يقرأ بها، ولا معنى ما ورد عنهم معنى ذلك».
قال: «وقد ظن بعض من لا معرفة له بالآثار أنه إذا أتقن عن هؤلاء السبعة قراءتهم أنه قد قرأ بالسبعة الأحرف التي جاء بها جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلّم». قال: «وهو خطأ بيّن وغلط ظاهر عند جميع أهل البصر بالتأويل».
وقال شيخنا أبو الحسن علي بن محمد رحمه الله:
«لما كان العصر الرابع سنة ثلاثمائة وما قاربها، كان أبو بكر بن مجاهد رحمه الله، قد انتهت إليه الرئاسة في علم القراءة، وقد تقدم في ذلك على أهل ذلك العصر، اختار من القراءات ما وافق خط المصحف ومن القراء بها من اشتهرت قراءته، وفاقت معرفته، وقد تقدم أهل زمانه في الدين والأمانة والمعرفة والصيانة، واختاره أهل عصره في هذا الشأن، وأطبقوا على قراءته، وقصد من سائر الأقطار، وطالت ممارسته للقراءة والإقراء، وخص في ذلك بطول البقاء، ورأى أن يكونوا سبعة تأسيا بعدة المصاحف الأئمة، وبقول النبي صلى الله عليه وسلّم: «إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف من سبعة أبواب»، فاختار هؤلاء القراء السبعة أئمة الأمصار، فكان أبو بكر بن مجاهد أول من اقتصر على هؤلاء السبعة، وصنف كتابه في قراءاتهم، واتبعه الناس على ذلك، ولم يسبقه أحد إلى تصنيف قراءة هؤلاء السبعة».
وقد أضاف قوم بعد ابن مجاهد إلى هؤلاء السبعة يعقوب الحضرمي، وكان فاعل ذلك نسب ابن مجاهد إلى التقصير في اقتصاره على السبعة، ولم يكن عالما بغرض ابن مجاهد، وقراءة يعقوب خارجة عن غرضه لنزول الإسناد، لأنه قرأ على سلام بن سليمان (1) وقرأ سليمان على عاصم، ولما فيها من الخروج عن قراءة العامة، وكذلك من صنف العشرة.
قلت: ووقع في «كتاب البيان» لأبي طاهر بن أبي هاشم كلام لأبي جعفر الطبري، ظن منه أنه طعن على قراءة ابن عامر، وإنما حاصله أنه استبعد قراءته على عثمان بن عفان رضي الله عنه على ما جاء في بعض الروايات عنه على ما نقلناه في «الكتاب الكبير من إبراز المعاني» وذلك غير ضائر.
__________
(1) هو سلام بن سليمان الطويل، أبو المنذر المزني، البصري، ثم الكوفي، المقرئ، توفي سنة 171هـ. (انظر: غاية النهاية 1/ 309).(1/126)
فهب أنه لم يصح أنه قرأ على عثمان، فقد قرأ على غيره من الصحابة، وكان يقول: هذه حروف أهل الشام التي يقرءونها.
قال أبو جعفر:
«ولعله أراد أنه أخذ ذلك عن جماعة من قرائها، فقد كان أدرك منهم من الصحابة وقدماء السلف خلقا كثيرا».
ثم قال أبو طاهر:
«وأحسن الوجوه عندي أن يقال: إن قراءة ابن عامر قراءة اتفق عليها أهل الشام وإنها مسندة إلى أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلّم».
قال: «ولم يتفقوا إن شاء الله عليها، إلا ولها مادة صحيحة من بعض الصحابة تتصل برسول الله صلى الله عليه وسلّم، وإن كنا لا نعلمها كعلمنا بمادة قراءة أهل الحرمين والعراقين».
قال: «ولولا أن أبا بكر شيخنا جعله سابعا لأئمة القراءة، فاقتدينا بفعله، لأنه لم يزل موفقا، فاتبعنا أثره، واهتدينا بهديه لما كان إسناد قراءته مرضيا، لكان أبو محمد سليمان بن مهران الأعمش بذلك أولى منه، إذ كانت قراءته منقولة عن الأئمة المرضيين، وموافقة للمصحف المأثور باتباع ما فيه، ولكنا لا نعدل عما مضى عليه أئمتنا، ولا نتجاوز ما رسمه أولونا، إذ كان ذلك بنا أولى، وكنا إلى التمسك بفعلهم أحرى».
قلت: وكان غرض ابن مجاهد أن يأتي بسبعة من القراء من الأمصار التي نفدت إليها المصاحف، ولم يمكنه ذلك في البحرين واليمن لإعواز أئمة القراءة منهما، فأخذ بدلهما من الكوفة لكثرة القراء بها، وإذا كان هذا غرضه فلم يكن له بدّ من ذكر إمام من أهل الشام، ولم يكن فيهم من انتصب لذلك من التابعين مثل ابن عامر، فذكره.
وقال في كتابه:
«وعلى قراءة ابن عامر أهل الشام وبلاد الجزيرة».
ثم قال: «فهؤلاء السبعة من أهل الحجاز والعراق والشام خلفوا في القراءة التابعين، وأجمع على قراءتهم العوام من أهل كل مصر من هذه الأمصار وغيرها من البلدان التي تقرب من هذه الأمصار، إلا أن يستحسن رجل لنفسه حرفا شاذا فيقرأ به من الحروف التي رويت عن بعض الأوائل منفردة، فذلك غير داخل في قراءة العوام».(1/127)
قال: «ولا ينبغي لذي لب أن يتجاوز ما مضت عليه الأئمة والسلف بوجه يراه جائزا في العربية، أو مما قرأ به قارئ غير مجمع عليه».
وقد ذكر الإمام أبو عبيد في أول كتابه في القراءات ما يعرفك كيف كان هذا الشأن من أول الإسلام إلى آخر ما ذكره.
فذكر القراء من الصحابة على ما سبق ذكره في آخر الباب الأول، ثم قال بعد ذكر التابعين:
«فهؤلاء الذين سمينا من الصحابة والتابعين وهم الذين يحكى عنهم عظم القراءة، وإن كان الغالب عليهم الفقه والحديث».
قال: «ثم قام من بعدهم بالقرآن قوم، ليست لهم أسنان من ذكرنا ولا قدمهم، غير أنهم تجردوا في القراءة، فاشتدت بها عنايتهم، ولها طلبهم، حتى صاروا بذلك أئمة يأخذها الناس عنهم ويقتدون بهم فيها، وهم خمسة عشر رجلا من هذه الأمصار، في كل مصر منهم ثلاثة رجال:
فكان من قراء المدينة: أبو جعفر ثم شيبة بن نصاح ثم نافع وإليه صارت قراءة أهل المدينة.
وكان من قراء مكة: عبد الله بن كثير وحميد بن قيس الأعرج (1) ومحمد بن محيصن (2)، وأقدمهم ابن كثير، وإليه صارت قراءة أهل مكة أو أكثرهم.
وكان من قراء الكوفة: يحيى بن وثاب (3) وعاصم والأعمش، ثم تلاهم حمزة رابعا، وهو الذي صار عظم أهل الكوفة إلى قراءته من غير أن يطبق عليه جماعتهم.
وأما الكسائي فإنه يتخير القراءات، فأخذ من قراءة حمزة بعضا وترك بعضا.
وكان من قراء البصرة: عبد الله بن أبي إسحاق (4) وأبو عمرو بن العلاء
__________
(1) هو حميد بن قيس الأعرج، الأسدي، أبو صفوان المكي، توفي سنة 130هـ. (انظر: غاية النهاية 1/ 265، تهذيب التهذيب 3/ 46).
(2) هو محمد بن عبد الرحمن بن محيصن السهمي المكي، المقرئ، توفي سنة 123هـ. (انظر:
غاية النهاية 2/ 167).
(3) هو يحيى بن وثّاب الأسدي الكوفي، تابعي، مقرئ، توفي سنة 103هـ. (انظر: المعارف لابن قتيبة ص 330، غاية النهاية 2/ 380، تهذيب التهذيب 11/ 294).
(4) ابن أبي إسحاق: هو عبد الله بن أبي إسحاق الحضرمي النحوي، توفي سنة 129هـ. (انظر ترجمته في: أخبار النحويين البصريين 19، مراتب النحويين 12، نزهة الألباء 10، طبقات اللغويين 31، إنباه الرواة 3/ 104).(1/128)
وعيسى بن عمر (1). والذي صار إليه أهل البصرة في القراءة، واتخذوه إماما أبو عمرو. وقد كان لهم رابعا، وهو عاصم الجحدري، غير أنه لم يرو عنه في الكثرة ما روي عن هؤلاء الثلاثة.
وكان من قراء الشام: عبد الله بن عامر ويحيى بن الحارث الذماري (2) وثالث، قد سمي لي بالشام ونسيت اسمه، فهؤلاء قراء الأمصار الذين كانوا من التابعين».
قلت: الذي نسيه أبو عبيد، قيل: هو خليد بن سعد (3) صاحب أبي الدرداء، وعندي أنه عطية بن قيس الكلابي (4) أو إسماعيل بن عبيد الله بن أبي المهاجر (5). فإن كل واحد منهما كان قارئا للجند، وكان عطية بن قيس تصلح المصاحف على قراءته بدمشق على ما نقلناه في ترجمتهما في التاريخ.
ثم إن القراء بعد هؤلاء كثروا، وتفرقوا في البلاد، وانتشروا، وخلفهم أمم بعد أمم، عرفت طبقاتهم واختلفت صفاتهم، فمنهم المحكم للتلاوة المعروف بالرواية والدراية، ومنهم المقتصر على وصف من هذه الأوصاف، وكثر سبب ذلك بينهم الاختلاف، وقل الضبط، واتسع الخرق، والتبس الباطل بالحق، فميز جهابذة العلماء ذلك بتصانيفهم، وحرروه وضبطوه في تواليفهم على ما سيأتي شرحه في الباب الخامس إن شاء الله تعالى.
وقد قال القاضي أبو بكر الأشعري رحمه الله:
«جميع ما قرأ به قراء الأمصار مما اشتهر عنهم واستفاض نقله ولم يدخل في حكم الشذوذ، ولم يقع بين القراء تناكر له، ولا تخطئة لقارئه، بل رواه سائغا جائزا من همز وإدغام ومد وتشديد وحذف وإمالة، أو ترك كل ذلك، أو شيء منه، أو تقديم وتأخير، فإنه كله منزل من عند الله تعالى ومما وقف الرسول صلى الله عليه وسلّم على صحته
__________
(1) هو أبو عمرو عيسى بن عمر الثقفي النحوي البصري، مولى خالد بن الوليد، توفي سنة 149هـ، صنف: «الإكمال في النحو»، «جامع في النحو». (انظر: كشف الظنون 5/ 805، معجم الأدباء 6/ 100، وفيات الأعيان 1/ 497، غاية النهاية 1/ 613، بغية الوعاة ص 370).
(2) هو يحيى بن الحارث بن عمرو بن يحيى، أبو عمرو الشامي، شيخ القراء بدمشق، توفي سنة 145هـ. (انظر: تهذيب التهذيب 11/ 193، غاية النهاية 2/ 367).
(3) هو خليد بن سعد السلاماني. (انظر ترجمته في: ميزان الاعتدال 1/ 310).
(4) هو عطية بن قيس الكلابي الحمصي، أبو يحيى الدمشقي، تابعي، توفي سنة 121هـ. (انظر:
غاية النهاية 1/ 513، تهذيب التهذيب 7/ 228).
(5) توفي سنة 131هـ. (انظر ترجمته في: تهذيب التهذيب 1/ 317).(1/129)
وخير بينه وبين غيره وصوب جميع القراءة به. ولو سوغنا لبعض القراء إمالة ما لم يمله الرسول صلى الله عليه وسلّم والصحابة أو غير ذلك، لسوغنا لهم مخالفة جميع قراءة الرسول صلى الله عليه وسلّم».
وأطال الكلام في تقرير ذلك، وجوز أن يكون الرسول صلى الله عليه وسلّم يقرئ واحدا بعض القرآن بحرف، وبعضه بحرف آخر على قدر ما يراه أيسر على القارئ.
فظهر لي من هذا: أن اختلاف القراء في الشيء الواحد مع اختلاف المواضع من هذا على قدر ما رووا، وأن ذلك المتلقن له من النبي صلى الله عليه وسلّم على ذلك الوجه أقرأ غيره كما سمعه، ثم من بعده كذلك إلى أن اتصل بالسبعة، ومثاله قراءة نافع {يَحْزَنَّ} بضم الياء وكسر الزاي في جميع القرآن، إلا حرف الأنبياء، وقراءة ابن عامر إبراهام بالألف في بعض السور دون بعض، ونحو ذلك مما يقال فيه: إنه جمع بين اللغتين، والله أعلم.(1/130)
الباب الخامس في الفصل بين القراءة الصحيحة القوية والشاذة الضعيفة المروية
قال الإمام أبو بكر بن مجاهد في كتاب «السبعة»:
«اختلف الناس في القراءات، كما اختلفوا في الأحكام، ورويت الآثار بالاختلاف عن الصحابة والتابعين، توسعة ورحمة للمسلمين، وبعض ذلك قريب من بعض، وحملة القرآن متفاضلون في حمله ونقله الحروف، منازل في نقل حروفه.
فمن حملة القرآن المعرب العالم بوجوه الإعراب في القراءات، العارف باللغات ومعاني الكلام، البصير بعيب القراءة المنتقد للآثار، فذلك الإمام الذي يفزع إليه حفاظ القرآن في كل مصر من أمصار المسلمين.
ومنهم من يعرب ولا يلحن ولا علم له بغير ذلك، فذلك كالأعرابي الذي يقرأ بلغته ولا يقدر على تحويل لسانه، فهو مطبوع على كلامه.
ومنهم من يؤدي ما سمعه ممن أخذ عنه، وليس عنده إلا الأداء لما تعلم، لا يعرف الإعراب ولا غيره، فذلك الحافظ ولا يلبث مثله أن ينسى إذا طال عهده، فيقرأ بلحن لا يعرفه وتدعوه الشبهة إلى أن يرويه عن غيره ويبرئ نفسه، وعسى أن يكون عند الناس مصدقا، فيحمل ذلك عنه وقد نسيه وأوهم فيه وجسر على لزومه والإصرار عليه أو يكون قد قرأ على من نسي وضع الإعراب ودخلته الشبهة فتوهم، فذلك لا يقلد في القراءة ولا يحتج بنقله.
ومنهم من يعرب قراءته ويبصر المعنى ويعرف اللغات ولا علم له بالقراءات واختلاف الناس في الآثار، فربما دعاه بصره بالإعراب إلى أن يقرأ بحرف جائز في العربية لم يقرأ به أحد من الماضين، فيكون بذلك مبتدعا، وقد روينا في كراهة ذلك وخطره أحاديث».
ثم قال: «وأما الآثار التي رويت في الحرف فكالآثار التي رويت في الأحكام:
منها المجتمع عليه السائر المعروف ومنها المتروك المكروه عند الناس، المعيب من
أخذ به، وإن كان قد روي وحفظ ومنها ما قد توهم فيه من رواه فضيع روايته ونسي سماعه لطول عهده، فإذا عرض على أهله عرفوا توهمه وردوه على من حمله.(1/131)
منها المجتمع عليه السائر المعروف ومنها المتروك المكروه عند الناس، المعيب من
أخذ به، وإن كان قد روي وحفظ ومنها ما قد توهم فيه من رواه فضيع روايته ونسي سماعه لطول عهده، فإذا عرض على أهله عرفوا توهمه وردوه على من حمله.
وربما سقط بالرواية لذلك بإصراره على لزومه وتركه الانصراف عنه ولعل كثيرا ممن ترك حديثه واتهم في روايته كانت هذه علته، وإنما ينتقد ذلك أهل العلم بالأخبار والحلال والحرام والأحكام، وليس انتقاد ذلك إلى من لا يعرف الحديث ولا يبصر الرواية والاختلاف.
وكذلك ما روي من الآثار في حروف القرآن:
منها اللغة الشاذة القليلة، ومنها الضعيف المعنى في الإعراب، غير أنه قد قرئ به، ومنها ما توهم فيه فغلط به، فهو لحن غير جائز عند من لا يبصر من العربية غير اليسير، ومنها اللحن الخفي الذي لا يعرفه إلا العالم النحرير وبكلّ قد جاءت الآثار في القراءات».
قال: «والقراءة التي عليها الناس بالمدينة ومكة والكوفة والبصرة والشام هي القراءة التي تلقوها عن أوليهم تلقيا، وقام بها في كل مصر من هذه الأمصار رجل ممن أخذ عن التابعين، اجتمعت الخاصة والعامة على قراءته وسلكوا فيها طريقه وتمسكوا بمذاهبه على ما روي يعني عن عمر بن الخطاب وزيد بن ثابت رضي الله عنهما من الصحابة، وعن ابن المنكدر (1) وعروة بن الزبير وعمر بن عبد العزيز (2)
وعامر الشعبي من التابعين أنهم قالوا: القراءة سنة يأخذها الآخر عن الأول، فاقرءوا كما علمتموه قال زيد: القراءة سنة».
قال إسماعيل القاضي: «أحسبه يعني هذه القراءة التي جمعت في المصحف».
__________
(1) هو محمد بن المنكدر بن عبد الله بن الهدير بن عبد العزى بن عامر بن الحارث بن حارثة بن سعد بن تيم بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب التيمي القرشي المدني، كان من سادات القراء لا يتمالك البكاء إذا قرأ أحد حديث رسول الله صلى الله عليه وسلّم، كنيته أبو عبد الله، وقيل: أبو بكر، توفي في ولاية مروان بن محمد سنة 130هـ، وقد نيف على السبعين. (كتاب الثقات لابن حبان 5/ 351350، تذكرة الحفاظ 1/ 119، تهذيب التهذيب 9/ 473).
(2) هو أبو حفص عمر بن عبد العزيز بن مروان بن الحكم، الأموي القرشي، الخليفة العادل الورع الزاهد، ولي الخلافة سنة 99هـ، وتوفي سنة 101هـ. (انظر ترجمته في: كتاب الوفيات 103، حلية الأولياء 2/ 253، تاريخ الخميس 2/ 315، شذرات الذهب 1/ 119، تاريخ الخلفاء 88، الكواكب الدرية 1/ 256، وفيات الأعيان 2/ 128، البداية والنهاية 9/ 231205، تذكرة الحفاظ 1/ 112، فوات الوفيات 2/ 105، تهذيب التهذيب 7/ 475، تاريخ الخلفاء ص 88).(1/132)
وذكر عن محمد ابن سيرين أنه قال:
«كانوا يرون أن قراءتنا هذه هي أحدثهن بالعرضة الأخيرة»، وفي رواية قال:
«نبئت أن القرآن كان يعرض على النبي صلى الله عليه وسلّم كل عام مرة في شهر رمضان، فلما كان العام الذي توفي فيه عرض عليه مرتين».
قال ابن سيرين: «فيرون أو يرجون أن تكون قراءتنا هذه أحدث القراءات عهدا بالعرضة الأخيرة». أخرجه أبو عبيد وغيره.
وعنه عن عبيدة السلماني قال: «القراءة التي عرضت على رسول الله صلى الله عليه وسلّم في العام الذي قبض فيه، هي التي يقرأها الناس اليوم». وفي رواية: «القرآن الذي عرض». أخرجه ابن أبي شيبة.
قلت: وهذه السنة التي أشاروا إليها هي ما ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم نصا أنه قرأه وأذن فيه على ما صح عنه: «إنّ القرآن نزل على سبعة أحرف». فلأجل ذلك كثر الاختلاف في القراءة زمانه صلى الله عليه وسلّم وبعده إلى أن كتبت المصاحف، باتفاق من الصحابة بالمدينة على ذلك، ونفذت إلى الأمصار وأمروا باتباعها وترك ما عداها، فأخذ الناس بها، وتركوا من تلك القراءات كل ما خالفها، وأبقوا ما يوافقها صريحا كقراءة {الصِّرََاطَ} بالصاد، واحتمالا كقراءة {مََالِكِ} بالألف، لأن المصاحف اتفقت على كتابة {مُلْكِ} فيها بغير ألف، فاحتمل أن يكون مراده كما حذفت من {الرَّحْمََنِ}
و {إِسْمََاعِيلَ} و {إِسْحََاقَ} وغير ذلك.
ويحمل على اعتقاد ذلك ثبوت تلك القراءة بالنقل الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم ولا يلتزم فيه تواتر، بل تكفي الآحاد الصحيحة مع الاستفاضة وموافقة خط المصحف، بمعنى أنها لا تنافيه عدم المنكرين لها نقلا وتوجيها من حيث اللغة.
فكل قراءة ساعدها خط المصحف مع صحة النقل فيها ومجيئها على الفصيح من لغة العرب، فهي قراءة صحيحة معتبرة.
فإن اختلت هذه الأركان الثلاثة أطلق على تلك القراءة أنها شاذة وضعيفة.
أشار إلى ذلك كلام الأئمة المتقدمين، ونص عليه الشيخ المقرئ أبو محمد مكي بن أبي طالب القيرواني في كتاب مفرد صنفه في معاني القراءات السبع وأمر بإلحاقه «بكتاب الكشف عن وجوه القراءات» من تصانيفه، وقد تقدم فيما نقلناه من كلامه في الباب الرابع الذي قبل هذا الباب.
وقد ذكره أيضا شيخنا أبو الحسن رحمه الله في كتابه «جمال القراء» في باب مراتب الأصول وغرائب الفصول فقال:(1/133)
«وقد اختار قوم قراءة عاصم ونافع فيما اتفقا عليه وقالوا: قراءة هذين الإمامين أصح القراءات سندا وأفصحها في العربية، وبعدهما في الفصاحة قراءة أبي عمرو والكسائي».
«وإذا اجتمع للحرف قوته في العربية وموافقة المصحف واجتماع العامة عليه فهو المختار عند أكثرهم. وإذا قالوا: قراءة العامة، فإنما يريدون ما اتفق عليه أهل المدينة وأهل الكوفة، فهو عندهم سبب قوي يوجب الاختيار، وربما اختاروا ما اجتمع عليه أهل الحرمين، وسموه أيضا بالعامة».
قلت: ولعل مرادهم بموافقة خط المصحف ما يرجع إلى زيادة الكلم ونقصانها.
فإن فيما يروى من ذلك عن أبيّ بن كعب وابن مسعود رضي الله عنهما من هذا النوع شيئا كثيرا، فكتبت المصاحف على اللفظ الذي استقر عليه في العرضة الأخيرة على رسول الله صلى الله عليه وسلّم على ما سبق تفسيره.
وأما ما يرجع إلى الهجاء وتصوير الحروف، فلا اعتبار بذلك في الرسم، فإنه مظنة الاختلاف، وأكثره اصطلاح، وقد خولف الرسم بالإجماع في مواضع من ذلك، كالصلوة والزكوة والحيوة، فهي مرسومات بالواو ولم يقرأها أحد على لفظ الواو.
فليكتف في مثل ذلك بالأمرين الآخرين، وهما صحة النقل والفصاحة في لغة العرب.
فصل
واعلم أن القراءات الصحيحة المعتبرة المجمع عليها، قد انتهت إلى السبعة القراء المتقدم ذكرهم، واشتهر نقلها عنهم لتصديهم لذلك وإجماع الناس عليهم، فاشتهروا بها كما اشتهر في كل علم من الحديث والفقه والعربية أئمة اقتدي بهم وعول فيها عليهم.
ونحن فإن قلنا: إن القراءات الصحيحة إليهم نسبت وعنهم نقلت، فلسنا ممن يقول: إن جميع ما روي عنهم يكون بهذه الصفة، بل قد روي عنهم ما يطلق عليه أنه ضعيف وشاذ بخروجه عن الضابط المذكور باختلال بعض الأركان الثلاثة، ولهذا ترى كتب المصنفين في القراءات السبع مختلفة في ذلك، ففي بعضها ذكر ما سقط في غيرها، والصحيح بالاعتبار الذي ذكرناه موجود في جميعها إن شاء الله تعالى.(1/134)
فلا ينبغي أن يغتر بكل قراءة تعزى إلى واحد من هؤلاء الأئمة السبعة ويطلق عليها لفظ الصحة، وإن هكذا أنزلت إلا إذا دخلت في ذلك الضابط، وحينئذ لا ينفرد بنقلها مصنف عن غيره ولا يختص ذلك بنقلها عنهم، بل إن نقلت عن غيرهم من القراء، فذلك لا يخرجها عن الصحة. فإن الاعتماد على استجماع تلك الأوصاف، لا عمن تنسب إليه.
فإن القراءات المنسوبة إلى كل قارئ من السبعة وغيرهم منقسمة إلى المجمع عليه والشاذ، غير أن هؤلاء السبعة لشهرتهم وكثرة الصحيح المجتمع عليه في قراءتهم تركن النفس إلى ما نقل عنهم، فوق ما ينقل عن غيرهم.
فمما نسب إليهم وفيه إنكار لأهل اللغة وغيرهم:
الجمع بين الساكنين في تاءات البزي (1)، وإدغام أبي عمرو، وقراءة حمزة {فَمَا اسْطََاعُوا} [الكهف: 97]، وتسكين من أسكن {بََارِئِكُمْ} و {يَأْمُرُكُمْ} [البقرة: 54] ونحوه، و {سَبَإٍ} [النمل: 22] و {يََا بُنَيَّ} [لقمان: 13]، ومكر السّيّئ [لقمان: 17]، وإشباع الياء في نرتعي [يوسف: 12] ويتّقي ويصبر [يوسف: 90] و {أَفْئِدَةً مِنَ النََّاسِ} [إبراهيم: 37] وقراءة ليكة [الشعراء: 176] بفتح الهاء، وهمز {سََاقَيْهََا}
[النمل: 44]، وخفض {وَالْأَرْحََامَ} [النساء: 1]، ونصب {كُنْ فَيَكُونُ} [البقرة: 117]، والفصل بين المضافين في «الأنعام»، وغير ذلك على ما نقلناه وبيناه بعون الله تعالى وتوفيقه في شرح قصيدة الشيخ الشاطبي رحمه الله.
فكل هذا محمول على قلة ضبط الرواة فيه على ما أشار إليه كلام ابن مجاهد المنقول في أول هذا الباب.
وإن صح فيه النقل فهو من بقايا الأحرف السبعة التي كانت القراءة مباحة عليها، على ما هو جائز في العربية، فصيحا كان أو دون ذلك.
وأما بعد كتابة المصاحف على اللفظ المنزل، فلا ينبغي قراءة ذلك اللفظ إلا على اللغة الفصحى من لغة قريش وما ناسبها، حملا لقراءة النبي صلى الله عليه وسلّم والسادة من أصحابه على ما هو اللائق بهم، فإنهم كما كتبوه على لسان قريش، فكذا قراءتهم له.
وقد شاع على ألسنة جماعة من المقرئين المتأخرين وغيرهم من المقلدين أن القراءات السبع كلها متواترة، أي كل فرد فرد مما روى عن هؤلاء الأئمة السبعة قالوا: والقطع بأنها منزلة من عند الله واجب.
__________
(1) البزي: هو أحمد بن محمد بن عبد الله المكي، صاحب قراءة ابن كثير، توفي سنة 250هـ.
(انظر ترجمته في: لسان الميزان 1/ 283، غاية النهاية 1/ 119).(1/135)
ونحن بهذا نقول، ولكن فيما اجتمعت على نقله عنهم الطرق واتفقت عليه الفرق من غير نكير له مع أنه شاع واشتهر واستفاض، فلا أقل من اشتراط ذلك إذا لم يتفق التواتر في بعضها.
فإن القراءات السبع المراد بها ما روي عن الأئمة السبعة القراء المشهورين، وذلك المروي عنهم منقسم إلى ما أجمع عليه عنهم لم يختلف فيه الطرق، وإلى ما اختلف فيه بمعنى أنه نفيت نسبته إليهم في بعض الطرق.
فالمصنفون لكتب القراءات يختلفون في ذلك اختلافا كثيرا، ومن تصفح كتبهم في ذلك ووقف على كلامهم فيه عرف صحة ما ذكرناه.
وأما من يهول في عبارته قائلا: إن القراءات السبع متواترة، ل «أنّ القرآن أنزل على سبعة أحرف» فخطؤه ظاهر، لأن الأحرف السبعة المراد بها غير القراءات السبع على ما سبق تقريره في الأبواب المتقدمة.
ولو سئل هذا القائل عن القراءات السبع التي ذكرها لم يعرفها ولم يهتد إلى حصرها، وإنما هو شيء طرق سمعه فقاله غير مفكر في صحته، وغايته إن كان من أهل هذا العلم أن يجيب بما في الكتاب الذي حفظه.
والكتب في ذلك كما ذكرنا مختلفة، ولا سيما كتب المغاربة والمشارقة، فبين كتب الفريقين تباين في مواضع كثيرة، فكم في كتابه من قراءة قد أنكرت، وكم فات كتابه من قراءة صحيحة فيه ما سطرت، على أنه لو عرف شروط التواتر لم يجسر على إطلاق هذه العبارة في كل حرف من حروف القراءة.
فالحاصل إنا لسنا ممن يلتزم التواتر في جميع الألفاظ المختلف فيها بين القراء، بل القراءات كلها منقسمة إلى متواتر وغير متواتر، وذلك بين لمن أنصف وعرف وتصفح القراءات وطرقها.
وغاية ما يبديه مدعي تواتر المشهور منها كإدغام أبي عمرو ونقل الحركة لورش وصلة ميم الجمع وهاء الكناية لابن كثير أنه متواتر عن ذلك الإمام الذي نسبت تلك القراءة إليه بعد أن يجهد نفسه في استواء الطرفين والواسطة إلا أنه بقي عليه التواتر من ذلك الإمام إلى النبي صلى الله عليه وسلّم في كل فرد فرد من ذلك، وهنالك تكسب العبرات، فإنها من ثم لم تنقل إلا آحادا، إلّا اليسير منها.
وقد حققنا هذا الفصل أيضا في «كتاب البسملة الكبير» ونقلنا فيه من كلام الحذاق من الأئمة المتقنين ما تلاشى عنده شبه المشنعين، وبالله التوفيق.
فليس الأقرب في ضبط هذا الفصل إلا ما قد ذكرناه مرارا من أن كل قراءة
اشتهرت بعد صحة إسنادها وموافقتها خط المصحف ولم تنكر من جهة العربية فهي القراءة المعتمد عليها، وما عدا ذلك فهو داخل في حيز الشاذ والضعيف، وبعض ذلك أقوى من بعض.(1/136)
فليس الأقرب في ضبط هذا الفصل إلا ما قد ذكرناه مرارا من أن كل قراءة
اشتهرت بعد صحة إسنادها وموافقتها خط المصحف ولم تنكر من جهة العربية فهي القراءة المعتمد عليها، وما عدا ذلك فهو داخل في حيز الشاذ والضعيف، وبعض ذلك أقوى من بعض.
والمأمور باجتنابه من ذلك ما خالف الإجماع لا ما خالف شيئا من هذه الكتب المشهورة عند من لا خبرة له.
قال أبو القاسم الهذلي في كتابه «الكامل»:
«وليس لأحد أن يقول: لا تكثروا من الروايات، ويسمى ما لم يصل من القراءات الشاذ، لأن ما من قراءة قرئت ولا رواية رويت إلا وهي صحيحة إذا وافقت رسم الإمام ولم تخالف الإجماع».
فإن قلت: قراءة من لم يبسمل بين السورتين ينبغي أن تكون ضعيفة لمخالفتها الرسم.
قلت: لا، فإنه يبسمل إذا ابتدأ كل سورة، فهو يرى أن البسملة إنما رسمت في أوائل السور لذلك على أنا نقول الترجيح مع من بسمل مطلقا بين السورتين وعند الابتداء، وذلك على وفق مذهب إمامنا الشافعي (1) رحمه الله، وفي كل ذلك مباحث حسنة ذكرناها في «كتاب البسملة الكبير»، وبالله التوفيق.
فصل
قال شيخنا أبو الحسن رحمه الله:
«الشاذ مأخوذ من قولهم: شذّ الرجل يشذّ ويشذّ شذوذا، إذا انفرد عن القوم واعتزل عن جماعتهم، وكفى بهذه التسمية تنبيها على انفراد الشاذ وخروجه عما عليه الجمهور، والذي لم تزل عليه الأئمة الكبار القدوة في جميع الأمصار من الفقهاء والمحدثين وأئمة العربية توقير القرآن واجتناب الشاذ واتباع القراءة المشهورة ولزوم الطرق المعروفة في الصلاة وغيرها».
__________
(1) الإمام الشافعي: هو الإمام محمد بن إدريس بن العباس بن عثمان بن شافع بن السائب بن عبد يزيد بن هاشم بن عبد المطلب بن عبد مناف الهاشمي القرشي المكي، توفي بمصر عام 204هـ، ويتلخص مذهبه في إيثار العودة إلى نصوص القرآن والسنة، إلى جانب أخذه بفتاوى الصحابة لإثبات بعض الأحكام. (انظر: وفيات الأعيان 4/ 169163، الفهرست ص 263، تاريخ بغداد 2/ 7356، تذكرة الحفاظ 1/ 329، تهذيب التهذيب 9/ 25، معجم الأدباء 6/ 367، طبقات السبكي 1/ 100، غاية النهاية 2/ 95).(1/137)
وقال ابن مهدي: «لا يكون إماما في العلم من أخذ بالشاذ من العلم أو روى عن كل أحد أو روى كل ما سمع».
وقال خلاد بن يزيد الباهلي (1): «قلت ليحيى بن عبد الله بن أبي مليكة (2): إن نافعا (3) حدثني عن أبيك عن عائشة أنها كانت تقرأ {إِذْ تَلَقَّوْنَهُ} [النور: 15] وتقول:
إنما هو ولق الكذب. فقال يحيى: ما يضرك أن لا تكون سمعته عن عائشة، نافع ثقة على أبي وأبي ثقة على عائشة، وما يسرني أني قرأتها هكذا، ولي كذا وكذا. قلت:
ولم وأنت تزعم أنها قد قرأت؟ قال: لأنه غير قراءة الناس، ونحن لو وجدنا رجلا يقرأ بما ليس بين اللوحين ما كان بيننا وبينه إلا التوبة أو نضرب عنقه، نجيء به، نحن عن الأمة عن الأمة عن النبي صلى الله عليه وسلّم عن جبريل عن الله عز وجل، وتقولون أنتم:
حدثنا فلان الأعرج عن فلان الأعمى أن ابن مسعود يقرأ ما بين اللوحين، ما أدري ماذا، إنما هو والله ضرب العنق أو التوبة».
وقال هارون (4): «ذكرت ذلك لأبي عمرو يعني القراءة المعزوة إلى عائشة فقال: قد سمعت هذا قبل أن تولد، ولكنا لا نأخذ به. وقال أبو عمرو في رواية أخرى: إني أتهم الواحد الشاذ إذا كان على خلاف ما جاءت به العامة».
قال أبو حاتم السجستاني: «أول من تتبع بالبصرة وجوه القراءات وألفها وتتبع الشاذ منها فبحث عن إسناده هارون بن موسى الأعور، وكان من العتيك مولى، وكان من القراء فكره الناس ذلك، وقالوا: قد أساء حين ألّفها، وذلك أن القراءة إنما يأخذها هارون وأمة عن أفواه أمة، ولا يلتفت منها إلى ما جاء من وراء وراء».
وقال الأصمعي (5) عن هارون المذكور: «وكان ثقة مأمونا، قال: وكنت أشتهي
__________
(1) هو خلاد بن يزيد الباهلي، أبو الهيثم البصري، المعروف بالأرقط، توفي سنة 220هـ. (انظر ترجمته في: تهذيب التهذيب 3/ 176، غاية النهاية 1/ 275، ميزان الاعتدال 1/ 308).
(2) هو يحيى بن عبد الله بن أبي مليكة القرشي التيمي، توفي سنة 173هـ. (انظر ترجمته في:
تهذيب التهذيب 11/ 242، ميزان الاعتدال 3/ 294).
(3) هو نافع بن عمر بن عبد الله القرشي الجمحي المكي، الحافظ، توفي سنة 169هـ. (انظر ترجمته في: تهذيب التهذيب 10/ 409، تذكرة الحفاظ 1/ 213).
(4) هو هارون بن موسى الأعور الأزدي العتكي، أبو عبد الله البصري، قال ابن الجزري: مات هارون فيما أحسب قبل المائتين. (انظر ترجمته في: تهذيب التهذيب 11/ 14، غاية النهاية 2/ 348).
(5) الأصمعي: هو عبد الملك بن قريب بن عبد الملك بن علي بن أصمع الأصمعي الباهلي، الإمام أبو سعيد البصري الأديب اللغوي، ولد سنة 123هـ، وتوفي بالبصرة سنة 215هـ، له من التصانيف: «الأحناس» في أصول الفقه، «أسماء الخمر»، «أصول الكلام»، «الأضداد(1/138)
أن يضرب لمكان تأليفه الحروف».
ثم قال الشيخ: «فإن قيل: فهل في هذه الشواذ شيء تجوز القراءة به؟».
قلت: «لا تجوز القراءة بشيء منها لخروجها عن إجماع المسلمين وعن الوجه الذي ثبت به القرآن وهو التواتر وإن كان موافقا للعربية وخط المصحف، لأنه جاء من طريق الآحاد، وإن كانت نقلته ثقات. فتلك الطريق لا يثبت بها القرآن. ومنها ما نقله من لا يعتد بنقله ولا يوثق بخبره، فهذا أيضا مردود، لا تجوز القراءة به ولا يقبل، وإن وافق العربية وخط المصحف، نحو ملك يوم الدّين [الفاتحة: 4] بالنصب».
قلت: هذا كلام صحيح، ولكن الشاذ في ضبط ما تواتر من ذلك وما أجمع عليه.
ثم قال: «ولقد نبغ في هذا الزمان قوم يطالعون كتب الشواذ ويقرءون بما فيها، وربما صحفوا ذلك فيزداد الأمر ظلمة وعمى».
قلت: وقد سبق في الباب الثالث ما نقله ابن عبد البر عن مالك رحمه الله من المنع من قراءة ما خالف المصحف في الصلاة، قال مالك:
«من قرأ في صلاته بقراءة ابن مسعود أو غيره من الصحابة مما يخالف المصحف، لم يصل وراءه».
قال أبو عمر: «وعلماء المسلمين مجمعون على ذلك إلا قوما شذوا لا يعرج عليهم».
__________
في اللغة»، «خلق الإنسان»، «خلق الفرس»، «كتاب الإبل»، «كتاب الأبواب»، «كتاب الأخبية والبيوت»، «كتاب الأراجيز»، «كتاب الاشتقاق»، «كتاب الأصوات»، «كتاب فعل وأفعل»، «كتاب الألفاظ»، «كتاب الأمثال»، «كتاب الأنواء»، «كتاب الأوقات»، «كتاب جزيرة العرب»، «كتاب الخراج»، «كتاب الخيل»، «كتاب الدلو»، «كتاب الرحل»، «كتاب السرج واللجام والشوى والنعال»، «كتاب السلاح»، «كتاب الشاه والغنم»، «كتاب الصفات»، «كتاب غريب الحديث والقرآن»، «كتاب غريب الحديث والكلام الوحشي»، «كتاب الفتوح»، «كتاب الفرق»، «كتاب القلب والإبدال»، «كتاب اللغات»، «كتاب ما اتفق لفظه واختلف معناه»، «كتاب ما تكلم به العرب فكثر في أفواه الناس»، «كتاب المذكر والمؤنث»، «كتاب المصادر»، «كتاب معاني الشعر»، «كتاب المقصور والممدود»، «كتاب مياه العرب»، «كتاب الميسر والقداح»، «كتاب النبات»، «كتاب النحل والعسل»، «كتاب النسب»، «كتاب النوادر»، «كتاب نوادر الأعراب»، «كتاب الوحوش»، «كتاب الهمزة وتحقيقها» وغير ذلك. (كشف الظنون 5/ 624623، مراتب النحويين ص 46، غاية النهاية 1/ 470، تهذيب التهذيب 6/ 415).(1/139)
قلت: وقد ذكر الإمام أبو بكر الشاشي (1) في كتابه المسمى ب «المستظهري» نقلا عن القاضي الحسين (2) وهو من كبار فقهاء الشافعية المراوزة: «إن الصلاة بالقراءة الشاذة لا تصح».
ثم قال أبو بكر: «هذا فيما يحيل المعنى عن المشهور، فإن لم يحل صحت».
قلت: ورد إلى دمشق استفتاء من بلاد العجم عن ذلك وعن قراءة القارئ عشرا، كل آية بقراءة قارئ، فأجاب عن ذلك جماعة من مشايخ عصرنا، منهم شيخا الشافعية والمالكية حينئذ وكلاهما أبو عمرو عثمان (3)، قال شيخ الشافعية:
«يشترط أن يكون المقروء به قد تواتر نقله عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قرآنا أو استفاض
__________
(1) هو محمد بن أحمد بن الحسين بن عمر، فخر الإسلام، أبو بكر الشاشي، المعروف بالمستظهري، الشافعي، ولد بميافارقين سنة 429هـ، وتوفي ببغداد سنة 507هـ. من تصانيفه: «الترغيب» في الفروع، «حلية العلماء في مذاهب الفقهاء»، «الشافي شرح الشامل لابن صباغ» في الفروع، «الشافي شرح مختصر المزني» في الفروع، «العمدة» في الفروع، «المساعد على معرفة القواعد»، «المستظهري» في الفروع، وغير ذلك. (كشف الظنون 6/ 81، سير أعلام النبلاء 19/ 394393)، وفيات الأعيان 1/ 588، طبقات السبكي 4/ 57).
(2) القاضي حسين: هو الحسين بن محمد بن أحمد أبو علي المروزي، توفي سنة 462هـ. (انظر ترجمته في: طبقات السبكي 3/ 155، وفيات الأعيان 1/ 182).
(3) شيخا الشافعية والمالكية حينئذ وكلاهما أبو عمرو عثمان: هما: أبو عمرو عثمان بن الصلاح، وأبو عمرو عثمان ابن الحاجب.
وابن الصلاح: هو عثمان بن عبد الرحمن بن عثمان بن صلاح الدين بن تقي الدين، أبو عمرو الكردي الشهرزوري النصري الشرخاني، الفقيه الشافعي، المعروف بابن الصلاح، ولد سنة 577هـ، وتوفي سنة 643هـ. من تصانيفه: «الأحاديث الكلية» في 29حديثا، «أدب المفتي والمستفتي»، «تعليقة على شرح الوسائل للغزالي»، «الرحلة الشرقية»، «صلة الناسك في صفة المناسك»، «فوائد الرحلة»، «كتاب في أصول الحديث»، «الفتاوى»، «نكت على علوم الحديث». (كشف الظنون 5/ 654، وفيات الأعيان 1/ 393، طبقات السبكي 5/ 137).
وابن الحاجب: هو عثمان بن عمر بن أبي بكر بن يونس الكردي الإسنائي، ثم المصري، جمال الدين أبو عمرو المالكي، النحوي، المعروف بابن الحاجب، ولد سنة 570هـ، وتوفي بالإسكندرية سنة 646هـ، من تصانيفه: «أمالي»، «الإيضاح في شرح المفصل»، «جامع الأمهات» في الفقه، «جمال العرب في علم الأدب»، «شافية» في التصريف، «شرح كتاب سيبويه»، «عقيدة ابن الحاجب»، «كافية ذوي الأرب في معرفة كلام العرب»، «معجم الشيوخ»، «المقصد الجليل في علم الخليل»، «المكتفي للمبتدي شرح الإيضاح لأبي علي الفارسي» في النحو، «منتهى السول والأمل في علمي الأصول والجدل» وغير ذلك. (انظر:
كشف الظنون 5/ 655654، وفيات الأعيان 1/ 395، غاية النهاية 1/ 508).(1/140)
نقله كذلك وتلقته الأمة بالقبول كهذه القراءات السبع، لأن المعتبر في ذلك اليقين والقطع على ما تقرر وتمهد في الأصول، فما لم يوجد فيه ذلك كما عدا السبع أو كما عدا العشر فممنوع من القراءة به منع تحريم لا منع تحريم لا منع كراهة في الصلاة وخارج الصلاة، وممنوع منه من عرف المصادر والمعاني ومن لم يعرف ذلك، وواجب على من قدر على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أن يقوم بواجب ذلك، وإنما نقلها من نقلها من العلماء لفوائد فيها تتعلق بعلم العربية، لا للقراءة بها، هذا طريق من استقام سبيله».
ثم قال: «والقراءة الشاذة ما نقل قرآنا من غير تواتر واستفاضة، متلقاة بالقبول من الأمة كما اشتمل عليه «المحتسب» لابن جني (1) وغيره، وأما القراءة بالمعنى على تجوزه من غير أن ينقل قرآنا فليس ذلك من القراءات الشاذة أصلا، والمجترئ على ذلك مجترئ على عظيم وضال ضلالا بعيدا، فيعزر ويمنع بالحبس ونحوه ولا يخلي ذا ضلالة ولا يحل للمتمكن من ذلك إمهاله، ويجب منع القارئ بالشاذ وتأثيمه بعد تعريفه، وإن لم يمتنع فعليه التعزير بشرطه».
«وإذا شرع القارئ بقراءة فينبغي أن لا يزال يقرأ بها ما بقي للكلام تعلق بما ابتدأ به، وما خالف هذا ففيه جائز وممتنع، وعذر المرض منع من بيانه بحقه، والعلم عند الله تبارك وتعالى».
وقال شيخ المالكية رحمه الله:
«لا يجوز أن يقرأ بالقراءة الشاذة في صلاة ولا غيرها، عالما كان بالعربية أو جاهلا. وإذا قرأ بها قارئ فإن كان جاهلا بالتحريم عرف به وأمر بتركها، وإن كان عالما أدب بشرطه، وإن أصر على ذلك أدب على إصراره وحبس إلى أن يرتدع عن ذلك».
__________
(1) ابن جنّي: هو عثمان بن جنّي، أبو الفتح، الأديب الموصلي، كان أبوه جنّي مملوكا روميا لسليمان بن فهد الموصلي، توفي سنة 392هـ، له العشرات من المصنفات، منها: «اسم المفعول»، «التبصرة» في العروض، «تذكرة الأصبهانية»، «التصريف الملوكي»، «التمام في شرح شعر الهذليين»، «التلقين» في النحو، «التنبيه» في الفروع، «خصائص» في النحو، «سر الصناعة وشرحه»، «شرح مستغلق أبيات الحماسة»، «شرح الفصيح لثعلب» في اللغة، «شرح كتاب المقصور والممدود لأبي علي الفارسي»، «كتاب الصبر في شرح ديوان المتنبي»، «كتاب العروض»، «اللمع في النحو»، «محاسن العربية»، «المحتسب في شرح الشواذ لابن مجاهد في القراءات»، «تفسير ديوان المتنبي»، «كتاب الفائق» وغير ذلك الكثير. (انظر:
كشف الظنون 5/ 652، معجم الأدباء 5/ 15، وفيات الأعيان 1/ 394، بغية الوعاة ص 322).(1/141)
«وأما تبديل {تَأْتِينََا} بأعطينا و {سَوَّلَتْ} بزينت ونحوه، فليس هذا من الشواذ، وهو أشد تحريما، والتأديب عليه أبلغ، والمنع منه أوجب».
«وأما القراءة بالقراءات المختلفة في آي العشر الواحد فالأولى أن لا يفعل نعم، إن قرأ بقراءتين في موضع إحداهما مبنية على الأخرى، مثل أن يقرأ: {نَغْفِرْ لَكُمْ} بالنون و {خَطِيئََاتِكُمْ} بالرفع، ومثل {أَنْ تَضِلَّ إِحْدََاهُمََا} بالكسر {فَتُذَكِّرَ إِحْدََاهُمَا} بالنصب، فهذا أيضا ممتنع، وحكم المنع كما تقدم، والله أعلم».
قلت: المنع من هذا ظاهر، وأما ما ليس كذلك فلا منع منه، فإن الجميع جائز، والتخيير في هذا وأكثر منه كان حاصلا بما ثبت من إنزال القرآن على سبعة أحرف توسعة على القراء، فلا ينبغي أن يضيق بالمنع من هذا ولا ضرر فيه نعم، أكره ترداد الآية بقراءات مختلفة كما يفعله أهل زماننا في جميع القراءات لما فيه من الابتداع، ولم يرد فيه شيء عن المتقدمين. وقد بلغني كراهته عن بعض متصدري المغاربة المتأخرين، والله أعلم.
فصل
قال الإمام أبو طاهر عبد الواحد بن عمر بن محمد بن أبي هاشم وهو صاحب الإمامين أبي بكر بن مجاهد وأبي جعفر الطبري في أول «كتاب البيان» عن اختلاف القراءة:
«وقد نبغ نابغ في عصرنا هذا، فزعم أن كل ما صح عنده وجه في العربية لحرف من القرآن، يوافق خط المصحف فقراءته به جائزة في الصلاة وفي غيرها، فابتدع بفعله ذلك بدعة ضل بها عن قصد السبيل، وأورط نفسه في مزلة عظمت بها جنايته على الإسلام وأهله، وحاول إلحاق كتاب الله عز وجل من الباطل ما لا يأتيه من بين يديه ولا من خلفه، إذا جعل لأهل الإلحاد في دين الله عز وجل بسيئ رأيه طريقا إلى مغالطة أهل الحق بتخير القراءات من جهة البحث والاستخراج بالآراء دون الاعتصام والتمسك بالأثر المفترض على أهل الإسلام قبوله والأخذ به كابرا عن كابر وخالفا عن سالف».
«وكان أبو بكر بن مجاهد نضر الله وجهه نشله من بدعته المضلة باستتابته منها، وأشهد عليه بترك ما ارتكبه من الضلالة بعد أن سئل البرهان على صحة ما ذهب إليه، فلم يأت بطائل، ولم تكن له حجة قوية ولا ضعيفة، فاستوهب أبو بكر رحمه الله تأديبه من السلطان عند توبته وإظهاره الإقلاع عن بدعته».
قال: «ثم عاود في وقتنا هذا إلى ما كان ابتدعه واستغوى من أصاغر المسلمين
ممن هو في الغفلة والغباوة دونه ظنا منه أن ذلك يكون للناس دينا، وأن يجعلوه فيما ابتدعه إماما، ولن يعدو ما ضل به مجلسه، لأن الله عز وجل قد أعلمنا أنه حافظ كتابه من لغط الزائغين وشبهات الملحدين بقوله عز وجل: {إِنََّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنََّا لَهُ لَحََافِظُونَ} [الحجر: 9].(1/142)
قال: «ثم عاود في وقتنا هذا إلى ما كان ابتدعه واستغوى من أصاغر المسلمين
ممن هو في الغفلة والغباوة دونه ظنا منه أن ذلك يكون للناس دينا، وأن يجعلوه فيما ابتدعه إماما، ولن يعدو ما ضل به مجلسه، لأن الله عز وجل قد أعلمنا أنه حافظ كتابه من لغط الزائغين وشبهات الملحدين بقوله عز وجل: {إِنََّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنََّا لَهُ لَحََافِظُونَ} [الحجر: 9].
قلت: هذا الشخص المشار إليه هو أبو الحسن محمد بن أحمد بن أيوب بن الصلت المقرئ المعروف بابن شنبوذ البغدادي (1) في طبقة ابن مجاهد مقرئ مشهور.
قال الخطيب (2) في «تاريخ بغداد»:
«روى عن خلق كثير من شيوخ الشام ومصر وكان قد تخير لنفسه حروفا من شواذ القراءات تخالف الإجماع يقرأ بها. فصنف أبو بكر ابن الأنباري وغيره كتبا في الرد عليه».
وقال إسماعيل الخطبي (3) في كتاب «التاريخ»: «اشتهر ببغداد أمر رجل يعرف بابن شنبوذ، يقرئ الناس ويقرأ في المحراب بحروف يخالف فيها المصحف مما يروى عن عبد الله بن مسعود وأبيّ بن كعب وغيرهما مما كان يقرأ به قبل جمع المصحف الذي جمعه عثمان بن عفان رضي الله عنه، ويتتبع الشواذ فيقرأ بها ويجادل، حتى عظم أمره وفحش، وأنكره الناس، فوجه السلطان فقبض عليه في يوم السبت لست خلون من ربيع الآخر سنة ثلاث وعشرين وثلاثمائة، وحمل إلى دار
__________
(1) ابن شنبوذ: هو محمد بن أحمد بن أيوب بن الصلت بن شنبوذ، أبو الحسن البغدادي، المقرئ، المتوفى سنة 328هـ. له: «كتاب ما خالف فيه ابن كثير أبا عمرو في القراءات».
(انظر: كشف الظنون 6/ 3534، الفهرست ص 53، تاريخ بغداد 1/ 280، معجم الأدباء 6/ 300، غاية النهاية 2/ 52).
(2) الخطيب البغدادي: هو أحمد بن علي بن ثابت بن أحمد بن مهدي بن ثابت، الحافظ أبو بكر البغدادي الشافعي، كان فقيها محدثا، صنف قريبا من مائة تأليف، ولد سنة 392هـ، وتوفي سنة 463هـ، من مصنفاته: «تاريخ بغداد»، «التبيين لأسماء المدلسين»، «السابق واللاحق» في تفسير القرآن، «الفقيه والمتفقّه»، «كتاب البخلاء»، «كشف الأسرار»، «المؤتلف تكملة المختلف». (انظر: كشف الظنون 5/ 79، معجم الأدباء 1/ 246، وفيات الأعيان 1/ 32، طبقات السبكي 3/ 12).
(3) إسماعيل الخطبي: هو إسماعيل بن علي بن إسماعيل بن يحيى بن بنان البغدادي، المعروف بالخطبي، كان ثقة أخباريا فاضلا عارفا بأيام الناس وأخبار الخلفاء، ولد سنة 299هـ، وتوفي سنة 350هـ، صنف تاريخا كبيرا على ترتيب السنين. (انظر: كشف الظنون 5/ 207، المنتظم 7/ 3).(1/143)
الوزير محمد بن علي يعني ابن مقلة (1) وأحضر القضاة والفقهاء والقراء وناظره يعني الوزير بحضرتهم، فأقام على ما ذكر عنه ونصره واستنزله الوزير عن ذلك فأبى أن ينزل عنه أو يرجع عما يقرأ به من هذه الشواذ المنكرة التي تزيد على المصحف وتخالفه، فأنكر ذلك جميع من حضر المجلس وأشاروا بعقوبته ومعاملته بما يضطره إلى الرجوع فأمر بتجريده وإقامته بين الهنبازين وضربه بالدرة على قفاه، فضرب نحو العشرة ضربا شديدا، فلم يصبر واستغاث وأذعن بالرجوع والتوبة، فخلي عنه وأعيدت عليه ثيابه واستتيب، وكتب عليه كتاب بتوبته وأخذ فيه خطّه بالتوبة».
وقرأت في تاريخ هارون بن المأمون قال:
«وفي أيام الراضي ضرب ابن مقلة ابن شنبوذ سبع درر لأجل قراءة أنكرت عليه، ودعا عليه بقطع اليد وتشتت الشمل، فقطعت يده ثم لسانه».
وقرأت في تاريخ ثابت بن سنان (2) شرح هذه القصة، فقال:
«بلغ الوزير أبا علي محمد بن مقلة أن رجلا يعرف بابن شنبوذ يغير حروفا من القرآن، فاستحضره واعتقله في داره أياما، ثم استحضر القاضي أبا الحسين عمر بن محمد وأبا بكر أحمد بن موسى بن مجاهد وجماعة من أهل القرآن، وأحضر ابن شنبوذ ونوظر بحضرة الوزير، فأغلظ للوزير في الخطاب وللقاضي ولابن مجاهد، ونسبهم إلى قلة المعرفة، وعيّرهم بأنهم ما سافروا في طلب العلم كما سافر، واستصبى القاضي، فأمر الوزير بضربه، فنصب بين الهنبازين وضرب سبع درر، فدعا وهو يضرب على ابن مقلة بأن تقطع يده ويشتت شمله، ثم وقف على الحروف التي قيل إنه يقرأ بها فأنكر ما كان منها شنعا».
وقال فيما سوى ذلك: «إنه قد قرأ به قوم فاستتابوه فتاب. وقال: إنه قد رجع عما كان يقرأ به وإنه لا يقرأ إلا بمصحف عثمان رضي الله عنه وبالقراءة المتعالمة المشهورة التي يقرأ بها الناس، فكتب عليه الوزير أبو علي محضرا بما سمع من لفظه، صورته:
«يقول محمد بن أحمد بن أيوب المعروف بابن شنبوذ: قد كنت أقرأ حروفا
__________
(1) ابن مقلة: هو محمد بن علي بن الحسين بن عبد الله، أبو علي، المعروف بابن مقلة، توفي سنة 328هـ. (انظر ترجمته في: المنتظم 6/ 309، الأعلام 7/ 157، وفيات الأعيان 2/ 79).
(2) هو ثابت بن سنان بن ثابت بن قرة بن هارون، الطبيب الحراني، الصابي، أبو الحسن، توفي سنة 365هـ، صنف: «كتاب التاريخ» من سنة 295هـ إلى سنة 363هـ. (انظر: كشف الظنون 5/ 248، معجم الأدباء 2/ 397، شذرات الذهب 3/ 44).(1/144)
تخالف ما في مصحف عثمان المجمع عليه الذي اتفق أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلّم على تلاوته، ثم بان لي أن ذلك خطأ، فأنا منه تائب، وعنه مقلع، وإلى الله عز وجل منه بريء، إذ كان مصحف عثمان هو الحق الذي لا يجوز خلافه ولا أن يقرأ بغير ما فيه».
وكتب ابن شنبوذ فيه:
«يقول محمد بن أحمد بن أيوب المعروف بابن شنبوذ: إن ما في هذه الرقعة صحيح، وهو قولي واعتقادي، وأشهد الله عز وجل وسائر من حضر على نفسي بذلك».
وكتب بخطه:
«فمتى خالفت ذلك أو بان مني غيره فأمير المؤمنين، أطال الله بقاه، في حل وفي سعة من دمي، وذلك في يوم الأحد لسبع خلون من شهر ربيع الآخر سنة ثلاث وعشرين وثلاثمائة في مجلس الوزير أبي علي بن مقلة، أدام الله توفيقه».
وكان مما اعترف به يومئذ: فامضوا إلى ذكر الله [الجمعة: 9]، وتجعلون شكركم أنّكم تكذّبون [الواقعة: 82]، وكان أمامهم ملك يأخذ كلّ سفينة صالحة غصبا [الكهف: 79]، كالصّوف المنفوش [القارعة: 5]، تبّت يدا أبي لهب وقد تبّ [المسد: 1]، فلمّا خرّ تبيّنت الإنس أنّ الجنّ لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا حولا في العذاب [سبأ: 14]، والنّهار إذا تجلّى والذّكر والأنثى [الليل: 32]، فقد كذب الكافرون فسوف يكون لزاما [الفرقان: 77]، ولتكن منكم أمّة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويستعينون الله على ما أصابهم [آل عمران: 104]، تكن فتنة في الأرض وفساد عريض [الأنفال: 73]».
وتحت ذلك بخط ابن مجاهد:
«اعترف ابن شنبوذ بما في هذه الرقعة بحضرتي وكتب ابن مجاهد بيده».
قلت: ثم مات ابن شنبوذ في صفر سنة ثمان وعشرين بعد موت ابن مجاهد بأربع سنين، وعزل ابن مقلة ونكب في سنة أربع وعشرين بعد نكبة ابن شنبوذ بسنة واحدة، فجرى عليه من الإهانة بالضرب والتعليق والمصادرة أمر عظيم، ثم آل أمره إلى قطع يده ولسانه، ونسأل الله تعالى العافية.
وابن شنبوذ وإن كان ليس بمصيب فيما ذهب إليه، ولكن خطأه في واقعة لا يسقط حقه من حرمة أهل القرآن والعلم، فكان الرفق به ومداراته أولى من إقامته مقام الدعار المفسدين في الأرض وإجرائه مجراهم في العقوبة، فكان اعتقاله وإغلاظ القول له كافيا في ذلك إن شاء الله تعالى، ولكنه سبحانه وتعالى {يَفْعَلُ مََا يَشََاءُ}
[آل عمران: 40، والحج: 18] ويبتلي من شاء بما شاء سبحانه، لا يسأل عمّا يفعل [الأنبياء: 23]، وهو تعالى أعلم وأحكم.(1/145)
الباب السادس في الإقبال على ما ينفع من علوم القرآن والعمل بها وترك التعمق في تلاوة ألفاظه والغلو بسببها
لم يبق لمعظم من طلب القرآن العزيز همة إلا في قوة حفظه وسرعة سرده وتحرير النطق بألفاظه والبحث عن مخارج حروفه والرغبة في حسن الصوت به.
وكل ذلك وإن كان حسنا ولكن فوقه ما هو أهم منه وأتم وأولى وأحرى وهو فهم معانيه والتفكر فيه والعمل بمقتضاه والوقوف عند حدوده وثمرة خشية الله تعالى من حسن تلاوته، ونحن نسرد من الأخبار والآثار ما يشهد لما قلناه بالاعتبار.
أخرج أبو عبيد القاسم بن سلام في «كتاب فضائل القرآن» عن ابن عباس ومجاهد (1) وعكرمة في قوله تعالى: {الَّذِينَ آتَيْنََاهُمُ الْكِتََابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلََاوَتِهِ}
[البقرة: 121]، قال: يتبعونه حق اتباعه.
وعن الشعبي في قوله تعالى: {فَنَبَذُوهُ وَرََاءَ ظُهُورِهِمْ} [آل عمران: 187]، قال:
أما إنه ما كان بين أيديهم، ولكن نبذوا العمل به.
وعن أبي الزاهرية: أن رجلا أتى أبا الدرداء بابنه فقال: يا أبا الدرداء، إن ابني هذا جمع القرآن، فقال: اللهم اغفر، إنما جمع القرآن من سمع له وأطاعه.
وروي مرفوعا وموقوفا: اقرءوا القرآن ما نهاك، فإذا لم ينهك فلست تقرأه.
وعن الحسن (2): أن أولى الناس بالقرآن من اتبعه وإن لم يكن يقرأه.
__________
(1) مجاهد: هو مجاهد بن جبير المخزومي، أبو الحجاج المقري المكي، مولى عبد الله بن السائب، وقيل: مولى السائب بن أبي السائب، فقيه محدث تابعي ثقة، توفي بمكة سنة 102هـ، وقيل: سنة 103هـ. وقيل: سنة 104هـ. صنف: «تفسير القرآن». (أسماء التابعين 1/ 363، كشف الظنون 6/ 4).
(2) الحسن البصري: هو الحسن بن أبي الحسن يسار، أبو سعيد البصري، الإمام التابعي الفقيه الزاهد، توفي بالبصرة سنة 110هـ، من تصانيفه: «تفسير القرآن»، «رسالة إلى عبد الرحيم بن أنس في الترغيب بمجاورة مكة المكرمة»، «رسالة في فضل مكة المكرمة»، «كتاب(1/146)
قال: وحدثنا حجاج عن عبد الرحمن بن أبي الزناد (1) عن سليمان بن سحيم (2)
قال: أخبرني من رأى ابن عمر وهو يصلي ويترجح ويتمايل ويتأوه، حتى لو رآه من يجهله لقال: أصيب الرجل، وذلك لذكر النار إذا مر بقوله تعالى: {وَإِذََا أُلْقُوا مِنْهََا مَكََاناً ضَيِّقاً مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنََالِكَ ثُبُوراً} [الفرقان: 13]، أو شبه ذلك.
حدثنا ابن المبارك (3) عن مسعر (4) عن عبد الأعلى التيمي قال: من أوتي من العلم ما لا يبكيه، فليس بخليق أن يكون أوتي علما ينفعه، لأن الله تبارك وتعالى نعت العلماء فقال: {إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذََا يُتْلى ََ عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقََانِ سُجَّداً وَيَقُولُونَ سُبْحََانَ رَبِّنََا إِنْ كََانَ وَعْدُ رَبِّنََا لَمَفْعُولًا وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقََانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً} [الإسراء: 109107].
وعن أبي ذر (5) رضي الله عنه قال: قام رسول الله صلى الله عليه وسلّم ليلة من الليالي يقرأ آية واحدة الليل كله، حتى أصبح، بها يقوم وبها يركع وبها يسجد: {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبََادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [المائدة: 121].
__________
الإخلاص». (كشف الظنون 5/ 265، وفيات الأعيان 1/ 160، ميزان الاعتدال 1/ 245، غاية النهاية 1/ 235، تهذيب التهذيب 2/ 263).
(1) هو عبد الرحمن بن أبي الزناد بن عبد الله بن ذكوان القرشي، المدني، توفي سنة 174هـ.
(انظر ترجمته في: تهذيب التهذيب 6/ 170، تذكرة الحفاظ 1/ 228، ميزان الاعتدال 2/ 111، تاريخ بغداد 10/ 228).
(2) هو سليمان بن سحيم، أبو أيوب المدني، توفي سنة 137هـ. (انظر ترجمته في: تهذيب التهذيب 4/ 193).
(3) هو عبد الله بن المبارك بن واضح الحنظلي، أبو عبد الرحمن المروزي، تركي الأب، الخوارزمي، نزيل بغداد، ولد سنة 118هـ، وتوفي بهيت سنة 181، من تصانيفه: «أربعين في الحديث»، «تفسير القرآن»، «الدقائق في الرقائق»، «رقاع الفتاوى»، «كتاب البر والصلة»، «كتاب التاريخ»، «كتاب الجهاد»، «كتاب الزهد»، «كتاب السنن في الفقه». (كشف الظنون 5/ 438، وانظر ترجمته أيضا في: كتاب الوفيات ص 143، شذرات الذهب 1/ 295، حلية الأولياء 8/ 162، البداية والنهاية 10/ 188186).
(4) هو مسعر بن كدام بن ظهير بن عبيدة بن الحارث الهلالي العامري الرواسي، أبو سلمة الكوفي، من رجال الحديث، كان من المرجئة، توفي سنة 153هـ. (انظر: الطبقات الكبرى 6/ 345، كتاب الثقات 7/ 507، ميزان الاعتدال 3/ 163، تهذيب التهذيب 10/ 113).
(5) أبو ذر الغفاري: هو جندب بن جنادة بن سفيان بن عبيد، من بني غفار، من كبار الصحابة، وأول من حيا رسول الله صلى الله عليه وسلّم بتحية الإسلام. توفي سنة 31هـ. (انظر ترجمته في: الإصابة 7/ 60، صفة الصفوة 1/ 238، كتاب الوفيات 51، شذرات الذهب 1/ 39، البداية والنهاية 7/ 160، (وفيه: توفي سنة 32هـ)، الطبقات الكبرى لابن سعد 4/ 165).(1/147)
وعن تميم الداري: أنه أتى المقام ذات ليلة، فقام يصلي، فافتتح السورة التي تذكر فيها الجاثية، فلما أتى على هذه الآية: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئََاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصََّالِحََاتِ سَوََاءً مَحْيََاهُمْ وَمَمََاتُهُمْ سََاءَ مََا يَحْكُمُونَ}
[الجاثية: 21]، لم يزل يرددها حتى أصبح.
وعن ابن مسعود رضي الله عنه: أنه يردد {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً} [طه: 114]، حتى أصبح.
وعن عامر بن عبد قيس (1): أنه قرأ ليلة من سورة المؤمن فلما انتهى إلى قوله تعالى: {وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنََاجِرِ كََاظِمِينَ} [المؤمن: 18]، لم يزل يرددها حتى أصبح.
وعن هشام بن عروة عن عبد الوهاب بن يحيى بن حمزة عن أبيه عن جده قال:
افتتحت أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما «سورة الطور» فلما انتهت إلى قوله تعالى: {فَمَنَّ اللََّهُ عَلَيْنََا وَوَقََانََا عَذََابَ السَّمُومِ} [الطور: 27]، ذهبت إلى السوق في حاجة ثم رجعت، وهي تكررها: {وَوَقََانََا عَذََابَ السَّمُومِ،} قال: وهي في الصلاة.
وعن سعيد بن جبير: أنه ردد هذه الآية في الصلاة بضعا وعشرين مرة: {وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللََّهِ ثُمَّ تُوَفََّى كُلُّ نَفْسٍ مََا كَسَبَتْ وَهُمْ لََا يُظْلَمُونَ} [البقرة: 281].
وعنه أنه استفتح بعد العشاء الآخرة بسورة: {إِذَا السَّمََاءُ انْفَطَرَتْ} [الانفطار: 1] فلم يزل فيها، حتى نادى منادي السحر.
وعن أبي جمرة قال: قلت لابن عباس: إني سريع القراءة، وإني أقرأ القرآن في ثلاث، فقال: لأن أقرأ البقرة في ليلة، فأدبرها وأرتلها، أحب إليّ من أن أقرأ كما تقول.
وسئل مجاهد عن رجل قرأ البقرة وآل عمران، ورجل قرأ البقرة، قيامهما واحد وركوعهما واحد وسجودهما واحد وجلوسهما واحد، أيهما أفضل؟ فقال: الذي قرأ البقرة، ثم قرأ: {وَقُرْآناً فَرَقْنََاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النََّاسِ عَلى ََ مُكْثٍ وَنَزَّلْنََاهُ تَنْزِيلًا}
[الإسراء: 106].
وعن مجاهد في قوله تعالى: {وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا} [المزمل: 4]، قال: ترسل فيه ترسلا.
__________
(1) هو عامر بن عبد الله، المعروف بعامر بن عبد قيس البصري، من سادات التابعين، توفي في خلافة معاوية بن أبي سفيان (6041هـ). (انظر ترجمته في: كتاب الثقات 5/ 187، الطبقات الكبرى 6/ 85، تهذيب التهذيب 5/ 77).(1/148)
وحدثنا جرير عن مغيرة عن إبراهيم قال: قرأ علقمة على عبد الله، فكأنه عجل، فقال عبد الله: فداك أبي وأمي، رتل، فإنه زين القرآن.
وفي كتاب ابن أبي شيبة:
عن ابن عباس: {وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا،} قال: بيّنه تبيينا. وعن مجاهد قال:
بعضه في إثر بعض.
وعن محمد بن كعب (1) قال: لأن أقرأ {إِذََا زُلْزِلَتِ} و {بِالْقََارِعَةِ،} أرددهما وأتفكر فيهما، أحب إليّ من أن أهذّ القرآن.
قال أبو عبيد: حدثنا أبو النضر (2) عن شعبة قال: حدثني معاوية بن قرة (3)
قال: سمعت عبد الله بن مغفل (4) يقول: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلّم يوم الفتح على ناقته أو جمله يسير، وهو يقرأ سورة الفتح أو قال: من سورة الفتح، ثم قرأ معاوية قراءة ليّنة، فرجع ثم قال: لولا أخشى أن يجتمع الناس علينا، لقرأت ذلك اللحن (5).
قال: وحدثنا حجاج عن ابن جريج قال: قلت لعطاء (6) ما تقول في القراءة على الألحان؟ فقال: وما بأس بذلك، سمعت عبد الله بن عمر يقول: كان داود عليه السلام يفعل كذا وكذا لشيء ذكره، يريد أن يبكي بذلك ويبكي.
__________
(1) هو محمد بن كعب بن سليم بن عمرو، أبو حمزة القرظي، تابعي، توفي سنة 120هـ. (انظر ترجمته في: كتاب الثقات 5/ 351، غاية النهاية 2/ 233، تهذيب التهذيب 9/ 420).
(2) أبو النضر: هو هاشم بن القاسم بن مسلم بن مقسم الليثي، أبو النضر البغدادي، توفي سنة 207هـ. (انظر ترجمته في: كتاب الثقات 9/ 243، الطبقات الكبرى 7/ 241، تذكرة الحفاظ 1/ 327، تهذيب التهذيب 11/ 18).
(3) هو معاوية بن قرة بن إياس بن هلال المزني، أبو إياس البصري، تابعي، توفي سنة 113هـ.
(انظر ترجمته في: الطبقات الكبرى 7/ 165، كتاب الثقات 5/ 412، تهذيب التهذيب 10/ 216).
(4) هو عبد الله بن مغفل بن عبد غنم بن عفيف، أبو سعيد المزني، من أصحاب بيعة الشجرة، توفي سنة 57هـ. (انظر ترجمته في: كتاب الثقات 3/ 236، الطبقات الكبرى 7/ 9، تهذيب التهذيب 6/ 42، الإصابة 2/ 372).
(5) أخرجه البخاري في فضائل القرآن باب 24، ومسلم في المسافرين حديث 239، والبيهقي في شعب الإيمان 1/ 359.
(6) عطاء: هو عطاء بن أبي رباح أسلم القرشي، أبو محمد المكي، من كبار التابعين، توفي سنة 114هـ. (انظر ترجمته في: الطبقات الكبرى 6/ 20، كتاب الثقات 5/ 198، صفة الصفوة 2/ 119، تذكرة الحفاظ 1/ 92، ميزان الاعتدال 2/ 197، غاية النهاية 1/ 513، تهذيب التهذيب 7/ 199).(1/149)
ثم ذكر أبو عبيد أحاديث كثيرة في تحسين الصوت بالقرآن، ثم قال:
وعلى هذا المعنى تحمل هذه الأحاديث، إنما هو طريق الحزن والتخويف والتشويق، لا الألحان المطربة الملهية.
وقد روي في ذلك أحاديث مفسرة مرفوعة وغير مرفوعة، منها عن طاوس (1)
قال:
سئل رسول الله صلى الله عليه وسلّم: أي الناس أحسن صوتا بالقرآن أو أحسن قراءة فقال:
«الذي إذا سمعته رأيته يخشى الله تعالى» (2).
وعنه: «أحسن الصّوت بالقرآن أخشاهم لله تعالى» (3).
وعن حذيفة بن اليمان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «اقرءوا القرآن بلحون العرب وأصواتها، وإياكم ولحون أهل الفسق وأهل الكتابين، وسيجيء قوم من بعدي يرجّعون القرآن ترجيع الغناء والرّهبانيّة والنّوح، لا يجاوز حناجرهم، مفتونة قلوبهم وقلوب الذين يعجبهم شأنهم» (4).
وعن عابس الغفاري أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلّم يتخوف على أمته خصالا: بيع الحكم، والاستخفاف بالدم، وقطيعة الرحم، وقوما يتخذون القرآن من أمير، يقدمون أحدهم ليس بأفقههم ولا بأفضلهم، إلا ليغنيهم به غناء.
وعن أنس: أنه سمع رجلا يقرأ بهذه الألحان التي أحدث الناس، فأنكر ذلك ونهى عنه.
وقال شعبة: نهاني أيوب أن أحدث بهذا الحديث: «زيّنوا القرآن بأصواتكم» (5).
قال أبو عبيد: وإنما ذكره أيوب فيما يرى أن يتأول الناس بهذا الحديث
__________
(1) هو طاوس بن كيسان الخولاني الهمداني، أبو عبد الرحمن اليماني، من كبار التابعين، توفي سنة 106هـ. (انظر ترجمته في: كتاب الثقات 4/ 391، الطبقات الكبرى 6/ 66، وفيات الأعيان 1/ 291، تهذيب التهذيب 5/ 8).
(2) أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف 1/ 119، والبيهقي في شعب الإيمان 1/ 358، والدارمي في سننه 2/ 471.
(3) الحديث لم أجده.
(4) أخرجه البيهقي في شعب الإيمان 1/ 429، والسيوطي في الجامع الصغير 1/ 43.
(5) أخرجه أبو داود حديث 1468، والنسائي 2/ 180، وابن ماجة حديث 1342، وأحمد في المسند 4/ 283، 285، 296، 304، والدارمي 2/ 474، والحاكم في المستدرك 1/ 571، والزبيدي في إتحاف السادة المتقين 4/ 496.(1/150)
الرخصة من رسول الله صلى الله عليه وسلّم في هذه الألحان المبتدعة، يعني معنى الحديث غير ذلك، وهو لما سبق.
وعن الحارث عن علي رضي الله عنه قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلّم أن يرفع الرجل صوته بالقرآن في الصلاة قبل العشاء الآخرة وبعدها ويغلط أصحابه (1).
وعن يحيى بن أبي كثير (2) قال: قيل للنبي صلى الله عليه وسلّم: إن هاهنا قوما يجهرون بالقراءة في صلاة النهار، فقال: «ارموهم بالبعر» (3).
قال أبو عبيد: جلست إلى معمر بن سليمان (4) بالرقة، وكان من خير من رأيت، وكانت له حاجة إلى بعض الملوك، فقيل له: لو أتيته فكلمته، فقال: قد أردت إتيانه، ثم ذكرت القرآن والعلم، فأكرمتهما عن ذلك.
وقال أبو بكر بن أبي شيبة في «كتاب ثواب القرآن»:
حدثنا جرير عن مغيرة عن إبراهيم قال: كان يكره أن يقرأ القرآن عند الأمر يعرض من أمر الدنيا.
حدثنا حفص عن هشام بن عروة قال: كان إذا رأى شيئا من أمر الدنيا يعجبه، قرأ: {وَلََا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ََ مََا مَتَّعْنََا بِهِ أَزْوََاجاً مِنْهُمْ} [طه: 131] الآية.
حدثنا معاذ عن عوف عن زياد بن مخراق عن أبي كنانة عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: إن من إجلال الله إكرام حامل القرآن غير الغالي فيه ولا الجافي عنه (5).
ورواه البيهقي في «الشعب» عن أبي موسى رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «إنّ من إجلال الله عزّ وجلّ إكرام ذي الشّيبة المسلم وحامل القرآن غير الغالي فيه ولا الجافي عنه وإكرام ذي السّلطان المقسط» (6).
وقال أبو بكر بن أبي شيبة:
__________
(1) أخرجه البيهقي في شعب الإيمان 1/ 430.
(2) هو يحيى بن أبي كثير بن المتوكل الطائي، أبو نصر اليمامي، تابعي، من أصحاب الحديث، توفي سنة 129هـ. (انظر ترجمته في: الطبقات الكبرى 6/ 78، كتاب الثقات 7/ 591، تهذيب التهذيب 11/ 268).
(3) أخرجه بنحوه العجلوني في كشف الخفاء 2/ 37.
(4) هو معمر بن سليمان النخعي، أبو عبد الله الرقي، توفي سنة 191هـ. (انظر ترجمته في:
الطبقات الكبرى 7/ 337، كتاب الثقات 9/ 192، تهذيب التهذيب 10/ 249).
(5) انظر المصنف لابن أبي شيبة 2/ 163.
(6) أخرجه أبو داود حديث 4843، والبيهقي في السنن الكبرى 8/ 163، والتبريزي في مشكاة المصابيح 4972.(1/151)
حدثنا أبو بكر بن عياش عن عاصم عن زر عن عبد الله رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلّم: «يخرج في آخر الزّمان قوم أحداث الأسنان، سفهاء الأحلام، يقرءون القرآن لا يجاوز تراقيهم» (1).
وقال عبد الله: إياكم والتنطع والاختلاف.
وقال حذيفة: إن من أقرإ الناس المنافق الذي لا يدع واوا ولا ألفا، يلفت كما تلفت البقرة بلسانها، لا يجاوز ترقوته (2).
قال صاحب الغريبين في الحديث (3): «هلك المتنطّعون» (4): «هم المتعمقون الغالون»، قال: «ويكون الذين يتكلمون بأقصى حلوقهم، مأخوذ من النطع، وهو الغار الأعلى». قال: «وفي حديث حذيفة: من أقرإ الناس منافق لا يدع منه واوا ولا ألفا يلفته بلسانه، كما تلفت البقرة الخلاء بلسانها، أي تلويه، يقال:
لفته وفتله، أي لواه» والخلاء الرطب من الكلإ.
وخرج أبو بكر محمد بن الحسين الآجري (5) جزءا في حلية القارئ، جمع فيه أخبارا وآثارا حسنة، من ذلك:
عن سعد بن مالك قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلّم يقول: «إنّ هذا القرآن نزل بحزن، فإذا قرأتموه فابكوا، فإن لم تبكوا فتباكوا» (6).
__________
(1) أخرجه البخاري في التوحيد باب 57، والمناقب باب 25، وأبو داود في السنة باب 28، وابن أبي شيبة في المصنف 2/ 163.
(2) أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف 2/ 160.
(3) هو أحمد بن محمد بن محمد بن عبد الرحمن القاشاني، أبو عبيد الهروي، توفي سنة 401هـ، من تصانيفه: «أربعين في الحديث»، «الغريبين في تفسير غريب القرآن والحديث».
(انظر: كشف الظنون 5/ 70، وفيات الأعيان 1/ 34، طبقات السبكي 3/ 34).
(4) أخرجه مسلم في العلم حديث 7، وأبو داود في السنة باب 5، وأحمد في المسند 1/ 386.
(5) الآجري: هو محمد بن الحسين بن عبد الله، الحافظ أبو بكر البغدادي الآجري، المحدث الشافعي، توفي بمكة سنة 360هـ، من تصانيفه: «أخبار عمر بن عبد العزيز»، «أخلاق العلماء»، «أربعين في الحديث»، «تحريم النرد والشطرنج والملاهي»، «التصديق بالنظر إلى الله تعالى في الآخرة»، «ثمانون في الحديث»، «شرح حديث الأربعين»، «صفة قبر النبي صلى الله عليه وسلّم»، «فردوس العلم»، «كتاب الشريعة»، «كتاب النصيحة»، «مختصر في الفروع»، «وصول المشتاقين». (انظر: كشف الظنون 6/ 4746، وفيات الأعيان 1/ 617، تذكرة الحفاظ 3/ 139).
(6) أخرجه ابن ماجة حديث 1337، والبيهقي في السنن الكبرى 7/ 231، والمنذري في الترغيب والترهيب 2/ 362، والزبيدي في إتحاف السادة المتقين 4/ 479، 480.(1/152)
وعن بريدة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «اقرءوا القرآن بحزن فإنه نزل بحزن» (1).
وعن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «إنّ أحسن الناس صوتا بالقرآن من إذا سمعته يقرأ حسبته يخشى الله عزّ وجلّ» (2).
وعن إبراهيم عن علقمة قال: قال ابن مسعود رضي الله عنه: لا تنثروه نثر الدقل ولا تهذّوه هذّ الشعر، قفوا عند عجائبه، وحركوا به القلوب، ولا يكن همّ أحدكم آخر السورة.
وعن الحسن البصري قال: إن هذا القرآن قد قرأه عبيد وصبيان، لا علم لهم بتلاوته، ولم ينالوا الأمر من أوله. قال الله عز وجل: {كِتََابٌ أَنْزَلْنََاهُ إِلَيْكَ مُبََارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيََاتِهِ} [ص: 29]، أما تدبر آياته، اتباعه والعمل بعلمه أما، والله ما هو بحفظ حروفه وإضاعة حدوده، حتى أن أحدهم ليقول: قد قرأت القرآن كله، فما أسقط منه حرفا، وقد والله أسقطه كله. ما يرى له القرآن في خلق ولا عمل، حتى أن أحدهم ليقول: إني لأقرأ السورة في نفس واحد، والله ما هؤلاء بالقراء ولا العلماء ولا الحكماء ولا الورعة، متى كانت القراء تقول مثل هذا، لا كثّر الله في الناس مثل هؤلاء.
وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: ينبغي لحامل القرآن أن يعرف بليله إذا الناس نائمون، وبنهاره إذا الناس مفطرون، وبورعه إذا الناس يخلطون، وبتواضعه إذا الناس يختالون، وبحزنه إذا الناس يفرحون، وببكائه إذا الناس يضحكون، وبصمته إذا الناس يخوضون.
وقال الفضيل بن عياض (3): ينبغي لحامل القرآن أن لا يكون له إلى أحد من الخلق حاجة، إلى الخليفة فمن دونه، وينبغي أن تكون حوائج الخلق إليه.
__________
(1) أخرجه الهيثمي في مجمع الزوائد 7/ 169، وأبو نعيم في حلية الأولياء 6/ 196، والزبيدي في إتحاف السادة المتقين 4/ 480.
(2) أخرجه الزبيدي في إتحاف السادة المتقين 4/ 521، والعراقي في المغني عن حمل الأسفار 1/ 287.
(3) هو الفضيل بن عياض بن مسعود بن بشر، التميمي الخراساني، توفي سنة 187هـ. (انظر ترجمته في: حلية الأولياء 8/ 84، الطبقات الكبرى للشعراني 1/ 79، الرسالة القشيرية 11، شذرات الذهب 1/ 316، البداية والنهاية 1/ 198، طبقات الصوفية 6).(1/153)
وفي «كتاب شعب الإيمان» (1):
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلّم قال: «من قرأ القرآن فقام به آناء الليل والنهار يحلّ حلاله ويحرّم حرامه خلطه الله بلحمه ودمه، وجعله رفيق السّفرة الكرام البررة، وإذا كان يوم القيامة كان القرآن له حجيجا».
وعن عبد الملك بن شبيب عن رجل من ولد ابن أبي ليلى قال: دخلت على امرأة وأنا أقرأ سورة هود، فقالت لي: يا أبا عبد الرحمن، هكذا تقرأ سورة هود، والله إني فيها منذ ستة أشهر، وما فرغت من قراءتها.
قال ابن أبي مليكة: صحبت ابن عباس يعني في السفر فإذا نزل قام شطر الليل ويرتل القرآن، يقرأ حرفا حرفا، ويكثر في ذلك من النشيج والنحيب.
وقال عبد الله بن عروة بن الزبير: قلت لجدتي أسماء بنت أبي بكر: كيف كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلّم إذا سمعوا القرآن؟ قالت: تدمع أعينهم وتقشعر جلودهم كما نعتهم الله.
وقال محمد بن جحادة: قلت لأم ولد الحسن البصري: ما رأيت منه؟ فقالت:
رأيته فتح المصحف، فرأيت عينيه تسيلان وشفتيه لا تتحركان.
وعن ابن المنكدر عن جابر رضي الله عنه قال: كنا جلوسا نقرأ القرآن، فخرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلّم مسرورا فقال: «اقرءوا القرآن، فيوشك أن يأتي قوم يقرءونه، يقوّمونه كما يقوّم القدح ويتعجّلونه ولا يتأجّلونه» (2).
وفي رواية سهل بن سعد (3): يقومون حروفه كما يقام السهم، لا يجاوز تراقيهم، يتعجلون آخره ولا يتأجلونه.
وعن أبي الدرداء رضي الله عنه: إياكم والهذّاذين الذين يهذّون القرآن ويسرعون بقراءته، فإنما مثل ذلك كمثل الأكمة التي لا أمسكت ماء ولا أنبتت كلأ.
وفي كتاب شيخنا «جمال القراء»:
__________
(1) انظر شعب الإيمان 1/ 337.
(2) أخرجه البيهقي في شعب الإيمان 1/ 428.
(3) هو سهل بن سعد بن مالك الخزرجي، الأنصاري، الساعدي، المدني، الصحابي، توفي بالمدينة سنة 88هـ، وقيل: سنة 91هـ. (انظر ترجمته في: 9/ 91، كتاب الثقات لابن حبان 3/ 168، الطبقات الكبرى لابن سعد 5/ 7، الإصابة ترجمة رقم 3526، كتاب الوفيات ص 85، شذرات الذهب 1/ 99، تهذيب الأسماء 1/ 238).(1/154)
«قال رجل لسليم (1) رحمه الله: جئتك لأقرأ عليك التحقيق، فقال سليم: يا ابن أخي، شهدت حمزة وأتاه رجل في مثل هذا، فبكى وقال: يا ابن أخي، إن التحقيق صون القرآن، فإن صنته فقد حققته، وهذا هو التشديق».
وفيه:
«قال سفيان بن عيينة: من أعطي القرآن فمد عينيه إلى شيء مما صغر القرآن، فقد خالف القرآن، ألم تسمع قوله سبحانه وتعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنََاكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثََانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ لََا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ََ مََا مَتَّعْنََا بِهِ أَزْوََاجاً مِنْهُمْ} [الحجر: 8887]، وقال: {وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقى ََ} [طه: 131] يعني القرآن».
قال الشيخ رحمه الله: «أي ما رزقك الله من القرآن خير وأبقى مما رزقهم من الدنيا».
«وقال الحسن: قراء القرآن على ثلاثة أصناف:
صنف اتخذوه بضاعة يأكلون به، وصنف أقاموا حروفه وضيّعوا حدوده واستطالوا به على أهل بلادهم واستدروا به الولاة، كثير هذا الضرب من حملة القرآن، لا كثّرهم الله، وصنف عمدوا إلى دواء القرآن فوضعوه على داء قلوبهم واستشعروا الخوف وارتدوا الحزن، فأولئك يسقي الله بهم الغيث وينصرهم على الأعداء، والله لهذا الضرب من حملة القرآن أعز من الكبريت الأحمر».
«وعن أبي الأحوص قال: إن كان الرجل ليطرق الخباء فيسمع فيه كدوي النحل، فما لهؤلاء يأمنون ما كان أولئك يخافون».
وفي «كتاب الإحياء» (2):
«حكي عن أبي سليمان الداراني (3) أنه قال: إني لأتلو الآية فأقيم فيها أربع ليال، أو خمس ليال، ولولا إني أقطع الفكر فيها، ما جاوزتها إلى غيرها».
قلت: فمثل هذا الذي حصل على المقصود من العلوم.
__________
(1) سليم: هو سليم بن عيسى بن سليم بن عامر الحنفي، أبو عيسى الكوفي المقرئ، توفي سنة 198هـ. (انظر ترجمته في: كتاب الثقات 8/ 295، غاية النهاية 1/ 318).
(2) هو كتاب «إحياء علوم الدين» لأبي حامد الغزالي.
(3) أبو سليمان الداراني: هو عبد الرحمن بن عطية، أسند الحديث، توفي سنة 215هـ. (انظر ترجمته في: حلية الأولياء 9/ 254، الطبقات الكبرى للشعراني 1/ 91، الرسالة القشيرية ص 19، صفة الصفوة 4/ 197، شذرات الذهب 2/ 13، البداية والنهاية 10/ 255، الكواكب الدرية 1/ 456).(1/155)
قال أبو حامد الغزالي (1) في كتاب «ذم الغرور» (2):
«اللب الأقصى هو العمل، والذي فوقه هو معرفة العمل، وهو كالقشر للعمل وكاللب بالإضافة إلى ما فوقه، والذي فوقه هو سماع الألفاظ وحفظها بطريق الرواية، وهو قشر بالإضافة إلى المعرفة ولب بالإضافة إلى ما فوقه، وما فوقه هو العلم باللغة والنحو، وفوق ذلك القشرة العليا وهو العلم بمخارج الحروف، والعارفون بهذه الدرجات كلهم مغترون إلّا من اتخذ هذه الدرجات منازل، فلم يعرج عليها إلا بقدر حاجته، فتجاوز إلى ما وراءه، حتى وصل إلى باب العمل، وطالب بحقيقة العمل قلبه وجوارحه، ورجى عمره في حمل النفس عليه وتصحيح الأعمال وتصفيتها عن الشوائب والآفات، فهذا هو المقصود المخدوم من جملة علوم الشرع، وسائر العلوم خدم له ووسائل إليه وقشور له ومنازل بالإضافة إليه، وكل من لم يبلغ المقصد فقد خاب، سواء كان في المنزل القريب، أو في المنزل البعيد وهذه العلوم لما كانت متعلقة بعلوم الشرع اغتر بها أربابها».
وقال في كتاب «تلاوة القرآن» (3):
«أكثر الناس منعوا من فهم القرآن لأسباب وحجب سدلها الشيطان على قلوبهم، فعميت عليهم عجائب أسرار القرآن، أولها: أن يكون الهم منصرفا إلى تحقيق الحروف بإخراجها من مخارجها، وهذا يتولى حفظه شيطان وكّل بالقراء ليصرفهم عن معاني كلام الله تعالى، فلا يزال يحملهم على ترديد الحرف، يخيل إليهم أنه لا يخرج من مخرجه، فهذا يكون تأمله مقصورا على مخارج الحروف، فأنّى تنكشف له المعاني؟ وأعظم ضحكة الشيطان لمن كان مطيعا لمثل هذا التلبيس».
ثم قال: «وتلاوة القرآن حقّ تلاوته أن يشترك فيه اللسان والعقل والقلب، فحظ اللسان تصحيح الحروف بالترتيل، وحظ العقل تفسير المعاني، وحظ القلب الاتعاظ والتأثر والانزجار والائتمار. فاللسان يرتل والعقل يترجم والقلب يتعظ» (4).
قلت: صدق رحمه الله، ومع أن الأمر كذلك، فقد تجاوز بعض من يدعي
__________
(1) هو محمد بن محمد بن محمد بن محمد الإمام، حجة الإسلام، أبو حامد الغزالي الطوسي الشافعي، ولد سنة 450هـ، وتوفي سنة 505هـ. من مصنفاته: «الأجوبة المسكتة عن الأسئلة المبهتة»، «إحياء علوم الدين»، «مقاصد الفلاسفة»، «كيمياء السعادة» فارسي، «تهافت الفلاسفة»، «التبر المسبوك في نصائح الملوك»، «جواهر القرآن»، «السر المصون والجوهر المكنون»، «فيصل التفرقة بين الإسلام والزندقة»، «المنقذ من الضلال والمفصح عن الأحوال» وغير ذلك الكثير. (كشف الظنون 6/ 8079).
(2) انظر «إحياء علوم الدين» 3/ 398.
(3) انظر «إحياء علوم الدين» 1/ 292.
(4) انظر «إحياء علوم الدين» 1/ 295.(1/156)
تجويد اللفظ إلى تكلف ما لا حاجة إليه، وربما أفسد ما زعم أنه مصلح له.
قال أبو عمرو عثمان بن سعيد الداني الحافظ المقرئ رحمه الله:
«التحقيق الوارد عن أئمة القراءة حده أن يوفي الحروف حقوقها من المد والهمز والتشديد والإدغام والحركة والسكون والإمالة والفتح، إن كانت كذلك من غير تجاوز ولا تعسف ولا إفراط ولا تكلف».
قال: «فأما ما يذهب إليه بعض أهل الغباوة من القراء من الإفراط في التمطيط، والتعسف في التفكيك، والإسراف في إشباع الحركات إلى غير ذلك من الألفاظ المستبشعة والمذاهب المكروهة فخارج عن مذاهب الأئمة وجمهور سلف الأمة، وقد وردت الآثار عنهم بكراهة ذلك».
قال أبو بكر بن مجاهد:
«كان أبو عمرو سهل القراءة، غير متكلف، يؤثر التخفيف ما وجد إليه السبيل».
وقال حمزة:
إن لهذا التحقيق منتهى ينتهي إليه، ثم يكون قبيحا مثل البياض، له منتهى ينتهي إليه، فإذا زاد صار برصا.
وقال رجل لحمزة: يا أبا عمارة، رأيت رجلا من أصحابك همز حتى انقطع زره، فقال: لم آمرهم بهذا كله.
وقال أبو بكر بن عياش: إمامنا يهمز «{مُؤْصَدَةٌ} [الهمزة: 8]، فأشتهي أن أسدّ أذنيّ إذا سمعته يهمزها.
وأنشدنا شيخنا أبو الحسن علي بن محمد السخاوي رحمه الله تعالى قصيدة من نظمه في علم التجويد، يقول فيها:
لا تحسب التجويد مدا مفرطا ... أو مد ما لا مد فيه لوان
أو أن تشدّد بعد مد همزة ... أو أن تلوك الحرف كالسّكران
أو أن تفوه بهمزة متهوعا ... فيفرّ سامعها من الغثيان
للحرف ميزان، فلا تك طاغيا ... فيه، ولا تك مخسر الميزان
فإذا همزت فجىء به متلطفا ... من غير ما بهر وغير توان
وامدد حروف المد عند مسكّن ... أو همزة حسنا أخا إحسان
أي: مدا حسنا، والقصيدة طويلة تنيف على ستين بيتا، والله تعالى يوفقنا للرشد ويكفينا شرّ كل أحد.(1/157)
فهرس المحتويات
تقديم 3
ترجمة المؤلف 5
مؤلفات أبي شامة 13
مقدمة في علم القراءة 18
الكتب المؤلفة في علم القراءة 19
الكتب المؤلفة في الوقوف والرسم والنحو 25
الباب الأول: في البيان عن كيفية نزول القرآن وتلاوته وذكر حفاظه في ذلك الأوان 31
فصل 47
الباب الثاني: في جمع الصحابة رضي الله عنهم القرآن وإيضاح ما فعله أبو بكر وعمر وعثمان 59
الباب الثالث: في معنى قول النبي صلى الله عليه وسلّم «أنزل القرآن على سبعة أحرف» 78
الفصل الأول: في سرد الأحاديث في ذلك 78
الفصل الثاني: في المراد بالأحرف السبعة التي نزل القرآن عليها 86
فصل 92
فصل 97
فصل 99
فصل 105
الفصل الثالث: في المجموع في المصحف هل هو جميع الأحرف السبعة التي أبيحت القراءة عليها أو حرف واحد منها؟ 111
الباب الرابع: في معنى القراءات المشهورة الآن وتعريف الأمر في ذلك كيف كان 117(1/159)
الباب الخامس: في الفصل بين القراءة الصحيحة القوية والشاذة الضعيفة المروية 131
فصل 134
فصل 137
فصل 142
الباب السادس: في الإقبال على ما ينفع من علوم القرآن والعمل بها وترك التعمق في تلاوة ألفاظه والغلو بسببها 146(1/160)