مقدّمة التحقيق
{بِسْمِ اللََّهِ الرَّحْمََنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلََّهِ رَبِّ الْعََالَمِينَ}، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوكّل عليه، ونعوذ به من شرور أنفسنا وسيّئات أعمالنا، ونسأله تعالى أن يهدينا سبل الرشاد فإنّه من يهد الله فلا مضلّ له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له، وأنّ محمّدا عبده ورسوله، وأمين وحيه، وخاتم رسله، والصلاة والسلام عليه وعلى وصيّه وخليفته من بعده، وعلى ذرّيته الطاهرين الأئمّة المعصومين صلوات الله عليهم أجمعين، ولا سيّما بقيّة الله الأعظم، عجّل الله تعالى فرجه الشريف.
وبعد فإنّ القرآن العظيم هو المصدر الأوّل للهداية، والحديث هو المصدر الثاني والعدل الواضح له، ومكانته شرفا بعد القرآن، ولا ريب أنّ علم الحديث من أهمّ العلوم الشرعية التي تبتنى عليها سعادة الإنسان في حياته الدنيويّة قبل الاخروية، ولذلك احتاجت غوامض القرآن ومجملاته إلى البيان والتفسير، فكان الحديث هو الشارح والمفصّل والمبيّن للكتاب الكريم، فلا عجب أن يقول الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم: «أوتيت القرآن ومثله معه» (1)، وهذه العبارة تدلّ وبمنتهى الدقّة والوضوح على أنّ حكم حديثه حكم القرآن من جهة المصدر
__________
(1) الرواشح السماوية: 202، وفيه: «الكتاب» بدل «القرآن» لاحظ البحار 16: 417، وفيه: «ومثليه».(1/5)
{وَمََا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى ََ. إِنْ هُوَ إِلََّا وَحْيٌ يُوحى ََ} (1)، وأنّه بيان له، والشاهد له قوله تعالى: {وَأَنْزَلْنََا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنََّاسِ مََا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} (2).
والبيان: هو إخراج الشيء عن حيّز الخفاء إلى حيّز الظهور والوضوح، وهو إمّا موافق للقرآن ومؤكّد له، مثل قوله صلّى الله عليه وآله وسلّم: «إنّ الله تعالى ليملي للظالم حتّى إذا أخذه لم يفلته» (3)، إذ هو موافق لظاهر قوله تعالى: {وَكَذََلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذََا أَخَذَ الْقُرى ََ وَهِيَ ظََالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} (4).
أو مفصّل له، ومثاله قوله صلى الله عليه وآله وسلّم: «الْعَجْمَاءُ جُبَارٌ، والْبِئْرُ جُبَارٌ، والْمَعْدِنُ جُبَارٌ (5).
وفِي الرِّكَازِ (6) الخُمْسُ» (7)، في مقابل قوله تعالى: {وَآتُوا الزَّكََاةَ} * (8).
أو مخصّص له، ومثاله قوله صلى الله عليه وآله وسلّم: «لَا تَبِيعُوا الثَّمَرَةَ حَتَّى يَبْدُوَ صَلَاحُهَا» (9)، في قضية الّتي فيه ظهور إلى إشارة النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم فيها بقوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللََّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبََا} (10).
__________
(1) النجم (53): 43.
(2) النحل (16): 44.
(3) صحيح البخاري 5: 214، الدرّ المنثور 3: 349.
(4) هود (11): 102.
(5) جرح العجماء جبار بالضمّ أي هدر. قال الأزهري: معناه أنّ البهيمة العجماء تنفلت فتتنلف شيئا، فهو هدر، وكذلك المعدن إذا أنهار على أحد فدمه جبار بالضمّ أي هدر.
(6) الركاز: المال المدفون في الجاهلية، فعال بمعنى مفعول، كالبساط بمعنى المبسوط، والكتاب بمعنى المكتوب. ويقال: هو المعدن. المصباح المنير: 237، مادّة (رك ز).
(7) المبسوط 3: 92و 7: 186، سنن النسائي 5: 44، مسند أحمد 2: 228، 239، 254، صحيح البخاري 2: 137، سنن أبي داود 2: 388، سنن الترمذي 2: 77.
(8) البقرة (2): 43.
(9) مسند أحمد 2: 80و 5: 185، صحيح البخاري 2: 134، سنن ابن ماجة 2: 746.
(10) البقرة (2): 275.(1/6)
أو مقيّد له، ومثاله كثير، ولا سيّما في مسألة الوصيّة.
أو بيان له، وأمثال ذلك أيضا في القرآن كثير، خصوصا في آيات الفرائض.
ولمّا كان هذا موقف الحديث من الكتاب، قدّمه بعض على الكتاب في الاستدلال وإن تقدّمت رتبة الكتاب، كما هو واضح.
وعلى أيّ تقدير: لا يشكّ إنسان ولا يرتاب في أنّ فصاحة النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم لا تقابلها فصاحة ولا يقارب أسلوبه في الحديث والبلاغة أسلوب إلّا أسلوب أئمّة الهدى فإنّهم، نور واحد، وحديثهم حديث جدّهم رسول الله صلوات الله عليهم أجمعين.
والأحاديث كما أنّها المصدر الثاني للتشريع، فكذلك هي المصدر النحوي والبلاغي، ذهب إلى ذلك كثير من علماء البلاغة والأدب، مؤكّدين على أنّ كلام النبوّة دون كلام الخالق، وفوق كلام فصحاء المخلوقين، وفيه جوامع الكلام، وإعجاز البلاغة والفصاحة، وأنّ النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أفصح العرب قولا، وأبينهم كلاما، وأعلاهم بلاغة، فقد وصف الجاحظ كلام النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وقائلا:
«هو الذي قلّ عدد حروفه، وكثر عدد معانيه، وجلّ عن الصنعة، ونزه عن التكلّف، وكان كما قال الله تبارك وتعالى: قل يا محمّد: {وَمََا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ} (1)، فكيف وقد عاب التشديق (2)، وجانب أهل التعقيب (3)، واستعمل المبسوط في موضع البسط، والمقصور في موضع القصر، وهجر الغريب الوحشي، ورغب
__________
(1) ص (38): 86.
(2) تشدّق: لوى شدقه جانب فمه للتفصّح، ويقال: هو متشدّق في منطقه ومتفيهق إذا كان يتوسّع فيه، وهو مذموم. العروس 13: 236، مادّة (ش د ق).
(3) يقال: قعّب فلان في الكلام أي أخرجه من قعر حلقه. أقرب الموارد 2: 1017مادّة (ق ع ب).(1/7)
الهجين السوقي، فلم ينطق إلّا عن ميراث حكمة، ولم يتكلّم إلّا بكلام قد حفّ بالعصمة، وشيّد بالتأييد، ويسّر بالتوفيق، وهو الكلام الذي ألقى الله عليه المحبّة، وغشّاه بالقبول، وجمع له بين المهابة والحلاوة، وبين حسن الإفهام وقلّة عدد الكلام، وهو مع استغنائه عن إعادته وقلّة حاجة السامع إلى معاودته، لم تسقط له كلمة، ولا زلّت به قدم، ولا بارت (1) له حجّة، ولم يقم له خصم، ولا أفحمه خطيب، بل يبذّ (2) الخطب الطوال بالكلم القصار، ولا يلتمس إسكات الخصم إلّا بما يعرفه الخصم، ولا يحتجّ إلّا بالصدق، ولا يطلب الفلج (3) إلّا بالحقّ، ولا يستعين بالخلابة (4)، ولا يستعمل المواربة (5)، ولا يهمز (6)، ولا يبطئ، ولا يعجل، ولا يسهب، ولا يحصر (7).
ثمّ لم يسمع الناس بكلام قطّ أعمّ نفعا، ولا أقصد لفظا، ولا أعدل وزنا، ولا أجمل مذهبا، ولا أكرم مطلبا، ولا أحسن موقعا، ولا أسهل مخرجا، ولا أفصح معنى، ولا أبين عن فحواه من كلامه صلّى الله عليه وآله وسلّم» (8).
__________
(1) أي كسدت.
(2) أي يغلب ويفوق. أقرب الموارد 1: 34، مادّة (ب ذ ذ).
(3) فلج بحجّته: أثبتها، وأفلج الله حجّته بالألف: أظهرها. المصباح المنير: 480، مادّه (ف ل ج).
(4) أي الخديعة باللسان.
(5) أي المخادعة.
(6) أي لا يتحامل.
(7) أي لم يعجز في منطقه.
(8) البيان والتبيين 2: 17، 18.(1/8)
«المجازات النبويّة»
كان يأتي من بلاغة الحديث متفرّقا أثناء شرحه، أو كان يذكر الحديث مثالا أو شاهدا مع ذكر آيات مناسبة في خلالها، فبلغ عدد الأحاديث ما يقرب من ستّين وثلاثمئة حديث، جلّى وبيّن مقدار البلاغة فيها والفصاحة التي استفيدت من مضمون الأحاديث، قائلا في مقدّمته: «فإنّي عرفت ما شافهتني به من استحسانك الخبيئة التي أطلعتها والدقيقة التي أثرتها من كتابي الموسوم ب «تلخيص البيان عن مجازات القرآن» وإنّي سلكت من ذلك حجّة لم تسلك، وطرقت بابا لم يطرق، وما رغبت فيه من سلوك مثل تلك الطريقة في عمل كتاب يشتمل على مجازات الآثار الواردة عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم إذ كان فيها كثير من الاستعارات البديعة، ولمع البيان الغريبة، وأسرار اللغة اللطيفة، يعظم النفع باستنباط معادنها، واستخراج كوامنها، وإطلاعها من أكمّتها وأكنانها، وتجريدها من خللها وأجفانها، فيكون هذان الكتابان بإذن الله لمعتين يستضاء بهما، وعرينين لم اسبق إلى قرع بابهما، فأجبتك إلى ذلك مستخيرا الله سبحانه فيه على كثرة الأشغال القاطعة» (1).
والسيّد الشريف قد اعتذر من الإطناب، وسلك طريق الإيماء والإشارة، بقصد عدم المشقّة على القارئ لضعف القلوب في زمانه. وهو مع هذا متواضع يذكر أنّه لا يشكّ في أنّ ما يفوته من الجنس الذي يقصده، أكثر من الحاصل له منه. ويشير إلى أنّه ترك التكرار، واعتمد في الإيجاز على كتب السابقين التي
__________
(1) المجازات النبوية: 27، ويأتي في الصفحة 2827شرح بعض الكلمات المذكورة في كلامه قدس سرّه فراجع.(1/9)
تشرح متشابه الأخبار وتبيّنه، وبيّن بعض المصادر التي اعتمد عليها في استخراج المجاز وهي كتب غريب الحديث، وأخبار المغازي المشهورة، ومسانيد المحدّثين، والموجز من حديث الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم وأمير المؤمنين عليه السّلام وذكر لنا طرق وقوفه على كلّ ذلك.
ومع ذلك لم يرتّب مختاره على أبجديّة خاصّة، فجاء بأحاديث أو بأجزاء منها بحسب ما وقع له في اطلاعه على مراجعه. ومنهجه ذكر النصّ، وتعقيب الإشارة إلى اللون البياني، وذكر ما يستدعي الذكر من التناسب، شارحا موضّحا رغم إيجازه، مبيّنا الوجوه التي جرى المعنى عليها فمن ذلك قوله صلّى الله عليه وآله وسلّم: «هذه مكّة قد رمتكم بأفلان كبدها» قال في ذيلها: «وهذا من أنصع العبارات، وأوقع الاستعارات (1)» الخ. وبيّن الترديد المفهم من «أفلاذ أكبادها» وأنّه إمّا أن تراد الكناية، أو المجاز بالاستعارة، وحلّ العبارة في تشبيهين: تشبيه مكّة بالحشا، وتشبيه رجال مكّة بشعب الكبد.
كما أشار أحيانا إلى قرينة المجاز، وشرحها في ضمن إيراد أمثلة قرآنية أو شعرية، فتفهم من ملخّص كتابه: أنّه أدرك المجاز بصفة أعمّ، وتعدّى كتابه إلى المفهوم الأعمّ للمجاز، أو الاستعارة، أو الكناية، أو الاتساع.
__________
(1) المجازات النبويّة: 29.(1/10)
الشريف الرضي
اسمه ونسبه:
قد وردت ترجمته في كتب التراجم والرجال بعناوين مختلفة وألقاب متعدّدة، كلّها اتفقت على لقب «الشريف الرضي» له رحمه الله:
قال المحقّق الخونساري رحمه الله في ترجمته: «العالم العفيف، والعلم الغطريف (1)، والعلم العريف (2)، والعنصر الشريف، والسيّد الشريف، والأيّد (3)
المنيف ابو الحسن محمّد ابن السيّد النقيب والنجيب المحترم أبي أحمد حسين ابن موسى بن محمّد بن موسى بن إبراهيم بن موسى بن جعفر الصادق عليه السّلام إمام الامم، أخو سيّدنا المرتضى علم الهدى، والملقّب بالسيّد الرضي عند الأحبّة والعدى. لم يبصر بمثله إلى الآن عين الزمان في جميع ما يطلبه إنسان العين من عين الإنسان، فسبحان الذي ورّثه غير العصمة والإمامة ما أراد، من قبل أجداده الأمجاد، وجعله حجّة على قاطبة البشر في يوم الميعاد. وأمره في الثقة والجلالة أشهر من أن يذكر (4)، كما ذكره الأمير مصطفى التفرشي في كتاب رجاله المعتبر (5).
يروي عنه شيخنا الطوسي، وجعفر بن محمّد الدوريستي، والسيّد عبد الرحمان النيسابوري، وابن قدامة الذي هو شيخ رواية شاذان بن جبرئيل القمّي، وجماعة، ويروي هو أيضا عن جماعة، منهم شيخنا المفيد المتقدّم عليه التمجيد، كما في رجال النيسابوري.
__________
(1) أي السيّد الشريف.
(2) أي القيّم بأمر القوم الذي عرف بذلك وشهر. وقيل: المراد به النقيب، وهو دون الرئيس.
(3) أي القويّ.
(4) انظر: روضات الجنات 6: 190.
(5) نقد الرجال 4: 188. رجال النجّاشي 398: 1065.(1/11)
وفيه أيضا: أنّه كان يوما عند الخليفة الطائع بالله العبّاسي وهو يعبث بلحيته ويرفعها إلى أنفه، فقال له الطائع: أظنّك تشمّ منها رائحة الخلافة؟! فقال: بل رائحة النبوّة.
وكان يلقّب بالرضي ذي الحسبين لقّبه بذلك بهاء الدولة بن بويه، وكان يخاطبه بالشريف الأجلّ، كما عن «الدرجات الرّفيعة» للسيّد علي خان الشيرازي (1).
وذكره الفاضل الباخرزي في «دمية القصر» وكذا الثعالبي في «يتيمة الدّهر» وابن أبي الحديد في «شرح نهج البلاغة» وغيرهم، كما في «أمل الآمل».
وفيه أيضا: وذكر ابن أبي الحديد أنّه كان عفيفا، شريف النفس، عالي الهمّة، لم يقبل من أحد صلة ولا جائزة، حتّى أنّه ردّ صلات أبيه، وناهيك بذلك! وكانت تنازعه نفسه إلى امور عظيمة يجيش بها صدره، وينظمها في شعره، ولا يجد عليها من الدهر مساعدا، فيذوب كمدا، حتّى توفّي ولم يبلغ غرضا (2)، انتهى، وذكر له أشعارا دالّة على ذلك (3).
وقال ابن خلّكان: ذكر أبو الفتح بن جنّي في بعض مجاميعه: أنّ الشريف الرضي أحضر إلى ابن السيرافي النحوي وهو طفل جدّا لم يبلغ عشر سنين، فلقّنه النّحو، وقعد يوما في الحلقة فذاكره بشيء من الإعراب على عادة التعليم فقال: إذا قلنا: رأيت عمر، فما علامة النصب في «عمر»؟ فقال: بغض عليّ، فتعجّب السيرافي والحاضرون من حدّة خاطره (4).
__________
(1) الدرجات الرفيعة 466.
(2) شرح نهج البلاغة 1: 33.
(3) أمل الآمل 2: 261.
(4) انظر: امل الامل 2: 265، الدرجات الرفيعة 468، معجم رجال الحديث 17: 26.(1/12)
وقال ابن خلّكان الشافعي: ذكره الثعالبي في «اليتيمة» فقال في ترجمته:
ابتدأ يقول الشعر بعد أن جاوز عشر سنين بقليل، وهو اليوم أبدع أبناء الزمان، وأنجب سادة العراق، يتحلّى مع محتده (1) الشريف ومفخره المنيف بأدب ظاهر، وحظّ من جميع المحاسن وافر، ثمّ هو أشعر جميع الطالبيّين من مضى منهم ومن غبر، على كثرة شعرائهم المفلقين (2)، ولو قلت: إنّه أشعر قريش، لم أبعد عن الصدق (3)، وسيشهد بما أجريه من ذكره شاهد عدل من شعره العالي القدح (4)، الممتنع عن القدح (5)، الذي يجمع إلى السلاسة متانة، وإلى السهولة رصانة.
وذكر أيضا: أنّه تلقّن القرآن بعد أن دخل في السنّ، فحفظه في مدّة يسيرة.
وصنّف كتابا في معاني القرآن يتعذّر وجود مثله، دلّ على توسّعه في علم النحو واللّغة، وصنّف كتابا في «مجازات القرآن» فجاء نادرا في بابه.
وقد عني بجمع ديوان الرضي جماعة، وأجود ما جمع الذي جمعه أبو حكيم الخيري. ولقد أخبرني بعض الفضلاء: أنّه رأى في مجموع أنّ بعض الادباء اجتاز بدار الشريف الرضي ببغداد وهو لا يعرفها، وقد جنى عليها الزمان، وذهبت بهجتها، وأخلقت ديباجتها (6)، وبقايا رسومها تشهد لها بالنضارة، وحسن الشارة، توقّف عليها متعجّبا من صروف الزّمان، وطوارق الحدثان (7)،
__________
(1) أي نسبه.
(2) المفلق من الشعراء: الذي يأتي بالعجائب في شعره.
(3) انظر: يتيمة الدهر 3: 116طبع مصر سنة 1353ق، والفوائد الرجاليّة للسيّد البحر العلوم 131، ودمية القصر 73طبع حلب سنة 1348.
(4) القدح: اسم السهم قبل أن يصلح ويركّب نصله.
(5) القدح: التعبييب والتنقيص، يقال: قدح فلان في فلان إذا عابه وتنقّصه.
(6) أي بليت نقوشها.
(7) أي نوائب الدهر.(1/13)
وتمثّل بقول الشريف الرضي المذكور:
ولقد وقفت على ربوعهم (1) ... وطولها (2) بيد البلى نهب
فبكيت حتّى ضجّ من لغب (3) ... نضوي ولجّ بعذلي الرّكب
وتلفّتت عيني فمذ خفيت ... عنّي الديار تلفّت القلب
فمرّ به شخص وسمعه وهو ينشد الأبيات، فقال له: هل تعرف هذه الأبيات لمن هي؟ فقال: لا، فقال: هذه الدار لصاحب هذه الابيات الشريف الرضي، فتعجّب من حسن الاتفاق إلى آخر ما ذكره (4).
وقد نقل عن لسان الجامع لديوان سيّدنا المرتضى أخي هذا أنّه قال:
سمعت بعض مشايخنا يقول: ليس لشعر المرتضى عيب إلّا كون الرضي أخاه، فإنّه إذا افرد بشعره كان أشعر أهل عصره، وناهيك به دلالة على كون الرجل أشعر جميع العرب، فلا تعجب.
وقال سيّدنا الشريف النسّابة أحمد بن علي بن الحسين الحسني في كتابه الموسوم ب «عمدة الطالب في أنساب آل أبي طالب» بعد ذكر أبيه أبي أحمد، وأخيه الأجلّ المرتضى: وأمّا محمّد بن أبي أحمد الحسين بن موسى الأبرش، فهو الشريف الأجلّ الملقّب بالرضي ذي الحسبين، يكنّى أبا الحسن، نقيب النقباء ببغداد، وهو ذو الفضائل الشائعة، والمكارم الذائعة. كانت له هيبة وجلالة، وفيه ورع، وعفّة وتقشّف، ومراعاة للأهل والعشيرة. ولي نقابة الطالبيين مرارا، وكانت إليه إمارة الحاجّ والمظالم كان يتولّى ذلك نيابة عن أبيه
__________
(1) أي دورهم ومنازلهم، أو محلّاتهم.
(2) أي ما بقيت من آثار الدور والبيوت.
(3) اللغب: التعب، والنضو: المهزول من الإبل وغيرها، وفي الإبل أكثر، وهو الذي أهزله السفر وأذهب لحمه، والمراد: بكيت وأطلت البكاء والوقوف حتّى ضجّ بعيري من شدّة التعب.
(4) وفيات الاعيان 4: 44.(1/14)
ذي المناقب، ثمّ تولّى ذلك بعد وفاته مستقلّا، وحجّ بالنّاس مرّات. وهو أوّل طالبي خلع عليه السواد وكان أحد علماء عصره قرأ على أجلّاء الأفاضل.
وله من التصانيف: كتاب «المتشابه في القرآن» وكتاب «مجازات الآثار النبوية» وكتاب «نهج البلاغة» وكتاب «تلخيص البيان عن مجازات القرآن» وكتاب «الخصائص» وكتاب سيرة والده الطاهر، وكتاب انتخاب شعر ابن الحجّاج، سمّاه «الحسن من شعر الحسين» وكتاب «أخبار قضاة بغداد» وكتاب رسائله إلى أبي إسحاق الصابي في ثلاثة مجلّدات، وكتاب ديوان شعره، وهو مشهور (1). وحكى الشيخ الرافعي: أنّها كانت مئة ألف وأربعة عشر ألفا.
إلى أن قال: وأعقب المرتضى من ابنه أبي جعفر محمّد، وهو الذي من ولده أبو القاسم النسّابة، صاحب كتاب «ديوان النّسب» وغيره علي بن الحسن بن محمّد بن علي بن أبي جعفر محمّد بن المرتضى، وكان له ابن اسمه «أحمد» درج ومات وانقرض علي بن مرتضى النسّابة، وانقرض به الشريف المرتضى علم الهدى، انتهى.
ثمّ إنّ كتاب «الخصائص» المنسوب إلى سيّدنا الرضي هو كتاب «خصائص الأئمّة» الذي ينقل عنه في «البحار» كثيرا، وهو الآن موجود أيضا مثل سائر كتبه الأربعة المتقدّمة عليه في عبارة «العمدة».
وله أيضا تفسيران آخران غير تفسيره الكبير الذي هو على كبر «تبيان الشيخ رحمة الله» ذكرهما النّجاشي وغيره، أحدهما «حقائق التنزيل» والآخر:
«حقائق التأويل» قال في كتاب «مجازات الحديث»: والقوّة أحد المعاني التي يعبّر عنها باسم «اليد»، وقد استقصيت ذلك في كتابي الكبير الموسوم ب «حقائق التأويل».
__________
(1) عمدة الطالب في أنساب آل أبي طالب 208207.(1/15)
وكتابه الموسوم ب «متشابه القرآن» أيضا كبير ذكره في «المجازات» فقال في مسألة عصمة الأنبياء عن المعاصى: وفي الصغائر خلاف ليس كتابنا هذا موضع بيانه، وقد بسطنا الكلام على ذلك في باب مفرد من جملة كتابنا الكبير في «متشابه القرآن» (1).
وله أيضا كتاب «الزيادات في شعر أبي تمّام» وكتاب الجيّد من شعره، وكتاب «تعليق خلاف الفقهاء» وكتاب تعليقه في «الإيضاح» لأبي علي.
وقد أنكر بعض المخالفين كون «نهج البلاغة» من جملة مؤلّفاته، ونسبه إلى أخيه المرتضى، وبعضهم أنكر كون جميع ما جمعه من كلام الإمام، وقال: إنّ كثيرا منه كلام محدث (2) من علماء الشيعة، ونسبها بعض آخر إلى جامعه الرضي.
وقد بالغ ابن أبي الحديد المعتزلي في تزييف معتقداتهم جميعا، وأقام في شرحه المشهور على الكتاب المذكور، حججا قاطعة للكلام على كونه بتمامه من كلمات الإمام عليه السّلام (3) ويكفينا في تصحيح نسبة الجمع إلى سيّدنا الرضي شهادة شيخنا النجّاشي المطّلع الخبير والثقة البصير، المعاصر لحضرة المؤلّف، بل الحاضر في حلقة إفادته وتدريسه بأنّ له الكتاب المذكور من غير إشارة إلى احتمال غير ذلك في حقّه (4)، كما لا يخفى.
مضافا إلى تصريح نفس الرجل بذلك في مواضع من كتاب «مجازات الحديث» الذي لم يشكّ أحد في كونه من جملة مصنّفاته، منها ما ذكره قدس سرّه في ذيل قوله: ومن ذلك قوله صلّى الله عليه وآله وسلّم في خطبة له: «ألا وإنّ الدنيا قد ارتحلت مدبرة،
__________
(1) انظر: الصفحة 254من هذا الكتاب.
(2) يقال: هو رجل حدث وحدث أي حسن الحديث والكلام.
(3) انظر: شرح نهج البلاغة 1: 8و 9.
(4) انظر: رجال النجاشي 398.(1/16)
وإنّ الآخرة قد ارتحلت مقبلة» (1)، فقال: وهذه استعارة إلى أن قال: ويروى هذا الكلام على تغيير في ألفاظه لأمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السّلام وقد أوردناه في كتابنا الموسوم ب «نهج البلاغة» وهو المشتمل على مختار كلامه عليه السّلام في جميع المعاني والاغراض والأجناس والأنواع (2)، انتهى.
ويظهر أيضا من كتاب مجازاته المذكور أنّ من جملة مشايخه المعظّمين من علماء الجمهور هو الشيخ أبو الفتح عثمان بن جنّي في النحو، وأبو الحسن علي بن عيسى الربعي، وأبو القاسم عيسى بن عليّ بن عيسى، وأبو عبيد الله محمّد بن عمران المرزباني، وغيرهم في الحديث، والقاضي عبد الجبّار البغدادي في الأصول، والشيخ أبو بكر محمّد بن موسى الخوارزمي في الفقه، وعمر بن إبراهيم بن أحمد المقرئ أبو حفص الكتّاني في القراءة، فليلاحظ» (3).
مولده ووفاته:
ولد سنة تسع وخمسين. قال صاحب «الرياض» رحمه الله: «كان عمره سبعا وأربعين سنة» فعلى هذا فوفاته سنة أربع وأربعمائة. ورثاه أخوه المرتضى بقصيدة مشهورة، من جملتها:
يا للرجال لفجعة جذمت (4) يدي ... ووددت لو ذهبت على رأسي» (5)
وقال: «رأيت «المجازات النبوية» في ناحية عبد العظيم عند المدرس» (6).
__________
(1) الخصال 51: ح 62، تحف العقول: 281، خصائص الأئمّة: 96، الإرشاد 1: 230، البداية والنهاية 7: 342، لاحظ البحار 77: 117ح 13.
(2) انظر: الصفحة 192من هذا الكتاب.
(3) روضات الجنات 6: 202190.
(4) أي قطعت.
(5) الدرجات الرفيعة: 478.
(6) رياض العلماء 5: 84.(1/17)
أساتذته ومشايخه:
الشيخ أبو عبد الله المفيد محمّد بن محمّد المعروف ب «ابن المعلّم»، المولود سنة 336، والمتوفّى سنة 413.
الشيخ عبد الجبّار بن أحمد الشافعي المعتزلي، قرأ عليه كتاب «شرح الاصول الخمسة» و «العمدة».
الشيخ أبو إسحاق إبراهيم بن أحمد بن محمّد الطبري الفقيه المالكي، قرأ عليه القرآن وهو شابّ، كذا في مقدّمة «البحار» الطبع الجديد.
الشيخ محمد بن موسى الخوارزمي، قرأ عليه أبوابا في الفقه.
الشيخ أبو عبد الله محمّد بن عمران المرزباني.
الشيخ أبو الحسن علي بن عيسى الربعي النحوي.
الشيخ أبو حفص عمر بن إبراهيم الكتّاني، قرأ عليه القرآن بروايات كثيرة (1).
الشيخ عبد الله بن محمّد الأسدي الأكفاني، قرأ عليه «مختصر أبي الحسن الكرخي».
الشيخ أبو الحسن علي بن عيسى الرمّاني، قرأ عليه كتبا في النحو والعروض والقوافي.
الشيخ ابن نباتة صاحب الخطب، وهو أبو يحيى عبد الرحيم بن محمّد.
الشيخ أبو الفتح عثمان بن جنّي.
الشيخ أبو سعيد الحسن بن عبد الله بن المرزبان السيرافي، قرأ عليه «مختصر الجرمي» في سنة أربع وأربعين.
الشيخ الجليل هارون بن موسى التلّعكبري.
__________
(1) لاحظ ما يأتي ص: 39.(1/18)
الشيخ أبو نصر الغاري، ذكره في آخر الكتاب عند ذكر مشايخه من العامّة في طريق رواية «النهج».
الشيخ عبد الرحيم بن أحمد أبو الفضل الشيباني المعروف ب «ابن الإخوة» ذكره في آخر الشرح.
الشيخ أبو علي الحسن بن أحمد الفارسي النحوي.
الشيخ أبو القاسم عيسى بن علي بن عيسى بن داود بن الجرّاح، شيخه في الحديث.
تلاميذه والراوون عنه:
الشيخ المفيد أبو محمّد عبد الرحمان بن أحمد بن الحسين النيسابوري الخزاعي.
الشيخ أبو بكر أحمد بن الحسين بن أحمد النيسابوري الخزاعي.
القاضي أحمد بن علي بن قدامة.
السيّد أبو زيد عبد الله بن علي كيابكي بن عبد الله بن عيسى بن زيد بن علي الحسيني الكجي الجرجاني.
الشيخ أبو الحسن مهيار بن مرزويه الديلمي البغدادي الشاعر، قيل: «إنّه كان غلام السيّد المرتضى».
الشيخ جعفر بن محمّد بن أحمد الدوريستي الرازي.
القاضي السيّد أبو الحسن علي بن بندار بن محمّد الهاشمي.
الشيخ أبو منصور محمّد بن أبي نصر محمّد بن أحمد بن الحسين بن عبد العزيز العكبري المعدّل.
الشيخ أبو عبد الله محمّد بن علي الحلواني.
الشيخ أبو الأعزّ محمّد بن همام البغدادي.
العلوية السيّدة النقيّة بنت المرتضى أخيه، ذكرها القطب في آخر شرح «النهج».(1/19)
الشيخ أبو الأعزّ محمّد بن همام البغدادي.
العلوية السيّدة النقيّة بنت المرتضى أخيه، ذكرها القطب في آخر شرح «النهج».
الشيخ أبو نصر عبد الكريم بن محمّد بن الديباجي المعروف ب «سبط بشر الحافي» ذكره القطب في آخر شرح «النهج».
الشيخ أبو جعفر محمّد بن الحسن الطوسي، ذكره القطب في أوّل الشرح. وفيه بعد لأنّ شيخ الطائفة ورد بغداد بعد موت الرضي عليه بسنتين. والله العالم.
آثاره العلمية:
نهج البلاغة.
أخبار قضاة بغداد.
تلخيص البيان عن مجازات القرآن.
حقائق التأويل في متشابه التنزيل.
الرسائل في ثلاثة مجلدات.
الزيادات في شعر ابن الحجّاج.
الزيادات في شعر أبي تمّام.
سيرة أبي طاهر والده.
كتاب ما دار بينه وبين أبي إسحاق الصابي.
مختار شعر أبي إسحاق الصابي.
منتخب شعر ابن الحجّاج، سمّاه «الحسن من شعر الحسين».
طيف الخيال، قيل: «هو لأخيه السيّد المرتضى».
تعليقة على إيضاح أبي علي الفارسي.
تعليق خلاف الفقهاء.
انشراح الصدر في مختارات من الشعر.
ديوان شعره.(1/20)
منهج تحقيق الكتاب
خطوت في تحقيق هذا الكتاب المراحل التالية:
فأوّلا: اعتمدت على النسخة المطبوعة من قبل دار الأضواء في بيروت سنة 1406هـ. ق.
وثانيا: قابلت الكتاب مع بعض نسخه الخطّية الموجودة، وأهمّها النسخة الرضويّة التي اصطلحنا عليها ب «الف» ونسخة اخرى اصطلحنا عليها ب «ب» وأوردنا الاختلافات في الهامش.
وثالثا: قابلت أحاديث الكتاب مع المصادر الأصليّة من كتب الخاصّة والعامّة.
ورابعا: أوردت في الهامش تفسير وضبط بعض المفردات غير المألوفة.
وخامسا: أثبتّ الأحاديث التي انفردت بها النسخ الخطّية دون النسخة المطبوعة في بيروت.
وسادسا: استخرجت الآيات والأشعار من المصادر التي أشار المصنف إليها أو من مواضع اخر.
وسابعا: وضعت لكلّ حديث رقما من أجل تسهيل الفهرسة والرجوع إلى المواضيع.
وثامنا: وضعت الفهرس الفنّي للآيات والأحاديث والأشعار والأعلام.
ولا يسعني في الخاتمة إلّا أن أشكر الباري سبحانه وتعالى على توفيقه في هذا المشروع الخطير منذ بدئه إلى نهايته، وأشكر الأعزّة الذين عاضدوني في مقابلة النسخ واستخراج المصادر، أخصّ بالذكر منهم سماحة السيّد مهدي الإمام، وسماحة الأخ كريم أكبري، وسائر الإخوة الأفاضل.
وقد كان الفراغ من تسويد هذه المقدّمة في يوم عيد الأضحى سنة 1419هـ.
ق ببلدة قم المقدّسة، وبيد أقلّ العباد الشيخ مهدي هوشمند.(1/21)
مقدمة المؤلف
{بِسْمِ اللََّهِ الرَّحْمََنِ الرَّحِيمِ} *
أمّا بعد حمد الله سبحانه بمحامده التي يستحقّها، واختصاص نبيّه محمّد
وآله الطاهرين بالصلوات التي هم أهلها فإنّي عرفت ما شافهتني به من استحسانك الخبيئة (1) التي أطلعتها، والدفينة التي أثرتها من كتابي الموسوم ب «تلخيص البيان عن مجازات القرآن» وإنّي سلكت من ذلك محجّة لم تسلك، وطرقت بابا لم يطرق، وما رغبت إليّ فيه من سلوك مثل تلك الطريقة في عمل كتاب يشتمل على مجازات الآثار الواردة عن رسول الله عليه الصلاة والسلام إذ كان فيها كثير من الاستعارات البديعة، ولمع البيان الغريبة، وأسرار اللغة اللطيفة يعظم النفع باستنباط معادنها، واستخراج كوامنها، وإطلاعها من أكمّتها وأكنانها (2)، وتجريدها من خللها (3) وأجفانها، فيكون هذان الكتابان بإذن الله لمعتين يستضاء بهما، وعرنينين (4) لم اسبق إلى قرع بابهما، فأجبتك إلى ذلك مستخيرا الله سبحانه فيه على كثرة الأشغال القاطعة، والعوائق المانعة،
__________
(1) الخبيئة: ما خبّئت وغابت.
(2) الأكمّة: جمع كمّ وهو الغلاف الذي ينشقّ عن الثمر ويحيط به، والأكنان: جمع كنّ وهو وقاء كلّ شيء وستره. أقرب الموارد 2: 1104و 1109، مادّة (ك م م) و (ك ن ن).
(3) الخلل: جمع خلّة وهي جفن السيف المغشّى بالأدم، وقيل: بطانة يغشّى بها جفن السيف. أقرب الموارد 1: 299298، مادّة (خ ل ل).
(4) عرنين الشيء: أوّله، أي إنّ الكتابين أوّلان وسابقان في بابهما لم يتقدّمها كتاب مثلهما. لسان العرب 9: 174، مادّة (ع ر ن).(1/27)
والأوقات الضيّقة، والهموم المخنقة، وعملت بتوفيق الله على تتبّع ما في كلامه عليه الصلاة والسلام من ذلك، والإشارة منه إلى مواضع النكت، ومواقع الغرض، بالاعتبارات الوجيزة، والإيماءات الخفيفة على طريقتي في كتاب:
«مجازات القرآن» لئلّا يطول الكتاب فيجفو (1) على الناظر، ويشقّ على الناقل فإنّ القلوب في هذا الزمان ضعيفة عن تحمّل أعباء العلوم الثقيلة، والإجراء (2) في مسافات الفضائل الطويلة لأنّه لم يبق من الفضل إلّا الذّماء (3)، ومن الفضلاء إلّا الأسماء، ولله الحمد على السرّاء والضرّاء، والبؤس والنعماء.
ولست شاكّا في أنّ ما يفوتني من الجنس الذي أقصده، أكثر من الحاصل لي والواقع إليّ، ولكنّني أقتصر على ما تناله في هذا الوقت يدي، ويقرب من تصفّحي وتأمّلي، وإذا ورد بمشيئة الله من هذه الآثار ما فيه موضع مجاز قد تقدّم الكلام على نظير له أو ما يقوم مقامه، اقتصرت على القول الأوّل طلبا للاقتصاد، ووقوفا دون الإبعاد على مثل الأصل المقرّر في كتاب «مجازات القرآن».
ولولا أنّ أبا عليّ محمّد بن عبد الوهّاب قد سبق إلى تفسير متشابه الأخبار التي ظاهرها التشبيه والتجسيم، وصريحها التجوير والتظليم، واستقصى هذا المعنى في كتابه الموسوم ب «شرح الحديث» وتعاطي ذلك جماعة غيره من علماء أهل العدل في مواضع من كتبهم، لتتبّع هذا الفنّ جميعا تتبّعا يكشف
__________
(1) أي يثقل.
(2) يقال: أجرى الفرس وغيره أي جعله يجري. أقرب الموارد 1: 119، مادّة (ج ز ي).
(3) الذّماء: بقيّة النفس، وفي المثل «أطول ذماء من الضبّ» لأنّه إذا قتل يبطئ كثيرا تمام موته. أقرب الموارد 1: 373، مادّة (ذ م ي).(1/28)
الشبه، ويوضح المشتبه على طريقتي في كتابي الكبير الموسوم ب «حقائق التأويل في متشابه التنزيل» إلّا أنّني بعون الله أورد من ذلك ما كان داخلا في باب الاستعارات اللغوية بكلّية، أو بشعبة كبيرة من شعبه (1).
والذي أعتمد عليه في استخراج ما يتضمّن الغرض الذي أنحو نحوه وأقصد قصده كتب غريب الحديث المعروفة، وأخبار المغازي المشهورة، ومسانيد المحدّثين الصحيحة، مضيفا إلى ذلك ما يليق بهذا المعنى من جملة كلامه عليه الصلاة والسلام الموجز الذي لم يسبق إلى لفظه، ولم يفترع (2) من قبله. وجميع ذلك ممّا أتقنّا بعضه رواية، وحصّلنا بعضه إجازة، وخرّجنا بعضه تصفّحا وقراءة، مستمدّين في ذلك وفي سائر الأنحاء والمرامي، والمطالب والمغازي توفيق الله سبحانه الذي يهوّن الشديد، ويقرّب البعيد، ويذلّل الصعب إذا أبى، ويقوّم المعوّج إذا التوى، وما توفيقنا إلّا بالله، عليه توكّلنا، وإليه ننيب.
__________
(1) في نسخة: بسعة كثيرة من سعته.
(2) يقال: افترعت الجارية أي أزلت بكارتها، ولعلّه مأخوذ من قولهم: «نعم ما افرغت» أي ابتدأت.(1/29)
1
(1) فَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «هَذِهِ مَكَّةُ قَدْ رَمَتْكُمْ بِأَفْلَاذِ كَبِدِهَا» (1).
وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى: «قَدْ أَلْقَتْ إِلَيْكُمْ أَفْلَاذَ كَبِدِهَا»
(2).
وهذه من أنصع (3) العبارات، وأوقع الاستعارات.
وَقَالَ ذَلِكَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عِنْدَ خُرُوجِهِ إِلَى بَدْرٍ لِلْقِتَالِ، وَقَدْ خَرَجَ قُرَيْشٌ مِنْ مَكَّةَ مُجْلِبَةً عَلَيْهِ، وَمُجْلِبَةً إِلَيْهِ، وَكَانَ الْمُسْلِمُونَ قَدْ ظَفِرُوا بِبَعْضِ فُرَّاطِهِمْ (4)، فَأَتَوْا بِهِ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، فَسَأَلَهُ عَمَّنْ خَرَجَ فِي ذَلِكَ الْجَمْعِ مِنْ عِلْيَةِ (5) قُرَيْشٍ، فَقَالَ: فُلَانٌ وَفُلَانٌ، وَعَدَّدَ قَادَتَهُمْ وَذَادَتَهُمْ (6) وَالْوُجُوهَ وَالسَّادَاتِ مِنْهُمْ، فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «هَذِهِ مَكَّةُ قَدْ رَمَتْكُمْ بِأَفْلَاذِ كَبِدِهَا».
ولهذا الكلام معنيان:
أحدهما: أن يكون المراد به أنّ هؤلاء المعدودين صميم قريش ومحصنها، ولبابها وسرّها، كما يقول القائل منهم: «فلان قلب في بني
__________
(1) نثر الدر 1: 196، وفيه: «قد ألقت إليكم» النهاية في غريب الحديث 3: 470، تاج العروس 5:
387، مادة (ف ل د) قال الزبيدي: «الأفلاذ من الأرض: كنوزها وأموالها، وقد جاء في حديث أشراط الساعة: وتقيء الأرض بأفلاذ كبدها».
(2) نثر الدر 1: 196، البداية والنهاية 3: 324.
(3) نصع الأمر: وضع وبان. لسان العرب 8: 355، مادّة (ن ص ع).
(4) الفرّاطة: جمع الفارط، وهو المتقدّم إلى الماء، يتقدّم الواردة، فيهيء لهم الارسان والدلاء، ويملأ الحياض، ويسقي لهم. لسان العرب 7: 366، مادّة (ف ر ط).
(5) عليه القوم: أشرافهم. لسان العرب 15: 86، مادّة (ع ل و).
(6) الذادة: جمع ذائد، وهو المحامي والمدافع.(1/30)
فلان» إذا كان من صرحائهم (1)، وفي النّضار (2) من أحسابهم، فيجوز أن يكون المراد ب «الكبد» هاهنا كالمراد ب «القلب» هناك لتقارب الشيئين، وشرف العضوين، فيكنّى باسم كلّ واحد منهما عن العلق (3) الكريم، واللباب الصميم.
والأفلاذ: القطع المتفرّقة عن الشيء، وقلّ ما يستعمل ذلك إلّا في الكبد خاصّة، قال الشاعر:
تكفيه فلذة كبد إن ألمّ بها ... من الشّواء ويروي شربه الغمر (4)
والمعنى الآخر: أن يكون المراد بذلك أعيان القوم ورؤساؤهم، والعرانين المتقدّمة منهم، فكأنّه عليه الصلاة والسلام أقام مكّة مقام الحشا التي تجمع هذه الأعضاء الشريفة، كالقلب والنياط (5) والكبد والفؤاد، وجعل رجال قريش كشعب الكبد التي تحنو (6) عليها الأضالع، وتشتمل عليها الجوانح وقاية لها، ورفرفة عليها.
2
(2) وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَقَدْ نَظَرَ إِلَى أُحُدٍ مُنْصَرَفَهُ مِنْ غَزَاةِ خَيْبَرَ: «هَذَا جَبَلٌ يُحِبُّنَا وَنُحِبُّهُ» (7).
__________
(1) الصّرحاء: جمع الصريح، وهو الرجل الخالص النسب. لسان العرب 2: 509، مادّة (ص ر ح).
(2) أي الخالص النسب.
(3) أي النفيس.
(4) الكامل 4: 65، أمالي المرتضى 1: 66و 3: 111، غريب الحديث للهروي 2: 35، 402، وفيهما:
«حزّة فلذ».
(5) عرق غليظ نيط به القلب إلى الوتين، فإذا قطع مات صاحبه.
(6) تحنو: تكبّ وتعطف وتشفق. لسان العرب 14: 203، مادّة (ح ن و).
(7) الموطّأ: 2: 889: 10، 893: 20، مسند أحمد 3: 149، 159، صحيح البخاري 3: 223، 225 و 5: 40و 6: 207و 8: 153، صحيح مسلم 4: 114، سنن الترمذي 5: 379: 4041، السنن الكبرى 5: 197، مجمع الزوائد 4: 13و 10: 42، كنز العمّال 12: 268: 34989، 34992، 34994، 14:
143: 38184، إعلام الورى: 124.(1/31)
وهذا القول محمول على المجاز لأنّ الجبل على الحقيقة لا يصحّ أن يحبّ ولا يحبّ إذ محبّة الإنسان لغيره إنّما هي كناية عن إرادة النفع له، أو التعظيم المختصّ به على ما بيّناه في عدّة مواضع من كتابينا المشهورين في علوم القرآن، وكلا الأمرين لا يصحّ على الجماد لا التعظيم المختصّ به، ولا النفع العائد عليه، فمستحيل أن يعظّم أو يعظّم، أو ينفع أو ينتفع به، فالمراد إذا أنّ أحدا جبل يحبّنا أهله، ونحبّ أهله، وأهله هم أهل المدينة من الأنصار أوسهم وخزرجهم، وغير خاف حبّهم النبيّ عليه الصلاة والسلام، وحبّه لهم، وتعظيمهم له، وإعظامه لقدرهم ألا ترى إلى
قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي كَلَامٍ طَوِيلٍ: «وَلَوْ سَلَكَ الْأَنْصَارُ شِعْباً وَسَلَكَ النَّاسُ شِعْباً، لَسَلَكْتُ شِعْبَ الْأَنْصَارِ، وَلَوْلَا الْهِجْرَةُ لَكُنْتُ امْرَأً مِنَ الْأَنْصَارِ»
(1) إلى غير ذلك من الكلام الذي يطول بذكره الكتاب، وينقض قاعدتنا في الاختصار.
ومثل هذا الحديث ما روي عنه عليه الصلاة والسلام في حديث آخر،
قَالَ: «نَهْرَانِ مُؤْمِنَانِ، وَنَهْرَانِ كَافِرَانِ: أَمَّا الْمُؤْمِنَانِ فَالنِّيلُ وَالْفُرَاتُ، وَأَمَّا الْكَافِرَانِ فَدِجْلَةُ وَنَهْرُ بَلْخَ»
(2).
__________
(1) مسند أحمد 3: 172و 5: 138137، صحيح مسلم 3: 106، مجمع الزوائد 10: 29، كنز العمّال 12: 17: 33764، البداية والنهاية 4: 410.
(2) النهاية 1: 69، و 5: 135، الكافي 6: 391: 5، وقد رواه عن الإمام الحسن عليه السّلام، البحار 60:
42: 11و 100: 230: 20، مجمع البحرين 1: 114.(1/32)
والأولى أن يكون تأويل هذا الخبر إن كان صحيحا كتأويل الخبر المتقدّم، فكأنّه عليه الصلاة والسلام قال: أهل هذين النهرين مؤمنون، وأهل هذين النهرين كافرون، وتكون هاتان الصفتان جاريتين على هذه الأنهار في وقت مخصوص، أو على الأغلب من الأحوال في زمان معلوم لأنّ من أهل هذين النهرين المؤمن والكافر، كما أنّ من أهل ذينك النهرين البرّ والفاجر.
وقد قيل في ذلك قول آخر لست أرتضيه: «وهو أن يكون إنّما جعل النيل والفرات مؤمنين على التشبيه والتمثيل لكثرة انتفاع الناس بسقياهما كالانتفاع بالمؤمنين، وجعل دجلة ونهر بلخ كافرين لقلّة الانتفاع بهما، كقلّة الانتفاع بالكافرين» والقول الأوّل أخلق (1) بالصواب، وأشبه بالمراد.
3
(3) وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «الْمُسْلِمُونَ تَتَكَافَأُ دِمَاؤُهُمْ، وَيَسْعَى بِذِمَّتِهِمْ أَدْنَاهُمْ (2)، وَيُرَدُّ عَلَيْهِمْ أَقْصَاهُمْ، وَهُمْ يَدٌ عَلَى مَنْ سِوَاهُمْ» (3).
فقوله عليه الصلاة والسلام: «وهم يد على من سواهم» استعارة ومجاز، ولذلك وجهان:
__________
(1) أي أجدر.
(2) أي يؤمّن ويغاث.
(3) أمالي المفيد: 187، الكافي 1: 404، تهذيب الأحكام 4: 131، الخصال: 150: 182، سنن النسائي 8: 20، مسند أحمد 1: 122، سنن ابن ماجة 2: 895: 2683، سنن أبي داود 1:
625: 2751، السنن الكبرى 8: 29، كنز العمّال 1: 99: 444.(1/33)
أحدهما: أن يكون عليه الصلاة والسلام شبّه المسلمين في التضافر والتوازر والاجتماع والترافد، باليد الواحدة التي لا يخالف بعضها بعضا في البسط والقبض، والرفع والخفض، والإبرام والنقض، وقد يسمّى أنصار الرجل وأعوانه «يدا» على طريق الاتساع، تشبيها لهم باليد التي ينتصر بها ويدافع بقوّتها قال الراجز:
أعطى فأعطاني يدا ودارا ... وباحة (1) خوّلها عقارا (2)
يقول: بوّأني دارا، وأحفّ بي أعوانا وأنصارا.
والوجه الآخر: أن يكون «اليد» هاهنا بمعنى القوّة، فكأنّه عليه الصلاة والسلام قال: وهم قوّة على من سواهم، والقوّة أحد المعاني التي يعبّر عنها باسم «اليد» وقد استقصيت ذلك في كتابي الكبير الموسوم ب: «حقائق التأويل» وذكرت أنّ قول القائل: «لا أفعل ذلك يد الدهر» معناه عندي: لا أفعل ذلك قوّة الدهر أي مادام الدهر قويّ الأركان، قائم البنيان.
فأمّا الحديث الآخر عنه عليه الصلاة والسلام، وهو
قَوْلُهُ: «عَلَيْكُمْ بِالْجَمَاعَةِ فَإِنَّ يَدَ اللَّهِ عَلَى الْفُسْطَاطِ»
(3).
فليس المراد «باليد» فيه كالمراد «باليد» في الحديث الأوّل، بل المراد «باليد» هاهنا حفظ الله ورعايته، كما يقول القائل: «مالي في يد فلان» إذا أراد أنّه حافظ له، وأمينه عليه.
__________
(1) الباحة: باحة الدار، وهي ساحتها، والباحة: عرصة الدار. لسان العرب 2: 416.
(2) لسان العرب 2: 416، مادّة (ب وح).
(3) غريب الحديث لابن قتيبة 1: 100: 41، النهاية في غريب الحديث 5: 293، معجم مقاييس اللغة 4: 502، مجمع البحرين 1: 488.(1/34)
و «الفسطاط» هاهنا: البلد، ومنه سمّي «فسطاط مصر» فكأنّه عليه الصلاة والسلام أمرهم بلزوم الجماعة في الأمصار، ونهاهم عن الانشعاب والافتراق، ولم يرد أنّ الخارج عن المصر خارج (1) عن قبضة الله ومملكته، لكنّه خارج عن حفظه ورعايته.
وإنّما أمرهم بلزوم الأمصار، لأنّها في الأكثر مواضع الجماعة، وإلّا فالأمر على الحقيقة إنّما هو بلزوم الجماعة ولو كان أهلها في أكناف الفيافي ومطارح البوادي (2).
4
(4) وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي الْخَيْلِ: «ظُهُورُهَا حِرْزٌ، وَبُطُونُهَا كَنْزٌ» (3).
وهذا القول خارج على طريق المجاز لأنّ بطون الخيل على الحقيقة ليست بكنز، وإنّما أراد عليه الصلاة والسلام أنّ أصحابها ينتجونها (4) من الأفلاء (5) ما تنمّى به أموالهم، وتحسن معه أحوالهم، فهم باستيداع بطونها نطف الفحولة كمن كنز كنزا إذا أراده وجده، وإذا لجأ إليه دعم ظهره، كما يكون الكانز عند الرجوع إلى كنزه والتعويل على ما تحت يده.
وقوله عليه الصلاة والسلام: «وظهورها حرز» أوضح من أن نوضّحه،
__________
(1) في نسخة ب: فارع بدل خارج.
(2) الفيافي: جمع فيفاء، وهي البراري الواسعة والصحراء الملساء، النهاية 3: 485، والمطارح: جمع مطرح، من طرحت النوى بفلان كلّ مطرح: إذا نأت به. لسان العرب 2: 529.
(3) نثر الدر 1: 152، تأريخ اليعقوبي 1: 101، عنه البحار 60: 185: 15.
(4) أي يعلفونها.
(5) الأفلاء: جمع فلاة، وهي الصحراء الواسعة.(1/35)
والمراد: أنّها منجاة من المعاطب، وملجاة (1) عند المهارب.
5
(5) وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ (2): «فِي الْجَنِينِ غُرَّةٌ (3) عَبْدٌ أَوْ أَمَةٌ» (4).
وفي هذا الكلام مجاز لأنّه عليه الصلاة والسلام إنّما جعل العبد أو الأمة غرّة لأنّهما أفضل ما يملكه المالك وأفخره، وأظهره وأشهره، ولذلك سمّي أيضا في لسانهم الفرس «غرّة» لأنّه من أنفس ما يملك.
ولمثل هذا المعنى أيضا سمّوا الخيل «جبهة»
وَفِي الْحَدِيثِ الْمَشْهُورِ:
«لَيْسَ فِي الْجَبْهَةِ وَلَا فِي النُّخَّةِ وَلَا فِي الْكُسْعَةِ صَدَقَةٌ»
(5)، و «النَّخَّة»:
الرقيق، ومن قال: «النُّخَّة» بالضمّ قال: «هي البقر العوامل» و «الكُسْعَة»:
الحمير. وهذا أشهر الأقوال في هذا الحديث، قال ابن أحمر:
إن نحن إلّا أناس أهل سائمة ... وما لهم دونها حرث ولا غرر (6)
أي: ليس لهم زرع يعتمد، ولا خيل تقتعد (7).
__________
(1) ملجاة: يحذف الهمزة، وإنّما حذفت تخفيفا ومزاوجة مع كلمة منجاة.
(2) نقله البيهقي في سننه عن أبي هريرة قال: اقتتلت امرأتان من هذيل، فرمت احدهما الاخرى بحجر فأصابت بطنها فقتلتها وألقت جنينها، فقضى رسول اللة صلّى الله عليه وآله وسلّم بديتها على عاقلة الاخرى الخ.
(3) غرّة المال: خياره وأنفسه، كالجمال والخيل والعبيد في ذلك الزمان، وفي اصطلاح الفقهي: ما بلغ ثمنه من العبيد والاماء نصف عشر الدّية.
(4) مسند أحمد 2: 438، السنن الكبرى 8: 115، مجمع الزوائد 6: 299، كنز العمّال 15:
58/ 40079، عوالي اللآلي 3: 648.
(5) النهاية في غريب الحديث 1: 237، الفائق 1: 184، السنن الكبرى 4: 118.
(6) ديوان ابن أحمر: 107، لسان العرب 4: 214. في نسخة ب: ما إن لهم دونها حرث ولا غرر.
(7) أي تركب.(1/36)
وقال الآخر:
كلّ قتيل في كليب غرّة ... حتّى ينال القتل آل مرّة (1)
يقول: كلّ قتيل نقتله بكليب من غير آل مرّة عبد لا نقبله (2) بواء (3)، ولا نرضى به كفاء (4).
وكأنّ فحوى الكلام: أنّ العبد والأمة والفرس من أظهر الأشياء (5)
المملوكة، وأدلّها على وفارة الثروة، وفخامة النعمة لأنّ غيرها من الأعراض في الأكثر لا يشتهر اشتهارها، ولا ينتشر انتشارها.
6
(6) وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «إِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِعَبْدٍ خَيْراً عَسَلَهُ» قِيلَ لَهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَمَا عَسَلُهُ؟ قَالَ: «يَفْتَحُ لَهُ بَيْنَ يَدَيْ مَوْتِهِ عَمَلًا صَالِحاً يُرْضِي حَتَّى يَرْضَى عَنْهُ مَنْ حَوْلَهُ» (6).
وفي هذا الكلام مجازان:
أحدهما: قوله عليه الصلاة والسلام: «عسله» وهو مأخوذ من العسل، كما يقول القائل: «عسلت الطعام» إذا جعل فيه عسلا، و «سمنته» (7) إذا جعل فيه سمنا، و «زيّتّه» إذا جعل فيه زيتا، ومعنى «عسله»: أي جعل
__________
(1) الأغاني 5: 40، لسان العرب 5: 18، العين 4: 347.
(2) في نسخة: لا نقتله.
(3) أي مثلا ومساويا لنا.
(4) أي مساويا.
(5) في نسخة: الأسماء.
(6) مسند أحمد 4: 200، كنز العمّال 11: 95: 30763، 101: 30796، 102: 30798، الفتح الكبير 1: 73.
(7) في نسخة ب: أسمنته.(1/37)
عمله حلوا يحمده الصالحون، ويرضاه المتقون، فيكون كالشيء المعسول الذي يسوغ في اللهوات، ويلذّ على المذاقات.
والمجاز الآخر: قوله عليه الصلاة والسلام: «بين يدي موته» ولا يد للموت على الحقيقة، ولكنّها كناية عن الشيء الواقع أمام الشيء المتوقّع، وقد تكلّمنا على هذا المعنى في كتاب «مجازات القرآن» عند قوله سبحانه في البقرة: {فَجَعَلْنََاهََا نَكََالًا لِمََا بَيْنَ يَدَيْهََا وَمََا خَلْفَهََا} (1)، وعند قوله تعالى في سبأ: {إِنْ هُوَ إِلََّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذََابٍ شَدِيدٍ} [2] (3)، وذلك كما تقول (4) لمن يسأل عن أحد بالعشيرة، وهو سالك طريق وسائل عن رفيق:
«ها هو ذا بين يديك» أي قد تقدّمك، ولا يقال ذلك إلّا فيما إذا كنت وراءه، وهو أمامك، لا فيما كنت أمامه وهو وراءك، وكلّ ذلك إنّما يراد به في الأكثر تقريب الشيء من الإنسان حتّى كأنّه لفاف (5) يده، وقراب (6)
تناوله، كما تقول: «هذا الشيء أخذ يدي» أي ممكن لها، وقريب من تناولها.
7
(7) وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «وَيْلٌ لِأَقْمَاعِ (7) الْقَوْلِ، وَيْلٌ
__________
(1) الْبَقَرَةِ (2): 66.
(2) سَبَأَ (34): 46.
(3) مجازات الْقُرْآنِ: 116115.
(4) فِي نُسْخَةٍ ب: كَمَا يَقُولُ أَحَدُنَا لِغَيْرِهِ.
(5) اللِّفَافَةَ: مَا يُلَفُّ عَلَى الْيَدِ وَالرِّجْلِ وَغَيْرِهِمَا.
(6) أَيُّ قَرِيبٌ.
(7) الأقماع: جَمَعَ قَمَعَ، وَهُوَ آلِهِ تُوضَعُ عَلَى فَمِ الْإِنَاءِ، فَيُصَبُّ فِيهِ الْمَاءِ وَغَيْرِهِ.(1/38)
لِلْمُصِرِّينَ» (1).
وفي هذا الكلام مجاز واستعارة لأنّه عليه الصلاة والسلام عنى به الذين يكثرون استماع الأقوال، واختلاف الكلام، فيكون ذلك ثالما في دينهم، وقادحا في يقينهم، فشبّه عليه الصلاة والسلام آذانهم بالأقماع التي يفرغ فيها ضروب القول إفراغ المائعات، وهذه من أحسن العبارات عن هذا المعنى لأنّ الآذان هي الطرق التي يوصل منها إلى الصدور، والأنقاب (2) التي يدخل منها على القلوب، فهي أبواب موصلة، وطرق مبلغة.
وقد حمل بعض العلماء هذا الحديث على تأويل غير مشبه لفحوى اللفظ لأنّه قال: «المراد بذلك الذين تتكرّر المواعظ على أسماعهم وهم مع ذلك مصرّون على المعاصي، وموضعون (3) في طرق المغاوي (4)».
وهذا القول وإن كان سائغا، فإنّ الأشبه بظاهر الكلام أن يكون على ما قدّمت القول فيه من ذمّ من يجعل سمعه مساغا للأقوال المختلفة والأنباء المتضادّة، ويكون قوله عليه الصلاة والسلام: «المصرّين» تماما لهذا المعنى المراد، ومبالغة في وصف هؤلاء المذمومين بكثرة استماع
__________
(1) مسند أحمد 2: 165، 219، مجمع الزوائد 1: 191، كنز العمّال 3: 5976164، الدرّ المنثور 2:
78.
(2) الأنقاب: جمع نقب وهو الثقب، الجبل.
(3) أي مسرعون.
(4) المغاوي: جمع مغواة ومغوّاة، وهي المضلّة.(1/39)
الأقوال، فيكون ذلك من قولهم: «أصرّ الفرس اذنيه» إذا نصبهما للتوجّس (1) لأنّه يقال: «أصرّ أذنيه» و «صرّ بأذنيه» وهذا التأويل لم أعلم أحدا سبقني إليه.
8
(8) وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ حِينَ أَتَاهُ الْفَضْلُ بْنُ الْعَبَّاسِ وَابْنُ رَبِيعَةَ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ يَسْأَلَانِهِ عَنْ أَبَوَيْهِمَا السِّقَايَةَ (2)، فَتَوَاكَلَا الْكَلَامَ (3)، فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «أَخْرِجَا مَا تَصُرَّانِ» (4).
وفي هذا القول استعارة لأنّه عليه السّلام أراد: أظهرا ما تكتمان في قلوبكما، وصرّحا بما تلجلج به ألسنتكما، فجعل القلب بمنزلة الوعاء، والكتمان بمنزلة الوكاء (5)، والأمر المكتوم بمنزلة الشيء الموعى، وكلّ شيء جمعته فقد صررته، ومنه قيل للأسير: «مصرور» إذا جمعت يداه بالغلّ، وقدماه بالحجل.
9
(9) وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي عُمْرَةِ الْحُدَيْبِيَةِ عِنْدَ كَلَامٍ جَرَى فِي شَأْنِ قُرَيْشٍ: «فَإِنِ اتَّبَعُونَا اتَّبَعَنَا مِنْهُمْ عُنُقٌ يَقْطَعُهَا اللَّهُ» (6).
وفي هذا القول استعارة لأنّه عليه الصلاة والسلام شبّه من تبعه منهم
__________
(1) أي لتسمّع الصوت الخفيّ.
(2) في المصادر: السعاية، والموجود في المتن أصحّ لأنّه ورد في أمر نيابة كلّ منهما في سقاية الحاجّ، وهي من مظاهر الشرف عند العرب في الجاهلية.
(3) أي اتكل كلّ واحد على صاحبه فيه.
(4) النهاية في غريب الحديث 3: 23، وفيه: «ما تصرّانه». شرح الأخبار 2: 487بلفظ «تسرّان» طبقات ابن سعد 4: 58.
(5) الوكاء: رباط القرية وغيرها، يقال وكاها يكيها وكيا وأوكاها وعليها إذا ربطها بالوكاء.
(6) تاريخ الطبري 2: 620، تاريخ بغداد 11: 311، كنز العمّال 10: 489: 30154، وفيه: «قطعها الله».(1/40)
في التلاحق والامتداد والجدّ والاجتهاد بالعنق الواحدة التي لا تختلف أجزاؤها، ولا تتباين أعضاؤها، فهو أشدّ لقوّتها، وأوهن لصدمتها.
وعلى هذا المعنى قول الشاعر وأنشدناه شيخنا أبو الفتح عثمان بن جنّي النحوي رحمه الله في حال القراءة عليه:
أبلغ أمير المؤمنين ... (1) أخا العراق إذا أتيتا
أنّ العراق وأهله ... عنق إليك فهيت هيتا (2)
ولقول الشاعر: «عنق إليك» معنيان:
أحدهما: أن يكون على الوجه الذي ذكرناه أوّلا من تشبيه الطالبين له والقاصدين إليه، بالعنق في التلاحق إلى فنائه، والتسرّع إلى لقائه.
والمعنى الآخر: أن يكون أراد أنّ (3) أهل العراق على توقّع لوروده، وتشوّق إلى طلوعه، فهم كالعنق الممتدّة نحوه، وذلك على المتعارف بيننا من قول القائل منّا إذا أراد أن يعبّر عن انتظاره لوارد أو توقّعه لطالع أن يقول: «عنقي ممتدّة إلى ورود فلان» كما يقول: «عيني ممدودة إلى طلوع فلان» وقول الشاعر في البيت الثاني: «فهيت هيتا» يشهد بأنّ مراده الوجه الأخير من الوجهين لأنّ في هذا القول حثّا له على التعجّل، وإزعاجا (4) إلى التسرّع.
__________
(1) أي أمير المؤمنين حقّا أعني أبا الأئمّة الأطهار عليّ بن أبي طالب صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.
(2) لسان العرب 10: 273.
(3) لا توجد في النسخة: ألف.
(4) أي إقلاقا وقلعا وحثّا.(1/41)
فأمّا قول الله سبحانه وتعالى: {فَظَلَّتْ أَعْنََاقُهُمْ لَهََا خََاضِعِينَ} (1)، فقد فسّر أيضا على وجهين أوردناهما في مواضع من كلامنا في تأويل القرآن (2):
فأحد الوجهين: أن يكون سبحانه ذكر الأعناق، ثمّ ردّ الذكر على أصحاب الأعناق لأنّ خضوع الأعناق هو خضوع أصحابها لمّا لم يكن خضوعهم إلّا بها.
والوجه الآخر: أن يكون أراد الجماعات لأنّه قد تسمّى الجماعة «عنقا» على الوجه الذي قدّمنا ذكره، يقول القائل: «جاءني عنق من الناس» أي جماعة، فيكون {خََاضِعِينَ} صفة للجماعات، والمعنى في ذلك ظاهر غير محتاج إلى التأويل.
وقد يجوز أن يكون «الأعناق» هاهنا كناية عن السادات والمتقدّمين من القوم، يقال: «هؤلاء أعناق القوم» أي ساداتهم، كما يقال: «هؤلاء رؤوسهم وعرانينهم» (3) ذكر ذلك صاحب «العين» في كتابه (4).
وقال لي أبو حفص عمر بن إبراهيم الكتّاني صاحب ابن مجاهد، وقد قرأت عليه القرآن بروايات كثيرة: «سمعت أبا بكر بن سفيان (5) النحوي صاحب المبرّد يقول: أولى الوجوه بتأويل هذه الآية أن يكون {خََاضِعِينَ}
__________
(1) الشعراء (26): 4.
(2) مجازات القرآن: 170.
(3) أي ساداتهم وأشرافهم.
(4) انظر كتاب العين 1: 191.
(5) في نسخة ب: أبا بكر بن شقر.(1/42)
مردودا على الضمير في {أَعْنََاقُهُمْ} فكأنّه تعالى قال: فظلّوا هم لها خاضعين» (1).
ويبعد أن يحمل قوله عليه الصلاة والسلام في هذا الخبر: «عنق يقطعها الله» على أنّه أراد به الجماعة لأنّ قوله «يقطعها الله» بالعنق المعروفة التي هي العضو المخصوص أشبه، وفي موضع الكلام أحسن. وإنّما جاء ب «العنق» هاهنا على طريق الاستعارة تشبيها للقوم الذين ذكر اتباعهم له بالعنق في الاحتشاد لطلبه، والامتداد لللّحاق به.
10
(10) وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي كِتَابٍ مِنْ كُتُبِهِ: «هَذَا كِتَابٌ مِنْ مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللَّهِ لِعَمَائِرِ (2) كَلْبٍ وَأَخْلَافِهَا وَمَنْ ظَأَرَهُ الْإِسْلَامُ مِنْ غَيْرِهَا» (3).
وفي هذا الكلام استعارة لأنّ «الظأر» في الحقيقة: العطف، ومنه ظأر الناقة: وهو أن يموت ولدها، فتعطف على البوّ (4) الذي يجعل لها لتدرّ عليه لبنها. وأصله العطف على الشيء بالأخذ والحمل، لا بالاختيار والطوع، ويبيّن هذا المعنى قول الكميت الأسدي:
وهم رئموها (5) غير ظأر وأشبلوا ... عليها بأطراف القنا وتحدّبوا (6)
__________
(1) الكامل 5: 2، المقتضب 4: 198و 199.
(2) العمائر: جمع عميرة، وهي دون القبيلة.
(3) العقد الفريد 2: 29، النهاية في غريب الحديث 3: 114، 299، الفائق 3: 26.
(4) البوّ: جلد الفصيل الميّت، يحشى بالتبن أو غيره، فيقرّب من امّه لتعطف عليه وتدرّ.
(5) كذا في شرح الهاشميات: 65، وفي الأصل: رأّموها، وما أثبتناه أولى.
(6) شرح هاشميات الكميت: 65.(1/43)
أي عطفوا عليها طائعين مختارين، لا مجبرين محمولين. ثمّ استعمل بعد ذلك فيمن عطف طائعا، كما استعمل فيمن عطف كارها، فكأنّه عليه الصلاة والسلام جعل الإسلام يعطف على الدخول فيه إمّا طوعا ومشيئة، أو عنادا وخيفة.
ومن أمثال العرب: «الطّعن يظأر» (1) أي يعطف على السلم والتواهب، ويحمل على البقيا والتقارب (2).
11
(11) وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِحَادِي مَطِيِّهِ (3): «يَا أَنْجَشَةُ، رِفْقاً بِالْقَوَارِيرِ»
(4).
وهذه استعارة عجيبة لأنّه عليه الصلاة والسلام شبّه النساء في ضعف النحائز (5) ووهن الغرائز بالقوارير الرقيقة التي يوهنها الخفيف، ويصدعها اللطيف، فنهى عن أن يسمعهنّ ذلك الحادي ما يحرّك مواضع الصبوة (6)، وينقض معاقد العفّة.
__________
(1) مجمع الأمثال 1: 432، لسان العرب 4: 515. رئموها: أي قبل الأنصار دعوة الإسلام وعطفوا عليها مختارين غير مكرهين، من غير ظأر: أي لم يكن عطفهم على الدعوة لإكراه وإجبار، وأشبلوا:
أي دافعوا عن الدعوة الإسلامية طائعين، القنا: جمع قناة، وهي الرمح، وتحدّبوا: تآزروا على نصرتها.
(2) فأخف الناس حتّى يحبّوك.
(3) المطيّ: جمع مطيّة، وهي الدابة.
(4) إعلام الورى: 146، أخرجه أحمد ومسلم عن أنس: قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم في بعض أسفاره وغلام أسود يقال له «أنجشة» يحدو بنسائه، فقال له رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: «يا أنجشة ويحك! إرفق بالقوارير». مسند أحمد 3: 172، 187، 202، صحيح مسلم 4: 1445: 2323.
(5) النّحائز: جمع النّحيزة: الطبيعة والغريزة، لسان العرب 5: 415، مادّة (ن ح ز).
(6) والصبوة: جهله الفتوّة واللهو من الغزل، لسان العرب 14: 449، مادّة (ص ب و).(1/44)
وقد حمل بعض العلماء قوله تعالى: {قَوََارِيرَا مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوهََا تَقْدِيراً} (1)
على أنّ المراد به غير الزجاج هاهنا (2)، و «القارور»: فاعول من استقرار الشيء فيه، فكأنّه قرار للشراب وغيره من المائعات، فيصلح أن يكون للزجاج، ويكون لغير الزجاج.
وأمّا عامّة المفسّرين فيذهبون إلى أنّ تلك الآنية الموصوفة من فضّة ولكنّها تشفّ (3) شفيف القوارير من الزجاج، فهو أعجز لتصويرها وأعجب لتقديرها إذا كانت جامعة للرقّة اللطيفة، والقوّة الحصيفة (4) (5).
12
(12) وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَقَدْ تَذَاكَرَ النَّاسُ عِنْدَهُ أَمْرَ الطَّاعُونِ، وَانْتِشَارَهُ فِي الْأَمْصَارِ وَالْأَرْيَافِ، فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «فَإِنِّي أَرْجُو أَلَّا يَطْلُعَ إِلَيْنَا نِقَابَهَا» (6).
يعني: نقاب المدينة، و «النقاب»: جمع نقب، وهو الطريق في الجبل.
وفي هذا الكلام استعارة حسنة لأنّه عليه الصلاة والسلام أقام هذا الداء المسمّى ب «الطاعون» في تغلغله إلى البلاد المنيعة، وذهابه بالأعلاق (7) الكريمة مقام الجيش المغير الذي يوفي على الأنشاز (8)،
__________
(1) الإنسان (76): 16.
(2) هداية المسترشدين: 54.
(3) أي ترقّ.
(4) انظر الكشّاف للزمخشري 4: 671، تفسير القرطبي 19: 92.
(5) أي المحكمة.
(6) مسند أحمد 5: 207، مجمع الزوائد 3: 309، كنز العمّال 12: 249: 34900و 14: 139: 38170.
(7) الأعلاق: جمع علق، وهو النفيس.
(8) الأنشاز: جمع النّشز: المتن المرتفع من الأرض. لسان العرب 5: 417، مادّة (ن ش ز).(1/45)
ويهجم على الحصون والديار، يقال: «طَلَعَ فُلَانٌ الثَّنِيَّةَ» (1) إذا أوفى عليها وقرع ذروتها، ومن أحسن التمثيل وأوقع التشبيه أن تشبّه أسباب الموت وطوارق الدهر بالجيش الهاجم، والمقنب (2) المصمّم الذي تخاف سطوته، وتنكأ شوكته (3)، ولا يسدّ طريقه، ولا يؤمن طروقه (4).
وقوله عليه الصلاة والسلام: «ألّا يطّلع إلينا نقابها» وهو يريد نقاب المدينة ولم يجر لها ذكر من الفصاحة العجيبة لأنّه أقام علم المخاطبين بها مقام تصريحه بذكرها. ومثل ذلك قوله سبحانه وتعالى: {وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطََارِهََا} (5)، والمراد المدينة، ولم يجر لها ذكر، ولذلك في القرآن نظائر.
وكان شيخنا أبو الفتح النحوي رحمه الله يسمّى هذا الجنس: «شجاعة الفصاحة» لأنّ الفصيح لا يكاد يستعمله إلّا وفصاحته جريّة الجنان، غزيرة الموادّ.
13
(13) وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عُلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «إِنَّ الْإِسْلَامَ بَدَأَ غَرِيباً، وَسَيَعُودُ غَرِيباً»
(6).
__________
(1) الثنيّة من الجبال: ما يحتاج في قطعه وسلوكه إلى صعود وانحدار، فكأنّه يثني السير.
(2) المقنب من الخيل: ما بين الثلاثين إلى الأربعين. لسان العرب 1: 690، مادّة (ق ن ب).
(3) يقال: نكأ العدوّ وفي العدوّ أي قتل فيهم وجرح وأثخن، والشوكة: القوّة.
(4) أي هجومه ليلا.
(5) الأحزاب (33): 14.
(6) مسند أحمد 1: 398و 4: 73، سنن الدارمي 2: 312، صحيح مسلم 1: 90، سنن ابن ماجة: 2:
1319: 3987، سنن الترمذي 4: 129: 2764، مجمع الزوائد 1: 106، 156و 7: 259، 278، كنز العمّال 1: 238: 1192، 1193، 329: 1415، شرح الأخبار 3: 371: 1241، الغيبة للنعماني:
321: 1، كمال الدين: 200، عوالي اللآلي 1: 33: 12.(1/46)
وهذا الكلام من محاسن الاستعارات وبدائع المجازات لأنّه عليه الصلاة والسلام جعل الإسلام غريبا في أوّل أمره تشبيها بالرجل الغريب الذي قلّ أنصاره، وبعدت دياره لأنّ الإسلام كان على هذه الصفة في أوّل ظهوره، ثمّ استقرّت قواعده، واشتدّت معاقده، وكثر أعوانه وضرب جرانه (1)، وقوله عليه الصلاة والسلام: «وسيعود غريبا» أي يعود إلى مثل الحال الاولى في قلّة العاملين بشرائعه، والقائمين بوظائفه (2)، لا أنّه والعياذ بالله تمحّى (3) سماته، وتدرس آياته.
14
(14) وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي ذِكْرِ الْخَوَارِجِ: «يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ» الْحَدِيثَ بِطُولِهِ إِلَى قَوْلِهِ: «قَدْ سَبَقَ الْفَرْثَ وَالدَّمَ» (4).
__________
(1) أي ثبت واستقرّ، وهو مجاز منقول عن الكناية من قولهم: «ألقى البعير بجرانه» إذا برك.
(2) في نسخة ب: العالمين بشرائعه والعاملين بوظائفه.
(3) في نسخة ب: تنمحي.
(4) سنن النسائي 7: 119، مسند أحمد 1: 88، 160و 3: 52و 4: 145و 5: 42، صحيح البخاري 4:
179 - و 6: 115و 8: 52، صحيح مسلم 3: 110، سنن ابن ماجة 1: 59: 168، 60: 169، سنن أبي داود 2: 4768429، مستدرك الحاكم 2: 146، السنن الكبرى 3: 225، مجمع الزوائد 6: 225، كنز العمّال 11: 137: 30939، الفقيه 1: 124: 288، الإيضاح: 49، الخصال: 574، اعلام الورى:
330. وهو حديث طويل في باب قتال الخوارج، هكذا أخرجه أحمد في مسنده: حدّثنا أبو كثير مولى الأنصار، قال: كنت مع سيّدي علي بن أبي طالب (رضي الله عنه) حيث قتل أهل النهروان، فكأنّ الناس وجدوا في أنفسهم من قتلهم، فقال علي (رضي الله عنه): «يا أيها الناس، إنّ رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم قد حدّثنا بأقوام يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرميّة، ثمّ لا يرجعون فيه أبدا حتّى يرجع السهم على فوقه».(1/47)
وفي هذا القول مجاز لأنّه عليه الصلاة والسلام شبّه دخولهم في الدين وخروجهم منه بسرعة من غير أن يتعلّقوا (1) بعقدته، أو يعيقوا (2)
بطينته بالسهم الذي أصاب الرّميّة وهي الطريدة المرميّة، ثمّ خرج مسرعا من جسمها، ولم يعلق بشيء من فرثها ودمها، وذلك من صفات السهم الصائب لأنّه لا يكون شديد السرعة إلّا بعد أن يكون قويّ النزعة.
15
(15) وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «مُضَرُ صَخْرَةُ اللَّهِ الَّتِي لَا تَنْكَلُ» (3).
وهذا القول مجاز لأنّه عليه السّلام جعل مضر وهي القبيلة المعروفة بمنزلة الصخرة الراسية والهضبة الثابتة التي لا تزحزح عن مقرّها، ولا تؤخّر عن مجثمها (4)، وهذا معنى قوله عليه الصلاة والسلام: «لا تنكل» وذلك مأخوذ من قولهم: «نكلت عن الأمر أنكل نكولا إذا تأخّرت عنه. ومنه قيل لللّجام: «نكل» لأنّه يؤخّر به المركوب إذا جمح (5)، ويحبس به إذا انطلق. ولهذا المعنى أيضا قيل للقيد: «نكل» لأنّه يقصّر الخطو ويمنع
__________
(1) في نسخة ب: يعلّقوا.
(2) أي يلتصقوا.
(3) النهاية في غريب الحديث 5: 117.
(4) أي موضع تلبّدها ولزقها بالأرض.
(5) أي هاج.(1/48)
العدو. وإنّما أضاف عليه الصلاة والسلام اسم «الصخرة» إلى «الله» تعالى ليكون أفخم لها في القلوب، وأجدر لها بالرسوخ.
16
(16) وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «بُعِثْتُ فِي نَسَمِ السَّاعَةِ إِنْ كَادَتْ لَتَسْبِقُنِي» (1).
وفي هذا القول استعارة لأنّه عليه السّلام كنّى عن ابتداء الساعة بالنسم، و «النسم» و «النسيم» جميعا: اسم لابتداء الريح، وهي ضعيفة قبل شدّتها، ومريضة قبل استكمال قوّتها، و «النسم» أيضا: النفوس، جمع واحده «نسمة» وإنّما سمّيت بذلك، لأنّها في الأصل ضعيفة، وإنّما يشتدّ من جسمها بروافد ترفدها، ودعائم تسندها.
وقد روي هذا الخبر على وجه آخر وهو
قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ:
«بُعِثْتُ فِي نَفَسِ السَّاعَةِ»
(2)، وله معنيان:
أحدهما: أن يكون: بعثت في تنفيس الساعة، أي في إمهالها وتأخّرها، من قولهم: «نفّس فلان عن غريمه» إذا أنظره وأخّر الدين بعد أن حان قضاؤه، ووجب اقتضاؤه، فكأنّه عليه الصلاة والسلام قال: بعثت وقد حان قيام الساعة، إلّا أنّ الله تعالى نفّسها أي أخّرها قليلا فبعثني في ذلك النفس.
والوجه الآخر: أن يكون جعل للساعة نفسا كنفس الإنسان، وقال:
__________
(1) حلية الأبرار 4: 161، الفتح الكبير 2: 8، النهاية في غريب الحديث 5: 49، مجمع الزوائد 1: 312 عن البزّار، كنز العمّال 14: 191/ 38331.
(2) سنن الترمذي 3: 336: 2310، كنز العمّال 14: 190: 38329، مجمع البحرين 4: 350.(1/49)
بعثت في وقت احسّ فيه بنفسها وقربها، كما يحسّ الإنسان بنفس الإنسان إذا قرب من شخصه، وسمع مجرى نفسه (1).
17
(17) وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «الْيَدُ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنَ الْيَدِ السُّفْلَى» (2).
وهذا القول مجاز لأنّه عليه الصلاة والسلام أراد ب «اليد العليا» يد المعطي، وب «اليد السافلة» يد المستعطي، ولم يرد على الحقيقة أنّ هناك عاليا وسافلا، وصاعدا ونازلا، وإنّما أراد أنّ المعطي في الرتبة فوق الآخذ لأنّه المنيل المفضل، والمحسن المجمل، وليس هذا في معطي الحقّ (3)، وإنّما هو في معطي الرّفد (4) ومسترفده. وليس المراد أنّه خير في الدين، بل المراد أنّه خير في النفع للسائلين.
وإنّما كنّى عليه الصلاة والسلام عن هاتين الحالتين باليدين لأنّ الأغلب أن يكون بهما الإعطاء والبذل، وبهما القبض والأخذ.
18
(18) وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «إِنَّ هَذِهِ الْأَخْلَاقَ بِيَدِ اللَّهِ فَمَنْ
__________
(1) انْظُرْ: النِّهَايَةِ فِي غَرِيبِ الْحَدِيثَ 5: 94.
(2) أَمَالِي الْمُرْتَضَى 2: 66، الرِّسَالَةِ السَّعْدِيَّةِ: 156، الْكَافِي 4: 11/ 4، 26/ 1عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ، الْفَقِيهِ 2: 56/ 1688وَ 4: 376/ 5763، تَفْسِيرِ الْقُمِّيِّ 1: 291، الْإِمَامَةِ وَالتَّبْصِرَةِ: 176، الِاخْتِصَاصِ: 342، تَلْخِيصُ الحبير 6: 143، الموطأ 2: 998/ 8، سُنَنِ النَّسَائِيِّ 5: 60، مُسْنَدِ أَحْمَدَ 2: 4، 67، 98، 152، سُنَنِ الدَّارِمِيِّ 1: 389، صَحِيحٌ الْبُخَارِيِّ 2: 117، صَحِيحٌ مُسْلِمٍ 3: 94، سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ 1: 372/ 1648، سُنَنِ الترمذى 2: 94/ 675، السُّنَنِ الْكُبْرَى 4: 177، مَجْمَعِ الزَّوَائِدِ 3: 98، كَنْزِ الْعُمَّالِ 6: 358/ 16048.
(3) فِي نُسْخَةٍ ب: مُعْطِيَ الْحَقِّ وَآخُذَهُ.
(4) الرفد: الْعَطَاءِ وَالصِّلَةِ. لِسَانِ الْعَرَبِ 3: 181، مَادَّةٌ (ر فِ د).(1/50)
شَاءَ أَنْ يَمْنَحَهُ مِنْهَا خُلُقاً حَسَناً فَعَلَ» (1).
وذكر «اليد» هاهنا مجاز، والمراد: أنّ الأخلاق في قبضة الله، وتحت ملكة الله تعالى (2)، فلمّا كان في الأكثر ما يقبضه الإنسان ويملكه إنّما يقبضه بيده وينقله إلى يده، خاطب عليه الصلاة والسلام بلسان العرف المتقرّر (3) عند المخاطبين وفي لغة السامعين.
وقد مضى الكلام على هذا المعنى في عدّة مواضع من كتبنا الموضوعة في علوم القرآن، ولا يحتمل كتابنا هذا أكثر من هذا المقدار.
19
(19) وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ وَقَدْ أَعْطَاهُ الطُّفَيْلُ بْنُ عَمْرٍو الدَّوْسِيُّ قَوْساً لَهُ جَزَاءً عَلَى إِقْرَائِهِ الْقُرْآنَ، فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِأُبَيٍّ: «تَقَلَّدْهَا شِلْوَةً مِنْ جَهَنَّمَ» (4).
وفي هذا القول مجاز لأنّه عليه الصلاة والسلام جعل القوس إذ كانت تكسب آخذها على الوجه المكروه عذاب جهنّم، كأنّها شلوة من نار جهنّم. وإنّما قال: «شلوة» ولم يقل: «شلوا» لأنّه حمل على معنى القوس، وهي مؤنّثة. و «الشّلو»: العضو.
وَمِنْهُ حَدِيثُ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي الْأُضْحِيَّةِ: «ائْتِنِي بِشِلْوِهَا الْأَيْمَنِ»
(5)، وأصله في لغتهم: البقيّة الباقية من الشيء، ومن ذلك يقال
__________
(1) الاختصاص: 225، الفتح الكبير 1: 427، كنز العمّال 3: 668/ 8410، مجمع الزوائد 8: 20.
(2) أي هي ملكه سبحانه.
(3) في نسخة ب: المقرّر.
(4) النهاية في غريب الحديث 2: 498، كنز العمّال 2: 343: 4199.
(5) النهاية في غريب الحديث 2: 498، الصحاح 6: 2395، لسان العرب 14: 422.(1/51)
لبقيّة الأكيلة (1) إذا فرسها السبع: «شلو».
ويقال لبدن القتيل: «شلو» على أحد ثلاثة وجوه:
إمّا أن يكون مفردا من رأسه، فيكون كالبقيّة القليلة لأنّ الرأس هو العضو الأرأس، والعلق (2) الأنفس، ألا ترى إلى قول الشاعر:
إذا قطعوا رأسي وفي الرّأس أكثري ... وغودر عند الملتقى ثمّ سائري (3)
والوجه الثاني: أن يكون إنّما سمّي بذلك لخروج نفسه وكون الجسم بعدها، وإن كان بتمامه بمنزلة البقيّة التي قد ذهب أكثرها، وفقد جوهرها.
والوجه الثالث: أن يكون إنّما سمّي بذلك لأنّه بقيّة أبقتها مضارب السيوف تشبيها بالبقيّة التي أبقتها مخالب الأسود.
وإنّما عظّم عليه الصلاة والسلام الوعيد في هذا الخبر زجرا لهم عن أن يأخذوا على تعليم القرآن أجرا، أو يتخذوه مكسبا ومطعما.
20
(20) وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «أَغْبَطُ النَّاسِ عِنْدِي مُؤْمِنٌ خَفِيفُ الْحَاذِ، ذُو حَظٍّ مِنْ صَلَاةٍ» (4).
وفي هذا القول استعارة لأنّ «الحاذ» على الحقيقة اسم لما وقع عليه الذنب من مؤخّر الفخذين، هذا قول الأصمعي.
__________
(1) أكيلة السبع: هي التي يأكل منها السبع ثمّ تستنقذ منه.
(2) أي النفيس.
(3) كتاب الحيوان للجاحظ 6: 450، العقد الفريد 6: 195، الأغاني 21: 182.
(4) مسند أحمد 5: 255، مستدرك الحاكم 4: 123، سنن ابن ماجة 2: 41171379، كنز العمّال 3:
152، الكافي 2: 140: 1.(1/52)
وقال غيره: «بل هو لحم باطن الفخذ» وهما حاذا الفخذين، وقد جاء في كلامهم: «خفيف الحاذين» وقد استعملوا ذلك في الإنسان أيضا، قال الشاعر:
سيكفيك الحمالة (1) مستميت ... خفيف الحاذ من أبناء جرم (2)
وقال بعضهم: «بل هو طريقة المتن (3) من الإنسان، والموضع الذي يسمّى: الحال من الفرس، وهو ما وقع عليه اللّبد (4) من ظهره».
والقولان الأوّلان أعجب إليّ لأنّه عليه الصلاة والسلام كنّى بخفّة الحاذ هاهنا عن قلّة المال، أو قلّة العيال.
وَمِنْهُ الْحَدِيثُ الْآخَرُ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ: «لَيَأْتِيَنَّ عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ يَغْبِطُونَ الرَّجُلَ بِخِفَّةِ الْحَاذِ كَمَا يَغْبِطُونَهُ بِكَثْرَةِ الْمَالِ» (5).
لأنّ الخفيف الحاذ إذا كان على ما ذكر أوّلا في الوجهين الأوّلين من قلّة لحم باطني أو ظاهري الفخذين كان ذلك أسرع لخطوه، وأخفّ لعدوه لأنّ الدنيا بمنزلة المضمار (6)، والناس فيها بمنزلة الخيل المجراة،
__________
(1) في اللسان والمقاتل: الجعالة. والحمالة: الكفالة، والمستميت، الشجاع الطالب للموت.
(2) لسان العرب 11: 111، مقاتل الطالبيين: 167.
(3) أي الظهر.
(4) لبد الفرس: ما يوضع على ظهره تحت السرج.
(5) النهاية في غريب الحديث 1: 457، وفيه: «كما يغبط أبو العشرة» مجمع الزوائد 7: 282، كنز العمّال 11: 186: 31150.
(6) المضمار: الموضع الذي تربط فيه الخيل، فيكثر ماؤها وعلفها حتّى تسمن، ثمّ يقلّل ماؤها وعلفها مدّة وتركّض في الميدان حتّى تهزل. ومدّة التضمير عند العرب أربعون يوما.(1/53)
والغاية هي الآخرة، فكلّما كان الواحد منهم أخفّ نهضا وامتراقا (1)، كان أسرع بلوغا ولحاقا.
وَيُبَيِّنُ ذَلِكَ قَوْلُ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي كَلَامٍ لَهُ: «تَخَفَّفُوا تَلْحَقُوا» (2).
وقد ذكرنا ذلك في كتابنا الموسوم ب «نهج البلاغة» (3) الذي أوردنا فيه مختار جميع كلامه، عليه الصلاة والسلام، وعلى الطاهرين من أولاده.
وأمّا القول الثالث الذي ذكرناه عن بعضهم من قوله: «إنّ الحاذ هو المتن» فقد يجوز أن يعبّر به أيضا عن قلّة العيال ونزارة (4) المال، كما يقولون «فلان خفيف الظهر» إذا أرادوا هذا المعنى ولأنّ قلّة اللحم على الجملة في أيّ عضو كان من أعضاء الحيوان، أعون على خفّة نهوضه وسرعة تصرّفه في اموره.
21
(21) وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَقَدْ ذُكِرَ عِنْدَهُ شُرَيْحٌ الْحَضْرَمِيُّ:
«ذَاكَ رَجُلٌ لَا يَتَوَسَّدُ الْقُرْآنَ» (5).
وهذه من الاستعارات العجيبة، والكنايات الغريبة، وهي تحتمل معنيين: أحدهما مدح، والآخر ذمّ:
__________
(1) أي إسراعا.
(2) روضة الواعظين: 490، مناقب ابن شهر آشوب 1: 326، تفسير نور الثقلين 1: 711، خصائص الأئمّة: 112، مجمع البحرين 1: 671.
(3) نهج البلاغة 1: 59و 2: 80.
(4) أي قلّته وتفاهته.
(5) سنن النسائي 3: 257، مسند أحمد 3: 449، النهاية في غريب الحديث 5: 183.(1/54)
فأمّا المدح، فهو أن يكون المراد به أنّه لا ينام عن قراءة القرآن، بل يقطع ليله بالتهجّد به، والتصرّف مع تلاوته، فيكون القائم بدرسه كالمشتمل (1) به، والنائم (2) كالمتوسّد له، كأنّه جعله وسادا لخدّه، وفراشا لجنبه. وممّا يقوّي هذا الوجه
مَا رُوِيَ مِنْ قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي حَدِيثٍ آخَرَ: «يَا أَهْلَ الْقُرْآنِ، لَا تَوَسَّدُوا الْقُرْآنَ، وَاتْلُوهُ {حَقَّ تِلََاوَتِهِ}» (3).
وأمّا المعنى الآخر الذي يحتمل الذمّ، فهو أن يكون المراد أنّه غير حافظ للقرآن، فليس بخازن من خزنته، ولا وعاء من أوعيته، فإذا نام لم يكن متوسّدا له كما يتوسّده من هو ظرف من ظروفه الحاوية له، والمشتملة عليه.
وَمِثْلُ ذَلِكَ مَا رُوِيَ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ: أَنَّهُ قَالَ لِرَجُلٍ سَأَلَهُ عَنْ طَلَبِ الْعِلْمِ: «لَأَنْ تَتَوَسَّدَ الْعِلْمَ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَتَوَسَّدَ الْجَهْلَ» (4).
أراد: أن تنام ومعك العلم خير من أن تنام ومعك الجهل، فجعل العلم كالفراش الممتهد، والوساد المتوسّد (5).
22
(22) وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، فِي كَلَامٍ لِلْأَنْصَارِ: «أَنْتُمُ الشِّعَارُ،
__________
(1) يُقَالُ: اشْتَمَلَ الرَّجُلِ بِثَوْبِهِ إِذَا تُلَفِّفُ بِهِ وَأَرَادَهُ عَلَى جَسَدِهِ كُلُّهُ حَتَّى لَا تَخْرُجُ مِنْهُ يَدَهُ. وَهِيَ اشْتِمَالِهِ الصَّمَّاءِ.
(2) فِي نُسْخَةٍ ب: النَّائِمِ عَنْهُ.
(3) النِّهَايَةِ فِي غَرِيبِ الْحَدِيثَ 5: 183، كَنْزِ الْعُمَّالِ 1: 611: 2803.
(4) النِّهَايَةِ فِي غَرِيبِ الْحَدِيثَ 5: 183، مَجْمَعِ الْبَحْرَيْنِ 4: 498.
(5) فِي نُسْخَةٍ ب: كَالْفَرَاشِ الممهد وَالْوَسَادِ الموسد.(1/55)
وَالنَّاسُ الدِّثَارُ» (1).
وهذا مجاز لأنّه عليه الصلاة والسلام أراد: أنّكم أقرب الناس منّي، وأشدّهم اشتمالا عليّ، فأنتم لي كالشعار، وهو الثوب الذي يلي بدن الإنسان، والناس الدثار (2) لأنّهم أبعد منّي، وأنتم بينهم وبيني.
ومثل ذلك قولهم: «فلان من بطانة فلان» كناية عن القرب منه والاختصاص به تشبيها ببطانة الثوب التي تلي الجسد، وتكون أقرب إلى البدن.
23
(23) وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «يَكُونُ قَبْلَ الدَّجَّالِ سِنُونَ خَدَّاعَةٌ»
(3).
وهذه استعارة لأنّه جاء في التفسير: أنّ المراد بذلك اتصال المحمول (4) وقلّة الأمطار في تلك السنين، يقال: «خدع المطر» إذا قلّ.
والأصل فيه قولهم: «خدع الريق» إذا جفّ، قال سويد بن أبي كاهل:
أبيض اللّون لذيذ طعمه ... طيّب الرّيق إذا الرّيق خدع (5)
وجفوف الريق وقلّته من أسباب تغيّره وفساده لأنّه كلّما كثر ماع (6)، وكلّما ماع طاب.
__________
(1) مسند أحمد 3: 246، صحيح البخاري 8: 37، سنن ابن ماجة 1: 58، مجمع الزوائد 10: 31، كنز الدقائق 2: 208، البداية والنهاية 4: 410.
(2) وهو الثوب الذي يلبس فوق الشعار.
(3) مسند أحمد 3: 220، مجمع الزوائد 7: 284، كنز العمّال 14: 229: 38510، 231: 38519.
(4) أي يبس الأرض وجفافها لقلّة بالأمطار.
(5) ديوان سويد: 24، الصحاح 3: 1202.
(6) أي سال. أقرب الموارد 2: 1256، مادّة (م ى ع) ماع الشيء، يميع ميعا: إذا جرى على وجه الأرض، والميع: سيلان الشيء (الصحاح: 3: 1287مادّة ميع).(1/56)
وقيل: «السنون الخدّاعة»: هي التي تخدع زكاء (1) الزرع أي تنقصه، من قولهم: دينار خادع وهو الذي ينقص من وزنه أو من ذهبه».
وقال عليه الصلاة والسلام: «سنون خدّاعة» والمطر هو الخادع، إلّا أن خدع المطر لمّا كان فيها حسن إجراء الاسم عليها ولهذا نظائر كثيرة في القرآن قد استقصينا ذكرها في كتاب «المجازات».
وقال بعضهم: «بل السنون الخدّاعة (2): التي يكثر فيها المطر، ويقلّ العشب، وذلك مأخوذ من الخديعة، فكأنّ هذه السنين يطمع أهلها في الخصب والإمراع (3) بكثرة أمطارها، ثمّ تخلف المخايل (4) باتصال جدبها وأمحالها».
والقول الأوّل أقرب إلى الصواب، وأشبه بالمراد.
24
(24) وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «تَحَابُّوا بِذِكْرِ اللَّهِ وَرُوحِهِ» (5).
وهذا القول مجاز لأنّه عليه الصلاة والسلام أراد ب «الروح» هاهنا القرآن، تشبيها له بالروح القائمة بالحيوان المصحّحة لانتفاع الأبدان، وهذا من التشبيه الواقع، والتمثيل النافع لأنّ انتفاع الناس بالقرآن في رشاد السبيل ومصالح الدنيا والدين، كانتفاع الأبدان بالأرواح في تصريف حركاتها، وترتيب إرادتها، وتصحيح لذّاتها وشهواتها، وقد
__________
(1) أي نموّه. راجع أقرب الموارد 1: 469، مادّة (ز ك و).
(2) انظر: النهاية في غريب الحديث 2: 14.
(3) أي الإخصاب بكثرة العشب. راجع المصباح المنير: 569، مادّة (م ر ع) لسان العرب 8: 66.
(4) أي الغيوم المنذرة بالمطر. راجع أقرب الموارد 1: 314، مادّة (خ ى ل).
(5) النهاية في غريب الحديث 2: 272.(1/57)
ذكرنا ذلك مشروحا في مواضع من كتابنا في علوم القرآن.
25
(25) وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «قَدْ أَنَاخَتْ بِكُمُ الشُّرُفُ الْجُونُ» (1).
يعني: الفتن المتوقّعة. وهذا القول مجاز لأنّه عليه الصلاة والسلام شبّه الفتن بالنوق المسنّات لجلالة خطبها واستفحال أمرها، وجعلها جونا، وهي السود هاهنا لظلام منهجها، والتباس مخرجها. و «الشرف» جمع شارف، وهي الناقة المسنّة، وهم يشبّهون الحرب بها، قال: الكميت الأسدي يصف حربا:
مبسورة شارفا مصرّمة (2) ... محلوبها الصّاب (3) حين تحتلبه (4)
يقال: «بسرت الناقة» و «ابتسرت» إذا حمل عليها الفحل ولم تضبع (5).
وقد يجوز أن يكون الفائدة في تشبيه الفتن بالمسنّات من الإبل لأنّها أكره مناظر، وأقلّ منافع، كما شبّهوا الحرب بالمرأة العجوز، فقال بعضهم في أبيات:
شمطاء (6) عابسة (7) عقيما بطنها ... مكروهة للشمّ والتقبيل (8)
__________
(1) النهاية في غريب الحديث 2: 463، وفيه: «تخرج بكم الشرف الجون» كنز العمّال 11:
127: 30894، وفيه «أناخ».
(2) المصرّمة: الناقة التي قطعت حلمتا ضرعها، أو التي كوي ضرعها فانقطع لبنها. راجع أقرب الموارد 1: 646، مادّة (ص ر ي).
(3) الصاب: عصارة شجر مرّ. أقرب الموارد 1: 667، مادّة (ص وب).
(4) غريب الحديث لابن قتيبة 2: 268: 819.
(5) أي ولم تجامع. المصباح المنير: 51، مادّة (ب ض ع).
(6) أي خالط بياض رأسها سواد. أقرب الموارد 1: 611، مادّة (ش م ط).
(7) في نسخة ب: عانسة.
(8) ديوان معديكرب الزبيدي: 143.(1/58)
وقال بعض العلماء: «الشرف هاهنا: الفتن التي يستشرفها الناس لعظمها» والصحيح التأويل الأوّل.
وقد روي هذا الحديث بلفظ آخر رواه بعضهم: «الشرق الجون» (1)
بالقاف أي أمور عظام تأتي من قبل المشرق، وكلّ ما أتى من ناحية المشرق فهو شارق، «فشارق» و «شرق» ك «شارف» و «شرف».
والقول الأوّل أصحّ في النقل، وأشبه بطريقة القوم.
26
(26) وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي يَوْمِ حُنَيْنٍ لَمَّا رَأَى مُجْتَلَدَ الْقَوْمِ (2): «الْآنَ حَمِيَ الْوَطِيسُ» (3).
وهذه اللفظة الأغلب عليها أنّها من جملة الأمثال من كلامه عليه الصلاة والسلام، وقد شرطنا ألّا نذكر هاهنا ما تلك حاله، إلّا أنّ لها بعض الدخول (4) في باب الاستعارة، فلذلك رأينا الإيماء إليها، والتنبيه عليها.
فقوله عليه الصلاة والسلام: «الآن حمي الوطيس» وهو يعني حمس (5) الحرب، وعظم الخطب مجاز لأنّ «الوطيس» في كلامهم حفيرة تحتفر فيوقد فيها النار للاشتواء، وتجمع على «وطس» فإن احتفرت للاختبار فهي «إرة» وتجمع على «إرين» ولا وطيس هناك على
__________
(1) النهاية في غريب الحديث 2: 465، تاج العروس 23: 499.
(2) أي مقاومة الكفّار.
(3) مسند أحمد 1: 207، مجمع الزوائد 6: 180و 182، الدرّ المنثور 3: 226، تفسير نور الثقلين 2:
200، الإرشاد 1: 130، إعلام الورى: 115، مناقب ابن شهر آشوب 1: 181.
(4) أي الدخالة.
(5) أي شدّتها وصلابتها. أقرب الموارد 1: 230، مادّة (ح م س).(1/59)
الحقيقة، وإنّما المراد ما ذكرنا من حرّ القراع (1)، وشدّة المصاع (2)، والتفاف الأبطال، واختلاط الرجال، ومن هنا قالت العرب: «أوقدت نار الحرب بين آل فلان وآل فلان» وقال الله سبحانه مخرجا للكلام على مطارح لسانهم ومعارف أوضاعهم: {كُلَّمََا أَوْقَدُوا نََاراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللََّهُ} (3).
وتشبيه الحرب بالنار يكون من وجهين:
أحدهما: لحرّ مواقع السيوف، وكرب (4) ملابس الدروع، وحمي المعترك لشدّة العراك، وكثرة الحركات.
والوجه الآخر: أن يكون إنّما شبّهت بالنار لأنّها تأكل رجالها، وتفني أبطالها، كما تأكل النار شعلها (5)، وتحرق حطبها.
27
(27) وَمِنْ ذَلِكَ مَا رُوِيَ عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: أَنَّهُ قَالَ وَالْخَبَرُ مَطْعُونٌ فِي سَنَدِهِ: «تَرَوْنَ رَبَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَمَا تَرَوْنَ الْقَمَرَ لَيْلَةَ الْبَدْرِ لَا تُضَامُونَ فِي رُؤْيَتِهِ» (6).
وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى: «لَا تَضَارَّوْنَ فِي رُؤْيَتِهِ»
(7)، بالتشديد فيهما وفتح التاء.
__________
(1) أي المضاربة والاشتباك.
(2) أي المقاتلة والمجالدة. أقرب الموارد 2: 1218، مادّة (م ص ع).
(3) المائدة (5): 64.
(4) أي ضيق.
(5) أي فتيلتها.
(6) أمالي المرتضى 1: 29، مسند أحمد 4: 360، صحيح البخاري 1: 139، صحيح مسلم 2: 114، سنن ابن ماجة 1: 63، السنن الكبرى 1: 359، كنز العمّال 14: 447/ 39207، تنزيه الأنبياء:
178.
(7) مسند أحمد 2: 389.(1/60)
وعامّة المحدّثين يقولون: «تُضَارُونَ» و «تُضَامُونَ» بالتخفيف وضمّ التاء، كأنّه من الضير والضيم أي لا تختلفون في مطلعه، ولا تتمارون في رؤيته، فيضير بعضكم بعضا، أو يضيم بعضكم بعضا في دفعه عن ذلك، أو الاستئثار به عليه، والإدراك له دونه.
فأمّا من روى: «تَضَارَّوْنَ» و «تَضَامَّوْنَ» بفتح التاء والتشديد، فالضرار هاهنا راجع إلى معنى الضير هناك لأنّه من المضارّة، وهي المفاعلة بين الإثنين، فكأنّ الضرار وقع بينهما لأجل اختلافهما وتنازعهما، ومن قال: لا «تَضَامَّوْنَ» بالتشديد فمعناه: أنّكم ترون القمر رؤية جليّة لا تحتاجون معها إلى أن ينضمّ بعضكم إلى بعض طلبا لرؤيته، واستعانة على مشاهدته، فهو مأخوذ من «الانضمام» وهو الاجتماع للتقوّي على نظر الشيء البعيد، أو الخفيّ الضئيل.
وهذا الخبر كما قلنا مطعون في سنده، ولو صحّ نقله وسلّم أصله لكان مجازا، كغيره من المجازات التي تحتاج إلى أن تحمل على التأويلات الموافقة للعقل.
وبعد هذا، فهذا الخبر من أخبار الآحاد فيما من شأنه أن يكون معلوما، فغير جائز قبوله لأنّ كلّ واحد من المخبرين يجوز عليه الغلط فيما يخبر به، ويصحّ كونه كاذبا في نقله، ولا يجوز أن يقطع في ديننا على الشيء من وجه يجوز الغلط فيه لأنّا لا نأمن بالإقدام على اعتقاده من أن يكون جهلا، ولا نأمن من أن يكون إخبارنا عنه كذبا، وإنّما نعمل بأخبار الآحاد في فروع الدين وما يصحّ أن يتبع العمل به غالب الظنّ.
وممّا علّقته عن قاضي القضاة أبي الحسن عبد الجبّار بن أحمد عند بلوغي في القراءة عليه إلى الكلام في الرؤية: «إلى من شرط في قبول خبر الواحد أن يكون راويه عدلا، وراوي هذا الخبر قيس بن أبي حازم، عن جرير بن عبد الله البجلي، وكان منحرفا عن أمير المؤمنين عليّ عليه السّلام ويقال: إنّه كان من الخوارج، وذلك يقدح في عدالته، ويوجب تهمته في روايته (1).(1/61)
وبعد هذا، فهذا الخبر من أخبار الآحاد فيما من شأنه أن يكون معلوما، فغير جائز قبوله لأنّ كلّ واحد من المخبرين يجوز عليه الغلط فيما يخبر به، ويصحّ كونه كاذبا في نقله، ولا يجوز أن يقطع في ديننا على الشيء من وجه يجوز الغلط فيه لأنّا لا نأمن بالإقدام على اعتقاده من أن يكون جهلا، ولا نأمن من أن يكون إخبارنا عنه كذبا، وإنّما نعمل بأخبار الآحاد في فروع الدين وما يصحّ أن يتبع العمل به غالب الظنّ.
وممّا علّقته عن قاضي القضاة أبي الحسن عبد الجبّار بن أحمد عند بلوغي في القراءة عليه إلى الكلام في الرؤية: «إلى من شرط في قبول خبر الواحد أن يكون راويه عدلا، وراوي هذا الخبر قيس بن أبي حازم، عن جرير بن عبد الله البجلي، وكان منحرفا عن أمير المؤمنين عليّ عليه السّلام ويقال: إنّه كان من الخوارج، وذلك يقدح في عدالته، ويوجب تهمته في روايته (1).
وأيضا: فقد كان رمي في عقله قبل موته، وكان مع ذلك يكثر الرواية، فلا يعلم هل روى هذا الخبر في الحال التي كان فيها سالم التمييز، أو في الحال التي كان فيها فاسد المعقول؟ وكلّ ذلك يمنع من قبول خبره، ويوجب اطراح روايته».
وأقول أنا: ومن شرط قبول خبر الواحد أيضا مع ما ذكره قاضي القضاة من اعتبار كون راويه عدلا أن يعرى الخبر المروي من نكير السلف، وقد نقل نكير جماعة من السلف على راوي هذا الخبر، منهم
الْعِرْبَاضُ بْنُ سَارِيَةَ السُّلَمِيُّ، وَهُوَ مِنْ مُخْتَصِّي الصَّحَابَةِ، رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ قَالَ: إِنَّ مُحَمَّداً رَأَى رَبَّهُ، فَقَدْ كَذَبَ»
(2).
وَرُوِيَ أَيْضاً عَنْ بَعْضِ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهَا قَالَتْ:
«مَنْ زَعَمَ أَنَّ مُحَمَّداً رَأَى رَبَّهُ فَقَدْ أَعْظَمَ الْفِرْيَةَ عَلَى اللَّهِ»
(3). وقالت ذلك
__________
(1) انظر: تاريخ بغداد 12: 452، اسد الغابة 4: 211، تهذيب التهذيب 2: 73.
(2) مسند أحمد 6: 49، صحيح البخاري 6: 50وفيهما: من حدثكهنّ.
(3) صحيح مسلم 1: 110، سنن الترمذي 4: 328: 5063، روي فيهما عن عائشة.(1/62)
عند ذهاب بعض الناس إلى أنّ قوله تعالى: {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى ََ} (1)، إنّما اريد بها رؤية الله سبحانه، لا رؤية جبرائيل عليه السّلام كما يقوله أهل العدل (2).
وأيضا: ففي هذا الخبر كان التشبيه لأنّه قال: «ترونه كما ترون القمر» الذي هو في جهة مخصوصة، وعلى صفة معلومة. وإذا كان الأمر كما قلنا لم يكن للخبر ظاهر، واحتجنا إلى تأوّله كما احتجنا إلى ذلك في غيره.
وقد يجوز أن نحمله على ما حملنا عليه الآية وهي قوله تعالى:
{وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نََاضِرَةٌ. إِلى ََ رَبِّهََا نََاظِرَةٌ} (3)، لأنّا نقول: إنّ في الكلام إسقاط مضاف، كأنّه تعالى قال: إلى ثواب ربّها ناظرة، فكذلك هذا الخبر قد يجوز أن يكون المراد به: أنّكم ترون أشراط يوم المعاد، وما وعد الله به وأوعد من الثواب والعقاب، كما ترون القمر ليلة البدر، يريد في البيان والظهور والإصحار (4) للعيون.
ولو كان هذا الخبر صحيح الأصل واضح النقل، لكان عندنا محمولا على العلم لأنّ إطلاق لفظ «رؤية» بمعنى العلم في الكلام مشهور، والاستشهاد على ذلك كثير، وهذا موضع المجاز الذي يختصّ ذكره بكتابنا هذا.
__________
(1) النجم (53): 13.
(2) هذا إشارة إلى قول القاضي عبد الجبّار في كتابه في مسألة رؤية الربّ مرّة بعد اخرى، لاحظ: تنزيه القرآن: 405.
(3) القيامة (75): 2221.
(4) يقال: أصحر الأمر إذا أظهره. أقرب الموارد 1: 634، مادّة (ص ح ر).(1/63)
وأمّا اعتراض المخالفين على هذا التأويل: «بأنّ النبيّ عليه الصلاة والسلام، أخرج هذا الكلام مخرج البشارة لأصحابه، ولا يجوز أن يبشّرهم بمعنى كان حاصلا لهم في الدنيا وهو العلم بالله سبحانه علم استدلال تعترضه الشكوك، وتعتوره الشبه والظنون، ويحتاج العالم في حلّ عقود تلك الشبه إلى كلف ومشاقّ، تتعب الخواطر، وتعنّي الناظر، فبشّرهم عليه الصلاة والسلام بأنّ ذلك يزول في الآخرة، فيكون علمهم بالله سبحانه اضطرارا غير مشوب بكلفة، ولا معقود بمشقّة».
وهذا كقول القائل منّا إذا أراد أن يخبر عن شدّة تحقّقه للشيء: «أنا أعلم هذا الأمر كما أرى هذه الشمس»، وقوله من بعد: «لا يضامون في رؤيته» أو «لا يضارون» بالتخفيف والتشديد على الخلاف الذي قدّمنا ذكره مقوّ للتأويل الذي تأوّلناه من معنى العلم الذي لا شبهة فيه، ولا شكّ يعتريه.
والصحيح أن يكون الضمير في قوله: «لا تضامون في رؤيته» راجعا إلى القمر، لا إلى الله سبحانه وتعالى، كأنّه قال: تعلمون ربّكم كما ترون القمر لا تضامون في رؤيته، أي في رؤية القمر.
وقد يجوز أيضا أن يكون الضمير راجعا إلى الله سبحانه، ويكون بمعنى العلم، كأنّه قال: تعلمون ربّكم كما ترون القمر لا تضامون في علمه، أي في علم ربّكم.
28
(28) وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «أُنْزِلَ الْقُرْآنُ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ
لِكُلِّ آيَةٍ ظَهْرٌ وَبَطْنٌ» (1).(1/64)
(28) وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «أُنْزِلَ الْقُرْآنُ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ
لِكُلِّ آيَةٍ ظَهْرٌ وَبَطْنٌ» (1).
وهذا القول مجاز لأنّه لا ظهر للآية ولا بطن على الحقيقة، وإنّما المراد أنّ لها فحوى وظاهرا، وسرّا وباطنا، ف «الظهر» هاهنا بمعنى الظاهر، و «البطن» بمعنى الباطن. وهذا القول ينصرف إلى الآي المتشابهة دون الآيات المحكمة لأنّ المتشابهة هي التي لا ظهر لها، والمحكمة هي التي لا بطن لها، والمتشابهة هي التي يستعمل فيها النظر، ويعمل فيها الفكر، ويتفاضل العلماء في استفتاح مبهمها، واستنطاق معجمها (2).
29
(29) وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «الْخَيْلُ مَعْقُودٌ بِنَوَاصِيهَا (3)
الْخَيْرُ» (4).
وهذا القول مجاز لأنّ الخير في الحقيقة ليس يصحّ أن تعقد به نواصي الخيل، وإنّما المراد أنّ الخير كثيرا ما يدرك بها، ويوصل إليه عليها، فهي كالوسائل إلى بلوغه، والأرشية (5) إلى قليبه، فكأنّه معقود
__________
(1) صحيح ابن حبان 1: 243، شرح السنة 1: 263، تفسير القمّي 1: 409، مناقب ابن شهر آشوب 1:
321، مجمع الزوائد 7: 152.
(2) أي غامضها.
(3) النواصي: جمع ناصية، وهي مقدّم الرأس. راجع المصباح المنير: 609، مادّة (ن ص و).
(4) الكافي 5: 48: 2، دعائم الاسلام 1: 345، الفقيه 2: 283: 2459، سنن النسائي 6: 215، وفيه:
«في نواصيها»، مسند أحمد 2: 57و 3: 39، سنن الدارمي 2: 212، صحيح مسلم 6: 32، مجمع الزوائد 5: 258، كنز العمّال 12: 325: 35228.
(5) الأرشية: جمع رشاء، وهو الحبل، والقليب: البئر. أقرب الموارد 1: 407، مادّة (ر ش و) و 2:
1028، مادّة (ق ل ب).(1/65)
بنواصيها لشدّة ملازمته لها، وكثرة انتهاز (1) فرصه بها لأنّهم عليها يدركون الطوائل (2)، ويحبّون المغانم، ويفوقون الأعداء، ويبلغون العلياء.
وممّا يقوّي ذلك ما روي من تمام هذا الخبر وهو
قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «الْخَيْلُ مَعْقُودٌ بِنَوَاصِيهَا الْخَيْرُ الْأَجْرُ وَالْغَنِيمَةُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ» (3).
وفي هذا الكلام حثّ على ارتباط الخيل (4) لما في ذلك من الغنم العاجل، والأجر الآجل: فأمّا الغنم فما يدرك بها من الأسلاب (5)
والأنفال، وأمّا الأجر فعلى ما يدفع بها من أعداء الإسلام وأشياع الضلال، وكلا الأمرين خير تنحوه الطلبات، وتتعلق به الرغبات.
30
(30) وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «لَا تَسْأَلِ الْمَرْأَةُ طَلَاقَ أُخْتِهَا لِتَكْتَفِئَ مَا فِي إِنَائِهَا» (6).
وفي هذا الكلام استعارة لأنّه عليه الصلاة والسلام أراد: أنّ المرأة لا ينبغي لها أن تطلب طلاق أختها لتتّصل بالزوج الذي كان لها طالبا لأن
__________
(1) انتهزتها: اغتنمتها، الصحاح 3: 900، النهاية في غريب الحديث 5: 135، لسان العرب 5: 421.
(2) الطوائل: جمع طائل وطائلة، وهو الغنى والسعة. راجع أقرب الموارد 7231، مادّة (ط ول).
(3) مسند أحمد 4: 361، 375، 376، وفيه «المغنم» بدل «الغنيمة»، صحيح مسلم 6: 32، كنز العمّال 12: 327/ 35245، البحار: 64: 180/ 40نقلا عن حياة الحيوان.
(4) أي المحافظة عليها، وفي المثل «استكرمت فارتبط» أي وجدت فرع كريما فاحفظه. راجع أقرب الموارد 1: 384، مادّة (ر ب ط).
(5) الأسلاب: جمع سلب أي ما يسلب من القتيل.
(6) صحيح البخاري 3: 24، صحيح مسلم 4: 136، وفيه: «صفحتها» بدل «ما في إنائها» الموطأ 2:
683، سنن النسائي 7: 258، السنن الكبرى 5: 344.(1/66)
تجرّ حظّها إليها، وتستبدّ بالنفع عليها، فتكون كأنّها اكتفأت ما في إنائها أي أمالت الإناء إلى نفسها، فقلبته لتستفرغ ما فيه، وتستأثر عليها به، يقال: «كفأت الإناء» إذا كببته، و «اكتفأته» إذا شربت ما فيه أجمع، أوأكلت ما فيه أجمع.
31
(31) وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ لِمِيسَمِهَا» (1).
وهذا القول مجاز لأنّه لا مِيسَمَ هناك. ولا يبعد أن يكون هذا الكلام داخلا في حيّز الحقيقة، ويكون «المِيسَم» مفعلا من «الوسامة» يقال:
«وسمت المرأة وسامة، وإنّها ذات ميسم وجمال».
وهذا القول مجاز لأنّه لا ميسم هناك على الحقيقة، وإنّما أراد عليه الصلاة والسلام أنّها تنكح لأثر الجمال الظاهر عليها. وجعل الجمال ميسما لها مبالغة في وصفه بالعلوق بها، والظهور على وجهها، كما يشهر أثر الميسم الذي تكوى به الإبل، فلا يذهب بذهاب الجلد الذي أثّر فيه وعلق به، ويقولون في أمثالهم: «يبقى بقاء الوسم» إذا وصفوا الأمر بالخلود والدوام، والبقاء على الأيّام.
32
(32) وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «الْإِسْلَامُ يَجُبُّ مَا قَبْلَهُ» (2).
وهذا القول مجاز لأنّ أصل الجبّ: هو اختزال (3) السنام من أصله،
__________
(1) غريب الحديث للهروي 1: 258، عن أبي عبيد.
(2) مسند أحمد 4: 199، وفيه «ما كان قبله»، مجمع الزوائد 9: 351، الفتح الكبير 1: 507، كنز العمّال 11: 751/ 33664، الايضاح: 506، عوالي اللآلي 2: 54/ 145و 224/ 38، وجاء في بعض المصادر ما يشبهه، مثل: «الاسلام يهدم ما كان قبله».
(3) أي اقتطاع. المصباح المنير: 168، مادّة (خ ز ل).(1/67)
فكأنّه عليه الصلاة والسلام جعل الإسلام مستأصلا لكلّ ذنب تقدّم للإنسان قبله حتّى لا يدع له جناية يحذر عاقبتها، ولا معرّة (1) يسوء الحديث عنها، بل يعفّي (2) على ما تقدّم من السوءات، ويحثو على ما ظهر من العورات.
33
(33) وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي وَصِيَّتِهِ لِأُمَرَاءِ الْجَيْشِ الَّذِي بَعَثَهُ إِلَى مُؤْتَةَ: «وَسَتَجِدُونَ آخَرِينَ لِلشَّيْطَانِ فِي رُءوسِهِمْ مَفَاحِصُ، فَاقْلَعُوهَا بِالسُّيُوفِ» (3).
وهذه من الاستعارات العجيبة والمجازات اللطيفة وذلك أنّ من كلام العرب أن يقول القائل منهم إذا أراد أن يصف إنسانا بشدّة الارتكاس في غيّه (4) والارتكاس في عنان بغيه: «قد فرّخ الشيطان في رأسه» أو «قد عشّش الشيطان في قلبه» فذهب عليه الصلاة والسلام إلى ذلك الوضع، وبنى على ذلك الأصل، فقال «للشيطان في رؤوسهم مفاحص» و «المفحص» في الأصل: الموضع الذي تبحثه (5) القطاة لتجثم عليه أو لتبيض فيه، وإنّما قيل له: «مفحص» لأنّها لا تجثم فيه إلّا بعد أن تفحص (6) التراب عنه توطئة لمجثمها، وتمهيدا لجسمها، ويقال: «ما
__________
(1) أي مساءة وإثما. المصباح المنير: 2401مادّة (ع ر ر).
(2) أي يصلح بعد الفساد. أقرب الموارد 2: 804، مادّة (ع ف و).
(3) الموطأ 2: 447مع اختلاف، النهاية في غريب الحديث 3: 415، عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم حين أوصى امراء جيش مؤتة، السنن الكبرى: 9: 91.
(4) الغيّ: الضلال والخيبة، الصحاح 6: 2450، لسان العرب 15: 140.
(5) أي تحفره. المصباح المنير: 36، مادّة (ب ح ث). في نسخة ب: تجنّه، وهو من سهو النسّاخ.
(6) أي تكشفه وتنحّيه. أقرب الموارد 2: 905، مادّة (ف ح ص).(1/68)
بقي لفلان مفحص قطاة» إذا لم يبق له ربع (1) يؤويه، ولا جرئ (2) يكون فيه.
فيحتمل قوله عليه الصلاة والسلام: «للشيطان في رؤوسهم مفاحص» أحد معنيين:
أحدهما: أن يكون أراد أنّ الشيطان قد بدا يختدعهم ويغرّهم، ويستهويهم ويضلّهم، ولم يبلغ بعد من ذلك غايته، ولا استوعب خديعته، كالقطاة التي بدأت باتخاذ المفحص لتبيض فيه، وترتّب فراخها فيه.
والمعنى الآخر: أن يكون أراد أنّ الشيطان قد استوطن رؤوسهم، فجعلها له مقيلا (3) ومبركا، وملعبا ومتمعّكا (4)، كما تتّخذ القطاة مفحصا لتأوي إليه، وتستجنّ فيه.
34
(34) وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «أَجِدُ نَفَسَ رَبِّكُمْ مِنْ قِبَلِ الْيَمَنِ» (5).
وهذا القول مجاز لأنّه عليه الصلاة والسلام أراد أنّ غوث الله ونصره، يأتيان من قبل اليمن يعني القبيلة لا البلدة، والقبيلة هم الأنصار الذين نفّس الله بهم خناق الدين، وكشف بأيديهم كرب المؤمنين. ومن
__________
(1) أي محلّة ومنزل. المصباح المنير: 216، مادّة (ر ب ع).
(2) الجريئة وزان خطيئة: بيت يصطاد فيه السباع. أقرب الموارد 1: 111، مادّة (ج ر أ).
(3) أي موضعا لقيلوته. أقرب الموارد 2: 1058، مادّة (ق ى ل).
(4) أي محلّا لتمرّغه.
(5) مسند أحمد 2: 541، غريب الحديث لابن قتيبة 1: 84/ 21، مجمع الزوائد 10: 56، تفسير نور الثقلين 5: 691، معجم مقابيس اللغة 1: 460.(1/69)
كلامهم: «أنت في نفس من أمرك» أي في متّسع طويل، ومضطرب عريض، ويقول القائل: «اللهم نفّس عنّي» أي فرّج كربي، واكشف همّي.
وممّا يقوّي هذا التأويل الحديثان المرويّان عنه عليه الصلاة والسلام في مثل هذا المعنى:
وأحدهما:
قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «لَا تَسُبُّوا الرِّيحَ فَإِنَّهَا مِنْ نَفَسِ الرَّحْمَانِ» (1)
، يريد أنّه تعالى يفرّج بها الكروب، ويطرد بها الجدوب (2).
والحديث الآخر:
قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «الرِّيحُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ (3)» (4)
، فقوله عليه الصلاة والسلام: «من روح الله» كقوله: «من نفس الرحمان»، والمعنيان متقاربان.
35
(35) وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «الْحُمَّى رَائِدُ الْمَوْتِ، وَهِيَ سِجْنُ اللَّهِ فِي الْأَرْضِ يَحْبِسُ بِهَا عَبْدَهُ إِذَا شَاءَ، وَيُرْسِلُهُ إِذَا شَاءَ»
(5).
وفي هذا الكلام استعارتان عجيبتان:
إحداهما: قوله عليه الصلاة والسلام: «الحمّى رائد الموت» تشبيها
__________
(1) النهاية في غريب الحديث 5: 94، مستدرك الحاكم 2: 272، الدرّ المنثور 1: 164، عوالي اللالي 1: 51/ 73.
(2) الجدوب: جمع جدب، وهو انقطاع المطر ويبس الأرض. أقرب الموارد 1: 105، مادّة (ج د ب).
(3) أي من رحمة الله. تاج العروس 4: 59، مادّة (ر وح).
(4) مسند أحمد 2: 268، سنن أبي داود 2: 498/ 5097، كنز العمّال 3: 601/ 8113، مستدرك الحاكم 4: 285، السنن الكبرى 3: 361، الدرّ المنثور 1: 165.
(5) الكافي 3: 111/ 3عن أبي عبد الله عليه السّلام، مسند الشهاب 1: 69، كشف الخفاء 1: 439، التمحيص 43: 50، الخصال: 62، مجمع الزوائد 5: 95، كنز العمّال 3: 319/ 6744.(1/70)
لها برائد الحيّ الذي يتقدّمهم، فيرتاد (1) لهم مساقط السحاب ومنابت الأعشاب، فيكون ارتحالهم على خبره، واستنامتهم (2) إلى نظره،
ومِنْهُ الْحَدِيثُ: «الرَّائِدُ لَا يَكْذِبُ أَهْلَهُ»
(3)، فكأنّه عليه الصلاة والسلام جعل الحمّى مقدّمة للموت، وطليعة للحتف.
والاستعارة الاخرى: قوله عليه الصلاة والسلام: «وهي سجن الله في الأرض يحبس بها عبده إذا شاء، ويرسله إذا شاء» فكأنّه عليه الصلاة والسلام شبّهها بالسجن من حيث منعت صاحبها من التصرّف والاضطراب، وغفّلته عن قضاء الآراب (4)، فكان أسيرها حتّى تطلقه، ورقيقها حتّى تعتقه.
ومثل ذلك الحديث الآخر وهو
قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «الدُّنْيَا سِجْنُ الْمُؤْمِنِ، وَجَنَّةُ الْكَافِرِ»
(5).
لأنّه عليه الصلاة والسلام شبّه الدنيا بالسجن للمؤمن من حيث قصّر
__________
(1) أي يطلب. المصباح المنير: 245، مادّة (ر ود).
(2) أي استكانتهم. أقرب الموارد 2: 1362، مادّة (ن وم).
(3) حلية الابرار 1: 71، الدرجات الرفيعة: 317، البداية والنهاية 7: 340و 8: 181، الاعتقادات:
64، روضة الواعظين: 53.
(4) أي الحاجات.
(5) دعائم الاسلام 1: 47، الفقيه 4: 363، التمحيص: 48، الاعتقادات: 31، معاني الاخبار: 289ح 3، تحف العقول: 53، مسند أحمد 2: 323، 389، 485، صحيح مسلم 8: 210، سنن ابن ماجة 2:
1378/ 4113، سنن الترمذي 3: 384/ 2426، مجمع الزوائد 10: 289، كنز العمّال 3:
185/ 6081.(1/71)
فيها خطوه عن اللذات، وكبح لجامه (1) عن الشهوات، وحصر نفسه عن التسرّع إلى ما تدعو إليه الدواعي المخزية، والأهواء المردية، وكان زمام نفسه وخطامها (2)، وهاديها وإمامها، خائفا خوف الجاني المرعوب، والطريد المطلوب، في عصبة عملوا للمعاد، وفطنوا للزاد، تحسبهم من طول سجودهم أمواتا، ومن طول قيامهم نباتا.
ومن أحسن ما سمعته في هذا المعنى: «أنّ بعض الزهّاد المنقطعين طلب القوت من بعض الراغبين المفتونين، فقيل له في ذلك (3) فقال: أنا مسجون وهو مطلق، وهل يأكل المسجون إلّا من يد المطلق؟!».
وشبّهها عليه الصلاة والسلام بالجنّة للكافر من حيث استوعب فيها شهواته، واستفرغ لذّاته، وقضى فيها الأوطار، وتعجّل المسار، واستهواه عاجل حطامها، وريّق جمامها (4)، فنسي العاقبة، واستهان بالمغبّة (5)، فكان ميّت الأحياء، كما كان المؤمن حىّ الأموات.
ولي في بعض كتبي فصل، وهو لائق بهذا الموضع وذلك قولي:
«فالحمد لله الذي جعل أهل طاعته أحياء في مماتهم، كما جعل أهل معصيته أمواتا في حياتهم».
__________
(1) أي منع نفسه.
(2) الخطام: كلّ ما وضع في أنف البعير أو عنقه ليقتاد به. أقرب الموارد 1: 287، مادّة (خ ط م).
(3) أي عوتب على طلبه.
(4) الريّق: الأفضل، والجمام: الراجة. أقرب الموارد 1: 140، مادّة (ج م م) و 1: 448، مادّة (ر وق).
(5) المغبّة والعاقبة سيّان. راجع المصباح المنير: 442، مادّة (غ ب ب).(1/72)
36
(36) وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «كَيْفَ أَنْتُمْ إِذَا مَرِجَ الدِّينُ!»
(1)
في حديث طويل.
وفي هذا القول مجاز لأنّ أصل قولهم: «مرج الشيء» مأخوذ من القلق والاضطراب، والمجيء والذهاب، يقال: «مرج الخاتم في الإصبع» إذا قلق وتحرّك، فكأنّه عليه الصلاة والسلام وصف دين الناس على ذلك العهد بالتكفّي (2) والمرجان، واضطراب الأركان. والمراد بذلك اضطراب أهل الدين فيه، وقلّة ثباتهم عليه، قال الشاعر:
مرج الدّين فأعددت له ... مشرف الحارك (3) محبوك الكبد (4)
ومثل هذا الحديث الحديث الآخر وهو
قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو: «كَيْفَ أَنْتَ إِذَا بَقِيتَ فِي حُثَالَةٍ مِنَ النَّاسِ قَدْ مَرِجَتْ عُهُودُهُمْ وَأَمَانَاتُهُمْ!»
(5).
أي لا يستقرّون على عهد، ولا يقيمون على عقد، يصفهم عليه الصلاة والسلام بقلّة الثبات، وكثرة الانتقالات، والمراد أصحاب الأمانات والعهود وإن كان ظاهر اللفظ يتناولها، وصريح الكلام يتعلّق بها، وذلك
__________
(1) مسند أحمد: 6/ 333، مجمع الزوائد: 1/ 320، كنز العمّال: 11/ 25/ 31418.
(2) يقال: تكفّأت المرأة في مشيتها تكفّؤا: إذا اضطربت ومادت في مشيتها. راجع أقرب الموارد 2:
1090، مادّة (ك ف أ).
(3) الحارك: أعلى الكاهل، والمشرف: العالى.
(4) الأغاني 16: 373، إصلاح المنطق: 347، الصحاح 1: 341، في بعض النسخ الكتد، والكتد:
موصل العنق في الظهر.
(5) مسند أحمد 2: 162، السنن الكبرى 8: 165، مجمع الزوائد 7: 239، كنز العمّال 11:
182/ 31140، 212/ 31270.(1/73)
أيضا من جملة المجازات المقصود بيانها في هذا الكتاب.
و «الحُثَالَة»: الرديء من كلّ شيء، وأصله ما يتهافت من قشارة التمر والشعير، يقال: «حثالة» و «جفالة» و «حفالة» و «جثالة»، فشبّه عليه الصلاة والسلام بذلك الرّذال الباقين من الخيار الذاهبين، وهذا أيضا داخل في باب المجاز.
37
(37) وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَقَدْ خَرَجَ ذَاتَ يَوْمٍ مُحْتَضِناً أَحَدَ ابْنَيْهِ الْحَسَنِ وَالْحُسَيْنِ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ: «لَتُجَبَّنُونَ وَتُبَخَّلُونَ وَتُجَهَّلُونَ، وَإِنَّكُمْ لَمِنْ رَيْحَانِ اللَّهِ، وَإِنَّ آخِرَ وَطْأَةٍ وَطِئَهَا اللَّهُ بِوَجٍّ»
(1)، في كلام طويل.
وفي هذا الكلام مجازان:
أحدهما: قوله عليه الصلاة والسلام: «وإنّكم لمن ريحان الله» وللريحان هاهنا وجهان: أحدهما يكون الكلام به استعارة، والآخر يكون به حقيقة.
فأمّا الوجه الذي يكون به حقيقة: فهو أن يكون الريحان بمعنى الرزق، وقد قيل: «إنّه الرزق الذي يؤكل خصوصا» ومن كلامهم:
«خرجنا نطلب ريحان الله» أي رزق الله، والولد من رزق الله سبحانه، فصار الكلام حقيقة (2).
وأمّا الوجه الذي يكون به استعارة: فهو أن يكون «الريحان» هاهنا
__________
(1) مسند أحمد 6: 409، سنن الترمذي 3: 212/ 1975، مجمع الزوائد 10: 54، كنز العمّال 16:
289/ 44518، مناقب ابن شهر آشوب 3: 154، ذخائر العقبى: 124.
(2) في نسخة ب: به حقيقة.(1/74)
يريد به النبت المخصوص الذي يستطاب للشميم، فجعل الولد بمنزلته لأنّه يستلذّ شمّ ريحه، ويستروح إلى استنشاق عرفه (1)، وعادة الناس معروفة في شمّ الولد وضمّه. وأصل «الريحان» مأخوذ من الشيء الذي يستروح إليه، ويتنفّس من الكرب به، وعلى ذلك قول الشاعر:
سلام الإله وريحانه ... ورحمته وسماء درر (2)
وأصله من الواو، كأنّه مأخوذ من «الروح».
والمجاز الآخر: قوله عليه الصلاة والسلام: «وإنّ آخر وطأة وطئها الله بوجّ» (3) وأصحّ ما قاله العلماء في تأويل هذا الخبر: «أنّ فيه مضافا محذوفا، تقديره أن يكون: وأنّ آخر وطأة وطئها جند الله أو رسول الله
بوجّ، ووجّ: جبل بالطائف».
وهذا كما نقوله في قوله تعالى: {الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللََّهَ وَ} رَسُولَهُ (4) أي يؤذون أولياء الله وأصفياء الله، لأنّ حقيقة الأذى لا يصحّ على الله سبحانه.
والمراد بذكر الوطأة بوجّ: أنّ آخر إيقاع الله سبحانه بالمشركين على أيدي المؤمنين بوجّ، ولذلك
قَالَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ: «آخِرُ غَزَاةٍ غَزَاهَا رَسُولُ اللَّهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ الطَّائِفُ»
يريد أنّه لم يغز بعدها غزاة فيها
__________
(1) أي رائحة الطيّبة، العرف: الرّيح طيّبة كانت أو منتنة (الصحاح 4/ 1400).
(2) الأغاني 22: 272، شعراء إسلاميون: 345، والدرر: جمع درّة، يقال: «للسماء درّة» أي صبّ.
راجع أقرب الموارد 1: 328، مادّة (د ر ر).
(3) وجّ: وادي من بلاد ثقيف بينها وبين مكّة اثنا عشر فرسخا وهو الطائف. انظر: معجم البلدان ذيل كلمة «طائف ووجّ».
(4) الأحزاب (33): 57.(1/75)
قتال لأنّ مخرجه عليه الصلاة والسلام إلى تبوك من بعد لم يلق فيه كيدا، ولم يقابل أحدا (1)، والعرب تكنّي عن الوقيعة أو الحال الشديدة «بالوطأة» يقولون: «وطئ آل فلان آل فلان في يوم كذا وفي مكان كذا وطأ شديدا».
ومنه ما حكي عن أبي سفيان بن حرب: «أنّه خرج يوما بعد وفاة النبيّ عليه الصلاة والسلام إلى ظاهر المدينة، فلمّا نظر إلى احد قال: لقد وطئنا محمّدا وأصحابه هاهنا وطأ شديدا».
ومن ذلك
قَوْلُ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «اللَّهُمَّ اشْدُدْ وَطْأَتَكَ عَلَى مُضَرَ»
(2).
أي أصبهم بالشدائد، واقرعهم بالقوارع (3).
ومنه قول الشاعر:
ووطئتنا وطأ على حنق ... وطأ المقيّد نابت الهرم (4)
وإنّما قال: «المقيّد» لأنّ وطأه أشدّ، واعتماده أثقل.
وقال الآخر:
__________
(1) انظر: السيرة النبوية لابن هشام 2: 515.
(2) سنن النسائي 2: 201، مسند أحمد 2: 255، سنن الدارمي 1: 374، صحيح البخاري 1: 195، صحيح مسلم 2: 134، سنن ابن ماجة 1: 394/ 1244، سنن أبي داود 1: 325/ 1442، السنن الكبرى 2: 198، مجمع الزوائد 2: 138، كنز العمّال 8: 83/ 21997، تفسير الامام العسكري:
420.
(3) أي الدواهي والنزائل الشديدة.
(4) العين 4: 50، عن زهير، النهاية في غريب الحديث 5: 200، لسان العرب 12: 607، ووطئتنا:
دستنا، حنق: حقد، الهرم: ضرب من النبات فيه ملوحة، مفرده هرمة.(1/76)
وطئنا تميما (1) وطأة المتشاغل (2)
وقوله عليه الصلاة والسلام في أوّل الحديث: «إنّكم لتجبّنون وتبخّلون وتجهّلون». يريد به إنّكم لتجبّن الناس آباءكم وتبخّلهم وتجهّلهم، فأضاف هذه الأحوال إلى الأبناء إذ كانوا شبها للآباء، وهذا أيضا مجاز ثالث في الخبر الذي كلامنا عليه.
38
(38) وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «لَوْ يَعْلَمُونَ مَا يَكُونُ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ مِنَ الْجُوعِ الْأَغْبَرِ، وَمِنَ الْمَوْتِ الْأَحْمَرِ» (3).
وهاتان الاستعارتان من أحسن الاستعارات لأنّ الجوع أبدا إنّما كان يلحق العرب في اللّأواء (4) والأزمات والسنين المجدبات، وتلك السنون تسمّى «غبرا» لاغبرار آفاقها من قلّة الأمطار، وأراضيها من عدم النبات والأعشاب، ويقولون: «هذه حجج (5) غبر» إذا كانت كذلك، ألا ترى إلى قول الشاعر:
أغرّ يباري الريح في كلّ شتوة
إذا اغبرّ أقدام الرجال من المحل (6)
وقيل: «عام الرمادة» لهذا المعنى على أحد القولين.
__________
(1) في نسخة ب: قعينا.
(2) انظر: الأنوار في محاسن الأشعار: 239، صدره: ألم يأت أحياء الأراقم أنّنا.
(3) النهاية في غريب الحديث 3: 337، عن أبي هريرة، وفيه: «لو تعلمون».
(4) أي الشدّة والمحنة. أقرب الموارد 2: 1122، مادّة (ل أى).
(5) أي سنين.
(6) فرس أغرّ: أي في جبهته بياض قدر الدرهم، يباري الريح: يعارضها ويفعل مثل فعلها، شتوة: ستاء، المحل: الجفاف وقلّة الأمطار.(1/77)
والقول الآخر: أنّه إنّما سمّي بذلك لهلاك الناس فيه، مأخوذ من «الرمد» وهو الهلاك (1)، قال الشاعر:
صببت عليهم حاصبي فتركتهم ... كأصرام عاد حين جلّلها الرّمد (2)
أي الهلاك. والاستعارة الاخرى قوله: عليه الصلاة والسلام:
«والموت الأحمر» وهذه طريقة للعرب في وصف اليوم العماس (3)، واشتداد البأس بالحمرة، فكما يقولون: «يوم أحمر» كذلك يقولون:
«موت أحمر» قال الشاعر في صفة الأسد:
إذا علقت أظفاره في فريسة
رأى الموت في عينيه أحمر أسودا (4)
وقد يجوز أن يكونوا إنّما وصفوا يوم الحرب بالحمرة لاحمرار أرضه وسلاحه بأسابيّ النجيع (5)، والعلق الصبيب (6)، لكثرة الجراح التي يحمرّ من نضحها معارف الأبدان (7)، وسرابيل الأقران، وإذا ساغ هذا في صفة اليوم ساغ مثله في صفة الموت.
__________
(1) تأريخ الإسلام للذهبي 3: 165، تاج العروس 8: 117.
(2) الأغاني 12: 239، إصلاح المنطق: 178، الصحاح 2: 477، عن أبي وجزة حاصبي: ريحي الشديدة التي تحمل التراب والحصباء، أصرام عاد: جماعتهم.
(3) أي اليوم ذي: الحرب الشديدة، راجع الصحاح 3: 952، مادّة (ع م س).
(4) شعراء إسلاميون 619، وفيه: إذا علقت قرنا خطاطيف كفّه.
(5) الأسابي: جمع إسباءه، وهي طرائق الدماء، والنّجيع: دم الجوف. أقرب الموارد 1: 493، مادّة (س ب ي) و 2: 1275، مادّة (ن ج ع).
(6) أي الدم المصبوب المراق.
(7) أي ما تعرف به الأبدان فهي الوجوه.(1/78)
39
(39) وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِأَزْوَاجِهِ: «أَسْرَعُكُنَّ لِحَاقاً بِي أَطْوَلُكُنَّ يَداً» (1).
والحديث أنّهنّ لمّا سمعن منه عليه الصلاة والسلام هذا القول، جعلن يتذارعن (2) ينظرن أيّهنّ أطول يدا، إلى أن توفّيت زينب بنت جحش بن رياب الأسدي أوّل من توفّي منهن، وكانت كثيرة المعروف، فعلمن حينئذ أنّه عليه الصلاة والسلام إنّما أراد بطول اليد، كثيرة البرّ، وبذل الوفر. وكنايته عليه الصلاة والسلام عن هذا المعنى بطول اليد مجاز واتساع لأنّ الأغلب أن يكون ما يعطيه الإنسان غيره من الرفد والبرّ أن يعطيه ذلك بيده، فسمّي النيل باسم «اليد» إذ كان في الأكثر إنّما يكون مدفوعا بها، ومجتازا عليها، وقد أشرنا إلى هذا المعنى فيما تقدّم.
ومثل ذلك
قَوْلُ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «مَنْ يُعْطَ بِالْيَدِ الْقَصِيرَةِ يُعْطَ بِالْيَدِ الطَّوِيلَةِ» (3).
ومعنى هذا القول: أنّ من يبذل خير الدنيا يجزه الله خير الآخرة، وكنّى عليه السّلام عمّا يبذل من نفع الدنيا باليد القصيرة لقلّته في جنب نفع الآخرة، لأنّ ذلك زائل ماض، وهذا مقيم باق، وقد ذكرنا ذلك في كتابنا الموسوم ب «نهج البلاغة».
وقد جمعوا «اليد» التي هي الجارحة على «أيد» و «أياد» وهو
__________
(1) صحيح البخاري 3: 226، صحيح مسلم 7: 144، سنن النسائي 5: 66، مستدرك الحاكم 4: 25، مجمع الزوائد 8: 289.
(2) أي يقسن أيديهنّ.
(3) نهج البلاغة 4: 51/ 232، البحار 96: 132/ 66.(1/79)
شاذّ فيها، كما جمعوا «اليد» التي هي العطية على «أياد» و «أيد» وهو شاذّ فيها. وقد جاء أيضا في جمعها «يديّ» أنشدنا شيخنا أبو الفتح عثمان بن جنّي، وأبو الحسن عليّ بن عيسى الربعي وأظنّه من أبيات «الكتاب»:
ولن أذكر النّعمان إلّا بصالح ... فإنّ له عندي يديّا وأنعما (1)
40
(40) وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «مَاتَ حَتْفَ أَنْفِهِ» (2).
وذلك مجاز لأنّه جعل الحتف لأنفه خاصّا، وهو في الحقيقة له عامّا لأنّ الميّت على فراشه من غير أن يعجله القتل إنّما يتنفّس شيئا فشيئا حتّى ينقضي ذماؤه، وتفنى حوباؤه (3)، فخصّ عليه الصلاة والسلام الأنف بذلك لأنّه جهة لخروج النفس وحلول الموت، ولا يكاد يقال ذلك في سائر الميتات حتّى تكون الميتة ذات مهلة، وتكون النفس غير معجلة، فلا يستعمل ذلك في الميتة بالغرق والهدم، وجميع فجأة الموت، وإنّما يستعمل في العلّة المطاولة، والميتة المماطلة.
وَرُوِيَ عَنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ: «مَا سَمِعْتُ كَلِمَةً عَرَبِيَّةً مِنَ الْعَرَبِ إِلَّا وَقَدْ سَمِعْتُهَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَسَمِعْتُهُ
__________
(1) الصِّحَاحِ 6: 2540، لِسَانِ الْعَرَبِ 15: 421.
(2) مُسْنَدِ أَحْمَدَ 4: 36، مُسْتَدْرَكِ الْحَاكِمُ 2: 88، السُّنَنِ الْكُبْرَى 9: 166، كَنْزِ الْعُمَّالِ 4:
313/ 10660، الْفَقِيهِ 4: 379/ 5796، تَفْسِيرِ نُورٍ الثَّقَلَيْنِ 4: 209.
(3) الذماء: بَقِيَّةَ الرُّوحُ فِي الْمَذْبُوحِ، الصِّحَاحِ 6: 347، لِسَانِ الْعَرَبِ 14: 289، وَالحوباء: رُوحَ الْقَلْبِ، وَقِيلَ: النَّفْسِ، النِّهَايَةِ فِي غَرِيبِ الْحَدِيثَ 1: 456، لِسَانِ الْعَرَبِ 1: 340.(1/80)
يَقُولُ: مَاتَ حَتْفَ أَنْفِهِ، وَمَا سَمِعْتُهَا مِنْ عَرَبِيٍّ قَبْلَهُ» (1).
41
(41) وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «إِيَّاكُمْ وَخَضْرَاءَ الدِّمَنِ» (2).
ولهذا القول تعلّق بباب المجاز، وللعلماء في تأويله قولان:
أحدهما: أنّه عليه الصلاة والسلام نهى عن نكاح المرأة على ظاهر الحسن، وهي في المنبت السوء، أو في البيت السوء، فوجه المجاز من هذا القول: أنّه عليه الصلاة والسلام شبّه المرأة الحسناء بالروضة الخضرة (3) لجمال ظاهرها، وشبّه منبتها السوء بالدمنة لقباحة باطنها.
و «الدمنة»: هي الأبعار المجتمعة تركبها السوافي (4)، ويعلوها الهابي (5)، فإذا أصابها المطر أنبتت نباتا خضرا يروق منظره، ويسوء مخبره، فنهى عليه الصلاة والسلام عن نكاح المرأة إذا كانت مغموضة في نفسها، أو مطعونا عليها في نسبها لأنّ أعراق السوء تنزع إلى ولدها، وتضرب في نسلها، قال الشاعر:
وأدركنه خالاته فخذلنه (6) ... ألا إنّ عرق السّوء لابدّ مدرك (7)
__________
(1) غريب الحديث للهروي 1: 422، النهاية في غريب الحديث 2: 42، كنز العمّال 7: 214ح 18674.
(2) مسند الشهاب 2: 96، غريب الحديث 3: 99، كنز العمّال 16: 496/ 45620، فقه الرضا عليه السّلام:
234، المقنع 100، المقنعة: 512، السرائر 2: 559، الكافي 5: 332/ 4، الفقيه: 3: 391/ 4377، التهذيب 7: 403/ 1608، معاني الأخبار: 316/ 1، عوالي اللآلي 3: 301/ 92.
(3) في نسخة ب: خضيرة.
(4) السوافي: جمع سافية، وهي الريح التي تحمل التراب وتذريه. راجع أقرب الموارد 1: 523، مادّة (س ف ي).
(5) التراب الهابي: المنتشر في الجو. راجع أقرب الموارد 2: 1369، مادّة (هـ ب و).
(6) في نسخة ب: فاختزلنه.
(7) ثمار القلوب: 345.(1/81)
والقول الآخر: أن يكون عليه الصلاة والسلام إنّما نهى في الحقيقة عن تعارض النفاق، وتغاير الأخلاق، وأن يتلقى الرجل أخاه بالظاهر الجميل، وينطوي على الباطن الذميم، أو يخدعه بحلاوة اللسان، ومن خلفها مرارة الجنان. وإلى هذا المعنى ذهب الشاعر في قوله:
وقد ينبت المرعى على دمن الثّرى
وتبقى حزازات النفوس كما هيا (1)
كأنّه أراد: أنّا وإن لقيناكم بظاهر الطلاقة والبشر، فإنّا نضمر لكم على باطن الغشّ والغمر (2).
ومثل هذا قول الآخر:
وفينا وإن قيل اصطلحنا تضاغنّ ... كما طرّ (3) أوبار الجراب على النّشر (4)
وقال أهل العربية: «النشر: أن ينبت وبر البعير وتحته داء العرّ، وهو الجرب، فيرى كأنّ ظاهره سليم، وباطنه سقيم».
42
(42) وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «الْأَنْصَارُ كَرِشِي وَعَيْبَتِي»
(5).
وفي هذا القول مجازان:
__________
(1) العين 3: 17، الصحاح 3: 873، مجمع البحرين 1: 501.
(2) أي الحقد. المصباح المنير: 453، مادّة (غ م ر).
(3) أي طلعت. راجع المصباح المنير: 370، مادّة (ط ر ر).
(4) الصحاح 1: 98و 2: 828.
(5) مسند أحمد 3: 156و 3: 173، صحيح البخاري 4: 227، صحيح مسلم 7: 174، سنن الترمذي:
5: 373، مجمع الزوائد 10: 37، الارشاد 1: 133.(1/82)
أحدهما: قوله عليه الصلاة والسلام: «كرشي» ويحتمل ذلك معنيين:
أحدهما: أن يكون أراد عليه الصلاة والسلام أنّهم مادّتي التي أقوى بها، وأفزع إليها، كما تفزع ذوات الاجترار إلى أكراشها في انتزاع الجرّة منها، والاعتماد عند فقد المرعى عليها، فأراد عليه الصلاة والسلام أنّ الأنصار رحمة الله عليهم يمدّونه بأنفسهم، ويكون معوّله في السرّاء والضرّاء عليهم.
والمعنى الآخر: أن يكون المراد أنّ الأنصار أهلي وعيالي وحامّتي (1)
وجماعتي، و «الكرش» اسم للجماعة، قال الشاعر:
وسبينا بنات قيصر قسرا ... واستبحنا كراكرا وكروشا (2)
أي جماعات.
وقال أبو زيد: «الكرش: اسم من أسماء الأصل، كالسنخ، والجذم، وما في معناهما (3)»، ويقول القائل: «لفلان كرش منثورة» إذا أراد أنّه ذو كثرة من العيال، وعدد من الأولاد، ومعنى «منثورة»: أنّهم متفرّقون متشعّبون لأنّ الكرش مجتمعه، وهؤلاء مع شبههم بها كالشعب المتفرّقة.
وإنّما شبّه الأولاد والعيال بالكرش لأنّها في الأنعام مستقر لأعلافها،
__________
(1) أي خاصّتي. أساس البلاغة: 96، مادّة (ح م م).
(2) أساس البلاغة 390، لسان العرب 6: 340و 14: 368، تاج العروس 17: 358وفي جميعها:
وأفأنا السّبيّ من كلّ حيّ ... وأقمنا كراكرا وكروشا
والكراكر: كراديس الخيل.
(3) انظر النوادر في اللغة: 190، غريب الحديث لأبي عبيد 1: 138.(1/83)
ومغيض (1) لما يصل إلى أجوافها، وكذلك عيال الرجل وولده، إليهم تنصرف مكاسبه، وعليهم تنفق خزائنه.
والمجاز الآخر: قوله عليه الصلاة والسلام: و «عيبتي» وأراد أنّهم موضع ثقتي، ومستودع نفثتي، ومكان سرّي، ولجأ ظهري، كالعيبة التي يودعها الإنسان نفائس ذخره، وكرائم وفره، ويكون ما استودعها قوّة لظهره، وعدة لدهره.
وقد ذكر الواقدي في كتاب «المغازي» هذا الكلام في جملة خطبة النبيّ عليه الصلاة والسلام التي خطب بها قبل وفاته بزيادة في ألفاظه، فقال:
قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «أَلَا إِنَّ الْأَنْصَارَ عَيْبَتِيَ الَّتِي آوِي إِلَيْهَا، وَنَعْلِيَ الَّتِي أَطَأُ بِهَا، وَكَرِشِيَ الَّتِي آكُلُ فِيهَا»
(2).
وهاهنا زيادة مجاز لم تكن هناك وهو قوله عليه الصلاة والسلام:
«ونعلي التي أطأ بها»، ولهذا القول وجهان:
أحدهما: أن يكون شبّههم بالنعل التي تقي القدم نكت الظراب (3)، ووخز الشبّاك (4)، وما في معنى ذلك، فأراد أنّهم تقوية ضدّ الأعداء، واشتداد اللّأواء.
__________
(1) المغيض: الموضع الذي يذهب فيه الماء. المصباح المنير: 459، مادّة (غ ي ض).
(2) صحيح مسلم 7: 74، في ذكر فضائل الصحابة، مسند أحمد 3: 156، الطبقات الكبرى 2: 251عن الواقدي، النهاية في غريب الحديث 3: 327، كنز العمّال 12: 11/ 33734 «لم ترد فيها لفظ: «آوي إليها».
(3) الظراب: جمع ظرب، وهي ما نتأمن الحجارة وحدّ طرفه. أقرب الموارد 2: 728، مادّة (ظ ر ب).
(4) هو نبات ورقه دقيق الطرف كالسيف.(1/84)
والوجه الآخر: أن يكون أراد أنّهم جنوده التي يطأ بها البلاد، ويغلب الأضداد، وتقول العرب: «داس آل فلان آل فلان، ووطىء بنو فلان بني فلان» إذا كانوا الغالبين لهم، والعالين عليهم. ومن ذلك ما حكي عن أبي سفيان بن حرب: «أنّه قال وقد مرّ باحد: لقد دسنا هاهنا محمّدا
وأصحابه دوسة منكرة» ويروى: «وطئنا».
43
(43) وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِحَكِيمِ بْنِ حِزَامِ بْنِ خُوَيْلِدٍ بَعْدَ إِسْلَامِهِ وَقَدْ أَلْحَفَ (1) فِي سُؤَالِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَمَّا قَسَّمَ غَنَائِمَ هَوَازِنَ: «يَا حَكِيمُ، إِنَّ هَذَا الْمَالَ خَضِرَةٌ حُلْوَةٌ، فَمَنْ أَخَذَهُ بِسَخَاوَةِ نَفْسٍ بُورِكَ لَهُ فِيهِ، وَمَنْ أَخَذَهُ بِإِشْرَافِ نَفْسٍ لَمْ يُبَارَكْ لَهُ فِيهِ»
(2)،
في كلام أكثر من هذا.
فقوله عليه الصلاة والسلام: «إنّ هذا المال خضرة حلوة» مجاز لأنّه شبّه حلاوة المال في القلوب بحلاوة الثمرة تشرف النفس إليها، ويكثر التتبع لها، فكذلك الأموال الدّثرة (3) تلهج النفس لها، ويكثر النزوع إليها.
وفي قوله عليه الصلاة والسلام: «خضرة حلوة» سرّ لطيف وهو أنّه شبّه المال بالثمرة التي حسن منظرها، وطاب مخبرها، وليس كلّ ثمرة مأكولة كذلك صفتها لأنّ في النابتات والثمرات ما يحسن ظاهره،
__________
(1) ألحف السائل: ألحّ، الصحاح 4: 1426، النهاية في غريب الحديث 4: 237.
(2) المحلّى 9: 155، سنن النسائي 5: 60، مسند أحمد 3: 434، وفيه «أخذه بحقّه» بدل «أخذه بسخاوة»، صحيح البخاري 2: 129، سنن الترمذي 4: 16/ 2480، السنن الكبرى 4: 196، كنز العمّال 6: 620/ 14117.
(3) أي الكثيرة. أقرب الموارد 1: 319، مادّة (د ث ر).(1/85)
ويقبح باطنه، ومنها ما تقبح ظواهره، وتحسن مخابره، فجعل عليه الصلاة والسلام المال من قسم النابتات التي تروق في العيون، وتحلو في الأفواه والقلوب، والمال على الحقيقة بهذه الصفة لأنّ العيون تعلقه، والقلوب تمقه (1).
وممّا يشبه ذلك
قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «مَنْ خُضِّرَ لَهُ فِي شَيْءٍ لَزِمَهُ» (2).
والمراد: من اعتاد الانتفاع بشيء علق به، وتوكّل عليه، فكأنّه شبّه تلويح الأمر بنفعه، وإيذانه (3) بالخير المرجوّ من جهته، بالخضيرة الطالعة إذا أذنت بالثمرة اليانعة.
44
(44) وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «الصَّدَقَةُ عَنْ ظَهْرِ غِنًى» (4).
وهذا القول مجاز لأنّ المراد بذلك أنّ المتصدّق إنّما يجب عليه الصدقة، إذا كانت له قوّة من غنى، و «الظهر» هاهنا عباره عن القوّة، فكأنّ المال للغنيّ بمنزلة الظهر الذي عليه اعتماده، وإليه سناده. ومن ذلك قولهم: «فلان ظهر لفلان» إذا كان يتقوّى به ويلجأ في الحوادث إليه.
وَقَدْ جَاءَ فِي السِّيرَةِ: «أَنَّ الْمُسْلِمِينَ كَانُوا عِنْدَ حَفْرِ الْخَنْدَقِ بِالْمَدِينَةِ،
__________
(1) أَيُّ تُحِبُّهُ. أَقْرَبُ الْمَوَارِدِ 2: 1488، مَادَّةٌ (وَمَ ق).
(2) النِّهَايَةِ فِي غَرِيبِ الْحَدِيثَ 2: 42.
(3) فِي نُسْخَةٍ: إيدائه، وَلَعَلَّهُ وَهُوَ مِنْ سَهْوٌ النَّاسِخِ.
(4) سُنَنِ النَّسَائِيِّ 5: 62، مُسْنَدِ أَحْمَدَ 2: 394، صَحِيحٌ الْبُخَارِيِّ 2: 117، صَحِيحٌ مُسْلِمٍ 3: 94، مَجْمَعِ الزَّوَائِدِ 3: 115، كَنْزِ الْعُمَّالِ 6: 590/ 17028، أَمَالِي الْمُرْتَضَى 2: 66، الْكَافِي 4: 46/ 2.(1/86)
يَرْتَجِزُونَ بِجُعَيْلِ بْنِ سُرَاقَةَ الضَّمْرِيِّ وَيَقُولُونَ:
سَمَّاهُ مِنْ بَعْدِ جُعَيْلٍ عَمْراً ... وَكَانَ لِلْبَائِسِ يَوْماً ظَهْراً (1)
وَكَانَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ يَقُولُ مَعَهُمْ: «عَمْراً، وَظَهْراً» وَلَا يَقُولُ بَاقِي الشِّعْرَ، وَكَانَ جُعَيْلُ بْنُ سُرَاقَةَ يَعْمَلُ مَعَهُمْ، وَيَقُولُ مِثْلَ قَوْلِهِمْ، وَيَضْحَكُ إِلَيْهِمْ، فَعَلِمُوا أَنَّهُ لَا يَسُوؤُهُ ارْتِجَازُهُمْ بِهِ. وَكَانَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَدْ سَمَّاهُ: «عَمْراً» وَاسْمُهُ الْأَظْهَرُ جُعَيْلٌ، وَيُقَالُ: جَعَّالٌ، وَكَانَ رَجُلًا صَالِحاً مِنْ قُدَمَاءِ الْمُهَاجِرِينَ، وَمِنَ الْبَدْرِيِّينَ، وَالَّذِينَ شَهِدُوا الْمَشَاهِدَ كُلَّهَا مَعَ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَكَانَ لَهُ مَعَ ذَلِكَ اخْتِصَاصٌ بِخِدْمَتِهِ وَمُلَازَمَةٌ لِمَنْزِلِهِ (2).
وَكَانَ مِنْ فُقَرَاءِ الصَّحَابَةِ، وَلَمَّا قَسَّمَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ غَنَائِمَ حُنَيْنٍ، لَمْ يُعْطِ الْأَنْصَارَ مِنْهَا شَيْئاً، وَلَا كَثِيراً مِنَ الْمُهَاجِرِينَ، وَفَرَّقَهَا فِي قُرَيْشٍ وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ لِيَثْبُتُوا عَلَى الْإِسْلَامِ، وَيُؤْمَنُ مِنْهُمُ الْفَسَادُ، وَكَانَ جُعَيْلُ بْنُ سُرَاقَةَ مِمَّنْ حُرِمَ الْعَطِيَّةَ، فَكَلَّمَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي شَأْنِهِ، وَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، تَحْرُمُ جُعَيْلًا مَعَ مَا تَعْلَمُهُ مِنْ خَلَّتِهِ، وَمَعَ مَا لَهُ مِنْ حُرْمَتِهِ، وَتُعْطِي عُيَيْنَةَ بْنَ حِصْنٍ، وَالْأَقْرَعَ بْنَ حَابِسٍ، وَفُلَاناً، وَفُلَاناً؟! فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «أَمَا وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَجُعَيْلُ بْنُ سُرَاقَةَ خَيْرٌ مِنْ طِلَاعِ الْأَرْضِ (3) مِثْلِ عُيَيْنَةَ وَالْأَقْرَعِ،
__________
(1) سِيرَةِ ابْنِ هِشَامِ 2: 217، تَارِيخِ الطَّبَرِيِّ 2: 567، الْبِدَايَةَ وَالنِّهَايَةِ 4: 109.
(2) فِي نُسْخَةٍ: لمعزله.
(3) أَيُّ ملؤها: رَاجَعَ أَسَاسُ الْبَلَاغَةِ: 282، مَادَّةٌ (ط ل ع).(1/87)
وَلَكِنِّي تَأَلَّفْتُهُمَا لِيُسْلِمَا، وَوَكَلْتُ جُعَيْلَ بْنَ سُرَاقَةَ إِلَى إِسْلَامِهِ» (1).
وممّا في هذا المعنى أيضا قول القائل: «أعطيت فلانا كذا عن ظهر يد» أي عن امتناع وقوّة، ولم أعطه عن خيفة وذلّة. وهذا المعنى ضدّ قوله سبحانه: {حَتََّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صََاغِرُونَ} (2)، فكأنّ خلع لفظ «الظهر» من الكلام غيّر المعنى، والمراد بذلك هاهنا على الأظهر من التأويلات التي ذكرناها في كتاب «مجازات القرآن» (3) أن يكون: حتّى يعطوا الجزية عن قهر وذلّة وخيفة ورقبة، فهو نقيض قول القائل: «أعطيته عن ظهر يد» أي عن اختيار ومشيئة، واستظهار قوّة.
45
(45) وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَحْمَدُكَ عَلَى الْعِرْقِ السَّاكِنِ، وَاللَّيْلِ النَّائِمِ» (4).
ووصف الليل بالنوم مجاز لأنّ النوم إنّما يكون فيه لا منه، ولكنّه لمّا كان مظنّة (5) للنوم وظرفا له، حسن أن يوصف به، ويضاف إليه. وعلى هذا قول جرير:
لقد لمتنا يا أمّ غيلان في السّرى ... ونمت وما ليل المطيّ بنائم (6)
__________
(1) الطبقات الكبرى لابن سعد 4: 246، السيرة النبوية لابن هشام 4: 139، اسد الغابة 1: 284، كنز العمّال 11: 670/ 33239، شرح الأخبار 1: 317.
(2) التوبة (9): 29.
(3) مجازات القرآن: 47.
(4) لم أعثر له على مصدر.
(5) في نسخة ب: مطيّة.
(6) ديوان جرير 2: 933، التبيان في تفسير القرآن 4055و 8: 123، السرى: سير عامّة الليل. أقرب الموارد 1: 5141، مادّة (س ر ي).(1/88)
46
(46) وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «مَنْ أَكَلَ مِنْ هَاتَيْنِ الْبَقْلَتَيْنِ (1) فَلَا يَقْرَبَنَّ مَسْجِدَنَا، فَمَنْ كَانَ آكِلَهُمَا لَا بُدَّ فَلْيُمِتْهُمَا طَبْخاً» (2).
وهذا القول مجاز لأنّ الإماتة على الحقيقة لا تلحق إلّا ذا حياة، وإنّما المراد: فليستخرج ما فيهما من القوّة التي عنها تكون شدّة الرائحة المكروهة بالطبخ، تشبيها بالميّت الذي لا يبلغ إلى مفارقة الحياة إلّا بعد بلوغ قوّته منقطعها، وتفريق الموت مجتمعها.
وفي رواية اخرى: «فليمثهما (3) طبخا» بالثاء أي فليطبخهما حتّى تتفتّتا فتنماثا.
47
(47) وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «الْمُؤْمِنُ مِرْآةُ أَخِيهِ» (4).
وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى: «مِرْآةُ أَخِيهِ الْمُؤْمِنِ يَرَى فِيهِ حُسْنَهُ وَقُبْحَهُ»
(5)
وهذا القول مجاز واستعارة، والمراد أنّ المؤمن الناصح لأخيه المؤمن يبصرّه مواقع رشده، ويطلعه على خفايا عيبه، فيكون كالمرآة له ينظر فيها محاسنه، فيستحسنها ويزداد منها، ويرى مساوئه فيستقبحها وينصرف عنها.
__________
(1) أي الثوم والبصل.
(2) صحيح البخاري 5: 498، الموطأ 1: 17، سنن النسائي 2: 43، السنن الكبرى 3: 78، وفيه:
«الشجرتين» بدل» البقلتين»، كنز العمّال 15: 269/ 40922، عنه البحار 66: 205/ 22.
(3) أي فليذبهما. أساس البلاغة: 439، مادّة (م وث).
(4) سنن الترمذي: 19301927، سنن أبي داود: / 4918، كنز العمّال 1: 154/ 7681، مصادقة الاخوان: 42، مشكاة الانوار 189: 502.
(5) لم أعثر له على مصدر.(1/89)
48
(48) وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «الْيَمِينُ الْفَاجِرَةُ تَدَعُ الدِّيَارَ بَلَاقِعَ»
(1).
وهذا القول مجاز لأنّ اليمين الفاجرة على الحقيقة لا تخرب الديار، ولا تعفّي الآثار، وإنّما المراد أنّ الله سبحانه إذا أقدم الحالف على اليمين الفاجرة استهانة بها، واستغرارا بالعقوبة المرصدة عليها قطع تعالى دابره، وأخرب منازله، وردّاه رداء خزيه، وقنّعه قناع بغيه.
49
(49) وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي حَدِيثٍ يَخْتَصُّ بِصَلَاةِ الْجُمُعَةِ:
«تُصَلَّى فِي حَلَاقِيمِ الْبِلَادِ» (2).
وهذا الكلام مجاز، و «حلاقيم البلاد» عبارة عن نواحيها وأطرافها، والمداخل إليها، فكأنّه عليه الصلاة والسلام شبّه تلك الأطراف المفضية إلى الأوساط، بالحلاقيم التي هي الطرق إلى الأحشاء والأجواف.
{بِسْمِ اللََّهِ الرَّحْمََنِ الرَّحِيمِ} *
50
(50) وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «إِنِّي مُمْسِكٌ بِحُجَزِكُمْ (3): هَلُمُّوا عَنِ النَّارِ وَتَغْلِبُونَنِي، تَقَاحَمُونَ (4) فِيهَا تَقَاحُمَ الْفَرَاشِ وَالْجَنَادِبِ،
__________
(1) الْكَافِي 7: 435/ 2وَ 436/ 3، ثَوَابِ الاعمال: 226، السُّنَنِ الْكُبْرَى 10: 35، كَنْزِ الْعُمَّالِ 3:
363/ 6956وَ 16: 61/ 43942، وَالبلاقع: جَمَعَ بَلْقَع وَبلقعة، وَهِيَ الْأَرْضِ الْقُفْرِ الَّتِي لَا شَيْءٌ بِهَا.
أَقْرَبُ الْمَوَارِدِ 1: 60، مَادَّةٌ (ب ل ق ع).
(2) النِّهَايَةِ فِي غَرِيبِ الْحَدِيثَ 1: 428، لِسَانِ الْعَرَبِ 12: 150وَفِيهِمَا عَنْ الْحَسَنِ.
(3) الحجز: جَمَعَ حُجْزَةُ، وَهِيَ مَوْضِعٍ شَدَّ الْإِزَارِ وَالسروال. الْمِصْبَاحِ الْمُنِيرِ: 122، مَادَّةٌ (ح ج ز).
(4) أَيُّ ترمون أَنْفُسَكُمْ. الْمِصْبَاحِ الْمُنِيرِ: 491، مَادَّةٌ (ق ح مَ).(1/90)
وَأُوشَكُ أَنْ أُرْسِلَ حُجَزَكُمْ» (1).
وفي هذا الكلام مجاز وتوسّع وذلك أنّ المراد به أنّه عليه الصلاة والسلام، يبالغ في زجر امّته عن التقحّم في المعاصي، والارتكاس في المضالّ والمغاوي بشكائم (2) المنع، وخزائم (3) الردع، فشبّه ذلك عليه الصلاة والسلام بإمساك الرجل بحجزة صاحبه إذا كاد أن يسقط في مهواة (4) أو يرتكس في مغواة ليتماسك بإمساكه، وينجو بعد إشفاقه، فلمّا شبّه إحدى الحالتين بالاخرى، أجرى عليها الاسلام على سبيل المجاز وطريق الاتّساع، وحسن أن يقول عليه الصلاة والسلام: «إنّني آخذ بحجزكم عن النار» ومراده: عن الأعمال المؤدّية إلى دخول النار لأنّ السبب للشيء جار مجرى نفس الشيء.
وممّا يبيّن أنّ المراد ذلك: أنّهم لم يكونوا في حال سماعهم لهذا الخطاب متهافتين في النار، وإنّما كانوا في الأعمال التي يستحقّون بها عذاب النار.
وممّا يشبه هذا الخبر
مَا رُوِيَ مِنْ قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «يَخْرُجُ مِنَ النَّارِ قَوْمٌ بَعْدَ مَا امْتَحَشُوا وَصَارُوا حُمَماً وَفَحْماً»
(5)، فمعنى هذا
__________
(1) مسند أحمد 2: 312، مجمع الزوائد 3: 85، كنز العمّال 4: 543/ 11600.
(2) الشكائم: جمع شكيمة، وهي من اللجام: الحديدة المعترضة في فم الفرس. وقوله قدس سره:
«بشكائم» متعلّق بقوله: «زجر» السابق.
(3) الخزائم: جمع خزامة، وهي حلقة من شعر تجعل في ونزة أنف البعير يشدّ فيها الزمام. أقرب الموارد 1: 272، مادّة (خ ز م).
(4) المهواة: ما بين الجبلين ونحو ذلك أقرب الموارد 2: 1412، مادّة (هـ وي).
(5) مسند أحمد 1: 23، كنز العمّال 14: 438/ 39197، الدرّ المنثور 3: 60.(1/91)
الكلام عندنا: أنّه يخرج من استحقاق النار بالتوبة قوم هذه صفتهم، وهذا على طريق المجاز أي أنّهم بأعمالهم المؤدّية إلى دخول النار كمن احرق بضرمها، وصار من حممها، ومعنى «امتحشوا»: احرقوا.
والمرجئة يحملون هذا الخبر على ظاهره، ولا يفزعون إلى تأويله (1).
ومعنى «هلمّوا عن النّار»: أي ارجعوا إلى طاعة الله سبحانه التي هي الأمان من العذاب، وجانبوا معاصيه التي هي الطريق إلى العقاب.
ومعنى «تغلبونني تقاحمون فيها»: أي أنّني مع كثرة الزجر لكم والإعذار إليكم، تنفلتون (2) وتنازعون إلى المقبّحات، كما يتهافت الفراش في الشهاب، والذباب في الشراب.
ومعنى «واوشك أن ارسل حجزكم»: أي اوشك أن يطرقني طارق الموت، فتفقدون نهيي لكم عن المعاصي، وأخذي بكم عن طريق المغاوي، فجعل ذلك عليه الصلاة والسلام بمنزلة إرسال حجزهم، وإلقاء أزمّتهم، وهذا مجاز ثان.
51
(51) وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِمُحَلِّمِ بْنِ جَثَّامَةَ اللَّيْثِيِّ فِي قَتْلِهِ عَامِرَ بْنَ الْأَضْبَطِ الْأَشْجَعِيَّ وَهُوَ مُسْلِمٌ: «أَقَتَلْتَهُ فِي غُرَّةِ الْإِسْلَامِ؟!»
(3).
وهذه استعارة، وأراد عليه الصلاة والسلام ب «غرّة الإسلام» أوّله، تشبيها بغرّة الفرس التي هي أوّل ما يستقبلها منه المستقبل، ويراها
__________
(1) انظر: الفرق بين الفرق، مقالات الاسلاميّين.
(2) في نسخة ب: تنقلبون.
(3) سنن أبي داود 2: 367، وفيه زيادة لفظ «بسلاحك»، السنن الكبرى 9: 116.(1/92)
المتأمّل، ولها أيضا يشتهر شينه وتيمن (1) صورته. ويقولون: «هذه غرّة الشهر» أي أوّله لأنّه أوّل عدّه، ومبدأ مدخله، ويقولون: «فلان غرّة قومه» إذا كان المنظور إليه منهم، والمعوّل عليه من بينهم.
52
(52) وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي مَثَلٍ ضَرَبَهُ لِقُرَيْشٍ يَطُولُ الْكِتَابُ بِذِكْرِهِ: «وَيَقْطَعُ النَّاسُ فِي آثَارِهِمْ حَتَّى بَقِيَتْ عَجُزٌ مِنَ النَّاسِ عَظِيمَةٌ» (2).
وهذه استعارة لأنّ المراد بالعجز هاهنا مآخير الناس وعقابيلهم (3)
تشبيها بعجز الناقة أو غيرها من الدوّاب لأنّ أوّل ما يتحرّك للسير هاديها (4) وعنقها، ثمّ يتبعه ردفها وعجزها، فسّمي القوم الذين يتأخّرون في السير «أعجازا» كما سمّي المتقدّمون «أعناقا» يقال: «قد طلعت أعناق القوم: أي أوائلهم ومتقدّموهم، و «جاءت أعجازهم» أي أواخرهم ومثبّطوهم، وعلى هذا سمّوا مقدّمي القوم في الوجاهة والمنزلة «أعناقا» و «رؤوسا» وقد أشرنا إلى ذلك فيما تقدّم.
وقد يجوز أن يكون
الْحَدِيثُ الْمَرْوِيُّ: «يَجِيءُ الْمُؤَذِّنُونَ أَطْوَلَ النَّاسِ أَعْنَاقاً يَوْمَ الْقِيَامَةِ»
(5)، من هذا أيضا، يريد: أنّهم يوافون يوم القيامة
__________
(1) في نسخة ب: يتميّز.
(2) لم أعثر له على مصدر.
(3) أي أعقابهم.
(4) الهادي والعنق سيّان في المعنى.
(5) دعائم الاسلام 1: 144، مسند زيد بن علي 75، مسند أحمد 3: 169، صحيح مسلم 2: 5، سنن ابن ماجة 1: 240/ 725، السنن الكبرى 1: 433، مجمع الزوائد 1: 326، كنز العمّال: 7:
682/ 20895.(1/93)
أوجه الناس وجوها ورؤوسا، فيكون قولنا: «أطول» هاهنا من الطّول، لا الطّول، ولا بدّ أن يكون المراد ب «الناس» هاهنا الخصوص دون العموم، كأنّهم يكونون في القيامة أوجه من الناس الذين هم كالنظراء لهم في الطبقة معهم لأنّه لا يجوز أن يكونوا يومئذ أعظم وجاهة {مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ، وَالشُّهَدََاءِ وَالصََّالِحِينَ}.
53
14 (53) وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِعُثْمَانَ بْنِ مَظْعُونٍ رَحِمَهُ اللَّهُ لَمَّا أَرَادَ الِاخْتِصَاءَ وَالسِّيَاحَةَ: «خِصَاءُ أُمَّتِي الصِّيَامُ» (1).
وهذا القول مجاز لأنّه عليه الصلاة والسلام أراد أنّ الصيام يميت الشهوات، ويشغل عن اللّذات، كما أنّ الخصاء في الأكثر يكسر النزوة، ويقطع الشهوة.
وممّا يؤكّد ذلك الخبر الآخر
الْمَرْوِيُّ عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، قَالَ:
«مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمُ الْبَاهَ (2) فَلْيَتَزَوَّجْ، وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْهُ، فَلْيَصُمْ فَإِنَّ الصَّوْمَ وِجَاءٌ» (3).
و «الوجاء»: الخصاء، وسمعت شيخنا أبا بكر محمّد بن موسى الخوارزمي عفا الله عنه يقول في أثناء قراءتي عليه وقد اعترض ذكر الخلاف في وجوب النكاح: «يمكن الاستدلال بهذا الخبر على أنّ
__________
(1) مسند أحمد 2: 173، مجمع الزوائد 4: 253، كنز العمّال 8: 449، الدرّ المنثور 2: 310.
(2) الباه: النكاح، والمراد من وجد مؤن النكاح على حذف مضاف. المصباح المنير: 67، مادّة (ب وأ).
(3) صحيح البخاري 3: 354/ 5065، مسند أحمد 2: 25/ 4259، سنن النسائي 6: 57و 58، السنن الكبرى 7: 77، المقنعة: 497، روضة الواعظين: 374.(1/94)
النكاح غير واجب خلافا لداود، فإنّه يقول: إنّه واجب على الرجل مرّة في عمره».
قال: «وموضع الاستدلال منه: أنّه عليه الصلاة والسلام نقل النكاح إلى الصوم، وجعل الصوم بدلا منه، والأبدال حكمها حكم المبدلات، فلو كان الأصل واجبا كان بدله كذلك، كالتيمّم والماء، وأبدال الكفّارات مثلها، فلو كان الصوم الذي هو بدل من النكاح غير واجب، دلّ على أنّ المبدل أيضا وهو النكاح غير واجب».
54
(54) وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِأَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «إِنَّ لَكَ بَيْتاً، وَإِنَّكَ لَذُو قَرْنَيْهَا»
(1).
وهذه استعارة لأنّ المراد أنّك ذو قرني الأمّة، فكأنّه عليه السّلام قال: وإنّك رأس هذه الأمّة لأنّ الرأس هو ذو القرنين، لأنّ القرنين إنّما يكونان فيه، ويظهران عليه. وهذا الخبر على هذا التأويل من الأخبار الدالّة على أنّ أمير المؤمنين عليه السّلام أفضل الناس بعد رسول الله عليه الصلاة والسلام إذ كان رأس أمّته، ورئيس أسرته.
ومثل قوله عليه الصلاة والسلام: «لذو قرنيها» في أنّ المراد به الأمّة وإن لم يجر لها ذكر، قوله تعالى: {حَتََّى تَوََارَتْ بِالْحِجََابِ} (2)، وقوله سبحانه: {وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطََارِهََا} (3) في أنّ المراد الشمس
__________
(1) النهاية في غريب الحديث 4: 51، لسان العرب 13: 332، المناقب للخوارزمي: 355.
(2) ص (38): 32.
(3) الاحزاب (33): 14.(1/95)
والمدينة وإن لم يجر لهما ذكر.
وقد قال بعضهم «المراد بهذا الخبر: أنّك في هذه الأمّة كذي القرنين في أمّته، وعلى هذا التأويل أيضا لابدّ من تسليم الرئاسة له على كافّتهم لأنّ ذا القرنين كان مستتبعا ذمّة الملوك كلّهم، والعالي بالقدرة والبسط على جماعتهم. هذا إن كان ذو القرنين هو الإسكندر الرومي، على ما يقوله بعضهم (1).
وإن كان اسم نبيّ من الأنبياء ع على ما يقوله الآخرون (2) فموضع الاحتجاج بالفضل أيضا موجود لأنّ ذلك النبيّ في دهره كان أفضل امّته، وخيار أهل دعوته.
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: أَنَّهُ قَالَ وَقَدْ ذُكِرَ ذُو الْقَرْنَيْنِ، فَقَالَ: «دَعَا قَوْمَهُ إِلَى عِبَادَةِ اللَّهِ فَضَرَبُوهُ عَلَى قَرْنَيْهِ ضَرْبَتَيْنِ، وَإِنَّ فِيكُمْ لَمِثْلَهُ»
(3)، فترى أنّه عليه السّلام أراد بهذا القول نفسه أي أنا أدعو إلى اتباع الحق، وسأضرب على رأسي ضربتين تكون فيهما منيّتي، فأكون كذي القرنين. وقد يجوز أن يكون النبيّ عليه الصلاة والسلام أراد بقوله: «وإنّك لذو قرنيها هذا المعنى، والله أعلم».
وقال بعضهم: «إنّه عليه الصلاة والسلام لمّا ذكر في أوّل الكلام الجنّة قال: «وإنّك لذو قرنيها» يريد قرني الجنّة أي طرفيها (4)، فكأنّه وصفه
__________
(1) انظر: الفائق في غريب الحديث 3: 173.
(2) انظر: تاريخ الطبري 1: 572.
(3) راجع: علل الشرائع 1: 40/ 1، تفسير العيّاشي 2: 339و 340، المناقب للخوارزمي: 355، النهاية في غريب الحديث 4: 52.
(4) النهاية في غريب الحديث 4: 51، لسان العرب 13: 332.(1/96)
ببلوغ غايات المثابين فيها» وفي هذا القول بعد.
وحكي عن ثعلب أنّه سئل عن هذا الحديث، فقال: «أراد عليه الصلاة والسلام: إنّك لذو جبليها يعني الحسن والحسين عليهما السّلام (1)» قال:
«ويجوز أن يكون قوله: «ذو قرنيها» يريد به طرفي الأمّة أي أنت في أوّلها، والمهديّ من ولدك في آخرها».
قال: «ويجوز أن يكون ذلك من قوله: عصرت الفرس قرنا أو قرنين أي استخرجت عرقه بالجري مرّة أو مرّتين، فكأنّه عليه الصلاة والسلام ذو اقتباس العلم الظاهر، واستخراج العلم الباطن.»
والاعتماد على ما قدّمنا ذكره من التأويل الأوّل، وهو من استنباطي.
55
(55) وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «أَخَافُ عَلَيْكُمْ إِذَا صُبَّتِ الدُّنْيَا عَلَيْكُمْ صَبّاً»
(2).
وهذه استعارة لأنّه عليه الصلاة والسلام أراد: غمرتكم الدنيا بمنافعها، وعمّتكم بفوائدها وعوائدها، فشبّه كثرة ذلك بالوبل (3) الغزير المنصبّ على الإنسان في أنّه يبلّه بدفعانه ويغمره من جميع جهاته.
ومثل ذلك: «انغمس فلان في الدنيا انغماسا» إذا كثر التباسه لها، وعظم أخذه منها تشبيها لها بغمرة الماء إذا خاضها الخائض، أو غمس فيها الغامس.
__________
(1) غريب الحديث لابن الجوزي 2: 238.
(2) مسند أحمد 5: 155، وفيه: «أخوف لي عليكم الدنيا اذا صبّت عليكم صبّا» مجمع الزوائد 5: 147، كنز العمّال 6: 675/ 17359، وفيهما مع اختلاف في العبارة.
(3) أي المطر الشديد. راجع المصباح المنير: 646، مادّة (وب ل).(1/97)
56
(56) وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «كُلُّ عَيْنٍ زَانِيَةٌ» (1).
وهذه استعارة لأنّه عليه الصلاة والسلام لم يرد حقيقة الزناء المذموم، وإنّما أراد أنّ كلّ عين لا بدّ أن تكون لها طمحة إلى حسن، أو طرحة إلى إرب، وإن كان ذو التقوى يكبح نفسه بالشكيم، ويعرك شهوته عرك الأديم (2)، ولا يكون نظره إلّا فلتة، و «لا تتبع النظرة النظرة» كما قال عليه الصلاة والسلام. وقد قال الشاعر:
نظرت إليها بالمحصّب من منى ... ولي نظر لولا التّحرّج عارم (3)
فوصف النظر بالعرام في هذا الشعر، كوصف العين بالزنى في هذا الخبر.
فأمّا الحديث الآخر وهو
قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «الْقُسْطَنْطِينِيَّةُ الزَّانِيَةُ»
(4)، فالمراد به الزاني أهلها، وذلك كما جاء في التنزيل من ذكر القرى، مثل قوله تعالى: {وَكَمْ قَصَمْنََا مِنْ قَرْيَةٍ كََانَتْ ظََالِمَةً} (5)، و {قَرْيَةً كََانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً} (6) أي أهلها ظالمون، وأهلها آمنون، وذلك في القرآن كثير.
__________
(1) مسند أحمد 4: 394و 407و 418، سنن الترمذي 4: 194/ 2937، مجمع الزوائد 6: 256، كنز العمّال 16: 384/ 45017.
(2) أي كما يدلك الجلد حين دباغه.
(3) ديوان عمر بن أبي ربيعة: 348، الأغاني 1: 61.
(4) غريب الحديث لابن قتيبة 2: 365/ 38، النهاية في غريب الحديث 2: 317، لسان العرب: 14:
360.
(5) الانبياء (21): 11.
(6) النحل (16): 112.(1/98)
57
(57) وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «لَا يَلْقَى اللَّهَ عَبْدٌ لَمْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ شَيْئاً وَلَمْ يَتَنَدَّ بِدَمٍ حَرَامٍ إِلَّا دَخَلَ مِنْ أَيِّ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ شَاءَ»
(1).
فقوله عليه الصلاة والسلام: «ولم يتندّ بدم حرام» مجاز لأنّه أراد:
لم يصب دما حراما، ومن قولهم: «ما نديت من فلان بشيء» أي لم اصب منه شيئا، فجعل عليه الصلاة والسلام الذي يسفك الدم، متندّيا به وإن كان لم يباشر سفكه بنفسه لأنّ الأغلب فيمن يتولّى سفك الدم مباشرا، أن يصيبه منه بلل، ويشهد عليه أثر. وعلى هذا قول الشاعر:
تبرّأ من دمّ القتيل وبزّه (2) ... وقد علقت دم القتيل إزارها (3)
ولم يكن هناك على الحقيقة أثر دم علقت الإزار، وإنّما أخرجه الشاعر على الوجه الذي ذكرناه، فكأنّه جعل القاتل وإن لم يظهر عليه شاهد الدم، كمن ظهرت عليه شواهده الناطقة، ودلائله القاطعة لقوّة الأمارات التي تشهد بفعله وتعصّب (4) الأمر به، وهذا المعنى أيضا أراد جرير بقوله:
وقلت نصاحة لبني عديّ: ... ثيابكم ونضح دم القتيل (5)
فكأنّه خاطب قوما ونهاهم عن أن يقفوا موقف الظنّة، وينزلوا منزل
__________
(1) مسند أحمد 4: 148و 152، سنن ابن ماجة 2: 873/ 2618، مستدرك الحاكم 4: 352، مجمع الزوائد 1: 19، كنز العمّال 15: 34/ 39958، مع اختلاف قليل في العبارة.
(2) أي سلبه.
(3) جمهرة اللغة 2: 328، لسان العرب 4: 16، تاج العروس 10: 43.
(4) أي تلبسّه.
(5) ديوان جرير 2: 719، لسان العرب 3: 62عجز البيت.(1/99)
التهمة، ليبرؤوا (1) من دم قتيل اتّهموا بنفسه، وقرفوا (2) بقتله.
58
(58) وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «مَنْ فَعَلَ كَذَا وَكَذَا فَقَدِ احْتَظَرَ مِنَ النَّارِ بِحِظَارٍ»
(3).
وهذا القول مجاز والمراد أنّه من فعل ذلك فقد احتجز من النار بحاجز، و «الحظار»: الحائط المستدير على الشيء، فجعل عليه الصلاة والسلام المتباعد عن الفعلة التي توجب دخول النار، كمن ضرب بينه وبينها سياج، واغلق عليه رتاج (4)، و «الحظار» و «الحظيرة» بمعنى واحد، وهو حظار بفتح الحاء، والجمع أحظرة، كما يقال: «دوار» والجمع أدورة.
59
(59) وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «اغْتَرِبُوا لَا تُضْوُوا» (5).
وهذا استعارة، والمراد انكحوا في الغرائب، ولا تنكحوا في القرائب لأنّهم يقولون: «الغرائب أنجب» و «الضوى»: ضؤولة الجسم ودقّته، ويقال: «أضوت المرأة» إذا أتت بولد ضاو، كما يقال: «أذكرت» إذا أتت بولد ذكر. وكانوا يعتقدون أنّ القريبة تضوي كما أنّ الغريبة تدهي أي تأتي بالولد داهية، وقال الشاعر:
فتى لم تلده بنت عمّ قريبة ... فيضوى وقد يضوى رديد القرائب (6)
__________
(1) في نسخة: ليتبّرؤوا.
(2) القرف والاتهام سيّان. راجع أقرب الموارد 2: 989، مادّة (ق ر ف).
(3) مجمع الزوائد 3: 7و 88/ 271، البداية والنهاية 5: 348، ومثله في مسند أحمد 2: 419.
(4) أي باب عظيم مغلق. راجع المصباح المنير: 218، مادّة (ر ت ج).
(5) غريب الحديث لابن قتيبة 2: 355/ 6، المحيط في اللغة 6301، اصلاح المنطق: 236.
(6) لسان العرب 14: 489، والرديد كأمير: الشيء المردود، تاج العروس 4: 451، مادّة (ر د د).(1/100)
وقال الآخر:
وأترك بنت العمّ وهي قريبة ... مخافة أن تضوي عليّ سليلي (1)
وقوله عليه الصلاة والسلام: «اغتربوا» عبارة عن هذا المعنى من أحسن العبارات لأنّه جعل التباعد عن المنكح في العشيرة والبيت والذهاب به إلى غير السنخ والأصل، بمنزلة الرجل المغترب الذي يوطن غير وطنه، ويسكن غير سكنه.
60
(60) وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «خَيْرُ الْمَالِ عَيْنٌ سَاهِرَةٌ لِعَيْنٍ نَائِمَةٍ» (2).
وهذه استعارة لأنّ المراد بذلك عين الماء الجارية التي لا ينقطع جريها ليلا، كما لا ينقطع نهارا، فسمّاها «ساهرة» لهذا المعنى لأنّها في ليلها دائبة، وعين صاحبها نائمة. ولفظ «السهر» في هذا الكلام أحسن ما جعل بهذا المعنى متلبّسا، وصبّ عليها ملبسا.
61
(61) وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «كُلُّ هَوًى شَاطِنٌ فِي النَّارِ» (3).
وهذا مجاز لأنّه وصف الهوى بالشطون (4)، وهو البعد، وأراد به تباعد صاحبه عن الرشد، وتراميه إلى الغيّ.
__________
(1) لم أعثر له على مصدر.
(2) غريب الحديث لابن قتيبة 2: 364/ 35، النهاية في غريب الحديث 2: 428، لسان العرب 4: 384، والسليل: الولد، أقرب الموارد، مادّة (س ل ل).
(3) غريب الحديث لابن قتيبة 2: 367/ 49، النهاية في غريب الحديث 2: 475، لسان العرب 13:
238، كنز العمّال 1: 205/ 1025، وفيه: «كلّ شاطن هوى في النار».
(4) في نسخة ب: بالشطن.(1/101)
وقال أبو عبيدة: «الشاطن هاهنا: المعوجّ عن الحقّ، والهوى على الحقيقة ليس بجسم فيوصف بالقرب والبعد، والزوال واللبث. وسمّي الشيطان شيطانا لأنّه شطن عن أمر ربّه، أو أبعد في مذاهب غيّه، ومنه قيل: نوى شطون، وبئر شطون، ومن ذلك سمّي الحبل شطنا لأنّه يبلغ القعر العميق، والماء والبعيد» (1).
وفي هذا الخبر أيضا مجاز آخر وهو أنّه عليه الصلاة والسلام جعل الهوى الشاطن في النار، ومراده صاحب الهوى الشاطن، وهو الذي يمتدّ به هواه فيقذفه في المضالّ، ويحمله على المزال.
ونظير هذا الخبر الآخر وهو
قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «عَلَيْكُمْ بِالصِّدْقِ فَإِنَّهُ مَعَ الْبِرِّ، وَهُمَا فِي الْجَنَّةِ، وَإِيَّاكُمْ وَالْكَذِبَ فَإِنَّهُ مَعَ الْفُجُورِ، وَهُمَا فِي النَّارِ»
(2)، وأراد عليه الصلاة والسلام صاحب الصدق والبرّ، وصاحب الكذب والفجور.
62
(62) وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «كَيْفَ بِكُمْ وَبِزَمَانٍ يُغَرْبَلُ النَّاسُ فِيهِ، وَيَبْقَى حُثَالَةٌ مِنَ النَّاسِ، قَدْ مَرِجَتْ عُهُودُهُمْ وَأَمَانَاتُهُمْ!» (3).
وهذه استعارة، والمراد: أنّهم يتنقّى خيارهم، فيهلكون بالقتل السريع، والموت الذريع، كما يغربل الحبّ بالغربال، فيسقط قشبه
__________
(1) غريب الحديث لابن قتيبة 2: 367/ 49.
(2) مسند أحمد 1: 3، 5، 7، سنن ابن ماجة 2: 1265/ 3849، كنز العمّال 2: 624/ 4923، 625/ 4924و 3: 345/ 6860.
(3) سنن ابن ماجة 2: 1307/ 3957، سنن ابي داود 2: 324/ 4342، مستدرك الحاكم 2: 159و 4:
435، كنز العمّال 11: 112/ 30831.(1/102)
وصغاره، ويبقى جلاله وخياره. وقد قيل: «إنّ الغربلة: اسم للقتل خصوصا، ومنه قول الشاعر:
ترى الملوك حوله مغربله ... يقتل ذا الذّنب ومن لا ذنب له (1)
أي مقتّلة» والقول الأوّل أشبه بالمراد وأليق بالصواب.
وقد تكلّمنا فيما تقدّم على
قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «وَيَبْقَى حُثَالَةٌ مِنَ النَّاسِ قَدْ مَرِجَتْ عُهُودُهُمْ» (2).
63
(63) وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَقَدْ سُئِلَ: أَيُّ الْأَعْمَالِ أَفْضَلُ؟
فَقَالَ: «الْحَالُّ الْمُرْتَحِلُ» قِيلَ: وَمَا الْحَالُّ الْمُرْتَحِلُ؟ قَالَ: «الْخَاتِمُ الْمُفْتَتِحُ» (3).
وفي هذا الكلام مجاز، لأنّه عليه الصلاة والسلام إنّما أراد المداوم لتلاوة القرآن، فهو يختم ويفتتح، ويتمّ ويستأنف، فشبّهه عليه الصلاة والسلام بالمسافر المجدّ بينا ينزل حتّى يرتحل، وبينا يسير حتّى ينزل، فشبّه عليه الصلاة والسلام ختم التلاوة بنزول المنزل، وشبّه استئنافها بسير المرتحل، وجعله مستمرّا على هذه الطريقة أبدا لا يرمي إلى غاية، ولا يقف عند نهاية.
وقد قيل: «إنّ المراد بذلك المجاهد في سبيل الله الذي يغزو ويعقب،
__________
(1) الأغاني 15: 79، الصحاح 4: 1710و 5: 1780، معجم ما استعجم 2: 635.
(2) مرّ تفسير ذلك في ذيل الحديث النبوي 64، الرقم 40.
(3) كشف الغطاء للجناحي: 301، سنن الدارمي: 2: 469، مستدرك الحاكم 1: 568و 569، كنز العمّال 1: 612/ 2812، معاني الأخبار: 190/ 1، ثواب الأعمال: 102، وفيه: «أيّ الرجال أفضل؟»، مجمع البحرين 1: 565، الكافي 2: 605/ 7، عن علي بن الحسين عليه السّلام.(1/103)
ويقفل ويعاود» والقول الأوّل أظهر عند العلماء، وأوغل في مذاهب الفصحاء.
64
(64) وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «إِنَّ قَوْماً يُضْفَرُونَ الْإِسْلَامَ، ثُمَّ يَلْفِظُونَهُ» (1).
وهذا القول مجاز لأنّ المراد أنّهم يلقّنون الإسلام ويعلّمونه، فيتناسونه ويفارقونه، كالّذي يلقم الشيء فيدسع به (2) ولا يسيغه إلى جوفه، وذلك مأخوذ من قولهم: «ضفرت البعير أضفره ضفرا» إذا لقمته لقما عظاما.
وقد يجوز أن يكون مأخوذا من قولهم: «ضفر الرجل الدابّة، يضفرها ضفرا» إذا ألقى اللجام في فيها، والمعنيان متقاربان.
65
(65) وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «يَمِينُ اللَّهِ مَلْأَى سَحَّاءَ، لَا يُغِيضُهَا اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ» (3).
وهذه استعارة لأنّ المراد ب «اليمين» هاهنا نعمة الله، ووصفها بالامتلاء لكثرة منافعها، وعموم مرافدها، فجعلها كالعين الثرّة التي لا يغيضها الموائح (4)، ولا تنقصها النوازح.
__________
(1) النهاية في غريب الحديث: 3: 94، مجمع الزوائد 1: 22، وفيه: «يرفضون الإسلام».
(2) أي يقيئه. أقرب الموارد 1: 333، مادّة (د س ع).
(3) مسند أحمد 2: 242و 2: 500، صحيح البخاري 5: 213و 8: 173، صحيح مسلم 3: 77، سنن الترمذي 4: 317/ 5036، كنز العمّال 1: 224/ 1130.
(4) يقال: ماح الغلام إذا دخل البئر فملأ الدلو لقلّة مائخا، ولا يمكن أن يستقى منها إلّا بالاغتراف باليد.
أقرب الموارد 2: 1254، مادّة (م ي ح).(1/104)
و «السحّ»: شدّة المطر، يقال: «سحّت السماء سحّا» إذا جادت جودا. وخصّ اليمين لأنّها في الأكثر مظنّة العطاء، وموصلة الحباء على طريق المجاز والاتساع، وقد شرحنا هذا المعنى في عدّة مواضع من كتبنا المشتملة على علوم القرآن.
66
(66) وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «ابْنُوا الْمَسَاجِدَ وَاتَّخِذُوهَا جُمّاً» (1).
وهذه استعارة لأنّ المراد: ابنوها ولا تتّخذوا لها شرفا، فشبّهها عليه الصلاة والسلام بالكباش الجمّ،: وهي التي قرونها صغار خافية.
وَمِنْهُ الْخَبَرُ الْمَشْهُورُ فِي ذِكْرِ الْقِيَامَةِ: «إِنَّهُ يُؤْخَذُ لِلْجَمَّاءِ مِنَ الْقَرْنَاءِ» (2)
، وذلك من أحسن التشبيه، وأوقع التمثيل.
وقال ابن الأعرابي: «الأجمّ: الذي لا رمح معه» (3). ومن ذلك قول الشاعر:
ويل أمّهم معشرا جمّا بيوتهم ... من الرّماح وفي المعروف تنكير (4)
أراد أنّ بيوتهم خالية من الرماح المركوزة بأبوابها، فهي كالكباش الجمّ التي لا قرون تظهر لها.
__________
(1) السنن الكبرى 2: 439، كنز العمّال 7: 657/ 20770، كشف الخفاء 1: 34.
(2) مسند أحمد 1: 72، مجمع الزوائد 10: 352، كنز العمّال 14: 373/ 38986، وفي الجميع:
«يقتصّ للجمّاء»، أي يقتصّ لمن لا قرن لها ممن لها قرن، راجع المصباح المنير: 110، مادّة (ج م م) و 500، مادّة (ق ر ن).
(3) الصحاح 5: 1891، لسان العرب 12: 108.
(4) ديوان أوس بن حجر: 44، الأغاني 11: 70، الصحاح 5: 1891، لسان العرب 12: 108وفي الأخيرين: ويلمّهم.(1/105)
وقال الأعشى:
متى تدعهم للقاء الحروب ... أتتك خيول لهم غير جمّ (1)
أي قد أشرع فوارسها الرماح، فهي كالكباش إذا نهّدت (2) للكفاح، وسدّدت قرونها للنطاح، وقد جاء في كلامهم: «الرماح قرون الخيل».
ومثل ذلك
الْحَدِيثُ الْمَرْوِيُّ: «سَتَكُونُ فِتْنَةٌ كَأَنَّهَا صَيَاصِي بَقَرٍ»
(3)، و «الصياصي» هاهنا: القرون، قيل: «إنّما شبّهها عليه الصلاة والسلام بقرون البقر لكثرة ما يشرع فيها من الرماح».
67
(67) وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «لَا يَزَالُ الْعَبْدُ خَفِيفاً مُعْنِقاً بِذَنْبِهِ مَا لَمْ يُصِبْ دَماً فَإِذَا أَصَابَ دَماً بَلَّحَ» (4).
وهذا مجاز لأنّه عليه الصلاة والسلام شبّه المذنب غير القاتل بحامل الحمل، إلّا أنّ فيه بعض الخفّة، فهو يعنق به أي يسرع من تحته، فإذا أصاب دما ثقل ذلك العبء حتّى يبلح منه، و «التبليح»: الإعياء، مأخوذ من بلوح الشيء، وهو انقطاعه، فكأنّ منّته (5) قد نفدت، وقوّته قد انقطعت.
وإنّما قال عليه الصلاة والسلام ذلك تغليظا لأمر الدم ليقلّ الإقدام
__________
(1) ديوان الأعشى: 41، الأغاني 9: 108، الصحاح 5: 1891، لسان العرب 12: 108، وفي الأخيرين: لقراع الكماة تأتك خيل.
(2) أي برّزت واسرع بها. راجع أقرب الموارد 2: 1351، مادّة (ن هـ د).
(3) مسند أحمد 4: 109، النهاية في غريب الحديث 3: 67، لسان العرب 7: 52.
(4) سنن أبي داود 2: 307، وفيه: «لا يزال المؤمن معنقا»، السنن الكبرى 8: 22، كنز العمّال 15:
24/ 39908، الدرّ المنثور 2: 199.
(5) المنّة والقوّة سيّان. راجع المصباح المنير: 581، مادّة (م ن ن).(1/106)
على سفكه، ويكثر التزاجر عن التعرّض له، ومع ذلك فالتوبة تسقط العقاب المستحقّ عليه، كما تسقط العقاب المستحقّ على غيره من المعاصي، خلافا لما ظنّه بعض الناس من أنّ القاتل لا توبة له لأنّ الأمر لو كان على ما قاله لم يكن للقاتل سبيل إلى الانتفاع بطاعته في المستقبل لأنّها تقع محبطة، ولا يجوز ألّا يكون للعاصي طريق إلى الانفكاك من عقاب المعاصي لأنّ في ذلك إغراء له بها، وحملا له عليها.
وفي بعض الأحاديث: «أنّ أعرابيا قتل تسعة وتسعين إنسانا، ثمّ أتى راهبا بالشام يستفتيه في توبته، فقال له: ما أرى لك توبة، فقال: لا جرم والله، لاكملنّهم بك مائة، فقتل الراهب (1)».
وما حكوه عن عبد الله بن عبّاس رحمه الله من اختلاف فتواه في هذا المعنى لأنّه أفتى مستفتيا سأله عن توبة القاتل: «بأنّه لا توبة له» وأفتى آخر «بأنّ له توبة» فله عندنا وجه صحيح قد نقل عن ثقات الناقلين، وذلك أنّه سئل عن اختلاف قوليه في هذا الباب، فقال: «أتاني مستفت فأفتيته بأنّ للقاتل توبة لأنّي رأيت عليه من أمارات من قتل وهو نادم على قتله، خائف من جرائر فعله، واستفتاني آخر، فأفتيته بأنّه لا توبة للقاتل لأنّي رأيت عليه أمارات من قد عزم على القتل في المستقبل، وأراد أن يلجأ إلى التوبة بعد الإقدام على سفك الدم المحرّم، فأفتيته بذلك ليقف عن عزمه، ويخاف عواقب إثمه (2).
__________
(1) صحيح مسلم 4: 1683/ 2766.
(2) صحيح مسلم 8: 104، مجمع الزوائد 10: 212.(1/107)
68
(68) وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «بُلُّوا أَرْحَامَكُمْ وَلَوْ بِالسَّلَامِ» (1).
وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى: «انْضَحُوا أَرْحَامَكُمْ»
(2)، والمعنى واحد.
وهذه استعارة لأنّ المراد: صلوا أرحامكم ولو بالسلام أي جدّدوا المودّة بينكم وبين أقربائكم ولو بالتسليم عليهم تشبيها ببلّ السقاء (3)
اليابس لأنّه لا يتبلل إلّا بملء الماء، فينتدي قاحله (4)، ويتمدّد قالصه (5)، فشبّهوا بلّ الأرحام بذلك لأنّ في حسن المخالفة تجديدا لمخلقها (6)، وإحكاما لما وهى من علائقها.
ومثل ذلك قول الكميت الأسدي:
نضحت أديم الودّ بيني وبينهم ... بآصرة الأرحام لو يتبلّل (7)
69
(69) وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِرَجُلٍ قِيلَ لَهُ: إِنَّهُ نَامَ عَنِ الصَّلَاةِ حَتَّى أَصْبَحَ: «ذَاكَ رَجُلٌ بَالَ فِي أُذُنِهِ الشَّيْطَانُ» (8).
وهذا مجاز لأنّه عليه الصلاة والسلام أراد أنّ الشيطان تهكّم به
__________
(1) غريب الحديث للهروي 1: 207، الفائق 1: 109، النهاية في غريب الحديث 1: 153، كنز العمّال:
3: 356/ 6914، عوالي اللآلي 1: 255/ 18.
(2) لسان العرب 11: 64، وفيه: «انضحوا الرحم».
(3) وهو جلد الشاة، يوضع فيه الماء واللبن. راجع المصباح المنير: 281، مادّة (س ق ي).
(4) أي يابسه. المصباح المنير: 491، مادّة (ق ح ل).
(5) أي المنكمش من السقاء.
(6) أي لما قدم منها.
(7) شرح هاشميات الكميت: 185، لسان العرب 2: 620، والأديم: الجلد المدبوغ، والمراد من أديم الودّ: رابطة المحبّة.
(8) سنن النسائي 3: 204، مسند أحمد 1: 427، صحيح البخاري 4: 91، صحيح مسلم 2: 187، السنن الكبرى 3: 15، كنز العمّال 8: 394/ 23409، البداية والنهاية 1: 68.(1/108)
وسخر منه لأنّهم يقولون ذلك فيمن ظهر اختلاله، وبان انحلاله، وأصله مأخوذ من الإفساد، فكأنّه عليه الصلاة والسلام أراد أنّ الشيطان قد أفسده وفسخ عقده.
وعلى ذلك قول الشاعر:
إذا رأيت أنجما من الأسد ... جبهته أو الخرات والكتد
بال سهيل في الفضيخ ففسد ... وطاب ألبان اللّقاح وبرد (1)
أي أفسد سهيل اللبن ففسد، فعبّر عن إفساده له ببوله فيه، تشبيها بالبائل في الماء لأنّه يفسد عذبه، ويمنع شربه.
70
(70) وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «تُعْرَضُ لِلنَّاسِ جَهَنَّمُ كَأَنَّهَا سَرَابٌ يَحْطِمُ بَعْضُهَا بَعْضاً» (2).
وهذا مجاز لأنّه عليه الصلاة والسلام أراد شدّة احتدامها والتفاف ضرامها، فكأنّ بعضها يحطم بعضا أي يهدّه ويهيّضه (3)، و «الحطم»:
الكسر. وقد يجوز أن يكون المراد أنّها تحطم أبدان المعاقبين بها،
__________
(1) مجالس ثعلب 2: 421، تفسير الطبري 14: 81، لسان العرب 2: 29و 3: 377و 13: 484، من الأسد: أي من برج الأسد، جبهته: أي جبهة الأسد، وهو منزل من منازل القمر، الخراتان: نجمان من كواكب الأسد بينهما قدر سوط، وهما كتفا الأسد، الكتد: نجم، وهو كاهل الأسد، سهيل: نجم، تنضح الفواكه عند طلوعه وينقضي القيظ، الفضيخ: لبن رقيق لكثرة مائه، اللقاح: الإبل، واحدتها لقوح. والمراد: أنّ صيرورة النجوم بهذا الوضع، توجب فساد اللبن الرقيق، وطيب ألبان الإبل وبروردتها.
(2) صحيح البخاري 5: 179، صحيح مسلم 1: 115، مستدرك الحاكم 4: 582، كنز العمّال 14:
441/ 39198، وفيه: «فيحشرون إلى جهنّم».
(3) أي يهيّجه. أقرب الموارد 2: 1415، مادّة (هـ ي ض).(1/109)
وجعلهم بعضها لأنّهم خالدون فيها، غير خارجين منها.
71
(71) وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِرَجُلٍ مِنْ وَفْدِ تُجِيبَ (1): «إِنِّي لَأَرْجُو أَنْ تَمُوتَ جَمِيعاً»، فَقَالَ: أَوَلَيْسَ الرَّجُلُ يَمُوتُ جَمِيعاً يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «تَتَشَعَّبُ أَهْوَاؤُهُ وَهُمُومُهُ فِي أَوْدِيَةِ الدُّنْيَا، فَلَعَلَّ أَجَلَهُ يُدْرِكُهُ فِي بَعْضِ ذَلِكَ، فَلَا يُبَالِي اللَّهُ فِي أَيِّهَا هَلَكَ» (2).
وفي هذا الكلام مجازان:
أحدهما: قوله عليه الصلاة والسلام: «إنّي لأرجو أن تموت جميعا» لأنّ الإنسان لا يموت إلّا جميعا، وإنّما أراد: إنّي لأرجو ألّا يدركك الموت وهمومك متقسّمة، وأهواؤك متشعّبة، فكأن يكون متفرّقا بتفرّق أهوائه، ومتشعّبا بتشعّب آرائه.
والمجاز الآخر: قوله عليه الصلاة والسلام: «في أودية الدنيا» وهذه استعارة عجيبة لأنّه شبّه اختلاف طرائق الدنيا ومذاهبها وتباين أحوالها ونوائبها، بالأودية المختلفة، فمنها البعيد والقريب، والمخصب والجديب، والواسع والضيّق، والمنجي والمعطب (3).
72
(72) وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَهُوَ يَعْنِي الْمَدِينَةَ: «أُسْكِنْتُ بِأَقَلِّ
__________
(1) تجيب: بطن من كندة ينتسبون لجدتهم العليا تجيب بنت ثوبان. تاج العروس 1: 319، مادّة (ت ج ب).
(2) الطّبقات الكبرى لابن سعد 1: 323، سنن ابن ماجة 1: 95/ 257، و 2: 1375/ 4106مع اختلاف في العبارة، كنز العمّال 3: 203/ 6178.
(3) أيّ المهلك.(1/110)
الْأَرْضِ مَطَراً، وَهِيَ بَيْنَ عَيْنَيِ السَّمَاءِ: عَيْنٍ بِالشَّامِ، وَعَيْنٍ بِالْيَمَنِ» (1).
وهذه استعارة لأنّه عليه الصلاة والسلام أراد كثرة انهلال السماء بالمطر في هذين الموضعين: الشام، واليمن، يكنّي عن ذلك ب «عيني السماء» كأنّه عليه الصلاة والسلام شبّه أفقي السماء المطلّين على هذين البلدين بالعينين الدامعتين، فأراد أنّ العينين لا تنقطع مياههما عن هذين الموضعين، كما لا ترقأ (2) دموع هاتين العينين.
وقد يجوز أن يكون إنّما أراد عليه الصلاة والسلام أن يشبّههما بالعينين من العيون التي تنبع الماء في الأرض، فكما أنّ ماء العين موصول لا ينقطع، فكذلك قطر السماء في هذين البلدين متّصل غير منقطع، وكلا القولين مجاز وتوسّع، وقد سمّوا السحاب الناشئ من جهة القبلة: «عينا» على أحد المعنيين اللذين ذكرناهما، فقد يجوز أيضا أن يكون قوله عليه الصلاة والسلام: «بين عيني السماء» يريد بين السحابين الناشئين بهذين البلدين.
73
(73) وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «الْحَيَاءُ نِظَامُ الْإِيمَانِ» (3).
وهذه استعارة، والمراد أنّ الحياء يجمع خلال الإيمان كما يجمع السلك فرائد النظام لأنّ الإنسان الكثير الحياء يحجم عن مواقعة المعاصي، ومطاوعة المغاوي، فإذا قلّ حياؤه تفرّق جماع إيمانه، فأشبه
__________
(1) كنز العمّال 12: 254/ 34918عن ابن عساكر، عن ابن مسعود.
(2) أي لا تنقطع بعد جريانهما. راجع المصباح المنير: 236، مادّة (ر ق أ).
(3) لم يرد الحديث بهذا اللفظ وإنما جاء بفظ: «الحياء من الإيمان» صحيح مسلم 1: 66/ 36، سنن الترمذي 4: 321/ 2009، مسند أحمد 2: 73/ 4540، و 157/ 5161.(1/111)
السلك في أنّه إذا انقطع تهافتت خرز نظامه.
وهذا المعنى أراده الشاعر بقوله:
يعيش المرء ما استحيا بخير ... ويبقى العود ما بقي اللّحاء (1)
وليس ينافي هذا الحديث الحديث الآخر وهو
14 - قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «الْحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِنَ الْإِيمَانِ»
(2)، فإنّه لا يمتنع أن يكون شعبة منه، ويكون مع ذلك نظاما له.
74
(74) وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «مِنْبَرِي هَذَا عَلَى تُرْعَةٍ مِنْ تُرَعِ الْجَنَّةِ» (3).
وقد قيل في تفسير «الترع» ثلاثة أقوال:
أحدها: أن يكون اسما للدرجة.
والثاني: أن يكون اسما للروضة على المكان العالي خاصّة.
والثالث: أن يكون إسما للباب (4).
وفي هذا الكلام مجاز على الأقوال الثلاثة، وجميعها يؤول إلى معنى واحد، فإن كانت «الترعة» بمعنى الدرجة، فالمراد أنّ منبره عليه الصلاة
__________
(1) ديوان أبي تمام الطائي 4: 279، روضة الواعظين: 460، اللحاء: ما على العود من قشره، المصباح المنير: 551، مادّة (ل ح ي).
(2) مسند أحمد 2: 414، صحيح البخاري 1: 8، صحيح مسلم 1: 46، سنن ابن ماجة 1: 22/ 57 و 58، سنن أبي داود 2: 408/ 4676، كنز العمّال 1: 35/ 52و 53.
(3) مصباح المتهجّد: 710، الكافي 4: 553/ 1و 555/ 5، الفقيه 2: 340/ 1572، التهذيب 6: 7/ 12، مسند أحمد 2: 360، السنن الكبرى 5: 247، مجمع الزوائد 4: 8، كنز العمّال: 12:
236/ 34825، معاني الأخبار: 267، مناقب ابن شهرآشوب 3: 139.
(4) انظر: الفائق في غريب الحديث 1: 149، النهاية في غريب الحديث 1: 187.(1/112)
والسلام على طريق الوصول إلى درج الجنة لأنّه عليه الصلاة والسلام يدعو عليه إلى الإيمان، ويتلو قوارع القرآن، ويخوّف ويزجر، ويعد ويبشّر. وإن كانت بمعنى الباب فالقول فيهما واحد.
وإن كانت بمعنى الروضة على المكان العالي، فالمراد بذلك أيضا كالمراد بالقولين الأوّلين لأنّ منبره عليه الصلاة والسلام على الطريق إلى رياض الجنّة لمن طلبها، وسلك السبيل إليها، وفيه زيادة معنى وهو أن يكون إنّما شبّهه بالروضة لما يمرّ عليه من محاسن الكلم، وبدائع الحكم، التي تشبه أزاهير الرياض، وديابيج (1) النبات، وهم يقولون في الكلام الحسن: «كأنّه قطع الروض، وكأنّه ديباج الرقيم».
وأضاف عليه الصلاة والسلام الروضة إلى الجنّة لأنّ الكلام المونق الذي يتكلّم به عليه الصلاة والسلام يهدي إلى الجنّة، ويكون دالّا عليها، وقائدا إليها. وعندهم أنّ الروضة إذا كانت على الإيفاع والإنشاز (2) كانت أحسن منظرا، وآنق زهرا. وعلى ذلك قول الأعشى:
ما روضة من رياض الحزن معشبة ... خضراء جاد عليها واكف خضل (3)
وقد قال بعضهم: «الترعة: الكوّة» (4)، وهو غريب، فإن كان المراد
__________
(1) الدبابيج: جمع ديباج، والمراد منه هنا الحسن من النبات.
(2) أي مرتفعة.
(3) ديوان الأعشى: 57، أمالي المرتضى 1: 159، التبيان في تفسير القرآن 2: 339، و 8: 236، الحزن:
ما غلظ من الأرض، الواكف: المطر المنهلّ، الخضل: النادي المترشّش البلل والندي.
(4) بضم الكاف وفتحها: الخرق في الحائط.(1/113)
ذلك فكأنّه عليه الصلاة والسلام قال: منبري على مطلع من مطالع الجنّة، والمعنى قريب من معنى الباب لأنّ السامع لمّا يتلى عليه كأنّه يطّلع إلى الجنّة، فينظر إلى بهجتها، وإلى ما أعدّ الله للمؤمنين فيها.
75
(75) وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «إِنَّ الْإِسْلَامَ لَيَأْرَزُ إِلَى الْمَدِينَةِ كَمَا تَأْرَزُ الْحَيَّةُ إِلَى جُحْرِهَا» (1).
وهذه استعارة، والمراد أنّ الإسلام ليأوي إلى المدينة كما تأوي الحيّة إلى جحرها، وأصل ذلك مأخوذ من التقبّض والاجتماع، يقال: «أرز أروزا» إذا كان منه ذلك، فجعل عليه الصلاة والسلام المدينة كالوجار (2)
للإسلام يتقلّص إليها، وينضمّ إلى حماها لأنّها قطب مداره، ونقطة ارتكازه.
76
(76) وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ لَحْمٌ نَبَتَ مِنْ سُحْتٍ» (3).
وهذا القول مجاز لأنّه عليه الصلاة والسلام شبّه نماء أعضاء البدن بنبات أغصان الشجر لما بينهما من المشاكلة لأنّ العروق كالعروق (4)، والألحية كالجلود، والإيراق كالحياة، والإيباس كالوفاة.
__________
(1) مسند أحمد 2: 286، وفيه: «إنّ الايمان»، صحيح البخاري 2: 222، سنن ابن ماجة 2:
1038/ 3111، سنن الترمذي 4: 129/ 2765، وفيه: «إنّ الدين»، كنز العمّال 1: 239/ 1197، البداية والنهاية 3: 250، عوالي اللآلي 1: 429/ 122،
(2) أي الجحر. أقرب الموارد 2: 1428، مادّة (وج ر).
(3) سنن الدارمي: 2: 318، وفيه: «لن يدخل»، مجمع الزوائد 5: 248، كنز العمّال 4: 16/ 9275 و 9277، مستدرك الحاكم 4: 127، 422.
(4) أي الجذور كالأوردة.(1/114)
77
(77) وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ وَذَكَرَ قِيَامَ اللَّيْلِ وَصِيَامَ النَّهَارِ، فَقَالَ: «إِنَّكَ إِذَا فَعَلْتَ ذَلِكَ هَجَمَتْ عَيْنَاكَ وَنَفِهَتْ نَفْسُكَ» (1).
فقوله عليه الصلاة والسلام: «هجمت عيناك» استعارة لأنّ المراد به غور العينين لطول القيام، ولبعد العهد بالطعام، وذلك مأخوذ من قولهم:
«هجم فلان على فلان» إذا دخل عليه دخولا فيه سرعة، وله روعة، ويقال: «هجم عليهم البيت» إذا سقط عليهم، فشبّه عليه الصلاة والسلام إفراط دخول العينين في حجاج (2) الرأس بهجوم الرجل الهاجم، أو وجوب (3) البيت الواقع، فالتشبيه بالأوّل لإيغاله في مدخله، والتشبيه بالثاني لزواله عن موضعه. ومعنى «نفهت نفسك» أي أصابها الملال، وجدّها الإعياء والكلال.
78
(78) وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «لَأَنْ يَمْتَلِئَ جَوْفُ أَحَدِكُمْ قَيْحاً حَتَّى يَرِيَهُ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَمْتَلِئَ شِعْراً» (4).
وفي هذا القول مجاز لأنّ المراد به النهي عن أن يكون حفظ الشعر أغلب على قلب الإنسان، فيشغله عن حفظ القرآن وعلوم الدين حتّى
__________
(1) صحيح مسلم 3: 165، السنن الكبرى 3: 16، سنن النسائي 4: 214، صحيح البخاري 2: 49، كنز العمّال 3: 32/ 5324.
(2) الحجاج: العظم الذي ينبت عليه الحاجب. أقرب الموارد 1: 164، مادّة (ح ج ج).
(3) أي سقوط. المصباح المنير: 468، مادّة (وج ب).
(4) مسند أحمد 1: 175، سنن الدارمي 2: 297، صحيح البخاري 7: 109، صحيح مسلم 7: 50، سنن ابن ماجة 2: 7و 123/ 3760، سنن الترمذي 4: 219، مجمع الزوائد 8: 120، كنز العمّال 3:
573/ 7954، السرائر 3: 633.(1/115)
يكون أحضر حواضره، وأكثر خواطره، فشبّهه عليه الصلاة والسلام بالإناء الذي يمتلئ بنوع من أنواع المائعات، فلا يكون لغيره فيه مسرب، ولا معه مذهب.
وقال بعضهم: «إنّما هذا في الشعر الذي هجي به النبيّ عليه الصلاة والسلام خصوصا» (1).
والصحيح أنّه في كلّ شعر استولى على القلب كلّ استيلاء عموما لأنّ النهي يتعلّق بحفظ القليل ممّا هجي به النبيّ عليه الصلاة والسلام، وكثيره يراعى فيه أن يكون غالبا على القلب، وطافحا على اللب.
وقوله عليه الصلاة والسلام: «حتّى يريه» معناه: حتّى يفسده ويهيضه، ويقولون: «وراه الداء» إذا فعل ذلك به. قال الشاعر:
وراهنّ ربّي مثل ما قد ورينني ... وأحمى على أكبادهنّ المكاويا (2)
79
(79) وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «كُلُّ صَلَاةٍ لَا يُقْرَأُ فِيهَا بِأُمِّ الْكِتَابِ فَهِيَ خِدَاجٌ»
(3).
[وروي هذا الخبر بلفظ آخر وهو
قَوْلُهُ: «كُلُّ صَلَاةٍ لَا قِرَاءَةَ فِيهَا فَهِيَ خِدَاجٌ»] (4).
__________
(1) انظر: الفائق في غريب الحديث 3: 238، المغني لابن قدامة 10: 177176.
(2) ترتيب كتاب العين: 850، المغني لابن قدامة 10: 176.
(3) سنن النسائي 2: 135، مسند أحمد 2: 204، سنن ابن ماجة: 1: 274/ 840، سنن أبي داود 1:
189/ 821، السنن الكبرى 2: 38، مجمع الزوائد 2: 111، كنز العمّال: 7: 437/ 19663، المسائل الصاغانية: 119.
(4) ما بين المعقوفين من نسخة ب. لاحظ: الاحتجاج 2: 313، البحار 53: 164/ 4وج 85: 86/ 2.(1/116)
وهذه استعارة عجيبة لأنّه عليه الصلاة والسلام جعل الصلاة التي لا يقرأ فيها ناقصة بمنزلة الناقة إذا ولدت ولدا ناقص الخلقة، أو ناقص المدّة، ويقال: «أخدج الرجل صلاته» إذا لم يقرأ فيها، فهو مخدج، وهي مخدجة.
وقال بعض أهل اللغة: يقال: «خدجت الناقة إذا ألقت ولدها قبل أوان النتاج وإن كان تامّ الخلقة، وأخدجت إذا ألقته ناقص الخلق وإن كان تامّ الحمل (1)، فكأنّه عليه الصلاة والسلام قال: كلّ صلاة لا يقرأ فيها فهي نقصان، إلّا أنّها مع نقصانها مجزئّة. وذلك كما تقول في
قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «لَا صَلَاةَ لِجَارِ الْمَسْجِدِ إِلَّا فِي الْمَسْجِدِ»
(2): إنّما أراد به نفي الفضل، لا نفي الأصل، فكأنّه قال: لا صلاة كاملة أو فاضلة إلّا في المسجد وإن كانت مجزئة في غير المسجد، فنفى عليه الصلاة والسلام كمالها، ولم ينف أصلها».
وممّا يؤكّد ذلك الخبر الخبر الآخر وهو
قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ:
«لَا غِرَارَ فِي صَلَاةٍ، وَلَا تَسْلِيمٍ»
(3) أي لا نقصان فيهما، من قولهم:
«ناقة مغارّ» إذا نقص لبنها.
__________
(1) انظر: الصحاح 1: 308، ماده (خ د ج)، لسان العرب: 4: 32.
(2) الانتصار: 61، دعائم الاسلام 1: 148، التهذيب 1: 92/ 244، وفيه: «إلّا في مسجده»، سنن الدارقطني 1: 420، مستدرك الحاكم 1: 246، السنن الكبرى 3: 57، كنز العمّال 7:
650/ 20737.
(3) مسند أحمد 2: 461، سنن أبي داود 1: 928210، مستدرك الحاكم 1: 264، السنن الكبرى: 2:
260، كنز العمّال 7: 514/ 20025.(1/117)
ومنه
الْحَدِيثُ الْآخَرُ: «لَا تُغَارُّوا التَّحِيَّةَ»
(1) أي: لا تنقصوا السلام، وردّوا على البادي به مثل ما قال.
80
(80) وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «عَائِدُ الْمَرِيضِ عَلَى مَخَارِفِ الْجَنَّةِ» (2).
وفي هذا الكلام مجاز على التأويلين جميعا فإن كان المراد ب «المخارف» جمع مخرف وهو جنى النخل (3) فكأنّه عليه الصلاة والسلام شهد لعائد المريض بدخول الجنّة، وحقّق له ذلك حتّى عبّر عنه وهو بعد في دار التكليف بعبارة من صار إلى دار الخلود ثقة له بالوصول إلى الجنّة، والنزول في دار الأمنة، وهذا موضع المجاز.
وإن كان المراد ب «المخارف» جمع مخرفة، وهي الطريق، كما
رُوِيَ عَنْ بَعْضِ الصَّحَابَةِ: أَنَّهُ قَالَ فِي كَلَامٍ لَهُ: «وَتَرَكْتُكُمْ عَلَى مِثْلِ مَخْرَفَةِ النِّعَمِ» (4)
أي طريق النّعم الواضح الذي أعلمته بأخفافها، واعتدته بكثرة غدوّها ورواحها، فموضع المجاز منه: أنّه عليه الصلاة والسلام جعل عائد المريض، كالماشي في طريق يفضي به إلى الجنّة، ويوصله إلى دار المقامة.
__________
(1) غريب الحديث للهروي 1: 458، وفيه «لا تغارّ»، الفائق 2: 27.
(2) الجامع للشرائع 48، مجمع البحرين: 1: 638، المجموع في شرح المهذب 19: 320و 20: 130، مسند أحمد 5: 279، صحيح مسلم 8: 12، السنن الكبرى 3: 380، وفي الثلاثة الأخيرة: «في مخرفة الجنّة».
(3) أي ما يجنى من النخل، وهو التمر.
(4) النهاية في غريب الحديث 2: 24عن عمر، السنن الكبرى 10: 134، كنز العمّال 5: 807ح 1443.(1/118)
81
(81) وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِلْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ وَقَدْ خَطَبَ امْرَأَةً لِيَتَزَوَّجَهَا: «لَوْ نَظَرْتَ إِلَيْهَا فَإِنَّهُ أَحْرَى أَنْ يُؤْدَمَ بَيْنَكُمَا» (1).
وفي هذا اللفظ مجاز على التأويلين جميعا:
فأحدهما: أن يكون قوله عليه الصلاة والسلام: «أحرى أن يؤدم بينكما» مأخوذ من الطعام المأدوم لأنّ طيبه وصلاحه إنّما يكون بالإدام، كالزيت والإهالة (2)، وما يكون في معناهما، فكأنّه عليه الصلاة والسلام أراد أنّ ذلك أحرى أن يتوافقا، كما يوافق الطعام ادمه، أو كما يوافق الإدام خبزه.
قال الكسائي: «أدم الله بينهما: على مثال فعل إذا ألقى بينهما المحبّة والاتّفاق» (3).
وأقول: إنّ هذا يشبه دعاءه عليه الصلاة والسلام للباني على أهله وهو قوله: «بالرفاء والبنين» (4)، كأنّه عليه الصلاة والسلام دعا بأن يلائم الله بينهما كما يلائم الرافي (5) بين شقق الثوب المرفوء.
وأمّا التأويل الآخر في أصل الخبر: فهو أن يكون بمعنى: ذلك أحرى أن يصلح الله بينكما، من قولهم: «عنان (6) مؤدم» إذا كان مصلحا
__________
(1) المبسوط للسرخسي 8: 177، بدائع الصنائع 3: 57، مسند أحمد 4: 246، وفيه: «فانظر إليها»، سنن ابن ماجة 1: 599، سنن الترمذي 2: 275/ 1092، السنن الكبرى 7: 84.
(2) أي الشحم المذاب. أقرب الموارد 1: 23، مادّة (أهـ ل).
(3) غريب الحديث 1: 142، لسان العرب 12: 8.
(4) سنن ابن ماجة 1: 614، سنن النسائي 6: 128وفيهما نهي عن هذا القول.
(5) أي مصلح الثياب.
(6) العنان: سير اللجام الذي تمسك به الدابّة لاعتراض سيريه على صفحتي عنق الدابّة عن يمينه وشماله. أقرب الموارد 2: 841، مادّة (ع ن ن).(1/119)
محكما، قال الراجز (1):
في صلب (2) مثل العنان المؤدم (3)
ويقال: «أديم (4) مؤدم» إذا ظهرت أدمته وهو مأوى اللحم منه، وأديم مبشر إذا ظهرت بشرته، وهو مأوى الشعر منه، ويقال: رجل مؤدم إذا كان محبوبا، قال الراجز:
والبيض لا يؤدمن إلّا مؤدما (5)
أي لا يحببن إلّا محبوبا.
82
(82) وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «إِنَّ مِنَ الْبَيَانِ لَسِحْراً» (6).
وهذا القول مجاز، والمراد به أنّ البيان قد يخدع بتزويقه (7) وزخارفه، وحسن معارضه ومطالعه حتّى يستزل الإنسان من حال الغضب والمخاشنة (8) إلى حال الرضا والملاينة، وينزع حمات (9) السخائم (10)،
__________
(1) أي العجّاج يصف امرأة.
(2) أي ظهر.
(3) ديوان العجاج: 293، إصلاح المنطق: 199و 226، الكنز اللغوي: 165، الصحاح 1: 164، مفردات الراغب: 284صدره: ديا العظام فخمة المخدّم.
(4) الأديم الجلد المدبوغ. المصباح المنير 9، مادّة (أد م).
(5) الصحاح 5: 1859.
(6) مسند أحمد 4: 263، سنن الدارمي 1: 365، صحيح البخاري 7: 30، سنن أبي داود 2:
478/ 5007، مستدرك الحاكم 3: 613، السنن الكبرى 3: 208، مجمع الزوائد 8: 117، كنز العمّال 3: 579/ 7984، المبسوط 8: 228، الفقيه 4: 379/ 5805.
(7) زوّقت الكلام والكتاب، إذا حسّنته وقوّمته، الصحاح 4: 1492.
(8) المخاشنة: خلاف الملاينة، الصحاح 5: 2108.
(9) في نسخة ب: ينتزع لحمات.
(10) الحمات: جمع حمة، وهي السمّ، والسخائم: جمع سخيمة، وهي الحقد. أقرب الموارد 1: 235، مادّة (ح م ي) و 503مادّة (س خ م).(1/120)
ويفسخ عقود العزائم، ويكبح (1) الجامح حتّى يرجع، ويسفّ (2) بالمحلّق حتّى يقع، ويعود بالخصم الضالع (3) موافقا، وبالضدّ الأبعد مقاربا.
والسحر في الأصل: هو التمويه والخديعة، والتلبيس والتغطية، وقال بعضهم: «السحر: ما نقلك من حال إلى حال» (4). وكانت العرب تعتقد أنّ السحر يصرف الوجوه، ويقلّب القلوب، ويمرض الأجسام، ويسفّه الأحلام، ويفرّق بين المتحابّين، ويجمع بين المتباغضين، وهذا في الحقيقة نقل من حال إلى حال، وهو عندنا باطل، إلّا أن يراد به ما قدّمنا القول فيه من خديعة الإنسان بلين القول، وحسن اللفظ حتّى يرضى بعد اشتطاطه (5)، وينثني بعد جماحه. وهذا الوجه هو الذي ذهب إليه النبيّ عليه الصلاة والسلام، دون ما يقوله أهل الجهالة، وطغام (6)
الجاهلية.
83
(83) وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «إِلَّا أَنْ يَتَغَمَّدَنِي مِنْهُ بِرَحْمَةٍ»
(7).
وأصل هذا الكلام مستعار لأنّ المراد به: إلّا أن يغطّيني الله أو يجلّلني
__________
(1) كبحت الدابّة: إذا جذبتها إليك باللجام لكي تقف ولا تجري، الصحاح 1: 398.
(2) أي يهبط.
(3) أي المسائل المخالف.
(4) لسان العرب 4: 348 «مثله»، تاج العروس 11: 516، وفيها: إلى حال.
(5) أي بعد تباعده عن الحقّ وتجاوزه القدر. راجع أقرب الموارد 1: 591مادّة (ش ط ط).
(6) الطغام: أراذل الناس وأوغادهم (الصحاح: 5/ 1975).
(7) مسند أحمد 2: 256، سنن ابن ماجة 2: 1405/ 4201، مجمع الزوائد 10: 356، كنز العمّال: 1:
253/ 1277، صحيح مسلم 8: 139.(1/121)
منه برحمة، مأخوذ من «غمد السيف، الذي يكون كنانا (1) له، وسباغا (2)
عليه، وقال الشاعر:
نصبنا رماحا فوقها جدّ عامر ... كطلّ السماء كلّ أرض تغمّدا (3)
أي امتدّ جدّهم على أقطار الأرض، فغطّاها كامتداد السماء عليها من جميع جهاتها، يصفهم باستطالة الجدّ، وانبساط اليد، وثراء المال والعدد.
84
(84) وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ رَحْمَةً تَلُمُّ بِهَا شَعْثِي»
(4).
وهذه استعارة، والمراد: تجمع بها أمري، فَكَنَّى عليه الصلاة والسلام عن ذلك ب «الشعث» تشبيها بالعود الذي تشعّث رأسه، وتشظّت (5)
أطرافه، فهو محتاج إلى جامع يجمعه، وشاعث يشعثه.
ومن ذلك قول الشاعر يصف النار:
وغبراء شعثاء الفروع منيفة
بها توصف الحسناء وهي جميل (6)
أراد تفرّق أطرافها، وتشعّث شواظها (7).
__________
(1) أي غطاء.
(2) أي وافيا تامّا.
(3) ديوان ابن مقبل: 68، أمالي المرتضى 2: 20، وفيه: رمحا فوقها.
(4) سنن الترمذي 5: 147، مع اختلاف في العبارة فيهما، كنز العمّال 2: 171/ 3608، النهاية في غريب الحديث 2: 478، لسان العرب 2: 161.
(5) التشظّي والتشعّث: التفرّق. راجع المصباح المنير: 313، مادّه (ش ظ ى) و 314، مادّه (ش ع ى).
(6) لم أعثر له مصدر.
(7) أي لهبها.(1/122)
85
(85) وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شَرِّ عِرْقٍ نَعَّارٍ» (1).
وهذه استعارة، والأصل في ذلك رفع الصوت، يقال: «فلان نعّار في الفتن» أي صيّاح فيها، ودعّاء إليها. وقال بعض التابعين وقد صلّى خلف مصعب بن الزبير وهو رافع صوته بالتكبير والتهليل: «قاتله الله نعّارا بالبدع» (2) أي صيّاحا بها.
فشبّه عليه الصلاة والسلام شفور (3) دم العرق وتواتره بصوت الصائح المنوّه (4) من وجهين: لارتفاع ندائه، ولتكرير دعائه، فجعل العرق نعّارا للعلّة المذكورة على طريق المجاز والاتساع.
وقال بعض أهل اللغة: «يقال: نعر العرق نعرا ونعرانا: إذ اهتزّ بالدم ولم يرقا» (5) فإن كان الأمر على ما قال، فقد خرج الكلام عن باب المجاز إلى حيّز الحقيقة.
86
(86) وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «مَنْ كَانَتِ الدُّنْيَا هَمَّهُ وَسَدَمَهُ (6)
جَعَلَ اللَّهُ فَقْراً بَيْنَ عَيْنَيْهِ» (7).
__________
(1) مسند أحمد 1: 300، سنن ابن ماجة 2: 1165/ 3526، سنن الترمذي 3: 273/ 2157، مستدرك الحاكم 4: 414، كنز العمّال 7: 135/ 18370.
(2) تاريخ بغداد 13: 105، فوات الوفيات 4: 143، غريب الحديث للحربي 2: 451.
(3) أي شرّة خروجه.
(4) نوّهت بالشيء: رفعته، لسان العرب 13: 550.
(5) أي لم ينقطع. المصباح المنير 236، مادّة (ر ق أ).
(6) الدمّ: الهمّ، أو الهمّ مع ندم. راجع أحزب الموارد 1: 506، مادّة (س د م).
(7) سنن الدارمي 1: 96، سنن الترمذي 4: 57/ 2583، كنز العمّال 3: 206/ 6186، مجمع البحرين:
2: 356.(1/123)
وهذا الكلام مجاز، والمراد به أنّ من جعل الدنيا همّه، وقرّ عليها باله، وأعرض عن الآخرة بوجهه، وأخرج ذكرها من قلبه، وأقبل على تثمير الأموال، واستضخام الأحوال، عاقبه الله على ذلك: بأن يزيده فقر نفس، وضرع خدّ، فلا تسدّ مفاقره كثرة ما جمع وعدّد، وعظيم ما أثّل (1) وثمّر، فكأنّه يرى الفقر بين عينيه، فهو أبدا خائف من الوقوع فيه، والانتهاء إليه، فلا يزال آكلا لا يشبع، وشاربا لا ينقع (2)، فمعه حرص الفقراء، وله مال الأغنياء.
وقال عليه الصلاة والسلام: «جعل فقرا بين عينيه» مبالغة في وصفه بتصوّر الفقر فكأنّه قريب منه، وغيره غائب عنه، كما يقول القائل لغيره إذا أراد هذا المعنى: «حاجتك بين عيني» أي هي متصوّرة لي، وغير غائبة عن قلبي.
87
(87) وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي صِفَةٍ شَاءَ ذِكْرَهَا: «فَجَاءَتْ بِهِ كُلُّهُ قَالَبُ لَوْنٍ غَيْرَ وَاحِدٍ أَوِ انين» (3).
وهذه استعارة، والمراد أنّ ألوانها جاءت متساوية، فكأنّما افرغت في قالب واحد، وهذه من أحسن العبارات عن هذا المعنى، وذلك كما يقول القائل منّا إذا أراد أن يصف قوما متشابهين في الخلق والمناظر، أو في الطبائع والغرائز: «كأنّما طبعوا على سكّة واحدة، أو خلقوا من طينة واحدة».
__________
(1) أي ما اكتسبه وثمّره. أقرب الموارد 1: 4، مادّة (أث ل).
(2) أي لا يروى.
(3) النهاية في غريب الحديث 4: 97، في ضمن حديث شعيب وموسى عليه السّلام، مجمع الزوائد 4: 150 و 7: 87، البداية والنهاية 1: 284، وفي نسخة: «فنتجت على قالب».(1/124)
88
(88) وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «خَيْرُ الْخَيْلِ الْأَدْهَمُ (1) الْأَقْرَحُ (2)، الْمُحَجَّلُ ثَلَاثاً، طَلْقُ الْيَدِ الْيُمْنَى» (3).
وهذه من محاسن الاستعارات لأنّه عليه الصلاة والسلام شبّه الثلاث من قوائمه لالتفاف التحجيل عليها بالثلاث المعقولة من قوائم البعير، والمشكولة من قوائم الفرس، وشبّه اليمنى منها لخلوّها من التحجيل بالمطلقة من العقال، أو العاطلة من الشكال. ويقال: «ناقة علط» إذا لم تكن موسومة (4)، ويقال «طلق» إذا لم تكن معقولة، و «ناقة علط» إذا لم تكن مزمومة (5).
89
(89) وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِسُرَاقَةَ بْنِ مَالِكٍ الْمُدْلِجِيِّ لَمَّا خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مِنْ مَكَّةَ مُهَاجِراً إِلَى الْمَدِينَةِ وَقَدْ لَحِقَ بِهِ وَهُوَ بَعْدُ عَلَى شِرْكِهِ: «قِفْ هَاهُنَا، فَعَمِّ (6) عَلَيْنَا بِتَهَوُّرِ النُّجُومِ» (7).
وهذه استعارة، فكأنّه عليه الصلاة والسلام شبّه السماء وما فيها من
__________
(1) الأدهم: الذي اشتدّت ورقته حتى ذهب بياضه. والورقة: سواد في غبرة. راجع المصباح المنير:
202، مادّة (د هـ م) و 656، مادّة (ور ق).
(2) أي في جبهته قرحة وهي بياض بقدر الدرهم أو دونه. أقرب الموارد 2: 980، مادّة (ق ر ح). وفي نسخة ب: الأقرع وهو من سهو النسّاخ.
(3) سنن ابن ماجة 2: 933/ 2789، سنن الترمذي 3: 120/ 1747، مستدرك الحاكم 2: 92، السنن الكبرى 6: 330، مجمع البحرين 1: 465.
(4) الموسومة: التي كويت وأثّر فيها فيها بسمة وكيّ راجع المصباح المنير 660، مادّة (وس م).
(5) أي غير مشدودة بالزمام. راجع المصباح المنير 256، مادّة (ز م م).
(6) التعمية: أن تعمّي على إنسان شيئا، فتلبّسه عليه تلبيسا. تاج العروس 19: 704، مادّة (ع م ي).
(7) دلائل النبوة لأبي نعيم 129، مجمع الزوائد 3: 230. وفي نسخة ب: «فعمّ علينا حتّى ينتهور النجوم».(1/125)
مواقع الكواكب ومراقب (1) الثواقب بالأبنية الموطودة، والدعائم المرفوعة، وجعل تزحزحها (2) عن مطالعها وانصبابها بعد ترفّعها كالبناء المتهوّر، والسقف المتقوّض.
90
(90) وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي حَدِيثٍ طَوِيلٍ وَقَدْ خَطَّ فِي الْأَرْضِ خُطُوطاً يُمَثِّلُ بِهَا أَحْوَالَ ابْنِ آدَمَ، فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ:
«وَهَذِهِ الْخُطُوطُ إِلَى جَنْبِهِ الْأَعْرَاضُ تَنْهَشُهُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ، فَإِنْ أَخْطَأَهُ هَذَا أَصَابَهُ هَذَا» (3).
وفي هذا الكلام مجاز،
وقَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «وَهَذِهِ الْخُطُوطُ إِلَى جَنْبِهِ الْأَعْرَاضُ تَنْهَشُهُ»
ويروى: «تنغشه» بالغين، والمراد بذلك أعراض الدنيا، وهي ما تعرض فيها من المصائب، وتطرق من النوائب، وشبّهها عليه الصلاة والسلام بالحيّات الناهشة، والذؤبان الناهسة (4)
لأخذها من لحم الإنسان ودمه، وتأثيرها في نفسه وجسمه.
91
(91) وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «لَا يُصَلِّ الرَّجُلُ وَهُوَ زَنَاءٌ» (5).
وهذا القول مجاز لأنّ أصل «الزناء» الضيق والاجتماع، وقال الأخطل يذكر حفرة القبر:
__________
(1) أي مواضعها المشرفة المرتفعة. راجع أقرب الموارد 1: 422، مادّة (ر ق ب).
(2) يعني زوالها. انظر لسان العرب 2: 470.
(3) مسند أحمد 1: 385، سنن ابن ماجة 2: 1414/ 4231، كنز العمّال 3: 819/ 8857.
(4) أي الذئاب الناهسة، يقال: نهس (الذئب فلانا أي قبض على لحمه ومدّه بالفم. راجع أقرب الموارد 2: 1352، مادّة (ن هـ س).
(5) النهاية في غريب الحديث 2: 314، وفيه: «لا يصلينّ أحدكم». أمالي المرتضى 4: 192، وفيه:
نهى أن يصلّي الرجل.(1/126)
وإذا قذفت إلى الزّناء تعرّها ... غبراء مظلمة من الأجفار (1)
ويقال: «قد زنأ بوله يزنأ زنوء» إذا احتقن، و «أزنأ الرجل بوله إزناء» إذا حقنه، فسمّي الحاقن «زناء» لاجتماع البول فيه، وضيق وعائه عليه.
وموضع المجاز من هذا الكلام: أنّه عليه الصلاة والسلام وصف الرجل بالضيق، وإنّما الضيق وعاء البول، إلّا أنّ ذلك الموضع لمّا كان شيئا من جملته ونوطا (2) معلّقا، به جاز أن يجري اسمه عليه.
وقَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «لَا يُصَلِّ الرَّجُلُ وَهُوَ زَنَاءٌ»
فيه من الفائدة ما ليس في قوله: «وهو حاقن» لأنّ الحاقن قد يحقن القليل كما يحقن الكثير، والزناء هو الضيق، ولا يكاد يضيق وعاء البول إلّا من الكثير دون القليل.
92
(92) وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «الْحِجَازُ قَطِيفَةُ الْإِيمَانِ»
(3).
وهذه استعارة، والمراد بها أنّه يحيط بالإيمان (4)، ويجمع شمله،
__________
(1) ديوان الأخطل: 418، الأغاني 8: 280، تاج العروس 1: 169، وفيه:
وإذا قذفت إلى زناء قعرها ... غبراء مظلمة من الأجفار
أمالي المرتضى 4: 194، وفيه: إذا دفعت إلى أمالي المرتضى 4: 194، وفيه: إذا دفعت إلى زناء بابها.
تعرّها: تسوؤها، الأجفار: جمع جفر، وهو البئر الواسعة التي لم تطو، والأوى ان تكون مصدر الفعل أجفر صاحبه إذا قطعه وترك زيارته فهي بكسر الهمزة من باب الإفعال. كما أنّ الظاهر عدم استقامة ما في المتن إذ لا معنى لكلمة «تعرّها» هنا، ولا لنصب كلمة «مظلمة».
(2) النّوط: ما علّق من شيء (لسان العرب 7: 418).
(3) لم أعثر له على مصدر.
(4) في نسخة: والمراد بها أنّ الحجاز يحفظ بالإيمان.(1/127)
ويضمّ أهله كما تضمّ القطيفة وهي الكساء الغليظ جملة بدن الإنسان إذا اشتمل بها، ودخل فيها.
وإنّما قال عليه الصلاة والسلام ذلك لثبات عرب الحجاز من قريش وغيرها على الإسلام بعد دخولهم فيه، فلم يرتدّ منهم أحد كغيرهم ممن خلّى حبل الدين عن بدنه، ورجع على عقبه.
وقال أصحاب الآثار: «ما من قبيلة من قبائل العرب بعد وفاة النبيّ
عليه الصلاة والسلام إلّا وقد فشا فيها الارتداد عامّة أو خاصة، إلّا قريشا وثقيفا، فإنّه لم يرتدّ منهم أحد» هذا على أنّ هاتين القبيلتين كانتا في أوّل الإسلام أشدّ نكاية (1)، ولرسول الله عليه الصلاة والسلام أحضر عداوة.
93
(93) وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «إِنَّ هَذِهِ الْمَسَائِلَ كَدٌّ يَكُدُّ بِهَا الرَّجُلُ وَجْهَهُ» (2).
وفي هذا الكلام استعارة على تأويل «الكدّ» في العربية:
وأحد التأويلين: أن يكون «الكدّ» بمعنى الإتعاب والإنصاب، كما يقول القائل: «كددت فرسي» إذا أراد أنّه أتعبه واستنفد طاقته، فعلى هذا التأويل يكون معنى «كدّ الرجل وجهه بالمسائل»: أنّه لكثرة بذله في السؤال وطلب ما في أيدي الرجال، قد أجراه (3) مجرى المطيّة التي يحضرها بكثرة الحلّ والترحال (4)، وقطع المسافات الطوال.
__________
(1) نكيت في العدوّ نكاية: إذا قتلت فيهم وجرحت الصحاح 6: 2515، لسان العرب 5: 341.
(2) سنن النسائي 5: 100، مسند أحمد 5: 10، مجمع الزوائد 3: 97، كنز العمّال 6: 496/ 16699.
(3) أي أجرى السائل وجهه.
(4) الحلّ: النزول والإقامة، والارتحال: الانتقال.(1/128)
والتأويل الآخر: أن يكون «الكدّ» مأخوذا من استقصاء النزح ماء الركيّة (1) حتّى يبلغ حمأتها (2)، ويستنفد غمرتها (3)، يقال: «كدّ الركيّة واكتدّها» إذا فعل بها ذلك، قال الشاعر:
أمصّ ثمادي والمياه كثيرة ... أعالج منها حفرها واكتدادها (4)
ويكون قول القائل على هذا التأويل: «كددت فرسي» أي اعتصرت مادّته، واستقصيت ما عنده، فيكون «كدّ الوجه» على هذا القول يراد به اعتصار مائه، واستقطار حيائه (5)، ومن المتعارف بيننا أن يقول القائل إذا أراد هذا المعنى: «قد هرقت ماء وجهي بكثرة الطلب إلى فلان، والرغبة فيما عند فلان».
94
(94) وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِلرَّجُلِ الَّذِي قَالَ لِبَعْضِ الصَّحَابَةِ:
إِنْ فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ الطَّائِفَ فَسَلِ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنْ يَهَبَ لَكَ نَادِيَةَ بِنْتَ غَيْلَانَ بْنِ سَلَمَةَ فَإِنَّهَا إِذَا قَامَتْ تَثَنَّتْ، وَإِذَا تَكَلَّمَتْ تَغَنَّتْ
فِي كَلَامٍ طَوِيلٍ بَلَغَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَنْهُ، وَكَانَ هَذَا الرَّجُلُ مِنْ مُخَنَّثِي (6) الْمَدِينَةِ، فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «لَقَدْ غَلْغَلْتَ النَّظَرَ يَا
__________
(1) أيّ البئر. المصباح المنير: 238، مادّة (ر ك و).
(2) أيّ طين القعر.
(3) أيّ يفني ماءها الكثير.
(4) مجالس ثعلب 2: 596، لسان العرب 3: 378. الثّماد: الماء القليل، ومراده أنّه يرضى بالقليل ويقنع به.
(5) في نسخة: استقصاء حمأته.
(6) المخنّث: المسترخي المتثنى في فعله وكلامه. راجع أقرب الموارد 1: 304، مادّة (خ ن ث).(1/129)
عَدُوَّ اللَّهِ» (1).
وفي هذا الكلام استعارة لأنّ غلغلة الشيء هو إدخاله في شيء يلتبس به ويصير من جملته، وذلك لا يصحّ في نظر الإنسان إلّا على طريق الاتساع والمجاز، فكأنّه عليه الصلاة والسلام أراد أنّ هذا الإنسان، بلغ بنظره من محاسن هذه المرأة إلى حيث لا يبلغ ناظر، ولا يصل واصل، فكان كالشيء المتغلغل الذي يدقّ مدخله، ويلطف مسلكه، ويبعد متولّجه.
وروى لنا أبو علي الحسن بن أحمد بن عبد الغفار النحوي الفارسي
في كتابه الموسوم ب «الإيضاح» إجازة، وأنشدناه الشيخان أبو الفتح وأبو الحسن النحويان ملافظة، قول الشاعر:
طلين بكديون وأشعرن كرّة ... فهنّ إضاء صافيات الغلائل (2)
و «الكديون»: عكر الزيت تطلى به الدروع وتحمى به في النار لتذهب أصداؤها، وتصفو ألوانها وقيل أيضا: «إنّ الكديون اسم من أسماء التراب» و «الكرّة»: البعر التي يوقد به النار عليها (3).
وقيل في «الغلائل» التي ذكرها الشاعر في هذا البيت قولان:
فأحدهما: «أنّها اسم لبطائن وشعارات تلبس تحت الدروع، والواحدة: «غلالة» وإنّما سمّيت غلائل لانغلالها بين الدروع والأجساد».
__________
(1) الموطأ 2: 767، النهاية في غريب الحديث 3: 378، وفيه: «تغلغلت».
(2) الصحاح 2: 805، في هامشه نقلا عن اللسان: علين بكديون وأبطنّ كرّة فهنّ وضاء صافيات الغلائل. وفي لسان العرب 12: 65، مادّة (ك ر ر) علين بدل طلين.
(3) ومعنى «اشعرن كرّة»: الصقت الدروع بالبعر المشتعل.(1/130)
والثاني: «أنّها المسامير التي تجمع بين رؤوس الحلق، والواحدة:
«غليلة» وإنّما سميت بذلك لأنّها تغلّ في الدروع أي يستقصى إدخالها فيها، فتصير كالأجزاء منها».
95
(95) وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي كَلَامٍ طَوِيلٍ: «وَلَيْسَ مِنْ مَلِكٍ إِلَّا وَلَهُ حِمًى، أَلَا وَإِنَّ حِمَى اللَّهِ مَحَارِمُهُ، فَمَنْ أَرْتَعَ حَوْلَ الْحِمَى كَانَ قَمِناً (1) أَنْ يَرْتَعَ فِيهِ» (2).
وهذا الكلام مجاز لأنّه عليه الصلاة والسلام شبّه ما حظره الله سبحانه من محارمه، بالحمى الذي يحميه ذو السلطان والملكة من مواقع السحاب، ومنابت الأعشاب، فلا ترعى فيه إلّا إبله، ولا ينزل به إلّا حيّه، وما كان يفعل ذلك من العرب إلّا الأعز فالأعزّ، والأبرّ فالأبرّ، حتّى ضربت العرب المثل بحمى كليب بن ربيعة وهو كليب وائل في أنّه رجل حرام وممنوع لا يرام، فقالوا: «أعزّ من حمى كليب» (3)، فجعل عليه الصلاة والسلام ما حظره الله سبحانه على العباد من المحارم، كالحمى الذي يجب عليهم ألّا يطوفوا به، ولا يمرّوا بجوانبه، ومن خالف الله منهم أرصد له العقاب، وانتظر له النكال، فما حرّم سبحانه من الأشياء حمى لا يرعى، وما أحلّ منها مرعى لا يحمى.
__________
(1) أي جديرا وحقيقتا. المصباح المنير: 517، مادّة (ق م ن).
(2) سنن الدارمي 2: 245، صحيح البخاري 1: 19، صحيح مسلم 5: 51، سنن الترمذي 2:
340/ 1221، كنز العمال 1: 373/ 1629وج 3: 426/ 7274، البداية والنهاية 8: 269، عوالي اللآلي 2: 83/ 223.
(3) مجمع الأمثال 1: 42/ 2594، الأغاني 5: 29.(1/131)
وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «فَمَنْ أَرْتَعَ حَوْلَ الْحِمَى كَانَ قَمِناً أَنْ يَرْتَعَ فِيهِ» (1)
، يريد به التحذير من الإلمام بشيء من صغائر الذنوب لئلّا يكون ذلك مجرّئا على الوقوع في كبائرها، والتهوّك (2) في معاظمها، وهذه من أحسن العبارات عن هذا المعنى. وهذا الغرض نحاه عمر بن عبد العزيز بقوله: «دع بينك وبين الحرام جزء من الحلال فإنّك إن استوفيت الحلال كلّه تاقت نفسك إلى الحرام».
96
(96) وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِزَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ، وَقَدْ كَانَ رَقَّى (3) إِلَيْهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي غَزْوَةِ الْمُرَيْسِيعِ، كَلَاماً سَمِعَهُ مِنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيِّ بْنِ سَلُولٍ فِيهِ طَعْنٌ عَلَى الْمُهَاجِرِينَ، وَغَمْضٌ (4) لِرَسُولِ اللَّهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَهُوَ مَشْهُورٌ فِي كُتُبِ الْمَغَازِي، فَاتَّهَمَتِ الْأَنْصَارُ زَيْداً فِي حِكَايَتِهِ، وَكَانَ إِذْ ذَاكَ صَغِيرَ السِّنِّ، حَتَّى نَزَلَ الْقُرْآنُ بِتَصْدِيقِهِ فِي السُّورَةِ الَّتِي يُذْكَرُ فِيهَا الْمُنَافِقُونَ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ: {يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنََا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلََّهِ الْعِزَّةُ وَ} لِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلََكِنَّ الْمُنََافِقِينَ لََا يَعْلَمُونَ (5)، فَدَعَا النَّبِيُّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ زَيْدَ بْنَ أَرْقَمَ، وَهُوَ مُتَأَثِّرٌ عَلَى مَا هُوَ فِيهِ فَأَخَذَ بِأُذُنِهِ فَرَفَعَهُ، ثُمَّ قَالَ لَهُ: «وَفَتْ
__________
(1) مسند أحمد 4: 267.
(2) أيّ تحيّر وتهور ووقع في الشّيء بغير مبالاة ولا رويّة. أقرب الموارد 2: 141، مادّة (هـ وك).
(3) أيّ رفع. أقرب الموارد 1: 426، مادّة (ر ق ي).
(4) أيّ استحطاط.
(5) المنافقون (63): 8.(1/132)
أُذُنُكَ يَا غُلَامُ، وَصَدَّقَ اللَّهُ حَدِيثَكَ» (1).
فقوله عليه الصلاة والسلام: «وفت أذنك» مجاز، كأنّه جعل أذنه في سماعها ما سمعت كالضامنة لتصديق ما حكت لأنّه صدّق في نفسه، فلمّا نزل ما نزل في القرآن في تحقيق ذلك الخبر، صارت الأذن كأنّها وافية بضمانها، وخارجة من الظنّة (2) فيما أدّته إلى لسانها، وهذا من غريب المجازات.
97
(97) وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «حَسَّانُ حِجَازٌ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُنَافِقِينَ لَا يُحِبُّهُ مُنَافِقٌ، وَلَا يُبْغِضُهُ مُؤْمِنٌ» (3).
وفي هذا الكلام مجاز لأنّه عليه الصلاة والسلام جعل حسّان (4)، كالسّياج المضروب بين حيّزي الإيمان والنفاق، فمن كان في حيّز الإيمان أحبّه، ومن كان في حيّز النفاق أبغضه وذلك لما كان يظهر عنه من المنافحة (5) عن رسول الله عليه الصلاة والسلام والإسلام بسيف لسانه، ونوافذ أقواله، فكان قوله يسرّ المؤمنين ويغبطهم، ويسوء المنافقين ويزعجهم.
وهذا الكلام عندنا في حسّان متعلّق بوقت مخصوص وهو زمن النبيّ عليه الصلاة والسلام، فأمّا حين ظاهر أمير المؤمنين عليه السّلام بعداوته،
__________
(1) مسند أحمد 2: 310، المغازي للواقدي 1: 404، النهاية في غريب الحديث 5: 211.
(2) أي التهمة. المصباح المنير: 387، مادّة (ظ ن ن).
(3) مختصر تاريخ دمشق 6: 293، كنز العمّال 11: 671/ 33245.
(4) إنّما منعه قدس سره من الصرف لأنّه جعله فعلانأ من الحسّ، ولو جعله فعّالا من الحسن لتعيّن صرفه.
(5) أي الدفاع.(1/133)
ورماه بمعاريض القول في أشعاره، فقد خرج من أن يكون حجازا بين الإيمان والنفاق، وتحيّز إلى جانب النقمة والضلال.
98
(98) وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي كَلَامٍ تَكَلَّمَ بِهِ عِنْدَ مُنْصَرَفِهِ مِنْ تَبُوكَ: «فَلَمْ يَبْقَ مِنْهُمْ تَحْتَ أَدِيمِ السَّمَاءِ إِلَّا رَجُلٌ فِي الْحَرَمِ مَنَعَهُ الْحَرَمُ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ» (1).
وفي هذا الكلام مجازان:
أحدهما: قوله عليه الصلاة والسلام: «تَحْتَ أَدِيمِ السَّمَاءِ»، فجعل للسماء أديما يريد ما ظهر منها للأبصار تشبيها بأديم الحيوان وهي الجلود التي تلبس الأجساد، وتغطّي اللحوم والعظام، ويقال أيضا:
«أديم الأرض» ويراد به ما ظهر من صفحاتها التي تباشرها النواظر، وتطأها الأقدام والحوافر.
والمجاز الآخر: قوله عليه الصلاة والسلام: «منعه الحرم من عذاب الله» والحرم على الحقيقة غير مانع من العذاب الذي يريد الله سبحانه أن ينزله بالمستحقّين، وإنّما المراد أنّ الله تعالى جعل الحرم معاذة (2) لعباده تعظيما لقدره، وتفخيما لأمره، فمن استجار به من عذابه عند مواقعة معصيته، جاز أن يؤخّر عنه العذاب ما كان (3) متعلّقا به. وفي إقامة الحدود على اللاجئ إلى الحرم خلاف بين العلماء، ليس هذا موضع ذكره.
__________
(1) تأريخ الطبري 1: 162، عرائس المجالس للثعلبي: 7271.
(2) أي ملجأ ومعتصما. أقرب الموارد 2: 845، مادّة (ع وذ).
(3) أي مادام.(1/134)
ولا بدّ أن يوفّيه تعالى ما يستحقّه من العقاب في دار الجزاء، إلّا أن يكون منه توبة يسقط بها عقابه، أو طاعة عظيمة تصغر معها معصيته.
فالحرم لا يمنع من العذاب، وإنّما يمتنع الله سبحانه من فعله باللاجئ إليه والعائذ به للعلة التي ذكرناها، فلمّا كان الله تعالى إنّما يفعل ذلك لأجل الحرم، جاز أن ينسبه إليه على طريق المجاز وعادة الاتساع.
99
(99) وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «أَوْثَقُ الْعُرَى كَلِمَةُ التَّقْوَى» (1).
وهذه استعارة لأنّه عليه الصلاة والسلام جعل التقوى، كالعروة التي يتعلّق بها فتنهض من المعاثر، وتنجي من المزالّ والمزالق لأنّ المتّقي لله سبحانه يأمن من نقماته، وينجو من سطواته، فيكون كالممسك بعروة الحبل المتين، والمستند إلى النضد (2) الأمين.
100
(100) وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَهُوَ يَتَجَهَّزُ لِغَزْوَةِ تَبُوكَ: «إِنِّي عَلَى جَنَاحِ سَفَرٍ» (3).
وهذه استعارة واقعة موقعها، ومقرطسة (4) غرضها لأنّه عليه الصلاة والسلام شبّه السفر بالطائر الذي قد همّ بالمطار، وجعل الآخذ أهبة (5)
المسافر كالكائن على جناح ذلك الطائر ينتظر نهوضه، ويترقّب
__________
(1) الاختصاص: 342، كنز العمّال 15: 919/ 43587، 929/ 43595، الدرّ المنثور 2: 225، البداية والنهاية 5: 17.
(2) النضد: ما نضّد من الأشياء، فجعل بعضها فوق بعض. راجع المصباح المنير: 610، مادّة (ن ض د)
(3) عنه البحار 83: 343.
(4) أي مصيبه للقرطاس، وهو الغرض. راجع أقرب الموارد 2: 986، مادّة (ق ر ط س).
(5) الاهبة: العدّة (الصحاح: 1/ 89، لسان العرب: 1/ 217).(1/135)
تحليقه. وممّا يؤكّد ذلك قولهم للإنسان الذي تكثر أسفاره ويطول حلّه وترحاله: «ما هو إلّا طائر طيّار» عبارة عن التردّد في السفر، وكثرة الانزعاج عن الوطن.
101
(101) وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «النَّاسُ مَعَادِنُ» (1).
وهذه استعارة لأنّه عليه الصلاة والسلام شبّه الناس بالمعادن التي تكون في قرارات الأرض، فلا يحكم على ظواهرها حتّى يستخرج دفائنها، ويستنبط كوامنها، فيكون منها اللجين (2) والنضار (3)، ويكون منها النفط والقار، فكذلك الناس لا يجب أن يحكم على مجاليهم (4) ولا يقطع على بواديهم (5) حتّى يخبروا ويعرفوا، ويثاروا ويجثوا (6)، فيخرج البحث جواهرهم، ويمحّص الامتحان مخابرهم، فيتبيّن حينئذ كرم النحائز (7)، وطيب الغرائز، وتكشف منهم الطرائق، ولئيم الخلائق.
102
(102) وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي آخِرِ خُطْبَةٍ خَطَبَهَا بِبَطْنِ عَرَفَةَ
__________
(1) مسند أحمد 2: 257و 391، صحيح البخاريّ 4: 154، صحيح مسلم 7: 181، مستدرك الحاكم 3:
243، مجمع الزّوائد: 1: 121، كنز العمّال 3: 442/ 7360، شرح الاخبار 2: 484، الكافي 8:
177/ 197، عن أبي عبد الله عليه السّلام، الفقيه 4: 380/ 5821، مشكاة الأنوار: 453: 1522.
(2) أيّ الفضّة. أقرب الموارد 2: 1131، مادّة (ل ج ن).
(3) أيّ الذّهب.
(4) المجالي: ما يرى من الرّأس إذا استقبل الوجه. لسان العرب 2: 345، مادّة (ج ل ي). والمراد: لا يحكم على ظواهرهم حتّى يعرفوا.
(5) أيّ ما يبدو منهم.
(6) أيّ يهاجوا ويقعدوا.
(7) النحائز: الغرائز: الطّبائع. راجع أقرب الموارد 2: 1278، مادّة (ن ح ز).(1/136)
وَذَلِكَ فِي حِجَّةِ الْوَدَاعِ: «أَلَا إِنَّ كُلَّ شَيْءٍ مِنْ أَمْرِ الْجَاهِلِيَّةِ تَحْتَ قَدَمَيَّ مَوْضُوعٌ» (1).
وهذا القول مجاز، والمراد به إذلال أمر الجاهلية، وحطّ أعلامها، ونقض أحكامها، كما يستذلّ الشيء الموطوء الذي تدوسه الأخامص (2)
الساعية، والأقدام الواطئة، فلا يبقى منه مرفوع إلّا وضع، ولا قائم إلّا صرع.
103
(103) وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي وَصِيَّةٍ وَصَّى بِهَا أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ لَمَّا أَرَادَ بَعْثَهُ إِلَى مُؤْتَةَ لِيَثْأَرَ بِأَبِيهِ زَيْدٍ فِي كَلَامٍ طَوِيلٍ: «وَاعْلَمُوا أَنَّ الْجَنَّةَ تَحْتَ الْبَارِقَةِ» (3).
وهذا القول مجاز، و «البارقة» هاهنا السيوف، وليس الجنّة تحتها على الحقيقة، وإنّما المراد أنّ الصبر تحتها لجهاد الكافرين، ودفاع أعداء الدين، يفضي بالصابر إلى دخول الجنّة، ونزول دار الأمنة، فلمّا كان ذلك سبب دخولها والوصول إلى نعيمها، جاز أن يسمّيه باسمها، ونظائر ذلك كثيرة، وقد أشرنا في كتابنا هذا إلى بعضها.
104
(104) وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي الْكِتَابِ الْمَكْتُوبِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ قُرَيْشٍ فِي صُلْحِ الْحُدَيْبِيَةِ: «لَا إِسْلَالَ وَلَا إِغْلَالَ، وَإِنَّ بَيْنَنَا عَيْبَةً مَكْفُوفَةً» (4).
__________
(1) سنن أبي داود 1: 426، السنن الكبرى 5: 8، الدرّ المنثور 1: 226.
(2) جمع أخمص، وهو القدم.
(3) الدرّ المنثور 3: 189، المناقب للكوفي 2: 353النهاية في غريب الحديث 1: 120عن عمّار.
(4) سنن أبي داود 1: 630/ 2766، السنن الكبرى 9: 222، البداية والنهاية 4: 192تفسير نور الثقلين 5: 53، مناقب ابن شهر آشوب 1: 175.(1/137)
وهذه استعارة، والمراد ب «العيبة المكفوفة» السلم الذي يضمّ النّشر (1) ويجمع الأمر، كأنّه عليه الصلاة والسلام شبّه حال السلم من أنّها تحجز بين الفريقين عن شنّ الغارات، وتكفّ أيديهم عن المجاذبات بالعيبة المشرجة (2) التي لا تنشر مطاويها ولا يتناهب (3) ما فيها.
وقد يجوز أن يكون معنى ذلك على قول من قال: «إنّ الإسلال:
السرقة، والإغلال: الخيانة»: أنّه عليه الصلاة والسلام شبّه الصلح الواقع بينهم في أنّ أموالهم تكون به محروسة وخزائنهم محفوظة بالعيبة التي قد استوثق من إشراجها، فلا يصل إليها خائن، ولا يقدر عليها سارق. والمعنيان متقاربان. ويقال: «رجل مسلّ مغلّ» أي صاحب مسلّة، وهي السرقة، ومغلّة، وهي الخيانة.
وقوله تعالى: {وَمََا كََانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ} (4) قرأنا على شيوخنا القرّاء لأبي عمرو وابن كثير وعاصم {يَغُلَّ} بفتح الياء وضمّ الغين أي ما كان له أن يخون. وقرأنا لبقيّة (5) القرّاء السبعة يُغَلَّ بضمّ الياء وفتح الغين أي ما كان له أن يخان. ويجوز أن يراد بذلك أيضا: ما كان له أن يخوّن أي ينسب إلى الخيانة.
__________
(1) أي القوم المتفرّقين المختلفين. راجع أقرب الموارد 2: 1301، مادّة (ن ش ر).
(2) المجاذبات: المنازعات لسان العرب 1: 258، والعيبة: وعاء من أدم يكون فيها المتاع، والمشرجة:
المعقودة، المكفوفة لسان العرب 1: 634.
(3) أي ينهب ويسرق.
(4) آل عمران (3): 161.
(5) في نسخة: قرأ بقيّة.(1/138)
وقد قال بعضهم: «المراد بالإسلال هاهنا: سلّ السيوف، وبالإغلال:
لبس الدروع» وهذا القول غير معروف، والقول الأوّل هو القول السدد، والصحيح المعتمد.
105
(105) وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي الرَّحِمِ: «هِيَ شِجْنَةٌ مِنَ اللَّهِ» (1).
وفيها لغتان: «شِجْنَة» و «شَجْنَة» وهذا القول مجاز لأنّ أصل «الشجنة»: اسم لشعبة من شعب الغصن المتصل بالشجرة، ويقال:
«شجر متشجّن» إذا التفّ بعضه ببعض، ومنه قولهم: «الحديث شجون» و «ذو شجون» (2) أي ذوشعب تتشعّب فيذكر بعضها بعضا، ويجرّ أوّل آخرا.
وقيل أيضا: «إنّ الشجون: هي الشعاب المتصلة بالأودية» فيجوز أن يكون الحديث شبّه بها لكثرة طرقه ومداخله، وتعلّق أواخره بأوائله.
والمراد ب «الشجنة» هاهنا تشبيه الرحم بالشعبة المتصلة بالشجرة، فهي بعض منها، ومنتسبة إليها، فكذلك الرحم يجب صلتها على من وجب عليه حقّها، وضرب إليه عرقها.
ويجوز أيضا أن يكون إنّما شبّهت بشجون الوادي لتعلّقها به، وإضافتها إليه، كما قلنا في «شجون الحديث.
__________
(1) مسند أحمد 1: 190و 321، مجمع الزوائد 8: 178، الدر المنثور 6: 65، مستدرك الحاكم 4:
159، وفيه: «الرحم» بدل «هي»، غريب الحديث 1: 209، معاني الأخبار: 302/ 1.
(2) مقاتل الطالبيين: 263، التوحيد: 3، معاني الأخبار: 302/ 1، الفرج بعد الشدّة 1: 41، البداية والنهاية 13: 152، مجمع الأمثال 1: 197، غريب الحديث 1: 209.(1/139)
وقوله: «من الله» المراد أنّ الله سبحانه جعل حقّها واجبا، وذمامها (1)
لازما. وقد يجوز أن يكون المراد بذلك أنّ الله سبحانه يثيب (2) واصلها، ويرعى راعيها، فكأنّها متعلّقة به تعالى على طريق التمثيل، لا على طريق التحقيق لتعظيمه (3) تعالى حقّها بترهيب قاطعها، وترغيب واصلها.
106
(106) وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ، وَلِلْعَاهِرِ الْحَجَرُ» (4).
وهذا مجاز على أحد التأويلين:
وهو أن يكون المراد أنّ العاهر لا شيء له في الولد، فعبّر عن ذلك «بالحجر»، أي له من ذلك ما لا حظّ فيه، ولا انتفاع به، كما لا ينتفع بالحجر في أكثر الأحوال، كأنّه يريد أنّ له من دعواه الخيبة (5) والحرمان، كما يقول القائل لغيره إذا أراد هذا المعنى: «لَيْسَ لَكَ مِنْ هَذَا الْأَمْرِ إِلَّا
__________
(1) الذمام: الحقّ. أقرب الموارد 1: 373، مادّة (ذ م م).
(2) في نسخة يثيب: وهو من سهو النسّاخ.
(3) في نسخة: ليعظّم.
(4) فقه الرضا عليه السّلام: 262، المقنع: 134، المبسوط 5: 210، السرائر 2: 659، الكافي 5: 491/ 2و 7:
163/ 1، 3، دعائم الإسلام 1: 130، الفقيه: 3: 451/ 4557، التهذيب 8: 168/ 587، الاستبصار 3: 368/ 1315، الموطأ 2: 739/ 20، سنن النسائي 6: 180، مسند أحمد: 1: 59، سنن الدارمي:
2: 152، صحيح البخاري 3: 5، صحيح مسلم 4: 171، سنن ابن ماجة: 1: 647ح 2006، سنن أبي داود 1: 507/ 2273، سنن الترمذي 2: 313/ 1167.
(5) الخيبة: الحرمان والخسران لسان العرب 1: 368.(1/140)
الْحَجَرُ، وَالْجَلْمَدُ وَالتُّرَابُ وَالكَثْكَثُ» (1)، أي ليس لك منه إلّا ما لا محصول له، ولا منفعة فيه.
وممّا يوكد هذا التأويل
مَا رَوَاهُ عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، عَنِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ: «الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ، وَلِلْعَاهِرِ الْأَثْلَبُ»
(2)، «والأثلب»: التراب المختلط بالحجارة، وهذا الخبر يحقّق أنّ المراد «بالحجر» هاهنا ما لا ينتفع به، كما قلنا أوّلا.
وممّا يصدّق ذلك قول الشاعر:
كلانا يا معاذ يحبّ ليلى ... بفيّ وفيك من ليلى التراب
شركتك في هوى من كان حظّي ... وحظّك من تذكّرها العذاب (3)
أراد: ليس لنا منها إلّا ما لا نفع به ولا حظّ فيه، كالتراب الذي هذه صفته.
وأمّا التأويل الآخر الذي يخرج الكلام عن حيّز المجاز إلى حيّز الحقيقة فهو أن يكون المراد أنّه ليس للعاهر إلّا إقامة الحدّ عليه وهو الرجم بالأحجار، فيكون «الحجر» هاهنا اسما للجنس لا للمعهود.
وهذا إذا كان العاهر محصنا.
فإن كان غير محصن فالمراد ب «الحجر» هاهنا على قول بعضهم:
«الإعناف به والغلظة عليه بتوفية الحدّ الذي يستحقّه من الجلد له» وفي
__________
(1) أي التراب وفتات الحجارة. أقرب الموارد 2: 1067، مادّة (ك ث ك ث).
(2) مسند أحمد 2: 179و 207، مجمع الزوائد 6: 2.
(3) الأغاني 2: 9، 60.(1/141)
هذا القول تعسّف واستكراه وإن كان داخلا في باب المجاز لأنّ الغلظة على من يقام الحدّ عليه إذا كان الحدّ جلدا لا رجما لا يعبّر عنها ب «الحجر» لأنّ ذلك بعد عن سنن (1) الفصاحة، ودخول في باب الفهاهة (2)، فالأولى إذن الاعتماد على التأويل الأوّل لأنّه الأشبه بطريقهم، والأليق بمقاصدهم.
107
(107) وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «اللَّهُمَّ إِنَّا نَعُوذُ بِكَ مِنْ وَعْثَاءِ السَّفَرِ، وَكَآبَةِ الْمُنْقَلَبِ، وَالْحَوْرِ بَعْدَ الْكَوْرِ، وَسُوءِ الْمَنْظَرِ فِي الْأَهْلِ وَالْمَالِ» (3).
وفي هذا الكلام مجازان:
أحدهما: قوله عليه الصلاة والسلام: «وعثاء السّفر»، وهي فعلاء من «الوعث» (4)، وهو ضدّ «الجدد» (5) والسير فيه يشقّ على القدم والمنسم (6)، فجعل عليه الصلاة والسلام طول السفر وشقّته وتكاليفه ومشقّته، بمنزلة الوعثاء التي قاطعها تعب، والساري فيها نصب.
والمجاز الآخر: قوله عليه الصلاة والسلام: «والحور بعد الكور» أي
__________
(1) أي طريق. المصباح المنير: 292، مادّة (س ن ن).
(2) أي العي والحصر في المنطق.
(3) الموطأ 2: 977، مسند أحمد 5: 83، سنن الترمذي 5: 161/ 3502، صحيح مسلم 2:
799/ 1343.
(4) أي الطريق الشاقّ المسلك. المصباح المنير: 664، مادّة (وع ث).
(5) أي الأرض الغليظة المستوية، ومنه المثل «من سلك الجدد أمن من العثار». أقرب الموارد 1: 106، مادّة (ج د د).
(6) اي خفّ البعير. أقرب الموارد 2: 1298، مادّة (ن س م).(1/142)
انتشار الأمور بعد انضمامها، وانفراجها بعد التئامها، وذلك مأخوذ من حور العمامة بعد كورها، وهو نقضها بعد ليّها، ونشرها بعد طيّها.
وقد قيل: «إنّ معناه: القلّة بعد الكثرة، والنقصان بعد الزيادة، فكأنّه تعوّذ من الانتقال عن حال حسنة إلى حال سيّئة» وعلى ذلك قول الشاعر: واستعجلوا عن شديد المضغ فابتلعوا
والذمّ يبقى وزاد القوم في حور (1)
أي في نقصان، والمعنيان متقاربان.
وقد روي هذا الكلام على وجه آخر، فقيل: «من الحور بعد الكون» بالنون (2)، من قولهم: «حار» إذا رجع، يقولون: «كان على حال جميلة، فحار عنها» أي رجع عمّا كان عليه منها، والرواية الاولى أعرف عند أهل اللسان، وأشبه بمزاوجة الكلام.
108
(108) وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِلشَّارِبِ فِي آنِيَةِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ:
«إِنَّمَا يُجَرْجِرُ فِي بَطْنِهِ نَارُ جَهَنَّمَ» (3).
برفع «النار» والأكثر من الروايات على نصبها، وهذا القول مجاز
__________
(1) الصحاح 2: 639، لسان العرب 4: 218، تاج العروس 11: 100، وفي جميعها: واستعجلوا عن خفيف المضع فازدردوا.
(2) أشار إليها الترمذي في سننه 5: 161ذيل الحديث 3502، والهروي في غريب الحديث 1: 220.
(3) مسند أحمد 6: 98و 6: 302، سنن الدارمي 2: 121، صحيح البخاري 6: 251، صحيح مسلم 6:
134، سنن ابن ماجة 2: 1130/ 3413، السنن الكبرى 4: 145، مجمع الزوائد: 5: 77، كنز العمّال 15: 258/ 40854، المعتبر 1: 455.(1/143)
لأنّ نار جهنّم على الحقيقة لا تجرجر في جوفه. و «الجرجرة»:
صوت البعير عند الضجر أو الدأب (1)، قال امرؤ القيس يصف طريقا:
على لاحب لا يهتدى بمناره ... إذا سافه العود الدّيافيّ (2) جرجرا (3)
ولكنّه عليه الصلاة والسلام جعل صوت جرع الإنسان للماء في هذه الأواني المخصوصة لوقوع النهي عن الشرب فيها، واستحقاق العقاب على استعمالها كجرجرة نار جهنّم في بطنه على طريق المجاز، إذ كان ذلك مفضيا به إلى حلول دارها واصطلاء نارها، نعوذ بالله منها.
ولفظ الخبر «يجرجر» بالياء، والوجه أن يكون «تجرجر» بالتاء على قول من رواه برفع «النار» ولكنّه لمّا دخل بين فعل المؤنّث وفاعله الذي هو «النار» لفظ آخر حسن تذكير الفعل للبعد بينهما، كما قال الشاعر:
لقد ولد الأخيطل أمّ سوء (4)
__________
(1) أي التعب.
(2) في النسخة: الذفافي، وفي النسخة ب: الذيافي، وكلاهما من سهو النسّاخ.
(3) أمالي المرتضى 1: 165، التبيان في تفسير القرآن 1: 189و 279و 444و 2: 88، 356، وفيه:
النباطي. اللاحب: الطريق، المنار: العلم يجعل للطريق، سافه: شمّه، لأنّ الدليل يستدلّ على الطريق في الفلاة البعيدة الطرفين يسوفه ترابها ليعلم أعلى قصد هو أم على جور، العود: المسنّ من الإبل، الدّيافي: نوع من الإبل ينسب إلى قرية بالشام أو الجزيرة، ويعرف المنسوب للجزيرة بالنباطي أيضا، والمراد أنّ هذا الطريق ليس به منار فيهتدي به، وإذا ساف وشمّ الجمل تربته جرجر جزعا من بعده وقلّة مائه. راجع لسان العرب 6: 433، مادّة (س وف).
(4) شرح ديوان جرير: 515، آخره: على باب استهاصلب وشام.(1/144)
وَقَدْ رُوِيَ فِي خَبَرٍ آخَرَ: «كَأَنَّمَا يُجَرْجِرُ فِي بَطْنِهِ نَاراً» (1)
ف «الإنسان» هاهنا فاعل، و «النار» مفعوله، وعلى هذه الرواية فالمراد: كأنّما يجرّ في بطنه نارا، فقال: «يجرجر» طلبا لتضعيف اللفظ الدالّ على تكثير الفعل، كما جاء في التنزيل {فَكُبْكِبُوا فِيهََا هُمْ وَالْغََاوُونَ} (2)، والمراد: فكبّوا، فيجوز على هذا أن يقال: «جرّ» و «جرجر» كما يقال: «كبّ» و «كبكب» وإن كان الوجه أن يقال:
«جرّر».
وقد جاء في كلام العرب: «جرجر فلان الماء» إذا جرعه متواترا، له صوت كصوت جرجرة البعير، فيكون المراد على هذا القول: كأنّما يتجرّع نار جهنّم، وهذا أصحّ التأويلين.
فأمّا آنية الذهب والفضّة، فلا يحلّ عندنا الأكل فيها، ولا الشرب منها، ولا يجوز أيضا استعمالها في شيء ممّا يؤدي إلى مصالح البدن، نحو الادّهان، واتخاذ الميل للاكتحال، والمجمر (3) للبخور.
وكنت سألت شيخنا أبا بكر محمّد بن موسى الخوارزمي رحمه الله عند انتهائي في القراءة عليه إلى هذه المسألة من كتاب الطهارة عن المدخنة (4) إذ لا خلاف في المجمرة، فقال: «القياس أنّها غير مكروهة
__________
(1) رواه أحمد في مسنده 6: 98، ومسلم في صحيحه 6: 135، وابن ماجة في سننه 2: 1130/ 3415، والبيهقي في سننه 4: 146.
(2) الشعراء (26): 94.
(3) أي ما يجعل فيه الجمر.
(4) أي ما يخرج منها الدخان.(1/145)
لأنّها تستعمل على وجه التبع للمجمرة، فهي غير مقصودة بالاستعمال لأنّ المجمرة لو جرّدت من غيرها في البخور لقامت بنفسها، ولم تحتج إلى المدخنة مضافة إليها، فأشبهت الشرب في الإناء المفضّض إذا لم يضع فاه على موضع الفضّة».
وفي هذه المسألة خلاف للشافعي لأنّه يكره الشرب في الإناء المفضّض، وذهب داود الأصفهاني إلى كراهة الشرب في أواني الذهب والفضّة دون غيره من الأكل والاستعمال في مصالح الجسم مضيّا على نهجه في التعلّق بظاهر الخبر الوارد في كراهة الشرب خاصّة، وليس هذا موضع استقصاء الكلام في هذه المسألة، إلّا أنّ المعتمد عليه في كراهة استعمال هذه الأواني الخبر الذي قدّمنا ذكره لما فيه من تغليظ الوعيد.
وَقَدْ رُوِيَ عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ شَرِبَ بِهَا فِي الدُّنْيَا لَمْ يَشْرَبْ بِهَا فِي الْآخِرَةِ» (1)
، فتثبت بهذين الخبرين وما يجري مجراهما، كراهة الشرب فيها، ثمّ صار الأكل والادّهان والاكتحال مقيسا على الشرب بعلّة أنّ الجميع يؤدّي إلى منافع الجسم.
109
(109) وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَقَدْ سُئِلَ عَنْ لَيْلَةِ الْقَدْرِ: «هِيَ لَيْلَةُ إِضْحِيَانَةٍ كَأَنَّ قَمَراً يَفْضَحُهَا» (2).
وهذه استعارة لأنّ حقيقة «الفضح» كشف القبيح وهو أن يكشف
__________
(1) مستدرك الحاكم 4: 141، كنز العمّال 15: 320/ 41219، الخصال: 341/ 2.
(2) النهاية في غريب الحديث 3: 78، مع اختلاف يسير.(1/146)
على الإنسان ريبة، أو تثني عليه سوءة، ولكنّ القمر لمّا كان كاشفا للسدفة (1) وصادعا للظلمة، أجراه عليه الصلاة والسلام مجرى الثاني للسوءة المخفاة، والكاشف للريبة المغطاة، وهذه من محاسن الاستعارات.
وقال الشاعر في فضح الصبح للظلام:
يا ربّ كلّ غابق ومصطبح ... وربّ كلّ شيطنيّ منسرح
أرسل على الجوفاء في الصّبح الفضح ... حويريا مثل قضيب المجتدح
متى نضت من كعبها عرقا يرح (2)
قوله «حويريا» تصغير «حار» يريد حيّة طال بقاؤه حتّى حار أي رجع من غلظ وعظم إلى دقّة خلق وجسم، فصار كقضيب المجتدح، وهو المجدح الذي يحرّك به الشراب والسويق (3) وما يجري مجراهما.
ومن كلامهم: «رماه الله بأفعى حارية» يريدون هذا المعنى، وقوله «يرح» أي يميت. ومثل ذلك قول العجّاج:
__________
(1) السدفة: الظلمة بلغة تميم. أقرب الموارد 1: 506، مادّة (س د ف).
(2) لسان العرب 14: 172، تاج العروس 10: 86، وفيها ذكر البيت الثاني خاصّة. الغابق: الممسي، المصطبح: المصبح، المنسرح: المنسلخ من لباس التقوى والدين، الجوفاء: الدلو الواسعة، الصبح الفضح: الذي يفضح الظلام ويظهر كلّ شيء، الحويرية: مصغّر الحاري: وهو الأفعي التي قد كبرت ونقص جسمها من الكبر، ولم يبق إلّا رأسها ونفسها وسمّها، وهي أخبث ما يكون، قضيب المجتدح: رأسه عودان معترضان يخلط به السويق في اللبن ونحوه. الأفعي أخرجت ودرّت، من كعبها: أي من ثديها، عرقا: لبنا، والمراد به السمّ، يرح: يمت. يدعو الله بأن يرسل على أعدائه أفعي فتنفث السمّ في مائهم فيموتوا.
(3) طعام يصنع من الحنطة والشعير. راجع المصباح المنير: 296، مادّة (س وق).(1/147)
«أراح بعد الغمّ والتغمّم» (1)
أي أمات الله بعد الكرب والخناق.
وقيل: «يجوز أن يكون قوله: يرح، عائدا على العرق، لا على الحيّة، كأنّه قال: متى نضت منها عرقا يحدث فيه جرحا إذا قيّح كانت عنه رائحة خبيثة» والقول الأوّل أسدّ، وعليه المعتمد.
110
(110) وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِلضَّحَّاكِ بْنِ سُفْيَانَ الْكِلَابِيِّ وَقَدْ بَعَثَهُ مُصَدِّقاً (2): «خُذْ مِنْ حَوَاشِي أَمْوَالِهِمْ» (3).
وهذه استعارة على أصل وضعها في كلام العرب لأنّهم يسمّون صغار الإبل «حشوا» و «حاشية» كأنّهم يشبّهونها بحشو الشيء الذي يتأتّى ذلك فيه، كالمرفقة (4) والحشيّة (5)، لأنّها غير معتدّ بها، كما أنّ الحشو غير معتدّ به، وإنّما الاعتداد بما هو في ضمنه، ومن هذا الموضع سمّوا الرّذّال والطّغام (6) من الناس «حشوا».
وقد يجوز أن يكونوا إنّما سمّوها بذلك تشبيها بحشوة الإنسان التي هي حوايا جوفه وأمعاء بطنه، يقولون: «طعنه فانتثرت حشوته» أو «ضربه فخرجت حشوته» وإنّما قيل لها: «حشوة» حطّا لها عن منزلة
__________
(1) لسان العرب 2: 461، الصحاح 1: 368، وفيه: والتغمّم.
(2) أي جابيا وجامعا للصدقات.
(3) مسند أحمد 6: 68/ 20170، النهاية في غريب الحديث 1: 392، لسان العرب: 18014، مجمع الزوائد 3: 82.
(4) أي المتكأ والمخدّة. أقرب الموارد 1: 420، مادّة (ر ف ق).
(5) أي الفراش المحشوّ. أقرب الموارد 1: 197، مادّة (ح ش ي).
(6) أي أوغاد الناس. أقرب الموارد 2: 708، مادّة (ط غ م).(1/148)
ما هو أعلى قدرا منها من كرائم أعضاء الإنسان التي يشتمل عليها جوفه، كالقلب، والنياط (1)، والكبد، والفؤاد.
وقد يجوز أن يكون إنّما سمّوها بذلك تشبيها لها بحواشي الثوب في أنّها كالتبع له، وغير قائمة بذاتها دونه، وكذلك صغار الإبل تابعة لكبارها، وغير قائمة بأنفسها. وعلى مثل هذا المعنى تسميتهم رديء المال ورذاله من الإبل وما في معناهما «شوى» تشبيها له بشوى الإنسان والفرس وغيره من الحيوان ذي الأربع وهو الأطراف دون كرائم الأعضاء، وشرائف الأحناء (2)، قال الشاعر:
أكلنا الشّوى حتّى إذا لم نجد شوى ... أشرنا إلى خيراتها بالأصابع (3)
أي: أكلنا رذال إبلنا، فلمّا أنفدناها عطفنا على خيارها، وأشرنا إلى خيارها.
فكأنّه عليه الصلاة والسلام نهى أن يأخذ المصدّق من كرائم الإبل وعقائلها (4)، وأمره بالعدول إلى حشوها وأراذلها رفقا بأصحابها، وحنّوا على أربابها.
111
(111) وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «بَيْنَ يَدَيِ السَّاعَةِ يَنْطِقُ
__________
(1) هو عرق متّصل بالقلب من الوتين إذا قطع مات صاحبه. المصباح المنير: 630، مادّة (ن وط).
(2) الأحناء: مفرد حنو، وهو كلّ ما فيه اعوجاج من البدن لعظم الحجّاج واللّحي والضّلع. أقرب الموارد 1: 241، مادّة (ح ن و).
(3) أمالي القالي 2: 205، المخصّص: 4السّفر 14: 29، والسّفر 15: 166، لسان العرب 14: 448، وفيه: حتّى إذا لم ندع
(4) العقائل: جمع عقيلة، وهي الكريمة النفسية.(1/149)
الرُّوَيْبِضَةُ» (1).
وهذه استعارة لأنّه عليه الصلاة والسلام أراد أمام الساعة، فقال:
«بين يديها» تقريبا لهذه الحال من قيام الساعة لأنّه لو قال: «قبل الساعة» لما أفاد ذلك من القرب منها ما أفاد قوله: «بين يديها» لأنّك إذا أردت التقريب على من استرشدك مكانا تطلبه أو إنسانا تتبعه، قلت له:
«هو بين يديك» أي قريب منك، ولو قلت: هو أمامك، لاحتمل البعد والقرب كما أنّ (قبل) يحتمل البعد والقرب. هذا على الأغلب والأكثر.
وقد يجوز أن يكون قولك: «أمامك» و «بين يديك» عبارة عن مراد واحد.
وقالوا في «الرويبضة»: «هو امرؤ السوء التافه» وقالوا: «هو الفويسق الخامل».
112
(112) وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي كَلَامٍ وَصَفَ بِهِ عِدَّةً مِنْ قَبَائِلِ الْعَرَبِ «وَغَطَفَانَ أَكَمَةٌ (2) خَشْنَاءُ تَنْفِي النَّاسَ عَنْهَا» (3).
وهذا القول مجاز وذلك أنّه عليه الصلاة والسلام شبّه غطفان لاشتداد شوكتها، واتقاد جمرتها بالأكمة الشاقّة التي تزلّ الأقدام عنها، وتنقطع أطماع الراقين دونها، فجعل امتناع الناس من التعرّض لها،
__________
(1) مسند أحمد 2: 291و 338، سنن ابن ماجة 2: 1340/ 4036، مستدرك الحاكم 4: 466، مجمع الزوائد 7: 284، الغيبة للنعماني: 278/ 62.
(2) الأكمة: تلّ، قيل: شرفة كالرابية، وهو ما اجتمع من الحجارة في مكان واحد، وربّما غلط، وربّما لم يغلظ. المصباح المنير: 18، مادة (أك م).
(3) مسند أحمد 5: 346، وفيه: «وغطفان أكمة خشاء تنعي النّاس عنها».(1/150)
بمنزلة منعها لهم من التطرّق إليها.
113
(113) وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي كَلَامٍ ذَكَرَ فِيهِ امْرَأَ الْقَيْسِ بْنَ حُجْرٍ: «يَجِيءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَعَهُ لِوَاءُ الشُّعَرَاءِ إِلَى النَّارِ» (1).
وهذا القول مجاز وذلك لأنّه عليه الصلاة والسلام لم يرد أنّ امرأ القيس يحمل لواء الشعراء على الحقيقة، وإنّما أراد أنّه يجيء يوم القيامة على مقدّمتهم، ويدخل النار قبلهم، كما كان في الدنيا متقدّما لهم، ومقدّما عليهم، وإنّما عبّر عليه الصلاة والسلام عن هذا المعنى بحمل اللواء لأنّ حامل اللواء في الحافل المجرورة (2) يكون مقدّما متبوعا ونابها مشهورا، يطأ الناس عليه قدمه (3)، ويتلاحقون على آثار تقدّمه.
114
(114) وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «مَا مِنْ جُرْعَةٍ يَتَجَرَّعُهَا الْإِنْسَانُ أَعْظَمَ أَجْراً عِنْدَ اللَّهِ مِنْ جُرْعَةِ غَيْظٍ فِي اللَّهِ» (4).
وهذا القول مجاز، والمراد ب «جرعة الغيظ» هاهنا الصبر عند الاهتياج (5)، والكظم عند الانزعاج، وترك اتّباع نوازع النفس (6) إلى ما تدعو إليه في تلك الحال من شفاء غيظ، أو تنفيس كرب، أو إطلاق
__________
(1) مسند أحمد 2: 228، عيون أخبار 1: 143، الأغاني 8: 200، مجمع الزوائد 1: 119و 8: 119، كنز العمّال 3: 573/ 7955، البداية والنهاية 2: 277.
(2) أي الجيوش الثقيلة في سيرها لكثرة عددها وعتادها.
(3) أي آثر قدمه.
(4) سنن ابن ماجة 2: 1401/ 4189، كنز العمّال 3: 130/ 5820، التبيان في تفسير القرآن: 2: 594، مشكاة الأنوار 380: 1249، وفيه: «أحبّ إلى الله» بدل «أعظم أجرا عند الله».
(5) اهتاج وتهيّج: ثار لمشقّة أو ضرر. لسان العرب 2: 394.
(6) نازعتني نفسي إلى هواها: غالبتني لسان العرب 8: 349.(1/151)
عقال، أو فعل مراقبة لله سبحانه، وتنجّزا لثوابه، واحتجازا عن عقابه.
وشبّه عليه الصلاة والسلام تلك الحال بالجرعة لأنّ الإنسان كأنّه بالكظم لها والصبر عليها، قد ضاق بها مرارة، وأساغ منها حرارة (1).
وعلى ذلك قول الشاعر:
شربنا الغيظ حتّى لو سقينا ... دماء بني أميّة ما روينا (2)
وقد روي هذا الخبر على خلاف هذا اللفظ وهو
قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «مَا تَجَرَّعَ عَبْدٌ جُرْعَةً أَحَبَّ إِلَى اللَّهِ مِنْ جُرْعَةِ مُصِيبَةٍ يَرُدُّهَا بِحُسْنِ عَزَاءٍ (3)، أَوْ جُرْعَةِ غَيْظٍ يَرُدُّهَا بِحِلْمٍ» (4).
115
(115) وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي خَبَرٍ طَوِيلٍ رُوِيَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ سَمِعَهُ مِنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي ذِكْرِ مَنَافِعِ كَثِيرٍ مِنْ بُقُولِ الْأَرْضِ وَمَضَارِّهَا، فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عِنْدَ ذِكْرِ الْجِرْجِيرِ: «فَوَ الَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، مَا مِنْ عَبْدٍ بَاتَ فِي جَوْفِهِ شَيْءٌ مِنْ هَذِهِ الْبَقْلَةِ إِلَّا بَاتَ الْجُذَامُ يُرَفْرِفُ عَلَى رَأْسِهِ حَتَّى يُصْبِحَ إِمَّا أَنْ يَسْلَمَ، وَإِمَّا أَنْ يَعْطَبَ (5)» (6).
وهذا القول مجاز لأنّ الداء المخصوص الذي هو الجذام، لا يصحّ أن
__________
(1) في نسخة ب: حزازة.
(2) أنساب الأشراف 4: 293.
(3) أي صبر. المصباح المنير: 408، مادّة (ع ز ي).
(4) مسند أحمد 2: 128، الفتح الكبير 3: 88، كنز العمّال 15: 873/ 4347.
(5) أي يهلك. المصباح المنير: 416، مادّة (ع ط ب).
(6) لم أعثر له مصدر.(1/152)
يوصف بالرفرفة على الحقيقة لأنّه عرض من الأعراض، وإنّما أراد عليه الصلاة والسلام أنّ البائت على أكل هذه البقلة، يكون على شرف من الوقوع في الجذام لشدّة اختصاصها بتوليد هذه العلّة، فإمّا أن يدفعها الله تعالى عنه فتدفع، أو يوقعه فيها فيقع.
وإنّما قال عليه الصلاة والسلام: «يرفرف على رأسه» عبارة عن دنوّ هذه العلّة منه، فيكون بمنزلة الطائر الذي يرفرف على الشيء إذا همّ بالنزول إليه، والوقوع عليه.
{بِسْمِ اللََّهِ الرَّحْمََنِ الرَّحِيمِ} *
116
(116) وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «وَهَلْ يَكُبُّ النَّاسَ عَلَى مَنَاخِرِهِمْ إِلَّا حَصَائِدُ أَلْسِنَتِهِمْ؟!» (1).
وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى: «عَلَى مَنَاخِرِهِمْ فِي النَّارِ» (2).
وهذه من الاستعارات العجيبة، والمراد بها أنّ أكثر معاثر الأقدام ومصارع الأنام، إنّما تكون بجرائر ألسنتهم عليهم، وعواقب الأقوال السيّئة التي تؤثر عنهم، هذا في الدار الدنيا، وعلى المتعارف بين أهلها، والمتعالم من مجاري عاداتها، فأمّا في الدار الآخرة فيؤخذون فيها بآثام الأقوال كما يؤخذون بآثام الأفعال، فيكبّون على مناخرهم في أطوار
__________
(1) مسند أحمد 5: 236، 237، سنن ابن ماجة 2: 1314، كنز العمّال 15: 919/ 43586. تحف العقول: 56، مشكاة الانوار: 306: 963.
(2) سنن الترمذي 4: 125/ 2749، مستدرك الحاكم 2: 413، مجمع الزوائد 7: 234و 10: 300، كنز العمّال 3: 835/ 8895، تحف العقول: 395.(1/153)
العذاب، وبين أطباق النيران، نعوذ بالله منها.
والعبارة عن هذا الحال ب «حصائد الألسنة» من أحسن العبارات لأنّه عليه الصلاة والسلام شبّه ما تحذف به (1) ألسنتهم من الأقوال المذمومة التي تسوء عواقبها ويعود عليهم وبالها بالزارع الذي يستوبئ عاقبة زرعه (2)، والغارس الذي يستمرّ (3) ثمرة غرسه، وهذا كقول القائل لمن اخذ بجريرة وعوقب على جريمة: «احصد ما زرعت، واستوف أجر ما غرست».
117
(117) وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «تَدُورُ رَحَا الْإِسْلَامِ لِسَنَةِ كَذَا» (4).
وهذا مجاز، والمراد أنّ الإسلام على هذا العهد يضطرب في قراره، ويقلق في نصابه بالولاة الذين يتنكبون (5) واضح السبيل، وتنتقض على أيديهم مرر (6) الدين، فشبّه عليه الصلاة والسلام الإسلام
بالرحا الساكنة في مستقرّها، القائمة على قطبها، فإذا كان الوقت الذي وقع الإيماء إليه، دارت دور هرج واضطراب، لا دور قوّة واستتباب.
ودور الرحا يكون عبارة عن حالين مختلفتين: إحداهما مذمومة، والاخرى محمودة:
__________
(1) أي ترمي به وتلفظه.
(2) أي يجد عاقبة زرعة وبيئة سيّئة.
(3) أي يجدها مرّة. أقرب الموارد 2: 1199، مادّة (م ر ر).
(4) مسند أحمد 1: 390، سنن أبي داود 2: 303/ 4254، مستدرك الحاكم 4: 521، البداية والنهاية 7:
245 - و 7: 259، كنز العمّال 11: 130/ 30910.
(5) أي يعدلون ويميلون عنه. المصباح المنير: 624، مادّة (ن ك ب).
(6) المرر: جمع مرّة، والمراد بها هنا الشدّة والاستحكام. راجع المصباح المنير: 568، مادّة (م ر ر).(1/154)
فالمذمومة: هي الحال التي بني الخبر عليها. وعلى ذلك كان قول عثمان بن حنيف الأنصاري رحمه الله يوم الجمل وكان في حيّز أمير المؤمنين عليّ عليه السّلام وقد رأى استحرار القتل، واستلحام (1) الأمر: «دارت رحا الإسلام وربّ الكعبة» (2)، أراد أنّ الناكثين بيعة أمير المؤمنين عليه السّلام وهم أصحاب الجمل، قد أزعجوا الإسلام عن مناطه، وأزحفوه عن قراره (3).
وأمّا الحال المحمودة: فهي أن يكون دور الرحا عبارة عن تحرّك جدّ (4) القوم، وقوّة أمرهم، وعلوّ نجمهم، يقال: «دارت رحا بني فلان» إذا اتفقت لهم هذه الأحوال المحمودة ومن هذا القبيل أيضا العبارة ب «دوران الرحا» عن هزم عسكر لعسكر، وكسر فيلق لفيلق (5)، قال الشاعر:
طحنت رحا بدر لمهلك فتية ... ولمثل بدر تستهلّ الأدمع (6)
فهذه حال كان دور الرحا فيها محمودا لمن دارت له، ومذموما لمن دارت عليه، وإنّما قالوا: «دارت رحا الحرب» لجولان الأبطال فيها، وحركات الخيل تحتها.
وقد روي هذا الخبر على وجه آخر وهو
قَوْلُهُ: «تَزُولُ رَحَا
__________
(1) أيّ ثورانه وهيجانه.
(2) الكامل في التأريخ 3: 212.
(3) القرار من الأرض: المطمئنّ المستقرّ لسان العرب 5: 85.
(4) أيّ حظّ. أقرب الموارد 1: 106، مادّة (ج د د).
(5) الفيلق: الجيش الصّحاح: 4/ 1545، لسان العرب: 1/ 311.
(6) الأغاني 22: 125، السّيرة النّبويّة لابن هشام 3: 55، البداية والنّهاية 4: 7، وفيه: تستهلّ وتدمع، تستهلّ: تسيل.(1/155)
الْإِسْلَامِ» (1)
، والمراد بذلك أنّها تزول عن ثباتها، وتميل عن موضع استقرارها.
118
(118) وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «مَنْ بَايَعَ إِمَاماً فَأَعْطَاهُ صَفْقَةَ يَدِهِ وَثَمَرَةَ قَلْبِهِ وَنَخِيلَةَ (2) صَدْرِهِ، فَلْيُطِعْهُ مَا اسْتَطَاعَ» (3).
فقوله عليه الصلاة والسلام: «وثمرة قلبه» استعارة لأنّ المراد بها خالصة صدره، أي بايعه بطاعة صحيحة، وبنيّة غير مدخولة، فشبّه عليه الصلاة والسلام ذلك بالثمرة لأنّها لباب كلّ شيء وخالصته، وصفوته وخلاصته.
119
(119) وَمِثْلُ ذَلِكَ الْحَدِيثُ الْآخَرُ عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «الْوَلَدُ مَبْخَلَةٌ مَجْبَنَةٌ مَجْهَلَةٌ، ثَمَرَاتُ الْقُلُوبِ، وَقُرَّاتُ الْعَيْنِ» (4).
أراد عليه الصلاة والسلام أنّ الأولاد خالصة القلوب والأكباد، كما أنّ الثمر خالصة النبات والأشجار.
وعندي في ذلك وجه آخر، وهو أنّ الولد من أبيه بمنزلة الثمرة من الشجرة لأنّه منه تفرّع، وبوساطته ظهر وطلع، فلو قال: «الأولاد
__________
(1) مسند أحمد 1: 451، النهاية في غريب الحديث 2: 211.
(2) أي نصيحته. راجع أساس البلاغة: 451، مادّة (ن خ ل).
(3) مسند أحمد 2: 193، سنن النسائي 7: 153، صحيح مسلم 6: 18، سنن أبي داود 2:
301/ 4248، السنن الكبرى 8: 169، كنز العمّال 6: 64/ 14856، العمدة: 318/ 534، البداية والنهاية 2: 186.
(4) مسند أحمد 5: 182/ 17112، سنن ابن ماجة 2: 1209/ 3666، مستدرك الحاكم 3: 296، مجمع الزوائد 8: 155، كنز العمّال 16: 284/ 44485، ذخائر العقبى: 123، وفي نسخة ب:
«قرّات الأعين».(1/156)
ثمرات الرجال» لكان الفرض صحيحا، والمعنى مستقيما، إلّا أنّه عليه الصلاة والسلام أضافهم إلى القلوب، فجعلهم ثمارا لها دون سائر الأعضاء غيرها لأنّ القلب سيّد الأعضاء الرئيسة، والأحناء الشريفة، فحسنت حينئذ إضافة «الولد» إلى «القلب» خصوصا وإن حسنت إضافته إلى سائر أعضاء الأب عموما لأنّه عصارة مائه، وخلاصة أعضائه.
120
(120) وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَقَدْ سَأَلَهُ رَجُلٌ عَمَّا شَيَّبَهُ، فَقَالَ:
«هُودٌ وَأَخَوَاتُهَا قَصَفْنَ عَلَيَّ الْأُمَمَ» (1).
وهذا القول مجاز لأنّ أصل «القصف»: كسر الشيء وحطمه، ومن ذلك
مَا حُكِيَ عَنْ بَعْضِ الْيَهُودِ لَمَّا قَدِمَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ الْمَدِينَةَ أَنْ قَالَ: «تَرَكْتُ بَنِي قَيْلَةَ (2) يَتَقَاصَفُونَ بِقُبَاءَ عَلَى رَجُلٍ يَزْعُمُ أَنَّهُ نَبِيٌّ» (3)، يَقُولُ: مِنْ شِدَّةِ ازْدِحَامِهِمْ عَلَيْهِ كَانَ بَعْضُهُمْ يَكْسِرُ بَعْضاً.
ومنه سمّيت الريح الشديدة «قاصفا» لأنّها تحطم الأشجار، وتهدم الجدران.
فالمراد بقوله عليه الصلاة والسلام: «قصّفن عليّ الأمم» أنّ هودا وما يجري مجراها من السور، أفيض فيها ذكر مهالك الأمم الخالية، ومصارع القرون الماضية، فنسب عليه الصلاة والسلام إهلاكهم إلى هذه السورة
__________
(1) النهاية في غريب الحديث 4: 74، لسان العرب 9: 284.
(2) القيلة: الادرة وهي انتفاخ الخصية. لسان العرب 11: 376، مادّة (ق ي ل).
(3) النهاية في غريب الحديث 4: 73، 74، لسان العرب 9: 284.(1/157)
لمّا كانت المترجمة عن ذكر هلاكهم، والهاتفة بأنباء بوارهم (1) على طريق المجاز والاتساع.
وقوله عليه الصلاة والسلام: «قصّفن عليّ» أي تلون عليّ أخبار تلك المهالك، وأنباء تلك المعاطب، وهذا مجاز آخر لأنّ السور متلوّة وليست بتالية، ولكنّه لمّا نسب فعل الهلاك إليها وأقامها مقام المهلك المعطب، حسن أن يقيمها مقام المتكلّم المخبر.
121
(121) وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «الرَّحِمُ تَتَكَلَّمُ بِلِسَانٍ طَلْقٍ ذَلْقٍ (2)
تَقُولُ: صِلْ مَنْ وَصَلَنِي» (3).
وَقَدْ رُوِيَ أَيْضاً: «بِلِسَانٍ طُلْقٍ ذُلْقٍ» (4)
بالضمّ في الحرفين جميعا.
وهذا الكلام مجاز، والمراد بذلك أنّ الله سبحانه قد أوجب على خلقه صلة الرحم، وأمرهم بالعطافة عليها، والقيام بالحقوق الواجبة لها، فصارت بظاهر هذه الحال كأنّها ناطقة بالحضّ على صلتها، والدعاء لمن وصلها، ومن كلامهم: «أطّت بفلان الرحم» و «الأطيط» هاهنا: الصوت فيه بعض الحنين، كأنّها دعته إلى أن يرعى ذمّتها (5)، وذكّرته بما يجب عليه لها، ويقولون: «أرزمت (6) إليه الرحم» و «ناشدته الرحم» وذلك
__________
(1) في نسخة: الهاتفة ثانيا ببورهم.
(2) أي فصيح.
(3) النهاية في غريب الحديث 2: 165، و 3: 134، مسند أحمد 2: 189، مع اختلاف، مجمع الزوائد:
8: 150، كنز العمّال 3: 362/ 6950، مستدرك الحاكم 4: 162.
(4) النهاية في غريب الحديث 2: 165.
(5) في نسخة ب: ترعى أزمّتها.
(6) أي صوّتت ودعته بحنين. راجع لسان العرب 5: 204، مادّة (ر ز م).(1/158)
في لسانهم أشهر من أن يحتاج إلى إقامة الشواهد وإيضاح الدلائل.
122
(122) وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «لَا تَمْشُوا عَلَى أَعْقَابِكُمُ الْقَهْقَرَى» (1).
وهذه استعارة، والمراد لا ترجعوا عن دينكم، ولا تكفروا بعد إيمانكم، فتكونوا كالراجع على عقبه عاكسا لقدمه، وناكصا بعد تقدّمه، فهذا وجه.
وقد يجوز أن يكون المراد: لا تولّوا عن الدين راجعين، وتلتووا عنه منصرفين، فعبّر عن الرجوع بعد الذهاب بالرجوع على الأعقاب لأنّ من عادتهم أن يقولوا: «رجع فلان على عقبه» إذا أدبر عن وجهته، أو خالف قصد جهته، والمعنيان متقاربان.
123
(123) وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «مَنْ أَتَاكُمْ وَأَمْرُكُمْ جَمْعٌ (2) يُرِيدُ أَنْ يَشُقَّ عَصَاكُمْ، وَيُفَرِّقَ جَمَاعَتَكُمْ، فَاقْتُلُوهُ» (3).
فقوله عليه الصلاة والسلام: «يريد أن يشقّ عصاكم» استعارة، والمراد به تفريق أمرهم، وتشتيت جمعهم، فشبّه ذلك بشقّ العصا لأنّ عن شقّها يكون تشظّيها، وتطاير الصدوع فيها، قال الراعي:
فتشقّقت من بعد ذاك عصاهم ... شققا وغودر جمعهم مفلولا (4)
أي انتشرت امورهم، وتفرّقت جموعهم.
__________
(1) كنز العمّال: 1: 180/ 913، مجمع الزوائد 7: 259، وفيهما: «فلا تمشوا بعدي القهقرى».
(2) أي مجتمع. تاج العروس 11: 73، مادّة (ج م ع).
(3) صحيح مسلم 6: 23، السنن الكبرى 8: 169، مجمع الزوائد 6: 233، كنز العمّال 6: 51/ 14806.
(4) جمهرة أشعار العرب: 433.(1/159)
ومثل ذلك من كلامهم قولهم: «فضّ الله مروتهم» وهي الصخرة، و «فضّ الله خدمتهم» وهي الحلقة، فكأنّهم شبّهوا التئام جموعهم بالصخرة الملمومة، وشبّهوا التحام شؤونهم بالحلقة الماطورة (1).
ويجوز أن يكون لشقّ العصا وجه آخر وهو أن يراد به فلّ شوكتهم، وإيهان قوّتهم لأنّ العصا لصاحبها قوّة يدفع بها، وبسطة يعوّل عليها، ألا ترى إلى قوله تعالى حاكيا عن موسى عليه السّلام: {«هِيَ عَصََايَ أَتَوَكَّؤُا عَلَيْهََا وَأَهُشُّ بِهََا عَلى ََ غَنَمِي وَلِيَ فِيهََا مَآرِبُ أُخْرى ََ»} (2) (3)، فجعل من مرافقها الاعتماد عليها، والهشّ على الغنم بها، ومن المآرب الاخرى التي فيها أن تكون آلة لدفاعه، وعدّة لقراعه (4). وهي بعد عون للماشي، وهداية للعاشي (5)، وسلاطة (6) للراعي.
124
(124) وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «مَنْ لَبِسَ فِي الدُّنْيَا ثَوْبَ شُهْرَةٍ (7)، أَلْبَسَهُ اللَّهُ ثَوْبَ مَذَلَّةٍ» (8).
__________
(1) أي المملوءة المفرغة المقطوعة، وكأنّه مأخوذ من قولهم: مطر القربة إذا ملأها.
(2) طه (20): 18.
(3) أي منافعها. راجع أساس البلاغة: 171، مادّة (ر ف ق).
(4) أي الضربه الغير. راجع أقرب الموارد 2: 987، مادّة (ق ر ع).
(5) العاشي: القاصد لأنّه يعشو إلى قصده كما يعشو إلى النار. راجع لسان العرب 9: 227، مادّة (ع ش و) ولعلّ مراده قدس سره ضعيف البصر، أو مطلق السائر بليل.
(6) أي تسلّط له على غنمه. راجع أساس البلاغة: 217، مادّة (س ل ط).
(7) بأن يلبس خلاف زيّه من حيث اللباس، أو من حيث لونه، أو من حيث وضعه وتفصيله وخياطته، كان يلبس العالم لباس الجندي أو بالعكس مثلا. العروة الوثقى: 190، مسألة 42من شرائط لباس المصلّي.
(8) مسند أحمد 2: 92و 139، سنن ابن ماجة 2: 1192/ 3607، سنن أبي داود 2: 255/ 4029، كنز العمّال 15: 312/ 41169، مشكاة الانوار 553: 1866مع اختلاف.(1/160)
وهذه استعارة، والمراد أنّ الله سبحانه يشمله بالمذلّة حتّى تضفو (1)
عليه من جهاته، وتلتقي عليه من جنباته، كما يشمل الثوب بدن لابسه، فيكون سادّا لخلله، ومغطّيا لفرجه، ومعنى هذه المذلّة: أن يحقّره سبحانه في القلوب، ويصغّره في العيون.
وَرُبَّمَا زِيدَ فِي هَذَا الْخَبَرِ: «أَلْبَسَهُ اللَّهُ ثَوْبَ مَذَلَّةٍ فِي الْآخِرَةِ»
والمذلّة في الآخرة: هي حرمان الثواب، وإنزال العقاب.
125
(125) وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَقَدْ جَاءَ رَجُلٌ بِامْرَأَتِهِ يَشْكُو خُلُقَهَا، فَأَخَذَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِرَأْسَيْهِمَا وَقَالَ: «اللَّهُمَّ أَرِّ بَيْنَهُمَا» (2).
وهذه استعارة، والمراد: اللهم قرّب بينهما، ولائم بين خلقيهما، وذلك مأخوذ من «الأري» وهي الآخيّة (3) التي تربط الدابّة إليها، فكأنّه عليه الصلاة والسلام دعا لهما أن يكونا كالدابّتين على الآريّ في المقاربة والملازمة، وعدم النّفار والمباعدة.
وقد يجوز أن يكون ذلك مأخوذا من قولهم: «أرّيت العقدة» إذا شددتها وأحكمت عقدها، فكأنّه عليه الصلاة والسلام دعا لهما بأن يكون عقد الودّ بينهما، فتكون أخلاقهما متوافقة، وأحوالهما متلافقة.
وقد يجوز أيضا أن يكون ذلك مأخوذا من قولهم: «أرى فلان بالمكان» إذا أقام به، فكأنّه عليه الصلاة والسلام دعا لهما بأن يثبتا على
__________
(1) تضفو: تتّسع وتكثر (لسان العرب: 14/ 485).
(2) غريب الحديث للهروي 1: 470، الفائق 1: 22، المحيط في اللغة 1: 297.
(3) هي عروة تريط إلى وتد مدقوق وتشدّ فيها الدابّة. المصباح المنير: 8، مادّة (أخ و).(1/161)
الألفة، ويدوما على المودّة.
و «التأرّي» أيضا: التوقّع للشيء والانتظار له، قال الشاعر:
لا يتأرّى لما في القدر يرقبه ... ولا يعضّ على شرسوفه الصّفر (1)
126
(126) وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِلرُّمَاةِ فِي يَوْمِ أُحُدٍ: «انْضَحُوا عَنَّا الْخَيْلَ بِالنَّبْلِ لَا يَأْتُونَّا مِنْ خَلْفِنَا» (2).
وهذه استعارة، وأصل «النضح» صبّ الماء، وهو أقلّ من النّضخ بالخاء معجمة، فكأنّه عليه الصلاة والسلام قال لهم: «صبّوا عليهم النّبل صبّ شآبيب (3) المطر». وقد يشبهون السهام بمواقع القطار (4) إذا أرادوا صدق الإصابة، وسرعة الموالاة والمتابعة.
127
(127) وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي هِجَاءِ شُعَرَاءِ الْإِسْلَامِ لِمُشْرِكِي قُرَيْشٍ: «فَوَ الَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَكَأَنَّمَا يَنْضَحُونَهُمْ بِالنَّبْلِ» (5).
وقد يجوز أن يكون ذلك مأخوذا من قولهم: «نضح الشجر ينضح
__________
(1) أمالي المرتضى 3: 110، ديوان الاعشى: 268، العين 7: 113عن الأعشى، وج 8: 303، إصلاح المنطق: 3، وقد ذكره صدره إلّا أيدله بعجر آخر، الصحاح: 2: 714و 6: 2266، الشرشوف:
غضروف معلّق بكلّ ضلغ، مثل غضروف الكتف، الصفر: الجوع، وقيل: دابّة تعضّ الضلوع والشراسيف. راجع لسان العرب 7: 358، مادّة (ص ف ر).
(2) البداية والنهاية 4: 17، معجم المقاييس اللغة 1: 438، لا يوجد هذا الحديث في بعض النسخ المطبوعة.
(3) الشآبيب: جمع شؤبوب، وهو شدّة دفع المطر. أقرب الموارد 1: 564، مادّة (ش أب ب).
(4) القطار من الإبل: قطعة على نسق واحد. أقرب الموارد 1: 1012، مادّة (ق ط ر).
(5) مسند أحمد 3: 456، وفيه: «تنضحونهم» و 3: 460، سنن النسائي 5: 202، وفيه: «كأنّما»، السنن الكبرى 10: 239، كنز العمّال 3: 862/ 8963و 8964، تفسير نور الثقلين 4: 70/ 105.(1/162)
نضحا» إذا تفطّر للتوريق، فكأنّه عليه الصلاة والسلام قال: «شقّقوا جلودهم بنبلكم كما تتشقّق ألحية (1) الشجر عن طوالع أوراقه، ونواجم (2)
أفنانه» (3).
128
(128) وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَقَدْ كَسَا أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ قِبْطِيَّةً (4)، فَكَسَاهَا امْرَأَتَهُ، فَقَالَ لَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «أَخَافُ أَنْ تَصِفَ حَجْمَ عِظَامِهَا» (5).
وهذه استعارة، والمراد أنّ القبطية برقّتها تلصق بالجسم، فتبيّن حجم الثديين والرادفتين (6)، وما يشذّ من لحم العضدين والفخذين، فيعرف الناظر إليها مقادير هذه الأعضاء حتّى تكون كالظاهرة للحظه، والممكنة للمسه، فجعلها عليه الصلاة والسلام لهذه الحال كالواصفة لما خلفها، والمخبرة عمّا استتر بها، وهذه من أحسن العبارات عن هذا المعنى.
وهذا الفرض رمى عمر بن الخطّاب في قوله: «إيّاكم ولبس القباطي فإنّها إلّا تشفّ تصف» (7)، فكان رسول الله عليه الصلاة والسلام أبا عذر
__________
(1) الألحية: جمع لحاء، وهو قشر الشجر. أقرب الموارد 2: 1135، مادّة (ل ح ي).
(2) النواجم: جمع ناجم، وهو الطالع والظاهر.
(3) الأفنان: جمع فنن، وهو الغصن المستقيم طولا وعرضا. أقرب الموارد 2: 947، مادّة (ف ن ن).
(4) هو ثوب من كتان رقيق يعمل.
(5) مسند أحمد 5: 205، السنن الكبرى 2: 234، مجمع الزوائد 5: 137.
(6) أي الأليتين.
(7) السنن الكبرى 2: 235النهاية في غريب الحديث 4: 7، وفيه: «لا تلبسوا نساءكم القباطيّ».(1/163)
هذا المعنى (1)، ومن تبعه فإنّما سلك نهجه، وطلع فجّه (2).
129
(129) وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «لَا تَعْضِيَةَ فِي مِيرَاثٍ، إِلَّا فِيمَا حَمَلَ الْقَسْمَ» (3).
وهذه استعارة، والمراد ب «التعضية» التفريق، من قولهم: «عضّى الجزور» (4) إذا نحرها. وقسّم أعضاءها، وفرّق أشلاءها، فشبّه عليه الصلاة والسلام الميراث المقتسم بالأعضاء المتفرّقة، والأشلاء الموزّعة.
ومعنى: «إلّا ما حمل القسم» أي ما احتمل إذا قسّم أعضاء وفرّق أجزاء ألّا يكون ذلك مضرّا به، ومفسدا له، وما لا يحتمل القسم كالحمّام من العقار (5)، والدرّة (6) من العروض (7)، وما في معنى هذين الجنسين من المال الموروث. وعلى ذلك قول الشاعر:
__________
(1) يقال: هو أبو عذر فلانة، لأوّل من اختصّها، ثمّ قيل: هو أبو عذر هذا الكلام، لأوّل من قاله. راجع أساس البلاغة: 296، مادّة (ع ذ ر).
(2) أي طريقه الواضح الواسع. المصباح المنير: 462، مادّة (ف ج ج).
(3) سنن الدارقطني 4: 219، غريب الحديث لابن الجوزي 2: 104، البحار 76: 345، الفائق 1:
162، السنن الكبرى 10: 133، كنز العمّال 11: 9/ 30401، غريب الحديث 1: 212، وفيه: «إلّا إذا حمل القسم».
(4) أي الإبل، وقيل: الناقة التي تنحر. راجع المصباح المنير: 98، مادّة (ج ر ز).
(5) وهو كلّ ملك ثابت له أصل، كالدار والنخل. المصباح المنير: 421، مادّة (ع ق ر).
(6) أي اللؤلؤة العظيمة الكبيرة. المصباح المنير: 191، مادّة (د ر ر).
(7) أي الأمتعة التي لا يدخلها كيل ولا وزن، ولا تكون حيوانا ولا عقارا. المصباح المنير: 404، مادّة (ع ر ض).(1/164)
وليس دين الله بالمعضّى (1)
أي ليس الدين بالمفرّق الموزّع، ولكنّه المضموم المجتمع.
130
(130) وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي كَلَامٍ: «وَلَا تُسَلِّطْ عَلَيْهِمْ عَدُوّاً مِنْ سِوَى أَنْفُسِهِمْ فَيَسْتَبِيحَ بَيْضَتَهُمْ» (2).
وهذه استعارة، والمراد ب «البيضة» هاهنا مجتمع امّته عليه الصلاة والسلام، وموضع سلطانهم، ومستقرّ دعوتهم، وشبّه ذلك بالبيضة لاجتماعها، وتلاحق أجزائها، واستناد ظاهرها إلى باطنها، وامتناع باطنها بظاهرها.
وقد يجوز أن يكون المراد ب «البيضة» هاهنا المغفر (3) الذي هو من لامة الحرب (4)، فكأنّه عليه الصلاة والسلام شبّه مكان اجتماعهم ومظنّة اتّفاقهم والتئامهم، ببيضة الحديد التي تحصن الدارع، وتردّ القوارع.
وكان شيخنا أبو الفتح النحوي رحمه الله يقول: «قولهم فيها «الجمّاء الغفير» يريدون به البيضة التي هي المغفر (5)، وسمّوها جمّاء، لملاستها، وغفيرا
__________
(1) ديوان رؤبة: 81، الأغاني 20: 344، الجامع لأحكام القرآن تفسير القرطبي 10: 39، لسان العرب 15: 68.
(2) مسند أحمد 5: 278و 284، صحيح مسلم 8: 171، سنن أبي داود 2: 302/ 4252، سنن الترمذي 3: 319/ 2267، كنز العمّال 11: 366/ 31761، البداية والنهاية 7: 306.
(3) المغفر: ما يلبس تحت البيضة المصباح المنير: 449، مادّة (غ ف ر) ولعلّ أن يقال والمراد بالبيضة هاهنا ما على المغفر لأنّ البيضة هي الخوذة التحديدية لانفس المغفر.
(4) أي درعه. المصباح المنير: 560، مادّة (ل وم).
(5) عرفت ما فيه.(1/165)
لتغطيتها (1)، كأنّهم بهذا الكلام يصفون قوما بالقوّة والاجتماع، والكثرة والاحتشاد (2)، فشبهوا قوّتهم بالحديد الذي هو النهاية في الشدّة، وشبّهوا كثرته في أنّ بعضهم ليستر بعضا بالمغفر الذي هو غطاء لما تحته من شعر الهامة».
وفي هذا الكلام مسألة من الإعراب، وهي من مسائل «الكتاب» (3)
وليس كتابنا هذا مقتضيا لذكرها فنتعاطاه، لا سيّما وغرضنا فيه اتباع نهج الاختصار، والانحراف عن طريق الإكثار والإطناب.
131
(131) وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «مَنْ كَسَبَ مَالًا مِنْ نَهَاوِشَ أَنْفَقَهُ فِي نَهَابِرَ» (4).
وفي هذا الكلام مجاز، والمراد ب «النهاوش» على ما قاله أهل العربية: اكتساب الأموال من النواحي المكروهة، والوجوه المذمومة، ومن غير حلّها، ولا حميد سبلها، وذلك مأخوذ من «نهش (5) الحيّة»
__________
(1) أي لأنّها تغفر الرأس وتغطيه.
(2) الاحتشاد: التجمع والتأهّب لسان العرب 3: 150.
(3) قال سيبويه: «الجمّاد الغفير: من الأسماء التي وضعت موضع الحال ودخلتها الألف واللام كما دخلت في العراك من قولهم: أرسلها العراك» أي أوردها عراكا، فقولك: جاءنا الجمّاد الغفير، معناه جاؤونا جميعا، فهي منصوبة على الحال رغم وجود الألف واللام لأنّها زائدة شاذّة. راجع لسان العرب 2: 368، مادّة (ج م م).
(4) النهاية في غريب الحديث 5: 133و 137، لسان العرب 6: 361، كنز العمّال 4: 13/ 9265، اعلام الورى: 276، مع اختلاف في الكل، بصائر الدرجات: 336، مناقب ابن شهر آشوب 3: 347.
(5) النهش: تناول من بعيد، وهو دون النهس، وهو القبض على اللحم ونثره، وعكس ثعلب فقال: النهس يكون بأطراف الأسنان، والنهش بالأسنان وبالأخراس المصباح المنير: 628، مادّة (ن هـ س).(1/166)
كأنّها تنهش من هنا ومن هنا لا تتّقي منهشا، ولا تجتنب ملبسا وذلك ضدّ
قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى أَحَدِ التَّأْوِيلَيْنِ: «اطْلُبُوا الْمَالَ مِنْ حِسَانِ الْوُجُوهِ»
(1) أي من وجوه المكاسب الطيّبة التي يحسن الطلب منها، ولا يذمّ التعرّض لها.
وقال أبو عبيدة: «هو «مهاوش» بالميم، يريد أخذ المال من التلصّص، نحو لصوص بني سعد» (2).
وقال غيره: «ذلك مأخوذ من الهوش (3)، يقال: تهاوش القوم إذا اختلطوا، ومنه قوله عليه الصلاة والسلام: «إيّاكم وهوشات الأسواق» (4) أي اختلاطها وفسادها، والميم زائدة في بناء الكلمة»، والمعنى راجع إلى ما قاله أبو عبيدة لأنّ الأموال المأخوذة من التلصّص، موصوفة بالاختلاط في أنفسها، والأخذ لها موصوف بالتخليط فيها.
وقوله عليه الصلاة والسلام: «أنفقه في نهابر» أي في الوجوه المحرّمة التي يضيع الإنفاق فيها، ولا يعود إليه نفع منها. وذلك مأخوذ
__________
(1) مسند الشهاب 1: 384، تاريخ بغداد 11: 295، الموضوعات لابن الجوزي 2: 163، مجمع الزوائد 8: 194، 195، كنز العمّال 6: 516/ 16739، الخصال 394: 99، الاختصاص: 233، في بعض المصادر: «الخير» بدل «المال».
(2) انظر: غريب الحديث 4: 86.
(3) النهاية في غريب الحديث 5: 282، لسان العرب 6: 366.
(4) النهاية في غريب الحديث 5: 282، عن ابن مسعود، الفائق في غريب الحديث 4: 119مادّة (هـ وش)، لسان العرب 6: 366، العين 1: 68، وفيه: «اتّقوا» بدل «ايّاكم».(1/167)
من «نهابر الرمل» واحدتها: «نهبورة» وهي وهدات (1) تكون بين الرمال المستعظمة إذا وقع البعير فيها استرسخت (2) قوائمه، ولم يكد يتخلّص منها، ويقال: «حفر بين الآكام (3) يصعب السلوك بها، وتكثر المعاثر فيها» فكأنّه عليه الصلاة والسلام شبّه ما يكسب من الحرام وينفق في الحرام، بالشيء الواقع في عجمة الرمل (4) لا يرجى وجوده، ولا ينشد مفقوده، ومع ذلك فقد أرصد لمنفقه أليم العذاب، وعظيم العقاب.
132
(132) وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي كِتَابٍ كَتَبَهُ لِبَعْضِ الْوُفُودِ: «لَا يُبَاحُ مَاؤُهُ، وَلَا يُعْقَرُ أَرْعَاؤُهُ» (5).
وهذه استعارة، والمراد به: لا يقطع ما فيه من شجر أو كلأ إلّا بإذن صاحبه، فشبّه عليه الصلاة والسلام ما يقطع من الشجر بما يعقر من الإبل، وذلك من التشبيهات الواقعة والتمثيلات النافعة لأنّ سقوط الشجر عن قطعها كسقوط البدنة عن عقرها.
133
(133) وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «الْوَلَاءُ لُحْمَةٌ كَلُحْمَةِ النَّسَبِ لَا يُبَاعُ، وَلَا يُوهَبُ» (6).
__________
(1) الوهدات: جمع وهدة، وهي الأرض المنخفضة. راجع أقرب الموارد 2: 1490، مادّة (وهـ د).
(2) أي ثبتت، وفي نسخة: استرخت.
(3) أي التلال.
(4) أي كثرته. راجع أقرب الموارد 2: 751، مادّة (ع ج م).
(5) الأرعاء: جمع رعي، وهو الكلأ والعشب. أسد الغابة 2: 27، وفيه: «لا يباع» النهاية في غريب الحديث 3: 273.
(6) المبسوط 4: 93و 6: 70، السرائر 3: 24، الفقيه 3: 133/ 3494، التهذيب 8: 255/ 926.
الاستبصار 4: 24/ 78، الإمامة والتبصرة: 177سنن الدارمي 2: 398، مستدرك الحاكم 4: 341، السنن الكبرى: 6: 240، كنز العمّال 10: 324/ 29624.(1/168)
وهذه استعارة لأنّه عليه الصلاة والسلام جعل التحام الوليّ بوليّه، كالتحام النسيب بنسيبه في استحقاق الميراث، وفي كثير من الأحكام، وذلك مأخوذ من «لحمة الثوب» و «سداه» (1) لأنّهما يصيران كالشيء الواحد بما بينهما من المداخلة الشديدة والمشابكة الوكيدة (2)، ويقال:
«لحمة البازي» (3) و «لحمة النسب» و «لحمة الثوب» واحد وهي المشابكة والمخالطة، إلّا أنّهم فرّقوا بين اللفظين ليكون ذلك تمييزا للمسمّين.
134
(134) وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «الْمُؤْمِنُ مُوهٍ رَاقِعٌ» (4).
وهذه استعارة، والمراد أنّ المؤمن إذا أساء أحسن، وإذا أخطأ ندم، فكأنّه يوهي دينه بمعصيته، ويرقعه بتوبته، فشبّهه عليه الصلاة والسلام بمن يخرق ثوبا، ثمّ يبادر رقع ما خرق، ورتق ما فتق.
135
(135) وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «مَنْ خَلَعَ يَداً مِنْ طَاعَةٍ لَقِيَ اللَّهَ وَلَا حُجَّةَ لَهُ» (5).
وهذه استعارة، والمراد ب «خلع اليد» هاهنا الخروج عن طاعة الإمام
__________
(1) اللحة: خيوط القماش العرضية، والسداة: خيوطه الطولية.
(2) الوكيدة: الشديدة والوثيقة. لسان العرب 3: 466.
(3) أي لحمة الصقر، وهي ما يطعمه إذا صاد. المصباح المنير: 551، مادّة (ل ح م).
(4) كشف الخفاء 2: 407، النهاية في غريب الحديث 2: 251، لسان العرب 8: 131، وفيها: «واه راقع». كنز العمّال 1: 143/ 691، مجمع الزوائد 10: 201.
(5) صحيح مسلم 6: 22، السنن الكبرى 8: 156، كنز العمّال 6: 52/ 14810، العمدة: 319و 320.(1/169)
العادل، فشبّه عليه الصلاة والسلام من يخرج عن طاعة سلطانه، بالأسير الذي نزع يده من ربقته، وأخرج عنقه عن جامعته (1)، فكأنّه عليه الصلاة والسلام أقام لوازم الطاعة في الأعناق، مقام الجوامع في الأيدي والرقاب، وجعل الخارج منها كالمارق من ربقة الأسر، والناصل (2) من مثناة (3) الحبل.
136
(136) وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «مَنْ كَانَتْ نِيَّتُهُ الْآخِرَةَ جَعَلَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ غِنَاهُ فِي قَلْبِهِ، وَأَتَتْهُ الدُّنْيَا وَهِيَ رَاغِمَةٌ» (4).
وهذه استعارة، والمراد: أتته الدنيا من حيث لايطلبها، ودرّت عليه منافعها من حيث لا يحتسبها، فأقام عليه الصلاة والسلام مواتاة الدنيا من غير طلب، مقام إتيانها راغمة، وإقبالها عليه ضارعة. وأصل «الرغم» أن يلصق الأنف ب «الرغام» وهو التراب، وقيل: «الرمل» وليس يكاد يكون ذلك إلّا عن غاية الخشوع، ونهاية الخضوع.
137
(137) وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «عَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْمَهْدِيِّينَ مِنْ بَعْدِي عَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ» (5).
وهذا مجاز، والمراد أن اقطعوا عليها، وقفوا عندها، ولا تتجاوزوها
__________
(1) سمّيت: جامعة لأنّها تجمع اليدين إلى العنق. أقرب الموارد 1: 138، مادّة (ج م ع).
(2) أي الخارج.
(3) المثناة: حبل من صوف أو شعر أو غير. أقرب الموارد 1: 97، مادّة (ث ن ي).
(4) مسند أحمد 5: 183، سنن الدارمي 1: 75، سنن ابن ماجة 2: 1375، مجمع الزوائد 10: 247، كنز العمّال 3: 206/ 6187، مع اختلاف في الجميع.
(5) مسند أحمد 4: 126، سنن الدارمي 1: 45، سنن ابن ماجة 1: 16/ 42، سنن أبي داود: 2:
393/ 4607، مستدرك الحاكم 1: 96.(1/170)
إلى غيرها، كما أنّ من شدّد العضّ بنواجذه على الشيء الذي يتأتّى فيه القطع قطعه. و «النواجذ» أقصى الأضراس، وهي أقواها وأمضاها.
وقد يجوز أن يكون المراد الأمر بلزوم سنّته عليه الصلاة والسلام، كما أنّ العاضّ بنواجذه على الشيء الذي لا يتأتّى فيه القطع، يلزمه أشدّ اللزوم لقوّة العوازم (1) واستحصاف (2) اللوازم.
138
(138) وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «حُبُّكَ الشَّيْءَ يُعْمِي وَيُصِمُّ» (3).
وهذا مجاز لأنّ الحبّ للشيء على الحقيقة لا يعمي ولا يصمّ، وإنّما المراد أنّ الإنسان إذا أحبّ الشيء، أغضى عن مواضع عيوبه كأنّه لا ينظرها، وأعرض عن الملاوم والمعاتب من أجله كأنّه لا يسمعها، فصار من هذا الوجه كالأعمى لتغاضيه، والأصمّ لتغابيه.
139
(139) وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «تَنَامُ عَيْنَايَ وَلَا يَنَامُ قَلْبِي» (4).
وهذا القول عند المحقّقين من العلماء مجاز لأنّه عليه الصلاة والسلام لو كان قلبه لا ينام على الحقيقة كقلوب الناس، لكان ذلك من أكبر معجزاته، وأبهر آياته، ولوجب أن تتظاهر الأخبار بنقله، كما تظاهرت بنقل غيره من أعلامه ودلالته.
وممّا يحقّق قولنا
مَا رَوَاهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ رَحِمَهُ اللَّهُ: مِنْ أَنَّهُ عَلَيْهِ
__________
(1) العوازم: جمع عزيمة، وهي الإرادة الشّديدة.
(2) أيّ الستحكام.
(3) مسند أحمد 5: 194، سنن أبي داود 2: 505/ 5130، البداية والنّهاية 12: 407.
(4) مسند أحمد 1: 220و 6: 36، سنن أبي داود 1: 52/ 202، سنن التّرمذيّ 3: 354/ 2350، السّنن الكبرى 1: 121.(1/171)
الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ نَامَ وَنَفَخَ، صَلَّى وَلَمْ يَتَوَضَّأْ، فَقِيلَ لَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي ذَلِكَ، فَقَالَ: «لَيْسَ الْوُضُوءُ عَلَى مَنْ نَامَ قَاعِداً، إِنَّمَا الْوُضُوءُ عَلَى مَنْ نَامَ مُضْطَجِعاً» (1).
وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ «أَوْ مُتَوَرِّكاً» (2).
فإنّه إذا نام كذلك استرخت مفاصله، فبيّن عليه الصلاة والسلام أنّه لو نام مضطجعا للزمه الوضوء لاسترخاء مفاصله، فلو كان قلبه لا ينام لما وجب عليه الوضوء إذا نام مضطجعا، كما لا يجب عليه إذا نام قاعدا (3).
وقد يجوز أن يكون المراد بقوله عليه الصلاة والسلام: «تنام عيناي ولا ينام قلبي» أنّه لا يعتقد من حال نومه من الرؤيا الفاسدة، والمنامات المتضادّة ما يعتقده غيره من سائر البشر، فيكون في حكم المستيقظ، وبمنزلة المتحفّظ.
140
(140) وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «إِيَّاكُمْ وَالْمُشَارَّةَ (4) فَإِنَّهَا تُحْيِي الْعُرَّةَ، وَتُمِيتُ الْغُرَّةَ» (5).
__________
(1) سنن الترمذي 1: 51، سنن أبي داود 1: 52/ 202، السنن الكبرى 1: 121، رجال الكشّي: 1:
124، المعتبر 1: 110، كنز العمّال 9: 341/ 26345.
(2) رجال الكشّي 1: 124، نهج الحقّ وكشف الصدق: 413.
(3) قال السيّد الداماد قدس سره: «هذا الحديث متواتر قد تظافرت وتظاهرت طرق نقله» أي حديث رؤية النبى صلى الله عليه وآله وسلّم في منامه كرؤيته في يقظته «وما ذكره» أي السيّد الرضى رحمه الله «من رواية ابن عبّاس خبر من باب الآحاد، ولا تعويل عليه. والعمل في المذهب من طريق أهل البيت عليهم السّلام أنّ مطلق النوم الغالب على الحواسّ ناقض للوضوء اضطجاعا كان أو قعودا» اختيار معرفة الرجال 1: 125.
(4) أي المخاصمة.
(5) مسند الشهاب 2: 95، مجمع الزوائد 8: 75، كنز العمال 3: 7843، غريب الحديث لابن الجوزي 2: 80، الكافي 2: 301/ 7، مع اختلاف.(1/172)
وهذه استعارة عجيبة، والمراد بها أنّ مشارّة الناس تظهر المعائب، وتخفي المناقب لأنّ المهاتر المشاغب (1) لا يقدر لمخاصمه على مثلبة إلّا بحثها، ولا يجد له منقبة إلّا دفنها، فكأنّه يميت محاسنه، ويحيي مساويه. وجعل عليه الصلاة والسلام الغرّة في مكان المنقبة لتجمّل الإنسان بنشرها (2)، وجعل العرّة في مكان المثلبة لتهجّن الإنسان بكشفها (3).
وقد قيل: «إنّ المراد بالغرّة هاهنا: النفيسة من المال، ومنه قول الشاعر:
غرير التّلاد منيل الطّعام (4)
أراد بغرير التلاد: كرائم المال، والمراد بالعرّة: البلاء والهلاك، مأخوذ من العرّة، وهي قروح تصيب الإبل» وهذا القول ذكره أبو عبيدة، والقول الأوّل أشبه بظاهر الكلام، وأبعد من الاعتساف والاستكراه.
وممّا يؤكد ذلك
مَا رُوِيَ عَنْ جَدِّنَا الصَّادِقِ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ وَعَلَى آبَائِهِ السَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ: «إِيَّاكُمْ وَتَعْدَادَ الْعُرَّةِ فَإِنَّهَا تَكْشِفُ الْعَوْرَةَ، وَتُورِثُ الْمَعَرَّةَ» (5)
، فهذا كالبيان لذلك الإجمال، والإخراج من ذاك الاحتمال.
__________
(1) المهاتر: المستهتر الذي لا يبالي ما قيل فيه الصحاح 2: 851، والمشاغب: المهيّج للشرّ الصحاح:
1: 157.
(2) فإنّ الغرّة: بياض يكون في وجه الفرس، وهي أيضا كلّ شيء ترفع قيمته. راجع لسان العرب 10:
46، 47مادّة (غ ر ر).
(3) فإنّ العرّة: القذر وعذرة الناس. لسان العرب 9: 126، مادّة (ع ر ر).
(4) غريب الحديث لأبي عبيد 2: 117.
(5) المعرّة هنا: البغضاء والتخاصم والتقاتل. أمالي الطوسي: 482/ 2052.(1/173)
141
(141) وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «دَبَّ إِلَيْكُمْ دَاءُ الْأُمَمِ مِنْ قَبْلِكُمْ الْحَسَدُ وَالْبَغْضَاءُ، وَهِيَ الْحَالِقَةُ حَالِقَةُ الدِّينِ لَا حَالِقَةُ الشَّعْرِ» (1).
وهذه استعارة، والمراد ب «الحالقة» هاهنا المبيرة المهلكة أي هذه الخلّة (2) المذمومة تهلك الدين وتستأصله، كما تستأصل الموسى الشعر، والمقراض الوبرز وعلى هذا قول الشاعر:
أرسل عليهم سنة قاشوره (3) ... تحتلق النّاس احتلاق النّوره (4)
أي تبير الناس، فتأتي على نفوسهم، أو تأتي على أموالهم من الإبل والشياه، فتكون كأنّها قد أتت على نفوسهم بإتيانها على ما هو قوام نفوسهم.
وإنّما جعل عليه الصلاة والسلام البغضاء حالقة للدين لأنّها سبب التفاني (5) والتهالك، والإيقاع في المعاطب والمهالك، والداعي إلى سفك الدم الحرام، واحتمال أعباء الآثام.
142
(142) وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «قَيِّدُوا الْعِلْمَ بِالْكِتَابِ» (6).
وهذه استعارة لأنّه عليه الصلاة والسلام جعل ضروب العلم بمنزلة
__________
(1) مسند أحمد 1: 165و 167، سنن الترمذي 4: 74/ 2628، السنن الكبرى 10: 232، مجمع الزوائد 8: 30، كنز العمّال 3: 462/ 7443.
(2) أي الخصلة.
(3) أي: مجدبة تقشر كلّ شيء وتزيله. راجع لسان العرب 11: 172.
(4) أمالي المفيد: 344، الصحاح 2: 792، لسان العرب 5: 94.
(5) تفانى القوم: أفنى بعضهم بعضا في الحرب لسان العرب 15: 164.
(6) سنن الدارمي 1: 127، مستدرك الحاكم 1: 106، كنز العمّال 10: 293321249، تحف العقول:
36، رجال الطوسي: 50، نقله عن أمير المؤمنين علي عليه السّلام بحذف الاسناد.(1/174)
الإبل الصعاب (1) التي تشرد إن لم تعقل، وتندّ (2) إن لم تقيّد، وجعل الكتاب لها بمنزلة الأقياد المانعة والعقل (3) اللازمة، ومن هناك أيضا سمّوا مثل شكل الخطّ «تقييدا» فقالوا: «خطّ مقيّد بالشكل» كأنّه حفظ عليه إيضاحه في إفهامه، ولولا الشكل لضلّ بيانه، وانكر عرفانه.
وممّا يشبه ذلك الحال التي من أجلها سمّي العقل «عقلا» وهو عندنا اسم لعلوم مخصوصة يطول بتعدادها الكتاب:
منها: العلم بمجاري العادات.
ومنها: العلم بالمشاهدات، وهو أقوى هذه العلوم وأولاها بالتقديم لأنّ الإنسان إذا لم يعلم بالمشاهدات لم يصح أن يعلم شيئا غيرها من المعلومات.
ومنها: العلم بأنّ الشيء لا يخلو من وجود أو عدم، والموجود لا يخلو من حدوث أو قدم، وأنّ الجسم لا يجوز أن يكون في مكانين في وقت واحد، والجسمين لا يصحّ كونهما في مكان واحد في حال واحدة.
ومنها: العلم بقبح كثير من المقبّحات كنحو الظلم والكذب الذي ليس فيه جرّ منفعة، ولا دفع مضرّة، والأمر بالقبيح، وكفران النعمة.
ومنها: العلم بحسن كثير من المحسّنات، كنحو إرشاد الضالّ، وبذل الإفضال.
__________
(1) أي غير المروضة.
(2) أي تنفر وتذهب. راجع أقرب الموارد 2: 1284، مادّة (ن د د).
(3) العقل: جمع عقال، وهو الحبل الذي يعقل به البعير في وسط ذارعه.(1/175)
ومنها: العلم بوجوب كثير من الواجبات كنحو الإنصاف، والعدل، وشكر المنعم، وترك الظلم.
ومنها: العلم بتعلّق الفعل بالفاعلين، والاضطرار عند أحوال مخصوصة إلى كثير من قصود المخاطبين.
ومنها: معرفة ما يمارسه الإنسان من الصنائع المعاطاة، والحرف المعاناة.
ومنها: معرفة ما يسمعه من مخبر الأخبار إذا كان المخبرون عددا مخصوصا، وكانوا عالمين بما أخبروا به اضطرارا وقد تركنا ذكر كثير من هذه الأقسام عدولا إلى جانب الاختصار.
وذكر لي قاضي القضاة أبو الحسن عبد الجبّار بن أحمد عند قراءتي عليه ما قرأته من كتابه الموسوم ب «العمدة في اصول الفقه»: «أنّ هذه العلوم المخصوصة إنّما سمّيت «عقلا» لأنّها تعقل عن فعل المقبّحات وذلك لأنّ العالم بها إذا دعته نفسه إلى ارتكاب شيء من المقبّحات، منعه علمه بقبحه من ارتكابه، والإقدام على طرق بابه، تشبيها بعقال الناقة المانع لها من الشرود، والحائل بينها وبين النهوض، ولهذا المعنى لم يوصف القديم تعالى بأنّه: عاقل، لأنّ هذه العلوم غير حاصلة له، إذ هو عالم بالمعلومات كلّها لذاته. قال: وقيل أيضا: إنّما سمّيت هذه العلوم المخصوصة عقلا لأنّ ما سواها من العلوم يثبت بثباتها، ويستقرّ باستقرارها تشبيها بعقال الناقة الذي به تثبت في مكانها، ولمثل ذلك قيل: معقل الجبل، للمكان الذي يلجأ إليه، ويعتصم به، وله سمّيت
المرأة: عقيلة، وهي التي يمنعها شرف بيتها وكرم أصلها وقوّة حزمها من الإقدام على ما يشينها، والتعرض لما يعيبها، والكلام في تفصيل هذه العلوم وبيان ما لأجله احتيج إلى كلّ واحد منها يطول، وليس هذا الكتاب من مظانّ ذكره، ومواضع شرحه.(1/176)
وذكر لي قاضي القضاة أبو الحسن عبد الجبّار بن أحمد عند قراءتي عليه ما قرأته من كتابه الموسوم ب «العمدة في اصول الفقه»: «أنّ هذه العلوم المخصوصة إنّما سمّيت «عقلا» لأنّها تعقل عن فعل المقبّحات وذلك لأنّ العالم بها إذا دعته نفسه إلى ارتكاب شيء من المقبّحات، منعه علمه بقبحه من ارتكابه، والإقدام على طرق بابه، تشبيها بعقال الناقة المانع لها من الشرود، والحائل بينها وبين النهوض، ولهذا المعنى لم يوصف القديم تعالى بأنّه: عاقل، لأنّ هذه العلوم غير حاصلة له، إذ هو عالم بالمعلومات كلّها لذاته. قال: وقيل أيضا: إنّما سمّيت هذه العلوم المخصوصة عقلا لأنّ ما سواها من العلوم يثبت بثباتها، ويستقرّ باستقرارها تشبيها بعقال الناقة الذي به تثبت في مكانها، ولمثل ذلك قيل: معقل الجبل، للمكان الذي يلجأ إليه، ويعتصم به، وله سمّيت
المرأة: عقيلة، وهي التي يمنعها شرف بيتها وكرم أصلها وقوّة حزمها من الإقدام على ما يشينها، والتعرض لما يعيبها، والكلام في تفصيل هذه العلوم وبيان ما لأجله احتيج إلى كلّ واحد منها يطول، وليس هذا الكتاب من مظانّ ذكره، ومواضع شرحه.
143
(143) وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «سَيَحْرِصُونَ بَعْدِي عَلَى الْإِمَارَةِ، فَنِعْمَتِ الْمُرْضِعُ، وَبِئْسَتِ الْفَاطِمُ» (1).
وهذه استعارة، كأنّه عليه الصلاة والسلام أقام الإمارة في حلاوة أوائلها ومرارة أواخرها، مقام المرضع التي تحسن الرضاع، وتسيء الفطام، وهذا من أوقع التشبيه، وأحسن التمثيل لأنّ مداخل الإمارة محبوبة، ومخارجها مكروهة لما في المداخل إليها من قضاء الأرب (2)، وعلوّ الرّتب، ولما في المخارج عنها من طرق السوء، وشمات العدوّ.
144
(144) وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «لَا تُغَالُوا بِمُهُورِ النِّسَاءِ فَإِنَّمَا هِيَ سُقْيَا (3) اللَّهِ سُبْحَانَهُ» (4).
وهذه استعارة، والمراد إعلامهم أنّ وفاق النساء المنكوحات وكونهنّ على إرادات الأزواج، ليس هو بأن يزاد في مهورتهنّ، ويغالى
__________
(1) مسند أحمد 3: 199/ 9499، و 248/ 9806، سنن النسائي 8: 225، النهاية في غريب الحديث 2:
230، نثر الدر 1: 153.
(2) الحاجة. لسان العرب 1: 208.
(3) السقيا: اسم مصدر، يقال: استسقى وسقى الله عباده الغيث وأسقاهم سقيه.
(4) المستدرك على الصحيحين 2: 193/ 2726: السنن الكبرى للبيهقي 7: 134، النهاية في غريب الحديث 3: 382، كنز العمال 16: 538ح 45799، عن عمر، دعائم الاسلام 2: 221/ 826مع اختلاف.(1/177)
بصدقاتهنّ، وإنّما ذلك إلى الله سبحانه، فهي كالأحاظي والأقسام والجدود والأرزاق (1)، فقد تكون المرأة منزورة (2) الصداق، واقعة بالوفاق، وقد تكون ناقصة المقة (3)، وإن كانت زائدة الصدقة، فشبّه ذلك عليه الصلاة والسلام بسقيا الله يرزقها واحد، ويحرمها آخر، ويصاب بها بلد، ويمنعها بلد، وهذه من أحسن العبارات عن المعنى الذي أشرنا إليه، ودللنا عليه.
145
(145) وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي جُمْلَةِ كَلَامٍ ضَرَبَهُ مَثَلًا: «إِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ جَعَلَ الْإِسْلَامَ دَاراً، وَالْجَنَّةَ مَأْدُبَةً (4)، وَالدَّاعِيَ إِلَيْهَا مُحَمَّداً
عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ» (5).
وهذا الكلام مجاز لأنّه عليه الصلاة والسلام أقام الإسلام مقام الدار المنتجعة (6)، والجنّة مقام المأدبة المصطنعة، والنبيّ عليه الصلاة والسلام مقام الدالّ عليها، والداعي إليها. وإنّما شبّه عليه الصلاة والسلام الإسلام
بالدار من حيث كان جامعا لأهله حاميا لمن فيه، وشبّه الجنّة بالمأدبة من حيث كانت مجتمع الشهوات، ومنتجمع اللذّات، وشبّه نفسه عليه الصلاة والسلام بالداعي إليها من حيث كان المرشد إلى الإسلام، والهادي للأنام صلي الله عليه وآله وسلّم الطيبين الأخيار.
__________
(1) المراد بالكلمات الأربع هنا شيء واحد.
(2) أي قليلته.
(3) أي الحبّ والودّ. راجع أقرب الموارد 2: 1488، مادّة (وم ق).
(4) المأدبة: طعام صنيع لدعوة أو عرس. أقرب الموارد 1: 6، مادّة (أد ب).
(5) سنن الدارمي 1: 18/ 11.
(6) أي التي يطلب معروفها وخيرها. راجع أقرب الموارد 2: 1274، مادّة (ن ج ع).(1/178)
146
(146) وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «أَنَا النَّذِيرُ، وَالْمَوْتُ الْمُغِيرُ» (1).
وهذه من الاستعارات الناصعة (2)، والمجازات الواضحة لأنّ الاستعارة على ضربين: ظاهرة تعرف بجليّتها، وغامضة يضطرّ إلى استنباط خبيّتها (3)، فكأنّه عليه الصلاة والسلام شبّه الموت الذي يطلع الثنايا (4) ويطلب البرايا، بالجيش المغير الذي يهجم هجوم السيل، ويطرق طروق الليل، وشبّه نفسه عليه الصلاة والسلام بالنذير المتقدّم أمامه يحذّر الناس من فجئه ليعدّوا العتاد، ويتزوّدوا الأزواد.
وهذا القول منه عليه الصلاة والسلام تصديق لقول الله سبحانه فيه:
{إِنْ هُوَ إِلََّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذََابٍ شَدِيدٍ} (5)، وقد تكلّمنا على هذه الآية في كتابنا الموسوم ب «مجازات القرآن» (6).
ويقال: إنّه عليه الصلاة والسلام لمّا نزلت هذه الاية، أتى على أبي قبيس (7) ونادى: «يا صباحاه» (8) فلمّا اجتمع الناس إليه قال لهم: «يا
__________
(1) مسند الشهاب 1: 218، مسند أبي يعلى الموصلي 1: 10/ 6149، مجمع الزوائد 10: 227و 228، كنز العمّال 16: 18/ 43750.
(2) نصع الأمر: وضح وبان. لسان العرب 18: 355.
(3) أي ما تخفيه وتستره.
(4) الثنايا: جمع ثنيّة، وهي طريق العقبة أي الجبال. راجع لسان العرب 2: 142، مادّة (ث ن ي).
(5) سبأ (34): 46.
(6) مجازات القرآن: 175.
(7) أي جبل أبي قبيس.
(8) هذه كلمة تقولها العرب إذا صاحوا للغارة لأنّهم أكثر ما يغيرون عند الصباح، ويسمّون يوم الغارة:
يوم الصباح، فكأنّ القائل: يا صباحاه، يقول: قد غشينا العدوّ. وقيل: إنّ المقاتلين كانوا إذا جاء الليل يرجعون عن القتال، فإذا عاد النهار عادوا، فكأنّه يريد بقوله: يا صباحاه قد جاء وقت الصباح فتأهّبوا للقتال. لسان العرب 7: 273، مادّة (ص ب ح).(1/179)
معشر قريش: لو كنت مخبركم بأنّ جيشا يطلع عليكم من هذه الثنيّة، أكنتم مصدّقي؟» قالوا: أجل والله، ما علمناك صادقا مصدّقا، قال:
«فإنّي نذير لكم بين يدي عذاب شديد» فلمّا سمعوا ذلك انفضّوا عنه ارتكاسا في الغواية (1)، واتباعا للضلالة، ولقد أحسن عليه الصلاة والسلام ضرب المثل لهم، وسلك الطريق الأخضر في حياشتهم (2)، وتقريب الأمر عليهم، ولكن عشوا عن النور الأبلج (3)، وأبوا غير الطريق الأعوج.
147
(147) وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي وَصْفِ الْفَرَسِ الَّذِي جَاءَ سَابِقاً:
«إِنَّهُ لَبَحْرٌ» (4).
وهذا مجاز. وربّما طعن بعض الجهّال بمناديح (5) كلام العرب في هذا القول بأن يقول: «كيف شبّه عليه الصلاة والسلام سرعة جري الفرس بالبحر، والبحر راكد لا يجري، وقائم لا يسري؟».
__________
(1) مسند أحمد 1: 281و 307، صحيح البخاري 4: 27، وج 6: 29، صحيح مسلم 5: 191، سنن الترمذي 5: 121، جامع البيان للطبري 11: 120، الدرّ المنثور 5: 188في تفسير الآية (214) من سورة الشعراء {وأنذر عشيرتك الأقربين}.
(2) أي ضمّهم ودعوتهم إلى الإسلام، يقال: حشنا الصيد حياشا أخذناه من حواليه لنصرفه إلى الحبالة وضممناه. راجع لسان العرب 3: 392، مادّة (ح وش).
(3) الأبلج: المشرق المضيء. لسان العرب 2: 216.
(4) مسند أحمد 3: 147و 271، صحيح البخاري 3: 228، صحيح مسلم 7: 72، سنن ابن ماجة: 2:
926/ 2772، كنز العمّال 3: 879/ 9017، البداية والنهاية 6: 181.
(5) المناديح: جمع مندوحة، وهي السعة والفسحة. لسان العرب 2: 613.(1/180)
فجوابه أن يقال: إنّما شبّه عليه الصلاة والسلام اتساعه في الجري باتساع ماء البحر، ألا تراهم يقولون: «إنّه لواسع الخطو ووساع الخطو يريدون هذا المعنى، و «البحر» في كلام العرب الشيء الواسع، ومن هناك سمّوا البلدة المتسعة الأقطار «بحرا».
وقد يجوز أن يكون المراد بتشبيهه بالبحر أنّ جريه غزير لا ينفد، كما أنّ ماء البحر كثير لا ينضب، ويقال للفرس الكثير الجري: «بحر» و «فيض» و «سكب» وعلى هذا قول الشاعر:
وفي البحور تغرق البحور
قيل: «أراد الخيل السابقة التي تسبقها خيل أسبق منها».
فقد بان: أنّ التشبيه واقع موقعه، وأنّ الطاعن فيه لم يفهم غرضه.
148
(148) وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِأَحَبِّكُمْ إِلَيَّ وَأَقْرَبِكُمْ مِنِّي مَجَالِسَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟ أَحَاسِنُكُمْ أَخْلَاقاً، الْمُوَطَّئُونَ أَكْنَافاً (1) الَّذِينَ يَأْلَفُونَ وَيُؤْلَفُونَ أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِأَبْغَضِكُمْ إِلَيَّ وَأَبْعَدِكُمْ مِنِّي مَجَالِسَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟ الثَّرْثَارُونَ الْمُتَفَيْهِقُونَ» (2).
فقوله عليه الصلاة والسلام: «الثّرثارون المتفيهقون» استعارة، والمراد به الذين يكثرون الكلام ويتعمّقون فيه طلبا للتكلّف، وخروجا عن القصد، وتباعدا عن الحقّ. وأصل «الثرثار» مأخوذ من العين
__________
(1) هذا مثل، وحقيقته من التوطئة، وهي التمهيد والتّذليل. راجع لسان العرب 15: 333، مادّة (وط أ).
(2) مسند أحمد 2: 369و 4: 193، سنن الترمذي 3: 250/ 2087، كنز العمّال 3: 518110، الدرّ المنثور 2: 76، قرب الإسناد 46: 148.(1/181)
الثرثارة، وهي الواسعة الأرجاء، الغزيرة الماء، يقال: «عين ثرّة» و «ثرثارة» وبذلك سمّي «الثرثار» وهو النهر المعروف بالشام. وقال الأخطل:
لعمري لقد لاقت سليم وعامر ... على جانب الثرثار راغية البكر (1)
قال المبرّد: «وليست الثرّة عند النحويين البصريين من لفظ «الثرثارة» ولكنّها في معناها، وقوله عليه الصلاة والسلام:
«المتفيهقون» يريد به ما يريد بقوله: «الثّرثارون» ومتفيهق متفيعل من قولهم: فهق الغدير يفهق إذا كثر ماؤه، وطمّت جمّاته (2)».
149
(149) وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي وَصِيَّةٍ لِمَعَاذِ بْنِ جَبَلٍ: «وَأَمِتْ أَمْرَ الْجَاهِلِيَّةِ إِلَّا مَا حَسُنَ» (3).
وهذه استعارة، والمراد توصيته بأن يحيل أمر الجاهلية بنقض أحكامها، وخفض أعلامها حتّى ينسى ذكرها، ويعفو أثرها، فتكون كالميت الذي نسي ذكره، وانقطع خبره.
150
(150) وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «الصَّوْمُ جُنَّةٌ، وَالصَّدَقَةُ تُطْفِئُ الْخَطِيئَةَ» (4).
__________
(1) ديوان الأخطل: 186، لسان العرب 4: 102، تاج العروس 10: 317، عامر وسليم قبيلتان، البكر:
الفتيّ من الإبل، الراغية: المصوّتة والضاجّة، يقال: رغت الإبل إذا صوّتت فضجّت.
(2) الكامل للمبرّد 1: 5طمّت: أي غمرت وملئت، الجمّات: جمع جمّة، وهي المكان الذي يجتمع فيه الماء.
(3) تحف العقول: 25، وفيه: «إلا ما سنّه الإسلام». وفي نسخة ب: «ما حسّنه الله».
(4) مسند أحمد 2: 321و 5: 231، سنن ابن ماجة: 2: 1314/ 3973، سنن الترمذي 4:
124/ 2749، مستدرك الحاكم 4: 422، كنز العمّال: 6: 72ح 14893، الكافي 2: 24/ 15، وفيه:
«تذهيب بالخطيئة»، المحاسن 1: 289/ 435، مشكاة الانوار: 268/ 800، وفيه: «تحط الخطيئة».(1/182)
وهاتان استعارتان:
إحداهما: قوله عليه الصلاة والسلام: «الصّوم جنّة» والمراد أنّ الصائم الذي يخلص في صومه ويستكمل آخر يومه، يكون بالإخلاص في ذلك الصوم كأنّه قد لبس جنّة (1) من العقاب، وأخذ أمانا من النار.
وللصوم مزيّة على سائر العبادات في هذا المعنى وإن كانت إذا أدّيت على شروطها بهذه الصفة وذلك أنّ الصيام لا يظهر أثره بقول اللسان، ولا فعل الأركان، وإنّما هو نيّة في القلوب، وإمساك عن حركات المطعم والمشرب، فهو يقع بين الإنسان وبين الله خالصا من غير رياء ولا نفاق، وسائر العبادات وضروب القرب والطاعات، قد يجوز أن يفعل على وجه الرياء والسمعة، دون حقائق الإخلاص والطاعة.
وقال لي أبو عبد الله محمّد بن يحيى الجرجاني الفقيه: «عند أصحابنا أنّ الصلاة أفضل من الصيام لأنّها تتضمّن معنى ما في الصيام من الإمساك، وفيها مع ذلك الخشوع وتلاوة القرآن.
وَقَالَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «لَا يَزَالُ الْبَدَنُ فِي جِهَادِ الشَّيْطَانِ مَا دَامَ فِي صَلَاتِهِ»
(2)، فجعل الصلاة أيضا تتضمّن معنى الجهاد».
فأمّا
مَا رُوِيَ فِي الْخَبَرِ: مِنْ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ حَاكِياً عَنِ اللَّهِ
__________
(1) لأنّ الجنّة: هي كلّ ما وقى من سلاح. أقرب الموارد 1: 144، مادّة (ج ن ن).
(2) البحار 96: 343، وفيه وفي نسخة ب: «العبد» بدل «البدن».(1/183)
تَعَالَى: «كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ لَهُ إِلَّا الصَّوْمَ، فَإِنَّهُ لِي، وَأَنَا أَجْزِي بِهِ»
(1)، فليس ما فيه من تفضيل الصوم، بدالّ على أنّ غيره من العبادات ليس بأفضل منه، وإنّما وجه اختصاصه بالذكر من بين العبادات على التعظيم له لأجل ما قدّمنا ذكره: من أنّه لا يفعل إلّا على محض الإخلاص، ولا يتأتّى في حقيقته شيء من الرياء والنفاق. وقد جاء عنه عليه الصلاة والسلام أنّه قال: «ليس في الصّوم رياء» (2)، وهذا بيان للمعنى الذي تكلّمنا عليه.
وحكى عن سفيان بن عيينة في تفسير هذا الخبر أنّه قال: «الصوم هو الصبر لأنّ الإنسان يصبر عن المطعم والمشرب والمنكح، وقد قال تعالى: {إِنَّمََا يُوَفَّى الصََّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسََابٍ} (3) يقول فثواب الصوم ليس له حساب يعلم من كثرته على قدر كلفته ومشقّته» (4).
والاستعارة الأخرى: قوله عليه الصلاة والسلام: «وَالصَّدَقَةُ تُطْفِئُ الْخَطِيئَةَ» وذلك أنّه عليه الصلاة والسلام جعل الخطيئة بمنزلة النار من حيث كانت مفضية إلى عذاب النار، وجعل الصدقة مطفئة لها إذا كثرت، فأثّرت في سقوط عقابها.
__________
(1) مسند أحمد 2: 273، صحيح البخاري 7: 61، سنن النسائي 4: 162، الموطأ 1: 310، سنن ابن ماجة 1: 525، السنن الكبرى 4: 270، الدرّ المنثور 1: 179، عوالي اللآلي 2: 80/ 211، 233/ 2.
(2) غريب الحديث للهروي 1: 195، كنز العمّال 3: 474/ 7493.
(3) الزمر (39): 10.
(4) انظر: تفسير القرطبي 15: 240.(1/184)
وهذا القول يصحّ على طريقة من يقول بالموازنة، فإذا كان عقاب الخطيئة مائة جزء، وكان ثواب الصدقة خمسين جزء، سقط من أجزاء العقاب بقدر أجزاء الثواب، فكأنّ الصدقة بنقصانها من قدر العقاب قد أطفأت وقدته، وكسرت سورته (1). وكان أبوها هاشم يختار في الإحباط والتكفير الموازنة.
وكان أبو عليّ يقول: «إنّ الزائد يسقط الناقص من الثواب والعقاب، لا على طريق الموازنة. ولا يجوز أن يتساوى ما يستحقّ على الطاعة وما يستحقّ على المعصية لأنّهما لو تساويا لسقطا، فلم يكن المكلّف مستحقّا لحمد ولا ذمّ، ولا مستوجبا لثواب ولا عقاب، وقدّامنا (2)
الاجماع من ذلك إذ الأمّة (3) مجمعة على أنّ كلّ من كلّفه الله سبحانه في الدار الدنيا، فهو في يوم المعاد في إحدى الدارين مثابا أو معاقبا. ويبيّن ذلك قوله سبحانه: {فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ} (4).
والكلام على تفصيل هذه الجملة يخرجنا عن غرض الكتاب، ويدخلنا في باب الإطناب.
151
(151) وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: لِكَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ (5): «يَا كَعْبَ بْنَ
__________
(1) أيّ حدته. المصباح المنير: 294، مادّة (س ور).
(2) في نسخة ب: قد آمننا.
(3) في نسخة: إذ فالامة.
(4) الشّورى (42): 7.
(5) في نسخة ب زيادة: في كلام طويل.(1/185)
عُجْرَةَ: النَّاسُ غَادِيَانِ (1) فَغَادٍ مُبْتَاعٌ نَفْسَهُ فَمُعْتِقُهَا، وَغَادٍ بَائِعٌ نَفْسَهُ فَمُوبِقُهَا» (2).
وهذه استعارة، والمراد أنّ أحدهما عصم نفسه من اتباع الشهوات، وركوب الموبقات، وقام بوظائف الواجبات، فأمن ضرر العقاب، ونقاش (3) الحساب، فكأنّه ابتاع نفسه بذلك فاعتقها، واستشلاها (4)
واستنقذها، والآخر أتبع نفسه هواها، وأوردها رداها بالتهوّك (5) في المغاوي، والارتكاس في المهاوي، والتقاعس عن الواجبات، والإسراع إلى المقبّحات، فكأنّه باع نفسه بذلك فأوبقها، وعرّضها للهلكة فأوردها. وهذه من أحسن العبارات عن المطيع الناجي بطاعته، والعاصي الهالك بمعصيته.
152
(152) وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «إِنَّ مِنْ أَشْرَاطِ (6) السَّاعَةِ سُوءَ الْجِوَارِ، وَقَطِيعَةَ الْأَرْحَامِ، وَأَنْ يُعَطَّلَ السَّيْفُ مِنَ الْجِهَادِ، وَأَنْ تُخْتَلَ الدُّنْيَا بِالدِّينِ» (7).
__________
(1) غدا يغدو غدوا وغدوّا: بكّر. لسان العرب 15: 118.
(2) مسند أحمد 3: 321و 399، مستدرك الحاكم 4: 422، مجمع الزوائد 5: 247و 10: 230، كنز العمّال 6: 72/ 14893.
(3) أي الإستقصاء فيه. المصباح المنير: 621، مادّة (ن ق ش).
(4) أي رفعها. أقرب الموارد 1: 622، مادّة (ش ول).
(5) أي التحيّر والتهوّر والوقوع في الشيء بغير مبالاة ولا رويّة. أقرب الموارد 2: 1410، مادّة (هـ وك).
(6) أي أوائلها. لسان العرب 7: 83، مادّة (ش ر ط).
(7) النهاية في غريب الحديث 2: 9، الفائق في غريب الحديث 1: 354، الدرّ المنثور 6: 51، وفيه:
«ينتحل» بدل «يختل»، كنز العمّال 14: 240/ 38558.(1/186)
والكلمة الأخيرة داخلة في باب المجاز، والمراد بها النهي عن طلب منافع الدنيا وحطامها، واستدرار أحلابها (1) وموادّها، بإظهار الورع، وإبطان الطمع، فكأنّ الإنسان بذلك يختل الدنيا ليرمى ثغرتها، ويصيب غرتها، كالصائد الذي يختل (2) الوحش بضروب الحيل حتّى يعلق في حباله، وينشب في أشراكه. وعلى ذلك قول الكميت بن زيد:
وإنّي على حبّهم وتطلّعي ... إلى نصرهم أمشي الضّراء وأختل (3)
وقد يجوز أن يكون المراد: وأن يختل أهل الدنيا بالدين، فحذف المضاف، وأقام المضاف إليه مقامه على مثال قوله سبحانه: {وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ} (4). وهذا النوع من الكلام لا يحصى كثرة.
153
(153) وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي كَلَامٍ طَوِيلٍ: «وَلَا تَكَلَّمِ الْيَوْمَ بِكَلَامٍ تَعْتَذِرُ مِنْهُ غَداً، وَاخْزُنْ لِسَانَكَ» (5).
وهذه استعارة، والمراد بخزن اللسان حفظ فلتاته، وكفّ جمحاته حتّى لا يسرع إلى ما تسوء مغبّته (6)، ولا تؤمن عاقبته، فأقام عليه الصلاة
__________
(1) الأحلاب: جمع حلب، وهو اللبن المحلوب. أقرب الموارد 1: 230، مادّة (ح ل ب) والمراد هنا المناقع.
(2) أي يخدع.
(3) هاشميات الكميت: 179، الضراء: هو المشي فيما يواريك عمّن تكيده وتختله. لسان العرب 8:
58، مادّة (ض ر و).
(4) يوسف (12): 82.
(5) مسند أحمد 5: 412، سنن ابن ماجة 2: 1396، كنز العمّال 7: 524وفيهما لم ترد: «واخزن لسانك».
(6) غبّ الأمر ومغبّته: عاقبته وآخره. لسان العرب 1: 634.(1/187)
والسلام ضبط اللسان عن ذلك مقام الخزن له، فأجراه مجرى المال الذي يحفظ فلا ينفق إلّا في الوجوه المفسدة، والمخارج المضرّة، ولا يكون إنفاقه إلّا فيما جرّ منفعة، أو دفع مضرّة.
154
(154) وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مِنْ جُمْلَةِ كَلَامٍ: «الْعِلْمُ خَلِيلُ الْمُؤْمِنِ، وَالْحِلْمُ وَزِيرُهُ، وَالْعَقْلُ دَلِيلُهُ، وَالْعَمَلُ قَيِّمُهُ، وَاللِّينُ أَخُوهُ، وَالرِّفْقُ وَالِدُهُ، وَالصَّبْرُ أَمِيرُ جُنُودِهِ» (1).
وهذه الألفاظ كلّها مستعارة، ونحن بتوفيق الله نتكلم عليها، ونبيّن مواضع الاستعارة منها:
فالمراد بقوله عليه الصلاة والسلام: «الْعِلْمُ خَلِيلُ الْمُؤْمِنِ» أنّه يأنس به من الوحشة، ويسكن إليه في الوحدة، كما يأنس الخليل بخليله ويسكن الحميم إلى حميمه.
والمراد بقوله عليه الصلاة والسلام: «وَالْحِلْمُ وَزِيرُهُ» أنّه يقوى به على الأمور، ويؤازره على كظم المكروه.
والمراد بقوله عليه الصلاة والسلام «وَالْعَقْلُ دَلِيلُهُ» أنّه بالعقل يهتدي في ظلم المشكلات، وينجو من مضائق الغمرات، فهو كالدليل (2) الذي يرشد في المضالّ، ويجنّب عن المزالّ.
والمراد بقوله عليه الصلاة والسلام: «وَالْعَمَلُ قَيِّمُهُ» أنّ العمل يثقّف
__________
(1) مسند الشهاب 1: 122، كنز العمّال 10: 28663، التمحيص: 66، تحف العقول: 55و 361، الخصال: 406، وفي الجميع اختلافات قليلة مع ما في المتن، عنه البحار 67: 306/ 38.
(2) أي المرشد العارف بالطرق.(1/188)
ميله، ويقوّم زلله، ويسدّ خلله، فهو كالقيّم الذي يأتي لمصالح ما يقوم عليه ومراشد ما يوكل إليه.
والمراد بقوله عليه الصلاة والسلام: «وَاللِّينُ أَخُوهُ» أنّ اللين يفيد مؤاخاة الإخوان ومخالصتهم، ويحفظ عليه صفاءهم ومودّتهم، فجعله عليه الصلاة والسلام أخاه من حيث كان سببا لاجتلاب الإخوان إليه، وحفظ المودّات عليه.
والمراد بقوله عليه الصلاة والسلام: «وَالرِّفْقُ وَالِدُهُ» كالمراد بقوله:
«واللّين أخوه» لأنّ الرفق يقبل إليه بالقلوب، ويظأر (1) عليه كوامن الصدور، فيصير كلّ واحد في الحنوّ عليه والميل إليه، كالوالد الرؤوف، والجدّ العطوف.
والمراد بقوله عليه الصلاة والسلام: «وَالصَّبْرُ أَمِيرُ جُنُودِهِ» أنّ الصبر ملاك أمره، وشداد أزره، وبه تبلغ الآراب، وتدرك المحابّ، فهو كأمير جنده الذي يقوى به على أعدائه، ويصل به إلى أغراضه وطلباته. وقد يجوز أن يكون المراد أنّ الصبر رأس خلاله، ورئيس خصاله، فهو متقدّم عليها، وكالأمير لسائرها، كما أنّ الأمير متقدّم على رعيّته، وله شأن على من في طبقته.
155
(155) وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي جُمْلَةِ كَلَامٍ: «وَالْمُهْلِكَاتُ شُحٌّ مُطَاعٌ، وَهَوًى مُتَّبَعٌ، وَإِعْجَابُ الْمَرْءِ بِنَفْسِهِ» (2).
__________
(1) أي يعطف. المصباح المنير: 388، مادّة (ظ أر).
(2) الخصال 84: 11، مشكاة الانوار: 540/ 1814، مجمع الزوائد 1: 90و 91، كنز العمّال 16:
45/ 43867.(1/189)
فقوله عليه الصلاة والسلام: «شُحٌّ مُطَاعٌ» استعارة، كأنّه أقام الشحّ مقام الآمر بالإمساك، والمخوّف من عواقب الإنفاق، وأقام البخيل مقام المطيع لأمره، والمتصرّف على حكمه.
وَقَدْ بَيَّنَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ذَلِكَ فِي خُطْبَةٍ لَهُ، فَقَالَ: «وَإِيَّاكُمْ وَالْبُخْلَ فَإِنَّهُ أَهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ أَمَرَهُمْ بِالْقَطِيعَةِ فَقَطَعُوا، وَأَمَرَهُمْ بِالْفُجُورِ فَفَجَرُوا»
(1)، فبيّن عليه الصلاة والسلام كيف يكون البخل آمرا مطاعا، وقائدا متبوعا. وهذه أيضا استعارة أخرى لأنّ البخل على الحقيقة لا يكون آمرا ناهيا، ولا قائدا مخاطبا.
والمراد
بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «أَمَرَهُمْ بِالْقَطِيعَةِ فَقَطَعُوا»
أنّ البخلاء يضنّون بمالهم على أهل الحاجة من أقربائهم، وأولي الخلّة (2) من ذوي أرحامهم، فيكونون بذلك قاطعين للرحم القريبة، وعاقّين (3)
لأعراق (4) الوشيجة (5).
والمراد
بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «وَأَمَرَهُمْ بِالْفُجُورِ فَفَجَرُوا»
أنّ البخل حسّن لهم منع الأموال من الإنفاق في الحقوق، وإسلاكها سبل المعروف، فأجرى عليهم لهذه الحال اسم «الفجور».
__________
(1) مسند أحمد 2: 159، 191، 195، مع اختلاف، سنن أبي داود 1: 382/ 1698، مستدرك الحاكم:
1: 11، السنن الكبرى 4: 187، كنز العمّال 3: 447/ 7377.
(2) أي الحاجة.
(3) أي قاطعين.
(4) الأعراق: جمع عرق، وهو وريد الدم. أقرب الموارد 2: 771، مادّة (ع ر ق).
(5) أي الرحم الوشيجة المشتبكة المتصلة.(1/190)
156
(156) وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «الْكَلِمَةُ الْحَكِيمَةُ ضَالَّةُ (1) الْحَكِيمِ حَيْثُمَا وَجَدَهَا فَهُوَ أَحَقُّ بِهَا» (2).
وهذه استعارة وذلك أنّه عليه الصلاة والسلام جعل الكلمة الحكيمة للحكيم بمنزلة الضالّة التي هو ناشد لها، وساع في طلبها لأنّها أشبه بحكمته، وأولى بالانضمام إلى أخواتها في قلبه، فحيثما سمعها من قائل غير حكيم أو مرشد غير رشيد، فهو أحقّ بالحيازة لها، والغلبة عليها.
ويشهد بذلك
مَا رُوِيَ فِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ: «إِنَّ الْكَلِمَةَ الْحَكِيمَةَ تَكُونُ فِي قَلْبِ الْمُنَافِقِ فَلَا تَزَالُ تُنْزَعُ حَتَّى تُلْحَقَ بِصَوَاحِبَاتِهَا فِي قَلْبِ الْمُؤْمِنِ»
(3)، فكأنّها جعلت في قلب المنافق بمنزلة الغريبة التي هي في غير وطنها، ومع غير أهلها، وجعلت في قلب المؤمن بمنزلة المستقرّة في الوطن، والساكنة إلى السكن، وهذه أيضا استعاره اخرى.
157
(157) وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي خُطْبَةٍ لَهُ: «أَلَا وَإِنَّ الدُّنْيَا قَدِ ارْتَحَلَتْ مُدْبِرَةً، وَإِنَّ الْآخِرَةَ قَدِ ارْتَحَلَتْ مُقْبِلَةً» (4).
وهذه استعارة لأنّه عليه الصلاة والسلام جعل الدنيا بمنزلة الهارب
__________
(1) الضالّة: الحيوان الضائع، ويقال لغير الحيوان: ضائع ولقطة. المصباح المنير: 363، مادّة (ض ل ل).
(2) سنن ابن ماجة 2: 1395/ 4169، وفيه: «ضالّة المؤمن»، كنز العمّال 10: 28757148، 180/ 28936، الدرّ المنثور 1: 349.
(3) المحاسن 1: 230/ 174مع اختلاف، البحار 2: 94/ 28.
(4) كنز العمّال 3: 719/ 8565، و 16: 22/ 43764، الخصال 51/ 62، تحف العقول: 281، خصائص الأئمّة: 96، الإرشاد 1: 230، فقه الرضا عليه السّلام: 370عن العالم، وفيه: «ترحّلت» أمالي المفيد: 93 عن أمير المؤمنين عليه السّلام الكافي 2: 131/ 15عن علي بن الحسين عليه السّلام و 8: 58/ 21.(1/191)
المولّي، والآخرة بمنزلة الطالب المجلّي (1)، وذلك من أحسن التمثيلات، وأوقع التشبيهات لأنّ أبناء الدنيا بمثابة الهاربين من علائق الحمام (2)، وبوائق (3) الأيّام، والموت الذي هو من أسباب الآخرة بمنزلة المغير على الأرواح، والهاجم على الآجال، وهذه الصفة مستمرّة للدنيا في شبابها قبل أن تهرم، وفي ابتداء مدّتها قبل أن تتصرّم لأنّ كون الموت طالبا لأهلها ومبدّدا لشملها، معلوم من أوّل إنشائها، وتصوير أبنائها.
وقد يجوز أن يكون المراد ب «ارتحال الدنيا مدبرة» معنى آخر يختصّ بحال الدنيا في أواخر مدّتها، وعند تناهي غايتها وهو أن توصف بتصرّم الأمد، ونقصان العدد، كما يقول القائل: «قد ارتحل عمر فلان» وقد أدبرت مدّة فلان» إذا مضى عنفوان أيّامه، وقربت أوقات حمامه.
ويروى هذا الكلام على تغيير في ألفاظه لأمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السّلام وقد أوردناه في كتابنا الموسوم ب «نهج البلاغة» (4)، وهو المشتمل على مختار كلامه عليه السّلام في جميع المعاني والأغراض، والأجناس والأعراض.
158
(158) وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «الِاحْتِبَاءُ حِيطَانُ الْعَرَبِ،
__________
(1) يقال: جلى الصّقر ببصره إلى الصّيد فهو مجل. راجع أقرب الموارد 1: 135، مادّة (ج ل و).
(2) العلائق: جمع علاقة، وهي ما يتعلّق به أو المنية، والحمّام: الموت.
(3) البوائق: جمع بائقة، وهي الدّاهية. أقرب الموارد 1: 68، مادّة (ب وق).
(4) نهج البلاغة (عبده): 224الخطبة 27.(1/192)
وَالْعَمَائِمُ تِيجَانُ الْعَرَبِ»
(1).
وهاتان استعارتان عجيبتان:
فأمّا قوله عليه الصلاة والسلام: «الِاحْتِبَاءُ حِيطَانُ الْعَرَبِ» فإنّما أراد به أنّها إذا استعملت الحبوة (2) في قعودها، قامت لها مقام الحيطان في الاستناد إليها، والاعتماد عليها، كما تتساند الظهور إلى الجدران، أو كما يستروح (3) الجراب (4) إلى الأجذال (5).
وأمّا قوله عليه الصلاة والسلام: «وَالْعَمَائِمُ تِيجَانُ الْعَرَبِ» فإنمّا أراد أنّ بهاء العرب يكون بعمائمها، كما يكون بهاء ملوك العجم بتيجانها فإنّ العمائم تحصّن (6) الهامة، وتتمّم القامة، وتفخّم الجلسة، وتوقّر الجملة حتّى إنّ العرب لتقول على المتعارف بينها: «ما سفه معتمّ قط» وبهذا المعنى فسّر قول الفرزدق:
إذا مالك ألقى العمامة فاحذروا ... بوادر كفّي مالك حين تعصب (7)
__________
(1) الكافي 2: 662/ 2، 3، و 6: 461/ 5، كنز العمّال 15: 530/ 41132، 307/ 41146، كشف الخفاء 2: 94، 483/ 41912، أمالي المرتضى 1: 26، دعائم الإسلام 2: 159/ 566، جامع الأحاديث: 99.
(2) وهو أن يجمع الشخص بين ظهره وساقيه بعمامة ونحوها ليستند إذ لم يكن للعرب في البوادي جدران تستند إليها في مجالسها. أقرب الموارد 1: 159، مادّة (ح ب و).
(3) أي يجد الراحة. أقرب الموارد 1: 442، مادّة (ر وح).
(4) الجراب: جمع جرب، وهو المصاب بداء الجرب. أقرب الموارد 1: 111، مادّة (ج ر ب).
(5) الأجذال: جمع جذل، وهو عود ينصب للجرى لتحكّ جلدها به. راجع أقرب الموارد 1: 110، مادّة (ج ر ب).
(6) في نسخة ب: الاعتمام يحصّن.
(7) ديوان الفرزدق 1: 30. في نسخة ب: تغضب تعصب: أي تقبض.(1/193)
أراد أنّه إذا ألقى العمامة طاش حلمه، وخيف سطوه، وما دام معتمّا، فهو مأمون الهفوة، ومغمود السطوة على مجرى عادتهم، وعرف طريقتهم.
وقد فسّر أيضا قول الآخر:
أنا ابن جلا وطلّاع الثّنايا ... متى أضع العمامة تعرفوني (1)
على مثل هذا المعنى، فكأنّه توعّدهم عند إلقاء العمامة ببادرته، وأن يفيض عليهم ما يستجمّه (2) من مثابة سطوته. وقوله: «تعرفوني»، ليس يريد به العرفان الذي هو ضدّ الإنكار، وإنّما أخرجه مخرج الوعيد، وأطلعه مطلع التهديد، كما يقول القائل لغيره إذا أراد هذا المعنى:
«ستعرفني» أو «أما تعرفني؟» والمراد: ستعرف عقوبتي، أو أما تعرف غضبي وسطوتي؟!.
159
(159) وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «الْمُجَاهِدُ مَنْ جَاهَدَ نَفْسَهُ» (3).
وهذا مجاز، والمراد: من امتنع عن مواقعة المعاصي الموبقة، واستعصم من الخطايا المردية، فجعله عليه الصلاة والسلام بمنزلة من برز له قرن (4) ينازله، وعدوّ يقابله لما يعاينه من المشقّة في مغالبة نوازع
__________
(1) خزانة الأدب 1: 254، 257، جلا: اسم أبيه، طلّاع الثنايا: مجرّب للأمور ركّاب لها، يعلوها ويقهرها بمعرفته وتجاربه وجودة رأيه.
(2) أي يستجمعه.
(3) مسند أحمد 6: 20، 22، سنن الترمذي 3: 89/ 1671، مستدرك الحاكم 1: 11، مجمع الزوائد: 3:
268، كنز العمّال 1: 151/ 749.
(4) القرن: الكفؤ والنظير في الشجاعة والحرب. لسان العرب 13: 337.(1/194)
قلبه، ودواعي نفسه، وما يعركه من أديمها (1) ويعلكه من شكيمها (2).
160
(160) وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي خُطْبَةٍ طَوِيلَةٍ: «وَالنِّسَاءُ حَبَائِلُ الشَّيْطَانِ» (3).
وهذه من أحاسن الاستعارات وذلك أنّه عليه الصلاة والسلام جعل النساء من أقوى ما يصيد به الشيطان الرجال، فهنّ كالحبائل المبثوثة، والأشراك المنصوبة لأنّهن مظانّ الشهوات، ومقاود (4) الخطيئات، وبهنّ يستخفّ الركين (5)، ويستخون الأمين.
161
(161) وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي كَلَامٍ: «وَالشَّبَابُ شُعْبَةٌ مِنَ الْجُنُونِ» (6).
وهذا القول مجاز، والمراد أنّ الشباب يحسّن القبيح، ويسفّه الحليم، ويحلّ مسكة (7) المتماسك، ويكون عذرا للمتهالك، فمن هذه الوجوه يشبّه صاحبه بالسكران من الخمر، والمغلوب على العقل. ومن هناك
__________
(1) يقال: عرك فلان الأديم أي دلك جلد الحيوان حين دباغة.
(2) ويقال: علكت الدابّة الشكيم إذا لاكت الحديدة المعترضة في فمها وحرّكتها.
(3) تفسير القمّي 1: 291، وفيه: «ابليس» بدل «الشيطان» الترغيب والترهيب 3: 184، كنز العمّال 15: 43587921، الدرّ المنثور: 2: 326، البداية والنهاية 5: 18.
(4) المقاود: جمع مقود، وهو ما تفاد به الدابّة من حبل ونحوه. راجع أقرب الموارد 2: 1050، مادّة (ق ود).
(5) يستخفّ: أي يعدّ خفيفا، الركين: الرجل الرزين.
(6) الفقيه 4: 377/ 5774، تفسير القمّي 1: 291، الاختصاص: 343، كنز العمّال 15: 921/ 43587، البداية والنهاية 5: 18، كشف الخفاء 2: 5.
(7) المسكة: ما يمسك الشيء.(1/195)
قيل: «سكر الشباب كسكر الشراب» وعلى ذلك قول الشاعر:
إنّ شرخ الشّباب والشّعر الأس ... ود ما لم يعاص كان جنونا (1)
162
(162) وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «أَلَا إِنَّ الْغَضَبَ جَمْرَةٌ تُوقَدُ فِي جَنْبِ ابْنِ آدَمَ، أَلَمْ تَرَوْا إِلَى حُمْرَةِ عَيْنَيْهِ، وَانْتِفَاخِ أَوْدَاجِهِ!»
في حديث طويل (2).
وهذه استعارة، كأنّه عليه الصلاة والسلام جعل اهتياج الطبع واحتدام (3) الغيظ، بمنزلة الجمرة التي تتوقّد في جوف الإنسان، فيظهر أثر اتقادها في احمرار عينيه، واختناق وريديه، فلا تزال كذلك حتّى يطفئها برد الرضا، أو عواطف الحلم والبقيا (4).
163
(163) وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «الْعِلْمُ رَائِدٌ، وَالْعَدْلٌ سَائِقٌ، وَالنَّفْسُ حَرُونٌ» (5).
وهذا الكلام مجاز وذلك أنّه عليه الصلاة والسلام شبّه علم الإنسان بالرائد الذي يتقدّم أمام الحيّ (6)، فيدلّهم على المنزل الوسيع، والمرعى
__________
(1) الكنز اللغوي: 91، الصحاح 1: 424، شرح الشباب: أوّله وريعانه، يعاص: يصارع ويغلب.
(2) مسند أحمد 3: 19، سنن الترمذي 3: 328: 2286، مستدرك الحاكم 4: 506، كنز العمّال 15:
922/ 43587.
(3) الاحتدام: الاشتداد. لسان العرب 12: 118.
(4) تقول العرب: نشدتك الده والبقيا، وهو الإبقاء أي أبقنا ولا تستأصلنا. راجع لسان العرب 1: 647، مادّة (ب ق ي).
(5) جامع الأحاديث: 100، تحف العقول: 208.
(6) الحيّ: البطن من بطون العرب، وهو دون القبيلة. أقرب الموارد 1: 49، 251مادّة (ب ط ن)، (ح ي ي).(1/196)
المريع (1) لأنّ العلم يأخذ بصاحبه إلى المناجي، ويعدل به عن المغاوي، وشبّه العقل بالسائق لأنّه يحثّ الإنسان على سلوك النهج الأسلم، ويحمله على الذهاب في الطريق الأقوم، وشبّه النفس بالدابّة الحرون (2)
لأنّها تتقاعس عن مراشدها، وتلذع بسوط الأدب حتّى تسلك طرق مصالحها.
164
(164) وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «كُلُّ وَاعِظٍ قِبْلَةٌ» (3).
وهذا القول مجاز، والمراد أمر الناس بالإقبال على الواعظ لهم والمتكلّم بما يأخذ إلى الرشاد بأزمّتهم إصغاء إلى كلامه، وتفهّما لمقاصد خطابه كإقبالهم على القبلة التي يصلّون إليها، ويتوجّهون نحوها، ولا يجوز لهم الانحراف عنها.
165
(165) وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «نِعْمَ وَزِيرُ الْإِيمَانِ الْعِلْمُ، وَنِعْمَ وَزِيرُ الْعِلْمِ الْحِلْمُ، وَنِعْمَ وَزِيرُ الْحِلْمِ الرِّفْقُ، وَنِعْمَ وَزِيرُ الرِّفْقِ اللِّينُ» (4).
وهذا الكلام مجاز، والمراد أنّ كلّ خلّة (5) من هذه الخلال المذكورة، تؤازر صاحبتها، وتعاضد (6) قرينتها، وتقوى كلّ واحدة منها باختها، كما يؤازر الرجل صاحبه على الأمر يطلبه، والعدوّ يحاربه، فيشتدّ متناهما،
__________
(1) أي الخصيب. أقرب الموارد 1203، مادّة (م ر ع).
(2) أي التي لا تنقاد.
(3) الكافي 3: 424/ 9، الفقيه 1: 280/ 859، 427/ 1262.
(4) الكافي 1: 48/ 3، دعائم الإسلام 1: 82، قرب الإسناد: 68/ 217، عوالي اللآلي 4: 75/ 57.
(5) أي خصلة.
(6) في نسخة: تعاهد.(1/197)
وتستحصف (1) قواهما.
166
(166) وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «زَادُ الْمُسَافِرِ الْحُدَاءُ وَالشِّعْرُ مَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ إِخْنَاءٌ» (2).
وهذا القول مجاز، والمراد أنّ التعلّل (3) بأغاريد (4) الحداء وأناشيد القريض، يقوم للمسافرين مقام الزاد المبلغ في إمساك الأرماق، والاستعانة على قطع المسافات. وإلى هذا المعنى ذهب الشاعر بقوله:
إنّ الحديث طرف من القرى (5)
167
(167) وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «مَنْ عَدَّ غَداً مِنْ أَجَلِهِ فَقَدْ أَسَاءَ صُحْبَةَ الْمَوْتِ» (6).
وهذا القول مجاز لأنّه عليه الصلاة والسلام أقام الموت للإنسان مقام العشير المحالم، والرفيق الملازم، وجعل من اغترّ بطول أجله واتساع مهله، بمنزلة من أساء صحبة ذلك الرفيق المصاحب، والخليط المقارب إذا كان الأولى أن يعتقد أنّه غير مفارق له، وأنّ المدى غير منفرج بينه وبينه. وعلى ذلك قول الشاعر:
__________
(1) أي تستحاكم. أقرب الموارد 1: 200، مادّة (ح ص ف).
(2) الفقيه 2: 280/ 2447، المحاسن 2: 358/ 73، الإخناء: الفحش في الكلام. راجع لسان العرب 4:
238، مادّة (خ ن و).
(3) أي التشغلّ والتلهّي.
(4) الأغارية: جمع اغرود، وهو الغناء. أقرب الموارد 2: 866، مادّة (غ ر د).
(5) ديوان الشماخ: 467، أمالي المرتضى 2: 137، طرف: جزء، القرى: ما يضاف به الضيف من الأطمحة والأشربة ونحوها.
(6) كنز العمّال 3: 492/ 7567، تحف العقول: 49، الفقيه 1: 139/ 382عن الصادق عليه السّلام.(1/198)
والمنايا قلائد الأعناق (1)
168
(168) وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «أَنَا مَدِينَةُ الْعِلْمِ، وَعَلِيٌّ بَابُهَا، وَلَنْ تُدْخَلَ الْمَدِينَةُ إِلَّا مِنْ بَابِهَا» (2).
وهذا القول مجاز لأنّه عليه الصلاة والسلام شبّه علمه بالمدينة المحصّنة التي لا يطمع طامع في دخولها ولا الوصول إليها إلّا من بابها، وأقام عليّا أمير المؤمنين عليه السّلام لتلك المدينة مقام الباب الذي يفتتح من جهته، ويوصل إليها من ناحيته.
169
(169) وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «لِكُلِّ شَيْءٍ وَجْهٌ، وَوَجْهُ دِينِكُمُ الصَّلَاةُ، فَلَا يَشِينَنَّ أَحَدُكُمْ وَجْهَ دِينِهِ، وَلِكُلِّ شَيْءٍ أَنْفٌ، وَأَنْفُ الصَّلَاةِ التَّكْبِيرُ» (3).
وهذا القول مجاز، والمراد أنّ الصلاة يعرف بها جملة الدين، كما أنّ الوجه يعرف به جملة الإنسان لأنّها أظهر العبادات، وأشهر المفروضات، وجعل أنفها التكبير لأنّه أوّل ما يبدو من أشراطها (4)، ويسمع من أذكارها وأركانها.
__________
(1) بهجة المجالس 1: 253بل من خطبة الإمام الحسين عليه السّلام بمكّة: «خطّ الموت على ولد آدم مخطّ القلادة على جيه الفتاة» اللهوف: 33، ابن نحا: 20.
(2) مائة منقبة: 41، التوحيد: 307، الخصال: 574، بشارة المصطفى: 24، تفسير القمي 1: 68، تفسير نور الثقلين 1: 178/ 624، مستدرك الحاكم 3: 127، مجمع الزوائد 9: 114، فيهما: فمن أراد العلم فليأت الباب، كنز العمال 13: 148، فيه: فمن أراد المدينة، كشف الخفاء 1: 235.
(3) المعتبر 2: 10، الكافي 3: 270/ 16، التهذيب 2: 238/ 940، فقه القرآن 1: 79.
(4) أشراط الشيء: أوائله.(1/199)
170
(170) وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «أَطْعِمُوا اللَّهَ يُطْعِمْكُمْ».
وهذا القول مجاز لأنّه سبحانه قال: {وَهُوَ يُطْعِمُ وَلََا يُطْعَمُ} (1)
والمراد أطعموا فقراء الله الذين أمركم بإطعامهم وجعلكم سببا لأرزاقهم، يجازكم على ذلك بجزيل الثواب، ويكثر لكم من الأخلاف والأعواض.
171
(171) وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «الْعِلْمُ خَزَائِنُ، وَمِفْتَاحُهَا السُّؤَالُ، فَاسْأَلُوا رَحِمَكُمُ اللَّهُ فَإِنَّهُ يُؤْجَرُ أَرْبَعَةٌ: السَّائِلُ، وَالْمُجِيبُ، وَالْمُسْتَمِعُ، وَالْمُحِبُّ لَهُمْ» (2).
وهذا القول مجاز، والمراد تشبيه العلم في قلوب العلماء بالخزائن المستبهمة، والأبواب المستغلقة، وإنّما تستفتح بسؤال السائلين، ويستخرج ما فيها ببحث الباحثين.
172
(172) وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «الْمَوْتُ رَيْحَانَةُ الْمُؤْمِنِ» (3).
وهذا القول مجاز، والمراد أنّ المؤمن يستروح (4) إلى الموت تغوّثا من كروب الدنيا وهمومها، وروعاتها وخطوبها، كما يستروح الإنسان إلى طيب المشمومات، ونظر المستحسنات.
173
(173) وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «الدُّعَاءُ سِلَاحُ الْمُؤْمِنِ، وَعَمُودُ
__________
(1) الأنعام (6): 14.
(2) الخصال: 101245، تحف العقول: 41، مسند زيد بن عليّ: 445، روضة الواعظين: 7، كنز العمّال 10: 133/ 28662، كشف الخفاء 2: 85.
(3) دعائم الإسلام 1: 221، كنز العمّال 15: 551/ 42136.
(4) أيّ يجد الراحه. أقرب الموارد 1: 442، مادّة (ر وح).(1/200)
الدِّينِ» (1).
وهذا القول مجاز، والمراد أنّ المؤمن يستدفع بالدعاء كيد الكائدين، وظلم الظالمين، فيقوم له مقام السلاح الذي يريق الدماء، ويغلّ الأعداء (2). وجعل عليه الصلاة والسلام الدعاء عمود الدين لأنّه لا يصدر إلّا عن قلب المخلص الأوّاب، لا الشاكّ المرتاب، والإخلاص قطب الدين الذي عليه المدار، وإليه المحار (3).
174
(174) وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مِنْ كَلَامٍ فِي وَصْفِ النِّسَاءِ: «وَمِنْهُنَّ رَبِيعٌ مُرْبِعٌ، وَغُلٌّ قَمِلٌ» (4).
وهذا القول مجاز، والمراد تشبيه المرأة الحسناء المستأنقة (5) بالربيع المزهر والروض المنوّر (6)، وتشبيه المرأة الشوهاء المستثقلة بالغلّ الذي يثقل الرقاب، ويطوّل العذاب. وجعله عليه الصلاة والسلام قملا (7)، ليكون أعظم لعذابه، وأبلغ في مكروه المبتلى به.
175
(175) وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «إِنَّ الْمَسْجِدَ لَيَنْزَوِي مِنَ النُّخَامَةِ
__________
(1) الكافي 2: 468/ 1، صحيفة الرّضا عليه السّلام: 75، الإمامة والتّبصرة: 179، مستدرك الحاكم 1: 492، مجمع الزّوائد 10: 147، كنز العمّال 2: 62/ 3117.
(2) أيّ يجعل في أيديهم أو رقابهم الأغلال والقيود.
(3) أيّ المرجع. أقرب الموارد 1: 243، مادّة (ح ور).
(4) الفقيه 3: 386/ 4357، الخصال 1: 24/ 92، دعائم الإسلام 1: 197، جامع الأخبار: 317/ 1، المقنع: 303، النّهاية في غريب الحديث 3: 381.
(5) أيّ الرائعة الحسن.
(6) أيّ الّذي قد خرج نوره، وهو زهره.
(7) أيّ ملوثا بالقمل.(1/201)
كَمَا تَنْزَوِي الْجِلْدَةُ فِي النَّارِ» (1).
يقال: «انزوت الجلدة» إذا انقبضت واجتمعت. وهذا الكلام مجاز، وفيه قولان:
أحدهما: أنّ المسجد يتنزّه عن النخامة، وهي البصقة بمعنى أنّه يجب أن يكرم عنها، وألّا يبتذل بها، فإذا رويت عليه كانت شائنة له، وزارية عليه، فكان معها بمنزلة الرجل ذي الهيئة يشمئزّ ممّا يهجّنه، وينقبض عمّا يدنّسه، وأصل «الانزواء»: الانحراف مع تقبّض وتجمّع.
والقول الآخر: أن يكون المراد أهل المسجد، فأقيم «المسجد» في الذكر مقامهم لمّا كان يشتمل (2) عليهم، وعلى ذلك قول الشاعر:
واستبّ بعدك يا كليب المجلس (3)
والمراد أهل المجلس لأنّ الاستتاب لا يكون بين القاعات والجدران، وإنّما يكون بين الإنسان والإنسان.
فالمعنى: أنّ أهل المسجد ينقبضون من النخامة إذا رأوها فيه ذهابا عن الأدناس، وصيانة له عن الأدران.
176
(176) وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «مِنَ الْقَتْلَى رَجُلٌ قَرَفَ (4) عَلَى نَفْسِهِ مِنَ الذُّنُوبِ وَالْخَطَايَا حَتَّى إِذَا لَقِيَ الْعَدُوَّ قَاتَلَ حَتَّى قُتِلَ، فَتِلْكَ
__________
(1) النّهاية في غريب الحديث 2: 320، كنز العمّال 8: 317/ 23092، الدّرّ المنثور 5: 51، دعائم الإسلام 1: 149، وفيه: «ليلتوى».
(2) في نسخة ب: مشتملا.
(3) مفردات الرّاغب: 418، الحيوان 3: 128، استب: تسابب وتشاتم.
(4) يقال: قرف الذّنب وغيره قرفا واقترفه: اكتسبه. تاج العروس 12: 431، مادّة (ق ر ف).(1/202)
مَضْمَضَةٌ مَحَتْ ذُنُوبَهُ وَخَطَايَاهُ إِنَّ السَّيْفَ مَحَّاءٌ لِلْخَطَأِ» (1).
وهذا الكلام مجاز لأنّ السيف على الحقيقة لا يمحو شيئا من الذنوب، ولكنّ القتل بالسيف لمّا كان سببا للشهادة التي يستحقّ بها دخول الجنة وحقيقتها شهادة الملائكة للقتيل بأنّه من أهل الجنّة إذا بذل مهجته في طاعة الله مجتهدا ووطّن نفسه على ألم الجراح والثبات للّقاء (2) صابرا محتسبا، كان السيف كأنّه قد محا ما سلف من ذنوبه، وليس يبلغ الإنسان إلى هذه المنزلة في طاعة الله تعالى من بذل النفس للقتل وتوطينها على الهلك (3) في الأغلب الأكثر إلّا وهو تائب من جميع الذنوب التي توجب العقاب وتحبط الثواب، فتكون الشهادة حينئذ دالّة على أنّه من أهل الجنة، وسببها السيف، فكأنّه قد محا ذنوبه أي أزالها وأبطلها.
وعلى ذلك قول الشاعر:
فلا تكثروا فيها الضّجاج فإنّه ... محا السّيف ما قال ابن دارة أجمعا (4)
أي أزاله وأبطله.
وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «فَتِلْكَ مَضْمَضَةٌ مَحَتْ ذُنُوبَهُ»
مجاز آخر، كأنّ القتل غسله من درن الذنوب، قال ابن السكّيت: «يقال:
__________
(1) مسند أحمد 4: 185، في نسخة ب: «للخطايا».
(2) في نسخة ب: للقائه.
(3) في نسخة ب: الهلاك.
(4) خزانة الأدب 2: 129، الصحاح لابد من ذكره المادّة 2: 660، وفيه: قال أنب.(1/203)
مصمصت الإناء ومضمضته بالصاد والضاد: إذا غسلته (1)، ويقال أيضا: ماص الثوب بالصاد غير معجمة: إذا غسله».
177
(177) وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِأَصْحَابِهِ: «اتَّبِعُونِي تَكُونُوا بُيُوتاً» (2).
وهذا القول مجاز لأنّه عليه الصلاة والسلام لم يرد بيوت الشعر وبيوت المدر (3) على الحقيقة، وإنّما أراد: أنّكم تكونون لعلوّ أقداركم واشتهار أخباركم بيوتا أي شعوبا تقف نسبة أولادكم عندكم، ولا تتجاوزكم إلى من فوقكم، وهذا لا يكون إلّا لنباهة الأب الأدنى، واستغنائه بالنباهة عن الأب الأعلى، كما يقال لمن ينسب إلى أمير المؤمنين عليّ عليه السّلام: «علويّ» ويستغنى أن يقال: «هاشميّ» أو «منافيّ» (4) وكما يقال لمن كان من ولد عمر: «عمريّ» ولا يقال «عدويّ» (5) ونظائر تلك كثيرة.
وإنّما سمّيت المناسب المخصوصة «بيوتا» لاشتمالها على ضروب الرجال المتصلين بها والمضافين إليها تشبيها بالبيت المبنيّ في اشتماله على الدعائم والعماد والأوتاد والأطناب لشهرته ونجابته.
__________
(1) تاج العروس 18: 162.
(2) كنز العمّال 1: 201/ 1014.
(3) أي البيوت المصنوعة من قطع الطين اليابس.
(4) نسبة إلى عبد مناف، وهو الجدّ الرابع لرسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم. راجع تاج العروس 12: 515، مادّة (ن وف).
(5) نسبة إلى عديّ بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر، وعديّ من قبائل قريش.(1/204)
ونظير الخبر المذكور من الشعر قول الطائي الأكبر في صفة الفرس:
هذّب في جنسه ونال المدى ... بنفسه فهو وحده جنس (1)
أراد أنّ نسله ينسب إليه، ولا يتجاوز به إلى من وراءه من آبائه وامّاته، كما يقال: «هذا الفرس من نسل ذي العقّال» (2) ومن نتاج ذي الجمّازة» (3) وما أشبههما.
(178) وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي الْكَلَامِ الَّذِي تَكَلَّمَ بِهِ يَوْمَ الْغَدِيرِ:
«وَأَسْأَلُكُمْ عَنْ ثَقَلَيَّ كَيْفَ خَلَفْتُمُونِي فِيهِمَا» فَقِيلَ لَهُ: وَمَا الثَّقَلَانِ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فَقَالَ: «الْأَكْبَرُ مِنْهُمَا كِتَابُ اللَّهِ سَبَبٌ طَرَفٌ مِنْهُ بِيَدِ اللَّهِ، وَطَرَفٌ بِأَيْدِيكُمْ» (4). هَذِهِ رِوَايَةُ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ. وَفِي رِوَايَةِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ: «حَبْلٌ مَمْدُودٌ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ، وَالْأَصْغَرُ مِنْهُمَا عِتْرَتِي أَهْلُ بَيْتِي، إِنَّهُمَا لَنْ يَفْتَرِقَا حَتَّى يَرِدَا عَلَيَّ الْحَوْضَ» (5).
وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى: «حَبْلَانِ مَمْدُودَانِ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ»
(6)،
__________
(1) ديوان أبي تمّام الطائي: 226.
(2) وهو فحل من خيول العرب ينسب إليه. لسان العرب 9: 330329، مادّة (ع ق ل).
(3) الجمّارة: فرس عبد الله بن حنتم، وهو ألحرم خيول العرب. تاج العروس 8: 32، مادّة (ج م ز).
(4) مسند أحمد 4: 368، تهذيب التهذيب 3: 394، العمدة: 105، شرح الأخبار 2: 503/ 889، ذخائر العقبى: 16، الخصال: 66/ 98مع اختلاف.
(5) مسند أحمد 3: 14، 26، 59و 5: 182، سنن الترمذي 5: 329/ 3876، مجمع الزوائد 9: 163، كنز العمّال 1: 172/ 872، 873، صحيفة الرضا عليه السّلام: 84135، المناقب للكوفي 2: 98/ 584، الإمامة والتبصرة: 150، معاني الأخبار: 90/ 2، الخصال: 65/ 97، كمال الدين: 236/ 50، العمدة: 68/ 82، ذخائر العقبى: 16.
(6) العمدة: 83/ 101، لم ترد هذا الحديث في بعض النسخ.(1/205)
فإنّ الكلام يعود على الثقلين.
وهذه استعارة لأنّه عليه الصلاة والسلام شبّه كتاب الله بالحبل الممدود بين الله وبين خلقه يعصم منهم من اعتصم به، ويستنقذ من المهاوي والمعاطب (1) من اعتلق بطرفه، وليس هناك يد على الحقيقة يعصم المتعلّق بها، وتستشيل المتورّط، وإنّما ذلك على التمثيل والتشبيه لأنّ المستنقذ من الورطة والمنهض من السقطة في الأكثر إنّما يجتذب بيده، ويستعين بسببه، فأخرج عليه الصلاة والسلام كلامه على العرف والمعروف والأمر المعهود.
ومن روى: «حبلان ممدودان» وأراد بأحد الحبلين العترة فالمعنى أنّه عليه الصلاة والسلام أقام عترته مقام الحبل الممدود الذي يكون عصمة المستعصم، ونجاة المستسلم، كما قلنا في القرآن.
وَهَذَا الْخَبَرُ بِتَمَامِهِ هُوَ خَبَرُ يَوْمِ الْغَدِيرِ الَّذِي يَقُولُ فِيهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «مَنْ كُنْتُ مَوْلَاهُ فَعَلِيٌّ مَوْلَاهُ، اللَّهُمَّ وَالِ مَنْ وَالاهُ، وَعَادِ مَنْ عَادَاهُ، وَاخْذُلْ مَنْ خَذَلَهُ، وَانْصُرْ مَنْ نَصَرَهُ»
(2)، وقد رواه من مشهوري الصحابة عشرة: أوّلهم أمير المؤمنين عليه السّلام وهو الصادق المصدّق، وزيد بن أرقم، وحذيفة بن أسيد، والبراء بن عازب، وسعد بن أبي وقّاص، وأبو هريرة، وجابر بن عبد الله، وأبو أيّوب خالد بن زيد، وأنس بن
__________
(1) أي الهالك.
(2) التفسير المنسوب للإمام العسكري عليه السّلام: 562، المقنعة: 204، أمالي المفيد: 57/ 6، دعائم الإسلام 1: 16عن أمير المؤمنين عليه السّلام، الفقيه 1: 229/ 686، مسند زيد بن علي عليه السّلام: 457، مسند أحمد 1:
118، 119و 5: 370عن زيد بن أرقم، مجمع الزوائد 9: 104، كنز العمّال 11: 3295610.(1/206)
مالك، وبريدة بن الحصيب الأسلمي:
فَأَمَّا زَيْدُ بْنُ أَرْقَمَ وَبُرَيْدَةُ بْنُ الْحَصِيبِ فَقَدْ رُوِيَ عَنْهُمَا فِي هَذَا الْخَبَرِ:
«مَنْ كُنْتُ وَلِيَّهُ فَعَلِيٌّ وَلِيُّهُ»
(1)، ووافقهما ابن عبّاس على ذلك.
وأخبرنا بهذه الرواية خاصّة وهي أشهر الروايات أبو عبد الله محمّد بن عمران المرزباني قال: أخبرنا إبراهيم بن محمّد بن عرفة الواسطي قال: حدّثنا عبيد الله بن جرير بن جبلة قال: حدّثنا مسلم بن إبراهيم قال: حدّثنا نوح بن قيس قال: حدّثنا الوليد بن صبيح، عن ابن امرأة زيد بن أرقم، عن زيد بن أرقم أخبرنا بذلك أبو عبيد الله المرزبانى
في جملة ما أخبرنا به من رواياته ومصنّفاته.
وعلى هذه الرواية تخرج اللفظة من الاحتمال، وتكون أقرب إلى المعنى المراد لأنّ وليّ النبيّ عليه الصلاة والسلام أولى به من غيره، وأحقّ بالاستيلاء عليه من كلّ من لم يضرب فيه بمثل حقّه.
وَقَدْ رَوَى عِمْرَانُ بْنُ حُصَيْنٍ عَنِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ:
«عَلِيٌّ وَلِيُّ كُلِّ مُؤْمِنٍ بَعْدِي»
(2)، وفي هذا الخبر تصريح بأنّه من بعده وليّ الأمر وواليه، والقائم مقامه فيه، كما قال الكميت بن زيد في ذلك:
__________
(1) مصباح المتهجّد: 748، التهذيب 3: 144، المزار 1: 84، خصائص أمير المؤمنين عليه السّلام: 94، المناقب للكوفي 1: 450عن بريدة، شرح الأخبار 1: 220/ 201، معاني الأخبار 66: 5، كمال الدين: 238/ 55، مناقب ابن شهر آشوب 2: 37، العمدة: 12697عن بريدة، مسند أحمد 5:
358، 361، مستدرك الحاكم 2: 130، مجمع الزوائد 9: 107، كنز العمّال 11: 602/ 32905 و 13: 105/ 36344عن زيد بن أرقم.
(2) مسند أحمد 4: 438بلفظ: «هو وليّ» وفيهما، سنن الترمذي 5: 296/ 3796، مجمع الزوائد 9:
10، وفيه: «أنت وليّي» روضة الواعظين: 186، وفيها: «وأنّه وليّ» ذخائر العقبى: 68.(1/207)
ونعم وليّ الأمر بعد وليّه ... ومنتجع التّقوى ونعم المؤدّب (1)
والكلام في هذا المعنى يطول، وليس كتابنا هذا من مظانّ استقصائه ومواضع استيفائه.
وفي هذا الخبر أيضا مجاز وذلك تسميته عليه الصلاة والسلام الكتاب والعترة ب «الثقلين»، وواحدهما: ثقل، وهو متاع المسافر الذي يصحبه إذا رحل، ويسترفق به إذا نزل، فأقام عليه الصلاة والسلام الكتاب والعترة مقام رفيقه في السفر، ورفاقه في الحضر، وجعلهما بمنزلة المتاع الذي يخلفه بعد وفاته، فلذلك احتاج إلى أن يوصي بحفظه ومراعاته.
وقال بعض العلماء: «إنّما سمّيا: ثقلين لأنّ الأخذ بهما ثقيل (2)».
وقال بعضهم: «إنّما سمّيا بذلك لأنّهما العدتان اللتان يعوّل في الدين عليهما، ويقوم أمر العالم بهما، ومنه قيل للإنس والجن: ثقلان لأنّهما اللذان يعمران الأرض ويثقلانها (3)».
ومن ذلك قول الشاعر:
تقوم الأرض ما عمّرت فيها ... وتبقى ما بقيت بها ثقيلا
لأنّك موضع القسطاس (4) منها ... فتمنع جانبيها أن يزولا (5)
__________
(1) شرح هاشميات الكميت: 82، الاقتصاد: 198، الرسائل العشر: 130، وفيهما: منتج التقوى، منتجع التقوى: موضع التقوى.
(2) تفسير الكشاف 4: 47، لسان العرب 11: 88مادّة (ث ق ل).
(3) تفسير الكشاف 4: 47، لسان العرب 11: 88مادّة (ث ق ل).
(4) أي الميزان.
(5) أمالي المرتضى 1: 67، مفردات الراغب: 80.(1/208)
179
(179) وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِبَعْضِ أَزْوَاجِهِ: «أَحْسِنِي جِوَارَ نِعَمِ اللَّهِ، فَإِنَّهَا قَلَّمَا نَفَرَتْ عَنْ قَوْمٍ فَكَادَتْ تَرْجِعُ إِلَيْهِمْ» (1).
وهذه استعارة لأنّه عليه الصلاة والسلام جعل النعم المفاضة (2) على الإنسان بمنزلة الضيف النازل، والجار المجاور الذي يجب أن يعدّ قراه (3)، ويكرم مثواه، وتصفّى مشاربه، وتؤمّن مساربه (4)، فإن اخيف سربه ورنّق (5) شربه وضيّعت قواصيه (6) واعتميت مقاربه (7)، كان خليقا بأن ينتقل، وجديرا بأن يستبدل، فكذلك النعم إذا لم يجعل الشكر قرى نازلها والحمد مهاد منزلها، كانت وشيكة بالانتقال، وخليقة بالزيال (8).
وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى: «أَحْسِنُوا جِوَارَ نِعَمِ اللَّهِ فَإِنَّهَا وَحْشِيَّةٌ»
(9)، وباقي الخبر على لفظه، فعلى هذه الرواية كأنّه عليه الصلاة والسلام شبّه النعم بأوابد (10) الوحش التي تقيم مع الإيناس، وتنفر مع الإيحاش، ويصعب
__________
(1) الكافي 6: 300/ 6، وفيه: «يا حميراء أكرمي جواز نعم الله»، مجمع الزوائد 8: 195، وفيه:
أحسنوا، كنز العمّال 3: 254/ 6411و 261/ 4655.
(2) في نسخة ب: المتفاضلة.
(3) أي ما يضاف به من الأطعمة والأشربة.
(4) أي نفسه وحرمه وعياله.
(5) أي كدّر، لسان العرب.
(6) القواصي جمع القاصية، وهي الشاة المنفردة عن القطيع.
(7) اعتميت: قصدت وأخذت، والمقارب: جمع مقربة، وهي الفرس التي يقرّب مربطها ومعلفها لكرامتها.
(8) الزيال: المفارقة، لسان العرب 11: 317، مادّة (ز ي ل).
(9) تحف العقول: 448.
(10) الأوابه: الوحوش.(1/209)
رجوع شاردها إذا شرد، ودنوّ نافرها إذا بعد.
180
(180) وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَقَدْ سَمِعَ مُؤَذِّناً يَقُولُ: «أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، فَقَالَ: «صَدَّقَكَ كُلُّ رَطْبٍ وَيَابِسٍ»
(1).
وهذا الكلام مجاز لأنّ الرطب واليابس من الشجر والأعشاب والماء والتراب لا كلام لهما، ولا روح فيهما، وإنّما أراد عليه الصلاة والسلام أنّ تصديقهما بلسان الخلق لا بلسان النطق، فجميع المخلوقات شاهدة بألّا إله إلّا الله سبحانه بما فيها من تأثير الصبغة، وإتقان الصنعة، وشواهد الصانع الحكيم، والمقدّر العليم، فهي من هذه الوجوه متكلّمة وإن كانت خرساء، ومفصحة وإن كانت عجماء.
وعلى هذا المعنى خرج قول الشاعر:
وفي كلّ شيء له آية ... تدلّ على أنّه واحد (2)
181
(181) وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «الْحَسَدُ يَأْكُلُ الْحَسَنَاتِ كَمَا تَأْكُلُ النَّارُ الْحَطَبَ» (3).
وهذه استعارة، والمراد أنّ الحسد يخرج بصاحبه إلى الإقدام على المعاصي والارتكاس في المهاوي، فيلغ (4) في الدماء الحرام، ويحتطب في حبائل الآثام، ويشرع في نقل النعم من أماكنها، وإزعاجها عن
__________
(1) مسند أحمد 2: 136، سنن أبي داود 1: 142/ 515، سنن النسائي 2: 13.
(2) ديوان أبي العتاهية: 104.
(3) سنن ابن ماجة 2: 1408/ 4210، سنن أبي داود 2: 457/ 4903، كنز العمّال 3: 461/ 7438، مشكاة الانوار: 534/ 1787.
(4) يقال: ولغ يولغ ولغا وولغا وولوغا وولغانا: شرب ما فيه باطراف لسانه أو أدخل فيه لسانه محركه.(1/210)
مواطنها، فيكون عقاب هذه المخطورات محبطا لحسناته، ومسقطا لثواب طاعاته على المذهب الذي أشرنا إليه فيما تقدّم، فيصير الحسد الذي هو السبب في استحقاق العقاب وإحباط الثواب، كأنّه يأكل تلك الحسنات لأنّه يذهبها ويفنيها، ويسقط أعيانها ويعفيها.
وإنّما شبّهه عليه الصلاة والسلام في أكله الحسنات بالنار التي تأكل الحطب لأنّ الحسد يجري في قلب الإنسان مجرى النار، لاهتياجه، واتّقاده وإرماضه وإحراقه، ومن هنا قال بعضهم: «ما رأيت ظالما أشبه بمظلوم من الحاسد نفس يتصعّد، وزفير يتردّد، وحزن يتجدّد (1).
182
(182) وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي عَهْدٍ كَتَبَهُ لِعُمَّالِهِ عَلَى الْيَمَنِ: «فَإِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ حَبْلُ اللَّهِ الْمَتِينُ، فِيهِ إِقَامَةُ الْعَدْلِ، وَيَنَابِيعُ الْعِلْمِ، وَرَبِيعُ الْقُلُوبِ» (2).
وفي هذا الكلام ثلاث استعارات:
أولاهنّ: قوله عليه الصلاة والسلام: «فإنّ هذا القرآن حبل الله المتين» وقد تقدّم كلامنا على نظيرها وبيّنّا لأيّ معنى شبّه القرآن بالحبل الممدود بين الله سبحانه وبين خلقه في أنّه عصمة لمستعصمهم، ومسكة (3) لمستمسكهم.
والاستعارة الثانية: قوله عليه الصلاة والسلام في صفة القرآن:
__________
(1) انظر: عيون الأخبار 2: 9.
(2) سنن الترمذي 5: 159/ 2906، سنن الدارمي 2: 527/ 3331.
(3) المسكة: ما يتمسّك به. أقرب الموارد 2: 1211، مادّة (م س ك).(1/211)
«وينابيع العلم» وذلك أنّه عليه الصلاة والسلام شبّه ما يفتحه القرآن لمتفهّميه ويبيّنه للناظرين فيه من أبواب العلم وطرقه، ويفتقه من أكمّته (1)
وغلفه، بينابيع الماء المتفجّرة، وعيونه المستنبطة، ولأنّ العلم أيضا ينقع (2) الغليل بعد الشكّ المحيّر، كما يبرّد الماء الغلّة بعد العطش المبرّح، فلذلك شبّهه عليه الصلاة والسلام بعيون الماء وينابيع الرواء.
والاستعارة الثالثة: قوله عليه الصلاة والسلام: «وربيع القلوب» وذلك أنّه جعل القرآن للقلوب الواعية بمنزلة الربيع للإبل الراعية لأنّ القلوب تنتفع بتدبّر القرآن وتأمّله كما تنتفع الإبل بتحمّض (3) الربيع وتنقّله، فهذا غذاء للأرواح، كما أنّ ذلك غذاء للأجسام.
وقد يجوز أن يكون المراد: أنّ القلوب تنفرج بحكم القرآن وآدابه كما تنفرج العيون بأنوار الربيع وأعشابه، و «الربيع» اسم للغيث في الأصل، ثمّ صار اسما عندهم لما ينبت عن الغيث من أفانين النور (4) والعشب، ألا ترى إلى قول الشاعر وهو يريد الغيث:
أنت ربيعي والرّبيع ينتظر ... وخير أنواء الرّبيع ما بكر (5)
وهذا كما سمّوا الغيث «سماء» لأنّ نزوله يكون من جهة السماء، قال الشاعر:
__________
(1) الأكمّة: جمع الكمّ: وهو الغلاف الذي ينشقّ عن التمر ويحيط به. أقرب الموارد 2: 1102، مادّة (ك م م).
(2) أي يسكّنه ويقطعه. أقرب الموارد 2: 1338، مادّة (ن ق ح).
(3) أي تحوّل.
(4) أي الزهر.
(5) الأنواء: جمع نوء، وهو المطر.(1/212)
إذا سقط السّماء بأرض قوم ... رعيناه وإن كانوا غضابا (1)
أراد إذا سقط الغيث، ثمّ قال: «رعيناه» فردّ الكلام على ما ينبت عن الغيث من الرعي الجميم، والكلأ العميم، ومثل هذا في كلامهم كثير مستفيض.
و «الربيع» أيضا النهر الصغير،
وَفِي الْحَدِيثِ: «وَمَا سَقَى الرَّبِيعُ»
(2)، وجمعه «أربعاء» على وزن أنصباء.
183
(183) وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي هَذَا الْعَهْدِ وَهُوَ يَذْكُرُ أَوْقَاتَ الصَّلَاةِ: «وَالْعَصْرُ إِذَا كَانَ ظِلُّ كُلِّ شَيْءٍ مِثْلَهُ، وَكَذَلِكَ مَا دَامَتِ الشَّمْسُ حَيَّةً، وَالْعِشَاءُ إِذَا غَابَ الشَّفَقُ إِلَى أَنْ تَمْضِيَ كَوَاهِلُ اللَّيْلِ»
(3).
وهاتان استعارتان:
أولاهما: قوله عليه الصلاة والسلام: «ما دامت الشّمس حيّة» والمراد بحياة الشمس هاهنا كونها في بقيّة من الاحمرار من قبل أن يفضي إلى الحؤول والاصفرار، ومن هناك قالوا: «شمس مريضة» إذا ولّى احمرارها، وأقبل اصفرارها.
وعلى هذا قول الشاعر:
__________
(1) خزانة الأدب 9: 555، الحبل المتين: 309، وفيه: إذا نزل السماء، الصحاح 6: 2382.
(2) مسند أحمد 4: 503/ 15388.
(3) النهاية في غريب الحديث 1: 471و 4: 214، سنن الترمذي 1: 276/ 149، سنن أبي داود 1:
109/ 397.(1/213)
لدن غدوة حتّى نزعن عشيّة ... وقد مات شطر الشّمس والشطر مدنف (1)
فجعل نصفها ميّتا لمّا تصرّم أكثر ضيائها، وجعل نصفها مدنفا لمّا كان من التصرّم على شفا.
ومثل ذلك قول الراجز:
والشّمس قد كادت تكون دنفا (2)
أي قد قاربت أن تشفي على الغروب، كما يشفي الدنف المريض على الخفوت، فجعلها دنفا مبالغة في وصفها بنقصان اللون وحؤول الضوء على أصل وصفهم لها بالمرض.
ولوصفهم الشمس بالموت في أشعارهم وجه آخر: وهو أنّهم إذا أرادوا أن يصفوا يوم الحرب باشتداد الحرّ واسوداد الأفق للقتام المتراكب والنقع المتعاظل (3)، يقيمون تغيّب الشمس واحتجابها مقام انقراضها وذهابها.
والاستعارة الاخرى: قوله عليه الصلاة والسلام: «إلى أن تمضي كواهل اللّيل»، والمراد: إلى أن تمضي أوائله فسمّاها «كواهل» (4)
__________
(1) لدن غدوة: من حين إذ كان الوقت غدوة، والغدوة: الكبرة، أو ما بين صلاة الفجر وطلوع الشمس، نزعن: أشرفن على الموت على احتمال.
(2) ديوان العجاح 2: 227، العين 6: 288، الصحاح 4: 1361، تمام البيت «أدفعها بالراح كي تزحلفا».
(3) أي الغبار المتراكب والمتراكم.
(4) الكواهل: جمع كاهل، وهو مقدّم أعلى الظهر ممّا يلي العنق، وهو الثلث الأعلى، وفيه ستّ فقرات المصباح المنير: 542، مادّة (ك هـ ل).(1/214)
تشبيها للّيل بالمطايا السائرة التي تتقدم أعناقها وهواديها (1)، ويتبعها أعجازها وتواليها. ومن هناك قالوا في الساري ليلا: «اتخذ الليل جملا» (2) ويقولون: «ركب الليل» (3) و «امتطى الليل» لمّا جعلوه بمنزلة الظهر المركوب، والبعير المرحول.
184
(184) وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «مَفَاتِيحُ الْجَنَّةِ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ» (4).
وهذه استعارة، والمراد أنّ هذا القول به يوصل إلى دخول الجنّة، فجعله عليه الصلاة والسلام بمنزلة المفاتيح التي يستفتح بها الأغلاق، ويستفرج الأبواب. وأراد عليه الصلاة والسلام هذه الكلمة وما يتبعها من شعائر الإسلام، وقوانين الإيمان، إلّا أنّه عليه الصلاة والسلام عبّر عن جميع ذلك بهذه الكلمة لأنّها أوّل لتلك الشعائر، وسائرها تابع لها، ومتعلّق بها، فهي لها كالزمام القائد، والمتقدّم الرائد. وذلك كما يعبّر عن حروف المعجم ببعضها، فيقال: «ألف، با، تا، ثا» والمراد جميعها، وكذلك يقولون: «هو في أبجد» ويريدون سائر هذه الحروف، إلّا أنّ هذه الحروف لمّا كانت أوّله (5) لباقيها ومتقدّمة لما يليها، حسن أن يعبّر بها عن جميعها.
__________
(1) المراد بالهوادي هنا الأعناق.
(2) جمهرة الأمثال 1: 88.
(3) جمهرة الأمثال 1: 88.
(4) مسند أحمد 5: 242، وفيه: «شهادة أن لا إله إلّا الله» مجمع الزوائد 1: 16، كنز العمّال 1:
425/ 1825و 10: 595/ 30292.
(5) قيل: إنّ وزن أوّل فوعل، وأصله ووول، فقلبت الواو الاولى همزة، ثمّ ادغم، ولذا أنّث في المتن بالهاء، فقال: أوّلة. راجع المصباح المنير: 30، مادّة (أول).(1/215)
185
(185) وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي وَصِيَّةٍ لِمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ لَمَّا بَعَثَهُ إِلَى الْيَمَنِ: «وَصَلِّ الظُّهْرَ بَعْدَ مَا يَتَنَفَّسُ الظِّلُّ، وَتَبْرُدُ الرِّيَاحُ»
(1).
وهذه استعارة، والمراد: بعد ما يزيد امتداد الظلّ، من قولهم: «تنفّس النهار» إذا أخذ بالطول، ومنه قوله تعالى: {وَالصُّبْحِ إِذََا تَنَفَّسَ} (2) أي إذا زاد ضياؤه، وانتشرت أنواره، وقد استقصينا الكلام على ذلك في كتاب «تلخيص البيان عن مجازات القرآن» (3)، وأصل هذه مأخوذ من تنفّس الحيوانات وهو امتداد الريح الحارّة من تجاويف صدورها عند ترويح رئاتها عن قلوبها بانقباضها وانبساطها، وانضمامها وانفراجها.
186
(186) وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «أَقِيلُوا ذَوِي الْهَيْئَاتِ عَثَرَاتِهِمْ فَإِنَّ أَحَدَهُمْ لَيَعْثُرُ وَإِنَّ يَدَهُ بِيَدِ اللَّهِ يَرْفَعُهَا»
(4).
وهذا القول مجاز، والمراد بذكر «يد الله» هاهنا معونة الله تعالى وتقدّس، ونصرته، فكأنّه عليه الصلاة والسلام أراد أنّ أحدهم ليعثر وأنّ معونة الله من ورائه تنهضه من سقطته، وتقيله من عثرته، إلا أنّه عليه الصلاة والسلام لمّا جاء بلفظ «العثار» أخرج الكلام بعده على عرف العادات لأنّ العادة جارية أن يكون المنهض للعاثر والمقيم للواقع إنّما يستنهضه بيده، ويستعين عليه بجلده.
__________
(1) لاحظ كنز العمّال 10: 596/ 30292.
(2) التكوير (81): 18.
(3) مجازات القرآن: 268.
(4) مسند أحمد 6: 181، سنن أبي داود 2: 333/ 4375، السنن الكبرى 8: 162في الجميع: «اقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم الّا الحدود» نهج البلاغة 64: 20عن أمير المؤمنين عليه السّلام مع اختلاف.(1/216)
والمراد بذوي الهيئات هاهنا ذوو الأديان، لا ذوو الملابس الحسان، كما يظنّ من لا علم له لأنّ هيئة الدين وظاهره أحسن الهيئات والمظاهر، وأفخم المعارض (1) والملابس.
187
(187) وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «جَبْرَائِيلُ نَامُوسُ اللَّهِ» (2).
وهذا القول مجاز، وأصل «الناموس» المكان الذي يستجنّ (3) فيه الصائد عن الوحش لئلّا تراه فتنفر منه، ومن ذلك سمّي من يجعله الإنسان موضع سرّه ومستودع نفثه (4) «ناموسا» يقال منه: «نمس ينمس نمسا» و «نامسه منامسة» فكأنّه عليه السّلام إنّما شبّهه بذلك لأنّه يستخفى بما يؤدّيه عن الله سبحانه إلى الأنبياء عليهم السلام من أوامر الله التي تقيّد القلوب بحبائل الخوف والرجاء، وتجتذبها بعلائق الوعد والإيعاد تشبيها بالصائد الذي يختل (5) صيده حتّى يصيب غرّته (6)، ويقتحم غفلته.
وقد قال بعضهم: «إنّ الناموس في كلام بعض العرب اسم للنمّام، فكأنّ جبرائيل عليه السّلام هو الذي يظهر أمر الله لأنبيائه، لا على الوجه المذموم
__________
(1) المعارض: جمع معرض، وهو ثوب تجلى فيه الجارية ليلة العرس. وقيل: هو القميص الذي يعرض فيه العبد والجارية للبيع. أقرب الموارد 2: 767، مادّة (ع ر ض).
(2) لسان العرب 6: 244، تاج العروس 16: 580.
(3) أي يستتر.
(4) يقال: لابدّ للمصدور أن ينفث أي يعبّر عن همومه وأحزانه.
(5) أي يخدع.
(6) الغرّة: الغفلة النهاية في غريب الحديث 3: 355.(1/217)
الذي يقصده لسان النمّام، ويعتمده ناقل الكلام» (1).
وقال بعضهم: «الناموس: من أسماء العلم» (2)، فيكون في الخبر إذا حملناه على هذا الوجه تقدير مضاف حذف لدلالة الكلام عليه، فكأنّه عليه الصلاة والسلام قال: «جبرائيل حامل علم الله» أو «صاحب علم الله» والحذف إنّما يحسن في الكلام إذا كان فيما يبقى دليل على ما يلقى، كقوله تعالى: {وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنََّا فِيهََا وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنََا فِيهََا} (3)، فلمّا كانت القرية والعير (4) لا تسألان ولا تجيبان، علم أنّ المطلوب غيرهما وأنّه المضاف إليهما. ولا يجوز على هذا: «جاء زيد» وأنت تريد غلام زيد لأنّ المجيء قد يكون من الغلام كما يكون من صاحب الغلام، فلا دليل في مثل هذا على المحذوف كما كان في الوجه الأوّل (5).
188
(188) وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «بَلَغَنِي عَنْ فُلَانٍ كَلَامٌ تَشَذَّرَ لِي عَنْ إِيعَادٍ» (6).
فوصف الكلام بالتشذّر مجاز، وأصل «التشذّر» أنّ الناقة إذا القحت عقدت ذنبها ونصبته على عجزها، قال الشاعر:
__________
(1) انظر: لسان العرب 14: 291. ماده (ن م س).
(2) لسان العرب 6: 244، تاج العروس 16: 583وفيهما: الناموس وعاء العلم.
(3) يوسف (12): 82.
(4) العير: قافلة الحمير، ثمّ كثرت حتّى سمّيت بها كل قافلة. أقرب الموارد 2: 853، مادّة (ع ي ر).
(5) انظر: مجازات القرآن: 173، تفسير القرطبي 9: 245.
(6) غريب الحديث للهروي 2: 151من كلام سليمان بن صرد الخزاعي.(1/218)
لها ذنب كالقنو قد مذلت به ... وأسمح للتّخطار بعد التّشذّر (1)
فكأنّه عليه الصلاة والسلام أراد أنّ الكلام الذي سمعه، أعرب له عمّا في ضمنه من الوعيد، كما أنّ تشذّر الناقة بذنبها دليل على لقاح بطنها.
ويجوز أن يكون المراد صفة ذلك الكلام بالارتفاع والعلوّ والاشتطاط (2) والغلوّ تشبيها بذنب الناقة إذا عقدته لاقحة، ورفعته شامذة (3).
189
(189) وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «الْإِيمَانُ هَيُوبٌ» (4).
وفي هذا الكلام مجاز لأنّ فيه تقدير كلام محذوف، فكأنّه عليه الصلاة والسلام قال: «صاحب الإيمان هيوب» والعرب تقول: «الباب لئيم» أي مغلق الباب دون الأضياف، والمراد أنّ صاحب الإيمان بما معه من حواجز إيمانه. وبصائر إيقانه، يهاب تطرّق الحوب (5)، ومواقعة الذنوب، فلا يقدم عليها إقدام المرتكس الهاوي، والضالّ الغاوي.
190
(190) وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «الِاسْتِغْفَارُ مَهْدَمَةٌ لِلذُّنُوبِ» (6).
__________
(1) النوادر في اللغة: 182، القنو: عذق النخلة بما فيه من رطب، مذلت به: أي سمحت به ورفعته، أسمح: لان وذلّ، للتخطار: لرفع الأذناب، يقال: تخاطرت الفحول بأذنابها للتصاول إذا أشالتها وأدارتها عند الهياج، والمراد انّ الناقة الستجابت لنداء الفحولة.
(2) الاشتطاط: مجاوزة القدر والحدّ في كلّ شيء لسان العرب: 7/ 334.
(3) يقال: شهذت الناقة: إذا لقحت فشالت ذنبها. أقرب الموارد 1: 609، مادّة (ش م ذ).
(4) الفائق 4: 123، النهاية في غريب الحديث 5: 285نقله عن عبيد بن عمير، معجم مقاييس اللغة 6:
22، مجمع البحرين 2: 185.
(5) أي الإثم. أقرب الموارد 1: 241، مادّة (ح وب).
(6) الفتح الكبير 1: 506، كنز العمّال 1: 476/ 2071، وفيه: «ممحاة للذنوب».(1/219)
فوصف الاستغفار بأنّه يهدم الذنوب مجاز لأنّ المعاصي الكثيرة لمّا كانت كالبناء في تراكب أجزائها واستغلاظ جرابها (1)، كان استغفار النادم وإقلاع التائب، كأنّهما هدم لذاك البناء من أساسه، وكبّ له على امّ رأسه.
{بِسْمِ اللََّهِ الرَّحْمََنِ الرَّحِيمِ} *
191
(191) وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «مَا أَذِنَ اللَّهُ لِشَيْءٍ كَإِذْنِهِ لِنَبِيٍّ يَتَغَنَّى بِالْقُرْآنِ» (2).
وهذا القول مجاز، والمراد: ما استمع الله لشيء كاستماعه لنبيّ يداوم تلاوة القرآن، فيجعله دأبه وديدنه، وهجّيراه (3) وشغله، كما يجعل غيره الغناء مستروح حزنه، ومستفسح قلبه، ليس أنّ هناك غناء به على الحقيقة، وهذا كما يقول القائل: «قد جعل فلان الصوم لذّته، والصلاة طربته» إذا أقامهما مقام شغل غيره باللذّات، وطربه إلى المستحسنات.
وقد قيل: «إنّ المراد بذلك تحزين القراءة ليكون أشجى للسامع، وآخذ بقلب العارف، فسمّى هذه الطريقة: «غناء» على الاتساع لأنّها تقود أزمّة القلوب، وتستميل نوازع النفوس (4). وإلى ذلك ذهب عليه
__________
(1) الجراب: جوف البئر من أعلاها إلى أسفلها، يقال اطو جرابها بالحجارة، وما أصلب جرابها، وإنّها لمستقيمة الجراب. أقرب الموارد 1: 112، مادّة (ج ر ب).
(2) سنن النسائي 2: 180، مسند أحمد 2: 271، سنن الدارمي 2: 472، صحيح البخاري 8: 195، صحيح مسلم 2: 192، مستدرك الحاكم 1: 570، التبيان في تفسير القرآن 5: 246، تفسير نور الثقلين 5: 536/ 5.
(3) الهجّير كسكّيت: العادة والدأب. أقرب الموارد 2: 1372، مادّة (هـ ج ر).
(4) انظر: فتح الباري 10: 445.(1/220)
الصلاة والسلام
بِقَوْلِهِ: «زَيِّنُوا أَصْوَاتَكُمْ بِالْقُرْآنِ»
(1)، في حديث آخر.
وليس المراد بذلك تلحين القراءة وتطريبها فإنّ الأخبار قد وردت بذمّ هذه الطريقة حتّى
ذَكَرَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي أَشْرَاطِ السَّاعَةِ أُمُوراً عَدَّدَهَا، ثُمَّ قَالَ: «وَأَنْ يُتَّخَذَ الْقُرْآنُ مَزَامِيرَ»
(2).
وقال بعضهم: «معنى يتغنّى بالقرآن» أي يذكر القرآن، من قولهم:
تغنّى فلان بفلان إذا ذكره في شعره إمّا هجاء وإمّا مدحا».
فأمّا الحديث الاخر وهو
قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يَتَغَنَّ بِالْقُرْآنِ»
(3)، فليس المراد به هذا المعنى، وإنّما أراد عليه الصلاة والسلام: ليس منّا من لم يستغن بالقرآن عمّا سواه، و «تغنّى» هاهنا بمعنى استغنى، وهو تفعّل من الاستغناء، لا من الغناء، قال العجّاج:
أرى الغواني قد غنين عنّي ... وقلن لي عليك بالتّغنّي (4)
أي استغنين عنّي وقلن لي: استغن عنّا كما استغنينا عنك، وهذا عند موت الشباب، وانقضاء الآراب.
__________
(1) النهاية في غريب الحديث 2: 325، وفيه: «زيّنوا القرآن بأصواتكم» قال الجزري: قيل هو مقلوب أي: زيّنوا أصواتكم بالقرآن، غريب الحديث للهروي 1: 283، مستدرك الحاكم 1: 571، 572، مجمع الزوائد 7: 170، الدرّ المنثور 1: 19.
(2) مسند أحمد 6: 22، وفيه: «يتخذون القرآن»، غريب الحديث للهروي 1: 283، كنز العمّال 14:
573/ 39639، وفيه: «اتخذوا»، مسند زيد بن علي: 489.
(3) أمالي المرتضى 1: 24، معاني الاخبار: 279المبسوط 8: 227، مسند أحمد 1: 172، سنن الدارمي 2: 471، صحيح البخاري 8: 209، سنن أبي داود 1: 330/ 1469، مستدرك الحاكم 1:
569، مجمع الزوائد 7: 170، كنز العمّال 1: 605/ 2769.
(4) ديوان العجّاج 1: 278.(1/221)
ويؤكّد ذلك الحديث الآخر وهو
قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «مَنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ فَرَأَى أَنَّ أَحَداً أُعْطِيَ أَفْضَلَ مِمَّا أُعْطِيَ، فَقَدْ عَظَّمَ صَغِيراً، وَصَغَّرَ عَظِيماً» (1).
ولو كان المراد بالتغنّي في هذا الخبر ترجيع الصوت بالقرآن، لكان من لم يقصد هذه الطريقة في تلاوته ويعتمدها في صلاته، داخلا تحت الذمّ، ومقارفا (2) للذنب
لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ: «لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يَتَغَنَّ بِالْقُرْآنِ»
فبان أنّ المراد به الاستغناء لا الغناء.
192
(192) وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «لَا تَسُبُّوا الدَّهْرَ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الدَّهْرُ» (3).
وهذا مجاز، وذلك أنّ العرب كانت إذا قرعتها القوارع، ونزلت بها النوازل (4)، وحطمتها السنون الحواطم (5)، وسلبت كرائم أعلاقها (6) من مال مثمر، أو ولد مؤمّل، أو حميم مرجّب (7)، ألقت الملاوم على الدهر، فقالت في كلامها وأسجاعها وأرجازها وأشعارها: «استقاد (8) منّا
__________
(1) معاني الأخبار 190، 279مع اختلاف، وفيه: «من أعطاه الله القرآن»، كنز العمّال 1: 2350.
(2) أي فاعلا. المصباح المنير: 499، مادّة (ق ر ف).
(3) مسند أحمد 2: 395، صحيح مسلم 7: 45، كنز العمّال 3: 606/ 8137، أمالي المرتضى 1: 34، التبيان في تفسير القرآن 1: 25، الإيضاح: 9.
(4) النوازل: جمع النازلة، وهي الشدّة من شدائد الدهر. لسان العرب 11: 659.
(5) الحواطم: السنون الشديدة الجدب. لسان العرب 12: 138.
(6) الأعلاق: جمع علق، وهو النفيس من كلّ شيء. أقرب الموارد 2: 822، مادّة (ع ل ق).
(7) أي مهيب ومعظّم. أقرب الموارد 1: 390، مادّة (ر ج ب).
(8) أي اقتصّ.(1/222)
الدهر» و «جار علينا الدهر» و «رمانا بسهامه الدهر» كقول القائل منهم وهو عديّ بن زيد:
ثمّ أمسوا لعب الدّهر بهم ... وكذاك الدّهر يودي بالرّجال (1)
وكقول الآخر:
أكل الدّهر عليهم وشرب (2)
وكقول الآخر:
والدّهر غيّرنا وما يتغيّر (3)
والأشعار في ذلك أكثر من أن نحيط بها، أو نأتي على جميعها، فكأنّه عليه الصلاة والسلام قال: لا تذمّوا الذي يفعل بكم هذه الأفعال فإنّ الله سبحانه هو المعطي والمنتزع، والمغيّر والمرتجع، والرائش (4)
والهائض (5)، والباسط والقابض.
وقد جاء في التنزيل ما هو كشف عن هذا المعنى وهو قوله تعالى:
{وَقََالُوا مََا هِيَ إِلََّا حَيََاتُنَا الدُّنْيََا نَمُوتُ وَنَحْيََا وَمََا يُهْلِكُنََا إِلَّا الدَّهْرُ وَمََا لَهُمْ بِذََلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلََّا يَظُنُّونَ} (6)، فصرّح تعالى بذمّهم على اعتقادهم أنّ الدهر يملكهم ويهلكهم، ويعطيهم ويسلبهم، ودلّ بمفهوم
__________
(1) ديوان عديّ بن زيد: 202.
(2) ديوان النابغة الجعدي: 92، الكامل للمبرّد 1: 218، مجمع الأمثال 1: 57.
(3) بهجة المجالس 2: 230، عيون الأخبار 2: 323.
(4) يقال: رشت فلانا قوّيت جناحه بالإحسان إليه فارتاش. أساس البلاغة: 186، مادّة (ر ي ش).
(5) يقال: تماثل المريض فهاضه كذا نكسه. أساس البلاغة: 490، مادّة (هـ ي ض). والمراد هنا الرافع الخافض.
(6) الجاثية (45): 24.(1/223)
الكلام على أنّه سبحانه هو المالك للامور، والمصرّف للدهور (1).
193
(193) وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «الصَّوْمُ فِي الشِّتَاءِ الْغَنِيمَةُ الْبَارِدَةُ» (2).
وهذه استعارة، وذلك أنّهم يقولون: «هذه غنيمة باردة» إذا حازوها من غير أن يلقوا دونها حرّ السلاح وألم الجراح لأنّه ليس كلّ الغنائم كذلك، بل في الأكثر لا تكاد تنال إلّا باصطلاء نار الحرب، ومألم الطعن والضرب، فكأنّه عليه الصلاة والسلام جعل صوم الشتاء غنيمة باردة لأنّ الصائم يحوز فيه الثواب الجزيل والخير الكثير بلا معاناة مشقّة، ولا ملاقاة كلفة لقصر نهاره، وعدم اواره (3).
وقد قيل أيضا: «إنّما وصف الصوم في الشتاء بأنّه غنيمة باردة لبرد النهار الذي يقع الصيام فيه، وأنّه بخلاف نهار الصيف الذي يشتدّ فيه العطش، وتطول المخامص (4)، ويقصر ليله عن القيام بوظائف العبادة التي تحمد عقبى، وتقرّب إلى الله زلفى، والشتاء على خلاف هذه الصفة لقصر نهار الصائم، وطول ليل القائم».
194
(194) وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «اتَّقُوا اللَّهَ فِي النِّسَاءِ فَإِنَّهُنَّ فِي
__________
(1) انظر: تفسير القرطبي 16: 170.
(2) مسند أحمد 4: 335، سنن التّرمذيّ 2: 146/ 794، مجمع الزّوائد 3: 200، كنز العمّال: 8:
402/ 23619، معاني الأخبار: 272، الخصال: 314/ 92.
(3) أيّ حرّه. أقرب الموارد 1: 24، مادّة (أور).
(4) المخامص: جمع مخمصة، وهي المجاعة. المصباح المنير: 182، مادّة (خ م ص). والمراد هنا الجوع.(1/224)
أَيْدِيكُمْ عَوَانٍ» (1).
وهذا مجاز لأنّه عليه الصلاة والسلام جعل النساء عند أزواجهنّ بمنزلة الأسراء، وذلك لأنّ المرأة تجري على أحكام الرجل في الصدور والورود، والوقوف والخفوف (2)، فهي راسفة (3) في أقياد حصره، وناشبة (4) في حبائل نهيه وأمره، ومن هنا قيل: «فلانة في حبال فلان» إذا كان بعلها للعلّة المقدّم ذكرها.
و «العاني» الأسير والجمع «عناة»، والأسيرة «عانية» والجمع «عوان» وقد يقال للأسير أيضا «الهديّ» وقال المتلمّس في قتل عمرو بن هند طرفة بن العبد بعد أن سجنه زمانا:
كطريفة بن العبد كان هديّتهم ... ضربوا صميم قذاله بمهنّد (5)
قيل: «إنّما سمّيت المرأة المنقولة إلى زوجها: هديّا لأنّها بمنزلة الأسيرة عنده».
وقيل: «بل سمّيت بذلك لأنّها تهدى إلى زوجها، فهي فعيل في موضع مفعول، فهديّ في مكان مهديّ، يقال: هديت المرأة إلى زوجها أهديها هداء. وهو من الهداة، وليس من الهديّة لأنّه لا يقال من
__________
(1) مسند أحمد 5: 73، وفيه: «عندكم» بدل في «أيديكم»، سنن النسائي 5: 143، مجمع الزوائد 3:
266، كنز العمّال 5: 131/ 12357، البداية والنهاية 5: 221.
(2) أي الارتحال السريع. أقرب الموارد 1: 289، مادّة (خ ف ف).
(3) أي ماشية مشي المقيّد. أقرب الموارد 1: 403، مادّة (ر س ف).
(4) أي عالقة. أقرب الموارد 2: 1299، مادّة (ن ش ب).
(5) خزانة الأدب 2: 366، الصحاح 6: 2534، الصميم: العظم الذي به قوام العضو، القذال: جماع مؤخّر الرأس، المهنّد: السيف المطبوع من حديد الهند.(1/225)
الهديّة إلّا: أهديت». وقد قيل: «إنّ في بعض اللغات: أهديت المرأة» واللغة الاولى هي المعتدّ بها، والمعمول عليها (1).
195
(195) وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «اسْتَعِيذُوا بِاللَّهِ مِنْ طَمَعٍ يَهْدِي إِلَى طَبَعٍ» (2).
وهذا مجاز، والمراد أنّ الطمع يصير بصاحبه إلى معائب الأفعال ومدانسها، ويوقعه في مذامّها ومناقصها، «والطّبع» الدّنس والعيب، يقال: «فلان طبع» كدنس وجشع، فلمّا كانت عواقب الطمع صائرة إلى مدارن (3) الطبع، جعل عليه الصلاة والسلام الطمع كأنّه هاديا إليها، ودليلا عليها على المجاز والاتساع. و «الطبع» على ما سمعته من شيخنا أبي الفتح النحوي رحمه الله «مأخوذ من «الطابع» وهو الخاتم» (4) كأنّه يسم (5)
صاحبه بالمعايب، ويشهره بالمثالب، فيكون كالخاتم الذي يظهر رسمه، ويؤثّر وسمه.
196
(196) وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي حَدِيثٍ مَشْهُورٍ لِلرَّجُلِ الَّذِي تَفَوَّتَ (6) ابْنُهُ عَلَيْهِ فِي مَالِهِ، فَفَرَّقَهُ وَبَذَّرَهُ: «ارْدُدْ عَلَى ابْنِكَ مَالَهُ فَإِنَّمَا
__________
(1) لسان العرب 15: 358، وفيه نحوه.
(2) مسند أحمد 5: 232، مستدرك الحاكم 1: 533، كنز العمّال 3: 495/ 7576، النّهاية في غريب الحديث 3: 122.
(3) المدارن: جمع مدرن، وهو موضع الوسخ.
(4) أيّ الميسم الّذي يحمى، فتوسم به الدّوابّ ونحوها.
(5) يقال: وسم الدّابّة: كواها وأثر فيها بسمة وكي. راجع أقرب الموارد 2: 1452، مادّة (وس م).
(6) أيّ أن الابن لم يستشر أباه، ولم يستأذنه في هبة مال نفسه، فأتى الأب رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فأخبره، فقال: ارتجعه من الموهوب له، واردده على ابنك فإنّه وما في يده تحت يدك، وفي ملّكتك، فليس له أن يستبدّ بأمر دونك. لسان العرب 10: 344، مادّة (ف وت).(1/226)
هُوَ سَهْمٌ مِنْ كِنَانَتِكَ» (1).
وهذه استعارة لأنّه عليه الصلاة والسلام جعل ابن الرجل بمنزلة السهم الذي في كنانته، ولذلك وجهان:
أحدهما: أن يكون إنّما شبّهه بالسهم من سهامه لأنّ الأب سبب نشئه وتربيته، ووليّ تثقيفه وتأديبه، كما أنّ النابل باري السهم ورائشه (2)، ومثقّفه (3) ومقوّمه.
والوجه الآخر: أن يكون المراد أنّه بمنزلة السهم في كنانته من حيث كان في حضنه، وحاصلا تحت ضبنه (4)، وأنّه متى شاء صرفه في آرائه، كما أنّ صاحب السهم متى شاء رمى به في أغراضه.
ومعنى قوله عليه الصلاة والسلام: «اردد على ابنك» أي استرجع ما فرّقه من ماله في وجوه التبذير، ومظانّ التبديد، فردّه إلى ملكه استظهارا له وإشبالا له (5) إذ ليس له أن يفتات (6) عليك بمال، ولا يعصيك في حال.
__________
(1) لسان العرب 2: 70، المحلّى 8: 103مع اختلاف، كنز العمّال 16: 584/ 45951، النهاية في غريب الحديث 3: 477، والكنانة: جعبة تجعل فيها السهام تتخذ من جلود لا خشب فيها، أو من خشب لا جلود فيها. أقرب الموارد 2: 1108، مادّة (ك ن ن).
(2) أي واضع للريش فيه.
(3) أي مقومه ومسوّيه. أقرب الموارد 1: 91، مادّة (ث ق ف).
(4) الضبن: الإبط ومايليه. لسان العرب 8: 19، مادّة (ض ب ن).
(5) أي إعانة له. أقرب الموارد 1: 568، مادّة (ش ب ل).
(6) أي يفعل شيئا بغير أمرك. راجع لسان العرب 10: 344، مادّة (ف وت).(1/227)
197
(197) وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «الْخَلْقُ عِيَالُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَأَحَبُّهُمْ إِلَيْهِ أَنْفَعُهُمْ لِعِيَالِهِ» (1).
أَخْبَرَنَا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَبُو الْقَاسِمِ عِيسَى بْنُ عَلِيِّ بْنِ عِيسَى بْنِ دَاوُدَ بْنِ الْجَرَّاحِ فِي جُمْلَةِ مَا أَخْبَرَنَا بِهِ مِنَ الْأَحَادِيثِ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الْقَاسِمِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ الْبَغَوِيُّ فِي سَنَةِ سَبْعٍ وَثَلَاثِمِائَةٍ، قَالَ:
حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْمَوْصِلِيُّ، قَالَ: سَمِعْتُ الْمَأْمُونَ فِي الشَّمَّاسِيَّةِ (2)
وَقَدْ أَجْرَى الْحَلْبَةَ (3)، فَجَعَلَ يَنْظُرُ إِلَى كَثْرَةِ النَّاسِ، فَقَالَ لِيَحْيَى بْنِ أَكْثَمَ: أَمَا تَرَى إِلَى هَذِهِ الْأُمَمِ! ثُمَّ قَالَ: حَدَّثَنَا يُوسُفُ بْنُ عَطِيَّةَ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ: أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ: «الْخَلْقُ عِيَالُ اللَّهِ فَأَحَبُّهُمْ إِلَيْهِ أَنْفَعُهُمْ لِعِيَالِهِ».
وقد حدّثنا بهذا الحديث أيضا سهل بن أحمد بن عبد الله بن سهل الديباجي، عن محمّد بن يحيى الصولي فيما صنّفه ممّا رضيه خلفاء بني العبّاس من أحاديث النبيّ عليه الصلاة والسلام على خلاف هذه الحكاية.
وهذا القول مجاز لأنّ عيال الإنسان من يعوله (4) ثقلهم، ويهمّه
__________
(1) مجمع الزوائد 8: 191، كنز العمّال 6: 360/ 16056، كشف الخفاء 1: 457، قرب الاسناد:
421120، عوالي اللآلي 1: 101/ 23.
(2) الشمّاسيّة: محلّة بجنب رصافة بغداد. تاج العروس 8: 329، مادّة (ش م س).
(3) الحلبة: خيل تجمع للسباق من كلّ أوب، ولا تخرج من وجه واحد. المصباح المنير: 146، مادّة (ح ل ب).
(4) أي يغلبه ويثقل عليه ويهمّه. راجع أقرب الموارد 2: 849، مادّة (ع ول).(1/228)
أمرهم، والله سبحانه وتعالى لا تؤده (1) الأثقال، ولا تهمّه الأحوال، ولكنّه سبحانه وتعالى لمّا كان متكفّلا بمصالح عباده يدرّ عليهم حلب الأرزاق، ويلمّ لهم شعث الأحوال، ويعود عليهم بمرافق الأبدان، ومراشد الأديان شبّهوا من هذه الوجوه بالعيال الذين في ضمان العائل، وكفاية الكافل، على طريق الاتساع، وعلى معارف العادات.
198
(198) وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «الْخَمْرُ أُمُّ الْخَبَائِثِ، وَمَنْ شَرِبَهَا لَمْ يَقْبَلِ اللَّهُ مِنْهُ صَلَاةً أَرْبَعِينَ يَوْماً، فَإِنْ مَاتَ وَهِيَ فِي بَطْنِهِ مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً» (2).
سَمِعْنَا هَذَا الْحَدِيثَ عَنْ عُمَرَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ أَحْمَدَ الْمُقْرِي أَبُو حَفْصٍ الْكَتَّانِيُّ فِي جُمْلَةِ مَا رَوَاهُ لَنَا مِنَ الْأَحَادِيثِ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ النَّيْسَابُورِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ إِشْكَابٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ رَبِيعَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْحَكَمُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ أَبِي نُعَيْمٍ عَنِ الْوَلِيدِ بْنِ عِبَادَةَ، قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «الْخَمْرُ أُمُّ الْخَبَائِثِ»
، وذكر ما في الحديث.
وهذه استعارة، وإنّما سمّاها عليه الصلاة والسلام «امّ الخبائث» على تغليظ النهي عن شربها، وتعظيم قدر العقاب عليها، فكأنّها جماع الخبائث المردية، ومعظم الذنوب الموبقة، كما أنّ الامّ جامعة لأولادها،
__________
(1) أي لا تثقله ولا تصعب عليه.
(2) المبسوط 8: 58، وفيه: «شرّ الخبائث»، السرائر 3: 473، عوالي اللآلي: 3: 562/ 61، كنز العمّال 5: 13183349، كشف الخفاء 1: 459.(1/229)
ومتقدّمة عليهم بميلادها. والفائدة في تقديمها على غيرها من المعاصي:
أنّ الأغلب في شربها أن يكون طريقا إلى ارتكاب الكبائر، وجرّ الجرائر فإنّ السكران قد يحمله سكره على القذف والافتراء، وإراقة الدماء، واستحلال الفروج والأموال، وغير ذلك من مقاحم الذنوب، ومعاظم العيوب، وكلّ هذا فالسكر من أقوى أسبابه، وأقرب أبوابه.
199
(199) وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «كُلُّ أَمْرٍ ذِي بَالٍ لَا يُبْدَأُ فِيهِ بِحَمْدِ اللَّهِ أَقْطَعُ»
(1).
وَحَدَّثَنَا بِهَذَا الْحَدِيثِ عُمَرُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ أَبُو حَفْصٍ الْمُقْرِي، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الْقَاسِمِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْبَغَوِيُّ ابْنُ بِنْتِ مَنِيعٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا دَاوُدُ بْنُ رُشَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ، عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ، عَنْ قُرَّةَ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «كُلُّ أَمْرٍ ذِي بَالٍ لَا يُبْدَأُ فِيهِ بِحَمْدِ اللَّهِ أَقْطَعُ».
وهذا القول مجاز، وإنّما شبّه عليه الصلاة والسلام الأمر الذي تهمّ الإفاضة فيه وتمسّ الحاجة إلى الكلام عليه إذا لم ينظر فيه حمد الله سبحانه وتعالى بالأقطع اليد من حيث كان قالصا (2) عن السبوغ (3)، وناقصا عن البلوغ.
وممّا يقوّي ذلك
مَا رَوَاهُ أَبُو هُرَيْرَةَ أَيْضاً، قَالَ: قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ
__________
(1) مسند أحمد 2: 359، سنن ابن ماجة 1: 610/ 1894، السّنن الكبرى 3: 208، مجمع الزّوائد 2:
188، كنز العمّال 1: 558/ 2509، الدّرّ المنثور 1: 12.
(2) أيّ منكمشا ناقصا.
(3) السبوغ: تمام الشّيء بحيث يصلّ إلى الأرض.(1/230)
وَالسَّلَامُ: «الْخُطْبَةُ الَّتِي لَيْسَ فِيهَا شَهَادَةٌ كَالْيَدِ الْجَذْمَاءِ»
(1)، فأقام عليه الصلاة والسلام نقصان الخطبة مقام نقصان الخلقة.
وممّا يشبه هذا الخبر
الْحَدِيثُ الْآخَرُ الَّذِي ذَكَرَهُ أَبُو عُبَيْدٍ الْقَاسِمُ بْنُ سَلَّامٍ فِي كِتَابِهِ: وَهُوَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «مَنْ تَعَلَّمَ الْقُرْآنَ ثُمَّ نَسِيَهُ لَقِيَ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَهُوَ أَجْذَمُ» (2).
قال: «والأجذم: المقطوع اليد» واستشهد على ذلك بقول الشاعر:
وما كنت إلّا مثل قاطع كفّه ... بكفّ له اخرى فأصبح أجذما (3)
واعترض هذا القول عبد الله بن مسلم بن قتيبة قادحا فيه وطاعنا عليه، فقال: «إنّما أتى أبو عبيد في فساد هذا التفسير من قبل البيت الذي استشهده، وليس كلّ أجذم أقطع اليد. وإذا نحن حملنا الحديث على ما ذهب إليه أبو عبيد رأينا عقوبة الذنب لا تشاكل الذنب لأنّ اليد لا سبب لها في نسيان القرآن، والعقوبات من الله سبحانه وتعالى تكون بحسب الذنوب، كقوله تعالى وتقدّس: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبََا لََا يَقُومُونَ إِلََّا كَمََا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطََانُ مِنَ الْمَسِّ} (4)، يريد أنّ الربا الذي أكلوه أثقل بطونهم، فهم يقومون ويسقطون، كما يصيب من يتخبّطه الشيطان (5).
__________
(1) مسند أحمد 2: 302، 343، سنن أبي داود 2: 444، وفيه: «كلّ خطبة ليس فيها تشهّد» سنن الترمذي 2: 282/ 1112، السنن الكبرى 3: 209، كنز العمّال 10: 249/ 29334.
(2) غريب الحديث 3: 48، مسند أحمد 5: 327، أمالي المرتضى 1: 4.
(3) انظر: غريب الحديث 1: 399و 2: 24.
(4) البقرة (2): 275.
(5) انظر: تفسير القرطبي 3: 348.(1/231)
ويَقُولُ رَسُولُ اللَّهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «رَأَيْتُ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِي قَوْماً تُقْرَضُ شِفَاهُهُمْ بِالْمَقَارِيضِ كُلَّمَا قُرِضَتْ وَفَتْ (1)، فَقَالَ جَبْرَائِيلُ: هَؤُلَاءِ خُطَبَاءُ أُمَّتِكَ الَّذِينَ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ لِأَنَّهُمْ قَالُوا بِأَفْوَاهِهِمْ، فَعُوقِبُوا فِيهَا»
(2)، ومثل هذا كثير».
قال: «والأجذم هاهنا: المجذوم، يقال: رجل أجذم، وقوم جذماء، مثل أحمق وحمقاء، وأنوك ونوكاء، إلّا أن يكون
رُوِيَ فِي حَدِيثٍ آخَرَ:
«أَنَّهُ يُحْشَرُ أَقْطَعَ الْيَدِ»
، أو ما يدلّ على ذلك، فيقع التسليم منّا.
وإنّما سمّي من به هذا الداء «أجذم» لأنّه يقطع أصابع يديه، وينقص خلقه، والجذم: القطع، وكلّ شيء قطعته فقد جذمته وجذذته، ولهذا قيل للمقطوع اليد: «أجذم» كما قيل له: «أقطع» وهذا أشبه بالعقوبة لأنّ القرآن كان يدفع عن جسمه كلمة العاهة، ويحفظ عليه الصحّة، ولمّا نسيه فارقه ذلك، فنالته الآفة في جميعه، ولا داء أشمل للبدن من الجذام، ولا أفسد للخلقة» انقضى كلام ابن قتيبة (3).
قلت أنا: وقد خلط هذا الرجل في اعتراضه هذا تخليطا كثيرا لأنّه أنكر غير منكر، وطعن في غير مطعن، وذلك أنّ أبا عبيد إنّما فسّر الأجذم في الحديث: بأنّه مقطوع اليد على أصل صحيح، وهو ما ذكرناه في الخبر الأوّل: من أنّ «الأقطع» هناك ك «الأجذم» هاهنا، والمراد به
__________
(1) أي تمّت وطالت. لسان العرب 15: 358، مادّة (وف ي).
(2) أمالي المرتضى 1: 5، مسند أحمد 3: 180، 231، مجمع الزوائد 7: 276، الدرّ المنثور 4: 150.
(3) إصلاح الغلط لابن قتيبة: 26.(1/232)
أنّه يلقى الله تعالى بعد نسيان القرآن ناقصا بعد تمامه، كالذي قطعت يده، فظهرت نقيصة أعضائه، وإن كان أبو عبيد لم يبيّن هذا البيان، فإنّه لم يرد غير هذا المراد.
فأمّا قول ابن قتيبة: «إنّ عقوبة الذنب يجب أن تكون مشاكلة للذنب» وتعلّقه بالمثلين اللذين أوردهما، فقد غلط فيما ظنّه، ووهم فيما توهّمه لأنّ العقوبات لايجب أن تكون مقصورة على الأعضاء المباشرة للذنوب، وإنّما المعاقب بها جملة الإنسان، ولو كان الأمر على ما ظنّه لكان الزاني إذا زنى غير محصن يضرب ذكره، والقاذف إذا قذف يجلد لسانه لأنّهما واقعا المعصية، وباشرا الخطيئة، فلمّا رأينا هذين المذنبين يعاقب منهما غير المواضع التي باشرت الذنب وواقعت الجرم، علمنا أنّ المقصود بالعقوبة جملة الإنسان، دون أعضاء الجسم.
فأمّا يد السارق فلم تكن علّة قطعها أنّه باشربها السرقة، ألا ترى أنّه لو دخل حرزا (1)، فأخرج منه بفمه دون يده ما يجب في مثله القطع، فقطعت يده، ولم يعتبر أخذه الشيء المسروق بفمه.
وأيضا: فلو أخذ في أوّل مرّة بيده اليسرى قطعت يده اليمنى، وإذا سرق ثانية بعد قطع يده اليمنى قطعت رجله اليسرى، ولم تقطع يده اليسرى وإن باشر السرقة بها، وذلك على مذهب من يرى استيفاء الأعضاء الأربعة في تكرير السرقة، وهو مذهب الشافعي (2).
__________
(1) الحرز: المكان الذي تحفظ فيه الأموال. راجع المصباح المنير: 129، مادّة (ح ر ز).
(2) الامّ 6: 150.(1/233)
فبان أنّه لا يعتبر بقطع ما باشر أخذ السرقة من أعضاء الإنسان، وسقط ما اعتمد عليه ابن قتيبة من تشقيق الكلام.
200
(200) وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ حِينَ قَالَ لَهُ حُذَيْفَةُ بْنُ الْيَمَانِ وَقَدْ ذَكَرَ الْفِتَنَ: أَفَبَعْدَ هَذَا الشَّرِّ خَيْرٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: «هُدْنَةٌ عَلَى دَخَنٍ، وَجَمَاعَةٌ عَلَى أَقْذَاءٍ» (1).
وفي هذا الكلام استعارتان:
إحداهما: قوله عليه الصلاة والسلام: «هدنة على دخن» وقيل: «إنّ الدخن في الأصل: اسم للّون الذي فيه كدورة» والصحيح أنّه مأخوذ من الدخان لكدر أجزائه، وارتداد ألوانه، فكأنّه عليه الصلاة والسلام شبّه الهدنة التي تؤذن بالفتنة، والسلم الذي تنكشف عن المحاربة بالدخان الذي تؤذن سواطعه بالنار الموقدة، وتجلى (2) عن الجواحم (3)
المتضرّمة، ويقال: «دخان، ودواخن، وعثان (4)، وعواثن» وهما جمعان على غير القياس.
ويجوز أن يكون المراد ب «الدخن» هاهنا قسطل (5) الحرب لأنّه يشبه الدخان في الحقيقة، فكأنّه عليه الصلاة والسلام قال: «هدنة
__________
(1) مسند أحمد 5: 386، سنن أبي داود 2: 301، وفيه: هل بعد هذا، النهاية في غريب الحديث 2:
109 - و 4: 30و 5: 252.
(2) أي تكشف. أقرب الموارد 1: 135، مادّة (ج ل و).
(3) الجواحم: جمع جاحمة، وهي الشديدة الحرّ.
(4) العثان: الدخان وزنا ومعنى، وأكثر ما يستعمل فيما يتبخّر به. المصباح المنير: 393، مادّة (ع ث ن).
(5) أي دخان الحرب. أقرب الموارد 2: 997، مادّة (ق س ط ل).(1/234)
تنكشف عن رهج القراع (1)، وغبار المصاع (2)».
وإنّما قال: «على دخن» أي أنّ تلك الهدنة كأنّها غطاء تحته هيعة الحرب (3)، وزلزال الخطب، وليس باطنها كظاهرها، وشاهدها كغائبها.
والاستعارة الاخرى: قوله عليه الصلاة والسلام: «وجماعة على أقذاء (4)» فكأنّه عليه الصلاة والسلام شبّه الاجتماع على فساد الغيوب وتغلل القلوب، بالعين المغضية على الداء، المغمضة على الأقذاء، فالظاهر سليم، والباطن سقيم.
وفي رواية اخرى زيادة في هذا الحديث فيها مجاز آخر وهي
قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «وَفِتْنَةٌ عَمْيَاءُ صَمَّاءُ، وَدُعَاةُ ضَلَالَةٍ عَلَى أَبْوَابِ جَهَنَّمَ مَنْ أَجَابَهُمْ قَذَفُوهُ فِيهَا»
(5)، فوصف الفتنة بالعماء والصمم مجاز، والمراد أنّ أهلها عمي عن المراشد، صمّ عن المواعظ، فلمّا كانت الفتنة سببا لعماهم وصممهم، جاز أن ينسب العمى والصمم إليها دونهم.
وقد يجوز أيضا أن يكون المراد أنّها تعمي الأبصار برهج غبارها (6)، وتصمّ الأسماع بزجل أصواتها (7). والقول الأوّل أقرب إلى الصواب،
__________
(1) أي مضاربة بعضهم بعضا. أقرب الموارد 2: 987، مادّة (ق ر ع).
(2) أي التقاتل والتجالد. أقرب الموارد 2: 1218، مادّة (م ص ع).
(3) أي صوتها المفزع المخيف.
(4) الأقذاء: جمع قذى، والقذى: جمع قذاة، وهو ما يقع في العين والماء والشراب من تراب أو تبن أو وسخ أو غير ذلك. لسان العرب 11: 78، مادّة (ق ذ ى).
(5) مسند أحمد 5: 406، سنن أبي داود 4: 96/ 4246.
(6) أي بغبارها المثار.
(7) أي بأصواتها المطربة.(1/235)
وأشبه بمقاصد الكلام.
201
(201) وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِرَجُلٍ حَلَبَ نَاقَةً: «دَعْ دَاعِيَ اللَّبَنِ» (1).
وهذه استعارة، والمراد أمره أن يبقى في خلف (2) الناقة شيئا من لبنها من غير أن يستفرغ جميعه لأنّ ما يبقى منه يستنزل عفافتها (3)، ويستجمّ درّتها (4)، فكأنّه يدعو بقيّة اللبن إليه، ويكون كالمثابة له، وإذا استنفذ الحالب ما في الخلف أبطأ غزره، وقلص درّه.
202
(202) وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «مَا نَزَلَ مِنَ الْقُرْآنِ آيَةٌ إِلَّا وَلَهَا ظَهْرٌ وَبَطْنٌ، وَلِكُلِّ حَرْفٍ حَدٌّ، وَلِكُلِّ حَدٍّ مُطَّلَعٌ» (5).
وفي هذا الكلام استعارتان:
إحداهما:
قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «مَا نَزَلَ مِنَ الْقُرْآنِ آيَةٌ إِلَّا وَلَهَا ظَهْرٌ وَبَطْنٌ».
وقد قيل في ذلك أقوال:
منها أن يكون المراد أنّ القرآن يتقلّب وجوها، ويحتمل من التأويلات ضروبا، كما وصفه
أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيٌّ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي كَلَامٍ لَهُ، فَقَالَ:
__________
(1) مسند أحمد 4: 76، 311، 322عن ضرار بن الازور، مستدرك الحاكم 3: 620، كنز العمّال 15:
422/ 41671.
(2) الخلف: ضرع ذوات الخفّ. راجع المصباح المنير: 180، مادّة (خ ل ف).
(3) العفافة: بقيّة اللّبن في الضّرع بعد أن يحلب أكثر ما فيه. لسان العرب 9: 290، مادّة (ع ف ف).
والمراد من العفافة هنا اللّبن الجديد.
(4) أيّ يستجمع لبنها.
(5) النّهاية في غريب الحديث 3: 166، بصائر الدّرجات: 203مع اختلاف، نقله عن أبي جعفر عليه السّلام تفسير العيّاشيّ 1: 11/ 5.(1/236)
«الْقُرْآنُ حَمَّالٌ ذُو وُجُوهٍ»
(1) أي يحتمل التصريف على التأويلات، والحمل على الوجوه المختلفات، وقد ذكرنا هذا الكلام في كتابنا الموسوم ب «نهج البلاغة» ومن ذلك قول القائل: «قلبت أمري ظهرا لبطن» أي صرفته وأدرته ليبين لي منه وجه الرأي فأتبعه، وطريق الرشد فأقصده.
وأنشدنا أبو الفتح النحوي رحمه الله قول الشاعر:
أما تراني قالبا مجنّي (2) ... أقلب أمري ظهره للبطن
قد قتل الله زيادا عنّي (3)
وكان رحمه الله يقول: «في قوله: «قد قتل الله زيادا عنّي» سرّ لطيف وهو أنّه أقام قتله مقام عزله، فكأنّه قال: قد عزل الله زيادا عنّي لأنّه إذا قتل فقد زال سلطانه، وامنت سطواته».
وقال آخرون: «الظهر: تنزيل القرآن وكلامه، والبطن: تأويله وأحكامه».
وقال بعضهم: «معنى الظهر هاهنا: ما قصّه الله سبحانه علينا في القرآن من أنباء القرون، وأخبار الملوك، وما أوقعه بهم من سطواته، وأنزله بهم من نقماته لمّا جمحوا في أعنّة (4) الطغيان، وأبعدوا في مذاهب البغي والعدوان. وجميع ذلك أحاديث قصّها سبحانه علينا، فهي في
__________
(1) نهج البلاغة 3: 136/ 77في وصيته عليه السّلام لابن عبّاس لمّا بعثه للاحتجاج على الخوارج.
(2) المجنّ: الترس، لأنّ صاحبه يستتر به. المصباح المنير: 112، مادّة (ج ن ن).
(3) ديوان الفرزدق 2: 881، لسان العرب 4: 520و 11: 547و 13: 94.
(4) الأعنّة: جمع عنان، وهو اللجام. أقرب الموارد 2: 841، مادّة (ع ن ن).(1/237)
الظاهر إخبار منه لنا.
وأمّا المراد بالباطن: فإنّه سبحانه جعل تلك الأنباء المقصوصة والأمثال المضروبة، عظّة ينبّه بها على طريق الرشد، ويحذّر معها مصارع البغي، فيتناهى عمّا كان السبب في إهلاك القرون الماضية، والامم الخالية: وذلك مثل مخبر أخبرنا عن إيقاع السلطان بجماعة من الجناة، فقوم قتلهم لمّا قتلوا، وقوم قطعهم لمّا سرقوا، وقوم جلدهم لمّا سكروا، فظاهر ذلك أنّه إخبار لنا عن هذه الأفعال الواقعة بمستحقّيها من الحياة، والباطن أنّه وعظ وتنبيه لعقولنا على أنّ من أقدم منّا على مثل تلك المحظورات، أنزل به مثل تلك العقوبات.»
وقد مضى فيما تقدّم من كتابنا هذا كلام مختصر على نظير لهذا الخبر (1)، إلّا أنّنا في هذا الموضع شرحنا ذلك فضل شرح، وبسطناه فضل بسط.
والاستعارة الاخرى:
قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «وَلِكُلِّ حَرْفٍ حَدٌّ، وَلِكُلِّ حَدٍّ مُطَّلَعٌ».
قال بعضهم: «معنى المطلع هاهنا: أن يطّلع قوم يعملون به، وروي عن عبد الله بن مسعود أنّه قال: «ما من حرف أو قال «آية» إلّا وقد عمل بها قوم، أو لها قوم سيعملون بها».
وقال بعضهم: «المراد بالمطّلع هاهنا: المأتى الذي يؤتى منه حتّى
__________
(1) راجع: الصفحة 192من هذا الكتاب، ذيل الحديث الرقم 206، في قضية ليلة الاسرى وقول رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فيه: «رأيت ليلة اسرى بي قوما تقرض شفاههم بالمقاريض الخ».(1/238)
يعلم تأويل القرآن من جهته».
وقال بعضهم: «المطّلع: هو المنحدر من المكان المشرف إلى المكان المنخفض، وقد يكون أيضا المصعد من المكان المنخفض إلى المكان المشرف، فهو من الأضداد على هذا التقدير، فكأنّ الإنسان يكون في التوصّل إلى علم تأويل القرآن بمنزلة الراقي إلى الذّروة (1)، والصاعد إلى النّجوة (2)، أو يكون في التولّج على غوامضه بمنزلة الهابط من المكان المشتطّ (3) إلى المكان المنحطّ».
وقال بعضهم: «الحدّ هاهنا: الفرائض والأحكام، والمطّلع: الثواب والعقاب، فكأنّه تعالى جعل لكلّ حدّ من حدوده التي حدّها من الحرام والحلال، مقدارا من الثواب والعقاب يلاقيه الإنسان في العاقبة، ويطّلع عليه في الآخرة، ومن ذلك ما يكثر على الألسنة من ذكر هول المطّلع إنّما يراد به ما يشرف الإنسان عليه بعد الموت من أعلام الساعة وأشراط القيامة» (4).
وعندي في ذلك وجه آخر: وهو أن يكون المراد أنّ لكل حرف حدّا يجب على التالي أن يقف عنده، ويتعرّف مغزاه ومغيّبه فإنّه إذا فعل ذلك أفضى به ذلك الحدّ إلى مطّلع يشرف منه على حقيقة المعنى، وجلية المغزى، فكأنّ الوقوف عند تلك الحدود والتمهّل عليها والتثبّت فيها،
__________
(1) ذروة كلّ شيء: أعلاه. لسان العرب 14: 284.
(2) أي المرتفع من الأرض. المصباح المنير: 595، مادّة (ن ج و).
(3) أي العالي.
(4) أي علاماتها. المصباح المنير: 309، مادّة (ش ر ط).(1/239)
يفضي بالإنسان إلى مطالع معرفتها، ومفاتق أكمّتها فيكون كطالع الثنيّة (1) في الإشراف على ما تحتها، والإدراك لما استجنّ (2) عن الناظر قبل الإيفاء عليها، وهذا القول من استنباطي، وما أظنّ أحدا قرع بابه وطلع نقابه قبلي.
203
(203) وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «مَنْ أَحْيَا أَرْضاً مَيْتَةً فَهِيَ لَهُ، وَلَيْسَ لِعِرْقِ ظَالِمٍ حَقٌّ» (3).
وهذا مجاز، والمراد به أن يجيء الرجل إلى أرض قد أحياها محي قبله، فيغرس فيها غرسا، أو يحدث فيها حدثا، فيكون ظالما بما أحدثه، وغاصبا لحقّ لا يملكه. وإنّما أضاف عليه الصلاة والسلام الظلم إلى العرق لأنّه إنّما ظلم بغرس عرقه، فنسب الظلم إلى العرق دون صاحبه، وذلك كما قال: «ليل نائم» و «نهار صائم» أي ينام في هذا، ويصام في هذا (4).
وروى سفيان بن عيينة، عن هشام بن عروة، عن أبيه عروة بن الزبير قال: «العروق أربعة: عرقان ظاهران، وعرقان باطنان، أمّا الظاهران:
فالغرس والبناء، وأمّا الباطنان: فالتبر (5) والمعدن».
__________
(1) أي الجبل.
(2) أي خفي.
(3) الموطّأ 2: 743/ 26، سنن أبي داود 2: 50/ 3073، السنن الكبرى 6: 99، مجمع الزوائد 4: 158، المبسوط 3: 268رواه عن هشام بن عروة.
(4) انظر: المقتضب 2: 179.
(5) أي الذهب. المصباح المنير: 72، مادّة (ت ب ر).(1/240)
وربّما روي هذا الخبر على الإضافة فيكون «ليس لعرق ظالم حقّ» فإن كانت هذه الرواية صحيحة، فقد خرج الكلام من حيّز الاستعارة، ودخل في باب الحقيقة.
204
(204) وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «اللَّهُمَّ الْمُمْ شَعَثَنَا»
(1).
وهذه استعارة، والمراد: اللهم اجمع كلمتنا، وانظم ما تشتّت من أمرنا، وتبدّد من شملنا، فأقام عليه الصلاة والسلام تفرّق الكلمة وانصداع الامور الملتئمة، مقام العود المتشعّث (2) الذي كثر تشظّيه (3)، واستطارت الصدوع (4) فيه، وقد مضى الكلام على نظير هذه الكلمة.
205
(205) وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «قَلِّدُوا الْخَيْلَ، وَلَا تُقَلِّدُوهَا الْأَوْتَارَ» (5).
وهذه استعارة، على أحد التأويلين، وهو أن يكون المراد النهي عن طلب أوتار (6) الجاهلية على الخيل بشنّ الغارات وشبّ النائرات (7)، ومعنى: «لا تقلّدوها» أي لا تجعلوها كأنّها قد قلّدت (8) درك الوتر
__________
(1) مصباح المتهجّد: 581، الصحيفة السجّادية 2: 247، التهذيب 3: 111.
(2) أي الذي فلق رأسه وشقّق.
(3) أي تفلّقه. المصباح المنير: 313، مادّة (ش ظ ي).
(4) أي الفلق.
(5) مسند أحمد 4: 318/ 14377و 5: 456/ 18553، سنن أبي داود 3: 24/ 2553، دعائم الإسلام 1: 345.
(6) الأوتار: جمع وتر، وهو الدم. أقرب الموارد 2: 1029، مادّة (ق ل د).
(7) شبّ: إيقاد وإشعال، النائرات: جمع نائرة، وهي الهائجة، أي إشعال نار الحروب الهائجات.
(8) أي الزمت.(1/241)
فتقلّدته، وضمّنت أخذ الثأر فتضمّنته، وذلك عبارة عن فرط جدّهم في الطلب، وحرصهم على الدرك، فكأنّه عليه الصلاة والسلام قال: «قلّدوا الخيل طلب أعداء الدّين، والدّفاع عن المسلمين، ولا تقلّدوها طلب أوتار الجاهليّة، ودخول (1) مصارع الحميّة (2)».
وإذا حمل الخبر على التأويل الآخر خرج عن أن يكون مجازا وهو أن يكون المراد النهي عن تقليد الخيل أوتار القسيّ (3)، وقيل في وجه النهي عن ذلك قولان:
أحدهما: أن يكون عليه الصلاة والسلام إنّما نهى عنه لأنّ الخيل ربّما رعت الأكلاء والأشجار، فنشبت الأوتار التي في أعناقها ببعض شعب ما ترعاه من ذلك فخنقتها، أو حبستها على عدم المأكل والمشرب حتّى تقضي نحبها.
والوجه الآخر: أنّهم كانوا في الجاهلية يعتقدون أن تقليد الخيل بالأوتار يدفع عنها حمّة (4) عين العائن، وشرارة نظر المستحسن، فيكون كالعوذ لها، والأحراز عليها، فأراد عليه الصلاة والسلام أن يعلمهم أنّ تلك الأوتار لا تدفع ضررا، ولا تصرف حذرا، وإنّما الله سبحانه وتعالى الدافع الكافي، والمعيذ الواقي.
وممّا يقوّي هذا التأويل ما روي من أمره عليه الصلاة والسلام بقطع
__________
(1) الذحول: جمع ذحل، الثأر. المصباح المنير 206، 647.
(2) أي الأنفة، لأنّها سبب الحماية. أقرب الموارد 1: 335، مادّة (ح م ي).
(3) القسيّ: جمع قوسى، وهي ألة نصف دائرة يرمى بها، ووتر القوس: خيطه الذي يشدّ بين طرفيه.
(4) أي شدّتها وحدّتها. لسان العرب 3: 340، مادّة (ح م م).(1/242)
الأوتار من أعناق الخيل (1).
ولتقليد الخيل وجه آخر: وهو أنّ العرب كانت إذا قدرت وظفرت قلّدت الخيل العمائم، وذكر أنّ معاوية بن أبي سفيان لمّا تغلّب على الأمر ودخل الكوفة بعد صلح الحسن بن عليّ عليهما السّلام فعل ذلك بخيله، فقالت امّ الهيثم بنت الأسود:
أقرّ عيني أن جاءت مقلّدة ... خيل الشّامين في أعناقها الخرق (2)
206
(206) وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «ضَالَّةُ الْمُؤْمِنِ حَرَقُ النَّارِ» (3).
وهذا مجاز لأنّ الضالّة على الحقيقة ليست بحرق النار، وإنّما المراد أخذ ضالّة المؤمن والاشتمال عليها والحول بينه وبينها، يستحقّ به العقاب بالنار، فلمّا كانت الضالّة سبب ذلك حسن أن تسمّى باسمه لأنّ عاقبة أخذها يؤول إلى حريق النار، ويفضي إلى أليم العقاب. وقد نهى رسول الله عليه الصلاة والسلام عن أخذ ضوالّ الإبل وهواميها، والهوامي: الضائعة (4)، قال الشاعر:
همت بغلها بالسّبلجين وأوفضت ... بوادي ثميل عن جنين مشيّد (5)
__________
(1) انظر: مسند أحمد 4: 408، سنن أبي داود 3: 4/ 2552، فيه: لا يبقينّ في رقبة بعير قلادة، ولا قلادة إلّا قطعت.
(2) مقاتل الطالبيين: 41.
(3) سنن الدارمي 2: 266، سنن ابن ماجة 2: 836/ 2502، السنن الكبرى 6: 190، مجمع الزوائد 4:
167، مسند أحمد 4: 25و 5: 80، وفيه: «ضالة المسلم» المبسوط 3: 319، رواه عن الحسين بن مطرف.
(4) انظر: مسند أحمد 4: 115.
(5) معجم ما استعجم 1: 346.(1/243)
أي ضاعت بغل هذه الناقة بهذا الموضع المذكور، وذلك لا يكون إلّا عند تقطّع هلبها، وإجحاف السير بها.
207
(207) وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «إِنَّ هَذَا الدِّينَ مَتِينٌ فَأَوْغِلْ فِيهِ بِرِفْقٍ، وَلَا تُبَغِّضْ إِلَى نَفْسِكَ عِبَادَةَ اللَّهِ فَإِنَّ الْمُنْبَتَّ لَا أَرْضاً قَطَعَ، وَلَا ظَهْراً أَبْقَى» (1).
ووصف الدّين بالمتانة هاهنا مجاز، والمراد أنّه صعب الظهر، شديد الأسر (2)، مأخوذ من متن الإنسان: وهو ما اشتدّ من لحم منكبيه. وإنّما وصفه عليه الصلاة والسلام بذلك لمشقّة القيام بشرائطه، والأداء لوظائفه، فأمر عليه الصلاة والسلام أن يدخل الإنسان أبوابه مترفّقا، ويرقى هضابه متدرّجا ليستمرّ على تجشّم (3) متاعبه، ويمرن على امتطاء مصاعبه. وشبّه عليه الصلاة والسلام العابد الذي يحسر منته ويستنفد طاقته بالمنبت: وهو الذي يغذّ السير (4)، ويكدّ الظهر، منقطعا من رفقته، ومنفردا عن صحابته، فتحسر مطيّته (5)، ولا يقطع شقّته (6)، وهذا من أحسن التمثيلات، وأوقع التشبيهات.
وممّا يقوّي المراد بهذا الخبر ما كشفناه من حقيقة الخبر الآخر عنه
__________
(1) الكافي 2: 87/ 6، رواه عن أبي عبد الله عليه السّلام عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، مسند أحمد 3: 199، السنن الكبرى 3: 19، مجمع الزوائد 1: 62، كنز العمّال 3: 40/ 5376، الدرّ المنثور 1: 192.
(2) أي الخلق، قال تعالى: {وشددنا أسرهم} أي قوّينا خلقهم. المصباح المنير: 14، مادّة (أس ر).
(3) أي تحمّلها على مشقّة. راجع المصباح المنير: 102مادّة (ج ش م).
(4) أي يسيرع فيه أقرب الموارد 2: 863، مادّة (غ ذ ذ).
(5) أي تعيا. أقرب الموارد 1: 190، مادّة (ح س ر).
(6) أي طريقة الطويل الذي يشقّ قطعه ويصعب. راجع أقرب الموارد 1: 603، مادّة (ش ق ق).(1/244)
عليه الصلاة والسلام وهو فيما
رَوَاهُ بُرَيْدَةُ بْنُ الْحَصِيبِ الْأَسْلَمِيُّ قَالَ:
قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «عَلَيْكُمْ هَدْياً قَاصِداً (1) فَإِنَّهُ مَنْ يُشَادَّ هَذَا الدِّينَ يَغْلِبْهُ (2)» (3).
208
(208) وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «إِذَا سَافَرْتُمْ فِي الْخِصْبِ فَأَعْطُوا الرُّكُبَ أَسِنَّتَهَا» (4).
وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى: «فَأَعْطُوا الرِّكَابَ أَسْنَانَهَا» (5).
وهذه استعارة، والمراد ب «الأسنّة» هاهنا على ما قاله جماعة من علماء اللغة الأسنان، وهو جمع الجمع لأنّ الأسنان جمع سنّ، والأسنّة جمع الأسنان، و «الرّكب» جمع الرّكاب (6)، فكأنّه عليه الصلاة والسلام أمرهم أن يمكّنوا ركابهم زمان الخصب (7) من الرعي في طرق أسفارهم، وعند نزولهم وارتحالهم، فكنّى عن ذلك بإعطائها أسنانها، والمراد تمكينها من استعمال أسنانها في اجتذاب الأكلاء، وامتشاط
__________
(1) أي ألزموا طريقا معتدلا. راجع لسان العرب 11: 178، مادّة (ق ص د).
(2) أي يغلبه الدين أي من يقاويه ويقاومه ويكلّف نفسه من العبادة فوق طاقته. لسان العرب 7: 54، مادّة (ش د د).
(3) مسند أحمد 4: 422و 5: 361، مستدرك الحاكم 1: 312، السنن الكبرى 3: 18، مجمع الزوائد 1:
62، كنز العمّال 3: 29/ 5305، الدرّ المنثور 1: 193.
(4) مسند أحمد 3: 282، غريب الحديث للهروي 1: 245، الفائق 1: 500، النهاية في غريب الحديث 2: 256، المحيط في اللغة 1: 249.
(5) تاج العروس 2: 523، ماده (ركب)، المحيط في اللغة 1: 249، مسند أحمد 3: 305، وفيه «إذا سرتم في الخصب فأمكنوا الركاب أسنانها».
(6) أي الإبل، واحدتها: راحلة. أقرب الموارد 1: 426، مادة (خ ص ب).
(7) أي كثرة العشب. أقرب الموارد 1: 277، مادّة (خ ص ب).(1/245)
الأعشاب (1)، فكأنّهم بتمكينها من ذلك أعطوها أسنانها. وهذا كما يقول القائل لغيره: «أعط الفرس عنانها» و «أعط الراحلة زمامها» أي مكّنها من التوسّع في الجري، ومدّ العنق في الخطو.
وعندي في ذلك وجه آخر: وهو أن يكون المراد: مكّنوا الرّكاب في الخصب من أن تسمن بكثرة الرعي (2) لأنّهم قد عبّروا في أشعارهم عن سمن الإبل وبدنها ب «السلاح» تارة، وب «الأسنّة» تارة، قال الشاعر:
ولا تأخذ الكوم الجلاد سلاحها ... له عند صرّات الشّتاء الصّنابر (3)
أي لم يمنعه سمن إبله وشارتها (4) في عينه من أن ينحرها لأضيافه، ويبذلها لطرّاقه (5)، فجعل السمن لها كالسلاح الذي تدافع به عن نحرها، وتماطل به عن عقرها.
وقد قال الآخر في مثل ذلك ويعني الإبل:
خايلت فيها ولم تأخذ أسنّتها (6)
ومن أبيات لإياس بن سلم الأسلمي يمدح بها النبيّ عليه الصلاة والسلام:
__________
(1) أي اختيار ما يصلح منها، وكأنّ الإبل تمشّط الأعشاب فتختار منها ملائمها.
(2) في نسخة ب زيادة: والاستكبار من المرعى.
(3) الأغاني 11: 226، أمالي المرتضى 4: 32، وفيه: لتوبة في قرّ الشتاء الصنابر، الكوم: القطعة من الإبل، الجلاد: الغزيرات اللبن، الحرّات، جمع صرّة وهي شدّة البرد، الصنابر: الشديدة.
(4) أي حسنها وجمالها. أقرب الموارد 1: 620، مادّة (ش ور).
(5) الطرّاق: جمع طارق، وهو الآتي ليلا. أقرب الموارد 1: 704، مادّة (ط ر ق).
(6) خايلت: باريت، الأسنّة: جمع سنان، وهو هصل الرمح، ومراده من عدم أخذ الإبل لأسنّتها: ضعفها وعدم سمنها.(1/246)
وأبيك حقّا إنّ إبل محمّد ... عزل تناوح أن تهبّ شمال
وإذا رأين لدى الفناء قريبة ... فاضت لهنّ على الخدود سجال (1)
يقول: إنّ إبله مبذولة عند نزول النازل، وطروق الطارق، فلا يمنعه من عقرها رواؤها وشارتها، فكأنّها عزل لا سلاح معها، كما جعل الشاعر الأوّل هذه الحال بمنزلة السلاح لها.
وأراد بقوله: «إذا رأين لدى الفناء قريبة» أي رأين رفقة قريبة بفناء النبيّ عليه الصلاة والسلام بكين وتناوحن (2) علما بأنّهن ينحرن لها، ويعقرن (3) لأجلها، وكذلك إذا هبت الشمال في صميم الشتاء حاذرن العقر، وانتظرن النحر.
وممّا يقوّي ذلك ما جاء في الحديث المشهور عنه عليه الصلاة والسلام وهو
قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «إِنَّ الْجَفَاءَ وَالْقَسْوَةَ فِي الْفَدَّادِينَ، إِلَّا مَنْ أَعْطَى فِي نَجْدَتِهَا وَرِسْلِهَا» (4).
و «الفدّادون» هاهنا على أصحّ الأقوال: هم أصحاب الإبل الكثيرة، فكأنّه عليه الصلاة والسلام قال: «إلّا من أعطى من إبله في حال كثرة شحومها، وشارة جسومها» وسمّي ذلك «نجدة» (5) لها على ما قدّمنا القول فيه لأنّها إذا كانت في تلك الحال، كانت كالمانعة
__________
(1) أمالي المرتضى 4: 31.
(2) التناوح: تقابل النساء بعضهن بعضا إذا نحن. لسان العرب 2: 627.
(3) عقر الفرس والبعير بالسيف عقرا: قطع قوائمه. لسان العرب 4: 592.
(4) مسند أحمد 2: 258و 3: 332، غريب الحديث للهروي 1: 125، الفائق 2: 252.
(5) أي إيمانه وإغاثة، وإنّما كانت الإعانة لأجل من الإبل وجمال وحسن أجسامها.(1/247)
لصاحبها من نحرها نفاسة بها، وشحّا عليها، فكانت شارتها كالمنجدة لها والسلاح الذي تدفع به عن أنفسها.
وقد قيل في «رسلها» هاهنا قولان:
أحدهما: في حال كثرة ألبانها موافقة لقوله عليه الصلاة والسلام:
«في نجدتها» إذا كان ذلك بمعنى حسن شارتها.
والقول الآخر: أن يعطيها في حال يهون عليه إعطاوها فيها وهي حال نقصان شحومها، وخفّة جسومها، من قولهم: «تكلّم فلان بكذا على رسله» أي والكلام هيّن عليه، فهو متمهّل فيه غير عجل، وساكن غير قلق، فكأنّ المعنى: إلّا من أعطاها في حالتي كرامتها وهوانها، واستقباحها واستحسانها، كقولك: «في حال العسر واليسر، وعند الطوع والكره» والقول الأوّل هو المعتمد.
209
(209) وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «أَنَا بَرِيءٌ مِنْ كُلِّ مُسْلِمٍ مَعَ مُشْرِكٍ» قِيلَ: وَلِمَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: «لَا تَرَاءَى نَارَاهُمَا» (1).
وهذه استعارة، وقد قيل في ترائي النارين قولان:
أحدهما: أن يكون المراد أنّ المسلم لا ينبغي له أن يساكن المشرك
في بلاد فيكون منه بحيث إذا أوقد كلّ واحد منهما نارا رآه الاخر، فجعل الترائي للنارين، وهو في الحقيقة للموقدين، والأصل في ذلك المداناة والمقابلة بقول القائل: «دور بني فلان تتناظر» أي تتدانى
__________
(1) سنن أبي داود 1: 595/ 2645، سنن الترمذي 3: 80/ 1654، السنن الكبرى 8: 131، كنز العمّال 16: 668/ 46296، سنن النسائي 8: 36، وفيه: «ألا لا رأي ناراهما»، المبسوط 2: 24.(1/248)
وتتقابل، ويقولون للمسترشد: «إذا أخذت في طريق كذا فنظر إليك الجبل فخذ عن يمينه» أو «عن يساره» والمراد: إذا قابلك الجبل فنظرت إليه، فجعلوا النظر له لأنّهم أقاموا الجبل مقام الرّئيّة الناظر، والرفيق المساير، وقال الشاعر:
سل الدّار من جنبي حبرّ فواهب ... إلى ما رأى هضب القليب المضيّح (1)
وهضب القليب والمضيّح: موضعان متقاربان، فجعلهما لتحاذيهما كأنّهما يتراءيان.
ومثله قول الآخر:
حيث يرى الدّير المنار (2)
والوجه الآخر: أن يكون المراد ب «النار» هاهنا نار الحرب لأنّهم يكنّون عن الحرب بالنار لما فيها من رهج المصاع، ووهج القراع (3).
ومن ذلك قول الشاعر:
هما حيّان يصطليان حربا ... رداء الموت بينهما جديدا (4)
وعلى هذا المعنى جاء التنزيل بقوله تعالى: {كُلَّمََا أَوْقَدُوا نََاراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللََّهُ} (5).
__________
(1) ديوان ابن مقبل: 23، معجم ما استعجم 2: 419و 4: 1235و 1365، وفيه: عن ابن مقبل، حبّر وواهب: موضعان.
(2) الدير: الموضع الذي يقيم فيه الراهبون والراهبات النصارى، المنار: موضع النور.
(3) رهج المصاع: غبار النزال والقتال، ووهج القراع: شعاع المضاربة بالسيوف.
(4) لم أعثر له على مصدر.
(5) المائدة (5): 64.(1/249)
فكأنّه عليه الصلاة والسلام قال: «وناراهما مختلفان» أي حرباهما متباينان هذه تدعو إلى الهدى والرشاد، وهذه تدعو إلى العمى والضلال.
وقد يجوز في ذلك عندي وجه آخر: وهو أن يكون المراد: لا يجتمع سرباهما، ولا يختلط سرحاهما (1)، و «النار» عندهم اسم لسمات (2)
الإبل، يقولون: «على هذه الإبل نار بني فلان» أي وسمهم. وعلى هذا قول بعض خرّاب الإبل في ذكر أذواد (3) استلبها وأراد عرضها ليبيعها:
يسألني الباعة ما نجارها ... إذ زعزعوها فسمت أبصارها
فكلّ دار لأناس دارها ... وكلّ نار العالمين نارها (4)
أي هي مأخوذة من قبائل شتّى، فوسمها غير متّسق، ونجارها غير متّفق.
وهذا الوجه يعود إلى معنى الوجه الأوّل لأنّ المراد (5) أنّ المسلم
والمشرك لا يجوز اجتماعهما في دار حتّى تجتمع أذوادهما في الرعي، وأورادهما في الورد (6)، فقوله عليه الصلاة والسلام على هذا الوجه: «لا
__________
(1) السرح: المال السائم. أقرب الموارد 1: 509، مادّة (س ر ح).
(2) السمات: جمع سمة أي العلامة التي تجعل على الإبل بواسطة كيّها بالميسم. راجع المصباح المنير:
660، مادّة (وس م).
(3) الأذواد: جمع ذود، وهي من الإبل ما بين الثلاث إلى العشر. المصباح المنير: 210، مادّة (ذ ود).
(4) جمهرة الأمثال 2: 140، خزانة الأدب 7: 149، النجار: الحسب والأصل.
(5) في نسخة ب: المراد به.
(6) الأوراد: جمع ورد، وهو من الخيل الأحمر المماثل إلى الصفرة، في الورد: أي في الإشراف على الماء وغيره. راجع أقرب الموارد 2: 14431442، مادّة (ور د).(1/250)
تراءى نارهما» أي لا يختلط وسماهما.
وأمّا الحديث الآخر وهو
قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «لَا تَسْتَضِيئُوا بِنَارِ أَهْلِ الشِّرْكِ»
(1)، فقيل: «إنّ المراد لا تستشيروهم في أموركم، فتعملوا بآراءهم، فترجعوا إلى أقوالهم» وهذا أيضا مجاز آخر لأنّه عليه الصلاة والسلام شبّه الاسترشاد بالرأي بالاستضواء بالنار إذا كان فعله كفعلها في تبيين المبهم، وتنوير المظلم.
210
(210) وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «إِنَّ عَمَّ الرَّجُلِ صِنْوُ أَبِيهِ» (2).
وهذه استعارة، والمراد أنّ أصلهما من منبت واحد، فهما كالنخلتين من الصنوان يجتمع أصلهما، ويفترق رأساهما، فيكونان اثنين في الرؤية، والأصل واحد في الحقيقة، يقال: «صنو» والجمع «صنوان» مثل: «قنو» (3) والجمع «قنوان» قال سبحانه: {صِنْوََانٌ وَغَيْرُ صِنْوََانٍ} (4).
وقيل أيضا: «الصنوان: المجتمع، وغير الصنوان: غير المجتمع».
211
(211) وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «تَمَسَّحُوا بِالْأَرْضِ فَإِنَّهَا بِكُمْ بَرَّةٌ» (5).
__________
(1) كنز العمّال 16: 21/ 43759، الدرّ المنثور 2: 66، النهاية في غريب الحديث 3: 104، وفيه:
«المشركين»، السنن الكبرى 10: 127، وفيه: «بنار المشركين».
(2) مسند أحمد 2: 322، سنن أبي داود 1: 366/ 1623، سنن الترمذي 5: 318/ 3847، السنن الكبرى 6: 164، مجمع الزوائد 3: 79، كنز العمّال 6: 303/ 15800، المناقب للكوفي: 2/ 123، شرح الأخبار 2: 493/ 876، ذخائر العقبى: 193.
(3) وهو عنقود النخل. المصباح المنير: 518، 524.
(4) الرعد (13): 4.
(5) غريب الحديث للهروي 1: 220، الفائق 3: 27، كنز العمّال 7: 460/ 19778، الدرّ المنثور 2: 168.(1/251)
وهذه استعارة، والمراد بقوله: «فإنّها بكم برّة» يرجع إلى أنّها كالامّ للبريّة لأنّ خلقهم ومعاشهم عليها، ورجوعهم إليها، فلمّا كانت الأرض تسمّى «امّا» لنا من الوجوه التي ذكرناها، كان قوله عليه الصلاة والسلام: «فإنّها بكم برّة» يرجع إلى وصفها بالامومة لأنّهم يقولون:
«الأرض ولود» يريدون كثرة إنشاء الخلق واستيلادهم عليها. وقال ذو الرّمّة في وصف الامّ بالبرّ وهو يذكر فراخ النعام:
جاءت من البيض زعرا لالباس لها ... إلّا الدّهاس وأمّ برّة وأب (1)
و «الدّهاس» الرّمل.
ولقوله عليه الصلاة والسلام: «تمسّحوا بالأرض» وجهان:
أحدهما، أن يكون المراد التيمّم منها في حال الطهارة وحال الجنابة.
والوجه الآخر: أن يكون المراد مباشرة ترابها بالجباه في حال السجود عليها، وتعفّر الوجوه فيها، ويكون هذا القول أمر تأديب، لا أمر وجوب لأنّ من سجد على جلدة الأرض ومن سجد على حائل بينها وبين الوجه، واحد في إجزاء الصلاة، إلّا أنّ مباشرتها بالسجود أفضل.
وَقَدْ رُوِيَ: «أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَ يَسْجُدُ عَلَى الْخُمْرَةِ»
(2)، وهي الحصير الصغير يعمل من سعف النخل، فبان أنّ المراد بذلك فعل الأفضل، لا فعل الأوجب.
__________
(1) لسان العرب 6: 89، جمهرة أشعار العرب: 448، الزعر: جمع أزعر، وهو من قلّ شعره وتفرّق حتّى بدا جلده.
(2) صحيح البخاري 1: 124/ 333، و 143/ 379و 381، صحيح مسلم 1: 383/ 513و 661، سنن أبي داود 1: 176/ 656.(1/252)
وممّا يقرب شبها من هذا الخبر ما روي من قوله عليه الصلاة والسلام: «نعمت العمّة لكم النّخلة» (1)، فكأنّها لانتفاعهم بها، وتعويلهم على ثمرتها قد قامت مقام القريبة الحانية (2)، وذات الرحم المتحفّية (3). ولم يجعلها عليه الصلاة والسلام بمنزلة الامّ للناس كما جعل الأرض في الخبر الأوّل لأنّهم في الحقيقة لم يخلقوا منها، ولم ينسبوا إليها، فجعلها من حيث الانتفاع بها بمنزلة أقرب الإناث القرائب من الإنسان بعد اللاتي ولدنه واللاتي ولدهنّ هو، وتلك عمّة الإنسان وخالته، إلّا أنّ اخت الأب أرفع منزلة من اخت الامّ، ولذلك جعلها عمّة، ولم يجعلها خالة.
212
(212) وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي دُعَاءٍ كَانَ يَدْعُو بِهِ: «رَبِّ تَقَبَّلْ تَوْبَتِي، وَاغْسِلْ عَنِّي حَوْبَتِي
(4)» (5).
وهذه استعارة، والحوبة والحوب المأثم، والمراد احطط عني وزري، وتغمّد ذنبي وخطيئتي، ولكنّ المعصية لمّا كانت كالدرن (6) الذي يصيب الإنسان فيفحش أثره، ويقبح منظره أقام عليه الصلاة والسلام إماطة وزرها وإسقاط إثمها، مقام غسل الأدران، وإماطة الأدناس لأنّ
__________
(1) النهاية في غريب الحديث 3: 303، نثر الدرّ 1: 256.
(2) أي العاطفة المشفقة. راجع المصباح المنير: 155، مادّة (ح ن و).
(3) المتحفّية: المبالغة في البرّ والتكريم. لسان العرب 14: 187.
(4) أي خطيئتي. المصباح المنير: 155، مادّة (ح وب).
(5) سنن ابن ماجة 2: 1259/ 3830، سنن الترمذي 5: 214: 3621، كنز العمّال 2: 197: 3729، مسند أحمد 1: 227، وفيه: «تقبل دعوتي»، سنن أبي داود 1: 338/ 1510رواه عن ابن عبّاس.
(6) الدرن كالوسخ وزنا ومعنى. المصباح المنير: 193، مادّة (د ر ن).(1/253)
الإنسان بعدها يعود نقيّ الأثواب، طاهرا من العاب.
وهذا الدعاء من النبيّ عليه الصلاة والسلام على وجه التعبّد والخضوع والتطامن (1) والخشوع، لا أنّ له عليه الصلاة والسلام حوبة يستحطّ وزرها، ويستغسل درنها، أو يكون قوله عليه الصلاة والسلام ذلك على طريق التعليم لامّته كيف يتوب العاصي، وينيب الغاوي، ويستأمن الخائف، ويستقيم الجانف (2). والسبب الذي لأجله قلنا: إنّ الأنبياء عليهم الصلاة والسلام لا يجوز أن يواقعوا المعاصي، ويقدموا على المغاوي أنّ الحكيم تعالى إذا أرسل رسولا جنّبه كلّ ما ينفّر عنه، ويصرف عن القبول منه، ومعرفة ما يقطع على أنّه منفّر مأخوذ من عادات الناس، وكبائر المعاصي كلّها منفّرة لأنّها تخرج من ولاية الله تعالى إلى عداوته، وتوجب عاجل مقته، وآجل عقوبته، وفي الصغائر خلاف ليس كتابنا هذا موضع بيانه، واستقصاء حجاجه.
وقد بسطنا الكلام على ذلك في باب مفرد من جملة كتابنا الكبير في متشابه القرآن، فمن أراد استيعاب معانيه ومعرفة الخلاف فيه، فليقصد مطالعته من هناك بتوفيق الله.
213
(213) وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَذْهَبُ كَثِيرٌ مِنْ وَحَرِ صَدْرِهِ، فَلْيَصُمْ شَهْرَ الصَّبْرِ، وَثَلَاثَةَ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ»
(3).
__________
(1) أي التواضع. الصحاح 6: 2158، أساس البلاغة: 284.
(2) أي المائل عن الصراط المستقيم.
(3) مسند أحمد 5: 78، كنز العمّال 8: 565/ 24195، غريب الحديث للهروي 3: 47.(1/254)
فقوله عليه الصلاة والسلام: «وحر صدره» استعارة، والمراد غشّه ودغله (1)، وفساده ونغله (2)، وذلك مأخوذ من اسم دويبة يقال لها:
«الوحرة» وجمعها «وحر» وهي شبيهة بالحرباء.
وقال بعضهم: «هي تشبه العظاء (3)، إذا دبّت على اللحم فأكل منه إنسان وحر صدره أي اشتكى داء فيه» (4).
ويقال: «إنّها شبيهة باليعسوب الأحمر (5)، تسكن القليب (6) والآبار قال الراجز:
في كلّ يوم قربة موكّره ... يشربها مريّة كالوحره (7)
فشبّه عليه الصلاة والسلام ما يسكن في صدر الإنسان من الغشّ والبلابل (8) ويجول في قلبه من مذمومات الخواطر بهذه الدويبة المنعوتة، فكأنّه عليه الصلاة والسلام شبّه القلب بالقليب، وشبّه ما يستجنّ فيه من نغله بما يستجنّ في القليب من وحره.
__________
(1) الدغل: دخل في الأمر مفسد. أقرب الموارد: 1: 338، مادّة (د غ ل).
(2) أي إفساده.
(3) العظاء: جمع عظاية وعظاءة، وهي دريبة ملساء تعدو وتتروّد كثيرا، تشبه سامّ أبرص، وتسمّى:
شحمة الأرض وشحمة الرمل. وهي أنواع كثيرة أقرب الموارد 3: 80، مادّة (ع ظ ي).
(4) انظر: غريب الحديث 3: 47.
(5) اليعسوب الأحمر: أمير النحل وذكرها. راجع أقرب الموارد 2: 779، مادّة (ع س ب).
(6) أي البئر، أو البئر العاوية القديمة مطويّة كانت أو غير مطويّة. المصباح المنير: 512، مادّة (ق ل ب).
(7) قربة موكّرة: مملوءة.
(8) أي شدّة الهمّ والوسواس في الصدور وحديث النفس. لسان العرب 1: 493، مادّة (ب ل ل).(1/255)
(214) وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ:
مِنْ هَمْزِهِ، وَنَفْثِهِ، وَنَفْخِهِ» فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ: مَا هَمْزُهُ وَنَفْثُهُ وَنَفْخُهُ؟
فَقَالَ: «أَمَّا هَمْزُهُ فَالْمُوتَةُ، وَأَمَّا نَفْثُهُ فَالشِّعْرُ، وَأَمَّا نَفْخُهُ فَالْكِبْرُ» (1).
وفي هذا الكلام استعارات ثلاث:
الاولى منها: الاستعاذة من همز الشياطين، وأصل «الهمز» الغمز والدفع، وكلّ شيء دفعته فقد همزته، ويروى بيت القطامي:
تراهم يهمزون من استركّوا ... ويجتنبون من صدق المصاعا (2)
ويروى: «يغمرون» (3).
فالهمز على ما فسره النبيّ عليه الصلاة والسلام هاهنا الموتة وهي الجنون على الحقيقة، فإنّ الشيطان لا سلطان له على الإنسان ولا يصرعه، ويوسوس له ويفزعه، وقد صرّح التنزيل بذلك، فقال تعالى:
{وَقََالَ الشَّيْطََانُ لَمََّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللََّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمََا كََانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطََانٍ إِلََّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي} (4) الآية، فعلمنا أنّه لا سلطان له على الإنسان إلّا بالوسواس والتخابيل (5)، وضروب التهاويل (6)، فلمّا كان ما يلحق المجنون من
__________
(1) مسند أحمد 4: 80و 6: 156، سنن أبي داود 1: 178/ 764، السنن الكبرى 2: 35.
(2) ديوان القطامي: 35، الصحاح 3: 1285، استركّوا: استضعفوا، المصاع: المجالدة والمضاربة، وصدف فلان المصاع: أوقعه إذا ما أوعد به ولم يخلفه.
(3) أي يعلون عليه. أقرب الموارد 2: 882، مادّة (غ م ر).
(4) ابراهيم (14): 22.
(5) جمع تخبيل وهو إفساد العقل. الصحاح 4: 1682، لسان العرب 11: 198.
(6) التهاويل: جمع تهويل، وهو التفزيع والتخويف. لسان العرب 11: 712.(1/256)
الأفزاع ويأخذه من العرواء (1) والانزعاج عن وسواس الشيطان، جاز أن ينسب ذلك إلى همزه وغمزه على طريق المجاز والاتساع في نظائره.
والاستعارة الثانية: الاستعاذة من نفث الشيطان وهي الشعر على ما فسّره النبيّ عليه الصلاة والسلام، وذلك مخصوص في شعر المشركين
الذين كانوا يهجون به رسول الله عليه الصلاة والسلام وخيار المسلمين، أو ما يجري مجراه من أشعار المسلمين الإسلاميين لأنّه عليه الصلاة والسلام قد قال: «إنّ من الشّعر حكما» (2)، فلا يجوز أن يكون هذا القول متناولا لجميع الشعر عموما.
وموضع الاستعارة: أنّ الشيطان لمّا كان يزيّن للمشركين الطعن في أعراض المسلمين وكان الشعر ممّا تلفظ به ألسنتهم، شبّهه عليه الصلاة والسلام بالشيء الذي تنفث به ألسنتهم (3)، ونسبه إلى الشيطان لأنّ تزيينه ما زيّن لهم كان سببا لما نفثت به ألسنتهم.
وقد يجوز أن يكون إنّما نسبه إلى نفثه لأنّ الشيطان كان نفثه في أفواههم، وتكلّم به على ألسنتهم، كما يقولون للمتكلّم بالكلمة الغاوية:
«ما نطق على لسانك إلّا شيطان» قال الفرزدق في قصيدته التي يهجو فيها إبليس وهي مشهورة:
__________
(1) أي الرّعدة. لسان العرب 9: 177، مادّة (ع ر و).
(2) مسند أحمد 1: 269، 273، 303، 309، 313، 332، سنن ابن ماجة 2: 1236/ 3756، سنن أبي داود 2: 479/ 5011، سنن الترمذي 4: 216/ 3002، مجمع الزوائد: 8: 117، كنز العمّال 3:
579/ 7985، الدرّ المنثور 5: 101، تحف العقول: 55.
(3) في نسخة ب: أفواههم بدل ألسنتهم.(1/257)
وإنّ ابن إبليس وإبليس ألبنا ... لهم بعذاب النّاس كلّ غلام
هما نفثا في فيّ من فمويهما ... على النّابح العاوي أشدّ رجام (1)
ويروى: «لجام» يريد بقوله: «ألبنا كلّ غلام» أي سقياه اللبن، فكأنّهما غذّياه بذلك فدرب به (2)، ونشأ عليه وتعوّده.
والاستعارة الثالثة: الاستعاذة من نفخ الشيطان وهو على ما فسّره عليه الصلاة والسلام الكبر والعجب، ولا نفخ هناك على الحقيقة، وإنّما المراد به ما يسوّله الشيطان للإنسان من تعظيم نفسه، واستحقار غيره، وتصغير الناس في عينه، فكأنّه بهذا الفعل ينفخ في روعه ما يستشعر به أنّه أحقّ من غيره بالتعظيم، وأولى بالتفخيم، تشبيها بالشيء الأجوف، كالزقّ (3) وما في معناه لأنّه إذا نفخ فيه انتفخ بعد ضمره، وعظم بعد صغره، ومن قولهم للمتكبّر إذا أسرف في الكبر واستطار من العجب:
«قد نفخ الشيطان في مناخره» يريدون به المعنى الذي قدّمنا ذكره.
215
(215) وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «الْعَيْنُ وِكَاءُ السَّهِ، فَإِذَا نَامَتِ الْعَيْنُ اسْتَطْلَقَ الْوِكَاءُ» (4).
وهذه من أحسن الاستعارات، و «السّه» اسم للسته (5)، قال الشاعر:
__________
(1) ديوان الفرزدق 2: 215.
(2) أي اعتاده. أقرب الموارد 1: 225، مادّة (د ر ب).
(3) أي السقاء، وقيل: جله يجزّ ولا ينتف للشراب وغيره. أقرب الموارد 1: 468، مادّة (ز ق ق).
(4) مسند أحمد 1: 111، السنن الكبرى 1: 118، كنز العمّال 9: 342/ 26348، سنن الدارمي 1:
184، وفيه: «إنّما العينان».
(5) أي الدبر.(1/258)
شأتك قعين غثّها وسمينها ... وأنت السّه السّفلى إذا دعيت نصر (1)
فكأنّه عليه الصلاة والسلام شبّه السته بالوعاء، وشبّه العين بالوكاء (2)، فإذا نامت العين انحلّ صرار السّته، كما أنّه إذا زال الوكاء دسع بما فيه (3) الوعاء، إلّا أنّ حفظ العين للسّته على خلاف حفظ الوكاء للوعاء فإنّ العين إذا اشرجت (4) لم تحفظ ستهها، والأوكية إذا حلّت لم تضبط أوعيتها.
ومن الناس من ينسب هذا الكلام إلى أمير المؤمنين عليّ عليه السّلام وقد ذكره (5) محمّد بن يزيد المبرّد في الكتاب «المقتضب» في باب اللفظ بالحروف (6)، وفي الأظهر الأشهر أنّه للنبيّ عليه الصلاة والسلام.
216
(216) وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَهُوَ يَسْأَلُ عَنْ سَحَابَةٍ عَرَضَتْ:
«كَيْفَ تَرَوْنَ قَوَاعِدَهَا وَبَوَاسِقَهَا؟ وَكَيْفَ تَرَوْنَ رَحَاهَا؟» (7) فِي حَدِيثٍ طَوِيلٍ.
__________
(1) العين 3: 346، الصحاح 6: 2233، شأتك: سبقتك، قعين: حيّ مشتق منه، غثّها: مهزولها، وأنت السه السفلى: أنت فيهم بمنزلة الاست من الناس.
(2) الوكاء: رباط القربة والوعاء والكيس والصرّة ونحوها. أقرب الموارد 2: 1483مادّة (وك ي).
(3) أي رمى بما فيه. أقرب الموارد 1: 333مادّة (د س ع).
(4) أي جمعت واغلقت.
(5) في الأصل: ذكر.
(6) المقتضب 1: 34، 233.
(7) غريب الحديث للهروي 3: 104، الفائق 3: 212، معاني الأخبار 320، الاختصاص: 187، كنز العمّال 6: 174/ 15247.(1/259)
وفي هذا الكلام استعارات ثلاث:
فإنّه عليه الصلاة والسلام شبّه اصولها ومناشئها وطوالعها ومبادئها، بقواعد البيت التي هي أصل بنائه، وأوّل إنشائه.
وشبّه فروعها المستطيلة إلى أوساط السماء وأعاليها البعيدة عن الآفاق، بفروع الشجرة الباسقة التي هي ملتفّ أوراقها، ومزدحم أفنانها، ويقال: «بسقت الشجرة والنخلة تبسقان بسوقا» إذا طالتا، وكلّ طويل باسق، وفي التنزيل: {وَالنَّخْلَ بََاسِقََاتٍ لَهََا طَلْعٌ نَضِيدٌ} (1).
وشبّه مستدارها في السماء عند استوائها، بالرحا المستديرة على قطبها، ومن ذلك قيل: «رحا الحرب» وهو الموضع الذي يستدار فيه للمعاركة والجلاد، والتفاف الرّجال بالرّجال.
وَمِنْهُ قَوْلُ سُلَيْمَانَ بْنِ صُرَدٍ الْخُزَاعِيِّ فِي حَدِيثٍ لَهُ: «أَتَيْتُ عَلِيّاً عَلَيْهِ السَّلَامُ حِينَ رَفَعَ يَدَهُ عَنْ مَرْحَى الْجَمَلِ»
(2) يريد عن مجثم تلك الحرب بالمكان المخصوص الذي دارت به رحاها، وبلغت فيه منتهاها.
وعلى ذلك قول الكميت بن زيد يصف السحاب:
كأنّما الزّجر والصّهيل به مر ... حى مراس الحروب ذو اللّجب (3)
يريد بالزجر والصهيل: حفيف ودقه (4)، وأزيز (5) رعده.
__________
(1) ق (50): 10.
(2) غريب الحديث 2: 152.
(3) ديوان الكميت 1: 115، مراس الحروب: مزاولتها ومحارستها، اللجب: كثرة أصوات الأبطال.
(4) أي صوت مطره.
(5) أي صوت.(1/260)
ويحتمل قولهم: «رحا الحرب» وجهين:
أحدهما: أن يريدوا به اللبث والاستقرار.
والآخر: أن يريدوا به الجولان والمدار.
وقد يجوز أن يكون قوله عليه الصلاة والسلام في السحابة: «كيف ترون رحاها؟» يريد به صوت رعدها، كما سألهم عن لمع برقها، وكثيرا ما تشبّه أصوات الرعد القاصفة بقعقعة أصوات الأرحاء الدائرة، ولا يمتنع أن يعبّر عمّا تسمعه الاذن بعبارة ما تشاهده العين، كما يقول القائل لغيره إذا سأله عن سماع الغناء المطرب والحداء المعجب: «كيف ترى هذا الغناء؟ وكيف ترى هذا الحداء؟» وذلك شائع عند أهل اللسان.
217
(217) وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «كُلُّكُمْ بَنُو آدَمَ طَفُّ الصَّاعِ لَمْ تَمْلَؤُوهُ، وَلَيْسَ لِأَحَدٍ عَلَى أَحَدٍ فَضْلٌ إِلَّا بِالتَّقْوَى»
(1) في حديث طويل.
فقوله عليه الصلاة والسلام: «طفّ الصّاع» هاهنا استعارة، والمراد أنّ كلّ من كان من ولد آدم عليه الصلاة والسلام فهو ناقص، لا يوصف بالتمام، ولا يعطى مزيد الكمال، وإنّما يتفاضل الناس بأعمالهم، ويفضلون بكثرة فضائلهم، وإنّما يوصف الإنسان بأنّه فاضل إذا اضيف إلى الناقص، وإلّا فلا بدّ من نقائص تتخلّل فضائله، ومساو تتوسّط محاسنه إمّا بأن يكون فاضلا في حال، وناقصا في حال، وإمّا بأن يكون قاصرا عمّا فوقه، وزائدا على من دونه.
__________
(1) مسند أحمد 4: 145، 158، غريب الحديث للهروي 3: 106، الدرّ المنثور 6: 98.(1/261)
وقوله عليه الصلاة والسلام: «طفّ الصّاع لم تملؤوه» من العبارات العجيبة عن هذا المعنى، يريد أنّ كلّكم قاصر عن غاية الكمال تشبيها بطفّ المكيال: وهو أن يقارب الامتلاء من غير أن يمتلىء، يقال: «طفّ المكيال وطفافه» إذا اريد به هذا المعنى، وهو ضدّ «الطلاع» و «الطفاح» لأنّ هاتين اللفظتين يعبّر بهما عن بلوغ غاية الامتلاء، واللفظة الأولى يعبّر بها عن الوقوف دون حدّ الامتلاء، ويقال: «إناء طفّان» إذا بلغ الماء أكثره ولم يبلغ غايته.
ولو قال عليه الصلاة والسلام: «أنتم بنو آدم كطفّ الصاع» خرج الكلام عن أن يكون مستعارا لأنّ دخول كاف التشبيه في الكلام يخرجه عن باب المجاز، مثل قوله عليه الصلاة والسلام في حديث: «خرجت حين بزغ القمر كأنّه فلق جفنة (1)» (2)، ومثل
قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي حَدِيثٍ: «فَإِنَّ السَّاعَةَ كَالْحَامِلِ الْمُتِمِّ الَّتِي لَا يَدْرِي أَهْلُهَا مَتَى تَفْجَؤُهُمْ بِوَلَادِهَا لَيْلًا أَوْ نَهَاراً»
(3)، ولو قال: «والقمر فلق جفنة» و «الساعة حامل متمّ» كان الكلام من حيّز الاستعارة.
ومن هذا القبيل
قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «الْمُؤْمِنُونَ كَالْبُنْيَانِ يَشُدُّ
__________
(1) الجفنة: أعظم ما تكون من القصاع، وفلق الجفنة: نصفها. لسان العرب 2: 310، مادّة (ج ف ن).
و10: 320، مادّة (ف ل ق).
(2) مسند أحمد 1: 101، مجمع الزّوائد 3: 174، كنز العمّال 8: 634/ 24488.
(3) مسند أحمد 1: 375، مستدرك الحاكم 2: 384و 4: 546، كنز العمّال 14: 193/ 38339، الدّرّ المنثور 4: 152.(1/262)
بَعْضُهُ بَعْضاً»
(1) لو قال: «بنيان» لكان من قبيل المجاز.
ومثله أيضا
قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِقَوْمٍ كَانُوا يَرْفَعُونَ أَيْدِيَهُمْ فِي الصَّلَاةِ: «مَا لِي أَرَاهُمْ يَرْفَعُونَ أَيْدِيَهُمْ كَأَنَّهَا أَذْنَابُ خَيْلٍ شُمُسٍ (2)»
(3)، ولو قال: «أيديهم أذناب خيل شمس» لكان الكلام مستعارا، ولذلك نظائر كثيرة يطول بذكرها الكتاب.
ولم يرض عليه الصلاة والسلام بقوله: «طفّ الصّاع» في إرادة الغرض الذي تكلّمنا عليه في الخبر حتّى قال: «لم تملؤوه» فزاد المعنى إيضاحا، والكلام إفصاحا.
وفي ضمن هذا القول نهي عن الافتخار على الناس إلّا بالفضائل الدينية، دون الفضائل الدنياوية، وهو معنى
قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ:
«لَيْسَ لِأَحَدٍ عَلَى أَحَدٍ فَضْلٌ إِلَّا بِالتَّقْوَى»
لأنّ فضائل الدين وصل يتوصّل بها إلى النعيم الباقي، والدرج العوالي، وفضائل الدنيا لا تعدو غايتها، ولا توصل إلى ما بعدها، فهي كالغرس الذي لا يثمر، والزاد الذي لا يبلغ.
218
(218) وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «اللَّهُمَّ إِنَّا نَعُوذُ بِكَ مِنَ الْأَيْهَمَيْنِ»
(4).
__________
(1) سنن النسائي 5: 79، مسند أحمد 4: 404، صحيح البخاري 1: 123، صحيح مسلم 8: 20، سنن الترمذي 3: 218/ 1993، السنن الكبرى 6: 94، مجمع الزوائد 8: 87، كنز العمّال: 1: 141/ 674.
(2) الشّمس: جمع شموس، وهو النّفور من الدوابّ الذي لا يستقرّ لشغبه وحدّته. لسان العرب 7: 194، مادّة (ش م س).
(3) سنن النسائي 3: 5، مسند أحمد 5: 101، صحيح مسلم 2: 29، سنن أبي داود: 1: 226/ 1000، السنن الكبرى 2: 173، كنز العمّال 7: 482/ 19883، المعتبر 2: 157.
(4) النهاية في غريب الحديث 5: 303، لسان العرب 12: 649.(1/263)
قيل: «إنّهما السيل والحريق» وقيل: «بل هما السيل والجمل الصؤول (1)» وتسمية كلّ واحد من هذه الثلاثة بالأيهم مجاز وذلك أنّ الأيهم هاهنا اسم للشيء لا يملك دفعه، ولا يستطاع ردّه، ولا له نطق فيكلّم، ولا سمع فيهجهج (2)، ولا معقول فيستعتب، ومن ذلك قيل للفلاة:
«يهماء» إذا كانت عمياء المسالك لا يهتدى بآياتها، ولا يستدلّ بأعلامها.
وقال الأعشى:
ويهماء باللّيل غطشى الفلاة ... يؤنسني صوت فيّادها (3)
و «الفيّاد» اسم طائر، وقيل: إنّه ذكر البوم».
ومثل تسميتهم الشيء «أيهم» إذا كان على الصفة التي ذكرناها، ما أنشدنا شيخنا أبو الفتح عثمان بن جنّي النحوي رحمه الله وأظنّه من أبيات «الكتاب»:
وداهية يتّقيها الرّجال ... مرهوبة الحدّ لا فالها (4)
قال: «والمراد بقوله: لا فالها أي ليس لها جهة واحدة تتقى منها كما يتّقى الحيوان العادي من جهة أنيابه، أو ناحية أظفاره، بل كلّ جهاتها محذور، وكلّ نواحيها مخوف».
__________
(1) وهو الذي يأكل راعيه، ويواثب الناس فيأكلهم، أو هو الذي يشلّ الناس ويعدو عليهم. لسان العرب 7: 444، مادّة (ص ول).
(2) أي فيصاح به ويزجر لكيفّ. لسان العرب 15: 29، مادّة (هـ ج ج).
(3) ديوان الأعشى: 73، الصحاح 3: 1013و 5: 2065، غطشى: مظلمة.
(4) كتاب سيبويه 1: 316.(1/264)
وقد روي في هذا الخبر مكان التعوّذ من الأيهمين التعوّذ من الأعميين (1)، والمعنى فيهما متقارب لأنّ «الأيهم» هو الذي لا يعلم كيف يدفع، ومن أيّ وجه يضبط، والأعمى هو الذي لا يعلم علام يرد، ولا لأيّ وجه يقصد.
219
(219) وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَظْهَرَ الْفُحْشُ وَالْبُخْلُ، وَيُخَوَّنَ الْأَمِينُ، وَيُؤْتَمَنَ الْخَائِنُ، وَتَهْلِكَ الْوُعُولُ، وَتَظْهَرَ التُّحُوتُ» (2).
قال: «الوعول»: وجوه الناس وأشرافهم، و «التّحوت» الذين كانوا تحت أقدام الناس لا يؤبه لهم، فقوله عليه الصلاة والسلام: «الوعول» و «التحوت» مجازان على التفسير الذي ذكره عليه الصلاة والسلام لأنّه شبّه عليه الصلاة والسلام الناس وجلّتهم بالوعول لأنّها (3) تعلو قلل الجبال، وتكون في شعف (4) الهضاب، فهي أبدا عالية المنازل، بعيدة عن المتناول. وقوله: «التحوت» وهو جمع تحت يريد به الخاملين المغمورين، والقليلين الذليلين لأنّهم الطبقة السفلى من الناس، وهم الذين نزلوا عن غايات العلية، وقعدوا بمهابط الذلّة، فكأنّهم تحت أجلّة الناس وأشرافهم، والأشراف والوجوه فوق لهم.
__________
(1) مجمع الزوائد 10: 144، كنز العمّال 2: 183/ 3649، وفي كليهما روي عن عائشة بنت قدامة.
(2) مسند أحمد 2: 162، 199، الدرّ المنثور 6: 51، نثر الدر 1: 208، مستدرك الحاكم 4: 547، مجمع الزوائد 7: 324، كنز العمّال 14: 242/ 38566.
(3) أي الوعول التي هي جمع وعل، وهي الشاة الجبلية. راجع أقرب الموارد 2: 1468، مادّة (وع ل).
(4) الشعف: جمع شعفة، وهي أعلى كلّ شيء. لسان العرب 7: 139، مادّة (ش ع ف).(1/265)
وتفسيره عليه الصلاة والسلام «التحوت»: «بأنّهم الذين كانوا تحت أقدام الناس لا يعلم بهم «مجاز آخر، وليس المراد أنّهم كانوا تحت مواطىء الأقدام على الحقيقة، وإنّما المراد أنّهم كانوا من خمول الذكر، وغموض القدر بحيث يشبّهون بالشيء الموطوء لذلّته، والمنبوذ لبذلته.
220
(220) وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي الْكِتَابِ الَّذِي كَتَبَهُ لِصَاحِبِ دُومَةَ وَهُوَ الْمَعْرُوفُ بِأُكَيْدِرِ مُنْصَرَفَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مِنْ غَزْوَةِ تَبُوكَ:
«إِنَّ لَنَا الضَّاحِيَةَ مِنَ الْبَعْلِ، وَلَكُمُ الضَّامِنَةَ مِنَ النَّخْلِ» (1).
وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى: «إِنَّ لَنَا الضَّاحِيَةَ مِنَ الضَّحْلِ، وَلَكُمُ الضَّامِنَةَ مِنَ النَّخْلِ» (2).
و «الضحل»: الماء القليل، والرواية الاولى أصحّ، و «الضاحية من البعل»: هي النخيل التي في ضواحي البلدة وصحاريها، و «البعل»:
اسم لما شرب الماء بعروقه من الأرض ولم يتعهّد كغيره بالسقي، قال عبد الله بن رواحة:
هنالك لا أبالي طلع بعل ... ولا سقيء وإن عظم الإتاء (3)
ويروى: «نخل بعل».
وقوله عليه الصلاة والسلام: «ولكم الضّامنة من النّخل» مجاز، والمراد ب «الضامنة» هاهنا ما تضمّنته القرى والأمصار من النخل،
__________
(1) نثر الدر 1: 209، 211، غريب الحديث للهروي 1: 434، النهاية في غريب الحديث 3: 77.
(2) النهاية في غريب الحديث 3: 76، الإقاء ما يقع في النهر من خشب أو ورق. لسان العرب 1: 66، مادّة (أت ي).
(3) البداية والنهاية 4: 278.(1/266)
فسمّاها عليه الصلاة والسلام «ضامنة»، وهي في الحقيقة مضمونة، وهذا موضع المجاز. ومثل ذلك قول الشاعر:
ومحترش ضبّ العداوة منهم ... بحلو الخلا حرش الضّباب الخوادع (1)
فجعل الضباب خوادع، وهي في الحقيقة مخدوعة لأنّها تخدع بضروب من الحيلة حتّى تخرج من مجاحرها (2)، وتستذلق (3) من مكامنها. و «الخلا» مقصورا: اسم من أسماء الحشيش، وهو أيضا إسم لحسن الكلام، وهو المراد في هذا المكان، يقال: إنّه يحسن الخلا» إذا كان حسن الكلام.
221
(221) وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي حَدِيثٍ: «وَاسْتَذْكِرُوا الْقُرْآنَ فَلَهُوَ أَشَدُّ تَفَصِّياً مِنْ صُدُورِ الرِّجَالِ مِنَ النِّعَمِ مِنْ عَقْلِهَا» (4). كَذَا رَوَاهُ أَبُو عُبَيْدٍ.
وَرَوَاهُ أَبُو عُبَيْدَةَ: «حَادِثُوا الْقُرْآنَ بِالدَّرْسِ فَلَهُوَ أَشَدُّ تَفَصِّياً مِنْ
__________
(1) ديوان كثير: 239، محترش: صائد، الضّبّ: حيوان شبيه بفرخ التّمساح الصّغير، وذنبه كثير العقد كذنبه، الضّباب: جمع ضبّ. والمراد أنّه يذهب بالعداوة من أعدائه بحلو كلامه، الخادع كما يخدع الضّبّ بالحشيش.
(2) المجاحر: جمع جحر، وهو المكان الّذي تختفره الهوامّ والسّباع لأنفسها. أقرب الموارد 1: 103، مادّة (ج ح ر).
(3) أيّ تستخرج، يقال: ذلق الضّبّ إذا خرج من خشونة الرّمل إلى ليّن الماء. راجع أقرب الموارد 1:
732، مادّة (ذ ل ق).
(4) سنن النّسائيّ 2: 155، مسند أحمد 1: 463، سنن الدّارميّ 2: 439، صحيح البخاريّ 6: 109، السّنن الكبرى 2: 395، كنز العمّال 1: 617/ 2849.(1/267)
صُدُورِ الرِّجَالِ مِنَ الْإِبِلِ الْمُعَقَّلَةِ تَنْزِعُ إِلَى أَوْطَانِهَا» (1).
فقوله عليه الصلاة والسلام: «فلهو أشدّ تفصّيا من صدور الرّجال» مجاز، والمراد بالتفصّي الذهاب والتفلّت، قال الشاعر:
يا حفص ما ليلك ذا التّفصّي ... والأثر البيّن للمفصّ (2)
فكأنّه عليه الصلاة والسلام شبّه تفلّت القرآن وذهابه من الصدر ما لم يحادث بالتلاوة، ويتعهّد بالقراءة بتفلّت النعم المعقّلة من عقلها إذا لم يستظهر بإحكام عقلها، فأقام عليه الصلاة والسلام الاستكثار من درس القرآن في أنّه يجمع مشتّته ويضبط متفلّته، مقام الاستظهار بعقل النعم في أنّه يقصر متسرّعها، ويحبس نوازعها.
والكلام هاهنا يدلّ بمفهومه على أنّ القرآن هو المتفصّي عن الصدور، والحقيقة أنّ القلوب هي المتخلّية منه، والتاركة له، فلمّا كان الأمر كذلك جاز على طريق المجاز أن يقال: إنّ القرآن هو التارك لها، والمتفصّي منها.
(222) وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَقَدْ سُئِلَ عَنِ الْإِبِلِ، فَقَالَ: «أَعْنَانُ الشَّيَاطِينِ لَا تُقْبِلُ إِلَّا مُوَلِّيَةً، وَلَا تُدْبِرُ إِلَّا مُوَلِّيَةً، وَلَا يَأْتِي نَفْعُهَا إِلَّا مِنْ جَانِبِهَا الْأَشْأَمِ» (3).
فقوله عليه الصلاة والسلام: «أعنان الشّياطين» مجاز،
__________
(1) غريب الحديث للهروي 3: 148، أخرجه في كنز العمّال 1: 618/ 2852مع اختلاف.
(2) ديوان كثيّر: 239.
(3) غريب الحديث للهروي 3: 156، لسان العرب 9: 441، مادّة (ع ن ن)، أخرجه البرقي في محاسنه 2: 647، معاني الأخبار: 322.(1/268)
و «الأعنان»: النواحي، ومنه قولهم: «أعنان السماء» أي نواحيها، وقال بعضهم: «الصحيح أنّ عنان الشيء: نواحيه» فالأوّل قول البصريين، والثاني قول الكوفيين (1). والمراد بقوله عليه الصلاة والسلام: نواحي الشياطين على القولين جميعا المبالغة في وصف الإبل بالأخلاق السيّئة، والطباع المستعصية، فكأنّ الشياطين تختلها وتنفّرها، وتنهاها وتأمرها.
وممّا يقوّي ذلك الحديثان الآخران في نعت الإبل:
فأحدهما: قوله عليه الصلاة والسلام: «إنّ الإبل خلقت من الشّياطين» (2).
والحديث الآخر:
قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «إِنَّ عَلَى ذِرْوَةِ كُلِّ بَعِيرٍ شَيْطَاناً» (3).
وهذا أيضا مجاز لأنّه عليه الصلاة والسلام بالغ بذلك في وصف الإبل بالحران (4) والنفار، والاستصعاب واللجاج، فكأنّه لإفراط نفارها وشماسها (5)، قد امتطت الشياطين ذراها فهي تؤزّها (6) وتجوسها (7).
__________
(1) انظر: لسان العرب 9: 441، مادّة (ع ن ن).
(2) مسند أحمد 4: 85و 86، الفائق 3: 13، كنز العمّال 9: 65/ 24967.
(3) الكافي 6: 542/ 3، 543/ 9، الفقيه 2: 290/ 2484، المحاسن 2: 136636، 137سنن الدارمي 2: 286، مستدرك الحاكم 1: 444، كنز العمّال 9: 65/ 24968.
(4) أي وقوفها وعدم انقيادها. راجع أقرب الموارد 1: 185، مادّة (ح ر ن).
(5) أي شرودها وجماحها ومنعها ظهرها. راجع لسان العرب 7: 193، مادّة (ش م س).
(6) أي تزعجها وتحرّكها وتغريها. راجع لسان العرب 1: 133، مادّة (أز ز).
(7) أي تتردّد فيها وتتلبّس بها. راجع لسان العرب 2: 419، مادّة (ج وس).(1/269)
وقيل: «إنّ المراد بقوله عليه الصلاة والسلام: «لا تقبل إلّا مولّية» المثل الذي يقال فيها: «إنّها إذا أقبلت أدبرت وإذا أدبرت أدبرت، أي أنّ إقبالها إذا كان بمنزلة الإدبار، فإدبارها إذن غاية إلادبار.
وقوله عليه الصلاة والسلام: «ولا يأتي نفعها إلّا من جانبها الأشأم»، يريد أنّها لا تحلب ولا تركب إلا من جهات شمائلها، ويقال لليد الشمال:
«الشؤمى» ومنه قوله تعالى: {وَأَصْحََابُ الْمَشْئَمَةِ مََا أَصْحََابُ الْمَشْئَمَةِ} (1) يريد أصحاب الشمال، والدليل على ذلك قوله تعالى في الآية الاخرى: {وَأَصْحََابُ الشِّمََالِ مََا أَصْحََابُ الشِّمََالِ} (2)، فلمّا قال سبحانه في الآية الاولى: {فَأَصْحََابُ الْمَيْمَنَةِ} (3) قال: {وَأَصْحََابُ الْمَشْئَمَةِ}، ولمّا قال سبحانه في الآية الاخرى: {وَأَصْحََابُ الْيَمِينِ} (4)
قال: {وَأَصْحََابُ الشِّمََالِ مََا أَصْحََابُ الشِّمََالِ} والمراد في الآيتين واحد، لا أنّه سبحانه طلب المقابلة في الكلام تأليفا لأجزائه، وملاحمة بين أعضائه. ويقال للجانب الأيمن: «الإنسيّ» وللجانب الأيسر:
«الوحشيّ» هذا على قول البصريين.
وقال بعض الكوفيين: «الإنسيّ: هو الأيسر وهو الذي تأتيه الناس عند الاحتلاب والركوب، والوحشي: هو الأيمن. وإنّما سمّي وحشيّا
__________
(1) الواقعة (56): 9.
(2) الواقعة (56): 41.
(3) الواقعة (56): 8.
(4) الواقعة (56): 27.(1/270)
لأنّ الراكب والحالب لا يأتيان منه، وإنّما يأتيان من الأيسر دونه (1)، ومنه قول زهير:
فجالت على وحشيّها وكأنّها ... مسربلة من رازقيّ معضّد (2)
أراد جانبها الأيمن لأنّها إذا فزعت حاصت (3) من جانبها الإنسي الذي تخاف أن تؤتى منه وهو الشمال إلى جانبها الوحشي الذي تأمن الإتيان من ناحيته وهو اليمين، والخائف إنّما يفرّ من موضع الذّعر والمخافة إلى موضع الأمن والسلامة».
223
(223) وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «مِنْ شَرِّ مَا أُعْطِيَ الْعَبْدُ شُحٌّ هَالِعٌ، أَوْ جُبْنٌ خَالِعٌ» (4).
و «الهالع»: المخيف المفزع والاسم منه «الهلع» وهو أشدّ الجزع، وقوله عليه الصلاة والسلام: «أو جبن خالع» مجاز أي يخلع قلب الجبان، وهذا على المبالغة في وصفه بوهل الرّوع (5)، ونخب الرّوع (6)،
__________
(1) انظر: غريب الحديث للهروي 3: 158.
(2) ديوان زهير: 228، الصحاح 2: 509، مسربلة: البست سربالا الرازقي: ثوب من كتّان أبيض، المعضّد: المخطّط على شكل العقد من لابسه.
(3) أي حامت ودارت.
(4) سنن أبي داود 1: 564، السنن الكبرى 9: 170، كنز العمّال 3: 447/ 7381، الدرّ المنثور 6: 196، مسند أحمد 2: 302و 320، وفيهما: «شرّ ما في رجل».
(5) الوهل: الضعف والفزع والجبن، والرّوع: الفزع لسان العرب 5: 371، 373، مادّة (ر وع) و 15:
416، مادّة (وهـ ل). فالإضافة بمعنى «من» البيانية.
(6) النخب: الجبن، والرّوع: القلب أي جبن القلب، كأنّما نزع، من قولهم: نخبت الشيء وانتخبته إذا نزعته. راجع أساس البلاغة: 450، مادّة (ن خ ب).(1/271)
وليس يبلغ الجبن على الحقيقة إلى أن يخلع قلب الجبان من مناطه، ويزعجه عن قراره، وإنّما المراد بذلك ما يعرض في القلب عند الخوف من نوازغ الأفكار، ونوازع الحذار. وعلى ذلك قوله تعالى: {وَإِذْ زََاغَتِ الْأَبْصََارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنََاجِرَ} (1)، وقد أوضحنا الكلام على ذلك في كتاب: «مجازات القرآن» (2).
224
(224) وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «مَا مِنْ أَمِيرِ عَشْرَةٍ إِلَّا وَهُوَ يَجِيءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَغْلُولَةً يَدَاهُ إِلَى عُنُقِهِ حَتَّى يَكُونَ عَمَلُهُ الَّذِي يُطْلِقُهُ أَوْ يُوتِغُهُ» (3).
وهذه استعارة لأنّ العمل على الحقيقة لا يطلق المرء من وثاق، ولا يوثقه بعد إطلاق، وإنّما المراد أنّه يجيء مغلولة يداه إلى عنقه، فإن كان عمله صالحا أطلق الله عنه ربقة وثاقه، وإن كان عملا طالحا زاده الله خناقا إلى خناقه. وإنّما أضاف عليه الصلاة والسلام الإطلاق والإيثاق للعمل لأنّ العمل سببهما، وصلاحه وفساده مؤثّر فيهما.
وقوله: «يوتغه» المراد به: يسلمه ويهلكه، يقال: «وتغ الرجل يوتغ وتغا» إذا هلك، و «قد أوتغه غيره» إذا أهلكه، ومنه قولهم: «أوتغ فلان دينه» إذا ثلمه وأفسده. ويروى «أو يوبقه (4)، والمعنيان متقاربان.
__________
(1) الأحزاب (33): 10.
(2) مجازات القرآن: 170.
(3) سنن الدارمي 2: 240، كنز العمّال 6: 32/ 14722، السنن الكبرى 10: 95، مجمع الزوائد 5: 205 و 7: 167، مسند أحمد 5: 327مع اختلاف.
(4) مسند أحمد 2: 431و 5: 328، السنن الكبرى 3: 129، كنز العمّال 6: 1468024.(1/272)
225
(225) وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي كِتَابٍ كَتَبَهُ لِثَقِيفٍ: «وَإِنَّ مَا كَانَ لَهُمْ مِنْ دَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ فَبَلَغَ أَجَلَهُ، فَإِنَّهُ لِيَاطٌ مُبَرَّأٌ مِنَ اللَّهِ»
(1).
وهذه استعارة والمراد ب «اللياط» هاهنا الربا المضاف إلى رؤوس الأموال، كأنّه عليه الصلاة والسلام شبّهه بالشيء الملصق بالشيء والمضاف إليه، وكلّ شيء الصق بشيء فقد ليط به، ومنه «لياط الحوض» وهو ما يلصق به بعض أحجاره إلى بعض عند بنائه أو إصلاحه من طين أو ما يقوم مقامه، يقال: «قد لاط فلان حوضه» إذا رمّه وأصلحه.
وَفِي حَدِيثٍ لِأَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَعَ الْفَرَزْدَقِ: أَنَّ أَبَاهُ غَالِباً جَاءَ بِهِ إِلَيْهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَهُوَ يَلُوطُ حَوْضاً لَهُ.
وفي قوله عليه الصلاة والسلام: «مبرّأ من الله» سرّ لطيف وهو أنّه لمّا جعل الربا ملصقا إلى أموالهم على الوجه المذموم، جعله مبرّأ من الله سبحانه، فكان ذلك الإلصاق بالأموال سببا للتبرئة من الله تعالى.
والمراد: مبرّأ من رضاء أو من دين الله، أو من ثواب الله، لابدّ من تقدير واحد من هذه المضافات لأنّ الله سبحانه لا يجوز أن يتصل به شيء على الحقيقة لأنّ ذلك من صفات الأجسام المكيّفة، والأبعاض المؤلّفة، التي يجوز عليها أن تتدانى فتلتصق، وأن تتناءى فتفترق، تعالى الله عن ذلك علوّا كبيرا، وليس هذا من مواضع استقصاء الكلام على هذا المعنى.
وقد يجوز أن يكون المراد ب «اللياط» هاهنا القشر، يقال: «ليط»
و__________
(1) النهاية في غريب الحديث 4: 285.(1/273)
«لياط» قال الشاعر يصف قوسا عربية:
فملّك باللّيط الذي تحت قشرها ... كغرقيء بيض كنّه القيض من عل (1)
فقوله: «ملّك» أي شدّد بترك قشر النبعة عليها ما تحته من عودها، فقويت بانضمام القشر إليها، وذلك مأخوذ من قول القائل: «ملّكت العجين» أي أحكمت عجنه، وموضع «الذي» هاهنا نصب ب «ملّك» كأنّه قال: «فقوي بالليط عود القوس» و «الغرقىء» القشر الرقيق الذي بين جسم البيضة وبين قشرها الأعلى، والقشر الأعلى هو «القيض».
و «الليط» أيضا: الجلد، والجمع «ألياط» و «اللّيط» أيضا: كون الشيء، ذكر ذلك أبو عبيد في «الغريب المصنّف».
فيكون الربا المضاف إلى رؤوس الأموال على هذا القول مشبّها بالقشر المضاف إلى العود في أنّ العود هو القائم بنفسه، والقشر كالتبع له والمنوط به.
226
(226) وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «إِنَّ لِلشَّيْطَانِ نَشُوقاً وَلَعُوقاً وَدِسَاماً» (2).
وهذه الكلمات الثلاث محمولة على المجاز لأنّ «النّشوق» ما استنشقه الإنسان بأنفه، و «اللعوق» ما لعقه بلسانه، و «الدسام» هاهنا:
الشيء الذي يجعله سدادا لاذنه، يقال منه: «دسمت الشيء، أدسمه دسما» إذا سددته.
__________
(1) إصلاح المنطق: 267، الصحاح 4: 1610.
(2) غريب الحديث للهروي 1: 473، الفائق 3: 88.(1/274)
والمراد بهذه الكلمات قريب من المراد بالحديث الذي تقدّم كلامنا عليه في هذا الكتاب وهو استعاذته عليه الصلاة والسلام من همزات الشيطان، ونفثه، ونفخه (1)، فكأنّه عليه الصلاة والسلام شبّه ما يسوّله الشيطان للإنسان من العجب بنفسه والإزراء على غيره (2) حتّى يشمخ بأنفه (3)، وينأى بعطفه (4) بالنشوق الذي ينشقه إيّاه، فيحدث له هذا الخلق الذميم، والطبع اللئيم.
وقوّى ذلك بذكر «اللعوق» فكأنّ الشيطان يلعقه بهذا التسويل لعوقا إذا وصل إلى جوفه أحدث له خيلاء الكبر، ومدّ له في غلواء العجب (5).
وشبّه عليه الصلاة والسلام صرف الشيطان للإنسان عن مراشده وإصمامه عن سماع قول مرشده بالدسام وهو الصمّام الذي تسدّ به الاذن، فتحجب عن سماع الأصوات، وزواجر العظات.
227
(227) وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي مَرَضِهِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ: «أَغْبَطَتْ عَلَيَّ الْحُمَّى»
(6).
وهذه استعارة، وربّما قيل: «أغمطت» بالميم، قال الواقدي في هذا
__________
(1) النهاية في غريب الحديث 5: 90.
(2) أي تعنيفهم وذكر عيوبهم. راجع لسان العرب 6: 41، مادّة (ع ي ب).
(3) أي يرفع أنفه عزّا وتكبّرا. أقرب الموارد 1: 609، مادّة (ش م خ).
(4) أي يتكبّر ويعرض، والعطف: المنكب أو الإبط والمعروف: نأى بجانبه، ونظر في عطفه، وثنى عطفه، تقال للمتكبّر أو المعرض. راجع لسان العرب 9: 269، مادّة (ع ط ف) و 14: 8، مادّة (ن أي).
(5) أي سرعته وشرّبه. راجع لسان العرب 10: 114، مادّة (غ ل و).
(6) النهاية في غريب الحديث 3: 341.(1/275)
الحديث: «أصابته حمّى مغمطة بالميم (1)».
وقال الأصمعى: «أغبطت علينا السماء: إذا دام مطرها (2).
وقال أبو عبيد: «هما لغتان بالميم والباء قد سمعناهما (3)»، وهذا كقولهم: «سبّد الرجل رأسه وسمّده» إذا استأصل حلقه (4)، وأشباه ذلك كثيرة، و «أغبطت الحمّى» بالباء أكثر في كلامهم. والأصل في ذلك إلزام الرحل ظهر البعير، يقال: «أغبط فلان رحله على مطيّته» أي أطال مكثه عليها ولزامه لها. ومن ذلك قول الراجز:
إغباطنا الميس على أصلابه (5)
وقول الآخر:
وألزمته قتبا توسّطه ... فقربت فهي علينا تغبطه (6)
ومنه سمّي «الغبيط» وهو مركب من مراكب النساء، فكأنّه عليه الصلاة والسلام شبّه لزوم الحمّى له بلزوم القتب ظهر الراحلة لأنّه إذا ألزم ظهرها عقره (7)، وأكثر دبره (8)، ويقال: «قتب معقر» إذا عضّ الغارب (9)، وأدمى المناكب، فكذلك الحمّى إذا دام لبثها على الإنسان
__________
(1) غريب الحديث 1: 99.
(2) غريب الحديث 1: 99.
(3) غريب الحديث 1: 99.
(4) أي حلق شعره.
(5) خزانة الأدب 5: 395، الصحاح 3: 1146، لسان العرب 7: 361، الميس: الرحل.
(6) القتب: رحل صغير على قدر السنام.
(7) أي جرحه أقرب الموارد 2: 808، مادّة (ع ق ر).
(8) الدبرة: قرحة الدبّة أو كالجراحة تحدث من الرحل ونحوه. أقرب الموارد 1: 317، مادّة (د ب ر).
(9) الغارب ما بين العنق والسنام. المصباح المنير: 444، مادّة (غ ر ب).(1/276)
هاضت (1) متنه، وحسرت (2) قوّته.
228
(228) وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «خَيْرُ النَّاسِ فِي آخِرِ الزَّمَانِ الرَّجُلُ النُّوَمَةُ» (3).
وهذا مجاز، والمراد ب «النومة» هاهنا: الرجل الخامل الشأن، الخفيّ المكان، لا الكثير النوم على الحقيقة.
ومثله
الْحَدِيثُ الْآخَرُ: «رُبَّ ذِي طِمْرَيْنِ (4) لَا نَوْمَةَ لَهُ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لَأَبَرَّ قَسَمَهُ»
(5) لأنّ الخاشع العابد والمنقطع الزاهد، كثيرا ما يكون خامل الشخص ميّت الذكر لخفائه على النواظر، وانقطاعه عن المجامع.
ومن ذلك قولهم: «نام جدّ آل فلان» أي خمل بعد اشتهاره، وسقط بعد ارتفاعه، قال الشاعر:
نامت جدودهم وأسقط نجمهم ... والنّجم يسقط والجدود تنام
229
(229) وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «مَنْ خَالَفَ الْجَمَاعَةَ فَقَدْ خَلَعَ رِبْقَةَ الْإِسْلَامِ مِنْ عُنُقِهِ» (6).
__________
(1) أي كسرت. لسان العرب 15: 179، مادّة (هـ ي ض).
(2) أي أنضبت وأفنت. راجع أساس البلاغة: 83، مادّة (ح س ر).
(3) النهاية في غريب الحديث 5: 131، وفيه: «خير أهل ذلك الزمان كلّ مؤمن نومة».
(4) أي ثوبين خلقين. لسان العرب 8: 200، مادّة (ط م ر).
(5) النهاية في غريب الحديث 3: 138.
(6) مسند أحمد 5: 180، سنن أبي داود 2: 426، سنن الترمذي 4: 226، مستدرك الحاكم 1: 117، كنز العمّال 1: 222/ 1122، الكافي 1: 405/ 4، المبسوط 7: 263، وفيه: «من فارق الجماعة شبرا».(1/277)
وهذه استعارة، و «الرّبقة»: حبل يربط بين عودين، ثمّ تجعل فيه عرى، فتربق فيه السخال أي تربط فيه، ويقال في إبل الصدقة: «عقال عام واحد» لأنّ الإبل تعقل، وفي الغنم: «رباق واحد» لأنّ الغنم تربق، والمراد بذلك صدقة عام من الإبل أو الغنم، فشبّه عليه الصلاة والسلام ما في عنق الإنسان من لوازم الإسلام ومعاقد الإيمان، بالربقة التي في عنق السخل لأنّها تصدّه إذا همّ بالشرود، وتمسكه إذا جاذب إلى النزوع، وكذلك الإسلام يمنع صاحبه من الارتكاس في المحظورات، والتهوّك (1)
في الضلالات.
230
(230) وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي حَدِيثٍ طَوِيلٍ: «تُؤَخِّرُونَ الصَّلَاةَ إِلَى شَرَقِ الْمَوْتَى» (2).
وقد قيل في ذلك أقوال كلّها بعيدة عن المحجّة ومع ذلك فيخرج الكلام من حيّز الاستعارة غير قول واحد: «هو أن يكون المراد أنّهم يؤخّرون الصلاة إلى ألّا يبقى من النهار إلّا بقدر ما بقي من نفس الميّت الذي قد شرق بريقه (3)، وغرغر ببقية نفسه، فشبّه عليه الصلاة والسلام تلك البقيّة بشفافة الذماء (4) التي قد قرب انقضاؤها، وحان فناؤها».
__________
(1) أي التحيّر والتهوّر والوقوع في الشيء بغير مبالاة ولا رويّة. أقرب الموارد 2: 1410، مادّة (هـ وك).
(2) النهاية في غريب الحديث 2: 465، وفيه: «ستدركون أقواما يؤخّرون»، صحيح مسلم 2: 68مع اختلاف، مجمع الزوائد 7: 285مع اختلاف.
(3) أي غصّ. لسان العرب 7: 97، مادّة (ش ر ق).
(4) أي بقيّة النفسي. أقرب الموارد 1: 373، مادّة (ذ م ي).(1/278)
231
(231) وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «لَا تَرْفَعْ عَصَاكَ عَنْ أَهْلِكَ» (1).
وهذا القول مجاز على أكثر الأقوال وذلك أنّه عليه الصلاة والسلام لم يرد الضرب بالعصا على الحقيقة لأنّ ذلك مكروه عنده، ومذموم فاعله، ألا تراه عليه الصلاة والسلام يوصي امّته أن يرفقوا بمن ملكت أيمانهم حنوّا عليهم، ورأفة بهم، ونظرا إليهم، فكيف بالأحرار من الأهل والولد الذين حقّهم أوجب، والحنوّ عليهم أولى؟! وإنّما المراد: لا ترفع التأديب عنهم، ولا تغب التقويم لهم، فكنّى عن ذلك ب «العصا» حملا للكلام على عرف العرب لأنّ المتعارف بينها على أنّ التأديب في الأكثر لا يكون إلّا بقرع العصا.
وقد يجوز أن يكون المراد بذلك الاجتماع والائتلاف، من قولهم:
«فلان قد شقّ عصا المسلمين» إذا فرّق، جماعتهم وبدّد الفتهم. ومنه قول صلة بن أشيم لأبي السليل: «إيّاك وقتيل العصا (2)»، يقول: إيّاك أن تكون قاتلا أو مقتولا في شقّ عصا المسلمين.
ومنه قول جرير:
فلمّا التقى الحيّان القيت العصا ... ومات الهوى لمّا أصيبت مقاتله (3)
يقول: لمّا التقى الحيّان وقع الائتلاف والدنوّ، وزال التمنّع والنبوّ.
__________
(1) غريب الحديث للهروي 1: 205، الفائق 2: 156، كنز العمّال 16: 95/ 44050، معجم مقاييس اللغة 1: 335، نثر الدر 1: 201، مجمع الزوائد 4: 216، وفيه: «لا تضع».
(2) غريب الحديث لابن الجوزي 2: 102، الفائق 2: 440.
(3) ديوان جرير: 384، أمالي المرتضى 3: 155، المقاتل: جمع مقتل، وهو الموضع الذي إذا اصيب لا يكاد يسلم صاحبه، كالصدغ.(1/279)
فكأنّه عليه الصلاة والسلام أراد بقوله: «لا ترفع عصاك عن أهلك» أي احملهم أبدا على الصلاح والائتلاف، وامنعهم من الفساد والخلاف.
ويقال للرجل إذا كان رقيق السيرة جميل الإيالة (1): «إنّه لليّن العصا» قال معن بن أوس المزني:
عليه شريب وادع ليّن العصا ... يساجلها جمّاته وتساجله (2)
وقد تكلّمنا على نظير هذا الحديث فيما تقدّم.
232
(232) وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِبَعْضِ أَصْحَابِهِ: «كَيْفَ تَصْنَعُ فِي فِتَنٍ تَنْجُمُ مِنْ أَطْرَافِ الْأَرْضِ كَأَنَّهَا صَيَاصِي بَقَرٍ» (3).
وفي هذا الكلام مجاز على بعض الأقوال: وهو أن يكون المراد تشبيه الفتن الناجمة من أطراف الأرض بنجوم صياصي البقر وهي قرونها، وإنّما سمّيت «صياصي» تشبيها لها بالصياصي التي هي الحصون، فكأنّها تحتمي بقرونها كما تحتمي الرجال بحصونها، فأراد عليه الصلاة والسلام أنّ الفتن تنجم صغارا، ثمّ تعظم وتبدو سحيلا (4)، ثمّ تبرم كنجوم
__________
(1) أي السياسة. أقرب الموارد 1: 24مادّة (أول).
(2) الصحاح 6: 2429، عليه: أي على الحوض، الشريب: صاحبك الذي يورد إبله على الحوض معك، يساجلها: يسقي إبله، جمّاته: معظم مائه، وتساجله: تشرب الماء، وقد جعل شربها للماء مساجلة، وأصلها أن يستسقي ساقيان فيخرج كلّ منهما في سمله أي الدلو الضخمة مثل ما يخرج الآخر من الماء، فأيّهما نكل فقد غلب.
(3) مجمع الزوائد 7: 225النهاية في غريب الحديث 3: 67، وفيه: أنّه ذكر فتنة تكون في أقطار الأرض كأنّها صياصي البقر، مسند أحمد 4: 109مع اختلاف.
(4) السحيل: الحبل المبرم على طاق، والمرير: المبرم على طاقين. ومراد من السحيل الفتنة قبل اختلاطها بالفتن الأخرى.(1/280)
قرون البقر لأنّها تبدو هنات (1) ضئيلات، ثمّ تكون شككا ناكيات (2).
وقد يجوز أن يكون المراد بتشبيه الفتن هاهنا بقرون البقر، المبالغة في وصفها بالحدّة والشدّة، وكثرة العديد والعدّة.
وقد يجوز أيضا أن يكون تشبيها بقرون البقر لكثرة ما يشرع فيها من الأسنّة (3)، ألا ترى إلى قول بعض العرب: «الأسنّة قرون الخيل» لأنّها توضع منها مكان القرون من ذوات القرون، وصدم الخيل بعواليها كنطح البقر بصياصيها.
وليس موضع المجاز من هذا الكلام قوله عليه الصلاة والسلام:
«كأنّها صياصي بقر» لأنّا قد ذكرنا فيما تقدّم: أنّ دخول كاف التشبيه في الكلام يخرجه من باب المجاز، ولكنّ الموضع الذي يكون فيه هذا القول من حيّز المجازات، قوله عليه الصلاة والسلام: «في فتن تنجم من أطراف الأرض» فجعلها بمنزلة النبات الذي يكون خافيا فيظهر، والقرون الناشئة التي تكون صغارا فتكبر.
233
(233) وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي حَدِيثٍ يَذْكُرُ فِيهِ أَشْرَاطَ السَّاعَةِ (4): «فَعِنْدَ ذَلِكَ تَقِيءُ الْأَرْضُ أَفْلَاذَ كَبِدِهَا» (5).
__________
(1) الهنات: جمع هنة، يكنى بها عن كلّ اسم جنس، ومعناها شيء، ولا تستعمل الهنات إلّا في الشرّ.
أقرب الموارد 2: 1407، مادّة (هـ ن و).
(2) الشكك: جمع شكّة، وهي السلاح، ناكيات: جارحات قاتلات. راجع أقرب الموارد 1: 606، مادّة (ش ك ك).
(3) وذلك في الجاهلية، حيث كانوا يتخذون رماحا أسنّتها من قرون البقر الوحشي، ويطلق على القرن الذي يطعن به إسم المئلّ. راجع لسان العرب 1: 185، مادّة (أل ل).
(4) أي علاماتها. المصباح المنير: 309، مادّة (ش ر ط).
(5) صحيح مسلم 3: 84، سنن الترمذي 3: 334/ 2306، الدرّ المنثور 6: 380، أمالي المرتضى 1: 65.(1/281)
وهذه من الاستعارات العجيبة لأنّه عليه الصلاة والسلام شبّه الكنوز التي استودعتها بطون الأرض بأفلاذ الكبد وهي شعبها وقطعها لأنّ شعب الكبد من شرائف الأعضاء الرئيسية، فكذلك الكنوز من جواهر الأرض النفيسة، ولمّا شبّهها عليه الصلاة والسلام بأفلاذ الكبد من الوجه الذي ذكرناه، جعل الأرض عند إخراجها كأنّها تقيّأت ودسعت (1) بما استودعته منها.
وفي قوله عليه الصلاة والسلام: «تَقِيءُ الْأَرْضُ أَفْلَاذَ كَبِدِهَا» زيادة فائدة في المعنى المراد وهو وصف الأرض بالمبالغة في إخراج كنوزها حتّى لا يخفى منها خافية، ولا يبقى باقية، وذلك كما يقول القائل: «قد تقيّأ فلان كبده» إذا أراد المبالغة في وصفه باستيعاب جميع ما في جوفه. وذلك معروف في كلامهم، وموضوع على قاعدة العرف بينهم.
234
(234) وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي حَدِيثٍ: «مَنْ قَالَ كَذَا وَكَذَا «غُفِرَ لَهُ وَلَوْ كَانَ عَلَيْهِ طِفَاحُ الْأَرْضِ ذُنُوباً» (2).
وهذه استعارة، والمراد: ولو كان عليه ملء الأرض ذنوبا، فجعل الأرض كالإناء الذي طفح ماؤه، وبلغ الغاية امتلاؤه.
وفي قوله عليه الصلاة والسلام: «طفاح الأرض» زيادة معنى على قوله: «ملء الأرض» أو «طلاع الأرض» لأنّ «الطلاع» و «الملء»
__________
(1) أي قاءت ملء الفم. أقرب الموارد 1: 333، مادّة (د س ع).
(2) النهاية في غريب الحديث 3: 128، وفيه: «وإن كان».(1/282)
يفيدان بلوغ الحدّ في الامتلاء، و «الطفاح» يفيد مجاوزة الحدّ في الامتلاء، وقد مضى الكلام على هذا المعنى فيما تقدّم من هذا الكتاب.
235
(235) وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «إِنَّ الْقُرْآنَ شَافِعٌ مُشَفَّعٌ، وَمَاحِلٌ مُصَدَّقٌ» (1).
وهذا القول مجاز، والمراد أنّ القرآن سبب لثواب العامل به، وعقاب العادل عنه، فكأنّه يشفع للأوّل فيشفّع، ويشكو من الآخر فيصدّق، و «الماحل» هاهنا: الشاكي، وقد يكون أيضا بمعنى الماكر، يقال: «محل فلان بفلان» إذا مكر به، قال الشاعر:
ألا ترى أنّ هذا النّاس قد نصحوا ... لنا على طول ما غشّوا وما محلوا (2)
236
(236) وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «لَا يَكُونُوا مُغَوَّيَاتٍ لِمَالِ اللَّهِ» (3).
وهذه استعارة، و «المغوَّاة» في الأصل: زُبية تحفر للسباع والذئاب، ويموّه رأسها ليخفى قعرها، ويجعل فيها سخل يستدعى به السباع والذئاب إليها، فتكون مهلكة له إذا وقع فيها، فأراد عليه الصلاة والسلام بهذا القول: لا يكونوا كالمهالك لمال الله بأن يأخذوها بالمكر والخداع، وينفقوها في الفسوق والضلال، فيكونوا لها كالمغوَّيات التي تخدع ظواهرها، وتهلك بواطنها، وقال رؤبة بن العجّاج يعني الدهر:
__________
(1) تفسير نور الثقلين 1: 720/ 92تفسير العيّاشي 1: 2/ 1مجمع الزوائد 7: 164، كنز العمّال 1:
516/ 2306، الدرّ المنثور 3: 56.
(2) لم أعثر له على مصدر.
(3) غريب الحديث 3: 324، المحيط في اللغة 1: 557، في نسخة ب: «لا تكونوا».(1/283)
إلى مغوّاة الفتى بالمرصاد (1)
كأنّه قال: يسوق الفتى إلى مهلكته تشبيها بالزّبية التي ذكرنا حالها، ووصفنا الحيلة فيها.
237
(237) وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «إِيَّاكُمْ وَالْمُغْمِضَاتِ مِنَ الذُّنُوبِ» (2).
وهذه استعارة، والمراد ب «المغمضات» هاهنا على ما فسّره الثقات من العلماء الذنوب العظام يركبها الرجل وهو يعرفها، فكأنّه يغمض عينيه تعاشيا عنها وهو يبصرها، ويتناكرها اعتمادا وهو يعرفها، ومثل ذلك قول أبي النجم يصف ناقة:
يرسلها التّغميض إن لم ترسل (3)
وذلك أنّ الناقة إذا غشيت الحوض الذي تذاد عنه، حملتها شدّة العطش على الاقتحام عليه، فغمضت عينها، وحملت على عصيّ الذادة (4) حتّى ترده.
وربّما روي هذا الخبر بفتح الميم من «المغمضات» فيكون المراد به على هذا الوجه ضدّ المراد به على الوجه الأوّل لأنّ «المغمضات» بالكسر كما قلنا: الذنوب العظام، و «المغمضات» بالفتح: الذنوب الصغار، وإنّما سمّيت «مغمضات» لأنّها تدقّ وتخفى، فيركبها الإنسان
__________
(1) ديوان رؤبة: 49، الفائق 3: 80.
(2) النهاية في غريب الحديث 3: 387.
(3) الصحاح 3: 1096.
(4) الذادة: جمع ذائد، والمراد به هنا المحامي عن حوض الماء بعصاه.(1/284)
بضرب من الشبهة ولا يعلم أنّه عاص بفعلها، ولا معاقب من أجلها.
238
(238) وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَقَدْ أَتَاهُ رَجُلٌ فَقَالَ: «السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا نَبِيَّ اللَّهِ، فَقَالَ: «وَعَلَيْكَ وَرَحْمَةُ اللَّهِ» ثُمَّ أَتَاهُ رَجُلٌ آخَرُ، فَقَالَ: «السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا نَبِيَّ اللَّهِ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ، فَقَالَ: «وَعَلَيْكَ» فَقِيلَ لَهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ لِمَ لَمْ تَقُلْ لِهَذَا كَمَا قُلْتَ لِلَّذِي قَبْلُ؟ فَقَالَ: «إِنَّهُ تَشَافَّهَا» (1).
فقوله عليه الصلاة والسلام: «إنّه تشافّها» استعارة، والمراد استفرغ جميع التحيّة فلم يدع منها شيئا يزاد على لفظه، ويردّ عليه جوابا عن قوله، والأوّلان أبقيا من تحيّتهما بقيّة ردّت عليهما، واعيدت إليهما.
وأصل ذلك مأخوذ من «التشافّ» (2) وهو تتبّع بقيّة الإناء والحوض حتّى يستنفذ جميع ما فيه، وتلك البقيّة تسمّى «الشفافة» قال الشاعر:
أخو قفرات دبّبت في عظامه ... شفافات أعجاز الكري فهو أخضع (3)
يريد بقايا الكرى وصباباته (4)، ودليل ذلك قوله: «أعجاز الكرى» أي أواخره وعقابيله.
ومن أمثال العرب: «ليس الرّي عن التشافّ» يقولون: ليس يروي العطشان تتبّع بقيّة الماء حتّى يستفرغ جميع ما في الإناء.
239
(239) وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «سَيِّدُ الْأَيَّامِ يَوْمُ الْجُمُعَةِ»
(5).
__________
(1) النهاية في غريب الحديث 2: 486.
(2) جمهرة الأمثال 2: 190.
(3) ديوان ذي الرمّة 2: 524، دبّبت: سرت شفافات الكرى رويدا وبخفية، الكرى: النعاس.
(4) أي بقيّته.
(5) المقنعة: 153، مصباح المتهجّد: 261، الكافي 3: 414/ 5، التهذيب 3: 2/ 2، الخصال: 316/ 97، روضة الواعظين: 331سنن ابن ماجة 1: 344/ 1084، مجمع الزوائد 2: 163، كنز العمّال 7:
21069716، الدرّ المنثور 6: 216.(1/285)
وهذا القول مجاز، والمراد أنّ ليوم الجمعة شرفا ونباهة يبين بهما من سائر الأيّام، فيكون مقدّما لها وعاليا عليها لما يختصّ به من صلاة الجماعة التي ينشر ذكرها، ويعظم أجرها كما يتقدّم السيّد على من دونه بعلوّ القدر، ونباهة الذكر.
240
(240) وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «تَزَوَّجُوا الشَّوَابَّ فَإِنَّهُنَّ أَغَرُّ أَخْلَاقاً» (1).
وفي هذا الكلام مجاز لأنّ وصف الخلق بأنّه أغرّ إنّما يراد بياضه، والبياض هاهنا عبارة عن الحسن، كما أنّ السواد في قولهم: «فلان أسود الخلق» عبارة عن القبح، فكأنّه عليه الصلاة والسلام قال: «فإنّهن أحسن خلقا، كما أنّ الغرّ من الخيل (2) أحسن خلقا».
241
(241) وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَقَدْ سَمِعَ نَاساً مِنْ أَصْحَابِهِ يَتَذَاكَرُونَ الْقَضَاءَ وَالْقَدَرَ: «إِنَّكُمْ قَدْ أَخَذْتُمْ فِي شِعْبَيْنِ (3) بَعِيدَيِ الْغَوْرِ»
(4).
وهذا القول مجاز لأنّه عليه الصلاة والسلام شبّه القضاء والقدر وحقيقة علمهما ومعرفة كنههما، بالشعبين اللذين غورهما بعيد، واقتحامهما شديد، وطالب غايتهما مجهود، يقول عليه الصلاة والسلام:
__________
(1) نثر الدر 1: 290/ 253، النهاية في غريب الحديث 3: 354.
(2) وهو الذي في جبهته بياض فوق الدرهم. المصباح المنير: 445، مادّة (غ ر ر).
(3) الشّعب: مسيل الماء في بطن من الأرض، له جرفان مشرفان، وعرضه بطحة رجل. لسان العرب 7:
128، مادّة (ش ع ب).
(4) النهاية في غريب الحديث 3: 393، كنز العمّال 1: 358/ 1589.(1/286)
«إنّ علمهما لا يدرك، كالماء الغائر الذي لا يقدر عليه، ولا يهتدى إليه».
242
(242) وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي حَدِيثٍ طَوِيلٍ: «ثُمَّ يَكُونُ مَلِكٌ عِضٌّ يَسْتَحِلُّ الْفَرْجَ وَالْحَرِيرَ» (1).
وفي هذا الكلام مجازان:
أحدهما: قوله عليه الصلاة والسلام: «ملك عضّ» و «العضّ» في الأصل: هو الرجل الداهية المنكر. وربّما سمّي أيضا بذلك الرجل السيّء الخلق المتكبّر، قال حسّان بن ثابت:
وصلت به ركني وخالط شيمتي ... ولم أك عضّا في النّدامى ملوّما (2)
فكأنّه عليه الصلاة والسلام شبّه الملك الذي أومأ إليه في السطوة والقسوة والطماح (3) والنزوة (4)، بذي الدهاء والنكر، أو بذي الشموخ والكبر.
والمجاز الآخر: قوله عليه الصلاة والسلام: «يستحلّ الفرج والحرير» وإنّما أراد أنّ أهله يستحلّون ذلك، فحسنت إضافته إلى الملك لمّا كان الاستحلال واقعا في الملك، ونظائر ذلك كثيرة.
وَقَدْ جَاءَ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى لِهَذَا الْخَبَرِ: «ثُمَّ يَكُونُ مَلِكٌ عَاضٌّ»
وهذه أيضا استعارة، وذلك كقول القائل: «قد عضّني الدهر» إذا أثّرت فيه
__________
(1) نثر الدر 1: 230، نهج الحقّ: 316مع اختلاف.
(2) ديوان حسّان بن ثابت: 219، الشيمة: الخلق والعادة، النّدامى: جمع النّدام، وهو جمع النديم، وهو الذي يرافقك ويشاربك.
(3) أي الكبر والفخر لارتفاع صاحبه. لسان العرب 8: 198مادّة (ط م ح).
(4) الطماح والكبر. راجع لسان العرب 14: 115، مادّة (ن ز و).(1/287)
نوائبه، واشتدّت عليه مصائبه، فوصف هذا الملك بالعضاض لتأثيره في الناس بوقائع الغشم، وقوارع الظلم، وقد جاء في أشعارهم من ذكر عضّ الزمان وعضّ الأيّام ما هو أشهر من أن يتكلّف التنبيه عليه، والإيماء إليه.
243
(243) وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «الصَّوْمُ جُنَّةٌ مَا لَمْ يَخْرِقْهَا» (1).
وهذه استعارة وذلك أنّه عليه الصلاة والسلام شبّه الصوم بالجنّة التي يلبسها الإنسان في الحرب، فتقيه مضارب الصفاح (2)، والهاذم (3)
الرماح، فكذاك الصوم الذي يجنّ صاحبه من لواذع (4) العذاب، وقوارع العقاب إذا أخلص له النيّة، وأصلح فيه السريرة، فجعل عليه الصلاة والسلام من اعتصم في صومه من الزّلل وتوقّى جرائر القول والعمل، كمن صان تلك الجنّة وحفظها، وجعل من أتبع نفسه هواها وأوردها رداها، كمن خرق تلك الجنّة وهتكها، فصارت بحيث لا تجنّ من جارحة، ولا تعصم من جانحة، وذلك من أحسن التمثيلات، وأوقع التشبيهات.
244
(244) وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «إِنَّ الْمُسْلِمَ إِذَا تَوَضَّأَ ثُمَّ صَلَّى
__________
(1) سنن النّسائيّ 4: 167و 168، وفيه: «الصّيام»، مسند أحمد 1: 195و 196، سنن الدّارميّ 2: 15، مستدرك الحاكم 3: 265، السّنن الكبرى 3: 374، مجمع الزّوائد 2: 300، كنز العمّال 15:
902/ 43553.
(2) الصفاح: جمع صفح، وهو عرض السّيف، وهو خلاف الطّول. راجع المصباح المنير: 342، مادّة (ص ف ح).
(3) اللهاذم: جمع لهذم، وهو هنا الحادّ القاطع. راجع أقرب الموارد 2: 1165، مادّة (ل هـ ذ م).
(4) اللواذع: جمع لازعة، وهي اللافحة المحرقة. راجع أقرب الموارد 2: 1138، مادّة (ل ذ ع).(1/288)
الْخَمْسَ، تَحَاتَّتْ خَطَايَاهُ كَمَا يَتَحَاتُّ الْوَرَقُ» (1).
وهذه استعارة، والمراد أنّ الله تعالى يكفّر عنه خطاياه بسرعة، فتسقط عنه آصارها، وتنحطّ أوزارها، كما تتساقط الأوراق عن أغصانها إذا هزهزتها الراح (2) أو زعزعتها الرياح.
ولا بدّ أن يكون في الكلام مضمر مراد جعلت الصلاة مخبرا عنه، وعلما عليه وهو اجتناب الكبائر، والقيام بسائر الفرائض، فاكتفى عليه الصلاة والسلام بذكر الصلاة عن ذكر جميع ذلك لأنّ الصلاة أفضل شعائر الإسلام، وأظهر معالم الإيمان، وليس لسائر الأوامر والعبادات والفرائض الواجبات من التأكيد ما لها، وذلك لأنّ من الفرائض ما أوجبه تعالى على الأغنياء دون الفقراء، ومنها ما ينوب عنه غيره، ومنها ما ينوب عن كلّه بعضه، وجميع العبادات تختصّ إمّا بالفعل، أو بالذكر، والصلاة قد جمعت أفعالا وأذكارا من القيام، والعقود، والركوع، والسجود، والقراءة، والتسبيح، والثناء على الله سبحانه، والصلاة على الرسول وعلى آله، والاستغفار للمؤمنين، لأنّها واجبة في اليوم والليلة خمس مرّات على كلّ عاقل بالغ قادر عليها لا يؤدّيها عنه غيره، ولا يسقطها عنه فقره، ولا يتولّاها وليّه، وباقي العبادات يتعلّق بزمان مخصوص، ووقت معلوم، كالصوم الذي يفعل في السنة دفعة، والزكاة التي تجب في الحول مرّة، والحجّ الذي يتعيّن في العمر دفعة واحدة،
__________
(1) مسند أحمد 5: 437، سنن الدارمي 1: 183، مجمع الزوائد 1: 297، كنز العمّال 7: 320/ 19063.
(2) الراح: جمع راحة، وهي باطن الكفّ. راجع المصباح المنير: 243، مادّة (ر وح).(1/289)
ولهذا كانت عامّة وصيّة النبيّ عليه الصلاة والسلام لمّا حضره الموت بالصلاة،
وَفِي حَدِيثِ أَنَسٍ: أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مَا زَالَ يُكَرِّرُ قَوْلَهُ:
«الصَّلَاةَ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ» حَتَّى جَعَلَ يُغَرْغِرُ (1) بِهَا صَدْرَهُ وَمَا يَكَادُ يُفِيضُ بِهَا»
(2) أي يبين.
وفي الأكثر أنّ الإنسان إذا أدّى الصلاة على شرائطها، وفعلها في أوقاتها، وقام بجميع واجباتها، وهي التي تكرّر في الليل والنهار، وتفعل على الدوام والاستمرار، كان أجدر بتأدية الفروض في سائر العبادات، والقيام ببواقي الطاعات التي هي أخفّ محملا، وأسهل متحّملا، فأراد عليه الصلاة والسلام أنّ من قام بهذه الواجبات التي عدّدناها، واجتنب الكبائر التي توعّد بالعقاب عليها، سقط عنه عقاب معاصيه الصغائر، كما يتساقط الورق المتناثر، ويقال: «انحتّ الورق وتحاتّ» إذا انسلت من أغصانه، وانحسر عن أفنانه (3).
245
(245) وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِرَجُلٍ أَقْبَلَ إِلَيْهِ مِمَّنْ يُتَّهَمُ فِي دِينِهِ:
«أَرَى عَلَيْهِ سُفْعَةً مِنَ الشَّيْطَانِ» (4).
وهذا القول مجاز، و «السفعة» السواد، وقيل: «هو السواد المشرب حمرة» فكأنّه عليه الصلاة والسلام رأى بوجهه أثرا يدلّ على نغل (5)
__________
(1) أي يردّدها لسان العرب 10: 48، مادّة (غ ر ر).
(2) سنن ابن ماجة 2: 900/ 2697، مجمع الزوائد 4: 237، البداية والنهاية 5: 258.
(3) الأفنان: جمع فنن، وهو الغصن. المصباح المنير: 482، مادّة (ف ن ن).
(4) مجمع الزوائد 6: 226النهاية في غريب الحديث 2: 375رواه عن ابن مسعود.
(5) أي فساد. المصباح المنير: 615، مادّة (ن غ ل).(1/290)
الضمير، وفساد اليقين، فنسب ذلك إلى الشيطان لأنّه مسوّل المعاصي، ومطرّق المغاوي (1)، وفي الأكثر أن يقال لمن خبثت عقيدته وساءت سريرته: «وجه فلان مسوّد» يراد: لعظيم كفره، وفساد سرّه.
وقد يجوز أن تكون «السفعة» هاهنا بفتح السين مأخوذة من قول القائل: «سفعت رأس فلان» إذا ضربه بالعصا فأثّرت فيه، فكأنّه عليه الصلاة والسلام قال: «أرى عليه أثرا من الشيطان».
وقد يكون «السفع» أيضا بمعنى الأخذ والقبض، ومنه قوله تعالى:
{لَنَسْفَعاً بِالنََّاصِيَةِ} (2) أي لنأخذنّ بها، ولنقبضنّ عليها، فإن حمل على ذلك
قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «أَرَى عَلَيْهِ سُفْعَةً مِنَ الشَّيْطَانِ»
جاز، وجميع الوجوه المذكورة في هذا الكلام قريب بعضها من بعض.
246
(246) وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «خَيْرُ النَّاسِ مَنْزِلَةً رَجُلٌ أَخَذَ بِعِنَانِ فَرَسِهِ يَطْلُبُ الْمَوْتَ مَظَانَّهُ» (3).
وهذا القول مجاز وذلك أنّه عليه الصلاة والسلام جعل الرجل المجاهد في سبيل الله الذي يتتبّع قراع (4) الأعداء ومواطن اللقاء، كطالب الموت في معادنه (5)، والمنقّب عنه في مكامنه وإن كان غير طالب له
__________
(1) أي يجعل طريقا إليها. راجع أقرب الموارد 1: 704، مادّة (ط ر ق).
(2) العلق (96): 15.
(3) مسند أحمد، 3: 190/ 9430، نثر الدر 1: 197مع اختلاف.
(4) أي مضاربتهم والاشتباك معهم.
(5) المعادن: جمع معدن، أي مكان أصله ومركزه. أقرب الموارد 2: 754، مادّة (ع د ن).(1/291)
على الحقيقة، وإنّما يطلب نصرة الدين، ووقم المحادّين (1)، ولكنّ ذلك لمّا كان في الأكثر مفضيا إلى الموت القاصي والأجل الداني، كان كأنّه انتجع (2) مظنّة حتفه، ونقّب عن هلاك نفسه، و «المظانّ» الأماكن التي إذا طلب الرجل وجد فيها، يقال «موضع كذا مظنّة من فلان» أي معلم منه، ومكان يوجد فيه، قال الشاعر:
وإن يك عامر قد قال جهلا ... فإنّ مظنّة الجهل الشّباب (3)
كأنّه قال: «إنّ الشباب موضع للجهل فيه تسرح سارحته، وفيه تنشد ضالّته».
وأراد عليه الصلاة والسلام: يطلب الموت في مظانّه، فلما خلع الجارّ وصل الفعل إلى «المظانّ» فنصبها (4)، وذلك أقرب في الفصاحة، وأضرب (5) في مذاهب البلاغة.
247
(247) وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ الْجُوعِ فَإِنَّهُ بِئْسَ الضَّجِيعُ» (6).
وهذا القول مجاز، وإنّما جعل عليه الصلاة والسلام الجوع بمنزلة
__________
(1) أي قهر وإذلال المعادين.
(2) أي قصد، يقال: انتجع القوم إذا ذهبوا لطلب الكلأ في موضعه. راجع المصباح المنير: 594، مادّة (ن ج ع).
(3) ديوان النابغة: 109، الصحاح 6: 216.
(4) انظر: المقتضب 2: 321.
(5) أي أبعد وأعلى.
(6) سنن النسائي 8: 263، سنن ابن ماجة 2: 1113/ 3354، سنن أبي داود 1: 345/ 1547، كنز العمّال 2: 189/ 3689.(1/292)
الضجيع لأنّ الإنسان إذا بات طاويا كان كأنّه مضاجع للجوع في مهاد، ومبايته على فراش لأنّه يخلو في الليل به، وينفرد بمعاناته ومكابدته.
248
(248) وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «تَعِسَ عَبْدُ الدِّينَارِ وَالدِّرْهَمِ، تَعِسَ عَبْدُ الْحُلَّةِ (1) وَالْخَمِيصَةِ (2) إِنْ أُعْطِيَ رَضِيَ، وَإِنْ مُنِعَ سَخِطَ، تَعِسَ فَلَا انْتَعَشَ، وَإِذَا شِيكَ فَلَا انْتَقَشَ» (3).
وفي هذا الكلام مجاز، وذلك أنّه عليه الصلاة والسلام جعل الرجل القويّ الطمع الشديد الجشع الذي يرضى بإعطاء ما سأل ويسخط بمنع ما طلب، بمنزلة العبد للدينار والدرهم والثوب والعرض (4) لأنّه بإعطاء هذه الأشياء يسترقّ ويملك، ويمتهن ويستبذل، فجعله عليه الصلاة والسلام عبدا لها على المجاز، وهو في الحقيقة عبد لباذلها. ومن معروف كلامهم: «فلان عبد الطمع، وخادم الأمل» إذا كان ذليلا لمن وجّه أمله إليه، وضارعا لمن علق طمعه به.
وقوله عليه الصلاة والسلام: «وإذا شيك فلا انتقش» من صلة الدعاء عليه، يقول: وإذا دخلت في قدمه شوكة فلا قدر على منقاش ينتقشها
__________
(1) الحلّة: لا تكون إلّا ثوبين من جنس واحد. المصباح المنير: 148، مادّة (ح ل ل).
(2) الخميصة كساء أسود معلم الطرفين، ويكون من خزّ أو صوف، فإن لم يكن معلما فليس بخميصة.
المصباح المنير: 182، مادّة (خ م).
(3) صحيح البخاري 3: 223و 7: 175، سنن ابن ماجة 2: 1386/ 4135، مجمع الزوائد 10: 248، كنز العمّال 3: 202/ 6170.
(4) العرض: المتاع، قالوا: والدراهم والدنانير عين، وما سواهما عرض، والجمع عروض، وقال أبو عبيد: العروض: الأمتعة التي لا يدخلها كيل ولا وزن، ولا تكون حيوانا ولا عقارا. المصباح المنير:
404، مادّة (ع ر ض).(1/293)
حتّى يدوم مكثها في أخمصه، فيكون ذلك أطول لألمه.
249
(249) وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «لَا حَرَجَ إِلَّا عَلَى رَجُلٍ اقْتَرَضَ عِرْضَ أَخِيهِ بِظُلْمٍ» (1).
وهذه استعارة، والمراد ب «الاقتراض» هاهنا: القدح في العرض، والحزّ فيه، والنّيل منه، فهو افتعال من «القرض» الذي هو القطع، ومنه قول ذي الرمّة:
إلى ظعن يقرضن أقواز مشرف ... شمالا وعن أيمانهنّ الفوارس (2)
يقول: يقطعن أوساط هذا الموضع المذكور بطيّ شقّته (3)، وتجاوز مسافته، وقولهم: «أقرض فلان فلانا مالا» راجع إلى هذا المعنى، والمراد أنّه اقتطع له من ماله قطعة، فسلّمها إليه.
وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي أَوَّلِ الْخَبَرِ: «لَا حَرَجَ إِلَّا عَلَى رَجُلٍ اقْتَرَضَ عِرْضَ أَخِيهِ بِظُلْمٍ»
لا يدلّ على أنّ من فعل غير ذلك من الأفعال التي يستحقّ عليها الذمّ ويعظم بها الإثم، لا حرج عليه في الحقيقة، ولكنّه عليه الصلاة والسلام كأنّه قال: «لا حرج في فعل ما لا إثم فيه إلّا على رجل اقترض عرض أخيه» وهذا التقدير في الكلام كأنّه معلوم
__________
(1) سنن ابن ماجة 2: 34361137، سنن أبي داود 1: 447/ 2015، السنن الكبرى 5: 146، كنز العمّال 5: 12545184.
(2) العين 5: 50، الصحاح 3: 891و 1101، معجم ما استعجم 3: 1031، الظعن: جع ظعون وظعونة، وهو البعير يعتمل ويحمل عليه، أقواز: جمع قوز، وهو قطعة من الرمل مستديرة منعطفة، المشرف:
العالى.
(3) أي مسافته التي يشقّ قطعها، فإنّ المشي في الرمل إذا كان شاقّا، فكيف بالصعود فيه؟!(1/294)
بفحواه، ومفهوم بمعناه، وإن كان ظاهر اللفظ غير دالّ عليه.
250
(250) وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «إِنَّ السِّقْطَ لَيَجُرُّ أُمَّهُ إِلَى الْجَنَّةِ بِسَرَرِهِ» (1).
وهذا القول مجاز، والمراد أنّ المرأة إذا أسقطت الولد عن حادث أصابها، واتّفق أن يكون ذلك الإسقاط سبب منيّتها، كان لها بذلك أجر تستحقّ به دخول الجنة إذا كانت سليمة من الكبائر الموبقة، والمعاصي المرهقة، فلمّا كان ذلك السقط سببا لوصول امّه إلى دار النعيم والبقاء المقيم، حسن أن يقول عليه الصلاة والسلام: «إنّه يجرّها إلى الجنّة بسرره» وهو الجلد الرقيق المتّصل منها به، يقال: «قطع سرّه وسرره» و «السّرّة» اسم لما يبقى بعد القطع منه.
251
(251) وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «لَا يَمْنَعَنَّكُمْ مِنْ سَحُورِكُمُ (2)
الْفَجْرُ حَتَّى يَسْتَطِيرَ» (3).
وفي هذا القول استعارة، والمراد: حتّى ينتشر ضوء الفجر، فيكون كتحليق الطائر، وكالشرر المتطاير والفجر عندهم فجران: مستطيل، ومستطير، فأمّا المستطيل فهو الأوّل، ولا يحرّم على الصائم الطعام والشراب، وأمّا المستطير فهو الثاني، ويحرّم الشراب والطعام، ويسمّى
__________
(1) مسند أحمد 5: 241، سنن ابن ماجة 1: 513/ 1609، مجمع الزوائد 3: 9، كنز العمّال 3:
285/ 6575، الدرّ المنثور 1: 159.
(2) السّحور: ما يؤكل وقت السحر. راجع المصباح المنير: 627، مادّة (س ح ر).
(3) سنن الترمذي 3: 86/ 706، كنز العمّال 8: 529/ 23999، الدرّ المنثور 1: 200، مسند أحمد 5:
13 - مع اختلاف.(1/295)
الأوّل «ذنب السّرحان» (1) لدقّة خيطه، وغموض سمته، قال الكميت بن زيد:
ولمّا علا شمطه المضبأين ... من ليلة الذّنب الأشعل
وأطلع منه اللّياح الشّميط ... خدودا كما سلّت الأنصل (2)
فجعله أشعل لكثرة البياض فيه، و «المضبأين» تثنية «مضبأ» وهو المكان الذي يضبأ الإنسان به أي يلزمه ويلطأ فيه، و «اللّياح» الأبيض، ويقال بكسر اللام وفتحها، و «الشّميط» الكثير البياض، ويقال: «ذنب شميط» إذا كان كذلك، وهو بمعنى الأشعل، والمراد هاهنا الصبح، وجعل له خدودا بارزة على طريق الاستعارة، كما يقال: «طرّة الصبح» (3) و «حاجب الشمس».
ويسمّى الفجر الثاني «المستطير» لانتشاره ووضوحه، قال الشاعر:
لهان على سراة بني لؤيّ ... حريق بالنّويرة مستطير (4)
أراد حريقا قد انتشر شراره، وعظم اواره (5).
وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ: أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ: «لَيْسَ الْفَجْرُ
__________
(1) أيّ الذّئب. راجع المصباح المنير: 273، مادّة (س ر ح).
(2) ديوان الكميت 2: 398.
(3) أيّ بياضه الّذي يبدو في الأفق مستطيلا، من طرة الجارية، وهي ما تطره من الشّعر الموفي على جبهتها وتصففه. راجع لسان العرب 8: 142، مادّة (ط ر ر) وأساس البلاغة: 278، نفس المادّة.
(4) ديوان حسّان بن ثابت: 110، السّيرة النّبويّة لابن هشام 3: 285، النّهاية في غريب الحديث 3:
151، معجم البلدان 1: 512، لسان العرب 4: 513، السراة: جمع سرّي، وهو السّيّد الشّريف السّخيّ، النّويرة أو البديرة أو البويرة: أسماء مواضع.
(5) أيّ لهبه. أقرب الموارد 1: 24، مادّة (أور).(1/296)
الْمُسْتَطِيلَ الْأَبْيَضَ، وَلَكِنَّهُ الْمُعْتَرِضُ الْأَحْمَرُ» (1).
252
(252) وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي صِفَةِ أَهْلِ الْمَوْقِفِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ:
«يَبْلُغُ الْعَرَقُ هُنَاكَ مَا يُلْجِمُهُمْ» (2).
وفي هذا القول مجاز، وله وجهان:
أحدهما: أن يكون المراد أنّ العرق يزيد بهم يومئذ حتّى يضعفوا عن الكلام فلا يحيروا جوابا، ولا يبتدئوا مقالا، كما يقول القائل: «حاججت فلانا فألجمته بالحجّة» إذا أسكته بها عن مراجعته، وقطع لسانه عن مناقلته، فشبّه عليه الصلاة والسلام إضعاف العرق لهم وبلوغه إلى أن يملك عليهم نطقهم باللّجم التي تملأ أفواه الخيل فتمنعها من تحريك ألسنتها تمطّقا (3) بالمشرب، أو تلمّظا (4) بالمطعم.
والوجه الآخر: أن يكون المراد أنّ العرق يكثر منهم حتّى يخوضوا فيه، فيبلغ إلى أن يدخل أفواههم، فيكون بمكان اللّجم لهم.
ومن روى هذه الكلمة بالتشديد فقال: «ما يلجّمهم» فالمراد بذلك أنّ العرق يبلغ الملجّم من كلّ واحد منهم وهو ما يلي الرأس من الرقبة، وقيل له: «الملجّم» لأنّه مكان اللجام من رأس الفرس، كما قيل:
__________
(1) صحيح البخاري 2: 86، سنن الترمذي 3: 85/ 705، سنن النسائي 4: 148، معجم ما استعجم:
285.
(2) مسند أحمد 3: 90، صحيح مسلم 4: 1741/ 2864، النهاية في غريب الحديث 4: 234، وفيه:
«منهم» بدل «هناك»، تفسير العيّاشي 1: 310مع اختلاف فيها، تفسير القمي 1: 216.
(3) يقال: ذامة فتمطّق إذا ضمّ مشفتيه إليه وألصق لسانه بنطع فيه مع صوت. أساس البلاغة: 432، مادّة (م ط ق).
(4) أي تتبّعا لبقيّة الطعام في الفم. أقرب الموارد 2: 1161، مادّة (ل م ظ).(1/297)
«المقلّد» و «المسوّر» و «المخلخل» و «المؤزّر» لموضع القلادة والسّوار والمئزر والخلخال.
253
(253) وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَمَّا قَسَمَ غَنَائِمَ حُنَيْنٍ فَأَعْطَى الْمُؤَلَّفَةَ قُلُوبُهُمْ وَلَمْ يُعْطِ الْأَنْصَارَ فِي كَلَامٍ طَوِيلٍ: «يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ:
أَوْجَدْتُمْ (1) فِي قُلُوبِكُمْ مِنْ لُعَاعَةٍ مِنَ الدُّنْيَا تَأَلَّفْتُ بِهَا قَوْماً لِيُسْلِمُوا وَوَكَلْتُكُمْ إِلَى إِيمَانِكُمْ؟!» (2).
وهذه استعارة، و «اللّعاعة» البقل أوّل ما يبدو وهو ناعم رقيق، وقيل: «هي بقلة ناعمة تعرف بعينها» ذكر ذلك أبو عبيد في «الغريب المصنّف» ومن قول «الغريب»: «خرجنا نتلعّع» أي نتتبّع هذه البقلة في منابتها، ونجتنيها من مقاطعها، قال الشاعر:
رعى غير مذعور بهنّ وراقه ... لعاع تهاداه الدّعادع واعد (3)
يريد ب «واعد» هاهنا: أنّ هذا النبات كثير يعد راعيه الشبع منه والاكتفاء به.
فشبّه عليه الصلاة والسلام حلاوة المال المبذول وتعلّق القلوب به وتتبّع النفوس له، بهذه البقلة الناعمة التي تستطاب مجانيها، ويتتبّعها جانيها.
ويجري ذلك مجرى
قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي الْخَبَرِ الْآخَرِ
__________
(1) أيّ غضبتم. المصباح المنير: 648، مادّة (وج د).
(2) شرح الأخبار 1: 318، نثر الدّرّ 1: 236النّهاية في غريب الحديث 4: 254، وفيه: «أوجدتم يا معشر الأنصار من لعاعة من الدّنيا تألّف بها قوما ليسلّموا ودللتكم إلى إسلامكم؟!».
(3) ديوان سويد: 22، راقه: أعجبه، تهاداه: أسنده، الدعادع: نبت يكون فيه ماء في الصّيف تأكله البقر.
لِحَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ: «إِنَّ هَذَا الْمَالَ حُلْوَةٌ خَضِرَةٌ»(1/298)
لِحَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ: «إِنَّ هَذَا الْمَالَ حُلْوَةٌ خَضِرَةٌ»
وقد ذكرناه فيما تقدّم من كتابنا هذا (1).
254
(254) وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «تُحْفَةُ الْمُؤْمِنِ الْمَوْتُ» (2).
وهذه استعارة، وأصل «التّحف» طرف الفواكه التي يتهاداها الناس بينهم، فكأنّه عليه الصلاة والسلام جعل الموت الوارد على المؤمن كالتحفة المهداة إليه لأنّه يسرّ بتعجيل مماته كما يسرّ الكافر بتنفيس حياته لأنّ المؤمن يخرج من عقال (3) إلى مجال، والكافر يخرج من مجال إلى عقال.
255
(255) وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ لِعَبْدِهِ مَا لَمْ يَقَعِ الْحِجَابُ» (4).
وهذا القول مجاز، والمراد أنّ الله سبحانه يقبل توبة العبد من جميع المعاصي ما دام في نفس الرجاء (5)، وفسحة البقاء، فإذا بلغ حال انقطاع التكليف ووقوع الأمر المخوف، لم تنفعه التوبة، ولم تنقذه الإنابة، فكأنّه قد حجب عن طريق الاستغفار، وأخذ على حال الإصرار.
وقد يجوز أن يكون المراد ب «الحجاب» هاهنا ضدّ المراد بالوجه
__________
(1) تقدّم في صفحة (47) حديث (48).
(2) النهاية في غريب الحديث 1: 183، البحار 61: 90و 82: 171/ 6عن الدعوات.
(3) العقال: حبل يعقل به البعير في وسط ذراعه، والمراد هنا منه السجن ونحوه، فإنّ الدنيا سجن المؤمن وجنّة الكافر.
(4) مسند أحمد 5: 174، النهاية في غريب الحديث 1: 340، مستدرك الحاكم 4: 257، مجمع الزوائد 10: 198، كنز العمّال 1: 75/ 300.
(5) أي سعته. أقرب الموارد 2: 1329، مادّة (ن ف س).(1/299)
الأوّل وهو أن يكون وقوعه بمعنى انكشافه وسقوطه، كما يقول القائل:
«وقع الستر المضروب، وسقط الفدام الممدود» أي زال وانتهك، وانكشف وانفرج، والمراد بانكشاف الحجاب: أن تظهر للمرء أشراط (1)
الآخرة التي لا تضامّ (2) التكليف، فيراها بادية بعد أن كانت خافية، وظاهرة بعد أن كانت باطنة، فيكون الحجاب هناك على ضربين:
حجاب مهتوك عمّا كان خافيا من أعلام الآخرة، وحجاب مضروب دون ما كان ممكنا من أحوال التوبة.
256
(256) وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «الْمَعْرُوفُ وَالْمُنْكَرُ خَلِيفَتَانِ يُنْصَبَانِ لِلنَّاسِ فَيَقُولُ الْمُنْكَرُ لِأَهْلِهِ: إِلَيْكُمْ، إِلَيْكُمْ (3)، وَمَا يَسْتَطِيعُونَ لَهُ إِلَّا لُزُوماً» (4).
وهذا القول مجاز، والمراد أنّ الله تعالى جعل للفعل المعروف علامات، وعلى الفعل المنكر أمارات، ووعد على فعل المعروف حلول دار النعيم، وأوعد على فعل المنكر خلود دار الجحيم، فكان بين الأمرين الحجاز (5) البيّن، والفرقان النيّر، فكأنّ المعروف يدعو إلى فعله لما وعد عليه من الثواب، وكأنّ المنكر ينهي عن فعله لما وعد عليه من العقاب، فلذلك قال عليه الصلاة والسلام: «فيقول المنكر لأهله: إليكم
__________
(1) أي علامات. المصباح المنير: 309، مادّة (ش ر ط).
(2) أي لا تجتمع معه، بل يسقط التكليف معها.
(3) أي ابعدوا. أقرب الموارد 1: 17، مادّة (إ ل ي ك).
(4) مسند أحمد 4: 391، مجمع الزوائد 7: 262، كنز العمّال 16: 105/ 44074.
(5) أي الحاجز.(1/300)
إليكم» على طريق الاتّساع والمجاز.
وقوله عليه الصلاة والسلام من بعد: «وما يستطيعون له إلّا لزوما»، المراد به أنّهم من قوارع النّذر وصوادع الغير (1) وزواجر التحذير وبوالغ الوعيد، يتنازعون إلى فعله، ويستارعون إلى ورده، وليس المراد أنّهم لا يستطيعون له إلّا لزوما على الحقيقة، وإنّما قيل ذلك على طريق المبالغة في صفتهم بالنزوع إليه، والإصرار عليه، كما يقول القائل: «ما أستطيع النظر إلى فلان» أو «لا أستطيع الاجتماع مع فلان» إذا أراد المبالغة في وصفه بشدة الإبغاض لذلك الإنسان، والاستثقال لرؤيته، والنفور من مقاعدته، وإن كان على الحقيقة مستطيعا لذلك بصحّة أدواته، والتمكّن من تصريف إرادته، ولو لم يكن هؤلاء المذكورون في الخبر قادرين على الانفصال من فعل المنكر، لما كانوا قادرين على مواقعته، مذمومين، وبجريرته مطالبين، وذلك أوضح من أن نستقصي الكلام فيه، ونستكثر من الحجاج عليه.
257
(257) وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «أُمِرْتُ بِقَرْيَةٍ تَأْكُلُ الْقُرَى تَنْفِي الْخَبَثَ كَمَا يَنْفِي الْكِيرُ (2) خَبَثَ الْحَدِيدِ» (3).
يريد عليه الصلاة والسلام الهجرة إلى المدينة، فقوله: «أمرت بقرية تأكل القرى» مجاز، والمراد أنّ أهلها يقهرون أهل القرى فيملكون
__________
(1) أي الأحداث المغيّرة. أقرب الموارد 2: 895، مادّة (غ ي ر).
(2) أي منفاخ الحدّاد، وكان يصنع من الجلود. راجع المصباح المنير: 545، مادّة (ك ي ر).
(3) مسند أحمد 2: 237، 247، 384، صحيح البخاري 2: 221، الموطّأ 2: 887/ 5مع اختلاف.(1/301)
بلادهم، ويغتنمون أموالهم، فكأنّهم لهذه الأحوال يأكلونهم، وخرج هذا القول على طريقة للعرب معروفة لأنّهم يقولون: «أكل فلان جاره» إذا عدا عليه فانتهك حرمته، واصطفى حرّيته، وعلى ذلك قول علقمة بن عقيل بن علّفة لأبيه في أبيات:
أكلت بنيك أكل الضّبّ حتّى ... وجدت مرارة الكلا الوبيل (1)
ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام في غزوة الحديبية: «ويح قريش لقد أكلتهم الحرب!!» (2)، يريد أنّها قد أفنت رجالهم، وانتهبت أموالهم، فكانت من هذا الوجه كأنّها آكلة لهم، قال ذلك عليه الصلاة والسلام في حديث طويل.
والمراد بقوله عليه الصلاة والسلام: «تنفي الخبث كما ينفي الكير خبث الحديد» أنّ أهلها يتمحّصون فينتفي عنها الأشرار، ويبقى فيها الأخيار، ويفارقها الأخلاط والأوشاب (3)، ولا يصبر عليها إلّا الصميم واللباب، فتكون بمنزلة الكير الذي ينفي الأخباث والأدران (4)، ويخلّص المصاص والنّضار (5)، وهذا أيضا مجاز ثان.
__________
(1) كتاب الحيوان للجاحظ 6: 49، الضبّ: حيوان يشبه فرخ التمساح الصغير، ولا يجوز أكله عند الطائفة المحقّة، وعند الحنفيّة أيضا، بينما أحلّته الشافعيّة والمالكيّة والحنابلة، والكلأ الوبيل: عسب يخاف سوء عاقبته لرداءته.
(2) مسند أحمد 4: 323، كنز العمّال 4: 439/ 11307، نثر الدر 1: 237.
(3) الأوشاب: جمع وشب، وهم الأوباش من الناس والأخلاط. أقرب الموارد 2: 1453، مادّة (وش ب).
(4) الأدران: جمع درن، وهو الوسخ. الصحاح 5: 2115، النهاية في غريب الحديث 2: 115.
(5) أي الخالص. أقرب الموارد 2: 1218، مادّة (م ص ص) و 1311، مادّة (ن ض ر).(1/302)
وَقَدْ وَرَدَ هَذَا الْخَبَرُ بِلَفْظٍ آخَرَ ذَكَرَهُ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ قَالَ: سَمِعْنَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ: «الْمَدِينَةُ تَنْفِي خَبَثَ الرِّجَالِ كَمَا يَنْفِي الْكِيرُ خَبَثَ الْحَدِيدِ»
(1)، والمعنى في اللفظين واحد.
258
(258) وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «الرَّحِمُ لَهَا حُجْنَةٌ كَحُجْنَةِ الْمِغْزَلِ» (2).
وهذه استعارة، و «الحجنة» هي الحديدة المعقفة في رأس المغزل، ومنه «المحجن» وهي العصا المعوجّة الرأس، فأراد عليه الصلاة والسلام أنّ الرحم لها علائق يعتلق بها، وشوابك تجتذب بوصلها، فكأنّها تستعطف المعرض عنها، وتردّ الشارد إليها، كما يجتذب الإنسان الشيء بالمحجن إلى جهته، أو يستثني به الذاهب عن وجهته.
259
(259) وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «مَنْ قُتِلَ تَحْتَ رَايَةٍ عِمِّيَّةٍ تَغْضَبُ لِغَضَبِهِ وَتُقَاتِلُ لِعَصَبَتِهِ (3) فَقِتْلَتُهُ جَاهِلِيَّةٌ» (4).
__________
(1) النّهاية في غريب الحديث 4: 217، وفيه: «المدينة كالكير تنفي خبثها، وينصع طيبها»، الموطأ:
2: 887/ 5مع اختلاف.
(2) مستدرك الحاكم 4: 162، مجمع الزّوائد 8: 150، كنز العمّال 3: 362/ 6948، النّهاية في غريب الحديث 1: 347، مسند أحمد 2: 189، 209وفي المصدرين الأخيرين: «توضع الرّحم يوم القيامة لها حجنة».
(3) عصبة الرّجل: أولياؤه الذّكور من ورثته، سمّوا عصبة لأنّهم عصبوا بنسبة أيّ استكفوا به. لسان العرب 9: 232، مادّة (ع ص ب).
(4) سنن النّسائيّ 7: 123، مسند أحمد 2: 296، 306، 488، صحيح مسلم 6: 21، سنن ابن ماجة:
2: 1302/ 3948، السّنن الكبرى 8: 156، العمدة: 318/ 535.(1/303)
وَفِي رِوَايَةٍ أخرى: «يَغْضَبُ غَضِبَتَهُ وَيُقَاتِلُ عَصَبَتَهُ» (1).
فقوله عليه الصلاة والسلام: «تحت راية عمّيّة»، مجاز لأنّه جعل الراية عمّيّة، والمراد الحرب التي رفعت تلك الراية فيها، وإنّما حسن وصفها بالعمى وهو في الحقيقة للحرب لأنّ الراية علم لها، ودليل عليها، والحرب العمّيّة: هي المشتبهة التي لا يهتدى فيها إلى القصد، ولا يتبيّن فيها وجه الرشد، فهي كالعمياء التائهة، والعشواء الخابطة (2) ومن ذلك قولهم: «نحن في عمياء» إذا كانوا في أمر مختلط، أو على رأي مشتبه. وربّما روي لفظ الخبر على الإضافة وذلك قوله عليه الصلاة والسلام: «تحت راية عمّيّة» كأنّه قال: تحت راية حرب عمّيّة والمعنيان متقاربان.
260
(260) وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «مَنْ أَرَادَ أَهْلَ الْمَدِينَةِ يَكِيدُهُمْ، إمَّاعَ كَمَا يَمَّاعُ الْمِلْحُ فِي الْمَاءِ» (3).
وهذه استعارة، والمراد أنّه يمحق كيده، ويضمحلّ أمره، فيكون كالهباء المتلاشي، والبناء المتداعي، فلا يثبت له عماد، ولا يدعمه سناد، فعبّر عليه الصلاة والسلام عن هذه الحال ب «الامّياع» لأنّه لا يمّاع إلّا الجسم المتخلخل الذي لم تستحصف جبلّته (4)، ولا استحجرت
__________
(1) تلاحظ المصادر السابقة.
(2) وهي الناقة التي في بصرها ضعف، فهي تخبط أي تضرب بيديها إذا مشت لا تتوفّى شيئا. راجع لسان العرب 4: 16، مادّة (خ ب ط).
(3) صحيح البخاري 2: 24/ 1877، النهاية في غريب الحديث 4: 381. مع اختلاف يسير.
(4) أي لم تستحكم طبيعته. أقرب الموارد 1: 200، مادّة (ح ص ف) و 101، مادّة (ج ب ل).(1/304)
طينته. وتوصف أيضا الأجسام الرقيقة بمثل ذلك فيقال «ماع الماء» إذا جرى على وجه الأرض، وكذلك الدم، و «إمّاع السّمن» إذا ذاب، وكذلك الرّبّ ويفرّق بينهما بأن يقال للجسم الذي لا يتماسك إذا خلّي عنه: «ماع» كالماء والدم، ويقال للجسم الذي إذا اطلق عنه تماسك بعض التماسك: «إمّاع» كالسّمن والربّ، قال الشاعر:
كأنّه ذو لبد دلهمس ... بساعديه جسد مورّس
من الدّماء مائع وملبس (1)
و «الجسد» هاهنا: اسم من أسماء الدم (2).
261
(261) وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِسَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ:
«سَلْمَانُ ابْنُ الْإِسْلَامِ، سَلْمَانُ جِلْدَةٌ بَيْنَ عَيْنَيَّ» (3).
وفي هذا الكلام مجازان:
أحدهما: قوله عليه الصلاة والسلام: «سلمان ابن الإسلام» ولهذا القول وجهان:
أحدهما: أن يكون المراد به أنّ سلمان يتعرّف بالإسلام كما يتعرّف الناس بآبائهم، وينتمون (4) إلى أجدادهم لأنّه كان عبدا غير معروف
__________
(1) العين 2: 369، الصحاح 2: 457، لسان العرب 8: 344، في العين واللسان: يبس بدل ملبس.
اللبد: الشعر المجتمع بين كتفي الأسد، دلهمس: من أسماء الأسد، الورس: صبغ أصفر، والمراد هنا اللون الأحمر الحاصل من الدم.
(2) لسان العرب 3: 121.
(3) لم أعثر له على مصدر.
(4) انتمى فلان إلى فلان: ارتفع إليه في النسب. لسان العرب 15: 342.(1/305)
الأب، ولا مشهور النّسب، وإنّما بالإسلام سمّي، وإليه انتمى.
والوجه الآخر: أن يكون المراد أنّ الإسلام دعم ظهره، وشدّ أزره (1)، فقام له مقام الحاضن الكافل، والأب العائل.
والمجاز الآخر: قوله عليه الصلاة والسلام: «سلمان جلدة بين عيني» و «جلدة بين العينين» هاهنا كناية عن الأنف، فكأنّه عليه الصلاة والسلام جعله في العزّة والقرب منه كالأنف الكريم على صاحبه، والعزيز على مفارقه (2).
وهذا القول أصحّ معنى من قول الشاعر (3):
وجلدة بين العين والأنف سالم (4)
لأنّه لا جلدة بين العين والأنف مذكورة يقصد قصدها ويشار نحوها كما قلنا في «جلدة بين العينين»: إنّها الأنف الكريم موقعه، والمشهورة موضعه.
262
(262) وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «مُعْتَرَكُ الْمَنَايَا بَيْنَ السِّتِّينَ وَالسَّبْعِينَ» (5).
__________
(1) أي ظهره، والمراد: أيده ودعمه.
(2) المفارق: جمع مفرق ومفرق، وهو وسط الرأس الذي يفرق فيه الشعر. أقرب الموارد 2: 921، مادّة (ف ر ق).
(3) أي عبد الله بن عمر في ابنه سالم.
(4) العين 4: 445، الصحاح 5: 1952، لسان العرب 8: 431، وسالم ابن ابي عمر، وقيل: بل سالم اسم للجلدة التي بين العين والأنف.
(5) مسند أبي يعلى الموصلي 11: 423/ 6543، تاريخ بغداد 5: 476، كنز العمّال 15: 677/ 42696، معاني الأخبار: 402مع تقدّم وتأخّر.(1/306)
وهذا القول مجاز، و «المعترك» موضع الحرب، وسمّي «معتركا» لالتفاف الرجال، واعتراك الأبطال،
وَقَدْ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي خَبَرٍ آخَرَ: «أَعْمَارُ أُمَّتِي بَيْنَ السِّتِّينَ وَالسَّبْعِينَ»
(1)،
وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «لَا خَيْرَ لِمُؤْمِنٍ فِي عُمُرٍ يَتَجَاوَزُ عُمُرِي»
فكأنّه عليه الصلاة والسلام شبّه هذا العمر لكثرة الذاهبين فيه، وقلّة المجاوزين له بمعترك المنايا تكافح (2) فيه الأرواح، وتصطلم (3) الآجال، فلا يفلت من ذلك المقام إلّا من أشدّه حائلها، وتخطّاه نائلها.
263
(263) وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «لَا تَسُبُّوا الْإِبِلَ فَإِنَّهَا رَقُوءُ الدَّمِ (4)» (5).
وهذا القول مجاز لأنّ الإبل على الحقيقة ليست برقوء الدم (6)، وإنّما المراد أنّها إذا اعطيت في الديات كانت سببا لانقطاع الدماء المطلولة (7)، والثارات المطلوبة، فشبّه عليه الصلاة والسلام تلك الحال
__________
(1) سنن الترمذي 5: 213/ 3620، مستدرك الحاكم 2: 427، السنن الكبرى 3: 370، مجمع الزوائد:
10: 206، كنز العمّال 15: 677/ 42697.
(2) المكافحة في الحرب: المضاربة تلقاء الوجوه. لسان العرب 2: 573.
(3) أي تستأصل. أقرب الموارد 1: 659، مادّة (ص ل م).
(4) الرّقوء: الدواء الذي يوضع على الدم ليرقئه ليسكن، أي أنّها تعطى في الديات بدلا من القود، فتحقن به الدماء، ويسكن بها الدم. لسان العرب 5: 279، مادّة (ر ق أ).
(5) النهاية في غريب الحديث 2: 330، وفيه: «فإنّ فيها رقوء الدم»، معجم مقابيس اللغة 1: 63، عنه المستدرك 8: 262/ 9405، لاحظ: البحار 64: 142/ 47.
(6) أي ليست بقاطعة وحاقنة له. راجع اساس البلاغة: 172، مادّة (ر ق أ).
(7) أي المهدورة، وهي ما لم يثأر بها أو تقبل ديتها. راجع لسان العرب 8: 192، مادّة (ط ل ل).(1/307)
بالعرق العاند والدم السائل الذي إذا ترك لجّ واستشرى، وإذا عولج انقطع ورقأ.
وعلى هذا المعنى قول الكميت بن زيد:
ولكنّي رقوء دم وراق ... لأدواء الضّغائن والذّحول (1)
ويروى هذا الخبر على لفظ آخر وهو قوله عليه الصلاة والسلام:
«فإنّ فيها رقوء الدّم» (2).
264
(264) وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «إِنَّ ذَا الْوَجْهَيْنِ لَخَلِيقٌ أَلَّا يَكُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهاً» (3).
وهذا القول مجاز لأنّه عليه الصلاة والسلام لم يرد تثنية الوجه الذي هو العضو المخصوص على الحقيقة لأنّ استحالة ذلك في الإنسان معلوم ضرورة، وإنّما أراد ذمّ المنافق الذي ظاهره يخالف باطنه، وحاضره يضادّ غائبه، فكأنّه يلقى أخاه في مشهده بصفحة المودّة، ويتناوله في مغيبه بلسان الذمّ والعصبيّة، فشبّه عليه الصلاة والسلام هاتين الحالتين لاختلافهما بالوجهين المختلفين لتباين ما بينهما.
265
(265) وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «الْإِيمَانُ يَمَانٍ، وَالْحِكْمَةُ يَمَانِيَّةٌ» (4).
__________
(1) ديوان الكميت بن زيد: الراقي: صانع الوعوذة والنافث فيها، الأدواء: جمع داء، وهو المرض، الضغائن: جمع ضغينة، وهي الحقد، الذحول جمع ذحل، وهو الثأر.
(2) الصحاح 1: 53، النهاية في غريب الحديث 2: 330، 248، لسان العرب 1: 88.
(3) نثر الدر 1: 165.
(4) مسند أحمد 2: 235، 252، 258، سنن الدارمي 1: 37، صحيح البخاري 4: 154، صحيح مسلم:
1: 52، سنن الترمذي 5: 383/ 4027، مجمع الزوائد 10: 55، كنز العمّال 12: 48/ 33945.(1/308)
وهذا قدر ما أورده أبو عبيد في كتابه من هذا الخبر (1).
وقد ذكر غيره فيه زيادة كثيرة وهي
قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بَعْدَ الْكَلَامِ الْمُتَقَدِّمِ: «رَحَا الْإِسْلَامِ دَائِرَةٌ فِي قَحْطَانَ، حِمْيَرُ رُؤُوسُ الْعَرَبِ وَبَهَاؤُهَا، وَالْأَسَدُ كَاهِلُهَا وَجُمْجُمَتُهَا، وَمَذْحِجُ هَامَتُهَا وَغَلْصَمَتُهَا» (2)
، في حديث طويل.
وفي هذا الحديث عدّة مجازات:
أحدها: قوله عليه الصلاة والسلام: «الإيمان يمان والحكمة يمانيّة» والمراد أهل الإيمان وأهل الحكمة يمانون (3)، وأمثال ذلك في الكلام معروف كثير. ويدخل في هذا الوصف أهل مكّة وأهل المدينة: فأمّا مكّة فهي جهة من جهات اليمن، ومفضى إلى ذلك الشقّ والسّمت، وأمّا المدينة فمعظم أهلها الأنصار، وهم من أهل اليمن بالأصل وإن كانوا من أهل الحجاز بالدار.
وقد قيل: «إنّه عليه الصلاة والسلام قال هذا الكلام بتبوك، وهي من أرض الشام، وكانت مكّة والمدينة حينئذ بينه وبين اليمن، فأشار إلى جهة اليمن وهو يريد مكّة والمدينة» (4).
والمجاز الآخر: قوله عليه الصلاة والسلام: «رحا الإسلام دائرة في
__________
(1) غريب الحديث 1: 294.
(2) مجمع الزوائد 10: 41، كنز العمّال 12: 52/ 33965.
(3) اليمانون: جمع اليماني، وهو الرجل المنسوب إلى اليمن، واليمانيّة: المرأة المنسوبة إلى اليمن أيضا.
راجع لسان العرب 15: 462، مادّة (ي م ن).
(4) غريب الحديث 1: 294، النهاية في غريب الحديث 5: 300، لسان العرب 13: 464.(1/309)
قحطان» والمراد أنّ أمر الإسلام يدور عليها كما تدور الرحى على قطبها، وقد مضى في صدر هذا الكتاب من الكلام على «رحا الإسلام» ما فيه كفاية (1).
والمجاز الآخر: قوله عليه الصلاة والسلام: «حمير رؤوس العرب وبهاؤها، والأسد كاهلها وجمجمتها، ومذحج هامتها وغلصمتها» والمراد أنّ حمير في التقدّم كالرؤوس الأعاظم، والأزد في الاشتداد والاجتماع كالكواهل (2) والجماجم، ومذحج في السّموّ والدنوّ كالهامات والغلاصم (3).
{بِسْمِ اللََّهِ الرَّحْمََنِ الرَّحِيمِ} *
266
(266) وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «يُنَادِي مُنَادٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ:
لِتَلْحَقَنَّ كُلُّ أُمَّةٍ بِمَا كَانَتْ تَعْبُدُ، فَلَا يَبْقَى أَحَدٌ كَانَ يَعْبُدُ صَنَماً إِلَّا ذَهَبَ حَتَّى يَقَعَ فِي النَّارِ، وَيَبْقَى غُبَّرَاتُ أَهْلِ النَّارِ» (4).
فقوله عليه الصلاة والسلام: «غبّرات أهل النّار» استعارة، والمراد عقابيلهم (5) وبقاياهم، وذلك مأخوذ من «غبّر اللبن» و «غبره» بالتشديد
__________
(1) تقدّم في صفحة (104103) ذيل الحديث 124.
(2) الكواهل: جمع كاهل، وهو من الإنسان ما بين كتفيه، وقيل: هو موصل العنق في الصلب. لسان العرب 12: 179، مادّة (ك هـ ل).
(3) الغلاصم: جمع غلصمة، وهي متّصل الحلقوم بالحلق. لسان العرب 12: 441.
(4) مسند أحمد 2: 538/ 7660، صحيح البخاري 1: 261/ 806و 4: 204/ 6573، 390/ 7437، صحيح مسلم 1: 145/ 183، مستدرك الحاكم 4: 582.
(5) العقابيل: جمع عقبولة وعقبول، أي البقيّة. راجع أقرب الموارد 2: 807، مادّة (ع ق ب ل).(1/310)
والتخفيف، وهو بقيّته في الخلف والضرع، و «غبّر الليل» آخره مأخوذ من ذلك، قال الطرمّاح بن حكيم في «الغبّر» مثقلا:
فيا صبح كمّش غبّر اللّيل مصعدا ... ببمّ ونبّه ذا العفاء الموشّح (1)
يريد الديك.
وقال آخر في «الغبر» مخفّفا:
متفلّق أنساؤها عن قانىء ... كالقرط صاف غبره لا يرضع (2)
قال الأخفش: «هو بالتخفيف لا غير» وأنشد هذا البيت شاهدا على قوله.
267
(267) وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «الرُّؤْيَا عَلَى الرَّجُلِ طَائِرٌ مَا لَمْ تُعَبَّرْ، فَإِذَا عُبِّرَتْ وَقَعَتْ، فَلَا تُحَدِّثَنَّ بِهَا إِلَّا حَبِيباً أَوْ لَبِيباً» (3).
رَوَى هَذَا الْخَبَرَ عَنِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَبُو رَزِينٍ الْعُقَيْلِيُّ
وَهُوَ لَقِيطُ بْنُ عَامِرِ بْنِ الْمُنْتَفِقِ.
__________
(1) العين 3: 263كمّش: قلّص وأفن، غبّر الليل: بقيّته، بمّ: مدينة في محافظة كرمان الإيرانيّة، العفاء:
الريش الكثير، الديك الموشّح الذي له خصلتان كالموشاح.
(2) الصحاح 6: 2405و 2508، لسان العرب 14: 472، متفلّق: منفلق ومنفرج، أنساؤها: جمع نسا، وهو يمرق يخرج من الورك فيستبطن الفخذين، ثمّ يمرّ بالعرقوب حتّى يبلغ الحافر، فإذا سمنت الدابّة انفلق فخذاها بلحمتين عظيمتين، وجرع النسا بينهما واستبان، وإذا هزلت الدابّة اضطرب الفخذان وخفى النسا، والنسا لا يتفلّق، وإنّما يتفلّق موضعه، عن قاىء كالقرط: أي عن ضرع أحمر كالقرط في صغره، صاو: يابس، غبره لا يرضع: ليس لها غبر فيرضع، وليس المراد أن ثمّ بقيّة لبن لا يرضع.
(3) مسند أحمد 4: 10، سنن ابن ماجة 2: 1288/ 3914، سنن أبي داود 2: 481/ 5020، كنز العمّال:
15: 364/ 41390.(1/311)
وفي هذا الكلام مجاز، والمراد ب «الطائر» هاهنا: الأمر الذي يتطيّر به، ومنه قوله تعالى: {وَكُلَّ إِنسََانٍ أَلْزَمْنََاهُ طََائِرَهُ فِي عُنُقِهِ} (1) يريد ما يتطيّر منه ويخاف وقوعه به من جزاء أعماله السيّئة، وأوزاره المثقلة، وذلك مأخوذ من زجر الطير (2) على مذاهب العرب وكانوا يتيمّنون بأيامنها ويتشاءمون بأشائمها، وعلى ذلك قول الشاعر:
ولقد غدوت وكنت لا ... أغدو على واق وحاتم
فإذا الأشائم كالأيا ... من والأيامن كالأشائم (3)
و «الواق» بكسر القاف الصّرد (4)، كأنّهم سمّوه بحكاية صوته (5).
قال الشاعر:
ولست بهيّاب إذا شدّ رحله ... يقول: عداني اليوم واق وحاتم (6)
و «الحاتم» الغراب.
فكأنّه عليه الصلاة والسلام جعل رؤيا الإنسان التي يتروّع لها ويخاف ضررها بمنزلة الشيء الذي يتطيّر به، وقد يجوز أن يكون، ويجوز ألّا يكون، فإذا عبّرها فعبّرت له على ما يكره وقع متوقّعها، وخلص للشرّ مجوزها.
__________
(1) الإسراء (17): 13.
(2) يقال: زجر الطائر تفاءل به وتطيّر، فنهاه ونهره، وهو أن تزجر طائرا فتتفاءل به إن مرّ من مياسرك إلى ميامنك، وتتشاءم به إن مرّ عن ميامنك فولّاك مياسره. راجع لسان العرب 6: 21، مادّة (ز ج ر).
(3) الصحاح 5: 1893و 6: 2220، لسان العرب 12: 113.
(4) وهو طائر أكبر من العصفور. لسان العرب 7: 320، مادّة (ص ر د).
(5) أي أنّ واق أو الواق حكاية صوت هذا الطائر. راجع لسان العرب 15: 381، مادّة (وق ي).
(6) الصحاح 5: 1893، 1909و 6: 2528، العين 5: 239، وفيه: عذابي بدل عداني، عداني: صرفني عمّا كنت قد أزمعت عليه.(1/312)
ويشبه ذلك ما حكي عن بعض المتقدّمين أنّه قال: «علم النجوم فأل فلكي» (1)، كأنّه يشير إلى أن يتفاءل بالسعود تعرّضا لها، ويتطيّر بالنحوس تباعدا منها، وجميع ذلك ممّا يجوز أن يقع، ويجوز ألّا يقع.
ولمّا جعل عليه الصلاة والسلام الرؤيا بمنزلة الطائر المتطيّر به، جعل تعبيرها على الأمر المكروه بمنزلة وقوع الطائر موافقة بين أنحاء الكلام حتّى يقع مواقعها، وتطبق مفاصلها.
وقوله عليه الصلاة والسلام من بعد: «فلا تحدّثنّ بها إلّا حبيبا أو لبيبا» يريد به النهي عن قصّتها إلّا على محبّ ناصح، أو لبيب راجح لأنّ المحبّ للإنسان يتعمّد حمل اموره على أجملها، ويتوخّى مسرّته بتحسين ما يحسن منها، وبخلاف ذلك يكون المبغض المباعد، والكاشح (2) الموارب (3)، وأمّا اللبيب وهو العاقل فهو يعبّرها على الوجه الصحيح الذي لا يوطىء فيه عشوة (4)، ولا يطلب مضرّة، وبخلاف ذلك يكون الأخرق (5) الجاهل، والغبيّ الغافل.
268
(268) وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «إِنَّ الشَّيْطَانَ ذِئْبُ الْإِنْسَانِ كَذِئْبِ
__________
(1) التّمثيل والمحاضرة للثعالبي: 192189.
(2) الكشح: ما بين الخاصرة إلى الضّلع الخلف، وهو أقصّر الأضلاع وآخرها، وهو من لدن السّرّة إلى المتن، والكاشح: الّذي يطوي كشحه على العداوة، أو الّذي يتباعد عنك ويوليك كشحه. أقرب الموارد 2: 1086، مادّة (ك ش ح).
(3) أيّ المواهي المخادع. راجع أقرب الموارد 2: 1441، مادّة (ور ب).
(4) يقال: أوطأه العشوة وعشوة أيّ ركبه على غير هدى. أقرب الموارد 2: 1462، مادّة (وط أ).
(5) أيّ الأحمق.(1/313)
الْغَنَمِ يَأْخُذُ الْقَاصِيَةَ وَالشَّاذَّةَ» (1).
وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى: «فَإِيَّاكُمْ وَالشِّعَابَ، وَعَلَيْكُمْ بِالْجَمَاعَةِ وَالْعَامَّةِ» (2).
وهذه من أحسن الاستعارات وذلك أنّه جعل الشيطان للإنسان بمنزلة الذئب للشاة يأخذ البعيدة المتفرّدة، ويختلس الشاذّة الشاردة، ويكون لجماعتها أهيب، ولفرّادها أقرب، وكذلك الشيطان يقوى طمعه في الفذّ (3) الفريد، والشارد الوحيد، فيستهويه بهواجسه، ويجعله غرضا رجيما (4) لوساوسه، ويكون في جماعة الناس أضعف طمعا، وبهم أقلّ تولّعا.
وفي هذا الكلام حثّ للناس على لزوم الجماعة في طاعة السلطان العادل، والإمام الفاضل. ويجوز أيضا أن يكون فيه حثّ لهم على لزوم الدين القويم، والصراط المستقيم، وترك الانفراد بالمذاهب، وسلوك الولائج والعوادل.
269
(269) وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «لَيُنْقَضَنَّ الْإِسْلَامُ عُرْوَةً عُرْوَةً، كَمَا يُنْقَضُ الْحَبْلُ قُوَّةً قُوَّةً» (5).
__________
(1) مسند أحمد 5: 233، 243، وفيه: «يأخذ الشاة القاصية والناحية». مجمع الزوائد 2: 23و 5:
219، كنز العمّال 1: 206/ 1026.
(2) مسند أحمد 5: 233و 243، مجمع الزوائد 2: 23و 5: 219، كنز العمّال 1: 206/ 1026.
(3) الفذّ: الفرد. الصحاح 2: 568.
(4) أي هدفا مرميّا.
(5) مسند أحمد 4: 232، كنز العمّال 1: 1189.(1/314)
هذه رواية فيروز الدّيلمي.
وَفِي رِوَايَةِ أَبِي أُمَامَةَ الْبَاهِلِيِّ: «عُرَى الْإِسْلَامِ عُرْوَةً عُرْوَةً فَكُلَّمَا انْتَقَضَتْ عُرْوَةٌ كَانَ تَشَبُّثُ النَّاسِ بِالَّتِي تَلِيهَا، فَأَوَّلُهُنَّ نَقْضاً الْحُكْمُ، وَآخِرُهُنَّ لَتُنْقَضَنَّ الصَّلَاةَ» (1).
وهذه استعارة، والمراد: لتتركنّ العمل بشرائع الإسلام التي احكم عقدها ووكّد العمل بها حتّى تكاد تنمحي مراسمها، وتعفو معالمها، فيكون الإسلام كالحبل المنتقض من أطرافه، والمنتكث بعد استحصافه (2)، و «القوى» الطاقات التي يفتل منها الخيط، والواحدة «قوّة» وجعل عليه الصلاة والسلام شرائع الإسلام كالعرى له من حيث كانت ربقا للرقاب، وكان التعلّق بها أمانا من العذاب.
ونظير هذا الخبر الخبر الآخر الذي
رَوَاهُ الْبَرَاءُ بْنُ عَازِبٍ، عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ: «أَيُّ عُرَى الْإِسْلَامِ أَوْثَقُ؟» فَعَدَّدَ الْحَاضِرُونَ شَيْئاً مِنْ شَرَائِعِ الدِّينِ، فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «أَوْثَقُ عُرَى الْإِسْلَامِ
أَنْ يُحَبَّ فِي اللَّهِ، وَيُبْغَضَ فِي اللَّهِ» (3).
270
(270) وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «مَا مِنْ آدَمِيٍّ إِلَّا وَقَلْبُهُ بَيْنَ
__________
(1) مسند أحمد 5: 251، مستدرك الحاكم 4: 92، مجمع الزّوائد 7: 281، كنز العمّال 1:
1190/ 38362، تفسير القمّيّ 2: 413، تفسير نور الثّقلين 5: 539/ 19.
(2) أيّ استحكامه.
(3) السّنن الكبرى 1: 233، مجمع الزّوائد 1: 89، كنز العمّال 1: 43/ 105، مشكاة الأنوار 157: 391، عن أبي عبد الله عليه السّلام.(1/315)
إِصْبَعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ اللَّهِ» (1).
وهذا النوع من جملة الأخبار التي توهم التجسيم، وتقتضي التشبيه، قد ذكرنا في أوّل كتابنا هذا أنّا نغفل الكلام عليها لأنّ جماعة من علماء الشريعة واللغة قد سبقونا إلى استقصاء القول فيها، وإنّما نذكر منها ما له دخول في باب الاستعارة بجهة من الجهات، إلّا أنا نتكلّم على هذا الخبر هاهنا لضرب من الاستظهار.
فنقول: إن كان نقله صحيحا فله وجه في كلام العرب يسوغ حمله عليه، وردّه إليه ممّا يوافق صفات الله سبحانه، الذي لا يشبه الخلق التي خلقها، والبرايا التي براها وصوّرها وهو أنّ «الإصبع» في كلام العرب اسم للأثر الحسن التي تظهر سمته، وتشتهر علامته، يقال: «لفلان في ماله إصبع حسنة» أي قيام محمود، وأثر جميل، وعلى ذلك قول الراعي يصف راعيا لإبله:
ضعيف العصا بادي العروق ترى له ... عليها إذا ما أجدب النّاس إصبعا (2)
أي ترى له عليها أثرا حسنا. وقد قيل أيضا: «إنّ المراد بذلك إشارة الناس إليها بالأصابع لحسنها وشارتها» (3).
__________
(1) مسند أحمد 2: 168و 6: 91، صحيح مسلم 8: 51، سنن ابن ماجة 1: 72/ 199، سنن الترمذي 5:
3588199، مستدرك الحاكم 1: 525، مجمع الزوائد 6: 325، كنز العمّال 1: 232/ 1166، تنزيه الانبياء: 174، أمالي المرتضى 2: 2، علل الشرائع 2: 604/ 75.
(2) أمالي المرتضى 2: 2، الصحاح 3: 1241و 6: 2429، بادي العروق: عروق بدنه ظاهرة لضعفه وإيثار الغير على نفسه، أجدب الناس أصابهم الجدب، وهو انقطاع المطر ويبس الأرض.
(3) الحسن الشارة سيّان.(1/316)
وقوله: «ضعيف العصا» يريد أنّه لا يكثر ضربها، ولا يعتنف بها، وذلك أجدر بأن تشحم أبدانها، وتغزر ألبانها (1).
ومثل هذا قول الشاعر الآخر وقد تقدّم ذكره:
عليها شريب وادع ليّن العصا ... يساجلها جمّاته وتساجله (2)
وأنشد الخليل بن أحمد في كتاب «العين» لبعض العرب:
أغرّ كضوء البدر في كلّ منكب ... من النّاس نعمى يحتذيها وإصبع (3)
«يحتذيها» هاهنا: يعطيها، كأنّه يفتعلها من «الحذي» (4) كما تقول:
«يصطنعها» (5) و «المنكب» عندهم: اسم لكلّ اثنتي عشرة عرافة (6).
ويسمى الرجل الذي يلي ذلك «منكبا» وهو من يدبر هذه العدة من العرفاء.
وقال شاعر آخر في معنى «الإصبع» أيضا:
من يجعل الله عليه إصبعا ... للخير والشّرّ يصادفه معا (7)
أي من يجعل الله عليه أثرا يستدلّ به على أنّه من أهل الخير أو من
__________
(1) أي تفلّ، فإذا قلت سمنت الناقة. راجع لسان العرب 10: 5049، مادّة (غ ر ز).
(2) الصحاح 6: 2429. وقد تقدّم في صفحة (203) ذيل الحديث 237.
(3) العين 1: 312، أمالي المرتضى 2: 3، وفيه: أغرّ كلون البدر.
(4) وهي العطيّة. أساس البلاغة: 78، مادّة (ح ذ و).
(5) يقال: اصطنع إليه صنيعة أحسن إليه. أقرب الموارد 1: 664، مادّة (ص ن ع).
(6) العرافة: عمل العريف، والمراد أنّ المنكب هو القيم على اثني عشر عريفا. وفي المصباح: أنّه يكون على خمسة عرفاء ونحوها.
(7) ديوان لبيد: 337، أمالي المرتضى 2: 3، وفيه:
من يبسط الله عليه إصبعا ... بالخير والشرّ بأيّ أولعا(1/317)
أهل الشرّ، يصادف الجزاء على كلا الفعلين من ثواب أو عقاب، ونعيم أو عذاب، وذلك الأثر الذي يجعله الله عليه هو استحقاق الحمد من الناس إن كان محسنا، أو استحقاق الذمّ منهم إن كان مسيئا.
فإذا تمهّدت الذي قرّرناه كان معنى لفظ الخبر: ما من آدميّ إلّا وقلبه من الله سبحانه بين نعمتين حسنتين: إحداهما: ما منّ به عليه من معرفة خالقه ورازقه، والاخرى، الغبطة (1) بما أنعم به عليه من تحسين خلقه، وتوسيع رزقه، وذلك يوجب عليه الخروج إليه تعالى من حقّ الشكر على مننه، وإحسان الجوار لنعمه.
وقد عبّر بعضهم عن هذا المعنى بعبارة اخرى، قال: «المراد بذلك تقلّب القلوب بين حسن آثار الله عليها» (2) وهذا القول مجمل، والقول الذي ذكرناه من قبل مفصّل.
فأمّا ما تذهب إليه المشبّهة من «الإصبع» هاهنا على حقيقتها وأنّ لله سبحانه أصابع، ويدا، وساقا، وقدما إلى غير ذلك، فهو من الجهالات التي تدفعها العقول بأوائلها، وتقضي بفسادها قبل إعمال النظر فيها، وكيف يصحّ هذا القول لهم ويقوم في عقولهم مع اعتقادهم أنّ الله سبحانه مستو على العرش كاستواء القاعد في مقعده، والمتمهّد على مهاده، وأنّ بينه وبين المخلوقين من بني آدم سبع سماوات، وما بين كلّ سماء وسماء مسيرة خمسمائة عام، وسمك كلّ سماء مثل ذلك؟! فكيف
__________
(1) أي حسن الحال. المصباح المنير: 442، مادّة (غ ب ط).
(2) لسان العرب 8: 193، تاج العروس 21: 318.(1/318)
يسوغ أن تكون أصابعه تعالى عن ذلك علوا كبيرا واصلة إلى قلوب خلقه مع هذا البعد العظيم، والمدى الطويل؟! ولو كان ذلك على حقيقته لوجب أن يكون له من الأصابع ما لا نهاية له حتّى يختصّ قلب كلّ عبد من عبيده بإصبعين من أصابع يده!! هذا لعمر الله القول المتفاسد، والظنّ المتكاذب.
وبمثل هذا الجواب نجيب من سأل عن قوله تعالى: {مََا يَكُونُ مِنْ نَجْوى ََ ثَلََاثَةٍ إِلََّا هُوَ رََابِعُهُمْ وَلََا خَمْسَةٍ إِلََّا هُوَ سََادِسُهُمْ} (1) الآية، فنقول: أراد سبحانه أنّه معهم بالعلم والإحاطة، لا بالدنوّ والمقاربة لأنّ الأمر لو كان على ذلك لكان المعنى مستحيلا، وذلك أنّه تعالى لا يجوز أن يكون مع كلّ ثلاثة ولا مع كلّ خمسة في حال واحدة على الحقيقة لأنّ الجسم لا يصحّ أن يكون في مكانين في حال واحدة، تعالى الله عن تنقّل الأمكنة وتقلّب الأزمنة علوّا كبيرا.
وممّا يبين كذب قولهم وفساد تأويلهم
مَا رَوَاهُ أَبُو مُعَاوِيَةَ الضَّرِيرُ
وَغَيْرُهُ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَلْقَمَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ
قَالَ: «أَتَى النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، فَقَالَ: يَا أَبَا الْقَاسِمِ: أَبَلَغَكَ أَنَّ اللَّهَ يَحْمِلُ السَّمَاوَاتِ عَلَى إِصْبَعٍ، وَالْأَرْضَ عَلَى إِصْبَعٍ؟
وَالشَّجَرَ عَلَى إِصْبَعٍ، وَالثَّرَى عَلَى إِصْبَعٍ، وَالْخَلَائِقَ عَلَى إِصْبَعٍ، فَضَحِكَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مِنْ قَوْلِهِ، وَأَنْزَلَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ عَقِيبَ ذَلِكَ:
__________
(1) المجادلة (58): 7.(1/319)
{وَمََا قَدَرُوا اللََّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} * (1) الْآيَةِ» (2).
وَقَدْ رُوِيَ أَيْضاً فِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ: «أَنَّ مَنْ زَعَمَ أَنَّ لِلَّهِ خِنْصِراً وَبِنْصِراً فَقَدْ أَشْرَكَ بِاللَّهِ سُبْحَانَهُ» (3)
، ومجال كتابنا هذا أضيق من أن نسير في أقطار الكلام على هذا الخبر أكثر من هذا المسير، وقد استقصينا ذلك في كتاب «حقائق التأويل».
271
(271) وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «يَهْرَمُ ابْنُ آدَمَ وَيَشِبُّ مِنْهُ اثْنَتَانِ:
الْحِرْصُ عَلَى الْحَيَاةِ، وَالْحِرْصُ عَلَى الْمَالِ» (4).
وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى: «الْحِرْصُ وَالْأَمَلُ» (5).
وهذه استعارة، كأنّه عليه الصلاة والسلام جعل زيادة هاتين الخلّتين في الإنسان مع نقصان عمره وتداني أجله، بمنزلة الشباب المقبل، والعمر المستقبل، فكلّما ازدادت حوامل جسمه ضعفا وانتقاضا، زادت جواذب أمله قوّة واستحصافا، فيكون أضعف ما كان بدنا وشخصا، أقوى ما يكون أملا وحرصا.
وَرَوَى هَذَا الْخَبَرَ أَبُو هُرَيْرَةَ عَلَى خِلَافِ هَذِهِ الرِّوَايَةِ، قَالَ: قَالَ عَلَيْهِ
__________
(1) الأنعام (6): 91، الحجّ (22): 74، الزّمر (39): 67.
(2) مسند أحمد 1: 378، صحيح البخاريّ 8: 174، 187، صحيح مسلم 8: 125، سنن التّرمذيّ: 5:
49/ 3291، الدّرّ المنثور 5: 334.
(3) لم أعثر له على مصدر.
(4) مسند أحمد 3: 192، 256، صحيح مسلم 3: 99، سنن ابن ماجة 2: 1415/ 4234، سنن التّرمذيّ 3: 390/ 2442، كنز العمّال 3: 490/ 7557، الخصال 73: 112، روضة الواعظين: 427.
(5) السّنن الكبرى 3: 368، كنز العمّال 3: 460/ 7437، مسند أحمد 3: 115، 119، 169، 275، وفيه: «تبقى فيه اثنتان».(1/320)
الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «قَلْبُ الْكَبِيرِ شَابٌّ عَلَى حُبِّ اثْنَتَيْنِ: حُبِّ الْحَيَاةِ، وَحُبِّ الْمَالِ» (1).
272
(272) وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَقْرَأَ الْقُرْآنَ غَضّاً كَمَا أُنْزِلَ فَلْيَقْرَأْهُ عَلَى قِرَاءَةِ ابْنِ أُمِّ عَبْدٍ» (2).
وهذه استعارة، و «الغضّ» في كلامهم صفة للثمر أو النبت الذي لم يطل مكثه بعد مجتناه، فيؤثّر فيه الزمان، ويدخله التغيير والفساد، ويقولون: «غضّ» و «غضيض» بمعنى واحد، و «الغضيض» أيضا عندهم اسم من أسماء الطلع (3)، فأراد عليه الصلاة والسلام أنّ من يأخذ القرآن عن ابن امّ عبد وهو عبد الله بن مسعود رحمة الله عليه أو يسلك في القراءة نهجه ويطلع فجّه (4)، فقد أخذه سليما من الفساد والتغيير، وبريئا من التحريف والتبديل، فهو كالنبات الغضّ لم يطل عهد جانيه، ولا دبّ الفساد فيه.
وقد روي هذا الخبر على وجه آخر وهو
قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ:
«مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَقْرَأَ الْقُرْآنَ رَطْباً كَمَا أُنْزِلَ»
(5)، والمعنى في الروايتين واحد.
__________
(1) مسند أحمد 2: 501، صحيح البخاري 7: 171، كنز العمّال 3: 490/ 7556.
(2) مسند أحمد 1: 7، 38، 445، 454و 4: 279، مستدرك الحاكم 2: 227و 3: 318، السنن الكبرى 1: 452، مجمع الزوائد 9: 287، كنز العمّال: 2: 51/ 3077، الايضاح 223، 224، 225، 232، سنن ابن ماجة 1: 49/ 138، وفيه: «من أحب».
(3) الطّلع: نور النّخلة مادام في الكافور. لسان العرب 8: 238.
(4) أي طريقة الواضح الواسع. المصباح المنير: 462، مادّة (ف ج ج).
(5) مسند أحمد 1: 7، 26، مجمع الزوائد 9: 287، كنز العمّال 13: 37197460، البداية والنهاية: 9:
149.(1/321)
وَرَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ: «مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَقْرَأَ الْقُرْآنَ غَرِيضاً كَمَا أُنْزِلَ»
(1)، و «الغريض» الطريّ، وهو أيضا في معنى الروايتين الأوليين.
273
(273) وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِأَصْحَابِهِ: «لَتَأْمُرُنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلَتَنْهَوُنَّ عَنِ الْمُنْكَرِ أَوْ لَيَلْحِيَنَّكُمُ اللَّهُ كَمَا لَحَيْتُ (2) عَصَايَ هَذِهِ» (3)، لِعُودٍ فِي يَدِهِ.
وفي هذا الكلام موضع استعارة وهو قوله عليه الصلاة والسلام:
ليلحينّكم الله» والمراد: ليتنقّصنّكم الله في النفوس والأموال، وليصيبنّكم بالمصائب العظام، فتكونون كالأغصان التي جرّدت من أوراقها، وعرّيت من ألحيتها وألياطها (4)، فصارت قضبانا مجرّدة، وعيدانا مفردة، وهم يقولون لمن جلّف (5) الزمان ماله أو سلبه أولاده وأعضاده: «قد لحاه الدهر لحي العصا» لأنّ من (6) كان ينضمّ إليه من ولدته وحفدته ويسبغ عليه من جلابيب نعمته بمنزلة اللحاء للقضيب، والورق للغصن
__________
(1) مسند أحمد: 2/ 446.
(2) أي قشرت. المصباح المنير: 551، مادّة (ل ح ي).
(3) عنه البحار 100: 71/ 4والمستدرك 12: 179/ 13818، انظر: مسند أحمد 5: 388، فيه: أو ليوشكنّ الله أن يبعث عليكم عقابا من عنده، ثمّ لتدعنه فلا يستجيب لكم، وسنن أبي داود 2: 323، فيه: ولتأخذنّ على يدي الظالم ولتاطرنّه على الحقّ أطرا ولتقصرنّة على الحقّ قصرا. وسنن الترمذي 3: 317/ 2259، والسنن الكبرى 10: 93، وفيهما أيضا مع اختلاف.
(4) ألألحية: جمع لحاء، والألياط: جمع ليطة، وكلاهما بمعنى القشر.
(5) أي استأصلها وذهب بها. راجع أقرب الموارد 1: 132، مادّة (ج ل ف).
(6) في نسخة: ما بدل من.(1/322)
الرطيب، فإذا اخرج عن ذلك أجمع كان كالعود العاري، والقضيب الذاوي (1).
274
(274) وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «إِنَّ مِنْ أَرْبَى الرِّبَا اسْتِطَالَةُ الْمَرْءِ فِي عِرْضِ أَخِيهِ الْمُسْلِمِ» (2).
وهذه استعارة لأنّه عليه الصلاة والسلام شبّه تناول الإنسان من عرض غيره بالذمّ والوقيعة والطعن والعضيهة (3) أكثر ممّا تناوله منه ذلك الذي قدح في عرضه، وأغرق في ذمّه بالربا في الأموال وهو أن يعطي الإنسان القليل ليجرّ الكثير، فإنّه يستربي المال بذلك الفعل أي يطلب نماءه وزيادته، وأصل «الربا» عندهم مأخوذ من الزيادة، يقولون: «ربا الشيء في الماء» إذا انتفخ وزاد، ومنه «الرباوة» و «الربوة» وهي ما علا من الأرض وارتفع. ومن ذلك قوله تعالى: {وَتَرَى الْأَرْضَ هََامِدَةً فَإِذََا أَنْزَلْنََا عَلَيْهَا الْمََاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ} (4) أي رطب ثراها وبلّ، وكثر نبتها واتصل.
275
(275) وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي صِفَةِ الْخَوَارِجِ وَالْخَبَرُ طَوِيلٌ:
«يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ يَحْسَبُونَ أَنَّهُ لَهُمْ، وَهُوَ عَلَيْهِمْ لَا يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ» (5).
__________
(1) أي الذابل. المصباح المنير: 211، مادّة (ذ وي).
(2) سنن أبي داود 2: 451/ 4876، السنن الكبرى 10: 241، كنز العمّال 3: 592/ 8059و 4:
105/ 9759، الدرّ المنثور 1: 364، مسند أحمد 1: 190مع اختلاف.
(3) أي الإفك والبهتان والكلام القبيح. أقرب الموارد 2: 795، مادّة (ع ض هـ).
(4) الحجّ (22): 5.
(5) مسند أحمد 1: 92، صحيح مسلم 2: 614/ 1066، سنن أبي داود 4: 244/ 4768.(1/323)
وهذا القول مجاز، والمراد أنّهم لا يعملون بأحكام القرآن وفرائضه، ولا يأتمرون لأوامره، ولا ينزجرون بزواجره، وكأنّهم ليس لهم منه إلّا الصوت الخارج من حناجرهم، يقول عليه الصلاة والسلام: لا يعرف القرآن عندهم إلّا بهذه وتلاوته، دون العمل بأحكامه وواجباته.
وَقَدْ رُوِيَ أَيْضاً: «لَا يُجَاوِزُ تَرَاقِيَهُمْ»
(1) والمعنى واحد.
276
(276) وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِمُخَاطَبَيْنِ مِنْ أَهْلِهِ سَأَلَاهُ فِي حَدِيثٍ طَوِيلٍ: «وَاللَّهِ لَا أُعْطِيكُمَا وَأَدَعُ أَهْلَ الصُّفَّةِ تَنْطَوِي بُطُونُهُمْ لَا أَجِدُ مَا أُنْفِقُ عَلَيْهِمْ» (2).
وفي هذا القول مجاز، وأهل الصفّة: هم فقراء المهاجرين، فكأنّه عليه الصلاة والسلام شبّه بطونهم من الخمص والهضم لقلّة الزاد والمطعم بالأوعية الفارغة التي تنطوي لفراغها، وتنضمّ لخلوّ أجوافها.
وقد يجوز أيضا أن يكون إنّما شبّهها بالبرود (3) المثنيّة والخماص (4)
المطويّة لانضمام بعضها على بعض من خلوّ الأحشاء، وبعد العهد بالغذاء.
__________
(1) صحيح مسلم 2: 615/ 1068، سنن النسائي 7: 120، التراقي: جمع ترقوة، وهي العظم الذي بين ثغرة النحر والعاتق من الجانبين. المصباح المنير: 74، مادّة (ت ر ق و).
(2) مسند أحمد 1: 106، مجمع الزوائد 8: 168و 10: 100، كنز العمّال 6: 16786514و 15:
506/ 41982، ذخائر العقبى 106، البداية والنهاية 6: 366.
(3) البرود: جمع برد، وهو ثوب فيه خطوط، وخصّ بعضهم به الوشي. لسان العرب 1: 368، مادّة (ب ر د).
(4) الخماص: جمع خميصة، وهي كساء أسود مربّع له علمان، فإن لم يكن معلما فليس بخميصة.
راجع لسان العرب 4: 220219، مادّة (خ م ص).(1/324)
وقد يجوز أيضا أن يكون: «تنطوي بطونهم» هاهنا تنفعل من «الطّوى» وهو الجوع، فكأنّه عليه الصلاة والسلام قال: «تتجوّع بطونهم» وهذا القول يخرج الكلام من حيّز الاستعارة، ويدخله في باب الحقيقة.
277
(277) وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «الْإِيمَانُ قَيَّدَ الْفَتْكَ (1)»
(2).
وهذه استعارة، والمراد بذلك أنّ الإنسان المؤمن يمتنع لأجل إيمانه أن يسفك الدم الحرام طاعة لأمر الحميّة، وركوبا لسنن الجاهلية، فكأنّ إيمانه قيّد فتكه، فتماسكه وضبط تهالكه.
ومثل ذلك
قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِخَوَّاتِ بْنِ جُبَيْرٍ الْأَنْصَارِيِّ وَكَانَ خَلِيعاً قَبْلَ إِسْلَامِهِ: «مَا فَعَلَ شِرَادُ بَعِيرِكَ يَا خَوَّاتُ؟» فَقَالَ: قَيَّدَهُ الْإِسْلَامُ يَا رَسُولَ اللَّهِ (3)
، ألا ترى كيف شبّهه عليه الصلاة والسلام في ريعان خلاعته وعنفوان نزاقته بالبعير الشارد الذي قد فارق مراحه (4)، وتبع ارتياحه، وكيف أجاب هذا الإنسان عن كلام النبيّ عليه الصلاة
__________
(1) الفتك: أن يأتي الرجل صاحبه وهو غارّ غافل حتّى يشدّ عليه فيقتله وإن لم يكن أعطاه أمانا قبل ذلك، ولكن ينبغي له أن يعلمه ذلك. لسان العرب 10: 177، مادّة (ف ت ك).
(2) مسند أحمد 1: 166و 4: 92، مستدرك الحاكم 4: 352، 353، مجمع الزوائد 1: 96، كنز العمّال 1: 93/ 405، مقاتل الطالبيين: 65، إعلام الورى: 225، العوالم (الامام الحسين عليه السّلام): 193، البداية والنهاية 6: 253.
(3) النهاية في غريب الحديث 2: 457، كنز العمّال: 7: 210/ 18664، نثر الدر 1: 140، مجمع الزوائد 9: 401، وفيه: «جملك» بدل «بعيرك».
(4) المراح: مأوى الإبل والبقر والغنم أي موضع راحتها في الليل. أقرب الموارد 1: 444، مادّة (ر وح).(1/325)
والسلام بما هو من جنسه، وماض على نهجه، فقال: «قيّده الإسلام» لأنّه عليه الصلاة والسلام لمّا جعله بمنزلة البعير الشارد، وجعل هو ما ردّه عن ذلك الشراد وعكسه عن تلك الحال بمنزلة القيد والعقال، وهذا القول من النبيّ عليه الصلاة والسلام أيضا داخل في باب المجاز.
278
(278) وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «الصَّبْرُ عِنْدَ الصَّدْمَةِ الْأُولَى» (1).
وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى: «الْأَجْرُ عِنْدَ الصَّدْمَةِ الْأُولَى» (2).
وهذا القول مجاز، والمراد بالصدمة أوّل ما يطرق الإنسان من النوائب، ويبدهه (3) من المصائب، فشبّه ذلك عليه الصلاة والسلام في شدّة وقعته وعظيم روعته بصدمة الجسيم الشديد أو صكّة الحجر الثقيل في أنّه يوهن ويحطم، ويرمض (4) ويؤلم، فإذا صبر الإنسان لتلك الواقعة، وتماسك تحت تلك الروعة، وسلّم للأقضية النازلة والأقدار الغالبة، ولم ينفذ في جواذب الجزع، ويركض في مضمار القلق، اعطي الأجر برمّته، وقيد إليه بأزمّته لأنّ ما يطرق الإنسان وهو ذاهل ويفجأه وهو غافل، أعظم نكاية لقلبه وإيجاعا لنفسه ممّا يطرق وقد أخذ له اهبته، وأعدّ له عدّته.
__________
(1) سنن النسائي 4: 22، صحيح البخاري 2: 79، صحيح مسلم 3: 40، سنن ابن ماجة 1: 509/ 1596، سنن أبي داود 2: 64/ 3124، سنن الترمذي 2: 228/ 992، السنن الكبرى 4:
65، مجمع الزوائد 1: 56، كنز العمّال 3: 272/ 6510، الدرّ المنثور 1: 158.
(2) دعائم الإسلام 1: 223.
(3) أي يفاجئه. المصباح المنير: 56، مادّة (ب غ ت).
(4) أي يحرق بالرمضاء، وهي الحجارة الحامية من حرّ الشمس. المصباح المنير: 238، مادّة (ر م ض).(1/326)
279
(279) وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا يُسْلِمُ عَبْدٌ حَتَّى يُسْلِمَ قَلْبُهُ وَلِسَانُهُ»
(1)، في حديث طويل.
وهذه استعارة، والمراد بإسلام قلبه سلامته من الإخبات، وبإسلام لسانه تسلّمه من الأرفاث، فلا يعتقد قلبه شرّا، ولا يقول لسانه هجرا (2).
والدليل على إرادته عليه الصلاة والسلام هذا المعنى،
قَوْلُهُ فِي تَمَامِ الْكَلَامِ: «وَلَا يُؤْمِنُ حَتَّى يَأْمَنَ جَارُهُ بَوَائِقَهُ»
(3)،
وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي حَدِيثٍ آخَرَ: «الْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ النَّاسُ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ» (4).
وكأنّه عليه الصلاة والسلام جعل تمام إسلام العبد أن يكفّ قلبه عن اعتقاد المقبّحات، ويده عن فعل المحظورات، ولسانه عن قول المقذعات (5).
280
(280) وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «إِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ لَمْ يُحَرِّمْ حُرْمَةً إِلَّا وَقَدْ عَلِمَ أَنَّهُ سَيَطَّلِعُهَا مِنْكُمْ مُطَّلِعٌ» (6).
__________
(1) مسند أحمد 1: 387، مستدرك الحاكم 4: 165، مجمع الزوائد 1: 53، كنز العمّال 9: 56/ 24924، الدرّ المنثور 2: 159.
(2) أي فحشا. المصباح المنير: 634، مادّة (هـ ج ر).
(3) مسند أحمد 2: 288و 336، و 4: 31، و 6: 385، البوائق: جمع بائقة، وهي الداهية والشرّ الشديد.
المصباح المنير: 66، مادّة (ب وق).
(4) سنن النسائي 8: 105، مسند أحمد 2: 224و 379و 3: 440و 6: 21، مجمع الزوائد 3: 268، علل الشرائع 2: 523/ 2، معاني الأخبار: 239/ 1.
(5) المقذعات: جمع مقذعة، وهي الكلمات التي تتضمّن فحشا يقبح ذكره. راجع لسان العرب 11: 74، مادّة (ق ذ ع).
(6) مسند أحمد 1: 390و 424، مجمع الزوائد 7: 210، كنز العمّال 11: 31921410.(1/327)
وهذا القول مجاز وذلك أنّه عليه الصلاة والسلام شبّه ما حرّمه الله تعالى من محارمه ونهى عباده عن تقحّمه، بالحمى (1) الذي يحمى رعيه، ويمنع رعيه (2)، وشبّه عليه الصلاة والسلام المتعرّض لحرمة من تلك الحرمات بمن هجم في الحمى مقدما، واطّلع فجأة متقحّما، وقد مضى الكلام على نظير هذا الخبر فيما تقدّم من كتابنا هذا.
281
(281) وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي كَلَامٍ طَوِيلٍ ذَكَرَ فِيهِ بَنِي إِسْرَائِيلَ:
«نَهَاهُمْ عُلَمَاؤُهُمْ عَنِ الْمَعَاصِي فَلَمْ يَنْتَهُوا فَجَالَسُوهُمْ فِي مَجَالِسِهِمْ، وَوَاكَلُوهُمْ وَشَارَبُوهُمْ، فَضَرَبَ اللَّهُ قُلُوبَ بَعْضِهِمْ بِبَعْضٍ، وَلَعَنَهُمْ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى بْنِ مَرْيَمَ» (3).
فقوله عليه الصلاة والسلام: «فضرب الله قلوب بعضهم ببعض» استعارة، والمراد ب «الضرب» هاهنا خلط القلوب بعضها ببعض كأنّه تعالى خلطها بأن شهد على جميعها بالضلال، ولم يميّز بين قلوب العلماء والجهّال إذ كان الضلال شاملا لهم، والغواية ضاربة سياجها عليهم.
ومن ذلك قول القائل: «ضربت بعض بني فلان ببعض» إذا ألقى بينهم حربا يختلطون فيها، أو عداوة يتناوشون (4) عليها.
__________
(1) الحمى: موضع فيه كلأ يحمى من الناس أن يرعى، وكان الشريف من العرب في الجاهلية إذا نزل بلدا في عشيرته استعدى كلبا، فحمى لخاصّته مدى عواء الكلب لا يشركه فيه غيره، فلم يرعه معه أحد.
لسان العرب 3: 348، مادّة (ح م ي).
(2) الرّعي: الكلأ، والرّعي: أكل الكلأ. الصحاح 6: 2358.
(3) مسند أحمد 1: 391، سنن الترمذي 4: 318/ 5038، كنز العمّال 3: 552868، تفسير نور الثقلين 1: 660/ 312مع اختلاف.
(4) يقال: تناوش القوم في القتال إذا تناول بعضهم بعضا بالرماح ولم يتدانوا كلّ التداني. لسان العرب 14: 326، مادّة (ن وش).(1/328)
ونظير ذلك الخبر
مَرْوِيٌّ عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَهُوَ قَوْلُهُ: «أَبِهَذَا أُمِرْتُمْ أَنْ تَضْرِبُوا كِتَابَ اللَّهِ بَعْضَهُ بِبَعْضٍ؟!»
(1) أي أن تجعلوا حرامه حلالا، وحلاله حراما، فكأنّكم قد خلطتموه فجعلتم أعلاه أسفله، ومفهومه مبهومه.
282
(282) وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «الْأَيْدِي ثَلَاثٌ: فَيَدُ اللَّهِ الْعُلْيَا، وَيَدُ الْمُعْطِي بَلَغَ قُبَالًا (2) الْوُسْطَى، وَيَدُ السَّائِلِ السُّفْلَى» (3).
وقد مضى هذا الخبر فيما تقدّم (4)، إلّا أنّ فيه هاهنا زيادة لأجلها أعدنا الكلام عليه وهي قوله عليه الصلاة والسلام: «فيد الله العليا» وهذا القول مجاز، و «يد الله» سبحانه هاهنا نعمته، وهي أعلى النعم لأنّها أصل لها، وامّ لجميعها لأنّ كلّ من أعطى عطاء أوحبى حباء، فإنّما أعطى ممّا خوّله الله سبحانه وتعالى، ولولا ذلك لكانت كفّه جامدة، وريح أريحيته (5) راكدة، ولأجل ذلك يقول في الحياة: «إنّها أوّل النّعم» ويزيد بذلك أنّها أوّل في الرتبة لافتقار كلّ نعمة إليها، وصحّة وجودها متفرّدة بنفسها، غير مفتقرة إلى غيرها، فصارت اولى في الرتب وإن جاز
__________
(1) مسند أحمد 2: 178، 196، سنن ابن ماجة 1: 33/ 85، مجمع الزوائد 7: 202، كنز العمّال 1:
191/ 967.
(2) أي بلغ مرتبة من الوجاهة والرفعة فإنّ قبال كل شيء أوّله وما استقبلك منه، وهذا بخلاف السائل.
راجع لسان العرب 11: 26، مادّة (ق ب ل).
(3) الدرّ المنثور 1: 361، نثر الدر 1: 251، تأريخ اليعقوبي 1: 107، الخصال: 133/ 144.
(4) تقدم في صفحة: (18) ح 19.
(5) الأريحية: خصلة يرتاح بها إلى الندى، يقال: أخذته الأريحية أي الهشاشة لا بتذال العطايا. أقرب الموارد 1: 444، مادّة (ر وح).(1/329)
أن يوجد معها غيرها من النعم.
وفيما علّقته عن قاضي القضاة أبي الحسن عبد الجبار بن أحمد فيما قرأته عليه من أوائل كتابه المعروف ب «شرح الاصول الخمسة»: «أنّ النعمة هي المنفعة إذا قصد بها فاعلها وجه الإحسان.
فإن قيل: فما المنفعة؟
قيل: اللّذات والمسارّ وما أدّى إليها إذا لم يعقب ضررا أعظم منها.
فإن قيل: فما اللّذات؟
قيل: ما يعلمه كلّ أحد من نفسه في إدراك ما يشتهيه من مآكله ومشاربه، ومناظره وملابسه إلى غير ذلك من الامور التي يدعو العلم بها إلى التوصّل إليها. فأمّا السرور فهو اعتقاد ذلك أو الظنّ له.
وليس بمعنى سوى ما ذكرناه، وما يؤدّي إلى اللّذات في كونه نعمة كاللذات، ولذلك نعدّ من مكّن غيره من الوصول إلى الملاذ بالدنانير والدراهم منعما، وإن كانت أعيان الدراهم والدنانير لا لذّة فيها، ولهذا الوجه نعدّ التمكين من هذه الامور نعمة حتّى نقول: إنّ الله سبحانه منعم» بالتكليف الذي هو وصلة إلى النعيم المقيم، والثواب العظيم، ولأجله أيضا قلنا في المصحح للنعم: إنّه نعمة» كما نقول في الحياة والشهوة وإن كانا يترتّبان، وقد عدّ في ذلك أيضا دفع المضارّ والغموم وما يؤدّي إليهما، ولذلك نقول: إنّ الله سبحانه لو عفا عن العصاة كان منعما عليهم، ولو سهّل لهم السبيل إلى الفرار من النار كان محسنا إليهم. وليس يحتمل
كتابنا هذا أكثر من القدر المذكور في هذا المعنى.(1/330)
وليس بمعنى سوى ما ذكرناه، وما يؤدّي إلى اللّذات في كونه نعمة كاللذات، ولذلك نعدّ من مكّن غيره من الوصول إلى الملاذ بالدنانير والدراهم منعما، وإن كانت أعيان الدراهم والدنانير لا لذّة فيها، ولهذا الوجه نعدّ التمكين من هذه الامور نعمة حتّى نقول: إنّ الله سبحانه منعم» بالتكليف الذي هو وصلة إلى النعيم المقيم، والثواب العظيم، ولأجله أيضا قلنا في المصحح للنعم: إنّه نعمة» كما نقول في الحياة والشهوة وإن كانا يترتّبان، وقد عدّ في ذلك أيضا دفع المضارّ والغموم وما يؤدّي إليهما، ولذلك نقول: إنّ الله سبحانه لو عفا عن العصاة كان منعما عليهم، ولو سهّل لهم السبيل إلى الفرار من النار كان محسنا إليهم. وليس يحتمل
كتابنا هذا أكثر من القدر المذكور في هذا المعنى.
وكأنّه عليه الصلاة والسلام جعل يد الله العليا للعلّة التي ذكرناها، وجعل يد المعطي الوسطى لأنّها تليها، وجعل يد السائل السفلى لأنّها مصبّ فضلها، وقرارة سيلها، وقد تقدّمت الإشارة إلى جملة هذا المعنى فيما تقدّم من الكلام.
283
(283) وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «لَيْلَةُ الْجُمُعَةِ غَرَّاءُ، وَيَوْمُهَا أَزْهَرُ» (1).
وهاتان استعارتان، والمراد أنّ ليلة الجمعة متميّزة من سائر الليالي بتعظيم قدرها، وتشريف العمل فيها، فقد صارت لأجل ذلك كالفرس الغرّاء التي تبين من البهم، والشهباء (2) التي تتميّز عن الدّهم (3)، وكذلك المراد بكون يومها أزهر، و «الأزهر» الشديد البياض، كأنّه لتميّزه من الأيّام بعظم القدر وشرف الذكر قد زاد عليها اتّضاحا، وكثرها غررا وأوضاحا. (4)
284
(284) وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي كَلَامٍ طَوِيلٍ: «أَلَا إِنَّ عَمَلَ الْجَنَّةِ حَزْنٌ بِرَبْوَةٍ، أَلَا إِنَّ عَمَلَ النَّارِ سَهْلٌ بِسَهْوَةٍ، وَمَا مِنْ جُرْعَةٍ أَحَبَّ إِلَى
__________
(1) الكافي 3: 415/ 8، المحاسن 1: 58/ 93، دعائم الإسلام 1: 180، روضة الواعظين: 332 المقنعة: 154، نقله عن أمير المؤمنين عليه السّلام، الفقيه: 1: 138/ 373، عن أبي جعفر عليه السّلام و 1:
432/ 1246عن أمير المؤمنين عليه السّلام، التّهذيب 3: 3/ 5، مسند أحمد 1: 259، كنز العمّال 7: 716 حديث 20166.
(2) أيّ البيضاء الّتي يتخلّل بياضها سواد. راجع أقرب الموارد 1: 617، مادّة (ش هـ ب).
(3) الدّهم: جمع أدهم، وهو الأسود. أقرب الموارد 1: 356، مادّة (د هـ م).
(4) الأوضاح: جمع وضح، وهو الغرّة. أقرب الموارد 2: 1460مادّة (وض ح).(1/331)
اللَّهِ سُبْحَانَهُ مِنْ جُرْعَةِ غَيْظٍ يَكْظِمُهَا عَبْدٌ» (1).
وفي هذا الكلام مجازان:
أحدهما:
قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «أَلَا إِنَّ عَمَلَ الْجَنَّةِ حَزْنٌ بِرَبْوَةٍ، أَلَا إِنَّ عَمَلَ النَّارِ سَهْلٌ بِسَهْوَةٍ»
فجعل عليه الصلاة والسلام عمل الجنّة كالحزن من الأرض وهو ما غلظ منها لأنّه يصعب تجشّمه (2)، فكذلك عمل الجنّة يشقّ تكلّفه، وزاد عليه الصلاة والسلام الكلام إيضاحا بقوله:
«حزن بربوة» فلم يرض بأن جعله حزنا حتّى جعله بربوة وهي الأكمة (3)
العالية، ليكون تجشّمه أشقّ، وتكلّفه أصعب، ولم يرض عليه الصلاة والسلام بأن جعل عمل النار سهلا وهو ضدّ الحزن حتّى جعله بسهوة (4) ليكون أخفّ على فاعله، وأهون على عامله.
والمجاز الآخر: قوله عليه الصلاة والسلام «وما من جرعة أحبّ إلى الله سبحانه من جرعة غيظ يكظمها عبد» فكأنّه عليه الصلاة والسلام جعل كظم الغيظ بمنزلة الجرعة المؤثّرة التي يجرعها الإنسان، فيجد مذاقها مرّا، ويجد غبّها (5) حلوا، ولهذا المعنى شبّهوا ما يجده الإنسان من حرارة حزن وحرارة همّ بالشجا (6) المعترض في الحلق، وشبّهوا ما
__________
(1) مسند أحمد 1: 327، كنز العمّال 6: 217/ 15406، الدرّ المنثور 1: 67.
(2) أي تكلّفه على مشقّة المصباح المنير: 102، مادّة (ج ش م).
(3) وهي (أك م).
(4) وهي الأرض اللّينة التربة. لسان العرب 6: 415، مادّة (س هـ و).
(5) أي عاقبتها. المصباح المنير: 442، مادّة (غ ب ب).
(6) الشجا: ما اعترض في الحلق من عظم ونحوه، ثمّ استعير للهمّ والحزن لأنّ الإنسان يغصّ بهما.
أقرب الموارد 1: 573، مادّة (ش ج و).(1/332)
يلحقه من منظر يأباه وملحظ لا يهواه بالقذى (1) العارض في الطرف لأنّ الأوّل يحبس مجاري أنفاسه، والثاني يمنع مجال ألحاظه.
285
(285) وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «شِفَاءُ الْعِيِّ (2) السُّؤَالُ»
(3).
وهذا القول مجاز، والمراد أنّ الشيء إذا عيّ الإنسان به ولم يثلج صدره بمعرفته، كان في السؤال عنه بيان التباسه، وسراح احتباسه، فأقام عليه الصلاة والسلام العيّ بمعرفة الأمر مقام الدّاء المطاول، والكرب المماطل، وأقام السؤال عنه إذا أدّى إلى العلم به مقام الشفاء المزيح، والفرح المريح.
286
(286) وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي كَلِمَاتٍ قَالَهُنَّ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ:
«احْفَظِ اللَّهَ يَحْفَظْكَ، احْفَظْهُ تَجِدْهُ تِجَاهَكَ» (4).
وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى: «تَجِدْهُ أَمَامَكَ» (5).
__________
(1) القذى: ما يقع في العين من تبنة ونحوها. راجع أقرب الوارد 2: 976، مادّة (ق ذ ي) وفي الخطبة الشقشقية: «فصبرت وفي العين قذى، وفي الحلق شجا» وفي دعاء الندبة: «هل قذيت عين فساعدتها عيني على القذى».
(2) أي الجهل. لسان العرب 9: 512، مادّة (ع ي ي).
(3) مسند أحمد 1: 330، سنن ابن ماجة 1: 189/ 572، سنن أبي داود 1: 33685، 337، مستدرك الحاكم 1: 178، السنن الكبرى 1: 227.
(ژ) أي عجز عنه وأشكل أمر عليه. لسان العرب 9: 512، مادّة (ع ي ي).
(4) مسند أحمد 1: 293، 303، سنن الترمذي 4: 76/ 2635، كنز العمّال 1: 133/ 630، ذخائر العقبى: 227.
(5) مسند أحمد 1: 307، مستدرك الحاكم 3: 541، 542، مجمع الزوائد 7: 189، كنز العمّال 1:
133/ 631، الدرّ المنثور 1: 66، الفرج بعد الشدّة 1: 27، ذخائر العقبى: 234، الفقيه 4:
412/ 5900، مشكاة الأنوار 56: 59.(1/333)
وهذا مجاز لأنّ الله سبحانه أمامنا وخلفنا، وعن أيماننا وعن شمائلنا من طريق الحفظ لنا، والإحاطة بنا، فليس يختصّ ذلك منّا بجهة دون جهة، وبحالة دون حالة، إلّا أنّ المراد ب «تجاهك» و «أمامك» هاهنا أنّك تجد حفظه ومعونته حيث توجّهت، وأيّ طريق سلكت، وذلك كقول الشاعر في التخويف بالله تعالى وهو نظير للحال التي كلامنا عليها:
والله يصبح من أمام المدلج (1)
أي لا يفوته هارب، ولا يضلّ عنه شارد.
287
(287) وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «الْعَيْنُ حَقٌّ تَسْتَنْزِلُ الْحَالِقَ» (2).
وهذا مجاز، والمراد أنّ الإصابة بالعين من قوّة تأثيرها، وتحقّق أفاعيلها كأنّها تستهبط العالي من ارتفاعه، وتستقلق الثابت بعد استقراره، و «الحالق» المكان المرتفع من الجبل وغيره، فجعل عليه الصلاة والسلام العين كأنّها تحطّ ذروة الجبل من شدّة بطشها، وحدّة أخذها.
وقد تناصرت الأخبار بأنّ الإصابة بالعين حقّ، والذي يقوله أصحابنا: «أنّ الله سبحانه يفعل المصالح بعباده على حسب ما يعلمه من الصلاح لهم في تلك الأفعال التي يفعلها، والأقدار التي يقدّرها» وإذا
__________
(1) أمالي المرتضى 2: 201، المدلج: الذي يسير الليل كلّه. المصباح المنير: 198، مادة (د ل ج).
(2) مسند أحمد 1: 274، مستدرك الحاكم 4: 215، مجمع الزوائد 5: 107، كنز العمّال 6:
744/ 17657.(1/334)
تقرّرت هذه القاعدة فغير ممتنع أن يكون تغييره تعالى نعمة زيد مصلحة لعمرو، وإذا كان تعالى يعلم من حال عمرو أنّه لو لم يسلب زيدا نعمته ويخفض منزلته، أقبل على الدنيا بوجهه، ونأى عن الآخرة بعطفه (1)، وأقدم على المغاوي، وارتكس في المهاوي، فإذا (2) سلب سبحانه نعمة زيد للعلّة التي ذكرناها عوّضه عنها، وأعطاه بدلا منها عاجلا أو آجلا.
وإذا كان ذلك كما قلنا، وقد روي عنه عليه الصلاة والسلام ما يدلّ على أنّ الشيء إذا عظم في صدور العباد وضع الله قدره، وصغّر أمره، لم ينكر تغيير حال بعض الأشياء عند نظر بعض الناظرين إليه، واستحسانه له، وعظمه في صدره، وفخامته في عينه، كما
رُوِيَ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ لَمَّا سُبِقَتْ نَاقَتُهُ الْعَضْبَاءُ وَكَانَتْ إِذَا سُوبِقَ بِهَا لَمْ تُسْبَقْ:
«مَا رَفَعَ الْعِبَادُ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا وَضَعَ اللَّهُ مِنْهُ»
(3)، فيمكن أن يتأوّل
قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «الْعَيْنُ حَقٌّ»
على هذا الوجه.
ويجوز أن يكون ما امر به المستحسن للشيء عند رؤيته له من إعاذته بالله، والصلاة على رسول الله قائما في المصلحة مقام تغيير حالة الشيء المستحسن، فلا تغيّر عند ذلك لأنّ الرائي قد أظهر الرجوع إلى الله سبحانه، والإخبات له، وأعاذ ذلك المرئي به، فكأنّه غير راكن إلى
__________
(1) العطف: الجانب، أي أعرض وتكبّر.
(2) في الأصل وإذا.
(3) انظر البحار 63: 7.(1/335)
الدنيا، ولا مغترّ بها، ولا واثق بما يرى عليه أحوال أهلها.
ولعمرو بن بحر الجاحظ في الإصابة بالعين مذهب انفرد به، وذلك أنّه يقول: «إنّه لا ينكر أن ينفصل من العين الصائبة إلى الشيء المستحسن أجزاء لطيفة، فتؤثّر فيه، وتجني عليه، ويكون هذا المعنى خاصّا ببعض الأعين، كالخواصّ في الأشياء» (1)، وعلى هذا القول اعتراضات طويلة، وفيه مطاعن كثيرة لا يقتضي هذا الكتاب استيفاء ذكرها، واستقصاء شرحها.
288
(288) وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «الْإِسْلَامُ ذَلُولٌ لَا يَرْكَبُ إِلَّا ذَلُولًا» (2).
وهذه استعارة، والمراد أنّ الإسلام سهل القياد لمن اقتاده، وطيء الظهر (3) لمن اقتعده، لا يتوقّص براكبه (4)، ولا يتقاعس على جاذبه، فهو كالبعير الذلول الذي يسهل مرامه، ويطوع زمامه، وقوله عليه الصلاة والسلام: «لا يركب إلّا ذلولا» أي لا يستجيب من الناس إلّا من لانت للدين عرائكه (5)، وقربت عليه مآخذه، وطاعت نفسه باحتمال أعبائه، والصبر على لأوائه (6)، فأشبه المسلم من هذا الوجه أيضا الفرس الذلول
__________
(1) الحيوان 2: 133.
(2) مسند أحمد 5: 145، مجمع الزوائد 1: 62، كنز العمّال 1: 66/ 244، الدرّ المنثور 1: 192.
(3) أي سهله ليّنه.
(4) أي لا يرمي به فيدقّ عنقه. المصباح المنير: 668، مادّة (وق ص).
(5) العرائك: جمع عريكة، وهي الخلق. أقرب الموارد 2: 773، مادّة (ع ر ك).
(6) أي شدّته. المصباح المنير: 561، مادّة (ل وي).(1/336)
الذي يمكّن راكبه، ويطاوع فارسه.
وإنّما جعل عليه الصلاة والسلام الإسلام في الثاني بمنزلة الراكب بعد أن وصفه في الأوّل بصفة المركوب لأنّ الإسلام كالمالك على الإنسان أمره، والمبتاع منه نفسه، فهو يقوده بزمامه، ويصرفه على أحكامه، وكان من هذا الوجه كأنّه راكب لظهره لمّا كان مالكا لأمره.
289
(289) وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «مَنْ تَقَرَّبَ إِلَى اللَّهِ شِبْراً تَقَرَّبَ إِلَيْهِ ذِرَاعاً، وَمَنْ تَقَرَّبَ إِلَى اللَّهِ ذِرَاعاً تَقَرَّبَ إِلَيْهِ بَاعاً (1)، وَمَنْ أَقْبَلَ إِلَى اللَّهِ مَاشِياً أَقْبَلَ اللَّهُ إِلَيْهِ مُهَرْوِلًا» (2).
وهذا القول مجاز، والمراد أنّ من فعل الشيء القليل من البرّ، عوّضه الله الشيء الكثير من الأجر، فجعل عليه الصلاة والسلام التقرّب من استحقاق الثواب كأنّه تقرّب من فاعل الثواب على طريق المجاز والاتّساع، وعلى هذا المعنى يحمل كلّ ما جاء في القرآن والكلام من ذكر التقرّب إلى الله سبحانه لأنّه تعالى جدّه (3) لا يوصف بالقرب من طريق الدنوّ بالمسافة، ولكن من حيث كان قريب الثواب من مستحقّه، وداني الإحسان من راجيه ومؤمّله، فكانت صفة القرب متعلّقة بإحسانه وثوابه، لا بنفسه وذاته.
فأمّا
قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «وَمَنْ أَقْبَلَ إِلَى اللَّهِ مَاشِياً أَقْبَلَ اللَّهُ إِلَيْهِ
__________
(1) الباع: مسافة ما بين الكفّين إذا بسطتهما يمينا وشمالا. المصباح المنير: 66، مادّة (ب وع).
(2) مسند أحمد 3: 40و 5: 155، مستدرك الحاكم 4: 247، مجمع الزّوائد 10: 196، كنز العمّال 1:
235/ 1179، أمالي المرتضى 2: 6.
(3) أيّ فيضه، وقيل: عظمته. مفردات الرّاغب: 89، مادّة (ج د د).(1/337)
مُهَرْوِلًا»
فالمراد به أنّ من تقرّب إليه سبحانه بطاعة وإن فعلها بطيئا متضرّعا، فإنّه تعالى يجعل جزاءه عليها معدّا مسرعا، فالمشي هاهنا كناية عن الطاعة المبطئة، والهرولة كناية عن المثوبة المسرعة، فذكره عليه الصلاة والسلام على طريق ضرب المثل لفضل ما يفعله الربّ تعالى على ما يفعله العبد وإن كان لا يجب في كلّ طاعة أن يكون جزاؤها عاجلا، وثوابها مبادرا.
290
(290) وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «مَا لِلشَّيْطَانِ مِنْ سِلَاحٍ أَبْلَغَ فِي الصَّالِحِينَ مِنَ النِّسَاءِ» (1).
وهذا القول مجاز وذلك أنّه عليه الصلاة والسلام أقام النساء لحكمهنّ على النفوس، وتأثيرهنّ على القلوب مقام السلاح للشيطان الذي يقارع به قلوب الصالحين، ويقرع بحدّه ضمائر المتماسكين، فيملك به أزمّة رقابهم، وينقلهم به إلى طاعته عن طاعة ربّهم.
ونظير ذلك
قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «النِّسَاءُ حَبَائِلُ الشَّيْطَانِ»
(2)، وقد مضى كلامنا عليه فيما تقدّم من هذا الكتاب.
291
(291) وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَقَدْ سُئِلَ عَنْ ضَالَّةِ الْإِبِلِ، فَقَالَ لِلسَّائِلِ: «مَا لَكَ وَلَهَا؟! مَعَهَا حِذَاؤُهَا وَسِقَاؤُهَا، تَرِدُ الْمَاءَ وَتَرْعَى الشَّجَرَ، حَتَّى يَجِيءَ رَبُّهَا فَيَأْخُذَهَا» (3).
__________
(1) مسند أحمد 5: 163، مجمع الزوائد 4: 250، الدرّ المنثور 2: 311.
(2) النهاية في غريب الحديث 1: 333، كنز العمّال 15: 919/ 43587، الدرّ المنثور 2: 326، البداية والنهاية 5: 18.
(3) المبسوط 3: 318، مسند أحمد 4: 117، صحيح البخاري 3: 93، 95، 7: 99، صحيح مسلم 5:
134، سنن أبى داود 1: 384/ 1704، سنن الترمذى 2: 415/ 1387، السنن الكبرى 6: 189، كنز العمّال 15: 193/ 40553.
134، سنن أبي داود 1: 384/ 1704، سنن الترمذي 2: 415/ 1387، السنن الكبرى 6: 189، كنز العمّال 15: 193/ 40553.(1/338)
وهاتان استعارتان، كأنّه عليه الصلاة والسلام جعل خفّ الضالّة بمنزلة الحذاء، ومستجرّها (1) بمنزلة السقاء، فليس يضرّ بها التردّد في الفيافي، والتنقّل في المصائف والمشاتي لأنّها صابرة على قطع الشقّة، وتكلّف المشقّة لاستحصاف مناسمها، واستغلاظ قوائمها ولأنّها بطول عنقها تتمكّن من ورود المياه القالصة (2)، والتناول من أوراق الشجر الشاخصة، فهي لهذه الأحوال بخلاف الضالّة من الشاة لأنّ تلك تضعف عن إدمان السير والضرب في أقطار الأرض لضعف قوائمها، وقلّة تمكّنها من أكثر المياه والمراعى بنفسها، ومع ذلك فهي فريسة للذئب إن أحسّ حسّها، واستروح ريحها، ولأجل ذلك
قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِلسَّائِلِ عَنْهَا: «خُذْهَا فَإِنَّمَا هِيَ لَكَ، أَوْ لِأَخِيكَ، أَوْ لِلذِّئْبِ».
292
(292) وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي كَلَامٍ طَوِيلٍ: «فَإِذَا طَلَعَ حَاجِبُ الشَّمْسِ فَلَا تُصَلُّوا حَتَّى تَبْرُزَ، وَإِذَا غَابَ حَاجِبُ الشَّمْسِ فَلَا تُصَلُّوا حَتَّى تَغِيبَ» (3).
وهذه استعارة، والمراد ب «حاجب الشمس» أوّل ما يبدو من قرصها، فكأنّه عليه الصلاة والسلام شبّه الشمس عند صعودها من حدبة الأرض بالطالع من وراء ستر يستره، أو غيب يطمره، فأوّل ما يبدو منه وجهه،
__________
(1) أي كرشها. راجع المصباح المنير: 96، مادّة (ج ر ر).
(2) أي المرتفعة. راجع لسان العرب 11: 280، مادّة (ق ل ص).
(3) مسند أحمد 2: 13، 106، كنز العمّال 7: 421/ 19607، عنه مستدرك الوسائل 3: 146/ 3227.(1/339)
وأوّل ما يبدو من مخاطيط (1) وجهه حاجبه، ثمّ بقيّة وجهه، ثمّ سائر جسده شيئا شيئا، وجزء جزء، فكأنّه عليه الصلاة والسلام نهى عن الصلاة عند ظهور بعض الشمس للعيون حتّى يظهر جميعها، وعند مغيب بعضها حتّى تغيب جميعها.
وقال القطامي في حاجب الشمس ومراده جانبها:
تراءت لنا كالشّمس تحت غمامة ... بدا حاجب منها وضنّت بحاجب (2)
أي ظهر منها جانب، وغاب منها جانب.
وقد يجوز أن يكون لحاجب الشمس هاهنا معنى آخر: وهو أن يراد به ما يبدو من شعاعها قبل أن يظهر جرمها، وكذلك ما يغيب من شعاعها قبل أن يغيب قرصها، فأقام ذلك عليه الصلاة والسلام لها مقام الحاجب لأنّه يدلّ عليها، ويظهر بين يديها، فكأنّه عليه الصلاة والسلام نهى عن الصلاة قبل أن يظهر قرص الشمس، وبعد الشعاع الغائب أمامه.
والصلاة المرادة هاهنا صلاة التطوّع، دون صلاة الفرض، ألا ترى أنّ أوّل ما يظهر قرص الشمس ليس بوقت لشيء من الصلوات المفروضات! وفي أوّل هذا الخبر ما يحقّق القول الذي قلناه وهو
قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «لَا تَتَحَرَّوْا بِصَلَاتِكُمْ طُلُوعَ الشَّمْسِ، وَلَا غُرُوبَهَا فَإِنَّهَا تَطْلُعُ بَيْنَ قَرْنَيْ شَيْطَانٍ» (3).
__________
(1) أي اجزائه.
(2) معجم ما استعجم 2: 609، الغمامة: السحابة، وسمّيت بذلك لأنّها تغمّ السماء أي تسترها.
(3) الموطأ 1: 220، سنن النسائي 1: 279، مسند أحمد 2: 19، 24.(1/340)
وقد اختلف الفقهاء في ذلك، فقال أبو حنيفة: «لا يجوز أن يتطوّع بعد صلاة الصبح حتّى تطلع الشمس، ولا بعد صلاة العصر حتّى تغرب الشمس (1)».
وقال الشافعي: «يجوز أن يصلّي في هذين الوقتين النفل الذي له سبب، مثل تحيّة المسجد، ولا يصلّي النفل المبتدأ الذي لا سبب له» (2).
293
(293) وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «الْمُؤْمِنُ يَأْكُلُ فِي مِعَاءٍ وَاحِدٍ، وَالْكَافِرُ يَأْكُلُ فِي سَبْعَةِ أَمْعَاءٍ» (3).
وهذا القول مجاز، والمراد أنّ المؤمن يقنع من مطعمه بالبلغ (4) التي تمسك الرّمق، وتقيم الأود (5)، دون المآكل التي يقصد بها وجه اللّذة، ويقضى بها حقّ الشهوة، فكأنّه يأكل في معاء واحد لفرط الاقتصار، وكراهة الاستكثار، وأمّا الكافر. فإنّه لتبحبحه (6) في المآكل، وتنقّله في المطاعم، وتوخّيه ضدّ ما يتوخّاه المؤمن من إحراز حطام الدنيا التي يطلب عاجلها، ولا يأمل آجلها فهو عبد فيها للذّته، وكادح في طاعة شهوته، كأنّه يأكل في سبعة أمعاء لأنّ أكله للذّة لا للبلغة، وللنهمة لا للمسكة (7).
__________
(1) الفقه على المذاهب الأربعة 1: 368.
(2) الفقه على المذاهب الأربعة 1: 369.
(3) الكافي 6: 268/ 1، الخصال: 351/ 29، مجمع الزوائد 5: 31، انظر: مسند أحمد 2: 21، مسند الشهاب 1: 114.
(4) وهو ما يتبلّغ به من العيش ولا يفضل. المصباح المنير: 61، مادّة (ب ل غ).
(5) أي العوج. لسان العرب 1: 260، مادّة (أود).
(6) أي أنّه لكثرة المآكل التي لديه توسّطها فصارت حوله. راجع لسان العرب 1: 323، مادّة (ب ح ح).
(7) أي البلغة. أقرب الموارد 2: 1211، مادّة (م س ك).(1/341)
294
(294) وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «جِيئُوا بِكَبْشٍ أَقْرَنَ يَطَأُ فِي سَوَادٍ، وَيَنْظُرُ فِي سَوَادٍ»
في حديث طويل، فأتي به فضحّى به وذبحه بيده (1).
وهذه استعارة، والمراد بقوله عليه الصلاة والسلام: «يطأ في سواد» أنّ أظلافه سود، فكأنّه يطأ منها في سواد أي ليس بينها وبين الأرض منها إلّا ما هو أسود، وهذه من محاسن الاستعارات.
والمراد بقوله عليه الصلاة والسلام: «وينظر في سواد» أنّ حدقته سوداء، أو مطارح نظره منها، فكأنّما ينظر في سواد. وهذا المعنى أراد كثيّر بقوله:
ومن نجلاء تدمع في بياض ... إذا دمعت وتنظر في سواد (2)
فالمراد بقوله: «تدمع في بياض» أنّ دمعها يقطر على خدّها وهو أبيض، فيصير الدمع واقعا في بياض، والمراد بقوله: «وتنظر في سواد» المعنى الذي قدّمنا ذكره من وصف الحدقة بشدّة الاسوداد، وإذا كان النظر منها فكأنّ النظر في سواد.
295
(295) وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَقَدْ ذُكِرَ لَهُ امْرَأَةٌ اسْتُحِيضَتْ:
«لَيْسَتْ هَذِهِ بِالْحَيْضَةِ وَلَكِنَّهَا رَكْضَةٌ مِنَ الرَّحِمِ» (3).
وهذه استعارة، والمراد بقوله عليه الصلاة والسلام: «ركضة من
__________
(1) مسند أحمد 6: 78، صحيح مسلم 6: 78، سنن أبي داود 1: 638/ 2792، السنن الكبرى 9: 267، المبسوط 1: 387.
(2) ديوان كثير: 219، أمالي المرتضى 4: 82، النجلاء: الواسعة العين.
(3) سنن النسائي 1: 121، 183، مسند أحمد 6: 129، السنن الكبرى 1: 349.(1/342)
الرّحم» أنّ الرحم نفحت (1) بهذا الدم من غير حيضة، ولكن من حادث علّة، فأشبهت رمحة الفرس إذا رمح بحافره، أو ركضة البعير إذا ركض بمنسمه (2)، وهم يسمّون الطعنة إذا عند عرقها (3) وفار دمها «رمّاحة» و «رموحا» ويقولون: «رمحت بالدم» إذا كان فرغها رغيبا (4)، وجرحها رحيبا، وذلك موجود في أشعارهم، ومتعارف في لسانهم.
296
(296) وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «إِنَّ اللَّهَ لَيُرَبِّي لِأَحَدِكُمُ التَّمْرَةَ وَاللُّقْمَةَ كَمَا يُرَبِّي أَحَدُكُمْ فَلُوَّهُ (5) وَفَصِيلَهُ (6) حَتَّى يَكُونَ مِثْلَ أُحُدٍ» (7).
وهذه استعارة، والمراد أنّ الله سبحانه يجمع القليل إلى القليل من صدقاتكم والنزر من قربكم وطاعاتكم حتّى يعظم يسيرها، ويكبر صغيرها، فيكون عظيم الجزاء بحسبه، وجزيل الثواب على قدره، فجعل عليه الصلاة والسلام ذلك كتربية الفلو والفصيل، وتربية الطفل الصغير لأنّه تنقيل من حال الضعف والصغر إلى حال الاشتداد والكبر.
297
(297) وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «مَنْ عَادَ مَرِيضاً لَمْ يَزَلْ يَخُوضُ
__________
(1) أيّ نزفت.
(2) أيّ خفّه.
(3) أيّ كثر ما يخرج منه. المصباح المنير: 431، مادّة (ع ن د).
(4) أيّ سيلها كثيرا. راجع المصباح المنير: 231و 470، مادّة (ر غ ب) وف ر غ).
(5) أيّ مهره المفصول عن امه. المصباح المنير: 481، مادّة (ف ل و).
(6) أيّ ولد ناقته المفصول عن امه. المصباح المنير: 474، مادّة (ف ص ل).
(7) الموطأ 2: 995، مسند أحمد 6: 251، سنن ابن ماجة 1: 590، تفسير العيّاشيّ 1: 153/ 508، وفيه: «لأحدكم الصّدقة».(1/343)
الرَّحْمَةَ حَتَّى يَجْلِسَ، فَإِذَا جَلَسَ اغْتَمَسَ فِيهَا»
(1).
وهذه استعارة، والمراد العبارة عن كثرة ما يختصّ به عائد المريض من الأجر الوافر، والثواب الغامر، فشبّهه عليه الصلاة والسلام لهذه الحال بخائض الغمر (2) في مشيته، والمغتمس فيه عند جلسته.
298
(298) وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي كَلَامٍ طَوِيلٍ: «لَا تُرْسِلُوا فَوَاشِيَكُمْ وَصِبْيَانَكُمْ إِذَا غَابَتِ الشَّمْسُ، حَتَّى تَذْهَبَ فَحْمَةُ الْعِشَاءِ» (3).
فقوله عليه الصلاة والسلام: «فحمة العشاء» والمراد ظلمة العشاء، إلّا أنّه عليه الصلاة والسلام شبّه الظلمة في هذا الوقت بالفحمة، وهي الهنة (4) السوداء التي أحرقت النار أجزاءها وأحالتها عن هيئتها، والجمع «فحم» كسعفة وسعف (5)، فكأنّه عليه الصلاة والسلام أقام شمس النهار مقام النار المتوقّدة، فإذا انطفأ جاحمها وخمد متضرّمها أعقب منها الحمم، وخلفها الفحم.
و «الفواشي» في هذا الخبر: اسم لما ينتشر من الحيوانات في الحي، كالإبل والغنم والحمير والبقر، وما يجري هذا المجرى، وسمّيت
__________
(1) مسند أحمد 3: 304، مستدرك الحاكم 1: 350، مجمع الزوائد 2: 297، كنز العمّال 9:
100/ 25171.
(2) أي الماء الكثير. أقرب الموارد 2: 885، مادّة (غ م ر).
(3) الموطأ 2: 928، مسند أحمد 3: 395، صحيح مسلم 6: 106، سنن أبي داود 1: 586/ 2604، السنن الكبرى 5: 256، غريب الحديث 1: 240.
(4) الهنة مؤنّث الهن، وهو اسم يكنّى به عن كلّ اسم جنس، ومعناه شيء. أقرب الموارد 2: 1407، مادّة (هـ ن و).
(5) في هذا التشبيه خفاء فإنّ المعروف فيهما التحريك، فيقال سعفه وسعف. راجع لسان العرب 6:
268، مادّة (س ع ف)، قوله: ويجوز السعف، والواحدة سعفة.(1/344)
«فاشية» لانتشارها وظهورها، ومنه قولهم: «فشا الحديث» إذا ظهر وانتشر، ومن كلام العرب: «ضمّوا فواشيهم، وردّوا مواشيهم».
299
(299) وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «اعْطُوا الطُّرُقَ حَقَّهَا» قِيلَ: وَمَا حَقُّهَا يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: «غَضُّ الْبَصَرِ، وَكَفُّ الْأَذَى، وَالْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ، وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ» (1).
وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ: «لَا تَقْعُدُوا عَلَى الصُّعُدَاتِ إِلَّا مَنْ أَعْطَاهَا حَقَّهَا» (2).
و «الصعدات» الطرق، وهذه استعارة، كأنّه عليه الصلاة والسلام جعل للطرق على القاعدين عليها حقّا يجب عليهم الخروج إليها منه، والإعفاء لها به وهو مجموع الخلال المذكور في أوّل الحديث، فمن خرج عن ذلك الحقّ الواجب وقام بذلك الفرض اللازم، جاز له القعود على الطرق، ومن لم يقم بذلك الحقّ ويؤدّ ذلك الفرض، كان جلوسه عليها محظورا، وكان بمخالفة الأمر مذموما.
300
(300) وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «الْمَجَالِسُ ثَلَاثَةٌ: سَالِمٌ، وَغَانِمٌ، وَشَاجِبٌ» (3).
__________
(1) مسند أحمد 3: 47، صحيح البخاري 3: 103و 7: 126، صحيح مسلم 6: 165و 7: 2، سنن أبي داود 2: 439/ 4815، السنن الكبرى 7: 89، مجمع الزوائد 8: 62، كنز العمّال 9: 140/ 25409، الدرّ المنثور 5: 41.
(2) مسند أحمد 6: 385، مجمع الزوائد 8: 62، كنز العمّال 9: 147/ 25448وفي هذه الثلاثة نقل الخبر مع اختلاف في العبارة، معاني الأخبار: 283، وفيه: «ايّاكم والقعود بالصعدات».
(3) مسند أحمد 3: 75، مجمع الزوائد 1: 129، كنز العمّال 9: 147/ 25451، 25452، غريب الحديث 4: 455.(1/345)
وهذا القول مجاز، والمراد أنّ أهل هذه المجالس الثلاثة سالمون وغانمون، وشاجبون، و «الشاجب» الهالك، و «الشجب» الهلاك، فجعل عليه الصلاة والسلام هذه الصفات للمجالس، وهي على التحقيق لأصحاب المجالس، ولكنّها لمّا كانت مشتملة على أهلها حسن إجراء صفاتهم عليها.
ومعنى هذا الخبر: المجلس لا يذكر فيه الجميل، ولا القبيح، ولا المنكر، ولا المعروف، فأهله سالمون، والمجلس الذي يذكر فيه الحسن من الأقوال، ويتحاضّ من فيه على جميع الأفعال، فأهله غانمون، والمجلس الذي لا يسمع فيه إلّا القبيح، ولا يفعل فيه إلّا المحظور، فأهله هالكون.
301
(301) وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «إِنَّ إِبْرَاهِيمَ ابْنِي مَاتَ فِي الثَّدْيِ، وَإِنَّ لَهُ لَظِئْرَيْنِ (1) يُكْمِلَانِ رَضَاعَهُ فِي الْجَنَّةِ» (2).
فقوله عليه الصلاة والسلام: «مات في الثّدي» مجاز، والمراد أنّ الموت أصابه وهو يرضع، فكأنّه عليه الصلاة والسلام قال: «مات وهو في الرضاع» وذلك كقول القائل: «ابن فلان في الصياغة» أو «ولد فلان في التجارة» إذا أراد أنّه قد دفع إلى من يعلّمه هذه الصناعة، فهو مقصور على ذلك، ومأخوذ به، ولم يفرغ بعد من تعلّمه، ومثل ذلك أيضا قولهم:
__________
(1) الظئر: المرأة الأجنبية تحضن ولد غيرها. المصباح المنير: 388، مادّة (ظ أر).
(2) مسند أحمد 3: 112، صحيح مسلم 7: 76، كنز العمّال 12: 455/ 35554، البداية والنهاية 5:
331.(1/346)
«ابن فلان بعد في أبجد» أو «في ألف با تا ثا» أي هو بعد في تعلّمه هذه الحروف المخصوصة، ولم يستكمل علمها فينتقل عنها إلى غيرها.
ولا بدّ من حمل الكلام على تقدير مضاف محذوف وهو رضاع الثدي، فيكون المعنى صحيحا، فكأنّه عليه الصلاة والسلام قال: «مات وهو في رضاع الثدي» ولذلك نظائر كثيرة، وأمثال مشهورة، وبابه ما جاء في التنزيل من قوله تعالى: {وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ} (1)، والمراد أهل القرية وما في معنى ذلك.
302
(302) وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «إِذَا وَقَعَتِ الْحُدُودُ وَصُرِفَتِ الطُّرُقُ فَلَا شُفْعَةَ» (2).
وهذا القول مجاز، والمراد: وحيزت الطرق، فخرجت عن حال الاشتراك، وطريقة الاختلاط، فشبّه عليه الصلاة والسلام ذلك بصرف الإنسان عن وجهته، وعكسه من جهته.
وهذا الخبر ممّا يستشهد به من قال: «إنّ الشفعة إنّما تجب للشريك المخالط، دون الجار المجاور» (3) وقال أهل العراق: «إنّما تجب للشريك المخالط، ثمّ للجار المجاور».
303
(303) وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «وَسَيَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ
__________
(1) يوسف (12): 82.
(2) صحيح البخاريّ 3: 47، 112، سنن ابن ماجة 2: 835/ 2499، سنن ابي داود 2: 147/ 3514، سنن التّرمذيّ 2: 413/ 1382، السّنن الكبرى 6: 102.
(3) في نسخة ب زيادة: وهو مذهب أهل البيت عليهم السّلام وقول مالك والشّافعيّ من فقهاء الحجاز.(1/347)
يُثَقِّفُونَ الْقُرْآنَ كَمَا يُثَقَّفُ (1) الْقِدْحُ (2)»
(3)، في حديث طويل أخرجه مخرج الذمّ لأهل ذلك الزمان.
وهذه استعارة، والمراد أنّهم يعنون بإصلاح ألفاظ القرآن حتّى تقوم على المنهاج، وتقوّم بعد الاعوجاج، فتكون كالسهم المثقّف الذي يسرع في الإنباض (4)، ويقرطس (5) في الأغراض، ولا يتدبّرون ما وراء تلك الألفاظ من حكم واجب، وأمر لازم، وفرض متعيّن، وحقّ مبيّن.
304
(304) وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي كَلَامٍ أَطْلَقَ الشُّرْبَ فِي الْأَوْعِيَةِ بَعْدَ أَنْ كَانَ حَظَرَهُ: «وَنَهَيْتُكُمْ عَنِ الشُّرْبِ فِي الْأَوْعِيَةِ، فَاشْرَبُوا مَا شِئْتُمْ إِلَّا مَنْ أَوْكَى سِقَاءَهُ عَلَى إِثْمٍ» (6).
وهذا القول مجاز، والمراد إطلاق الشّرب في الأوعية التي وقع النهي عنها، كالدّبّاء، والحنتم، والنّقير، والمزفّت (7) إذا كان ما فيها من الأشربة
__________
(1) أي يقوّم اعوجاجه. المصباح المنير: 83، مادّة (ث ق ف).
(2) القدح: اسم السهم قبل أن يركّب نصله وقبل أن يسجعل في ذيله الريش. راجع المصباح المنير:
491، مادّة (ق د ح).
(3) مسند أحمد 3: 146، 397، كنز العمّال 10: 203/ 29070.
(4) أي عند جذب وتر القوس. أقرب الموارد 2: 1263، مادّة (ن ب ض).
(5) أي يصيب الأهداف. راجع أقرب الموارد 2: 987986، مادّة (ق ر ط س).
(6) مسند أحمد 3: 481، كنز العمّال 5: 527.
(7) الدّبّاء: ووعاء يتخذ من القرع، والحنتم: جرّة من خزف مدهونة خضراء كانت تحمل الخمر فيها إلى المدينة، ثمّ اتسع فيها فقيل للخزف كلّه: حنتم، والنّقير: جذع النخلة ينقر ويقوّر حتّى يصير كالإناء، والمزفّت: المطلّي بالزّفت من خارجه حتّى تسدّ مسامّ الإناء، فيكون أسرع لتخمّر ما فيه، والدباء والحنتم والنقير أوعية كانوا ينتبذون فيها وضريت، فكان النبيذ فيها يغلي سريعا ويسكر، فنهاهم عن الانتباذ فيها بشرط أن يشربوا ما فيها وهو غير مسكر. لسان العرب 4: 289، مادّة (د ب ي).(1/348)
المطلقة غير الممنوعة، والمباحة غير المحظورة، وموضع المجاز قوله عليه الصلاة والسلام: «إلّا من أوكى سقاءه على إثم» يقول: إلّا من ربط سقاءه على مشروب محرّم، فإنّ ذلك خارج عن باب الإطلاق والإباحة، وداخل في باب الحظر والكراهة. وأراد عليه الصلاة والسلام:
إلّا من أوكى سقاءه على مشروب يؤدّي إلى الإثم، فأقام الإثم مقامه لأنّه عاقبة أمره، ووبال فعله.
305
(305) وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «حُفَّتِ الْجَنَّةُ بِالْمَكَارِهِ، وَحُفَّتِ النَّارُ بِالشَّهَوَاتِ» (1).
وهذا القول مجاز، والمراد أنّ جميع الأفعال التي توصل إلى الجنّة، يتجشّم فعلها على الكره والمشقّة لأنّ طريقها وعر، ومذاقها مرّ، فلمّا كانت الطرق المفضية إلى الجنّة كلّها كما ذكرنا شاقّة المسالك صعبة على السالك، حسن أن يقال: «الجنّة حفّت بالمكاره» على طريق المجاز وسعة الكلام، ولمّا كانت الأفعال المفضية إلى دخول النار في الأغلب الأكثر كثيرة الملاذ ملائمة للطباع، لا تؤتى من طريق مشقّة، ولا يقرع لها باب كلفة، حسن أن يقال: «إنّ النار حفّت بالشهوات» على طريق الاتساع والمجاز.
306
(306) وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَقَدْ سُئِلَ عَنْ رَجُلٍ كَانَتْ تَحْتَهُ امْرَأَةٌ فَطَلَّقَهَا ثَلَاثاً، فَتَزَوَّجَتْ بَعْدَهُ رَجُلًا، فَطَلَّقَهَا قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ بِهَا، هَلْ تَحِلُّ
__________
(1) مسند أحمد 2: 380، 3: 153، 254و 284، سنن الدّارميّ 2: 339، صحيح مسلم 8: 143، سنن التّرمذيّ 4: 97/ 2684، كنز العمّال 3: 332/ 6805، روضة الواعظين: 421.(1/349)
لِزَوْجِهَا الْأَوَّلِ؟ فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «لَا، حَتَّى يَكُونَ الْآخَرُ قَدْ ذَاقَ مِنْ عُسَيْلَتِهَا، وَذَاقَتْ مِنْ عُسَيْلَتِهِ» (1).
وهذه استعارة، كأنّه عليه الصلاة والسلام كنّى عن حلاوة الجماع بحلاوة العسل، وكأنّ مخبر المرأة ومخبر (2) الرجل كالعسلة المستودعة في ظرفها، فلا يصحّ الحكم عليها إلّا بعد الذوق منها. وجاء عليه الصلاة والسلام باسم «العسيلة» مصغّرا لسرّ لطيف في هذا المعنى وهو أنّه أراد فعل الجماع دفعة واحدة هو ما تحلّ المرأة به للزوج الأوّل، فجعل ذلك بمنزلة الذواق القابل من العسلة من غير استكثار منها، ولا معاودة لأكلها، فأوقع التصغير على الاسم، وهو في الحقيقة للفعل. وذلك بالعكس من التصغير في البيت المشهور، وهو من أبيات الكتاب، وأنشدناه الشيخان أبو الفتح عثمان بن جنّي، وأبو الحسن عليّ بن عيسى الرّبعي، وذلك قول الشاعر:
ياما اميلح غزلانا شدنّ لنا ... من هؤليّائكنّ الضّال والسّمر (3)
فأوقع الشاعر التصغير على الفعل في الظاهر، وذلك غير جائز، وإنّما أراد به على الحقيقة تصغيرا لإسم المصدر الذي هو «الملاحة» فهذا
__________
(1) الموطأ 2: 531، سنن النسائي 6: 146، مسند أحمد 3: 284.
(2) المخبر: خلاف المنظر. الصحاح 2: 641.
(3) ديوان العرجي: 180، الصحاح 1: 407مع اختلاف يسير، امليح: مصغّر أملح، شدنّ: قوين وترعرعن، كما يظهر من اللسان مادّة (ش د ن) ولعلّ المراد: برزن وظهرت، ولكن في اللسان أيضا في مادّة (م ل ح): عطون بدل شدنّ، يقال عطا الظبي: تطاول إلى الشجر ليتناول منه، هؤليّاء: مصغّر هؤلاء، الضال: جمع ضالة، نوع من الشجر، ويطلق أيضا على السدر، السمر: جمع سمرة، وهي شجر الطلح.(1/350)
الشاعر كما ترى صغّر الفعل وأراد الاسم، وهو عليه الصلاة والسلام في الخبر صغّر الاسم وأراد الفعل.
307
(307) وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «لَا يَتَطَهَّرُ الرَّجُلُ فَيُحْسِنُ طَهُورَهُ، ثُمَّ يَأْتِي الْجُمُعَةَ فَيُنْصِتُ حَتَّى يَقْضِيَ الْإِمَامُ صَلَاتَهُ، إِلَّا كَانَ ذَلِكَ كَفَّارَةً لَهُ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجُمُعَةِ الْمُقْبِلَةِ مَا اجْتَنَبَ الْمَقْتَلَةَ» (1).
فقوله عليه الصلاة والسلام: «ما اجتنب المقتلة» مجاز، والمراد: ما لم يواقع الخطيئة الكبيرة التي تكون سببا لهلاكه، وطريقا إلى بواره، فشبّهها عليه الصلاة والسلام بالمقتل (2) من مقاتل الإنسان الذي إذا اتي منه فقد اتي عليه (3). وإنّما أنّث عليه الصلاة والسلام «المقتل» لأنّه جعله في هذا الموضع عبارة عن الخطيئة، وهي مونّثة، فأنّثه حملا على المعنى، ولذلك في كلامهم نظائر كثيرة.
308
(308) وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «إِنَّهُ لَيُغَانُ عَلَى قَلْبِي حَتَّى أَسْتَغْفِرَ اللَّهَ مِائَةَ مَرَّةٍ» (4).
وهذا القول مجاز، والمراد أنّ الغمّ يتغشّى قلبه عليه الصلاة والسلام حتّى يستكشف غمّته ويستفرج كربته بالاستغفار، فشبّه ما تغشّى قلبه
__________
(1) مسند أحمد 5: 439، كنز العمّال 7: 742/ 21195.
(2) وهو الموضع الذي إذا اصيب لا يكاد يسلم صاحبه، كالصدغ. المصباح المنير: 490، مادّة (ق ت ل).
(3) أي قضي عليه.
(4) مسند أحمد 4: 211و 260، صحيح مسلم 8: 72، سنن أبي داود 1: 1515339، مستدرك الحاكم 1: 511، السنن الكبرى 7: 52، كنز العمّال 1: 476/ 2075، الدرّ المنثور 6: 63.(1/351)
من ذلك بغواشي الغيم التي تستر الشمس، وتجلّل الافق، و «الغيم» و «الغين» اسمان للسحاب، وسواء قال: «يغان على قلبي» أو قال:
«يغام على قلبي».
309
(309) وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «الْقُلُوبُ أَوْعِيَةٌ بَعْضُهَا أَوْعَى مِنْ بَعْضٍ» (1).
وهذه استعارة، والمراد تشبيه القلوب بالأوعية وهي الظروف والعياب (2) التي تحرز فيها الأمتعة وغيرها من الأشياء المحفوظة، وهي كالآنية لإيداع الأشياء المائعة، إلّا أنّ الأوعية تختصّ بالجامدات، كما أنّ الآنية تختصّ بالمائعات، فالقلب من حيث حفظ ووعى كالوعاء من حيث جمع وأوعى.
وربّما نسب هذا الكلام إلى أمير المؤمنين عليه السّلام على خلاف في لفظه، وقد ذكرناه في جملة كلامه لكميل بن زياد النّخعي في كتاب «نهج البلاغة» (3).
310
(310) وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «مَا يُخْرِجُ رَجُلٌ شَيْئاً مِنَ الصَّدَقَةِ حَتَّى يَفُلَّ عَنْهُ لِحَى سَبْعِينَ شَيْطَاناً» (4).
وهذا القول مجاز، والمراد تعظيم الأمر في مجاهدة الإنسان نفسه عند
__________
(1) مسند أحمد 2: 177، مجمع الزوائد 10: 148.
(2) العياب: جمع عيبة.
(3) نهج البلاغة (عبده): 691الحكمة 147.
(4) مسند أحمد 5: 350، مستدرك الحاكم 1: 417، السنن الكبرى 4: 187، مجمع الزوائد 3: 109، كنز العمّال 6: 348/ 16000، الدرّ المنثور 1: 355.(1/352)
إخراج الصدقة لشدّة تتبّع النفس لها وكثرة الصوارف عنها ووساوس الشيطان بما يقتضي الامتناع منها، فإذا غلب الإنسان بإخراجها نوازع جنانه ونوازغ شيطانه، كان كأنّه قد افتلّها من أيدي الجاذبين، وفلّ عنها لحى الشياطين.
وإنّما ذكر عليه الصلاة والسلام هذا العدد المخصوص من الشياطين وهو السبعون على طريقة للعرب مشهورة في ذكر ذلك إذا أرادت التكثير. وقد ورد التنزيل بسلوك هذا النهج، والوقوف عند هذا القدر، قال سبحانه: {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لََا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللََّهُ لَهُمْ} (1)، وقال تعالى: {ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهََا سَبْعُونَ ذِرََاعاً فَاسْلُكُوهُ} (2).
311
(311) وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «يَدُ اللَّهِ مَعَ الْقَاضِي حِينَ يَقْضِي، وَيَدُ اللَّهِ مَعَ الْقَاسِمِ حِينَ يَقْسِمُ» (3).
وهذا القول مجاز، والمراد أنّ علم الله سبحانه ومعرفته لا يغيبان عن الحاكم إذا حكم، وعن القاسم إذا قسم، فيعلم سبحانه عدل القاضي إذا تحرّى العدل، وظلمه إذا اعتمد الظلم، ولا يخفى عليه حيف القاسم وميله، أو إنصافه وعدله، وذلك كما يقول القائل: «يد فلان مع فلان» إذا كان مشاركا له في ولاية يليها، أو مشارفا له في امور يمضيها.
__________
(1) التوبة (9): 80.
(2) الحاقة (69): 32.
(3) مسند أحمد 5: 414، السنن الكبرى 10: 132، مجمع الزوائد 4: 193، كنز العمّال 6:
100/ 15021.(1/353)
وفي هذا القول تخويف شديد للحاكم والقاسم من مفارقتهما مقام الحقّ، ومقال الصدق، وحثّ لهما على سلوك النهج الأبلج (1)، وتجنّب الطريق الأعوج.
ونظير هذا الخبر
قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «إِنَّ اللَّهَ عِنْدَ لِسَانِ كُلِّ قَائِلٍ» (2).
والمراد أنّه تعالى يحيط علما بمقاصد كلامه، ومصارف لسانه، كما يعلم ذلك منه من سمع حواره، وشهد خطابه.
ومثل ذلك أيضا
قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَأَرَادَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ: «إِنَّهُ أَقْرَبُ إِلَيْكُمْ مِنْ رُءُوسِ رِكَابِكُمْ (3)» (4).
312
(312) وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدِ بْنِ عَبْدِ رَبِّهِ الْأَنْصَارِيِّ وَقَدْ رَأَى الْأَذَانَ فِي نَوْمِهِ: «أَلْقِهِ عَلَى بِلَالٍ، فَإِنَّهُ أَنْدَى مِنْكَ صَوْتاً» (5).
وهذا القول مجاز، والمراد أنّه أمدّ صوتا منك تشبيها بالشيء النديّ
__________
(1) أي الواضح الظاهر. المصباح المنير: 60، مادّة (ب ل ج).
(2) قرب الإسناد 66: 212، التوحيد 337/ 3، مشكاة الأنوار 47: 33، حلية الأولياء 8: 352، مسند الشهاب 2: 169، كنز العمّال 3: 549/ 7842.
(3) الركاب: الإبل التي يسار عليها، واحدتها: راحلة، ولا واحد لها من لفظها، وجمعها: ركب، لسان العرب 5: 295، مادّة (ر ك ب).
(4) سنن أبي داود 2: 87/ 1526، كنز العمّال 2: 83/ 3244، وفيهما: «بينكم وبين أعناق ركابكم».
(5) المعتبر 2: 127، السنن الكبرى 1: 399، سنن الدارمي 1: 269مع اختلاف، سنن الدارمي 1: 269 بهذا المضمون، سنن ابن ماجة 1: 232/ 706، وفيه أيضا تقدّم وتأخّر في لفظ العبارة، سنن أبي داود 1: 121/ 499مع اختلاف.(1/354)
يمتدّ وينبسط، وهو بالضدّ من اليابس الذي يجتمع وينقبض وعلى ذلك قول الشاعر:
فقلت ادعي وأدعو إنّ أندى ... لصوت أن ينادي داعيان (1)
313
(313) وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «مَنْ قَالَ حِينَ يُصْبِحُ: {لََا إِلََهَ إِلَّا اللََّهُ} *
وَحْدَهُ {لََا شَرِيكَ لَهُ}، {لَهُ الْمُلْكُ، وَلَهُ الْحَمْدُ}، {يُحْيِي وَيُمِيتُ} *، {وَهُوَ عَلى ََ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} عَشْرَ مَرَّاتٍ كَتَبَ اللَّهُ لَهُ بِكُلِّ وَاحِدَةٍ قَالَهَا عَشْرَ حَسَنَاتٍ، وَحَطَّ عَنْهُ بِهَا عَشْرَ سَيِّئَاتٍ، وَرَفَعَهُ بِهَا عَشْرَ دَرَجَاتٍ، وَكُنَّ لَهُ مَسْلَحَةً مِنْ أَوَّلِ نَهَارِهِ إِلَى آخِرِهِ مَا لَمْ يَعْمَلْ يَوْمَئِذٍ عَمَلًا يَقْهَرُهُنَّ» (2).
وفي هذا الكلام استعارتان:
إحداهما: قوله عليه الصلاة والسلام: «كنّ له مسلحة من أوّل نهاره إلى آخره» والمراد ب «المسلحة» هاهنا: مجتمع السلاح الكثير، يقال:
«هاهنا مسلحة للسلطان» ويراد به الموضع الذي فيه جماعة من أعوانه قد كثرت أسلحتهم، واشتدّت شوكتهم، كما يقال: «مأسدة» للأرض الكثيرة الأسد، و «مكمأة» للأرض الكثيرة «الكمأة» و «مفعاة» و «محواة» للأرض الكثيرة الأفاعي والحيّات ونظائر ذلك كثيرة، فجعل عليه الصلاة والسلام هذه الكلمات لقائلهن بمنزلة السلاح الكثير الذي يدفع عنه المخاوف، ويردّ الأيدي البواطش.
__________
(1) مجالس ثعلب: 456، الصحاح 6: 2506.
(2) مسند أحمد 5: 420، مجمع الزوائد 1: 112، كنز العمّال 2: 147/ 3528.(1/355)
والاستعارة الاخرى: قوله عليه الصلاة والسلام: «ما لم يعمل يومئذ عملا يقهرهنّ» والمراد: ما لم يعمل من الأعمال السيّئة في يومه ما يغلب إثمه أجر هذه الكلمات إذا قالها على الوجه المحدود فيها، وينبغي أن يكون المراد بذلك الذنوب الصغائر، دون الذنوب الكبائر لأنّ عقاب الكبيرة يعظم، فيكون كالقاهر لتلك الحسنات التي ذكرها، والدرجات التي أشار إليها.
ولمّا أقام عليه الصلاة والسلام تلك الكلمات مقام السلاح لقائلها، جعل ما في مقابلتها من إثم مولغ، وذنب موبق بمنزلة القاهر لها والثالم فيها ملامحة بين صفحات الألفاظ، ومزاوجة بين فوائد الكلام، وهذا موضع المجاز الثاني الذي أفضنا في ذكره، وكشفنا عن سرّه.
314
(314) وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: لَمَّا أَمَرَ بِرَجْمِ الْيَهُودِيِّ الَّذِي زَنَا بَعْدَ أَنْ وَافَقَ الْيَهُودُ عَلَى أَنَّ حَدَّ الزَّانِي الْمُحْصَنِ عِنْدَهُمْ الرَّجْمُ دُونَ الْجَلْدِ، وَكَانُوا أَنْكَرُوا ذَلِكَ، ثُمَّ أَقَرُّوا بِهِ، فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ:
«اللَّهُمَّ إِنِّي أَوَّلُ مَنْ أَحْيَا أَمْرَكَ إِذْ أَمَاتُوهُ» (1).
وهذه استعارة، والمراد: أنّي أوّل من أظهر أمرك إذ ستروه، وأذاعه إذ كتموه، فأقام عليه الصلاة والسلام الإظهار مقام الإحياء، والإخفاء مقام الإماتة لأنّ الحيّ ظاهر منتشر، والميّت خاف مستتر، وقد مضى الكلام على نظير هذا الخبر فيما تقدّم من هذا الكلام.
315
(315) وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِيمَا رَوَاهُ شَدَّادُ بْنُ الْهَادِ قَالَ: سَجَدَ
__________
(1) صحيح مسلم 5: 123، سنن أبي داود 4: 154/ 4448، سنن ابن ماجة 8552: 2558.(1/356)
رَسُولُ اللَّهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ سَجْدَةً أَطَالَ فِيهَا، فَقَالَ النَّاسُ عِنْدَ انْقِضَاءِ الصَّلَاةِ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّكَ سَجَدْتَ بَيْنَ ظَهْرَانَيْ صَلَاتِكَ (1) سَجْدَةً أَطَلْتَهَا حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ قَدْ حَدَثَ أَمْرٌ، أَوْ أَنَّهُ أَتَاكَ وَحْيٌ، فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «كُلُّ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ، وَلَكِنَّ ابْنِي هَذَا ارْتَحَلَنِي، فَكَرِهْتُ أَنْ أُعَجِّلَهُ حَتَّى يَقْضِيَ حَاجَتَهُ» (2)، وَكَانَ الْحَسَنُ أَوِ الْحُسَيْنُ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ قَدْ جَاءَ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي سَجْدَتِهِ، فَامْتَطَى ظَهْرَهُ.
وهذا الحديث مشهور، وهو حجّة لمن يجوّز انتظار الإمام بركوعه إذا سمع خفق النعال حتّى يدخل الواردون معه في الصلاة، وهو قول الشافعي، وقد كرهه أهل العراق، ولا خلاف في أنّ الإمام يجوز له أن ينتظر حضور الجماعة إذا لم يخش فوت الوقت قبل أن يدخل في الصلاة، فانتظاره عليه الصلاة والسلام ابنه حتّى يقضي منه حاجته، يدلّ على أنّ من فعل هذا الفعل وأشباهه لا يخرج به من الصلاة.
وقوله عليه الصلاة والسلام: «ولكنّ ابني هذا ارتحلني» استعارة، والمراد أنّه جعل ظهره كالراحلة له والمطيّة التي تحمله، ويقال من ذلك:
«رحلت الناقة» و «ارتحلتها» إذا امتطيتها لتسيّرها، وعلى ذلك قال الشاعر:
ولكن رحلناها نفوسا كريمة ... تحمّل ما لا يستطاع فتحمل (3)
__________
(1) أي بينها. المصباح المنير: 387، مادّة (ظ هـ ر).
(2) سنن النسائي 2: 230، مسند أحمد 3: 494و 6: 467، مستدرك الحاكم 3: 166، السنن الكبرى 2: 263، مجمع الزوائد 9: 181، كنز العمّال: 13: 668/ 37703، علل الشرائع 1: 174.
(3) الوافي بالوفيات 6: 95.(1/357)
ألا ترى أنّ الشاعر لمّا جعل هذه النفوس بمنزلة المطايا المذلّلة والظهور المحمّلة، استحسن أن يقول: «رحلناها» مقابلة بين أجزاء اللفظ، وملاحمة بين العجز والصدر، وليس هناك على الحقيقة ظهور تحمل الرجال، وتحمل الأثقال، وإنّما أراد صفة تلك النفوس بالصبر على عضّ البلاء، وعرك الأدواء (1)، ونوازل القدر، وجواذب الغير (2).
316
(316) وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي كَلَامٍ كَلَّمَ بِهِ بَعْضَ أَصْحَابِهِ: «لَنْ تَبْرَحُوا مُبْتَلَيْنَ (3) مَا كُنْتُ بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ، فَإِذَا أَنَا هَلَكْتُ أَقْبَلَتْ إِلَيْكُمُ الدُّنْيَا، وَأَقْبَلْتُمْ إِلَيْهَا، وَاضْطَمَّتْكُمُ (4) الدُّنْيَا اضْطِمَامَ الْوَالِدَةِ وَلَدَهَا» (5).
وهذه استعارة، والمراد أنّ الدنيا بعده عليه الصلاة والسلام تكثر فوائدها، وتتصل مراغدها، فشبّه نفعها لأهلها بحفاوة الوالدة بولدها إذ كانت ترضعه درّها (6)، وتمهده حجرها، وتشبل (7) عليه جهدها، وذلك كقولهم: «قد ضمّ فلان فلانا إلى كنفه» يريدون أنّه قد قام بأمره، وأغناه عن غيره.
317
(317) وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «لَا تُعَادُوا الْأَيَّامَ فَتُعَادِيَكُمْ» (8).
__________
(1) الأدواء: جمع داء. لسان العرب 4: 436، مادّة (د وأ).
(2) أي الأحداث المغيّرة. راجع أقرب الموارد 2: 895، مادّة (غ ي ر).
(3) في نسخة ب: «مقبلين» بدل «مبتلين».
(4) أي ضمّتكم. لسان العرب 8: 89، مادّة (ض م م).
(5) لم أعثر على مصدره.
(6) أي لبنها.
(7) أي تعطف لسان العرب 7: 22، مادّة (ش ب ل).
(8) دعائم الإسلام 2: 145/ 512، معاني الأخبار 123/ 1، الخصال 101394، كمال الدين: 383، كفاية الأثر: 287، روضة الواعظين: 392، إعلام الورى: 438، الخرائج والجرائح 1: 413/ 17، مناقب ابن شهر آشوب 1: 265.(1/358)
وهذا القول مجاز لأنّ الأيّام على الحقيقة لا يصحّ أن تعادي ولا تعادى، وإنّما المراد لا تخصّوا بعض الأيّام بالكراهيّة له، والتطيّر به، فربّما اتفق عليكم فيه من طوارق القدر وبوائق الغير، ما يقوّي في ظنونكم أنّه يختصّ ذلك اليوم دون غيره من الأيّام، وليس كما ظننتم لأنّ الأيّام تمضي في ذلك على عاداتها، وتجري إلى غاياتها، فتكونون كأنّكم قد عاديتم ذلك اليوم باستشعاركم وصول الضرر إليكم منه، ويكون ذلك اليوم كأنّه قد عاداكم باتّفاق المضرّة عليكم فيه، وخرج القول مخرج المجاز والاتساع، ومناديح (1) الكلام.
{بِسْمِ اللََّهِ الرَّحْمََنِ الرَّحِيمِ} *
318
(318) وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَقَدْ سَمِعَ أَعْرَابِيّاً يَقُولُ فِي مَسْجِدِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِعَقِبِ صَلَاةٍ صَلَّاهَا: اللَّهُمَّ ارْحَمْنِي وَمُحَمَّداً، وَلَا تَرْحَمْ مَعَنَا أَحَداً، فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «لَقَدْ تَحَجَّرْتَ وَاسِعاً» (2).
وهذه استعارة، وأصل «التحجّر» أن يختطّ الإنسان خطّة، ويضرب عليها سياجا ليحوزها به، ويعلم أنّها في قبضته، ومنه «الحجرة» وهو البيت المضروب، وجعلت بعد ذلك اسما لبناء مخصوص، وجمعها
__________
(1) المناديح: جمع مندوحة، وهي السعة والفسحة. راجع المصباح المنير: 597، مادّة (ن د ح).
(2) سنن النسائي 3: 14، مسند أحمد 2: 239و 283، سنن أبي داود 1: 94/ 380، 202/ 882، سنن الترمذي 1: 99/ 147، السنن الكبرى 2: 428، كنز العمّال 2: 628/ 4936.(1/359)
«حجر» ومن ذلك قولهم: «حجر الحاكم على فلان» إذا منعه من التصرّف في ماله، فكأنّه ضرب عليه حظارا يحبسه فيه، ويقصر خطوه دونه، فأراد عليه الصلاة والسلام بقوله للأعرابي: «لقد تحجّرت واسعا» تشبيهه بمن ضرب سياجه على قاعة (1) واسعة فحازها، ومنع غيره من المشاركة فيها لأنّه دعا ربّه أن يرحم النبيّ عليه الصلاة والسلام ويرحمه معه خصوصا، وحظر رحمته سبحانه على الناس عموما، وكان ذلك تحجّرا على الرحمة، وسيطرة على النعمة وخلافا لقوله تعالى:
{وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} (2).
وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى: أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ لَمَّا سَمِعَ قَوْلَ الْأَعْرَابِيِّ: «مَنْ هَذَا؟ لَقَدِ احْتَظَرَ وَاسِعاً»
(3)، والمعنى في اللفظين واحد لأنّ الأوّل مأخوذ من «الحجرة» والثاني مأخوذ من «الحظيرة» وقد يجوز أن يكون المراد: لقد ضيّق أمرا واسعا في الجملة.
وقد يجوز أن يكون لقد وسّع على نفسه، فضيّق على غيره.
319
(319) وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «مَنْ أَبْطَأَ بِهِ عَمَلُهُ لَمْ يُسْرِعْ بِهِ نَسَبُهُ» (4).
__________
(1) وهي أرض واسعة سهلة مطمئنّة مستوية حرّة لا حزونة فيها ولا ارتفاع ولا انهباط لسان العرب 11: 348، مادّة (ق وع).
(2) الأعراف (7): 156.
(3) سنن ابن ماجة 1: 176/ 529، مسند أحمد 4: 312و 2: 419، 536.
(4) مسند أحمد 2: 252، سنن الدارمي 1: 99، 101، صحيح مسلم 8: 71، سنن ابن ماجة 1:
82/ 225، سنن أبي داود 2: 157/ 3643، سنن الترمذي 4: 265/ 4015، مستدرك الحاكم 1:
89، كنز العمّال 1: 544/ 2436، نهج البلاغة 4: 6/ 23.(1/360)
وهذه استعارة، والمراد أنّ من تأخّر بسوء عمله عن غايات الفضل ومواقف الفخر، لم يتقدّم إليها بشرف نسبه، وكريم حسبه، فجعل عليه الصلاة والسلام الإبطاء والإسراع مكان التأخّر والتقدّم لأنّ المبطىء متأخّر، والمسرع متقدّم، وأضافهما إلى العمل والنسب، وهما في الحقيقة لصاحبهما لا لهما، ولكن العمل والنسب لمّا كانا سبب الإبطاء والإسراع، حسن أن يضاف ذلك إليهما على طريق المجاز والاتّساع.
320
(320) وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «رَحِمَ اللَّهُ حِمْيَراً أَفْوَاهُهُمْ سَلَامٌ، وَأَيْدِيهِمْ طَعَامٌ، أَهْلُ أَمْنٍ وَإِيمَانٍ» (1).
وهذا القول مجاز، والمراد المبالغة في صفتهم بإفشاء السلام، وإطعام الطعام، فلمّا كثر لفظ السلام من أفواههم وبذل الطعام من أيديهم، جاز على طريق المبالغة أن يقول: «أفواههم سلام، وأيديهم طعام» كما يقول القائل: «ما فلان إلّا أكل ونوم» و «ما فلان إلّا صلاة وصوم» إذا كثر الأكل والنوم من الأوّل، والصلاة والصوم من الآخر.
وعلى هذا قول الخنساء في صفة الظبية الفاقدة ولدها:
ترتاع ما نسيت حتّى إذا ذكرت ... فإنّما هي إقبال وإدبار (2)
تريد صفتها بكثرة الإقبال والإدبار، والتململ (3) والاضطراب.
__________
(1) مسند أحمد 2: 278، سنن الترمذي 5: 385/ 4032، كنز العمّال 12: 58/ 33985.
(2) ديوان الخنساء: 48، لسان العرب 11: 538، وفيه: ترتع ادّكرت، وما في اللسان أصحّ فإنّ الظبية ترتع عند نسيانها أي تأكل وتشرب ما شاءت في خصب وسعة، لا أنّها ترتاع وتغزع عند نسيانها.
(3) أي عدم الاستقرار. راجع لسان العرب 13: 187، مادّة (م ل ل).(1/361)
ومن هذا الباب أيضا قولهم: «فلان عدل» فوصفوه بالمصدر الذي فعله «عدل، يعدل، عدلا» لكثرة وقوعه منه، وتظاهره به، ونظائر ذلك كثيرة.
321
(321) وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَيَعْنِي الْمَوْتَ: «أَكْثِرُوا ذِكْرَ هَادِمِ اللَّذَّاتِ» (1).
وهذه استعارة، والمراد أنّ اللذات بالموت تتلاشى وتبطل، وتمحق وتضمحلّ، كما يضمحلّ البناء بهدمه، ويبطل بتعفية رسمه (2)، و «الهدم» في الأصل: هو الإبطال للشيء، فإذا قالوا: «هدم فلان البناء» فإنّما يريدون أنّه أزاله وأبطله.
وَمِنْ ذَلِكَ الْحَدِيثُ الْمَرْوِيُّ عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِلْأَنْصَارِ لَيْلَةَ الْعَقَبَةِ بَعْدَ مُرَاجَعَةِ كَلَامٍ طَوِيلٍ: «الدَّمَ الدَّمَ، وَالْهَدْمَ الْهَدْمَ»
(3)، وأصحّ ما قيل في تفسير ذلك: «أنّه عليه الصلاة والسلام أراد: أنّكم إن طلبتم بدم طلبته، وإن هدمتموه هدمته، وأقام الهدم هاهنا مقام الطلّ، يقول: إن طللتموه طللته بمعنى إن أبطلتموه أبطلته» وقال يعقوب بن السكّيت في كتاب «الألفاظ»: «يقال: دماؤهم هدم بينهم أي هدر (4)» ويقال:
«هدم» بتحريك الدال أيضا.
__________
(1) البداية والنهاية 9: 238، كنز العمّال 15: 542/ 42095، 42096، 42097، دعائم الإسلام 1:
221، تحف العقول: 178، سنن النسائي 4: 4، مستدرك الحاكم 4: 321، مجمع الزوائد 10: 308، وفي الدعائم وما تلته من الكتب: «هاذم» بدل «هادم» سنن الترمذي 3: 379، وفيه: «هازم».
(2) أي انداراس ما كان لاحقا بالأرض من آثار البناء.
(3) مناقب ابن شهر آشوب 1: 157، مجمع الزوائد 6: 44.
(4) كنز الحفّاظ في تهذيب الألفاظ: 275.(1/362)
322
(322) وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي ذَمِّ أَقْوَامٍ مِنَ الْمُنَافِقِينَ: «خُشُبٌ بِاللَّيْلِ جُدُرٌ بِالنَّهَارِ» (1)
، في كلام طويل.
وهذه استعارة، والمراد أنّهم ينامون الليل كلّه من غير قيام لصلاة، ولا استيقاظ لمناجاة منهم، كالخشب الواهية التي تدعم لئلّا تتهافت، وتمسك لئلّا تتساقط.
323
(323) وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «إِنَّ الْمُؤْمِنَ إِذَا أَذْنَبَ كَانَ الذَّنْبُ نُكْتَةً سَوْدَاءَ فِي قَلْبِهِ، فَإِنْ تَابَ وَنَزَعَ وَاسْتَغْفَرَ صُقِلَ قَلْبُهُ، فَإِنْ زَادَ زَادَتْ حَتَّى تَغْمُرَ قَلْبَهُ» (2).
فقوله عليه الصلاة والسلام: «صقل قلبه» استعارة، والمراد إزالة تلك النكتة السوداء عن قلبه، ولكنّها لمّا كانت بمنزلة الدرن (3) في الثوب أو الطبع (4) على السيف، حسن أن يقال: «صقل قلبه منها» كما يصقل السيف من طبعه، أو يغسل الثوب من درنه.
324
(324) وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي كَلَامٍ طَوِيلٍ: «وَلَا يَشْرَبْ أَحَدُكُمْ الْحُدُودَ وَهُوَ يَشْرَبُهَا مُؤْمِنٌ»
(5).
وهذا القول مجاز، والمراد ب «الحدود» هاهنا الخمر، وإنّما عبّر عليه
__________
(1) النهاية في غريب الحديث 2: 32، مسند أحمد 2: 293، وفيه: «صخب» بدل «جدر»، مجمع الزوائد 1: 107، وفيه أيضا هكذا، كنز العمّال 1: 171/ 862، وفيه: «سخب».
(2) مسند أحمد 2: 297، سنن ابن ماجة 2: 1418/ 4244، روضة الواعظين 414، مشكاة الانوار:
447/ 1499.
(3) أي الوسخ. المصباح المنير: 193، مادّة (د ر ن).
(4) أي الصدأ. أقرب الموارد 1: 696، مادّة (ط ب ع).
(5) المصنّف 7: 416/ 13684.(1/363)
الصلاة والسلام بهذا الاسم عنها لأنّ إقامة الحدود تستحقّ بشربها، وليس هاهنا معصية ربّما اجتمعت في الإقدام عليها حدود كثيرة غيرها لأنّ السكران في الأكثر يقدم على استحلال الفروج، واستهلاك النفوس، وسبّ الأعراض، وقذف المحصنات، فيجتمع عليه حدّ السكر، وحدّ القتل، وحدّ الزنى، وحدّ القذف، ولذلك
قَالَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَقَدْ سَأَلَهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ عَنْ حَدِّ السَّكْرَانِ، فَقَالَ: «أَقِمْ عَلَيْهِ حَدَّ الْمُفْتَرِي لِأَنَّ الشَّارِبَ إِذَا سَكَرَ لَغَا، وَإِذَا لَغَا افْتَرَى» (1).
325
(325) وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي أَطْفَالِ الْمُسْلِمِينَ: «هُمْ دَعَامِيصُ الْجَنَّةِ» (2).
و «الدّعموص» دويبّة (3) صغيرة تكون في مياه العيون، يقال: «إنّها ضفدع» فكأنّه عليه الصلاة والسلام شبّههم للعبهم في أنهار الجنّة ومياهها بالدعاميص التي تقوم في قرارات الغدران وجمامها (4).
326
(326) وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «إِذَا أُضِيعَتِ الْأَمَانَةُ فَانْتَظِرُوا السَّاعَةَ» قِيلَ: وَمَا إِضَاعَتُهَا يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: «إِذَا تَوَسَّدَ الْأَمْرُ إِلَى غَيْرِ أَهْلِهِ» (5).
__________
(1) لاحظ: الموطّأ 2: 842/ 2، وفيه: «هذى» بدل «لغا».
(2) مسند أحمد 2: 477، 510، صحيح مسلم 8: 40، السنن الكبرى 4: 67وفي المصدرين الأخيرين: «صغارّهم».
(3) الياء ساكنة، وفيها إشمام من الكسر، وكذلك ياء التصغير إذا جاء بعدها حرف مثقّل في كل شيء.
لسان العرب 4: 276، مادّة (د ب ب).
(4) الجمام: جمع جمّة، وهي المكان الذي يجتمع فيه الماء. لسان العرب 2: 365، مادّة (ج م م).
(5) مسند أحمد 2: 361.(1/364)
وفي رواية اخرى: «إذا وسّد الأمر إلى غير أهله» (1).
وهذه استعارة، والمراد: إذا استند الأمر إلى غير أهله، فأقام الوساد هاهنا مقام السناد لأنّ المتوسّد للشيء مستند إليه ومعتمد، وإنّما جعل عليه الصلاة والسلام الأمر مستندا لهم لأنّهم القائمون بأحكامه، والمقيمون لأعلامه، فهم له كالمساك والسناد، والدعائم والعماد، ويكون المراد بقوله عليه الصلاة والسلام على الرواية الاخرى: «إذا وسّد الأمر إلى غير أهله» على فعل ما لم يسمّ فاعله.
327
(327) وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «خَمْسٌ لَيْسَ لَهُنَّ كَفَّارَةٌ: الشِّرْكُ بِاللَّهِ سُبْحَانَهُ، وَقَتْلُ نَفْسٍ بِغَيْرِ حَقٍّ، أَوْ بَهْتُ مُؤْمِنٍ، أَوِ الْفِرَارُ يَوْمَ الزَّحْفِ، أَوْ يَمِينٌ صَابِرَةٌ يُقْتَطَعُ بِهَا مَالٌ بِغَيْرِ حَقٍّ» (2).
وهذا مجاز، والمراد: أو يمين مصبورة أي مكرهة على الكذب، من قولهم: «فلان مصبور على السيف» أي محبوس على القتل مع إكراه عليه، واضطرار إليه.
ومن ذلك
الْخَبَرُ الْمَرْوِيُّ: «أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ نَهَى عَنْ صَبْرِ الْبَهَائِمِ»
(3)، وصبرها: حبسها وترك تغذيتها إلى أن تموت مكرهة على تلك الحال المكروهة، ومن ذلك قولهم: «قتل فلان صبرا» فكأنّه عليه الصلاة والسلام جعل تلك اليمين الكاذبة لبعدها عن الصدق، ومخالفتها
__________
(1) صحيح البخاري 1: 21، كنز العمّال 14: 210/ 38422، الدرّ المنثور 6: 50.
(2) مسند أحمد 2: 362، وفيه: «نهب المؤمن».
(3) مسند أحمد 2: 94، سنن النسائي 7: 238، سنن ابن ماجة 2: 1063/ 3186، دعائم الإسلام 2:
175/ 628.(1/365)
جهة الحق بمنزلة المكرهة على ركوب تلك المحجّة الضلعاء (1)، والوقوف عند تلك السوءة السّوءاء (2)، فهي كالمصبورة على السيف، والمحمولة على الخسف.
وممّا يقوي ما قلنا
رِوَايَةُ عِمْرَانَ بْنَ حُصَيْنٍ الْخُزَاعِيِّ لِهَذَا الْخَبَرِ قَالَ:
قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «مَنْ حَلَفَ بِيَمِينٍ كَاذِبَةٍ مَصْبُورَةٍ فَلْيَتَبَوَّأْ (3)
مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ»
(4)، فقد صرّح عليه الصلاة والسلام في هذه الرواية بأنّ اليمين الصابرة في الرواية الاولى تعني المصبورة.
328
(328) وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «إِذَا دَخَلَ الْبَصَرُ فَلَا إِذْنَ»
(5).
وهذه استعارة، والمراد أنّ من استأذن على بيت فولج فيه بصره قبل أن يلج فيه بدنه، فقد بطل إذنه لأنّ الإذن إنّما يكون من قبل أن يقع البصر على ما يشتمل عليه البيت، فأمّا إذا كان ذلك فكأنّ المستأذن قد وصل قبل أن يؤذن له في الوصول، ودخل قبل أن يؤمر بالدخول.
ويقوّي ما قلناه من ذلك الخبر الآخر وهو
قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ:
«مَنِ اطَّلَعَ مِنْ صِيرِ بَابٍ فَقَدْ دَمَّرَ»
(6)، ومعنى دمر: دخل، و «الدامر»
__________
(1) أي الطريق العوجاء. أقرب الموارد 1: 164و 688، مادّة (ح ج ج).
(2) أي الخلّة القبيحة. أقرب الموارد 1: 554، مادّة (س وأ).
(3) أي لينزل منزله من النار، يقال بوّأه الله منزلا أي أسكنه إيّاه. لسان العرب 1: 532، مادّة (ب وأ).
(4) مسند أحمد 4: 436و 441، سنن أبي داود 2: 89/ 3242، مستدرك الحاكم 4: 294، كنز العمّال 16: 691/ 46357.
(5) مسند أحمد 2: 366، سنن أبي داود 2: 513/ 5173، السنن الكبرى 8: 339، الدرّ المنثور: 5:
39.
(6) النهاية في غريب الحديث 3: 66، العين 1: 148.(1/366)
الداخل، و «الصير» هاهنا: الشقّ أو الفرجة تكون بين البابين، ذكر ذلك أبو عبيد في «غريب الحديث» (1).
وموضع المجاز من هذا الكلام تصييره عليه الصلاة والسلام البصر بمنزلة الداخل على القوم، وإنّما أراد عليه الصلاة والسلام رؤيته لهم، ونفوذه إلى ما وراء بابهم.
329
(329) وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «الْجَرَسُ مِزْمَارُ الشَّيْطَانِ» (2).
وهذه استعارة وذلك أنّه لمّا كان كلّ صوت مكروه ينسب إلى الشيطان، كضروب الغناء، وعويل النساء، وكان صوت الجرس من الأصوات المكروهة بدليل
قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي الْخَبَرِ الْآخَرِ:
«لَا تَصْحَبُ الْمَلَائِكَةُ رُفْقَةً فِيهَا جَرَسٌ»
(3)، حسن أن يضاف صوته إلى الشيطان على طريق المجاز والاتّساع.
330
(330) وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «إِنَّ الْمُؤْمِنَ لَيُنْضِي شَيْطَانَهُ كَمَا يُنْضِي أَحَدُكُمْ بَعِيرَهُ فِي السَّفَرِ» (4).
وهذه استعارة، والمراد أنّ المؤمن يصعب قياده على الشيطان فلا يصغي إلى وساوسه، ولا يجعل لهواجسه سبيلا إليه اعتصاما منه بدينه،
__________
(1) غريب الحديث لأبي عبيد 1: 91.
(2) مسند أحمد 2: 366، سنن أبي داود 1: 576/ 2556، مستدرك الحاكم 1: 445.
(3) مسند أحمد 2: 327و 392و 414و 6: 327و 426، السنن الكبرى 5: 254، مجمع الزوائد: 5:
174، كنز العمّال 6: 720/ 17564.
(4) مسند أحمد 2: 380، كنز العمّال 1: 145/ 706.(1/367)
واستلاما (1) عليه في جنّة (2) يقينه، فشيطانه أبدا مكدود (3) معه لطول منازعته القياد، ومفالتته الزمام، فشبّهه عليه الصلاة والسلام لإتعابه الشيطان في الاحتجاز عن إضلاله، والامتناع من اتّباعه بالمنضي بعيره في السفر: إذا أطال شقّته، واستفرغ قوّته، وحشّ عريكته (4).
331
(331) وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي كَلَامٍ طَوِيلٍ: «لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَكْثُرَ الْمَالُ وَيَفِيضَ إِلَى أَنْ يَخْرُجَ الرَّجُلُ بِزَكَاةِ مَالِهِ فَلَا يَجِدَ أَحَداً يَقْبَلُهَا مِنْهُ» (5).
فقوله عليه الصلاة والسلام: «حتّى يكثر المال ويفيض» استعارة، كأنّه شبّهه بالماء الطامي (6) الذي يفيض من قرارته (7)، ويسيح من كثرته.
ونظير هذا الخبر
مَا رُوِيَ مِنْ قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي خَبَرٍ آخَرَ:
«وَرُبَّ مُتَخَوِّضٍ فِي مَالِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ فِيمَا اشْتَهَتْ نَفْسُهُ، لَهُ النَّارُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ»
(8)، كأنّه عليه الصلاة والسلام جعل كثرة المال عند هذا الإنسان، بمنزلة الغمرة الطامية، والجمّة الطافحة، وجعل إنفاقه منه وتقلّبه فيه،
__________
(1) أي تدرّعا. أقرب الموارد 2: 1122، مادّة (ل أم).
(2) الجنّة: كلّ ما وقى من سلاح. أقرب الموارد 1: 144، مادّة (ج ن ن).
(3) أي متعب. لسان العرب 12: 44، مادّة (ك د د).
(4) أي قطع سنامه، والسنام خيار ما في البعير. راجع لسان العرب 3: 187، مادّة (ح ش ش) و 6: 394، مادّة (س ن م) ومادّة (ع ر ك).
(5) صحيح مسلم 3: 84، كنز العمّال 14: 207/ 38412، العمدة: 426/ 892.
(6) أي المرتفع. أقرب الموارد 1: 717، مادّة (ط م و) و (ط م ي).
(7) القرارة: القاع المستدير يجتمع فيه ماء المطر. أقرب الموارد 2: 982، مادّة (ق ر ر).
(8) مسند أحمد 6: 364، 410، مجمع الزوائد 3: 99و 10: 246، كنز العمّال 3: 184/ 6075.(1/368)
بمنزلة الخوض في الجمام الغزار، واللجج الغمار.
332
(332) وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «إِنَّ لِلْمَسَاجِدِ أَوْتَاداً الْمَلَائِكَةُ جُلَسَاؤُهُمْ إِذَا غَابُوا افْتَقَدُوهُمْ، وَإِنْ مَرِضُوا عَادُوهُمْ، وَإِنْ كَانُوا فِي حَاجَةٍ أَعَانُوهُمْ» (1).
وهذه استعارة، كأنّه عليه الصلاة والسلام شبّه المقيمين في المساجد والملازمين لها والمنقطعين إليها، بالأوتاد المضروبة فيها، وذلك من التمثيلات العجيبة الواقعة موقعها، والمقرطسة غرضها (2)، ويقال: «فلان وتد المسجد» و «حمامة المسجد» إذا طالت ملازمته له، وانقطاعه إليه، وتشبيهه بالوتد في الملازمة أبلغ من تشبيهه بالحمامة لأنّ الحمامة تنتقل وتزول، والوتد مقيم ولا يريم (3).
333
(333) وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي حَدِيثٍ طَوِيلٍ: «وَرَجُلٌ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ أَخْفَاهَا لَا تَعْلَمُ شِمَالُهُ مَا تُنْفِقُ يَمِينُهُ» (4).
وهذا مجاز، والمراد المبالغة في صفته بكتمان نفقته، وإخفاء صدقته، فإذا كانت شماله لا تعلم بما تنفقه يمينه وهي سريحتها (5) وقسيمتها (6)،
__________
(1) مسند أحمد 2: 418، مجمع الزوائد 2: 22، كنز العمّال 7: 580/ 20350، الدرّ المنثور 3: 216.
(2) أي المصيبة لهدفها.
(3) أي لا يبرح. لسان العرب 5: 394، مادّة (ر ي م).
(4) الموطّأ 2: 952/ 24، سنن النسائي 8: 223، مسند أحمد 2: 439، صحيح البخاري: 2: 115، صحيح مسلم 3: 93، سنن الترمذي 4: 25/ 2500، السنن الكبرى 3: 66، كنز العمّال 15:
905/ 43561، الخصال 343: 7.
(5) أي التي تسرح وتتحرّك معها.
(6) فإنّ كل يد قسم لمقسم، وكلّ واحدة قسيمة للاخرى.(1/369)
وجارتها ولصيقتها فأجدر ألّا يعلم بذلك غيرها ممّن شطّ (1) دارا، وبعد جوارا.
334
(334) وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَقَدْ ذَكَرَ لُوطاً عَلَيْهِ السَّلَامُ وَقَوْلَهُ لِقَوْمِهِ: {لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلى ََ رُكْنٍ شَدِيدٍ}
(2)، قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ:
«فَمَا بَعَثَ اللَّهُ بَعْدَهُ نَبِيّاً إِلَّا فِي ذِرْوَةِ قَوْمِهِ» (3).
وهذه استعارة، والمراد: فما بعث الله نبيّا إلّا في أعلى شرف قومه لئلّا يغمض حسبه، ويزدرى منصبه، فيكون ذلك منفّرا عنه، وموحشا منه، فشبّه عليه الصلاة والسلام ذلك بذروة البعير: وهي سنامه، أو ذروة الجبل: وهي رأسه، ويقولون: «فلان في الغوارب من قومه» كما يقولون: «في الذرى من قومه» فالغارب (4) هاهنا كالذروة هناك، ويقولون أيضا» هو في عليا قصر قومه» وفي رواية: «عليا قومه» إذا أرادوا هذا المعنى، وذلك في أشعارهم وكلامهم أكثر من أن يستقصى.
وَفِي شِعْرٍ يُرْوَى لِأَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ.
كَانُوا الذُّؤَابَةَ مِنْ فِهْرٍ وَأَكْرَمَهَا ... حَيْثُ الْأُلُوفُ الْفَرْعُ وَالْعَدَدُ (5)
__________
(1) أي بعد. المصباح المنير: 313، مادّة (ش ط ط).
(2) هود (11): 80.
(3) مسند أحمد 2: 332، 384، 533، سنن الترمذي 4: 356مع اختلاف، مستدرك الحاكم 2: 561 وفيه: «ثروة قومه»، كنز العمّال 11: 505/ 32361مع اختلاف.
(4) الغارب: أعلى كلّ شيء، ومنه: غوارب الماء أي أعالى موجه. أقرب الموارد 2: 865، مادّة (غ ر ب).
(5) ديوان أمير المؤمنين عليه السّلام: 45، كانوا الذؤابة: أي أشرافها ومتقدّميها، فهر: قبيلة، وهي أصل قريش وهو فهر بن غالب بن النضر بن كنانة، وقريش كلّهم ينسبون إليه.(1/370)
335
(335) وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «لِكُلِّ شَيْءٍ سِنَامٌ، وَسِنَامُ الْقُرْآنِ سُورَةُ الْبَقَرَةِ، وَمِنْهَا آيَةٌ هِيَ سَيِّدَةُ آيِ الْقُرْآنِ لَا تُقْرَأُ فِي بَيْتٍ فِيهِ الشَّيْطَانُ إِلَّا خَرَجَ مِنْهُ، وَهِيَ آيَةُ الْكُرْسِيِّ» (1).
وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى: «الْبَقَرَةُ سِنَامُ الْقُرْآنِ وَذِرْوَتُهُ، وَيَاسِينُ قَلْبُ الْقُرْآنِ» (2).
وفي هذا الكلام استعارات ثلاث:
أولاهنّ: قوله عليه الصلاة والسلام: «وسنام القرآن سورة البقرة» والمراد أنّها أعلى القرآن وأشرفه، كما أنّ أعلى ما في البعير سنامه وذروته، والكلام في هذا المعنى كالكلام على الخبر المذكور أمام هذا الخبر لأنّ المراد بهما واحد.
والاستعارة الثانية: قوله عليه الصلاة والسلام: «ومنها آية هي سيّدة آي القرآن» والمراد أنّها تتقدّم القرآن وتفضله، كما أنّ السيّد يتقدّم على عشيرته، ويفضل أهل طبقته.
والاستعارة الثالثة: قوله عليه الصلاة والسلام: «ياسين قلب القرآن»، والمراد أنّها خالصته ولبابه، كما أنّ قلب الشيء صميمه ومصاصه (3)، ويقولون: «فلان قلب بني فلان» إذا كان في مقرّ صميمهم، وفي مصحّ أديمهم (4).
__________
(1) سنن الترمذي 4: 232/ 3038، كنز العمّال 1: 561/ 2527، الدرّ المنثور 1: 20.
(2) مسند أحمد 5: 26، مجمع الزوائد 6: 311، كنز العمّال 1: 565/ 2548.
(3) أي خالصه. لسان العرب 7: 413و 13: 123، مادّة (ص م م) و (م ص ص).
(4) أي خالصهم، كما يقال: فلان صحيح الأديم وصحاحه، ويعنون به أنّه بريء من كلّ عيب وريب، وكما يقال: فلان بريء الأديم ممّا لطّح به. ولعلّ كلمة مصح مصحّفة محض فإنّه معنى مقبول لها.(1/371)
336
(336) وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي كَلَامٍ طَوِيلٍ: «أَيُّهَا النَّاسُ: مَا يَحْمِلُكُمْ عَلَى أَنْ تَتَتَايَعُوا فِي الْكَذِبِ كَمَا يَتَتَايَعُ الْفَرَاشُ فِي النَّارِ؟!»
(1).
وهذا القول مجاز، والمراد: يتسارعون إلى قول الكذب تهافتا فيه، ومنازعة إليه، فيكونون كالفراش المتساقط في النار لأنّه يلوذ بها، وينازع إليها، و «التتايع»: التواقع في الشيء المكروه، فلمّا كان الكذب كالمهواة والمزلّة من حيث أدّى إلى المخزاة والمذلّة حسن لذلك أن يجعل المتسرّع إليه كالواقع فيهما، والمرتكس في قعرهما.
وقد يجوز أيضا أن يكون المراد أنّ الكذب لمّا كان مفضيا إلى دخول النار، جعل المتسرّع إليه كالمتهافت في النار. ويؤكّد هذا الوجه تشبيه المتتايع في الكذب بالفراش المتساقط في النار، ولذلك نظائر قد تقدّم الكلام عليها في هذا الكتاب.
337
(337) وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَقَدْ ذُكِرَ عِنْدَهُ رِجَالٌ مِنْ أَصْحَابِهِ يَجْتَهِدُونَ فِي الْعِبَادَةِ اجْتِهَاداً شَدِيداً، فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «تِلْكَ ضَرَاوَةُ الْإِسْلَامِ وَشِرَّتُهُ (2)، وَلِكُلِّ شَيْءٍ ضَرَاوَةٌ وَشِرَّةٌ، وَلِكُلِّ شِرَّةٍ فَتْرَةٌ (3)، فَمَنْ كَانَتْ فَتْرَتُهُ إِلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فَسَالِمٌ مَا هُوَ، وَمَنْ كَانَتْ
__________
(1) كنز العمّال 3: 634/ 8265، معجم مقاييس اللّغة 1: 360، نثر الدّرّ 1: 197، مسند أحمد 6: 454، مجمع الزّوائد 1: 142و 6: 209، الدّرّ المنثور 3: 290وفي المصادر الثّلاثة الأخيرة: «تتابعوا» و «يتتابعوا».
(2) الشرة: النّشاط والرّغبة. لسان العرب 7: 78، مادّة (ش ر ر).
(3) الفترة: الانكار والضّعف. لسان العرب 10: 175، مادّة (ف ت ر).(1/372)
فَتْرَتُهُ إِلَى مَعَاصِي اللَّهِ فَذَلِكَ الْهَالِكُ» (1).
فقوله عليه الصلاة والسلام: «تلك ضراوة الإسلام وشرّته» استعارة، والمراد بذلك شدّة الورع وإفراطه، وغلوّه واشتطاطه، تشبيها له بالضراوة على الشيء المأكول أو المشروب وهي شدّة الاعتياد له، وفرط المنازعة إليه، وذلك مأخوذ من قولهم: «سبع ضار» إذا درب (2) بأكل اللحم، فكثر طلبه له، ولوبته (3) عليه، ويقولون: «عرق ضار» إذا فار دمه فلم يقف، وتواتر فلم ينقطع.
وقال الأخطل يصف دنّ الخمر عند بزله (4):
لمّا أتوها بمصباح ومبزلهم ... سارت إليهم سؤور الأبجل الضّاري (5)
و «الأبجل» واحد الأباجل وهي العروق، ومعنى «سارت» أي فارت ونضحت مأخوذ من «سورة الشيء» وهي حركته وطموحه.
وممّا في هذا المعنى
الْخَبَرُ الْمَرْوِيُّ عَنْ بَعْضِ الصَّحَابَةِ: «اتَّقُوا هَذِهِ الْمَجَازِرَ فَإِنَّ لَهَا ضَرَاوَةً كَضَرَاوَةِ الْخَمْرِ»
(6)، فأراد أنّ ضرر الإدمان على أكل اللحم، كضرر الإدمان على شرب الخمر، إلّا أنّ المستكثر من اللحم يؤثّر ضرره في بدنه، والشارب للخمر يؤثّر ضررها في دينه.
__________
(1) مسند أحمد 2: 165، وفيه: «فلام «بدل «فسالم».
(2) أي اعتاده واجترأ عليه. راجع المصباح المنير: 361، مادّة (ض ر ي).
(3) أي حومه حوله. راجع لسان العرب 12: 350، مادّة (ل وب).
(4) أي عند تصفيته. لسان العرب 1: 401، مادة (ب ز ل).
(5) ديوان الأخطل: 82، الصحاح 2: 690و 6: 2408، المبزل: ما يصفّى به الشراب ونحوه.
(6) النهاية في غريب الحديث 1: 267.(1/373)
338
(338) وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «لَعَنَ اللَّهُ الَّذِينَ يُشَقِّقُونَ الْكَلَامَ تَشْقِيقَ الشِّعْرِ» (1).
وهذا القول مجاز، والمراد الذين يتصرّفون في الكلام، فيدقّقون فيه، ويتعمّقون (2) في معانيه، وشبّه عليه الصلاة والسلام فعلهم ذلك بتشقيق الشعر لأنّ طاقات الشعر مستدقّة (3) في نفوسها، وإذا تعاطى الإنسان تشقيقها انتهت من الدقّة إلى غاية لا زيادة وراءها. وهذا اللعن في الخبر إنّما يتناول من بلغ في تدقيق الكلام إلى ذلك الحدّ ليشتبه الباطل بالحقّ، ويجوز الغيّ بالرّشد، كما قلنا في تأويل
قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِأَبْغَضِكُمْ إِلَيَّ وَأَبْعَدِكُمْ مِنِّي مَجْلِساً يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟ الثَّرْثَارُونَ الْمُتَفَيْهِقُونَ» (4).
339
(339) وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «لَيَدْخُلَنَّ هَذَا الدِّينُ عَلَى مَا دَخَلَ عَلَيْهِ اللَّيْلُ» (5).
وهذا القول مجاز، والمراد انتشار الإسلام في الشرق والغرب، واشتماله على البرّ والبحر، فجعله عليه الصلاة والسلام من هذا الوجه
__________
(1) مسند أحمد 4: 98، مجمع الزوائد 2: 191و 8: 116، وفيهما: لعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم، كنز العمّال 3:
562/ 7916، وفيه: «يشقّقون الخطب».
(2) التعمّق في الأمر: المبالغة والتشديد فيه. النهاية في غريب الحديث 3: 299، لسان العرب 10:
271.
(3) استدقّ الشيء: صار دقيقا. الصحاح 4: 1476، لسان العرب 10: 102.
(4) مسند أحمد 4: 193، 194، سنن الترمذي 3: 250/ 2087، مجمع الزوائد 8: 21.
(5) مسند أحمد 4: 103، كنز العمّال 1: 267/ 1345، وفيهما: «ليبلغنّ هذا الأمر».(1/374)
بمنزلة الداخل دخول الليل في الإطلال والإطباق، وتجليل البلاد والآفاق.
ومن ذلك ما روي في حديث عن بعض الصحابة، وهو قوله: «وكان ذلك حين دجا الإسلام» (1) أي ألبس كلّ شيء، ودخل علىّ كلّ حيّ تشبيها بالليل في تغطية البلاد، وشموله النجاد والوهاد (2).
وممّا يقوّي هذا المعنى
مَا رُوِيَ عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: أَنَّهُ قَالَ لِفَاطِمَةَ عَلَيْهَا السَّلَامُ وَقَدْ رَأَتْ قَمِيصَهُ مَخْرُوقاً، وَبَطْنَهُ خَمِيصاً، فَبَكَتْ عِنْدَ ذَلِكَ، فَقَالَ لَهَا عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «أَمَا يُرْضِيكِ يَا فَاطِمَةُ أَلَّا يَبْقَى عَلَى ظَهْرِ الْأَرْضِ بَيْتُ مَدَرٍ وَلَا وَبَرٍ إِلَّا دَخَلَهُ عِزٌّ أَوْ ذُلٌّ بِأَبِيكِ!» (3).
340
(340) وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ: «أَلَا أُخْبِرُكَ بِرَأْسِ الْأَمْرِ وَعَمُودِهِ وَذِرْوَةِ سِنَامِهِ؟» قَالَ: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: «رَأْسُ الْأَمْرِ الْإِسْلَامُ، وَعَمُودُهُ الصَّلَاةُ، وَذِرْوَةُ سَنَامِهِ الْجِهَادُ» (4).
وهذه الألفاظ كلّها مستعارة، كأنّه عليه الصلاة والسلام جعل الإسلام
رأس دين الله المتقدّم، ورئيسه المعظّم، وجعل الصلاة عموده الذي به قوامه، وعليه قيامه، وجعل الجهاد ذروة سنامه لأنّه يعدّ الرأس أعلى مشارفه، وأرفع مراتبه، وبه يشاد بناؤه، ويقام لواؤه، ويقمع أعداؤه.
341
(341) وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «حُجُّوا قَبْلَ أَلَّا تَحُجُّوا حُجُّوا
__________
(1) النّهاية في غريب الحديث 2: 102، لسان العرب 14: 250.
(2) أيّ العوالي والسوافل.
(3) مسند أحمد 6: 4، مستدرك الحاكم 1: 489و 3: 155، كنز العمّال 11: 461/ 32164.
(4) مسند أحمد 5: 237، مستدرك الحاكم 2: 76، 413، السّنن الكبرى 9: 20.(1/375)
قَبْلَ أَنْ يَمْنَعَ الْبَرُّ جَانِبَهُ» (1).
وفي هذا القول مجاز، والمراد: حجّوا قبل أن يمنع سلوك البرّ القاطعون لسبيله، والعائثون (2) في طريقه، والحائلون بين الناس وبين دخوله، فلمّا جعل عليه الصلاة والسلام البرّ ممنوعا بمن أشرنا إلى ذكره حسن على طريق المجاز أن يجعله كالمانع لجانبه، والمخوف لسالكه لأنّ المحجوب كرها كالمحتجب، والممنوع قسرا كالممتنع.
342
(342) وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «الْحُمَّى كِيرُ (3) جَهَنَّمَ»
(4).
وهذا القول مجاز، والمراد المبالغة في وصف حرارة الحمّى واتّقادها، وشدّة اوارها (5) واضطرامها، فشبّهها عليه الصلاة والسلام بكير يستمدّ من نار جهنّم وهي أعظم النيران وقودا، وأبعدها خمودا.
وقال المفسّرون في قوله تعالى وهو يريد نار الدنيا: {نَحْنُ جَعَلْنََاهََا تَذْكِرَةً وَمَتََاعاً لِلْمُقْوِينَ} (6)، قالوا: «تذكرة يستذكر بها الناس نار الآخرة، فيكون ذلك أزجر لهم عن المعاصي، وأصرف عن المضالّ والمغاوي لأنّ نار الدنيا إذا كانت على ما هي عليه من قوّة الإحراق،
__________
(1) مستدرك الحاكم 1: 448، سنن البيهقي 4: 341340، دعائم الإسلام 2: 175/ 628.
(2) عاث يعيث عيثا: أفسد وأخذ بغير رفق. لسان العرب 2: 170.
(3) الكير: منفاخ الحدّاد.
(4) مسند أحمد 5: 252، 264، سنن ابن ماجة 2: 1150/ 3475، مجمع الزوائد 2: 305، كنز العمّال 3: 318/ 6739.
(5) أي شدّة لفح النار ووهجها. لسان العرب 1: 260، مادّة (أور).
(6) الواقعة (56): 73.(1/376)
وشدّة الإرماض (1) والإقلاق (2)، وهي مع ذلك دون نار الآخرة في الطبقة، وجزء من أجزائها في الإيلام والنكاية، فما ظنّك بتلك النار إذا باشرت الأجسام، وخالطت اللحوم والعظام!!» نعوذ بالله منها، ونسأله التوفيق لما باعد عنها.
وقيل في المقوين قولان:
أحدهما: «أن يكونوا المرملين (3) من الزاد، والفاقدين للطعام، يقال:
«أقوى فلان من زاده» إذا لم يبق عنده شيء منه، وذلك مأخوذ من الأرض القواء (4) التي لا شيء فيها، فكأنّه صار كهذه الأرض في الخلوّ من البلغ التي يتبلّغ بها (5)، والمسك التي يترمّقها (6)».
والقول الآخر: «أن يكون المقوون هاهنا: السائرين في القوى وهي الأرض التي قدّمنا ذكرها، والنار للمسافر أرفق منها للحاضر».
343
(343) وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي دُعَاءٍ دَعَا بِهِ لِمَيِّتٍ: «اللَّهُمَّ إِنَّ فُلَانَ بْنَ فُلَانٍ فِي ذِمَّتِكَ، وَحَبْلِ جِوَارِكَ فَقِهِ فِتْنَةَ الْقَبْرِ وَعَذَابَ النَّارِ»
(7).
__________
(1) أي الحرّ. المصباح المنير: 238، مادّة (ر م ض).
(2) أي الإزعاج. المصباح المنير: 514، مادّة (ق ل ق).
(3) يقال: أرمل القوم: نفد زادهم وافتقروا مأخوذ من الرمل كما يقال أدقعوا، مأخوذا من الدقعاء وهي التراب. أقرب الموارد 1: 434، مادّة (ر م ل).
(4) أي القفر. المصباح المنير: 521، مادّة (ق وي).
(5) أي ولا يفضل منها شيء.
(6) أي تمسك رمقه.
(7) مسند أحمد 3: 491، سنن ابن ماجة 1: 480/ 1499، سنن أبي داود 2: 80/ 3202، كنز العمّال 15: 602/ 42395.(1/377)
فقوله عليه الصلاة والسلام «وحبل جوارك» استعارة، والمراد أنّه لجي إلى ظلّك، ومضطرّ إلى فضلك، فأخرج قوله: «في ذمّتك، وحبل جوارك» على عادة كلام العرب لأنّهم يقولون: «قد عقد فلان لفلان حبلا» و «أخذ فلان من فلان حبلا» إذا أعطاه ذماما (1)، أو عقد له جوارا (2)، وقد سمّوا العهود: «حبالا» على هذا المعنى، وفي التنزيل:
{إِلََّا بِحَبْلٍ مِنَ اللََّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النََّاسِ} (3) أي بعهد من الله، وعهد من الناس. والأصل في ذلك أن يشبّهوا ما يعقد من الذّمام بما يعقد من الحبال لأنّها تقرّب بين البعيدين، وتجمع بين القريبين، وتصل الأبيات بالأبيات، وتربط الأطناب بالأطناب (4).
344
(344) وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِأَصْحَابِهِ وَقَدْ ذَكَرَ وُقُوعَ الْفِتَنِ: «ثُمَّ تَعُودُونَ فِيهَا أَسَاوِدَ صُبّاً يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ» (5).
وهذا القول مجاز، وأراد عليه الصلاة والسلام: أنّكم تكونون في هذه
__________
(1) الذمام: العهد والأمان والضمان والحرمة والحقّ. وسمّي أهل الذمّة ذمّة لدخولهم في عهد المسلمين وأمانهم. لسان العرب 5: 60، مادّة (ذ م م).
(2) كالغريب يقصد رجلا ذا مكانة في قومه ويسأله أن يجيره أي يمنعه، فينزل معه، وتصير له حرمة نزوله في جوار الشريف ومنعته وركونه إلى أمانه وعهده. وكما لو أجار مسلم كافرا وخفره وأمّنه، فإنّ ذلك يجوز على جميع المسلمين، فلا ينقض عليه جواره وأمانه. راجع لسان العرب 2: 414 415، مادّة (ج ور).
(3) آل عمران (3): 112.
(4) الأطناب: جمع طنب أي الحبل المصباح المنير: 378، مادّة (ط ن ب).
(5) مسند أحمد 3: 477، مجمع الزوائد 7: 305، كنز العمّال 11: 233/ 31352.(1/378)
الفتنة كالحيّات التي تنصبّ على مناهشها، وتسرع إلى ملابسها (1)، غير متذمّمة (2) من محرّم، ولا متورّعة عن معظّم.
345
(345) وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «كُلُّكُمْ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ شَرَدَ عَلَى اللَّهِ شِرَادَ الْبَعِيرِ» (3).
فَقَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «إِلَّا مَنْ شَرَدَ عَلَى اللَّهِ»
مجاز، والمراد:
إلّا من عند (4) عن أمر الله سبحانه وتعالى، وبعد عن رضاه وطاعته، وذهب في غير جهة مشيئته وإرادته، فكان كالبعير الشارد الذي ندّ (5) عن صاحبه، وبعد عن معاطنه (6).
346
(346) وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِأَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ: «انْفَحِي وَانْضَحِي، وَلَا تُوعِي فَيُوعِيَ اللَّهُ عَلَيْكِ» (7).
قوله عليه الصلاة والسلام: «انفحي وانضحي» استعارة، والمراد:
أنفقي مالك في سبيل الله، وابذليه في طاعه الله، وأصيبي به مواضعه بإسراع وبدار، كما تنفح الريح هبوبها، وتنضح السحابة شؤبوبها (8)،
__________
(1) أي مجاورها ومخالطها. أقرب الموارد 2: 1125، مادّة (ل ب س).
(2) أي غير مستنكفة. أقرب الموارد 1: 273، مادّة (ذ م م).
(3) مسند أحمد 5: 258، مستدرك الحاكم 1: 55و 4: 247، مجمع الزوائد 1: 71، 403، كنز العمّال 4: 215/ 10221.
(4) أي ركب خلافه وعصاه. المصباح المنير: 431، مادّة (ع ن د).
(5) أى نفر وذهب على وجهه شاردا. المصباح المنير: 597، مادّة (ن د د).
(6) المعاطن: جمع معطن، وهو كالوطن للإنسان. لسان العرب 9: 272، مادّة (ع ط ن).
(7) مسند أحمد 6: 345، 346، 354، صحيح البخاري 3: 135، صحيح مسلم 3: 92.
(8) أي مطرها. راجع لسان العرب 9: 5، مادّة (ش أب).(1/379)
والمراد بقوله عليه الصلاة والسلام هاهنا: «ولا توعي فيوعي الله عليك» أي لا تمسكي فيمسك الله عليك لأنّ من أوعى شيئا وحفظه فقد أمسكه ومنعه.
347
(347) وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «إِنَّ قُرَيْشاً أَهْلُ صِدْقٍ وَأَمَانَةٍ، فَمَنْ بَغَاهُمُ الْعَوَاثِرَ كَبَّهُ اللَّهُ لِوَجْهِهِ» (1).
وهذا القول مجاز، والمراد: فمن بغاهم المعثّرات وهي الامور التي تعثرهم، وتضع شرفهم، فقال عليه الصلاة والسلام «العواثر» لأنّها وإن أعثرتهم فكأنّها عاثرة بهم، أو واقعة عليهم، ومنه قولهم: «عثر الدهر بآل فلان» إذا نقّص أعدادهم، وغيّر أحوالهم، وبلغ المبالغ منهم، وساءت آثاره فيهم.
348
(348) وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «الْمُسْلِمَانِ إِذَا حَمَلَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ السِّلَاحَ فَهُمَا عَلَى جُرُفِ جَهَنَّمَ، فَإِذَا قَتَلَ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ دَخَلَاهَا جَمِيعاً» (2).
وهذا القول مجاز، والمراد بذلك المسلمان اللّذان يتقاتلان في غير طاعة الله سبحانه، فهما بنفس القتال وتظاهر هما بحمل السلاح، عاصيان لله سبحانه، مستحقّان لعقابه، مقدمان على شقاقه، فإذا قتل أحدهما صاحبه دخلا جميعا النار، إلّا أنّ المقتول يستحقّها بتعرّضه للقتال
__________
(1) مسند أحمد 4: 340، مستدرك الحاكم 4: 73، كنز العمّال 3: 95/ 5660و 11: 4/ 30376، ذخائر العقبى 11، مجمع الزوائد 10: 26.
(2) صحيح مسلم 8: 170، سنن ابن ماجة 2: 1311/ 3965، كنز العمّال 15: 23/ 39899.(1/380)
المحظور عليه، والقاتل يستحقّها بمثل ذلك، ويتفرّد بعقاب القتل الذي وقع منه، فيكون أشدّهما نكالا، وأعظمهما وبالا.
وموضع المجاز قوله عليه الصلاة والسلام «فهما على جرف جهنّم» والمراد أنّهما على طريق استحقاق نار جهنم بإقدامهما على الفعل المحظور، والأمر المكروه، فشبّه عليه الصلاة والسلام كونهما قريبين من استحقاق دخول النار، بمن أشرف على جرفها وقام على حرفها (1)
في شدّة القرب منها، والإشفاء (2) على الوقوع فيها. ومثل ذلك قوله تعالى: {وَكُنْتُمْ عَلى ََ شَفََا حُفْرَةٍ مِنَ النََّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهََا} (3)، وقد لخّصنا الكلام على ذلك في كتاب «مجازات القرآن» (4).
349
(349) وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَقَدْ رَأَى بَعِيراً فِي بَعْضِ حِيطَانِ الْمَدِينَةِ، فَحَنَّ إِلَيْهِ كَالشَّاكِي، فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِصَاحِبِهِ: «إِنَّ بَعِيرَكَ يَشْكُوكَ وَيَزْعُمُ أَنَّكَ أَكَلْتَ شَبَابَهُ حَتَّى إِذَا كَبِرَ تُرِيدُ أَنْ تَنْحَرَهُ» (5).
وهذا القول مجاز، والمراد بقوله عليه الصلاة والسلام: «أكلت شبابه» استعملته في حال شبابه وقوّته، وأجمعت نحره في حال ضعفه
__________
(1) أي طرفها وشفيرها. أقرب الموارد 1: 183، مادّة (ح ر ف).
(2) أي الإشراف والمقاربة. راجع أقرب الموارد 1: 601، مادّة (ش ف ي).
(3) آل عمران (3): 103.
(4) مجازات القرآن: 14.
(5) البداية والنهاية 6: 154، مسند أحمد 4: 173، مجمع الزوائد 9: 6مع اختلاف في المصدرين الأخيرين.(1/381)
وكبره، فجعل استعماله طول أيّام شبابه كالآكل شبابه لأنّه استنفاد له، وذهاب به.
350
(350) وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي حَدِيثٍ طَوِيلٍ نَهَى فِيهِ عَنِ الذَّبْحِ بِالسِّنِّ وَالظُّفْرِ: «أَمَّا السِّنُّ فَعَظْمٌ، وَأَمَّا الظُّفْرُ فَمُدَى الْحَبَشَةِ» (1).
وهذه استعارة، «والمدى» السكاكين، فكأنّه عليه الصلاة والسلام قال: «والأظفار سكاكين الحبشة» لأنّهم يذبحون بحدّها، ويقيمونها مقام المدى في التذكية بها، و «الظّفر» هاهنا إسم للجنس، كالدينار والدرهم في قولهم: «أهلك الناس الدينار والدرهم» أي الدنانير والدراهم، ولذلك صحّ أن يقول: «مدى الحبشة» و «المدى» جمع لأنّ الواحدة «مدية».
351
(351) وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «كَفَى بِالسَّلَامَةِ دَاءً» (2).
وهذا القول مجاز لأنّ السلامة على الحقيقة ليست بداء في نفسها، وإنّما المراد أنّها تفضي إلى الأدواء القاتلة، والأعراض المهلكة لأنّ طولها يؤدّي إلى موت الشهوات، وانقطاع اللّذات، وحواني (3) الهرم،
__________
(1) مسند أحمد 4: 141و 142، صحيح البخاري 3: 110، 115، 6: 225، 227، 233، صحيح مسلم 6: 78، سنن أبي داود 1: 644/ 2821، سنن الترمذي 3: 152225، السنن الكبرى 9: 246، كنز العمّال 6: 261/ 15602.
(2) نثر الدر 1: 195، مسند الشهاب 2: 302، كنز العمّال 3: 308/ 6692.
(3) الحواني: جمع حانية، أي عواطف الهرم التي تثنيه وتعطفه عن مسرّات الشباب.(1/382)
وعوادي (1) السقم، فحسن من هذا الوجه أن تسمّى «داء» إذ كانت موقعة فيه، ومؤدّية إليه.
وقد أكثرت الشعراء نظم هذا المعنى في أشعارهم، إلّا أنّ كلمة النبيّ
عليه الصلاة والسلام أبهى من جميع ما قالوه مطلقا، وأبعد منزعا، وأوجز في تمام، وأكثر مع قلّة كلام، فممّا جاء في هذا المعنى قول حميد بن ثور:
أرى بصري قد رابني بعد صحّة ... وحسبك داء أن تصحّ وتسلما (2)
وقول لبيد بن ربيعة:
ودعوت ربّي بالسّلامة جاهدا ... ليصحّني فإذا السّلامة داء (3)
وقول النّمر بن تولب:
يودّ الفتى طول السّلامة والغنى ... فكيف يرى طول السّلامة يفعل؟! (4)
وإنّي لأستحسن كثيرا الأبيات التي من جملتها هذا البيت وهي قوله (5):
__________
(1) العوادي: جمع عادية أي صوارف السقم.
(2) ديوان حميد بن ثور: 7، التبيان في تفسير القرآن 5: 326، رابني: رأيت منه ما يريب ويكره.
(3) ديوان لبيد بن ربيعة: 221، الكامل للمبرّد 1: 148.
(4) شعراء اسلاميون: 369، إعجاز القرآن للباقلاني: 93.
(5) أي النحر بن تولب.(1/383)
تغيّر منّي كلّ شيء ورابني ... مع الدّهر أبدالي (1) التي أتبدّل
فضول أراها في أديمي (2) بعد ما ... يكون كفاف الجسم أو هو أجمل
كأنّ محطّا (3) في يدي حارثيّة (4) ... صناع (5) علت منّي به الجلد من عل
يردّ الفتى بعد اعتدال وصحّة ... ينوء (6) إذا رام القيام ويحمل
تدارك ما قبل الشّباب وبعده ... حوادث أيّام تمرّ وأغفل
يودّ الفتى طول السّلامة والغنى ... فكيف يرى طول السّلامة يفعل؟! (7)
352
(352) وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَقَدْ ذَكَرَ صَلَاةَ الْعَصْرِ: «وَلَا صَلَاةَ بَعْدَهَا حَتَّى يُرَى الشَّاهِدُ» (8).
__________
(1) أي تبدّلاي وتغيّراتي.
(2) أي زيادة أراها في جلدي على أثر ضحور جسمي.
(3) المحطّ: حديدة معدّة لنقش الجلد.
(4) أي امرأة منسوبة إلى الحارث بن ظالم أو ابن عوف.
(5) يقال: امرأة صناع اليد أي حاذقة ماهرة بعمل اليدين.
(6) أي ينهض بجهد ومشقّة.
(7) شعراء إسلاميون: 369366.
(8) مجمع الزوائد 1: 308، كنز العمّال 7: 382/ 19396، الدرّ المنثور 1: 299سنن النسائي 1: 259، وفيه: «حتّى يطلع الشاهد»، مسند أحمد 6: 397، وفيه: «حتّى تروا».(1/384)
وهذه استعارة والمراد ب «الشّاهد» هاهنا: النجم، والعرب يسمّون الكوكب «شاهد الليل» كأنّه يشهد بإدبار النهار وإقبال الظلام. وكلّ شيء يدلّ على شيء فهو يجري مجرى الشاهد به والمخبر عنه إذ ليس كلّ دالّ بإنسان، ولا كلّ دليل من جهة اللسان.
353
(353) وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «وَأَيُّ دَاءٍ أَدْوَى مِنَ الْبُخْلِ؟!» (1).
وهذا القول مجاز لأنّ البخل على الحقيقة ليس بداء، ولكنّه لمّا كان عادة مكروهة وخليقة مذمومة، اجرى مجرى الداء الذي يغيّر الصحّة، ويفسد الجبلّة (2)، إلّا أنّه داء يمكن الانتقال عن صحبته، وحمل النفس على مفارقته لأنّه لو لم يكن كذلك لما حسن الذمّ عليه، والتعيير به، كما لا يحسن الذمّ على سائر الأمراض التي تغيّر الأحوال، وتفسد الأجسام.
والبخل على الحقيقة هو منع الواجب، وكلّ من منع الواجب يوصف بالبخل، ومن منع التفضّل لا يوصف بذلك إلّا على سبيل المجاز، وكلّ ما في القرآن من ذكر البخل فإنّما يراد به منع الواجب، كما أنّ كلّ ما فيه من الأمر بالإنفاق إنّما يراد به إخراج المال في الواجب. فأمّا تسمية العرب من لا يؤوي (3) النازل ولا يعطي السائل ب «البخيل» فلأنّهم
__________
(1) الأدب المفرد: 296، مسند أحمد 3: 307، مستدرك الحاكم 3: 219و 4: 163، مجمع الزوائد 9:
315، كنز العمّال 3: 449/ 7389، البداية والنهاية 5: 82، فقه الرضا عليه السّلام: 277، الكافي 4:
44/ 3، الفقيه 4: 379/ 5799.
(2) أي الطبيعة. المصباح المنير: 90، مادّة (ج ب ل).
(3) في نسخة: لا يقري.(1/385)
اعتقدوا وجوب ذلك عليه، فوصفوه بالبخل لامتناعه منه، وأساميهم تتبع اعتقاداتهم.
354
(354) وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَقَدْ سَأَلَهُ رَجُلٌ مِنْ جُهَيْنَةَ (1): مَتَى يُصَلِّي الْعِشَاءَ الْآخِرَةَ؟ فَقَالَ: «إِذَا مَلَأَ اللَّيْلُ بَطْنَ كُلِّ وَادٍ» (2).
وهذا مجاز لأنّ الليل على الحقيقة لا تملأ به بطون الأودية كما تمتلئ بطون الأوعية، وإنّما المراد: إذا شمل ظلّ الليل البلاد، وطبّق النّجاد والوهاد (3)، فصار كأنّه سداد لكلّ شعب (4)، وصمام (5) لكلّ نقب.
355
(355) وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَقَدْ طَلَعَتْ بَيْنَ أَصَابِعِهِ حَرَّةٌ (6)، فَوَضَعَ يَدَهُ عَلَيْهَا وَقَالَ: «اللَّهُمَّ مُطْفِئَ الْكَبِيرِ وَمُكَبِّرَ الصَّغِيرِ: أَطْفِئْهَا عَنِّي بِرَحْمَتِكَ» (7).
وهذه استعارة: كأنّه عليه الصلاة والسلام أقام ذلك الداء مقام النار التي قد أخذت في الاضطرام، وبدأت بالاحتدام، وأقام الشفاء المطلوب من الله سبحانه مقام الإطفاء لها، ونضح الماء عليها في أنّ ذلك يفني
__________
(1) أي من قبيلة جهنية، وجهنية أبوها. راجع لسان العرب 2: 404، مادّة (ج هـ ن).
(2) مسند أحمد 5: 365، مجمع الزوائد 1: 313، كنز العمّال 7: 393/ 19456، مناقب ابن شهرآشوب 1: 159.
(3) أي العوالي والسوافل.
(4) الشّعب: الصدع والتفرّق في الشيء. لسان العرب 7: 127، مادّة (ش ع ب).
(5) الصمام: ما تسدّ به الفرجة. النهاية في غريب الحديث 3: 54.
(6) الحرّة: حرارة في الحلق، فإذا زادت فهي الحروة لسان العرب 3: 115مادّة (ح ر ر)، وفي نسخة ب: البثرة بدل حرّة، ومعناهما واحد. لسان العرب 1: 313، مادّة (ح ر ر).
(7) مسند أحمد 5: 370، مستدرك الحاكم 4: 207، مجمع الزوائد 5: 95، كنز العمّال 3: 526/ 7723.(1/386)
وقودها، ويسرع خمودها، وهذا من التشبيهات الصادقة، والتمثيلات الواقعة.
وَرُوِيَ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَ يَقْلَقُ الْقَلَقَ الشَّدِيدَ لِمَا يَظْهَرُ فِي جِسْمِهِ مِنَ الدَّاءِ الْيَسِيرِ، فَقِيلَ لَهُ فِي ذَلِكَ فَقَالَ: «إِنَّ اللَّهَ إِذَا أَرَادَ أَنْ يُعَظِّمَ صَغِيراً عَظَّمَهُ» (1).
356
(356) وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «مَنْ قَعَدَ فِي مُصَلَّاهُ حِينَ يُصَلِّي الصُّبْحَ حَتَّى يَسِيحَ الضُّحَا» فِي حَدِيثٍ طَوِيلٍ (2).
وهذه استعارة، كأنّه عليه الصلاة والسلام جعل الضحى وهو شباب النهار وزيادته بمنزلة الماء السائح من الغدير، وفي السائح تمثيل من وجهين:
أحدهما: أنّ بياض الضحى كبياض الماء.
والآخر: أنّ انتشار النهار بضيائه كانسياح الغدير بمائه.
ومثل تسميتهم الشمس عند أوّل طلوعها ب «الغزالة» وليس ذلك باسم لها في جميع الأحوال، كما يظنّه بعض الجهّال، وإنّما هو اسم لها في هذا الوقت المخصوص، ومن الشاهد على ذلك قول ذي الرمّة:
وأشرفت الغزالة رأس حزوى ... لأنظرهم وما أغنى قبالا (3)
كأنّه قال: «وأشرفت ذلك الموضع أوّل طلوع الشمس».
__________
(1) انظر: البحار 81: 211/ 30.
(2) مسند أحمد 3: 439.
(3) ديوان ذي الرمّة 3: 1508، لسان العرب 11: 493، الصحاح 5: 1781، وفيه: اراقبهم بدل لأنظرهم، أشرفت: علوت، حزوى: جبل من جبال الدهناء.(1/387)
وأبين من هذا قول الآخر وأنشدناه شيخنا أبو الفتح النحوي رحمه الله:
قالت له وارتفقت: ألا فتى ... يسوق بالقوم غزالات الضّحى؟ (1)
كأنّها قالت: «يسوق بهم أوائل النهار، وعند ابتداء الشمس في الانتشار» و «غزالات الضحى» أوّل شروقها وإنضاضها (2)، و «الضحى» وقت إشراقها وارتفاعها.
357
(357) وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَقَدْ مَرَّ عَلَى قَوْمٍ وُقُوفاً عَلَى ظُهُورِ دَوَابِّهِمْ وَرَوَاحِلِهِمْ يَتَنَازَعُونَ الْأَحَادِيثَ، فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «لَا تَتَّخِذُوهَا كَرَاسِيَّ لِأَحَادِيثِكُمْ فِي الطُّرُقِ وَالْأَسْوَاقِ فَرُبَّ مَرْكُوبٍ خَيْرٌ مِنْ رَاكِبِهِ» (3).
وهذه استعارة، كأنّه عليه الصلاة والسلام شبّه الدّوابّ والرواحل في حالة إطالة الوقوف على ظهورها، بالكراسي التي يجلس عليها لأنّها تثبت في مواضعها، ولا تزول إلّا بمزيل لها، فنهى عليه الصلاة والسلام أن يجعل الحيوان المتصرّف (4) بمنزلة الجماد الثابت، والشيء النابت.
358
(358) وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «إِنَّ الْإِسْلَامَ بَدَأَ جَذَعاً، ثُمَّ ثَنِيّاً (5)،
__________
(1) نوادر أبي زيد: 128، أمالي الزّجاجيّ: 12، لسان العرب 11: 493، وصدره: دعت سليمى دعوة:
هل من فتى، ارتفقت: اتكأت.
(2) أيّ طلوعها قليلا قليلا. راجع أقرب الموارد 2: 1311، مادّة (ن ض ض).
(3) مسند أحمد 3: 439، 440، مجمع الزّوائد 10: 140، الدّرّ المنثور 4: 111.
(4) أيّ المتحرّك.
(5) وهو ما دخل في السّنّة السّادسة. المصباح المنير: 85، مادّة (ث ن ي).(1/388)
ثُمَّ رَبَاعِياً (1)، ثُمَّ سَدِيساً (2)، ثُمَّ بَازِلًا (3)، وَمَا بَعْدَ الْبُزُولِ إِلَّا النُّقْصَانُ» (4).
وهذا الكلام كلّه مستعار، والمراد تمثيل الإسلام في تنقّل أحواله وتغاير أوصافه بولد الناقة ينتقّل في أسنانه فيكون أوّل أمره جذعا، ثمّ ثنيّا، ثمّ رباعيا، ثمّ سديسا، ثمّ بازلا وهي سنّ التمام، وما بعدها إلى النقصان، ومدار المعنى على أنّ الإسلام بدأ في غاية الصغر، ثمّ انتهى إلى غاية الكبر على تدريج ما بين البازل والجذع وأنّه عليه الصلاة والسلام يخشى عليه نقيصة التمام وعكيسة الكمال، كما يخشى على اليفن (5) بعد انحنائه، والبازل بعد انتهائه.
359
(359) وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «إِنَّمَا هَذَا الْمَالُ مِنَ الصَّدَقَةِ أَوْسَاخُ أَيْدِي النَّاسِ» (6).
وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى «غُسَالاتُ أَيْدِي النَّاسِ» (7).
وَذَكَرَ ابْنُ سَعْدٍ فِي كِتَابِ «الطَّبَقَاتِ»: أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ
__________
(1) وهو ما دخل في السّابعة. المصباح المنير: 217، مادّة (ر ب ع).
(2) وهو ما دخل في الثّامنة. المصباح المنير: 271، مادّة (س د س).
(3) وهو الدّاخل في السّنة التّاسعة. المصباح المنير: 48، مادّة (ب ز ل). وليس بعده سنّ تسمّى، فيقال:
بازل عام، وبازل عامين وكذلك مازاد. راجع لسان العرب 1: 401، مادّة (ب ز ل).
(4) مسند أحمد 5: 52، مجمع الزّوائد 7: 279، كنز العمّال 1: 238/ 1191، الدّرّ المنثور 2: 259.
(5) أيّ الشّيخ الكبير. وفي النّهج: «أيّها اليفن الكبير الّذي قد لهزه القثير».
(6) الموطأ 2: 1001، مسند أحمد 3: 402، سنن النّسائيّ 5: 105، مستدرك الحاكم 3: 484، كنز العمّال 6: 509/ 16761.
(7) كنز العمّال 6: 454/ 16505.(1/389)
لِلْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ رَحِمَهُ اللَّهُ وَقَدْ سَأَلَهُ أَنْ يَسْتَعْمِلَهُ عَلَى الصَّدَقَةِ: «مَا كُنْتُ لِأَسْتَعْمِلَكَ عَلَى غُسَالَةِ ذُنُوبِ النَّاسِ» (1).
وهذا القول مجاز، والمراد تشبيه ما يخرجه الناس من صدقاتهم بالأوساخ التي يميطونها (2) عن أيديهم، والتشبيه بذلك من وجهين:
أحدهما: أن تكون أموال الصدقات لمّا كان أخراجها مطهّرا لما وراءها من سائر الأموال، جرت مجرى المياه التي تغسل بها الأدران وتزال بها الأنجاس في انتقال تلك الأدران إليها، وحصول تلك الأدناس والأنجاس فيها.
والوجه الآخر: أن يكون المراد أنّ أموال الصدقات في الأكثر لا تكون إلّا أسافل الأموال دون أخايرها، ومفارقاتها (3) دون كرامها، ولذلك أمر عليه الصلاة والسلام في الصدقة بالأخذ من حواشي الأموال دون حرزاتها (4) وهي خيارها. وإنّما نسب عليه الصلاة والسلام تلك الأوساخ إلى الأيدي لأنّ الأموال المعطاة في الأكثر إنّما تكون بها، وتمرّ عليها، وقد مضى الكلام على هذا المعنى فيما تقدّم.
360
(360) وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي تَعْدِيدِ أَقْوَامٍ ذَمَّهُمْ: «وَرَجُلٌ
__________
(1) الطّبقات الكبرى لابن سعد 4: 27.
(2) أيّ ينحونها ويبعدونها. راجع المصباح المنير: 587، مادّة (م ي ط).
(3) أيّ أن أموال الصّدقات تهونه على أصحابها مفارقتها لحقارتها، بخلاف كرّام اموالهم الّتي يعزّ عليهم التّصدّق بها.
(4) الحرزات: جمع حرزة لأنّ صاحبها يحرزها. أقرب الموارد 1: 179، مادّة (ح ر ز).(1/390)
يُنَازِعُ اللَّهَ رِدَاءَهُ، فَإِنَّ رِدَاءَهُ الْكِبْرِيَاءُ، وَإِزَارَهُ الْعَظَمَةُ» (1).
وهذا القول مجاز، والمراد بذلك أنّ الكبرياء والعظمة رداؤه تعالى وإزاره، اللذان يكسوهما خليقته، ويلبسهما بريّته، ولا يقدر غيره على أن ينزع منهما ما ألبسه، أو يلبس منهما ما نزعه.
والمراد بذلك العظمة والكبرياء على حقيقتهما، دون ما يعتقده الجهّال أنّه عظمة وكبرياء وليس بهما، وذلك مثل ما نشأ من تعظّم الجبّارين، وتكبّر المتملّكين، فإنّ ذلك ليس بتعظيم من الله سبحانه لهم، ولا بإفاضة من ملابس كبريائه عليهم، وإنّما العظمة والكبرياء في الحقيقة هما الكرامة التي يلقيها الله سبحانه على رسله وأنبيائه، والقائمين بالقسط من عباده، فيعظمون بها في العيون، ويجلّون في الصدور والقلوب وإن كانت هيئاتهم دميمة، وظواهرهم ورقابهم خاضعة، وبطونهم جائعة.
فإذا ثبت ما قلنا: بأنّ تسمية الكبرياء والعظمة «رداء الله وإزاره» ليس لأنّه يكتسيهما، ولكن لأنّه يكسوهما، وذلك كما يقول القائل وقد رأى على بعض الناس ثوبا أفاضه عليه عظيم من العظماء، أو كريم من الكرماء: «هذا ثوب فلان» ولم يرد أنّه ملبسه، فأضافه إليه من حيث كساه، لا من حيث اكتساه.
ويجري هذا مجرى قولنا: «بيت الله» وليس بساكنه، و «عرش الله» وليس براكبه، ونظير ذلك قولهم: «لعمر الله ما فعلت كذا» و «لعمر الله لقد
__________
(1) مسند أحمد 6: 19، سنن ابن ماجة 2: 1397مجمع الزوائد 1: 105، كنز العمّال 16:
30/ 43800.(1/391)
فعلت كذا» و «العمر» هو العمر، يقال: «عمر» و «عمر» بمعنى واحد، قال الشاعر:
بان الشّباب وأخلق العمر ... وتغيّر الإخوان والدّهر (1)
أراد العمر على أحد التفسيرين، والتفسير الآخر: أن يريد به واحد عمور الأسنان (2)، وإخلافه (3): تغيّره من الكبر.
إلّا أنّ «العمر» في قولهم: «لعمر الله» يراد به الحياة، وهذا المراد بقول القائل: «لعمري» و «لعمر أبي» و «لعمر فلان» كأنّه قال: و «حياة أبي» و «حياة فلان».
وَجَاءَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ أَنَّهُ قَالَ: «مِنْ كَرَامَاتِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ لِنَبِيِّنَا عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ أَقْسَمَ فِي الْقُرْآنِ بِحَيَاتِهِ، وَلَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ بِنَبِيٍّ غَيْرِهِ، قَالَ تَعَالَى: {لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ} (4)، وَكَأَنَّهُ سُبْحَانَهُ قَالَ: وَ «حَيَاتِكَ أَنَّهُمْ كَذَلِكَ» (5).
وإذا صحّ ما قلناه صار القائل: «لعمر الله» كأنّما حلف بحياة يحيي الله بها (6)، لا حياة يحياها (7) لأنّه سبحانه يتعالى عن أن يحيا بحياة، أو يتكلّم بأداة، أو يفعل بآلات.
__________
(1) شعر ابن أحمر الباهلي: 90، لسان العرب 4: 606، بان: فارق، أخلق: بلي ورثّ.
(2) وهو لحم من اللثّة سائل بين كل سنّين. لسان العرب 9: 395، مادّة (ع م ر).
(3) في اللسان: وأخلف بدل وأخلق، ومعنى أخلف: تغيّرت رائحته.
(4) الحجر (15): 72.
(5) انظر: تفسير القرطبي 10: 39.
(6) أي يحيي غيره من المخلوقات بها.
(7) أي ليس الحلف بنفس حياته تعالى لأنّ لازمه مغايرته سبحانه للحياة، والمفروض أنّه منزّه عن الأغيار، غير محتاج إليها. والجواب: أنّ حياته سبحانه عين ذاته، وقد صرّح الكتاب والسنّة بها.(1/392)
361
(361) وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «قَدْ تَرَكْتُكُمْ عَلَى الْبَيْضَاءِ لَيْلُهَا كَنَهَارِهَا، لَا يَزِيغُ عَنْهَا بَعْدِي إِلَّا هَالِكٌ» (1).
وهذا القول مجاز، والمراد ب «البيضاء» هاهنا محجّة (2) الدين، ومدرجة الطريق (3) المستقيم، وصفتها بالبياض عبارة عن وضوح نهجها، وبيان سننها. وكلّ «أبيض» في كلامهم واضح، يقولون: «وجه واضح» إذا كان أبيض المحيّا، و «جبين واضح» و «جيد (4) واضح» على هذا المعنى.
وقوله عليه الصلاة والسلام: «ليلها كنهارها» مقول ما فسّرناه من المراد ب «البياض» كأنّه عليه الصلاة والسلام أشار إلى أنّ الليل لا يغطّي وضوح هذه المحجّة بسواده، ولا يستر أعلامها بظلامه، ولا محجّة هناك على الحقيقة، وإنّما المراد صفة الدين بوضوح المعالم، وبيان المواسم (5)، وإنارة المداخل، وظهور الحجج والدلائل.
362
(362) وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «مَا مَلَأَ آدَمِيٌّ وِعَاءً شَرّاً مِنْ بَطْنِهِ»
، في حديث طويل (6).
__________
(1) مسند أحمد 4: 126، سنن ابن ماجة 1: 16/ 43، مستدرك الحاكم 1: 96، كنز العمّال 1:
182/ 922.
(2) أي طريقة.
(3) أي سنتها، والسنن: النهج.
(4) أي العنق. المصباح المنير: 116، مادّة (ج ي د).
(5) المواسم: المعالم: ما يستدلّ بها على الدين من الآثار الواضحة والبيّنات الجليّة.
(6) مسند أحمد 4: 132، سنن ابن ماجة 2: 1111، مستدرك الحاكم 4: 331، مشكاة الأنوار: 562:
1901.(1/393)
وهذا القول مجاز، وإنّما جعل عليه الصلاة والسلام البطن بمنزلة الوعاء لأنّه قرار للطعام والشراب وما يستحيلان إليه من الفروث (1)
والأخباث، وكأنّ المأكل والمشرب إيعاء فيه، وكأنّ العذر (2) والتبرّز تفريغ له.
ونظير هذا الخبر
الْخَبَرُ الْمَرْوِيُّ عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَهُوَ قَوْلُهُ:
«الْقُلُوبُ أَوْعِيَةٌ بَعْضُهَا أَوْعَى مِنْ بَعْضٍ»
(3)، وقد تقدّم الكلام عليه (4)
لأنّه عليه الصلاة والسلام إنّما جعل القلوب كالأوعية لأنّها موضع إيداع السرائر والضمائر، وحفظ الأدلّة والعلوم، ومستقرّ الآراء والعزوم (5)، إلّا أنّ القلوب أوعية للأعراض: من الإرادات والاعتقادات، والبطون أوعية للأجسام: من المأكولات والمشروبات.
363
(363) وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «الْحَجَرُ يَمِينُ اللَّهِ فَمَنْ شَاءَ صَافَحَهُ بِهَا» (6).
وهذا القول مجاز، والمراد أنّ الحجر جهة من جهات القرب إلى الله تعالى فمن استلمه وباشره قرب من طاعته تعالى، فكان كاللاصق بها،
__________
(1) الفروث: جمع فرث، والمراد به هنا الغائط مادام في البطن.
(2) أي التغوّط، وفي الأصل: العدد، وهو من سهو النسّاخ.
(3) انظر: مسند أحمد 2: 177.
(4) مرّ في الصفحة: 261/ 315.
(5) العزوم: جمع عزم وهو ما عقد عليه قلبك من أمر أنّك فاعله. راجع لسان العرب 9: 193، مادّة (ع ز م).
(6) كشف الخفاء 1: 417، غريب الحديث لابن قتيبة 2: 96/ 4، رواه عن أبي محمّد في حديث عن ابن عبّاس، وفيه: «الحجر الأسود».(1/394)
والمباشر لها، فأقام عليه الصلاة والسلام «اليمين» هاهنا مقام الطاعة التي يتقرّب بها إلى الله سبحانه على طريق المجاز والاتساع لأنّ من عادة العرب إذا أراد أحدهم التقرّب من صاحبه وفضّل الأنسة بمخالطته أن يصافحه بكفّه، ويعلق يده بيده، وقد علمنا في القديم (1) أنّ الدنوّ يستحيل على ذاته، فيجب أن يكون ذلك دنوّا من طاعته ومرضاته. ولمّا جاء عليه الصلاة والسلام بذكر «اليمين» أتبعه بذكر «الصّفاح» (2) ليوفي الفصاحة حقّها، ويبلغ بالبلاغة غايتها.
ونظير هذا الخبر
الْحَدِيثُ الْآخَرُ: «إِنَّ الصَّدَقَةَ تَقَعُ فِي يَدِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قَبْلَ يَدِ السَّائِلِ»
(3) أي يتعجّل بها منه سبحانه استحقاق مثوبته ومواقعته، وموافقة طاعته وأنّها لا تهلك ضلالا، ولا تذهب ضياعا، بل تكون كالشيء المحفوظ باليد، والمذخور للغد.
وهذا أخير انتهائنا إلى الفراغ من كتاب «مجازات الآثار النبوية»
على ما تخلّل عملنا له من قواطع الأشغال، وبواهظ الأثقال، وعوادي (4)
الأيّام والليالي. وقد خرجنا في صدر هذا الكتاب من عهدة التكفّل باستيعاب (5) جميع ما ورد عن النبيّ عليه الصلاة والسلام من آثاره
__________
(1) أي الباري سبحانه وتعالى.
(2) الصّفاح: المصافحة، وهي الأخذ باليد. الصحاح 1: 383.
(3) حلية الاولياء 4: 81، التبيان في تفسير القرآن: 5: 294، مجمع الزوائد: 3: 111، المقنع: 54عن الصادق عليه السّلام.
(4) العوادي: جمع عادية، وهي الشغل الصارف. راجع أقرب الموارد 2: 754، مادّة (ع د و).
(5) الباء في قوله: «باستيعاب» متعلّقة ب «التكفّل».(1/395)
الملفوظة والأخبار المنقولة بما (1) شرطناه من كلامنا (2) الذي وقع إلينا، وقرب من متناولنا، دون ما بعد عنا، وشذّ عن أيدينا، ولا يبعد أن يكون القدر الذي تكلّمنا عليه قليلا من كثير، وقصيرا من طويل، إلّا أنّ عذرنا في الاقتصار عليه واضح، وجيبنا فيما أدّيناه ناصح.
ونحن نحمد الله سبحانه على ما منّ به من التوفيق لاقتناص شوارده (3)، وتسهيل موارده، وإثارة (4) فوائده وعوائده حمدا يكون للنعمة قواما، ولنتاجها تماما، ولصعبها (5) عقالا وزماما فإنّ النعمة تثنى (6) على قواعد الشكر لها، وترفع على دعائم المعرفة بقدرها، وما توفيقنا {إِلََّا بِاللََّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ، وَإِلَيْهِ أُنِيبُ}.
__________
(1) الباء متعلّقة بقوله: «خرجنا».
(2) لعلّ الصحيح: من كلامه صلّى الله عليه وآله وسلّم.
(3) أي غرائبه ونوادره. أقرب الموارد 1: 581، مادّة (ش ر د).
(4) أي إظهارها.
(5) الصعب من الدوابّ: نقيض الذلول. لسان العرب 7: 340، مادّة (ص ع ب).
(6) أي تعطف على هذه القواعد والاسس، وتردت إليها. والحمد لله كما هو أهله، وصلاته وسلامه على رسوله وآله.(1/396)